نظرية العلة عند المحدثين
رضا أحمد صمدي
تمهيد
1- نشأة نظرية العلة
2- منهج معرفة العلل عند المحدثين
3- أقسام العلة باعتبار محلها وقدحها
4- أجناس العلة
5- قواعد جامعة في التعليل
6- المؤلفات في نظرية العلة ، الدارقطني نموذجا .
نظرية العلة(1)
تمهيد
لا يمكن للناظر في علم الحديث أن يلاحظ من أول وهلة فروقا جوهرية بين الجرح والتعديل وبين العلة ، خاصة وأن العلماء المصنفين في المجالين لم يذكروا فروقا ذات بال ، أو لم يتعرضوا للتمييز بينهما أصلا(2) .
__________
(1) تأتي العلة في اللغة على معان : منها المرض ، يقال : عل يعل واعتل وأعله الله فهو معل وعليل ، ومنها علله بالشيء ألهاه وشغله به ، ومنه تعليل الصبي بالطعام ، ومنها عله بالشراب إذا سقاه مرة ثانية ، والحديث الذي توجد فيه العلة يقال فيه : معل وهو القياس كما يطلق كثير من أهل الحديث : معلول ، ورد ذلك في كلام البخاري والترمذي والدارقطني وابن عدي والحاكم وأبي يعلى الخليلي ، لكن قال ابن الصلاح ي علوم الحديث : ( ص96) : " والمعلول مرذول عند أهل العربية واللغة أهـ وممن استنكره من أهل اللغة ابن سيده في المحكم والحريري في درة الغواص وأقر ذلك النووي فقال : إنه لحن ، واعترض بأن جماعة من أ÷ل اللغة حكوه منهم : قطرب فيما حكاه والجوهري في الصحاح والمُطَرَّزي في المُغْرِب ، وحكايته لا تعني صحته ، فكم من مسموع لا يصح ، والصواب ضعفه كما قال ابن الصلاح والنووي وأقرهما العراقي في حاشيته على مقدمة ابن الصلاح . انظر معجم مقاييس اللغة لابن فارس ( 4/12-15) والقاموس للفيروزآبادي ( عل ) ، وعلوم الحديث لابن الصلاح بحاشية العراقي التقييد والإيضاح (ص96) .
(2) راجع مثلا : منهج النقد في علوم الحديث ،نور الدين عتر . منهج النقد عند المحدثين ،محمد الأعظمي . والمنهج الإسلامي في الجرح والتعديل ، فاروق حمادة . حيث كانت قضية العلل والجرح والتعديل شأنين متداخلين عند تناولهما .(1/1)
بل إن كتب العلل في الغالب ما تكون متضمنة للجرح والتعديل ، وكذا العكس حيح ايضا .
نعم .. حاول بعض من صنف في المصطلح أن يميز بينهما بجعل كل واحد منهما علما مستقلا كما فعل الحاكم وابن الصلاح ، إلا أن تكثير العلوم والأنواع في الحديث لم يكن يصحبه يف الغالب تنظير واسع ما معلوم لكل باحث .
فلا غرو أن نجد الحاكم مثلا ينص على التفريق بين الجرح والتعديل وبين العلل فيقول : " هذا النوع ( معرفة علل الحديث ) هو علم برأسه غير الصحيح والسقيم والجرح والتعديل "(1) لكنه لا يخصص للكلام عن هذا العلم إلا ستة صفحات تقريبا ، وكذلك فعل ابن الصلاح في مقدمته حيث لم يزد كلامه عن صفحتين تقريبا(2) .
هذا مع أن كلمة المحدثين متفقة على جلالة هذا العلم وخطورته ( أعني العلل ) وأنه لا يتسنمه إلا أهل الحفظ والنظر الثاقب والأذكياء من أصحاب هذا الشأن .
وقد استخدم اصطلاح العلة عند المحدثين في معان :
الأول : المعنى الأغلبي ، وهي عبارة عن سبب خفي غامض طرأ على الحديث فقدح في صحته مع أن الظاهر السلامة منه ، وسيأتي مزيد بيان لذلك .
الثاني : هي السبب الذي يضعف به الحديث من جرح الراوي بالكذب أوالغفلة أو سوء الحفظ أو نحو ذلك ، فيقولون : هذا الحديث معلول بفلان مثلا .
الثالث : تطلق على السبب غير القادح في صحة الحديث كالحديث الذي وصله الثقة الضابط فأرسله غيره(3) .
الرابع : هو ما نقل عن الترمذي أنه سمى النسخ علة ، أي أنه علة تمنع العمل بالحديث(4) .
__________
(1) معرفة علوم الحديث . الحاكم النيسابوري ص112
(2) علوم الحديث لابن الصلاح ص96
(3) علوم الحديث لابن الصلاح ص96و103 ، وهذا الإطلاق الأخير استحدثه أبو يعلى الخليلي في كتاب الإرشاد كما قال الحافظ العراقي في التقييد والإيضاح ص103 . وانظر الإرشاد للخليلي (4/2) .
(4) علوم الحديث لابن الصلاح ص102(1/2)
والإطلاق الأول هو الشائع المعتمد ، وهو المراد هنا . قال ابن الصلاح : " الحديث المعلل هو الحديث الذي اطلع فيه على علة تقدح في صحته مع أن الظاهر السلامة منها ، ويتطرق ذلك إلى الإسناد الذي رجاله ثقات الجامع شروط الصحة من حيث الظاهر " (1).
وهذا التعريف الذي ذكره ابن الصلاح تحرير لعبارة الحاكم في علوم الحديث حيث قال : " وإنما يعرف الحديث من أوجه ليس للجرح فيها مدخل ، فإن حديث المجروح ساقط واه ، وعلة الحديث تكثر في أحاديث الثقات ، أن يحدثوا بحديث له علة فتخفى عليهم علته ، والحجة فيه عندنا العلم والفهم والمعرفة "(2) .
وبناء على هذا الاصطلاح فلا يكون الحديث الذي له قادح ظاهر معلولا كالمنقطع أو الإسناد الذي تضمن مجهولا أو معنعنا ، وإنما يسمى معلولا إذا آل أمره إلى شيء من ذلك مع كونه ظاهر السلامة من ذلك (3).
وبين من هذه النقول أن نظرية العلة تتجاوز مجال الجرح والتعديل ، إذ لا تكون إلا عندما يظهر الإسناد نظيفا بادي الرأي بخلوه من كل القوادح الظاهرة كضعف الرواة أو انقطاع ( سقط ) في السند .
وبهذا التحرير نطمئن إلى أبعد حد أن المحدثين أدركوا الفارق بين نظرية العلة ونظرية الجرح والتعديل ، وإن كانت عباراتهم في تحرير الفرق قاصرة ، فيفهم من تداخل الكلام بينهما اشتراكهما وليس الأمر كذلك .
__________
(1) السابق 96
(2) معرفة علوم الحديث للحاكم النيسابوري ص112-113
(3) نكت الحافظ ابن حجر على مقدمة ابن الصلاح ص295(1/3)
لكن يبدو أن المتقدمين من المحدثين عرفوا هذا الفارق وطبقوه أيضا بصورة عملية ، قال ابن رجب الحنبلي : " وأما التواريخ والعلل والسماء ونحو ذلك فقد ذكر أن أكثر كلامه فيه ( يعني الترمذي في سننه ) استخرجه من كتاب تاريخ البخاري ، وهو كتاب جليل لم يسبق إلى مثله رحمه ورضي الله عنه ، وهو جامع لذلك كله ، ثم لما وقف عليه أبو زرعة وأبو حاتم الرازيان رحمهما الله صنفا على منواله كتابين : أحدهما كتاب الجرح والتعديل وفيه ذكر الأسماء فقط ، وزادا على ما ذكره البخاري أشياء من الجرح والتعديل وفي كتابهما من ذلك شيء كثير لم يذكره البخاري ، والثاني : كتاب العلل ، أفردا فيه الكلام في العلل "(1) .
فهذان التصنيفان دليل على وضوح الفرق في ذهن أبي زرعة وأبي حاتم على الدرجة التي تجعلهما يفردان كل نوع بالتأليف .
نشأة نظرية العلة
من العسير أن نؤرخ لبداية ظهور نظرية العلة وتطبيقها على وجه الدقة ، فلقد زاحمت نظرية العلة نظرية الجرح والتعديل في النشوء والارتقاء ، وتجاور صعودهما في سماء ومنهج النقد عند المحدثين حتى لكأنه يصعب التمييز بينهما .
ومن المجزوم به أن اصطلاح العلة كان له بداية ، لكن لم يتحرر لي حتى الآن أول من استخدمه، وإن كان مشهورا في وسط المحدثين منذ عهد يحيى بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي وقد ذكر السخاوي أن لسفيان بن عيينة كتابا في العلل من رواية ابن المديني (2)، وسفيان بن عيينة توفي سنة 198هـ وأستبعد أن يكون له كتاب في العلل ، والظاهر أنه كتاب ي علل حديث ابن عيينة لابن المديني كما ذكره الحاكم(3) والخطيب البغدادي(4) .
__________
(1) شرح علل الترمذي لابن رجب الحنبلي ص59.
(2) فتح المغيب شرح ألفية الحديث .السخاوي (2/334) .
(3) معرفة علوم الحديث . الحاكم النيسابوري ص71
(4) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع . الخطيب البغدادي (2/260) .(1/4)
كما ذكر ابن رجب الحنبلي(1) ليحيى بن سعيد القطان كتابا يف العلل أيضا ، ويحيى توفي 198هـ ، ومهما يكن من شيء فذلك لا يمنع أنه يحتمل أن يوجد من هو أقدم من يحيى بن سعيد في استعمال مصطلح العلة وتطبيقه .
وأميل إلى أن مصطلح العلة ( تنظيرا وتطبيقا ) ابتدأ بداية قوية على يد ثلاثة أئمة متعاصرين هم : شعبة بن الحجاج وعبد الرحمن بن مهدي ويحيى بن سعيد القطان ، وأقدمهم شعبة إلا أنني لم أقف له على نص يفيد استخدامه لهذا المصطلح .
لكن تَتَلْمُذَ يحيى بن معين وأحمد بن حنبل وأبي حاتم الرازي على يحيى بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي قرينة قوية على أن علم القطان وابن مهدي ورثه أولئك الثلاثة الذين هم أشهر من استخدم هذا المصطلح وطبقه .
وقضية نشأة نظرية العلة ليست ن الأهمية بمكان ، إذ روح هذه النظرية يتشابه مع روح نظرية الجرح والتعديل ، ومنهج المحدثين في معرفة العلة شبيه بمنهجهم في الجرح والتعديل كما سيأتي في مرتكزات المنهج .
لكن تحرير هذه القضية قد يفيد في التمييز بين نظريات منهج النقد عند المحدثين والتي نحن بصدد وعرضها والتأريخ لها وهي : نظرية الإسناد ونظرية الجرح والتعديل ونظرية العلة .
وأظن أننا استطعنا أن نقف على نصوص واضحة في تأريخ نشأة الإسناد ونشأة نظرية الجرح والتعديل ، لكن هذا الأمر قد يظل مجرد احتمال في نظرية العلة ، إلا أن الاحتمال الذي أوردناه ، وهو أن نظرية العلة نشأت بقوة على يد عبد الرحمن بن مهدي ويحيى بن سعيد القطان ، هذا الاحتمال قد يفيد في افتراض أن نظرية الإسناد كانت الأقدم نشوءا وتطبيقا ثم تلتها بعد تراخ نظرية الجرح والتعديل ، لكن نظرية العلة لم تتراخ بل اقتفت نظرية الجرح والتعديل نشوءا وتطبيقا بدون حاجز زمني واضح أو كبير .
__________
(1) شرح علل الترمذي لابن رجب الحنبلي ص533 .(1/5)
وهذا الافتراض يقودنا إلى نتيجة مهمة وهي أن منهج النقد عند المحدثين تسارع ارتقاؤه وتعاظم ازدهاره في فترة زمنية قصيرة يمكننا أن نحصرها بين محمد بن سيرين ( توفي عام110هـ) ويحيى بن معين ( توفي عام233هـ) أي في خلال 120سنة تقريبا ، وهي فترة تضاعفت فيها أعداد الأسانيد لتصل إلى المليون(1) في بعض التقادير وربما تجاوزه – وليس ببعيد - ، ومع تضاعف أعداد الأسانيد ورواتها جرى حصر شبه كامل واستقراء قريب من التام لأحوال كل أولئك الرواة ومراتبهم في الحفظ وأخطائهم وعلل أحاديثهم ، وتكفينا مطالعة بسيطة لأحكام يحيى بن معين فقط على الراوة في كتب الجرح والتعديل لنعلم أن هذا المنهج لم يكن ليبلغ هذه الذروة إلا إذا تكاملت نظرياته واتضحت خطواته في أذهان أصحابه ضرورة أن الأثر يدل على المسير والنتاج يدل على سبق الحمل والمخاض ، ولا يعقل أن توجد كل هذه الأحكام انقدية التي مررنا بها في رحلتنا مع النظريات الثلاثة : الإسناد والجرح والتعديل والعلة ؛ لا يعقل أن توجد بدون منهج أو تنشأ لقيطة على غير رشدة .
وفيما يستقبل من الفصول سيتضح لنا ذلك بالبرهان الأوضح والدليل الأفصح على تكامل منهج النقد عند المحدثين يف نظرياته ومرتكزاته وسماته ، وأنه متميز في كل مادته وخطواته .
منهج معرفة العلل عند المحدثين
__________
(1) ذكروا أن أحمد بن حنبل كان يحفظ ألف ألف حديث ، وهو محمول على الراويات والطرق المختلفة للأحاديث وليس على أصول الأحاديث فقط .
انظر تهذيب التهذيب (1/74) وفيه قال أبو زرعة الرازي :" كان أحمد يحفظ ألف ألف حديث ، فقيل له : وما يدريك ؟ قال : أخذت عليه الأبواب " .(1/6)
اتفقت كلمة المحدثين على تعيين الكيفية التي بها تستبان العلة ، وقال أبو عمرو ابن الصلاح : " قال الخطيب أبو بكر : السبيل إلى معرفة علة الحديث أن يجمع بين طرقه وينظر في اختلاف رواته ويعتبر بمكانهم من الحفظ ومنزلتهم في الإتقان والضبط ، وروي عن علي بن المديني قال : الباب إذا لم تجمع طرقه لم يتبين خطؤه"(1).
وقال الحافظ ابن حجر في نكته على ابن الصلاح : " أن يجمع طرقه ، فإن اتفقت رواته واستووا ظهرت سلامته وإن اختلفوا أمن ظهور العلة ، فمدار التعليل في الحقيقة على بيان الاختلاف"(2).
ويروى ابن حبان صورة تطبيقية لمعرفة العلة عن يحيى بن معين ، يقول : " قال محمد بن إبراهيم بن أبي شيخ الملطي : جاء يحيى بن معين إلى عفان بن مسلم ليسمع منه كتب حماد بن سلمة ، فقال له : ما سمعتها ن أحد ؟ قال : نعم ، حدثني سبعة عشر نفسا عن حماد بن سلمة ، فقال : والله لا حدثتك ، فقال : إنما هو درهم وأنحدر إلى البصرة وأسمع من التبوذكي ، فقال : شأنك ، فانحدر إلى البصرة وجاء إلى موسى بن إسماعيل فقال له موسى : لم تسمع هذه الكتب على أحد ؟ قال سمعتها على الوجه من سبعة عشر نفسا ، وأنت الثامن عشر ، فقال : وماذا تصنع بهذا ؟ فقال: إن حماد بن سلمة كان يخطيء فأردت أن أميز خطأه من خطأ غيره ، فإذا رأيت أصحابه قد اجتمعوا على شيء علمت أن الخطأ من حماد نفسه ، وإذا اجتمعوا على شيء عنه وقال واحد منهم بخلافهم علمت أن الخطأ منه لا من حماد ، فأميز بين ما أخطأ هو بنفسه وبين ما أخطئ عليه "(3) .
__________
(1) علوم الحديث لابن الصلاح ص97، وكلام الخطيب ورد في كتابه الجامع (2/295) .
(2) النكت لابن حجر على مقدمة ابن الصلاح ص295
(3) كتاب المجروحين لابن حبان البستي (1/32) .(1/7)
وهذه الموازنة بين مرويات الرواة لمعرفة مصدر الخطأ من أدق ما توصل إليه المحدثون من مسالك في سبيل معرفة علل الأحاديث ، بل هي لباب منهج النقد عندهم وعماده .وسنتعرض لذلك بالتفصيل عند الكلام على مرتكزات المنهج . ولكننا نحب أن نتعرض هنا إلى قضية لها صلة بمنهج المحدثين في النقد ألا وهو أنه قد ترد في بعض عبارات المحدثين ما يفيد أن معرفة العلل من الإلهام .
فمن ذلك ما روي ابن نمير عن ابن مهدي قال : " معرفة العلة إلهام ، فلو قلت للعالم يعلل الحديث : من أين قلت هذا ؟ لم تكن له حجة "(1).
وبناء على مثل هذا فهم كثير من الناس أن أحكام المحدثين على الرواة والمرويات لم تكن وليدة منهج علمي أو بحث ودراسة ، وأن الأمر لا يعدو أن يكون إلهاما القاه الله في قلوبهم فحكموا في ضوئه(2).
وتذهب طائفة أخرى من الباحثين إلى أن المحدثين حكموا فعلا على الرواة والمرويات لكنهم لم يتقيدوا بمنهج لذلك اضطربت أقوالهم واختلفت آراؤهم وتباينت وجهات أنظارهم والأسلوب الذي اتبعوه في إصدار أحكامهم كان غير كاف لتحقيق الهدف المنشود(3) .
وكل ذلك منشؤه عدم فهم نظريات المحدثين في النقد وعدم إدراك منهجهم ي سبر المرويات والرواة ، والإنسان عدو ما يجهل .
وعندما نشرح مرتكزات منهج النقد عند المحدثين سيتبين لنا وهاء هذه المزاعم ، لكننا نحتاج إلى تفسير معنى الإلهام الذي ورد في كلام المحدثين .
معلوم أن اصطلاحات الفنون لم تستقر في تلك الأيام ، ولم يتواطأ أحد في أرباب كل علم على ألفاظ معينة لتستخدم على وجه متفق عليه في الفن الواحد ، فضلا عن أن يكون متفقا عليها في جميع الفنون ، ولكن الشيء قد يعرف في علم باسم ويكون هو نفسه في علم آخر بمصطلح آخر .
__________
(1) معرفة علوم الحديث للحاكم ص112-113.
(2) منهج النقد عند المحدثين . الأعظمي ص19
(3) السابق.(1/8)
ومن الطبيعي أن توصف بعض الأمور بادي الرأي على الوجه الذي يراها صاحبها ، وليس على المعنى من غضاضة إذا اكن اللفظ الذي يعبر عنه نابيا عنه مناوئا له ، فالمعنى ثابت في نفسه لا يتغير ، والحقائق بنفسها لا بألفاظها واصطلاحاتها .
والواقع أنه لم يكن هناك إلهام بالمعنى المعروف الذي أشار إليه بعض المحدثين ، أي بمعنى التوفيق الاتفاقي إلى الهدف دونما بحث أو اتخاذ سبب ، وإنما صدرت تلك اللفظة وأشباهها على وفق ظروف اقتضت منهم أن يبرروا أحكامهم في بعض الأحوال فضاقت العبارة ولم يسعفهم الدليل فأحالوا على الإلهام .
وهذا الذي كان يعتريهم من ضيق العبارة عن بيان أدلة أحكامهم النقدية منشؤه سعة الاطلاع وكثرة الممارسة وبلوغ المنتهى في الدقة بحيث صارت النتائج تعتمد على مقدمات أولية مستقرة ومحفوظة لديهم لا يستطيع أن يسلم الجاهل بها أو غير الممارس لها .
وهذه البداهة في الاستنتاج نظر لها ديكارت وأطلق عليها مصطلح " الحدس " ، وبنى عليها مقاله في المنهج(1)
__________
(1) الحدس عند ديكارت هو الاطلاع العقلي المباشر على الحقائق البدهية ، قال ديكارت : " أنا لا اقصد بالحدس شهادة الحواس المتغيرة ولا الحكم الخداع لخيال فاسد المباني ، إنما أقصد به التصور الذي يقوم في ذهن خالص منتبه بدرجة من السهولة والتميز لا يبقى معها مجال للريب ، أي التصور الذهني الذي يصدر عن نور العقل وحده " . ( القواعد لهداية العقل ، القاعدة 3) . ومعنى ذلك أن الحدس عنده عمل عقلي يدرك به الذهن حقيقة من الحقائق يفهمها بتمامها في زمان واحد لا على التعاقب . ويطلق الحدس عند " هنري بوانكاره " على الحكم السريع المؤكد أو التنبؤ الغريزي بالوقائع والعلاقات المجردة ، ويقول : " إن هذا الحدس أو هذا الشعور بالنظام الرياضي يكشف لنا عن العلاقات الخفية " .( المعجم الفلسفي . جميل صليبا 1/453 . دار الكتاب اللبناني ط1971) .
ويقول الأستاذ توفيق الطويل في كتابه " أسس الفلسفة " : " ويريد ديكارت بالحدس انتقال الذهن انتقالا سريعا ومباشرا من معلوم يقيني إلى مجهول ، ويقول : إنه نور فطري يمكّن الإنسان من إدراك الأفكار البسيطة والحقائق الثابتة والروابط بين قضية وأخرى إدراكا مباشرا – بغير وسيط من عقل أو تجريب – في زمان واحد وليس على التعاقب .. وبعد الحدس تجيء مرحلة الاستنباط العقلي ، وهو حركة ذهنية نستنتج بها شيئا مجهولا من شيء معلوم ، ويراد به البرهنة على قضية عن طريق مبادئ عامة تصدق عليها ، وبه نستخلص من شيء نعرفه معرفة يقينية نتائج تلزم عنه ، ويمتاز الاستنباط الديكارتي عن القياس الأرسطاطاليسي بأن الأول يقوم على قضايا يقينية ، بينما يمكن أن يقوم الثاني على قضايا ظنية أو احتمالية إلى جانب أن نتائج القياس متضمنة في مقدماته ، أما نتائج الاستنباط فمعرفة جديدة تكتسب بالتأمل العقلي . ( أسس الفلسفة ، توفيق الطويل ص147-148ط القاهرة ) .(1/9)
. بل إن رواد المنهج الأوروبي في النقد التاريخي أمثال لانجلوا وسينوبوس اعترفوا بأن أحكام العلماء المحصلين(1) لتصحيحات التحريفات والأغلاط في المصادر تكتنفها نظرية عامة للتصحيح التخميني " ولا يوجد تعليم عام لهذا الفن ، وقد وجدت بعض الكشافات الأبجدية لاختلافات النقل وأنواع الخلط الشائعة الحدوث والتصحيحات المحتملة غير أنها لا تعوض عن التمرينات العملية التي تتم تحت إشراف أهل الاختصاص ، والعلماء المحصلون الذين ينكبون على الممارسة الشائعة للنقد التخميني يتعرضون في حماستهم لاتهام قراءات صحيحة واقتراح فروض جزافية بالنسبة إلى المواضع الميئوس منها، وهم لا يجهلون ذلك ، ولهذا فهم يجعلون ناموسهم ان يميزوا بوضوح جدا في نشراتهم بين قراءات المخطوطة أو المخطوطات وبين النص الذي أصلحوه وقدموه "(2).
وهذا تصريح بأن الأحكام النقدية لدى العلماء المحصلين تعتمد على الخبرة الواسعة ، وأن بعضها قد يلجأ إلى التخمين ، وهو الذي لايعتمد على سبب مباشر أو دليل مؤثر .
ولا بد لأي متبحر في علم من العلوم أن يشعر أن ثمة أحكاما في ذلك العلم لا يفهمها ويدرك أغوارها إلا من فهم العلم كله وأحاط بنواصيه وبلغ غايته ومنتهاه .
__________
(1) يطلق اصطلاح " العلماء المحصلين " على المتخصصين في عملية النقد الخارجي أو نقد التحصيل ، وهي أولى عمليات النقد التارخي عند لانجلوا وسينوبوس وأهمها ، وتنصب حول تصحيح المصدر الذي سيعتمد عليه في التأريخ من جهة الاستيقان من مؤلفه وتصحيح ما يتضمنه المصدر من معلومات بمعنى التوصل إلى أصح القراءات الممكنة للمصدر ، وهذه العملية تسبق علمية النقد الباطني – نقد المتن – التي تتطلب مجموعة من العمليات النقدية الأخرى .
(2) مدخل إلى الدراسات التاريخية . لانجلوا وسينوبوس . ترجمة عبد الرحمن بدوي ص57فما بعدها .(1/10)
بل إننا نجد هذا الاتجاه نفسه عند أصحاب المنهج التجريبي في العلوم الطبيعية التي تجنح إلى تحصيل اليقين عن طريق الملاحظة والتجربة .
فأصحاب المنهج التجريبي قبل أن يصلوا إلى الجزم بنظرية يفترضون فروضا يتم ملاحظتها وتجريبها ، وحصر تلك الفروض والاحتمالات في عدد وصور معينة مبني في الغالب على حدس عقلي وبدهيات علمية وأوليات تجريبية قد يصعب إقامة الدليل على سبب ترجيح تلك الفروض دون غيرها(1).
ومنهج المحدثين من هذا القبيل ، فقصور عبارتهم عن بيان الحجة في التعليل مرده إلى سعة الاطلاع والتبحر وطول الممارسة وعمق النظر ، والدليل موجود وواقع ولكنه قد يخفى لدقة الخطأ وشفافية المنهج .
__________
(1) يقول الأستاذ توفيق الطويل في شرح خطوات المنهج التجريبي عند مرحلة وضع الفروض :"قوام الفرض الخيال ، فالباحث يتكهن عن طريق الخيال بالعلاقة العلية التي تقوم بين الظواهر ، وفي هذا يبدو جانب الابتكار في منهج الاستقراء ، وحظوظ الناس من هذا الخيال تتفاوت بتفاوت نصيبهم من الذكاء وسرعة البداهة وصفاء الذهن وسعة الاطلاع ، القدرة على استغلال المعلومات السابقة ونحو هذا مما يعين على تخيل التفسير الصحيح . وقد يواصل العالم بحثه عن فرض يفسر به ظاهرة يقوم بدراستها وعلى غير جدوى يكون بحثه ، ثم يأتيه الفرض كإلهام مفاجئ هو من غير شك نتيجة تفكيره المستمر وبحثه المتواصل " . انظر : أسس الفلسفة . توفيق الطويل ص162 ويقول عبد الرحمن بدوي : " فالمنهج التجريبي لا يمنح أفكارا جديدة وخصبة لأولئك الذين هم فقراء منها ، وإنما يفيد فقط في توجيه الأفكار عند أولئك الذين لديهم أفكار " . انظر : مدخل جديد إلى الفلسفة . عبد الرحمن بدوي ص98 . ط وكالة المطبوعات الكويت ، 1975(1/11)
ولذلك كان الحافظ ابن حجر دقيقا حين صاغ هذه المسألة في نزهة النظر صياغة العالم المتبحر، فقال : " المعلل هو من أغمض أنواع علوم الحديث وأدقها ، ولا يقوم به إلا من رزقه الله فهما ثاقبا وحفظا واسعا ومعرفة تامة بمراتب الرواة ، وملكة قوية بالأسانيد والمتون ، ولهذا لم يتكلم فيه إلا القليل من أهل هذا الشأن كعلي بن المديني وأحمد بن حنبل والبخاري ويعقوب بن شيبة وأبي حاتم وأبي زرعة والدارقطني ، وقد تقصر عبارة المعلل عن إقامة الحجة على دعواه كالصيرفي في نقد الدينار والدرهم "(1) . وواضح من العبارة أن الحجة على الدعوى موجودة ولكن العبارة هي التي تقصر .
ومما سبق نعلم أن نظرية العلة عند المحدثين نظرية علمية قائمة على منهج علمي وقواعد منهجية صارمة وليست على مجرد هوى وشهوة نفس أو ميل طبع ، وهذا ما سيتبين إن شاء الله بأجلى صورة عند عرض مرتكزات منهج النقد عند المحدثين . فلا يؤثر ذلك في سلامة المنهج من تهمة الخرص والظن ، لما بيناه قبل في تفسير الحدس .
__________
(1) نزهة النظر شرح نخبة الفكر لابن حجر ص123-124.(1/12)
وأما إن كانت المخالفة لا تدل عليها أية دلائل ، أو أن الشواهد تقضي بانتفاء المخالفة وعدم الشذوذ فالحكم بالشذوذ بدعوى غموض العلة وعدم الوقوف على وجه المخالفة ليس من المنهج العلمي في شيء ، ولا أظن أنه يوجد مثل هذا في أحكام النقاد ، فإن ما يأتون به يظل اجتهادا وليس وحيا منزلا مادام انفرد به واحد منهم أو اختلفوا فيه ، أما ما أجمعوا عليه – مع عدم تقديمهم الحجة في تعليله – فإجماعهم قرينة قوية على وجود الخطأ . وعلى هذا يحمل ما روي عن أبي زرعة الرازي أنه سئل : " ما الحجة في تعليلكم الحديث ؟ فقال : الحجة أن تسألني عن حديث له علة ، فأذكر علته ، ثم تقصد ابن وارة ، فتسأله عنه ، فيذكر علته ، ثم تقصد أبا حاتم فيعلله ، ثم تميز كلامنا على ذلك الحديث ، فإن وجدت بيننا خلافا فاعلم أن كلا منا تكلم على مراده ، وإن وجدت الكلمة متفقة فاعلم حقيقة هذا العلم ، ففعل الرجل فاتفقت كلمتهم ، فقال : أشهد أن هذا العلم إلهام "(1) .
الشاذ والمعلل
المتحصل من أقوال العلماء في الشاذ أنه رواية الثقة ما يخالف أحاديث الثقات ، والمنكر رواية الضعيف لما يخالف أحاديث الثقات(2) .
وتحرير الفرق بين الشاذ والمنكر على هذا النحو هو المعتمد وعليه جرى الاصطلاح في منهج النقد عند المحدثين(3) .
لكن أشكل تحرير الفرق بين الشاذ والمعلل ، لأن العلة هي مخالفة الثقة للثقات ، فكيف يفرق بينه وبين الشذوذ ؟
أجاب الحاكم بأن الفرق أن الشاذ لا يقدر على إقامة الدليل لشذوذه ، وأما المعلل فإنه قد وقف على علته الدالة على جهة الوهم فيه (4).
__________
(1) تدريب الراوي . السيوطي (1/253) .
(2) تدريب الراوي . السيوطي (1/234-235)
(3) السابق (1/236)
(4) معرفة علوم الحديث . الحاكم النيسابوري ص119 .(1/13)
واعتمد هذا الفرق الحافظ ابن حجر وقال : " إن هذا القيد لا بدمنه .. وهذا على هذا أدق من المعلل بكثير ، فلا يتمكن من الحكم به إلا من مارس الفن غاية الممارسة وكان في الذروة من الفهم الثاقب ورسوخ القدم في الصناعة " (1). قال السيوطي : " ولعسره لم يفرده أحد بالتصنيف "(2) .
والواقع أنه لا فرق بين المعلل والشاذ ، فكلاهما خطأ وقع فيه الراوي ، وإنما التمسوا له هذا الفرق تحريرا للاصطلاح ، حيث وجدوا النقاد يستخدمون الاصطلاحين : العلة والشذوذ ، قالوا : لا بد من ا لمغايرة ، فاعتمدوا هذا التفريق ، وهو اصطلاح ولا مشاحة فيه ، وإلا فغن عدم وقوف الناقد على العلة إن كان مبينا على الغموض الشديد للمخالفة فهو علة في حد ذاته تأسيسا على أن الحديث لا يقبل غلا ذا عرف مخرجه .
أقسام العلة باعتبار محلها وقدحها
العلة غالبا توجد يف الإسناد وأحيانا توجد في المتن ن فإذا وقعت العلة يف الإسناد فإما أن تقدح يف السند فقط أو فيه وفي لامتن معا أو لا تقدح مطلقا .
وهكذا إذا وقعت في المتن ، فعلى هذا يكون للعلة ستة أقسام(3) :
القسم الأول : تقع العلة في الإسناد ولا تقدح مطلقا . مثاله : ما رواه مدلس بالعنعنة فهذا يوجب التوقف عن قبوله ، فإذا وجد من طريق أخرى قد صرح فيها بالسماع تبين أن العلة غير قادحة(4).
القسم الثاني : تقع العلة يف الإسناد وتقدح فيه دون المتن . مثاله : ما رواه يعلى بن عبيد الطنافسي عن الثوري عن عمرو بن دينار عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم : " البيعان بالخيار " . فغلط يعلى في قوله : عمرو بن دينار ، إنما هو عبد الله بن دينار كما رواه الأئمة من أصحاب الثوري مثل الفضل بن دكين ومحمد بن يوسف الفريابي ومخلد بن يزيد وغيرهم(5) .
__________
(1) نزهة النظر لابن حجر ص
(2) تدريب الراوي . السيوطي (1/233) .
(3) نكت ابن حجر على مقدمة ابن الصلاح ص314 .
(4) السابق .
(5) تدريب الراوي . السيوطي (1/254) .(1/14)
القسم الثالث : تقع العلة في الإسناد وتقدح فيه وفي المتن معا . مثاله : ما وقع لأبي أسامة حماد بن أسامة الكوفي أحد الثقات عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر – وهو من ثقات الشاميين – قدم الكوفة فكتب عنه أهلها ولم يسمع منه أبو أسامة ، ثم قدم بعد ذلك الكوفة عبد الرحمن بن يزيد بن تميم وهو من ضعفاء الشاميين فسمع منه أبو أسامة وسأله عن اسمه فقال : عبد الرحمن بن يزيد ، فظن أبو أسامة أنه ابن جابر ، فصار يحدث عنه وينسبه من قبل نفسه فيقول : حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، فوقعت المناكير في رواية أسامة عن ابن جابر وهما ثقتان ، فلم يفطن لذلك إلا أهل النقد فميزوا ذلك ونصوا عليه كالبخاري وأبي حاتم وغير واحد(1) .
القسم الرابع : تقع العلة في المتن دون الإسناد ولا تقدح فيهما . مثاله : ما وقع من اختلاف ألفاظ كثيرة من أحاديث الصحيحين إذا أمكن ردالجميع إلى معنى واحد فإن القدح ينتفي عنها(2) .
القسم الخامس : تقع العلة في المتن وتقدح فيه وفي الإسناد معا . مثاله : ما يرويه راو بالمعنى الذي ظنه يكون خطأ والمراد بلفظ الحديث غير ذلك ، فإن ذلك يستلزم القدح في الراوي فيعلل الإسناد(3).
القسم السادس : تقع العلة في المتن وتقدح فيه دون الإسناد . مثاله : ما انفرد مسلم بإخراجه في حديث أنس من اللفظ المصرح بنفي قراءة " بسم الله الرحمن الرحيم " ، والحديث في الصحيحين عن أنس بلفظ : " كانوا يستفتحون بالحمد لله " فظن أحد الرواة أنه كان لا يقرأ :" بسم الله " فرواه على ما فهمه فأخطأ(4) .
__________
(1) نكت ابن حجر على مقدمة ابن الصلاح ص314-315 .
(2) السابق 315 .
(3) السابق .
(4) نكت ابن حجر على مقدمة ابن الصلاح ص315. وقد توسع في الكلام على هذه العلة كل من ابن حجر يف النكت ص315 فما بعدها ومن قبله العراقي في حاشيته على مقدمة ابن الصلاح المسماة " التقييد والإيضاح " ص98-103 . وكذلك السيوطي في تدريب الراوي (1/254-257) .(1/15)
ومن المناسب أن نبين اصطلاحا مهما درج عليه المحدثون ، حيث إنهم قد يعللون بعلل غير قادحة عندهم ، فيظن البعض أن كل ما أعله المحدثون فهو ضعيف ، وليس ذلك بصحيح ، ويجب الرجوع إليهم في معرفة القادح وغير القادح .
وفي المقابل تعارف الفقهاء والأصوليون على عدم اعتبار كثير من تعليل المحدثين ، حيث يجعلون المخالفة بالزيادة مقبولة مطلقا في السند أو في المتن ، وهذا جريا على طريقتهم في عدم التشدد في قبول الآثار ، خاصة إذا لم يوجد في الباب إلا حديثا معللا ، فإن غالب الفقهاء يعلمون به ويقدمونه على الرأي(1) .
ولكن ذلك ليس بحميد ، لأنه يلزم منه قبول الحديث الضعيف في الأحكام مع ظنه صحيحا ، ومن هنا صدق بعض الفقهاء ممن شارك في علم الحديث واطلع على إتقان المحدثين بضرورة التسليم بأحكام النقاد من أهل الحديث .
قال الحافظ العلائي بعد بيان علل الأحاديث : " وبهذه النكتة يتبين أن التعليل أمر خفي لا يقوم به إلا نقاد أئمة الحديث دون الفقهاء الذين لا اطلاع لهم على طرقه وخفاياها "(2) .
وقال ابن حجر أيضا : " وبهذا التقرير يتبين عظم موقع كلام الأئمة المتقدمين وشدة فحصهم وقوة بحثهم وصحة نظرهم وتقدمهم بما يوجب المصير إلى تقليدهم في ذلك والتسليم لهم فيه "(3) .
وبهذا البيان نعلم أن العلة غيرا لقادحة يجب أن يرجع فيها إلى اصطلاح النقاد من المحدثين ، إذ أن نظرهم هو المعتبر في المؤثر وغير المؤثر في صحة الأسانيد والفقهاء وغيرهم تبع للمحدثين في ذلك .
أجناس العلة
ذكر الحاكم النيسابوري عشرة أجناس للعلة تندرج تحتها الكثير من الأنواع والأفراد ، وليس ما ذكره عن استقصاء تام ، فقد تكون هناك أجناس أخرى ، كما يمكن اختزال هذه الأجناس تحت جنس واحد وهو " الاختلاف "بين الرواة كما قال ابن حجر ( فيما سبق ) .
__________
(1) انظر أعلام الموقعين لابن قيم الجوزية (1/31-76) .
(2) نكت ابن حجر على ابن الصلاح ص297 .
(3) السابق ص304 .(1/16)
لكن فيما ذكره الحاكم فائدة في تحرير المواطن التي يبرز فيها الاختلاف بين الرواة فكان له فضل السبق في البدء بتنظير وتقعيد أبواب العلة .
أجناس العلة التي ذكرها الحاكم(1) :
أن يكون السند ظاهره ا لصحة وفيه من لا يعرف بالسماع ممن روى عنه ، كحديث كفارة المجلس ، فيه موسى بن عقبة لا يذكر سماعه من سهيل بن أبي صالح (2).
أن يكون الحديث مرسلا من وجه رواه الثقات الحفاظ ويسند من وجه ظاهره الصحة ، كحديث قبيصة بن عقبة مرفوعا : " أرحم أمتي أبو بكر .. " وإنما هو مرسل (3).
أن يكون الحديث محفوظا عن صحابي ويروى عن غيره لاختلاف بلاد رواته كرواية المدنيين عن الكوفيين ، والمدنيون إذا رروا عن الكوفيين زلقوا .
ومثاله حديث : " إني لأستغفر الله وأتوب إليه .. " ذكره موسى بن عقبة عن أبي إسحاق عن أبي بردة عن أبيه ، والمحفوظ عن الأغر المزني(4) .
4-أن يكون محفوظا عن صحابي فيروى عن تابعي يقع الوهم بالتصريح بما يقتضي صحته بل ولا يكون معروفا من جهته .
كحديث زهير بن محمد عن عثمان بن سليمان عن أبيه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور . ففيه ثلاث علل :
... ... الأولى : عثمان هو ابن أبي سليمان .
... ... الثانية : هو يروي عن نافع بن جبير بن مطعم عن أبيه .
__________
(1) معرفة علوم الحديث . الحاكم النيسابوري ص113-119 .
(2) روى الحاكم حكاية تعليل البخاري لهذا الحديث ص 113 واستنكرها العراقي في التقييد والإيضاح ص97 وقال : غالب الظن عدم صحتها ، وأنا أتهم بها حمدون القصار راويها عن مسلم فقد تكلم فيه أهـ ورد عليه ابن حجر في نكته على ابن الصلاح ص298-313 ووجه حكاية البخاري وصوب كلامه . وانظر أيضا : فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني (13/544-546) وتدريب الراوي للسيوطي (1/258-259) .
(3) معرفة علوم الحديث . الحاكم النيسابوري ص113-114 ، وتدريب الراوي للسيوطي (1/259) .
(4) السابق .(1/17)
... ... الثالثة : أبو سليمان لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره .
5-أن يكون روى بالعنعنة وسقط منه رجل ، دل عليه طرق أخرى محفوظة كحديث : " أنهم كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فرمي بنجم .... " رواه يونس فأسقط ابن عباس بين علي بن الحسين ورجال من الأنصار وذكره ابن عيينة وشعيب والأوزاعي وغيرهم .
6- أن يختلف على رجل بالإسناد وغيره ويكون المحفوظ عنه ما قابل الإسناد كحديث علي بن الحسين بن واقد عن أبيه عن عبد الله بن بريدة عن أبيه عن عمر قال : " قلت يا رسول الله مالك أفصحنا ... " فعلته ما أسند عن علي بن خشرم ثنا علي بن الحسين بن الواقد بلغني أن عمر .. فذكره.
7- الاختلاف على رجل في تسمية شيخه أو تجهيله ، كحديث : " المؤمن غر كريم ، الفاجر خب لئيم " ، فرواه أبو شهاب عن الثوري عن حجاج بن فرافصة عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعا ، ورواه محمد بن كثير فقال : رجل ، بدل يحيى بن أبي كثير(1) .
8- أدرك الراوي شخصا وسمع منه لكنه لميسمع منه أحاديث معينة فإذا رواها عنه بلا واسطة بعلتها أنه لم يسمعها منه كحديث : " أفطر عندكم الصائمون .." فقد رواه روح بن عبادة عن هشام بن أبي عبد الله عن يحيى بن أبي كثير عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم .. ألخ.
ولا شك أن يحيى بن أبي كثير رأى أنسا ولكنه لم يسمع منه هذا الحديث ، والدليل على ذلك ما رواه ابن المبارك عن هشام عن يحيى قال : حدثت عن انس .
9- أن تكون للحديث طريق معروفة يوري أحد رجالها حديثا غير تلك الطريق ، فيقع – بناء على تلك الطريق المعروفة – في الوهم .
__________
(1) في الأقسام السابقة يراجع معرفة علوم الحديث للحاكم النيسابوري ص115-117 ، وتدريب الراوي للسيوطي ( 1/260-261) .(1/18)
كحديث المنذر بن عبد الله الحزامي عن عبد العزيز بن الماجشون عند عبد الله بن دينار عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا افتتح الصلاة قال : " سبحانك اللهم .. ".
قال الحاكم : " لهذا الحديث علة صحيحة والمنذر بن عبد الله أخذ طريق الجادة فرواها بناء على الطريق المعروفة وإنما هو عن عبد الزيز بن الماجشون ثنا عبد الله بن الفضل عن الأعرج عن عبيد الله بن أبي رافع عن علي .
10- أن يروى الحديث مرفوعا من وجه موقوفا من وجه ، كحديث إعادة الصلاة من الضحك دون الوضوء . فقد رواه أبو فروة الراهاوي عن أبيه عن جده عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر مرفوعا ، ورواه وكيع موقوفا (1).
وقد بين الحاكم منهجه في الاستقراء فقال : " فقد ذكرنا علل الحديث على عشرة أجناس وبقيت أجناس لم نذكرها وإنما جعلتها مثالا لأحاديث كثيرة معلولة ليهتدي إليها المتبحر في هذا العلم فإن معرفة علل الحديث من أجل هذه العلوم " .
وإذا كان الحاكم له السبق في تنظيم وتقعيد نظرية العلة فإن ابن رجب الحنبلي يعتبر أول من حاول استقراء قواعد جامعة تلم شعث الأحكام النقدية المتفرقة المتعلقة بعلل الأحاديث ، وهذا هو موضوع المبحث التالي .
قواعد جامعة في التعليل
إن نظرية العلة مبنية على خلاف القاعدة في معرفة مصدر الخطأ والوهم في الرواية ، إذ الأصل أنه إذا عرف وهم نسب في سلسلة السند إلى الضعيف وأحيل على من قل ضبطه ، لكن التعليل يرقى في النقد لتلمس الخطأ في روايات الثقات المتقنين لأنه لم يسلم من الخطأ أحد حتى الثقات الحفاظ المشاهير(2) .
__________
(1) يراجع في الأقسام السابقة المصدرين السابقين .
(2) علل الترمذي ص147 بشرح ابن رجب ، وانظر الشرح ص150 .(1/19)
لأجل هذا الملحظ كانت نظرية العلة خلوا من قواعد تامة وقوانين صارمة ، بل تعتمد على شفافية شديدة في لقط الأخطاء والتنقيب عن الأوهام ، فهي أشبه بمبضع الجراح الذي يعالج عروقا شديدة الصغر ، حاديه في ذلك قوة النظر وكمال الإتقان .
وقد صنف علماء كثر من المحدثين يف علم لعلل لكن غالب مؤلفاتهم كانت تطبيقية ولم تنح جانب التأصيل والتقعيد ، وذلك ما أسلفنا من الأسباب .
لكن وجدت محاولة لبعض المتأخرين من المحدثين في تقعيد نظرية العلة ، جديرة بالبحث والعرض لأنها تعد ثورة اخرى في هذه النظرية الفذة عند المحدثين .
إنه ابن رجب الحنبلي الذي شرح علل الترمذي في مجلد من شرحه على الجامع للترمذي المعروف بالسنن .
وأهمية شرح ابن رجب تكمن في الجز الذي تمم به علل الترمذي وكمل به منحاه واتجاهه، فقد ألف الترمذي كتابه " الجامع المختصر من السنن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعرفة الصحيح والمعلول وما عليه العمل "(1) وضمنه كتابا في معرفة علل الحديث ، ذكر فيه ما ورد في كتابه من الأحاديث المعللة والرواة المجروحين وأخطاء الثقات ومعنى الحديث الحسن الذي استخدمه في أحكامه على الأحاديث في كتابه ، وحكم العمل بالمرسل ، وصدر الكلام بذكر أهمية الإسناد ، وتأصيل علم الجرح والتعديل وضرورته وذكر أشهر علماء الجرح والتعديل ومن يعول عليهم في معرفة علل الحديث .
__________
(1) هذا هو الاسم الذي استعمله كثير من الأئمة منهم الحافظ أبو القاسم الإسعردي (توفي 692هـ) في جزئه " فضائل الجامع لأبي عيسى الترمذي " ص38 ،وكذلك من قبله ابن خير الإشبيلي (توفي 575هـ) في فهرست ما رواه عن شيوخه ، وقد وقف الأستاذ عبد الفتاح أبو غدة على مخطوطتين قديمتين لجامع الترمذي كتبت إحداهما قبل سنة 480هـ والأخرى سنة 582هـ وعلى أول النسختين أثبت هذا الاسم .انظر : الإسناد من الدين ، عبد الفتاح أبو غدة ص 14 التعليق .(1/20)
وقد كان عرض الترمذي للمادة جيدا إلى حد كبير بحيث عد كتابه أول كتاب في مصطلح الحديث لولا أنه ربطه بجامعه ، ففقد استقلاليته ، لكنه يتضمن أقدم مادة عن قواعد النقد جمعت في مكان واحد .
وقد أثنى على جامع الترمذي كثير من الأئمة منهم الإمام أبو إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري ، حيث جرى بين يديه ذكر أبي عيسى الترمذي وكتابه فقال : " كتابه عندي أنفع من كتابي البخاري ومسلم ، لأن كتابي البخاري ومسلم لا يقف على الفائدة منهما إلا المتبحر العالم وكتاب أبي عيسى يصل إلى فائدته كل أحد من الناس "(1) .
ومنهم الحافظ الذهبي حيث قال : " في الجامع علم نافع وفوائد عزيزة ورؤوس المسائل ، وهو أحد أصول الإسلام لولا ما كدره بأحاديث واهية بعضها موضوع وكثير منها في الفضائل "(2) .
كما أثنى العلماء على علل الترمذي وكلامه في أحاديث جامعه تصحيحا وتضعيفا ، فمنهم ابن رجب الحنبلي حيث قال في شرحه : " والذين صنفوا منهم من أفرد الصحيح كالبخاري ومسلم ومن بعدهما كابن خزيمة وابن حبان، لكن كتابيهما لا يبلغ مبلغ كتاب الشيخين .
ومنهم من لم يشترط الصحة ، وجمع الصحيح وما قاربه ، ومافيه بعض لين وضعف واكثر لم يثبتوا ذلك ، ولم يتكلموا على التصحيح والتضعيف ، وأول من علمناه بين ذلك أبو عيسى الترمذي رحمه الله ، وقد بين في كلامه هذا أنه لم يسبق إلى ذلك ، واعتذر بأن هؤلاء الأئمة الذين سماهم صنفوا ما لم يسبقوا إليه ، فإذا زيد في التصنيف بيان العلل ونحوها كان فيه تأس بهم في تصنيف ما لم يسبق إليه "(3) .
__________
(1) شروط الأئمة الستة للحافظ أبي الفضل محمد بن طاهر المقدسي ص101 ( مطبوع ضمن مجموعة رسائل بتحقيق عبد الفتاح أبو غدة ) .
(2) سير أعلام النبلاء للذهبي (13/274) .
(3) شرح علل الترمذي لابن رجب ص72-73 .(1/21)
وقد ألحق ابن رجب شرحه لعلل الترمذي بفصل ذكر فيه : " فوائد أخر مهمة وقواعد كلية يكون للكتاب تتمة " ، وأراد بذلك " تقريب علم العلل على من ينظر فيه فإنه علم قد هجر في هذا الزمان "(1) .
عرض منهج ابن رجب في استقراء قواعد جامعة في التعليل
لما استقر أن العلة إنما تكون في الأسانيد التي ظاهرها السلامة من القوادح الظاهرة كسقط في الإسناد أو ضعف في الراوي ، وأنها غالب ما تكون في أحاديث الثقات والمتقنين ، وأن مبنى معرفة ذلك على تتبع الطرق ومعرفة الروايات ؛ أراد ابن رجب أن يضع قواعد يستعين بها النقاد على الموازنة والترجيح .
وقد قسم هذه القواعد إلى قسمين :
قسم متعلق بترجيح روايات الثقات عند الموازنة بينها بحيث لا يوجد جرح واضح لأي واحد منهم ، وإنما الاعتماد على قاعدة التغليب العامة .
وقسم يتعلق بترجيح روايات الرواة من حيث وجود عامل خارجي غير لازم يقدح في بعض الرواة مثل أن يضعف الراوي في مكان دون مكان أو زمان دون زمان أو في شيخ دون شيخ (2).
وفي القسم الأول سرد ابن رجب مشاهير الثقات الذين تدور غالب الأحاديث الصحيحة عليهم وبيان مراتبهم في الحفظ ، والمقصود من ذلك تثبيت المعيار الذي على أساسه يعرف الخطأ ويستبان مأتاه ، فالثقة ليس من دليل على خطئه إلا مخالفته لمن هو أوثق منه أو للثقات الذي اجتمعوا على مخالفته .
وقد اتفقت كلمة المحدثين على زمرة من الرواة اعتبروهم أقل الرواة خطأ فكانوا أجدر بجعلهم قطب الرحى التي يدور حولها تقويم الآخرون ، فمرويات الثقات وغيرهم تعرض على مرويات أولئك المتقنين ، فإن وافقتها ، دل ذلك على اضطراد ضبطهم وسلامة مروياتهم ، وإن حصلت المخالفة دل على أن أولئك الثقات قد أخطأوا في ذلك الموضع بعينه ولا يؤثر ذلك في عدالتهم وضبطهم بالوجه الأعم .
__________
(1) يعني زمانه في القرن الثامن الهجري ، انظر شرح العلل ص331 .
(2) شرح علل الترمذي لابن رجب الحنبلي ص332 .(1/22)
وغالب هذا القسم فوائد متعلقة بمشاهير الثقات وذكر من عرف بالأخذ عنهم وترجيح روايات بعضهم على بعض .
أما القسم الثاني فقسمه على ثلاثة أنواع :
النوع الأول : من ضعف حديثه في بعض الأوقات دون بعض ، وهؤلاء هم الثقات الذي خلطوا في آخر عمرهم ، وهم متفاوتون في تخليطهم ، فمنهم من خلط تخليطا فاحشا ، ومنهم من خلط تخليطا يسيرا .
النوع الثاني : من ضعف حديثه في بعض الأماكن دون بعض ، وهو على ثلاثة أضرب :
... ... الأول : من حدث في مكان ولم يكن معه فيه كتبه فخلط .
الثاني : من حدث من أهل مصر أو إقليم فحفظ حديثهم وحدث عن غيرهم فلم يحفظ .
الثالث : من حدث عنه أهل مصر أو إقليم فحفظوا حديثه وحدث عنه غيرهم فلم يقيموا حديثه .
النوع الثالث : قوم ثقات في أنفسهم لكن حديثهم عن بعض الشيوخ فيه ضعف بخلاف حديثهم عن بقية شيوخهم(1) .
وقد أتبع ابن رجب ذلك كله بذكر قواعد وفوائد ترجيحية أخرى منها :
من ضعف في آخر عمره وصار يتلقن .
من ضعف حديثه عن شيوخ بأعينهم وإن كان حافظا مشهورا .
من ضعف حديثه إذا جمع الشيوخ دونما إذا أفردهم .
من حدث عن ضعيف وسماه اسم ثقة .
من روى عن ضعيف وسماه باسم يتوهم أنه ثقة .
من سمع من ثقة مع ضعيف فأفسد حديثه وهو لا يشعر .
ومن ا لقواعد التي ذكرها ابن رجب ليلاحظها الناقد عند سبر الرواة ومروياتهم :
الصالحون غير العلماء يغلب على حديثهم الوهم والغلط .
الفقهاء المعتنون بالرأي حتى يغلب عليهم الاشتغال به لا يكادون يحفظون الحديث كما ينبغي ، ولا يقيمون أسانيده ولا متونه ، ويخطئون في حفظ الأسانيد كثيرا .
المتأخرون من الحفاظ ممن ليسوا بفقهاء يحصل الخطأ في مروياتهم والاختصار المخل .
إذا روى الحفاظ الأثبات حديثا بإسناد واحد وانفرد واحد منهم بإسناد آخر ؛ فإن كان المنفرد ثقة حافظا فحكمه قريب من حكم زيادة الثقة في الأسانيد أو في المتون .
__________
(1) شرح علل الترمذي لابن رجب الحنبلي ص333-433 .(1/23)
حذاق النقاد من الحفاظ لكثرة ممارستهم للحديث ومعرفتهم بالرجال وأحاديث كل واحد منهم لهم فهم خاص يفهمون به أن هذا الحديث يشبه حديث فلان ولا يشبه حديث فلان، فيعللون الأحاديث بذلك ، وهذا مما لا يعبر عنه بعبارة تحضره ، وإنما يرجع فيه أهله إلى مجرد الفهم والمعرفة التي خصوا بها عن سائر أهل العلم (1).
وختم ابن رجب كتابه بذكر قواعد في الجرح والتعديل هي أقرب ما تكون إلى قواعد متعلقة برواة معينين استفادها النقاد من الاستقراء الواسع لمروياتهم ولمرويات الرواة عنهم(2) .
وأليق بهذه القواعد أن تورد في باب الجرح والتعديل على نسق ما قسمنا به نظريات النقد عند المحدثين فلتراجع هناك .
إن القيمة العلمية لهذا التأصيل الذي أتى به ابن رجب لا يمكن تقديرها حق قدرها إلا إذا توصلنا إلى حجم الاطلاع الواسع والاستقراء التام والتتبع الدقيق الذي عاناه ابن رجب لتخليص تجربة النقاد من أهل الحديث في تلك الفوائد المختصرة والقواعد الجامعة .
لكن هذا التأصيل والتقعيد لا يحتم على الناقد أن يعمم هذه القواعد على أفرادها بصرامة عند التطبيق ، بل يجب مراعاة خصوصيات أحوال الرواة على النحو المبين في كتب الجرح والتعديل والعلل ، وهذا مأخوذ من تصرفات النقاد .
__________
(1) شرح علل الترمذي لابن رجب ص425-505 . وقد ناقشنا معنى هذا الكلام عند الحديث عن معنى الإلهام عند نقاد الحديث
(2) السابق ص514-531 .(1/24)
قال الحافظ العلائي : " فأما إذا كان رجال الإسنادين متكافئين في الحفظ أو العدد أو كان من أسنده أو رفعه دون من أرسله أو وقفه في شيء من ذلك مع أن كلهم ثقات محتج بهم فههنا مجال النظر واختلاف أئمة الحديث والفقهاء .فالذي يسلكه كثير من أهل الحديث بل غالبهم جعل ذلك علة مانعة من الحكم بصحة الحديث مطلقا فيرجعون إلى الترجيح لأحدى الروايتين على الأخرى ، فمتى اعتضدت إحدى الطريقتين بشيء من وجوه الترجيح حكموا لها وإلا توقفوا عن الحديث وعللوه بذلك ، ووجوه الترجيح كثيرة لا تنحصر ، ولا ضابط لها بالنسبة إلى جميع الأحاديث ، بل كل حديث يقوم به ترجيح خاص ، وإنما ينهض بذلك الممارس الفطن الذي أكثر من الطرق والروايات ، ولهذا لم يحكم المتقدمون في هذا المقام بحكم كلي يشمل القاعدة بل يختلف نظرهم بحسب ما يقوم عندهم في كل حديث بمفرده "(1).
نموذج لمنهج بعض المحدثين في مصنفاتهم في العلل
هذا ومن أشهر من صنف في العلل الإمام أبو الحسن الدارقطني ،حيث كان يملي علل الحديث على تلميذه البرقاني ، فصنف البرقاني مادتها وأستأذن الدارقطني في ترتيبها على المسند وقرأها عليه ثم نقلها الناس من نسخته(2) .
وقد أثنى العلماء والحفاظ على علل الدارقطني كثيرا ، وأشادوا بعبقريته ومنهجه وحفظه .
__________
(1) نكت ابن حجر على مقدمة ابن الصلاح ص296.
(2) تاريخ بغداد للخطيب البغدادي (6/59) ، ( 12/37-38) .(1/25)
قال ابن الصلاح عن ذكر كتاب العلل : " ومن أجودها كتاب العلل عن أحمد بن حنبل ، وكتاب العلل للدارقطني "(1) . وقال الذهبي : " وإذا شئت أن تتبين براعة هذا الإمام فطالع العلل فإنك تندهش ويطول تعجبك "(2) . وقال أيضا : " هذا شيء مدهش كونه يملي العلل من حفظه ، فمن أراد أن يعرف قدر ذلك فليطالع كتاب العلل للدارقطني ليعرف كيف كان الحفاظ "(3) . وقال ابن كثير : " وقد جمع أزمة ما ذكرناه كله الحافظ الكبير أبو الحسن الدارقطني ،في كتابه في ذلك ، وهو أجل كتاب ، بل أجل ما رأيناه وضع في هذا الفن لم يسبق إليه مثله ، وقد أعجز من يريد أن يأتي بعده ، فرحمه الله وأكره مثواه "(4) . ولذلك من المناسب أن نتعرض لمنهج الدارقطني في علله كنموذج لمنهج المحدثين في التصنيف في العلل .
منهج الدارقطني في كتاب العلل (5)
أصل كتاب العلل الدارقطني مكون من أسئلة غير منتظمة وجهت إلى الدارقطني حول أحاديث فيها علة أو أكثر كان الدارقطني يجيب عنها بما يفتح الله به عليه ، ويطيل النفس أحيانا ويقصر أحيانا ، كل ذلك خاضع لما يقتضيه المقام من الإيضاح .
وقد صدرت هذه الأحاديث بـ" سئل " ثم يسرد الحديث المتضمن للسؤال ثم يتلوه الجواب مباشرة مصدرا بـ" فقال " . والمنهج الذب سلكه الدارقطني في أجوبته متنوع ، ويمكن عرضه فيما يلي :
__________
(1) علوم الحديث لابن الصلاح ص254 نقلا عن مقدمة تحقيق علل الدارقطني . محفوظ الرحمن السلفي ( 1/73) .
(2) تذكرة الحفاظ للذهبي (3/993-994) .
(3) مقدمة تحقيق علل الدارقطني . محفوظ الرحمن السلفي ( 1/73) .
(4) اختصار علوم الحديث . أبو الفداء ابن كثير ص64-65.
(5) استفدت هذا الفصل من مقدمة تحقيق علل الدراقطني لمحفوظ الرحمن السلفي (1/89-95) .(1/26)
غالبا ما يذكر الراوي الذي يقع اختلاف الإسناد عليه ، ثم يذكر أوجه الخلاف فيه ، فمثلا يقول : رواه زيد بن أسلم عن أبيه واختلف عن زيد بن أسلم فرواه الدراوردي عبد العزيز بن محمد عن زيد بن أسلم عن أبيه ... الخ . وأحيانا يقول : يرويه فلان أو فلان ، وفلان كذا ، أو حدث به فلان كذا ، ورواه فلان أو خالفه فلان فرواه كذا . فغالب كتابه مؤسس على التعليل بالاختلاف بين الراوي وبين الثقات المتقنين ، فيذكر الرواية الصائبة _ وقد لا يذكرها لغموض العلة ) ثم يذكر الروايات الخاطئة مع عللها من اتصال أو إرسال أو انقطاع أو نحو ذلك .
وأحيانا يذكر الاضطراب في الروايات عن شخص واحد ، فيقول مثلا : يرويه فلان – وهو لم يكن بالحافظ – ويضطرب فيه فتارة يرويه كذا وتارة يروي كذا . هذا وقد يتخلل ذلك كله جرح وتعديل لبعض الرواة وحكم على الأحاديث . وغالب التصرفات الأخرى له في كتابه تدل على صراعاته لهذه الأصلين ، وكلاهما يعود إلا أصل واحد وهو تتبع الطرق والموازنة بينها لمعرفة العلة ، وهي الطريقة التي سار عليها كل المحدثين كما سنعرف عند الكلام عن مرتكزات منهج النقد عند المحدثين إن شاء الله تعالى .
الخلاصة
نشأت نظرية العلة بعد مرور طور كبير في منهج النقد عند المحدثين ، وكانت الحاجة إليه تكمن في إيجاد كيفية للكشف عن أخطاء الثقات المتقنين بعد تمكن المحدثين من معرفة أخطاء الضعفاء والمتروكين .
يقوم منهج البحث عند المحدثين على تتبع الطرق والموازنة بينها ومعرفة الاختلاف بين الرواة وهو روح نظرية العلة .(1/27)
لم تقم نظرية العلة على شيء اسمه الإلهام بالمعنى الظاهر ، بل كان هناك منهج علمي واضح لمعرفة العلل ، وغاية الأمر أن طول الممارسة عند المحدثين أورث عندهم مقدمات بدهية وأدلة أولية فطرية جعلت من العسير في بعضا لأحيان إيجاد العبارة المسعفة في بيانها ، كما يصعب على الجائع إقامة الدليل على جوعه ، والإلهام الذي ورد ذكره عند بعض المحدثين إنما هو الحدس العلمي الذي نظر له ديكارت وغيره من علماء المناهج .
عني المحدثون بتقسيم العلة باعتبارات كثيرة لأجل رسم صورة تقرب من فكرة الحديث المعلل، مما يدلل على علمية هذه النظرية وأنها قائمة على منهج واضح وليس على الإلهام ، فالتقسيمات العلمية دليل وجود المنهج .
نظرا لصعوبة طريقة استخراج العلة لأن نظرية العلة قائمة على البحث في أحاديث الثقات مما يستدعي دقة متناهية ، لم تكن هناك قواعد صارمة مطبقة في هذا الباب شأن قواعد الجرح والتعديل .
حاول بعض نقاد الحديث وضع قواعد جامعة تعين على تقصي العلة وفهم كيفيات مجيئها ، ولكن ذلك مشروط بمراعاة خصوصيات كل حديث يقوم الناقد بدراسته .
تعددت مؤلفات المحدثين في علل الحديث ولم يكن شأن التصنيف فيها إلا لأئمة النقد المبرزين في هذا الفن ، وكان الدارقطني من أشهر وأوعب من صنف في هذا الميدان .
حول منهج النقد عند المحدثين
المرتكزات .
السمات .
النقد العلمي للمتون .
مرتكزات منهج النقد عن المحدثين
بعد أن استعرضنا خطوات التوثيق للرواية عند المحدثين ، ومناهجهم في تطبيق نظرية الإسناد ومعرفة عدالة الرواة وضبطهم ، ومنهجهم في معرفة علل الحديث ، يهمنا أن نعرض مرتكزات تلك المناهج والآليات ، لنعلم أن منهج النقد عند المحدثين كان مبنيا على أسس علمية حقيقية ، وتصور واضح لآليات النقد .(1/28)
وقد اعتمد النقد عند المحدثين على مرتكزين أساسيين(1) :
الأول : استقراء الروايات وتتبع طرق الرواية من حيث الأسانيد والمتون .
الثاني : المعارضة والموازنة بين تلك الروايات .
ومن المناسب أن نستعرض هذين المرتكزين معتمدين على نصوص ووثائق تنتمي إلى وقت مبكر عند المحدثين لإثبات قدم هذا المنهج العلمي في النقد .
الاستقراء
لقد نوه "لانجلوا وسينوبوس " بأهمية التفتيش والبحث عن الوثائق ، وأشار إلى أنه قد عرف من الباحثين الأوروبيين من كانوا يكثرون الأسفار " سعيا وراء كشف وثائق تاريخية " وقد اشتهرت أخبار هذه الرحلات والأسفار تحت عنوان : " الرحلة " –Iter – مثل الرحلة الإيطالية والرحلة الألمانية وما أشبههما(2) .
والواقع أن الرحلة في سبيل البحث عن الروايات التاريخية وتدوينها وجمع النسخ والمدونات كانت تقليدا عريقا في منهج النقد عند المحدثين لدرجة أن ألف فيها المحدثون مؤلفات مشهورة كان من أبرزها كتاب الحافظ الخطيب البغدادي " الرحلة في طلب الحديث " حيث أورد الأخبار والأوصاف التي وردت عن المحدثين في هذا الشأن .
ولقد كانت رحلات المحدثين في البحث عن المرويات وسماع الحديث وجمع المدونات مفخرة بحق للحضارة الإسلامية بأسرها ، لا لعلم الحديث فحسب .
فلقد ضرب المحدثون أروع المثل في الاجتهاد والنصب والمبالغة في التحري لأجل الحصول عل المعلومات ولو كانت تلك المعلومات عبارة عن رواية لا تتجاوز بضعة أسطر .
فهذا إمام واحد من أجل اعتبار حديث واحد طاف بلدانا شتى ، ودخل مدائن عدة حتى وقف على علته وهو الإمام شعبة بن الحجاج رحمه الله .
__________
(1) اختصر المحدثون منذ القدم هذين المرتكزين في كلمتين تشيران إليهما وهما : " قمش ثم فتش " أي اجمع ثم ابحث وافحص .
(2) المدخل إلى الدراسات التاريخية . لانجلوا وسينوبوس . ترجمة عبد الرحمن بدوي ص9.(1/29)
قال نصر بن حماد الوراق : " كنا قعودا على باب شعبة نتذاكر ، فقلت : حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد الله بن عطاء عن عقبة بن عامر ، قال : كنا نتناوب رعية الإبل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئت ذات يوم والنبي صلى الله عليه وسلم حوله أصحابه فسمعته يقول : " من توضأ فأحسن الوضوء ، ثم صلى ركعتين فاستغقر الله إلا غفر " فقلت : بخ بخ ، فجذبني رجل من خلفي ، فالتفت فإذا عمر بن الخطاب ، فقال : الذي قبل أحسن ، فقلت : وما قبل ؟ قال : قال : " من شهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمد رسول الله ، قيل له : أدخل من أي أبواب الجنة شئت " ، قال : فخرج شعبة فلطمني ثم رجع ، فتنحيت من ناحية ، قال : ثم خرج فقال : ما له يبكي بعد ؟ فقال له عبد الله بن إدريس : إنك أسأت إليه ، فقال شعبة : انظر ماذا تحدث ؟ إن أبا إسحاق حدثني بهذا الحديث عن عبد الله بن عطاء عن عقبة بن عامر، قال فقلنا لأبي إسحاق : من عبد الله بن عطاء ؟ قال : فغضب ، ومسعر بن كدام حاضر، فقال : فقلت له : لتصححن لي هذا أو لأحرقن ما كتبت عنك ، فقال مسعر : عبد الله بن عطاء بمكة ، قال شعبة : فرحلت إلى مكة لم أرد الحج أردت الحديث ، فلقيت عبد الله بن عطاء فسألته ، فقال : سعد بن إبراهيم حدثني ، فقال لي مالك بن أنس : سعد بالمدينة لم يحج العام ، قال شعبة : فرحلت إلى المدينة فلقيت سعد بن إبراهيم فسألته ، فقال : الحديث من عندكم ، زياد بن مخراق حدثني ، قال شعبة : فلما ذكر زيادا قلت : أي شيء هذا الحديث ؟ بينما هو كوفي إذ صار مدنيا إذ صار بصريا . قال فرحلت إلى البصرة فلقيت زياد بن مخراق فسألته ، فقال : ليس هو من بابتك ! قلت : حدثني به ، قال : لا ترده ، قلت : حدثني به ، قال: حدثني شهر بن حوشب عن أبي ريحانة عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم . قال شعبة : فلما ذكر شهر بن حوشب ، قلت : دمر على هذا الحديث ، لو صح مثل هذا عن رسول الله صلى الله عليه(1/30)
وسلم كان أحب إلي من أهلي ومالي والناس أجمعين " (1).
وهذا إمام آخر طاف نحو طوفان شعبة بن الحجاج هو مؤمل بن إسماعيل . قال محمود بن غيلان : سمعت المؤمل ذكر عنده الحديث الذي يروى عن أبي عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل القرآن ، فقال : " لقد حدثني رجل ثقة – سماه- قال فأتيت المدائن ولقيت الرجل الذي يروي هذا الحديث فقلت له : حدثني ، فإني أريد أن آتي البصرة ، فقال : هذا الرجل الذي سمعناه منه هو بواسط في أصحاب القصب ، فقال فأتيت واسطا فلقيت الشيخ فقلت : إني كنت بالمدائن فدلني عليك الشيخ وإني أريد أن آتي البصرة ، قال : إن الذي سمعت منه هو بالكلاء – موضع بالبصرة – فأتيت البصرة فلقيت الشيخ بالكلاء فقلت له حدثني فإني أريد أن آتي عبادان، فقال : إن الشيخ الي سمعناه منه بعبادان فأتيت عبادان فلقيت الشيخ فقلت له : اتق الله ، ما حال هذا الحديث ؟ أتيت المدائن.. فقصصت عليه ، ثم واسطا ثم البصرة فدللت عليك ، وما ظننت إلا أن هؤلاء كلهم قد ماتوا ، فأخبرني بقصة هذا الحديث . فقال : إنا اجتمعنا هنا فرأينا الناس قد رغبوا عن القرآن وزهدوا فيه ، وأخذوا هذه الأحاديث فقعدنا فوضعنا لهم هذه الفضائل حتى يرغبوا فيه "(2) !
يقول الشيخ عبد الرحمن المعلمي تعليقا على هذه القصة : " لعل هذا الرجل قطع نحو ثلاثة أشهر مسافرا لتحقيق رواية هذا الحديث الواحد "(3) .
ولم يكتف المحدثون بالسماع المجرد وإنما اعتنوا أيضا بجمع الأصول والوقوف على الكتب والمدونات ، فإن الحفظ يخون(4) .
__________
(1) رواه ابن حبان في "المجروحين " (1/29) وابن عبد البر في التمهيد (1/48-49) والخطيب البغدادي في الرحلة ص59 .
(2) ذكره العراقي في التقييد والإيضاح على مقدمة ابن الصلاح ص113 .
(3) علم الرجال وأهميته . عبد الرحمن المعلمي ص23 .
(4) تاريخ التراث العربي . فؤاد سزكين (1/240-243) .(1/31)
يقول محمد بن إبراهيم بن أي شيخ الملطي : " جاء يحيى بن معين إلى عفان بن مسلم ليسمع منه كتب حماد بن سلمة فقال له : ما سمعتها من أحد ؟ قال : نعم حدثني سبعة عشر نفسا عن حماد بن سلمة ، فقال : والله لا حدثتك ، فذهب يحيى بن معين إلى البصرة وسمعها من موسى بن إسماعيل "(1) .
وسمع أحمد بن حنبل الموطأ من بضعة عشر جلا من حفاظ أصحاب مالك ثم أعاده على الشافعي(2) ، أو بتعبير آخر ، اجتمع لدى الإمام أحمد بعض عشر وثيقة لأصل واحد .
وقرأ علي بن الحسن على ابن المبارك أربع عشرة مرة (3).
ولقد كان جمع الطرق والأوجه للحديث الواحدد طريقة واحدة يشترك في استخدامها للقند كل جهابذة أهل الحديث ، يقول يحيى بن معين : " لو لم نكتب الحديث من ثلاثين وجها ما عقلناه "(4) .
وقال أبو حاتم الرازي : " لو لم نكتب الحديث من ستين وجها ما عقلناه "(5) .
وقال إبراهيم بن سعيد الجوهري : " كل حديث لم يكن عندي ما مائة وجه فأنا فيه يتيم "(6) .
ولا يعتبر المحدث معدودا في زمرة النقاد غلا إذا أكثر الرحلة والبحث وتوسعت روايته ، بل إنهم اعتبروا رحلة المحدث في طلب الحديث تقليدا علميا يجب على كل محدث أن ينتظم في سلكه وإلا لم يعد من أهل الحديث .
قال ابن الصلاح في سياق ذكره آداب المحدث في طلب الحديث : " وإذا فرغ من سماع العوالي والمهمات التي ببلده فليدخل إلى غيره "(7) .
__________
(1) رواه ابن حبان في المجروحين (1/32) .
(2) منهج النقد عند المحدثين . محمد الأعظمي ص96.
(3) تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني (9/299) .
(4) رواه ابن حبان في المجروحين ص33
(5) التبصرة والتذكرة شرح ألفية العراقي في الحديث (2/233)
(6) ميزان الاعتدال للذهبي (1/35)
(7) علوم الحديث لابن الصلاح ص210.(1/32)
كما أن سعيهم في طلب طرق الحديث لم يكن اعتباطيا ، بل كان مرتبا وفق منهج ورسم متعارف عليه ، بحث يبدأ بالأشهر في العلم والفضل ويقدم من يراه أولى بالأخذ من غيره (1).
ثم إنهم استحبوا أن يجتهد المحث في طلب العلو في الإسناد أي تقليل الوسائط بينه وبين الرواية، فإذا كان شيخ شيخه حيا استحبوا له أن يأتيه ويأخذ عنه .
قيل لأحمد بن حنبل : " أيرحل الرجل في طلب العلو فقال : بلى والله ، شديدا ، لقد كان علقمة والأسود يبلغهما الحديث عن عمر رضي الله عنهما فلا يقنعهما حتى يخرجا إلى عمر يسمعانه منه "(2) .
إن هذا المرتكز الأساس في منهج النقد – وهو منهج جمع الطرق – يتفاوت فيه الأئمة ، وعلى قدر معرفة الناقد بالطرق تقاس إمامته .
كما لا يكتفى بمجرد وجود الطرق والروايات ، بل ينضاف إلى ذلك ضرورة وجود ذكاء ونباهة وقدرة على استخلاص الفوائد والاختلافات من هذه الطرق التي جمعها .
لذلك اتفقت كلمة النقاد على اشتراط حفظ الذاكرة وأن دور في استحضار محل الاستدلال عند إجراء المعارضة بين الروايات .
لذلك قدم النقاد مكانة الإمام البخاري لما عرف عنه من التيقظ والذكاء مع سعة الاطلاع وقوة الحفظ .
__________
(1) السابق نفس الصفحة ، وانظر ص215 فما بعدها .
(2) السابق ص210 ، وفي معنى ذلك يقرر أصحاب النقد التاريخي الأوروبي ضرورة تصفية الوثائق واطراح النسخ المنقولة عن نسخة محفوظة لدينا ، إذ من الواضح أنه لا قيمة لها إلا قيمة هذه النسخة التي هي مصدرها المشترك . المدخل إلى الدراسات التاريخية . لانجلوا وسينوبوس ص61 .(1/33)
روى الحاكم في علوم الحديث عن أحمد بن حمدون القصار(1) قال : " سمعت مسلم بن الحجاج – وجاء إلى محمد بن إسماعيل البخاري فقبل عينيه – وقال : دعني حتى أقبل رجليك يا أستاذ الأستاذين وسيد المحدثين وطبيب الحديث في علله ، حدثك محمد بن سلام ثنا مخلد بن يزيد الحراني أنا بان جريج عن موسى بن عقبة عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في " كفارة المجلس " فما علته ؟ قال محمد بن إسماعيل : " هذا حديث مليح ، ولا أعلم بهذا الإسناد غير هذا الحديث (2)، إلا أنه معلول ، ثنا به موسى بن إسماعيل ثنا وهيب ثنا سهيل عن عون بن عبد الله .. قال محمد بن إسماعيل : هذا إولى ، فإنه لا يذكر لموسى سماع من سهيل "(3) .
ولا ينبغي أن يجمع الناقد إلى ذلك طول الممارسة وكثرة المذاكرة والمطالعة لكلام الأئمة المتقدمين .
يقول الحاكم : " إن الصحيح لا يعرف بروايته فقط ، وإنما يعرف بالفهم والحفظ وكثرة السماع ، وليس لهذا النوع من العلم عون أكثر من مذاكرة أهل العلم والمعرفة ليظهر ما يخفى من علة الحديث"(4) .
__________
(1) استنكر الحافظ العراقي هذه الرواية واتهم بها أحمد بن حمدون القصار لأنه تكلم فيه ( التقييد والإيضاح ص97) فرد عليه الحافظ ابن حجر قائلا : " في إطلاق التهمة عليه نظر ، فإنه من كبار الحفاظ " ( نكتب ابن حجر على ابن الصلاح ص312 ) .
(2) قال الحافظ ابن حجر في النكت على ابن الصلاح ص313 : " وفي الجملة : اللفظة المنكرة في الحكاية عن البخاري هي أنه قال : " لا أعلم في الباب غير هذا الحديث " وهي من الحاكم حال كتابته في علوم الحديث كما قدمناه في كتب أحد عشر فيها ، وقد بينا أن الصواب أن البخاري إنما قال : " لا أعلم في الدنيا بهذا الإسناد غير هذا الحديث " وهو كلام مستقيم ، والله أعلم " .
(3) معرفة علوم الحديث . الحاكم النيسابوري . ص204.
(4) معرفة علوم الحديث . الحاكم النيسابوري ص59-60.(1/34)
وقال ابن رجب الحنبلي : " ولا بد في هذا العلم من طول الممارسة وكثرة المذاكرة فإذا عدم المذاكرة به فليكثر طالبه المطالعة في كلام الأئمة العارفين كيحيى القطان ومن تلقى عنه كأحمد وابن المديني وغيرهما ، فمن رزق مطالعة ذلك وفهمه ، وفقهت نفسه فيه ، وصارت له فيه قوة نفس وملكة صلح له أن يتكلم فيه " (1).
ولنتعرف على مقاصد المحدثين من عملية الاستقراء ومنهجهم فيه .
جمع الطرق عند المحدثين إما أن يكن لنقد أصل الرواية أو لنقد الراوي وسبر حفظه وضبطه .
ففي سبيل معرفة حال الرواية يكون جمع الطرق لأجل المقاصد الآتية :
__________
(1) شرح علل الترمذي لابن رجب ص .(1/35)
نفي الغرابة عن الرواية ، فإن كثرة رواية الرواة لها دليل على أن الرواية معروفة ومتداولة ، أما وجود طريق فذة لها ، فهو دليل على غرابتها وشذوذها ، وقد تحاشى المحدثون إيراد الغرائب في مقام الرواية(1) ، وإنما كانوا يوردونها في مقام المذاكرة أو التنبيه خشية أن تشتهر الطريق الغريبة فيظن لكثرة رواية الناس لها أنها من الأسانيد الصحيحة . ولم يعتبر النقاد الغرابة قادحة في طبقة الصحابة ، لأن من اشتهر منهم بالرواية قليل ، والمكثر من الرواية أٌل ، إضافة إلى أنهم كانوا مشغولين بالجهاد وغير ذلك من أمور المعاش فلم يتح لمجموعهم أن يتفرغوا لشأن الرواية ، فمن المنطقي أن ينفرد أحدهم بسنة لم يعرفها غيره ، إلا في بعض الأحوال التي قد تخطأ فيها رواية البعض للمخالفة كما في حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو حرام ، وروت ميمونة نفسها أنه تزوجها وهي حلال(2)
__________
(1) قال الإمام أحمد بن حنبل : " لا تكتبوا هذه الأحاديث الغرائب ، فإنها مناكير ، وعامتها من الضعفاء " وقال أيضا : " إذا سمعت أصحاب الحديث يقولون هذا حديث غريب أو فائدة فاعلم أنه خطأ أو دخل حديث في حديث أو خطأ من المحدث أو حديث ليس له إسناد وإن كان قد روى شعبة وسفيان .. " وانظر الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (1/1/36) . وبناء على ذلك فإن الطرق التي يعنى المحدثون بجمعها هي التي يصلح الاعتبار بها ، وليس كل طريق يجده المحدث يفرح به ويعتمده في عملية النقد ، قال الإمام أحمد : " يطلبون حديثا من ثلاثين وجها ، أحاديث ضعيفة ، وجعل ينكر طلب الطرق نحو هذا ، قال هذا شيء لا تنتفعون به " ( مسائل أحمد لأبي داود ص282 ) ولأصحاب النقد التاريخي الأوروبي مسلك شبيه بهذا في عدم التعويل على النسخ وكثرتها إذا كانت منحولة أو مزيفة أو أنها كلها منقولة عن أصل واحد ، انظر مدخل إلى الدراسات التاريخية ، لانجلوا وسينوبوس ص61 .
(2) انظر : منهج النقد عند المحدثين . محمد الأعظمي ص126 .(1/36)
. أو يخطأ البعض للشك في الانفراد ، كما رد عمر بن الخطاب حديث فاطمة بنت قيس في نفقة المبتوتة قائلا : " لا ندع كتاب ربنا لحديث امرأة لا ندري هل حفظت أم نسيت "(1) . أما في غير طبقة الصحابة فقد اعتمد المحدثون في الغالب ضرورة اشتهار الرواية مالم يكن المنفرد بها من الحفاظ المتقنين المعروفين بالعناية بمروياتهم ، فإن هذا يشفع لغرابته عندهم .
إقامة الإسناد الصحيح للرواية ، فالأسانيد داخلة في مرويات الراوي ويعتريها الخطأ أيضا ، وبجمع الطرق يتعرف الناقد على الاختلاف ليصل إلى الإسناد الخالي من الأخطاء .
ضبط ألفاظ الرواية ، فقد تختلف الألفاظ بين الرواة ، فإذا كان الاختلاف غير مؤثر في المعنى بتفاصيله لم يضر ، وعلى ذلك حملوا إيراد البخاري للحديث بروايات مختلفة الألفاظ ، فتصدى الحافظ ابن حجر لجمع روايات الحديث المتكرر في الأبواب بل وفي المصنفات الأخرى وجمع بينها ليثبت صحة روايات الصحيح وكان هذا منهجه في شرحه فتح الباري عند كل حديث له ألفاظ مختلفة في الصحيح . وإن كان الاختلاف مؤثرا اعتبروا الحروف المخالفة لما رواه الحفاظ المتقنين هي الرواية الشاذة أو المنكرة .
معرفة خلو الرواية من الاضطراب في الإسناد والمتن ، لأن الدليل على حفظ الرواة للرواية استقامتها عند سائرهم على جادة واحدة أو متقاربة ، ودليل عدم الحفظ : اضطرابهم وتفاوت الرواية بينهم ، لكن ذلك مشروط بحالة استواء حالة الرواة ، أما عند التفاوت فتقدم رواية الأحفظ ، ولا يمكن معرفة كل ذلك إلا بجمع الطرق .
معرفة الانقطاع أو السقط في السند . فإن الرواية الناقصة أعني الإسناد والناقص – لأننا ذكرنا أن الإسناد داخل في مروي الراوي – الرواية الناقصة تفسرها الرواية الزائدة في الغالب أو العكس ايضا في بعض الأحوال .
__________
(1) انظر : فتح الباري لابن حجر العسقلاني (9/481) .(1/37)
معرفة أوجه الخلل في الأسانيد نحو عنعنة المدلسين وزيادات الثقات ومدرجاتهم في الإسناد والمتن ، فالطرق هي التي يأتي فيها بيان ما غمض في بعضها .
معرفة تواتر الرواية واستفاضتها – أو شهرتها – وذلك عن طريق تعدد الرواة لها من الصحابة ، ولا يتأتى ذلك إلا باستفراغ الوسع في جمع الطرق .
معرفة ما أبهم من أسماء الرواة أو ما أشكل منها ، فالطرق الأخرى قد يعرف فيها بيان ذلك .
معرفة بعض التفاصيل في الروايات المطولة والتي اختصرت في الروايات القصيرة ، وقد تكون بعض التفاصيل غير صحيحة الإسناد لأن رواتها ضعفاء ، أو لحصول التخالف بينها وبين الرواية المختصرة التي يرويها الثقات .
10-معرفة العلل ، وهي أخطاء الثقات المتقنين في الأسانيد والمتون وذلك من خلال جمع طرق الثقات الذين رووا هذه الرواية والمعارضة بينها كما سيأتي . ويعتبر هذا المقصد من أهم مقاصد المحدثين في جمع الطرق والروايات ، ولا يتصدى لذلك إلا الأذكياء والنابهون منهم كما أسلفنا .(1/38)
11- ترقية الحديث من مرتبة الضعف إلى الحسن أو من الحسن إلى الصحة ، وهو ما يعرف بالاعتبار للطرق والشواهد والمتابعات ، وسبيله توافر روايات الحديث الواحد من عدة طرق ، والموازنة بينها لمعرفة ما يصلح أن يشد بعضها من أزر بعض ، أو يزيل بعضها ضعف البعض الآخر(1).
وهذا هو أهم مقصد للمحدثين في الحقيقة من جمع الطرق ، لأنه ما من إسناد إلا ويعتريه بعض خلل، وتضافر الطرق يؤدي إلى سد هذا الخلل وتدارك ما يمكن نقصانه في بعضها .
ولأجل أهمية هذا المقصد ، فمن المناسب أ، نفرده بالبيان ، وسنبين قواعد النقاد والمحدثين في اعتبار الشواهد والمتابعات عند الكلام عن المرتكز الثاني وهو المعارضة ، لكننا نتعرض هنا لقضية التحسين بمجموع الطرق .
التحسين بمجموع الطرق
__________
(1) استفيدت هذه المقاصد من مدارسة بعض النصوص النقدية لكبار المحدثين أمثال يحيى بن معين وشعبة بن الحجاج ، ولكننا وجدناها محررة في كلام الإمام ابن المظفر الذي أوردناه عند الكلام عن أهمية الإسناد في منظومة المعرفة الإسلامية ونورده هنا لإتمام الفائدة ، ولعلاقته لما نحن فيه ، يقول الإمام أبو العباس محمد بن عبد الرحمن الدغولي السرخسي : سمعت محمد بن حاتم ابن المظفر يقول : " وهذه الأمة الشريفة إنما تنص الحديث – أي ترويه وترفعه – عن الثقة المعروف في زمانه المشهور بالصدق والأمانة عن مثله حتى تتناهى أخبارهم ، ثم يبحثون أشد البحث ، حتى يعرفوا الأحفظ فالأحفظ والأضبط فالأضبط والأطول مجالسة لمن فوقه ممن كان أقصر مجالسة ، ثم يكتبون الحديث من عشرين وجها – أي طريقا – وأكثر ، حتى يهذبوه من الغلط والزلل ويضبطوا حروفه ويعدوه عدا .." انظر( شرح المواهب اللدنية للزرقاني 5/454 ) .(1/39)
قال ابن الصلاح : " الحديث الحسن قسمان : أحدهما : الحديث الذي لايخلو رجال إسناده من مستور لم تتحقق أهليته غير أنه ليس مغفلا كثير الخطأ فيما يرويه ولا هو متهم بالكذب في الحديث ، أي لم يظهر منه تعمد الكذب في الحديث ولا سبب آخر مفسق ، ويكون متن الحديث مع ذلك قد عرف بأنه روي مثله أو نحوه من وجه آخر أو أكثر حتى اعتضد بمتابعة من تابع راويه على مثله أو بما له من شاهد ، وهو ورود حديث آخر بنحوه فيخرج بذلك عن أن يكون شاذا ومنكرا .. القسم الثاني : أن يكون راويه من المشهورين بالصدق والأمانة غير أنه لم يبلغ درجة رجال الصحيح لكونه يقصر عنهم في الحفظ والإتقان ، وهو مع ذلك يرتفع عن حال من يعد ما ينفرد به من حديثه منكرا ويعتبر في كل هذا مع سلامته الحديث من أن يكون شاذا ومنكرا سلامته من أن يكون معللا "(1) .
ويعتبر في الطريق العاضد ألا يكون شديد الضعف وإلا لم يصلح للاعتبار والتحسين ، يقول ابن الصلاح : " لعل الباحث الفهم يقول : إنا نجد أحاديث محكوما بضعفها مع كونها قد رويت بأسانيد كثيرة من وجوه عديدة مثل حديث "الأذنان من الرأس " ونحوه ، فهلا جعلتم ذلك وأمثاله من نوع الحسن لأن بعض ذلك عضد بعضا كما قلتم في نوع الحسن على ما سبق آنفا ، وجواب ذلك أنه ليس كل ضعف في الحديث يزول بمجيئه من وجوه ، بل ذلك يتفاوت ، فمنه ضعف يزيله ذلك بأن يكون ضعفه ناشئا من ضعف حفظ راويه مع كونه من أهل الصدق والديانة ، فإذا رأينا ما رواه قد جاء من وجه آخر عرفنا أنه مما قد حفظه ولم يختل فيه ضبطه له .
__________
(1) علوم الحديث لابن الصلاح ص33-34.(1/40)
وكذلك إذا كان ضعفه من حيث الإرسال زال بنحو ذلك كما في المرسل الذي يرسله إمام حافظ، إذ فيه ضعف قليل يزول بروايته من وجه آخر ، ومن ذلك ضعف لا يزول بنحو ذلك بقوة الضعف وتقاعد هذا الجابر عن جبره ومقاومته ، وذلك كالضعف الذي ينشأ من كون الراوي متهما بالكذب أو كون الحديث شاذا ، وهذه جملة تدرك تفاصيلها بالمباشرة والبحث (1).
وفي موطن آخر يميز بين الضعيف الذي يصلح للاعتبار والذي لا يصلح فيقول:" ثم اعلم أنه قد يدخل في باب المتابعة والاستشهاد رواية من لايحتج بحديثه وحده بل يكون معدودا في الضعفاء . وفي كتاب البخاري ومسلم جماعة من الضعفاء ذكراهم في المتابعات والشواهد ، وليس كل ضعيف يصلح لذلك ، ولهذا يقول الدراقطني وغيره في الضعفاء : فلان يعتبر به وفلان لا يعتبر به "(2).
وقد تساهل بعض النقاد في مراعاة هذا الشرط – وهو صلاحية العاضد للاعتبار لدرجة أنهم قد يعتبرون الطرق التي ضعفت لفسق الراوي أو اتهامه بالكذب مثل ما يفعل السيوطي ونحوه من المتأخرين(3) مما حدا ببعض الجهابذة أن يقول : "تحسين المتأخرين فيه نظر " (4).
__________
(1) علوم الحديث لابن الصلاح ص36-37.
(2) أيضا .
(3) انظر تعليقات الشيخ أحمد شاكر على ألفية السيوطي في الحديث ص16.
(4) الأنوار الكاشفة . عبد الرحمن المعلمي ص29.(1/41)
وقال الشيخ الألباني رحمه الله : " إن الحديث الحسن لغيره وكذا الحسن لذاته من أدق علوم الحديث وأصعبها ، لأن مدارهما على من اختلف فيه العلماء من رواته ما بين موثق ومضعف ، فلا يتمكن من التوفيق بينها أو ترجيح قول على الأقوال الأخرى إلا من كان على علم بأصول الحديث وقواعده ، ومعرفة قوية بعلم الجرح والتعديل ، ومارس ذلك عمليا مدة طويلة من عمره ، مستفيدا من كتب التخريجات ونقد الأئمة النقاد ، عارفا بالمتشددين منهم والمتساهلين ومن هم وسط بينهم حتى لايقع في الإفراط والتفريط ، وهذا أمر صعب قل من يصبر له وينال ثمرته ، فلا جرم أن صار هذا العلم غريبا بين العلماء والله يختص بفضله من يشاء "(1) .
" فباب التحسين بمجموع الطرق يمثل إلى حد بعيد الجانب العملي التطبيقي لعلم الحديث ، فمن أتقن هذا الباب نظريا وعمليا فقد أتقن علم الحديث ودخله من أوسع أبوابه ، ومن لم يتقنه وقصر في تعلمه وفتر عن ممارسته فليس له في علم الحديث حظ سوى حفظ اسمه وتخيل رسمه "(2) .
هذا .. وسنتعرض إن شاءا لله لمنهج العلماء في التحسين بمجموع الطرق وقواعدهم في اعتبار الشواهد والمتابعات عند الكلام عن المرتكز الثاني من مرتكزات منهج النقد عند المحدثين وهو : المعارضة .
وفي سبيل معرفة حال الراوي وضبطه يجمع المحدثون مرويات هذا الراوي جميعها ويعارضونها بمرويات الثقات من أقرانه لتعرف موافقته ومخالفته ، فإذا كانت موافقته هي الغالبة فهو الحافظ الضابط ، وإن كثرت مخالفته دل على سوء حفظه(3) .
__________
(1) إرواء الغليل بتخريج أحاديث منار السبيل . ناصر الدين الألباني (3/363) .
(2) الإرشادات في تقوية الأحاديث بالشواهد والمتابعات . طارق عوض الله . ص31 .
(3) من ذلك ما رواه الخطيب البغدادي في الكفاية ص223 عن يحيى بن سعيد قال : " إذا حدثتكم المعتمر بن سليمان بشيء فاعرضوه فإنه سيئ الحفظ " .(1/42)
وجمع الطرق لجرح وتعديل الرواة من أعسر المسالك التي يعانيها النقاد ، وتكاد تتفق الكلمة عند النقاد في هذه العصور على انقطاع هذا الباب وعدم وجود المتأهل للقيام به ، وذلك لأن هذا الباب يحتاج إلى سعة اطلاع على الطرق والراويات مما لا يتيسر لأهل هذا الزمان لانقطاع الرواية عندهم ، ولفقدان الكثير من الكتب والأصول التي كانت عند المتقدمين في هذا الشأن ، وصار من في هذه العصور يعول على أحكام المتقدمين وسبرهم لأحوال الرواة ويقلدونهم مع تحري الموازنة بين كلماتهم إذا اختلفت .
وسبر حال الراوي يحتاج إلى جمع كل ما رواه من الأحاديث أو المرويات ثم جمع كل ما رواه أقرانه مما اشتركوا في الرواية معه ثم الموازنة .
فلو أراد إمام ناقد أن يسبر أحاديث حماد بن سلمة مثلا لزمه أن يطلع على أحاديث حماد بن سلمة وأحاديث من هم في طبقته واشتركوا معه في الرواية ، وقد يتعدد شيوخ حماد ويشترك معه في الرواية عن أولئك الشيوخ خلائق ، فيحتاج الناقد إلى الاطلاع على كل مروياتهم .
وقد تزداد صعوبة هذه المسالك إذا أراد الناقد أن يسبر أحاديث من بينه وبينه وسائط فإنه سيحتاج إلى ضبط أحاديث ذلك الراوي عبر الرواية عن الوسائط .
فإذا كان من بين الوسائط من هو ضعيف في الحفظ احتاج أن يزداد احتياطه حتى لا يخلط بين أخطاء الراوي وأخطاء تلامذته ، وسبيل ذلك بمقارنة روايات تلاميذه أولا ومعرفة ما اتفقوا عليه من رواية شيخهم – وهو الراوي المبحوث عن حاله – فيكن ما اتفقوا عليه هو رواية ذلك الراوي المعتمدة ، وما اختلف فيه الأقل على الأكثر من خطأ التلاميذ فلا يؤاخذ به ا لشيخ (1).
وكلما ازدادت الوسائط احتاج الناقد إلى البحث في مرويات كل أولئك .
__________
(1) يستفاد هذا من قصة يحيى بن معين مع مرويات حماد بن سلمة والتي مرت معنا قبل ذلك ، وسيأتي شرح هذه القصة بالتفصيل وما فيها من إشارات منهجية في النقد عند المحدثين .(1/43)
والأصعب من ذلك إذا أراد الناقد معرفة ما أخطأ فيه حافظ من ا لحفاظ المتقنين فإنه يحتاج إلى اطلاع أوسع ، وذلك لكثرة مرويات مثل أولئك الحفاظ ، فليس جمع مرويات راو مثل محمد بن ا لحسن الشيباني مثلا مثل جمع مرويات عبد الرحمن بن مهدي ، لأن الأول مقل ، والثاني إمام حافظ مكثر .
وقد يحتاج الناقد في سبر حال الراوي إلى جمع كل ما قيل فيه من أقرانه وتلاميذه وشيوخه ليكون صورة عامة عن حال ذلك الراوي ، سواء ما قيل عنه وفيه مدح أو ذم ، توثيق أو تضعيف، وقد تضطرب روايات أولئك عن ذلك الراوي فيحتاج الناقد إلى ضبط كل ذلك .
كل هذا يبين بجلاء عسر عملية جمع الطرق لسبر حال الراوي ،ونظرية الجرح والتعديل قائمة على هذا الأساس مع ضميمة المعارضة والمقابلة التي سنتحدث عنها لاحقا إن شاء الله .
ولا نحتاج إلى التأكيد أن منهج النقد عند المحدثين إذ يعتمد على هذا المرتكز الأساس في علمية النقد يحدوه حادي الإنصاف والعدل والقسطاس المستقيم ، فلا تأخذ النقاد في سبيل ذلك لومة لائم ولا تؤثر فيهم مذمة ذام ولا محمدة حامد ، وإنما يبتغون بذلك الأجل والمثوبة وبلوغ المنزلة التي بشر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أدى حديثه دون زيادة أو نقصان .
المعارضة
لقد عرف الصحابة منهج المعارضة بين الروايات للتثبت من حفظ أصحابها أو معرفة وجه الخطأ فيها .
فمن ذلك أن عبد الله بن عمر روى حديثا مخالفا لفتوى ابن عباس ، ثم قال لصاحبه : " إن كنت في شك فسل أبا سعيد الخدري عن ذلك " ، فانطلق ، فسأل أبا سعيد فقيل لابن عباس ما قال ابن عمرو أبو سعيد فاستغفر ابن عباس الله جل وجلاله وقال : " هو رأي رأيته "(1) .
__________
(1) وراه الخطيب في الكفاية ص28(1/44)
وروى أبو هريرة حديث رسول صلى الله عليه وسلم : " من صلى على جنازة فله قيراط " فقال له عبد الله بن عمر : " انظر ما تحدث يا أبا هريرة ، فإنك تكثر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخذ بيده ، فذهب به إلى عائشة رضي الله عنها فصدقت أبا هريرة"(1).
وقد تنبه التابعون لمبدأ المعارضة كمنهج في معرفة حال الراوي والمروي ، قال أيوب السختياني –ت 131هـ- وهو من صغار التابعين : " إذا أردت أن تعرف خطأ معلمك فجالس غيره " (2).
ومن ذلك أن ابن أبي مليكة قال لأيوب السختياني : " ألا تعجب ، حدثني القاسم عن عائشة أنها قالت : أهللت بالحج .. وحدثني عروة أنها قالت : أهللت بعمرة ، ألا تعجب ؟ "(3) .
وهذه المعارضة السلبية كانت لمعرفة الخطأ في الرواية . وقد عرف التابعون المعارضة الإيجابية لمعرفة إصابة الرواة .
ومثال ذلك ما رواه البخاري من طريق ابن شهاب الزهري قال : " أخبرني عروة بن الزبير وابن المسيب وعلقمة بن وقاص وعبيد الله بن عبد الله عن حديث عائشة رضي الله عنها ، وبعض حديثهم يصدق بعضهم .. " (4) .
وازداد تنبه طبقة أتباع التابعين لهذه الطريقة فنظر لها ابن المبارك وطبقها شعبة. يقول عبد الله بن المبارك : " إذا أردت أن يصح لك الحديث فاضرب بعضه بعضا "(5) ، أي أعرضه على الأحاديث التي رواها الآخرون لتعرف الصحيح من الضعيف .
__________
(1) رواه أحمد في المسند (2/287) .
(2) رواه الدارمي في السنن (1/153) .
(3) منهج النقد عند المحدثين . محمد الأعظمي ص60.
(4) رواه البخاري (2/932) .
(5) رواه الخطيب البغدادي في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع ( 2/233) .(1/45)
وهذا التنظير على بساطته طبقه بعبقرية فذة شعبة بن الحجاج أبو بسطام ، فمما روي عنه في ذلك أن خالد بن طليق سأله : " ياأبا بسطام حدثني سماك بن حرب في اقتضاء الورق من الذهب ... حديث ابن عمر ، فقال : أصلحك الله ، هذا حديث ليس يرفعه أحد إلا سماك ، قال فترهب أن أروي عنك ؟ قال : لا ، ولكن حدثنيه قتادة عن سعيد بن المسيب عن ابن عمر ولم يرفعه ، وأخبرنيه أيوب عن نافع عن ابن عمر ولم يرفعه ، وحدثنيه داود بن أبي هند عن سعيد بن جبير ولم يرفعه ، ورفعه سماك فأنا أفرقه "(1) .
وهذا تطبيق مبكر لمبدأ الموازنة والمعارضة لروايات الأقران .
هذه بعض الأمثلة للمعارضة بين الروايات التي تدل على أن المنهج بدأ في وقت مبكر ، وكلما تأخر الزمن زاد انتشاره وتوسع حتى بلغ أوجه في القرن الثالث ، ويدل على ذلك صنيع ابن معين وابن حنبل والبخاري ومسلم وأبي حاتم وأبي زرعة وغيرهم(2) .
وتعتمد المعارضة على مرتكز – جمع الطرق – كما أسلفنا ، وعلى قدر سعة اطلاع الناقد على الطرق يكون نقده أكثر دقة وإصابة .
وأصل المعارضة عند نقاد الحديث مبني على تلمس الاختلاف بين الروايات ، قال الإمام مسلم بن الحجاج في كتابه " التمييز" : " اعلم أرشدك الله أن الذي يدور به معرفة الخطأ في رواية ناقل الحديث إذا هم اختلفوا فيه من جهتين :
أحدهما : أن ينقل الناقل حديثا بإسناد فينسب رجلا مشهورا بنسب في إسناد خبره خلاف نسبته التي هي نسبته أو يسميه باسم سوى اسمه ، فيكون خطأ ذلك غير خفي على أهل العلم حين يرد عليهم ... فهذه الجهة التي وصفنا من خطأ الإسناد ومتن الحديث هي أظهر الجهتين خطأ وعارفوه في الناس أكثر .
__________
(1) مقدمة الجرح والتعديل لابن أبي حاتم ص158.
(2) منهج النقد عند المحدثين . محمد الأعظمي ص62.(1/46)
والجهة الأخرى : أن يروي نفر من الحفاظ حديثا عن مثل الزهري أو غيره من الأئمة بإسناد واحد ومتن واحد مجتمعين على روايته في الإسناد والمتن لا يختلفون فيه في معنى ، فيرويه آخر سواهم عمن حدث عنه النفر الذين وصفناهم بعينه فيخالفهم في الإسناد أو يقلب المتن فيجعله بخلاف ما حكى من وصفنا من الحفاظ ، فيعلم حينئذ أن الصحيح من الروايتين ما حدث الجماعة من الحفاظ دون الواحد المنفرد وإن كان حافظا ، على هذا المذهب رأينا أهل العلم بالحديث يحكمون في الحديث مثل شعبة وسفيان بن عيينة ويحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي وغيرهم من أئمة أهل العلم " (1).
وقد أسلفنا في مرتكز جمع الطرق أن المقصود إما معرفة حال الراوي أو حال المروي ، وكذلك مرتكز المعارضة ، يستخدمه النقاد إما لمعرفة حال الراوي أو المروي ،وجمع الطرق أسبق من المعارضة بل هو الممهد له والمعين على تطبيقه كما علمنا .
وسنحصر الكلام في المعارضة على هذين المقصدين ببيان منهج المحدثين في تطبيقه ، ومجال التطبيق فيه .
أولا : المعارضة لمعرفة حال الراوي
هو أساس طريقة المحدثين في الجرح والتعديل ، وقد بينا عند الكلام عن نظرية الجرح والتعديل أن منهج المحدثين فيه هو تحديد قطب رحى أو معيار يقاس عليه الرواة ، وذلك عن طريق جعل المتفق على حفظه وإتقانهم أساسا للموازنة .
__________
(1) التمييز لمسلم بن الحجاج . تحقيق محمد الأعظمي .ص172 ( مطبوع ضمن كتاب منهج النقد عند المحدثين للمحقق ) .(1/47)
وقد رتب أبن أبي حاتم كتابه في الجرح والتعديل على هذه الفكرة(1) حيث أورد في مقدمة كتابته تراجم الأئمة من الحفاظ والمتقنين الذين يعول على روايتهم ونقدهم أمثال شعبة والسفيانين وابن المبارك ومالك ونعيم بن حماد ويحيى بن سعيد وعبدالرحمن بن مهدي ، وكذلك سائر الطبقات الأخرىمثل أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وعلي بن المديني ونحوهم ، وذلك ليؤسس في المنهج مرجعية يئول إليه النظر والتقدير ، وأصلا يصار إليه الاعتبار والقياس .
وبنحو هذا المنهج شرح مسلم بن الحجاج طريقته في صحيحه ، حيث يجعل رواية الحفاظ والمتقنين هي أصول أحاديث رواياته في الكتاب ، ثم يتنزل بالرواية عمن دونهم بما لايخالف رواية أولئك المتقنين لبيان أن أولئك النازلين في الحفظ لم يخطئوا فيما رروا بل وافقوا رواية المتقنين الأثبات ، وهو دليل على أن مسلم بن الحجاج قد سبر مروياتهم وعرف ما أصاب فيه أولئك الضعفاء فخرجه تعضيدا وترفيعا لأحاديث الأصول(2) .
ويمكننا أ، نضرب مثالا لذلك بما رواه ابن محرز عن ابن معين قال : " قال لي إسماعيل ابن علية يوما : كيف حديثي ؟ قلت : أنت مستقيم الحديث ، فقال لي : وكيف علمتم ذاك ؟ قلت له : عارضنا بها أحاديث الناس فرأيناها مستقيمة ، فقال : الحمد الله ، فلم يزل يقول : الحمد الله ويحمد ربه حتى دخل دار بشر بن معروف – أو قال دار أبي البختري – وأنا معه "(3) .
__________
(1) انظر مقدمة الجرح والتعديل لابن أبي حاتم .
(2) وهذا التفسير يجلي لنا حقيقة قول علماء الجرح والتعديل عن بضع الرواة : " روى له مسلم في الشواهد والمتابعات " .
(3) سؤالات ابن محرز ليحيى بن معين (2/39) .(1/48)
ومثاله أيضا ما رواه الدوري عن يحيى بن معين قال : قال لي هشام بن يوسف جاءني مطرف بن مازن ، فقال أعطني حديث ابن جريج ومعمر حتى أسمعه منك ، فأعطيته ، فكتبها ثم جعل يحدث بها عن معمر نفسه وعن ابن جريج ، فقال لي هشام ين يوسف : انظر حديثه فهو مثل حديثي سواء ( أي في الرواية عن معمر وابن جريج مباشرة ) فأمرت رجلا فجاءني بأحاديث بأحاديث مطرف بن مازن فعارضت بها ، فإذا هي مثلها سواء فعلمت أنه كذاب "(1) .
ومن أكثر النقاد تطبيقا لهذه الطريقة ودقة ، الحافظ ابن عدي في كتابه " الكامل في الضعفاء"، فإنه يصرح بتتبع روايات الرواة ومعرفة المناكير منها ، وربما ذكر ما يستنكر على الراوي ، وخاصة إذا كان ثقة ، فإذا أراد تبرئة ساحة راو اتهمه بالضعف يصرح أنه تتبع أحاديثه فوجدها مستقيمة.
هذا وتنقسم المعارضة لمعرفة أحوال الرواة إلى نوعين :
الأول : المعارضة لمعرفة أحوال راو روى عنه الناقد ومارس أحاديثه .
الثاني : المعارضة لمعرفة أحوال راو لم يلتق به الناقد .
النوع الأول : معارضة الأحاديث لمعرفة أحوال راو التقى به الناقد ومارس أحاديثه .
وهي من أوثق طرق المعارضة وأعلاها مرتبة ، والأحكام الصادرة عنها تكون أقرب إلى الصواب من غيرها .
وسبب ذلك أن التلميذ يكون أعرف بأحاديث شيخه من غيره ، وخاصة عند أهل الحديث حيث تطول مجالسة التلميذ للشيخ حتى تبلغ سنين عددا .
ومن ثم قدمت روايات بعض التلاميذ لأنهم أثبت في شيوخهم من غيرهم وما ذلك إلا لطول الصحبة أو كثرة الممارسة .
__________
(1) منهج النقد عند المحدثين . محمد الأعظمي ص76 . ومن ذلك ما رواه الخطيب في الكفاية ص223 عن يحيى بن سعيد قال : " إذا حدثكم المعتمر بن سليمان بشيء فاعرضوه فإنه سيء الحفظ " .(1/49)
ولهذا الملحظ يقدم النقاد أحكام النقد التي يدلي بها التلاميذ في شيوخهم على أحكام غيرهم، لأن التلميذ أخبر شيخه ، وكذلك تقدم أحكام النقاد في الرواة الذين يشتركون معهم في الرواية عن شيخ لأن القرين أعلم بقرينة ، وكذلك أيضا تقدم أحكام النقاد في الرواة الذي يقطنون معهم في نفس البلد لأن المحدث يكون أعرف بحدث بلده من حديث البلاد الأخرى في الغالب .
وسبيل هذا النوع من المعارضة أن يعند الناقد إلى مرويات ذلك الراوي ويدرس أسانيدها ومتونها منفردة ، فإذا وجدها مستقيمة مع ذاتها انتقل إلى الخطوة التي تليها ، وإن وجده مضطربة في نفسها كأن يروي الحديث مرسلا ثم يرفعه في رواية أخرى أو يحدث مرة بمتن إسناد ثم يروي ذات هذا المتن بذات الإسناد لكن مع اختلاف في الألفاظ ، فتكرر مثل هذا يسقط الراوي من درجة الحفظ المشترطة ، ولا يتجشم الناقد عناء معارضة أحاديثه مع غيره فهو ضعيف في نفسه بصورة ظهرت بمجرد دراسته مروياته .
وينتقل إلى الخطوة التي تليها إذا وجد الناقد أحاديث الراوي مستقيمة مع نفسها أي ليس فيها اضطراب أو تناقض ، فيعد إلى روايات أقرانه ممن اشتركوا معه في الرواية عن شيوخه ، وينتقي أشهر شيوخ شيخه ممن أكثر من الرواية عنهم فيبدأ بتتبع روايات تلاميذهم ممن شاركوا شيخه في الرواية عنهم ، وقد يتيسر للناقد الرواية عنهم جميعا وقد يتيسر له الرواية عن بعضهم ويحصل باقي الروايات من الكتب أو بالواسطة لكنه يجب أن يسعى في البحث عن أشهر تلاميذ شيوخ شيخه أي أشهر أقران شيخه ويبدأ في دراسة أسانيدهم ومتونهم ، وفائدة ذلك هو تقويم مرويات أقران شيخه في ذواتها بحيث لا تكون مضطربة أو متناقضة وإلا فإنه لن يستطيع المعارضة معها ، وبعد أن تصفو له أحاديث شيخه مع أقرانه يبدأ في معارضتها .
وطريقة المعارضة تكون بين الأسانيد والأسانيد ، والمتون مع المتون ، وتلمس أوجه الاختلاف بينها.(1/50)
وفي غالب الأحايين يقل الاختلاف بين مجموعة من الأقران وتتشابه مروياتهم ، فيعلم أن اجتماع هؤلاء على تلك الروايات دليل على ضبط وحفظ ، فإذا ما ظهر اختلا لشيخه مع أقرانه لم يتسرع في الحكم عليه ، بل يوالي المعارضة والموازنة للمزيد من الأحاديث والمتون ، فإذا كثر الخلاف من شيخه لأقرانه دل ذلك علىضعفه في ذلك الشيخ ، ثم يوالي هذه الطريقة مع بقية شيوخ شيخه ، فإذا كانت الحال سواء دل ذلك على ضعف شيخه مطلقا بمعنى اطراد سوء حفظه في كل مروياته ، إذ من المحال أن تتعدد الأخطاء والاختلافات مع كل من يروي عنهم إلا إذا كان صاحب هذه الأخطاء ضعيفا في ضبطه غير متقن لما يرويه .
وقد يظهر بالمعارضة أن شيخه ضعيف في شيخ واحد من شيوخه ورواياته عن بقية شيوخه مستقيمة ، ولذلك أسباب منها أن يكون ذلك الشيخ الذي ضعف فيه بعيدةً بلادُه ، فمكابدة الأسفار أضعفت عنده ملكة الحفظ عند التحمل ، أو أن كتب ذلك الشيخ ضاعت دون بقية كتب رواياته عن الآخرين .
وعندئذ يوثق الراوي مع استثناء ذلك الشيخ الذي لم يضبط رواياته ، فإذا استقامت روايته عن كل شيوخه دل ذلك على إتقانه وضبطه فيوثق مطلقا .
وقد يظهر للناقد بالتتبع والمعارضة والسبر أن مرويات شيخه تكون منضبطة حين يروي شيخه من الكتاب ، أو حين يروي في بلد إقامته ، فإذا روي من حفظه أو روى حال سفره خلط وأتى بالغرائب ، فيقيد توثيقه حينئذ بغير حالة التحديث من الحفظ وحال السفر(1) .
وقد تختلف أنظار النقاد في مثل هذه المواطن من المعارضة على حسب سعة اطلاع كل واحد منهم وعلى قدر مدارسته للمرويات(2) .
__________
(1) التنكيل . عبد الرحمن المعلمي (1/65-66) .
(2) السابق (1/67) .(1/51)
وللنقاد في هذا الباب مسالك دقيقة جدا ، وأحوال خاصة في بعض الأحيان يجب ألا تأخذ حكم العموم ، وقد يستقرئ بعض النقاد استقراء ناقصا بحسب ما وصله من المرويات ويطلع غيره على غير ما اطلع عليه الأول ، والواجب التروي عندما تتعارض أحكام النقاد ، وهذا التعارض قليل في الغالب ، فقد قال الذهبي : " لم يجتمع اثنان من علماء هذا الشأن قط على توثيق ضعيف ولا على تضعيف ثقة " . وهو من أهل الاستقراء التام في نقد الرجال .
وتفاصيل هذا البال طويلة الذيول يعرفها الممارس لكتب الجرح والتعديل ، فإنها المجال التطبيقي الذي تظهر فيه اجتهادات المعارضة من النقاد .
وصفوة القول أن المعارضة للروايات والطرق والموازنة بينها هو المسلك الأساس في تقويم الرواة ومعرفة حالهم ، وقد يتفرع عن هذا المسلك بعض الأساليب الأخرى مثل الموازنة مع الكتب والمدونات واختبار الأحبار والورق ورؤية السماع في النسخ وفحص الخط ،وكله داخل تحت باب المعارضة(1) .
النوع الثاني : المعارضة لمعرفة أحوال راو لم يلتق به الناقد
المعارضة في هذا البال تكون أصعب من النوع الأول ، ولا يضطلع بهذا النوع إلا أهل الحفظ والاطلاع الواسع والتبحر في الأسانيد والمتون .
ونضرب له مثالا بحادثة يحيى بن معين التي ذكرناها قبل ، وحاصلها أن يحيى سمع كتب حماد بن سلمة من سبعة عشر تلميذا من تلاميذ حماد فسأله : ماذا تصنع بهذا ؟ فقال : " إن حماد بن سلمة كان يخطئ ، فأردت أن أميز خطأه من خطأ غيره فإذا رأيت أصحابه قد اجتمعوا على شيء علمت أن الخطأ من حماد نفسه ، وإذا اجتمعوا على شيء عنه ، وقال واحد منهم بخلافهم علمت أن الخطأ منه لا من حماد فأميز بين ما أخطأ هو بنفسه وبين ما أخطيء عليه "(2) .
__________
(1) منهج النقد عند المحدثين . محمد الأعظمي ص67.
(2) مضى تخريجة(1/52)
ويعتبر هذا التنظير أقدم وثيقة تبين منهج النقد عند المحدثين ، ولنحاول مدارسة هذا النص لأنه يتضمن الكثير من الإشارات إلى طريقة المحدثين في سبر أحوال الرواة .
إذا تأملنا كلام ابن معين رحمه الله يمكننا أن نستنتج ما يلي :
أولا : أن يحيى بن معين قد حكم على حماد بن سلمة أن يخطئ ومعنى هذا الحكم التوثيق وليس التضعيف ، لأن رغبة يحيى بن معين في إحصاء أخطاء حماد بن سلمة دليل على أنها معدودة وقليلة لكنها لم تتميز ، فأراد ابن معين أن يميز خطأ حماد ليعرف أن ماعدا ذلك من حديثه فمستقيم ، وهذا أعدل الأقوال في حماد بن سلمة ، وأخطأ من ضعفه مطلقا (1).
ثانيا : مقتضى حكم يحيى بن معين على حماد بن سلمة أنه يخطئ أنه سبر مرويات حماد بن سلمة ووازن بينها وبين مرويات أقرانه ممن اشتركوا معه في الرواية ، فلما فرغ من ذلك ، وعلم أن حماد دخل في حديثه الخطأ لأنه خالف المتقنين من أقرانه أراد أن يتحقق من هذه المخالفات والأخطاء ويميز بينها بالتدقيق في روايات مشاهير تلاميذه ، لأن الخطأ قد ينسب إلى التلميذ دون الشيخ ، فتفتق ذهنه عن هذه الطريقة في المعارضة لتتميز أخطاء حماد بن سلمة عن أخطاء تلاميذه .
ثالثا : قوله : " فإذا رأيت أصحابه " يدل على أن يحيى بن معين كان ينتقي أصحاب حماد بن سلمة ، أي تلاميذه الذي عرفوا بطول الصحبة له ، وذلك تلافيا من أن يروي عن تلميذ مغمور من تلاميذ حماد فيحوجه لدراسة حاله أولا فيطول امر ، لأن طول الصحبة دليل على كثرة الممارسة، ولا يتهم التلميذ في شيخه غالبا إذا كان ملازما له .
وفي ترجمة عفان بن مسلم الذي سعى يحيى للسماع منه أن يحيى بن معين نفسه سئل عن عفان بن مسلم إذا اختلف هو وأبو الوليد في حديث عن حماد بن سلمة ، فقال : القول ما قال عفان ، ثم سئل : وفي حديث شعبة ؟ قال : القول قول قول عفان ، فقلت : وفي كل شيء ؟ قال نعم .
__________
(1) انظر تهذيب التهذيب (3/11) .(1/53)
فهذا يدل على أن يحيى بن معين عرف قدر عفان وحرص على السماع منه لضبطه واختصاصه بحديث حماد بن سلمة(1) .
رابعا : استكثار يحيى بن معين من سماع كتب حماد بن سلمة عن تلاميذه دليل على سعة روايات حماد ، وهذا معروف عن حماد ، فإنه كان من الأئمة المعروفين بالحديث ، والحكم على إمام في جلالة حماد بن سلمة يحتاج إلى التوثق والتدقيق .
خامسا : نستطيع أن نتبين الجهد الذي بذله يحيى بن معين في راو واحد مثل حماد بن سلمة ، فلو افترضنا أن كتب حماد تبلغ خمسمائة حديث فقط بخمسمائة إسناد (وهذا قليل لما عرف عن حماد من سعة في الرواية) فيكون ابن معين سمع هذه الأحاديث بأسانيدها ثمانية عشر مرة وعارض رواية كل حديث بين تلاميذ حماد تلميذا تلميذا ، وسبر المتون والأسانيد لكل واحد منهم ، فمعنى ذلك أنه سمع عشرة آلاف حديث ودرس أسانيدها ومتونها وعارض بينها ووازن ليعرف ويميز أخطاء راو واحد ، فكم احتاج ليوازن مرويات حماد نفسه مع مرويات أقرانه ؟!
سادسا : يعتمد ابن معين على ملاحظة المخالفة بين الروايات ، وقد ذكرنا قبل أن معرفة الاختلاف هو روح منهج النقد عند المحدثين ، لأنهم علموا أن الخطأ يكون من الشاذ غالبا ، ولا تقدم مخالفة الفرد إلا إذا كان في مكانة من الحفظ تفوق كل من خالفه مجتمعين ، مثل أن يخالف شعبة عشرة من الضعفاء ، فإن النقاد يحكمون لشعبة بالإصابة لأن حفظه أصل يقاس عليه ، وضعف غيره فرع يتطلب أصلا ، فكيف يجعل الفرع أصلا يحاكم على أساسه الأصل ؟.
ثانيا : المعارضة لمعرفة حال المروي
والمقصود به : اعتبار الشواهد والمتابعات والموازنة بينها لترقية حال الحديث الضعيف ، ويحسن بنا أن نعرف بعض الاصطلاحات في هذا الباب على سبيل الاختصار .
فالمتابعة هي مشاركة راو من الرواة لغيره في رواية الحديث عن نفس الشيخ بذات الطريق (السند ) وذات المتن .
__________
(1) انظر : تهذيب التهذيب (7/231) .(1/54)
فلو روى سعيد بن المسيب عن أنس بن مالك حديثا ثم روى نفس هذا الحديث عن أنس : قتادة بن دعامة السدوسي ، سميت روايته متابعة .
والشاهد هو أن يروي معنى الحديث بلفظ مغاير وسند مختلف ( طريق صحابي مختلف ) .
والاعتبار هو سبر المتابعات والشواهد واختبار صلاحيتها أن تعاضد الرواية النازلة .
والنقاد لا يعتبرون أي متابع أو شاهد يجدونه من طرق الحديث ، بل لهم في ذلك منهج ونظام.
" والقاعدة التي يقوم عليها هذا الباب ويعتمد عليها في تمييزما يصلح وما لا يصلح للاعتبار إنما تقوم على أساسين لا نزاع فيهما ولا خلاف عليهما :
الأساس الأول : أن الرواية التي ترجح فيها وجه الخطأ إسنادا ومتنا لا تصلح للاعتبار أو الاستشهاد . والخطأ قد يكون في الراوي أو المروي .
فالخطأ الراجح في الراوي كأن يكون الراوي المتفرد بالرواية ( التي يراد الاعتبار بها ) ضعفه شديد لكذب أو تهمة أو شدة غفلة ، فمثل هذه الرواية لا تصلح للاعتبار لرجحان جانب الخطأ فيها .
والخطأ الراجح في المروي بأن يترجح أن الرواية ( التي يراد الاعتبار بها ) في نفسها خطأ فتعد من المنكر أو الشاذ الذي لايعتبر به .
وإلى هذا الأساس الأول اشار الحافظ ابن حجر في النكت فقال : " لم يذكر – يعني ابن الصلاح – للجابر ضابطا يعلم منه ما يصلح أن يكون جابرا أو لا ، والتحرير فيه أن يقال : إنما يرجع إلى الاحتمال في طرفي القبول والرد ، فحيث يستوي الاحتمال فيهماه فهو الذي يصلح لأن ينجبر ، وحيث يقوى جانب الرد فهو الذي لا ينجبر ، وأما إذارجح جانب القبول فليس من هذا، بل ذاك في الحسن الذاتي والله أعلم "(1) .
__________
(1) نكت ابن حجر على مقدمة ابن الصلاح ص79(1/55)
الأساس الثاني : أن الخطأ هو الخطأ مهما كان موضعه ، لا فرق بين خطأ في الإسناد وخطأ في المتن ، فإذا تحقق من وقع خطأ في الرواية في إسنادها أو متنها لا يعرج على هذا الخطأ ولا يعتبر به ، بل هومنكر ، له ما للمنكر وعليه ما على المنكر . ولهذا لم يصحح الأئمة حديث : " إنما الأعمال بالنيات " إلا ن طريق واحدة وحكموا على سائر طرقه بالخطأ والنكارة ، ولم يقووا الحديث بها . وبهذا قال ابن حجر : " وقد وردت لهم – أي لرواة حديث إنما الأعمال بالنيات – متابعات لا يعتبر بها لضعفها "(1) .
الخلاصة
يعتمد منهج النقد عند المحدثين على مرتكزين أساسين هما :
الأول : استقراء الروايات وتتبع الطرق .
الثاني : المعارضة والموازنة بين الروايات .
كان للمحدثين منهج علمي دقيق واضح في كيفية تطبيق هذين المرتكزين ، وقد أثبتت دراسة نص ليحيى بن معين في كيفية جمع واستقراء الروايات والمعارضة والموازنة بينها أن منهج النقد بتفاصيله الدقيقة كان واضحا في ذهن المتقدمين من نقاد الحديث .
استخدم هذان المرتكزان لمعرفة أحوال الرواة عبر استقراء رواياتهم ونقدها لمعرفة درجة الضبط لديهم ، ولمعرفة أحوال المرويات بتبين درجة الصحة التي يتمتع بها النص المنقول عبر الرواة .
كانت للمحدثين ضوابط واضحة وآلية متناسقة في أحكامهم النقدية عبر هذين المرتكزين.
سمات المنهج
__________
(1) نزهة النظر شرح نخبة الفكر لابن حجر ص68. وانظر شرح الإرشادات في تقوية الأحاديث بالشواهد والمتابعات . طارق عوض الله ص43-53. ومن المصدر الأخير استفدت في تحرير مادة هذا النوع من المعارضة .(1/56)
بعد هذه الجولة التي تعرضنا فيها لنظريات النقد عند المحدثين ، وفهمنا على وجه واضح مناهجهم في جرح الرواة وتعديلهم ومعرفة علل الحديث ، وتعرفنا – بنا ء على وثائق ونصوص قديمة – على مرتكزات منهج النقد عند المحدثين ، يناسب أن نستعرض بعض سمات هذا المنهج على وجه الاختصار لنتبين بشكل عام الفروق بينه وبين غيره من المناهج الأخرى .
السمة الأولى : أخلاقيات المنهج
مع أن علم الأخلاق يحتل جزءا لا يستهان به في منظومة المعرفة اللاتينية ، والفلاسفة الذين تناولوا هذا الشأن لا يقلون عددا عن أولئك الذين تناولوا شئون الحياة العملية الأخرى إلا أن المفردات التطبيقية لهذا العلم ظلت حبيسة الأحبار والكواغد .
ولا نغلو إذا قلنا إن الأخلاق شأن لم يتناول إلا في إطار فلسفي محض (1)،ولم تكن للعلوم الأخرى نصيب منه تنظيرا وتطبيقا .
ولن نبتعد كثيرا عن الحق لو ادعينا أيضا أن معاني الأخلاق لم تر حيز التطبيق إلا في القليل النادر في الأوساط العلمية الأوروبية بدءا من الفلسفة اليونانية القديمة وانتهاء بالحضارة الأوروبية المعاصرة .
ونحصر زاوية الخطاب في علم التاريخ الذي نحن بصدد عقد مقارنة فيه بين منهج النقد عند المسلمين وبين الأوروبيين .
ونستطيع أ، نجزم مطمئنين إلى أن المنهج الأوروبي للنقد التاريخي خال من أية شروط أخلاقية تبذل الطمأنينة المطلوبة في الأحكام النقدية التي يصدرها علماء النقد .
ولا يقتصر هذا الإفلاس الأخلاقي على الناقدين بل يمتد – عبر الزمان – إلى المؤرخين أصحاب الوثائق أنفسهم .
__________
(1) انظر : أسس الفلسفة ، توفيق الطويل ص446 .(1/57)
إن لانجلوا وسينوبوس وكل من ألف في أصول النقد الأوروبي ومن ابتع طريقتهم من المسلمين لم يشيروا من قريب أو بعيد إلى المعايير الأخلاقية الواجب توافرها في الناقد ، ونحن لا نريد أن نكون في ضمن الفريق الذي يتهم منظومة الحضارة الغربية بأجمعها بأنها حضارة غير أخلاقية ، فهذا غلو يأباه النظر السديد والإنصاف الرشيد .
لكننا – وببساطة – يمكننا أن نثبت ما ذكرناه دون خوف من تكذيب أحد لنا ، لأن كتب مناهج النقد موجودة بين أيدي الباحثين في كل العالم ، إنها تخلو من مجرد إشارة إلى الشروط الأخلاقية للناقد أو المؤرخ .
وفي المقابل فإننا نرى منهج النقد عند المحدثين يعتمد اعتمادا كاملا على نظرية الجرح والتعديل التي تنظمها قوانين الأخلاق من عدالة وتقوى وصيانة نفس وطهارة روح وبعد عن كل الرذائل المشينة القادحة .
وبالنسبة للرواة فقد بينا اشتراطات منهج النقد عند المحدثين فيهم ، ومرتبة الراوي تتحدد – قبولا وردا – على هذا الأساس الأخلاقي الصارم .
أما في المنهج الأوروبي فإن لانجلوا وسينوبوس لا يؤمنون بوجود " معيار خارجي للأمانة ولا للدقة ولهجة الأمانة عندهما هي مظهر الاقتناع ، والخطيب والممثل والكذاب المعتاد على الكذب أقدر على الظهور بهذا المظهر – وهم يكذبون – من الرجل المتردد حينما يقول ما يعتقده فقوة التوكيد لا تدل دائما على قوة الاقتناع بل على المهارة أو الوقاحة " .
ويضرب سينوبوس بمذكرات الكاردينال دي رتز De Retz حيث تضمنت حكاية عن الأشباح، وقد بين ناشر المذكرات أن هذه الحكاية المروية بحماسة كلها كذب من أولها إلى آخرها (1).
__________
(1) المدخل إلى الدراسات التاريخية . لانجلوا وسينوبوس . ترجمة عبد الرحمن بدوي ص126.(1/58)
وبينما يتم تناقل الوثائق والكتب والمدونات في وسطا لمؤرخين والمحدثين المسلمين عبر سلسلة إسناد تتضمن رواة مشهودابهم بالديانة والأمانة ، مع دقة متناهية في نسخ تلك الكتب ومعارضتها وسماعها أو قراءتها على أهل العلم حتى ينتهي نسب الإسناد إلى مؤلف الوثيقة نجد في المقابل أن المنهج الأوروبي يعلم علم اليقين أن انتحال الكتب في القديم – أي العصور الوسطى أو الحديثة – كان عادة جارية مقبولة لا يعاقب صاحبها .
ونحن لا نتوقع كثيرا من أمم كذب رجال الدين فيها وزوروا كتبهم المقدسة أن يتحلى من هم أقل من رجال الدين دينا بالأمانة والنزاهة .
ونجدنا مضطرين إلى إلقاء هذه التهمة التي لا مستدفع لها لنثبت وجود فروق جوهرية بين المنهج عند المحدثين والمنهج عند الأوروبيين .
وقد مر معنا عند استعرضا أسئلة النقد الباطني – للأمانة – في المنهج الأوروبي أنها مبنية على الشك المطلق والأصيل في الوثائق ومن كتبها ومن روى التاريخ من خلالها ، إن منهجهم فقد الثقة في كل شيء فاضطر للشك في كل شيء ليصل إلى ما يظن أنه بصيص نور من صدق وحقيقة ، في غيابة ظلمات الانتحال والتزييف الذي عج به الوسط العلمي عندهم .(1/59)
إن أي قارئ لمقدمة الجرح والتعديل لابن أبي حاتم سيدهش من تلك التراجم المستفيضة والطويلة لمالك بن أنس والأوزاعي وشعبة وابن المبارك وعبد الرحمن بن مهدي ويحيى بن سعيد القطان وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين وأبي زرعة الرازي وأبي حاتم الرازي وأبي مسهر ونحوهم، كما سيدهش من تلك الآُثار المتواتر في ديانة هؤلاء وعدالتهم وإمامتهم وعلو أخلاقهم وورعهم وتصونهم عن الشبهات وبعدهم عن المداهنة ، لكن الدهشة ستزول حينما يتوغل في ثنايا الكتاب ويقرأ الأحكام النقدية والجرح والتعديل في الرواة أنها أحكام لأولئك الذين ترجم لهم ابن أبي حاتم في بداية الكتاب وجعلهم معيار النقد لغيرهم فكل حكم يصدر عن واحد منهم إذن لا بد أ، يتلقى بالقبول لسبق التسليم بنزاهتهم وأمانتهم .
ولماذا نحتاج إلى التعمق في المقارنة بين أخلاقية المنهج عند المحدثين وأخلاقية المنهج عند الأوروبيين بينما نظرة عابرة في تراجم أئمة النقد تعطينا نتيجة يقينية أن كل من مارس النقد من المحدثين معدود في أئمة الدين المشهود لهم بالتقدم والفضل ويعرفهم الخاص والعام وكان أحمد والدارقطني يتحديان الطوائف المبتدعة بأيام الجنائز ، يقول أحمد : " بيننا وبينهم الجنائز " إي إذا مات المحدث الناقد عرفت إمامته بين الناس بالحشود الهائلة التي تشيع جنازته حتى يدفن ، أما أصحاب الطوائف الأخرى فيكون العدد الهزيل المشيع لجنازة الذي موت منهم دليلا واضحا على حقيقة مكانته بين الناس .
السمة الثانية :أصالة المنهج
لقدكان منهج النقد التاريخي عند المحدثين من المناهج الإسلامية القليلة التي سلمت من وصمة التأثر بالفلسفة اليونانية ومنظومتها المعرفية .
إن ا لتاريخ الإسلامي الذي دونه المحدثون ووضعوا أصوله ومنهج نقده كان من الأصالة والاستقلالية بحيث يصعب على أولئك المهووسين بالحضارة اليونانية أن يقفوا على دليل واحد يثبت وجود اقتباس أو تأثر في المادة والمنهج .(1/60)
يقول مرغليوث : " يضم الأدب الإغريقي نظراء لجميع فروع التاريخ التي وجدت عن المسلمين ، وبرغم ذلك يبدو أنه لا يوجد أثر لأي ترجمة من مؤرخ إغريقي إلى اللغة العربية ؟؟ بل يبدو أنهم أهملوا أيضا المؤرخين السريانيين الذي كانت آثارهم تثير اهتمام أولئك المشتغلين بالدراسات القديمة وربما أفادوا من المؤرخين الفرس مثل أولئك الذين يبدو أنهم وجودا في العهود المسيحية ولكن هذه الإفادة لا تتضح في العصور السابقة على ذلك ، ويظهر أن التاريخ العربي مستقل عن هذه الكتب وقد نما أمام أعيننا .. وإنما هو طبيعي جاءت به إلى الوجود حاجات المجتمع وتتجلى فيه خصائص خاصة به"(1).
ويؤكد هذا المعنى الأستاذ حسين نصار فيقول : " وهكذا نرى أن الكتابة التاريخية نشأت نشأة عربية خالصة لا يد فيها للفرس أو اليونان "(2) .
ويقول الأستاذ شاكر مصطفى : " وهكذا لم يكن التاريخ الإسلامي استمرار أو صلة للتواريخ القديمة وإنما هو تاريخ إسلامي خالص وقد نما النمو المستقل الطبيعي ضمن حدود التطور الثقافي الإسلامي وأبعاده وفي إطار حاجات المجتمع الإسلامي وخصائصه " (3).
وبعد هذا التتابع على تأكيد تلك الحقيقة من كل أولئك الباحثين يمكننا أن نطرح ما جزم به روزنتال من تأثر التاريخ الإسلامي وامتصاصه – منذ بدايته حوالي سنة 700م – للمؤثرات البيزنطية والإيرانية – أي الفارسية - (4).
__________
(1) دراسات عن المؤرخين العرب . مرغليوث . ترجمة حسين نصار ص24 .
(2) نشأة التدوين التاريخي عند العرب .حسين نصار ص67 .
(3) التاريخ العربي والمؤرخون . شاكر مصطفى (1/85) وممن أشار إلى سمة الأصالة والاستقلال لحركة التدوين التاريخي عند المسلمين نور الدين حاطوم وزملاؤه في كتابههم : " المدخل إلى التاريخ " . انظر المرجع السابق (1/20) .
(4) علم التأريخ عند المسلمين . فرانز روزنتال .ترجمة صالح أحمد العلي ص23 .(1/61)
ففضلا عن أنه لم يقدم أي دليل على هذا الامتصاص إلا أنه ذكر في سياق استدلاله دليل بطلان الاستدلال ، حيث أرخ لبداية التاريخ الإسلامي وبداية الامتصاص بعام 700م تقريبا ، أي حوالي 80هـ ، أو بعبارة أخرى : أواخر القرن الأول الهجري ، وهي فترة يزعم المستشرقون عدم وجود تدوين رسمي فيها بشكل واسع ، ومعنى ذلك أن الثقافة لم تكن في مستوى إمكانية التلاقح الحضاري فضلا عن الامتصاص .
وإضافة إلى ذلك فإن العاصمة العلمية والسياسية كانت في الشام آنذاك ولم تكن للحضارة الفارسية تلك الصولة التي حدثت بعد في عهد العباسيين ، وتثبت الأبحاث أن ترجمات الكتب اليونانية لم تبغ أوجها إلا في أواخر القرن الثاني الهجري – في عهد المأمون ومن بعده – فكيف يزعم أن تلك الفترة حصل فيها امتصاص فضلا عن وجود تأثر .
ولا قيمة علمية لما ذكره ول ديورانت(1) أيضا من تأثر المسلمين بالفرس في الشعر والتاريخ فإنه ينقل غالبا معلوماته حول حضارات الشرق من أبحاث المستشرقين .
السمة الثالثة :التثبت
لن تخطئ العين الملاحظة عند المرور على خطوات وقواعد منهج النقد عند المحدثين سمة التثبت التي تتغلغل في كل أرجائه .
فما من جزئية إلا ويلتمس لها الدليل والتعليل بحيث يضحي القول أو الحكم القائم على غير دليل ساقطا بنفسه دون إسقاط من أحد .
إنه منهج يراعي الدقة في إثبات الأحكام لدرجة تبدو في بعض الأحايين مبالغا فيها .
ونرى شاهد هذا مثلا في تدقيق المحدثين في وفيات الرواة وتتبع الروايات في ذلك تحقيق زمان ومكان موت الراوي بما لا نراه في أي تاريخ من تواريخ الدنيا .
__________
(1) قصة الحضارة . ول ديورانت (3/179) .(1/62)
ومبدأ التأريخ بالسنة والشهر واليوم سبق أكيد للمحدثين لكل تواريخ العالم ، لدرجة أن مرغليوث ينقل عن بكل مؤرخ الحضارة أن التأريخ بالسنة والشهر واليوم لم يحدث في أوروبا قبل 1597م أي ابتدأ مطلع القرن السابع عشر وأن المسلمين كانوا قد سبقوا إلى التثبت والتدقيق في التأريخ بهذه الطريقة منذ مئات السنين(1) .
وقد رأينا في خطوات التوثيق عند منهج المحدثين ما يثبت أن تحريهم الدقة والأمانة في النقل والرواية والنقد قد بلغ الغاية والمنتهى .
ونحن لو تتبعنا هذه السمة في كل مراحل المنهج وجزئياته لرأيناها ماثلة شاخصة تعلن عن نفسها دون خفر ، وهذا يفصح عام أشرنا إليه سابقا أن التثبت يمكن عده النظرية الكبرى في منهج النقد عند المحدثين .
وفي تراجم رواة الحديث تتكرر عبارة النقاد في حق الرواة الحفاظ المتقنين بأن فلانا " من أهل التثبت " وهذا يشير إلى عمق هذا المعنى في سائر النظريات الأخرى ، لأن الإسناد إنما نشأ وترسخ لتحصيل التثبت ، والجرح والتعديل للرجال إنما هو لأجل التثبت ، ونظرية العلة قائمة على شدة التحري والتثبت للوصول لأخطاء الثقات والمتقنين .
الخلاصة
تميز منهج النقد عند المحدثين ببعد أخلاقي أكسبه مصداقية تفوق مصداقية المنهج الأوروبي لخلوه من أية أخلاقيات في المهنة فضلا عن خلو المنهج من الاعتماد على شروط أخلاقية في النقلة والرواة .
لقد كان منهج النقد عند المحدثين وليد احتياجات الوسط الإسلامي متميزا بأصالة حقيقية في كل جزئياته ، ولم يأت دليل يثبت تأثر هذا المنهج بغيره من المناهج الوافدة .
تميز هذا المنهج بسمة التثبت في كل مراحله وأطواره بحيث يمكن اعتبار التثبت هو النظرية الكبرى لمنهج النقد عند المحدثين .
النقد العلمي للمتون
__________
(1) دراسات عن المؤرخين العرب . مرغليوث . ترجمة حسين نصار ص25.(1/63)
لقد اعتمد منهج النقد عند المحدثين على وجود الإسناد ركيزة في نقد الأخبار ، وكانت ميثودلوجيا الصحة تستند إلى نظافة السند وخلوه من القوادح ، ولم يعول منهجهم على معايير عقلية في نقد المتن لاعتماد صحته ، وظل هذا هو التقليد العلمي الرصين الذي درج عليه كل من صنف في الحديث .
ولما اشتهر بين الباحثين المسلمين منهج النقد التاريخي الأوروبي لاحظوا أنه يتضمن مسلكا لا يوجد في منهج النقد عند المحدثين وهو " النقد الباطني "(1) أو نقد المتون على أساس عقلي ، فأحس أولئك بوجود فجوة في منهج المحدثين .
وزاد الأمر شبهة كتابات المستشرقين أمثال جولدزيهر(2) ،وجوزيف شاخت(3) ، ويونيبول(4) ، وغيوم(5) ، التي انتقدت منهج المحدثين صراحة بأنه " لم يكن منصبا على المضمون وإنما على سلسلة الرواة – أي السند – " .
__________
(1) هي مجموعة من العمليات العقلية والنفسية التي تندرج في سياق عملية النقد التاريخي للواقعة التاريخية بغض النظر عن راويها أو الكاتب عنها ، وهي عمليات نقدية الهدف منها التحقق من إمكانية الواقعة من حيث الجواز العقلي وعدم الاستحالة المنطقية . انظر : مدخل إلى الدراسات التاريخية ، لانجلوا وسينوبوس ، ترجمة عبد الرحمن بدوي ص121 .
(2) في كتابيه : " العقيدة والشريعة في الإسلام " و " دراسات إسلامية " .
(3) فيما كتبه في مادة " أصول " بدائرة المعارف الإسلامية .
(4) كاتب مادة "حديث " في دائرة المعارف الإسلامية .
(5) في كتابه " الحديث النبوي " وانظر منهج النقد التاريخي الإسلامي والمنهج الأوروبي . عثمان موافي ص141 . وموقف المستشرقين من السيرة والسنة النبوية . أكرم العمري ص42 .(1/64)
وتلقف هذه لملاحظة بعض الكاتبين المتأثرين بأفكار المستشرقين مثل أحمد أمين(1) ومحمود أبي رية(2) وصدرت لهم أبحاث في هذا الصدد تكرر مقولة المستشرقين لكن تزيد عليها في الحدة ولغة الهجوم(3) .
ولفرط التشنيع الذي تواطأ عليه حملة الأقلام من المستشرقين ومن درج في طريقهم صدرت مواقف الباحثين في الحديث النبوي عن رغبة في درء ما ظنوه تهمة وسبة في منهج النقد عند المحدثين .
وراح من يؤصل لمنهج لنقد عند المحدثين يدفع هذه القالة بإثبات أن منهج المحدثين يتضمن مراعاة العقل ، ونقد المتن أيضا(4) .
قال المعلمي : " إن المحدثين راعوا العقل في أربعة مواطن : عند السماع ، عند التحديث ، عند الحكم على الرواة ، عند الحكم على الأحاديث "(5) .
ويشرح ذلك الأعظمي قائلا : " أما عند السماع فقد قال الخطيب البغدادي : باب وجوب إخراج المنكر والمستحيل من الأحاديث ، ولا بد لقبول الخبر أن يكون الراوي وقت تحمل الحديث وسماعه مميزا ضابطا علاما بما يسمع ، فالمتثبتون إذا سمعوا خبرا تمتنع صحته أو تبعد لم يكتبوه ولم يحفظوه ، فإن حفظوه لم يحدثوا به ، فإن ظهرت مصلحة لذكره ذكروه مع القدح فيه وفي الراوي الذي عليه تبعته .
__________
(1) في كتابه ضحى الإسلام
(2) في كتابه أضواء على السنة المحمدية .
(3) انظر : الأنوار الكاشفة . عبد الرحمن المعلمي ص19 و 72 .
(4) يعتبر الأستاذ أمين الخولي أول الباحثين المسلمين الذين ردوا على كلام المستشرقين وذهب إلى أن المسلمين نقدوا الأخبار والتاريخ من الناحية العقلية ثم تتابع الباحثون المسلمون على هذا المسلك . انظر منهج النقد التاريخي الإسلامي والمنهج الأوروبي . عثمان موافي ص141 .
(5) الأنوار الكاشفة . عبد الرحمن المعلمي ص6-7 .(1/65)
أما مراعاتهم لعقل عند الحكم على الرواة فإننا نجد أنهم كثيرا ما يجرحون الراوي بخبر واحد منكر جاء به فضلا عن خبرين أو أكثر ... وأما مراعاتهم للعقل عند الحكم على الأحاديث فقد أعطوا حقه كما يجب " (1).
ثم يورد الأستاذ الأعظمي(2) عن ابن القيم مثالا في نقده للمتن ، ونحن نورده ثم نعقب على كل ذلك لاحقا .
يقول ابن القيم : " حديث " لكل أمة مجود ومجوس هذه الأمة الذين يقولون : لا قدر" هذا المعنى قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عمر وحذيفة وابن عباس وجابر بن عبد الله وأبي هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص ورافع بن خديج ، فأما حديث ابن عمر وحذيفة فلهما طرق وقد ضعفت .
وأما حديث ابن عباس فرواه الترمذي من حديث القاسم بن حبيب وعلي بن نزار عن نزار عن عكرمة عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى ا لله عليه وسلم : " صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب : القدرية والمرجئة " قال هذا حديث حسن غريب . ورواه من حديث محمد بن بشر أخبرنا سلام بن أبي عمرة عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم .
__________
(1) منهج النقد عند المحدثين . محمد الأعظمي ص84-85 .
(2) منهج النقد عند المحدثين . محمد الأعظمي ص86-88.(1/66)
وأما حديث جابر فرواه ابن ماجة في سننه عن محمد بن المصفى عن الأوزاعي عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر – يرفعه – نحو حديث ابن عمر . فلو قال بقية " حدثنا الأوزاعي " مشى حال الحديث ، ولكن عنعنه مع كثرة تدليسه ، وأما حديث أبي هريرة : فروى عبدالأعلى بن حماد حدنا معتمر بن سليمان سمعت أبي يحدث عن مكحول عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فذكره . رواه عن عبد الأعلى جماعة وله علتان : إحداهما : أن المعتمر بن سليمان رواه عن أبي الحر حدثني جعفر بن الحارث عن يزيد بن ميسرة عن عطاء الخراساني عن مكحول عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، والعلة الثانية : أن مكحولا لم يسمع من أبي هريرة وأما حديث عبد الله بن عمرو فيرويه عمرو بن مهاجر عن عمر بن عبد العزيز عن يحيى بن القاسم عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو يرفعه : " ما هلكت أمة قط إلا بالشرك بالله عز وجل ، وما أشركت قط إلا كان بدء إشراكها التكذيب بالقدر " . وهذا الإسناد لا يحتج به .
وأجود ما في الباب حديث حيوة بن شريح : أخبرني ابن صخر حدثني نافع : " أن ابن عمر جاءه رجل فقال : إن فلانا يقرأ عليك السلام ، فقال : إنه قد بلغني أنه قد أحدث ، فإن كان قد أحدث فلا تقرئه مني السلام ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يكون في هذه الأمة – أو أمتي – الشك منه – خسف ومسخ أو قذف في أهل القدر " قال الترمذي : حديث حسن صحيح غريب.
والذي صح عن النبي صلى الله عليه وسلم ذمهم من طوائف أهل البدعة هم الخوارج ، فإنه قد ثبت فيهم الحديث من وجوه كلها صحاح ، لأن مقالتهم حدثت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وكلمه رئيسهم .(1/67)
وأما الإرجاء والرفض والقدر والتجهم والحلول وغيرها من البدع فإنها حديث بعد انقراض عصر الصحابة ، وبدعة القدر أدركت آخر عصر الصحابة ، فأنكرها من كان منهم حيا كعبد الله بن عمر وابن عباس وأمثالهما رضي الله عنهم ، وأكثر ما يجيء من ذمهم فإنما هو موقوف على الصحابة من قولهم .
ثم حدثت بدعة الإرجاء بعد انقراض عصر الصحابة فتكلم فيها كبار التابعين الذين أدركوها ما حكيناه عنهم ، ثم حدثت بدعة التجهم بعد انقراض عصر التابعين واستفحل أمرها واستطار شرها في زمن الأئمة ، كالإمام أحمد وذويه . ثم حدثت بعد ذلك بدعة الحلول وظهر أمرها في زمن الحسين الحلاج ..."(1) .
ولقد نقلنا كلام ابن القيم على طوله لأن الأستاذ الأعظمي استدل به على أن أئمة الحديث تعرضوا لنقد المتون بالعقل .
وليس في كلام ابن القيم تعرض لنقد المتن كما رأينا ، بل إنه صدر كلامه بالتعرض لنقد أسانيد وطرق الحديث (2).
وهذا هو مسلك المحدثين كافة في نقد الأخبار والروايات ، وقد بينا أنهم أسسوا منهجهم النقدي على نظري الإسناد باعتباره الوسيلة الوحيدة لحفظ النصوص ونقلها والإطار الوحيد الذي يتيح للناقد التوصل لصحة الخبر .
__________
(1) تهذيب سنن أبي داود ( مع حاشية ابن القيم ) (7/60-61) .
(2) وبتأمل كلام ابن القيم رحمه الله نجد أنه اعتمد على أمرين في نقده لحديث : " مجوس الأمة .." الأول : هو النظر في الأسانيد ومعرفة عللها ، وهذا هو الأصل عند المحدثين كما قررنا ، والثاني : النقد عبر الموازنة مع الحقائق التاريخية ، فقد استعرض ابن القيم تاريخ تلك الطوائف المبتدعة لاستشفاف إمكانية قول النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الحديث ، وهذا ليس بنقد عقلي عند التأمل ، لأن الحقائق التاريخية لم تثبت إلا بالأسانيد الصحيحة ، فكأن الموازنة كانت معها لا مع مجرد معانيها ، فعاد الأمر إلى الإسناد كما هو ظاهر .(1/68)
لكن لابن القيم كلام آخر جدير بالإيراد أيضا لنعرف : هل استعمل المحدثون علميات نقد المتون أو ما يسميه أصحاب المنهج الأوروبي بالنقد الباطن ؟
" سئل ابن القيم : هل يمكن معرفة الحديث الموضوع بضابط من غير أن ينظر في سنده . فأجاب رحمه الله قائلا : إنما يعلم ذلك من تضلع في معرفة السنن الصحيحة واختلطت بلحمه ودمه وصار له فيها ملكة وصار له اختصاص شديد بمعرفة السنن والآثار ومعرفة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه فيما يأمر به وينهى عنه ، ويخبر عنه ويدعو إليه ويحبه ويكرهه ويشرعه للأمة ، بحيث كأنه مخالط للرسول صلى الله عليه وسلم كواحد من أصحابه(1) .
ثم ذكر ابن القيم أمورا كلية يعرف بها كون الحديث موضوعا منها :
اشتماله على المجازفات التي لا يقول بمثلها رسول الله صلى الله عليه وسلم كقوله في الحديث المكذوب : " من قال لا إله إلا الله ، خلق الله من تلك الكلمة طائرا له سبعون ألف لسان .. " .
تكذيب الحس له ، كقولهم : " الباذنجان لما أكل له " .
سماجة الحديث وكونه مما يسخر منه كحديث : " لو كان الأرز رجلا لكان حليما ، ما أكله جائع إلا أشبعه " .
مناقشته لما جاءت به السنة الصريحة مناقضة بينة ، كأحاديث في مدح من اسمه محمد وأحمد .
أن يدعي على النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعل أمرا ظاهرا بمحضر من الصحابة كلهم وأنهم اتفقوا على كتمانه ولم ينقلوه ، كما يزعم أ:ذب الطوائف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع : " هذا وصيي وأخي والخليفة من بعدي " . يعنون عليا رضي الله عنه .
أن يكون الحديث باطلا في نفسه كقولهم : " إذا غضب الله تعالى أنزل الوحي بالفارسية".
أن يكون كلامه لا يشبه كلام الأنبياء فضلا عن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم .
أن يكون بوصف الأطباء والطرقية أشبه ، كقولهم : " أكل السمك يوهن الجسد " .
مخالفة الحديث صرح القرآن .
__________
(1) المنار المنيف في الحديث الضعيف . ابن قيم الجوزية ص44 .(1/69)
10-ركاكة ألفاظ الحديث وسماجتها (1).
وغالب هذه الأمور التي ذكرها ابن القيم رحمه الله تعود إلى شيء واحد وهو المخالفة ، ولا يعرف ذلك إلا بالموازنة مع صحيح سنة النبي صلى الله عليه وسلم، كما صرح بذلك عند قوله : " صار له فيها ملكة " أي لسعة اطلاعه وكثرة ممارسته لحديث النبي صلى الله عليه وسلم .
ومرد معرفة صحيح السنة الذي يوازن عليه ما ورد يراد معرفة صحته إنما هو الإسناد الذي هو طريق معرفة صحة الخبر وضعفه (2).
يقول الشافعي : " ولا يستدل على أكثر صدق الحديث وكذبه إلا بصدر المخبر وكذبه ، إلا في الخاص القليل من الحديث ، وذلك أن يستدل على الصدق والكذب فيه بأن يحدث المحدث ما لا يجوز أن يكون مثله أو ما يخالفه ما هو أثبت وأكثر دلالات بالصدق منه " (3).
__________
(1) المنار المنيف لابن القيم ص50 فما بعدها .
وينبغي الإشارة إلى أن بعض هذه الأمور لا تتحقق إلا في الأحاديث القولية مثل ركاكة الألفاظ ، ومع ذلك فأرى أن يسد مثل هذا الباب غير المنهجي لأنه لا ضابط له ، ومن جرائه ولج بعض المتشككين فاصطنعوا معايير أخرى مثل تناقض الحديث مع نظريات الكون ومكتشفات العلوم فنتج عنه اجتراء غير محمود على رد أحاديث صحيحة تلقتها الأمة بالقبول استنادا إلى معايير غير مسلمة عند كل ذوي النظر .
(2) ولا يعرف عن أحد من النقاد حكم على الحديث بمجرد معناه ، وابن القيم كان يتعرض في كتابه " المنار المنيف " للإسناد بالدرجة الأولى ، وإنما ذكر أمارات الوضع للدلالة على توافق تلف الإسناد مع عدم صحة معناه في الغالب ، ولا يمكن أن يأتي حديث موضوع بإسناد صحيح ، إذ لا بد من وجود من يتهم به أو ينسب إليه الخطأ في دخول الأحاديث الباطلة في حديثه دون أن يدري .
(3) الرسالة . محمد بن إدريس الشافعي ص399.(1/70)
والشافعي رحمه الله يلمس مكمن القضية ومحك النزاع حين يجعل الأصل في معرفة صدق الحديث أو كذبه إنما هو سنده ، وفي حالات استثنائية يصار إلى تخطئة الراوي من حيث روايته ما لا يكون مثله وذلك بالعرض على مرويات من هو أصدق منه فيستبين أنه روي خطأ ودخل التخليط فيما يرويه .
وهذه بعينها نظرية العلة التي ذكرناها ونظرنا لها من كلام أهل العلم .
والعلة هي المصير الذي جب أن نعتبره في نقد الحديث إذا نظف إسناده وبدر منه وجه خطأ، لأن الثقة يخطئ .
فإذا كان في السند ضعيف أو متروك أو متهم فالإحالة عليه أولى من الإحالة على مجرد نقد ظاهر المتن بمجرد العقل .
ولقد حاول بعض الباحثين أن يستدرج منهج المدرسة العقلية الاعتزالية في الموازنة مع منهج المحدثين ،معتبرا أن المعتزلة " وضعوا قواعد عامة لنقد السند أو المصدر تقوم على التحري والتثبت والتحقق منصحة المصدر ، وأنهم لمينقدوا السند فحسب ، بل المتن ومضمونه كذلك ... بل يعتبرهم أصحاب السبب المباشر في إحداث حركة رد الفعل في بيئة المحدثين والفقهاء من أهلا لسنة والفقهاء ومدرسة النقل "(1) .
ولم يكن الصواب حليفا له في كل ذلك . فالمعتزلة لا تعرف لهم عناية بأصول الرواية أصلا ، بل عداؤهم لأهل الحديث أشهر من أن نثبته ونوثق له(2) ، أما نقدهم لمضمون الخبر فهو مندرج تحت نظريتهم الكبرى في اكتساب المعرفة ، والقائم على التحسين والتقبيح العقليين ، والباحث نفسه قد أشار إلى ذلك .
__________
(1) منهج النقد التاريخي الإسلامي والمنهج الأوروبي . عثمان موافي ص167 .
(2) ويمكننا أن نشير إلى فصول محنة خلق القرآن التي تعرض لها الإمام أحمد بن حنبل ، وإلى كتابات الجاحظ ضد المحدثين وقد أورد الباحث جملة منها في كتابه .(1/71)
أما تأثيرهم في بيئة المحدثين والفقهاء فلا يمكن التسليم به من ناحية منهج النقد ، والباحث لم يأت بأي دليل على ذلك ، بل إنه أشاد بجهود ابن قتيبة في كتابه "مختلف الحديث " في تنظير مبدأ النقد العقلي ، لكن الباحث فاته أن ينبه أن كتاب ابن قتيبة هذا مؤلف أصلا للرد على المعتزلة ومنهجهم العقلي في قبول ورد الآثار ، وأنه أراد أن ثبت في كتابه عدم وجود تعارض بين العقل والنقل وبين الآثار بعضها مع بعض .
والأعجب من ذلك كله أن الباحث يستدل على أن المحدثين استخدموا النقد العقلي بأثر ورد عن إبراهيم النخعي يقول فيه : " كانوا يكرهون غريب الكلام وغريب الحديث " ، ففهم الباحث أن المقصود بغريب الحديث أنه المخالف للعقل ، وهذا ليس بصائب ، فغريب الحديث مصطلح معروف عند المحدثين يريدون به الأحاديث التي لها سند لا يعرفه الثقات ، أو المرويات التي تخالف ما يرويه المتقنون ، فهو مصطلح نقدي يعود للإسناد وليس للمتن ، ومن صنف في ذلك أبو إسحاق الحربي كتابا سماه " غريب الحديث " أي الأحاديث التي لا يعرفها الحفاظ المتقنون ولا تروى بالأسانيد الصحيحة المعروفة (1).
ويطلق مصطلح غريب الحديث على الألفاظ الغريبة التي لا يشيع استعمالها في العرف الساري وتحتاج إلى بحث واستقصاء في معاجم اللغة ، وصنف فيه الزمخشري وابن الأثير وغيرهما ، ولكن هذا المصطلح غير مراد في أثر إبراهيم النخعي ، وإنما قصد إبراهيم النخعي المصطلح الذي ذكرناه أولا .
__________
(1) "الإرشادات في تقوية الأحاديث بالشواهد والمتابعات " طارق عوض الله ص73 ، وفيه نقل عن أحمد بن حنبل قوله : " إذا سمعت أصحاب الحديث يقولون : هذا حديث غريب أو فائدة فاعلم أنه خطأ أو دخل حديث في حديث أو خطأ من المحدث ، أو حديث ليس له إسناد وإن كان قد روي شعبة وسفيان " .(1/72)
وعلى هذا الأساس الخاطئ في فهم النصوص واستقراء منهج المحدثين خلص الباحث المذكور إلى أن منهج المحدثين في نقد الخبر الديني كان أكثر دقة في مجال النظر عنه في مجال التطبيق .
والواقع أن المحدثين لم ينقدوا الخبر الديني نقدا عقليا حتى يحصل تفاوت بين نظرياتهم وتطبيقاتهم.
وفي المقابل أثنى الباحث أيما ثناء على منهج نقد المتون عند المعتزلة وعلى طريقتهم القائمة على الشك في صحة المتون وفي منهج أصحاب الحديث أنفسهم حيث شنوا – أي المعتزلة – هجوما عنيفا على منهج المحدثين ومن خلال هذا الهجوم كانوا يقننون قواعد نقد المتن النظرية ، التي استعارها نهم بعد ذلك أصحاب الحديث .
ولو تجاوزنا أن المعتزلة لهم قواعد في نقد المتون(1) فإننا لا يمكن أن نغض الطرف عن أن المحدثين استعاروا هذا المنهج منهم .
ونحن نلتزم جانب المنع ، وعلى المخالف أن يقدم الدليل على دعوى الاستعارة ، وقد أعياني أن أجد مثالا واحدا معتبرا يمكن أن نعتبره تأثرا من المحدثين بمنهج النقد عند المعتزلة .
ولو تجاوزنا أيضا لك هذه الأخطاء – التي تخالف أي منهج تاريخي – فإننا نتعجب أكثر حين يوازن بين الجاحظ – المعتزلي – وابن قتيبة – من المحدثين – ويشيد بالتزام الثاني مبدأ الإسناد في الأخبار الأدبية وأنه كان دقيقا في الرواية وفي تطبيقه لقواعد منهج النقد التاريخي الإسلامي ، وأن مظاهر الدقة تبدو في استعماله الإسناد في معظم أخبار هذا الكتاب والنص على مصادر أخباره وهذا بخلاف الجاحظ(2) .
__________
(1) لقد كانت للمعتزلة عبارات عابرة حول رد الأحاديث المخالفة لعقولهم ، ولم يكن معيار وقانون واضح لنقد المتون عقليا ، والدليل على ذلك أن الباحث لم يذكر هذه القوانين والقواعد .
(2) منهج النقد التاريخي الإسلامي والمنهج الأوروبي . عثمان موافي . ص214 .(1/73)
ولا نستطيع الجزم بأن الباحث قد لا يعرف أن ابن قتيبة معدود في زمرة المحدثين بل من أئمتهم المعروفين ، لكن الموازنة بين ابن قتيبة والجاحظ بهذه الصورة تنبيء عن عدم دراية بمنهج المحدثين في النقد .
ويبدو أن الخط الأصيل الذي اراد أن يسير عليه الباحث هو جمع كل ما قيل في الأدبيات الإسلامية عن ا لنقد التاريخي ، ومع أنه لم يذكر شيئا ذا بال بجانب ما ذكره عن المحدثين ، إلا أنه سمى حصيلته التي جمها بالمنهج الإسلامي ليدخل المعتزلة مع المحدثين في ابتكار منهج النقد الإسلامي ، والواقع أن المعتزلة لا ناقة لهم ولا جمل في هذا المنهج بل هم أعداؤه في الحقيقة ، وأن منهج النقد العلمي ابتكار المحدثين بلا نزاع ، ويشهد على ذلك أقوال الباحثين الغربيين أنفسهم (1).
وقد فطن إلى عدم انضباط هذا المنهج العقلي في نقد المتون والأخبار بعض ا لعقلانيين أنفسهم ممن أعطوا للعقل مكانة وحيزا كبيرا في مصادر المعرفة وهو البيروني الذي يعتبره العقلانيون من رواد النقد والتدقيق والتمحيص في التاريخ وشئونه ، لما عاينوه عنده من منهجية في كتابه " تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة " .
__________
(1) انظر دراسات عن المؤرخين العرب . مرغليوث . ترجمة حسين نصار ص24 .
وهذا لا ينفي أن للمعتزلة طريقة في تناول النصوص وليس في نقدها ، فقانونهم العام في التعامل مع مصادر التلقي هو تقديم العقل على النقل ، وليس هو من نقد الأخبار في شيء ، وإذا أجزنا تسمية هذا القانون بمنهج لنقد النصوص فإننا لا يجوز أن نقرنه بمنهج المحدثين الذي هو أعم وأكمل وأرقى وأدق .
هذا وللأشاعرة قانون آخر في التعامل مع النصوص مبني على التوفيق بين العقل والنقل ، وسنتعرض لذلك إن شاء الله عند عرض نظرية المحدثين في قضية التعارض بين العقل والنقل .(1/74)
إن البيروني نفسه لا يعطي للعقل كل الثقة في نقد الأخبار ، ويقرر أنه لا سبيل إلى الحكم على تاريخ الأمم الغابرة وأحوالها باستعمال الاستدلال العقلي أو القياس على المشاهد ، فلا مناص إذن من الاعتماد على الأخبار التي يشهد بها كتاب معتمد على صحته أو التي تلحق بذلك وتتوفر فيه شرائط الثقة في الظن الأغلب (1).
ومن الطريف أن يقال ايضا أن من الفلاسفة الغربيين المحدثين من ينكر إمكانية تحصيل المعرفة اليقينية عن طريق العل ، فالعقل نفسه ما هو إلا مجموعة من الإحساسات تتعاقب بتأثر تداعي المعاني ، والعلية بمعناها التقليدي وهو وجود رابطة ضرورية تقوم بين العلة ومعلولها أمر باطل ، فالعلية ماهي إلا التعود والاعتقاد وتداعي المعاني في العقل ، وليس هو قانونا حتميا يحكم كل ظاهر الكون(2) .
والعجيب أننا نرى صروح العقلانية تنهار في أوروبا حصنا بعد حصن ، وتئوب الإنسانية إلى الاعتراف بجهلها بالكون من فرط اتساع اكتشافات العصر ، وقصور عقلها عن تحصيل المعرفة بكامل أبعادها ، وتظهر نظريات علمية تجعل الكثير من الثوابت العقلية مجرد زاوية واحدة من زوايا الحقيقة المطلقة ، ومع ذلك كله نرى بعض الباحثين يصرون في تبعية غريبة ، بل ورجعية غير مبررة على اجترار قواعد نقدية بالية استخدمها العقل الأوروبي تحت ظروف حقبة حضارية معينة ، ليجعلوها سيفا مصلتا على أي خبر في أي حقبة حضارية أخرى .
والنقد العقلي ليس له ضابط أو قاعدة تحكمه ، ومن ثم لم يعتبره كل العلماء في أخبار المعجزات التي ثبتت عن الأنبياء والكرامات التي ثبتت للأولياء ، لأنه لا مجال للعقل فيها نفيا أو إثباتا ، إذ مبنى المعجزات والكرامات على خرق المعتاد الذي تألفه العقول .
__________
(1) كتاب الآثار للبيروني ص4-14 ، وانظر تاريخ الفلسفة في الإسلام . ج دي بور ، ترجمة محمد أبو ريدة ص300.
(2) انظر أسس الفلسفة . توفيق الطويل ص210 .(1/75)
والواقع أن اتجاه النقد العقلي عند أصحاب المنهج الأوروبي متأثر إلى حد كبير بعاملين أرغماه على سلوك هذا الاتجاه :
الأول : هو الاتجاه العقلي الذي انتهجته الحضارة الأوروبية بشكل عام ، وذلك عقب صراع مرير مع الكنيسة على العقل الأوروبي ، فاتجهت مناهج العلوم نحو التحرر ، فاعتمدت العلوم الطبيعية التجريب ، واعتمدت العلوم الإنسانية العقل .
وأصحاب منهج النقد التاريخي جلهم من فرنسا ، وبخاصة لانجلوا وسينوبوس اللذان يبدو أنهما تأثرا إلى حد بعيد بالاتجاه العقلي الديكارتي شأن معظم المثقفين الفرنسيين .
الثاني : الاتجاه البروتستانتي الإصلاحي الذي اعتمد خصومة مستمرة بين خرافات الإنجيل واتجاهه العقلي الذي غير وبدل في الكتاب المقدس بزعم حذف اللامعقول من كتاب المسيح(1) .
وسينوبوس الذي كتب الفصل المتعلق بالنقد الباطني لا يخفي بروتستانتيته حين ينظر لهذا النقد العقلاني ، فيقول : " وأبسط علميات التحليل هي أن ننبذ الرواية الأسطورية التفاصيل ، التي تبدو مستحيلة أو خارقة للعادات أو متناقضة أو غير معقولة وأن نحتفظ بالباقي المعقول على أنه تاريخي ، فعلى هذا النحو سار البروتستانت العقليون في معالجتهم للرواية الواردة في الكتاب المقدس في القرن الثامن عشر "(2) .
__________
(1) ولكن يبدو أن هذا لم يكن على أساس ومنهج ، لأن العقلانيين البروتستانت لم يحذفوا من الإنجيل معجزات المسيح عليه السلام ، بل لم يحذفوا خرافة الصلب مع أن الأبحاث العلمية تؤكد استحالة بقاء الإنسان حيا على هيئة الصلب تلك المدة المذكورة في الإنجيل حال كونه ينزف دما ليالي وأياما !
(2) المدخل إلى الدراسات التاريخية . لانجلوا وسينوبوس . ترجمة عبد الرحمن بدوي ص142 .(1/76)
إننا لا نعد مغالين إذا قلنا إن منهج النقد التاريخي الأوروبي وليد تراث فكري عانى صراعا مريرا بين العلم والكنيسة ، واجتر جدلا متباعد الفصول بين النقل والعقل ، وليس من السهل أن نفصل بين منهج قام على أساس نقد تاريخ مليء بالانتحالات والأكاذيب والأساطير وروايات لم تنل أي نصيب من التوثيق قبل أن تصل على سطور الوثيقة ، لا يمكن أن نفصل بين منهج هذا حاله وبين اتجاهه في اعتماد العقل ، ذلك العقل الحذر المرتاب من كل سطر يرد في وثيقة مخافة أن تكون من عبث الكذابين والمنتحلين الذين كانوا يمارسون الانتحال بشكل واسع في تلك العصور كما يقول لانجلوا وسينوبوس (1).
إنه من قبيل العب إذا أن يحاكم منهج النقد التاريخي الأوروبي منهج النقد عند المحدثين المسلمين ويتهمه بالقصور في مجال النقد العقلي .
إن منهج النقد عند المحدثين لا يحتاج في الحقيقة إلى نقد المتون – العقلي – بل إن النقد العقلي أو نقد المتن لا يعدو أن يكون مفتاحا لنسف التراث الضخم من النظريات النقدية التي قامت على مبدأ الإسناد .
إن النقد العقلي عند أصحاب المنهج الأوروبي لا ينفصل عن النقد الخارجي للوثيقة أي إثبات صحة نسبتها ، بمعنى أن النقد الخارجي قد يثبت صحة الوثيقة ولكن النقد الباطني قد ينفيها(2) ، والأصل عند محققي الفكر الإسلامي على خلاف ذلك ، وقد مضى بيان منهج المحدثين في هذا الصدد .
__________
(1) السابق ص70
(2) لأن المنهج الأوروبي يفترض مسبقا إمكانية كذب صاحب أي وثيقة وإمكانية انتحاله وتحريفه في كل ما يروي ويكتب .(1/77)
لكن الأساس العملي الواقعي الذي يحيل استخدام منهج نقد المتون أو النقد العقلي لدى المحدثين أن لهم نظرية ثبت اطرادها في نصوص الشرع ، وهي أن ا لنص الصحيح لا بد أن يوافق العقل الصريح ولا يمكن لعقل صريح أن يعارض أو يستنكر ما ورد في نص صحيح ، وإذا حدث الخلل فإن الانفكاك في إحدى الجهتين لازم ، أي أن النص ليس بصحيح أو أن العقل قصر عن النظر في مجال ذلك النص (1).
ولقد صاغ شيخ الإسلام ابن تيمية هذه النظرية الكبرى في الجمع بين العقل والنقل عبر مصنف ضخم سماه " درء تعارض العقل والنقل " رام منه أن ينهي الخصومة المزعومة والنزاع المستمر بين العقل والنقل .
__________
(1) أما ما قرره المحدثون بأن صحة الإسناد لا يلزم منها صحة المتن فليس من باب النقد العقلي كما ظن بعض الباحثين ( انظر منهج النقد عند المحدثين . محمد الأعظمي ص83 والباعث الحثيث لأحمد شاكر ص43) بل إنه مذكور في سياق نظرية الإسناد وتوابعها ، المقصود أن صحة الإسناد في الظاهر لا تستلزم صحة المتن لجواز أن يخطئ بعض الرواة الثقات ، وليس المعنى : أن فساد المتن يدل على فساد الإسناد أو أن لا معقولية المتن دليل على ضعف الإسناد .
والنظر في المتن عند المحدثين هو قسيم النظر في الإسناد صنوان متجاوران ، لأن اعتبار أحوال الرواة يكون بالنظر في مروياتهم وضبطهم لها – أي للمتون – واعتبار المتون يكون بالنظر في أحوال الرواة ومدى استيفائهم لشروط الثقة المطلوبة .(1/78)
لكن سبقه إلى أصل الفكرة قدامى المحدثين أمثال ابن قتيبة وابن خزيمة وابن حبان وغيرهم من أئمة النقد (1).
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : " إذا قيل تعارض دليلان ، سواء كانا سمعيين أو عقليين ، أو أحدهما سمعيا والآخر عقليا ، فالواجب أن يقال : لا يخلو أن يكونا قطعيين أو يكونا ظنيين وإما أن يكون أحدهما قطعيا والآخر ظنيا .
فأما القطعيان فلا يجوز تعارضهما ، سواء كانا عقليين أو سمعيين ، أو أحدهما عقليا والآخر سمعيا ، وهذا متفق عليه بين العقلاء ، لأن الدليل القطعي هو الذي يجب ثبوت مدلوله ، ولا يمكن أن تكون دلالته باطلة .
وحينئذ فلو تعارض دليلان قطعيان وأحدهما يناقض مدلول الآخر للزم الجمع بين النقيضين ، وهو محال ، بل كل ما يعتقد تعارضه من الدلائل التي يعتقد أنها قطعية لا بد من أن يكون الدليلان أو أحدهما غير قطعي ، أو أن لا يكون مدلولاهما متناقضين ، فأما مع تناقض المدلولين المعلومين فيمتنع تعارض الدليلين .
وإن كان أحدد الدليلين المتعارضين قطعيا دون الآخر فإنه يجب تقديمه باتفاق العقلاء ، سواء كان هو السمعي أو العقلي ، فإن الظن لا يرفع اليقين .
وأما إن كانا جميعا ظنيين فإنه يصار إلى طلب ترجيح أحدهما ، فأيهما ترجح كان هو المقدم سواء كان سمعيا أو عقليا .
__________
(1) صنف ابن قتيبة " مختلف الحديث " وسبقه الإمام الشافعي كن لم يقصد الاستيفاء ، وكان ابن خزيمة يقول : " لا أعرف حديثين متضادين ، فمن كان عنده فليأتني به لأؤلف بينهما " ( انظر تدريب الراوي للسيوطي 2/196) وصنف ابن حبان كتابه : التقاسيم والأنواع المعروف بصحيح ابن حبان مراعيا دفع كل ما يتوهم فيه التعارض بين الروايات ، وصنف الطحاوي " شرح مشكل الآثار " وهو كتاب ضخم نفيس يدل على طول باع وقد طبعت تلك الكتب كلها .(1/79)
ولا جواب عن هذا إلا أن يقال : الدليل السمعي لا يكون قطعيا وحينئذ فيقال : هذا مع كونه باطلا فإنه لا ينفع ، فإنه على هذا التقدير يجب تقديم القطعي لكونه قطعيا لا لكونه عقليا ، ولا لكونه أصلا للسمع ، وهؤلاء جعلوا عمدتهم في التقديم كون العقل هو الأصل للسمع ، وهذا باطل .. وإذا قدر أن يتعارض قطعي وظني لم ينازع عاقل في تقديم القطعي ، لكن كون السمعي لا يكون قطعيا دونه خرط القتاد.
وأيضا فإن الناس متفقون على أن كثيرا مما جاء به ا لرسول معلوم بالاضطرار من دينه كإيجاب العبادات وتحريم الفواحش والظلم وتوحيد الصانع وإثبات المعاد وغير ذلك .
وحينئذ أحدهما : فلو قدم هذا السمعي قدح في أصله وإن قدم العقلي لزم تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم فيما علم بالاضطرار أنه جاء به ، وهذا هو الكفر الصريح ، فلا بد لهم من جواب عن هذا .
والجواب عنه أنه يمتنع أن يقوم عقلي قطعي يناقض هذا .
فيتبين أن كل ما قام عليه دليل قطعي سمعي يمتنع أن يعارضه قطعي عقلي ، ومثل هذا الغلط يقع فيه كثير من الناس ، يقدرون تقديرا يلزم منه لوازم ، فيثبتون تلك اللوازم ولا يهتدون لكون ذلك التقدير ممتنعا " (1).
والحاصل أن ابن تيمية يمنع افتراض حصول تعارض بين القطعي السمعي والقطعي العقلي ، وما نقلناه آنفا كان دليلا إجماليا ، ثم فصل ذلك في بقية أجزاء الكتاب الذي يقع في عشر مجلدات كبار، ومضمون كتابه يدور حول فانون التأويل الذي اخترعه المعتزلة بتقديم العقل على النقل ، وحدده الأشاعرة بالتوفيق بينهما ، وكلتا الطائفتين – المعتزلة والأشاعرة – قد سلموا بوجود احتمال تناقض دليل قطعي سمعي مع دليل قطعي عقلي ، وهو ما منعه شيخ الإسلام ابن تيمية .
__________
(1) درء تعارض العقل والنقل . أحمد بن تيمية . تحقيق محمد رشاد سالم (1/79-81) .(1/80)
وتعد هذه الإشكالية من كبرى الجدليات التي تداولتها الأوساط العلمية في العالم الإسلامية على مر العصور ، وكان لها أثر كبير في الخلافات الكلامية والفقهية بين المدارس الفكرية وبخاصة بين مدرستي العقل ويمثلها المتكلمون من المعتزلة والأشاعرة والماتريدية ، ومعهم الفلاسفة ، والنقل التي يمثلها أهل الحديث والفقه.
وأبت هذه الإشكالية إلا أن تفرض نفسها على مناهج البحث أيضا ، فأخذ من منهج النقد بسهم ، ولكن مدرسة المحدثين ونقادهم حافظت على ثوابتها في حصر مجال البحث حول الإسناد دون أن يكون للنقد العقلي دور يذكر في مجمل آليات البحث عندهم .
وأنا لا أرتاب أن الدعوات المشبوهة التي علت منادية بإخضاع الحديث النبوي للنقد العقلي مع ضميمة نقد الأسانيد إنما أرادت ابتداء الزحف نحو نقد القرآن الكريم عقليا ، بحيث تزول منه صفة القدسية عند أول معول يضعه العقل البشري على معاني القرآن الكريم .
إن المنهج الأوروبي في النقد يعتبر الأساطير والنوادر مجرد معتقدات شعبية منسوبة اعتباطا إلى أشخاص تاريخيين وتؤلف جزءا من الفولكلور لا من التاريخ.
وهل يمكننا أن نغفل تأثر طه حسين – الذي تعلم في فرنسا أوائل القرن العشرين حيث كانت مدرسة الوثائق بريادة لانجلوا وسينوبوس في ذروة مجدها – بالمنهج الأوروبي في النقد التاريخي حين ذهب إلى عدم الاعتراف بشخصية إبراهيم الخليل عليه السلام لأنه لا توجد أدلة تاريخية موثقة تثبت وجوده مع أنه يحفظ القرآن الكريم .
وكذلك فعل زاهر رياض حين أنكر وجود النجاشي ملك الحبشة الذي أسلم لا لشيء إلا لأن كتابا تاريخيا في أثيوبيا القديمة لم يذكر شخصية هذا الرجل ، مع أن شخصية ثابتة في كتاب تاريخي أوثق من أي كتاب تاريخي في العالم هو صحيح الإمام البخاري رحمه الله(1) .
كيف يمكن إذا لمنهج النقد عند المحدثين أن يلتقي مع النقد التاريخي عند الأوروبيين .
__________
(1) أنظر : أباطيل وأسمار . محمود شاكر ص293 فما بعدها .(1/81)
لقد حاول بعض المستشرقين إعمال النقد العقلي أو نقد المتون في بعض أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم فكانت النتيجة أن " جولدزيهر" حكم على حديث " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد .." بالوضع ، وأن الزهري وضعه لعبد الملك بن مروان ليجعل الحج إلى بيت المقدس والطواف حول الصخرة بديلا عن حج مكة والطواف حول الكعبة ، لأن عبد الله بن الزبير خصم عبد الملك بن مروان كان مسيطرا على الحجاز آنئذ .
ولو تنزلنا في فرضية أن الزهري وضع هذا الحديث – وهذا مستحيل على طريقة المنهج العلمي الذي يشددون على ضرورة اتباعه – فإننا لن نستطيع أن نتهم ثمانية عشر ممن عاصر الزهري أنهم تواطئوا مع الزهري على وضع نفس الحديث ولنفس المقصد السياسي(1) .
وعلى غرار التفسير المادي السياسي للتاريخ يحكم " شاخت " على كثير من الأحاديث التي وردت عن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم أنها موضوعة ،وضعها كل من العباسيين والأمويين(2) .
إنه نسق فكري وجد في الحضارة الغربية للأسباب التي ذكرناها ، ومن العسير أن نتجاوز هذا العمق الفكري حين نروم تقويم منهج من المناهج .
إن المتأمل في المنهجين – الأوروبي والإسلامي عند المحدثين – لن تخطئ عيناه فروقا جوهرية تجعل تطبيق أحدهما مكان الآخر أمرا غير ممكن .
__________
(1) منهج النقد عند المحدثين . محمد الأعظمي ص127-131 .
(2) ويلاحظ على دراسات المستشرقين عامة وجولدزيهر وشاخت خاصة نزوعهم لمذهب التفسير المادي للتاريخ ، وهي نزعة كانت رائجة في أوائل القرن الماضي – القرن العشرين الميلادي – كما أن المستشرقين استحضروا كل فضائح الكنيسة البابوية في روما إبان صراعاتها السياسية مع إمارات أوروبا في العصور لوسطى بما في ذلك قصص صكوك الغفران ، وفسروا على ضوئه الخلافات السياسية بين الفصائل العربية في بداية انتشار الإسلام ، وفهموا أن علماء الدين الإسلامي على وتيرة ما عرفوه عن بابوات روما ورهبان الزور في الكنيسة المسيحية .(1/82)
فالتاريخ الأوروبي لم يقم على نظرية الإسناد ،فمن المستحيل أن نطبق عليه منهج النقد عند المحدثين القائم على الجرح والتعديل والعلة ، والتاريخ الإسلامي تحصن وتوثق بنظرية الإسناد الذي صانه من الانتحال والتحريف ، فإعمال النقد العقلي – في المنهج الأوروبي – يكون ضربا من العبث المنهجي الذي لا يتفق والعلم .
ولقد مر معنا عند تناول نظرية الإسناد قول عبدالله بن المبارك عندما سئل عن الأحاديث الموضوعة ، قال " تعيش له االجهابذة " أي النقاد المميزون ، وقد قصد ابن المبارك نقاد الأسانيد الذي يعرفون الإسناد الصحيح من الضعيف أو الموضوع ، ولم يقصد العقلاء الذين يعرفون الوضع بمجرد مخالفة الحديث للعقل فهذه لاتحتاج إلى جهابذة .
وبتأمل تاريخ مقاومة المحدثين لحركة الوضع نجد أنه لم ينقل عن أحد منهم ألبتة تعرض لمعايير عقلية في نقد المتون لمعرفة صحتها أو عدم صحتها ، وليس في كتب الجرح والتعديل أو العلل أو غيرها من كتب الحديث حكم على حديث بمجرد العقل أو تضعيف لراو لمجرد أنه يروي ما يخالف العقل .
وهذا المسلك الدقيق في منهج النقد عند المحدثين هو الذي جعل لعلومهم مصداقية راقية المستوى وانضباطا وبعدا عن التناقض والخلل .
فالاعتماد على الإسناد سد الباب أمام أي ظن أو تخمين ، ومنع أية محاولات لجعل قضية النقد خاضعة للذوق الشخصي أو المعايير غير الموضوعية .(1/83)
وليس من شك أن منهجية المحدثين اكتسبت ثقة الأوساط العلمية في حينها بحيث كانوا هم المرجعية الوحيدة في نقد الأخبار على المستوى الرسمي والشعبي (1).
لقد استعرض الأستاذ محمد الأعظمي في عرضه لمنهج النقد عند المحدثين قضية النقد العقلي أو نقد المتون ، وحاول أن ثبت أن المحدثين استخدموا نقد المتن أو النقد العقلي لكنه في ختام المبحث يقول : " وقد كشفت لنا الدراسة أيضا عن مدى تخبط الباحثين الذين استغنوا عن منهج المحدثين في نقدهم للأحاديث معتمدين على المتون مبعدين الأسانيد ، وأثبتت – الدراسة – لنا عدم صلاحية هذا المنهج ، كذلك ثبت بكل وضوح أن منهج النقد المستعمل في تنقية المواد من العهد القديم والعهد الجديد لا يسعفنا إطلاقا في نقد الأحاديث النبوية ، فالأحاديث النبوية نسيج وحدها ، والمجموعات الحديثية فريدة لا نظير لها ، لا تخضع إلا لمنهجها الخاص الذي ولد ونما على أيدي علماء المسلمين "(2) .
وعلى هذه الوتيرة من الجدل بين منهج المحدثين ومنهج النقد التاريخي عند الأوروبيين درجت معظم كتابات الباحثين .
__________
(1) أما على المستوى الرسمي فمثاله استعانة الحكام بالمحدثين في نقد الوثائق التاريخية التي تثبت حقوقا لطائفة ما ، مثل ما حدث في عهد الخطيب البغدادي حين رفع اليهود إلى الحاكم وثيقة مزورة نسبوها إلى النبي صلى الله عليه وسلم تفيد إعفاءهم من الجزية ، وكان من شهودها معاوية بن أبي سفيان ، فاستدعى الحاكم الخطيب البغدادي وأطلعه على الوثيقة فال على البداهة : هذا كذب إنما أسلم معاوية بعد الفتح .انظر : الإسناد من الدين . عبد الفتاح أبو غدة ص33. أما على المستوى الشعبي فمما يروى في ذلك أن يحيى بن معين لما مات كان ينادى في جنازته : هذا الذي كان يذب الكذب عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم . انظر تهذيب التهذيب (11/251) .
(2) منهج النقد عند المحدثين . محمد الأعظمي ص148-149.(1/84)
فمنهم من اعتبر أن المنهج الأوروبي عبقري في بنائه يفوق ما وضعه المحدثون وأحسنهم حالا من يقول : إن المحدثين سبقوا الأوروبيين في هذا المنهج .
والواقع أن المنهجين قد يتشابهان في بعض الجزئيات ، لكن مجال تطبيق كل منهج لا يمكن أن يكون مشتركا بينهما ، لأن الأسس الحضارية التي أفرزت المنهجين والمشكلات الفنية التي واجهها كلاهما تختلف كل الاختلاف ، فكان من العسير أن يأخذ هذا مكان ذاك أو ذاك مكان هذا .
الخلاصة
تأثر الكتاب والباحثون المسلمون بآراء المستشرقين حول الحديث النبوي .
حاول بعض الباحثون المسلمون إثبات وجود مبدأ النقد العقلي للمتون عند المحدثين بناء على تأثرهم بتلك الكتابات .
لا يوجد في منهج المحدثين ما يشير إلى اعتماد النقد العقلي للمتون – على النحو المعروف في المنهج الأوروبي – كوسيلة في معرفة صحة النص .
أسس أحد الأئمة النقد من المحدثين نظرية جامعة تثبت عدم وجود نقد عقلي عند المحدثين ، هذه النظرية هي استحالة وجود تعارض بين نقل صحيح – ثبت وفق منهج المحدثين في النقد – مع عقل صريح .
لا يعتبر منهج المعتزلة في التحسين والتقبيح العقليين نقدا تاريخيا بالاصطلاح العلمي ، وبالتالي لا يمكمن اعتباره مقارنا لمنهج المحدثين في النقد بل هما على طرفي نقيض .
لا يحتاج منهج النقد عند المحدثين للنقد العقلي للمتون باعتبار دقته البالغة في صيانة الرواية من الانتحال والتحريف ، بخلاف المنهج الأوروبي الذي اضطر لاستخدام هذا المنهج العقلي لشيوع التزوير عند كتاب الوثائق والنساخ ، وانتشار الأسطورة والخرافة قديما عندهم .(1/85)