نظرات جديدة في علوم الحديث للمليباري
دراسة نقدية ومقارنة بين الجانب
التطبيقي لدى المتقدمين والجانب النظري عند المتأخرين
بقلم
د / حمزه عبد الله المليباري
أستاذ في الحديث بجامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية
قسطنطينية ـ الجزائر(1/1)
مقدمة :
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وأمينه على وحيه ، وخاتم رسله ، بلغ الرسالة وأدى الأمانة ، وتركنا ـ والله ـ في محجة بيضاء ليلها كنهارها .
اللهم صل على محمد وعلى آله كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت عل إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين ، إنك حميد مجيد .
رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق ، واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً .
أما بعد : فإن أصدق الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وشر الأمور محدثاتها ، وكل بدعة ضلالة .
قال الله تعالى ( يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً * يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً ) ( الأحزاب : 70ـ71 ) .
وقال الله تعالى ( يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ) ( التوبة :119) .
نحاول ـ بفضل الله تعالى ـ من خلال هذا البحث الذي يحمل عنوان : (( نظرات جديدة في علوم الحديث )) إفادة إخواني وأخواتي طلاب وطالبات قسم الكتاب والسنة بما يساعدهم على تأسيس منهج علمي سديد في علوم الحديث ، حيث أصبح الكثير منهم يبحثون عنه بشغف بالغ ، وذلك لما آل إليه هذا العلم الشريف من سطحية مخلة ـ على الرغم من تضافر الجهود في سبيل خدمته منذ قرون عديدة ـ حين أضحى لدى الكثيرين عبارة عن مجموعة من المصطلحات ، والتعاريف ، وتحليل آراء العلماء فيها ، سواء كانوا من أهل هذا الفن أو من غيره ، ونقصد بذلك علماء الأصول ، وعلماء الفقه ، فأنجبت تلك المصطلحات والتعاريف مفاهيم مزدوجة ، ومناهج مختلطة ، حتى إن التعابير الفنية لنقاد الحديث ـ سواء كانت في تعليل الأحاديث وتصحيحها أو في مجال الجرح والتعديل ـ والتي كانت وليدة واقعهم الحديثي أي مرتبطة بقرائن ودلائل خاصة بها ، صارت غير مفهومة ، وأن القواعد والمسائل التي تكمن وراءها أصبحت مغمورة ، وذلك لتضييق مراميها ومعانيها بوضع تعاريفها الجامدة التي لا تقبل الزيادة ولا النقصان .
نقول : إن هذا الوضع يفرض علينا إعادة النظر في مضامين كتب المصطلح وتجديدها وتطويرها حتى تبرز الواقع العلمي لمنهج النقاد ، ومن بين هؤلاء الجهابذة الناقد الفذ الإمام البخاري ، والإمام مسلم ، ومنهجهما في معرفة صحيح الأحاديث وسقيمها .
ولا يمكن لنا الخوض في موضوع البحث بمنعزل عن النظر في كتب المصطلحات ، ولهذا خصصنا القسم الأول من البحث لتحليل مضامينها ومقارنتها بمسلك النقاد في التصحيح والتعليل . ولئن أفضنا فيها بعض الشئ فذلك حرصاً منا على إبراز أن الوجه الحقيقي لعلوم الحديث عند المتقدمين لم يكن من الوضوح في كتب المصطلح بحيث نلمس منا ما يغايره من المسائل والمصطلحاتت ، ولذلك دارت المحاور على الأمور التالية تحت عنوان : (( الحقائق العلمية )) .
المعنيون بالمتقدمين والمتأخرين ، والحد الفاصل بينهم .
تباين المناهج بينهم .
أمثلة على ذلك من المصطلحات .
أمثلة على ذلك من المسائل .
علوم الحديث في عصرنا والمفاهيم الخاطئة حولها .
ثم أفردنا القسم الثاني لإبراز المعالم الحقيقية لعلوم الحديث عند المتقدمين ، أكدنا من خلاله وفي ضوء الآثار العلمية التي ظهرت في عصرهم على أن الجانب الفقهي والجانب النقدي هما في الحقيقية موضوعاً علوم الحديث أساساً . وغرضنا في ذلك أن يقتنع القارئ المنصف بأن التهم الموجهة لهؤلاء النقاد من قلة الفقه وقصور النظر في المتون باطلة ، ومن صوب آخر أوضحنا طريقتهم في نقد الأحاديث . ومن هنا كانت المباحث التالية :
محتويات علوم الحديث عند النقاد .
أولاً : الجانب الفقهي .
ثانياً : الجانب النقدي .
النقد الداخلي والخارجي ومجالهما .
مدى فعالية محاكمة الأحاديث إلى القرآن والعقل .
منهج التصحيح والتعليل عند المتقدمين .
والجدير بالذكر أن أصل هذا البحث كان مقدماً للمؤتمر الدولي حول حياة الإمام البخاري ، الذي انعقد في يومي 23ـ24 ، من شهر أكتوبر ، عام 1993م ، تحت عنوان : (( علوم الحديث في عصر الإمام البخاري )) .
وإذ نحتسب هذا الجهد المتواضع عند الله ، نسأله تعالى أن يتقبله منا ومن كل من ساعدنا فيه حتى يخرج على صو رته الحالية ، بقبول حسن والحمد لله رب العالمين .(1/2)
القسم الأول الحقائق العلمية
إن الحقائق العلمية التي أشرت إلى توضيحها تتمثل في جملة من الأمور في تحديد المعنيين بالمتقدمين والمتأخرين ، وتأكيد وجود تباين منهجي بين هاتين الطائفتين في كثير من المصطلحات الحديثية ، وخلاف جوهري في المسائل التي تكمن وراءها .
فقد شاع استخدام كلمتي (( المتقدمين )) (( والمتأخرين )) في مواضع كثيرة من علوم الحديث ، دون بيان شاف عن مدلوليهما ، إلا ما ذكره الحافظ الذهبي في مقدمة كتابه : (( ميزات الاعتدال )) غير أنه لا يصلح أن يكون فاصلاً بينهم ، فإنه قال : (( الحد الفاصل بينهم ثلاث مائة سنة ))(1) وهذا كما ترى تحديد زمني قائم على أساس الفضل والشرف للقرون الأولى ، فلا يعتبر ذلك إلا في مجال التفضيل والتشريف ، أما في المجالات العلمية والمنهجية ـ كعلوم الحديث ـ مثلاُ ـ فلا ، إذ إن حفاظ القرن الرابع بل النصف الأول من القرن الخامس أيضاً يشتركون مع سلفهم في الأعراف العلمية ، والمناهج التعليمية ، والأساليب النقدية ، وكيفية استخدام التعابير الفنية ، اللاحقين بهم .
ومع ذلك فإن هذا الفاصل لم يكن معمولاً به في الناعات الحديثية عموماً كما يبدو جلياً لمن يتتبع السياق الذي وردت فيه هاتان الكلمتان ، ومناسبة إطلاقهما ، حيث إن المفهوم السائد لهذين المصطلحين هو المعنى النسبي أي كل من سلف يعتبر متقدماً بالنسبة إلى من لحقه ، وهذا المفهوم غير صالح أيضاً في المجالات العلمية التي يتوخى فيها المنهج والاصطلاح نظراً إلى كونه تحديداً لغوياً دون أدنى اعتبار للفاصل العلمي الحقيقي ، وإلا فإنه يؤدي إلى الخلط بين أصحاب الرؤى المتباينة جوهرياً وفنياً .
فحين يقع بين مجموعتين خلاف جوهري ، وتباين منهجي ، في كثير من مسائل علوم الحديث ، فإنه يصبح من الضروري فصلهما بما يميز كلا منهما عن الأخرى ، كي لا يشيع الزلل ، ويكثر حوله الجدل ، بسبب عدم التمييز ذوي المناهج المختلفة .
__________
(1) 1/4(1/3)
المعنيون بالمتقدمين والمتأخرين
إن المسيرة التاريخية للسنة النبوية يتعين تقسيمها إلى مرحلتين زمنيتين كبيرتين ، لكل منهما معالمهما وخصائصهما المميزة ، وآثارها المختلفة .
فأما الأولى فيمكن تسميتها بـ (( مرحلة الرواية )) وهي ممتدة من عصر الصحابة إلى نهاية القرن الخامس الهجري ، تقريباً ، وأبرز خصائصها كون الأحاديث لا تتلقى فيها ، ولا تنقل إلا بواسطة الأسانيد ، والراوية المباشرة ، والإسناد في هذه المرحلة يشكل العمود الفقري ، عليه يتم الاعتماد في تلقي الأحاديث والآثار ونقلها .
وأما المرحلة الثانية فيمكن تسميتها بمرحلة ما بعد الرواية ، وفي هذه المرحلة آلت ظاهرة الإسناد والرواية المباشرة إلى التلاشي لتبرز مكانها ظاهرة الاعتماد على الكتب التي صنفها حفاظ المرحلة الأولى وتقليدهم فيها ، وبينما كانت الكتب المصنفة في المرحلة الأولى تنقل الأحاديث بأسانيدها الخاصة ، فإن جل الكتب التي ظهرت في المرحلة الثانية إنما تنقل الأحاديث بالاعتماد على الكتب السابقة ، وإن كانت أساليب النقل وطرق الأخذ تختلف من كتاب إلى آخر .
فمسند الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ مثلاً ، وهو نموذج لكتب المرحلة الأولى ، عمدته في نقل الأحاديث هي الأسانيد والرواية المباشرة ولذلك يقول في كل حديث يسوقه فيه : حدثنا فلان فلان … إلى آخر سلسلة الإسناد .
وأما كتاب تفسير ابن كثير ـ مثلاً ـ وهو نموذج لكتب المرحلة الثانية ، فإن عمدته في نقل الأحاديث هي الكتب والمدونات التي ظهرت في مرحلة الرواية ، ولذلك تراه يحكي ويقول : قال الإمام أحمد في مسنده حدثنا فلان عن فلان … وهكذا ، وهذا ما جعل للمرحلة الأولى ميزة علمية تختلف عن المرحلة الثانية ، فأصبح الحفاظ المتقدمون يتسمون بالأصالة والعمدة ، بينما كان الحفاظ المتأخرون يتصفون بمظهر التقليد والتبعية في مجال الحديث ونقله وروايته .
وجدير بالذكر أن القرن الخامس الهجري من المرحلة الأولى ، والقرن السادي من المرحلة الثانية يعتبران فترتي انعطاف وتحول من مرحلة إلى أخرى إذ ظهر في كل منهما الاعتماد على الكتب والرواية المباشرة تصاعداً وتنازلاً .
وههنا لفتة علمية ، لا بد من التلويح إليها ، وهي : أن المستشرقين أثاروا جملة من الشبهات والشكوك حول السنة النبوية ، من بينها أن السنة لم تدون إلا في عهد الإمام الزهري ، أي بعد حوالي قرن من الزمن ، وهذه في الحقيقة ليست إلا كنسيج العنكبوت لا تلبث أمام الواقع الحديثي ، إن هي إلا تلبيس ، وخلط للمفاهيم .
وذلك أن ما ظهر رسمياً من الخليفة عمر بن عبدالعزيز ـ رضي الله عنه ـ من كتابه الأحاديث لم يغير شيئاً من عادة المحدثين في الاعتماد على الرواية ، فقد ظلوا يتلقون الأحاديث من شيوخهم بالرواية الشفهية ، ويعتمد كل منهم على مروياته الخاصة به ، دون الاتكال منهم على ما دونه السابق ، وإن كانت حركة التدوين تتصاعد وتتكثف يوماً بعد يوم طيلة المرحلة الأولى فإنها لم تدقع بهم إلى ترك الرواية الشفهية التي كانوا عليها منذ عهد الصحابة ، بل أصبحوا يستخرجون الحديث بسند خاص بهم ، فهذا الإمام مالك ـ رحمه الله ـ على سبيل المثال ، كل ما جمعه في كتابه الموطأ فقد اعتمد فيه على مروياته ، دون اتكاله على ما دونه شيخه الإمام الزهري في عصر الخليفة ، وكذا الإمام الشافعي تلميذ مالك لم يكن معتمداً إلا على الرواية الخاصة به ، وكذا كافة الحفاظ في المرحلة الأولى ، هذا من حهة . ومن جهة أخرى فإن ما كتبه الإمام الزهري وغيره لم يك على شاكله جمع القرآن الكريم ، الذي وقع في خلافة أمير المؤمنين أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ ، ولم يكن على صورة التدوين المتعارف عليه حالياً ، بل إنه كان مجرد جمع بعض الحفاظ لمروياتهم ، وكتابتها في صحائف بشكل منفرد ، ، حفظاً لعلمهم ، وصوناً لأحاديثهم ، وقد كان هذا مألوفاً منذ عهد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وإن كان في تحفظ شديد . وكسر للحاجز النفسي الذي كان يحول دون كتابة الأحاديث أصدر الخليفة أمراً بكتابتها ، سيما بعد ما اعتراه قلق وخوف من ضياع العلم واندراسة بموت صاحبه .
فالذي كتبه الإمام الزهري إنما هو في الحقيقة من مروياته الخاصة به إذن ، ولم يكن ذلك على نحو تدوين عام للسنة ، كجمعها في كتاب واحد من مصادر مختلفة ، كماوقع ذلك في جمع القرآن الكريم ، ورغم ذلك فإن المحدثين لم يحيدوا عن عادة الرواية ، والاعتماد عليها في تلقي الأحاديث وقبولها ، ولا ينفك ما كتبه الإمام الزهري أو غيره أن يكون شيئاً عادياً ، بل استمراراً لمعهود كتابات بعض السابقين دونما أدنى تغيير يذكر .
ولو كان ذلك كتاباً جامعاً للسنة النبوية ، ومصادره مختلفة ، مختلفة ، واعتمد الناس عليه بعده فقد يكون فيه ما يثير الشكوك حول المصادر المعتمدة في جمع الأحاديث ، لكن ذلك لم يحدث قط ، وعليه فليس هناك ما يدعو إلى إثارة قضية التدوين البتة .
وقد بذل المحدثون في المرحلتين جميعاً جهوداً مضنية لصيانة السنة ، وحفظها ـ مباشرة كانت أم غير مباشرة ، فعناية المحدثين في الأولى صارت منصبة على نقلة الأخبار ورواتها والبحث عن أحوالهم والتفتيش في مروياتهم ، ومن ثم أصبحت السنة محل دفاعهم المباشر ، وأما في المرحلة الثانية فقد توجه اهتمام الأئمة إلى حفظ وصيانة الكتب والدواوين المنقولة عن السابقين ـ سواء حوت الأحاديث ، أو لا ـ وبذلك أصبحت الكتب والدواوين محل عنايتهم المباشرة .
فالمواد العلمية التي تشكل المحاور الرئيسية في علوم الحديث من المصطلحات ، وقواعد التصحيح ، وقواعد التصحيح والتعليل ووسائل معرفة الخطأ والصواب ، وأصول الجرح والتعديل إنما انبثقت من الجهود النقدية التي بذلها المحدثون النقاد في المرحلة الأولى ، بينما أسفرت الممارسات العلمية في المرحلة الثانية عن أنواع جديدة من الضوابط من شأنها توثيق الأصول والفروع من نسخ الكتب ونقلهما إلى الأجيال اللاحقة بعيداً عن احتمال التحريف والتزوير والانتحال .
فبذلك أصبح النقاد في المرحلة الأولى العمدة في مباحث علوم الحديث ، والمصدر الرئيسي لمصطلحاتها ، وأما المتأخرون فتتبع لهم يتمثل دورهم في النقل والتهذيب والاستخلاص ، والاختصار دون التأسيس والإبداع ، كما شهد بذلك الواقع ، فمن الطبيعي إذن بروز تباين منهجي بين حفاظ المرحلة الأولى وأئمة المرحلة الثانية في مجال علوم الحديث .
إلى جانب التأثير المنطقي الذي لم يفلت منه علم من العلوم الشرعيةفي مرحلة ما بعد الرواية ، فإنه قد لعب دوراً قوياً لتعميق الهوة بينهم ، حيث إن معظم التعاريف للمصطلحات بدأت تأخذ صبغة منطقية ـ كأن يكون الترعيف جامعاً مانعاً موجزاً واضحاً ـ بينما كان الأمر في المرحلة الأولى غير ذلك ، إذ إن أكثر ما يذكر في سبيل التعريف والتوضيح لا يخلو من غموض ، أو من تطويل ، أو لا يكون مانعاً ، أو لا يكون جامعاً ، فإنهم يعطون للمناسبات والقرائن وحالة المخاطبين أهمية بالغة ، ولهذا يكتفون غالباً في كلامهم بالإشارات والألغاز ، كارهين فيها التطويل ، ومقتضى ذلك ضرورة الاعتبار بمناسبات كلام النقاد وتعابيرهم الفنية كي تتضح مقاصدهم ، فإن العديد من تعاريف المصطلحات التي استقر عليها المتأخرون لا يصلح التقيد بها في كثير من المواضع ، لأنها وقعت مضيقة لمدلولاتها التي كانت متسعة في إطلاق المتقدمين .
وفي ضوء هذه الحقائق العلمية فإننا نستخلث بأن المعنيين (( بالمتقدمين )) هم حفاظ مرحلة الرواية ، وبالخصوص نقادهم ، وبالمتأخرين أهل مرحلة ما بعد الرواية ، فإن كلاً من هاتين المجموعتين تنفصل عن الأخرى أصالة وتبعية ، في مجال الحديث وعلومه ، فلا ينبغي الخلط بينهما ، لأنه ظهر بينهما خلاف جوهري وتباين منهجي ، وهذا ما سأبينه في الفقرات الآتية :(1/4)
نماذج توضيحية لتباين المنهج بين المتقدمين والمتأخرين
إن المرحلة الثانية من المسيرة التاريخية للسنة النبوية شهدت نشاطاً كبيراً في حركة التأليف في علوم الحديث ، شارك فيها فئات مختلفة ، بل نجد في طليعتهم الأصوليين والفقهاء ، فيهم من اندفع إلى ذلك لا لغرض سوى الإندراج في سلك المؤلفين فيها .
ويتميز التأليف في هذه المرحلة بأسلوبه الذي اخترعه الإمام ابن الصلاح ـ رحمه الله ـ في كتابه المعروف بـ (( المقدمة )) إذ تناول فيه جميع أنواع علوم الحديث ومسائلها ضمن المصطلحات الحديثية وتعاريفها ، دون معالجتها كمسائل وقواعد كما هو الأسلوب المتبع في كتب الأوائل في المرحلة الأولى ، مثل المقدمة التي وضعها الإمام مسلم لصحيحه ، ومعرفة علوم الحديث للحاكم النيسابوري ، والكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي وغيرها من الكتب التي لا توجد فيها سوى القواعد والأحكام والمسائل ، دون اهتمام بذكر المصطلحات والتعاريف إلا نادراً جداً ، ولعل الإمام ابن الصلاح ـ رحمه الله ـ قد اخترع أسلوبه المتمثل في تقدم أنواع علوم الحديث في شكل المصطلحات تسهيلاً لطلاب الحديث ـ خاصة المبتدئين منهم ـ فهماً وحفظاً ، وتداولاً بعد أن كانت صعب المنال في كتب الأوائل غير أن تقيد الإمام ابن الصلاح وغيره من المتأخرين بالبغة المنطقية في وضع التعريف نظراً لما فيها من الدقة والتنظيم ، ترك آثاراً سلبية في جوانب عديدة ، سواء في تحديد مدلول المصطلح عند أصحابه المتقدمين ، ، أو تحرير المسائل التي تكمن وراءها ، أو في ترتيب أنواع علوم الحديث وتنسيقها في الذمر والطرح ، وربما تكون تلك الآثار السلبية من جهة قصور الدارسين ، لعدم عنايتهم بتوسيع النظر في منهج النقاد المتقدمين لاستخدام ذلك المصطلح وعدم ملاحظتهم لمواقع استعمالهم له ، فمصطلح الصحيح ، والحسن ، والمنكر ، والشاذ ، والعلة ، ومسألة زيادة الثقة ، وتفرده ، ومخالفته للغير ، ومسألة الاعتبار ،ـ من الأمثلة الواضحة لذلك .
وإن كان الإمام ابن الصلاح ـ رحمه الله ـ معروفاً بموقفه تجاه المنطق ، وبفتواه التحريمية لدراسة مبادئه فإن اعتماده على الأسلوب المنطقي في صياغة التعريف كان في ظل التأثير بما يصح أن يقال (( بالثورة المنطقية )) التي هيمنت على جميع العوم الشرعية .(1/5)
المصطلحات وتعاريفها
إنه ما من شك أن الطايع الام لكتب علوم الحديث التي ظهرت في مرحلة ما بعد الرواية في ذكر المصطلحات الحديثية ، وتحرير تعاريفها وتحليل آراء العلماء فيها ـ سواء فيهم المحدثون ، والأصوليون والفقهاء ـ حتى تصور الكثيرون بأن علوم الحديث عبارة عن مجموعة من المصطلحات ، تحفظ وتردد معزولة عن القواعد والمسائل التي تحملها تلك التعابير الفنية ، ومجهولاً دورها الحقيقي ، حتى صار هذا الفن الحيوي العظيم لا يكاد يعرف إلا (( بعلم مصطلح الحديث )) ولم تكن هذه التسمية معروفة سابقاً ، وإنما كان يطلق عليه علوم الحديث أو علم الرواية(1) .
ومن تتبع تلك الكتب والمصادر وأمعن النظر في مضامنيها يقتنع بأن المتأخرين أولوا بالغ العناية في تحرير التعاريف وفق المبادئ المنطقية أكثر من تحرير المسائل التي تكمن وراءها ، في ضوء الواقع العلمي لتطبيقات النقاد ، ومماراساتهخم العلمية في مجال نقد الأحاديث وراوتها ، ولهذا ظهرت التعاريف التي استقر عليها المتأخرين غير وافية لمدلول المصطلحات المتداول لدى المتقدمين ، فإن المصطلحات أصبحت بذلك ضيقة المعاني بعد أن كانت عامة ، وأن النقاد لم يتقيدوا بظواهر العبارات
__________
(1) أطلق بالأول الحاكم حين أٍمى كتابه ( بمعرفة علوم الحديث ) وبالثاني الخطيب إذ سمى كتابه ( الكفاية في علم الرواية ) وقد رد في إطلاق المتقدمين غير ذلك مثل ( علم الرجال ) .(1/6)
مصطلح الحديث
فبالأمثلة يتضح ذلك جيداً ، إن كلمة (( الحسن )) ذكرها ابن الصلاح قسيماً للصحيح ، وتبعه كل من جاء بعده ، وأقروه ، واستقروا عليه ، وعليه فإن ما يقال في تعريفه ينبغي أن يكون مانعاً عن دخول الصحيح فيه ، كما يجب أن يكون مانعاً عن دخول الصحيح فيه ، كما يجب أن يكون جامعاً لكافة أفراده بوضح وصراحة ، وإلا لا يصح تعريفه به عند المتأخرين ، ولهذا لم يرض الإمام ابن الصلام بما ورد عن بعض المتقدمين من التوضيحات في موضوع (( الحسن )) .
قال الإمام الخطابي : (( الحسن ما عرف مخرجه واشتهر رجاله )) ، وقال : (( وعليه مدار أكثر الحديث ، وهو الذي يقبله أكثر العلماء ، ويستعمله عامة الفقهاء(1) .
وقال الإمام الترمذي : (( وما ذكرنا في هذا الكتاب حديث حسن فإنما أردنا به حسن إسناده عندنا ، كل حديث يروى لا يكون في إسناده متهم بالكذب ولا يكون الحديث شاذاً ، ويروى من غير وجه نحو فهو عندنا حسن(2) .
وقال الإمام ابن الجوزي : (( الحديث الذي فيه ضعف قريب محتمل هو الحديث الحسن ، ويصلح العمل به ))(3) .
وقال الإمام ابن الصلاح معقباً على ما سبق : (( كل هذه مستبهم لا شفي الغليل ، وليس فيما ذكره الترمذي والخطابي ما يفصل الحسن من الصحيح ))(4) فإن ظاهر ما ذكروه منطبق على الصحيح ، وأما قول ابن الجوزي فلا يشمل كافة أفراد الحسن ، فإنه لا يصدق على الحسن لذاته الذي في إسناده صدوق مرتبته بين الثقة والضعيف غير المتروك ، أو لأن قوله : (( فيه ضعف قريب محتمل )) غير ضابط ، وهذا مخالف لضوابط التعريف وشروطه .
فجنح الإمام ابن الصلاح إلى تقسيمه إلى حسن لذاته وحسن لغيره ليتسنى له ذكر ما يفصل كلاً منهما عن الآخر وعن الصحيح ، فقال :
(( وقد أمعنت النظر في ذلك والبحث ، جامعاً بين أطراف كلامهم ، ملاحظاً مواقع استعمالهم فتنقح لي واتضح أن الحديث قسمان :
أحدهما : الحديث الذي لا يخلو رجال إسناده من مستور ، لم يتحقق أهليته ، غير أنه ليس مغفلاً كثير الخطأ فيما يرويه ، ولا هم منهم بالكذب في الحديث ـ أي لم يظهر منه تعمد الكذب في الحديث ولا سبب آخر مفسق ـ ويكون متن الحديث مع ذلك قد عرف ، بأن روى مثله أو نحوه من وجه آخر أو أكثر ، حتى اعتضد بمتابعة من تابع رواية على مثله ، أو بما له من شاهد ، وهو ورود حديث آخر بنحوه ، فيخرج بذلك عن أن يكون شاذاً أو منكراً ، وكلام الترمذي على هذا القسم يتنزل )) .
(( القسم الثاني : أن يكون راويه من المشهورين بالصدق والأمانة ، غير أنه لم يبلغ درجة الصحيح ، لكونه يقصر عنهم في الحفظ والإتقان ، وهو مع ذلك يرتفع عن حال من يعد ما ينفرد به من حديثه منكراً ويعتبر في كل هذا ـ مع سلامة الحديث من أن يكون شاذاً ومنكراً ـ سلامته من أن يكون معللاً ، وعلى هذا القسم يتنزل كلام الخطابي )) .
فهذا الذي ذكرناه جامع لما تفرق في كلام من بلغنا كلامه في ذلك ، وكأن الترمذي ذكر أحد نوعي الحسن ، وذكر الخطابي النوع الآخر ، مقتصراً كل واحداً منهما على ما رأى أنه لا يشكل ، أو أنه غفل عن البعض وذهل ، والله أعلم ، هذا تأصيل ذلك وتوضيحه . انتهى كلامه(5) .
فتوفيراً لشروط الحد والتعريف فيما ذكر كل من الإمامين ـ الخطابي والترمذي ـ عن موضوع الحسن ـ حيث إنه ظهر فيه غموض وإشكالية فنية ، لجأ الإمام ابن الصلاح ، ـ رحمه الله ـ إلأى تقسيم الحسن إلى قسمين ـ دون سابق عمل أو تصريح يصح الإستناد إليه من قبل المتقدمين ووصفهما المتأخرون بأنهما الحسن لذاته ، والحسن لغيره ثم فسر ابن الصلاح القسمين بحيث يتم له حمل قول الخطابي على القسم الأول ، وقول الترمذي على القسم الثاني حتى أصبح كل منهما تعريفاً مقبولاً يمنع دخول الصحيح فيه ، وأقره جميع المتأخرين في كتبهم ، حتى استقر لديهم بأن الحسن لذاته يفترق مع الصحيح يكون رواية صدوقاً ، بينما ينفصل الحسن لغيره عن الصحيح يكون رواية ضعيفاً غير متهم مع وجود الاعتضاد بمتابعة أو شاهد .
فالصحيح إذن عندهم قسيم للحسن لا يجتمعان أبداً ، ومن هنا صار استعمال المتقدمين بالجمع بينهما وإطلاقهم (( حسن صحيح )) مشكلاً علمياً عويصاُ انشغل المتأخرين في سبيل حلها عن تحرير المسائل العلمية التي يحملها مصطلح (( الحسن )) وفي الحقيقة إنه لا يوجد في مصطلحات الحديث مصطلح شغل المتأخرين في تحديد مدلولة وضبطه مثل (( الحسن )) .
وهذا الذي ذكره الإمام ابن الصلاح في تقسيم الحسن إلى القسمين لا يخلو من حؤاخذات علمية بعضها سبق إليها بعض المحققين ، مثل الحافظ العراقي وابن حجر ، والأخرى لم يناقشها أحد ، وتلاحظ هذه الآخذ عندما نعرض هذا التقسيم على نصوص الخطابي والترمذي ، وعلى الواقع العلمي الملموس في ممارسات النقاد ، وبيانها في موضع آخر ـ إن شاء الله ـ .
إن تركيب الوصفين (( حسن صحيح )) لم يكن مشكلاً لغوياً ولا فنياً بذاته ، وإنما ظهر الإشكال فيه من جهة تفسيره بمنهج المتأخرين الذي يفصل كلاً منهما عن الآخر بحيث لا يصح اجتماعهما في حديث واحد ، أما إذا نظرنا إليه من زاوية منهج المتقدمين الذي يوسع مدلوليهما ، فلا مجال للإشكال . فالحسن في لغة النقاد أعم من الحسن في اصطلاح المتأخرين ، فقد أطلقوا على الصحيح حسناً ، وعلى كل مقبول لم يكن مردوداً حسناً أيضاً وذلك في مقابل المنكر ، أو الباطل ، أو الموضوع ، وهذا أمر ظاهر جلي لكل من تتبع كلام النقاد ومواقع استعمالهم ، كما نبه على ذلك الحافظ الذهبي والحافظ ابن حجر .
يقول الحافظ الذهبي : (( ويلزم على ذلك أن يكون كل صحيح حسن وعليه عبارات المتقدمين فإنهم قد يقولون فيما صح هذا حديث حسن(6) .
ويقول الحافظ بن حجر : (( قد وجد التعبير بالحسن في كلام من هو أقدم من الشافعي ، لكن منهم من يريد بإطلاق ذلك المعنى الاصطلاحي ومنهم من لا يريده ، فأما ما وجد في ذلك في عبارة الشافعي على حديث ابن عمر في استقبال بيت المقدس … بكونه حسناً خلاف الاصطلاح ، بل هو صحيح متفق على صحته ، وكذا قال الشافعي في حديث منصور عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود في السهو .
وأما أحمد فإنه سئل فيما حكاه الخلال عن أحاديث نقض الوضوء بمس الذكر فقال : (( أصح ما فيها حديث أم حبيبة )) .
وسئل عن حديث بسرة فقال صحيح ، قال الخلال : إن أحمد بن أصرم سأل أحمد عن حديث أم حبيبة في مس الذكر فقال : هو حديث حسن ، فظاهر هذا أنه لم يقصد المعنى الاصطلاحي لأن الحسن لا يكون أصح من الصحيح(7) .
وقد تتبعت كلام الإمام البخاري فوجدت فيه إطلاق الحسن على الصحيح ، وعلى الضعيف الذي لم يمن مردوداً ولا منكراً ، وعلى المتوسط بينهما ، أي بين الحديث الصحيح والحديث الضعيف ، لكن استخدام مصطلح الحسن في الحديث المقبول الذي لم يرتق إلى مستوى الصحيح ، ولم ينزل إلى درك الواهي المردود أكثر مما سواه .
ولا بد من أمثلة تبين المراد :
__________
(1) معالم السنن 1/6 .
(2) شرح العلل 1/340 تحقيق (( نور الدين عتر )) .
(3) الموضوعات 1/35 .
(4) مقدمة ابن الصلاح ص19 ( تحقيق الدكتور مصطفى البغا ) .
(5) مة ابن الصلاح ص : 16ـ 20 .
(6) الموقظة ص32 .
(7) كت على مقدمة ابن الصلاح 1/424ـ426 .(1/7)
المثال الأول :
يقول الإمام البخاري : (( وحديث أنس في هذا الباب ـ أي في حد السكران ـ حسن(1) )) ، بينما قال فيه الإمام الترمذي : (( حديث أنس حسن صحيح ))(2) .
وحديث أنس هذا متفق على صحته ، فقد أخرجه البخاري ومسلم(3) من طريق شعبة وهشام عن قتادة عن أنس ، والرواة عن شعبة وهشام كلهم ثقات أجلاء ، بل هو أصح حديث عند مسلم إذ صدر به موضوع الباب .
__________
(1) كتاب الحدود باب حد السكران 2/329 .
(2) لل الكبير للترمذي 2/606ـ607 .
(3) البخاري في كتاب الحدود ، باب في ضرب شارب الخمر 12/63 ، وفي باب الضرب بالجريد والنعال 12/66 (من فتح الباري) ومسلم ضد الخمر 11/214ـ216 (شرح النووي) من طرق عديدة عن شعبة .(1/8)
المثال الثاني :
يقول الإمام الترمذي : سألت محمداً عن الحديث الذي رواه قتيبة عن سفيان بن عمرو بن دينار عن عطاء عن صفوان بن يعلى عن أبيه سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ على المنبر : (( ونادوا يا مالك … )) فقال : (( هو حديث حسن )) .
وهو حديث عن ابن عيينة الذي ينفرد به(1)
وهذا الحديث متفق عليه ، أخرده البخاري ومسلم(2)من طريق سفيان بن عيينة ، وقال الترمذي : حسن صحيح ، ورواه الحديث عن سفيان كلهم ثقات أجلاء .
__________
(1) العلل الكبير 1/275
(2) البخاري في التفسير ـ سورة الزخرف ، باب : ونادوا يا مالك ليقض … 8/568 ، ومسلم في الجمعة ، باب تخفيف الصلاة والخطبة 6/160 .(1/9)
المثال الثالث :
ويقول الترمذي : سألت محمداً ، فقلت : أي الروايات في صلاة الخوف أصح ، فقال : كل الروايات عندي صحيح ، وكل يستعمل ، وحديث سهل بن أبي حثمة هو حديث حسن وحديث عبدالله بن شقيق عن أبي هريرة حسن وحديث عروة بن الزبير عن أبي هريرة(1) حسن .
فأطلق الإمام البخاري على الحديث الذي صح عنده صحيحاً كما أطلق عليه الحسن حين فصل تلك الروايات ، ومنها ما رواه مسلم في صحيحه ، وهو حديث سهل بن أبي حثمة(2) ، بل صححه الترمذي وقال : (( حسن صحيح ))(3) وكذا عبدالله بن شقيق قال الترمذي فيه (( حسن صحيح غريب من عبدالله بن شقيق ))(4) وعبدالله بن شقيق ثقة ، وأما حديث عروة عن أبي هريرة رواه النسائي(5) .
__________
(1) لل 1/301ـ303 .
(2) في كتاب صلاة المسافرين ، صلاة الخوف 6/128 من طريق شعبة ، عن عبدالرحمن بن القاسم ، عن أبيه عن صالح عن خوات بن جبير عنه وهؤلاء الرواة حميعهم ثقات .
(3) رواه الترمذي في الصلاة باب ما جاء في صلاة الخوف .
(4) رواه الترمذي في التفسير سورة النساء 4/96 ( تحفة الأحوذي ) من طريق عبدالله بن شقيق عنه .
(5) في صلاة الخوف 3/173 .(1/10)
المثال الرابع :
ويقول الترمذي : سألت محمداً عن حديث أحمد بن حنبل عن غندر عن حبيب بن الشهيد عن ثابت عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على قبر بعد ما دفن ، فقال : هو حديث حسن(1)
فرواه هاذ الحديث جميعهم ثقات معرفون ، وأخرجه الإمام مسلم في صحيحه(2) .
__________
(1) العلل الكبير للترمذي 1/413 .
(2) في كتاب الجنائز ، باب الصلاة على القبر 7/25 ( مع شرح النووي ) .(1/11)
المثال الخامس :
ويقول الترمذي : سألت محمداً عن حديث الحسن عن سعد بن هشام عن عائشة قالت : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التبتل فقال : (( حديث الحسن عن سعد بن هشام عن عائشة حسن ))(1) .
فأطلق البخاري على الحديث الذي رواه الثقات حسناً .
__________
(1) العلل الكبير 1/424 .(1/12)
المثال السادس :
وهذا مثال آخر لإطلاق (( الصحيح )) على حديث يصح وصفه بالحسن حسب إصطلاح المتأخرين كأن يكون في سنده ضعيف غير متروك .
يقول الترمذي : سألت محمداً عن حديث حدثنا هناد حدثنا عبدالرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن عبيد الله عن عبدالله عن ابن عباس (( أن النبي صلى الله عليه وسلم تنفل سيفه ذا الفقار يوم بدر ، وهو الذي رأى فيه الرؤيا يوم أحد )) فقال : (( حديث ابن أبي الزناد عن أبيه عن عبيدالله عن ابن عباس صحيح ))(1) .
فابن أبي الزناد عبدالرحمن ضعيف لسوء حفظه وأخرجه له البخاري في صحيحه معلقاً ، وأما مسلم فإنما أورد حديثه في المقدمة ، فوصف البخاري حديثه هذا بالصحيح على أنه أجدر بتحسينه نظراً إلى ضعف ابن أبي الزناد .
فهذه بعض الأمثلة التي توضح أن مدلول الحسن عام عند المتقدمين ، منا أن مدلول الصحيح لم يكن خاصاً بالحديث الذي تداوله الثقات ، بل يطلق على الحديث الذي رواه الضعيف أيضاً إذا تأكد لديهم سلامته من الخطأ والوهم بل على كل حديث محفوظ سواء أكان محفوظاً عن راو أو عن الصحابي أو عن النبي صلى الله عليه وسلم كما يتبين ذلك جلياً كونه صحيحاً دائماً إلا إذا كان محفوظاً عن النبي صلى الله عليه وسلم ، لأن معناه ثبوت الرواية عن شخص ، وقد يكون الشخص خاطئاً أو يكون ما رواه منقطعاً أو مدلساً أو مرسلاً وقد يكون صحيحاً أيضاً ، وبيان ذلك بالأمثلة في موضع آخر ـ إن شاء الله .
فإذا ثبت أن الحسن عند المتقدمين عام وشامل بحيث يطلق على الحديث الصحيح ، والحديث المقبول فإن إطلاقهم جمعاً بين لفظي الحسن والصحيح لم يكن إى لإفادة التأكيد لمعنى القبول والاحتجاج ، وليس فيه ما يثير الإشكالية لا لغوياً ولا فنياً ، إلا على منهج المتأخرين الذي يقضي بانفصالهما كنوعين مستقلين لا يصح الجمع بينهما .
فأما ما ذكره الإمام الترمذي في خاتمة سننه حول (( الحسن )) فلم يكن بمثابة التعريف لمصطلح الحسن وإنما تذكيراً بمنهجه الخاص بكتابه في استعمال (( الحسن )) بأن يريد به معنى خاصاً وذلك عند إطلاقه غير مضاف إلى (( صحيح )) .
(( وما ذكرنا في هذا الكتاب (( حديث حسن )) فإنما أردنا به حسن إسناده عندنا ، كل حديث يروى لا يكون في إسناده متهم بالكذب ولا يكون الحديث شاذاً ويروى من غير وجه نحو ذلك فهو عندنا حديث حسن ))(2) .
فهذا نص صريح بأنه منهج خاص بكتابه ، وذلك أن يقصد بالحسن عند إطلاقه مجرداً عن الصحيح في كتابه ذلك المعنى ، فإنه قال : ( وما ذكرنا في هذا الكتاب (( حديث حسن )) فإنما أردنا به حسن إسناده عندنا ) ، وخص بذلك نفسه ، وكتابه ، أما إذا كان الحديث مما تداوله رواه ثقات ، وشروط القبول والاحتجاج متوفرة فيه فإن الإمام الترمذي إنما يطلق عندئذ (( حسن صحيح )) ولهذا لايكاد يفرد (( الصحيح )) في كتابه .
فلما أراد الإمام الترمذي إطلاق (( الحسن )) في معنى محدد اضطر إلى بيان ذلك لئلا يخطئ القراء والدارسون لكونهم لم يتعودا عليه ، ولهذا لم نجده يتطرق إبى بيان مدلول (( الصحيح )) ولا مدلول (( حسن صحيح )) لأن ذلك معروف لديهم وليس بحاجة إلى بيان وتوضيح .
فالإمام الترمذي إذن لم يعرف (( الحسن )) كمصطلح متناول لدى المحدثين ، ولم يبين بأن (( الحسن )) عندهم ما دون (( الصحيح )) بل أفاد بصنيعه في كتابه أن (( الحسن )) يطلق على الصحيح ، وأن (( الحسن )) يختلف معناه عند إضافته إليه ، ولم يكن الترمذي ـ رحمه الله ـ مخترعاً لمصطلح جديد غير معروف لدى المعاصرين له ، بل كان على طريقة شيخه العبقري الإمام البخاري ، فقد استعمل البخاري (( حسن صحيح )) في حديث : (( البحر هو الطهور ماؤه ))(3) وكذا في حديث المستحاضة الذي روته حمنة بنت جحش قال فيه الإمام أحمد والبخاري : (( حسن صحيح )) .
وتبين بذلك خطأ ما شاع لدى الكثيرين من أن الترمذي قد عرّف (( الحسن )) كمصطلح بما يفصله عن (( الصحيح )) وفي الواقع فإن معنى (( الحسن )) عنده وعند غيره من النقاد عام وشامل ، ولهذا السبب فإنه لا يكاد يفرد (( الصحيح )) من غير إضافته إلى (( الحسن )) .
وعلى هذا فإن التأويل والتفسير لتحديد قصدهم بكلمة (( الحسن )) وغيرها من التعابير ينبغي أن يتم في إطار منهجهم وأسلوبهم ، ولا على طريقة المتأخرين التي تمخضت عنها عدة عوامل طبيعية والتي انشغل بها هؤلاء المتأخرون بعد عصر المتقدمين كما بيناها في التمهيد .
وهذا يدعونا بإلحاح إلى دراسة معقمة لمنهجهم من خلال معاملة كتبهم وتتبع أقوالهم ونصوصهم ، وليس عن طريق حفظ المصطلحات وتعاريفها من كتب المتأخرين .
والجدير بالذكر أن المتقدمين ـ وإن كانوا يوسعون مدلول كلمة (( الحسن )) وإطلاقه على (( الصحيح )) غير ملتزمين بمعناها الذي استقر عليه المتأخرون من بعدهم ـ فإنهم يفرقون عملياً بين الحديث الذي تداوله الثقات المعرفون من دون خطأ ووهم ، وبين الحديث الذب تناقله الضعفاء مع وجود الاعتضاد الخارجي له ، كما يبرهن عليه صنيع الإمام البخاري والإمام مسلم في صحيحهما حيث إنهما تقيدا والتزما في أصولهما بالنوع الأول دون الثاني بخلاف السنن الأربعة فإنها تحتوي على النوعين كليهما ، كما أنهم يقسمون الحديث إلى ثلاث مراتب بالنظر إلى الواقع : مرتبة الاحتجاج ، ومرتبة الترك ، ومرتبة المتوسط بينهما ، غير أنهم لم يتفقوا عملياً على تخصيص هذه المراتب الثلاث بعبارات فنية ، ولهذا نجد المصطلحات المستخدمة لديهم لا تخرج عن ش من هذه المراتب الثلاث ، إذ أنهم بطبيعتهم العلمية الخاصة لم يعطوا اهتماماً بالغاً في جانب الدلالات اللفظية بقدر اهتمامهم بالأمور الأساسية من المسال والمضامين ، ولهذا فإن كتبهم وأقوالهم أصبحت معقدة بكثرة الإشارات اللفظية والألغاز العلمية ، مما يفرض علينا تعميق دراستنا حول أساليبهم ومناهجهم .
فالتقسيم الثلاثي للأحاديث أمر حقيقي يلمسه كل من تتبع كتب المتقدمين وأقوالهم ، فقد قال الحافظ السخاوي : (( لم يقع في مجموع كلامهم التقسيم لأكثر من الثلاثة ، وإن اختلفوا في بعضها ))(4) فإن كافة أنواع القبول والرد تدور عليه .
وهذا الإمام مسلم ـ رحمه الله ـ قسم الأحاديث إلى ثلاثة أقسام في مقدمة صحيحه حيث قال : (( إنا نعمد إلى جملة ما أسند من الأخبار عن رسول الله صلى الله عليم وسلم فنقسمها على ثلاثة أقسام ، وثلاث طبقات من الناس(5)) ثم فصل ذلك بما خلاصته كما يل ي: (( أحاديث تداولها أهل الاستقامة والإتقان وأحاديث رواها ضعفاء لم يبلغ ضعفهم إلى حد أن يترك ، وأحاديث تناقلها قوم متركون )) دون أن يطلق عليها المصطلحات الخاصة .
وعلى هذا التقسيم الثلاثي الواقعي جرى الإمام الترمذي فس سننه ، غير أنه أطلق على الأول (( حسن صحيح )) وعلى الثاني (( حسن )) وعلى الثالث عبارات فنية متنوعة تنفق في دلالتها على البطلان والترك حسب منهجهم ، مثل كلمة : غريب ، ومنكر ، وضعيف ، وغير ذلك .
ومن هنا قال الخطابي : اعلموا أن الحديث عند أهله على ثلاث أقسام صحيح وحسن وسقيم(6) ولعله ـ رحمه الله ـ قد أراد به التقسيم الثلاثي المجرد أكثر من تحديدها بالتعابير الفنية ، ونظراً إلى ظاعر عبارته قال الحافظ العراقي ـ رحمه الله ـ (( ولم أر من سبق الخطابي إلأى تقسيمه المذكور ، وإن كان في كلام المتقدمين ذكر الحسن ))(7) يعني لم يسبقه أحد إلى تسمية الأقسام الثلاثة بالصحيح والحسن والضعيف ، والأمر كذلك ، لأنه لم يصرح أحد من المتقدمين بتخصيصها بهذه المصطلحات الثلاث وإن كانت مستعملة لديهم على وجه آخر
__________
(1) المصدر السابق 2/668 .
(2) شرح الملل لابن رجب الحنبلي ص : 202 ( تحقيق السامرائي ) .
(3) نقله ابن رجب الحنبلي في شرحه للعلل 1/342ـ434 ( تحقيق الدكتور نور الدين عتر ) .
(4) فتح المغيث 1/13 .
(5) مقدمة الصحيح 1/50ـ55 .
(6) معالم السنن 1/6 .
(7) بصرة والتذكرة 1/12ـ13 ، وقد ذكرنا هنا بعض التأويلات لرفض قول العراقي ، ولا حاجة إليها في ضوء ما حررنا .(1/13)
مصطلح (( المنكر ))
وكذلك مصطلح (( المنكر )) ، فإنه عند المتأخرين ما رواه الضعيف مخالفاً للثقات ، غير أن المتقدمين لم يتقيدوا بذلك ، وإنما عندهم كل حديث لم يعرف عن مصدره : ثقة كان رواية أم ضعيفاً ، خالف غيره أم تفرد ، وهناك في كتب العلل والضعفاء أمثلة كثيرة توضح ذلك ، وقد ذكرت بعضها في كتابي : (( الحديث المعلول : قواعد وضوابط )) فالمنكر في لغة المتقدمين أعم منه عند المتأخرين ، وهو أقرب إلى معناه اللغوي ، فإن المنكر لغة : نكر الأمر نكيراً وأنكره إنكاراً ونكراً معناه جهله ، وجاء إطلاقه على هذا المعنى في مواضع القرآن الكريم ، كقوله تعالى : ( وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون ) . ( يوسف : 58 ) وقوله تعالى ( يعرفون نعمت الله ثم ينكرونها ) ( النحل : 83 ) .
وعلى هذا فإن المتأخرين خالفوا المتقدمين في مصطلح (( المنكر )) بتضييق ما وسعوا فيه .(1/14)
مصطلح (( الشاذ ))
وأما الشاذ فقد قيده المتأخرون بما رواه الثقة مخالفاً لمن هو أوثق منه ، وإن كان لهم في ذلك سلف فإن كثير من المتقدمين لم يوافقوا علبه مما يلح على الدارس أو الباحث التفطن لوجود خلاف حوله بين الأمة المتقدمين أنفسهم فعند الحفاظ غير الحجازيين إن (( الشاذ )) هو الحديث الغريب الذي له عاضد من شاهد سواء تفرد به ثقة وأغربه ، أو تفرد به ضعيف وأغربه .
فقد ورد عن الأعمش : (( كانوا يكرهون غريب الحديث وغريب الكلام )) وعن أبي يوسف : (( من طلب غرائئئب الحديث كذب )) وعن الإمام أحمد : لا تكتبوا هذه الأحاديث الغرائب فإنها مناكير وعامتها عن الضعفاء ، وعن مالك : (( شر العلم الغريب )) وعن عبدالرزاق : (( كنا نرى أن غريب الحديث خير ، فإذ هو شر ))(1) .
وعن صالح بن محمد الحافظ : (( الحديث الشاذ المنكر الذي لا يعرف ))(2) .
ويقول أبو داود : (( ولو احتج رجل بحديث غريب وجدت من يطعن فيه ولا يحتج بالحديث الذي قد احتج به إذا كان الحديث غريباً شاذاً ))(3) .
وقال الإمام أحمد في حديث أسماء بنت عميس : (( تسلبي ثلاثاً ثم اصنعي ما بذا لك )) (( إنه الشاذ المطروح ))(4) .لأنه مخالف للثابت المعمول به في قضية مدة العدة .
ويقول ابن رجب : (( ومن جملة الغرائب المنكرة الأحاديث الشاذة المطرحة ))(5)
وعلى ذلك فإن (( الشاذ )) يصدق على المنكر ، فقد سوى بينهما الإمام ابن الصلاح خلافاً للآخرين من المتأخرين .
وأما الشافعي وغيره من حفاظ الحجاز فقيدوا برواية الثقة مخالفاً لمن هو أرجح منه ، وخلاصة القول أن المتقدمين اختلفوا في معنى (( الششاذ )) ، وأن جل المتأخرين استقروا على رأي الإمام الشافعي ، فينبغي التفطن لهذا التباين المنهجي بينهم كي يفسر (( الشاذ )) حسب منهج قائله دون خلط فيه ، ومن الأخطاء المترتبة على خلط المناهج ما وقع من كثير من المتأخرين حين تفسيرهم للشاذ الذي ورد في قول الترمذي في (( الحسن )) .
قال الترمذي : (( كل حديث يروى لا يكون في إسناده متهم بالكذب ولا يكون الحديث شاذاً ويروى من غير وجه نحو ذلك فهو عندنا حسن )) (6) .
وقد فسر الحافظ ابن رجب كلمة الشاذ الواقعة في نص الإمام الترمذي بما ذكره الشافعي (7) ، وكذا فسرها الحافظ ابن حجر(8) وتفسيرها بما ذكره الشافعي لا يستقيم هنا لأن الشاذ عنده مقيد برواية الثقة ، وأن قول الإمام الترمذي إنما هو فيما يخص برواية غير الثقة وغير المتهم ، فكيف إذن يتحقق هنا معنى الشاذ على رأي الشافعي ؟ على أن الترمذي ليس من الحجازيين الذين يقولون بذلك ، ، ولهذا أصبح قول الترمذي الأخر ـ وهو (( ويروى من غير وجه )) تفسيراً لقوله : (( ولا يكون شاذاً )) ، وقد فهم ذلك بعض المتأخرين كما نقله الحافظ العراقي ـ إذا قال : إن قول الترمذي : (( ولا يكون شاذاً )) زيادة لا حاجة إليها ، لأن قوله : (( يروى من غير وجه )) يغني عنه ، ثم قال : (( فكأنه كرره بلفظ مباين ))(9) وهذا هو (( الصحيح )) وإن رفضه الحافظ ابن حجر بناء على أن الحمل على التأسيس أولى من الحمل على التأكيد ، ولا سيما في التعاريف(10) .
وجدير بالذكر أن هذا المصطلح نادر الاستعمال لدى المتقدمين ، فإذا تتبعت كتب العلل فإنك لا تكاد تجد فيها كلمة (( الشاذ )) ، ولا يعني هذا أنهم لا يعتبرون الحديث الشاذ معلولاً ، وإنما أوردوا ما يقال فيه (( الشاذ )) على كل المناهج بعبارات أخرى واضحة مثل قولهم : (( هذا خطأ )) (( هذا غير محفوظ )) (( هذا وهم )) ونحو ذلك .
ولتوضيح ذلك أذكر بعض الأمثلة :
__________
(1) شرح ابن رجب لعلل ص : 236 ( تحقيق السامرائي ) .
(2) المصدر السابق .
(3) رسالته إلى أهل مكة ص 29 .
(4) حكاه ابن رجب في شرح العلل ص : 236 .
(5) المصدر السابق .
(6) المصدر السابق .
(7) المصدر السابق ص : 2250 .
(8) النكت على مقدمة ابن الصلاح 1/406 .
(9) التقييد والإيضاح ص : 44 .
(10) النكت على مقدمة ابن الصلاح 1/406 .(1/15)
المثال الأول :
قال الإمام الترمذي : سألت محمداً عن حديث رواه يحيى بن آدم حدثنا إسرائيل حدثنا أبو إسحاق عن أبي عبيدة عن عبدالله قال : (( تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة وهي ابنة ست سنين … )) ، فقال : هذا خطأ ، إنما هو أبو إسحاق عن أبي عبيدة أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج عائشة ، هكذا حدثوا عن اسرائيل عن أبي إسحاق ، ويقولون عن أبي عبيدة عن عائشة أيضاً(1) .
فما رواه يحيى بن آدم ـ وهو ثقة معروف من شيوخ الإمام البخاري ـ مخالفاً للآخرين في وصل ما قد اتفقوا على إرساله ، وإسقاط عبدالله من الإسناد ، يتحقق فيه معنى (( الشاذ )) عند المتأخرين وعند الشافعي وغيره من حفاظ الحجاز ومع ذلك لم يستخدم هذا المصطلح ، بل أطلق في (( الخطأ )) .
__________
(1) العلل الكبير للترمذي 1/459(1/16)
المثال الثاني :
وهذا مثال آخر أطلق فيه : (( غير محفوظ )) دون استعمال كلمة (( الشاذ )) . قال الترمذي : سألت محمداً عن حديث معمر عن الزهري عن سالم عن أ[يه أن غيلان بن سلمة وتحته عشر نسوة ، فقال : هو حديث غير محفوظ ، إنما روى هذا معمر بالعراق ، وروى أبو حمزة وغيره عن الزهري قال : (( حدثت عن محمد بن سويد الثقفي أن غيلان بن سلمة أسلم )) ، قال محمد ـ يعني البخاري ـ (( وهذا أصح )) .
فما رواه معمر بن راشد الثقة مخالفاً لغيره (( شاذ )) حسب اصطلاح المتأخرين ، ووجدنا الإمام البخاري يعبر عن خطأ معمر بأنه (( غير محفوظ )) .(1/17)
المثال الثالث :
وقال أبو حاتم : الحديث الذي رواه وهب بن جرير عن شعبة عن أبي حصين عن يحيى بن وثاب عن أبي عبدالرحمن السلمي عن أم حبيبة أن النبي صلى الله عليه وسلم (( كان يصلي على الخمرة )) : هذا حديث ليس له أصل لم يروه غير وهب(1) .
فما رواه وهب بن جرير ـ أحد الثقات المعروفين ـ وتفرد به عن شعبة ووصفه أبو حاتم بأنه لا أصل له لم يروه غير وهب ، يصدق عليه معنى الشاذ حسب رأي الحفاظ غير الحجازين .
__________
(1) العلل لابن أبي حاتم 1/123 .(1/18)
المثال الرابع :
إن حديث معاذ في جمع التقديم الذي ذكره الحاكم مثالاً للشاذ(1) ، أورده النقاد في الأحاديث المعلولة دون أن يحكموا عليه بالشذوذ ، وإنما عبروا عنه بعبارات متنوعة ، يقول أبو داود : (( لم يرو هذا الحديث ـ يعني حديث معاذ في جمع التقديم ـ إلا قتيبة وحده ))(2) .
ويقول الترمذي : (( وحديث الليث عن يزيد بن حبيب عن أبي الطفيل حديث غريب ))(3) وهو ما رواه قتيبة عن الليث ، ويقول أبو حاتم : كتبت عن قتيبة حديثاً عن الليث بن سععد لم أصبه بمصر عن الليث ، والذي عندي أنه دخل له حديث في حديث(4) ، ويقول الطبراني : لا يروى هذا الحديث عن معاذ إلا بهذا الإسناد تفرد به قتيبة(5) ويقول الخطيب : وهو منكر جداً من حديث قتيبة(6) .
ويقول أبو سعيد بن يونس : (( لم يحدث به إلا قتيبة )) ويقال : إنه غلط(7) هذه بعض المصطلحات اخترتها كنماذج لأنها تشكل أهمية بالغة في علوم الحديث ، نظراً لما تحتويه من قواعد التعليل ووسائل معرفة خطأ الرواة . فلمسنا من خلالها خلافاً جوهرياً بين المتقدمين والمتأخرين في تحرير معانيها وتحقيق مضمانيها ، مما يلح علينا أن نتفطن لذلك تحتشياً لوقوع الخلط بين المناهج المختلفة الذي يترتب عنه الزلل ويكثر فيه الجدل .
ولما كان الطابع العام لكتب المتأخرين في علوم الحديث متمثلاً في ذكر المصطلحات وتحرير تعريفها وتحليل آراء علماء الطوائف فيها أصبحت محتوياتها ومباحثها غير مرتبة ، رغم جهود بعض المتأخرين والمعاصرين في سبيل ترتيبها وتنسيقها ، وصارت المسائل التي تحملها تلك المصطلحات غير محررة على نهج المتقدمين بل كانت محررة حسب الظواهر وأحوال الرواة وهذا ما سأعالجه في الفقرات الآتية :
__________
(1) الشاذ عن الحاكم ما تفرد به الثقة ، يعني به التفرد الخاص ، وليس تفرداً مطلقاً ، وقد فصلته في كتابي : الحديث المعلول في مبحث الشاذ .
(2) في سننه 1/190 ، في كتاب الصلاة ، باب الجمع بين الصلاتين ( دار الكتاب العربي ، بيروت ) .
(3) تحفة الأحوذي 1/387 .
(4) العلل لابن حاتم 1/91 .
(5) المعجم الصغير 1/234 .
(6) تاريخ بغاد 12/367 .
(7) حكاه الحافظ الذهبي في سير أعلام النبلاء 11/23 .(1/19)
المباحث في كتب المصطلح غير مرتبة
ما من شك أن المصطلحات والتعابير الفنية تعتبر لسان العلوم ، ووعاء قواعدها ومسائلها ومن هنا تصبح المصطلحات ، وتحرير معانيها ، ذات أهمية كبرى لدى الدارسين .
أما إذا تحولت المصطلحات إلى محاور رئيسية لمباحث العلوم ،وإلى مواد علمية تدرس وتحفظ وتردد ، فإن المسائل والقواعد التي تكمن وراء تلك المصطلحات تصبح غير مرتب بيانها مما يجعل معرفة الصلة بين نظيراتها في غاية من الصعوبة لدى الدارسين ، وهذا ما تلاحظه في كتب المصطلحات .
إن المصطلحات التالية : العلة ، الشاذ ، المنكر ، المصحف ، المقلوب ، المدرج ، المضطرب تشكل وحدة موضوعية ضمن قواعد تعليل الحديث ، فإن العلة تقع على ما يدل على الخطأ والوهم سواء كان صاحبه ثقة أم ضعيفاً ، ومن ثمة يصدق إطلاقها على الشاذ ، والمنكر ، والمصحف ، والمقلوب ، والمدرج ، والضعيف ، والمضطرب .
فإن الخلاصة في معنى ((الشاذ)) ما دل على خطأ الثقة بمخالفته لأرجح منه على رأي البعض أو بالتفرد مع القرائن المنضمة إلية على رأي الآخرين ، وكذلك المنكر وهو أيضاً يدل على خطأ راوية ، ومنهم من خصصه بالضعيف ومنهم من أطلقه كما سبق البيان به ، ولا يتحقق الخطأ ـ سواء من الثقة أم من الضعيف ـ إلا بالتداخل عليه والقلب فيصبح الحديث مقلوباً ، أو بالإدراج فيصبح مدرجاً ، أو بالتصحيف فيصبح مصحفاً ، أو بالإضطراب فيصبح مضطرباً ، فهذه المصطلحات تشكل وحدة موضوعية ضمن قواعد التعليل والتضعيف ، التي من شأنها أن تعالج جنباً إلى جنب كي تتضح العلاقة والرابطة بين هذه الأنواع والمسائل .
غير أن كتب المتأخرين اتفقت على تناولها في مواضع متفرقة حتى يتوهم الدارس أنها أنواع مستقلة وقائمة بذاتها ، وأن بعضها قسيم للأخر ، وصارت الأبعاد العلمية لهذه الأنواع غير واضحة ، وظل منهج النقاد في تعليل الأحاديث مجهولاً ، وكل هذا وقع من جهة معالجة كتب المصطلح هذه المصطلحات وليس كمسائل .(1/20)
المسائل المحررة على ظاهر الإسناد والرواه
وتشكل المسائل في علوم الحديث أصولاً علمية وأسساً متينة ، كان المتقدمون النقاد يؤسسون عليها تصحيح الأحاديث وتعليلها ، وهي جديرة بالدراسة دراسة معمقة ، ومنها مسألة التفرد ، وزيادة الثقة ، ومسألة العلة ، ومسألة الاعتبار ، ومن هذه المسائل ما حررت أحكامها قبولاً ورداً بناء على الظاهر وأحوال الرواة ، بينما كانت الأحوال فيها قبولاً ورداً عند المتقدمين مؤسسة على مجموعة من الاعتبارات العلمية مضافة إلى أحوال الرواة . ومما استقر عليه نقد المتقدمين أن أحوال الرواة لا تكفي لوحدها في معرفة صحة الحديث وضعفه ، حيث إنهم يردون من أحاديث الثقات ما تبين لهم خطؤه ، كما أنهم يقبلون ويصححون من أحاديث الضعفاء ما عرفوا حفظه وضبطه ، ولهذا أصبح خلو الرواية وسلامتها من العلة عنصراً هاماً في تعريف الصحيح ، فمسائل القبول والرد ينبغي أن تحرر فس ضوء الواقع العلمي الذي يلمس في منهج المتقدمين النقاد .
وتوضيحاً لذلك نذكر ههنا مثالاً ، يقول الإمام ابن الصلاح : في مناسبة تحرير الأحكام المتعلقة بالشاذ : إذا انفرد الراوي بشئ نظر فيه : فإن كان ما نفرد به مخالفاً لما رواه من هو أولى منه بالحفظ لذلك وأضبط كان ما أنفرد به شاذاً مردوداً ، وإن لم تكن فيه مخالفة لما راوه غيره ، وإنما هو أمر رواه هو ولم يروه غيره ، فينظر غي هذا الراوي المتفرد ، فإن كان عدلاً حافظاً موثوقاً بإتقانه وضبطه قبل ما انفرد به ، ولم يقدح الإنفراد فيه ، كما فيما سبق من الأمثلة ، وإن لم يكن ممن يوثق بحفظه وإتقانه لذلك الذي انفرد به كان انفراده خارماً له مزحزحاً له عن حيز الصحيح ، ثم هو بعد ذلك دائر بين مراتب متفاوته بحسب الحال ، فإن كان المنفرد به غير بعيد من درجة الحافظ الضابط المقبول تفرده استحساناً حديثه ذلك ، ولم نحطه إلى قبيل الحديث الضعيف ، وإن كان بعيداً من ذلك رددنا ما انفرد به وكان من قبيل الشاذ المنكر ، فخرج من ذلك أن الشاذ المردود قسمان .
(( أحدهما : الحديث الفرد المخالف ، والثاني : الفرد الذي ليس في راويه من الثقة والضبط ما يقع جابراً لما يوجبه التفرد والشذوذ من النكارة والضعف )) هـ(1)
إن هذه المسألة التي تعرض لها ابن الصلاح من أهم قواعد التصحيح والتعليل ، وأغمضها وأغوصها وأوسعها ، والتي يتوقف إدراك كنهها واستيعاب أبعادها على ممارسة حقيقية لمنهج علماء النقد من المحدثين ، ولا تكون في متناول الجميع بمجرد حفظ المصطلحات الحديثية وتعاريفها ، وقد أساء الكثيرون حين اختطفوا لمسألة التي فصلها ابن الصلاح ـ رحمه الله ـ وطبقوها في بحوثهم ودراساتهم ، فصححوا الإسناد بكون رواته ثقات وحسنوا بوجود صدوق فيه ، وضعفوا لكون راويه ضعيفاً ، وفي حالة وجود شاهد أو متابعة فيرقون الحسن إلى الصحيح ، والضعيف إلى الحسن ، فدار التصحيح والتضعيف على ظواهر الإسناد وأحوال رواته ، وأصبح الإسناد ورواته محل دراستهم بغض النظر عن متنه ، حتى تحقق ما روجه المستشرقون من أن دراسة المحدثين لم تتجاوز الإسناد لشدة اهتماهم بالنظر الخارجي ، مما أدى إلى تبلور المصطلحات الجديدة مثل قولهم : صحيح لذاته ، وصحيح لغيره ، وحسن لذاته ، وحسن لغيره .
إن المسألة التي حررها الإمام ابن الصلاح في مبحث الشاذ متصلة بزيادة الثقة وتفرده ، والعلة ، عموماً ، ويرجع أساسها إلى حالتين ، وهما حالة التفرد ، وحالة المخالفة ، ولكون كل منهما لا يتحقق إلا لأسباب متنوعة مثل صدق الراوي وإتقانه ، ومثل وهمه وخطئه ، ومثل كذبه وافترائه ، فإن إطلاق القبول والصحة على ما تفرد به الثقة أو إطلاق الضعف والرد على ما خالف فيه الثقة لمن هو أوثق منه أمر لا يقره المنطق ولا الواقع ، لأن تفرد الثقة يحتمل وقوعه من جهة الخطأ والوهم ، كما يحتمل أن يكون سببه الحفظ والإتقان فعندئذ يتوقف الحكم على معرفة القرائن الدالة على هذا أو ذاك ، وكذا مخالفته فإن السبب الذي يؤدي إلى ظهورها في رواية الثقة يمكن أن يكون الخطأ والوهم ويمكن أن يكون الحفظ والإتقان ، فالحكم على ما خالف الثقة لمن هو أوثق منه متوقف على تعيين سبب المخالفة وهذا واضح جلي مما ذكره ابن الصلاح ـ رحمه الله ـ في مبحث العلة ، دون أن نحتاج إلى مراجعة منهج المحدثين في التصحيح والتعليل .
يقول ابن الصلاح : الحديث المعلل : الحديث الذي اطلع فيه على علة تقدح في صحته ، مع أن ظاهرة السلامة منها ، ويتطرق ذلك إلى الإسناد الذي رجاله ثقات ، الجامع شروط الصحة من حيث الظاهر ، ويستعان على إدراكها بتفرد الراوي وبمخالفة غيره له ، مع قرائن تنظم إلى ذلك تنبه العارف بهذا الشأن على إرسال في الموصول أو وقف في المرفوع ، أو دخول حديث في حديث أو وهم لغير ذلك بحيث يغلب على ظنه فيحكم به أو يتردد فيتوقف فيه(2) .
فابن الصلاح ـ رحمه الله ـ يذكر ضمن تحرير معنى العلة ما يشير إلى الأبعاد الحقيقية لكثير من المسائل الأساسية الكامنة في تفرد الثقة وزيادته ومخالفته ، والمعمول به منها لدى المتقدمين ، كما أنه يلمح إلى الأسس العلمية التي يتبنى عليها منهج النقد عند النقاد غير أننا أغفلناها لكثرة ولوعنا بجانب حفظ المصطلحات وتحقيق معانيها دون فهم مسائلها لأن ذلك يحتاج إلى قليل من التريث ، وربط المسائل المتشابهة بعضها ببعض ، وعرضها على الواقع العلمي لمنهج نقاد الحديث المتقدمين .
وخلاصة ما ذكره ابن الصلاح أن العلة هي ما دل على الخطأ والوهم ، وأنها تتطرق كثيراً إلى رواية الثقات ، وأنها تدرك بتفردهم ـ وهم الثقات ـ أو بمخالفتهم للغير إذا انضمت إليه القرائن التي تنبه الناقد على أن هذا التفرد والمخالفة ناتجان عن الخطأ والوهم ، وهذا في الواقع مانع لإطلاق القبول فيما تفرد به الثقة أو فيما زاده كما هو مانع لإطلاق الرد فيما خالف الثقة لغيره ، وإنما مدار القبول والرد على القرائن العلمية التي لا يحصيها العدد ، والتي لا يقف عليها إلا الناقد المتمرس الفطن ، إذ لكل حديث قرينة خاصة ، كما صرح بذلك المحققون(3) مثلاً كون الراوي أوثق أو أحفظ قرينة اعتمد عليها النقاد ، لكنهم لم يعتبروها في كافة الروايات ، وجميع الأحاديث ، وهكذا … ، وإدراك القرينة المرجحة لا يتم إلا للناقد صاحب الذوق الحديثي ، لهذا قال الحاكم وغيره : (( الحجة فيه ـ أي في معرفة خطأ الراوي ـ عندنا الحفظ والفهم والمعرفة لا غير(4) .
وفي ضوء ما سبق تبين لنا أن المسائل التي فصلها ابن الصلاح في مبحث الشاذ لا يصلح الاعتماد عليها إلا بربطها بما ذكره في مبحث العلة ، لأنها لم تؤسس إلا على الظواهر وأحوال الرواة ، وستفاد مما تقدم أن التفرد أو المخالفة ينبغي قيدها إذا وقع إطلاقهما في تعريف مصطلح ما ، وذلك بحسب انضمام القرائن إليهما ، وكذا في تحرير أحكام القبول والرد فيهما .
إن المسألة التي حررها الإمام ابن الصلاح في مبحث الشاذ متصلة بزيادة الثقة وتفرده ، والعلة ، عموماً ، ويرجع أساسها إلى حالتين ، وهما حالة التفرد ، وحالة المخالفة ، ولكون كل منهما ، لا يتحقق إلا لأسباب متنوعة مثل صدق الراوي وإتقانه ، ومثل وهمه وخطئه ، ومثل كذبه وافترائه ، فإن إطلاق القبول والصحة على ما تفرد به الثقة أو إطلاق الضعف والرد على ما خالف فيه الثقة لمن هو أوثق منه أمر لا يقره المنطق ولا الواقع ، لأن تفرد به الثقة يحتمل وقوعه من جهة الخطأ والوهم ، كما يحتمل أن يكون سببه الحفظ الإتقان فعندئذ يتوقف الحكم على معرفة القرائن الدالة على هذا أو ذاك ، وكذا مخالفته في السبب الذي يؤدي إلى ظهورها فر رواية الثقة يمكن أن يكون الخطأ والوهم ويمكن أن يكون الحفظ والإتقان ، فالحكم على ما خالف الثقة لمن هو أوثق منه متوقف على تعيين سبب المخالفة وهذا واضح جلي مما ذكره الإمام ابن الصلاح ـ رحمه الله ـ في مبحث العلة ، دون أن نحتاج إلى مراجعة منهج المحدثين في التصحيح والتعليل .
يقول ابن الصلاح : الحديث المعلل : الحديث الذي اطلع فيه على علة تقدح في صحته ، مع أن ظاهره السلامة منها ، ويتطرق ذلك إلى الإسناد الذي رجاله ثقات ، الجامع شروط الصحة من حيث الظاهر ، ويستعان على إدراكها بتفرد الراوي وبمخالفة غيره له ، مع قرائن تنظم إلى ذلك تنبه العراف بهذا الشأن على إرسال في الموصول أو وقف في المرفوع ، أو دخول حديث في حديث أو وهم واهم لغير ذلك فيحكم به أو يتردد فيتوقف فيه(5) .
فابن الصلاح ـ رحمه الله ـ يذكر ضمن تحرير معنى العلة ما يشير إلى الأبعاد الحقيقية لكثير من المسائل الكامنة في تفرد الثقة وزيادته ومخالفته ، والمعمول به منها لدى المتقدمين ، كما أنه يلمح إلى الأسس العلمية التي يتبنى عليه منهج النقد عند النقاد غير أننا أغفلناها لكثرة ولوعنا بجانب حفظ المصطلحات وتحقيق معانيها دون فهم مسائلها لأن ذلك يحتاج إلى قليل من التريث ، وربط المسائل بعضها ببعض ، وعرضها على الواقع العلمي لمنهج نقاد الحديث المتقدمين .
وخلاصة ما ذكره ابن الصلاح أن العلة هي ما دل على الخطأ والوهم ، وأنها تتطرق كثيراً إلى رواية الثقات ، وأنها تدرك بتفردهم ـ وهم الثقات ـ أو بمخالفتهم للغير إذا انضمت إليه القرائن التي تنبه الناقد على أن هذا التفرد والمخالفة ناتجان عن الخطأ والوهم ، وهذا في الواقع لإطلاق القبول فيما تفرد به الثقة أو فيما زاده كما هو مانع لإطلاق الرد فيما خالف الثقة لغيره ، وإنما مدار القبول والرد على القرائن العلمية التي لا يحصيها العدد ، والتي لا يقف عليها
إلا الناقد المتمرس الفطن ، إذ لكل حديث قرينة خاصة ، كما صرح بذلك المحققون(6) مثلاً كون الراوي أوثق أو أحفظ قرينة اعتمد عليها النقاد ، لكهنم لم يعتبروها في كافة الروايات ، وجميع الأحاديث ، وهكذا … ، وإدراك القرينة المرجحة لا يتم إلا للناقد صاحب الذوق الحديثي ، ولهذا قال الحاكم وغيره : (( الحجة فيه ـ أي في معرفة خطأ الراوي ـ عندنا الحفظ والفهم والمعرفة لا غير(7) .
وفي ضوء ما سبق تبين لنا أن المسائل التي فصلها ابن الصلاح في مبحث الشاذ لا يصلح الاعتماد عليها إلا بربطها بما ذكره في مبحث العلة ، لأنها لم تؤسس إلا على الظواهر وأحوال الرواة ، ويستفاد مما تقدم أن التفرد أو المخالفة ينبغي قيدها إذا وقع إطلاقهما في تعريف مصطلح ما ، وذلك بحسب انضمام القرائن إليهما ، وكذا في تحرير أحكام القبول والرد فيهما .
وإليك بعض النصوص المؤيدة لذلك : يقول الإمام أحمد : (( إذا أصحاب الحديث يقولون : هذا حديث غريب أو فائدة فاعلم أنه خطأ أو دخل حديث في حديث أو خطأ من المحدث ، أو حديث ليس له إسناد ، وإن كان قد روى شعبة وسفيان ))(8)
ويقول أبو داود : (( … فإنه لا يحتج بحديث غريب ولو كان من وراية مالك ويحيى بن سعيد والثقات من أئمة العلم … ))(9) .
__________
(1) مقدمته ص : 46 .
(2) نفس المصدر 53 .
(3) انظر في شرح العلل لابن رجب ص : 208 .
(4) انظر معرفة علوم الحديث ص : 112 .
(5) نفس المصدر 53 .
(6) انظر في شرح العلل لابن رجب ص : 208 .
(7) انظر معرفة علوم الحديث ص : 112 .
(8) الكفاية ، للخطيب البغدادي ، ص : 172 .
(9) رسالة أبي داود ص : 29 .(1/21)
وإذا تتبعت كتب العلل فإنك تجد الأئمة النقدة يصرحون بأوهام الثقات الكبار ، مثل شعبة والأوزاعي وسفيان بن عيينة وابن المبارك والأعمش وسفيان الثوري ووكيع ومالك ، وإنهم عرفوا خطأهم من خلال تفردهم أو مخالفتهم للغير مع انضمام القرائن الدالة على ذلك حتى تمكنوا من تحديد نوعية أخطائهم ، وأوهامهم ، ونسبة عددها .
من الحقائق العلمية المذكورة يبرز تباين منهحي بين حفاظ مرحلة الرواية ـ لا سيما نقاد الحديث ـ وبين أئمة الحديث في مرحلة ما بعد الرواية في المصطلحات الحديثية ، ومسائلها النقدية ، نظراً لما تميزت به المجموعة ، الأولى من أصلة وإبداع في مجال الرواية والنقد والجرح والتعديل . بينما تميزت المجموعة الثانية بتبعية وتقليد ، وبمجرد تحقق هذه النظرية العلمية الأساسية التي تقضي إلى الفصل بينهم في المجالات العلمية الحديثية ، لدى دارس علوم الحديث ، فإن كافة المعضلات الجوهرية والمشكلات الاضطلاحية التي ظهرت من جراء الخلط بين المتقدمين والمتأخرين تتلاشى تلقائياً ، وترتسم أمامهم معالم منهج المحدثين النقاد في تصحيح الأحاديث وتعليلها ، بكل وضح وجلاء .
ومن هنا يتحتم علينا إعادة النظر في مضامين علوم الحديث التي نتدوالها اليوم وذلك من خلال عرضها على الجوانب التطبيقية عند المتقدمين حتى يتحقق بينهما توافق وانسجام ، وتسعيد علوم الحديث مكانتها وفعاليتها وحيويتها التي تتجسد في صحيح الإمام البخاري وصحيح الإمام مسلم ، ويما أن الإمام البخاري ـ رحمه الله ـ يمثل القمة في معرفة علوم الحديث ، ودقة تطبيق قواعدها بشهادة الواقع ، فإن الدراسات التحليلية المعمقة حول شخصيته العلمية ومناهج تأليفاته تكشف لنا عن الوجه الحقيقي لمحتويات علوم الحديث عند المتقدمين .(1/22)
علوم الحديث في عصرنا والمفاهيم الخاطئة حولها
ومن تتبع البحوث العلمية في مجال علوم الحديث تخريجاً وتحقيقاً ، وتصحيحاً وتحسيناً وتضعيفاً ، وأمعن النظر في محتواها يعتريه ـ من دون شك ـ شعور قوي بأن المرحلة التي تمر بها السنة النبوية حالياً تسودها الفوضى واللامبالاة في غياب منهج علمي أساسه الذوق الحديثي ، الذي يكون ثمرة لممارسة طويلة وجهود مضنية في البحث والتقصي في هذا العلم الشريف ، بعكس ما يلاحظ في المرحلتين الماضيتين أي مرحلة الراوية وما بعد الراوية ، مما يثير الخوف والقلق على مصير هذا العلم الدقيق خاصة إذا ما استمرت هذه المظاهر السيئة ، لأنها تتسبب في بقاء المعالم الحقيقية لمنهج نقاد الحديث في كشف أوهام الرواة وفضح افتراءات المغرضين مجهولة ، وتترك حولها غموضاً كثيفاً ، وهذا دون شك يتيح فرصاً سانحة لأعداء السنة في توجيه التهم نحو المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي ، والتقليل من جهود جهابذة الحديث في حفظها وصيانتها من الكذب وفي تنقيتها من شوائب المغرضين وكذا في حمايتها من وهم وغلط الحفاظ المتقنين .
والذي نشاهد اليوم كثيراً من قبل المعاصرين أنهم عندنا يقحمون أنفسهم في ميدان الدراسات الإسنادية والحديثية ، دون بضاعة حديثية أو تأهل علمي ، ربما اغتروا بما لديهم من مواهب علمية أخرى ، فراحوا في إطار فكرة التجديد والتغيير ، يضعفون ما شاؤوا من الأحاديث خاصة الأحاديث المتشابهة والغيبيات ، حتى وإن صححها الشيخان البخاري ومسلم ، وتلقنها الأمة بالقبول ، ولعل ذلك راجع إلى مخالفتها لعقولهم أو لما فهموه من القرآن ، دون الاستناد إلى منهج علمي متين قوامه المعرفة الحديثية والفهم الدقيق لكتاب الله تعالى ، ثم تراهم يتهمون المحدثين بالعجز في اكتشاف الكذب والخطأ في المتون وإهمالها لولوعهم ـ حسب زعمهم ـ بنقد الرواة وسلسلة الأسانيد ، كما ينادون إلى ضرورة محاكمة الأحاديث إلى القرآن أو العقل ، وربما يستدلون على ذلك بما نقل عن بعض الصحابة بما يوهم ظاهره ما ذهبوا إليه ، هذا من جهة .
ومن جهة أخرى إن كثيراً من المشتغلين بالأحاديث يتسابقون إلى تخريجها أو تحقيق مصادرها يوقومون بتصحيحها أو تعليلها بصورة توهم أن علم الحديث أمور رياضية تقوم على حسابات خاصة واعتارات محددة تقاس على جميع الأحاديث فيقولون هذا صحيح لأن رجاله ثقات ، وهذا حسن لذاته لكون راويه صدوقاً ، وهذا ضعيف لضعف راويه ، وفي حالة وجود متابعة أو شاهد يقولون : تقوى هذا الحديث فأصبح صحيحاً لغيره أو حسناً لغيره ، وهكذا تحول التصحيح والتحسين والتضعيف أمراً سهلاً يتأهل الجميع لتناوله بمجرد التعرف على هذه الطريقة ، وحفظ القواعد من كتب مصطلح الحديث ، بل إنهم لا يبالون بما قد يصادفهم أثناء بحوثهم من تعليل النقاد أو تصحيحهم ، فيرفضونه بمنتهى البساطة لخروجه من التقديرات التي تقيدوا بها ، فعلى سبيل المثال : يعل النقاد حديثاً من مرويات ثقة بحجة تفرده به ، أو زيادته ، أو مخالفته لغيره ، فيأتي بعض المعاصرين ويقول : كلا إنه صحيح ورواته ثقات ، ولا يضر التفرد هنا أو لا تضر الزيادة لأن صاحبها ثقة ، وإذا صحح النقاد حديثاً من مرويات راو ضعيف أو من مرويات المدلس الذي عنعن فيه ، فيقول المعاصر : (( كلا : إن الحديث ضعيف لأن في سنده راوياً ضعيفاً ، أو عنعنة المدلس . كما هو مقرر في كتب المصطلح )) .
وهكذا تتسم دراساتهم وأطروحاتهم بالسطحيات ، بل يؤسفنا كثيراً أن ترى بعض الأساتذة يفرضون على طلبة الكتاب والسنة هذه الطريقة السطحية ، وحتى إن أحد الشيوخ في جامعة إسلامية مشهورة تجرأ وقال : (( ولو درس أبو حاتم أو غيره من الأئمة حتى البخاري دراسة وافية لما تجاوزوا ـ في نظري ـ النتائج التي توصلت إليه لأني بحمد الله طبقت قواعد المحدثين بكل دقة ، ولك آل في ذلك جهداً )) . متخذاً ذلك وسيلة لرفض كلام النقاد الجهابذة .
فمن المحدثون عنده بعد الإمام البخاري وغيره من العباقرة يا ترى ؟ وما هذه الإ صورة واضحة للخلط بين المناهج المختلفة وأصحابها كما أوضحنا .
أما مجال التحقيقات التي ينال فيها البعض كسباً رابحاً فلم تكن الجهود فيها التي يبذلها الكثيرون مما يخدم هذا العلم لعدم احترامهم قواعد التحقيق والتوثيق التي أبدعها أئمة الحديث في المرحلة الثانية ، ومن أهمها تحقيق نسبة الكتاب إلى مؤلفه ، وتقييم محتواه من خلال التركيز في الدراسة الخارجية والدراسة الداخلية ، وربما يقومون بالأولى من خلال النظر في السماعات والإجازات المسجلة في غلاف النسخة ، لكنهم يهملون الثانية في الوقت ذاته ، فبمجرد نسبة الكتاب إلى مؤلفه الإمام يندفع إلى الاعتماد عليه ، وقبوله دون نظر أو تأمل ، إن أي سعي في سبيل تقييم محتوى الكتاب من الأمور الضرورية ، لأنه يقدم توضيحات علمية هامة ، عن مدى صحة مضامينه ، ومتى أله صاحبه ، وهل هو من أوائل تأليفاته ؟ ، وهل كتبه كمذكرة لينتفع بها شخصياً أو لتنمية موهبته العلمية ؟ وهكذا … وعليه فبإهمال هذا الجانب تضيع فائدة التحقيق عموماً .
ولئن كان كثيراً من المحققين الذين برزوا في علوم الحديث يبادرون إلى الخوض في مجال التصنيف على سبيل التدريب المجرد ، فإننا نجد بعضهم بعد أن تمكنوا من العلم وصاروا أئمة بارزين فيه يتراجعون عن أوائل تأليفاتهم التي لم يستهدفوا بها إلا النفع الذاتي .
وعلى سبيل المثال : يقول الإمام الذهبي : (( كتاب مستدرك الحاكم كتاب مفيد وقد اختصرته ويعوز عملاً تحريراً ))(1) . ورغم ذلك فإننا نرجع إلى تلخيصه مقدرين قيمته العلمية باعتبار شخصيته مؤلفه الحافظ الذهبي : وتقول : (( صححه الحاكم وأقره الذهبي )) .
ويقول الحافظ : (( لست راضياً عن شئ من تصانيفي لأني عملتها في ابتداء الأمر ثم لم يتسن لي تحريرها سوى (( شرح البخاري )) (( ومقدمته )) (( والمشتبه )) (( والتهذيب )) (( ولسان الميزان )) ، وأما سائر المجموعات فهي كثيرة العدد واهية العدد ضعيفة القوى خافية الرؤى(2) .
هذه بعض المظاهر السلبية التي تطغى على إيجابيات المرحلة الجديدة التي تمر بها السنة النبوية اليوم في ظل القطيعة مع مناهج المتقدمين في نقد الروايات ، وقواعد علوم الحديث المطبقة عندهم ، ولعل سببها ـ كما حققنا سابقاً ـ يعود على الاتكال على كتب المصطلح التي صدرت في مرحلة ما بعد الراوية ، والتي تميزت بتركيزها في جانب المصطلحات وتعاريفها ، حيث أخفقت في الجوانب الأساسية التي من شأنها إبراز الواقع العلمي للتطبيقات العلمية لنقاد الحديث ، حتى إن علوم الحديث التي تداولها الإمام البخاري وغيره من فرسان الحديث أصبحت مجهولة ، وقواعدها غير واضحة ، ومصطلحاتها المستخدمة في النقد غير مفهومة مما دفع إلى التباس مناهج المتقدمين والمتأخرين واختلاط الأصول والفروع بحيث إنها تتمحض عن تلك المظاهر السلبية التي نشاهدها اليوم .
والذي يتراءى لنا من علاجها أنه يجب إبراز منهج المتقدمين النقدة في تصحيح الأحاديث وتعليلها ، كما يجب علينا كشف الغطاء عن الوجه الحقيقي لمحتويات علوم الحديث عند المتقدمين .
القسم الثاني
وهو مخصص لإبراز علوم الحديث عند المتقدمين من خلال آثارهم العلمية فكانت المباحث التالية :
محتوى علوم الحديث عند المتقدمين .
أ - الجانب الفقهي .
ب - الجانب النقدي .
إسقاط النقاد لبيان بياناً مفصلاً ونشاطهم في الكشف عن العلل .
النقد الداخلي والخارجي ومجالهما .
مدى فعالية محاكمة الأحاديث إلى القرآن والمعقل .
منهج التصحيح والتعليل عند المتقدمين .
__________
(1) سير أعلام النبلاء 17/167 .
(2) فهرس الفهارس 1/337 للكتاني ، وقد قرأت النص في المعجم النفهرس للحافظ ابن حجر ، المخطوط في مكتبة جامعة أم القرى بمكة المكرمة .(1/23)
محتوى علوم الحديث عند المتقدمين
أولاً الجانب الفقهي :
نتيجة لسطحية الكثير من أهل هذا العصر هيمنت موجة من الغموض حول ما تضمنه هذا العلم وظهرت تصورات خاطئة تجاهه كما راجت أفكار فاسدة بينهم نحو نقاد الحديث وفي مقدمتهم الإمام البخاري . ومن بين هذه الأفكار كون بضاعة المحدثين زهيدة في الفقه ، كما أنهم قليلو العناية بالتفقه والنظر في المتون ، وكثيرو الاهتمام بنقد الإسناد وجرح الرواة وتعديلهم ، حتى كتب بعضهم : (( ترى البخاري نفسه ، على جليل قدره ودقيق بحثه يثبت أحاديث دلت الحوادث الزمنية ، والمشاهدة التجريبية على أنه غير صحيحة لا قتصاره على نقد الرجال )) اهـ . وفي الحقيقة أن أحاديث الصحيحين ـ صحيح الإمام البخاري وصحيح الإمام مسلم ـ تلقتها الأمة بالقبول ، وفي مقدمتهم أئمة الأصول والفقه . فهذا إمام الحرمين يقول : (( لو حلف إنسان بطلاق امرأته أن ما في الصحيحين مما حكما بصحته من النبي صلى الله عليه وسلم لما ألزمته الطلاق لإجماع المسلمين على صحته ))(1) . وأقره كافة المتأخرين ، وحتى في علماء الأصول والفقه من ادعى(2) بأن ما روياه أو أحدهما فهو مقطوع بصحته ، والعلم القطعي حاصل فيه ، سوى أحرف يسيرة تكلم فيها بعض أهل النقد من الحفاظ . وجدير بالذكر أن الاستثناء من إفادة اقطع فقط .
إن المظاهر العلمية التي تميز المرحلة الأولى تقطع بأن علوم الحديث تضم جانبين : الجانب الأول ما يتعلق بمعرفة الصحيح والسقيم وجميع ملابساته ، والجانب الثاني : ما يتصل بفقه الحديث وفهم معناه ، ومن أبين البراهين التي تؤيد ذلك كتاب (( الصحيح المسند من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه أيامه )) الذي ألفه الإمام العبقري محمد بن إسماعيل البخاري في مدة استغرقت ست عشرة سنة ، وكذا ما ظهر في عصره ، وقبله ، وبعده من المصنفات والموطآت والسنن والجوامع التي تم ترتيب أحاديثها على نسق فقهي ، مما يدل على مدى اهتمام أصحابها المحدثين بالجوانب الفقهية ، ومدى تضلعهم في قواعد الاستنباط الفقهي ، ومدى قدرتهم العلمية على تمييز الصحيح من السقيم ، وكشف أخطاء الرواة فيما رووه ، وكذب المغرضين وانتحالهم .
والواقع أن صحيح الإمام البخاري يوضع فوق كافة المصادر الحديثية وذلك لاحتوائه على شقي علوم الحديث : الفقه والنقد ، بصورة دقيقة ، ومتكاملة ، فإذا كانت التراجم والعناوين في صحيحه تضم الأمور الفقهية ، والمسائل الأصولية ، التي شغف العلماء باستخراجها ، فإن قواعد تصحيح الحديث وتعليله تتبلور بشكل واضح في اختياره لأحاديث صحيحه قصد الاعتماد عليها كما أثبت ذلك كل من تتبعه من جهابذة المحدثين حديثاً حيث إنهم لم يجدوا فيها سوى دقة الإمام البخاري المتناهية ونظرة الثاقب ، فإن الأحاديث المعلولة التي اعتمد عليها البخاري نادرة جداً ، لقناعته الشخصية بصحتها كما وقع ذلك للإمام مسلم أيضاً ، فذلك أمر طبيعي جداً لا يقدر البشر رفضه مهما كانت مكانته العلمية ، وأما بقية الأحاديث المعلولة فإن الإمام البخاري أفاد بصنيعه ، ولفتته العلمية أنه سبقهم إلى معرفة عللها ، وأنه لم يذكرها للاعتماد عليه وإنما ذكرها في صحيحه لأغراض علمية جانبية فقط .
كما أبدع الإمام الترمذي ـ رحمه الله ـ في سننه بإبراز الجوانب الفقهية والنقدية فقد كان يصرح بالتصحيح والمسائل الفقهية واختلاف العلماء فيها منذ الصحابة .
إن فقهاء المحدثين منذ عصر التابعين إلى نهاية القرن الرابع تقريباً ، ومن أ[رزهم الفقهاء السبعة المشهورون بالمدينة المنورة ، وأصحاب المذاهب المذاهب المشهورة ، كانوا يشكلون طائفة تدعى بأهل الحديث في مقابل أصحاب الرأي ، وهذا كله يبرهن بكل وضوح على مدى اهتمام المحدثين النقاد بفقه الحديث .
يقول علي بن المديني ، وهو المدرسة الحديثية الرئيسية التي تخرج منها الإمام البخاري ـ رحمه الله ـ (( التفقه في معاني الحديث نصف العلم ، ومعرفة الرجال نصف العلم ))(3) .
ويقول الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ : (( إن العالم إذا لم يعرف الصحيح الصحيح والسقيم ، والناسخ والمنسوخ من الحديث لا يسمى عالماً ))(4) .
ويقول قتادة أحد أساطين الحديث : (( من لم يعرف الاختلاف لم يشم أنفه الفقه ))(5) .
ويقول سعيد بن أبي عروبة من كبار تلاميذ قتادة في الحديث : (( من لم يسمع الاختلاف فلا تعدوه عالماً ))(6) .
ويقول سفيان بن عيينة أحد كبار المحدثين : (( أجسر الناس على الفتوى أقلهم علماً باختلاف العلماء ))(7) .
ويقول عطاء بن أبي ربح : (( لا ينبغي لأحد أن يفتي الناي حتى يكون عالماً باختلاف الناء ، فإن لم يكن كذلك رد من العلم ما هو أوثق من الذي في يديه )) : يعني الفقه(8) .
وعن علي بن خشرم : (( كنا في مجلس سفيان بن عيينة فقال : (( يا أصحاب الحديث تعلموا فقه الحديث حتى لا يقهركم أصحاب الرأي ))(9) .
وفيما نقله الكتاني في مقدمة كتابه (( نظم المتناثر )) كان سفيان الثوري وابن عيينة وعبدالله بن سنان يقولون : (( لو كان أحدنا قاضياً لضربنا بالجريد فقهياً لا يتعلم الحديث ، ومحدثاً لا يتعلم الفقه ))(10) .
وعن سفيان الثوري : (( تفسير الحديث خير من الحديث ))(11) يعني سماعه وحفظه ، كما ورد عن أبي أسامه : (( تفسير الحديث خير من سماعه ))(12) .
وعن ابن مهدي : (( لو استقبلت من أمري ما استدبرت لكتبت بجنب كل حديث تفسير ))(13) ، وعن ابن عيينة : وهو يحدث بحديث الزهري : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( من استنشق فلنثر ، ومن استجمر فليوتر )) قال سفيان : (( لا تدرون ولا تسألون )) قال رجل : ترضى بقول مالك ؟ فقال سفيان : (( ألا تعجبون من هذا ؟ يقولون لي : ترضى بقول مالك ؟ أتدري ما مثلي ومثل مالك ؟
إنما مثلي ومثل مالك ، كما قال جرير :
وابن اللبون إذا ما لز في قرن لم يستطع صولة البزل القناعيس
فما قال مالك ؟ هو الاستنجاء ، قال : (( فهو كما قال ))(14) .
إن الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ يعتبر أول من وضع كتاباً في أصول الفقه والحديث ، وهو ما يعرف (( بالرسالة )) ، وذلك تلبية لرغبة أبداها عبدالرحمن بن مهدي ، إذ كتب إليه عبدالرحمن بن مهدي ، أحد أركان الحديث ، وهو شاب ، أن يضع له كتاباً ، فيه معاني القرآن ، ويجمع قبول الأخبار فيه ، وحجة الإجماع ، وبيان الناسخ والمنسوخ من القرآن والسنة فوضع له كتاب الرسالة(15) .
وقال علي بن المديني : قلت لمحمد بن إدريس الشافعي : أجب عبدالرحمن بن مهدي عن كتابه فقد كتب إليه يسألك ، وهو متشوق إلى جوابك ، فأجابه الشافعي ، وأرسل الكتاب إلى ابن مهدي مع الحارث بن سريج القفال الخوارزمي(16) .
يقول العلامة أحمد شاكر : (( هو أول كتاب ألف في أصول الفقه ، بل هو أول كتاب ألف في أصول الحديث أيضاً )) ، إن أبواب الكتاب ومسائله التي عرض الشافعي فيها الكلام على حديث الواحد والحجة فيه ، وعلى صحة الحديث وعدالة الرواة ، ورد الخبر المرسل والمنقطع إلى غير ذلك ، وهذه المسائل عندي أدق وأغلى ما كتب العلماء في أصول الحديث ، بل إن المتفقه في علوم الحديث يفهم أن ما كتب بعده إنما هو فروع منه وعالة عليه ، وإنه جمع ذلك وصنفه على غير مثال سبق(17) .
وكذا ألف الإمام الشافعي في اختلاف الحديث ثم تبعه ابت قتيبة أو يحيى زكريا بن يحيى الساجي ، والطحاوي وابن الجوزي ، كل هذا دليل على مدى اهتمام المحدثين النقاد بالجوانب الفقهية والأصولية ، إن مجال عنايتهم بالتفقه وأصول الاستنباط مجال واسع يستحق أن يخصص له بحث أكاديمي .
وهذا الإمام الحاكم يلفت الانتباه إلى ذلك بقوله : (( من علم الحديث معرفة فقه الحديث ، إذ هو ثمرة هذه العلوم ، وبه قوام الشريعة ، فأما فقهاء الأسلام أصحاب القياس والرأي والاستنباط والجدل والنظر فمعروفون في كل عصر وأهل كل بلد ، ونحن ذاكرون بمشيئة الله في هذا الموضع فقه الحديث عن أهله ليستدل بذلك على أن أهل هذه الصنعة من تبحر فيها لا يجهل فقه إذ هو نوع من أنواع هذا العلم))(18) .
وكذا الخطيب البغدادي يؤد ذلك بقوله : (( وقد استفرغت طائفة من أهل زماننا وسعها في كتب الأحاديث ، والمثابرة على جمعها من غير أن يسلكوا مسلك المتقدمين وينظروا نظر السلف الماضيين في حال الراوي والمروي وتمييز سبيل المرذول والمرضي واستنباط ما في السنن من الأحكام وإثارة المستودع فيها من الفقه بالحلال والحرام … وأما المتحققون فيه المتخصصون به فهم الأئمة العلماء والسادة الفهماء أهل الفضل والفضيلة والمرتبة الرفيعة حفظوا على الأمة أحكام الرسول وأخبروا من أنباء التنزيل ، وأثبتوا ناسخه ومنسوخه ، وميزوا محكمه ومتشابهه ودونوا أوقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وضبطوا على اختلاف الأمور أحواله في يقظته ومنامه وقعوده وقيامه وملبسه ومركبه ومأكله ومشربه ))
(( … ولولا عناية أصحاب الحديث وضبط السنن وجمعها واستنباطها من معادنها والنظر في طرقها لبطلت الشريعة ، وتعطلت أحكامها إذ كانت مستخرجة من الآثار المحفوظة ومستفادة من السنن المنقولة … ))(19) .
فهذه النصوص ، وطبيعة الحركة العلمية المكثفة في المرحلة الأولى ، تؤكد على أن فقه الحديث نصف علوم الحديث ، ومن ثم فإن جميع كتب علوم الحديث المطولة كمعرفة علوم الحديث للحاكم ، والكفاية للخطيب البغدادي وسائر كتب المصطلح تحوي مبحث الناسخ والمنسوخ ، ومبحث مختلف الحديث وغريب الحديث ، ومبحث الترجيح ، ومبحث حجية السنة ، بل أصبحت من أهم القضايا التي عالجتها معظم كتب علم الحديث .
غير أن الاهتمام الفقهي لدى أئمة الحديث لم يدم طويلاً فبمجرد أن بدأ علم الفقه وعلم الأصول يعرفان شيئاً من التطور في المرحلة الثانية حتى أخذ كل واحد منهما يتفصل عن علوم الحديث ، وأصبح كل من هذه العلوم الثلاثة علماً مستقلاً ، قائماً بذاته وعلماً بأن المرحلة الثانية لم تشهد من نبحر فيها جميعاً كما شهدته المرحلة الأولى ، فإذا تخصص أحد في الأصول فبضاعته في الحديث والفقه قليلة ، وإن كان اهتمامه في الفقه أكثر فإن علوم الحديث وأصول الفقه لا تحظى منه بالعناية المطلوبة وإن كان محدثاً فصلته بالعلوم الأخرى تكاد تكون منعدمة .
فمرحلة ما بعد الراوية تتميز إذن بهذه المظاهر العامة التي تفصل كلا من العوم الثلاثة عن بعضها في اهتمام العلماء وتكوينهم العلمي . بخلاف المرحلة الأولى ، ولعل ذلك لكثرة التدقيق والتحقيق في الجوانب التي يتخصص فيها ؛ لكن الغريب أن يأتي البعض ليخلط بين المتقدمين والمتأخرين ، ويعمم هذه الظاهرة عليهم جميعاً .
__________
(1) ه السيوطي في تدريب الراوي 1/131ـ 132 .
(2) ن الصلاح وغيره ، انظر التدريب 1/131ـ 135 .
(3) سير أعلام النبلاء 11/48 .
(4) حكاه الحاكم في معرفة علوم الحديث ص : 60
(5) جامع بيان العلم لابن عبدالبر2/46 .
(6) المصدر السابق
(7) نفسد المصدر
(8) نفسد المصدر
(9) معرفة علوم الحديث ص : 66 .
(10) نظم المتناثر من الحديث المتواتر ص : 3 .
(12) أدب الإملاء ، للسمعاني ص : 135 .
(14) أدب الإملاء للسمعاني ص : 135 .
(15) ه الخطيب البغدادي في تاريخه : 2/64ـ65 .
(16) نتفاء ، لابن عبدالبر ص : 72ـ73 .
(17) مقدمة الشيخ أحمد شاكر للرسالة ، ص : 13 .
(18) معرفة علوم الحديث ص : 66 .
(19) فاية ص : 18ـ22 .(1/24)
ومن هنا أصبح تعريف علوم الحديث الذي وضعه بعض المتأخرين مثل الشيخ (( عز الدين بن جماعة والحفظ بن حجر ))(1) غير متضمن للجوانب الفقهية ، وكذا حسب تقسيم ابن الأكفاني ـ أحد أطباء مصر وحكمائه ـ لهذا إلى علم الحديث الخاص بالراوية وعلم الخاص بالدراية(2) لم يكن شاملاً للجانب الفقهي بشكل واضح ولا مراعياً لتلك الأهمية التي أولاها المتقدمون لذلك ، وقد قبل الناس بعده هذا التقسيم ، وهم وإن اضطربوا في تعريف كل قسم منهما إلا أنهم يكادون يتفقون على إهمال ذكر الفقه ، بيد أن صاحب كشف الظنون قد أجاد حين قال : (( علم الحديث ينقسم إلى العلم برواية الحديث وهو علم يبحث فيه عن كيفية اتصال الأحاديث بالرسول عليه الصلاة والسلام منن حيث أحوال رواته ضبطاً وعدالة ومن حيث كيفية السند اتصالاً وانقطاعاً وغير ذلك ، وقد اشتهر بأصول الحديث ، وإلى العلم بدراية الحديث وهو علم باحث عن المعنى المفهوم من ألفاظ الحديث وعن المراد منها مبنياً على قواعد العربية وضوابط الشريعة ومطابقاً لأحوال النبي صلى الله عليه وسلم(3) .
وجدير بالذكر أن الجوانب الفقهية ، ومعرفة الصحيح والسقيم لم تكن محل عناية عند كافة المحدثين في المرحلة الأولى ، بل إن الكثيرين منهم لا تهمهم إلا عملية الراوية وضبطها وحفظها ، غير أن هؤلاء كفوا عن الخوض في نقد الأحاديث ، وأما النقاد فيختلفون عنهم في التكوين العلمي بصورة واضحة ، وحفاظ الحديث الذين تمكنوا من علوم الحديث بشقيها ـ فقه الحديث ، ومعرفة الصحيح والسقيم ـ هم وحدهم الذين سبروا أغوار النقد ، وهم بعينهم محل اعتبارنا في البحث . وإن تصحيح الأحاديث وتعليلها لا يتأتى لأحد دون التكوين العلمي المزدوج كما نوضح ذلك قريباً .
وعلى كل فإن علوم الحديث عند المتقدمين تضم الجوانب الفقهية بقدر ما تضم معرفة الصحيح والسقيم ، وإنهم كانوا يولون أهمية بالغة للفقه كما يظهر ذلك جلياً من نصوصهم وأعمالهم العلمية ، وخاصة صحيح الإمام البخاري ، وفي ضوء هذا فإن الاتهامات الموجهة إلى نقاد الحديث أمثال الإمام البخاري من نقص الفقه فهي نتيجة للغموض في محتويات علوم الحديث ، ويأتي ـ إن شاء الله ـ في سياق حديثنا أن التفقه أمر ضروري للقيام بنقد الأحاديث .
__________
(1) نقلهما السيوطي في مقدمته لتدريب الراوي 1/41 .
(2) نفسد المصدر .
(3) مقدمة تحفة الأحوذي ص : 2 .(1/25)
ثانياً الجانب النقدي :
لم تكن علوم الحديث في المرحلة الأولى تلك المصطلحات التي تحفظ بتعاريفها ، وتردد بحروفها ، دون استيعاب واف لأبعادها ومراميها ، وإنما كانت عبارة عن حصيلة علمية يتحصل عليها المحدث البارع الفطن ، ثمرة لخبرته الحديثية الطويلة وتتبعه الدؤوب للأسانيد والمتون ، شرحاً ومقارنة ، ونتيجة لممارسته المستمرة بجمع الروايات وغربلتها وعرضها على الواقع المعروف والمحفوظ ، إلى أن تثمر تلك الممارسات والخبرة في ميدان الحديث ذوقاً حديثياً بهيمن على أحاسيسه وبطبع مشاعره ، ومعروف أن علوم الحديث كانت تتجلى عند النقاد في جانبها التطبيقي أكثر منه في جانبها النظري .
فالسبيل الوحيد للتعرف على الجانب النقدي الذي يشكل أهم جوانب علوم الحديث في المرحلة الأولى وللوقوف على معالمه الحقيقية ، هو دراسة صحيح الإمام البخاري ، وصحيح الإمام مسلم دراسة تحليلية معمقة ، لأن كل واحد منهما يعتبر ميداناً تطبيقياً لذلك ، وبالإضافة إلى دراسة الصحيحين يجدر بالباحث المدقق إجراء المقارنة بالتاريخ الكبير للإمام البخاري ، وكتاب العلل الكبير للإمام الترمذي ، وكتاب التمييز للإمام مسلم وسائر كتب العلل التي تحتوي على القدر الأكبر من الروايات المعلولة ، والتي تعتبر من بقية المرويات التي اصطفى منها الإمامان تلك الأحاديث الصحيحة على أسس علمية متينة ، بحيث تبرز الدراسة ما أودع كل منهما في تضاعيف الصحيحين من الفوائد الإسنادية ، والنقدية ، ومدى تبلور المنهج العلمي لديهما في معرفة الصحيح والسقيم وكشف أوهام الرواة بل حتى ضروب الأخطاء التي وقع فيها الأئمة الأجلاء ، فضلاً عن دحض افتراءات المغرضين وحيلهم وانتحالاتهم .
ولفاحص مدقق أن يستنتج بسهولة بأن الإمام البخاري وغيره إذا كانوا يصححون من أحاديث الثقة ما تفرد به حيناً ، ويعلونه حيناً آخر ، أو إذا كانوا يردون أحاديث الضعفاء ويصححونها في مرات عديدة فذلك يدل على أن معيار قبول الحديث وتصحيحه ، ورده وتعليله ، لا يكون بحسب أحوال الرواة ، ولا ظاهر الإسناد فقط ، وإنما الأساس في ذلك مجموعة من المعطيات العلمية التي يستشفها الناقد من الرواية ومناسبتها من خلال الجمع والعرض والحفظ إلى جانب معرفته وفهمه ، والتي تكسب في نفسه قناعة ذاتية حول صحة الحديث ، وإصابة كل راو من رواته في نقلة عمن فوقه ، كما ستوضحه قريباً إن شاء الله .
وبما أن معظم المتأخرين لم يمارسوا قواعد التصحيح والتعليل كالمتقدمين ، فإن المسائل التي قاموا بتنظيرها فيما يتعلق بقبول الحديث ورده ، ظهرت في طابع شكلي عن العمق العلمي ، وقد فصلت أحكام هذه المسائل في مواضع من كتب المصطلح ، مثل مبحث الحسن ، وزيادة الثقة ن، والإفراد ، والغريب ، والشاذ ، والمنكر ، على أساس ظواهر الإسناد وأحوال رواته ، ولم يتعدوهما ، مما أسفر عن ظهور منهج جديد لديهم ـ لا سيما المعاصرين ـ كبديل عن منهج النقدة ، ويتسم هذا المنهج بفصل الإسناد عن المتن ، والحكم على الإسناد دون المتن وربما دفعهم إلى ذلك شعورهم بفقدان المعرفة الحديثية وعجزهم عن القيام بجمع الطرق واستيعابها ، أو ربما لإنعدام النظر الثاقب عندهم في الملابسات المحيطة بكل رواية .
يقول ابن الصلاح ـ رحمه الله ـ قد يقال : هذا حديث صحيح الإسناد ، ولا يصح ، لكونه شاذاً أو معللاً(1) .
ويقول النووي ـ رحمه الله ـ قد يصح أو يحسن إسناده أو يحسن الإسناد دون المتن لشذوذ أوعلة(2) .
ويقول الطيبي : قولهم صحيح أو حسن ، وقد يصح إسناده أو يحسن دون متنه لشذوذ أوعلة(3) .
ويقول ابن القيم : (( قد علم أن صحة الإسناد شرط من شروط صحة الحديث ، وليست موجة لصحة الحديث فإن الحديث إنما يصح بمجموع أمور منها صحة سنده ، وانتفاء علته ، وعدم شذوذه ونكارته ، وأن لا يكون روايه قد خالف الثقات أو شذ عنهم ))(4) .
ويقول ابن كثير : والحكم بالصحة أو الحسن على الإسناد لا يلزم منه الحكم بذلك على المتن ، إذ قد يكون شاذاً أو معللاً(5) ويقول العراقي : (( والحكم للإسناد بالصحة أو الحسن دون الحكم للمتن رأوا ))(6) .
ويقول السحاوي : (( إذ قد يصح أو يحسن الإسناد لثقة رجاله دون المتن لشذوذ أو علة))(7) .
ويقول السيوطي : (( قد يصح أو يحسن الإسناد لثقة رجاله دون المتن لشذوذ أو علة ))(8) .
فهذه النصوص لا تعني ـ بداهة ـ سوى بيان أحوال الرواة بأنهم ثقات أو منهم صدوق ، ولذلك فإنه لا يقتضي صحة الحديث إلا إذا تحقق خلوه عما يدل على الخطأ والوهم ، غير أن هذه النصوص ساعدت على انتشار ظاهة فصل الإسناد عن المتن في الحكم لدى المتأخرين ، ولا سيما لدى المعاصرين . حيث كان تصحيحهم وتحسينهم وتضعيفهم مبنياً على ظواهر الإسناد وأحوال رواته ، بغض النظر عن متنه ، وترسخ ذلك في عملهم ، حتى إذا أعل النقاد في نختلف العصور ما تفرد به ثقة أو صدوق ، بحجة تفرده به ، أو إذا أعلوا ما زاده عن الآخرين بحجة عدم وجود المتابعة له ، يرفضونه بمنتهى البساطة لخروجه من حدود منهجهم الذي يؤسس على ظواهر الإسناد وأحوال رواته ، كما توجه إلى ذلك كتب المصطلح ، وقد يصرحون بذلك أحياناً بقولهم : (( كما هو مقرر في كتب المصطلح )) .
بل إنهم يشطون في الاحتجاج بما صححوا على طريقة سطحية ، وعلى نظرية فصل الإسناد عن المتن . وهذا من الخطورة بمكان ، حيث يؤدي ذلك إلى انتشار الأحاديث الخاطئة في ألسنة الناس ، وانتشار البدع والخرافات في سلوكهم باعتقادهم أنها سنة ، كما يؤدي إلى غياب منهج النقاد في تصحيح الأحاديث وتعليلها عن اهتمام الباحثين بشكل نهائي .
وفي ظل هذه التحولات المنهجية التي شهدتها المرحلة الثانية في مجال تصحيح الأحاديث وتضعيفها وتحسينها ، وفي غياب منهج المتقدمين ، الذي لا يفصل الإسناد عن المتن حكماً ولا اعتباراً ، عن الساحة العلمية ، نشط المستشرقون في نشر ما يدعو إلى التشكيك حول السنة النبوية بدعوى أن المحدثين اقتصروا على الدراسة الخارجية في التصحيح والتعليل ، حيث إنهم نظروا بدقة متناهية إلى السند ورجاله دون المتون وما قد يقع فيها من كذب وافتراء وانتحال من قبل المتهمين والمغرضين ، وتغلغلت هذه الفكرة الخاطئة في عروق بعض أبناء هذه الأمة فكتب واحد منهم فقال :
(( إن المحدثين عنوا عناية فائقة بالنقد الخارجي ، ولم يعنوا هذه العناية بالنقد الداخلي ، فقد بلغوا الغاية في نقد الحديث من ناحية رواته جرحاً وتعليلاً ، فنقدوا رواة الحديث بأنهم ثقات أو غير ثقات ، وبينوا مقدار درجتهم في الثقة وبحثوا هل تلاقى الراوي والمروي عنه ، أو لم يتلاقيا ، وقسموا الحديث باعتبار ذلك ونحوه إلى حديث صحيح وحسن ضعيف ، ولكن لم يتوسعوا كثيراً في النقد الداخلي ، ولم يعوضوا لمتن الحديث هل ينطبق على الواقع أو لا ؟ ولم يتعرضوا كثيراً لبحث الأسباب السياسية التي قد تحمل على الوضع ، فلم يرهم شكواً كثيراً في أحاديث لأنه تدعم الأموية أو العباسية أو العلوية، ولا درسوا دراسة وافية عن البيئة الاجتماعية في عهد النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين والأمويين والعباسيين وما طرأ عليها من خلاف ، ليعرفوا هل الحديث يتمشى مع البيئة التي حكى أنه قيل فيها أو لا ؟ ولم يدرسوا كثيراً بيئة الراوي الشخصية وما قد يحمله منها على الوضع وهكذا ، وإنهم اتجهوا كثيراً إلى نقد المتن وأوغلوا فيه إيغالهم في النوع الأول لا تكشفت أحاديث كثيرة وتبين وضعها مثل كثير من أحاديث الفضائل ، وهي أحاديث رويت في مدح الأشخاص والقبائل والأمم والأماكن تسابق المنتسبون لها إلى الوضع فيها وشغلت حيزاً من كتب الحديث(9) .
وكتب آخرون ما يشبهه ، وحتى إن الذين داعفوا عن منهج النقد عند المحدثين أقروا بأن نقد المتون عندهم واضح ، وأن للأصولين والفقهاء جهداً بارزاً في هذا الجانب .
وهذا ما كتبه بعضهم :
(( إن المحدثين قد أًلوا المقاييس التي يعرف بها مدى صحة تلك الأسانيد ، وكان نقدهم للرجال وتتبعهم لأحوالهم عملاً عظيماً . وكتبهم في أحوال الرجال وعلل الحديث كثيرة جداً ، وفيها نقد مفصل وأسس مؤصلة يراعونها عند نقدهم أسانيد الأحاديث المختلفة ، لكن من يطالع كتب العلل والرجال لا يجد فيها نقداً لمتون الحديث ، أما كتب الموضوعات فلعل ابن الجوزي من أوائل الذين جمعوا بين الأمرين ، فكان ينقد الحديث أولاً بالنظر إلى إسناده ثم يعقبه غالباً بنقد متنه ، وتابعه في ذلك كثير من المحدثين ، حتى جاء ابن القيم فذكر القواعد والأمارات التي يعرف بها وضع الحديث بالنظر إلى متنه ، وكتب في ذلك كتابه : (( المنار المنيف )) ، وكانت مقاييس المحدثين في نقد المتون غير واضحة لمن يطالع كتبهم ومصنفاتهم فلم يفردوها بالتدوين ، وليس في ذلك ـ فيما أعلم ـ غير كتاب ابن القيم مع أن كتبهم في علل الحديث من الكثرة بمكان ، وبالاطلاع على دراسات الفقهاء والأصوليين لمتون السنة ظهر أن لهم جهداً مبذولاً في هذا الجانب حيث تتضح عندهم مقاييس نقد المتون وضوحاً تاماً اهـ(10) .
وهكذا غابت المعالم الحقيقية لمنهج النقاد في نقد الأحاديث بشكل نهائي ، ومن هنا ارتفع نداء بضرورة محاكمة الأحاديث للقرآن أو العقل حتى ولو صححها الإمام البخاري ومسلم ، والجدال في هذا الجانب كثير ، وإني أقول ـ بكل تأكيد ـ إن هذه المواقف السلبية مصدرها ما ذكرناه سابقاً ، وهو الخلط الفاحش بين المتقدمين والمتأخرين ، والمعاصرين ، في المناهج والمفاهيم ، وسوء الفهم والتصور حول منهج نقدة الحديث ، والاعتماد على الظاهرة العلمية التي عمت بحوث المتأخرين ، والمعاصرين ، والتي تتمثل في فكرة فصل السند عن المتن ، والحكم على السند بغض النظر عن المتن ، مما يلح علينا توضيح الجانب النقدي عند المتقدمين .
__________
(1) مقدمة ابن الصلاح ص : 23 .
(2) التقريب للنووي 1/161 .
(3) الخلاصة ص : 43 .
(4) الفروسية ص : 64 .
(5) الختصار علوم الحديث ص : 43 .
(6) التبصرة والتذكرة 1/107 .
(7) فتح المغيث 1/62 .
(8) تدري الروي 1/161 .
(9) د الأمين في ضحى الإسلام 2/130ـ132 .
(10) مقاييس نقد المتون للدكتور الفاضل مسفر الدميني .(1/26)
إسقاط النقاد لبيان الوضع بياناً مفصلاً ونشاطهم في الكشف عن العلل
والجدير بالذكر أن نقاد الحديث كانوا يتنزهون عن تداول الأحاديث المكذوبة ، والغرائب المنكرة الباطلة ، رواية أو كتابة ، حيث إن تداولها يعتبر مدعاة لطعن صاحبه ، وسقوط عدالته ، كما تشهد بذلك كتب التراجم ، ونسوق هنا بعض ما ورد في هذا المجال(1) .
يقول الأعمش : (( كانوا يكرهون غريب الحديث ، وغريب الكلام )) .
وعن أبي يوسف : (( من طلب غرائب الحديث كذب )) .
وقال أبو نعيم (( كان عندنا رجل يصلي كل يوم خمسمائة ركعة سقط حديث في الغرائب )) .
وقال عمرو بن خالد سمعت زهير بن معاوية يقول لعيسى بن يونس : (( ينبغي للرجل أن يتوقى راوية غريب الحديث ، فإني أعرف رجلاً كان يصلي في اليوم مائتي ركعة ما أفسده عند الناس إلا راوية غريب الحديث )) .
ويقول شعبة : (( لا يجيئك الحديث الشاذ إلا من الرجل الشاذ )) .
ويقول الإمام أحمد : (( تركوا الحديث وأقبلوا على الغرائب ما أقل الفقه فيهم ، ولا تكتبوا هذه الأحاديث الغرائب فإنها مناكير وعامتها عن الضعفاء )) .
ويقول الخطيب : (( أكثر طالبي الحديث في هذا الزمان يغلب عليهم كتب الغريب دون المشهور وسماع المنكر دون المعروف والاشتغال بما وقع فيه السهو والخطأ من رواية المجروحين والضعفاء حتى لقد صار الصحيح عند أكثرهم مجنياً ، والثابت مصدوفاً عنه مطرحاً ، وذلك لعدم معرفتهم بأحوال الرواة ومحلهم ، ونقصان عملهم بالتمييز ، وزهدهم في تعلمه ، وهذا خلاف ما كان عليه الأئمة من المحدثين الأعلام من أسرفنا الماضيين(2) .
وقال يزيد بن أبي حبيب : (( إذا سمعت بالحديث فانشده كما تنشد الضالة ، فإن عرف وإلا فدعه )) .
فكراهتهم لرواية الأباطيل ، وطعنهم فيمن يشتغل بها أمر عادي ومشهور ، ومن ثم فلم تقع تلك الأباطيل في مروياتهم ولا في مسانيدهم ولا في مصنفاتهم ، إلا نادراً ، وربما يرجع وقوعها إلى الغفلة والتساهل ، أو إلى تصرف أجنبي ، وربما يتعرضون لبعض المرويات المنكرة الباطلة لغرض القدح في أصحابها ، مثل ما يوجد في كتب الضعفاء ككتاب (( المجروحين )) لابن حبان ، وكتاب (( الضعفاء )) ااعقيلي ، وكتاب (( الكامل )) لابن عدي ، وكتاب (( الميزان )) للذهبي .
وقد أجاد الحافظ ابن حبان في كتابه (( المجروحين )) إذ فصل ذلك في تراجم المتروكين : قال ابن حبان في ترجمة عمر بن راشد القرشي : (( يضع الحديث على مالك وابن أبي ذئب وغيرهما من الثقات ، لا يحل ذكره في الكتب إلا على سبيل القدح فيه ، فكيف الرواية عنه ؟ ))(3) .
وقال في ترجمة عثمان بن معاوية : (( يروي عن ثابت البناني الأشياء الموضوعة التي لم يحدث بها ثابت قط ، لا تحل الرواية عنه إلا على سبيل القدح فيه))(4) .
وقال في ترجمة حبيب بن أبي حبيب الخرططي : لا تحل كتابة حديثة ولا الرواية عنه إلا على سبيل القدح فقه ))(5) .
وذات يوم رأى أحمد بن حنبل يحيى بن معين يكتب صحيفة معمر عن أبان عن أنس ، فإذا اطلع عليه إنسان كتمه ، فقال له أحمد : تكتب صحيفة معمر عن أبان عن أنس ، وتعلم أنها موضوعة . فلو قال لك قائل : أنت تتكلم في أبان ثم تكتب حديثه على الوجه ؟ قال : رحمك الله يا أبا عبد الله أكتب هذه الصحيفة عن عبد الرزاق عن معمر على الوجه فأحفظها كلها ، وأعلم أنها موضوعة ، حتى لا يجئ إنسان بعده ، ويجعل بدل (( أبان )) (( ثابتاً )) ويرويها : (( عن معمر عن ثابت عن أسن )) ، فأقول له : كذبت ، إنما هي أبان لا ثابت(6) .
بل إن من النقاد من سارع إلى إحراق ما كتبوا من الأحاديث الموضوعة ، والباطلة ، أو إلى تمزيقها بعد تأكدهم من وضعها وبطلانها ، وبعد استفادتهم منها معرفة الوضاعين والكذابين والمتهمين .
وما ورد عن الإمام يحيى بن معين في هذا الصدد مشهور ، فقال قال هو : (( كتبن عن الكذابين وسجرنا به التنور وأخرجنا به خبزاً نضيجاً (7)) .
وقال الإمام أحمد : (( تركنا حديث عمر بن حفص العبدي ، وخرقناه ))(8) .
وقال الإمام مسلم : (( فأما ما كان منها عن قوم هم عند أهل الحديث متهمون أو عند فلسنا نتشاغل بتخريج حديثهم ))(9).
ومن ثم كثر إطلاقهم لعبارات مثل : (( فلان متروك الحديث )) و (( فلان لا يكتب حديثه )) . وفعلاً فإن النقاد قد تركوا أحاديث المتهمين والكذابين ، ولم يشتغلوا بها ، لا روياة ولا كتابة ، بل إنهم طعنوا فيمن يهتم بجمعها وحفظها ورواتها ، ولهذا لم تقع تلك الموضوعات والأباطيل في كتبهم ومسانيدهم ومصنفاتهم ، إلا نادراً جداً ، ولعل ذلك يرجع إلى غفلة بعضهم وتساهلهم أو تعرضها لتصرفات الغير ، كما وقع في مسند الإمام أحمد . لقد زاد فيه الأحاديث كل من عبد الله بن أحمد ، وتلميذه أبي بكر القطيعي ، فظهرت فيها معظم الموضوعات التي لوحظت في المسند ، وكذلك وجدت الموضوعات في جملة من الأحاديث التي أمر الإمام أحمد ابننه عبد الله بالضرب عليها ، فضرب عليها عبد الله ، في حين نسي جملة منها .
ومن أمعن النظر في كافة المصادر الحديثية التي صنفها المحدثون المتقدمون يتبين له جلياً أنه جميعاً متفقة على تجنب الموضوعات والأباطيل ، وأحاديث المتهمين المتفق على تركهم .
بيد أن فيهم من التزم بصحيح أحاديث الثقات ، ولم يحيدوا عنها إلا لأغراض علمية وفوائد إسنادية ، وتمثل هذا النوع كتب الصحاح ، وفيهم من قطع على نفسه أن لا يورد في كتبه سوى ما رواه الثقات من شيوخه ، سواء كان متصلاً أو منقطعاً ، ويدخل في هذه الدائرة الموطأ ، وفيهم من وسع شرطه بأن لا يروي عن الكذابين والمتروكين عند الجميع ، وذلك أسلوب السنن والمسانيد والمصنفات ، مع تفاوت مراتبها ، حيث فيها ما تولى بيان العلل والوهن الشديد ، كسنن أبي داود ، وسنن النسائي ، في حين يبين الترمذي درجات الأحاديث كلها صحة وضعفاً .
وعلى كل فإن الأئمة النقاد على التزامهم بترك رواية الوضاعين والكذابين عموماً ، بينما تساهل الآخرين من غير الحفاظ في جمع الموضوعات والغرائب والأباطيل وكتابتها وروايتها ، ومن ثم أصبحت كتب التفاسير والسير والفضائل تفيض بالمنكرات والمفتريات ، مما جعل الإمام أحمد ـ رحمه الله تعالى ـ يقول : (( ثلاثة علوم لا أصل لها : التفسير والتاريخ والملاحم )) .
وإذا كان المحدثون النقاد قد اتفقوا فعلاً على ترك الموضوعات ـ رواية أو كتابة ـ واعتبروا تداولها ناقضاً للعدالة ، فإن ذلك دليل واضح على مدى تيقظهم في هذه الجوانب ـ وترصدهم لها ، ودقة نظرهم ، ونزاهة منهجهم ، ويزيدك عجباً أنهم قد استطاعوا كشف الأحاديث الموضوعة التي دست في مرويات بعض الأئمة ، أو كتبهم أو صحفهم دون شعورهم بذلك .
علماً بأنهم لم يتجنبوا تداول الموضوعات إلا بعد الاستفادة منها بمعرفة أصحابها وتحديد هويتهم بدقة بالغة ، بحيث لم ينفلت أحد منهم ، ولم يلتبس بأسماء المقبولين من الرواة ، وكان جهدهم ذاك هو الأساس عينة للإمام الجوزقاني وابن الجوزي في تأليف كتابيهما ـ (( الأباطيل )) و (( الموضوعات )) .
وأما إهمالهم لبيان الوضع فيه والكذب بشكل منهجي ، وبصورة مفصلة ، مثل ما خاضوا في ذكر علل الأحاديث ، فلم يكن نيجة تهاونهم في تقدير خطورة آثار الوضع فيها ، ولا نتيجة عجزهم في الكشف عنه ، وفضح دوافعه ، ولا نتيجة انشغالهم بالشكليات ، كما خيل إلأى الكثيرين ، وإنما لسهولة الأمر في تمييز المفتريات عن طريق أمارتها التي لا تكون خفية على طالب عادي ، سيما بعد شهرة الكذابين والمغرضين والمنتحلين بأسمائهم وألقابهم فإذا تفرد أحد من هؤلاء بشئ يخالف العقل أو الأصول الثلاثة ـ الكتاب والسنة والإجماع ـ مخالفة صريحة ، أو يتضمن ركة في المعنى ومخالفة في الموضوع لا يتناسبان ووأسلوب العقلاء فلا يشك أحد عنده شئ من العلوم الشرعية ، في وضعه وكذبه .
فلما كانت الموضوعات تخضع للقواعد الكلية ، وتضبطها الضوابط العامة ، وصار كشف الوضع عن طريقها أمراً ميسراً يكون في متناول الجميع دون عناء وتعب استغنى النقاد عن ذكر تلك الموضوعات حديثاً حديثاً ، وبيان وضعها ، واكتفوا بإشهار أصحابها رجلاً رجلاً ، وتحديد هويتهم بطرق شتى . وذلك بعد اتخاذهم من الاحتياطات اللازمة ما يضمن لهم حفظ السنة من الكذابين والنتحلين
بيد أن النقاد صرفوا عنايتهم البالغة إلى جوانب أخرى ، حيث كانت تفرض عليهم ذلك ، لما فيها من غموض وجفاء ، ألا وهي أخطاء الثقات وأواهام الضعفاء غير المتروكين ، لأن كشفها لا يخضع القاعدة كلية ، ولا يضبطها ضابط مطرد ، كما هو الحال في الموضوعات . وإنما يحتاج إلى ذوق حديثي خاص ، ولهذا انصبت عنايتهم على هذا المجال ، وعلى الخوض في كشف أخطائهم وأوهامهم وظهرت في ذلك كتب كثيرة .
وبما أن الصدق والأمانة من شيم الرواة الثقات والضعفاء المقبولين فإن أكثر ما يقع منهم من الأخطاء والأوهام تكون من جملة وصل المرسل ، أو إرسال الموصول ، أو رفع الموقوف ، أو وقف المرفوع ، أو القلب في الإسناد أو المتن ، أو الإدراج فيهما ، أو التصحيف . ومن ثم فإن هذه الأنواع هي بذاتها تشكل المواد العلمية الرئيسية في كتب العلل عموماً ، مما جعل الكثيرين يتوهمون أن المتون لم تكن محل اهتما المحدثين النقاد ونقدهم الدقيق ، وإنما كان تركيزهم على جوانب إسنادية وصار انشغالهم فيما يتصل بها من الأمور الشكلية .
__________
(1) أورده ابن رجب في شرح العلل . ص : 234ـ236 .
(2) المقصود بالغريب والشاذ الذين وقعا في هذه النصوص لم يكن بالمعنى المتعارف لدى المتأخرين ، وهو يقصدون بهما الأباطيل ، وإلا فكيف يفسر قول شعبة (( لا يجيئك الحديث الشاذ إلا من الرجل الشاذ )) ؟ .
(3) المجروحين 2/93 .
(4) نفس المصدر 2/97 .
(5) نفس المصدر 1/265 .
(6) د المصدر 1/31ـ32 .
(7) تاريخ بغداد 14/184 .
(8) ميزان الاعتدال للذهبي 3/189 .
(9) مقدمة صحيح مسلم 1/55 .(1/27)
النقد الداخلي والنقد الخارجي ومجالهما
وفيما يخص بمنهج المحدثين في دراسة الأحاديث ونقدها تبقى بعض الأمور في إثارتها للجدال ، ولا بد من طرحها هنا في ضوء الواقع ، وحل عقدتها بشكل نهائي ، قبل أن نخوض في تقييم الجوانب النقدية التي تعد من أهم مضمامين علوم الحديث عند المتقدمين وأعقد مسائلها لدى المتأخرين .
ومن تلك الأمر قضية (( النقد الخارجي والنقد الداخلي )) التي يؤمن بها الكثيرون ، ينادون بها لتنقية السنة عما يظل عالقاً بها من الشوائب ـ حسب زعمهم ـ .وفي أن هذا الأسلوب من البحث والنقد ليس بجديد بالنسبة إلى المحدثين ، إذ أنه من جملة المناهج العلمية التي اخترعوها في مرحلة الرواية ، وطوروها في المرحلة الثانية لاستخدامها في توثيق الكتب والصحائف ـ أصولاً كانت أم فروعاً ـ وحفظها عن كافة الاحتمالات في التحريف والتصحيف والتزوير والانتحال(1) ، ولعل المستشرقين قد استفادوا من جهد المحدثين في هذا المجال ـ أ] توثيق الكتب والصحائف ـ ما جددوا به منهجهم على الشكل الذي يسمونه بالنقد الخارجي والنقد الداخلي لدراستهم حول المواد التاريخية وكتب الديانات السابقة التي تنقل من غير سند ولا نسب .
فقد كانت دراسة المحدثين لغرض توثيق الكتب والصحائف في مرحلة ما بعد الرواية منصبة في جانبين : الجانب الأول : النظر في ثبوت الكتاب أو الصحيفة لصحابها من خلال دراسة السماعات والطباق المسجلة في غلافها أو في سجل عام موثوق ، والجانب الثاني : النظر في مدى صحة المحتوى من خلال مقارنتها بنسخها المتنوعة ، وعرضها عليها بشكل دقيق أو قراءتها على الشيوخ والمؤهلين لإجازاتها وتدريسها مع تحليل الكلمات والمصطلحات ليعرف المقصود منها عند مؤلفها ، إضافة إلى البحث عن منهج المؤلف فيها لمعرفة مدى التزامه بتحقيق المعلومات وتدقيقها ، وأمانته في نقلها ، ولهذا أصبحت المصادر الحديثة معروفة المناهج والدرجات ، فظهر الصحيحان في أولى المراتب ثم الأصول الخمسة ، وهكذا ...
فالنظر في الأسانيد والسماعات والإجازات لغرض إثبات الكتاب لمؤلف هو ما يقال الآن : الدراسة الخارجية ، والنظر في المحتوى والمضامين لمعرفة صحتها ، وسلامتها من التصحيف ، هو ما يقال الدراسة الداخلية .
أما الدراسة الخارجية والداخلية على نحو ما رسمه المستشرقون فمجالها المواد التاريخية وكتب الديانات السابقة مقطوعة الأسانيد ، وسائر الكتب والنصوص الصادرة عن البشر الذين يحتمل قولهم الصدق ، والكذب ، والخطأ ، وأما أحاديث النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الذي لا يقول إلا الصدق فلا يصلح تطبيق هذه النوعية من الدراسة فيها ، لأن الذي نقصده من خلال الدراسة الخارجية هو إثبات النص عن مصدره القائل به ، أو نفيه عنه ، وهو في الأحاديث النبوية : رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم الذي لا يحتمل قوله إلا الصدق ، فإذا توصل الباحث إلى معرفة ثبوته عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من خلال دراسة السند ، دراسة خارجية ـ كما يصورها المستشرقون ـ فلا يبقى بعد ذلك مجال للنظر فيما قاله النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم للتحقق من صدقه صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم صادق أمين . أما لغرض العمل به ، والاحتجاج بمضمونه فذلك يدعو إلى تحليل النص والمقارنة ليعرف فقهه ، وهذا لم يهمله أحد من النقاد ولا من المجتهدين ، فبذلك يتبين أن مجال الدراسة الخارجية والداخلية هو نصوص من يحتمل قوله الصدق والكذب ولهذا انتهج المحدثون النقاد لدراسة الأحاديث منهجاً قيماً مناسباً لطبيعتها ، وهذا ما سأبينه بعد قليل إن شاء الله .
__________
(1) عناية المحدثين بتوثيق المرويات )) لأستاذنا فضيلة الدكتور أحمد نور سيف ( حفظه الله تعالى ورعاه ) .(1/28)
محاكمة الأحاديث إلى القرآن والعقل
أما قضية محاكمة الأحاديث إلى القرآن والعقل التي لا يزال البعض ينادي بها فأمر لا بد منه فقط بغرض معرفة معانيها ، واستقامة العمل بمقتضاها ، أما بخصوص التحقق من صحتها وقبولها ، كمقياس عام لذلك ، وبشكل مستمر ، فأمر مغاير منهجياً ، بل يأباه الواقع ، ولهذا قال الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ : (( إن القول به جهل ))(1) .
وبما أن من الأحاديث ما يفسر القرآن تقييداً وتخصيصاً ، أو تعميماً وإطلاقاً ، فإن محاكمتها إلى القرآن، كمنهج مستقل ثبت أن تظل محل تساؤل كبير ، والسؤال الآخر الذي يبعث على الحيرة هو : ماذا يبقى عندئذ من جملة الأحاديث التفسيرية إذا نحن انتهجنا هذا المنهج ذاته ، وكانت تعارض ظاهر القرآن ؟ .
هذا وإن في الأحاديث ما هو متشابه أو ما يتصل بالغيبيات ، والمعجزات ، والصفات ، ولا يصلح في شئ منها الاستعانة بالعقل البشري المحدود ، ولهذا فإن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ كان يقول : (( حدثوا الناس بما يعرفون ، أتحبون أن يكذب الله ورسوله )) . وفي رواية أخرى : (( ودعوا ما ينكرون )) أي ما يشتبه عليهم فهمه(2) ، ويقول عبدالله بن مسعود : (( ما أنت محدث حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة ))(3) .
والذي يتعين علينا أن نعرض نحن أقوالنا وآراءنا على القرآن والسنة بحيث تكونان فعلاً معيارين لها في القبول أو الرد تبعاً للموافقة أو المخالفة لهما ، وذلك إقراراً منا لعدم عصمتنا من الخطأ أو الكذب ، أما أقوال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فالواجب أخذها وقبولها ولا مناص ، ولهذا قال الإمام مالك ـ رحمه الله ـ : (( كل قول يؤخذ ويرد إلا قول صاحب هذا القبر )) يعني قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
ولعل القائلين بضرورة عرض الأحاديث على الكتاب للتحقق من صحتها نظروا إلى عدم العصمة فيمن يروي تلك الأحاديث ، وإستحالة صدور المنافاة للنصوص القرآنية من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ لا قولاً ولا عملاً ولا إقراراً ـ وهذا حق لا نزاع فيه ، غير أن إطلاق القول في محاكمة من يروي عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم باستثناء المتواتر ، لا يبرره الواقع ، بل فيه ما يؤدي إلى التسوية بين أقواله وأقوال الآخرين ، وهذا من الخطورة بمكان .
إن النتائج التي تترتب عن هذه المحاكمة لا تكونوا مقبولة في كثير من الأحيان ، حيث لا يلزم أن يكون ما وافقه النص القرآني من المرويات قد قاله النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالضرورة ، وكذا كل ما تظهر في مخالفة منها لمنطوق القرآن لا يشترط فيه عدم تعرضه صلى الله عليه وعلى آله وسلم له بالقول فيه ، لأن المخالفة هنا لا تعني مجرد عدم التعرض له من قبله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لاتفاق الأمة على أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم يبين مقصود القرآن ، إما تقييداً أو تخصيصاً ، بل يحرم أو يحلل فيما لم يرد فيه حكم قرآني واضح وكل ذلك بإملاء منه سبحانه وفهم أوحاه إليه .
فالمحاكمة إذن ليست بوحدها مقياساً لمعرفة ثبوت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، ونفيها ، ولا يكاد الفرق بين إثبات قول وبين قبول مضمونه خافياً على أحد من المنصفين ، حيث إن قبول المحتوى لقول ما تبرره موافقة النصوص القرآنية له ، كما تبرر رفضه مخالفتها له ، بينما الأمر في إثبات قول عن صاحبه أو نفيه يتوقف على أمور خاصة تدل على وقوع أو عدمه . ومن هنا ساغ الإطلاق بيننا : (( هذا موضوع لكن معناه صحيح )) . كما ورد عن الحافظ ابن عبد البر قوله : في حديث (( تعلموا العلم فإن تعلمه لله خشية وطلبه عبادة ... )) الذي رواه عبد الرحيم العمي المتهم ، هذا حديث حسن جداً لكن ليس له إسناد قوي(4) ، وبذلك المبدأ تنتفي كثير من الإشكاليات الفنية والجوهرية التي يثيرها تحسين بعض المحدثين للأحاديث ، سيما الإمام الترمذي ي سننه ، رغم بطلان سندها ، أو شذوذه وغرابته ، لأن قصدهم بذلك قبول مضمونها بموافقته النصوص الثابتة أو عدم مخالفته لها فقط ، دون ثبوتها عن صاحبها لا لفظاً ولا معنى .
ولا يعني هذا أن المحاكمة إلى القرآن ليس لها دور في التصحيح والتعليل ، بل إن دورها يكون بارزاً في بعض المجالات التي تقتضيها ، سيما عندما ينفرد راو ، أياً كان هو ، بشئ غريب لا يعرفه أحد ، لا رواية ولا عملاً ، يتعين عرضه على القرآن ثم السنة ثم الإجماع ، على أن التفرد بهذا الشكل كاف لرد ما تفرد به الراوي ، فبمخالفته أصلاً من هذه الأصول الثلاثة يجزم الناقد بأنه مردود ، وأنه خطأ في نسبته إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، أو كذب فيه .
وأما إن كان ما انفرد له معمولاً به في عهد الصحابة وكبار التابعين أو مروياً من جهات أخرى بما يوافقه أو بما يشهد له ، فالواجب علينا قبوله دون تردد ، لقناعتنا بأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد قاله . وإن كان ذلك يسمى غير الأحاد فإنه يصبح بمثابة المشهور ، لخروجه من الغرابة والشذوذ ، كما ستضح ذلك من سياق كلام الإمام أبي داود حول منهجه في السنن(5) ، ولا ينبغي إذن الخلط بين الغريب الشاذ وخبر الأحاد ، كما لاحظنا ذلك عند المتكلمين والمعتزلة .
واللجوء إلى المحاكمة إنما هو في الخاص القليل من الحديث كما أفادنا الشافعي بقوله :
ولا يستدل على أكثر صدق الحديث وكذبه إلا بصدق المخبر وكذبه إلا في الخاص القليل من الحديث ، وذلك أن يستدل على الصدق والكذب فيه بأن يحدث المحدث ما لا يجوز أن يكون مثله ،أو ما يخالفه ما هو أثبت وأكبر دلالات بالصدق منه(6)
وهذا بعينه ما عمل به سيدنا عمر ـ رضي الله عنه ـ إنما رده لمخالفته نصوص القرآن مخالفة صريحة بحيث تمنع صدوره كحكم عام من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وبالإطلاع على مواقف عمر ـ رضي الله عنه ـ من قبول الأحاديث من رواتها ظهر أنه لم يتبع منهج المحاكمة إلى القرآن إلا في هذا الحديثة، وذلك لغرابته وشذوذه ، وأما ما عداه من الأحاديث فقد قبله عمر من غير المحاكمة .
وقول عائشة ـ رضي الله عنها ـ في صدد حديث فاطمة السابق ذكره ، لم يكن سوى تأكيد منها على جانب الغرابة والشذوذ في فهمها من قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، من أن الذي صدر في حقها منه صلى الله عليه وعلى آله وسلم إنما هو حكم عام للمطلقة تطليقاً بائناً .
قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ (( ما لفاطمة ؟ ألا تتقي الله ؟ )) يعني في قولها : (( لا سكنى ولا نفقة ))(7) .
وعن عروة : عابت عائشة أشد العيب ، وقالت : إن فاطمة كانت في مكان وحش فخيف على ناحيتها ، فلذلك أرخص لها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم(8) .
وقد أكد بن حبان على أهمية المحاكمة إلى القرآن وغيره من الأصول ـ كالسنة والإجماع ـ ، وذلك فقط حينما يصبح الحديث غريباً شاذاً غير معروف ، وأنا أسوق هنا قوله بحروفه :
(( بل الإنصاف في النقلة في الأخبار استعمال الاعتنبار فيما رووا ، وإني أمثل مثالاً يستدرك به ما وراءه ، وكأنا جئنا إلى حماد بن سلمة ، فرأيناه روى خبراً عن أيوب عن ابن سرين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم نجد ذلك الخبر عند غيره من أصحاب أيوب ، فالذي يلزمنا فيه التوقف عن جرحه ، والاعتبار بما رواه غيره من أقرانه ، فيجب أن نبدأ ، وننظر لهذا الخبر : هل رواه أًحاب حماد بن سلمة عنه ، أو رجل واحد منهم وحده ؟ فإن وجد أًحابه فقد رواه علم أن هذا قد حدث به حماد ، وإن وجد ذلك من وراية ضعيف عنه ألزق ذلك بذلك الراوي دونه ، فمتى صح أنه رواه عن أيوب ما لم يتابع عليه يجب أن يتوقف فيه ولا يلزق به الوهن بل ينظر : هل روى أحد هذا الخبر من الثقات عن ابن سيرين غير أيوب ؟ فإن وجد ذلك علم أن الخبر له أصل يرجع إليه ، وإن لم يوجد ما وصفنا ننظر حينئذ هل روى أحد هذا الخبر عن أبي هريرة غير ابن سيرين من الثقات ؟ فإن وجد ذلك علم أن الخبر له أًل ، وإن لم يوجد ما قلنا ننظر : هل روى هذا الخبر عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم غير أبي هريرة ؟ فإن وجد ذلك صح أن الخبر له أصل ومتى عدم ذلك والخبر نفسه يخالف الأصول الثلاثة علم أن الخبر موضوع لا شك فيه ، وأن ناقله الذي تفرد به هو الذي وضعه )) اهـ(9) .
وكثيراً ما ستند البعض في تبني المحاكمة كمنهج للتصحيح والتضعيف إلى ما جمعه بدر الدين الزركشي في رسالة أسماها : (( الإصابة فيما استدركته عائشة على الصحابة )) ، ويزعمون بأن ما في هذه الرسالة أًل أًيل لمحاكمة الأحاديث إلى القرآن .
وفي الواقع إن ما ذكره الزركشي ـ حسبما قاله الشيخ الفاضل الدكتور الأعظمي ـ البعض منه غير ثابت سنداً ، والبعض الآخر كان في الواقع فتاوى لبعض الصحابة خالفوا فيها الأحاديث لعدم معرفتهم بها ، فصححت فتواهم ، وبعد هذا وذاك أيضاً تصفو عدة أحاديث رواها الصحابة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فأنكرت عليهم .
فمن تتبع ما ورد عن عائشة في جانب الإنكار ، وأمعن النظر فيع يعلم جيداً أنه لم تسلك في كشف الأخطاء والأوهام مسلك المحاكمة إلى القرآن ، وإن ثبت منهج العرض على ما تعلمه وتحفظه من الأحاديث فكانت ترد ما خالفه ، وتقبل ما عداه ، وهو تأصيل لمنهج المحدثين حقاً ، وتأسيس له صدقاً .
إن أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنكرت على ابن عمر ما رواه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : (( إن الميت يعذب في قبره ببكاء أهله عليه )) ، حين قالت : (( رحم الله أبا عبد الرحمن ، سمع شيئاً فلم يحفظه ، وإنما مرت على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم جنازة يهودي ، وهم يبكون عليه فقال : (( أنتم تبكون وإنه ليعذب )) وفي رواية قالت : (( وهل )) ـ يعني : غلط ـ إنما قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : (( إنه ليعذب بخطيئته أو بذنبه ، وإن أهله ليبكون عليه الآن ))(10) .
__________
(1) اختلاف الحديث للإمام الشافعي ـ هامش الأم ـ 7/45 .
(2) صحيح الإمام البخاري ـ كتاب العلم ـ 1/225 ( فتح الباري )
(3) رواه مسلم في المقدمة ـ باب النهي عن الحديث بكل ما سمع ـ 1/76 ( مع شرح النووي ) وذكره الحافظ ابن حجر في فتح الباري 1/225 .
(4) انظر تدريب الراوي 1/162 .
(5) قال أبو داود : والأحاديث التي وضعتها في كتاب السنن أكثرها مشاهير ، وهي عند كل من كتب شيئاً من الحديث إلا أن تمييزها لا يقدر عليه كل الناس ، الفخر بها أنها مشاهير ، فإنه لا يحتج بحديث غريب ... ( رسالته إلى أهل مكة ص29) فهذا يدل على أن المشهور يطلق على كل حديث خرج عن حد الغرابة والشذوذ إما بورده عن طريق آخر أو بشيوع العمل بمقتضاه ، وهو خلاف ما استقر عليه المتأخرون في تعريف مصطلح ((المشهور)) .
(6) الرسالة ، ص399
(7) البخاري في كتاب الطلاق ، باب قصة فاطمة بنت قيس 9/477(فتح الباري)
(8) البخاري في كتاب الطلاق ، باب قصة فاطمة بنت قيس 9/477( فتح الباري)
(9) مقدمة صحيح ابن حبان 1/143 .
(10) رواه مسلم في كتاب الجنائز ، باب الميت يعذب ببكاء أهله .. 6/232 .(1/29)
هذا ما جرى بالنسبة إلى إنكارها رواية ابن عمر ، وخلاصته : أنها ردت ما رواه ابن عمر بحجة مخالفته لما حفظته من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الموضوع ذاته حيث احتجت بقولها : (( إنما مرت على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم )) وفي رواية أخرى : (( إنما قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم )) وليس فيه دليل على أنها ـ رضي الله عنها ـ أنكرت على ابن عمر ما رواه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أو قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لمخالفته للقرآن .
وكذا ما رواه ابن عباس : قال ابن عباس : فلما مات عمر ذكرت لعائشة ما قاله عمر : إن الميت يعذب ببعض بكاء أهله عليه ، فقالت : يرحم الله عمر ، لا والله ! ما حدث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إن اله يعذب المؤمن ببكاء أحد ولكن ، قال : (( إن الله يزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه ، وقالت عائشة : حسبكم القرآن ( ولا تزر وازرة وز أخرى )(1) .
وهذا أيضاً صريح بأنها أنكرت على عمر ذلك الذي فهمه من قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لمخالفته نص الحديث الذي حفظته من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولهذا قالت : ولكن قال : (( إن الله يزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه )) ولمزيد من التأكيد على أن ذلك فهم خاطئ من عمر تدرجت عائشة إلى الاستدلال بصريح الآية القرآنية حين قالت : وحسبكم القرآن ( ولا تزر وزارة وز أخرى ) . هذا بغض النظر عن تحقيق المسألة هل الحق مع عائشة ؟ أم مع عمر وابنه ؟ .
روى الإمام النسائي عن ابن عمر : أن النبي وقف على قلب بدر ، وفيه قتلى المشركين ، فقال : هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً ؟ وقال : (( إنهم ليسمعون الآن ما أقول لهم )) فذكر ذلك لعائشة ، فقالت : وهل ابن عمر : إنما قال رسول الله : إنهم الآن يعلون أن الذي كنت أقول لهم هو الحق ، ثم قرأت قوله تعالى ( فإنك لا تسمع الموتى )(2) .
وما نلاحظه في هذه الرواية : أن عائشة أم المؤمنين ـ رضي الله عنها ـ إنما أنكرت على ابن عمر ما فهمه من خطاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لقتلى المشركين خلاف ما فهمته وحفظته منه صلى الله عليه وعلى آله وسلم بحجة أن ما تعرفه في هذا الواقع هو الصحيح ، ثم أتت بقوله تعالى : (( فإنك لا تسمع الموتى ) تأييداً لذلك ، ولم يكن السياق بحيث يفهم منه ـ لا منطوقاً ولا مفهوماً ـ أن أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ رفضت ما روى ابن عمر من حديث النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لكونه مخالفاً للنص القرآني ، ولا يعقل ذلك في حقها ولا في حق أحد من الصحابة ، فإن ما قاله النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا يكون معارضاً للقرآن ، وأما ما يوهم منه نوعاً من المعارضة له ، مثل ما بين العموم والخصوص ، والمطلق والمقيد وغير ذلك فلا يستدعى إنكاره دون تأمل وتريث . فقد ورد عنها وعن غيرها من الصحابة ما يقرر ذلك من المواقف ، منها أنه لما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : ليس أحد يحاسب إلا هلك ، قالت له عائشة : يا رسول الله جعلني الله فداءك ، أليس يقول الله عز وجل ( فأما أوتي كتابه بيمينيه * فسوف يحاسب حساباً يسيراً ) قال : ذلك العرض يعرضون ، ومن نوقش الحساب هلك(3) وهذا ما يشبهه كاف في نهي التسرع إلى إنكار ما قاله النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بدعوى مخالفته للنصوص القرآنية ، فإن من الأحاديث ما يفسر القرآن ، وما يقيد وما يخصص عمومه ، ونحو ذلك(4) .
وما ذكرناه في أحاديث عائشة ينطبق تماماً على سائر ما أورده العلامة بد الدين الزركشي في رسالته المذكورة من الأحاديث المرفوعة ، ولم يكن شئ منها نموذجاً صالحاً لمحاكمة الأحاديث إلى القرآن بغرض معرفة صحتها وخطتها كما أدعى البعض ، بل الذي نلمسه من وراء ذلك هو ما يدعو أساساً إلى توخي مسلك النقاد في تنقية السنة وحفظها .
وفي الخلاصة ليس من أحد من الصحابة من سلك في محاكمة الأحاديث إلى القرآن هذا المسلك مباشرة قصد معرفة الصدق فيها أو الكذب .
وإنما كل الذي سجله لنا التاريخ عنهم في هذا المجال بالذات ، هو تؤدهم للمرويات التي تخالف المحفوظ عندهم والمعروف عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
وأما ما عداها فموقفهم منها أن يقبلوها تارة بتحفظ شديد حيث يطلب بعضهم لها شهادة أو حلفاً ، وتارة دون ذلك التحفظ تبعاً للظروف والمناسبات غير الملزمة .
ووجه آخر للتشدد والحذر اللذين لا يخرجان عن نطاق العلم ، يبرز أثناء الفتن من قبيل ما شاع في أواخر عهد الصحابة واستتبع الوضع والافتئات عن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم ذاك ما عرف أيضاً عن الصحابة رضي الله عنهم ، من الحيطة والاحتراز في ألا يأخذوا من الأحاديث مرويها أو مسموعها إلا ما نخله علمهم أو ما عهده حفظهم الخاص عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
وفي هذا الشأن روى الإمام مسلم ـ رحمه الله ـ عن مجاهد : قال : جاء بشير العدوي إلى ابن عباس فجعل يحدث ويقول : (( قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم )) فجعل ابن عباس لا يأذن لحديثه ولا ينظر إليه ، فقال : (( يا ابن عباس : مالي لا أراك تسمع لحديثي أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولا تسمع )) فقال ابن عباس : (( إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلاً يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ابتدرته أبصارنا وأصغينا إليه بآذاننا فلما ركب الناس الصعب والذلول لم نأخذ من الناس إلا ما عرف))(5) .
__________
(1) البخاري في الجنائز 3/151ـ152 ( فتح الباري ) .
(2) سنن الترمذي ـ الجنائز ، باب أرواح المؤمنين 3/110ـ111 .
(3) انظر صحيح مسلم ، كتاب الجنائز ، باب الميت يعذب .. 6/234 . وصحيح البخاري ، كتاب الرقائق ، باب من نوقش الحساب ... 11/400 .
(4) راجع الرسالة للإمام الشافعي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : 226ـ228 .
(5) مقدمة الصحيح 1/81ـ82 ( شرح النووي ) .(1/30)
منهج التصحيح والتعليل عند المتقدمين
قد آن الأوان كي نستبين منهج تصحيح الأحاديث وتعليلها عند المتقدمين ، والسؤال الذي يدور ببالنا هو هل إن هذا المنهج يتوخى النقد الخارجي ، مقتصراً على الإسناد ، ودراسة أحوال الرجال كما يروج الكثيرون ذلك ؟ أم إنه نقد علمي متكامل لا ينفصل فيه الإسناد عن المتن ؟ والمتأمل البصير يدرك أن هذا المنهج يعينه هو المتوخى عندهم ، حيث إن نصوص النقاد وآثارهم العلمية تصرح بذلك أمام كل متتبع لها بإمعان ودقة . بعد دراسة تحليلية في كتب العلل ، وكتب الضعفاء ، والصحاح ، والسنن وغيراها من الكتب الحديثية التي وضعت في ضوء قواعد التصحيح والتعليل ، أو الجرد والتعديل في المرحلة الأولى ، وبعد التتبع العلمي لها عن كثب استطعنا ـ بفضل الله تعالى ـ أن نستخلص طبيعة مسلكهم في نقد الأحاديث كما يلي :
يصحح نقاد الحديث أصناف الأحاديث متى تكدوا ، وتحققوا من صدق كل راو من رواتها في سلسلة الإسناد وإصابته في عزوها لمن فوقه كما سمعها منه ، سواء رواها الثقات أم الضعفاء غير المتروكين ، كما يردونها عند شعورهم القوي بخطأ أحدهم ووهمه ، سواء كان ثقة أو ضعيفاً ، أو قد كذب وافترى ، وهناك أمور كثيرة تعتبر أساساً في تحري صدق الراوي فيما حدث به وأتقنه له ، أو خطئه ووهمه فيه ، أو كذبه وافترائه له .
أما بخصوص تحري الصدق والإتقان فكأن يروي الراوي حديثاً يوافق المعروف عن شيخه أو عمن فوقه ، أو عن الصحابي ، أو عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أو يوافق ما كان عليه عمل الصحابة ، فإن موافقته للواقع دليل على صدقه وحفظه وضبطه ، وحين تصبح الموافقة سمة بارزة له فإن نقاد الحديث يصفونه بما يدل عليه بدقة ، ويصفونه في زمرة الثقات .
فمعرفة حال الراوي ومستوى ضبطه وإتقانه متوقفة إذن على تقييم أحاديث ورواياته والأول تابع للثاني ، وبالتالي لا يمكن أن تصبح صفته وحاله نطقاً رئيسياً للحكم على حديث في منهج المتقدمين ، ومن هنا نجدهم يصححون الأحاديث من مرويات الضعفاء متى أصيبوا فيها ويحتجون بها ، وصحيح الإمام البخاري وصحيح الإمام مسلم يؤيدان ذلك ، وقد جمع الحافظ بن حجر في مقدمة فتح الباري أسماء الضعفاء والمتكلم فيهم الذين أخرج لهم الإمام البخاري ما صح من أحاديثهم ، فهذه الحقيقية العلمية الملموسة في نقدهم تفند ما راج بين الكثيرين من أن المحدثين صححوا الأحاديث بالنظر في تراجم الرواة ، وسلسلة الإسناد دون المتن ، حيث إن علم الرجال ثمرة لجهود المتقدمين في نقد المرويات ، هذا بالنسبة إلى معرفة صدق الراوي وحفظه وضبطه .
أما معرفة خطئه ووهمه أو كذبه وافترائه فكأن يروي حديثاً يخالف المعروف عن شيخه أو عمن فوقه أو عن الصحابي أو عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، أو يخالف الواقع المعمول لدى الصحابة والذي يؤيده القرآن والسنة أو أن ينفرد في حديثه بشئ ليس له أصل عند شيخه ، أو عند من فوقه ، أو عند الصحابي أو عند النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولم يؤيده عمل الصحابي والتابعين .
فإن هذا النوع من المخالفة والتفرد دليل قاطع على خطأ الراوي ووهمه أو على كذبه ووضعه ، لأنه من كذب وافترى فمصيره أن يخالف الواقع أو أن ينفرد بما لا أصل له ، إذا أخطأ ووهم ، وبقدر وقوع المخالفة . والتفرد في أحاديث ، ونوعية كل منهما يقع تصنيف الرواة إما في الضعفاء أو المتروكين ، أو الكذابين
فمثلاً إذا كان الراوي من شأنه أن يأتي بأحاديث تخالف المعروف عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، أو الواقع الذي عمل الصحابة والتابعين ، أو أن ينفرد بأشياء لا يؤيدها القرآن ولا السنة ولا عمل الصحابة والتابعين فإن النقاد يشددون في حقه ، ولو كان معروفاً بالصلاح والعبادة(1) ، ويصفونه بأعنف التعابير والأوصاف ، لكن الإمام البخاري له ميزة خاصة في هذا المجال حيث إنه يضيف التجريح والتكذيب إلى من سبقه بل حتى إلى معاصره ، رغم أنه يعرف ذلك بالأدلة ، أو يصف بأوصاف لا تنم عن عنف وشدة مثل قوله : (( فيه نظر )) و (( منكر )) و (( تكلموا فيه )) وهكذا ، كما لا حظنا في تاريخه الكبير . وأما إن كانت المخالفة والتفرد تظهران فيما يتعلق بأحاديث شيخه ورواياته أو من فوقه ، مع كونها معرفة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فإنهم لا يشددون في حقه بل يصفونه بأنه سهلة تدل على ذلك ، ومن هنا أصبح النقاد يملكون قدرة فائقة على معرفة مدى خطأ الرواة ووهمهم ، ونوعية ذلك الخطأ ، وأسابه وأوقاته ، ومواقعه ، كما هو مسجل في كتب التراجم .
وجدير بالذكر أن المخالفة والتفرد على الصور المذكورة هما المقصودان في مفاهيم الشاذ والمنكر ، وليس كل أنواع المخالفة والتفرد داخلة فيها ، فإن منها ما هو ناتج عن كثرة الضبط والإتقان ، وهذا النوع من المخالفة والتفرد لا يكون شاذاً ولا منكراً ولا مردوداً بل يكون صحيحاً مقبولاً ، وإن كان ظاهر القول الذي ربط الشذوذ بهما ـ كقول الإمام الشافعي وغيره من الحجازيين بالنسبة إلى المخالفة ، وقول الحاكم والخليلي وغيرهما من سائر الحفاظ بالنسبة إلى التفرد ـ يوهم الإطلاق فيهما ، فإن الأمثلة التي ساقوها وقرائن أخرى(2) تؤكد ذلك الذي ذكرناه آنفاً .
وكذلك فإنما يستعان به من التفرد والمخالفة على كشف العلة في الأحاديث هو ذلك النوع الذي يدل على الخطأ والوهم ، ولذا قال ابن الصلاح ـ رحمه الله ـ في مبحث العلة : (( ويستعان على إدراك العلة بتفرد الراوي وبمخالفته غيره له مع قرائن تنضم إلى ذلك ، تنبه العارف بهذا الشأن على أنه خطأ ووهم ))(3)
الأمثلة :
ونسوق هنا بعض الأمثلة التوضيحية :
__________
(1) مقدمة صحيح مسلم 1/94 .
(2) وقد حققنا ذلك في ضوء الأدلة والنصوص ، في كتابنا : الحديث المعلول ـ قواعد وضوابط ـ في مبحث الشاذ .
(3) مقدمة ابن الصلاح ، صلى الله عليه وعلى آله وسلم : 53 ( بتصرف قليل )(1/31)
المثال الأول :
يقول الإمام مسلم : حدثنا الحسن الحلواني ، حدثنا يعوق بن إبراهيم ، حدثنا أبي ، عن صالح ، عن ابن شهاب أن أبا بكر بن سليمان ابن أبي حثمة أخبره أنه بلغه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم صلى الله عليه وعلى آله وسلم ركعتين ، ثم سلم ، فقال ذو الشمالين بن عبد عمرو : يا رسول الله : أقصرت الصلاة أن نسيت ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم تقصر الصلاة ولم أنس ، قال : ذو الشمالين : قد كان ذلك يا رسول الله .
فأقبل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم على الناس ، فقال : أصدق ذو اليدين ؟ قالوا : نعم ، فقام رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فأتم ما بقي من الصلاة ، ولم يسجد السجدتين اللتين تسجدان إذا شك الرجل في صلاته حتى لقاء الناس .
قال ابن شهاب : وأخبرني ابن المسيب عن أبي هريرة ، وأبو سلمة بن عبدالرحمن بن عوف ، وأبو بكر بن عبدالرحمن ، وعبيد الله بن عبدالله ، ثم نقده قائلاً : وخبر ابن شهاب هذا في قصة ذي اليدين وهم غير محفوظ لتظاهر الأخبار الصحاح عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في هذا . وقال بعد أن ساقها ، قد صح بهذه الروايات المشهورة المستفيضة في سجود رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يوم ذي اليدين ، أن الزهري واهم في روايته ، إذ نفى ذلك في خبره من فعل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم(1) .
فالإمام مسلم ـ رحمه الله ـ كما ترى ، لم ينظر حين حكمه على هذا الحديث إلى ظاهر الإسناد ولا إلى أحوال الرواة ، وإنما ركز أساساً على ما خالف فيه الإمام الزهري الواقع الذي يقضي بأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم سجد سجدتي اسهو في قصة ذي اليدين .
__________
(1) التمييز للإمام مسلم صلى الله عليه وعلى آله وسلم : 182 ـ 183 .(1/32)
المثال الثاني :
ويقول الإمام مسلم ـ رحمه الله ـ حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا زيد بن حباب ، حدثنا عمر بن عبدالله بن أبي خثعم ، حدثي يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة عن أبي هريرة : أن رجلاً قال : يا رسول الله ! ما الطهور بالخفين ؟ قال : للمقيم يوم وليلة وللمسافر ثلاث أيام ولياليهن
وقال مسلم في صدد تعليله : هذه الرواية في المسح عن أبي هريرة ليسن بمحفوظة ، وذلك أن أبا هريرة لم يحفظ المسح عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لثبوت الرواية عنه بإنكاره المسح على الخفين .
وبعد أن ساق الرواية الصحيحة عن أبي هريرة ، قال : ولو كان قد حفظ المسح عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان أجدر الناس وأولاهم للزومه والتدين به ، فلما أنكره الذي في الخبر من قوله : (( ما أمرنا أن نمسح على جلود البقر والغنم )) . والقول الآخر : (( ما أبالي على ظهر حمار مسحت أو على خفي )) بأن ذلك أنه غير حافظ للمسح عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وأن من أسند ذلك عنه عن النبي واهي الرواية ، أخطأ فيه إما سهواً أو تعمداً .
ثم قال : فيجمع هذه الروايات ومقابلة بعضها ببعض ، تميز صحيحها من سقيمها ، وتبين رواة ضعاف الأخابر من أضدادهم من الحفاظ ، ولذلك أضعف أهل المعرفة بالحديث عمر بن عبدالله بن أبي خثعم وأشباهه من نقلة الأخبار لروايتهم الأحاديث المستنكرة التي خالف روايات الثقات المعروفين من الحفاظ(1) .
وهذا رسم واضح لمنهج النقاد في نقد الأحاديث بحيث يؤكد لنا على أن موافقة الراوي للواقع ومخالفته له في المقاييس لتحديد أحواله ، والركائز الأساسية للتصحيح والتعليل ، فعمر بن عبدالله أصيح واهماً في نسبته لهذا الحديث إلى أبي هريرة ، وذلك لمخالفته للواقع الذي يجزم بأن أبا هريرة لم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في مسألة مسح الخفين شيئاً .
__________
(1) التمييز ، ص208 ـ 209 .(1/33)
المثال الثالث :
ويقول مسلم : حدثنا عبدالله بن مسلمة ، أخبرنا سلمة بن وردان عن أنس أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم رأى رجلاً من أصحابه ، فقال : بن فلان ! هل زوجت ؟ قال : لا ، وساقه(1) .
وقال مسلم في معرض تعليل هذا الحديث : ـ هذا الخبر الذي ذكرناه عن سلمة عن أنس أنه خبر يخالف الخبر الثالث المشهور ، فنقل عوام أهل العدالة ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وهو الشائع من قوله : (( قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن )) فقال ابن وردان في روايته : إنها ربع القرآن ، ثم ذكر في خبره من القرآن خمس سور يقول في كل واحد منها : ربع القرآن ، وهو مستنكر غير مفهوم صحة معناه(2) .
وهذا أيضاً يوضح لنا أن موافقة الراوي ومخالفته للواقع ، وتفرده بما لا أصل له ، هي وحدها أساس الحكم على الحديث .
__________
(1) وبقية الحديث : ليس عندي ما أتزوج ، قال : أليس معك ( قل هو الله أحد ) ...... الحديث ، أورده ابن عدي في ترجمة سلمة من كتابه الكامل ، 4/1182 .
(2) التمييز ، ص194ـ195(1/34)
المثال الرابع :
يقول الإمام مسلم ـ رحمه الله ـ : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو الأحوص عن أبي إسحاق عن مجاهد عن ابن عمر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أكثر من عشرين مرة يقرأ في الركعتين بعد المغرب والركعتين قبل الفجر بـ ( قل أيها الكافرون ) و ( قل هو الله أحد ) وروى إبراهيم النخعي عن مجاهد عن أبي عمر بهذا .
وأعله مسلم فقال : وهذا الخبر وهم عن ابن عمر ، والدليل عن ذلك الروايات الثابتة عن ابن عمر أنه ذكر : ما حفظ عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من تطوه صلاته بالليل والنهار فذكر عشر ركعات ، ثم قال : وركعتي الفجر أخبرتني حفصة : أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كانة يصلي ركعتين خفيفتين إذا طلع الفجر ، وكانت ساعة لا أدخل على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيها ، فكيف سمع منه أكثر من عشرين مرة قراءته فيها وهو يخبر أنه حفظ الركعتين من حفصة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثم ساق الروايات الثابتة في هذا المجال(1) .
وهكذا رسم لنا الإمام مسلم طريقة نقدهم للأحاديث ، وفي الواقع أن المحدثين النقاد لا يفصلون حيثيات حكمهم على الأحاديث عادة ، لأنهم بصدد التعليل والتصحيح ، وليسوا بمناسبة توضيح المنهج .
في ظل هذه الحقائق العلمية الملموسة فإن الحكم على الحديث تصحيحاً وتعليلاً ، قبولاً ورداً ، لم يقع من المحدثين النقاد بالاعتماد على صفة الراوي بغض النظر عن المتون والأمور المحيطة بروايته ، وإنما يقع ذلك بناء على معرفة موافقته للواقع أو مخالفته له ، أو تفرده بما لا أصل له ، حسبما فصلنا سابقاً ، حتى ولو كان الراوي إماماً معروفاً ، ويوضح ذلك الإمام أحمد بقوله :
(( إذا سمعت أصحاب الحديث يقولون : هذا الحديث غريب أو فائدة فاعلم أنه خطأ أو دخل حديث في حديث أو خطأ من المحدث أو حديث ليس له إسناد ، وإن كان قد روى شعبة وسفيان ... ))(2)
وكذا قول الإمام أبي داود ، فهو يقول : (( والأحاديث التي وضعتها في كتاب السنن أكثرها مشاهير ، وهي عند كل من كتب شيئاً من الحديث ، إلا أن تمييزها لا يقدر عليه الناس ، والفخر بها أنه مشاهير ، فإنه لا يحتج بحديث غريب ولو كان من وراية مالك ويحيى بن سعيد والثقات من أئمة العلم ))(3) .
ومما ينبغي له التنبيه له أن تعابيرهم يخص الحكم على الحديث تقع دائماً موجزة وغامضة ، دون توضيح لأسبابه مثل قولهم في تعليل الحديث : (( هذا خطأ )) ، (( هذا وهم )) ، (( هذا منكر )) ، (( هذا باطل )) ، (( تفرد به فلان )) ، (( لا يتابع عليه )) ، (( غير محفوظ )) ، (( لا يصح )) ونحو ذلك من الصيغ الفنية الغامضة التي لا يفهمها إلا أهل هذا الفن ، غير أن الإمام الترمذي كثيراً ما يشير في سننه إلى حثيثات الحكم .
وإذا كانت الركيزة الأولى الأساسية للحكم على الحديث هي معرفة موافقة راويه للواقع أو مخالفته له أو تفرده بما لا أًل له ، فإن الناقد ينبغي أن تتوفر فيه من الأمور ما يؤهله لمعرفتها ، مثل جمع الأحاديث من مصادرها بجميع عناصره لا يفصل الإسناد عن المتن حيث يقوم أساساً على المعرفة الحديثية والفقهية ، ومن ثم أصبحت علوم الحديث تحوي هذين الجانبين دون فكاك ، وعليه علم يؤدي إلى الانتفاع بالحديث ، ويقضي إلى تسهيل الاستفادة منه فبالإمكان أن نصنفه حقيقة ضمن علوم الحديث وهذا هو الحاصل بعينه عند المتقدمين .
إبرازاً لهذه الحقيقة العلمية الواقعية التي لا تزال مغمورة لدينا ، واستجلاء للمنهج النقدي الذي سار عليه المتقدمون ، عالجنا هذا الموضوع تحت عنوان : (( نظرات جديدة في علوم الحديث )) ولله الحمد والشكر والمنة .
__________
(1) المصدر السابق ، ص207ـ208 .
(2) حكاه الخطيب في الكفاية ص172 .
(3) رسالة أبي داود ص29 .(1/35)
الخاتمة
ستخلص من البحث أهم النقاط العلمية ، وهي أن علوم الحديث قد تناولتها مجموعتان كبيرتان ، تتميز كل منهما عن الأخرى بالمناهج والمفاهيم والأعراف العلمية . إحداهما تمثل الجانب العملي التطبيقي ، والثانية الجاني النظري .
أما المجموعة التي عالجت علوم الحديث عملياً فهم المعنيون بـ (( المتقدمين )) وهم نقاد الحديث ، وعنهم انبثقت معظم المصادر الحديثية التي تعطي لنا صورة واضحة لمحتوى علوم الحديث المتداولة بينهم ، وفي طليعتها الصحيحان : صحيح البخاري وصحيح الإمام مسلم .
وميزة هذه المجموعة أنها لا تتلقى الأحاديث والآثار ولا تتدوالها إلا عن طريق الرواية الشفهية المباشرة ، ولهذا يدعى عصرها (( عصر الرواية )) ، ويمتد من القرن الأول الهجري إلى منتصف القرن الخامس الهجري تقريباً .
وأما المجموعة الثانية فتناولت هذا العلم نظرياً باستخراج المصطلحات ووضع التعاريف ، وتنظير القواعد اعتماداً على ممارسات المتقدمين في مجال النقد ، وهم المعنيون بالمتأخرين ، والأمر الذي يميزهم عن المجموعة الأولى ظاهرة الاعتماد على الكتب والمدونات في نقل الأحاديث والآثار ، مكان الرواية الفردية المباشرة ، إضافة إلى ظهور المبادئ المنطقية وتغلغل آثارها في كافة العلوم الشرعية ، لا سيما في التعاريف والحدود .
ومن خلال التأني في تتبع المظاهر العلمية التي كانت تسود هاتين المرحلتين ، ويعد إجراء المقارنة بين الجاني التطبيقي لمحتوى علوم الحديث المركز عليه في عصر المتقدمين ، وبين الجانب النظري عند المتأخرين تبين لنا خلاف جوهري ، وتباين منهجي بينهم في كثير من المصطلحات الحديثية ، والقضايا النقدية ، يجب على المشتغل بالحديث وعلومه التفطن إليه ، كي يتحاشى الآثار السلبية المترتبة عن الخلط بينهم ، وهي كثيرة ، وإن كافة المعضلات العلمية التي تثير الاضطراب في ضبط مبادئ علوم الحديث ومصطلحاته هي من نتائج هذا الخلط .
ومن أخطرها ما راج بين الكثيرين من (( أن نقدة الحديث إنما عنوا عناية فائقة بنقد الأسانيد والرواة ، وأما المتون فليس من شأنهم النظر فيها ، لكونهم قليلي الفقه )) ، مما دفع ببعضهم إلى تبني محاكمة الأحاديث إلى القرآن والعقل كمنهج علمي ، بديلاً عن منهج المحدثين ، إضافة إلى مفاهيم خاطئة ، ومناهج مختلطة ترسخت في دراسة الكثيرين من أهل الحديث المعاصرين ، وكل هذا وقع في غياب الجوانب العلمية التطبيقية في المرحلة الأولى ، وفي ظل الاتكال على الجانب النظري عند المتأخرين .
إن المظاهر العلمية التي تميز عصر الرواية تقطع بأنه علوم الحديث تضم جانبين : الجانب الأول ما يتعلق بمعرفة الصحيح والسقيم ، والجانب الثاني : ما يتصل بفقه الحديث وفهم معناه . لهذا قال علي بن المديني : (( التفقه في معاني الحديث نصف العم ، ومعرفة الرجال نصف العلم )) .
وقال الإمام أحمد : (( إن العالم إذا لم يعرف الصحيح والسقيم والناسخ والمنسوخ من الحديث لا يسمى عالماً )) . وهو الذي يؤكد عليه جميع الكتب الحديثية التي ظهرت في عصر النقاد ، كالجوامع والسنن التي روعي في ترتيبها النسق الفقهي ، وفي مقدمتها (( الجامع الصحيح )) للإمام البخاري ، وقد ركزنا على هذا الجانب ، وأفضنا فيه .
والذي أود إبرازه هنا هو الناحية النقدية التي تشكل أهم جوانب علوم الحديث ، والسبيل الوحيد للتعرف عليها هو دراسة صحيح الإمام البخاري ، وصحيح الإمام مسلم دراسة تحليلية معمقة ، باعتبار أن كليهما ميدان تطبيقي لذلك ، وفضلاً عن دراسة الصحيحين يجدر بالباحث المدقق أن يقارن (( بالتاريخ الكبير )) للإمام البخاري ، و (( كتاب العلل الكبير )) للإمام الترمذي الذي جمع في نصوص شيخه البخاري ، وكتاب (( التمييز )) للإمام مسلم ، وسائر كتب العلل التي تحتوي على القدر الأكبر من الروايات المعلولة ، والتي تعتبر من بقية المرويات التي اصطفى منها الإمامان تلك الأحاديث الصحيحة على أسس علمية متينة ، بحيث تبرز الدراسة ما أودع كل منهما في تضاعيف الصحيحين من الفوائد الإسنادية ، والنقدية ، وتبلور المنهج العلمي المتبع لديهما في معرفة الصحيح والسقيم ، وكشف أوهام الرواة ، وحتى أغلاط الأئمة الأجلاء ، وافتراءات المغرضين وحيلهم وانتحالاتهم .
بعد دراسة تحليلية في كتب العلل ، وكتب الضعفاء ، والصحاح ، والسنن وغيرها من المصادر الحديثية التي وضعت في ضوء قواعد التصحيح والتعليل ، أو الجرح والتعديل ، في المرحلة الأولى ، ويعد التتبع العلمي لها عن كثب ، استطعنا ـ بفضل الله تعالى ـ أن نستخلص طبيعة مسلكهم في نقد الأحاديث كما يلي :
يصحح الإمام البخاري وغيره من النقدة أصناف الأحاديث متى تأكدوا ، وتحققوا من صدق كل راو من رواتها في سلسلة الإسناد ، وإصابته في عزوها لمن فوقه كما سمعها منه ، سواء رواها الثقات أو الضعفاء غير المتهمين ، كما يردونها عند شعورهم القوي بخطأ أحدهم ووهمه ، سواء كان ثقة أم ضعيفاً ، أو قد كذب وافترى ، وهناك أمور كثيرة تعتبر أساساً في تحري صدق الراوي فيما حدث به ، وإتقانه له ، أو خطئه ووهمه فيه ، أو كان كذبه ووضعه له .
وأما بخصوص تحري الصدق والإتقان فكأن يروي الراوي حديثاً يوافق المعروف عن شيخه ، أو عمن فوقه ، أو عن الصحابي ، أو عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الله عليه وسلم ، أو يوافق ما كان عليه عمل الصحابة ، فإن موافقته للواقع دليل على صدقه وحفظه وضبطه ، وحين تصبح الموافقة سمة بارزة له فإن نقاد الحديث يصفونه بما يدل عليها بدقة ويصفونه في زمرة الثقات .
فمعرفة حال الراوي ومستوى ضبطه وإتقانه متوقفة إذن على تقييم أحاديثه ورواياته ، والأول تابع للثاني ، وبالتالي لا يمكن أن تصبح صفته وحاله منطلقاً رئيسياً للحكم على حديثه في منهج المتقدمين ، ومن هنا نلفيهم يصححون الأحاديث من مرويات الضعفاء متى أصابوا فيها ويحتجون بها ، وصحيح الإمام البخاري وصحيح الإمام مسلم يؤيدان ذلك ، وقد جمع الحافظ ابن حجر في مقدمة فتح الباري أسماء الضعفاء والمتكلم فيهم الذين أخرج لهم الإمام البخاري ما صح من أحاديثهم .
فهذه الحقيقة العلمية الملموسة في نقدهم تفند ما راج بين الكثيرين من أن المحدثين صححوا الأحاديث في سلسلة الإسناد دون المتن ، حيث إن علم الرجال ثمرة لجهود لمتقدمين في نقد المرويات .
أما معرفة خطئه ووهمه ، أو كذبه وافترائه ، فكأن يروي حديثاً يخالف الثابت عن شيخه أو عمن فوقه ، أو عن الصحابي ، أو عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الله عليه وسلم ، أو يخالف الواقع المعمول به لدى الصحابة ، أو أن ينفرد في حديثه بشئ ليس له أصل عند شيخه ، من فوقه ، أو عند الصحابي ، أو عند النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الله عليه وسلم ، ولم يؤيده عمل الصحابة والتابعين .
فإن هذا النوع من المخالفة والتفرد دليل قاطع على خطأ الراوي ووهمه أو كذبه ووضعه ، لأنه من كذب وافترى فمصيره أن يخالف الواقع ، أو أن ينفرد بما لا أصله له ، وكذا الأمر أخطأ ووهم ، وبقدر وقوع المخالفة والتفرد ، ونوعية كل منهما يقع تصنيف الرواة ، إما في الضعفاء أو المتروكين ، أو الكذابين .
وجدير بالذكر إن المخالفة والتفرد على الصور المذكورة هما المقصودان في مفاهيم الشاذ والمنكر ، وليس كل أنواع المخالفة والتفرد داخلة فيها ، فإن منها ما هو ناتج عن كثرة الضبط والإتقان ، وهذا النوع من المخالفة والتفرد لا يكون شاذاً ولا منكراً ولا مردوداً ، بل يكون صحيحاً مقبولاً ، وإن كان ظاهر القول الذي يربط الشذوذ بهما يوهم الإطلاق فيها فإن الأمثلة التي ساقوها وقرائن أخرى تؤكد ذلك الذي ذكرناه .
في ظل هذه الحقائق العلمية الملموسة فإن الحكم على الحديث تصحيحاً وتضعيفاً ، قبولاً ورداً ، لم يقع من المحدثين النقاد بالاعتماد على صفة الراوي ، بغض النظر عن المتون والأمور المحيطة بها ، وإنما يقع ذلك بناء على معرفة موافقة راويه للواقع ، أو مخالفته له ، أو تفرده بما لا أصل له ، ولو كان الراوي إماماً جليلاً .
وإن كانت الركيزة الأولى الأساسية للحكم على الحديث هي معرفة موافقة راويه للواقع أو مخالفته له أو تفرده بما لا أصل له ، فإن الناقد ينبغي أن تتوفر فيه من الأمور ما يؤهله لمعرفتها ، ومن أهمها الفقه وحفظ الأحاديث وضبطها واستيعاب طرقها ومعرفة رواتها ، وإلا فإنه لا يعرف الواقع ، ولهذا فإن النقاد كانوا يهتمون بشقي علوم الحديث ، وهما الجانب الفقهي وجميع ملابساته والجانب النقدي وسائر ما يتصل به ، كما سبق تفصيله .
ويلاحظ مما ذكرنا : أن ما يتجه إليه اهتمام الناقد في نقده بادية هو ما ذكره الراوي عن شيخه : هل حدث شيخه بهذا السند هذا الحديث ؟ أو حدث بسند آخر ؟ أو حدث بهذا السند متناً آخر ؟ أو لم يحدث به أصلاً ؟
والنقد الذي يرتكز أساساً على هذه المحاور لا يتم في حالة ما ؟ إذا فصل الإسناد عن المتن ، وغض النظر عنه ، إلإسناد لا يتحقق له وجود إلا باعتبار متنه ، وبالتالي لا يستحق أي حكم ، إلا إذا صار النظر شكلياً ، كأن يدرس تراجم رواه الإسناد ، وإمكانية اللقاء بينهم ، دون ربطه بالواقع الجزئي الذي بصدده هذا الإسناد ، فعندئذ يصبح الحكم الذي صدر عن الباحث حكماً عاماً لا علاقه له بما وقع ، وهذه دراسة المعاصرين خاصة والمتأخرين عامة إلا المحققين .
وإذا صدر عن الناقد حكم بأن الإسناد صحيح فمعناه أن كل راو من السند صادق ومصيب في قوله ، وعزوه لمن فوقه ، وبذلك يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قاله ، ولا يصح القول أبداً إن السند صحيح والمتن ضعيف ، أو موضوع ، لأن الخلل الوارد في متن إنما هو من جهة أحد رواته ، فيصبح تصحيح الإسناد حكماً مناقضاً للواقع الذي يقضي بوجود خاطئ أو كاذب في ذلك الإسناد ، وإلا فإن الخطب الجلل لما يلزم منه نسبة الخطأ أو الكذب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وأما ما شاع لدى المتأخرين من ذلك الإطلاق فإنه لا يعدو كون الرواة ثقات فقط ، لا أكثر ولا أقل .
وصفوة القول فإن نقد المحدثين في المرحلة الأولى نقد علمي متكامل بجميع عناصره ، لا يفصل الإسناد عن المتن ، حيث يقوم أساساً على المعرفة الحديثية والفقهية ، ومن ثم أصبحت علوم الحديث تحوي هذين الجانبين دون فكاك .
إضافة إلى قضايا أخرى تطرقنا إليها نظراً لأهميتها البالغة ، مثل مسألة تدوين السنة ، ومحاكمة الأحاديث إلى القرآن بغرض معرفة صحتها وكذبها ، وضرورة التفريق بين الغريب الشاذ وخبر الآحاد ، وسر إهمال النقد لبيان الوضع في الأحاديث بياناً مفصلاً ، في حين أنهم نشطوا في كشف عللها ، وعناية المحدثين النقاد بنقد المتون ، ورد الشبهات حولها ، وغيرها من الأمور التي وجدناها بحاجة إلى إبراز الواقع فيها .
كتبت لك ـ يا أخي العزيز ـ هذا البحث ، بفضل من الله سبحانه وتعالى ، ولا أريد إلا أن أرسم لك منهج المحدثين النقاد . الذي تسعى إليه من وراء دراسة مصطلح الحديث ، وأن أحملك على أن تحذو حذوهم في نقد الأحاديث . والله الموفق .
رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً ، والحمد لله رب العالمين .
ـ تمّ بعون الله ولله الحمد والشكر ـ(1/36)