نصائح مهمة
لحُسن فهم السنة
أنيس بن أحمد بن طاهر الأندونوسي
عضو هيئة التدريس بكلية الحديث
بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية
مُلتقى أهل الحديث
www.ahlalhdeeth.com
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله × أما بعد :
فهذه كلمات مختصرة يسيرة في مسالة منهجية تتعلق بفهم السنة النبوية .
المسلم مأمور بالاقتداء برسول الله × والتأسي به قال الله تبارك وتعالى : + وَمَا آتَاكم الرَّسُوْلُ فَخُذُوْهُ وَ مَا نَهَاكُم عَنْهُ فَاْنَتُهواْ " (1) ، وقال سبحانه : + لَقَدْ كَاَنَ لَكُمْ فيِ رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةُُ لِمَن كَاَنَ يَرْجُواْ اللهَ وَاْليَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً " (2) 1) فإذا وقف المسلم على أحاديث الرسول × وأراد أن يتعبد لله بها كان لابد قبل العمل بها أن يدرك ويفهم أموراً تُعد ضوابط لها لحسن فهمها وحسن العمل بها ، حتى يكون فهمه سديداً ، وأخذه بها رشيداً .
* * * * *
__________
(1) سورة الحشر ، من الآية رقم 7 .
(2) سورة الأحزاب ، آية رقم 21 .(1/1)
حين كان رسول الله × يتحدث بحديث أو يعمل عملاً إنما كان يريد أمراً معيناً من ذلك القول وذلك العمل فلم يكن هناك تباين بين لفظ الحديث ومعناه وبيان المراد منه ؛ لأنه لو فهم حديث رسول الله × خطأ أو عمل به على غير المراد لنزل الوحي يسدد ويصّوب . فهذا عدي بن حاتم - رضي الله عنه - حين نزل قول الله - عز وجل - : + وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ اْلَخيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ اْلَخيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ اْلَفجْر " (1) 1) عمد إلى خيطين أحدهما أبيض والآخر أسود جعلهما تحت وسادته ، وطفق ينظر إليهما فلم يتبين له شيء ، فلما أخبر رسول الله × بذلك قال له × : (( هما خيطا الليل والنهار )) (2) .
فبين له الرسول × المراد من النص القرآني .
ومن أهم ما ينبغي أن يتعلمه المسلم من الضوابط ليحسن فهمه للسنة وأخذه لها ما يلي :
الضابط الأول : فهم السنة في ضوء القرآن
السنة النبوية هي الأصل الثاني في التشريع الإسلامي ، وهي مبينة شارحة مفصلة لكتاب الله تبارك وتعالى ، ولا تعارض بين المفسِّر والمفسَّر ، وإن وجد ما ظاهره التعارض فهو إما لعدم صحة الحديث أو لعدم فهمنا له .
ويدخل في غير الصحيح المضطرب فالاضطراب موجب للضعف ويوم يقع الخلاف من الرواة في نقل سند أو متن ويقوى ولا يظهر وجه الترجيح فإنّ العلماء يعزون الخلاف إلى الرواة ويسمون ما رووه و نقلوه ( مضطرباً ) ، لأنه لا يمكن أن يقع خلاف في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصحيحة .
قال الله تبارك و تعالى : + وَلَو كَاَن مِنْ عِنْدِ غَيْرِ الله
لَوَجَدُوا فِيْهِ اْخْتِلَافاً كَثِيراً " (3) .
__________
(1) سورة البقرة ، من الآية رقم 187 .
(2) رواه البخاري ( كتاب الصوم _ باب قول الله تعالى : + وكلوا واشربوا " _ 2/ 328 ) ، ومسلم ( كتاب الصيام _ باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر _2/766 ) .
(3) سورة النساء ، من الآية رقم 82 .(1/2)
ومن أظهر الأمثلة على أنّ السنة الصحيحة لا تعارض القرآن وأنّ الذي يعارض هو الأحاديث الضعيفة والموضوعة : ( قصة الغرانيق ) فيروى أنّ رسول الله × قال بعد أن تلا قول الله تعالى : + أَفَرَأيْتُمُ اللّاتَ وَالْعُزَّىُ . وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى " (1) :
(( تِلْكَ الَغَرِانيْقُ العُلاَ وإِنَّ شَفَاَعَتَهُنَّ لَتُرْتُجَى )) تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً .
فمن المستحيل أن تثبث هذه القصة الباطلة لمخالفتها للآية نفسها التي قيل إنها جزء منها .
أفيعقل أن يقول إمام التوحيد وحامل راية الحنيفية بعد إبراهيم عليهما الصلاة والسلام مثل هذا
الكلام في مدح آلهة المشركين ؟! .
فالحديث باطل قطعاً كما جزم بذلك الإمام محمد بن إسحاق بن خزيمة ـ رحمه الله ـ حيث قال : (( هذا من وضع الزنادقة )) (2) .
وقد جمع طرق الحديث وبيّن بطلانه الشيخ المحدث محمد ناصرالدين الألباني في رسالة له مطبوعة سماها : ( نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق ) ، وللشيخ محمد الصادق العرجون بحثٌ ضمن كتابه ( محمد رسول الله ) عنوانه : قصة الغرانيق أكذوبة بلهاء متزندقة .
وللشيخ علي حسن عبدالحميد كتاب مطبوع باسم ( دلائل التحقيق لإبطال قصة الغرانيق رواية ودراية ) ، ويقع في إحدى وخمسين ومائتي صفحة .
مثال آخر : حديث : (( شاوروهّن وخالفوهن ))
قال الحافظ السخاوي : باطل لا أصل له (3) .
لأنه مخالف لقول الله تعالى : + فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا " (4)
( فصالاً ) معناها : فطاماً (5) .
__________
(1) سورة النجم ، الآيات من 19 ـ 22 .
(2) نصب المجانيق ( ص 25 ) .
(3) مختصر المقاصد الحسنة ( ص 123 ) .
(4) سورة البقرة ، آية رقم 233 .
(5) جامع البيان ( 2 / 505 ) .(1/3)
دلت الآية على مشروعية استشارة الرجل زوجته في شأن رضيعيهما ، وأن له أن يتفق معها على الفطام بعد هذا التشاور ، ودلّ الحديث الواهي على عدم الاعتداد برأي المرأة بعد استشارتها مطلقاً !! .
وإذا اختلفت فهوم العلماء في الاستنباط من السنة فأولاها بالتقديم والترجيح ما أيده كتاب الله تبارك وتعالى .
فلقد اختلف الفقهاء في زكاة الخارج من الأرض من الفواكه والخضراوات والقطن والقصب أي من غير الأصناف الأربعة التي تكال من القمح والشعير وما شابه ذلك . فذهب الأئمة الثلاثة بخلاف أبي حنيفة إلى عدم وجوب الزكاة في غير الأصناف التي تُكال (1) ، وخالفهم أبو حنيفة فذهب إلى وجوب الزكاة في كل أصناف المأكول قوتاً كان أو
غيره .
قال أبو بكر بن العربي في كتابه : ( أحكام القرآن ) : (( أما أبو حنيفة فجعل الآية مرآته فأبصر الحق ، فأوجبها في المأكول قوتاً كان أو غيره ، وبيّن النبي × ذلك في عموم قوله : (( فيما سقت السماء العشر )) (2) ) (3) .
ويقصد ابن العربي ـ رحمه الله ـ بالآية قول الله تبارك وتعالى : + وَهُوَ الّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوْشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزّيْتُونَ والرُمّانَ مُتَشَاَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ
ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ و وَءَاُتواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ .. } (4) .
الضابط الثاني : جمع أحاديث الموضوع الواحد والباب الواحد في مكان واحد
قال يحي بن معين : لو لم نكتب الحديث من ثلاثين وجهاً ما عقلناه (5) .
__________
(1) كشف المخدرات ( ص 137 ) ، وكفاية الأخيار ( 1 / 173 ) ، والمغني ( 4 / 157 ) .
(2) رواه البخاري ( كتاب الزكاة – باب العشر فيما يسقى من ماء السماء – 3 / 347 / الفتح ) .
(3) أحكام القران ( 2 / 283 ) .
(4) سورة الأنعام ، آية رقم 141 .
(5) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع ( 1 / 270).(1/4)
وقال أحمد بن حنبل : الحديث إذا لم تجمع طرقه لم تفهمه ، والحديث يفسر بعضه بعضاً (1) .
وقال إبراهيم بن سعيد الجوهري : الحديث إذا لم يكن عندي من مائة وجه أعدُّ فيه نفسي يتيماً (2) فمن اللازم لفهم السنّة فهماً صحيحاً أن تجمع
الأحاديث الصحيحة في الموضوع الواحد بحيث يرد
متشابهها إلى محكمها ، ويحمل مطلقها على مقيدها ويفسر عامها بخاصها وبذلك يتضح المعنى المراد منها ولا يضرب بعضها ببعض وإذا كان من المقرر أن السنّة تفسر القرآن الكريم وتبينه بمعنى أنها تفصل مجمله وتفسر مبهمه وتخصص عمومه وتقيد إطلاقه ،
فأولى ثم أولى أن يراعي ذلك في السنّة بعضها مع بعض (3) .
فإذا لم يحصل جمع طرق الحديث الواحد للموضوع الواحد في مكان واحد فإنه قد يقع انحراف في فهم ذلك الموضوع يخرجه ذلك الانحراف عن جادة الصواب ، وعن مراد الإسلام مع أنّ المستدل يستدل بحديث صحيح إلا أنه لم يضم إليه نظائره في الباب وبالتالي لم يتم فهمه للحديث الأول بل انحرف فهمه وتصوره لهذه القضية التي فَهْمُهَا يحتاج إلى ضم الروايات بعضها إلى بعض .
مثال ذلك حديث أبي أمامة - رضي الله عنه - حين نظر إلى آلة حرث ( محراث ) فقال : سمعت رسول الله × يقول : (( لا يدخل هذا بيت قوم إلا أدخله الله الذل )) (4)
__________
(1) المصدر السابق
(2) تاريخ بغداد (6 /94) ، وسير أعلام النبلاء (12 /150)
(3) كيف نتعامل مع السنّة ( ص 103 ) .
(4) رواه البخاري ( كتاب الحرث والمزارعة – باب ما يحذر من عواقب الاشتغال بآلة الزرع – 5 / 4 / الفتح ) .(1/5)
فظاهر هذا الحديث يفيد كراهية الرسول × للحرث والزراعة لكن لو جمع الإنسان أحاديث أخر في الزراعة لوجد رسول الله ×يحث عليها ويبين إباحتها من مثل قوله × : (( مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْساً أَوْ يَزْرَعُ زَرْعَاً فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ أَوْ إِنْساَنُ أَوْ بَهِيْمَةٌ إِلاّ كَاَن لَهُ به صَدَقَةٌ )) (1) ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : (( إِنْ قَاَمَتْ عَلَى أَحَدِكُمُ اْلِقَيامَةُ وَفي يَدِهِ فَسِيْلَةٌ فَلْيَغْرِسْهَا )) (2) .
وهذا الحديث الأخير من أروع وأبلغ ما جاء في الحث على الغرس والزرع .
فكيف جمع العلماء بين هذه الأحاديث التي ظاهرها التعارض ؟ وما الفهم الصحيح بعد هذا الجمع لهذه القضية ؟ .
من فقه البخاري أنه بّوب على حديث النهي عن الزرع فقال : ( باب ما يُحَذَّرُ من عواقب الاشتغال بآلة الزرع أو مجاوزة الحدّ الذي أُمر به ) .
قال الحافظ ابن حجر : (( وقد أشار البخاري بالترجمة إلى الجمع بين حديث أبي أمامة والحديث الماضي في فضل الزرع والغرس ، وذلك بأحد أمرين : إما أن يحمل ما ورد من الذم على عاقبة ذلك ، وإما أن يحمل على ما إذا لم يضيع إلا أنه جاوز الحد فيه .. )) (3)
ومما يؤيد أن النهي المراد به هو ما إذا انشغل بالزرع عن فرائض وواجبات كالجهاد في سبيل الله لاسيما لمن هو قريب من أعداء الله حديث ابن عمر مرفوعاً : (( إذا تبايعتم بالعينة ، وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع ، وتركتم الجهاد ، سلَّط الله عليكم
ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم )) (4) .
__________
(1) رواه البخاري ( كتاب الأدب – باب رحمة الناس والبهائم – 10 /438/الفتح ) ، ومسلم ( كتاب البيوع – باب فضل الغرس والزرع – 7 /4241/المنهاج ) .
(2) صحيح . رواه أحمد ( 3 /183، 184) .
(3) فتح الباري ( 5 / 5 ) .
(4) حديث صحيح . رواه أحمد (2 /84 ) ، وأبو داود
( كتاب الإجارة – باب في النهي عن العينة – 2/246 / طبعة الحلبي ) .
وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/15 /رقم 11) .(1/6)
الضابط الثالث : الجمع والترجيح بين مختلف الحديث
الأصل في نصوص القرآن والسنة الصحيحة أنه لا تتعارض قال الله تبارك وتعالى + وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً " (1) وإذا وجد من ذلك شىء فإنما هو فيما ظهر لنا لا في حقيقة أمر تلك النصوص هذا هو اعتقاد المؤمن في الأحاديث الثابتة وقد قيد العلماء ما ظاهره التعارض من النصوص ، ودفعوا ذلك عنها التعارض الظاهر بالجمع أو الترجيح من غير تكلف ولا تعسف .
ومن تلك الأحاديث التي ظاهرها التعارض : أحاديث النهي عن استقبال القبلة بغائط أو بول مع الأخرى المبيحة لذلك .
فمن الجمع الذي جمع به العلماء بين هذه الأحاديث القول بأنّ النهي يحمل على الخلاء ، والإباحة تحمل على البنيان (2) .
ومن أنفع الكتب التي تراجع للوقوف على
( مختلف الحديث ) كتاب : ( مشكل الآثار ) للطحاوي ، وكتاب (تأويل مختلف الحديث ) لابن قتيبة .
...
الضابط الرابع : معرفة الناسخ من المنسوخ من الحديث
النسخ في الحديث واقع ، وعمل المسلم بالحديث من غير معرفة ما إذا كان الحديث منسوخاً يوقعه في العلم بما لم يكلف به شرعاً ؛ لأننا لسنا مكلفين بالعمل بالأحاديث المنسوخة ، والنسخ علة تمنع من العمل بالحديث .
قال الحافظ السيوطي رحمه الله تعالى :
والنسخُ قد أدرجه في العلل
الترمذي وخصّه بالعمل (3)
ولا يجوز التعجل في هذا الباب والقول بالنسخ إلا بعد معرفة الأدلة والقرائن الدالة على النسخ .
ومن الكتب التي يستعان بها لمعرفة المنسوخ من الأحاديث كتاب : ( إتحاف ذوي الرسوخ ) للجعبري ، و : ( الناسخ من المنسوخ ) لابن الجوزي و : ( الإعتبار في الناسخ و المنسوخ من الأخبار ) للحازمي .
الضابط الخامس : معرفة أسباب ورود الأحاديث
__________
(1) سورة النساء ، من الآية رقم 82 .
(2) ... تأويل مختلف الحديث ( ص 90 ) ، ونيل الأوطار
( 1 /98 ) .
(3) الألفية ( ص 22 ) .(1/7)
معرفة أسباب ورود الحديث تعين على فهم مراد رسول الله × من الحديث : (( فمن حسن الفقه للسنّة النبوية : النظر فيما بني من الأحاديث على أسباب خاصة أو ارتبط بعلة معينة منصوص عليها في الحديث أو مستنبطة منه أو مفهومة من الواقع الذي سيق فيه الحديث .
لابدّ لفهم الحديث فهماً سليماً دقيقاً من معرفة الملابسات التي سيق فيها النص وجاء بياناً لها وعلاجاً لظروفها حتى يتحدد المراد من الحديث بدقة ، ولا يتعرض لشطحات الظنون أو الجري وراء ظاهر غير مقصود )) (1) .
مثال ذلك حديث : (( أنتم أعلم بأمور دنياكم )) (2) .
(( يتخذ منه بعض الناس تكأة للتهرب من أحكام الشريعة في المجالات الاقتصادية والمدنية والسياسية ونحوها لأنها ـ كما زعموا ـ من شؤون دنيانا ، ونحن أعلم بها وقد وكلها الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلينا .
فهل هذا ما يعنيه الحديث الشريف ؟! كلا ...
ومن هنا جاءت نصوص الكتاب والسنّة التي تنظم شؤون المعاملات من بيع وشراء وشركة ورهن وإجارة وقرض .. وأنّ أطول آية في كتاب الله نزلت في تنظيم كتابة الديون : + يَاَ أيُّهَا الّذِيْن آمَنُوا إِذَا تَدَاَيْنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمَّىً فَاكْتُبُوْه .. " (3)
فالحديث : (( أنتم أعلم بأمور دنياكم )) يفسره سبب وروده وهو قصة تأبير النخل وإشارته عليه الصلاة والسلام عليهم برأي ظني يتعلق بالتأبير .. فتركوا التأبير فكان تأثيره سيئاً على الثمرة )) (4) ثم قال ما قال × .
مثال آخر حديث : (( من سنّ في الإسلام سنة حسنة ... الحديث )) (5) .
__________
(1) كيف نتعامل مع السنة ( ص 125 ) .
(2) رواه مسلم ( كتاب المناقب – رقم 2363 ) .
(3) سورة البقرة ، من الآية رقم 282 .
(4) كيف نتعامل مع السنّة ( ص 125 – ص 127 ) .
(5) رواه مسلم ( كتاب الزكاة – باب الحث على الصدقة
–4 /2801 ، 2802 ) .(1/8)
يفهم بعض الناس هذا الحديث فهماً خاطئاً ؛ فيبتدعون في دين الله بدعاً ويزعمون أنهم يتقربون بها إلى الله ويدعون أن هذه سنّة حسنة تدخل ضمن حديث رسول الله × الآنف الذكر ، ولكن حين نرجع إلى سبب ورود الحديث نجد سببه هو أن النبي × أمر بالصدقة يوماً ، فجاء رجل بِصّرة عظيمة كادت يداه تعجزان عن حملها ، ثم ألقاها في وسط المسجد ، فتتابع الناس على الإنفاق ، فتهلل وجه رسول الله × كأنه مذهبة ، وقال الحديث .
فحمل الحديث على البدع غير مراد بيقين . بل هو ضلال مبين ، وسبب الورود أدل دليل على بطلان الاستدلال .
ولابن حمزة الدمشقي كتاب : ( البيان والتعريف في أسباب ورود الحديث الشريف ) مطبوع في ثلاث مجلدات وهو من أجمع كتب هذا الفن .
الضابط السادس : معرفة غريب الحديث
رسول الله × أفصح من نطق بالضاد وقد كان يتكلم مع الصحابة بكلام عربي مبين معروف لديهم لأنهم عرب أقحاح لم تداخلهم العجمى ، فلم يكن يصعب عليهم فهم المراد من اللفظ المنطوق به ، ولكن مع تأخر الزمان واختلاط الناس ببعضهم عربهم وعجمهم ضعفت لغة الكثير من الناس ، وخالطت العجمى ألسنتهم وبعدوا عن التلفظ بالفصيح من اللغة العربية ، لذلك يجد كثير من الناس صعوبة في فهم كثير من الأحاديث النبوية لعدم معرفتهم بمعاني كلمات تلك الأحاديث .
من أجل هذا تصدى العلماء لهذا النوع من التصنيف أعني التصنيف في غريب الحديث ؛ فألفوا
كتباً لبيان الغريب وشرحه .
فإذا أراد العالم وطالب العلم والمسلم عموماً أن يفهم الحديث على وجهه فعليه بمراجعة كتب غريب الحديث ومن أهمها : كتاب ( غريب الحديث ) للهروي ، و : ( غريب الحديث ) لأبي إسحاق الحربي ، و : ( غريب الصحيحين ) للحميدي ، و : ( النهاية في غريب الحديث ) لابن الأثير ، وهو من أجمع كتب الغريب وأنفعها .
الضابط السابع : فهم السنّة كما فهمها صحابة رسول الله ×(1/9)
هذا الضابط يعد من أهم الضوابط ؛ وذلك ليكون تمسك المسلم بالسنّة تمسكاً سلفياً سليماً من الزيادة والنقصان .
فأولى ما شرحت به الأحاديث النبوية هي الأحاديث النبوية نفسها ثم الآثار السلفية عن صحابة رسول الله × ؛ فالصحابة - رضي الله عنهم - قد شهدوا التنزيل ، ونزل الوحي بين ظهرانيهم فلو حصل فهم خاطئ لأحدهم للسنّة لنزل جبريل - عليه السلام - على رسول الله ×
يصحح ويصوب ، ولذلك عدّ المحدثون قول الصحابي : (( كنا نرى كذا على عهد رسول الله )) من قبيل ماله حكم الرفع .
قال الحافظ العراقي رحمه الله تعالى :
وقولهم كنا نرى إن كان مع
عصر النبي من قبيل ما رفع
وقيل لا ولكن يشعر
بصحة الأصل له كيذكر (1)
فإذا تنازع الناس في فهم حديث فإنّ أولى الفهوم بالتقديم فهوم صحابة رسول الله × .
مثال ذلك : حديث استقبال القبلة أو استدبارها ببول أو غائط ، ذكرت رأياً في الجمع بين ما ظاهره التعارض ومما يدعم هذا الرأي أثر عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال : (( إنما نهي عن ذلك في الفضاء ، فإذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس )) (2) .
وتراجع للوقوف على معاني الأحاديث النبوية فهماً سلفياً الكتب التي يكثر فيها مؤلفوها من إيراد الآثار السلفية عن الصحابة - رضي الله عنهم - وعن التابعين رحمهم الله أثناء رواية الأحاديث المرفوعة من مثل :
كتاب : ( مصنف عبدالرزاق ) ، و : ( مصنف ابن أبي شيبة ) ، و : ( سنن سعيد بن منصور ) ، و :
( سنن الدارمي ) ، و : ( السنن الكبرى والصغرى للبيهقي ) .
الضابط الثامن : الرجوع إلى كتب الشروح
من المهمات لفهم الأحاديث النبوية مراجعة كتب الشروح ففيها بيان الغريب والناسخ والمنسوخ وفقه الحديث والروايات المختلفة فلا غنى للمسلم عنها .
__________
(1) التبصرة والتذكرة (1/127) .
(2) رواه أبو داود ( كتاب الطهارة – باب كراهية استقبال
القبلة عند قضاء الحاجة – 1 / 3 ) .(1/10)
... وقد خلّف لنا أئمة الإسلام مكتبة ضخمة من كتب الشروح للأحاديث النبوية ، والعلماء هم ترجمان الأحاديث لعامة الأمة ، وكلما كان العالم متقدماً كان شرحه أقرب للصواب وأدعى للقبول ـ في الغالب ـ .
وأولى الشروح بالتقديم بعد مراعاة تقدم زمن المؤلف ماكان يعتني فيها مؤلفوها بالأدلة ببيان مخارجها المختلفة وبيان صحتها من ضعفها ، وكذا
يقدم منها ماكان مؤلفوها أبعد عن التعصب المذهبي الذي قد يُصْرَفُ الحديث بسببه عن المعنى الذي يريده رسول الله × بغير دليل راجح .
فمن أمثلة كتب شروح الأحاديث القديمة الأثرية المعتمدة كتاب ( شرح السنّة ) للبغوي ، و كتاب ( فتح الباري ) لابن رجب الحنبلي ، و مما تأخر عنهما ككتاب ( فتح الباري شرح صحيح البخاري ) لابن حجر العسقلاني .
خلاصة الكلام
... أنّ الطريق الأمثل لفهم حديث رسول الله × بعد البحث عن ثبوته ( صحته أو حسنه ) يتلخص في الأمور التالية :
أولاً : فهم الحديث النبوي في ضوء كتاب الله ، وليس
شرطاً مطرداً ؛ لأن في السنّة تفصيلات لا وجود لها في كتاب الله .
ثانياً : جمع أحاديث الباب الواحد في مكان واحد .
ثالثاً : الجمع بين ما ظاهره التعارض وهو ما يسّمى بمختلف الحديث .
رابعاً : معرفة الناسخ من المنسوخ .
خامساً : معرفة أسباب ورود الأحاديث .
سادساً : معرفة غريب الحديث
سابعاً : فهم السنّة في ضوء الآثار السلفية عن الصحابة رضي الله عنهم أجمعين .
ثامناً : الرجوع إلى كتب الشروح .
... هذا ما تيسر تحريره من هذه الضوابط التي كان أصلها محاضرة ألقيت في بعض المساجد في أماكن متفرقة وجزى الله الأخ الكريم / محمد بن محمد الجيلاني على اجتهاده في إخراج هذه المحاضرة مكتوبة مطبوعة .
وأسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن ينفع بهذا الجهد اليسير والعلم القليل المسلمين ، وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم ومن أسباب الفوز بجنات النعيم والله أعلم .
وكتبه
أبو أنس أنيس بن أحمد بن طاهر الأندونوسي(1/11)
عضو هيئة التدريس بكلية الحديث
بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية
28 /2 /1420هـ(1/12)