موقف البخاري من أحاديث أهل البدع والأهواء
من المسائل التي لها تعلق بشرط العدالة. وهي شرط أساسي في صحة الحديث – الرواة الذين طعن في عدالتهم بسبب البدع والأهواء، وذلك لأن القدح في الراوي يكون بعشرة أشياء. خمسة تتعلق بالعدالة وخمسة تتعلق بالضبط، فقد بينها الحافظ فقال : " ثم الطعن إما أن يكون لكذب الراوي، أو تهمته بذلك، أو فحس غلطه، أو غفلته، أو فسقه، أو وهمه، (ص 98) أو مخالفته، أو جهالته، أو بدعته، أو سوء حفظه "(1) وهذه العشرة اختصها الحافظ بنفسه في خمسة فقال : "أسباب الجرح مختلفة، ومدارها على خمسة أشياء : البدعة، أو المخالفة، أو الغلط، أو جهالة الحال، أو دعوى الانقطاع في السند "(2).
وقبل تحديد موقف البخاري من أحاديث أهل البدع والأهواء، ينبغي التعريف بالبدعة لغة واصطلاحاً، وبيان أقسامها، ثم تحديد موقف الأئمة من روايات المبتدعة. ثم أعرج على موقف الإمام البخاري في ذلك مقروناً بالأمثلة التطبيقية من خلال الجامع الصحيح.
تعريف البدعة :
لغة : أبدع الشيء : اخترعه لا على مثال، والله بديع السموات والأرض أي (مبدعهما) (البديع) المُبتدع، وشيء (بدع) بالكسر أي مُبتدع ومنه قوله تعالى : { قل ما كنت بدعاً من الرسل } (3) والبدعة : الحدث في الدين بعد الإكمال، وبدعة تبديعاً : نسبة إلى البدعة(4).
__________
(1) ابن حجر العسقلاني : نخبة الفكر مع شرحه نزهة النظر – شركة الشهاب الجزائر، ص40.
(2) ابن حجر العسقلاني : هدي الساري – ط دار الريان – القاهرة، ص381.
(3) سورة الأحقاف، الآية : 9.
(4) محمد بن أبي بكر الرازي : مختار الصحاح – ت مصطفى البغا – دار الهدى للطباعة والنشر ص36.(1/1)
أما في الاصطلاح : فقد اختلفت أنظار العلماء، وتنوعت تعاريفهم، فمنهم من توسع في مدلولها، ومنهم من ضيق. ومن هنا يمكن حصر التعاريف الاصطلاحية للبدعة في اتجاهين(1).
1 – الاتجاه الأول : وهو التوسع في مدلول البدعة لتشمل كل أمر لم (ص 99) يكن في عهده صلى الله عليه وسلم، ولم يأت شيء في القرآن والسنة يدل عليه، سواء أكان دينياً أم دنيوياً، محموداً كان أم مذموماً، وهو مطابق تماماً للتعريف اللغوي ويمثل هذا الاتجاه جماعة من الأئمة منهم: الإمام الشافعي، وابن حزم، والعز بن عبد السلام، والقرافي وغيرهم.
2 – الاتجاه الثاني : وهو التضيق في مدلول البدعة لتنحصر في الجديد (المحدث) المخالف للسنة، ومنهم من ضيق أكثر فقال : البدعة كل محدث مخالف للسنة ينسب إلى الدين ويتعبد به ويمثل هذا الاتجاه جماعة من العلماء منهم : ابن رجب الحنبلي، وابن حجر العسقلاني، وابن حجر الهيتمي، والزركشي وغيرهم، وأما من اعتبر قيد المخالفة للسنة والتدين بهذا المحدث، فعلى رأس هؤلاء الإمام الشاطبي. وقد ناقش في كتابه " الاعتصام " أصحاب الرأي الأول مناقشة علمية، وأبطل تقسيمهم للبدع إلى محمود ومذموم، وعرف البدعة بقوله : " البدعة طريقة في الدين مخترعة، تضاهي الشرعية. يقصد بالسلوك عليها، المبالغة في التعبد لله تعالى "(2).
__________
(1) انظر : الدكتور عزت علي عطية : البدعة تحديدها وموقف الإسلام منها – مطبعة المدني – القاهرة 1973م ص195 – 220.
(2) أبو إسحاق الشاطبي : الاعتصام – ضبطه وصححه الأستاذ أحمد عبد الشافي – دار اشريفة، ج1 ص28.(1/2)
وعلى الرغم من تباين هذين الاتجاهين من حيث التوسع والتضييق في مفهوم البدعة إلا أن الواقع العملي في إطلاق البدعة عند علماء الجرح والتعديل المقصود به دائماً ما هو مذموم من الآراء والاعتقادات والأعمال، مما يكون سبيله التأويل الفاسد المستند إلى الشبهات. قال السخاوي – رحمه الله - : " البدعة هي ما أحدث على غير مثال متقدم، فيشمل المحمود والمذموم لكن خصت شرعاً بالمذموم، مما هو خلاف المعروف عن النبي صلى الله عليه وسلم فالمبتدع من اعتقد ذلك لا بمعاندة، بل بنوع شبهة "(1).
أقسام البدعة :
قسم العلماء البدعة إلى قسمين هما : البدعة المكفرة، والبدعة (ص 100) المفسقة(2).
1 – البدعة المكفرة :
ما يخرج صاحبها عن دائرة الإيمان وهي نوعان :
أ – ما اتفق على تكفير أصحابها : كمنكري العلم بالمعدوم القائلين : ما يعلم الأشياء حتى يخلقها، أو منكري العلم بالجزئيات، أو الإيمان برجوع سيدنا علي إلى الدنيا، أو حلول الإلهية في علي أو غيره.
ب – ما اختلف في تكفير أصحابها : كالقائلين بخلق القرآن، والنافين لرؤية الله تعالى يوم القيامة.
2 – البدعة المفسقة :
وهي التي لا تخرج صاحبها عن دائرة الإيمان : مثل بدع الخوارج، والروافض الذين لا يغلون ذاك الغلو، وغير هؤلاء من الطوائف المخالفين لأصول السنة خلافاً ظاهراً لكنه مستند إلى تأويل ظاهره سائغ.
مناقشة التقسيم السابق :
__________
(1) شمس الدين السخاوي : فتح المغيث – ت محمد عويضة – ج1 ص356.
(2) المصدر نفسه ص364، وهدي الساري ص404.(1/3)
هذا التقسيم – الذي ذكره العلماء للبدع – يترتب عليه إشكال كبير وذلك أننا اشترطنا في حد العدالة " السلامة من أسباب الفسق " ثم مثلوا للبدع المفسقة ببدع الخوارج وغيرها من الفرق المخالفين لأصول السنة، ومقتضى ذلك الحكم عليهم بالفسق ورد رواياتهم، والصواب – فيما أرى- أن هذا التقسيم نظري فحسب وذلك أن الحكم بالكفر أو الفسق أو البدعة، إنما يكون بعد إقامة الحجة، وإزالة الشبهة، فمن وقع في شيء من البدع فلا نجرؤ على تبديعه أو تفسيقه أو تكفيره، فإذا كان متأولاً أو جاهلاً، فهو معذور بجهله أو تأويله، لكن من بلغته الحجة، وكشفت له الشبهة، فأصرّ على قوله المخالف لأصول السنة، فهو معاند، ولا شك في فسق هذا النوع، لأنه مخالف لأوامر الله وأحكامه، والفسق هو الخروج عن (ص 101) طاعة الله، ولا فرق في ذلك بين العمليات والأخبار، وإلى هذا المعنى أشار الإمام مسلم في " مقدمة صحيحه " فقال – رحمه الله - : " أعلم أن الواجب على كل أحد عرف التمييز بين صحيح الروايات وسقيمها، وثقات الناقلين لها أن لا يروي إلا ما عرف صحة مخارجه، والستارة في ناقليه، وأن يتقي منها ما كان عن أهل التهم والمعاندين من أهل البدع "(1). والإمام مسلم – صحيحه – ملآن بأحاديث المبتدعة ممن تصنف بدعهم في البدع المفسقة، وليس هناك تناقض بين قوله وفعله، إذا تأملنا القيد السابق، لأن هؤلاء المبتدعة كانت بجعهم عن تأويل وشبهة لا بعناد.
مذاهب العلماء في الرواية عن أهل البدع والأهواء :
__________
(1) مقدمة صحيح مسلم – تحقيق فؤاد عبد الباقي – دار الكتاب المصري – القاهرة ص8.(1/4)
اختلف العلماء من أئمة الحديث ونقاده في حكم الرواية عن أهل البدع والأهواء، اختلافاً كثيراً وخاصة عند المتأخرين منهم. وقد تباينت أنظارهم تبايناً واضحاً، فمنهم من ذهب إلى رد رواية المبتدع رداً كاملاً ولم يقبلها سواء أكان هؤلاء من الغالين أم من غير الغالين، من الدعاة أ غيرهم، ومنهم من قبلها حتى من الغالين، والدعاة منهم، وسأذكر تفصيل ذلك حسب نوعي البدعة.
أما بالنسبة للمبتدعة الذين بدعتهم مكفرة. فللعلماء في رواياتهم ثلاثة مذاهب :
الأول : القبول مطلقاً وإن كانوا كفاراً أو فساقاً بالتأويل، إليه ذهب جماعة من أهل النقل والمتكلمين(1).
الثاني : يقبل خبرهم إذا كانوا يعتقدون حرمة الكذب، وقد ذهب إليه جماعة من الأصوليين، كأبي الحسن البصري المعتزلي(2) وفخر الدين (ص 102) الرازي(3)، والبيضاوي(4).
الثالث : الرد مطلقاً، وقد حكى النووي الاتفاق على أن المكفرين ببدعهم لا يحتج بهم ولا تقبل روايتهم(5) وما سبق ينقض قوله.
__________
(1) انظر الكفاية ص148.
(2) انظر كتابه : المعتمد في أصول الفقه – تحقيق د . محمد حميد الله – المطبعة الكاثوليكية بيروت 1385هـ، ج2 ص617 –619.
(3) انظر كتابه : المحصول في علم أصول الفقه، تحقيق طه جابر فياض العلواني، ق1 ج2 ص567 – 571.
(4) انظر كتابه : منهاج الوصول في علم الأصول بشرح البدخشي والأسنوي – مطبعة محمد علي صبيح – القاهرة، ج2 ص241.
(5) التقريب مع شرحه التدريب للسيوطي – تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف، ج1 ص324.(1/5)
وقد حقق الحافظ رحمه الله هذه المسألة وأتى فيها بقول فصل موافق لما عليه أئمة الحديث ونقاده فقال – رحمه الله - : " والتحقيق أنه لا يرد كل مكفر ببدعته، لأن كل طائفة تدعي أن مخالفيها مبتدعة، وقد تبالغ فتكفر مخالفيها، فلو أخذ على الإطلاق لاستلزم تكفير جميع الطوائف. فالمعتمد : أن الذي ترد روايته : من أنكر أمراً متواتراً من الشرع معلوماً من الدين بالضرورة، وكذا من اعتقد عكسه، فأما من لم يكن بهذه الصفة وانضم إلى ذلك ضبطه لما يرويه مع ورعه وتقواه، فلا مانع من قبوله "(1).
وأما بالنسبة للمبتدعة الذين لم يكفروا ببدعتهم. فللعلماء في رواياتهم خمسة مذاهب :
الأول : الرد مطلقاً : وممن ذهب إليه مالك بن أنس، وابن غُيينة، والحميدي، ويونس بن أبي إسحاق، وعلي بن حرب، وقد وجه الحافظ ابن رجب هذا المذهب بقوله : " والمانعون من الرواية، لهم مأخذان : أحدهما تكفير أهل الأهواء وتفسيقهم، وفيه خلاف مشهور. والثاني : الإهانة لهم، والهجران، والعقوبة بترك الرواية عنهم، وإن لم نحكم بكفرهم أو فسقهم. ولهذا مأخذ ثالث : وهو أن الهوى والبدعة لا يؤمن معه الكذب ولا سيما إذا كانت الرواية مما تعضد هوى الراوي "(2). (ص 103)
الثاني : يحتج بهم إن لم يكونوا يستحلون الكذب في نصرة مذهبهم، سواء أكانوا دعاة أم لا، وممن قال به الشافعي وابن أبي ليلى وسفيان الثوري وروي عن أبي يوسف وأبي حنيفة، وحكاه الحاكم في المدخل عن أكثر أئمة الحديث(3).
الثالث : تقبل رواية المبتدع إذا كان مرويه مما يشتمل على ما ترد به بدعته، وذلك لبعده حينئذ عن تهمة الكذب(4).
__________
(1) نزهة النظر ص53.
(2) ابن رجب الحنبلي : شرح علل الترمذي – حققه وعلق عليه صبحي السامرائي – عالم الكتب – ط الثانية 1405هـ – 1985م، ص65.
(3) الكفاية ص148 – 149.
(4) فتح المغيث : ج1 ص361.(1/6)
الرابع : تقبل روايته إذا كانت بدعته صغرى، وإذا كانت كبرى فلا تقبل(1) فالبدعة الصغرى كالتشيع بلا غلو ولا تحرق، والكبرى كالتشيع مع الغلو والطعن وسب الصحابة.
الخامس : تقبل أخبار غير الدعاة إلى بدعهم، وترد أخبار الدعاة منهم، وقد صرح الخطيب وغيره بأنه مذهب الكثير من العلماء(2).
بعد أن سردت أقوال الأئمة ومذاهبهم في الرواية عن أهل البدع والأهواء، فقد تبين أن مذاهبهم متباينة جداً. امتزجت فيها أقوال المحدثين بآراء علماء الكلام والأصول. فلا بد من استجلاء الموقف العملي للمحدثين من خلال مصنفاتهم، ومن هؤلاء الإمام البخاري – رحمه الله – فكيف تعامل مع روايات أهل البدع في صحيحه ؟
إذا تأملنا رجال البخاري – رحمه الله – نجد جملة كبيرة منهم قد رموا ببدع اعتقاية مختلفة وقد أورد الحافظ في " هدي الساري "(3) من رمي من رجال البخاري بطعن في الاعتقاد فبلغوا (69) راوياً، ومن خلال التتبع لهؤلاء الرواة يمكن أن نستخلص المعايير التي اعتمدها البخاري في الرواية (ص 104) عن أهل البدع ويمكن أن نجملها في النقاط التالية :
- ليس فيهم من بدعتهم مكفرة.
- أكثرهم لم يكن داعية إلى بدعته، أو كان داعية ثم تاب(4).
- أكثر ما يروي لهم في المتابعات والشواهد.
- أحياناً يروى لهم في الأصول لكن بمتابعة غيرهم لهم.
- كثير منهم لم يصح ما رموا به.
إذن فالعبرة إنما هي صدق اللهجة، وإتقان الحفظ، وخاصة إذا انفرد المبتدع بشيء ليس عند غيره.
__________
(1) انظر تفصيل ذلك في ميزان الاعتدال ج1 ص605، وتهذيب التهذيب ج1 ص94 في ترجمة أبان بن تغلب الشيعي.
(2) الكفاية ص149، وفتح المغيث : ج1 ص360، وعلوم الحديث ص103.
(3) هدي الساري ص483 – 484.
(4) انظر ترجمة : عمران بن حطان في هدي الساري ص404، وترجمة شبابه بن سوار في الهدي ص469، وترجمة : عبد الحميد بن عبد الرحمن الحماني في الهدي ص437.(1/7)
وما ذهب إليه البخاري هو مذهب كثير من المحدثين، ومن هؤلاء تلميذه وخريجه الإمام مسلم، فقد روى في صحيحه عن أهل البدع والأهواء المعروفين بالصدق والإتقان، وخاصة إذا انضم إلى ذلك الورع والتقوى، وما ذهب إليه الشيخان هو رأي أكثر الأئمة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وإنما توقف من توقف منهم في الرواية عن أهل البدع إما لأنه لم يتبين لهم صدقهم، أو أرادوا محاصرة البدعة وإخمادها حتى لا تفشوا، ولكن شاء الله تعالى أن تكثر البدع وتفشو، وتبناها كثير من العلماء والفقهاء والعباد فلم يكن من المصلحة ترك رواياتهم، لأن في تركها، اندراساً للعلم، تضييعاً للسنن. فكانت المصلحة الشرعية تقتضي قبولها ما داموا ملتزمين بالصدق والأمانة. قال الخطيب البغدادي – بعد أن ذكر أسماء كثير من الرواة احتج بهم وهم منسوبون إلى بدع اعتقادية مختلفة : ". دون أهل العلم قديماً وحديثاً رواياتهم واحتجوا بأخبارهم، فصار ذلك كالإجماع منهم، وهو أكبر الحجج في هذا الباب وبه يقوى الظن في مقارنة الصواب "(1). (ص 105)
وقال علي بن المديني : " لو تركت أهل البصرة لحال القدر، ولو تركت أهل الكوفة لذلك الرأي خربت الكتب "(2).
__________
(1) الكفاية ص153 – 154.
(2) المصدر نفسه ص157.(1/8)