مناهج المحدثين
تأليف
الدكتور / سعد بن عبد الله الحميد( حفظه الله )
اعتني به
أبو عبيدة ماهر صالح آل مبارك
دار علوم السنة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد :
فقد فوضت الأخ ماهر بن صالح آل مبارك بنسخ الأشرطة التي ألقيتها في بعض الدروات العلمية والمتضمنة لمناهج المحدثين والقيام على تصحيحها وطباعتها ، وهذا إذن مني له بذلك ، وصلي الله وسلم على نبينا محمد .
كتبه
سعد بن عبد الله الحميد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من بعثه الله رحمة للعالمين وعلى آله وأصحابه الغر الميامين . وحمداً وشكراً لله على أن من علينا بقرب ووفرة هؤلاء ، أساتذة العلم وطلابه ، ولولا نعمة الله علينا لأنفقنا النفس والنفيس للجلوس معهم والإستماع إليهم ، والتعلم على أيديهم ، فجزاهم الله خيراً .
وبالنسبة لهذا الكتاب الذي يتعلق ( بمناهج المحدثين ) فهو عبارة عن موضوعات تتعلق ببعض كتب السنة والتعريف بها ، وبطرق مؤلفيها فيها ، ولذلك فهو يعتبر جمعاً لشتات معلومات متوفرة هنا وهناك ، وإن كان الحديث عن بعض الكتب قيد تكون مادته العلمية مستمدة من كتب نركز عليبها . وربما كان ذلك مجموعاً أكثر في كتاب ـ كما هو في موضوعنا الأول عن ( صحيح البخاري ) رحمه الله تعالي ـ ، فإن معظم مادته العلمية موجود في ( هدي الساري) الذي هو مقردمة لفتح الباري الذي شرح فيه الحافظ بن حجر ( صحيح البخاري ) . فالصيد كله في جوف الفراء ولم يدع الحافط ـ رحمه الله تعالي ـ لأحد بعده شيئاً .
وأما ما عدا ذلك من الكتب التي سيأتي الحديث عنها ، فسأحاول ـ إن شاء الله ـ جاهداً أن أشير الى بعض المراجع التي تستمد مادتها العلمية منها .
ملحوظة : ـ
أعلم رحمك الله :(1/1)
أن النبي صلي الله عليه وسلم لما إبتعثه الله ـ جل وعلا ـ لهذه الأمة أنزل معه نورين " الكتاب والسنة " . وحاجة الكتاب الى السنة لا تخفي على طالب علم .
فالسنة هي المبينة للقرآن والموضحة له . ولولا السنة لما إستطاع أحد أن يعمل بكتاب الله ـ جل وعلا ـ لأن هناك كثير من الأمور المجملة كلها فصلتها السنة ، كالصلوات ، والزكاة ، والحج والصيام ، والحدود ، وغير ذلك من الأمور .
فلا نجد أن عدد الصلوات المفروضة في اليوم والليلة خمس صلوات في كتاب الله ـ جل وعلا ـ وإنما فصلت ذلك وبينته سنة النيي صلي الله عليه وسلم وكذلك الزكاة : عن صفتها وما فيها من التفصيل ، كل ذلك بينته السنة . والحج والصيام وغيرذلك من الأمور.
ولما كانت السنة في هذه الأهمية نجد أن صحابة النبي صلي الله عليه وسلم حرصوا كل الحرص على تلقي هذه السنة من النبي صلي الله عليه وسلم بكامل الحذر ـ فالواحد منهم يستشعر قيبول النبي صلي الله عليه وسلم " من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار " وقوله صلي الله عليه وسلم " من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين " أو أحد الكاذبين ، أو " احد الكذابين " ـ على إختلاف الروايات في ذلك .
ثم إن هؤلاء الصحب الكرام من بالغ حرصهم ربما الواحد منهم لازم النبي صلي الله عليه وسلم هاجر الأهل والأوطان . كما صنع أبو هريرة رضي الله عنه ، وكان يلزم النبي صلي الله عليه وسلم على ملء بطنه فقط .
وبعضهم ربما كانت تشغله الدنيا وطلب المعيشة لكنه لا يريد أن يفوته من حديث النبي صلي الله عليه وسلم شيئ فلذلك يتفق مع بعض الصحابة الآخرين على التناوب على النبي نصلي الله عليه وسلم كما صنع عمر بن الخطاب ، وقصته كما هي معروفة في صيحيح البخاري حينما كان يتناوب مع جار له أنصاري مجالس النبي صلي الله عليه وسلم فيحدث هذا بما غاب عنه ذاك والعكس .(1/2)
لكن هؤلاء الصحابة كانوا يتعمدون في الغالب على الحفظ ، فكانوا يحفظون حديث النبي صلي الله عليه وسلم كما يحفظون السورة من القرآن ، وكانو أمة امية لا تعرف الكتابة ولا الحساب ، وإنما كمان التركيزعندهم على الحفظ .
ووجدونفرمحصورون كانوا يكتبون لأنفسهم كما صنع عبد الله بن عمر وبن العاص رضي الله عنهما ، ولسكن هؤلاء النفر ماكان عندهم من حديث النبي صلي الله عليه وسلم الشئ الكثير بحيث يشكل مصنفات كما هو واقع فيما بعد ذلك حينما دونت السنة ، ولكن كان الواحد منهم ربما دون بعض الأحاديث في صيحيفة من الصحف أو نحو ذلك .
والتفصيل في هذه المسألة ليس هذا موضعه ، لأن الأمر يطول حينما نتكلم عن تدوين السنة ، والسبب في أن النبي صلي الله عليه وسلم منعهم من كتابة الجديث ن وكيف كتبوه ، وما هي أقوال العلماء في التوفيق بين أحاديث الإباحة ؟ وهلم جرا . هذا الأمر يطول .
ولكن المقصود الإشارة الى أن سنة النبي صلى الله عليه وسلم إنما دونت تدويناً بهذه الصورة ـ يعني على شكل مؤلفات ـ بعد ذلك بزمن . وكان الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه فكر في تدوين السنة ، ولكنه إستخار الله شهراً كاملاً ثم رأى ألا تدون السنة . وكأنه خشي ـ رضي الله عنه ـ على الناس الداخلين في الاسلام حديثاً أن ينصرفوا الى السنة ويهملوا القرآن ، وربما دخل عليهم شيء من السنة في القرآن وبخاصة أن القرآن لم يجمع الجمع النهائي وإنما كان ذلك في عهد عثمان بن عفان رضي الله تعالي عنه .(1/3)
لكن لما جاء عصرالخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ رأى أن السنة يخشى عليها من الفوت ، وذلك بوفاة حامليها ، فيكتب الى الآفاق يامرهم في تلك الكتب التي كتب إليهم بها أن يدونوا ما عندهم من ستة النبي صلفي الله عليه وسلم ، وما يضاف الى ذلك من آثارعن صحابته الكرام ـ رضي الله عنهم ـ ففعلوا ونهض بذلك بعض العلماء الأجلاء ، كمحمد بن مسلم بن شهاب الزهري ـ رحمه الله تعالى ـ ودونت السنة ، ولكنه ندوين لم يتخذ طابع التصنيف على الموضوعات وإنما هو سرد ، فقد تجد حديثاً في الطهارة يتلوه حديث في النكاح يتلوه حديث في التفسير ، وهلم جرا . وكانت أيضاً تلك الأحاديث مشوبة ومخلوطة بما جاء عن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ من أقوال أو أفعال ، حتي جاء عصر طبقة أخري بعد ذلك ـ وإن كان بعضها ملحقاً بصغار التابعين كأبن جريح رحمه الله تعالى
لما جاء هذا العصر اتخذ التدوين والتصنيف طابعاً آخر فرتبت هذه الأحاديث على الموضوعات ، وبدأ التصنيف يتخذ شكلاً آخر . وهو من باب التفنن في التأليف .
فنجد كثيراً من علماء كانوا متعاصرين في وقت واحد أنهم سلكوا هذا المسلك ، كابن جريح ، ومحمد بن إ سحاق ، والإمام مالك ، وحماد بن سلمه ، وسعيد بن أبي عروبة ، وسفيان الثوري ، ومعمر بن راشد ، وغيرهؤلاء كثير ، كلهم ممن صنف على الموضوعات . ولكن هذه التصانيف أيضاً كانت تمزج الآثار الواردة عن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ بالأحاديث المرفوعة إلي النبي صلي الله عليه وسلم .(1/4)
ولعلكم تلحظون في موطأ الإمام مالك ، وفي مصتف عبد الرزاق ، وفي مصنف ابن أبي شيبة ـ هذه الطريقة هي التي كانت سلكت في ذلك العصر ، إلى أن جاءت سنة مائتين للهجرة ـ إبتدأ العلماء يركزون على فرز الأحاديث عن الآثار الواردة عن الصحابة ـ رضي الله تعالى عنهم ـ فبعضهم رأى أن هناك ما يسهل حفظ تلك الأحاديث ، وذلك بجمع أحاديث الصحابي في موضع واحد غير مرتبة ، وهذا يسهل الحفظ ، لأن الإسناد يتكرر ، والمتون مختلفة .
فإذن سيركز على حفظ المتون ، والإسناد تقريبا ٌ واحد ، وإن اختلف فيختلف في بعض الطبقات ، أما طبقة الصحابة فهذا يقل فيه الحفظ الى حد كبير ، وتتلوه طبقة التابعين ، فربما كان التابعي مكثراٌ عن صحابي معين ، ولذلك يريح الحافظ نفسه من حفط هذا الإسناد في الطبقة العليا ، فالصحابي والتابعي يتكرر معه في أحاديث عدة ، وربما أيضاٌ نزل الى طبقة أتباع التابعين .
فإذا الإختلاف يكون أكثر في طبقة المشايخ ( مشايخ أولئك المصنفين ) ثم في طبقة مشايخهم أيضا ً . لكن هذا النوع من التصنيف وهو الذي يسمي ( المسانيد ) ، كان فيه شيء من الصعوبة على طلبة العلم ، وأيضاً كان المقصود منه حفظ السنة مجرد ة عن التفقه ، فرأي بعض الأئمة أن يسلك مسلكاً آخر في التصنيف مع التركيز على الأحاديث المرفوعة ، فرأوا إفراد أحاديث النبي صلي اله عليه وسلم وفرزها عن آثار الصحابة رضي الله عنهم والآثار الواردة عن التابعين ، ثم ترتيب هذه الأحاديث على الموضوعات الفقهية.
الإمام البخاري رحمه الله تعالى.
…ومن هؤلاء الإمام البخاري رحمه الله تعالي ـ ولكن كان هذا المسلك يمكن أن يجمع أحاديث النبي صلي الله عليه وسلم الواردة عنه بأسانيد صحيحة ثابتة إلى جانب تلك الأحاديث التي لم ترد بتلك الأسانيد الصحيحة .(1/5)
فالبخاري سلك أيضاً المسلك الثاني وهو أن يفرد أحاديث النبي صلي الله عليه وسلم الصحيحة عن ما سواها ، وكان لذلك سبب وهو : أنه كان جالساً في مجلس شيخه إسحاق بن إبراهيم الحنظلي المعروف بإبن راهويه .
وكانت النفوس آنذاك تتشوف الى هذه النقطة التي أشرنا إليها ، زهي فرز صحيح سنة النبي صلي الله عليه وسلم عن ما عداها . فربما كان هناك شيء من التذاكر لهذه المسألة : من ينهض بهذه المهمة ؟
فتكلم إسحاق في مجلسه بهذا الكلام . فقال : لو أفردتم صحيح سنة النبي صلي الله عليه وسلم بالتصنيف كان البخاري ـ رحمه الله ـ قد وقع ذلك من نفسه قبل ذلك ، ورأى في ذلك رؤيا ، رأى أنه أمام النبي صلى الله عليه وسلم وبيده مروحة وهو يذب الذباب عن وجه النبي صلي الله عليه وسلم فذكر ذلك لأحد المعبرين ، فعبر ها له بأنه يذب الكذب عن سنة النبي صلي الله عليه وسلم فلما ذكر شيخه إسحاق بن راهويه هذا الكلام قوي عزم البخاري ـ رحمه الله تعالي ـ في هذه المسألة ونشط في التصنيف .
وكان ـ رحمه الله ـ بلغ من الحفظ والإتقان درجة حسد عليها في عصره ، وكانت ولادته ـ رحمه الله ـ في سنة أربع وتسعين ومائة ، وذلك في الثالث عشر من شهر شوال في تلك السنة ، وبالتحديد في يوم الجمعة بعد صلاة الجمعة .
وابتدأ يسمع الأحاديث على المشايخ الذين في بلده ، وأخذ يرد عليهم ، وينتقد الأخطاء في سن مبكر ، حتي إنه يذكر عن نفسه ـ ربحمه الله ـ أنه كان عند شيخ له يقال له : الداخلي ، فذكر الداخلي إسناداً ـ عن سفيان أو عن أبي الزبير عن إبراهيم ـ فقال البخاري : هذا خطأ ، أو الزبير لا يروي عن إبراهيم .(1/6)
فأغلظ عليه العبارة شيخه هذا واسكته ، فأصر البخاري على مراجعة هذا الشيخ لأصوله . فدخل الشيخ ورأى الحديث ، ثم جاء للبخاري وقال : كيف هو ؟ قال : إنما هو سفيان عن الزبير وهو ابن عدي عن إبراهيم وهو النخعي ، فأبو الزبير الذي هو محمد بن يونس بن تادرس لا يروي عن إبراهيم . فأخذ شيخه هذا يصلح كتابة مما أملاه عليه البخاري .
لما سئل البخاري ـ رحمه الله ـ عن عمره آنذاك حينما رد على شيخه كم كان ؟ أجاب بأن عمره كان إحدي عشرة سنة .
وهذا السن بلا شك أنه يهيأ للإنسان أن يصل إلى هذه الدرجة إلا أن يكون نابغاً . وهكذا كان ـ رحمه الله تعالي ـ بل إنه لا يكاد ترك بلداً من البلدان لم يرحل إليها في طلب العلم ، ولكنه حينما كان يجلس عند الشيوخ لم يكن يكتب ، وكان بعض الطلبة ربما انتقده على هذا الصنيع ، فإذا رآهم يلحون عليه حتي إنهم في بعض الأحيان يصلحون كتبهم من حفظ البخاري .
وهو الذي يقول عن نفسه " رب حديث سمعته في البصرة وكتبته بالشام " .
لا يتفرغ للكتابة إلا بعد مدة مديدة اا فهو يحفظ ثم يترك الكتابة بعد ذلك ، وربما أجل الكتابة إلى أن يصل إلى بلده " بخارى" .
تنبيه :
ومن القصص التي أوردها لأجل التنبيه عليها ، تلك القصية التي اشتهرت وانتشرت ، وفي الحقيقة الذهن يسابعدها ، وقد نكون مخطئين في الاسبتبعاد بسبب قصور فهمنا ، وعدم وجود من هو بهذه الصفة فيما بيننا ، ولكن ـ على كل حال ـ حيث الإسناد الحديثي هي لا تثبت ، فإذا لم يثبت الإسناد لا نثبت المتن حتي يثبت الإسناد ذكروا أن ـ البخاري رحمه الله ـ عزم على الرحيل إلى بغداد ، وعلم به أهل بغداد فحينما علموا به استعدوا للقائه ، فشهرته كانت قد بلغت الآفاق ، وحفظه كان مضرب المثل ، فاستعدوا لرؤية البخاري هذا الذي يتحدث عنه ، ويذكر عنه من الحفظ مايذكر ، فحينما قدم عليهم كان بعض طلبة العلم استعدوا لامتحانه ليروا هل هو حافظ كما يذكر عنه أو لا ؟ .(1/7)
فجمعوا مائة حديث ووزعوها بين عشرة منهم ـ كل واحد عشرة أحاديث ـ لكن هذه العشرة الأحاديث التي عنده لا يأخذها هكذا صحيحة سنداً ومتناً ولكن يأخذ متونها ، وأما الأسانيد العشرة التي عند التلميذ الآخر .
وتلميذ آخر مثله تماما : يأخذ متون أحاديث ويركب عليها أسانيد أحاديث عند تلميذ آخر ، وهلم جرا ، حتى قلبوا عليه المائة حديث ، فحينما قدم أخذوا يلقيون عليه كأنهم يسألونه سؤال التلميذ للعالم يلقون عليه هذه الأحاديث واحداً تلو الآخر ، وفي كل حديث يقول رحمه الله : لا أعرفه ، والناس يتعجبون من هذا البخاري الذي يتحدث عن حفظه إلى هذا الحد ، ولم يعرف حديثاً واحداً من هذه الأحاديث .
فحينما فرغوا من المائة أخذ يعيد عليهم ما أملوه عليه من طريق الخطأ ، ثم يرد الخطأ إلى الصواب ، فيشير إلى كل واحد فيقول : أما حديثك الأول الذي قلت فيه : كذا وكذا ، فصوابه كذا وكذا وكذا ، فإسناد حديثك هو الإسناد الذي عن فلان ، فرد المائة حديث التي قلبوها عليه ـ ردها إلى الصواب .
الحافظ العراقي ـ رحمه الله ـ لما أورد هذه الحكاية قال : أنا لا أعجب من رد البخاري الخطأ إلى الصواب ، ولكن أعجب كيف أن البخاري حفظ الخطأ من أول وهلة .
فهذه القصة أوردها الخطيب البغدادي في تاريخه من طريق بن عدي صاحب الكامل عن أشياخ له ، وإبن عدي لم يدرك البخاري ، وهؤلاء الأشياخ مبهمون ، والله أعلم هل هم ثقات أو لا ؟
وإن كانوا ثقات فهل سمعوه ، أو شاهدوا هذه القصة ، أو أخذوها عن غيرهم ؟ وهذا الغير هل هو ثقة ؟ وهلم جرا يتسلسل الأمر .
لذلك قلت : من حيث الإسناد فهي لا تثبت ، وأما من حيث المتن فعندي أن فيهاا شيئاً من الغرابة ، وهو الذي دعا الحافظ العراقي إلى إستغراب حفظ البخاري للخطأ من أول وهلة . وعلى كل حال مادام أنه يحفظ ـ رحمه الله ـ بهذه الصورة إلي هذا الحد الذي نذكره .(1/8)
ثم إنه رحمه الله لما نشط على التأليف في هذه المسألة وهي تدوين صحيح سنة النبي صلي الله عليه وسلم كان ـ رحمه الله ـ يعتني بتدوين الحديث الذي يري أنه صحيح ، ومع ذلك يستعين بالله جل وعلا ويستخير في إثبات ذلك الحديث أو حذفه . فيذكر أنه ما دون حديثاً من الأحاديث إلا بعد أن يغتسل ويصلي ركعتين ، ثم بعد ذلك يدون الحديث .
عدد الأحاديث في صحيح البخاري :
ولما دون هذه الأحاديث في كتابه ، وكما نرى أنها بالمكرر بلغت سبعة آلاف ومائتي حديث وكسر ، وبغير المكرر كما يذكر الحافظ بن حجر بلغت ألفين وستمائة وحديثين فقط ، وهناك اختلاف في عدّ الأحاديث ، لكن ذكر الحافظ هذا في أحد أقواله .
هذه الأحاديث التي سواء بالمكرر أو غير المكرر انتقاها من ستمائة ألف حديث ، ولكن ليس المقصود بهذه الستمائة أنها ستمائة حديث مفردة ، كل حديث بإسناد وكل إسناد على متن الآخر ، بل المقصود من الستمائة ألف حديث أنها أحاديث بالتكرار ، فالحديث الواحد ـ أي المتن الواحد ـ قد يرد عن عدة من الصحابة ، نعتبره عنه حديثاً واحداُ ، وفي الحقيقة أنهم يعتبرون بعدد أولئك الصحابة .
بل إن الحديث الواحد عن الصحابي الواحد قد يرد من طريق عدة من التابعين عن ذلك الصحابي ، ونحن نعتبره حديثاً واحداً ، وهم يعتبرونه عدة أحاديث بعدد أؤلئك التابعين ، بل من بعد التابعين ومن بعدهم . فالحديث الواحد ربما وصل إلى عشرين حديثاً أو أكثر من العشرين .
ثم أن هذه الأحاديث ليست مرفوعة للنبي صلي الله عليه وسلم فقط ، بل يخالطها أيضاً الآثار الواردة عن الصحابة ، وربما التابعين .
فإذن هم يقصدون بالحديث الإسناد، والإسناد قد يكون مروياً به متن مرفوع للنيي صلي الله عليه وسلم أو أثر عن صحابي ، أو تابعي ، فلذلك لا نستغرب هذا العدد حينما يرد لأن المقصود هو ماذكر فقط .(1/9)
وحينما خرج ـ رحمه الله ـ هذه الأحاديث من الستمائة ألف حديث لم يكن مقصودة أنه لم يصح عن النبي سوى هذا العدد ، ولكنه أراد أن يؤلف كتاباً مختصر في صحيح سنة النبي صلي الله عليه وسلم .
ولذلك ذكر أنه ترك الصحاح أكثر من هذا ، وترك الصحاح لحال الطول حتي لا يطول الكتاب ، أي أنه انتقى أصحة الصحيح عنده ، وإلا فإنه رحمه الله يصحح أحاديث لم يخرجها في كتابه ، والدليل على ذلك أننا حينما نطالع ىفي سنن الترمذي أو في ( جامع الترمذي ) ـ نجد الترمذي ـ رحمه الله ـ يقول : وسألت محمد بن إسماعيل البخاري عن هذا الحديث فقال : هو حدسث عندي صحيح . أو حسن ، أو نحو هذه العبارات .
فإذن البخاري ـ رحمه الله ـ تصح عنده وتثبت أحاديث غير الأحاديث التي دونها في كتابه ـ الجامع الصحيح ـ ولكنه لم يخرج تلك الأحاديث إما رغبة عن الطول ، أو لكون تلك الأحاديث ليست على شرطه الشديد الذي اشترطه على نفسه في كتابه الجامع .
ولما دون هذه الأحاديث كان رحمه الله يركز كل التركيز على تجني الأحاديث التي يمكن أن يخالف فيها ، أي يخالفه العلماء فيها ، ولكنه قد يورد أحاديث معلولة فيخالفه بعض العلماء فيها ، لكن بعد أن يترجح له أن تلك العلة غير مؤثرة .
ولذلك لما صنف هذا الكتاب عرضه على بعض أئمة عصره كالإمام احمد وعلى بن المديني ، ويحيي بن معين كما يذكر ذلك العقيلي .
وإن كنت بودي لو وجدت كلمة العقيلي هذه أين هي ، فالعقيلي تلميذ للبخاري ، ولكن الحافظ ابن حجر ذكر هذه المقولة عن العقيلي ، والعهدة عليه .
يقول إن البخارى ـ رحمه الله ـ عرض كتابه على هؤلاء الأمة الثلاثة وغيرهم ـ فوافقوه على تلك الأحاديث سوى أربعة أحاديث خالفوه فيها .(1/10)
يقول العقيلي : والقول فيها قول البخاري ، وهي صحيحة . فهل فعلاً لم ينتقد هؤلاء الأئمة المذكورين سوى هذه الأحاديث الأربعة فقط ، بمعني أنهم وافقوا البخاري على تلك الأحاديث كلها ؟ هذا ما يقتضيه كلام العقيلي ، والعلم عند الله ـ جل وعلاـ .
عرفنا في هذا إن موضوع كتاب البخاري إفراد الصحيح الثابت من سنة النبي صلي الله عليه وسلم وفرزه عما سواه من الأحاديث التي لا تثبت ، وهذا يمكن يستفاد من تسمية كتابه البخاري ، فإنه سماه ( الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله صلي الله عليه وسلم وسنته وأيامه ) هذا اسمه الكامل . وإن كان اختصر إلى ( صحيح البخاري ) ، فهذه تسمية مختصرة فقط .
لما ألف رحمه الله هذا الكتاب لم يكن تركيزه علي الرواية ـ بمعنى أن يورد الأحاديث الصحيحة فقط مجردة عن أي شيء آخر ... لا ، وإنما كان له هم غير هذا وهو التفقه ، فرأى أن يجعل هذه الأحاديث الصحيحة مبوبة على الأبواب الفقهية بطريقة فيها استنباطات دقيقة ، بحيث إنها بمجموعها يمكن أن تشكل مذهباً للبخاري ـ رحمه الله ـ .
وهذا هو الذي حدث ، فنجد بعض العلماء حينما يناقش مسألة علمية من المسائل يقول : وهذا ماذهب اليه البخاري . من أين عرف أن البخاري ـ رحمه الله ـ ذهب هذا المذهب ؟ عرف ذلك من خلال تلك التراجم التي يترجم بها على تلك الأحاديث التي يوردها في صحيحه .
ومع ذلك أيضاً فإنه لم يقتصر على هذه الأحاديث فقط ، ولكنه بما أنه يريد التفقه فإنه جمع لهذه الأحاديث غيرها ، فنجد أنه يورد الآيات ( آيات الأحكام ) ويوزعها بحسب تناسبها مع تلك الأبواب التي يبوب بها ، وبلا شك أن ثبوت القرآن لا نزاع فيه ، فإذا كأنه يجعل الآيات هذه أصلاً ، ثم بعد ذلك يورد ما صح من الأحاديث التي على شرطه ثم الأحاديث التي يوردها في المتابعات أو الأحاديث التي يوردها معلقة ، أو غير ذلك كالآثار الواردة عن الصحابة ـ رضي الله عنهم .(1/11)
فإذن هوـ رحمه الله ـ كان يعنى بالناحية الفقهية عناية شديدة حتى إننا لنجده في بعض الأحيان يورد باباً من الأبواب ولايورد تحته شيئاً من الأحاديث ، وربما وجدنا في الباب الواحد أحاديث كثيرية ، وربما وجدنا أحاديث قليله ، بل لربما ما وجدنا في الباب الواحد سوى حديث واحد ، وربما لا نجد في الباب حديثاً إطلاقاُ ، وهذا الباب الذي لانجد فيه آية من كتاب الله ، وقد لا نجد فيه آية من كتاب الله ، وقد لا نجد أيضاً آية من كتاب الله وإنما يبوب مجرد التبويب ، وربما أورد شيئاً من المعلقات .
والمقصود بالمعلق الأحاديث أو الآثار التي يحذف أول سندها وربما كامل الإسناد ، أي لو أن البخاري رحمه الله عنده حديث من الأحاديث يرويه بسنده عن شيخه وشيخ شيخه وهلم جرا ـ حتي يصل الى النبي صلي الله عليه وسلم ـ ، ولكنه لايرى أن هذا الحديث على شرطه أى ليس بالدرجة التي يريدها من الصحة ، فنجد البخاري رحمه الله ربما حذف شيخه وعلق الحديث بشيخ شيخه .
فيقول مثلاً : قال سفيان بن عيينة ثم يذكر باقي الإسناد والحديث ـ وهو لم يسمع من سفيان بن عيينة ـ ، فسفيان بن عيينة بينه واسطة ، وربما كانت الواسطة على بن المديني أو الحميدي أو غيرهم .
وربما حذف من هو فوق شيخ شيخه حتى لربما لم يذكر إلا الصحابي ، بل لربما حذف الصحابي أيضاً فيقول : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم ـ كذاً ـ، أو يؤثر عن رسول الله صلي الله عليه وسلم أو يؤثر عن رسول الله صلي الله عليه وسلم . هذا هو المقصود بالتعاليق . وسنأتي إن شاء الله للحديث عنها بعد قليل .
فالشاهد أنه في بعض الأبواب يورد هذه الأحاديث أو الآثار المعلقة ويخلي الباب من الأحاديث ، لماذا يصنع البخاري هذا الصنيع ؟ ... هناك من رأى أنه يصنع ذلك عمداً لسبب آخر .(1/12)
فبعضهم يرى أن البخاري ـ رحمه الله ـ حينما لا يورد في ذلك الباب حديثاً بالسند المتصل إنما يصنع ذلك للإ شارة إلي أن هذا الباب لا يثبت فيه شيء ـ هناك ـ من ذهب إلى هذا المذهب ـ أراد هذا ، لأن تلك الأبواب قد يكون فيها شيء ثابت وصحيح ، بل إن البخاري ربما صححه في خارج الصحيح ، فالجزم بأن هذا هو مراد البخاري فيه شيء من التعسف ، ولكن قد يصنع هذا أحياناً .
وقد يكون أخلى الباب من الأحاديث لكونه فقد الأحاديث التي على شرطه أو الأحاديث التي سمعها مما يمكن أن يستدل به في ذلك الباب ، ولذلك ربما اكتفى عن ذلك بآيه أو بأشياء معلقة .
وحينما نجد البخاري ـ رحمه الله ـ يأتي ببعض الأبواب هكذا مجردة عن أي حديث وعن أي آية وعن أي آثار معلقة أيضاً ، وإنما يبوب باباً مجرداً فقط فيقول : بابا كذا وكذا. ويذكر المسألة ثم ينتقل الى باب آخر .
ذكروا أن بعض النساخ حينما وجد هذه الأبواب هكذا صنع صنيعاً غير مستحسن ، فبعض الأبواب التي بهذه الصورة يعقبها البخاري : باب حدثنا فلان ، قال : حدثنا فلان ، وهكذا يورد الحديث أي أنه عكس الصنيع السابق ، فهناك يذكر ترجمة الباب ، وهنا لا يذكر ترجمة ، وإنما يذكر الحديث ، فيأتي بعض النساخ فيجعل هذا الحديث تحت ذلك الباب ، وهنا يقع الإشكال على كثير ممن يريد أن يذكر مناسبة الحديث للباب .
فهناك طائفة من العلماء اعتنوا ـ وبخاصة الشراح ـ حينما يأتون على الباب الذي يبوب له البخاري ـ يذكرون مناسبة ذلك الحديث لذلك الباب ، أي لأي شيء أورد البخاري هذا الحديث ، ويذكرون تعلق الحديث بتلك المسألة ، ولكن في بعض الأحيان يعييهم ذلك الحديث ، فلا يجدون له وجها من المناسبة لتلك الترجمة ، فبعضهم يكون ممن برع في علم الكلام ، فتجد عنده من التكليف في التأويل ما تجد في محاولة ذكر مناسبة ذلك الحديث بتلك الترجمة .(1/13)
ولكن إذا عرفت هذه المسألة ـ كما يقول الحافظ بن حجر ـ : يمكن أن يفزع إليها عند الحاجة ، إذا أعيانا ذكر مناسبة ذلك الحديث لذلك الباب يمكن أن نقول : لعل هذا من تصرف النساخ . فلعلهم دمجوا ترجمة بحديث ليس تحتها . وأذكر بهذه المناسبة ـ قبل عشر سنوات ـ إن لم يكن أكثر ـ أننا كنا عند شيخنا ـ الشيخ عبد العزيز بن باز ـ حفظه الله ـ وكان يقرأ عليه من صحيح البخاري ـ ولعلني إن لم تخطئني الذاكرة أذكر أنه في المجلد السادس من فتح الباري ، فالقارئ ذكر الترجمة ، وذكر حديثاً ، فسأل الشيخ عن مناسبة ذلك الحديث بتلك الترجمة ـ فأطرق ملياً ، ثم طلب الرجوع إلى فتح الباري لعل الحافظ بن حجر يذكر بتلك المناسبة ، لأن الشيخ لم يظهر له مناسبة لذلك الحديث بذلك الباب ، فحينما قرأ كلام الحافظ ين حجر ، وإذا به إما أنه لم يذكر شيئاً أو أنه ذكر أنه لم تظهر له مناسبة ذلك الحديث بذلك الباب ، فطلب الشيخ الرجوع إلى عمدة القارئ " الذي هو شرح " العييني " وإذا بالعييني أيضاً بمثل تلك الصورة التي ظهر بها الحافظ ابن حجر . فمثل هذا الذي يقول عنه الحافظ ابن حجر يمكن أن يفرع إليه عند الحاجة ، فيقال : لعل بعض النساخ أدرج هذا الحديث تحت ذلك الباب الذي لم يكن مقصود البخاري ـ رحمه الله ـ إدراجه تحته .
ثم إننا حينما نجد تلك الأحاديث التي يوردها البخاري ـ رحمه الله ـ تحت تلك الأبواب نجد أنه تنقسم الى قسمين : فمنها أحاديث مناسبتها ظاهرة كل واحد يدركها ، فحينما يبوب البخاري مثلاً باباً في الطهارة ويورد حديثاً في الطهارة ، فالمناسبة ظاهرة ولا تحتاج الى تكلف ، ولكن في بعض الأحيان تكون المناسبة خفيفة ، لا يدركها إلا الحداق ، وربما كان مقصود البخاري أمراً آخر .(1/14)
ولعلكم تلحظون أن أول حديث أودعه البخاري في صحيحه هو حديث :" إنما الأعمال بالنيات " وأورده في كتاب بدء الوحي . فأول كتاب استفتح به البخاري كتابه هو بدء الوحي وأورد فيه هذا الحديث " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل أمرئ ما نوى ..." إلى آخر الحديث.
فنجد أن الحديث لا تعلق به ظاهراً بهذا الباب ، فهل البخاري حينما أورد هذا الحديث لم يكن مستحضراً لأمر آخر أورد هكذا جزافاً ؟
هناك من تطاول على البخاري وكما يقول بعض الشراح : صوب إليه سهام اللوم ـ لإيراده هذا الحديث في هذا الكتاب ولكنه غفل عن أمر أراده البخاري ـ رحمه الله تعالى ـ
وهو أنه جعل هذا الكتاب بمثابة مجلس العلم مثلاً ، أو أي عبادة من العبادات التي يمكن بها الإنسان ربه جل وعلا ، والعلم عبادة . فيريد أن ينبه طالب العلم إلى مسألة مهمة جداً وهي ضرورة تجريد النية وإخلاص النية في طلب العلم .
فكأنه يقول لك : أنتبه ياطالب العلم ، فأنت حينما تقرأ في كتابي هذا إنما تقرأ في حديث النبي صلي الله عليه وسلم ، وتتعبد الله جل وعلا بهذه الأحاديث ، وتريد العمل بها أو إفتاء الناس بها أو تحصيل العلم الذي هو في حد ذاته عبادة ، فهذه العبادات يشترط فيها أمران : الإخلاص والمتابعة .
فهو أراد أن يشير إلى الطرفالأول وهو الإخلاص فيقول لك :
قبل أن تبدأ في الطلب أخلص النية ، وجردها عن أي تعلق آخر . هذا هو الذي أراده البخاري ـ رحمه الله ـ حينما أورد هذا الحديث .
ولذلك كثر عند أهل العلم افتتاح كتبهم بهذا الحديث ، ومن المتأخرين السيوطي ـ رحمه الله ـ حينما أفتتح كتابه الجامع الصغير بحديث " إنما الأعمال بالنيات " ، برغم أنه حينما يفتتح بهذا الحديث سيدخل بالترتيب الأبجدي الذي أخذه على نفسه ، ولكطنه صنع ذلك لنفس المقصد الذي أراده البخاري رحمه الله .(1/15)
وأحياناً نجد البخاري ـ رحمه الله ـ في ترجمته يشير إلى أشياء يريدها ، فربما أراد بتلك الترجمة تخصيص عموم حديث ، أو تقييد إطلاقه ، أو الإشارة إلى خلاف في تلك المسألة ، وبخاصة حينما يورد الترجمة بصيغة الإستفهام .
فحينما يقول : باب ، هل يقال : كذا وكذا ؟ " مثلاً " هو لا يريد أن يجزم ، ولذلك لا تأخذ على البخاري أنه جزم بشيء في هذه ، ولكنه كأنه يقول لك : إن هذه المسألة خلافية ، وهو لم يجزم بأحد القولين ، بقوله : " بابا : هل يقال كذا وكذا " ؟ .
فإذن يمكن أن تفهم أن هناك طائفة من العلماء رأت أن ذلك يمكن أن يقال ، وطائفة أخرى رأت غير ذلك ، لذلك قال العلماء : إن فقه البخاري ـ رحمه الله ـ في تراجمه .
تقطيعه للأحاديث :
ونجده ـ رحمه الله ـ يقطع الحديث في كثير من الأحيانفي مواضيع كثيرة ، ربما تربو على عشرين موضعاُ ، والسبب أن هذا الحديث يمكن أن يستخدمه في الباب الفلاني من الكتاب الفلاني ، وفي الباب الفلاني من الكتاب الفلاني ، وفي الباب الفلاني من الكتاب الفلاني ، وهلم جرا، ينتزع منه انتزاعاً فقهية دقيقة ربما كانت ظاهرة كما أشرت ، وربما كمانت خفية تحتاج إلى من يبرزها من الشراح والعلماء الذين غاصوا في أعماق فقه البخاري رحمه الله تعالى .
الكلام على المعلقات في صحيح البخاري :
أما بالنسبة للكلام على المعلقات التي في صحيحه ، فهذه الأحاديث المعلقة هناك من يسيء الفهم بطريقة البخاري في إيرادها .
فبعضهم يرى أن الحديث المعلق في صحيح البخاري على الأقل يمكن أن يكون من الأحاديث الصحيحة ، ولو لم يكن كأحاديث التي يخرجها بالإسناد المتصل .
وبعضهم يطلق قولاً عاماً فيقول : ماجزم به البخاري فهو صحيح ، وما ذكره بصيغة التمريض فهو غير صحيح ، هكذا على الإطلاق ، وكل هذا ليس بصحيح .
ولكن يمكن أن ننظر إلى هذه الأحاديث المعلقة في صحيح البخاري على أنها قسمان :(1/16)
فمنها المرفوع الى النبي صلي الله عليه وسلم ومنها الموقوف ، فالمرفوع له شأن والموقوف له شأن ، ولأجل الاختصار في الكلام في الموقوف أقدامه .
( فالموقوف ) خف شرط البخاري فيه فنجده في بعض الأحيان يجزم بصحة ذلك
الموقوف وإن كان فيه شيء من الكلام لبعض أهل العلم ، وإن لم يبلغ في الصحة مايريده البخاري .فإذن نأخذ عندنا قاعدة أن الأشياء التي ليست مرفوعة للنبي صلي الله عليه وسلم في صحيح البخاري خف شرطه فيها .
أما ( المرفوعة ) فنجده إما أن يوردها بصيغة الجزم ، وإما ان يوردها بصيغة التمريض ، فالأشياء التي يوردها بصيغة الجزم إما أن يكون أوردها في صحيحه في موضع آخر أو لا ، فإن كان أوردها في صحيحه في موضع آخر ، فإذن هو حينما يأتي بها معلقة في موضع يدفعه إلي ذلك أحياناً بعض الدوافع .
…من هذه الدوافع أنه ـ رحمه الله ـ يكره أن يورد الحديث بنفس الإيراد سنداً ومتناً ، وهذا الذي يسميه العلماء " ضيق المخرج " فيقول : يصنع هذا إذا ضاق مخرج الحديث عليه ، أي ليس عنده إسناد آخر له ، أما لو كان عنده إسناد آخر لأورده في هذا الموضع بذلك الإسناد الثاني ، ولكن إذا لم يكن عنده سوى ذلك الإسناد الذي أودعه في باب آخر فإنه هاهنا يورد الحديث معلقاً كأنه يقول : أنا لا أحب التكرار ، يصنع هذا أحياناً .
وأحياناً أخرى قد يكون الحديث ليس مخرجه ضيقاً عند البخاري ، ولكن كرره بما يرى أن فيه كفاية ، فلا يحب أن يكرره أكثر من ذلك .
وربما كان الدافع له الإختصار ، فربما اختصر الحديث أو تصرف في متنه ، فإذا صنع هذا لا يريد أن يورد ه كما يورد الحديث بالإسناد المتصل لأجل ذلك التصرف الحاصل في ذلك الحديث . فهذا بالنسبة للأحاديث التي يوردها بصيغة الجزم .
مثال لصيغة الجزم :(1/17)
وصيغة الجزم مثل " قال " كأن يقول : قال رسول الله او قال بن عباس : قال رسول الله كذا ، أو قال مسروق : عن عائشة عن النبي كذا . كل هذا يسمونه صيغة الجزم أو قال : ( ذكر ) فلان كذا ، أو نحو هذه العبارات التي فيها الجزم بثبوت ذلك عن ذلك الشخص الذي علقه عنه ـ سواء كان النبي ـ أو غيره .
مثال لصيغة التمريض :
أما صيغة التمريض فهي التي تكون في الغالب بصيغة المبني للمجهول ، مثل : ( يذكر )
عن رسول الله كذا .... أو ( يروي ) عن رسول الله كذا ، أو ( يحكي ) عنه كذا ، ونحو هذه الصيغة التي يسمونها صيغة التمريض ، هذه هي التي يمكن أن نفصل في تعاليق البخاري بموجبها .
التفصيل في المعلقات بصيغة الجزم :
… فما أورده بصيغة المعلقات منها ما أخؤرجه في صحيحه ، ومكنها ما لم يخرجه .
…وما أخرجه في صحيحه فالدافع له ما ذكرت ، ومالم يخرجه في صحيحه ربما كان صحيحاً عنده ، وعلى شرطه أيضاً ، ولكن لأجل الطول والتكرار يتجنب ذكر ذلك الحديث . يصنع هذا أحياناً ولكنه قليل.
وربما كان ذلك الحديث عنده على شرطه ، ولكنه لا يحضره فيه إسناد تلقاه عن شيوخه ، أو ربما ششك في تلقي الحديث عن شيوخه فنجد أنه يعلق الحديث وإن كان بإسناده من أصح الصحيح .
مثال :
ويمثلون على هذا بذلك الحديث الذي ربما تصورنا أن البخاري أخرجه في صحيحه يالسند المتصل وليس كذلك ، وهو قصة أبي هريرة مع الشيطان ، هذا الحديث الذي علم الشيطان فيه أبا هريرة فضل آية الكرسي ، وذكر أنه إن قرأها في ليل لا يقربه شيطان حتي يصبح .
…نجد أن هذا الحديث ربما تصور كثير من طلبة العلم أن البخاري أبخرجه في صحيحه بالإضافة لإخراج مسلم له ، والحقيقة أن البخاري إنما أخرجه معلقاً ولكن الذي يوقع في الإشكال أنه علقه عن شيخه هو .
وكيف علقه عن شيخه ؟(1/18)
قال ـ رحمه الله ـ في صحيحه : قال عثمان بن الهيثم : حدثنا عوف وهو الأعرابي ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة قال : " وكلني رسول الله بحفظ زكاة الفطر ..." ثم ذكر الحديث .
…فحينما قال : قال عثمان بن الهيثم لم يقل : حدثني أو حدثنا أو أخبرني أو أخبرنا عثمان بسن الهيثم ، ثم أننا نجد أنه صنع هذا في ثلاثة مواضع في صحيحه ، كلها يقول فيها : قال عثنان بن الهيثم ، فرأى العلماء أن هذا الحديث لم يجزم البخاري بتلقيه هو له عن شيخه عثمان بن الهيثم ، ولكنه يعرف تماماً أن شيخه عثمان بن الهيثم حدث بهذا الحديث ، ربما عرفه بواسطة أقرانه من تلاميذ الذين يشاركون في الرواية عن شيخه عثمان بن الهيثم هذا .قد يكون الدافع للبخاري أنه ما تلقاه فعلاً عن عثمان بن الهيثم ، وقد يكون الدافع له أنه شك في سماعه من عثمان بن الهيثم ، وإلا فالحديث بإسناد من أصح الصحيح ، يخرج البخاري أحاديث بهذا الإسناد ، وإنما دفعه إلى ذلك هذا الأمر الذي أشرت إليه .
…وربما كانالحديث أحياناً صحيحاً زلكنه على شرطه ، ويمثلون على هذا بحديث عائشة رضي الله تعالى عنها : " أن النبي كان يذكر الله على كل أحيانه " .
والبخاري رحمه الله جزم بهذا الحديث عن عائشة ، فقال : قالت عائشة : ( كان النبي يذكر الله على كل أحيانه ) . ولكن هذا الحديث إنما أخرجه بإسناد متصل " مسلم " في صحيحه ، فالبخاري يرى أنه صحيح ولكنه ليس على شرطه الذي اشترطه على نفسه .
فإذن هو يجزم به لأنه يرى أنه صحيح ولكنه لا يورده بإسناد متصل ، حتي لا يجعل لأحد مجالا للقدح في كتابه .
وأحياناً ربما كان ذلك الحديث صحيحاً ولكنه ليس من الأحاديث الصحيحة التي أخرجه " مسلم " في صحيحه ، ولكن ربما نوزع في صحة ذلك الحديث ، وربما كان الحديث دون ذلك فيكون من الأحاديث الحسنة لذاتها .(1/19)
وربما كان حسناً لغيره أي أن فيه ضعفاً ولكن له من الشواهد مايجبر ذلك الضعف . وربما جزم البخاري رحمه الله بذلك القول عن أحد من الناس ، ولكنه لايقتضي تصحيحه لذلك الحديث .
فإذن لا نستطيع أن نأخذ على أنفسنا بأن البخاري رحمه الله حينما يورد حديثاً من الأحاديث بالجزم ـ معلقاً مجزوماً به ـ أن ذلك الحديث صحيحاً على الإطلاق : فمنه ماهو صحيح وهو في صحيحه ، ومنه ما هو صحيح وهو في خارج صحيحه كصحيح مسلم ، وماهو صحيح عند غيرهما ، ومنه ماهو حسن ، ومنه ماهو ضعيف .
ولكن البخاري ـ رحمه الله ـ حينما يجزم القول أو بذلك الحديث عن أحد فإنه يقول : أنا تكلفتت لك بالإسناد إلى هذا الذي جزمت به عنه ، وأما من بعده ممن أبرزت لك وأظهرت فأنت مخير ، انظزر إن ثبت عندك فأنت وشأنك ، وإلا فالأمانة تقتضي أن أبين لك المواضيع التي يمكن أن يعل بها ذلك الحديث .
ويمثلون على هذا بقوله ـ رحمه الله ـ في كتاب " الزكاة " :
قال طاوس : قال معاذ لأهل اليمن : " أئتوني بزكاتكم خميص أو لبيس بدل الشعير والذرة فإنه أنفع لأصحاب النبي في المدينة وأرفق بكم " . أوكما جاء في ذلك الأثر .
فالبخاري رحمه الله حينما قال : قال طاوس . يقول لك الإسناد من عندي إلى طاوس صحيح تكلفت لك بهذا ، ولكن من بعد طاوسانظر فيه أنت ـ فحينما نظرنا وإذا بطاوس يقول : قال معاذ لأهل اليمن ... طاوس يماني ولكنه لم يدرك معاذاً رضي الله عنه فإذن هناك انقطاع بينه وبين معاذ ، وهذا الاتقطاع هو الذي دفع البخاري رحمه الله إلي أن يقول مقولته هذه ، أو الى ان يعلق الحديث الى طاوس ثم يظهر من بعد طاوس ، وكأنه يقول لك : أنتبه فهنا مواطن العلة التي يمكن ان يعل بها ذلك الحديث . من العلماء من يتساهل في الحديث المرسل ويقبله ، وربما بعضهم اشترط شروطاً في ذلك ـ وليس هذا موضع التفصيل فيه ـ فيمكن أن يأخذ بهذا الحديث .(1/20)
ومن العلماء من يشدد ولايقبل من الحديث إلا ما كان بالسناد المتصل الصحيح الثابت ، فإذا هو يشدد فيرد هذا الحديث ولا يبني عليه ناحية فقهيه .
فهذا هو الذي يدفع البخاري ـ رحمه الله ـ لأن يعلق الحديث عن بعض الناس، فهذا بالنسبة للأحاديث التي يجزم البخاري بها .
التفصيل في المعلقات بصيغة التمريض :
أما الأحاديث التي يوردها بصيغة التمريض فليست القاعدة أيضاُ أنها كلها ضعيفة أو مردودة ، أو أن البخاري يشير بهذه العبارة إلى أن ذلك الحديث لا يثببت ولا يصح ، بل نجد تلك الأحاديث التي يوردها بصيغة التمريض منها ما أخرجه هو في صحيحه وذلك مثل ما قال : في ( كتاب الطب ) : " ويذكر عن بن عباس عن النبي في الرقية بفاتحة الكتاب " . وهو يشير بذلك الى قصة أبي سعيد الخدري حينما كان مع نفر في سرية وكانوا استضافوا حياً من أحياء العرب فلم يضيفوهم ، فمكثوا قربهم ولدغ سيد ذلك الحي وطلبوا له أحد يرقيه فلم تنفع فيه الرقي حتي جاءوا إلي أصحاب النبي وقالوا لهم : هل فيكم من راق ؟ فقالوا : نعم ، ولكنكم لم تضيفونا ، فوالله لا نرقيه حتي تجعلوا لنا جعلاً ، فجعلوا لهم قطيعاً من الغنم فرقاه أبو سعيد بفاتحة الكتاب ، فبرئ سيد ذلك الحي ، ثم اختلفوا فيما بينهم هل يجوز أخذ مثل القطيع أولا ؟ .... فكأنهم خشوا أن يكونوا أخذوا على كتاب الله أجراٌ ، فحينما جاؤا الي النبي وذكروا له ذلك قال : ( ما يدريك أنها رقيه ؟ خذوا واضربوا لي معكم بسهم ) فافرهم النبي على ذلك .
فمثل هذه القصة أخرجها البخاري في صحيحه في بعض المواضيع بالإسناد المتصل ولكنه في الموضع تصرف في المتن ، فحينما تصرف في المتن أراد أن يشير إلي أن التصرف منه لايقتضي أن يكون ذلك المتن مروياً بهذه الصورة ، لأن الحديث لم يذكر فيه صراحة أن النبي علم أن الرقية بفاتحة الكتاب وأقرهم عليها ولكن جاء ذلك ضمناً في الحديث .(1/21)
فهذا التصرف من البخاري حينما قال : " ويذكر عن ابن عباس عن النبي في رقيته بفاتحة الكتاب "جعله رحمه الله ـ من أمانته ـ يجعل هذا الحديث معلقاً بهذه الصورة بصيغة التمريض إشارة منه الى أن الحديث ليس مروراً بهذه الصورة ، وإن كان أصل القصة مخرجاً عنده في الصحيح .
أحياناً نجد أنه يورد الحديث بصيغة التمريض ، ونجد الحديث في صحيح مسلم ، وربما كان الدافع له الى ذلك إما أنه يرى أن الحديث غير صحيح ، أو أنه تصرف أيضاً بطريقة من الطرق التي تجعل الحديث بصيغة التمريض ، أو ما الى ذلك .
وربما وجدنا الحديث الذي يورده البخاري بصيغة التمريض ، ربما كان مروياً بإسناد ضعيف ، ولكن له ما يجبره من طرق أخري أو ما يعضده من أثار ونحو ذلك .
وربما كان أيضاً ضعيفاً بشكل لا يمكن قبوله فهذا في الغالب نجد البخاري ـ رحمه الله ـ ينص عليه ، ويمثلون على هذا بما ذكره رحمه الله تعالي في كتاب الصلاة " أنه يذكر عن أبي هريرة أن النبي قال " لا يتطوع الإمام في مكانه الذي صلى فيه الفريضة " ثم قال بعد ذلك : ولا يصح .
هذا الحديث أخرجه أبو داود في سننه ، ولكن فيه راو مجهول ، فالبخاري رحمه الله يشير الى أن هذا الحديث لا يصح ولا يثبت عن النبي ونص على هذا صراحة ، ويرى أن الحديث لا ينهض لأن يكون له من الشوتاهد ما يجبر ضعفه ، لذلك تصرف هذا التصرف .
خلاصة ماسبق :
فإذن نفهم من خلال هذا أن إطلاق القول بأن المجزوم به عند البخاري صحيح وغير المجزوم به ما يورده بصيغة التمريض ضعيف لا ينبغي الا بهذا التفصيل الذي أشرنا إليه ، وإن كان تفصيلا على وجه الاختصار .
وليراجع كلام الحافظ ابن حجر عن المتعلقات في صحيح البخاري في مقدمة الشرح الذي هو " هدي الساري " أو في كتاب " النكت " فإن الكلام هاهنا متقارب مع الكلام في ذلك الموضع أيضاً
الإمام مسلم ـ رحمه الله تعالى ـ
اسمه ونسبه ومولده :(1/22)
هو مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري ، ينسب الى بني قشير ، فهل كان مولي لهم، أو منهم حقيقة ؟ هناك خلاف بين أهل العلم في هذا ، ولم أجد ما يرجع أحد هذين القولين ، ولا يضره ذلك ، فإن أشرف النسب هو هذا العلم الذي خلد به ذكر مسلم رحمه الله ـ تعالى ، منذ ذلك الوقت وإلى أن يشاء الله في آخر هذه الحياة الدنيا .
مولده ـ رحمه الله تعالي ـ في السنة التي توفي فيها إمامان عظيمان زهما : الشافعي ، وأبو داود الطيالسي ، وذلك في السنة الرابعة بعد المئتين للهجرة .
ووفاته ـ رحمه الله ـ بعد وفاة البخاري بنحو خمس سنين ، فالبخاري توفي في سنه ست وخمسين ومئتين ، ومسلم توفي في نحو سنة إحدي وستين ومئتين .
والبخاري ـ رحمه الله ـ من شيوخ مسلم ولكن لم يرو عنه مسلم في الصحيح ولا حديثاً واحدا ً والترمذي صاحب الجامع الصحيح من تلاميذ مسلم ونجده أنه في كتاب الجامع روي عن مسلم حديثاً واحداً ، وهو حديث أبي هريرة عن النبي أنه قال : " أحصوا هلال شعبان لرمضان " .
طلبه للعلم ، وسبب وفاته :
طلب ـ رحمه الله ـ العلم من الصغر ، وأول سماعه كان ببلده نيسابور وذلك في سنة ثمان عشرة ومئتين ثم حج بعد ذلك ورحل الى كثير من البلدان ولقي كثير من الشيوخ وكان رحمه الله ـ يتقوت ويتحري الحلال ، فكان له عقار ـ وهو الذي يقال له الضياع ـ وكان أيضاً مع ذلك يتجر ، فكان يتقوت من ذلك .
ويذكر في سبب وفاته أمر عجيب ـ لا أدري يصح أم لا ـ ، ولكنه مذكور في ترجمته ، وهو أنه ـ رحمه الله ـ سئل عن حديث أو مسئلة ، فمكث طول الليل وهويقلب ويراجع الى أن أدركه الفجر ، وكان بجانبه مكتل ـ زنبيل ـ فيه تمر وكان يقلب في الصفحات ويراجع ويأخذ من هذا التمر تمرة تمرة ، فما جاء الفجر الا وقد نفد ما في ذلك الزنبيل ، ووجد ـ رحمه الله ـ المسئلة التي كان يبحث عنها ولكن أكله من التمر أضر به من حيث لايشعر ، فكان سبب وفاته ـ رحمه الله ـ .؟
سبب تأليفه للصحيح :(1/23)
…لم يذكر هناك سبب وجيه أو حادثة تدل على سبب تأليف مسلم لهذا الكتاب ، كما حصل للبخاري من تلك الرؤية التي رآها ، ومن سماعه لكلام شيخه إسحاق بن راهويه ، فلعله تأثر بشيخه البخاري ، فنسج على أن منواله في هذا الصحيح ، ولكنه أشار الى كلام في مقدمة صحيحه يدل على أن هناك سبباً ، ولكنه ليس بحادثة كما حصل للبخاري كما قلت ، ولكنه ذكر أن السبب الدافع له على تأليفه هذا الكتاب غيرته على سنة النبي ، وذلك لما رأى في عصره من بعض المحدثين الذين يحدثون العوام بالأحاديث الباطلة والمنكرة والموضوعة والضعيفة ، فأخذته الغيرة على سنة النبي فألف كتابه هذا ليكف الناس عما سوى الصحيح ، ويحثهم على رواية الصحيح .
عدد أحاديث صحيح مسلم :
ألف هذا الكتاب ، وجمع فيه من الحديث الصحيح نحو أربعة آلاف حديث ، وهذا سوى المكرر ، وبالمكرر كما يقال قد يصل الى اثني عشر ألف حديث ، وهذا العدد يعتبر عدد تقريبياً ، ولذلك حرصنا على ان نقوم بعد أحاديث صحيح مسلم عددًا تقريبياً أثناء شرحنا ، ويتلخص ذلك في جعل رقماٌ عاماً ورقماُ خاصاُ .
فالعام هو الأحاديث المكررة ، والخاص للأحاديث سوى المكرر ، ولعلنا بعد ذلك إن أمد الله في العمر ويسر بمنه وفضله ، نستطيع أن نعد أحاديث صحيح مسلم لنرى هل بلغت فعلاً أربعة آلاف حديث أو أقل أو أكثر ، وكم عدد ها بالمكرر ، هل كما يقول تلميذه إنها عشرة ألف حديث ، او اقل من ذلك ؟
مدة تأليفه للصحيح :
…يقول تلميذه وقرينه أحمد بن سلمة إن مسلماً مكث في تأليف هذا الكتاب خمس عشرة سنة ، وبلا شك أن هذا وقت طويل ولكن لعل الذي جعل مسلماً ـ رحمه الله ـ يمكث هذه المدة تحريه وانتقاؤه للأحاديث ، وهذا الأمر ليس بالهين ، وبخاصة أنه أشار في مقدمته أنه أقدم على عمل عظيم ليس بالأمر الهين ، ولولا غيرته على سنة النبي لما أقدم على ما أقدم عليه
هل استوعب مسلم بن الحجاج كل الصحيح ؟(1/24)
وفعلاً نجده رحمه الله حينما ألف هذا الصحيح تكلم فيه بعض أهل العلم لأجل تأليفه لهذا الكتاب ، ولعل ذلك كان لأسباب مما يقع بين الأقران في الغالب وإن كان في الظاهر قد تأتي معه بعض عبارات التي ربما شكلت سببا في نظر ذلك المتكلم ولكنها في الحقيقة لا تعبر أسبابا وجيهة ، فحينما كان مسلم رحمه الله عند أبي زرعة الرازي يذاكره ثم قام ، فقال له أحد الجلساء : هذا جمع أربعة آلاف حديث في الصحيح .
فقال أبو زرعة : ولمن ترك الباقي ؟ ثم ذكر بعد ذلك كلاماً قال : إنه يطرق لأهل البدع علينا . يقصد أنه حينما يفرد هذه الأحاديث الصحيحة ومجموعها أربعة آلاف حديثاُ ، كأنه يقول : ليس هناك من الحديث الصحيح سوى هذه الأربعة آلاف .
والحقيقة أن مسلماً رحمه الله لم يدع ذلك ـ لا هو ولتا شيخه البخاري ـ ، وذكرت أن البخاري ـ رحمه الله ـ ما ادعى أنه حصر جميع الحديث الصحيح ، بل إنه ليصحح أحاديث كثيرة في خارج الصحيح ينقلها عنه الترمزي وغير الترمزي .
وكذلك مسلم ـ رحمه الله ـ ما أدعي أنه حصر جميع الأحاديث الصحيحة ، بل نجده يسئل احياناً عن بعض الأحاديث فيصححها ، كما ورد في آخر كتاب الصلاة أن أبا بكر ابن أخت أبي النضر سأله عن حديث أبي هريرة مرفوعاً الى النبي أنه قال " إذا قرأ الإمام فأنصتوا " فقال مسلم : هو عندي حديث صحيح فقالوا له : لما لم تخرجه في كتابك ؟ أو لم تضعه هاهنا ؟
فقال : ليس كل شيء عندي صحيح أودعته هاهنا ، إنما أودعت هاهنا ما أجمعوا عليه ... ولست أريد الأن الخوض في هذه العبارة : ( ماأجمعوا عليه ) وما يريد بها مسلم ؟(1/25)
ولكن المقصود أنه ـ رحمه الله ـ كان يصحح أحاديث خارج الصحيح والسبب الذي يجعله لا يودعها في الصحيح : إما لكونها من الأحاديث التي تكلم فيها ، فلا يريد أن يكون هناك مجال للكلام في صحيحه ، وإن كان قد يرد هاهنا اعتراض من يعترض من طلبة العلم فيقول : بعض الأحاديث التي أخرجها مسلم في صحيحه تكلم فيها ومخالف في تصحيحها ا
فنقول : مثل هذه الأحاديث لعل مسلما ً ترجح له أنها علل غير مؤثرة ، وأن تلك العلل التي
في الأحاديث التي اجتنبها قد تكون مؤثرة ، وإن كان يترجح له أيضا أنها أحاديث صحيحة ، ولكن قد يكون إعلالها أقوى .
ثم إنه ـ رحمه الله ـ أشار الى أنه انتقاه ـ أى الاثنا عشر ألف حديث ـ من ثلاثمائة ألف حديث ، والكلام في هذا هو نفس الكلام الذي ذكرته عن البخاري ـ رحمه الله ـ حينما انتقي صحيحه من ستمائة ألف حديث ، قالمقصود إذا بما في ذلك المكرر بكثرة الطرق ، وبما في ذلك من الموقوف والمقطوع .
ووردت عنه ـ رحمه الله ـ عبارة أنه قال : " ما وضعت في كتابي هذا شيئاً إلا بحجة ، وما أسقطت منه شيئاً إلا بحجة " والمقصود بالحجة الحجج العلمية التي تجعله يودع أو يذر .
مميزات صحيح مسلم :
نجد كثير من أهل العلم أعجب بصحيح مسلم غاية الإعجاب ، ذلك بسبب حسن ترتيبه وتلخيصه لطرق الحديث بغير زيادة ولا نقصان ، واحترازه أيضاً من التحول في الأسانيد عند اتفاقها من غير زيادة ولا نقصان ، وتنبيه على ألفتاظ الرواة من اختلاف في متن أو اسناد ولو في حرف .
نجده مثلا ـ رحمه الله ـ يعني عناية تامة بالتنبيه على الروايات المصريحة بالسماع ، وينتقيها إنتقاء ، وذلك تلافياً منه للكلام في الإسناد المعنعن ، سواء كان ذلك الراوي الذي ورد التصريح منه بالسماع مدلساً أم غير مدلس ، فإن كان موصوفاً بالتدليس ، فلا شك أن مسلماً ريحمه الله يحرص أكثر ، ويحرص أيضاً حتي لو لم يكن الراوي موصوفاً بالتدليس .(1/26)
وليس أدل على هذا من أول حديث في صحيحه وهو حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في مجئ جبريل إلى النبي ، فإنه في هذا الحديث ـ لو طالعتموه في صحيح مسلم ـ تجدوه يقول : " قال فلان : حدثنا ... " وانتقى هذه الرواية ، جاء بالحديث من أكثر من إسناد ، ثم انتقى ذلك الإسناد الذي صرح قيه بالسماع .
حسن ترتيبه ـ رحمه الله تعالى ـ :
وبالنسبة لحسن ترتيبه فإنه ـ رحمه الله ـ من جوانب التفضيل لكتابه على غيره من الكتب قالوا : إنه ليس فيه سوى الحديث السرد ، أى أنه لم يمزج حديث النبي بغيره ، وكأنهم يشيرون الى صنيع البخاري رحمه الله ، حينما مزج مع الحديث ما ورد عن الصحابة وعن التابعين وبعض الكلام الذي يذكره من عنده ، كل ذلك بسبب مايلجئه إليه فقه الحديث ، ولكن مسلماً ـ رحمه الله ـ لم يصنع من ذلك شيئاً .
عدم تبويب الإمام مسلم لكتابه :
…بل إنه لم يبوب كتابه فهو ـ رحمه الله ـ ساق الأحاديث بناء على الترتيب الفقهي ، ابتداء بكتاب الإيمان ثم الطهارة ، ثيم الصلاة ، وهكذا لكنه لم يبوب ، لم يقل : باب كذا وكذا ، بل هذا التبويب إنما بوبه بعض الشراح لصحيحه ، وبعض المستخرجين ، وبعض الملخصين .
فلو نظرنا إلي التبويب الموجود بين أيدينا ، وإذا به تبويب الإمام النووي ـ رحمه الله ـ ولا شك أنه تبويب فيه شيء من الطول ، وفي نظري أن تبويب القرطبي في شرحه لصحيح مسلم ، وفي تلخيصه لصحيح مسلم ، فإنه لخص صحيح مسلم ، فإنه لخص صحيح مسلم في كتاب جرد الأحاديث من الأسانيد وبوب عليها تبويباُ جيداً بديعاً وشرح هذا التلخيص ـ ولو نظرنا في هذا التبويب عند القرطبي نجده أجود من تبويب النووي ، وفي بعض الأحيان نجد أن القرطبي ـ رحمه الله ـ يتأثر أحياناً بتبويب أبي نعيم في مستنخرجه ، فإني في أثناء المطالعة وجدت أن القرطبي يأخذ أحياناً التبويب لأبي نعيم في المستخرج فيضعه عنواناً لذلك الباب الذي يبوب عليه أو الذي يبوب به .(1/27)
أسباب تفضيل صحيح البخاري على مسلم عند الجمهور :
حصل هناك إختلاف في تفضيل صحيح مسلم على البخاري او العكس ، وجمهور المحدثين يفضلون صحيح البخاري على مسلم في الجملة لعدة أسباب منها:
1ـ صحة الأحاديث عند البخاري ، فإنها اصح من الأحاديث عند مسلم ، وهذا من حيث العدد في الجملة ، وإلا هناك أحاديث يتفق البخاري ومسلم على إخراجها ، ولكنهم نظروا الى شرط البخاري في الصحة وإذا به أقوى من شرط مسلم .
2ـ عدد الأحاديث المتكلم فيها عند البخاري اقل من عدد الأحاديث المتكلم فيها عند مسلم .
3ـ عدد الرجال الذين تكلم فيهم ممن أخرج لهم مسلم أكثر من عدد الرجال الذين تكلم فيهم ممن أخرج لهم مسلم أكثر من عدد الرجال الذين تكلم فيهم ممن أخرج لهم البخاري . وهذا من حيث جوانب عامة دعت المحدثين الى أن يفضلوا صحيح البخاري على صحيح مسلم .
4ـ هذا بالإضافة الى من يلتفت الى الناحية الفقهية فإنه يرى أن صحيح البخاري أحسن من صحيح مسلم ، والسبب أن البخاري ـ رحمه الله ـ مزج الحديث بالفقه فأصبح كتابة هذا حديثاً وفقها في آن واحد.
تفضيل المغاربة لصحيح مسلم على البخاري :
لكن بعض المغاربة يفضل صحيح مسلم على صحيح البخاري ، وكذلك وردت عبارة عن أبي على النيسابوري ـ رحمه الله ـ من المشارقة أنه فضل صحيح مسلم أيضاً، ولكن هل هذا التفضيل يقتضي التفضيل في الأصحية أو التفضيل في أمور أخرى خارجة عن حيز الصحة ؟ بعضهم فهم أن التفضيل يشمل حتى الأصحية ، وهذا الكلام تهافت لا يشك إنسان له إلمام بعلم الحديث في أن أحاديث البخاري أصح من أحاديث مسلم ، وكما قلت : في الجملة .
ولكن من حيث الجواني الأخرى قد يفضل بعض الناس صحيح مسلم على صحيح البخاري بسببها ، فمن ذلك مثلاً ما ذكره التجبي عن ابن حزم ـ رحمه الله ـ أنه فضل صحيح مسلم على صحيح البخارى ، وذكر السبب فذكر :(1/28)
أن مسلماً رحمه الله ليس في كتابه سوى الحديث السرد ، بعد المقدمة ، قالوا : إذا هو يمزج أحاديث النبي بغيرها .
…2ـ كما ان من جوانب التفضيل جمع مسلم رحمه الله لطرق الحديث مكان واحد ، وليس كالبخاري الذي يفرق هذه الطرق في أماكن متعددة وكما قلت سابقاً : إنها قد تصل الى أكثر من عشرين موضعاً بسبب ما ينتزعه من ذلك الحديث من فقه ، فنجد أنه يقطع الحديث ، ربما أورده في الصلاة ثم الطهارة ، ثم في الزكاة ، ثم في الحج ، ثم في الصيام ، ثم في غير ذلك من الأبسواب ، وفي كل باب نجده يأخذ من الحديث ناحية فقهية ويودع ذلك الحديث في ذلك الباب لهذا السبب .
أما مسلم فلا يصنع ذلشسك في الغالب جداً ، قد يقع عنده في بعض الأحيان حديث مكرر في موضعين تقريباً مثل حديث ابن عباس في الأشربة في وفد عبد القيس حينما قدموا ، فإنه كرره في موضع آخر ، ولكن هذا قليل جدا عند مسلم ـ رحمه الله ـ والقلة النادرة لا يبني عليها شيء ، ولا يقاس عليها ، ولا يعتبر لها حكم .
فإذا الحكم الغالب لما في صحيح مسلم من الأحاديث : أن مسلماً ـ رحمه الله ـيجمع جميع طرق الحديث ويجمعها في المكان الأليق بها ، فإذا وجد أن معظم مادة ذلسك الحديث يمكن أن تجعل في كتاب الطهارة ، جعلها في كتاب الطهارة ، حتي وإن كان فيه بعض المواضع التي يمكن أن يستفاد منها في كتاب الصلاة ، وفي غيرذلك من الأبواب ، فلا نجده يودعه في تلك المواضيع ، وإنما يجعلها في أليق المواضيع بذلك الحديث .
…3ـ ثم إنه يعنى بالطرق في ترتيبها ، فنجد أنه يقدم الطريق التي فيها أصحية ، ويقدم الطريق التي فيها إجمال ، ثم يرد فها بالطريق المبينة لها ، ويقدم الطريق المنسوخة ثم يأتي بعد ذلك بالطريق الناسخة ، هلم جرا.
ومن حسن ترتيبه وطريقته في السياق جعلت بيعض العلماء يفضلونه على كتاب البخاري . …(1/29)
4ـ كما أن من جوانب التفضيل في هذا الموضع : أنه ـ رحمه الله ـ يعني بالمتون عناية فائقة ، فتجد أنه يتحرى ويتحرز في فروق الألفاظ ، فيقول : قال فلان كذا ، وقال فلان كذا . …
وحتى في الأسانيد تجد أنه أحياناً يقول : قال فلان : حدثنا ، وقال فلان أخبرنا ، وذلك لتفريقه ـ رحمه الله ـ بين حدثنا وأخبرنا ، وأما البخاري رحمه الله فلا يعنى بهذا ، ولعل البخاري يرى التسوية بين حديثنا وأخبرنا ، وهذا فيما يظهر من صنيعه في كتاب العلم ، أما مسلم ـ رحمه الله ـ فيرى التفريق بين حدثنا وأخبرنا .
الفرق بين حدثنا وأخبرنا :
…المحدثون يفرقون في طريقة التلقي بين ماتلفظ به السيخ ، وبين ما قرئ على الشيخ ، فإذا كان الشيخ يحدث سواء من حفظه ، أو من كتابه ، ويقرأ على التلاميذ ، وهم ينسخون الأحاديث التي يحدثهم بها . هذا يقال له : ( السماع ) ، وهو الذي يعبرون عنه ( بحدثنا أو حدثني ) .
فإن كان الطالب تلقي ذلك الحديث في مجلس مثل هذا المجلس فإنه يأتي بصيغة الجمع : ( حدثنا ) لكونه تلقى الحديث مع جماعة آخرين . وإن كان تلقاه من الشيخ بمفرده قال : ( حدثني ) يعني على انفراد .(1/30)
وأما إذا كان الحديث يقرأ على الشيخ قراءة مثل مالك ـ رحمه الله ـ يدفع الموطأ لأحد التلاميذ فيقرأ وهو يسمع ، فإن أخطأ التلميذ رد عليه وصوب ذلك الخطأ ، وإلا مضى ، فهذا يسمونه ( العرض والقراءة على الشيخ ) ويعبرون عنه بتعبير دقيق حينما يريد الإنسان أن يحدث يقول : ( أخبرني ) ولا يقول : حدثني : يشير الى أنه تلقى الحديث لا من لفظ الشيخ ولكن من التلميذ الذي يقراعلى الشيخ . هذا هو السبب الذي يجعلهم يفرقون بين ( حدثنا ) و( أخبرنا ) ، فبعض المحدثين يقولون : كلاهما سواء أقرأ على الشيخ ، أو قرأ الشيخ فكل ذلك واحد ، لكن مسلم ـ رحمه الله ـ لايرى ذلك واحد ، ولكنه يفرق بين هذا وذاك ، ولذلك نجده في كثير من الأحاديث ينص على ذلك ، قال فلان : حدثنا ... وقال فلان : أخبرنا ، وهلم جرا .
5ـ كما أنه ـ رحمه الله ـ إذا كان في المتن زيادة أو نقصان أو تغير في الألفاظ ينص على ذلك أيضاً ، فتجده يورد الحديث بادئ ذي بدء بالطريقة التي ينتقيها ويختارها ، ثم بعد ذلك يأتي بالمتابعات والشواهد . فإن كان في المتابعة أو الشاهد زيادة لفظ ، ذكره ونص عليه ، وإن كان فيه اختلاف لفظ نص عليه أيضاً . وهكذا . فهذا الصنيع من مسلم ـ رحمه الله جعل بعض العلماء يفضلونه على صحيح البخاري .
فإذن نستفيد من هذا كله أن جانب التفضيل لصحيح مسلم على صحيح البخاري لا من حيث الأصحية ، ولكن بإعتبارات أخرى رآها بعض العلماء ، ورأى بعضهم خلافها ، والمسئلة اجتهادية وكل له وجهة هو موليها .
عدم إهتمام الإمام مسلم بالأسانيد العالية
بقدر اهتمامه بالأسانيد الصحيحة :
…من الأمور التي أحب التنبيه عليها أم مسلما رحمه الله لم يعن بالحديث العالي في صحيحه ، والحديث العالي ضد النازل ، والمقصود بالعالي والنازل قلة العدد بين صحاب الكتاب وبين النبي أقصد فر الرواة .(1/31)
…فإذا كان مسلم ـ رحمه الله ـ عنده حديث مروي من عدة طرق ، بعض الطرق يكون بينه وبين النبي ستة رواة ، وبعض الطرق يكون بينه وبين النبي أربعة رواة ، فإنهم يقولون للطريق التي بينه وبين النبي أربعة رواة : طريق عالية ، والأخرى نازلة .
…وقد عني المحدثون بمسئلة العلو ، والذين في طبقة مسلم يحرصون على الأحاديث العالية وبالذات في ذلك التاريخ ، بعضهم ظفر بأحاديث ثلاثية الإسناد يعني لايكون بين المؤلف وبين النبي أكثر من ثلاثة رواة ، الصحابي ، والتابعي ، ثم شيخ صاحب الكتاب ، ووقع في مسند الإمام احمد ـ رحمه الله ـ عدد من الأحاديث الثلاثية بلغ نحو ثلاثمائة حديث ثلاثيات ، أفردها السفاريني ـ رحمه الله ـ وشرحها أيضاً في كتابه " شرح ثلاثيات المسند " .
كما أنه وقع لبعض المعاصرين لمسلسم بعض الثلاثيات أيضاً ، فهناك ابن ماجه وهو متأخر عن مسلم نوعاً ما ، له ثلاثيات ، بل إن تلميذ مسلم وهو الترمذي له ىحديث ثلاثي في كتابه ، وهو ما أخرجه في كتابه عن شيخه اسماعيل بن موسي الفراري قال : حدثنا عمر بن شاكر عن أنس عن النبي أنه قال " يأتي على الناس زمان الصابر فيه على دينه كالكابض فيه على الجمر " هذا الحديث أخرجه الترمذي بإسنادثلاثي ليس بينه وبين النبي سوى ثلاثة رواة ، وما دام الترمذي من تلاميذ مسلم ، فمن باب أولى أن يوجد عند مسلم أحاديث ثلاثية الإسناد . فلماذا ياترى لم يخرج مسلم شيئاً من الأحاديث الثلاثية ؟ إنما أعلى ما وجدنا عنده في كتاب رباعي الإسناد ـ يعني بينه وبين النبي أربعة رواة ـ لماذا لم يعن مسلم بالثلاثي الإسناد ؟(1/32)
السبب انتقاؤه للأحاديث الصحيحة ، واتقاؤه للطرق الصحيحة ، فإنه لو أراد أن يخرج هذه الطرق الثلاثية سيكون ذلك الإسناد الذي عنده ضعيفاً ، ولذلك بعضهم يقول : إن الأحاديث الثلاثية في سنن ابن ماجة كلها ضعيفة ، وأظن هذه العبارة وردت عن المزي ـ رحمه الله ـ فسلم إذا تجنب الأحاديث العالية بسبب انتقائه لليحديث الصحيح فقط ، وإلا سيكون عنده أحاديث ثلاثية الإسناد . كما أن من منهج مسلم رحمه الله أنه لا يرى الرواية بالمعنى بخلاف شيخه البخاري ، فالبخاري يرى الرواية بالمعنى ، إذا تلقى الحديث بلفظ جوز لنفسه أن يرويه بلفظ آخر بشرط أن يكون المعنى هو المعنى . وأما مسلم رحمه الله فإنه يحترز كل الإحتراز عن أي لفظة يغيرها ويبدلها في الإسناد .
…
وبعضهم ذكر أن هذا من جوانب التفضيل لصحيح مسلم علىالبخاري ، وبعضهم ذكر أن للبخاري عذراً أن مسلماً يحق له أن يصنع هذا الصنيع . قالوا : البخاري ـ رحمه الله ـ لم يكن يدون الحديث أثناء تلقيه له عن الشيوخ ، فهو الذي يقول : ب حديث سمعته بالشام وكتبته بخرسان ، فإذا هو يملي من حفظه فيستحضر المعنى تماماً ثم يعبر بما يحضره من ألفاظ ، إن استطاع أن يأتي بالحديث بنفس اللفظ فعل ، وإلا جاء بألفاظ تؤدي نفس المعني الذي تلقاه به .
قالوا : وأما مسلم رحمه الله فإنه ألف صحيحه في بلده نيسابور ، بل بحضور جميع كتبه حينما كان يكتب عن الشيوخ ، فكتبه بين يديه ، بل إن بعض شيوخه كان حياً حينما ألف الصحيح ، فإذا أشكل عليه لفظ ذهب الى مراجعه ذلك الشيخ عن ذلك اللفظ الذي أشكل عليه ، فلذلك حق له أن يحترز في هذه الألفاظ ، وأن يأني بالحديث على وجهه الذي سمعه .(1/33)
ولأجل هذا وجدنا بعض المغاربة ـ بالذات ـ وإن كان يصنع هذا غيرهم ممن يسوق المتون ـ متون الأحاديث ـ كعبد الحق الإشبيلي في كتابه الأحكام ـ ينتقون رواية مسلم على رواية البخاري إذا كان الحديث متفق عليه ، نجد أنهم يأيخذون لفظ مسلم ويدعون لفظ البخاري .
والسبب أنهم يرون أن لفظ مسلم أدق من لفظ البخاري ـ رحمه الله ـ وهذا فعلاً موجود في صحيح البخاري ، وربما قال بعض الناس : يمكن أن يكون البخاري تلقى الحديث هكذا ، لأننا نجد البخاري يورد الحديث في أكثر من موضع ، فنجد في بعض المواضيع اختلافا في اللفظ عن ذلك الموضع السابق . مثال ذلك : أينه يورد الحديث في كتاب الطهارة بلفظ آخر ، وقد يقول قائل : إن هذا بسبب اختلاف الرواية ، يكون تلقي الحديث عن شيخ بلفظ ، وعن شيخ آخر بلفظ آخر .
ولكن جوابنا على هذه المسئلة : أقول : إن البخاري ـ رحمه الله ـ في بعض الأحيان يأتي بالحديث عن نفس الشيخ في هذاالموضع وفي ذلك الموضع مع اختلاف اللفظ فدل ذلك على أن اختلاف اللفظ منه هو لا من ذلك الشيخ الذي تلقى ذلك الحديث عنه .
ومن الأمور التي فضلوا صحيح البخاري بسببه : أن مسلماً ـ رحمه الله ـ اقتصر على المرفوع دون الموقوف ، وعلى المتصل دون المعلق ، وهذا يدفعنا الى الكلام على المعلقات في صحيح مسلم .
المعلقات في صحيح مسلم .
بالنسبة للبخاري تقدم الكلام على المعلقات في صحيح البيخاري بما يغني عن الإعارة ، وفهمنا من خلال ذلك العرض أن البخاري ـ رحمه الله ـ أورد في كتابه كثيرا" من الأحاديث المعلقة ، وذكرت لكم أن المعلق ما حذف من مبدأ إسناده راو فأكثر ، ولربما حذف كامل الإسنادفقال : قال : النبي وربما ذكر الصحابي فقط فقال : قال بن عباس ، أو قال أبو هريرة ، وهلم جرا.
فهذه الأحاديث المعلقة يودعها البخاري ـ رحمه الله ـ في كتابه لسبب وهو استخدامه لها في الناحية الفقهية الاستنباطية ، فهل ياترى في صحيح مسلم شيء من هذه المعلقات ؟.(1/34)
فنقول : إن المعلقات التي في صحيح مسلم وجدت ـ على إختلاف بين العلماء في عددها ـ ولكنها على أكثر عدد لا تشكل نسبة إذا ما قورنت بالمعلقات في صحيح البخاري .
فقد بلغ عدد الأحاديث المعلقة في صحيح البخاري مائة وتسعة وخمسون حديثاً كما يقول الحافظ بن حجر ، وعلى أعلى نسبة عند مسلم قيل : إن عددها أربعة عشر حديثاً .
فالفرق بين العددين ظاهر ، فإذا هذا من جوانب التفضيل لصحيح مسلم على صحيح البخاري ، أنهم قالوا : ليس فيه شيء من المعلقات .
ثم إن هذه المعلقات التي في صحيح مسلم ـ وعددها كما قيل على أعلى حصر أربعة عشر حديثاً ـ ليس الأمر فيها كما ذكر بل إننا نجد هذه الأربعة عشر حديثاً ترجع الى اثني عشر حديثاً ، والسبب أن أحدها مكرر ، والحديث الأخر ليس في الحقيقة بمعلق ، وهو الحديث الذي جاء في كتاب الصلاة في باب الصلاة على النبي ، حينما يقول مسلم : حدثنا صاحب لنا عن إسماعيل بن زكريا عن الأعمش ، وعن مسعر وعن بن مغول كلهم عن الحكم ـ يعني ابن عتيبة عن ابن أبي ليلى عن كعب بن عجرة أنهم قالوا للنبي : " قد عرفنا كيف نسلم عليك ، فكيف نصلي عليك ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : قولوا : اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ...."
نجد أن هذا الحديث بهذه الصورة ليس بمعلق ، وإنما هذا إسناد متصل ليس فيه انقطاع ولكن يقال عن هذا الحديث : إن في إسناده راوياً مبهماً ، وهو شيخ مسلم حينما قال : حدثنا صاحب لنا ، ومع ذلك فهذا الحديث إنما جاء بهذه الصورة في رواية أبي العلاء بن ماهان وهو أحد الرواة في صحيح مسلم .(1/35)
وأما الرواية المعتمدة وهي رواية أبي احمد الجلودي النيسابوري فليس فيها هذا الراوي المبهم ، وإنما فيها التصريح باسم هذا الشيخ ، وهذه الرواية هي المعتمدة وهي الموجودة بين أيدينا ، أما رواية أبي العلاء بن ماهان فلا أعرف أنها موجودة في هذا العصر ، ورواية الجلودي جاءت فيها الرواية هكذا : يقول مسلم : حدثنا محمد بن بكار ، قال حدثنا إسماعيل بن ذكريا ... ثم ذكر الحديث .
فتبين بهذا أن هذا الحديث ليس بمعلق في صحيح مسلم ، وإنما هو إسناد متصل ، وتبين شيخ مسلم في رواية الجلودي .
أما الأحاديث الأثنا عشر التي قيل إنها معلقة ، ففي الحقيقة أن هذه الأبحاديث الإثنا عشر التي قيل أنها معلقة ، ففي الحقيقة أن هذه الأحاديث الإثنى عشر أيضاُ ، لو نظرنا إليها نجد فيها أحاديث وصلها مسلم نفسه في موضع آخر من صحيحه ، وعدد هذه الأحاديث التي وصلها مسلم خمسة أحاديث ، فإذا لايقال عن هذه الأحاديث إنها كمعلقات صحيح البخاري والتي كثيرمنها يعلقها ولا يصلها في نفس الصحيح ، وإنما هذه وصلها مسلم في موضع آخر فهي لا تعتبر معلقة .
هناك أحاديث عدها بعض العلماء معلقة وهي في الحقيقة موصولة وعددها ستة أحاديث ، والسبب في قولنا إنها موصولة أننا نجدها بعد التتبع موصولة هكذا ، كالحديث السابق فيها راو مبهم ، حينما يقول مسلم ـ رحمه الله ـ : حدثت ، أو حدثنا صاحب لنا ، أو نحو ذلك من العبارات مثل ما حصل في رواية أبي العلاء بن ماياها السابقة ، وعددها ستة كما بينا ، فهذه يقال : في إسنادها راو مبهم ، وليست أحاديث معلقة ، ونجد أن هذه الأحاديث بعد التتبع موصولة عند غير مسلم في خارج الصحيح .
…واعتنى بوصلها الأخ الفاضل ( على حسن عبد الحميد حلبي ) أحد تلاميذ الشيخ الألباني في كتاب له سماه " تغليق التعليق " على هذه الأحاديث المعلقة ، أو التي قيل إنها معلقة في صحيح مسلم ، فبهذا ينهي كثيراً من ال كلام عن الأحاديث التي بها راو مبهم .(1/36)
يبقى بعد ذلك حديث واحد هو الذي نص عليه الحافظ العراقي ، فإنه يقول رحمه الله : إن عدد المعلقات في صحيح مسلم إنما هو حديث واحد فقط ، وإذا كان عدد المعلقات حديثاً واحدا فقط ، فلا شك أنه لا حكم له في عدد أحاديث كثير بغير المكرر تبلغ أربعة آلاف ، وبالمكرر تصل نحو اثنى عشر ألف حديث ، فلا يشكل هذا العدد نسبة في مقابل ذلك العدد الضخم .
الموقوف والمقطوع عند البخاري ومسلم :
أما بالنسبة للموقوف والمقطوعات ، والمقصود بالموقوف : ماكان من كلام الصحابي ، والمقطوع : ما كان من كلام التابعي فمن بعده.
البخاري ـ رحمه الله ـ يورد كثيراً من هذه الموقوفات والمقطوعات في كتابه وبالأخص في التبويب ، يستعين بها في تبويبه وفي الاستشهاد بها في فقه الحديث . وأما مسلم ـ رحمه الله ـ فهذه الموقوفات والمقطوعات في صحيحه قليلة جداً لا تقارن بما عند البخاري ، وإذا وجدت عند مسلم فإنما توجد لغرض ومناسبة ، ربما ظهرت لبعضنا ، وربما لم تظهر .
أما بالنسبة للموقوف فإن مسلماً ـ رحمه الله ـ يستعين به في فهم ذلك الحديث . وأول حديث عند مسلم ، وهو حديث ابن عمر في مجئ جبريل للنبي في صورة أعرابي ، وسؤاله إياه عن الساعة ـ السبب الذي دعا ابن عمر إلى إيراد ذلك الحديث : أن يحيي بن عمر وصاحبا له جاء الى عمر وذكر له القدرية الذين ظهروا وأصبحوا يقولون بالقدر ، فقال ابن عمر رضي الله عنهما : " إذا لقيت أؤلئك فأخبرهم أني برئ منهم وهم برءاء مني " فهذا يقال له : موقوف ، لأنه من كلام ابن عمر ، ثم ذكر بعد ذلك حديث جبريل ، إذا كلام ابتن عمر هاهنا جاء عرضاً في ضمن هذا الحديث المرفوع ولم يقصد مسلم رحمه الله إفراده عن الحديث أو المجئ به هكذا استقلالاً ، يخبر عرضاً ، ومع ذلك هو يعين في فهم هذا الحديث ، فأين عمر رضي الله عنهما يخبر بكلامه هذا أن هؤلاء الذين قالوا بهذه االمقولة يستحقون أن يتبرأ منهم المسلمون بسبب شناعة هذه المقالة .(1/37)
أما بالنسبة للمقطوع وهو ما جاء عن التابعي فمن بعده ، فهو قليل جداً في صحيح مسلم ، ومع هذا إنما يورده مسلم استرواحاً في بعض المواضع ، ويمثلون لذلك بمثل روايته لمقولة يحيي بن أبي كثيرـ رحمه الله تعالى ـ حينما قال : " لايستطاع العلم براحة الجسم " ، أو " براحة الجسد " ـ على إختلاف الروايات في ذلك ـ ، فمسلم رحمه الله في كتاب المساجد في باب الصلوات الخمس أورد حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي قال : " إذا صليتم الفجر فإنه وقت إلى أن تطلع قرن الشمس الأول ، ثم صليتم الظهر فإنه وقت الى أن يحضر العصر ... " الحديث ، لما أورد مسلم هذا الحديث أورد بعد ذلك عن يحيي بن أبى بكير عن يحيي بن أبي كثير أنه قال : " لا يستطاع العلم براحة الجسم " . ثم أورد بعد ذلك عدة أحاديث كالعادة ، فلماذا ياترى أورد مسلم هذا الكلام عن يحيي بن أبي كثير ؟
السبب بعد التأمل نجد أن هذا الحديث مداره على قتادة بن دعامة السدوسي يرويه عن أبي أيوب ـ يحيي بن مالك ـ عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما ، ثم نجد أن مسلماً أخرج هذا الحديث عن قتادة من أربع طرق ، من جملتها :
طريق هشام الدستوائي وطريق شعبة ، كلاهما يرويانه عن قتادة ، وأبخرجه من طريقين عن معاذ بن هشام الدستوائي عن أبيه قتادة ، وأخرجه من ثلاث طرق عن شعبة .
فصار الحديث بمجموع هذه الطرق له سبعة طرق ، يعني بدلا من أن يكون حديثاً واحداً صار سبعة أحاديث بالمكرر ، فهذا التعب في إخراج هذه الطرق جعل مسلماً رحمه الله يتذكر مقولة يحيي بن أبي كثير هذه ، وأن العلم يحتاج الى نشاط نفسي وعلو همة ، ولا يليق بطالب العلم أن يكسل عن تخريج مثل هذه الطرق ، فأورد هذه المقولة شحذا لهمم طلبة العلم وحثا لهم على عدم السآمة والملل . فهذا هو السبب الذي جعل مسلماً رحمه الله يورد مثل هذه المقولة عن يحيي بن أبي كثير .(1/38)
وفي الجملة ، فلا يقارن ما في صحيح مسلم بما في صحيح البخاري من الموقوف أو المقطوع أو المعلق ، فهذا من جوانب التفضيل التي فضل صحيح مسلم بموجبها على صحيح الإمام البخاري ـ رحمهما الله .
ما حكم تدليس أبي الزبير في صحيح مسلم وغيره من المدلسين ؟
بالنسبة لأبي الزبير محمد بن مسلم بن تدرس ، وهو كثير الرواية عن جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما ، وله في صحيح مسلم عدة أحاديث يرويها عن جابر باعنعنة ، يعني يقول : عن جابر ولا يقول : سمعت جابراً ، أو حدثنا ، أو نحو ذلك من العبارات المصرحة بتلقيه ذلك الحديث عن شيخه جابر ، ومحمد بن مسلم بن تدرس ـ أبو الزبير هذا ـ وصف بالتدليس .
واستشهد في ذلك على رواية الليث بن سعد حينما تلقى أحاديث من ابي الزبير ثم سأله فقال : هذه الأحاديث سمعتها كلها من جابر ؟ فقال لا فقال : منه سمعت ، ومنه ما حدث عنه . فقال له : اعلم لي على الذي سمعت ـ أي أشر على الذي سمعته في الكتاب الذي نسخه منه ـ فأعلم له على بعض الأحاديث ، قال الليث : فهي التي أرويها .
هذه الحكاية من الليث بن سعد ـ وهو إمام من الأئمة ـ بلا شك أنها صريحة في أن أبا الزبير مدلس ، واستدل عليها من أستند ـ مثل النسائي ـ فوصفه بالتدليس ،
ومن جاء بعد ذلك كالذهبي ، وابن حجر ، وغيرهم ، كلهم وصفوا أبا الزبير بالتدليس ، وبعضهم1 بالغ مثل ابن القطان الفاسي ، وكذلك ابن حزم في رد حتي الأحاديث التي في صحيح مسلم ،والتي لم يصرح فيها أبو الزبير بالتحديث .
وخلاصة ما فصلوا فيه أنهم قالوا : رواية أبي الزبير مقبولة إذا صرح بالسماع ، وإن لم يصرح بالسماع فإنها مردودة إلا إذا كانت من رواية الليث بن سعد عنه ، فإن أحاديث الليث بن سعد عن أبي الزبير مسموعة ، وما عدا ذلك فنرد تلك الأحاديث مالم يصرح أبو الزبير بالسماع ، فهل هذا الكلام ينطبق على ما في صحيح مسلم .
بعضهم عمم مثل ابن القطان ـ وأظن ابن حزم كذلك أيضاً ـ .(1/39)
وبعضهم قال : لا ، بل مافي صحيح مسلم لا يتعرض له ، وما كان في خارج صحيح مسلم فهو الذي يمكن أن ينقص بهذا النقض .
وفي إعتقادي أن هذا الرأي هو أوسط وأعدل الأقوال ، ليس كالقول الذي يهدد قول الليث بن سعد ، ويقول : أبو الزبير غير مدلس ، فهذا فيه إهدار لكلام إمام من الأئمة ، ولاعتماد أئمة آخرين عليه ـ كالنسائي وغيره ـ ، كما أن التعرض للأحاديث التي في صحيح مسلم ليس بلائق ، والسبب في ذلك عدة أمور هي :
أولا : أننا نجد مسلماً ـ رحمه الله ـ من الأئمة الذين لهم معرفة تامة بعلل الأحاديث ، واختار هذه الأحاديث وتجنب أحاديث أخرى لأبي الزبير ، فلماذا يا ترى أعرض عن تلك الأحاديث التي لأبي الزبير وهي باسانيد صحيحة الى أبي الزبير ، ولم يخرجها في صحيحه ، دل هذا على أنه انتقى بعض الاحاديث التي تحقق لديه بأنه صحيح حديث أبي الزبير .
ثانياً : أن مسلما ً ـ رحمه الله ـ صنع مثل صنيع البخاري في عرضه كتابه على أئمة عصره ، فإنه عرض هذا الكتاب ـ الذي هو الصحيح ـ على شيخه ابن واره ، وعلى أبي زرعة الرازي أيضاً وعلى أئمة آخرين في عصره ، فهذا العرض منه جعله ينظر الى تلك الأحاديث التي نقدوها مثل نقدها أبو زرعة الرازي فأبعدها مسلم من صحيحه . إذا دل أن هذه الأحاديث المبقاة في صحيح مسلم مما أقره أبو زرعة الرازي ـ وهو إمام ـ علىتصحيحها.
ثم إننا نجد أيضاً أن هذه الأحاديث التي من رواية أبي الزبير في صحيح مسلم ، قد تعقب الدار قطني مسلماً في كتابه كله واجتنب نقص هذه الأحاديث ،ولم ينقص الدارقطني من الأحاديث التي من رواية أبي الزبير سوى حديث واحد فقط ، فهل ياترى نقضه عليه بسبب التدليس ؟
الجواب : لا ، وإنما نقضه عليه لأن الزبير شك في الحديث ، هل هو مرفوع أم لا ؟ فجاء به على الظن والتخمين ، فيقول : أحسبه رفعه الى النبي .(1/40)
فإذا الدار قطني نقد مسلماً على إيراده هذا الحديث في الصحيح مع العلم أن رواية ـ الذي هو أبو الزبير ـ لم يجزم برفعه الى النبي ، ثم تجنب الدار قطني نقد تلك الأحاديث التي رواها أبو الزبير . ومن المعلوم أن الدار قطني إمام ، وكتابه العلل أكبر شاهد على إمامته في هذا الشأن .
كذلك غير الدارقطني ممن نقد صحيح مسلم وهم ائمة ، وهؤلاء هم : ( ابن عمار الشهيد ، وأبو مسعود الدمشقي ، وأبو على الجباني ) . وهؤلاء نقدوا بعض الأحاديث التي لها علل من العلل التي اصطلح عليها أئمة الحديث ، نذكر منها :
1ـ كأن يكون الراجح في الحديث أنه مرسل فيورده مسلم موصولا ً .
2ـ أو يكون الراجح في الحديث أنه موقوف ، ويورده مسلم مرفوعاً .
3ـ أو يكون فيه زيادة راو ، أو سقط راو ، أو نحو ذلك من العلل التي يعلون بها .
وأما هذه العلل الظاهرة ، عنعنة أبي الزبير ، عنعنة الأعمش ، ونحو ذلك من العلل لا يتعرضون لها في صحيح مسلم لتيقنهم من أن هذه الأحاديث من صحيح أحاديث هؤلاء الرواه ، فنجد هؤلاء الأئمة الذين نقدوا صحيح مسلم ما تعرضوا للأحاديث التي رواها أبو الزبير بالعنعنة في صحيح مسلم .
فلأجل هذا نقول : إن تلك ألأحاديث التي من رواية أبي الزبير في صحيح مسلم لا تتعرض لها ، وأما ما كان في خارج صحيح مسلم فلربما كان فيه شيء من الأحاديث الصحيحة عند أهل العلم العارفين بالعلل ، ولكن بضاعتنا في العلم قليلة ولم يتحصل لهم من جمع الطرق ومعرفة صواب هذه الرواية من عدمها .
فلدلك يلجئنا الأمر والواقع الذي نعيشه الى أن نقول في هذه الأحاديث : إننا نتوقف عن تصحيحها الا ما ورد التصريح فيه بالسماع ، فليس عندنا ما عند هؤلاء الأئمة الفطاحل من المقدرة الحديثة التي تجعلنا نقبل الرواية التي بالعنعة لتقينا من أن هذا الراوي أصاب فيها ، هذه ليست عندنا ، ولذلك لا نصنع مثل صنيعهم ، وإنما نلجأ الى الأخذ بظاهر الرواية(1/41)
ذكر من أعل بعض أحاديث في " صحيح مسلم " من المعاصرين :
اقول : من كان من المشايخ المعروفين بسلامة المقصد ،وبالغيرة على سنة النبي وبسلامة المنهج والمعتقد ، ثم اجتهد في المسئلة ،فينبغي في هذه الحال أن يعذر على اجتهاده مع عدم إقرارنا له عليه ، ولكن لا يشنع عليه ، ولا يوصف باخس الأوصاف او أقبحها كما يفعل بعض المبتدعة في هذا الزمان بالشيخ الألباني ـ حفظه الله ـ فإنه مجتهد في هذه المسئلة ، وبالنسبة لى لا أقره على هذا الصنيع ، ولكن لا أصنع مثل مايصنعه هؤلاء الذين يشنعون عليه بهذه الأمور وهم يهدفون الى أمور أخرى ، فإن بعضهم له إنما بسبب ماهو عليه من المعتقد والدعوة الى تصحيح المعتقد ، وبخاصة في بلاد خيمت فيها الخرافة وعششت ، ولذلك هم يصنعون هذا الصنيع لهدف آخر ، فلا نغتر بمثل هذه العبارات التي تظهر أن عندهم غيرة على سنةالنبي ، والأمر بخلاف ذلك .
من ذلك ماكتبه " محمود سعيد ممدوح " وغيره ، كأنه يظهر الغيرة على الصحيحين ـ والغيرة على الصحيحين طيبة ـ ، ولكن يا "محمود سعيد ممدوح " أين غيرتك هذه على الصحيحين حينما يتكلم عليها شيوخك الغماريون ، الذين يفخر بهم ويأخذ عنهم ويتلقى عنهم ، وتربي على فكرهم ومنهجهم ؟ وهم لا يقدحون في الصحيحين فقط ، بل يقدحون في أصحاب الصحيحين ، بل للغماريين كلام في البخاري تنبو عنه الأسماع ، فأين هذه الغيرة ؟ا
لماذا لم تظهر في ذلك الموضع ؟ا
فإذن نتنبه لهذه الزلات ، ونعلم هؤلاء حينما يتكلمون في مثل هؤلاء إنما يتكلمون لغرض آخر . ونحن قد نكون سذاجتنا تدفعنا الى تلقي هذا الكلام بهذه الصورة الظاهرة كأنها غيرة على الصحيحين ، والأمر بخلاف ذلك .(1/42)
والشيخ الألباني ـ حفظه الله ـ معروف بغيرته على السنة وخدمته لها وهو بشر كبقية البشر ، وليس هو الذي تفرد بهذه المسألة فقط ، فابن حزم كما ذكرت تكلم ، وابن القطان الفاسي تكلم وأكثر ، ويظهر أيضاً أن عبد الحق الإشبيلي ممن تكلم في هذه المسألة .
فلماذا لم يتكلم عن أؤلئك الأئمة كما تكلم هذا الإمام الذي في هذا العصر .
سنن أبي داود
ترجمة الامام ابن خزيمة(1)
اسمه ولقبه وكنيته:
…شيخ الإسلام وإمام الأئمة في عصره، وفقيه الآفاق، أبوبكر محمد بن إسحاق بن خزيمة بن المغيرة بن صالح بن بكر السلمي النيسابوري، الحافظ الحجة صاحب التصانيف.
مولده وشيوخه:
…ولد - رحمه الله تعالى - في سنة ثلاث وعشرين ومائتين ببلدة نيسابور، واعتنى منذ صغره بالحديث والفقه حتى صار يضرب به المثل في سعة العلم والإتقان.
…وقد حدث عن خلق كثيرين من الشيوخ منهم البخاري ومسلم وقد حدثا عنه أيضاً - أي البخاري ومسلم - في غير الصحيحين.
…كذلك من أكابر شيوخ ابن خزيمة: الفلاس، وأبوكريب: "محمد بن العلاء"، ومحمد بن المثنى "الزمن"، ومحمد بن بشار "بندار"، وغير هؤلاء كثير.
ثناء العلماء عليه وذكر مذهبه:
…قال الدارقطني - رحمه الله -: "كان ابن خزيمة إمماً ثبتاً معدوم النظير"، وكان رحمه الله - متجرداً للحق حتى وإن كان ينسب للمذهب الشافعي، ولكن لم يكن بالمتمذهب فيما يبدو للأذهان، أو فيما صار عليه المتأخرون الذين يتعصبون للمذهب، بل كان - رحمه الله تعالى - يقول: "ليس لأحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قول إذا صح الخبر"؛ فهذا دليل على تجرده - رحمه الله - للحق وعلى تعظيمه للسنة.
…يقول أبوبشير القطان: "رأى جار لابن خزيمة من أهل العلم كأن لوحاً عليه صورة نبينا صلى الله عليه وسلم، وابن خزيمة يصقله, فقال المعبر حينما ذكرت له هذه الرؤيا: هذا رجل يحيى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم".(1/43)
…ويقول تلميذه ابن حبان: "ما ريت على وجه الأرض من يحفظ صناعة السنن، ويحفظ ألفاظها الصحاح وزياداتها حتى كأن السنن كلها بين عينيه - إلا محمد بن إسحاق بن خزيمة فقط" أهـ.
شجاعته وجرأته في الحق:
…وكان - رحمه الله - جريئاً في الحق لا يخاف في الله لومة لائم، يقول هو عن نفسه: "كنت عند الأمير إسماعيل بن أحمد؛ فحدث عن أبيه بحديث وهم في إسناده، فرددته عليه، فلما خرجت من عنده قال أبوذر القاضي: قد كنا نعرف أن هذا الحديث خطأ منذ عشرين سنة، فلم يقدر واحد منا أن يرده عليه، قال ابن خزيمة: فقلت له: لا يحل لي أن أسمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه خطأ أو تحريف فلا أرده".
ذكر كرامة حدثت له في إحدى رحلاته للعلم:
…وقد كان حريصاً على التلقي منذ الصغر، والرحلة في طلب العلم، فقد رحل إلى كثير من البلدان ورافق في بعض رحلاته محمد بن جرير الطبري صاحب التفسير وهو قرين له، وكذلك محمد بن نصر المروزي صاحب كتاب "تعظيم قدر الصلاة"، ومحمد بن هارون الروياني صاحب المسند، فهؤلاء الأربعة جمعتهم الرحلة بمصر، فأصابتهم مخمصة، فنفد ما معهم من المال والزاد، ولم يبق عندهم ما يقوتهم وأضربهم الجوع.
…فاجتمعوا ليلة في منزل كانوا يأوون إليه، فتشاوروا في أمرهم، فاتفق رأيهم على أن يستهموا ويضربوا القرعة، فمن خرجت عليه القرعة، سأل لأصحابه الطعام، فخرجت القرعة على ابن خزيمة، والأمر ثقيل على النفس، فقال لأصحابه: أمهلوني حتى أصلي صلاة الخيرة - صلاة الاستخارة - فاندفع في الصلاة، فبينما هم كذلك فإذا هم بالشموع وخادم من قبل الوالي يدق الباب، ففتحوا فقال: أيكم محمد بن نصر؟ قيل: هو ذا، فأخرج صرة فيها خمسون ديناراً فدفعها إليه، ثم قال: وأيكم محمد بن جرير؟ فأعطاه خمسين ديناراً أيضاً، وكذلك الروياني وابن خزيمة.(1/44)
…ثم قال: إن الأمير كان قائلاً(2) فرأى في المنام أن المحامد جياع قد طووا كشحهم، فأنفذ إليكم هذه الصرر، وأقسم عليكم إذا نفدت فابعثوا إلي أحدكم. فهذه الحكاية - إن صحت - فإنها تعتبر كرامة من الله تعالى لهؤلاء العلماء الأجلاء حينما رحلوا هذه الرحلة في سبيل الله - جل وعلا -، ونالهم ما نالهم من الجوع والعناء والمشقة.
وفاته - رحمه الله - ومصنفاته:
…توفي ابن خزيمة - رحمه الله - في ليلة السبت الثاني من ذي القعدة في سنة إحدى عشرة وثلاثمائة، وقد خلف آثاراً علمية كثيرة، يقول عنها تلميذه الحاكم أبوعبدالله: "مصنفاته تزيد على المائة وأربعين كتاباً سوى المسائل، والمسائل المصنفة مائة جزء، وله فقه حديث بريرة في ثلاثة أجزاء".
…وهذه المؤلفات التي أشار إليها الحاكم لا نعلم أنه بقي منها في ذلك العصر سوى ثلاثة كتب، وهي:
أولاً: كتاب التوحيد، وقد طبع عدة مرات، وآخر طبعة تقع في مجلدين بتحقيق الشيخ عبدالعزيز الشهوان.
ثانياً: كتاب آخر لا يزال مخطوطاً حتى الآن وعنوانه "شأن الدعاء وتفسير الأدعية المأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وهو من محفوظات المكتبة الظاهرية بدمشق.
ثالثاً: كتاب الصحيح المعروف بـ (صحيح ابن خزيمة)، وهو موضوع دراستنا.
اسم كتابه الصحيح، وسبب التسمية بذلك:
…ولقد اشتهر الكتاب بهذا الاسم - "صحيح ابن خزيمة" - بين العلماء مع أن اسمه الحقيقي ليس كذلك، وهذا أمر طبيعي، فشأنه كشأن كثير من الكتب الحديثية التي عناوينها تتسم بالطول ولكنها تختصر مثلما اختصر كتاب ابن خزيمة، فسمى بصحيح ابن خزيمة، فإننا نجد مثلاً أن اسم "صحيح البخاري": "الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه".
…وكذلك "صحيح ابن حبان" - كما سيأتي - اسمه: "المسند الصحيح على التقاسيم والأنواع".(1/45)
…وكذلك "صحيح ابن خزيمة" اسم كتابه الحقيقي هو: "مختصر المختصر من المسند الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم".
…فواضح من هذا العنوان أن هذا الكتاب مختصر من كتاب آخر وهذا هو الواقع، فإن ابن خزيمة - رحمه الله - اختصر هذا الصحيح من كتاب اسمه المسند الكبير.
ذكر بعض الأمثلة على ذلك:
…وقد أشار ابن خزيمة إلى ذلك الأختصار عدة مرات في ثنايا كتابه هذا وفي غيره، فمن ذلك قوله في المقدمة(3): "كتاب الوضوء مختصر المختصر من المسند الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم".
…ويقول في كتاب التوحيد(4): "قد أمليت طرق هذا الخبر في كتاب المختصر من كتاب الصلاة".
…وأشار إلى المسند الكبير في كتاب التوحيد فقال: "خرجته بطوله في كتاب الصدقات من كتاب الكبير".
…بل ذكر هذا "المسند الكبير" في الصحيح(5) نفسه عدة مرات، فقال: "وسأبين هذه المسئلة بتمامها في كتاب الصلاة في "المسند الكبير" لا المختصر".
…ويقول(6): "قد خرجت هذا الباب بتمامه في كتاب الصلاة من الكتاب الكبير".
ذكر طريقته في اختصار الأحاديث:
…ويتضح من طريقة ابن خزيمة - رحمه الله - في سياقه للأحاديث اختصاره للأحاديث، وبخاصة الأحاديث الطويلة، وهذا يدل على أنه أراد الاختصار في كتابه هذا ولم يرد التطويل، فنجده يقتصر على موضع الشاهد، ثم يقول: "وذكر الحديث"، فلا يتم الحديث.
مثال ذلك:
…مثل ما جاء في المجلد الأول ص79 حينما قال: "ثم أخذ بيمينه - يعني الماء - وصك بها وجهه ... وذكر الحديث".
…وحديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ألا أدلكم على ما يكفر الله به الخطايا ويزيد في الحسنان؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وانتظار الصلاة بعد الصلاة(7). وأخرج من الحديث هذا المقدار ثم قال بعد ذلك: ثم ذكر الحديث.
…وقال بعده: وهذا خبر طويل قد خرجته في أبواب ذوات عدد.(1/46)
…وقد يختصر الحديث من وسطه كما فعل في حديث عمران بن حصين في سفره مع النبي صلى الله عليه وسلم حيث ناموا عن صلاة الفجر، والحديث مشهور، وفي هذا الحديث يقول عمران - رضي الله عنه - : "فما أيقظنا إلا حر الشمس".
…قال ابن خزيمة في هذه الأثناء: "فذكر بعض الحديث ثم نادى بالصلاة"، ثم ذكر ابن خزيمة باقي الحديث. فجميع هذا يدل على أنه أراد الاختصار في كتابه هذا.
تعهده كتبه بالزيادة والتنقيح:
…وكعادة كثير من العلماء حينما يصنف الواحد منهم الكتاب نجده لايزال يتعهد كتابه هذا بالزيادة والحذف، والتنسيق، وما إلى ذلك، فنجد ابن خزيمة - رحمه الله - يصنع هذا الصنيع.
…يدل عليه ما يظهر من كلامه عن "المسند الكبير" حينما يقول مرة - كما سبق منذ قليل -: "قد خرجت هذا الباب بتمامه في كتاب الصلاة في كتاب الكبير"، وهذا يدل على أنه صنفه قبل ذلك، ثم يعود مرة أخرى فيقول: "سأبين هذه المسئلة بتمامها في كتاب الصلاة في "المسند الكبير" لا "المختصر". وهذا يدل على أنه استدرك وسيلحق ذلك.
إملاؤه لكتبه ودليل ذلك:
…وعادته أيضاً كعادة كثير من علماء تلك العصور حينما يصنف الواحد منهم المصنف، ثم يمليه على تلاميذه إملاء، يدل على ذلك كثير من عباراته في ثنايا كتابه الصحيح(8)، قال: "وقد أمليت هذا الباب من كتاب الأيمان والنذور"، فيدل على أنه يملي الحديث إملاء.
مكانة صحيح ابن خزيمة، ومنزلته عند العلماء:
…أما بالنسبة لمكانة كتابه الصحيح، ومنزلته عند العلماء، فتقدم قبل قليل ذكر بعض العلماء لهذا الكتاب، وثناؤهم عليه، واعتباره من الكتب التي يؤخذ منها الصحيح الزائد على ما في الصحيحين، بل قدموه على سائر الكتب التي ألفت في الصحيح المجرد - سوى الصحيحين-، ومن هؤلاء: ابن الصلاح، والعراقي، والسيوطي، وأحمد شاكر - رحمهم الله تعالى -.(1/47)
…وقد ذكر الخطيب البغدادي - رحمه الله - في كتابه "الجامع لأخلاق الراوي وأداب السامع" ذكر في معرض النصيحة لطلبة العلم، ذكر أحق الكتب بالتقديم بالسماع - يعني ما ينبغي لطالب العلم أن يقدمه حينما يريد أن يسمع الحديث-، فقال: "أحقها بالتقديم كتاب الجامع والمسند الصحيحين، لمحمد بن إسماعيل، ومسلم بن الحجاج النيسابوري". ثم أخذ يذكر بعض الكتب الأخرى، ثم قال: "وكتاب محمد بن إسحاق بن خزيمة النيسابوري، الذي اشترط فيه على نفسه إخراج ما اتصل سنده بنقل العدل عن العدل إلى النبي صلى الله عليه وسلم".
…والسيوطي في مقدمة كتابه "جمع الجوامع" ذكر الكتب التي إذا عزى الحديث إليها، فمجرد عزوه إلى أحد هذا الكتب معلم بالصحة - أي لا يحتاج الأمر إلى التنصيص على هذا الحديث صحيح - هذا عند السيوطي -، يقول: مجرد ما أعزو الحديث لهذه الكتب؛ فإن الحديث صحيح.
…من جملة ما قال في مقدمة كتابه "جمع الجوامع" - وهو لايزال مخطوطاً - قال: "وكذا ما في موطأ مالك وصحيح ابن خزيمة وأبي عوانة، فالعزو إليها معلم بالصحة".
…ويقول ابن كثير - رحمه الله تعالى -(9): "قد التزم ابن خزيمة وابن حبان الصحة وهما خير من المستدرك بكثير، وأنظف أسانيد ومتوناً".
…ويدل على مكانة هذا الكتاب مكانة مؤلفه عند العلماء، وشدة تحريه في الأسانيد، فإنه كما يقول السيوطي: "يتوقف في التصحيح لأدنى كلام في الإسناد"، ويقول - أي ابن خزيمة -: "إن صح الخبر، أو إن ثبت، ونحو ذلك".
ذكر بعض الأمثلة:
…ومن الأمثلة التي تدل على ما ذكرنا الحديث الذي أخرجه من طريق الأعمش عن أبي وائل شقيق بن سلمة ثم قال بعده: "هذا الخبر له علة لم يسمعه الأعمش من شقيق، لم أكن فهمته في الوقت"(10).
…يعني في وقت تدوينه لهذا الحديث لم يكن فهم هذه العلة، يدل عليها أنه اطلع عليها بعد ذلك ثم ألحق هذا الكلام إلحاقاً، فهذا يدل على شدة تحريه - رحمه الله -.(1/48)
…وكذلك الحديث الذي رواه من طريق ابن إسحاق، ثم قال بعد ذلك: "أنا استثنيت صحة هذا الخبر"(11).
…يقول: هذا ليس على شرطي، فهذا يعتبر من الأحاديث المستثناة - أي لا أحكم عليه بالصحة - لماذا؟
…قال: "لأني خائف أن يكون محمد بن إسحاق(12) لم يسمع من محمد بن مسلم وإنما دله عنه". وابن إسحاق كما هو معروف لكثير من طلبة العلم ممن عرف بالتدليس.
…وكذلك أخرج حديثاً(13) من طريق عبدالله بن لهيعة، وجابر بن إسماعيل، ثم قال بعد إخراجه لهذا الحديث: "ابن لهيعة(14) ليس ممن أخرج حديثه في هذا الكتاب إذا تفرد برواية، وإنما أخرجت هذا الخبر لأن جابر بن إسماعيل(15) معه في الإسناد"أهـ.
…هذا مع العلم بأن هذا الحديث الذي أخرجه من طريق ابن لهيعة من رواية عبدالله ابن وهب عنه. ورواية عبدالله بن وهب يعتبرها بعض العلماء وطلبة العلم من الروايات الصحيحة لأنه سمع من ابن لهيعة قبل الاختلاط، لكن ابن خزيمة يعتبر أن ابن لهيعة ضعيف في جميع أحواله قبل وبعد الاختلاط، ولاشك في أن حاله بعد الاختلاط أشد، فهو هنا يقول: "إنه لم يخرج حديث ابن لهيعة، إلا لأنه انضم معه في الخبر جابر بن إسماعيل".
…وكذلك أخرج حديثاً من طريق محمد بن جعفر - المعروف بغندر - عن معمر عن الزهري قال: أخبرني سهل بن سعد ثم ذكر حديثاً(16)، ثم قال بعده:
…"في القلب من هذه اللفظة التي ذكرها محمد بن جعفر - أعني قوله: أخبرني سهل بن سعد -، وأهاب أن يكون هذا وهماً من محمد بن جعفر أو ممن دونه"أهـ.
…فهذه مجرد أمثلة - وهي بمجموعها - وغيرها من الأمثلة - تعطي دليلاً واضحاً بلاشك على شدة تحري هذا الإمام - رحمه الله تعالى - في الحديث، وتدل دلالة واضحة على مكانة كتابه.
…ويرد على ما سبق ذكره أمران:
…الأول: هل يسلم لجميع ما في صحيح ابن خزيمة بالصحة، كما يظهر من كلام ابن الصلاح والعراقي وغيرهما؟
…الثاني: هل صحيح ابن خزيمة مقدم على صحيح ابن حبان؟
…فأما بالنسبة للأول:(1/49)
…لما قال ابن الصلاح: "ويكفي مجرد كونه - أي الحديث - في كتب من اشترط منهم الصحيح فيما جمعه في كتاب ابن خزيمة" - نجد الحافظ ابن حجر - رحمه الله - تعقب ابن الصلاح بقوله:
…"مقتضى هذا أن يؤخذ ما يوجد في كتاب ابن خزيمة وابن حبان وغيرهما ممن اشترط الصحيح بالتسليم، وكذا ما يوجد في الكتب المخرجة على الصحيحين، وفي كل ذلك نظر. أما الأول: فلم يلتزم ابن خزيمة وابن حبان في كتابيهما أن يخرجا الصحيح الذي اجتمعت فيه الشروط التي ذكرها المؤلف - يعني ابن الصلاح -؛ لأنهما ممن لا يرى التفرقة بين الصحيح والحسن بل عندهما أن الحسن قسم من أقسام الصحيح..." (17)أهـ.
…لذلك قد نجد في "صحيح ابن خزيمة وابن حبان" أحاديث يمكن أن يحكم عليها بالحسن وهي مدرجة على أنها من الصحيح، والسبب في ذلك أنهما لا يفرقان بين الحسن والصحيح، بل الحسن عندهما داخل في الصحيح.
…"وسمي ابن خزيمة كتابه المسند الصحيح المتصل بنقل العدل عن العدل من غير قطع في السند ولا جرح في النقلة، وهذه الشروط مثل شروط ابن حبان سواء؛ لأن ابن حبان تابع لابن خزيمة مغترف من بحره، ناسج على منواله، وبلا شك لأنه شيخه، ومما يعضد ما ذكرنا احتجاج ابن خزيمة وابن حبان بأحاديث أهل الطبقة الثانية الذين يخرج مسلم أحاديثهم في المتابعات - كابن إسحاق، وأسامة ابن زيد الليثي، ومحمد بن عجلان، ومحمد بن عمرو بن علقمة، وغير هؤلاء.
…فإذا تقرر ذلك عرفت أن حكم الأحاديث التي في كتاب ابن خزيمة وفي كتاب ابن حبان - صلاحية الاحتجاج بها لكونها دائرة بين الصحيح والحسن - ثم استثنى ابن حجر فقال -: ما لم يظهر في بعضها علة قادحة. وأما أن يكون مراد من يسميها صحيحة أنها جمعت الشروط المذكورة في حد الصحيح، فلا، والله أعلم". انتهى كلام ابن حجر.
…ويقول الحافظ ابن كثير في "مختصر علوم الحديث":(1/50)
…"وقد التزم ابن خزيمة وابن حبان الصحة، وهما خير من المستدرك بكثير، وأنظف أسانيد ومتوناً، وعلى كل حال فلابد من النظر للتمييز، وكم في كتاب ابن خزيمة أيضاً من حديث محكوم منه بصحته، وهو لا يرتقي عن رتبة الحسن"أهـ.
…نستفيد مما تقدم أن الأحاديث التي في صحيح ابن خزيمة أحسن حالاً من الأحاديث فيما عداه سوى الصحيحين؛ لكن لا يصل إلى درجة الصحيحين بحيث يمكن القول: بأن كل ما فيه صحيح، بل فيه الصحيح، والحسن، والضعيف أيضاً، وهذا يتضح لمن سبر الكتاب، لكن نسبة الضعيف به ضئيلة جداً إذا ما قورنت بالصحيح والحسن.
خلاصة ما سبق:
…وجملة القول: أنه لا يسلم لكل ما في صحيح ابن خزيمة بالصحة بل لابد من النظر في أحاديثه لتمييزها كما قال ابن كثير، ولا يكتفي الحكم على الحديث بالصحة لكونه معزواً إلى صحيح ابن خزيمة.
…قال الدكتور محمد مصطفى الأعظمى - وهو الذي حقق صحيح ابن خزيمة - قال في مقدمة تحقيقه لهذا الصحيح ما نصه:
…"أقول: إن صحيح ابن خزيمة ليس كالصحيحين، بحيث يمكن القول بأن كل ما فيه صحيح، بل فيه الصحيح، والحسن، والضعيف أيضاً، وهذا يتضح لمن سبر الكتاب، لكن نسبة الضعيف به ضئيلة جداً إذا ما قورنت بالصحيح والحسن. ما هو دون درجة الصحيح، وليس مشتملاً على الأحاديث الصحيحة والحسنة فحسب، بل يشتمل على أحاديث ضعيفة أيضاً، إلا أن نسبتها ضئيلة جداً إذا قورنت بالأحاديث الصحيحة والحسنة، وتكاد لا توجد الأحاديث الواهية أو التي فيها ضعف شديد إلا نادراً، كما يتبين من مراجعة التعلقيات"أهـ.
تنبيه:
…أحب أن أبين أنه يوجد أحياناً بعض الأحاديث شديدة الضعف مثل ذلك الحديث الذي أخرجه ابن خزيمة في صحيحه في كتاب الصيام من رواية الصحابي سلمان الفارسي - رضي الله عنه -، وهو الحديث الطويل الذي يسند إليه من يذكر فضائل شهر رمضان، والذي فيه إن شهر رمضان "أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار"(18).(1/51)
…هذا الحديث الطويل ضعيف شديد الضعف، مع العلم بأن بعض الناس يغتر بإخراج ابن خزيمة له في الصحيح، كما أنه - رحمه الله - قد يخرج أحاديث ضعيفة، ولكنه يخرجها لغرض من الأغراض وينبه على ذلك، وبعضها يتوقف في الحكم عليه بالصحة، كما سيأتي معنا بالأمثلة إن شاء الله تعالى.
أما بالنسبة للنقطة الثانية وهي:
هل صحيح ابن خزيمة مقدم على صحيح ابن حبان؟
فالذي يظهر من نظرة العلماء المتقدمين للكتابين أنهم يقدمون صحيح ابن خزيمة على صحيح ابن حبان، وبذلك صرح السيوطي صراحة وعليه درج الشيخ أحمد شاكر - رحمه الله - كما سبق ذكره عنه.
تقديم الشيخ شعيب الأرناؤوط لابن حبان على صحيح ابن خزيمة:
…وقد خالف في ذلك الشيخ شعيب الأرناؤوط محقق صحيح ابن حبان، وذكر في مقدمة تحقيقه لهذا الصحيح(19) كلاماً مقتضاه أنه يقدم صحيح ابن حبان على صحيح ابن خزيمة، وأنا لا أعلم أحداً سبقه إلى هذا.
…فيقول ما نصه:
…"إن ما ذهب إليه السيوطي لا يسلم له، إذ إن صنيع ابن خزيمة هذا يدل على أنه أدرج في صحيحه أحاديث لا تصح عنده ونبه على بعضها ولم ينبه على بعضها الآخر، ويتبين ذلك بجلاء من مراجعة القسم المطبوع من صحيحه، ففيه عدد غير قليل من الأسانيد الضعيفة، بالإضافة إلى أن عدداً لا بأس به من أحاديثه لا يرتقي عن رتبة الحسن، فأين هو من صحيح ابن حبان الذي غالب أحاديثه على شرط الصحيح...".
…ثم أخذ يسهب في الكلام إلى أن قال:
…"إن صحيح ابن حبان أعلى مرتبة من صحيح شيخه ابن خزيمة، بل إنه ليزاحم بعض الكتب الستة وينافس بعضها في درجاته"أهـ.
التعليق على كلام الشيخ شعيب الأرناؤوط:(1/52)
…والحقيقة أن موقفنا من هاتين النظرتين - سواء تقديم ابن حبان أو تقديم ابن خزيمة - ينبغي أن يكون موقف الناقد المتبصرل، فالشيح شعيب الأرناؤوط عنده تساهل في التصحيح، ويعرف ذلك من سير منهجه، فحكمه على غالب أحاديث ابن حبان أنها على شرط الصحيح، هذا حكم فيه نظر، ومن الظلم لابن خزيمة - رحمه الله - أن يحكم على كتابه بهذا الحكم، وليس في أيدينا منه سوى الربع فقط، أما الباقي فإنه مفقود.
…فالأولى أن يكون هناك دراسة فيها مقارنة بين هذا الموجود من صحيح ابن خزيمة وما يقابله من نفس الأبواب من صحيح ابن حبان، فيستبعد ما اتفقا على إخراجه من الحديث وينظر فيما زاده كل منهما على الآخر، وفق قواعد أهل الاصطلاح، مع الأخذ بعين الاعتبار بأن ابن خزيمة - رحمه الله - يذهب إلى عدم تصحيح حديث الراوي الذي لا يعرف بعدالة ولا جرح، وأما ابن حبان فإنه يصحح حديث الراوي الذي بهذه الصفة ويوافقه عليه شعيب الأرناؤوط، فهذا يعتبر تغيراً منهجياً عندهم.
…فابن خزيمة استبعد أحاديث يمكن أن يخرجها في صحيحه، لو خرجها لأصبحت جملة الصحيح - بناء على نظرة ابن حبان وشعيب الأرناؤوط - كبيرة، ولكن ابن خزيمة يستبعدها لأنه لا يرى تصحيح حديث من لا يعرف بعدالة ولا جرح وإذا خرج شيئاً من هذه الأحاديث على قلتها فإنه ينص على التوقف عن الحكم على هذه الأحاديث بالصحة.
…ومن ثم ننظر في عدد الأحاديث المنتقدة على كل منهما - على ابن خزيمة وعلى ابن حبان-، ومن خلال ذلك نحكم أي الكتابين أرجح، وأيهما أصح حديثاً.
تنبيه هام حول الأحاديث المنتقدة على ابن خزيمة:(1/53)
…مع التنبيه أيضاً إلى أن بعض الأحاديث المنتقدة عن ابن خزيمة لا يلزم ابن خزيمة فيها لازم؛ لأن منها أحاديث يتوقف في الحكم عليها بالصحة، ويبين السبب، وبعضها يظهر له فيها علة فيما بعد، لم يتنبه لها حال إخراجه للحديث، وبعضها يعرف هو ضعفها وإنما أخرجها لكون هذا الحديث صح لديه من غير هذا الطريق، وبعضها يوردها قصداً لكونها معارضة بعض ما يذهب إليه ثم يعلها.
أمثلة للأحاديث التي توقف فيها عن الحكم بالصحة وبيان السبب:
…فمن أمثلة ما توقف عن الحكم عليه بالصحة وبين السبب: أنه أخرج حديثا في صحيحه(20) من طريق عاصم بن عبيد الله ثم قال: "أنا بريء من عهدة عاصم"، ثم نقل عدة أقوال للعلماء فيه.
…وأخرج حديثاً(21) من طريق معمر بن محمد بن عبيد الله بن أبي رافع*. ثم قال: "أنا أبرأ من عهدة هذا الإسناد لمعمر".
…وأخرج حديثاً(22) من طريق كليب بن ذهل الحضرمي عن عبيد بن جبير، ثم قال: "لست أعرف كليب بن ذهل** ولا عبيد بن جبير***، ولا أقبل دين من لا أعرفه بعدالة".
…والأمثلة على هذا كبيرة جداً في كتابه.
أمثلة للأحاديث التي أخرجها وظهرت له علته فيما بعد:
…ومن أمثلة الأحاديث الأخرى التي ظهرت له علتها فيما بعد:
…الحديث الذي أوردته قبل قليل من رواية الأعمش عن أبي وائل شقيق بن سلمة: نبه ابن خزيمة على أنه لم يكن تنبه لعلة هذا الحديث حينما أورده، وبين بعد ذلك أن هناك واسطة بين الأعمش وأبي وائل.
…ومن أمثلة ذلك أخرج حديثاً(23) من طريق موسى بن أبي عثمان عن أبي هريرة ثم قال: "غلطنا في إخراج هذا الحديث لأن هذا مرسل؛ موسى بن أبي عثمان لم يسمع من أبي هريرة، أبوه أبوعثمان التبان عن أبي هريرة أخباراً سمعها منه".
…فبين أنه غلط حينما أخرج حديث الابن وإنما الذي سمع من أبي هريرة هو أبوه.
أمثلة للأحاديث التي أخرجها لصحة متنها وهو يعلم ضعفها:(1/54)
…وأما ما عرف ضعفه هو، وأخرجه لكون المتن صحيحاً من غير هذا الطريق، أنه أخرج حديث: "أفطر الحاجم والمحجوم"(24)، أخرجه من طريق ثوبان - رضي الله عنه-، ثم أخرج عقبه من طريق الحسن البصري عن ثوبان ثم قال: "الحسن لم يسمع من ثوبان"، ثم قال: هذا الخبر - خبر ثوبان - عندي صحيح في هذا الإسناد - بمعنى أنه أخرج هذا الحديث من طريق الحسن البصري عن ثوبان-، مع العلم بأن الحسن لم يسمع من ثوبان؛ لأن هذا الحديث صحيح من الطريق الأولى، فهذه الطريق تعتبر متابعة، ولا يعتبر هذا الحديث لازماً لان خزيمة، على أنه أخرج حديثا في سنده انقطاع.
أمثلة للأحاديث التي أخرجها لكونها عارضت ما ذهب إليه:
…وأما ما يورده قاصداً لكونه عارض بعض ما يذهب إليه، فمن أمثلته أنه بوب في كتاب الصيام في صحيحه باباً فقال فيه: "باب ذكر البيان أن الحجامة تفطر الحاجم والمحجوم جميعاً"(25).…ثم أورد ما لديه من أدلة في ذلك، وأخذ يناقش القائلين بخلاف هذا القول، ويورد أدلتهم ويتكلم عنها.
…ومن جملة الأدلة التي أوردها للمخالفين له حديث: "ثلاث لا يفطرن الصائم: الحجامة، والقيء، والحلم"(26). أورده من طريق عبدالرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أعله فقال: هذا الإسناد غلط ليس فيه عطاء بن يسار ولا أبوسعيد، وعبدالرحمن بن زيد* ليس هو ممن يحتج أهل التثبيت بحديثه لسوء حفظه للأسانيد، وهو رجل صناعته العبادة والتقشف والموعظة والزهد، ليس من حفاظ أحلاس الحديث الذي يحفظ الأسانيد... إلى آخر كلامه - رحمه الله -.
…فهذا الحديث لم يورده ابن خزيمة لأجل أنه صحيح محتج به، وإنما أورده لإعلاله وإبطال حجة المخالف.
…فالحاصل أن ابن خزيمة - رحمه الله - غلط عليه بعض الناس غلطاً كبيراً وألزمه بما لا يلزم.
غلط الحافظ ابن حجر على ابن خزيمة:(1/55)
…ومن أمثلة غلطهم عليه أنه أخرج حديثاً من طريق ابن المطوس عن أبيه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أفطر يوماً من رمضان في غير رخصة رخصها الله، لم يقضه عنه صوم الدهر"(27).
…الحافظ ابن حجر - رحمه الله - ذكر هذا الحديث في الفتح(28)، وقال: صححه ابن خزيمة، ثم أخذ يذكر علل هذا الحديث.
…وهذا غلط من الحافظ على ابن خزيمة، فإن ابن خزيمة لم يصحح الحديث، وإنما قال: "إن صح الخبر فإني لا أعرف ابن المطوس ولا أباه". هو إذا متوقف عن الحكم على هذا الحديث بالصحة حينما قال: "إن صح الخبر".
…ومع هذا فلسنا نبريء ابن خزيمة من الوقوع في الوهم والخطأ، بل كل يخطيء، لكن ليس الأمر كما ذكر عنه، وإلا فالوهم يقع له كما يقع لغيره من البشر؛ لأنهم غير معصومين، ولكن من نظر إلى كلامه وشرطه وتحريه علم أنه - رحمه الله - كان حريصاً على أن لا يقع له شيء من التساهل أو الوهم.
ثناء الحافظ الذهبي عليه(29):
…قال الذهبي في سير أعلام النبلاء: "كان هذا الإمام جهبذاً بصيراً بالرجال، فقال فيما رواه عنه أبوبكر محمد بن جعفر شيخ الحاكم: لست أحتج بشهر بن حوشب ولا بحريز بن عثمان لمذهبه(30)،ولا بعبد الله بن عمر - ليس الصحابي وإنما أحد الرواة المضعفين، - ولا ببقية - يعني ابن الوليد-، ولا بمقاتل بن حبان، ولا بأشعث بن سوار، ولا بعلي بن جدعان لسوء حفظه، ولا بعاصم بن عبيد الله، ولا بابن عقيل، ولا بابن يزيد بن أبي زياد، ولا بمجالد، ولا بحجاج بن أرطأة إذا قال: عن، ولا بأبي حذيفة النهدي، ولا بجعفر بن برقان، ولا بأبي معشر نجيح - يعني السعدي -، ولا بعمر بن أبي سلمة، ولا بقابوس بن أبي ظبيان... ثم سمى خلفاً دون هؤلاء في العدالة، فإن المذكورين احتج بهم غير واحد"أهـ.
…كأنه يبين أن هؤلاء الذين احتج بهم غير واحد واجتنب ابن خزيمة تخريج حديثهم في صحيحه - هذا يدل على شدة تحريه.
ملخص منهج ابن خزيمة في صحيحه:(1/56)
…وقد قال ابن خزيمة - رحمه الله - في صحيحه(31) "المختصر من المختصر من المسند- عن النبي صلى الله عليه وسلم، على الشرط الذي ذكرنا بنقل العدل عن العدل موصولاً إليه صلى الله عليه وسلم من غير قطع في الإسناد ولا جرح في ناقلي الأخبار، إلا ما نذكر أن في القلب من بعض الأخبار شيئاً(32)، إما لشك في سماع راو ممن فوقه خبراً، أو راو لا نعرفه بعدالة ولا جرح، فنبين أن في القلب من ذلك الخبر، فإنا لا نستحل التمويه على طلبة العلم بذكر خبر غير صحيح لا نبين علته فيغتر به بعض من يسمعه، فالله الموفق للصواب"أهـ.
…فهذا الكلام من ابن خزيمة - رحمه الله - يمثل منهجه في هذا الكتاب، وبه يتضح غلط من زعم أن ابن خزيمة كابن حبان يصحح لمن لا يعرف بعدالة ولا جرح؛ فابن خزيمة يتوقف عن ذلك كما هو ظاهر من منهجه في هذا الكتاب في مواضع عديدة، حيث يقول: "إن صح الخبر فإني لا أعرف فلاناً بعدالة ولا جرح"، وهذه في الحقيقة تعتبر ميزة عظيمة لكتابه على كتاب ابن حبان.
دقته - رحمه الله - في تعقبه للأحاديث:
…ومن دقته - رحمه الله - تعقبه للأحاديث بما يزيل اللبس على المطلع على كتابه، فمثلاً حين أخذ في ذكر الأدلة التي تتعلق بالحجامة للصائم، وحتى لا يقال: إنه ذكر الحديث في كتابه فهو صحيح إذا على شرطه - نبه على ذلك فقال(33): "فكل ما لم أقل إلى آخر هذا الباب: إن هذا صحيح؛ فليس من شرطنا في هذا الكتاب".
…وقد يورد ابن خزيمة إسناداً فيه راو يعلم هو أنه ثقة، ولكنه يخشى أن يقف عليه من لا يعرف ثقته فيتهمه بالتساهل، فنجده - رحمه الله - يورد بإسناده عن بعض الأئمة ما يفيد ثقة ذلك الراوي.
…فمن أمثلة ذلك أنه أخرج حديثاً(34) من طريق عبدالله بن أبي جعفر، ثم ذكر بإسناده عن الليث بن سعد - رحمه الله - أنه قال: "سمعت يزيد بن أبي حبيب وعبيد الله بن أبي جعفر - وهما جوهرتا البلد - يقولان: فتحت مصر صلحاً".(1/57)
…فابن خزيمة حينما أورد هذا النقل إنما أورده لأجل تعديل الليث لعبيد الله بن أبي جعفر، فهذه نماذج وأمثلة تدل على أن ابن خزيمة - رحمه الله - بحاجة إلى من يقوم بدراسة حياته دراسة وافية، ودراسة كتابه الصحيح وإعطاء صورة واضحة عنه لا أن يحكم عليه بحكم متسرع، والموجود من كتابه إنما هو قدر الربع فقط على نهاية كتاب الحج، وباقي الكتاب مفقود منذ زمن طويل.
قول الدمياطي والحافظ ابن حجر في بيان أن صحيح ابن خزيمة أكثره مفقود ولم يوجد منه إلا الربع:
…يقول الدمياطي - رحمه الله - المتوفى في سنة سبعمائة وخمس للهجرة: "إن كتاب صحيح ابن خزيمة لم يقع له منه إلا ربعه الأول فقط".
…وكذلك الحافظ ابن حجر - رحمه الله - لما ذكر الكتب التي اشتمل عليها كتابه "إتحاف المهرة بأطراف العشرة" ذكر من ضمنها صحيح ابن خزيمة، لكن إذا أخذنا نعد هذه الكتب نجدها أحد عشر كتاباً، فبين السبب تلميذه ابن فهد المكي فقال:
…"إنما زاد العدد واحداً، لأن صحيح ابن خزيمة لم يوجد منه سوى قدر ربعه فقط(35)، بمعنى أنه لم يحتسب هذا الكتاب لنقصه في العدد، وإنما اعتبر العشرة التي وجدها كاملة.
أهمية صحيح ابن خزيمة وفائدته(36):
…لصحيح ابن خزيمة فوائد عديدة جداً، من جملة هذه الفوائد:
…أنه حفل باستنباطات فقهية دقيقة يعنون بها على كل باب، أي أن فيه شبهاً من صنيع البخاري - رحمه الله - في أبوابه، ويتبع ابن خزيمة هذه الأبواب بالأحاديث. فكتابه هذا يعد كتاباً فقهياً ذا أهمية بالغة، لأن هذه الاستنباطات من ابن خزيمة مبنية على أدلتها، مستندة إلى نصوص يخرجها في نفس الكتاب.
…يضاف إلى ذلك التعليقات المهمة على كثير من الأحاديث، إما يفسر فيها لفظاً غريباً، أو يوضح معنى مستغلقاً، أو يرفع إشكالاً، أو يزيل إبهاماً، أو يجمع بين روايتين ظاهرهما التعارض، أو يذكر اسم رجل بتمامه إذا ذكر في الإسناد بالكنية أو اللقب، أو ذكر اسمه دون نسبه.(1/58)
…ويتكلم في بعض الرجال جرحاً وتعديلاً، ويرد رواية المدلس إذا كانت بالعنعنة ممن لا يحتمل تدليسه عنده، وكذا رواية بعض الضعفاء المختلطين وإن كانت من الاختلاط.
…ونصه كذلك على عدم سماع بعض الرواة من شيوخهم، وبيانه لعلل الأحاديث الخفية على اختلاف أنواع هذه العلل، إما لسقط في الإسناد غير ظاهر، أو لقلب في المتن أو السند، أو غير ذلك من أنواع العلل.
أمثلة على استنباطاته الفقهية:
…ونورد بعض الأمثلة على ما ِأشرنا إليه:
…ومن أمثلة أستنباطاته الفقهية قوله(37): "باب ذكر إسقاط فرض الجمعة على النساء، والدليل على أن الله عز وجل خاطب بالأمر بالسعي إلى الجمعة، عند النداء بها في قوله: {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة} الرجال دون النساء(38)، إن ثبت هذا ا لخبر من جهة النقل. وإن لم يثبت فاتفاق العلماء على إسقاط فرض الجمعة على النساء كاف من نقل خبر الخاص فيه"أهـ.
…فإذاً واضح من هذه الترجمة وهذا العنوان عند ابن خزيمة أنه يريد أن يستخرج معنى فقهياً أو استنباطاً فقيهاً، وهو أن قول الله جل وعلا: {يا أيها الذين آمنوا..} خطاب للرجال دون النساء، وهو يستدل بحديث سيورده، لكن هل هذا الحديث صحيح على شرطه؟ يقول: إن ثبت هذا الخبر من جهة النقل، وإن لم يثبت، يقول: لا يضر شيء؛ فاتفاق العلماء جار على أن هذا الخطاب موجه للرجال دون النساء.
…وقد يتكلم على الحديث من الناحية الفقهية المصحوبة بالترجيح والموازنة بين الروايات وبيان عللها في نحو من أربع صفحات(39)؛ ففي أربع صفحات تكلم من الناحية الفقهية عن حديث أورده.
أمثلة على تفسيره لغريب الحديث:
…وأما أمثلة تعليقاته التي يفسر فيها لفظاً غريباً أو يوضح بها معنى مستغلقاً أو يرفع أشكالاً ويزيل إبهاماً - ما ذكره عن سهل بن سعد "أن منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أثل الغابة"(40)، ثم قال ابن خزيمة: "الأثل هو الطرفاء".(1/59)
…وذكر كذلك الحديث الذي فيه "أن الجذع حن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حنين الواله"(41)، ثم قال: الواله يريد به المرأة إذا مات لها ولد.
…ومن روائع كلامه - رحمه الله - أن ذكر(42) حديثاً رواه عن شيخه بندار محمد بن بشار - وهو ثقة حافظ -، ومحمد بن بشار، رواه عن يحيى بن سعيد، عن ابن عجلان، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبيه، عن عبدالله بن وديعة، عن أبي ذر في الغسل يوم الجمعة، ثم قال: "لا أعلم أحداً تابع بنداراً في هذا، والجواد قد يفتر في بعض الأوقات".
…فهو بهذا يشير إلى أن الثقة قد يهم، كما أن الجواد قد يفتر، وإنما قال هذا لأجل إن هذا الحديث روي على غير هذا الوجه، فالبخاري أخرجه في صحيحه(43) من طريق ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري، قال: أخبرني أبي عن ابن وديعة عن سلمان الفارسي...
…أما محمد بن بشار ذكر أنه عن أبي ذر بدل سلمان الفارسي، فذكر هذا الحديث البخاري على أنه من حديث سلمان لا من حديث أبي ذر. فإذاً لابن خزيمة الحق أن يذكر هذا الكلام عن شيخه بندار.
أمثلة إزالته للمشكل ورفعه للتعارض:
…ومن أمثلة إزالته للمشكل ورفعه للتعارض: ما ذكره(44) بقوله: "باب ذكر أبواب ليلة القدر والتأليف بين الأخبار المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيها ما يحسب كثير من حملة العلم ممن لا يفهم صناعة العلم أنها متهاترة متنافية، وليس كذلك هي عندنا بحمد الله ونعمته، بل هي مختلفة الألفاظ متفقة المعنى على ما سنبينه إن شاء الله".
…ثم أخذ - رحمه الله - في ذكر الأخبار الواردة في ليلة القدر، فرجح أولاً أنها ليست في جميع العام، كما ظنه بعض العلماء، بل هي في رمضان، ثم أخذ يقرر أنها في العشر الأواخر من رمضان، ثم انتقل إلى ترجيح أنها في الوتر من العشر الأواخر من رمضان لا في الشفع.(1/60)
…ثم رجح في الآخر أن الأخبار غير متعارضة وأن الصواب فيها أنها تنتقل من ليلة إلى أخرى في الوتر من العشر الأواخر، وأنها جائز أن تكون في عام ليلة إحدى وعشرين، وفي عام آخر ليلة تسع وعشرين.
أمثلة إزالة الالتباس بين أسماء الرواة، وبيان اسم الرجل المذكور بكنيته أو لقبه:
…ومن أمثلة إزالته لالتباس اسم راو باسم راو آخر، وذكره اسم الرجل بتمامه إن ذكر في الإسناد بكنية أو لقب أو نحو ذلك: أنه ذكر(45) حديثاً من طريق عبدالرحمن ابن إسحاق عن النعمان بن سعد عن علي - رضي الله عنه - فهناك راويان يشتبه كل منهما بالآخر، وهما عبدالرحمن بن إسحاق أبو شيبة الكوفي وهذا ضعيف، وعبدالرحمن بن إسحاق الملقب بـ "عباد" وهو صالح الحديث.
…فبين ابن خزيمة أن الذي فيه الحديث هو الضعيف، لا الآخر فقال: "باب ذكر ما أعد الله - جل وعلا - في الجنة من الغرف لمداوم صيام التطوع - إن صح الخبر - فإن في القلب من عبدالرحمن بن إسحاق أبي شيبة الكوفي، وليس هو بعبد الرحمن ابن إسحاق الملقب بـ "عباد" الذي روى عن سعيد المقبري والزهري وغيرهما، وهو صالح الحديث مدني سكن واسط، ثم انتقل إلى البصرة".
…وأخرج(46) حديثاً من طريق أبي القاسم الجدلي، عن النعمان بن البشير في الحث على إقامة الصف، ثم قال: "أبوالقاسم الجدلي هذا هو حسن بن الحارث من جديلة قيس، روى عنه زكريا بن أبي زائدة، وأبومالك الأشعري، وحجاج ابن أرطأة، وعطاء بن السائب، عداده في الكوفيين".
…وأخرج(47) حديثاً من طريق أبي حازم عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، ثم قال: "أبوحازم مدني اسمه سلمة بن دينار الذي روى عن سهل بن سعد، والذي روى عن أبي هريرة سلمان الأشجعي".
…فهو بهذا يبين أن من يكنى أبا حازم في هذه الطبقة اثنان.
…أحدهما: أبوحازم الأعرج الذي يروي عن سهل بن سعد واسمه سلمة بن دينار.
…والآخر: هو الذي يروي عن أبي هريرة وهو المقصود في هذا الحديث واسمه سلمان الأشجعي.(1/61)
أمثلة كلامه على الرجال جرحاً وتعديلاً:
…ومن أمثلة كلامه في الرجال جرحاً وتعديلاً، قوله كما سبق عن عبدالرحمن ابن إسحاق الملقب بـ "عباد": هو صالح الحديث. فهذا تعديل.
…وقوله(48): "عاصم العنزي وعباد بن عاصم مجهولان لا يدري من هما؟"؛ فهذا جرح منه - رحمه الله -.
أمثلة رده لرواية المدلسين:
…ومن أمثلة رده لرواية بعض المدلسين قوله(49): "أما خبر أبي إسحاق عن الأسود عن عائشة، فإن فيه نظراً؛ لأني لا أقف على سماع أبي إسحاق هذا الخبر من الأسود".
…وأبوإسحاق هذا هو السبيعي، وهو مذكور وموصوف بالتدليس، وبعض العلماء يحتمل تدليسه، فبين ابن خزيمة أن منهجه رد تدليسه، وهذا من شدة تحريه - رحمه الله -.
…وقال أيضاً(50): "ولم أقف على سماع حبيب بن أبي ثابت هذا الخبر من ابن عمر، ولا هل سمع قتادة خبره من مورق عن أبي الأحوص أم لا؟".
…وحبيب وقتادة كلاهما مدلس، وبعض العلماء قد يتساهلون فيحتمل عنعنتهما. أما ابن خزيمة فهو ممن لا يحتمل ذلك.
تضعيفه لرواية ابن لهيعة:
…ومن فوائد كتابه تضعيفه لرواية بعض الضعفاء والمختلطين، وإن كانت من طريق بعض الثقات الذين سمعوا منهم قديماً باعتبار أن الراوي في أصله ضعيف مثل ابن لهيعة؛ إذ الصواب في حاله أنه ضعيف أصلاً. وازداد ضعفه بسبب احتراق كتبه، حيث اختلط فساءت حاله، وربما لغير ذلك من الأمور، فرواية الذين سمعوا منه قبل اختلاطه أعدل من غيرها.
…ونقول: "أعدل"، ولا نقول: "إنها صحيحة". فغلط أناس في ذلك وظنوا أنها صحيحة، ومن هؤلاء الذين سمعوا منه قبل اختلاطه العبادلة الأربعة: عبدالله بن وهب، وعبدالله بن المبارك، وعبدالله بن يزيد المقريء، وعبدالله بن مسلمة القعنبي.
…فاستفدنا من كتاب ابن خزيمة عدم التفاته - رحمه الله - لرواية ابن لهيعة، وإن كانت من طريق أحد العبادلة.(1/62)
…فمن ذلك أنه أخرج(51) - كما سبق أن ذكرته - حديثاً من طريق عبدالله بن وهب - وهو أحد هؤلاء العبادلة -، قال: أخبرني ابن لهيعة، وجابر بن إسماعيل الحضرمي، عن عقيل بن خالد. ثم ذكر الحديث.
…قال ابن خزيمة بعد ذلك: "ابن لهيعة ليس ممن أخرج حديثه في هذا الكتاب إذ انفرد برواية، وإنما أخرجت هذا الخبر لأن جابر بن إسماعيل معه في الإسناد".
أمثلة نصه على عدم سماع بعض الرواة من آخرين:
…ومن أمثلة نصه على عدم سماع بعض الرواة من رواة آخرين قوله(52): "عبدالرحمن ابن أبي ليلى لم يسمع من معاذ بن جبل، ولا من عبدالله بن زيد بن عبدربه صاحب الأذان، فغير جائز أن يحتج بخبر غير ثابت على أخبار ثابته".
أمثلة بيانه للعلل الخفية في الأحاديث:
…ومن أمثلة بيانه للعلل الخفية في الأحاديث: حديث رواه خالد الحذاء، عن رجل، عن أبي العالية، عن عائشة - رضي الله عنها - في دعائه صلى الله عليه وسلم في سجود التلاوة الذي فيه: "اللهم إني لك سجدت، وبك آمنت، وعليك توكلت، سجد وجهي لله الذي خلقه..." إلى أخر الحديث.
…قال ابن خزيمة: "هكذا رواه إسماعيل بن إبراهيم بن علية عن خالد - يعني خالد الحذاء-، ورواه عبدالوهاب بن عبدالمجيد الثقفي، وخالد بن عبدالله الواسطي، كلاهما عن خالد الحذاء عن أبي العالية عن عائشة، بإسقاط الراوي بين خالد الحذاء وبين أبي العالية".
…فبين ابن خزيمة هذه العلة التي قد لا يفطن لها، وذكر أنها السبب في عدم إخراجه للحديث. فقال(53): "إنما تركت إملاء خبر أبي العالية عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في سجود القرآن بالليل: "سجد وجهي للذي خلقه وشق سمعه وبصره بحوله وقوته"؛ لأن بين خالد الحذاء وبين أبي العالية رجلاً مسمى، لم يذكر الرجل عبدالوهاب بن عبدالمجيد وخالد بن عبدالله الواسطي".(1/63)
…وبين أن الذي ذكره إنما هو ابن علية، ثم أخرج جميع الروايات الثلاث ثم قال: "وإنما أمليت هذا الخبر وبينت علته في هذا الوقت، مخافة أن يفتن بعض طلاب العلم برواية الثقفي وخالد بن عبدالله، فيتوهم أن رواية عبدالوهاب وخالد بن عبدالله صحيحة". فهذا مثال للعلة التي بسبب سقط في الإسناد.
…ومن أمثلة ذلك أنه أخرج(54) حديثاً من طريق يحيى بن سعيد القطان - وهو إمام - عن عبيد الله بن عمر، عن خبيب بن عبدالرحمن، عن حفص بن عاصم، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وفيه قال: "ورجل تصدق بصدقة أخفاها حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله".
هذا الحديث أخرجه مسلم في صحيحه بهذه الصورة، فبين ابن خزيمة - رحمه الله - أن هذه اللفظة مقلوبة، وأن الصواب: "حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه"، فقال: "هذه اللفظة: "لا تعلم يمينه ما تنفق شماله" قد خولف فيها يحيى بن سعيد، فقال من روى هذا الخبر غير يحيى: "لا تعلم شماله ما تنفق يمينه"(55).
فابن خزيمة - رحمه الله - يبين أن يحيى بن سعيد - برغم أنه إمام جنبل وثقة وحافظ ومتقن - أخطأ في هذا الحديث، فانقلب عليه المتن، وهو على الصواب مخرج عند البخاري في صحيحه في عدة أبواب(56). فهذا مثال لمقلوب المتن.
مثال لمقلوب السند:
…وأما مقلوب السند، فمن أمثلته حديث يرويه سعيد بن أبي سعيد المقبري، ورواه عنه - يعني عن ابن سعيد: داود بن قيس، وأنس بن عياض، ومحمد بن عجلان، وابن أبي ذئب، على اختلاف فيما بينهم.
…فبين ابن خزيمة علل هذا الحديث، وأنه انقلب سنده على بعض الرواة واحتاط هو في روايته، فقال(57) - بعد أن ذكر علل هذا الحديث-:
…"ولا أحل لأحد أن يروي عني هذا الخبر إلا على هذه الصيغة؛ فإن هذا إسناد مقلوب، فيشبه أن يكون الصحيح ما رواه أنس بن عياض؛ لأن داود بن قيس أسقط من هذا الإسناد أبا سعيد المقبري، فقال: عن سعد بن إسحاق عن أبي ثمامة.(1/64)
…وأما ابن عجلان فقد وهم في الإسناد وخلط فيه، فمرة يقول: عن أبي هريرة، ومرة يرسله ، ومرة يقول: عن سعيد، عن كعب.
…وابن أبي ذئب قد بين أن المقبري سعيد بن أبي سعيد إنما رواه عن رجل من بني سالم، وهو عندي سعد بن إسحاق، إلا أنه غلط على سعد بن إسحاق، فقال: عن أبيه عن جده، عن جده كعب.
…وداود بن قيس وأنس بن عياض قد اتفقا على أن الخبر إنما هو عن أي تمامة". وبيانه - رحمه الله - للعلل في كتابه كثير، وفيما مضى - إن شاء الله - كفاية.
أمثلة ورعه - رحمه الله - وتحريه في النقل:
…ومن سمات كتابه ما في كلامه على الأحاديث وتعاليقه عليها من فوائد تنبيء عن عالم متورع ذي منهج أصولي، داع للمنهج السوي ومرغب فيه.
…فمن ذلك أنه ذكر(58) أن مسدد بن مسرهد - رحمه الله - سأله عن حدثث عمار ابن ياسر: "أمرنا بصوم عاشوراء قبل ان ينزل رمضان..." إلى آخر الحديث، فذكر أنه أجابه - يعني أجاب مسدداً - بقوله: "قلت له مجيباً: إن النبي صلى الله عليه وسلم إذا أمر أمته بأمر..." إلى آخر كلامه، ثم قال في آخر كلامه: "ولعلي زدت في الشرح في هذا الموضع على ما أجبت السائل في ذلك الوقت".
فهذا يدل على أنه - رحمه الله - ورع، وهذا الورع دفعه إلى أن يبين للقاريء أنه ذكر هنا معنى ما أجاب به مسدداً فقط، وليس هذا هو نص الكلام الذي أجاب به مسدداً في ذلك الوقت.
أمثلة أصالة منهجه واعتداله:
…ومن أمثلة أصالة منهجه واعتداله أنه ذكر(59) حديث وصاله صلى الله عليه وسلم للصيام، ثم قال: "باب الدليل على أن الوصال منهي عنه؛ إذ ذلك يشق على المرء، خلاف ما يتأوله بعض المتصوفة ممن يفطر على النقمة أو الجرعة من الماء، فيعذب نفسه ليالي وأياماً".
أمثلة دعوته للخير والفضيلة في كتابه:(1/65)
…ومن أمثلة دعوته للخير والفضيلة في كتابه: أنه ذكر(60) حديث المؤذن الذي استمع إليه النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قال: "الله أكبر، الله أكبر"، قال عليه الصلاة والسلام: "على الفطرة". فلما قال المؤذن: "أشهد أن لا إله إلا الله"، قال صلى الله عليه وسلم: "خرجت من النار".
…عند ذلك قال ابن خزيمة بعد هذا الكلام:
…"فإذا كان المرء يطمع بالشهادة بالتوحيد لله في الأذان وهو أن يخلصه الله من النار بالشهادة بالله في التوحيد في أذانه، فينبغي لكل مؤمن أن يسارع إلى هذه الفضيلة طمعاً في أن يخلصه الله من النار... في منزله، أو بادية، أو قرية، أو مدينة، طلباً لهذه الفضيلة". يقصد فضيلة الأذان.
المؤلفات حول صحيح ابن خزيمة:
…هناك بعض المؤلفات التي ألفت حول صحيح ابن خزيمة، وهناك مؤلفات أخرى ذكر أنها مما ألف حوله، ولا يصح ذلك. فمما لا تصح نسبته إلى أنه مما ألف حول صحيح ابن خزيمة:
…المنتقى لابن الجارود، وصحيح ابن حبان.
…أما المنتقى لابن الجارود، فقال الكتاني(61):
…"كتاب المنتقى - أي المختار - من السنن المسندة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأحكام لأبي محمد بن عبدالله بن علي بن الجارود النيسابوري الحافظ المجاور بمكة، - المتوفى سنة ست - أو سبع - وثلاثمائة، وهو كالمستخرج على صحيح ابن خزيمة، في مجلد لطيف".
…قال الشيخ محمد مصطفى الأعظمي(62):
…"لكن المقارنة بين الكتابين المذكورين لا تفيد هذا الاستنتاج".
…وأما صحيح ابن حيان، فقال ابن الملقن في البدر المنير(63):
…"غالب صحيح ابن حبان منتزع من صحيح شيخه إمام الأئمة محمد بن خزيمة".
…ودفع ذلك الشيخ أحمد شاكر - رحمه الله - بقوله(64):
…"وهو فيما رأينا من كتابه قد أخرج كتابه مستقلاً لم يبنه على الصحيحين، ولا على غيرهما؛ إنما أخرج كتاباً كاملاً، وصوب ذلك الشيخ الأعظمي(65).
…وممن رد قول ابن الملقن: الشيخ شعيب الأرناؤوط(66).(1/66)
…وأما الكتب التي ألفت حول صحيح ابن خزيمة مما تصح نسبته إليه فهي:
أولاً: حول رجاله:
…قام ابن الملقن باختصار تهذيب الكمال للحافظ المزي، وذيل عليه برجال ستة كتب أخرى، وهي: "مسند أحمد، وصحيح ابن خزيمة، وابن حبان، ومستدرك الحاكم، وسنن الدارقطني، وسنن البيهقي"، ولعله سمى الذيل هذا: "إكمال تهذيب الكمال"، كما نقله السخاوي(67) عن شيخه الحافظ ابن حجر، ونقل عنه أنه لم يقف عليه، ثم قال السخاوي: "قد رأيت منه مجلداً، وأمره فيه سهل".
ثانياً: حول أطراف:
…صنف الحافظ ابن حجر كتاباً سماه "إتحاف المهرة بأطراف العشرة"(68)، ذكر فيه أطراف أحاديث عشرة كتب من كتب السنة، ومنها صحيح ابن خزيمة، وبالتتبع وجد أن عددها أحد عشر كتاباً، وإنما زاد العدد واحداً لأنه لم يعتد بصحيح ابن خزيمة لكونه لم يوجد منه سوى قدر ربعه فقط(69).
ثالثاً: فهرسته
…قام الأخ محمد أيمن بن عبدالله الشبراوي بصنع فهرس لصحيح ابن خزيمة بعنوان: "فهارس صحيح ابن خزيمة"، ويعتبر مفتاحاً للكتاب، حيث رتب أحاديثه على الحروف الهجائية التي تسهل على الطالب الوقوف على الحديث في وقت وجيز إذا كان يحفظ طرفه الأول، وهذا يأتي امتداداً لنشاط حركة الفهرسة في هذه الأيام.
رابعاً: تصحيح أغلاطه:
…لم يطبع صحيح ابن خزيمة سوى هذه الطبعة التي بتحقيق الشيخ محمد مصطفى الأعظمى، وعليها تعليقات للشيخ الألباني، لكن هذه الطبعة مليئة بالأخطاء المطبعية والتصحيفات والسقط وما إلى ذلك، وعندها قام الشيخ عبدالعزيز بن عبدالرحمن العثيم - الأستاذ المساعد بكلية الدعوة وأصول الدين بجامعة أم القرى - بتتبع الكتاب واستخراج ما وقف عليه فيه من تصحيف وسقط، وجمع ذلك في كتاب سماه: "النقط لما وقع في أسانيد صحيح ابن خزيمة من التصحيف والسقط"، وواضح من العنوان أنه يقوم بتتبع الأسانيد فقط، وبيان الخطأ فيها ووجه الصواب.(1/67)
…وفي آخر هذا المطاف، هناك بعض الأجتهادات مني ومن بعض طلبة العلم، ثبتنا الله وإياهم على الحق - في محاولة مقابلة صحيح ابن خزيمة مع أصل خطي، والغرض من هذا هو عمل مقارنة وهي التي أشرت إليها بين صحيح ابن حبان وصحيح ابن خزيمة لنخرج بالنتيجة التي أشرت إليها، وهي: هل صحيح ابن خزيمة يقدم على صحيح ابن حبان أو العكس؟ وذلك لنبني كلامنا على منهج علمي بالدليل الذي لا يدع مجالاً للشك والتخمين والظن.
…وختاماً، نسأله سبحانه أن ييسر الحصول على الكتاب كاملاً، وأن يقبض له من يخدمه ويعتني به العناية المطلوبة. والله أعلم.
الكلام على كتاب صحيح ابن حبان(70)
…الكتاب الذي سنتناوله بالدراسة الآن هو ثاني الكتب التي ألفت في الصحيح المجرد بعد الصحيحين. وهو صحيح ابن حبان - رحمه الله تعالى -، وكالعادة نبدأ بالتعريف بصاحب هذا الكتاب ثم نتناول الكتاب بالدراسة.
اسمه ونسبه(71):
…أما صاحب هذا الكتاب فهو: محمد بن حبان بن أحمد بن حبان أبوحاتم التميمي البستي السجستاني.
…يعتبر ابن حبان - رحمه الله تعالى - عربي النسب، فهو من قبيلة بني تميم من صلبهم، ينسب إلى مدينة بست حينما يقال له البستي، لأنه ولد فيها وتوفي فيها أيضاً، ويقال له: السجستاني، لأن هذه المدينة - بست - من أعمال السجستان. فالسجستان إقليم واسع يضم عدة مدن وقرى، تعتبر بست إحدى هذه المدن، ويقع هذا الإقليم - وبالذات مدينة بست - في هذا العصر في البلد المعروفة بافغانستان.
مولده ووفاته:
…ولد ابن حبان - رحمه الله تعالى - على التخمين - في عشر الثمانين ومائتين، لأنه - رحمه الله - توفي في سنة أربع وخمسين وثلثمائة، وله من العمر نحو ثمانين عاماً، فاستنبطوا أن مولده في عشر الثمانين ومائتين.
رحلاته في طلب العلم:(1/68)
…وطلب العلم ن- رحمه الله - كما يقول الذهبي -: على رأس الثلاثمائة، فرحل إلى بلاد عديدة سواء في إقليمه السجستان، أو في إقليم نيسابور، وكذلك العراق، والشام، ومصر، والحجاز، وغيرها. حتى إن شيوخه في هذه الرحلة بلغوا أكثر من ألفي شيخ، كما صرح هو بذلك بنفسه في مقدمة صحيحه(72) حينما قال: "لعلنا كتبنا عن أكثر من ألفي شيخ من الشاش إلى الإسكندرية".
…ثم انتقى - رحمه الله - من هذا العدد الجم حوالي 150 شيخاً، هؤلاء هم الذين أخرج لهم في الصحيح، وليس هذا فقط، بل إنه إنما أخرج لأكثر هذا العدد النزر اليسير جداً من الأحاديث، وأما الذين أكثر عنهم واعتمد عليهم في الرواية فإنما هم حوالي عشرين شيخاً فقط، وهؤلاء هم أضبط شيوخ ابن حبان.
…يقول ابن حبان في مقدمة صحيحه: "ولم نرو في كتابنا هذا إلا عن مئة وخمسين شيخاً، أقل أو أكثر، ولعل معول كتابنا هذا يكون على نحو من عشرين شيخاً ممن أدرنا السنن عليهم، واقتنعنا برواياتهم عن رواية غيرهم".
ذكر بعض من أكثر عنهم من الشيوخ:
…وعلى سبيل المثال، فمن هؤلاء الشيوخ الذين أكثر عنهم: أبويعلى الموصلي "صاحب المسند المشهور"، وابن خزيمة "صاحب الصحيح"، والحسن بن سفيان "صاحب المسند"، وأبوعروبة الحراني وهو أحد الأئمة المتكلمين في الرجال، "إمام مشهور".
قصته مع شيخه ابن خزيمة:(1/69)
…وكان - رحمه الله - ذا همة عالية في الطلب والجد فيه، ولعل من أبرز ما يدل على ذلك قصته مع شيخه ابن خزيمة؛ فإنه - رحمه الله - كان يلح على الشيخ ليستخرج ما عنده من علم، ففي ذلك يوم كان يسير مع شيخه ابن خزيمة وكان معه أيضاً بعض الناس الآخرين، فأخذ يكثر من سؤال ابن خزيمة، ويبدو أن ابن خزيمة - رحمه الله - قد مل وضجر وأدركته السآمة من كثرة إلحاح ابن حبان، فقال له: "تنحى عني يا بارد" - أو كلمة نحو هذه -، فكتبها ابن حبان، فقال له أحد الواقفين معهم أو السائلين: تكتب عنه مثل هذه الكلمة، قال: نعم، أكتب عن هذا الإمام - والله - كل شيء.
تخصصه في الحديث وتوليه للقضاء:
…وقد تخصص - رحمه الله - في علم الحديث أكثر وتضلع فيه، ولكنه لم يقتصر عليه فقط، بل إنه يعد من الفقهاء المشهورين، ولذلك تولى القضاء في عدة بلدان، مثل مدينة نسا، وسمرقند، وغيرهما.
منازعته مع الأحناف، وقدحه في الإمام أبي حنيفة:
…وكان بينه وبين فقهاء الحنفية آنذاك منازعات وخصومات، حملت هذه المنازعات والخصومات ابن حبان على الطعن في أبي حنيفة - رحمه الله - فألف كتاباً في علل مناقبه يقع في عشرة أجزاء، أي إذا كان لأبي حنيفة فضيلة ومنقبة، فإن ابن حبان يردها فيعلها. فهذا الكتاب في علل مناقب أبي حنيفة، ولم يكتفه بهذا، بل ألف كتاباً آخر في مثالب أبي حنيفة يقع في عشرة أجزاء. والمثالب: "ضد المناقب والفضائل، أي: العيوب. وكتاباً ثالثاً في علل ما استند عليه أبوحنيفة يقع في عشرة أجزاء أيضاً.
براعته ونبوغه في علوم شتى:(1/70)
…ولم يقتصر على الفقه والحديث فقط، بل إنه برع في عدة علوم أخرى كالطب والفلك، حتى إنهم وصفوه بأنه كان عالماً بالطب والنجوم، ومن جملة ما برع فيه ابن حبان: علم العربية، أي: اللغة، حتى إنه كان يمهد لاستنباطاته بذكر القاعدة اللغوية المتعارف عليها عند العرب. بل إنه جاوز ذلك إلى علم الكلام، حتى برع فيه وتأثر به، فأثر في أسلوبه وطريقته وبخاصة في كتابه الصحيح الذي نتناوله بالدراسة، فإنه رتبه على التقاسيم والأنواع - كما سيأتي إن شاء الله -. وهي طريقة كلامية بحتة، ويظهر هذا الأثر الكلامي مشوباً بالناحية الفقهية عند ابن حبان -. يظهر في استنباطاته للمسائل من الأدلة.
أمثلة لبعض استنباطاته الكلامية:
…ولو أردنا أن نمثل على هذا يمكن أن نأخذ حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "يتقارب الزمان وينقص العلم"(73).
…يقول ابن حبان في استنباطاته من هذا الحديث: "وقد أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم أن العلم ينقص في آخر الزمان، وأرى العلوم كلها تزداد إلا هذه الصناعة الوحيدة؛ فإنها كل يوم في النقص - يقصد علم الحديث والسنن -، فكأن العلم الذي خاطب النبي صلى الله عليه وسلم أمته بنقصه في آخر الزمان هو معرفة السنن، ولا سبيل إلى معرفتها إلا بمعرفة الضعفاء والمتروكين".
…ومن استنباطاته أيضاً قوله في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت - رضي الله عنه - لما أمره بالرد على المشركين والمنافحة عنه بقوله صلى الله عليه وسلم: "أجب عني"(74).(1/71)
…يقول ابن حبان: "في هذا الخبر كالدليل على الأمر بجرح الضعفاء، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لحسان بن ثابت: "أجب عني"، وإنما أمر أن يذب عنه ما كان يتقول عليه المشركون. فإذا كان في تقول المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر أن يذب عنه، ولم يضر كذبهم المسلمين، ولا أحلوا به الحرام ولا حرموا به الحلال؛ كان من كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسلمين الذي يحل الحرام ويحرم الحلال بروايتهم - أحرى أن يؤمر بذب ذلك الكذب عنه صلى الله عليه وسلم.
…يعني: يجعل ذلك من قياس الأولى، يقول: إذا كان المشركون يتكلمون في النبي صلى الله عليه وسلم، وأمر عليه الصلاة والسلام حسان بن ثابت أن يذب عنه، مع العلم أن كذب المشركين هذا ليس فيه تحليل حرام أو تحريم حلال. فمن باب أولى أن يؤمر الإنسان بالذب عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يعتبر ذاباً للكذب عن النبي صلى الله عليه وسلم، وبخاصة أن هذا الكذب يحل به الحرام ويحرم به الحلال.
إغرابه في بعض الاستنباطات، ومثال ذلك:
…ولكن هذه الاستنباطات الدقيقة الرائعة من ابن حبان لم يكن موفقاً فيها في جميع أحواله، بل إننا لنجده أحياناً يستنبط فيغرب جداً في استنباطاته حتى إن هذه الاستنباطات تدفعه أحياناً إلى إنكار معنى صحيح ثابت بالدليل الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم.
…وإذا أردنا أن نتناول مثالاً على هذه الجزئية، فمن أمثلة ذلك حديث أنس بن مالك في وصال النبي صلى الله عليه وسلم بالصوم، فإنه عليه الصلاة والسلام كان يواصل الصوم اليوم واليومين(75).(1/72)
…استنبط ابن حبان من هذا استنباطاً دعاء إلى إنكار الحديث الذي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع الحجر على بطنه، أي إنه عارض هذا الحديث - حديث وصال النبي صلى الله عليه وسلم -، وقوله عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث: "إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني"، قال: هذا يدل على ضعف أو وهاء ذلك الخبر الذي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم "شد الحجر على بطنه من الجوع"(76).
…فابن حبان بهذا لا يعتبر مسدداً في هذا الاستنباط، لأنه كما أن هذا الحديث ثابت بالسند الصحيح، فكذلك أيضاً حديث شده عليه الصلاة والسلام الحجر على بطنه ثابت بالسند الصحيح أيضاً، ولذلك الذهبي - رحمه الله - لما ذكر مثل هذا عن ابن حبان استدل عليه بحديث أخرجه هو في نفس صحيحه، وهو حديث خروجه عليه الصلاة والسلام ذات يوم، ولما خرج وجد أبا بكر وعمر - رضي الله عنهما -، فقال لهما: "ما أخرجكما هذه الساعة؟". قالا: الجوع يا رسول الله، قال: "وأنا والذي نفسي بيده لأخرجني الذي أخرجكما"(77).
…هذا الحديث أخرجه ابن حبان في نفس صحيحه، ولكنه ذهل عن إخراجه له أو عن المعنى الذي تضمنه ذلك الحديث، فإنه عليه الصلاة والسلام يخرج من بيته في مثل هذه الساعات المحرجة، كل ذلك من أثر الجوع.
…وقد بين الذهبي - رحمه الله - أن المقصود بحديث الوصال مخصوص بحال الصوم فقط، وأما في سائر الأحوال، فالنبي صلى الله عليه وسلم بشر كبقية البشر، يجوع ويشبع، ويقوم وينام، وغير ذلك من أمور حياته.
…لعل مثل هذه الاستنباطات التي في غير موضعها عند ابن حبان هي التي دعت أبا عمرو بن الصلاح - رحمه الله - إلى أن يقول عنه(78): "وربما غلط في تصرفه الغلط الفاحش على ما وجدته". ويصدقه الذهبي - رحمه الله - بقوله: "صدق أبوعمرو".
قوله لبعض العبارات الموهمة التي أدت إلى الحكم بقتله:(1/73)
…بل إن أسلوب ابن حبان هذا حدا به - مع تاثره بعلم الكلام - إلى ارتكاب أخطاء أدت به إلى امتحانه بل كادت تؤدي إلى مقتله، ومن ذلك أنه أصدر عبارة موهمة جعلت الناس في حيرة منها، حينما قال: "النبوة: العلم والعمل"، فحكموا عليه بالزندقة، وهجر، وكتب فيه إلى الخليفة، فكتب بقتله، فالذي يظهر أنه هرب واختفى ونجاه الله.
…وقد لا يكون البعض يدرك مدى خطورة هذه العبارة حتى أوضحها بما يلي:
…الفلاسفة يرون أن النبوة مكتسبة وليست موهبة من الله - جل وعلا - للعبد، بل يمكن للإنسان أن يكون نبياً، وذلك بترويض نفسه برياضة معينة مع العلم والعمل بذلك العلم، هذا رأي الفلاسفة.
…أما أهل السنة: فيرون أن النبوة موهبة من الله - جل وعلا - لأنبيائه عليهم السلام، وأنه ليس بمقدور العبد إطلاقا أن يكون نبياً مهماً حاول ومهما روض نفسه.
…فهذه العبارة من ابن حبان فهم منها بعضهم أنه يقول بمقالة الفلاسفة وذلك زندقة، فثار عليه أهل عصره وبخاصة من كان في قلبه عليه شيء، إما من جراء عصبية مذهبية كما جرى مع الحنفية الذين كانوا يساكنونه في ذلك البلد.
…أو ربما من جراء المشاحنة بينه وبين بعض علماء عصره كما يجري غالباً بين الأقران.
…أو ربما من بعض المتحمسين الذين يغارون على دين الله - جل وعلا -، فيرون من ابن حبان في إصداره لهذه العبارة أنه أخطأ خطأ فاحشاً يؤدي به إلى الزندقة والمروق من الدين، نعوذ بالله من ذلك.
اعتذار الحافظ الذهبي عنه فيما قال:
…لكن العلماء الذين يحسنون الظن بأمثال ابن حبان وغيره، نجد أنهم يحاولون أن يأولوا هذه العبارة ويحملوها معنى صحيحاً اعتذاراً عن ابن حبان مع اعترافهم بأن الأولى أن لا يؤتى بمثل هذه الألفاظ الموهمة.(1/74)
…فنجد الذهبي(79) - رحمه الله - لما مر على هذه العبارة، ذكر أن هذا نفس فلسفي، وأن الأولى بابن حبان أن لا يورد مثل هذه العبارات، ولا يأتي بها إطلاقاً، ولكن ما دامت أنها صدرت من مثل ابن حبان وهو إمام معروف لا يشك فيه، فينبغي أن تحمل على معنى صحيح.
…يقول الذهبي عن هذا المعنى الصحيح: إن ابن حبان - رحمه الله - لم يقصد حصر المبتدأ في الخبر، وإنما قصد ذكر مهمات النبوة. يقول: مثاله قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الحج عرفة"(80)، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يقصد حصر الحج في عرفة، بدليل أن من وقف بعرفة ولم يأت بباقي أركان وواجبات الحج؛ لا يعتبر حاجاً، ولا يصح حجه حينذاك، فكذلك أيضاً هاهنا ابن حبان لم يقصد حصر النبوة في "العلم والعمل"، فالنبي صلى الله عليه وسلم حينما قال: "الحج عرفة" ذكر أهم مهمات الحج، وهو الوقوف بعرفة.
…يقول: فابن حبان ذكر أهم مهمات النبوة وهي "العلم والعمل" ولم يقصد أن من أتى بالعلم والعمل يعتبر نبياً. وهذا اعتذار جيد من الحافظ الذهبي - رحمه الله - لابن حبان.
طرده من سجستان وسبب ذلك:
…ومن هذه الأخطاء التي جاءت منه وكادت تودي به، أنه صدرت منه عبارة، وهذه العبارة وللأسف موجودة في مقدمة كتابه الثقات، وهي "إنكاره الحد لله"، ومسألة إنكار الحد لله هذه عبارة ينبغي أن لا ترد، لا نفياً ولا إثباتاً، وإذا أطلقت بالإثبات أو النفي، ينبغي أن يسأل المطلق لها عن مراده منها. فإن كان يقصد نفي بعض صفات الله - جلا وعلا - الثابتة بالكتاب والسنة، فهو مخطيء بإطلاقه هذه العبارة.
…وإن كان يقصد تنزيه الله - جل وعلا - عن مشابهة المخلوق، وما إلى ذلك، يقال له: نعم الله جل وعلا منزه عن مشابهة المخلوق، ولكن هذه العبارة بما أنها لم ترد عن السلف وبما أنها عبارة موهمة؛ فالأولى أن لا تطلق، وأن لا تورد إطلاقاً.(1/75)
…فابن حبان أنكر الحد لله، فهل يقصد نفي بعض الصفات، كمسألة العلو أو الاستواء أو ما إلى ذلك؟ أو يقصد غير ذلك؟ الله أعلم بمراده، ولكنه حينما أطلقها ثار عليه بعض علماء عصره ووعاظه مثل ذلك الواعظ يحيى بن عمار، ويبدو أنه كان من أهل السنة، وربما كان في نفسه على ابن حبان شيء، والله أعلم، والخلاصة أنهم ثاروا عليه فطردوه وأخرجوه من البلد بسبب إطلاقه هذه العبارة.
…سأل أحدهم (81) يحيى بن عمار، فقال له: هل رأيت ابن حبان؟ - يعني: هل أدركته؟ - فقال: كيف لم أره ونحن أخرجناه من سجستان لما قال: كذا وكذا، وذكر أنه أطلق هذه العبارة.
…فعلى كل حال، أكثر من يطلق هذه العبارة: "إنكار الحد لله" من ينفون بعض صفات الله، جل وعلا، عنه وبخاصة العلو،÷ وهذا بلاشك أنه مزلق خطير، ولذلك نجد بعض الذين جاءوا بعد ذلك كالسبكي وابن حجر - رحمهما الله - يصوبون ابن حبان ويخطئون من ثار على ابن حبان، فيقول بعضهم: ليت شعري، من المخطيء؟ هل هو المنكر للحد لله أو المثبت للحد لله؟
…نقول: كلاهما على طرفي نقيض، ولكن السبكي معروف عقيدته، وابن حجر زلق أيضاً هذا المزلق، لأنه في بعض الأحيان يخطيء - رحمه الله - بسبب تأثره بمنهج بعض شيوخه الذين هم من الأشاعرة.
…وعلى كل حال، فمثل هذه الأخطاء التي صدرت من ابن حبان لا يمكن لبشر أن يبلغ درجة الكمال، وابن حبان من جملة العلماء الذي يخطئون ويضيبون، ولكن جانب الاصابة عنده لا يقارن بجانب الخطأ. وكما قيل: "الماء إذا بلغ القلتين لم يحمل الخبث".
ذكر بعض من تتلمذ على يديه من كبار العلماء:(1/76)
…ولأجل ما له من المكانة ولأجل تضلعه في العلوم، وبالذات علم الحديث، حرص بعض كبار العلماء على التتلمذ عليه، ولذلك نجد بعض أكابر العلماء من تلاميذ ابن حبان مثل: الدارقطني، وهو إمام مشهور، فإنه ممن تتلمذ على ابن حبان، وكذلك الحاكم، صاحب المستدرك -، وهو إمام مشهور، هو أيضاً من تلاميذ ابن حبان، وكذلك ابن منده - صاحب كتاب معرفة الصحابة وغيره من الكتب - هو أيضاً من تلاميذ ابن حبان، وغيرهم كثير.
وقفه لجميع كتبه على طلبة العلم، وبيان سبب ضياعها:
…من الآثار التي خلفها ابن حبان - رحمه الله -، أنه يمتلك ثروة ضخمة من الكتب، سواء الكتب التي ألفها علماء غيره، أو الكتب التي ألفها هو، وما أكثرها وما أحسنها وما أجودها، فقام - رحمه الله - بعمل - يبدو أنه لم يسبق إليه، وبالذات بعض جزئيات هذا العمل قطعاً لم يسبق إليه. هذا العمل هو أنه أوقف هذه الكتب وسبلها، فجعلها في مكتبة أوقفها على طلبة العلم وجمعها وأوصى بأن تحول هذه الدار أيضاً التي فيها تلك المكتبة إلى مدرسة لأصحابه، بل وتستوعب طلبة العلم الغرباء الذين يأتون من أماكن شتى لطلب العلم فجعلها سكناً لهم.
…ولم يكتف بهذا فقط، فإنه يرى أن هؤلاء الطلبة القادمين من أماكن شتى يحتاجون إلى معيشة ورزق، فأوقف أيضاً عليهم جرايات للنفقة عليهم، وذلك ليتفرغوا لطلب العلم. فبهذا يعتبر ابن حبان - رحمه الله - أول من بنى مدرسة للحديث، وليس كما قيل: إن أول من بنى ذلك بعض المماليك الذين جاءوا في حوالي القرن السادس.(1/77)
…ثم إنه حينما أوقف هذه المكتبة اشترط - رحمه الله - أن لا يخرج منها ولا كتاب، لا بإعارة ولا بغيرها، ولاشك أن الذي دفعه لهذا: الخوف من ضياع هذه الكتب، ولكن للأسف أن هذا التصرف من ابن حبان اعتبره بعض العلماء من الأسباب التي أدت إلى ضياع وفقدان الكثير من كتبه، لأنه حينما حسبها في مثل هذا المكان منع من انتشارها، و مع تقادم الزمن، والعبث، وقلة أهل العلم في ذلك البلد بعد رحيل ابن حبان - رحمه الله - ضاعت هذه الكتب وفقدت، ولذلك الخطيب البغدادي يسأل مسعوداً السجزي الذي هو أحد شيوخه عن كتب ابن حبان وهل رأها، فأخبر بأنه رأى بعض هذه الكتب وبعضها يعتبر مفقوداً.
…فيحدث مسعود السجزي الخطيب البغدادي بحرقة، فيقول(82): فكان السبب في ذهابها مع تطاول الزمان ضعف أمر السلطان واستيلاء ذوي الحيف والفساد على أهل تلك البلاد. ثم إن الخطيب البغدادي لما رأى مثل هذه الكتب وضياعها تحسر، فيقول في عبارة له:
…مثل هذه الكتب كان يجب ان يكثر بها النسخ، فيتنافس فيها أهل العلم، ويكتبوها ويجلدوها إحرارزاً لها، ولا أحسب المانع من ذلك كان إلا قلة معرفة تلك البلاد بمحل العلم وفضله، وزهدهم فيه، ورغبتهم عنه، وعدم بصيرتهم به.
وفاته - رحمه الله تعالى -:
…توفى ابنحبان - رحمه الله - في ليلة الجمعة لثماني ليال بقين من شهر شوال، وذلك في سنة أربع وخمسين وثلاثمائة، ودفن من الغد بعد صلاة الجمعة، وذلك بسجستان بمدينة بست - رحمه الله - رحمة واسعة.
ثناء العلماء على تصانيفه، وبيان منهجه في بعضها:
…ترك ابن حبان عدة مؤلفات - كما أشرت إلى ذلك - منها المفقود وبعضها موجود. وكانت تصانيفه هذه محط إعجاب العلماء به. يقول تلميذه الحاكم: صنف فخرج له من التصنيف في الحديث ما لم يسبق له.
…ويقول ياقوت الحموي صاحب معجم البلدان: أخرج من علوم الحديث ما عجز عنه غيره.(1/78)
…فمن هذه الكتب التي لا نجد لها أثراً الآن، ويظهر أنها هي التي يتحسر الخطيب البغدادي على مثلها - برغم قرب عصره من عصر ابن حبان - من هذه الكتب كتاب "الهداية إلى علم السنن"، فيصفون أنه كتاب ضخم ورائع في تأليفه، وذلك أن ابن حبان - رحمه الله - مزج بين الفقه والحديث في هذا الكتاب، فيأتي للمسألة فيبوب عليها، ويورد تحتها ما يورد من الأحاديث، وإذا أورد الحديث أخذ يترجم لرجاله رجلاً رجلاً من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم إلى طبقة شيوخه، ويتكلم عن كل واحد بما فيه من كلام، فيعتبر هذا الكلام أيضاً كتاباً في الرجال، وبخاصة إذا كان هذا الكلام صادراً من مثل ابن حبان، فإنه مفيد للغاية.
…ثم بعد ذلك يتطرق لما يمكن أن يكون معارضاً لهذا الحديث من الأحاديث الأخرى، أو المعاني الموجودة في أحاديث أخرى، فيأتي بتلك الأحاديث ويبدأ يتكلم عليها من ناحية فقهية، فيجمع بينها إن أمكن الجمع، أو يبين ما هو ن اسخ وما هو منسوخ، أو يحاول أن يوضح المشكل ويبين علل ما فيه علة، إلى غير ذلك من الصناعة الحديثة الممزوجة بالناحية الفقهية، مما جعل هذا الكتاب يكون محل إعجاب كثير من العلماء به.
…كذلك كتابه الآخر في "شعب الإيمان"، وفلسفة ابن حبان في هذا الكتاب أنه تأمل حديث النبي صلى الله عليه وسلم - كما يقول هو - تأمل حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "الإيمان بضع وسبعون شعبة"(83).
…قال: عددت الطاعات فوجدت أنها تربو على مائة، قال: فرجعت إلى السنة فعددت ما ورد في السنة مما ذكر بأنه من خصال الإيمان، قال: فوجدتها تنقص عن البضع والسبعين مقداراً، ثم ذهب إلى القرآن فاستعرضه من أوله إلى آخره فوجد أن هناك جملة من الخصال التي وصفت بأنها من خصال الإيمان فدونها أيضاً، وجمع هذه الخصال بعضها مع بعض، وحذف المكرر فوجد أنها يعني بتكميل السنة بالقرآن - تسعاً وسبعين شعبة بالضبط.(1/79)
…فقال: هذا يدل على أن حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "الإيمان بضع وسبعون شعبة، فعلاً يراد به هذا اللفظ، لن اللفظ مختلف فيه: "بضع وستون" أو "بضع وسبعون". فهو يذهب إلى أن العدد بالضبط تسع وسبعون شعبة، ثم أخذ يتكلم عن هذه الشعب، فيعتبر ابن حبان سابقاً للبيهقي بتأليفه لكتاب شعب الإيمان.
ذكر بعض كتبه المفقودة(84) والمطبوعة الآن:
…كذلك من كتبه الرائعة كتب أخرىمثل: "علل أوهام المؤرخين" يقع في عشرة أجزاء، و"علل حديث الزهري" يقع في عشرين جزءاً، و"علل حديث مالك" يقع في عشرة أجزاء، و"كتاب وصف العلوم وأنواعها" في ثلاثين جزءاً، وغير ذلك من الكتب الكثيرة التي فقدت والتي لا نعرف عنها شيئاً الآن.
أما كتبه الموجودة فإنها كلها مطبوعة، فمنها "كتاب الثقات"، و"كتاب المجروحين من الضعفاء والمتروكين من الرواة". هذان الكتابان يعتبران في الرجال، أحدهما مختص بالثقات، والآخر مختص بالضعفاء. يعتبر هذان الكتابان مختصرين من كتاب أصل، وهو "كتاب التاريخ" له - رحمه الله -، فمن الواضح أن كتاب التاريخ هذا كتاب كبير جداً، اختصر منه هذين الكتابين وجعل أحدهما مختصاً بالثقات والآخر مختصاً بالضعفاء. فكم يكون يا ترى حجم ذلك الكتاب "كتاب التاريخ"؛ مادام أن "كتاب الثقات" الآن مطبوع في تسعة مجلدات، و"كتاب المجروحين" مطبوع في ثلاثة أجزاء ضخمة؟! لاشك أنه كبير.
كذلك من كتبه الموجودة - وهومطبوع - كتاب "مشاهير علماء الأمصار" جزء لطيف أورد فيه 1600 ترجمة تقريباً، ركز على المشاهير، وبخاصة من العلماء على اختلاف أنواع العلوم التي تخصصوا فيها، ورتبهم على الطبقات، أي: على التسلسل الزمني.
ومن كتبه الموجودة كتاب "روضة العقلاء ونزهة الفضلاء" وهو مطبوع أيضاً في مجلد لطيف، ويعتبر هذا كتاباً يمكن أن يكون من كتب الأدب أو من كتب السلوك، مشوب بهاتين الناحيتين.
بيان الاسم الكامل لكتابه:(1/80)
…هذه هي الكتب التي وجدت مطبوعة لابن حبان عدا الكتاب الذي نتناوله بالدراسة وهو كتاب الصحيح، وهذا الكتاب اشتهر بتسمية "صحيح ابن حبان"، وإلا فإن اسمه الكامل كما سماه مؤلفه نفسه "المسند الصحيح على التقاسيم والأنواع من غير وجود قطع في سندها ولا ثبوت جرح في ناقلها".
وهذا العنوان قريب من عنوان صحيح ابن خزيمة الذي سماه مؤلفه "المسند الصحيح المتصل بنقل العدل عن العدل بغير قطع في السند ولا جرح في النقلة", وليس ذلك بغريب، فإن ابن حبان يعتبر من أكابر تلاميذ ابن خزيمة، بل ممن تأثر بابن خزيمة تأثراً ظاهراً، حتى إن العلماء قالوا: إن ابن حبان ناسج على منوال ابن خزيمة مغترف من بحره.
سبب تأليفه للكتاب:
ذكر ابن حبان - رحمه الله - في مقدمته السبب الذي دعاه لتأليف هذا الكتاب، وهو ما رآه من انصراف الناس عن صحاح السنن، وإيرادهم للغث والضعيف من الأحاديث والمناكير والبواطيل، فغيرة منه على سنة النبي صلى الله عليه وسلم ألف هذا الصحيح، وليس هذا فقط، قال: هذا لا يكفي بل لابد أن نأطر الناس ونحملهم على حفظ السنن، ولابد أن نرجعهم للمنهج الصحيح الذي كان عليه العلماء السابقون.
…فكيف يا ترى يستطيع ابن حبان أن يحمل هؤلاء الناس على حفظ السنن، قال: هذا الكتاب أنا سأتقنه إتقاناً، ولكني سأجعل للعثور على الحديث فيه صعوبة بالغة، لا يستطيع أحد أن يعثر على الحديث الذي يريده في هذا الكتاب إلا بأحد أمرين:
الأمر الأول: "إما أن يقرأ الكتاب من أوله إلى آخره"، وفي هذا من الصعوبة ما فيه، كلما أراد الإنسان حديثاً واحداً استعرض الكتاب من أوله إلى آخره.
الأمر الثاني: قال: "أو يحفظ هذا الكتاب، فإذا حفظه استطاع أن يستحضر الحديث الذي يريده".(1/81)
واستنبط هذا أو قاس هذا على كتاب الله - جل وعلا -، قال: إن الذي يريد أن يصل إلى آية من كتاب الله لا يستطيع إلا أما أن يقرأ القرآن من أوله إلى آخره، أو يكون حافظاً للقرآن، فالقرآن وجده مقسماً إلى أجزاء، وكل جزء من هذه الأجزاء تحته سورة، وكل سورة تحتها آيات.
قال: فكذلك أنا أصنع، سأقسم كتابي هذا إلى أقسام، وتحت كل قسم أورد عدة أنواع، فالقسم مثل الجزء، والنوع مثل السورة، وتحت كل نوع أورد عدداً من الأحاديث. وهذه الأحاديث مثل الآيات... قال: فالذي يريد أن يستخرج حديثاً لابد أن يكون حافظاً للكتاب حتى يكون الحديث نصب عينيه، كما أن من أراد أن يستخرج آية من كتاب الله لابد أن يكون حافظاً لكتاب الله حتى تكون الآية نصب عينيه، وما لم يكن كذلك فإنه لا يستطيع الاستفادة من هذا الكتاب. هذا هو الهدف الذي أراده ابن حبان.
حكم العلماء على صنيع ابن حبان ومنهجه في كتابه :
…رأى العلماء أن ابن حبان أخطأ في صنيعه هذا ، فلا هو بالذي سهل الكتاب حتى يكون في متناول طلبة العلم ، ولا هو بالذي تحقق له ما أراد ، بل إن الناس انصرفوا عن كتابه فلم ينتفعوا به حتى جاء علاء الدين الفارسي ورتب هذا الكتاب - كما سنذكره - على الأبواب الفقهية .
المراد بالتقاسيم والأنواع التي رتب عليها الصحيح :
…ثم إننا إذا أردنا أن نتأمل هذا التقسيم على وجه الإجمال لأن كتابه أسمه التقاسيم والأنواع ، هكذا يوردونه مختصراً ، وأما هو فسماه : " المسند الصحيح على التقاسيم والأنواع ..." ، فما هي هذه الأقسام ؟ وما هي هذه الأنواع ؟ وكما سبق أنها مشوبة بناحية كلامية ، مع ناحية فقهية أصولية جعلت ابن حبان يؤلف كتابه على هذا النمط .
…رأى - رحمه الله - أن السنن تنقسم إلى خمسة أقسام :
القسم الأول : الأوامر التي أمر الله عباده بها .
القسم الثاني : النواهي التي نهى الله عباده عنها .
والقسم الثالث : الأخبار أي : إخباره - جل وعلا - وعما احتيج إلى معرفته .(1/82)
والقسم الرابع : الإباحات التي أبيح ارتكابها .
والقسم الخامس : أفعال النبي صلى الله عليه وسلم التي انفرد بفعلها ، يعني عن سائر الأمة .
…وجد أن السنن لا تخرج عن هذا الأقسام خمسة أقسام ، ثم جعل تحت كل قسم عدة أنواع ، فبالنسبة للأوامر التي أمر الله عباده بها جعل تحتها مائة وعشرة أنواع يعني " مثل الأبواب" ، وتحت كل نوع يورد عدداً من الأحاديث .
…وكذلك النواهي التي نهى الله عباده عنها جعل تحته مائة وعشرة أنواع .
…أما الأخبار أي " إخباره جل وعلا عما احتياج إلى معرفته " فجعل تحته ثمانين نوعاً.
…أما الأخبار أي " إخباره جعل وعلا عما احتيج إلى معرفته " فجعل تحته ثمانين نوعاً .
…وأما الإباحات وأفعال النبي صلى الله عليه وسلم ، فجعل تحت كل قسم منهما خمسين نوعاً .
…يبلغ مجموع هذه الأنواع برمتها أربعمائة نوع ، فهل يا ترى قصد ابن حبان الحصر ؟ يقول : لا ، لو أردنا المزيد لأتينا بالمزيد ، ولكنه وجد أن هذه الأربعمائة تكفي وأن ما عداها يعتبر من التكلف ، وإلا لو تكلف لاستطاع أن يأتي بالمزيد من هذه الأنواع التي ذكرها .
…ثم إنه لما ألف هذا الكتاب جعل لنفسه منهجاً وانضبط - إلى حد كبير - في تحقيق هذا المنهج ، ولذلك يوازن العلماء بينه وبين الحاكم صاحب المستدرك ، فيقولون : إن ابن حبان وفي بشرطه ، وأما الحاكم فما وفي بشرطه لأن الحاكم وجد عليه كثير من المآخذ ؛ ولذلك تكلم فيه وفي كتابه . وأما ابن حبان أنه اشترط على نفسه شرطاً - بغض النظر عن هذا الشرط في ذاته فقد يكون مخالفاً في هذا الشرط - ، ولكنه وفي بهذا الشرط طبق هذا الشرط الذي اشترطه على نفسه .
شروط ابن حبان فيمن روى لهم :
…فمن جملة شروطه أنه شرط في الراوي الذي يخرج له في هذا الصحيح عدة شروط تبلغ خمسة شروط(85) :
الشرط الأول : العدالة في الدين بالستر الجميل .
الثاني : الصدق في الحديث بالشهرة فيه .
الثالث : العقل بما يحدث من الحديث .(1/83)
الرابع : العلم بما يحيل من معاني ما يروي .
الخامس : تعري خبره عن التدليس .
…يقول : فكل من اجتمع فيه هذه الخصال الخمس احتججنا بحديثه ، وبيننا الكتاب على روايته , وكل من تعرى عن خصلة من هذه الخصال الخمس لم نحتج به ، ثم أخذ يبسط الكلام عن هذه الشروط .
مناقشة هذه الشروط وبيان ما فيها :
…لو رجعنا لهذه الشروط ، بالنسبة للشرط الأول قال : العدالة في الدين بالستر الجميل . قوله : " بالستر الجميل " يوضح مقصود ابن حبان بالعدالة ، وهذا المقصود يخالفه فيه بعض العلماء وهو الرأي الراجح . فابن حبان يرى أن الراوي الذي يعتبر مجهول الحال " حاله مجهولة لا يعرف بعدالة ولا جرح " يعتبر أن الأصل فيه العدالة . ولا يشترط أن يكون هناك من عدله " أي وثقه من بعض من اعتمدوا على توثيقه " ؛ فهو لا يشترط هذا ، بل ما دام أن الراوي لا يُعرف فيه جرح فإنه يعتبر عدلاً عنده ، ولذلك يقول : " بالستر الجميل " ، يعتبر أن هذا ستر على الراوي حينما لا يجد فيها جرحاً .
…وليس هذا فقط بل إنه يضم إلى هذا عدة شروط ، يقول : إن الراوي قد يكون معروفاً بالعدالة ، ولكنه لا يعتبر صادقاً في حديثه ، أي أنه يخطئ في الحديث ، فكأنه يقصد بالصدق ها هنا الحفظ أي لا بد من توفر الحفظ مع العدالة .
…ولكن هل يا ترى ابن حبان حينما يشترط يقصد أن الراوي الذي يعتبر مجهول الحال لابد أن ينص على أنه ضابط ؟
…لا ، هو يعتبر من جًُهلت حاله ما لم يرد فيه جرح فإن أصل أمره على قبول الرواية أي أنه ثقة عنده ، لكنه من عرف عنه الجرح من قدح في ضبطه ونحو ذلك ، فهذا هو الذي يخرج عن هذا الشرط الذي شرطه .
كذلك أيضاً الشرط الثالث :(1/84)
…يشترط (أن يكون الراوي يعقل بما يحدث من الحديث) ، أي لا يجوز ابن حبان رواية من يكون كالببغاء ، ينقل الحديث ولا يدري عن المعنى الذي يحمله ؛ لأنه يرى أنه لو أخذ الحديث عن مثل هذا الصنف فإنه قد تفوت عليه كلمة أو يفوت عليه معنى يقلب دلالة الحديث رأساً على عقب .
إذا هو يشترط أن يكون ممن يعقل ما يحدث به من الحديث ، أي يكون عارفاً بما يحدث به من الحديث .
كذلك أيضاً الشرط الرابع : ( أن يكون عالماً بما يحيل من معاني ما يروي) ، يقول : إن الرواة لا يستطيع الواحد منهم أن يؤدي الحديث بنفس الألفاظ التي سمعها ، فيمكن أن يعبر الراوي بالمعنى ، والرواية بالمعنى أجازها كثير من العلماء وعليها استقر العمل فيما بعد ، فما دامت الرواية بالمعنى جائزة اشترط العلماء أن يكون الراوي الذي يووي بالمعنى عارفاً أو عالماً بما يحيل المعاني من الألفاظ ؟ فهذا هو الشرط الذي اشترطه ابن حبان .
الشرط الخامس : (تعري خبر الراوي عن التدليس) : يشترط ابن حبان أن يكون هذا الخبر إذا ورد من طريق راو موصوف بالتدليس أن يكون هذا الخبر مما صرح فيه الراوي صراحة بالسماع أو طلع هو على تصريحه بالسماع في موضعه آخر .
وقد نص في مقدمته ، وبسط هذا الكلام بما مؤداه أنه إذا أخرج حديثاً لراو موصوف بالتدليس فلابد أن يكون هذا ا لراوي صرح بالتحديث لذلك الخبر ، أو يكون صرح به في غير ذلك الموضع ، وليس شرطاً أن يخرجه ابن حبان ولكنه اشترط على نفسه أن يكون مطلعاً على تصريحه بالسماع .
فهل يا ترى يسلم لابن حبان بمثل هذا ، فيقال عن حديث جاء من طريق بعض الموصوفين بالتدليس ورواه بالعنعنة في صحيح ابن حبان : إن هذا مما يمكن أن يحتمل ؟
نقول : هذه هي القاعدة العامة ، لكن لابد من الالتفاف إلى مسألة ، وهي : أن يكون ابن حبان ممن وصف هذا الراوي بالتدليس ، وإلا قد يكون لا يعرف أن هذا الراوي مدلس ، أو لا يرى أنه مدلس ويخالفه غيره .(1/85)
أقول هذا لأني وقفت مرة من المرات على خبر عرف أن هذا الراوي دلسه صراحة حينما ورد في بعض الطرق بزيادة راو ، فتيقنا أن هذا الراوي دلس هذا الخبر ، فكيف أخرجه ابن حبان بإسقاط الواسطة بين ذلك المدلس وبين شيخه ؟ أي أن الحديث مدلس عند ابن حبان .
أقول : لا أستطيع أن أتصور السبب إلا هذا ، قد يكون ابن حبان ممن لا يرى أن هذا الراوي مدلس ، أو لا يعرف أنه مدلس أصلا ، أو قد يكون وقع في خطأ لا يعرو منه بشر ، العلم عند الله .
كذلك أيضاً من الشروط ا لتي اشترطها أن لا يخرج حديث الراوي الذي عُرف بالاختلاط إلا من طريق من روى عنه قبل الاختلاط ، ولذلك أيضاً هذه المسألة يمكن أن يطمأن إليها حد كبير مثل مسألة التدليس التي أشرنا إليها .
تساهله في التوثيق وتشدده في الجرح :
…وابن حبان حينما يشترط مثل هذه الشروط نجد أن ينطلق من منهج عرف عنه فهو من الموصوفين بالتساهل في التوثيق ، وبالتشدد في التجريح ، فلذلك هؤلاء الرواة الذين يوثقهم ممن عرف أنهم لا يعرفون بعدالة ولا جرح - ينبغي الاحتياط في قبول أحاديثهم عند ابن حبان .
…كذلك الأحاديث التي اجتنبها ابن حبان - أي اجتنب إخراج حديث بعض الرواة . لا ينبغي أن نقطع على أن هذه الأحاديث غير صحيحة ؛ لأن ابن حبان أهملها وتركها ، لأن ابن حبان من المتشددين في الجرح ، فقد يجرح بعض الرواة الذين هم في أنفسهم ثقات ، مثل جرحه لمحمد بن الفضل السدوسي الملقب بـ " عارم"(86) ، فهو إمام جبل ثقة ، ولكن ابن حبان تسرع فجرحه بما لا يُعد جرحاً .
تقديم العلماء لصحيح ابن خزيمة على صحيح ابن حبان ومستدرك الحاكم :(1/86)
…يعتبر كتاب ابن حبان عند العلماء في المنزلة الثانية بعد صحيح ابن خزيمة ، وهذا بالنسبة للكتب التي ألفت في الصحيح المجرد فأولها صحيح البخاري ، ثم صحيح مسلم ، ثم صحيح ابن خزيمة ، ثم صحيح ابن حبان ، هذا ظاهر صنيع العلماء المتقدمين . وخالف في ذلك شعيب الأرناؤوط ، حيث قدم - أي شعيب الأرناؤوط - صحيح ابن حبان على صحيح ابن خزيمة ، وذكرت أن هذه المسألة تحتاج إلى دراسة(87) ، وهي جارية إن شاء الله تعالى .
…لكن من المتيقن والمقطوع به أن كتابه هذا مقدم على مستدرك الحاكم لأن هذه المسألة وضحت وظهرت بشكل واضح ، فالحاكم - رحمه ا لله - ممن لم يوُف بشرطه ، وأما ابن حبان فقد وفي بشرطه ، ولذلك الأحاديث المنتقدة عند ابن حبان لا تقارب ولا تداني إطلاقاً الأحاديث المنتقدة عند الحاكم .
عدم تفريقه بين الحديث الصحيح والحسن :
…وكذلك ابن حبان مثل شيخه ابن خزيمة ممن لا يرى التفريق بين الحديث الصحيح والحديث الحسن ، فعنده أن الحسن قسم من الصحيح وهو داخل فيه .
اعتناء العلماء بصحيح ابن حبان ، وذكر بعض خدماتهم له :
…لأجل أهمية صحيح ابن حبان نجد أن العلماء اعتنوا بهذا الكتاب عناية فائقة ، فمن ذلك حرصهم على روايته ومدارسته وقراءته ، وعلى هذا حرص أصحاب الكتب التي تسمى بت "البرامج والمشيخات" ، مثل الوادي آشي التونسي المتوفى في سنة 749 ، فإنه يذكر في برنامجه في صفحة 201 ، 202 أنه قرأ جميع حديث صحيح ابن حبان بسنده بحرم الله تعالى اتجاه الكعبة على رضي الدين أبي إسحاق إبراهيم الطبري أحد شيوخه . وغير الوادي آشي كثير .
…كذلك أيضاً عني العلماء بالكلام على رجال ابن حبان ، فنجد (ابن الملقن) أودع كتاب ابن حبان في ضمن مختصره لـ " تهذيب الكمال والذيل عليه" ، وهذه المسألة سبق أن أشرت إليها من الكلام على صحيح ابن خزيمة .(1/87)
…قلت : إن ابن الملقن اختصر كتاب " تهذيب الكمال " للمزي وزاد عليه زيادات ، الزيادات هذه تسمى " ذيلاً " ، وهذه الزيادات أخذها من عدة كتب وهي : "مسند الإمام أحمد، وصحيح ابن خزيمة ، وسنن الدار قطني ، ومستدرك الحاكم ، وصحيح ابن حبان " .
…كذلك أيضاً نجد الحافظ العراقي - رحمه الله - ألف كتاباً بعنوان " رجال ابن حبان" ، وهذا الكتاب يذكره عنه ابن فهد المكي في كتابه " لحظ الألحاظ" ، لكن هذا الكتاب لا تعرف عنه شيئاً .
…كذلك أيضاً من الجهود التي بُذلت في كتاب ابن حبان " تخريج زوائده" ، فنجد الحافظ مغلطاي ألف كتاباً في استخراج زوائد ابن حبان ، ولكن هذا الكتاب لم يصل إلينا ، وإنما الذي وصل إلينا كتاب الهيثمي الذي أسمه " موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان " ، والكتاب مطبوع ومعروف .
…والمقصود بزوائد ابن حبان هاهنا ليست زوائده على الكتب الستة ، وإنما زوائده على الصحيحين فقط ؛ لأن ما دام أنه من الكتب التي ألفت في الصحيح المجرد "أي : الذي لا يخالطه الضعيف " ، فكذلك أيضاً ينبغي أن تكون الزوائد على كتب اشترطت هذا الشرط ، ولذلك جعلوا الزوائد خاصة بزوائده على الصحيحين .
…كذلك أيضاً نجد بعض العلماء عني بالانتخاب من هذا الكتاب ، فمن أن ذلك الحافظ العراقي انتخب من كتاب ابن حبان أربعين حديثاً سماه " أربعون بلدانية " ، ذكر هذا عنه تلميذه ابن فهد المكي في كتابه " لحظ الألحاظ" أيضاً .
…ونجد أيضاً هناك من فهرس هذا الكتاب على الأطراف ومن جملتهم الحافظ ابن حجر في كتابه "إتحاف المهرة" ؛ فإنه جعل كتاب ابن حبان من الكتب العشرة التي ألف كتابه هذا بناء عليها .
…والمقصود بالأطراف ليست فهرسة كالفهرسة المعتادة ، فيؤتى بطرف الحديث فقط ، وإنما يأتون بالسند أو يجمعون أسانيد ا لحديث في موضع واحد ، مع الإشارة إلى طرف الحديث الذي يدل على أن المقصود بهذا الإسناد على ذلك المتن المذكور .(1/88)
الكلام على كتاب " الإحسان " ومؤلفه ، وطريقته في ترتيب ابن حبان :
…كذلك أيضاً من الخدمات التي قدمت لابن حبان ترتيب كتابه هذا على الأبواب الفقهية، وهناك من سعى لترتيبه ، ولكن الذي وصل إلينا من هذا الجهود التي بذلت في ترتيب ابن حبان هو كتاب " الإحسان " الذي ألفه علاء الدين الفارسي المعروف بالأمير .
…هذا الرجل كان محتكاً بالأمراء المماليك ويبدو أنه كان منهم ، وهو حنفي المذهب وجد الناس انصرفوا عن كتاب ابن حبان ، وكما يقول هو : إن ابنه حبان لبديع صنعه ومنيع وضعه حينما ألف هذا الكتاب قد عز جانبه - يعني أن جانب هذا الكتاب أصبح عزيزاً - فكثر مجانبه- أي كثر الذين تركوا هذا الكتاب وأهملوه بسبب صعوبة العصور على الحديث فيه .
…وعلاء الدين الفارسي هذا مولود في سنة 675هـ ، ومتوفى في سنة 739 ، وقد أحسن إحساناً بديعاً حينما رتب هذا الكتاب وجعله على الأبواب المعهودة ؛ "الأبواب الفقهية : كتاب الطهارة ، الصلاة ، الزكاة ، الحج إلى آخر أبواب الفقه " .
…ثم إنه حينما ألف هذا الكتاب بهذه الصورة احتفظ بعناوين ابن حبان ، وهي عناوين مهمة جداً لأن فيها استنباطات فقهية وتقعيدات أصولية مهمة ، فأبقاها في مكانها ، ما اختلف منها شيء ، بل حتى تعليقات ابن حبان على الأحاديث نجد أنه يوردها بتمامها من غير نقصان .
…وليس هذا فقط ، بل الذي يريد أن يرجع الكتاب إلى أصله إلى ترتيب ابن حبان - فإنه يمكنه ذلك ؛ لأن علاء الدين الفارسي جعل بعد كل حديث الرقم الذي جعل ابن حبان ذلك الحديث تحته - رقم النوع ، ورقم القسم ؛ فإذا كان الحديث مثلاً عند ابن حبان في قسم الأوامر في النوع الخمسين ، فنجد علاء الدين الفارسي يضع " 1 ، 50" ، أي القسم الأول والنوع الخمسين من ذلك القسم ، وبإمكانك لو أرجعت هذه الأحاديث إلى نفس الأرقام أن تعيد الكتاب إلى أصله الذي هو بترتيب ابن حبان نفسه .(1/89)
…لكن من الذي يريد أن يعود إلى مشقة بعد أن أنقذه الله منها ؟لا أحد ، ولذلك لا نجد أن أحداً حاول أن يُعيد الكتاب إلى ترتيبه الأصلي ، والترتيب الأصلي لا يوجد منه نسخة كاملة في هذا الزمن ، وإنما توجد منه قطعة يسيرة جداً .
…وهذا الكتاب هو الذي طُبع بتحقيق الشيخ شعيب الأرناؤوط ، وهي الطباعة الكاملة ، مع العلم أنه طبع غير ذلك من الطبعات ، فالشيخ أحمد شاكر - رحمه الله - اول أن يقوم بطباعة هذا الكتاب فأخرج مجلداً منه ، ولكن أدركته المنية قبل أن يتم هذا ا لكتاب ، جاء بعده عبد الرحمن عثمان فأضاف لهذا المجلد مجلدين آخرين فأصبحت ثلاثة مجلدات خرجت من صحيح ابن حبان ، ولكن البون شاسع بين منهج عبد الرحمن عثمان وبين منهج الشيخ أحمد شاكر - رحمه الله - يوافق ابن حبان على شروطه التي اشترطها في الحديث الصحيح .
…كذلك أيضاً قام " حسين أسد " بالمشاركة مع " شعيب الأرناؤوط " فأصدراً بعض المجلدات - مجلد أو مجلدين - ، ولكن توقف العمل وواصل " شعيب الأرناؤوط" العمل فأخرج الكتاب إخراجاً كاملاً ، والحقيقة - والحق يقال - أنه إخراج بديع جداً ، من حيث ضبط النص ، ومن حيث التخريج والأحكام على الأحاديث ، يعتبر تخريجاً بديعاً إلى حد كبير ، وإن كانت هناك بعض الاجتهادات التي قد يخالف فيها شعيب الأرناؤوط ، مثل الأحكام على بعض الأحاديث، وهذه مسألة لا طائل تحتها فقد يجد من يوافقه وقد يجد من يخالفه ، والمسألة كلها محل اجتهاد .
…لكن على كل حال هذا الإخراج مع الفهارس التي صاحبت الكتاب يُعتبر خدمة جليلة قدمت لهذا الكتاب ، والحمد لله أولاً وآخراً .
تعليقاته المفيدة على بعض الأحاديث ، ومثال ذلك :(1/90)
…ثم إن ابن حبان - رحمه الله - يتبع الأحاديث بكلام بديع جداً في كثير من الأحيان ، حيث إنه يوضح بعض المعاني التي يحتاج إليها في فقه الحديث ، ولعل من الأمثلة على هذا -بغض النظر عن موافقته على قوله أو لا - محاولته الجمع بين حديثي بسرة وطلق بن علي في مس الذكر.
…حديثي بسرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من مس ذكره فليتوضأ"(88) .
…وحديث طلق بن علي أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم مس الذكر فقال : "هل هو إلا بضعة منك "(89) .
…فمثل هذين الحديثين ظاهر هما التعارض ، وابن حبان لما أخرج هذين الحديثين في صحيحه حكم عليهما كليهما بالصحة ، ثم وفق بينهما بقوله : إن حديث بسرة يعتبر ناسخاً لحديث طلق بن علي ، واستشهد على ذلك بأن قدوم طلق بن علي على النبي صلى الله عليه وسلم كان في أول هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة لأنه شارك النبي صلى الله عليه وسلم في بناء المسجد ، وأن حديث بسرة بعد ذلك لأنها إما كانت في الحبشة وأنها هاجرت بعد ذلك ، فحديثها يعتبر متأخراً عن حديث طلق بن علي ، والمتأخر ينسخ التقدم ، فبين أن العمل وفق حديث بُسرة ، وأن حديث طلق بن علي صحيح ولكنه منسوخ .
…فهذه من تعقيباته على بعض الأحاديث ، وهي تعقيبات جيدة وأمثلتها كثيرة .
…كما أنه - رحمه الله - حينما يخرج حديثاً يبين أحياناً أن البعض يتوهم أن هذا الحديث لا يُعتبر حديثاً صحيحاً لأجل فلان بن فلان ، مثلاً : أخرج حديثاً من طريق سهيل بن أبي صالح(90) عن أبيه ، ثم ذكر أن بعض الناس ق ديطعن في هذا الحديث لأجل تفرد سهيل بن أبي صالح به ، ثم بين أن سُهيلاً لم يتفرد بالحديث فأخرجه من طريق أخرى ، فهو إذاًُ يعني بجمع طرق الحديث ويقطع الدابر على من يمكن أن يُعل الحديث ، وهذا من براعته في علم الحديث .(1/91)
…وصل الحديث والآخر أرسله ، يقول : فأنا أقبل رواية الواصل ، ورواية الرافع ، ولا أعل الرواية الأخرى بها لأنهما ثقتان " . وعنده أن الثقة خبرة مقبول ، فهذه قاعدة يسير عليها.
…قد يُخالف في مثل هذه القاعدة من مثل الدار قطني وغيره حينما يحكمون للأحفظ في هذا الحال إذا خالف من هو أحفظ منه ، ويعتبرون الرواية المخالفة شاذة ، كما هو مقرر في مصطلح الحديث . لكن ابن حبان يسر على هذا .
…لكن ابن حبان يستثنى فيما لو كان هناك عدد جم من الرواة رووا الحديث مرسلاً ، وخالفهم راوٍ أو روايان فرويا الحديث موصولاً ؛ فإنه في هذا الحال ينظر نظرة أخرى .
مثال ذلك :
…يمثل لهذا بحديث يرويه نافع عن ابن عمر ، يقول : " لو جاء من أرسل الحديث فجعله عن نافع عن النبي صلى الله عليه وسلم بدون ذكر لابن عمر ، يقول : فأنا في هذه الحال لا أحكم مباشرة ، ولكن أنظر هل لهذا الحديث أصل عن ابن عمر ؟ " ؛ فيخرج الحديث من طرق أخرى ، فلنفرض أنه رواه عن ابن عمر غير نافع ، فنجد ابن حبان يحكم لهذه الرواية بالصحة ، وأيضاً رواية من جعل الحديث من رواية نافع عن ابن عمر ولا يلتفت للمخالفة - يقول : "لأن الحديث ثبت أن له أصلاً عن ابن عمر " ، وهكذا هو في منهج ابن حبان .
…وهذا المنهج الذي يسير عليه هو قاعدة قعدها لنفسه وسار بموجبها ، فلا ينبغي في هذا الحال أن يتكلم في ابن حبان من هذا الجانب لأن هذا اجتهاد منه ، وهذا الاجتهاد أيضاً يسير عليه كثير من العلماء ، وإن كنا قد نخالف في بعض الأحيان ، ونرى أن هناك بعض الأحاديث المعلولة عن ابن حبان لهذا الموجب - لأجل المخالفة وما إلى ذلك
…ولكن كما قلت - وكما قال العلماء السابقون - : إن ابن حبان اشترط لنفسه شرطاً وقد وفي بشرطه وما حاد عنه .
تصحيحه لبعض الأحاديث المنكرة ومثال ذلك :(1/92)
…هناك أيضاً بعض الأحاديث التي فيها أحياناً نكارة ، ولكن ابن حبان لأجل المنهج الذي يسير عليه فإنه يخرج بعض هذه الأحاديث ، ولذلك قد يحكم عليها بالضعف أو بالنكارة .
مثال ذلك :
…قصة : " هاروت وماروت "(91) ، والقصة تكلم عليها كثير من العلماء ، واستنكرها كثير من العلماء مثل الإمام أحمد ، وأبي حاتم الرازي ، وغيرهما ، وحقيقة ليس لها إسناد صحيح يثبت ، الله إلا على منهج ابن حبان حينما يوثق من لا يعرف بعدالة ولا جرح ، وحينما يرى أيضاً أن مثل هذه المخالفة من هذا الراوي بهذه الصورة لا تُعل الحديث ، لذلك أخرج هذه القصة وحكم عليه بالصحة حينما أخرجها في "صحيحه" ، ولكن الحديث منكر ولا يصح رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وإنما هو من الحكايات الإسرائيلية .
…وقد تكلمت عن هذا الحديث في " سنن سعيد بن منصور "(92) ، فمن شاء أن يراجعه فليراجعه في تفسير قول الله - جلا وعلا - : {ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر}(93) .
مستدرك أبي عبد الله الحاكم
نبذة عن الحاكم :
…هو أبو عبد الله ، وأسمه محمد بن عبد الله بن حمدوية بن نعيم المعروف بابن البيع الضبي الشافعي النيسابوري ، واشتهر بأبي عبد الله الحاكم .
…ولقب بالحاكم إما لتوليه القضاء فترة من الزمن ، وإما أنها رتبة له في العلم بالحديث ، وهذه الرتبة هي الثانية التي تلي أمير المؤمنين في الحديث .
…ولقب أيضاً بالحافظ لقوة حفظه - رحمه الله - ، ولذلك إذا قال البيهقي : "حدثنا أبو عبد الله الحافظ" فإنه يعني شيخه الحاكم .
مولده وطلبه للعلم :(1/93)
…ولد - رحمه الله - سنة 321هـ بنيسابور ، وطلب العلم من الصغر وكان أول سماعه -رحمه الله- في سنة 330هـ ، أي وعمره 9 سنوات - ، واستملى على يد شيخه ابن حبان سنة 334هـ ، وقد ابتدأ بالرحلة وهو صغير السن ، فكان عمره حينذاك - كما يقول الذهبي- عشرين سنة ، فرحل إلى العراق وحج وجال في بلاد خراسان وما وراء النهر طلباً علو الإسناد. وسمع من نحو ألفي شيخ بنيسابور وغيرها .
ومن أهم هؤلاء الشيوخ :
ابن حبان، وأبو العباس محمد بن يعقوب الأصم، وأبو بكر أحمد بن سليمان النجاد، وأبو محمد دعلج بن أحمد السجزي وغيرهم كثير
أهم تلاميذته .
وقد تتلمذ على يد الحاكم كثير من طلبة العلم ورحلوا إليه من جميع الآفاق منهم:
أحمد بن الحسين البهيقي صاحب السنن، فأنه أكثر ممن الروية عنه، وأبويعلى الخليلي صاحب كتاب الإرشاد، وأبو ذر الهوري، وغيرهم كثير .
ثناء العلماء عليه :
وقد أثنى على الحاكم كثير من العلماء حيث يقول الخطيب البغدادي : "كان من أهل الفضل والعلم والمعرفة والحفظ ، وله فى علوم الحديث مصنفات عدة" وقال عبد الغفار بن إسماعيل :"هوإمام أهل الحديث فى عصره، العارف به حق معرفته".
التهم التى اتهم بها:
…ومع اعتراف العلماء للحاكم بالفضل ومكانته فى علوم الحديث ، إلا أنه طعن فيه ببعض الأمور التى لا بد من بيانها.فمن أهم ما طعن فى الحاكم بسببه :
التشيع والزعم بأنه رافضي:
…فروي أن المستدرك ذكر بين يدى الدأرقطني- شيخ الحاكم- فقال : " نعم يستدرك عليهما - أى على البخاري ومسلم - " حديث الطير" ، فبلغ ذلك الحاكم فأخرج الحديث من كتاب ".(1/94)
…وهذه حكاية لا تصح عن الدراقطني لأنها من قطعة، وقد أعلها الذهبي في "سير أعلام النبلاء"…ومع ذلك فهذه الحكاية مخالفة لواقع المستدرك حينما يقول: "فبلغ ذلك الحاكم فأخرج الحديث من الكتاب "؛ فحديث الطير موجود في المستدرك ولم يخرج منه(94)؛ ولذلك انتقد الذهبي هذه الحكاية لهذين الأمرين، ولأمر ثالث قد أدهشني ألا و هو قول الذهبي :" أمنا ألف الحاكم المستدرك بعد وفاة الدارقطني بمدة "، والدارقطني-رحمه الله-توفي سنة 385هـ.
وهذا الذي ذكره الذهبي هو الذي جري عليه الحافظ ابن حجر، حينما قال عن الحاكم في اعتذارهم :"إنه ألف المستدرك علي كبر سنه في أواخر عمره".
…ولكن في الافتتاحية التي افتتح بها الحاكم كتابه "المستدرك" يقول الراوي للمستدرك عن الحاكم :"إن الحاكم أملي علينا في سنة 373هـ".
ففي هذه السنة لم يكن الحاكم في أواخر عمره،زأنما كان عمره نحو خمسين عامٍاً، وهذا عمر معقول جداً لأن الحاكم ،ويُعتبر في هذه السن في منتهي القوة ، ولم يكن ألفه-كما يقال-في أواخر عمره بعدما ضعفت قواه.
فعلي كل حال :إما أن يكون الذهبي وابن حجر لم يطلعا علي تاريخ إملاء الحاكم -رحمه الله - لهذا الكتاب ، وإما أن يكون وأما أن يكون ما ذكر في النسخة خطأ ، والعلم عند الله -جلا وعلا.
وعلي كل حال : فنحن سنعرض هذه المعلومات مع تحفظنا علي هذا التاريخ الذي يبنى عليه في بعض الأحيان أمر مهم ،لكن بالنسبة لهذه الحكاية التي ورد فيها ذكر المستدرك عند الدارقطني نغض الطرف عنها؛ لأنها أصلاً لاتصح ولا تثبت من حيث السند.(1/95)
وقال الخطيب البغدادي :" كان الحاكم يميل إلي التشيع ، فحدثني إبراهيم بن محمد الأرموي ، بنيسابور، فقال :جمع أبو عبد الله الحاكم أحاديث ، وزعم أنها صحاح علي شرط البخاري ومسلم يلزمهما إخراجهما في الصحيح ، ومنها "حديث الطائر" ، وحديث:"من كنت مولاه فعلي مولاه(95) ، فأنكر عليه أصحاب الحديث ذلك،ولم يلتفتوا إلي قوله ولا صوبوه في فعله".
ونقل الذهبي عن ابن طاهر المقدسي ،أنه سأل أبا إسماعيل الهوري،عن أبي عبد الله الحاكم،فقال :"أنه ثقةٌ في الحديث رافضي خبيث".
ووجه الحق في هذه المسألة:
هو ما رد به الذهبي على المقولة السابقة حيث قال:"كلا،ليس هو رافضياً بل يتشيع"،وقال أيضاً:"وأما انحرافه عن خصوم علي فظاهر،وأما الشيخان-أبوبكر وعمر-فمعظم لهما بكل حال ، فهو شيعي لا رافضي " .
ويقول ابن السبكي : "فغاية ما قيل فيه الإفراط في ولاء على -رضي الله عنه- ، ومقام الحاكم عندنا أجل من ذلك".
ويقول ابن السبكي أيضاً :"إن الرجل كان عنده ميل إلي علي-رضي الله عنه-،يزيد على الميل الذي يطلب شرعاً " .
وقال أيضاًَ "ولا أقول : إنه ينتهي إلى أن يضع من أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما-، فإني رأيته في كتابه "الأربعين" عقد باباً لتفصيل أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم ، واختصهم من بين الصحابة . وقدم في المستدرك ذكر عثمان على علي رضي الله عنهما" .
أهم الأسباب التي دعت بعض العلماء إلى وصف الحاكم بالتشيع أو الرفض :
من أهم الأسباب :
…1- عدم ذكره لبعض خصوم علي من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين في كتاب "معرفة مناقب الصحابة" من كتاب المستدرك ، كمعاوية وعمرو بن العاص -رضي الله عنهما-، بل إنه أو ذي بسبب ذلك ، فقيل له - من باب المشورة - : لو أمليت في فضائل هذا الرجل-أي معاوية - ؟ فقال : "لا يطاوعني قلبي" .(1/96)
…2- إخراجه لبعض الأحاديث التي فيها نصرة للشيعة وتساهله في تصحيحها مثل : "حديث الطير"(96) ، وحديث : "أنا مدينة العلم وعلى بابها"(97) ، وحديث : "النظر إلى علي عبادة"(98) ، وغير ذلك من الأحاديث .
…فهذان السببان هما من أهم الأسباب التي دعت إلى وصف الحاكم بالتشيع أو الرفض.
ويمكن مناقشة هذه الأسباب على الوجه الآتي :
…1- أما موقفه من خصوم علي من الصحابة - رضي الله عنهم - فليس على إطلاقه ، وإنما هذا مختص بمعاوية - رضي الله عنه - ، وإلا فإنه قد أفرد لطلحة والزبير وعائشة -رضي الله عنهم- ، ولم ينتقصهم بحرف .
فدل هذا على أن الرجل متبع للأثر ، ولعله لم يحضره شيء من الأحاديث التي يرى أنها تصح ي فضل معاوية - رضي الله عنه - ، وإلا فإن طلحة والزبير ممن قاتلا علياً -رضي الله عنه - كما قاتله معاوية .
وهذا مثل ما حصل للنسائي ، فإن له موقفاً شبيهاً بموقف أبي عبد الله الحاكم ، فحينما سئل : لماذا لا يخرج في فضائل معاوية كما خرج في فضائل علي وسائر السحابة . قال : وأي شيء أخرج في فضائل معاوية حديث : "لا أشبع الله بطنه" ؟.
كأنه قال : لم يصح عندي من الحديث إلا هذا الحديث ، وهو ليس في فضائله ومناقبه، وإن كان بعض العلماء قد تكلف في جعل هذا الحديث يعد من مناقب معاوية-رضي الله عنه-.
ولو أخذنا من موقفه لمعاوية - رضي الله عنه - حكماً لما أمكن أن يتجاوز ووصفه بالتشيع القليل الذي كان عند طائفة من أهل السنة كما هو الحال عند متقدمي أهل الكوفة ، بل هو أحسن حالاً من كثير ممن نُسب إلى التشيع القليل من أهل السنة ، فإن أولئك كانوا يقدمون علياً على عثمان - رضي الله عنهما - ، وأما الحاكم فإنه قدم عثمان على علي ، فذكر أولاً فضائل أبي بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي - رضوان الله عليهم أجمعين - .(1/97)
2- وأما بالنسبة للأحاديث التي تساهل في تصحيحها في فضائل علي -رضي الله عنه- كحديث الطير وغيره ؛ فلا يمكن أن يوصف الحاكم من خلالها بأنه رافضي .
ويمكن النظر في هذه الأحاديث من جهتين ، وهما :
أ- كما أنه تساهل في تصحيح هذه الأحاديث ، فإنه في المقابل تساهل في تصحيح أحاديث موضوعة في فضل أبي بكر وعمر وعثمان - رضوان الله عليهم -، فهذه مثلها.
بل هو متساهل في تصحيح بعض الأحاديث الموضوعة في سائر الكتاب كما سيأتي معنا إن شاء الله .
ب- بالنسبة لهذه الأحاديث التي أشتهر عن الحاكم تصحيحها كحديث الطير ، وحديث : "أنا مدينة العلم وعلى بابها" ؛ فإن الحاكم مجتهد ، وهذا الاجتهاد مع المنهج المتساهل أدّى إلى تصحيح مثل هذه الأحاديث التي صححها أئمة آخرون ، وبعضهم توقف فيها وأصابته الحيرة والدهشة من كثرة طرقها .
الكلام على بعض الأحاديث المنتقدة على الحاكم :
ونأخذ مثالاً على ذلك :
…حديث الطير(99) : الذي هو من أبرز الأحاديث التي تُكلم في الحاكم بسببها ؛ فهذا الحديث خلاصته أن أنس بن مالك - رضي الله عنه - تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدي له طير مشوي ، فقال عليه الصلاة والسلام : " اللهم أئتني بأحب خلقك إليك بأكل معي من هذا الطير " ، قال أنس : " فقت : اللهم اجعله امرأ من الأنصار - لأنه أنصاري - قال : فإذا بالباب يُطرق ففتحت الباب ، فإذا هو علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- ، فقلت له : النبي على حاجة فانصرف ، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم مرة ثانية فقال : "اللهم أئتني بأحب خلقك إليك بأكل معي من هذا الطير " ، فقال أنس نفس مقولته . فطرق الباب فإذا هو علي -رضي الله عنه - ، فقال له أنس مثلما قال سابقاً .(1/98)
…وفي المرة الثالثة أو الرابعة دفع علي في صدر أنس ، ثم دخل فقال له النبي صلى الله عليه وسم " ما الذي أبطأ بك يا علي ؟ " ، فقال : يا رسول الله ، هذه هي المرة الثالثة أو الرابعة التي يردني فيها أنس . فقال له-عليه السلام ، فقال أنس : يا رسول الله ، دعوت بدعائك الذي دعوت به فرجوت أن يكون امرأ من الأنصار . فقال له النبي الكريم - عليه السلام - : "إن الرجل قد يحب قومه " أي فعذره .
فقوله صلى الله عليه سلم : "اللهم ائتني بأحب خلقك إليك" ظاهره أنه أحب من سائل الأنبياء ، بل من النبي صلى الله عليه وسلم ، فضلاً عن كونه أحب من أبي بكر وعمر وعثمان ومن سائر صاحبة النبي - رضي الله عنهم أجمعين - .
…فهذا الحديث هو من الأحاديث التي يتقوى بها الشيعة وأهل الرفض ، ولكن الذي حير بعض الأئمة أن هذا الحديث طرق كثير جداً عن أنس - رضي الله عنه - ، وقد صححه ابن جرير الطبري - رحمه الله - وله فيه مؤلف .
…ومن احتار في هذا الحديث : الذهبي - رحمه الله - حيث قال : "وأما حديث الطير فله طرق كثيرة جداً قد أفردتها في مصنف ، ومجموعها يوجب أن يكون الحديث له أصل. وأما حديث : " من كنت مولاه فعلى مولاه " فله طرق جيدة وقد أفرد ذلك أيضاً بمصنف" اهـ.
…ويقول ابن السبكي : "وأما الحكم على حديث الطير بالوضع فغير جيد ، ورأيت من صاحبنا الحافظ صلاح الدين ابن كيكلدي العلائي عليه كلاماً قال فيه : إن الحق في الحديث أنه ينتهي إلى درجة الحسن أو يكون ضعيفاً يحتمل ضعفه ، فأما كونه ينتهي إلى درجة الموضوع من جميع طرقه فلا " اهـ .
…والسبب في توقف الذهبي - الذي سبقت الإشارة إليه - ، وتصحيح أو تحسين بعض العلماء لهذا الحديث أن له عن أنس - رضي الله عنه - أكثر من تسعين طريقاً حيرت العلماء وأدهشتهم .(1/99)
…ومع هذا فبعض المتمكنين من علم الحديث كالحافظ ابن كثير - رحمه الله - ولم تؤثر فيه كثرة الطرق ولو بلغت المليون ، فإنه قد تكلم عن هذا الحديث في البداية والنهاية(100) ، وأثبت أنه منكر وانتقد طرق الحديث كلها .
…قال - رحمه الله - : "قال شيخنا أبو عبد الله الذهبي في جزء جمعه في هذا الحديث، بعدما أورد طرقاً متعددة نحواً مما ذكرناه . قال : ويروى هذا الحديث من وجوه باطلة عن حجاج بن يوسف وأبي عصام خالد بن عبيد" . وذكر خلقاً ممن رواه ، ثم قال بعد أن ذكر الجميع : "الجميع بضع وتسعون نفساً أقربها غرائب ضعيفة ، وأردؤها طرق مختلفة مفتعلة ، وغالبها طرق واهية".
…ثم ذكر الحافظ ابن كثير جملة من هذه الطرق في الموضع السابق وقال : "فهذه طرق متعددة عن أنس بن مالك ، وكل منها فيه ضعف ومقال" .
…أما بالنسبة لكلام الذهبي في تعقبه على الحاكم في المستدرك فهو جيد ، ومن جملة ما ذكره - لأن الحاكم أورده في عدة أماكن بعدة طرق - قوله : "قلت : فيه ابن عياض لا أعرفه -أي في نقده للحديث - ، ولقد كنت زماناً طويلاً أظن أن حديث الطير لم يجسر الحاكم أن يودعه مستدركه ، فلما علقت هذا الكتاب رأيت الهول من الموضوعات التي فيه ، فإذا حديث الطير بالنسبة إليها سماء " . أي لا شيء بالنسبة لما ذكره من سائر الموضوعات .
…لكن تغير اجتهاد الذهبي في حديث الطير ، فهو في تذكرة الحفاظ ذكر أنه اطلع على حديث الطير الذي انتقد الحاكم من أجله ، فقال : "وجدت له بضعاً وتسعين طريقاً" ، ثم قال بعد ذلك : "ومع ذلك فلا أنا بمثبته ولا بمعتقد بطلانه" ، أي انه متوقف فيه .(1/100)
…فإذا كان الأمر هكذا بالنسبة للذهبي فإننا نجد هناك طائفة من العلماء - وهم كثر -؛ كان موقفهم من هذا الحديث موقف الذي تلقاه بالقبول ، ولم يجد في متنه نكارة مما يجعله يعزف على الحكم على هذا الحديث بالصحة أو بالحسن ، ومن هؤلاء العلماء ابن جرير الطبري ، وابن جرير له مجلد في جمع طرق وألفاظ هذا الحديث .
…وليس هذا هو موضع التفصيل في بيان علل هذا الحديث ، وإنما المقصود الإشارة إلى أنه مع كونه لا يصح ، إلا أنه ينبغي أن يُعذر الحاكم في تصحيحه كما عذرنا ابن جرير الطبري والعلائي والذهبي وغيرهم من العلماء .
…2- وأما حديث "أنا الشجرة ، وفاطمة فرعها ، وعلى لقاحها ، والحسن والحسين ثمرتها، وشيعتنا ورقها ، وأصل الشجرة في جنة عندن ، وسائر ذلك في سائر الجنة"(101) .
هذا الحديث أخرجه الحاكم (102)
من طريق شيخه محمد بن حيويه الهمذاني (103)، عن الدبري ، عن عبد الرزاق صاحب المصنف،عن أبيه،عن ميناء مولى عبد الرحمن بن عوف .
قال الحاكم بعدما أخرج هذا الحديث : "هذا متن شاذ،وأن كان كذلك فأن إسحاق الدبري صدوق،وعبد الرزاق وأبوه وجده ثقات، وميناء قد أذرك النبي صلي الله عليه وسلم وسمع منه".
والحقيقة أن هذا الحديث لما أخرجه الحاكم أغاط الذهبي في تلخيصه،فعقب عليه الذهبي بالكلام الأتي:
…"قلت: ما قال هذا بشر سوى الحاكم - أى الزعم بأن ميناء هذا من صاحبة النبي صلي الله عليه وسلم-وأنما هو تابعي ساقط.
…قال أبو حاتم: كذب يكذب . وقال ابن معين: ليس بثقة.ولكن أظن أن هذا وضع على البري- يقصد إسحاق بن إبراهيم البري راوي مصنف عبد الرزاق وراي هذا الحديث أيضاً-؛فإن ابن حيويه متهم بالكذب".
…ثم قال بعد ذلك عبارة لم يكن ينبغي له أن يطلقها في حق الحاكم -قال :" أفما اسحييت أيها المؤلف أن تورد هذه الأخلوقات من أقوال الطرقية فيما يستدرك علي الشيخين" ا هـ.(1/101)
…فهذا من الأحاديث التي يمكن أن يؤخذ علي الحاكم - رحمه الله - تصحيحها ، ولا نجد له عذراً ما دام أن شيخه كذاباً والراوي الأعلى لهذا الحديث كذاباً.
…3- وأما حديث :" من كنت مولاه فعلي مولاه " فهو حديث صحيح ، بل متواتر ، ولا يجوز أن ينتقد الحاكم على هذا الحديث ، بل الذي ينبغي أن ينتقد هو المنتقد،ومن أراد مطالعته فليراجع تخريج الشيخ ناصر الدين الألباني- حفظه الله- لهذا الحديث(104).
…وهذا الحديث ليس فيه أي مستمسك علي الحاكم للشيعة والرافضة؛ فعليٌ-رضي الله عنه-ينبغي أن يواليه كل مؤمن، كما ينبغي أن يوالي غيره من الصاحبة-رضي الله عنهم-.
…ولو عُرف سبب ورود الحديث لزال الإشكال الذي من أجله خص النبي صلي الله عليه وسلم علياً -رضي الله عنه- بقوله هذا . وخلاصة ذلك :
…أنه قدم على الرسول صلى الله عليه وسلم من اليمن ، والنبي صلى الله عليه وسلم في الحج ، فاستأذن من أصحابه أن يتعجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم في مكة ، وقد حصل في الطريق بين اليمن ومكة بعض الأمور التي جعلت من مكان مع علي يتكلمون فيه . فبعد أن انصرف النبي صلى الله عليه وسلم من مكة أحس بالكلام يدور على علي ؛ فأراد صلى الله عليه وسلم أن يسكت من يثير مثل ذلك ؛ فقال هذه المقولة .
…فإن النبي صلى الله عليه وسلم قالها لسبب ، وإلا فإنه صلى الله عليه وسلم ذكر أن هناك من الصحابة من هم أولياء له ، مثل ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم من فضل للمهاجرين والأنصار ، بل إنه صلى الله عليه وسلم قال عن الأنصار : إنه "لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق"(105) .
…وهذا الفضل أيضاً ورد لعلي - رضي الله عنه - كما في صحيح مسلم -، في قوله -رضي الله عنه : " والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ، إنه لعهد النبي الأمي صلى الله عليه وسلم إلى : أن لا يحبني إلا مؤمن ، ولا يبغضني إلا منافق "(106) .(1/102)
…والفضل الوارد لعلي وارد أيضاً لصحابة آخرين ، بل إن فضائل الشيخين أبي بكر وعمر أكثر بكثير من فضائل علي - رضي الله عنه - .
تساهل الحاكم في التصحيح وأوهامه في المستدرك وما أجيب به عن ذلك :
…إن من يُلقي نظرة على مستدرك أبي عبد الله الحاكم يعرف تساهله الذي جعله يصحح عدداً من الأحاديث الموضوعة والضعيفة ، وهذا ما جعل نكير العلماء يشتد عليه ، بالإضافة إلى ما أخذوه عليه من ذكره لجماعة من الرواة في كتابه "الضعفاء" ، وجزمه بترك الرواية عنهم وترك الاحتجاج بهم ، ثم يُخرج بعد ذلك أحاديث بعضهم في المستدرك ويصححها ؛ ولذلك أنتقد العلماء تصحيحه .
…يقول الخطيب البغدادي - رحمه الله - : "أنكر الناس على الحاكم أحاديث زعم أنها على شرط الشيخين" .
…ويقول ابن الصالح : " وهو واسع الخطو في شرط الصحيح ، متساهل في القضاء الفن من شيخه الحاكم " .
…ويقول الذهبي عنه : "إنه إما صدوق ، ولكنه يصحح في مستدركه أحاديث ساقطة، ويكثر من ذلك" .
…ومن هناك جاء الاستدراك والتعقب على تصحيحه لبعض الأحاديث في المستدرك ، كما فعل الذهبي في تلخيصه ، وابن الملقن في مختصر التلخيص .
وقد اعتذر عن الحاكم بعض الأئمة :
…فقال السيوطي : "إن الحاكم مظلوم في كثير مما نسب إليه من التساهل" .
…وقال السخاوي : " بل يُقال : إن السبب في إدخال الحاكم الموضوعات والضعيفات في مستدركه أنه صنفه في أواخر عمره ، وقد حصلت له غفلة وتغير . أو أنه لم يتيسر له تحريره وتنقيحه ، ويدل على ذلك أن تساهله في قدر الخمس الأول منه قليل جداً بالنسبة لباقيه" .
…ويؤيد هذا القول الذي ذكره السخاوي أن المجلد الأول من المستدرك يقل فيه تعقب الذهبي عن المجلدات الأخرى بشكل كبير وواضح .
اعتذار الحافظ على الحاكم :
…وهذا الاعتذار الذي ذكره السخاوي أخذه عن شيخه الحافظ ابن حجر -رحمهما الله-، فإنه قال في "النكت" :(1/103)
…" قليل في الاعتذار عنه : إنه عند تصنيفه للمستدرك كان في أواخر عمره ، وذكر بعضهم أنه حصل له تغير وغفلة في آخر عمره ، ويدل على ذلك أنه ذكر جماعة في كتاب الضعفاء له وقطع بترك الرواية عنهم ومنع من الاحتجاج بهم ، ثم أخرج أحاديث بعضهم في مستدركه وصححها ، ومن ذلك : أنه أخرج حديثاً لعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وكان قد ذكره في الضعفاء ، فقال : "إنه روى عن أبيه أحاديث موضوعة لا تخفى على من تأملها من أهل الصنعة أن الحمل فيها عليه " اهـ.
…ولكن السبب الأوجه هو ما ذكره الحافظ أيضاً ، وهو أن الحاكم - رحمه الله- ألف الكتاب في البداية وجعله مسوداً . وعادة أي إنسان يؤلف التسامح في أي شيء يرد عليه ، ثم بعد ذلك يرجع فينقح ويبيض تلك المسودة ، والكتاب بعد التنقيح هو الذي يؤاخذ عليه المؤلف.
…فقد ذكر ابن حَجر أن المستدرك مجزء إلى ستة أجزاء ، ، وقد نجد في حوالي النصف الثاني من نهاية النصف الأول وبداية النصف الثاني من المجلد الثاني القول بأنه إلى هنا انتهى ما أملاه علينا أبو عبد الله الحاكم .
…والمستدرك الآن مطبوع في أربعة مجلدات ، والمجلد الأول هو الذي ينطبق عليه كلام الحافظ ابن حجر ؛ أي هو الذي أملاه الحاكم ، وأما المجلدات الثلاثة الباقية فلا .
…يقول ابن حجر : إن هذه الموضوعات من الأحاديث التي انتقدت على الحاكم إنما تأتي في القدر الذي لم يمله .
…ثم يستدرك ابن حجر على هذا بصنيع البيهقي ، ويقول : إن البيهقي إذا روى عن شيخه الحاكم حديثاً من الأحاديث التي في الربع الأول في القدر الذي أملاه يصرح بالتحديث ، فيقول: حدثنا أبو عبد الله الحافظ ، لكن إذا روى حديثاً من الأجزاء الباقية - الثلاثة الأرباع الباقية - لا يصرح بالتحديث ، وإنما أخذ ذلك بطريق الإجازة .(1/104)
…يقول : إن الحاكم - رحمه الله - أدركته المنية ولم ينقح إلا مقدار الربع فقط ، فكان -رحمه الله - كلما نقح أحاديث وحذف منها ما أراد أن يحذفه جاء لمجالس التحديث فأملى هذه الأحاديث عليهم ، ولما أملى الربع الأول أدركته المنية فتوفي ولم يمل الأرباع الثلاثة الباقية .
…وحقيقة أنا اعتبر هذا الكلام في حد ذاته صحيحاً ؛ لأنني وجدت - فعلاً - أن البيهقي لا يصرح بالتحديث إلا فيما أخذه عن الحاكم في الربع الأول فقط .
…وكذلك أيضاً واقع الكتاب يدلنا على هذا ، فإن عدد الأحاديث التي انتقدها الذهبي في الربع الأول حوالي مائتين حديثاً فقط ، وأما في الأرباع الثلاثة الباقية فإنها تقرب من الألف تقريباً، فهذا العدد الأخير يعتبر كثيراً إذا قورن بالعدد الذي في الربع الأول .
…على كل حال ما دام أن الحاكم - رحمه الله - عرف عنه أنه أملى الربع الأول ، ولم يمل الأرباع الثلاثة الباقية فإنها تقرب من الألف تقريباً ، فهذا العدد الأخير يعتبر كثيراً إذا قورن بالعدد الذي في الربع الأول .
…على كل حال ما دام أن الحاكم - رحمه الله - عرف عنه أنه أملى الربع الأول ، ولم يمل الأرباع الثلاثة ، وأن الأحاديث المنتقدة في الربع الأول لا تصل إلى درجة الوضع ، وإنما أحاديث مما يمكن أن يجتهد فيه الإنسان ، ويعذر - على الأقل - في اجتهاده . فهذا هو الذي يمكن أن يعتذر عن الحاكم به ، وهذا ما أراه أجود هذه الاعتذارات .
…هذا بالإضافة إلى أننا إذا أخذنا في أذهاننا أن الحاكم - رحمه الله - معروف من منهجه التساهل ، مثل ما نرى عند ابن خزيمة وابن حبان ، فهما ليسا كالبخاري ومسلم في تنقيح الأحاديث والحرص على انتقاء الحديث الذي لا ينازع فيه من صحح ذلك الحديث .(1/105)
…وبرغم أن البخاري ومسلماً - رحمهما الله - احترزا واحتاطا هذا الاحتياط ، نجد أن هناك من ينتقدهما ، فما بالنا بمن كان أكثر تساهلاً منهما كابن خزيمة وابن حبان ؟! بل ما بالنا بمن هو أشد تساهلاً منهما كالحاكم ؟! .
…لا شك أنه إذا أضيف المنهج المتساهل مع كبر السن الذي ذكر - إن صح - ، مع مسألة تنقيح الكتاب - يمكن أن يعتذر عن الحاكم بهذا الاعتذار .
…ومع ذلك لا ندعي له العصمة ، بل نقول : إنه أخطأ حقيقة حينما صحح بعض الأحاديث التي الضعف فيها ظاهر . بل أن تعقباته بعض الأحاديث أحياناً لا تحتمل ، فإنه ربما ذكر رواياً من الرواة في بعض كتبه الأخرى في الرجال ثم يخرج له بعض الأحاديث ، وهذا مثل مات حدث في كتابه "تاريخ نيسابور" فإنه قال فيه عن سهل بن عمار التعكي : "إنه كذاب يضع الحديث" ، ثم بعد ذلك أخرج له بعض الأحاديث في المستدرك ، وحكم عليها بالصحة على شرط الشيخين .
…وقد لزم من تساهله في التصحيح تساهله في توثيق الرواة ، فإن حكمه بصحة إسناد الحديث مع وجود بعض الرواة الضعفاء في ذلك الإسناد يفيد تساهله في توثيق بعضهم .
…وقد صرح الحاكم نفسه في بعض كتب المستدرك بتساهله في بعض ما يرويه :
…فمن ذلك : أنه أخرج في المجلد الثاني ص13 ستة أحاديث في كتاب البيوع ، ثم قال : "وهذه الأحاديث الستة طلبتها وخرجتها في موضعها من هذا الكتاب إحتساباً لما فيه الناس من الضيق ، والله يكشفها ، وإن لم تكن من شرط هذا الكتاب" .
…وأيضاً فإن هناك بعض الرواة الذين سرح الحاكم بتوثيقهم عند حكمه على بعض الأحاديث ، وبعد البحث نجد أن الراجح من حالهم خلاف ذلك .(1/106)
…فهذه المسألة وما تقدم من ذكره لجماعة من الضعفاء في كتابه " الضعفاء" ، وتصحيحه لأحاديثهم في المستدرك - يمكن الاعتذار فيهما عن الحاكم بأنه صنف كتابه في آخر عمره بعد أن ضعفت قواه وأصابه شيء من النسيان والغفلة ، وقد يكون يرى من نفسه أنه بلغ درجة الاجتهاد في الحكم على بعض الرجال بخلاف ما حكم به غيره من الأئمة ؛ بسبب بلوغه مرتبة الاجتهاد.
التعريف بمستدرك الحاكم على الصحيحين :
1- سبب تأليفه للمستدرك :
…ذكر الحاكم في مقدمة المستدرك السبب الدافع له على تأليفه لهذا الكتاب ، ويمكن أن نجمل ذلك فيما يلي :
…أ- أن البخاري ومسلماً صنفا في الصحيح كتابين مهذبين ، ولكنهما لم يحكمها ولا أحد منهما بأنه لم يصح من الحديث غير ما أخرجاه .
…أي كأنه يقول : أنا يمكن أن أؤلف كتاباً في الصحيح زائداً على ما بالصحيحين ؛ لأن البخاري ومسلماً لم يدعيا حصر الحديث الصحيح فيما أخرجاه .
…ب- أنه ظهر في عصره جماعة من المبتدعة يشمتون برواة الآثار ويدعون أن جميع ما يصح من الحديث لا يبلغ عشرة آلاف حديث التي هي مجموع أحاديث الصحيحين تقريباً .
…فألح عليه أهل العلم في عصره للرد على هؤلاء المتبدعة ؛ لأنهم يرون للحاكم مكانة عظيمة في نفوسهم ، ومشهود له بقوة الحافظة وبالإتقان وبمعرفة علم الحديث بشكل تدل عليه عبارات العلماء الذين أطروه وأثنوا عليه .
…ولعل من الأمثلة الطريفة في هذا أن أبا الفضل الهمذاني قدم نيسابور وكان آية في الحفظ، وكان يفتخر على الناس بحفظه هذا ، فكان يحفظ القصيدة التي من مائة بيت من أول ما تلقى عليه ، فكان يهزأ بأهل الحديث ويقول : ما هذه الكتب ما دمت أحفظ القصيدة التي بهذا الطول من خلال إلقائها على مرة واحدة ، فأنتم بادعائكم الحفظ والإتقان لا تبلغون شأني ولا تقاربوني.(1/107)
…فبلغ ذلك الحاكم فألقى إليه جزءاً حديثاً وقال : أنا لا أريد منك أن تحفظه من أول مرة ، بل أمهلك أسبوعاً لتحفظ هذا الجزء ، ثم بعد ذلك نرى ما تصنع .
…وبعد أسبوع جاء هذا الرجل ورمى هذا الجزء الحديثي على الحاكم ، وقال : ما هذا؟ فلان عن فلان ، وفلان قال : حدثنا فلان . وكأنه قال : إنها رقية ، أو ما إلى ذلك .
…فقال له الحاكم : فاعرف قدرك ، فهذه الأبيات التي تحفظها كل واحد يستطيع أن يحفظها ، ولكن هذا هو الذي يدل على قوة الحفظ والإتقان .
…جـ- أن جماعة من أعيان أهل العلم بنيسابور سألوه أن يجمع كتاباً يشتمل على أحاديث مروية بأسانيد يحتج البخاري ومسلم بمثلها .
…فهذه الأسباب الثلاثة بمجموعها التي دفعت الحاكم - رحمه الله - تعالى إلى تأليف كتابه "المستدرك" .
2- موضوع كتاب المستدرك :
…الكتاب يذكر بعض الأحاديث مرتبة على ترتيب الجوامع ؛ أي أنه يضم أحاديث الأحكام وغير أحاديث الأحكام ، ورتبه على نفس الترتيب الفقهي المعروف عموماً ، ويرى أنها صحيحة على شرط الشيخين أو على شرط أحدهما ، ولم يخرجاها في كتابيهما . وأحاديث أخرى يرى أنها مستوفية للشروط العامة للصحة من اتصال السند وثقة الرواة وعدم الشذوذ وعدم العلة .
…وربما أورد في كتابه بعض الأحاديث التي لا يرى أنها صحيحة ، ولكنه أوردها لبعض الاعتبارات ، كالأحاديث الستة التي أوردها في البيوع وصرح بخروجها عن شرط الكتاب كما تقدم .
3- مجمل منهج الحاكم في المستدرك وبيانه لدرجة الأحاديث وأنواعها عنده :
مقصودة بشرط الشيخين أو أحدهما :
…اختلف العلماء في مُراد الحاكم بشرط الشيخين أو أحدهما في كتاب "المستدرك" ، ومرجع هذا الاختلاف يعود إلى فهم كلامه في مقدمة المستدرك حيث قال : "وقد سألني جماعة من أعيان أهل العلم بهذه المدينة وغيرها أن أجمع كتاباً يشتمل على الأحاديث المروية بأسانيد يحتج محمد بن إسماعيل ومسلم بن الحجاج بمثلها" .(1/108)
…ثم قال بعد ذلك : "وإنا أستعين بالله على إخراج أحاديث رواتها ثقات قد احتج بمثلها الشيخان أو أحدهما ، وهذا هو شرط الصحيح عند كافة فقهاء أهل الإسلام : أن الزيادة في الأسانيد والمتون من الثقات مقبولة ، والله المعين على ما قصدته وهو حسبي ونعم الوكيل" .
…فقول الحاكم في الموضعين : "بمثلها" اختلف العلماء في مراده بها :
…فمنهم من قال : إن المقصود بمراده بالمثلية : هو نفس الرواة الذين أخرج لهم الشيخان أو أحدهما ، ويعبر عن ذلك بأنه أراد المثلية الحرفية .
…قال النووي : "إن المراد بقولهم : على شرطهما : أن يكون رجال إسناده في كتابيهما؛ لأنه ليس لهما شرط في كتابيهما" .
…وقال العراقي : "وهذا الكلام قد أخذه من ابن الصلاح حيث قال في شأن المستدرك : أودعه ما رآه على شرط الشيخين قد أخرج عن رواته في كتابيهما" .
…وقال العراقي أيضاً : "وعلى هذا عمل ابن دقيق العيد ، فإنه ينقل عن الحاكم تصحيحه لحديث على شرط البخاري مثلاً ، ثم يعترض عليه لأن فيه فلاناً ولم يخرج له البخاري ، وكذلك فعل الذهبي في تلخيص المستدرك " .
…ومن أمثلة المثلية الحرفية قول الحاكم : أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن إسحاق الخزاعي بمكة ، قال : حدثنا عبد الله بن محمد بن أبي مسرة ، قال : حدثنا عبد الله بن يزيد المقرئ، قال : حدثنا سعيد بن أبي أيوب ، قال : حدثني ابن عجلان عن القعقاع بن حكيم ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً"(107) .(1/109)
…فلو فرضنا أن الحاكم قال : إن هذا الحديث صحيح على شرط الشيخين - مع العلم أنه لم يصححه على شرط الشيخين - ؛ فمقصوده بالمثلية الحرفية أن يكون أبو صالح الراوي عن الصحابي قد أخرج له الشيخان في صحيحيهما ، وأن يكون الراوي عنه كذلك - القعقاع بن حكيم - أخرج له الشيخان ، وكذلك ابن عجلان يكون أخرج له الشيخان ، وسيعد بن أبي أيوب يكون أخرج له الشيخان ، وعبد الله بن يزيد المقرئ يكون أخرج له الشيخان ، ومن طبقة عبد الله بن يزيد المقرئ - كما سنذكر - ، هؤلاء هم الذين أخرج لهم الشيخان . أما من بعد ذلك فهم بعد البخاري ومسلم ؛ فهؤلاء لا يشملهم الحكم .
…على كل حال : يكون الحكم من هذه الطبقة من الطبقة الثالثة ؛ لأن أبا محمد عبد الله بن محمد هذا شيخ الحاكم ، وابن أبي مسرة شيخ شيخه ، وهاتان الطبقتان مستثنيتان عند الحاكم ، لكن من بعدهما هم الذين يشملهم الحكم ، فلابد أن يكون هؤلاء الرجال كلهم قد أخرج لهم البخاري ومسلم أنفسهم ، فهذه هي المثلية الحرفية .
…ومنهم من قال : " بل المراد بالمثلية : المثلية المجازية ، ويعنون بها أن المقصود وصف الرواة الذين احتج بهم الشيخان أو أحدهما ، وهذا يعني أن الحاكم يخرج لرواة لم يرو لهم الشيخان أو أحدهما ، ولكنهم موصوفون بتوثيق يماثل في درجته درجة من أخرج لهم الشيخان ".
…وقد قال العراقي رداً على ابن الصلاتح وابن دقيق العيد والذهبي في قولهم السابق : "وليس ذلك منهم بجيد ؛ فإن الحاكم صرح في خطبة المستدرك بخلاف ما فهموه عنه ، فقال :"وأنا أستعين الله تعالى على إخراجي أحاديث رواتها ثقات ، قد احتج بمثلها الشيخان أو أحدهما". فقوله : "بمثلها" أي بمثل رواتها لا بمهم أنفسهم ، ويحتمل أن يراد بمثل تلك الأحاديث، وإنما تكون مثلها إذا كانت بنفس رواتها ، وفيه نظر ".(1/110)
…ومن هنا نفهم أن العراقي يرجع أن مراد الحاكم أوصاف رواة الشيخين أو أحدهما لا نفس الرواة ، وعلى رأي العراقي يكون الحاكم قد أصاب في جملة كبيرة من الأحاديث ما دام الراوي ليس مضعفاً ولا متكلماً فيه ، بل هو ثقة ، فلا يضر حتى لو لم يخرج له الشيخان ، ويعتبر هذا الحديث على شرط الشيخين .
…وقد عارض الحافظ ابن حجر شيخه العراقي في هذا ، وقرر أن الحاكم في تصرفه في "المستدرك" يريد نفس الرواة .
…فقال ابن حجر : "ولكن تصرف الحاكم يقوي أحد الاحتمالين الذين ذكرهما شيخنا -رحمه الله- ، فإنه إذا كان عنده الحديث قد أخرجا أو أحدهما لرواته - قال : صحيح على شرط الشيخين أو على شرط أحدهما . وإذا كان بعض رواته لم يخرجا له - قال : صحيح الإسناد فحسب" .
…وقال ابن حجر أيضاً : "ويضح ذلك قوله في باب التوبة لما أورد حديث أبي عثمان عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً : "لا تنزع الرحمة إلا من شقي"(108) ، قال : هذا حديث صحيح ، وأبو عثمان هذا ليس هو النهدي ، ولو كان هو النهدي لحكمت بالحديث على شرط الشيخين " .
…فدل هذا على أنه إذا لم يخرج البخاري ومسلم لأحد رواة الحديث فلا يحكم به على شرطهما ، وهو عين ما ادعى ابن دقيق العيد وغيره .
…وقد قال أيضاً : "إن المراد بشرطهما : رواتهما مع باقي شروط الصحة " .
…ولكن ابن حجر وجد أيضاً أن هناك أحاديث متعددة في "المستدرك" قرر الحاكم تصحيحها على شرط الشيخين أو أحدهما . وفي رواتها من لم يخرج له الشيخان أو أحدهما ، فلم يسعه إلا أن يحمل ذلك على السهو والنسيان من الحاكم ؛ حيث قال : "وإن كان الحاكم يغفل عن هذا في بعض الأحيان ، فيصحح على شرطهما بعض مالم يخرجا لبعض رواته ، فيحمل ذلك على السهو والنسيان ، ويتوجه به حينئذ عليه الاعتراض" .(1/111)
…ثم إن ابن حجر استدل على ذلك بدليل قوي جداً حيث قال فيما معناه : "إن مما يؤيد أن الحاكم أراد نفس الرواة وليس من يماثلهم - أننا نجده أحياناً يقول : هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه فلو أراد المثلية المجازية لقال : على شرط الشيخين ؛ لأن شرط البخاري أقوى من شرط مسلم ، وشرط مسلم داخل فيه ، ولكنه لم وجد في بعض رجال الإسناد من أخرج له البخاري ولم يخرج له مسلم صححه على شرط البخاري ؛ لأنه يرى أن الحاكم منصب على نفس الرواة " .
أقسام الحديث في مستدرك أبي عبد الله الحاكم
القسم الأول :
…أحاديث أخرجها الحاكم بأسانيد احتاج البخاري ومسلم برواتها في صحيحهما ، وهذا هو الذي يقول عنه الحاكم : "إنه على شرط الشيخين" ويكون الحاكم قد أصاب في حكمه.
القسم الثاني :
…أحاديث أخرجها الحاكم ، وحكم عليها بأنها صحيحة على شرط البخاري ، وبعد البحث نجد أن رواة هذا الإسناد ممن احتج بهم البخاري ؛ فيكون الحاكم قد أصاب في حكمه أيضاً .
القسم الثالث :
…الذي قول فيه الحاكم : " صحيح على شرط مسلم " ، وبعد البحث والنظر في رواته نجد أن سنده صحيح على شرط مسلم قد احتاج مسلم بجميع رواته ؛ فيكون الحاكم هنا قد أصاب في حكمه أيضاً.
القسم الرابع :
أحاديث يخرجها الحاكم ويحكم عليها بالصحة على شرط الشيخين ، ونجد أن بعض رواتها لم يخرج لهم الشيخان احتجاجاً ، وإنما أخرجا لهم في الشواهد والمتابعات والمعلقات ؛ فيكون الحاكم قد أخطأ في حكمه على هذه الأحاديث .
القسم الخامس :
…أحاديث يخرجها الحاكم ويصححها على شرط البخاري ، فنجد في رواتها لم يخرج لهم البخاري احتجاجاً ، وإنما أخرج لهم في الشواهد والمتابعات ؛ فيكون قد أخطأ في حكمه على هذه الأحاديث أيضاً .
القسم السادس :(1/112)
…أحاديث يخرجها الحاكم ويصححها على شرط مسلم ، فنجد في رواتها من لم يحتج بهم مسلم ، وإنما أخرج لهم في الشواهد والمتابعات . ويكون قد أخطأ كذلك في حكمه على هذه الأحاديث .
القسم السابع:
…أحاديث يخرجها الحاكم ويصححها على شرط الشيخين ، وبعد النظر في أسانيدها نجد الشيخين لم يخرجا لرواتها على صورة الاجتماع .
…كأن يكون الحديث من رواية هشيم بن بشير عن الزهري ، فكل من الزهري وهشيم قد أخرج لهما البخاري ومسلم ، ولكنهما لم يخرجا لهما بهذه الصورة - أي من رواية هشيم عن الزهري- .
…والسبب في ذلك أن رواية هشيم عن الزهري ضعيفة ؛ فيكون البخاري ومسلم قد أخرجا للزهري لكن من رواية غير هشيم عنه ، وأخرجا كذلك لهشيم لكن من روايته عن غير الزهري . وهذا هو المقصود بصورة الاجتماع أي أن يكون الراوي قد أخذ عن شيخه عند البخاري ومسلم ، فيكون الحاكم هنا قد أخطأ ؛ لأن الشيخين لم يخرجا لهؤلاء الرواة بهذه الصورة عند الحاكم في المستدرك .
القسم الثامن :
…أحاديث يصححها الحاكم على شرط البخاري ن وبعد النظر في أسانيدها نجد أن البخاري قد أخرج لرواتها محتجاً بهم ، لكن ليس بصورة الاجتماع هذه التي أخرجها الحاكم.
…كأن يروي داود حصين حديثاً عن عكرمة ، فإن كلاً من عكرمة وداود بن حصين قد أخرج لهما البخاري ، ولكنه لم يخرج لهما بهذه الصورة ، وإنما أخرج لعكرمة من رواية غير داود غير داود عنه ، وأخرج لداود من روايته عن غير عكرمة . والسبب في ذلك أن رواية داود بن الحصين عن عكرمة رواية منكرة .
القسم التاسع :
…أن يخرج الحاكم حديثاً ويصححه على شرط مسلم ، وبعد النظر في سنده نجد مسلماً قد أخرج لجميع رواته ، ولكن ليس على صورة الاجتماع ، وإنما أخرج لهم بغير هذه الصورة .
…ومثاله كالمثال السابق بالنسبة لشرط البخاري مع اختلاف الرجال .(1/113)
…ومثاله : أن يروي الحاكم حديثاً من طريق حماد بن سلمة عن حميد الطويل . فكل من حماد بن سلمة وحميد الطويل قد احتج به مسلم ، ولكنه لم يحتج بالإسناد على هذه الصورة ، فإنه إنما احتج بحماد بن سلمة في روايته عن ثابت البناني ، وأما روايته عن غير ثابت فلم يحتج بها مسلم .
القسم العاشر :
…أن يخرج الحاكم أحاديث ويصححها ، ولكن ليس على شرط الشيخين ولا أحدهما، وبعد النظر نجد أن الحديث صحيح الإسناد كما قال الحاكم - رحمه الله - .
القسم الحادي عشر :
…أحاديث يخرجها الحاكم ويصححها على شرط الشيخين ويذكر أنهما لم يخرجا تلك الأحاديث ، وبعد النظر والبحث نجد الشيخين قد أخرجا تلك الأحاديث في صحيحيهما ، وأن الحاكم واهم في حكمة .
القسم الثاني عشر :
…أحاديث يخرجها الحاكم ويصححها على شرط البخاري ، ويذكر أنه لم يخرج تلك الأحاديث ، وبعد النظر والبحث نجد البخاري قد أخرج تلك الأحاديث .
القسم الثالث عشر :
…أحاديث يصححها الحاكم على شرط مسلم ، ويذكر أنه لم يخرجها ، وبعد النظر والبحث نجد مسلماً قد أخرج تلك الأحاديث .
القسم الرابع عشر :
…أحاديث يخرجها الحاكم ويذكر أنها صحيحة على شرط الشيخين أو أحدهما ، وبعد البحث نجد في رواتها من لم يخرج له الشيخان ولا أحدهما .
القسم الخامس عشر :
…أحاديث يخرجها الحاكم ويصححها على شرط الشيخين أو أحدهما أو يصححها فقط دون أن يذكر شرط الشيخين ، وبعد البحث نجد أنها حسنة الإسناد فقط . والسبب في ذلك أن الحاكم - رحمه الله - لا يفرق بين الصحيح والحسن .
القسم السادس عشر :
…أحاديث يخرجها الحاكم ويصححها على شرط الشيخين أو أحدهما أو يصححها فقط ، ونجد ، أنها ضعيفة الإسناد ، ولكنها ارتقت إلى الحسن لغيره بمجموع طرقها ، سواء أخرج الحاكم تلك الطرق أو لم يخرجها .
القسم السابع عشر :
…أحاديث يخرجها الحاكم ويصححها على شرط الشيخين أو أحدهما أو يصححها فقط وهي ضعيفة ، ليس هناك ما يشهد لها .(1/114)
القسم الثامن عشر :
…أحاديث يخرجها الحاكم ويصححها على شرط الشيخين أو أحدهما أو يصححها فقط، وهي شديدة الضعف .
القسم التاسع عشر :
…أحاديث يخرجها الحاكم ويصححها على شرط الشيخين أو أحدهما أو يصححها فقط، وهي موضوعة ، وفي "المستدرك" من هذا الصنف نحو مائة حديث . وقد ذكر الذهبي في "سير أعلام النبلاء" أنه أفرادها في مؤلف جمع فيه هذه الأحاديث المائة .
ما ألف حول المستدرك :
…هناك عدة مؤلفات من الكتب التي ألفت حول مستدرك الحاكم ، ومن أهمها كتاب "التخليص" للذهبي .
…وهذا الكتاب ألفه الذهبي في مقتبل عمره ، واستغرقت مدة تتأليفه ثلاثة أشهر وأحد عشرة يوماً ، وهي فترة وجيزة بالنظر إلى عدد أحاديث مستدرك الحاكم التي تقرب من تسعة آلاف وخمسمائة (9500) حديث .
منهج الذهبي في كتابه " التخليص " :
…نجد الذهبي في " التخليص " يحذف بعض الإسناد ويذكر بعضه ، ويذكر المتن ، وقد يختصره أو يتصرف فيه أحياناً ، ثم يذكر كلام الحاكم / فيتعقبه ، أو يقره ، وقد يسكب عنه.
منهج الذهبي في كتابه " التخليص " :
…نجد الذهبي في " التخليص " يحذف بعض الإسناد ويذكر بعضه ، ويذكر المتن ، وقد يختصره أو يتصرف فهي أحياناً ، ثم يذكر كلام الحاكم ، فيتعقبه ، أو يقره ، وقد يسكت عنه.
…وعندما يحذف الذهبي بعض الإسناد إنما يحذف الرواة الذين لا كلام له فيهم ، ويبقي في الإسناد الرجل الذي يريد أن يتكلم عنه ، أو على الأقل الرجل الذي اختلفت فيه عبارات الأئمة.
أولاً - بالأمثلة التي ذكرها يتضح منهج الذهبي :
…فإذا قال الحاكم مثلاً : " هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه" ، ووجد الذهبي أن كلام الحاكم صحيح حكاه وذكره ولم يتعقبه بشيء . فيقول بعد الانتهاء من الحديث : "خ-م" ، أي على شرط البخاري ومسلم .
…وإذا صححها الحاكم على شرط البخاري فقط ، ورأى الذهبي أن ذلك صواب قال : "خ" ؛ أي على شرط البخاري .(1/115)
…وإذا صححه الحاكم على شرط مسلم ، ورأى الذهبي أن ذلك صواب قال : "م"؛ أي على شرط مسلم .
…وإذا صححها الحاكم فقط ، ولم يذكر أنه على شرط الشيخين أو أحدهما ، قال الذهبي : "صحيح" .
…فهذه صور من أنواع موافقة الذهبي للحاكم على تصحيحه .
ثانياً : وأما تعقب الذهبي للحاكم فهو على صور أيضاً ومنها :
…أن الحاكم قد يصحح الحديث على شرط الشيخين .
…فيقول الذهبي " قلت : خ" .
فإذا جاء ي التخليص كلمة "قلت " فهي تعني تعقب الذهبي للحاكم .
فإذا قال : " قلت : خ " ، أي ليس الحديث على شرط الشيخين ، وإنما هو على شرط البخاري فقط .
وإذا قال : " قلت : صحيح : ، فهو يعني أن الحديث ليس على شرط الشيخين ولا أحدهما ، ولكنه صحيح فقط .
وإذا قال : "قلت : فيه فلان لم يخرجا له " ، فهو يعني أن الحديث ليس على شرط الشيخين ؛ لأنه فيه فلاناً ولم يخرج له الشيخان .
ومثله إذا قال : " فيه فلان لم يخرج له البخاري " أو مسلم " ، ومثله إذا قال الحاكم : "صحيح على شرط البخاري" أو "على شرط مسلم" .
وتعقبه الذهبي بأحد هذه التعقبات .
وقد يكون تعقب الذهبي بالنص على الشيخين أو أحدهما قد أخرجا الحديث ، ، فإذا قال الحاكم : "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه" ، وكان قد أخرجه الشيخان، نجد الذهبي في "التلخيص" يحكي كلام الحاكم فيقول : "خ-م" ، ثم يقول : "قلت : قد أخرجاه" ، أو أخرجه "خ" أي البخاري ، أو أخرجه "م" أي مسلم .
وقد يكون تعقب الذهبي للحكم بتضعيف الحديث ، فيحكم الحاكم على الحديث بالصحة على شرط الشيخين أو أحدهما أو بالصحة فقط ، ثم يقول الذهبي : "فيه فلان وهو ضعيف" أو "وهو واه" أو "له مناكير" ، أو يحكي الذهبي كلام العلماء فيه فيقول مثلاً:
" فيه فلان ، ضعفه أبو حاتم ، وقال النسائي : ليس بثقة" .(1/116)
وقد يكون تضعيفه للحديث بسبب انقطاع في سنده ، فيقول : "قلت : مرسل" ، وهو يعني بذلك - في الغالب - أن التابعي لم يسمع من ذلك الصحابي الذي روى الحديث . فهذا بالنسبة لبعض صورة تعقب الذهبي .
ثالثاً- وأما سكوت الذهبي :
فهو قليل في "المستدرك " ، وصورته أن يترك كلام الحاكم ؛ فلا يذكره ولا يتعقبه بشيء : ، وإنما يذكر الحديث فقط . وهكذا يكون سكوت الذهبي .
أوهام الذهبي في التلخيص :
…ومما ينبغي لنا أن نعلمه أن الذهبي قد وقع في أوهام كثيرة في "التخليص" ، ومنها في موافقاته للحاكم ، وأحياناً في كلامه على بعض الرواة ، وعُذره في ذلك أنه ألفه في مقتبل العمر. ومعلوم بأن صغير السن لم ينضج علمياً ، ويتضح هذا في اختلاف رأيه في بعض المسائل وفي بعض الرجال بين كتابه "التخليص" وبين كتبه المتأخرة كـ " ميزان الاعتدال" .
…وقد اعترف الذهبي في ترجمة الحاكم في " سير أعلام النبلاء" بأن عمله هذا يحتاج إلى إعادة نظر وتحرير .
تعقب الإمام الذهبي للحاكم :
…وأحياناً قد يعلق الحاكم الحديث عن رواه مشهور مثل شعبة بن الحجاج ؛ والسبب أنه يرى أن هذا الراوي هو مخرج الحديث .
فحينما يكون له على الإسناد كلام يعلق الحديث على الراوي الذي تدور عليه أسانيد الحديث مثل قوله : شعبة عن أبي بلج يحي سمع عمرو بن ميمون الأزدي .. إلخ .
…ولابد أن يبرز الراوي الذي يريد أن يتكلم فيه ، مثل قوله : شعبة عن أبي بلج قال : "م"؛ أي أن الحاكم صححها على شرط مسلم ، قال الحاكم : " هذا حديث صحيح لم يخرج في الصحيحين ، وهو على شرط مسلم بن الحجاج" .
…وطريقة الذهبي أن يختصر هذا الكلام كله ، فبدلاً من أن يقول : "قال الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه" ، بدلاً من ذل يحذف كل هذا الكلام ويعبر برمز صغير فقط هو "م" ، ومعناه أن الحاكم صححها على شرط مسلم .(1/117)
…وعندما قال : "م" قال : قلت : احتج "م" بأبي بلج . قلت -أي الذهبي- : لا يحتج به ، ووثق ، وقال البخاري : فيه نظر .
…أي أن الذهبي تعقب الحاكم على هذا الحديث ، فقد رأى الحاكم أن مسلماً احتج بأبي بلج هذا ، وتعقبه الذهبي بقوله : "قلت : لا يحتج به ، وقد وثق" ، أي يتهم من وثقه ويتهم من ضعفه .
…فالذهبي إما أن يقر الحاكم أن يتعقبه ؛ فإذا تعقبه فإنما يتعقبه بتصحيح أو بتضعيف أو بيان أمر من الأمور .
…فإذاقال الحاكم : هذا صحيح على شرط البخاري ، وحكى الذهبي كلام الحاكم ثم تركه ولم يعلق عليه ، قيل : إن الذهبي أقر الحاكم على تصحيحها لهذا الحديث ، وذلك مثل قول الذهبي : "يونس عن ابن شهاب عن ابن المسيب أن أبا بكر لما بعث الجيوش نحو الشام مشى معهم حتى بلغ ثنية الوداع ، قالوا : يا خليفة رسول الله تمشي ونحن ركُب "خ-م".
…ويقصد الذهبي بـ "خ - م" أن هذا كلام الحاكم ؛ أي أن الحاكم صححه على شرط البخاري ومسلم ، فيختصر الذهبي كل هذا الكلام بقوله بين قوسين : "خ-م" .
…وإذا لم يتعقب الذهبي الحاكم فيقال : إن الذهبي قد وافق الحاكم .
…أما إذا تعقبه ، كأن يكون الحاكم قد قال على الحديث : "إنه صحيح على شرط "البخاري ومسلم" ، فيقول الذهبي : "مرسل" .
…أي ليس الحديث على شرط البخاري ومسلم ، فهذا الحديث ضعيف ؛ لأنه مرسل.
…وقد أخرج الحاكم حديث "أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً"(109). ولم يصححه على شرط البخاري ومسلم ، ولا على شرط واحد منهما ، وإنما سكت عنه ، فقال الذهبي : "قلت : لم يتكلم عليه المؤلف ، وإنما سكت عنه وهو صحيح ، لذلك لم أره يتكلم على أحاديث جمة بعضها جيد ، وبعضها واهٍ ... إلخ" ، فقد تعقب الذهبي الحاكم في هذا الحديث بالتصحيح.
…ومن أمثلة ذلك أيضاً حديث عاصم عن زر بن حبيش قال(110) :(1/118)
…" خرجت مع أهل المدينة في يوم عيد ، فرأيت عمر بن الخطاب يمشي حافياً شيخاً أصلع آدم أعسر أيسر ، طوالاً مشرفاً على الناس كأنه على دابة ببرد قطري يقول : عباد الله ، هاجروا ولا تهجروا ، وليتق أحدكم الأرنب يخذفها بالحصى أو يرميها بالحجر فأكلها ، ولكن ليذك لكم الأسل والرماح والنيل" .
…فقد أخرج الحاكم هذا الحديث وسكت عنه ، فتعقبه الذهبي بقوله : "قلت " صحيح".
…فإذا أورد الذهبي كلام الحاكم مختصراً ولم يذكر بعده : "قلت" ، ولا ذكر كلاماً، فهذا يعني أنه يوافق الحاكم .
…وإذا قال : "قلت" ، فهذا يعني أن تعقب الحاكم .
الكلام على ما سكت عليه الذهبي وتوضيح الإشكال في ذلك :
…وأما إذا لم يذكر شيئاً ، لا كلام الحاكم ولا شيئاً من قبل نفسه ؛ فهذه هو الذي يُقال عليه "سكوت الذهبي" .
…ومن ذلك حديث زياد بن لبيد الأنصاري قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يُحدث أصحابه ، وهو يقول : " قد ذهب أوان العلم" قلت : بأبي وأمي ، وكيف يذهب أوان العلم ونحن نقرأ القرآن ونعلمه أبناءنا ويعلمه أبناؤنا أبناؤهم إلى أن تقوم الساعة ؟ فقال : "ثكلتك أمك يا ابن لبيد ، إن كنت لأراك من أفقه أهل المدينة ، وليس اليهودي والنصارى يقرءون التوراة والإنجيل ولا ينتفعون منهما شيء؟! .
…قال الحاكم : هذا حديث على شرط الشيخين ولم يخرجاه"(111) .
…ولم يذكر الذهبي كلام الحاكم في الهامشي ، ولم يعلق عليه . فمثل هذا يقال عنه : سكت الذهبي عنه .
…وهذه المسألة من المسائل التي يُخطئ فيها كثير من طلاب العلم في هذا الزمان . وأقول : في هذا الزمان ؛ لأنها لم تكن واردة من قبل .
…فبعض طلبة العلم في الحديث - وبعضهم كتب هذا في بعض المؤلفات - يقول :
…لا تقول : إن الذهبي يُوافق الحاكم ، فهذا الكلام غير صحيح ؛ لأن الذهبي لا يُمكن أن يخفى عليه مثل هذا الكلام ، ونحن نجد أن الذهبي إنما يحكي كلام الحاكم فقط ، فكيف تقولون إنه أقر الحاكم ؟(1/119)
…وللجواب على ذلك نقول : تختلف أحوال الذهبي مع الحاكم ؛ فالذهبي أحياناً يتعقب الحاكم ، وقد أوردت بعض أمثلة التعقب ، وأحياناً يحكي كلام حكم فقط ، فإذا حكاه يقال له : إقرار وموافقة ، وقد بينت مثاله ، وأما أنه لا يذكر كلام الحاكم إطلاقاً ولا يتعقبه بشيء ، فإن هذا سكون . فهي إذن ثلاثة أحوال : تعقب ، وإقرار ، وسكوت .
…نجد أن الذهبي سكت عن حديث عمارة بن حزم قال : رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبر ، فقال : "أنزل من القبر ؛ لا تؤذي صاحبه ولا يؤذيك "(112) .
…فهذا الحديث سكت عنه الحاكم وسكت عنه الذهبي أيضاً ، ولكن الذهبي حينما سكت عنه ، لم يسكت عنه فيما يظهر ، لأنه لا يحوره(113) فيه الكلام ، بل إنه علق الحديث عن ابن لهيعة ، وكأنه يشر إلى من يقف على الحديث إني أبرزت لك ابن هليعة فاعرف أنه هو الذي يعتبر علة هذا الحديث .
…فأحياناً قد يصنع الذهبي هذا الصنيع ، ويشر للعلة مجرد إشارة بطريقة تعليقه للحديث بهذه الصورة ، وأحياناً لا يصنع هذا .
…وبعض طلبة العلم الذين أشرت إليهم ، وبعض المؤلفين يرون ، أننا حين نقول عن حديث من الأحاديث : إن الذهبي وافق الحاكم وأقره عليه ، كأن يقول الحاكم : "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه" ، فيذكر الذهبي هذا الحديث في "التخليص" ويقول : "خ،م"، أي أن الحاكم قال : على شرط البخاري ومسلم ، ثم لا يتعقبه بشيء - هم يقولون حينذاك : لا يجوز لكم أن تقولوا : إن الذهبي وافق الحاكم . ونحن نقول : إن الذهبي وافق الحاكم في هذه الحالة .
…ومنشأ النزاع أنهم يقولون : الذهبي لم يصرح بموافقة الحاكم ، فهو لم يقل : أصاب الحاكم ، أو : إنني أوافق الحاكم ، ولم ينص في المقدمة على إنني إذا قلت كذا فأنا موافق للحاكم، فكيف تنسبون للذهبي ما لم يقله ؟! .(1/120)
نقول لهم : أولاً عرف دائماً أن الإنسان حين يحكي كلام عالم من العلماء فيم قام من المقامات ولا ينتقده ولا يتعقبه بشيء هو مقر له .
ومثاله : لو أن أحدكم سألني في مسألة من المسائل ، ولتكن مسألة الطلاق ثلاثاً ، فقال لي : ما تقول في الطلاق ثلاثاً ؟ فقلت له : الشيخ عبد العزيز بن باز يرى أنه يقع واحدة .
فأنا حينما أذكر كلام الشيخ ابن باز ولا أتعقبه بشيء يكون مقصودي موافقته على مثل هذا ، ولو لم يكن الأمر كذلك لقلت : الشيخ عبد العزيز يرى كذا ، وأنا أرى كذا ، هذا من الناحية اللغوية والناحية المنهجية عند العلماء .
ثم إننا إذا نظرنا لصنيع الأئمة من قبل الذهبي حتى هذا العصر الذي خرج فيه ، فإذا بنا نجد أن أحداً منهم لم يخالف هذا المنهج ، بل إن الزيلعي في " نصب الراية " - وهو تلميذ الذهبي - حينما ينتقل تصحيح الحاكم يقول في بعض الأحيان : " ووافقه الذهبي".
وقريب من هذا صنيع ابن الملقن، في طبقة الزيلعي ، ولكن لست أدري هل تتلمذ على الذهبي أم لا . يقول ابن الملقن في اختصاره(114) لكتاب الذهبي بعد أن ذكر حديث النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال :" كل سبب منقطع يوم القيامة غير سببي ونسبي ".
قال : أخرج الحاكم هذا الحديث وصححه وتُعقب عليه . ثم بعد ذلك بأوراق في ترجمة فاطمة - رضي الله عنها - من حديث المسور بن مخرمة مرفوعاً : "إن الأنساب تنقطع يوم القيامة غير نسبي وسببي وصهري" ، ثم قال الحاكم : صحيح ، وأقره الذهبي عليه .
هذا الكلام ابن الملقن ، وهو في طبقة تلاميذ الذهبي ، فهم كانوا عارفين فأن صنيع الذهبي هذا يعني إقراره للحاكم على هذا التصحيح على هذه الصورة ؛ لأننا حين نرجع إلى الحديث الذي ذكره نجد الحاكم قال : "حديث صحيح الإسناد" ، ثم حكى الذهبي كلامه فقال : صحيح ، أي أنه كلام الحاكم ولم يتعقبه بشيء ، فاعتبر ابن الملقن هذا إقراراً من الذهبي .(1/121)
ثم إن باقي الأئمة كذلك ، مثل الشيخ أحمد شاكر والشيخ الألباني وأمثال هؤلاء، بل حتى ابن حجر(115) والسيوطي ، ولكن لا أستطيع أن أنسب شيئاً ليس فيه مستمسك ، لكن من نظر في تخريجاتهم وجد من هذا جملة ، وهذا هو الذي أردت التنبيه عليه في هذه المسألة .
تفسير خاطئ لعدم إيراد الذهبي الحديث في الاختصار :
…يقول بعضهم : يعتبر سكوت الذهبي عن الحديث حينما لا يورد الذهبي الحديث إطلاقاً، فهذا هو الذي نعتبره سكوتاً للذهبي ، فيبدو أنهم ما ظفروا بمثل هذه الأمثلة التي ذكرتها من "المستدرك" ، ويمكن لمن تتبع الكتاب أن يعلم أن سكوت الذهبي هو بهذه الصورة .
أسباب عدم إيراده للحديث إطلاقاً :
…والذهبي قد لا يورد الحديث إطلاقاً لسبب من الأسباب الآتية :
السبب الأول :
…لا يكون الحديث في نسخة الذهبي من "المستدرك" ، وهذا وارد ؛ لأن المستدرك الذي بين أيدينا الآن طبع على بعض النسخ التي سقط منها أحاديث ، وبعض الأحاديث محقق مستدرك الحاكم لا يستطيع أن يثبته إلا من "التخليص" ، و "التخليص" يحذف بعض الإسناد ، إلا أن يثبته من " التخليص"(116) .
…فإذن بعض النسخ تسقط منها بعض الأحاديث ، فقد يكون الحديث سقط من نسخة الذهبي .
السبب الثاني :
…أن الذهبي قد يحذف الحديث ؛ لأنه يرى أنه مكرر ، ويصرح بذلك ، فيقول : "وقد أعاده الحاكم في الموضع الفلاني" ، فتأتي للموضع الفلاني ، فتجد الذهبي لم يأت بالحديث اختصاراً منه ، فلا داعي لتكرار الحديث .
السبب الثالث :
…وقد يكون الحديث سقط من نفس تخليص الذهبي ، فإن هذه النسخة التي طبعت سواء المستدرك أو تلخيص الذهبي نسخة سقيمة ، وتحتاج إلى إعادة تحقيق وإعادة نظر وضبط على أصول خطية جيدة . وعندي أمثلة كثيرة على سقط مهم جداً ، فأحياناً في تعقيبات الذهبي للأحاديث نجد الكلام سقط من هذه النسخة المطبوعة ، ولكنني أجده في النسخ الخطية ابن الملقن، فإذن هذه الأمور كلها تكشف هذا الكتاب .(1/122)
…وبذلك أكون قد انتهيت من الكلام باختصار على مستدرك الحاكم ، وأرجو أن يكون قد وضح ولو بعض الشيء .
…وعلى كل حال : هذا منهج ليس علمياً ، لكن الصواب أن يتكلم عن المناهج أنفسها، فيقال : من يتساهل في الأحاديث ويعتبر أن مجرد جمع الطرق الضعيفة ، أنه يكفي لجعل الحديث حسناً لغيره ، ويعتمد عليه ، فيمكن أن ينقد هذا المنهج كـ "منهج" ، لكن لا نجعل هناك قضية القضايا هي : منهج المتقدمين ومنهج المتأخرين !!
…إذن إطلاق العبارة بهذه الصورة خطأ ، ولكن يمكن أن يتكلم عن الشخص ، فالسيوطي إذا تناولته بالنقد أستطيع أن أقول : إن السيوطي متساهل ، بل له منهج غير جيد ، فحينما يرى حديثاً فيه ضعيف شديد - وهو الذي فيه رو متروك ، وما إلى ذلك - يقول : يمكن أن يرتفع ضعفه بتعدد طرقه ، وهذا منهج عند السيوطي ، وقد صرح به في ألفيته وفي "التدريب".
…نقول : هذا المنهج عند السيوطي منهج خطأ ، فننقد منهج السيوطي نفسه .
…ولو جئنا إلى ابن حجر ، نقول : ابن حجر في كلامه على الرواة في "التقريب" جيد، وفي نقده للأحاديث في "فتح الباري" لا بأس به ، ولكننا نجده في أجوبته عن "مشكاة المصابيح" في بعض الأماكن عنده شيء من التساهل .
…فيمكن أن يحدد كل إنسان بمنهجه الذي يسير عليه ، أما أن نعمم ، فنجعل السيوطي مثل ابن حجر مثل الذهبي مثل ابن كثير مثل ابن تيمية مثل ابن القيم ؛ فهذا خطأ ، وهم لا يستوون ، وليس كلهم واحداً في مناهجهم .
سنن ابن ماجه(117)
أسمه ونسبه ومولده :
…هو أبو عبد الله محمد بن زيد الربعي مولاهم - أي مولى ربيعة - ابن ماجة القزويني الحافظ .
…يقال له : ابن ماجة بإسكان الهاء ، وهو أول من نطقها ، فلا يقال في حال الوصل : ابن ماجة ، أو نحو ذلك .
…واختلفوا في هذه النسبة ، فمنهم من قال : إن والده يزيد يلقب بماجة ، ومنهم من قال إنه لقب أو اسم لامه ، ومنهم من قال : بل هو جده ، فينبغي أن يقال : محمد بن يزيد بن ماجه.(1/123)
…ولكن الأول الذي ذكرناه - وهو ان ابن ماجه لقب لوالده يزيد - هو الأثبت ، كما صرح بذلك بلدية الرافعي في كتابه " التدوين في ذكر أخبار قزوين"(118) .
…مولده - رحمه الله - في سنة تسع ومائتين للهجرة ؛ ولذلك هو من قدماء من ولد من أصحاب الكتب الستة ؛ ولأجل هذا قدم على النسائي في الذكر ، وإلا فكتاب النسائي أولى من كتابه .
رحلته في طلب العلم وأهم شيوخه :
…رحل - رحمه الله - في طلب العلم إلى خرسان والعراق والحجاز ومصر والشام وغيرها ن البلاد ، كعادة بقية المحدثين الذين يحرصون على الرحلة في طلب الحديث .
…وفي رحلته هذه سمع من العديد من المشايخ منهم :
…ابناأبي شيبة ، وهما عبد الله وعثمان ، ولكنه أكثر من الرواية عن عبد الله بن أبي شيبة الذي هو صاحب "المصنف" ، وكثراً ما يروي عنه .
…وروى كذلك عن أبي خيثمة زهير بن حرب، وهو أحد الأئمة المشهورين .
…وروى عن أبي مصعب الزهري الذي هو أحد رواة "الموطأ" عن الإمام مالك .
…وقد لازم الحافظ علي بن محمد الطنافسي فأكثر عنه .
…ومن قدماء شيوخ ابن ماجه راو يقال له : جُبارة بن مُغلس ، وهذا راو ضعيف(119)، ولوا ضعفه لكان لابن ماجه شرف كبير ؛ لأنه يروى أحاديث ثلاثية الإسناد من طريق هذا الشيخ .
…وعدد الأحاديث الثلاثية في سننه من طريق هذا الشيخ خمسة أحاديث ، وليس في سننه أحاديث ثلاثية من غير طريق هذا الشيخ ، ولكن هذه الأحاديث ضعيفة .
…والحديث الثلاثي هو الذي يكون بين ابن ماجه وبين النبي صلى الله عليه وسلم فيه - ثلاثة رجال هم : شيخه جبارة ، وشيخ شيخه ، والصحابي الذي هو أنس بن مالك ؛ ححلأن كل هذه الأحاديث - تقريباً - جاءت من طريقه .
تلاميذه ورواة السنن عنه :
- أبو الحسن علي بن إبراهيم القطان .
- سليمان بن يزيد ، وكلاهما من بلدة قزوين .
- أبو جعفر محمد بن عيسى المطوعي .
- أبو بكر حامد الأبهري .(1/124)
وهؤلاء الأربعة هم رواة السنن عن ابن ماجه ، ولكن لم تصلنا السنن إلا من رواية أبي الحسن بن القطان فقط ، وأما بقية الروايات فلا نعلم عنها شيئاً .
عرضه لكتابه السنن على أبي زرعة الرازي ومدى صحة ذلك :
…لما ألف - رحمه الله - هذه السنن قال : عرضت السنن على أبي زرعة الرازي ، فنظر فيها فقال : " أظن إن وقع هذا في أيدي الناس تعطلك هذه الجوامع وأكثرها" ، ثم قال : "لعل لا يكون فيه تمام ثلاثين حديثاً مما في إسناده ضعف" ، ونحو ذلك .
وهذه العبارة غريبة جداً من مثل أبي زرعة الرازي - رحمه الله تعالى - وذلك قال الذهبي في سر أعلام النبلاء(120) في ترجمة ابن ماجه :
…" كان ابن ماجه حافظاً ناقداً صادقاً واسع العلم ، وإنما غض من رتبه سننه ما في الكتاب من المناكير وقليل من الموضوعات ، وقول أبي زرعة - إن صح - (ومعنى ذلك أن الذهبي يشكك في صحة نسبة هذا القول إلى أبي زرعة) فإنما عنى بذلك - بثلاثين حديثاً- الأحاديث المطروحة الساقطة ، وأما الأحاديث التي لا تقوم بها حجة فكيرة ، ولعلها نحو الألف" .
وفاته - رحمه الله - :
…كانت وفاة ابن ماجه - رحمه الله تعالى - يوم الأثنين ، ودفن في يوم الثلاثاء لثمان بقين من رمضان في سنة ثلاث وسبعين ومائتين للهجرة .
…وقيل إنه توفي في سنة خمس وسبعين ومائتين للهجرة ، ولكن الأول هو الأصح ، وله من العمر أربع وستون سنة .
حصر ما في سنن ابن ماجه من الكتب والأبواب والأحاديث :
…ذكر الذهبي - رحمه الله - أن عدة كتب سنن ابن ماجه اثنان وثلاثون كتاباً ، ونقل عن أبي الحسن القطان قوله : في السنن ألف وخمسمائة باب .
…والحقيقة أننا إذا نظرنا إلى عدد الكتب في الطبعة التي بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي -رحمه الله- وإذا بعدد الكتب سبعة وثلاثون كتاباً عدا المقدمة ، وبالمقدمة يكون ثمانية وثلاثين كتاباً.(1/125)
…وأما عدد الأبواب فألف وخمسمائة وخمسة عشر باباً ، وأما عدد الأحاديث فأربعة آلاف وثلاثمائة وواحد وأربعون حديثاً ، ولذلك يكون العدد الذي ذكر عدداً تقريباً أو بسبب اختلاف النسخ .
…وهذه الأحاديث التي تزيد عن الأربعة آلاف وثلاثمائة وواحد وأربعين حديثاً منها :
…ثلاثة آلاف واثنان مخرجة عند بقية الخمسة - البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي - ، أو عند بعضهم .
…ومنها ألف وثلاثمائة وتسعة وثلاثون حديثاً زادها ابن ماجه على الخمسة ، وهذه الأحاديث التي تربو على أل فوثلاثمائة منها أربعمائة وثمانية وعشرون حديثاً اعتبروها صحيحة ، وستمائة وثلاثة عشر حديثاً ضعيفة ، ومنها تسعة وتسعون حديقاً ما بين واه ومنكر ومكذوب.
…وهذا فيما يظهر أنه بحسب تصحيح البوصيري لهذه الأحاديث ، فإن الحافظ البوصيري ألف كتاباً سماه " مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه" ، وأورد الأحاديث التي زادها ابن ماجه على بقية الخمسة وحكم عليها ، فبناء على أحكامه جاءت هذه الإحصائية .
…أما ىالشيخ الألباني ، فإنه أفرد الصحيح عن الضعيف في سنن ابن ماجه ، وبحسب حاكم الألباني يكون عدد الأحاديث الضعيفة في سنن ابن ماجه لا يزيد على ثمانمائة حديثاً ، ومن هذه الأحاديث الموضوعة حديث لا يشك في وضعه ، وهو حديث في فضل قزوين(121) ، أورده ابن ماجه - ركمه الله - ؛ لأن بلده قزوين .
مميزات الكتاب :
…هذا الكتاب من مميزاته التي ذكرت وحمدت له أنه حسن الترتيب ، وسرد الأحاديث فيه باختصار من غير تكرار .
…يقول صديق حسن خان في كتابه " الحطة" .
…وهذا ليس في شيء من الكتب الستة بهذه الصورة . أي تحفظه على تكرار الأحاديث ، حيث إنه لا يكررها في الغالب - ، وإن كان مسلم - رحمه الله - يمكن أن يكون قريباً من هذا ، فإن مسلماً لا يكرر الحديث في مواضع ، وأما تكراره للحديث في موضع واحد ، إن كان هذا هو مقصد صديق حسن خان ، فنعم .(1/126)
…وللمزي مقولة بالنسبة لهذه الأحاديث الزوائد - أي التي يتفرد بها ابن ماجه عن بقية الخمسة - اتكأ عليها كثير من العلماء ، حينما ذكر أن الغالب على ما ينفرد به ابن ماجه الضعف .
…وأيضاً نقل هذا القول الحافظ ابن القيم - رحمه الله - في كتابه "زاد المعاد"(122) نقله عن ابي العباس ابن تيمية - رحمه الله - ونقل أيضاً في نفس الموضع عن المزي قوله : "وكتاب ابن ماجه إنما تداولته شيوخ لم يتنوا به ، بخلاف صحيحي . " البخاري ومسلم" ، فإن الحفاظ تداولوهما واعتنوا بضبطهما وتصحيحهما . قال : ولذلك وقع فيه أغلاط و تصحيف".
وسبب إيراد ابن القيم لهذه العبارة أن هناك حديثاً أشكل على ابن القيم فأخذ ابن القيم يناقش هذه القضية ، ويشكك في أن الحديث جاءت عبارته هكذا صحيحة مستقيمة ، بل يقول: إن الخطأ فيما يظهر من نفس رواة السنن لابن ماجه .
وأما ما ذكره عن المزي وأبي العباس ابن تيمية من أن الغالب على ما ينفرد به ابن ماجه الضعف؛ فهذا مؤداه إلى أن كثيراً من الأحاديث التي يتفردبها ابن ماجه ضعيفة ؛ وهذا صحيح ، فكون هناك جملة تصل إلى نحو ستمائة حديث أو أكثر من هذا بقليل ، فهذا ولا شك عدد غير قليل.
ولكن لا يعني هذا أن جميع الأحاديث التي يتفرد بها ابن ماحه ليس فيها صحيح ؛ لأن هناك من غلط وحكم على إطلاقه، وقد تعقب ابن حجر - رحمه الله تعالى - هذه المقولة ، وقال ما معناه:
" بل هناك أحاديث نبهت عليها وهي صحيحة، وهي مما تفرد بها ابن ماجه - رحمه الله ".
…وقد بينت قبل قليل في الأحصائية أن هذه الأحاديث الزائدة حوالي أربعمائة وثمانية وعشرين حديثاً صحيحاً، وذلك بناء على قول البوصيري ، وإن كان هناك مجال للأنتقاد.
تنبيه:(1/127)
…ومن الأمور التي يحسن التنبيه عليها بالنسبة لسنن ابن ماجه أن بعض الناس يظن أن جميع الأحاديث المروية قي هذا الكتاب المطبوع المتذاول بأيدي الناس من رواية ابن ماجه ، والحقيقة أن هناك بعض الذيادات التي زداها أبو الحسن القطان الذي هو الراوي للسنن عن ابن كاجه ، فقد زاد على كتاب ابن ماجه .
…وهذا يحصل في بعض كت السنن؛ فبعض الناس أيضاً يخطىء حينما يظن أن كل حديث مروى في مسند الإمام أحمد - رحمه الله - من رواية الإمام أحمد ؛ فيقول : أخرجه الإمام أحمد في المسند ، وإنما هذا الحديث لا يكون رواه الإمام أحمد إطلاقاً ؛ لأن هناك زيادات لعبد الله ابن الإمام أحمد ، وهناك زيادات قليلة للقطيعي ، ولكن غالب الزيادات لعبد الله ابن الإمام أحمد .
…فلا بد إذن من التركيز والنظر في الإسناد ، فإذا جىء بالإسناد في المسند المطبوع هكذا :" حدثتا عبد الله قال :حدثني أبي ......" فهذا هو الذي يكون من المسند.
…وأما إذا قال :" حدثنا عبد الله قال : حدثنا فلان " وسمى شيخاً غير أبيه ، فهذا يعتبر من زيادات عبد الله ابن الإمام أحمد .
وكذلك لابد حين التطلع ي سنن ابن ماجه من التنبيه إلي أن زيادات أبي الحسن القطان لا تنسب لابن ماجه ، فقد ألف الدكتور مسهر الديني - حفظه الله - رسالة في جمع هذه الزيادات والتنبيه عليها ، والرسالة مطبوعة بعنوان " زيادات أبي الحسن القطان علي سنن ابن ماجه "، وعدد هذه الزيادات أربع وأربعون زيادة .
ولكن ليس كلها أحاديث مرفوعة إلي النبي صلي الله عليه وسلم ، بل إحدى هذه الزيادات من كلام الشافعي -رحمه الله - في توجيه سؤال وجه إليه عن السبب من كون بول الغلام يرش منه وبول الجارية يغسل ، فنبه الشافعي - رحمه الله - إلي أن الأصل يعود إلي أن الغلام عبارة عن ذكر ، والذكر خلق من طين ، وأن الجارية خلقت من لحم ودم ، لأنها خلقت من آدم كما قال الله - جلا وعلا - : جعل منها زوجها }(123).(1/128)
كذلك أيضاً من هذه الزيادات زيادة من الحسن القطان في تفسير لفظة غربية ، وهي قوله: " قال أبو الحسن القطان : العلادي : العصا".-
…وهذه الزيادة طفيفة ، وباقي هذه الزيادات يوردها في الغالب ، لأن هذا الحديث تحصل له بعلو ، أي مثله مثل المستخرجات تماماً ، فنجد - مثلاً - مثل المستخرجات تماماً ، فنجد - مثلاً - حينما يأتي أبو عوانة الذي توفي بعد وفاة مسلم بن الحجاج بنحو بستين عاماً ، يفروي حديثاً شترك مع مسلم في شيخه ، فهذا يعتبر علو إسناد .
…فأبو الحسن القطان حينما يجد حديثاً يرويه ابن ماجه عن شعبة بواسطة راو ، ويحصل له هو أيضاً الحديث بواسطة راو غير شيخ ابن ماجه ، فنجد أنه يأتي بهذا الحديث أيضاً بهذه الصورة ليدلل على أن هذا الحديث تحصل له بعلو إسناد ، برغم أنه من تلاميذ ابن ماجه ، فإنه ساوى شيخه ابن ماجه في علو هذا الإسناد .
إضافة سنن ابن ماجه للكتب الخمسة :
…لم يخالف أحد من العلماء في كون الكتب الخمسة هي دواوين الإسلام المشهورة ، ولكن اختلفوا في سادس هذه الكتب ، فنجد أن أول من أضاف سنن ابن ماجه لهذه الخمسة ليصبح سادسها هو أبو الفضل محمد بن طاهر بن الفيسراني ، وهذا في كتابين من كتبه ؛ الأول : هو الذي ألفه في أطراف الكتب الستة ، وجعل سادس هذه الكتب سنن ابن ماجه ، والثاني : رسالة في شروط الأئمة الستة ، وجعل سادسها ابن ماجه ؛ فيعتبر هو أول من أضاف سنن ابن ماجه -رحمه الله - للكتب الستة .
…ثم تبع أبا الفضل على ذلك من جاء بعده ، فتبعه ابن عساكر حينما ألف كتاباً في "أطراف السنن الأربعة" ، وهو الذي ضمه المزي إلى زيادات خلف الواسطي ، وأبي مسعود الدمشقي ليصبح كتاب " تحفة الأشراف" .
…كذلك الحافظ ابن عساكر له كتاب في شيوخ الأئمة الستة ، وهو "المعجم المسند"، وقد ذكر فيه سادس هؤلاء الأئمة ابن ماجه رحمه الله .(1/129)
…ثم تبعها أيضاً الحافظ عبد الغني المقدسي حينما ألف كتابه المشهور " الإكمال في أسماء الرجال" الذي أصبح عمدة لرجال الكتب الستة ، وهو الكتاب الذي هذبه المزي -رحمه الله- في كتابه " تهذيب الكمال" ، ويعتبر المزي أيضاً ممن جرى على نفس الوتيرة ، فتبع هؤلاء في اعتبار سنن ابن ماجه سادس الكتب الستة .
أول من أخرج ابن ماجه من الكتب الستة :
…وأما من خالف ، فأول من نعرفه خالف في هذا هو رزين بن معاوية العبدري في كتابه "تجريد الصحاح والسنن " ، وهو الأصل لكتاب "جامع الأصول" لابن الأثير ، فرزين وابن الأثير عدا سادس الكتب الستة "الموطأ" للإمام مالك لا سنن ابن ماجه .
…وإنما قدم من قدم سنن ابن ماجه على موطأ الإمام مالك لكثرة زوائد ابن ماجه على الكتب الخمسة ، بخلاف موطأ الإمام مالك ، فإنه ليس كثير زوائده ، بل قد يكون ليس له زوائد على الكتب الخمسة .
…والمقصود بالزوائد : الأحاديث المرفوعة ، أما بالنسبة للآثار فهذا أيضاً جعلوه من جوانب التفضيل لسنن ابن ماجه على موطأ الإمام مالك ؛ لأن موطأ الإمام مالك يشتمل على موقوفات على الصحابة ، ومقطوعات على التابعين ، وعلى باغات ؛ وهي الأحاديث التي يقول فيها ملك : بلغني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا ، أو عن ابي بكر كذا ، أي أنه يذكر الحديث بلا إسناد ، وكذلك المراسيل ، فإنها كثيرة أيضاً في موطأ الإمام مالك ، فلهذا السبب ، وللسبب السابق ، وهو وجود الزيادات عن ابن ماجه - قدم من قدم سنن ابن ماجه على موطأ الإمام مالك .
…أما من خالف فاعتبر موطأ الإمام مالك هو سادس الكتب الستة ، فلأجل أن غالب ما ينفرد به ابن ماجه هو من الأحاديث الضعيفة ، فلهذا غضوا الطرف عن سنن ابن ماجه ، واعتبروا موطأ الإمام مالك هو سادس هذه الكتب .(1/130)
…مع العلم بأن هذا أيضاً ليس محل الخلاف ؛ بل هناك من خالف واعتبر سادس الكتب الستة هو سنن الدرامي أو مسند الدرامي ، وهذا أول من أثاره مغلطاي ، وتبعه على ذلك العلائي ، فقالوا : ينبغي أن يكون سادس الكتب الستة مسند الدرامي أو سنن الدرامي ، ولكن مغلطاي زاد على ذلك ، فزعم أن الدرامي من ألف في الصحيح ، وأنه ممن سبق البخاري إلى التأليف في الصحيح ، فهو يقول : ليس البخاري هو أول من ألف في الصحيح المجرد . وانتقده على ذلك الحافظ ابن حجر ، ومن أراد أن يطلع هذا فليطالعه في كتاب "النكت" .
…وقد دلل ابن حجر على أن سنن الدرامي يمكن أن تعتبر صحيحة ، وأن مغلطاي حينما أثار هذه الدعوى إنما اعتمد على عبارة جاءت على طرة نسخة من سنن الدرامي ، فقد ظن مغلطاي أنها بخط الحافظ المنذري ، وإنما هي بخط راو آخر ليس من أهل العلم الذين يعتمد على أقوالهم ، ولكن خط يشبه خط الحافظ المنذري ؛ لذلك لم يعد أحد سنن الدرامي مما ألف في الصحيح المجرد .
…فلذلك خطأ الحافظ ابن حجر مغلطاي على مقولته هذه ، مع اعتراف الحافظ ابن حجر بان سنن الدرامي أولى بالتقديم من سنن ابن ماجه ؛ لأن الضعيف في سنن الدرامي أقل بكثير من الضعيف في سنن ابن ماجه .
…ولكن الذي يظهر أن مثل ابن طاهر المقدسي لم يتلفت إلى سنن الدرامي لأجل احتوائها على الآثار الموقوفة والمقطوعة ؛ لذلك غض الطرف عنها .
…وإنما قدموا سنن ابن ماجه ؛ لأنها متضمنة للحديث المرفوع ولجودة ترتيبها ولجودة سياقه للأحاديث واختصاره للمتون ، ولبعض الجوانب قدمت سنن ابن ماجه مع ما فيه من الأحاديث الضعيفة ، بل حتى الموضوعة ، ويذكر الحافظ الذهبي أن هذا هو الذي حطّ قيمة سنن ابن ماجه عن بقية الكتب الستة ، وإلا ففيها جوانب يمكن أن تفضل بها هذه السنن على غيرها.
طبعات سنن ابن ماجه :(1/131)
…وأختم كلامي هذا بالكلام عن طبعات سنن ابن ماجه ، فأقول : طبعت سنن ابن ماجه عدة مرات ، من أهمها طبعة مع شرح السندي ، وهي طبعة قديمة .
…والطبعة المشهورة هي التي بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي ، وإنما اشتهرت ؛ لأنها تتلاقى مع ترقيم المستشرقين في المعجم المفرس .
…وكذلك هناك طبعة أخيرة ، وهي التي حققها الدكتور محمد مصطفى الأعظمي ، ولكن هذه الطبعة تنقص حوالي مائتي حديث عن الطبعة التي حققها محمد فؤاد عبد الباقي ، وكنت قد سألته عن هذا ، فقال : أنا أخذت رواية من روايات سنن ابن ماجه ، وهي رواية معتمدة على نسخة موثقة صحيحة ، فأردت أن يكون هذا نموذجاً من الأعمدة التوثيقية لبعض كتب السنة ؛ لأنه كانت هناك مناقشة مع بعض الناس في ضرورة إعادة النظر في كتب السنة ، وضرورة توثيق أصولها وضبط نصوصها ، فكأن من تناقش معه أثار عليه دعوى ، وقال : أنت تريد أن تشكك في أصول السنة وما إلى ذلك ، فقال : إنني أردت أن أقدم نموذجاً من الفكرة التي دعوت إليها، فاخترت أصغر الكتب ، وهي سنن ابن ماجه ، وأخذت نسخة موثقة فنشرتها .
…وقد ذكر أن هذه النسخة كونها تنقص عن النسخة المطبوعة حوالي مائتي حديث أو نحو ذلك ، فلست أنفي أن تكون تلك الأحاديث الزائدة من سنن ابن ماجه ، ولكني قلت : هذه نسخة من نسخ سنن ابن ماجه ، أما من أراد أن يضيف الأحاديث الباقية فعليه توثيقها. هذا موجز ما ذكرها لي .
شروح سنن ابن ماجه :
…بالنسبة للشروح لسنن ابن ماجه ، فتعتبر أكثر من الشروح على سنن النسائي ، فقد اعتنى بها الكثير من الأئمة ، ولكن من أهمهم شرح لابن الملقن ، وشرح للسيوطي أسمه "مصاحب الزجاجة" وشرح للسندي .
…وهناك ما يشبه التعليقات بعنوان : "ما تسمى إليه الحاجة لمن يطالع سنن ابن ماجه" لأحد الهنود .(1/132)
…وهذا تقريباً أبرز ما هناك ، مع الإشارة إلى تلك الزوائد التي أخرجها البوصيري - رحمه الله- في كتابه " مصباح الزجاجة في زوائدة سنن ابن ماجه" وهذا ما يتعلق بالكلام على سنن ابن ماجه .
…أسأل الله - جعل وعلا - التوفيق والهداية . وصل اللهم وسلم على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .
سنن النسائي
…سنن النسائي إحدى الكتب الستة التي أشتهرت عند القاصي والداني .
أسمه ومولده :
…مؤلف هذا الكتاب هو أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي بن سنان بن بحر الخرساني النسائي القاضي .
…ولد - رحمه الله - في مدينة نسا في عام خمسة عشر ومائتين ، وقيل في عام أربعة عشر ومائتين للهجرة .
…والاختلاف جاء بسبب وراية رويت عنه ، وبسبب كلام لتلميذه أبي سعيد بن يونس صاحب تاريخ مصر ؛ فأبو سعيد ذكر أن مولده في عام خمسة عشر أو أربعة عشر ، والنسائي نفسه لما سئل عن مولده متى ، قال : يشبه أن يكون في عام خمسة عشر ومائتين ، فهو إذن لم يقطعه ولم يجزم بهذا ؛ لأنه لم يضبط تاريخ مولده ، لكنه استدل على ذلك بأنه رحل إلى قتيبة بن سعيد في عام ثلاثين ومائتين ، وكأنه يستشف أن عمره إذ ذاك كان خمسة عشر عاماً ، فيكون مولده تقريباً في حدود عام خمسة عشر ومائتين .
طلبه للعلم :
…طلب - رحمه الله - العلم منذ الصغر ، وهذا أفاده كثير جداً ، كما سنشير إليه. فنجده رحل إلى قتيبة بن سعيد في سنة ثلاثين ومائتين ، وأقام عنده ولازمه أكثر من سنة ؛ ولذلك يعتبر إسناد النسائي عالياً في بعض الشيوخ ، ومن جملتهم قتيبة بن سعيد الذي كان مولده في عصر مبكر ، فقتيبة بن سعيد كان مولده في سنة تسع وأربعين ومائة ، فهو عاش تقريباً حوالي مائة عام، فظفر النسائي بأسانيد عالية من هذا الباب ، ومن جملتها أحاديث ابن ليعهة التي يرويها عنه تقيبة بن سعيد كما سنشير إلى ذلك أيضاً .(1/133)
…ثم إنه لم يقتصر في السماع على قتيبة بن سعيد ، بل سمع من أئمة آخرين ، مثل إسحاق بن راهويه ، وأحمد بن منيع ، وعلي بن حجر السعدي ، ومن أبي داود ، والترمذي ، ومن أبي حاتم ، وأبي زرعة الرازيين ، ومن محمد بن يحيى بشار ، ومحمد بن المثنى ، وهناد بن السرى ، وأمثال هؤلاء الشيوخ الذين أدركم وروى عنهم ، ومعظمهم من شيوخ أصحاب الكتب الستة ، وبخاصة البخاري ومسلم . فإذن هو شارك البخاري ومسلم في كثير من شيوخهم ؛ ولذلك ظفر بالأسانيد العالية .
روايته عن البخاري :
…اختلف هل سمع النسائي من البخاري وروى عنه أم لا ؟ فنجد المزي في تهذيب الكمال قطع بأنه لم يرو عن البخاري ، وأن الذي وقع في السنن حينما قال : حدثنا محمد بن إسماعيل، وقيل عنه البخاري ، أن هذا من تصرف بعض الرواة ، والحقيقة أنه لم يسمع من البخاري ، وهذه وجهة نظر المزي .
…لكن بعد التتبع وجد أن فعلاً روى عن البخاري ، ومن أراد الإفاضة في هذه المسألة فليرجع كتاب " بغية الراغب المتمني في ختم النسائي برواية ابن السني " للسخاوي ، فإنه بين هذه المسألة ، وأظن كذلك أن " بشار معروف" في تعليقه على "تهذيب الكمال" وضح هذا أيضاًَ.
…وكان من أدب الطلب عندهم في ذلك العصر الرحلة في طلب الحديث ، وهذا الذي حرص عليه وصنعه النسائي ، وهو الذي أفاده في الحصول على الأسانيد العالية ، فإنه -رحمه الله- رحل إلى عدة بلدان منها خراسان والحجاز ومصر والعراق والجزيرة والشام ، وسمع من كثير من الشيوخ ، وكان حريصاً على التلقي ، حتى وإن كان يصاحب ذلك شيء من العناء بل ربما المذلة .
روايته عن الحارث بن مسكين من وراء الستار :(1/134)
…قدم - رحمه الله - على الحارث بن مسكين ، وسمع منه ، ولكنه لم يستطع السماع منه مباشرة - أي بحضور الحلقة كما يحضرها بقية التلاميذ - ، وإنما كان يستمع من وراء ستار؛ ولذلك نجد النسائي في سننه إذا روى عن الحارث بن مسكين يقول : قرئ على الحارث بن مسكين وأنا أسمع ، أو يأتي بصيغة مثلاً : أخبرنا الحارث بن مسكين قراءة عليه وأنا أسمع.
…فهو يشير بهذا الصنيع إلى أنه لم يأخذ عن الحارث بن مسكين ، كما أخذ عن بقية الشيوخ الذين لا يقيد ذلك بالقراءة عليهم حال سماعهم .
…وقيل في السبب الذي دعى النسائي إلى عدم السماع من الحارث بن مسكين مباشرة، أنهما كان قاشيين ، وحصل بينهما شيء من الخلاف الذي يحصل فيه الغالب بين الأقران ؛ ولذلك لم يستطيع النسائي الحضور إلى حلقة الحارث بن مسكين لما بينهما من الشحناء .
…وقيل سبب غير ذلك ، وهو أن الحارث بن مسكين - رحمه الله - كان مؤاخذاً من قبل السلطان في عصره ، ويبدو أنه كان متخوفاً من السلطان ، فدخل عليه النسائي بزي أنكره، ولم يكن يعرفه ، فقد كان النسائي لابساً لقلنسوة وثياب تشبه ثياب أعوان السلطان ، فخشي الحارث بن مسكين أن يكون السنائي من أعوان السلطان ، فخشي أن يكون قد دُس عليه لينقل كلامه إلى السلطان ، فمنعه من الحضور إلى الحلقة ؛ فأصبح يحضر من رواء الستار ويسمع ويقيد.
ذكر الوقيعة التي بينه وبين أحمد بن صالح المصري :
…سمع - رحمه الله - في رحلته إلى مصر من أحمد بن صالح المصري الذي هو أحد الأئمة الذين في طبقة الإمام أحمد ، وهو إمام مشهور كثرت عبارات العلماء في الثناء عليه ، إلا أن النسائي بدلاً من الرواية عن ذلك الإمام والثناء عليه ، انقلب على الضد ، فأصبح ينال من أ؛مد بن صالح المصري ، ويتكلم فيه ، ويتهمه بالكذب ، إلى غير ذلك من العبارات التي وردت عن النسائي في حق هذا الإمام .(1/135)
…وقبل أن أذكر السبب في ذلك أذكر بقصة أبي داود عندما كان حريصاً على السماع ، بل حتى على إسماع أبنائه من الشيوخ الذين يستطيع أن يسمعهم منهم ، ومن ذلك أنه رحل بابنه عبد الله إلى أحمد بن صالح المصري وأحضره معه في الحلقة ، وقد وضع أبو داود لابنه عبد الله لحية مستعارة ؛ لأن أحمد بن صالح لم يكن يسمح للمردان بالحضور إلى حلقته .
…وقد وردت القصة بلفظ آخر ، ولعله من هو الأصوب ، وهو أنه قيل : إن أبا داود أحضر ابنه وهو أمرد ، ولم يكن وضع له هذه اللحية التي قيل إنه وضعها له ، وحينما أحضره رفض أحمد بن صالح أن يحدث حتى يخرج أبو داود ابنه ، فقال له أبو داود : إنه أحفظ وأذكى من الملتحين فامتحنه ، فامتحنه أحمد بن صالح فوجده أهلاً للتحمل ، فسمح له باستثناء .
…وقد قيل إن أحمد بن صالح كان عسراً وشديداً في الإسماع ، لا يسمع أحداً حتى يأتيه برجلين يزكيانه ، فيحتاج أن يأتي قبل ذلك فيستأذن ويأتي بمن يزكيه ، وكان لا يسمح للمردان أيضاً ؛ ومع ذلك قالوا فيه عسر وشدة في خلقه ، بل وصف - رحمه الله - بشيء من العجب والتيه ؛ كل هذا يبدو أنه كان عاملاً في الوقيعة التي وقعت بينه وبين النسائي .
…فيقال : إن النسائي جاء وحضر على اعتبار أنها كبقية حلقات الشيوخ ، فلما جاء رفض أحمد بن صالح المصري إسماعه ، لأنه يعتبر دخل البيوت من غير أبوابها في نظر أحمد بن صالح المصري ، فطرده من حلقته ، فوقع هذا في نفس السنائي ، فأصبح يتكلم في أحمد بن صالح المصري ؛ ولذلك قال العلماء : إنه لا يسمع كلام النسائي في أحمد بن صالح المصري لهذا السبب.
…ثم إنه - رحمه الله - في حال الرحلة يبدو أنه راق له المقام في مصر ؛ فأقام فيها واستوطنها حتى توفاه الله .
…ولقد عمر النسائي - رحمه الله - حيث عاش قريباً من تسعين عاماً ، وقد توفاه الله في سنة ثلاثمائة وثلاثة للهجرة .(1/136)
…وكان النسائي قد ظفر بأسانيد عالية مما جعل التلاميذ يحرصون على السماع من النسائي وعلى لقيه .
…أي أن هناك عاملين أساسيين :
…العامل الأول : أن النسائي عمر فعاش مدة تقرب من تسعين عاماً .
…العامل الثاني : أنه طلب العلم في الصغر ، أي ليس كالترمذي الذي أشرنا إلى أنه تأخر طلبه للعلم ؛ فالنسائي طلب العلم في الصغر ، ولم طلب العلم ظفر بأسانيد عالية مثل قتيبة بن سعيد ، وإسحاق بن راهويه ، وأمثالهم ؛ فهذه الأسانيد العالية التي حصلت للنسائي جعلت طلبة العلم يحرصون على السماع منه ؛ لأنهم سيظفرون أيضاً بعلو الإسناد .
تلاميذه :
…نجد كبار الأئمة تتلمذوا على النسائي ، ومن هؤلاء : ابن حبان صاحب "الصحيح" ، والعقيلي صاحب "الضعفاء" ، وابن عدي صاحب "الكامل" ، والدولابي - ومع العلم بأنه يعتبر من أقران النسائي ولكنه سمع منه - وهو صاحب كتاب الأسماء والكنى " ، والطحاوي صاحب "شرح معاني الآثار" و "مشاكل الآثار" وصاحب "الطحاوية" ، وأبو عوانة صاحب "المستخرج على صحيح مسلم" ، وأبو سعيد بن يونس صاحب " تاريخ مصر " ، والطبراني ، الإمام المشهور- صاحب "المعاجم الثلاثة" ، وابن السني صاحب "عمل اليوم والليلة" وكتاب القناعة ، والذي هو أحد رواة السنن ، كما سيأتي إن شاء الله ، وغير هؤلاء كثير .
كتابه " خصائص علي " :
…وذات مرة دخل النسائي - رحمه الله - دمشق ، فرأى كثيراً من أهلها منحرفاً - كما يقال - عن علي ، أي ليس لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - مكانه عندهم ، بل ربما تناوله بعضهم بالوقيعة ؛ فألف كتاب " خصائص علي " فذكر فيه فضائل علي - رضي الله عنه - رجاء أن يهديهم الله .(1/137)
…وقد أنكر عليه بعض الناس ؛ لأنه ترك الشيخين - أبا بكر وعمر - وصنف في علي ؛ فألف بعد ذلك كتاب " فضائل الصحابة " ، ولكنه لم يخرج في فضل معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - شيئاً ، والسبب أنه لم يجد في فضله شيئاً على شرطه ، بل الأحاديث التي وردت في فضل معاوية - رضي الله عنه - لا تصح .
…فقيل : إنه تكلم بكلام عن معاوية أخذ عليه هذا الكلام ؛ فتناوله أهل دمشق بالضرب ، فأخذوا يدفعون في جنبيه ، ويبدو أنهم أيضاً ضربوه في خصيتيه حتى أخرجوه من المسجد الذي كان فيه ، فأثر فيه هذا الصنيع ؛ فقال : احملوني إلى مكة ، فحمل وتوفي رحمه الله .
وفاته :
…قيل : إنه توفي بالرملة في فلسطين ، وقيل : إنه توفي بمكة ، والخلاف جاء بين أبي سعيد بن يونس الذي هو أحد تلاميذ النسائي ، وبين الدار قطني ، فالدار قطني يرى أنه توفي بمكة ، وأبو سعيد يرى أنه توفي بالرملة . وبعض العلماء - مثل الذهبي - رجح قول ابن يونس ؛ لأنه تلميذ للنسائي ، أما الدار قطني فلم يدرك النسائي .
…كان وفاته - رحمه الله - في سنة ثلاث وثلاثمائة للهجرة ، وذلك في يوم الاثنين لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر صفر .
تقديمه على مسلم صاحب الصحيح :
…عرف النسائي بالحفظ والإتقان حتى إن الذهبي قدمه على مسلم ، ويرى الذهبي أن النسائي أحفظ من مسلم صاحب الصحيح .
…وكما قلت : إنه ظفر بأسانيد عالية ؛ فحرص طلبة العلم على التلقي عنه .
…ويظهر أنه - رحمه الله - كان موسر الحال ، ونقل عنه أ،ه كان متزوجاً بأربع نسوة، ويضيف إليهن في الغالب سرية من السرايا ، فكان يقسم لخمس ، وذكروا كلاماً في هذا لا داعي لذكره في هذا الموضع .
عبادته واحترازه من السلطان :(1/138)
…وكان مع هذا صاحب عبادة ، وقد ذكر وأنه خرج مرة مع أمير مصر لفداء بعض المسلمين الذين وقعوا في الأسر ، فوصفوا من شهامته - رحمه الله - وحرصه على إقامته لسنن المأثورة واحترازه عن مجالس السلطان الذي خرج معه ما جعل العلماء يُعجبون به ويثنون عليه .
…وكان - رحمه الله - يصوم مثل صيام داود عليه السلام ؛ يصوم يوماً ويُفطر يوماً ، ومع هذا كان في وجهه شيء من البهاء والنضرة ، حتى إ، بعضهم كان يظن أن النسائي يشرب النبيذ؛ لأن النبيذ يُعطي الإنسان عافية وصحة في جسمه ، لأجل نسبة الحالي التي فيه ، لكن لما سئل النسائي أجاب بأنه يرى حُرمة النبيذ ، وليس ممن يتوسع في ذلك .
توليه القضاء :
…وكان - رحمه الله - قد تولى القضاء في مصر وفي حمص .
مؤلفاته :
…توفى - رحمه الله - بعد أن ألف مؤلفات عديدة مهمة جداً ، منها :
- كتاب " الكنى " ، وهذا الكتاب لم يصل إلينا .
- كتاب " الضعفاء والمتروكين " وهو مطبوع .
- كتاب " حديث مالك بن أنس " ، وقد جعل المزي أحاديث هذا الكتاب من ضمن الأحاديث التي ذكرها في " تحفة الأشراف" ، ورجال أسانيده من ضمن الرجال الذين تطرق إليهم في كتابه " تهذيب الكمال " .
ويبدو أن النسائي كان حريصاً على تتبع أحاديث هؤلاء الأئمة المشهورين المكثرين ، فنجده ألف :
- مسنداً لحديث مالك بن أنس .
- مسنداً لحديث الزهري .
- مسنداً لحديث شعبة .
- مسنداً لحديث الثوري .
- مسنداً لحديث ابن جريج .
- مسنداً لحديث القطان .
- مسنداً لحديث الفضيل بن عياض .
- مسنداً لحديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه .
وقد ألف غير ذلك من المؤلفات الكثيرة التي بعضها تعتبر من كتب السنن له ، مثل كتاب "التفسير" ، وكتاب " عشرة النساء" ، وكتاب " عمر اليوم والليلة" وكتاب "الجمعة"، فهذه اعتبروها داخلة في كتاب " السنن الكبير" له .
كتابه ا لسنن :(1/139)
…وأشهر هذه الكتب التي وصلت إلينا كتاب " السنن " ، وهذا الكتاب كتاب كبير جداً، له عدة روايات ، نجد في كل رواية ما ليس في الآخرى من الكتب ويظهر أن السبب هو أن كبر حجم الكتاب جعل بعض هذه الكتب يفوت سماعها بعض أولئك الرواة الذين رووا السنن عن النسائي ، لكن بمجموع هذه الروايات يمكن أن يضم بعضها إلى بعض لتشكل كتاباً كبيراً هو كتاب السنن الكبرى للنسائي .
رواية كتاب السنن عنه :
…هذا الكتاب نجد الذين رووه عن النسائي كثرة ، من جملتهم - كما ذكر الحافظ ابن حجر - عبد الكريم الذي هو ابن النسائي .
- ومنهم ابن السني أبو بكر أحمد بن محمد الذي اشتهرت روايته ، وسيأتي الحديث عنها إلى شاء الله .
- ومن هؤلاء أبو علي الحسن بن الأخضر الأسيوطي ، أو ابن الخضر الأسيوطي .
- وكذلك الحسن بن رشيق العسكري .
- وأبو الحسن محمد بن عبد الله بن حيويه .
- ومحمد بن معاوية المشهور بابن الأحمر الأندلسي ، وروايته مشهورة .
- ومحمد بن قاسم بن سيار القرطبي ، ورواية ابن سيار القرطبي أيضاً مشهورة .
- وعلي بن أبي جعفر الطحاوي ، وليس هو الطحاوي صاحب "شرح معاني الآثار" .
- وأبو بكر أحمد بن محمد بن المهندس .
وغير هؤلاء أيضاً قد رووا السنن عن النسائي .
إطلاق لفظ الصحة على سنن النسائي :
…ولأهمية سنن السنائي وإعجاب العلماء بها نجد أن هناك من أطلق عليها الصحة ، فسماها باسم " الصحيح " ، من هؤلاء - كما قيل - أبو عبد الله بن منده ، وابن السكن ، وأبو علي النيسابوري ، والدار قطني ، وابن عدي ، والخطب البغدادي .
…ولكن هذا يحتاج أولاً التثبيت من إطلاق العلماء لفظ الصحة على سنن النسائي ، فإن صح عنهم أو عن بعضهم أنه أطلق الصحة عليه ، فلعله يعني ما أخرجه من المقدار الكبير من الحديث الصحيح ، مع تنبيه على الحديث الضعيف .
…وأما أن يكون جميع ما في سنن النسائي كله صحيح ، فهذا ليس بصحيح كما سوف أبين إن شاء الله .
ثناء العلماء على كتابه السنن :(1/140)
…من العبارات التي يمكن أن تفيدنا في معرفة مكانة سنن النسائي قول ابن الرشيد : "كتاب النسائي أبدع الكتب المصنفة للسنن تصنيفاً وأحسنها ترصيفاً " .
…ويقول عبد الرحيم المكي الذي هو أحد شيوخ ابن الأحمر الذي هو أحد رواة السنن ، يقول عن سنن النسائي : " إنه أشرف المصنفات كلها ، وما وضع في الإسلام مثله" ، وهذه العبارة قد يكون فيها شيء من المبالغة ، ولكنها جاءت من قبيل إعجابهم بسنن النسائي ، وإلا فالصحيحان أحسن مكانة منه .
تشدده في الجرح والتعديل :
…وقد عرف النسائي بتشدده في الجرح ، وهذا التشدد أفاده في انتقاء الأحاديث في سننه الكبرى ؛ أي أنه ليس كالترمذي الذي خرج أحاديث انتقدت عليه ، وخرج عن بعض الرواة الذين تسمح في الإخراج لهم ، بل إن النسائي عرف بالتشدد في الجرح .
…وهذا التشدد هو الذي دعاه إلى ترك مثل حديث ابن لهيعة ، فنجد بعض العلماء مثل الدار قطني وغيره انبهروا من صنيع النسائي ؛ لأن الواحد منهم كان يفخر بعلو الإسناد ، وقد حصل للنسائي علو إسناد لا مثيل له ، لكن من طريق ابن لهيعة حينما يخرج حديثاً عن شيخه قتيبة بن سعيد ، وقتيبة يروي عن ابن لهيعة ، وابن لهيعة يعتبر من قدماء شيوخ قتيبة بن سعيد ؛ فيصبح عنده أسانيد علية من هذا الباب ، فكون النسائي يترك جميع هذه الأسانيد ولا يخرج لابن لهيعة شيئاً ، فيعتبرون هذا من باب الصبر الذي قد لا يحتمله بعض الشيوخ آنذاك ؛ فيقولون : من يصبر على ما صبر عليه النسائي ، كان عنده حديث ابن لهيعة حديثاً حديثاً ، فترك حديث ابن لهيعة ، ولم يتركه النسائي إلا لأجل الكلام الذي فيه .
أقسام الأحاديث التي في السنن :
…ونجد ابن طاهر المقدسي - رحمه الله - هو الذي تكلم عن شروط الأئمة الستة ، فهو يقسم أحاديث سنن النسائي إلى ثلاثة أقسام .
القسم الأول :
…أحاديث مخرجة في الصحيحين ، وأكثر الكتاب من هذا الباب .
القسم الثاني :
…أحاديث صحيحة على شرط الشيخين .
القسم الثالث :(1/141)
…أحاديث أخرجها النسائي ، وأوضح علتها بطريقة يفهمها أهل الصنعة ؛ أي أنه قد يشير إلى علة الحديث إشارة واضحة ، وقد لا يشير إشارة واضحة ، ولكنها إشارة يفهمها أهل الصنعة، وذلك كأن يُورد الحديث مثلاً ، ثم يقول : ذكر اختلاف الناقلين لهذا الخبر عن فلان -الذي هو أحد الرواة الذين تدور عليهم أسانيد هذا الحديث - ، ثم يبدأ في بيان اختلاف في هذا الحديث بما يشير إلى أن هذا الحديث من الأحاديث المعلولة بسبب ذلك الاختلاف الوارد فيه . فبعض الناس قد لا يفهم صنيع النسائي هذا ، ولكنه يفهمه أهل الصنعة .
منهج النسائي :
…ومنهجه - رحمه الله - صرح به في إخراج بعض الرواة ، فإنه صرح أنه لا يترك حديث الراوي حتى يجمع الأئمة على تركه ، ولعل مقصده - رحمه الله - في إجماع الأئمة هو إجماع أئمة طبقة معينة .
…فمثلاً إذا جئنا لراو حدث عنه عبد الرحمن بن مهدي وتركه يحي بن سعيد القطان ، يُعتبر النسائي مثلاً هذا الصنيع من باب الاختلاف في ذلك الراوي ، فيقول : إنه ما دام لم يجمع يحيى بن القطان وعبد الرحمن بن مهدي على ترك ذلك الراوي فأنا لا أتركه بهذه الصورة ، لأننا نجده أحياناً يترك أحاديث بعض الرواة الذين ليسوا بهذه الصفة مثل ابن لهيعة ، فلم يجمع الأئمة على ترك حديثه ، بل الأمر فيه مختلف ، ولكن النسائي ترك حديثه ؛ لأنه ترجح لديه جرح ابن لهيعة.
…والذي يدل على هذا ذلك الحديث الذي أخرجه النسائي من طريق عبد الله بن عثمان بن خثيم ، وعبد الله بن عثمان بن خثيم مختلف فيه ، والراجح في حالة أنه صدوق حسن الحديث إن شاء الله(124) .
…وقد روى عبد الله بن عثمان بن خثيم حديثاً أخرجه عنه النسائي في السنن ، وهو حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - في إرسال النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب إلى موسم الحج ليقرأ عليهم سورة براءة(125) ، والحديث معروف .(1/142)
…فإذن هو حينما أخرج حديث هذا الراوي بين أن هذا الراوي من الرواة الذين اختلف أئمة الحديث فيهم ، فعلي بن المديني يجرحه ، وعبد الرحمن بن مهدي ويحيى بن سعيد القطان روايا عنه ؛ أي أنهما عدلاه . فهذا يدل على اختلافهم في هذا الراوي ، ولذلك خرج حديثه ، فهذا الصنيع منه يدل على صدق العبارة التي ذكرت عنه .
…ونجد أنه من شدته في الجرح تجنب إخراج أحاديث جماعة ممن أخرج لهم البخاري ومسلم في صحيحهما ، مثل إسماعيل بن أبي أويس(126) الذي هو ابن أخت الإمام مالك ، وهو أحد شيوخ البخاري ومسلم .
…فهذا الراوي متكلم فيه ، وقد اجتهد البخاري ومسلم فأخرجا من حديثه ما انتقياه ، وأما النسائي - رحمه الله - فإنه أعرض عن حديث هذا الراوي .
…بل إننا لنجد الدار قطني - رحمه الله - أفراد مصنفاً جمع فيه أسماء الرواة الذين ضعفهم النسائي وأخرج لهم الشيخان في صحيحيهما .
…ولذلك فإننا نجد أن من منهج النسائي - رحمه الله - في كتابه هذا أنه يحرص كل الحرص في الباب الواحد على إخراج الحديث الصحيح إذا وجده ، فإن لم يجد أخرج بعض الأحاديث الضعيفة التي يرى أن رواتها المضعفين ممن لم يجمع الأئمة على ضعفهم وترك أحاديثهم .
…ولربما وجد النسائي في الباب حديثاً صحيحاً ، وأخرج معه بعض الأحاديث الضعيفة، والسب في ذلك كون ذلك الحديث الضعيف تضمن زيادة لم ترد في الحديث الصحيح .
ومثاله :
…ذلك الحديث الذي رواه من طريق سعيد بن سلمة ، عن عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب ، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أنه قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دعا قال : اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن ، والعجز والكسل ، والبخل والجبن ، وضلع الدين وغلبة الرجال"(127) .(1/143)
…قال النسائي لما أخرج هذا الحديث : "سعيد بن سلمة شيخ ضعيف"(128) ، وإنما أخرجناه للزيادة في الحديث" . فهذا الحديث جاءت فيه زيادة لم تكن موجودة في الأحاديث التي أخرجها هو من غير طريق سعيد بن سلمة .
عناية بالناحية الفقهية في كتابه السنن :
…نجد كتاب النسائي - رحمه الله - من الكتب التي عُنيت بالناحية الفقهية ، مع ما تضمنته من الناحية الحديثية التي سنشير لبعضها .
…فنجد كتاباً فقهياً ؛ لكونه رتب الأحاديث ترتيباً فقهياً مصاحباً التبويب والترجمة على تلك الأحاديث بما تضمنته تلك الأحاديث من معان فقهية .
…فهو إذن مثل الترمذي - رحمه الله - الذي سبق الكلام عن صنيعه ، فالترمذي -كما قلنا- جمع بين طرقتي شيخية البخاري ومسلم ، وكذلك النسائي جمع بين طريقتي البخاري ومسلم ، أي بين الصناعة الحديثية وبين الصناعة الفقهية .
…لكن الترمذي أكثر إيضاحاً لفقه الحديث من النسائي ؛ فالترمذي نجده يُعني عناية فائقة بإيراد آراء الفقهاء ، بينما يمتاز كتاب النسائي عن كتاب الترمذي بأنه أقل إخراجاً للأحاديث الضعيفة ، فهو أنقى من جامع الترمذي . فلكل من الكتابين ميزة عن الآخر ، وليس معنى هذا أنه لا يورد بعض الآراء الفقهية ، بل يوردها كما سأمثل .
الأدلة على عناية بالناحية الفقهية :
…ومن الأدلة على عناية النسائي بالناحية الفقهية تكراره للحديث ، فإنه يكرر الحديث كثيراً ، وهذه اعتبرت ميزة لكتاب السنائي على كتاب الترمذي ، فنجده يكرر الأحاديث في مواضع متعددة حتى قيل : إنه أكثر الكتب تكراراً للأحاديث ، من الأمثلة على ذلك حديث : "إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى" ، نجد النسائي - رحمه الله - كرر هذا الحديث ست عشر مرة ، وهذا مقدار كثير بلا شك .(1/144)
…قلت : إن كتاب الترمذي يتميز على كتابه بإيراد الترمذي لآراء الفقهاء ، ولكن ليس معنى هذا أن النسائي لا ينقل عن الفقهاء آراءهم ، بل ينقلها ، ولكنها قليلة ، ومن أمثلة ذلك : نقل عن مسروق - رحمه الله - فتوى له في الهدية والرشوة(129) . وهناك أمثلة غير هذا .
…ومن الأدلة على اعتنائه بفقه الحديث أنه في أحيان كثيرة يقتصر على موضع الشاهد من الحديث ، ويختصر المتن حينما لا يهمه يقيته في ذلك الموضع .
…ومن أمثلة عنايته بالناحية الفقهية أنه أحياناً يورد كلاماً من عنده يدل على فقه الحديث، وقد يكون هذا الكلام طويلاً ، قد يصل نحو الصفحتين .
…ومن أمثلة عنايته بالناحية الفقهية أنه أحياناً يورد كلاماً من عنده يدل على فقه الحديث ، وقد يكون هذا الكلام طويلاً ، قد يصل نحو الصفحتين .
…ومن الأمثلة على ذلك أنه قال في كتاب المزارعة : " كتابة مزارعة" ، ثم سرد كلاماً طويلاً (130)، وفي هذا الكلام صنع نموذجاً في كتاب المزارعة أشبه ما يكون في العقد بين الاثنين اللذين يعقدان بينهما عقداً على مزارعة أرض ، وهذا يدل على توسعه في الكلام على فقه الحديث .
…كذلك أيضاً نجد أنه يورد في بعض الأحيان الأحاديث المتعارضة في الباب الواحد ، وهذه الأحاديث المتعارضة في معناها يمكن أن يستخلص منها أن النسائي - رحمه الله - يرى العمل بهذا وذاك ، ويمثلون لهذا بإيراده لأحاديث الجهة بالبسملة ، وعدم الجهر بها ، فقد أخرج
"أحاديث الجهر وأحاديث عدم الجهر"(131) ، فكأنه يشير إلى أنه يُعمل بهذه وبهذه ، ولم يرجع شيئاً من هذا الأحاديث على الأخرى . هذا بالنسبة لفقه الحديث .
عنايته بالناحية الحديثية في كتابه السنن :(1/145)
…أما بالنسبة للناحية الحديثية أو الصناعة الحديثية ، فنجده - رحمه الله - في كثير من الأحيان يُعني بعلل الأحاديث ، فيورد الحديث من طرق متعددة على اختلاف الناقلين لهذا الحديث ، لكنه في البداية يورد الحديث من طريق ، ثم يبوب بعد ذلك باباً ، فيقول : "باب بيان اختلاف الناقلين للحديث عن فلان " - مثلاً عن الأوزاعي ، ثم يبدأ يذكر اختلاف على الأوزاعي ، مما يدل على أن كتابه هذا يعتبر من كتب العلل .
…أو أن النسائي - رحمه الله - عني بإبراز علل الحديث ، مثله مثل الدار قطني في كتاب "العلل" حينما يورد علل الأحاديث واختلاف الناقلين لها .
…فجمع النسائي - رحمه الله - بين الجودة الحديثية وبين الصناعة الحديثية وبين فقه الحديث، كما أشرنا سابقاً .
بعض فوائد كتاب السنائي (السنن) :
…كما أن كتابه تضمن فوائد عديدة مثل : تسميته لبعض المكنيين - أي المعروفين بالكني - ، وتكنيته لبعض المتسمين الذين عرفوا بأسمائهم ، مثل قوله : أبو عمار - : أسمه علي بن حميد.
…كذلك أيضاً من الفوائد الجليلة في كتاب النسائي حكمه على الأحاديث ، فنجده في كثير من الأماكن يقول : هذا حديث منكر ، أو هذا حديث غير محفوظ ، أو هذا حديث ليس بثابت ، أو هذا حديث صحيح .
…فهذه الأحكام من النسائي تفيد - بلا شك - طلبة العلم والباحثين والعلماء بعد ذلك ؛ لأنها صدرت من إمام مطلع مثل النسائي المشهود له بطول الباع في هذا الفن .
…كما أن من الفوائد التي تضمنها كتابه كلامه - رحمه الله - في الرواة جراحاً وتعديلاً ، وهذا كثير في كتابه ، بل إن بعض طلبة العلم في هذا الزمان ذهب ليجمع كلام النسائي -رحمه الله - في سننه وجعله في كتاب خرج باسم "المستخرج من مصنفات النسائي في الجرح والتعديل" فأورد كلام النسائي من السنن في الرواة جرحاً وتعديلاً .(1/146)
…وكلام النسائي هذا وإن كان منثوراً في سننه إلا أن العلماء السابقين عُنوا أيضاً بجمعه ، ولم يهملوه ، ولكن هذا الأخ الذي جمعه جمعه في موطن واحد ، إلا أننا لو رجعنا إلى مثل "تهذيب التهذيب" للحافظ ابن حجر في ترجيحه كل راو يكون السنائي قد تكلم عنه نجد ابن حجر يورد كلام النسائي ، وقد يكون كلام السنائي هذا موجودأً في كتابه " الضعفاء والمتروكين" ، وقد يكون موجوداً في كتابه "السنن" ، كل هذا مما جمع عن النسائي رحمه الله .
…ونجد أن الأحاديث التي أوردها النسائي في سننه كلها - تقريباً - مسندة ، أي مروية بالإسناد المتصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، أو من دونه من الصحابة ، ولا يورد النسائي شيئاً من الأحاديث المعلقة كما حصل عند البخاري أو عند مسلم على قلته وندرته ، أو عند الترمذي أيضاً على قلته ، وإنما وجد الذي صورته صورة المعلق في موضعين أثنين علق فيهما النسائي حديثين .
وهذا الكلام أذكره بناء على ما يقوله فقاروق حمادة الذي حقق " عمل اليوم والليلة" للنسائي ، وتكلم في مقدمة هذا الكتاب بكلام جيد عن السنائي وعن منهجه في كتابه "السنن" ، وهو من الكتب التي رجعت إليها واعتمدت عليها في تحضير هذا المادة التي أطرحها الآن .
عدم اعنائه بالأحاديث العالية لكونها غير صحيحة عنده :
…أما بالنسبة للأحاديث العالية والنازلة عند السنائي ، فأعلى ما عند النسائي الأحاديث الرباعية ، أي أننا لا نجد شيئاً من الأحاديث الثلاثية عند النسائي ؛ والسبب أنه - رحمه الله- كان يُعني بانتقاء الأحاديث .
…ولو تطلب إخراج حديثاً ثلاثياً لأخرجه ؛ لأن الذين في طبقته مثل الترمذي أو ابن ماجه ليس عندهم من الأحاديث الثلاثية صحيحة الإسناد شيء ، فالأحاديث الثلاثية في جامع الترمذي إنما هي حديث واحد ، وسبق أن ذكرته لكم(132) ، وقلت : إن فيه عمر بن شاكر ، وهو راو] مضعف ، فالحديث ليس بصحيح .(1/147)
…أما الأحاديث التي عند ابن ماجه الثلاثية فهي أكثر من هذا العدد ، ولكنها جميعاً من طريق جبارة بن مغلس ، وهو أيضاً ضعيف إن لم يكن ضعيفاً جداً(133) .
…فإذا الترمذي وابن ماجه لم يخرجا حديثاً صحيحاً ثلاثياً .
…فالنسائي أعرض عن هذه الأحاديث التي قد يكون ظفر بها ، وهي ثلاثية الإسناد ، ولذلك لم يخرج من الأحاديث العالية إلا رباعية الإسناد ، وهذا كثير عنده .
…أما بالنسبة للأحاديث النازلة عنده ، فهي عشارية الإسناد ؛ أي أن بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم عشرة رواة ، والتي أخرج منها الترمذي حديثاً واحداً - تقريباً - ، أما ابن ماجه فقد أخرج أحاديث من هذا القبيل ولكنها قليلة .
…ومن تلك الأحاديث العشارية التي خرجها النسائي حديث أبي أيوب - رضي الله عنه - وهو في فضل قراءة {قل هو الله أحد }(134) .
…ولما أخرجه النسائي قال : " لا أعرف في الدنيا إسناداً أطول من هذا الإسناد" ؛ والسبب أنه رواه ستة أو سبعة من التابعين ، بعضهم يرويه عن بعض ؛ فطبقة التابعين تعتبر نازلة حينما يكونون ستة أو سبعة فما بالك بمن بعد التابعين .
هل تنسب السنن الصغرى للنسائي ، أم لتلميذه ابن السني ؟
…هذه مسألة من المسائل التي كثر الكلام فيها .
…أقول : سنن النسائي الموجودة نوعان :
…الأول : السنن الكبرى .
…الثاني : السنن الصغرى ، والمساة بـ " المجتبي" أو " المجتني" .
…والاختلاف واقع حول الذي صنف المجتبى - السنن الصغرى - هل هو النسائي أم غير النسائي . وفي هذا الاختلاف وقع جدل طويل ينتصر فيه كل فريق لرأيه .
الرأي الأول :
…هناك من يرى أن الذي ألف هذا المجتبى هو ابن السني الراوي لها ، وهذا هو راي الذهبي، وابن ناصر الدين الدمشقي رحمهما الله تعالى .(1/148)
…والذي يظهر من صنيع المنذري والمزي أنهما يريان هذا وإن لم يكونا قالا ذلك صراحة ؛ لأننا نجد المنذري - رحمه الله - في شرحه لسنن أبي داود إذا عزى الحديث للنسائي يعزوه للسنن الكبرى ، والمزي - رحمه الله - حينما أخرج الأحاديث - أحاديث النسائي - في "تحفة الأشراف" أخرج أحاديث الكبرى ، وحينما تكلم عن الرجال في "تهذيب الكمال" تكلم عن الرجال الموجودين في الكبرى ، والكبرى متضمنة للصغرى في الأعم الأغلب ، . فكأن هذا يشكل رأيا للمنذري والمزي ، وأن كان في ذلك شيء من التكلفة بالنسبة لهذا الرأي لهما . فعلى كل حال : الذي نص على هذا صراحة هو الذهبي وابن ناصر الدين .
الرأي الثاني :
…وهناك فريق آخر - وهم كثر - كابن الأثير ، وابن كثير ، والعراقي ، والسخاوي ، وغيرهم - يرون أن هذه السنن الصغرى من تصنيف النسائي نفسه .
…وعمدة أصحاب هذا الرأي حكاية جاءت بإسناد منقطع لا تصح ، ويبعد أن تصح عن النسائي حتى لو وردت بإسناد متصل ؛ لأن واقع السنن يخالف مقتضى هذه الحكاية .
…يقولون : إن أمير الرملة لما اطلع على السنن الكبرى للنسائي ، سأل النسائي فقال : هل كل ما في هذا الكتاب صحيح ؟ فقال : "لا" . قال : فأخرج لي الصحيح منه ؛ فانتقى هذا المجتبى المسمى بالسنن الصغرى ،ـ وهو المطبوع والمشهور بأيدي طلبة العلم في هذا الزمان.
…أقول : هذه الحكاية بإسنادها منطقع ؛ فهي إذن لا تثبت من حيث الإسناد ، كما أنها من حيث التضمين - ما تضمنته من معنى - نجد أن هذا المعنى غير صحيح ؛ لأننا نجد هذه الأحاديث المودعة في المجتبى فيها كثير من الأحاديث التي ليست بصحيحة ، بل أحاديث أعلها النسائي نفسه، فكيف يمكن أن يقال : إنه انتقى الصحيح لأجل أمير الرملة ؟(1/149)
…هذا بعيد جداً كما يتضح لمن يطالع سنن السنائي ؛ ولأجل هذا قلت : إن من حكم على سنن السنائي بأنها مما ألف في الصحيح ، كما نقل عن الدار قطني والخطيب البغدادي وابن عدي يبعد أن تكون هذه النسبة إليهم صحيحة ، ولو صحت - ولربما صحت وهذا لا يهمنا - ، فقد يكون مرادهم ما تضمنته من أحاديث صحيحة كثيرة ولا يكون مرادهم القطع عليها بأنها كلها صحيحة ، فهذا لا يمكن أن يكون ؛ لأن هذه السنن تضمنت أحاديث كثيرة أعلها النسائي نفسه.
…كما أنهم اعتمدوا في قولهم بأن هذا الكتاب - السنن الصغرى - من تصنيف النسائي نفسه - على أنه جاء من رواية ابن السني عن النسائي ، فيقول ابن السني : هذا ما حدثنا أبو عبد الرحمن النسائي ، وينص على ذلك في مواضع .
…أقول : هذا لا يعتبر دليلاً ؛ نجد أن كثيراً من الكتب الحديثة التي لها أكثر من رواية عن المصنف يحصل فيها زيادة ونقص بين تلك الروايات - وهذا كثير - ، وموطأ الإمام مالك من أبرز الأمثلة على هذا .
…فموطأ الإمام مالك رواه جمع عنه ، من جملتهم يحيى بن يحيى الليثي ، ويونس بن بكير، والقعنبي ، وأبو مصعب الزهري ، وابن وهب ، والشافعي ، ومحمد بن الحسن الشيباني ، وغير هؤلاء كثير . فبعض هذه الروايات موجودة ومطبوعة ، فتحار في الموطأ برواية محمد بن الحسن الشيباني ، وبين الموطأ برواية يحي الليثي ، وبين الموطأ برواية أبي مصعب الزهري ، وكل هذه الروايات مطبوعة ، وتجد في كل رواية من الأحاديث زيادة عن الرواية الأخرى .
…كذلك أيضاًَ جامع الترمذي فيه بعض الأحاديث الموجودة في بعض الروايات ، وليست موجودة في الروايات الأخرى .
…وسبق أن تحدثت عن سنن أبي داود ، وقلت : إن ما كان من رواية ابن العبد أو ابن الأعرابي أو ابن داسة ؛ في كل رواية ما ليس في الأخرى ، وإن كانت رواية ابن داسة هي التي انتقيت ، ولكن في بقية الروايات أحاديث أخرى ليست موجودة في الروايات الأخرى ، فهذا أمر طبيعي جداً .(1/150)
…وما دام أن سنن النسائي كثر ناقلوها والراوون لها عن النسائي ؛ فمن الطبيعي جداً أن نجد في كل رواية ما ليس في الأخرى ، فمن الأمر المجمع عليه أن كل الرواة الذين ذكرت بعضهم - ما عدا ابن السني - كلهم من الذين روا السنن الكبرى للنسائي ، وهذه السنن الكبرى في كل رواية ما ليس في الأخرى .
…وهذا يظهر واضحاً في صنيع المزي في "تحفة الأشراف" حينما يقول :
…هذا ليس في رواية ابن الأحمر ، وهذا من رواية ابن سيار ، ... إلخ .
…فتجد مثلاً في رواية ابن الأحمر الأحاديث - أو كتباً بأكملها - ليست في رواية ابن سيار، وتجد في رواية ابن المهندس كتاباً أو أحاديث ليست في رواية ابن الأحمر ، وهم متفقون على أنها كلها تسمى بالسنن الكبرى .
…فإذا كان الأمر هكذا ، فليس ببعيد إذن أن يكون ابن السني - رحمه الله - روى السنن عن النسائي في هذه الرواية ، وهذه رواية تضمنت أحاديث معينة ، وتركت أحاديث أو كتباً معينة قد يكون ابن السني لم يسمعها ، وقد يكون هو الذي اجتباها واختصرها عمداً كما يقول الذهبي .
…ومن أراد أن ينظر إلى من نصر هذا الرأي أو الرأي المخالف من الذين تكلموا عنه الآونة الأخيرة - يجد أن في حاشية شعيب الأرناؤوط على "تهذيب الكمال" للمزي في ترجمة أحمد بن شعيب النسائي - يجد كلاماً لشعيب عن هذا الاختلاف الوارد ، وقد نصر فيه رأي الذهبي.
…كما أننا نجد عبد الصمد شرف الدين الذي حقق "تحفة الأشراف" ، وفاروق حمادة الذي حقق "عمل اليوم والليلة" للنسائي نصر الرأي الآخر القائل بأن النسائي هو الذي انتقى هذه السنن الصغرى .(1/151)
…ومن الأدلة التي يمكن أن ندلل بها على أن هذه السنن الصغرى قد تكون من زاوية ابن السني ، وأنا أقول : "قد" ؛ لأنني لا أجزم ، بل أقول : إن الذين قطعوا في هذه المسألة قطعاً تكلفوا ، وبخاصة من قطع بأنها من رواية النسائي ؛ لأنه ليس له مستمسك سوى ما ذكرته م نتلك الحكاية وهي لا تصح ، ومن كون ابن السني يروي هذا عن النسائي .
…ومجرد الرواية معروف ، فمعروف أن هذه الأحاديث يرويها النسائي ، وهذه الكتب والأبواب يرويها النسائي ، فهذا أمر طبيعي ، لكن السؤال الذي ينبغي أن يورد عليهم هو : هل صرح ابن السني بأن النسائي هو الذي انتقى هذا الكتاب ، وهو الذي اختصره ، وهو الذي اجتباه؟
…هل ورد عن النسائي ما يدل على ذلك صراحة بإسناد صحيح ؟
…هذا الذي ينبغي أن يوردوه حتى يتكئ قائل هذا القول على قاعدة صحيحة سليمة ، أما ما عدا ذلك فلا يدل على هذا .
…بل الذي يدل على ضعفه أن هذا الاجتباء والاختصار الوارد في السنن الصغرى ، نجد أنه على غير قاعدة وبلا رابط .
…وإنما أقول : لا يستند على قاعدة ، وليس بين ذلك الانتقاء والأبواب التي تركها رابط، لأننا نجد كتباً كثيرة بأكملها لا توجد في المجتبى إطلاقاً .
…فمثلاً : كتاب التفسير - أحد كتب السنن الكبرى - لم يرد في السنن الصغرى إطلاقاً، مع العلم أن هذا الكتاب ورد فيه أحاديث صحيحة كثيرة جداً ، بل كثير منها مخرج في الصحيحين ، فإذا كان المقصود انتقاء الصحي ، فلماذا يُهمل النسائي هذه الأحاديث الصحيحة؟ بل لماذا يُهمل هذا الكتاب بأكمله ؟
…بل حتى كتاب فضائل القرآن ، وكتاب فضائل الصحابة ، وكتاب خصائص علي ، وكتاب الطب ، وغير ذلك من الكتب الكثيرة كلها لم ترد في هذا المجني ، فلماذا يتركها النسائي مع أن فيها جملة من الأحاديث المخرجة في الصحيحين ؟(1/152)
…كما أن هذه الكتب التي توجد في المجتبى - يعني توجد في المجتبى وتوجد في السنن الكبرى- نجد في الكبرى أحاديث صحيحة نجد أنها حذفت من الصغرى ، فإذا كان النسائي أراد اختصار هذه السنن الكبرى لتكون صحيحة فلماذا أهمل هذه الأحاديث المذكورة في الكبرى ؟! ولماذا أتى بأحاديث ضعيفة ؟! .
…هذا عكس ما يُفهم من تلك الحكاية تماماً ؛ لأن هذا لا يدل على أن النسائي أراد اختيار الحديث الصحيح ، وجعله في هذا الكتاب .
…كما أننا نجد في هذه السنن الصغرى المسماة بالمجتبى كتباً بأكملها ليست في الكبرى ، منها كتاب الصالح ، وكتاب الإيمان وشرائعه ، فهذان الكتابان لا يوجدان في الكبرى ، وهذا يدل على أن السنن الصغرى هذه - المسماة بالمجتبى - رواية من الروايات ، فكما أن رواية ابن الأحمر فيها ما ليس في رواية ابن سيار ، وفيها ما ليس فيها من رواية ابن المهندس إلى غير ذلك من الروايات .
…كذلك أيضاً في رواية ابن السني أحاديث وكتب لا توجد في الروايات الأخرى ، فيمكن أن تضم هذه الروايات بعضها مع بعض لتشكل مقداراً كبيراً يسمى السنن الكبرى للنسائي ، سواء أكان من رواية ابن السني أو من رواية غير ابن السني .
…أما أن يقال : إن رواية ابن السني وحدها هي التي اختارها النسائي ، فهذا خطأ وإنما هذه رواية من جملة الروايات .
…كما أن هذه السنن الصغرى المسماة بالمجتبى فيها أحاديث وألفاظ زائدة في الإسناد أو في المتن ، وهي ليست في الكبرى ، وكذلك فيها زيادة في بعض التراجم والأبواب والاستنباطات التي ليست في الكبرى .
…فمثلاً : في كتاب الطهارة زاد في الصغرى باباً ليس موجوداً في الكبرى ، وهو باب النهي عن استقبال القبلة عند الحاجة(135) .
…كما أننا نجد في السنن الصغرى المسماة بالمجتبى أحاديث كثيرة ضعيفة ، بل ضعيفة جداً ، بل يضعفها النسائي نفسه .(1/153)
…فكما أن النسائي - رحمه الله - ممن عرف بتشدده في الرجال إلا أننا نجده يخرج أحاديث رواة حكم عليهم هو بأنهم متروكون ، والمتروك حديثه ضعيف جداً .
…فمثلاً : أيوب بن سويد الرملي . قال عنه السنائي : "متروك الحديث" ومع ذلك أخرج حديثه(136) ، وهذا من القوادح فيما ذكر عن أن النسائي اختار الصحيح .
…كذلك سليمان بن أرقم ، وهو راو معروف بأنه متروك الحديث ، بل حكم عليه النسائي بأنه " متروك الحديث " .
…وكذلك إسماعيل بن مسلم ، قال عنه النسائي : "متروك الحديث"(137) .
…وكذلك إسماعيل بن مسلم ، قال عنه النسائي : "متروك الحديث"(138) .
…وكذلك عبد الله بن جعفر الذي هو والد عليّ بن المديني ، قال عنه النسائي : "متروك الحديث"(139) .
…كما أن هناك بعض الرواة الذين أخرج لهم ، وهو لا يعرفهم ؛ أي أنهم مجهولون عنده ، مثل : أبي ميمون ، قال عنه : "لا أعرفه"(140) .
…ومثل : قرصافة - امرأة - قال : "لا ندري من هي "(141) .
…وهناك راو اسمه مصعب بن شيبة قال عنه النسائي : " منكر الحديث "(142) .
خلاصة ما سبق :
…هذه بعض الأمثلة فقط التي تُدلل لنا على أن هذه السنن الصغرى - فضلاً عن السنن الكبرى - إنما ألفها النسائي - رحمه الله تعالى - لتضمن جملة كبيرة من الأحاديث الصحيحة التي ظفر بها .
…وقد يخرج النسائي - رحمه الله - أحاديث ضعيفة ينبه في كثير من الأحيان على ضعفها ، وقد يفوته أو يسكت عن الكلام عن ضعفها .
…وما قيل عن أن السنن الصغرى هي التي اختارها النسائي واختصرها من السنن الكبرى لتضم الحديث الصحيح ، هذا ليس بصحيح .
…وما قيل من إطلاق الصحة على سنن النسائي سواء الكبرى أو الصغرى ، هذا ليس بصحيح ، بدليل واقع السنن ، بل إن النسائي نفسه هو الذي يُعل هذه الأحاديث ويضعفها ، وهذا يقدح في هذه المقولة .(1/154)
…وما قبل عن بعض العلماء أنهم حكموا عليها بالصحة ، يمكن أن يأول هذا الكلام على أنهم أرادوا أنها تضمنت مقداراً كبيراً من الأحاديث التي تربو عن أي كتاب آخر ، وتجنبت الأحاديث الموضوعة والمنكرة ، وإن ورد فيها شيء من ذلك فهي قلة ، والقليل يعتبر من الشاذ الذي لا يبنى عليه حكم .
…إذن سنن النسائي تعتبر من الكتب الحديثية التي تحتاج إلى النظر في أسانيد الأحاديث التي فيها - التي ليست في الصحيحين - فيمكن أن يكون الحديث صحيحاً ، ويمكن أن يكون غير صحيح ، ويمكن أن يكون هذا الذي ليس بصحيح قد تكلم عنه السنائي نفسه وأعله وبين ضعفه ، ويمكن ألا يكون النسائي قد بين ضعفه .
…ولذلك لا ينبغي لطالب العلم أن يتكئ على مجرد إخراج النسائي للحديث ليحكم عليه بالصحة ، بل يمكن أن يستأنس بصنيع النسائي مجرد استئناس إن لم يعل الحديث ، ويمكن أن يطمئن طالب العلم إذا بحث ووجد الإسناد صحيحاً والنسائي لم يبين علته ، فعلى أقل الأ؛وال ، يقول : لو كان للحديث علة لبينها النسائي مع اجتهادي في طلب الحديث وجمع طرقه والحكم عليه بالصحة .
…والله أعلم ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد .
(1) أنظر: الجرح والتعديل (7/196)، وتاريخ جرجان: 413، سير أعلام النبلاء (14/365)، وتذكرة الحفاظ (2/720)، وطبقات الشافعية (3/109)، والبداية والنهاية (11/149)، وشذرات الذهب (2/262).
(1) قائلاً: من القيلولة، وهو نوم الظهيرة.
(1) انظر: مقدمة "صحيح ابن خزيمة" ص(3).
(2) انظر: "صحيح ابن خزيمة" ص(227).
(3) انظر: "صحيح ابن خزيمة" (1/200).
(4) المصدر السابق (1/312).
(1) أخرجه ابن خزيمة (177) (1/90)، وأعاده (357)، وقد أخرجه أيضاً أحمد (3/3)، وابن ماجه (427)، والدارمي (1/178)، وابن حبان (402)، وغيرهم.
(1) انظر: صحيح ابن خزيمة (1/232).
(2) انظر: "اختصار علوم الحديث" للحافظ ابن كثير ص (27).
(1) انظر: "صحيح ابن خزيمة": (1/25، 26).
(2) المصدر السابق : (1/71).(1/155)
(3) محمد بن إسحاق بن يسار، أبوبكر المطلي مولاهم، المدني، نزيل العراق، إمام المغازي، صدوق يدلس ورمي بالتشيع والقدر، من صغار الخامسة، مات سنة 150، ويقال بعدها، روى له البخاري تعليقاً وباقي السنة. تقريب ت: 6424.
(4) انظر: "صحيح ابن خزيمة" (1/75).
(1) عبدالله بن لهيعة ابن عقية، أبوعبدالرحمن المصري، القاضي، صدوق، من السابعة، خلط بعد احتراق كتبه، ورواية ابن المبارك وابن وهب عنه أعدل من غيرهما، وله في مسلم بعض شيء مقرون، مات سنة 74، وقد ناف على الثمانين، روى له مسلم، وأصحاب السنن عدا النسائي، تقريب ت: (3945).
(1) جابر بن اسماعيل الخضرمي، أبوعباد المصري، مقبول، من الثامنة، روى له البخاري في الأدب المفرد وباقي السنة عدا الترمذي. التقريب ت: 961.
(1) انظر: "صحيح ابن خزيمة" : (1/113).
(1) انظر: "النكت": (1/290).
(1) أخرجه ابن خزيمة (1887)، وترجم له: "باب فضائل شهر رمضان إن صح الخبر"، والمحاملي في "أماليه" (293) من طريق علي بن زيد بن جدعان عن سعيد بن المسيب عن سلمان رضي الله عنه.
- وهذا إسناد ضعيف لضعف علي بن زيد بن جدعان التيمي البصري.
- قال ابن سعد: "كان كثير الحديث" فيه ضعف، ولا يحتج به".
- وقال أحمد: "ليس بالقوي".
- وقال عثمان الدارمي: "ليس بذلك القوي".
- وقال الجوزجاني: "واهي الحديث ضعيف".
- وقال ابن أبي خيثمة: "ضعيف في كل شيء".
- وقال ابن خزيمة: "لا أحتج به لسوء حفظه".
- وقال الحافظ في التقريب: "ضعيف".
- ونل ابن أبي حاتم عن أبيه في "علل الحديث (1/249): "حديث منكر".
تنبيه هام: قال ابن خزيمة في الترجمة: "إن صح الخبر"، ثم سقطت (إن) من بعض المراجع مثل "الترغيب والترهيب" للحافظ المنذري (2/95) وغيره، وعلى ذلك فسد المعنى، واغتر به بعض الوعاظ والمدرسين.
- ومثله حديث: "لو يعلم العباد ما في رمضان لتمنت أمتي أن يكون رمضان السنة كلها...الخ" الحديث.(1/156)
- رواه ابن خزيمة (1886) من وجهين عن جرير وقال: إن صح الخبر، فإن في القلب من جرير ابن أيوب البجلي، ورواه ابن الجوزي في (الموضوعات) (2/547 - 549) من طريق جرير بن أيوب البجلي، عن الشعبي، عن نافع بن بردة، عن أبي مسعود الغفاري. وقال ابن الجوزي: هذا حديث موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمتهم به: جرير بن أيوب.
- قال يحيى: "ليس بشيء"، وقال الفضل بن دكين: "كان يضع الحديث". وقال النسائي والدارقطني: "متروك".
- وقال د/ مصطفى الأعظمي المحقق لابن خزيمة: "إسناده ضعيف بل موضوع، جرير بن أيوب البجلي قال عنه البخاري: منكر الحديث" أهـ.
(1) انظر: "صحيح ابن حبان" تحقيق الشيخ شعيب الأرناؤوط (1/42، 43).
(1) انظر: "صحيح ابن خزيمة" (3/248).
(1) انظر: "صحيح ابن خزيمة " (3/249).
* معمر بن عبيدالله بن أبي رافع، الهاشمي مولاهم المدني، منكر الحديث، من كبار العاشرة، روى له ابن ماجه. تقريب ت: 7676.
(2) انظر: صحيح ابن خزيمة (3/266).
** كليب بن ذهل الحضرمي المصري، مقبول، من السادسة، روى له أبوداود. تقريب ت: 6355.
*** عبيد بن جبير، بالجيم الموحدة، القبطي، مولى أبي بصرة، يقال: كان ممن بعث به المقوقس مع مارية، فعلى هذا: فله صحبة، قد ذكره يعقوب بن سفيان في الثقات، وقال ابن خزيمة: لا أعرفه. روى له أبوداود. تقريب ت: 4908.
(3) انظر: صحيح ابن خزيمة (3/115).
(1) انظر: صحيح ابن خزيمة (3/236). وقد أخرجه من الطريق الأولى الموصولة طريق أبي أسماء الرحبي عن ثوبان: أخرجه أبوداود (2367، 2370، 2371)، وابن ماجه (1680)، وابن حبان (3532)، والحاكم (1/427)، وغيرهم.
(2) انظر: حيح ابن خزيمة (3/226).
(3) أخرجه ابن خزيمة (1972)، وهو عند الترمذي (719)، وقال الترمذي: غير محفوظ.
* عبدالرحمن بن زيد بن أسلم العدوي مولاهم، ضعيف، من الثامنة، مات سنة 82، روى له الترمذي وابن ماجه. تقريب: ت: 4312.(1/157)
(1) انظر: صحيح ابن خزيمة (3/238). والحديث أخرجه أيضاً أبوداود (2396، 2397)، والترمذي (723)، وابن ماجه (1672)، وغيرهم.
(2) انظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري (4/161).
(3) انظر: سير أعلام النبلاء (14/373).
(4) لأن حريز بن عثمان ناصبي، والنواصب هم الذين يغضون أهل البيت.
(1) قال ذلك في أول كتاب الصيام (3/186).
(2) في الأصل: شيء.
(1) انظر: صحيح ابن خزيمة (3/236).
(2) انظر: صحيح ابن خزيمة (3/270).
(3) انظر: لحظ الألحاظ لابن فهد (ص333).
(1) هذا عدا عن فائدته الظاهرة من اشتماله على أحاديث صحيحة زائدة على ما في الصحيحين، والاعتماد على رأيه في بعض الأحاديث التي يصححها، ونحو ذلك.
(2) انظر: صحيح ابن خزيمة (3/111-112).
(3) يعني: خاطب الرجال دون النساء.
(1) انظر: صحبح ابن خزيمة (3/54-57).
(2) انظر: صحيح ابن خزيمة (3/141).
(3) انظر: صحيح ابن خزيمة (3/139).
(4) انظر: صحيح ابن خزيمة (3/157).
(1) انظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري (2/370).
(2) انظر: صحيح ابن خزيمة (3/319).
(3) انظر: صحيح ابن خزيمة (3/306).
(1) انظر: صحيح ابن خزيمة (1/82، 83).
(2) انظر: صحيح ابن خزيمة (1/375-376).
(3) انظر: صحيح ابن خزيمة (1/239).
(1) انظر: صحيح ابن خزيمة (1/212).
(2) انظر: صحيح ابن خزيمة (1/92).
31) انظر: صحيح ابن خزيمة (1/75).
(1) انظر: صحيح ابن خزيمة (1/200).
(2) انظر: صحيح ابن خزيمة (1/283، 284).
(1) انظر: صحيح ابن خزيمة (1/185-186).
(2) انظر: صحيح ابن خزيمة (1/186).
(3) أخرجه البخاري (660، 1423، 6806)، ومسلم (1031).
(4) انظر: صحيح ابن خزيمة (1/228).
(1) انظر: صحيح ابن خزيمة (3/285).
(1) انظر: صحيح ابن خزيمة (3/280).
(2) انظر: صحيح ابن خزيمة (3/208).
(3) انظر: الرسالة المستطرقة ص25.
(1) انظر: مقدمة صحيح ابن خزيمة ص23
(2) نقلا عن توضيح الأفكار للصنعاني (1/64).
(3) انظر: مقدمة صحيح ابن حبان ص15.(1/158)
(4) انظر: مقدمة صحيح ابن خزيمة ص22.
(5) انظر: مقدمة صحيح ابن حبان ص43.
(6) انظر: الضوء اللامع (6/102).
(7) انظر: ذيل تذكرة الحفاظ لابن فهد المكي ص333.
(1) راجع قول الدمياطي والحافظ ابن حجر في بيان أن صحيح ابن خزيمة أكثره مفقود، ولم يوجد منه الآن إلا الربع. ص(130).
(1) انظر: الأنساب (2/209)، ومعجم البلدان (1/415)، والكامل لابن الأثير (8/566)، وسير أعلام النبلاء (16/92)، وتذكرة الحفاظ (3/920)، وميزان الاعتدال (3/506)، وطبقات الشافعية (3/131)، والبداية والنهاية (11/259)، ولسان الميزان (5/112)، وشذرات الذهب (3/16).
(2) انظر: الرسالة المستطرقة ص(25).
(1) وكذلك نقله عنه الحافظ الذهبي في سير أعلام النبلاء (16/94).
(1) جزء من حديث رواه البخاري (5690)، (6652)، ومسلم (2672).
(1) أخرجه مسلم (2485)، وأبوداود (2/316)، وأحمد (2/269، 5/222).
(1) أخرجه مسلم (1104) عن أنس.
(2) هذا قاله عقب إخراجه لحديث أنس (3579). وقد ورد شده صلى الله عليه وسلم الحجر في عدة أحاديث منها: حديث جابر عند البخاري (4101)، وحديث أبي طلحة عند الترمذي (2371)، وحديث ابن بجير أخرجه ابن أبي الدنيا والخطيب وابن منده كما في الاصابة (2/486).
(3) أخرجه ابن حبان (16/98).
(1) انظر: سير أعلام النبلاء (16/94).
(1) انظر: سير أعلام النبلاء (16/96).
(2) أخرجه أبوداود (1949)، والترمذي (889)، والنسائي (5/264)، وابن ماجه (3015)، وغيرهم، وهو صحيح.
(1) هو أبو إسماعيل الأنصاري كما في السير (16/97).
(1) انظر: سير أعلام النبلاء (16/95).
(1) أخرجه البخاري (9) عن أبي هريرة، وهو عند مسلم (35/57)، وأخرجه (35/58) بالشك. وقد أخرجه ابن حبان (166، 190، 191).
(2) انظر غيرها في سير أعلام النبلاء (16/95).
(1) هو في مقدمة الإحسان (1/151) ، ونقله عن الذهبي في سير أعلام النباء (16/97) .
(2)(1/159)
(1) هو محمد بن الفضل السدوسي ، أبو الفضل البصري ، لقبه عارم ، ثقة ثبت ، تغير في آخر عمره ، من صغار التاسعة ، مات سنة 223 أو 224 . روى له أصحاب الستة . تقريب ت : 7011 .
(1) راجع الفقرة السابقة : " هل يقدم صحيح ابن خزيمة على صحيح ابن حبان .
(1) أخرجه ابن حبان (112) فما بعده ، وقد أخرجه أبو داود (181) ، والترمذي (82) فما بعده ، والنسائي (1/100، 216) ، وابن ماجه (479) فما بعده ، والحاكم (1/138) وغيرهم .
(1) أخرجه ابن حبان (119) فما بعده ، وقد أخرجه ابو داود (182) ، والترمذي (85) ، والنسائي (1/101) ، وابن ماجه (783) ، وابن خزيمة (33) ، وغيرهم .
(1) سُهيل بن أبي صالح ، ذكوان السمان ، أبو يزيد المدني ، صدوق ، تغير حفظه بآخره ، روى له البخاري ، مقروناً وتعليقاً . من السادسة ، روى له أصحاب الكتب الستة . تقريب : 2962 .
قال أبو حاتم . يُكتب حديثه ، ذكره ابن حبان في الثقات . بالجرح والتعديل : (4/246) ، الثقات : (6/417) .
(1) أخرجه ابن حبان (6186) ، وقد أخرجه أيضاً أحمد (2/134) ، والبزار (2938) ، والبيهقي (10/4-5) .
(1) أنظر : "سنن سعيد بن منصور " للدكتور سعد بن عبد الله آل حميد (1/575-594) .
(1) سورة البقرة : الآية : 102 .
(1) انظر : "مستدرك الحاكم" (3/130 ، 131) .
(1) انظر : سير أعلام النبلاء (1/168) .
(1) قد تكلم عليه الشيخ سعد آل حميد - حفظه الله - في مختصر المستدرك برقم (563) كما سيأتي ، وقد أطال تخريجه ، وشبهه الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق .
(1) راجع تاريخ ابن عساكر ، ومختصر المستدرك (552) .
(1) راجع تاريخ ابن عساكر ، ومختصر المستدرك (573) .
(1) انتظر : "مستدرك الحاكم " (2/130 ، 131) ، و "سير أعلام النبلاء " (17/168) .
(1) انظر : "البداية والنهاية " (7/375-377) .(1/160)
(1) أخرجه ابن الجوزي في "الموضوعات" (2/234) ، وقال : هذا حديث موضوع ، وقد اتهموا بوضعه "مينا" وكان غالباً في التشيع . قال يحي : ليس بشيء ، وقال الدار قطني : متروك . وقال ابن حبان : لا تحل الرواية عنه إلا اعتباراً ، ولا تحل الرواية عن الحسن بن علي الأزدي ، فإنه يضع الحديث على الثقات.
وأقره على ذلك الشوكاني في "الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة"ص(330)رقم(1125)وقال بعده :
وقد أخرج هذا الحديث : الحاكم في "المستدرك"وقال :متن شاذ، وتعقب:بأن في إسناده من يكذب وأن هذا الحديث موضوع"اهـ. .
(1) انظر : "مستدرك الحاكم " (3/160) .
(1) النحوي،نزل همذان ، قال الخطيب كان غير موثق عندهم .
ا)انظر :"سلسلة الأحاديث الصحيحة"رقم(1750).
(1) اتنظر : "مستدرك الحاكم " (2/130 ، 131) ، و "سير أعلام النبلاء " (17/168) .
(1) رواه البخاري (7/87) في فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، باب حب الأنصار ، ومسلم (75) في الإيمان ، باب الدليل على أن حب الأنصار وعلي رضي الله عنهم من الإيمان ، والترمذي (3896) في المناقب ، باب مناقب الأنصار وقريش ، وباقي الحديث : (فمن أحبهم أحبه الله ، ومن أبغضهم أبغضه الله) .
(1) رواه مسلم (78) في الإيمان ، باب الدليل على أن حب الأنصار وعلي رضي الله عنهم من الإيمان وعلامته ، وبغضهم من علامات النفاق .
(1) أخرجه مسلم (2604) عن ابن عباس .
(1) انظر : المستدرك (3/160) ، والكلام عليه في مختصر المستدرك (601) .
(1) انظر : المستدرك (3/8) .
(1) انظر : المستدرك (3/160) ، والكلام عليه في مختصر المستدرك (601) .
(1) انظر : المستدرك (3/590) ، وهو عند الترمذي (2653) ، وابن ماجه (4048) ، وأحمد (4/160 ، 219) ، وغيرهم .
(1) أنظر : المستدرك (3/590) .
(1) من الحيرة .
(1) انظر : مختصر المستدرك(رقم576)، وهو أيضاً في المسند(4/323) .
(1) انظر كلام ابن حجر في لسان الميزان (2/434/ث 1781) .(1/161)
(1) انظر كلام ابن حجر في لسان الميزان (2/434/ ت 1781) .
(1) انظر : السابق واللاحق : 118 ، وتهذيب الكمال (27/40) ، وسير أعلام النبلاء (13/277) ، وتذكرة الحافظ (2/636) ، وتهذيب التهذيب (9/530) ، والبداية والنهاية (11/52) ، وتاريخ دمشق (16/63/ب) ، ووفيات الأعيان (4/479) ، وشذرات الذهب (2/64) .
(1) تاريخ قزوين (2/49) .
(1) جبارة بن المغلس ، الحماني ، أبو محمد الكوفي ، ضعيف ، من العاشرة ، مات سنة 241 . روى له ابن ماجه . تقريب ت : 988 .
(1) انظر : سير أعلام النبلاء (13/278) .
(1) انظر : سنن ابن ماجه (2780) ، كتاب الجهاد ، باب ذكر الديلم وفضل قزوين ، وهو عن أنس ابن مالك ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ستفتح عليكم الآفاق ، وستفتح عليكم مدينة قال لها قزوين . من رابط فيها أربعين يوماً أو ليلة ، كان له في الجنة عمود من ذهب . عليه زبر جدة خضراء . عليها قبة من ياقوته حمراء ..." الحديث .
إخرجه ابن الجوزي في "الموضوعات" (2/316) (884) وقال : هذا حديث موضوع لا شك فيه ، فأول من فيه من الضعفاء "يزيد بن أبان" : قال شعبة : لأن أزني أحب إلي من أن أحدث عنه . وقال أحمد : لا يكتب عنه شيء . وقال النسائي : متروك الحديث . وقال ابن حبان : لا يحل الرواية عنه .
والثاني : "الربيع بن صبيح" ، قال عفان : أحاديثه كلها مقلوبة ، وضعفه يحي ... إلخ .
والثالث : "داود بن المحبر" . قال أحمد والبخاري : هو شبه لا شيء . وقال ابن المديني : ذهب حديثه . وقال حاتم الرازي : غير ثقة . وقال الدار قطني : متروك .
ثم قال ابن الجوزي ولا أتهم بوضع هذا الحديث غيره . والعجب من ابن ماجه مع علمه كيف استحل أن يذكر هذا في كتابه السنن . ولا يتكلم ؟! اهـ.
…وفي الزوائد : هذا إسناده ضعيف ، لضعف " يزيد بن أبان الرقاشي ، والربيع بن صبيح ، وداود ابن المحبر " ، فهو مسلسل بالضعفاء .(1/162)
وانظر : "تنزيه الشريعة " (2/50) ، و "اللآلي" (1/463) ، و "الفوائد المجموعة" ص (374) رقم (1237) ، و " السلسلة الضعيفة" (371) .
(1) انظر : زاد المعاد (1/435 ، 436) .
(1) سورة الأعراف : الآية ، 189.
(1) عبد الله بن عثمان بن خثيم ، القارئ المكي ، أبو عثمان ، صدوق ، من الخامسة ، مات سنة 132. أخرج له البخاري تعليقاً وباقي الستة . تقريب ت : 3836 .
(1) أخرجه السنائي (5/247) .
(1) إسماعيل بن عبد الله بن أويس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي ، أبو عبد الله بن أبي أويس المدني ، صدوق أخطأ في أحاديث من حفظه ، من العاشرة ، مات سنة 226 ، أخرج له الجماعة إلا النسائي . تقريب ت:527 .
(1) أخرجه النسائي (8/258) .
(1) سعيد بن سلمة بن أبي الحسام العدوي مولاهم ، أبو عمرو المدني ، وهو أبو عمرو السدوسي الذي روى عنه العقدي ، صدوق صحيح الكتاب يخطئ من حفظه ، من السابعة ، أخرج له البخاري تعليقاً ، ومسلم وأبو داود والنسائي ، تقريب ت : 2566 .
(1) انظر : سنن النسائي (8/314) .
(1) انظر : سنن النسائي (67/50 - 521، 54، فما بعدها) .
(1) انظر : سنن النسائي (2/134 فما بعدها) .
(1) تقدم عند الكلام على الترمذي .
(1) تقدم عند الكلام على ابن ماجه .
(1) انظر : سنن النسائي (2/172) .
(1) انظر : سنن النسائي (1/20) .
(1) انظر : سنن النسائي (3/116) .
(1) انظر : سنن النسائي (7/27) ، (8/59) .
(1) انظر : سنن النسائي (5/150) .
(1) انظر : سنن النسائي (3/61) .
(1) انظر : سنن النسائي (8/88) .
(1) انظر : سنن النسائي (8/320) .
(1) انظر : سنن النسائي (8/128) .
??
??
??
??
19(1/163)