من أسباب تراجع الدرس الحديثي
أ.د. زين العابدين بن محمد بلافريج
أستاذ التعليم العالي ـ جامعة الحسن الثاني
كلية الآداب والعلوم الإنسانية. عين الشق -الدارالبيضاء.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله -وآله وصحبه ومن اتبع هداه.
وبعد:
إننا حين نروم وصف حالة الدرس الحديثي اليوم، وتصنيف رتبته في تحصيل الطلبة له تقدما أو تراجعاً، وإن ثبت تراجعه فما أسباب ذاك التراجع، وما هي الصعوبات التي تعترض أو تعيق طالب الحديث عن تحصيله، فإنا مرغمون باستحضار خصائص هذا العلم ومميزاته، وطرائق تحصيله عند أهله الأقدمين، والنظر في تاريخه وتراجم أعلامه وسيرهم في أخذه ونشره، وقواعد التعلم والتعليم وضوابط ذلك كله، وما تعلق بمده وجزره تقدمه وخفقانه، فإن أقرب شيء إلى تحديد الأسباب والعوائق لواقع متراجع أو مستشكل لهذا العلم، هو عرضه على أزهى العصور وأعمقها إدراكا وأحسنها فهماً، فعصورهم العلمية خرجت أنجب الطلبة وأكمل العلماء، وإذا كنا مقبلين على معرفة جوانب الإخفاق في العملية التعليمية لمادة الحديث وعلومه، فإنا بحاجة إلى معرفة خصائص علم الحديث ومميزاته، لاستجلاء مدى اقتراب المتعلمين أو ابتعادهم من هذا العلم، ومن ذلك تستخرج أسباب الرجوع والعودة إلى صفاء البحث وأقوم الطرق المجدية في تعلمه، ويكون ما آل إليه واقع الدرس الحديثي هو ما دار في فلك هذه الأمور، وأن عودة قوته وحيويته في صفوف المتعلمين، واستيعاب قضاياه وتجاوز صعوباته، يكمن في مراجعة تلك الأرومة القديمة، ولا بأس بالاستعانة بالوسائل الحديثة في تقريبه وتيسير صعوباته كما سيأتي.(1/1)
وسأحاول في هذا الإدلاء حصر أسباب تراجع الدرس الحديثي بعد تقرير تراجعه، ثم عرض ما تبين لي من صعوبات أو عوائق في طريق تحصيله، سالكا في التماس ذلك وتحديده الواقع الحالي، وربطه بمناهج تعلم العلم وخاصة علم الحديث، مستعرضاً ضوابط العلوم وأسباب التحصيل المثالي عندهم، مقارناً الحالين ببعضهما مستنتجاً النتائج. ومدليا ببعض الأحوال من واقع الطلبة الذين توليت تدريس هذه المادة لهم منذ ثمان عشرة سنة في مرحلة الكلية وفي الدراسات العليا تدريساً وإشرافاً.
وغني عن البيان أن كل كتابة مطبوعة ببيئتها وأحوال أهلها ومدى احتياجهم لهذا العلم، وما يغلب عليهم من المدارك، أو يكثر فيهم من العلوم، وهل دارهم دار فقه وفروع أم دار حديث وأثر أم لغة وهكذا....
وهذه المداخلة اشتملت على توطئة وثلاثة محاور:
المحور الأول في مميزات علوم الحديث وخصائصها
والمحور الثاني في أسباب تراجع الدرس الحديثي، وفيه مباحث:
المبحث الأول: في الطالب
المبحث الثاني: في الأستاذ المدرس
المبحث الثالث: في المنهج المطبق
المحور الثالث: اقتراحات لرفع مستوى الدرس الحديثي
هذا ما تيسر النظر فيه بحسب الوقت المتاح.
المحور الأول: مميزات علوم الحديث وخصائصها:
إنما تعرض خصائص الفن لعلاقة مناهج التحصيل بها، فبقدر ما تستوعب الخصائص التي يتسم بها علم الحديث بقدر ما يُهتدى إلى نجاعة مناهج الأقدمين في أخذه وأنها أقوم الطرق إليه، وأنها قابلة للتطبيق اليوم، فليس في الإمكان اختراع مناهج جديدة، وإنما المفيد هو النظر في كيفية تطبيق المناهج القديمة العتيدة، وكسوها بكساء جديد، واستعمال الوسائل الحديثة في الوصول إلى المرتجى من إفهام وتفهيم طالب الحديث.
خاصية الإسناد:(1/2)
هذه أم خصائصه والركن الوثيق لعلومه، والأساس لكل أسسه، وسبب قيامه، ولم يكن لأمة من الأمم سابق عهد به على نحو ما أبدعه المحدثون، فهو ابتكار محض من إملاء الفؤاد وجود الخاطر، ولا أثر فيه لعلوم أجنبية، ومن ثم ظهر تفرده بين العلوم، ولم يكن لدارسيه مثل محتذى فيقيسونه عليه، بل مدرسته المفتقة، وبابه المشرع هم أهله المنشؤون له (1) .
وانصبت قواعد علوم الحديث على الإسناد ورجاله، من اتصاله وانقطاعه، أو شذوذه وعلته، ومن ثقة الرجال وضعفهم، مما هو أساس قبول الحديث أو رده، وكان أخذ هذه القواعد وفهم المراد منها عن أهلها العارفين بها وبمقاصد مصطلحاتهم ومجال استعمالهم لها وتطبيقهم إياها. فيكون ملاحظة المكتوب المدون منها، والمطبق المعمول به، وربط النظري منها بالتطبيقي، ودوام الاتصال بها لعرض كل عمل في هذا المجال على قواعد علم الحديث والتحاكم إلى قوانينه.
وعملية نقد الأسانيد في معناها الدقيق المستوفي لعناصر النقد، خاصة في أنواع بعينها كأبواب العلل والاختلاف، والتدليس، وتقوية الطرق، وما إليها. مما يعلم وعورة المسلك فيه، وعدم تأهل كل أحد له إلا علماء العلل الذين هم خاصة أهل الحديث. وقد اتفقوا على الرجوع في كل فن إلى أهله، ومن تعاطى تحرير فن غير فنه فهو متعني (2) .
وعلوم الإسناد متشعبة، ومن رام تعلم الحديث تعين عليه الصبر على هذا العلم المتعلق به ومنازلة صعوباته إذ أن صعوباته لا تزول بفهم قليله بل لا بد من أن يحكم معظم أبوابه وعلومه، أما مع عدم التقدم في فهمه فذاك يزيد المبتدئ إشكالا.
__________
(1) وتبقى إطلاقات المؤرخين لتاريخ العلم عند المسلمين من المستشرقين ومن كان على منوالهم غير دقيقة، كما يفعل روزنثال، فمن ذلك قوله »وهكذا أصبح العلماء اليونانيون المثل الأعلى في كل حقل من حقول العلم عند المسلمين الذين تتلمذوا عليهم« مناهج العلماء المسلمين ص 45.
(2) فتح المغيث للسخاوي (1/274).(1/3)
فتحققه لا يتأتى إلا بدراسة كل علومه دراسة متأنية وعميقة على أصحاب الفن، وطول مكث ومراس وملازمة بمجالسه ومخالطة أصحابه. ومعرفة مذاهب النقاد في رواة الأسانيد ومدارسهم المتباينة في جرح الرواة وتعديلهم، وألفاظ النقد وعبارات القبول والرد ودرجات كل من حيث القوة والرتبة، فهذا باب دقيق صعب، قال الذهبي »...ثم نحن نفتقر إلى تحرير عبارات التعديل والجرح، وما بين ذلك من العبارات المتجاذبة، ثم أهم من ذلك أن نعلم بالاستقراء التام عرف ذلك الإمام الجهبذ واصطلاحَه ومقاصده بعباراته الكثيرة« ثم تعرض الذهبي لنماذج من ألفاظهم والمراد منها من طريق الاستقراء، وبين الحاد والمعتدل والمتساهل في الجرح... (1) .
وقد تكون ألفاظ التعديل والتجريح موجهة حسب استعمال الناقد لها فوجب معرفة مذهبه في ذلك، وعدم خلطه بمذهب غيره فيه، ويفتقر هذا الباب إلى استقراء تام للاستعمال قال الذهبي (أما قول البخاري (سكتوا عنه) فظاهرها أنهم ما تعرضوا له بجرح ولا تعديل، وعلمنا مقصده بها بالاستقراء أنها بمعنى تركوه. وكذا عادته إذا قال (فيه نظر) بمعنى أنه متهم أو ليس بثقة، فهو عنده أسوأ حالاً من الضعيف. وبالاستقراء إذا قال أبو حاتم (ليس بالقوي) يريد بها أن هذا الشيخ لم يبلغ درجة القوي الثبت، والبخاري قد يطلق على الشيخ (ليس بالقوي) ويريد بأنه ضعيف، ومن ثم قيل تجب حكاية الجرح والتعديل) (2) .
__________
(1) الموقظة 39.
(2) الموقظة ص 39-40.(1/4)
وهذا باب فيه من الخصوصية ما ليس لعلم من العلوم، وقد تاه البعض في فتح أقفال من هذا الباب، وخبط ولم يصب المراد، إذ قوامه المعرفة والاستقراء. وهذا باب لم ينته منه إلى حد الساعة، فلا زال الناس يسبرون أغواره ويتلمسون حقائقه والمراد منه. مما يجعل باب الاجتهاد مستمرا في هذا العلم، وقد يظهر أمر يغير الاجتهاد في حكم راو من رواة الإسناد، أو ينبني عليه قبول ما رد أو رد ما قبل. قال الخطيب (مذاهب النقاد للرجال غامضة دقيقة وربما سمع بعضهم في الراوي أدنى مغمز فتوقف عن الاحتجاج بخبره، وإن لم يكن الذي سمعه موجباً لرد الحديث، ولا مسقطاً للعدالة) (1) .
وقد ثبت في الشواهد التاريخية المستفيضة بل المتواترة، تطبيق علوم الإسناد التي أصبح لهم فيها صناعة كصناعة صيارفة الذهب والفضة من معرفة الجيد والرديء المغشوش،وأن كلامهم في النقد واحد متفق. كما في قصة من سأل أبا حاتم وأبا زرعة عن شيء واحد من غير مواطأة فكان جوابهما متفقا (2) . وفي تحديد خلل الإسناد والرواية لما شرح عبد الرحمن بن مهدي ما حصل في حديث (من ضحك في الصلاة فليعد الوضوء والصلاة) قال: إن هذا الحديث لم يروه إلا حفصة بنت سيرين عن أبي العالية عن النبي صلى الله عليه وسلم، فسمعه هشام بن حسان من حفصة وكان في الدار معها، فحدث به هشام الحسن، فحدث به الحسن فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال فمن أين سمعها الزهري؟ قال: كان سليمان بن أرقم يختلف إلى الحسن وإلى الزهري فسمعه من الحسن، فذاكر به الزهري، فقال الزهري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله (3) .
__________
(1) الكفاية ص 109.
(2) مقدمة الجرح والتعديل لابن أبي حاتم: 349-350.
(3) المحدث الفاصل: 312.(1/5)
وحفل تاريخ المحدثين العلمي بمناهج التحصيل المجدية، فكان مدارها على أن الأخذ بزمام هذا العلم وإتقانه لا يكون إلا بشدة المواظبة على تحصيله، وطول الممارسة والنظر ومخالطة أهله، حتى يصبح صناعة لصاحبه، ولا يكون صناعة إلا إذا أعطاه كليته ولم يخلط به غيره (1) .
وقال ابن رجب: »ولا بد في هذا العلم من طول الممارسة، وكثرة المذاكرة، فإذا عدم المذاكرة به، فليكثر طالبه المطالعة في كلام الأئمة العارفين به كيحيى بن سعيد القطان، ومن تلقى عنه كأحمد بن حنبل وابن المديني وغيرهما. فمن رزق مطالعة ذلك وفهمه، وفقهت نفسه فيه، وصارت له فيه قوة نفس، وملكة صلح له أن يتعلم فيه (2) . وقال الحاكم: ((الحديث الصحيح لا يعرف بروايته فقط، وإنما يعرف بالفهم، والحفظ، وكثرة السماع)) (3) .
وقال الخطيب: (إن المعرفة بالحديث ليس تلقيناً وإنما هو علم يحدثه الله في القلب. أشبه الأشياء بعلم الحديث معرفة الصرف ونقد الدنانير والدراهم، فإنه لا يعرف جودة الدينار والدرهم بلون، ولا مس، ولا طراوة، ولا دنس، ولا نقش، ولا صفة تقود إلى صغر أو كبر، ولا إلى ضيق أو سعة، وإنما يعرفه الناقد عند المعاينة، فيعرف البهرج الزائف، والخالص والمغشوش، وكذلك تمييز الحديث، فإنه علم يخلقه الله تعالى في القلوب بعد طول الممارسة له والاعتناء به) (4) .
__________
(1) المجروحين لابن حبان (1/40).
(2) شرح علل الترمذي 331-332.
(3) معرفة علوم الحديث 59.
(4) الجامع (2/255).(1/6)
والرواة الذين تتسلسل بهم أسانيد الأحاديث قام عليهم علم متشعب دقيق يعتمد مناهج استقراء مروياتهم ومقارنتها لمعرفة قيمة رواية كل واحد. وقد يكون الاطلاع على قبول مرويات الراوي أو ردها بواسطة منهج الملاحظة، ومعاينة رواياته ومعرفة ثقته في موضعه ووطنه، وقد يمتحنونه لملاحظة قوة عقله وسلامة حفظه، أما عدالته وسيرته الدينية فذاك أمر يعلمونه من ظاهر استقامته على الشرع وسلامة أحواله من خلافه، قال ابن المبارك: (العدل عندنا من فيه خصال، يشهد الجماعة، ولا يشرب هذا الشراب، ولا تكون في دينه خربة، ولا يكذب، ولا يكون في عقله شيء) (1) . ولأجل تحقيق ذلك رحلوا إلى الرواة وخالطوهم وعرفوا أحوالهم ومواليدهم وأنسابهم ورحلاتهم، وشيوخهم وتلاميذهم، وسائر ما يحقق المعرفة برواياتهم...
وإذا كان هناك خلاف في بعض الرواة بين نقاد الحديث، فذاك ناتج عن تطبيق تلك الأحكام والضوابط، والخلاف في الرواة لا يزيد المنهج إلا ثراء وندى ويعين على توسيع مدارك الناظر في هذا العلم، ويدرك معه بعض خفاياه وغوامضه، ويقف على قوة قواعده، وحقيقة عمل النقاد في تنقيد الرواة. ففيه من العلوم النقدية ما لا يخفى، وقال الترمذي: (وقد اختلف الأئمة من أهل العلم في تضعيف الرجال، كما اختلفوا فيما سوى ذلك من العلم) (2) ، ووجود الخلاف إنما هو في قسم من الرواة وليس في جميعهم، وإذا ثبت الخلاف في هؤلاء فقد آل الأمر فيهم إلى الاجتهاد دون المتفق على توثيقهم أو تجريحهم، فلم يقل أحد من أهل الحديث بمراجعة الأحكام فيهم. فقد اتفقوا على الرجوع في الجرح والتعديل إلى أقوال المحدثين لأنهم العالمون بأحوال الرواة (3) .
__________
(1) الكفاية: 79.
(2) العلل بآخر الجامع (5/411).
(3) فتح المغيث: 1/274.(1/7)
ومرجع الاختلاف في قسم من الرواة تشابه أحوالهم وتباين كلمات وعبارات النقاد فيهم، والعلم قائم بأن اختلاف هذه العبارات في نقد الرواة مبني على ملاحظة رواياتهم وأحوالهم، فيكون سبب الاختلاف تشعب أحوال أولئك الرواة وورود الأمرين معاً في الراوي، صحيح أن منهج التساهل أو التشدد يبرزان أو يفرزان أيضا شيئا من الاختلاف في الرواة، فيرجع حينئذ إلى المذاهب المستقيمة في نقد الرواة، وملازمة الاعتدال خير المناهج وأقومها وأولاها بالاستعمال. وهذا المبحث فيه صعوبة وتشعب، والكفيل بحيازة فهمه وإدراك مراميه شدة الملازمة للنظر في أحوال الرواة وأسانيد الأحاديث، ودقة النظر في ذلك كله، ومداومة مطالعة أعمال النقاد في ذلك، واستخراج قواعدهم.
فالواجب إدراك معاني الاختلاف في الراوي وحقيقة ذلك وملاحظة الاتفاق وعدمه، قال المروزي: (كل رجل ثبتت عدالته لم يقبل فيه تجريح أحد حتى يتبين ذلك بأمر لا يحتمل أن يكون غير جرحة). وفي مثل عكرمة مولى ابن عباس ما يسفر عن دقائق الاشتغال بهذا الباب، وكيف كان إجماع رؤساء الحديث على قبوله والاحتجاج به رغم ما قيل فيه، قال المروزي: (أجمع عامة أهل العلم على الاحتجاج بحديث عكرمة، واتفق على ذلك رؤساء أهل العلم بالحديث من أهل عصرنا منهم أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو ثور ويحيى بن معين...) (1) . وقال الحافظ الذهبي في قيس بن أبي حازم: (أجمعوا على الاحتجاج به، ومن تكلم فيه فقد آذى نفسه، نسأل الله العافية وترك الهوى) (2) .
__________
(1) هدي الساري: 429.
(2) ميزان الاعتدال (3/393).(1/8)
وعند الاختلاف تدرس الأسباب الحاملة على التضعيف والكلام في الراوي، وما يحمل أحدهم على سوء رأي في الراوي، وأحوال الرواة وعقائدهم وديانتهم وضبطهم، وعلاقة الأقران، وما علاقة ذلك بما ينسب إليهم، وما حقيقته، وتحري الدقة في ذلك والنزاهة عن الهوى أو الأحكام المسبقة أو البواعث المذهبية وما إلى ذلك مما يخرج عن قواعد العلم ويوقع في الخبط والتيه ومجانبة الحكم الصحيح تجاه الراوي، ومن ذلك اعتبار مذاهب النقاد تساهلاً وتشدداً واعتدالاً.... ومراعاة ما غمز به الرجل فقد لا يكون مغمزاً مؤثراً في روايته. وفي قصة تضعيف النسائي (ت303هـ) أحمد بن صالح المصري ما يحرر هذا الموضع، فقد بينوا الباعث على تضعيف النسائي له وأنه استند في تضعيفه إلى ما حكاه عن يحيى بن معين، وهو وهم منه حمله على اعتقاده سوء رأيه في أحمد بن صالح فذكر ابن حجر السبب الحامل له على سوء رأيه فيه، وأن أحمد بن صالح امتنع أن يحدث النسائي... (1) .
الحديث لا يقبل المزاحمة:
__________
(1) هدي الساري: 386.(1/9)
بما أن علوم الحديث تميزت بالإسناد وقام عليه من العلوم المتعلقة بالراوي والمروي والرواية ما ظهر لأهل العلوم الأخرى أنه لا عهد لأحد بهذه الاصطلاحات المبتكرة والتنقيد الدقيق، فلا يشبهه علم من العلوم. وعلوم الإسناد ليس لها علاقة بالمعاني والشروح وإنما البحث في القبول والرد والثبوت وعدمه، إذا عرف هذا فمما يتطلبه هذا العلم أن إتقانه وبلوغ المراد فيه لا يكون إلا بإخلاص كليته له، وإقباله عليه، من غير مزاحمة غيره، وقد كان شيخ الإسلام أبو إسماعيل الهروي يقول: (هذا الشأن شأن من ليس شأنه سوى هذا الشأن) (1) . وقال الخطيب في وصف علم الحديث: (ويكون قد أمعن النظر في حال الرواة بمعاناة علم الحديث دون ما سواه، لأنه علم لا يعلق إلا بمن وقف نفسه عليه، ولم يضم غيره من العلوم إليه«، ثم ساق أن الشافعي -رحمه الله مر بيوسف بن عمرو بن يزيد وهو يذكر شيئاً من الحديث، فقال: يا يوسف تريد أن تحفظ الحديث وتحفظ الفقه؟! هيهات. وقال عمر ابن هارون: من لم يجعل عمره كله في طلب الحديث لم يكن صاحب حديث (2) .
فإن قيل إن هذا الذي يذكرونه إنما هو في الحفظ على رسم أهل الحديث من حفظ الأبواب والمذاكرة بها. وذلك علم كبير إذا اشتغل به لم يفرغ إلى الفقه كما قاله البيهقي (3) ،
__________
(1) الرسالة المستطرفة.
(2) انظر الجواهر والدرر: (1/80).
(3) الجواهر والدرر: (1/80).(1/10)
فإن كونه وارد كذلك لا يمنع من استفادة القدر المطلوب من التفرغ له، ولو بحد أدنى من ذلك، ويكون الحد الأعلى هو ما يشيرون إليه، والمقصود أن التفرغ لطلب الحديث وعلومه من غير مزاحمة غيره إنما يطلب لصعوبة مسالكه وجمعه بين الحفظ والفهم. وإتقانه لا يكون مع تعديه إلى غيره بحيث يصبح للطالب صناعة، كما قال ابن حبان في وصف أئمة الحديث: (... إلا أن من أشدهم انتقاء للسنن وأكثرهم مواظبة عليها، حتى جعلوا ذلك صناعة لهم لا يشوبونها بشيء آخر ثلاثة أنفس: مالك والثوري وشعبة« وقال أيضا: (... حتى جعلوا هذا الشأن صناعة لهم، لم يتعدوها إلى غيرها، مع لزوم الدين والورع الشديد والتفقه في السنن رجلان: يحيى بن سعيد القطان، عبد الرحمن بن مهدي...) (1) . والمراد إحراز قدر من هذا المذكور لمن رام هذا الفن، ومحاكاة أولئك الأئمة في التفرغ لهذا العلم وسيأتي كلام على التفرغ له عند ذكر منهج طلبه.
أهل الحديث قليلون في الأزمان بالنسبة لأصحاب سائر العلوم:
قال البخاري: (أفضل المسلمين رجل أحيى سنة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم قد أميتت، فاصبروا يا أصحاب السنن رحمكم الله فإنكم أقل الناس)، قال الخطيب بعد روايته: »عنى البخاري بذلك الحفاظ للحديث العالمين بطرقه، المميزين لصحيحه من سقيمه، وقد صدق في قوله، لأنك إذا اعتبرت لم تجد بلداً من بلدان المسلمين يخلو من فقيه أو متفقه يرجع أهل عصره إليه، ويعولون في فتاويهم عليه، وتجد الأمصار الكثيرة خالية من صاحب حديث عارف به مجتهد فيه، وما ذاك إلا لصعوبة علمه وعزته، وقلة من ينجب فيه من سامعيه وكتبته، وقد كان العلم في وقت البخاري غضّاً طريا، والاتسام به محبوباً شهياً، والدواعي إليه أكبر، والرغبة فيه أكثر، وقال ما حكيناه عنه، فكيف يقول في هذا الزمان مع عدم الطالب وقلة الراغب؟! وكأن الشاعر وصف قلة المتخصصين به من أهل زماننا في قوله:
__________
(1) المجروحين: (1/40-52-54).(1/11)
وقد كنا نعدهم قليلا فقد صاروا أقل من القليل.اهـ (1)
قال السخاوي: ورحم الله الخطيب، كيف لو أدرك زماننا؟! (2)
ويقول من بعد السخاوي إلى زماننا: كيف لو أدركوا زماننا؟!
ونقول اليوم: كيف لو أدركوا زماننا؟!
قال النووي: (ولقد كان أكثر اشتغال العلماء بالحديث في الأعصار الخاليات، حتى لقد كان يجتمع في مجلس الحديث من الطالبين ألوف متكاثرات فتناقص ذلك، وضعفت الهمم، فلم يبق إلا آثار من آثارهم قليلات، والله المستعان على هذه المصيبة وغيرها من البليات) (3) .
وقال ابن حجر عنده: (لا شك أن نقص الاشتغال بكل علم قد وقع بكل قطر، لكن حظ هذا العلم الشريف من هذا النقص أزيد، وذلك أن كثيرا من البلاد الإسلامية قد خلت عمن تحققه رواية، فضلا عن الدراية، وما ذلك إلا لركونهم إلى التقليد، وقصور هممهم عن محاولة ما يحصل درجة الاجتهاد ولو في بعض دون بعض) (4) .
وقلة المشتغلين بالحديث وعلومه أمر ظاهر في كل الأزمان، وفي زماننا هذا بقيت له بقية باقية في بعض أطراف من الأرض، وفي غيرها أفراد ندر، مع وفرة المشتغلين بالفقه وسائر العلوم، وعندما نريد عد هذه الطائفة في زماننا نجدهم أقل من غيرهم، هذا مع أن الوقت يشهد اتجاها نحو الحديث وعلومه وإقبال الطلبة عليه، ونشر مؤلفاته، وإحياء بعض سنن تعلمه، وانتشر الوعي بصحيح السنن وضعيفها.
مصطلحات علوم الحديث صرفة مبتكرة لا تؤخذ إلا عن مبتكريها:
__________
(1) الجامع: (1/112 - 113).
(2) الجواهر والدرر: (1/86 - 87).
(3) مقدمة عن البخاري للنووي: 17.
(4) الجواهر والدرر: (1/87).(1/12)
المتعين لمعرفة مقاصد المحدثين بمصطلحاتهم، وما أصل وضعها وما وضعت له، وكيف طبقت عند منشئيها، الرجوع إلى المحدثين الأوائل القدامى الذين أسسوا هذا العلم وعملوا به، إذ أننا أمام تاريخ علمي كثيف وموضوع اصطلاحي دقيق لا يؤخذ إلا عن أهله القائمين به. ولذلك فالعلو في طلب معاني الاصطلاح وطرق تطبيقها هو الكفيل بإرشاد القاصد إلى هذا العلم لفهمه في غضاضته وطراوته، بمعزل عن الفهوم الطارئة أو التطبيقات الغير منضبطة. فهذا الذي يخول معرفة العلم في أصالته ومقاصد أهله به.
فإن قيل إن العلوم بأسرها يتعين فيها هذا؟ فالجواب أن المراد العلو في المراجعة لا مطلق الرجوع إلى أهل علم من العلوم القائمين عليه، إذ معلوم تطور العلم الواحد بين المتقدمين من أهله والمتأخرين، وقد يخرج المتأخرون عن بعض مقاصده لدى المتقدمين. يضاف إلى ذلك أن علم الحديث يقضي بهذا أكثر من غيره من العلوم، إذ أن علوم الإسناد المنشأة ودواوين الرجال وإطلاقات الاصطلاحات ومعاني ذلك كله لا يشبهه علم آخر حتى يقال يناله ما نال العلوم الأخرى، فصعوبة هذا العلم قد تربك العامل في حقله، وصعوبة غيره قد لا تربك كما نجد في أصول الفقه. ولله در الناقد الذهبي (ت748هـ): (... فقد نصحتك فعلم الحديث صلف، فأين علم الحديث؟ وأين أهله؟ كدت أن لا أراهم إلا في كتاب أو تحت تراب...) (1) .
وكلام بعض المتأخرين في رجال وأحكامهم عليهم خالفت ما قرره فيهم أهل الحديث الأوائل، فحصر المبتغي لهذا العلم نفسه في أحكامهم يوقع فجوة سحيقة في منهج تحصيل علم الحديث، ويبعده عن إدراك دقائق الفن وحقائقه ونتائجه المرضية. قال ابن حجر في ترجمة إسرائيل بن يونس السبيعي: (لا يحمل من متأخر لا خبرة له بحقيقة حال من تقدم أن يطلق على إسرائيل الضعف، ويرد الأحاديث الصحيحة التي يرويها) (2) .
المحور الثاني: من أسباب تراجع الدرس الحديثي:
__________
(1) مقدمة تذكرة الحفاظ: (1/4).
(2) هدي الساري: 7.(1/13)
لما أذكر أسبابا لتراجع الدرس الحديثي، فإن ذلك يعني إثبات حقيقة ملموسة، وواقعاً ملحوظاً، ذلك لأن الدرس الحديثي في الجامعات وغيرها من مراكز التعليم تناقص، فأنت قلما تجد دراسات معمقة وتدريساً يعنى بدقائق علم الحديث ومباحثه الغامضة، وغاية ما ألفه الناس اليوم، وهو الغالب، تدريسه على شكل تعريفات وأمثلتها، ويقف العرض عند هذا الحد مما يجعل الدراسة سطحية لا تنفذ إلى أغوار الفن وأحراجه المتشعبة، لتوقف الدارس على مكامن الدقة ومظاهر المهارة في ابتكار قواعده، وكيف رزق هؤلاء النقاد عقولا نفاذة الهمت إحكام هذه القواعد على غير مثال سابق.
ويمكن إرجاع أسباب تراجع الدرس الحديثي على وجه الإجمال إلى العزوف عن وجه الصواب في تعليم العلوم، وتعلمها والتنكب عن مناهج الأقدمين في تعليم الحديث وعلومه، وإحداث فجوة وقطيعة عن تاريخ العلم، إما إهمالا وإما استعاضة عنها بمناهج محدثة.
وأحاول حصر بعض الأسباب، فإن معرفة أسباب نقص عطاء درس علوم الحديث يورث العلم بما يجب تدبيره لتجاوز هذا الواقع سعيا نحو تحسين مردوديته. ويمكن تقسيم الأسباب إلى ما يرجع إلى الطالب أو الأستاذ أو المنهج المسلوك.
أولا: الطالب:
طالب علم الحديث هو ركن من الثلاثي الذي يأتلف منه نظام التعليم، وهو الغاية من الدرس، والأستاذ والمنهج وسيلتان إليه يتوسل بهما لبلوغ تعليمه وإيصال الدرس إليه فهما وتحصيلا.
وإذا كنا نبحث عن أسباب تراجع درس علوم الحديث من جهة الطالب فإننا نجد أموراً ترجع إليه كان له دور في انحساره ونقصان مستواه، ومنها:(1/14)
الأول: تناسي الأغراض الحاملة له على تعلم العلم، وانفصام الرابط الشرعي بين المتعلم والتعلم، والواجب استحضار النية في طلبه، وصدق التوجه وإرادة وجه الله به. قال الخطيب: (ينبغي أن يكون قصد الطالب بالحفظ ابتغاء وجه الله تعالى والنصيحة للمسلمين في الإيضاح والتبيين)، وأسند عن ابن عباس: (إنما يحفظ الرجل على قدر نيته) (1) . وقال أيضا: (يجب على طالب الحديث أن يخلص نيته في طلبه، ويكون قصده بذلك وجه الله سبحانه)، وأورد حديث عمر بن الخطاب: (إنما الأعمال بالنية وإنما لامرئ ما نوى) (2) .
ويستحضر أن تعلم علوم الحديث لنفي الكذب عن الشريعة، وتقويم الغلط، وليكون مرجعاً مفيداً في بيان الصحيح والضعيف والمكذوب من هذه الأحاديث. وقد قال الثوري: (ما شيء أخوف عندي منه -يعني الحديث- وما من شيء يعدله لمن أراد الله به) (3) .
فيتعين بيان غاية العلم الذي يتعلمه طالب الحديث: (فلا بد لكل علم من غاية يحددها متعاطيه ويتبجح بها، ولولا ذلك لم يشتغل به، ويتحفز بمثل صولة العلم وعزته في الدنيا والآخرة. كما قال بعض السلف: »لا شيء في الدنيا أعز من العلم، الأمراء حكام على الناس، والعلماء حكام على الأمراء) (4) .
__________
(1) الجامع: (2/257).
(2) الجامع: (1/81) وحديث عمر رضي الله عنه متفق عليه.
(3) أسنده إليه الخطيب في الجامع (1/82 - 83).
(4) قانون اليوسي: 304 - 305.(1/15)
ويستحضر الآيات الواردة في مدح العلم والعلماء والترغيب في العلم كقوله تعالى: {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون}( التوبة: 122.) وقوله: {إنما يخشى الله من عباده العلماء}( فاطر: 28) {يرفع الله الذين ءامنوا منكم والذين أوتوا العلم درجت}( المجادلة: 11) وقوله: (من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة) (1) .
ثانيا: الأهلية:
معاينة الطلبة الراغبين في علم من العلوم ضرورية، وفي البداية ينظر في استعداده ومدى استجابة فكره للعلم، وقبول طبعه له، وقد تكون رغبته فيه منعدمة أو ضعيفة، فلا يحمل عليه إلا بعد تنمية تقبل العلم في نفسه، وتهيئه لقبول التعلم، وترغيبه فيه وتحبيبه إليه، وعدم أهلية الطالب يكون بأمرين:
-الأول: في الإنسان من جهة الأخذ والتحصيل، وهو أن يكون بعيداً جافي الطبع، نائي الفكر عن المدارك، بعيداً عن الفهم والحفظ فتعليمه عنت وتكلف، كمن يبذر في السباخ أو على الصم الصلاب، فحق العالم أن يتجنب مثل هذا ما أمكنه، وهو محنة لمن ابتلي به كما قيل (ومن العناء رياضة الهرم)، وليصرفه عنه صرفاً جميلاً... وقد يكون ذلك في العلم على الإطلاق، وقد يكون في فن مخصوص، فيصرفه إلى غيره مما يقبله طبعه، ويدركه فهمه...
قال عمرو بن معدي كرب:
إذا لم تستطع شيئا فدعه ... ... وجاوزه إلى ما تستطيعه
-الثاني: من جهة سائر الخلق، بأن يكون خسيس الهمة، يعلم منه أنه لا يزداد بالعلم إلا تساقطا (2) . والمقصود أن طالب الحديث يجب أن يتوفر فيه الأهلية له، فيكون مائلا إليه بطبعه، محباً له راغبا فيه، محفزاً إليه، فشأن هذا المقبل على علم الحديث أن يبذل فكره وما خلق فيه من إدراك للاستمساك بناصيته.
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الدعوات، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر (شرح النووي 17/21).
(2) القانون في أحكام العلم: 351 -352.(1/16)
فلا بد من ملاحظة قوة النفس المهيأة المستعدة لاكتساب الآراء وهذا حد الذهن، وحد الفهم جودة التهيء لهذه القوة، وحد الذكاء جودة حدس من هذه القوة تقع في زمان قصير غير ممهل (1) .
ولذلك علامات، قال ابن الجوزي: هذه العلامات تنقسم قسمين: أحدهما من حيث الصورة، والثانية من حيث المعنى والأحوال والأفعال. فذكر الأول قال: الخلق المعتدل والبنية المتناسبة دليل على قوة العقل وجودة الفطنة. والثاني: يستدل على عقل العاقل بسكوته وسكونه، وخفض بصره وحركاته في أماكنها اللائقة بها ومراقبته للعواقب (2) .
ودور مكاتب الإرشاد الآكاديمي وتوجيه الاختيار ملاحظة هذه الأهلية وما يليق بكل طالب حسب استعداده الذهني، وطالب الحديث ينبغي تمتعه بذهن قادر على الحفظ مائل بطبعه إليه، مستجيب لصعوبات علوم الإسناد ودقائق الاصطلاح. فتلاحظ اللجنة المتخصصة قوة عقل الطالب أو ضعفه. وذلك بحسب الصفاء والسلامة من الصوارف، وصدق المتوجه، ووضوح المدرك، وكثرة إلفه أو إلف شبيهه، وبحسب ضد ذلك كله (3) .
ثالثا: ضعف الهمة:
الهمة توجه القلب وقصده بجميع قواه الروحانية إلى جانب الحق لحصول الكمال أو لغيره (4) . ويُكوّن الهمة داعي الشرع الذي يدعو إلى طلب العلم، فهي استجابة لترغيب الشارع في العلم الذي نشأ عنه اهتمام وقناعة ثم حب ورغبة ثم تكون الهمة، فهي ثمرة ما ينتفع به المقبل على العلم حين تجتمع في فكره تلك المعاني السامية المرغبة في طلبه.
__________
(1) الأذكياء لابن الجوزي: 9.
(2) الأذكياء: 10 - 11.
(3) القانون في أحكام العلم لليوسي: 321.
(4) التعريفات: 320.(1/17)
واعتدال المزاج وتكامل العقل من الأمور المخلوقة في الإنسان، ولها الأثر المباشر في جده وطلبه للعلا، والاهتداء إلى المطالب المقربة من الربوبية المحرضة على التعلم. قال ابن الجوزي: (ومتى اعتدل المزاج، وتكامل العقل، أوجب ذلك يقظة الصبي من حال صغره، فتراه يطلب معالي الأمور، فإن طلب رفعة الدنيا دل على قصور فهمه، لأن من استحضر عقله دله على خالق وجبت عليه طاعته وامتثال أوامره، فطلب التقرب إليه، وعلم أنه لا يقرب إلا بالعلم والعمل، فجد في تحصيل ذلك من غير آمر ولا محرض، فتراه يطلب الغاية في العلم... فهذه صفة الغاية، وذلك لا يحتاج إلى محرض لأن همته تمشي به وهو قاعد، ثم يتفاوت الصبيان بعد ذلك، فمنهم من يحتاج إلى محرض وهم الأكثر، ومنهم من تنبهه بأيسر تنبيه، ومنهم من يتعب معه الرائض وجبلته لا تقبل الرياضة) (1) .
وقال أيضا: (..... ومتى بلغ الصبي ولم يكن له همة تحثه على اكتساب العلم بعد فلا فلاح له) (2) .
وفتور الهمة في طلب علوم الحديث أكثر من غيره من العلوم. ولعل من أسباب ذلك صعوبة هذا العلم واختصاصه بعلوم الإسناد الذي لا تشابهه سائر العلوم الشرعية الأخرى، وقلة المتعاطين له في كل الأزمان، وأنه يتطلب تفرغا له، وعدم مزاحمته بغيره. مع ما غلب على أبناء الزمان من ميول إلى الدعة والكسل، واختيار ما يسهل عليهم.
وكفيل برفع الهمة وشحذها تذكير الطالب بالأسباب الحاملة له على تعلم هذا العلم، وإعادة ربط العلم بالديانة، وإبراز مكانة المتعلم في الدنيا والآخرة، وحاجة الناس إلى تعلم ما ينافحون به عن الحديث ويذبون عنه الزيف والافتراء، فإن ذلك من شأنه تحسيسه بدوره، واستشعاره واجبه تجاه الشريعة.
رابعا: صعوبات علوم الحديث:
تنقسم علوم الحديث بحسب موضوعاتها وأهدافها إلى أقسام:
القسم الأول: أقسام الحديث وأنواعه.
القسم الثاني: جرح الرواة وتعديلهم.
__________
(1) الحث على الحفظ: 16 - 17.
(2) الأذكياء: 17.(1/18)
القسم الثالث: طرق تحمل الحديث ونقله وتقييده وضبطه.
القسم الرابع: فقه الحديث وغريبه ومختلفه وناسخه ومنسوخه وأسباب وروده.
والأقسام الثلاثة الأول كلها تتسم بطبيعة نقدية، راجعة إلى نقد الحديث لقبوله أو رده، أو تصحيحه وتقويمه والمحافظة على سلامة ألفاظه ومعانيه، وهذا يتطلب الخوض في مصطلحات نقدية مطبقة، ومعالجة دروس نقدية، لنفي أو إثبات نص شرعي وليس نصا تاريخيا فحسب، وكل ذلك يحتاج إلى إعمال فكر، وسيولة ذكاء، وقوة فطنة، وكل ما تقدم في أهلية الطالب من تكامل العقل، ويقظة الذهن، وقوة النفس المهيأة المستعدة، فإنه يتطلبه الدرس النقدي الحديثي ولا يتم الخوض فيه إلا بهذه المؤهلات. فلا يصلح له من ليس له إلف بعلوم العقل النقدية، ولا يلين ولا ينقاد ولا يطاوع صاحبه إلا بهذا الاستعداد العقلي المتميز.
ومن وجه آخر فإن اشتمال المنقولات على مادة شرعية دينية يجعل هذا صعوبة في تطبيق قواعد النقد، فإن نفي ما هو ثابت إذا لم يكن منقولا دينيا رغم أنه خطأ فأنه يهون أمام نفي ما هو ثابت أو إثبات ما هو مزور حين يكون شريعة، بحكم تهيب النص الشرعي الحديثي.(1/19)
وأيضا واقع الأسانيد وتسلسلها بالرجال النقلة كما تقدم صعوبة أخرى من الصعوبات، فليس متوقفا على قراءات عابرة ولا ملخصات جامعة، بل ما من قضية من قضاياه إلا وتحقيقها وتحريرها يعوزه التعمق والنظر المتأمل والدراسة النافذة، وقد تقدم في الكلام على الإسناد ما تميز به علم الرجال من صعوبة في إدراك المراد من اصطلاحات النقاد وأحكامهم على الرواة، وافتقار الأمر إلى الاستقراء لحصاد النتائج الدقيقة الصحيحة، وهذه الألوف من الأسانيد المروية والهول من الرواة، وقد كان الزهري يقول: (الحديث ذكر يحبه ذكور الرجال ويبغضه مخنثوهم) (1) . وذلك لصلافته ووعورة مسالكه النقدية، وهو كما قال الذهبي: (... فعلم الحديث صلف، فأين علم الحديث؟ وأين أهله؟ كدت أن لا أراهم إلا في كتاب أو تحت تراب...) (2) . وقد تقدم الكلام على قلتهم بين المنتسبين إلى سائر العلوم، وهو أيضا يجعل إسعاف المستشكلين له قليلا، ولا تقل هذا في القديم، فإن الأزمان كلها شهدت قلتهم فقد قالها عبد الرحمن بن هرمز أبو ذكوان ومالك، وهكذا إلى عصر الخطيب في القرن الخامس، إلى عصر الذهبي في القرن الثامن، وهكذا، واليوم أيضا يعاني الناس من قلة المشتغلين به، وقد عدوا على رؤوس الأصابع.
وقد تقدم في قلة أهل الحديث قول الخطيب: (وتجد الأمصار الكثيرة خالية من صاحب حديث عارف به مجتهد فيه، وما ذاك إلا لصعوبة علمه وعزته، وقلة من ينجب فيه من سامعيه وكتبته...الخ) (3) .
خامسا: تباطؤ الطالب عن مبادرة شبابه في طلب الحديث:
__________
(1) أخرجه ابن حبان في مقدمة المجروحين (1/26)
(2) تذكرة الحفاظ (1/4)
(3) الجامع: (1 / 112 - 113).(1/20)
عند استعراض تاريخ التحديث نجد تبكير الطلبة في طلب هذا العلم، وإحضارهم من قبل أهاليهم في سن مبكرة، حيث فراغ الذهن عن الشواغل، وصفاء العقل، وقوة الحافظة، وبديهة الفطرة، فيرسخ حفظ الحديث وتعلم علومه في قلبه ويعلق بنفسه، وينشأ فيه حتى يختلط بلحمه ودمه، ويمتزج بخاطره. وهذا منهج ساد العلوم الشرعية كلها إلا أنه في الحديث آكد وظهوره في مناهج المحدثين أشهر، واعتمادهم على العقول الصغيرة الموعبة مستفيض أكثر. قال ابن الجوزي: (ومتى اعتدل المزاج وتكامل العقل، أوجب ذلك يقظة الصبي، فمن رزق ولداً فليجتهد معه، والتوفيق من وراء ذلك، فينبغي له أن يعوده النظافة والطهارة من الصغر، ويثقفه بالآداب، فإذا بلغ خمس سنين أخذه بحفظ العلم، وسنبين فيما بعد ترتيب المحفوظات، فإن الحفظ في الصغر نقش في حجر، ومتى بلغ الصبي ولم يكن له همة تحثه على اكتساب العلم بعد فلا فلاح له) (1) .
وأكثر طلابنا في الجامعات لم يتجهوا في تحصيل محفوظات الصغر، وتأسيس علومهم مبكراً، فكأن الطبع يجفو عن الحفظ، وتنجفل النفس عن رياضة التحصيل بجدية، ويبقى معها استعداد محدود لا يتسع لاستيعاب العلوم الاصطلاحية كما ينبغي.
كما أن من فوائد أخذ العلم في الصغر استعداد النفس للملق في طلبه، قبل دبيب الاعتداد إليها والزهو وما تستنكف به عن التواضع في الطلب، وكان الشافعي رحمه الله يقول: (لا يطلب هذا العلم أحد بالتملك وعز النفس فيفلح، ولكن من طلبه بذلة النفس وضيق العيش، وخدمة العلماء والتواضع أفلح) (2) .
__________
(1) الحث على الحفظ: 17.
(2) أسنده ابن عبد البر في الجامع (1/98)، والخطيب في الفقيه والمتفقه (2/93).(1/21)
وقد حدد بعض المحدثين سن العشرين لطلب الحديث قالوا لأنها مجتمع العقل، وقيل غير ذلك. والصواب عدم التقيد بسن مخصوص. بل الأمر موكول إلى فهمه وضبطه. قال أبو الحسن سعد الخير الأنصاري: »كان الأمر المواظب عليه في عصر التابعين وما يقاربه، لا يكتب الحديث إلا من جاوز حد البلوغ، وصار في عداد من يصلح لمجالسة العلماء ومذاكرتهم، وسبقه الخطيب فقال: (كل من كان يكتب الحديث على ما بلغنا في عصر التابعين وقريباً منه إلا من جاوز حد البلوغ وصار في عداد من يصلح لمجالسة العلماء ومذاكرتهم وسؤالهم (1) . وقال ابن الصلاح: (وينبغي بعد أن صار الملحوظ إبقاء سلسلة الإسناد أن يبكر بإسماع الصغير في أول زمان يصح فيه سماعه، وأما الاشتغال بكتبة الحديث وتحصيله وضبطه وتقييده فمن حين يتأهل لذلك ويستعد له، وذلك يختلف باختلاف الأشخاص وليس ينحصر في زمن مخصوص) (2) .
ويتحسر السخاوي (ت 902هـ) على شيخه ابن حجر (ت 852هـ) حيث لم يطلب الحديث بحزم إلا بعد سبع عشرة سنة فقال: )وفتر عزمه عن الاشتغال من أجل أنه لم يكن له من يحثه على ذلك، فلم يشتغل إلا بعد استكمال سبع عشرة سنة... ولو وجد من يعتني به في صغره لأدرك خلقاً ممن أخذ عن أصحابهم....) (3) والسخاوي يريد الرواية بعلو.
__________
(1) الكفاية:54، فتح المغيث (2/138).
(2) علوم الحديث مع محاسن الاصطلاح: 242.
(3) الجواهر والدرر (1/124) .(1/22)
والملاحظ أن السن الذي يأتي فيه الطالب إلى الكلية هو بعد اجتماع عقله وبلوغه، وهو الوقت الذي ينصح العلماء بتعلم الحديث فيه. إلا أنه ما قبل البلوغ قد يكون فيه مؤهلا للفهم والإدراك وتحمل العلم، فلا ينبغي إهداره وإهماله، فهي فترة تكوين للطالب، إذا حضر إلى الجامعة ومعه قدر من التكوين فسوف يكون متقدماً في التحصيل. ولهذا التحمل في الصغر رسوخ في الذاكرة، قال علقمة: (أما ما حفظت وأنا شاب فكأني أنظر إليه في قرطاس أو ورقة) وقال الحسن: (طلب الحديث في الصغر كالنقش على الحجر) (1) . وقال لقمان الحكيم لابنه: (يا بني ابتغ العلم صغيرا، فإن ابتغاء العلم يشق على الكبير) (2) .
وقد أجمل اليوسي (ت 1102هـ) جملة من عوائق العلم فذكر منها أن يماطل، ويطول أمله، ويغتر بالزمان المستقبل فتتزايد الشواغل، وتضعف أسباب التحصيل، ومنها الوثوق بالذكاء، وأنه سيحصل الكثير في الزمن اليسير، فينقطع دون ذلك (3) .
وينبغي تعويد الطالب على تفريغ نفسه لطلب علوم الحديث، ويعرف بصعوباتها، ليجد في استثمار وقته، والاستغناء ما أمكن عن العلائق والشواغل، وذلك قصد تفريغ القلب وتوحيد الهم، والعزلة النسبية وتقليل خلطة الناس مفيد في ملء الوقت بالاشتغال، ويتبرم به من تكدير صفاء القلب وهم النفس.
ويوزع أوقاته ويرتب أزمانه، قالوا: (وأجود الأوقات للحفظ الأسحار، وللبحث الأبكار، وللكتابة وسط النهار، وللمطالعة والمذاكرة الليل) (4) .
سادسا: البيئة والرفقة:
__________
(1) أسندهما الخطيب في الجامع (1/82).
(2) الجامع لابن عبد البر (1/86).
(3) القانون في العلم: 376 -377.
(4) انظر لذلك: الجامع للخطيب (2/264 - 265). القانون لليوسي: 379.(1/23)
البيئة هي الوعاء الذي يضم العناصر التي تعيش مجتمعة في مكان واحد. والإنسان يسرع إليه التأثر ببيئته، ويغلب أن ينطلي عليه ما يسود فيها، ومكانة العلم فيها وتعظيمه وعناية أهلها به يجعله منتشراً، وإقبال الناس عليه متزايداً. فالأوضاع العلمية لها الأثر البليغ في الترغيب في العلم، ولا يليق بالعاقل الذي يعيش في بيئة متعلمة أن لا يتعلم، فإن المحفز على تعلمه قوي، وخشية الوقوع في مغبة الجهل والبطالة بتركه، وتفويت لذة التعلم التي تزين بها أهل زمانه وسموا بها وعلوا، وتبوؤا مبوأ عز واحترام.
والمطالع للتاريخ العلمي عند المسلمين، الواقف على مختلف فتراته وحقبه، يلحظ أن شدة الإقبال على العلم، ووفرة طلابه، يكون تبعاً لتلك الأوساط العلمية النشيطة، مهما تفاوتت أو تفاضلت، فالمجتمع العلمي له أثر في تحصيل الطالب وحبه للعلم وهمته في حيازته، فإذا كان الدرس الحديثي منتشرا والناس يتسابقون في حضوره، ويلهجون بعلومه، ويتناظرون فيه، وينتقدون الاستدلال بضعيفه ومطرحه، ويوقفون المستدلين بالضعيف ويقاطعوهم عن الاحتجاج به، فيتولد عند الناس ظاهرة الحدس النقدي، والتثبت في الرواية، وينتدب المختصون بالحديث لتدريسه للخاصة والعامة حتى يتفشى. ولنتأمل هذا النص التاريخي في تثبيت أهمية البيئة في تحصيل العلم وعلم الحديث خاصة، (أشرفت أم ولد هارون الرشيد بالرقة ذات يوم من القصر فرأت الغبرة قد ارتفعت، والنعال قد انقطعت، وانجفل الناس، فقالت: ما هذا؟ قالوا عالم من خراسان يقال له عبد الله بن المبارك. قالت: هذا والله الملك، لا ملك هارون الذي لا يجمع الناس إلا بالسوط والخشب) (1) .
__________
(1) أسندها الخطيب في تاريخه (10/156). وذكرها ابن خلكان (3/33)، والذهبي في أعلام النبلاء (8/340).(1/24)
وإذا كان للبيئة العلمية دور في تحفيز الطالب على العلم، فإن امتلاءها بكثرة الشواغل والعلائق، وحيلولتها دون تفرغه لهذا العلم الشريف، مما يصرف الذهن عن الصفاء التام، والنفس عن الاستعداد المطلوب له.
وأما الرفقة فلا تخفى أهميتها في تحفيز طالب العلم وطالب الحديث خاصة، إذ إنها أداة مساعدة على تنشيط الطالب وحمله على الجد والطلب، فالطالب في بداية طلبه أكثر قبولا للتأثر برفاقه في التعلم والتحصيل، فبالرفقة يندفع عنه وحشة الطريق بوجود السالكين لها، وحظوته بمن يستأنس بهم.
وتاريخ المحدثين يشيد بالرفقة ودورها في التعاون على التحصيل، وطرد الكسل، وقيام المنافسة، وحصول المذاكرة والمحاورة، وفي ذلك كله صقل لمواهب الطالب، وارتفاع لدرجته، فمن المتقدمين والمتأخرين جماعات ترافقوا في الطلب، فقد ترافق في المتقدمين أحمد وابن معين، وفي المتأخرين ابن تيمية والذهبي والمزي والبرزالي، وقال السخاوي في تحديد ما ساعد شيخه ابن حجر على تحصيل العلم (.... ومنها الرفاق الذي كانوا غاية في الديانة والتواضع والاعتناء بالشأن والاهتمام بفنونه، والبعد عن التوغل في الغل والحسد والكتمان، وتكرر ذكر ما يقتضي الامتنان، فهذا يعين رفيقه نوبة بالقراءة ومرة بالكتابة، وأخرى بالعارية، ووقتا بالمذاكرة) (1) .
__________
(1) الجواهر والدرر (1/169).(1/25)
فالرفقة في الطلب لهذا العلم خير معين للمبتدئ، وبدونها استيحاش ونفور، وتقاعس وفرار، ولاحظ معي كم عدد السخاوي من فوائد الرفقة في طلب الحديث، وكم يتحقق بها من العوائد والمنافع، وطلابنا اليوم من اهتدى منهم إلى الرفقة وصارت لهم ببعضهم مداخلة وخصوصية، وترددوا على بعضهم وترافقوا في تعلمهم، بدت عليهم عوائد الرفقة، فتراهم يتذاكرون. وإذا تدخل طالب لمناقشة الأستاذ في شيء أو استفساره أو تذكيره بشيء، يكون واحداً من هؤلاء، ثم ينطلقون في إرسال بعض ما حصلوه من خلال مداخلتهم، وينظر إليهم زملاؤهم بعين الإعجاب ويودون أن لو أحرزوا معلومات مثلهم.
وإغفال اتخاذ رفقة في الطلب يتراجع به تحصيل الطالب، هذا مع أن العلماء ينصحون بإزاء هذه بالتقليل من خلطة الناس وإيثار العزلة، فبها يسلم من كثير من الآفات ويتفرغ لما هو بصدده من عمارة الأوقات (1) .
فهذه وصية تنهي عن مطلق الخلطة، أما خلطة ورفقة متعاونة على طلب العلم، مستقيمة على الآداب ومحاسن الشيم كما سلف فإن هذا مطلوب.
الركن الثاني:
ثانيا: الأستاذ المدرس:
هذا الركن الثاني من أركان التعليم، وهو المحل المغذي الذي يبذل العلم للمتعلمين، والسبب الأكبر للغاية النبيلة، ملجأ المستبصرين، ومنار التائهين، ومعلم الناس الخير. قال تعالى:{ ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون} (2) .
وشرطه أن يكون مؤهلا للتدريس فيما تولى من العلم، مختصا به له فيه دربة وممارسة، (فلا ينتصب للعلم أيا كان حتى يكون أهلا له محققا للفن الذي يريد الخوض فيه، مع ذكاء النفس وحصافة الرأي....) (3) .
ومن تمام الأهلية أن يحسن صفة التدريس، وكيفية الإملاء والتقرير، والتحرير والتفكير، فإن رب محصل لفن ولا يحسن هذه الصنعة فيقع في تخليط وتشتيت (4) .
__________
(1) القانون لليوسي: 379.
(2) آل عمران 79.
(3) القانون لليوسي: 335.
(4) المصدر نفسه.(1/26)
وفي الدرس الحديثي الاصطلاحي شرط من يتصدى له أن يكون من أهل هذه الصناعة، خبرها عن أهلها القائمين بها، وتمرس على غوامضها، ونفذ إلى أعماقها، فإن تولي غير المختص بها قد يوقع في التخليط في مباحثها، ويفقدها قوتها ونضارتها، وقد يعجز عن حل غوامض الصنعة فتبقى فجوة في تكوين الطالب. ومع قلة المعتني بهذه الصناعة كما تقدم تأكد مزيد الحرص في البحث عن أهلها، وقد نقل عن أهل الحديث شيء كثير من البحث عن المدرسين المختصين، ومن ذلك ما نقل عن مالك رحمه الله فيمن يؤخذ عنه الحديث، قال: (إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم، لقد أدركت سبعين عند هذه الأساطين، وأشار إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فما أخذت عنهم شيئا، وإن أحدهم لو ائتمن على بيت مال لكان به أمينا، إلا أنهم لم يكونوا من أهل هذا الشأن، ويقدم علينا محمد بن مسلم بن شهاب وهو شاب فنزدحم عليه) (1) .
وهكذا يقول أبو الزناد عبد الرحمن بن هرمز: (لقد أدركت بالمدينة مائة كلهم مأمون ما يؤخذ عنهم شيء من الحديث يقال ليس من أهله) (2) . وفي رسالة مالك إلى محمد بن مطرف قال له: »ثم أخذه -يعني هذا العلم- من أهله الذين ورثوه ممن كان قبلهم يقيناً بذلك، ولا تأخذ كلما تسمع قائلا بقوله، فإنه ليس ينبغي أن يؤخذ من كل محدث ولا من كل من قال....) (3) .
__________
(1) الكفاية: 159.
(2) الكفاية: 159.
(3) المصدر نفسه: 156 - 160.(1/27)
وهذا وارد في رواية الحديث وسماعه وهو صالح لكل ما تعلق بالعلوم وخاصة الحديث، على أن الاقتضاء العقلي والواقعي والنظر إلى مصلحة العلم والتعلم تحتم ذلك وتجعله شرطا، وإلا لم تؤت العملية التعليمية أكلها أو لا تتم بالهيئة المثالية المطلوبة. (وقد اتفقوا على الرجوع في كل فن إلى أهله، ومن تعاطى تحرير فن غيره فهو متعني) (1) . ومما يدل على أن المختص بعلم أقعد به من غيره ممن تفنن في فنون ما يقولونه في المناظرة. قال أبو عبيد الهروي: (ما ناظرني رجل قط وكان مفننا في العلوم إلا غلبته، ولا ناظرني ذو فن واحد إلا غلبني في فنه ذلك) (2) .
وفي كلمة للناقد الذهبي (ت 748 هـ) يشير فيها بالمفهوم إلى لزوم كل صاحب فن فنه يقول: (.... فكم من إمام في فن مقصر عن غيره، كسيبويه مثلا إمام في النحو وما يدري ما الحديث. ووكيع إمام في الحديث ولا يعرف العربية، وكأبي نواس رأس في الشعر عري عن غيره، وعبد الرحمن بن مهدي إمام في الحديث لا يدري الطب، ومحمد بن الحسن رأس في الفقه ولا يدري ما القراءات، وكحفص إمام في القراءات تالف في الحديث) (3) .
ونحن اليوم إزاء الدرس الحديثي بحاجة إلى استشعار هذه المعاني ومحاولة ترسيخ احترام التخصص، فإن هذا الدرس أتي من هذه الناحية أكثر من غيرها، وهو سبب أساس في تراجع الدرس الحديثي بنضرته ولمعانه وعمقه وشموله، فكم من مريد للإحسان يقع في الإساءة وهو لا يدري. فمع قلة المتخصصين في هذا العلم يقع دخول غيرهم إليه فيحصل الخلط والتشتيت، وتوجيه معاني المصطلحات على غير وجهتها، والتحكم في مدلولاتها.
__________
(1) فتح المغيث (1/232).
(2) الإلماع: 221.
(3) تذكرة الحفاظ: (3/1031).(1/28)
ويصور لنا الناقد أبو الفرج ابن الجوزي (ت 597هـ) رحمه الله الفترة التاريخية المتقدمة عن المتأخرة، وكيف حصل الكسل عن تحصيل علوم الحديث فيقول: (كان الفقهاء في قديم الزمان هم أهل القرآن والحديث فمازال الأمر يتناقص حتى قال المتأخرون يكفينا أن نعرف آيات الأحكام من القرآن، وأن نعتمد على الكتب المشهورة في الحديث كسنن أبي داود ونحوها، ثم استهانوا بهذا الأمر أيضا، فصار أحدهم يحتج بآية لا يعرف معناها، وبحديث أصحيح هو أم لا! وربما اعتمد على قياس يعارض حديث صحيح ولا يعلم، لقلة التفاته إلى معرفة النقل، وإنما الفقه استخراج من الكتاب والسنة، فكيف يستخرج من شيء لا يعرفه؟! قال: ولكن غلب على المتأخرين الكسل بالمرة عن أن يطالعوا علم الحديث، حتى إني رأيت بعض الأكابر من الفقهاء ويقول في تصنيفه عن ألفاظ في الصحاح لا يجوز أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كذا، ويجعل الجواب عن حديث صحيح قد احتج به خصمه أن يقول: (هذا الحديث لا يعرف) وهذا كله جناية على الإسلام) (1) .
ولا يعني طلب أهلية المدرس الأستاذ بالتخصص نفي المشاركة في العلوم، فإن العلوم الشرعية مرتبطة ببعضها وجسورها ممتدة، فالرحم واحدة وإنما جعلت علومها نسباً وصهراً، ولارتباط العلوم ببعضها قالوا: (من لم يشارك فيها لم يكمل في واحد منها) (2) .
وإنما الخلل في تناقص الدرس الحديثي عائد إلى تصدر المتعاطين أحياناً، فحسب بعضهم أن القضية قضية مناهج فحسب أو لغة، فدخل في هذا الفن من لم يعرفه عن أهله ولا لهم فيه مشيخة، وهذا إن كان حظ علوم الحديث منه أكثر نظراً لخصائصه التي منها ضرورة المشيخة العلمية، فإن سائر العلوم الشرعية منيت بهذه البلية.
__________
(1) تلبيس إبليس: 118 - 119.
(2) قانون اليوسي: 428.(1/29)
هذا مع ضرورة التنبه إلى أن تجلية خصائص علم من العلوم لا يعني الاستهانة بغيره ولا قصد تقبيحه في نفس المتعلم، وإنما يبين خصائص علم الحديث ودقائق الصناعة النقدية فيه ولا يتعرض للعلوم الأخرى، كما أنه (لا ينبغي وصف علم الحديث بأنه نقل محض وسماع بحت وهو شأن العجائز ولا نظر للعقل فيه) (1) ، فإن ذلك شأن من يفسد أذهان المتعلمين، ويركب الضغينة إزاء العلوم المختلفة، ويحملهم على احتقارها والاستخفاف بأهلها.
وكما تقدمت الإشارة ما من أساس مطلوب في تدريس علم الحديث إذا اختل منه شيء أو لم يقدم بالهيئة المطلوبة إلا كان سببا في تراجع الدرس وتناقصه وقلة جدواه أو انعدامها. ومن ذلك ضرورة مشيخة مدرس الحديث وكونه تلقى العلم عن أهله، وتدرج في أدراجه، وحصلت له ملازمة ومراس فيه. وقد كانوا في العلوم الشرعية والعربية ينهون عن أخذ العلم عن الصحفيين، وإنما حقه الأخذ عن الشيوخ مشافهة، قالوا:
من يأخذ العلم عن شيخ مشافهة ... يكن عن الزيغ والتصحيف في حرم
ومن يكن آخذاً للعلم من صحف ... فعلمه عند أهل العلم كالعدم
وقد تواردت عباراتهم الشهيرة في النهي عن هذا المنهج والحث على المنهج القويم في المشافهة، لتحمل العلم محرراً مضبوطاً، ومعرفة قواعده مطبقة من قبل علمائه، وهذا في كل العلوم، والأكثر في أسماء الرواة، ومع وفرة المصطلحات النقدية، وطبيعة المادة النقدية...
قال في الألفية:
والأخذ من أفواههم لا الكتب ... أدفع للتصحيف فاسمع وادأب (2)
وقد قالوا: (لا تحملوا العلم عن صَحَفي، ولا تأخذوا القرآن عن مُصْحَفيّ) (3) .
__________
(1) أبجد العلوم (1/131).
(2) الألفية مع شرح السخاوي (3/158).
(3) تصحيفات المحدثين للعسكري (1/7).(1/30)
فإن قيل ما علاقة رواية الحديث بهذا؟ قيل: إن أخذ العلم والتحقق منه صحيحاً محرراً. والوقوف على حقائقه مطلوب في كل علم بما فيه علم الرواية والحديث، بل إن ما تقدم من ذكر خصائص علم الحديث وصعوباته لا سبيل إلى تخطيها إلا بمراجعة أهله،
ومن بطون كراريس روايتهم ... لو ناظروا باقلا يوما لما غلبوا
والعلم إن فاته إسناد مسنده كالبيت ليس له سقف ولا طنب (1)
__________
(1) المحدث الفاصل: 212، الكفاية: 163، فتح المغيث: (3/165).(1/31)
وبلغ منهج تقويم مراتب العلماء في علومهم التي ينتمون إليها مبلغاً دقيقاً، فعرفوا بمرتبة كل واحد وما يتأهل له وما لا، وحدود الدرجة العلمية، فهذه مناقشة وتقويم في الأهلية لما انبرى له، وهذه وحدها تستحق بحثاً فالنماذج ليست بالقليلة في تاريخ العلم عند المسلمين، ومن ذلك أن ابن شاهين (ت 385هـ) راويةُ الإسلام، لكنه لم يرق إلى دقائق الصناعة الحديثية، قال الذهبي: (ما كان بالبارع في غوامض الصنعة، ولكنه راوية الإسلام) (1) . ولما حكم أبو سعد الماليني (ت 412هـ) على كتاب المستدرك للحاكم (ت 405هـ)، فقال: (طالعت المستدرك على الشيخين -الذي صنفه الحاكم- من أوله إلى آخره، فلم أر فيه حديثا على شرطهما)، قال الذهبي: (وهذا غلو وإسرف، بل فيه جملة وافرة على شرطهما، وجملة كبيرة على شرط أحدهما، ولعل مجموع ذلك نحو النصف، وفيه نحو الربع صح سنده وإن كان فيه علة، قال: وما بقي وهو الرابع فيه المنكر والضعيف والموضوع، وليست رتبة أبي سعيد أن يحكم بهذا) (2) . وقال السخاوي في العلامة تقي الدين الدجوي: (ما لقيت أحداً ممن أخذ عنه إلا وذكر عنه أمراً عجيباً في الحفظ، ومع ذلك فقد قال فيه صاحب الترجمة (أي ابن حجر): (كان يستحضر الكثير من هذا الفن، إلا أنه ليس له فيه عمل القوم ولا كانت له عناية بالتخريج، ولا معرفة العالي والنازل من الأسانيد، وقدم الحافظ جمال الدين ابن الشرائحي عليه لتحققه بذلك) (3) .
ولربما ألفتوا إلى الأنصاف، فقد قال بعضهم: (أكثر ما يفسد الدنيا: نصف متكلم، ونصف متفقه، ونصف متطبب، ونصف نحوي، هذا يفسد الأديان، وهذا يفسد البلدان، وهذا يفسد الأبدان، وهذا يفسد اللسان) (4) .
__________
(1) سير النبلاء (16/434).
(2) سير النبلاء (17/ 175 - 176)، نكت ابن حجر (1/312 - 314)، نكت الزركشي (1/224).
(3) الجواهر والدرر (1/89).
(4) مجموع فتاوى ابن تيمة (5/118 - 119).(1/32)
والخلاصة أن اختصاص الأستاذ بفنه، وقيامه بعلمه، وأخذه عن أهله إلى أن يصل إلى درجة معرفته والتحقق به، وسلوكه في ذلك طرائق أهله ومناهج علمائه، وخاصة علوم الحديث فإنه الخاص بعد العام، من أهم الأسباب في تحصيل الطالب وتقدمه في هذا العلم، وبقدر ما يحصل الإخلال بشيء منه تقع العوائق بحسبه، وينفلت الزمام أو يكاد، فإن تراجع الدرس الحديثي اليوم أكثر ما أقدر نقصانه وهزالته عائد إلى المدرسين له، حيث اقتحمه بعض من ليس من أهله، فحوله إلى شيء آخر.
ولذلك لا يمكن معرفة الخلل إلا بعرض تاريخ العلم وأساليب تحصيله عند أهله، لربط الأسباب بالمسببات، والمقدمات بالنتائج، فالمسبب هو حصول العلم والسبب هو وسيلة التماسه، فمتى تعطل المسبب أو هزل كان مرجعه إلى سببه إهمالا له أو عدم أدائه بالصفة المطلوبة.
الركن الثالث: المنهج:
أصل المنهج والمنهاج في اللغة الطريقة الواضحة البينة والمستمرة، والمراد به في الاصطلاح: طريقة واضحة مستمرة في تدريس العلم، واعتماد الأسباب المناسبة لاستيعاب المتعلم، كاعتماد ترتيبات معينة، والبداءة بالأنسب فالأنسب، مع مراعاة خصائص العلم المدروس وأحوال وقابلية المتعلمين.
هذا الركن الثالث الأخير، ونظام الأستاذ والطالب، إذ به ينتظمان، وعلى أساسه يلتقيان، فهو الوصلة بين الركنين يوصل الأستاذ به إلى الطالب العلوم ويدفعه إلى التفكير ويولجه في مسالك المدارك، ويقرب منه أسباب التبصر... ولا غنى للعلوم عنه، فتركه خلط وخبط وتشتيت، وتعويق للتحصيل، وبقدر ما يكون محكماً مجرباً كان سببا قويا لنجاح عملية التعليم، فالنفوس في استقبال العلوم بحاجة إلى رياضة، وحسن ترتيب لموادها، واستقامة عرض لفقراتها، وسلامة جمع للمتجانسات، ومراعاة البداءة بالأسهل فما فوقه، والتدرج في تعويدها على غير مألوف لها.(1/33)
وفقدان المنهج أو نقصانه وضعفه، يعرض عملية التعليم للعدم أو هزالة الجدوى، وتاريخ العلم لدى المسلمين حافل بالمناهج المختلفة في تدريس العلوم الشرعية واللغوية، ومن المكتوب في ذلك شيء لا يكاد يعد، ومن المطبق المجرب كذلك، وكلما كان العلم المراد دراسته متميز المواد والطبيعة، افتقر إلى منهج أليق به، وذلك كالمواد النقدية المصطلحية، ذات الشعب والأحراج التي من لم يعرفها وقع في الشطط، ولم يلو على شيء، فبقدر صعوبة المادة بقدر ما يجب أن يكون المنهج ناجعاً ملبيا لتلك الطبيعة التي تتحلى بها المادة المدروسة
فالمنهج المحكم سبب قوي لنجاح الأستاذ في تدريسه، والطالب في تعلمه واستقباله.
وللعلماء المتقدمين مناهج مسلوكة في إلقاء العلم على الطلبة، وطرق مستحسنة انتهجوها في تمكين الطالب من التحصيل، من تحري ما تستجيب له قابلية المبتدئ، وكيف تكون البداءة والتدرج، وما هي الأسباب المعينة على حفظ العلم وفهمه، وللمحدثين خصائص منهجية تبعا لخصائص علومهم، فإن علومهم الإسناد والرجال والنقد والمصطلحات، والمناهج المستخدمة متنوعة، كمنهج الملاحظة، والمنهج الاستقرائي، ومنهج التحليل والتفسير، ومنهج المقارنة، والمنهج التاريخي، والمنهج العقلي....
وحين تعددت خصائص علوم الحديث، وتكاثفت مناهجه النقدية، وتحلت بالجدة والابتكار غير المعهودة في العلوم الأخرى، ولم يسبق المسلمون في تأسيس علوم الإسناد، تطلب كل ذلك مناهج للتدريس تليق بتلك الخصائص، وطرقا لاستيعابها تتوافق مع طبيعتها النقدية.
والذين صنعوا هذا العلم طبقوه ولقنوا للناس طريقة تحصيله، ولم يقصروه على النظري فقط، فإن لهم كتبا في آداب الطلب وطرق التحصيل توفق بين النظر والتطبيق، وتاريخهم وتراجمهم حافلة بذلك، واستنطاق شواهد التاريخ الصحيحة يفصح عن ذلك.
وعند استحضار بعض المناهج الأصيلة المفيدة في تحصيل علوم الحديث، تتراءى لنا صور ساطعة تعكس تراثا هائلاً.
مراتب العلم:(1/34)
ذكروا أول العلم النية ثم الإنصات ثم الاستماع ثم الحفظ ثم العمل ثم النشر، ويدخل في الحفظ الفهم، ولذلك قالوا: (الحفظ عندنا المعرفة) (1) . ومنهم من ذكر الفهم في السياق، فقال: (ثم الفهم ثم الحفظ...) (2) .
وقد سئل بعض الحكماء عن السبب الذي ينال به العلم فقال: (بالحرص عليه يتبع، وبالحب له يستمع، وبالفراغ له يجتمع) (3) .
وبالنظر في تواريخ المحدثين وكتبهم في آداب العلم والتعلم، والمناهج المعتمدة عندهم في تحصيله نجدهم استندوا إلى طرائق وآداب:
الحفظ والمعرفة:
تتفق كتب الحديث على ترسيخ منهج الحفظ والمعرفة في طرائق التحصيل، والحفظ عندهم الإتقان والمعرفة (4) . فهو يتصدر قائمة المؤهلات لنيل هذا العلم، وهو سبب الأخذ بزمامه، واكتساب علومه، فالمدخل إلى الحديث حفظه، فيتعين تمرين الطالب على الحفظ، وذلك بإكثار القعود وحبس النفس عن شهوة البطالة، فقد قالوا: (أَحْضَرُ العلم منفعة ما وعاه القلب ولاكه اللسان)، (ليس العلم ما حواه القمطر، إنما العلم ما حواه الصدر) (5) . وقال بعضهم:
إذا لم تكن واعيا حافظاً ... فجمعك للكتب لا ينفع
أُشَاهَدُ بالعي في مجلس ... وعلمي في البيت مستودع
ومن يك في علمه هكذا ... يكن دهره القهقرى يرجع
وقال آخر:
فافخر وكاثر بالقر ... ... يحة إنها فخر المفاخر
واعلم بأن العلم ما ... ... أوعيت في صحف الضمائر (6)
__________
(1) فتح المغيث للسخاوي (3/318).
(2) القانون في العلم: 361.
(3) المصدر نفسه 401.
(4) فتح المغيث (3/318)، الجواهر والدرر (1/89).
(5) الجامع للخطيب (2/250).
(6) المصدر نفسه (2/252).(1/35)
والطريق في إحكام الحفظ كثرة الإعادة، والناس يتفاوتون في ذلك، فمنهم من يثبت معه المحفوظ مع قلة التكرار، ومنهم من لا يحفظ إلا بعد التكرار الكثير، فينبغي للإنسان أن يعيد بعد الحفظ ليثبت معه المحفوظ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تعاهدوا القرآن فإنه أشد تفصيا من صدور الرجال من النعم من عقلها) (1) . وكان أبو إسحاق الشيرازي يعيد الدرس مائة مرة، وكان الكيا (2) يعيد سبعين مرة. وقال الحس بن أبي بكر النيسابوري الفقيه: (لا يحصل الحفظ إلي حتى يعاد خمسين مرة) (3) .
ويَعْلَمُ الطالب للحديث عند حفظ الحديث وتعلم علومه أمورا معينة له على الحفظ وآداباً وأسبابا لذلك، قال ابن الجوزي: (ينبغي لمن يريد الحفظ أن يتشاغل به في وقت جمع الهم، ومتى رأى نفسه مشغول القلب ترك الحفظ، ويحفظ قدر ما يمكن، فإن القليل يثبت، والكثير لا يحصل، وقد مدح الحفظ في السحر لموضع جمع الهم، وفي البكر، وعند نصف الليل... وينبغي أن يريح نفسه من الحفظ يوما أو يومين ليكون ذلك كالبناء الذي يراح ليستقر) (4) .
ومما يفيد في التمكين للمحفوظ أن يؤخذ قليلا قليلا بحسب طاقته ليحكم حفظه وإتقانه، فعن الزهري: (من طلب العلم جملة فاته جملة، وإنما يدرك العلم حديث وحديثان)، وعنه أيضا: (إن هذا العلم إن أخذته بالمكاثرة له غلبك، ولكن خذه مع الأيام والليالي أخذاً رفيقاً تظفر به) (5) .
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري في الفضائل، (فتح الباري 9/79) ومسلم في كتاب الصلاة (شرح النووي 6/76-78).
(2) الكيا الهراسي الطبري الشافعي الفقيه الأصولي المعروف.
(3) الحث على الحفظ: 21.
(4) المصدر نفسه: 22.
(5) فتح المغيث (3/315 - 316).(1/36)
وإذا حفظ ذاكر به الطلبة فإن لم يجد ذاكر مع نفسه وكرر على قلبه، فالمذاكرة تعيين على ثبوت المحفوظ، وهي من أقوى أسباب الانتفاع به. قال علي رضي الله عنه: (تذاكروا هذا الحديث إن لا تفعلوا يدرس). ونحوه عن ابن مسعود وأبي سعيد -رضي الله عنهما-. وقال الخليل بن أحمد: (ذاكر بعلمك تذكر ما عندك، وتستفيد ما ليس عندك) (1) .
وينبغي المذاكرة عقب افتراق المجلس، قبل وقوع النسيان وخمود القرائح، واختلاط العقائد والعقول، وافتراق الأصحاب، غير أنه يحصل من المجلس إذا طال فتور وملل، فيتعين تأخيرها ريثما تجم القرائح من غير طول... ومن سعادة الطالب وتباشير نجحه أن يرزقه الله من يذاكره أو من يتعلم منه فهماً حريصاً (2) .
وقال في أبجد العلوم: (وكذلك ينبغي لك أن لا تطول على المتعلم في الفن الواحد بتفريق المجالس، وتقطع ما بينها، لأنها ذريعة إلى النسيان، وانقطاع مسائل الفن بعضها من بعض، فيعسر حصول الملكة بتفريقها، قال: لأن الملكة تحصل بتتابع الفعل وتكراره، وإذا تنوسي الفعل تنوسيت الملكة النائشة عنه) (3) .
وهذا مجرب مع الطلبة فإن توالي دروس الحديث وعدم فصلها يتتابع معه التحصيل ويبدد النفور والاستيحاش، وهذا طريق إلى ما هو أعلى وأكمل حتى يصبح ملكة، وانطلاقا من هذا المنهج التعليمي الأصيل لمادة الحديث يقترح تدريس الحديث في حصص متوالية يومية من غير انقطاع، ولو أنها انفردت ولم تزاحمها مواد أخرى لكان أكمل، ونظام الساعات يساعد على ذلك، فقد يدرس الطالب فصلاً في مادة واحدة، ومادة أخرى في الفصل الآخر وهكذا....، ويعضد ذلك أيضا بدورات علمية دورية فقد بان نفعها وتقويتها للطالب، فيقال مثلا: (دورة علمية في الحديث الصحيح)، (دورة علمية في الحديث المعل)، وهكذا....
مشافهة المدرس (الشيخ) وملازمته:
__________
(1) فتح المغيث: (3/316 -317).
(2) قانون العلم: 401، باختصار وتصرف.
(3) (1/118).(1/37)
قد تقدمت الإشارة إلى ضرورة المشافهة في علوم الحديث عند الكلام على الأستاذ، والنهي عن أخذ العلم عن الصحف من غير مشيخة، فالمشافهة في أخذ علوم الحديث يتحقق معها فهم دقائق العلم وغوامضه، ويتلقى المعلومات صحيحة محررة عن أصحابها، ويتجاوز بذلك مواضع الزلل في الفهم، وبالمشافهة تلين صعوبات العلم وتنقاد وتطاوع المتعلم إذ إنها أصبحت بعرض الأستاذ وشرحه لها ووقوفه عندما يحتاج إلى وقوف وبسؤال المستشكلين أكثر قابلية للهضم والرسوخ، ولا يخفى أن انبساط الشارح المشافه ليس كالكاتب، فإن الأول أوسع لما له من حاجة الإفهام، ولما للثاني من مراعاة قوانين التأليف.
وجدارة منهج مشافهة العلوم لا زالت قائمة إلى يومنا هذا، رغم قلة السالكين لها المعتنين بها. فلو قارنا بين طلاب من المنهجين لظهر تفوق المشافهين. وكأني بالمشافهة ترسخ الثقة في نفوس الطلبة، وتزيل عنهم عوائق التحصيل وترفع عنهم الانقباض والعي، بسبب البروز للشيخ والحضور في مجلسه وقد يسائلهم ويحاورهم كما ثبت ذلك في تواريخ المحدثين، فما وصل الشيخ إلى درجة التأهل للتدريس إلا بعد أن حاز العلم وضبطه، والمشافه عليه يستفيد من تحصيله، وتطوى عليه مراحل في التعليم.(1/38)
وما يجلى هذا المنهج الحثيث من تاريخ المحدثين لا حصر له، فمن ذلك ما ذكره أبو عبيد الله المرزباني عن أحمد بن محمد العروضي أن أبا محلم كان يقول: (لزمت ابن عيينة فلم أفارق مجلسه، فقال لي أراك حسن الملازمة، ولا أراك تحظى من ذلك بشيء، لأنك لا تكتب، فقلت: أنا أحفظ، قال: فكل ما حدثتك به حفظته؟ قلت: نعم، فأخذ دفتر إنسان بين يديه فقال لي: أعد علي ما حدثت به اليوم، فما أخرمت منه حرفا، فأخذ مجلسا من الماضي فأمررته عليه) (1) . فأعطى منهج المشافهة والملازمة درساً في التقويم، ومراقبة أحوال المتعلمين، والاطمئنان على تحصيلهم، ومتابعة استعدادهم وقدرتهم على الاستمرار. ومدى استعمالهم للمناهج المجدية. فنلاحظ الملازمة والمشافهة، والجمع بين الحفظ والكتابة، وتقويم الأستاذ لتلميذه في هذا النص القديم.
ويذكرون في المتقدمين في العلم والبالغين حدوداً مرتفعة منه أنهم لا يتخرجون إلا بشيوخ وقتهم، وهو شيء مستفيض في تاريخ المحدثين، قال السخاوي عن ابن حجر: (واجتمع بحافظ العصر زين الدين أبي الفضل عبد الرحيم بن الحسين العراقي فلازمه عشرة أعوام وتخرج به، وانتفع بملازمته، وقرأ عليه الألفية له وشرحها له بحثا) (2) . والأصل في ذلك ملازمة الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم وتعلمهم بين يديه حتى تخرجوا علماء الدنيا.
ووجود هذا المنهج في المحدثين غير محصي ولا محصور.
ولما استغنى الناس عن طرائق الأقدمين في التعلم ضعف التحصيل وهزل، وبعدت الشقة بين الطلبة والمدرسين، وحرموا بسبب ذلك من التكوين الرصين، وفاتهم الكثير، وأصبحت العلاقة إدارية اعتيادية، وأخذ الناس يشتكون من ضعف المستوى العلمي للطلبة وقلة النبوغ فيهم، وحظ الدرس الحديثي من ذلك بحسب ما تقدم من أن خصائصه تجعل منهجية تدريسه خاصة، وليس أقعد بهذا الأمر من مناهج أهله، فهم أدرى من غيرهم بما يصلح شأن طالبيه.
__________
(1) الجواهر والدرر (1/84).
(2) المصدر نفسه (1/126).(1/39)
إن العلاقة بين الأستاذ والطالب لها من الدروس التربوية التعليمية ما يرفع مستوى المادة ويقوي تكوين الطالب، وإشعار الطالب بذاته وقدرته على بلوغ المرتبة المرغوبة، واستخراج قدراته ومهاراته المخزونة، وتنمية الشغف بالعلم وحبه في نفسه، ومجابنة الكسل والفتور، وبث التنافس في العلم والمسابقة إليه، والرغبة في الاقتداء بالأستاذ في لحوق ركاب العلم، والتشبه به في علومه وسمته، وغير ذلك.
وقد لاحظت في تدريس مادة مصطلح الحديث أن العلاقة مع الطلبة وإشراكهم في الدروس ومحاورتهم ومساءلتهم وإخراجهم عن صمتهم والتعود على السماع فقط، مما يساعد على أداء متميز للدرس، تظهر عادته عليهم وتتبدد به صعوباته، وقد تقدمت قصة أبي محلم مع شيخه ابن عيينة ومساءلته له وتقويمه، وقال السخاوي: (حتى رأيته -أي ابن حجر- مرة يقول-وقد تكلم شاب بشيء وهو خارج الحلقة« اسمعوا ما يقول الشاب فإنه يقول جيداً. وطال ما يقول: مقالة هذا هي الصواب، مع كونه كان قرر خلافها رجوعا منه إلى الحق، وإنصافا وعدم محاباة) (1) .
وذكر بعضهم أن العلم ثلاث درجات، من ترقى الأولى ظن أنه أنهى، ومن ترقى الثانية علم أنه أنهى، وأما الثالثة فلا سبيل إليها، قال: (وإن كان عنده باطلا فلا ينبغي أن يرده عليه بصورة التعنيف والتزييف والتجهيل، وإن كان متعلماً لا متعنتا، لأن ذلك يخمد قرائح المتعاطين، ويكسبهم خوراً أبعد عن التلجلج في المدارك. وهي طريقة الجمود والحرمان، بل بلطافة، فيقول مثلا: )كلامك حسن لو سلم من كذا(، وهكذا يفعل في المتعاطين، فيجرؤهم على الفهم والبحث، ويرخي لهم العنان، ويصرف أعنتهم بلطف عن الخطأ والخطل، ثم إن سنح له بحث في الكلام، أو أورد عليه بحث فليشتغل به إن كان عقول الحاضرين تبلغه، وإلا أعرض عنه حتى يكون مع أهله، ويكون كل ذلك بعبارة توافق عقول أهل المجلس، لأن حقهم أوجب) (2) .
__________
(1) الجواهر والدرر (2/1042-1043).
(2) القانون في العلم: 336.(1/40)
فهذا النص احتوى على قواعد تربوية تعليمية في غاية الأهمية.
وفي طريقة المشافهة وملازمة الأستاذ ما يتيح له فرصة السؤال للتقويم، والأصل في هذا المنهج النبوي في طرح النبي صلى الله عليه وسلم المسألة على أصحابه كما في حديث ابن عمر مرفوعا: (إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها وإنها مثل المسلم فحدثوني ما هي؟) (1) . ويكون طرح المسألة على قسمين: أحدهما من العالم بها، ويكون ذلك منه تمرينا وامتحانا لأصحابه، أو مداخلة أو مباسطة. ولا بأس بذلك. ومن فوائد ذلك التنبيه والتنشيط لأمثالها وترسيخاً في الأذهان، فإن ما امتحن عليه لا ينساه عادة. الثاني: من سائل عنها أو مذاكر فيها، ولا إشكال فيها، وقد كان أمير المؤمنين عمر -رضي الله عنه- يسأل أصحابه كثيراً، فلا يستكنف العالم أن يسأل جلساءه، والمسؤول حينئذ وهو العالم بطريق الحيثية (2) .
وملازمة الطالب للأستاذ المدرس أو الشيخ يستفيد منها أيضا نصيحة شيخه له بتلقي علم الحديث على غيره من شيوخ الوقت. قال السخاوي: (وأما تنبيهه -أي ابن حجر- على من ببلده من شيوخ الرواية، وإعطاؤه إياهم الأجزاء والكتب المروية لهم، فعندي من أخباره في ذلك جملة، وطال ما دفع إلي الأجزاء العالية يأمرني بقراءتها على العز ابن الفرات. وربما شكوت إليه جفوته وعدم طواعيته لي في القراءة لما أرومه، فيكتب له يرغبه في التحديث ويحثه عليه، ويؤكد عليه في الاهتمام بشأني) (3) .
التدرج:
__________
(1) أخرجه البخاري في عدة مواضع، في كتاب العلم، باب قول المحدث حدثنا أو أخبرنا أو أنبأنا (فتح الباري (1/145)، وفي باب طرح الإمام المسألة (1/147) وفي (1/165). وفي البيوع (4/405)، وفي التفسير (8/377)، وفي الأطعمة (9/569)، وفي الأدب (10/523 و536).
(2) القانون في العلم: 356.
(3) الجواهر والدرر (3/1031).(1/41)
منهج التدرج وأخذ الطالب العلم شيئا فشيئاً متعين لا مناص منه، لما جبلت عليه النفوس والعقول من أن ما لا سبيل إلى دخوله جملة فيجب أن يدخل متفرقاً، وقد تقدم أن من أخذ العلم جملة ذهب عنه جملة، ومكاثرته مغالبة للذهن فيمل ويكل. ويتعين التدرج في الحفظ وأخذ العلوم الحديثية كلها. قال القنوجي: (وقد ذكر علماؤنا مراتب العلوم من التعليم فقدموا الأهم فالأهم، وسلكوا التدريج في التعليم، فقدموا الوسلية على المقصد)... وربما يقدم علم على علم لا لشيء منها إلا لغرض التمرين على إدراك المعقولات، كما أن طائفة من القدماء قدموا تعليم علم الحساب، وكثيراً ما يقدمون الأهون فالأهون. ولذا قدم المصنفون في كتبهم النحو على الصرف، ولعلهم راعوا في ذلك أن الحاجة إلى النحو أمس) (1) .
ومن مناهج الأقدمين في ذلك وقد أصبحت مهجورة اليوم إلا في النادر من الجهات، أن يلقي الأستاذ المدرس على الطلبة أولا مسائل من كل باب من الفن هو أصول ذلك الباب، ويقرب لهم شرحها على سبيل الإجمال، ويراعي في ذلك قوة عقولهم واستعدادهم لقبول ما يرد عليهم حتى ينتهوا إلى آخر الفن، قال في أبجد العلوم: (هذا وجه التعليم المفيد، وهو كما رأيت إنما يسهل في ثلاث تكرارات، وقد يحصل للبعض في أقل من ذلك بحسب ما يخلق له ويتيسر عليه، وقد شاهدنا كثيرا من المعلمين لهذا العهد الذي أدركنا يجهلون طرق التعليم وإفادته ويحضرون المتعلم أول تعليمه المسائل المقفلة من العلم...) (2) .
__________
(1) أبجد العلوم (1/108).
(2) المصدر نفسه (1/118).(1/42)
فمن تلكم المجدية في التدرج بالطالب سلوك طريق التقريب للعلم إلى أن يصل إلى الاستيعاب. فإن الاستيعاب للعلم لا يكون قبل تقريبه، والتقريب هو أخذ أصول الباب وشرحها على وجه الإجمال. (ويكون المتعلم عاجزاً عن الفهم بالجملة إلا في الأقل... ثم لا يزال الاستعداد فيه يتدرج قليلا قليلا، بمخالفة مسائل ذلك الفن وتكرارها عليه والانتقال فيها من التقريب إلى الاستيعاب الذي فوقه، حتى تتم الملكة في الاستعداد ثم في التحصيل ويحيط بمسائل الفن. وإذا ألقيت عليه الغايات في البدايات، وهو حينئذ عاجز عن الفهم والوعي. وبعيد عن الاستعداد له، كلَّ ذهنه عنها، وحسب ذلك من صعوبة العلم في نفسه، فتكاسل عنه وانحرف عن قبوله، وتمادى في هجرانه، وإنما أتي ذلك من سوء التعليم) (1) .
وقد اشتمل هذا النص النفيس على مناهج التحصيل العملية اللائقة بالطالب، وهي أمور:
أ - إلقاء المدرس أصول الأبواب وشرحها على سبيل الإجمال وهو التقريب.
ب- تكرار مسائل الفن على الطالب والانتقال فيها من التقريب إلى الاستيعاب الذي فوقه.
ج- مراعاة قوة الطالب واستعداده الذهني لقبول ما يرد عليه حتى ينتهي إلى آخر الفن.
د- تجنب إحضار المتعلم المبتدئ المسائل المقفلة من العلم.
هـ- مرحلة حصول الملكة في الاستعداد ثم التحصيل والإحاطة بمسائل الفن.
وقال اليوسي: (وينبغي له في البداية أن لا يهجم على الخلافات العقلية والسمعية، بل ولا على الفنون المختلفة، بل أن يعرف مدى عقله، فربما ضل أو تحير، ولذا قيل: (كثرة الفنون مضلة الفهوم)، فليشتغل بما يطيق من الفنون حتى يقوى على غيره، وليعلم أن العقل الذي يرام إدراك العلوم به مثاله مثال الحيوان الذي يربيه للاصطياد.... فالواجب التدريج من الصغير إلى الكبير) (2) .
__________
(1) المصدر نفسه.
(2) القانون: 394.(1/43)
وعلوم الحديث تحتاج إلى تدرج في أخذها، فيبدأ بالمختصرات ثم المتوسطات ثم المطولات، فإن بدأ بالمطولات فقد شق على نفسه فيجوز كلاله وملاله ثم انقطاعه. وقد سلف في الحفظ التدرج في حفظ الحديث بحسب الطاقة التي تسمح، وأما في فهم علوم الحديث فيأخذ مختصراً فيه أصول الأبواب وتشرح على سبيل الإجمال فيكون قد قرب إليه هذا العلم، بعده يدخل في الشرح المفصل وإثارة فروع تلك الأصول. ومحاولة الاستقصاء، وإبراز الأمور المستعصية وهكذا إلى الانتهاء.
الرغبة العلمية والاختيار:
إن مناهج العلم تدور مع نفس المتعلم، وتبحث عن مجال قوتها وما تقدر عليه، وتصلح له، فإسعاف الطباع وما خلقت له وجبلت عليه، ومجاملتها فيما تحب وتطرب له، بداية التوفيق في وضعها في الموضع الذي يناسبها. فطالب الحديث إن رأى طبعه مائلا إليه أكب عليه واشتغل به، وإن رأى طبعه نافراً عنه أعرض واشتغل بغيره (1) . فاختيار طلبة الحديث وعلومه يخضع لميول النفس وانشراح الطبع، دون جموده ونفوره، فمن لم يأنس من نفسه استعداداً من البداية لعلوم الحديث لا يمكن أن نلزمه به، وهذا دور الإرشاد الأكاديمي (2) فهو الذي يصنف الرغبات والاستعدادات بحسب أصحابها. ومتى حاولنا إدخاله في تخصص لا يميل إليه فالغالب عدم استقامة حاله فيه. فإن دخل فيه ولم يحس بعائدته عليه، تعين عليه تركه والذهاب إلى غيره.
__________
(1) انظر قانون العلم: 394.
(2) جربت ذلك حين عملت في لجنة الإرشاد الأكاديمي بجامعة أم القرى. فإن الأستاذ المدرس يستقرئ أحوال الطلبة المتعلمين، وكيف ينظرون إلى التخصصات المختلفة، وما هي بواعث ميولهم وهكذا....(1/44)
فأول ضعف يركب الطالب عند بداية تعلمه حين يلزم بما لا تميل إليه نفسه، ولا ينسجم مع طبعه، ونتأمل في تاريخ العلم عند المسلمين، كيف نشأت مدارس العلم المختلفة، وكيف وجد في كل علم القائمون به وكبراؤه المختصون به، وأنك تنظر في كل فريق وما عندهم من العلم والانهماك فيه وتعظيمه ما يجعلك تقول ما بقي شيء، فإن ذهبت إلى غيرهم انطبع في نفسك الشيء ذاته وقلت ما بقي شيء وهكذا.... والناظر في طبقات أهل العلوم الشرعية المختلفة متأملا يقتنع بأن كلا ميسر لما خلق له، فالمحدثون خلقوا للحديث، والفقهاء للفقه، وهكذا...
فقد تنعدم أهلية الطالب بسبب عدم الإصابة في اختيار ما يقبله طبعه ويصل إليه فهمه، فتتحقق الجناية عليه وتهدر قدراته وتنطمس مهاراته، ويجمد دوره. قال عمرو بن معدي كرب:
إذا لم تستطع شيئا فدعه وجاوزه إلى ما تستطيع
والعلوم أرزاق كأرزاق القوت قسمها الله بين العباد بحسب ما أودع فيهم من استعداد لشيء منها، فعلى الإنسان مراعاة طاقته وما يقبله طبعه وتنشرح له نفسه. وقال الفقيه أبو الفتح نصر بن احمد المقدسي: (... إن الله تعالى قد قسم العلوم بين عباده كما قسم الأرزاق والآجال وسائر الأحكام، فوفق قوماً لحفظ أصول الشريعة، وبيان الصحيح من ذلك والفاسد، ووفق قوما لمعرفة معاني ذلك واستنباط الأحكام منها) (1) .
فإسعاف الطبع برغبته، وترويضه على طلبته، وملاينة النفوس وحملها على ما تقبله وتدركه، هو جماع المنهج التعليمي فإن مداره على الأسباب التي ينفذ بواسطتها العلم إلى النفوس، فهي المحل القابل فتعين ملاطفتها فيما تقبل وما ترفض.
__________
(1) الجواهر والدرر (1/75 - 76).(1/45)
وقد يميل الطالب إلى التخصص والتفرد بعلم، وقد يختار المشاركة، وقد ذكروا أن البداءة في الطلب تكون أولا بتحصيل القرآن وعليه الأكثرون، وقيل بالحديث، وقيل بالعربية. فإن شارك في العلوم فليبدأ بالأهم فالأهم والأقرب فالأقرب، وليتبع في الترتيب إشارة الشيخ (1) . ويذكرون في المشاركة في العلوم قصر العمر عن تحقيق ذلك، وعدم انفساحه لها جميعا، فيناسب أن يحصل الكتاب العزيز، ثم العربية، ثم العلوم الشرعية، وليأخذ من كل فن أحسنه وما لا بد منه فيه.
أما الحديث رواية ودراية فيذكر المتأخرون قصر العمر وفتور الهمم وكثرة الشواغل عن إدراكه. فلو اشتغل طالب بالرواية لذهب عمره فيها. وهذا إدراك منهم لصعوبة علم الحديث وتطلبه الوقت الطويل، وغير خاف أن هذا السياق للتحصيل على طريقة الأقدمين من حفظ المرويات بأسانيدها والنظر فيها ودرايتها.
ومن ثم نصح بعض العلماء بعدم الجمع بين علمين مطلقاً أو في وقت بداية الطلب، بل لا يدخل في علم حتى ينتهي من غيره، قال القنوجي: (ومن المذاهب الجميلة والطرق الواجبة على المتعلم عدم الجمع بين العلمين معاً، فإنه قل أن يظفر بواحد منهما، لما فيه من تقسيم البال وانصرافه) (2) . وقال برهان الإسلام الزرنوجي: (وينبغي أن يثبت ويصبر على أستاذ، وعلى كتاب حتى لا يتركه أبتر، وعلى فن حتى لا يشتغل بفن آخر قبل أن يتقن الأول) (3) .
__________
(1) القانون لليوسي: 393.
(2) أبجد العلوم: (1/11).
(3) تعليم المتعلم طريق التعلم للزرنوجي.(1/46)
ومع هذا فقد برز في تاريخ الإسلام علماء جامعون لأطراف العلوم، فلقب إمام الأئمة لا يقال إلا لمن جمع الحديث والفقه كمالك وابن خزيمة مثلا، وبرع جماعة منهم في علوم لما كانت الهمم متوافرة والقلوب أوعية فسيحة، والإخلاص وحسن النية يدفعهم، فإن الله يهب ما يشاء لمن يشاء، وكل قاعدة لها استثناء. وإنما يربطون الجمع بين علوم بجودة المتعلم ونشاطه وقدرته على التوفيق بينها في آن واحد. فلو أخذنا مختلف البلاد والجهات لوجدناهم يتفاوتون في ذلك، فأهل الأندلس يراعون في التعليم القرآن أولا لكن مع رواية الشعر والترسل وأخذهم بقوانين العربية وتجويد الخط والكتاب، وأهل إفريقية يخلطون للولدان القرآن بالحديث في الغالب ومدارسة قوانين العلوم وتلقين بعض مسائلها، وأما أهل المشرق فيخلطون في التعليم كذلك، وأهل المغرب يقتصرون على تعليم القرآن فقط وأخذهم أثناء المدارسة بالرسم ومسائله، لا يخلطون القرآن بغيره في مجالس تعليمهم. أما أبو بكر ابن العربي فذهب إلى تقديم تعليم العربية والشعر على سائر العلوم كما هو مذهب أهل الأندلس، قال: لأن الشعر ديوان العرب، ويدعو إلى تقديمه وتعليم العربية في التعليم ضرورة فساد اللغة، ثم ينتقل منه إلى الحساب فيتمرن فيه حتى يرى القوانين. ثم ينتقل إلى درس القرآن فإنه يتيسر عليه بهذه المقدمة، قال: ثم ينظر في أصول الدين، ثم أصول الفقه، ثم الجدل، ثم الحديث وعلومه. ونهى ابن العربي مع ذلك أن يخلط في التعليم علمان إلا أن يكون المتعلم قابلا لذلك بجودة الفهم والنشاط (1) .
__________
(1) مقدمة ابن خلدون (594 - 596). أبجد العلوم: (1/ 110 - 112).(1/47)
ومع استقرار المناهج التعليمية في الجامعات بأخذ العلوم المختلفة مع بعضها شيئاً فشيئاً من غير إفراد علم بالانتهاء فيه وختمه، وغاية ما يوجد إيلاء الكلية المتخصصة وقتا أكثر واهتماما أبلغ لمواد التخصص. فكلية الشريعة تركز على الفقه والأصول أكثر، وكلية أصول الدين تركز على العقيدة والتفسير، وكلية الحديث تركز على الحديث وعلومه أكثر وهكذا.
لذا يبدو من المناسب توجيه الطالب إلى تخصصه بعد التأكد من ميوله واستعداده الذهني وموافقة طبعه. فالذي يرغب في الحديث وعلومه وألمحنا فيه القدرة عليه، ودلتنا الأمارات على استعداده له، ساعدناه على بلوغ مراده. على أنه لا مانع في تقديري من إعادة النظر في منهج جمع العلوم دفعة واحدة، ومحاولة إدخال بعض الخطوات التي تمكن من تحقيق تلك المعاني السالفة لاستيعاب وتجاوز صعوبات علوم الحديث.
طريقة التدريس والكتب المقررة:
للناس عند الدرس والتصنيف صنعتان:
إحداهما: أن يلتقط الألفاظ المفردة فيفسرها لفظاً لفظاً، حتى إذا فرغ منها رجع إلى التراكيب ففسرها.
ثانيها: أن يخلط الكل ويضربها ضربة، ففي كل تركيب تبين مفرداته ونسبته.
والأولى أحظى بتحرير المفردات على ما ينبغي، ولكن لا تخلو من صعوبة على المبتدئ وتهويل عليه، فهي لائقة بالمتوسط والمنتهي، والثانية أرفق.... (1) .
والمدرس الذي يحسن صنعة التدريس يراعي تفاوت فهوم الطلبة، ويتحرى انسب الطرق لفهمهم، ويعطي لكل حالة ما يليق بها، فقد لا يبلغ الطالب لقصوره إلى فهم العبارة المحكمة، فلا بد من النزول إلى عبارة أوضح بألفاظ متداولة، وتراكيب تليق بحاله، ولا عيب في ذلك حيث كان المقصود الإفهام، وذلك إنما هو حيث يتفق أن يبتلى الكبير بتعليم الصغير، وإلا فالأشبه الجنس بالجنس، فإن المبتدى يشق عليه إدراك عبارات الفحول، والفحل يشق عليه النزول إلى مقاصد الصبيان، وقد قال أبو العباس ابن البناء في نحو هذا:
__________
(1) القانون لليوسي: 335.(1/48)
قصدت إلى الوجازة في كلامي ... لعلمي بالصواب في الاختصار
ولم أحرز فهوماً دون فهمي ولكن خفت إزراء الكبار
فشأن فحول العلماء شأني وشأن البسط تعليم الصغار
والقدر الواجب على المدرس إزاء طلابه، إرهاف خاطرهم لانتقاص الفهوم وارتياض جواد فكرهم للركض في ميدان العلوم، ومراده تغذية روحه وتنمية فكرته، وذلك حاصل بالمدارك مطلقاً، فيعامل كل بما يليق به، والمدرس إذا لم يكن طبيباً كان ما يفسده أكثر مما يصلحه) (1) .
(وليحذر المدرس أن يقفز على البحث والإيراد قبل شرح الكلام، أو يتسارع إلى رد مذهب أو شبهة أو بحث أو سؤال قبل تقريره، ومتى احتاج الكلام إفراداً أو تركيباً، أو البحث فيه أو الجواب إلى دليل أو شاهد أو مثال، فلا بد من الإتيان به في محله على قدر الحاجة، من غير إخلال بما يكون من التصحيح والتبيين، ولا إغراب يحير أفكار الحاضرين، ومتى احتاج شيء من ذلك إلى توطئة ومقدمة يستعان بها على الفهم أو التصديق، تعين البدء بها بحسن بيان واختصار، حتى يكون كلام المدرس بحيث لو سطر كان تصنيفاً حسن الرصف مقبولا) (2) .
وهذه طريقة تسري في العلوم الشرعية جميعها، وعلوم الحديث وظف فيه علماؤه هذا وأيقنوا بصعوبته فبذلوا له كل الطرق ليكون مستوعباً لدى طلابه، فما أحوجنا أن نترسم هذه الخطوات في درس الحديث اليوم.
ومما يسهم في جمال الدرس الحديثي وغيره، ويغري به الطلبة ويستهويهم، لغة الأستاذ وفصاحته، وترتيب عرضه، فوضوح لغته وبيانه تثير الطلبة وتستحوذ على عقولهم، فيمتلك أزمتهم في قيادتهم إلى العلم، ويسهل بذلك ما صعب، ويقرب ما بعد.
__________
(1) قانون المتعلم: 337 - 338.
(2) المصدر نفسه: 337.(1/49)
ويراعي المدرس في الكتب المقررة ما يليق بمرتبة الطالب ودرجته في التحصيل. (وكتب العلم كثيرة لكثرة العلوم، وتنقسم إلى ثلاثة: مختصرة تكون تذكرة للمنتهي، وينتفع بها المبتدئ إن ساعده الذكاء والتوفيق، ومبسوطة تجعل للمطالعة، وينتفع بها الفريقان، وفيها على المبتدئ تطويل وإملال، وإما متوسطة ونفعها عام، وهي أحسن وأسلم في الجملة، وقد يدعو إلى شيء داع صحيح فيعتبر) (1) .
وقد أوصوا أن لا ينتقل من كتاب إلى آخر قبل تكميله (2) ، لأنه يفوت استكمال الفوائد والمباحث، وقد وضع كذلك بحجم دراسي لينتهى منه، وعدم إكمال المقررات يوقع الطالب في التعثر والنقص، وما فات في الدروس المنهجية يصعب استدراكه فيما يستقبل.
ويتحرى في المقررات الكتب الجديرة في فنها، الأحسن من غيرها، مما تولى تأليفها ذو ملكة تامة في الفن، واشتملت على حسن ترتيب وتحرير للمسائل والعلوم، المهذبة المصححة، وما ثبتت فائدته في التدريس بالتجربة مقدم على غيره، وما استأنس به الطلبة وألفوا أسلوبه أولى في البداية من غيره.
__________
(1) المصدر نفسه: 343.
(2) قانون المتعلم: 376 و425.(1/50)
ومقررات علوم الحديث اليوم هي تلك المختصرات المخلة التي صورت علوم الحديث تصويراً قاصراً، قصرته على النوع ومثاله ولما تغص في أعماقه، فأصبحت صورته عند كثير من طلبة الجامعات مختصرات لا عمق فيها ولا إثارة لدقائق صناعة النقد، ولا تأصيلها من كتب النقاد الأوائل، واستخراجها من أعمالهم وتطبيقاتهم غضة طرية، ولا تجدهم ينقلون نصوص النقاد في الحكم على الأسانيد والرجال، مما يعد ثروة نقدية هائلة. ولست أقصد هنا الدعوة إلى بسط المادة، وإنما المقصود استمدادها من أصولها، وعدم الاقتصار في تقديم مذكرات علوم الحديث للطلبة على مختصرات المتأخرين التي تتشابه وتكاد تكون مادتها واحدة إلا فيما ندر، وبعضها ليست فيه الملكة الكافية والدراية التامة بالعلم، ولا توجيه فيها لخفايا الفن وغوامضه، ولا فوائد إضافية تتعلق بالتمثيل العائد إلى الاستقراء والتتبع من قبل المؤلف، وهذه منها جملة، فإذا كان حال بعضها هو هذا الحال، فكيف بهذه المعاصرة التي تنقل عنها، ولم ترم ما فيه إضافة علمية محققة منها. ولعل بعض المتأخرين كان يجعل بعض مختصرات في العلوم لمراجعة نفسه، لا لتعميمها واعتماد الطلبة عليها. كما أن من يقدر على حسن التأليف بما أوتي من ذكاء وذوق في الرصف والترتيب قد لا يكون صاحب دراية وامتلاك للفن، فيشكر صنيعه في التأليف ويبقى الافتقار إلى عبارات الملكة، والمالك لعبارات الاصطلاح، الغائص في أحراج الأسانيد المستخرج لدقائق التنقيد.
المحور الثالث: اقتراحات وتوصيات:
حين يقترح منهج لتدريس علوم الحديث لا غنى لنا عن اعتبار أمرين:
الأول: تاريخ علوم الحديث وطرائق المحدثين، ومدارسهم وعلومهم، ومناهج التحصيل عندهم، فلا طريق لأحد إلا طريقهم.(1/51)
الثاني: واقع الطلبة اليوم، ومحاولة التوفيق بين القديم والحديث بقدر الإمكان، إبقاء أصول القديم وجذوره المؤسسة، ومراعاة المعاصرة التي ينبغي أن تنظر إلى العلم بعين الماضي وإلى الطالب بعين الحاضر. فتستثمر الوسائل الحديثة لصالحه.
وهذه بعض الاقتراحات:
أولا: إن قضايا المناهج والمسالك في التعليم ابتكارية اجتهادية لا تحجر واسعاً، لكن بعد ثبوت جدواها وعمقها، ومادام عندنا تاريخ علمي حافل قل نظيره في تاريخ الأمم، شهدت مستوى رفيعاً، وخرجت جيلا فريداً، ودل الواقع على أن الزمان ما جاد بمثلهم إلى حد الساعة مع توالي الحقب والأزمنة، وبعلومهم ومناهجهم حفظت السنة.
مادام كذلك فإن اقتفاء أثر المناهج القديمة هو الأساس في عملية تعليم الحديث وعلومه، والإعراض عنها خسارة مركبة. فإن وجدنا من المناهج الحديثة ما يساعدنا على تحصيله وثبتت جدواه قبلناه، وقد يكون في الوسائل الحديثة مزيد مساعدة، كاستخدام التقنية الحديثة في خدمة علوم الحديث، وأقراص الحاسوب المشتملة على تواريخ الحديث وتراجم الرجال، وتخريج الأحاديث.
ثانيا: إسناد تدريس مادة الحديث وعلومه إلى المتخصصين، وعدم التساهل بإسنادها إلى غير القائمين بها. وبقدر ما يكون المتخصص فيها قد أخذها عن مشيختها ويفهمها فإنه سوف يُفهمها للطلبة ويوصلها إلى رتبة تليق بها.
ثالثا: انتقاء الطالب الميال إلى علوم الحديث، بواسطة لجان متخصصة من الأساتذة، ومراعاة قدرته على الحفظ، ومدى اعتدال مزاجه، وانفساح طبعه للمادة، وتقدير نجاح مثله في تحصيلها. فإن من اقتنع بتخصص الحديث وعلومه قبل سلوكه طريق تعلمه وانتظامه في الجامعة يكون أقدر عليه، وأكثر توفيقاً، وهذا واقع مجرب.(1/52)
رابعا: اختيار المقررات المناسبة بواسطة لجنة متخصصة، فتقرر الكتب في علوم الحديث التي ألفها أصحاب ملكة ومعرفة بالعلم، ولهم فيها تحريرات المتقنين، ودرجتها بين سائر كتب الفن متميزة، وخاصة إذا تولى الأسلاف تقريرها في مدارسهم على طلبتهم، وصارت مألوفة عند طلبة الحديث. ولا يبدأ بالمختصرات المعاصرة في مصطلح الحديث، لأنها أفقدت هذا العلم قوته وخصوصيته كما تقدم وأصبحت تعريفاً للأنواع وأمثلة لها قد لا تكون مسلمة. فالأولى مختصرات قديمة وخاصة تلك التي احتوت على أصول هذا العلم عن أهله وربطه بتاريخ وكلام علمائه.
ولا يوزع المقرر عبر أربع سنوات دراسية للتخرج، بل يؤخذ المختصر ويختم، وينتقل إلى غيره الأعلى منه فيختم وهكذا...
ويصنف الطلبة حسب استعدادهم، ويقرر لكل فئة ما يليق بها، فهناك كتب مبتدئة، وكتب متوسطة، وكتب منتهية، ويتصنف الطلبة بحسب هذه الأقسام، ويرعى قسم مراقبة المناهج ترسيخ هذا المنهج في اختيار المقررات الطلابية، ويعمل المدرس حديثُ التجربة تحت إشراف مدرس مجرب خبير.
ويلزم الطالب بحفظ متن من المتون في علوم الحديث، ومن المناسب أن يتلاقى المتن المحفوظ مع المقرر المشروح، ومحاولة تجنب المذكرات فيما فيه كتاب مقرر من مصادر الفن، وإنما المذكرات فيما ليس مجموعاً أو كانت تأكيداً للكتاب المقرر ترسيخاً لما فيه وتكثير الأمثلة التطبيقية لاستيعاب المادة.
وأن يسلك في تدريس الكتاب طريقة التقريب قبل الاستيعاب، فيعطي من كل باب أصوله، فإذا انتهى رجع إلى الشرح والتفصيل واستيعاب الباب.
ودور اللجنة الساهرة على المقررات تولي تدقيق النظر في سير المقررات ونسبة الاستيعاب عند الطلبة، ومراقبة التجاوب معها، واستخلاص إحصاءات بالنسبة لارتفاع المستوى أو انخفاضه.(1/53)
خامسا: إذا ارتأت اللجنة العلمية المختصة بمقررات ومناهج تدريس علوم الحديث أن تضع مذكرة جامعة تتوخى فيها مسلكاً جديداً في ترتيب المواد، وتنظيم التأليف بشكل معاصر قد ألف طلبة الوقت مثله ولهم منه أشباه من التواليف، ولربما كانت مصلحة تقريب العلم تملي ذلك، وهكذا، فإن اقتنعت بذلك، فلا يوكل وضع هذه المذكرة إلا لمجموعة من الأساتذة المختصين، ويكون وفق منهج أصيل موحد.
سادسا: أقترح إنشاء هيئة عليا للمعنيين بدراسة الحديث وعلومه، تتألف من المختصين من جامعات عالمية متنوعة، ويكون التنسيق بينهم لوضع بحوث معمقة في قضايا الحديث وعلومه، وخاصة تلك الخلافية أو التي يكتنفها الغموض أكثر من غيرها، ومن أدوار هذه الهيئة حراسة علوم الحديث من الجهالات التي ترتكب والأغلاط العلمية والمنهجية التي مني بها الدرس الحديثي، والتذكير بأصول هذا العلم ومدارسه الأولى وأعلام النقاد الأوائل، وربط الناس بأهل الحديث المتقدمين الذين خرج منهم هذا العلم، ويكون لها نشاط مع الجهات العلمية في العالم وتنظم مؤتمرات وندوات ودورات علمية في هذا العلم.
ويراعى في أعضاء الهيئة والعاملين فيها أن يكونوا من جهات مختلفة، ومن مشارب متنوعة، فإن ذلك يطبع الإنتاج والعمل بطابع متكامل.
سابعا: ضرورة تجديد علوم الحديث بإزاحة ما خيم على العمل في حقلها من جهالة وسوء فهم وبعد عن إدراك مرامي كلام الأسلاف، وليرجع إليه صفاؤه والشغف بالعمل به على أصول المحدثين المتقدمين، والتصدي للتعصبات المختلفة في الأحكام المتعسفة على الأحاديث إثباتاً أو نفياً بدوافع أجنبية وإملاءات غير سديدة. والاعتداد بما كان الخلاف فيه معتبراً، وإزاحة الاختلافات الواهية.(1/54)
ثامنا: التركيز على النواحي التطبيقية، وإخراج القواعد النظرية إلى حيز العمل، وإشعار الطالب بأن عملية الحكم على الأحاديث مستمرة ما احتاج الناس إلى معرفة درجة الأحاديث، ولأن هناك أحاديث تفرزها أحداث معينة ونوازل مستجدة إما إحياء لها من أصل قديم، وإما اختلاقاً لها استجابة لبعض البواعث القبلية أو المذهبية أو السياسية، وإننا لنجد اليوم أحاديث لا توجد في كتب الموضوعات، ولا ذكر لها فيها، فمن لها إذن؟!.
تاسعاً: تركيب الحس النقدي عند طلبة العلم وعامة المسلمين، بعدم قبول كل ما يروى، والتثبت من الرواية، والتحقق من وجود أصل لما يروى، وإذا حصل ذلك كان مما ينعش الدرس النقدي الحديثي لأن ذلك يدفع إلى البحث والسؤال، فيعود له نشاطه ووجوده.(1/55)
عاشراً: إقامة دورات علمية تدريبية لأجل لفت الطلبة والمجتمع إلى أهمية الرجوع إلى مناهج النقد الحديثي اليوم. وربط العمل في تصحيح الأحاديث وتضعيفها بقواعد مصطلح الحديث، وكل دورة تكون مختصة بموضوع من موضوعات هذا العلم، فواحدة مثلا للشذوذ والنكارة، وأخرى للاتصال والانقطاع،... وهكذا، مع محاولة استقصاء البحث في الموضوع المقترح، ولا ينبغي أن يطول العهد بين الدورات، وقد جربنا هذا الأمر في أوربا في الدورات العلمية، فقد تركب حس نقدي عند طلاب لا صلة لهم بالعلوم الشرعية، وتعمقوا قليلا في مباحث هذا العلم، وأصبح من الصعب أن يمر عليهم حديث من غير فحص له وبحث عنه وسؤال أهل الاختصاص، وبهذا يشرك المجتمع الطلابي وغيرهم من ذوي الغيرة في بث هذا الحدس النقدي في نفوس الناس. وأذكر أن شابا متخصصا في بعض العلوم العصرية جلس عندي في درس المصطلح في بريطانيا، وكان الكلام على الحديث المنكر فمثلت بحديث: (من أفطر يوما من رمضان في غير رخصة رخصها الله له لم يقض عنه صيام الدهر وإن صامه). فلما نقلت كلام العلماء في الحكم بضعفه، تنفس ذاك الشاب الصعداء واستراح من كابوس جاثم على صدره، ورفع صوته (الله، الله، الله...)، فإن خلاف أصول الشرع خلاف الفطرة والعقل ومراعاة أحوال المكلفين، ولذلك كان يعاني هذا الشاب من هذا الحديث المنكر (1) .
حادي عشر: البدء بتقرير مادة مصطلح الحديث في مرحلة مبكرة قبل الجامعة في التعليم الشرعي وغيره لتهيئ الطالب لمستوى أعلى في الجامعة، ويكون قد أخذ معها مبادئ هذا العلم وتعرف عليه، بل حفظ فيه منظومات وورقات متون.
__________
(1) أخرجه أبو داود في الصوم، باب التغليظ فيمن أفطر عمدا (2/788-789) والترمذي كذلك 3/113، وابن ماجه 1/513/،514 وأحمد (2/386 و442 و458 و،470 والدارمي 1/343 وابن خزيمة 3/،238 وابن حبان في المجروحين 3/،157 والدارقطني 2/211-212 والطيالسي 331 والبيهقي 4/228.(1/56)
ثاني عشر: يوصى بخلق لجنة تتكون من المختصين في علوم الحديث للحكم على الأحاديث والآثار، كما أن هناك لجانا وهيئات للفتوى الفقهية فعلى نظيرها تكون هيئة تبين أحكام الأحاديث التي ترفع إليها أو عم بها الاستدلال واحتاج الأمر فيها إلى بيان وتقويم.
وهذه نظرتي إلى العناصر التي ينبغي أن يشتمل عليها كتاب شرح الحديث:
ـ انتقاء الأحاديث الصحيحة والحسنة، وتخريجها تخريجا كاملا.
ـ أن تكون الأحاديث جامعة وأصولا في بابها.
ـ أن تكون من كل كتاب من كتب الحديث وأبوابه، من الأحكام والآداب والرقاق وأبواب القيامة والجنة والنار وسائر أبواب الأحاديث.
ـ أن يشتمل الكتاب على مدخل أو مفتاح لبيان المصطلحات المستعملة ومنهج الكتاب والرموز إن كانت هناك رموز، وقيمة الأحاديث.
ـ أن يتوخى الشرح العبارة الواضحة وتحاشي الأساليب الصعبة والتعقيد.
ـ أن تكون الأحاديث المنتقاة موافقة لما يدرسه الطالب في علوم الحديث من حيث اشتمالها على موضوعاته.
ـ يقرر حفظ أحاديث على الطلبة وأفضل أن يحفظوا أصول أبواب الصحيحين، بمعدل ما بين 250 و500 حديث كل سنة، وهذا مستوى أعلى، أو 200 حديث كل سنة، وهذا مستوى متوسط، أو 100 حديث كل سنة وهو المستوى الأخير.
ـ والعدد قد يقدر أكثر أو أقل بحسب الاستعداد فيقدر المسؤول عن المناهج الطلابية ما يصلح، ويجعل هذا الحفظ مميزا لدرجات المتفوقين فيعطون أكثر ممن لم يحفظوا.
ـ يشترك في وضع الكتاب مختصون في علوم الحديث، وفي الفقه، وأدباء رجاء أن ينتج عن ذلك كتابة قوية في كل جوانبها، فشرح الحديث بحاجة إلى فقه وإلى عبارة جيدة مسترسلة إضافة إلى علوم الحديث.
والعناصر التي ينبغي أن يشتمل عليها درس الحديث:
أولا: تخريج الحديث كاملا مع إضافة بعض أمور ويشمل:(1/57)
1 ـ بيان موضعه من كتب الأحاديث المسندة. وأثناء بيان موضعه في هذه المصادر المسندة، يعرف بمناهج المصنفين وطرائق التأليف وشرط المصنف إن كان علم له صنيع في كتابه، ودرجة أحاديثه، ومكانة هذا المصنف ومصنفه عند العلماء في النقد من اعتدال مذهبه أو تساهله أو تشدده، ومنهج توثيق المنقولات عند المسلمين.
2 ـ بيان درجته إذا كان خارج الصحيحين.
مع شرح المواد النقدية الواردة من عبارات النقاد في الرواة، وشرح مصطلحات الأنواع، ومناهج النقاد، ولطائف الإسناد، وضبط الأنساب إذا وردت وما إلى ذلك.
3 ـ يشار إلى خصيصة مناهج التوثيق عند المحدثين:
وشرح قاعدة الحفظ من الأسانيد وتوثيق المرويات عمليا، ومقارنة ذلك بما عند الغربيين لإظهار تفرد قواعد التوثيق لدى المحدثين، وزيادة الاطمئنان في نفوس الطلبة بجدارة المنهج الإسلامي في النقد، وهذا مما يحفز الطلبة اليوم على العناية بعلوم الحديث.
4 ـ ترجمة صحابي الحديث.
5 ـ إن كان في الحديث خلاف. بين الخلاف بأمانة وإنصاف وعرض كل ما قيل في الحديث، ولزم الحياد، وعمق شرح الخلاف، وهي فرصة سانحة لتطبيق قواعد المصطلح، وإزاحة إشكالات الفهم.
6 ـ إن ثبت ضعف الإسناد فقد تكون له شواهد ومتابعات. وهنا يشرح قضية الشاهد والمتابع في باب الاعتبار، ومن يعتبر به من الرواة ومن لا يعتبر، وما هو الضعف المحتمل في التقوية، وهل كل ضعيف يقوى به، وكلام العلماء في ذلك، فإن ثبت ضعفه وأنه لا يقبل الجبر طرحه إن كان في الأحكام والعقائد، وإن كان في الفضائل ذكر شروط العمل به في الفضائل، وعرض موضوع العمل بالضعيف في الفضائل ما نوعه؟ والخلاف في ذلك، وله أن يذكر ما اقتنع به واستراح إليه.(1/58)
ثانيا: إذا ثبت الحديث صحة أو حسنا أو ضعيفا منجبرا، قرأه المدرس قراءة الاعتداد به بصوت بين، وطرح فكرة موضوع الحديث التي يدور عليها، وجعلها قضية مقارنة بحاجة الناس إليها، أو ما يقع من الناس من سوء فهم لهذا الموضوع، أو غفلة عن الأخذ بأحكامه وآدابه، وذلك للتدليل على أهمية الموضوع، ولفت أنظار الطلبة إلى الاهتمام به، وتهيئتهم للمشاركة قصد إثراء الدرس، وفهمه فهما صحيحا، وقد يفتح الحديث مجالا واسعا لمناقشة قضايا كبيرة كقضية الإيمان وأحكامه من حقيقته ودخول العمل فيه، وما يقع من غلو في نزعه بالمعصية أو انحسار عنه بنزع العمل عنه، فيكون درسا واسعا.
ثالثا: له منهجان في الشرح.
1 ـ تفكيك الفقرات والكلمات وشرحها منفردة، فإذا انتهى من ذلك جمعها كلها بالشرح.
2 ـ يأخذ كل فقرة ويفككها ويشرحها، ثم يمر إلى أخرى وهكذا وكلا المنهجين مقبول مذكور في كتب مناهج التعليم عند المسلمين فيشرح الغريب، ويربط الجمل والمعاني ويبين العلاقة بينها. ويقف على الإعراب إذا استدعى الأمر ذلك وزاد الأمر بيانا أو كان السياق مفتقرا إليه.
3 ـ يذكر المعنى الإجمالي للحديث متنبها إلى استيعاب عناصر الحديث من غير إسقاط شيء منها، فحق الإخبار عن صاحب الرسالة ( أن يكون كما أخبر، لأنه مؤد عنه بالشرح، ويعزز معنى الحديث بآيات قرآنية إن كانت أو أحاديث أخرى.
إن كان للحديث سبب ورود ذكره، فإن العلم بالسبب يورث العمل بالمسبب، وهو إن كانت العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فإن معرفة سبب الحديث يستفاد منه أمران كما قال العلماء: عدم تحديد محل السبب أو فهم المعنى من السياق.(1/59)
إن كان أسلوب الحديث خرج عن المعتاد المباشر، توقف عنده وشرح الأمر، كأمثال الحديث، فإن كان الحديث مشتملا على مثل، فلا بد من التعرض لمعنى المثل وأن الأمثال في الحديث نظير الأمثال في القرآن، وأن الأسلوب حين يستدعي استعمالها لأجل إفادة بعض المطالب الدينية، وترسيخها بطريق المثل الذي يرسخ في النفس ويلفت إلي تحقيق المعاني التي يرمي إليها، والنفوس تؤثر فيها بعض الأساليب أكثر.
إن ظهر اختلاف ظاهري بين الحديث وحديث أو أحاديث أخرى، فلا ينبغي إغفاله في الشرح، لبيان رفع هذا الظاهر المختلف، وتكون فرصة لإعطاء خلاصة عن علم مختلف الحديث ومؤلفاته ومناهجه، وطريقة الجمع أو النسخ أو الترجيح، عند ثبوت الخلاف عند المحدثين.
وأما ادعاء الاختلاف بين الأحاديث لمجرد أي ظاهر يعن لقارئ الحديث فهو خطأ يجب التنبيه عليه.
عرض المعنى الإجمالي مرة أخرى وتكرار الغرض بعبارات مختلفة تسعف الشارح، وليراع فن التلخيص كما ذكره العلماء فإن له أصولا وقواعد. وليعط للمعاني حقها من الترغيب أو الترهيب، وليهول في موطن التهويل وليعط للأمر حقه ومستحقه لا يغالي ولا يجافي، وليحافظ على الأغراض الأساسة ولا ينشغل بفروع أو استطرادات تغمر الأصل والمعنى الرئيس للحديث.
والاستطراد قد يكون مفيدا إذا احتاج إليه الشرح، وأما من غير ذلك فإنه يكون مضيعا للأساس وشاغلا للمتعلمين.
رابعا: استنباط الأحكام والآداب من الحديث.
لا بد للمستنبط من قدر صالح من علم أصول الفقه المساعد على استنباط الأحكام الشرعية والآداب، للتمييز بين أنواع الدلالة، ومعرفة الوجوب والاستحباب، والكراهة والتحريم، والعموم والخصوص، والإطلاق والتقييد، وقواعد الترجيح والتعارض والقياس وهكذا....(1/60)
فيرد العام إلى الخاص والمطلق إلى المقيد ويصرف الظاهر إلى معنى بعيد عند القرينة القاضية بذلك، ويعتني بالتأليف بين ما ظاهره التعارض، ولا يوجب ما هو مستحب، ولا يحكم بندب ما هو واجب، ولا يحرم ما هو مكروه كراهة تنزيه، ولا يحكم بكراهة ما هو حرام.
وليستنبط الأحكام والآداب من الحديث، ويرتب ذلك حسب الأولية فالأحكام قبل الآداب، وإن وجد ما يعضض به معنى الحديث من القرآن أو من أحاديث أخرى فعل.
وليعتن بالفقه المقارن إن كانت المسألة خلافية فيورد كلام الفقهاء فيها.
خامسا: ملاحظة الوجوه البلاغية والأدبية في أسلوب الحديث:
هذا أمر مفيد للطالب إذ أنه يتعرف به على لغة النبي صلى الله عليه وسلم البينة، ولسانه الفصيح، وقد أوتي جوامع الكلم، ومحاسن الخطاب، ومكامن الإشارات، وأفنان الكلام وأجناسه، فحري بالمدرس أن يعنى بهذا ويوقف الطالب على بيان النبي صلى الله عليه وسلم وفصاحته الفريدة.
بعض مصادر البحث
- أبجد العلوم: القنوجي محمد صديق حسن خان (ت 1307هـ).
- الأذكياء: ابن الجوزي أبو الفرج (ت 597هـ). تحقيق عبد الله بن الصديق الغماري، مكتبة القاهرة.
- الإلماع في ضبط الرواية وتقييد السماع: القاضي عياض (ت 544هـ). تحقيق سيد أحمد صقر. دار التراث، القاهرة/ ط 2، 1997.
- تاريخ بغداد: الخطيب أبو بكر (ت 463هـ). مكتبة الخانجي، القاهرة، ط1، 1349 - 1931.
- تاريخ دمشق: ابن عساكر أبو القاسم (ت 571هـ). مصورة عن أصل دار الكتب الظاهرية بدمشق.
- تذكرة الحفاظ: الذهبي أبو عبد الله (ت748هـ). حيدر آباد الدكن / الهند، ط 3. 1375 - 1900.
- تعليم المتعلم طريق التعلم: الزرنوجي.
- جامع بيان العلم وفضله: ابن عبد البر (ت 463هـ). إدارة الطباعة المتيرية، مصر.
- الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع: الخطيب أبو بكر (ت463هـ). تحقيق محمود الطحان، مكتبة المعارف الرياض. 1403 -1983.(1/61)
- الجرح والتعديل: ابن أبي حاتم (ت 327هـ). ط حيدر آباد الدكن / الهند، ط 1.
- الجواهر والدرر في ترجمة ابن حجر: السخاوي محمد بن عبد الرحمن (ت 902هـ). تحقيق إبراهيم باجس عبد المجيد، دار ابن حزم ط 1 / 1419 - 1999.
- الحث على الحفظ وذكر كبار الحفاظ: ابن الجوزي (ت597هـ). دار الكتب العلمية، ط 1 1405 -1985. بيروت.
- حلية الأولياء وطبقات الأصفياء: أبو نعيم الأصبهاني (ت430هـ). دار الكتاب العربي، بيروت/ ط 2 1387 - 1967.
- ذم الكلام: الهروي أبو إسماعيل (ت 481هـ). تحقيق عبد الرحمن عبد العزيز الشبل. ط1 / مكتبة العلوم والحكم المدينة 1418 - 1998.
- الرسالة المستطرفة: الكتاني محمد بن جعفر (ت 1345 هـ). دار الكتب العلمية، بيروت. ط 2/1400.
- سير أعللام النبلاء: الذهبي (ت 748هـ). تحقيق بشار عواد معروف وجماعته، مؤسسة الرسالة، ط 4، 1406.
- شرح علل الترمذي: ابن رجب (ت 795هـ). تحقيق نور الدين عتر، دار الملاح، ط1 / 1398 - 1998.
- صحيح البخاري (مع فتح الباري): إشراف الشيخ عبد العزيز بن باز وترقيم محمد فؤاد عبد الباقي. دار الفكر - بيروت.
- صحيح مسلم (مع شرح النووي): ط 2/ دار الفكر -بيروت. ط 2 1392 - 1972.
- العلل الصغير بآخر الجامع: الترمذي (ت 279هـ). تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف، دار الفكر / ط 3، 1398 - 1978.
- العلو والنزول: ابن طاهر المقدسي. تحقيق صلاح الدين مقبول أحمد، مكتبة ابن تيمية، الكويت.
- فتح المغيث شرح ألفية الحديث: السخاوي (ت 902هـ). تحقيق علي حسين علي، مكتبة السنة، ط 1، 1415 - 1995.
- القانون في أحكام العلم والعالم والمتعلم: اليوسي أبو المواهب (ت1102هـ). تحقيق حميد حماني، مطبعة شالة، الرباط 1419 - 1998.
- الكفاية في علم الرواية: الخطيب أبو بكر (ت 463هـ). طبعة حيدر آباد الدكن، 1357.
- المجروحين: ابن حبان أبو حاتم محمد (ت 354هـ). تحقيق محمود إبراهيم زايد، دار المعرفة، بيروت.(1/62)
- المحدث الفاصل بين الراوي والواعي: الرامهرمزي (ت 360هـ). تحقيق محمد عجاج الخطيب، دار الفكر/ 1391 - 1971.
- المدخل إلى الإكليل: الحاكم أبو عبد الله (ت 405هـ). نشر جيمس ربسوم سنة 1372 - 1953.
- معرفة علوم الحديث: الحاكم أبو عبد الله. تحقيق السيد معظم حسين، حيدر آباد الدكن الهند/ ط 2 - 1397 - 1977.
- مقدمة ابن خلدون: ابن خلدون محمد بن عبد الرحمن (ت 807هـ).
- مقدمة عن صحيح البخاري: للنووي (ت 676هـ). تحقيق علي حسن عبد الحميد، دار الباز مكة، دار الفكر عمان.
- الموقظة: الذهبي.
- ميزان الاعتدال في نقد الرجال: الذهبي. تحقيق علي محمد البجاوي، دار المعرفة، بيروت.
- النكت على ابن الصلاح: ابن حجر. تحقيق ربيع بن هادي مدخلى. طلعة الجامعة الإسلامية بالمدينة. ط 1 / 1404 - 1984.
- النكت على ابن الصلاح: الزركشي محمد بن بهادر (ت 794هـ). تحقيق زين العابدين بن محمد بلافريج. ط1 أضواء السلف الرياض 1419 - 1998.
- هدي الساري: ابن حجر. إشراف عبد العزيز بن باز، ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي، إخراج محب الدين الخطيب. دار الفكر.(1/63)