ملخص
"فهم الحديث في ضوء القرآن عند الإمام البخاري من خلال جامعه الصحيح"
... ...
إعداد الدكتور: جمال اسطيري.
تعتبر قضية فهم النص الديني كتابا وسنة من أهم القضايا التي شغلت علماء الإسلام قديما وحديثا؛ وقد سخر لذلك ما أنتجته الأمة من علوم في شتى مجالات المعرفة الإسلامية واللغوية. فكان لذلك نتائجه السلبية التي تمثلت في توسيع شقة الخلاف بين أهل المذاهب الفقهية. كما فتح ذلك بابا واسعا للاجتهاد العلمي، نما معه الفقه الإسلامي.
وفيما يخص فهم الحديث النبوي- الذي هو المصدر الثاني للتشريع الإسلامي- فقد تعالت صيحات –عبر التاريخ- تنادي بضرورة عرض الحديث على القرآن الكريم، فإن وافقه فبها ونعمت، إلا فالتوقف أو الرد لما خالف القرآن الكريم. غير أن تلك المحاولات ظلت محتشمة؛ لأن أحسن ما أفضت إليه هو التوقف في قبول أحاديث معدودة على رؤوس الأصابع، على أن أكثر الأحاديث التي تم ردها بدعوى معارضتها للقرآن آفتها ضعف رواتها أو كذبهم.ثم إن في منهج المحدثين ما يغني عن هذه المعارضة ألا وهو شرطا الصحة: نفي الشذوذ ونفي العلة وهما أشد على الراوي الثقة من هذه المعارضة لأن السنة أشد تفصيلا من القرآن. فاشتراط عدم مخالفة الثقة لمن هو أوثق منه، أو أولى منه سندا ومتنا أحوط من شرط معارضة الحديث للقرآن.
ومن الجهود المبكرة التي بذلت في فهم الحديث في ضوء القرآن ما واراه الإمام البخاري تراجم كتابه من درر وجواهر ما زال المحدثون إلى يومنا هذا ينقبون عن محاسنها ليطوقوا بها أبحاثهم العلمية لعلها تجد خطيبا لها في سوق العلم ومجالس الفقهاء.(1/1)
وقد تميزت محاولة الإمام البخاري في فهم بعض نصوص الحديث النبوي بأنها أعملت كل تلك النصوص وفق القواعد الأصولية التي أقرها علماء الأصول. بينما كانت دعوات غيره لعرض الحديث على القرآن إهمالا لتلك الأحاديث. والإعمال أفضل من الإهمال. فهل يتأتى للمحدث أو الفقيه أن يستدل على كل قضايا الفقه الإسلامي بالقرآن الكريم؟
قد ارتبط فقه البخاري الذي ضمنه تراجم كتابه بالمصدرين الأصليين للوحي: الكتاب والسنة. وما خلا من الأبواب عن حديث صحيح على شرطه، لجا فيه إلى القرآن الكريم. وذلك كقوله في كتاب الإجارة (باب إذا استأجر أجيرا فبين له الأجل، ولم يبين له العمل لقوله (? ? ? ? ? ? ? – إلى قوله - ? ? ? ? ? ? ) ) (1) فلم يذكر البخاري في هذا الباب حديثا لأنه لم يصح على شرطه فيه شيء، وإنما اكتفى بالآية، وهي لم تبين العمل.
وقد يرفق البخاري ما دلت عليه الأحاديث من حكم عملي أو عقدي بحكم منهجي كأن يفيد قطعية أحاديث الباب، أو تواترها بآيات قرآنية صريحة في الموضوع، فمن ذلك أنه روى ستة أحاديث في إثبات عذاب القبر تحت (باب ما جاء في عذاب القبر، وقوله تعالى (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) ... وقوله جل ذكره (? ? ? ? ? ? ? ? ). وقوله تعالى (? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ) (2) . قال الحافظ بن حجر (وكأن المصنف قدم ذكر هذه الآيات لينبه على ثبوت ذكره في القرآن، خلافا لمن رده وزعم أنه لم يرد ذكره إلا من أخبار الآحاد).
__________
(1) - خ 4/444 كتاب الإجارة
(2) - خ 3/231 كتاب الجنائز(1/2)
هذا عن ورود الحديث وطريقة البخاري في إثبات قطيعته وتواتره. أما عن دلالته فقد سلك البخاري في شرح غريب الحديث (وهو ما وقع في متنه من لفظه غامضة بعيدة من الفهم لقلة استعمالها)- مسلكا أمينا يحافظ فيه على مقاصد الشريعة الإسلامية، وذلك عن طريق تفسير نظيره من القرآن الكريم إذا ورد مستعملا في القرآن، فقد فسر قول عائشة رضي الله عنها في وصف قيامه صلى الله عليه وسلم (كان يقوم حتى تَفَطَّر قدماه) بقوله (الفطور: الشقوق. (انفطرت): انشقت) (1) فأشار بذلك إلى قوله تعالى من سورة الانفطار (? ? ? ? ). هكذا تطرد طريقة البخاري في شرح غريب الحديث بشرح نظيره من القرآن الكريم في أمثلة كثيرة لا يتسع المقام لاستعراضها كلها، وقد أتيت على ذكر طائفة منها في المقال الأصلي فلتلتمس هناك لمن يرغب في المزيد منها.
هذه المعرفة بلغة العرب وتصاريف كلامهم ووجوه استعمال القرآن للغة العربية –التي أبان عنها البخاري في تفسير غريب الحديث، أضاف إليها المعرفة بمقاصد الخطاب النبوي، ومتى يكون ذلك على الحقيقة أو على المجاز، وهل حقيقته حقيقة لغوية أو حقيقة شرعية.
__________
(1) - خ 3/14 كتاب التهجد باب قيام النبي صلى الله عليه وسلم بالليل.(1/3)
واحتمال طروء بعض هذه المعاني على لفظ حديث النبي صلى الله عليه وسلم واقع ولازم، وقد عمل البخاري على تحديد بعض ذلك في ضوء القرآن الكريم؛ فقد أورد حديث سعد [بن أبي وقاص] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطي رهطا-وسعد جالس- فترك رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا هو أعجبهم إلي فقلت: يا رسول الله مالك عن فلان؟ فو الله إني لأراه مؤمنا. فقال أو مسلما... كررها سعد ثلاثا وكرر النبي صلى الله عليه وسلم الجواب نفسه. أورد البخاري الحديث تحت (باب إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة، وكان على الاستسلام أو الخوف من القتل، لقوله تعالى (ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ?) فإذا كان على الحقيقة فهو على قوله جل ذكره (? ? چ چ چ) (1) . فقوله (إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة) أي على الحقيقة الشرعية، وقوله (وكان على الاستسلام) وهي الحقيقة اللغوية، فإن الاستسلام من معاني الإسلام لغة.
__________
(1) - خ 1/79 كتاب الإيمان(1/4)
وقد طوع البخاري بعض آي القرآن لبيان ما أجملته بعض الأحاديث؛ فقد أورد حديث "الإيمان بضع وستون شعبة" تحت (باب أمور الإيمان، وقول الله تعالى ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ). (? ? ? ? ) (1) . فأراد بالنصين من سورة البقرة وسورة المؤمنون بيان ما أجمله الحديث من شعب الإيمان). ومن وجوه الدلالة التي يلجأ إليها البخاري في فهم السنة قضاؤه على بعض الأحاديث بعام القرآن؛ من ذلك أنه أورد أربعة أحاديث مفادها جواز إنفاق المرأة وعتقها من غير إذن زوجها، وقد أكد معناها بما دل عليه لفظ الآية العام الذي يقضي بجواز نفقة المرأة من غير إذن زوجها ما دامت غير سفيهة. فقد أورد تلك الأحاديث تحت (باب هبة المرأة لغير زوجها، وعتقها، إذا كان لها زوج، فهو جائز إذا لم تكن سفيهة، فإذا كانت سفيهة لم يجز، قال تعالى (? ? ? ? ?) (2) .وبهذا الحكم قال الجمهور.
وعكس هذا واقع أيضا أن يخصص البخاري عام الحديث بالقرآن، فقد أورد ثلاثة أحاديث في الاعتكاف، ليس في واحد منها ما يدل على وقوعه في المسجد، فخصص هذا العموم بوقوعه في المساجد كما نصت على ذلك آية البقرة. فقد أورد تلك الأحاديث تحت(باب الاعتكاف في العشر الأواخر، والاعتكاف في المساجد كلها، لقوله تعالى (? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ?) (3) .
__________
(1) - خ 1/50 كتاب الإيمان: باب أمور الإيمان.
(2) - خ 5/217 كتاب الهبة.
(3) - خ 4/271 كتاب الاعتكاف.(1/5)
ومن استحضاره لنصوص الوحيين، وضبطه لدلالات ألفاظها بالرغم من وحدة مادتها، تمييزه بين الألفاظ المشتركة في القرآن والحديث، وذلك حتى لا يحمل هذا على ذاك أو العكس، أو يلتبس أحدهما بالآخر، من ذلك ما ميزه البخاري من السعي المطلوب في قوله تعالى في الجمعة (? ? ? ? ? ?) عن السعي المنهي عنه في قوله صلى الله عليه وسلم (إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون). الحديث. فالسعي في الآية معناه العمل والذهاب، وهو خلاف السعي المنهي عنه في الحديث، وهو الإسراع إلى الصلاة أو العدو.
أورد ذلك تحت (باب المشي إلى الجمعة، وقول الله جل ذكره (? ? ? ? ). ومن قال: السعي العمل والذهاب لقوله تعالى (ٹ ٹ ٹ). وقال ابن عباس رضي الله عنهما: يحرم البيع حينئذ. وقال عطاء تحرم الصناعات كلها. وقال إبراهيم بن سعد عن الزهري "إذا أذن المؤذن يوم الجمعة وهو مسافر فعليه أن يشهد") (1) .
ومما استعصت دلالته على العلماء: الأحاديث الصحيحة المختلفة فيم كانت عليه بيعة الرضوان، فقد تضمنت البيعة على أمور هي: الصبر، والموت، والجهاد، والإسلام، وهي أمور مختلفة يرى البخاري أنها أوصاف متعددة لحكم مطلق، وهو البيعة، فقد أوردها تحت (باب البيعة في الحرب أن لا يفروا، وقال بعضهم على الموت لقوله تعالى (ک ک ک گ گ گ گ ? ?) (2) ووجه ذلك أن المبايعة في الآية مطلقة.
__________
(1) - خ 2/390 كتاب الجمعة.
(2) - خ 6/117 كتاب الجهاد.(1/6)
ومن احتياط البخاري التام في إعمال النصوص، واستحضاره للقرآن الكريم تقييده مطلق السنة بالقرآن الكريم؛ فقد أورد ثلاثة أحاديث في فضل من مات له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث –وفي بعضها اثنين- وأن الله يدخله بذلك الجنة. وليس في واحد منها ما يدل على أن الثواب مرتبط بالاحتساب والصبر، فكلها مطلقة، فذهب الإمام البخاري إلى تقييدها بالصبر والاحتساب حيث أوردها تحت (باب فضل من مات له ولد فاحتسب وقول الله عز وجل (? ? ? ) (1) . وأراد بذلك آية البقرة التي وصف فيها الصابرون بقوله تعالى (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) ولفظ المصيبة يشمل المصيبة بالولد.
وفي الأخير نشير إلى النتائج التي توصلنا إليها في هذا البحث وهي كالتالي:
1-دعوى عرض الحديث على القرآن قد يتوخى منها التوقف في قبول أحاديث أوردها ولو كانت صحيحة، بخلاف فهم الحديث في ضوء القرآن، فإنه يفضي إلى إعمال ما صح من الحديث وفهمه فهما سليما.
2-فهم الحديث في ضوء القرآن يتطلب شروطا، وحصانة علمية ومعرفة بمقاصد الشريعة الإسلامية.
3-فهم الحديث في ضوء القرآن الكريم من ضوابط الفهم السليم؛ لأن السنة قد تستقل بالتشريع.
4-أصالة منهج البخاري في فهم الحديث النبوي، واستمداده من كتاب الله معنى ومبنى.
5-فهم النص النبوي في حاجة إلى ضوابط أخرى تراعي الظروف والمستجدات الحضارية.
__________
(1) - خ 3/118 كتاب الجنائز.(1/7)
ملخص بحث :
تطبيقات فهم السنة النبوية في ضوء آثار الصحابة والتابعين عند الإمام مالك من خلال موطئه
أ / فاطمة قاسم .
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد :
إنَّ آثار الصحابة والتابعين قد شغلت حيّزا كبيرا من موطأ الإمام مالك ، سواء ما كان منها مرويا منقولا ، أم عمليا موصوفا ، والمتتبع لصنيع الإمام في الموطأ يجد أنه استثمر هذه الآثار في فهم السنة النبوية وتفسيرها بشكل لافت للنظر تمثل في المجالات الآتية : في الدلالة اللفظية للحديث : ( العام ، والخاص ، المطلق ، المقيد ، بيان المجمل .. الخ ) ، وفي التعارض و الترجيح بين مختلف الحديث ، وفي الناسخ و المنسوخ ، وفي معرفة غريب الحديث ؛ كما قرّر ذلك الإمام الشاطبي رحمه الله فقال : " عادة مالك بن أنس في موطئه وغيره الإتيان بالآثار عن الصحابة مبيِّنا بها السنن، وما يعمل به منها ، ومالا يعمل به ، وما يقيِّد به مطلقاتها ، وهو دأبه ومذهبه" (1) ؛ وقال في موضع آخر : " أنه متى جاء عنهم - أي الصحابة - تقييد بعض المطلقات ، أو تخصيص بعض العمومات ، فالعمل عليه صواب إن لم ينقل عنهم خلاف في المسألة ، وإلاّ فالمسألة اجتهادية" (2) . وتطبيقات هذا الاستثمار للآثار كثيرة في الموطأ ، أكتفي بذكر واحد منها لكل مجال على سبيل المثال لا الحصر على النحو الآتي :
أولا : مسألة تخصيص العام بآثار الصحابة و التابعين ومثاله ما جاء في : باب ما لا يجوز من النُّحْل (3) :
__________
(1) - الموافقات في أصول الشريعة لأبي لإسحاق الشاطبي : ( 03/339 ) .
(2) - المصدر السابق : ( 03/ 338 ) .
(3) - الموطأ ، مالك بن أنس الأصبحي : ( ص/ 398 ) . النُّحْل : بضم النون وسكون الحاء : العَطِيَّة والهبة ابتِداءً من غير عِوَض ، ولا استِحقاق ، يقال نَحَلَه يَنْحَلُه نُحْلا بالضم ، والنِّحْلة بالكسر : العطيَّة . انظر : النهاية في غريب الحديث : ( 05/ 28 ) .(2/1)
ذكر الإمام مالك تحت هذا الباب حديثا عن النعمان بن بشير أنه قال : " إنَّ أباه بشيرا أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إني نَحَلْتُ ابني هذا غلاما كان لي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أَكُلَّ ولدك نَحَلْته مثل هذا ؟ فقال : لا ؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "فارتجعه" " (1) . مفاد هذا الحديث عدم جواز النحل لأحد الأولاد دون غيره ، وفي المقابل جوازها إذا كانت بعدل بينهم دون شرط آخر ؛ ثم جاء بأثرين الأوّل: عن عائشة رضي الله عنها : والذي اعتمد فيه الإمام مالك على قول أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - لها فيما نَحَلها فلم تقبضه حتى مرض ، قال : "وإني كنت قد نَحَلْتُك جَادَّ (2) عشرين وَسْقًا (3) ، فلو كنتِ جَدَدْتِيه (4) واحْتَزْتِيه (5) كان لك ، وإنما هو اليوم مال وارث .." (6) . فخصّ به ما جاء في الحديث السابق فجعل الحيازة والقبض شرط في تمام الهبة ، وأنها ما لم تُحَزْ ما وهبها في صحته لن تتمَّ الهبة ؛ وجاء بأثر آخر في الباب ، عن عمر بن الخطاب - وهو الخليفة الراشد - ليؤكد هذا التخصيص وينصّ على شرط الحيازة والقبض في الهبة حال صحّة الواهب ..
__________
(1) - رواه مالك في : الأقضية، باب ما لا يجوز من النحل ، رقم : ( 1502).
(2) - جَادَّ : الجادُّ بمعنى المجدُود : أي نخْل يُجَدّ منه ما يَبلغ أوسقا معينة ، وهو من الجدَاد بالفتح والكسر ، يقال : جدّ الثَّمرةَ يَجُدُّها جَدّاً ، وهو قطع ثمرة النخل . انظر : النهاية : ( 01/ 244- 245 ) .
(3) - وَسْقا : الأصل في الوسَقَ الحِمْل ، وكل شيء وسَقْتَه فَقَد حَمَلْتُه ، والوَسَق أيضاً ضَمُّ الشَيءِ إلى الشيءِ ، والوَسْق بفتح الواو : مقدار سِتُّون صاعاً . انظر : النهاية : ( 05/ 184 ) .
(4) - قطعتيه .
(5) - من حاز الشيء : أي ملكه ، والحيازة : القبض و الملك .
(6) -رواه مالك في الموضع السابق ، رقم : ( 1503 ) .(2/2)
فعن عبد الرحمن بن عبد القارئ أن عمر بن الخطاب قال : " ما بال رجال يَنْحَلُون أبناءهم نُحْلا ثم يمسكونها ؟ فإن مات ابن أحدهم قال : مالي بيدي لم أعطه أحدا ، وإن مات هو قال : هو لابني ، قد كنت أعطيته إياه . من نَحَل نِحْلة فلم يَحُزْها الذي نُحِلَها حتى يكون إن مات لورثته ، فهي باطل " (1) ، فكان هذا التخصيص بهذين الأثرين رادعا ومانعا من التحايل في النحل .
ثانيا : مسألة تقييد المطلق بآثار الصحابة والتابعين ومثاله حكم الجمع بين الصلاتين في الحضر :
__________
(1) - خرجه مالك في الموضع السابق .(2/3)
أخرج الإمام مالك –رحمه الله - مجموعة من الأحاديث والآثار تدلّ على مشروعية الجمع بين الصلاتين في السفر والحضر ، وبوَّب لها بقوله : " باب الجمع بين الصلاتين في السفر والحضر" (1) ، أما في السفر فالأمر واضح ، وأما فيما يخصّ الجمع في الحضر فقد ذكر حديثا مرفوعا عن ابن عباس رضي الله عنه قال : " صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر جميعا ، والمغرب والعشاء جميعا ، في غير خوف ولا سفر" (2) ؛ فهذا الحديث يدل على جواز الجمع في الحضر مطلقا مع نفي أسبابه وهي : الخوف ، والسفر ؛ ودلالته جاءت على خلاف الأصل في مراعاة مواقيت الصلاة والمحافظة عليها ؛ لكنَّ الإمام مالك –رحمه الله - قيّد مطلق الجمع المذكور بأثر أورده بعد هذا الحديث عن ابن عمر رضي الله عنه ؛ فعن نافع : " أن عبد الله بن عمر كان إذا جمع الأمراء بين المغرب والعشاء في المطر جمع معهم" (3) ؛ وبيَّن مذهبه في المسألة بتعقيبه على الحديث مباشرة بقوله : " أرى أنّ ذلك كان في المطر" (4) . أي أن الجمع في الحضر الذي دل عليه لفظ الحديث يجوز للحاجة والسبب كالمطر (5) لا مطلقا ، واعتمد مالك في هذا التقييد على فعل صحابي جليل هو عبد الله ابن عمر ، فابن عمر أقرَّ الأمراء و عمل بعملهم ولم يخالفهم ؛ والجمع المذكور في هذا الأثر ليس فيه أنه كان في سفر ، أي أنه في الحضر بقاء على الأصل ، وعلّل الجمع فيه بالمطر ، أي أنّ مطلق الجمع بين الصلاتين يجوز في السفر والحضر ، غير أنّه قيد بفعل صحابي أنه في الحضر لا يجوز إلاّ بسبب كالمطر .
__________
(1) - الموطأ : ( ص/ 92 ) .
(2) - رواه مالك في : قصر الصلاة في السفر ، باب الجمع بين الصلاتين في الحضر والسفر ، رقم : ( 336 ) .
(3) - رواه مالك في الموضع السابق .
(4) - الموطأ : ( ص/ 93) .
(5) - تنبيه : نصّ بعض العلماء على أنّه لا يتخذ عادة .(2/4)
أما مسألة بيان المجمل : فإنه كما مرَّ في كلام الشاطبي أن الإمام يأتي بأقوال الصحابة ليبيَّن بها السُّنن، ومن أقوى صور البيان : بيان مجمل السنة ، وفي موطإ الإمام نماذج كثيرة من هذا ، ومما يلحق ببيان المجمل بآثار الصحابة والتابعين معرفة غريب الحديث ، فالإمام -رحمه الله- يعتمد على آثار الصحابة والتابعين في تفسير الألفاظ اللغوية وتحديد الأمكنة التي تتعلق بها أحكام الشرعية ؛ وقد علق الإمام الشاطبي على بيان الصحابة وضرورة الاحتكام إليه في تفسير مراد الشارع لانفرادهم بخصائص لم تتوافر لغيرهم بقوله : " لا يقال إنّ هذا لمذهب راجع إلى تقليد الصحابي ، وقد عرفت ما فيه من النزاع والخلاف ، لأنَّا نقول : نعم ؛ هو تقليد ، ولكنه راجع إلى ما لا يمكن الاجتهاد فيه على وجهه إلا لهم ، كما تقدم من أنهم عرب ، وفرق بين من هو عربي الأصل والنحلة ، وبين من تعرب ... فإذا جاء في القرآن أو في السنة من بيانهم ما هو موضوع موضع التفسير ، بحيث لو فرضنا عدمه لم يمكن تنزيل النص عليه على وجهه ، انحتم الحكم بإعمال ذلك البيان لما ذُكِر ولما جاء في السنة من اتباعهم والجريان على سَنَنهم" (1) . فاللسان العربي المبين الذي يملكه الصحابة وتَمَيُّزِهم بإتقان اللغة العربية سليقة وشهودهم التنزيل كل تلك الظروف جعلتهم قادرين على فهم السنة النبوية خير فهم ، وتفسيرها لنا على الوجه الصحيح ، وكذا إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لهم على تلك المعاني التي فهموها ، وإقرار بعضهم لبعض فقد كانوا علماء بالشريعة فقهاء فيها ؛ يقول الإمام الشاطبي أيضا : " يجب على كل ناظر في الدليل الشرعي مراعاة ما فهم منه الأولون ، وما كانوا عليه في العمل به ، فهو أحرى بالصواب ، وأقوم في العلم والعمل " (2) . ومن أمثلة هذا الفهم والبيان ما يلي :
__________
(1) - الموافقات : ( 03/ 340 ) .
(2) - المصدر السابق : ( 03/ 77 ) .(2/5)
فمن بيان المجمل : ما أخرجه الإمام تحت باب : ما جاء في تعجيل الفطر ، عن سهل ابن سعد الساعدي : " أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يزال الناس بخير ما عجَّلوا الفطر " (1) ، وعن سعيد بن المسيب مرسل مثله (2) ؛ فالتعجيل المذكور في هذين الحديثين لفظ مجمل : يحتمل أن يقصد به إيقاع الفطر قبل الصلاة ، ويحتمل أن يقصد به إيقاعه بعد الصلاة ؛ ثم أردف هذين الحديثين بأثر عن الصحابة رضي الله عنهم يبيَّن التعجيل الوارد في الحديث : " فعن حميد بن عبد الرحمن : أن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان : كانا يصليان المغرب حين ينظران إلى الليل الأسود قبل أن يفطرا ، ثم يفطران بعد الصلاة ، وذلك في رمضان" (3) . فالإمام مالك فسّر إجمال التعجيل الوارد في الحديث بالأثر الذي أورده في الباب فهو يرى أن التعجيل المطلوب في الحديث هو أن يفطر بعد الصلاة ، واعتمد في هذا البيان على فعل كبار الصحابة رضوان الله عليهم ، حيث كان عمر وعثمان رضي الله عنهما يصليان المغرب قبل أن يفطرا ، ثم يفطران بعد الصلاة ، بيانا أن هذا التعجيل لا يلزم أن يكون قبل الصلاة ، بل إذا كان بعد الصلاة فهو تعجيل أيضا (4) . فهذا مثال واضح يدل أن مالكا يعتمد الآثار في بيان المجمل الوارد في الحديث ، ويزيد الأمر وضوحا كون الأثر والأحاديث مردفة في الباب نفسه .
__________
(1) -رواه مالك في : الصيام , باب ما جاء في تعجيل الفطر رقم : ( 649 ) .
(2) - رواه مالك في الموضع السابق .
(3) - رواه مالك في الموضع السابق .
(4) - انظر : المنتقى شرح الموطا لأبي الوليد الباجي : ( 02/ 42 ) ، والموافقات : ( 03/ 338-339 ) .(2/6)
أما شرح غريب الحديث : فقد أخرج مالك أثرين عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : الأول في معنى الدلوك : " عن نافع : أن عبد الله بن عمر كان يقول : " دلوك الشمس ميلها" (1) . والثاني في دلوك الشمس أيضا ومعه غسق الليل : " أن عبد الله ابن عباس كان يقول : دلوك الشمس : إذا فاء الفيء ؛ وغسق الليل : اجتماع الليل وظلمته" (2) .
__________
(1) - رواه مالك في : الوقوت ، باب ما جاء في دلزك الشمس وغسق الليل ، رقم : ( 19 ) .
(2) - رواه مالك في الموضع السابق .(2/7)
أما في مسائل التعارض و الترجيح بين مختلف الحديث : فقد نص الإمام مالك نفسه على الترجيح بآثار الصحابة فيما حكاه عنه محمد بن الحسن أنه قال : " إذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثان مختلفان وبلغنا أنَّ أبا بكر وعمر عملا بأحد الحديثين وتركا الآخر كان في ذلك دلالة على أنّ الحق فيما عملا" (1) . وقد ذهب إلى هذا جماعة من العلماء حيث نصوا أنه إذا تعارض حديثان وكان أحدهما قد عمل به الخلفاء الراشدون فإنه يرجح على معارضه لورود النص باتباع الخلفاء : " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين تمسكوا بها عضوا عليها بالنواجد" (2) ؛
__________
(1) - التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد لأبي عمر يوسف بن عبد البر : ( 03/ 353 ) ، وانظر : ( 08/ 207 ) ، والاستذكار له : ( 11/ 128 ) .
(2) - هو جزء من حديث طويل رواه العرباض بن سارية ، أخرجه أبو داود واللفظ له في : السنة، باب في لزوم الكتاب والسنة : (4/201)، والترمذي في باب: من جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع( 5/43.) ، وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح ..(2/8)
ولأن الظاهر أنهم لم يتركو النصّ الآخر إلا لحجة عندهم ، وهذا ما أكده الدكتور محمد المختار ولد اباه في المسألة حيث قال : " أن من صنيع الإمام مالك أن يورد في الباب عدّة أحاديث ثم يعقب على بعضها بقوله : «وهذا أحب ما سمعت»، وفي هذه العبارة ترجيح قد يستند على بعض طرق الترجيح المعروفة ، وقد اعتمد الإمام مالك في الموطأ نوعين منها : أحدهما : الأحدث من أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وصرح بذلك في حديث " خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة في رمضان ولما وصل إلى كديد أفطر " ، فعقب الإمام مالك على ذلك بقوله : « وكانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم » ، ثانيهما : أن يصاحب الحديث عمل يبيَّن إجماله ويعزُّز استمرارية الحكم ، مثل أخذه بقول عائشة في " صحة صيام من أصبح جنبا " " (1) . ومن أمثلة الترجيح أيضا بين مختلف الحديث بآثار الصحابة و التابعين : ما أخرجه مالك عن ابن شهاب – مرسلا - : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وكانوا يمشون أمام الجنازة ، والخلفاء هلّم جرّا ، وعبد الله بن عمر..." (2) . يفيد هذا الحديث جواز المشي أمام الجنازة عن النبي صلى الله عليه وسلم . ثم أردف الحديث بأثرين : الأوّل : " عن ربيعة بن عبد الله بن الهدير أنه أخبره : أنه رأى عمر بن الخطاب يَقْدُم الناس أمام الجنازة ، في جنازة زينب بنت جحش "؛ والثاني : عن هشام بن عروة أنه قال : " ما رأيت أبي قط في جنازة إلا أمامها ، قال : ثم يأتي البقيع فيجلس حتى يمرُّوا عليه ". ثم ختم الباب أخيرا، بما جاء به ابن شهاب أنه قال:" المشي خلف الجنازة من خطأ السنة" (3) ؛
__________
(1) - مدخل إلى أصول الفقه المالكي، محمد المختار ولد أباه : ( ص/ 167 ) .
(2) - رواه مالك في : الجنائز، باب المشيء أمام الجنازة ، رقم : ( 535 ) .
(3) - انظر تخريج هذه الآثار في الموطأ الموضع السابق ..(2/9)
وذِكْر مالك لقول ابن شهاب دليل على علمه بوجود خلاف في مسألة المشيء أمام الجنازة ، أي أن هناك من يقول بالمشيء خلفها ، استنباطا من تخطئة هذا الفعل أي المشيء خلفها، والحديث الدال على ذلك والذي لم يذكره مالك في موطئه : هو عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : " سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المشيء خلف الجنازة ؟ قال : ما دون الجنب فإذا كان خيرا عجلتموه ، و إذا كان شرا فلا يبعد إلا أهل النار ، الجنازة متبوعة ، ولا تُتَّبع ، وليس منا من تقدمها" (1) ، فهذا الحديث يدل على عدم جواز المشيء أمام الجنازة ، بل فيه وعيد على من فعل ذلك ؛ والإمام مالك بناء على ما قرّره في منهجه في مختلف الحديث نجده رجّح مباشرة حديث المشي أمام الجنازة الذي ذكره في الباب ، معتمدا في هذا الترجيح ومقيدا إياه بما أورده من آثار عن الصحابة ، خاصة وأنّ من قال من الصحابة بالمشي أمامها ، أو فعل ذلك من الخلفاء الراشدين لا سيما أبا بكر وعمر ، فجاء المثال موافقا للقاعدة التي قررها الإمام في رفع التعارض الظاهري بين مختلف الحديث ، والاعتماد في ذلك على الترجيح بآثار الصحابة والتابعين .
__________
(1) - أخرجه أبو داود في : الجنازة , باب الإسراع بالجنازة: ( 3/202)، و الترمذي في : أبواب الجنائز،باب ما جاء في المشي خلف الجنازة : ( 3/332.) ؛ وقال الترمذي: هذا الحديث لا يعرف من حديث عبد الله بن مسعود إلا من هذا الوجه، وابن ماجه في: الجنائز ،باب المشي أمام الجنازة : (1/476) ، وأحمد : (1/378-394) .(2/10)
ومثال معرفة النسخ بآثار الصحابة والتابعين : ما جاء عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نهى عن اشتمال الصماء، والاحتباء في ثوب واحد، وأن يرفع الرجل إحدى رجليه على الأخرى وهو مُسْتَلقٍ على ظهره" (1) . هذا الحديث لم يذكره الإمام مالك في موطئه (2) ، والذي هو أصل المسألة ، والمقصود بالنسخ في هذا المثال ؛ فمالك ذكر مباشرة الحديث الناسخ الذي يعتبره الحكم الراجح في المسألة حيث أخرج عن ابن شهاب ، عن عباد بن تميم ، عن عمته : " أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مُسْتلقيا في المسجد ، واضعا إحدى رجليه على الأخرى" (3) . واعتمد في معرفة النّسخ على فعل عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضي الله عنهما فخرّج أثرا في الباب عن سعيد بن الميسب : " أنّ عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضي الله عنهما كانا يفعلان ذلك" (4) ؛ فكونهما استمرا على فعل ذلك وهما الخليفتان الراشدان فيه دلالة على أن الحديث الذي ذكره مالك في موطئه هو الناسخ لحديث جابر بن عبد الله المتقدم . فانظر هنا إلى أهمية آثار الصحابة في تفسير مجملات السنة وبيانها ، وتوضيح مختلفها ، فكيف لنا أن نعلم ما عليه العمل من الأحاديث المختلفة ، وبأي الدليلين نأخذ وهما متضادان في الدلالة ، لولا أفعال وأقوال صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم . وعلق الإمام ابن عبد البر على مسلك الإمام مالك في هذا المثال بقوله : "فترى –والله أعلم- أنّ مالكا بلغه هذا الحديث (5) ،
__________
(1) - أخرجه مسلم بهذا اللفظ في: اللباس والزينة، باب: في منع الاستلقاء على الظهر ووضع إحدى الرجلين على الأخرى ، رقم : ( 72 ) .
(2) - عادة مالك الاكتفاء بذكر الراجح والناسخ واختياره في ذلك دون ذكر المعارض .
(3) - رواه مالك في: قصر الصلاة في السفر، باب جامع الصلاة ، رقم : ( 425 ) .
(4) -رواه مالك في الموضع السابق .
(5) - وهو حديث جابر المتقدم ..(2/11)
وكان عنده عن ابن شهاب حديث عباد بن تميم هذا يحدث به على وجه الدفع لذلك ، ثم أردف هذا الحديث في موطئه بما رواه عن ابن شهاب عن سعيد بن الميسب أن أبا بكر (1) وعمر كان يفعلان ذلك ، فكأنه ذهب إلى أن نهيه عن ذلك منسوخ بفعله ، واستدل على نسخه بعمل الخليفتين بعده ، وهما لا يجوز أن يخفى عليهما النسخ في ذلك وغيره من المنسوخ ، من سائر سننه عليه السلام" (2) .
__________
(1) -الذي في الموطأ عمر وعثمان لا أبو بكر.
(2) - التمهيد : ( 09/ 204-205 ) .(2/12)
خلاصة : من خلال ما تقدم ندرك حقيقة علمية هامة من أن آثار الصحابة والتابعين جزء من السنة عند الإمام لا يمكن فهمها والتعامل معها بمعزل عن تلك الآثار والاستغناء باللغة والعقل والمقاصد العامة والتاريخ في الفهم والتعامل ، بل هي من السنة ، والدليل على ذلك كثرة ما يطلقه الإمام من مصطلح السنة على أقوال الصحابة والتابعين وعملهم وأقضيتهم وفتاويهم سواء ما تعلق منها بفهم النص النبوي ، أو ما ذُكر ابتداء في تقرير حكم شرعي . أما وجه كون الآثار تفسيرا للسنة النبوية عنده فرعاه من عدة وجوه كما في مر الأمثلة حاصلها بيان الإجمال الوارد في الأحاديث المرفوعة ، وبيان الترجيح المنضبط عند اختلاف الأحاديث والروايات في أبواب العلم والفقه ؛ وغرض الإمام من هذا منع الفهم الخاطئ للسنة النبوية و الاستدلال الشاذ بنصوصها ، منعا للشذوذ الفقهي الذي كان من أبعد الناس عنه كما هو مشهور عنه ، بالإضافة إلى البحث عن استمراية الحكم الذي دل عليه الحديث النبوي الشريف ، فما كان مستمرا معمولا به في عهد الصحابة والخلفاء ثم عن التابعين جيلا عن جيلا فهو السنة والهدي النبوي الشريف. وفائدته المنع من العمل غير المنضبط بالحديث النبوي ، وهدفه الرئيس المنع من وقوع العمل بخلاف هديه وسنته صلى الله عليه وسلم . لأن هذان أقصد فهم النصوص النبوية والاستدلال بها وإطلاق العمل بالنصوص الحديثية ، والاستقلالية بذلك هما مدخل الحوادث والبدع ، وملجأ أهل الأهواء في الاستدلال بالسنة النبوية إذا أعوزهم ردّها . وهذه غاية عظيمة اتفقت لمالك لم تتفق في أحد، ولا في مذهب من المذاهب غير مذهبه حيث اشتهر محققوه بالتأصيل للبدعة والكشف عن مآخذ أهل البدع في الاستدلال من هذا الأصل الذي وظفه مالك في تفسير السنة النبوية . فرحم الله الإمام رحمة واسعة على نباهته وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان أجمعين .
أ / فاطمة قاسم .(2/13)
" نظرية الاعتبار وفائدتها في فهم السنة النبوية "
د. عبد الكريم عكيوي
كلية الآداب – أكادير – المغرب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على النبي الأمين، المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وأهل بيته الطاهرين وأصحابه الغر الميامين، وعلى التابعين لهم وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد، فإن الغرض من هذا البحث تقديم عرض مختصر عن منهج راسخ في العلوم الإسلامية عامة، مع تنزيله على فقه الحديث النبوي خاصة. هذا المنهج في البحث عبارة عن نظرية لها أصول عامة وقواعد منضبطة تجري في فروع العلوم الإسلامية المختلفة التي تدور حول الخطاب الشرعي من القرآن الكريم و السنة النبوية. ومنطلق هذه النظرية أن البحث في النص الشرعي من أجل فهم مراد الشارع منه يبدأ من هذا النص، حتى إذا تم تحرير عناصره الداخلية واستيعابه من جهة قانون اللغة، تم عبور النظر خارجه للبحث في العناصر الخارجية البعيدة عنه المتنوعة في أصنافها، فكلما ظفر الناظر بعنصر له وجه تعلق بالنص في جهة من الجهات ضمه إلى النص المنظور فيه، فينظر في ذلك كله على جهة الاجتماع. ولو حصر الباحث نظره في المرحلة الأولى لم يستوف شروط البحث العلمي ولم يستكمل قواعد فقه الخطاب الشرعي، لأن استكمال النظر إنما يتحقق باستحضار كل العناصر الخارجية المتعلقة بالنص، للحاجة إلى الاعتبار بها، ولهذا آثرت تسمية هذا المنهج بنظرية " الاعتبار " لأن الباحث يحتاج إلى عناصر متباعدة في مواضعها مختلفة في أنواعها، فيجب العبور إليها عن طريق انتشار الفكر والنظر خارج النص محل البحث، فكلما عثر على عنصر ضمه إليه فيعتبر بذلك كله وينظر فيه في حال الاجتماع وانضمام بعضه إلى بعض.
ولتفصيل هذا لابد من تعريف نظرية الاعتبار وضبطها وتقعيدها، ثم بيان فائدتها في فقه الحديث النبوي الشريف.
تعريف نظرية الاعتبار وتحرير ضوابطها(3/1)
تقوم نظرية الاعتبار على أصل منطقي في منهج المعرفة، و هو أن البحث في مسألة من المسائل العلمية لا يكفي فيه الاقتصار على النظر في المسألة بذاتها و التأمل فيها و في جزئياتها المتصلة بها، وإنما يجب أن تستحضر معها أمور أخرى كثيرة، قد تكون بعيدة عنها، غير أنها- بالبحث و التأمل- يظهر أن لها صلة بها، و تتوقف عليها سلامة النتائج المستخرجة. فالنظر الأول ينطلق من المسألة محل البحث، ثم يأتي النظر الثاني فيتجاوز المسألة ويعبر إلى خارجها للبحث عن كل ما له تعلق بها، ولو كان بعيدا عنها في ظاهر الأمر.
فنظرية الاعتبار ترشد الباحث في موضوع من الموضوعات إلى ما يجب عليه أن يأخذه في الاعتبار و يستحضره في الحسبان من المسائل والأمور المنفصلة عن موضوعه، الخارجة عن مجاله، و تنبهه إلى عدم الغفلة عنها وتحذره من جهلها أو تجاهلها، أو نسيانها و عدم الالتفات إليها. فالبحث وفق نظرية الاعتبار، لا يترك شاردة ولا واردة، ولا صغيرة ولا كبيرة في مسألته وموضوعه إلا أحصاها واستحضرها. أي إن البحث العلمي في أي مسألة ما، لا يكفي فيه الحكم بما يلوح من الأدلة المباشرة والشواهد الظاهرة، وإنما يتأنى الباحث ويتقصى كل ما له صلة بالموضوع.
فهذه هي نظرية الاعتبار في أصلها الذي تقوم عليه على الإجمال والعموم. أما تفصيلاتها و تطبيقاتها المتنوعة، فهي مفرقة في العلوم المختلفة، منثورة في المصنفات في العلوم الإسلامية، وما فقه الحديث إلا مجال واحد من مجالاتها.(3/2)
وأصل الاعتبار في اللغة من العبور والمجاوزة والتحول من حال إلى حال والانتقال من شيء إلى شيء ومن موضع إلى آخر. و هذا العبور قد يكون حسيا و حقيقيا كعبور النهر و الطريق، أو معنويا و مجازيا كالعبرة و الاعتبار بما مضى، و كرد الشيء إلى نظيره. ففي الأول يكون العبور حسيا بالجسد، و في الثاني يكون العبور معنويا بالفكر و الذهن و النظر العقلي. فهذا هو الأصل اللغوي للاعتبار وعليه قام في معناه الاصطلاحي.
وفي الاصطلاح :‘‘الاعتبار هو النظر في المسألة مع استحضار نظائرها و الالتفات إلى لوازمها و مراعاة نقائضها ، مع صحة المناسبة .’’
وفي فقه الحديث فنظرية الاعتبار تقتضي النظر في نص الحديث محل البحث، حتى إذا تم استيعابه من جهة قواعد اللغة وأصول العربية وأحكم فهمه من جهة ما يبدو من ظاهره، تم مجاوزته وعبور الفكر وانتشار النظر خارجه للبحث عن كل ما يتصل به وبعناصره ومعانيه الكلية والجزئية، واستحضار كل ما له به وجه من وجوه الصلة والمناسبة. وعليه فأركان الاعتبار ثلاثة وهي الأصل المنظور فيه، والفرع المعتبر به، والمناسبة الجامعة بينهما.
1 - أما الأصل المنظور فيه : وهو الأساس الذي يبدأ منه البحث، والأصل الذي ينطلق منه النظر، وهو أول ما يقع عليه نظر الباحث. وهو هنا نص الحديث محل البحث والذي يراد فهمه وحسن استيعابه بقصد العمل به وتنزيله على محله. والنظر في هذا الأصل هو الذي يحصل به المعنى المتبادر، ثم يأتي العبور خارج النص وهو الركن الثاني.(3/3)
2 – الفرع المعتبر به : وهو كل ما يقع خارج النص مما هو بعيد عنه، لكن لا تعدم صلته به بوجه من الوجوه. وهو ما عبر عنه الشاطبي بقوله إن: " المجتهد متى نظر في دليل على مسألة احتاج إلى البحث عن أمور كثيرة لا يستقيم إعماله الدليل دونها." (1) فجعل الدليل محتاجا إلى أمور كثيرة حتى يستقيم إعماله. وهذه الأمور هي التي لها تعلق به من الأدلة والنصوص الأخرى من الوحي في القرآن والسنة، وهي الظروف والملابسات الخاصة والعامة التي تقترن به، وهي قواعد الشريعة العامة وأصولها الكلية وغيرها من العناصر التي تتصل بالنص في جهة من الجهات. ومن أوصاف الفرع المعتبر به، أنه- في الغالب- منفصل في مكانه وموضع وروده عن الأصل المنظور فيه، فلا يظهر بحصر النظر في الأصل المنظور فيه، وإنما يظهر بمجاوزته والالتفات إلى جهات أخرى غير جهته. وإذا أغفل الناظر هذه العناصر كان مقصرا في البحث والنظر متساهلا في منهج فقه الحديث. وليس كل عنصر أو دليل لاح يمكن الاعتداد بع ويصلح للاعتبار وهذا هو الركن الثالث.
3 – المناسبة الجامعة بين الأصل والفرع: فلا اعتبار إلا بتوفر العلاقة الجامعة بين الأصل والفرع ، لأنه لا يمكن الجمع بينهما وضم الفرع إلى الأصل إلا بوجود المناسبة، وانتفاء التنافر بينهما. و إن أوجه المناسبة بين الأصل والفرع مختلفة. وبالاستقراء يظهر أن المناسبة بين الحديث المنظور فيه وبين كل ما يعتبر به معه لا تخرج عن ثلاثة أوجه. فقد يكون الوجه الجامع بينهما هو التماثل والتقارب، أو التلازم ، أو التعارض والتباين. ولهذا يمكن تصنيف الاعتبار إلى أنواع ثلاثة وهي الاعتبار بالنظير، والاعتبار باللوازم، والاعتبار بالمعارض.
أنواع الاعتبار :
__________
(1) - الموافقات، 3 ص 45.(3/4)
1 الاعتبار بالنظير: و النظير هنا للجنس فيدخل فيه جميع النظائر والأشباه من النصوص المتعلقة بالنص محل البحث. وإن منهج الاعتبار بالنظير منهج منطقي في العلم والمعرفة، ولذلك نجده حاضرا بقوة عند المحققين من علماء الإسلام. فقد كانوا دائما، في جميع العلوم، يعتنون بضم الأشباه بعضها إلى بعض، وجمع الأمور المتقاربة في صعيد واحد. وكان معتمدهم في ذلك قاعدة منطقية هي أن الشيء إذا ضم إلى نظيره أثمر من الفوائد ما لا يثمره منفردا، لأن نظير الشيء بمنزلة اللقاح، لا يثمر إلا بالاجتماع به. يقول تاج الدين السبكي:" وقد لا ينتهض الشيء في نفسه حجة بمفرده، وينتهض مقويا ومرجحا، لاسيما عند انضمام غيره إليه" (1) . ففي فقه الحديث على الباحث، بعد الاستيعاب الأولي للنص الحديثي من جهة ظاهره والمتبادر منه، أن يتسع نظره وينتشر فكره خارج النص، ويستعرض نصوص الوحي من القرآن والسنة، فكلما ظفر بنص من الوحي له تعلق كلي أو جزئي بالحديث استحضره، فينظر في الحديث باعتبار ذلك كله. وينظر في ذلك كله على جهة الاجتماع، لأنه إن نظر في النص الأصلي منفردا عن غيره معزولا عما سواه قصر في الفهم والنظر. فلو كان الحديث في فرع من فروع الشريعة استحضر معه القواعد الكلية التي يدخل فيها، وضم إليه ما يشترك معه في معناه أو في معنى من المعاني الجزئية. ويدخل تحت هذا الأصل كثير من مباحث فهم الخطاب الشرعي مثل جمع أحاديث الباب وتتبع الشواهد والمتابعات، واعتبار الجزئيات مع الكليات، واعتبار القرآن مع الحديث، ومنه اعتبار أقسام الدلالات بعضها ببعض من العام والخاص، والمطلق والمقيد، وضم الأشباه بعضها إلى بعض وقياس بعضها على بعض، وغيرها مما يتحقق فيه وصف الجمع بين الأشباه والنظائر.
__________
(1) - – "طبقات الشافعية الكبرى" للتاج السبكي 1/13.(3/5)
ولضبط هذه المسألة فالواجب تقسيم الحديث المنظور فيه إلى أجزاء بحسب معانيه الجزئية، وحصر عناصره الواردة فيه، ثم حصر المعنى الكلي العام الذي ينتظم فيه. ومن خلال النظر في المعنى العام والمعاني الجزئية ومختلف العناصر التي يشتمل عليها الأصل المنظور فيه، يستطيع الناظر أن يلتمس كل ما يتعلق بالمعنى الكلي أو بالمعاني الجزئية ولو بواحد منها، فيعتبر بها جميعا، ولا يعتبر فقط بما هو وارد في معنى الحديث المنظور فيه على جهة المطابقة. فالنظير الذي يعتبر به قد يكون واضحا صريحا في تعلقه بالأصل المنظور فيه، وقد لا يكون كذلك، فيجب على الناظر التدبر لئلا يغفل عن شيء له تعلق وشبه بالمنظور فيه.
فهذا هو الاعتبار بالنظير، وخلاصة النظائر التي يعتبر وينبغي استحضارها هي :
- كل ما له نوع صلة بمعنى الحديث أو معانيه من القرآن الكريم.
- الأشباه والنظائر من السنة، من المتابعات التي تضبط ألفاظ الحديث وصيغه، والشواهد التي تلتقي معه في معناه، أو في معنى من المعاني الجزئية، وكل الأحاديث التي تتعلق به على جهة التقابل بين العموم والخصوص، والإطلاق والتقييد، والإجمال والبيان، والإبهام والتعيين وغيرها من الثنائيات المتقابلة التي ترد بها النصوص الشرعية من القرآن والحديث.
- اعتبار الأحاديث الجزئية بالكليات والكليات بالجزئيات.
- اعتبار ما جرى به العمل في معنى الحديث وموضوعه.
فكل نص من الحديث يراد فقه ينبغي وصله بكل هذه العناصر التي هي نظائره وأمثاله التي يأتلف معها ويثمر من المعاني ما لا يثمر منفردا.
وفي كل هذا ينبغي الحرص على تعرف المناسبات، خاصة المناسبات الخفية التي لا يظهر وجه مناسبتها وتعلقها بالحديث إلا بعمق النظر وقوة الاستدلال ودقة الاستنباط.
2 - الاعتبار باللوازم :(3/6)
و يكون عندما يتم العبور من الأصل المنظور فيه إلى ما يتعلق به على جهة الملازمة والملابسة. فكل قضية لها لوازم، وهذه اللوازم قد تكون دائمة، وقد تكون في زمن ماض، وقد تكون في الحال وقد تكون في المآل. ومعنى ذلك أن القضية قد يكون لها لوازم وملابسات في وقت من الأوقات ثم تنفصل عنها هذه الملابسات، مثل أسباب النزول في القرآن وأسباب الورود في الحديث، فإنها ملابسة للنص زمن نزوله أو وروده، لكنها بعد ذلك تنفصل عنه في النقل. وقد لا ينفك الأصل المنظور فيه عن لوازمه، وقد تكون اللوازم في الحال أو في المآل كما في مقاصد الأحكام، أو في مآلات الأفعال.(3/7)
وفي فقه الحديث خاصة فإن من الأمور التي لا تظهر لمن ينظر في الحديث منفردا عن غيره، ما يكون قد أحاط بالحديث زمن وروده من الملابسات وقرائن الأحوال. فكثيرا ما يقف الناظر على الحديث في كتاب من كتب الحديث فلا يظهر له منه إلا أسماء رجاله الذين رووه، ومتنه الذي يقوم به معناه، فيلزمه أن يعبر بنظره إلى مواضع أخرى ويلتفت إلى جهات أخرى لعله يظفر بالحال والمقام والزمان الذي ورد فيه ذلك الحديث. وإن فائدة ذلك تتجلى في معرفة فقه الحديث على وجهه، وفي العمل به وتنزيله على محله. ولهذا نص العلماء على أن من مسالك الفهم الصحيح للحديث استحضار ما ارتبط بالحديث من أسباب خاصة إما منصوص عليها في موضع آخر أو مفهومة من الواقع الذي سيق فيه الحديث. فالحكم الذي يحمله الحديث قد يظهر عاما مطلقا، لكنه باعتبار ملابساته وسبب وروده يتبين أنه ورد على سبب خاص وارتبط بعلة معينة يبقى ببقائها ويزول بزوالها، أو له مقام خاص يحمله على معنى خاص لا يظهر إلا لمن استحضر هذا المقام. فاللوازم هي كل ملابسات النص ومتعلقاته من جهة الزمان والمكان والأشخاص، مثل أسباب الورود والسياق العام والخاص، والقرائن، والمقاصد والعلل، ومآلات العمل بالنص، وراوي الحديث وأحواله وأخباره . وهذه الملابسات هي التي تفرقت عند علماء الحديث وعلماء أصول الفقه تحت تسميات متنوعة مثل ظروف الورود وأسبابه، ومقاصد الشريعة وكلياتها، والمقام، ومقتضى الحال، والقرائن، والسياق، وظروف الخطاب، وحال المتكلم، والعناصر غير اللغوية في فهم الخطاب، أو العناصر فوق لغوية. وكل هذه الاصطلاحات بينها عموم وخصوص، ومنها ما يطلق على ذلك كله. ومعنى هذا أن لوازم النص كثيرة ومتنوعة، وقد يكون لكل نص لوازمه الخاصة التي ليست لغيره، فهي كل ما يحتف بالنص من الأحوال الزمانية والمكانية، وما يتعلق به من الأشخاص والأماكن والقضايا والأحكام.(3/8)
وهي أيضا قد تكون قريبة أو خاصة مثل سبب النزول أو سبب الورود، وقد تكون بعيدة أو عامة مثل أحوال عصر التنزيل عامة وأخبار أهله، وأحوال اللسان العربي وما جرى به العرف والعمل في عصر الورود، والأعلام والأماكن، وغيرها من اللوازم التي يقتضيها النص.
الاعتبار بالمعارض :
وهذا النوع يكون العبور فيه من المنظور فيه إلى ما يعارضه ويناقضه. وهذه أيضا من أعمال الفكر والعقل، فإن القضية إذا ضمت إلى نقيضها كان فهمها واستيعاب خصائصها أحسن وأتم مما لو نظر فيها على الانفراد. فإن التضاد والتعارض من وجوه المناسبة الجامعة بين الشيء وغيره وبضدها تتبين الأشياء. وفي فقه الحديث يتحقق الاعتبار بالمعارض بعبور النظر خارج النص والنظر في سائر أجزاء الوحي لالتماس كل ما يظهر منه معارضة للنص. وتحت هذا الأصل تندرج مباحث الناسخ والمنسوخ، ومختلف الحديث، والتعارض والترجيح، وتعارض الاحتمالات في دلالات النص، وتعارض المصالح والمفاسد. وهذه المعارضة قد لا تكون حقيقة في نفس الأمر، وإنما بحسب الظاهر، لكن فائدة اعتبارها يفيد في حمل الحديث على معنى من المعاني.
ولهذا نص علماء الحديث على أن النظر في الحديث الواحد من أجل فقهه والعمل به، تستصحب معه الأحاديث التي تعارضه حقيقة أو ظاهرا، لأنه قد يكون منسوخا، وقد لا يكون كذلك إلا أن هناك أحاديث تخالفه في الظاهر، وإن الاعتبار بها يفيد في معنى الحديث المنظور فيه، فيحمل على غير ما يتبادر منه إذا نظر فيه منفردا من غير اعتبار بغيره.(3/9)
وجماع كل هذا أن فقه الحديث النبوي لا يحصل بتحكيم قواعد اللغة وأصول العربية فقط، وإنما هناك عناصر أخرى متنوعة تدخل في فهم النص. فالواجب الالتفات إلى كل ما له تعلق بالنص محل البحث والنظر من العناصر، واستحضار كل ما له فائدة في بيان معناه، والحذر من الغفلة عن كل ما له تأثير في الحكم المأخوذ منه وفي العمل به وتنزيله على محله. فالنص ليس دليلا إلا مع نظائره ولوازمه ونقائضه. فلا يستقيم إعمال النص في موضع الاستدلال للحكم والعمل إلا مضموما إلى ذلك كله، مضافا إلى كل ما يتصل به فيكون المجموع دليلا.
وصلى الله على محمد وآله وصحبه ويلم(3/10)
ملخص بحث :
أثر السياق ، وجمع الروايات ، وأسباب الورود في فهم الحديث – دراسة تطبيقية –
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على مَنْ لا نبي بعده ، أما بعد :
مقدمات تعريفية
موضوعه : دراسات ونماذج تطبيقية عند أشهر الأئمة من شُرَّاح السنة لأثر هذه المصطلحات في فهم الحديث .
حدود الدراسة : كتاب التمهيد والاستذكار لابن عبد البر ، وشرح النووي على مسلم ، وفتح الباري لابن رجب ، وفتح الباري لابن حجر ، وعمدة القاري للعيني .
الملخص للبحث :
تناول البحث دراسات تطبيقية في أثر السياق ، وجمع الروايات ، وأسباب الورود على فهم السنة النبوية فهماً سديداً ، وقبل ذلك تم التمهيد للدراسة من خلال خمسة مداخل :
المدخل الأول : التعريفات .
فالسياق هو : المقصود والمراد من النص من خلال القرائن اللفظية والحالية .
وجمع الروايات المراد منه : النظر في كل طرق الحديث ووجوهه ومروياته ، واختلاف ألفاظه ، وقبل ذلك جمع أحاديث الباب ودراسة رواياتها وألفاظ كل حديث منها .
وأسباب الورود تعني : تتبع السبب أو الأسباب التي من أجلها ورد الحديث ، وتكلم به الرسولُ ح ، والمهيِّجُ والمثيرُ على النطق به ، وصدوره عنه عليه الصلاة والسلام .
المدخل الثاني : أهمية الموضوع ، وأثره في فهم السنة النبوية .
وفيه بيان أن السنة وحي من الله تعالى ، وأن النبي ح خاطب أصحابه بها ، وشافههم بلسانه الشريف ، وبيانه الواضح ، ونصحه التام ، وبمجرد حصول إشكال لهم يبادرون بسؤاله ح ، ثم نقل الصحابة هذه السنة إلى التابعين روايةً وفهماً .
ثم كبار علماء التابعين وأتباعهم كانوا كذلك في فهم الوحي وبيانه للناس .
ثم بعد تلك المراحل داخل السنة ما داخلها ، وأصبح الناس في فهم الحديث طرفين نقيضين =
- طرف إفراط وغلو في الجمود على النص .
- طرف تفريط وتضييع في العبث بالنص ؛ إهاضةً لمدلوله ، ومَخْرَقةً لإحكامه ، وتمييعاً لأحكامه .(4/1)
وهذا الطرف – في هذا الزمن – أشد فتكاً ، وأعظم إفكاً في الجناية على الأحكام الشرعية .
ومن هنا : جاءت أهمية التقعيد لفهم السنة النبوية بقواعد مُحْكَمة ، وضوابط منضبطة ، ومن تلك الضوابط ، وأهم تلك القواعد فهم النص النبوي تكاملياً من خلال جمع الروايات ، وسياق النص ، ومعرفة أسباب وحيثيات وروده .
إذ كيف يُتَصور فهم نص دون معرفة سياقه ، ودلالاته اللفظية والحالية ، أو دون جمع رواياته وأطرافه ووجوهه ، أو دون معرفة سببه ، ومثير التكلم به أيام وقوعه ؟.
ففي أهمية السياق يقول العلاَّمة ابن القيم : » السياق يرشد إلى تبيين المجمل ، وتعيين المحتمل ، والقطع بعدم احتمال غير المراد ، وتخصيص العام ، وتقييد المطلق ، وتنوع الدلالة ، وهو من أعظم القرائن الدالة على مراد المتكلم ، فمن أهمله غلط في نظره ، وغالط في مناظرته « (1) .
وفي جمع الروايات يقول الإمام أحمد : : » الحديث إذا لم تجمع طرقه لم تفهمه ، والحديث يُفَسِّر بعضه بعضاً " (2) .
وفي أهمية معرفة سبب الورود يقول الإمام الشاطبي : : » ولتعين المناط مواضع : - منها : الأسباب الموجبة لتقرير الأحكام ، كما إذا نزلت آية ، أو جاء حديث على سبب ؛ فإن الدليل يأتي بحسبه ، وعلى وفاق البيان التمام فيه ... ، فهذه المواضع وأشباهها مما يقتضي تعيين المناط لا بد فيها من أخذ الدليل على وفق الواقع بالنسبة إلى كل نازلة " (3) .
المدخل الثالث : أهداف الموضوع ، وفيه :
? تأصيل فهم السنة من خلال هذا الموضوع .
? إبراز جهود الأئمة في تأصيل فهم السنة النبوية من خلال تعاملهم مع هذه المصطلحات .
? بيان عمق فهم أولئك الأئمة واستجماعهم شروط الفهم الصحيح .
? توضيح الانحراف الذي طرأ في ذلك مما كان له الأثر في انعدام الفهم المتكامل .
__________
(1) بدائع الفوائد ( 4 / 1314 ) .
(2) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع ( 2 / 212 ) .
(3) الموافقات ( 3 / 296 ، 300 ) بتصرف يسير .(4/2)
? تقعيد أنَّ فهم السنة النبوية ليس باباً مشرعاً ، أو حمى مباحاً لكل منتسب إلى العلم ؛ فضلاً عن متعالم ، وأبعد من ذلك صاحب هوى يفسِّر السنة بهواه في شُبْهةٍ ، أو شَهْوةٍ .
المدخل الرابع : الرواية بالمعنى وأثرها في فهم السنة :
فلا شك أن الرواية بالمعنى لها أثر كبير في فهم المراد من الحديث ؛ لأننا نجزم – أحياناً – في بعض ألفاظ الأحاديث أنها ليست من كلام النبي ح ، أو أنَّ النبي ح إنما تفوَّه بلفظة واحدة ، والحديث الذي بين أيدينا جاء بأكثر من لفظ .
وعليه : فلا يمكن أنْ نجزم بالاستدلال ، أو نستروح إلى إثبات حُكْم يستند إلى تلك اللفظة التي يغلب على ظننا أنها ليست من كلام المعصوم ح ، أو نعتمد على سياق حديث في ألفاظه اختلاف بيِّنٌ ، مَرَدُّه إلى الرواية بالمعنى .
فالطريق الصحيح عند اختلاف ألفاظ الحديث هو النظر والتأمل في ألفاظه ، والترجيح فيما بينها ، ومن ثمَّ بناء الحكم على الراجح منها روايةً وسياقاً .
المدخل الخامس : أبرز الجهود العلمية ، والدراسات السابقة ذات العلاقة .
وقد أشرت إلى أبرز الجهود في تناول الموضوع ، مؤكِّداً أن الدراسات في هذا الشأن قليلة ، وما اطلعت عليه منها قد تباينت مناهجه ، وقد غلب على مَنْ تناول موضوع السياق الطرح النظري التحليلي ، فأما موضوع جمع الروايات وأسباب الورود فقد كان تناولها – إجمالاً – جيداً .
الدراسة التطبيقية
وقد كانت حدود الدراسة ضمن الكتب السابقة ، واقتصرت على مثالين من كل كتاب ، ثم التعليق على النص بتوضيحه ووجه توظيف هذه المصطلحات لفهم السنة فهماً سليماً .
وقد كان ظاهرٌ جداً أثر استعمال الأئمة لهذه المصطلحات في الوصول إلى المراد بأمن وسلام من مزالق الاستدلال ، أو مسالك التَّرَدِّي في دَرَك التأويلات الباطلة ، أو هُوَّة التحريفات الساحقة ، وهذا ما يظهر في الآتي :
أولاً : السياق .(4/3)
فقد تجلَّى بوضوح أنَّ بذل الجهد في استعمال كل أدواته ، من لفظ ، أو زمان ، أو مكان ، أو قرينة ، يُسْهم في الوصول إلى الفهم التكاملي الصحيح .
وإنْ كان قد حصل من بعضهم توسع في دلالته ، وتحميلها من المعاني مالا تحتمله .
وتبينا من خلال تطبيقاتهم أنَّ فهم السياق وضبط قانونه مؤثر في :
- تقرير مسألة علمية ابتداءً .
وتأمل قول ابن حجر : : » وفيه – حديث الجارية السوداء التي كانت تبيت في المسجد - فضل الهجرة من دار الكفر ، وإجابة دعوة المظلوم ولو كان كافراً ؛ لأن في السياق أن إسلامها كان بعد قدومها المدينة ، والله أعلم « (1) .
- الموازنة بين الأقوال .
- الرد على الخصم .
- الترجيح في المسألة .
وتظهر هذه الثلاثة في صنيع ابن عبد البر : لما ردَّ قول الحنفية في مسألة طواف وسعي القارن ؛ إذ قال : : » قال أبو عمر : أما قولهم – يقصد الحنفية ومَنْ معهم ممن تأوَّل حديث عائشة ل – : إنَّ عائشة أرادت بقولها : وأما الذين جمعوا الحج مع العمرة فإنما طافوا لهما طوافاً واحداً ، أرادت جمع متعة لا جمع قران ، فدعوى لا برهان عليها ، وظاهر حديث عائشة وسياقه يدل على أنها أرادت الذين قرنوا الحج والعمرة ؛ لأنها فصلت بالواو بين مَنْ أهلَّ بحج ، وبين مَنْ أهلَّ بعمرة فتمتع بها ، وبين مَنْ جمع الحج والعمرة « (2) .
- تأكيد معناه ودلالته للقواعد الكبرى ، والأصول الجامعة .
ومثال ذلك قول ابن رجب : : » وقول النبي ح : " مَهْ " زجر لعائشة عن قولها عن هذه المرأة في كثرة صلاتها ، وأنها لا تنام الليل ، وأمر لها بالكف عما قالته في حقها ؛ فيحتمل أنَّ ذلك كراهية للمدح في وجهها ؛ حيث كانت المرأة حاضرة ، ويحتمل - وهو الأظهر وعليه يدل سياق الحديث - أن النهي إنما هو لمدحها بعمل ليس بممدوح في الشرع " (3) .
__________
(1) فتح الباري ( 1 / 535 ) .
(2) التمهيد ( 15 / 224 ، 226-227 ) .
(3) فتح الباري ( 1 / 164 ) .(4/4)
- إفادة العموم للمعنى المراد .
- الجزم برفض معنىً من المعاني وإنْ كان ظاهر اللفظ يحتمله ، ويسند هذا الجزم أحاديث أخرى في الباب .
والنووي : طبَّق هذا في مسألة تكفير الصغائر بقوله : : " قوله ح ( كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم يؤت كبيرة ، وذلك الدهر كله ) معناه : أن الذنوب كلَّها تغفر إلاَّ الكبائر فإنها لا تغفر ، وليس المراد أنَّ الذنوب تغفر مالم تكن كبيرة ، فإنْ كانت لا يغفر شيء من الصغائر ، فإنَّ هذا وإنْ كان محتملاً فسياق الأحاديث يأباه " (1) .
ولكن هذا ليس باطِّراد فربما امتنع علينا الجزم بحكم من الأحكام إذا احتمل السياق أكثر من ذلك ، وكان احتماله لهذه المعاني إما على حدٍّ سواء ، أو بعضها أظهر لكن لا ينفي احتمال غيره للفظ الحديث .
وانظر في قول ابن عبد البر : على حديث مجيء الصحابة للنبي ح ببواكير الثمرة : » في هذا الحديث اختصاص الرئيس وانتخابه بأول ما يطل من الفاكهة ؛ إما هدية وجلالة وتعظيماً ومحبة ، وإما تبركاً بدعائه ، والذي يغلب على أن ذلك إنما كان من الصحابة رضوان الله عليهم ليدعو لهم رسول الله ح بالبركة ، وسياق هذا الحديث يدل على ذلك ، والمعنيان جميعاً محتملان « (2) .
ثانياً : جمع الروايات .
فقد اعتنى الأئمة بجمع روايات الحديث ، والحكم عليها ، مما يؤكِّد أنه لا يمكن فهم الحديث بمعزل عن تلك الروايات .
وظهر من خلال كتب الشروح اهتمام بعضهم بالأحاديث الواردة في الباب ، والحكم على كل حديث منها .
لكنَّ هذا الاهتمام لم يكن عشوائياً ، بل لازمة – غالباً - الدقة التامة في بيان حكم كل لفظة من الحديث ، صحةً وضعفاً ، طولاً واختصاراً ، حُكْماً وفائدةً ؛ ولذا قدَّموا ما صحَّ من تلك الروايات والأحاديث على غيرها ، وأولوا عناية خاصة بروايات الكتب التي اشترط أصحابها الصحة .
__________
(1) شرح صحيح مسلم ( 3 / 112 ) .
(2) التمهيد ( 21 / 267 ) .(4/5)
وقد اختلفت المسالك التي طرقها أهل العلم للنظر بين الروايات المتعددة ، وكيفية الاستفادة منها في فهم كامل النص النبوي ، تبعاً لدلالة تلك الروايات اتفاقاً واختلافاً ، بعد التأكد من ثبوتها .
فالغالب ظهور ترادفها في الدلالة على حكم واحد .
وهذا ما فعله ابن عبد البر في تقرير مسألة جواز الاستجمار مع وجود الماء ، معتمداً على جميع روايات حديث المغيرة بن شعبة ، وقصة مسيره مع النبي ح في غزوة تبوك ، وأن كافة الروايات دلَّت أن النبي ح لم يأخذ ماءً لما ذهب لقضاء حاجته .
وربما كانت هناك حاجة إلى تدقيق النظر الأصولي فنستنتج أنَّ بعض الروايات أخص أو أعم من غيرها ، أو أنَّ هذه مطلقة وتلك مقيدة .
ومن أمثلة ذلك قول العيني : على حديث النهي عن إدخال اليد في الإناء بعد الاستيقاظ من النوم : " والرواية التي فيها الغمس أبين في المراد من الروايات التي فيها الإدخال ؛ لأن مطلق الإدخال لا يترتب عليه الكراهة كمن أدخل يده في إناء واسع فاغترف منه بإناء صغير من غير أن تلامس يده الماء « (1) .
وفي أحيان أخرى تختلف دلالتها وتتعارض في الظاهر ألفاظها فالمتبع :
- أولاً : الجمع بينها مع إمكانه بوجه معتبر ، دون تكلف أو لَيٍّ للنص .
كما فعل ابن حجر بقوله : : " والحاصل : أن أكثر الروايات وردت بلفظ " فأتموا " ، وأقلها بلفظ " فاقضوا " ، وإنما تظهر فائدة ذلك إذا جعلنا بين الإتمام والقضاء مغايرة ، لكن إذا كان مخرج الحديث واحداً واختلف في لفظة منه وأمكن رد الاختلاف إلى معنى واحد كان أولى ، وهنا كذلك ؛ لأن القضاء وإنْ كان يطلق على الفائت غالباً ، لكنه يطلق على الأداء أيضاً ، ويرد بمعنى الفراغ " (2) .
- وإلاَّ فالترجيح بمرجِّح يقوى على ذلك ، وتظهر به طيش كفة الرواية أو الروايات الأخرى أمام هذا الوجه .
__________
(1) عمدة القاري ( 2 / 313 ) .
(2) فتح الباري ( 2 / 119 ) .(4/6)
- وقد يرد في الروايات من الاختلاف ما يتعذر معه سلوك الجمع أو الترجيح ، وتبقى أبوابهما أمامنا موصدة ، وهو ما يعبَّر عنه عندهم بالتوقف ، إلاَّ أنَّ هذا الاختلاف والتعدد في هذه الصورة لا ينبني عليه حكم ، ولا يترتب عليه كبير فائدة .
كمثل الروايات المختلفة في المدة التي قضتها سُبَيْعة الأسلمية قبل وضع حملها ، قال العيني : " والجمع بين هذه الروايات متعذر لاتحاد القصة ، فلعل ذلك هو السر في إبهام مَنْ أبهم المدة " (1) ، وكمثل اختلاف الروايات في ثمن جمل جابر ا .
ثالثاً : سبب ورود الحديث .
فقد تبدَّى واضحاً أنَّ الأئمة – رحمهم الله – جهدوا في طلب وتتبع سبب ورود النص الذي يُعَانون شرحه وتوضيحه ، بل كان هذا التتبع من أولويات وأوليات دراسة الحديث ، ثم بعد ذلك يخوضون غمار تحليل لفظه ، وبيان فوائده .
ووضح لنا بمعرفة الكثير من الأسباب عدة أمور :
- أنَّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، وهذا كثير جداً ؛ إذ هو الأصل .
- وربما استفدنا الناسخ والمنسوخ من الأحكام .
كحديث النهي عن ادخار لحوم الأضاحي بعد ثلاث ، فاستدل ابن عبد البر بسببه على نسخه .
- أو تعليل الحكم الوارد في الحديث ، ووجه هذا الحكم حتى يقاس عليه ما يماثله .
ومثال ذلك قول النبي ح : " ليس من البر الصوم في السفر " فالحديث حمله ابن عبد البر على سببه في قصة الرجل الذي جهد من الصيام وظُلِّل عليه .
- أو دلَّنا على تعدد القصة ، وهذا استعمله الأئمة كثيراً .
- أو نفي التعدد ، كما قصة المرأة المخزومية التي قطع النبي ح يدها .
- كما كان لمعرفته أثر في إيضاح المبهم في متن الحديث ، ومعرفة المهمل .
وهذا ما وضحَّه فعلُ ابن رجب : في سياق أسباب وروايات حديث صلاة معاذ ا بقومه .
- أو تقودنا بعض الأسباب إلى معرفة تاريخ النص .
__________
(1) عمدة القاري ( 17 / 242 ) .(4/7)
- كما أسهمت تلك المعرفة بالسبب في تبين بساط الحال ، والملابسات التي قيل فيها هذا الحديث أو ذاك ؛ كما رُوِي في سبب حديث إنما الأعمال بالنيات فيما ذكره العيني : .
فهذا ما فتح المولى به ، فله الحمد أولاً وآخراً ، وظاهراً وباطناً ، ونسأله السداد والهداية لما يحب ويرضى ، وصلَّى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ، وسلَّم تسليماً كثيراً .(4/8)
دلالة السياق وأثرها في فهم الحديث النبوي
د. عبد المحسن التخيفي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، و العاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على إمام المرسلين، وسيد الخلق أجمعين، أما بعد،
فإن الله بعث نبيه محمداً - صلى الله عليه وسلم - بالهدى ودين الحق، فأحيى به القلوب بعد مواتها، وكشف به حجب الظلمات عنها قال الله تعالى چ ? ? ? ? ? پپ چ چ ، وقال سبحانه: چ ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہچ.
فهذا الوحي:(كتاباً وسنة) من جليل النعم وعظيم المنن، وعلى قدر حظ المر ء من الفهم لهذا الوحي، يكون انتفاعه وتتحقق سعادته؛ لذا فقد اتجهت همم أهل العلم إلى العناية بهذين المصدرين عناية فاقت كل عناية، فلا يزالا غضين طريين كما أنزلا، لا يبليان مع مرور الأيام ولا يخلقان، بل يتجددان ويتألقان.
وكان لعلماء الحديث اهتمامٌ بالغ بأحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، حفظاً وضبطاً لمتونها، وفحصاً وتمييزاً لنقلتها، وكشفاً وبياناً لفقهها، وحلاً لغوامض ألفاظها.
وقد جعلوا للتعامل مع ألفاظها قواعد تضبط مسالك الفهم وتضيء مسارب الاستنباط، وتعصم من مزالق الزلل والضلال، فمن أنواع علوم الحديث التي تمثل معالم كبرى في طريق الفهم السديد: علم مختلف الحديث، علم ناسخ الحديث ومنسوخه، علم أسباب ورود الحديث، علم غريب الحديث، فهذه أنواع رئيسة من علم مصطلح الحديث.
وثمة قواعد مهمة لحسن الفهم للنص النبوي، جاء ذكرها في تطبيقات أهل العلم عند شرح أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ومن تلك القواعد: اعتبار دلالة السياق في فهم النص النبوي.(5/1)
وهي قاعدة جليلة لها تأثيرها في جودة الفهم، قال الإمام ابن دقيق العيد:"فإن السياق طريق إلى بيان المجملات وتعيين المحتملات وتنزيل الكلام على المقصود منه وفهم ذلك قاعدة كبيرة من قواعد أصول الفقه ولم أر من تعرض لها في أصول الفقه بالكلام عليها وتقرير قاعدتها مطولة إلا بعض المتأخرين ممن أدركنا أصحابهم وهي قاعدة متعينة على الناظر" (1) .
وقال الإمام ابن القيم:"السياق يرشد إلى تبيين المجمل، وتعيين المحتمل، والقطع بعدم احتمال غير المراد، وتخصيص العام، وتقييد المطلق، وتنوع الدلالة، وهذا من أعظم القرائن الدالة على مراد المتكلم، فمن أهمله غلط في نظره، وغالط في مناظرته، فانظر إلى قوله تعالى:{ ژ ژ ڑ ڑ} كيف تجد سياقه يدل على أنه الذليل الحقير" (2) .
والسياق من المصطلحات العصية على التحديد الدقيق (3) ، ولذا اتجه بعض الباحثين إلى التعرف على خصائصه وفهم عناصره، وبيان أثرها في تحديد المعنى، ولم يقف عند التباس التعريف (4) .
وبعيداً عن إشكالية المصطلح وتعقيدات التعريف، فإنني اعتمدت المعنى الشائع للسياق والذي يرتكز على أساسين:
الأول: سياق المقال. والثاني: سياق المقام (الحال).
فهما يمثلان الإطار العام للسياق، ويندرج تحتهما أنواع السياق الأخرى.
ومما يجدر الانتباه إليه أنه قد يُعبر عن السياق بألفاظ أخرى، مثل: ظاهر الحديث، مقتضى الكلام، فحوى الكلام، المعنى العام، القرينة، ونحو هذه المصطلحات التي يكون الاعتماد فيها على معنى النص (5) .
__________
(1) إحكام الأحكام(4/82).
(2) بدائع الفوائد(4/815).
(3) مجلة الإحياء(54).
(4) البحث الدلالي عند الأصوليين(ص11).
(5) وهنا لا بد من الإشارة إلى أهمية ضبط هذه المصطلحات المتداولة التي يقع الخلاف في دلالتها، وهل هي مطردة في استعمالها؟ لأنك تقف في كتب الأصول التي تُعنى بضبط دلالات الألفاظ أنواعاً من الاختلاف في دلالة تلك الألفاظ.(5/2)
وفي السياق القرآني يُعبر عن السياق بـ"نظم الآية، نسق الآية، روح الآية، ظاهر الآية، ملاءمة الكلام، مقتضى الكلام، فحوى الكلام، الإطار العام، الجو العام، المعنى العام، القرينة ، المقام، ونحوها".
- دلالة السياق:
ودلالة السياق قرينة يُستعان بها على الفهم، وهذه القرينة تكون تارة ظاهرة تُدرك من غير فكر وروية، وتارة تكون خفية لا تدرك إلا بمزيد نظر وتأمل، وآلتها إشراق العبارة وجمالها في الإفصاح عن المراد.
وهذه الدلالة وليدة النظر، وحسن الذائقة، ، فلا يطلب عليها دليل، قال الإمام ابن دقيق العيد"ودلالة السياق لا يقام عليها دليل، وكذلك لو فهم المقصود من الكلام وطولب بالدليل عليه لعسر؛ فالناظر يرجع إلى ذوقه، والمناظر يرجع إلى دينه وإنصافه" (1) .
- أنواع السياق:
للسياق نوعان رئيسان:
الأول: سياق المقال، هو السياق اللغوي الداخلي الذي ينتج عن ترابط الأصوات فيما بينها لتوليد الكلمات، والكلمات فيما بينها لتشكيل الجمل، والجمل فيما بينها لتشكيل النص.
فالقرائن المعتبرة لمعرفة دلالة سياق المقال، راجعة إلى النظم، والتركيب النحوية، مع اعتبار قواعد دلالات الألفاظ، فالباحث في دلالة سياق المقال، يحتاج إلى التمكن من تلك الأدوات، ومن هنا تفاوت الباحثون في هذا المجال بسبب تفاوتهم في امتلاك تلك الأدوات، وتمكنهم من تطبقيها أثناء النظر في النصوص النبوية.
الثاني: سياق المقام: وهو يمثل البيئة التفاعلية بين المتحدث والمخاطب، وما بينهما من عرفٍ سائد يحدد مدلولات الكلام، وذلك أن تداول الخطاب يجري في سياق ثقافي واجتماعي بين المتحدث والمخاطب، وليس لفظاً مجرداً عن محيطه الذي يجري فيه.
__________
(1) إحكام عمدة الأحكام(2/187).(5/3)
فمعرفة قصد المتحدث وحال المخاطب من وسائل فهم سياق المقام، فقد يجتمع نصان متفقان في ظاهرهما في المعنى، ولكنهما مختلفان في الدلالة تبعاً لقصد المتحدث، أو حال المخاطب، قال شيخ الإسلام ابن تيمية أيضاً موضحاً أثر هذين الأمرين، وأن كل لفظ فهو:"مقيد مقرون بغيره، ومتكلم قد عرفت عادته، ومستمع قد عرف عادة المتكلم بذلك اللفظ، فهذه القيود لا بد منه في كل كلام يفهم معناه، فلا يكون اللفظ مطلقا" (1) . ولابد من الإشارة إلى أنَّ الأطراف المؤثرة في دلالة سياق:"قصد المتحدث، حال الخاطب، البيئة المحيطة بهما" هي أيضاً تتأثر بمعرفة السياق. بمعنى أننا نهتدي إلى هذه المعاني من خلال دلالة السياق، ونهتدي من خلال دلالة السياق إليها.
العلاقة بين السياقين: هذان النوعان ليسا منفصلين عن بعضهما، بل كل منهما يكمل الآخر، ولابد منهما عند التعامل مع النصوص النبوية ليتكامل الفهم، فالاقتصار على السياق المقالي وحده، سيجعل النص بيئة مغلقة تقتصر على ما تفيده الألفاظ من دلالات ومعان، وتحرم الباحث من البيئة الخارجية المحيطة بالنص، والوقف عند دلالة سياق المقام، تجعل الباحث يحوم حول حمى النص دون الولوج إليه.
وقد عوَّل كثيرٌ من الأئمة على دلالة السياق بجانبيها المقالي والحالي في شرح الأحاديث النبوية، وقد جعلت هذا البحث محصوراً في الإشارة إلى نماذج من تطبيقات الأئمة التي ظهر من خلالها أثر دلالة السياق في فهم النص النبوي، وذلك أنَّ غالب الدراسات حول السياق كانت متجهةً نحو آيات القرآن المجيد، وأما الأحاديث النبوية فلم تحظ بدراسات مستقلة للوقوف على أثر معرفة السياق في فهم معنى الحديث النبوي وتحليله، وإنما جاءت الإشارة إليه ضمناً أثناء شروح الأحاديث:
أولاً: سياق المقال:
__________
(1) مجموع الفتاوى(20/415).(5/4)
ولابد من التأكيد على إشكالية منهجية تواجه الباحث عند النظر في دلالة سياق المقال، وهي اختلاف سياق الألفاظ، مما يؤثر على تطبيق قواعد الاستدلال.
ولدفع هذه الإشكالية فإنه ينبغي أن يكون النظر في سياق متن الحديث تالياً لجمع روايات الحديث، ومعرفة الوجه الراجح منها عند تعارضها، والحاجة إلى جمع روايات الحديث تشمل النظر في السياق المقالي الخاص لحديث واحد، والسياق المقالي العام لأحاديث متفقة في المعنى.
ودلالة السياق تستدعي النظر في ألفاظ الحديث من أولها إلى آخرها، قال الإمام الشاطبي:"فلا محيص للمتفهم عن رد آخر الكلام على أوله، وأوله على آخره، فإن فرَّق النظر في أجزائه، فلا يتوصل إلى مراده" (1) .
وقد ظهر أثر تطبيق دلالة السياق في كتب شروح الحديث في جوانب مختلفة، فكان لها أثر في تطبيق القواعد النحوية على المتن النبوي، فأفادت ضبط النص النبوي، وكشفت عن معاني حروف العطف، ودفعت بعض الإشكالات اللغوية، وأبانت إلى من يعود الضمير، وعن التطابق بين الشرط والجزاء.
وإليك هذا المثال التطبيقي: حديث:((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله ... )) (2) . قال الحافظ ابن حجر:"فإن قيل: الأصل تغاير الشرط والجزاء، فلا يقال مثلا: من أطاع أطاع، وإنما يقال مثلا: من أطاع نجا، وقد وقعا في هذا الحديث متحدين، فالجواب أن التغاير يقع تارة باللفظ وهو الأكثر، وتارة بالمعنى ويفهم ذلك من السياق" (3) .
وفي مجال الفقه والاستنباط: فإنَّ السياق المقالي أدى إلى جودة الاستنباط، وتحديد صفة الفعل الذي تعلَّق به الحكم، وفي مجال تطبيق القواعد الأصولية فإنَّ السياق يكشف عن الدلالة هل هي عامة أو خاصة، وهل هي مطلقة أو مقيدة.
__________
(1) الموافقات(3/413).
(2) أخرجه البخاري(حديث1)، ومسلم(حديث1907).
(3) فتح الباري(1/16).(5/5)
ومن الأمثلة التطبيقية على ذلك: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:((إنَّ أحدكم إذا قام يصلي جاء الشيطانُ فلبَّس عليه، حتى لا يدري كم صلى، فإذا وجد ذلك أحدكم، فليسجد سجدتين، وهو جالسٌ)) (1) . قال ابن بطال:"ولم يفرق بين أن تكون صلاته فريضة أو نافلة، والأفعال نكرات، والنكرات في سياق الشرط تعم، كما تعم في سياق النفي، والله سبحانه وتعالى أعلم" (2)
وفي مجال ضبط النص ودفع ما قد يعتريه من سقط أو غموض، فإنَّ دلالة السياق كشفت عن بعض أنواع السقط في المتن، وأسهمت في تعيين مبهمات المتن، وتحديد صاحب القول عند الاشتباه، واستبعاد الغريب من الأقوال، ومن الأمثلة التطبيقية على ذلك: حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :((أقيموا الركوع والسجود، فوالله إني لأراكم من بعدي، وربما قال من بعد ظهري إذا ركعتم وسجدتم)) (3)
قال الإمام النووي:" وقوله - صلى الله عليه وسلم - :(إني لأراكم من بعدي) أي من ورائي كما في الروايات الباقية قال القاضي عياض، وحمله بعضهم على بعد الوفاة، وهو بعيد عن سياق الحديث" (4) .
ثانياً سياق المقام: ولما كان هذا السياق يمثل البيئة التفاعلية بين المتحدث والمخاطب، فإنَّ من أعظم الوسائل المعينة على إدراكه: هو معرفة سبب ورود الحديث، الذي هو ثمرة من ثمار جمع روايات الحديث.
وقد تبيَّن من تطبيقات الأئمة أن دلالة سياق المقام واسعة الدلالة، وقد ظهر أثرها في جوانب مختلفة، فمعرفة قصد المتحدث أدت إلى تأويل بعض النصوص على خلاف ظاهرها، فأخرجت النص من مساق الذم إلى مساق المدح، وأثمرت دقة في الاستنباط، ومعرفةً للخاص من العام، واستبعاداً للغريب من الأقوال.
__________
(1) أخرجه البخاري(حديث1175).
(2) فتح الباري لابن رجب(6/521).
(3) أخرجه البخاري(حديث709).
(4) شرح النووي(4/150).(5/6)
ومن الأمثلة التطبيقة: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال:((صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الظهر ركعتين ثم سلَّم ... وكان في القوم رجلٌ يدعوه النبي - صلى الله عليه وسلم - ذا اليدين، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : أصدق ذو اليدين)) (1) ، وقد بوب البخاري على هذا الحديث بقوله:"باب ما يجوز من ذكر الناس نحو قولهم : الطويل والقصير". قال ابن المنير:"أشار البخاري إلى أن ذكر مثل هذا إن كان للبيان والتمييز، كما ورد في الحديث، فهو الجائز، وإن كان في غير هذا السياق كالتنقيص والتغييب فهذا الذي لا يجوز، وإشارة عائشة في بعض الحديث إلى المرأة التي دخلت عليها، ثم خرجت فأشارت عائشة بيدها أنها قصيرة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : اغتبتها؛ لأن عائشة لم تفعل هذا بياناً، وإنما قصدت إلى الإخبار عن صفتها خاصّة ففهم التغييب، فنهيت" (2) . والقرينة الحالية التي اعتبرت في فهم النصين عائدة إلى قصد المتحدث، التي تُدرك من شواهد الحال، فلم يكن - صلى الله عليه وسلم - حال سؤاله لأصحابه قاصداً التنقص منه، وأما إشارة عائشة، فكانت شواهد الحال تدل على أنها تريد التنقص منها.
وأما حال المخاطب فهي مؤثرة في سياق المقام، والاهتداء إلى معرفة فقه الحديث، ومن الأمثلة على ذلك: حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال:((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتخولنا بالموعظة في الأيام كراهية السآمة علينا)) (3) ، قال البدر العيني:"فإن قلت : أيجوز أن يكون المراد من السآمة سآمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، من القول؟ قلت: لا يجوز، ويدل عليه السياق وقرينة الحال". (4) .
__________
(1) أخرجه البخاري(حديث5704).
(2) المتواري(1/357).
(3) أخرجه البخاري(حديث6048).
(4) عمدة القاري(2/45).(5/7)
ولسياق الحال أيضاً أثره في تبيين الظروف المكانية والزمانية، وضبط النص، وله أثره في حسن فهمه، وذلك بتحديد نوع الأمر أو النهي، وبيان هيئة الفعل، وسلامة الترجيح، ودفع الإشكالات الواردة على الحديث. ومن الأمثلة التطبيقية على أحد هذه الأنواع: حديث عائشة -رضي الله عنها- أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل عليها وعندها امرأة، قال: من هذه؟ قالت: فلانةُ تذكرُ من صلاتها. قال: مه، عليكم بما تطيقون، فوالله لا يمل الله، حتى تملوا، وكان أحب الدين إليه ما داوم عليه صاحبه)) (1) . وقد اختلف في المراد بقوله - صلى الله عليه وسلم - :"مه". هل نهي لعائشة عن مدح المرأة لأنها كانت حاضرة، أم أنَّ النهي لأن العمل لا يُمدح بمثله، قال ابن رجب:"ويحتمل - وهو الأظهر وعليه يدل سياق الحديث - أن النهي إنما هو لمدحها بعمل ليس بممدوح في الشرع" (2) .
وأختم ببيان الضوابط التي ظهر للباحث أهمية اعتبارها عند التعامل مع دلالة السياق:
- ضوابط التعامل مع دلالة السياق:
إن الناظر في تطبيقات الأئمة لدلالة السياق بشتى مرادفاتها، يتبين له جملة من الضوابط التي كانوا يراعونها في تعاملهم مع دلالة السياق، وهذه الضوابط تقي من الزلل في التعامل مع دلالة السياق، ومن تلك الضوابط:
1. أن يكون النظر إلى سياق الألفاظ تالياً لجمع ألفاظ الحديث، وتمييز درجة كل لفظ من حيث القبول أو الرد. وهذا في السياق الخاص أو(الجزئي).
2. الوقوف على جميع الأحاديث المتفقة في المعنى مع الحديث محل الدراسة، إذا كان المراد التعرف على السياق الكلي لتلك الأحاديث. ومما يُلحق بهذا الأمر معرفة مسالك الأئمة في سوق الأحاديث داخل الأبواب الفقهية.
3. معرفة سبب ورود الحديث، فإن له أثر في فهم سياق الحديث، ولذا فينبغي العناية بالوقوف على سبب الحديث إذا كان للحديث سبب، فإنه يمثل سياق المقام.
__________
(1) أخرجه البخاري(حديث43).
(2) فتح الباري لابن رجب(1/150).(5/8)
4. ينبغي أن يكون النظر إلى المتن الحديثي نظراً شاملاً من أول الحديث إلى آخره.
5. أن دلالة السياق من قبيل دلالة المفهوم التي لا عموم لها كما هو مقرر في علم الأصول.
6. دلالة السياق هي الأصل في فهم النص النبوي، فينبغي أن تكون هي المعتمدة حتى يقوم معارض أرجح.
7. أن دلالة السياق لا يُطلب لها دليل لإثباتها، "ودلالة السياق لا يقام عليها دليل، وكذلك لو فهم المقصود من الكلام وطولب بالدليل عليه لعسر؛ فالناظر يرجع إلى ذوقه، والمناظر يرجع إلى دينه وإنصافه" (1) .
8. معرفة دلائل الألفاظ، وقواعد اللغة العربية.
9. معرفة القواعد الأصولية المتصلة بدلالة السياق:"العموم والخصوص، والإطلاق والتقييد، والحقيقة والمجاز، والإجمال والبيان".
10. التفريق بين دلالة السياق وبين قاعدة العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص سبب الورود.
11. ينبغي أن يعلم أنَّ دلالة السياق تتنوع بحسب الحال التي ورد اللفظ فيها كلفظ السلام إذا ورد في سياق ذكر الصلاة، فإن السابق إلى الذهن، -وهو دلالة السياق- معنى خاص وهو التحلل من الصلاة، وإذا ورد في سياق التعامل، فإنَّ السابق إلى الذهن هو التحية.
وختاماً فإنني أجدد الشكر والثناء للأخوة القائمين على هذه الندوة على جهودهم الجليلة في العناية بها، والاحتفاء بالمشاركين فيها.
وأسأل الله أن يضاعف مثوبتهم، وأن يعلي مكانتهم، كفاء ما يقدّمونه من خدمة لسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - .
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف السابقين واللاحقين.
__________
(1) إحكام عمدة الأحكام(2/187).(5/9)