مقالة في بيان الفرق
بين خصائص علماء العلل والتفصيل
وخصائص علماء الجمل والتأصيل
الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على خاتم النبيين محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
إن الفرق بين منهج علماء العلل ومنهج المتأخرين في وضع الاصطلاحات واستعمالها وشرحها – وقد تقدم - لا يمكن أن يستبين ويتضح بالقدر المطلوب ولا يتهيأ له أن يقوم قياماً صحيحاً على أساس متين إلا إذا تبين الفرق بين منهجي هاتين الطائفتين في وضع القواعد والأصول واستعمالها وشرحها ؛ ولهذا رأيت أن أردف ما تقدم بيانه من فروق في الاصطلاحات ببيان الفروق في القواعد ، فأقول :
إن لكل علم رجاله الذين لا يُحسنه سواهم ولا يصح أن يستند فيه إلى غيرهم ؛ قال تعالى ( فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ) (1) ؛ ومن هذه العلوم علم الحديث ؛ فهو أولى العلوم بالتسليم لأهله والرجوع به إلى أصله ، وأحراها أن يحذر المرء أن يخوض فيه بعقله ؛ لأنه عِلم لا يشبهه في نقله ولا نقدِه علمٌ آخرُ غيرُه .
أما نقْلُه فمبنيٌّ على الحفظ الواسع العجيب والضبط التامِّ المتقَن ، والأمانة التي لا يتطرّق إليها شكٌّ ، والتعب الذي لا تخففه راحة ، والتقوى والورع والاحتساب ؛ ومَن يَقدرُ على مِثل ما قدر عليه حفاظ الحديث وحملتُه ؟!
وأما نقده فمبني على الاطلاع الواسع ، بل الشامل ، والحذقِ التامِّ ، والفطنة الكاملة ، والتدقيق المتناهي في دراسة القرائن وفحصِها ، واستكشاف معانيها وتجميع دلالاتها ، والرسوخ في استنباط ما كمُن وراء العبارات واستخفى تحت الإشارات ، وعلى أمورٍ أخرى غيرِ قليلة من ملَكاتٍ وصفاتٍ وأحوالٍ وأفعال .
__________
(1) النحل ( 43 ) والأنبياء ( 7 ) .(1/1)
وما أحسن ما قاله فقيه النقد الحديثي في هذا العصر العلامة المعلمي اليماني رحمه الله تعالى إذ قال : ( ليس نقدُ الرواةِ(1) بالأمر الهيِّنِ ، فإنَّ الناقدَ لا بدَّ أن يكون واسع الاطلاع على الأخبار المروية ، عارفاً بأحوال الرواة السابقين وطرق الرواية ، خبيراً بعوائد الرواة ومقاصدهم وأغراضهم ، وبالأسباب الداعية إلى التساهل والكذب ، والموقعة في الخطأ والغلط ، ثم يحتاج إلى أن يعرفَ أحوالَ الراوي : متى وُلد ؟ وبأيِّ بلد ؟ وكيف هو في الدين والأمانة والعقل والمروءة والتحفُّظ ؟ ومتى شَرَع في الطلب ؟ ومتى سَمِع ؟ وكيف سَمِع ؟ ومع من سمع ؟ وكيف كتابُه ؟ ؛ ثم يعرف أحوال الشيوخ الذين يحدث عنهم ، وبلدانَهم ، ووفَيَاتِهم ، وأوقاتَ تحديثِهم ، وعادتهم في التحديث ؛ ثم يعرف مروياتِ الناس عنهم ، ويعرض عليها مروياتِ هذا الراوي ويعتبرها بها ، إلى غير ذلك مما يطول شرحُه ؛ ويكون مع ذلك متيقظاً ، مُرْهَفَ الفهم ، دقيق الفطنة ، مالكاً لنفسه ، لا يستميله الهوى ، ولا يستفزّه الغضب ، ولا يستخفّه بادرُ ظنٍّ حتى يستوفيَ النظرَ ويبْلُغَ المَقَرّ ، ثم يُحْسن التطبيق في حُكمه ، فلا يجاوز ولا يقصِّر .
وهذه المرتبة بعيدة المرام عزيزة المنال ، لم يبلغْها إلا الأفذاذ ؛ وقد كان مِن أكابر المحدثين وأجلَّتِهم من يتكلم في الرواة فلا يُعَوَّل عليه ولا يُلتفت إليه ؛ قال الإمام علي بن المديني ، وهو من أئمة هذا الشأن : << أبو نعيم وعفان صدوقان لا أقبل كلامهما في الرجال ، هؤلاء لا يدعون أحداً إلا وقعوا فيه >> ؛ وأبو نعيم وعفان من الأجلة ، والكلمة المذكورة تدل على كثرة كلامهما في الرجال ، ومع ذلك لا تكاد تجد في كتب الفن نقلَ شيءٍ من كلامهما ) (2) .
__________
(1) ومثله يقال في نقد الأحاديث وتخريجها والحكم عليها ، وأولى منه انتقاد النقاد .
(2) مقدمة المعلمي لكتاب ابن أبي حاتم ( الجرح والتعديل ) ( صفحة ب – صفحة ج ) .(1/2)
انتهى كلام العلامة المعلمي ، ولقد سبقه إلى مقصد هذا الكلام في الجملة الأئمة ، كالذهبي فقد قال في ترجمة أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه من ( تذكرة الحفاظ ) ، وهي أول تراجم الكتاب : ( ومِن مراسيل ابن أبي مليكة أن الصديق جمع الناس بعد وفاة نبيهم ، فقال : إنكم تُحدِّثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث تختلفون فيها ، والناس بعدكم أشدُّ اختلافاً ، فلا تحدِّثوا عن رسول الله شيئاً ، فمن سألكم فقولوا : بيننا وبينكم كتابُ الله فاستحلوا حلاله وحرموا حرامه .
فهذا المرسل يدلك أن مراد الصديق التثبُّت في الأخبار والتحري ، لا سدُّ بابِ الروايةِ ، ألا تراه لمّا نزل به أمرُ الجَدَّة ولم يجده في الكتاب ، كيف سأل عنه في السنَّة ، فلما أخبره الثقةُ ما اكتفى حتى استظهر بثقةٍ آخر ؛ ولم يقل : << حسبنا كتاب الله >> ، كما تقوله الخوارج .
وحدَّث يونس عن الزهري أن أبا بكر حدَّث رجلاً حديثاً فاستفهمه الرجل إيّاه ، فقال أبو بكر : هو كما حدثتُك ، أيُّ أرضٍ تُقِلُّني إذا أنا قلتُ ما لم أعلم .
وصحَّ أنَّ الصديق خطَبهم فقالَ : إياكم والكذب ، فإن الكذبَ يهدي إلى الفجور ، والفجور يهدي إلى النار .
وقال علي بن عاصم - وهو من أوعية العلم لكنه سيء الحفظ - : انا إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم قال : سمعت أبا بكر الصديق يقول : إياكم والكذب ، فإن الكذب مجانبٌ الإيمان .
قلت : صدق الصديق ، فإن الكذب أسُّ النفاق وآيةُ المنافق ، والمؤمن يُطبع على المعاصي والذنوب الشهوانية ، لا على الخيانةِ والكذب ؛ فما الظنُّ بالكذب على الصادق الأمين صلوات الله عليه وسلامه ، وهو القائل : إنَّ كذباً عليَّ ليس ككذبٍ على غيري ، من يكذب عليَّ بُني له بيتٌ في النار ، وقال : من يَقُلْ عليَّ ما لم أقلْ ، الحديث .(1/3)
فهذا وعيدٌ لمن نقل عن نبيه ما لم يقله(1) ، مع غلبة الظن أنه ما قاله ، فكيف حالُ من تهجَّم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتعمد عليه الكذب ، وقوَّله ما لم يقل ؛ وقد قال عليه السلام : << من روى عني حديثاً يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين >>(2)
__________
(1) قلت : ويدخل في هذا الحكم كذلك من صحح في نقده حديثاً غير صحيح ، تلاعباً أو تهاوناً ، أو تعالماً ، وأما العلماء المجتهدون الصادقون المتثبتون الورعون فخطؤهم مغفور بل مأجور ، بإذن الله .
(2) أخرجه مسلم في مقدمة ( صحيحه ) في ( باب وجوب الرواية عن الثقات وترك الكذابين والتحذير من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ) فقال : ( واعلم وفقك الله تعالى أن الواجب على كل أحد عرف التمييز بين صحيح الروايات وسقيمها وثقات الناقلين لها من المتهمين : أن لا يروي منها إلا ما عرف صحة مخارجه والستارة في ناقليه ، وأن يتقي منها ما كان منها عن أهل التهم والمعاندين من أهل البدع .
والدليل على أن الذي قلنا من هذا هو اللازم دون ما خالفه : قولُ الله جل ذكره "يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين" [الحجرات : 6] ؛ وقال جل ثناؤه : "ممن ترضون من الشهداء" ؛ وقال عز وجل : "وأشهدوا ذوي عدل منكم" [الطلاق : 2] ؛ فدل بما ذكرنا من هذه الآي أن خبر الفاسق مقبولٌ وأن شهادة غير العدل مردودة ؛ والخبر وإن فارق معناه معنى الشهادة في بعض الوجوه فقد يجتمعان في أعظم معانيهما ، إذ كان خبر الفاسق غير مقبول ثم أهل العلم ، كما أن شهادته مردودة عند جميعهم ؛ ودلت السنة على نفي رواية المنكر من الأخبار ، كنحو دلالة القرآن على نفي خبر الفاسق ، وهو الأثر المشهور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين" ؛ حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا وكيع عن شعبة عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن سمرة بن جندب ؛ ح ؛ وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة أيضاً حدثنا وكيع ، عن شعبة وسفيان ، عن حبيب عن ميمون بن أبي شَبيب عن المغيرة بن شعبة : قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ) .
قال ابن الصلاح في ( صيانة صحيح مسلم من الإخلال والغلط وحمايته من الإسقاط والسقط ) ( ص118-119 ) : ( ذكر مسلم من حديث سمرة بن جندب والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهما قوله صلى الله عليه وسلم "من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين" ؛ فوجدته بخط الحافظ الضابط أبي عامر محمد بن سعدون العبدري رحمه الله ها هنا مضبوطاً يُرى ، بضم الياء ، و"الكاذِبِين" على الجمع ؛ ووجدت عن القاضي الحافظ المصنف أبي الفضل عياض بن موسى اليحصبي أنه قال : الرواية فيه عندنا "الكاذِبِين" ، على الجميع ؛ قلت : رواه الحافظ الكبير أبو نعيم الأصبهاني في كتابه "المستخرج على كتاب مسلم" في حديث سمرة بن جندب "الكاذبَين" ، على التثنية فحسب ؛ واحتج به على أن الراوي لذلك يشارك في الكذب مَن بدأ بالكذب عليه صلى الله عليه وسلم ؛ وفي هذا تفسيرٌ منه لمعنى التثنية حسنٌ ؛ ثم ذكره في روايته إياه من حديث المغيرة بن شعبة "فهو أحد الكاذِبَين أو الكاذبِين ، على الترديد بين التثنية والجمع ؛ ووجدت ذلك مضبوطاً محققاً في أصل مأخوذ عن أبي نعيم مسموعاً عليه مكرراً في موضعين من كتابه ؛ وقدَّم في الترديد التثنية في الذكر ؛ وهذه فائدة عالية غالية ولله الحمد الأكمل .
وأما الضم في "يُرى" فهو مبني على ما اشتهر من أنه بالضم يستعمل في الظن والحُسبان ، وبالفتح في العلم ورؤية العين ؛ وفي حفظي أنه قد يستعمل بالفتح بمعنى الظن أيضاً ، كما يُستعمل العلم بمعنى الظن ) .(1/4)
.
فإنا لله ، وإنا إليه راجعون ؛ ما ذي إلا بليّة عظيمة وخطر شديد ممن يروي الأباطيل والأحاديث الساقطة المتهم نقَلَتُها بالكذب .
فحق على المحدث أن يتورع فيما يؤديه ، وأن يسأل أهل المعرفة والورع ليعينوه على إيضاح مروياته .
ولا سبيل إلى أن يصير العارف الذي يزكي نقلة الأخبار ويجرّحهم جهبذاً(1) ، إلا بإدمان الطلب ، والفحص عن هذا الشأن ، وكثرة المذاكرة والسهر ، والتيقظ والفهم ، مع التقوى والدين المتين والإنصاف ، والتردد إلى مجالس العلماء ، والتحري والإتقان ؛ وإلا تفعل :
فدع عنك الكتابة لست منها***ولو سوَّدت وجهَك بالمداد
قال الله تعالى ، عزَّ وجلَّ : ( فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ) (2) .
فإن آنست يا هذا مِن نفسك فهماً وصدقاً وديناً وورعاً ، وإلا فلا تتعنَّ .
وإن غلب عليك الهوى والعصبية لرأيٍ ولمذهب ، فبالله لا تتعب .
وإن عرفتَ أنكَ مخلِّطٌ مخبِّطٌ مهملٌ لحدود الله ، فأَرِحْنا منك ، فبعدَ قليلٍ ينكشف البهرج وينكب الزغل ، ولا يحيق المكرُ السيء إلا بأهله .
فقد نصحتُك ؛ فعلم الحديث صلفٌ ، فأينَ علمُ الحديث ؟! وأين أهلُه ؟! كدت أن لا أراهم إلا في كتابٍ أو تحتَ تراب ) ؛ انتهت هذه النصيحة الذهبية في نسبها ومعناها .
__________
(1) الجهبذ كلمة معربة جمعها جهابذة ؛ ومعناها النقاد الخبير بغوامض الأمور .
(2) النحل ( 43 ) والأنبياء ( 7 ) .(1/5)
وقال الذهبي أيضاً في ( سير أعلام النبلاء ) ( 11/82 ) : ( ونحن لا ندعي العصمة في أئمة الجرح والتعديل ، لكن هم أكثر الناس صواباً وأندرهم خطأ وأشدهم انصافاً وأبعدهم عن التحامل ، وإذا اتفقوا على تعديل أو جرح فتمسك به واعضض عليه بناجذيك ولا تتجاوزه فتندم ، ومن شذ منهم فلا عبرة به ، فخلِّ عنك العناءَ وأَعْطِ القوس باريها ؛ فوالله لولا الحفاظ الأكابر لخطبت الزنادقة على المنابر ، ولئن خطب خاطب من أهل البدع فإنما هو بسيف الإسلام وبلسان الشريعة وبجاه السنه وبإظهار متابعة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، فنعوذ بالله من الخذلان ) .
وقبل ذلك قال السمعاني ( 426-489هـ ) في ( قواطع الأدلة ) ( 2/405-411 ) منتقداً بعض أهل الرأي والكلام :(1/6)
( والعجب من هذا الرجل أنه جعل [لعلها دخل] هذا الباب باب نقد الأحاديث ومتى سُلم له ولأمثاله بنقد الأحاديث ؟! وإنما نقد الحديث لمن يعرف الرجال وأحوال الرواة ويقف على كل واحد منهم حتى لا يشذ عنه شيء من أحواله التي يحتاج إليها ، ويعرف زمانه وتاريخ حياته ووفاته ومن روى هو عنه ومن صحب من الشيوخ وأدركهم ، ثم يعرف تقواه وتورعه في نفسه وضبطه لما يرويه وتيقظه رواياته ؛ وهذه صنعة كبيرة وفن عظيم من العلم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : لا تنازعوا الأمر أهله ؛ وهذا الرجل أعني الدبوسي وإن كان قد أعطي حظاً من الغوص في معاني الفقه على طريقة اختارها لنفسه ، ولكن لم يكن من رجال صنعة الحديث ونقد الرجال ، وإنما كان غاية أمره الجدال والظفر بطرف من معاني الفقه لو صحت أصوله التي يبني عليها مذهبه ، ولكن لم يحتمل الأساس الضعيف من البناء عليه لا جرم لم ينفعه ما أعطي من الذكاء والفهم إلا في مواضع يسيرة أصاب فيها الحق ؛ وأما في أكثر كلامه وغايته تراه يبني على قواعد ضعيفة ويستخرج بفضل فطنته معاني لا توافق الأصول ولم يوافقه عليها أحد من سلف أهل العلم ، ثم يحمله عُجبه برأيه على خوضه في كل شيء ، فتراه دخالاً في كل فن هجوماً على كل علم وإن كان لا يحسنه ، فيهجم ويعثر ولا يشعر أنه يعثر .(1/7)
وقد اتفق أهل الحديث أن نقد الأحاديث مقصور على قوم مخصوصين فما قبلوه فهو المقبول وما ردوه فهو المردود وهم أبو عبد الله أحمد بن حنبل الشيبانى وأبو زكريا يحيى بن معين البغدادي وأبو الحسن علي بن عبد الله المديني وأبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم الحنظلي وأبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري وأبو زرعة عبيد الله بن عبد الكريم الرازي وأبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري وأبو حاتم محمد بن إدريس الحنظلي وأبو داود سليمان بن الأشعث السجستناني وأبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي ( ومثل ) (1) هذه الطبقة يحيى بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي والثوري وابن المبارك وشعبة ووكيع وجماعة يكثر عددهم ، ذكرهم علماء الأمة ؛ فهؤلاء وأشباههم أهل نقد الأحاديث وصيارفة الرجال ، وهم المرجوع إليهم في هذا الفن ، وإليهم انتهت رئاسة العلم في هذا النوع ، فرحم الله امرأً عرف قدر نفسه وقدر بضاعته من العلم ، فيطلب الربح على قدره ) .
ثم قال ( 3/7-9 ) :
( واعلم أن عندنا الخبر الصحيح ما حكم أهل الحديث بصحته ؛ والذي قال [أي الدبوسي] من المشهور والغريب فلا ننكر أن في الأخبار ما هو غريب ومنها ما هو مشهور ، ولكن لا يُعرف المشهور من الغريب باشتهاره عند الفقهاء وعدم اشتهاره عندهم ، لأنه رُبَّ خبر اشتهر عند الفقهاء وأهلُ الحديث لا يحكمون بصحته ، وهو مثل ما يروون "لا وصية لوارث " ، ويروون " لا تجتمع أمتي على الضلالة " ، ويروون "أنت ومالك لأبيك " ، ويروون "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد" ، ويروون "المكاتب عبدٌ ما بقي عليه درهم" ؛ وهذه أخبار لم يحكم أهل الحديث بصحة شيء منها .
ورب خبر كان غريباً عند الفقهاء وقد حكم أهل الصنعة بصحته ) .
إلى أن قال ( 3/11 ) : ( وأما الغريب الذي لا يستنكر والغريب الذي يستنكر فهو أيضاً إلى أهل الصنعة ) .
وقال عقب ذلك :
__________
(1) يحتمل أنها ( وقبل ) .(1/8)
( وأنا أعلم قطعاً أنه لم يكن له في هذا العلم حظ ، أعني العلم بصحيح الأخبار وسقيمها ، وبمشهور الأخبار وغرائبها ، ومنكراتها وغير منكراتها ، لأن هذا أمر يدور على معرفة الرواة ولا يمكن أن يقترب من مثل هذا بالذكاء والفطنة ، فكان الأولى به عفا الله عنه أن يترك الخوضَ في هذا الفن ويُحيله على أهله ، فإنَّ من خاض فيما ليس من شأنه فأقلّ ما يصيبه افتضاحُه عند أهله ، وليست العبرة بقبول الجهلة وإنَّ لكل ساقطةٍ لاقطة ، ولكلِّ ضالةٍ ناشد ، ولكن العبرة في كل علم بأهله الأدنين ، ولكل عمل رجال ، فينبغي أن يسلَّم لهم ذلك .
فإن قال قائل : فما حد الخبر الصحيح عندكم ؟ قلنا : قد ذكرنا من قبل رجاله وكتبه فالأمر بالتصحيح والتمريض إليهم ) .
وقبل ذلك بكثير قال عالم العلل الإمام أبو الحسين مسلم بن الحجاج صاحب ( الجامع الصحيح ) في ( التمييز ) له ( ص218-219 ، مكتبة الكوثر ) :
( اعلم ، رحمك الله ، أن صناعة الحديث ومعرفة أسبابه من الصحيح والسقيم ، إنما هي لأهل الحديث خاصة ؛ لأنهم الحفاظ لروايات الناس ، العارفين بها دون غيرهم ، إذ الأصل الذي يعتمدون لأديانهم : السنن والآثار المنقولة ، من عصر إلى عصر ، من لدن النبي صلى الله عليه وسلم إلى عصرنا هذا ؛ فلا سبيل لمن نابذهم من الناس وخالفهم في المذهب ، إلى معرفة الحديث ومعرفة الرجال من علماء الأمصار فيما مضى من الأعصار مِن نقل(1) الأخبار ، وحُمّال الآثار .
وأهل الحديث هم الذين يعرفونهم ويميزونهم ، حتى ينزلونهم ؟؟ منازلهم في التعديل والتجريح .
__________
(1) كذا في المطبوع ولا أدري أهي محفوظة أم مصحفة عن نحو ( نُقّال ) أو ( نَقَلة ) .(1/9)
وإنما اقتصصنا هذا الكلام لكي نثبته(1) مَن جَهِلَ مذهب أهل الحديث ممن يريد التعلم والتنبه ، على تثبيت الرجال وتضعيفهم فيعرف ما الشواهد عندهم ، والدلائل التي بها ثبتوا الناقل للخبر من نقله ، أو سقطوا [كذا] من أسقطوا منهم ، والكلام في تفسير ذلك يكثر ؛ وقد شرحناه في مواضع غير هذا ، وبالله التوفيق في كل ما نؤم ونقصد ) (2) .
وقبله قال الإمام الشافعي رحمه الله : ( عليكم بأصحاب الحديث فإنهم أكثر الناس صواباً ) (3) .
وقبل ذلك قال أحد علماء التابعين ومشاهيرهم وهو الإمام الزهري رحمه الله ، لأبي بكر الهذلي : يا هذلي أيُعجبك الحديث ؟ قال : نعم ، قال : أما إنه يعجبُ ذكور الرجال ويكرهه مؤنثوهم(4) .
__________
(1) لعلها ينتبه أو يثبته أو يتبينه .
(2) وانظر ( مجموع الفتاوى ) ( 1/7-8 )
(3) أخرجه الذهبي بإسناده في ( سير أعلام النبلاء ) ( 10/70 ) .
(4) أخرجه ابن حبان في مقدمة ( المجروحين ) ( 1/26 )(1/10)
هذه المعاني عَرَف حقائقها الجادون الموفّقون أصحاب الهمم العلية من طلبة العلوم الشرعية ، عرفوا من علم الحديث منذ نشأته هذا الذي وصفتُه أو حكيتُه لك من صعوبته ووعورة مرتقاه وعزة مناله ، وعرفوا مع ذلك فضْلَ هذا العلم الشريف وخطره ، فشمروا عن ساعد الجد ، وراحوا يجوبون أقطار الأرض ليسمعوا كل ما يُروى عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن السلف ، فسمعوه وكتبوه ، ثم بعد ذلك جعلوا يتحفظونه فحفظوه في صدورهم ، ووثَّقوا حفظهم هذا وعضدوه بحِفاظهم على كتبهم كما كتبوها أول مرة ، إلى أن يبلِّغوا ما فيها لمن هم على شاكلتهم ، ولم يقفوا عند هذه الدرجة بل حرصوا غاية الحرص على تمييز ما ثبت من ذلك المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته وغيرهم من متقدمي العلماء عما لم يثبت منه بطريقة نقدية فريدة ما عرفها العالَم قبلَهم ، فهي من خصائص هذه الأمة المباركة ، فكانوا كما وصفهم ابن حبان رحمه الله إذ قال : ( فرسان هذا العلم الذين حفظوا على المسلمين الدين ، وهدوهم إلى الصراط المستقيم ، الذين آثروا قَطْع المفاوز والقِفار ، على التنعم في الديار والأوطان في طلب السنن في الأمصار ، وجمعها بالوجل والأسفار ، والدوران في جميع الأقطار ، حتى إن أحدهم ليرحل في الحديث الواحد الفراسخ البعيدة ، وفي الكلمة الواحدة الأيام الكثيرة ، لئلا يُدخِل مضلٌّ في السنن شيئاً يُضلُّ به ، وإن فعل فهم الذابّون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الكذب والقائمون بنصرة الدين ) (1) .
__________
(1) المجروحين ( 1/27 ) .(1/11)
ولما كان هذا العلم – كما سلف وصفُه به - صعباً عصياً متأبياً على غير أهله ، واجتمع إلى ذلك تفاوت طلابه في عقولهم واجتهاداتهم وهممهم وقدراتهم وأحوالهم ومقدار توفيق الله لهم وعونه إياهم : نتج عن ذلك أن علماء الحديث ليسوا على مرتبة واحدة في التمكن منه وحسن الفهم فيه وقوة النظر في مسائله ومتانة العلم بأحكامه وكثرة الإصابة فيه ، بل هم على مراتب لا يعلم قدرها ولا حقيقتها إلا الذي هو بكل شيء عليم .
ومما لا يخفى أنه ليس علينا معاشر الباحثين في هذه الأعصر أن نعرف مراتبهم على التفصيل الكامل الشامل الدقيق ، لأن ذلك ليس بوسعنا ؛ بل ليس بوسعنا معرفة ما هو أدنى من ذلك ، أعني معرفة مراتبهم وتفاصيل أحوالهم في علمهم كما يعرف العالم ذلك عن شيوخه الذين طالت ملازمته لهم ومداخلته لأحوالهم ، أو كما يعرف النبيه من المدرسين مراتب وخصائص طلبته ولا سيما عندما يتكرر منه اختباره لهم واستكشافه لملكاتهم ومقادير فهمهم وطرائقهم في تعلمهم .
نعم ، ليس ذلك علينا ، ولكن علينا ألا نقصر في معرفة كل ما يتهيأ لنا - أو ما نقدر عليه - من تفاصيل تتعلق بمراتبهم ولو على الإجمال ، وبمناهجهم ولو على التقريب ، فذلك علم لا يُستغنى عنه وبابٌ لا بد من دخوله .
وليس هذا هو موضوع هذا البحث ولكنه شيءٌ جرَّنا إليه الكلام المتتابع ، ثم إنه كالتمهيد لما نريد .
أما مراد البحث فهو تقسيم المحدثين بطريقة أخرى غير ما تقدم ، وهو تقسيمهم إلى طائفتين بينهما في الجملة كثير من الاختلاف ( نعم ، كثير من الاختلاف ) ، في الأصول العامة والقواعد الواسعة والضوابط الضيقة ، ثم بيان خصائص كل واحدة من الطائفتين وشرح ما لها وما عليها ، مع التزام الإنصاف والقسط والتثبت بحسَبِ الوسع والطاقة إن شاء الله تعالى وما التوفيق إلا من الله العليم الحكيم ؛ فأقول :(1/12)
إذا جاء الباحث المطلع واستقرأ طرائق علماء الحديث في نقدهم واستكشف مقاماتهم في فنهم ، وجد أنهم كما ينقسمون إلى مراتب كثيرة متفاوتة ، فإنهم ينقسمون في الجملة إلى مرتبتين إجماليتين وفرقتين رئيسَتَيْنِ وطائفتين كبيرتين .
أما أُولى الطائفتين فجماعة من الأئمة الذين كانوا عجباً في فنهم ، تمكن مذهل ، وحفظ تام وذكاء يتوقد ومعرفة بالتفاصيل تظن إذا سمعت منهم بعضها أنهم لا يكاد يخفى عليهم من مهمات أصول وفروع هذا العلم شيء ، وما ظنك من الحقيقة ببعيد .
وأما الطائفة الثانية فعلماء أفاضل ، ولكنهم دون أولئك بمراتب ؛ وليس ذلك بعيب فيهم ، فقد جعل الله لكل شيء قدراً ؛ ولكن العيب أن لا يعرف المرءُ قدر نفسه وعلمه ، ولا يعرف لمن هو فوقه في العلم منزلتَه ؛ وقد وقع شيء من ذلك ، مِنْ قِبَلِ بعض المتأخرين أو المتعاصرين ، وأكثره كان عن حسن قصد ، ولكن ما كان ينبغي أن يكون ؛ ولا حول ولا قوة إلا بالله .
ولم يقفِ الأمرُ عند هذا الحد ، بل تعداه إلى ما هو أخطر بكثير ، فإنَّ هذه الصناعة الحديثية الشريفة الموقرة الجليلة الخطيرة طمع فيها – لأسباب كثيرة منها ما تقدمت الإشارة إليه من تصرفات أدت إلى تهوين شأن هذا العلم بتهوين شأن أئمته – أقول طمع فيها كثير ممن ليسوا في العير ولا النفير ، من طالب دراسة جامعية يقرأ سنتين ما شمَّ قبلها لعلم الحديث رائحةً ، فيكتب رسالةً يحكم فيها بالقبول أو الرد على مئات من الأحاديث التي لو عرض كثير منها على مثل أحمد بن حنبل لتوقف فيها أو لجمع لها – أو لكثير منها – علي بن المديني وابن معين وأضرابهما لو تيسر له ذلك ، ومن رجل جاهل حصّل مخطوطةً حديثية نفيسةً فأبى إلا أن يقومَ هو – دون غيره - بنشرها وتحقيقها وتصحيحها ، وما درى أن الذي قام به إنما هو تزويرها وإفسادها وتصحيفها .
فانتهى الحال إلى ما ترون من المآل ، ووقع في هذا العلم الشريف ذلكم الإخلال .(1/13)
فحقَّ لأهل العلم أن يتمثلوا*****ببيت قديم شاع في كل مجلسِ
لقد هزلت حتى بدا من هزالها***كُلاها وحتى سامها كل مفلسِ
وحقَّ لهم أن يتمثلوا بقول من قال :
لَمّا تبدلتِ المنازلُ أوجُهاً ******* غيرَ الذين عهدتُ من علمائِها
ورأيتها محفوفةً بسوى الألى ****** كانوا ولاةَ صدورِها وفِنائها
أنشدتُ بيتاً سائراً متقدماً ****** والعينُ قد شرقت بجاري مائها
أما الخيام فإنها كخيامهم *** *** وأرى نساء الحي غير نسائها
فإذن نحن بين يدي علمٍ بل بحرٍ محيطٍ لا ساحل له ، وميدان خطيرٍ قلَّ فرسانه ، وصناعة غريبة لا يتقنها في الحقيقة إلا أفراد أفذاذ وعلماء خلقهم الله تعالى لهذا الشأن ، ولكن قلَّ على مر العصور مقدار أعدادِهم حتى صاروا غرباء في بلادِهم ، وجهل حقَّهم أكثرُ الخلائق ، لكن هؤلاء الأئمة الجهابذة قد عرف حقَّهم العلماءُ المحققون قديماً وحديثاً وأبرزوا مكانتهم وأظهروا فضلهم فأنزلوهم المنزلة التي يستحقون ووقفوا أمام بحار علمهم خاضعين غير خائضين ، وإنما يعرف الفضلَ لأهله أهلُه ، خذ مثلاً لذلك – وتدبرْه - قولَ الإمام البخاري : ( ما استصغرت نفسي عند أحد إلا عند علي بن المديني ) (1) .
إنه علمٌ من تكلم فيه من غير أئمته ، فالخطر إليه أسرع من سلامته ، ومن دخل فيه من غير بابه ، فخطؤه أقرب إليه من صوابه .
هذا شأن هذا العلم الشريف الجليل ؛ ولكن قد حصَلَ أمرٌ كان سيء الأثر جداً عليه ، وإن ذلك لمصاب جلل على هذه الأمة وخطب كاد يقصم ظهرَ العلم الشرعي لولا أن تداركه الله برحمة منه ، فما هو ذلك الأمر وما خبره؟ إليك بيان ذلك .
__________
(1) رواه عن البخاري المزي في ( تهذيب الكمال ) ( 21/18 ) بإسناده .(1/14)
بدأت الأمة بعد القرون الأولى تضعف شيئاً فشيئاً ، ثم لم يزل الضعف مستمراً ، ولا شك أن أول ما يضعف بضعف الأمة هو علمها الأول علم الحديث النبوي في نقله ونقده وفقهه والعمل به(1) .
وكان من نتيجة ذلك أن تنازلت مراتب حملة هذا العلم الشريف عما كانت عليه ، وأن تجرأ على الدخول في ميدانه كثير ممن لا يُحسنه ، فشارك فيه كثيرٌ من المتفقهة القاصرين وبعض ضعفاء الطلبة وجماعات من المتعالمين ومن أصحاب المقاصد المنحرفة ، فكان لهؤلاء في الجملة أصول غير التي لأهل الحديث الذين هم أهله ومناهج غير التي كانوا يسلكون .
وهكذا صار الحديثيون أو المشتغلون بالحديث منقسمين في الجملة إلى طائفتين كبيرتين : طائفة عالمة ورعة متثبتة متأهلة ، وطائفة منحرفة عنها في منهجها وقاصرة عنها في علمها ومقصرة في التطبيق .
وقبل أن أبدأ بتفصيل أهم الفروق بين الطائفتين أود أن أنبهك على مسألتين :
الأولى : أنني رأيت أنه يحسن بي في هذا المبحث أن أسمي الطائفتين ، لأجل اختصار التعبير ، فرأيت أن أصطلح على تسمية الأولى ( طائفة علماء العلل والتفصيل ) (2) ؛ وأصطلح على تسمية الثانية ( طائفة علماء الجمل والتأصيل ) (3) ؛ وسأنبيك عن سر هاتين التسميتين ببيان ؛ بل ستفهم أنت ذلك – إن شاء الله تعالى - من مجرى الكلام على الفروق بين هاتين الطائفتين .
__________
(1) هذا إن لم نختر القول بأن علم الحديث ضعف أولاً فضعفت الأمة تبعاً له .
(2) وأدعوها أحياناً ( الطائفة الأولى ) أو ( طائفة المتقدمين ) .
(3) وأدعوها أحياناً ( الطائفة الثانية ) أو ( طائفة المتأخرين ) .(1/15)
الثانية : إن الفروق الفرعية بين الطائفتين أعني الفروق بينهما في الأحكام على الأحاديث وأسانيدها ورواتها كثيرة ، وأنا لا أريد – بل ولا أملك – أن أذكرها هنا ؛ فذلك خارج عن موضوع هذه المقالة وخارج عن حدود قدرة باحث واحد ولو أطال البحث واسترسل فيه ؛ ثم إنه لا ينبغي أن يكون هو المقصود بالدراسة لمنهج الطائفتين ، فإنه لا يفي ببيان صفة منهجيهما وحقيقة مذهبيهما ؛ وإنما الذي يبين ذلك بياناً شافياً هو أصول الطائفتين وكبار قواعدهما ، فدونك بيان ذلك .
هاتان الطائفتان بينهما فروق أصلية منهجية ؛ أرى أنها راجعة إلى أمور سبعة ، وإليك سر هذا التقسيم :
إننا إذا نظرنا في أنواع الاختلاف العلمي بين الطائفتين وجدت أنها تنقسم إلى ثلاثة أقسام :
القسم الأول : الاختلاف في الأصل الأعم الأكبر .
القسم الثاني : الاختلاف في الأصول العامة والقواعد الواسعة .
القسم الثالث : الاختلاف فيما سوى ذلك ، كالأصول الجزئية والضوابط والقواعد الفرعية والتفاصيل بكل مراتبها وأنواعها .
والأصل أن أذكر في كل قسم من هذه الأقسام الثلاثة الفرقَ بين الطائفتين من جهتين اثنتين :
أولاهما : جهة مقدار الاطلاع وسعة العلم .
وثانيتهما : جهة مقدار الإصابة والخطأ .
فبذلك يتبين ما هي الطائفة الأوسع اطلاعاً علماً والأقل خطأً وانحرافاً .
ولكن الجهة الأولى ، أي الفرق في مقدار الاطلاع غير متصوَّر - أو غير موجود - في القسم الأول ، فهو أصل واحد معين لكل طائفة ، لا يزيد ولا ينقص ؛ وهو – أي الفرق المذكور - قليل في القسم الثاني ، فلا يستحق الذكر في مثل هذا البحث ، فلذلك ذكرته في القسم الثالث فقط ؛ وأما مخالفة الصواب فمذكورة في الأقسام كلها .
فهذه أربعة أمور ، وهي علمية ، فإذا أضفنا إليها ثلاثة أمور أخرى أحدها علمي أيضاً وثانيها ديني وثالثها منهجي : صارت الأمور سبعة ، وهي ما أذكره فيما يلي :(1/16)
أما أولها : فهو المبدأ والمنطلق في نقد الأحاديث ، أي الأصل الأكبر في ذلك ، وإن شئت فقل : هو أصل تأصيل نقد الأحاديث .
وأما الثاني : فهو مقدار الإصابة والخطأ في قواعد الطائفتين الكبرى وأصولهم العامة .
وأما الثالث : فهو سعة الاطلاع على القواعد الفرعية والضوابط الجزئية والتفاصيل وتفاصيلها .
وأما الرابع : فهو مقدار الإصابة والخطأ في هذه المعاني المذكورة في الأمر الثالث .
وأما الخامس : فهو مقدار التأهل للاستقراء الصحيح ومقدار المكنة من التفريع الصحيح على ذلك الاستقراء ، ومدى التأهل للتطبيق الصحيح والاستنباط العميق والملاحظة الدقيقة .
وأما السادس : فهو ما يتعلق بالجرأة والورع في نقد الأحاديث .
وأما السابع : فهو ما يتعلق بالاجتهاد والتقليد في نقد الأحاديث .
وأتكلم هنا إن شاء الله تعالى على كل واحد من هذه الأمور السبعة بما يبينه ؛ فأقول :
أما الأمر الأول :
وهو اختلاف الطائفتين في المبدأ والمنطلق ، فإنما معناه أن طائفة التفصيل تبدأ بالتفصيل ، وتبحث عنه وتريد أن تنتهي إليه ، وهي لا تعدل بالتفصيل شيئاً ولا تقنع ببديلٍ عنه إلا إذا عدمته ؛ إنها تريد أن تعرف عن كل راو أو سند أو حديث أكملَ وأدقَّ ما يمكن أن يُعلم عنه ، مما هو منقول عن النقاد والمؤرخين وما هو معلوم باستقراء الأحاديث ونحو ذلك ؛ فإن لم يتيسر لها ذلك ، انتقلتْ – بعد اليأس من تحصيل هذه المرتبة العليا – إلى مرتبة أدنى منها ولكنها الأقرب إليها ، أي هي الأكثر تفصيلاً مما يمكن الوقوف عليه من مراتب التفصيل في ذلك الشيء المبحوث عن حاله ؛ وهكذا تتنازل هذه الطائفة في بحثها ونقدها لكل مسألة ، من مقام التفصيل الأعلى إن تعذر أو تعسر ، إلى أقرب ما يليه من مقامات التفصيل الممكنة ؛ فتنازلها إذن اضطراري لا اختياري ؛ واجتهادي لا تقليدي ولا انتقائي .(1/17)
وهكذا يستمر أحياناً تنازلُ طائفة العلل والتفصيل في الحكم على بعض الجزئيات إلى أن تبتعد كثيراً عن الاستناد إلى التفصيل المفيد وتقترب جداً من الاتكاء على الإجمال البعيد ، أعني : يكون الحكم على القضية الجزئية حكماً تغليبياً وتخمينياً لأنه يستند إلى حكم عام مجمل ؛ وأصل غير قريب ، ولكن لا عيب عليهم في ذلك ، فليس على العالم أن يعلم ما لا يوجد علمه بين الناس ، ولكن عليه أن لا يقصر في طلب النافع من العلم وجمعِ أشتاته واستظهار خوافيه ، ولا سيما في فنه الذي يتكلم فيه ، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها .
ومثال ذلك – أي القناعة بالاستناد إلى العلم المجمل - أن يردوا الحديث لما فيه من عنعنة راو مدلس مكثر من التدليس ؛ لأنهم لا يعرفون من كيفية تحمل ذلك الراوي لذلك الحديث خاصةً شيئاً ، بل ولا يعرفون من التفصيل في عنعنة ذلك الراوي أكثر من أنهم يعرفون أنه مدلس مكثر من التدليس ؛ وهذا بخلاف بعض أحاديث بعض المدلسين فترى النقاد يستثنونها ويحكمون فيها بحكم مختص بها ، فيقولون مثلاً : فلان المدلس سمع هذا الحديث من شيخه زيد باعتراف زيد نفسه ، أو بشهادة فلان من أقرانه أو تلامذته ، أو بدلالة كذا وكذا ، أو هو مكثر عن زيد جداً طويل الملازمة له فلا تضره عنعنته عنه ويكون لها خاصة حكمُ الصيغ الصريحة في السماع .
ومثال الاستناد إلى أصل عام أيضاً أن يمر بهم تابعي صغير مجهول ولكنه من شيوخ مالك وهم لا يعرفون عنه شيئاً فيقولون : هو ثقة لرواية مالك عنه ، مستندين على حكم عام وأصل أغلبي وهو أن مالكاً لا يروي إلا عن ثقة عنده ؛ مع أنه قد عُلم روايته عن عدد يسير من الضعفاء .(1/18)
فإذن الاستناد إلى القواعد الكبرى والضوابط الواسعة والأصول البعيدة لا يكون – عند الطائفة الأولى – إلا عند فقدان تفاصيلها التي من شأنها أنها تحرص جداً على تحصيلها ؛ وهي مع ذلك تتدرج ، بل تتدرك ، في نزولها من علمِ فرعٍ ضيق تعجز عنه إلى علم فرع يكون أوسع من الأول وأعم منه وأشمل ، وهي في كل ذلك – كما ذكرنا - مضطرة غير مختارة ؛ فهي تحرص على الفروع والتفاصيل وتجمد عليها ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً ، أكثر من حرص أهل الأصول والقواعد وجمودهم على أصولهم وقواعدهم .
فالقواعد والأصول عند الطائفة الأولى وجدت للحاجة واختصار التعبير ، وتيسير الحفظ وتسهيل التعليم ، وهي لا يصار إليها أو يُستند عليها - بل ولا يُلتَفتُ إليها - إلا عند فقدان ما يغني عنها ويفْضُلها من العلم الأكثر تفصيلاً والأكمل تصريحاً والأبين تفسيراً .
وأما الطائفة الثانية ، فإنها ظنت – غيرَ موفَّقةٍ في كثير من ذلك الظن - أن العلم هو القواعد والأصول ، وأن تلك الأصول يجب أن تكون حَكَماً على التفاصيل وحُكماً لها ؛ وأنه لا يصح أن يُقبلَ قولٌ يخالف قاعدة شائعة أو يخرج عن أصل معتبر ، إلا بدليل تقتنع به هذه الطائفة نفسها .
فلو قال عالم من علماء الطائفة الأولى - وهم أئمة العلل والتفصيل - : هذا الراوي من شيوخ مالك ضعيف ، أو قال : هذا الحديث من أحاديث المدلس الفلاني متصل ، قاموا عليه وعارضوه بنحو قولهم : أخالفت الأصل أو نسيته؟! وهو لم يخالفه ولم ينسه .
فصنيعهم لو تدبرتَه وجدتَه من باب تقديم العام على الخاص ، أي من باب حمل الخاص على العام ؛ ومعلوم أن هذا أصل باطل لا يحق ومنهج أعوج لا يستقيم .
فإن قيل : لِمَ فعلتِ الطائفةُ الثانيةُ ذلك؟
فالجواب أنهم أُتوا في ذلك من أمور :
أولها : نقص كبير في الوقوف على التفاصيل ، فأدى بهم ذلك إلى الغلو في القواعد والأصول والمبالغة في الرجوع إليها والاعتماد عليها ، وتفاقم الأمر إلى أن وصل ما إليه وصل .(1/19)
الثاني : النظرة المنطقية التي تدأب وتحرص أبداً على أن تجعلَ كلَّ فرع داخلاً تحت أصل عام لا ينبغي أن يُخرج عنه إلا في حالات نادرة جداً ولأدلةٍ مسوغةٍ للخروج تكون كالشمس في وضوحها ؛ وهذه التربية المنطقية تسربت إليهم من محدثي الفقهاء ، ومن الفقهاء والأصوليين المتأثرين بعلم المنطق والكلام ، وهي في الأصل مأخوذة من أصحاب هذين العلمين أنفسهم ، أي من المتكلمين والمناطقة ، بل ومن الفلاسفة أيضاً ، وهم أصل كل داءٍ وبلاء .
قال الشيخ عبدالله السعد حفظه الله وثبته ونفع الأمة بعلمه في تقديمه لبعض طبعات ( إرشاد الفحول ) للشوكاني : ( ثم توالت المصنفات بعد الرسالة [يعني رسالة الإمام الشافعي] في علم أصول الفقه ؛ وقُسمت هذه المؤلفات إلى قسمين من حيث المنهج :
1- طريقة الفقهاء
2- طريقة المتكلمين
ولا شك أنها على قسمين ، ولكن غير ما تقدم .
وإنما القسم الأول ما كان على طريقة الشافعي من تعظيم لكتاب والسنة والاعتصام بهما وذكر الأدلة الشرعية الإجمالية وبيان مراتبها وربط الأصول بالفروع من خلال الإكثار من ضرب الأمثلة ومناقشة المسائل الخلافية بالحجة الشرعية والبرهان الصحيح وترك المسائل النظرية والإعراض عن المباحث الكلامية والفلسفية و . . . .
وممن سار على هذا المنهج الخطيب البغدادي في ( الفقيه والمتفقه ) وأبو بكر البيهقي في ( المدخل إلى السنن الكبرى ) ومقدمة ( معرفة السنن والآثار ) ، و ( مقدمة دلائل النبوة ) (1) ، وأبو عمر ابن عبدالبر في ( جامع بيان العلم وفضله ) ، فقد تحدث فيه عن بعض المسائل الأصولية ، و ( أعلام الموقعين ) لأبي عبدالله ابن القيم وغيرها .
__________
(1) وإن كان أكثر كلامه في أصول الحديث ، ولكن لا يخفى أن بين أصول الحديث والفقه تداخلاً في بعض القضايا .(1/20)
وأما الطريقة الثانية ففيها الإكثار من ذكر المسائل النظرية والبحث في مسائل كلامية وقضايا منطقية مع عدم الإكثار من ضرب الأمثلة وربط الأصول بالفروع ، فأدى هذا إلى تعقيد هذا العلم مع قلة الفائدة المرجوة من هذه الطريقة ، قال أبو العباس بن تيمية كما في ( مجموع الفتاوى ) ( 20/402 ) : ( فالأصوليون يذكرون في مسائل أصول الفقه مذاهب المجتهدين كمالك والشافعي والأوزاعي وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل وداود ومذهب أتباعهم ؛ بل هؤلاء ونحوهم هم أحق الناس بمعرفة أصول الفقه ، إذ كانوا يعرفونها بأعيانها ويستعملون الأصول في الاستدلال على الأحكام ، بخلاف الذين يجردون الكلام في أصولٍ مقدرةٍ بعضها وُجد وبعضها لا يوجد ، من غير معرفة أعيانها ، فإن هؤلاء لو كان ما يقولونه حقاً فهو قليل المنفعة أو عديمها ؛ إذ كان تكلماً في أدلة مقدرة في الأذهان لا تحقُّقَ لها في الأعيان ، كمن يتكلم في الفقه فيما يقدره من أفعال العباد وهو لا يعرف حكم الأفعال المحققة منه ، فكيف وأكثر ما يتكلمون به من هذه المقدرات فهو كلام باطل ) .
وقال أبو المظفر السمعاني في ( قواطع الأدلة ) ( 1/18 ) (1) : ( فرأيت أكثرهم قد قنع بظاهر من الكلام ورائقٍ من العبارة ولم يُداخل حقيقةَ الأصول على ما يوافق معانيَ الفقه ؛ ورأيتُ بعضَهم قد أوغل وحلَّل وداخلَ ، غير أنه حاد عن محجة الفقهاء في كثير من المسائل وسلك طريق المتكلمين الذين هم أجانب عن الفقه ومعانيه ، بل لا قبيل لهم فيه ولا دبير ، ولا نقير ولا قطمير ، ومن تشبَّع بما لم يُعطَ فقد لبس ثوبي زور . . . اهـ ) .
__________
(1) هو في ( 1/5-6 ) من الطبعة الأخرى .(1/21)
الثالث : عدم فهمهم - أو عدم تيقنهم - أن القواعد إنما أوجدها أصحاب الطائفة الأولى - شأنهم في ذلك شأن أصحاب كل علم صحيح - ليكون الاستناد إليها والتفريع عليها عِوضاً عن التفاصيل عند فقدانها في مسألة جزئية من مسائل ذلك العلم ، وملجأ للباحثين عند تعذر المعرفة التحقيقية الدقيقة ، كما تقدم .
إن جادّةَ جمهور المتأخرين في علومهم إنما هي بناء الأحكام الفرعية على الأصول العامة ، فكأنهم لذلك ظنوا أن المتقدمين كذلك كانوا ، وما علموا أن المتأخرين والمتقدمين ليسوا سواء ، فالمتقدمون طريقتهم بناء الأصول على الفروع ، ثم إعطاء الفرع – أي المسألة الجزئية - إذا جُهل وصفه وتفصيله حكمَ الأصل العام ، كما تقدم بعضُ أمثلته ؛ وأما إذا عُلم من الفرع أيُّ تفصيلٍ مختص به فيكون الاستناد في الحكم عليه : على هذا التفصيل(1) لا على ذلك الإجمال والتعميم .
هذا وإن شئت فقل هنا بدل ما تقدم من التعبير : إن المتقدمين والمتأخرين تماثلوا في المبدأ واختلفوا في التطبيق ، فكل واحد من الطائفتين يبني فروعه على أصوله ، ولكن المبني عليه عند المتقدمين هو الأحكام التفصيلية ، والمبني هو الأصول والضوابط المجملة ؛ وأما المتأخرون فعلى الضد من ذلك ، فقاسوا المتقدمين عليهم فكان ذلك القياس فاسداً عند المحققين بلا منازع ، بل معكوساً ومضاداً للواقع(2)
__________
(1) وبعبارة أخرى فإنه لا يحكم عندهم على مسألة جزئية بحكم أصل عام يشملها إلا عند عدم معرفة ما يقتضي الخروج عن ذلك الحكم ، أي عدم معرفة ما يزيد عن كون تلك المسألة راجعة إلى ذلك الأصل العام رجوعاً جُمْلياً .
(2) من أسباب الانحراف في منهج المتأخرين في الحديث قياسهم طريقة المتقدمين على طريقتهم وقياسهم علم الحديث على علومهم العقلية ، هذا على فرض أنه يوجد علم ديني عقلي ، فالتحقيق أنه لا يوجد علم عقلي إلا أن يكون دنيوياً أو دينياً مبتدعاً .
وأيضاً من أسباب إعراض المتأخرين عن علم الحديث أو عن التبحر فيه وفي تفاصيله : صعوبته وكثرة اشتغالهم بالعلوم العقلية عن العلوم النقلية ، وقلة وثوقهم بعلوم النقل والناس أعداء ما جهلوا ، والدين نقلٌ ليس للعقل فيه إلا مشاركته في معرفة ما يثبت من المنقول وما لا يثبت منه ، ثم في معرفة معنى الثابت وفي استنباط الأحكام من تلك المعاني .(1/22)
.
وهكذا أُتي المتأخرون من عدم فهمهم – أو عدم تيقنهم – أن القواعد والأصول الصحيحة إنما هي في أصلها قائمة على الأحكام الفرعية للأئمة ومتفرعة عنها ومستندة إليها ؛ فالراوي الذي قال فيه النقاد المتقدمون المجتهدون : ( هو ضعيف ) فهم إنما قالوا ذلك فيه بعد أن استقرأوا أحاديثه أو معظمها وتتبعوا طرقها وحكموا عليها ونظروا في كل ما يتعلق بها مما من شأنه أن يعين على التوصل إلى معرفة ما يليق بها من حكم وما تستحقه من وصف ؛ وعند ذلك وصفوا ذلك الراوي بكلمة وجيزة تكون دلالة على حاله في الجملة لتكون أصلاً في أحاديثه ، فيلجأ إلى هذا الأصلِ الناقدُ الذي لم يتمكن - بعد البحث والتنقيب التامين اللذين يستفرغ فيهما جهده - من معرفة تفاصيل حديث بعينه من أحاديث ذلك الراوي ، فيحكم على ذلك الحديث بالضعف ، أي بهذا الحكم العام الأغلبي الأصلي ، لاضطراره إليه .
فالراوي الذي قالوا فيه : ( ضعيف ) ليس معنى قولهم هذا هو أنهم وجدوا كل أحاديثه ضعيفة فوصفوه بالضعف(1) ؛ بل معناه أنهم وجدوه روى أحاديث مستقيمة وأحاديث أخطأ فيها ، وأحاديث لم يتبين أمرها وهي محتملة ، فعلموا أنه إن كان لا بد من وصف حال هذا الراوي بكلمة واحدة أو بعبارة وجيزة ونحوهما فأعدل شيء في حقه هو هذا الاصطلاح ، أعني كلمة ( ضعيف ) وما يؤدي معناها(2)
__________
(1) لا شك أن الراوي الذي كل أحاديثه ضعيفة إنما هو ضعيف جداً ، أي متروك الحديث منكَرهُ .
(2) إن العلوم كلها نشأت أول مرة فروعاً وتفاصيل قبل أن تنشأ أصولاً عامة وقواعد جامعة ، ثم صاغ أهلُها أصولها ، بعد استقراء فروعها ، وذلك ليبدأ المتعلم في تعلمه بالأصول قبل الفروع لأن ذلك أسهل عليه وأنسب في تدرجه ، وكذلك ليقوم الحكم العام مقام الحكم على المسألية الجزئية عند تعذر معرفة حكمها الخاص بها .
وبعبارة أخرى فالتفاصيل سابقة للأحكام العامة في نشأتها ولا بد ، ولكن التفاصيل متأخرة عن الأحكام العامة والأصول الأغلبية في تعلم العلوم وذلك بمقتضى ما اختاره المعلمون لها .
وإن العلم لم يزل يضعف ولم تزل تفاصيله تغيب وتبتعد إلى أن كاد الناس أن يقتصروا من العلوم على أصولها مع ضرب أمثلة من الفروع ، ولذلك ألفتْ المختصرات وسادت وغلبت .
ومما أنبه عليه هنا هو أن تعميم المتأخرين الأصول العامة وندرة الاستثناء منها عندهم لم يكن في القواعد فقط بل كان في المصطلحات أيضاً .(1/23)
.
وبعد هذا أقول لأجل توضيح جملة المعنى المتقدم :
إن أقرب ما يوضح معنى هذا الحكم المجمل – أي الحكم على الراوي بأنه ضعيف - هو أن يقال : إن معناه في اللهجة الدارجة في المدارس هو ( المعدل الدراسي ) ، فمعدل هذا الراوي في أحاديثه هو أنه ضعيف ؛ فهو من جنس المعدلات التي تُمْنَح للطلاب في مدارسهم ؛ فمثلاً الطالب الذي يكون معدله ( جيد ) فهل معنى ذلك أنه جيد في كل علم من العلوم التي اختُبِر فيها في تلك السنة الدراسية ؟ الجواب كما هو معلوم : لا ؛ فوصفه بأنه جيد إنما معناه أنه حصل باعتبار جملة تلك العلوم – لا باعتبار كل واحد منها وحده - على درجة بين الستين والسبعين من مئة درجة ، فهذه الدرجة التي حصل عليها هي المعدل الإجمالي لدرجاته في كل الدروس ؛ فلو جئت إلى تفاصيل درجاته فقد تجده متفوقاً في بعض الدروس وقريباً من التفوق في دروس أخرى وتجده متوسطاً في قسم ثالث منها وضعيفاً أو رديئاً في بقيتها ، بل ربما يكون فاشلاً في درس أو درسين إذ لا يلزم من كون معدله جيداً أن يكون ناجحاً(1) في كل دروسه .
إذا عُلم هذا – بل هو معلوم متواتر - عُلم أن إنكار الطالب أو غيره - كولي أمره – على مدير المدرسة التي حكمت بفشل الطالب ورسوبه بأن ذلك الطالب قد نجح في بعض دروسه : إنكارٌ غير وجيه ولا محل له .
هذا مثال لتقريب المسألة وتوضيحها لبعض الأخوة المبتدئين في دراسة وتصور هذه القضية قضية الفروق بين الطائفتين .
وبعد هذا التمثيل وما تقدم قبله أسأل قائلاً :
__________
(1) ولعل هذا المثال ينطبق - مما نحن بصدده - على حال الراوي الموصوف بأنه صدوق أو الموصوف بأنه حسن الحديث .(1/24)
إذا ضعَّف أحد الأئمة النقاد المتقدمين رجلاً من رجال الحديث ، ثم حكم على حديث من أحاديثه بأنه صحيح ، فهل من العلم الصحيح أو العدل والنصفة أن نردَّ قوله بنحو قولنا : كيف تصحح حديثه وهو راو ضعيف؟! أو أن ننكر عليه أو نستغرب صنيعَه فنقول : كيف ضعفتَ راوياً وصححتَ حديثاً من أحاديثه ؟! أو نحو هذا القول ؟ .
أليس له – أو لمن ينصره – أن يردَّ على الذين يسألون مثل هذين السؤالين بأن يقول متعجباً : ( كيف قبلتم واحداً من قولَيَّ أو حُكمَيَّ ورددتم الآخر ؟! قبلتم تضعيفي للراوي - وهو حكم عام مجملٌ أغلبي بنيْتُه على معرفتي بأحاديثه جملةً وتفصيلاً - ورددتم استثائي من هذا الحكم العام حديثاً بعينه أنا علمتُ أنه أصاب في روايته له وما أخطأ ؛ علمتُ إصابتَه فيه من مصاحبتي له أو من أقوال النقاد المطلعين على تفاصيل أحواله وأحاديثه ، أو من استقرائي لأحواله وأحاديثه من أجل أن أتوصل إلى معرفة أحوال مروياته على التفصيل من جهة ، وأن أتوصل إلى الحكم عليه – أي على الرجل – بكلمة مجملة من جهة أخرى ؟ والحكم على الراوي عندي فرع من الحكم على جملة أحاديثه ، فلِمَ عكستم أنتم المسألة في حقي وحسبتم أو جعلتم حُكْمي على كل حديث من أحاديثه فرعاً من حكمي العام المجمل الذي جعلته له – أي للراوي - من أجل اختصار التعبير عن حاله وتلخيصه ومن أجل أن يكون ذلك التلخيص أصلاً في أحاديثه يصار إليه عند الحاجة ، وليس من أجل أن يكون نصاً في كل حَديثٍ حدِيثٍ منها ؟ ما لكم كيف تقدمون الأثر على العين والغائب على الشاهد والعام على الخاص ؟ ! وما لكم تعارضون بين الحكم العام والحكم الخاص وتريدون إبطال أحدهما بالآخر ، وتريدون الحكم بالتناقض على من حكم بهما ) (1)
__________
(1) أو يقال : له أن يسألهم : ما هو مستندكم في رد قولي في وصف الحديث المذكور بأنه صحيح ؟ وإن سأل ذلك فإنهم سيجيبونه بقولهم : مستندنا في ذلك الرد هو قولك في الراوي إنه ضعيف!! وجوابهم ما تقدم .(1/25)
.
نعم ، كيف يستقيم ذلك الاعتراض ويتجه ذلك الإنكار ونحن ما تعلمنا ضعف هذا الراوي إلا من ذلك الناقد ؛ أفيصح أن نخطّئ مَن علم من التفاصيل ما لم نعلم مجمله إلا منه؟! إن هذا لهو موضع المثل الشهير :
وكنت أعلمه الرماية كل يوم *** فلما اشتد ساعده رماني
وإذا تكلم المرء في غير فنه أتى بالعجائب .
وأذنْ لي أيها القارئ أن أكرر تكريراً آخر – لأجل بيان أو توكيد هذا المعنى الخطير الذي صار غريباً – فأقول : إن المبدأ وأصل الأصول عند أئمة العلل والتفصيل هي التفاصيل ، وإن أصل الأصول عند علماء القواعد والأصول هي تلك الأصول العامة والقواعد الواسعة عليها يجمدون وعنها يدافعون ؛ ولا يستوي هذان المنهجان ؛ وإن الإنكار على عالم العلل الذي ضعف راوياً وقَبِلَ – مع ذلك - بعض حديثه إنما هو يشبه من كل الوجوه أو من وجوه كثيرةٍ الإنكارَ على مدير المدرسة الذي حكم بفشل الطالب ورسوبه بأن ذلك الطالب قد نجح في بعض دروسه ، ولا شك أن مِثل هذا الإنكار باطل وظالم يدفعه العرف ويستسقمه العقل ، والله المستعان .
الفرق الثاني : وهو الفرق بين الطائفتين في مقدار الإصابة والخطأ في قواعدهما الكبرى وأصولهما العامة :
بين الطائفتين من هذه الحيثية فرق كبير ومباينةٌ بيِّنةٌ لمن تدبر شأن الطائفتين ، والأحكم هنا والأعلم والأسلم طريقةً من الطائفتين إنما هي الطائفة الأولى ، ودونك شَرْح ذلك :
إن الخطأ الذي وقعت فيه الطائفة الثانية لم يقف عند ما سبق ذكره ، وهو كثرة الجمود على القواعد والأصول حتى عند عدم الحاجة إليها ؛ وتقديمها على التفاصيل المغنية عنها والمتفوقة عليها حتى عند وضوح تلك التفاصيل ؛ بل تعداه إلى أمرٍ آخرَ ، هو أن بعض تلك القواعد والأصول التي إليها يستندون وعليها يجمدون تبيَّنَ أنها مرجوحة أو فيها خلل ، فلا تسلم أمام النقد والتحقيق ؛ وهذه أمثلة لما هو منتقَدٌ من أصولهم وقواعدهم .
المثال الأول :(1/26)
حصْر معنى النكارة في النكارة الشديدة الواقعة في المعنى ؛ وبهذا لم يعد عندهم أي معنى نقدي لنكارة السند ولا للغرابة والتفرد ؛ وإنما صار مصطلحا ( الفرد ) و ( الغريب ) وصفين إحصائيين لا مقصد لهما ؛ قال الشيخ المحقق إبراهيم اللاحم حفظه الله في كتابه ( الاتصال والانقطاع ) ( ص455 ) : ( وغير خافٍ على المشتغلين بهذا العلم أن من أهم الأبواب التي دخل منها الضعف إلى تصحيح الأحاديث وتضعيفها قضية الأسانيد المفردة ، والحكم عليها ؛ فقد حُكم الآن على أسانيد كثيرة جداً بالصحة لم تكن معروفة ، فلا فرق عند كثير من الباحثين بين إسناد تداوله الأئمة في عصرهم وأخرجوه في كتبهم ، وبين إسناد عَثَرَ عليه الباحث في أحد ( معاجم الطبراني ) أو في ( الكامل ) لابن عدي أو في بعض كتب الغرائب ، بل حُكم على أسانيد بالصحة قد ضعفها الأئمة ، وفرغوا منها ، وكأننا ننشئ علماً جديداً ) .
المثال الثاني :
حملهم – في الغالب – مصطلحات كل العلماء على معان موحدة مشتركة ؛ ويجمدون عليها أيضاً ؛ وهي تلك المعاني الشائعة عند المتأخرين ؛ وهذا غير صحيح ؛ وسبق أن ذكرت في ( المقدمة التأصيلية ) كلام عدد من العلماء ممن نبه إلى خطأ هذا الفهم وخطر هذا المسلك .
المثال الثالث :
المبالغة في وصف بعض الأئمة بالتشدد ؛ ومن ثَمَّ راح أولئك المبالغون ومن تبعهم يعاملون أحكام أولئك الأئمة النقدية على هذا الأساس ؛ أي معتبرين ذلك الوصف عند الترجيح بين أقوال العلماء ؛ ومن أولئك الذين وصفوهم بالتشدد هؤلاء الأئمة الكبار : شعبة وتلميذاه يحيى بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي ، وابن معين وأبو حاتم الرازي والنَّسائي .
المثال الرابع :(1/27)
عدم إهدارهم شيئاً من كلام النقاد ؛ مع أن جملة منها تستحق الإهدار ؛ إما إطلاقاً وإما تقييداً بالمخالفة وظهور عدم خبرة الناقد بالراوي المنتقَد ؛ فيتكلفون – أعني أصحاب الطائفة الثانية - عند الحكم على الراوي الجمعَ بين أقوال الأئمة المطلعين الحاذقين وأقوال المتكلفين المتعالمين أو المتسرعين الواهمين ؛ وهذا يوجب الخلل في الحكم المستخلص ، وممن كان ينتهج هذا السبيل الحافظُ ابن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى(1)
__________
(1) ألزم ابن حجر نفسه في كتابه ( تقريب التهذيب ) في أحيان كثيرة باعتبار جميع ما قيل في الراوي من نقد ، ومحاولة الجمع أو التوسط أو التوفيق بين كل تلك الأقوال ولو كان بعضها مما لا يستحق الالتفات إليه ولا يساوي ذكره .
ولعل هذه الطريقة سرت وتسربت إليه من آثار المدارس الفقهية المذهبية عند المتأخرين ، فإنك ترى أحدهم إذا ذكر في شرح من شروحه أو كتاب من كتبه المفصلة مسألة من مسائل الفقه لم تسمح له نفسه بمغادرة شيء من أقوال علماء مذهبه في تلك المسألة ولو كانت واضحة البطلان أو كان قائلها من صغار علماء المذهب ومتأخريهم ، ثم تراه يُلزمُ نفسه بالإجابة عن جميع الأمور الواردة على ما يقرره ولو كانت تلك الأمور واهية ظاهرة السقوط ، أو تراه يتكلف الجمع أو التوفيق بين كل الأقوال أو يتكلف توجيه الشاذ المنكر منها ولو كان غنياً عن حكايته وتطويل المقام به ، هذا شأن أصحاب المطولات من الشروح والحواشي من متأخرى فقهاء المذاهب .
لقد أنزل ابن حجر كثيراً من الثقات الذين حقهم التوثيق التام إلى رتبة أدنى من ذلك بسبب كلمة قالها بعض النقاد الواهمين فيها أو المتسرعين الذين عادتهم المجازفة أو الضعفاء الذين لا يلتفت إلى كلامهم إذا خالفوا فيه بعض الأئمة فضلاً عن كلامهم الذي يخالفون فيه كثيراً منهم ؛ ومن راجع ( تحرير التقريب ) وجد على ابن حجر كثيراً من التعقبات التي تدخل في هذا الباب ، وقد استغنيت بما هناك عن ذكر أمثلة لهذه المسألة .(1/28)
.
وأما الطائفة الأولى فكان لها في هذا المقام شأن آخر ؛ قال ابن أبي حاتم في ( الجرح والتعديل ) ( 1/1/38 ) : ( قصدنا بحكايتنا الجرح والتعديل إلى العارفين به العالمين له ، متأخراً بعد متقدم ، إلى أن انتهت بنا الحكاية إلى أبي وأبي زرعة رحمهما الله ، ولم نحكِ عن قوم قد تكلموا في ذلك ، لقلة معرفتهم به ) .
وقال العلامة المعلمي في مقدمته لكتاب ( الجرح والتعديل ) : ( وقد كان من أكابر المحدثين وأجلتهم من يتكلم في الرواة فلا يُعوَّلُ عليه ولا يُلتَفَتُ إليه ) .
المثال الخامس :
تصحيح الحديث الضعيف في سنده بتلقي الأمة له بالقبول ( كما يدعون ) ، مع أنه يتبين عند التحقيق أن الأمة - أو أكثرها - إنما أخذت - ذلك المعنى من دليل آخر غير ذلك الحديث الضعيف ، علم ذلك الدليل من علمه وجهله من جهله ؛ وأما القول بأنها تلقت الحديث نفسه فمحض دعوى ؛ ولو تلقته الأمة بالقبول في عصورها الأولى أما كان في ثقاتها من يرويه ، أو يروي ما يقوم مقامه من أحاديث صحيحة في الباب ، ويحرص على نشره ، فيتهيأ لحفاظ المتأخرين أن يقفوا له على أسانيد صحيحة ؛ أو - في الأقل - على إسناد واحد صحيح ، أو حتى حسن؟!
المثال السادس : اعتماد الذين جاءوا بعد ابن حجر – أو أكثرهم – على كتابه ( تقريب التهذيب ) اعتماداً كلياً أو شبه كلي ؛ وهؤلاء من هذه الطائفة الثانية قطعاً .
المثال السابع : أنهم جعلوا الأصل في الأحاديث الضعيفة الواردة من أكثر من طريق ضعيفة : أنها تتقوى بتلك الطرق ؛ وفي التوسع في هذا الأصل نظر بل خطر ؛ بل لو عورض بضده لربما كان ذلك الضد هو الأرجح ؛ أو على الأقل يكون الأصل الصحيح في هذه القضية التوقف إلا بعد النظر والتدبر في هذه المسألة الخطيرة من قِبل أهل الحديث الذين هم أهله ؛ وما أقلهم قديماً وما أندرهم حديثاً .(1/29)
المثال الثامن : تقوية الراوي الذي يوثقه ابن حبان بكثرة الرواة عنه ولو كانوا من غير المتثبتين ؛ بل ولو لم يرووا عنه إلا حديثاً واحداً أو حديثين أو ثلاثة أحاديث .
المثال التاسع : الحكم على طائفة كبيرة من الأحاديث بأنها على شرط الشيخين أو أحدهما ؛ مع أن الأمر دقيق والمقام وعر جداً ؛ وفي هذه المسألة تفصيل ليس هذا موضعه .
المثال العاشر : لا يحكمون على الحديث بالوضع إلا بشروط شديدة مثل أن يكون في سنده راو وضاع يتفرد به ؛ ويكون – مع ذلك – متنُه منكراً جداً ؛ وهذا خلاف صنيع الطائفة الأولى .
وهذه الأمثلة إنما هي قليل من كثير ؛ وإنما ذكرتها لتكون إشارة إلى ما وراءها ؛ والآن إلى الفرق الآخر .
الفرق الثالث :
وأما ثالث الفروق فهو الفرق بين الطائفتين في سعة الاطلاع على القواعد الفرعية والضوابط الجزئية والتفاصيل وتفاصيلها .
وهذا الفرق قد تقدمت الإشارة الواضحة إلى معناه ؛ بل هو في الحقيقة أصل أكثر الفروق الأخرى وأساسها وسبب نشأتها ، إن لم يكن أصلها كلها ؛ وهو زبدة هذا المبحث ، وعليه يدل عنوانه ؛ وحوله تدور أركانه ؛ فإن علماء العلل ، وهم أئمة الفن على الحقيقة ، قد بلغوا من معرفة التفاصيل مبلغاً عجيباً ؛ ولولا ذلك لما تيسر لهم تعليل الأحاديث التي ظاهرها الصحة ولا تصحيح الأحاديث التي ظاهرها الضعف ، ولا الحكم على كل راو بكلمة واحدة معبرة عن جملة حاله ومتوسط أمره ؛ ولولا ذلك أيضاً لما خرجوا عن القواعد والضوابط في مئات بل آلاف من المرات ؛ ولولا ذلك أيضاً لما خالفوا من تقدمهم أو عاصرهم من الأئمة الجهابذة الأثبات ؛ فهم المجتهدون حقاً وهم العلماء قطعاً ؛ ورحم الله داود بن علي الظاهري إذ قال : ( من لم يعرف حديث رسول الله [صلى الله عليه وسلم] بعد سماعه ولم يميز بين صحيحه وسقيمه فليس بعالم ) (1) .
__________
(1) أسنده إليه الخطيب في ( الجامع ) ( 2/450 ) .(1/30)
إني لا أريد أن أحشر في هذا المبحث الوجيز أمثلة لعظمة حفظ علماء العلل وسعة اطلاعهم وغزارة علمهم وكمال فهمهم ؛ لأن الطريق الذي سلكته في هذا المبحث أضيق من أن يتسع لذلك ؛ ولأن تلك المناقب معروفة بل هي مشتهرة متواترة ؛ وقد ذكرها جملةً أو تفصيلاً وتمثيلاً كثير من المؤلفين قديماً وحديثاً ، كابن أبي حاتم في ( تقدمة الجرح والتعديل ) ، وأصحاب التواريخ الموسعة كالخطيب وابن عساكر والذهبي في تواريخهم ، وأصحاب كتب السير والطبقات والرجال ، كالذهبي في ( سير أعلام النبلاء ) و ( تذكرة الحفاظ ) والمزي في ( تهذيب الكمال ) ، وأشار إليها أصحاب كتب المصطلح كالخطيب في ( الكفاية ) و ( الجامع ) ، وابن الصلاح ومن تابعهما ؛ وغيرهم كثير جداً .
وأما علماء الطائفة الثانية فليسوا كذلك في معرفة الجزئيات والتفاصيل وحفظها ؛ فلا يُعلم أحدٌ خالف طريقة علماء العلل وتأثر ببعض طريقة المتكلمين ومشى على طريقة محدثي الفقهاء ، إلا وهو دون علماء العلل ، بكثير ، في كل – أو معظم – مناقبهم وخصائصهم ، التي أهلتهم لحفظ تفاصيل هذا الفن ومعرفتها وبيانها بكلام محققٍ دقيق محكم مصيب أو قريب ، حتى كأنهم أُلهِموه إلهاماً ؛ أو كأنهم صحبوا كل راوٍ أعواماً ؛ فهم يخبرون عن كل راو إخبار من أبصره ، بل من عايشه وعاشره .(1/31)
وكذلك شأنهم في نقدهم الأحاديث ؛ فلَكأنهم كانوا يراقبون الرواة حال السماع وفي زمن التحمل وحال الأداء ؛ فما أعظم علمهم وما أشد حاجتنا إليه وما أعظم الثقة به وما أحسن الركون إليه والاكتفاء به ؛ فرحمهم الله تعالى ، كم من سر حديثي كان خفياً جداً فأذاعوه ، وكم من ستر غليظ لا تكشفه الرياح ولا تخرقه الرماح فكشفوه ؛ فالحمد لله الذي حفظ بهم دينه ونصر بهم هذه الأمة(1) .
الفرق الرابع :
أما الفرق الرابع فهو الفرق في مقدار الخطأ في المحفوظ أو الموقوف عليه من هذه التفاصيل المذكورة في الفرق الثالث ، أو التي هي موضوع ذلك الفرق .
فإذن الفرق الرابع يكون بالنسبة للفروع والتفاصيل نظير الفرق الثاني بالنسبة للقواعد والأصول .
فكما أن أصحاب الطائفة الثانية مشوا على جملة من الأصول العامة المرجوحة أو التي لا تصح أو التي تحتمل أن تكون غير صحيحة ؛ فكذلك شأنهم في كثير من التفاصيل ؛ وسواء في ذلك التفاصيل التي هي أحكام على الرواة والأحاديث وقلد بعضهم بعضاً فيها ، والتفاصيل التي هي أعم من ذلك والتي كانت مادة للاستنباط منها والتفريع عليها كبعض الضوابط الضيقة ؛ وأرى أنه لا بد لتوضيح بعض هذا الكلام من أن أمثل له ببعض المسائل فدونك هذه المسائل أو الأمثلة :
المسألة الأولى : لقد اعتمدت الطائفة الثانية – فيما اعتمدته – جملة من أقوال النقاد في التفاصيل والجزئيات مع أن تلك الأقوال لم تثبت عنهم بسبب ضعف أسانيد تلك الأقوال إليهم ، أعني إلى النقاد ، أو بسبب علة أو شذوذ واقع في السند إلى ذلك الناقد وإن كان ظاهر ذلك السند الصحة ، أو بسبب التصحيف والخلل في نسخ الكتب وطبعها .
__________
(1) من أسباب قلة الحفظ عند المتأخرين : نقص البركة في العقول والأفهام ، وكثرة انشغالهم بالدنيا من جهة وبالعلوم العقلية من جهة أخرى ، فأعيتهم السنن أن يحفظوها ويحفظوا تفاصيل نقدها .(1/32)
مثال ذلك أن يُنسب إلى الناقد قولٌ في راو بعينه ، وهو لم يُرِدْه بذلك الكلام ، بل أراد به راوياً آخر يشاركه في اسمه ، ومن تتبع ذلك في كتب الرجال وجد له أمثلة كثيرة .
المسألة الثانية : وقع في كلام أكثر المتأخرين ، منهم الحافظان الكبيران الذهبي وابن حجر ، في نقلهم لكلام النقاد غير قليل من الاختصار الذي لا يخلو من إخلال في كثير من الأحيان ، وغير قليل من نقل كلام النقاد بمعناه دون لفظه ، ولكن مع الإخلال أيضاً ، ومع ذلك كان جُلُّ اعتماد الناس بعد الحافظين المذكورين - رحمهما الله تعالى - في هذا الفن على كتبهما ، كالميزان ولسانه والكاشف وتهذيب التهذيب وتقريبه(1) ، ولم يفطنوا إلى ذلك إلا قليلاً .
فإذا أضفتَ إلى ذلك أخطاءَ الناسخين والطابعين – وما أكثرها في كتب الرجال – تحصل عندك من مجموع ذلك شيءٌ كثيرٌ يجلب كثيراً من الحسرات والغموم(2) .
المسألة الثالثة : مِن أمثلة خَلَلِ أو عِلل علم الطائفة الثانية – في الجملة - بالتفاصيل : أن بعض النقاد المتقدمين تكلم في بعض الرواة بكلام خاص أو مقيد فعممه بعضُ نَقَلته أو أطلقوه ، وصار عند الطائفة الثانية عاماً أو مطلقاً ، وهو في الحقيقة - كما تقدم - مختصٌّ ببعض مرويات ذلك الراوي أو ببعض أحواله وشؤونه ؛ وهذا خطأ في تلقي التفاصيل .
__________
(1) وأما الحافظ المزي فكان له رحمه الله تعالى شأنٌ آخر ، إنه ينقل بالنص ، وهو مؤلف جامع بارع ، فما أنفع وأروع كتابه ( تهذيب الكمال ) فجزاه الله عن الأمة خير الجزاء وأوفره .
(2) وقع في كثير من كتب الرجال المطبوعة وبعض كتب الرجال المخطوطة كثير من التصحيفات المؤثرة في باب الجرح والتعديل ؛ مثل أن تتصحف ( وثقه أحمد العجلي ) إلى ( وثقه أحمد والعجلي ) ، وجاز ذلك على الطائفة الثانية في الغالب ؛ وذلك لأنها أبعد عن التحقيق الكامل والتدقيق الشامل إلا في أحوال نادرة .(1/33)
المسألة الرابعة : ومما يبين النقصَ في علم الطائفة الثانية بالتفاصيل وأنها كانت فيه دون الطائفة الأولى التي كانت أحقَّ بها وأهلَها أنه قد ضاعت كثير من الأصول في العلل والجرح والتعديل ، فلم تطلها أيدي الطائفة الثانية ، فغاب عنها علمُها ، أو اعتمدت في جملة منها على الوسائط التي نَقَلت عنها ، وقد وقع في هذه الوسائط – في نقلها عن تلك الأصول - من الخلل والغلط والسقط والتصحيف ما وقع .
المسألة الخامسة : هناك جملة كبيرة من القواعد الفرعية والضوابط الجزئية التي اعتمدتها الطائفة الثانية ولكنها كانت فيها على غير نهج الاستقامة ، نظير ما وقع لها في حق القواعد الكلية ، وقد تقدم الكلام عليها ؛ مثل وصفهم جماعة من الرواة بالتدليس مع أن الذي وقع منهم إنما هو الإرسال الخفي فقط ، ومثل قولهم ( كل من روى عنه شعبة فهو ثقة ) أو قولهم ( أبو داود السجستاني لا يروي إلا عن ثقة ) وقولهم ( شيوخ البخاري في صحيحه كلهم ثقات ) .
المسألة السادسة : كثير من عبارات كتب العلل والرجال وكثير من إشاراتها وتنبيهاتها وتقييداتها لم يفهمها كثير من أهل الطائفة الثانية ، ولا سيما من تأخر منهم ، على الوجه الصحيح ، فأخطأ هؤلاء في تلقي تلك التفاصيل عن أصولها .
وأما الفرق الخامس :
وهو الفرق بين الطائفتين في مقدار القدرة على الاستقراء الصحيح ومقدار المكنة من التفريع الصحيح على ذلك الاستقراء ، ومدى التأهل للتطبيق الصحيح والاستنباط العميق والملاحظة الدقيقة ؛ فأقول في شرح هذا الفرق مستعيناً بالله :
هذا الفرق يتعلق بقوة الفهم ودقة الملاحظة وحسن تصور المسألة أكثر من تعلقه بأي شيء آخر ؛ ولبيان بعض حقيقة هذا الفرق أقول :(1/34)
العالم لا يكون عالماً إلا إذا كان عنده نصيب كاف من ثلاثة أنواع من القوة : قوة حافظة ، وقوة مستقرئة ، وقوة مستنبطة ؛ والعلماء يتفاوتون في علمهم بحسب تفاوتهم في هذه الأنواع الثلاثة من القوة الذهنية ؛ وبحسب همتهم وجدهم وحرصهم وصدقهم في الطلب ؛ ويبقى قبل ذلك كله - ومعه وبعده - توفيقُ الله تعالى .
وقد سبق الكلام في بعض هذه المسائل ، ولكن أريد أن أتكلم هنا على ما يتعلق بقوة الاستنباط والتفريع واستكشاف المخفي وقَيْسِ الغائب على الشاهد .
لا يختلف اثنان من أهل المعرفة والإنصاف أن من قرأ تراجم علماء العلل وجد فيهم نباهة عظيمة وذكاء يكاد يكون خارقاً للعادة ؛ وكذلك يتيقن ذلك من قرأ أجوبتهم على ما يُسألون عنه من الأحاديث ؛ أو طريقتهم في تعليلها والحكم عليها بما تستحقه من النعوت ؛ ومن أراد الوقوف على طرف من ذلك – من المتأهلين لفهم كلامهم ولو في الجملة – فليطالع ( العلل ) لابن أبي حاتم و ( العلل ومعرفة الرجال ) للإمام أحمد ودفاع ابن حجر عن منهج علامة العلل الإمام البخاري فيما كتبه – أعني ابن حجر – في ( فتح الباري ) ومقدمته ( هدي الساري ) من توجيهات لتصرفات البخاري في إيراده أحاديث أعلها بعض العلماء أو ذكروا أن غيرها ، مما لم يخرجه ، أصح منها ، أو في تركه إخراج بعض الرواة أو الأحاديث التي يظهر أنها على شرطه ؛ وكذلك بقية إشارات البخاري وتنبيهاته واختياراته وسائر مسالكه في كتابه ( الصحيح ) ومن ذلك طريقته في تبويبه وترتيبه واختصارِه وتهذيبِه .
ثم إن قوة الاستقراء وسرعته وصحته تأتي من قوة الحفظ وكثرة مدارسة المحفوظ والحرص على ترتيبه في الذهن بطريقة يسهل معها استحضار الحافظ لما يريد استحضاره عندما يريد ؛ ولقد كان لعلماء العلل من ذلك النصيبُ الأوفر بلا شك .(1/35)
وعلى فرض تساوي رجلين من أهل العلم في قوة الحفظ وسعة المحفوظ ، وفي قوة الاستقراء وصحته ، فإن لنا أن نتصور أن بينهما فرقاً ما في قوة الاستنباط وسرعته وجودته وصحته فإن هذه المعاني الأربعة ونحوها إنما تستمد من قوة الذكاء وسرعة البديهة وكمال الحرص وحسن التصور للمسائل وصحة أصولها وقواعدها ومتانة تلك الأصول والقواعد وكثرة تفصيلها وتحليلها ، وسرعة استحضار تلك القواعد وتلك التفاصيل ، أعني القواعد والضوابط الفرعية فضلاً عن الأمهات ؛ والناس يتفاوتون في ذلك تفاوتاً لا ينحصر .
وهؤلاء العلماء المبرزون في معرفة الأحاديث وعللها كان أمرهم في هذه المسائل عجباً ؛ فراجع تراجمهم في أي كتاب من كتب تواريخ المحدثين غير المختصرة - ولتأخذ مثالاً على ذلك ( تذكرة الحفاظ ) للحافظ الذهبي - لتقف على بعض ما وَصف المحدثون والمؤرخون به هذه الطائفة من أهل العلم بالحديث ، أعني الطائفة الأولى ، طائفة التفصيل والتعليل ؛ فهل تجد في الطائفة الثانية كبير أحد ممن يدانيهم في ذلك ؛ اللهم إلا عالماً تخاله أنت من الثانية وهو في الحقيقة من الأولى أو هو إليها أقرب .
ومن انحراف أو قصور الطائفة الثانية في الاستقراء أنها تقوم - في كثير من الأحيان - عند استقراء أحاديث الراوي باستقراء كل ما روي عنه وتتوسع في بناء الحكم على أساس من تلك المرويات ، مع احتمال أن كثيراً من ذلك المروي لا يصح عن ذلك الراوي ، وإنما يكون قد أَخطأَ عليه فيه الرواةُ عنه ، عمداً أو وهماً ، وبذلك تختلف الأحكام على الرواة بين الطائفتين ؛ وأما الطائفة الأولى فهي في هذا الباب – بل وسائر أبواب النقد – أكثر علماً وأدق فهماً وأكمل تثبتاً وأعمق وأبعد نظراً ؛ فلا تعتبر حال الراوي إلا بما ترى أنه قد ثبت أنه رواه ، دون ما روي عنه مما لم يثبت إسناده إليه .
الفرق السادس :(1/36)
الفرق السادس بين طائفة العلل والتفاصيل وطائفة الجمل والأصول العامة هو الفرق بينهما من جهة الجرأة والورع في نقد الأحاديث .
والطائفة الثانية – في الجملة - أجرأ في النقد والإفتاء بلا نزاع ، وذلك راجع إلى أمور أهمها هذه الثلاثة :
الأول : أن المتأخرين في جملتهم أجرأ على الافتاء والحكم والكلام في مسائل الدين من المتأخرين ، فانسحب ذلك على الكلام في علم الحديث .
الثاني : أن علم الحديث لم يعد شأنه بين المتأخرين عظيماً كشأنه بين المتقدمين فأولئك كانوا وقافين عند كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لا ردونه بشبه وحجج واهية ، ولا يؤولونه ولا يحملونه ما لا يحتمل ولا يقدمون عليه شيئاً من القواعد المنطقية والأصول العقلية ، فاضطرهم ذلك التعظيم له إلى تعظيم نقد المرويات الحديثية والشعور بخطورة المسألة ، ولم يكن شأن المتأخرين في ذلك كذلك ، فهان عليهم هذا العلم الذي كان كثير منهم يتعلمه للدفاع عن مذهبه الفقهي الذي يتعصب له أو لتكتمل عنده العلوم الشرعية ( بزعمه ) أو لمقاصد أخرى ، بل كان منهم من يحفظ أو يقرأ صحيح البخاري للتبرك به فقط ! وأما العمل به فيقول : فقهاؤنا الذين قلدناهم أعلم بالحديث منا فلماذا ندرس هذا العلم أو نبني عليه ، بل قد يقول : هم أعلم بالحديث ومعانيه من البخاري فليس بنا حاجة إلى علم البخاري ! .
الثالث : أنه كلما قل علم الإنسان - من غير العلماء المحققين العاملين – في باب من أبواب العلم ازدادت جرأته على الخوض فيه والكلام في مسائله ، وهذا من عجائب طبائع الناس ، فالمتأخرون قل نصيبهم من علم الحديث وعلله فزاد – تبعاً لذلك – حظهم من الجرأة فيه .
وبسبب ما تقدم صار المتأخرون يعدون نقد الحديث شيئاً سهلاً يتيسر لكثير من الطلبة والشداة الراغبين ؛ ولو قل عناؤهم في هذا الفن ونزر نصيبهم من فهمه .
الفرق السابع :
هذا الفرق راجع إلى الاجتهاد والتقليد في نقد الأحاديث .(1/37)
المتقدمون من نقاد الآثار هم في جملتهم أهل اجتهاد ، أو هم إليه أقرب ، والمتأخرون من المحدثين والمشتغلين بالحديث هم في جملتهم أهل تقليد ، أو هم إليه أقرب ؛ ولا ريب أن المجتهد يكون أبصر في فنه وأعلم به وأقدر على كشف ما يلتبس من مسائله ويُشكل من قضاياه ، والمجتهدون هم العلماء على الحقيقة ، وأما المقلدون فالمقلد ليس بعالمٍ حال تقليده ، نعم يتفاوت المقلدون في طريقة تقليدهم وطريقة اختيارهم لمن يقلدونه ومقدار المسائل التي يقلدون فيها ، ولكن التقليد في أصله ليس بعلمٍ ولا هو مرتبة كمال ، وإنما هو أمر يُصار إليه للحاجة وله شروط وآداب مذكورة في مواضعها من كتب العلماء .
وهذا الفرق يدلك – وحده فكيف وقد اجتمع إليه كل ما تقدم من الفروق - على أن الثقة بعلم الأئمة لمتقدمين أكبر منها بكثير من علم المتأخرين ، وأنه لا بد من ترجيح طريقتهم وتصحيح منهاجهم والسير على آثارهم والنسج – عند القدرة – على منوالهم ، والله الموفق .
*****
وأريد أن أنبه في ختام هذا البحث إلى مسائل أستدفع بها ما قد يقع من أن يُفهم بعضُ كلامي المتقدم فهماً مغلوطاً فيه فأقول :
إن ما ورد من تعبيري عن الطائفة الثانية بكلمة ( المتأخرين ) وغيرها من التسميات المرادفة لهذه الكلمة أو المقاربة لها ، ليس معناه أن كل المتأخرين مقصرون كثيراً ومخالفون مخالفات بينة لمنهج المتقدمين ، ولكنها أسماء تغليبية أو اصطلاحية ألجأني إليها إرادة اختصار العبارة .
وأيضاً ليس معنى هذا البحث أنه لا ينتفع بعلم المتأخرين ، بل لقد دعا كثير من المتأخرين والمعاصرين إلى منهج المتقدمين ومشى كثير منهم أحياناً على طريقتهم في نقد الأحاديث ، ولا يُستغنى بحال من الأحوال عن جهود المتأخرين والمعاصرين في خدمة هذا العلم ولا سيما جمعهم لأشتاته ومتفرقاته ونقلهم لعلوم المتقدمين وتحقيقها ، ولكن الحَكَم أولاً وآخراً هو الحَكَم العدل أعني منهج المتقدمين .(1/38)
وكذلك ليس معنى الثناء على منهج المتقدمين في الجملة أنهم معصومون أو أنهم لا يختلفون ، بل هو ثناء إجمالي وتزكية عامة ، إنه ثناء على منهجهم وأصوله ، وليس تصحيحاً لكل حُكم قالوه ، وهذا مما لا يخفى ولكني نبهت عليه احتياطاً ، والله المستعان .
إنَّ جَعْل العلم في أصول عامة وضوابط جامعة ليس بدعة ولا خطأً ، بل هو شيء مطلوب ونافع ، ولكن الخطأ والانحراف عن سَنن السلف في هذا الباب إنما يكون بالاستغناء بتلك الأصول والضوابط عن تفاصيل المسائل الداخلة فيها واستثناءاتها .
ليس من هذا الباب أعني ذم الاستناد الكلي إلى القواعد والأصول الأخذ بضوابط المحدثين الاستقرائية المنضبطة كقولهم ( لا يصح في هذا الباب حديث ) ، أو : ( لا يصح فيه إلا حديثان ) ، وقولهم ( كل من اسمه فلان فهو ضعيف ) ، وقولهم ( كل ما رواه زيد عن عمرو فهو مسموع له منه ) ؛ فهذه ونحوها أصول استقرائية منضبطة وليست أصولاً تقريبية إجمالية .
انتهت هذه المقدمة التأصيلية ، ولكن قبل أن أبدأ بذكر التعاريف ومعاني المصطلحات أريد أن أذكر هنا أمرين اثنين – فلست أرضى أن يفوتني ذكرهما في مثل هذا الكتاب :
أما أولهما فتحذير من يُطلب حذرهم من بعض طلبة العلم وشُداته ومحبيه من أن يدخلوا فيما لا قِبل لهم به أو يتسورا ما لا يصلونه أو لا يثبتون عليه أو يدخلوا بآرائهم أو أهوائهم أو غرورهم بما هم دونه بمراتب ، أو بما هو ليس من فنهم اصلاً ، مع بيان سوء مآل هذا الأمر وشدة ضرره .
وأما ثانيهما فتحذير من الطعن في الناس ولا سيما من كان من العلماء وطلبة العلم ودعاة السنة ونحوهم ، بغير حق ولا حكمة ، وأنه يجب أن نفرق بين التحذير المشروع والغيبة المحرمة ، ويجب كذلك أن نفْصل بين النصيحة والتعيير ، ويجب قبل ذلك أن نميز التحذير المتضمن لمفسدة راجحة من التحذير المتضمن لمصلحة راجحة ، ويجب قبل هذا كله أن نفرق بين ما أُريد به وجه الله وما أريد به غيرُه .(1/39)
فإليك هذين الفصلين وإياك إياك أن تزهد في مثلهما :
فصل في وجوب وقوف طالب العلم الشرعي عند حدوده وانتهائه إلى ما علم
قال السمعاني في ( قواطع الأدلة ) ( 3/7-9 ) في ثنايا ردٍّ له على بعض أهل الرأي والكلام :
( واعلم أن عندنا الخبر الصحيح ما حكم أهل الحديث بصحته ؛ والذي قال [أي ذلك الرجل] من المشهور والغريب فلا ننكر أن في الأخبار ما هو غريب ومنها ما هو مشهور ، ولكن لا يُعرف المشهور من الغريب باشتهاره عند الفقهاء وعدم اشتهاره عندهم ، لأنه رُبَّ خبر اشتهر عند الفقهاء وأهلُ الحديث لا يحكمون بصحته ، وهو مثل ما يروون "لا وصية لوارث " ، ويروون " لا تجتمع أمتي على الضلالة " ، ويروون "أنت ومالك لأبيك " ، ويروون "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد" ، ويروون "المكاتب عبدٌ ما بقي عليه درهم" ؛ وهذه أخبار لم يحكم أهل الحديث بصحة شيء منها .
ورب خبر كان غريباً عند الفقهاء وقد حكم أهل الصنعة بصحته ) .
إلى أن قال ( 3/11 ) : ( وأما الغريب الذي لا يستنكر والغريب الذي يستنكر فهو أيضاً إلى أهل الصنعة ) .
وقال عقب ذلك :
( وأنا أعلم قطعاً أنه لم يكن له في هذا العلم حظ ، أعني العلم بصحيح الأخبار وسقيمها ، وبمشهور الأخبار وغرائبها ، ومنكراتها وغير منكراتها ، لأن هذا أمر يدور على معرفة الرواة ولا يمكن أن يقترب من مثل هذا بالذكاء والفطنة ، فكان الأولى به عفا الله عنه أن يترك الخوضَ في هذا الفن ويُحيله على أهله ، فإنَّ من خاض فيما ليس من شأنه فأقلّ ما يصيبه افتضاحُه عند أهله ، وليست العبرة بقبول الجهلة وإنَّ لكل ساقطةٍ لاقطة ، ولكلِّ ضالةٍ ناشد ، ولكن العبرة في كل علم بأهله الأدنين ، ولكل عمل رجال ، فينبغي أن يسلَّم لهم ذلك ) .(1/40)
وللأديب النقادة أبي القاسم الحسن بن بشر الآمدي البصري المتوفى في عام ( 370هـ ) في كتابه ( الموازنة بين الطائيين أبي تمام والبحتري ) ( ص372-375 ) كلام نفيس قيم ماتع في بيان شروط طلبة النقد الأدبي ونحوها ، ومعظم ذلك الكلام يصلح أن يمشي على ضوئه أو ينتفع به كل طالب علم في هذه الأعصر ، بل ما أليق معاني كلامه ذاك بمن أراد أن يشارك في علم الحديث خاصةً ويدخل فيه ؛ وسأنقل لك أواخره ولولا تجنب الإطالة لنقلته كله ؛ قال :
( ثم إني أقول بعد ذلك : لعلك - أكرمك الله - اغتررتَ بأن شارفتَ شيئاً من تقسيمات المنطق ، وجُملاً من الكلام والجدال ، أو علمْتَ أبواباً من الحلال والحرام ، أو حفظتَ صَدْراً من اللغة ، أو اطلعتَ على بعض مقاييس العربية ؛ وأنك لما أخذتَ بطَرَف نوع من هذه الأنواع معاناةً ومزاولةً ومتَّصِلَ عنايةٍ ، فتوحدتَ فيه ومُيِّزتَ : ظننتَ أن كل ما لم تلابسه من العلوم ولم تزاوله يجري ذلك المجرى ، وأنك متى تعرضتَ له وأمررتَ قَريحتكَ عليه نفذَتْ فيه ، وكشفتْ لك عن معانيه ؛ وهيهات! لقد ظننتَ باطلاً ورمتَ عسيراً ، لأن العلم – أيَّ نوعٍ كان – لا يدركه طالبه إلا بالانقطاع إليه والإكباب عليه والجد فيه والحرص على معرفة أسراره وغوامضه ؛ ثم قد يتأتى جنس من العلوم لطالبه ويتسهل عليه ، ويمتنع عليه جنس آخر ويتعذر ؛ لأن كل امرئ إنما يتيسر له ما في طبعه قبولُه ، وما في طاقته تعلُّمُه ؛ فينبغي - أصلحك الله - أن تقفَ حيث وُقفَ بك ، وتقنعَ بما قُسِمَ لك ، ولا تتعدى إلى ما ليس من شأنك ولا من صناعتك ) .
ودخول الإنسان في علم لا يحسنه ومزاحمته أهله أمر قبيح الصفة عظيم الضرر ، ولم يزل الائمة يحذّرون الناس ذلك ويسترسلون في بيان ضرره ، وسأنتقي من كلماتهم بعض ما تيسر :(1/41)
قال الجرجاني في ( دلائل الإعجاز ) ( ص482 ) عقب شيء ذكره : ( ولكن إذا تعاطى الشيءَ غيرُ أهله وتولى الأمرَ غيرُ البصيرِ به : أعضل الداء واشتدَّ البلاء ) .
ومما اشتهر من كلمات الحافظ ابن حجر رحمه الله قوله : إذا تكلم المرء في غير فنه أتى بالعجائب .
هذه الكلمة البليغة قالها ابن حجر في حق الكرماني رحمه الله ، وذلك في ( الفتح ) ( 3/584 ) في شرح هذا الحديث من كتاب الحج / باب الدُّعَاءِ عِنْدَ الْجَمْرَتَيْنِ إذ قال البخاري :
( وَقَالَ مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ أخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ اَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ اِذَا رَمَى الْجَمْرَةَ الَّتِي تَلِي مَسْجِدَ مِنى يَرْمِيهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ كُلَّمَا رَمَى بِحَصَاةٍ ثُمَّ تَقَدَّمَ اَمَامَهَا فَوَقَفَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ رَافِعاً يَدَيْهِ يَدْعُو وَكَانَ يُطِيلُ الْوُقُوفَ ، ثُمَّ يَاْتِي الْجَمْرَةَ الثَّانِيَةَ فَيَرْمِيهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ كُلَّمَا رَمَى بِحَصَاةٍ ، ثُمَّ يَنْحَدِرُ ذَاتَ الْيَسَارِ مِمَّا يَلِي الْوَادِيَ ، فَيَقِفُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ رَافِعاً يَدَيْهِ يَدْعُو ، ثُمَّ يَاْتِي الْجَمْرَةَ الَّتِي عِنْدَ الْعَقَبَةِ فَيَرْمِيهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ عِنْدَ كُلِّ حَصَاةٍ ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ وَلا يَقِفُ عِنْدَهَا .
قَالَ الزُّهْرِيُّ : سَمِعْتُ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يُحَدِّثُ مِثْلَ هَذَا عَنْ أبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُهُ ) .
فقال ابن حجر في الشرح :
( قوله " وقال محمد حدثنا عثمان بن عمر " قال أبو علي الجياني : اختلف في محمد هذا ، فنسبه أبو علي بن السكن فقال : محمد بن بشار . قلت : وهو المعتمد .(1/42)
وقال الكلاباذي : هو محمد بن بشار أو محمد بن المثنى ؛ وجزم غيره بأنه الذهلي(1) .
قوله : " قال الزهري : سمعت ، الخ " : هو بالإسناد المصدَّر به الباب ، ولا اختلاف بين أهل الحديث أن الإسناد بمثل هذا السياق موصول ، وغايته أنه من تقديم المتن على بعض السند ، وإنما اختلفوا في جواز ذلك .
وأغرب الكرماني فقال : "هذا الحديث من مراسيل الزهري ، ولا يصير بما ذكره آخراً مسنداً ، لإنه قال : يحدث بمثله ، لا بنفسه " .
كذا قال ؛ وليس مراد المحدث بقوله في هذا "بمثله " إلا نفسه ، وهو كما لو ساق المتنَ بإسنادٍ ثم عقَّبه بإسناد آخر ولم يُعِدِ المتنَ ، بل قال : "بمثله " ؛ ولا نزاع بين أهل الحديث في الحكم بوصل مثل هذا ، وكذا عند أكثرهم لو قال : "بمعناه " ، خلافاً لمن يمنع الرواية بالمعنى .
وقد أخرج الحديثَ المذكور الإسماعيليُّ عن ابن ناجية عن محمد بن المثنى وغيره عن عثمان بن عمر ، وقال في آخره : " قال الزهري : سمعت سالماً يحدث بهذا عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم " ، فعُرف أن المراد بقوله "مثله" : نفسه ؛ وإذا تكلم المرء في غير فنه أتى بهذه العجائب ) .
ولقد جعل الشيخ أحمد محمد شاكر رحمه الله كلمة ابن حجر هذه اسماً لبعض مقالاته المنشورة في ( كلمة الحق ) بعد أن نُشرت أولاً في بعض الصحف ، فقال كما في ( كلمة الحق ) ( ص114 ) :
__________
(1) انتهى تحقيق بعض الفضلاء من المعاصرين إلى أن البخاري لم يرو في ( صحيحه ) عن الذهلي شيئاً ، فانظر مقالته في ( ملتقى أهل الحديث ) .(1/43)
( إذا تكلم المرء في غير فنه أتى بهذه العجائب : هي كلمة حكيمة ، وحكمة نادرة ، قالها الحافظ ابن حجر العسقلاني ، في ( فتح الباري ج3 ص466 ) ؛ والحافظ ابن حجر هو إمام أهل العلم بالحديث ، وخاتمة الحفاظ ، بل هو المحدث الحقيقي الأوحد منذ القرن الثامن الهجري إلى الآن ، وقد قال هذه الحكمة الصادقة في شأن رجل عالم كبير ، من طبقة شيوخه ، وهو ( محمد بن يوسف الكرماني ) شارح البخاري ، إذ تعرَّضَ في شرحه لمسألة من دقائق فن الحديث لم يكن من أهلها ، على علمه وفضله ، فتعرض لما لم يتيقَّنْ معرفتَه ؛ والكرماني هو الكرماني ، وابن حجر هو ابن حجر --- ) .
وقال العلامة ابن رجب رحمه الله في ( الحكم الجديرة بالإذاعة ) كما في ( مجموع رسائله ) ( 1/248 ) :
( وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" .
فأمر الله ورسوله بالردِ على من خالف أمرَ اللهِ ورسولِه ، والردُ على من خالف أمرَ الله ورسولِه لا يُتلقّى إلا عمن عرف ما جاء به الرسول وخَبَرَه خبرة تامة .
قال بعض الأئمة : لا يؤخذ العلم إلا عمّن عُرف بالطلب .
وأمر الرسول نوعان :
أمر ظاهر بعمل الجوارح ، كالصلاة والصيام والحج والجهاد ، ونحو ذلك .
وأمر باطن تقوم به القلوب ، كالإيمان بالله ومعرفته ومحبته وخشيته وإجلاله وتعظيمه والرضا بقضائه والصبر على بلائه .
فهذا كله لا يؤخذ إلا ممن عرف الكتاب والسنة ، ومن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا نقتدي به في علمنا .(1/44)
فمن تكلم على شيء من هذا مع جهله بما جاء عن الرسول فهو داخل فيمن يفتري على الله الكذب ، وفيمن يقول على الله ما لا يعلم ، فإن كان مع ذلك لا يقبل الحق ممن ينكر عليه باطله لمعرفته ما جاء به الرسول بل ينتقص به وقال : أنا وارث حال الرسول والعلماء وارثون علمه : فقد جمع هذا بين افتراء الكذب على الله ، والتكذيب بالحق لما جاء به { فمن أظلم ممن كذب على الله وكذّب بالحق لما جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين } فإن هذا متكبر على الحق والانقياد له ، منقاد لهواه وجهله ، ضال مضل ، وإنما يرث حال الرسول من علم حاله ، ثم اتبعه ، فإن من لا علم له بحاله فمن أين يكون وارثه ؟
ومثل هذا لم يكن ظهر في زمن السلف الصالح حتى يجاهدوا فيه حق الجهاد ، وإنما ظهر في زمن قل فيه العلم وكثر فيه الجهل ، ومع هذا فلا بد أن يقيم الله من يبين للأمة ضلاله ، وله نصيب من الذل والصغار بحسب مخالفته لأمر الرسول .
يا لله العجب ، لو ادعى معرفة صناعة من صنائع الدنيا ، ولم يعرفه الناس بها ، ولا شاهدوا عنده آلاتها : لكذبوه في دعواه ، ولم يأمنوه على أموالهم ، ولم يمكنوه أن يعمل فيها ما يدعيه من تلك الصناعة ، فكيف بمن يدعي معرفة أمر الرسول وما شوهد قط يكتب علم الرسول ، ولا يجالس أهله ولا يدارسه ؟
فلله العجب كيف يقبل أهل العقل دعواه ، ويحكمونه في أديانهم ، يفسدها بدعواه الكاذبة ؟
إن كنت تنوح يا حمام البان **** للبين ، فأين شاهد الأحزان
أجفانك للدموع أم أجفاني **** لا يقبل مدع بلا برهان
وقبله قال العلامة ابن حزم الظاهري رحمه الله في ( مداواة النفوس ) ( ص67 ) :
"لا آفة على العلوم وأهلها أضر من الدخلاء فيها وهم من غير أهلها ، فإنهم يجهلون ويظنون أنهم يعلمون ، ويفسدون ويقدرون أنهم يصلحون" .(1/45)
وقال في كتابه ( مراتب العلوم ) ( 4/86 رسائل ابن حزم ) : ( وإنَّ قوماً قَوِيَ جهلُهم ، وضعفت عقولُهم ، وفسدت طبائعهم ، ويظنون أنهم من أهل العلم ، وليسوا من أهله ، ولا شيء أعظم آفة على العلوم وأهلها الذين هم أهلها بالحقيقة من هذه الطبقة المذكورة ؛ لأنهم تناولوا طرفاً من بعض العلوم يسيراً ، وكان الذي فاتهم أكثر مما أدركوا منه ، ولم يكن طلبهم لما طلبوا من العلم لله تعالى ، ولا ليخرجوا من ظلمة الجهل ، لكن ليزدروا بالناس زهواً وعُجْباً ، وليماروا لجاجاً وشغباً ، وليفخروا أنهم من أهله ، تطاولاً ونفجاً ، وهذه طريقة مجانبة للفلاح ، لأنهم لم يحصلوا على الحقيقة ، وضيعوا سائر لوازمهم فعظمت خيبتهم ، ولم يكن وُكْدُهم أيضاً - مع الازدراء بغيرهم - إلا الازدراء بسائر العلوم وتنقيصها في ظنهم الفاسد أنه لا علم إلا الذي طلبوا فقط ، وكثيراً ما يعرض هذا لمبتدئ في علم من العلوم وفي عنفوان الصبا ، وشدة الحداثة إلا أن هؤلاء ليرجى(1) لهم البرء من هذا الداء مع طول النظر والزيادة في السن ) .
وقبله قال الإمام الشافعي رحمه الله في ( الرسالة ) ( ص 41 ) : ( فالواجب على العالِمين أن لا يقولوا إلا من حيث علموا ؛ وقد تكلم في العلم من لو أمسك عن بعض ما تكلم فيه منه لكان الإمساك أولى به وأقرب من السلامة له إن شاء الله ) .
وقبله قال الإمام محمد بن سيرين : ( إن هذا العلم دين فانظروا عمّن تأخذون دينكم ) ؛ رواه مسلم في مقدمة ( صحيحه ) ( 1/14 ) .
وقال أبو زرعة الدمشقي في ( تاريخه ) ( 1/380 ) : ( أخبرني عبد الرحمن بن إبراهيم عن الوليد بن مسلم عن ابن جابر قال : قال مكحول : من فقه الرجل ممشاه ومدخله مع أهل العلم .
قال الوليد بن مسلم : وكان ابن جابر يقول : لا يؤخذ العلم إلا ممن شُهد له بالطلب ) .
__________
(1) قال بعض الفضلاء وستأتي الإشارة إليه : ( في المطبوع : لا يرجى . ولعل الصواب ما أثبته ) .(1/46)
هذه النصوص التي بعد مقالة أحمد شاكر نقلها بعض الفضلاء القائمين على ( منتدى الألوكة ) في بعض مقالاته هناك ، فجزاه الله كل خير ، وقد ختمها بقوله :
( فهذه نصوص قد تحتاجها لتصفع بها وجوه كثير ممن يتكلمون فيما لا يحسنون ، ويهذون بما لا يعرفون ، خاصة من بعض كُتّاب الجلالة المتعالمين المتجرئين على دين رب العالمين ) .
ثم جاءت بعد ذلك مشاركات أخرى سأنتقي منها ما يناسب .
قال بعض الفضلاء تعليقاً على كلمة ( كُتَّاب صاحبة الجلالة ) :
( قال الشيخ بكر أبو زيد في "المناهي اللفظية" :
"مصطلحات إفرانجية ، وعبارات وافدة أعجمية ، وأساليب مولَّدةٌ لغةً ، مرفوضةٌ شرعاً . وحمَّالة الحطب في هذا : صاحبة الجلالة : «الصحافة» فَلِجُلِّ الكاتبين من الصحفيين ولعٌ شديد بها ، وعن طريقهم استشرت بين المسلمين" ) .
ثم كتب فاضل آخر مشاركة أخرى تحت هذا العنوان ( ادّعاء الاجتهاد مع الجهل ، بدعوى أنْ : «لا كهنوتيّة في الإسلام» ) :
( يقول العلامة أبوالأعلى المودودي رحمه الله تعالى :
نشأت في أيّامنا وجهة جديدة للتفكير ، تقول أنْ لا كهنوتيّة في الإسلام ، فليس للعلماء من اختصاص بالقرآن والسنّة والشريعة حتى يكون لهم وحدهم الحق في التعبير عنها ، بل المسلمون جميعاً يتمتعون بهذا الحق معهم ، وما عند العلماء من حجّة تجعل آراءهم أرجح من آرائنا ، وأقوالهم أكثر وزنًا من أقوالنا في أمر الدِّين .
فمثل هذه الأقوال التي يتشدَّق بها الذين ما أوتوا أدنى حظ من معرفة القرآن والسنَّة ، ولم يطّلعوا على النصوص الدينيّة ، ولم يصرفوا يوماً من أيام حياتهم في الدراسة الوافية للدين وتعاليمه .
فبدلاً من أن يشعروا بقصورهم في معرفة تعاليم القرآن ، ويبذلوا جهداً في تداركه ، أبوا إلا إنكار ضرورة هذه المعرفة ، وأصرّوا أن يُترَكوا وشأنهم ليشوّهوا وجه الدِّين الحنيف ، ويموّهوا تعاليمه النزيهة بتأويلاتهم السخيفة من غير علم ولا معرفة .(1/47)
ولعمر الحق ! إنه لو تركت سَورة الجهل على حالها تشتدّ وتثور ، لا يبعد غداً أن يقوم رجل منّا فيقول : أنْ لا قضاء في الإسلام ، فيجوز لكل أحد من الناس أنْ يدلي برأيه في القانون ، ولو لم يكن يعرف منه الألف والباء .
ويقوم بعده رجل آخر ويعلن : أنْ لا هندسة في الإسلام ، فمِن حق كل رجل أن يتكلّم في الهندسة ، ولو لم يكن على أدنى معرفة بمبادئها .
ثم يقوم بعده رجل ثالث ، ويعلن : أنْ ليس هناك حاجة إلى حذق في مهنة الطب ، فيشرع في معالجة المرضى ومداواتهم من غير أن يكون على صلة بالطب .
وليت شعري ! ماالذي جعل هؤلاء يُمعنون في السفاهة ، وتسوّل لهم نفوسهم أن يُخادعوا الأمة ، ويظنّونها مُصَدّقة لآرائهم الواهية ، وأقوالهم الباطلة ؟! .
نعم لا جرم أنه لا كهنوتيّة في الإسلام ، ولكن هل يعلم هؤلاء اليوم ما معنى ذلك ؟! .
إنما معناه : أنّ الإسلام ليس كاليهوديّة ، حتى ينحصر فيه علم الشريعة والقيام على الخدمات الدينية في سبط من الأسباط ، أو قبيلة من القبائل ؛ ولم يفرق فيه كما في المسيحية - بين الدين والدنيا ، فتكون الدنيا للقياصرة ، ويكون الدين للرهبان والأحبار .
ولا ريب - كذلك - أنْ لا اختصاص لأحد بتفسير القرآن والسنّة والشريعة ، وأنه لا ينحصر العلماء في سلالة خاصة من السلالات ، أو أسرة معينة من الأسَر ، فلا يكون إلا لأفرادها يتوارثونه كابراً عن كابر ، ولهم وحدهم أن يتحدثوا باسم الدِّين ، ويجتهدوا في تعاليمه دون سائر المسلمين .
فكما أنه من الممكن لكل أحد من الناس أن يكون محامياً إذا درَس القانون ، أومهندسًا إذا درس الهندسة أو طبيباً إذا درس الطبّ ، فكذلك يجوز في الإسلام لكل فرد من أفراد المسلمين إذا درس القرآن والسنّة ، وصرَف جانباً من أوقاته وجهوده في تلقي علمهما : أن يتكلم في مسائل الشريعة .
وهذا هو المعنى الصحيح المعقول إنْ كان هناك معنى لانعدام الكهنوتية في الإسلام .(1/48)
ليس معناه : أن الإسلام كالألعوبة في أيدي الأطفال ، يجوز لكل من شاء من الناس أن يعبث بأحكامه وتعاليمه ويصدر فيها آراءه ، كما هو الشأن في أقضية أعلام المجتهدين وفتاواهم ، ولو لم يكن قد بذل أدنى سعي في فهم القرآن والسنّة والتبصّر فيهما .
وإذا لم يكن مقبولاً ولا معقولاً أن يدّعي المرء أنه مرجع في أمر من أمور الدنيا من غير علم به ، فما بالنا إذن نقبل في أمر الدين ادّعاء هؤلاء القوم الذين يتكلّمون فيه من غير معرفة بأصوله ومبادئه ؟ ) . اهـ من «نظريّة الإسلام وهديه في السياسة والقانون والدستور» ( ص205-207 ) .
وعلق فاضل آخر بقوله : ( والعجب لا ينقضي من بعض طلبة العلم الذي يتوجهون بأية أسئلة إلى أي عالمٍ وإن لم تكن تلك الأسئلة من تخصصه ، فإن أجاب ولو تكلُّفاً فقد طاوعهم في خطئهم ، وإن لم يفعل أساءوا بعلمه الظنون ، ولم يفهموا أن التخصص ضرورة محتمٌة ولو نفاه من نفاه ) .
فعلق صاحب الموضوع بقوله : ( وأقبح من ذا أنهم قد يشغبون بجوابه على أهل هذا الفن ويعارضونهم به ) .
وعلق فاضل آخر بقوله : ( ومن ذلك ما قاله بعض السلف : أكثر ما يفسد الدنيا : نصف متكلم ، ونصف متفقه ، ونصف متطبب ، ونصف نحوي ؛ هذا يفسد الأديان ، وهذا يفسد البلدان ، وهذا يفسد الأبدان ، وهذا يفسد اللسان ) . مجموع الفتاوى ( 5/119 ) .(1/49)