مقالات وفتاوى حديثية من مجلة المنار
الحديث الموضوع
نشرت مجلة (الموسوعات) الغرَّاء مقالة تحت هذا العنوان لأحد الفضلاء
رأينا أن ننشرها في (المنار) إفادة للقراء وهي :
الحديث الموضوع هو: المختلق المصنوع المنسوب إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم زورًا وبهتانًا ، وهو أشد خطرًا على الدين ، وأنكى ضررًا بالمسلمين من
تعصب أهل المشرقين والمغربين ؛ لأنه يصرف الملة الحنيفية عن صراطها
المستقيم ، ويقذف بها في غياهب الضلالات حتى ينكر الرجل أخاه ، والولد أباه ،
وتطيرالأمة شعاعًا ، وتتفرق بِدَادًا بَدَادًا لالتباس الفضيلة وأفول شمس الهداية ،
وانشعاب الأهواء ، وتباين الآراء ، وأن تفرق المسلمين إلى شيعة ورافضية وبابية
ونصيرية وزيدية وخوارج ووهابية وسنوسية ودرزية ونيشرية إلخ - لهو أثر
قبيح من آثار الوضع في الدين ، ولقد قام الحُفَّاظ الثقات ، وكادوا يزهقون هذا الروح
الخبيث بضبطهم الحديث حفظًا وكتابة وتلقينًا ، ومازوا الخبيث من الطيب ، وقشعوا
سحب اللبس فتلألأ نور اليقين أحقابًا طويلة حتى ابتلي الإسلام بموت الحفاظ الذين
آخرهم جلال الدين السيوطي رحمه الله ، فأطفئ المصباح من مشكاة مصر وأغلب
الشعوب الإسلامية ، وعدا الباطل على الحق عدوانًا شديدًا ، ولولا كتاب الله فينا
وبقية من أهل العلم صالحة ، لقلت : إن الباطل خذل الحق خذلانًا لا يقوم بعده أبدًا .
ورب سائل يقول : أنى ساغ للمسلمين أن يضعوا في دينهم ما ليس منه ،
فالجواب أن أسباب الوضع كثيرة منها غفلة المُحَدِّث ، أو اختلاط عقله في آخر
حياته ، أو التكبر عن الرجوع إلى الصواب بعد استبانة الخطأ لسهو مثلاً ، ومنهم
قوم وضعوا الأحاديث لا يقصدون إلا الترغيب والترهيب ابتغاء وجه الله فيما
يزعمون ، وآخرون وضعوها انتصارًا لمذهبهم ، ومنهم طائفة أهمتهم أنفسهم
فاختلقوا ما شاءوا للتقرب من السلاطين والأمراء ، أو لاستمالة الأغنياء إلى الإعطاء،(1/1)
ومن هذا الصنف القصاص الذين انتحلوا وظيفة الوعظ والتذكير في المساجد
والمجامع ، وأخذوا يهدمون من أركان هذا الدين لفلس يقتنونه ، أو حطام خبيث
يلتهمونه ، ولقد شاهدت منهم في المسجد الحسيني رجلاً بيده رقاع صغيرة فيها دعاء
يقول : إنه دعاء موسى ، وأن من قرأه أو حمله تسقط عنه الصلوات المفروضة ،
والزحام حوله شبيه بزحام الحشر ، حتى لا تكاد ترى إلا عمائم وطرابيش وبرانس
وخمرًا وأيديًا ممتدة بفلوس أو دراهم ، وهو في بهرة حلقتهم كأنه أبوزيد السروجي
يوزع الرقاع ، ويجمع المتاع ، ويخلب الأسماع ، حتى كاد يبيح للمتصدقين
والمتصدقات كل ما دخل تحت الحرمة وشمله اسم النهي ، هذا وقد بلغني أن بعضهم
نبه السيد التقي الورع النقي شيخ الجامع والسادات إلى إزالة هذا المنكر من مسجد
سبط الرسول ، فأجاب بأن هذا تجسس ، والله يقول : ? وَلاَ تَجَسَّسُوا ?
( الحجرات : 12 ) . ولا أدري - إن صح هذا عنه - من الذي أخطأ ؟ أهو أم
عمر بن الخطاب الذي كان يطرد القصاصين أمثال هؤلاء من المساجد ، مع أنهم لم
يكونوا بهذه المثابة من التغرير والتضليل .
( ولنرجع إلى الوُضاع ) فمنهم زنادقة قصدوا إفساد الشريعة والتلاعب بالدين
? يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ ? ( التوبة :
32 ) فعملوا على لبس الحق بالباطل ، وخلط السم بالترياق وهيأت لهم الفرص
في الأزمان الغابرة مجالاً فسيحًا لهذا البهتان حتى شحنوا الأذهان وسودوا الدفاتر ،
وأفعموا الكتب بمفتريات ما أنزل الله به من سلطان .
وقد سرى هذا الداء في كتب التفسير والسير والتاريخ ، وتلقتها العامة عن
سلامة صدر ، إما لشهرة المعزوّ إليه ، أو لاستبعاد كذبه على الرسول صلى الله
عليه وسلم ، فخبطوا وحادوا عن الجادة ، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا ، فمن
تلك الكتب التي تحرم قراءتها إلا على العالم المقتدر على درء باطلها تفسير الكلبي ،(1/2)
وتفسير مقاتل بن سليمان ، وكتاب محمد بن إسحاق في المغازي ، وكتب الواقدي ،
ومنها (فتوح الشام) ، وكتاب (فضل العلماء) للمحدث شرف البلخي ومسائل عبد الله
بن سلام في امتحانه للنبي صلى الله عليه وسلم ، وأحاديث نسطور الرومي
ووصايا علي المبدوءة بـ ( يا ) إلا (يا علي أنت مني بمنزلة هارون من موسى) ،
وقد وقع لطائفة من متأخري المفسرين والمحدثين كثير من هذا ، لا يعرفه تحقيقًا
إلا الواقف على الأحاديث الصحاح .
( وللحديث الموضوع علامات )
( 1 ) منها المجازفات التي لا يقول مثلها الرسول صلى الله عليه وسلم
مثل : من قال لا إله إلا الله خلق الله من تلك الكلمة طائرًا له سبعون ألف لسان
لكل لسان سبعون ألف ألف لغة ، إلى آخر المفترى .
( 2 ) ومنها تكذيب الحس له ، كحديث الباذنجان شفاء من كل داء ، وحديث
إن القمر دخل في جيب النبي صلى الله عليه وسلم وخرج من كمه ، وحديث رد
الشمس إلى علي بن أبي طالب .
( 3 ) ومنها سماجة الكلام ، وكونه مما يسخر منه كحديث لو كان الرز
رجلاً لكان حليمًا ، ما أكله جائع إلا شبّعه ، وحديث قدس العدس على لسان سبعين
نبيًّا آخرهم عيسى عليه السلام .
( 4 ) ومنها مناقضته لما جاءت به السنة الصريحة ، فمن ذلك أحاديث
مَن اسمه محمد و أحمد وأن كل من يسمى بهذا الاسم لا تمس جسده النار ، إذ
المعلوم من الدين أن النار لا يُجَار منها بالأسماء والألقاب ، وإنما النجدة منها
بالإيمان والعمل الصالح المقبول .
( 5 ) ومنها قيام الشواهد الصحيحة على بطلانه ، كحديث عوج بن عنق
من أن طوله 3360 ذراعًا ، وأنه كان يشوي الحوت في عين الشمس ، وأنه
قال لنوح احملني على قصعتك ، يريد السفينة ، وأنه قلع صخرة عظيمة على
قدر عسكر وأراد أن يسحقهم بها ، فقورها الله على عنقه إلخ . إذ هذا يدل على
أنه عاصر نوحًا و موسى وأنه ليس من ذرية نوح مع أن الله يقول :? وَجَعَلْنَا(1/3)
ذُرِّيَّتَهُ هُمُ البَاقِينَ ? ( الصافات : 77 ) وفي هذا الهذيان مناقضات أخرى
تدرك بأقل مسكة ، وكحديث إن ( ق) جبل من زمرذة خضراء محيطة بالدنيا،
كإحاطة الحائط بالبستان ، والسماء واضعة أكتافها عليه فزرقتها منه ، وحديث
الأرض على صخرة ، والصخر على قرن ثور ... إلخ
( 6 ) ومنها مخالفته لصريح القرآن ، كحديث مقدار الدنيا ، وأنها سبعة
آلاف سنة ، وأن الذاهب منها كذا ، فإن ذلك يدل على علم الساعة مع أن تعالى
يقول : ? قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّه ? ( الأعراف : 187 ) .
( 7 ) ومنها اقترانه بما يبطله ، كحديث وضع الجزية عن أهل خيبر ؛
لأنها لم تكن نزلت إذ ذاك ، وإنما نزلت بعد عام تبوك ، ووضعها الرسول صلى
الله عليه وسلم على نصارى نجران واليمن .
( 8 ) ومنها مناقضته للفضيلة ، كالأحاديث الدالة على الشره في الأكل ،
كوصفهم أَكْلِه صلى الله عليه وسلم العنب بما لا مساغ لذكره ، أو الدالة على
ترغيب في شهوة ، كحديث النظر إلى الوجه الجميل عبادة .
( 9 ) ومنها مناقضته العقيدة كحديث لو أحسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه ،
ولا بد أن يكون هذا من وضع المشركين عُبَّاد الأوثان ، ولقد رسخ هذا الحديث
المزور في أذهان أغلب أهل هذا الزمان رسوخًا متينًا ، حتى كاد يكون معناه
ملكة فيهم ، فهم يتسابقون إلى العمل بمعناه أكثر مما يتسابقون إلى الجماعة
والصف الأول ، حتى لو أنك نهيتهم عن التمسك بعامود السيد في مسجد
الحسين ، أو شجرة الحنفي ، أو باب زويلة ( بوابة المتولي ) أو أخشاب ضريح ،
لأجابوك جميعًا بهذا الحديث ، كأن الشيطان ما ترك نسمة فيهم إلا ولقَّنَها
الضلال البعيد .
ومن الأحاديث التي لا أصل لها أحاديث الحمام ، واتخاذ الدجاج ، وذم الأولاد
والتواريخ المستقبلة ، وفضائل السور ، ومدح العزوبة ، والنهي عن الطعام في
السوق ، وفضائل الأزهار والحناء ، وحديث إن الناس يدعون يوم القيامة بأمهاتهم ،(1/4)
وغير ذلك مما يطول بي إيراده ، ولست أعجب من العامة وصنعهم هذا ، ولكن
العجب العُجَاب من أهل العلم الذين يرون هذا المنكر رأي العين صباح مساء ،
ويتأولون له ، كأنما أعمال هؤلاء السوقة وحي سماوي متشابه يجب تأويله في رأي
العلماء المتأخرين ، اللهم ألهمنا السداد ، ووفقنا إلى سبيل الرشاد .
والداهية الدهياء أن الناس الآن أخذت تروي الأحاديث من غير إجازة ولا
تلقين ، وحَوَّل العلماء وجهتهم إلى فروع الفقه وآلات التفسير والتوحيد ، وانصرفوا
عن الحديث إلا ما كان منه قراءة على سبيل التبرك ، فراجت سوق الأراجيف
المعزوّة للدين ، واختلط الباطل بالحق فمهدوا بهذا للطاعنين على الدين سبلاً كانت
عذراء ، وخططًا كانت وعثاء ، فلا تكاد ترى حمَّارًا ، أو حوذيًّا ، أو خادمًا أو طاهيًا،
أو أكارًا أو قصارًا ، أو كناسًا أو رشاشًا ، إلا ويستشهد في كل شيء من أعماله
بالحديث ، سواء صح معناه ولفظه ، أو لم يصح ، فإذا جلست في مرتاض أو نادٍ ،
أو سوق أو حانوت ، أو محفل عرس أو مأتم ، سمعت من خلطهم وخبطهم في الدين
ما تخرج لأجله النفوس من العيون ، وتمشي له القلوب في الصدور ، وربما كان في
مجلسهم عالم فيسئل عن اختلافهم ، فلا يجيب إلا بأظن كذا ، ويمكن أن يكون كذا ،
والورع يقول : لا أدري حتى أراجع الصحاح ، وقد يكون الحديث مشهورًا بين كل
الطبقات وهو موضوع ، فيظن أنه صحيح لشهرته ، خصوصًا على ألسنة بعض
الأشياخ ، فيفتي بأنه صحيح ، وهنالك الطامة الكبرى .
هذا ومما يؤسف عليه أنك لو سألت عمن هو أقرب إلى درجة الحفاظ في
مصر لقالوا : رجلان أحدهما توفي قريبًا وهو المرحوم محمد بك المكاوي ، والآخر
العلامة اللغوي الشهير الشيخ الشنقيطي رضي الله عنه ، ولا تكاد تسمع باسم ثالث .
ولقد كنت عقدت النية على أن أجمع طائفة من الأحاديث الموضوعة التي
يستدل بها الناس الآن على عقيدة أو حكم أو فضيلة أو نهي عن رذيلة ، وأقترح(1/5)
على حضرة الفاضل خادم الأمة والدين صاحب ( المؤيد ) أن يقف بضعة أسطر من
جريدته الغرَّاء على نشر حديث أو حديثين منها كل يوم ليُمَيِّز عامة المسلمين الخبيث
من الطيب ، ويبتعد حملة القرآن وخطباء المنابر ووعاظ المساجد عن رواية
الأكاذيب المضادة للشرع والعقل باسم الدين وهم لا يشعرون ، فلما علمت أن السيد
السند الجليل الشيخ محمود الشنقيطي هو ابن بجدتها ونسيج وحده في هذا الموضوع ،
خلعت هذا من عنقي وجعلته في عنقه لتعينه لهذا الأمر الجلل ، كما أجمع عليه
الثقات ، فإن كان في علماء مصر وجهابذة العصر من يحب أن يسبق إلى خدمة
الدين ونصح المسلمين ، وكان بهذا الشأن أحرى - فليتفضل ، فإنما الغرض إحياء
السنة وإماتة البدعة ودرء المطاعن الأجنبية بشيء ليس من ديننا ، وألتمس من
المتصدر لهذا الأمر أن يجمع أولاً الأحاديث المشهورة على ألسنة العامة والخاصة
في احتجاجهم وأمرهم ونهيهم ومعاملاتهم ، فإن ضررها عميم ، وخطبها جسيم ،
وذلك كحديث حب الوطن من الإيمان الذي لا يفهم منه بعد التأويل والتحليل إلا
الحث على تفرق ( الجامعة الإسلامية) التي تنشد ضالتها الآن ، فإنه يقضي بتفضيل
مسلمي مصر مثلاً على من سواهم ، وأن من في الشام يفضِّل إخوته هناك على
غيرهم ، وهكذا ، وهو الانحلال بعينه والتفرق المنهي عنه والله يقول : ? إِنَّمَا
المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ? ( الحجرات : 10 ) ولم يقيد الأخوة بمكان ، ويقول : ? وَيُؤْثِرُونَ
عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ? ( الحشر : 9 ) وأقل ما فيه تفويت فضيلة
الإيثار ، ومن ذلك ( شاوروهنَّ وخالفوهنَّ ) إلى غير ذلك .
ومما هو جدير بالعناية قصص المولد النبوي الذي اشتمل على كثير من الخيال
الشعري والأحاديث التي وضعها المطرون الغلاة، كحديث لولاك ما خلقت الأفلاك ،
وقولهم : إن الميم من اسمه الشريف تدل على كذا ، والدال على كذا ، إلخ تصرفات(1/6)
الخيال ، ووصفهم الرسول صلى الله عليه وسلم بضروب من الغزل لا تليق إلا
بمتخذات أخذان مما يجل مقام النبوة عنه ، وتنفر طبيعة الجلال منه ، وكروايتهم من
المعجزات ما ليس له أصل كحديث الضب ، وأن الورد من عرقه إلخ ما ينسبونه
للمناوي ، ولا أظنه إلا مصطنَعًا باسم الشيخ رحمه الله ورضي عنه .
والخلاصة أنه يجب تدارك هذا الأمر الخطير وفينا حياة علمية ، فعلى العلماء
المسارعة ، وعلى أصحاب الجرائد القبول ، ولا أظن صاحب ( المؤيد ) إلا مرتاحًا
لهذا الاقتراح ، وعلى الله تمام النجاح .
(الناصح الأمين)
( المنار )
إن لنا كلامًا في المقالة وفي الموضوع نرجئه لأقرب فرصة تسنح .
________________________
(( مجلة المنار ـ المجلد [ 2 ] الجزء [ 25 ] صـ 391 26 ربيع الثاني 1317 ـ 2 سبتمبر 1899 ))
قسم الأحاديث الموضوعة والواهية والمنكرة
المصافحة الحبشية . استفتاء وبلاء
كتب إلينا من حضرة الفاضل الشيخ عبد السلام الرفيقي رئيس جمعية رفيق
الإسلام في مقاطعة بنجاب - الهند رسالةً مطولةً يتبعها رقيم يستلفت إلى ما في
الرسالة ، ويطلب الجواب السديد عنه .
ملخص الرسالة أنه وقعت في كشمير داهية عجيبة ومصيبة عظيمة ،
واضطرمت نار الفتنة وصار يجادل المرء زوجته والابن أباه والأخ أخاه والصديق
صديقه في المسألة التي كانت مثار الفتنة وهى أن بعض الواعظين قرأ على منبر
المسجد الجامع يوم الجمعة في كشمير إنكار المصافحة والصحبة لأبي سعيد الحبشي
من المعمّرين وقال في شأنه : إنه خبيث مع من أقرّه وكذاب وشيطان وسبه ولعنه .
( قال في الرسالة ما معناه ) : إن هذا يستلزم تنقيص الأولياء والأصفياء وكونهم
غير محققين لأنهم من المصدقين بهذا الحديث وقال : إن المنكر أفتى العوام بتجديد
الصلوات ، وصار مناعًا للخيرات والصدقات لمن صلى خلف المقرين . وذكر أن
المنكر احتج على إبطال هذا بمثل الحديث الصحيح الناطق بأنه لا تبقى بعد مائة(1/7)
سنة نفس منفوسة ممن كان في ذلك الوقت ، وردّ عليه بأن الحديث مختلف في
تفسيره لحياة الخضر وغيره وبما نقل في حاشية رآها صاحب الرسالة عن
( الإصابة في معرفة الصحابة ) من أن عثمان بن الصالح مات سنة تسع
عشرة ومائتين . قال : فمع هذه التأويلات والاحتمالات وإقرار أصفياء الله تعالى في
أرضه كسيدنا وسندنا السيد محيي الدين عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه بوجود
المعمرين كإلياس و الخضر يقال هذا , ثم ذكر أسماء كثيرين من أهل الطريق والمشايخ والمتصوفة الذين تلقوا حديث هذه المصافحة بالقبول وذكر بعض طرقهم .
ثم ذكر أن المنكر قد أوقع الخلاف بين أرباب الطريقة بزعمه أنه لو صحت
صحابية أبي سعيد الحبشي من المعمرين لكان عسكر سلطان قطب الذي كان واليًا
في كشمير في عهد الأمير السيد علي الهنداني أفضل درجة ورتبة من سيدنا محيي
الدين عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه لأنهم صاروا من أتباع التابعين ، وردّ
عليه بأنه لم يراع القرن في حديث ( خير القرون قرني ) إلخ ولم يراع حال الذين
يرون سيدنا عيسى في آخر الزمان وكونهم يصيرون تابعين أفضل درجة ، ومزية
من سيدنا محيي الدين عبد القادر الجيلاني وغيره من الأولياء الكاملين , ثم ختم
الرسالة بقوله :
( فيا أهل العلم والحديث والنهي وأصحاب الشرع والفقه والحجى , وأرباب
الورع والتُّقَى أعينونا بالإنصاف وأغنونا عن الاختلاف وبينوا لنا جوابًا شافيًا
للقرآن والسنة , وما استنبط منها العلماء الراسخون والأتقياء العارفون ، فلله دركم
وأجركم والسلام ) .
( المنار )
حديث المصافحة الحبشية رويناه عن أستاذنا الشيخ أبي المحاسن محمد
القاوقجي بسنده إلى الأستاذ علي البيومي كما صافحه الشيخ عيسى الطيلوني كما
صافحه الشيخ أحمد بن محمد بن العجل اليمني ح وعن أستاذه الشيخ محمد عابد
السندي كما صافحه الشيخ صالح الفلاني كما صافحه مولاي محمد بن سنّه كما(1/8)
صافحه مولاي محمد بن عبد الله كما صافحه الشيخ أحمد بن محمد بن العجل اليمني
كما صافحه تاج الدين الهندي كما صافحه عبد الرحمن حاجي كما صافحه الحافظ
علي كما صافحه محمود إستقرازي كما صافحه أبو سعيد الحبشي وهو صافح سيد
الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم . قال شيخنا : وكتب في مسلسلاته ( وأبو
سعيد الحبشي لم يعرف في الصحابة ولعله ممن لم يشتهر ) .
ونقول : إن غرام المشتغلين بالرواية في علوّ الإسناد هو الذي يحملهم على
التأويل في الذي لم يثبت وإلا فكيف يتصور أن صحابيًّا يعيش مئات من السنين ولا
يشتهر ولا يعرفه الأئمة والحفاظ , وثم أسباب أخرى لنقل هذه الأحاديث التي لم
تثبت منها حسن الظن ومنها الامتياز بالروايات وكثرة الأشياخ وبمضمون الرواية
إذا كانت كحديث المصافحة الذي قال فيه : ( من صافحني أو صافح من صافحني
دخل الجنة ) فالذين يعيشون بالصلاح يأخذون هذه الأحاديث على ظواهرها
ويقيمون النكير على من يبحث في نقد سندها أو متنها ويرمونه بالتهاون في الدين ،
وأما المشتغلون بالحديث فقلما يسكتون عليها ، ولذلك جاء في مسلسلات شيخنا
القاوقجي عن شيخه السندي ما نصه على ما رويناه عنه قولاً وكتابة ( وأوهى طرق
هذا الحديث ما تلقيته عن شيخنا علي سلطان قال : من صافحني أو صافح من
صافحني دخل الجنة ) إلى أن انتهى إلى أبي العباس الملثم كما صافحه المعمّر ،
وهو صافح النبي صلى الله عليه وسلم . قال : ذكر الشعراني في طبقاته في ترجمة
أبي العباس أحمد الملثم أنه كان له لثام يتلثم به دائمًا ، قال : واختلفوا في عمره ،
فقال قوم : إنه من قوم يونس عليه السلام ، وقال آخرون : إنه رأى الإمام الشافعي
وصلى خلفه ، وقال قوم : إنه يعرف القاهرة وهي أخصاص ، ثم ذكر عن تلميذه
عبد الرحمن القوصي أنه سأله عن عمره فقال : نحو أربعمائة سنة . توفي في حدود
الستمائة ودفن في الحسينية في القاهرة ، وقال ابن حجر بعدما أطال الكلام على هذا(1/9)
الحديث : ( والمعمر شخص من المغاربة اختلف باسمه وهو من الكذابين ) ، قال
الشيخ : وقد أوردت هذا الطريق تبركًا بذكر هذه الأشياخ أي لا لأنه يوثق به ,
وصلاح الأشياخ لا يدل على صحته كما توهم في الرسالة .
والحاصل أن الذي أنكر صحابية أبي سعيد الحبشي على منبر الجامع في
كشمير مصيب في إنكاره ولكنه مخطىء في السبّ واللعن , وقد تنازعنا بإزاء هذه
الواقعة عاملان : عامل سرور لاهتمام مسلمي الهند رجالاً ونساءً بأمور الدين حتى
ما كان من قبيل رواية الحديث ، وأكثر المسلمين لا يبالون اليوم إلا بالمحافظة على
التقاليد والعادات التي تلبسوا بها باسم الدين ، وعامل كدر للغلوّ في الدين المذموم في
القرآن فإذا أنكر أحدنا منكرًا يغالي في الإنكار فينفر المنكر عليهم ويحملهم على
اللجاج والعناد في مقاومته ومنازعته فيضيع الحق بهذه التعصبات والتحزبات ،
وهذا الخلق صار موروثًا عند المسلمين منذ قرون حيث فتح على الفقهاء والمتكلمين
باب المناظرة والجدل في المذاهب لا يبتغي أحد إلا تأييد قوله وإثبات مذهبه ، وقد
شرح مفاسد مناظراتهم الإمام حجة الإسلام في كتاب العلم من الإحياء .
هذا ما تيسر لنا الآن أن نكتبه ونحن في المطبعة يطالبنا العَمَلَةُ به ورقة فورقة
لأجل جمع حروفه للطبع ونرجو من السادة العلماء المشتغلين بعلم الحديث الشريف
رواية ودراية أن يكتبوا لنا ما عندهم في هذه المسألة إجابة لرغبة إخوانهم الهنديين
والله الهادي .
قسم الأحاديث الموضوعة والمنكرة
( 1 )
مدعو الصحبة كذبًا
كان وضع الأحاديث أوسع أبواب الفتنة في الإسلام وأفسح مجال للعائثين فيه ,
وقد فتك أعداء هذا الدين فيه بهذه الضلالة فتكًا ذريعًا , وكان لهم من التفنن فيه
غرائب وعجائب أبعدها عن الحق وأدناها إلى ظهور البهتان دعوى الصحبة كذبًا .
وأعجب من ذلك أنه لم يدع أحد شيئًا إلا ووجد من يصدقه , ولم ينعق ناعق بدعوة(1/10)
إلا ووجد من يجيبه مهما كان كذب الدعوى ظاهرًا وبطلان الدعوة واضحًا .
فَنَّدْنَا في الجزء الماضي زعم من ادعى الصحبة لأبي سعيد الحبشي ( 1 )
صاحب حديث المصافحة ونذكر ههنا بقية ممن وقفنا على أسمائهم من أهل هذه
الدعوى ( 2 ) فمنهم ( رتن الهندي ) قال الحافظ الذهبي : وما أدراك ما رتن شيخ
دجّال بلا ريب ظهر بعد الستمائة وادعى الصحبة وقيل : إنه مات سنة اثنتين
وثلاثين وستمائة , وقد كذب وكذبوا عليه , ( 3 ) ومنهم مكلبة بن ملكان
الخوارزمي زعم أن له صحبة وأنه غزى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعًا
وعشرين غزوةً ، وكان في حدود أربعين ومائة . قال الحافظان الذهبي و ابن حجر
وغيرهما : إنه شخص كذاب أو لا وجود له . وقال الحافظ ابن كثير : ( أعجوبة
من العجائب مكلبة بن ملكان أمير خوارزم بعد الثلاثمائة بقليل ادعى الصحبة ... )
إلى أن قال : ولم يرو عنه إلا المظفر بن عاصم العجلي ولست أعرفه , والغالب أنه
نكرة لا يعرف , ( 4 ) ومنهم جعفر بن نسطور ادعى أن النبي صلى الله عليه وسلم
دعا له بطول العمر وعاش 340 سنة , قال في الذيل : هو أحد الكذابين الذين
ادعوا الصحبة بعد المائتين , ( 5 ) ومنهم سرمالك ملك الهند في بلد قنوج قال : إن
له سبعمائة سنة , وزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم أنفذ إليه حذيفة و أسامة
و صيصبا وغيرهم يدعونه إلى الإسلام فأجاب الدعوة وأسلم , قال الحافظ الذهبي :
هذا كذب واضح وزعم أيضًا أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم مرتين مرة بمكة
ومرة بالمدينة ومات سنة 333 وهو ابن 894 سنة . وهؤلاء من الأعاجم وفيهم من
لقب بالأمير والملك وأصحاب هذه الألقاب أقدر على ترويج الفتن ممن عداهم .
ولم يسلم ضلال العرب من هذه الفتنة بعدما كان للرواية والرواة ما كان لهم
من نباهة الشأن فممن ادعى الصحبة ( 6 ) منهم جبر بن الحرث قال الحافظ ( ابن
حجر ) في اللسان عن الأمير عبد الكريم بن نصر : قال : كنت مع الإمام الناصر(1/11)
في بعض منتزهاته للصيد فلقينا في أرض قفر بعض العرب فاستقبلنا مشايخهم ,
وقالوا : يا أمير المؤمنين عندنا تحفة هي أننا كلنا أبناء رجل واحد وهو حي يرزق ,
وقد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وحضر معه الخندق واسمه جبر بن الحرث
فمشوا إليه فإذا هو في عمود الخيمة معلق مثل هيئة الطفل فكشف شيخ العرب عن
وجهه وتقرب إلى أذنه , وقال : يا أبتاه , ففتح عينيه فقال : هذا الخليفة جاء
يزورك فحدثهم , فقال : حضرت مع النبي صلى الله عليه وسلم الخندق فقال :
( احضر يا جبير جبرك الله ومتع بك وأوصاني ) وكانت هذه الواقعة في جمادي
الأولى سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة , ( 7 ) ومنهم جابر بن عبد الله اليماني وهو
كذاب جاهل , ( 8 ) ومنهم قيس بن تميم الطائي الكيلاني حدث في مدينة كيلان عن
النبي صلى الله عليه وسلم سنة سبع عشرة وخمسمائة وسمع منه جماعة أكثر من
أربعين حديثًا قال ابن حجر : هو من نمط شيخ العرب ورتن الهندي , ( 9 ) ومنهم
عثمان بن الخطاب أبو عمرو البلوي المعروف بابن ابي الدنيا الأشبح , قال الذهبي
في الميزان : ظهر على أهل بغداد وحدث بعد الثلاثمائة عن علي بن أبي طالب
فافتضح وكذبه النقاد ومات سنة سبع وعشرين وثلاثمائة . ( 10 ) ومنهم علي بن
عثمان بن خطاب قال الحافظ : حدث سنة إحدى عشرة وثلاثمائة بالقيروان عن
علي بن أبي طالب وزعم أنه رأى الخلفاء الأربعة .
وأنت ترى من تاريخ هؤلاء الكذابين الوضاعين الذين تجرءوا على ادعاء
الصحبة أن باب الوضع فُتِحَ وإفساد الدين ابتدأ مع الاشتغال برواية الحديث لا سيما
في القرن الثالث والرابع والخامس فيجب أن لا يثق الإنسان بحديث يراه في كتاب
أو يسمعه من أي إنسان حتى يكون على بينة من صحته رواية ودراية , وسنوضح
هذا في فرصة أخرى إن شاء الله تعالى .
((يتبع بمقال تالٍ))
________________________
(( مجلة المنار ـ المجلد [ 3 ] الجزء [ 21 ] صـ 497 1 جمادى الآخرة 1318 ـ 25 سبتمبر 1900 ))(1/12)
قسم الأحاديث الموضوعة
( 2 )
الكتب والرسائل الموضوعة
إن الأحاديث الموضوعة تعد بمئات الألوف وألوف الألوف فلا يمكن حصرها
فتنشر ويتحاماها الناس , وقد ذكروا ضوابط يعرف بها الموضوع , وكتب بعض
الفضلاء مقالة في الموضوعات نشرت في مجلة السنة الثانية من المنار وسنزيد
الموضوع بحثًا . ومن غرائب هذا الباب أن المحدثين بينوا أن بعض المصنفات
موضوعة في جملتها وتفصيلها فمنها الأربعون الودعانية التي يقال لها في بلاد
اليمن السبلقية قال الصغاني عند النص على وضعها : وأول هذه الودعانية : ( كأن
الموت فيها على غيرنا كتب ) , وآخرها : ( ما من بيت إلا وملك يقف على بابه
كل يوم خمس مرات ) إلخ وفي رواية ( ملك الموت ) والحديث مشهور سمعته على
المنابر من خطباء الجهل , وقال في الذيل : إن الأربعين الودعانية لا يصح منها
حديث مرفوع على هذا النسق في هذه الأسانيد وإنما تصح منها ألفاظ يسيرة وإن
كان كل كلامها حسنًا وموعظة , فليس كل ما هو حسن حديثًا . ثم قال : وهي
مسروقة سرقها ابن ودعان من واضعها زيد بن رفاعة ويقال : إنه الذي وضع
رسائل إخوان الصفا وكان من أجهل خلق الله في الحديث وأقلهم حياء وأجرأهم على
الكذب . وذكر الذهبي نحو هذا في مؤلفاته غير مرة .
ومنها كتاب ( فضل العلم ) لشرف الدين البلخي وأوله : ( من تعلم مسألة من
الفقه ) إلخ . وقد وضع جهال المتفقهة أحاديث في تعظيم الفقه ليعظم بهذا شأنهم مع
أن علم ظواهر الأحكام الذي يسمونه فقهًا لم يكن يسمى بهذا الاسم في الصدر الأول ,
وإنما الفقه هو العلم بأسرار الدين ونفوذ الفهم إلى حكمة الله في الحلال والحرام
والحظر والإباحة كما بينا ذلك في مقالات سابقة .
ومنها وصايا علي كرم الله وجهه التي أولها : ( يا علي لفلان ثلاث علامات )
وفي آخرها النهي عن المجامعة في أوقات مخصوصة قال الصغاني : وكلها
موضوعة . وقال في الخلاصة : وصايا علي كلها موضوعة إلا الحديث الأول وهو :(1/13)
( أنت مني بمنزلة هارون من موسى ) فيظهر أنها نسختان قال في اللآلئ
المصنوعة في الأحاديث الموضوعة : وكذا وصايا علي موضوعة اتهم بها
حماد بن عمرو كذا وصاياه التي وضعها عبد الله بن زياد .
ومنها أحاديث الشيخ المعروف بابن أبي الدنيا الموضوعة بإسناد واحد , وقد
زعموا أن هذا الشيخ أدرك سيدنا عليًّا كرم الله وجهه وعمر طويلاً . ومنها أحاديث
ابن نسطور الرومي وأحاديث بشر و نعيم و سالم و خراش و دينار عن أنس
( رضي الله عنه ) كلها موضوعة لا أصل لها .
ومنها أحاديث أبي هداية القيسي , ومنها الكتاب المعروف بمسند أنس
البصري وهو نحو ثلاثمائة حديث يرويه سمعان المهدي عن أنس وأوله : ( أمتي
في سائر الأمم كالقمر في النجوم ) قال في الذيل : لا يكاد يعرف ألصقت به نسخة
موضوعة قبح الله واضعها . وقال في اللسان : هي من رواية محمد بن مقاتل
الرازي عن جعفر بن هرون عن سمعان , ومنها الأحاديث التي تروى باسم أحمد
قال الصغاني : لا يصح منها شيء . ومنها خطبة الوداع عن أبي الدرداء , وأولها :
( ألا لا يركب أحدكم البحر عند ارتجاجه ) . قال في اللآلىء : وكذا الخطبة
الأخيرة عن أبي هريرة , و ابن عباس فهي بطولها موضوعة . وقال في الوجيز :
قال ابن عدي : كتبت جملة عن محمد بن محمد بن الأشعب عن موسى بن إسمعيل
بن موسى بن جعفر عن آبائه عن علي رفعها , وهي نسخة فيها ألف حديث عامتها
مناكير قال الدارقطني : إنه من آيات الله وضع ذلك الكتاب يعني ( العلويات ) قال
ابن حجر : وسماه السنن وكله بسند واحد . ومنها نسخة من رواية عبد الله بن أحمد
عن أبيه عن علي الرضي عن آبائه كلها موضوعة باطلة . ومنها نسخة وضعها
إسحق الملطي قال ابن عدي : هو وضعها كلها . ومنها النسخة المروية عن ابن
جريج عن عطاء بن سعيد وفيها الوصية لعلي بالجماع وكيف يجامع وكلها كذب .
ومنها كتاب العروس لأبي الفضل جعفر بن محمد بن علي قال الديلمي : كلها واهية(1/14)
لا يعتمد عليها وأحاديث منكرة . ومنها نسخة أحمد بن إسحق بن إبراهيم بن نبيط
بن شريط عن أبيه عن جده كلها موضوعة . هذه الكتب والنسخ المشهورة بالوضع
عند المحدثين وسنذكر الكتب الموضوعة في التفسير بخصوصه وفي بعض الأدعية
ونسكت عن موضوعات الشيعة بخصوصهم لئلا نتهم بالتحامل .
فهل يصح مع هذا كله أن يثق أحد بكل حديث يراه في كتاب أو يسمعه من
عالم أو خطيب ؟ كلا إن التحري في هذا المقام مؤكد الوجوب لئلا يدخل الإنسان
بالتساهل في وعيد الحديث المتواتر : ( من كذب عليَّ متعمدًا فيلتبوأ مقعده من
النار ) وفي رواية بدون ( متعمدًا ) .
((يتبع بمقال تالٍ))
________________________
(( مجلة المنار ـ المجلد [ 3 ] الجزء [ 22 ] صـ 522 11 جمادى الآخرة 1318 ـ 5 أكتوبر 1900 ))
أسباب وضع الحديث واختلافه
( 1 )
لوضع الحديث والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم أسباب :
( أحدها ) : وهو أهمها ما وضعه الزنادقة اللابسون لباس الإسلام غشًّا ونفاقًا
وقصدهم بذلك إفساد الدين وإيقاع الخلاف والافتراق في المسلمين . قال حماد بن
زيد : وضعت الزنادقة أربعة آلاف حديث , وهذا بحسب ما وصل إليه علمه
واختباره في كشف كذبها , وإلا فقد نقل المحدثون أن زنديقًَا واحدًا وضع هذا
المقدار قالوا : لما أخذ ابن أبي العوجاء ليضرب عنقه قال : ( وضعت فيكم أربعة
آلاف حديث أحرم فيها الحلال وأحل الحرام ) ولقد أثر وضعهم في الإسلام أقبح
التأثير ففرق المسلمين شيعًا ومذاهب مع أن الإسلام هو الحق الذي لا يقبل الخلاف
ولا التعدد .
( ثانيها ) : الوضع لنصرة المذاهب في أصول الدين وفروعه فإن المسلمين
لما تفرقوا شيعًا ومذاهب جعل كل فريق يستفرغ ما في وسعه لإثبات مذهبه لا سيما
بعدما فتح عليهم باب المجادلة والمناظرة في المذاهب ولم يكن المقصود من ذلك إلا
إفحام مناظره والظهور عليه حتى إنهم جعلوا ( الخلاف ) علمًا صنفوا فيه(1/15)
المصنفات مع أن دينهم ما عادى شيئًا كما عادى الخلاف , وهذا السبب يشبه أن
يكون أثرًا من آثار السبب الذي قبله , وقد استشهد لهذا بعض المحدثين الذين كتبوا
في أسباب الوضع بقوله : تاب رجل من المبتدعة فجعل يقول : انظروا عمن
تأخذون هذا الحديث فإنا كنا إذا هوينا أمرًا صيرناه حديثًا , وليس الوضع لنصرة
المذاهب محصورًا في المبتدعة وأهل المذاهب في الأصول بل إن من أهل السنة
المختلفين في الفروع من وضع أحاديث كثيرة لنصرة مذهبه ، أو تعظيم إمامه سوف
نذكر ونبين الكثير منها في موضعه إن شاء الله , وإليك الآن حديثًا واحدًا وهو :
( يكون في أمتي رجل يقال له : محمد بن إدريس أضر على أمتي من إبليس ,
ويكون في أمتي رجل يقال له أبو حنيفة هو سراج أمتي ) قالوا : وفي إسناده
وضاعان : أحدهما مأمون بن أحمد السلمي والآخر أحمد بن عبد الله الخونباري وقد
رواه الخطيب عن أبي هريرة مرفوعًا ، واقتصر على ما ذكره في أبي حنيفة وقال :
موضوع وضعه محمد بن سعيد المروزي البورقي ثم قال : هكذا حدث به في بلاد
خراسان ثم حدث به في العراق وزاد فيه : ( وسيكون في أمتي رجل يقال له :
محمد بن إدريس . فتنته أضر على أمتي من فتنة إبليس ) قالوا : وهذا الإفك لا
يحتاج إلى بيان بطلانه . ومع هذا تجد الفقهاء المعتبرين يذكرون في كتبهم الفقهية
شق الحديث الذي يصف أبا حنيفة بأنه سراج الأمة ويسكتون عليه بل يستدلون به
على تعظيم إمامهم على سائر الأئمة وهم مع هذا قدوة الأمة الذين يؤخذ بأقوالهم في
الدين ويترك له الكتاب والسنة لأنهما على قولهم يختصان بالمجتهدين .
( ثالثها ) : الغفلة عن الحفظ اشتغالاً عنه بالزهد والانقطاع للعبادة , وهؤلاء
العباد والصوفية يحسنون الظن بالناس ويعدون الجرح من الغيبة المحرمة , ولذلك
راجت عليهم الأكاذيب وحدثوا عن غير معرفة ولا بصيرة , وقد عدهم بذلك بعض
المحدثين من أصناف الوضاع , وحاشا الله ما نعتقد أنهم يتعمدون ذلك , وما هو إلا(1/16)
ما ذكرنا وعلى كل حال يجب أن لا يعتمد على الأحاديث التي حشيت بها كتب
الوعظ والرقائق والتصوف من غير بيان تخريجها ودرجتها . ولا يختص هذا الحكم
بالكتب التي لا يعرف لمؤلفيها قدم في العلم ككتاب ( نزهة المجالس ) المملوء
بالأكاذيب في الحديث وغيره بل إن كتب أئمة العلماء كالإحياء لا تخلو من
الموضوعات الكثيرة .
( رابعها ) : قصد التقرب من الملوك والسلاطين والأمراء كما نص على
ذلك غير واحد من الحفاظ , وكما كذب علماء السوء على الرسول صلى الله عليه
وسلم لأجل السلاطين كذبوا كذلك في وضع الأحكام والفروع الفقهية لأجلهم , ومن
الأحاديث الموضوعة في هذا الباب ما اشتمل على مدح السلاطين وتعظيم شأنهم
وهو ما يتملق به الجهال للملوك في هذا العصر كما تملقوا لهم فيما قبله .
لها بقية
((يتبع بمقال تالٍ))
________________________
(( مجلة المنار ـ المجلد [ 3 ] الجزء [ 23 ] صـ 545 21 جمادى الآخرة 1318 ـ 15 أكتوبر 1900 ))
البدع والخرافات
أسباب وضع الحديث واختلافه
( 2 )
ذكرنا في الجزء الماضي أربعة أسباب للكذب على الرسول صلى الله عليه
وسلم وهي أهم ما ذكره الحفاظ والمحدثون جزاهم الله أفضل الجزاء وبقي أسباب
نذكرها على ترتيب ما قبلها وهي :
( خامسها ) : الخطأ والسهو وقع هذا لقوم , ومنهم من ظهر له الصواب ولم
يرجع إليه أنفة واستنكافًا أن ينسب إليهم الغلط , ولم تعرف رقة دين هؤلاء وعدم
إخلاصهم في الاشتغال برواية الحديث إلا بعد ما وقع لهم ما وقع .
( سادسها ) : التحديث عن الحفظ ممن كانت له كتب يعتمد عليها فلم يتقن
الحفظ فضاعت الكتب فوقع في الغلط .
( سابعها ) : اختلاط العقل في أواخر العمر , وقع هذا لجماعة من الثقات
فكانوا معذورين دون من سلم بكل ما نسب إليهم من غير تمييز بين ما روي عنهم
في طور الكمال والعقل وبين ما روي في طور الاختلاط والهرم .
( ثامنها ) : الظهور على الخصم في المناظرة لا سيما إذا كانت في الملأ ,(1/17)
وهو غير الوضع لنصرة المذاهب الذي تقدم قال ابن الجوزي : ( ومن أسباب
الوضع ما يقع ممن لا دين له عند المناظرة في المجامع من الاستدلال على ما يقوله
كما يطابق هواه تنفيقًا لجداله . وتقويمًا لمقاله . واستطالة على خصمه , ومحبة
للغلب , وطلبًا للرياسة , وفرارًا من الفضيحة إذا ظهر عليه من يناظره .
( تاسعها ) : إرضاء الناس وابتغاء القبول عندهم واستمالتهم لحضور
مجالسهم الوعظية وتوسيع دائرة حلقاتهم , وقد ألصق المحدثون هذا السبب
بالقصاص وقالوا : إن في الأحاديث الصحاح والحسان مثل ذلك , ولكن الحفظ شق
على أولئك القصاص فاختاروا أقرب الموارد وهو الوضع . ونقول : إن قصاص
هذا الزمان قد اتبعوا خطوات أولئك الوضاع وحفظوا أكاذيبهم لسوء الاختيار فقلما
نرى واعظًا يحفظ الصحاح , وتراهم يكادون يحيطون بالموضوعات التي لا يكاد
يوجد بمعناها حديث صحيح السند لأن معظمها خرافات وأوهام وتجرؤ على
المعاصي بالأماني والتشهي . ولعل ابن الجوزي ما تصدى لتأليف كتابه في
الموضوعات إلا بعدما زاول الوعظ واختبر ما أفسد الوعاظ من دين الناس وقد ذكر
عن نفسه أن الأحاديث الموضوعة كانت ترد عليه في مجلس وعظه فيردها فيحقد
عليه سائر القصاص .
( عاشرها ) : شدة الترهيب وزيادة الترغيب لأجل هداية الناس , ولعل الذي
سهل على واضعي هذا النوع من الأحاديث المكذوبة هو قول العلماء : إن الأحاديث
الضعيفة يعمل بها في فضائل الأعمال وما في معناها مما لا يتعلق بالأحكام والحقوق
وكأنهم رأوا أن الدين ناقص يحتاج إلى إكمال وإتمام وأن قال الله تعالى : ? اليَوْمَ
أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً ? ( المائدة : 3 )
ولا تستبعدن هذا أيها المسلم المخلص فإن جميع البدع الدينية التي يسميها الناس
حتى بعض العلماء ( بدعًا حسنة ) ويعللونها تعليلات يلونونها بلون الدين هي من(1/18)
الزيادة في الدين , ويا ليتها كانت زيادة في الأعمال فقط ولكنها زيادة في العقائد
أيضًا كاعتقاد وساطة بعض الصالحين الأموات بين الله والناس في قضاء حوائجهم ؛
إما بأن يقضوها بأنفسهم لأن لهم سلطة غيبية وراء الأسباب , وإما بأن يقضيها
الله تعالى لأجلهم فتكون إرادة الله تعالى تابعة في ذلك لإرادتهم كما اشتهر من قولهم :
( إن لله عبادًا . إذا أرادوا أراد ) وغير ذلك , فإذا قلت لهم : إن هذا شرع لم يأذن
به الله يأتونك بأمثال ينزه الله عنها كتشبيهه بالملوك والأمراء الذين يتقرب إليهم بمن
يحبون ليفعلوا ما لم يكونوا يفعلونه لولاهم , وفاتهم أن إرادة الله تعالى لا تتغير
لأجل أحد لأن تخصيصها وترجيحها إنما يكون بحسب العلم القديم الذي لا تغيير فيه
ولا تبديل .
( حادي عشرها ) : إجازة وضع الأسانيد للكلام الحسن ؛ ليجعل حديثًا ,
ذكروا هذا سببًا مستقلاًّ وهو يدخل فيما سبقه .
( ثاني عشرها ) : تنفيق المدعي للعلم لنفسه على من يتكلم عنده إذا عرض
البحث عن حديث ووقع السؤال عن كونه صحيحًا أو ضعيفًا أو موضوعًا فيقول من
في دينه رقة وفي عمله دغل : هذا الحديث أخرجه فلان وصححه فلان , ويسند هذا
إلى كتب يندر وجودها ليوهم أنه مطلع على ما لم يطلع عليه غيره أو يخلق للحديث
إسنادًا جديدًا ، قالوا : وربما لم يكن قد قرع سمعه ذلك اللفظ المسئول عنه قبل
السؤال ، وهذا نوع من أنواع الوضع شعبة من شعب الكذب على رسول الله صلى
الله عليه وسلم ، وقد يسمعه من لم يعرف حقيقة حاله فيعتقد صحة ذلك وينسبه إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويقول : رواه فلان وصححه فلان كما قال ذلك
المخذول .
هذا ما ذكره المحدثون لم نستنبط منه شيئًا من عندنا لأنهم رحمهم الله ما تركوا
مقالاً لقائل ، ومنه يعلم أن ضبط كل ما وضع من الحديث متعذر ، وأنه يجب
الاحتياط التام في قبول أي حديث وجد في كتاب أو سمع من رجل حتى يعلم أن(1/19)
الحفاظ اتفقوا على صحة روايته ، فإذا طعن في أحد رجال سنده واحد منهم فالعمل
حينئذ بما قالوه من تقديم الجرح على التعديل بشرطه . ويبقى بعد ذلك البحث في
الحديث دراية فإن خالف شيئًا وجوديًّا في الطبيعة أو أصلاً من أصول الشريعة
الثابتة بالكتاب العزيز أو السنة القطعية أو عمل المسلمين في العصر الأول من
الصحابة والتابعين فهو مردود .
والحاصل أن الثابت من الدين نقلاً بطريق القطع هو القرآن والأحاديث
المتواترة وقليل ما هي وما كان عليه أهل العصر الأول من العمل الذي يتعلق
بالعبادة إذ العبادات وأساسها من العقائد وتهذيب الأرواح هو الذي كمل على عهد
النبي صلى الله عليه وسلم جملة وتفصيلاً . وأما المعاملات والأمور القضائية فقد
جاءت الشريعة بأصولها العامة وقواعدها الكلية والجزئيات تجري على ما قال أحد
الأئمة : تحدث للناس أقضية ... إلخ فتأمل هذا ينفعك والله الموفق .
***
واجب الصحافة ومفاسد الانتحال
تكرر منا الانتقاد على الجرائد التي تنقل كلام غيرها ولا تعزوه إلى صاحبه ،
وقد يكون هذا من البعض عن عمد فيكون سرقة شرًّا من سرقة الأموال والعروض
لأن في سرقة دينار من رجل ذنبًا واحدًا ، وفي سرقة الكلام عدة ذنوب أحدها :
التعدي على حقوق الناس وانتحالها لنفسه ، وهو المراد بتسميتها سرقة ، وثانيها :
الخيانة في العلم وهو لا ينجح إلا بالأمانة , وهي نسبة كل قول إلى قائله وكل رأي
إلى صاحبه , وثالثها : الكذب وهو ظاهر , ورابعها : التبجح والافتخار بالباطل ,
وقد ورد في الحديث الصحيح : ( المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور ) , خامسها :
الغش فإن من الناس من إذا علم أن هذا القول لفلان يأخذ به ويقلده لأن التقليد
مبني على الثقة , فإذا نسب القول إلى غير صاحبه يتركه من لو علم صاحبه لأخذ
به وانتفع لثقته به دون من نسب إليه , ويأخذ به من يثق بالمنتحل على أنه له وما(1/20)
هو له . سادسها : الجناية على التاريخ الذي يبين مراتب الناس وأقدارهم في العلم .
ولا شك أن المحدثين يعتبرون هؤلاء المنتحلين من الوضاع الكاذبين حتى لا يثقون
برواية لهم وكذلك يجب .
كما تكون هذه الجريمة عن عمد تقع في بعض الأحايين سهوًا , وإذا كان
السهو في كتاب وطبع ؛ يصعب تداركه وتلافيه . وإلحاق القول بقائله والرأي
بمرتئيه . ولكن التدارك يسهل في الجرائد بأن يصرح أصحابها في الجزء التالي
ببيان ما سهوا عنه في المقدم . ذكرنا في بعض أجزاء المنار أن بعض المؤلفين
انتحل بعض العبارات وبعض المسائل من ( رسالة التوحيد ) في كتاب له ولم
يعزها للرسالة ولا لفضيلة مؤلفها , وبعضهم نقل منها من غير عزو ولم نذكره ,
ولكننا ذاكرناه وعرفنا السبب في ذلك ولم يتدارك أحد من هؤلاء ما وقع منه ويتيسر
لهم ذلك بإعادة طبع مؤلفاتهم إن أرادوا الحق . وذكرنا عن بعضهم مثل هذا
الانتحال عن المنار .
نشرت مجلة ( نور الإسلام ) في العدد الصادر في منتصف جمادى الثانية
مقالة ( العروة الوثقى ) الشهيرة في المقابلة بين الديانتين الإسلامية والمسيحية
وآثارهما في نفوس المنتسبين إليهما ، وأعمالهم , ولكنها لم تعزها إليها ، كما
عزوناها نحن حين سبقناها بنشرها في أول السنة الماضية , ونحمل هذا من
رصيفتنا على السهو ، وننتظر أن نرى في عددها الذي يصدر في تاريخ هذا الجزء
من المنار ( غرة رجب ) التصريح بنسبة المقالة إلى العروة الوثقى كما هو واجب
الصحافة , وننبه رصيفينا الفاضلين صاحبي هذه المجلة إلى عزو كل نبذة تنشر في
مجلتهما من ( رسالة التوحيد ) إلى الرسالة أو إلى فضيلة مؤلفها وعدم الاكتفاء
بالعزو الأول إذ الجرائد يتجدد لها قراء لم يطلعوا على الأعداد السابقة فيكون عدم
العزو تدليسًا بالنظر إليهم وفيه ما علم . هذا وإن عزو الكلام إلى مثل مولانا الأستاذ
الأكبر مفتي الديار المصرية الذي هو حكيم الأمة في هذا العصر مما يجب أن(1/21)
تفتخر به الجريدة ويزيدها اعتبارًا في نظر من يطلع عليها , وإنما يهرب المرء من
تكرار ذكر من لا يخلو ذكره من غضاضة . ولم نرض لرصيفتنا إلا ما رضيناه
لمجلتنا فإننا نفتخر بعزو التفسير الذي نقتبسه من الأستاذ إليه ونعلم أيضًا أنه أحرى
بأن ينتفع به القراء ويتلقونه بكمال الثقة والقبول .
***
كتاب البهائية وناشره
نشكر لمشيخة الأزهر الجليلة الاهتمام بكتاب طائفة البهائية الذي تكلمنا عنه
في الجزء الماضي ، فقد بلغنا أنها عاقبت ملتزم طبعه ونشره بقطع جرايته ومرتبه
من الأزهر إلى مدة أربعة أشهر ، وهذا بناء على تنصله واعتذاره بأن مقدمة الكتاب
نشرت باسمه من غير إذنه وأنه هو إلى الآن لم يعلم بما يشتمل عليه الكتاب مما
يخالف دين الإسلام ويثبت الديانة البهائية , وحاصل هذا التنصل والاعتذار أن
البهائية قوم مزورون استخدموا اسم مجاور في الأزهر لخلابة المسلمين وخداعهم
بإيهامهم أن دينهم منتشر في الجامع الأزهر الشريف وكتابهم يباع فيه ولولا أنه حق
لما سكت عليه شيوخ الأزهر ولما أقروا ناشره وبائعه فيه على نشره وبيعه مع أنه
اشتهر عن بعضهم المعارضة في بيع رسالة الردّ على هانوتو فيما خاض فيه من
دين الإسلام بناء على أن البيع في المساجد ممنوع شرعًا .
ومن العارفين بناشر هذا الكتاب من يعتقد أنه دخل في الديانة البهائية ، ولكن
اعتذاره هذا طعن فاحش بهذا الدين وأهله يدل على أنه غير موقن به ولا معتقد , إذ
لو كان معتقدًا لما اختار هذا المتاع القليل وهو الجراية على دينه الجديد مع أن العهد
بالداخلين في الأديان عند ظهورها شدة التمسك بها والمحافظة على كرامة أهلها
والله أعلم بالسرائر .
***
منكرات التقاريظ
وكتاب البهائية
للناس في تقريظ الكتب والجرائد منكرات كثيرة تكلمنا عنها في كتابنا
( الحكمة الشرعية في محاكمة القادرية , و الرفاعية ) بمناسبة الكلام على
كتب مشحونة بالباطل قرظ عليها بعض العلماء المشهورين من غير اطلاع على ما(1/22)
فيها ولا ظهور على قوادمها وخوافيها .
ومن هذا النحو تقريظ بعض الجرائد الوطنية الإسلامية لكتاب البهائية فيما
نظن ، وإن كان ظاهر التقريظ أن كاتبه اطلع على الكتاب لأنه ذكر أمهات مسائله
ومهمات مواضيعه , ومنها الكلام في المعجزات التي ينكرها البهائية بالمعنى
المعروف عند المسلمين , وينكرون كون إعجاز القرآن ببلاغته كما تقدم في الجزء
الماضي ومنها تفسير قوله تعالى : ? ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ? ( القيامة : 19 ) فقد
نوهت به الجريدة المذكورة مع أنه الأساس الذي يقيمون عليه بناء دينهم , والراية
التي يرفعونها لنشر بدعتهم , والزمام الذي يقودون به المسلمين إليهم . وذلك أنهم
يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبين للناس معنى القرآن الحقيقي وأسراره
الخفية وبواطنه المعنوية , ولا بينها الصحابة والأئمة من بعده , وإنما بقيت مجهولة
مبهمة حتى قام ( بهاء الله ) الأعجمي الفارسي الذي لم يحسن العربية فبينها على
حقيقتها لأن الروح الإلهي حلَّ به فأنطقه بذلك .
رأينا ذلك التقريظ فكان كسهم أصاب الفؤاد وعجلنا إلى تنبيه بعض الأفاضل
لذلك والاستعانة به على تنبيه صاحب الجريدة لتلافي الأمر وتداركه وقد كان .
ولكن التلافي كان بعبارة غير مقبولة عند المنكرين عليها ممن عرف ذلك الكتاب
وفتنته لأنها بنيت على أن المقرظ ذكر اسم الكتاب غلطًا لأنه اشتبه عليه بغيره ,
وإنما يقبل هذا القول لو لم يذكر في التقريظ ما يشتمل عليه الكتاب من المسائل ,
أما وقد ذكرها فما معنى الغلط في اسم الكتاب ؟
هذا ما يوقع الشبهة على الجريدة والذي يناجينا به الوجدان أن المقرظ برئ
من تعمد مدح الكتاب مع العلم بما فيه وندفع شبهة ذكر المسائل والمواضيع بأنه
أخذها من الفهرست كما يفعل كثير من المقرظين المتساهلين لا سيما عند ظن الخير
في المؤلف . وعسى أن تكون هذه الواقعة عبرة وموعظة للذين يتهجمون على(1/23)
التقريظ عن غير بينة فيغشون الناس ويقودونهم إلى الضلال فيكونون ضالين
مضلين والعياذ بالله تعالى .
________________________
(( مجلة المنار ـ المجلد [ 3 ] الجزء [ 24 ] صـ 569 غرة رجب 1318 ـ 25 أكتوبر 1900 ))
قسم الأحاديث الموضوعة
العلم والعلماء
من الجلي الظاهر أن وضاع الحديث من صنف العلماء وقد وضعوا أحاديث
كثيرة لتعظيم شأن أنفسهم ؛ ليعظمهم الناس ويعتقدون تفوقهم واستعلاءهم , ثم
استنبطوا فروعًا فقهية في هذا التعظيم لأنفسهم انتهى بهم الغلوّ فيها إلى أن حكموا
بالكفر على من يهين أحدًا من العلماء حتى قال بعضهم : من قال لبابوج العالم :
بويبيج ؛ كفر , أي من صغر الحذاء المضاف إليه في اللفظ ؛ يكفر حتى كأنه أشرك
بالله واعتقد أن لأحد غيره سلطة غيبية يضرّ بها وينفع ويتصرف في الأكوان فيما
وراء الأسباب , بل كثيرًا ما يتساهل المتساهلون في جزئيات من مثل هذا
ويروّجونها بالتأويل , ولا يتساهلون فيما يمس أشخاصهم أو منافعهم ولا أعني بهذه
المقدمة أن إهانة العلماء جائزة , حاشا لله أن أجيز إهانة من دونهم , ولكنني أنكر
على الغالين الذين جعلوا دين الله آلة لمنافعهم حتى كذبوا على رسوله صلى الله عليه
وسلم مع علمهم جميعًا بأنه قال : ( من كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار )
دون من أظهروا الحق .
فمن الأحاديث الموضوعة في العلم والعلماء حديث : ( إذا كان يوم القيامة
وضعت منابر من ذهب , عليها قباب من فضة , مفضضة بالدر والياقوت والزمرد
مكللة بالديباج والسندس والإستبرق , ثم ينادي منادي الرحمن : أين من حمل إلى
أمة محمد صلى الله عليه وسلم علمًا يحمله إليهم يريد به وجه الله ؟ اجلسوا عليها ثم
ادخلوا الجنة ) . رواه الدارقطني عن ابن عمر مرفوعًا وفي إسناده كذاب .
ومنها حديث : ( خير الناس المعلمون , كلما خلق ( مثلث اللام ومعناه بلي )
جدَّدوه , أعطوهم ولا تستأجروهم فتخرجوهم , فإن المعلم إذا قال للصبي : بسم الله(1/24)
الرحمن الرحيم فقال الصبي : بسم الله الرحمن الرحيم ؛ كتب الله براءةً للصبي
وبراءةً لوالديه وبراءةً للمعلم من النار ) . وهو موضوع .
ومنها حديث : ( اللهم اغفر للمعلمين , وأطل أعمارهم , وبارك لهم في كسبهم
) رواه الخطيب عن ابن عباس وهو موضوع .
ومنها حديث : ( اللهم اغفر للمعلمين لا يذهب القرآن وأعز العلماء لا يذهب
الدين ) . وهو موضوع .
ومنها حديث : ( من علم عبدًا آية من الكتاب فهو له عبد ) قال الحافظ ابن
تيمية : هو موضوع , وقد رواه الطبراني .
ومنها حديث : ( الأنبياء قادة , والفقهاء سادة , ومجالستهم زيادة ) قال الصغاني
: موضوع , ونقول : إنه زاد في مدح الفقهاء على مدح الأنبياء , وظاهره أن
الواضع يريد المشتغلين بعلم الأحكام الظاهرة , ولم يكن يسمى هذا فقهًا في
العصر الأول كما أنه لم يكن يومئذ في المسلمين صنف يلقبون بالفقهاء .
ومنها حديث : ( سأل النبي صلى الله عليه وسلم سائل عن علم الباطن : ما هو
؟ فقال : سألت جبريل عنه , فقال : يقول الله : هو بيني وبين أحبائي وأوليائي
وأصفيائي أودعه في قلوبهم , لا يطلع عليه أحد لا ملك مقرب ولا نبي مرسل ) .
ذكره
في الذيل عن حذيفة مرفوعا . قال الحافظ ابن حجر : هو موضوع . ونقول : إن
فيه من
الضلالة أن الله يهب لهؤلاء الأولياء المعارف التي لا يهبها للأنبياء والملائكة على
الإطلاق , والظاهر أن واضعه من مشايخ الطريق الدجالين .
ومنها حديث : ( من خرج في طلب العلم ؛ حفته الملائكة بأجنحتها ,
وصلت عليه الطير في السماء والحيتان في البحار , ونزل في السماء منازل سبعين
من الشهداء ) . قالوا : في إسناده كذاب .
ومنها حديث : ( من تعلم بابًا من العلم ليعلمه الناس ابتغاء وجه الله ؛ أعطاه الله
أجر سبعين نبيًّا ) . قالوا : في إسناده متروك . ونقول : قاتل الله أمثال هذا الواضع
, فإنهم لم يزاحموا إلا الأنبياء عليهم السلام .(1/25)
ومنها حديث : ( إن أهل الجنة ليحتاجون إلى العلماء ) إلخ ما هو مذكور في
الإحياء وغيره , قال الحافظ الذهبي في الميزان : إنه موضوع .
ومنها حديث : ( طلب العلم ساعة خير من قيام ليلة , وطلب العلم يومًا خير
من عبادة ثلاثة أشهر ) . في إسناده كذاب , وكأنه أراد أن يعتذر عن عدم عبادته .
ومنها حديث : ( إذا جلس المتعلم بين يدي المعلم ؛ فتح الله عليه سبعين بابًا
من الرحمة ) إلخ , وهو موضوع .
ومنها حديث : ( من زار العلماء فقد زارني ، ومن صافح العلماء فقد صافحني ،
ومن جالس العلماء فكأنما جالسني ، ومن جالسني في الدنيا أجلس إليّ يوم القيامة ) في
إسناده كذاب .
ومنها حديث : ( الشيخ في قومه كالنبي في أمته ) . جزم ابن حجر وغيره
بأنه موضوع . ومنها الحديث المشهور الذي يعلقه كثير من العلماء فوق رؤوسهم
بالخط العريض تنبيهًا للناس على علو مقامهم وهو : ( علماء أمتي كأنبياء بني
إسرائيل ) . قال ابن بحر الزركشي : لا أصل له .
( لها بقية )
((يتبع بمقال تالٍ))
________________________
(( مجلة المنار ـ المجلد [ 3 ] الجزء [ 27 ] صـ 657 غرة شعبان 1318 ـ 23 نوفمبر 1900 ))
الأحاديث الموضوعة
في العلم والعلماء
( تابع )
ومنها حديث : ( من أراد أن يؤتيه الله علمًا بغير تعلم وهدى بغير هداية
فليزهد في الدنيا ) . قال في المختصر : لم يوجد , ونقول : إنه مناقض للواقع
وللحديث المعقول وهو ( العلم بالتعلّم والحلم بالتحلم ) .
ومنها حديث : ( الصلاة خلف العالم بأربعة آلاف وأربعمائة وأربعين صلاة ) .
قالوا : وهو حديث باطل . ونقول : كأن واضعه كان يصلي إمامًا وأحب أن
يجذب إليه الناس لأنه يلبس لباس العلماء فويل لمثله من المصلين .
ومنها حديث : ( إن لم يكن العلماء أولياء فليس لي وليٌّ ) . قال في المقاصد :
لا أعرفه حديثًا , وروي بلفظ : ( إن لم يكن الفقهاء أولياء الله في الآخرة فما لله(1/26)
ولي ) . نقول كما قلنا من قبل : إن لفظ ولي وأولياء بالمعنى الذي يفهمه الناس من
هذا القول لم يكن مستعملاً في عصر النبي صلى الله عليه وسلم , وإنما كان اللفظ
يستعمل في معناه اللغوي وهو الناصر والمُوالي , ونزيد الآن أنه لما حدث في
المسلمين الاعتقاد بأن في الناس صنفًا يسمّون الأولياء لهم شئون غيبية , ووظائف
في الدولة الروحانية , وتصرفات في العوالم العلوية والسفلية , وكان من علامتهم
عندهم إظهار التقشف والزهد في الدنيا وزيادة عبادات في الدين وغير ذلك - كبر
هذا الاعتقاد على العلماء , فمنهم من قاومه بالطرق العلمية كما يليق بالعلماء ,
ومنهم من حسد الصوفية والمتصوفة الذين تخصهم العامة بهذا الاعتقاد , فآذوا
الصادق منهم والكاذب والصالح والمنافق , ثم حاولوا إقناع الناس بأنهم هم الأولياء
فوضعوا لهم مثل هذا الحديث الآتي . ولا شك أن العلماء العاملين هم أولياء الله
وأنصار دينه .
ومنها حديث : ( حضور مجلس عالم أفضل من صلاة ألف عابد ) . ذكره
ابن الجوزي في الموضوعات . وفي معناه أحاديث كثيرة اعتنوا بها وأكثروا من
تناقلها فكثرت رواتها حتى اغتر بعض المحدثين فقال : إنها ضعيفة غير موضوعة .
منها حديث : ( ما عند الله شيء أفضل من فقه في دين , وفقيه واحد أشد على
الشيطان من ألف عابد , ولكل شيء عماد , وعماد هذا الدين الفقه ) . ولا تغتر
بقول المختصر أو المقاصد : إن أسانيد الحديث ضعيفة فحسبك عبارته دليلاً على
أن وضعه كان بعدما تنوعت العلوم الدينية في الملة , وصارت العناية منصرفة إلى
ما سموه ( علم الفقه ) , وهو علم الأحكام الظاهرية التي تنافسوا فيها وأكثروا من
التأليف ابتغاء المناصب والتقرب إلى الأمراء والسلاطين كما أوضحه الإمام حجة
الإسلام الغزالي رحمه الله تعالى . وينقل عنه أنه بعدما تصوف وانتهى إلى مقام
الكمال أراد أن يحرق جميع كتبه التي ألفها في الفقه , ولكنها كانت انتشرت في(1/27)
الناس وقال : إننا ألفناها لغير الله , ويحكى أن بعضهم قال له : ( فأبقها لله ) , وقد
أوضحنا غير مرة أن الفقه بهذا المعنى هو أقل ما في الدين ولذلك لم يحتفل به
القرآن , ولم يرد منه في السنة الصحيحة أيضًا إلا القليل ولكنهم اعتنوا بجمعه فكثر .
وإنما عماد الدين وقوامه هو الاعتقاد الصحيح وتطهير العقول من لوث الخرافات
والأوهام وتزكية النفوس من أدران الرذائل والآثام لتكون أهلاً للقرب من الله تعالى
ومجاورة الروحانيين في الملكوت الأعلى ومقام القدس الأسمى . وما وضعت
الشريعة القواعد العامة لأحكام التشريع التي يسمّونها فقهًا إلا لتكون كاملة لا يحتاج
الآخذون بها في مدنيتهم التي يمنحها إياهم دينهم إلى قوانين الأمم الأخرى , ولا
يقاسون العناء في تعريبها وتطبيقها على مصالحهم , ولتكون أحكام القوانين
باستنادها على أصول الدين مسلطة على الضمائر . وحاكمة على السرائر . لا على
مجرد الظواهر . فيكون صلاح حال الناس بها أكمل , ومراعاتهم لها أتم . ولولا
ذلك لَمَا بَعُدَ أن يبيح النبي للمسلمين أن يأخذوا بأي قانون في أمور الدنيا لأن
المقصود الأهم من الدين وراء هذه الظواهر , ألا ترى أن من أصول الشريعة
تحكيم العُرف ، واعتبرْ بحديث البخاري : ( أنتم أعلم بأمور دنياكم ) وقد سبح بنا
القلم في موضوع كان يجب أن يكتب فيه بالاستقلال .
ومنها حديث : ( إذا مات العالم ثلم في الإسلام ثلمة لا يسدّها شيء إلى يوم
القيامة ) . لم يثبت وقيل : إنه من كلام علي كرم الله وجهه , ولا أراه صحيح
النسب إليه إذ معناه غير صحيح , لأن موت العالم ثلمة يسدها وجود عالم آخر مثله
أو خير منه والإسلام إسلام .
ومنها حديث : ( النظر إلى وجه العالم عبادة ) . رواه الديلمي بلا سند وهو
كما ترى .
ومنها حديث : ( مداد العلماء أفضل من دام الشهداء ) . قال في المقاصد :
هو من قول الحسن البصري . ورواه ابن عبد البر عن أبي الدرداء مرفوعًا بلفظ :(1/28)
( يوزن يوم القيامة مداد العلماء ودم الشهداء ) وروى الخطيب عن ابن عمر :
( وزن حبر العلماء بدم الشهداء فرجح عليهم ) , وفي إسناده متهم بالوضع وروى
لفظه من رواه : ( دواة عالم أحب إلى الله من عرق مائة ثوب شهيد ) قال في الذيل :
موضوع . والاعتبار فيه كما في حديث الأولياء .
ومنها حديث : ( صرير الأقلام عند الأحاديث يعدل عند الله التكبير ... )
إلخ قال في الميزان : هذا باطل .
((يتبع بمقال تالٍ))
________________________
(( مجلة المنار ـ المجلد [ 3 ] الجزء [ 28 ] صـ 698 16 شعبان 1318 ـ 7 ديسمبر 1900 ))
الأحاديث الموضوعة
في رمضان والصوم
منها حديث : ( افترض الله على أمتي الصوم ثلاثين يومًا وافترض على
سائر الأمم قلَّ أو كثر وذلك أن آدم لما أكل من الشجرة بقي في جوفه مقدار ثلاثين
يومًا فلما تاب الله عليه أمره بصيام ثلاثين يومًا بلياليهن وافتُرِضَ على أمتي بالنهار
وما يؤكل من الليل ففضل من الله تعالى . رواه الخطيب عن أنس مرفوعًا وقال :
محمد بن نصر البغدادي ( من رواته ) غير ثقة , وهو يحدث عن الثقات بالمناكير
ونحن نقول : مثل هذا الحديث الباطل قد اغتر به بعض المفسرين وحكموه في
قوله تعالى : ? كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ? ( البقرة :
183 ) وظنوا أن التشبيه من كل وجه , ولم يساعدهم على ذلك نقل . والظاهر أنه
تشبيه أصل الكتابة علينا بالكتابة عليهم من غير نظر إلى المكتوب في مقداره
وكيفيته ولا إشكال فيه كما سيأتي في باب التفسير إن شاء الله تعالى .
وفي الحديث أيضًا تعليل الصوم وبيان الحكمة فيه , وأنها أكل آدم من
الشجرة, وهو يقتضي أن الصوم عقوبة , وقد تقدم في الجزء الماضي فساد هذا
الرأي وبيان أنه اعتقاد وثني مع بيان الحكمة الصحيحة المنصوصة في القرآن .
ورأيت الشعراني في ميزانه توسع في بيان التكاليف التي فرضت علينا بسبب أكل(1/29)
آدم من الشجرة حتى عدَّ من ذلك جميع نواقص الوضوء حتى في المذاهب المندرسة
وقال : إن سببها كله يرجع إلى الأكل إلخ ما أطنب فيه وهو نزغة نصرانية .
والمعلوم من الكتاب والسنة أن التكليف رحمة لا عقوبة ? وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ ?
( البقرة : 220 ) وأن الأبناء لا تعاقب بذنوب الآباء . بل قال الله تعالى : ? أَمْ لَمْ
يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى * أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى *
وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى ? ( النجم : 36-39 ) الآيات وهي شريعة العدل
التي كان عليها أصحاب الشرائع السماوية خلافًا لما في أسفار العهد القديم في
البعض مما لا ثقة لنا بروايته .
ومنها حديث : ( لا تقولوا رمضان فإن رمضان اسم من أسماء الله تعالى
ولكن قولوا : شهر رمضان ) . رواه ابن عدي عن أبي هريرة مرفوعًا وفي إسناده
محمد بن أبي معشر عن أبيه وليس بشيء . وقد أخرجه البيهقي في سننه وضعفه
بأبي معشر . ورواه غيرهما كذلك .
ومنها حديث : ( إذا كان أول ليلة من شهر رمضان نادى الجليلُ رضوان
خازن الجنان فيقول : لبيك وسعديك ) وفيه : ( أمره بفتح الجنة وأمر مالك بتغليق
النار ) . وهو حديث طويل يذكر في كتب الوعظ والرقائق وبعض الخطب وقد
صرح المحدثون بأنه موضوع وفي إسناده أصرم بن حوشب كذّاب .
ومنها حديث : ( لو علم العباد ما في رمضان لتمنت أمتي أن يكون رمضان
السنة كلها ) إلخ ما هو مشهور . رواه أبو يعلى عن ابن مسعود مرفوعًا , وهو
موضوع آفته جرير بن أيوب . قال الإمام الشوكاني بعدما أورد هذا عقيب ما قبله :
وسياقه وسياق الذي قبله مما يشهد العقل بأنهما موضوعان فلا معنى لاستدراك
السيوطي لهما على ابن الجوزي بأنهما قد رواهما غير من رواهما عنه ابن الجوزي
فإن الموضوع لا يخرج عن كونه موضوعًا برواية الرواة اهـ .
ومنها حديث : ( إذا كان أول ليلة من شهر رمضان نظر الله إلى خلقه(1/30)
الصوَّام, وإذا نظر الله إلى عبد لم يعذبه أبدًا ) . وفيه : ( فإذا كان ليلة النصف ..
وإذا كان ليلة خمس وعشرين .. ) . إلخ الحديث , وهو موضوع , وفيه مجاهيل
والمتهم بوضعه عثمان بن عبد الله القرشي .
ومنها حديث : ( إن الله تعالى في كل ليلة من رمضان عند الإفطار يعتق ألف
ألف عتيق من النار ) . روي عن ابن عباس ( رضي الله عنهما ) وهو لا يثبت
عنه , ورواه ابن حبان من حديث أنس بلفظ ( ستمائة ألف ) بنقص أربعمائة ألف
عن الرواية السابقة وقال : باطل لا أصل له . وقد رواه البيهقي من طريق أخرى
عن الحسن وقال البيهقي : هكذا جاء مرسلا - ومراسيل الحسن عندهم ليست
بشيء - ورواه أيضًا من حديث أبي أمامة بلفظ : ( إن لله عند كل فطر عتقاء
من النار ) . وقال : غريب جدًّا . ورواه أيضًا من حديث ابن مسعود بلفظ : ( لله
تعالى عند كل فطر من شهر رمضان كل ليلة عتقاء ستون ألفًا فإذا كان يوم الفطر
أعتق مثلما أعتق في جميع الشهر ) . ورواه الديلمي باللفظ الأول . وهو وإن
كان يروي للضعفاء إلا أن اضطراب الحديث في رواياته وما فيه من التغرير
وتجريء العوام على انتهاك الحرمات واقتراف السيئات ومن الغلو في المبالغة الذي
هو من علامات الوضع , ومن فساد المعنى بالنسبة لأشهر الروايات وهما رواية
ألف ألف ورواية ستمائة ألف ولم يكن الذين يصومون رمضان في عهده صلى الله
عليه وسلم يبلغون عدد عتقى ليلة واحدة - كل ذلك يدلنا على أن تعدد الروايات لا
ينافي وضع الحديث واختلاقه . فبعدًا لخطباء الجهالة الذين يقرأونه على المنابر
يغرّون به الناس .
ومنها حديث : ( لو أذن الله لأهل السموات والأرض أن يتكلموا لبشروا
صوَّام رمضان بالجنة ) . رواه العقيلي عن أنس مرفوعًا وقال : إسناد مجهول
وحديث غير محفوظ . وهو مما يذكره الخطباء .
ومن الأحاديث الواهية التي يذكرها الخطباء على المنابر حديث : ( نوم
الصائم عبادة وصمته تسبيح وعمله مضاعف ودعاؤه مستجاب وذنبه مغفور ) ,(1/31)
رواه البيهقي والديلمي وابن النجار من حديث عبد الله بن أبي أوْفى الأسلمي . قال
البيهقي عقيب إيراده : معروف بن حسان - أي أحد رجاله - ضعيف , وسليمان
بن عمر النخعي أضعف منه . وقال العراقي : سليمان النخعي أحد الكذابين .
ونقول : يا لله العجب من هؤلاء الذين ألفوا دواوين الخطب الجمعية كيف تحرَّوْا
الأحاديث الموضوعة والواهية , ومن أين جمعوها , ولمَ عادوا الأحاديث الصحيحة
واجتنبوها ؟ !
ومنها حديث : ( إذا غاب الهلال قبل الشفق فهو لليلة وإذا غاب بعد الشفق
فهو لليلتين ) . رواه ابن حبان عن ابن عمر مرفوعًا وقال : لا أصل له .
ومنها حديث : ( ثلاثة لا يسألون عن نعيم المطعم والمشرب - المفطر
والمتسحر وصاحب الضيف , وثلاثة لا يسألون عن سوء الخلق المريض والصائم
والإمام العادل ) . قال في الذيل : فيه مجاشع يضع . أي فهو مكذوب .
ومنها حديث : ( أنه يسبح من الصائم كل شعرة وتوضع للصائمين
والصائمات يوم القيامة تحت العرش مائدة من ذهب ) إلخ في إسناده أبو عصمة
وضّاع . ومنها حديث : ( صوموا لتصحوا ) . قال الصغاني : موضوع , وقال في
المختصر : ضعيف .
ومنها حديث : أن أنسًا أكل البَرَد وهو صائم وقال : إنه ليس بطعام فقرره
صلى الله عليه وسلم على ذلك . قال في الذيل : فيه عبد الله بن الحسين يسرق
الحديث .
ومنها حديث : ( إنما سمي رمضان لأنه يرمض الذنوب , وإن فيه ثلاث ليال
ليلة سبع عشرة وليلة تسع عشرة وليلة إحدى وعشرين من فاتته فاته خير كثير ,
ومن لم يغفر له في شهر رمضان ففي أيّ شهر يغفر له ) . قال في الذيل : في
إسناده زياد بن ميمون كذّاب .
ومنها حديث : ( أن الله أوحى إلى الحفظة أن لا تكتبوا على صوام عبيدي
بعد العصر سيئة ) . رواه الخطيب عن أنس مرفوعًا . قال الدارقطني : إبراهيم بن
عبد الله المروزي ليس بثقة حدّث عن قوم ثقات بأحاديث باطلة هذا منها . ونقول :(1/32)
هو إباحة للمعاصي في ذلك الوقت قاتل الله واضعه ما أشد إغواءه وإضلاله .
ومنها حديث : ( إذا سلمت الجمعة سلمت الأيام وإذا سلم رمضان سلمت
السنة ) , رواه الدارقطني والبيهقي عن عائشة مرفوعًا , وفي إسناده عبد العزيز بن
أبان وهو كذاب . ووراه أبو نعيم في الحلية بإسناد آخر فيه أحمد بن جمهور وهو
متهم بالكذب .
ومنها حديث : ( من أفطر على تمرة من حلال زيد في صلاته أربعمائة
صلاة ) , رواه تمام في فوائده عن أنس مرفوعًا , وفي إسناده موسى الطويل كان
يضع الحديث .
ومنها حديث : ( من تأمل خلق امرأة حتى يبين له حجم عظمها وراء ثيابها
وهو صائم فقد أفطر ) . رواه ابن عدي عن أنس مرفوعًا وهو موضوع فيه كذابان .
ومنها حديث : ( خمس يفطرن الصائم وينقضن الوضوء الكذب والنميمة والغيبة
والنظر بشهوة واليمين الكاذبة ) . قال في اللآلي : موضوع , سعيد - يعني ابن
عنبسة - كذاب والثلاثة فوقه مجروحون . أقول : وله طرق أخرى فيها وضاعون
أيضًا إلا طريق داود بن رشيد فهو متقارب ليس فيه من رمي بالكذب لكن فيه محمد
بن حجاج ضعيف , وأورده الإمام الغزالي في الإحياء بناء على أنه ضعيف يعمل
به في التنفير عن الرذائل التي لم يشرع الصوم إلا لاتقائها .
ومنها حديث : ( من أفطر يومًا من رمضان فليهد بدنة , فإن لم يجد فليطعم
ثلاثين صاعًا من تمر للمساكين ) , رواه الدارقطني عن جابر مرفوعًا وفي إسناده
مقاتل بن سليمان كذاب , و الحارث بن عبيدة الكلاعي ضعيف .
ومنها حديث : ( من أفطر يومًا من رمضان من غير رخصة ولا عذر كان
عليه أن يصوم ثلاثين يومًا , ومن أفطر يومين كان عليه ستون يومًا ومن أفطر
ثلاثًا كان عليه تسعون يومًا ) . رواه الدارقطني عن أنس مرفوعًا وقال : لا يثبت ,
عمر بن أيوب المفضل لا يحتج به , و محمد بن صبيح ليس بشيء .
ومنها حديث : ( من فطر صائمًا على طعام وشراب من حلال صلت عليه(1/33)
الملائكة ) رواه ابن عدي عن سليمان مرفوعًا . قال ابن حبان : لا أصل له ,
وفي إسناد ابن عدي متروكان , وفي إسناد ابن حبان متروك .
***
بدع رمضان ومنكراته
الصوم عبادة خفية بين العبد وربه كان من شأنها أن توجد ولا تعرف , ولكن
يحتف بها أعمال وشئون صارت بها من أظهر الشعائر الدينية جملة وتفصيلاً . وما
أجمل المسلمين وأكملهم إذا جلسوا على موائدهم قبيل المغرب وأشهى الطعام
والشراب الحلال بين أيديهم وهم في أشد الحاجة إليهما ولا يمكن لأمير ولا لسلطان
ولا لعالم ولا لجاهل أن يمدَّ يده فيتناول شيئًا حتى تأتي تلك اللحظة التي يتساوون
فيها في التناول كما كانوا متساوين في الإمساك . لكن أكثرهم أمسوا لا يعرفون من
هذه العبادة إلا حفظ شعيرة العبادة الظاهرة من غير التفات إلى سرها وحكمتها وهو
ملاحظة مراقبة الله - تعالى - وتحصيل ملكة ترك المنكرات والشهوات التي
حرّمها عليهم , ولو لاحظوا هذا المعنى لأدركوه , ولو أدركوه لما رأيتهم يغادرون
المائدة إلى اللهو واللعب فمنهم من لا يصلي المغرب , والصلاة أفضل من الصوم
بالإجماع, ومنهم من يذهب إلى الحانات والبِيَر والمراقص . وهكذا شأن الدين في
ضعفه وتلاشيه يجهل الناس أولاً أسراره الروحانية وحكمه المعنوية حتى لا تبقى
لهم إلا الصورة الحسية . ولذلك نسر بما بقي من شعائر الدين الظاهرة عسى أن
ينفخ في شبحها روح الحياة مرة أخرى بتوفيق من بقي عنده سر الدين من علمائه
للإرشاد الصحيح . وإذا نفخت هذه الروح وحلت الحياة الحقيقية في هذا التمثال
يصير خلقًا حيًّا تصدر عنه أعمال الأحياء .
( الوعظ )
هو أفضل الشعائر التي يمتاز بها رمضان في الأكثر ولكنه وُسِّدَ إلى قوم لا
شك أن الجهل المطلق خير من تعليمهم وإرشادهم . سمعت أمثل من رأيت منهم
يتكلم على العامة في الوحدانية فيقول : إن الوحدانية التي هي أصل الدين وأساسه
هي عبارة عن الاعتقاد بنفي خمسة كموم على مذهب الجمهور وستة كموم على(1/34)
مذهب آخر , وهي الكم المتصل والكم المنفصل في كل من الذات والصفات
والأفعال .. . ثم إنه استدل على الوحدانية بدليل واحد وهو أنه لو وجد إلهان
لاحتاج كل إلى الاستعانة بالآخر وذلك يوجب الدور أو التسلسل وكل منهما محال .
كذا قال , ونعوذ بالله من الجهل والإضلال , ومنهم من يعلم الناس أدعية تكفر بها
جميع المعاصي وتنال بها الدرجات العلى ويبيعهم ذلك في قراطيس ثمن الواحد
( قرش تعريفة ) , ومنهم من يعلمهم الزهد في الدنيا وهو جاهل أنه لم يبق لهم ما
يزهدون فيه , وقد استدل أحد وعاظ هذا الفريق في المسجد الحسيني على تفضيل
الفقر على الغنى بأن الفقر قديم والغنى حادث , وفاته أن الغنى من صفات الله وهو
القديم الأزلي حقيقة والفقر من صفات الناس الحادثين ، ومنهم من يعلم الناس غرائب
النوادر التي يفتتحون الكلام عليها بقولهم ( لا عيب في الحلال ) ولا يمكننا التمثيل
لها - إلى غير ذلك مما ننبه على ما نعلمه منه في الدرس الذي نلقيه في المسجد
الحسيني .
( تلاوة القرآن الكريم )
هي بالصفة المعهودة من شعائر رمضان . ومن منكراتها في المساجد أنهم
يجتمعون لها لأجل التلذذ بالتلحين والتغني بالقرآن ولذلك لا يجلسون إلا إلى صاحب
الصوت الحسن . ومنها أن القراء يرفعون أصواتهم فيشوشون على المصلين .
ومنها أنهم يأتون بالحركات والأصوات التي اعتادوها عند سماع المعازف والأغاني
الغرامية . وما كان أجدرهم بالخشوع والبكاء والتذكر والاعتبار عند سماع الكلام
الذي وصفه الله - تعالى - بقوله : ? لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا القُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً
مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ? ( الحشر :
21 ) ولو تفكروا وخشعت قلوبهم لخشعت جوارحهم . ومن منكراتها في الدور
والقصور أن القراء يجعلون في محالّ الخدم وأنهم لا يصغون لتلاوتهم بل يشتغلون
عنها باللهو الباطل إلخ .(1/35)
((يتبع بمقال تالٍ))
________________________
(( مجلة المنار ـ المجلد [ 3 ] الجزء [ 30 ] صـ 777 16 رمضان 1318 ـ 7 يناير 1901 ))
قسم الأحاديث الموضوعة
الموضوعات في العلماء والزهاد
ذكرنا في الجزأين 27 و 28 من السنة الماضية بعض الأحاديث الموضوعة
في تعظيم العلماء وإطرائهم ، وبقي علينا بقية منها ، وأن نذكر الأحاديث
الموضوعة في انتقادهم على عدم العمل ، وانتقاد العباد بغير علم ، وأكثر
الموضوعات في الإطراء وضعها علماء السوء لتعظيم أنفسهم على المتصوفة الذين
تخصهم العامة بالتعظيم والإكرام واعتقاد الولاية ، وأكثر تلك الأحاديث الانتقادية
وضعها مدعو الإصلاح والولاية للحط من شأن العلماء الذين يظهر من عملهم أنهم
لا يريدون بعلمهم إلا المال والجاه ، وهكذا كانت المحاسدة بين الفريقين إلا من
عصم ربك من المخلصين ؛ ولكن الانتصار كان للعلماء إلا في الأزمنة التي ساد
فيها الجهل ، وصار الأمراء كالعامة في اعتقاد جهلة مدعي الولاية أوالمتظاهرين
بالصلاح ، وآل الأمر إلى مشاركة العلماء لهم في هذا الاعتقاد والتظاهر به ؛ لئلا
يتهموا وتنحرف عنهم العامة ، فيفوتهم الانتفاع منها ، ولا تنس استثناء المخلصين ،
وقليل ما هم .
فمن هذه الموضوعات حديث : ( يكون في آخر الزمان علماء يُرَغِّبون الناس
في الآخرة ولا يرغبون ، ويُزَهِّدون الناس في الدنيا ولا يزهدون ، وينبسطون عند
الكبراء ، وينقبضون عند الفقراء ، وينهون عن غشيان الأمراء ( أي : زيارتهم
والتردد عليهم ) ولا ينتهون ، أولئك الجبارون عند الرحمن ) وفي إسناده نوح بن
أبي مريم أحد المشهورين بالكذب ، ولا يغرنك كون مضمونه واقعًا الآن ، فتستدل
به على صحته ؛ فإنهم ما وضعوه إلا لواقع متحقق ، وما كل صحيح المعنى يصح
رواية .
ومنها حديث : ( يأتي على أمتي زمان يحسد الفقهاء بعضهم بعضًا ، ويغار
بعضهم على بعض كتغاير التيوس ) ، في إسناده متهم بالوضع ، وإن صح معناه .(1/36)
ومنها حديث : ( من فتنة العَالِم أن يكون الكلام أحب إليه من الاستماع ) ، وهو
موضوع .
ومنها حديث : ( هلاك أمتي عالم فاجر ، وعابد جاهل ، وشرار الشرار شرار
العلماء ، وخيار الخيار خيار العلماء ) ، لم يوجد وإن صح معناه .
ومنها حديث : ( لا تجوز شهادة العلماء بعضهم على بعض ) ، قالوا : إسناده
لا يصح .
ومنها حديث : ( الزبانية أسرع إلى فسقة حملة القرآن منهم إلى عبدة
الأوثان ) ، وهو موضوع ، وقال ابن حبان : باطل . وفي إسناده من يتهم بالوضع ،
وذكر له في اللآلئ المصنوعة طرقًا لا يصح منها شيء .
ومنها حديث : ( المتعبد بغير فقه كالحمار في الطاحونة ، ما اتخذ الله من ولي
جاهل ، ولو اتخذه لعلَّمه ) ، قال ابن حجر : ليس بثابت . قلت : كانوا يحتجون به
على الجهال الأميين الذين يدَّعون الولاية ، ويصدقهم العوام لتظاهرهم بالصلاح ،
وما كان هؤلاء ينتهون عن دعواهم ؛ لأن لهم من العامة قوة يغلبون بها الحق على
قاعدة بسمارك ، وقد أنكر بالحديث أحد العلماء على أحد أدعياء الأولياء الجهلاء ،
وكان لم يره ، وبلغ الولي ذلك ، فاتفق أن اجتمعا في مجلس مصادفة ، فابتدر الولي
العالم بقوله : ( اتخذني وعلمني ) ، فعدها له الناس مكاشفة وزادوا به اعتقادًا ؛ لأن
كرامة وهمية كهذه تهدم ألف قاعدة من قواعد العلم والدين ، وهذا العلم الذي يسميه
الصوفية ( اللدني ) لا يتناول علوم الرواية والأحكام كالحديث والفقه واللغة كما بينه
الفقيه ابن حجر في الفتاوى الحديثية ؛ ولذلك تجد أكابر الصوفية الصادقين يحتجون
بالأحاديث الموضوعة ؛ إذ لم يكونوا من المحدثين ؛ ولكن أين من يعقل ويفهم ؟
ومنها حديث : ( أشد الناس حسرة يوم القيامة رجل أمكنه طلب العلم في
الدنيا فلم يطلبه ، ورجل علم علمًا ، فانتفع به من سمعه منه دونه ) ، قال ابن
عساكر منكر .
ومنها حديث : ( من نصح جاهلاً عاداه ) ، قالوا : لم يرد مرفوعًا ، أي لم(1/37)
ينسبه أحد للنبي صلى الله عليه وسلم ، وقد جاء في كلام بعض السلف ، أقول : إذا
أراد قائله بالجاهل الأحمقَ السفيهَ فله وجه ، وأما إذا أراد غير العالم فهو خطأ
وضلال يقتضي ترك التعليم والنصيحة ، وفي ذلك محو الدين بالمرة .
ومنها حديث : ( يقول الله عز وجل يوم القيامة : يا معشر العلماء إني لم أضع
علمي فيكم إلا لمعرفتي بكم ، قوموا فإني قد غفرت لكم ) ، رواه ابن عدي عن واثلة
ابن الأسقع مرفوعًا ، وقال : هذا منكر ، لم يتابع عثمان بن عبد الرحمن القرشي عليه
الثقات . وله إسناد آخر عند ابن عدي عن أبي موسى الأشعري مرفوعًا ، وقال : في
إسناده طلحة بن يزيد متروك ، وهذا الحديث بهذا الإسناد باطل .
ومنها حديث : ( إن العالم الرحيم يجيء يوم القيامة وإن نوره قد أضاء يمشي
فيه بين المشرق والمغرب ، كما يضيء الكوكب الدري ) ، رواه أبو نعيم والخطيب ،
قال في الميزان : هذا خبر باطل .
ومنها حديث : ( إذا كان يوم القيامة جاء أصحاب الحديث بأيديهم المحابر ،
فيأمر الله جبريل أن يأتيهم ويسألهم وهو أعلم بهم فيقول : من أنتم ؟ فيقولون : نحن
أصحاب الحديث ، فيقول الله تعالى : ادخلوا الجنة على ما كان منكم طالما كنتم
تصلون على نبيي في دار الدنيا ) ، قال الخطيب : موضوع ، والحمل فيه على الرقي
يعني محمد بن يوسف بن يعقوب الرقي ، وقد ذكره الذهبي في الميزان ، وقال : إنه
وضع هذا الحديث . أقول : حيَّا الله تعالى علماء الحديث .
ومنها حديث : ( من حفظ على أمتي أربعين حديثًا لقي الله يوم القيامة فقيهًا
عالمًا ) ، رواه ابن عبد البر وضعَّفه ؛ ولكن قال صاحب الذيل : هو من أباطيل
إسحق الملطي . وقال في المقاصد : طرقه في جزء ليس فيها طريق تسلم من علة
قادحة . وقال البيهقي : هو متن مشهور وليس له إسناد صحيح . أقول : وسبب
شهرته عناية العلماء بحفظ الأربعينات رجاء أن يكون ثابتًا في الواقع وإن لم يصح
سنده .(1/38)
وقد ورد في العلماء والعباد أحاديث أخرى تكلم فيها بعض ، واحتج بها
آخرون ، منها حديث : ( شرار العلماء الذين يأتون الأمراء ، وخيار الأمراء الذين
يأتون العلماء ) ، روى ابن ماجه شطره الأول بسند ضعيف . وروي بلفظ ( العلماء
أمناء الرسل على عباد الله ما لم يخالطوا السلطان ، فإذا فعلوا ذلك فقد خانوا الرسل
فاحذروهم واعتزلوهم ) ، قيل : هو موضوع وفي إسناده مجهول ومتروك . وتعقب
ذلك .
وما زال العلماء العاملون والصوفية المخلصون يحتجون بهذا الحديث ، وما
ورد في معناه ؛ لأنه مؤيد بسيرة السلف الصالح ، وكانوا يتهمون كل عالم يغشى
مجالس الأمراء والسلاطين إلا إذا كان بمقدار ما يؤدي النصيحة الواجبة ولم يأخذ
من عطاياهم شيئًا ، وإحياء علوم الدين طافح بآثار السلف في ذلك ، وقد انقلب
الأمر الآن ؛ فإننا نرى من الناس من يستدل على حسن حال المنتسبين إلى العلم
والصلاح بالقرب من الملوك والأمراء ، وربما يعدون من كراماتهم ما يمنحونه من
الحلي والحلل الذهبية والفضية التي تسمى النياشين وكسوة الرتبة والتشريف ، فلا
حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
ومنها حديث : ( أكثر منافقي هذه الأمة قراؤها ) ، رواه أحمد والطبراني ،
والقراء : العلماء ، والله أعلم .
________________________
(( مجلة المنار ـ المجلد [ 4 ] الجزء [ 1 ] صـ 35 غرة ذو القعدة 1318 ـ 20 فبراير 1901 ))
عود إلى سرد الأحاديث الموضوعة
مناقب الصديق
( 1 ) حديث إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم وآله وسلم قال : ( يا أبا بكر ألا
أبشرك ؟ قال : بلى فداك أبي وأمي ، قال : إن الله عز وجل يتجلى للخلائق يوم
القيامة عامة ويتجلى لك خاصة ) رواه الخطيب عن أنس مرفوعًا ، وقال : لا أصل له
وضعه محمد بن عبد بن عامر ، وله طرق منها أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال
لأبي بكر : ( أعطاك الله الرضوان الأكبر ) فقال بعض القوم : يا رسول الله وما(1/39)
الرضوان الأكبر ؟ قال : ( يتجلى الله في الآخرة لعباده المؤمنين عامة ويتجلى لأبي
بكر خاصة ) رواه أبو نُعيم عن جابر مرفوعًا ، وفي إسناده محمد بن خالد الختلي وهو
كذاب ، ولا يَغُرنك ذِكْر الحاكم له في مستدركه فكم في المستدرك في الأحاديث
الموضوعة والواهية .
( 2 ) حديث إن أبا بكر قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إني كنت معك في
الصف الأول فكبرت وكبرت فاستفتحت بالحمد فقرأتها فوسوس إليَّ شيء من
الطهور ، فخرجت إلى باب المسجد فإذا أنا بهاتف يهتف بي وهو يقول : وراءك ،
فالتفت فإذا أنا بقدس من ذهب مملوء ماء ، أبيض من الثلج وأعذب من الشهد
وألين من الزبد عليه منديل أخضر مكتوب عليه : لا إله إلا الله . الصديق أبو بكر ،
فأخذت المنديل فوضعته على منكبي وتوضأت للصلاة وأسبغت الوضوء ورددت
المنديل على القدس ، ولحقتك وأنت في ربع الركعة الأولى فتممت صلاتي معك
يا رسول الله ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : أبشر يا أبا بكر الذي وضأك
للصلاة جبريل ، والذي مندلك ميكائيل ، والذي مسك ركبتي حتى لحقت للصلاة
إسرافيل . هو موضوع ومحمد بن زياد المذكور في إسناده كذاب ، وقد روى نحو هذا
لعلي بن أبي طالب ، وفيه ذكر المنطل والمنديل ، والكل كذب موضوع .
ونقول : يا ليت عزرائيل انتقم من واضع هذا الحديث ؛ لأنه لم يجعل له حظًّا
في هذه الخدمة فأخذ روحه الخبيثة قبل أن تصل أكاذيبه إلى الناس . وإن الممارس
للسنة الفقيه في الدين ليعرف فيه الكذب وإن لم يطلع على نقلنا عن المحدثين في
وضعه وكذب مخترعه ، ولكن جهلة العامة يُفتنون بمثله وينظمونه في سلك الكرامات
والخوارق .
( 3 ) حديث إن الله لما خلق الأرواح اختار روح أبي بكر الصديق من بين
الأرواح ، فجعل ترابها من الجنة ، وماءها من الحيوان ، وجعل له قصرًا في الجنة
من درة بيضاء ... إلخ رواه الخطيب عن عائشة مرفوعًا ، وقال : لا يثبت وقد اتهم(1/40)
به هارون بن أحمد العلاف المعروف بالقطان . وقد جزم الذهبي في ترجمته
من الميزان بأن هذا باطل ، وفي معناه أحاديث نترك ذكرها ، فلتقس عليه .
( 4 ) حديث أن يهوديًّا قال لأبي بكر : والذي بعث موسى وكلمه تكليمًا إني
أحبك ، فلم يرفع أبو بكر له رأسًا تهاونًا به فهبط جبريل وقال : ( يا محمد إن العلي
الأعلى يقرئك السلام ويقول لك : قل لليهودي الذي قال لأبي بكر : إني أحبك - إن
الله قد أحاد عنه في النار خلتين : لا توضع الأنكال في عنقه ولا الأغلال في عنقه
لحبه أبا بكر ... ) ... إلخ رواه ابن عدي عن أنس مرفوعًا وهو موضوع في
إسناده وضَّاعان .
( 5 ) حديث : ( إن الله جعل أبا بكر خليفتي على دين الله ووحيه فاسمعوا
له تفلحوا وأطيعوه ترشدوا ) رواه الخطيب عن ابن عباس مرفوعًا ، وهو موضوع
للاحتجاج به على الشيعة ، بل كل هذه الأحاديث قد وضعت لمثل هذا الغرض فقد
كانت سوق الرواية رائجة في أيام الفتن والخلاف ، فوضع الكذابون من كل قوم
من الأحاديث ما شاءوا ، ينصرون بها مذهبهم فما كان أشأم تلك المذاهب على
الإسلام ! ! !
( 6 ) حديث : بينما النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع جبريل إذ مرَّ أبو بكر
فقال : ( هذا أبو بكر ) قال : ( أتعرفه يا جبريل ؟ ) قال : ( نعم ، إنه لفي السماء
أشهر منه في الأرض وإن الملائكة لتسميه حليم قريش ، وإنه وزيرك في حياتك
وخليفتك بعد موتك ) رواه ابن حبان عن أبي هريرة مرفوعًا ، وفي إسناده إسماعيل
ابن محمد بن يوسف كذاب . وذكر له صاحب ( اللآلئ المصنوعة في الأحاديث
الموضوعة ) طريقًا أخرى فيها وضاع . وقال الذهبي : إسناده مظلم ، وتعقبه ابن
حجر في لسان الميزان بأن رجاله معروفون بالثقة ، وليس فيهم من ينظر في حاله إلا
المعلَّى بن الوليد ، وقد ذكره ابن حبان في الثقات . قال في الفوائد المجموعة مستدركًا
على ابن حجر : بل في إسناده إسماعيل بن محمد وهو كذاب ، وقد قال الحاكم : إنه(1/41)
يروي الموضوعات . فلينظر القارئ كيف يشتبه في مثل هذا الحديث الحافظ ابن
حجر ، وينسى إسماعيل الذي حكم عليه بالوضع الحاكم على تساهله ووقوعه في
رواية الموضوعات بحسن ظنه .
________________________
(( مجلة المنار ـ المجلد [ 6 ] الجزء [ 9 ] صـ 355 غرة جمادى الأول 1321 ـ 26 يوليو 1903 ))
حديث غريب
حديث في جمع الجوامع
وصدى دعوة المنار لتعميم العربية
( س5 ) من عبد الرحمن أفندي مستقيم بقرية زويه التابعة لمركز سينبر
( الروسية ) قال - بعد الثناء والدعاء - :
أما بعد فقد قرأت في مناركم الأغر جوابكم لسؤال عبد الحق الأعظمي في
شأن قراءة الخطبة بغير العربية فوجدت كل كلمة منه شجرة طيبة أصلها ثابت
وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها كما تحب وترضى وتشاء
فهذه جنات تجري من تحتها الأنهار ، وهذه أشجار تنثر على المستظلين بها أحلى
الثمار ، وقلت في نفسي : كيف لا وهو جواب مَن امتزجت العلوم بروحه امتزاج
الماء بالراح ، ورسخت الفهوم في صدره مع عظيم الانشراح ، كشفتم الحجب
والأستار من بيننا ؛ لأن هذه المسألة كانت متنازعة من منذ زمان بيننا ، زاد الله
عمركم وإقبالكم ، وكثّر أمثالكم .
( سترون جرًّا جديدًا بحبل حديد ) ، بعض العلماء يقول : هو حديث نبينا
صلى الله عليه وسلم مذكور في جامع الجوامع للسيوطي . وبعضهم يقول : ليس
بحديث ؛ لأن ألفاظه تأبى أن يكون حديثًا . والحقير رجعت إلى ( كشف الظنون )
فما وجدت كتابًا اسمه جامع الجوامع للسيوطي وراجعت أيضًا كتاب السيوطي
المسمى بحسن المحاضرة في أخبار مصر و القاهرة وعد كتب المؤلف فيه فما
وجدت فيه أيضًا الكتاب المذكور فنرجو من سيادتكم أن تبين لنا القول المذكور هل
هو حديث أم لا ؟ وإن كان حديثًا ففي أي الكتب هو مذكور ؟ في مناركم الغراء ليقف
عليه كل من يريد الاستفهام عنه ودمتم وعناية المولى ترعاكم .
( ج ) للسيوطي كتاب جمع فيه كتب الحديث المعروفة للحُفاظ والمحدثين(1/42)
وجميع ما وقف عليه من الأحاديث المتفرقة في غيرها من الكتب وسماه ( جمع
الجوامع ) ويطلق عليه أيضًا اسم الجامع الكبير . وكتابه الجامع الصغير المشهور
مختصر من قسم الأقوال من ذلك الكتاب . والكتاب جامع للأحاديث الصحيحة
والضعيفة وكثير من الموضوعات فوجود الحديث المسؤول عنه فيه لا يقتضي إثبات
إسناده إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فبحث بعض العلماء في أسلوبه وزعمهم
أنه على غير الأساليب المعهودة في الحديث له وجه .
________________________
(( مجلة المنار ـ المجلد [ 6 ] الجزء [ 18 ] صـ 708 16 رمضان 1321 ـ 5 ديسمبر 1903 ))
الأحاديث الموضوعة في الصيام و رمضان
حديث : ( إذا غاب الهلال قبل الشفق فهو لليلة وإذا غاب بعد الشفق فهو
لليلتين ) ، قال ابن حِبَّان : لا أصل له .
حديث : ( إذا كان أول ليلة من رمضان نادى الجليل رضوان خازن الجنة ،
فيقول : لبيك وسعديك . فيقول : هيئ جنتي وزينها للصائمين من أمة أحمد ولا تغلقها
عنهم حتى ينقضي شهرهم . ثم ينادي جبريل : يا جبريل . فيقول : لبيك ربي
وسعديك . فيقول : انزل إلى الأرض فغل مردة الشياطين عن أمة أحمد لا يفسدوا
عليهم صيامهم . ولله في كل ليلة من رمضان عند طلوع الشمس وعند وقت الإفطار
عتقاء يعتقهم من النار عبيد وإماء وله في كل سماء ملك ينادي .. إلخ ) الحديث
بطوله لا يصح ؛ لأن أصرم راويه كذَّاب .
حديث : ( لو علم العباد ما في رمضان لتمنت أمتي أن يكون رمضان السنة
كلها ) فقال رجل من خزاعة : حدثنا به . قال : ( إن الجنة تزين لرمضان من
رأس الحول إلى الحول حتى إذا كان أول يوم من رمضان هبت ريح من تحت
العرش فصفقت ورق الجنة فينظر الحور العين إلى ذلك فيقلن : يا رب اجعل لنا
من عبادك في هذا الشهر أزواجًا تقر أعيننا بهم وتقر أعينهم بنا .. إلخ ) . موضوع ،
آفته جرير بن أيوب . قال الشوكاني بعد الإشارة إلى الحديث وما قبله في فوائده :(1/43)
وسياقه ( أي : الأخير ) وسياق الذي قبله مما يشهد العقل بأنهما موضوعان فلا معنى
لاستدراك السيوطي لهما على ابن الجوزي بأنه قد رواهما غير مَن رواهما عنه ابن
الجوزي ؛ فإن الموضوع لا يخرج عن كونه موضوعًا برواية الرواة .
حديث : ( إن الله يعتق في كل ليلة رمضان ستمائة ألف عتيق من النار ..
إلخ ) موضوع ، وله روايات بألفاظ أخرى ما زادته إلا نكارة وتوغلاً في الوضع
والبعد من العقل والدين . وقد كنا ذكرنا هذه الأحاديث وغيرها من موضوعات
رمضان في المجلد الرابع ، وإنما أعدنا التذكير ببعضها الآن لكثرة تداولها وغرور
الناس بها .
________________________
(( مجلة المنار ـ المجلد [ 6 ] الجزء [ 18 ] صـ 718 16 رمضان 1321 ـ 5 ديسمبر 1903 ))
فتاوى المنار
لو اعتقد أحدكم بحجر لنفعه !
( س2 ) الشيخ محمد حلمي أستاذ العربية بمدرسة سواكن الأميرية :
ضمني وبعض العلماء مجلس ودار بيننا الحديث في مرتبة الرسل والأنبياء
عليهم الصلاة والسلام والأولياء وآل البيت بعد الممات وهل هم قادرون على إجابة
دعوة الداع إذا دعاهم وهل يملكون لأنفسهم نفعًا أو ضرًّا وفي : ( لو اعتقد أحدكم في
حجر لنفعه ) ! هل هو حديث صحيح ومذكور في البخاري وفي الجامع الصغير .
فقلت أنا بالسلب في الكل وقالوا هم بالإيجاب ، وقد رأينا أن نكتب لجنابكم لتأتوا لنا
في مجلتكم ( المنار ) بفصل الخطاب ؛ فإنك نِعم الحكم الذي تُرضى حكومته ، ولكم
من الله الأجر ومنا الشكر .
( ج ) دعوة غير الله تعالى شرك ونعني بها اللجأ إلى غيره في طلب ما وراء
المساعدة والمعاونة الكسبية التي تكون بين الناس عادة : ? وَأَنَّ المَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ
تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً ? ( الجن : 18 ) وقد أمر الله نبيه أن يبين للناس عمل الرسل
ووظيفتهم بقوله : ? قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً * قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ(1/44)
ضَراًّ وَلاَ رَشَداً * قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً * إِلاَّ
بَلاغاً مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ 000 ? ( الجن : 20-23 ) إلخ ، قال البيضاوي وغيره في
تفسير قوله : ? ضَرًّا وَلاَ رَشَدًا ? أي : لا ضرًّا ولا نفعًا ولا غيًّا ولا رشدًا ( عبّر عن
أحدهما باسمه وعن الآخر باسم سببه أو مسببه إشعارًا بالمعنيين ) ، أو هذا هو
الذي يسميه البُلغاء ( الاحتباك ) ومنه قوله تعالى : ? لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ
زَمْهَرِيراً ? ( الإِنسان : 13 ) ؛ أي : شمسًا ولا قمرًا ولا حرًّا ولا زمهريرًا . وقالوا
في قوله ? إلا بلاغًا ? : إنه استثناء من قوله : ( لا أملك ) ؛ أي : لا أملك إلا
التبليغ والله الفاعل المؤثر الذي ينفع الناس ويرشدهم بالفعل . وهذه الآية بمعنى قوله
تعالى : ? قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ ? ( فصلت : 6 ) وما في معناها من آيات
حصر وظيفة الأنبياء في التبليغ وقد شرحنا المقام مرارًا كثيرة .
وأما الحديث فقد جاء في كتاب ( اللؤلؤ المرصوع ) ، فيه ما نصه : حديث
( لو حسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه ) موضوع كما قاله ابن تيمية . وقال ابن
الجوزي : هو من كلام عُبّاد الأصنام . اهـ ومن أعجب العجائب أن أمة التوحيد قد
فشا فيها هذا الحديث المفترى منذ فشت فيهم نزغات الوثنية ودعاء غير الله حتى إن
كل عامي يحفظه ، ولما نبهنا على وضعه في درسنا العام في المسجد الحسيني وبينا
فساد الاحتجاج به قام بعض السدنة لتلك الهياكل يغري العامة بالقول بأننا نفسد لهم
دينهم أن قلنا - في عمود الرخام الذي في المسجد يتمسح به الناس ويلتمسون نفعه - :
إنه لا ينفع في الحقيقة ولا يضر وأن النافع الضار هو الله وحده ولكنه جعل للنفع
والضر أسبابًا وهدانا لاجتناب الضار واجتلاب النافع بما وهب لنا من العقل(1/45)
والحواس والدين ، وعَمَّ اللغط بذلك ، حتى نصرنا الله رب العالمين .
* * *
الدعاء بين الخطبتين
(س3) الشيخ مبين شيخ رواق الأفغان في الأزهر : ما قولكم دام فضلكم في
رفع اليدين والصوت وتشويش الناس بالدعاء عند جلوس الإمام على المنبر بين
الخطبتين في يوم الجمعة كما هو رسم في زماننا فهل هو سنة أو مندوب أو بدعة أو
مكروه ؟ وحديث عبد الله بن سلام أصح من حديث أبي موسى الأشعري في تعيين
الساعة التي يجاب فيها الدعاء . بينوا تؤجروا أثابكم الله .
(ج) حديث أبي موسى الذي يشير إليه السائل هو أن النبي عليه السلام يقول
في ساعة الجمعة : هي ما بين أن يجلس الإمام - يعني على المنبر - إلى أن يقضي
الصلاة . رواه مسلم و أبو داود وقد أعلوه مع ذلك بالانقطاع والاضطراب ؛ أما
الأول : فلأن مخرمة بن بكير راويه عن أبيه قد نقل عنه أنه قال : إنه لم يسمع من
أبيه شيئًا .
وأما الثاني : فهو أنهم قالوا : إن أكثر الرواة قد جعلوا هذا الحديث من قول أبي
بردة مقطوعًا وأنه لم يرفعه غير مخرمة عن أبيه بردة ... إلخ ما قالوه وقد
استدركه الدارقطني على مسلم . وأما حديث عبد الله بن سلام فهو ناطق بأن الساعة
التي يجاب فيها الدعاء هي آخر ساعة من النهار وقد رواه ابن ماجه مرفوعًا ورواه
مالك وأصحاب السنن وغيرهم من طريق محمد بن إبراهيم عن أبي سلمة عن أبي
هريرة عن عبد الله بن سلام من قوله ورجاله رجال الصحيح وفي معناه أحاديث
أخرى تؤيده ويعارضها حديث أبي سعيد عند أحمد و ابن خزيمة و الحاكم وهو أنه
سأل النبي عنها فقال : ( قد كنت علمتها ثم أنسيتها كما أنسيت ليلة القدر )
ورجاله رجال الصحيح أيضًا ، وأجيب عنه بأنه لا يصلح للمعارضة لجواز أن يكون
ذكر بعد ما نسي .
وللعلماء في تعيين ساعة الإجابة أربعون قولاً ونيف والأكثرون على ترجيح
أحد الحديثين المشار إليهما في السؤال ، والأرجح أنها آخر ساعة من نهار الجمعة(1/46)
والمراد بالساعة الزمانية وتصدق بدقيقة أو دقائق .
أما رفع اليدين والأصوات بالدعاء عند جلوس الخطيب بين الخطبتين فلا
نعرف له سنة تؤيده ولا بأس به لولا التشويش وأنهم جعلوه سنة متبعة بغير دليل
والمأثور طلب السكوت إذا صعد الإمام المِنبر ، وإنما السكوت للسماع ؛ لذلك نقول :
لا بأس بالدعاء في غير وقت السماع ، ولكن يدعو خُفية ، لا يؤذي غيره بدعائه
ولا يرفع كل الناس أيديهم ، فيكون ذلك شعارًا من شعائر الجمعة بغير هداية من
السنة فيه ؛ بل إنهم يخالفون صريح السنة ؛ إذ يقوم الإمام ويشرع في الخطبة
الثانية وهم مستمرون على دعائهم ، فأَولى لهم سماع وتدبر وقت الخطبة وفكر
وتأثر وقت الاستراحة وأهون فعلهم هذا أن يكون بدعة مكروهة والله أعلم .
* * *
______________________
(( مجلة المنار ـ المجلد [ 6 ] الجزء [ 20 ] صـ 792 16 شوال 1321 ـ 4يناير 1904 ))
الآثار المكذوبة
محمد البشير ظافر الأزهري
اعتاد كثير ممن أراد الله بهم شرًا على الاختلاق والتدليس ، وزيادة أشياء في
الدين ، ما أنزل الله بها من سلطان ؛ ليجلبوا بها نفعًا ويكسبوا بها حطامًا ، فكذبوا
وزوروا آثارًا ، ونسبوها للنبي صلى الله عليه وسلم وغَرُّوا بذلك العامة ، ومَوَّهُوا
عليهم حتى اعتقدوا صدق تلك الآثار ، ورسخ في أذهانهم أنها من الحقائق ، مع أنها
مزورة بلا ريب ، ويعرفها كذلك كل من له إلمام بالحديث الشريف ، ووقوف على
السنة النبوية ، واطلاع على السيرة الشريفة والشمايل المنيفة ، وخبرة بالتاريخ
وتبحّر في المعارف ، وبُعد عن الخرافات والأوهام .
وكثيرًا ما تستر الأوهام أنوار الحقائق ، وتحجب شموس المعارف ، ثم لا تلبث
أن تزول لذوي الاطلاع والنقد والاختبار ، فلا تغرهم تلك الزخارف ولا ينخدعون
بأعمال العامة والجهلة ، ولا يقلدونهم في أعمالهم الفاسدة التي درجوا عليها ، واطمأنوا
بها ، وركنوا إليها ركونًا عظيمًا .(1/47)
لبّس هؤلاء المزورون على المسلمين وأدخلوا في الديانة الإسلامية ما ليس
منها ، وحسنوا لهم أعمال أهل الوثنية كالتمسح بالأحجار والأخشاب والأشجار
وتقبيل الأبواب والآثار المزورة ؛ كأثر القدم المعزو للنبي صلى الله عليه وسلم كذبًا
وزورًا في الجامع الأحمدي ، و جامع قايتباي ومسجد سيدي عبد الرازق
بالإسكندرية وحجر المرفق و مسجد البغلة والآثار التي بالرباط الكائن بقرب بركة
الحبش على شاطئ النيل .
قال المؤرخ المقريزي : وكان شيخنا السراج البلقيني يطعن في هذه الآثار
ويذكر أن له فيها مصنفًا : فترى هناك العامة مزدحمين على التمسح بتلك الآثار
والأحجار أي ازدحام معتقدين فيها اعتقادًا كبيرًا ، ملتمسين منها البركات الموهومة ،
مستشهدين بالأحاديث الموضوعة على أن الاعتقاد بالأحجار ينفع ، مع أن ذلك من
شأن أهل الوثنية ؛ فإنهم يحسنون ظنهم بالأحجار ، وهؤلاء تشبهوا بهم ، وساروا
على طريقهم ، ولم يكتفوا بتلك الأعمال حتى اعتقدوا أنها قربة تقربهم إلى الله تعالى
زلفى ؛ مع أنها مفسدة كبرى ودين الإسلام بريء من هذه الأفعال ، ومن نسبتها إليه ،
ومنزه عن أفعال الوثنيين ، وعقائدهم الباطلة التي لا يركن إليها مَن اطّلع على
السنّة ، وأُشرب قلبه بالتوحيد ، وابتعد عن الشرك .
وقد رأينا إتمامًا للفائدة أن نذكر ههنا نص الفتوى التي أفتى بها حافظ الأنام
شيخ الإسلام الإمام أبو العباس أحمد ابن تيمية الحنبلي فيما نقله عنه تلميذه الحافظ
ابن القيم وغيره وهي : ( أن الجهال تخترع أحجارًا يزعمون أن فيها أثر قدم النبي
صلى الله عليه وسلم فيتمسحون بها ويقبلونها كما يقول الجهال في الصخرة التي في
بيت المقدس من أن فيها أثرًا من موطئ قدم النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي دمشق
مسجد يسمى مسجد القدم يقال : إن ذلك أثر قدم موسى عليه السلام . وهو باطل لا
أصل له ، ولم يقدم موسى دمشق وما حولها ، ومثله أحجار بمصر ، وغيرها من(1/48)
البلدان افتراها الكاذبون ، واستخفّوا بها عقول العامة ؛ بل ما يروى من حديث أنه
صلى الله عليه وسلم كان إذا وطئ على الصخر أثَّر فيه قدمه ، كل ذلك من الكذب
المختلق ، لم ينقله أحد من أهل العلم بأحواله صلى الله عليه وسلم ؛ بل هو كذب
عليه ، فلا يغتر بنقل كثيرين متساهلين في ذلك ساكتين عن حكم الحديث .
وقد اتفق العلماء على ما مضت به السنة من أنه لا يشرع الاستلام والتقبيل لمقام
إبراهيم الذي ذكره الله في قوله تعالى : ? وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ? ( البقرة :
125 ) ، وذكر الأزرقي عن قتادة : أُمروا أن يصلوا عنده ولم يؤمروا بمسحه ، ولقد
تكلفت هذه الأمة شيئًا ما تكلفت به الأمم قبلها ذكر لنا من رأى أثره وأصابعه ( كذا )
فما زالت هذه الأمة تمسحه حتى اخلولق ، وأيضًا فإن المكان الذي كان النبي صلى الله
عليه وسلم يصلي فيه كالمدينة المنورة دائمًا لم يكن أحد من السلف يستلمه ، ولا يقبله ،
فكيف بما لا تعلم صحته من آثاره عليه الصلاة والسلام ، وبما يعلم أنه مكذوب
كحجارة كثيرة يأخذها الكذابون ، وينحتون فيها موضع قدم ويزعم غيرهم من الجهال
أن هذا موضع قدم النبي صلى الله عليه وسلم ، فإذا كان هذا غير مشروع في موضع
قدميه وقدمي إبراهيم الخليل عليه السلام فكيف يقال : إنه موضع قدميه ؟ كذبًا وافتراءً
عليه ؛ كالموضع الذي بصخرة بيت المقدس وغيره من المقامات . اهـ من كتاب
تنزيه المصطفى المختار عما لم يثبت من الآثار ، للعلامة المحقق الشيخ أحمد بن
العجمي الوفائي الشافعي .
جاء الإسلام بقطع شأفة الوثنية ورفع أعلام التوحيد ، ومحو العقائد الباطلة
الراسخة في الأذهان ، ونفي كثير من الأباطيل التي كانت منتشرة ، وحضّ على
التمسك بمكارم الأخلاق ، والابتعاد عن سفاسف الأمور ، وبين للناس ما يجب عليهم ،
وأظهر الحق من الباطل ، وحذّر من الوقوع في المآثم .(1/49)
فعلى العاقل أن يتمسّك بأوامره ويبتعد عن تلك الآثار التي ابتدعها المزورون
ليروّجوا بها سلعتهم ، ويستفيدوا الفوائد الدنيوية الوقتية فجرَّؤا الناس على الأعمال
الموجبة لغضب الله تعالى المنافية لدين الفطرة المفسدة للعقائد المزلزلة لركن
التوحيد ، وسنعود إلى هذا الموضوع في فرصة أخرى .
كذوبة
محمد البشير ظافر الأزهري
________________________
(( مجلة المنار ـ المجلد [ 6 ] الجزء [ 23 ] صـ 900 غرة ذو الحجة 1321 ـ 18 فبراير 1904 ))
فائدة عظيمة
في بحث العمل بالحديث الضعيف
إذا رأى من لم يشتغل بعلوم الحديث ما ذكرناه في تخريج الأحاديث التي
ذكرناها في هذا الجزء وما قبله ونحوها يظهر له فضل المحدثين بعض الظهور
ويعلم منه غير المسلم أنه لم تعن أمة بضبط دينها كما عنيت الأمة الإسلامية . هذا
وإن ما ذكرناه لم نقصد به الاستقصاء ولم نراجع فيه جميع الكتب التي هجرت هذه
الأحاديث ؛ إذ لا توجد كلها عندنا ولم نر حاجة إلى البحث عنها مع حصول المقصود
فيما ذكرناه .
هذا وإن كثيرًا من المحدثين قد تساهلوا في تخريج الأحاديث التي وردت في
الفضائل والترغيب والترهيب لاعتقادهم جواز العمل بالضعيف منها ما لم يكن شديد
الضعف ، قال النووي : بل قال بعضهم : يستحب العمل به لأنه من الاحتياط وجعلوا
المناقب من هذا القبيل .
قال السخاوي : وقد سمعت شيخنا ( يعني الحافظ ابن حجر ) يقول وكتبه لي
بخطه : إن شرائط العمل بالضعيف ثلاثة : ( الأول ) متفق عليه أن يكون الضعف
غير شديد فيخرج من انفرد من الكذابين والمتهمين بالكذب ومن فحش غلطه .
( الثاني ) أن يكون مندرجًا تحت أصل عام ، فيخرج ما يخترع بحيث لا يكون
له أصل أصلاً . (الثالث ) أن لا يعتقد عند العمل به ثبوته لئلا ينسب إلى النبي
صلى الله عليه وسلم ما لم يقله . ( قال ) والأخير عن ابن عبد السلام وعن صاحبه
ابن دقيق العيد والأول نقل العلائي الاتفاق عليه . ونقل عن الإمام أحمد أنه يعمل(1/50)
بالضعيف إذا لم يوجد غيره ولم يكن ما يعارضه . ونقل ابن منده عن أبي داود أن
الإمام أحمد يخرج الإسناد الضعيف إذا لم يجد في الباب غيره وأنه عنده أقوى
من رأي الرجال .
فالمذاهب في الحديث الضعيف ثلاثة ، ما نقل عن أحمد بشرطه المذكور آنفًا
ومذهب الجمهور الذين يشترطون فيه الشروط الثلاثة المتقدمة . والثالث : أنه لا يجوز
العمل به مطلقًا وهو ما صرح به أبو بكر ابن العربي المالكي .
قالوا : وأما الموضوع فلا يجوز العمل به مطلقًا ولا روايته إلا مع بيان وضعه
واستدلوا على ذلك بحديث سمرة رضي الله عنه عند مسلم في الصحيح ( من حدث
عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين ) ويروى ( يرى ) بضم الياء أي يظن
وفي ( الكاذبين ) روايتان : التثنية والجمع . وأنت ترى أن بعض الأحاديث التي لا
تصل إلى درجة الوضع في اصطلاحهم قد يظن الظان أنها كذب بل قد يعتقد ذلك
بقرائن قوية ككون أسلوب الحديث وعبارته كعبارات المولدين ، وكون معناه مخالفًا
لما هو ثابت في الكتاب أو السنة الصحيحة أو نظام الخليقة المعبر عنه بسنن الله
تعالى أو لغير ذلك من الأسباب . ومن فهم القرآن المجيد وعرف السنة الصحيحة لا
يطمئن قلبه لشيء من تلك الروايات الغريبة في المناقب وإن وجد لها متابعات من
الضعاف.
وهاهنا مزلة قدم زل فيها كثيرون فصححوا أو حسنوا أحاديث من المناكير
والضعاف الشديدة الضعف بحجة أن لها شواهد من جنسها وما كل شاهد يصلح مقويًا
وإن فاقد الشيء لا يعطيه .
ثم إن باب المناقب الذي ألحقوه بفضائل الأعمال في جواز رواية الحديث
الضعيف فيه قد يدخل فيه الإخبار عن عالم الغيب وهو من العقائد التي يطلب فيها
اليقين فيروون فيه حديثًا منكرًا أو ضعيفًا واهيًا ويسكتون عليه لأنه من باب المناقب
فيشيع ويشتهر فيتخذ عقيدة تحكم العامة بكفر منكره وهو أقرب من مثبته إلى حقيقة
الإيمان ، وقد يكون هذا النوع من الروايات شبهة على الدين وسببًا في الطعن فيه أو(1/51)
صادًّا لكثير من الناس عن قبوله . إنك إذا أردت أن تدعو أهل أوربا أو اليابان إلى
الإسلام وتشترط عليهم التصديق بأن أجساد الأنبياء لا تبلى ، وأنهم لم يولدوا كما يولد
البشر ونحو ذلك فإن مثل هذا الشرط كاف لرفضهم الدعوة ، وقد علمت أنه لم يرد في
هذا حديث صحيح فضلاً عن متواتر فضلاً عن آية قرآنية ، وهو مخالف لسنة الله في
الخلق الثابتة بالمشاهدة وبقوله تعالى : ? فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ
تَحْوِيلاً ? ( فاطر : 43 ) فإذا اطمأن قلبك لحديث ضعيف أو حسن في مثل ذلك
وصدقت به أيها المسلم فلا ينبغي لك أن تجعله عقيدة دينية وتجعل عدم النص من
الصحابة وأئمة السلف على نفيه إجماعًا ؛ إذ يجوز أن يكون لم يخطر لهم على بال .
واعلم أنه ليس من تعظيم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تنزيههم عن الصفات
البشرية فإن هذه نزعة كفر سبق إليها المشركون الذين احتجوا عليهم بمثل ما أخبر
الله عنهم بقوله : ? مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا
تَشْرَبُونَ ? ( المؤمنون : 33 ) وقوله عنهم : ? مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي
فِي الأَسْوَاقِ? ( الفرقان : 7 ) وقوله عن فرعون وقومه : ? أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ ?
( المؤمنون : 47 ) وقد ثبت في العقائد أن الأنبياء تجوز عليهم جميع الأعراض
البشرية التي لا تنافي تبليغ رسالة ربهم ، والقرآن ناطق بذلك وهو الحق الذي
? لاَ يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ? (فصلت : 42) .
________________________
(( مجلة المنار ـ المجلد [ 8 ] الجزء [ 23 ] صـ 911 غرة ذو الحجة 1323 ـ 26 يناير 1906 ))
أسئلة من الحجاز
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه
أجمعين .(1/52)
هذه أسئلة نرفعها لحضرة السيد رشيد رضا منشئ المنار الإسلامي بمصر ،
لا زال بعافية آمين .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، نرجوكم يا سيدي أن تجاوبوني عنها على
صفحات مناركم المنير .
( س 20-26 ) ما قولكم شكر الله سعيكم :
(1) في قول بعض من ألف في الأحاديث الموضوعة هذا الحديث صح
من جهة الكشف ، وهل يعتمد ذلك ؟
(2) وهل الكشف له أصل في ديننا ، أو هو باطل ؟
(3) ولفظ كَشْف ، هل كان معروفًا عند الصحابة رضوان الله عليهم ؟
(4) وهل يعتمد على قول من يقول : إن الحديث قد يكون صحيحًا عند المحدثين
وهو ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأهل الله تعالى يعرفون أنه
موضوع ؟
(5) وهل يعتمد على قول من يقول : إن النبي صلى الله عليه وسلم ما شرط
العصمة في أحد ؟ فكيف نرد بعض الأحاديث ونقول : راويها كذاب ، والكذب ما
أحد معصوم منه إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ؟
(6) وعلى قول بعض الناس : إن الشيخ السيوطي كان يجتمع بالنبي صلى الله
عليه وسلم يقظة ، ويصحح عليه الأحاديث ، فالموضوع يخبره عنه أنه
موضوع ، والصحيح أنه صحيح .
(7) ويقول الناس من أهل العلم ببلدنا : إن الشيخ الغزالي اجتمعت روحه
بروح سيدنا موسى سأل الباري سبحانه وتعالى عن علماء هذه الأمة وأنهم كأنبياء
بني إسرائيل ، فجمع بين روح سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام وبين روح الغزالي
رحمه الله ، فسأل سيدنا موسى صلى الله عليه وسلم الغزالي عن اسمه فقال له :
محمد بن محمد بن محمد الغزالي . فقال له : أنا سألتك عن اسمك ، فلماذا
أخبرتني عن اسمك واسم أبيك وجدك . فقال له الغزالي : وكيف قلت أنت
للباري لما قال لك : ? وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى ? ( طه : 17-8 ) هي عصاي
إلخ .. هل هذه المسألة صحيحة ومروية بسند مرضي عن نبينا ، أم هي من
اختراعات الشيوخ .
نرجوكم سيدي أن تبينوا لنا الحق في هذه المسائل لا زلتم هادين مهديين .
مستفيد من الحجاز
م ح ن(1/53)
الجواب عن مسائل الكشف
لم يقل أحد من الأئمة : إنَّ الكشف من الدلائل الشرعية ، أو من مآخذ الأحكام
الدينية ، ولا يقبل أحد من المتكلمين ، ولا من المحدثين ، ولا من الفقهاء ، الاحتجاج
بحديث لم تصح روايته بالطرق المعروفة في علم الحديث ، ممن يدعي أنه صح من
طريق الكشف ، فهذا الكشف الذي يتحدث به الصوفية شيء لا يثبت به حكم شرعي
ولا دليل حكم شرعي كالحديث ، ولو جعلنا الكشف حجة شرعية ، لما كانت دلائل
الشرع محصورة فيما جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه ، وتلقاه عنه
أصحابه الذين هم خير هذه الأمة ، وهم لم يقولوا بهذا الكشف ، ولم يحتجوا به .
نعم إنه نقل عن بعضهم شيء من النطق بالإلهام الصادق ، كإخبار الصديق عما
في بطن امرأته من الولد ، ومعرفة عثمان ما كان من ذلك الرجل الذي نظر إلى المرأة
بشهوة . ولكنهم لم يسموا هذه الإلهامات النادرة كشفا ، ولا عدوها طريقًا لمعرفة
الأحكام ، وقد سمى عثمان ما اتفق له مع الرجل فراسة . ولكن بعض العلماء أطلق
على ما كان منهم لفظ الكشف ، وكانت تعرض لهم المشكلات الشرعية في الأحكام ،
فيتذاكرون ويتشاورون فيها ، ولا يعتمدون في تقريرها على شيء بعد الكتاب والسنة
إلا على الرأي في استبانة المصلحة وتحري العدل . ولم يدع أحد منهم بعد موت النبي
صلى الله عليه وسلم : أنه رآه بالكشف أو في النوم ، فأخبره بأن الحق كذا أو الحكم
كذا .
وإذا قلنا بأن من خواص نفوس البشر أن تدرك بعض الأمور من غير
طريق الحس والعقل نادرا ، وأن بعض الناس قد يكون استعداده لذلك قويًّا ، وأن من
كان استعداده له ضعيفًا ، تيسر له تقويته بضروب من الرياضة ، كما ينقل نَقْلاً
مستفيضًا عن البراهمة والصوفية فإن هذا كله لا علاقة له بالدين ، وإنما هو من قبيل
سائر خواص المخلوقات التي منها ما هو طريق للعلم ، كالخواص التي بني عليها
صنع الآلات التي يعرف بها ما سيحدث من الأنواء والزلازل قبل حدوثه . ولا شيء(1/54)
من ذلك يعد من الدين ، ولم يصل الكشف إلى أن يكون طريقًا منضبطًا للعلم ، بحيث
يعرف كل من كان من أهله ، ما يعرفه الآخرون ، إذا هو طلب معرفته بأن تتفق
معارفهم من غير أن يأخذ بعضهم عن بعض .
ثم إن الصوفية الذين يعدون الكشف من ثمرات طريقتهم ، لا يقول أهل
الصدق والعرفان منهم : إن الكشف دليل شرعي ، بل يعدون من شروط الاعتداد
بصحته موافقته للشرع . قال محيي الدين في فتوحاته :
كل كشف شهد الشرع له فهو علم فيه فلتعتصم
وقالوا : إن الكشف إذا جاء بخلاف ما علم من الشرع فهو باطل ، ويعدونه
من وحي الشياطين ، ولهم في ذلك حكايات غريبة ، ولم أر من علماء الأصول من
بالغ في التسليم بما نقل من الإلهام والكشف ، حتى ما علم عند المحدثين أنه لم يصح
مثل أبي إسحاق الشاطبي الغرناطي صاحب الموافقات ، فإنه عد من الأصول كون
المزايا والمناقب عامة ، كعموم الأحكام والتكاليف بين النبي صلى الله عليه وسلم
وأمته ، إلا ما ثبت أنه خاصة به ، وذلك مما افتحره لم يسبقه إلى القول به أحد من
أئمة المسلمين ، وإن قال جمهور المتكلمين : ما جاز أن يكون معجزة جاز أن يكون
كرامة وهو خلاف التحقيق . وقد ذكر من فروعه الخوارق من الفراسة الصادقة ،
والإلهام الصحيح ، والكشف الواضح ، والرؤيا الصالحة . واشترط للعمل بذلك ما
بينه في المسألة الحادية عشرة من النوع الرابع من المقاصد قال :
( إن هذه الأمور لا يصح أن تراعى وتعتبر ، إلا بشرط أن لا تخرم حكمًا
شرعيًّا ولا قاعدة دينية ، فإن ما يخرم قاعدة شرعية أو حكمًا شرعيًّا ليس بحق في
نفسه ، بل هو إما خيال أو وهم ، وإما إلقاء من الشياطين وقد يخالطه ما هو حق
وقد لا يخالطه ، وجميع ذلك لا يصح اعتباره من جهة معارضته لما هو ثابت
مشروع ، وذلك أن التشريع الذي أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم عام لا
خاص ، كما تقدم في المسألة قبل هذا ، وأصله لا ينخرم ، ولا ينكسر له اطراد ، ولا(1/55)
يحاشى من الدخول تحت حكمه مكلف . وإذا كان كذلك فكل ما جاء من هذا القبيل
الذي نحن بصدده ، مضادًّا لما تمهد في الشريعة فهو فاسد باطل ) .
ومن أمثلة ذلك مسألة سئل عنها ابن رشد في حاكم شهد عنده عدلان مشهوران
بالعدالة في أمر ، فرأى الحاكم في منامه أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال له : لا
تحكم بهذه الشهادة فإنها باطل ، فمثل هذا من الرؤيا لا يعتبر بها في أمر ولا نهي ،
ولا بشارة ولا نذارة ؛ لأنها تخرم قاعدة من قواعد الشريعة ، وكذلك سائر ما يأتي من
هذا النوع ، وما روي أن أبا بكر رضي الله عنه أنفذ وصية رجل بعد موته برؤيا
رؤيت ، فهي قضية عين ، لا تقدح في القواعد الكلية لاحتمالها ، فلعل الورثة رضوا
بذلك ، فلا يلزم منها خرم أصل ، وعلى هذا لو حصلت له مكاشفة بأن هذا المعين
مغصوب أو نجس ، أو أن هذا الشاهد كاذب ، أو أن المال لزيد ، وقد تحصل بالحجة
لعمرو ، أَوْ مَا أشبه ذلك ، فلا يصح له العمل على وفق ذلك ما لم يتعين سبب ظاهر ،
فلا يجوز له الانتقال إلى التيمم ، ولا ترك قبول الشاهد ، ولا الشهادة بالمال لزيد
على حال ، فإن الظواهر قد تعين فيها بحكم الشريعة أمر آخر ، فلا يتركها اعتمادًا
على مجرد المكاشفة أو الفراسة ، كما لا يعتمد فيها على الرؤيا النومية ، ولو جاز ذلك
لجاز نقض الأحكام بها ، وإن ترتبت في الظاهر موجباتها ، وهذا غير صحيح بحال ،
فكذا ما نحن فيه ، وقد جاء في الصحيح : ( إنكم تختصمون إلي ، ولعل بعضكم أن
يكون ألحن بحجته من بعض ، فأحكم له ، على نحو ما أسمعه منه ) ، الحديث ، فقيد
الحكم بمقتضى ما يسمع ، وترك ما وراء ذلك ، وقد كان كثير من الأحكام التي تجري
على يديه يطلع على أصلها وما فيها من حق وباطل . ولكنه - عليه السلام - لم يحكم
إلا على وفق ما سمع ، لا على وفق ما علم ، وهو أصل في منع الحاكم أن يحكم
بعلمه وقد ذهب مالك في القول المشهورعنه ، أن الحاكم إذا شهدت عنده العدول بأمر(1/56)
يعلم خلافه ، وجب عليه الحكم بشهادتهم إذا لم يعلم منهم تعمد الكذب ؛ لأنه إذا لم يحكم
بشهادتهم كان حاكمًا بعلمه ، هذا مع كون علم الحاكم مستفادًا من العادات التي لا ريبة
فيها ، لا من الخوارق التي تداخلها أمور ، والقائل بصحة حكم الحاكم بعلمه فذلك
بالنسبة إلى العلم المستفاد من العادات لا من الخوارق ولذلك لم يعتبره رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - وهو الحجة العظمى ، وحكى ابن العربي عن قاضي القضاة
الشاشي المالكي ببغداد أنه كان يحكم بالفراسة في الأحكام جريًا على طريقة إياس ابن
معاوية أيام كان قاضيًا ، قال : ولشيخنا فخر الإسلام أبي بكر الشاشي جزء في الرد
عليه ، هذا ما قال وهو حقيق بالرد إن كان يحكم بالفراسة مطلقًا من غير حجة
سواها .
فإن قيل: هذا مشكل من وجهين : أحدهما أنه خلاف ما نقل عن أرباب
المكاشفات والكرامات ، فقد امتنع أقوام عن تناول أشياء ، كان جائزًا لهم في الظاهر
تناولها اعتمادًا على كشف أو إخبار غير معهود ، ألا ترى إلى ما جاء عن الشبلي
حين اعتقد أن لا يأكل إلا من الحلال ، فرأى بالبادية شجرة تين فَهَمَّ أن يأكل منها ،
فنادته الشجرة : لا تأكل مني فإني ليهودي ، وعن عباس بن المهتدي أنه تزوج امرأة
قليلة الدخول ، وقع عليه ندامة ، فلما أراد الدنو منها زجر عنها ، فامتنع وخرج فبعد
ثلاثة أيام ظهر لها زوج ، وكذلك من كان له علامة عادية أو غير عادية يعلم بها ،
هل هذا المتناول حلال أم لا ؟ كالحارث المحاسبي حيث كان له عرق في بعض
أصابعه ، إذا مد يده إلى ما فيه شبهة تحرك ، فيمتنع منه ، وأصل ذلك حديث أبي
هريرة - رضي الله عنه - وغيره في قصة الشاة المسمومة ، وفيه فأكل رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - وأكل القوم ، وقال : ارفعوا أيديكم فإنها أخبرتني أنها
مسمومة ومات بشر بن البراء . الحديث ، فبنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على(1/57)
ذلك القول ، وانتهى هو ، ونهى أصحابه عن الأكل بعد الإخبار ، وهذا أيضًا موافق
لشرع من قبلنا ، وهو شرع لنا إلا أن يرد ناسخ ، وذلك في قصة بني إسرائيل ، إذ
أمروا بذبحها وضرب القتيل ببعضها فأحياه الله وأخبر بقاتله ، فرتب عليه
الحكم بالقصاص . وفي قصة الخضر في خرق السفينة وقتل الغلام ، وهو ظاهر في
هذا المعنى إلى غير ذلك ، مما يؤثر في معجزات الأنبياء - عليهم السلام - ،
وكرامات الأولياء رضي الله عنهم .
والثاني : أنه إذا ثبت أن خوارق العادات بالنسبة إلى الأنبياء والأولياء ،
كالعادات بالنسبة إلينا ، فكما لو دلنا أمر عادي إلى نجاسة الماء أو غصبه لوجب
علينا الاجتناب فكذلك هاهنا ؛ إذ لا فرق بين إخبار من عالم الغيب ، أو من عالم
الشهادة ، كما أنه لا فرق بين رؤية البصر لوقوع النجاسة في الماء ورؤيتها بعين
الكشف الغيبي ، فلا بد أن يبنى الحكم على هذا ، كما يبنى على ذلك ، ومن فرق
بينهما فقد أبعد .
فالجواب أن لا نزاع بيننا في أنه قد يكون العمل على وفق ما ذكر صوابًا
وعملاً بما هو مشروع على الجملة ، وذلك من وجهين :
( أحدهما ) الاعتبار بما كان من النبي صلى الله عليه وسلم فيه ، فيلحق به
في القياس ما كان في معناه ، إذ لم يثبت أن مثل هذا من الخوارق مختص بالنبي
صلى الله عليه وسلم ، حيث كان من الأمور الخارقة بدليل الواقع ، وإنما يختص به
من حيث كان معجزًا ، وتكون قصة الخضر على هذا مما نسخ في شريعتنا على أن
خرق السفينة ، قد عمل بمقتضاه بعض العلماء بناءً على ما ثبت عنده من العادات .
أما قتل الغلام فلا يمكن القول به . وكذلك قصة البقرة منسوخة على أحد التأويلين ،
ومحكمة على التأويل الآخر على وفق القول المذهبي في قول المقتول : دمي عند
فلان .
( والثاني ) على فرض أنه لا قياس وهو خلاف مقتضى القاعدة الأولى إذ
الجاري عليها العمل في القياس . ولكن إن قدرنا عدمه ، فنقول : إن هذه الحكايات(1/58)
عن الأولياء مستندة إلى نص شرعي ، وهو طلب اجتناب حزاز القلوب الذي هو
الإثم ، وحزاز القلوب يكون بأمور لا تنحصر ، فيدخل فيها هذا النمط ، وقد قال
عليه السلام : ( البر ما اطمأنت إليه النفس ، والإثم ما حاك في صدرك ) فإذا لم
يخرج هذا عن كونه مستندًا إلى نصوص شرعية عند من فسر حزاز القلوب
بالمعنى الأعم الذي لا ينضبط إلى أمر معلوم .
ولكن ليس في اعتبار مثل هذه الأمور ما يخل بقاعدة شرعية ، وكلامنا إنما
هو في مثل مسألة ابن رشد وأشباهها ، وقتل الخضر الغلام على هذا لا يمكن القول
بمثله في شريعتنا ألبتة ، فهو حكم منسوخ ، ووجه ما تقرر أنه إن كان ثم من
الحكايات ما يشعر بمقتضى السؤال ، فعمدة الشريعة تدل على خلافه ، فإن أصل
الحكم بالظاهر مقطوع به في الأحكام خصوصًا ، وبالنسبة إلى الاعتقاد في الغير
عمومًا أيضًا ، فإن سيد البشر - صلى الله عليه وسلم - مع إعلامه بالوحي ، يجري
الأمور على ظواهرها في المنافقين وغيرهم ، وإن علم بواطن أحوالهم ، ولم يكن ذلك
بمخرجه عن جريان الظواهر على ما جرت عليه .
( ولا يقال : إنما كان ذلك من قبيل ما قال خوفًا أن يقول الناس : إن محمدًا
يقتل أصحابه ، فالعلة أمر آخر لا ما زعمت ، فإذا عدم ما علل به ، فلا حرج لأنا
نقول هذا من أدل الدليل على ما تقرر ؛ لأن فتح هذا الباب يؤدي إلى أن لا يحفظ
ترتيب الظواهر فإن من وجب عليه القتل بسبب ظاهر ، فالعذر فيه ظاهر واضح
ومن طلب قتله بغير سبب ظاهر ، بل بمجرد أمر غيبي ربما شوش الخواطر
وران على الظواهر وقد فهم من الشرع سد هذا الباب جملةً ، ألا ترى إلى باب
الدعاوى المستند إلى أن البيِّنة على المدعي واليمين على من أنكر ، ولم يستثن من
ذلك أحد ، حتى إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم - احتاج إلى البينة في بعض ما
أنكر فيه ، مما كان اشتراه فقال : ( من يشهد لي ) حتى شهد له خزيمة بن ثابت ،(1/59)
فجعلها الله شهادتين فما ظنك بآحاد الأمة ، فلو ادعى أكبر الناس على أصلح الناس ،
لكانت البينة على المدعي واليمين على من أنكر ، وهذا من ذلك والنمط واحد ،
فالاعتبارات الغيبية مهملة بحسب الأوامر والنواهي الشرعية ، ومن هنا لم يعبأ
الناس من الأولياء وغيرهم بكل كشف أو خطاب خالف المشروع ، بل عدوا أنه من
الشيطان ، وإذا ثبت هذا فقضايا الأحوال المنقولة عن الأولياء محتملة ، وما ذكر من
تكليم الشجرة فليس بمانع شرعي ، بحيث يكون تناول التين منها حرامًا على المكلم
كما لو وجد في الفلاة صيدًا فقال له : إني مملوك وما أشبه ذلك .
لكنه تركه لغناه عنه لغيره من يقين الله أو ظن طعام بموضع آخر أو غير ذلك ،
وكذلك سائر ما في هذا الباب ، أو نقول : كان المتناول مباحًا له فتركه لهذه العلامة ،
كما يترك الإنسان أحد الجائزين لمشورة أو رؤيا ، وغير ذلك حسبما يذكر بعد بحول
الله تعالى ، فكذلك نقول في الماء الذي كوشف : إنه نجس أو مغصوب ، وإذا كان له
مندوحة عنها بحيث لا ينخرم له أصل شرعي في الظاهر ، بل يصير منتقلاً من جائز
إلى مثله فلا حرج عليه ، مع أنه لو فرضنا مخالفته لمقتضى ذلك الكشف ؛ إعمالاً
للظاهر واعتمادًا على الشرع في معاملته به فلا حرج عليه ولا لوم ؛ إذ ليس
القصد بالكرامات والخوارق أن تخرق أمرًا شرعيًّا ، ولا أن تعود على شيء منه
بالنقض ، كيف ؟ وهي نتائج عن اتباعه فمحال أن ينتج المشروع ما ليس بمشروع أو
يعود الفرع على أصله بالنقض ، هذا لا يكون ألبتة ، وتأمل ما جاء في شأن
المتلاعنين ، إذ قال عليه السلام : إن جاءت به على صفة كذا فهو لفلان ، وإن جاءت
به على صفة كذا فهو لفلان ، فجاءت به على إحدى الصفتين وهي المقتضية
للمكروه ، ومع ذلك فلم يقم الحد عليها ، وقد جاء في الحديث نفسه : ( لولا الأيمان
لكان لخولها شأن ) ؛ فدل على أن الأيمان هي المانعة ، وامتناعه مما هم به ، يدل(1/60)
على أن ما تفرس به لا حكم له حين شرعية الأيمان ، ولو ثبت بالبينة أو بالإقرار بعد
الأيمان ما قال الزوج : لم تكن الأيمان دارثة للحد عنها .
والجواب عن السؤال الثاني : أنَّ الخوارق وإن صارت لهم كغيرها فليس
ذلك بموجب لإعمالها على الإطلاق ؛ إذ لم يثبت ذلك شرعًا معمولاً به ، وأيضًا فإن
الخوارق وإن جاءت تقتضي المخالفة فهي مدخولة ، قد شابها ما ليس بحق كالرؤيا
غير الموافقة ، كمن يقال له : لا تفعل كذا وهو مأمور شرعًا بفعله ، أو افعل كذا وهو
منهي عنه ، وكثيرًا ما يقع هذا لمن لم يبن أصل سلوكه على الصواب ، أو من سلك
وحده بدون شيخ ، ومن طالع سير الأولياء وجدهم محافظين على ظواهر الشريعة
غير ملتفتين فيها إلى هذه الأشياء .
( فإن قيل : هذا يقتضي أن لا يعمل عليها ، وقد بنيت المسألة على أنها يعمل
عليها ؛ قيل : إن المنفي هنا أن يعمل عليها بخرم قاعدة شرعية ، فأما العمل عليها
مع الموافقة فليس بمنفي ) .
أقول : فهي لا تقل عن الهوى الموافق للشرع . ثم ذكر في المسألة الثانية عشرة
ما نصه :
( إن الشريعة كما أنها عامة في جميع المكلفين وجارية على مختلفات أحوالهم
فهي عامة أيضًا بالنسبة إلى عالم الغيب وعالم الشهادة من جهة كل مكلف ، فإليها
نرد كل ما جاءنا من جهة الباطن ، كما نرد إليها كل ما في الظاهر ، والدليل على
ذلك أشياء منها ما تقدم في المسألة قبلها من ترك اعتبار الخوارق إلا مع موافقة ظاهر
الشريعة .
( والثاني ) أَنَّ الشريعة حاكمة لا محكوم عليها ، فلو كان ما يقع من الخوارق
والأمور الغيبية حاكمًا عليها : بتخصيص عموم ، أو تقييد إطلاق ، أو تأويل ظاهر ،
أو ما أشبه ذلك لكان غيرها حاكمًا عليها ، وصارت هي محكومًا عليها بغيرها ،
وذلك باطل باتفاق ، فكذلك ما يلزم عنه .
( والثالث ) أَنَّ مخالفة الخوارق للشريعة دليل على بطلانها في نفسها ؛
وذلك أنها قد تكون في ظواهرها كالكرامات وليست كذلك بل أعمالاً من أعمال
الشيطان .(1/61)
ثم قال بعد ذكر شاهدين من الخوارق في فصل من هذه المسألة ما نصه :
( ومن هنا يعلم أن كل خارقة حدثت أو تحدث إلى يوم القيامة ، فلا يصح
ردها ولا قبولها إلا بعد عرضها على أحكام الشريعة ، فإن ساغت هناك فهي
صحيحة مقبولة في موضعها ، وإن لم تقبل إلا الخوارق الصادرة على أيدي الأنبياء
عليهم السلام ، فإنه لا نظر فيها لأحد ؛ لأنها واقعة على الصحة قطعًا ) اهـ .
أقول : والغرض من هذا كله ؛ بيان أن الشريعة كاملة لا تحتاج إلى تكميلها
بالكشف ، ولا بالرؤيا والأحلام ، وأنها هي الحاكمة لا يحكم عليها سواها . وقد
قرأت كلام هذا الأصولي الذي يصدق بالخوارق ، وأنت تعلم من علماء الأصول من
لا يقول بجوازها لغير الأنبياء ، كالمعتزلة والأستاذ أبي إسحاق الإسفرايني والحليمي
من أئمة الأشعرية ، والأكثرون القائلون بجوازها لا يقولون بأن أحدًا يكلف تصديق من
يدعيها بشيء مما يدعيه منها وإن وافق الشرع ، فكيف يكلفونه أن يصدقه بالعبث
بأحد أصوله كالسنة النبوية ، بأن يصحح ما لم يصح عن الرسول - صلى الله
عليه وسلم - ويكذب ما صح عنه ، وهم يعترفون معه بأن بعض هذه الخوارق
والمكاشفات أحوال شيطانية . فإذا كان فيها الحق والباطل ، والخطأ والصواب ، فهل
عندنا شيء نرجع إليه في بيان الحق والصواب إلا الشريعة المطهرة ؟ فمما تقدم كله
تعرفون أنه لا وجه للاعتماد على قول من يصحح الأحاديث بالكشف ، ولا قول من
يجعل الكشف أصلاً شرعيًّا ، ولا عمل المكاشف بكشفه المخالف للشرع فضلاً عن
عمل غيره به ، وما وافقه كان كالرأي والميل النفسي ، وقد تقدم أن الصحابة لم
يقولوا بشيء من ذلك ، وبذلك تتم أجوبة الأسئلة الثلاثة .
وأما السؤال الرابع : فهو على العلم بجوابه مما سبق أيضًا ، وهو أنه لا يعتمد
على قول أهل الكشف ، إذا قالوا بوضع ما صححه المحدثون من الأحاديث ، يحتاج
فيه إلى التنبيه على أمر مهم ، وهو إن ما صح سنده من الحديث قد يكون غير(1/62)
صحيح المتن ، فإن بعض الذين يتعمدون وضع الحديث كانوا لحذرهم من نقد
صيارفة المحدثين يظهرون الورع ، ويتحرون الصدق ، وقد تاب بعضهم فاعترفوا
بذلك ، ولذلك جعل المحدثون للحديث الموضوع علامات ، منها ما يتعلق بمتنه
كركاكة الألفاظ أو المعاني ، ومخالفة نصوص الكتاب أو السنة المتواترة ، ومخالفة
العقل ، كما قالوا في حديث طواف سفينة نوح بالبيت على أن سنده غير مرضي
كمتنه . فمن كان ذا بصيرة نيرة في الدين وعلم بمقاصده ، يمكنه أن يعرف الحديث
الموضوع ، وإن قالوا بصحة سنده . ولكن لا يقبل قوله إلا بدليل معقول .
وأما السؤال الخامس : فجوابه أن من تقبل روايته هو من يوثق بحديثه
وإن لم يكن معصومًا ، فإن ذلك القائل يعلم بالضرورة أن من الناس العدل الثقة
الصدوق ، وإن لم يكن معصومًا ومنهم الفاسق الكذوب ، وأنه يثق بخبر الأول دون
الثاني ، فكيف يجعل مع هذا رواية هذا كرواية ذاك ؟ هل يستوي الصادقون
والكاذبون ؛ لأن كلامهما غير معصوم ؟ وغاية ما يترتب على عدم العصمة أن يكون
خبر الصدوق غير المعصوم مفيدًا للظن لا لليقين ، وهذا ما اتفق عليه العلماء في
أحاديث الآحاد ، ولذلك قال المحققون : إنه لا يحتج بها في المسائل التي يطلب فيها
اليقين كمسائل الاعتقاد .
وأما السؤال السادس : فجوابه : أَنَّ ما ذكر السيوطي مذكور في بعض الكتب
ولكن لم يرو عنه بأسانيد صحيحة متصلة أنه ادعى ذلك ، ولو روي كذلك لم يكلف
أحد تصديقه ، ومن صدقه لا يجوز له أن يأخذ بتصحيحه لتلك الأحاديث ؛ لأن هذا
من قبيل الكشف ، وقد علمت أنه لا يعتمد عليه ، وقد ادعى كثيرون رؤية النبي
صلى الله عليه وسلم في اليقظة ، فأنكر عليهم بعض العلماء وسلم لهم آخرون ، ولا
يقول أحد من هؤلاء ولا من أولئك بأنه يجب على أحد أن يؤمن لهم ، ويأخذ
بدعواهم .
ولهم في هذه المسألة كلام كثير في الرؤية الخيالية وغير الخيالية ، وقد عرفنا(1/63)
نحن غير واحد من الصوفية الذين يدعون رؤية الأرواح ومخاطبتها ، ومنهم من قال :
إنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أحاديث كثيرة من الجامع الصغير
للسيوطي فأنكرها - صلى الله عليه وسلم - ، وهكذا نسمع عنهم التناقض في الكشف
وفي رواية النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فهل يصح أن نحكمهم في الحديث حتى
مع التسليم لهم ؟ ؟ لا لا .
وأما السؤال السابع : فهو من الحكايات التي يتناقلها الناس ، وليس لها رواية
يوثق بها ، ومعناها كما ترى صريح في أن حجة الغزالي أقوى من حجة كليم الله ،
وهو في جوار الله فحسبنا الله .
________________________
(( مجلة المنار ـ المجلد [ 10 ] الجزء [ 5 ] صـ 348 جمادى أول 1325 ـ يوليو 1907 ))
نهي الصحابة و رغبتهم عن الرواية
روى ابن عساكر عن محمد بن إسحاق قال : أخبرني صالح بن إبراهيم بن
عبد الرحمن بن عوف عن أبيه قال : والله ما مات عمر بن الخطاب حتى بعث إلى
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فجمعهم من الآفاق - عبد الله بن حذيفة
وأبا الدرداء وأبا ذر وعقبة بن عامر - فقال : ما هذه الأحاديث التي أنشيتم عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم في الآفاق ؟ قالوا : ( تنهانا ؟ ) ( قال : أقيموا
عندي لا والله لا تفارقوني ما عشت , فنحن أعلم ، نأخذ منكم ونرد عليكم ) فما
فارقوه حتى مات ) .
وروي أيضًا عن السائب بن يزيد قال : سمعت عمر بن الخطاب يقول لأبي
هريرة : لتتركن الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لألحقنك بأرض
دوس . وقال لكعب ( الأحبار ) : لتتركن الحديث أو لألحقنك بأرض القردة .
وروي عن أبي أوفى قال : كنا إذا أتينا زيد بن أرقم فنقول : حدثنا عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم . فيقول : كبرنا ونسينا , والحديث عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم شديد .
ورُوي عن عبيد الله بن عدي بن الخيار قال : بلغني حديث عن عليّ خفت أن
أصاب أن أجده[1] عند غيره ، فرحلت حتى قدمت عليه العراق ، فسألته عن(1/64)
الحديث فحدثني وأخذ عليَّ عهدًا أن لا أخبر به أحدًا ، ولوددت لو لم يفعل
فأحدثكموه .
ورُوي عن عمرو بن دينار قال : حدثني بعض ولد صهيب أنهم قالوا لأبيهم :
ما لك لا تحدثنا كما يحدث أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : أما
إني قد سمعت كما سمعوا ولكني يمنعني من الحديث عنه أني سمعته يقول : ( من
كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار ) ولكني سأحدثكم بحديث حفظه قلبي
ووعاه ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( أيّما رجل تزوج امرأة ومن
نيته أن يذهب بصداقها لقي الله فهو زانٍ حتى يموت ، وأيما رجل بايع رجلاً
بيعًا ومن نيته أن يذهب بحقه فهو خائن حتى يموت ) ورواه غيره والحديثان
المرفوعان فيه مشهوران . وصهيب من السابقين الأولين رضي الله عنه .
وروى أحمد وأبو يعلى ( وصحح ) عن عثمان قال : ما يمنعني أن أحدث
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا أكون أوعى أصحابه عنه ، ولكني أشهد
أني سمعته يقول : ( من قال علي ما لم أقله فليتبوأ مقعده من النار ) .
وروى ابن سعد وابن عساكر عن محمود بن لبيد ، قال : سمعت عثمان بن
عفان على المنبر يقول : لا يحل لأحد يروي حديثًا لم يسمع به في عهد أبي بكر
ولا عهد عمر ؛ فإني لم يمنعني أن أحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
لا أكون أوعى أصحابه إلا أني سمعته يقول : ( من قال عليَّ ما لم أقل فقد تبوأ
مقعده من النار ) .
وروى أحمد و الدارمي و ابن ماجه وآخرون من حديث أبي قتادة عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( يا أيها الناس إياكم وكثرة الحديث عني ، فمن قال
عني فلا يقولن إلا حقًّا وصدقًا ، فمن قال عليَّ ما لم أقل ، فليتبوأ مقعده من النار )
وقد روي عن بعض الصحابة الاعتذار بهذا الحديث المتواتر عن التحديث أو كثرته .
وقد فتح الحافظ ابن عبد البر بابًا في كتاب ( جامع بيان العلم ) لبحث ذم
الإكثار من الحديث ، وقيده بقوله : دون التفهم له والتفقه فيه ، قال - كما في(1/65)
مختصره :
( عن الشعبي عن قرظة[2] بن كعب قال : خرجنا فشيعنا عمر إلى صرار [3]
ثم دعا بماء فتوضأ ، ثم قال لنا : أتدرون لم خرجت معكم ؟ قلنا : أردت أن
تشيعنا وتكرمنا . قال : ( إن مع ذلك لحاجة خرجت لها ، إنكم لتأتون بلدة لأهلها
دويٌّ بالقرآن كدويِّ النحل ، فلا تصدوهم بالأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم وأنا شريككم ) قال قرظة : فما حدثت بعده حديثًا عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم . وعنه أيضًا قال : قال لنا : أقلوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم وأنا شريككم . وفي رواية عن قرظة أيضًا ، قال : خرجنا نريد العراق فمشى
معنا عمر إلى صرار فتوضأ فغسل اثنتين ثم قال : أتدرون لما مشيت معكم ؟ قالوا
نعم نحن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مشيت معنا ( لتكرمنا ) فقال :
إنكم تأتون أهل قرية لها دوي بالقرآن كدوي النحل فلا تصدوهم بالأحاديث لتشغلوهم ،
جودوا القرآن وأقلوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، امضوا وأنا
شريككم . فلما قدم قرظة قالوا : حدثنا ، قال : نهانا عمر بن الخطاب .
وعن عروة بن الزبير عن عائشة قالت : ألا يعجبك أبو هريرة جاء فجلس
على جانب حجرتي يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسمعني ، وكنت
أسبح ( تعني أنها تصلي ) فقام قبل أن أقضي تسبيحي ، ولو أدركته لرددت عليه أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يسرد الحديث كسردكم .
( وعن أبي الطفيل قال : سمعت عليًّا على المنبر يقول : أتحبون أن يكذب
الله ورسوله لا تحدثوا الناس إلا بما يعلمون .
وعن أبي هريرة أنه كان يقول : حفظت عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم وعائين : فأما أحدهما فبثثته وأما الآخر فلو بثثته لقطعتم هذا البلعوم ( والبلعوم :
الحلقوم ) وعنه أنه قال : لقد حثدتكم بأحاديث لو حدثت بها زمن عمر بن الخطاب
لضربني عمر بالدرة اهـ .
أقول : فلو طال عمْر عمر حتى مات أبو هريرة في عصره لما وصلت إلينا(1/66)
تلك الأحاديث الكثيرة عنه ، ومنها 446 حديثًا في البخاري ما عدا المكرر .
وقد ذكر ابن عبد البر لنهي عمر وهو أمير المؤمنين عن التحديث تأويلات
(منها ) أنه ( إنما كان لقوم لم يكونوا أحصوا القرآن فخشى عليهم الاشتغال بغيره
عنه إذ هو الأصل لكل علم ) وأقول : إن ما رواه في ذلك عن قرظة ينافي ذلك ،
فقد نهاهم عن تحديث قوم يحفظون القرآن ، يفتأون يتلونه لأصواتهم به دوي كدوي
النحل . ولو أراد نهيًا مقيدًا بهذا القيد لقال : لا تحدثوا إلا من حفظ القرآن . وقد
عزا هذا القول لأبي عبيد قال : ( وقال غيره : إنما نهى عمر عن الحديث عما لا يفيد
حكمًا ولا سنة ) وهذا أضعف مما قبله وقد عزاه إلى مجهول ، وماذا يعني قائله
بالحديث الذي لا يفيد حكما ولا سنة ؟ أهي الأحاديث عن شمائله صلى الله عليه
وسلم وأخلاقه ؟ كيف وهي أنفع من أحاديث الأحكام الفقهية ؟
ثم ذكر أن بعضهم رد حديث قرظة هذا ؛ لأن الآثار الثابتة عن عمر خلافه
وذكر من هذه الآثار أمر عمر أن يبلغ عنه أن الرجم مما أنزله الله على نبيه في
الكتاب . أقول : وهذا الأثر لا يصلح دليلاً ؛ لأنه إنما نهى عن اشتغال الناس
بالحديث عن الكتاب الذي هو أصل الدين . فإذا ادعي مدع أن عمر ما كان يريد أن
يجعل الحديث أصلاً من أصول الدين ، يمكنه أن يقول : إن حكم الرجم في رأيه من
أحكام القرآن لا من أحكام الحديث غايته أن آيته نسخت تلاوتها ، فالأمر بتبليغه أمر
بتبليغ حكم قرآني ، فلا يعارض النهي عن التحديث .
ثم ذكر وجهًا آخر لرد حديث قرظة ، وهو معارضة الكتاب والسنن له كقوله
تعالى ? لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ? ( الأحزاب : 21 ) وقوله :
? وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ? ( الحشر : 7 ) وقوله : ? وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ
مُّسْتَقِيمٍ? ( الشورى : 52 ) قال : ولا سبيل إلى اتباعه والتأسي به إلا بالخبر عنه .(1/67)
وقد يجاب عن هذا بأن صراطه المستقيم هو القرآن والسياق يعين ذلك ، وأن
من يعمل بالقرآن يكون متأسيًا به لحديث عائشة في صحيح مسلم وغيره ( كان خلقه
القرآن ) وأن سنته التي يجب أن تكون أصل القدوة ، هي ما كان عليه هو وخاصة
أصحابه عملاً وسيرة ، فلا تتوقف على الأحاديث القولية . وأما الأمر بأخذهم ما
يعطيهم الرسول فهو في قسمة الفيء ونحوه ما في معناه ، والحديث الذي نحن
بصدده لا يعارض ذلك .
وذكر من أمثلة معارضته السنن حديث ( نضّر الله امرءًا سمع مقالتي فوعاها
ثم أداها إلى من لم يسمعها ) بناء على جعلهم الأحاديث القولية من السنن ، وهو
اصطلاح للعلماء توسعوا فيه بمعنى السنة ، فجعلوها أعم مما كان يريده الصحابة
من هذا اللفظ ( السنة ) وهي الطريقة المتبعة التي جرى عليها العمل . والحديث
يصلح معارضًا للنهي عن التحديث وبينهما يطلب الترجيح . ويقول ابن عبد البر : إن
عمر كان يريد النهي عن الإكثار لا عن أصل التحديث ، وهو كما ترى ، وإن الأخذ
بالمرفوع مقدم . أقول : وههنا شيء آخر وهو إقرار الصحابة لعمر على نهيه ، وقد
يعارضه أنهم حدثوا فلم ينتهوا ، وقد مر بك أن أبا هريرة كان يحدث بعده ، فكأن
اجتهادهم اختلف في المسألة .
ومما ذكره ابن عبد البر عن عمر في معارضة حديث النهي قوله : ( تعلموا
الفرائض والسنة كما تتعلمون القرآن ) فسوّى بينهما ، وعن مورق العجلي أنه قال:
كتب عمر : تعلموا السنة والفرائض واللحن كما تتعلمون القرآن ، والجواب عن هذا
يعلم مما قبله ؛ وهو أن تعلم السنة غير التحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ،
فإن السنة سيرته صلى الله عليه وسلم ، وتعرف من الصحابة بالعمل وبالأخبار
كنحو ( من السنة كذا ) كما كانوا يقولون ، والتحديث عنه نقل كلامه كما هو
المتبادر ، وإن اصطلح المحدثون بعد ذلك على تسمية كل كلام فيه ذكر النبي صلى
الله عليه وسلم حديثًا وسنة . ومنه تسمية ابن عبد البر نفسه لرواية قرظة التي هي(1/68)
موضوع بحثنا حديثًا ، وفسر اللحن في أثر عمر عن مورق فقال : قالوا : اللحن
معرفة وجوه الكلام وتصرفه والحجة به .
ثم قال : وعمر أيضًا هو القائل : ( خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم)
وهو القائل : ( سيأتي قوم يجادلونكم بشبه القرآن فخذوهم بالسنن فإن أصحاب
السنن أعلم بكتاب الله عز وجل ) وأقول : إن هديه صلى الله عليه وسلم ليس
موضع اشتباه ، وأما سنته فلو أريد بها هنا أقواله لكان فيها من الشبهات ما في
القرآن أو أكثر ؛ لأن القرآن أعلى بيانًا وقد نقل بالحرف ، والحديث كثيرًا ما نقل
بالمعنى . فالسنة لا يراد بها إلا السيرة والطريقة المتبعة عنه صلى الله عليه وسلم
بالعمل ، والعمل لا تعترض فيه الشبهات . فلذلك أمر بالاحتجاج عليهم بالسنن . ومثل
هذا أمر علي لابن عباس لما بعثه للاحتجاج على الخوارج ، قال : ( لا تخاصمهم
بالقرآن فإن القرآن حمال ذو وجوه تقول ويقولون ، ولكن حاجهم بالسنة فإنهم لن
يجدوا عنها محيصًا ) . اهـ من نهج البلاغة .
ومن العجائب أن يغبى بعض المحدثين أحيانًا عن الفرق بين السنة والحديث
في عرف الصحابة الموافق لأصل اللغة ، فيحملوا السنة على اصطلاحهم الذي
أحدثوه بعد ذلك ، وليس لنا أن نلوم بعد هذا ذلك العالم الفرنسي المستشرق الذي قال
لي مرة : إن الصحابة كانوا يقدمون الأحاديث على القرآن وذكر لي قول علي لابن
عباس ، فقلت له : إنه لا يعني بالسنة الأحاديث فإنها ذات وجوه تحتمل تأويل
المجادلين كالقرآن ، وإنما هي الطريقة المتبعة بالعمل . مثال ذلك احتجاج علي على
معاوية وأصحابه بحديث عمار ( تقتله الفئة الباغية ) فقد أوله عمرو بن العاص
فقال : إنما قتله من أخرجه . يعني عليًّا ؛ ولكن لا سبيل إلى تأويل كيفية الصلاة
وعددها وكيفية الحج لأنها ثابتة بالسنة . ولا يخفى أن السنة بهذا المعنى تشمل ما
هو مفروض وما هو مندوب وما هو مستحب كما مر جوابه .(1/69)
هذا ، وإن المبحث كبير ولا سبيل إلى تحريره واستيفاء فروعه في هذا الجزء،
فنكتفي بما تقدّم في الوفاء بما وعدنا به في الجزء الماضي .
وليعلم القارئ أن هذا البحث الأصولي بمعزل عن مسألة اهتداء المسلم بما
يصح عنده من أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم ، فتلك الأقوال هي ينابيع الحكم
ومصابيح الظلم ، وجوامع الكلم ، ومفخر للأمة على جميع الأمم ، بل إن في
الأحاديث التي لم تصح أسانيدها من البدائع ، والحكم الروائع ، والكلم الجوامع ، ما
تتقاصر عن مثله أعناق العلماء ، وتكبو في غاياته فرسان الحكماء ، ولا تبلغ بعض
مداه قرائح البلغاء ، ولا غَرْوَ فإن من الأحاديث ما صحت متونه ولم تصح أسانيده
كما إن منها ما أشكلت متونه وإن سلم من الطعن رواته ، وأنى لغيرنا ببعض ما
عندنا من الأسانيد لأقوال حكمائهم ، أو لكتب أنبيائهم ، فنحن يسهل علينا من
التمحيص والتحقيق ما لا يسهل على غيرنا ، فليتدبر المتدبرون ، وليعمل العاملون .
________________________
(1) كذا في كنز العمال ولعل الأصل : إن أصيب أن لا أجده إلخ .
(2) قرظة بالتحريك بوزن ( خشبة ) .
(3) صرار بالكسر موضع قرب المدينة .
(( مجلة المنار ـ المجلد [ 10 ] الجزء [ 11 ] صـ 849 ذو القعدة 1325 ـ يناير 1908 ))
حديث علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل
( س15 ) من أحمد أفندي محمد عطيوة بالقناطر الخيرية .
المرجو من حضرة الأستاذ الحكيم السيد رشيد رضا ، إفادتي عن هذا الحديث :
( علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل ) في أي كتاب من الكتب الحديثة المعتبرة هو ،
وفي أي باب هو ، صحيح هو أم ضعيف ؟ ولكم من الله الأجر ، ومني عاطر الثناء
والشكر .
( ج ) هو حديث موضوع , تجدونه في كتب الموضوعات ، وذكره الحافظ
السيوطي في الدرر المنتثرة ، وقال : لا أصل له ، والشيخ عبد الرحمن الدبيع في
تمييز الطيب من الخبيث ، وقال : ( قال الدميري و الزركشي و ابن حَجَر : إنه لا
أصل له ) .
________________________(1/70)
(( مجلة المنار ـ المجلد [ 11 ] الجزء [ 7 ] صـ 520 رجب 1326 ـ أغسطس 1908 ))
أسئلة من الهند
( س5 11 ) من صاحب الإمضاء :
سيدي رأيت في حاشية كتاب العلو لابن قدامة المطبوع في مطبعة المنارالأغر
على القصة المروية عن عبد الله بن رواحة مع امرأته رضي الله عنها حيث رأته
مع جارية له قد نال منها ، فلامته فجحدها ، فقالت له : إن كنت صادقًا فاقرأ القرآن ،
فإن الجنب لا يقرأ القرآن ، فقال : شهدت ... الأبيات ، فقالت : آمنت بالله وكذبت
بصري ، وكانت لا تحفظ القرآن . كلامًا ما نصه : لا شك عندي في أن الرواية في
هذه المسألة موضوعة ... إلخ . مع أن الحافظ ابن عبد البر قال في الاستيعاب ( كما
ذكر ذلك ابن القيم في الجيوش الإسلامية وأقره ) : رويناها ( يعني القصة ) من
وجوه صحاح ، فالمسئول إيضاح الصواب .
قوله صلى الله عليه وسلم كل قرض جر نفعًا هو ربا ما هو تفصيل هذا النفع ،
ويفعل الغواصون عندنا أمرًا هو أن صحاب السفينة يقرض الذين يغوصون معه
في سفينته ؛ بشرط أن لا يغوصوا مع غيره ، وأمرين آخرين ( وهما وإن لم يكونا
من باب القرض ، لكن نحتاج إلى بيان الحكم فيهما ) الأول : أن يبيع صاحب
السفينة من أحد رفقائه سلعة بثمن إلى أجل ، على أن يغوص معه في سفينته ،
والثاني : هو أن يبيع رجل من آخر صاحب سفينة سلعة بثمن إلى أجل ، على أن
يأتي إليه بلؤلؤ ليشتريه ، فإذا جاء إليه به ( بعد الغوص ) فهو بالخيار ، إن
تراضيا على ثمن حينئذ باعه منه وإن لم يتراضيا باعه صاحبه حيث شاء ، وأدى
ذلك الطلب الذي عليه إلى المذكور ، فهل هذه الصورة من صور الرهن ؟ وهل
يحرم شيء من ذلك ؟ .
ما هي ضربة الغائص المحرمة شرعًا ، هل هي كل غوصه ، ويفعل
الغواصون عندنا أمرًا ؛ هو أن صاحب السفينة يستأجر من يغوص له مدة معلومة (
لا مرات معلومة ) بأجرة معلومة ، فهل ذلك جائز أم لا ، وما العلة في تحريم(1/71)
ضربة الغائص ، هل هي جهالة اللؤلؤ الذي في الصدف أم ما هي أرجوك الجواب
بما يبين به الصواب ، وبيان الدليل بما يشفي العليل ، أثابكم الله ، داعيكم حرر هذه
السطور بطريق الاستعجال ، فأرجوكم السماح وغض الطرف ، وعلى كل حال
فلسيدي إصلاح ما وقع من خطأ إن كان . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
لله ، داعيكم
عبد الصمد الوهبي
* * *
( قصة عبد الله بن رواحة مع امرأته )
( ج5 ) إن العبارة التي قلتها ظاهرة في أنها إبداء رأي مني لا نقل عن
المحدثين ، وقد بنيت هذا النقل على أصول الدراية ، لا على نقد أسانيد تلك الرواية ،
فإنني لم أطلع على إسناد ابن عبد البر لهذه القصة ، وقد رأيت ما نقله ابن القيم
عن الاستيعاب في الاستيعاب نفسه ، ولم يغير رأيي في القصة ، وإنني أعلم أنه
ليس كل ما صحح بعض المحدثين سنده يكون صحيحًا في نفسه أو متفقًا على تعديل
رجاله ، فكأين من رواية صحح بعضهم سندها ، وقال بعضهم بوضعها لعلّة في
متنها أو في سندها ، والجرح مقدم على التعديل بشرطه ، وقد ذكروا من علامات
الوضع ما ردوا به بعض الروايات الصحيحة الإسناد ؛ كرواية مسلم في صلاة
الكسوف بثلاث ركوعات وثلاث سجودات ، وروايته في حديث ( خلق الله التربة يوم
السبت ) ؛ لأن الأولى مخالفة للروايات الصحيحة التي جرى عليها العمل ، والثانية
مخالفة للقرآن .
من العبرة في هذا الباب حديث علي كرم الله وجهه في كون النبي صلى الله
عليه وسلم ما كان يقرأ القرآن جنبًا ، صححه الترمذي وابن حبان وابن السكن
والبغوي وغيرهم ، وقال الشافعي : أهل الحديث لا يثبتونه ، وقال الخطابي : كان
أحمد يوهن هذا الحديث ، وقال النووي : خالف الترمذي ، أما الأكثرون فضعفوا
هذا الحديث ، وعلته من عبد الله بن سلمة راويه ، حكى البخاري عن عمرو بن مرة
الراوي له عنه أنه قال : كان عبد الله بن سلمة يحدثنا فنعرف وننكر ، وقال البيهقي(1/72)
في قول الشافعي الذي ذكرناه آنفًا : إنما قال ذلك لأن عبد الله بن سلمة راويه
كان قد تغير ، وإنما روى هذا الحديث بعدما كبر ، قاله شعبة .
ومما يدلك على أن تصحيح ابن عبد البر لتلك القصة لم يعتد به جماهير
العلماء ؛ عدم ذكرهم إياه في بحث تحريم القراءة على الجنب ، حتى صرح بعض
المحدثين والفقهاء بأن أقوى ما روي في هذا الباب حديث علي الذي أشرنا إليه آنفًا ،
والقصة تدل على أن هذا كان معروفًا مستفيضًا بين الصحابة ، يعرفه النساء
والرجال ، وما كان كذلك تكثر الروايات الصحيحة فيه . والمعروف الذي تداولوه
وبحثوا فيه حديث علي وقد علمت ما فيه ، وحديث ابن عمر مرفوعًا : ( لا يقرأ
الجنب ولا الحائض شيئًا من القرآن ) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وهو ضعيف
، وفي المعنى حديث جابر مرفوعا : ( لا يقرأ الحائض ولا النفساء من القرآن شيئًا )
، رواه الدارقطني وهو واهٍ أو موضوع ، وأقوى ما في الباب من الآثار ما صح
عن عمر بن الخطاب أنه كان يكره أن يقرأ القرآن وهو جنب .
لم يذكر الحافظ ابن حجر قصة عبد الله بن رواحة في ترجمته من كتابه
( الإصابة ) ، وهي في كنز العمال تختلف عما في الاستيعاب ، فقد عزاها إلى ابن
عساكر من رواية عكرمة مولى ابن عباس ؛ وفيه أن امرأة عبد الله لما رأته مع
الجارية رجعت ، وأخذت الشفرة فلقيها ، فقالت : لو وجدتك حيث كنت لوجأتك بها (
أي بالشفرة ) فأنكر أنه كان مع الجارية ، وقال : إن رسول الله صلى الله عليه
وسلم نهى أن يقرأ أحدنا القرآن وهو جنب ، فقالت: اقرأه ، فقال :
أتانا رسول الله يتلو كتابه كما لاح مشهور من الصبح ساطع
أتى بالهدى بعد العمى فقلوبنا به موقنات أن ما قال واقع
يبيت يجافي جنبه عن فراشه إذا اشتغلت بالكافرين المضاجع
قالت : آمنت بالله وكذبت بصري ، قال عبد الله بن رواحة : فغدوت على
النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فضحك ، حتى بدت نواجذه ، وكأن السيوطي(1/73)
رجح هذه الرواية على اعترافه بضعفها على رواية ابن عبد البر فاقتصر عليها ،
ويعلم السائل أن ابن قدامة أورد رواية أخرى في المسألة ، وفيها أنه لما أنكر على
امرأته ، قالت له : اقرأ القرآن ؛ فأنشد :
شهدت بإذن الله أن محمدًا رسول الذي فوق السماوات من عل
وأن أبا يحيى ويحيى كلاهما له عمل من ربه متقبل
وقد روى هذه الرواية من طريق أبي بكر بن شيبة عن أسامة عن نافع ، وسنده
إليه ضعيف ، فقد طعنوا في عبد العزيز الكناني وشيخه عبد الرحمن بن عثمان
وقالوا في شيخه عمه محمد بن القاسم : إنه قد اتهم في إكثاره عن أبي بكر أحمد بن
علي ، فهذه ثلاث روايات في الشعر الذي قيل : إن عبد الله بن رواحة أنشده ،
الثالثة منها ما أورده ابن عبد البر وهي :
شهدت بأن وعد الله حق وإن النار مسرى الكافرينا
وأن العرش فوق الماء طاف وفوق العرش رب العالمينا
ولم يستدل الفقهاء بشيء منها على تحريم التلاوة على الجنب على أنها
أصرح شيء فيه ، وما ذلك إلا لعدم اعتمادها أو وضعها .
أما وجه حكمي بوضعها فهو ما فيها من نسبة تعمد الكذب من صحابي من
الأنصار الأولين الصادقين الصالحين ، وتسميته الشعر قرآنًا أي نسبته إلى الله عز
وجل القائل فيه : ? وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِر ? ( الحاقة : 41 ) وإقرار النبي صلى
الله عليه وسلم له على ذلك بالضحك الدال على الاستحسان ، كما صرح به في
بعض الروايات ، وقد صرح العلماء بأن من نسب إلى القرآن ما ليس منه كان
مرتدًّا .
* * *
( حديث كل قرض جر نفعًا )
( ج6 ) ( حديث كل قرض جر نفعًا فهو ربا ) ضعيف ، بل قال الفيروزآبادي :
إنه موضوع ولا عبرة بأخذ كثير من الفقهاء به ، كما قال المحدثون وهم أهل هذا
الشأن ، وقد بينا ذلك في ص362 وما بعدها من مجلد المنار العاشر في سياق
الفتوى في أمانات المصارف ( البنوك ) ، والنفع عندهم عام يشمل العين والمنفعة ،
ولا يحرم إلا إذا اشترط في العقد ، وقد بينا هناك في المنار جواز أن يؤدي المدين(1/74)
أفضل مما أخذ .
* * *
( القرض بالشرط الفاسد )
( ج7 ) من أقرض الغواصين بشرط أن لا يغوصوا مع غيره ، كان هذا
الشرط فاسدًا ، فإنهم إذا لم يغوصوا معه لا يلزمهم إلا وفاء الدين ، بل الظاهر أن
هذا وعد لا شرط ، والوعد يجب الوفاء به ديانة لا قضاء عند جماهير الفقهاء ، أي أن
الحاكم لا يجبر الواعد أن يفي بوعده ، ولا يحكم للموعود بأن الموعود به حق له .
* * *
( البيع بشرط عمل أجنبي عن العقد )
( ج8 ) إذا باع صاحب السفينة للغواص سلعة بثمن مؤجل بشرط أن يغوص
معه فجماهير الفقهاء لا يعتدون بهذا الشرط ، والقول فيه كالقول في مثله في المسألة
السابقة أي أن قبول المشتري له عبارة عن وعد منه ، وهو لا يجب عليه للبائع
غير الثمن المسمى غاص مع غيره أم لا ، نعم .. إنه يجب عليه الوفاء بالوعد ولا
سيما لمن تمتع بماله بهذا القصد .
( ج9 ) ومثل هذه المسألة ما بعدها ؛ وهو أن يبيعه سلعة بثمن إلى أجل
على أن يأتيه بلؤلؤ ليشتريه منه بالتراضي ، فإن لم يتراضوا باع لؤلؤه حيث شاء ،
وأدى الثمن ، وليس هذا من الرهن في شيء ، فللمشتري أن يتصرف في السلعة
ويستهلكها ، وليس عليه غير ثمنها إلا الوفاء بوعده ديانة .
* * *
( ضربة الغائص )
( ج10 ) ضربة الغائص التي ورد النهي عنها ؛ هي أن يقول الغائص
للتاجر مثلاً : أغوص لك في البحر غوصة ، فما أخرجته فهو لك بكذا ، قالوا وقد
نهي عنه لما فيه من الغرر ؛ ولأنه من بيع المجهول وهو يشبه القمار وهو غير
جائز ، ومثله ضربة القانص - أي الصائد - يرمي شبكته في البحر مرة بكذا درهمًا ،
والحديث في النهي عن ضربة الغائص ضعيف ، رواه أحمد وابن ماجه والبزار
والدارقطني عن شهر بن حوشب عن أبي سعيد قال : ( نهى النبي صلى الله عليه
وسلم عن شراء ما في بطون الأنعام حتى تضع ، وعن بيع ما في ضروعها إلا
بكيل ، وعن شراء العبد وهو آبق ، وعن شراء المغانم حتى تقسم ، وعن شراء(1/75)
الصدقات حتى تقبض ، وعن ضربة الغائص ) ؛ وشهر بن حوشب مختلف فيه ،
حسن البخاري حديثه ، وقال ابن عدي : شهر ممن لا يحتج به ولا يتدين بحديثه .
وقد صرح الحافظ ابن حجر بضعف سند الحديث ، ولكنهم قووا متنه بالأحاديث
الصحيحة في النهي عن بيع الغرر .
* * *
( استئجار الغواصين )
( ج11 ) استئجار الغواص للغوص مدة معلومة أو مرات معدودة جائز ؛ لأن
كلا منهما استئجار لعمل معين بأجرة معلومة ، والفرق بين ضربة الغائص
والاستئجار للغوص ، أن الغواص في الحالة الأولى يبيع شيئًا مجهولاً لا يملكه ،
وفي الحالة الثانية يعمل عملاً بأجرة ، وليست الأجرة للغوص عدة مرات جائزة
لأجل تعدد المرات ، ولا ضربة الغائص ممنوعة لأنها مرة واحدة ، بل لما ذكرنا
من الفرق فالضربة والضربات سواء في ذلك البيع وفي هذه الإجارة ، والأجير
يستحق الأجرة بمجرد العقد كما صرح به الحنابلة ، ويجوز تأخيره بالتراضي ،
ولأصحاب الأموال وأصحاب السفن الذين يقرضون الغواصين بتلك الشروط التي لا
علاقة لها بالقرض ، ولا تقيم المحاكم لها وزنًا أن يستأجروهم للغوص قبل وقته ،
ويعطوهم الأجرة كلها أو بعضها عند العقد أو بعده وقبل زمن الغوص بحسب
الحاجة ، فهذه أمثل الطرق إن كانوا يخافون غدرهم وعدم وفائهم . وأما الذين
يقرضون المال لأجل أن يشتروا اللؤلؤ في موسمه ، فخير لهم أن يطبقوا معاملتهم
على قواعد السلم إن أمكن .
هذا ما ظهر لنا في أجوبة هذه المسائل بناء على قواعد الفقه المشهورة المبنية
على المعاملات القضائية ، وأشرنا إلى أن المتدينين يتعاملون فيما بينهم بالصدق
والوفاء بالوعود ، فهم لا يختلفون إذا كان ما تعاقدوا أو تعاهدوا عليه صريحًا
مرضيًّا بينهم ، وقد ثبت في الكتاب والسنة وجوب الوفاء بالعقود التي يتعاقد الناس
عليها برضاهم ، وعمل المسلمين بشروطهم إلا شرطًا أحل حرامًا أو حرم حلالاً ،
والمحرم في العقود هو الغش والخداع والغرر وكل حيلة يأكل بها الإنسان مال(1/76)
الآخر بالباطل ، وقد شدد بعض الفقهاء كالحنفية في العقود والشروط ، ووسع فيها
بعض الحنابلة وفقهاء الحديث ، والذي حققه ابن تيمية بالدلائل القوية هو أن كل
عقد وكل شرط لا يخالف كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهو
جائز ، والوفاء به واجب سواء اقتضاه العقد أم لا ، وهذا ما نراه ولا نحب أن نطيل
في المنار في مسائل المعاملات الفقهية ؛ لأن غرضنا مما ننشره من الأحكام العلمية
في باب الفتاوى وغيره ، هو بيان عدل شريعتنا وموافقتها لمصالح الناس في كل
زمان ومكان للرد على الطاعنين فيها وتمكين عقائد الجاهلين من أهلها ، وبيان
المسائل الدينية المحضة وحكمها للعلة المذكورة آنفًا .
________________________
(( مجلة المنار ـ المجلد [ 14 ] الجزء [ 2 ] صـ 103 صفر 1329 ـ مارس 1911 ))
فتاوى المنار
أسئلة عن أحاديث ومسائل
س63 : من صاحب الإمضاء في بيتاوي ( جاوه ) .
سيدي الأستاذ الحكيم : إن الأحاديث الضعيفة وما قاربها في الرتبة أعظم
تكأة للدجالين ، وأكبر شبهة على الصادقين المسترشدين ، ولعلمي أنه لا يوجد
طبيب لأدواء المسلمين المزمنة غيركم - غلو لا نرضاه ولا نَوَدُّ صحته -
جئتكم متطفلاً على أعتابكم ، راجيًا من جميلِ فضلِكُم وكرمِ إحسانكم ، أن
تُحققوا رجائي ، وتُفِيضُوا عليّ من صيب علمكم وإرشادكم ما يفعم إنائي
ويشفي أدوائي ، ولعله قد سبق لكم جواب على بعض هذه الأسئلة في أعداد
سابقة ؛ فأرغب إليكم أن لا تحيلوني على ما ليس عندي ، وإن تفضلتم بالمبادرة
بالجواب فأنتم أهل الفضل ومعدن الإحسان ، فما قول سيدي في :
1- حديث : ( أكثر أهل الجنة البله ) ، وكيف يتفق مع قول النبي صلى
الله عليه وسلم :
2 - ( إِنَّمَا يُثَابُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِمْ ) ؟
3- وحديث : ( يَأَتْي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ تَعْرُجُ فِيِهِ الْعُقُولُ ) ؛ وهل تعرج
من العرج أو من العروج ؟(1/77)
4- وحديث : ( خُذُوا نِصْفَ دِيِنِكُمْ عَنْ حُمَيْرا ) ؟
5- وحديث ثناء النبي على أويس ولقيا عمر وعلي له ، وطلبهما منه
الدعاء ؟
6- وحديث : ( أَرواح الشهداء في جوف طير معلقة تحت العرش )
وهل روح الشهيد هي روح الطير أم لا ؟
7- وهل يثاب قارئ القرآن وإن لم يفهم معناه أو فهمه على غير المراد ؟
8- وما يروى عن أبي بكر - رضي الله عنه - أنه أكل طعامًا ، فبان
له أن فيه شبهةً أو حرامًا فَتَقَايأَهُ ، فهل لنا قُدْوَةٌ في عمل الصديق ؟
9 - ألا وإن من أكبر الشبه الفاتكة بالعقول ما يدّعيه المشعوذون من
عبدة الجن من قولهم : إنهم يتصورون بصور مختلفة ، ويتشكلون بأشكال
متنوعة إلى آخر ما يدعون ويزعمون ، وقديمًا كنت لا أُعَوِّلُ على مختلقاتهم ،
ولا أُعِيِرُ أذني لسماع خرافاتهم وخزعبلاتهم ؛ حتى سمعت كلام الأستاذ الإمام
في هذا الموضوع فانشرح له صدري ، وزال به غين الإشكال عن فهمي ،
غير أني ارتبكت في تأويل قول الله تعالى عن أضياف إبراهيم حيث تَصوّروا
في صورة البشر ... إلخ ما يقول أهل التفسير .
10 - وهل القائل :
علة الكون أنت ولولاك لدامت في غيبها الأشياء
يعني بذلك المصطفى صلى الله عليه وسلم ، مصيب في قوله أم مخطئ ؟ فقد
اتخذ هذا القول بعض السذج من عقائد الدين الواجبة التسليم . أفيدوني سيدي
عن هذه الكلمات ، وإن كانت ليست من الأهمية بمكان فقد أنزلت أملي بأعتابكم ،
وأَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يُعَمَّمَ النَّفعُ بِكُم ويُؤْتِيكُم مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا .
ع . ب . ح .
( الجواب )
1- حديث : ( أَكْثَرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْبُلْهُ )
هذا الحديث رواه البيهقي في الشعب ، والبَزَّار في مسنده عن أنس
وهو ضعيف ، قال ابن الأثير : هو جمع الأبله ، وهو الغافل عن الشر
المطبوع على الخير ، وقيل : هم الذين غلبت عليهم سلامة الصدور ،
وحسن الظن بالناس ؛ لأنهم أغفلوا أمر دنياهم فجهلوا حذق التصرف فيها ،(1/78)
وأقبلوا على آخرتهم فشغلوا أنفسهم بها ، فاستحقوا أن يكونوا أكثر أهل
الجنة ، فأمّا الأبله وهو الذي لا عقل له فغير مراد في الحديث ، وفي حديث
الزبرقان ( خَيْرُ أَوْلادِنَا الأَبْلَهُ الْعَقُوُلُ ) ، يريد أنه لشدة حيائه كالأبله وهو عقول
اهـ . وفَسّر في مادة عقل بأنه الذي يُظَنُّ به الحُمْقُ فإذا فتش وُجِدَ عَاقِلاً ،
وقال سهل التستري الصوفي : هم الذين ولهت عقولهم وشغلت بالله عز
وجل، وقال بعضهم في تفسيره : إن من عبد الله تعالى لأجل الجنة فهو
أبله في جنب من يعبده لكونه ربًّا مالكًا ، وقد يقال : إن هذا يُعَدُّ أيضًا أبله
في جنب من يعبده لعلمه بكماله الذي تدل عليه جميع أسمائه الحسنى
وصفاته العليا . وقال بعضهم : إن المراد بالجنة ما يقابل الدرجات العلى من الجنة
التي هي منازل المقربين الذين هم أرقى من هؤلاء .
* * *
2- حديث : ( إِنَّمَا يُثَابُ النَّاس عَلَى قَدْر عُقُولِهِمْ )
لا أذكر أنني رأيت هذا الحديث في دواوين المحدثين بهذا اللفظ ، وما
أراه إلا من موضوعات المتأخرين ، ولكن ورد في معناه حديث عائشة
في نوادر الأصول للحكيم الترمذي وهو أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم :
بأي شيء يتفاضل الناس ؟ قال : ( بالعقل في الدنيا والآخرة ) قالت : قلت :
أليس يجزى الناس بأعمالهم ؟ قال : ( يا عائشة وهل يعمل بطاعة الله إلا
من عقل ؟ فبقدر عقولهم يعملون وعلى قدر ما يعملون يجزون ) ، وحديث
أنس عند الحكيم الترمذي في نوادره أيضًا : ( إن الأحمق يصيب بحمقه
أعظم من فجور الفاجر ، وإنما يقرب الناس الزلف عقولهم ) ورواهما داود
ابن المحبر في كتاب العقل وتختلف ألفاظهما عنده وهو نفسه مختلف فيه
قيل : هو ثقة ، وقال أحمد : لا يدري ما الحديث ، وقال الدارقطني فيه : متروك .
وقال في كتابه كتاب العقل : وضعه أربعة أولهم ميسرة بن عبد ربه ، ثم سرقه(1/79)
منه داود بن المحبر فَرَكَّبَهُ بأسانيدَ غير أسانيد مَيْسَرة إلخ ما قال . أما سند
حديث أنس في النوادر ففيه جهالة ، وأما سند حديث عائشة عنده فحسبك
أن في إسناده ميسرة بن عبد ربه الفارسي البصري قال ابن حبان : كان
يروي الموضوعات عن الأثبات ، وهو واضع أحاديث فضائل القرآن ،
وقال أبو داود: أقر بوضع الحديث . فعلى هذا لا حاجة إلى الجمع بين
الحديثين فأحدهما ضعيف والآخر موضوع ، ولو فرضنا أنهما صحا فما
قاله ابن الأثير في تفسير الأول كاف في منع التعارض .
* * *
3 - حديث عرج العقول
حديث : ( يَأَتْي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ تَعْرُجُ فِيِهِ الْعُقُولُ ) موضوع أيضًا .
* * *
4 - حديث : (خُذُوا شَطْرَ دِيِنِكُمْ عَنْ الحُمَيْرَاءِ )
هكذا ذكر الحديث في الكتب قال السخاوي : يعني عائشة رضي الله
عنها، قال ابن حجر : لا أعرف له إسنادًا ، ولا رأيته في شيء من كتب الحديث ،
إلا في النهاية لابن الأثير ، ولَمْ يذكر من خرجه .
وذكر الحافظ عماد الدين أنه سأل المزي والذهبي عنه فلم يعرفاه اهـ ،
أقول : وإذ لم يعرفه هؤلاء الحفاظ الذين أحاطوا بجميع كتب الحديث علمًا
وحفظًا فمن يعرفه ؟ وقد قال بعضُ العلماء في تفسيره على تقدير ثبوته : إن
المراد بشطر الدين الأحكام الخاصة بالنساء باعتبار قسمة الأحكام الشرعية إلى
قسمي المكلفين من النساء والرجال .
* * *
5 - حديث ثناء النبي صلى الله عليه وسلم على أويس القرني
روى مسلم في صحيحه عن أسير بن جابر أن أهل الكوفة وفدوا إلى عمر
وفيهم رجل ممن كان يسخر بأويس ، فقال عمر : هل ههنا أحد من القرنيين ؟
فجاء ذلك الرجل فقال عمر : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال :
( إن رجلاً يأتيكم من اليمن يقال له أويس لا يدع باليمن غير أُمٍّ له قد كان به
بياض ؛ أي بَرَصٌ فدعا الله فأذهبه عنه إلا موضع الدينار أو الدرهم فمن
لقيه منكم فليستغفر لكم ) وروى أيضًا عنه عن عمر أنه قال : إني سمعت(1/80)
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن خير التابعين رجل يقال له
أويس له والدة وكان به بياض فمروه فليستغفر لكم ) ؛ وروى عنه أيضًا قال:
كان عمر إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن سألهم : أفيكم أويس بن عامر
حتى أتى على أويس فقال له : أنت أويس بن عامر ؟ قال : نعم . قال : من
مراد ثم من قرن ؟ قال : نعم . قال : فكان بك برص فبرئت منه إلا موضع
درهم ؟ قال : نعم . قال : لك والدة ؟ قال : نعم . قال : سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول : ( يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن
من مراد ثم من قرن كان به برص فبرئ منه إلا موضع درهم له والدة
هو بها بر ، لو أقسم على الله لأبره . فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل )
فاستغفر لي . فاستغفر له . فقال له عمر : أين تريد ؟ قال : الكوفة . قال : ألا
أكتب لك إلى عاملها ؟ قال : أكون في غبراء الناس أحب إلي . فلما كان من
العام المقبل حج رجل من أشرافهم فوافق عمر فسأله عن أويس فقال : تركته
رث البيت قليل المتاع ( فذكر له عمر الحديث ) قال : فأتى أويسًا فقال : استغفر
لي ، فقال : أنت أحدث عهد بسفر صالح فاستغفر لي ، قال : لقيت عمر ؟ قال :
نعم، فاستغفر له ، ففطن له الناس فانطلق على وجهه ، قال أسير ( الراوي ) :
وكسوته بردة فكان كلما رآه إنسان قال : من أين لأويس هذه البردة ؟ اهـ .
هذه رواية مسلم في صحيحه عن أسير بن جابر ، وروى حديثه ابن
سعد وأبو نعيم والبيهقي في دلائل النبوة وابن عساكر في تاريخه مطولاً
في قصة لأويس عن حاله في الكوفة ، وروى قصته ابن عساكر وغيره
عن صعصعة بن معاوية وسعيد بن المسيب والحسن والضحاك بأسانيدَ
ضعيفة كلها عن عمر بن الخطاب ، وفي رواية الضحاك عن ابن عباس
عند ابن عساكر أن عمر وعليًّا ركبا حمارين ، وأتيا الأراك حيث كان
أويس وأنهما طلبا منه الدعاء فدعا لهما وللمؤمنين والمؤمنات .
وهذه الرواية لا تصح وإنما الصحيح من كل ما روي عن أويس هو ما(1/81)
أخرجه مسلم عن أسير بن جابر ويقال ابن عمرو ، وكان يقال له يسير أيضًا
على أن ابن حبان قال عند ذكره له في الثقات : ( في القلب من روايته
قصة أويس شيء إلا أنه حكى ما حكى عن إنسان مجهول فالقلب إلى أنه
ثقة أميل ) . وقال ابن سعد : كان ثقة وله أحاديث . وذكره العجلي في الثقات
من أصحاب ابن مسعود . وقال ابن حزم : أسير بن جابر ليس بالقوي ، الجمهور
على توثيقه تبعًا لمسلمٍ .
* * *
6 - حديث : ( أَرْوَاحُ الشُّهَدَاءِ )
حديث : ( أَرْوَاحُ الشُّهَدَاءِ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ ) ، قد رواه أحمد في مسنده ،
ومسلم في صحيحه ، وأصحاب السنن الأربعة ، وهو وارد في شهداء أحد ، وقد
اختلفت ألفاظه عند رواته ، ففي بعضها أنها تكون في حواصل طير ، وفي بعضها في
صورة طير وفي بعضها ( كطير خضر ) ، ومجموع الروايات يدل على أن
أرواحهم تتشكل بصورة الطير فترد أنهار الجنة ، وتأكل من ثمارها ، ويكون
ذلك شأنها إلى يوم القيامة فتبعث مع سائر الخلق في الأجساد المعروفة ،
وليس معناه أنها تحل في طير من الطير الموجودة كما يقول أهل التناسخ ،
والحديث يمثل لنا حياة الشهداء الغيبية في عالم الغيب ، قال بعض العلماء : إنه
خاص بشهداء أحد ، وقيل: بل يعم من كان مثلهم في الإخلاص ، ولا يمكن أن
يعم كل من قتل في الحرب لما ورد من عقاب من يقاتل رياء وسمعة .
* * *
7 - ثواب تالي القرآن بغير فهم
الأصل في مشروعية تلاوة القرآن الاهتداء والاعتبار والاتعاظ به ،
ولا يكون ذلك إلا بالتدبر والفهم ، وتلاوة القرآن مع الغفلة عن معناه ذنب
كما ورد في الأثر : ( رُبَّ تَالٍ لِلْقُرْآنِ وَالْقُرْآَنُ يَلْعَنُهُ ) وقد يثاب التالي
بغير فهم إذا كان يتلو لغرض شرعي آخر كتجويد التلاوة والحفظ ؛ فإن
توجه الذهن إلى ضبط الألفاظ وإتقان مخارج الحروف مثلاً يشغل عن تدبر
المعاني ؛ ولكن مثل هذا يكون غرضًا عارضًا لا دائمًا .
* * *
8 - ورع الصديق والقدوة به .(1/82)
روى البخاري عن عائشة أنه كان لأبي بكر غلام يخرج له الخراج ،
وكان أبو بكر يأكل من خراجه ؛ فجاء يومًا بشيء فأكل منه أبو بكر ، فقال
له الغلام : أتدري ما هذا ؟ فقال : وما هو ؟ قال : كنت تكهنت لإنسان في
الجاهلية فأعطاني ، وفي رواية أبي نعيم كنت مررت بقوم في الجاهلية
فرقيت لهم فوعدوني فلما كان اليوم مررت بهم فإذا عرس لهم فأعطوني ،
فأدخل أبو بكر أصابعه في فيه وجعل يقيء حتى ظننت أن نفسه ستخرج ،
ثم قال : اللهم إني أعتذر إليك مما حملت العروق وخالط الأمعاء .
وروى مالك من طريق زيد بن أسلم مثل ذلك عن عمر الفاروق ، قال زيد :
شرب عمر لبنًا فأعجبه فسأل الذي سقاه : من أين لك هذا اللبن ؟ فأخبره أنه ورد على
ماء - قد سَمَّاهُ - فإذا نعم الصدقة وهم يسقون ، فحلبوا لي من ألبانها ، فجعلته في
سقائي فهو هذا . فأدخل عمر يده فاستقاء .
أين أهل زماننا وغير زماننا من هذا الورع وقد صار من يتقي الحرام
الصريح المجمع على تحريمه يعد من النوادر في أكثر الأمصار والحواضر ،
التي يزعم متفرنجة أهلها أنهم أرقى وأكمل من السلف الصالح ؛ لأنهم في
زمن اتسعت فيه دائرة الفنون والصناعات ؟
* * *
9 - تشكل الملائكة والجن
لا حاجة إلى تأويل ما ورد عن ضيف إبراهيم ، وهو لا يدل على صدق
أولئك الدجالين في حكاياتهم الخرافية عن الجن ، وهل تقاس الملائكة
بالحدادين ؟ ! نقبل كلَّ ما ورد في التنزيل عن عالم الغيب ، وكذلك ما صح
في الأخبار ولا نقيس عليه ، ونقول : صدق الله ورسوله وكذب الدجَّالون .
* * *
10 - القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم علة لخلق الكون .
المشهور المعروف عن متكلمي الأشاعرة الذين يتبعهم أكثر المسلمين
أن أفعال الله تعالى لا تعلل ، ولكنهم يقبلون أمثال هذا البيت في الإطراء
وقصائد المدح .
وهذا المعنى في البيت مأخوذ من حديث : ( لَوْلاَكَ لَمَا خُلِقَت الأَفْلاَكُ )
وهو موضوع كما قال الصغاني وابن تيمية وغيرهما .
* * *(1/83)
( حَدِيثُ : الْعَمَائِمُ تِيِجَانُ الْعَرَبِ )
س46 : من صاحب الإمضاء في فليمبغ بجاوه .
سيدي أسألك عن لفظ : إذا وضعت العرب عمائمها فقد ذلت ، هل هو
خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أم أثر وما هو معناه ؟ تفضل أجبني
على صفحات المنار .
عقيل بن عبد الله الحبشي
ج : روى الديلمي في مسند الفردوس من حديث ابن عباس مرفوعا :
( الْعَمَائِمُ تِيِجَانُ الْعَرَبِ ، فَإِذَا وَضَعُوا الْعَمَائِمَ وَضَعُوا عِزَّهُمْ ) وسنده
ضعيف ، ولعل معناه أن العمائم لما كانت هي العلامة التي تمتاز بها
العرب عن غيرها من الأمم في المشخصات الظاهرة ، وكان وضعها لها
وتركها إياها تركًا لرابطة من الروابط العامة بينها ، ولا يكون غالبًا إلا
لتفضيل زي آخر من أزياء الأمم عليها ، لما كان ذلك كذلك كان ترك
العمائم احتقارًا لهذا الزي المشخص يتضمن احتقارًا ما لأهله وتفضيلاً لمن
استبدل زيَّهم به عليهم ، وذلك مبدأ ترك العز - عز الاستقلال - وتفضيل
الأفراد أمتهم على غيرها .
* * *
_______________________
(( مجلة المنار ـ المجلد [ 14 ] الجزء [ 11 ] صـ 821 ذو القعدة 1329 ـ نوفمبر 1911 ))
ميزان الجرح والتعديل
لعالم الشام الشيخ جمال الدين القاسمي
هذا بحث جليل ، ومطلب خطير ، طالما جال في النفس التفرغ لكتابة شيء
فيه يكون لباب اللباب في هذا الباب الذي اختلف فيه الناس ، لما غلب التعصب
على النفوس ونبذوا مشرب كبار المحدثين رواة السنة ، وهداة الأمة ، حتى سنحت
لي فرصة كتبت فيها ترجمة حافلة للإمام البخاري جعلتها مفصلة بتراجم منوعة كان
منها ( تخريج البخاري عمن رُمي بالابتداع ) وهم الذين أسميهم ( المبدّعين ) [1] .
ذكرت ثمة ما يناسب تأليف الترجمة ، ثم رأيت أن المقام يستدعي زيادة بسط
وإسهاب ، ودرأ شبه واحتمالات أوردها بعض الفقهاء خالف فيها الحقيقة ، فخشيت
أن يطول بإيرادها - في ترجمة البخاري - الكلام ، ويشبه الخروج عن الموضوع(1/84)
فأفردت تتمة هذا البحث في مقالة خاصة تحيط به من أطرافه ، وترده على أنحائه
وهذا البحث من جملة المباحث العلمية التي نسيها الخلف أو أضاعوها ، ولا غرو
أن يذهل عن الغايات من يقصر في البدايات ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
***
منشأ النبز بالابتداع
من المعروف في سنن الاجتماع أن كل طائفة قوي شأنها وكثر سوادها ، لا
بد أن يوجد فيها الأصيل والدخيل ، والمعتدل والمتطرف ، والغالي والمتسامح ، وقد
وجد بالاستقراء أن صوت الغالي أقوى صدى وأعظم استجابة ؛ لأن التوسط
منزلة الاعتدال ، ومن يحرص عليه قليل في كل عصر ومصر ، وأما الغلو فمشرب
الأكثر ، ورغيبة السواد الأعظم ، وعليه درجت طوائف الفرق والنحل ، فحاولت
الاستئثار بالذكرى ، والتفرد بالدعوى ، ولم تجد سبيلاً لاستتباع الناس لها إلا الغلو
بنفسها ، وذلك بالحط من غيرها ، والإيقاع بسواها ، حسب ما تسنح لها الفرص ،
وتساعدها الأقدار ، إن كان بالسنان ، أو اللسان .
وأول من فتح هذا الباب - باب الغلو في إطالة اللسان بالمخالفين - الخوارج
فأتى قادتهم عامَّتهم من باب التكفير ؛ لتستحكم النفرة من غيرهم ، وتقوى رابطة
عامتهم بهم ، ثم سَرى هذا الداء إلى غيرهم ، وأصبحت غلاة كل فرقة تكفِّر غيرها
وتفسقه أو تبدعه أو تضلله لذاك المعنى نفسه ، حتى قيض الله تعالى من الأئمة
من قام في وجه أولئك الغلاة ، وزيَّف رأيهم ، وعرف لخيار كل فرقة قدرهم ، وأقام
لكل منهم ميزان أمثالهم .
***
من شهر الرواية عن المبدعين
وقاعدة المحققين في ذلك
كان من أعظم من صدع بالرواية عنهم الإمام البخاري رضي الله عنه ،
وجزاه عن الإسلام والمسلمين أحسن الجزاء ، فخرَّج عن كل عالم صدوق ثبت من
أي فرقة كان ، حتى ولو كان داعية ، كعمران بن حطان وداود بن الحصين .
وملأ مسلم صحيحه من الرواة الشيعة[2] فكان الشيخان عليهما الرحمة والرضوان
بعملهما هذا قدوة الإنصاف وأسوة الحق الذي يجب الجري عليه ؛ لأن مجتهدي(1/85)
كل فرقة من فرق الإسلام مأجورون أصابوا أو أخطأوا بنص الحديث النبوي .
ثم تبع الشيخين على هذا المحققون من بعدهما حتى قال شيخ الإسلام الحافظ
ابن حجر في شرح النخبة : التحقيق أن لا يرد كل مكفَّر ببدعته ؛ لأن كل طائفة
تدَّعي أن مخالفيها مبتدعة ، وقد تبالغ فتكفر ، فلو أخذ ذلك على الإطلاق لاستلزم
تكفير جميع الطوائف ( قال ) : والمعتمد أن الذي تُردّ روايته من أنكر أمرًا متواترًا
من الشريعة معلومًا من الدين بالضرورة ، واعتقد عكسه . وأما من لم يكن كذلك ،
أو ينضم إلى ذلك ضبطه لما يرويه مع ورعه وتقواه فلا مانع من قبوله اهـ .
***
آفات الجرح إلا بقاطع
قال الإمام ابن دقيق العيد : أعراض المسلمين حفرة من حفر النار وقف على
شفيرها طائفتان من الناس : المحدثون والحكام .
وقال الإمام النووي في التقريب ، وشارحه السيوطي : أخطأ غير واحد من
الأئمة بجرحهم لبعض الثقات بما لا يجرح ، كما جرح النسائي أحمد بن صالح
المصري بقوله : غير ثقة ولا مأمون . وهو ثقة إمام حافظ احتج به البخاري ووثقه
الأكثرون ، قال ابن الصلاح : وذلك لأن عين السخط تبدي مساوئ ، لها في الباطن
مخارج صحيحة ، تُعمي عنها بحجاب السخط ، لا أن ذلك يقع منهم تعمدًا للقدح مع
العلم ببطلانه اهـ .
وقال الإمام ابن دقيق العيد : والوجوه التي تدخل الآفة منها خمسة :
( أحدها ) الهوى والغرض وهو شرها ، وهو في تاريخ المتأخرين كثير .
( الثاني ) المخالفة في العقائد .
( الثالث ) الاختلاف بين المتصوفة وأهل علم الظاهر .
( الرابع ) الكلام بسبب الجهل بمراتب العلوم وأكثر ذلك في المتأخرين ؛
لاشتغالهم بعلوم الأوائل ، وفيها الحق والباطل .
( الخامس ) الأخذ بالتوهم مع عدم الورع . وقد عقد ابن عبد الرؤوف بابًا
لكلام الأقران المعاصرين بعضهم في بعض ، ورأى أن أهل العلم لا يقبل جرحهم
إلا ببيان واضح[3] .
***
الوجوه التي يعرف بها ثقة الراوي(1/86)
قال السيوطي : قال في الاقتراح : [4] تُعرف ثقة الراوي بالتنصيص عليه من
راويه ، أو ذكره في تاريخ الثقات ، أو تخريج أحد الشيخين له في الصحيح ، وإن
تُكُلِّم في بعض من خرج له فلا يلتفت إليه ، أو تخريج من اشترط الصحة له ، أو
من خرج على كتب الشيخين اهـ ، فتمت النعمة بتعديل رجال الصحيحين ونبذ كل
وهم سواه ، وبذلك عرف للرجال فضلهم ، ولأولي العلم قدرهم ، وسن للناس طرح
التعصب والتحزب ، والتصافح على الأخوة الإيمانية ، وتبادل الآراء والأفكار ،
واستماع الحكم ومدارك الاستنباط والاجتهاد من ذويها ، على هذا جرى أئمة الحديث ،
وقادة الروايات ، الذين جمعوا ما جمعوا لدلالة الأمة على هدي نبيها وسنة رسولها
صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله ، حتى أصبحت مرجع الفروع والأحكام ،
ومعوَّل الأئمة الأعلام .
***
زيادة إيضاح في حكمة التخريج عن المبدّعين
وفوائد ذلك
إن تخريج أئمة السنة وحفاظ الهدي النبوي -حديث من نُبذوا بالابتداع على
طبقاتهم- فيه حكمة بليغة ، وفائدة عظيمة ، ألا وهي النهم بالعلم ، والسعي وراءه
والجد في طلبه ، والتنبه لحفظه من الضياع ، وسن نبذ التعصب ، والتشيع
والتحزب ، والتقاط الحكمة من أي قائل . قال حافظ المغرب الإمام ابن عبد البر في
كتاب جامع العلم وفضله في ( باب جامع في الحال التي تنال بها العلم ) ما مثاله :
وروينا عن علي رحمه الله أنه قال في كلام له : العلم ضالة المؤمن ، فخذوه ولو
من أيدي المشركين ، ولا يأنف أحدكم أن يأخذ الحكمة ممن سمعها منه . وعنه أيضًا
أنه قال : الحكمة ضالة المؤمن يطلبها ولو في أيدي الشرط اهـ ، فأئمة الحديث
رأوا أن السنة من الحكمة بل هي الحكمة - في تفسير الإمام الشافعي كما أوضح
ذلك في رسالته الشهيرة[5] في ( باب بيان ما فرض الله من اتباع سنة نبيه صلى الله
عليه وسلم ) فلذا عمدوا إلى تلقيها من كل ذي علم ، واشترطوا للعناية بها أن(1/87)
تكون من مسلم عدل صدوق ، ثبْت في روايته ، ولم يبالوا بما غُمز أو نُبز أو رُمي
به ، علمًا بأن المسائل النظرية ، أو التي دخل على أصولها تأويل بنظر المأول هي
من المجتَهد فيها ، والمجتهد مأجور أصاب أو أخطأ ، فعلام يُترك الأخذ عن
المأجور ، وقد يكون رأيه هو الحق ، ومذهبه هو الأدق -ما دام الأمر فيه احتمال
ولا قاطع ، أو اعترض النص ما رجعه ظاهرًا- كما يعلمه من أعار نظر الإنصاف
مآخذ الأئمة ومداركهم- وقد أوضح جملاً من ذلك الإمام تقي الدين ابن تيمية في
كتاب ( رفع الملام عن الأئمة الأعلام[6] ) فكان أئمة الحديث بهذا -أعني التلقي
عن كل عالم ثبت- مثال الإنصاف وكبر العقل ، وقدوة كل من يلتمس الحكمة ،
ويتطلب العلم ، فجزاهم الله أحسن الجزاء .
***
عقوق الخلف بهجر مذهب السلف
سبق أني قلت في هذا المعنى كلمة في كتابي ( نقد النصائح الكافية[7] ) بعد أن
سبرت رجال من خرَّج لهم الشيخان أو أحدهما في صحيحيهما - ممن نبز
بالابتداع - وهي قولي : فترى من هذا أن التنابز بالألقاب والتباغض لأجلها الذي
أحدثه المتأخرون بين الأمة عقوا به أئمتهم وسلفهم- أمثال البخاري ومسلم والإمام
أحمد بن حنبل ، ومن ماثلهم من الرواة الأبرار ، وقطعوا به رحم الأخوة الإيمانية
الذي عقده تعالى في كتابه العزيز ، وجمع تحت لوائه كل من آمن بالله ورسوله ،
ولم يفرق بين أحد من رسله ، فإذن كل من ذهب إلى رأي محتجًّا عليه ، ومبرهنًا
بما غلب على ظنه ، بعد بذل قصارى جهده وصلاح نيته في توخي الحق فلا
ملام عليه ولا تثريب ؛ لأنه مأجور على أي حال ، ولمن قام عنده دليل على خلافه ،
واتضحت له المحجة في غيره ، أن يجادله بالتي هي أحسن ويهديه إلى سبيل
الرشاد ، مع حفظ الأخوة ، والتضافر على المودة والفتوة ، هذا ما قلته ثمة مما يبين
أنه لو كانت الفِرق التي رُميت بالابتداع تهجر لمذاهبها وتُعادى لأجلها لَمَا أخرج(1/88)
البخاري ومسلم وأمثالهما لأمثالهم . نعم إن هؤلاء المبدعين وأمثالهم لم يكونوا
معصومين من الخطأ حتى يعدوهم الانتقاد ، ولكن لا يستطيع أحد أن يقول : إنهم
تعمدوا الانحراف عن الحق ، ومكافحة الصواب عن سوء نية ، وفساد طوية ،
وغاية ما يقال في الانتقاد في بعض آرائهم : إنهم اجتهدوا فيه فأخطأوا ، وبهذا كان
ينتقد على كثير من الأعلام سلفًا وخلفًا لأن الخطأ من شأن غير المعصوم ، وقد قالوا :
المجتهد يخطئ ويصيب ، فلا غضاضة ولا عار على المجتهد إن أخطأ في قول
أو رأي ، وإنما الملام على مَن ينحرف عن الجادة عامدًا متعمدًا ، ولا يتصور ذلك
في مجتهد ظهر فضله وزخر علمه .
***
رد القول بمعاداة المبدّعين
قدمنا أن رواية الشيخين وغيرهما عن المبدعين تنادي بواجب التآلف
والتعارف ، ونبذ التناكر والتخالف ، وطرح الشنآن والمحادّة ، والمعاداة والمضارة ؛
لأن ذلك إنما يكون في المحاربين المحادّين ، لا في طوائف تجمعها كلمة الدين ،
ومن الأسف أن يغفل عن هذا الحق من غفل ، ويدهش لسماعه المتعصبون
والجامدون ، ويحق لهم أن يذعروا لهذا الحق الذي فجأهم لأنه مات منذ قضى عصر
الرواية والرواة ، وانقضى زمن المحدثين والحفاظ ، ودال الأمر بعد الأخبار النبوية
للآراء والأقوال ، وصار الحق -بعد أن كانت الرجال تعرف به- يعرف بالرجال ،
وأصبح مشرب أمثال البخاري وغيره نسيًا منسيًّا ، ونُشر لواء التعادي والتباغض
في الأمة وكان مطويًّا ، وسبّب على الأمة من التفرق والانقسام ، ما أورثها الضعف
والانفصام ، فبعد أن كان التسامح في التلقي عن الحكماء والفضلاء من أي طبقة
ركنًا ركينًا في حضارة الإسلام ، خلفه التخاذل والتدابر والتعصب والملام ، ولم
يكف ذاك حتى ادُّعي أنه من الدين ، مع أن الدين يأمر بالتآخي ونبذ التفرق في
محكم كتابه المبين .
( ومن العجب ) أن يقول قائل : لا يلزم من الرواية عنهم عدم معاداتهم ، أي(1/89)
يجوز أن نروي عن راوٍ ، مع التدين بمعاداتنا له ، وبغضنا إياه !
( فنجيب عنه ) بأنَّا لا نعرف من قال ذلك من السلف ، ولا من ذهب إليه من
الأئمة ، والرواية يراد بها هنا تلقي أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وسنته وهديه
وتشريعه وأقضيته ، وفتاويه وشمائله ، لتتخذ دينًا يُدان الله به ، وشريعة يُقضى بها
في التنازع ، ومرجعًا تُحل به المشكلات ، فهل يُتلقى ذلك عمن يجب علينا معاداته
في الدين ؟ وكيف يتصور أن نأخذ الدين عمن نرى أنه عدو للدين ؟ سبحان الله
ما هذا التناقض ، إن من يأمرك الدين بأن تعاديه لا يبيح لك أن تأخذ دينك وشريعتك
وعقيدتك عنه ، ومن المسلَّم بأن هذا الراوي أدَّاه اجتهاده إلى ما رأى ، ومن أدَّاه
اجتهاده إلى ما رأى كيف يُعادى ، وقد بذل قصارى جهده ، وليس قصده إلا الحق ،
والتقرب إلى الله سبحانه وتعالى ، وكيف يُعادى من أثبت له الشارع الأجر ولو كان
مخطئًا ؟ وإنما يعادى الآثم لا المأجور .
***
رد القول بتفسيق المبدّعين
أغرب من ذلك قول البعض بتفسيق من يبدّعه ، وإن بلغ ذروة الاجتهاد ،
وأصبح معذورًا لا ملام عليه عند الله والملائكة والنبيين ، لا بل قد تفضل عليه
الشارع بالأجر . ومتى عهد تفسيق مجتهد إذا أخطأ في المسائل الاجتهادية ؟ وهل
يمكن لمثل البخاري -وهو ما هو في نقد الرجال- أن يضم إلى صحيحه من
مجتهدي الفرق من كان فاسقًا ليصبح جانب من كتابه مرويًّا للفسقة وقد جمعه ليجعله
حجة بينه وبين ربه ؟ وهل يُعقل أن يجعل رواية الفاسق حجة عند المولى ؟ هذا ما
يلزم من تفسيق من يفسق من الرواة فليحكم المتعصب النظر ، وليتدبر في المآل ،
قبل أن يأخذ في المقال .
نعم : ذهبت طائفة إلى تفسيق من خالفهم في شيء من مسائل الاعتقاد - كما
نقله الإمام ابن حزم في كتابه الفصل[8] إلا أنه قول مردود ؛ ولذا قال الإمام ابن
حزم رضي الله عنه : وذهبت طائفة إلى أنه لا يكفر ولا يفسق مسلم بقول قاله في(1/90)
اعتقاد أو فُتيا ، وإن كل من اجتهد في شيء من ذلك فدان بما رأى أنه الحق فإنه
مأجور على كل حال : إن أصاب الحق فأجران ، وإن أخطأ فأجر واحد . قال :
وهذا قول ابن أبي ليلى وأبي حنيفة والشافعي وسفيان الثوري وداود بن علي
رضي الله عن جميعهم ، وهو قول كل من عرفنا له قولاً في هذه المسألة من
الصحابة رضي الله عنهم ، لا نعلم منهم في ذلك خلافًا أصلاً . اهـ كلامه .
فأين هذا من التسرع في التفسيق ، وتقليد من قاله من المتأخرين المقلدين ،
الذين ليسوا بأئمة متبوعين ، ولا قولهم حجة في الدين ، ولا استندوا إلى دليل أو
برهان ? قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ? ( البقرة : 111 ) .
***
خطر النبز بالفسق
ومعنى الفسق
إن النبز بالفسق ليس بالأمر السهل ، لأن الفسق كثيرًا ما جاء في القرآن
الكريم مقابلاً للإيمان - كآية : ? أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً ? ( السجدة :
18 ) وأمثالها ، ولذا قيل بأن عطف قوله تعالى ( والفسوق ) على قوله ( والكفر )
عطف تفسير - في آية : ? وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكُفْرَ وَالْفُسُوقَ ? ( الحجرات : 7 ) وإن
احتمل أن يكون غيره إشارة إلى نوع آخر ، إلا أن النظائر والأشباه في موارده
في التنزيل تدل على أنه عطف تفسير ، وهب أنه كان غير الكفر فهو شيء قريب
منه ، ونوع أنزل منه بدرجة ، وناهيك به . وإليك ما قاله فيه أئمة اللغة
وفلاسفتها . ققال الجوهري في ( الصحاح ) : فسق الرجل فجر ، وفسق عن أمر
ربه أي : خرج وفي المصباح : فسق فسوقًا : خرج عن الطاعة ، والاسم
الفسق ، ويقال : أصله خروج الشيء من الشيء على وجه الفساد يقال : فسقت
الرطبة : إذا خرجت من قشرها وفي القاموس : الفسق : الترك لأمر الله ،
والعصيان ، والخروج عن طريق الحق ، أو هو الفجور - كالفسوق ( وقال الإمام
الراغب الأصفهاني في مفرداته ) : فسق فلان : خرج عن حجر الشرع ، وذلك من(1/91)
قولهم : فسق الرطب : إذا خرج عن قشره . وهو أعم من الكفر ( قال ) :
والفسق يقع بالقليل من الذنوب وبالكثير ، لكن تعورف فيما كان كثيرًا ، وأكثر ما
يقال الفاسق لمن التزم حكم الشرع وأقرَّ به ، ثم أخل بجميع أحكامه أو ببعضه . وإذا
قيل للكافر الأصلي فاسق - فلأنه أخل بحكم ما ألزمه العقل واقتضته الفطرة ( إلى
أن قال ) : فالفاسق أعم من الكافر اهـ .
وقال الإمام محمد بن مرتضى اليماني في كتابه ( إيثار الحق ) في ( فصل في
الفسق ) ما نصه : وأما العرف المتأخر : فالفسق يختص بالكبيرة من المعاصي مما
ليس بكفر ، والفاسق يختص بمرتكبها اهـ .
فأنت ترى من هذا كله أن الفسق مدلوله الكبائر والمعاصي العظائم ؛ لأنه دائر
بين الكفر وما يقرب منه ، وإذا كان هذا مدلوله الشرعي ، ومعناه العرفي ، فكيف
يجوز أن يوصف به عالم ثبت ثقة من ذوي الألباب وأولي الاجتهاد لمجرد أنه أداه
اجتهاده إلى رأي يخالف غيره مع أنه لم يقصد إلا الحق ، ولم يتوخَّ إلا ما رآه إلا
وفق ، إذ لم يأل جهدًا في اهتمامه بما يراه الصواب ، وإن كان في نظر غيره على
خلاف ذلك ، إذ هذا من لوازم المسائل النظرية ، ومتى عُهد أن يُفسق المخالف فيها
أو يُضلل ، لا جرم أنه بدعة قبيحة ، وجناية في الدين كبيرة .
وقد قال كثير من أئمة التفسير في قوله تعالى : ? وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ ?
( الحجرات : 11 ) هو قول الرجل للرجل : يا فاسق رواه ابن جرير عن مجاهد
وعكرمة . وقال قتادة : يقول تعالى : لا تقل لأخيك المسلم : ذاك فاسق ، ذاك منافق
نهى الله المسلم عن ذلك وقدم فيه . وقال ابن زيد : هو تسميته بالأعمال السيئة بعد
الإسلام ، زان فاسق ( ثم قال ابن جرير ) والتنابز بالألقاب هو دعاء المرء
صاحبه بما يكرهه من اسم أو صفة ، وعم الله بنهيه ذلك ولم يخصص به بعض
الألقاب دون بعض ، فغير جائز لأحد المسلمين أن ينبز أخاه باسم يكرهه ، أو صفة(1/92)
يكرهها ( ثم قال ) : وقوله تعالى : ? وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ?
( الحجرات : 11 ) أي ومن لم يتب من نبزه أخاه بما نهى الله عن نبزه من
الألقاب ، أو لمزه إياه أو سخريته منه ، فأولئك هم الذين ظلموا أنفسهم فأكسبوها
عقاب الله بركوبهم ما نهاهم عنه . ولما لم يكن عند من يرمي أخاه بالفسق إلا الظن
جاء النهي عن سوء الظن إثر تلك الآية في قوله تعالى : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً
أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ ?
( الحجرات : 12 ) ولما كان الرمي بالفسق مدعاة لتفرق القلوب ، وإثارة الشحناء
على عكس حكمة الله تعالى في خلقه الخلق للتعارف والتآلف ، جاء ذلك على إثر ما
تقدم بقوله سبحانه : ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً
وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ? ( الحجرات : 13 )
فليتدبر المتقي هذه الآيات الكريمة وليقف عند أوامرها وزواجرها ، وليعتبر
وليستعبر . قال السيد الطباطبائي في المفاتيح[9] : الفسق أن يتحقق بفعل المعصية
المخصوصة مع العلم بكونها معصية ، أما مع عدمه ، بل مع اعتقاد أنه طاعة ،
بل من أمهات الطاعات فلا . والأمر في المخالف للحق كذلك ؛ لأنه لا يعتقد
المعصية ، بل يزعم أن اعتقاده من أهم الطاعات سواء كان اعتقاده صادرًا عن نظر
أو تقليد ، ومع ذلك لا يتحقق الفسق ، وإنما يتفق ذلك ممن يعاند الحق مع علمه
به ، وهذا لا يكاد يتفق ، وإن توهمه من لا علم له اهـ .
فترى من العجب بعد ما ذكرناه أن يوسَم بالفسق من لا يحل وَسمه به ؛ لأن(1/93)
معناه لا ينطبق عليه بوجه ما ، على أنه ورد تسمية رواة الحديث خلفاء فيما رواه
الطبراني والخطيب وابن النجار وغيرهم عن علي مرفوعًا ( اللهم ارحم خلفائي
الذين يأتون من بعدي ، يروون أحاديثي وسنتي ، ويعلمونها الناس ) .
إذا علمت هذا فماذا يقال في هؤلاء المفسقين ؟ أجهلوا المعنى العرفي للفسق ،
أم تجاهلوا ؟ أم اجتهدوا فأداهم اجتهادهم أم قلدوا ؟ لا غرو أنهم جهلوا وقلدوا ، ويا
ليتهم قلدوا إمامًا متبوعًا ، بل قلدوا أواخر المقلدة الجامدة المتعصبة . ولو نظروا في
تراجم الرجال ، وتدبروا سيرة كثير من أولئك المبدعين الأبطال ، لعلموا أن رميهم
بالفسق يكاد أن يهتز له العرش . خذ لك مثلاً من شيوخ المعتزلة عمرو بن عبيد ،
وانظر في ترجمته إلى زهده وتقواه . قال الذهبي في الميزان : وقد كان المنصور
الخليفة العباسي الشهير يخضع لزهد عمرو وعبادته يقول شعرًا :
كلكم يطلب صيد غير عمرو بن عبيد
وذكر ابن قتيبة في ( المعارف ) أن المنصور رثى عمرو بن عبيد فقال شعرًا :
صلى الإله عليك من متوسد قبرًا مررت به على مران
قبرًا تضمَّن مؤمنًا متحنفًا صدق الإلهَ ودان بالقرآن
لو أن هذا الدهر أبقى صالحًا أبقى لنا حقًّا أبا عثمان
هذا هو التوثيق - أعني توثيق الملوك - لأن كلام الملوك ملوك الكلام . وما
غمز به فكله -إن أنصفت- من عصبية التمذهب ، والجمود في التعصب .
نحن لا نقول هذا تحزبًا للمعتزلة أو لغيرهم معاذ الله فإنا في الرأي مستقلون ،
ولسنا بمقلدين ولا متحزبين ، ولكن هو الحق والإنصاف ، وما قولك في قوم يرون
مرتكب الكبيرة كافرًا أو مخلدًا في النار ؟
أليس في هذا نهاية التعظيم للدين ، وغاية الابتعاد عن المعاصي ، والإشعار
بامتلاء القلب من خشية الله بما يزع عن الكذب والافتراء ؟ بلى ! وألف بلى ! فأنى
يستجيز عاقل بعد ذلك تفسيقهم وهم على ما رأيت من التمسك بدين الله ، والتصلب(1/94)
في المحافظة على حدوده ؟ فتدبر وأنصف ، على أن خبر الفاسق مرغوب عنه في
نظر العقل ، ساقط الاحتجاج به في أصول الشرع ، ولذا أمرنا بأن نتبينه ولا نلوي
عليه بادئ بدء ، فكيف يحكم صاحبه في السنة والأحكام ؟
قال الإمام الحجة مسلم في مقدمة صحيحه في باب وجوب الرواية عن
الثقات ، وترك الكذابين ، والتحذير من الكذب على رسول الله صلى الله عليه
وسلم ما مثاله : اعلم وفقك الله أن الواجب على كل أحد عرف التمييز بين صحيح
الروايات وسقيمها ، وثقات الناقلين لها من المتهمين - أن لا يروي منها إلا ما
عرف صحة مخارجه ، والستارة في ناقليه ، وأن يبقي منها ما كان عن أهل التهم
والمعاندين من أهل البدع[10] ( قال ) : والدليل على أن الذي قلنا من هذا هو اللازم
دون ما خالفه قول الله تعالى : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن
تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ? ( الحجرات : 6 ) وقال :
? َأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ ? ( الطلاق : 2 ) قال : فدل بما ذكرنا من هذه الآي أن
خبر الفاسق ساقط غير مقبول ، وأن شهادة غير العدل مردودة . والخبر إن فارق
معناه معنى الشهادة في بعض الوجوه ، فقد يجتمعان في أعظم معانيها - إذ كان خبر
الفاسق غير مقبول عند أهل العلم ، كما أن شهادته مردودة عند جميعهم . ثم روي
عن سلام قال بلغ أيوب أني آتي عمرًا[11] ، فأقبل عليَّ يومًا فقال : أرأيت رجلاً لا
تأمنه على دينه ، فكيف تأمنه على الحديث . فدل ذلك على أن من ائتمنه الشيخان
على الحديث ، فقد ائتمنوه على الدين ، ومن ائتمن على الدين فليس فاسقًا ولا
مبتدعًا .
( ثم قال الإمام مسلم ) وإنما ألزموا -يعني العلماء- أنفسهم الكشف عن
معايب رواة الحديث . وناقلي الأخبار وأفتوا بذلك حين سئلوا - لما فيه من عظيم(1/95)
الخطر إذ الأخبار في أمر الدين إنما تأتي بتحليل أو تحريم ، أو أمر ، أو نهي ، أو
ترغيب ، أو ترهيب ، فإذا كان الراوي لها ليس بمعدن للصدق والأمانة ، ثم أقدم
على الرواية عنه من قد عرفه ، ولم يبين ما فيه لغيره ممن جهل معرفته كان آثمًا
بفعله ذلك ، غاشًّا لعوامّ المسلمين ، إذ لا يؤمن على بعض من سمع تلك الأخبار أن
يستعملها ، أو يستعمل بعضها ، ولعلها أو أكثرها أكاذيب لا أصل لها ، مع أن
الأخبار الصحاح من رواية الثقات وأهل القناعة أكثر من أن يضطر إلى نقل من
ليس بثقة ولا مقنع اهـ .
فهل بعد هذا يجوز غمز بعض من روى لهم الشيخان من أولئك الأعلام
المبدّعين ؟ لا جرم أنه لأمر ما عُني البخاري ومسلم بالتخريج عنهم ، وأخذ السنة
منهم ، وتبليغها للأمة ، وجعلها حجة بينه وبين ربه ، وما ذاك إلا إجلالاً لفضلهم ،
وإنصافًا لقدرهم .
انظر كيف يتحمل مثل البخاري عن أعلام الشيعة ، والمعتزلة ، والمرجئة ،
والخوارج ، ويجعل حديثهم حجة ، ومرويهم سنة ، ويفخر بذكر أسمائهم في أسانيده
ويخلد لهم أجمل الذكر ، في أشرف مصنف . انظر هذا وقابل بينه وبين جمود
المتأخرين ، ورميهم علماء الفرق بالفسق والابتداع والضلال ، وهجرهم لعلومهم ،
وصد الناس عنهم ، حتى فات الناس - وا أسفا - علم جمّ ، وخير كثير ، ولئن دون
ما دون من معارفهم ، فما بقي من فوائدهم في خزائن صدورهم مما كان يستثار
بالأخذ عنهم ، وينال بمجالسهم - أوسع وأوفر ، أفليس في جمود هؤلاء على ما ذكر
عقوق لسلفهم الصالح ؟ بلى ! وما يضرون إلا أنفسهم لو كانوا يشعرون .
بما ذكرناه استبان لك الخطأ في نبز رواة الصحيح بالفسق والابتداع ، وأنه
تعصب يجب التنبيه له والحذر منه . نحن إنما نصدع بهذا - تفقهًا ممن شرب
البخاري ومذهبه ، وموافقة له في رأيه الذي لا شك في أنه الصواب الذي تدعو إليه
الأخوة الإيمانية ، والإنصاف مع كل راوٍ مجتهد من هذه الأمة لا يروم إلا الحق ،(1/96)
ولا يسعى إلا إليه ، ولا يتحمل الأذى والاضطهاد إلا لأجله - إذ لم يصب من رأيه
وما دعا إليه لا دنيا ، ولا جاهًا ، ولا مُلكًا ، فأي دليل أدل على حسن نيته من هذا ؟
وبالجملة فتسمية المتفقهة بعض الرواة فسقة جهل بما قاله الأصوليون من أن الفاسق
مردود الشهادة والرواية[12] ومن قبل الشيخان وغيرهما خبره وحكموه في السنة ،
وأخذوا عنه ، فهل يكون فاسقًا ؟ على أن إجماعهم على تلقي الصحيحين بالقبول
موجب لتعديل رواتهما جميعًا ؛ لأن التلقي بالقبول فرع صحة الحديث ، وهو إنما
يكون من صحة سنده ، وهو من عدالة رجاله وتوثيقهم . ولذا قالوا فيمن خرَّج له
الشيخان : جاز القنطرة . بمعنى أنه لا يلتفت إلى ما غمز فيه . وبالجملة فمشرب
المحدثين في التسامح ونبذ التعصب هو الذي تقتضيه الأصول ، وتقبله العقول ، وما
أحدث من النبز بالفسوق للبعض فلا سند له - لأن دعوى فسق الإنسان إنما يكون
بإتيانه ما فسقه الشارع به ، ونص عليه كتاب أو سنة نصًّا قاطعًا لا يحتمل التأويل
وأما مسائل الاجتهاد فلا يصح ذلك فيها بوجه من الوجوه .
والحاصل أن لا تفسيق ولا تضليل ، مع الاجتهاد والتأويل ، وإن كان ليس
كل اجتهاد صوابًا ، ولا كل تأويل مقبولاً ، ولكن كلامنا في ذات المجتهد والمأول .
فمن لم يألُ جهدًا فلا ملام عليه ولا كلام ، لا بل يُتحمل منه الدين ، ويُتلقى
عنه الهدي النبوي ، ويحكم في السنة ، على هذا جرى البخاري ومسلم وغيرهما من
أقطاب الحديث والأثر ، وهو الصواب ، بلا ارتياب . وقد نقل الغزالي في
المستصفي[13] عن الشافعي أنه قال : تقبل شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية من
الرافضة لأنهم يرون الشهادة بالزور لموافقيهم في المذهب ( ثم قال ) ويدل على
مذهب الشافعي قبول الصحابة قول الخوارج في الأخبار والشهادة ، وكانوا فسقة
متأولين ، وعلى قبول ذلك درج التابعون - لأنهم متورعون عن الكذب ، جاهلون
بالفسق اهـ .(1/97)
فترى من هذا أن الصحابة قبلوا خبرهم ، وما ضرهم تسمية الفقهاء لهم
بالفسقة ، لأنه فسق بمعنى مخالفة غيرهم ، وهذا الإطلاق اصطلاحي للفقهاء ،
وربما رجع الخلاف - في تسمية أولئك فساقًا - لفظيًا ، وإلا فيستحيل إرادة الفسق
الحقيقي المانع للشهادة والرواية - كما قدمنا - ومعلوم أنه لا يكون مذهب حجة على
مذهب ، ولا عرف برهانًا على عرف ، وإنما الحجة والبرهان قواطع الكتاب
والسنة . ولما كان البحث المذكور في غاية من الدقة ، ترى الكلام في مطولات
الأصول مضطربًا متشعب الأقوال ، حتى اختلفوا لذلك في ماهية العدالة ، ويقرب
لمذهب المحدثين فيها قول بعض أهل العراق : العدالة عبارة عن إظهار الإسلام فقط -
مع سلامته عن فسق ظاهره اهـ .
((يتبع بمقال تالٍ))
________________________
(1) بتشديد الدال المفتوحة أي المنسوبين للبدعة ، وإنما آثرنا هذا على تسمية الأكثرين لهم
بالمبتدعين ؛ لأني لا أرى أنهم تعمدوا البدعة لأنهم مجتهدون يبحثون عن الحق ، فلو أخطأوه بعد بذل
الجهد كانوا مأجورين غير ملومين ، فلا يليق تسميتهم مبتدعة بل مبدعة كما سيمر بك البرهان عليه .
(2) راجع شرح تقريب النووي صفحة 119 .
(3) تدريب السيوطي صفحة 262 .
(4) كتاب في أصول الحديث للشيخ تقي الدين بن دقيق العيد (كشف الظنون) .
(5) مطبوعة مرتين .
(6) مطبوع مرتين في الهند ومصر .
(7) مطبوع بدمشق .
(8) جزء (3) صفحة (247) .
(9) في النقل عن هذا السيد الإمامي الكبير -رحمه الله- حجة على متعصبة الإمامية في تفسيقهم
مخالفيهم أيضًا .
(10) من هنا يعلم أن رواة الصحيحين المتكلم فيهم لا يوصفون بالابتداع ؛ لأن مسلمًا رحمه الله أوجب
أن لا يُروى عن مبتدع ، فبالأولى البخاري ؛ لأن شرطه أدق ، ولذلك قلت في عنوان المقالة
(المبدّعون) إعلامًا بأن خصومهم لقَّبُوهم بالمبتدعة ، وإلا فهم مجتهدون والمجتهد وإن أخطأ لا
يوصف بالابتداع كما أسلفناه ، ونبسطه الآن اهـ منه .(1/98)
(11) هو عمرو عبيد المتقدم وكلام أيوب فيه من كلام المعاصرين بعضهم في بعض وهو مطرح كما
نبه عليه ابن عبد البر في كتاب جامع العلم .
(12) المُستصفى جزء (1) صفحة (158) .
(13) جزء (1 (صفحة (160) .
(( مجلة المنار ـ المجلد [ 15 ] الجزء [ 11 ] صـ 857 ذو القعدة 1330 ـ نوفمبر 1912 ))
ميزان الجرح والتعديل [*]
( 2 )
جواب شبهة
رب قائل يقول : كيف لا يفسق هؤلاء وقد خالفوا بتأويلهم النصوص من
الكتاب والسنة ؟
فنقول : قدمنا ما يمنع تسميتهم فسقة شرعًا ولغة ، ولذا جاء في مُسَلَّم الثبوت
من كتب الأصول ، ما مثاله : لك أن تمنع كون المتدين من أهل القبلة فاسقًا
بالعرف المتقدم الذي عليه القرآن الكريم ، وهو شموله للكافر والمؤمن المرتكب
الكبيرة اهـ . وقال حجة الإسلام الغزالي في الإحياء : مهما اعترضت على القدري
في قوله : الشر من الله ، وكذلك في قولك : إن الله يُرى ، وفي سائر المسائل ، إذ
المبتدع محق عند نفسه ، والمحق مبتدع عند المبتدع ، وكل يدعي أنه محق وينكر
كونه مبتدعًا اهـ .
وبالجملة فهم مخالفون بنظر غيرهم ، وأما عند أنفسهم فغيرهم هو المخالف
وهم الموافقون ، وحاشا لمؤمن عالم أن يخالف كتابًا أو سنة عامدًا متعمدًا ، فهم
مجتهدون مثابون ؛ إذ لم يألوا جهدًا فيما ذهبوا إليه ، وإن كنت لا تقول به
وترى الحجة فيما أنت عليه ، على أن ما تسميه أنت نصًّا هم يرونه ظاهرًا ، إذ
دعوى نصية الشيء ليست بالأمر اليسير ، لأن النص هو القاطع في معناه ، المفيد
لليقين في فحواه ، وهذا إنما يكون في محكمات الدين ، وأصوله التي لم يختلف فيها
الفرق كلها ، وأما ما عداه فكلها ظواهر ، وقد يراها البعض باجتهاده نصًّا ، وليس
اجتهاد مجتهد بقاضٍ على اجتهاد آخر .
وعلى من يريد تحقيق هذا أن يراجع مطولات الخلاف ، ويطالع مآخذ
المجتهدين ، ومن أنفع ما ألف في هذا الباب كتاب رفع الملام عن الأئمة الأعلام(1/99)
لشيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية رحمه الله فإنه جدير لو كان في الصين أن يرحل
إليه ، وأن يعض بالنواجذ عليه ، فرحم الله من أقام المعاذير للأئمة ، وعلم أن سعيهم
إنما هو إلى الحق والهدى ، كما أسلفنا وبالله التوفيق .
***
جواب شبهة أخرى
يزعم بعضهم بأنه يحتمل أن يكون الراوي تحمل عن المبدّع قبل تمذهبه بذلك
المذهب ، وهذا جهل بمذاهب الرواة ، ومشارب الرجال ، فإن كل من ألَّف في نقد
الرجال لم يذكر في المشاهير منهم أنه كان على مذهب كذا ، أو أن الحافظ الفلاني
تحمل عن فلان قبل تمذهبه بمذهب كذا ، ومثل هذا إنما يؤخذ عن النقلة الأثبات
كالمصنفين في أحوال الرجال ، ولا يمكن الاجتهاد فيه بحال من الأحوال ، ولذا
تراهم يقولون في ترجمة الراوي : كان خارجيًّا . ونحو ذلك قولاً واحدًا . وحبذا أن
يكون ما ذكره مأثورًا عن إمام مؤرخ مشهور ، وأما القول بالاحتمال ، فإذا فُتح
أَوْرَثَ الاضمحلال ، لكل ما يعوّل عليه في الاستدلال ، ومثل ذلك ما يقال : يحتمل
أن يكون روى عنه وهو غير عالم بما هو عليه من فساد العقيدة ، فهذا يزيد عما
قدمنا من الجهل بمذاهب الرواة تجهيل أئمة الحديث ، ووصمهم بما هم برآء من
الغباوة والبلاهة ، وأنهم يتحملون عمن لا يعرفون مذهبه ولا مشربه ، وأنهم
كحاطب ليلٍ ، نعوذ بالله من ذلك ، وأي عاقل يجرؤ على مثل ذلك في البخاري
صاحب التاريخ في الرجال ؟ بل من دونه من أرباب السنن وغيرهم ممن تكلم في
الجرح والتعديل ، وميز بين صحيح الحديث وضعيفه ، لثقة رجاله أو ضعفهم ,
وهل يعقل في صحاح ، وسنن ومسانيد ، وموطآت عليها مدار أدلة الأحكام ، وحجج
الفروع ، صنفت على الأسانيد المنوعة والمكررة بالأسماء والكُنى والألقاب أن
يكون جامعوها لا يدرون مشرب رجالها ولا ما يتحملونه مع أن العامي والأمي نراه
إذا خدم عالمًا لا يخفى عليه مشربه ومذهبه ورأيه وفكره ، فكيف بعالم مؤلف ، لا(1/100)
بل بإمام مجتهد يستنبط الأحكام من الأحاديث ويترجم عليها ، ويزاحم من تقدمه من
الأئمة في التخريج والرد والاستدراك والتفريع والتأصيل ؟
ألا يدري مذهب رجال إسناده ونحلتهم ، وهم عمدته في الاستدلال ، وركنه
في الاحتجاج ، بلى ثم بلى ، وهو أجلى من أن يبرهن عليه ، أو يرد على من كابر
فيه ، ولقد كان علم الجرح والتعديل ، ومعرفة طبقات الرجال وتراجمهم من أوئل ما
يدريه طلاب الحديث ومريدو التحمل عن الحفاظ ، ولكن من أين يدري أبناء هذا
الجيل ، ما كان عليه السلف من فنون التحصيل ، وقد اندرست تلك العلوم ، ولم يبق
منها ولا الرسوم ، فإنا لله وإنا إليه راجعون .
وأما قول بعضهم : فكيف يستدل بإخراج الشيخين على عدم جواز المعاداة مع
قيام هذه الاحتمالات ؟ وكيف يسوغ للإنسان أن يتمسك بالمحتمل الذي لا تقوم به
حجة ؟ فقد علمت سقوط هذه الاحتمالات وأنها أشبه بالأوهام والخيالات ، والتلاعب
في الحقائق الواضحات والمحتمل الذي تقوم به حجة هو الذي يتطرق إليه احتمال
معقول ، أو تأويل مقبول ، جارٍ على قوانين التأويلات ، والأوجه المعروفة في
نظائره .
وأما احتمال في مقابلة حقيقة ثابتة وأمر واضح فلا يقال له احتمال ، وإنما هو
تلاعب وهوس خيال ، يقول أئمة الجرح والتعديل في كتبهم عن راوٍ ممن خرَّج
له الشيخان أو أحدهما : إنه شيعي ، أو خارجي ، أو قدَري ، أو مرجئ ، ثم يأتي
من يريد أن ينقض هذا بالاحتمال ، وهو لم يضرب في هذا الفن بسهم ، ولا يمكن
أن يرجع إليه في رأي ولا علم ، كيف لا وقد اجتمعوا على الرجوع إلى أئمة الفن
في هذا الباب ، لأنه أمر لم يبق فيه مجال ولا نظر ولا احتمال ، وهذا من البديهيات
الغنية عن الحجة والبرهان .
***
رفع وهم في عبارة للبخاري
وأما زعم أن قول البخاري في جزء رفع اليدين : كان زائدة لا يحدّث إلا أهل
السنة اقتداء بالسلف - يخالف ما استنبطناه ، فعجيب جدًّا ؛ لأنه لا شاهد فيه ، ولا(1/101)
يناسب بحثنا حتى يخالفه ، لأن زائدة رحمه الله كان يمتنع عن تحديث غير أهل
السنة ، أي إسماعهم الحديث وإقرائهم إياه ، وذلك في التلاميذ منهم والمبتدئين في
طلب الحديث الذين يبغون التلقي والسماع ، وقد انتموا إلى غير مذهب أهل السنة ،
فكان زائدة يتجافى تحديثهم اقتداء بمن رآه من سلفه كذلك ، ولا منازعة في
الوجدانيات ولا يكلف المرء ما لا يطيقه ، فمن كانت نفسه لا تحب إسماع من كان
كذلك ، فله الخيرة ولا جناح عليه في ترك الإسماع ، لا سيما لتلاميذ لم يتأهلوا بعد
للنظر والوقوف على التحقيق ، فمثلهم إنما يكون مقلدًا لا مجتهدًا ، وأما حفاظ شيوخ ،
ذوو علم ورسوخ ، أوتوا من العلم والفضل ما أهَّلهم للتحمل عنهم ، والاستفادة من
علمهم ، بحيث طارت شهرتهم ، وتفوقوا على غيرهم ، فلا دخل لكلام زائدة فيهم ،
ولا يشملهم مشربه ، وهكذا نحن نقول : لا ينبغي لأستاذ أن يشرح صدره لتلاميذ
أغرار ، انتحلوا غير ما يراه الحق بدون نظر أو فكر ، بل تقليدًا أو اتباعًا لكل
ناعق .
وأما من بلغ مرتبة الرسوخ والإفادة ، وكان على جانب عظيم من العلم ،
وانتحل ما انتحل عن اجتهاد ونظر ، فلا يرتاب أحد في العناية بالأخذ عنه ،
والتلقي منه ، كما فعل الأئمة أمثال البخاري ، وأشياخه ، فكلام زائدة من وادٍ ، وما
نقوله من وادٍ آخر . وهكذا يقال فيمن حكى عنهم من المرجئة من أهل بلخ ، وأما
قوله : ولقد رأينا غير واحد من أهل العلم يستتيبون أهل الخلاف ، وإلا أخرجوهم
من مجالسهم ، فهو يعني به من ذكرناه من التلاميذ لقوله : وإلا أخرجوهم ، وهل
يخرج إلا المتعلم الضعيف في العلم والفهم ، المتطفل على ما ليس له بأهل ؟ وشتان
بين من يخرج من مجلس الحديث من أهل الخلاف وبين من يرحل إليه ويتحمل
عنه منهم ، كرجال الشيخين وغيرهما من هؤلاء ، ولو اطرد الابتعاد عن هؤلاء أو
إبعادهم لما تلقى عنهم أمثال الشيخين ، وخلد أسماءهم ومرويهم في أصح الكتب بعد(1/102)
التنزيل الكريم ، وقد يكون مراد البخاري بأهل الخلاف أهل الرأي جمودًا وتقليدًا
المؤثرين آراء الفقهاء على صحيح السنة ، لأن كتابه المذكور وهو جزء رفع اليدين
في مناقشة أهل الرأي وحجهم بصحيح السنة على رأيهم . وقد تجافى أرباب
الصحاح الرواية عن أهل الرأي[1] ، فلا تكاد تجد اسمًا لهم في سند من كتب
الصحاح أو المسانيد أو السنن ، وإنْ كنت أعدّ ذلك في البعض تعصبًا ، إذ يرى
المنصف عند هذا البعض من العلم والفقه ما يجدر أن يتحمل عنه ، ويستفاد من
عقله وعلمه ، ولكن لكل دولة من دول العلم سلطة وعصبة ذات عصبية ، تسعى في
القضاء على من لا يوافقها ولا يقلدها في جميع مآتيها ، وتستعمل في سبيل ذلك كل
ما قدر لها من مستطاعها كما عرف ذلك من سبر طبقات دول العلم ، ومظاهر ما
أوتيته من سلطان وقوة ، ولقد وجد لبعض المحدثين تراجم لأئمة أهل الرأي يخجل
المرء من قراءتها فضلاً عن تدوينها ، وما السبب إلا تخالف المشرب على توهم
التخالف ، ورفض النظر في المآخذ والمدارك ، التي قد يكون معهم الحق في الذهاب
إليها ، فإن الحق يستحيل أن يكون وقفًا على فئة معينة دون غيرها ، والمنصف من
دقق في المدارك غاية التدقيق ثم حكم بعد .
ومما نعده تعصبًا ما حكام الإمام البخاري في جزء رفع اليدين المذكور من
إخراج أهل الخلاف من مجالس الحديث حتى يُستتابوا ، وحمل قاضي مكة سليمان
بن حرب على الحجر على بعض علماء الرأي من الفتوى ، وما ذلك إلا من سلطة
دولة الأثريين وقتئذ ، وقيامهم بالتشديد ضد غيرهم ، ونبذ التسامح الذي كان عليه
الصحابة والتابعون في أن يفتي كل بما يراه بعد بذل جهده في المسألة دون تعنيف
أو اضطهاد ، لا جرم أن سنة كل قوم آنسوا من أنفسهم قوة وسلطانًا أن يستعملوا
لبث مذهبهم ونشره هيمنة الحاكم وسيطرته ، ولا سيما إذا كان منهم وعلى شاكلتهم
وهو مستبد في علمه وما يمضيه فحدث هناك ولا حرج .(1/103)
انظر إلى القدرية لما دالت لهم دولة العلم أيام المأمون ماذا جرى منهم مع من
لم يقل بمشربهم ولم يستجب لدعوتهم ، فقد ضربت أئمة وأهينوا وسجنوا الأعوام
وأوذوا مما دونه التاريخ وأحصاه على هؤلاء المتعصبين ، وكان نقطة سوداء في
تاريخ حياتهم ، وإن كانوا يزعمون مقاومة الحشو والجمود ، وتنوير الأذهان بعلوم
الأوائل مما أخذوا بتعريبه ، وجهدوا في نشره ، إلا أن الغلو كان رائدهم ، والبطش
قائدهم ، ولكن هي السكرة ، التي يذهب معها صحيح الفكرة ، أعني سكرة الدولة
والغلبة ، والسلطة والقوة ، فما من دولة إلا ونقم عليها شيء من ذلك ، كما يدريه
من سبر أخبار الدول وفلسفة حياتهم ، ومظهر آرائهم وآمالهم .
وكذلك قُل عن الفتنة التي فر من أجلها إمام الحرمين من العراق إلى الحجاز
حينما دالت دولة الحنفية ، وثارت عصبيتهم على الشافعية و الأشعرية . قال التاج
السبكي في طبقاته[2]في ترجمة الإمام أبي سهل الشافعي :
إنه لما بلغ من سمو المقام أن أرسل إليه السلطان الخُلَع وظهر له القبول عند
الخاص والعام ، حسده الأكابر وخاصموه ، فكان يخصمهم ويتسلط عليهم . قال : فبدا
له خصوم واستظهروا له بالسلطان عليه وعلى أصحابه ، قال : وصارت الأشعرية
مقصودين بالإهانة والمنع عن الوعظ والتدريس ، وعزلوا من خطابة الجامع ، قال :
وتبع من الحنفية طائفة أشربوا في قلوبهم الاعتزال والتشيع ، فخيلوا إلى أولي
الأمر الإزراء بمذهب الشافعي عمومًا ، وبالأشعرية خصوصًا ، قال وهذه هي الفتنة
التي طار شررها ، وطال ضررها ، وعظم خطبها ، وقام في سب أهل السنة
خطيبها ، فإن هذا الأمر أدى إلى التصريح بلعن أهل السنة في الجُمَع ، وتوظيف
سبهم على المنابر ، وصار لأبي الحسن الأشعري بها أسوة بعلي بن أبي طالب
رضي الله عنه ، واستعلى أولئك في المجامع ، فقام أبو سهل في نصر السنة قيامًا
مؤزرًا ، وتردد إلى المعسكر في ذلك ولم يفد ، وجاء الأمر من قِبل السلطان(1/104)
( طغرلبك ) بالقبض على الرئيس الفراتي ، والأستاذ أبي القاسم القشيري ، و إمام
الحرمين ، و أبي سهل بن الموفق ، ونفيهم ومنعهم عن المحافل ، وكان أبو سهل
غائبًا في بعض النواحي ، فلما قرأ الكتاب بنفيهم أغرى بهم الغاغة والأوباش ،
فأخذوا بالأستاذ أبي القاسم القشيري والفراتي يجرونهما ويستخفون بهما ، وحُبسا
بالقهندر وأما إمام الحرمين فإنه كان أحس بالأمر فاختفى وخرج على طريق كرمان
إلى الحجاز ، وبقيا في السجن متفرقين أكثر من شهر .
وفي شرح الإقناع[3] قال ابن عقيل : رأيت الناس لا يعصمهم من الظلم إلا
العجز ، ولا أقول العوام بل العلماء ، كانت أيدي الحنابلة مبسوطة في أيام ابن
يونس ، فكانوا يستطيلون بالبغي على أصحاب الشافعي في الفروع حتى ما يمكنوهم
من الجهر بالبسملة والقنوت ، وهي مسألة اجتهادية ، فلما جاءت أيام النظام ، ومات
ابن يونس وزالت شوكة الحنابلة ، استطال عليهم أصحاب الشافعي استطالة
السلاطين الظلمة ، فاستعدوا بالسجن ، وآذوا العوام بالسعايات والفقهاء بالنبذ
بالتجسيم ، ( قال ) : فتدبرت أمر الفريقين ، فإذا بهم لم تعمل فيهم آداب العلم ،
وهل هذه إلا أفعال الأجناد يصولون في دولتهم ، ويلزمون المساجد في بطالتهم ،
اهـ .
ولدينا من القصص في عجائب ما روى التاريخ من التعصب ما لا يسعنا إلا
إمساك القلم عن نشره إبقاء على هذه البقية الباقية ، وفي الإشارة ما يغني عن الكلم
ولا حول ولا قوة إلا بالله .
وكل ذلك من التفرق الذي نهى عنه الدين لما يستتبعه من الإزراء التي تعمل
في أساسه المتين ، ويكفي ما جنت وتجني الأمة من ويلاته إلى هذا الحين ، حتى
فشلت وذهب ريحها أمام أعدائها الكافرين ، والمستعان بالله .
((يتبع بمقال تالٍ))
________________________
(*) لعالم الشام الشيخ جمال الدين القاسمي .
(1) كالإمام أبي يوسف والإمام محمد بن الحسن فقد لينهما أهل الحديث كما نرى في ميزان الاعتدال ،(1/105)
ولعمري لم ينصفوهما وهما البحران الزاخران ، وآثارهما تشهد بسعة علمهما وتبحرهما ، بل
بتقدمهما على كثير من الحفاظ وناهيك كتاب الخراج لأبي يوسف وموطأ الإمام محمد ، نعم كان ولع
جامعي السنة بمن طوف البلاد ، واشتهر بالحفظ ، والتخصص بعلم السنة وجمعها ، وعلماء الرأي لم
يشتهروا بذلك لا سيما وقد أشيع عنهم أنهم كانوا يحكمون الرأي في الأثر ، وإن كان لهم مرويات
مسندة معروفة ، رضي الله عن الجميع ، وحشرنا وإياهم مع الذين أنعم الله عليهم .
(2) في ترجمة محمد بن هبة الله بن محمد بن الحسين الإمام الكبير أبو سهل جزء 3 صفحة 85
و86 .
(3) صفحة 1309 من مطولات كتب الحنابلة في الفروع .
(( مجلة المنار ـ المجلد [ 15 ] الجزء [ 12 ] صـ 912 ذو الحجة 1330 ـ ديسمبر 1912 ))
ميزان الجرح و التعديل [*]
( 2 )
درء وهم واشتباه
يقول بعضهم : إن مسلمًا روى عن ابن عباس أنه قال في نجدة الحروري :
( لولا أن أرده عن نتن يقع فيها ما كتبت إليه ولا نعمة عين ) . قال النووي :
كان ابن عباس يكرهه لبدعته وهي كونه من الخوارج .
والجواب : أنه لا يلزم من كراهة الفرد كراهة المجموع ، وإلا لما خرَّج
لثقاتهم وعلمائهم الشيخانُ وغيرُهما ، وهل يؤخذ الجميع بجريرة الفرد ؟ على
أن نجدة ليس من رجال الرواية عند المحدثين ، فقد ضعَّفه الذهبي في ( ميزان
الاعتدال ) وقال عنه : ذكر في الضعفاء للجوزجاني ، على أن الحال وصل
إليه في قومه أن يختلفوا عليه وينبزوه بالكفر كما تراه في كتاب ( الفرق )
للإمام أبي منصور البغدادي ، والملل والنحل للشهرستاني وغيرهما ، فلا نعمة
عين - كما قال ابن عباس - ولو كان يُكره كل خارجي لبدعته لما أخرج
لأثباتهم أئمةُ السنة في الصحاح والمسانيد ، ويكفي أن الإمام مالكًا رضي الله
عنه عُدَّ ممن يرى رأيهم ، كما رواه الإمام المبرد في كامله [1] . ومن عزا لك
ما يأثره ، وأراك مصدره ، فقد أوقفك من المسالك على الصراط المستقيم .(1/106)
ومن الغريب أن يستدل بعضهم على معاداة المُبَدَّعين بأمر النبي صلى الله
عليه وسلم بهجر الثلاثة الذين خُلفوا ، ورفض تكليمهم حتى تِيبَ عليهم ، مع
أنه لا تناسب بين دليله والدعوى بوجه ما ؛ لأن البحث في الرواة المجتهدين
الثقات المتقنين الذين ما نبذ السلف مرويهم لرأي رأوه أو مذهب انتحلوه ، فهل كان
المخلفون كذلك ؟ وما المناسبة بين قوم هجرهم النبي صلى الله عليه وسلم لذنب
محقق اعترفوا به حتى تيب عليهم ، وقوم لا يرون ما هم عليه إلا طاعة وعقدًا
صحيحًا يدان الله به ، وتنال النجاة والزلفى بسببه ؟ فالإنصاف يا أولي الألباب
الإنصاف ، وحذار من الجري وراء التعصب والاعتساف .
غريب أمر المتعصبين والغلاة الجافين ، تراهم سراعًا إلى التكفير
والتضليل والتفسيق والتبديع ، وإن كان عند التحقيق لا أثر لشيء من ذلك إلا
ما دعا إليه الحسد ، أو حمل عليه الجمود وضعف العلم ، وجهل مشرب
البخاري ومسلم ، وأصحاب المسانيد والسنن هداة الأمة ، ولا قوة إلا بالله .
* * *
ثمرة الرفق بالمخالفين
قال بعض علماء الاجتماع : يختلف فكر عن آخر باختلاف المنشأ والعادة
والعلم والغاية ، وهذا الاختلاف طبيعي في الناس ، وما كانوا قط متفقين في
مسائل الدين والدنيا ، ومن عادة صاحب كل فكر أن يحب تكثير سواد القائلين
بفكره ، ويعتقد أنه يعمل صالحًا ويسدي معروفًا وينقذ من جهالة ويزع
عن ضلالة ، ومن العدل أن لا يكون الاختلاف داعيًا للتنافر ما دام صاحب
الفكر يعتقد ما يدعو إليه ، ولو كان على خطأ في غيره ؛ لأن الاعتقاد في
شيء أثر الإخلاص ، والمخلص في فكر ما إذا أخلص فيه يناقش بالحسنى ؛
ليتغلب عليه بالبرهان ، لا بالطعن وإغلاظ القول وهجر الكلام ، وما ضر
صاحب الفكر لو رفق بمن لا يوافقه على فكره ريثما يهتدي إلى ما يراه صوابًا ،
ويراه غيره خطأً ، أو يقرب منه ، وفي ذلك من امتثال الأوامر الربانية ، والفوائد(1/107)
الاجتماعية ما لا يحصى ، فإن أهل الوطن الواحد لا يحيون حياة طيبة إلا إذا
قل تعاديهم ، واتفقت على الخير كلمتهم ، وتناصفوا وتعاطفوا ، فكيف تريد مني أن
أكون شريكك ، ولا تعاملني معاملة الكفؤ على قدم المساواة ؟
دع مخالفك - إن كنت تحب الحق - يصرح بما يعتقد ، فإما أن يقنعك
وإما أن تقنعه ، ولا تعامله بالقسر ، فما قط انتشر فكر بالعنف ، أو تفاهم قوم
بالطيش والرعونة ، من خرج في معاملة مخالفه عن حد التي هي أحسن
يحرجه فيخرجه عن الأدب ويحوجه إليه ؛ لأن ذلك من طبع البشر مهما
تثقفت أخلاقهم وعلت في الآداب مراتبهم .
وبعدُ فإن اختلاف الآراء من سنن هذا الكون ، هو من أهم العوامل في
رقيّ البشر ، والأدب مع من يقول فكره باللطف قاعدة لا يجب التخلف عنها
في كل مجتمع ، والتعادي على المنازع الدينية وغيرها من شأن الجاهلين لا
العالمين ، والمهوسين لا المعتدلين . اهـ مع تلخيص وزيادة .
ولا يخفى أن الأصل في هذا الباب قوله تعالى : ? وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ
إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ? ( العنكبوت : 46 ) وقوله سبحانه : ? وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً?
( البقرة : 83 ) وقوله جل ذكره : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ
عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُوا
أَنْفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ
الظَّالِمُونَ ? ( الحجرات : 11 ) ولا تنس ما أسلفنا عن السلف في تفسيرها .
* * *
حملة الأعلام المحققين على المتفقهة المكفرين
لما استفحل الرمي بالتكفير والتضليل لخيار العلماء في منتصف قرون الألف
الأولى من الهجرة ضجت عقلاء الفقهاء ، وصوبت سهام الردود في وجوه زاعمي(1/108)
ذلك ، حتى قالت الحنفية - عليهم الرحمة - ما معناه : ( لو أمكن أن يُكفَّر المرء في
أمر من تسعة وتسعين وجها ، ومن وجه واحد لا يكفر ؛ يُرجَّح عدم التكفير على
التكفير لخطره في الدين ) .
ولم يشتد الرمي بالتكفير والإرهاق لأجله والإرجاف به في عصر من
العصور مثل القرن الثامن للهجرة ، ومن سبَر تاريخ الحافظ ابن حجر المسمى
( بالدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة ) أخذه من ذلك المقيم المقعد ؛ إذ يرى
أن العالم الجليل الذي هو زينة عصره وتاج دهره ، كان لا يأمن على نفسه
من الإفك عليه والسعاية به فيما يكفره ويحل دمه ، حتى صار يخشى
على نفسه من أخذت منه السن ، وأقعده الهرم ، وأفلجته الشيخوخة ، ولا من
راحم أو منصف - كما تقرأ ذلك في ترجمة علاء الدين العطار تلميذ الإمام
النووي ، وأنه مع زمانته ، وكونه صار حِلْس بيته ، يتأبط دائمًا وثيقة أحد
القضاة بصحة إيمانه وبراءته من كل ما يكفره ، ولقد أريقت دماء محرمة ،
وعذبت أبرياء بالسجون والنفي والإهانات باسم الدين ، وروعت شيوخ وشبان
أعوامًا وسنين ، حتى عج لسان حالها وقالها بالدعاء إلى فاطر الأرض
والسموات ، بكشف هذه الغمم والظلمات ، ولم يزل سبحانه يملي لها
ويستدرجها في غيها ، ولم تحسب للأيام ما خبئ لها في طيها ، إلى أن امتلأ
إناؤها ، وحان حصدها وإفناؤها ، فأخذها الله وهي ظالمة جائرة ، ودارت
على دولتها الدائرة ، ومحق الله بفضله تلك الدولة المجنونة الجاهلة ، وأورثها
للدولة الصالحة العاقلة ، فأمَّنت الناس على أنفسها ودمائها ، وذهبت عصبة الجمود
بزبدها وغثائها .
سيقول بعض الناس ممن تغره القشور ، ولم تقف مداركه على لباب روح
العصور : إن تلك الدماء المراقة والأرواح المهدرة ، لم يحكم عليها إلا
بالبينة والشهود ، التي بمثلها تقام الحدود ، وهل بعد ذلك من ملام أو جحود ؟
يقول ويجهل أو يتجاهل أن التعصب يحمل على الأخذ بالظنة ، أو الإيقاع بالشبهة ،(1/109)
وأن المتطوعة بالشهادة قد يحملهم على اختلاقها ظنُّ الأجر بنصرة الدين بقتل
هؤلاء المساكين ، لا سيما إذا دُفعوا بتشويق المتصولحين والمتمفقرين[2] ،
والحشوية البكائين ، احتيالاً وقنصًا للمغفلين .
ولقد استفيض عن كثير من هؤلاء الضالين المضلين الإغراء بقتل
الداعين إلى الكتاب والسنة ، والمجاهدين في الإصلاح العاملين ، على أن
قاعدة المحققين هي عدم البتّ في أمر تاريخي إلا بعد تعرفه من أطرافه ، ومراجعة
عدة أسفار للوقوف على كنهه وحقيقته ، والإشراف على غثه وسمينه ، ووزنه
بميزان العقول السليمة ، والقواعد الاجتماعية المعقولة ، كما أشار إليه الإمام ابن
خلدون في مقدمته .
نحن لم نصِم أعمال أولئك بالظلم والجور والبغي إلا لما فضح نبذًا منها
الإمام زين الدين ابن الوردي الشهير صاحب ( البهجة ، واللامية ، والديوان ،
والمقامات ) فقد شفى بالحقيقة الأوام ، وأوضح عن مكر أولئك بالتمويه
والإيهام في مقالة بديعة أنشأها في القاضي الرباحي المالكي[3] سماها
(الحرقة للخرقة) . ولا بأس بنقل جمل منها تأييدًا لما قلناه ، قال رضي الله عنه :
أما بعد ، حمدًا لله الذي لا يحمد على المكاره سواه ، والصلاة والسلام على
نبيه محمد صلى الله عليه وسلم الذي خاف مقام ربه وعصم من اتباع هواه ،
وعلى آله وصحبه الذين بذل كل منهم في صون الأمة قواه ، وسلمت صدورهم
من فساد النيات ، وإنما لكل امرئ ما نواه ، فإن نصيحة أولي الأمر تلزم ،
والتنبيه على مصالح العباد قبل حلول الفساد أحزم ، والمتكلم لله تعالى مأجور ،
والظالم ممقوت مهجور ، وتحسين الكلام لدفع الضرر عن الإسلام عبادة ،
والنثر والنظم للذَّب عن أهل الإسلام من باب الحسنى وزيادة ، وجرحة الحاكم
الأعراض بالأغراض صعبة ؛ إذ نص الحديث النبوي : أن حرمة المسلم أعظم
من حرمة الكعبة ، ومخرق خرقته مذموم ، ولحم العلماء مسموم ، وهذه
رسالة أخلصت فيها النية ، وقصدت بها النصيحة للرعاة والرعية ، أودعتها(1/110)
من جوهر فكري كل ثمين ، وناديت بها على هزيل ظلم أبناء جنسي مناداة
اللحم السمين ، لكن جنبتها فحش القول ؛ إذ لست من أهله ، وخلدتها في ديوان
الدهر شاهدة على المسيء بفعله ، ورجوت بها الثواب ، نصرة للمظلوم ،
وغيرة على حملة العلوم ، وسميتها : ( الحرقة للخرقة ) فقلت : اعلموا يا ولاة
الأمر ، ويا ذوي الكرم الغمر ، أبقاكم الله بمصر [4] للأمة ، ووفقكم لدفع الإصر
وبراءة الذمة ، أن حلب قد نزعت للزبدة ، ووقعت من ولاية التاجر الرباحي
في خسر وشدة ، قاضٍ سلب الهجوع وسكب الدموع ، وأخاف السرب ، وكدَّر
الشرب ، بجراءته التي طمت وطمت ، وعَمايَته التي عمت وغمت ، وفتنته
التي بلغت الفراقد ، وأسهرت ألف راقد ، ووقاحته التي أدهشت الألباب ، وأخافت
النطف في الأصلاب ، فكم لطخ من زاهد ، وكم أسقط من شاهد ، وكم رعب
بريًّا ، وكم قرب جريًّا ، وكم سعى في تكفير سليم ، وكم عاقب بعذاب أليم ،
وكم قلب ذائب ، بنائبة توسط بها عند النائب ، فامتنعت الأمراء عن
الشفاعة ، وظنوا هم والنائب أن هذا امتثال لأمر الشرع وطاعة :
يا حامل النائب في حكمه أن يقتل النفس التي حرمت
غششته والله في دينه بشراك بالنار التي أضرمت
( إلى أن قال الزين ابن الوردي ) : ثم إنه فسق مفتيًا في الدين ، وفضح
خطيبًا على رؤوس المسلمين ، ثم قال : يحب إثبات الردة والكفر كحب الدنانير
الصفر .
حاكم يصدر منه خلف كل الناس حفر
يتمنى كفر شخص والرضا بالكفر كفر
( ثم قال ) : إذا وقع عنده عالم فقد وقع بين مخالب الأسود ، وأنياب
الأفاعي السود :
أدركوا العلم وصونوا أهله من جهول حاد عن تبجيله
إنما يعرف قدر العلم من سهرت عيناه في تحصيله
ثم قال : ما أقدره على السفير ، وما أسهل عليه التفسيق والتكفير ، كم
دعى إلى بابلة فما ارتاح إلى الباب ، ونراه حيران لعدم الرقة ، فإذا قيل له :
فلان قد كفر، طاب ، يحبس على الردة بمجرد الدعوى ، ويقوي شوكته على(1/111)
أهل التقوى ، قد ذلل الفقهاء والأخيار ، وجرأ عليهم السفهاء والأغيار:
يحبس في الردة من شاء بغير شاهد
لا كان من قاضٍ حكى الـ ـفقاع جد بادر
أراح الله من تعرضه ، وصان عراض الأعراض من تعرضه ، يقصد
بذلك أهل الدين ، والقراء المجودين :
جرحت الأبرياء فأنت قاضٍ على الأعراض بالأغراض ضاري
ألم تعلم بأن الله عادل (ويعلم ما جرحتم بالنهار)
هذا بعض ما جاء في رسالة الإمام ابن الوردي التي هي أشبه بمقامة بديعية ،
وكلها حقائق صادقة ناطقة بما كان عليه تعصب قضاة ذلك الوقت ، ولا سيما
المالكية منهم ، ولقد كان قضاة المذاهب يحيلون الأمر في التعزير والتأديب إلى
القاضي المالكي لما اشتهر في الفقه المالكي من مضاعفة النكال ، وشدة التأديب في
باب التعزير ؛ إذ بسط للقاضي يده فيه بسطًا لم يوجد في مذهب غيره ، فلذا كان
محبو الانتقام والتشفي يعمدون إلى إحالة القضية إلى القاضي المالكي ؛ لما يعلمون
ما وراء قضائه ، مما فصل بعضه الإمام ابن الوردي كما قرأت ، على أن الأمر في
التعصب لم يقف عند القاضي المالكي وحده لنتعصب ضده ، وإنما كان هو الأقوى
تعصبًا والأشد تصلبًا ، وإلا فإن مظهر ذاك العصر كان التعصب لجميعهم ، فقد حكى
الشيخ الشعراني رحمه الله تعالى في مقدمة طبقاته الكبرى المسماة بلواقح الأنوار ما
مثاله : وقد أخبرني شيخنا الشيخ أمين الدين إمام جامع الغمري بمصر المحروسة أن
شخصًا وقع في عبارة موهمة للتكفير ، فأفتى علماء مصر بتكفيره ، فلما أرادوا قتله
قال السلطان جقمق : هل بقي أحد من العلماء لم يحضر ؟ فقالوا : نعم ، الشيخ جلال
الدين المحلي شارح المنهاج ، فأرسل وراءه فحضر ، فوجد الرجل في
الحديد بين يدي السلطان ، فقال الشيخ : ما لهذا ؟ قالوا : كفر ، فقال : ما مستند من
أفتى بتكفيره ، فبادر الشيخ صالح البلقيني من مشاهير الشافعية ، وقال : قد أفتى
والدي شيخ الإسلام الشيخ سراج الدين في مثل ذلك بالتكفير ، فقال الشيخ جلال(1/112)
الدين رضي الله عنه : يا ولدي أتريد أن تقتل رجلاً مسلمًا موحدًّا يحب الله ورسوله
بفتوى أبيك ؟ حلوا عنه الحديد ، فجردوه ، وأخذه الشيخ جلال الدين بيده وخرج
والسلطان ينظر ، فما تجرأ أحد يتبعه رضي الله تعالى عنه .
وقد عد الشعراني من الأعلام الذين أكفرهم الجامدون المتعصبون ما
يقرب من الثلاثين ، فمنهم القاضي عياض ، اتهموه بأنه يهودي ؛ لملازمته
بيته للتأليف نهار السبت ، وذكر أن المهدي قتله .
ومنهم الإمام الغزالي كفره قضاة المغرب وأحرقوا كتبه ، ومنهم التاج
السبكي رموه بالكفر مرارًا ، وسجن أربعة أشهر[5] ، وكل هذا إنما كان بزعم
المتعصبين بشهادات وأقضية وفتاوى ، ولكن سرعان ما فضحهم التاريخ
وكشف عوارهم ، كما حكاه الشعراني وغيره ، والحمد لله الذي جعل الباطل
زهوقًا .
وهكذا يمر بتواريخ تلك القرون ما لا يحصى من حوادث من أقيمت عليهم
الفتن ، واتهموا بما اتهموا به ، مع أن الحدود تدرأ بالشبهات ، ونعني بالحدود ما نص
عليه في الكتاب العزيز والسنة الغراء ، فإذا كانت في تلك المكانة وقد شرع
فيها محاولة درئها بالشبهات ، فكيف بحدود لا سند لها إلا بالاجتهاد ، وليس لها أصل
قاطع ، ولا نص محكم ، فلا ريب أنها أولى بالدرء ، وأجدر بالدفع ، ولا يدري
المرء ما الذي حملهم على نسيان هذه الموعظة حتى عكسوا القضية ، وأصبحوا
يكبرون الصغير ، ويعظمون الحقير ، ويهولون الأمور ، ويدعون بالويل والثبور ،
مما لا يقومون بعشره للمنكرات المجمع عليها ، والكبائر التي يجاهَر بها ، فلا حول
ولا قوة إلا بالله .
ولما تشددت القضاة المالكية في هذا الباب ، أصبحوا هدفًا لأولي الألباب ،
حتى قال الإمام ابن الوردي في ذاك القاضي المتقدم الرباحي : إن المالكية
بدمشق كتبوا إليه: يا مغلوب ، لقد بغضت مذهب مالك إلى القلوب ، وقطعت
المذاهب الأربعة عليه بالخطا ، وزالت بهجته عند الناس وانكشف الغطا ، إلخ .(1/113)
والسبب في ذلك ما ابتدعه الملك الظاهر برقوق من توظيف قضاة أربعة
على المذاهب الأربعة مما لم يعهد قبله في دولة من الدول ، حتى نشأ من ذلك
ما نقمه عليه الأعلام ، وعدوه من التفرقة في الإسلام ، قال التاج السبكي في
طبقاته [6] ، في ترجمة قاضي القضاة بالديار المصرية تاج الدين عبد الوهاب
ابن بنت الأعز الشافعي المتوفى سنة 566 ، ما مثاله : وفي أيامه جدد الملك
الظاهر القضاة الثلاثة في القاهرة ، ثم تبعتها دمشق وكان الأمر متمحضًا
للشافعية ، فلا يعرف أن غيرهم حكم في الديار المصرية منذ وليها أبو زرعة
محمد بن عثمان الدمشقي في سنة 284 إلى زمان الظاهر إلا أن يكون نائب
يستنيبه بعض قضاة الشافعية في جزئية خاصة ، وكذا دمشق لم يَلِهَا بعد أبي
زرعة المشار إليه إلا شافعي غير التلاشا عوني التركي ، الذي وليها يويمات
وأراد أن يجدد في جامع بني أمية إمامًا حنفيًّا ، فأغلق أهل دمشق الجامع ،
وعزل القاضي [7] .
( قال السبكي ) : واستمر جامع بني أمية في يد الشافعية ، كما كان في
زمن الشافعي رضي الله عنه ، قال : ولم يكن يلي قضاء الشام والخطابة
والإمامة بجامع بني أمية إلا من يكون على مذهب الأوزاعي إلى أن انتشر مذهب
الشافعي ، فصار لا يلي ذلك إلا الشافعية . ثم قال السبكي : وقد حكي أن الملك
الظاهر رؤي في النوم فقيل : ما فعل الله بك ؟ قال : عذبني عذابًا شديدًا بجعل
القضاة أربعة ، وقال : فرقت كلمة المسلمين . اهـ .
ولا يخفى على ذي بصيرة ما حصل من تفرق الكلمة ، وتعدد الأمراء
واضطراب الآراء ، وقد قال أبو شامة لما حكى ضم القضاة ، أنه ما يعتقد أن
هذا وقع قط . قال السبكي : وصدق فلم يقع هذا في وقت من الأوقات ، قال :
وبه حصلت تعصبات المذاهب ، والفتن بين الفقهاء ، فإنه يؤيد ما قدمناه من
اتخاذ هذه آلة للفتن والتشفي من المخالفين ، حتى أدال الله من تلك الدولة
للسلطان سليم خان ، فنسخ كل ذلك ، وقصر الأمر على قاضٍ حنفي واحد ،(1/114)
ولا ريب أن هذا كان من النعم الكبيرة ، إذ قمعت به فتن خطيرة ، وحسمت به
شرور وفيرة ، نعم لم يزل في الأمر حاجة إلى الكمال ، وهو سعي أولي الحل
والعقد بعقد مؤتمر علمي من كبار فقهاء المذاهب المعروفة ، وتأليف مجلة
تستمد من فقه سائر الأئمة الأربعة وغيرهم مما فيه رحمة ويسر ، ومشى مع
المصالح والمنافع ، ودفع المضار في أبواب المعاملات ، فبذلك تظهر محاسن
الدين في الأقضية والأحكام ، ويعرف أنه دين المدنية في كل زمان ومكان إلى
قيام الساعة وساعة القيام ، وإن اليوم الذي تتحقق فيه هذه الأمنية لهو أسعد الأيام ،
والمستعان بالله ذي الجلال والإكرام اهـ .
________________________
(*) لعالم الشام الشيخ جمال الدين القاسمي .
(1) جزء 2 .
(2) المتمفقر : كالمتمسكن مدعي الفقر ، أي : التصوف ، وليس من أهله .
(3) راجعها في ص (190) من المجموعة الأدبية التي طبعت في مطبعة الجوائب عام (1300) ،
مشتملة على لامية العرب وشرحها وشرح المقصورة الدريدية ، وديوان ابن الوردي ، وديوان
الخشاب ورسائله .
(4) كانت مصر في عهد المؤلف ، وهو القرن الثامن : عاصمة دولة المماليك .
(5) ذكر السبكي محنته هذه في آخر منظومة له في الفقه ، عندي الكراسة الأخيرة منها .
(6) جزء (5) ص (134) .
(7) تأمل هذا التعصب واسترجع وحوقل ، أين غاب عنهم فضل سائر الأئمة المبتوعين الأربعة
وغيرهم ، وكيف نسوا أن الناس عيال عليهم ، تستمد من بركة فقههم واستنباطهم وتأصيلهم
وتفريعهم ؟ ما أجمد قومًا يزعمون أنهم تعبدوا بمذهب واحد ، أو اتباع إمام واحد ، أوَ ما علموا أن
كلهم من رسول الله ملتمس ، وأن الله تعالى إنما تعبَّد الناس بتنزيله الكريم وهدي نبيه المعصوم .
(( مجلة المنار ـ المجلد [ 16 ] الجزء [ 1 ] صـ 30 المحرم 1331 ـ يناير 1913 ))
***
أحاديث تقويم ديوان الأوقاف
( س 8 ) من صاحب الإمضاء في الإسكندرية :
صاحب الفضيلة العلامة منشئ المنار الأغر :(1/115)
ما قول سيدي الأستاذ - وهو المحقق الأوحد في فن الحديث الشريف - فيما
تذيل به صحائف التقويم الذي يصدره ديوان عموم الأوقاف عن حساب
الأيام والشهور ومواقيت الصلاة إلخ إلخ ، من الجمل الحكمية التي اختيرت على
أنها أحاديث صحيحة من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وليس على كثير
منها صبغة ذلك الكلام البليغ الذي عهدناه في كتب الحديث الصحيح وأمهات
كتب الشريعة الإسلامية .
وإذا صح أن متخير هذه الحكم لم يحتط في بحثه ولم يرجع في مثل هذا العمل
الخطير إلى الإخصائيين الراسخين في علم الحديث والسنة ، وهو أول وأحق ما
يجب اتباع قول الله فيه : ? فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ? ( النحل :
43 ) فما عذر علماء مصر ورجال الدين فيها ؟ وهذه الحكم تنتشر على صحائف
جريدة المؤيد ، وتعلق عليها الشروح الضافية على أنها أحاديث صحيحة .
وكان يجوز أن نلتمس لهم بعض العذر لو بقيت هذه الأحاديث على صحائف
التقويم بين جدران الغرف ، ولكن الأمر قد شاع وذاع وكثر اللغط فيه .
فهل لسيدي الأستاذ أن يتصدى للموضوع بباعه الطويل ، وقلمه البليغ ،
لتنجاب عنا هذه الغيوم ، وتبيد تلك الهموم ؟.
ابن منصور
( ج ) إنني لم أنظر تقويم الأوقاف إلا معلقًا على بعض الجُدُر من بعيد
فلم أَرَ فيه شيئا من هذه الأحاديث ، ولكني رأيت بعض ذلك في المؤيد ، وقلت
لأحد محرريه : إن كثيرًا منها لم يروهِ أحد من المحدثين عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم بسند صحيح ولا حسن ولا ضعيف ، وبعضها مروي فيجب
على شارحها تمييز الحديث من غيره منها .
وإطلاق اسم الأحاديث عليها غير جائز ؛ إذ ليس لمسلم أن يعتد بعزو
أحد حديثًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا إذا عزاه إلى بعض أئمة
المحدثين أصحاب الدواوين المعروفة في تخريج الأحاديث أو وثق بعلمه
بالحديث ، سواء رأى هذا الحديث في جريدة أو كتاب أو سمعه من متكلم أو(1/116)
خطيب ، فإننا كثيرًا ما نسمع من خطباء الجمعة الأحاديث الضعيفة
والموضوعة والمحرفة حتى صار يضيق صدري من دخول المسجد لصلاة
الجمعة قبل الخطبة الأولى أو في أثنائها ، فمن سمع الخطيب يعزو إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم قولا يعلم أنه موضوع ، يحار في أمره لأنه إذا سكت
على هذا المنكر يكون آثمًا ، وإذا أنكر على الخطيب جهرًا يخاف الفتنة على
العامة ، والواجب على مدير الأوقاف منع الخطباء من الخطابة بهذه الدواوين
المشتملة على هذه الأحاديث أو تخريج أحاديثها إذا كانت الخطب نفسها خالية
من المنكرات والخرافات والأباطيل وما أكثر ذلك فيها .
وفي ص32 من فتاوى ابن حجر الحديثية أنه سئل عن خطيب يرقى
المنبر كل جمعة ، ويذكر أحاديث لا يبين مخرجيها ولا رواتها ، وذكر السائل
بعضها ، وقال في ذلك الخطيب : إنه مع ذلك يدعي رفعة في العلم وسموًّا في
الدين ، فما الذي يجب عليه وما الذي يلزمه ؟
فأجاب بما حاصله أنه لا يجوز له أن يروي الحديث من غير أن يذكر
الرواة أو المخرجين إلا إذا كان من أهل المعرفة بالحديث أو بنقلها من كتبه
قال : وأما الاعتماد في رواية الأحاديث على مجرد رؤيتها في كتاب ليس
مؤلفه من أهل الحديث أو في خطب ليس مؤلفها كذلك - فلا يحل ذلك ، ومن فعله
عزر عليه التعزير الشديد .
وهذا حال أكثر الخطباء فإنهم بمجرد رؤيتهم خطبة فيها أحاديث ، حفظوها
وخطبوا بها ، كذا من غير أن يعرفوا أن لتلك الأحاديث أصلاً أم لا . فيجب
على حكام كل بلد أن يزجروا خطباءها عن ذلك . ويجب على حكام بلد هذا
الخطيب منعه من ذلك إن ارتكبه . إلخ .
وحاصل الجواب : أن ما طبع في تقويم الأوقاف من الأحاديث بعضها له
أصل صحيح أو غير صحيح ، وبعضها لا أصل له ، بل هو حكم منثورة
لبعض الحكماء والعلماء ، وأنه لا ينبغي لمسلم أن يروي شيئا منه مسميًا إياه
حديثًا نبويًّا إلا إذا علم ذلك بالرواية عن الثقات في علم الحديث أو برؤيته في(1/117)
بعض دواوين الحديث المشهورة كالصحيحين وكتب السنن ، أو معزوًّا إلى هذه
الكتب وأمثالها في مثل الجامع الصغير ، وليعلم أنه ليس كل ما في كتب السنن
وأمثالها كمسند الإمام أحمد من الأحاديث يصل إلى درجة الصحيح في
اصطلاحهم ، بل فيها الصحيح والحسن والضعيف ، وفيها ما عده بعض
المحدثين موضوعًا ، فليس لمن رأى فيها أو فيما نقل عنها حديثًا لم يصرحوا
بقولهم : إنه صحيح ، أن يقول : هو حديث صحيح ، وكذا ما يراه في كتب الفقه
والأدب والمواعظ ، فإن هذه الكتب يكثر فيها إطلاق الأحاديث بغير تخريج
وكثير منها واهٍ وموضوع لا تحل روايته إلا للتحذير منه .
ومن الكتب المتداولة التي تكثر فيها الأحاديث الموضوعة والشديدة
الضعف كتاب ( خريدة العجائب ) وكتاب ( نزهة المجالس ) بل يوجد مثل
ذلك في بعض الكتب الجليلة كإحياء علوم الدين للإمام الغزالي ، وأكثر كتب
التصوف لا يوثق بما فيها من الأحاديث .
والعمدة: التخريج والتصريح بالتصحيح أو التحسين ، فالمناوي يعزو
الأحاديث في مسند الفردوس مثلاً ولا يشير إلى صحتها أو ضعفها ، فليس لك
أن تصحح شيئًا منها بغير علم ، فإذا وضع بجانب الحديث ( خ ) أو ( م ) كان
صحيحًا لعزوه إلى الصحيحين ، وإذا وضع بجانبه ( فر ) أو ( حل ) كان في
الغالب ضعيفًا وربما كان أقل من ذلك رتبة .
هذا وإننا قبل طبع ما تقدم رأينا المؤيد يعبر عما ينقله عن تقويم الأوقاف
بلفظ الحكم والحكمة ، ولا يسميها كلها نبوية ، فالظاهر أن الشارح لها في المؤيد
صار يراجع ويميز بين الأحاديث المأثورة والحكم المنثورة ، فنقترح عليه أن لا
يذكر حديثًا مرفوعًا إلا معزوًّا إلى مخرِّجه ، كما جرينا على ذلك في المنار منذ
إنشائه .
________________________
(( مجلة المنار ـ المجلد [ 16 ] الجزء [ 3 ] صـ 183 ربيع أول 1331 ـ مارس 1913 ))
أنا عربي و ليس العرب مني
س41 من صاحب الإمضاء بمصر :
مولاي السيد الإمام منشئ المنار نفع الله به المسلمين .(1/118)
أما بعد ، السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته ، فإننا نلتمس كتابة جواب
على سؤالنا هذا في المنار الأغر لكشف الغمة عن صحة الحديث المسئول عنه
ومعناه .
السؤال : قرأنا في جريدة المفيد البيروتية كتاب تهديد جاءها من بعض الترك
يذم فيه العرب جاء فيه حديث : أنا عربي وليس العرب مني . فهل من سند صحيح
لهذا الحديث بهذه الرواية أم برواية أخرى ؟ وإذا صح أفلا يكون النبي صلى الله
عليه وسلم قد تبرأ من عموم العرب وهم قومه وهو منهم ؟ وما سبب ذلك إذا صح ؟
ثم إننا نسمع بشيوع هذا الحديث في أمة الترك حتى كل من خدم في العسكرية
الجهادية سمعه منهم برواية أنا عربي وليس الأعراب مني ، ومنها : أنا عربي وليس
العرب مني فأية الروايات أصح ؟ أفيدونا لا زلتم ملجأ لحل الغوامض .
سائل
( ج ) لا يصح شيء من ألفاظ هذا الحديث بل هو موضوع مختلق على
النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنا لم أسمعه من أحد إلا من بعض أفراد عسكر بلدنا
الذين حضروا حرب البلقان الأولى وحرب الروسية للدولة وغيرهم ممن أدوا الخدمة
العسكرية مع أمثالهم من الترك . نقل إلينا هؤلاء أن بعض أفراد الترك كانوا
يحتقرونهم ويقولون لهم : إن الله قد ذم العرب في القرآن العظيم الشأن بقوله :
?الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ ?
(التوبة : 97 ) وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيهم : أنا عربي وليس العرب
مني . فمن هؤلاء من كان يتعجب من هذه الأقوال ، ولا يدري ما يقول كالأميين ،
ومنهم بعض الأذكياء الذين يقرءون القرآن كانوا يجيبون عن الآية بما يقابلها من
قوله تعالى في سورتها التوبة ? وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ
مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ ? ( التوبة : 99 ) فيُفْهَم من مجموع(1/119)
الآيتين أن تلك في كافري الأعراب ومنافقيهم ، وهذه في مؤمنيهم الصادقين الصالحين
وأن المدح والذم فيها ليس للجنس ، ولكن لم أسمع من أحد ولا عن أحد منهم أنه
أجاب بأن الأعراب هم سكان البادية خاصة والواحد أعرابي ، وأن علة كون
كفارهم ومنافقيهم أشد كفرًا ونفاقًا من أمثالهم في الحضر هي جفوة البداوة
وقسوتها وخشونتها كما هو معروف عند جميع الأمم ، وأن التعرب أي سكنى البادية
كان محرمًا على المؤمنين بعد الهجرة ؛ لوجوب ملازمة النبي صلى الله عليه وسلم
ونصرته .
وأما الحديث فلم يكن أحد من أولئك العوام يعلم أن بعض الناس قد كذب على
الرسول صلى الله عليه وسلم ونسب إليه أحاديث لم يروها عنه أحد من حديثه منها
ما له معنى صحيح ، ومنها ما معناه باطل كلفظه . وهذا القسم منه ما لا يَعْرِف
بطلان معناه إلا العلماء ، ومنه ما هو بديهي يعرف بطلانه كل من شم رائحة
الإسلام كقول أولئك السفهاء من الترك إنه صلى الله عليه وسلم قال : أنا عربي
وليس العرب مني ، إذ لا معنى لهذا النفي إلا التبرؤ من قومه العرب ، وليس
الغريب أن يحفظ هذا بعض المتعلمين المتفرنجين الذين أفسدت السياسة عليهم دينهم
فكان من عصبيتهم الجنسية بغض العرب ، ولكن العجيب الغريب وصول هذه
المفسدة إلى عوامهم الذين نسمع أن أكثرهم باق على فطرته الإسلامية يحب العرب
تدينًا ؛ لأنهم قوم نبيه صلى الله عليه وآله وسلم .
وقد سمعت من بعض من شهد هذه المحاورات أنهم كانوا يجيبون عن الحديث
بأن أصله : أنا عربي وليس أعرب مني . وأنهم رووه محرفًا ، ولا أدري أهذا
شيء كان سمعه ممن أجاب بمثل هذا الجواب ؟ أم ظن أن أصله ما ذكر فصححه
بظنه ؟
وإنني أورد هنا بعض الأحاديث الواردة في مناقب العرب إتمامًا للحجة على
أولئك المنافقين من الترك ؛ وتثبيتًا لإخواننا المؤمنين الصادقين منهم ومن غيرهم ،
فمنها قوله صلى الله عليه وسلم : ( أحبوا العرب لثلاث : لأني عربي والقرآن(1/120)
عربي وكلام أهل الجنة عربي ) رواه الطبراني و الحاكم و البيهقي وكذا العقيلي
ووضع السيوطي بجانبه في الجامع الصغير علامة الصحة .
ومنها : ( إن الله تعالى اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشًا من
كنانة واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم ) رواه مسلم في
صحيحه و الترمذي عن واثلة . ولفظ الترمذي ( إن الله اصطفى من ولد إبراهيم
إسماعيل واصطفى من ولد إسماعلي بني كنانة واصطفى من بني كنانة قريشا ) إلخ
فهذا الحديث الصحيح يدل مع قوله تعالى : ? إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ
إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى العَالَمِينَ ? ( آل عمران : 33 ) أن العرب من بني
إسماعيل هم صفوة أصفياء الله من البشر كلهم وصفوتهم قريش وصفوة قريش بنو
هاشم ، فهم لب اللباب ، وخاتم الرسل عليه أفضل الصلاة والتسليم صفوتهم فهو
سيد ولد آدم على الإطلاق ، فكيف يتبرأ من قومه الذين اصطفاهم الله تعالى
واصطفاه منهم ؟ ومن عساه يستبدل بهم في عرف أولئك المنافقين ؟ وقد روى
الحاكم هذا المعنى من حديث ابن عمر بلفظ آخر وهو : ( إن الله اختار من آدم
العرب واختار من العرب مضر ومن مضر قريشا واختار من قريش بني هاشم ،
واختارني من بني هاشم ، فأنا خيار من خيار ، فمن أحب العرب فبحبي أحبهم ،
ومن أبغض العرب فببغضي أبغضهم ) ورُوِىَ أيضا من حديث أنس مرفوعا :
(حب العرب إيمان وبغضهم نفاق ) وسند هذا ضعيف يؤيده ويقويه سائر الأحاديث
في الباب مما تقدم وما هو في معناه كحديث ( لا يبغض العرب إلا منافق ) رواه
عبد الله بن الإمام أحمد في زوائده عن علي كرم الله وجهه ، وحديث ( لا يبغض
العرب مؤمن ) رواه الطبراني عن ابن عمر ، وحديث ( من أحب العرب فهو حبي
حقًّا ) رواه أبو الشيخ عن ابن عباس .
فهذه الأحاديث تدل على أن هؤلاء الذين عرفوا ببغض العرب كلهم من
المنافقين المبغضين لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، وقد اشتهر عن بعض(1/121)
أهل الجراءة منهم التصريح ببغض الإسلام ، والنيل من مقام خاتم الرسل عليه
أفضل الصلاة والسلام ، والطعن في الخلفاء وسائر الصحابة الكرام ، وهم يتعمدون
إذلال العرب وإهانتهم انتقامًا من الإسلام ، ولا غرو ففي حديث جابر عند أبي يعلى
بسند صحيح ( إذا ذلت العرب ذل الإسلام ) اللهم أعز الإسلام وأعز العرب ، اللهم
وأعز من أعز العرب ، وأذل من أذلهم إلى يوم القيامة .
________________________
(( مجلة المنار ـ المجلد [ 16 ] الجزء [ 12 ] صـ 900 ذو الحجة 1331 ـ نوفمبر 1913 ))
السنة وصحتها والشريعة ومتانتها
رد على دعاة النصرانية بمصر
تمهيد : في بيان حالنا مع المبشرين :
لا يزال دعاة النصرانية ( المبشرون ) يطعنون على الإسلام بما ينشرون
من الرسائل والمقالات ، وإنني أتعمد ترك قراءة ما يصل إلي من مجلاتهم
ورسائلهم حتى لا أفتح على نفسي باب الرد عليهم ، إذ رد الشبهات الموجهة إلى
الإسلام إنما يجب على من علمه وجوبًا كفائيًا ، وقد كنت أكره الرد عليهم لولا ذلك ،
وإن كانوا يظنون أنه من مقاصد المنار ومشروع الدعوة والإرشاد الذي أكبروا أمره ،
على أنه لم ينلهم منه أذًى بقول ولا فعل ، وجميع الطلبة في دار الدعوة والإرشاد
من قسم المرشدين الذين يعدون لإرشاد العوام لمقاومة الشرور والمعاصي الفاشية
فيهم ، فقد كثرت في هذه البلاد جناياتهم في الأنفس والأموال والزروع ، وفشا
فيهم السكر والقمار والفحش .
نعم : إن من مقاصد المنار ، رد الشبهات عن الإسلام مقاومة للشك والتشكيك
فيه ، وإنما أكره الجدل ، وأكره تعمد مناقشتهم أو فتح بابها عليّ ؛ لأنهم هم الذين
يتعرضون لها وينتفعون بها ، وما أكثرت من محاجة أهل الكتاب في سنتي المنار
الأخيرتين إلا في التفسير ؛ إذ اتفق بلوغي فيه إلى سورتي النساء والمائدة
المدنيتين، وأكثر ما في القرآن من محاجة أهل الكتاب في هاتين السورتين وأقله(1/122)
فيما قبلهما . على أن فيه أيضًا ما أوجبه الإسلام من إنصافهم والعدل فيهم ، وبيان
مودة النصارى منهم . وقد انتهينا من ذلك ، ووصلنا إلى تفسير السور المكية التي
خوطب بها المشركون وقلما يذكر فيها أهل الكتاب إلا في سياق بيان سنة الله تعالى
في الرسل وأممهم .
لهذا كنا نظن أن باب محاجة أهل الكتاب يكون مقفلاً في المنار إلى ما شاء
الله ، ولكن مجلة المبشرين العربية ( الشرق والغرب ) نشرت في العدد الذي صدر
منها في أول الشهر الماضي ( أبريل ) مقالة عنوانها ( السنة وصحتها ) طعنت فيها
على السنة النبوية ، وزعمت أن طعنها يوجب الريب في الشريعة ، وترك العمل
بها ، وأنها لا قيمة لها في نفسها ، وقد جاءتنا المجلة فلم نفتحها ، ثم علمنا بتلك
المقالة فلم نقرأها ، ثم رأينا لهذه المقالة تأثيرًا سيئًا في المسلمين حتى إن منهم من
نقلها عن المجلة وطبع كثيرًا من نسخها بمطبعة الجلاتين ، ووزعت على الناس ،
ووصلت إلينا نسخة منها ، واقترح علينا كثيرون أن نرد عليها فوجب شرعًا إجابة
طلبهم .
ومما أكد وجوب الرد ما رأيناه في المقالة من مطالبة ثلاث مئة مليون من أهل
السّنّة بالجواب عنها ! فلا ندع لهم مجالاً أن يقولوا للمسلمين : إنه لم يستطع أحد من
علمائكم أن يدافع عن سننكم وشريعتكم ، ولا يرد شيئًا من حججنا عليها!
فها نحن أولاء نرد عليهم ردًّا يعلمون ويعلم الناس به أنهم لم يتحروا الأمانة فيما
نقلوا من كتبنا ، ولم يفهموا ما قرءوا منها وما نقلوا عنها ، وأن طعنهم في أبي
هريرة - رضي الله عنه - خطأ ، وأنه لو صح لم يترتب عليه بطلان الثقة بالسنة ،
ولا ما رتبوه على ذلك من عدم وجوب طاعة الشريعة ، وإنما قصاراه أنهم افتحروا
دعاوى نسبوها إلى الإسلام ، وردوا عليها بما لا يصلح أن يكون ردًّا .
وقد رأينا أن ننقل كلامهم برمته على ما فيه من الركاكة واللغو والضعف ،
وإطلاق بعض الكلم على غير المعاني التي نطلقها عليها ، ولكن لا نناقشهم في شيء(1/123)
من الألفاظ لذاتها ، ولا في العبارة من حيث ضعفها ، بل في المسائل والمعاني ، وقد
كان الغرض الأول من نقل عبارتهم بنصها ، وعدم تلخيص مسائلها والرد عليها ،
أن لا يتوهم أحد منهم أو من غيرهم أننا تصرفنا في التلخيص تصرفًا يخل بالمعنى
المراد ، أو حذفنا منه ما لا يمكن ردّه بنقض ولا انتقاد ، واستتبع ذلك بيان أن القوم
لا يوثق بنقلهم ولا بفهمهم .
ومن المعلوم بالضرورة أنهم ليسوا كالفلاسفة ، الذين يبحثون في المسائل ؛
لأجل استبانة الحق في ذاته ، وإنما يتحرون بالبحث ما يرون فيه سبيلاً للطعن
والاعتراض ، ومجالاً للتشكيك وإثارة الشبهات ، كما يعلم مما يأتي .
***
الجملة الأولى من مقدمة الطاعن
افتتح طاعنهم مقالته بجملة تتضمن عدة دعاوى هذا نصها :
( إن صحة الشريعة قضية لا بد لكل مسلم سني من التسليم بها وذلك متوقف
على صحة السنة ، فإذا ارتاب أحد في صحة السنة ، فليس ثمة داعٍ منطقي يوجب
إطاعة الشريعة ؛ لأن جانبًا قليلاً منها فقط يتوقف على القرآن ، والجانب الأكبر
يتوقف على السنة التي اجتمعت في الأحاديث . فإذا ثبت الريب في هذه الأحاديث
تزعزعت أركان الشريعة وأركان تابعيها من حنفيّ و مالكيّ و شافعيّ و حنبليّ .
وعددهم لا يقل عن ثلاث مئة مليون من الأتباع ) .
نلخص هذه الجملة من كلامه في ثلاث قضايا ونبين ما فيها .
***
القضية الأولى
( زعمه إذا ارتاب أحد في السنة ينتفي وجوب طاعة الشريعة )
هذه القضية بديهيّة البطلان ، فإن الإطلاق في جزاء الشرط يدل على أن
المراد من القضية الشرطية أن ارتياب فرد من الأفراد في صحة السنة ، يستلزم
انتفاء وجوب اتباع الشريعة على جميع الأفراد ، وإنما المعقول الموافق للمنطق أن
ارتياب الفرد أو ظنه أو علمه ، يترتب عليه ما يستلزمه في حق نفسه ، ولا يكون
ذلك مؤثرًا في غيره ممن لم يرتب ارتيابه أو لم يعلم علمه ، وكذلك ارتياب الأفراد
الكثيرين .(1/124)
وقد ارتاب بعض علماء أوربة الأحرار في وجود المسيح - عليه السلام - ،
وزعموا أنه شخص خيالي - أو متخيل - لم يوجد ، كما زعم بعض المؤرخين مثل
ذلك في هوميروس شاعر أساطير اليونان ، فهل استلزم ارتياب أولئك المرتابين فيه
انتفاء إيمان مئات الملايين من المسلمين والنصارى وغيرهم بوجوده عليه السلام .
***
القضية الثانية
( زعمه أن أكثر الشريعة يتوقف على الأحاديث )
هذه القضية غير مسلَّمة ، فإن الشريعة عندنا تشمل العقائد والعبرة فيها بالدلالة
القطعية ، وجميع العقائد التي تتوقف عليها صحة الإسلام ثابتة بنصوص القرآن
وإجماع المسلمين ، وإثبات الألوهية والنبوة منها مؤيد بالبراهين العقلية ، ولا يوجد
شيء منها يتوقف على أحاديث الآحاد التي يمكن الارتياب في بعضها ، وكذلك
أصول العبادات كلها قطعية ، ثابتة بالقرآن والسنة العملية المتواترة التي لا تتوقف
على أحاديث الآحاد .
وما ثبت من أحكام العبادات بأحاديث الآحاد ولم يجمع عليه أئمة العلم فلا
تتوقف عليه صحة الإسلام ، وإن كان صحيحًا في نفسه ، وإنما هو مزيد كمال في
علم السنة ، أما أحكام الشرع في المعاملات ، فأكثرها مأخوذ من القواعد والأصول
وكذا الفروع الواردة في القرآن ، إما بالنص وإما بدلالة النص وفحواه ، ومن القياس
الذي توسع فيه بعضهم كالحنفيّة فالشافعيّة ، والمصالح العامة التي توسع فيها المالكيّة
والحنابلة . وأقلها من حديث الآحاد .
وما بقي من أركان الشريعة بعد العقائد والأحكام العملية إلا الأخلاق والآداب ،
وجميع ما ورد في الأحاديث من الحكم والفضائل والآداب فهو مستمد من القرآن
الحكيم وشرح له ، بل السنة كلها بيان للقرآن لقوله تعالى : ? وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ
لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ? (النحل : 44) ، وقد ثبت في صحيح مسلم عن عائشة
-رضي الله عنها- أنها وصفت النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - بقولها : كان
خلقه القرآن .(1/125)
وقد اختلف العلماء في أحكام السنة التي لا تستند إلى نص من القرآن فقيل :
إنها بوحي من الله - تعالى - ، وإن الوحي لا ينحصر في القرآن ، ولكن للقرآن
مزايا ليست لغيره من وحي الله إلى خاتم رسله ولا إلى الرسل قبله ، أعظمها
إعجازه والتعبد بتلاوته . وقيل : إن الله - تعالى - أذن لرسوله بأن يحكم ، ويشرع
برأيه واجتهاده .
ومن تأمل كثيرًا من الأحكام التي استدلوا عليها بالسنة وحدها ، يرى لها مآخذ
من القرآن ، كتحريم الجمع بين المرأة وبين عمتها أو خالتها إلى الزواج ، وكتحريم
الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة ، وقد بيّنا ذلك في المنار ، كما بينا تفاوت
الأفهام في الغوص على دول القرآن ، وأين أفهام الناس كلهم فيه من فهمه - عليه
الصلاة والسلام - ؟ وقد ثبت مع ذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقضي في
المسائل السياسية والإدارية باجتهاده ، ويستشير فيها أصحابه .
***
القضية الثالثة
( زعمه أنه إذا ثبت الريب في الأحاديث تزلزلت أركان الشريعة )
هذه القضية غير مسلَّمة أيضًا ، وفيها إجمال وإيهام ، فإذا أراد بثبوت الريب
في الأحاديث ما أفادته جملته الأولى من ارتياب بعض الأفراد ، ولو واحدًا فقد بينا
أن هذا لا يترتب عليه إلا ما يستلزمه الارتياب في نفس المرتاب وحده ، وإذا أراد
ارتياب جميع الناس أو جميع المسلمين في جميع الأحاديث ، فهذا ما وقع ، ولن يقع
ولا يعقل أن يقع ، وسنشرح ذلك على وضوحه في نفسه ، فإن فرضنا جدلاً أنه يقع
فإنما يترتب عليه حينئذ الاكتفاء في الدين بما في القرآن والسنة العملية المنقولة
بعمل مئات الألوف وألوف الألوف منذ العصر الأول ، ككيفية الصلاة والصيام
والحج وغير ذلك ، وبما ثبت بالإجماع والقياس الصحيح ، ولا ينقص من كتب
الشريعة حينئذ إلا الأحكام والحكم التي ثبتت بأحاديث الآحاد وحدها كما بيناه في
الكلام على القضية الثانية .
وبهذا وذاك يظهر لك بطلان قوله : ( تزعزعت أركان الشريعة وأركان(1/126)
تابعيها) ، فإن أراد بأركان الشريعة أصول العقائد وقضايا الإيمان التي يكون بها
المرء مؤمنًا ، فقد علمت أنه لا يتوقف شيء منها على أحاديث الآحاد ، وإن أراد
أركان الإسلام الخمسة فكذلك ، فإن معرفة هذه الأركان لا تتوقف على ثبوت
الأحاديث الواردة فيها ، فإنها مُجمع عليها معلومة من الدين بالضرورة ، سواء صح
ما ورد فيها من الحديث أم لم يصح ، على أنه صحيح ، ولله الحمد ، وإن أراد
بأركان الشريعة أو أركان تابعيها أصولها المستمدة منها عند الأئمة الأربعة فقوله
أظهر بطلانًا ، فإن هذه الأركان أربعة -الكتاب والسنة والإجماع والقياس- ، وما
ألحق بها عند بعضهم كالمصالح والاستحسان ، فالأحاديث جزء من السنة التي هي
ركن من الأركان ، فالارتياب في هذا الجزء لا يوجب الارتياب في الجزء الآخر
منها ، وهو ما ثبت بالتواتر عملاً أو قولاً ، فكيف يوجب الارتياب في القرآن وكله
متواتر ، وفي الإجماع والقياس ؟
قلنا : إن ارتياب جميع الناس أن جميع المسلمين في جميع أحاديث الآحاد ما
وقع ، ولن يقع ولا يعقل أن يقع ، وبيان ذلك أن المعهود من البشر في كل زمان
ومكان أن يصدقوا خبر كل مخبر ؛ لأن الأصل الغالب في أخبار الناس الصدق ،
إلا إذا وجدت علة في الخبر أو المخبر تقتضي الارتياب ، كأن يكون الخبر غير
معقول أو يكون المُخبِر معروفًا بالكذب . على أننا نرى الناس يصدقون أكثر أخبار
الجرائد السياسية والشركات البرقية على كثرة ما عرفوا من كذبهما ، واعتقادهم أن
لأصحابهما أهواء سياسية يحاولون تأييدها بالحق وبالباطل .
فإذا كان هذا شأن البشر في أمثال هذه الأخبار التي تحوم حولها الشبهات في
أنفسها ، وفي سيرة رواتها ، فكيف يعقل أن يرتابوا في صحة جميع الأحاديث التي
صححها حفاظ المحدّثين بعد نقد متونها ، وإقامة ميزان الجرح والتعديل لكل فرد من
أفراد رواتها ، وقد علم أنهم لا يقبلون في الاحتجاج حديثًا منقطع الإسناد ، ولا حديثًا(1/127)
في رواته مجهول ، أو أحد ثبت عليه الكذب أو سوء الحفظ أو النسيان أو مخالفة
الثقات الأثبات في روايته ؟
ها أنتم أولاء تصدقون أخبار أناجيلكم الأربعة وغيرها من كتبكم ، وليس
عندكم سند متصل لشيء منها ، وقد اختلف علماؤكم ومؤرخوكم في كُتّابها ، وفي
اللغات التي كتبت بها ، وفي التواريخ التي كتبت فيها ، فلم يتوفر لكم فيها شيء من
النقد والتمحيص الذي توفر لنا في نقل الحديث ، أفتعقلون مع هذا ، أن نرتاب في
تصديق جميع الأحاديث التي نقلت لنا بدقة ، لم يعهد لها البشر نظيرًا في تاريخهم
القديم ولا الحديث ، وأنتم ترون أنفسكم ، وسائر البشر يصدقون أكبر ما يروى لهم
بلا سند ولا بحث في رواته ، بل كثيرًا ما يصدقون أخبار من ثبت عليهم الكذب
مرارًا ، كرواة البرقيات والجرائد ؟
***
الجملة الثانية من كلام الطاعن
قال : ( وسنثبت في الفصول التالية أن من السهل إثبات الشبهات الملقاة على
تلك الأحاديث . ونحن مثبتون في هذا الفصل وهن الاعتماد على بعض الصحابة
التي تتوقف مئات من الأحاديث على شهادتهم حتى قامت عليها الشريعة ، ومنها
نشأت السنة ، على أن البخاري الذي اشتهر بنقد رجال الحديث ، لم يخطر له أن
يرتاب في صدق الصحابة ؛ لأنهم كانوا في نظره معصومين من الكذب ، وهذا يدلك
على ضعف حجته ، فقد ثبت بوجه لا يقبل الشك أن أبا هريرة و ابن عباس لم
يكونا مُمَحِّصيْن في رواية الأحاديث .
وغرضنا الآن أن نبين أن الريب في أحاديث أبي هريرة تسرب إلى نفوس
معاصريه ونفوس الذين جاءوا بعده ، ومع ذلك فقد نقل عنه البخاري الأحاديث
بالمئات ، فتداولتها ألسنة المجتهدين الذين أسسوا المذاهب الأربعة ، وبنوا عليها
نظامهم الشرعيّ ) .
أقول : نلخص هذه الجملة في قضايا تابعة في العدد لما تقدم ، ونبين ما فيها
من الخطإ والأباطيل .
***
القضية الرابعة
( زعمه وهن الاعتماد على رواة المئات الأحاديث من الصحابة كأبي هريرة )(1/128)
هذه القضية باطلة ، فإنها توهم القارئ أن الكاتب يثبت في هذا الفصل مطاعن
في عدالة عدة من الصحابة الذي رووا المئات الكثيرة من الأحاديث حتى إذا ما قرأ
الفصل كله لم يجد فيه إلا روايات في واحد منهم ، وهو أبو هريرة - رضي الله
عنه - ويرى أن هذه الروايات لا تسقط عدالته كما نبسطه في هذا المقال . وهذا
مما يؤيد قولنا : إن هؤلاء الناس يكتبون ما لا يفهمون ؛ لأنهم اعتادوا الجرأة على
إلقاء المطاعن من غير تفكير ولا روية ، فهم ينقضون ما يبنون ولا يشعرون.
***
القضية الخامسة
زعمه أن البخاري
لم يخطر بباله الارتياب في صدق الصحابة لاعتقاده عصمتهم
هذه القضية باطلة أيضًا لأنها حكم بعموم السلب ، على شيء يتعلق بالقلب لا
يعلمه إلا الرب ، فإن مثل هذا الكاتب لا يناقش في مثل هذا التعبير ؛ لأنه لا يفرق
بينه وبين القول بأن البخاري لا يتهم أحدًا من رواة الصحابة بالكذب ، ولا بغيره من
العلل القادحة في الرواية ، وإنما نريد بيان بطلان زعمه أن البخاري كان يرى أن
رواة الصحابة معصومون .
والصواب أنه كان يرى ويقول : إنهم عدول صادقون ولا معصومون ، وما
قال هذا القول هو وغيره من نقاد المحدثين إلا بعد تتبع تاريخهم ، كغيرهم من
الرواة ، وقد نقل عنه الطاعن ما أراد أن يسقط به عدالة أبي هريرة ، وشيئًا من
تمحيصه لما يرويه ، فالبخاري كان أعلم من الطاعن بكل ما قيل في أبي هريرة ،
وبما رواه أبو هريرة ، ولم يره مُسقطًا لعدالته ، ولو رآه مسقطًا لها لما روى عنه
في صحيحه .
وقد كان البخاري من أئمة أهل السنة الذين لا يقولون بأن أحدًا من البشر
معصوم من الكذب إلا الأنبياء - عليهم السلام - ، وصدق الرواية لا يتوقف على
العصمة ، وإلا لما قبل أحد من البشر قول أحد بعد تبليغ أنبيائهم الوحي ، وإنما
يكتفى في تصديق الرواية العلم بعدالة الراوي ، وجوده حفظه وضبطه لما يرويه ،
ولم ينقل عن أحد من مؤرخي البشر ، ونقلة الأخبار مثلما نقل عن البخاري من شدة(1/129)
التحري في كتابه الجامع الصحيح ، فليأتنا هذا الطاعن بمثله أو بما يقرب منهم من
علمائهم ، كيف ، وكتبهم المقدسة تنسب الكذب وغيره من كبائر المعاصي إلى
الأنبياء - برأهم الله تعالى ، وصلى الله عليهم وسلم - ؟
وهؤلاء المبشرون وأهل نحلتهم لا يقولون بعصمة الأنبياء ، دع عصمة ناقلي
كتبهم بغير أسانيد متصلة ، ولكنهم يقبلون ما عزي إليهم ، وسنشير إلى المقابلة بين
رجالنا ورجالهم في هذا المقال ، ولا حاجة إلى تفنيد قوله بضعف حجة البخاري ،
الذي بناه على زعمه أن البخاري ، يعتقد عصمة الصحابة ، فهو ساقط في نفسه ،
وأضعف منه وأسقط ما بناه عليه .
***
القضية السادسة
( زعمه أن الأئمة الأربعة أسسوا مذاهبهم
على ما رواه البخاري عن أبي هريرة )
هذه القضية الباطلة ، تدل على مبلغ علم المبشرين الناشرين لهذا المقال ،
وعلى درجة تحريهم وصدقهم فيما يقولون وينقلون .
الحافظ البخاري متأخر عن الأئمة الأربعة ، أدرك رابعهم الإمام أحمد بن
حنبل وتلقى الحديث عنه . وقد جاء في تهذيب التهذيب عن العقيليّ أن البخاريّ لما
ألف كتابه الصحيح عرضه على علي بن المَدينيّ و يحيي بن مَعين وأحمد بن حنبل
( وكلهم من كبار شيوخه ) وغيرهم ، فامتحنوه ، وكلهم قال : كتابك صحيح إلا
أربعة أحاديث . قال العقيلي : والقول فيها قول البخاري ، وهي صحيحة .
والشاهد في هذا النقل أن البخاري أخذ عمن أدرك من الأئمة الأربعة ، ولم
يأخذ أحد منهم عنه شيئًا ، ولم يكن أحد من المجتهدين يقلد أحدًا في رواية ولا دراية
وإنما يأخذ كل منهم بما صح عنده من الرواية .
ولد الإمام أبو حنيفة سنة 80 وتوفي سنة 150 وولد الإمام مالك سنة 93
وتوفي سنة 179 وولد الإمام الشافعيّ سنة 150 وتوفي سنة 204 وولد الإمام أحمد
162 وتوفي 241 وولد الإمام محمد بن إسماعيل البخاري سنة 194 وتوفي سنة
256 وقد رحل من بلاده لطلب العلم سنة 210 أي : بعد وفاة الإمام الشافعيّ ببضع(1/130)
سنين وبعد وفاة مالك بإحدى وثلاثين سنة ، وبعد وفاة أبي حنيفة بستين سنة .
فكيف أجاز لهذا الطاعن في السنة والشريعة ، دينه وعقله أن يقول : إن
الأئمة الأربعة أخذوا عن البخاري ما رواه من الأحاديث عن أبي هريرة ، وبنوا
عليه نظامهم الشرعي ؟ وكيف توهم أنه جاء بعلوم وحقائق ، تزعزع هذه الشريعة
التي هي أثبت من الجبال الرواسي ؟ أبمثل هذه الدعاوى المخترعة تهدم الحقائق
الثابتة ؟
***
الجملة الثالثة من كلام الطاعن
الشبهات في أبي هريرة
الشبهة الأولى
( 1 ) قال الطاعن : الارتياب العام في أبي هريرة ( بشهادة نفسه ) حدثنا
عبد العزيز بن عبد الله ... عن أبي هريرة قال : ( إن الناس يقولون : أكثر أبو
هريرة ، ولولا آيتان من كتاب ما حدثت حديثًا ... إن إخواننا من المهاجرين كان
يشغلهم الصفق بالأسواق ، وإن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم ،
وإن أبا هريرة كان يلزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشبع بطنه ، ويحضر
ما لا يحضرون ، ويحفظ ما لا يحفظون ).
( البخاري جزء أول كتاب العلم صفحة 37 ) وكتب في الحاشية ما نصه :
( جاء في الإصابة لابن حجر جزء 7 : 23 قوله : ( إنكم تزعمون أن أبا هريرة
يكثر الحديث عن رسول الله وقد علل هذا الإكثار برواية غريبة ) اهـ كلام
الطاعن .
***
الجواب عن هذه الشبهة
استدل الطاعن بهاتين الروايتين على ما سماه الارتياب العامّ في أبي هريرة ،
ويفهم من هذا أنه يوهم قارئ مقالته أن جميع أهل عصره ، أو أكثرهم كان يرتاب
في صحة روايته ، وهذه دعوى باطلة ، ولفظ الناس يصدق بالقليل والكثير ، قال
الله تعالى : ? الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ ? (آل عمران :
173) .
روي في التفسير المأثور أن الذي قال ذلك هو نعيم بن مسعود قال : إن أبا
سفيان يجمع لكم الجيش ... إلخ ، وقيل : إن القائل ركب عبد القيس ، فالناس اسم(1/131)
جنس يطلق على الواحد كما يقال : فلان يركب الخيل : وإن لم يركب إلا فرسًا
واحدًا ، ويطلق على الكثير .
وقد ثبت أن بعض الصحابة أنكروا إكثار أبي هريرة من التحديث كما هو
صريح ، هذا الحديث الذي اختصره الطاعن من البخاري ، وقد صرح في رواية
أخرى له بزيادة ويقولون : ما للمهاجرين والأنصار لا يحدثون مثل حديثه ووجه
الإنكار أن أبا هريرة من متأخري الصحابة ، فينبغي أن يكون أقل سماعًا منهم .
ومن المعلوم بالبداهة المتفق عليه من العقلاء ، الذين يقضون به في محاكمهم
أن الاستنكار والاستغراب في مثل هذا لا يقتضي الاتهام بالكذب ، وأن التهمة لا
تقتضي بمجردها سلب العدالة ؛ لأن من التهم ما يبنى على شبهات وأوهام ، ومنه ما
هنا .
وقد أجاب أبو هريرة عن الإكثار هنا بأنه كان يلزم الرسول - صلى الله عليه
وسلم - لا يكاد يفارقه ؛ إذ لا تجارة له كالمهاجرين ، ولا حرث له كالأنصار ،
فيشغله هذا أو ذاك ، فكان بهذه الملازمة يسمع ما لا يسمعون ويحفظ ما لا يحفظون
ويضاف إلى هذا الجواب أنه حدث بما سمعه وبما رواه ، وأجوبة أخرى سيأتي
بيانها ، وأجاب عن أصل التحديث بالآيتين الدالتين على وجوب إظهار العلم وحرمة
كتمانه ، وهما قوله تعالى :? إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ
مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ ? (البقرة : 159) إلى قوله : ? التُّوَّابُ
الرَّحِيم ? (البقرة : 160) وقد حذف ذلك الطاعن .
وأما الرواية الثانية ، وهي ما نقله الطاعن في الحاشية عن الإصابة لابن
حجر فهي رواية أخرى لهذا الأثر نفسه ، رواهما البخاري عن الأعرج -عبد
الرحمن بن هرمز- عن أبي هريرة ، وقال الطاعن : إنه علل الإكثار برواية غريبة ؛
أي : علل كثرة تحديثه بعلة غريبة أي : عند الطاعن ، ولم يذكر هذه العلة ! وهي(1/132)
عين العلة التي في الرواية الأخرى مع زيادة تعدّ من آيات النبي - صلى الله عليه
وسلم - ودلائل نبوته ؛ ولذلك لم يذكرها الطاعن ، وهي: فحضرت من النبي -
صلى الله عليه وسلم - مجلسًا فقال : من يبسط رداءه حتى أقضي مقالتي ثم يقبضه
إليه فلن ينسى شيئًا سمعه مني فبسط برده عليّ حتى قضى حديثه ثم قبضتها إليّ ،
فوالذي نفسي بيده ما نسيت شيئًا سمعته منه بعد ، وروى هذا الحديث أحمد و مسلم
و النسائي وغيرهم من طرق .
وقد فهم أبو هريرة من الحديث عموم السلب المطلق ، وصدق عليه ذلك ،
وإن كان لفظ الحديث يحتمل تقييد العموم بما يقوله - صلى الله عليه وسلم - مدة
بسط الرداء ، وسنذكر بعض ما قاله الأئمة النقاد في حفظ أبي هريرة ، ولم يرو عنه
في الصحيح أنه نسي شيئًا حدث به إلا حديث ( لا عدوى ) فإنه أنكره بعد أن روى
ما يدل على ثبوت العدوى ، ولعله كان من مراسيله لا من سماعه ، فلا يتعارض مع
قوله : إنه ما سمع شيئًا ونسيه ، أي : بعد مسألة الرداء ، أو كان من سماعه قبل
بسط الرداء .
***
الشبهة الثانية
( 2 ) قال الطاعن : تهمة أبي هريرة بالكذب ( بشهادة نفسه ) : ( عن أبي
الرزين قال : خرج إلينا أبو هريرة ، فضرب بيده على جبهته فقال : ألا إنكم
تحدثون أني أكذب على رسول الله لتهتدوا وأضل ، ألا وإني أشهد لسمعت رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : إذا انقطع شسع أحدكم فلا يمشي في الأخرى
حتى يصلحها ( جزء 4 : 440 ) لا يخفى ما في هذا من الضعف ) .
( 3 ) ونقل ابن حجر عن أحمد بن حنبل ( جزء 7 صفحة 205 ) قوله :
( قيل: له أكثرت فقال : لو حدثتكم بما سمعت لرميتموني بالقِشع أي : الجلود ) وقد
أردف هذا بشكوى أخرى وهي قوله : ( أكثر علينا أبو هريرة ) .
( 4 ) نقل ابن حجر عن عائشة ( جزء 7 صفحة 205 ) ما يأتي : قالت
عائشة لأبي هريرة : ( إنك تحدث بشيء ما سمعته ) فأجابها أبو هريرة بما مؤداه
أنها كانت مهتمة بزينتها فلم تسمع ما سمعه هو .(1/133)
( 5 ) عبد الله بن عمرو بن العاص جاء في كتاب أخبار مكة للأزرقي
صفحة 135 قوله : حدثنا أبو الوليد . عن عبيد الله بن سعد أنه دخل مع عبد الله بن
عمرو بن العاص المسجد الحرام والكعبة محرقة حين أدير جيش الحصين بن نمير
والكعبة تتناثر حجارتها ، فوقف ، ومعه ناس غير قليل ، فبكى حتى إني لأنظر إلى
دموعه تحدَّر كحلاً في عينيه , فقال : يا أيها الناس والله لو أن أبا هريرة أخبركم
أنكم قاتلو ابن نبيكم بعد نبيكم ، ومحرِّقو بيت الله ربكم لقلتم : ما من أحد أكذب
من أبي هريرة .
( 6 ) عبد الله بن عمر جاء في الترمذي جزء 1 صفحة 281 قوله : حدثنا
ابن عمر فقال : ( إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتل الكلاب إلا
كلب صيد ، أو كلب ماشية . قيل له : إن أبا هريرة كان يقول : أو كلب زرع .
فقال : إن أبا هريرة له زرع ) , ولا يخفى ما في هذا من التقريع اللطيف .
( 7 ) عن الإصابة لابن حجر جزء 7 صفة 205 . كان أبو هريرة قد روى
حديثًا عن الصلاة لم يعجب مروان فسأل عبد الله بن عمر فقال عبد الله : لقد أكثر
أبو هريرة ، فقال له : أتنكر شيئًا مما يقولون ؟ فقال : لا ، ولكن اجترأ وجبنا .
وبلغ ذلك أبا هريرة ، فقال : ما ذنبي إن كنت حفظت ونسوا ؟ . ولا نظن قوله :
( اجترأ وجبنا ) من قبيل الازدراء ، فإن ابن عمر ما كان ينسب الجبن إلى نفسه ،
أما الجرأة التي نسبها إلى أبي هريرة ، فمعناها التهجُّم والتحدي .
لعل في هذا ما يميط لنا اللِّثام عن مصادر الأحاديث ، فإنه يدلنا على عظم
الاستسلام إلى رواة الأحاديث غير المدققين ، والأرجح أن عبد الله لم يكن ليجسر
على مقاومة أبي هريرة ، وإنما جاهر برأيه بلهجة الازدراء .
( 8 ) جاء في الإصابة لابن حجر جزء 7 صفحة 205 أن مروان استاء
من كلمة قالها أبو هريرة ، فاتهمه بالإكثار من الرواية ، وأردف ذلك بقوله : ( إنما
قدم أبو هريرة قبل وفاة رسول الله . . بيسير . فقال أبو هريرة : قدمت ورسول الله(1/134)
بخيبر وأنا يومئذ قد زدت على الثلاثين ، فأقمت حتى مات ) .
(ملاحظة) : كان محمد في خيبر في سنة سبع هجرية ، أي : قبل موته بنحو
أربع سنوات ، فالحادثة المذكورة هنا تبين ، أن معاصري أبي هريرة أنفسهم كانوا
يرون المدة قصيرة جدًّا ، لا تعلل إكثاره من رواية الأحاديث التي كان يستشهد بها
كلما شاء . اهـ كلام الطاعن بحروفه وإشاراته ورموزه ، وحذفه من الروايات
وغلطه فيها وهو كثير ، ومنه قوله ( أتنكر شيئًا مما يقولون ) وصوابه ( مما يقول )
يعني : أبا هريرة ، وقوله : ( أجرأ وجبنا ) وصوابه ( اجترأ وجبُنَّا ) ولعل هذا
الخطأ من الطبع ، لا من تحريف الناقل ، ولكن بعض غلطه من سوء الفهم قطعًا ،
كقوله بعد الحديث الذي عزاه إلى أحمد : وقد أردف هذا بشكوى أخرى..إلخ ،
والصواب أن هذه الزيادة ليست من حديث أحمد . ومنه ما فهمه من كلام
ابن عمر.
***
الجواب عن هذه الشبهة
نقول : أولاً : ليس في هذه الروايات التي أوردها الطاعن ، تصريح من أحد
بأن أبا هريرة قد ثبت عليه الكذب .
وثانيًا : إن التهمة لا تثبت إلا بالبينة والدليل ، باتفاق الشرائع والقوانين ،
وعرف أهل العقل والعدل من البشر أجمعين ، ولم يُقم أحد دليلاً ، ولا بينة على أن
أبا هريرة كذب ، وإنما عرض لبعض الصحابة شبهة في رواية أبي هريرة ، ولو
ثبتت الشبهة ، وظلت مجهولة وسببها خفيًّا لصح أن تجعل علة ، لعدم إلحاق روايته
برتبة الصحيح احتياطًا ، ولكن سبب الشبهة معروف ، وهو لا يقتضي سلب العدالة
ولا عدم الثقة بالرواية .
وثالثًا : إن لتلك الشبهة سببين ( أحدهما ) خاص بكثرة الرواية ، وفيه ورد
أكثر الروايات ، وحاصلها أن مدة صحبته للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، ثلاث
سنين وأشهر ، وهي لا تتسع للأحاديث الكثيرة التي كان يتوقع التكذيب بها ، أو
الإيذاء أو القتل إذا حدث بها ؛ لأنها من أخبار الفتن التي أخبر بها النبي - صلى(1/135)
الله عليه وسلم - قبل وقوعها ، وهي ما يسميه النصارى بالنبوات ، ولما عرف أهل
الحديث سبب الشبهة ظهر لهم أنها لا تدل على أدنى طعن في عدالة أبي هريرة ،
وبيان ذلك من وجوه .
***
أسباب كثرة حديث أبي هريرة
لكثرة حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أسباب ، استخرجناها من عدة
روايات ( أحدها ) أنه قصد حفظ أقوال الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وضبط
أحواله ؛ لأجل أن يستفيد منها ، ويفيد الناس ، ولأجل هذا كان يلازمه ويسأله ،
وكان أكثر الصحابة لا يجترئون على سؤاله إلا عند الضرورة ، وقد ثبت أنهم كانوا
يسرون إذا جاء بعض الأعراب من البدو وأسلموا ؛ لأنهم كانوا يسألون النبي -
صلى الله عليه وسلم - .
ومن الدلائل على هذا السبب ما رواه عنه البخاري قال : قلت : يا رسول الله
من أسعد الناس بشفاعتك ؟ قال : ( لقد ظننت أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد
أولى منك لما رأيت من حرصك على الحديث ) وما رواه أحمد عن أُبيّ بن كعب :
أن أبا هريرة كان جريئًا على أن يسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن
أشياء لا يسأله عنها غيره .
( ثانيها ) أنه كان يلازم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ويتبعه حتى في
زيارته لنسائه وأصحابه ليستفيد منه ، ولو في أثناء الطريق ، فكانت السنين القليلة
من صحبته له كالسنين الكثيرة من صحبة كثير من الصحابة ، الذين لم يكونوا
يرونه - صلى الله عليه وسلم - إلا في وقت الصلاة ، أو الاجتماع لمصلحة
يدعوهم إليها أو حاجة يفزعون إليه فيها ، وقد صرح بذلك لمروان ، وكما سنبين
ذلك في كلامنا على الشاهد السابع من شواهد الطاعن .
وأخرج البغويّ بسند جيد كما قال الحافظ ابن حجر : عن ابن عمر أنه قال
لأبي هريرة : أنت كنت ألزمنا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأعلمنا بحديثه
وفي الإصابة عنه أنه قال : أبو هريرة خير مني وأعلم بما يحدث ، وعن طلحة
بن عُبيد الله : لا أشك أن أبا هريرة سمع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(1/136)
ما لم نسمع .
( ثالثها ) أنه كان جيد الحفظ قوي الذاكرة ، وهذه مزية امتاز بها أفراد من
الناس كانوا كثيرين في زمن البداوة ، وما يقرب منه ؛ إذ كانوا يعتمدون على
حفظهم ، ومما نقله التاريخ لنا عن اليونان أن كثيرين منهم كرهوا بدعة الكتابة
عندما ابتدءوا يأخذونها ، وقالوا : إن الإنسان يتكل على ما يكتب فيضعف حفظه ،
وإننا نفاخر بحفاظ أمتنا جميع الأمم وتاريخهم ثابت محفوظ ، قال الإمام الشافعيّ :
أبو هريرة أحفظ من روى الحديث في دهره ، وقال البخاري مثل ذلك ، إلا أنه قال
عصره بدل دهره . وأعظم من ذلك ما رواه الترمذي عن عمر - رضي الله عنه -
أنه قال لأبي هريرة : أنت كنت ألزمنا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -
وأحفظنا لحديثه .
( رابعها ) بشارة النبي - صلى الله عليه وسلم - له بعدم النسيان ، كما ثبت
في حديث بسط الرداء المتقدم ، وهو مروي من طرق متعددة في الصحاح والسنن .
( خامسها ) دعاؤه له بذلك كما ثبت في حديث زيد بن ثابت عالم الصحابة
الكبير -رضي الله عنه- عند النسائي وهو : ( أن رجلاً جاء إلى زيد بن ثابت ،
فسأله فقال له زيد : عليك بأبي هريرة ، فإني بينما أنا وأبو هريرة وفلان في
المسجد ، ندعو الله ونذكره إذ خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى
جلس إلينا فقال : عودوا للذي كنتم فيه قال زيد فدعوت أنا وصاحبي ، فجعل رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - يؤمّن على دعائنا ، ودعا أبو هريرة فقال : إني أسألك
مثل ما سأل صاحباي ، وأسألك علمًا لا يُنسى , فقال : سبقكم بها الغلام الدوسي ) .
( سادسها ) أنه تصدى للتحديث عن قصد ؛ لأنه كان يحفظ الحديث ؛ لأجل
أن ينشره ، وأكثر الصحابة كانوا ينشرون الحديث عند الحاجة إلى ذكره في حكم ،
أو فتوى أو استدلال ، والمتصدي للشيء يكون أشد تذكرًا له ، ويذكره بمناسبة
وبغير مناسبة ؛ لأنه يقصد التعليم لذاته ، وهذا السبب لازم للسبب الأول من أسباب
كثرة حديثه .(1/137)
( سابعها ) أنه كان يحدث بما سمعه وبما رواه عن غيره من الصحابة كما
تقدم ، فقد ثبت عنه أنه كان يتحرى رواية الحديث عن قدماء الصحابة فروى عن
أبي بكر وعمر ، والفضل بن العباس وأُبيّ بن كعب ، وأسامة بن زيد وعائشة ،
وبصرة الغفاري ، أي : أنه صرح بالرواية عن هؤلاء ، ومن المقطوع به أن
بعض أحاديثه التي يصرح فيها باسم صحابي كانت مراسيل ؛ لأنها في وقائع كانت
قبل إسلامه ، ومراسيل الصحابة حجة عند الجمهور .
وقد روى أيضًا عن كعب الأحبار وهو من علماء يهود ، أسلم في أيام أبي
بكر ، وقيل : في أيام عمر ، ووثقه المحدثون ، ولكن روى البخاري عن معاوية أنه
قال فيه : إن كان لمن أصدق هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب ، وإن
كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب . ولم يروِ البخاري في صحيحه شيئًا لكعب . وقد كان
في نفسي شيء من رواية كعب قبل أن أرى ما قاله فيه معاوية ، وأعلم أن كثيرًا من
الناس يتهمونه بالكذب . ثم رأيت للحافظ ابن كثير كلامًا في ذلك .
فمن تدبر هذه الأسباب لم يستغرب كثرة رواية أبي هريرة ، ولم ير استنكار
أفراد من أهل عصره لها موجبًا للارتياب في عدالته وصدقه ؛ إذ علم أن سبب ذلك
الاستنكار عدم الوقوف على هذه الأسباب .
على أن جميع ما أخرجه البخاري في صحيحه له 446 حديثًا بعضها من
سماعه ، وبعضها من روايته عن بعض الصحابة ، وهي لو جمعت لأمكن قراءتها
في مجلس واحد ؛ لأن أكثر الأحاديث النبوية جمل مختصرة . فهل يستكثر عاقل
هذا المقدار على مثل أبي هريرة أو من هو دونه حفظًا ، وحرصًا على تحمل
الرواية وأدائها ، فيجاري هذا الطاعن في الشريعة على الطعن في الإمام البخاري
لتخريجها ؟ كيف ، وهذا الطاعن لا يوثق بنقله ولا بفهمه ، ولا بقصده إلى بيان
الحقيقة ، بل نعلم علم اليقين أنه يريد التشكيك والطعن ؛ لأن هذا هو عمله الذي
يعيش له وبه ؟
***
سبب استنكار بعض حديث أبي هريرة :(1/138)
نقل الطاعن في الشاهد الثاني عن أبي رزين أن أبا هريرة قال على مسمع منه :
( ألا إنكم تحدثون أني أكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) وعزى
هذا إلى ( جزء 445 : 4 ) ولم يذكر اسم الكتاب ، وظاهر عزوه الشاهد الذي قبله إلى
البخاري أنه يعني أن هذا في البخاري أيضًا ، وإنما نعرفه من رواية مسلم . وذكر في
الشاهد الثالث أنه قال : لو حدثتكم بما سمعت لرميتموني بالقِشع . وصوابه : لو
حدثتكم بكل ما سمعت ، وذكر في الشاهد الخامس عن كتاب أخبار مكة للأزرقي أنه
قال حين رأى الكعبة محرقة بعد انصراف جيش الحصين بن نمير : يا أيها الناس
لو أن أبا هريرة أخبركم أنكم قاتِلو ابن نبيكم بعد نبيكم ومحرّقو بيت ربكم ، لقلتم ما
من أحد أكذب من أبي هريرة . يعني لو حدثهم قبل إحراق بني أمية للكعبة
بذلك لكذبوه ؛ لأن الخبر مما يستبعد تصديقه . فعلم من قوله أنه كان يعلم بهذا الحديث
قبل وقوعه ؛ لأنه سمعه من الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، ودليل هذا أنه قرنه
بخبر مثله في بعده عن الوقوع ، ولم يكن قد وقع ، وهو أنهم سيقتلون ابن
نبيهم يعني : الحسين -عليه السلام- وقد وقع ذلك بعد وفاته - رضي الله
عنه- .
كان أبو هريرة يعلم أن كثيرًا من الناس لا يصدقون الروايات التي تستبعد
عقولهم وقوعها ، وإن كانت جائزة في نفسها ، فيتوقع أن يكذبوه إذا هو حدث بها ،
ويظنون أنه عزاها إلى الرسول ؛ لأجل قبولها ، وكان يعتقد أن بني أمية يقتلونه إذا
هو حدث بكل ما سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أحداثهم ومفاسدهم ،
وهذا هو مراده بقوله الذي رواه عنه البخاري في صحيحه : حفظت من رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - وعاءين من العلم ، فأما أحدهما فبثثته ، وأما الآخر فلو
بثثته لقُطع مني هذا البلعوم - يشير إلى عنقه .
قال الحافظ في الفتح : وحمل العلماء الوعاء الذي لم يبثه على الأحاديث التي(1/139)
فيها تبين أمراء السوء وأحوالهم وزمنهم ، وقد كان أبو هريرة يكني عن بعضه ،
ولا يصرح خوفًا على نفسه منهم ، كقوله : أعوذ بالله من رأس الستين وإمارة
الصبيان . يشير إلى خلافة يزيد بن معاوية ؛ لأنها كانت سنة ستين من الهجرة ،
واستجاب الله دعاء أبي هريرة ، فمات قبلها بسنة ، وستأتي الإشارة إلى شيء من
ذلك في كتاب الفتن اهـ .
وقد وفَّى الحافظ بوعده هذا في شرح حديث أبي هريرة في أوائل كتاب الفتن
من صحيح البخاري ، وهو قوله لسعيد بن العاص ، و مروان بن الحكم بن أبي
العاص بن أمية : سمعت الصادق المصدوق يقول : ( هلكة أمتي على يدي غلمة من
قريش ) [1] - وفي رواية أحمد والنسائي ( إن فساد أمتي على يدي غلمة سفهاء
من قريش ) فقال مروان : لعنة الله عليهم غلمة . فقال أبو هريرة : لو شئت أن أقول
بني فلان وفلان لفعلت . أي : ولم يكن مروان يعلم حين لعنهم أنهم قومه
وأبناؤه ، ولكن أبا هريرة هو الذي يعلم ولم يصرح .
وذكر الحافظ في شرحه لهذا الحديث حديثًا آخر له من المرفوع في بيان معناه
أخرجه علي بن معبد ، و ابن أبي شيبة عنه وهو : ( أعوذ بالله من إمارة الصبيان-
قالوا : وما إمارة الصبيان ؟ قال: إن أطعتموهم هلكتم في دينكم ، وإن عصيتموهم
أهلكوكم في دنياكم ) .
فتبين بهذا أن الأحاديث التي كان يتوقع أبو هريرة تكذيب بعض الناس له فيها
هي ما كان من هذا النوع ، وظهر بهذا أن ما أورده الطاعن من الشواهد على اتهامه
بالكذب لا يفيد شيء منه إثبات التهمة ، وقد بينا آنفًا أن رواية أبي رزين عند مسلم ،
والرواية التي عزاها إلى أحمد ، وهي من طريق يزيد بن الأصم عن أبي هريرة ،
ورواية عبد الله بن سعد عن الأرزقي - كلها صريحة في أن أبا هريرة كان يعتقد ،
أو يظن أن بعض الناس يكذبونه في بعض أحاديث الفتن إذا هو حدث بها قبل
وقوعها لغرابة موضوعها .
بقي من شواهد الطاعن أربعة ( أحدها ) قول عائشة له : إنك لتحدث بشيء(1/140)
ما سمعته . وقد عزا الحافظ هذا إلى تخريج ابن سعد وكتابه ليس في أيدينا ، فلا
ندري أذكر سببه بعينه أم لا ، والظاهر من جواب أبي هريرة أنها أنكرت حديثًا
رواه ؛ لأنها لم تسمعه هي من النبي - صلى الله عليه وسلم - ومثل هذا وقع لها
في أحاديث غير واحد من الصحابة لهذه العلة كارتيابها في حديث المعراج ، وفي
حديث الرؤية في الآخرة ، وفي حديث وفي موت العلماء ، واتخاذ الرؤساء الجهال
الذين يَضلون ويُضلون .
ففي صحيح مسلم أن عروة بن الزبير سمع هذا الحديث من عبد الله بن
عمرو ، فأخبر به خالته عائشة ، فأعظمت ذلك وأنكرته وقالت له : أحدثك أنه سمع
النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول هذا ؟ على أنها هي التي أرسلته إليه ليأخذ
عنه الحديث قال : ( قالت لي عائشة : يا ابن أختي بلَغني أن عبد الله بن عمرو مارٌّ
بنا إلى الحج فسائله ، فإنه قد حمل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - علمًا كثيرًا )
ثم إنها مع هذا ومع ما تعلم ويعلم كل الصحابة من ورع عبد الله وعدالته ، قد
ارتابت في هذا الحديث ، وبقيت مرتباة فيه مدة حول كامل- قال عروة : فلما كان
قابل ( أي العام الذي بعد ذلك العام ) قالت له : إن ابن عمرو قد قدم فالقه ، ثم فاتحه
حتى تسأله عن الحديث الذي ذكر لك في العلم ، قال : فلقيته فساءلته ، فذكره لي
نحو ما حدثني به مرته الأولى. فلما أخبرتها بذلك قالت : ما أحسبه إلا قد صدق ،
أراه لم يزد فيه شيئًا ولم ينقص . والجواب المشهور عند العلماء في مثل هذه
المسألة أن من حفظ حجةٌ على من لم يحفظ .
( ثانيها ) حديث عبد الله بن عمر في قتل الكلاب ، نقله الطاعن عن
الترمذي ، وهو في صحيح مسلم وسنن النسائي و ابن ماجه أيضًا . وقد قال العلماء:
إن مراد ابن عمر بقوله : ( إن لأبي هريرة زرعًا ) هو أن أبا هريرة كان محتاجًا
إلى معرفة حكم اتخاذ الكلب للزرع ؛ لأن له زرعًا فسأل عن ذلك وحفظه وعمل به .(1/141)
ويؤيد هذا ويفند زعم الطعن أنه يريد التقريع ما صح عن ابن عمر من
تفضيل أبي هريرة على نفسه ، وتقدم بعض كلامه في ذلك ، ومنه الشاهد الآتي
الذي عده الطاعن تكذيبًا لأبي هريرة ، وهو عين التصديق والتعديل - وهو - :
( ثالثها ) ما نقله عن الإصابة -وهو الشاهد السابع- من أن رواية سمع من
أبي هريرة حديثًا لم يعجبه ... إلخ ما تقدم ، وقد حرف الطاعن الرواية . وهذا
نصها :
وروينا في فوائد المزكي تخريج الدارقطني من طريق عبد الواحد بن زياد عن
الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رفعه إذا صلى أحدكم ركعتي الفجر
فليضطجع على يمينه فقال مروان : أما يكفي أحدنا ممشاه إلى المسجد حتى
يضطجع على يمينه ؟ قال : لا . فبلغ ذلك ابن عمر فقال : أكثر أبو هريرة . فقيل
لابن عمر : هل تنكر شيئًا مما يقول ؟ قال : لا ولكنه اجترأ وجبنا اهـ بحروفه [2] .
وعبارة المبشر الطاعن توهم أن ما أورده هو نص ما في الإصابة ، ولعله
يريد بقوله في الحديث : ( لم يعجب مروان ) إيهام القارئ أن موضوع الحديث قبيح
أو منكر أدبًا ، ثم إنه فسر الجرأة التي وصف ابن عمر بها أبا هريرة بالتهجم
والتحدي ، وهذا من أكبر الجرأة على القول بغير علم ، فالتحدي معناه المباراة
والمعارضة ، ولا محل له هنا ، فالطاعن أثبت بهواه معنى غير صحيح ، ونفى
معنى صحيحًا ، وهو وصف ابن عمر نفسه بالجبن ، والمراد به كما تقدم في بيان
السبب الأول من أسباب كثرة حديث أبي هريرة ، أنه كان جريئًا على سؤال النبي
- صلى الله عليه وسلم - ، وكان أكثر الصحابة يهابون سؤاله ، فلا يكادون يسألونه
إلا لضرورة .
فهذا معنى قول ابن عمر : اجترأ وجبنا . وهو قد صرح هنا بأنه لا ينكر شيئًا
من قول أبي هريرة ، ولكن القسيس المبشر يريد أن يقنعنا مع هذا التصريح بأنه
أنكر كلامه وكذبه !! ، وقد فسر ابن الأثير ( اجترأ وجبُنا ) بقوله : يريد أنه أقدم
على الإكثار من الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وجبنا نحن عنه ،(1/142)
فكثر حديثه ، وقلَّ حديثنا اهـ .
هذا وإن هذا الحديث عن أبي هريرة مطعون في سنده ، فإن رواية عبد الواحد
بن زياد ليس ثقة فيما يرويه عن الأعمش عن أبي صالح كما صرح به الذهبيّ في
الميزان ، وذكر هذا الحديث من مناكيره عنه ، وأما جملة التحدّي التي كتبها
الطاعن بغير فهم ، فهي مصحفة عليه من أثر في الإصابة عن عبد الله بن عمر .
قال الراوي : كان ابن عمر إذا سمع أبا هريرة يتكلم قال : إنا نعرف ما تقول
ولكنا نجبن وتجترئ . أي : نجبن عن كثرة التحديث ، وتجترئ أنت عليه . فيكون
هذا بمعنى رواية عبد الواحد على الوجه الذي فسرها به ابن الأثير . ولكن كلمة
تجترئ صحفت في طبعة الهند للإصابة هكذا ( نحتزي ) ، ولعل الطاعن رآها في
طبعة مصر مصحفة أيضًا بفعل من التحدي ، أو ما يقرب منه ، وأنى له أن يعرف
الأصل ؟
وهذا يُثبت قولنا : إن هذا الطاعن يكتب ما لا يفهم ، وإنه لا ثقة بنقله ، ولا
بفهمه ، ومن الغريب أنه ترجى أن يكون هذا التفسير الباطل لتلك الكلمة المحرفة
من تلك الرواية المنكرة أصلاً للطعن في جميع الأحاديث ، لا لتكذيب أبي هريرة
وحده ، فقال : ( ولعل في هذا ما يميط لنا اللثام عن مصادر الأحاديث ، فإنه يدلنا
على عظم الاستسلام إلى رواة الأحاديث غير المدققين ، والأرجح أن عبد الله لم يكن
ليجسر على مقاومة أبي هريرة ، وإنما جاهر برأيه بلهجة الازدراء ) اهـ .
فليهنأ المسلمون بهذا الطاعن بشريعتهم بمثل هذا الخبط والخلط والتحريف
والدعاوي المضحكة ، ومن ذا الذي لا يضحك من ادعاء هذا المبشر أن عبد الله بن
عمر بن الخطاب أمير المؤمنين القرشي ما كان يجسر على تخطئة أبي هريرة
الدوسي الضعيف ؟ .
كان ينبغي لك أيها القس المحترم أن تلمَّ قبل تصديك لتشكيك المسلمين في
دينهم ، وتهجمك على الطعن بشريعتهم ، أن تلمَّ قليلاً بتاريخهم ، فإننا نرى عوام
نصارى بلادنا العربية ، يعلمون كخواصهم أن حرية النقد واستقلال الرأي عند(1/143)
الصحابة رضي الله عنهم قد بلغت أوج الكمال ، وأن أرقى الأوربيين حرية
كالإنكليز لم يبلغوا درجتهم في ذلك ، إنهم يعلمون أن أمير المؤمنين عمر بن
الخطاب الذي كانت تخشى بأسه ملوك الأرض ، وتهابه الإنس والجن كان يقول
الكلمة على المنبر في المسجد الجامع فتخطئه بها المرأة أو الأعرابي ، فيعترف
بخطئه إذا كان مخطئًا ، فهل يقال في هؤلاء: إن أعظمهم مكانة في العلم والشرف لا
يجسر أن يصرح برأيه في تخطئة أضعفهم ؟ على أنه كان يكفيك أن تفهم شاهدك
الآتي -وهو- :
( رابعها ) ما نقله عن الإصابة محرفًا ناقصًا كالذي قبله -وهو الشاهد
الثامن- ونحن ننقله بنصه ليقابله القراء بما نقله [3] ويروا درجة أمانته .
قال الحافظ : ( وأخرج ابن سعد من طريق الوليد بن رباح : سمعت أبا
هريرة يقول لمروان حين أرادوا أن يدفنوا الحسن عند جده: تدخل فيما لا يعنيك .-
وكان الأمير يومئذ غيره- ولكنك تريد رضا الغائب ، فغضب مروان ، وقال : إن
الناس يقولون : أكثر أبو هريرة الحديث ، وإنما قدِم قبل وفاة رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - بيسير . فقال أبو هريرة : قدمت ورسول الله - صلى الله عليه وسلم -
بخيبر ، وأنا يومئذ قد زدت على الثلاثين فأقمت معه حتى مات ، و ( كنت )
أدور معه في بيوت نسائه وأخدمه وأغزو معه وأحج ، فكنت أعلم الناس بحديثه ،
وقد - والله - سبقني قوم بصحبته فكانوا يعرفون لزومي له فيسألونني عن حديث
كان بالمدينة ، وكل من كانت له من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منزلة ،
ومن أخرجه من المدينة أن يساكنه . قال : فوالله ما زال مروان بعد ذلك كافًّا عنه ) .
فخلاصة هذه الرواية أن مروان بن الحكم غضب لإنكار أبي هريرة عليه أمرًا
كان لأهل بيته ( بني أمية ) فيه سياسة -والدولة دولتهم- فلم يجد كلمة يشفي بها
غيظه إلا قول بعض الناس : أكثر أبو هريرة ، فلما بين له أبو هريرة سبب إكثاره(1/144)
أذعن له ، ولم يعد إلى مثل ذلك ، أليس من العجائب أن يعمد هذا القس المبشِّر إلى
هذه الرواية فيحرِّفها ليستدل بها على كذب أبي هريرة أو تكذيب الناس له ، وما هي
إلا حكاية لشبهة الإكثار التي فندها أبو هريرة ، وأجبنا نحن عنها بما استنبطناه من
مجموع الروايات المبينة لأسبابها ، وهي سبعة ؟
وجواب أبي هريرة يدل على جرأته ، وعلى سعة حرية العرب حتى في عهد
معاوية أيضًا ، فإنه ذكر لمروان نفي النبي - صلى الله عليه وسلم - لوالده الحَكَم ،
وسيأتي بيان ذلك .
***
الجملة الرابعة من كلام الطاعن
شبهات أخرى في أبي هريرة
قال : ( 1- جاء في مجموعة الرسائل للغزالي في كتاب المؤمل للرد إلى
الأمر الأول صفحة 32 قوله : أقلد جميع الصحابة ، ولا أستجيز خلافهم برأيي إلا
ثلاثة نفر أنس بن مالك ، وأبو هريرة ، و سمرة بن جندب . . وأما أبو هريرة كان
يروي كلما سمع من غير أن يتأمل في المعنى ، ومن غير أن يعرف الناسخ من
المنسوخ ) .
( اقتبس كولدزير هذا القول في كتابه ( الظاهرية ) صفحة 79 ، ولكن بدون
إشارة إلى القيد المذكور ، فأبو حنيفة لم يَرْتَبْ في وثائق أبي هريرة ، ولكنه ارتاب
في قيمة أحاديثه باعتبارها أركانًا للشريعة ) .
(2- حلقة أبي حنيفة : على أن ارتياب أبي حنيفة ، وأتباعه في قبول كلام
أبي هريرة كان مبنيًّا على ارتيابهم في وثائقه ، فقد نقل الدميري في كتاب الحيوان ،
أنه وقع خلاف بين بضعة من رجال الإفتاء في جامع بغداد ، فأنكر الحنفيّون
الاستشهاد بأبي هريرة ؛ لاشتباههم في صدق روايته ، وكان الخليفة هارون الرشيد
في جانب الفريق المرتاب ) اهـ .
هذا ما قاله الطاعن بنصه على ما فيه من الغلط ، والتحريف والإيهام من
وجوه :
( منها ) أن مجموعة الرسائل ليست للغزالي ، وإنما هي رسائل لكثير ممن
قبله وبعده .
( ومنها ) أن كتاب المؤمل في الرد إلى الأمر الأول ليس للغزالي كما توهمه
عبارته .(1/145)
( ومنها ) أن قوله : ( أقلد جميع الصحابة ) ... إلخ منقول في كتاب المؤمل
عن أبي حنيفة , وظاهر عبارة الطاعن أنه للغزالي ؛ لأنه هو الذي سبق ذكره في
كلامه ؛ ولهذا يتعجب من يرى لاحق كلامه ، وذكره فيه لأبي حنيفة .
( ومنها ) أن الأصل ( يروي كل ما سمع ) لا ( كلما سمع ) كما كتب
الطاعن ، والفرق بينهما معروف لكل من له إلمام بالعربية .
( ومنها ) أنه أورد شبهة واحدة ؛ وإنما عقد العنوان لشبهات متعددة ، ولكنه
قسم هذه الشبهة إلى قسمين :
( أحدهما ) ادعاؤه أن أبا حنيفة لا يَحتجّ بالأحاديث التي يرويها أبو هريرة .
( والثانية ) أن أتباعه كذلك لا يحتجون بها .
ولعلنا لو راجعنا عبارة حياة الحيوان لاستخرجنا من نقله لها بالمعنى الذي
أراده أغلاطًا ، وتحريفات أخرى ، والغرض من هذا بيان ما قلناه أولاً من أنه لا
يوثق بنقله ، ولا بفهمه ، مع القطع بأنه يقصد الطعن لتشكيك المسلمين في الإسلام
لا تمحيص الحقيقة ، ولكن بعض خطئه مما لا يهتدي عاقل إلى تعليله ، كنسبته
كتاب المؤمل ، ومجموعة الرسائل إلى الغزالي !! .
أما الجواب عن هذه الشبهة فهي أن أبا حنيفة لم يطعن في رواية أبي هريرة
بهذه العبارة ولا بغيرها ، ولم يتهمه بالكذب ، وهذه العبارة التي فسرها الطاعن
بهواه لا بما تدل عليه في عرف الفقهاء لا تنهض حجة له ، فالتقليد عند علماء
الشرع هو العمل برأي المقلَّد ( بفتح اللام ) لا بروايته ، لا خلاف بين المذاهب في
هذا . فأبو حنيفة يقول في هذه الرواية عنه : إنه يقدم رأي الصحابي على رأيه -
أي : رأيه الذي يستنبطه من الكتاب أو السنة بالقياس - إلا رأي هؤلاء الثلاثة ،
وعلل ذلك بقوله : ( أما أنس فاختلط في آخر عمره ، وكان يفتي من عقله وأنا لا
أقلد عقله ، وأما أبو هريرة فكان يروي كل ما سمع من غير أن يتأمل في المعنى ،
ومن غير أن يعرف الناسخ والمنسوخ ) فقد صرح بأنه كان يروي ما سمعه ، وهذا(1/146)
ينفي اتهامه بأنه يكذب ، وصرح بأنه ما كان يقصد من الرواية استنباط الأحكام منها
بالتأمل في معاني الأحاديث ، والبحث عن الناسخ والمنسوخ منها ؛ ليقدم الأول عند
التعارض .
وحاصل ذلك أنه راوٍ غير مستنبط فيؤخذ بروايته لا برأيه وفهمه . وهذا
صحيح ، فإن أبا هريرة كان يقصد بحفظ الحديث أولاً روايته والاهتداء به بنفسه ،
وثانيًا نشر السنة وإيصالها إلى الناس ليهتدوا بها بحسب اجتهادهم عملاً بوصية
النبي - صلى الله عليه وسلم - ، المشهورة في خطبة حجة الوداع ؛ إذ قال ( ليبلغ
الشاهد الغائب ، فإن الشاهد عسى أن يبلغ من هو أوعى له منه ( وفي رواية : رُب
مبلَّغ أوعى من سامع ) وكلتاهما في البخاري وغيره . وفي معنى هذا الحديث ما
رواه الترمذي ، و الضياء من حديث زيد بن ثابت مرفوعًا ( نضَّر الله امرءًا سمع
منا حديثًا ، فحفظه حتى يبلغه غيره ، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ، ورب
حامل فقه ليس بفقيه ) .
والرواية الأخرى عن أبي حنيفة ، وهي الأشهر أنه قال : أقلد من كان من
القضاة المفتين من الصحابة كأبي بكر وعمر ، و عثمان و علي والعبادلة الثلاثة ،
ولا أستجيز خلافهم برأيي إلا ثلاثة نفر . -وذكرهم- والمراد بالعبادلة الثلاثة عبد
الله بن مسعود ، و عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر ، وقد ترك الطاعن نقل هذه
الرواية من كتاب المؤمل ؛ لأنها أظهر في المراد الذي بيناه ، وأبعد عن التحريف
الذي ادعاه .
وما زعمه من رد الحنفيّة للاستشهاد بحديث أبي هريرة ؛ لاشتباههم في صدق
روايته اعتمادًا على حكاية محرفة نسبها إلى حياة الحيوان ، فهو باطل ، وهذه كتب
الحنفيّة في الحديث والفقه ، تكذب هذه الدعوى ، وصاحب الدار أدرى ، ومذهب
السواد الأعظم من الفقهاء المجتهدين أن رأي الصحابة ليس بحجة في الشريعة سواء
كانوا فقهاء مستنبطين ، أو رواة ناقلين ، وإنما الحجة في الرواية إذا صحت .
***
خلاصة الطعن في أبي هريرة ، والأجوبة عنه(1/147)
ينحصر طعنه في أبي هريرة في ثلاثة أشياء :
1- استكثار بعض الصحابة لروايته ، وقد بيّنّا أسبابها المزيلة لاستغرابها .
2- توقع أبي هريرة لتكذيب بعض الناس له ، إذا هو صرح بكل ما سمعه .
وقد بينا أن هذا خاصّ بما سمعه من أخبار الفتن التي أسرّ إليه النبي - صلى
الله عليه وسلم - شيئًا كثيرًا منها ، ومثله في ذلك حُذيفة بن اليمان وقد ذكر كل
منهما بعض ما سمع تصريحًا أو تلويحًا ، فوقع كما قالا ، فكان من دلائل النبوة
التي لا تحتمل التأويل .
3- أن الحنفيّة لا يحتجون بروايته ، وأنهم يعتقدون أنه كان كاذبًا ، وهذه
دعوى باطلة تكذبها الألوف من كتب المذهب والملايين من أتباعها ، ويعارض هذه
الشبهات الباطلة إجماع أئمة الفقه ، ومنهم الأربعة المشهورون على الاحتجاج بما
صح عندهم من أحاديث أبي هريرة المرفوعة -وكذا المرسلة عند الجمهور- وثناء
كثير من الصحابة ومن بعدهم على سعة حفظه وجودة ضبطه ، وقد ذكرنا بعضها ،
ومن الغريب أن أبا هريرة أغضب مروان بن الحكم الأموي -الذي كان أمير المدينة ،
ثم صار أمير المؤمنين ، وعرّض أمامه تعريضًا يقرب من التصريح بأن عشيرته
هي التي تفسد على المسلمين أمرهم ، ولم يجد مروان كلمة يقولها فيه إلا حكاية قول
من قال : أكثر أبو هريرة . ولما جبهه بتذكيره بنفي النبي - صلى الله عليه وسلم -
لوالده ( الحكم ) من المدينة لم يعد إلى تلك الكلمة ولا غيرها ، ولو وجد فيه مطعنًا
لما قصر في التشنيع عليه به .
وقد ورد أن مروان امتحنه لعله يعثر عثرة يؤاخذه بها, قال الحافظ في
الإصابة : وقال أبو الزُّعيزعة كاتب مروان : أرسل مروان إلى أبي هريرة فجعل
يحدثه ، وكان أجلسني خلف السرير أكتب ما يحدث به ، حتى إذا كان في رأس
الحول أرسل إليه ، فسأله وأمرني أن أنظر فما غير حرفًا عن حرف ا هـ .
فيا ليت شِعري ، ماذا كان يقول هذا الطاعن لو نُقِلَ أن أبا هريرة غيَّر أو بدَّل(1/148)
أو زاد أو نقص في الأحاديث التي حدث بها مروان ؟ - وإذًا لعاقبه مروان وشهر
به حتى لا يقبل أحد حديثه- أو لو طعن في دينه وإيمانه غير مروان؟ بل ماذا يقول
هو وسائر دعاة النصرانية ، لو نقل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طرده كما
طرد المسيح - عليه السلام - بطرس وسماه شيطانًا ، وهو كبير تلاميذه ورسله ؟
ففي الفصل 16 من إنجيل متى أنه طوبه ، وجعله الصخرة التي يبني عليها كنيسته ،
وقال له : ( 19 وأعطيك مفاتيح ملكوت السموات ، فكل ما تربطه على الأرض
يكون مربوطًا في السماوات وكل ما تحله على الأرض يكون محلولاً في السماوات ) .
قال متى : ( 20 حينئذ أوصى تلاميذه أن لا يقولوا لأحد : إنه يسوع المسيح
21 من ذلك الوقت ابتدأ يسوع يظهر بتلاميذه ، أنه ينبغي أن يذهب إلى أورشليم
ويتألم كثيرًا من الشيوخ ، ورؤساء الكهنة والكتبة .
ويُقتل وفي اليوم الثالث يقوم 22 فأخذه بطرس إليه وابتدأ ينتهره قائلاً حاشاك
يا رب 22 فالتفت ، وقال لبطرس : اذهب عني يا شيطان ، أنت معثرة لي لا تهتم
بما لله ، لكن بما للناس .
فهذه الشهادة على بطرس ، وهذا اللقب كان على رواية متى بعد تلك المنحة
والخصوصية التي خصه بها ، فهل نسختها أم يجوز الجمع بينها ؟ ونحن نجل
حواريّ المسيح ، ولا نؤمن بهذه الرواية حتى نحتاج إلى الجواب عنها ، وفي متى
( 14 : 31 ) أن المسيح قال لبطرس أيضًا : ( يا قليل الإيمان ) وفي 17 : 20
وصف التلاميذ كلهم بعدم الإيمان ، وأنه ليس لهم منه ، ولا مثل حبة خردل . ومثل
هذه الشهادة متعددة في غيره من الأناجيل . حتى إن منها ما جاء بصيغة المستقبل
كقوله لهم بعدما رأوا آية إطعام خمسة آلاف من خمسة أرغفة:
( إنكم قد رأيتموني ولستم تؤمنون ) ، ( يوحنا 6 : 36 ) ، وكما وصفهم بعدم
الإيمان ، وصفهم بأنهم أشرار وروى ذلك لوقا في ( 11 : 13 ) من إنجيله .
ثم يا ليت شِعري ، لو وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا هريرة بمثل(1/149)
هذين الوصفين - أو لو وصف بذلك في كتاب الله المجيد - ماذا كان يقول فيه في
روايته هذا المبشِّر المحترم والقس الجدل الذي وضعته جمعيته في أشهر البلاد
الإسلامية بالعلم لينصر المسلمين فيها ؟
وهل يقبل منا أن نقول له : لماذا تقبل رواية تلاميذ المسيح بلا سند مع
وصف المسيح لهم بما ذكر وهو المعصوم من الخطإ ، ولا تسمح لنا بقبول رواية
أبي هريرة ، ولم يجرحه من دون المسيح بمثل ذلك ؟
( للرد بقية )
((يتبع بمقال تالٍ))
________________________
(1) هو جمع غلام ، ولم يقولوا غلمة مع كونه القياس استثناء عنه بغلمة كما في الفتح ، وفي رواية
أغيلمة تصغير غلمة والغلام الصبي من حين يولد إلى أن يحتلم قال الحافظ : وقد يطلق الصبي والغُلَيّم
بالتصغير على الضعيف العقل والتدبير والدين ، ولو كان محتلمًا ، وهو المراد هنا فإن الخلفاء من
بني أمية لم يكن فيهم من استخلف ، وهو دون البلوغ ، وكذا من أقروه على الأعمال اهـ المراد منه .
(2) يراجع نقل الطاعن لهذا الحديث وتحريفه في ص36 .
(3) يراجع نقل الطاعن لهذا في ص36 .
(( مجلة المنار ـ المجلد [ 19 ] الجزء [ 1 ] صـ 25 شعبان 1334 ـ يونيه 1916 ))
السنة وصحتها والشريعة ومتانتها
رد على دعاة النصرانية بمصر
( 2 )
( تتمة واستدراك - استنكار المتأخرين لبعض متون أبي هريرة )
قد علم مما تقدم أن أبا هريرة رضي الله تعالى عنه راوية ثقة عدل وأنه من
نوابغ البشر في الحفظ والضبط لما يحفظ وقوة الذكر ( الذاكرة ) وعلم أيضا أنه
انفرد بأحاديث كثيرة كان بعضها موضع الإنكار أو مظِنَّته لغرابة موضوعها
كأحاديث الفتن وإخبار النبي صلى الله عليه وسلم ببعض المغيبات التي تقع بعده ،
ويزاد على ذلك أن بعض تلك المتون غريب في نفسه ، ولو انفرد بمثله غير
صحابي لعُدّ من العلل التي يتثبت بها في روايته ، كما هو المعهود عند نقاد الحديث
أهل الجرح والتعديل ، ولذلك ترى الناس ما زالوا يتكلمون في بعض روايات أبي(1/150)
هريرة كما رأى القراء في دروس سنن الكائنات للدكتور محمد توفيق صدقي ، وأول
كلمة طرقت سمعي في ذلك كانت من تلميذ مسلم في مدرسة غير إسلامية ببلاد الشام ،
وكان ذلك في أوائل العهد بطلبي للعلم ، ومن عرف ترجمة أبي هريرة معرفةً تامةً
يجزم بعدالته وبراءته من الكذب على أحد من الناس ، بله الكذب على رسول الله
صلى الله عليه وسلم الذي روى هو وغيره عنه أنه قال : ( من كذب علي متعمدًا
فليتبوأ مقعده من النار ) وقد صرحوا بأن هذا الحديث متواتر .
ولعل قراء المنار يتذكرون ما علقته على كلام محمد توفيق صدقي في حديث
الذباب ، وتطرقه فيه إلى الارتياب في رواية أبي هريرة ، إذ بينت بالإيجاز أنه لا
مجال للطعن في أبي هريرة نفسه وأن حديث الذباب وأمثاله مما يستبعد أن يكون
مسموعًا من النبي صلى الله عليه وسلم لا يظهر علة نقلها عن أبي هريرة إلا إذا
أحصيت تلك الروايات ولا سيما ما انفرد به أبو هريرة منها ، ودقق النظر في
أسانيدها ومتونها ، وما يمكن طروؤه من الاحتمالات فيها ، وأمهات هذه الاحتمالات
أربعة :
أحدها : أن يكون في رجال السند إلى أبي هريرة من هو مجروح وإن صُحح .
ثانيها : أن يكون ذلك الحديث أو الأثر مرويًّا عنه بالمعنى ، وقد وقع الغلط
من أحد الرواة في فهمه فنقله كما فهمه .
ثالثها : أن يكون ما روي حديثًا رأيًا لأبي هريرة أو غيره ممن روى عنه
وعده بعض الرواة حديثًا لاجتهاده بأن مثله لا يقال بالرأي ، فما قاله العلماء من أن
قول الصحابي إذا كان لا يقال مثله بالرأي له حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه
وسلم لا يصح على إطلاقه ، والناس يتفاوتون في فهم ذلك ، فما يعده بعضهم منه لا
يعده الآخر منه .
رابعها : أن يكون رواه عن أهل الكتاب بالسماع ممن أسلم منهم ككعب
الأحبار أو رآه في كتبهم وهو مما لا مجال للرأي فيه فيعده من قَبيل المرفوع من
يأخذ ذلك القول قاعدة عامة ، وقد ثبت أن أبا هريرة روى عن كعب الأحبار وأن(1/151)
معاوية قال في كعب الأحبار : إنهم كانوا يبلون أي : يختبرون عليه الكذب ، وقد
تقدم ذلك في هذا المقال نقلاً عن البخاري ، وإنني كنت أسيء الظن في روايات
كعب الأحبار قبل أن أرى ما رواه البخاري عن معاوية فيه ، وكذا وهب بن منبه .
ثم إنني بعد كتابة ما تقدم وقبل طبعه رأيت في تفسير سورة النمل من تفسير
الحافظ ابن كثير بعد ذكر عدة روايات عن الصحابة في قصة ملكة سبأ مع سليمان
عليه السلام ما نصه :
والأقرب في مثل هذه السياقات أنها مُتلقاة عن أهل الكتاب مما وجد في
صحفهم كراويات كعب ووهب ، سامحهما الله تعالى فيما نقلاه إلى هذه الأمة من
أخبار بني إسرائيل من الأوابد والغرائب والعجائب مما كان ومما لم يكن ، ومما
حرف وبدل ونسخ ، وقد أغنانا الله عن ذلك بما هو أصح منه وأنفع وأوضح وأبلغ
ولله الحمد والمنة اهـ .
فجملة القول في هذه الأحاديث المشكلة إذا كانت مرفوعة إلى النبي صلى الله
عليه وسلم أو موقوفة على أحد رواة الصحابة رضي الله عنهم أبي هريرة أو غيره
أن يدقق النظر في أسانيدها أولاً ، فإذا كان في الاحتجاج ببعض رجالها مقال كُفينا
أمرها ، وكذا إذا كان فيها انقطاع أو إرسال ، وإلا نظرنا إلى غير ذلك من الوجوه
التي يكون بها المخرج كغلط الرواة بسبب النقل بالمعنى أو غيره من الأسباب ،
وأدهى الدواهي أن يكون الحديث مأخوذًا عن بعض أهل الكتاب بالقبول ولم يُعز
إليه ، ولا يغرنك قولهم : إن مراسيل الصحابة حُجة ، وإن الموقوف الذي لا مجال
للرأي فيه له حكم المرفوع ، فإذا ثبت أن أبا هريرة مثلاً كان يروي عن كعب
الأحبار وأن الكثير من أحاديثه مراسيل ، فالواجب أن يتروى في كل غريب لم
يصرح فيه بالسماع من النبي صلى الله عليه وسلم ، فإذا كان من الإسرائيليات أو ما
في معناها احتمل أن يكون قد رواه عن كعب وكان هذا الاحتمال علة مانعة من
ترجيح إسناد كلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، يوقع في الإشكال .(1/152)
لا يتسع هذا الموضع لتحرير هذا البحث بالتفصيل ، ولكنا نذكر أهل العلم
بحديث يرون فيه أكبر عبرة في هذا المقام وهو حديث الجساسة الذي حدث به تميم
الداريّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخرجه مسلم في صحيحه مرفوعًا من
طرق يخالف بعضها بعضًا في متنه ، فهذا الخلاف في المتن علته من بعض رواة
الصحيح ، ولا يظهر حمله على تعدد القصة ، ثم إن رواية الرسول صلى الله عليه
وسلم له عن تميم الداري إن سلم سندها من العلل هل تجعل الحديث ملحقًا بما حدث
به النبي صلى الله عليه وسلم من تلقاء نفسه فيجزم بصدق أصله ، قياسًا على
إجازته صلى الله عليه وسلم أو تقريره للعمل إذ يدل حله وجوازه ؟ الظاهر لنا أن
هذا القياس لا محل له هنا ، والنبي صلى الله عليه وسلم ما كان يعلم الغيب فهو
كسائر البشر يحمل كلام الناس على الصدق إذا لم تحف به شبهة ، وكثيرًا ما صدق
المنافقين والكفار في أحاديثهم ، وحديث العُرَنيين وأصحاب بئر معونة مما يدل على
ذلك ، وإنما كان يعرف كذب بعض الكاذبين بالوحي أو ببعض طرق الاختبار أو
إخبار الثقات ، ونحو ذلك من طرق العلم البشري ، وإنما يمتاز الأنبياء على غيرهم
بالوحي ، والعصمة من الكذب وما كان الوحي ينزل إلا في أمر الدين وما يتعلق
بدعوته وحفظه وحفظ من جاء به ، وتصديق الكاذب ليس كذبًا ، وحَسْبك أن تتأمل
في هذا الباب عتاب الله لرسوله إذ أذن لبعض المعتذرين من المنافقين في التخلف
عن غزوة تبوك وما علله به ، وهو قوله : ? عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ
لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الكَاذِبِينَ ? ( التوبة : 43 ) .
وإذا جاز على الأنبياء المرسلين أن يصدقوا الكاذب فيما لا يخل بأمر الدين
ولا يترتب عليه حكم شرعي ولا شيء ينافي منصب الرسالة ، أفلا يجوز على من
دونهم أن يصدقوا الكاذب في أي خبر لا تقوم القرينة على كذبه فيه ، ومن صدَّق(1/153)
شيئًا يجوز أن يحدِّث به من غير عَزْو إلى من سمعه منه ، ولكن هذا كان قليلاً في
الصدر الأول من الإسلام ، فقد ظل المسلمون عدة قرون ينقلون كل شيء بالرواية
وإن كان بيت شعر أو كلمة مُجون .
تنبيه مهم :
إن الأحاديث المشكلة الصحيحة الإسناد قليلة فما رواه أبو هريرة منها قليل من
قليل ، وما انفرد به منه أقل من ذلك القليل ، ولا يتوقف على شيء منها إثبات
أصل من أصول الدين ، والحمد لله رب العالمين .
***
الجملة الخامسة الخاتمة لكلام الطاعن
( استنتاجه من جملة دعاويه أن الشريعة لا قيمة لها في نفسها ولا في روايتها )
قال بعد سرد ما تقدم عن الشبهات على رواية أبي هريرة ما نصه :
هذا هو الرجل الذي وضع مع ابن عباس الشريعة ، ولكن ما هي قيمتها ؟ إن
السؤال مهم جدًّا ، ويطلب الجواب عليه من الثلاث مائة مليون سُنّي الموجودين في
العالم اهـ بحروفه .
اشتملت هذه الخاتمة على دعوى باطلة ، واستفهام إنكاري تهكمي ، ووجه هذا
السؤال فيها إلى ثلاث مئة مليون سني[1] أي إلى كل فرد من أفراد أهل السنة الذين
يسكنون في جميع الأقطار ، ويتكلمون بعشرات من اللغات ، ولماذا ؟ لأن السؤال
مهم جدًّا في نظر القسيس المبشر المتصدي هو وجمعيته لتنصير كل هؤلاء
المسلمين بعد عجزهم عن هذا السؤال المهم جدًّا ، بَخٍ بَخٍ .
***
الجواب عن الدعوى
هذه الدعوى ظاهرة البطلان عند المسلمين وعند من له أدنى إلمام بشريعتهم
وتاريخهم من النصارى وغيرهم ، سواء أراد بأساس الشريعة أصول أدلتها التي
تستنبط منها ، وهو الأقرب ، أو أصول مقاصدها وهي العقائد والأحكام والآداب ،
ونستغني عن بيان ذلك بما قلناه في مسألة أركان الشريعة الذي فندنا به القضية
الثالثة من قضايا الجملة الأولى من مقاله راجع ص 28 ج1 ثم نقول :
إن أبا هريرة وابن عباس ما وضعا أساس الشريعة ولا أركانها ، ولا أصولها ،
ولا فروعها ، وإنما رويا لنا كغيرهما من الصحابة الكرام الكثير الطيب من سنة(1/154)
الرسول ، وهي ثابتة الأسس والأصول .
وقد بينا أن البخاري خرَّج لأبي هريرة 446 حديثًا في صحيحه ، ونقول هنا :
إنه خرَّج فيه لابن عباس 217 حديثًا ، وهذا القدر من روايتهم للأصول
الموصولة من الأحاديث لم ينفردا به وإنما شاركهما في رواية الكثير منه غيرهما ،
ولو أحصينا ما انفرد بروايته أبو هريرة وحده من أحاديث الأحكام الشرعية لرأيناه
قليلاً جدًّا ، وعلمنا أنه لو لم يروه لما نقصت كتب الأحكام شيئًا كثيرًا ، وأن ما
عسى أن تنقصه يمكن أن يعرف حكمه من قواعد الشريعة الثابتة وأصولها القطعية ،
كقاعدة رفع الحرج والعسر ، وإثبات اليسر وترجيحه ، وقاعدة كون الأصل براءة
الذمة وكون الأصل في كل الخبائث والمضرات الحرمة ، وفي كل الطيبات الحِلّ ،
وكون الضرورات تبيح المحظورات ، وغير ذلك مما لا مجال لتفصيله في هذا الرد .
***
قيمة الشريعة الإسلامية
الجواب عن الاستفهام التهكمي
لا أرى شبهًا لسؤال القس الطاعن عن قيمة الشريعة الإسلامية إلا السؤال عن
الشمس وما فائدتها للدنيا ؟ وعن العافية ما فائدتها للناس ؟ وعن الماء والهواء ما
فائدتهما للنبات والحيوان ؟ سواء كان السؤال سؤال إنكار وتهكم أو سؤال استفهام ،
وإننا نجيب عن هذا السؤال بجواب مجمل وجيز ؛ لأن التفصيل لا يأتي إلا
بتصنيف كتاب كبير ، فنقول :
( 1 ) إن هذه الشريعة هي الشريعة الوحيدة التي ثبتت نبوة من جاء بها
بالبرهان العقلي العلمي الثابت الدائم ، وملخصه أنه رجل أميّ نشأ بين قوم أُمِّيين بلغ
الكهولة ولم يقرأ كتابًا ، ولم يكتب سطرًا ولا حرفًا ، ولا قال شعرًا ولا ارتجل
خُطبة، ولا رَأَسَ قبيلة ولا ساس قرية ، ولا انتحل كهانة ولا عَرافة ، ولا عرف
شيئًا من شرائع الأمم وأديانها ، ثم قام في سن الكهولة بدعوى النبوة ، وأيد دعواه
بكتاب اشتمل على أخبار الغيب الماضية والمستقبلة ، وسنن الله في الدين والمدنية ،(1/155)
وعلى أصح علوم العقائد الإلهية ، المؤيدة بالبراهين العقلية والعلمية ، وأصلح
علوم الأخلاق والفضائل النفسية والعبادات الجامعة بين المنافع الروحية
والجسدية ، وأعدل قواعد الشرائع السياسية والمدنية إلخ ، ثم إنه اجتث بهداية
هذا الكتاب جراثيم الوثنية ، وطهَّر الأمم من الخرافات التقليدية وأخلاق الجاهلية ،
فكان للناس بذلك دين كامل وشريعة عادلة وأمة مؤلفة من جميع الشعوب والقبائل ،
ودولة أحيت الحضارة وامتدت من المشرق إلى المغرب في جيل واحد .
فكان مثل محمد النبي الأمِّيّ صلى الله عليه وسلم كمثل رجل جاء بلدًا مصابًا
بالأوبئة المجتاحة والأمراض المعضلة ، وادَّعى أنه طبيب وأيد دعواه بكتاب في
الطب والعلاج طهَّر به ذلك البلد كلها من الأمراض والأوبئة ، فأصبح أهله متمتعين
بكمال الصحة والعافية .
فكما يجزم كل عاقل بأنه يستحيل على غير الكامل في علم الطب أن يؤلف كتابًا
في الطب يزيل بالعمل به الأوبئة ويشفي المرضى ، كذلك يستحيل بالأولى أن
يقدر رجل أمي على الإتيان بأخبار الغيب وعلوم الدين والشرائع والآداب فيصلح
بها أديان أمم كثيرة وآدابها وأخلاقها وأحكامها وسياستها ، إلا أن يكون نبيًا مؤيدًا
بوحي الله وعنايته العليا ، بل يستحيل صدور مثل هذه العلوم والأعمال من واحد
أو من جماعة تعلموا جميع علوم البشر وعلوم الأديان في أعلى مدارس هذا العصر
الجامعة ، دع إعجاز القرآن ببلاغته وأسلوبه وسائر معجزات النبي صلى الله عليه
وسلم .
( 2 ) إن هذه الشريعة هي الشريعة الوحيدة الجامعة بين هداية الدين الإلهي
الحق ، وبين ثمرات عقول العلماء المجتهدين ، الواقفين على مصالح البشر وما
يقوم به العدل بينهم ، وما سواها فإما ديني محض لا مجال فيه لعقل ولا رأي ، وإما
وضعي ناقص لا يحترم في السر كما يحترم في الجهر .
( 3 ) إن هذه الشريعة هي الشريعة الوحيدة التي تواتر كتابها تواترًا حقيقيًّا ،(1/156)
ورويت سنتها رواية متصلة الإسناد ، ودُوِّنَ تاريخ رواتها تدوينًا مبنيًّا على ركني
النقد والتمحيص ، الذي يميَّز به بين الصحيح وغير الصحيح .
( 4 ) إن هذه الشريعة هي الشريعة الوحيدة التي حررت البشر وأعتقتهم من
رق رؤساء الدين ، الذي أرهق الغابرين ، فلم تجعل لأحد سيطرة روحية على أحد ،
فليس فيها كهنة ولا قسيسون يمتازون بمناصبهم الدينية على غيرهم ، أو تتوقف
إقامة شيء من أمر الدين عليهم ، وإنما خوطب البشر بها على سواء فهم يتفاضلون
فيها بعلومهم وأعمالهم الكسبية ، لا بمناصبهم الموروثة ولا أنسابهم الشريفة .
( 5 ) إن هذه الشريعة هي الشريعة الوحيدة التي أعتقت البشر من رق
الملوك المستبدين الذين انتحلو لأنفسهم حق الحكم بمحض الهوى والإرادة ، وحق
وضع الشرائع والقوانين بالذات أو بالنيابة ، وحق الامتياز في الحقوق الشرعية
على غيرهم من أفراد الأمة ، فجعلت أمر الأمة شورى بين أهل الحَلّ والعقد ، ومن
أهل العلم والرأي ، الذي يولون عليها من يرونه أصلح لتنفيذ شريعتها ، ولم تجعل
للخلفاء أو السلاطين امتيازًا على أحد من الفقراء والصعاليك ، لا في حكم من
الأحكام المدنية ، ولا في عقوبة من العقوبات الجزائية ، وقد وافقتها بعض الأمم في
بعض هذه الأصول أو اقتبستها منها ، بعد أن ترك المتغلبون على المسلمين إقامتها ،
ولكن لم يبلغ أحد شأوها إلى هذا اليوم ، وإنما صار بعضهم أقرب إليها ممن يسمون
أنفسهم أهلها .
( 6 ) هذه الشريعة هي الشريعة الوحيدة التي ساوت بين أهلها المؤمنين بها ،
وبين الكافرين بها إذا تحاكموا إليها ، سواء كانوا من أهل ذمتها ، أو من الأجانب
المعاهِدين لحكومتها ، أو الحربيِّين الداخلين في أمان أحد من أهلها فلا فرق بين
أحكامها القضائية بين أبناء الرسول وأمراء المؤمنين ، وبين أضعف أهل الكتاب
الوثنيين ، ونحن نرى أرقى الإفرنج وأشهرهم بالعدل يميزون أنفسهم على غيرهم ،(1/157)
فلا يرون المصري والهندي مساويًا للإنكليزي ، ولا الآسيوي مساويًا للأمريكي .
( 7 ) إن هذه الشريعة هي الشريعة الوحيدة التي رفعت شأن النساء
وأعطتهن حقوق الاستقلال التام في التصرف بأموالهن ، وساوت بينهن وبين
أزواجهن في جميع الحقوق بالمعروف ، إلا رياسة المنزل وزعامة الأسرة ، وإن
كلمة وجيزة من كلمات القرآن الحكيم في ذلك لأبلغ من كثير من الأسفار التي ألفت
في المطالبة بحقوق النساء أو ما يسمونه تحرير المرأة ، ألا وهي قوله عز وجل :
? وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ? ( البقرة : 228 )
وهذه الدرجة التي أعطيت للرجل بحق ، وهي رياسة البيت ؛ لأنه أقدر على الكسب
والحماية ، والمطالَب بجميع النفقة ، تشبه الرياسة العامة فيما شرع فيها من الشورى
كما يدل عليه قوله عز وجل في مسألة إرضاع الولد وفطامه : ? فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً
عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا ? ( البقرة : 233 ) وقد اهتدى كثير من
الأمم ببعض هدي هذه الشريعة في هذه المزيَّة ولم يبلغ أحد منها شأوها ، ولكن
أهلها قصروا في إقامتها ، حتى صاروا حجة عليها عند من يجهلها .
( 8 ) هذه الشريعة هي الشريعة الوحيدة التي وضعت للحرب نظامًا حُرِّم فيه
العدوان والتمثيل والتخريب ، وقتل من لا يقاتل من النساء والشيوخ والأطفال
والمنقطعين للعبادة ، فجعلتها ضرورة تتقدر بقدرها ، وأمرت بالجنوح للسلم إن جنح
العدو لها ، وقد بين المنار فضلها في ذلك على قوانين أوربة وفضل أهلها في
حروبهم على الأوربيين في مقالة نشرت في مجلد السنة الماضية ، وقد أنصفنا أحد
حكماء الإفرنج بقوله : ( ما عرف التاريخ فاتحًا أعدل ولا أرحم من العرب ) .
فأين منها شريعة التوراة التي بين أيدي اليهود والنصارى وهي التي أوجبت
في الفصل العشرين من سفر تثنية الاشتراع استعباد جميع أفراد الشعب المسالم الذي(1/158)
يختار الصلح على الحرب ، وقتل جميع ذكور الشعب الذي يحارب عند الظفر به
وجعل جميع نسائه وأطفاله وما يملكه غنائم ، هذا إذا كان من المدن البعيدة جدًّا عن
شعب التوراة التي لا يسهل عليه سكناها ، وأما الشعوب القريبة التي يسهل عليه
امتلاك بلادهم فهذا نصها فيهم : ( 16 وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب
إلهك نصيبك فلا تَسْتبق منها نسمة ما ) .
( 9 ) هذه هي الشريعة الوحيدة التي فرضت على الأغنياء نصيبًا معلومًا مما
يزيد من أموالهم عن نفقاتهم يصرف لإعانة الفقراء والمساكين العاجزين عن كسب
ما يكفيهم ، ولمساعدة الغارمين على ما يحملون من الغرامات للإصلاح بين الناس ،
ولأبناء السبيل الذين يسيحون في الأرض فتنفد نفقاتهم قبل عودتهم إلى أوطانهم ،
ولغير ذلك من المصالح العامة ، ولو أقام المسلمون في هذا العصر هذا الركن كما
كان يقيمه سلفهم الصالح لما وجد فيهم فقير مهين ، ولكانت حالهم الاجتماعية أفضل
من حال أرقى الأمم ، ولكان السائحون لاكتشاف مجاهل الأرض وخَرْت بقاعها
والاعتبار بأحوال الأمم فيها أكثر من سائحي غيرهم من الأمم ، إذ حثهم الله في
كتابه العزيز على السياحة النافعة بمثل قوله في سورة الحج : ? أفَلَمْ يَسِيرُوا فِي
الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا? ( الحج : 46 ) وقوله
في سورة المؤمن : ? أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن
قَبْلِهِمْ ? ( غافر : 82 ) وقوله في سورة آل عمران : ? قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ
فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا ? ( آل عمران : 137 ) إلخ .
( 10 ) إن الشريعة هي خاتمة الشرائع الإلهية ، وحكمة ذلك أن الله تعالى قد
أكمل بها الدين الحق ، فجعلها جامعة بين مصالح الروح والجسد ، ومنح الأمة حق
الاجتهاد واستنباط الأحكام ، بما وهب لها من فضيلة الاستقلال ، بعد أن أعد لذلك(1/159)
بسنة الارتقاء ، وبهذين كانت موافقة لمصالح البشر في كل زمان ومكان ، خلافًا لما
يجنيه عليها الصديق الجاهل ، وما يتجناه عليها العدو العاقل ، وقد بينا هذه المسألة
في التفسير وفتاوى المنار ومقالاته مرارًا ، كمقالات المصلح والمقلد ، والفتاوى
الباريزية ، وتفسير : ? أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ ?
( النساء : 59 ) وتفسير : ? اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ? ( المائدة : 3 ) وتفسير :
? لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ? ( المائدة : 101 ) وطالما فندنا شبهات
المنكرين لذلك .
فهذه بعض مميزات هذه الشريعة التي يعرف قيمتها المنصفون من غير أهلها ،
فإن أمكن لهذا المجادل فيها أن يشكك أهلها فيها بما زعمه من ارتياب بعض الناس
في رواية أبي هريرة رضي الله عنه أو بغير ذلك من الدعاوي ( ولن يمكن ) فلا
يجني من ذلك إلا انصراف ثلاث مئة مليون سني ربما يتبعهم زهاء ثلاثين مليونًا
من الشيعة وسائر الطوائف الإسلامية عن الإيمان بأن المسيح عليه السلام رسول الله
المعصوم وكلمته التي ألقاها إلى مريم الطاهرة البَتُول ، إلى مثل اعتقاد ملاحدة
الأوربيين من الإنكليز وغيرهم كمؤلف كتاب ( نشوء فكرة الله ) ومؤلف كتاب
( أضرار تعليم التوراة والإنجيل ) ، وغيرهم من الماديين الذين يطعنون فيه وفي أمه
الطاهرة ، ويزعمون أن آداب إنجيله مفسدة للبشر ؛ لأنه تعلم الناس الذل بالخضوع
لكل سلطة وإن كانت أجنبية جائرة ، وإدارة الخدين لكل من يريد صفعهما ، وتدفعهم
إلى الفقر بتحريم الادخار والاهتمام بالمستقبل وحرمان الأغنياء من ملكوت السماء .
لو كان الشك في الشريعة الإسلامية يفضي إلى تنصر الشاكّ فيها حتمًا لكان
للطاعن المشكك فيها ، وهو داعية لدينه عذر ظاهر في التشكيك ، ولكن لا تلازم
بين الأمرين ، بل علمنا بالتجارب والاختبار أن أكثر الذين يمرقون من الإسلام(1/160)
يكونون ملاحدة معطلين ، وأن الأفراد القلائل من المسلمين الذين دخلوا في
النصرانية لا يكاد يوجد واحد منهم كان مسلمًا حقًّا ثم صار نصرانيًّا ظاهرًا وباطنًا ،
بل هم في الغالب من العوام الفقراء ، الكسالى الذين يظهرون النصرانية للمبشرين
لأجل أن يطعموهم ، وهم على جهلهم بحقيقة الإسلام لا يفضل أحد منهم تقاليد
النصرانية على ما عرف من تقاليد قومه ، وقلما يفتح لأحد منهم باب للرزق عند
المسلمين إلا ويفر إليه مفضلاً له على الارتزاق بالنفاق ، وطالما سعوا إلى ذلك
وطرقوا له الأبواب كلما فتح لأحد منهم باب منها تاب وأناب ، فأين هؤلاء الغوغاء ،
ممن يدخلون في الإسلام من كبراء الإنكليز وفضلائهم وغيرهم من نصارى
الغرب والشرق كاللورد هدلي .
قال حكيمنا السيد جمال الدين الأفغاني : إن المسلم لا يمكن أن يصير مسيحيًّا
وعلل ذلك بقوله : لأن الإسلام مسيحية وزيادة ، أي يتضمن الإيمان بالمسيح
صلى الله عليه وسلم وبما جاء به بالإجمال ، والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم
وبما جاء به بالتفصيل ، وعللناه نحن بأن دين الله واحد في أصوله من التوحيد
والإخلاص والفضيلة ، إلا أنه سار كسائر الشئون المتعلقة بالبشر على سنة النشوء
والارتقاء فكان كماله في آخره ? اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي
وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً ? ( المائدة : 3 ) فالمسلم ينظر إلى ملة كل من نوح
وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام كما ينظر الإنكليزي إلى
القوانين التي كان عليها قومه في القرن السادس عشر والسابع عشر ، إلى القرن
العشرين ، ولكنه لا يترك ما ارتقى إليه من القوانين المناسبة لحال زمنه هذا إلى ما
ارتقى عنه من قوانين القرون الخالية ، ولا يَعُدّ نفسه بما ارتقى إليه قد خرج عن
كونه إنكليزيا ، وكذلك المسلم يؤمن بجميع الأنبياء وبحقية أديانهم وشرائعهم(1/161)
ومناسبتها لأزمانهم وبأن الشريعة المحمدية كانت هي الخاتمة المتممة المكملة
الناسخة ، والمسلمون يعظمون جميع الرسل ? لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ?
( البقرة : 285 ) ولكنهم يتبعون الأخير منهم .
وإننا نرى المبشرين يحاولون إقناع المسلمين بدلالة القرآن على تفضيل
عيسى على محمد عليهما الصلاة والسلام ، ولو تم لهم هذا لما أفادهم شيئًا ، فإن
المسلمين لا يفرقون بين الرسل من حيث إنهم رسل ، وإنما فضل الله بعضهم على
بعض بكثرة المزايا ودرجة انتفاع البشر برسالتهم ، وقد فَضَلَهم خاتمهم محمد صلى
الله عليه وآله وسلم بعموم بعثته وإكمال الدين المطلق بما جاء به وكثرة من اهتدى
به ، ونعتقد أن عيسى لم يبعث إلا إلى خراف بني إسرائيل الضالة كما قال عن
نفسه ( مت15 : 24 ) ولو فرضنا أن عيسى أفضل بما امتاز به في خلقه
وخصائصه لما كان ذلك موجبا لترك الثابت عندنا من شريعة محمد صلى الله عليه
وسلم العامة المكملة الخاتمة الناسخة لما قبلها إلى ما لم يثبت عندنا من شريعته
الخاصة المنسوخة ، وعلماء الأصول منا يفضلون إبراهيم على موسى وعيسى
صلى الله عليه وسلم ، ولكنهم لا يقولون : إنه كان يجب على بني إسرائيل
ترك شريعة التوراة إلى ما خلافها من شريعته كما أن من يفضل محمد علي باشا
الكبير على أحفاده بخصائصه الفطرية لا يرى ذلك موجبًا لترك قوانينهم إلى
قوانينه، على أن القاعدة عندنا أنه قد يوجد في المفضول من المزايا ما لا يوجد
في الفاضل كما يفضل بعض أحفاد محمد عليّ جدَّهم بالعلم وبعض الأخلاق
والأعمال .
الحق أقول لكم أيها المبشرون المحترمون إن مجادلاتكم وطريقتكم في دعوة
المسلمين إلى دينكم قد جاءت إلى اليوم بضد ما تريدون وتريد جمعياتكم ، فهي تزيد
المسلمين استمساكًا بدينهم وبعدًا عن دينكم ، وأكبر ضررها الديني في المسلمين أنها
حملت كثيرًا منهم على ضد ما يجب عليهم شرعًا من حب سيدنا عيسى وأمه(1/162)
وحواريه والثناء عليهم بما أثنى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ، فإن كثيرًا
من العوامّ صاروا يعتقدون مما يسمعون منكم ويقرءون أو يُقرأ عليهم من كلامكم
ضد ما يقرره الإسلام من كون الرسل إخوة يجب الإيمان بهم وحبهم جميعا ، بل
أرى هذا التأثير قد دب إلى خواص المتعلمين على الطريقة الإفرنجية حتى
المشهورين منهم بالتساهل الديني .
ومن العجيب أن واحدًا من كبار هؤلاء علمًا ورتبة صرح أمامي بأنكم بغضتم
إليه المسيح ، فقلت له : لا ينبغي لمثل سعادتك أن يسترسل مع وجدانه إلى هذا الحد ،
ولا يخفى عنك أن بغض المسيح عليه السلام كفر ، فقال : إن هذا قد ثبت في
نفسه ولا يستطيع دفعه .
أيها المبشرون المحترمون إنكم تريدون تشكيك الناس في الشريعة بالطعن في
عدالة أبي هريرة ، وقد علمتم أن الطعن في أبي هريرة لو كان صادقًا ما حط من
قدر هذه الشريعة شيئًا فكيف وهو باطل ، ولو لم يُخلق أبو هريرة لما نقصت
الشريعة شيئًا ، ولكن كثيرًا من المسلمين المتعلمين على المنهج الإفرنجي يرون أن
أكبر الشبهات على الإسلام ، ما أثنى القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم به على
المسيح وأمه عليهما السلام ، حتى إنني قلت منذ سنين : إن أقوى الحُجج للمسيح
شهادة القرآن له ، وأقوى الشبهات على القرآن شهادته للمسيح ، فهل رأيتم قول
القرآن فيه : ? إِنَّمَا المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ
وَرُوحٌ مِّنْهُ ? ( النساء : 171 ) قليلاً حتى طمعتم بإقناع المسلمين بأن يقولوا كلمة
أكبر من ذلك ، ورأيتم قوله فيه : ? وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القُدُسِ? ( البقرة : 87 ) قليلاً
أيضًا فطمعتم بأن نقول فيه كما تقولون , وإن لم نفعل ذلك ولم يقم عليه برهان
مبين .
أيها المبشرون الغيورون إنكم تعلمتم أن اشتغال الناس بالفلسفة المادية والمدنية
المادية قد فَتن كثيرًا من المسلمين بملاحدة الأوربيين الماديين الذين مرقوا من(1/163)
النصرانية وطعنوا فيها أشد الطعن لأن تعاليم الأناجيل أشد التعاليم وأقساها على
الماديين إذ هي روحانية محضة ، وأما الإسلام فهو دين وسط ، جامع بين حقوق
الروح وحقوق الجسد ، فلا تؤثر فيه دعوة النصرانية ؛ لأنه كما تقدم مسيحيةٌ وزيادةٌ
وإنما يخشى على الجاهلين بحقيقته من تيار المادية ، وحرية الشهوة الحيوانية ،
فمدارسكم الإفرنجية الدينية منها وغير الدينية ، هي التي تكفل لكم التشكيك في
الإسلام ، لا الطعن في أبي هريرة ، ولا ابن عباس ، فتعالوا نتعاون على مجاهدة
هذه التعاليم المادية ، التي كانت آفتها شديدة على الإسلامية ولكنها على النصرانية
أشد ، ودليل ذلك أنها لم تمنع كثيرًا من المتعلمين الباحثين من ترك النصرانية إلى
الإسلام ، وأن الملاحدة منا أقل من الملاحدة منكم .
ما رأيت كلامًا لأحد من الأوربيين المستشرقين في الإسلام والمسلمين بني
على الخبرة والمعرفة ككلام الدكتور سنوك الهولندي ، وقد بيّن في خطبته التي
ألقاها منذ سنين في مدرسة كليفورنية الجامعة في الولايات المتحدة أن القضاء على
الإسلام الديني بالتبشير المسيحي محال ، وأن المسلمين لن يكونوا نصارى أبدًا ،
وإن طريقة اللاتينيين في بث التعليم المادي في المسلمين ، أفعل في زلزال الإسلام
من طريقة البروتستانت في بث دعوة الدين ، واعتبروا مع هذا ما ترونه من
تفضيل أكثر المسلمين للإنكليز والأمريكان على اللاتين .
أنا لا أخاف على المسلمين من مجلاتكم ولا من كتبكم ورسائلكم ، إنما أخاف
على المسلمين من الفلسفة المادية والمدنية الشهوانية ، ومن منافقيهم وعباد الشهوات
منهم ، فهم الذين يجنون على دينهم ودنياهم ، وإنما أوصيكم بأن تتجنبوا فيما تقولون
في مجامعكم التبشيرية ، وما تطبعون في رسائلكم وصحفكم الدورية ، كل ما يثير
العصبية ويخدش المودة الوطنية : ? لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ(1/164)
لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ
جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ? ( المائدة : 48 ) ? قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ
فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً ? ( الإسراء : 84 ) .
________________________
(1) قد اشتهر منذ عشرات من السنين أن المسلمين ثلاث مئة مليون وأول أوربي اشتهر عنه هذا
القول عاهل ألمانية غليوم الثاني ، والظاهر أن أهل السنة وحدهم صاروا يبلغون هذا العدد كما قالت
مجلة الشرق والغرب ، وثم عشرات الملايين من الشيعة وغيرهم .
(( مجلة المنار ـ المجلد [ 19 ] الجزء [ 2 ] صـ 97 رمضان 1334 ـ يوليو 1916 ))
فوائد شتى [*]
بسم الله الرحمن الرحيم
العمل بالحديث الصحيح
قال السِّندي في حواشيه على فتح القدير من كتب الحنفية : الحديث حجة في
نفسه ، واحتمال النسخ لا يضر فإن من سمع الحديث الصحيح فعمل به ، وهو
منسوخ فهو معذور إلى أن يبلغه الناسخ ، ولا يقال لمن سمع الحديث الصحيح : لا
يَعمل به حتى يعرضه على رأي فلان وفلان ، فإنما يقال له : انظر هل هو منسوخ
أم لا ؟ . أما إذا كان الحديث قد اختلِفَ في نسخه ، فالعامل به في غاية العذر ، فإن
تطرُّق الاحتمال إلى خطإ المفتي أقوى من تطرق الاحتمال إلى نسخ ما سمعه من
الحديث . قال ابن عبد البر : يجب على من بلغه شيء أن يستعمله على عمومه
حتى يثبت عنده ما يخصصه أو ينسخه ، وأيضًا فإن المنسوخ من السنة في غاية
القلة حتى عده بعضهم أحدًا وعشرين حديثًا ، وإذا كان العامي يسوغ له الأخذ بقول
المفتي ، بل يجب عليه مع احتمال خطإ المفتي فكيف لا يسوغ له الأخذ بالحديث إذا
فهم معناه وإن احتمل النسخ ؟
ولو كانت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يسوغ العمل بها بعد(1/165)
صحتها حتى يعمل بها فلان ، لكان قولهم شرطًا في العمل بها ، وهذا من أبطل
الباطل .
وقد أقام الله - تعالى - الحجة برسوله - صلى الله عليه وسلم - دون آحاد
الأمة ، ولا يعرض احتمال الخطإ لمن عمل بالحديث ، وأفتى به بعد فهمه إلا
وأضعاف أضعافه حاصل لمن أفتى بتقليد من لا يُعلم خطؤه من صوابه ، ويجري
عليه التناقض والاختلال ، ويقول القول ويرجع عنه ، ويحكى عنه في المسألة عدة
أقوال .
وهذا كله فيمن له نوع أهلية ، أما إذا لم يكن له أهلية ففرضه ما قال الله -
تعالى - : ? فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ? ( النحل : 43 ) وإذا جاز
اعتماد المستفتي على ما يكتبه له المفتي من كلامه أو كلام شيخه ، وإن علا فَلأَنْ
يجوز اعتماد الرجل على ما كتبه الثقات من كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
أولى بالجواز ، ولو قُدِّر أنه لم يفهم الحديث فكما لو لم يفهم فتوى المفتي يسأل
من يعرفها ، فكذلك الحديث . انتهى كلام السندي ملخصًا ، وقد أطال من هذا النفس
العالي - رحمه الله تعالى ورضي عنه - .
***
الفقه في الدين والاجتهاد
قال الإمام تقي الدين ابن دقيق العيد من أئمة الشافعية في خطبة ( شرح الإلمام )
كما نقله عنه السبكي في طبقاته في ترجمته : إن الفقه في الدين منزلة لا يخفى
شرفها وعُلاها ، ولا تحتجب عن العقول طوالعها وأضواؤها ، وأرفعها بعد فهم
كتاب الله المنزَّل ، البحث عن معاني حديث نبيه المرسل ؛ إذ بذاك تثبت القواعد
ويستقر الأساس ، وعنه يقوم الإجماع ويصدر القياس ، لكن شرط ذلك عندنا أن
يحفظ هذا النظام ، ويجعل الرأي هو المأموم والنص هو الإمام ، وترد المذاهب إليه ،
وترد الآراء المنتشرة حتى تقف بين يديه .
وأما أن يُجعل الفرع أصلاً ، ويرد النص إليه بالتكلف والتحيّل ، ويحمل على أبعد
المحامل بلطافة الوهم وسعة التخيل . ويرتكب في تقرير الآراء الصعب والذّلول ،(1/166)
ويحتمل من التأويلات ما تنفر منه النفوس وتستنكره العقول ، فذلك عندنا من أردأ
مذهب وأسوأ طريقة ، ولا نعتقد أنه يحصل معه النصيحة للدين على الحقيقة ،
وكيف يقع أمر مع رجحان منافيه ؟ وأنَّى يصح الوزن بميزان مال أحد الجانبين فيه ؟
ومتى يُنصف حاكم ملَكَته غضبة الصبية ؟ وأين يقع الحق من خاطر أخذته العزة
بالحمية ؟ .. . إلخ ( الفتوى في الإسلام صحيفة 44 ) .
***
السؤال عما لم يقع
قال الحافظ البيهقي : وقد كره بعض السلف للعوام المسألة عما لم يكن ، ولم
يمض به كتاب ولا سنة ، وكرهوا للمسئول الاجتهاد فيه قبل أن يقع ؛ لأن الاجتهاد
إنما أُبيح للضرورة ، ولا ضرورة قبل الواقعة ، وقد يتغير اجتهاده عند الواقعة فلا
يغنيهم ما مضى من الاجتهاد ، واحتج في ذلك بما روي عن النبي - صلى الله عليه
وسلم - ( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ) انتهى ( الفتوى في الإسلام
صحيفة 45 ) .
***
معنى حديث : ( إن الله خلق آدم على صورته )
سئل أحمد بن عطاء أبو عبد الله الروزبادي المتوفى سنة 369 قال الحافظ
ابن عساكر : وفي مروياته أحاديث وهم فيها وغلط غلطًا فاحشًا عن قول النبي -
صلى الله عليه وسلم - ( إن الله خلق آدم على صورته ) فقال : إن الله جل ثناؤه
خلق الخلق مرتبة بعد مرتبة ، ونقله من حال إلى حال كما قال : ? وَلَقَدْ خَلَقْنَا
الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ? ( المؤمنون : 12-
13 ) - إلى قوله- ? فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ ? ( المؤمنون : 14 ) وخلق آدم
ليس على هذه الأحوال ، وإنما خلق صورته كما هي ، ثم نفخ فيه من روحه ؛
فلأجله قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( إن الله خلق آدم على صورته )
اهـ مختصر تاريخ ابن عساكر جزء صحيفة 394 ) .
***
نشوء علم الفلسفة
قال الإمام الذهبي في تذكرة الحفاظ في آخر الكلام على الطبقة السادسة من(1/167)
طبقاتهم : وكان في زمان هؤلاء خلائق من أئمة الحديث ومن أئمة المقرئين كوَرْش
واليزيدي والكسائي وإسماعيل بن عبيد الله المكي القسط ، وخلق من الفقهاء كفقيه
العراق محمد بن القاسم ، وخلق من مشايخ القوم كشقيق البلخي وصالح المري
الواعظ والفضيل والدولة لهارون الرشيد والبرامكة ثم بعدهم اضطربت الأمور ،
وضعف أمر الدولة بخلافة الأمين - رحمه الله - فلما قتل واستخلف المأمون على
رأس المائتين نجم التشيع وأبدى صفحته ، وبَزَغ فجر الكلام ، وعُرِّبت حكمة
الأوائل ومنطق اليونان ، وعمل رصد الكواكب ، ونشأ للناس علم جديد مُرْدٍ مُهلك
لا يلائم عِلم النبوة ولا يوافق توحيد المؤمنين ، قد كانت الأمة منه في عافية .
وقويت شوكة الرافضة والمعتزلة وحمل المأمون المسلمين على القول بخلق
القرآن ودعاهم إليه فامتحن العلماء ، فلا حول ولا قوة إلا بالله ؛ إن من البلاء أن
تعرف ما كنت تُنكر وتُنكر ما كنت تعرف ، وتقدم عقول الفلاسفة ، ويعزل منقول
أتباع الرسل ، ويُمارى في القرآن ، ويتبرم بالسنن والآثار ، وتقع في الحيرة ،
فالفرارَ الفرارَ قبل حلول الدمار ، وإياك ومضلات الأهواء ومجاراة العقول ،
? وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم ? ( آل عمران : 101 ) ( تذكرة
الحفاظ جزء 1 ص 300 ) .
***
كتاب المهذب للذهبي
وجدت بدار الكتب المصرية كتاب ( المهذب ) للذهبي بخطه ، وعلى ظهر
المجلد الأول ما نصه بخطه - رحمه الله تعالى - : ( المجلد الأول من كتاب
المهذب في اختصار السنن الكبير ، تأليف الإمام الحافظ أبي بكر أحمد بن الحسين
بن علي البيهقي - رحمه الله تعالى - اختصار كاتبه محمد بن أحمد بن عثمان
بن الذهبي غفر الله له ) وتحت ذلك بخطه - رضي الله عنه - أيضًا ما نصه :
قال ابن الذهبي : لم أختصر من أحاديث الكتاب شيئًا بل اختصرت الأسانيد ،
فإن بها طال الكتاب ، وبقيت من السند ما يُعرف به مخرج الحديث ، وما حذفت من(1/168)
السند إلا ما قد صح إلى المذكور ، فأما متونه فأتيت بها إلا في مواضع قليلة جدًّا من
المكرر ، قد أحذفها إذا قرب الباب من الباب ، وآتي ببعض المتن ، وقد تكلمت على
كثير من الأسانيد بحسب اجتهادي ، والله الموفق .
وقد رمزت على الحديث بمن خرجه من الأئمة الستة ( خ م د ت س ق) ولم
أتمم هذا ، فإن فَسَحَ الله في الأجل طالعت عليه الأطراف لشيخنا أبي الحجاج الحافظ
إن شاء الله - تعالى - ، وهذا أمر بيِّنٌ هيِّن ، كل من هو محدث فإنه يقدر على
رمز أحاديث الكتاب من الأطراف ، وما خرج عن الكتب الستة فقد بينت لك إسناده
ومخرجه ، فاكشف عليه ، إن شئت من كُتب الجرح والتعديل ، فالرجال ثلاثة ، إما
موثَّق مقبول ، وإما مضعَّف غير حُجَّة ، وإما مجهول ، لكن كل قسم من الثلاثة
على مراتب في القوة واللِّين والجهالة ، انتهى . والنسخة نفيسة جدًّا ، كلها بخطه
خمسة مجلدات تنقص الثاني ، والموجود منها أربعة ، وفق الله لنا من يطبعه ،
وينشره آمين .
***
كتاب الجمع بين الصحيحين
وجدت بدار كتب رواق الأروام بالأزهر جزءًا من الجمع بين الصحيحين
للحميدي وهو السادس ، وقد أحببت نقل خاتمته لما فيها من النفائس ، قال - رحمه
الله تعالى - :
( تم جميع الكتاب بحمد الله وعونه ، نسأل الله - تعالى - أن يجعله خالصًا
لوجهه ، إنه ولي التوفيق ، وهو على كل شيء قدير ، وهو حسبي ونِعم الوكيل ،
ثم قال عقب ذلك :
( وهذه الأصول تتصل بآخر ما في الصحيحين من مسند الصحابة - رضي
الله عنهم - وهو آخر ما قصدنا إليه من الجمع بين الصحيحين ، وتمييز ما اتفقا
عليه من المتون المخرَّجة فيهما ، وما انفرد به أحدهما منها مستقصًى على شرطنا
مرتبًا على ما بدأناه به وبيناه مع الاختصار المعِين على سرعة الحفظ والتذكار ، ولم
يبق للباحث المجتهد إلا النظر فيها والتفقه في معانيها ، ومراعاة حفظها وإقامة
الحُجّة بها ، فإلى هذا قصد المتقدمون من أئمة الدين في حفظ إسنادها للمتأخرين ؛(1/169)
لتكون حاكمة بين المختلفين وشواهد صدق للمتناظرين - رضي الله عنهم أجمعين
ووفق التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين - .
فأما إسنادنا في هذين الكتابين فقد روينا كتاب الإمام أبي عبد الله البخاري
بالمغرب من غير واحد من شيوخنا بأسانيد مختلفة تتصل بأبي عبد الله محمد بن
يوسف بن مطر الفربري عن البخاري ، ثم قرأته بمكة - أعزها الله - على المرأة
الصالحة كريمة بنت أحمد بن محمد بن حاتم المروزي غير مرة لعلو إسنادها فيه ،
كأنا قرأناه على أبي ذر عبد بن أحمد الهروي عن أبي الهيثم بن المكي بن محمد بن
زراع الكُشميهني عن أبي عبد الله محمد بن يوسف بن مطر بن صالح بن بشير بن
إبراهيم الفربري عن أبي عبد الله محمد بن الفرج بن عبد المولى الأنصاري ، وهو
روايته عن أبي العباس أحمد بن الحسن الحافظ الرازي ، سمعه منه بمكة سنة ست
وأربعمائة .
قال : ثنا أبو أحمد محمد بن عيسى بن عمرويه بن منصور الجلودي قال :
أنا الفقيه أبو إسحق إبراهيم بن محمد بن سفيان النيسابوري ، قال: سمعته من الإمام
أبي الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري - رضي الله عنه - .
***
فصل
( وقد استشرف بعض الطالبين إلى معرفة الأسباب الموجبة للاختلاف بين
الأئمة الماضين - رضي الله عنهم أجمعين - مع إجماعهم على الأصل المتفق
المستبين ، حتى احتيج إلى تكلف التصحيح في طلب الصحيح ، وقرَّبت على هذا
الطالب معرفة بعض العُذر في اختلاف المتأخرين لبُعدهم عن المشاهدة ، وإنما تعذر
عليه معرفة الوجه في اختلاف الصحابة - رضوان الله عليهم - مع مشاهدتهم نزول
التنزيل وأحكام الرسول - صلى الله عليه وسلم - وحرصهم على الحضور لديه ،
والكون بين يديه ، والأخذ عنه والاقتباس منه ، وهذا الذي وقع لهذا الطالب الباحث
قد وقع لمن قبله الخوض فيه والبحث عنه .
وخرّج في هذا المعنى بعض الأئمة من علماء الأمة فصلاً رأينا إثباته ههنا(1/170)
( كذا ) [1] هذا الشبه عن هذا الطالب الباحث وغيره ممن يخفى ذلك عليه ويتطلع
إلى معرفة الوجه فيه ، وبهذا الفصل يتصور ( كذا ) لك كل [2] صورة وقوع ذلك
منهم وكيفية اتفاقه لهم ، حتى كأنه شاهده معهم ) .
وهذا أول الفصل المخرّج في ذلك أوردناه بلفظ مصنفه -رحمة الله عليه-
( قال لنا الفقيه الحافظ أبو محمد بن علي بن أحمد بن سعيد اليزيدي الفارسي
-رضي الله عنه- في بيان أصل الاختلاف الشرعي وأسبابه ) .
***
سبب القول والفتيا بما يخالف القرآن أو السنة
( تطلعت النفس بعد تيقُّنها أن الأصل المتَّفق عليه المرجوع إليه أصل واحد
لا يختلف وهو ما جاء عن صاحب الشرع - صلى الله عليه وسلم - إما في القرآن ،
وإما من فعله أو قوله ، الذي لا ينطق عن الهوى فيه ، لما رأت وشاهدت من
اختلاف علماء الأمة في ما سبيله واحدة وأصله غير مختلف فبحثت عن السبب
الموجب للاختلاف ، ولترك من ترك كثيرًا مما صح من السنن ، فوضح لها بعد
التفتيش والبحث أن كل واحد من العلماء ينسى كما ينسى البشر ، وقد يحفظ الرجل
الحديث ولا يحضره ذكره حتى يفتي بخلافه وقد يَعرِض هذا في آي القرآن .
( ألا ترى أن عمر - رضي الله عنه - أمَر على المِنبر ألا يُزاد في مهور
النساء على عدد ذكره مَيلاً إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يزد على ذلك
العدد في مهور نسائه حتى ذكرته امرأة من جانب المسجد بقول الله - عز وجل - :
? وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً ? ( النساء : 20 ) فترك قوله ، وقال : كل أحد أعلم منك
حتى النساء .
وفي رواية أخرى : امرأة أصابت ورجل أخطأ . علمًا منه - رضي الله عنه
- بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن كان لم يزد في مهور النساء فإنه لم يمنع
مما سواه والآية أعم ، وكذلك أمر - رضي الله عنه - برجم امرأة ولدت لستة أشهر
فذكَّره علي قول الله - تعالى - ? وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً ? ( الأحقاف :(1/171)
15 ) مع قوله - تعالى - ? وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ ? ( البقرة :
233 ) فرجع عن الأمر برجمها ، وهم أن يسطو بعيينة بن حصن إذ جفا عليه حتى
ذكره الحُر بن قيس بقول الله - عز وجل - ? وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ ?
( الأعراف : 199 ) فأمسك عمر . وقال - رضي الله عنه - يوم مات رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - : والله ما مات رسول الله ولا يموت حتى يكون آخرنا حتى
قُرئت عليه ? إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ ? ( الزمر : 30 ) فرجع عن ذلك ، وقد كان
علم الآية ، ولكنه نسيها لعظيم الخطب الوارد عليه ، فهذا وجه عمدته [3] ( كذا )
الخلاف للآية أو للسنة بنسيان لا بقصد .
وقد يذكر العامل الآية أو السنة لكن يتأول فيها تأويلاً من خصوص أو نسخ
أو معنًى ما ، وإن كان كل ذلك يحتاج إلى دليل ، ولا شك أن الصحابة - رضي الله
عنهم - كانوا بالمدينة حوله - عليه السلام - مجتمعين ، وكانوا ذوي معايش ،
يطلبونها ، وفي ضَنْك من القوت فمن متحرف في الأسواق ومن قائم على نخله ،
ويحضره - عليه السلام- في كل وقت منهم طائفة إذا وجدوا أدنى مما هم بسبيله ،
وقد نص على ذلك أبو هريرة - رضي الله عنه - فقال : إن إخواني من المهاجرين
كان يشغلهم الصَّفْق بالأسواق ، وإن إخواني من الأنصار كان يشغلهم القيام على
نخلهم وكنت امرءًا مسكينًا أصحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ملء
بطني .
وقد قال عمر - رضي الله عنه - : ألهاني الصفق في الأسواق في حديث
استئذان أبي موسى ، فكان - عليه السلام - يُسأل عن المسألة ويحكم بالحكم ،
ويأمر بالشيء ويفعل الشيء ، فيحفظه من حضره ويغيب عن من غاب عنه ، فلما
مات - عليه السلام - وولي أبو بكر - رضي الله - عنه كان إذا جاءت القضية
ليس عنده فيها نص ، سأل من بحضرته من الصحابة فيها ، فإن وجد عندهم نصًا
رجع إليه ، وإلا اجتهد في الحكم فيها ، ووجه اجتهاده واجتهاد غيره منهم - رضي(1/172)
الله عنهم - رجوع إلى نص عامّ أو إلى أصل إباحة متقدمة أو إلى نوع من هذا
يرجع إلى أصله .
ولا يجوز أن يظن أحد أن اجتهاد أحد منهم هو أن يشرع شريعة باجتهاده ،
أو يخترع حُكمًا لا أصل له ، حاشَ لهم من ذلك ، فلما ولي عمر - رضي الله عنه -
فُتحت الأمصار وتفرق الصحابة في الأقطار ، فكانت الحكومة تنزل بمكة أو
بغيرها من البلاد ، فإن كان عند الصحابة الحاضرين لها نص حُكِمَ به ، وإلا
اجتهدوا في ذاك ، وقد يكون في تلك القضية نص موجود عند صاحب آخر في بلد
آخر- وقد حضر المدني ما لم يحضر المصري ، وحضر المصري ما لم يحضر
الشامي ، وحضر الشامي ما لم يحضر البصري ، وحضر البصري ما لم يحضر
الكوفي ، وحضر الكوفي ما لم يحضر المدني .
كل هذا موجود في الآثار وتقتضيه الحالة التي ذكرنا من مغيب بعضهم عن
مجلسه -عليه السلام- في بعض الأوقات وحضور غيره ثم مغيب الذي حضر
وحضور الذي غاب ، فيدري كل واحد منهم ما حضره ويفوته ما غاب عنه ، وقد
كان علم التيمم عند عمار وغيره ، وغاب عن عمر ، وابن مسعود حتى قالا : لا
يتيمم الجُنُب ولو لم يجد الماء شهرين ، وكان حكم المسح على الخفين عند علي
وحذيفة ولم تعلمه عائشة ولا ابن عمر ولا أبو هريرة على أنهم مدنيون ، وكان
توريث بنت الابن مع البنت عند ابن مسعود ، وغاب عن أبي موسى ، وكان حكم
الاستئذان عند أبي موسى وأُبيّ وغاب عن عمر ، وكان حكم الإذن للحائض في أن
تنفر قبل أن تطوف عند ابن عباس وأم سلمة ولم يعلمه عمر وزيد بن ثابت ،
وكان حكم تحريم المُتعة والحُمُر الأهلية عند علي وغيره ، ولم يعلمه ابن عباس ،
وكان حكم الصرف عند عمر وأبي سعيد وغيرهما ، وغاب ذلك عن طلحة وابن
عباس وابن عمر ، وكذلك حكم إجلاء أهل الذمة من بلاد العرب كان عند ابن عباس
وعمر فنسيه عمر سنين فتركهم حتى ذكر بذلك فذكره فأجلاهم ، ومثل هذا كثير .
فمضى الصحابة - رضي الله عنهم - على هذا .(1/173)
ثم خَلَفَ بعدهم التابعون الآخذون عنهم ، وكل طبقة من التابعين في البلاد التي
ذكرنا ، فإنما تفقَّهوا مع من كان عندهم من الصحابة ، فكانوا لا يتعدَّون فتاويهم ، لا
تقليدًا ولكن لأنهم أخذوا وروَوْا عنهم ، إلا اليسير مما بلغهم عن غير مَن كان في
بلادهم من الصحابة - رضي الله عنهم - ، كاتِّباع أهل المدينة في الأكثر فتاوى ابن
عمر ، واتِّباع أهل مكة فتاوى ابن عباس ، واتِّباع أهل الكوفة في الأكثر فتاوى ابن
مسعود ، ثم أتى من بعد التابعين فقهاء الأمصار كأبي حنيفة وسُفيان ، وابن أبي
ليلى بالكوفة وابن جُريج بمكة ، ومالك وابن الماجِشون بالمدينة ، وعثمان البَتِّي
وسوَّار بالبصرة والأوزاعي بالشام والليث بمصر فجرَوْا على تلك الطريقة ، من
أخذ كل واحد من التابعين من أهل بلده وتابعوهم عن الصحابة - رضوان الله
عليهم - في ما كان عندهم ، وفي اجتهادهم فيما ليس عندهم ، وهو موجود عند
غيرهم ولا يكلِّف الله نفسًا إلا وُسعها .
وكل من ذكرنا مأجور على ما أصاب فيه أجرين ومأجور فيما خفي عليه ،
ولم يبلغه أجرًا واحدًا . قال الله - تعالى - ? لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ ? ( الأنعام :
19 ) .
وقد يبلُغ الرجل ممن ذكرنا نصان ظاهرهما التعارض ، فيميل إلى أحدهما
بضرب من الترجيحات ، ويميل غيره إلى النص الذي ترك الآخر بضرب من
الترجيحات أيضًا ، كما رُوي عن عثمان في الجمع بين الأختين : أحلَّتهما آية
وحرَّمتهما آية . وكما مَالَ ابن عمر إلى تحريم نساء أهل الكتاب جملةً بقوله -
تعالى -? وَلاَ تَنكِحُوا المُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ ? ( البقرة : 221 ) وقال : لا أعلم
شِركًا أعظم من قول المرأة : إن عيسى ربُّها . وغلب ذلك على الإباحة المنصوصة
في الآية الأخرى ، ومثل هذا كثير .
فعلى هذه الوجوه ترك بعض العلماء ما تركوا من الحديث ومن الآيات ،
وعلى هذه الوجوه خالفهم نظراؤهم لأخذ هؤلاء ما ترك أولئك ، وأخذ أولئك ما ترك(1/174)
هؤلاء ، لا قصدًا إلى خلاف النصوص ، ولا تركًا لطاعتها كذا ، ولكن لأحد الأعذار
التي ذكرنا ، إما من نسيان ، وإما أنها لم تبلغهم ، وإما لتأويل ما ، وإما لأخذ بخبرٍ
ضعيفٍ ، لم يَعلم الآخذ به ضعف رواته وعلمه غيره ، فأخذ بخبرٍ آخر أصحَّ منه أو
بظاهر آية .
وقد يشتبه بعضهم في النصوص الواردة إلى معنى ، ويلوح له حكم بدليل ما
ويغيب كذا غيره ، ثم كثرت الرِّحل إلى الآفاق ، وتداخل الناس وانتدبت أقوام لجمع
حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - وضمه وتقييده ، ووصل من البلاد البعيد إلى
من لم يكن عنده ، وقامت الحُجة على من بلَغه شيء منه ، وجمعت الأحاديث المبينة
لصحة أحد التأويلات المتأولة في الحديث ، وعرف الصحيح من السقيم ، وزيف
الاجتهاد المؤدي إلى خلاف كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإلى ترك
عمله ، وسقط العُذر عمن خالف ما بلغه من السُّنن ببلوغها إليه ، وقيام الحُجة بها
عليه ، فلم يبق إلا العِناد والتقليد .
وعلى هذه الطريقة كان الصحابة - رضوان الله عليهم - وكثير من التابعين
يرحلون في طلب الحديث الأيامَ الكثيرةَ طلبًا للسُّنن والتزامًا لها ، وقد رحل أبو
أيوب من المدينة إلى مصر في طلب حديث واحد إلى عقبة بن عامر ، وقد رحل
علقمة والأسْوَد إلى عائشة وعمر ، ورحل علقمة إلى أبي الدرداء بالشام ، وكتب
معاوية إلى المغيرة اكتب إليّ بما سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم -
ومثل هذا كثير .
( قال أبو عبد الله ) : فقد بيَّنَّا - والحمد لله - وجه من ترك بعض الحديث ،
والسبب الموجب للاختلاف ، وشفينا النفس مما اعترض فيها ، ورفعنا الإشكال عنها ،
والله - عز وجل - المعين على البحث والهادي إلى الرشد بمنِّه .
وبهذا البيان كشف به هذا الإمام في هذا الفصل صورة الحال في أسباب
الاختلاف الواقع بين الصحابة فمن دونهم ، صح للأئمة المتقدمين - رضي الله عنهم(1/175)
أجمعين - وجوب طلب التصحيح للنصوص الواردة في شرائع الدين ، لتقوم الحُجة
بما صح منها على المختلفين ، وقد قام الكل منهم في ذلك بما قدر عليه ، وانتهت
استطاعته إليه ، إلى أن انفرد بالمَزِيَّة في الاجتهاد ، والرحلة إلى البلاد ، في جمع
هذا النوع من الإسناد ، بعد التَّتبُّع والانتقاد ، الإمامان أبو عبد الله البخاري وأبو
الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري - رضي الله عنهما - ، فحازا قَصَب السَّبْق
فيه في وقتهما ، ولفَرْط عنايتهما وبلوغهما غاية السعي والتشمير فيه قويت هممهما
في الإقدام على تسمية كتابيهما بالصحيح ، وعلم الله - عز وجل - صِدق نيتهما فيه
ومشقة قيامهما به وحُسن انتقادهما له ، فبارك لهما فيه ورزقهما القبول شرقًا
وغربًا ، وصرف القلوب إلى التعويل عليهما والتفضيل لهما ، والاقتداء في شروط
الصحيح بهما ، وتلك عادة الله فيمن أحبه ، أن يضع له القبول في الأرض كما جاء
في الخبر الصادق عن المبعوث الحق - صلى الله عليه وسلم - ، فهنيئًا لهما ،
ولمن اهتدى في ذلك بهُداهما ، والواجب علينا وعلى من فهم الإسلام ، وعرف قدْر
ما حَفِظَا من الشرائع والأحكام ، أن يخلِص الدعاء [4] لهما ، ولسائر الأئمة الناقلين
إليهما وإلينا قواعد هذا الدين ، وشواهد أحكام المسلمين . ونحن نبتهل إلى الله -
تعالى - في تعجيل الغُفران لهما ولهم ، وتجديد الرحمة والرضوان عليهما وعليهم ،
وأن يبوئ الكل منهم في أعلى درجات الكرامات ، من غُرُفات الجنات ، وأن يوفقنا
أجمعين للاقتداء بهم ، والسلوك في سبيلهم ، والدعاء إليه وإلى رسوله ، والانقياد
لمحكمات تنزيله ، والتفقه في دينه ، والإخلاص في عبادته ، والانقطاع إليه ،
وصِدْق التوكل عليه ، حتى يتوفانا مسلِمين مسلَّمين ، غير مبدِّلين ولا مغيِّرين ، وأن
يغفر لنا ولآبائنا ولجميع المسلمين .
تم الجزء السادس وبتمامه تم الكتاب . والحمد لله وحده وصلواته على سيدنا(1/176)
محمد نبيه ، وآله وصحبه وسلامه . وافق الفراغ من نسخه لخمس ليالٍ بَقِين من ذي
القَعدة سنة ثلاث وعشرين وستمائة .
________________________
(*) من جمع الشيخ أحمد شاكر بن محمد شاكر والحواشي والعناوين من وضع صالح رضا .
(1) ربما سقط من الأصل كلمة هي ( لإزالة ) أو ما في معناها وأن ( هذا ) محرَّف عن هذه .
(2) لعل كلمة ( كل ) زائدة من النُّسَّاخ .
(3) ربما كان الأصل ( فهذا وجه ما عمدته الخلاف ) إلخ .
(4) في نسخة الأصل ( للدعاء ).
(( مجلة المنار ـ المجلد [ 19 ] الجزء [ 5 ] صـ 266 ذو الحجة 1334 ـ أكتوبر 1916 ))
فتاوى المنار
8- الاحتجاج بأحاديث الآحاد في العقائد
وتحقيق معنى الظن واليقين والتواتر [*]
قال المتكلمون : إن العقائد لا تثبت بأخبار الآحاد ؛ لأن المطلوب فيها القطع
وأخبار الآحاد لا تفيد إلا الظن ، وقد قال تعالى : ? إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الحَقِّ
شَيْئاً ? ( يونس : 36 ) وإنما تثبت بالأحاديث المتواترة ؛ لأنها هي التي تفيد اليقين
الذي هو شرط الإيمان . وقد فهم كثير من الناس من هذا القول ما لم يرده المحققون
من قائليه فأخطأوا في فهم المراد وفي فهم كلمتي الظن واليقين ، فظنوا أن الأحاديث
الصحيحة التي رواها الآحاد من الثقات العدول في صفات البارئ -عز وجل- وفي
أمور الآخرة لا يجب الإيمان بها شرعًا ولا يضر المسلم تكذيبها ، وإن لم يكن عنده
شك في صحتها ، وبناء على أن أحاديث الآحاد لا تفيد في نفسها إلا الظن الذي لا
يجوز الأخذ به في العقائد ؛ لأنه لا يغني من الحق شيئًا . وهذا الظن الذي فهموه من
عبارة المتكلمين هو الذي لا يغني من الحق شيئًا وما أظن أن مسلمًا يُعتد بعلمه يقول
به ، ولعل أول من قال تلك الكلمة أراد بها أن أحاديث الآحاد لا تقوم بها الحجة في
العقائد على المنكر لورودها ، وإنما تقوم بالتواتر ؛ لأنه لا سبيل إلى إنكاره .
الظن ضرب من ضروب التصديق بغير الحسي ولا الضروري من المدركات(1/177)
فهو مما تتفاوت أفراده بالقوة والضعف ، فمنه ما يكون يقينًا لا تردد فيه ، ومنه ما
يكون راجحًا مع ملاحظة مقابل مرجوح تارة ومع عدمها تارة ، وقيل : إنه يشمل
المرجوح أيضًا . فالتصديق المبني على الأدلة النظرية الذي يجزم به المستدل مع
عدم ملاحظة احتمال النقيض يسمى ظنًّا ، ولكن إدراك الحواس لا يسمى هنا ، ولا
العلم الضروري كقولنا : النقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان . وهذا الحد الذي شرحنا
به معنى الظن هو تفسير لقول الأزهري في التهذيب : الظن يقين وشك . وقول
ابن سيده في المحكم : هو شك ويقين إلا أنه ليس بيقين عيان إنما هو يقين تدبر ،
فأما يقين العيان فلا يقال فيه إلا علم . هذا قول أئمة اللغة .
وأما قول الفيروزبادي في القاموس : الظن : التردد الراجح بين طرفي
الاعتقاد غير الجازم- فهو مأخوذ عن اصطلاح علماء المعقول كالمناطقة والفلاسفة
ومثله قول المناوي : الظن الاعتقاد الراجح مع احتمال النقيض ولكن الفيروزبادي
لم يسعه إلا أن يزيد على تعريفه قوله : وقد يوضع موضع العلم : بمعنى أنه
يستعمل في اللغة بمعنى اليقين . فإن أراد أنه يوضع موضع العلم حتى في الحسيات
والضررويات فقوله غير صحيح . واليقين العلم وإزاحة الشك وتحقيق الأمر ،
وهو نقيض الشك ، والعلم نقيض الجهل . قاله في لسان العرب . ثم قال :
وربما عبروا بالظن عن اليقين وباليقين عن الظن .
وقال الراغب : الظن : اسم لما يحصل عن أمارة ومتى قويت أدت إلى العلم ،
ومتى ضعفت جدًّا لم يتجاوز حد الوهم . ثم ذكر أن من اليقين قوله تعالى : ? وَظَنَّ
أَنَّهُ الفِرَاقُ ? ( القيامة : 28 ) وقوله تعالى : ? أَلاَ يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ *
لِيَوْمٍ عَظِيمٍ ? ( المطففين : 4-5 ) وقوله : ? وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا ?
( يونس : 24 ) وقوله : ? وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ ? ( ص : 24 ) وإنما يظهر هذا(1/178)
في اليقين اللغوي وهو الاعتقاد الجازم المبني على الأمارات والاستنباط
والاستصحاب دون الحس والضرورة - لا اليقين المنطقي المبني على الضرورة أو
الحس أو ما يؤدي إليهما بحيث لا يحتمل النقيض . وقد فسر الراغب اليقين بقوله :
هو سكون الفهم مع ثبات الحكم . وقال : إنه من صفة العلم فوق المعرفة والدراية .
فعلم من قولهم أن اليقين في الأصل هو الاعتقاد الثابت الذي لا شك فيه ولا
اضطراب . وأما قولهم بالتعبير به عن الظن والعكس فليس معناه أن كل يقين ظن
يقين وإنما معناه أن الظن على مراتب منها ما يرادف اليقين ، ومنها ما هو دونه ،
فبينهما العموم والخصوص بإطلاق ، والمشهور في تعريف اليقين عند علماء الدين
أنه الاعتقاد الجازم المطابق . واشتراط المطابقة للواقع اصطلاحي خاص باليقين في
الإيمان الصحيح ، ولعل المطابقة تشترط في العلم فيسمى الجازم بغير الواقع مؤقنًا
به لا عالمًا .
إذا فقهت هذا فاعلم أن كل اعتقاد يستفاد من السماع يطلق عليه في اللغة اسم
الظن باعتبار مأخذ لذاته ، واسم اليقين إن جزم صاحبه به ، وكذا اسم العلم أن
مدلوله حق ، ولكن نفس السماع ، أي : إدراك الأصوات المحقق لا يسمى ظنَّا بل
علمًا . وخبر التواتر إنما يفيد العلم القطعي بضرب من الاستدلال النظري ، وإن
اعتمدوا أنه يفيد الضروري فإن من شروطه أن يخبر كل واحد من المخبرين
الكثيرين عن حسي ، أي : عما سمعه بأذنه أو رآه بعينه مثلاً ، وأن يقوم الدليل أو
القرائن على أنهم لم يتواطؤوا على الكذب ، وأن يتحقق ذلك في كل طبقة من
الطبقات . وقد اختلف العلماء في العدد الذي يحصل بخبره التواتر مع توفر الشروط
التي ذكروها . فاكتفى بعضهم بالآحاد كسبعة وعشرة ، واشترط بعضهم العشرات .
ولكنهم اتفقوا على أن آيته حصول العلم الجازم بمدلول الخبر . ومثل هذا العلم
كثيرًا ما يحصل بخبر الواحد وإن لم يكن متصفًا بالصفات التي اشترطها المحدثون(1/179)
في راوي الحديث الصحيح كالعدالة والضبط وعدم مخالفة الثقات المشهورين فضلاً
عن مخالفة الأمور القطعية التي عدوا مخالفتها علامة الكذب ووضع الحديث .
مثال هذا النوع من خبر الواحد الذي يحصل به الاعتقاد الجازم وإن لم يكن
المخبر به متصفًا بعدالة رواة الحديث أكثر ما نسمعه كل يوم ممن نعاشر ونخالط من
أصدقائنا ومعاملتنا وأهل بيوتنا وخدمنا من الإخبار عن أمور معيشتنا كقولهم :
حضر الطعام وهيئ الحمام وجاء للزيارة فلان . ومن هذا القبيل كل خبر لا مجال
للتهمة فيه . وأما إخبارهم فيما يتهمون فيه فهي التي يُرتاب فيها ، ويحتاج إلى
القرائن والأدلة في تمييز راجحها من مرجوحها ، مثال ذلك مدح النفس والدفاع عنها
والطعن في الخصوم ، ورواية الغرائب والعجائب ، فالأخبار في مثال هذه المسائل
يكثر فيها الكذب والخلط ، إما بالعمد أو بعدم الضبط أو بسوء الفهم والاستنباط ، أو
بضعف البيان ، أو بتقليد الآباء أو الأموات ، وما يتبع ذلك من الوهم ، ومن خطأ
الحس والرأي .
فمن وعى ما ذكرنا وتدبره يعلم منه ما يعلم من نفسه إذا هو فكر في مصادر
علمه ، والأخبار التي يحدث بها والتي يتلقاها عن غيره ، وهو الأصل في إخبار
جميع الناس الصدق ، وأن الكذب إنما يقع لأسباب عارضة ، وأنه هو وسائر الناس
يصدقون في كل يوم كثيرًا من أخبار الآحاد حتى غير العدول وتصديقًا جازمًا لا
يزاحمه شك ولا احتمال ، ولا يخطر لهم فيها النقيض على بال ، ومنها ما يجزمون
باستحالة وقوع نقيضه عادة وإن جاز عقلاً ، كبعض أخبار العدول الثقات الضابطين
الخالية من الشبهات ، ورجال الحكومة المسئولين في الرسميات .
بل أقول : إن من هذه الأخبار ما يجزم العقل بصدقه وامتناع نقيضه ، وأعني
بالعقل هنا العقل البشري الذي يبني حكمه على الاختيار ، ويزنه بميزان رعاية
المصالح ودفع المضار ، لا عقل واضعي المنطق والفلسفة ، الذي يجيز وقوع كل(1/180)
ما يمكن تصوره ، ويحصر وقوع المحال في اجتماع النقيضين أو ارتفاعهما وما
يؤدي إلى مثل ذلك حتمًا .
وقد تحير هؤلاء في تعريف العلم حتى قال بعضهم : إنه لا يمكن تعريفه .
ومن أشهر أقوال مدققي متكلمينا في ملكة العلم : إنها صفة توجب انكشافًا لا يحتمل
النقيض . فالعلم بالشيء عندهم لا يمكن نقضه ولا الرجوع عنه ، فلو كان هذا العلم
شرطًا في كل مسألة من مسائل العقائد لكان الكفر بعد الإيمان محالاً ، ولكن قد ثبت
وقوع الكفر بعد الإيمان بنص القرآن ، فالعلم الذي لا يحتمل النقيض ليس شرطًا
لصحة الإيمان ، وإنما الشرط أن يكون المؤمن جازمًا بما يعتقد ، غير مرتاب ولا
متردد ، وقول الأستاذ الإمام : الرجوع عن الحق بعد اليقين فيه كاليقين في الحق
كلاهما قليل في الناس . أراد به اليقين المنطقي ، وأراد بالرجوع عنه إظهار
الجحود والمخالفة كبرًا واتقادًا ، فإن اعتقاد نقيض المتيقن ليس في استطاعة الموقن
إلا إذا اختلط عقله ، واختل فهمه ، هذا قليل الوقوع كالرجوع عن الحق كبرًا وعنادًا
بعد الإذعان له ، إذ أكثر المعاندين للحق المستكبرين عنه الذين قال الله في بعضهم :
? وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُواًّ ? ( النمل : 14 ) لم يكن ذلك الجحود
منهم بعد إذعان ، أو لم يكن استيقانهم على شرط علم الكلام وفلسفة اليونان .
وإذا فكر السائل في العلوم النقلية وطريقة أدائها وتعليمها عند البشر من جميع
الأمم رأى أن أكثر أخبارها المقطوع بها يتلقاها الآحاد بعضهم عن بعض ، فإذا
اشترطنا فيها ذلك العلم الكلامي واليقين المنطقي ، وأن لا نعد شيئًا منها حقًّا ثابتًا إلا
إذا تلقيناه بالتواتر اللفظي ، فكيف تكون حالنا في معارفنا التاريخية ، وما يُبنى عليها
من علومنا الاجتماعية وأعمالنا السياسية ، وفي سائر العلوم التي ينقلها بعضنا عن
بعض ؟
بعد هذا كله أقول : إنه لم يعرف عن أحد من شعوب البشر مثل ما عرف عن(1/181)
المسلمين من العناية بنقد الأخبار النبوية وتمحيصها ، وضبط متونها وحفظ أسانيدها ،
بل كانوا ينقلون الأخبار التاريخية والأدبية والشعر والمجون بالأسانيد المتصلة ،
ووضعوا كتب التراجم لجميع أصناف العلماء والأدباء كما وضعوها من قَبْل لرجال
الحديث ، ليسهل طريق العلم بالصحيح وما دونه من ذلك ، ولكنهم دققوا في نقد
رجال الحديث ما لم يدققوا في شيء آخر ، فإذا كان ما صح من الحديث عندهم متنًا
وسندًا لا يجزم به فبماذا نثق من أخبار البشر ، وإذا كان المسلم منا يصدقها فكيف
يمكنه أن يرد مضمونها إذا كان في عقائد الدين ، بناء على كلمة عرفية للمتكلمين ؟
الحديث الصحيح عند المحدثين : ما ثبت بنقل عدل تام الضبط متصل السند
غير معلَّل ولا شاذ وينافي العدالة عندهم ثبوت الكذب ، وكذا الاتهام به والفسق
والغفلة وكثرة الغلط والجهالة - أي : كون الراوي مجهولاً عند علماء الجرح
والتعديل ، ولولا هذا الشرط لاخترع الكذّابون أسانيد كثيرة لا أصل لها وخدعوا
الأمة بها - وكذا البدعة ، فمن كان مبتدعًا لشيء من أمر الدين لم يكن عليه أهل
الصدر الأول ليحكم بصحة حديثه ، قيل : مطلقًا وقيل : فيما يؤيد بدعته وهو
المعتمد ، بل لا بد لثبوت ذلك من روايته عن غيره .
والضبط عندهم ضبط الصدر وضبط الكتاب ، فالأول الحفظ عن ظهر قلب
بحيث يتمكن من استحضار ما حفظه متى شاء ، فإن غلط أو أخطأ في الأداء لا يعد
حديثه صحيحًا ، والثاني حفظ الكتاب منذ سمع فيه وصححه على من تلقاه عنه إلى
أن يؤدي منه ، فإذا غاب عنه غيبة أمكن أن يعرض فيها التغيير والتحريف أو
الزيادة أو النقصان لا تعد روايته له ولا منه صحيحة .
واتصال الإسناد سلامته من سقوط فيه بحيث يكون كل فرد من رواته قد سمع
ذلك المروي من شيخه ، ويقابله الانقطاع ، وهو أقسام ، فالحديث ( المنقطع )
وهو ما سقط من سنده بعض الرواة لا يعد صحيحًا ، إلا أنهم اختلفوا فيما سقط منه(1/182)
من بعد التابعي ويسمونه ( المرسل ) وذلك كأن يقول التابعي : قال رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- كذا .
فالجمهور يتوقفون فيه ، وبعضهم يحتج بمراسيل من عُلم من حاله أنه لا
يروي إلا عن الصحابة أو ثقات التابعين كسعيد بن المسيب ، دون مَن يروي عن
غيرهم كالحسن البصري ومن ( الانقطاع ) عندهم ( التدليس ) وهو رواية الراوي
عمن فوق شيخه الذي سمع منه بلفظ يوهم السماع منه إيهامًا لا تصريحًا ، كأن يقول
المدلس : قال فلان - أو عن فلان ، وقد اختلفوا في حديث المدلس فقيل : لا يُقبل
مطلقًا وقيل : إلا فيما صرح فيه بالسماع ، والجمهور على قبول حديث من لا
يدلس إلا عن ثقة كابن عيينة .
ولأجل هذا شددوا في قبول الحديث ( المعنعن ) أي الذي يقال فيه : عن فلان
عن فلان . فقالوا : عنعنة المدلس غير مقبولة ، واشترط مسلم في العنعنة معاصرة
الراوي لمن روى عنه ، والبخاري اشترط العلم باللقي ولم يكتف بمجرد المعاصرة
فإذا قال العدل الثقة الضابط : عن فلان أو قال : قال فلان : كذا لا يعتد البخاري
بروايته هذه إلا إذا كان قد علم أنه قد لقي ذلك الرجل واجتمع به ، ولكن مسلمًا
يكتفي بالعلم بأنهما وُجدا في عصر واحد ، ومن الممكن أن يكون لقيه وروى عنه .
ومن أقسام الحديث عندهم ( المضطرب ) وهو ما يقع في إسناده أو متنه
اختلاف من الرواة بتقديم وتأخير أو زيادة ونقصان أو اختصار أو حذف أو إبدال
راوٍ براوٍ أو متن بمتن أو تصحيف في أسماء الرواة أو ألقابهم أو أنسابهم أو في
ألفاظ المتن . فإن أمكن الجمع وعرف الأصل وإلا توقف في قبول الحديث
والاحتجاج به .
ومنها ( الشاذ ) وهو ما خالف راويه فية من هو أوثق منه فإن لم يكن
المخالف للثقة ثقة سُمي حديثه ( المردود ) وإن كان ثقة رجح عليه مخالفة الذي هو
أوثق منه وسمي حديثه ( المحفوظ ) فهو مقابل الشاذ . ومنها ( المنكر ) وهو ما
خالف رواية الضعيف فيه من هو أضعف منه ، ويقابله ( المعروف ) وكلاهما(1/183)
راويه ضعيف لا يحتج بحديثه . ومنها ( المعلّل ) وهو ما فيه علة خفية كوصل
المنقطع ورفع الموقوف وإدخال حديث في آخر أو إدراج كلام الرواي في المتن
أو الإدراج في سياق الإسناد .
ولو شئنا أن نبين تدقيق علماء الجرح والتعديل في نقد رواة الحديث لرأى فيها
غير المطلعين عليها من القراء ما لم يخطر لأحد من أمثالهم على بال . ولعلموا منه
أن أكثر من يعدونهم من الثقات الصدوقين من أهل هذا العصر ، ولو كانوا في
أزمنة أولئك النقاد لما عدوا روايتهم صحيحة ولو لعدم إتقان الحفظ والضبط . ومن
تدقيقهم أنهم يعدون بعض الرواة ثقات في الرواية عن أهل قطر دون آخر ، كقولهم :
فلان غير ثقة في المصريين أو الشاميين ؛ لأنه كان عرض له عند الرواية عنهم
اختلاط في العقل ، أو هرم خانته به الذاكرة وفقد جودة الضبط .
وقد وضعوا كتبًا ببيان الأحاديث الموضوعة خاصة بينوا فيها وفي غيرها
أسباب وضع الحديث والكذب فيه وعلامته وأسماء الوضّاعين والكتب والنسخ
الموضوعة برمتها التي لا يصح منها شيء كما وضعوا عدة كتب للأحاديث التي
اشتهرت على الألسنة وبينوا درجاتها ، وميزوا بين الصحيح والحسن والضعيف
والموضوع منها . ولكن عناية العلماء بنقد المتون وعرض الأحاديث القوية الأسانيد
على القواعد التي بينوا بها علامات الوضع كانت أقل من العناية بنقد الأسانيد ، وقلّ
أن يهتم المنتمون إلى المذاهب بنقد متون الأحاديث إلا إذا كانت مذاهبهم مخالفة لها
فكان هذا من سيئات التعصب للمذاهب .
***
نتيجة البحث وخلاصة الجواب
فمن فقه ما شرحناه علم أن أكثر الأحاديث الأحادية المتفق على صحتها لذاتها
كأكثر الأحاديث المسندة في صحيحي البخاري ومسلم- جديرة بأن يجزم بها جزمًا لا
تردُّد فيه ولا اضطراب ، وتعد أخبارها مفيدة لليقين بالمعنى اللغوي الذي تقدم ، ولا
شك في أن أهل العلم بهذا الشأن قلما يشكون في صحة حديث منها ، فكيف يمكن(1/184)
لمسلم يجزم بأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أخبر بكذا ولا يؤمن بصدقه فيه ؟
أليس هذا من قبيل الجمع بين الكفر والإيمان ؟ وليعلم أنني أعني بالمتفق عليه هنا ما
لم ينتقده أحد من أئمة الفقهاء وغيرهم ، ومن غير الأكثر ما تظهر فيه علة في متنه
خفيت على المتقدمين أو لم تنقل عنهم وذلك نادر . وقد عدَّ بعضهم هذه الأحاديث
المتفق على صحتها مفيدة للعلم اليقيني الاصطلاحي إذا تعددت طرقها ،
قال الحافظ ابن حجر في شرح نخبة الفكر ما نصه :
( فائدة ) ذكر ابن الصلاح أن مثال المتواتر على التفسير المتقدم يعز وجوده
إلا أن يدعي ذلك في حديث : ( من كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار ) وما
ادعاه من العزة ممنوع ، وكذا ما ادعاه غيره من العدم ؛ لأن ذلك نشأ عن قلة
الاطلاع على كثرة الطرق وأحوال الرجال وصفاتهم المقتضية لإبعاد العادة أن
يتواطئوا على كذب أو يحصل منهم اتفاقًا ، ومن أحسن ما يقرر به كون المتواتر
موجودًا وجود كثرة في الأحاديث أن الكتب المشهورة المتداولة بأيدي أهل العلم شرقًا
وغربًا المقطوع عندهم بصحة نسبتها إلى مصنفيها إذا اجتمعت على إخراج حديث
وتعددت طرقه تعددًا تحيل العادة تواطأهم ( فيه ) على الكذب إلى آخر الشروط أفاد
العلم اليقيني بصحته إلى قائله ، ومثل ذلك في الكتب المشهورة كثير اهـ .
________________________
(*) هذه تتمة الأجوبة عن الأسئلة المستنبطة من الكتاب الذي نشر في الجزء الذي قبل هذا .
(( مجلة المنار ـ المجلد [ 19 ] الجزء [ 6 ] صـ 342 المحرم 1335 ـ نوفمبر 1916 ))
تاريخ فنون الحديث [*]
( 1 )
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي جعل من السنة تبيانًا للكتاب ، ونورًا يهتدي به أولو الألباب ،
وبعث إليها من الحفاظ المتقنين ، والرواة الصادقين ، والنقدة الباصرين ، من قام
بصادق خدمتها ، وحفظ عليها جلال حرمتها ، ونفى عنها تحريف الغالين ، وانتحال(1/185)
المبطلين ، وتأويل الجاهلين[1] ، وصانها من إفك المفترين ، ودغل الدجالين ،
فحفظت على مر العصور ، من يد الدثور ، وصينت - بعناية الله - من أرباب
الفجور ، فلله مزيد الحمد والمنة على ما حفظ من معالم دينه وسبل رشاده ، وعلى
صفيه وخليله محمد بن عبد الله صلواته وسلامه ، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم
بإحسان إلى يوم الدين .
وبعد ، فإن من لا علم له بالكتاب والسنة لا حظّّ له من الملة الحنيفية ،
والشرعة المحمدية ، وليس له من نور الهداية ومصباح النبوة ما يهتدي به في
دياجير الشبهات ، وظلمات الترهات ، وإن صدره لغفل من برد اليقين ، وعقله
بمعزل من إصابة الحق المبين ، وقلبه خلو من واعظ الإيمان وخشية الديان ،
فالخير كل الخير في اتباع الكتاب والسنة واقتفاء هديهما ، والاغتراف من بحرهما
الواسع ، وجودهما السابغ ، ولا شيء أهدى للنفوس وأجلب لسعادتها ، وأرجى
لطهارتها ، من تفهم هذين الصنوين والعكوف على درسهما ، وتدبر معانيهما ،
والنفوذ إلى مغزاهما ، فهناك طهارة القلب ، وصفاء العقل ، وكمال النفس .
فكان خليقًا بالعلماء ورواد الدين أن يجعلوا مقصدهم الأسمى وغايتهم القصوى
معرفة هذين الأصلين ، والاستظلال بظل هاتين الدوحتين ، والاحتماء بحماهما
وابتغاء الهداية من سبيلهما ، ولكن - واأسفاه - صرفوا عنهما العناية ، وولوا
وجوههم نحو الفروع وما إليها ، وتحكموا بها في كتاب الله وسنة رسوله صلى
الله عليه وسلم ، فآثروا الفروع على الأصول ، وقدموا آراء الرجال على قول الله
وقول الرسول ، وما ذلك إلا إغماص لمقام الكتاب والسنة ، وتغال في وضع الآراء
مواضع النصوص ، وإنه لخطأ - لو يعلمون - عظيم تنكره أصولهم ، وتأباه
عليهم - لو أنصفوا - عقولهم .
ومن عجيب أمرهم أن يعدوا من كبار المفسرين مَنْ درس مثل تفسير الجلالين
أو النسفي دون أن تكون له ملكة فهم في القرآن وذوق يدرك به سر فصاحته وكمال(1/186)
اقتدار على تطبيقه على سير الناس ومعاملاتهم ، وأعجب من ذلك أن يعدوا بخاري
زمانه ومسلم أوانه مَن مر على صحيح البخاري مر السحاب دون أن يطلق لنفسه
العنان في تفهم الأحاديث واستنباط الأحكام ، ومقارنة ذلك بأفهام المتقدمين وما
استنبطوه منها ، وأين صحيح البخاري من كتب الصحاح والمسانيد والأجزاء التي
يكاد يخطئها العد ولا يضبطها الحساب ؟ وإن من المضحكات المبكيات أن نسأل
كثيرًا من العلماء عن أسماء الكتب الستة فلا يحير جوابًا ، كأن ذلك ليس لديه من
الدين في ورد ولا صدر ، ولا قبيل أو دبير ، فلا حول ولا قوة إلا بالله .
تنكرت معالم الدين وطبق الجهل على المنتسبين إليه ، وسادت الفروع وعبدت
لها الأصول ، وأنكر على المؤثر لها ، المقتفي هديها ، فزال جلال الدين من النفوس ،
وكاد يرحل من دول القضاء ، ويهاجر من أرض المعاملات .
فكل ذلك دعاني لأن أجعل رسالتي التي أقدمها لمدرسة القضاء الشرعي في
السنة الختامية ، في تاريخ فنون الحديث ، والكشف عما طرأ عليها من جمع
وتصنيف ، وترتيب وتهذيب ، وشرح وتبيين حتى تتمثل لك - أيها القارئ الكريم -
صورة واضحة ترى فيها كتب السنة ماثلة ، وتلمح في ثناياها تلك الخدمات الجليلة
التي أداها للسنة سلفنا الصالح ، وتبصر في أساريرها رفيع مقام السنة ، وناصع
بياضها وجليل أمرها ، وإني وإن لم أسبق إلى هذا النوع من الكتابة ، حسب ما أعلم ،
ولم يمهد أحد قبلي صعابه ، فإن أملي في الله عظيم ، ورجائي في واسع فضله كبير
أن يسدد لي خطاي ، ويوفقني لمسعاي ، ويمدني بروح من عنده يهديني بها قصد
السبيل ، إنه نعم المولى ونعم النصير .
***
معنى تاريخ السنة
السنة في اللغة : الطريقة المسلوكة ، من سننت الشيء بالمسن إذا أمررته عليه
حتى يؤثر فيه سنًّا ؛ أي : طريقًا ، وهي إذا أطلقت تنصرف إلى الطريقة المحمودة ،
وقد تستعمل في غيرها مقيدة كقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( من سن سنة(1/187)
سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة ) رواه مسلم ، وتطلق في
عرف الشرعيين على قول النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته ، عدم
إنكاره لأمر رآه أو بلغه عمن يكون منقادًا للشرع فهي مرادفة للحديث ، وأعني
بتاريخها الأداوار التي تقلبت فيها من لدن صدورها عن صاحب الرسالة صلى
الله عليه وسلم إلى أن وصلت إلينا من حفظ في الصدور ، وتدوين لها في
الصحف ، وجمع لمنشورها وتهذيب لكتبها ونفي لما اندس فيها ، واستنباط من
عيونها ، وتأليف بين كتبها ، وشرح لغامضها ونقد لرواتها ، إلى غير ذلك مما
يعرفه القائمون على خدمتها والعاملون على نشر رايتها .
***
أدوار تاريخ السنة
حفظها في الصدور ، تدوينها مختلطة بالفتاوى ، إفرادها بالتدوين ، تجريد
الصحيح ، تهذيبها بالترتيب والجمع والشرح ، فنون الحديث المهمة ، وتاريخ كل
علم ، وأحسن المصنفات فيه .
وسنعقب ذلك بخاتمة فيها مسائل قيمة .
***
مكانة السنة من الكتاب
قبل أن نشرع في موضوعنا نقدم لك بين يديه فصلاً نبين فيه مكانة السنة من
الكتاب ومنزلتها منه حتى تنجلي لك مكانة الموضوع الذي نحن بصدده ، فنقول
وبالله توفيقنا وعليه اعتمادنا :
إن للسنة عملين :
1- تبيين الكتاب .
2- والاستقلال بتشريع الأحكام . أما الأول ؛ فلقوله تعالى : ? وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ
الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ? ( النحل : 44 ) ، فلا سبيل إلى العمل بجل
الشرائع التي تضمنها الكتاب إلا ببيان من المعصوم يفصل مجملها ، ويوضح مشكلها ،
ويعين محتملها ، ويقيد مطلقها ، وكيف تراك مصليًا إذا وقفت إلى ما نطق به الكتاب
فحسب ، ولم تعرض على السنة فتتعرف أوقاتها وعدد ركعاتها وسجداتها وما يقيمها
أو يبطلها إلى سائر أحكامها وكثير أنواعها ؟ وما الذي تخرجه من مالك زكاة إذا لم
تسترشد بكتاب الصدقات من السنة ؟ ثم كيف تؤدي مناسك الحج إذا لم تأتس(1/188)
بالرسول في قاله وحاله يوم أن حج بالناس حجة الوداع ، فلا جرم كان القرآن في
حاجة إلى السنة ورحم الله الأوزاعي إذ يقول : الكتاب أحوج إلى السنة من السنة إلى
الكتاب . ولا عجب في ذلك ، فإن المجمل في حاجة إلى البيان ، ولا كذلك المفصل .
وأما الثاني ؛ فلقوله تعالى : ? وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا
وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ ? ( الحشر : 7 ) ، وقوله جل شأنه : ? وَأَطِيعُوا
اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ? ( المائدة : 92 ) إلى غير ما آية ، وكيف ننكر استقلال
السنة بتشريع الأحكام وقد أخرج أبو داود والترمذي عن المقدام بن معد يكرب قال :
قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم - : ( يوشك رجل منكم متكئًا على أريكته
يحدث بحديث عني فيقول : بيننا وبينكم كتاب الله ، فما وجدنا فيه من حلال
استحللناه ، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه ، ألا وإن ما حرم رسول الله مثل ما
حرم الله ) زاد أبو داود : ( ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ) ، وقد حرمت السنة
نكاح المرأة على عمتها أو خالتها ، وحرمت الحمر الأهلية ، وكل ذي ناب من
السباع ومخلب من الطير ، وأوجبت رجم المحصن ، إلى كثير مما ملئت به مدونات
فقه الحديث والكتب الجامعة لأحاديث الأحكام ، كبلوغ المرام لابن حجر ، والمنتقى
للمجد ابن تيمية ، وشرحه نيل الأوطار للشوكاني .
ولا تنس ما في السنة من آداب وآخلاق وقصص ومواعظ ورقائق وعقائد ،
وإن كانت لا تعدو شرح الكتاب .
وجملة القول أن الكتاب والسنة ينبوع هذا الدين المتين ، ومعتمد المسلمين
وناموس المشرعين .
***
الدور الأول حفظ السنة في الصدور
لم تكن السنة في القرن الأول - عصر الصحابة وأكابر التابعين - مدونة في
بطون الكتب ، وإنما كانت مسطورة على صفحات القلوب ، فكانت صدور الرجال
مهد التشريع النبوي ومصدر الفتيا ومنبعث الحكم والأخلاق .(1/189)
ولم يقيدوا السنة بكتاب لما ورد من النهي عن كتابتها ، روى مسلم في
صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال : قال رسول الله- صلى الله
عليه وسلم - : ( لا تكتبوا عني ، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه ، وحدثوا
عني فلا حرج ، ومن كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار ) ، قال كثير من
العلماء : نهاهم عن كتابة الحديث خشية اختلاطه بالقرآن ، وهذا لا ينافي جواز
كتابته إذا أمن اللبس ، وبذلك يحصل الجمع بين هذا وبين قوله صلى الله عليه
وسلم في مرضه الذي توفي فيه : ( ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابًا لا تضلوا بعده )
وقوله عام الفتح : ( اكتبوا لأبي شاه ) ، وإذنه لعبد الله بن عمرو بتقييد العلم ،
ولما توفي النبي صلى الله عليه وسلم بادر الصحابة إلى جمع ما كتب في عهده
في موضع واحد وسموا ذلك ( المصحف ) واقتصروا عليه ولم يتجاوزوه إلى كتابة
الحديث وجمعه في موضع واحد كما فعلوا بالقرآن الكريم ، وصرفوا همهم إلى نشره
بطريق الرواية ، إما بنفس الألفاظ التي سمعوها منه صلى الله عليه وسلم إن
بقيت في أذهانهم ، أو بما يؤدي معناها إن غابت عنهم ، فإن المقصود بالحديث هو
المعنى ، ولا يتعلق في الغالب حكم بالمبنى بخلاف القرآن ، فإن للألفاظ مدخلا ًفي
الإعجاز ، فلا يجوز إبدال لفظ منه بآخر ، ولو كان مرادفًا له ؛ خشية النسيان مع
طول الزمان ، فوجب أن يقيد بالكتابة ، وأما السنة فتقييدها مباح ما أمن الاختلاط .
فأنت تراهم سلكوا مسلك الجمع بين هذه الأحاديث المتضاربة ، لكن نظرت
لابن القيم في كتابه ( زاد المعاد ) أثناء الكلام على قصة الفتح ما يأتي : وفي القصة
أن رجلاً من الصحابة يقال له : أبو شاه قام فقال : اكتبوا لي . فقال النبي صلى الله
عليه وسلم : ( اكتبوا لأبي شاه ) يريد خطبته . ففيه دليل على كتابة العلم ، ونسخ
النهي عن كتابة الحديث ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من كتب عني(1/190)
شيئًا غير القرآن فليمحه ) ، وهذا كان في أول الإسلام خشية أن يختلط الوحي الذي
يتلى بالوحي الذي لا يتلى ، ثم أذن بالكتابة لحديثه .
وصح عن عبد الله بن عمرو أنه كان يكتب حديثه ، وكان مما كتبه
صحيفة تسمى الصادقة ، وهي التي رواها حفيده عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عنه ،
وهي من أصح الأحاديث ، وكان بعض أئمة أهل الحديث يجعلها في درجة أيوب ،
عن نافع ، عن ابن عمر ، والأئمة الأربعة وغيرهم احتجوا بها .
وإلى القول بالنسخ أميل : ذلك أن القرآن وإن كان بدعًا في أسلوبه ، فريدًا في
نظمه يمتاز على غيره بالإعجاز ، لكن المسلمين في أول الإسلام كانوا حديثي عهد
بنزوله ، وكان النازل منه يسيرًا ، فلم تكن ميزته المثلى قد توطنت النفوس جد
التوطن ، ولا تمكنت فيها فضل التمكن ، فكان من الممكن أن يشتبه على من دون
فرسان البلاغة الوحي المتلو بغير المتلو ، فوجب التمييز بالكتابة ، فلما مرنوا على
أسلوبه ، وطال عهدهم بسماعه وتلاوته حتى أصبحوا إذا سمعوا الآية تتلى أو السورة
تقرأ أدركوا لأول كلمة تقرع أسماعهم أن ذلك وحي الله المتلو ، ولم يحم الاشتباه
حول نفوسهم ، لما مرنوا على ذلك أَذِن لهم بكتابة الحديث لأمن اللبس .
ولعل من دواعي النهي عن كتابة الحديث أولاً ، ثم الإذن بكتابته ثانيًا أن
العارفين بالكتابة كانوا في غربة الإسلام قليلين فاقتضت الحكمة قصرهم على كتابة
القرآن ، فلما توافر عددهم أَذِن صلوات الله وسلامه عليه بكتابة الحديث .
ولا يقعن في نفسك مما أسلفت أنه لم يدون شيء من الأحاديث في القرن
الأول ، ولكن كان هذا هو الشأن الغالب ، فقد كان عبد الله بن عمرو يقيد كل ما
سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وروى أبو عمر يوسف بن عبد البر
في كتابه ( جامع بيان العلم وفضله ) عن مطرف بن طريف قال : سمعت الشعبي
يقول : أخبرني أبو جحيفة قال : قلت لعلي بن أبي طالب : هل عندكم من رسول(1/191)
الله صلى الله عليه وسلم شيء سوى القرآن ؟ فقال : لا والذي فلق الحبة وبرأ
النسمة ، إلا أن يعطي الله عبدًا فهمًا في كتابه ، وما في هذه الصحيفة . قلت : وما في
الصحيفة ؟ قال : العقل ، وفكاك الأسير ، وألا يقتل كافر بمسلم ) .
وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب الصدقات والديات والفرائض
والسنن لعمرو بن حزم وغيره ، وعن أبي جعفر محمد بن علي قال : ( وجد في
قائم سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيفة مكتوب فيها : ( ملعون من
أضل أعمى في سبيل ، ملعون من سرق تخوم الأرض ، ملعون من تولى غير
مواليه ، أو قال : ملعون من جحد نعمة من أنعم عليه ) وعن معن قال : ( أخرج
إليّ عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود كتابًا ، وحلف لي أنه خط أبيه بيده ) ، وعن
سعيد بن جبير أنه كان يكون مع ابن عباس فيسمع منه الحديث فيكتبه في واسطة
الرحل ، فإذا نزل نسخه ، وعن عبد الرحمن بن أبي الزناد ، عن أبيه قال : ( كنا
نكتب الحلال والحرام ، وكان ابن شهاب يكتب كل ما سمع ، فلما احتيج إليه علمت
أنه أعلم الناس ) وعن هشام بن عروة عن أبيه أنه احترقت كتبه يوم الحرة في
خلافة يزيد ، وكان يقول : لو أن عندي كتبي بأهلي ومالي .
***
تثبت الصحابة في رواية الحديث
عساك تقول : إذا كانت الصدور وعاء السنة في القرن الأول فكيف يؤمن
عليها النسيان ، وأن يندس بين المسلمين من يتقول على الرسول ؟ فنقول إجابة
على ذلك : إن الصحابة وأكابر التابعين كانوا على علم بالكتاب ، وكانوا أسبق
الناس إلى الائتمار بأمره والانتهاء بنهيه ، وقد علموا ما أوعد الله به كاتم العلم من
لعن وطرد وإبعاد عن رحمة الرب ، فكانوا إذا علموا شيئًا من سنن الرسول بادروا
إلى تعليمه وإبلاغه خروجًا من التهمة ، وابتغاءً للرحمة ، فسرعان ما ينتشر بين
الجماهير ، فلئن نسي بعض منهم ، فرب مبلغ أوعى من سامع ، فمن البعد بمكان أن
يضيع شيء من السنة أو يخفى على جمهور المسلمين ، ولم يكن الصحابة يقبلون(1/192)
الحديث من كل محدث ، بل علموا أن من الحديث محرمًا ومحللاً ومخطئًا ومصوبًا ،
وأن سبيل ذلك اليقين أو الظن الآخذ بأهدابه ، لذلك تثبتوا في رواية الحديث جد
التثبت ، فكان لهم في الراوي نظرة ، كما كانت لهم في المروي ، وكان كثير منهم
يأبى إلا شاهدًا معضدًا أو يمينًا حاسمة تميط لثام الشك عن وجه اليقين ، فهذا أبو
بكر الصديق كان أول من احتاط في رواية الحديث ، روى ابن شهاب عن قبيصة
( أن الجدة جاءت إلى أبي بكر تلتمس أن تورث ، فقال : ما أجد لك في كتاب الله
شيئًا ، ثم سأل الناس فقام المغيرة فقال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يعطيها السدس فقال : هل معك أحد ؟ فشهد محمد بن مسلمة بذلك ، فأنفذه لها أبو
بكر رضي الله عنه ) .
وعمر بن الخطاب سنَّ للمحدثين التثبت في النقل ، وربما كان يتوقف في
خبر الواحد إذا ارتاب ، روى الجربزي عن أبي نضرة عن أبي سعيد أن أبا موسى
سلَّم على عمر من وراء الباب ثلاث مرات ، فلم يؤذن له فرجع ، فأرسل عمر في
أثره فقال : لم رجعت ؟ قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
( إذا سلم أخوكم ثلاثًا فلم يجب ، فليرجع ) قال : لتأتيني على ذلك ببينة أو لأفعلن
بك . فجاء أبو موسى منتقعًا لونه ، ونحن جلوس فقلنا : ما شأنك ؟ فأخبرنا ، وقال :
فهل سمع أحد منكم ؟ فقلنا : نعم كلنا سمعه . فأرسلوا معه رجلاً منهم حتى أتى عمر
فأخبره . وقال علي رضي الله عنه : كنت إذا سمعت عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم حديثًا نفعني الله بما شاء منه ، وإذا حدثني عنه محدث استحلفته ، فإن حلف لي
صدقته ، وإن أبا بكر حدثني ، وصدق أبو بكر .
ولقد كان كثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقلون من الرواية
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خشية أن يدخلوا في الحديث ما ليس منه سهوًا أو
خطأ ، فينالهم من وصف الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم . ومن أولئك(1/193)
الزبير وأبو عبيدة والعباس بن عبد المطلب ، وكانوا ينكرون على من يكثر من
الرواية ؛ إذ الإكثار مظنة الخطأ ، والخطأ في الدين عظيم الخطر ، فأنكروا على أبي
هريرة كثرة حديثه حتى اضطر لتبرئة ساحته أن يبين السبب الذي حمله على الإكثار
فقال : إن الناس يقولون : أكثر أبو هريرة ، ولولا آيتان في كتاب الله ما حدثت
حديثًا ، ثم يتلو : ? إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ
لِلنَّاسِ فِي الكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ * إِلاَّ الَذيِنَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا
فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التُّوَّابُ الرَّحِيم ? ( البقرة : 159-160 ) إن إخواننا
من المهاجرين كان يشغلهم الصفق في الأسواق ، وإن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم
العمل في أموالهم ، وإن أبا هريرة كان يلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم يشبع
بطنه ، ويحضر ما لا يحضرون ، ويحفظ ما لا يحفظون .
***
مبدأ تدوين السنة
لما انتشر الإسلام ، واتسعت البلاد ، وشاع الابتداع ، وتفرقت الصحابة في
الأقطار ، ومات كثير منهم ، وقل الضبط - دعت الحاجة إلى تدوين الحديث وتقييده
بالكتابة ، ولعمري إنها الأصل ، فإن الخاطر يغفل والقلم يحفظ ، فلما أن أفضت
الخلافة إلى الإمام العادل عمر بن عبد العزيز كتب على رأس المائة إلى أبي بكر بن
محمد بن عمرو بن حزم عامله وقاضيه على المدينة : انظر ما كان من حديث رسول
الله صلى الله عليه وسلم فاكتبه ، فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء . وأوصاه
أن يكتب له ما عند عمرة بنت عبد الرحمن الأنصارية [2]والقاسم [3] ، وكذلك كتب
إلى عماله في أمهات المدن الإسلامية بجمع الحديث ، وممن كتب إليه محمد بن
مسلم بن عبيد الله بن عبد الوهاب بن شهاب الزهري المدني أحد الأئمة الأعلام ،(1/194)
وعالم أهل الحجاز والشام [4] ، ثم شاع التدوين في الطبقة[**] التي تلي طبقة
الزهري ، فكان أول من جمعه بمكة ابن جريج [5] ، وابن إسحاق [6] ، أو مالك [7]
والربيع بن صبيح [8] ، أو سعيد بن أبي عروبة [9] ، أو حماد بن سلمة [10] ، وسفيان
الثوري [11] ، والأوزاعي [12] ، وهشيم [13] ، ومعمر [14] ، وجرير بن عبد
الحميد [15] ، وابن المبارك [16] ، وكل هؤلاء بالقرن الثاني ، وكان جمعهم للحديث
مختلطًا بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين .
***
أشهر الكتب المؤلفة في القرن الثاني
من أشهر الكتب المؤلفة في المائة الثانية الموطأ للإمام مالك بن أنس المدني
إمام دار الهجرة [17] ، ومسند الإمام الشافعي [18] ومختلف الحديث له[***] ، والجامع
للإمام عبد الرزاق بن همام الصنعاني [19] ، ومصنف شعبة بن الحجاج [20] ،
ومصنف سفيان بن عيينة [21] ، ومصنف الليث بن سعد [22] ، ومجموعات من
عناصرهم من حفاظ الحديث ، وعقال أوابده كالأوزاعي والحميدي [23] .
ولما كان موطأ مالك أسير هذه الكتب ذكرًا ، وأبعدها صيتًا ، وأجلها قبولاً رأيت
أن أفرد له فصلاً يجلي شأنه ، ويوضح ما لاقاه من عناية الأمة وأئمة الدين .
***
موطأ الإمام مالك
درجة حديثه : قال الحافظ ابن حجر: إن كتاب مالك صحيح عنده ، وعند من
يقلده على ما اقتضاه نظره من الاحتجاج بالمرسل والمنقطع [24] وغيرهما . قال
المحدث الدهلوي صاحب كتاب ( حجة الله البالغة ) : أما على رأي غيره ، فليس فيه
مرسل ولا منقطع إلا قد اتصل السند به من طرق أخرى ، فلا جرم كانت صحيحة
من هذا الوجه ، وقد صنف في زمان مالك موطآت كثيرة في تخريج أحاديثه ،
ووصل منقطعه ؛ مثل كتاب ابن أبي ذئب وابن عيينة والثوري وغيرهم ممن شارك
مالكًا في الشيوخ ، قال السيوطي في تقريبه نقلاً عن ابن حزم : أحصيت ما في
موطأ مالك ، وما في حديث سفيان بن عيينة ، فوجدت في كل واحد منهما من(1/195)
المسند [25] خمسمائة ونيفًا مسندة وثلاثمائة مرسلاً ، وفيه نيف وسبعون حديثًا قد
ترك مالك نفسه العمل بها ، وفيها أحاديث ضعيفة وهَّاها جمهور العلماء .
عناية الناس به : قد روى الموطأ عن مالك بغير واسطة أكثر من ألف رجل ،
وقد ضرب الناس فيه أكباد الإبل إلى مالك من أقاصي البلاد ، مصداقًا لقول
النبي صلى الله عليه وسلم : ( يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل في طلب
العلم فما يجدون بأعلم من عالم المدينة ) قال عبد الرزاق : هو مالك بن أنس . رواه
الترمذي ، فمنهم المبرزون من الفقهاء كالشافعي ومحمد بن الحسن [26] ، وابن
وهب والقاسم ، ومنهم شيوخ المحدثين كيحيى بن سعيد القطان [27] ، وعبد الرحمن
ابن مهدي [28] وعبد الرزاق بن همام [29] ، ومنهم الملوك والأمراء كالرشيد [30]
وابنيه الأمين [31] والمأمون [32] ، وقد اشتهر في عصره حتى بلغ على جميع ديار
الإسلام ، ثم لم يأت زمان إلا وهو أكثر به شهرة وأقوى به عناية ، وعليه بنى فقهاء
الأمصار مذاهبهم حتى أهل العراق في بعض أمرهم ، ولم يزل العلماء يخرجون
حديثه ويذكرون متابعاته وشواهده [****] ، ويشرحون غريبه ، ويضبطون مشكله ،
ويبحثون عن فقهه ، ويفتشون عن رجاله إلى غاية ليس بعدها غاية .
روى ابن سعد في الطبقات عن مالك بن أنس قال : لما حج المنصور قال لي:
قد عزمت على أن آمر بكتبك هذه التي وضعتها فتنسخ ، ثم أبعث إلى كل مصر من
أمصار المسلمين منها نسخة ، وآمرهم أن يعملوا بما فيها ولا يتعدوه إلى
غيره . فقلت : يا أمير المؤمنين ، لا تفعل هذا ، فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل
وسمعوا أحاديث ورووا روايات ، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم ودانوا به ، فدع الناس
وما اختار أهل كل بلد منهم لأنفسهم ، وروى أبو نعيم في الحلية عن مالك بن أنس
قال : شاورني هارون الرشيد في أن يعلق الموطأ في الكعبة ويحمل الناس على
ما فيه ، فقلت : لا تفعل ، فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا(1/196)
في الفروع وتفرقوا في البلدان ، وكل مصيب . فقال : وفقك الله يا أبا عبد الله .
روايات الموطأ : قال أبو القاسم بن محمد بن حسين الشافعي : الموطآت
المعروفة عن مالك أحد عشر ، معناها متقارب ، والمستعمل منها أربعة : موطأ يحيى
ابن يحيى ، وموطأ ابن بكير ، وموطأ أبي مصعب ، وموطأ ابن وهب ، ثم ضعف
الاستعمال في الأخيرين ، وبين الروايات اختلاف كبير من تقديم وتأخير وزيادة
ونقص ، ومن أكبرها وأكثرها زيادات رواية أبي مصعب ، فقد قال ابن حزم : إنها
تزيد على سائر الموطآت نحو مائة حديث .
***
شروح الموطأ ومختصراته
ممن شرح الموطأ أبو مروان بن عبد الملك بن حبيب المالكي [33] ، وصنف
الحافظ أبو عمر يوسف بن عبد البر [34] كتابًا سماه : ( التقصي لحديث الموطأ ) وله
كتاب ( التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد ) ، قال ابن حزم : هو
كتاب في الفقه والحديث ، ولا أعلم نظيره . وكذلك شرح الموطأ أبو محمد عبد الله
ابن محمد النحوي البطليوسي [35] ، والقاضي الحافظ أبو بكر محمد بن العربي
المغربي [36] وسماه ( القبس ) ، ومما جاء فيه في وصف الموطأ : هذا أول
كتاب ألف في شرائع الإسلام ، وهو آخره ؛ لأنه لم يؤلف مثله ، إذ بناه مالك رحمه
الله على تمهيد الأصول للفروع ، ونبه فيه على معظم أصول الفقه التي ترجع
إليه في مسائله وفروعه . وممن شرحه جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر
السيوطي [37] وسمى شرحه ( كشف المغطا في شرح الموطأ ) ، ومحمد بن
عبد الباقي الزرقاني المصري المالكي [38] شرحه شرحًا بسيطًا في ثلاثة مجلدات ،
وللموطأ مختصرات كثيرة ، فمنها مختصر الإمام الخطابي أحمد بن محمد
البستي [39] ، ومختصر أبي الوليد سليمان بن خلف الباجي [40] ، وابن رشيق
القيرواني [41] .
( له بقية )
((يتبع بمقال تالٍ))
________________________
(*) رسالة صنفها الشيخ عبد العزيز الخولي الطالب في السنة النهائية لمدرسة القضاء الشرعي .(1/197)
(1) روى البيهقي في المدخل من حديث إبراهيم بن عبد الرحمن العذري مرسلاً قال : قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال
المبطلين وتأويل الجاهلين) .
(2) توفيت سنة 98 . (3) توفي سنة 120 . (4) توفي سنة 124 .
(**) الطبقة في اصطلاح المحدثين عبارة عن جماعة اشتركوا في السن ولقاء المشايخ .
(5) توفي سنة 150 . (6) توفي سنة 151 . (7) توفي سنة 179 بالمدينة .
(8) توفي سنة 160 . (9) توفي سنة 156 . (10) توفي سنة 167 بالبصرة .
(11) توفي سنة 161 بالكوفة . (12) توفي سنة 156 بالشام .
(13) توفي سنة 188 بواسط . (14) توفي سنة 153 باليمن .
(15) توفي سنة 188 بالري . (16) توفي سنة 181 بخراسان .
(17) توفي سنة 179 . (18) توفي سنة 204 .
(***) يطلق مختلف الحديث على الأحاديث المعارضة بمثلها في القوة ، ويمكن الجمع بينها بغير
تعسف.
(19) توفي سنة 211 . (20) توفي سنة 160 . (21) توفي سنة 198 .
(22) توفي سنة 175 . (23) توفي في 219 .
(24) المرسل من الحديث : ما سقط من سنده الصحابي بأن يروي التابعي عن الرسول (صلى الله
عليه وسلم) مباشرة ، والمنقطع : ما سقط من أثناء سنده راو أو أكثر مع عدم التوالي .
(25) المسند : مرفوع صحابي بسند ظاهره الاتصال .
(26) توفي الأول سنة 204 والثاني 189 .
(27) سنة 198 . (28) سنة 198 . (29) سنة 211 .
(30) سنة 193 . (31) سنة 198 . (32) سنة 218 .
(****) الحديث الذي ينفرد بروايته واحد يسمى غريبًا ، فإن انفرد به في موضع واحد من الإسناد
قيل للحديث : إنه فرد نسبي أيضًا ، وإن كان في كل موضع منه سمي فردًا حقيقيًّا ، فإذا وافق ذلك
المفرد غيره في رواية ذلك الحديث عن نفس الصحابي الذي رواه عنه ، قيل : إنه وجد للأول متابع ،
وإن وجد متن يشبه متنه وهو مروي عن صحابي آخر قيل للثاني : شاهد .
(33) توفي سنة 239 . (34) سنة 463 . (35) سنة 521 .(1/198)
(36) سنة 546 . (37) سنة 911 . (38) سنة 122 .
(39) سنة 288 . (40) سنة 474 . (41) 456 .
(( مجلة المنار ـ المجلد [ 22 ] الجزء [ 1 ] صـ 64 ربيع الأول 1339 ـ ديسمبر 1920 ))
تاريخ فنون الحديث
( 2 )
إفراد الحديث بالتأليف من مبتدأ القرن الثالث
في أول هذا القرن أخذ رواة الحديث في جمعه طريقة غير التي سلفت ؛ فبعد
أن كانوا يجمعونه ممزوجًا بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين ، أخذوا يفردونه بالجمع
والتأليف ، ثم من أئمة الحديث من جمع في مصنفه كل ما روي عن الرسول -
صلى الله عليه وسلم - من غير تمييز بين صحيح وسقيم ، ومنهم من أفرد الصحيح
بالجمع ؛ ليخلص طالب الحديث من عناء السؤال والبحث ، وكان أول الراسمين
لتلك الطريقة المثلى شيخ المحدثين محمد بن إسماعيل البخاري ، فجمع في كتابه
المشهور ما تبين له صحته ، وكانت الكتب قبله ممزوجًا فيها الصحيح بالعليل بحيث
لا يتبين للناظر فيها درجة الحديث من الصحة إلا بعد البحث عن أحوال رواته
والوقوف على سلامته من العلل ، فإن لم يكن من أهل البحث ، ولم يظفر بمن يتعرف
منه درجته بقي ذلك الحديث مجهول الحال عنده ، واقتفى أثر البخاري في ذلك
الإمام مسلم بن الحجاج القشيري وكان من الآخذين عنه ، ثم ارتسم خطتهما كثيرون .
وإن ذلك القرن الثالث لأجلّ عصور الحديث وأسعدها بخدمة السنة ، ففيه
ظهر كبار المحدثين وجهابذة المؤلفين وحذاق الناقدين ، وفيه أشرقت شموس الكتب
الستة التي كادت لا تفلت من صحيح الحديث إلا النزر اليسير ، والتي عليها يعتمد
المشرعون ، وبها يعتضد المناظرون ، وعن محياها تنجاب الشبه وبضوئها يهتدي
الضال ، وببرد يقينها تثلج الصدور .
وبانسلاخ هذا القرن يكاد يتم جمع الحديث وتدوينه ، ويبتدئ عصر ترتيبه
وتهذيبه ، وتسهيله على رواده وتقريبه .
وقبل أن نأتي على المشهور من كتب السنة في هذا القرن نعقد فصلاً نكشف
فيه عن طرق التصنيف في الحديث حتى نكون على بينة من تأليفه :(1/199)
طرق التصنيف في الحديث
للعلماء في تصنيف الحديث وجمعه طريقتان ( إحداهما ) التصنيف على
الأبواب ، وهو تخريجه على أحكام الفقه وغيره ، وتنويعه أنواعًا ، وجمع ما ورد في
كل حكم وكل نوع في باب بحيث يتميز ما يتعلق بالصلاة مثلاً عما يتعلق بالصيام ،
وأهل هذه الطريقة منهم من اقتصر على إيراد ما صح فقط كالشيخين ، ومنهم من لم
يقتصر على ذلك كأبي داود والترمذي والنسائي ، ( ثانيتهما ) التصنيف على
المسانيد ، وهو أنه يجمع في ترجمة كل صحابي [1] ما عنده من حديثه سواء كان
صحيحًا أو غير صحيح ، ويجعله على حدة وإن اختلفت أنواعه ، وأهل هذه
الطريقة منهم من رتب أسماء الصحابة على حروف المعجم كالطبراني في المعجم
الكبير ، والضياء المقدسي في المختارة التي لم تكمل ، وهذا أسهل تناولاً ، ومنهم
من رتبها على القبائل فقدم بني هاشم ، ثم الأقرب فالأقرب إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم في النسب ، ومنهم من رتبها على السبق في الإسلام ، فقدم
العشرة ثم أهل بدر ، ثم أهل الحديبية ، ثم من أسلم وهاجر بين الحديبية والفتح ، ثم
من أسلم يوم الفتح ، ثم أصاغر الصحابة سنًّا ، وختم بالنساء ، وقد سلك ابن حبان في
صحيحه طريقة ثالثة مرتبة على خمسة أقسام وهي : الأوامر ، والنواهي ، والأخبار ،
والإباحات ، وأفعال النبي صلى الله عليه وسلم ، ونوع كل واحد من هذه الخمسة
إلى أنواع ، والكشف في كتابه عسر جدًّا ، وقد رتبه بعض المتأخرين على الأبواب ،
وعمل له الحافظ أبو الفضل العراقي أطرافًا[2] ، وجرد الحافظ أبو الحسن
الهيتمي زوائده على الصحيحين في مجلد .
ولهم في جمع الحديث طرق أخرى ( منها ) جمعه على حروف المعجم ،
فيجعل مثلاً حديث : ( إنما الأعمال بالنيات ) في حرف الألف ، وقد جرى على
ذلك أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس ، وابن طاهر في أحاديث كتاب الكامل
لابن عدي ، ( ومنها ) جمعه على الأطراف ، وذلك بأن يذكر طرف الحديث ، ثم(1/200)
يجمع أسانيده إما مع عدم التقيد بكتب مخصوصة أو مع التقيد بها ، وذلك مثل ما
فعل أبو العباس أحمد بن ثابت العراقي في أطراف الكتب الخمسة .
ومن أعلى المراتب في تصنيف الحديث تصنيفه معللاً ؛ بأن يجمع في كل
حديث طرقه واختلاف الرواة فيه ، فإن معرفة العلل أجلّ أنواع علم الحديث ، وبها
يظهر إرسال بعض ما عد متصلاً ، أو وقف ما ظن مرفوعًا ، وغير ذلك من الأمور
المهمة ، والذين صنفوا في العلل منهم من رتب كتابه على الأبواب كابن أبي حاتم
وهو أحسن لسهولة تداوله ، ومنهم من رتب كتابه على المساند كالحافظ الكبير
يعقوب بن شيبة البصري [3] ، فإنه ألف مسندًا معللاً غير أنه لم يتم ، ولو تم لكان
في نحو مائتي مجلد ، والذي تم منه مسند العشرة والعباس وابن مسعود وعتبة
بن غزوان وبعض الموالي وعمار ، ويقال : إن مسند علي منه في خمس مجلدات .
ويقال : إنه كان في منزله أربعون لحافًا أعدها لمن كان عنده من الوراقين الذين
يُبيضون المسند ، ولزمه على ما خرج من المسند عشرة آلاف دينار ( خمسة آلاف
جنيه مصري تقريبًا ) قال بعض المشايخ : إنه لم يتم مسند معلل قط .
هذا ، وقد جرت عادة أهل الحديث أن يفردوا بالجمع والتأليف بعض الأبواب
والشيوخ والتراجم والطرق .
أما الأبواب ، فقد أفرد بعض الأئمة بعضها بالتصنيف كباب رفع اليدين في
الصلاة ، أفرده البخاري بالتصنيف ، وباب القضاء باليمين مع الشاهد أفرده
الدارقطني بالتصنيف ، وأما الشيوخ فقد جمع بعض العلماء حديث شيوخ
مخصوصين كل واحد منهم على انفراده ، فجمع الإسماعيلي حديث الأعمش ، وجمع
النسائي حديث الفضيل بن عياض ، وأما التراجم فقد جمعوا ما جاء بترجمة واحدة
من الحديث كمالك عن نافع عن ابن عمر ، وكسهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي
هريرة .
وأما الطرق فقد جمعوا بعض طرق الأحاديث ، كحديث قبض العلم ؛ جمع
طرقه الطوسي ، وحديث ( من كذب علي متعمدًا ) جمع طرقه الطبراني وغير ذلك .
***(1/201)
كتب السنة في القرن الثالث
أشهر الكتب في القرن الثالث : صحيح البخاري[4] ، وصحيح مسلم [5] ، وسنن
أبي داود [6] ، وسنن النسائي[7] ، وجامع الترمذي[8] ، وسنن ابن ماجه [9] ، ومسند
الإمام أحمد بن حنبل [10] ، والمنتقى في الأحكام لابن الجارود [11] ، ثم مصنف ابن
أبي شيبة [12] ، وكتاب محمد بن نصر المروزي [13] ، ومصنف سعيد بن منصور [14]
، وكتاب تهذيب الآثار لمحمد بن جرير الطبري [15] ، وهو من عجائب كتبه ، ابتدأ
فيه بما رواه أبو بكر الصديق وتكلم على كل حديث وعلته وطرقه وما فيه من
الفقه واختلاف العلماء وحججه واللغة ، فتم مسند العشرة وأهل البيت والموالي ،
وقطعة من مسند ابن عباس ، والمسند الكبير لبقي بن مخلد القرطبي [16] رتبه على
أسماء الصحابة ، روى فيه عن ألف وثلاثمائة صحابي ونيف ، ثم رتب حديث كل
صاحب على أبواب الفقه ، فجاء كتابًا حافلاً مع ثقة مؤلفه وضبطه وإتقانه ، ومسند
عبيد الله بن موسى [17] ، ومسند إسحاق بن راهويه [18] ، ومسند ابن حميد [19] ،
ومسند الدارمي [20] ، ومسند أبي يعلى الموصلي [21] ، ومسند ابن أبي
أسامة الحارث بن محمد التميمي [22] ، ومسند ابن أبي عاصم أحمد بن عمرو
الشيباني [23] ، وفيه نحو خمسين ألف حديث ، ومسند ابن أبي عمر ، ومحمد بن يحيى
العدني [24] ، ومسند أبي هريرة لإبراهيم بن حرب العسكري [25] ، ومسند الإمام علي
لأحمد بن شعيب النسائي [26] ، ومسند العنبري إبراهيم بن إسماعيل الطوسي [27] ،
والمسند الكبير للبخاري ، ومسند مسدد بن مسرهد ، [28] ومسند محمد بن مهدي [29] ،
ومسند الحميدي [30] ، ومسند إبراهيم بن معقل النسفي [31] ، ومسند إبراهيم بن يوسف
الهنجاني [32] ، ومسند مالك لأحمد بن شعيب النسائي [33] ، والمسند الكبير للحسن بن
سفيان [34] ، والمسند المعلل لأبي بكر البزار [35] ، ومسند ابن سنجر [36] ، والمسند(1/202)
الكبير ليعقوب بن شيبة [37] ، ولم يؤلف أحسن منه لكنه لم يتم ومسند علي بن المديني
[38] ، ومسند ابن أبي عزرة أحمد بن حازم [39] ، ومسند عثمان بن أبي شيبة [40] ،
وكتب المسانيد كثيرة جدًّا ، وفيما ذكرنا كفاية إن أردت زيادة ، فانظر
كشف الظنون تجد فيه بعض الحاجة .
تنبيه : كتب المسانيد دون كتب السنن في الرتبة ، جرت عادة مصنفيها أن
يجمعوا في مسند كل صحابي ما يقع لهم من حديثه صحيحًا كان أو سقيمًا ، ولذلك لا
يسوغ الاحتجاج بما يورد فيها مطلقًا ، واستثنى بعض المحدثين منها مسند الإمام
أحمد بن حنبل .
***
كتب السنة في القرن الرابع
الحد الفاصل بين المتقدمين والمتأخرين من رواة الحديث وحملته هو رأس
سنة ثلاثمائة ، وقد رأينا فيما سلف أن القرن الثالث أسعد القرون بخدمة السنة
وتمحيصها ونقد رواتها ، وكل من أتى بعد ذلك فَعالَةٌ على المتقدمين إلا قليلاً
يجمع ما جمعوا ، ويعتمد في نقده على ما نقدوا ، لذلك كانت كتب السنة في القرن
الثاني والثالث تمتاز في الأكثر بأولية الجمع فيها دون الأخذ عن غيرها ، وهذا ما
دعاني إلى أن أفرد كتب السنة في القرن الرابع بالذكر دون أن أدمجها مع كتب
السنة في القرن الثالث .
أشهر الكتب في القرن الرابع المعاجم الثلاثة : الكبير ، والصغير ، والأوسط
للإمام سليمان بن أحمد الطبراني [41] رتب في الكبير الصحابة على الحروف ،
وهو مشتمل على نحو خمسمائة وعشرين ألف حديث ، ورتب في الأوسط والأصغر
على شيوخه على الحروف أيضًا ، ولقد رتب الكبير الإمام علاء الدين علي بن بلسبان
الفارسي [42] ترتيبًا حسنًا ، وسنن الدارقطني[43] ، وصحيح أبي حاتم محمد بن حبان
البستي [44] ، وصحيح أبي عوانة يعقوب بن إسحاق [45] ، وصحيح ابن خزيمة محمد
بن إسحاق [46] ، وصحيح المنتقى لابن السكن سعيد بن عثمان البغدادي [47] ، والمنتقى
لقاسم بن أصبغ محدث الأندلس[48] ، ومصنف الطحاوي [49] ، ومسند ابن جميع(1/203)
محمد بن أحمد [50] ، ومسند محمد بن إسحاق [51] ، ومسند الخوارزمي [52] ، ومسند
أبي إسحاق إبراهيم بن نصر الرازي [53] .
وسنعقد لكل كتاب من كتب السنة الشهيرة في القرنين الثالث والرابع فصلاً
يعرف به ، ويبين درجة أحاديثه ، وما لقيه من عناية ، مبتدئين في ذلك بمسند الإمام
أحمد رضي الله عنه .
***
مسند الإمام أحمد بن حنبل
مسند الإمام أحمد كتاب جليل من جملة أصول السنة ، يشتمل على أربعين ألف
حديث ، تكرر منها عشرة آلاف ، ومن أحاديثه ما ينوف على ثلاثمائة حديث ثلاثية
الإسناد ( أي : بين راويها والرسول ثلاثة رواة ) .
درجة حديثه : روى أبو موسى المديني عن الإمام أحمد أنه سئل عن حديث
فقال : انظروه ، فإن كان في المسند ، وإلا فليس بحجة ، كأن الإمام يرى صحة كل
ما ساقه في مسنده ، لكن عبارته ليست صريحة في أن كل ما فيه حجة ، إنما هي
صريحة في أن ما ليس فيه ليس بحجة ، لكن ثم أحاديث مخرجة في الصحيحين
وليست فيه ، والحق أن الكتاب فيه كثير من الأحاديث الضعيفة ، بل ذكر ابن
الجوزي في موضوعاته خمسة عشر حديثًا من المسند لاحت له فيها سمة الوضع ،
وذكر الحافظ العراقي تسعة ، لكن أجاب عن هذه الأحاديث الحافظ ابن حجر في
كتابه ( القول المسدد في الذب عن المسند ) ، وقال في كتابه تعجيل المنفعة برجال
الأربعة : ليس في المسند حديث لا أصل له إلا ثلاثة أحاديث ، أو أربعة ، منها حديث
عبد الرحمن بن عوف أنه يدخل الجنة زحفًا قال : ويعتذر عنه ، لأنه مما أمر
بالضرب عليه ، فترك سهوًا ، أو ضرب عليه وكتب من تحت الضرب ، ويعجبني ما
قاله العلامة ابن تيمية في كتابه ( منهاج السنة ) ، شرط أحمد في المسند أن لا يروي
عن المعروفين بالكذب عندهم ، وإن كان في ذلك ما هو ضعيف ، قال : ثم زاد ابن
أحمد زيادات على المسند ضمت إليه ، وكذلك زاد أبو بكر القطيعي ، وفي تلك
الزيادات كثير من الأحاديث الموضوعة ، فظن من لا علم عنده أن ذلك من رواية
أحمد في مسنده .(1/204)
شرحه واختصاره : شرح المسند أبو الحسن بن عبد الهادي السندي [54]
نزيل المدينة المنورة ، واختصره زين الدين عمر بن أحمد الشماع الحلبي ، وسمى
مختصره در المنتقد من مسند الإمام أحمد ، وكذلك اختصره سراج الدين عمر بن
علي المعروف بابن الملقن الشافعي [55] .
***
الجامع الصحيح المسند للإمام البخاري
وصف إجمالي له : هو أول كتاب ألف في الصحيح المجرد ، وقد اتفق
جمهور العلماء على أنه أصح الكتب بعد القرآن الكريم ، ويقاربه في ذلك صحيح
مسلم ، وذلك أنهما لا يخرجان من الحديث إلا ما اتفق على ثقة ناقليه إلى الصحابي
المشهور ، مع كون الإسناد إليه متصلاً غير مقطوع ( وذلك ما يسمى بشرط
الشيخين ) .
ولقد جمع البخاري صحيحه في ست عشرة سنة ، وما كان يضع فيه حديثًا إلا
بعد أن يغتسل ويصلي ركعتين ويستخير الله في وضعه ، وقد ذكر الحافظ ابن حجر
أن عدة ما فيه من الأحاديث بالمكرر 7397 سوى المعلقات والمتابعات
والموقوفات [*] ، وبغير المكرر من المتون الموصولة 2602 ، ومن المتون المعلقة
المرفوعة التي لم يصلها في موضع آخر منه 159 حديثًا ، فمجموع غير المكرر
2761 ، وفيه من المعلقات 1341 حديثًا ، وفيه من المتابعات والتنبيه على
اختلاف الروايات 344 حديثًا ، ولم يذكر عدد الموقوفات على الصحابة ،
والمقطوعات الواردة عن التابعين فمن بعدهم ، فجملة ما فيه بالمكرر سوى الموقوف
والمقطوع 9082 حديثًا ، وإنما جمع في صحيحه الأحاديث المعلقة والموقوفة
والمقطوعة ، وليست من موضوع كتابه ؛ لأنه قصد بها الاستئناس والاستشهاد
فحسب ، ولذلك غاير في سياقها لتمتاز .
وقد انتقد عليه الحفاظ عشرة أحاديث ومائة ، منها ما وافقه مسلم على تخريجه
وهو 32 حديثًا ، ومنها ما انفرد بتخريجه وهو78 حديثًا ، قال الحافظ ابن حجر في
مقدمة شرحه فتح الباري على صحيح البخاري : وليست عللها كلها قادحة ، بل
أكثرها الجواب عنه ظاهر ، والقدح فيه مندفع ، وبعضها الجواب عنه محتمل(1/205)
واليسير منه في الجواب عنه تعسف ، وقد أوضح ذلك الحافظ مفصلاً في المقدمة ،
وقد ضعف الحافظ من رجال الجامع للبخاري نحو الثمانين ، ولكن أكثرهم من
شيوخه الذين لقيهم وجالسهم وعرف أحوالهم واطلع على أحاديثهم وميز صحيحها
من ضعيفها ، فهو بهم أعرف ولهم أخبر ، وقد روى عن البخاري جامعه الصحيح
نحو من مائة ألف ، منهم كثير من أئمة الحديث كمسلم وأبي زرعة والترمذي وابن
خزيمة .
شروحه : لم يعتن علماء المسلمين بشيء بعد الكتاب العزيز عنايتهم بالجامع
الصحيح للإمام البخاري ، فما أكثر شارحيه والكاتبين في رجاله والمؤلفين في
أغراضه والمختصرين لكتابه ، وقد عد الفاضل ملا كاتب جلبي في كتابه ( كشف
الظنون ) ما ينيف على اثنين وثمانين شرحًا للبخاري ، دبجها يراع الجهابذة من
السلف ، والأذكياء من الخلف ما بين كامل وناقص ، بيد أن منهم من مال إلى
الإجمال كالإمام الخطابي [56] ، فإنه عمل شرحًا سماه ( أعلام السنن ) في مجلد
واحد ، ومنهم من آثر التطويل فلم يغادر صغيرة ولا كبيرة مما يتعلق بسنده أو متنه
إلا كتب كالإمام مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزبادي الشيرازي [57] ، فإنه شرحه
شراحًا وافيًا سمَّاه ( فتح الباري بالسيل الفسيح المجاري ) كمل ربع العبادات منه في
عشرين مجلدًا أتى فيه بما لم يُسبق إليه ، ومنهم من سلك سبيل التوسط ، مقتصرًا
على ما لا بد منه في فهم الأحاديث مع تقييد أوابده وتذليل شوارده .
وهؤلاء على اختلاف مشاربهم وتباين مسالكهم قد فاقوا حد الكثرة إلى أن
المحسنين من الشراح إحسانًا أربعة نفر :
الإمام بدر الدين محمد بن بهادر الزركشي [58] في ( شرحه التنقيح ) .
والعلامة بدر الدين محمود بن أحمد العيني الحنفي [59] في شرحه ( عمدة
القارئ ) والحافظ جلال الدين السيوطي [60] في شرحه ( التوشيح ) .
وشيخ الإسلام أحمد بن علي بن حجر العسقلاني [61] في شرحه ( فتح الباري )(1/206)
ولعمري ، إنه لأمير أولئك المحسنين ، فإن شرحه لا يدانيه شرح ولا يحيط
بجماله وصف ، ولو لم يكن له إلا مقدمته لكانت وافية في الإشادة بذكره والإبانة عن
جلالة قدره ، ولما طلب من مجتهد اليمن العلامة الشوكاني أن يشرح الجامع
الصحيح للبخاري قال : لا هجرة بعد الفتح . وقد بدأ تأليف شرحه الفتح مفتتح سنة
817 بعد أن أكمل مقدمته في سنة 813 ، وانتهى منه في غرة رجب سنة 842 ، وقد
أوْلَم عند ختمه وليمة عظيمة لم يتخلف عنها من وجوه المسلمين إلا اليسير ، أنفق
عليها نحو خمسمائة دينار ( مائتين وخمسين جنيهًا مصريًّا ) ، وقد لقي ما يستحق
من الحظوة في عصر مؤلفه حتى طلبه ملوك الأطراف بالاستكتاب ، واشتري بنحو
ثلاثمائة دينار ( مائة وخمسين جنيهًا مصريًّا ) ، وانتشر في الآفاق حتى غطت
شهرته سائر الشروح ، وهو يقع في ثلاثة عشر مجلدًا ، ومقدمته في مجلد ضخم
( وقد طبع بكل من مصر والهند مرتين ) .
مختصرات الجامع : له مختصرات كثيرة من أشهرها مختصر الإمام جمال
الدين أحمد بن عمر الأنصاري القرطبي [62] ، ومختصر بدر الدين حسن بن عمر
الحلبي [63] المسمى ( إرشاد الساري والقاري ) ، ومختصر الحسين بن المبارك
الزبيدي [64] جرد فيه حديثه من أسانيده وسماه ( التجريد الصريح لأحاديث الجامع
الصحيح ) وقد شرحه شرحًا وافيًا حسن صديق خان ملك بهوبال بالهند ، وكذلك
شرحه الشيخ عبد الله الشرقاوي .
كتب رجاله : منها ( أسماء رجال البخاري ) للشيخ الإمام أحمد بن محمد
الكلاباذي [65] وكتاب ( التعديل والتجريح ) لرجاله لأبي الوليد سليمان بن خلف
الباجي [66] ، و ( الإفهام بما وقع في البخاري من الإبهام ) [**] لجلال الدين بن عمر
البلقيني [67] .
***
الجامع الصحيح للإمام الحافظ مسلم بن الحجاج
هو ثاني الكتب الستة وأحد الصحيحين المشهود لهما بعلو الرتبة ، وقد ذكر
النووي في أول شرحه له أن الحسين بن علي النيسابوري قال : ما تحت أديم(1/207)
السماء أصح من كتاب مسلم . ووافقه على ذلك بعض شيوخ المغرب ، ولكن الذي
لا ينبغي الإضرار فيه رجحان صحيح البخاري عليه ؛ لأن الصفات التي تدور
عليها الصحة في كتاب البخاري أتم منها في كتاب مسلم ، أما من حيث الاتصال
فلاشتراط البخاري أن يكون الراوي ثبت له لقاء المروي عنه ولو مرة ، واكتفى
مسلم بمطلق المعاصرة ، وما ألزم به مسلم البخاري من أنه يحتاج إلى أن لا يقبل
العنعنة [68] أصلاً ليس بلازم ؛ لأن الراوي إذا ثبت له لقاء من روى عنه مرة لا
يجري في رواياته احتمال أن لا يكون سمع منه ؛ لأنه يلزم من جريانه أن يكون
مدلسًا ، والمسألة مفروضة في غير المدلس ، وأما من حيث العدالة والضبط ؛ فلأن
من تكلم فيهم من رجال مسلم ستون ومائة ، ومن تكلم فيهم من رجال البخاري
ثمانون ، مع أن الثاني لم يكثر من إخراج حديثهم ، وأغلبهم من شيوخه الذين أخذ
عنهم ومارس حديثهم ، وأما من جهة عدم الشذوذ والإعلال [69] ؛ فلأن ما انتقد على
البخاري من الأحاديث مما لم يشاركه فيها مسلم ثمانية وسبعون حديثًا ، وما انتقد
على مسلم كذلك ثلاثون ومائة ، أضف إلى هذا ما في البخاري من الاستنباطات
الفقهية والدقائق الحكمية مما عري منه كتاب مسلم ، هذا إلى اتفاق العلماء على أن
البخاري كان أجَلّ من مسلم في العلوم ، وأعرف بصناعة الحديث منه ، وأن مسلمًا
تلميذه وخريجه ، ولم يزل يستفيد منه ويتتبع آثاره حتى قال الدارقطني : لولا
البخاري لما راح مسلم ولا جاء . لكن الإنصاف يدفعنا إلى الاعتراف لمسلم بتلك
الميزة الجليلة والطريقة الحكيمة ، ونعني بها سهولة التناول من كتابه ؛ إذ جعل لكل
حديث موضعًا واحدًا يليق به ، جمع فيه طرقه التي ارتضاها ، وأورد فيه أسانيده
المتعددة وألفاظه المختلفة مما يسهل على الطالب النظر في وجوهه واقتطاف ثماره ،
وتوليه الثقة بجميع الطرق التي للحديث ، ولم يحم حول ذلك البخاري ، بل فرق
طرق الحديث في الأبواب المختلفة .(1/208)
وقد روي عن مسلم أن كتابه أربعة آلاف حديث دون المكرر ، وبالمكرر
7275 حديثًا .
شروحه : شرح صحيح مسلم كثير من العلماء ذكر منها صاحب كشف
الظنون نحو خمسة عشر شرحًا ، من أشهرها المنهاج للحافظ الإمام أبي زكريا
يحيى بن شرف النووي الشافعي [70] ، وشرح أبي الفرج عيسى بن مسعود
الزواوي [71] ، وهو شرح كبير في خمس مجلدات جمع عدة شروح سبقته ، وإكمال
المعلم للإمام أبي عبد الله محمد بن خليفة الأبي المالكي [72] في أربع مجلدات ، ضمنه
شرح المازري وعياض والقرطبي والنووي مع بعض الزيادات ، والابتهاج للشيخ
أحمد بن محمد الخطيب القسطلاني الشافعي [73] بلغ إلى نحو نصفه في ثمانية
أجزاء كبار ، وشرح الشيخ علي القاري الهروي نزيل مكة المكرمة [74] في أربع
مجلدات .
مختصراته : من أشهر مختصراته تلخيص كتاب مسلم وشرحه لأحمد بن عمر
القرطبي [75] ، ومختصر الإمام زكي الدين عبد العظيم المنذري [76] ، ومختصر
زوائد مسلم على البخاري لسراج الدين عمر بن علي بن الملقن الشافعي [77] وهو
كبير في أربع مجلدات ، ولأبي بكر أحمد بن علي الأصبهاني [78] كتاب في أسماه
رجال مسلم .
((يتبع بمقال تالٍ))
________________________
(1) الصحابي من لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - مؤمنًا به ومات على ذلك .
(2) سيأتي معنى الأطراف بعد أسطر .
(3) توفي سنة 262 . (4) توفي سنة 251 . (5) سنة 261 .
(6) سنة 275 . (7) سنة 303 . (8) سنة 279 .
(9) سنة 273 . (10) سنة 241 . (11) سنة 307 .
(12) سنة 235 . (13) سنة 294 . (14) سنة 227 .
(15) سنة 310 . (16) سنة 772 . (17) سنة 213 .
(18) سنة 237 . (19) سنة 249 . (20) سنة 255 .
(21) سنة 307 . (22) سنة 282 . (23) سنة 287 .
(24) سنة 243 . (25) سنة 282 . (26) سنة 203 .
(27) سنة 280 . (28) سنة 289 . (29) سنة 272 .
(30) سنة 229 . (31) سنة 295 . (32) سنة 301 .
(33) توفي سنة 303 . (34) سنة 303 . (35) سنة 292 .(1/209)
(36) سنة 258 . (37) سنة 262 . (38) 234 .
(39) سنة 276 . (40) سنة 239 . (41) 360 .
(42) سنة 721 . (43) سنة 386 . (44) توفي سنة 354 .
(45) سنة 316 . (46) سنة 311 . (47) سنة 353 .
(48) سنة 340 . (49) سنة 321 . (50) سنة 402 .
(51) سنة 313 . (52) سنة 425 . (53) سنة 385 .
(54) توفي سنة 1139 . (55) توفي سنة 805 .
(*) المعلق من الحديث : ما كان في سنده سقط من أوله كأن يقول البخاري : عن ابن عمر (رضي
الله عنه) عن النبي صلى الله عليه وسلم كذا ، والموقوف ما انتهى سنده إلى الصحابي فلم يذكر فيه
قولاً للنبي ولا فعلاً ولا وصفًا ولا تقريرًا والمقطوع ما انتهى سنده إلى من دون الصحابي كالتابعي ،
وقد يطلق على المقطوع موقوف على فلان ؛ أي : الذي انتهى إليه السند .
(56) توفي سنة 308 . (57) سنة 817 . (58) سنة 794 .
(59) سنة 855 . (60) سنة 911 . (61) سنة 852 .
(62) توفي سنة 656 . (63) سنة 789 . (64) 893 .
(65) سنة 398 . (66) سنة 474 .
(**) إبهام الراوي أن لا يذكر اسمه ، ولا يقبل حديث المبهم ولو الإبهام بلفظ التعديل على الأصح .
(67) سنة 824 .
(68) العنعنة : أن يكون في السند لفظه عن ؛ كعن فلان عن فلان .
(69) الشذوذ : مخالفة الثقة من هو أرجح منه ، والإعلال وجود علة خفية قادحة في السند أو
الحديث .
(70) توفي سنة 676 . (71) سنة 744 . (72) سنة 827 .
(73) سنة 923 . (74) سنة 1016 . (75) سنة 656 .
(76) سنة 656 . (77) سنة 804 . (78) سنة 279 .
(( مجلة المنار ـ المجلد [ 22 ] الجزء [ 2 ] صـ 93 ربيع الآخر 1339 ـ يناير 1921 ))
تاريخ فنون الحديث
( 3 )
المستدرك على الصحيحين للحاكم
قد أودع الحافظ محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري [1] في كتابه المستدرك ما
ليس في الصحيحين مما رأى أنه على شرطهما ، أو شرط أحدهما[2] ، أو ما أدى
اجتهاده إلى تصحيحه ، وإن لم يكن على شرط واحد منهما ، مشيرًا إلى القسم الأول(1/210)
بقوله : هذا حديث على شرط الشيخين أو على شرط البخاري ، أو على شرط
مسلم . وإلى القسم الثاني بقوله : هذا حديث صحيح الإسناد . وربما أورد فيه
ما لم يصح عنده منبهًا على ذلك ، وهو متساهل في التصحيح ، وقد لخص
الحافظ الذهبي [3] مستدركه ، وأبان ما فيه من ضعيف أو منكر - وهو كثير - وجمع
جزءًا في الأحاديث الموضوعة التي وجدت فيه ، فبلغت حوالي مائة ، قال الذهبي:
في المستدرك جملة وافرة على شرطيهما أو شرط أحدهما ، ولعل مجموع ذلك
نحو نصف الكتاب ، وفيه نحو الربع مما صح سنده وفيه بعض الشيء ، وما بقي
وهو نحو الربع فهو مناكير واهيات لا تصح ، وفي بعض ذلك موضوعات .
وهذا الأمر مما يتعجب منه ، فإن الحاكم كان من الحفاظ البارعين في هذا الفن ،
ويقال : إن السبب في ذلك أنه صنفه في أواخر عمره ، وقد اعترته غفلة . وقال
الحافظ ابن حجر : إنما وقع للحاكم التساهل ؛ لأنه سود الكتاب لينقحه فعاجلته المنية ،
ولم يتيسر له تحريره وتنقيحه .
وقال كثير من المحدثين : إن ما انفرد الحاكم عن أئمة الحديث بتصحيحه يبحث
عنه ويحكم عليه بما يقضي به حاله من الصحة أو الحسن أو الضعف اهـ .
***
المستخرجات على الصحيحين
قبل أن نذكر المستخرجات على الصحيحين نذكر معنى الاستخراج ، فنقول :
الاستخراج أن يعمد حافظ إلى صحيح البخاري مثلاً ، فيورد أحاديثه واحدًا واحدًا
بأسانيد لنفسه غير ملتزم فيه ثقة الرواة من غير طريق البخاري إلى أن يلتقي معه
في شيخه ، أو فيمن فوقه إذا لم يكن الاجتماع معه في الأقرب ، وربما ترك
المستخرِج أحاديث لم يجد له بها إسنادًا مرضيًّا ، وربما علقها عن بعض رواتها ،
وربما ذكرها من طريق صاحب الأصل ، وقد اعتنى كثير من الحفاظ بالتخريج ،
وقصروا ذلك في الأكثر على الصحيحين ، لكونهما العمدة في هذا الفن ،
وللمستخرجات فوائد ، منها ما قد يقع فيها من زوائد في الحديث ؛ لأنهم لا يلتزمون(1/211)
ألفاظ المستخرج عليها ، ومنها علو الإسناد ؛ إذ رواية الحديث عن صاحب المستخرج
عليه أبعد من روايته عن طبقته أو شيوخه ، وقد يقع فيها التصريح بالسماع مع
كون الأصل معنعنًا ، أو بتسمية مبهم في الأصل ، ولا يحكم للزيادات الواقعة في
المستخرجات بالصحة إلا إذا كان سند المستخرج إلى الشيخ الذي التقى فيه مع
مصنف الأصل صحيحًا متصلاً ، وقد يطلق التخريج على عزو الحديث إلى من
أخرجه من الأئمة كقولنا : أخرجه البخاري . للحديث الذي يوجد في صحيحه .
ومن الكتب المستخرجة على جامع البخاري المستخرج لأبي نعيم أحمد بن
عبد الله الأصبهاني [4] ، والمستخرج لأبي بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي [5] ،
والمستخرج لأبي بكر أحمد بن محمد البرقاني شيخ الفقهاء والمحدثين [6] .
ومن المستخرجات على صحيح مسلم تخريج أحمد بن حمدان النيسابوري [7] ،
وتخريج أبي عوانة الإسفراييني [8] ، وتخريج أبي نصر الطوخي [9] ، والمسند
المستخرج على مسلم للحافظ أبي نعيم الأصبهاني .
***
المجتبى لأبي عبد الرحمن بن شعيب النسائي[10]
لما صنف النسائي سننه الكبرى أهداها إلى أمير الرملة ، فقال له : أكل ما فيها
صحيح ؟ فقال : فيها الصحيح والحسن ، وما يقاربهما . فقال : ميز لي الصحيح من
غيره . فصنف له السنن الصغرى وسماه المجتبى من السنن .
ودرجته في الحديث بعد الصحيحين ؛ لأنه أقل السنن بعدهما ضعيفًا ، وأما
سننه الكبيرة فكان من طريقته أن يخرج فيها عن كل شخص لم يجمع على تركه ،
وإذا نسب إلى النسائي رواية حديث ، فإنما يعنون روايته في مجتباه ، وقد شرح
المجتبى شرحًا وجيزًا الحافظ جلال الدين السيوطي [11] ، وكذلك شرحه أبو الحسن
محمد بن عبد الهادي السندي الحنفي [12] اقتصر فيه على حل ما يحتاج إليه القارئ
والمدرس من ضبط اللفظ وإيضاح الغريب والإعراب ، شأنه في شرح الكتب الستة ،
على أن شرحه أوسع من شرح السيوطي[*] ، وقد شرح سراج الدين عمر بن علي(1/212)
بن الملقن الشافعي زوائده على الصحيحين وأبي داود والترمذي في مجلد .
***
سنن أبي داود سليمان بن أشعث السجستاني [13]
قال أبو سليمان الخطابي في كتابه معالم السنن : اعلموا - رحمكم الله - أن
كتاب السنن لأبي داود كتاب شريف لم يصنف في علم الدين كتاب مثله ، وقد رزق
القبول من كافة الناس فصار حكمًا بين فرق العلماء وطبقات العلماء على اختلاف
مذاهبهم ، فلكل منه ورد ومنه شرب[**] ، وعليه معول أهل العراق وأهل مصر
وبلاد المغرب وكثير من أقطار الأرض . قال أبو داود رحمه الله : كتبت عن
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسمائة ألف حديث فانتخبت منها أربعة آلاف
حديث وثمانمائة ضمنتها هذا الكتاب ، ذكرت الصحيح وما يشبهه ويقاربه ،
ويكفي الإنسان لدينه من ذلك أربعة أحاديث : أحدها قوله - صلى الله عليه وسلم - :
( الأعمال بالنيات ) ، والثاني قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( من حسن إسلام
المرء تركه ما لا يعنيه ) ، والثالث قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا يكون المؤمن
مؤمنًا حقًّا حتى يرضى لأخيه ما يرضى لنفسه ) ، والرابع : ( الحلال بيّن والحرام
بيّن ) الحديث ، وقال : ما ذكرت في كتابي حديثًا أجمع الناس على تركه ، وما كان به
من حديث فيه وهن شديد قد بينته ، ومنه ما لا يصح سنده ، وما لم أذكر فيه شيئًا فهو
صالح ، وبعضها أصح من بعض ، وهو كتاب لا ترد عليك سنة عن النبي - صلى
الله عليه وسلم - إلا وهي فيه ، ولا أعلم شيئًا بعد القرآن ألزم للناس أن يتعلموه من
هذا الكتاب ، ولا يضر رجلاً أن لا يكتب من العلم شيئًا بعدما يكتب هذا الكتاب . إلى
آخر كلامه في رسالته إلى أهل مكة ، وقد اشتهر هذا الكتاب بجمعه لأحاديث الأحكام ،
وفيه كثير من المراسيل ، وكان يحتج بها من تقدم الشافعي ؛كسفيان الثوري ومالك
والأوزاعي .
***
شروحها
شرح هذه السنن كثيرون من أفاضل العلماء ؛ شرحها الإمام الخطابي [14] في(1/213)
كتابه معالم السنن ، وقطب الدين أبو بكر اليمني الشافعي [15] في أربع مجلدات
كبار ، وأبو زرعة أحمد بن عبد الرحيم العراقي [16] ، كتب من شرحه سبع
مجلدات إلى أثناء سجود السهو ، وشرح زوائده على الصحيحين ابن الملقن في
مجلدين ، وشرح السنن شهاب الدين الرملي [17] .
***
مختصراتها
قد اختصرها زكي الدين المنذري[18] ، وأسمى مختصره المجتبى ، وقد
شرحها السيوطي بكتابه زهر الربا على المجتبى ، وهذب المختصر ابن قيم
الجوزية الحنبلي [19] ، وشرح مهذبه شرحًا جميلاً ذكر فيه : إن الحافظ المنذري قد
أحسن في اختصاره ، فهذبته نحو ما هذب هو به الأصل ، وزدت عليه من الكلام
على علل سكت عنها ، إذ لم يكملها ، وتصحيح أحاديثه والكلام على متون مشكلة
لم يفتح معضلها ، وقد بسطت الكلام على مواضع لعل الناظر لا يجدها في كتاب
سواه .
قال ابن كثير في مختصر علوم الحديث : إن الروايات لسنن أبي داود كثيرة
يوجد في بعضها ما ليس في الأخرى .
***
الجامع الصحيح لمحمد أبي عيسى الترمذي [20]
قال أبو عيسى الترمذي - رحمه الله تعالى - : عرضت هذا الكتاب على
علماء الحجاز والعراق وخراسان فرضوا به واستحسنوه . وقال : ما أخرجت
بكتابي هذا إلا حديثًا قد عمل به بعض الفقهاء . فعلى هذا كل حديث احتج به محتج ،
أو عمل بموجبه عامل أخرجه ، سواء صح طريقه أو لم يصح ، لكنه تكلم على
درجة الحديث ، وبين الصحيح منه والمعلول ، كما ميز المعمول به من المتروك ،
وساق اختلاف العلماء ، فكتابه لذلك جليل القدر جم الفائدة كما أنه قليل التكرار .
***
شروحه
قد شرحه محمد بن عبد الله الإشبيلي المعروف بابن العربي المالكي [21] ،
وأسمى شرحه ( عارضة الأحوذي في شرح الترمذي ) ، وشرحه الحافظ محمد بن
محمد الشافعي [22] ، شرح نحو ثلثيه في عشر مجلدات ولم يتمه ، وقد كمله زين
الدين عبد الرحيم بن حسين العراقي [23] ، وشرحه عبد الرحمن بن أحمد(1/214)
الحنبلي في عشرين مجلدًا ، وقد احترق شرحه في الفتنة ، وكذلك شرحه
السيوطي والسندي ، وشرح زوائده على الصحيحين ، وأبي داود عمر بن علي بن
الملقن [24] .
***
مختصراته
منها الجامع لنجم الدين محمد بن عقيل [25] ، ومختصر الجامع لنجم الدين
سليمان بن عبد القوي الطوفي الحنبلي [26] .
***
سنن محمد بن يزيد بن ماجه القزويني[27]
عد بعض الحفاظ أصول السنة خمسة يعني كتب البخاري ومسلم والترمذي
والنسائي وأبي داود ، وعدها بعض آخر ستة بضم سنن ابن ماجه إلى الخمسة
السالفة ، وأول من فعل ذلك ابن طاهر المقدسي [28] ، ثم الحافظ عبد الغني [29] في
كتاب الإكمال في أسماء الرجال ، وإنما قدموا سنن ابن ماجه على الموطأ ؛ لكثرة
زوائده على الخمسة بخلاف الموطأ ، قال بعض المحدثين : ينبغي أن يجعل السادس
كتاب الدارمي فإنه قليل الرجال الضعفاء نادر الأحاديث المنكرة والشاذة [30] ، وإن
كان فيه أحاديث مرسلة وموقوفة . وقد جعل بعض العلماء كرزين السرقسطي [31]
سادس الكتب الموطأ ، وتبعه على ذلك المجد بن الأثير في كتاب جامع الأصول ،
وكذا غيره .
قال الحافظ المزي : إن كل ما انفرد به ابن ماجه عن الخمسة فهو ضعيف .
ولكن قال الحافظ ابن حجر : إنه انفرد بأحاديث كثيرة وهي صحيحة ، فالأولى حمل
الضعف على الرجال .
***
شروح سنن ابن ماجه
شرحها كمال الدين محمد بن موسى الدميري الشافعي [32] في خمس
مجلدات ، وأسمى شرح الديباجة ولكنه مات قبل تحريره ، وشرحها إبراهيم بن
محمد الحلبي [33] ، وجلال الدين السيوطي في شرحه مصباح الزجاجة ، وكذلك
السندي ، وقد شرح سراج الدين عمر بن علي بن الملقن زوائده على الخمسة في
ثمان مجلدات ، وسمى شرحه ما تمس إليه الحاجة على سنن ابن ماجه .
***
باقي كتب السنة الصحيحة
غير الكتب الستة
مما أسلفت يتبين لك أن الصحيحين لم يستوعبا كل الصحيح ، وكذلك الأصول(1/215)
الخمسة أو الستة ، وإن كان الزائد عليها قليلاً ، قال الإمام النووي : الصواب قول من
قال : إنه لم يفت الأصول الخمسة إلا النزر اليسير . وها نحن أولاء ندلي إليك بباقي
الكتب الشهيرة الجامعة للصحيح في القرنين الثالث والرابع :
فمنها صحيح محمد بن إسحاق بن خزيمة النيسابوري [34] ، وصحيحه أعلى
مرتبة من صحيح بن حبان تلميذه ؛ لشدة تحريه ، حتى إنه يتوقف في التصحيح لأدنى
كلام في الإسناد ، ومنها صحيح أبي حاتم محمد بن حبان البستي [35] ، واسم
مصنفه التقاسيم والأنواع ، والكشف على الحديث منه عسر ؛ لأنه غير مرتب على
الأبواب ولا المسانيد ، وقد رتبه ابن الملقن ، وجرد أبو الحسن الهيتمي زوائده على
الصحيحين في مجلد ، وقد نسبوا لابن حبان التساهل في التصحيح إلا أن تساهله
أقل من تساهل الحاكم في مستدركه ، ومنها صحيح أبي عوانة يعقوب بن
إسحاق [36] ، وصحيح المنتقى لابن السكن سعيد بن عثمان [37] ، وسنن الإمام
الحافظ علي بن عمر البغدادي الشهير بالدارقطني [38] ، والمنتقى في الأحكام لابن
الجارود عبد الله بن علي [39] ، والمنتقى في الآثار لقاسم بن أصبغ محدث
الأندلس [40].
***
كتب الأطراف
كتب الأطراف هي ما تذكر طرفًا من الحديث يدل على بقيته ، وتجمع أسانيده
إما مستوعبة أو مقيدة بكتب مخصوصة ، فمن ذلك :
أطراف الصحيحين للحافظ إبراهيم بن محمد بن عبيد الدمشقي [41] ، ولأبي
محمد خلف بن محمد الواسطي [42] ، قال الحافظ بن عساكر : وكتاب خلف أحسنهما
ترتيبًا ورسمًا ، وأقلهما خطًا ووهمًا . وهو في دار الكتب السلطانية أربع مجلدات ،
ولأبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصفهاني [43] ، وللحافظ أبي الفضل أحمد بن علي
ابن حجر العسقلاني وأطراف السنن الأربعة لابن عساكر الدمشقي [44] في ثلاثة
مجلدات مرتبًا على حروف المعجم ، واسمه الإشراف على معرفة الأطراف .
وأطراف الكتب الستة لمحمد بن طاهر المقدسي [45] جمع فيه أطراف(1/216)
الصحيحين والسنن الأربعة ، قال ابن عساكر في مقدمة كتابه الإشراف : سبرته
واختبرته ، فظهرت فيه أمارات النقص ، وألفيته مشتملاً على أوهام كثيرة وترتيبه
مختل . لهذا عمل كتابه الإشراف ، ولهذا السبب أيضًا لخصه الحافظ محمد بن علي
الحسيني الدمشقي [46] ، ورتبه أحسن ترتيب ، واسم كتاب المقدسي أطراف
الغرائب والأفراد ، وللحافظ يوسف بن عبد الرحمن المزي [47] أطراف الكتب الستة
أيضًا ، وفيه أيضًا أوهام جمعها أبو زرعة أحمد بن عبد الرحيم [48] ، وقد اختصر
أطراف المزي الذهبي [49] ، كما اختصره أيضًا محمد بن علي الدمشقي الآنف ذكره ،
ولابن الملقن الإشراف على أطراف السنة .
ولابن حجر إتحاف المهرة بأطراف العشرة ، يعني الكتب الستة والمسانيد
الأربعة في ثماني مجلدات ، وقد أفرد منه تأليفه المسمى بأطراف المسند المعتلي ، يقع
في مجلدين .
***
دور التهذيب بعد القرن الرابع
إن لجمع السنن من أفواه الرواة ، والنظر في رجال الأسانيد وإنزالهم منازلهم ،
وبيان عليل الحديث من صحيحه كاد ينتهي بانتهاء القرن الرابع ، كما انطفأت إذ
ذاك جذوة الاجتهاد ، وركن الناس إلى التقليد في الدين ، فأكثر الكتب التي تجدها بعد
ذلك العصر سلكت مسلك التهذيب أو جمع الشتيت وبيان الغريب ، أو نحت منحى
الإبداع والترتيب ، أو طرقت سبيل الاختصار والتقريب ، وجل من تكلم في الأسانيد
بعد المائة الرابعة كان عالة على ما دونه أئمة الحديث في القرون السالفة .
ولا يسبقن إلى ذهنك - وأنت الفطن اللبيب - أنه لم يسبق القرن الخامس
جمع وتهذيب ، فإن ذلك قد وجد ، ولكن لم يشع شيوعه بعد القرن الرابع ، ونحن
من سنتنا في هذه الرسالة مراعاة الأمور الذائعة ، ولا نلتفت لليسير النادر .
***
أهم الكتب الجامعة لمتون الحديث
في دور التهذيب
الجمع بين الصحيحين قد جمع كثير من الأفاضل بين صحيحي البخاري
ومسلم ، ومن هؤلاء محمد بن عبد الله الجوزقي [50] ، وإسماعيل بن أحمد المعروف(1/217)
بابن الفرات [51] ، ومحمد بن أبي نصر الحميدي الأندلسي [52] ، وربما زاد زيادات
ليست فيهما ، وحسين بن مسعود البغوي [53] ، ومحمد بن عبد الحق الإشبيلي ،
وأحمد بن محمد القرطبي المعروف بابن أبي حجة [54] .
الجمع بين الكتب الستة : قد جمع بينها عبد الحق بن عبد الرحمن الإشبيلي
المعروف بابن الخراط [55] ، وقطب الدين محمد بن علاء الدين المكي [56] ، وكتابه
مرتب مهذب .
وأبو الحسن رزين بن معاوية العبدري السرقسطي [57] ، في كتابه تجريد
الصحاح ، ولكنه لم يحسن في ترتيبه وتهذيبه ، وترك بعضًا من أحاديث الستة ، فلما
جاء أبو السعادات مبارك بن محمد المعروف بابن الأثير الجزري الشافعي [58] ،
هذب كتابه ورتب أبوابه ، وأضاف إليه ما أسقطه من الأصول ، وشرح غريبه وبين
مشكل الإعراب وخفي المعنى ، وحذف أسانيده ، ولم يذكر إلا راوي الحديث من
صحابي أو تابعي ، كما ذكر المخرج له من الستة ، ولم يذكر من أقوال التابعين
والأئمة إلا النادر ، ورتب أبوابه على حروف المعجم ، وسماه جامع الأصول لأحاديث
الرسول ، فجاء كتابًا فذًّا في بابه لم ينسج أحد على منواله ، فقرب إلينا البعيد وسهل
علينا العسير ، وهو بدار الكتب السلطانية المصرية في عشرة أجزاء صغيرة ،
ولعل الله يسوق إليه من يبرزه إلى عالم المطبوعات ، فيسدي بذلك إلى طلاب الحديث
معروفًا جميلاًَ . وقد اختصر هذا الجامع كثيرون ، منهم محمد المروزي [59] ،
وهبة الله بن عبد الرحيم الحموي [60] ، وعبد الرحمن بن علي المعروف بابن الديبع
الشيباني الزبيدي [61] ، وهو أحسن المختصرات ، وقد طبع حديثًا بمصر ، ويقع في
ثلاثة أجزاء ، ولأبي طاهر محمد بن يعقوب الفيروزبادي [62] زوائد عليه سماها :
تسهيل الوصول إلى الأحاديث الزائدة على جامع الأصول ، وأن في هذا وما قبله لغنية
عن كتب الحديث الأخرى وكفاية .
((يتبع بمقال تالٍ))
________________________
(1) توفي سنة 405 .(1/218)
(2) قال النووي: المراد بقول المحدثين : على شرطهما أو على شرط أحدهما أن يكون رجال الإسناد
في كتابيهما أو في كتاب أحدهما ؛ لأنهما ليس لهما شرط في كتابيهما ولا في غيرهما .
(3) سنة 748 . (4) توفي سنة 430 . (5) سنة 371 .
(6) سنة 425 . (7) سنة 311 . (8) سنة 316 .
(9) سنة 344 . (10) سنة 303 .
(*) طبع المجتبى على شرحيه هذين في الهند .
(**) الشرب بالكسر كالورد وهو بمعنى المفعول ؛ أي : ما يورد وما يشرب .
(11) توفي سنة 911 . (12) سنة 1138 . (13) سنة 275 .
(14) توفي في سنة 328 . (15) سنة 652 . (16) سنة 826 .
(17) سنة 848 . (18) سنة 656 . (19) سنة 751 .
(20) سنة 279 . (21) سنة 546 . (22) سنة 734 .
(23) توفي سنة 804 . (24) سنة 804 . (25) سنة 729 .
(26) سنة 710 . (27) سنة 273 . (28) سنة 600 .
(29) الحديث المنكر : ما كان في سنده كثير الغلط أو غافل عن الاتفاق ، أو فاسق ، والشاذ : ما
خالف فيه الثقة من هو أرجح منه .
(30) توفي سنة 535 . (31) سنة 808 . (32) سنة 841 .
(33) توفي سنة 311 . (34) سنة 354 . (35) سنة 316 .
(36) سنة 353 . (37) سنة 385 . (38) سنة 307 .
(39) سنة 340 . (40) سنة 400 . (41) سنة 400 .
(42) سنة 517 . (43) توفي سنة 571 . (44) سنة 507 .
(45) سنة 765 . (46) سنة 842 . (47) سنة 820 .
(48) 748 . (49) توفي سنة 388 . (50) سنة 414 .
(51) سنة 488 . (52) سنة 516 . (53) سنة 582 .
(54) سنة 642 . (55) سنة 582 . (56) سنة 990 .
(57) سنة 535 . (58) سنة 606 . (59) سنة 682 .
(60) سنة 718 . (61) سنة 944 . (62) 817 .
(( مجلة المنار ـ المجلد [ 22 ] الجزء [ 3 ] صـ 193 جمادى الأولى 1339 ـ فبراير 1921 ))
تاريخ فنون الحديث
( 4 )
الجوامع العامة
( أ ) منها جامع المسانيد والألقاب لأبي الفرج عبد الرحمن بن علي
الجوزي [1]جمع فيه بين الصحيحين ومسند أحمد وجامع الترمذي ، وقد رتبه أحمد
بن عبد الله المكي [2] .(1/219)
( ب ) ومنها جامع المسانيد والسنن لأقوم سنن ، للحافظ إسماعيل بن عمر
الوشي الدمشقي المعروف بابن كثير [3]جمعه من الصحيحين وسنن النسائي وأبي
داود والترمذي وابن ماجه ومن مسانيد أحمد والبزار وأبي يعلى والمعجم
الكبير للطبراني .
( ج ) ومنها مجمع الزوائد للحافظ أبي الحسن علي الهيتمي [4] جمع فيه
زوائد مساند أحمد وأبي يعلى والبزار ومعاجم الطبراني الثلاثة وموجود منه بدار
الكتب ثماني مجلدات ، وقد شرع بطبعه من زهاء 20 سنة ولعله تم .
( د ) ومنها مصابيح السنة للإمام حسين بن مسعود البغوي [5] جمع فيه
4484 حديثًا من الصحاح والحسان ويعني صاحبها بالصحاح ما أخرجه الشيخان ،
وبالحسان ما أخرجه أبو داود والترمذي وغيرهما ، وما كان فيها من ضعيف أو
غريب بينه ، ولا يذكر ما كان منكرًا أو موضوعًا . وقد اعتنى العلماء بها عناية
عظيمة فشرحوها شروحًا كثيرة ، وكملها محمد بن عبد الله الخطيب وذيل أبوابها ،
فذكر الصحابي الذي روى الحديث ، والكتاب الذي أخرجه وزاد على كل باب من
الصحاح والحسان فصلاً ثالثًا عدا بعض الأبواب ، وكان ذلك سنة 737 فجاء كتابًا
حافلاً وأسماه مشكاة المصابيح ، وقد شرح المشكاة كثيرون .
( هـ ) ومنها جمع الجوامع في الحديث لعبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي
جمع فيه بين الكتب الستة وغيرها ، وقد قصد في كتابه جمع الأحاديث النبوية
بأسرها ، قال المناوي : إنه مات قبل أن يتمه ، ولقد اشتمل كتابه على كثير من
الأحاديث الضعيفة ، بل الموضوعة ، وقد هذب ترتيبه علاء الدين علي بن حسام
الهندي المتوفى بمكة سنة 975 في كتابه كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال ،
وقد اختصر السيوطي كتابه في الجامع الصغير وزوائده .
( و ) ومنها إتحاف الخيرة بزوائد المسانيد العشرة لأحمد بن أبي بكر
البوصيري [6] أفرد فيه زوائد مسانيد أبي داود الطيالسي والحميدي ومسدد وابن أبي(1/220)
عمرو وإسحاق بن راهويه وابن أبي شيبة وأحمد بن منيع وعبد بن حميد والحارث بن
محمد بن أبي أسامة وأبي يعلى الموصلي ، أي ما زاد من أحاديثها على الكتب الستة
وهو مرتب على مائة كتاب .
***
الكتب الجامعة لأحاديث الأحكام
( أ ) منها الإلمام في أحاديث الأحكام لابن دقيق العيد [7] ، جمع فيه متون
الأحكام وشرحه ، ولكن لم يكمل شرحه ، ويقال : إنه لم يؤلف في هذا النوع أعظم
منه .
( ب ) ودلائل الأحكام من أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن شداد
الحلبي [8] تكلم فيه على الأحاديث المستنبطة منها الأحكام في الفروع ، ويقع في
مجلدين .
( ج ) ومنتقى الأخبار في الأحكام للحافظ مجد الدين أبي البركات عبد السلام
بن عبد الله بن أبي القاسم الحراني المعروف بابن تيمية الحنبلي [9] انتقاه من
صحيحي البخاري ومسلم ، ومسند الإمام أحمد ، وجامع أبي عيسى الترمذي ،
والسنن للنسائي ، وأبي داود ، وابن ماجه ، واستغنى بالعزو إلى هذه المسانيد عن
الإطالة بذكر الأسانيد ، وإنه لكتاب قيم شرحه الإمام المجتهد الشوكاني محدث
اليمن [10] شرحًا مسهبًا بلغ ثمانية أجزاء جمع فيه من فقه الحديث ما لعله يعز عليك
في كتاب آخر ، وقد أسمى شرحه نيل الأوطار ، طبع بمصر ونفدت نسخه .
( د ) وبلوغ المرام من أدلة الأحكام ، للحافظ أحمد بن علي بن حجر
العسقلاني [11] وممن شرحه شرحًا وجيزًا صديق حسن خان [12] بلغ شرحه مجلدين ،
طبع ونفدت نسخه . وقد اشتمل بلوغ المرام على ألف وأربعمائة حديث من
أحاديث الأحكام ، وهو كتاب عظيم القدر طبع في مصر وفي الهند مع حواشي
للسيد أحمد حسن الدهلوي المعاصر ، بيّن فيها علل الأحاديث المعلولة وخلاصة
المعنى .
***
كتب أخرى
من الكتب النفيسة في الحديث ( المختارة ) لمحمد بن عبد الواحد المقدسي [13]
التزم فيها الصحة ، فصحح أحاديث لم يسبق إلى تصحيحها ، ولم يتم الكتاب ، وقد(1/221)
رجحه بعض الحفاظ على مستدرك الحاكم ، ومنها ( السنن ) كتابا الكبير والصغير ،
كتابان لأحمد بن حسين البيهقي [14] قيل : لم يصنف في الإسلام مثلهما ، قال ابن
الصلاح : ما تم كتاب في السنة أجمع للأدلة من كتاب السنن الكبرى للبيهقي ،
وكأنه لم يترك في سائر أقطار الأرض حديثًا إلا وقد وضعه في كتابه . ومنها بحر
الأسانيد للإمام الحافظ الحسن بن أحمد السمرقندي [15] جمع فيه مائة ألف
حديث ، رتبه وهذبه ولم يقع في الإسلام مثله . ومنها الترغيب والترهيب للحافظ
المنذري [16] ، وهو من أحسن الكتب طريقة في جمع الحديث وبيان درجته ،
وليت كتب الحديث كلها على نمطه ، وهو مطبوع .
***
ترتيب كتب الحديث في الصحة
قد بينا فيما سلف درجة كل كتاب من كتب السنة الشهيرة في الصحة ،
وها نحن أولاء ندلي إليك بفصلٍ جمّ الفائدة عظيم العائدة ينجلي لك فيه ترتيب كتب
السنة من حيث الصحة لتكون على بينة من أمرها ، فنقول وبالله توفيقنا :
قد قسم الجمهور الحديث الصحيح بالنظر إلى تفاوت الأوصاف المقتضية
للصحة إلى سبعة أقسام كل قسم منها أعلى مما بعده ، فالأول ما أخرجه البخاري
ومسلم ويسمى بالمتفق عليه ، والثاني ما انفرد به البخاري ، والثالث ما انفرد به
مسلم ، والرابع ما كان على شرطهما مما لم يخرجه واحد منهما ، والخامس ما كان
على شرط البخاري ، والسادس ما كان على شرط مسلم ، والسابع ما صححه أحد
الأئمة المعتمدين ، وترجيح كل قسم من هذه الأقسام السبعة على ما بعده إنما هو
من قبيل ترجيح الجملة على الجملة ، لا ترجيح كل واحد من أفراده على كل واحد
من أفراد الآخر ، فيسوغ أن يرجح حديث في مسلم على آخر في البخاري إذا
وجد موجب الترجيح ، ولقد كتب الشيخ أحمد المعروف بشاه ولي الله المُحدّث
الدهلوي [17] في كتابه ( حجة الله البالغة ) فصلاً في طبقات كتب الحديث نورد لك
خلاصته ، قال :
طبقات كتب الحديث أربع : فالطبقة الأولى منحصرة بالاستقراء في ثلاثة(1/222)
كتب : الموطأ ، وصحيح البخاري ، وصحيح مسلم .
والطبقة الثانية كتب لم تبلغ مبلغ الموطأ والصحيحين ، ولكنها تتلوها ، كان
مصنفوها معروفين بالوثوق والعدالة والحفظ والتبحر في فنون الحديث ، ولم
يتساهلوا فيها ، وتلقاها من بعدهم بالقبول ، واعتنى بها المحدثون والفقهاء ، وذاعت
بين الناس كسنن أبي داود وجامع الترمذي ومجتبى النسائي ، وهذه الكتب مع
الطبقة الأولى اعتنى بأحاديثها رزين بن معاوية العبدري السرقسطي في تجريد
الصحاح ، وابن الأثير في جامع الأصول ، وكاد مسند أحمد يكون من هذه الطبقة .
والطبقة الثالثة مسانيد وجوامع ومصنفات صنفت قبل البخاري ومسلم وفي
زمنهما وبعدهما ، جمعت بين الصحيح والحسن والضعيف والمعروف والمنكر
والغريب والشاذ والخطأ والصواب والثابت والمقلوب [18] ، ولم تشتهر في العلماء
ذلك الاشتهار وإن زال عنها اسم النكارة المطلقة ، ولم يتداول ما تفردت به الفقهاء
كثير تداول ولم يفحص عن صحتها وضعفها المحدثون كبير فحص ، ومنها ما لم
يخدمه لغوي لشرح غريب ، ولا فقيه بتطبيقه على مذاهب السلف ، ولا محدث
ببيان مشكله ، ولا مؤرخ بذكر أسماء رجاله ، ولا أريد المتأخرين المتعمقين ، وإنما
كلامي في الأئمة المتقدمين من أهل الحديث فهي باقية على استتارها وخمولها ،
كمسند أبي يعلى ، ومصنف عبد الرازق ، ومصنف أبي بكر بن أبي شيبة ، ومسند
عبد بن حميد ، ومسند الطيالسي ، وكتب البيهقي والطحاوي والطبراني ، وكان
قصدهم جمع ما وجدوه من الحديث لا تلخيصه وتهذيبه وتقريبه من العمل .
والطبقة الرابعة كتب قصد مصنفوها بعد قرون متطاولة جمع ما لم يوجد في
الطبقتين الأوليين ، وكانت في المجاميع والمسانيد المختلفة فنوهوا بأمرها ، وكانت
على ألسنة من لم يكتب حديثه المحدثون ، ككثير من الوعاظ المتشدقين وأهل
الأهواء والضعفاء ، أو كانت من آثار الصحابة والتابعين ، أو من كلام الحكماء(1/223)
والوعاظ خلطها الرواة بحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - سهوًا أو عمدًا ، أو
كانت من محتملات القرآن والحديث الصحيح ، فرواها بالمعنى قوم صالحون لا
يعرفون غوامض الرواية ، فجعلوا المعاني أحاديث معروفة أو كانت مفهومة من
إشارات الكتاب ، والسنة جعلوها أحاديث منفصلة برأسها عمدًا ، وكانت جملاً شتى
في أحاديث مختلفة جعلوها حديثًا واحدًا بنسق واحد ، ومظنة هذه الأحاديث كتاب
الضعفاء لابن حبان والكامل لابن عدي وكتب الخطيب وأبي نعيم والجوزقاني
وابن عساكر وابن النجار والديلمي ، وكاد مسند الخوارزمي يكون من هذه الطبقة ،
وأصلح هذه الطبقة ما كان ضعيفًا محتملاً ، وأسوؤها ما كان موضوعًا أو مقلوبًا
شديد النكارة ، وهذه الطبقة مادة كتب الموضوعات لابن الجوزي ، أما الطبقة
الأولى والثانية فعليهما اعتماد المحدثين ، وأما الثالثة فلا يباشرها للعمل عليها
والقول بها إلا النحارير الجهابذة الذين يحفظون أسماء الرجال وعلل الأحاديث ، نعم
ربما يؤخذ منها المتابعات والشواهد ، وقد جعل الله لكل شيء قدرًا ، وأما الرابعة
فالاشتغال بجمعها أو الاستنباط منها نوع تعمق من المتأخرين ، وإن شئت الحق
فطوائف المبتدعين من الرافضة ، وغيرهم يتمكنون بأدنى عناية أن يلخصوا منها
شواهد مذاهبهم ، فالانتصار بها غير صحيح في معترك العلماء بالحديث اهـ .
ولأبي محمد علي بن أحمد بن حزم الظاهري [19] مقالة في ترتيب كتب
الحديث ، جرى فيها على ما ظهر له في ذلك ، ذكرها في كتاب مراتب
الديانة ، وقد أورد السيوطي خلاصتها في كتاب التقريب ، فقال : وأما ابن حزم
فإنه قال : أولى الكتب الصحيحان ، ثم صحيح سعيد بن السكن [20] والمنتقى لابن
الجارود [21] والمنتقى لقاسم بن أصبغ [22] ، ثم بعد هذه الكتب كتاب أبي داود[23]
وكتاب النسائي [24][*]، ومصنف قاسم بن أصبغ ، ومصنف الطحاوي[25] ، ومسند(1/224)
أحمد [26] ، ومسند البزار[27] ، وأبي بكر [28] وعثمان [29] ابني أبي شيبة ، ومسند ابن
راهويه [30] ، والطيالسي[31] ، والحسن بن سفيان [32] ، والمستدرك للحاكم [33] وكتاب
ابن سنجر [34] ، ويعقوب بن شيبة [35] ، وعلي بن المديني [36] ، وابن أبي
عزرة [37] ، وما جرى مجراها من الكتب التي أفردت لكلام رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - ثم بعدها الكتب التي فيها كلامه وكلام غيره . ثم ما كان فيه الصحيح فهو
أجل مثل مصنف عبد الرزاق[38] ، ومصنف ابن أبي شيبة ، ومصنف بقي بن مخلد
القرطبي [39] ، وكتاب محمد بن نصر المروزي [40] ، وكتاب ابن المنذر [41] ، ثم
مصنف حماد بن سلمة [42] ، ومصنف سعيد بن منصور [43] ، ومصنف وكيع بن
الجراح [44] ، ومصنف الرزبالي ، وموطأ مالك ،وموطأ ابن أبي ذئب [45] ، وموطأ
ابن وهب [46] ، ومسائل أحمد بن حنبل ، وفقه أبي عبيد [47] ، وفقه أبي ثور [48] ،
وما كان من هذا النمط مشهورًا كحديث شعبة [49]، وسفيان [50] ، والليث [51] ،
والأوزاعي [52] ، والحميدي [53] ، وابن مهدي [54] ، ومسدد [55] ، وما جرى مجراها ،
فهذه طبقة موطأ مالك ، بعضها أجمع للصحيح منه ، وبعضها مثله ، وبعضها دونه ،
ولقد أحصيت ما في حديث شعبة من الصحيح فوجدته ثمانمائة حديث ونيفًا مسندة ،
ومرسلاً يزيد على المائتين ، وأحصيت ما في موطأ مالك وما في حديث سفيان بن
عيينة فوجدت في كل واحد منهما من المسند خمسمائة ونيفًا مسندة ، وثلاثمائة مرسلاً
ونيفًا ، وفيه نيف وسبعون حديثًا قد ترك مالك نفسه العمل بها ، وفيها أحاديث ضعيفة
وهَّاها جمهور العلماء .
***
تاريخ علوم الحديث الأخرى
إلى هنا كانت العناية موجهة إلى تاريخ الحديث من حيث الكتب الجامعة
لألفاظه والشارحة لمتونه ، وإن ذلك لغرض من أغراض ، وناحية من نواح ، فإن
خيرة المسلمين ، وشيوخ المحدثين ، كما عنوا بذلك عنوا بالتأليف في شرح غريبه ،(1/225)
وبيان ناسخه من منسوخه ، وإظهار حال رجاله والكشف عن علومه ومصطلحاته ،
من صحيح وعليل ومقبول ، ومردود ومتواتر ومشهور إلى غير ذلك من جليل
الأغراض ومتنوع الأقسام .
وسنفرد فصلاً لكل نوع من أنواعه الشهيرة ، نلم فيه بتوضيحه ونعرج على
تاريخه ، مقرنين ذلك بذكر أحسن المؤلفات فيه حتى يتجلى لك تاريخ الحديث من
جملة نواحيه .
***
علم غريب الحديث
الغريب من الكلام يقال على وجهين : أحدهما أن يراد به بعيد المعنى غامضه
بحيث لا يتناوله الفهم إلا عن بُعد ومعاناة فكر ، والوجه الآخر أن يراد به كلام من
بعدت به الدار من شواذ قبائل العرب .
وها نحن أولاء نحكي لك خلاصة ما قاله ابن الأثير في مفتتح نهايته ، فإنه
أحسن من وفّى هذا الموضوع قسطه من البيان ، ضامين إليه ما عثرنا عليه في
بطون الكتب التي تعرضت لهذا الشأن .
كان - صلى الله عليه وسلم - أفصح العرب لسانًا ، وأوضحهم بيانًا ،
وأعرفهم بمواقع الخطاب ، وأهداهم إلى طرق الصواب ، وكان يخاطب العرب
على اختلاف شعوبهم وتباين لهجاتهم ، كلاًّ منهم بما يفهم ، ويحادثه بما يعلم ، وكان
أصحابه والوفود عليه من العرب يعرفون أكثر ما يقول ، وما جهلوه سألوه عنه
فيوضحه لهم ، واستمر عصره - صلى الله عليه وسلم - إلى حين وفاته على هذا
السنن المستقيم ، وعليه سلك الصحابة في عصرهم ، وكان اللسان العربي عندهم
صحيحًا محروسًا من الدخيل إلى أن فتحت الأمصار وخالط العرب غير جنسهم من
الروم والفرس والحبش والنبط ، وغيرهم من أنواع الأمم الذين فتحت بلادهم
للمسلمين ، ورفرف عليها علم الموحدين فاختلطت الفرق وامتزجت الألسن وتداخلت
اللغات ، ونشأ بينهم الأولاد فتعلموا من اللسان العربي ما لا بد لهم في الخطاب
والمحاورة منه ، وتركوا ما عداه ؛ لغنيتهم عنه .
واستمر الأمر على هذا النهج إلى أن
انقرض عصر الصحابة - القرن الأول - وجاء التابعون لهم بإحسان فسلكوا سبيلهم ،(1/226)
وإن كانوا في الإتقان دونهم ، ولم ينقض زمانهم - سنة 150 - إلا واللسان
العربي قد استحال أعجميًّا ، أو كاد ، فلا ترى المستقل به والمحافظ عليه إلا الآحاد ،
فجهل الناس من هذا المهم ما كان يلزمهم معرفته ، وأخروا منه ما كان يجب
عليهم تقدمته ، فلما أعضل الداء ، وعز الدواء ، ألهم الله جماعة من أولي المعارف
والنهى أن يصرفوا إلى هذا الشأن طرفًا من عنايتهم ، فشرعوا للناس موارده ،
وقعدوا لهم قواعده ، فقيل : إن أول من جمع في هذا الفن شيئًا أبو عبيدة معمر بن
المثنّى البصري [56] ، فجمع من ألفاظ غريب الحديث والأثر كتيبًا صغيرًا ، ولم تكن
قلته لجهله بغيره من غريب الحديث ، وإنما كان ذلك لأمرين : أحدهما : أن كل مبتدع
لأمر لم يسبق إليه فإنه يكون قليلاً ثم يكثر ، والثاني : أن الناس يومئذ كان فيهم بقية
وعندهم معرفة ، فلم يكن الجهل قد عم . ثم جمع أبو الحسن النضر بن شميل
المازني [57] كتابًا أكبر من كتاب أبي عبيدة بسط فيه القول على صغر حجمه ، ثم
جمع عبد الملك بن قريب الأصمعي - وكان في عصر أبي عبيدة ، وتأخر عنه - كتابًا
أحسن فيه الصنع وأجاد ، ونيف على كتابه وزاد ، وكذلك محمد بن المستنير
المعروف بقطرب [58] ، وغيره من أئمة اللغة والفقه جمعوا أحاديث وتكلموا على
لغتها ومعناها في أوراق ذوات عدد ، ولم يكد أحدهم ينفرد عن الآخر بكثير حديث
لم يذكره الآخر ، واستمر الحال إلى زمن أبي عبيد القاسم بن سلام [59] ، وذلك بعد
المائتين ، فجمع كتابه المشهور في غريب الحديث والآثار أفنى فيه عمره ؛ إذ جمعه
في أربعين سنة ، وإنه لكتاب حافل بالأحاديث والآثار الكثيرة والمعاني اللطيفة
والفوائد الجمة ، ولقد ظن - رحمه الله - على كثرة تعبه وطول نصه أنه قد أتى
على معظم الغريب ، وما علم أن الشوط بطين ، والمنهل معين ، ولقد بقي كتابه
معتمد الناس إلى عصر أبي محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري [60] ،(1/227)
فصنف كتابه المشهور ولم يودعه شيئًا من كتاب أبي عبيد إلا ما دعت الحاجة إليه
من زيادة شرح وبيان ، أو استدراك أو اعتراض ، فجاء مثل كتاب أبي عبيد أو
أكثر منه ، وقد قال في مقدمته : أرجو أن لا يكون بقي بعد هذين الكتابين من
غريب الحديث ما يكون لأحد فيه مقال . وقد كان في عصره إبراهيم بن إسحاق
الحربي الحافظ [61] جمع كتابًا في الحديث بلغ خمس مجلدات ، بسط فيه القول
وأطال بذكر المتون وأسانيدها ، ولو لم يكن في المتن إلا كلمة واحدة من الغريب ،
فهجر الناس لذلك كتابه ، وإن كان جم الفائدة ، ثم أكثر الناس من التصانيف في هذا
الفن كالمبرد [62] ، وثعلب [63] ، ومحمد بن قاسم الأنباري [64] ، وسلمة من عاصم
النحوي , وعبد الملك بن حبيب المالكي ، ومحمد بن حبيب البغدادي ، وغيرهم من
أئمة اللغة والنحو والفقه والحديث ، واستمرت الحال إلى عهد الإمام محمد بن أحمد
الخطابي البستي [65] فألّف كتابه المشهور في غريب الحديث سلك فيه نهج أبي عبيد
وابن قتيبة ، وصرف عنايته فيه إلى جمع ما لم يوجد في كتابيهما ، فاجتمع له من ذلك
ما يداني كتاب أبي عبيد أو كتاب صاحبه ، فكانت هذه الكتب الثلاثة في غريب
الحديث والأثر أمهات الكتب ، وهي الدائرة في أيدي الناس ، وعليها يعول علماء
الأمصار ، إلا أن هذه الكتب الثلاثة وغيرها لم يكن فيها كتاب صنف مرتبًا ومقفى
يرجع الإنسان عند طلب الحديث إليه إلا كتاب الحربي ، وهو على طوله وعسر
ترتيبه لا يوجد الحديث فيه إلا بعد تعب وعناء ، ثم هي مع ذلك متفرقة فيها
الأحاديث ، فلا يعلم الناظر في أيها يوجد الغريب فيحتاج إلى البحث في كثير منها
حتى يجد غرضه .
فلما كان زمن أبي عبيد أحمد بن محمد الهروي [66] - وهو من طبقة
الخطابي ومعاصريه - ألّف كتابه السائر ، جمع فيه بين غريب القرآن والحديث
ورتبه ترتيبًا لم يسبق إليه ، فاستخرج الكلمات اللغوية الغريبة من أماكنها وأثبتها في(1/228)
حروفها مرتبًا لها على حروف المعجم ولم يفعمه بالأسانيد والمتون والرواة - شأن
ما سبقه من الكتب - فإن ذلك له علم مستقل به ، وقد جمع فيه من غريب الحديث
ما في كتب من تقدمه وأربى عليه ، فجاء كتابًا جامعًا في الحسن بين الإحاطة
والوضع ، إلا أنه جاء الحديث مفرقًا في حروف كلماته ، ولقد ذاع صيت هذا
الكتاب بين الناس واتخذوه عمدة في الغريب ، واقتفى أثره كثيرون ، واستدرك ما
فاته آخرون .
وما زالت الأيام تنقضي عن تصانيف وتبرز تآليف إلى عهد الإمام أبي القاسم
محمود بن عمر الزمخشري [67] فألف كتابه الفائق في غريب الحديث ، وإنه لكتاب
قيم رتبه على وضع اختاره مقفى على حروف المعجم ، ولكن في العثور على معرفة
الغريب منه مشقة وإن كانت دون غيره مما سبقه ؛ لأنه جمع في التقفية بين إيراد
الحديث مسرودًا جميعه أو بعضه ، ثم شرح ما فيه من غريب فيجيء شرح كلماته
الغريبة في حرف واحد فترد الكلمة في غير حروفها ، فكان لذلك كتاب الهروي أقرب
منه متناولاً ، وإن كانت كلمات الحديث متفرقة في حروفها .
ولقد ألف أبو بكر محمد بن أبي بكر المديني الأصفهاني [68] كتابًا جمع فيه
على طريقة الهروي ما فاته من غريب القرآن والحديث ، وكذلك صنف أبو الفرج
عبد الرحمن بن علي الجوزي [69] كتابًا في غريب الحديث خاصة نهج فيه منهج
الهروي ، بل كتابه مختصر من كتابه لا يزيد عليه إلا الكلمة الشاذة واللفظة الفاذة ،
بخلاف كتاب أبي موسى المديني فإنه لا يذكر منه إلا ما دعت الحاجة إليه .
أقول : ثم جاء مجد الدين مبارك بن محمد بن محمد الشيباني المعروف بابن
الأثير [70] ، الذي لخصت ما تقدم من مقدمة نهايته ، فجمع ما في كتاب الهروي وأبي
موسى من غريب الحديث والأثر ، وأضاف إليه ما عثر عليه في كتب السنة من
صحاح وسنن وجوامع ومصنفات ومسانيد - وإنه لكثير - سالكًا في الترتيب منهج
أصله ، فكان من ذلك كتابه ، النهاية في غريب الحديث والأثر ، وقد رمز لما في(1/229)
كتاب الهروي بالهاء ، ولما في كتاب أبي موسى المديني بالسين ، وقد ذيل النهاية
محمود بن أبي بكر الأرموي [71] واختصرها عيسى بن محمد الصفوي [72] ، فيما
يقرب من نصف حجمها ، وكذلك الحافظ جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر
السيوطي [73] ، في كتابه الدر النثير تلخيص نهاية ابن الأثير ، وله التذييل
والتذنيب على نهاية الغريب ، وقد طبعت النهاية وعلى هامشها الدر النثير مشكولة
وغير مشكولة .
***
علم رجال الحديث
هذا فن جليل القدر عظيم الأثر ، الحاجة إليه داعية ، والضرورة به قاضية ،
وليس من عظيم في الحديث هو عنه بعيد أو باعه فيه قصير ، وكيف لا يكون
كذلك وهو نصف علم الحديث ؟ فإنه سند ومتن والسند عبارة عن الرواة ، فمعرفة
أحوالهم نصف هذا العلم بلا ريب .
والكتب المصنفة فيه كثيرة الأنواع ، متشعبة الأغراض ، فمن مؤلف في
أسماء الصحابة خاصة ، أو في رواة الحديث عامة ، ومن خاص بالثقات أو
الضعفاء أو الحفاظ أو المدلسين أو الوضّاعين ، ومن مبين للجرح والتعديل
وألفاظهما ومراتب كل منها ، ومن كاشف عن المؤتلف والمختلف أو المتفق
والمفترق من الأسماء والأنساب ، ومن قاصر على ذكر الوفيات أو موضح لرجال
كتاب معين أو عدة كتب مخصوصة ، وكل كتب فيه العلماء فأحسنوا الكتابة وبلغوا
فيها الغاية كما ترى بعد :
***
( أ ) أسماء الصحابة
الصحابي : كل من لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - مؤمنًا به ومات على
ذلك ، ولو تخللت ردة في الأصح . وأول من يعرف عنه التصنيف في هذا النوع أبو
عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري [74] ، أفرد أسماء الصحابة في مؤلف ، وجمعها
مضمومة إلى من بعدهم جماعة من طبقة مشايخه كخليفة بن الخياط المحدث
النسابة [75] , ومحمد بن سعد [76] الذي بلغ مؤلفه خمسة عشر مجلدًا , ومن قرنائه
كيعقوب بن سفيان [77] وأبي بكر بن أبي خيثمة [78] ، وصنف في الصحابة
خاصة جَمْعٌ بعدهم كالحافظ البغوي عبد الله بن محمد بن عبد العزيز [79] وأبي(1/230)
بكر الحافظ الكبير عبد الله بن أبي داود [80] ، ثم علي بن السكن [81] وأبو بكر
عمر بن أحمد المعروف بابن شاهين [82] ، وأبو منصور البارودي وأبو حاتم
الرازي ابن حبان [83] ، وسليمان بن أحمد الطبراني [84] ضمن معجمه الكبير ، ثم
عبد الله بن منده [85] ، والحافظ أبو نعيم [86] ، ثم عمر بن عبد البر [87] ، ألف
كتابه الاستيعاب ، وسماه بذلك ؛ لظنه أنه استوعب كتب من قبله في كتابه ، ومع ذلك
ففاته شيء كثير فذيل عليه أبو بكر بن فتحون ذيلاً حافلاً ، وذيل عليه جماعة في
تصانيف لطيفة ، وذيل أبو موسى المديني [88] على ابن منده ذيلاً كبيرًا ، وما زال
الناس يؤلفون في ذلك إلى أن كانت تباشير القرن السابع فجمع عز الدين ابن
الأثير [89] كتابًا حافلاً سماه أسد الغابة جمع فيه كثيرًا من التصانيف المتقدمة ، إلا
أنه تبع من قبله فخلط من ليس صحابيًّا بهم ، وأغفل كثيرًا من الأوهام الواقعة في
كتبهم ، ثم جرد الأسماء التي في كتابه مع زيادات عليها الحافظ أبو عبد الله
الذهبي [90] في كتابه التجريد ، وأعلم لمن ذكر غلطًا ولمن لا تصح صحبته ، ولم
يستوعب ذلك ولا قارب ، ثم جاء الحافظ أحمد بن حجر العسقلاني [91] ، فألف كتابه
الإصابة في تمييز الصحابة ، في ثمانية أجزاء صغيرة ، جمع فيه ما في الاستيعاب
وذيله وأسد الغابة ، واستدرك عليهم كثيرًا ، وقد اختصره تلميذه جلال الدين
السيوطي في كتاب سماه عين الإصابة .
وقد ألف كل من البخاري ومسلم كتابا في أسماء الوحدان ؛ أي : الصحابة الذين
ليس لهم إلا حديث واحد ، وكذلك ألف يحيى بن عبد الوهاب بن منده الأصبهاني [92]
كتابا فيمن عاش من الصحابة عشرين سنة ومائة .
***
( ب ) علم الجرح والتعديل
هو علم يبحث فيه عن جرح الرواة وتعديلهم بألفاظ مخصوصة ، وعن مراتب
تلك الألفاظ والكلام في الرجال جرحًا وتعديلاً ثابتًا عن رسول الله - صلى الله عليه(1/231)
وسلم - ثم عن كثير من الصحابة والتابعين فمن بعدهم - وجوز ذلك صونًا للشريعة
لا طعنًا في الناس ، وكما جاز الجرح في الشهود جاز في الرواة والتثبت في أمر
الدين أولى من التثبت في الحقوق والأموال ، فلهذا افترضوا على أنفسهم الكلام في
ذلك .
وقد تكلم في الرجال خلق لا يتهيأ حصرهم ، وقد سرد ابن عدي [93]
في مقدمة كتابه الكامل جماعة إلى زمنه ، فمن الصحابة ابن عباس [94] وعبادة
ابن الصامت [95] وأنس [96] ، ومن التابعين الشعبي [97] وابن سيرين [98] وسعيد بن
المسيب [99] ، وهم قليل بالنسبة لمن بعدهم ، وذلك لقلة الضعف ، فيمن يروون
عنهم ، إذ أكثرهم صحابة وهم عدول ، وغير الصحابة منهم أكثرهم ثقات ؛ إذ لا يكاد
يوجد في القرن الأول من الضعفاء إلا القليل ، وأما القرن الثاني فقد كان في أوائله
من أوساط التابعين جماعة من الضعفاء وضعف أكثرهم نشأ غالبًا من قبل تحملهم
وضبطهم للحديث ، فكانوا يرسلون كثيرًا ويرفعون الموقوف ، وكانت لهم أغلاط
وذلك مثل أبي هارون العبدري [100] ، ولما كان آخر عصر التابعين وهو حدود
الخمسين ومائة ، تكلم في التعديل والتجريح طائفة من الأئمة فضعف الأعمش [101]
جماعة ووثق آخرين ، ونظر في الرجال شعبة [102] وكان متثبتًا لا يكاد يروي
إلا عن ثقة ، ومثله مالك[103] وممن كان في هذا العصر إذا قال قبل قوله
معمر[104] وهشام الدستوائي [105] والأوزاعي[106] وسفيان الثوري [107] وابن
الماجشون [108] وحماد بن سلمة[109] والليث بن سعد [110] ، وبعد هؤلاء طبقة
منهم ابن المبارك [111] وهيثم بن بشير [112] وأبوإسحاق الفزاري [113]
والمعافى بن عمران الموصلي [114] وبشر بن المفضل [115] وابن عيينة [116] ،
وقد كان في زمنهم طبقة أخرى ، منهم ابن علية [117] وابن وهب[118] ووكيع بن
الجراح[119] ، وقد انتدب في ذلك الزمان لنقد الرجال الحافظان الحجتان يحيى بن
سعيد القطان ، وعبد الرحمن بن مهدي [120] ، وكان للناس وثوق بهما فصار من(1/232)
وثّقاه مقبولاً ، ومن جرّحاه مجروحًا ، ومن اختلفا فيه - وذلك قليل - رجع
الناس فيه إلى ما ترجح عندهم ، ثم ظهرت بعدهم طبقة أخرى يرجع إليهم في ذلك
منهم يزيد بن هارون [121]و أبو داود الطيالسي [122]و عبد الرزاق بن همام [123]
و أبو عاصم الضحاك النبيل بن مخلد [124] .
ثم صنفت الكتب في الجرح والتعديل والعلل ، وبينت فيها أحوال الرواة ،
وكان رؤساء الجرح والتعديل في ذلك الوقت جماعة منهم يحيى بن معين [125] ،
وقد اختلفت آراؤه وعبارته في بعض الرجال كما تختلف آراء الفقيه النحرير
وعبارته في بعض المسائل التي لا تكاد تخلص من إشكال ، ومن طبقته أحمد بن
حنبل[126] ، وقد سأله جماعة من تلامذته عن كثير من الرجال ، فتكلم فيهم بما بدا له ،
ولم يخرج بهم عن دائرة الاعتدال ، وقد تكلم في هذا الأمر محمد بن سعد [127]
كاتب الواقدي في طبقاته ، وكلامه جيد معقول ، وأبو خيثمة زهير بن حرب [128]
وله في ذلك كلام كثير ، وأبو جعفر عبد الله بن محمد النبيل حافظ الجزيرة
الذي قال فيه أبو داود : لم أر أحفظ منه . وعلي بن المديني[129] وله التصانيف
الكثيرة في العلل والرجال ، ومحمد بن عبد الله بن نمير [130] ، الذي قال فيه أحمد :
هو درة العراق . وأبو بكر بن أبي شيبة [131] صاحب المسند ، وكان آية في
الحفظ ، وعبد الله بن عمرو القواريري [132] الذي قال فيه صاحب جرزة : هو أعلم
من رأيت بحديث أهل البصرة . وإسحاق بن راهويه[133] إمام خراسان ، وأبو جعفر
محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي الحافظ ، وله كلام جيد في الجرح والتعديل ،
وأحمد بن صالح [134]حافظ مصر ، وكان قليل المثل [135] ، وهارون بن عبد الله
الحمال [136] ، وكل هؤلاء من أئمة الجرح والتعديل .
ثم خلفتهم طبقة أخرى متصلة بهم ، منهم إسحاق الكوسج [137]
والدارمي [138]والبخاري[139] والعجلي الحافظ نزيل المغرب[140] ، ويتلوهم أبو(1/233)
زرعة [141] وأبو حاتم [142] الرازيان ، ومسلم[143] وأبو داود السجستاني [144] ،
وبقي بن مخلد [145] وأبو زرعة الدمشقي [146] ، ثم من بعدهم جماعة ، منهم عبد
الرحمن بن يوسف البغدادي ، وله مصنف في الجرح والتعديل ، وكان كأبي حاتم
في قوة النفس ، وإبراهيم بن إسحاق الحربي [147] ، ومحمد بن وضاح [148]
حافظ قرطبة ، وأبو بكر بن أبي عاصم [149] وعبد الله بن أحمد [150] وصالح
جرزة [151] وأبو بكرالبزار [152] ومحمد بن نصر المروزي[153] ومحمد بن
عثمان بن أبي شيبة [154] ، وهو ضعيف لكنه من الأئمة في هذا الأمر ، ثم من
بعدهم جماعة ، منهم أبو بكر الفريابي والنسائي [155] وأبو يعلى [156] وأبو الحسن
سفيان وابن خزيمة [157] وابن جريرالطبري [158] ، والدولابي [159] وأبو عروبة
الحراني [160] وأبو الحسن أحمد بن عمير وأبو جعفر العقيلي [161] ، ويتلوهم جماعة ،
منهم ابن أبي حاتم [162] ، وأحمد بن نصر البغدادي شيخ الدارقطني [163] ، وآخرون ،
ثم من بعدهم جماعة ، منهم أبو حاتم ابن حبان البستي [164] والطبراني[165] وابن عدي
الجرجاني [166] ، وكتابه في الرجال إليه المنتهى في الجرح والتعديل .
وقد جاء بعد ابن عدي وطبقته جماعة ، منهم أبو علي الحسين بن محمد
النيسابوري [167] وله مسند معلل في ألف جزء وثلاثمائة ، وأبو الشيخ ابن حبان [168]
وأبو بكر الإسماعيلي [169] وأبو أحمد الحاكم [170] والدارقطني[171] وبه ختمت معرفة
العلل ، ثم من بعدهم جماعة منهم ابن منده [172] وأبو عبد الله الحاكم [173] وأبو نصر
الكلاباذي [174] وعبد الرحمن بن فطيس قاضي قرطبة[175] ، وله دلائل السنة ،
وعبد الغني بن سعيد [176] وأبو بكر بن مردويه الأصفهاني [177] ، ثم من بعدهم
جماعة منهم محمد بن أبي الفوارس البغدادي [178] وأبو بكر البرقاني [179] وأبو حاتم
العبدري - وقد كتب عنه عشرة آلاف جزء - وخلف بن محمد الواسطي [180] ، وأبو(1/234)
مسعود الدمشقي [181] ، وأبو الفضل الفلكي [182] ، وله كتاب الطبقات في ألف جزء ،
ثم من بعدهم جماعة ، منهم الحسن بن محمد الخلال البغدادي [183] وأبو يعلى الخليلي
[184] ، ثم من بعدهم جماعة منهم ابن عبد البر [185] وابن حزم [186] الأندلسيان ،
والبيهقي[187] والخطيب [188] ، ثم من بعدهم جماعة ، منهم ابن ماكولا [189] وأبو
الوليد الباجي [190] ، وقد صنف في الجرح والتعديل ، وأبو عبد الله الحميدي [191] ، ثم
من بعدهم جماعة ، منهم أبو الفضل ابن طاهر المقدسي [192] والمؤتمن بن أحمد [193]
وشهرويه الديلمي ، ثم من بعدهم جماعة ، منهم أبو موسى المديني[194] ، وأبو القاسم
ابن عساكر [195] وابن بشكوال [196] ، ثم من بعدهم جماعة ، منهم أبو بكر الحازمي
[197] وعبد الغني المقدسي[198] والرهاوي وابن مفضل المقدسي [199] ، ثم من بعدهم
جماعة ، منهم أبو الحسن بن القطان [200] وابن الأنماطي [201] وابن نقطة [202] ، ثم
من بعدهم جماعة ، منهم ابن الصلاح[203] والزكي المنذري [204] وأبو عبد الله
البرذالي [205] وابن الأبار وأبو شامة [206] ، ثم من بعدهم جماعة ، منهم ابن دقيق
العيد [207] والشرف الميدومي وابن تيمية [208] ، ثم من بعدهم جماعة ، منهم
المزي [209] وابن سيد الناس وأبو عبد الله بن أيبك والذهبي [210] والشهاب بن
فضل الله [211] ومغلطاي [212] والشريف الحسيني الدمشقي والزين العراقي [213] ، ثم
من بعدهم جماعة ، منهم الولي العراقي والبرهان الحلبي وابن حجر العسقلاني [214]
وآخرون من كل عصر ، إلا أن المتقدمين كانوا أقرب إلى الاستقامة وأبعد من موجبات
الملامة .
ولعلك سئمت الإكثار من ذكر الأسماء ، وإن كان مقتضى الحال وعين ما
يتطلبه المقام ، لكن لنا في ذلك غرض جليل ومغزى نبيل وهو أن نكمم أفواه أولئك
الذين تقولوا على السنة أنه دخل فيها الغريب عنها ؛ إذ قد طال العهد عليها وتناولتها(1/235)
عصور الجهالة وبعثرت منها إحن الزمان وطوارئ الحدثان ، فنحن نقدم لهم دليلاً
بينًا وبرهانًا ساطعًا أن السنة خدمها المسلمون خدمة جليلة لم تعهد لدى أمة من الأمم
ولا في ملة من الملل ، وإن ذلك كان ديدن المسلمين في كل عصر ، فلم يغفلوها فترة
من الزمن حتى يعبث بها أولو الأغراض ، وينال منها ذوو الإلحاد ، بل لا زالت
محفوظة من يد العابثين ، مخدومة من جهابذة المحدثين ، فلهم الكلمة على المتقولين ،
والثناء من عامة المسلمين .
((يتبع بمقال تالٍ))
________________________
(1) توفي سنة 597 . (2) سنة 694 . (3) سنة 774 .
(4) سنة 807 . (5) سنة 516 . (6) توفي سنة 840 .
(7) سنة 702 . (8) سنة 632 . (9) سنة 652 .
(10) سنة 1250 . (11) سنة 852 . (12) سنة .
(13) سنة 643 . (14) سنة 458 . (15) توفي سنة 491 .
(16) سنة 656 . (17) سنة 1176 .
(18) الصحيح من الحديث ما رواه عدل تام الضبط بسند متصل غير معلل ولا شاذ ، وهذا هو
الصحيح لذاته ، فإن خف الضبط فالحسن لذاته وبكثرة الطرق يصحح فيسمى الصحيح لغيره ،
والضعيف ما دون الحسن ، والمعروف ما كان في سنده ثقة خالف ضعيفًا في حديثه ، ومروي ذلك
الضعيف يسمى المنكر، ويطلق المنكر أيضًا على حديث في سنده كثير الغلط أو غافل عن الإتقان أو
فاسق ، والغريب ما كان في سنده منفرد بالرواية لم يشاركه فيها أحد أو لم يكن له إلا سند واحد ،
والشاذ ما كان في سنده ثقة خالف من هو أرجح منه ، وعلى رأي يطلق على من لازمه سوء الحفظ ،
والمقلوب ما كان فيه تقديم وتأخير كمرة بن كعب وكعب بن مرة .
(19) توفي سنة 456 . (20) سنة 353 . (21) سنة 307 .
(22) سنة 340 . (23) سنة 275 . (24) سنة 303 .
(*) إنما لم يذكر سنن ابن ماجه ولا جامع أبي عيسى الترمذي ؛ لأنه ما رآهما ولا دخلا الأندلس إلا
بعد وفاته .
(25) سنة 321 . (26) سنة 241 . (27) سنة 292 .
(28) سنة 235 . (29) سنة 239 . (30) سنة 237 .(1/236)
(31) سنة 204 . (32) سنة 303 . (33) سنة 405 .
(34) سنة 258 . (35) سنة 262 . (36) توفي سنة 234 .
(37) سنة 276 . (38) سنة 211 . (39) سنة 276 .
(40) سنة 294 .
(41) لا أدري هل هو إبراهيم بن المنذر المتوفى سنة 236 أو علي بن المنذر المتوفى سنة 256 .
(42) سنة 167 . (43) سنة 227 . (44) سنة 197 .
(45) سنة 159 . (46) سنة 197 . (47) سنة 234 .
(48) سنة 240 . (49) سنة 160 . (50) سنة 198 .
(51) سنة 175 . (52) سنة 156 . (53) سنة 219 .
(54) سنة 198 . (55) سنة 228 . (56) توفي سنة 210 .
(57) سنة 204 . (58) سنة 206 . (59) سنة 224 .
(60) سنة 276 . (61) سنة 285 . (62) سنة 285 .
(63) سنة 291 . (64) سنة 328 . (65) توفي سنة 388 .
(66) سنة 401 . (67) سنة 538 . (68) سنة 581 .
(69) توفي سنة 514 . (70) سنة 606 . (71) سنة 723 .
(72) سنة 953 . (73) سنة 911 . (74) توفي سنة 256 .
(75) سنة 240 . (76) سنة 230 . (77) سنة 277 .
(78) سنة 279 . (79) سنة 330 . (80) سنة 316 .
(81) سنة 353 . (82) سنة 385 . (83) سنة 354 .
(84) سنة 360 . (85) سنة 355 . (86) سنة 463 .
(87) سنة 191 . (88) سنة 181 . (89) سنة 630 .
(90) سنة 748 . (91) سنة 852 . (92) توفي سنة 511 .
(93) 365 . (94) 68 . (95) 34 .
(96) 92 . (97) بعد المائة . (98) 110 .
(99) بعد التسعين . (100) 134 . (101) 148 .
(102) 160 . (103) 179 . (104) 153 .
(105) 154 . (106) 156 . (107) 161 .
(108) 213 . (109) 167 . (110) 175 .
(111) 181 . (112) سنة 188 . (113) سنة 185 .
(114) سنة 185. (115) سنة 186 . (116) سنة 197 .
(117) سنة 193. (118) سنة 197. (119) سنة 197.
(120) سنة 198 . (121) سنة 206 . (122) 204 .
(123) سنة 211 . (124) سنة 212 . (125) 233 .
(126) سنة 241 . (127) سنة 230 . (128) سنة 234 .
(129) سنة 234 . (130) سنة 234 . (131) سنة 235 .(1/237)
(132) سنة 235 . (133) __ . (134) توفي سنة 242 .
(135) 248 . (136) 243 . (137) 251 .
(138) 255 . (139) 251 . (140) 221 .
(141) 264 . (142) 277 . (143) 261 .
(144) 275 . (145) 276 . (146) 281 .
(147) 285 . (148) 289 . (149) 287 .
(150) 290 . (151) 293 . (152) 292 .
(153) 294 . (154) 297 . (155) 303 .
(156) 307 . (157) 311 . (158) 310 .
(159) 311 . (160) 318 . (161) 322 .
(162) 327 . (163) 323 . (164) 345 .
(165) 360 . (166) 365 . (167) 265 .
(168) 369 . (169) 371 . (170) 378 .
(171) 385 . (172) 395 . (173) توفي سنة 405 .
(174) 398 . (175) 402 . (176) 409 .
(177) 416 . (178) 412 . (179) 425 .
(180) 401 . (181) 400 . (182) 438 .
(183) 439 . (184) 446 . (185) 463 .
(186) 456 . (187) 458 . (188) 463
(189) 475 . (190) 474 . (191) 488 .
(192) 507 . (193) 507 . (194) 581 .
(195) 323 . (196) 578 . (197) 584 .
(198) 600 . (199) 611 . (200) 638 .
(201) 619 . (202) 529 . (203) 643 .
(204) ــ . (205) 636 . (206) 625 .
(207) 702 . (208) 835 . (209) 742 .
(210) 748 . (211) 749 . (212) 763 .
(213) 806 . (214) 852 .
(( مجلة المنار ـ المجلد [ 22 ] الجزء [ 4 ] صـ 273 رجب 1339 ـ مارس 1921 ))
تاريخ فنون الحديث
( 5 )
كتب الجرح والتعديل
الكتب المؤلفة في الجرح والتعديل ذات مسالك مختلفة فمنها خاص بالثقات أو
الضعفاء أو المدلسين ، ومنها جامع لكل أولئك ، ثم منها ما لا يتقيد برجال كتاب
معين أو كتب مخصوصة ، ومنها ما يتقيد بذلك ، ونحن ذاكرون من كل نوع كتبه
المشهورة بتوفيق الله وإرشاده .
1- الكتب الجامعة بين الثقات والضعفاء : من الكتب المشتملة على الثقات
والضعفاء جميعًا طبقات محمد بن سعد الزهري البصري [1] ، وهو من أعظم ما
صنف ، يقع في خمسة عشر مجلدًا ، جمع فيه الصحابة والتابعين فمن بعدهم ، وقد(1/238)
اختصره السيوطي في كتابه إنجاز الوعد المنتقى من طبقات ابن سعد ، وكذلك
طبقات خليفة بن خياط [2] ، ومسلم بن الحجاج [3] ، وتاريخ ابن أبي خيثمة [4] ،
وهو كثير الفوائد ، وتواريخ البخاري [5] ، وهي ثلاثة : كبير ، وهو على حروف
المعجم ، وابتدأه بمن اسمه محمد ، وأوسط ، وهو على السنين ، وصغير .
ولمسلمة بن قاسم ذيل على الكبير ، وهو في مجلد ، ولابن أبي حاتم [6] جزء كبير
انتقد فيه على البخاري ، وله الجرح والتعديل مشى فيه خلف البخاري ، وللحسين
بن إدريس الأنصاري الهروي [7] - ويعرف بابن خرم - تاريخ على نحو التاريخ
الكبير للبخاري ، ولعلي بن المديني [8] تاريخ في عشرة أجزاء حديثية ، ولابن
حبان [9] كتاب في أوهام أصحاب التواريخ في عشرة أجزاء أيضًا .
ولأبي محمد بن عبد الله بن علي بن الجارود كتاب في الجرح والتعديل ،
ولمسلم رواة الاعتبار ، وللنسائي التمييز ، ولأبي يعلى الخليلي [10] الإرشاد ،
وللعماد بن كثير التكميل في معرفة الثقات والضعفاء والمجاهيل ، جمع فيه بين
تهذيب المزي وميزان الذهبي مع زيادات وتحرير في العبارات ، وهو أنفع شيء
للمحدث والفقيه التالي لأثره ، ومنها تاريخ الذهبي ، والتكملة في أسماء الثقات
والضعفاء لإسماعيل بن عمر المعروف بابن كثير الدمشقي [11] وطبقات المحدثين
لعمر بن علي بن الملقن [12] ذكر فيها المحدثين إلى زمنه ، والكمال في معرفة الرجال
له .
2- كتب الثقات : منها كتاب الثقات للعجلي [13] ، وكتاب الثقات لخليل بن
شاهين ، والثقات لأبي حاتم بن حبان البستي ، وكتاب الثقات الذين لم تذكر
أسماؤهم في الكتب الستة لزين الدين قاسم بن قطلوبغا [14] ، وهو كبير في أربع
مجلدات .
ومن هذا النوع الكتب المبينة لطبقات الحفاظ ، وقد ألف فيها جمع ، فمنهم
الذهبي ، وابن الدباغ [15] وابن المفضل وابن حجر العسقلاني ، والسيوطي ذيل على
تأليف الذهبي ، وتقي الدين بن فهد ، وذيل مؤلفه محمد بن محمد الهاشمي [16] .(1/239)
3- كتب الضعفاء : منها كتاب الضعفاء للبخاري ، والضعفاء والمتروكين
للنسائي ، ولأبي الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي [17] وكتابه كبير ، وقد اختصره
الذهبي ثم ذيله كما ذيله علاء الدين مغلطاي [18] ، والضعفاء لمحمد بن عمرو
العقيلي [19] ، وكتابه مفيد ، وللإمام حسن بن محمد الصنعاني ولمحمد بن حبان
البستي وكتابه كبير ، ولأبي أحمد بن عدي كتاب الكامل وهو أكمل الكتب في ذلك
وأجلها ، وعليه اعتماد الأئمة وله ذيل يقال له : الحافل لأبي العباس أحمد بن
محمد الإشبيلي المعروف بابن الرومية [20] ، والضعفاء للدارقطني وللحاكم ، ولعلاء
الدين المارديني [21] ، وميزان الاعتدال للحافظ الذهبي ، وهو أجمع ما جمع ، طبع في
الهند ثم بمصر ، وقد ذيل عليه الحافظ زين الدين العراقي في مجلدين ، وقد التقط منه
الحافظ ابن حجر من ليس في تهذيب الكمال وضم إليه ما فاته في الرواة وتراجم
مستقلة في كتابه المسمى لسان الميزان وله كتابان آخران ، وهما تقويم اللسان وتحرير
الميزان ، ويوجد عدا ذلك كتب كثيرة .
4- كتب المدلسين : أول من أفرد المدلسين [22]بالتصنيف الإمام حسين بن
علي الكرابيسي [23] صاحب الشافعي ، ثم صنف فيه النسائي ثم الدارقطني ، ونظم
الذهبي في ذلك أرجوزة ، وتبعه تلميذه أحمد بن إبراهيم المقدسي ، فزاد عليه من جامع
التحصيل للعلائي شيئًا كثيرًا مما فاته ، ثم ذيل الحافظ زين الدين العراقي[24] في
هوامش كتاب العلائي أسماء وقعت له زائدة ، ثم ضمها ولده ولي الدين إلى من
ذكره العلائي وجعله تصنيفًا مستقلاً ، وزاد فيه من تتبعه شيئًا يسيرًا ، وصنف
إبراهيم بن محمد الحلبي [25]كتابه التبيين في أسماء المدلسين زاد فيه عليهم قليلاً ،
وجميع ما في كتاب العلائي ثمان وستون نفسًا ، زاد عليهم ابن العراقي ثلاث عشرة
نفسًا ، وزاد عليه الحلبي اثنتين وثلاثين نفسًا ، وابن حجر العسقلاني تسعًا وثلاثين(1/240)
نفسًا ، فجملة ما فيه اثنتان وخمسون نفسًا ومائة وللسيوطي رسالة في أسماء
المدلسين .
5- المصنفات في رجال كتب مخصوصة : منها رجال البخاري لأحمد بن
محمد الكلاباذي [26] ، ورجاله أيضًا لمحمد بن داود الكردي [27] ، ورجال مسلم
لأحمد بن علي المعروف بابن منجويه [28] ، ورجاله أيضًا لأحمد بن علي
الأصبهاني [29] ، وممن جمع بين رجالهما محمد بن طاهر المقدسي [30] جمع بين
كتابي ابن منجويه والكلاباذي ، وأحسن في ترتيبه على الحروف ، واستدرك عليهما ،
وكذلك جمع بينهما هبة الله المعروف باللالكائي [31] وممن أفرد رجال السنن لأبي
داود حسين بن محمد الحباني [32] ، وجمع رجال الموطأ السيوطي ، ورجال المشكاة
لصاحبها محمد بن عبد الله الخطيب ، ورجال الأربعة : موطأ مالك ، ومسند الشافعي ،
ومسند أحمد ، ومسند أبي حنيفة ، لابن حجر العسقلاني ، ورجال السنن الأربع ، سنن
الترمذي والنسائي وأبي داود وابن ماجه ، لأحمد بن أحمد الكردي [33] ، وممن جمع
رجال الكتب الستة أبو محمد عبد الغني بن عبد الواحد بن سرور المقدسي [34] في
كتابه الكمال في معرفة الرجال ، وتهذيبه لجمال الدين يوسف بن الزكي المزي [35]
وهو كتاب كبير يقع في ثلاثة عشر مجلدًا لم يؤلف مثله ، وإكمال التهذيب لعمر بن
علي بن الملقن[36] وزوائد الرجال على تهذيب الكمال للسيوطي ، وللتهذيب
مختصرات
كثيرة ، منها الكاشف للحافظ الذهبي قال فيه : هذا مختصر في رجال الكتب الستة :
الصحيحين ، والسنن الأربع مقتضب من تهذيب الكمال للمزي اقتصر فيه على ذكر
من له رواية في الكتب الستة دون من عداهم مما في كتاب المزي ، ومنها تهذيب
التهذيب لابن حجر ، وهو أكمل من كاشف الذهبي ، وقد أضاف إليه ابن حجر بعض
التراجم التي عثر عليها ، كما اختصره في كتابه تقريب التهذيب ، وقد جمع الحافظ أبو
المحاسن الدمشقي [37] في كتابه التذكرة رجال العشرة .
***
( ج ) وفيات المحدثين(1/241)
كثير من الكتب الجامعة لرجال الحديث يتعرض في الأكثر لذكر الوفيات ،
وقد أفرد الوفيات بالتأليف جمع من العلماء ، فقد ابتدأ أبو سليمان محمد بن عبد الله
الحافظ بجمع وفيات النقلة من وقت الهجرة ، فوصل إلى سنة 338 ، ثم ذيل على
كتابه أبو محمد بن عبد العزيز الكتاني الحافظ [38] ، ثم ذيل على الكتاني هبة الله بن
أحمد الأكفاني ذيلاً صغيرًا ، ويشتمل على نحو عشرين سنة ، وصل فيه إلى سنة
485 ، ثم ذيل على الأكفاني علي بن مفضل المقدسي [39] إلى سنة 581 ، ثم ذيل
على ابن المفضل عبد العظيم بن عبد القوي المنذري [40] ذيلاً كبيرًا في ثلاث مجلدات
سمّاه التكملة لوفيات النقلة ، ثم ذيل على المنذري تلميذه عز الدين أحمد بن محمد إلى
سنة 674 ، وذيل على عز الدين أحمد بن أيبك الدمياطي إلى سنة 749 ، وذيل على
ابن أيبك الحافظ زين الدين عبد الرحيم العراقي [41] ، والكل مرتب على حسب وفياتهم
في السنين والشهور لا على ترتيب حروف الهجاء .
ومن الكتب المفردة بوفيات النقلة تاريخ البرذالي القاسم بن محمد الدمشقي [42] ،
وقد ذيل عليه تقي الدين بن رافع من سنة 737 إلى سنة 774 ، وذيل ذيل تقي
الدين بن حجر ، ومنها : وفيات الشيوخ لمبارك بن أحمد الأنصاري ، ولإبراهيم بن
إسماعيل المعروف بالحبال [43] كتاب الوفيات .
***
( د ) معرفة الأسماء والكنى والألقاب
من رواة الحديث من يكون مشهورًا باسمه دون كنيته ، أو لقبه ، أو مشهورًا
بكنيته أو لقبه دون اسمه ، وقد ألف العلماء في بيان أسماء ذوي الكنى ، وبيان كنى
المشهورين بالأسماء ، وكذلك ألفوا في بيان ألقاب ذوي الأسماء ، كما ألفوا في نحو
ذلك حتى لا يشتبه راوٍ بآخر ، ولا يظن لقب شخص أو كنيته اسمًا لثان ، فيعد الثقة
ضعيفًا ، أو الصادق كاذبًا أو يعكس الأمر .
فممن ألّف في النوع الأول علي بن المديني والنسائي والحاكم وابن عبد البر
وكثيرون غيرهم ، وللحافظ الذهبي كتاب المقتنى في سرد الكنى ، وهو من أجلّ(1/242)
الكتب المؤلفة في هذا النوع .
وممن كتب في بيان كنى المعروفين بالأسماء أبو حاتم بن حبان البستي ،
وممن صنف في الألقاب أبو بكر الشيرازي [44] وأبو الفضل الفلكي في كتابه
منتهى الكمال ، وابن الجوزي [45] ، وابن حجر العسقلاني .
***
المؤتلف والمختلف والمتفق والمفترق والمشتبه
من الأسماء والأنساب
من الأسماء والأنساب ما يأتلف في الخط صورته ، ويختلف في اللفظ صيغته ،
كسَلام بتخفيف اللام وسلام بتشديدها ، ويسمى المؤتلف والمختلف ، ومنها ما يتفق
خطه ولفظه ، ولكن يفترق شخصه كالخليل بن أحمد اسم لعدة أشخاص ، ويسمى
المتفق والمفترق ، ومنها ما تتفق فيه الأسماء خطًّا ونطقًا وتختلف الآباء أو النسب
نطقًا مع ائتلافها خطًّا ، أو بالعكس كمحمد بن عقيل بكسر القاف ، ومحمد بن عقيل
بفتحها ، وشريح بن النعمان ، وسريج بن النعمان ، الأول بالشين المعجمة والحاء
المهملة ، والثاني بالسين المهملة والجيم ، ويسمى هذا النوع بالمشتبه .
ومعرفة هذه الأنواع مهمة ، قال علي بن المديني : أشد التصحيف ما يقع في
الأسماء ، ووجهه بعضهم بأنه شيء لا يدخله القياس ولا قبله شيء يدل عليه ولا
بعده ؛ ولأنه يخشى أن يظن الشخصان شخصًا واحدًا إذا اتفقت الأسماء ، وفي ذلك
ما فيه من الخلط بين الرواة .
ولقد ألّف المحدثون في كل هذه الأنواع ، فصنف في النوع الأول أبو أحمد
العسكري ، لكنه أضافه إلى كتاب التصحيف له ، ثم أفرده بالتأليف عبد الغني بن
سعيد [46] فجمع فيه كتابين : كتابًا في مشتبه الأسماء ، وكتابًا في مشتبه النسبة ، وجمع
شيخه الحافظ الدارقطني[47] كتابًا حافلاً ، ثم جمع أحمد بن علي الخطيب [48] ذيلاً
سمّاه المؤتلف تكملة المختلف ، ثم جمع الجميع أبو نصر علي بن هبة الله بن
ماكولا [49] وجعله كتابًا حافلاً سمّاه الإكمال ، واستدرك عليهم ما فاتهم في كتاب آخر
جمع فيه أوهامهم وبينها ، وكتابه من أجمع ما جمع في ذلك ، وهو عمدة كل محدث(1/243)
بعده ، وقد استدرك عليه محمد بن عبد الغني المعروف بابن نقطة الحنبلي [50] ما فاته
أو تجدد بعده في مجلد ضخم ، ثم ذيل عليه منصور بن سليم [51] في مجلد لطيف ،
وأبو محمد بن علي الدمشقي [52] ، وذيل على ذيلهما علاء الدين بن مغلطاي [53] ، لكن
أكثره في أسماء الشعراء وأنساب العرب ، وقد جمع الذهبي في ذلك كتابًا مختصرًا
جدًّا اعتمد فيه على الضبط بالقلم ، فكثر فيه الغلط والتصحيف المباين لموضوع
الكتاب ، وقد وضحه الحافظ ابن حجر في كتابه تبصير المنتبه بتحرير المشتبه ،
وهو مجلد واحد ضبطه بالحروف وزاد عليه شيئًا كثيرًا مما أهمله الذهبي ، أو لم
يقف عليه ، وقد ألف فيه أيضًا يحيى بن علي المصري المؤرخ[54] ومحمد بن
أحمد الأبيوردي [55] ،وعبد الرزاق المعروف بابن الغوطي [56] في كتابه تلقيح
الأفهام في المختلف والمؤتلف ، وعلي بن عثمان المارديني [57] .
وممن ألف في النوع الثاني أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب في كتابه
المتفق والمفترق ، وكذلك ألف الخطيب في النوع الثالث في كتابه تلخيص المتشابه ،
ثم ذيل عليه هو أيضًا بما فاته ، وكتابه كثير الفائدة .
***
علم ناسخ الحديث ومنسوخه
إذا سلم الحديث المقبول من المعارضة سمي محكمًا ، وإن عورض بمثله ،
وأمكن الجمع بين المتعارضين بلا تعسف فذلك مختلف الحديث ، وإن لم يمكن
الجمع وثبت تأخر أحدهما فالمتأخر يقال له : الناسخ ، والمتقدم يطلق عليه :
المنسوخ .
وقد ألف في ناسخ الحديث ومنسوخه جمع كثير منهم أحمد بن إسحاق
الديناري [58] ومحمد بن بحر الأصبهاني [59]و أحمد بن محمد النحاس [60] وأبو
محمد قاسم بن أصبغ [61] ومحمد بن عثمان المعروف بالجعد الشيباني ، وهبة الله
بن سلامة [62] ، ومحمد بن موسى الجازمي [63] في كتابه الاعتبار في ناسخ الحديث
ومنسوخه ، وأبو حفص عمر بن شاهين [64] ، وقد اختصر كتابه إبراهيم بن علي
المعروف بابن عبد الحق [65] في مجلد ، وللإمام عبد الكريم بن هوازن القشيري(1/244)
كتاب في ذلك أيضًا .
***
علم تلفيق الحديث
هو علم يبحث فيه عن التوفيق بين الأحاديث المتناقضة ظاهرًا ، إما
بتخصيص العام تارة ، أو بتقييد المطلق أخرى ، أو بالحمل على تعدد الحادثة ، إلى
غير ذلك من وجوه التأويل ، ويطلق عليه مختلف الحديث .
وممن ألف فيه الإمام محمد بن إدريس الشافعي [66] ، ولكنه لم يقصد استيعابه ،
وعبد الله بن مسلم المعروف بابن لميتبة [67] وأبو يحيى زكريا بن يحيى
الساجي [68] والطحاوي [69] ، ولأبي الفرج بن الجوزي [70] التحقيق في أحاديث
الخلاف ، وقد اختصره إبراهيم بن علي بن عبد الحق .
***
علل الحديث
معرفة علل الحديث من أجلّ علوم الحديث وأدقها وأشرفها ، ولا يقف عليها
إلا من رزقه الله فهمًا ثاقبًا وحفظًا واسعًا ومعرفة تامة بمراتب الرواة ، وملكة قوية
بالأسانيد والمتون ، ولهذا لم يتكلم فيه إلا القليل من أهل هذا الشأن ، وعلل الحديث
عبارة عن أسباب خفية غامضة قادحة فيه من وصل منقطع أو رفع موقوف أو
إدخال حديث في حديث أو نحو ذلك ، وكل هذا مما يقدح في صحة الحديث .
وممن كتب في هذا النوع ابن المديني [71] وابن أبي حاتم [72] وكتابه قيم ،
والخلال [73] ، والإمام مسلم[74] وعلي بن عمر الدارقطني [75] ، ومحمد بن عبد الله
الحاكم [76] وأبو علي حسن بن محمد الزجاجي ، وألف فيه أيضًا ابن الجوزي .
***
علم مصطلح الحديث
أول من ألف في علوم الحديث أو مصطلحاته - في غالب - الظن القاضي
أبو محمد الرامهرمزي [77] في كتابه المحدث الفاصل بين الراوي والسامع ، وقد
وجدت قبله مصنفات ، لكن في بعض فنون الحديث فقط ، وكتابه أجمع ما جمع في
زمانه وإن لم يستوعب ، ثم توسع العلماء في هذا الفن ، وأول من تصدى لذلك الحاكم
محمد بن عبد الله النيسابوري ، وقد اشتمل كتابه على خمسين نوعًا ، لكنه لم يرتب
ولم يهذب ، وتلاه أبو نعيم الأصبهاني فعمل على كتابه مستخرجًا ، وأبقى أشياء(1/245)
للمتعقب ، ثم جاء أحمد بن علي المعروف بالخطيب [78] ، فصنف في قوانين الرواية
كتابًا سمّاه الكفاية ، وفي آدابها كتابًا سمّاه الجامع لآداب الشيخ والسامع ، وقل فن من
فنون الحديث إلا وقد صنف فيه كتابًا ، فكان كما قال ابن نقطة : كل من أنصف علم
أن المحدثين بعد الخطيب عيال على كتبه . ثم جاء بعد الخطيب من أخذ من هذا العلم
بنصيب ، فجمع القاضي عياض [79] كتابًا لطيفًا سمّاه الإلماع ، وأبو حفص الميانجي
جزءًا سمّاه ما لا يسع المحدث جهله ، ثم ألف الحافظ أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن
المعروف بابن الصلاح [80] كتابه الشهير المطبوع ، ذكر فيه خمسة وستين نوعًا ، وقد
اعتنى به العلماء عناية عظيمة بين معارض له أو منتصر ، أو ناظم له أو مختصر ،
أو شارح له أو مستدرك عليه ، ومن المختصرين له : محيي الدين يحيى بن شرف
النووي [81] في كتابه الإرشاد ، ثم اختصر مختصره في كتابه التقريب والتيسير ، وقد
شرح السيوطي التقريب بكتابه تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي ، وهو من
أجلّ الشروح ، وقد عمل الحافظ زين الدين عبد الرحيم بن الحسين العراقي [82] ألفية
لخص فيها علوم ابن الصلاح ، وزاد عليها أولها :
يقول راجي ربه المعتذر عبد الرحيم بن الحسين الأثري
وقد أتمها سنة 768 وعمل عليها شرحًا سمّاه فتح المغيث أتمه سنة 771 ، وقد
عمل برهان الدين إبراهيم بن عمر البقاعي [83] حاشية عليه سمّاها النكت الوفية بما
في شرح الألفية أورد فيها ما استفاده من شيخه ابن حجر ، وقد بلغ إلى نصفه ،
وشرح الألفية كثيرون ، ولعل أحسن الشارحين محمد بن عبد الرحمن السخاوي [84]
وقد نظم السيوطي ألفية جمعت كثيرًا من الفوائد أولها :
لله حمدي وإليه أستند وما ينوب فعليه أعتمد
ثم على نبيه محمد خير صلاة وسلام سرمد
وهذه ألفية تحكي الدرر منظومة ضمنتها علم الأثر
فائقة ألفية العراقي في الجمع والإيجاز واتساق(1/246)
ومن المتون الجامعة الممتعة نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر لشهاب الدين
أحمد بن علي بن حجر العسقلاني ، وقد شرحها بكتابه نزهة النظر في توضيح
نخبة الفكر ، وهو شرح وجيز جليل ، وقد شرحها كثيرون كما نظمها أحمد بن
صدقة [85] ، ومحمد بن إسحاق المقدسي [86] ، وقد ألف كثيرون في علوم الحديث
كمحمد بن المنفلوطي [87] ، وابن الملقن [88] ، وابن الحريري [89] ، ولكن ما ذكرنا
مستقى كل من كتب ، وفيه الغنية عن غيره .
ولا يفوتنا قبل ختم هذا الفصل كتاب توجيه النظر في أصول الأثر لمعاصرنا
الشيخ طاهر الجزائري ؛ فإنه كتاب جمع تحقيقات لطيفة ومسائل دقيقة ووفّى
المصطلح من الإبانة حقه ، وإن كان جمعًا مما سبقه ، وقد كان من أهم الكتب التي
عوّلنا على الرجوع إليها في كتابة هذه الرسالة .
***
تخريج أحاديث مؤلفات مخصوصة
لله در علماء الحديث : سعوا في توفير الراحة لطلاب العلم فسهلوا لهم عسيره
وكشفوا لهم عن غوامضه وكفوهم العناء ومؤنة البحث والتنقيب ، علموا أنك ستتناول
كتابًا من كتب التفسير الشهيرة ، أو من كتب الفقه السائرة ، أو ما نحا نحو ذلك ،
وأن سيمر بك أحاديث مختلفة لم يذكر لها سند ، ولم تنسب لأصل من أصول السنة ،
وأنك ستقف عند ذلك تتطلب درجة الحديث ؛ لتعرف قيمة الاستدلال به وإيصاله إلى
الغرض الذي سيق له ، وإنهم إن وكلوك إلى نفسك كلفوك شاقًا وأوردوك صعبًا ،
وربما لم يكن لك في فنون الحديث باع فأمسكوا بالكتاب وجمعوا ما فيه من
الأحاديث وعزوها إلى رواتها وبينوا درجاتها ، فما عليك سوى نظرة تحظى فيها
بالبغية ، وإني ذاكر لك من ذلك ما وصل إلى علمي :
1- تخريج أحاديث الكشاف ، في التفسير ، لجمال الدين محمد عبد الله
الحنفي [90] في مجلد .
2- الفتح السماوي بتخريج أحاديث البيضاوي ، في التفسير ، للشيخ عبد
الرؤوف المناوي [91] .
3- الطرق والوسائل إلى معرفة خلاصة الدلائل شرح مختصر القدوري -(1/247)
في فقه الحنفية - لأحمد بن عثمان التركماني [92] .
4- تخريج أحاديث الهداية ، كتاب شهير في فقه الحنفية ، لمحمد بن عبد
الله [93] ، وكذلك لعبد الله بن يوسف الزيلعي [94] ، وقد طبع بالهند .
5- تخريج أحاديث الشرح الكبير للوجيز ، في فقه الشافعية ، لسراج الدين
عمر بن علي الأنصاري [95] ، ويقع في سبع مجلدات ، وقد لخصه ابن حجر
العسقلاني في ثلث حجمه مع زيادات عليه .
6- تخريج أحاديث المنهاج ، في فقه الشافعية ، لسراج الدين عمر بن علي
المعروف بابن الملقن .
7- كتاب المغني عن حمل الأسفار في الأسفار في تخريج ما في الإحياء من
الأخبار ؛ أي : كتاب إحياء علوم الدين ، لعبد الرحيم بن الحسين العراقي [96] ، وقد
طبعه الحلبي في مصر بهامش الإحياء فأحسن صنعًا .
8- إدراك الحقيقة في تخريج أحاديث الطريقة - في الموعظة - لعلي بن
حسن بن صدقة المصري ، ثم اليماني فرغ من تأليفه سنة 1050 .
***
الخاتمة
سنعقد في هذه الخاتمة فصولاً يجدر بعشاق الحديث معرفتها ، ويهمهم الوقوف
عليها ، فنقول وبالله توفيقنا وعليه اعتمادنا :
متى يحتج بالحديث ؟
قد رأيتُ - أكرمك الله - أن آتي بكلمة موجزة تكون لديك بمثابة ميزان تعرف
به
إن كان الحديث مقبولاً فيسوغ لك الاحتجاج به ، أو مردودًا فترفض الاعتقاد والعمل
به ، فأقول : ينقسم الحديث إلى مقبول ومردود ، فالمقبول ما رواه عدل ضابط لما
يرويه بسند متصل مع خلوه من الشذوذ والإعلال . والشذوذ : مخالفة الثقة من هو
أرجح منه . والإعلال : وجود أمر خفي يقدح في صحة الحديث كوصل منقطع أو
رفع موقوف . ثم المقبول إن سلم من المعارضة يسمى محكمًا ، وإن عورض بمثله ،
فإن أمكن الجمع بغير تعسف فهو مختلف الحديث ، وإن لم يمكن الجمع وثبت
تأخر أحدهما عرف المتأخر بالناسخ والآخر بالمنسوخ ، وإن لم يثبت ، فإن أمكن
الترجيح بين الحديثين صير إليه وإلا توقفنا عن العمل بهما . والحديث المردود ما(1/248)
وجد فيه أحد أمرين : الأول : عدم الاتصال في السند ، والثاني : وجود أمر في
الراوي يوجب طعنًا فيه ، ودرجات الطعن في الراوي عشرة : الكذب ، والتهمة به ،
وفحش الغلط ، والغفلة عن الإتقان ، والوهم - بأن يروي على سبيل التوهم - ،
ومخالفة الثقات ، والفسق ، وجهالة الراوي ، والبدعة ، وسوء الحفظ . وللعلماء
تفصيل في هذه الدرجات ، فالمحققون يقبلون رواية المبتدع في غير ما يؤيد بدعته ،
وقال بعضهم : ما لم يكن داعية . ولهم في العمل بالحديث الضعيف الذي لم يشتد
ضعفه أقوال وشروط يجيزونه بها ، أو يقدمونه على القياس كما يعلم من كتب أصول
الحديث وأصول الفقه .
***
كيف تأخذ السُنَّّة الآن ؟
كانت السنة في القرون الأولى تؤخذ من أفواه الشيوخ ، وقلما كان الرواة
يثقون بالمخطوط ، وكان اتصال سند الراوي بالرسول - صلى الله عليه وسلم -
مع عدالة المروي عنهم وكمال ضبطهم أمرًا لا محيص عنه ، حتى يحوز الحديث
درجة الصحة ، فلما أن صنفت كتب الصحاح المشهورة وذاعت في الأقطار المختلفة
قامت شهرتها مقام تواترها ، فلم تبق حاجة لاتصال السند منا إلى مصنفيها في كل
حديث دوِّن فيها ، وأصبح الاعتماد على الكتاب فوق الاعتماد على الشيوخ ، قال أبو
عمرو بن الصلاح [97] : اعلم أن الرواية بالأسانيد المتصلة ليس المقصود منها في
عصرنا وكثير من الأعصار قبله إثبات ما يروى ؛ إذ لا يخلو إسناد منها عن شيخ لا
يدري ما يرويه ولا يضبط ما في كتابه ضبطًا يصلح لأن يعتمد عليه ، وإنما
المقصود بها بقاء سلسلة الإسناد التي خصت بها هذه الأمة . أقول : وهذا هو
الغرض بعينه في عصرنا والعصور السالفة قبله في محافظة الشيوخ على سلسلة
السند إلى مصنفي الكتب الشهيرة كالبخاري ومسلم .
إنما الواجب على أمثالنا أن يتثبتوا من أمور ثلاثة : كون الكتاب الذي يروون
الحديث عنه صحت نسبته إلى مؤلفه أو تواترت ، والبحث في سند الحديث الذي(1/249)
روي به في ذلك الكتاب ، وخلوه من الغلط والتحريف والدخيل ، وسبيل معرفة الثالث
أن تقابل نسخة من الكتاب الذي يراد الأخذ عنه بنسخ أخرى منه مختلفة في الرواية ؛
إن كان ثم اختلاف فيها ، أو بنسخ متعددة منه ، إن لم يكن اختلاف في الرواية ،
فإذ ذاك يطمئن القلب إلى تلك النسخة ، وتتبين له درجة صحتها وخلوها من العيوب ،
فيقوم ذلك مقام تعدد الرواة .
وعلى ذلك ينبغي لمن رام طبع كتاب من كتب السنة أن يقابل الأصل الذي
لديه بأصول متعددة حتى تسكن لصحتها نفوس القارئين ، ويكفيهم بذلك مؤونة
المقابلة إن كان من العدول الثقات .
وإن مما يؤسف له أن كثيرا من كتب الحديث التي طبعت لم تعط من العناية
في التصحيح ما ينبغي لفن جليل كالحديث ، ولم تضبط بالشكل الذي هو أيسر
الأمور ، وأقل ما يراعى في سُنة الرسول ، فعسى أن يتنبه لذلك الطابعون بعد ،
ويولوا هذا الفن من عنايتهم ما يلائم كبير مقامه وعظيم شأنه .
***
الاستنباط من السنة وأثره فيها
لم تكد المائة الثالثة تؤذن شمسها بالغروب حتى أخذ مصباح الاجتهاد ينكمش
ضوءه ويتضاءل فيه ، بل كاد ينمحي أثره ، فبعد أن كانت عقول النابهين مطلقة
السراح في رياض القرآن والسنة تستنبط منها الأحكام ، وتفصل بها في الحوادث ،
وتحكمها في الأمور الجلى أصبح الناس منصرفين عنها ، لاهين بأقاويل الفقهاء
ينتصر كل لإمامه ، ويسعى في تأييد مذهبه ، وإن خالف صريح السنة فانقسم الناس
في الفروع شيعًا وأحزابًا ، وقامت معركة الجدل والمناظرة بينهم ، واستمرت عدة
قرون ، وكانت عاقبتها أن اعتصم كل بما عنده ، واطمأنت نفسه إليه ، وعول في
العمل عليه ، ورفض أن ينظر في أقوال خصمه إلا ليدحضها أو يضع من شأنها ،
فتناسى الناس بذلك المحيط الشاسع والقاموس الواسع ، الذي من مائه نبعت عيون
فقههم ، ومن هباته كونت مذاهبهم ، أعني بذلك الكتاب والسنة .
لقد كان الاستنباط من السنة أكبر عامل على إحيائها ، وخير مشجع على خوض(1/250)
غمارها ، فانكب الناس عليها دارسين وآخذين وناقدين ومؤلفين ، ولم يتركوا ناحية
منها إلا تبينوها ، ولا شبهة إلا دحضوها ، ولا فرية إلا قتلوها .
فلما ركنوا إلى التقليد وتركوا الاجتهاد جانبًا ، شغلتهم كتب الفروع عن السنة ،
وشغفوا بدراستهم لها عن ورودها ، ورأوا - خطأ أو صوابًا - أن فيها بغيتهم ، وأن
السنة فرغت منها حاجاتهم ، وما لهم وللسنة وقد أوصدت في وجوههم أبواب الأخذ
منها ، وحظر عليهم أن يقولوا سوى ما قاله الأصحاب ؟ فما لهم ينصبون ولا يجنون
ويكدون ولا يستفيدون ؟ .
نعم كان من الناس من يتطلبها لما فيها من أخلاق ومواعظ وآداب ورقائق ،
أو تبركًا بحديث الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - .
على أن ذلك لم يمنع من وجود أعلام نابهين في العصور المختلفة درسوا
السنة حق دراستها ، وعرفوها حق معرفتها ، وأطلقوا لأنفسهم حرية الأخذ عنها كأبي
عمر بن عبد البر وابن حزم الأندلسي وابن تيمية الحراني وتلميذه ابن القيم وابن
حجر العسقلاني وأبي بكر السيوطي والشوكاني وكثير غيرهم ، فهؤلاء وأمثالهم
ممن تقدم ذكرهم تحت عنوان الجرح والتعديل قاموا للسنة بخدمات جليلة ، وزادوا
الناس التفاتًا إليها ، وشغفًا بها ، فلهم منا جزيل الثناء ووافر الشكر .
***
حال السنة في عصرنا الحاضر
كان خليقًا بالأزهر وفروعه ، وهو كعبة العلوم الدينية ، أن تكون للسنة فيه
عناية كبيرة ، ومقام عال بين علوم الدين ، ولكن للأسف بخس الحديث في هذا
المعهد الكبير حقه ، بعد أن انتهت إليه الرياسة فيه على عهد الحافظ ابن حجر
وتلاميذه ، فلا يوليه الأزهريون اليوم من نشاطهم وطويل وقتهم ما أولوا الفقه
وأصوله وعلوم العربية ، فلا نراهم يدرسون سوى صحيح البخاري وصحيح مسلم ،
على قلة قراءتهم للثاني ، واقتصار الكثيرين على مختصر الأول ، مع حجرهم على
الأفكار أن تفهم إلا ما فهمه الشيوخ ، وسلوكهم في تفسير الأحاديث مسلك تأييد(1/251)
المذاهب وتنزيل المعاني عليها ، كأنما الفروع أصل من أصول السنة أو المنبع الأول
للتشريع الإسلامي .
ثم إن دراستهم لهذين الصنوين لا تعدو المتن إلى السند ، فلا يبحثون فيه ، ولا
يتعرفون رجاله ، ولا يتبينون إن كان متصلاً أم منقطعًا ، مع أنهم يدرسون قبل ذلك
مصطلح الحديث ، فما الفائدة فيه إذا لم يطبقوه في دراسة المتون والأسانيد ؟ ربما
قالوا ذلك من باب : العلم بالشيء ولا الجهل به ، وربما قيل لهم : أهذا هو علم السنة
المطلوب شرعًا ؟
ولقد أخذ بعض الأساتذة الأجلاء يدرس الكتب الستة في العطلة الصيفية ، وبدأ
منها بكتاب الموطأ ، ونرجو أن يوفق لإتمامها ، وأن ينفخ ذلك في روع الأزهريين
حب التفوق في الحديث والعناية بكتبه .
وقد وجد بين الأزهريين في هذه الأيام أفراد عنوا بدراسة السنة دراسة كاملة ،
وأطلقوا لأنفسهم حرية البحث والفهم وراضوا أنفسهم في كتب السنة المختلفة ،
وإنهم لبشير خير بتبدل الأحوال ، وإحلال العناية بالحديث محل الإهمال .
ولما كانت مجلة المنار سلفية المنهج ، وكانت عنايتها موجهة إلى محاربة
البدع والرجوع بالدين إلى ما درج عليه الرعيل الأول من السلف ، وكان ذلك داعيًا
للعناية بالسنة والبحث فيها وفي فنونها ، والاستدلال بها في الفتاوى وغيرها - كان
لها أثر صالح في نشر السنة وتكثير سواد الطالبين لها في الأقطار الإسلامية
المختلفة .
ولا يوجد في الشعوب الإسلامية على كثرتها واختلاف أجناسها ، من وفّى
الحديث قسطه من العناية في هذا العصر مثل إخواننا مسلمي الهند ، أولئك الذين وجد
بينهم حُفَّاظ للسنة ، ودارسون لها على نحو ما كانت تدرس في القرن الثالث حرية في
الفهم ونظر في الأسانيد ، كما طبعوا كثيرًا من كتبها النفيسة التي كادت تذهب بها
يد الإهمال ، وتقضي عليها غِيَرُ الزمان ، وإن أساس تلك النهضة في البلاد الهندية
أفذاذ أجلاء تمخضت بهم العصور الحديثة ، وانتهجوا في تحصيل العلوم نهج السلف ،(1/252)
فنبه شأنهم ، وعلا أمرهم ، وذاع صيتهم ، وتكونت جمعيات سلكت سبيلهم وعملت
على نشر مبادئهم ، فكان لها ذلك الأثر الصالح ، والسبق الواضح ، ومن أشهر هؤلاء
الأعلام ولي الله الدهلوي صاحب التصانيف في اللغتين العربية والفارسية ، وأشهرها
كتاب حجة الله البالغة ، والسيد حسن صديق خان ملك بهوبال صاحب التصانيف
الكثيرة أيضًا ، وقد سبق ذكرهما في هذه الرسالة ، ومن حسنات الثاني طبع فتح
الباري في شرح البخاري للحافظ ابن حجر ، ونيل الأوطار للإمام الشوكاني ، وتفسير
الحافظ ابن كثير مع تفسيره فتح البيان ، طبعت هذه الكتب على نفقته في المطبعة
الأميرية بمصر ، فكانت من أنجح وسائل إحياء السنة ، وفي الهند الآن طائفة كبيرة
تهتدي بالسنة في كل أمور الدين ، ولا تقلد أحدًا من الفقهاء ولا المتكلمين ، وهي
طائفة المحدثين ، وقد كان لعلم السنة سوق رائجة في اليمن بعد كساد سوقها بمصر بعد
القرن العاشر .
وإن من آكد الأمور على المسلمين وأحقها بالرعاية وأولاها بالعناية العمل
على إحياء السنة ونشرها بين المسلمين ، فإنها داعية إلى التوحيد في العمل
والاعتقاد ، ومزيلة ما بين الفرق المختلفة من الشحناء والعداء ؛ لأنها رجوع إلى
أصل الدين ، وكل يقر به وينتمي إليه ، وفي ذلك تقوية شوكتنا وإنهاضنا من كبوتنا
التي طال أمدها واستفحل أمرها .
***
كيف نقرب إلى الناس تحصيل السنة ؟
بَيَّنَّا تحت عنوان : الجمع بين الكتب الستة ، أن أبا السعادات مبارك بن محمد
المعروف بابن الأثير الجزري جمع بين الأصول الستة التي بينا فيما سلف أمرها ،
وأسمى كتابه جامع الأصول لأحاديث الرسول ، وتكلمنا على هذا الجامع بما يغنينا
عن إعادته هنا ، وذكرنا إذ ذاك أن لأبي طاهر محمد بن يعقوب الفيروزبادي زوائد
عليه سماها تسهيل الوصول إلى الأحاديث الزائدة على جامع الأصول ، فلو أننا
جمعنا بين الجامع وزوائده على نحو ما جمع بين الكتب الستة ، وعقبنا كل حديث(1/253)
ببيان درجته وذكر من طعن فيهم من رجال سنده ، وجعلنا للكتاب ذيلاً يذكر فيه
أولئك المطعون فيهم مرتبة أسماؤهم حسب الحروف الأبجدية ، مشفوعًا كل شخص
بما قاله أئمة النقد فيه من جرح وتعديل على نحو ما فعل المنذري في كتابه
الترغيب والترهيب .
لو أننا فعلنا ذلك لكنا مقربين إلى الناس تحصيل السنة ، وجاعليها على طرف
الثمام ، يتناولونها من كتب ، ويقتبسون منها بلا عناء ولا إجهاد فكر ولا كثرة بحث .
وإن هذا العمل الجليل وذلك القاموس الكبير يستطيع أن يقوم به فرد مارس
الحديث ممارسة طويلة ، وكان له بفنونه خبرة مع حكمة وعزم وأناة وصبر .
وينبغي أن يقوم بطبعه شركة تبغي بعملها فضلاً من الله ورضوانًا حتى تنفق
عليه بسخاء ، وتبرزه في خير حلة وأجمل جلباب .
ولو شفع ذلك بشرح واسع يلائم روح العصر الحاضر يقوم به جماعة ؛ كل فيما
نبغ فيه وبذل حياته في إتقانه ، لكان ذلك من خير الأمور وأجلّ الخدمات .
ولا أظن فردًا يقدر على ذلك كله مع الإحسان ؛ لأن السنة فيها طب وأحكام
وآداب وأخلاق وأحاديث صفات ، وكل هذي فروع واسعة لا يتضلع في واحد منها
إلا من بذل فيه جهده ، وحبس على تعلمه نفسه ، فعلى الطبيب أن يشرح ما ورد
في الطب ، وحري بالفقيه الحاذق أن يبين أحاديث الأحكام ، وجدير بالواعظ الأديب
أن يوكل إليه الكتابة على أحاديث الآداب والأخلاق والمواعظ والرقائق ، وعلى
المتكلم أن يوضح أحاديث الصفات سالكًا طريقة أهل السنة من السلف الصالح .
هكذا يقوم كل خصيص بفن بشرح ما يناسب فنه من أحاديث الكتاب على شرط أن
يكون متشبعًا بروح الدين ، عليمًا بشؤون العصر الحاضر ، خبيرًا بالأمور المحدثة
والمعاملات المستجدة .
ويوجد كتابان جليلان يسد كل منهما حاجة طالما تاقت النفوس إلى سدها :
أحدهما : المنتقى لابن تيمية مع شرحه نيل الأوطار للشوكاني ، وثانيهما : الترغيب
والترهيب للمنذري ، فالأول يغني كل من رام الوقوف على أحاديث الأحكام(1/254)
وشرحها شرحًا وافيًا مع ذكر أقوال العلماء فيها ، والثاني يغني الوعاظ المرشدين ،
ويهبهم مادة واسعة ، ليس فيها من شبهة ولا يعتري صحتها قترة ، وحري بالفقهاء
والمشتغلين بالقانون أن يدرسوا الأول دراسة وافية ويتعرفوه معرفة كاملة ، وجميل
بالناصح الأمين أن يجعل الثاني أسوته في إرشاده ، وأن يحفظ من أحاديثه ما يعينه
على القيام بعمله ويسهل عليه أداء مهمته .
***
ماذا نعمل لنشر السنة ؟
كل عمل يقوم به جماعة متماسكة خليق أن يبقى ، ويظهر له في الناس أثر
بيّن ، وأما ما يقوم به الأفراد ، فإنه يبقى ما بقي العزم فيهم ماضيًا ، وعامل
الإخلاص في نفوسهم قائمًا ، ثم هو بعد ذلك ضئيل الأثر قليل الجدوى ، وماذا تبلغ
نفس واحدة من نفوس المسلمين ، الذين تجاوز عددهم مئات الملايين ؟ فإذا ما رمنا
للسنة نشرًا ،ولسلطانها بسطًا ، ولعبيرها إذاعة ، فعلينا أن نكون جمعية دينية يكون
أفرادها من خلاصة المعتصمين بالسنة ، والمتشبعين بروح هذا الدين ، ويكون
مركزها
في صرة البلاد الإسلامية وقطب الرحى منها - أعني بلادنا المصرية - ويكون لتلك
الجمعية فروع في الممالك الإسلامية ، ويكون للفروع أغصان في الولايات
الصغيرة والمدن الكبيرة ، ويكون شعارها قوله تعالى : ? وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ
جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا ? ، ( آل عمران : 103 ) وقوله - صلى الله عليه وسلم - :
( شيئان لن تضلوا بعدي ما تمسكتم بهما : كتاب الله ، وسنة رسوله ) .
وإن هذه الجمعية يقوم صرحها على أمور أربعة : إخلاص ، وعزم ، وحكمة ،
وصبر . ومتى وجدت هذه الأمور سهل تكوين ثروة لها تكون مادتها وعضدها في نشر
مبادئها ، وأرى أن تكون الثروة من اشتراكات يدفعها الأعضاء في الجمعية وفروعها
وأغصانها ، ومما يجود به أهل البر والإحسان ، وإذا سعى الأعضاء وضموا إلى
جانبهم بعض الملوك أو الأمراء - كان ذلك خير مشجع لهم ومتم لعملهم .(1/255)
وعلى الجمعية أن تقوم بطبع كتب الحديث القيمة مقدمة الأهم على المهم ،
وعلى كل عضو أن يقوم بتعليم العامة والخاصة وإرشادهم إلى ينبوع هذا الدين
كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولا يقصر إرشاده على الوعظ في
المساجد ، بل يعممه في الأندية المختلفة والمجتمعات العامة ودور العلم ومدارسه ،
فإن في هذه نفوسًا أحوج إلى الموعظة وأجدر بالإرشاد من الركع السجود .
وليكن للجمعية حرص بالغ على أن تضم إليها المدرسين والمعلمين والخطباء
والوعاظ ، فإن أولئك إذا رشدوا هدوا كثيرين ، فيذيع إيثار السنة بين الناس ، ويكثر
أنصارها ، حتى يكونوا أمة بيمينها القرآن وبيسارها السنة ، وإنهما لسيفان ماضيان
يكتسحان الإلحاد ، ويقضيان على الفساد ، ويبصران طريق الرشاد ، وينتاشان
المسلمين من الضعف والذلة ، إلى حيث المنعة والعزة .
فاللهم بصِّرنا بديننا ، واهدنا سبيل سلفنا ، واجعل عملنا خالصًا لوجهك ، لا
نبغي به إلا خدمة دينك ، ورفعة سنة نبيك صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله
وصحبه الطاهرين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وسلام على المرسلين
والحمد لله رب العالمين .
تم تأليف هذه الرسالة ليلة الجمعة 3 جمادى الآخرة سنة 1339 هـ
11 فبراير سنة 1921م
محمد عبد العزيز الخولي
( المنار )
حمد الله عمل صديقنا مؤلف هذه هذه الرسالة ، وأجزل ثوابه ، وأحسن
مآبه ، وحشرنا وإياه في زمرة أنصار السنة ، وإن جميع الأعمال التي اقترح تأليف
الجمعية لها في خاتمة رسالته هي بعض ما كنا نبغي من جماعة الدعوة والإرشاد ، إلا
طبع الكتب ، فإنه عمل أصحاب المطابع والشركات ، وقد كان عزيز مصر العباس -
أعز الله به العلم والدين - ملتزمًا إمدادها الدائم من أوقاف المسلمين ، الأوقاف الخيرية
العامة ، وأوقاف أسرته المالكة الخاصة ، فكان من سيئات الحرب العامة ومفاسدها أن
قطعت الحكومة المصرية إعانة الأوقاف التي كان قد أمر بمضاعفتها ، فوقف عمل(1/256)
الجماعة ، وأقفلت مدرستها ، ولا نيأس من روح الله أن يمن بإعادتها ، ويوفق أهل
البصيرة من أغنياء المؤمنين بمساعدتها ، فهم - ولله الحمد - كثيرون ، ولكن أكثرهم
غافلون .
________________________
(1) توفي سنة 230 . (2) 240 . (3) 261 .
(4) 279 . (5) 251 . (6) 327 .
(7) 301 . (8) 234 . (9) 354 .
(10) 446 . (11) 774 . (12) 804 .
(13) 761 . (14) 879 . (15) 546 .
(16) 890 . (17) 597 . (18) 762 .
(19) 322 . (20) 637 . (21) 750 .
(22) المدلس : من لا يذكر اسم شيخه ومن يروي عمن فوقه بلفظ يوهم السماع منه ولا يكون كذبًا
قطعيًّا كقوله : عن فلان وقال فلان , والحديث المدلَّس (بفتح اللام) من أقسام المنقطع .
(23) 245 . (24) توفي سنة 806 . (25) 841 .
(26) 398 . (27) 925 . (28) 428 .
(29) 265 . (30) 507 . (31) 418 .
(32) 498 . (33) 763 . (34) 600 .
(35) 742 . (36) 804 . (37) توفي سنة 765 .
(38) 466 . (39) 611 . (40) 656 .
(41) 806 . (42) 738 . (43) 482 .
(44) 407 . (45) 597 . (46) 409 .
(47) 385 . (48) 463 . (49) 487 .
(50) توفي سنة 629 . (51) 673 . (52) 680 .
(53) 763 . (54) 416 . (55) 507 .
(56) 723 . (57) 750 . (58) 318 .
(59) 322 . (60) 338 . (61) 340 .
(62) 410 . (63) 584 . (64) 385 .
(65) 744 . (66) توفي سنة 204 . (67) 263 .
(68) 307 . (69) 331 . (70) 597 .
(71) 234 . (72) 327 . (73) 311 .
(74) 261 . (75) 375 . (76) 405 .
(77) 360 . (78) توفي سنة 463 . (79) 544 .
(80) 643 . (81) 676 . (82) 805 .
(83) 855 . (84) 902 . (85) توفي سنة 905 .
(86) 900 . (87) 702 . (88) 804 .
(89) 833 . (90) 762 . (91) توفي بعد 900 .
(92) 744 . (93) 775 . (94) 762 .
(95) 704 . (96) 806 . (97) توفي سنة 643 .
(( مجلة المنار ـ المجلد [ 22 ] الجزء [ 5 ] صـ 353 شعبان 1339 ـ أبريل 1921 ))(1/257)
كلمة في التعريف بمجموعة الحديث النجدية
وتجديد السنة في بلاد الوهابية
( وهو ما وضعناه فاتحة لنسختها التي طبعناها حديثًا , وفيها كلام في تصحيح
المطبوعات , ولا سيما تصحيح ما طبع عن نسخ غير صحيحة , وكونه يتعذر معرفة
الأصل في بعض المسائل , ويشق العثور على بعضها بمراجعتها في مظانها حتى
الأحاديث النبوية , وخاصة أحاديث البخاري ) .
من المعلومات المسلمات عند كل مسلم أن أحاديث الرسول صلى الله عليه
وسلم بيان لكتاب الله عز وجل , وتفسير وشرح لهدايته , وتفصيل لحكمه
وأحكامه ، وأنها مستمدة منه ، فإنه - جزاه الله عن البشر أفضل الجزاء - قد عاش
قبل النبوة أربعين سنة , وهو أمي لم يُؤْثَرْ عنه شيء من علوم القرآن الإلهية , ولا
الأدبية ولا الشرعية ، ولا شيء من حكمه العقلية , ولا قواعد السنن الكونية
والاجتماعية ، وقد خاطبه الله تعالى في هذا المعنى بقوله : ? وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ
لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ? ( النحل : 44 ) وبقوله : ? إِنَّا أنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ
بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ ? ( النساء : 105 ) , وقد عصمه الله تعالى من
الخطأ في بيان دينه المودع في كتابه , كما عصمه من الخطأ في تبليغه , وكل أحد
غيره يخطئ في فهم الكتاب , وفي بيان ما فهمه تارة ويصيب أخرى ، وقد نقل
المحدثون روايات من خطأ بعض الصحابة فغيرهم أولى .
هذا وإن تأثير حديثه وسنته صلى الله عليه وسلم في القلوب , هو في الدرجة
التالية لتأثير كلام الله عز وجل ، ولهذا ضعفت هداية الدين في نفوس المسلمين منذ
صاروا يستغنون عن القرآن والسنة بكتب المتكلمين والفقهاء ، وإنما العلماء أدلاء
معلمون ، لا شارعون ولا مستقلون بالهداية ، ولن يعود روح الدين إلى المسلمين ،
ولن يشرق نور الإسلام في قلوبهم ، إلا بالعود إلى تلاوة القرآن بالتدبر ، ومدارسة
السنة بالتفقه والتأدب .(1/258)
وقد كان مما استعمل الله تعالى به الشيخ محمد عبد الوهاب مجدد الدين في
نجد وما حولها , أن أحيا مدارسة السنة النبوية فيها ؛ للاهتداء بها ، لا لمجرد
التبرك بألفاظها ، ولا لأجل الاستقلال فيها دون ما كتب المحدثون والفقهاء في
شرحها والاستنباط منها ، بل نرى من هداهم الله تعالى بدعوته , وأنقذهم من
الجاهلية التي عادت إلى أكثر أهل جزيرة العرب ما زالوا يحيون كتب فقه شيخ
السنة الأكبر الإمام أحمد - رضي الله تعالى عنه - مع خيار كتب التفسير والحديث
لغير الحنابلة من علماء السنة , فكانوا من أجدر المسلمين بلقب أهل السنة .
وقد انتدب إمامهم وسلطانهم في هذا العصر السلطان عبد العزيز عبد الرحمن
فيصل آل سعود لتجديد طبع هذه المجموعة النفيسة مع كتب أخرى أهمها : تفسير
الحافظ ابن كثير , وابتداء طبع كتب أخرى دينية من أعظمها وأجلها : كتاب
( المغني ) في الفقه الإسلامي الذي فضله الإمام المجتهد عز الدين بن عبد السلام ,
هو وكتاب المحلى لابن حزم على جميع ما كتب المسلمون في الفقه , ونقل عنه أنه
لم تطب نفسه للإفتاء , حتى حصل على نسخة من المغني , فهو يطبع الآن على نفقته
مع كتاب الشرح الكبير ، على متن المقنع الشهير , والمغني والمقنع كلاهما للشيخ
العلامة موفق الدين أبي محمد عبد الله الشهير بابن قدامة المقدسي ، المتوفى سنة
620 , وهو الذي ينصرف إليه لقب ( الشيخ ) إذا أطلق في كتب الفقه الحنبلي ,
التي ألفت بعده وأما الشرح الكبير فلابن أخيه وتلميذه العلامة الشيخ عبد الرحمن
ابن قدامة المتوفى سنة 682 , وهما من أوسع الكتب أحكامًا وبيانًا للمذاهب
بأدلتها .
هذه المجموعة الحديثية مشتملة على تسعة كتب بيناها في طرتها ، فالأربعون
النووية من الأحاديث المختارة في أصول الإسلام , وأسس قواعده أشهر من أن
تعرف ، وعمدة الأحكام للحافظ المقدسي المتوفى سنة 620 مشهورة مشروحة ,(1/259)
وهي مأخوذة من صحيحي البخاري و مسلم - تعطي المطلع عليها علمًا إجماليًّا
بأصح نصوص السنة لجميع أبواب الفقه , وذكر لها في كشف الظنون عدة شروح
لكبار العلماء ، وشرحها لشيخ الإسلام المحقق ابن دقيق العيد طبع في الهند ويطبع
الآن بمصر .
وكتب إلينا صديقنا علامة العراق السيد محمود شكري الآلوسي أنه اطلع على
الجزء الأول من شرح شيخ الإسلام ابن تيمية للعمدة ( فرأى فيه ما لا عين رأت ولا
أذن سمعت ) ولم يبلغنا شيء عن هذا الشرح من غيره ، وذكر صاحب كشف
الظنون أن كتاب العمدة هذا ثلاثة مجلدات عز نظيره , وأن أوله : ( الحمد لله أتم
الحمد وأكمله ) , وأن الكلام فيه خمسة أقسام : أحدها الأحاديث ، وما عندنا هو تجريد
الأحاديث فقط , وأوله ( الحمد لله الجبار ) , ونقل عن بعض شراحه أن عدد أحاديثه
خمسمائة , ولعله عدَّ ما في بعضها من اختلاف الألفاظ وتعدد الروايات , أو وجد هذا
في بعض نسخها , وإلا فقد أحصيناها بالأرقام حسب عدَّ المصنف لكل باب فبلغت
409 , ولكن وقع غلط في الأرقام في مواضع أولها صفحة 110 فينبغي أن يجعل
أول رقم فيها 48 ويصحح ما بعده بالتسلسل .
وأما كتب الشيخ محمد عبد الوهاب الأربعة , فقد راعى في جمعها أحوج ما
يحتاج إليه جماهير المسلمين من السنة , مع تلقيهم أحكام العبادات والمعاملات من
كتب الفقه , وهو أربعة أقسام : أحاديث الإيمان الاعتقادية ، وأصول الإسلام الكلية ،
وكبائر الإثم والفواحش التي يجب تركها ، والآداب الشرعية التي يجب أو
يستحب فعلها والتأدب بها ، وكلها ملخصة من دواوين السنة المشهورة : كالكتب
الستة والمسند والموطأ وغيرها , ومنها ما ليس لدينا نسخ منه : كالسنن الكبرى
وشعب الإيمان للبيهقي .. وقد ترك - رحمه الله تعالى - بعض الأحاديث غير
مخرجة ، ولعل سبب ذلك أنه أراد أن يراجعها في غير الكتب التي نقلها منها ،
ليبين جميع من خرجوها .(1/260)
وأما الرسالة السنية للإمام أحمد في الصلاة فهي على ما نعتقد , لا يستغني
مسلم عن الاستفادة منها , قد جمعت في صفة الصلاة وآدابها الظاهرة والباطنة ,
بين الأخبار النبوية والآثار النافعة عن الصحابة والتابعين , ما كانت به سفر تفسير
وحديث وفقه وتصوف شرعي , وقد رأيت لها من التأثير في القلب ما لم أره لغيرها ،
فأنا أنصح لكل مسلم أن يطالعها مرارًا ، ولكل معلم وواعظ أن يقرأها لطلاب
العلم وللعوام جميعًا .
وأما كتاب الصلاة للمحقق ابن القيم فهو أشبه الكتب برسالة الإمام أحمد في
مبناها ومعناها ومغزاها ، حتى كأنه شرح لها وتفصيل لمجملها ، مع بسط مسائل
أخرى استوفاها أو حققها ، وناهيك بوصفه لصلاة النبي صلى الله عليه وسلم ,
واختلاف أحوالها من تطويل وتخفيف بالروايات المعتمدة ، وبيانه لحكم الصلاة
وأسرارها ، وندب إطالتها ومنافعها ، وتحقيق فرضية صلاة الجماعة ، ومسألة
تكفير تارك الصلاة , ومسألة الخلاف في وجوب قضاء الترك منها عمدًا وعدمه .
فهكذا لعمري يكون اتباع الأئمة والاقتداء بهم ، لا اتخاذهم شركاء لله تعالى في
شرع الدين ، ولا قرناء لرسوله صلى الله عليه وسلم في العصمة في تبليغه وفهمه ،
دع تقديم كلامهم على كلامهما ، واتباعهم بالتقليد المحض من دونهما .
وأما كتابه الوابل الصيب فهو طرد لهذه المعاني والمغازي , في جميع الأذكار
والأدعية المأثورة , وتأثيرها في القلب ، والقرب بها من الرب ، جل ثناؤه وتقدست
أسماؤه ، ومن فوائده : بيان مراتب الناس في الصلاة ، وصفات القلوب في الظلمة
والنور ، وبحث في نور العلم والإيمان عال مشرق مؤثر , لا يوجد في غيره مثله ،
أورده في سياق الكلام على فوائد ذكر الله تعالى ، ومنه تفسير المثل الذي ضرب
في سورة النور : ? اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ?
( النور : 35 ) الآية ، واستطرد من هذا المثل إلى أمثال أخرى في القرآن مائية(1/261)
ونارية كمثل : سيلان الماء في الأودية ، ونار الصائغ لاتخاذ الحلية والآنية - ومثل :
الصيب فيه الظلمات والرعد والبرق - وقد بلغ ما أورده من فوائد الذكر ومزاياه
وتأثيره في تغذية الإيمان وصالح الأعمال 79 فائدة [1] .
فهذه الكتب لا يقرؤها ولا يسمعها مؤمن إلا يشعر بالإيمان يربو وينمي في قلبه ،
وبمضمون قوله تعالى : ? أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ ?
( الزمر : 22 ) فيزداد به من العبادة ويكثر فيها من ذكر الله تعالى , فقد كتب -
قدس الله روحه - في الأذكار المأثورة ما لا يحسنه إلا مثله - ومثل كثير في الأنام
قليل - فرضي الله تعالى عن جامعي هذه الأحاديث النبوية ، ومبيني ما أودعته من
الهداية الإلهية ، وأثاب من جمعها وألف بينها ، ومن أنفق على طبعها ، وسعى
لتعميم نفعها ، ومن تولى طبعها وتصحيحها ، ومن يقرؤها للاهتداء وللهداية بها .
وكنت أود لو أتيح لي أن أخدمها , بتخريج جميع ما أغفل تخريجه من
أحاديثها , وتعليق حواش وجيزة في تفسير جميع غريب لغتها ، وبيان وجيز لكل ما
يخفى أو يشكل من معانيها ، وزيادة العناية بتصحيحها ، كالنموذج الذي يراه قارئها
في بعض حواشيها . ولكن كثرة الشواغل والموانع ، وقلة العون والمساعد ،
واستعجال السلطان بطبعها , قد حالت دون المراد من ذلك في هذه الطبعة ، وعسى
أن يوفقنا الله تعالى وإياه لذلك في الطبعة الثالثة .
وإن هذا العمل لشاق دونه الإنشاء والتأليف المستقل ، ولا يعرف صعوبته إلا
من ابتلي به , وإنما يكون التصحيح سهلاً , إذا وجدت أصول صحيحة مضبوطة
للمقابلة عليها ، والأصل الذي طبعنا عنه هذه المجموعة مطبوع في الهند طبعًا كثير
الغلط والتصحيف والتحريف كأكثر الكتب العربية المطبوعة في ذلك القطر ، ولا
سيما المطبوع منها على الحجر ، وقد وجدنا لشرح الأربعين النووية ولرسالة الإمام(1/262)
أحمد , وكتاب الصلاة لابن القيم نسخًا مطبوعة في مصر , فانتفعنا بالمقابلة عليها
على أن تصحيحها غير تام , وجعلنا اعتمادنا في تصحيح آخر كتاب العمدة مقابلته
على النسخة المطبوعة مع الشرح في الهند ، بعد أن كنا نعتمد أولاً على مراجعة
الصحيحين فقط . ولكن بعض هذه الأحاديث غير مبين مكانها فيهما ، وبعضها
معزو إلى أحد الصحيحين وهو في غيره ، ولا ندري سبب ذلك ، وقد بينا بعض
ذلك في الحواشي . على أن المراجعة في صحيح البخاري في مكان من الصعوبة لا
يعرفه إلا من عالجه ، فإن الحديث الواحد قد يوجد في عدة أبواب منه بألفاظ مختلفة
فمن وجد غلطًا في حديث منها , كان عليه أن يراجع جميع رواياته فيها ؛ ليمكنه
الجزم بالصواب ، ومن لم يدقق النظر في اختلاف الروايات والرواة والألفاظ فربما
جعل الصواب خطأ .
مثال ذلك الحديث العاشر من كتاب صفة الصلاة في العمدة ( صفحة 120 ) :
عن أبي قلابة - هو عبد الله بن يزيد الحضرمي البصري رضي الله عنه - قال :
جاءنا مالك بن الحويرث في مسجدنا هذا فقال : ( إني لأصلي بكم وما أريد الصلاة ؛
أصلي كيف رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي .
هكذا أورد الحديث صاحب العمدة ولم يعزه , ولما كلفت اثنين من إخواننا
المشتغلين بعلم السنة قراءة هذه المجموعة بعد تمام طبعها ؛ لاستخراج ما يجدان
فيها من خطأ الطبع وبيان صوابه , رأى من قرأ العمدة منهما أن هذا الحديث غير
جلي , فظن أنه لا يخلو من غلط , فطفق يبحث عنه في صحيح البخاري فوجده في
( باب كيف يعتمد على الأرض إذا قام من الركعة ) بلفظ : جاءنا مالك بن الحويرث
فصلى بنا في مسجدنا هذا فقال : إني لأصلي بكم , وما أريد الصلاة ، ولكن أريد أن
أريكم كيف رأيت النبي - وفي رواية رسول الله - صلى الله عليه وسلم يصلي ؟ إلخ ,
فجعل المصحح هذا صوابًا لوضوحه , وذاك خطأ ؛ لخفاء المراد منه , ولما قرأت
جدول الخطأ والصواب بعد جمعه للطبع , رمجت هذا التصحيح ؛ لأن ما أورده(1/263)
صاحب العمدة رواية أخرى للبخاري , أوردها في ( باب من صلى بالناس وهو لا
يريد إلا أن يعلمهم صلاة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وسننه .
فلمثل هذا الاختلاف في الروايات , لا يجزم المصحح بأن كل ما رآه خفي
المعنى محرف فيراجعه ، ولا بأن كل ما رآه جلي المعنى هو الصحيح من
الروايتين أو الروايات ، بل لا بد من النقل واستقصاء الروايات عند المراجعة ,
وذلك من العسر بمكان . فنحن نرى الحفاظ وكبار المحدثين وشراح دواوين السنة
ينسون بعض الروايات أحيانًا , أو يغفلون ذكرها في مواضعها : فهذا الحافظ ابن
حجر - وناهيك بسعة حفظه - قد ذكر في شرحه لحديث أبي قلابة باللفظ الذي أورده
صاحب العمدة , أن البخاري أورده في ( باب المكث بين السجدتين ) أيضًا , مع
أنه رواه فيه بلفظ آخر ليس فيه ما نحن بصدده , ولم يذكر أنه أورده في ( باب
كيف يعتمد على الأرض... ) الذي يوضح معنى الأول , وكذلك القسطلاني لم يذكر
سائر الأبواب الثلاثة عند ذكر كل منها كعادته الغالبة . فمن هذا المثال يعلم
القارئ لهذه المقدمة درجة عسر تصحيح الأحاديث النبوية المنقولة عن نسخة
غير صحيحة , والمحدثون لا يعتدون بنسخة كتاب غير مروية عن المؤلف
بالسند , أو مقابلة على أصل صحيح .
وقد كانت طريقة تصحيحنا لهذا المجموعة ( كغيرها ) أن مصحح المطبعة
يقرؤها مقابلة على أصلها , فإذا رأى أن في الأصل خطأ , لم يهتد إلى صوابه تركه
لنا , فإذا كان مما نعرف أصله بالقطع صححناه , وإلا بحثنا عن مظانِّ أصله في
عدة كتب مما عندنا , بقدر ما نجد من سعة الوقت , حتى ربما أنفقنا نصف النهار
أو نصف الليل في تصحيح كراسة أو نصف كراسة ، وكنا نؤخر طبع الكراسة في
بعض الأحيان عدة أيام ؛ لأجل أن نجد وقت فراغ لمراجعة بعض العبارات , التي
نجزم بوقوع الغلط فيها . وقد نكتب في الحاشية كلمة ( يراجع ) ، ونحيل على
مصحح المطبعة , فإن لم يظفر بالأصل الصحيح يترك الكلام على ما هو عليه تارة(1/264)
ويعيده إلينا تارة , ولهذا نبطئ في طبع ما ليس له أصل صحيح عندنا , كأكثر كتب
هذه المجموعة ولا سيما ( الوابل الصيب ) منها , الذي لم نجد له أصلاً ما في دار
الكتب الكبرى ولا في غيرها .
وقد كان شقيقنا السيد صالح - رحمه الله تعالى - يحمل أكثر أعباء المطبعة
عنا , والمطابع التجارية لا تبالي بذلك مثلنا ، بل يكتفي أيها أشد إتقانًا , بأن يكون
ما يطبعه كالأصل المطبوع عنه تقريبًا . وبعضهم لا يصل إلى هذه الدرجة , ومنها
ما يتصرف أصحابها في التصحيح بآرائهم , حتى اعترف بعضهم بأنه كان يزيد في
الأصل , أو ينقص منه وأنه إذا وجد كلامًا ساقطًا أو خفيًّا لا يقرأ , وضع بدله
بحسب فهمه , وهذا تزوير لا يصدر عن صاحب أمانة أو دين .
ولعمري إن إتقان التصحيح لما يطبع عن أصل غير صحيح لا يتيسر إلا
لجماعة من العلماء الأخصائيين , تتعاون عليه بمراجعة كل مسألة في مظانها ،
وهذا غير موجود في شيء من مطابع هذه البلاد إلا المطبعة الأميرية , ومع هذا
نرى في بعض مطبوعاتها غلطًا كثيرًا ، ولقد عهد إلينا السلطان عبد العزيز آل
سعود بطبع تفسير الحافظ ابن كثير فيما أمر بطبعه من الكتب كما تقدم ، ولم نجد له
أصلاً إلا ما طبع في المطبعة الأميرية ونسخة خطية حديثة في دار الكتب الكبرى ,
ولعلها هي التي طبع عنها فإنهما سيان في كثرة الغلط , حتى في الأحاديث المعزوة
إلى كتب السنة المعروفة , وأسماء رجال الحديث على ما فيهما من نقص أشير إليه
بترك بياض يدل عليه ، مع كتابة ( بياض في الأصل ) في الحاشية , وقلما قرأنا
في هذا الكتاب تفسير آية ولم نجد فيه غلطًا مما نعرفه من ذلك ، فكيف بما لا يعرف
بالرواية والحفظ لكلام المؤلف نفسه ؟! وقد توسلنا ببعض الوسائل إلى تصحيحه
على نسخة معتمدة من خزائن كتب الآستانة ، ولما يتم لنا ذلك ولعله يتم قريبًا .
هذا وإنه لما كان غرض السلطان من طبع هذه المجموعة وأمثالها ؛ تعميم(1/265)
العلم في بلاده دون بلادنا طبعنا بإذنه زيادة عما طلبه طائفة قليلة من النسخ ؛ لتعميم
نفعها ، فإذا بعناها بثمن قليل بالنسبة إلى أمثالها كان له شركة في أجرها .
هذا وإننا نسعى منذ سنين إلى استئجار دار واسعة ؛ لأجل توسيع مطبعة
المنار , وتأليف لجنة من أهل العلم ؛ لتصحيح مطبوعاتها , وضبط النسخ التي
تلقى إلينا قبل الطبع بمعارضتها على الأصول الصحيحة في دار الكتب الكبرى
وخزانة كتب الجامع الأزهر ، أو حيث توجد في غيرها من خزائن الكتب الخاصة ؛
كالخزانة الزكية , والتيمورية , والجعفرية , والنورية [2] فعسى أن يهيئ الله تعالى
لنا ذلك , ويوفقنا لكل ما توجهت إليه نفسنا من خدمة العلم والدين ، والله ولي
المتقين ، والحمد لله رب العالمين .
محمد رشيد رضا
صدر في جمادى الأولى سنة 1342
________________________
(1) وقع غلط مطبعي في عدها , فجعل العدد الذي (في ص 745) هو 35 , والصواب أنه 37
فيصحح مع هذه .
(2) الأولى منسوبة لأحمد زكي باشا , والثانية إلى أحمد تيمور باشا , والثالثة إلى جعفر والي باشا ,
والرابعة لنور الدين بك مصطفى .
(( مجلة المنار ـ المجلد [ 25 ] الجزء [ 2 ] صـ 113 رجب 1342 ـ فبراير 1924 ))
مبحث في الجرح والتعديل
بسم الله الرحمن الرحيم
إثبات توثيق
كعب الأحبار ووهب بن منبه
حضرة صاحب الفضيلة السيد محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار المحترم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
أما بعد ، فإنكم كثيرًا ما تدعون إلى انتقاد المنار . وإن هذه أكبر مزية له ؛ لأن تحقيق
المباحث العلمية من أسمى ما يتشوق إليه طلاب الحقائق الذين لا يستريحون إلا
بالوقوف عليها ، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالانتقاد والمناقشة والأخذ والرد . فإن
الحقيقة بنت البحث ، وإن المناقشة في أي مبحث كان تولد فيه من الفوائد العلمية ما
تجعله مقدمًا على غيره من المواضيع الغفل التي لم يطرقها بحث فلم تنضج بعد .(1/266)
ولم يكن لها في نفس القارئ ذلك الأثر الثابت الذي يشعر به عند تلاوة مواضع
البحث والمناظرة ، وشتان بين اطلاعه على ما يحتمل أنه رأي شخصي ، وبين ما
يعلم عنه من سميته في الحال .
لذلك أكتب ما يأتي :
أتيتم في خلال تفسير قوله تعالى : ? فَأَلْقَى عَصَاهُ ? ( الأعراف : 107 ) من
سورة الأعراف بما يؤخذ منه أنكم تجرحون وتطعنون على كعب الأحبار
ووهب بن منبه بأنهما :
( 1 ) رويا أخبار غرائب بني إسرائيل المكذوبة .
( 2 ) وكانا يدسان في الدين الإسلامي بكذب الرواية .
( 3 ) وأنهما من جمعيتين دبرتا قتل الخليفتين عمر وعثمان رضي الله
عنهما كما هو موضح بصحيفة 169 من الجزء الثالث الصادر في 29 شعبان سنة
1342هـ ولما كان هذا التجريح غير المعروف عنهما عند رجال الحديث من
المتقدمين والمتأخرين إلى عصرنا هذا . ويوجب سوء سمعتهما عند قراء المجلة .
ويترتب عليه الحط من اعتبار أشهر كتب الحديث ( البخاري ومسلم وأبي
داود والنسائي والترمذي وابن ماجه وموطأ الأمام مالك ) لذكرهما فيها على سبيل
الرواية عنهما والاحتجاج بهما في عدة مواضع . وكنا في وقت كثر فيه الملحدون
والمارقون الذين يثيرون على الدين الإسلامي أقل شبهة ، فخشية أن يقول مارق : إن
صاحب المنار قد أظهر في رجال كتب الحديث التي تدعون صحتها من هو كذاب ،
دساس ، ويحاول أن يقيم من وراء ذلك دليلاً على تقصير أصحابها في انتقاء
رجالهم ، ولا يخفى ما في ذلك من الخطر ، وإيفاء للرجلين حقهما بادرت إلى انتقاد
هذا الطعن والتجريح مثبتًا براءة الحبرين مما ذكر بالإشارة إلى محال نصوص
علماء الجرح والتعديل الصريحة في توثيقهما توثيقًا لا يصح معه جرحهما بشيء
مما ذكر .
فلم تنشروا الانتقاد إلا بعد أكثر من عام أي في صحيفة 73 من الجزء الأول
الصادر في 29 رمضان سنة 1343 متبعين له بشيء من الرد على . ثم لم تنشروا
بقية الرد إلا بعد عام آخر بصحيفة 716 من الجزء التاسع الصادر في 15 شعبان(1/267)
سنة 1344 فلما كمل الرد ولم أجد فيه ما يشفي العلة . بل زاد الطين بلة . فإنكم
وإن سلمتم ببرائتهما من الطعن الثالث فقد بالغتم في نسبتهما إلى الأولين وهما محل
الخطر ( فوقفت حائرًا ) لأن الأمر أصبح في احتياج لمزيد من بحث ودرس ، وأنا
مشتغل بالحرث والدرس . ولم يكن بد من بيان الواقع من توثيق الحبرين وإلا كنت
جانيًا عليهما بتركهما بعد تعريضهما لأسنة البحث والمناظرة . فرجعت إلى ردكم
منقبًا عما حال دون إدراك الحقيقة ، فوجدت السبب ينحصر في ثلاثة مواضع مهمة .
فتجدد أملي في أنه مع بيانها يزول ما كنت أحذر . حيث إنها في نفس المنار تنشر
ومن علق بنفسه شيء مما سبق يزول . وننال معكم بذلك من الله تعالى الرضا
والقبول .
***
الموضع الأول
قلب نص قاطع في الموضوع من الإثبات إلى النفي - وذلك فيما نقلتم في
سياق جرحكم كعب الأحبار بصحيفة 77 من الجزء الأول المذكور ونصه ( وقد
صرح الحافظ الذهبي في الطبقات بأنه ليس له شيء في صحيح البخاري وغيره ).
ولما كان هذا غير المعروف راجعت ترجمته في الطبقات ، أي تذكرة الحفاظ
بصحيفة 45 من الجزء الأول فوجدت النص هكذا ( وله شيء في صحيح البخاري
وغيره ) .
هذا وقد قال الحافظ الذهبي في أول هذا الكتاب الجليل ما نصه ( هذه تذكرة
بأسماء معدلي حملة العلم النبوي ومن يرجع إلى اجتهادهم في التوثيق والتضعيف
والتصحيح والتزييف ) واسما الحبرين ثابتان فيها وقال في ترجمة كعب المذكورة
( إنه من أوعية العلم ومن كبار علماء أهل الكتاب أسلم في زمن أبي بكر فقدم من
اليمن في دولة أمير المؤمنين عمر فأخذ عنه الصحابة وغيرهم وأخذ هو من الكتاب
والسنة عن الصحابة وتوفي في خلافة عثمان ، وروى عنه جماعة من التابعين
مرسلاً . وله شيء إلخ وترجمة وهب بن منبه في صحيفة 88 من الجزء نفسه
وقال فيها ( إنه عالم أهل اليمن ولد سنة 34هـ وروى عن أبي هريرة وعن عبد(1/268)
الله بن عمر وابن عباس وأبي سعيد وجابر بن عبد الله وغيرهم وعنده من علم أهل
الكتاب شيء كثير فإنه صرف عنايته لذلك وبالغ . وحديثه في الصحيحين عن أخيه
همام ) .
وقد نص صاحب الفضيلة الشيخ محمد عبد العزيز الخولي المدرس بقسم
التخصص في القضاء الشرعي في رسالته مفتاح السنة المطبوعة والمنشورة بمجلة
المنار على أن تذكرة الحفاظ هذه من كتب الثقات . كما نص العلامة القاسمي في
كتابه الجرح والتعديل المطبوع والمنشور بالمنار أيضًا ( على أن من الوجوه التي
تعرف بها ثقة الراوي ذكره في تاريخ الثقات ) ، وحيث ثبت ذكر الحبرين في
هذه التذكرة وهي من تواريخ الثقات فيكون هذا حكمًا بتوثيقهما توثيقًا لا يقبل نقضًا
ومن ادَّعى غير ذلك فعليه البيان .
***
الموضع الثاني
حمل أقوال بعض سلف الأمة وعلمائها على غير مرادهم لعدم البحث - وذلك
ثابت في قولكم ضمن الرد بصحيفة 77 من الجزء الأول المذكور ما نصه ( أما
كعب الأحبار ، فإن البخاري لم يرو عنه في صحيحه شيئاً ولكن ذكره فيه بما يعد
جرحًا له لا تعديلاً . قال الحافظ ابن حجر في ترجمته من تهذيب التهذيب: وروى
البخاري من حديث الزهري عن حميد بن عبد الرحمن أنه سمع معاوية يحدث
رهطًا من قريش بالمدينة ، وذكر كعب الأحبار فقال: إن كان لمن أصدق هؤلاء
المحدثين عن أهل الكتاب وإن كنا مع ذلك لنبلوا عليه الكذب ( تأمل ) .
قال الحافظ بعد نقل هذه العبارة عن الأصل : ( قلت ) هذا جميع ما له في
البخاري وليست هذه رواية عنه فالعجب من المؤلف كيف يرقم له ورقم البخاري
وليست هذه رواية عنه فيوهم أنه أخرج له .. . إلخ ، يعني أن ذكر صاحب
التهذيب رقم البخاري وهو حرف ( خ ) عند اسم كعب غلط ، وقد صرح الحافظ
الذهبي في الطبقات بأنه ليس له شيء في صحيح البخاري وغيره . والمنتقد يبدي
ويعيد ذكر رواية البخاري عنه وتوثيقه له ، وأقول: إن قول معاوية: إن كعبًا كان من(1/269)
أصدق المحدثين عن أهل الكتاب ، وإنهم مع ذلك اختبروا عليه الكذب طعن صريح
في عدالته وفي عدالة جمهور رواة الإسرائيليات ؛ إذ ثبت كذب من يعد من أصدقهم
ومن كان متقنًا للكذب في ذلك يتعذر أو يتعسر العثور على كذبه في ذلك العصر إذ
لم تكن كتب أهل الكتاب منتشرة في زمانهم بين المسلمين كزماننا هذا ، إلى أن قلتم:
وجمله القول أن جرح كعب لا يقتضي خسران شيء يذكر من العلم في صحيح
مسلم ، ويوافق ما عند البخاري من إثبات معاوية لكذبه عنده وعند غيره ؛ ولذلك امتنع
البخاري عن الرواية عنه على غرور الجمهور بعبادته. اهـ منار .
فهذه الجملة اشتملت عدا رأيكم على ثلاث عبارات للمتقدمين ( الأولى ) عبارة
سيدنا معاوية المروية في البخاري ( الثانية ) عبارة الحافظ ابن حجر المنصوصه
في كتابه تهذيب التهذيب ( الثالثة ) عبارة الحافظ الذهبي المثبتة في كتابه الطبقات
المذكورة . أما عبارة الذهبي فقد بينا ما فيها قريبًا وآفتها من كلمة ( ليس ) التي
حشيت فيها فقلبتها من الإثبات إلى النفي ، وعبارة ابن حجر مترتبة معنى على
عبارة سيدنا معاوية . فوجب الكلام أولاً على عبارة معاوية رضي الله عنه من جهة
نصها ومعناها مع بيان غرض الإمام البخاري من ذكرها في صحيحه حتى يتبين
بجلاء إن كانت طعنًا على كعب أو توثيقًا له .
أما من جهة نصها في صحيح البخاري فهي في كتاب الاعتصام بالكتاب
والسنة ، وقد أتى بها البخاري عقب ترجمته هكذا ( بسم الله الرحمن الرحيم باب قول
النبي صلى الله عليه وسلم لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء . وقال أبو اليمان : أخبرنا
شعيب عن الزهري أخبرني حميد بن عبد الرحمن سمع معاوية يحدث رهطًا من
قريش بالمدينة وذكر كعب الأحبار فقال : إن كان لمن أصدق هؤلاء المحدثين الذين
يحدثون عن أهل الكتاب وإن كنا مع ذلك لنبلوا عليه الكذب . اهـ بخاري
وأثبت صاحب الفتح ( إن ) في رواية ( وحدثنا أبو اليمان ) وأنّ إنْ مخففة من(1/270)
الثقيلة ، وضبط شيخ الإسلام ( وذكر ) بالبناء للمفعول وفي النسخ المضبوطة بالقلم
علامة صحة حذف كلمة ( أهل ) عن أبي ذر الهروي فتكون روايته هكذا ( الذين
يحدثون عن الكتاب ) هذا ما يتعلق باللفظ .
وأما من جهة المعنى فأحسن ما يبين معناها هو نفس كلام سيدنا معاوية ذاته
عن كعب الأحبار شخصه .
وقد اطلعتم على عبارة أخرى لسيدنا معاوية صريحة في الثناء على كعب
وهي قوله : ألا إن كعب الأحبار أحد العلماء إن كان عنده لعلم كالثمار ، وإن كنا فيه
لمفرطين كما هو منصوص في تهذيب التهذيب قبل ما نقلتم منه مباشرة .
والعبارتان صدرتا منه رضي الله عنه بعد وفاة كعب لتصريحه بالتفريط في
الأخذ عنه في هذه ، ولا ولى ، قالها لما حج بالناس في خلافته كما نص عليه في
الفتح وكعب توفي في خلافة عثمان رضي الله عنه كما سبق ، أي فلم يطرأ ما يوجب
تغيير رأيه بين العبارتين .
فلا يصح مع ذلك قولكم إن العبارة - طعن صريح في عدالة كعب - إذ ثبت
كذبه - بل كان متقنًا للكذب - ومغررًا للجمهور بعبادته - كما سبق نقله عن المنار،
لأن هذا تناقض بين عبارتي خليفة من خلفاء الإسلام وصحابي من أكابر الصحابة
هداة الأنام مشهور بحصافة الرأي ومعروف بالبلاغة ، فلا يتأتى منه أن يأسف على
التفريط في الأخذ عن كذاب ، وليس من البلاغة وصف رجل في أول جملة
بأنه من أصدق المحدثين وفي آخرها بأنه من أكذب الكذابين وكيف يكون ذلك من
أحد الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين .
على أن العبارة من حيث تركيبها العربي لا تصلح دليلاً مطلقًا على أقل ألفاظ
هذا التجريح فإن إسناد الكذب فيها إلى ( الكتاب ) باعتبار ما فيه من التبديل أقرب
من إسناده إلى ( كعب ) كما قرره شارح البخاري في توجيه احتمال رجوع الضمير
في ( عليه ) إلى ( الكتاب ) ولأنه أقرب مذكور .
وعلى كل حال فقد صارت هذه العبارة لا تصلح حجة على الطعن في كعب
لأن الدليل متى تطرقه الاحتمال بطل به الاستدلال .(1/271)
لذلك لم يقل أحد من علماء الحديث الذين شرحوا البخاري وغيرهم : إن هذه
العبارة قصد بها سيدنا معاوية تجريح كعب مطلقًا بل بعكس ذلك فهموا أنها صدرت
منه للدلالة على توثيق كعب بأنه كان من أصدق المحدثين عن الكتاب وأن الخليفة
ابتلى الكذب على الكتاب نفسه لما علمه فيه من التحريف والتبديل بناء على عود
الضمير على أقرب مذكور - وقد رأى ذلك العلامة السيوطي كما يؤخذ من كتابه
( إسعاف المبطأ ) المطبوع حديثاً مع الموطأ بمطبعة عيسى الحلبي حيث ترجم لكعب
الأحبار بصفته أحد رجال الموطأ ( المعروف بانتقاء الإمام مالك لرجاله من أوثق
رجال الحديث ) مقتصرًا على صدر عبارة سيدنا معاوية في الاستدلال على توثيق
كعب لكونه يرى إعادة الضمير على الكتاب وأنه بناءً على ذلك لا ارتباط بين صدر
هذه العبارة وآخرها .
فالسيوطي جعل العبارة توثيقًا وهو متوفى سنة 911هـ ( هذا ) ومن رأى
عود الضمير على كعب حمل الكذب في العبارة على ما يوجد في بعض أخباره من
الخطأ الذي سرى إليه من أهل الكتاب قبل إسلامه ، ولا علاقة له بأمر الدين كالإخبار
بوقوع حوادث في المستقبل فلم يقع بعضها كما أخبر كعب .
يوضح هذا كله عبارة الحافظ ابن حجر في الفتح ونصه ( قوله عليه الكذب )
أي يقع بعض ما يخبرنا عنه بخلاف ما يخبرنا به ، فلفظ يقع يدل على أن المخبر
به أمور من قبيل ما يسمونه ملاحم ، ولا علاقة لذلك بأمر الدين الإسلامي ، ثم نقل
الحافظ ابن حجر عقب رأيه الشخصي المذكور عبارة ابن التين على طولها وعبارة
ابن حبان في توثيق كعب بما يقرب من هذا المعنى ، ثم شرح توجيه إعادة الضمير
على الكتاب ونقل التصريح عن القاضي عياض بأن العبارة ليس فيها تجريح لكعب
بالكذب على كلا الاحتمالين ، ثم ترجم لكعب موثقًا له وأتى في ضمن أدلة توثيقه
بقول سيدنا معاوية بلفظ ( ألا إن كعب الأحبار أحد العلماء إن كان عنده لعلم كالبحار(1/272)
وإن كنا فيه لمفرطين ) والثمار أو البحار كلاهما كناية عن سعة علمه ونفعه )
أ هـ فتح بتصرف فانظره .
أما القسطلاني فابتدأ شرح الموضوع بتوجيه الاحتمالين في مرجع الضمير
مباشرة ، ونقل عن الحافظ ابن الجوزي المعروف بتشدده في التعديل ما نصه توثيقًا :
( يعني أن الكذب فيما يخبر به عن أهل الكتاب لا منه ، فالأخبار التي يحكيها عن
القوم يكون في بعضها كذب فأما كعب الأحبار فهو من خيار الأحبار) ، وكذا عبارة
العيني والكرماني والسندي ، وهو آخر من كتب على البخاري فيما نعلم .
واستدل صاحب كتاب إظهار الحق بعبارة سيدنا معاوية هذه على أن الصحابة
كانوا يعتقدون أن كتابي أهل الكتاب ( التوراة والإنجيل ) الموجودين محرفان كما في
الجزء الأول منه في الكلام على إثبات تحريف وتبديل التوراة والإنجيل ، فاتضح
من ذلك معنى عبارة سيدنا معاوية ، وأنه ليس فيها تجريح لكعب بالكذب وأن غرضه
منها إرشاد القرشيين إلى الثقة بما صح سنده إلى كعب مما حدث به عن كتب أهل
الكتاب القديمة ؛ لأنه من أصدق المحدثين عنها - وذلك مثل ما أخبر به كعب من أن
النبي صلى الله عليه وسلم موصوف في التوراة بصفة واضحة حيث قال في السطر
الأول منها ( محمد رسول الله عبدي المختار : مولده بمكة ، ومُهَاجَرُهُ المدينة ، ومُلْكُهُ
بالشام ) كما نقله الحافظ ابن حجر على موضعين كلاهما في الفتح في شرح باب
? إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً ? ( الأحزاب : 45 ) من سورة الفتح في
كتاب التفسير من صحيح البخاري ، وأشار إليه في تهذيب التهذيب في آخر ترجمة
كعب ، وهذا من ثمار علمه التي صرح الخليفة أنهم فرطوا في الأخذ منها .
أما من جهة بيان غرض البخاري من ذكر عبارة سيدنا معاوية في صحيحة
فيؤخذ من قول الإمام العيني في شرحها ما نصه ( مطابقته للترجمة في ذكر كعب
الأحبار الذي كان يتحدث من الكتب القديمة ويسأل عنها أحبارهم ) ومنه يعلم أن(1/273)
غرض البخاري هو الاحتجاج بكعب الأحبار في دفع التعارض بين النهي في
الترجمة بقول النبي صلى الله عليه وسلم ( لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء ) وبين
الأمر في قول الله تعالى ? فَاسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الكِتَابَ مِن قَبْلِكَ ? ( يونس : 94 )
بأن كعبًا كان ممن يسألون ؛ لأنه قرأ الكتاب من قبل ثم أسلم وشهد له سيدنا معاوية
بأنه من أصدق المحدثين عن الكتاب ، والنهي هو عن سؤال من لم يسلم كما نص
عليه في الفتح في آخر شرح هذه الترجمة ، وهذا يدل على عظيم ثقة الإمام البخاري
بكعب الأحبار ؛ لأن احتجاجه به في أمر الدين كما ذكر أبلغ في الدلالة على ثقته به
من الرواية عنه وعلى أنه لم يمنعه من الرواية عنه إلا عدم وفرة السند الصحيح له
إليه على شرطه المعروف ومثل كعب في ذلك كمثل الإمام أبي حنيفة ، وكثير من
أوثق المحدثين الذين لم تذكر لهم رواية في البخاري للسبب المذكور والإمام الشافعي
لم يكن له رواية في البخاري وإنما له شيء يسير في التعليقات فقط فلا يقال : إن
البخاري امتنع عن الرواية عن هؤلاء الأئمة لعدم ثقته بهم وإلى هنا انتهى الكلام
على عبارة سيدنا معاوية من كل أوجهها المذكورة وعلم غرضه فيها وغرض
البخاري من ذكرها في صحيحه بما توضح .
ولم يبق في هذا الموضوع سوى الكلام على عبارة الحافظ ابن حجر المتوفى
سنه258هـ من جهة تعجبه ممن سبقه في عد كعب الأحبار من رجال البخاري بناءً
على عبارة سيدنا معاوية هذه مع أنها لم تكن رواية له عن كعب .
وقبل الكلام عن بيان غرض الحافظ ابن حجر من هذا التعجب أنقل شيئًا من
كلام علماء أصول الحديث يوضح لنا ما به يسمى الرجل من رجال صحيح
البخاري أو غيره . قال الحافظ ابن الصلاح في مقدمته المشهورة في النوع الثالث
والعشرين بصحيفة 41 ما نصه : ( ثم من انزاحت عنه الريبة منهم بالبحث عن
حالة أوجب الثقة بعدالته قبلنا حديثه ، ولم نتوقف كالذين احتج بهم صاحبا الصحيحين(1/274)
وغيرهما ممن مسهم مثل هذا الجرح من غيرهم فافهم ذلك فإنه مخلص حسن ) ، وقال
العلامة ابن السبكي في الطبقات الكبرى في ترجمة الحافظ الذهبي المتقدم ما نصه :
نقلاً عن صاحب الترجمة ( وقد كتبت في مصنفي الميزان عددًا كثيرًا من الثقات
الذين احتج البخاري أو مسلم أو غيرهما بهم لكون الرجل منهم قد دون اسمه في
مصنفات الجرح وما أوردتهم لضعف فيهم عندي بل ليعرف ذلك وما زال يمر بي
الرجل الثقة وفيه مقال من لا يعبأ به . ثم استطرد إلى ذكر أسماء الذين لم يؤثر
عليهم ذلك الجرح لكون البخاري أو أحد أمثاله احتج ببعضهم إلى أن ذكر منهم
وهب بن منبه ) ولم يذكر كعبًا ؛ لأنه لم يجرح مطلقًا ، وأما وهب فذكره ؛ لأن ابن
الفلاس كان ضعفه قبل احتجاج البخاري به كما يأتي .
وقال شيخ الإسلام في شرح ألفية العراقي في مبحث ( أصح كتب الحديث )
في إثبات أن البخاري ومسلم هما أصح الكتب ما نصه : ( وما ذكر فيهما من
الضعفاء كمطر الوراق وبقية وابن إسحاق ونعمان بن راشد لم يذكر على سبيل
الاحتجاج بل على سبيل المتابعة والاستشهاد ) .
فأنت ترى أن عباراتهم صريحة في أن كل من احتج به البخاري في صحيحه
يصير ثقة ولو كان مجروحًا من قبل وأنه لا يعبأ بكلام الجارح بعد ذلك الاحتجاج
وبناءً عليه صار كل من الراوي والمحتج به في البخاري حكمهما واحدًا في التوثيق
وباعتبار أن البخاري اعتمد في تكوين كتابه على الرواة والمحتج بهم يصح أن
يطلق على كل منهما أنه من رجال البخاري وأنه أخذ عنه بلا فرق بينهما في ذلك
أيضًا . ( وقد احتج البخاري بكعب الأحبار احتجاجًا مهمًّا نافعًا كما سبق ) .
فلا عجب حينئذ ممن عد كعبًا من رجال البخاري ؛ لأنه متى علم السبب بطل
العجب واتضح أن صاحب التهذيب مصيب في عد كعب الأحبار من رجال البخاري
وأن ذكر حرف ( خ ) رقمًا على أخذ البخاري عن كعب صحيح لا ( غلط ) لأنه
اعتمد عليه في شيء من كتابه - على أنه لا غرض للحافظ ابن حجر من ذلك(1/275)
التعجب إلا طلب النظر في الموضوع شأن أكابر المحققين إذا اختلفت وجهة نظرهم
مع من سبقهم يطلبون النظر في الأمر ليتبين الحق فيه وجل المنزه عن الخطأ
والنسيان وعلى ذلك أدلة منها أنه صرح بطلب النظر عقب عبارته هذه مباشرة
بقوله : وكذا رقم في الرواة عنه ( كعب على معاوية ابن أبي سفيان رقم البخاري
معتمدًا على هذه القصة وفي ذلك نظر) .
يريد أن عبارة سيدنا معاوية قصها على الرهط من قريش ثناء على كعب لا
رواية عنه ولكن قول سيدنا معاوية (عنده علم كالثمار أو البحار ) يدل على أخذه
عن كعب وإلا فمن أين علم ثمار علمه . ومنها أن ابن حجر أبقى حرف ( خ ) في
كتابه تهذيب التهذيب فلو كان جازمًا بغلط صاحب التهذيب في ذكر هذا الحرف
لحذفه هو من كتابه : ومنها أنه لم يجرح كعبًا بشيء ما في مؤلفاته بل ترجم له
ونقل توثيقه عن كثيرين تأييداً لتوثيقه له .
أما السابقون على الحافظ ابن حجر في عد كعب من رجال البخاري وتوثيقه
فهم الحافظ بن سرور المقدسي في كتابه الكمال وهو متوفى سنة 600هـ وتابعه
على ذلك الحافظ المزي في التهذيب ، وهو متوفى سنة 742هـ وهو الذي يقصده
ابن حجر بقوله في عبارته : ( فالعجب من المؤلف ) ولكن الذهبي وافق المُزّي في
كتابه تهذيب التهذيب ، وهو متوفى سنة 748هـ ومن المتأخرين عن ابن حجر ، وهو
موافق للمتقدمين عليه الحافظ الخزرجي في كتابه ( خلاصة تهذيب الكمال) وهو
متوفى سنة 923هـ ولم يوافق أحد ابن حجر من المتقدمين أو المتأخرين عنه في
التعجب من عد كعب من رجال البخاري .
البقية للآتي
((يتبع بمقال تالٍ))
________________________
(( مجلة المنار ـ المجلد [ 27 ] الجزء [ 5 ] صـ 377 المحرم 1345 ـ أغسطس 1926 ))
مبحث في الجرح والتعديل
( 2 )
إثبات توثيق كعب الأحبار ووهب بن منبه
هذا ما يتعلق بكعب الأحبار في هذا الموضع ، وأما وهب بن منبه ، فهو من
جهة عدِّه من رجال البخاري محل اتفاق ؛ لأن البخاري روى عنه في صحيحه حديثًا(1/276)
صحيحًا نافعًا لأنه يتضمن إثبات كتابة العلم أي ( الحديث ) في زمن النبي - صلى
الله عليه وسلم - وذلك في كتاب العلم من صحيح البخاري كما أن البخاري احتج
( بوهب ) في أول كتاب الجنائز من صحيحه حيث قال : وقيل لوهب بن منبه :
( أليس مفتاح الجنة لا إله إلا الله ؟ ، قال : بلى ، ولكن ليس مفتاح إلاَّ له أسنان ، فإن
جئت بمفتاح له أسنان فتح لك وإلا لم يفتح لك ) ، وهذا يدل على أن وهبًا لم يكن
جبريًّا في عقيدته حيث قال في الفتح وروى عن معاذ بن جبل مرفوعًا نحوه بل
كان سنيًّا.
وخلاصة هذا الموضع ، ثبوت أن كلاًّ من كعب ووهب من رجال البخاري
الأول احتجاجًا ، والثاني احتجاجًا ورواية ، وأن ذلك توثيق لكل منهما معتبر عند
رجال الحديث ، وأما كونهما من رجال بقية الكتب الستة المبينة في أول كلامنا
فحسبنا دليلاً على ذلك كتاب تهذيب التهذيب نفسه وفي ذلك توثيق أيضاً ، مؤكد لما
قبله ، وصار تضعيف ابن الفلاس لوهب لا يعبأ به بعد احتجاج ورواية البخاري
عنه ، قال ابن حجر في مقدمة فتح الباري صحيفة 450 في الكلام على وهب بن
منبه ما نصه :
( وثقه الجمهور وشد الفلاس فقال : كان ضعيفاً ) فأصبح هذا التضعيف لا
أثر له بعد أخذ البخاري عنه ، والتقليل من شأن أو عدد ما أخذه البخاري أو مسلم
عن أحد الحبرين لا يصلح حجة على عدم توثيق كل منهما ، فإن المدار في ذلك
على ما يدل على ثقة صاحبي الصحيحين بأحدهما ، وحديث أو احتجاج واحد كافٍ
في الدلالة على ذلك بدليل أن علماء مصطلح الحديث لم يشترطوا تعدد الأخذ في
قولهم : ( كل من أخذ عنه البخاري أو مسلم فهو ثقة ، ولا يقبل قول من جرحه
بعد ) .
***
الموضع الثالث
( الاحتجاج بما لا يحتج به لعدم صحة سنده أو لخروجه من موضوع البحث) .
وقبل الكلام في ذلك أنقل يسيرًا مما قرره علماء الحديث في التحذير من جرح
رجال الحديث بغير تثبت .
قال العلامة ابن الصلاح في المقدمة في النوع الحادي والستين ما نصه :(1/277)
( على الآخذ في ذلك أن يتقي الله تبارك وتعالى ويثبت ويتوقى التساهل كيلا يجرح
سليمًا أو يسلم بريئًا بسمعة سوء يبقى عليه الدهر عارُها ) .
ونقل العلامة القاسمي في كتابه الجرح والتعديل صحيفة (4) من علماء
الحديث أنهم قالوا : أعراض المسلمين حفرة من حفر النار وقف على شفيرها
طائفتان من الناس المحدثون والحكام . أهـ فأمام هذا التحذير الشديد لا يصح
الاحتجاج في تجريح كعب ، ووهب بما نسب إليهما من الأخبار المنتقدة في بعض
كتب التفسير أو التواريخ أو القصص لاحتمال أن ذلك موضوع ومنسوب إلى أحدهما
من باب حسن السبك وخصوصًا ما كان من ذلك من أخبار بني إسرائيل
فلشهرة الحبرين بمعرفتهما تلك الأخبار جعلهما الوضاعون هدفًا لأغراضهم ، ومن
ذلك الخبر الذي هو مثار هذا المبحث من أوله إلى آخره ، وهو ما نقلتم عن ابن
كثير في التفسير عند قوله تعالى : ? فَأَلْقَى عَصَاهُ ? ( الأعراف : 107 ) من قصة
سيدنا موسى مع فرعون في سورة الأعراف من أن وهبًا قال : ( إن العصا لما
صارت ثعبانًا حملت على الناس فانهزموا منها فمات منهم خمسة وعشرون ألفًا قتل
بعضهم بعضًا ، وقام فرعون منهزمًا ) قال ابن كثير رواه ابن جرير والإمام أحمد
وابن أبي حاتم وفيه غرابة في سياقه والله أعلم . أهـ منار
أما غرابة السياق فمسلمة ؛ لأن اجتماع هذا العدد الذي مات فقط فضلاً عمن
نجا على غير انتظار أمر لا يتصوره عاقل لأن دخول سيدنا موسى وأخيه على
فرعون أول أمره كان على غير انتظار ، ولكن من جهة صحة سند هذه الرواية إلى
وهب فإن في سند ابن جرير من هو مجهول كما قدمنا في أصل الانتقاد والرواية
عن المجهول لا يعتد بها لاحتمال أن ذلك المجهول هو الواضع لها . والإمام أحمد
لم يروه في مسنده كما هو ظاهر عبارتكم ؛ لأن ابن كثير صرح في عبارته أنه في
الزهد وهو لم يكن من كتب الحديث المعروفة فلا مانع أن يكون في سنده انقطاع
أيضًا .(1/278)
وابن أبي حاتم تفسيره كتفسير ابن جرير ، بل إنه يروي في الموضع الواحد
المتناقضات بدليل ما نقله عنه الحافظ ابن حجر في الفتح في تعيين ( مجمع
البحرين ) في تفسير سورة الكهف ، حتى قال ابن حجر : وهذا اختلاف شديد
فانظره ، وعلى ذلك لم يوجد سند صحيح بأن هذا الخبر الغريب صدر من وهب ،
وحينئذ فلا تصح مؤاخذته به ، ويدل على أنه موضوع على وهب أنه لم يروه أحد
من أصحاب كتب الحديث المعتبرة مثل البخاري أو مسلم ، أو غيرهما من الكتب
التي يصح للمطلع عليها أن يقطع أو يظن أن ذلك صدر منه ، وما دام أنه لم يوجد
ذلك فلا محل لتوجيه اللوم إليه بناءً على أمر وضعه عليه أقرب جدًّا من صدوره
منه .
ومثل ذلك بل أقل منه ثبوتًا ما جعلتموه عمدتكم في الطعن على الحَبْرين ،
أخيرًا حيث قلتم بصحيفة ( 718 ) من الجزء التاسع المذكور في بقية الرد علينا ما
نصه : هذا وإن عمدتنا في جرح رواية وهب ما جاء به من الإسرائيليات التي
نقطع ببطلانها ، وهو آفتها كروايات كعب فيها ، وقد شوَّها تفسير كتاب الله بما بثَّا
فيها ( كذا ) من الخرافات ، وبما أدخلا فيها ( كذا ) من العقائد الباطلة ومن تأييد
عقائد أهل الكتاب ، والشهادة لكتبهم التي بين أيديهم بالصحة .
ونكتفي في هذه ، وهي شرها بما نقله الحافظ ابن كثير عنه في تفسير قوله
تعالى : ? وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ ... إلخ ? ( آل عمران : 78 ) قال
وهب بن منبه : إن التوراة والإنجيل كما أنزلهما الله تعالى لم يغير منهما حرف ،
ولكنهم يضلون بالتحريف والتأويل وكتب كانوا يكتبونها من عند أنفسهم ? وَيَقُولُونَ
هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ? ( آل عمران : 78 ) فأما كتب الله فإنها
محفوظة ولا تحول . رواه ابن أبي حاتم . أ هـ ( منار )
فهذا رواه ابن أبي حاتم وحده فهو أقل ثبوتًا من سابقه فلا يصح أن تجرحوا(1/279)
وهبًا بناءً على مثل هذه الرواية الساقطة بقولكم بعد ذلك : ( إن وهبًا كان كذابًا غاشًّا
للمسلمين بصلاحه ) اهـ .
هذا مما احتجيتم به وهو لم يصح الاحتجاج به لعدم صحة سنده .
وأما ما جعلتموه حجة وهو خارج عن الموضوع فهو ما ذكرتموه بصحيفة
(78) من الجزء الأول المذكور في أول ردكم من الإطناب في ذكر توراة اليهود
وإنجيل النصارى الموجودين وجعلهما حجة على كذب الحبرين لكون كثير من
الأخبار نسبت إليهما عن بني إسرائيل لم توجد فيهما حيث قلتم : فإن توراة اليهود
بين الأيدي ، ونحن نرى فيما رواه كعب ووهب عنهما ما لا وجود له فيها ألبتة على
كثرته إلخ . فهذا فضلاً عن خروجه عن الموضوع لما هو مقرَّر عند جميع علماء
المسلمين من أن كتابي اليهود والنصارى الموجودين لا يصح الاحتجاج بهما لما
ثبت بالقرآن والأحاديث الصحيحة من تحريفهما وتبديلهما . فقد نقضتموه بقولكم
أخيرًا بصحيفة 719 من الجزء التاسع المذكور في آخر ردكم علينا بما نصه :
أقول إن كثير قد علم من حال كتب أهل الكتاب ما لم يكن يعلم أئمة الجرح والتعديل
ممن فوقه كأحمد وابن معين والبخاري ومسلم الذين لم يروا هذه الكتب كما رآها
ولم يطلعوا على ما بينه المطلعون عليها قبله من تحريفها وأغلاطها ومخالفتها لما
نقطع به من أصول الإيمان بالله ورسوله إلخ ، كابن حزم وابن تيمية أستاذه
إلخ . أهـ منار
وعلى أيّ حالة كانت فإن ذلك لا يوجب جرح الحبرين فإن رأي ابن حزم
وابن تيمية معروف لدى جمهور العلماء فيما يختص بتحريف كتابي أهل الكتاب
وغيره ، وقد فصل القول في مسألة التحريف الحافظ ابن حجر في الفتح في كتاب
التوحيد عند شرح باب قول الله تعالى : ? بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ?
( البروج : 21-22 ) ونقل كلام ابن حزم وابن تيمية وغيرهما ، ولم ينقل عن أحد
الطعن على الحبرين مطلقًا .
وابن حزم متوفى سنة 456 وابن تيمية توفي سنة 728 وقد وثق الحبرين(1/280)
بعد ذلك كثير من العلماء المطلعين على أقوالهما ، وقد تقدم ذكرهم واستمر توثيقهما
إلى الأعصر القريبة فصاحب كتاب إظهار ( الحق ) ممن سبق توثيقه لكعب وهو
فرغ من تأليفه سنة 1280 هو صاحب الفضيلة الشيخ الخضري الموجود وثق وهبًا
في كتابة تاريخ التشريع الإسلامي بصحيفة 158 وابن حزم وابن تيمية لم يصدر
منهما طعن على أحد الرجلين فكل ما يتعلق بكلامهما خارج عن الموضوع .
( والكلمة الختامية ) أن مبحث الجرح والتعديل مبحث نقلي محض لا مجال
للعقل فيه مطلقًا إلا من حيث الاطلاع على ما دوّنه علماؤه في سجلات أسفارهم
فالمجروح من جرحوه والموثَّق من وثقوه ، وما علينا إلا الاطلاع على أحكامهم في
ذلك فننفذها كما صدرت ، والله ولي التوفيق .
عبد الرحمن الجمجموني
( المنار )
سنبدي رأينا في هذا النقد في الجزء التالي إن شاء الله تعالى .
((يتبع بمقال تالٍ))
________________________
(( مجلة المنار ـ المجلد [ 27 ] الجزء [ 6 ] صـ 459 صفر 1345 ـ سبتمبر 1926 ))
فتاوى المنار
أسئلة عن أحاديث الصحيحين وما قيل من أغلاطها
ورواية أبي هريرة ، والفرق بين أحاديث التشريع وغيرها
س 1-9 من صاحب الإمضاء
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله هادي الأنام ، والصلاة والسلام على البشير النذير خاتم الرسل الكرام
وعلى آله هداة الأمم ومنار الإسلام .
أما بعد : من أحمد محمد شهاب إلى حضرة من بعثه الله مجددًا لما اندرس من
معالم الدين ، ناصر السنة ، وقامع البدعة ، حامي بيضة الإسلام ، إمام الأئمة
الأعلام [*] صاحب الفضيلة السيد محمد رشيد رضا .
السلام عليكم ورحمة الله ، اطلعت على كتاب سبل السلام شرح بلوغ المرام
الذي صححه وعلق عليه حضرة الأستاذ النابه الشيخ محمد عبد العزيز الخولي
المدرس بقسم التخصص في القضاء الشرعي ، فَإذَا الكتاب طبع في مطبعتين
إحداهما المطبعة المنيرية لصاحبها حضرة الشيخ محمد منير أغا ، والأخرى للشيخ(1/281)
محمد علي صبيح ، وقد جاء في نسخة المطبعة الأولى صحيفة 9 جزء 1 تعليق
لحضرة المصحح على شرح الحديث الشريف 12 عن أبي هريرة قال : قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا وقع الذباب في شراب فليغمسه ثم لينزعه ؛ فإن في
أحد جناحي داء وفي الآخر شفاء ) نقلاً عما كتبه حضرة الطبيب محمد توفيق
صدقي العالم المتدين في كتابه سنن الكائنات صحيفة 162 جزء10 ومما جاء فيه :
إن من عادة الذباب أن يجتمع على القاذورات والنجاسات ، ثم ينتقل منها على طعام
الإنسان أو يسقط في شرابه أو يقف فوق عينيه ، وبذلك تنتقل جراثيم الأمراض إلى
الإنسان وتنتشر بين أفراد هذا النوع ، واستشهد على ذلك بما قرره أطباء الإنكليز
في حرب الترنسفال من انتقال العدوى في أفراد الجيش بواسطة الذباب ، إلى أن
قال : إذا وقف الذباب على الأعين وجب طرده في الحال وإذا وقف على الطعام أو
سقط في الشراب فالأسلم تطهيرهما بالنار . أما ما رواه البخاري عن أبي هريرة
عن النبي صلى الله عليه وسلم فهذا الحديث مشكل وإن كان سنده صحيحًا ، فكم في
الصحيحين من أحاديث اتضح لعلماء الحديث غلط الرواة فيها ، كحديث ( خلق الله
التربة يوم السبت ) مثلاً وغيره مما ذكره المحققون ، وكم فيهما من أحاديث لم يأخذ
بها الأئمة في مذاهبهم ، فليس ورود هذا الحديث في البخاري دليلاً قاطعًا على أن
النبي صلى الله عليه وسلم قاله بلفظه ؛ مع منافاته للعلم وعدم إمكان تأويله ، مع أن
مضمونه يناقض حديث أبي هريرة وميمونة ؛ وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم
سئل عن الفأرة تقع في السمن ، فقال : ( إن كان جامدًا فاطرحوها وما حولها وكلوا
الباقي ، وإن كان ذائبًا فأريقوه أو لا تقربوه ) فالذي يقول ذلك لا يبيح أكل الشيء
إذا وقع فيه الذباب ؛ فإن ضرر كل من الذباب والفئران عظيم ، على أن حديث
الذباب هذا رواه أبو هريرة ، وفي حديثه وتحديثه مقال بين الصحابة أنفسهم !(1/282)
خصوصًا فيما انفرد به كما يُعلم ذلك من سيرته ، وهَبْ أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال ذلك حقيقة ، فمن المعلوم أن المسلم لا يجب عليه الأخذ بكلام الأنبياء
صلوات الله وسلامه عليهم في المسائل الدنيوية المحضة التي ليست من التشريع ،
بل الواجب عليه أن يمحصها ويعرضها على العلم والتجربة ، فإن اتضح له صحتها
أخذ بها وإن علم أنها مما قاله الأنبياء ( صلوات الله وسلامه عليهم ) بحسب رأيهم ،
وهو يجوز عليهم الخطأ في مثل ذلك ! وقد حقق هذه المسألة القاضي عياض في كتابه
الشفاء ، فليراجعه من شاء . ومما رواه فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله :
( إنما أنا بشر فما حدثتكم عن الله فهو حق ، وما قلت فيه من قِبَل نفسي فإنما أنا بشر
أخطئ وأصيب ) انتهى .
والذي نريد أن نعرفه من فضيلتكم :
1- ما هي أحاديث الصحيحين التي اتضح لعلماء الحديث غلط الرواة فيها ؟
2- ما في حديث وتحديث أبي هريرة رضي الله عنه من المقال ؟ وما الذي
قيل في سيرته ؟
3-إذا كان لا يجب الأخذ بكلام الأنبياء ( صلوات الله وسلامه عليهم ) في
المسائل الدنيوية المحضة ، أفلا يكون الأخذ بها سنة أو مندوبًا ؟
4- هل يوجد ضابط لا يتطرق إليه القيل والقال في التمييز بين ما قيل من
النبي صلى الله عليه وسلم في المسائل الدنيوية ، وما قاله من قبل نفسه ، وما قاله
على سبيل التشريع ؟
5- جواز خطأ الأنبياء ( صلوات الله وسلامه عليهم ) ، فما قالوه من أنفسهم
ودليله وحكمه ؟ وهل ما وقع لنبينا صلى الله عليه وسلم من هذا القيل محصور وما
هو ؟
6- التوفيق بين حديثي الذباب والفأرة ؟
7- هل حديث الذباب مع ما يشتمل عليه من الأخبار ، يقال من قبل الرأي أو
التشريع .
8- كيف يكون القول الصادر عن الطبيب محمد توفيق صدقي كفرًا مع قول
المصطفى صلى الله عليه وسلم : ( إنما أنا بشر فما حدثتكم عن الله فهو حق ، وما
قلت فيه من قبل نفسي ) .. إلخ ، وما درجة هذا الحديث ومن خرجه ؟(1/283)
9- جاء في تعليق النسخة طبعة صبيح ، طعن مر على ما كتبه الدكتور محمد
صدقي وأنه كفر ، فهل يجوز هذا الطعن ، وما حكم قائله ؟
نرجو الإفادة عن كل ما تقدم بتوسع ، حتى تكون الأمة على بينة منه ، وإنا
منتظرون فيما تكتبون الشفاء ، والمعهود في سماحتكم الوفاء ، ودمتم محفوظين ،
وبعناية المولى القدير ملحوظين ، والسلام .
28/11/1927
المخلص
: من أحمد محمد شهاب
رئيس نقطة الحبابية مركز منوف منوفية
( المنار )
نحيي السائل بخير من تحيته ، من السلام ورحمة الله وبركاته ونعمته ،
ونسأله تعالى أن يجعلنا أهلاً لحسن ظنه وإخلاص نيته ، ونخبره بأن أسئلته المهمة
قد سبق لنا تحقيقها في المنار ؛ لذلك نجيب عنها بالاختصار ، فنقول :
( أجوبة المنار بالترتيب )
1- أحاديث الصحيحين التي ظهر غلط الرواة فيها
لم أقف على إحصاء لأحاديث الصحيحين التي اتضح لعلماء الحديث أن
الرواة غلطوا فيها ، وعلماء الحديث قلما يعنون بغلط المتون فيما يخص معانيها
وأحكامها الذي هو مراد السائل ، وإنما كانت عنايتهم التامة بالأسانيد وسياق المتون
وعباراتها والاختلاف والاتفاق فيها والمرفوع والموقف منها ، وما عساه أن يكون
مدرجًا
فيها من كلام بعض الرواة ليس من النص المرفوع إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم )
،
وإنما يظهر معاني غلط المتون للعلماء الباحثين في شروحها وما فيها من أصول
الدين وفروعه وغير ذلك ، ولو لم يكونوا من المحدّثين في الاصطلاح على
أنهم
يرجعون في ذلك إلى أصول المحدثين ؛ كقولهم : إن صحة السند لا تقتضي صحة
المتن في الواقع ونفس الأمر حتمًا ، وعدم صحة السند لا تقتضي وضعه في الواقع
ونفس الأمر حتمًا ، وقولهم : إن من علامات وضع الحديث - وإن صح سنده
- أن
يكون مخالفًا لنص القرآن القطعي ، وفي معناه كل قطعي شرعي كبعض أصول
العقائد أو الأعمال المجمع عليها المعلومة من الدين بالضرورة ، بحيث يتعذر الجمع(1/284)
بينهما ، ولهذا جزموا بغلط حديث أبي هريرة عند مسلم في خلق السموات والأرض
في سبعة أيام الذي أوله : ( خلق الله التربة يوم السبت ) ؛ لأنه مخالف لآيات
القرآن الصريحة في خلق السموات والأرض وما فيها في ستة أيام ، بل حكموا
بغلط حديث شُريك بن أبي نمر في الإسراء والمعراج من أحاديث الصحيحين في السند
والمتن وهو الحديث الذي فيه أن الإسراء والمعراج كانا في رؤيا منامية ، وذكروا له
عللاً أشار إليها مسلم مقرونة بسياقه على أن بعض العلماء والحفاظ انتصروا له فيه .
وإذا كانت مخالفة القطعي سببًا للحكم ؛ إما بعدم صحة الحديث لعدم الثقة
برواته ، وإما لغلطهم في سياق متنه . فمن الضروري أن تختلف الأفهام في ذلك
باختلاف مدارك أصحابها ومعارفهم ، فالذين لا يعلمون أن الشمس لا تغيب عن
الأرض ولا تحتجب عن جميع سكانها من البشر ساعة ولا دقيقة ، لا يرون شيئًا من
الإشكال في حديث أبي ذر في بيان أين تكون بعد غروبها ؛ لأنهم يظنون أن
غروبها عنهم غروب عن جميع العالم .
ولكن حفاظ الحديث ورجال الجرح والتعديل ، قد انتقدوا بعض أحاديث
الصحيحين ، وجرحوا بعض رجالهما بحسب أفهامهم ودرجات معرفتهم ، وجاء
آخرون فانتصروا للشيخين في أكثر ما انتقد عليهما ، وأشهر هؤلاء المنتقدين
وأوسعهم تتبعًا وإحصاء الحافظ أبو الحسن الدارقطني صاحب السنن المشهورة ،
وإذا أردت معرفة ذلك مع ما فيه وما يرد عليه ، فراجع الفصلين الثامن والتاسع من
مقدمة الحافظ ابن حجر لشرح البخاري . فأما الأحاديث المنتقدة في البخاري فهي
110 أحاديث ، منها ما انفرد به ومنها ما أخرجه مسلم أيضًا - وما انتقدوا من إفراد
مسلم أكثر من إفراد البخاري - وإذا قرأت ما قاله الحافظ فيها ، رأيتها كلها في
صناعة الفن التي أشرنا إلى المهم منها عندهم . ولكنك إذا قرأت الشرح نفسه ( فتح
الباري ) رأيت له في أحاديث كثيرة إشكالات في معانيها أو تعارضها مع غيرها ،(1/285)
مع محاولة الجمع بين المختلفات وحل المشكلات بما يرضيك بعضه دون بعض ،
فهذا النوع ينبغي جمعه وتحقيق الحق فيه بقدر الإمكان ، كما حاول الطحاوي في
كتابه مشكل الآثار ، وترى نموذجًا منه في كلامنا على أشراط الساعة ومشكلاتها في
الروايات الصحيحة وغيرها ، على أن من أطال البحث فيه وفيما قبله يدهش لدقة
الشيخين ولا سيما البخاري في انتقاء أحاديث الصحيحين وتحريهما فيها .
وأما موضوع الفصل التاسع ؛ وهو تضعيف كثير من رجال الجامع الصحيح
فقد سردها فيه الحافظ سردًا وأحصاها عدًا ، وترى أن الطعن في أكثرهم مبني على
الاختلاف في أسباب الطعن والجرح ، فيبني هذا جرحه على ما يخالف اصطلاح
الآخر ، وترى أن المطعون فيهم قلما يخرج لهم حديث في الجامع الصحيح إلا في
المتابعات ؛ للتقوية لا لأصل الاستدلال به ، فإن جعله أصلاً كان له من الشواهد
والمتابعات ما يقويه ، مثال ذلك حديث كثير بن شِنظير ( بكسر الشين ) البصري
عن عطاء : في الأمر بتغطية الأواني في الليل وربط الأسقية وإقفال الأبواب ومنع
الصغار من الخروج مساء خشية الجن أو الشياطين ، كثير هذا قال فيها ابن معين
ليس بشيء ، وقال النسائي: ليس بالقوي ، وقال الساجي: صدوق فيه بعض الضعف
ولكن احتج به الجمهور ، وقال البخاري عقب تخريج حديثه من كتاب بدء الخلق :
قال ابن جريج وحبيب عن عطاء ( فإن للشياطين يعني أن ابن جريج وحبيبًا المعلم
رويا هذا الحيث أيضًا إلا أنهما قالا : ( فإن للشياطين انتشارًا وخطفة ) بدل قول
كثير بن شنظير ( فإن للجن ) إلخ ، أقول : ويختلف في غير هذه الكلمة أيضًا ، ولم
يذكر البخاري المتابعة إلا لعلمه بأن كثير هذا قد قيل فيه ما قيل ، وهو لم يخرج له
غيره إلا حديثًا آخر في السلام على المصلي ، له متابع عند مسلم .
فأنت ترى أن هذا من دقائق التحري في الروايات ، وإنما اخترت التمثيل
بحديث كثير هذا على كثرة نظائره ؛ للإشارة إلى شيء يتعلق بالمتن لم يكن مما(1/286)
يلتفتون إليه ويبحثون فيه ، وهو ما فيه من الخبر عن انتشار الجن والشياطين في
أول الليل والخوف على الأولاد منهم ، في هذا من الإشكال أن أكثر أهل الأرض لا
يمنعون أولادهم من الخروج في هذا الوقت ، وتمر الأعصار ولا يعرف أحد أن
الشياطين فعلت بأحد منهم شيئًا - هذا إشكال يخطر في بال كل متعلم في الأمصار
التي انتشرت فيها العلوم والفنون التي يسمونها العصرية ، وكل متعلم على طريقتهم
في القرى والمزارع ، فيقولون : إنه مخالف للواقع في تعليل منع الصغار من
الخروج في المساء أي في أول الليل ، وقد يزيد على هذا بعض المشتغلين بالعلوم
الدينية ؛ أن هذا خبر عن أمر يتعلق بعالم الغيب ، فلا يقبل فيه انفراد راوٍ واحد فيه
من هذه الطرق الثلاث التي لا تخلو واحدة منها من علة ، فكثير ضعفه بعضهم ،
وكذلك حبيب المعلم قال فيه النسائي : إنه ليس بالقوي ، وقال أحمد : ما احتج
بحديثه ، وفي رواية عنه وعن ابن معين ثقة . وأما ابن جريج فهو على فضله وسعة
علمه وكثرة روايته مدلس ، روى عن كثيرين لم يسمع منهم ، وكان يدلس على
المجروحين كما قاله الحافظ الدارقطني ، والذي عليه أئمة هذا الشأن أنه إذا قال
حدثني فهو ثقة وإلا فلا . قال يحيى بن سعيد : كان ابن جريح صدوقًا ، فإذا قال
حدثني فهو سماع ، وإذا قال أخبرني فهو قراءة ، وإذا قال ( قال ) فهو شبه الريح
( لا قيمة له ) ، وقال الأثرم : قال أحمد : إذا قال ابن جريح : ( قال ) و ( أخبرت )
جاء بمناكير ، وإذا قال أخبرني وسمعت فحسبك به ، واختلفوا في روايته عن عطاء ،
قال علي بن المديني ( من كبار شيوخ البخاري ورجال الجرح والتعديل ) في كتابه
سألت يحيى بن سعيد عن حديث ابن جريج عن عطاء الخراساني ، فقال : ضعيف .
قلت : إنه يقول أخبرني ، قال : لا شيء كله ضعيف إنما هو كتاب دفعه إليه . أقول :
فعلى هذا لا ينفعنا في تصحيح هذا الحديث قوله أخبرني كما رواه البخاري عنه ،(1/287)
ولولا مسألة الشياطين لم يكن في متن الحديث إشكال ؛ فإن الأوامر فيه كلها نافعة لا
تتعلق بحفظ الطعام والشراب مما يدخل فيها من الحشرات الضارة ، وكذلك إغلاق
الباب عند النوم وإطفاء السراج ، على أنه يمكن أن يراد بالشياطين فيه شياطين الإنس
الذين يؤذون الأطفال ، وفي مصر خطفة منهم يأخذونهم فيستخدمونهم لأنفسهم أو
لغيرهم ، ويكرهون البنات على البغاء عند استعداد سنهن لذلك أو قبله ، فيزول إشكال
المتن فيه .
***
2- الجواب عن حديث أبي هريرة وتحديثه
أقول : إن أبا هريرة ( رضي الله عنه ) كان من أحفظ الصحابة ، وهو
صادق في تحديثه . ولكن إسلامه كان في سنة سبع من الهجرة ، فصحب رسول الله
صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين ونيفًا ، فأكثر أحاديثه لم يسمعها من النبي صلى الله
عليه وسلم وإنما سمعها من الصحابة والتابعين ، فإن كان جميع الصحابة عدولاً في
الرواية كما يقول جمهور المحدثين ، فالتابعون ليسوا كذلك ، وقد ثبت أنه كان
يسمع من كعب الأحبار ، وأكثر أحاديثه عنعنة . على أنه صرح بالسماع من النبي
صلى الله عليه وسلم في حديث ( خلق الله التربة يوم السبت ) .. إلخ ، وقد جزموا
بأن هذا الحديث غلط من أصله ، وفي تفسير الحافظ ابن كثير أن أبا هريرة أخذه
عن كعب الأحبار .
وأما نهي عمر له عن التحديث ؛ فلأن عمر ( رضي الله عنه ) كان يرى
التشديد في رواية الحديث وكتابته ، وهذه مسألة كبيرة سبق للمنار سبْح طويل فيها .
وقد كتب بعض المبشرين بالنصرانية مقالاً طويلاً بالطعن في حديثه ، وجاءوا
بشبهات على ذلك من بعض الكتب ؛ وغرضهم من الطعن فيه الطعن في رواية السنة
وصحتها ، وقد فندنا كلامهم في مقال مفصل نشرناه في الجزئين الأول والثاني من
مجلد المنار التاسع عشر فليراجعه السائل ، فما نظن أنه يبقى مقالاً لقائل ، وهو
يتضمن التفصيل في الرد على الدكتور محمد توفيق صدقي - رحمه الله - الذي
أجملناه في المجلد الثامن عشر .
***(1/288)
3- حكم كلام الرسل - عليهم السلام - في الأمور الدنيوية
إن ما يرد في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم من الأوامر والنواهي
والآراء الدنيوية المحضة يسميه علماء الأصول إرشادًا ، كما قالوا في حديث جابر
الذي تكلمنا عليه في الجواب عن السؤال الأول وهذا لفظه ( خمّروا الآنية وأوكئوا
الأسقية وأجيفوا الأبواب ، وأكفتوا صبيانكم عند المساء فإن للجن انتشارًا وخطفة ،
وأطفئوا المصابيح عند الرقاد فإن الفويسقة ( أي : الفأرة ) ربما اجترت الفتيلة
فأحرقت أهل البيت ) ومثله ( كلوا الزيت وادّهنوا به فإنه طيب مبارك ) رواه
الحاكم وابن ماجه من حديث أبي هريرة بسند صحيح ، وفي الأمر به روايات
أخرى ضعيفة ، ومثله ( كلوا البلح بالتمر ) .. إلخ رواه النسائي وابن ماجه والحاكم
من حديث عائشة بسند صحيح ، وكذا رأيه صلى الله عليه وسلم في تلقيح النخل
وسيذكر والعمل بأمر الإرشاد لا يسمى واجبًا ولا مندوبًا ؛ لأنه لا يقصد به القربة
فليس فيه معنى التعبد ، قال القرطبي : جميع أوامر هذا الباب من باب الإرشاد
إلى المصلحة ، ويحتمل أن تكون للندب ولا سيما في حق من يفعل ذلك بنية
امتثال الأمر , ا هـ . من الفتح وهو مأخوذ من قول بعض العلماء قبله : إن كل مباح
يفعل في الإسلام بنية القربة يصير عبادة يثاب عليها .
أقول : ولكنه لا يسمى سنة ولا مندوبًا بذاته ؛ فإن القربة هنا هي النية .
***
4- الضابط القطعي بين ما قاله الرسول رأيًا وإرشادًا وما قاله تشريعًا
ظاهر حديث رافع بن خديج في صحيح مسلم ( إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء
من أمر دينكم فخذوا به ، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر ) وحديث
عائشة وأنس عن مسلم أيضًا من تعليله صلى الله عليه وسلم تلك المسألة : مسألة
تلقيح النخل بقوله صلى الله عليه وسلم : ( أنتم أعلم بأمر دنياكم ) ظاهره أن جميع
أمور الدنيا متروكة إلى الناس ، يتصرفون فيها باجتهادهم لا يتعلق بها تشريع ، ذلك(1/289)
بأنه ( صلى الله عليه وسلم ) لما جاء المدينة ورآهم يؤبرون النخل ارتأى أنه ليس
له تأثير ، وسمع بعضهم منه ما يدل على ذلك ، فترك تأبير نخله فلم يثمر التمر
الجيد المعتاد بل خرج شيصًا رديئًا ، فذكروا له ذلك فقاله كما سبق لنا بيانه ، وذكر
لهم أنه قال : ظن أي لا عن وحي ، وأنهم أعلم بدنياهم .
وليس هذا على إطلاقه ؛ فإن من أمور الدنيا ما فعْلُه أو تركه ضار قطعًا
بشخص العامل أو بالناس ، فيتعلق به تشريع التحريم ، وما كان مظنة النفع
والضرر فيتعلق به تشريع الندب والكراهة ، وكل ما يفعل بنية القربة ورجاء
الثواب من الله تعالى فهو عباده إذا كان مشروعًا ، وبدعة إذا لم يكن مشروعًا ، وكل
ما رتب على فعله ثواب أو عقاب فهو ما يتعلق به التشريع ، والضابط العام أن
التشريع ما ثبت بنص يدل على طلب الشارع لفعل شيء على سبيل القطع وهو
الوجوب ، أو غير القطع وهو الندب ، أو طلبه لترك شيء بالنهي عنه أو الوعيد
عليه على سبيل القطع وهو المحرم ، أو غير القطع وهو المكروه أو بالإباحة
الرافعة للحظر . فأفعال الرسل الدنيوية العادية تدل على أن ما يفعلونه مباح لا
حظر فيه على الناس ، ولا وجوب ولا ندب إلا بدليل خاص يدل على ذلك .
فالتشريع لهم ولغيرهم عام إلا إذا قام الدليل على التفرقة بين الرسول وأمته ؛
كالخصائص المختصة بنبينا ( صلى الله عليه وسلم ) دون الأمة وهي معروفة .
وقد بينت كتب أصول الفقه هذه المسألة في شرح الأحكام الخمسة . ولكنني لم
أر لأحد ضابطًا عامًا لا يمكن فيه القيل والقال ، فهنالك الأصل الذي تشير إليه
أحاديث تأبير النخل ، فلفظ ( أمور دنياكم ) عام تدخل فيه جميع أمور الزراعة
والصناعة ، وكل ما يصل إليه البشر باختيارهم وبحثهم ، ولا يحتاجون فيه إلى
وحي إلهي ، وتدخل فيه أمور الطعام والشراب واللباس إلا ما استثنى نص القرآن
من تحريم الميتة والدم المسفوح ؛ وما أهل به لغير الله وشرب الخمر ، أو نص(1/290)
الحديث كلبس الحرير ( الخالص أو الغالب ) للرجال ، والأكل والشرب في أواني
الذهب والفضة ؛ لما في ذلك من الإسراف والنهي عنه في القرآن ، فهذه أمثال لما
استثني بعينه . وآيات حظر التحريم بغير وحي من الله تعالى وتسميته افتراء على
الله ؛ كقوله تعالى : ? قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَاماً
وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ ? ( يونس : 59 ) ,وقوله : ? قُلْ مَنْ
حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ? ( الأعراف : 32 )
وغيرهما .
وفوق هذا أصل الإباحة بنص قوله تعالى : ? خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ?
( البقرة : 29 ) ولكن لا يدخل في عموم الحديث والآيات إباحة ما فيه ضرر ولا
ما يتعلق به حقوق الناس ، أو يقال : إنه من المستثنى بنصوص وقواعد أخرى ؛
لأن التنازع في الحقوق والمصالح وإن كان مما يدخل في استطاعة البشر الاهتداء
إلى الأحكام الفاصلة فيه ، يحتاج في قواعده إلى تشريع إلهي تخضع له النفوس
باطنًا بوازع الدين والعقيدة ؛ كما تخضع له ظاهرًا بوازع السلطان والقوة .
وهنالك أمور مشتبهات لها جهات مختلفة ؛ كإطلاق اللحية وقص الشارب أو
إعفائه وفرق الشعر وخضب الشيب . هذه أمور صح أمر النبي ( صلى الله عليه
وسلم ) بها ، وهي من أمور العادات والزينة المباحة في الأصل ، ولكن علل بعضها
بمخالفة أهل الملل الأخرى ؛ ليكون المسلمون أمة مستقلة في جميع مشخصاتها
ممتازة عن غيرها ، يقتدى بها ولا يقتدى بغيرها فهذه الأمور الدنيوية العادية ، قد
نظر فيها إلى مصلحة اجتماعية للأمة . ولما لم تكن من الأمور التعبدية التي يقصد
الامتثال فيها لذاته ، يصح أن يقال فيها : إنها تتبع علتها وجودًا وعدمًا ، وقد ترك
المسلمون فرق الشعر خلافًا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم وفعله ، وصار من(1/291)
يفرق شعره يعد متشبهًا بغير المسلمين من الإفرنج وغيرهم ، والنبي صلى الله عليه
وسلم كان يسدل شعره أولاً ، فلما رأى أهل الكتاب بعد الهجرة يسدلون شعورهم
صار يفرقه مخالفة لهم ، وقد اختلفت الحال اليوم ، وقد سبق لنا بيان لها في مواضع
من التفسير والمنار ، منها المطول والمختصر ، وآخر المختصر ما ذكرناه في
تفسير قوله تعالى : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا
يُحْيِيكُمْ ? ( الأنفال : 24 ) هو في الجزء العاشر من المنار م 28 الذي صدر في
شعبان بتاريخ 30 رجب الماضي ، أعني الذي صدر قبل هذا الجزء .
***
5- جواز خطأ الأنبياء في آرائهم ودليله وحكمه وحصره
قال الله تعالى لخاتم رسله : ? قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ ? ( الكهف :
110 ) الآية ، وقال صلى الله عليه وسلم : ( إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء من أمر
دينكم فخذوا به ، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر ) رواه مسلم والنسائي
من حديث رافع بن خديج رضي الله عنه ، وقال أيضًا : ( إنما أنا بشر مثلكم
وإن الظن يخطئ ويصيب ، ولكن ما قلت لكم قال الله فلن أكذب على الله ) رواه
الإمام أحمد وابن ماجه من حديث طلحة رضي الله عنه بسند صحيح ، وقال أيضًا :
( إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إليّ ، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض،
فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو يتركها ) رواه
الجماعة من حديث أم سلمة رضي الله عنها ، والجماعة هنا الإمامان مالك وأحمد
والشيخان البخاري ومسلم وأصحاب السنن الأربعة ، وموضوع الحديث الخطأ
في الحكم ؛ بسبب خلابة المخطئ من الخصمين وقوة حجته .
ومن أصول العقائد الإسلامية المأخوذة من هذه النصوص وأمثالها ؛ أن الرسل
عليهم السلام بشر ، يجوز عليهم كل ما يجوز على البشر من الأمور البشرية التي(1/292)
لا تخل بمنصبهم من الصدق والأمانة في تبليغ الرسالة ، والعصمة عن مخالفة ما
جاءوا به من أمر الدين .. إلخ ، وقد اتفق المسلمون على جواز وقوع الخطأ من
الرسل عليهم السلام في الرأي والاجتهاد . ولكن الله تعالى لا يقرهم على خطأ يتعلق
بالتشريع كمصالح الأمة ، بل يبينه لهم كما حصل في اجتهاد نبينا صلى الله عليه
وسلم في مسألة الأسرى ببدر مع المشاورة ، إذ رجح رأي الصديق في أخذ الفداء
منهم ، فأنزل الله تعالى : ? مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ ?
( الأنفال : 67 ) الآية ، وفي اجتهاده صلى الله عليه وسلم في الإذن لبعض
المنافقين بالتخلف عن غزوة تبوك ، فأنزل الله تعالى عليه ? عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ
لَهُمْ ? ( التوبة : 43 ) ، وفي اجتهاده صلوات الله وسلامه عليه قبل ذلك في
الإعراض عن عبدالله بن أم مكتوم الأعمى الفقير عندما جاءه ؛ وهو يكلم كبراء
قريش راجيا هدايتهم ؛ لئلا ينفروا منه لكبريائهم ، فأنزل الله عليه ? عَبَسَ وَتَوَلَّى *
أَن جَاءَهُ الأَعْمَى ? ( عبس : 1-2 ) إلى قوله : ? كَلاَّ ? ( عبس : 11 ) ردعًا
عن مثل هذه السياسة ، وقد كان صلى الله عليه وسلم يرجع عن رأيه لرأي أي من
أصحابه كما فعل عند ما اختار النزول في مكان يوم بدر ، فأشاروا عليه بما هو
خير منها ، وأولى من ذلك رجوعه إلى رأي الأكثرين بعد المشاورة كما فعل يوم
أحد ، ولكني لم أقف لأحد من العلماء على إحصاء لحصر هذه المسائل في موضع
واحد يُرجع إليه ، وهذا أشهر ما ورد في هذا الباب ، وهو الذي يتبادر إلى الذهن
وقت الكتابة من غير مراجعة كتاب .
***
6-7 - الجمع بين حديثي الذباب والفأرة
وهل الأول رأي أو تشريع ؟
الفقهاء يفرقون بين الحديثين ؛ بأن الفأرة مما له دم سائل ، فلا يعفى عن
تنجيسه لما ينجسه إذا كان ميتًا والذبابة ليست كذلك ، فيعفى عن تنجيسها لما تقع(1/293)
فيه أو يقال : إنها لا تنجسه . وأما الحكم الطبي فيهما فواحد فكلاهما ضار في
الطعام والشراب باتفاق الأطباء ، فإن كان ضرر الذبابة الواحدة لا يبلغ ضرر الفأرة
الواحدة ، فللكبر والصغر دخل في ذلك ، ويجوز أن يكون مقدار ثقل الفأرة من
الذباب أضر منها ، والمعول في مثل هذا على خبرة الأطباء .
وحديث الذباب المذكور غريب عن الرأي وعن التشريع جميعًا ، أما التشريع
في مثل هذا فإن تعلق بالنفع والضرر فمن قواعد الشرع العامة أن كل ضار قطعًا
فهو محرم قطعًا ، وكل ضار ظنًا فهو مكروه كراهة تحريمية أو تنزيهية على الأقل
إن كان الظن ضعيفًا ، فغمس الذباب في المائع الذي يقع فيه لا يتفق مع قاعدة
تحريم الضار ، ولا مع قاعدة اجتناب النجاسة . وأما الرأي فلا يمكن أن يصل إلى
التفرقة بين جناحي الذبابة في أن أحدهما سام ضار والآخر ترياق واق من ذلك السم
فإن صح الحديث بلفظه ، ولم يكن فيه غلط من الرواة ، ولم يكن معناه معروفًا
مسلمًا في ذلك الزمان ، فالمعقول فيه أن يكون عن وحي من الله تعالى ، وحينئذ
يمكن أن يعرف ببحث الأطباء المبني على القواعد الحديثة ؛ كالتحليل الكيميائي
والفحص الميكروسكوبي ، بأن يجمع كثير من أجنحة الذباب اليمنى واليسرى كل
على حدته ، وينظر في أكبر منظار مكبر ، ثم يحلل فينظر هل يختلف تركيبه ثم
تأثيره في بعض الأحياء كشأنهم في هذه النظائر ، فإن ثبت بالتجربة القطعية أن
الجناحين سواء في الضرر كما هو الغالب في النظر ، ثبتت معارضة الواقع
القطعي لمتنه وهو ظني ؛ لأنه خبر واحد ، فيحكم بعدم صحته إن لم يكن تأويله كما
هو الظاهر ، ولا خلاف في ترجيح القطعي على الظني من منقول ومعقول
ومختلف ، كما بينه شيخ الإسلام في كتاب النقل والعقل .
هذا ، وإننا لم نر أحدًا من المسلمين ، ولم نقرأ عن أحد منهم العمل بهذا
الحديث ، فالظاهر أنهم عدوه مما لا دخل له في التشريع كغيره من الأحاديث(1/294)
المتعلقة بالمعالجات الطبية والأدوية ، وقد تكلم علماؤنا في معناه ، وذكروا اعتراضًا
عليه لبعض الناس جهلوه به ، وهو قوله كيف يجمع جناحاه بين الداء والشفاء ؟
وردوا عليه بأن كثيرًا من المخلوقات تجتمع فيها المتضادات ؛ كالحية فيها السم
ولحمها يجعل في الترياق منه ، والنحلة يخرج من فمها العسل النافع ومن أسفلها
القذر الضار . ونقلوا عن بعض الأطباء أن في الذبابة سمًا ، فإذا وقعت في طعام أو
شراب أو غيرهما تلقى بسمها على ما تخشى أن يضرها : أي كما تفعل كل
الحشرات السامة ، وذكروا أن من المجربات شفاء لسعة الزنبور بدلكها بالذباب أو
بالزنبور نفسه . وفي الطب الحديث أن نَسَم الجِنَّةِ الخفية التي يسمونها الميكروبات
منها الضار والنافع ، وإنهما يتدافعان ويتقاتلان في دم الإنسان حتى يغلب أحدهما
الآخر ، فعلى هذا لا يمكن القطع بأن متن الحديث مخالف للواقع ونفس الأمر ، وأن
كل ذباب يغمس في الطعام أو الشراب فهو ضار إلا بتجارب خاصة بهذا الأمر .
هذا ، وإن إخراج البخاري لهذا الحديث في جامعه لا يعصمه من التماس علة
في رجاله تمس مناعة صحته ، فإن مداره عنده على عبيد بن حنين مولى بني
زريق ، انفرد به وليس له غيره ، فهو ليس من أئمة الرواة المشهورين الذين تخضع
الرقاب لعدالتهم وعلمهم وضبطهم كمالك عن نافع عن ابن عمر مثلاً ، ومن الغريب
أنه لم يذكر في تهذيب التهذيب أن له رواية عن أبي هريرة ، فإن كان بينهما
واسطة يكون منقطعًا . ولكن لم يذكر الحافظ ذلك على تحريه لمثل هذه العلل . وفيه
أن أبا حاتم قال فيه : كان صالح الحديث ، وهي من أدنى مراتب التوثيق ، حتى قدم
الحافظ الذهبي وغيره عليها كلمة ( لا بأس به ) فإذا غلب على قلب مسلم أن رواية
ابن حنين هذا غير صحيحة وارتاب بغرابة موضوع حديث الذباب لا يكون قد ضيع
من دينه شيئًا ، ولا يقتضي ارتيابه هذا أو جزمه بعدم صدق ابن حنين فيه الطعن في(1/295)
البخاري ؛ لأنه قبل روايته لأنه لم يعلم جارحًا يجرحه فيه إلا هذا الشذوذ الذي يجبره
حديث أبي سعيد عند النسائي وابن ماجه بمعناه وإن كان على غير شرط البخاري في
الصحيح . ولكن يرد على المرتاب تصحيح لابن حبان لحديث أبي سعيد ، وقد يقول :
إذا وجدت علة في رواية البخاري تمنعني من القول بصحة الحديث مع كونه أشد
الحفاظ تحريًا فيما يخرجه في صحيحه مسندًا ، فهل يمنعني منه تصحيح ابن حبان
المعروف بالتساهل في التصحيح ؟ وكل من ظهر له علة في رواية حديث ، فلم يصدق
رفعه لأجلها فهو معذور شرعًا ، ولا يصح أن يقال في حقه : إنه مكذب لحديث كذا ،
كما أن من اعتقد أن حديث كذا صحيح ، وكذبه يصدق عليه أنه مكذب ، ويترتب عليه
حكم التكذيب .
( تنبيه ) إن ابن حنين رواي حديث الذباب من مسلمة الأعاجم ، والظاهر
أنه من النصارى . وراوي حديث الشياطين المتقدم وهو ابن شنظير منهم أيضًا ،
وكل منهما غير مشهور بالعلم والرواية ، فالظاهر أن البخاري اكتفى بعدم الطعن
فيهما .
***
8-9 - تكفير محمد توفيق صدقي لعدم تسليمه حديث الذباب
إن الذي كفّر الدكتور محمد توفيق صدقي رحمه الله تعالى ؛ لاعتقاده أن
حديث الذباب مخالف للواقع لا يصح رفعه إلى الرسول الأعظم صلى الله عليه
وسلم جاهلٌ كما عُلم من الجواب الذي قبل هذا ، وقد يصدق عليه حديث ( إذا قال
الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما ) رواه البخاري من حديث أبي هريرة وابن
عمر مرفوعًا ، وله روايات أخرى عند غيره أيضًا ، وأنا وإن لم أعرفه ولا رأيت
تكفيره ، أتمنى لو يكون مثل المرحوم الدكتور محمد توفيق صدقي فيما اختبرت من
قوة إيمانه وقدرته على إقامة البراهين العلمية على عقائد الإسلام كلها ، وفي قدرته
على رد الشبهات عنها ، وفي غيرته على الإسلام التي حملته على درس الكتب
الكثيرة ؛ لأجل الدعوة إليه والدفاع عنه جدلاً باللسان وتأليفًا للكتب ، وإنني أعلم علم(1/296)
اختبار واسع دقيق لا علم غيب أن هذا الرجل كان من أقوى المسلمين دينًا في
اعتقاده وفي عبادته واجتنابه لما حرم الله تعالى . فإذا كان مثل هذا الرجل يعد كافرًا ؛
لأنه لم يصدق رفع حديث كحديث الذباب ليس من أصول الإسلام ولا من فروعه ،
وهو يجل الرسول صلى الله عليه وسلم عن قول مثله ، فأين نجد المسلمين
الصادقين ؟ !
هذا ، وإنني أعلم بالاختبار أيضًا أن ذلك المسلم الغيور لم يطعن في صحة
هذا الحديث كتابة ؛ إلا لعلمه بأن تصحيحه من المطاعن التي تنفر الناس عن
الإسلام ، وتكون سببًا لردة بعض ضعفاء الإيمان وقليلي العلم الذين لا يجدون
مخرجًا من مثل هذا المطعن إلا بأن فيه علة في المتن تمنع صحته ، وكان هو يعتقد
هذا . وما كلف الله مسلمًا أن يقرأ صحيح البخاري ويؤمن بكل ما فيه وإن لم يصح
عنده أو اعتقد أنه ينافي أصول الإسلام .
سبحان الله ! أيقول ملايين المسلمين من الحنفية أن رفع اليدين عند الركوع
والقيام منه مكروه شرعًا ، وقد رواه البخاري في صحيحه وغير صحيحه عن
عشرات من الصحابة بأسانيد كثيرة جدًّا ، ولا إثم عليهم ولا حرج لأن إمامهم لم
يصح عنده ؛ لأنه لم يطلع على أسانيد البخاري فيه ، وكل من اطلع من علماء مذهبه
عليها يوقن بصحتها ؛ ثم يكفر مسلم من خيار المسلمين علمًا وعملاً ودفاعًا عن
الإسلام ودعوة إليه ؛ بدليل أو شبهة على صحة حديث رواه البخاري عن رجل يكاد
يكون مجهولاً ، واسمه يدل على أنه لم يكن أصيلاً في الإسلام وهو عبد بن حنين ،
وموضوع متنه ليس من عقائد الإسلام ولا من عباداته ولا من شرائعه ولا التزم
المسلمون العمل به ، بل ما من مذهب من المذاهب المقلدة إلا وأهله يتركون العمل
ببعض ما صح عند البخاري وعند مسلم أيضًا من أحاديث التشريع المروية عن
كبار أئمة الرواة ؛ لعلل اجتهادية أو لمحض التقليد ، وقد أورد المحقق ابن القيم أكثر
من مائة شاهد على ذلك في كتابه إعلام الموقعين ، وهذا المكفر للدكتور منهم ،(1/297)
فنسأله بالله تعالى أن يصدقنا : هل قرأ صحيح البخاري كله واعتقد كل ما فيه
والتزم العمل بكل ما صححه ؟ ثم إن كان يدعي هذا فنحن مستعدون لدحض دعواه
مع هذا كله نقول بحق : إن صحيح البخاري أصح كتاب بعد كتاب الله . ولكنه
ليس معصومًا هو ورواته من الخطأ ، وليس كل مرتاب في شيء من روايته كافرًا !
ما أسهل التكفير على مقلدة ظواهر أقوال المتأخرين ، وحسبنا الله ونعم الوكيل .
________________________
(( مجلة المنار ـ المجلد [ 29 ] الجزء [ 1 ] صـ 37 رمضان 1346 ـ مارس 1928 ))
تحقيق معنى السنة وبيان الحاجة إليها
ترجمة مقال للعلامة السيد سليمان الندوي الهندي
( كلمة للمترجم ) من المصائب التي ابتلي بها المسلمون في هذا العصر
انتشار فرقة دعواها أن قانون الإسلام هو ( القرآن وحده ) وأن السنة إنما كانت
أحكامًا مؤقتة لأهل عصر النبي عليه السلام ، والآن أصبحت عديمة الجدوى ، فهي
تنكر الاحتجاج والعمل بالحديث مهما بلغت درجته من الصحة والشهرة والقبول عند
علماء المسلمين ، وهذه الطائفة توجد في سائر الممالك الإسلامية ؛ ولكنها في الهند
أخذت شكلاً منظمًا وسمت نفسها ( أهل القرآن ) وألفت كتبًا ورسائل كثيرة ، ولا
زالت تنشر المقالات في المجلات الهندية ، وقد رد عليها علماء الهند أحسن رد
جزاهم الله خيرًا ، ومنهم حضرة الأستاذ السيد سليمان الندوي ؛ فإنه كتب مقالة
نفيسة في مجلته الشهيرة ( معارف ) الهندية في الرد على هؤلاء بكلام معقول ،
فأحببت ترجمتها بتصرف يسير لعل الله ينفع بها من لا يمكنه الاطلاع على أصلها ،
والله الموفق .
المترجم
عبد الوهاب بن عبد الجبار الدهلوي
بمكة المكرمة
قال الأستاذ حفظه الله :
تمهيد :
يسرنا ويسوءنا معًا حال بعض شباننا المتعلمين ، يسرنا أنهم وجهوا قسطًا من
عنايتهم إلى البحث عن المسائل الدينية ولم يعتبروا ذلك تضييعًا لأوقاتهم ، ولم يعدوا(1/298)
الدين شيئًا عبثًا لا يستحق العناية والاهتمام ، فمن هذه الجهة يستحقون المدح
والشكر ، ويسوءنا أنهم ينشرون آراءهم ونتيجة أبحاثهم ويدعون المسلمين إليها قبل
التحقيق التام وعرضها على العلماء الأعلام ، وهذا يؤدي إلى إضلال كثير من
العوام .
وإشاعة الحق - وإن كانت واجبة - يجب على من يقوم بها أن يتثبت ويتحقق
أولاً كون ذلك الشيء حقًّا ، ثم يسعى في نشره وإلا كان إثمه أكبر من نفعه .
هؤلاء الشبان يدّعون أنهم قادرون على استنباط كل شيء من القرآن الشريف
بدون رجوع إلى بيان صاحب الرسالة الذي أُنزل عليه القرآن ، فتراهم يُكثرون من
ذكر المسائل العجيبة التي استنبطوها بزعمهم من القرآن ، ويردون كل ما ثبت
بالسنة ولم يجدوه في القرآن ، ومن الغريب أن كثيرًا من الأحكام التي يردونها نجد
أصلها موجودًا في القرآن عند إمعان النظر ، وأغرب من ذلك تناقضهم واختلافهم
في ما يستنبطون من القرآن ، فكل واحد منهم مستقل بنفسه مخالف للآخر .
كيف نفهم القرآن :
قد كتبت مرارًا أن البحث في هذه المسائل الجزئية - التي يستنبطونها والتي
يردونها - لا تجدي نفعًا ، بل يجب أن نبحث في المسائل العامة ، والقواعد الكلية
التي تشمل هذه الجزئيات كلها ، فأول ما يجب تمحيصه من هذه المسائل هو : كيف
نفهم القرآن ؟ أو بعبارة أعم من هذه : كيف نفهم مراد القائل من كلامه ؟ لا يخفى
أن علم أصول الفقه جُل مباحثه تدور حول هذه المسألة ، أعني طريقة فهم معنى
الكلام والاستنباط منه .
مثلاً إذا وردت في القرآن الكريم كلمة لها معاني متعددة عند العرب ، أو كلمة لها
معنى حقيقي ومعنى مجازي ، فكيف نعين المعنى المراد بتلك الكلمة ؟ أو ورد لفظ
عام ، فكيف نعلم أن المقصود منه جميع أفراده أو بعضه ؟ أو ورد حكم مطلق ، فكيف
نعرف هل هو باق على إطلاقه أم استثني منه شيء ؟ [1] إلى غير ذلك من المسائل .
وهناك أمر آخر ، وهو أن المعاني المفهومة من الكلام على أنواع ، فمنها ما(1/299)
يُفهم من ألفاظه صراحة ، ومنها ما يُفهم منه بطريق الإشارة والكناية ، ومنها ما يُفهم
من سياق الكلام ، فلا يقال لشيء منها : إن هذا الكلام لا يشمله ، فكذلك الأمر في
القرآن ، أعني إذا كان الشيء غير مذكور فيه صراحة ؛ ولكنه يُفهم من سياقه أو
إشاراته فلا يقال : إنه ليس في القرآن مطلقًا .
النبي كان مأمورًا بتبيين القرآن :
قال الله تعالى مخاطبًا لنبيه عليه السلام : ? وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا
نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ? ( النحل : 44 ) فلأجل هذا كان الصحابة يرجعون
إليه في فهم كل ما أُشكل عليهم فهمه أو استنباطه من القرآن ، ويستفتونه فيما يقع
لهم من الحوادث ، فيبين لهم النبي عليه السلام ما أُشكل عليهم ويعلمهم ما خفي
عليهم . مثلاً نزلت آيات الصيام ولم يذكر فيها حكم الأكل والشرب بالنسيان في
الصوم ، فجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وقال يا رسول الله أكلت
ناسيًا في الصوم ، فأفتاه النبي صلى الله عليه وسلم بأن صومه صحيح ؛ لأن الخطأ
والنسيان معفو عنهما مستنبطًا من قوله تعالى : ? وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ
وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ ? ( الأحزاب : 5 ) فهل يقال إن هذا الحديث مخالف للقرآن
لأنه ليس فيه أن الصوم لا يفسده الأكل بالنسيان ، أو يقال إنه لم يكن للنبي عليه
السلام أن يستنبط هذا الحكم من الآية الأخرى التي لا تتعلق بالصوم ؟
وهنا نريد أن نسأل هؤلاء المنكرين على الحديث : إذا كان يجوز لكم أن
تستنبطوا من القرآن كل ما تريدون وتفسرونه كما تفهمون ، مع بُعدكم عن العصر
والمحيط اللذين نزل فيهما القرآن ، ومع كونكم أعجامًا من غير أهل اللسان ، أفما
كان يحق هذا لمن نزل عليه القرآن ، وأُمر بتبيينه وكان أفصح أهل اللسان ؟ بلى
هو أحق الناس بالبيان والاستنباط من القرآن .
تفاوت الأفهام :(1/300)
ثم لا يخفى على أحد أن كل الناس ليسوا سواء في الاستعداد والفهم ، وصفاء
الذهن ، ولهذا السبب يقرأ القرآن الحكيم كل أحد ؛ ولكنهم يختلفون في فهم معانيه ،
فالعالم يفهم منه ما لا يفهم الجاهل ، والعلماء أيضًا متفاوتون في الفهم والعلم
? وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ? ( يوسف : 76 ) وقد أمرنا الله تعالى بالرجوع إلى
العلماء في قوله : ? فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ? ( النحل : 43 ) وبين
اختلاف الناس في درجات الفهم بقوله : ? هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ
يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ ? ( الزمر : 9 ) .
كيف وجدت الأحاديث :
إذا سلَّمنا هذين الأمرين - أعني أن النبي عليه السلام كان مأمورًا بتبيين
القرآن ، وأحق الناس به وبالاستنباط منه ، وأن الناس متفاوتون في الاستعداد والفهم -
فلنتصور أنه إذا نزل حكم في القرآن في واقعة ما ، ثم بعد ذلك حدثت حادثة أخرى
مثلها أو تشابهها أو تختلف عنها قليلاً في الظاهر ، واشتبه على بعض الصحابة أن
ذلك الحكم هل ينطبق على هذه الحادثة الجديدة أم لا ؟ فما الطريقة المعقولة لحل هذا
الأشكال ؟ أليست الطريقة المعقولة أن يرجعوا إلى صاحب الوحي ويسألوه عن ذلك ؟
فإذا سألوا النبي عليه السلام ، فماذا كان يجب عليه أن يعمله ؟ أيسكت عن جوابهم
ويتركهم حيارى ؟ أم يكتفي بتلاوة الآية التي ما فهموها تمامًا ، ولم يظهر لهم وجه
انطباقها على الواقعة الجديدة ؟ أم يوضح لهم ما أُشكل عليهم بحيث يطمئن إليه
الخاطر ؟ لا شك أن الصورة الأخيرة هي المتعينة ؟ فإذا أجاب على سؤالهم وبيَّن لهم
ما اشتبه عليهم ، فهل كان يحرم عليهم أن يخبروا غيرهم بتلك القصة ، أو إذا وقعت
تلك المسألة لغيرهم فهل كان محظورًا عليهم أن يُعلِّموه كما علَّمهم الرسول عليه
السلام ؟ لا أظن أن عاقلاً يقول بهذا ، بل كل عاقل يقول إنه كان الواجب عليهم تعليم(1/301)
الجاهل وهداية الحيران ، وكذلك فعلوا ! فهذا هو ( الحديث ) في اصطلاح المسلمين .
الرواية أمر ضروري :
لا مندوحة لعلم من العلوم ولا لشأن من شؤون الدنيا عن النقل والرواية
لأنه لا يمكن لكل إنسان أن يكون حاضرًا في كل الحواداث ، فإذًا لا يتصور علم
الوقائع للغائبين عنها إلا بطريق الرواية شفاهًا أو تحريرًا ، وكذلك المولودون بعد
تلك الحوادث لا يمكنهم العلم بها إلا بالرواية عمن قبلهم ، هذه تواريخ الأمم الغابرة
والحاضرة والمذاهب والأديان ونظريات الحكماء والفلاسفة وتجارب العلماء
واختراعاتهم هل وصلت إلينا إلا بطريق النقل والرواية ؟
فهل كان الدين الإسلامي بدعًا من الحوادث حتى لا تُنقل أحكامه وأخباره بهذا
الطريق ؟ أم كان الواجب اتخاذ طريق آخر لنقل أقوال الرسول عليه السلام وأخباره
غير الرواية ؟
لنفرض أن هؤلاء المنكرين على رواية الحديث أصبحوا زعماء لمن كان على
شاكلتهم ، فهل هناك طريقة - غير الرواية - لتبليغ استنباطاتهم وتحقيقاتهم لأفراد
جماعتهم البعيدين عن حلقات دروسهم أو الذين سيولدون بعدهم ، خصوصًا إذا كانوا
في بلاد لا توجد فيها المطابع ووسائط الاستخبار الحديثة ، مثل البريد والبرق ،
وتكون صناعة الورق معدومة والأمية منتشرة ( كما كان الحال في جزيرة العرب
عند ظهور الإسلام ) ؟
القرآن أيضًا منقول بالرواية :
ثم نسأل هؤلاء : أليس القرآن الكريم أيضًا منقولاً بالرواية ؟ نعم إن هناك فرقًا
بينه وبين الحديث ، وهو أن القرآن منقول بالتواتر والحديث منقول برواية رجال
معدودين ؛ ولكنهم ليسوا مجاهيل ، بل رجال مشهورون ، أحوالهم معلومة ، وأسانيدهم
محفوظة ، وهذا الفرق يقتضي التفاوت في درجات اليقين والوثوق ، لا في نفس
القبول والاعتبار ، وهذا الفرق مسلَّم عند كل مسلم ، لا يقول أحد منهم بأنهما متساويان
من كل جهة .
أصول الحديث :
ولما كانت الأحاديث أخبارًا وجب أن نستعمل في نقدها وتمييز الصحيح من(1/302)
غيره أصول النقد التي نستعملها في سائر الروايات والأخبار التي تبلغنا ، أعني إذا
سمعنا خبرًا فماذا نعمل ؟ ننظر أولاً في حال الراوي الذي سمعنا منه هذا الخبر ،
هل هو ممن يُعَوَّل على روايته أم لا ؟ ثم ننظر في حال من روى عنه هذا الرجل
وهكذا إلى أن تنتهي الوسائط ، ثم نتحقق هل الراوي الأعلى كان حاضرًا الواقعة أم
لا ؟ وهل كان بإمكانه فهمها وحفظها ؟ ثم ننظر في الأمر المروي هل يلائم أحوال
الرجل الذي نُسب إليه وهل يمكن وقوعه في ذلك العصر والمحيط أم لا ؟
فهذه القواعد وأشباهها استعملها المحدثون في نقد الأحاديث وسموها ( أصول
الحديث ) وبذلك ميزوا الأحاديث الصحيحة من غيرها ، ولا زال الباب مفتوحًا لمن
أراد أن يأتي البيوت من أبوابها .
الحديث تاريخ الإسلام :
لا يخفى أن القرآن الحكيم إنما نزل لهداية البشر إلى مصالحهم الدينية
والدنيوية ، ولهذا بيَّن لهم طريق العمل وسبل النجاح ، وأعلن أن الأمة التي تعمل
بهذا القانون تكون لها الخلافة في الأرض ، وتنال من السعادة والسيادة ما لا مزيد
عليه ، وتكون خير أمة أُخرجت للناس ، وكل من لم يعمل بهذا القانون يكون ذليلاً
مهانًا في الأرض ، وشقيًّا في الدنيا والآخرة .
فإذا سَأَلَنا أحد : هل وُجدت أمة في زمن من الأزمان عملت بهذا القانون ؟ وهل
نالت به ما وعدت ؟ ومتى كانت تلك الأمة وكيف كانت طريقة عملها بهذا القانون ،
وأين التاريخ الصحيح لأعمالها ؟ نقول له : نعم وجدت أمة عظيمة عملت بهذا الكتاب
الحكيم ، واتخذته قانونًا أساسيًّا لها مدة كبيرة فصدقها الله وعده ، وأنعم عليها
بالخلافة والسيادة في الأرض ، وامتد سلطانها إلى مشارق الأرض ومغاربها ،
وكانت أمة لا نظير لها في تاريخ العالم ، وتاريخ أعمالهم المجيدة وطريقة تنفيذهم
لأحكام القرآن ، وكيفية عملهم بها ، كل ذلك ثابت ومحفوظ بصورة عديمة المثال ؛
فإنه لا يوجد تاريخ لأمة من الأمم يبين عملها وتمسكها في كل شؤونها بقانونها مثل(1/303)
تاريخ هذه الأمة ، وهذه الأمة هي الرسول عليه السلام وأصحابه والتابعون لهم
بإحسان ، وهذا التاريخ هو الحديث ! فبالحديث يُعلم كيف عمل الرسول
وأصحابه بالقرآن ، وبه يُعرف أن القرآن قانون قد عُمل به ونجحت أصوله
الإدارية والسياسية والمدنية والأخلاقية ... إلخ ، وليس هو مجموعة نظريات
محتاجة للإثبات بالتجربة والتطبيق ، وأما إذا عملنا برأي المنكرين للحديث فيضيع
تاريخ الإسلام الذهبي ، ولا يقدر أحد أن يثبت أن القرآن قد عملت به أمة من الأمم
ونجحت في تأسيس حكومة مدنية مطابقة لتعليماته ، فهل يرضى المسلمون بهذا ؟ لا
والله لا المسلمون يرضون بهذا ، ولا العلم ولا التاريخ يرضيان به ? فَمَالِ هَؤُلاءِ
القَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً ? ( النساء : 78 ) ؟ .
أقسام الحديث :
ولننظر ماذا يوجد في الحديث ، وأي مقدار منه يصلح أن يكون مجالاً للبحث
والمناقشة :
( 1 ) لا يخفى أن القسم الأعظم من الحديث هو تاريخي ، أعني أنه يشتمل
على أخبار الرسول عليه السلام وأصحابه الكرام ووقائعهم وبيان جليل أعمالهم ،
وهذا القسم غير قابل للبحث والمناقشة عند كل ذي عقل سليم ؛ لأنه عبارة عن جزء
من تاريخ العالم مثل سائر تواريخ الأمم ، إلا أنه يمتاز عنها بصحة المأخذ ، وضبط
الرواية وتسلسل الأسانيد ، ومطابقتها لأصول النقد ، بحيث إن هذا الوصف لا
يشاركه فيه تاريخ أمة من الأمم ، لا الرومان ولا الفرس ولا اليونان ولا الهند ولا
مصر ... إلخ .
( 2 ) والقسم الثاني أخلاقي تهذيبي يحتوي على الحِكَم والآداب والنصائح
مثل مدح الصدق والعدل والإحسان والاتحاد والتعاون وسائر الفضائل والحث عليها ،
وذم الكذب والظلم والفسق والفساد وسائر الرذائل والصد عنها ، فهذه الأمور
تؤيدها الفطرة الإنسانية ، وأصولها موجودة في القرآن فهل فيها شيء يستحق الرد ؟
( 3 ) العقائد أصول العقائد مذكورة في القرآن مثل التوحيد والصفات(1/304)
الإلهية والرسالة والبعث وجزاء الأعمال ، ولا يوجد في الحديث الصحيح إلا ما
يؤيد هذه الأصول ويوضحها ويقررها ، أو يكون من جزئياتها ونظائرها ، ولا يوجد
فيها ما يكون مخالفًا لعقائد القرآن أو زائدًا عليها ، بحيث لا يكون له أصل في
القرآن ، وكل ما يستشكل من الأحاديث الصحيحة في العقائد تجد مثلها في القرآن ،
ويجري فيها ما يجري في القرآن من التفويض أو التأويل حسب اختلاف مدارك
الأفهام والطبائع الإنسانية ، فمنها ما يقبل التسليم والتفويض ، ومنها ما لا يقنعه إلا
التأويل الموافق لعقله والذي يطمئن به قلبه ، وأما الأحاديث التي فيها مخالفة للقرآن
أو العقل السليم فلا تجدها إلا من الموضوعات [2] والواهيات ، ومثلها لا يجوز
ذكرها فضلاً عن التمسك بها ، وهذا بإجماع المسلمين ، وفوق هذا العقد أجمع
المسلمون أيضًا على أن العقائد لا تثبت إلا بالقرآن ؛ لأن مبنى العقائد على اليقين ،
واليقين لا يحصل إلا بالوحي المتواتر وهو القرآن أو الحديث المتواتر ؛ ولكن
الحديث المتواتر حسب تعريف الأصوليين وشروطهم غير موجود ، فرجع الأمر في
العقائد إلى القرآن وحده ، وهذا الإجماع إنما حصل لعلمهم أن الاحاديث الصحيحة
ليس فيها ما يعارض العقائد القرآنية أو يكون زائدًا مستقلاًّ عليها .
( 4 ) الأحكام : هذا القسم أكثره ثابت بالأحاديث المستفيضة المشهورة ،
وهي ما رُويت بطرق كثيرة صحيحة ؛ ولكنها لم تبلغ حد التواتر ، وبعضه بالآحاد
ولكنها صحاح ، وأما الاحاديث الضعيفة فقد أجمع المحدثون والفقهاء أنها لا تقبل
في الأحكام [3] ، والمحققون لا يقبلونها في غير الأحكام أيضًا .
فأما الاحتجاج بالخبر المستفيض المشهور فلا يتصور وجود عاقل يُنكر ثبوت
الحكم بمثل هذا الخبر ولزوم العمل لمن يبلغه ، وإلا بطل نظام العالم ، فهذه قوانين
الحكومات ، إذا نُشرت في عدة جرائد معتبرة يلزم العمل بها لكل أحد من رعايا تلك(1/305)
الحكومة ، ولا يسعه الاعتذار بأنها لم تبلغه بالتواتر .
وأما الآحاد الصحاح فكذلك العمل بها جارٍ في سائر أنحاء العالم إذا أتانا رجل
معتبر ، وبلَّغنا أن فلانًا يطلبك فحالاً نلبي طلبه ، ولا نسأله أن يأتينا بالشهود على
صحة قوله ، إلا إذا وُجدت هناك قرينة مانعة عن قبول خبره فحينئذ نتثبت قبل
الذهاب .
وهكذا الأمر في الأحاديث الآحادية الصحيحة : تقبل في الأحكام ويعمل بها ما
لم يوجد أمر مانع من قبولها مثل كونها مخالفة للقرآن أو الحديث المشهور ، أو
كونها متروكة العمل في زمن الخلفاء الراشدين والصحابة ، ففي هذه الحالة يحق
لكل عالم أن يتوقف عن العمل بها ، وأن يبحث عنها إلى أن يزول الإشكال ويطمئن
إليه الخاطر . وأما ترك العمل بالآحاد الصحاح مطلقًا من غير وجود علة مانعة من
قبولها فغير معقول ومخالف لما هو جار في سائر المعاملات الدنيوية .
السنة مأخوذة من القرآن :
على أننا نعتقد مثل كثير من العلماء المحققين أن الأحكام التي توجد في
الأحاديث الصحيحة هي مأخوذة ومستنبطة من القرآن الكريم ، استنبطها النبي عليه
السلام من القرآن بتأييد إلهي ، وشرح رباني ، ولذلك يجب علينا قبولها والعمل بها
بشرط ثبوتها إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وهذا الفهم والاستنباط يسمى في
اصطلاح القرآن تارة ( تبيينًا ) وتارة ( إراءة ) قال الله تعالى : ? وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ
الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ? ( النحل : 44 ) وقال جل شأنه :
? إِنَّا أنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ? ( النساء :
105 ) .
تقصير العلماء في خدمة القرآن :
الحق يقال إن علماءنا قصَّروا في خدمة القرآن من هذه الناحية ، أعني أنهم لم
يُؤلِّفوا كتبًا كافية في علوم القرآن - أعني عقائد القرآن ، وفقه القرآن ، وأخلاق(1/306)
القرآن ، وسياسة القرآن إلى غير ذلك - بل نبذوه وراءهم ظهريًّا ، وصدقت علينا
الآية ? وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا القُرْآنَ مَهْجُوراً ? ( الفرقان :
30 ) والحال أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يقدمون القرآن على كل شيء في
استنباطاتهم واستدلالاتهم ؛ ولكن عصرهم لم يكن عصر تدوين وتأليف ولهذا لم
يؤلفوا فيه الكتب ؛ وإنما كان هذا من فرائض الذين جاءوا بعدهذم ؛ ولكنهم غفلوا
عن أداء الفرض واشتغلوا بآراء الرجال والحكايات الإسرائيلية والمسائل الخلافية
والجدل ، والسبب في ذلك أن القرآن الكريم ليس مرتبًا على الأبواب ، فيصعب
على كثير من الناس البحث عن مطلوبهم فيه ، حتى المسائل المنصوصة فيه ،
فضلاً عن الاستنباط منه ، والعلماء الذين ألَّفوا الكتب في أحكام القرآن أيضًا تبعوا
ترتيب التفاسير ، ولم يرتبوها على الأبواب فبقيت الصعوبة كما كانت ، ولما كانت
كتب الحديث والفقه والفتاوى مبوبة مرتبة انصرف الناس بسهولة إلى الأخذ منها ،
وتركوا النظر والتدبر في القرآن والرجوع إليه قبل كل شيء حين الاستنباط
والاستدلال ، والخلاصة أن الحاجة داعية إلى أن يوجه علماؤنا عنايتهم إلى تأليف
كتب مبسوطة سهلة مبوبة في علوم القرآن [4] ويبينوا وجه التوفيق والارتباط بين
الآيات والأحاديث الثابتات ، ويقربوها لأفهام أهل هذا العصر ؛ وبذلك يخدمون
الدين خدمة كبيرة ، ويكون ذلك أكبر باعث لاتحاد كلمة المسلمين ، وصيانة الشبان
عن الإلحاد والمروق من الدين وما نظنهم إلا فاعلين ذلك إن شاء الله .
معنى السنة والفرق بينها وبين الحديث :
كنا عقدنا مقالنا هذا لبيان السنة والدعوة إليها ؛ ولكن اقتضت الحال أن نبحث
أولاً عن الحديث الذي هو أعم من السنة ، وإذ انتهى ذلك فلنبحث في معنى السنة ،
ولنذكر الفرق بين السنة والحديث ؛ فإن كثيرًا من الناس لا يفرقون بينهما
ويجعلونهما في منزلة واحدة ، وينشأ من ذلك ضرر كبير .(1/307)
الحديث كل واقعة نُسبت إلى النبي عليه السلام ولو كان فعلها مرة واحدة في
حياته الشريفة ، ولو رواها عنه شخص واحد ، وأما السنة فهي في الحقيقة اسم
ًللعمل المتواتر - أعني كيفية عمل الرسول عليه السلام - المنقولة إلينا بالعمل
المتواتر ، بأن عمله النبي عليه السلام ثم من بعده الصحابة ، ومن بعدهم التابعون
وهلمَّ جرا ، ولا يُشترط تواترها بالرواية اللفظية ، فيمكن أن يكون الشيء متواترًا
عملاً ولا يكون متواترًا لفظًا ، كذلك يجوز أن تختلف الروايات اللفظية في بيان صورة
واقعة ما فلا يسمى متواترًا من جهة السند ؛ ولكن تتفق الروايات العملية على كيفية
العمل العمومية فيكون متواترًا عمليًّا ، فطريقة العمل المتواترة هي المسماة بالسنة
وهي المقرونة بالكتاب في قوله عليه السلام : ( تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما
تمسكتم بهما : كتاب الله تعالى وسنة رسوله ) وهي التي لا يجوز لأحد من المسلمين
كائنًا من كان تركها أو مخالفتها وإلا فلا حظ له في الإسلام .
مثلاً : إذا علمنا أن النبي عليه السلام من حين فُرضت الصلوات الخمس
واظب عليها مدة حياته الشريفة في هذه الأوقات المعلومة ، وبهذه الهيئة المعروفة ،
وكذلك الصحابة بعده ، والتابعون بعدهم ، ثم المسلمون إلى يومنا هذا سواء منهم
الذين وجدوا قبل تدوين كتب الحديث ، والذين وجدوا بعدهم ، واتفق المسلمون قرنًا
بعد قرن مع اختلاف أعصارهم وبلدانهم وأفكارهم ونِحَلهم على أن النبي عليه السلام
والصحابة كانوا يصلون خمس مرات في اليوم والليلة في هذه الأوقات المعلومة بهذه
الصورة المخصوصة وبهذه الأركان - فهذا هو التواتر العملي وإنكاره مكابرة بل
جنون .
لا يتجرأ عاقل أن يقول : إن تعيين هذه الأوقات للصلاة أو هذه الأركان ، هو
من وضع المحدِّثين أو الفقهاء وقلدهم فيها المسلمون ؛ لأننا لو فرضنا أن كتب الحديث
والفقه ما وجد منها شيء ففي تلك الحالة أيضًا كانت الصلاة تكون معروفة بهذا(1/308)
الشكل منقولة إلينا بالتواتر العملي ، وكذلك الأمر في الزكاة والصيام والحج وسائر
الفرائض والمحرمات .
وتدوين كتب الحديث إنما كان بمنزلة تسجيل لتاريخ هذا العمل
المتواتر بصورة صحيحة محفوظة ، فهل هذا التسجيل لكونه وقع في القرن
الثاني أو الثالث يُسقِط ذلك التواتر العملي عن درجة الاعتبار أو ينقص من
قيمته ؟ كلا بل زادت قيمته ودرجته بهذا التسجيل التاريخي الخالد الذكر العديم
المثال .
حقيقة السُّنة :
قد ظهر مما تقدم أن بين الحديث والسُّنة فرقًا كبيرًا ، فالحديث هو الرواية
اللفظية لأقوال الرسول عليه السلام وأعماله وأحواله ، وأما السنة فهي الطريقة
المتواترة للعمل بالحديث ، بل بالقرآن أيضًا .
مثلاً ورد في القرآن الأمر بإقامة الصلاة وبين فيه بعض تفاصيلها أيضًا ،
فالرسول عليه السلام صلى بموجب ذلك وقال لنا : ( صلوا كما رأيتموني أصلي )
واستمر على تلك الكيفية وكذلك الصحابة فالتابعون وسائر المسلمين ، وهكذا الأمر في
الصيام والزكاة والحج وسائر الأوامر القرآنية ، فالصورة العملية التي رسمها الرسول
عليه السلام لألفاظ القرآن هي السنة ، وهي في الحقيقة تفسير عملي للقرآن ، وهي من
هذه الحيثية أعلى من الروايات اللفظية بمراتب كثيرة .
الألفاظ المرادفة للسنة :
وردت في القرآن الكريم وكلام الرسول وأقوال الصحابة كلمات أخرى مؤدية
لمفهوم السنة مثل السبيل ، والصراط المستقيم ، والأسوة الحسنة ، وكلها تفيد معنى
الطريقة المسلوكة ومعنى الاتباع ، يعني أن الطريق الذي سلكه النبي عليه السلام
وأصحابه والمؤمنون هو السنة ، هو السبيل ، هو الصراط المستقيم ، وهذا المفهوم
هو الذي وضع له إمام أهل السنة مالك رحمه الله كلمة ( الموطأ ) وسمى به
مجموعة رواياته [5] ومعنى الموطأ في اللغة الطريق الممهد الذي وطئه الناس كثيرًا ،
فكأنه يعني به الطريق الذي مهده ووطأه النبي عليه السلام وأصحابه الكرام ، وهو(1/309)
طريق الإسلام والتفسير الصحيح للقرآن .
الكتاب والسنة :
كثيرًا ما ترد في الحديث كلمتا ( الكتاب والسنة ) مقرونتين كما ورد في
الوصايا النبوية الشريفة قبيل وفاته ( تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما
كتاب الله تعالى وسنة رسوله ) فالمراد بهذه السنة المقرونة بالكتاب هو عمل
الرسول المتواتر ، وطريقه المسلوك الممهَّد الذي هو التفسير العملي الصحيح للقرآن ،
وليس المراد بها كل رواية رويت بالسند اللفظي ! فلان عن فلان .
السنة والبدعة :
لعلك فهمت الآن حقيقة السنة التي ورد الأمر باتباعها والوعيد الشديد لتاركها
المخالف لها كقوله عليه السلام : ( عليكم بسنتي ) وقوله : ( من رغب عن سنتي
فليس مني ) فهذا الشيء أعني السنة يقابلها ( البدعة ) ومعناها اللغوي ( الأمر
المستحدث ) والشرعي ما بينه النبي عليه السلام بقوله : ( من أحدث في أمرنا هذا
ما ليس منه فهو رد ) وهاتان الكلمتان تستعملان دائمًا ككلمتين متضادتين ؛ لأن
السنة هي الطريق الذي كان عليه الرسول وأصحابه ، والبدعة هي ترك ذلك
الطريق والانحراف عنه وسلوك طريق آخر مخترع [6] ، فلهذا كانت الأولى هداية
والثانية ضلالة .
أثر السنة في جمع كلمة المسلمين :
المسلمون متفقون في أشياء كثيرة ، ومختلفون في أشياء أخرى ، وهذا
الاختلاف يرجع ابتداؤه إلى القرن الأول ، ولكن إذا دققنا النظر وجدنا أن المسائل
التي اختلفوا فيها هي من قبيل النظريات التي لا يمكن فيها التمسك بالشهادة العلمية ،
مثلاً أكبر المسائل النزاعية بين أهل السنة و الشيعة هي مسألة الخلافة هل هي
بالنص أو بشورى المسلمين ؟ وأهم المسائل الخلافية بين المعتزلة و الأشاعرة
والماتريدية هي رؤية الله تعالى يوم القيامة ، هل تكون بهذه الأبصار أم لا ؟ فهذه
وأمثالها كلها أمور نظرية ، أعني أنها ليست من الأمور العملية المحسوسة ، ولا
يتأتى فيها شهادة العمل [7] ، وأما المسائل العملية كالصلاة والزكاة والصيام والحج(1/310)
والجهاد فلم يختلف المسلمون فيها اختلافًا كبيرًا ، والسبب في ذلك أن سنة الرسول
عليه السلام كانت دائمًا نصب أعينهم ومثلاً أعلى لهم ، وهذا من الخصائص
الكبرى للإسلام .
وأما الاختلاف في مثل الفاتحة خلف الإمام ، ووضع اليدين في الصلاة ،
ورفع اليدين ، فإذا طرحنا الغلو والتعصب من الفريقين رجع الأمر إلى المناقشة في
الأفضلية ، وكذلك الأمر في المسائل الاجتهادية والأمور المتجددة في المعاملات
والقضاء والسياسة الإسلامية ، فالاختلاف فيها إنما هو في اختيار الجانب الراجح
حسب اختلاف الأزمنة والأمكنة وعقلية الشعوب الإسلامية .
معيار السنة والبدعة :
من القواعد المسلمة في جميع الأديان والمذاهب ، أن أحسن العصور لكل دين
ومذهب إنما هو عصر صاحب المذهب نفسه ، ثم عصر خلفائه وأصحابه الذين
أخذوا منه الدين ولازموه في السراء و الضراء ، ثم يطرأ عليه الضعف شيئًا فشيئًا
ويتسرب إليه الخلل وتختلط فيه الأشياء الدخيلة المنافية لروحه وتعاليمه - فإذا
طبقنا هذه القاعدة الكلية ( التي هي موافقة للعقل وللناموس الطبيعي أيضًا ) على
الإسلام وجب أن يكون عصره الذهبي الخالي عن التحريف والشوائب ، هو عصر
الرسول عليه السلام وخلفائه الراشدين ، فكل أمر وجدناه معمولاً به في ذلك العصر
علمنا أنه من الدين ويقال له سنة ، وكل ما حدث بعده عرفنا أنه دخيل في الدين
ويُسمى بدعة ، فهذا هو المعيار للسنة والبدعة ، أو بعبارة أخرى لما هو من الدين
ولما ليس منه . فكل من يدعي أن الأمر الفلاني من الدين ، والأمر الفلاني ليس
منه ، فعليه أن يزن دعواه بهذا الميزان ويثبت أن الشيء الذي يزعم أنه من الدين
كان موجودًا في زمن الرسول وأصحابه ، وأن الشيء الذي يعده دخيلاً فيه لم يكن
في ذلك العصر .
مثلاً : ادّعت طائفة في زماننا أن الصلوات المفروضة على المسلمين في
اليوم والليلة إنما هي مرتان أو ثلاث ، وأن طريقة الصلاة كذا وكذا لا كما يصليها(1/311)
المسلمون ، فالواجب على هؤلاء أن يثبتوا أن النبي عليه السلام وأصحابه ما كانوا
يصلون في اليوم والليلة إلا مرتين أو ثلاثًا ، وأنهم ما كانوا يصلون إلا بالطريقة
التي يدعيها هؤلاء ، وأنه بعد تدوين كتب الحديث صار المسلمون يصلون خمس
مرات ، وزادوا فيه كذا وكذا من الأركان تبعًا للمحدثين والفقهاء ، فإن لم يستطيعوا
إثبات ذلك - ولن يستطيعوه إلى يوم القيامة - يكون مآل دعواهم أن النبي عليه
السلام أخطأ في فهم الوحي الذي أُنزل عليه ( حاشاه من ذلك ) وأن هؤلاء الأعاجم
الجهلة وفقوا لإصلاح ذلك الخطأ وبيان الصواب ، فهل يمكن لمسلم ، بل لعاقل أن
يتفوه بهذا الكلام الجنوني ؟ أعاذنا الله من ذلك .
اشتقاق كلمة السنة :
زعم بعض الجهلة من أعداء السنة أن كلمة السنة مأخوذة من كلمة ( مسناة )
العبرانية ، وعلل دعواه بأنه كما أن اليهود تركوا التوراة وعملوا بمجموعة الروايات
الإسرائيلية وسموها ( مسناة ) فكذلك المسلمون لما تركوا القرآن وعملوا بالأحاديث
اشتقوا لها اسمًا من ( مسناة ) اليهودية وسموها ( سنة ) ، وهذا زعم باطل ، وادعاء
فاسد ، ويكفي في الرد عليه أن كلمة السنة وردت في القرآن الكريم في مواضع
متعددة بهذا المعنى ، أعني معنى العادة والطريقة المستمرة مثل قوله تعالى في سورة
الإسراء : ? سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا ? ( الإسراء : 77 ) وقوله في
سورة الحجر : ? وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ ? ( الحجر : 13 ) وفي سورة فاطر :
? فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً ? ( فاطر : 43 )
فالمسلمون اقتبسوا كلمة السنة من القرآن وخصصوها في الاستعمال بسنة الرسول
وأصحابه .
هذا ما أردنا بيانه ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله تعالى
على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين .
تعليق المنار :(1/312)
نشكر لصديقنا العلامة السيد سليمان الندوي هذا المقال النفيس في الرد على
أعداء السنة المبتدعين ، وهذه البدعة قديمة العهد ؛ ولكن لم نعلم أنها صارت مذهبًا
يُدعى إليه في الهند إلا من مقاله هذا ، وقد كنا فتحنا باب المناقشة في هذه البدعة
في المجلدين التاسع والعاشر من المنار أي منذ سنة 1324 ( الموافق سنة 1906م )
فكانت موضوع مناظرة ، وكان حكم المنار فيها في الجزء 12 من ذلك المجلد أن
الإسلام هو كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ومما قلناه في الحكم
( وإنما السنة سيرته صلى الله عليه وسلم في الهدي والاهتداء بالقرآن ، وهو أعلم
الناس به وأحسنهم هديًا ، وإطلاقها على ما يشمل الأحاديث اصطلاح حادث ، إلى
أن قلنا : فما مضت السُّنة على أنه حتم في الدين فهو حتم ، وما مضت على أنه
مستحسن مخير فيه فهو كذلك في الدين ، وفصَّلنا ذلك ثم أعدنا هذا البحث مرارًا
آخرها ما نشرناه في فتاوى الجزء السابع من المجلد التاسع والعشرين ) .
ومن الغريب أننا نرى أمم العلم والحضارة تعنى بحفظ ما يُنقل عن علمائها
وأدبائها في التشريع والحقوق والحكم والآداب ، ويفاخر بعضها بعضًا بهم وبآثارهم ،
ونرى هؤلاء المخذولين من مبتدعة المسلمين لا يكتفون بهضم حقوق علماء ملتهم
ومؤسسي حضارتها ومجدها بالعلم والعمل والسياسة والآداب ، بل ينبذون سنة
الرسول الذي يدَّعون اتباع ملته وما روى سلفهم عنه من التشريع والحكم والآداب ،
ومنهم من يدَّعي اتباع سنته العملية التي تلقاها عنه أصحابه بالعمل دون ما ثبت
عنه بالأحاديث القولية ، وإن كانت صحيحة المتون والأسانيد لا يعارضها معارض
من القرآن ولا قطعي آخر يثبته العلم والعقل ، ويدَّعون أنهم يتبعون نصوص
القرآن كأن فهمهم وبيانهم له وحرصهم على العمل به فوق فهم من أوحي إليه وكلفه
الله تعالى بيانه بالقول والعمل ، وعصمه من الخطأ في كل ما يبلِّغه عنه من(1/313)
نصوصه ، ومن المراد منها أي من كل ما هو دين وشرع .
وإذا كان السيد الندوي يعجب من صدور هذا الضلال عن بعض الأعاجم في
الهند ، فنحن أحق بالعجب منه عندما نرى بعض هؤلاء المعادين لهديه صلى الله
عليه وسلم من الناشئين في البلاد العربية الذين تلقوا شيئًا من فنون لسان العرب
كان يجب أن يكونوا به أصح فهمًا للقرآن من أولئك الأعاجم الذين عناهم أخونا
السيد الندوي ، وأغرب ما رأيناه من تأويل هؤلاء لآيات القرآن بما تتبرأ منه لغته ،
وما مضت به السنة النبوية وإجماع الأمة سلفها وخلفها من قول وعمل - هو زعم
بعضهم أن القرآن يدل على بطلان التسري ، وتأويله بل تحريفه لمثل قوله تعالى :
? فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ? ( النساء : 3 ) وقوله :
?وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن
فَتَيَاتِكُمُ المُؤْمِنَاتِ ? ( النساء : 25 ) بأن المراد بما ملكت الأيمان الخوادم الحرائر ! !
ونحمد الله تعالى أنه لم يوجد في هذه البلاد أتباع لهذا الرجل كما وجد أمثاله في
الهند في هذه الأثناء ، ومن قبلها حين قام مرزا غلام أحمد القادياني يدَّعي أنه هو
المسيح ، وحرَّف الآيات القرآنية والأحاديث النبوية بما تتبرأ منه اللغة العربية
حقيقتها ومجازاتها وكناياتها .
وقد علم الأستاذ الندوي وغيره أنه كان قام في هذه البلاد من زعم أن الإسلام
الذي يجب على الناس الاهتداء به هو العبادات فقط ، أي كما يفهمه هؤلاء المبتدعة
الذين لا يقيم أكثرهم لها ركنًا ، وأما ما في القرآن والسنة من الشرائع والأحكام
السياسية والاجتماعية والمدنية والعقوبات فلا يوجب الله - بزعمه - عليهم اتباعها ! !
بل يبيح لهم أن يتبعوا أي قانون بشري يخالفها .
والذي نعلمه بالاختبار أن بعض هؤلاء الدعاة إلى هدم الإسلام جاهل غبي قد(1/314)
فتن بحب الظهور ، وبعضهم ملحد يدعو المسلمين إلى الإلحاد لهوى في نفسه ، أو
خدمة لبعض الدول الطامعة في بلاد الإسلام واستعباد المسلمين ، التي علمت
بالاختبار أنهم لا يقبلون الاستعباد ما داموا مستمسكين بعروة الإسلام دين السيادة
والعزة والملك ، الذي نسخ جميع الشرائع وجعله الله الدين الأخير الكامل للبشر كلهم
إلى أن تقوم الساعة ، فيجب على جماعة المسلمين في كل قطر أن يقيموا الحجج
المعقولة على ضلالة جميع هؤلاء المبتدعة ووجوب الاعتصام بكتاب الله وسنة
رسوله صلى الله عليه وسلم وهدي سلف الإسلام الصالحين ، وعدم الاعتداد بإسلام
من لا يهتدي بالسنة ، ولا بمن يحرِّف القرآن بتفسير يخالف قواعد اللغة
وضروريات الدين وإجماع السلف الصالحين ؛ فإن غايتهم أن لا يبقى من الإسلام
شيء ، خذلهم الله أجمعين .
________________________
(1) المنار : الذي يقابل الإطلاق هو التقييد ، والاستثناء مما يخصص العام ، ولا ندري هل عبَّر
الأستاذ باللفظ الاصطلاحي فيهما وتصرف فيه المترجم ، أم هو الذي تعمد ترك الاصطلاح لأفهام
الجمهور .
(2) المنار : هذا غير مسلم إلا إذا أريد بالصحيح صحيح المتن والإسناد معًا ، وبالموضوع ما يجزم
بوضعه لمخالفة معناه للقطعي في الدين أو في الوجود والحس أو في العقل ، ومنه بعض ما استشكله
شراح الصحيحين وغيرهما ، وأجابوا عنه حتى بما لا يرضاه المستقل الفهم في بعضه .
(3) هذا الإجماع غير مسلم على إطلاقه أيضًا .
(4) المنار : هذا ما ننويه ووعدنا به منذ عشرات السنين على وجه أوسع مما اقترحه صديقنا الكاتب،
وأسأل الله التوفيق .
(5) المنار : هذا غير مسلم ، ففي الموطأ كثير من الأحاديث القولية الآحادية من مرفوع وموقوف
ومرسل ، ومنها ما لم يبلغ أن يكون سنة متواترة بعمل جميع الصحابة والتابعين به على ما قاله
الكاتب في معنى السنة ؛ ولأجل ما فيه من المسائل المختلف فيها أبى الإمام مالك ما عرضه عليه(1/315)
هارون الرشيد من تعليق الموطأ في الكعبة وحمل الناس على ما فيه وعلل إباءه بقوله له : لا تفعل
فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا في الفروع ، وتفرقوا في البلدان وكل
مصيب اهـ ، وإنما سماه ( الموطأ ) لأن علماء المدينة واطأوه ووافقوا عليه .
(6) المنار : لا يشترط في تحقق البدعة ترك شيء من السنة ، فكل ما أحدثه الناس من قول وعمل
في الدين وشعائره مما لم يؤثَر عنه صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه ، فهو بدعة وضلالة ، فبين
ترك السنة والابتداع عموم وخصوص يجتمعان في بعض الأمور ويوجد كل منهما وحده .
(7) فيه أن الخلافة من الأمور العملية ؛ ولكنها من عمل جماعة المسلمين لا من سنة الرسول صلى
الله عليه وسلم فلا يكفر مخالفها ، وإجماعهم العملي دليل على عدم وجود نص قطعي فيها ، وسيدنا
علي وآله عليهم السلام لم يحتجوا على ما يعتقدون من أولويته بالنص ، بل وافقوا الجمهور وبذلك
كان إجماعًا عمليًّا .
(( مجلة المنار ـ المجلد [ 30 ] الجزء [ 9 ] صـ 673 ذو القعدة 1348 ـ أبريل 1930 ))
تقريظ المطبوعات الحديثة
( كتاب البروق النجدية في اكتساح الظلمات الدجوية )
( مؤلفه الشيخ عبد الله بن علي النجدي القسيمي من طلاب العلم في الأزهر ،
وطُبع بمطبعة المنار بمصر سنة 1350 ، وصفحاته 203 ، وثمن النسخة منه 5
قروش )
أسرف الأستاذ الشيخ يوسف الدجوي في الطعن على جماعة الوهابية فيما
ينشره من المقالات في مجلة الأزهر المسماة بنور الإسلام ، كما أسرف في فتاويه
التي تنشرها هذه المجلة ، فيما ادعاه من شرعية دعاء الموتى والاستغاثة بهم في
الشدائد ، وإيهام الجاهلين بأصول التوحيد أن الصالحين منهم يستجيبون لمن يدعوهم
ويستغيث بهم فيغيثونه ويقضون حوائجهم ، فهو ينصر بهذه الفتاوى من أفسدت
عليهم الخرافات الوثنية دينهم ودنياهم ، فهم يَتَّكِلون على أصحاب القبور ويطلبون(1/316)
منهم ما لا يطلبه المؤمن الموحد إلا من الله عز وجل ، كما بيناه في الجزء العاشر
من المجلد 31 .
وقد كان لعدم اطلاعه على كتب الوهابية في التوحيد وإبطال البدع والخرافات
والرد على دعاتها المدافعين عنها يظن أنه لا يوجد فيهم علماء يقدرون على تفنيد
شبهاته وإبطال خرافاته ، وكيف وهو محلى بلقب ( أسد هيئة كبار علماء الأزهر )
حتى تصدى أحد طلاب العلم منهم بالأزهر للرد عليه بهذا الكتاب ، فظهر لمن
اطلع عليه أن مؤلفه الطالب المبتدئ أعلم من الأستاذ الشيخ يوسف الدجوي بعقائد
الإسلام ومذاهب المسلمين وبالتفسير والحديث النبوي وبأقوال أئمة علماء السنة ؛
فلذلك كبر عليه وعلى الأستاذ الأكبر أمره ، وعاقبوا مؤلفه بحرمانه وحرمان زميله
من إخوانه النجديين بما سنذكره .
بلغنا أن الأستاذ الدجوي أكبر هذا الكتاب ، فأنكر أن يكون هذا الطالب النجدي
هو المؤلف له ، وقال : لا بد أن يكون مؤلفه صاحب المنار ، وهذا غريب من
فضيلته ؛ فإن لصاحب المنار أسلوبًا في الكتابة غير أسلوب هذا الكتاب ، ولونًا غير
لونه ، وطعمًا غير طعمه ، وإن اتفقا في المسألة ، فإذا كان الأستاذ الدجوي لا يميز
بين الألوان والأساليب الكلامية كالحسية ، أفلا يذوق طعمها أيضًا ؟ ومتى كان صاحب
المنار يعير قلمه لغيره ويكتم علمه ورأيه ؟ ولو اطلع على كتب علماء نجد في هذه
المسائل لما استكثر على طالب منهم مثل هذا الرد عليه .
الكتاب مؤلف من مقدمة وأربعة أبواب ، أما المقدمة فقد افتتحت بقصيدة فخرية
للمؤلف منتقَدَة في ذوقنا ، يليها تفسير كلمة الوسيلة وتقسيم التوسل إلى مشروع وهو
أحد عشر نوعًا ، وممنوع غير مشروع وهو ما يثبته الشيخ الدجوي وأمثاله .
وأما الأبواب فالأول منها في إبطال ما ادعاه الشيخ الدجوي من أدلة القرآن
على التوسل الممنوع وهو ست آيات ، والثاني في إبطال ما ادعاه من الأدلة
الحديثية وهي 14 ، والثالث في محق أدلته العقلية ، والرابع فيما احتج به من أقوال(1/317)
العلماء ، وفي كل باب منها مسائل كثيرة أظهر فيها من أغلاط الشيخ الدجوي
وجهله بأصول الشرع الاعتقادية والفقهية وقلة اطلاعه على كتب السنة وعدم وقوفه
على الصحيح وغيره ، ومن ضعفه في الاستدلال ، ما لم يكن يخطر لأحد من
الأزهريين على بال ، ولو أردنا إيراد الشواهد منه على ذلك لطال بنا المقال .
ولمَّا اطلع عليه الشيخ ضاق به ذرعًا ، ولجأ إلى رئيسه الأستاذ الأكبر ؛ لينتقم
له من هذا الطالب النجدي المجاور في الأزهر ، فيقال : إن الشيخ لجأ أولاً إلى
الحكومة كعادته وطلب منها مصادرة الكتاب ، فسأله صاحب الدولة رئيسها : هل
يوجد في الكتاب طعن في الدين يمنعه القانون ويعاقب عليه ؟ قال : لا ، وإنما فيه
تأييد مذهب الوهابية والانتصار له ، قال الوزير : إن له أن يدافع عن مذهبه ويؤيده
كما تدافعون عن مذاهبكم وتؤيدونها .
فلجأ ثانيًا إلى حمل المؤلف على بيع الكتاب لهم بثمن بخس ، ووعده بأن
يُعطى شهادة العالمية في أقرب وقت ، فلم يقبل لأنه يطلب العلم لأجل الانتفاع
والنفع به ابتغاء وجه الله تعالى لا لأجل الشهادة الرسمية .
فلما أعيته الحيلة فيه انتهى ثالثًا إلى سلطته الرسمية ، وهو لا يسئل فيها عما
يفعل ، فقطع أولاً ما كان له ولرفيق له من النجديين من رزق قليل ، وانتهى آخرًا
إلى قطع اسمه من سجل المجاورين وإخراجه من مأواه معهم ، فإذا صح هذا كما
يظهر فهو حجة ناهضة على عجز مشيخة الأزهر وعجز مجلتها عن طالب علم
وهابي مبتدئ ، فهل يليق بهم بعد هذا أن يعودوا إلى الطعن في الوهابية في مجلتهم ،
وقد صارت هذه المجلة حجة عليهم لا لهم .
بيد أن الأستاذ الشيخ يوسف الدجوي مفتي هذه المجلة ومجادلها قد راعه تحدث
بعض الأزهريين وغيرهم في مسائل من رد هذا النجدي عليه تعد من أكبرالفضائح
الهادمة لصيته السابق ، فطفق يرد عليها في المجلة بأسلوبه المعروف وطريقته
الجدلية في المغالطة ، منها الحديث الموضوع الذي يتخذه هذا الشيخ وأمثاله من(1/318)
القبوريين حجة على ما يسمونه التوسل بذوات الأنبياء والصالحين وسؤال الله تعالى
بحقهم عليه وبأشخاصهم ، وهو ما رواه الحاكم في مستدركه عن عمر رضي الله
عنه مرفوعًا أنه لما اقترف آدم الخطيئة قال : ( يا رب أسألك بحق محمد لما غفرت
لي ، قال الله يا آدم وكيف عرفت محمدًا ولم أخلقه ؟ قال : يا رب لأنك لما خلقتني
بيدك ، ونفخت في من روحك ، رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوبًا : لا
إله إلا الله محمد رسول الله ، فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك ،
فقال الله : صدقت يا آدم ، إنه لأحب الخلق إلي ، ادعني بحقه فقد غفرت لك ،
ولولا محمد ما خلقتك ) .
أصر الأستاذ الدجوي على القول بتصحيح هذا الحديث والتفصي من قول
الحافظ الذهبي ( إنه موضوع ) بالمغالطة والتأويل ، وقد سألني بعض مجاوري الأزهر
عن رأيي في رده ، فقرأته على تحامي قراءة هذه المجلة لئلا أراني مضطرًّا إلى ما
لا أحبه من الرد على ما أنكره فيها ، فبينت للسائل فيه إجمالاً ، وإنني أذكره هنا
استطرادًا .
تصحيح الدجوي لحديث آدم الموضوع
زعم الأستاذ الدجوي أولاً أن الحاكم صحح هذا الحديث ، وأن الحافظ الذهبي
أقره على تصحيحه ، والحق أن الحافظ الذهبي تعقبه في تصحيحه وصرح بأنه
موضوع ، وقد بالغ المؤلف النجدي في التشنيع على الدجوي بهذا الجهل الجريء ،
والإفك الصريح ، ففطن الدجوي بعد التأمل والتفكر في المسألة عدة أشهر إلى
جواب عنه نشره في مجلة ( نور الإسلام ) مظهر معارفه وعلومه بعد الأزهر ،
وهو أن للذهبي كتابًا جمع فيه الأحاديث الموضوعة التي في مستدرك الحاكم - وهو
غير متداول - ولم يذكر هذا الحديث فيها ، فعدم ذكره له دليل على أنه رجع عن
عده من الموضوعات الذي صرَّح به في كتابه ( تلخيص المستدرك ) أو أنه
مدسوس عليه ، ثم حاول تصحيح الحديث أو تقويته بتحقيقات أزهرية طويلة بدأها
بقوله :
( على أننا نقول : إن الذي قاله الذهبي في تلخيص المستدرك بعد قول الحاكم(1/319)
إنه صحيح هكذا : ( بل موضوع وعبد الرحمن بن زيد واهٍ ولم يزد على ذلك
ونقول إن هذا مدسوس على الذهبي من بعض تلك الطائفة ، ويبعد جدًّا أن يكون من
كلامه ، وكثيرًا ما رأينا ذلك وتثبتنا منه ، وربما جرت إليه المناسبة في الأعداد
الآتية ؛ فإن ذلك لو كان من الذهبي لقال : فيه فلان الكذَّاب أو الوضاع ، ولا يكفي
في الحكم عليه بالوضع أن يقول : إن عبد الرحمن واه ، ثم يسكت ، بل كان يقول
على الأقل : واه جدًّا ، وكيف يقول إنه موضوع ، وقد رواه البيهقي في كتاب دلائل
النبوة الذي قال فيه الذهبي نفسه : إن هذا الكتاب كله هدى ونور ) .
ثم ذكر أن القاضي عياض رواه في الشفاء ، وأن سنده فيه صحيح ، وأن
مناظرة مالك لأبي جعفر المنصور تدل على تصحيحه له . وأطال في محاولة توثيق
عبد الرحمن بن زيد بن أسلم بطريقته الجدلية الأزهرية التي لا تروج بضاعتها إلا
على أمثال تلاميذه من مجاوري الأزهر الذين تربوا على أن يقبلوا من مشايخهم كل
ما يقولون ، وأن يهانوا إذا عارضوهم في شيء مما يقررون .
وأقول : إن هذ الاستطراد لا يتسع لتفنيد كل ما في هذا الرد من الخطأ ؛ ولكنني
أذكر للقارئ نموذجًا موجزًا منه يعلم قدر الدجوي في أمانة النقل وفي الفهم .
(1) قال الدجوي : إن الذهبي لم يزد في التلخيص على قوله : ( بل هو
موضوع ، وعبد الرحمن بن زيد واه ) وأقول : بل زاد على ذلك أن قال بعده :
رواه عبد الله بن مسلم الفهري ، ولا أدري من ذا ؟ عن إسماعيل بن مسلمة عنه
اهـ . أي عن عبد الرحمن ، فقوله : ولا أدري من ذا ؟ سببه الاشتباه بينه وبين
عبد الله بن مسلم بن رشيد الذي ذكر الحافظ ابن حجر في لسان الميزان عن الذهبي
قول ابن حبان فيه : ( متهم بوضع الحديث ) ثم ذكر بعده الفهري هذا ، وقال نقلاً
عن الميزان : روى عن إسماعيل بن مسلمة بن قعنب ، عن عبد الرحمن بن أسلم
خبرًا طويلاً فيه : يا آدم لولا محمد ما خلقتك ، رواه البيهقي في دلائل النبوة ، ثم(1/320)
قال ابن حجر : قلت : ولا أستبعد أن يكون هو الذي قبله فإنه من طبقته اهـ .
فالحافظ ابن حجر يقول في عبد الله بن مسلم راوي الحديث : إنه من طبقة
عبد الله بن مسلم بن رشيد يعني أنه يضع الحديث أو هو هو .
ولكن االأستاذ الشيخ يوسف الدجوي لا يعرف اصطلاح المحدثين في حكمهم
على الأحاديث واكتفائهم أحيانًا بالاستدلال على المعلول منها بذكر علته من رجال
السند المجروحين من غير وصف الواحد منهم بالوضاع أو الكذاب كلما ذكره .
(2) زعمه أنه لا يعقل حكم الذهبي على الحديث بالوضع ، وهو يعلم أن
البيهقي رواه في الدلائل التي مدحها - مردود بما ذكره في ميزان الاعتدال من حكمه
ببطلان هذا الحديث مع عزوه إلى كتاب الدلائل للبيهقي ، وقد وافقه الحافظ ابن
حجر في ذلك ، فالمسألة مسألة نقل مدون لا مسألة نظريات عقلية واحتمالات
أزهرية .
(3) ذكر الدجوي أهون ما قال أهل الجرح والتعديل في جرح عبد الرحمن بن
زيد ، واحتج به على أن حديثه غير موضوع ، وأنه قد يكون صحيحًا إذ قال :
معلوم أن الذي يغلب عليه الوهم قد يصح حديثه ... إلخ .
وأقول في تفنيد قوله هذا : إن عبد الرحمن ليست علة ضعفه غلبة الوهم عليه
كما زعم ، بل أهون ما قالوا فيه إنه واه وضعيف جدًّا ، وإنه لا يعقل ما يروي ،
وكان الشافعي يهزأ بخرافاته عن أبيه ويجعلها مضرب المثل في الكذب ، والحاكم
نفسه قال فيه إنه روى عن أبيه أحاديث موضوعة ، فليراجع ص 178 و179 من
تهذيب التهذيب للحافظ ابن حجر ( الجزء السادس ) فتصحيحه بعد هذا لحديث له
رواه عنه الفهري الذي هو شر منه من عجائب أغلاطه في المستدرك ، وإن كان لم
يفرغ لتنقيحه .
(4) إن القاضي عياض قد ذكر حديث آدم هذا في الفصل الأول من الجزء
الأول من الشفاء حكاية عن أبي محمد المكي و أبي الليث السمرقندي وهما من الذين
يُكثرون من حكاية الموضوعات ، ولم يروه عن أحد من أهل الحديث ، ولا عزاه
إلى كتبهم .(1/321)
(5) إن ما رواه القاضي عياض من مناظرة أبي جعفر المنصور لمالك
المشتمل على قول مالك له مستدلاًّ على استقبال الرسول صلى الله عليه وسلم في
الدعاء دون القبلة : ولِمَ تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم ؟ ليس
نصًّا صريحًا من مالك بصحة حديث عمر المذكور إذا فرضنا أن هذا قول ثابت عن
مالك ، وما هو بثابت ، بل هو مخالف لمذهبه المعروف ولمذاهب سائر الأئمة .
(6) إن زعمه أن سند القاضي عياض إليه صحيح لا مطعن فيه ، زعم باطل
لا ريب في بطلانه فإنه سند منقطع ، وينتهي إلى ابن حميد الرازي وقد ضعفه
بعضهم ، وأثبت آخرون كذبه ، وكان بعضهم يعده مقبولاً في بعض مروياته قبل أن
يثبت عندهم كذبه ، ومنهم الإمام أحمد ، فقد نقل عنه ابنه صالح أنه استأذن عليه
مرة أبو زرعة و محمد بن مسلم بن وارة فتحدثا عنده ساعة ، ثم قال له الثاني : يا
أبا عبد الله رأيت محمد بن حميد ؟ قال : نعم ، قال : كيف رأيت حديثه ؟ قال : إذا
حدث عن العراقيين يأتي بأشياء مستقيمة ، وإذا حدث عن أهل بلده يأتي بأشياء لا
تعرف ، لا يدري ما هي ، قال : فقال أبو زرعة وابن وارة : صح عندنا أنه يكذب ،
قال صالح : فرأيت أبي بعد هذا إذا ذكر ابن حميد نفض يده .
(7) استدلال الدجوي بعدم ذكر حديث عمر هذا فيما جمعه الذهبي من
موضوعات المستدرك على أنه غير موضوع ، موافق لقاعدة له باطلة يجري عليها
في الجدل والاستدلال على شرعية كثير من البدع التي لم يرد أو يطلع هو على ما
ورد في عدم شرعيتها أو لم يفهمه ، ككون الموتى يقضون حاجات الذين يدعونهم
ويستغيثون بهم . وقد عقد الطالب النجدي لهذه الجهالة فصلاً في كتابه رأيته في
فهرس الكتاب ولم أقرأ منه شيئًا ، ولولا اغترار بعض العوام والمجاورين بكلام هذا
الرجل وبمجلة نور الإسلام لما كان هذا مما يحتاج إلى الرد ؛ فإن القاعدة المعروفة
التي لا خلاف فيها بين العلماء هي أن شرعية الأحكام لا تثبت إلا بالدليل ، وعدم(1/322)
شرعيتها هو الأصل فلا يطالب مدعيه بالدليل ، وقد قال بعض أشياخ الأزهر مرة
في هذه المسألة أو مثلها : أين الدليل على منعها وكونها بدعة ؟ وكان ذلك في
حضرة الشيخ أبي الفضل الجيزاوي شيخ الأزهر رحمه الله ، فانتهره أبو الفضل
وقال له : هذا جهل ؛ إنما يطالب بالدليل من يدعي أن هذا الأمر مشروع لا من
يقول إنه غير مشروع ، ومن فروع قاعدته السلبية استدلاله على صحة الحديث
المذكور بعدم تعقب صاحب المواهب ومحشيها له ، على أنهما لو صرحا بصحته لما
كان لتصريحهما قيمة بعد العلم بوضعه .
وههنا يقال للشيخ الدجوي :
أولاً : لا نسلم أن الحافظ الذهبي لم يذكر هذا الحديث فيما جمعه من
موضوعات المستدرك ؛ لأنه ليس في الأيدي نسخة منها .
ثانيًا : إذا وجدت نسخة مخطوطة لا تعد من الأصول المعتمدة في اصطلاح
المحدثين ، فلا يصح الاحتجاج بها مع وجود المعارض لها ؛ لاحتمال وقوع
التحريف والزيادة والنقص من النساخ فيها .
ثالثًا : لو وجدت نسخة معتمدة لم يذكر فيها هذا الحديث لما صح أن تعد دليلاً
على رجوع الذهبي عما قاله في تلخيص المستدرك ؛ لاحتمال تركه سهوًا ، فالعمدة
ما صرح به لا ما سكت عنه .
رابعًا : إذا فرضنا أنه صرَّح في هذه الرسالة بأن هذا الحديث غير موضوع ،
فلا يصح ترجيح ما أثبته فيها على ما أثبته في تلخيص المستدرك إلا إذا علم أنه
جمعها بعد كتابة التلخيص المذكور وفاقًا لما اشترطه علماء الأصول في النسخ .
خامسًا : إذا فرضنا أنه صرح في هذه النسخة بأن الحديث غير موضوع ،
فتصريحه هذا يصدق بكونه واهيًا منكرًا لا يصح الاستدلال ولا العمل به حتى في
فضائل الأعمال التي لها أصل مشروع ؛ لأن من قال من العلماء : إن الحديث
الضعيف يُعمل به في مثل ذلك ، اشترطوا أن لا يكون واهيًا أو شديد الضعف فضلاً
عن القول بتصحيحه .
هذا وإن الكلام قد طال في هذا الاستطراد للرد على ما رأيته للأستاذ الدجوي(1/323)
في مجلة نور الإسلام من المغالطات في محاولة تصحيح هذا الحديث والتبجح
بتجهيل المؤلف جزاء على تجهيله إياه في تصحيحه مع الاستكبار عن ذكر اسمه
واسم كاتبه خوفًا من زيادة اشتهاره ، فنكتفي بما ذكرنا .
________________________
(( مجلة المنار ـ المجلد [ 32 ] الجزء [ 4 ] صـ 306 ذو الحجة 1350 ـ أبريل 1932 ))
مقدمة كتاب مفتاح كنوز السنة
بسم الله الرحمن الرحيم
? يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ المَلِكِ القُدُّوسِ العَزِيزِ الحَكِيمِ *
هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ
وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ? ( الجمعة : 1-2 )
نحمده عز وجل ونصلي ونسلم على رسوله محمد خاتم النبيين ، الذي بعثه الله
وهو أمي في سن الكهولة مربيًّا ومعلمًا لقومه العرب الأميين ، ما جعلهم به قارئين
كاتبين ، صالحين مصلحين ، فكانوا أئمة حكماء حاكمين وعلماء معلمين لأهل
الكتاب ورثة الأنبياء ، ولغيرهم من ورثة الفلاسفة والحكماء ، وجعلهم به ملوكًا
عادلين ، وآتاهم بكتابه وتعليم رسوله وتزكيته ما لم يؤت أحدًا من العالمين ، فما
زال هذا الكتاب الإلهي ، وما بينه من سنة هذا النبي الأمي يتدارسهما البشر في
مشارق الأرض ومغاربها من شاطئ المحيط الغربي إلى أحشاء الصين ، ثم انتقل
تدارسهما من الجنوب إلى الشمال ، فعني بهما طائفة من الأوربيين ، الذين عُرِفُوا
بلقب المستشرقين ، وقد مهدوا السبيل لهما ، بما وضعوه من المفاتح لألفاظهما ،
والفهارس المنوعة لكتب التفسير والحديث وغيرها من الكتب العربية لتسهيل
مراجعتها ، حتى صار علماء المسلمين من العرب والأعاجم مضطرين لأخذها عنهم ،
واقتفاء أثرهم فيها .
وهذا كتاب ( مفتاح كنوز السنة ) الذي نعرضه اليوم للعالم الإسلامي بلغة(1/324)
الإسلام ، أحد نفائس هذه الكتب التي وضعها أحد هؤلاء الأعلام ؛ وإنما وضعه لهم
بإحدى لغاتهم ، وإن عالمنا الإسلامي ، لهو أحوج إليها من العالم الأوربي ، فعسى
أن ينتفع به جميع شعوبه وتنهض بهم الحمية الدينية إلى خدمة السنة بما هو خير
منه في الضبط والجمع ، وتعميم النفع .
أما بعد ، فإن خير ما أُعَرِّف به هذا الكتاب لقراء العربية ، أن أبين لهم وجه
الحاجة إليه ، وطريق الانتفاع به ، وعدم استغناء أعلم علماء الحديث عنه ، بل هم
أشد حاجة إليه من غيرهم ، ويتلوهم من دونهم من العلماء ، فمن دونهم من دهماء
القراء الذين يقتنون شيئًا من كتب الحديث المشهورة وغيرها مما يراه القراء في
طرته ، وإنني أستمد هذا البيان من تجربتي واختباري في السنين الطوال ، لا أقوله
بادي الرأي ، ولا أصطاده من سوانح الاستحسان .
إنني وُفقت لطلب العلم من طريق الدليل ، ثم وُفقت لنشره بالدليل ، ووُفقت
للمناظرة وللإفتاء بالدليل ، واشتغلت بعلم الحديث أول العهد بالطلب وارتقيت فيه
بالتدريج ، وتمرنت على مراجعة كتبه وكتب الجرح والتعديل ؛ لتخريج الأحاديث
ونقدها ، وسرعة الوصول إليها من أقرب طرقها ، واشتهرت عند من يعرفني من
أهل العلم والذكاء ، كان الأستاذ اللوذعي الشيخ محمد توفيق البكري يظن أن عندي
فهارس لأوائل الأحاديث كلها ، ومعجمًا لمفرداتها كهذا الكتاب يبين عند كل كلمة
مواضع كل حديث وردت فيه من كتبها ، ثم علم أنه ما ثم إلا مفتاح الصحيحين
المطبوع المشهور ، وهو خاص بأوائل أحاديث الصحيحين القولية والمسندة وبيان
مواضعها من المتن وشروح الحافظ العسقلاني والقسطلاني والعيني لصحيح
البخاري ( في طبعاتها الأولى ) وشرح النووي لصحيح مسلم المطبوع على هامش
شرح القسطلاني للبخاري .
ولو وجد بين يدي مثل هذا المفتاح لسائر كتب الحديث لوفر عليّ أكثر من
نصف عمري الذي أنفقته في المراجعة ؛ ولكنه لم يكن ليغنيني عن هذا الكتاب(1/325)
( مفتاح كنوز السنة ) فإن ذاك إنما يهديك إلى مواضع الأحاديث القولية التي تعرف
أوائلها ، وهذا يهديك إلى جميع السنن القولية والعملية وما في معناها كالشمائل
والتقريرات والمناقب والمغازي وغيرها ، فلو كان بيدي هو أو مثله من أول عهدي
بالاشتغال بكتب السنة لوفر عليّ ثلاثة أرباع عمري الذي صرفته فيها ؛ ولمكنني من
الاستجابة لمن اقترحوا عليّ أن أضع كتابًا جامعًا للمعتمد منها ، وكتابًا آخر للمُشْكِل
منها في نظر علوم هذا العصر وفلسفته ، والجواب المقنع عنه .
إن حاجتنا إلى هذا الكتاب وما في معناه في هذا العصر لا يدل على تقصير
علماء السنة السابقين ، أو تفريطهم في شيء من خدمتها ؛ فإنهم - أحسن الله إليهم
ونَضَّرَ وجوههم - قد قاموا بكل ما يجب ويندب ويستحب من رواية الحديث وحفظه
وتدوينه في المسانيد والجوامع والسنن الجامعة والخاصة بالعقائد والأحكام ، وإفراد
الصحاح منها وإتمامها بالمستخرجات والمستدركات عليها ، ووضعوا المعاجم
لمفرداتها ولأوائلها لتسهيل المراجعة ، دع ما سبقوا إليه جميع الأمم من وضع
التواريخ لرواتها ، ثم لغيرهم من العلماء ، ومن ترتيب بعضها على حروف المعجم
وبعضها على الطبقات ، ومن نصب ميزان الجرح والتعديل المستقيم لهم لتمحيص
المقبول والمردود من مروياتهم ، ومن وضع كتب الأطراف المبينة لروايات كل
صحابي في كل موضوع ، وترتيبها على الحروف ، وغير ذلك من الكماليات التي
لا محل لذكرها هنا ، فقد تركوا لنا ثروة واسعة في ضبط سنن نبينا صلى الله عليه
وسلم وهديه وشمائله وسيرته لم يوفق لمثلها ، ولا لما يقرب منها أحد من أتباع
الأنبياء والمرسلين ، ولا غيرهم من الحكماء والمشترعين ، يسرت لمن بعدهم سبيل
التفقه فيها والاستنباط منها في كل زمان بما يحتاج إليه أهله ، ويكون به المتأخر
مكملاً لما سبقه إليه من قبله ، ويكون الارتقاء في العلم متسلسلاً مطردًا ، سواء منه(1/326)
علم الدراية والرواية الذي جعلوه علمًا مستقلاًّ مدونًا وعلوم العقائد والفقه والأدب
والتصوف وغيرها .
كان أئمة الفقه في أمهات الأمصار قبل جمع الأحاديث والآثار في الأسفار
يأخذ كل منهم بما وصل إليه من علم الصحابة والتابعين بالسنة ومذاهبهم في العمل .
فاشتهر في الكوفة مذهب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأصحابه وقضايا علي
أمير المؤمنين كرم الله وجهه ، وشريح قاضي أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه
وفتاوى إبراهيم النخعي وأقرانه من التابعين ، فكانت عمدة أبي حنيفة في اجتهاده
بالتخريج عليها قلما كان يخالفها ، ولقلة المرفوع فيها كان يأخذ بالمرسل والمنقطع ،
وكثر في فروعه القياس والرأي وعرف به ، واشتهرت براعة صاحبه أبي يوسف
في القضاء لتولية هارون الرشيد إياه رياسته في مملكته ، ثم اشتغل صاحبه محمد
بن الحسن بالحديث ، وأخذ الموطأ عن الإمام مالك ودون الكتب التي هي عمدة
المذهب .
واشتهر في المدينة علم عمر وعثمان وابن عمر وعائشة وزبد بن ثابت وابن
عباس وأبي هريرة وغيرهم من فقهاء الصحابة رضي الله عنهم ، وأصحابهم من
كبار التابعين رواتهم وفقهائهم ، فكانت عمدة مالك بن أنس في اجتهاده ، وكان لثقته
بهؤلاء الأعلام يأخذ المراسيل عنهم ، وبعمل أهل المدينة بشرطه على كثرة المرفوع
عنده .
ثم ظهر محمد بن إدريس الشافعي وقد تأسس هذان المذهبان على ما أشرنا
إليه فرحل في طلب الحديث من مكة إلى المدينة ، وسمع الموطأ وغيره من مالك ،
ثم إلى بغداد فلقي محمد بن الحسن وناظره ونظر في كتب أبي حنيفة ومذهبه ،
ولقي أحمد بن حنبل وطبقته من المحدثين ، وألف هنالك كتبه التي تسمى بالمذهب
القديم ، ثم هاجر إلى مصر وسمع من رجالها وألف فيها مذهبه الجديد ، وكان أكبر
الفرق بينه وبين من قبله أن بنى مذهبه على الجمع بين روايات الأمصار المختلفة ،
ووضع أصول الفقه للجري عليها في الاستنباط ، وخالف أبا حنيفة وأصحابه ومالكًا(1/327)
في مسائل ، من أهمها : ما اشترطه في الاحتجاج بالمرسل والمنقطع ، وغير ذلك كما
بينه في كتاب الأم .
ووجه أحمد بن حنبل جل عنايته إلى الإحاطة بالروايات بقدر الاستطاعة ،
وبالجرح والتعديل للرجال فكان أعلمهم بها ، وأقلهم عناية بالفقه استغناءً بالحديث
والآثار ، ومسنده أصل الأصول لأكثر كتب السنة ، فهو أعظم المسانيد وأوسعها ،
ثم وضع تلاميذه وغيرهم كتب الصحاح والسنن وغيرها كما بيناه آنفًا .
وقد جرى على مذاهب هؤلاء الأربعة أكثر فقهاء أهل السنة في الشرق
والغرب ، وصارت كتب السنة المدونة وشروحها المصنفة مرجع علمائهم كلهم ،
فملؤوا بها طباق الأرض علمًا من كل ما يحتاج إليه البشر في دينهم ودنياهم .
فبتلك الكتب التي أتقن أفراد الأخصائيين لكل نوع منها في الرواية والدراية
صار طريق علوم السنة بأنواعها معبدًا ممهدًا ، وهذه العلوم تتسع دائرتها في كل
عصر بقدر ما يتجدد للبشر فيه من الأقضية والمصالح السياسية ، والحكمة العقلية
والأدبية ، والأصول التشريعية ، والنظريات العلمية التجريبية ، والمخترعات الفنية
والصناعية ، ومن فوق هذا كله إقامة الحجة على نبوة خاتم النبيين ، ودفع الشبهات
عما يرد عليها وعلى أحاديثه من إشكال علمي أو عقلي ؛ وإنما يكون ذلك بتمحيص
الروايات ونصب ميزان الترجيح بين المتعارض منها . والأجانب يعنون بنقد هذه
المتعارضات ما لا يعنون بتلك العلوم والحكم التي تعد من المعجزات ، لتفجر
ينابيعها من فيض نبي أمي نشأ بين الأميين ، وفي هذه الكتب ما لا يصح سنده وما
يُشْكِل متنه ، بمخالفة الظني للقطعي من نص أو حس ، وما فيه علل خفية كعنعنة
المدلسين في الصحاح ، ومخالفة الثقات في غيرها ، ولا بد للعالم المسلم من العلم
بذلك ، ولا يتيسر ذلك كله إلا بجمع ما تفرق في كتبها في كل موضوع .
بيد أن الحياة الدينية العلمية التي بعثت الأولين على تصنيف تلك الأسفار(1/328)
العظيمة ، قد عرض لها أمراض روحية وسياسية كثيرة ، انتهت بالمسلمين إلى
هجرها هجرًا غير جميل ، حتى صار أكثر علمائهم وخطبائهم وأدبائهم يجهلون علم
الحديث ، فلا يميزون بين ما صح منه وما لم يصح ، بل ينقلون المنكرات
والموضوعات منه ، ويحتجون بها حتى في أصول العقائد وأحكام العبادات والقضاء ؛
لأنهم على جهلهم لها ، وعدم تمييزهم بينها ، ينقلونها من كتب الأدب والتصوف
والمواعظ والتواريخ والقصص ، وكذا أكثر كتب التفسير والفقه فأمسينا في فقر
مدقع من سنة نبينا صلى الله عليه وسلم وأخباره ، وفي خزائن كتبنا من كنوزها
العظيمة ما لو استخرجناه وانتفعنا به لكنا أغنى الأغنياء ، ولملأنا الدنيا بما فيها من
العلم والحكمة بما من الله به على أهل عصرنا من نعمة المطابع ، وتعميم
المواصلات وسرعتها بين الأقطار الشواسع ، حتى صار جمع تلك الثروة الواسعة
من كتب الحديث وشروحها سهلاً على كل من يريده ، ولكن بعد أن قل من يريده
حتى إن من المقلدين الجامدين من لا يرى لهذه الكتب فائدة إلا التبرك بها ، والصلاة
على النبي صلى الله عليه وسلم عند ذكره وذكرها !
ولولا عناية إخواننا علماء الهند بعلوم الحديث في هذا العصر لقضي عليها
بالزوال من أمصار الشرق ، فقد ضعفت في مصر والشام والعراق والحجاز منذ
القرن العاشر للهجرة ، حتى بلغت منتهى الضعف في أوائل هذا القرن الرابع عشر
وإنني لما هاجرت إلى مصر سنة 1315 رأيت خطباء مساجدها الأزهر وغيره
يذكرون الأحاديث في خطبهم غير مخرجة ، ومنها الضعيف والمنكر والموضوع ،
ومثلهم في هذا الوعاظ والمدرسون ، ومصنفو الكتب ، فكنت أنكر ذلك عليهم كما
بدأت بإنكار مثله على أهل بلدي طرابلس قبلهم ، واخترت لأشهر خطبائهم من
الأحاديث الصحاح والحسان المعزوة إلى مُخَرِّجِيهَا ما ختم بها خطب ديوانه .
ولما أنشأت المنار في أواخر تلك السنة التزمت فيه تخريج ما أنقله فيه من(1/329)
الأحاديث ، فكان لذلك بعض التأثير في بعض طلاب العلم في الأزهر ، ثم في
مدرسة القضاء الشرعي ، وكان جل الذين اشتغلوا بالحديث منهم من إخواني
وأصدقائي ، فبإحيائي لهذه السنة بالقول والعمل ، وبالدعوة إلى السنة وهدي السلف ،
والنهي عن مستحدثات البدع ، وُصفت بمحيي السنة ، على ضعف حفظي للرواية ،
وقلة حظي من الدراية ، ولله الحمد على ما أعطى ، ومنه وله وحده الفضل والمنة .
بيد أن جمهور المشتغلين بعلوم الشرع لا يزالون معرضين عن علم الحديث
حتى إن مشيخة الأزهر على علو مكانتها ، قد أنشأت منذ أربع سنين مجلة دينية
علمية جعلتها لسان حالها ، فكان أول ما أنكرته عليها عدم عنايتها بالحديث الشريف ،
واقترحت عليها تخصيص بعض العلماء لتخريج كل حديث ينقل فيها وبيان
درجته ، ولكن لا يزال ينشر فيها ما لا يصح ولا يعزى إلى شيء من كتب السنة
المعتمدة ؛ لقلة اطلاع محرريها على هذه الكتب ، وصعوبة التمييز بين الصحيح
وغيره مما في غير الصحيحين ، وأصعب من ذلك عليهم المراجعة للعثور على
تخريج ما ينقلونه من الكتب المختلفة ، وقد صاروا هم وأمثالهم من الكتاب والمصنفين
الذين يكتبون في المسائل الإسلامية مضطرين إلى هذا التمييز والتخريج ، لكثرة
السؤال عنه ، والإنكار على من نقله وتركه غفلاً ، بكثرة إخواننا من أنصار السنة
ودعاتها والمهتدين بها ، وتأليفهم الجمعيات ونشرهم المصنفات لتعميمها ، واعتراض
الزراع والعمال منهم على العلماء الرسميين من غيرهم ، وظهور حجتهم عليهم ، ولا
سبيل إلى حفظ كرامتهم ومقامهم العلمي إلا بالاشتغال بعلم الحديث ، وهو يتوقف
على درس طويل وتعب كثير .
وأول ما يحتاجون إليه قبل درسه الفني العلمي سهولة المراجعة في كتبه
للوقوف على ما يُحتج به وما لا يُحتج به ، ويقرب شقته عليهم هذا الكتاب الذي
شعر بالحاجة إليه لنفسه ولأمثاله من شعوب الإفرنج عالم أوربي مستشرق هو(1/330)
الدكتور أ . ي فنسنك الهولندي ، والمسلمون أحوج إليه منهم ، ولا غرو فقد ورد في
الحديث ( الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها ) رواه الترمذي من
حديث أبي هريرة ، وقال : غريب . ورواه غيره بألفاظ أخرى بعضها موقوف على
علي وابن عمر رضي الله عنهما تكفي للاعتبار بها في موضوع الاستفادة في علم
مجمع على وجوبه ، وورد في حديث آخر مرفوع ( إن الله ليؤيد الإسلام برجال ما
هم من أهله ) رواه الطبراني من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله
عنهما ، ويؤيد ضعف سنده ما في معناه في الصحيحين بلفظ آخر ليس نصًّا فيه مثله ،
وحاصل ما تقدم أن الحاجة إلى مفتاح لكتب السنة الجامعة شديدة لكل من يريد
الدخول عليها من أبوابها
موضوع هذا الكتاب دلالة القارئ على ما أُودع في كتب الصحاح والسنن
والمسانيد والسير والطبقات والمغازي - المبينة في أوله - من الأحاديث والآثار
والمناقب بالصفة التي شرحها ، فهو لا يدلك على مواضع الأحاديث التي تحفظها أو
تحفظ أوائلها في تلك الكتب كمفتاح أحاديث الصحيحين ؛ وإنما يدلك على ما ورد
فيها من كل موضوع بمراجعة أخص كلمة به تدل على أصل الموضوع ، ثم ما
يليها من فروعه ، فهو ككتاب ( فتح الرحمن لطالب آيات القرآن ) فإذا لم تجد
مطلوبك عند الكلمة التي راجعتها ؛ فإنك تجده عند كلمة أخرى في معناها ، فمؤلفه
قد أحصى ما وصل إليه علمه ، ووضع ألفاظها بقدر ما بلغه فهمه ? لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ
نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا ? ( الطلاق : 7 ) .
وإنني كنت أعجبت بالكتاب منذ اطلعت عليه ، واستأذنت مؤلفه بنقله إلى
اللغة العربية ، فأذن لي ، وانتدب لهذا العمل الجليل أحد إخواننا من عشاق العلم
الذين يكثرون الاختلاف إلى دار المنار ، والبحث في مسائل التفسير والآثار ،
ويقتنون نفائس الأسفار ، الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي أدام الله توفيقه ، ومهد له في(1/331)
كل علم نافع وعمل صالح طريقه ، وكنا اتفقنا على التعاون على تصحيحه وتنقيحه ،
فعاقني عن القيام بسهمي منه ما لم يعقه عن سرعة القيام بسهمه ، وانفرد بهذا
الفضل واستقل به ، وجاهد في هذه السبيل - وهي سبيل الله - جهادًا محمودًا تلافى
به بعض تقصير المؤلف ، فصحح ما فطن له في الأصل من خطأ بمراجعة تلك
الكتب كلها في مظانها ، بعد وضع الأرقام لما بين يديه من نسخها ، وإبقاء المتكرر
من المتون في مواضعها ، وتكثير العناوين للحديث الواحد منها ، حتى صارت هذه
الترجمة العربية أنفع من أصلها الإنكليزي في الدلالة على تلك المتون في كتبها ،
فجزاه لله على حسن عمله وإخلاص نيته ، ووفق الأمة للشكر له بالانتفاع بأثره ،
فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من لم يشكر الناس لم يشكر الله ) رواه
أحمد والترمذي والضياء في المختارة من حديث أبي سعيد الخدري بسند صحيح ،
ولا ننسى أن نشكر لمؤلف الأصل عمله وجهاده ، فهو صاحب الفضل الأول في هذا
الأثر الحميد ? وَاللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ? ( الأحزاب : 4 )
وكتبه محمد رشيد رضا
منشئ المنار بمصر
________________________
(( مجلة المنار ـ المجلد [ 34 ] الجزء [ 4 ] صـ 290 ربيع الآخر 1353 ـ أغسطس 1934 ))
التعريف بكتاب مسائل الإمام أحمد
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم لك الحمد والشكر ، ثم لمحمد رسولك خاتم النبيين الذي بلغنا عنك ،
فَصَلّ اللهم عليه وعلى آله وصحابته المبلغين عنه ما آتيته من كتابك وحكمتك ،
وعلى أتباعهم الحافظين عنهم ما بَلَّغُوا من بيانه وسننه ، وجميع الناشرين للعلم
والعاملين به ، وسلم تسليمًا .
أما بعد ، فهذه أثارة من علم حافظ الملة ، وإمام الأئمة ، أبي عبد الله أحمد بن
محمد بن حنبل ، كانت من مخبآت الخزائن ، فاستخرجها منها بعض الأعوان على
الخير ؛ لنشرها على الأمة بنعمة الطبع .(1/332)
كان أكبر هَمِّ الإمام أحمد - رحمه الله تعالى - وجل عنايته مصروفًا إلى
رواية الحديث ونقد رجاله تلقينًا وتصنيفًا ، وإلى حفظ السنة النبوية المتبعة المأثورة
بالعلم والعمل ، على الهدي الذي كان عليه الصحابة والتابعون وصلحاء السلف ،
وما كان يريد أن يكون ذا مذهب في الفقه يُدَّون ويُتَّبع رأيه فيه ؛ لأنه ما كان يبيح
لأحد أن يقلده ولا أن يقلد غيره في فهمه ورأيه ؛ وإنما كان يدعو الناس إلى الاتباع ،
وينهاهم عن الابتداع ، حتى إنه كان يتحامى القياس ويرغب عنه ، وقد روي عنه
أنه قال : سألت الشافعي عن هذا القياس فقال : هو كلحم الميتة يباح للضرورة - أو
قال كلمة بمعنى يباح والشك من الكاتب - ولذلك كتب الحديث والآثار والسنة وصفة
الصلاة والرد على المبتدعة ، ولم يصنف شيئًا في الفقه ، ومن ثم قال الإمام أبو
جعفر محمد بن جرير الطبري في كتاب الأحكام أنه لم يذكر فيه خلاف الإمام أحمد ؛
لأنه كان محدثًا لا فقيهًا .
والحق أن الإمام أحمد كان محدثًا فقيهًا يرجع إليه العلماء فيما يشكل عليهم من
مسائل الفقه ، كما يرجعون إليه فيما يشكل عليهم من روايات الأحاديث ورواتها ،
ليعلموا ما يصلح وما لا يصلح للعمل به منها ، وكان يجيب السائلين ؛ ولكنه ما كان
يحب أن يُنقل عنه ولا عن غيره شيء في الفقه إلا الحديث والسنن ، وتفنيد
المحدثات والبدع .
قال صاحبه أبو الحسن أحمد بن الحسن الترمذي - وهو من شيوخ البخاري
- عنه ، أي : عن أحمد : سألت أبا عبد الله فقلت له : أكتب كتب الشافعي ؟ فقال :
ما أقل ما يحتاج صاحب الحديث إليه . وقال صاحبه عبد الملك بن عبد الحميد
الميموني الرقي أبو الحسن : سألت أبا عبد الله عن مسائل فكتبتها فقال : إيش تكتب
يا أبا الحسن ؟ فلولا الحياء منك ما تركتك تكتبها ، وإنه عليَّ لشديد ، والحديث أحب
إليَّ منها . قلت : إنما تطيب نفسي في الحمل عنك ، إنك تعلم أنه منذ مضى رسول(1/333)
الله صلى الله عليه وسلم قد لزم أصحابه قوم ، ثم لم يزل يكون للرجل أصحاب
يلزمون ويكتبون . قال : من كتب ؟ قلت : قال أبو هريرة : وكان عبد الله بن
عمرو يكتب ولم أكتب فحفظ وضيعت . فقال لي : فهذا الحديث ؟ فقلت له : فما
المسائل إلا حديث ، ومن الحديث تشتق . قال لي : أعلم أن الحديث نفسه لم يكتبه
القوم . قال : لا . لمن يكتبون ؟ قال : لا إنما كانوا يحفظون ويكتبون السنن إلا الواحد
بعد الواحد الشيء اليسير منه ، فأما هذه المسائل تدون وتكتب في الدفاتر فلست
أعرف فيها شيئًا ، وإنما هو رأي لعله قد يدعه غدًا ينتقل عنه إلى غيره . ثم قال لي :
انظر إلى سفيان ومالك حين أخرجا ووضعا الكتب والمسائل كم فيها من الخطأ ؟
وإنما هو رأي يرى اليوم شيئًا وينتقل عنه ، والرأي قد يخطئ . فإذا صار إلى هذا
الموضع دار هذا الكلام بيني وبينه غير مرة . اهـ .
أقول : ذكر هذا عنه القاضي أبو الحسن محمد بن القاضي أبي يعلى الكبير في
مختصر ( طبقات الحنابلة ) وقال قبله في ترجمة الميموني هذا : وعنده عن أبي
عبد الله مسائل في ستة عشر جزءًا ، وجزأين كبيرين بخط جليل مائة ورقة - إن
شاء الله تعالى - أو نحو ذلك ، لم يسمعه منه أحد غيري فيما علمت من مسائل لم
يشركه فيها أحد ، كبار جياد ، تجوز الحد في عظمها وقدرها وجلالتها . اهـ .
بحروفه ص 156 من الطبقات .
وهكذا كان يسأل الإمام أصحابه وغيرهم عما يعرض لهم من المسائل ؛ لأن
إمامة العلم ورياسته قد انتهت إليه في بغداد عاصمة الخلافة وكعبة العلم ، فأما أهل
الرواية كالميموني فكانوا يروون عنه هذه المسائل ، ومنهم صاحبه أبو داود في
المسائل المجموعة في هذا الكتاب ، وأما سائر الناس فكانوا يعملون بما يقوله ويفتي
به ، وإفتاء العامي فيما يعرض له واجب على أولي العلم ؛ ولكن أحمد كان ينهى أن
يتخذ فهمه دينًا يقلد فيه ، وكذا سائر الأئمة كما صرح به الإمام المزني عن الشافعي(1/334)
في أول مختصره ، وأنه كتبه لأجل النظر فيه ، أي مساعدة على فتح باب الفهم ،
وأن الشافعي نهى عن تقليده فيه ؛ وإنما يعمل الناظر في العلم بما يقوم الدليل عنده
على صحته ، وقد بكى مالك في مرض موته ؛ إذ بلغه أن الناس يعملون بقوله لذاته ،
مع أنه قد يرجع هو عنه .
ولما دَوَّن أتباعه الفقه على مذهبه جمعوا ما وصل إليهم من المسائل المجموعة ،
والروايات المتفرقة ، ووضعوها في أبوابها ، ومن أجل هذا تجد الروايات
والأقوال عنه كثيرة مختلفة ، وقد وضعوا للاختلاف فيها وترجيح بعضها على
بعض قواعد ، ولو كان هو المدون للفقه لما احتاجوا إلى ذلك ؛ لأنه كان يكون عند
الكتابة يدون ما يرى أنه الحكم ، أو يذكر في المسألة وجهين على الأكثر ، ووضعوا
اصطلاحًا لألفاظه المختلفة في التعبير عما يراه ، وعما لا يراه في المسألة كقوله :
لا ينبغي ، لا يعجبني ، لا يصلح ، أستقبحه ، هو قبيح ، أكرهه ، لا أحبه ، هذا أقبح
أو أشد . وفي مقابله : أحب كذا ، يعجبني ، هو أعجب إلي ، هذا حسن أو أحسن ،
وقد بين هذا وذاك العلامة ابن مفلح في فاتحة كتابه ( الفروع ) وإنما كان يقول هذا
حتى لا يكون جازمًا بأنه هو حكم الله تعالى ، وما كان يخطر ببال أحدهم أن الناس
سيتركون ما صح في السنة والحديث تقديمًا لأقوالهم عليها ، هذا ما كانوا يخافون
من كتابة الفقه ، وليس فيما عداه إلا النفع للأمة والإعانة على العلم ، وفتح أبواب
الفهم ، فجزاهم الله خير الجزاء .
لا أعلم أن شيئًا من المسائل التي نقلها عن الإمام راوٍ واحد رويت عمن سأله
عنها ، ودونت في زمن راويها إلا هذه المسائل التي رواها عنه أشهر أصحابه أبو
داود سليمان بن الأشعث السجستاني صاحب السنن المشهورة ، فإن النسخة
المحفوظة في المكتبة الظاهرية بدمشق قد سمعت وكتبت في سنة 266 للهجرة ،
وكانت وفاته سنة 275 فهي قد كتبت في عصره ، ومن العجب أن علماء المذهب(1/335)
لم يعتنوا بها بعد ذلك بما ينبغي لمثلها من الرواية والشرح حتى إن صاحب مختصر
الطبقات لم يذكرها في ترجمته ، ولم نجد لها ذكرًا في كتاب ( كشف الظنون ) ولا
في فهرس المكتبة المصرية الكبرى ، وإن ما فيها من الفقه لهو من أصح ما يعزى
إلى أحمد أو أصحه ؛ لأنه كتب بلفظه في عصره ، ولا يستغنى عنه بغيره .
لهذا نعد من حسنات هذا العصر ، عصر تجديد العلم ونشر كتب السلف
بالطبع أن وفق الله تعالى الشيخ إبراهيم بن حمد الصنيع السلفي النجدي أحد كرام
تجار جدة لطبع هذا الكتاب بعد العثور على نسخة المدينة المنورة واستنساخها ، وأن
أشار عليه بعض أهل المعرفة والرأي أن يكلف الأستاذ الأمين المدقق عالم الشام
الشيخ محمد بهجة البيطار معارضتها على نسخة المكتبة الظاهرية وتصحيحها
بالمقابلة عليها ، وقد تبرع الأستاذ بهذا العمل الشاق وجرى فيه على الطريق الوعر
بأن أحصى كل ما رأى من الاختلاف بين النسختين ، وأثبت في حواشي النسخة
المدنية التي جُعِلَت هي الأصل للطبع ما يخالفها في النسخة الظاهرية من تحريف
وتصحيف وزيادة ونقصان وهو كثير جدًّا ، وترى بيان هذا بقلمه في آخر الكتاب .
وكان من سوء الحظ أن نسخة المدينة كثيرة الغلط حتى إن منه ما هو تحريف
أو تصحيف ظاهر لا يحتمل الصواب ، وأن النسخة الظاهرية تخالفها في أكثره إلى
الصحيح كما صرحت به في بعض تعليقاتي عليه ، ومثل هذا الاختلاف لا يصح أن
يُجْعَل اختلاف رواية ولا اختلاف فهم ، وقد كتب الأستاذ رأيه في بعض الخطأ
اللفظي والمعنوي في الكتاب ، ومنه اختلاف قولي الإمام في المسألة الواحدة ،
ونصح لمريد طبع الكتاب أن يطبعه في مطبعة دار المنار بمصر ، وأن تكلفني ما لا
يكلَّف مثله صاحب مطبعة من النظر في المشكلات المعنوية والمسائل الخفية ،
وضبط الروايات وأسماء الرجال المشتبهة والتي لا تعرف لما وقع فيها من التحريف ،
وكتب في ذلك جدولاً فيه عشرات من هذه المسائل ، وقد أرسل إليّ هذا الجدول(1/336)
بعد الاتفاق مع مدير المطبعة على شروط الطبع ، ومنها أن يكون تصحيح المطبعة
على الأصل المرسل تحت إشرافي ومراجعتي .
وقد قمت ولله الحمد بأكثر مما كلفته من تصحيح المسائل المشكلة والخفية
وأسماء الرجال التي أحصاها الأستاذ ابن البيطار ، ومنها ما كتبت له حواشي
وضعت اسمي في آخرها أو أولها ، وربما تُرك ذكر الاسم أو سقط من بعضها ،
ومنها ما لم أضع له حاشية لئلا تكثر الحواشي بغير فائدة ، ولم يكن من الممكن بيان
جميع المسائل الخفية في الأصل وهي صحيحة مع كثرتها إلا بشرح مطول لها
يكون أضعاف الأصل في حجمه ؛ فإن هذه المسائل لم يُقْصَد بشيء منها أن تكون
بيانًا تامًّا لمسألة فقهية أو اعتقادية أو حديث أو تاريخ راوٍ لأجل تلقينها لطلاب العلم
أو المستفتين ؛ وإنما هي إشارات وجيزة من حافظ عليم إلى مشكلات عنده لإمام
أعلم منه ، فيكفيه أن يشير إليها بلفظ مفرد أو جملة وجيزة تامة أو غير تامة ،
ويقنعه من الجواب عليها مثل ذلك ، فمن لم يكن على علم بموضوع المسألة من هذا
النوع فلعله لا يفهم السؤال والجواب ، وناهيك بالسؤال عن حديث بذكر كلمة منه
ولو في بعض رواياته ، أو بذكر أحد رواته باسمه أو لقبه أو كنيته ، على ما في
هذه الأعلام من الاشتراك والاشتباه ، ثم ناهيك بالجواب عنه بكلمة مبهمة أو باسم
آخر ، وغير ذلك مما كان معروفًا عند السائل والمسؤول ، وأشباه هذا مما تكرر في
هذه المسائل ، ولو ضربت له الأمثال هنا لأطلت في غير طائل .
عرفت كثيرًا من التحريف والتصحيف لأسماء رجال الحديث في إحدى
النسختين أو كلتيهما بشهرتهم ، وكثرة مرور أسمائهم على ضعف حفظي وذكري
للأعلام كالأرقام ، وشككت في بعضها فراجعت عما أحاله عليَّ الأستاذ ابن البيطار
من المشكوك فيه فصححته ، بل قمت بأكثر مما عُهِدَ إلي من التصحيح بقدر الإمكان ،
كما قام هو بأكثرها مما عُهِدَ إليه أيضًا ، فنسأل الله أن يثيبنا على هذه الخدمة .(1/337)
ولو نقلت نسخة المكتبة الظاهرية بالتصوير الشمسي ، أو كتبت عنها نسخة
وصححت عليها ، وكلفنا الطبع عنها مع معارضتها على النسخة المدنية لَمَا تعبنا
عُشْر هذا التعب في تصحيحها ، ولما زادت حواشيها على عُشْر هذه الحواشي ،
ولجاء المطبوع أصح وأظهر في القراءة وأقرب إلى الفهم ، لعدم الحاجة إلى
الحواشي عند القراءة إلا قليلاً ، ومن ذا الذي كان يعلم هذا الفرق كله بين النسختين ؛
فيخبر مريد طبع الكتاب به ، ويقترح عليه العمل به .
أما أنا فلم أقرأ شيئًا من النسخة المخطوطة التي أرسلت إلى مطبعة المنار ؛
لأنني لم أكلف قراءة الأصل ، ولم أشعر بالحاجة إليه بعد العلم بتصحيح الثقة الأمين
الأستاذ الشيخ محمد بهجة البيطار له بالصفة التي يعرفها القراء مما وصفه لهم ؛
وإنما كنت أنظر فيما جمع منه في المطبعة للإشراف على تصحيح مصححها ،
وللنظر فيما عهده إلي من ( مشكلاتها الفقهية والحديثية وأسماء الرواة ) ولم أفطن
لفضل النسخة الظاهرية على المدنية إلا بعد طبع كراسات منه ، وأظن أن ما وقع
لي من هذا مثل الذي وقع للأستاذ ابن البيطار في معارضة النسختين ، وما كان له
ولا لي أن نتصرف في الأصل المدني فنصحح ما نظن ولا ما نجزم بأنه خطأ فيه ،
لاحتمال خطأ الظن في الأول ، ولعدم ثقة جميع القراء بصحة ما تجزم به إلا أن
نبين الأصل المصحح ، والدليل على أن ما جزمنا به هو الصواب ، وهذا لا يكون
إلا بالتوسع في هذه الحواشي ، وجعلها سفرًا كبيرًا ، وهو ما لم نكلفه ، على ما
يقتضيه من التعب الكثير والزمن الطويل ، وأنا أقر بأنني لست أهلاً للاضطلاع به
في أقل من سنة كاملة أخصه بها .
بيد أني أقول : إن مما قمنا به من خدمة هذا الكتاب هو الممكن الذي أطقناه ،
وهو قد أظهر لمحبي العلم والمشتغلين بفقه الإمام أحمد ، وبعلوم الحديث نسخة منه
جامعة لكل ما في النسختين المخطوطتين اللتين لم يوجد منه غيرهما ، مع زيادات(1/338)
من البيان والتصحيح لا يُسْتَغْنَى عنهما ، فإذا قدره علماء الحنابلة وعلماء الحديث
قدره ، وأحبوا إكمال فائدته بما ينتفع به جميع القارئين له ، فلينتدب بعضهم إلى
شرحه ، وإن شرح القسم الخاص بالحديث ورجاله ليسير على المشتغلين به من
إخواننا علماء الهند ، وأما القسم الفقهي فلا يستطيعه إلا فقيه حنبلي ضليع وما
أعرف أحدًا جامعًا بين الأمرين ، فإن وجد فهو قليل لا كثير .
ويتوقف الفهم التام لهذا الكتاب في جميع مسائله على معرفة اللغة العرفية
لعلماء بغداد في عصر الإمام أحمد ( رحمه الله تعالى ) فقد كتبت بلغة النطق ، لا
بلغة التصنيف والفرق بينهما قليل ؛ فمنه عدم التزام حركات الإعراب ، ومنه
استعمال مفردات غير عربية الأصل وهي قليلة جدًّا ، وقد نبه الأستاذ ابن البيطار
لبعضها في حواشيه وزدت عليه في ذلك ، وأرجعت بعضها إلى أصل عربي
كالوقوف على المنصوب بالسكون على لغة ربيعة ، ثم رأيت هذا يكثر في أثناء
الكلام بدون وقف ، ولا ترى مثل هذا في مصنفات الإمام أحمد التي كتبها - كيف
وقد شهد له الإمام الشافعي ( رحمهما الله تعالى ) بإمامة اللغة كإمامة الدين ، وناهيك
بشهادة الشافعي .
قال الربيع بن سليمان : قال الشافعي رضي الله عنه : أحمد إمام في ثماني
خصال : إمام في الحديث ، إمام في الفقه ، إمام في اللغة ، إمام في القرآن ، إمام في
الفقر ، إمام في الزهد ، إمام في الورع ، إمام في السنة . اهـ . من طبقات الحنابلة .
وجملة القول أن هذا الكتاب قد جَمَعَ من فقه الإمام أحمد ، وعلمه بالحديث
ورجاله ما يعد من بقايا المآثر ، وأعلاق الذخائر التي تركها الأوائل للأواخر ، فنسأل
الله تعالى أن ينفع بها ، ويحسن جزاء من رواها ، ومن نسخها ، ومن صححها ، ومن
طبعها ، إنه لا يضيع أجر من أحسن عملاً ، آمين .
وكتبه محمد رشيد رضا
منشئ المنار
________________________(1/339)
(( مجلة المنار ـ المجلد [ 34 ] الجزء [ 4 ] صـ 298 ربيع الآخر 1353 ـ أغسطس 1934 ))
من صاحب الإمضاء في بيروت
( س14 - 21 ) من صاحب الإمضاء في بيروت
( بسم الله الرحمن الرحيم )
حضرة صاحب الفضل والفضيلة سيدنا ومولانا العالم العلامة الكبير السيد
محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار الغراء حفظه الله تعالى وأدامه ، آمين .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ( وبعد ) فإني أرفع إلى فضيلتكم الأسئلة
الآتية راجيًا التكرم بالإجابة عليها على صفحات مجلة المنار الغراء ليكون النفع بها
عامًّا ولكم الشكر :
( 1 ) هل المطالبون بإنكار المنكر هم العلماء فقط دون غيرهم ، أم جميع
الناس ؟
( 2 ) ما تعريف الكفر والإلحاد ، وما حكمهما في الشرع الشريف ؟
( 3 ) هل يجوز ترجمة القرآن الكريم نفسه والأحاديث النبوية نفسها إلى
اللغات الأجنبية كالإفرنسية والإنكليزية واللاتينية والتركية أو غيرها أم لا ؟
( 4 ) هل يجوز كتابة القرآن الكريم على قواعد الإملاء الحديث أم لا ؟
( 5 ) ما قولكم فيمن يقول : لا أعتقد ولا أعمل إلا بالقرآن الكريم فقط ، ولا
أعتقد ولا أعمل بالأحاديث النبوية ولو كانت صحيحة معتمدة أو غيرها ، فهل هذا
يعد مسلمًا مؤمنًا أم لا ؟
( 6 ) ما قولكم فيمن يعتقد ويقول : إن القرآن الكريم هو كلام النبي صلى
الله عليه وسلم ، وليس من كلام الله تعالى فهل هذا يعد مسلمًا ومؤمنًا أم لا ؟
( 7 ) هل صح ما يقول بعضهم : إنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم
إلا اثنا عشر أو أربعة عشر حديثًا فقط أم لا ؟
( 8 ) هل جميع أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم مروية عنه باللفظ
والمعنى تمامًا أم بالمعنى فقط ؟
( 9 ) هل هذان الحديثان الآتيان صحيحان معتمدان غير منسوخين يجوز
اعتقادهما والعمل بهما أم لا ؟ وما معناهما ؟ وهما ( من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ
مقعده من النار ) ، ( لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ) ، وفي رواية أخرى ( لا(1/340)
طاعة في معصية الله إنما الطاعة في المعروف ) تفضلوا بالجواب ، ولكم الأجر
والثواب .
السائل : عبد الحفيظ إبراهيم اللادقي ، بيروت
( أجوبة المنار )
( 14 ) المُطَالَب بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الأمور العارضة المعينة من فروض
الكفاية ، وقد يتعين وينحصر في فرد إن لم يوجد غيره حيث يجب ويشترط فيه
العلم بما يأمر به أو ينهى عنه ، بل كل عمل شرعي يشترط فيه العلم به لا العلم
بجملة علوم اللغة والشرع التي يعطى متعلمها شهادة رسمية بأنه عالم ، فالفرائض
العينية والمعاصي القطعية المعلومة من الدين بالضرورة من شأنها أن يعرفها كل
مسلم ، وهي أهم ما يجب الأمر بالمفروض منه كأركان الإسلام الخمسة والنهي عن
المنكر منه كالزنا والسُّكر والسرقة والخيانة والكذب والنميمة ، وأما المسائل غير
المعلومة للعوام والخواص من المسلمين ؛ فإنما يُطَالِب بها العالم بحكمها ، وإذا قام
بها جمهور العوام والخواص من المسلمين ، كان ذلك أعظم مؤدب لتاركي الفرائض
ومرتكبي المعاصي ، وقد بيَّنا في تفسير قوله تعالى : ? وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى
الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ ? ( آل عمران : 104 ) أن في
جملة قوله تعالى : ? وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ ? ( آل عمران : 104 ) وجهين ( أحدهما )
أنه يجب أن تتألف منكم جماعة تتعاون على القيام بهذه الواجبات ، وهذه الجماعة
يجب عليها أن تدرس ما يتوقف عليه الأمر والنهي بجميع فروعه ( وثانيهما ) أن
معناها ولتكونوا أمة تدعو إلى الخير ... إلخ وكل من الوجهين صحيح ، والثاني
عام للأفراد كل أحد فيما يعرفه ويقدر عليه ( ويراجع التفصيل في الجزء الرابع ،
من تفسير المنار ) .
( 15 ) تعريف الكفر والإلحاد
الظاهر أن مراد السائل بالكفر والإلحاد ما يقابل الإيمان والإسلام ، وإلا فإنهما(1/341)
قد يطلقان على بعض ما لا يُخْرِج صاحبه من الملة ، فالمعنى العام الجامع لكل ما
ينافي ملة الإسلام هو تكذيب رسالة محمد صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس ، أو
تكذيب شيء مما علم المكذب أنه جاء من أمر الدين ، وهو قسمان : الأول المجمع
عليه المعلوم من الدين بالضرورة ككون القرآن كلام الله تعالى ، وتوحيد الله وتنزيهه
عن النقص والولد والشريك في تدبير الكون أو العبادة كالدعاء والذبح والنذر له ...
إلخ ، وكون محمد رسول الله وخاتم النبيين ، وما أشرنا إليه في جواب السؤال
السابق من الفرائض والمحرمات القطعية ، فهذا لا يعذر أحد بجهله إلا من كان
حديث العهد بالإسلام لم يمض عليه زمن كافٍ لتعلم هذه الضروريات منه ، ومن
كان في حكمه كرجل أسلم في مكان أو بلد ليس فيه من المسلمين من يعلمه ذلك كله
وطال عليه الزمن وهو لا يعلم أن عليه واجبات أخرى ولا أنه يجب عليه الهجرة
مثلاً .
والقسم الثاني ما كان غير مجمع عليه ، أو مجمعًا عليه غير معلوم من الدين
بالضرورة كبعض محرمات النكاح وأحكام المواريث مثلاً مما لا يعرفه إلا العلماء
فهذا يعذر من جهله ، فإن علم شيئًا منه أنه من دين الله قطعًا صار حكمه حكم القسم
الأول بالنسبة إليه .
وحكم الكافر بهذا المعنى الذي فصلناه أنه لا يعامل معاملة المسلمين فيما هو
خاص بهم ، وهو قسمان :
( 1 ) كافر أصلي من كتابي ووثني ، وكل منهما إما ذمي وإما معاهد وإما
حربي ولكل منهما أحكام .
( 2 ) كافر مرتد وله أحكام أشد إذا استتيب ولم يتب ، منها أن امرأته إذا
كان متزوجًا تَبِين منه ويحرم عليها أن تعامله معاملة الأزواج بمجرد ارتداده بأن
تفارقه وتخرج من داره ، ومنها أنه لا يرث المسلمين ولا يرثونه ، ومنها أنه إذا
مات أو قُتِل لا يُغَسَّل ولا يُصَلَّى عليه ولا يُدْفَن في مقابر المسلمين ، وقد حدثت
في العام الماضي ثورة إسلامية في القطر التونسي لمنع المتجنسين بالجنسية(1/342)
الفرنسية من دفن موتاهم بين المسلمين في مقابرهم ؛ لأنهم مرتدون عن الإسلام
بما تقتضيه الجنسية الفرنسية من التزاوج والتوارث بأحكام القانون الفرنسي المخالف
لنصوص القرآن والسنة مما هو مجمع عليه معلوم من الدين بالضرورة ، فأرادت
الحكومة الفرنسية الحامية إجبار المسلمين على دفنهم في مقابرهم ، وظاهرها بعض
المنافقين على هذا فخاب سعيها ، وعجزت قوتها عن ذلك ، وانتهى الأمر بإنشاء
مقبرة خاصة بهؤلاء المرتدين المصرين على كفرهم ، بل لم ينته من كل وجه ،
ففرنسة تريد إكراه المسلمين على مرادها ، وقد حدث في هذا الشهر ثورة في تونس
من عاقبيل إرهاق فرنسة لزعماء المسلمين وخواصهم .
( 16 ) ترجمة القرآن والأحاديث النبوية باللغات الأجنبية :
قد كتبت في الجزء التاسع من تفسير المنار ( ص 331 - 363 ) بحثًا
طويلاً في استحالة ترجمة القرآن ترجمة صحيحه تؤدي معانيه أداءً تامًّا كما تفهم من
لغته العربية وعقائده الإسلامية ، وفي تحريم ترجمته ترجمة تعطي حكم الأصل
العربي المنزل من وجوب اعتقاد أنه كلام الله تعالى ، وأنه يُتَعَبَّد بتلاوته في الصلاة
وغيرها كما فعلت الحكومة التركية الكمالية ، وقد طبعنا هذا البحث في رسالة
مستقلة ، ثم كتبنا مقالاً آخر في الرد على من زعم جواز ذلك من المتهوكين انتصارًا
للحكومة التركية .
وأما ترجمة القرآن ترجمة معنوية تفسيرية على غير الصفة المذكورة آنفًا فله
من المجوزات ما قد يصل إلى حكم الوجوب الكفائي ، وأظهرها تصحيح الترجمات
الكثيرة له في اللغات المشهورة المُحَرِّفَة لمعانيه ، المشوهة لمحاسنه ، التي جُعِلَتْ
وسائل للطعن عليه وبغيه عوجًا ، وهو الدين القويم والصراط المستقيم ، ومن هذه
الترجمات ما تعمد فاعلوها بعض هذا التحريف والتشويه ، ومنها ما وقع بجهلهم
وعجزهم ، وقد بينت في مقدمة كتاب الوحي المحمدي أن أشهر مترجميه من
الفرنسيس والإنكليز المعاصرين اعترفوا بأنه معجز ببلاغته ، وأن إعجازه يدخل(1/343)
فيه استحالة ترجمته كأصله .
وأما الأحاديث فلا أعلم أن أحدًا قال بتحريم ترجمتها ، وجميع مسلمي الأعاجم
يترجمونها .
( 17 ) كتابة القرآن بالرسم العرفي :
المعروف المشهور أن علماء الملة متفقون على وجوب كتابة المصاحف
بالرسم الذي كتبها به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأجمعوا عليها ، وقد مست
الضرورة لطبع مصحف مفسر بالرسم العرفي ليقرأه الجماهير قراءة صحيحة غير
محرفة ويفهموه ؛ إذ عُلِمَ بالتجربة أن أكثر الناس يخطئوا في القراءة في هذه
المصاحف إلا من تلقاها من القراء وقليل ما هم ، وسئلنا عن ذلك فأجبنا عنه بما
رأيتموه في الجزء الثاني من منار هذه السنة من الجواز وتعليله .
( 18 ) حكم من يقول : إنه لا يعتقد ولا يعمل إلا بالقرآن دون الأحاديث :
إن الإيمان بالقرآن ، والعمل بما أمر الله تعالى وما نهى عنه فيه يستلزم
الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم الذي جاء به من عنده تعالى ، ووجوب طاعته
بمثل قوله تعالى : ? وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ? ( النساء : 59 ) وهذا الأمر
مكرر في عدة سور وفي معناه آيات أخرى كقوله تعالى : ? مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ
أَطَاعَ اللَّهَ ? ( النساء : 80 ) ومن المعلوم بنصوص القرآن ، وبإجماع الأمة أن
الرسول صلى الله عليه وسلم هو المبين لكلام الله والمنفذ له كما قال تعالى :
? وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ? ( النحل : 44 ) .
فمن يقول : إنه لا يعتقد أن سنة النبي صلى الله عليه وسلم التي بين بها القرآن
وبلغ بها الدين واجبة الاتباع ، وإنه يستحل معصيته صلى الله عليه وسلم فيما صح
عنه أنه أمر به أو نهى عنه من أمور الدين ، وإن أجمع المسلمون على تلقيه عنه
بالتواتر كعدد ركعات الصلوات وركوعها وسجودها ، وغير ذلك مما أشرنا إليه آنفًا
في الفتوى ( 15 ) وإنما يعتقد ويعمل بما يدله عليه ظاهر القرآن فقط - من قال هذا(1/344)
لا يُعتد بإيمانه ولا بإسلامه ؛ فإنه مشاق للرسول غير متبع لسبيل المؤمنين ، بل
متناقض يريد بهذا القول جحود الإسلام وتركه من أساسه ، فالله تعالى يقول :
? وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا
تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً ? ( النساء : 115 ) .
ولكن إن أراد أنه غير مكلف أن يعرف هذه الأحاديث المدونة ويعمل بها كلها ،
أو بما صححه المحدثون منها ؛ فإن قوله حينئذ يكون موهمًا لا نصًّا في استباحة
عصيان الرسول فيما علم أنه جاء به من أمر الدين ، فلا يحكم عليه بالكفر
والخروج من الملة حتى يبحث معه في مراده من كلامه ؛ فإن أئمة المسلمين لم يقل
أحد منهم بوجوب العلم بما في كتاب من كتب الحديث ، وكان موطأ الإمام مالك
رحمه الله تعالى أولها تدوينًا واستأذنه الخليفة العباسي في نشره في الأمة وأمر
الناس بالعمل به ، فلم يأذن له كما بيَّنا ذلك مرارًا .
وجملة القول أن المعتمد في التكفير القطعي ما أجملناه في الفتوى ( 15 )
ومما لا شك فيه أن من يعتقد أنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من دين
الله واستحل من هذا عصيانه فيه بدون تأويل يكون كافرًا .
( 19 ) حكم من يعتقد أن القرآن الكريم كلام النبي صلى الله عليه وسلم لا
كلام الله :
من يعتقد هذا يكون كافرًا بإجماع المسلمين ؛ لأنه مكذب لله تعالى ولرسوله
صلى الله عليه وسلم ولما هو معلوم من دين الإسلام بالضرورة والإجماع ، ولا فرق
بين من يطلق القول بهذا ، ومن يزعم أن معاني القرآن وحي من الله أنزلت على قلب
النبي صلى الله عليه وسلم ، وأما عبارته وألفاظه فهي من النبي صلى الله عليه
وسلم ، فقد أجمع المسلمون على أن القرآن أُنْزِل عليه صلى الله عليه وسلم بهذا
النص العربي المكتوب في المصاحف كما قال تعالى : ? وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ العَالَمِينَ *(1/345)
نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ ?
(الشعراء : 192-195 ) فإن قوله تعالى : ? بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ ? ( الشعراء :
195 ) متعلق بقوله ( نزل ) لا المنذرين ؛ فإن المنذرين هم الرسل السابقون ، ولم
يكن إنذار كل منهم بلسان عربي مبين ، بل كان كل منهم ينذر قومه بلسانهم كما قال
تعالى : ? وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ? ( إبراهيم : 4 )
والآيات المصرحة بنزول القرآن باللغة العربية معروفة في سور يوسف والرعد
وطه والزمر وفصلت والشورى والزخرف والأحقاف ، وأما الآيات والدلائل على
أن القرآن منزل من عند الله ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم ليس له منه إلا تبليغه
بنصه العربي المنزل ، وبيان معانيه وتنفيذه ، وأنه صلى الله عليه وسلم كان عاجزًا
كغيره من البشر عن الإتيان بمثله ، فقد بيناها في تفسير سورة يونس وسورة هود
بأكثر مما فصلناها في كتاب الوحي المحمدي
( 20 ) من قال : إنه لم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم إلا 12 أو 14
حديثًا :
هذا القول غير صحيح ، بل لم يقل به أحد بهذا اللفظ ؛ وإنما قيل هذا أو ما
دونه في الأحاديث التي تواتر لفظها .
( 21 ) رواية الأحاديث باللفظ وبالمعنى :
بعض الأحاديث مروية بلفظها الذي نطق به النبي صلى الله عليه وسلم ولا
سيما القصيرة ، وأكثر أقواله صلى الله عليه وسلم مختصرة كما قال : ( أعطيت
جوامع الكلم ، واختصر لي الكلام اختصارًا ) ، رواه أبو يعلى من حديث عمر
رضي الله عنه وحسنوه ، وناهيك بما اشتهر به العرب من قوة الحفظ ، وكذا غيرهم
من الأمم الذين يعتمدون على الحفظ قبل الكتابة ، وروي كثير منها بالمعنى لما نرى
في الصحاح وغيرها من اختلاف في ألفاظ الرواية للحديث الواحد الذي لا يحتمل
تعدد موضوعه ، وصرح به المحدثون والأصوليون ، واشترطوا في قبول المروي(1/346)
بالمعنى جودة فهم الراوي وحسن ضبطه .
( 22 ) حديثا ( من كذب علي متعمدًا ) ... إلخ ، و ( لا طاعة لمخلوق
في معصية الخالق ) :
هذان الحديثان صحيحان ، بل الأول منهما متواتر بلفظه رواه أصحاب
المسانيد والصحاح والسنن عن عشرات من الصحابة والمهاجرين والأنصار وبما
يزيدون على سبعين صحابيًّا ، ورواه غيرهم أيضًا عن آخرين ، وفي رواية للإمام
أحمد عن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا ( من كذب علي فهو في النار ) ولأجل هذا
كان بعض كبار الصحابة يمتنعون من التحديث عنه صلى الله عليه وسلم حتى
بعض المبشرين بالجنة كالزبير رضي الله عنه خشية أن يخطئ أحدهم في الرواية
فيناله الوعيد ؛ ولكن هذا لم يمنع بعض الذين عُرِفُوا بالصلاح من تعمد الكذب عليه
صلى الله عليه وسلم بوضع أحاديث كثيرة في الترغيب والترهيب ( والثاني ) رواه
باللفظ الأول في السؤال أحمد والحاكم عن عمران والحكم بن عمرو الغفاري
وصححوه ، وباللفظ الثاني أحمد والشيخان ومسلم وأبو داود والنسائي عن علي
رضي الله عنه .
* * *
جناية حديثية وخيانة دينية
للشيخ يوسف النبهاني
بهذه المناسبة أنبه قراء المنار لاتقاء الاعتماد على أحاديث كتاب ( الفتح
الكبير ، في ضم الزيادة إلى الجامع الصغير ) المطبوع بمصر سنة 1350 ؛ فإن
الشيخ يوسف النبهاني الدجال المشهور جمع أحاديث الجامع الصغير والزيادات عليه
وحذف منه رموز المؤلف للأحاديث الصحاح والحسان والضعاف ؛ ليتوهم المطلع
عليه أن كل ما فيه صحيح أو مقبول يحتج به على أن تلك الرموز لم تكن كافية
للتمييز بينها .
________________________
(( مجلة المنار ـ المجلد [ 34 ] الجزء [ 5 ] صـ 355 جمادى الآخرة 1353 ـ أكتوبر 1934 ))
قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث
تأليف الشيخ محمد جمال الدين القاسمي الدمشقي
المتوفى سنة 1332م - 1914 م
نُعي إلينا القاسمي في شهر رجب من سنة 1332 ، فكتبت له ترجمة نشرتها(1/347)
في هذا الشهر والذي بعده من مجلد المنار السابع عشر ، وصفته في أولها بقولي
(ص 558 منه )
( هو علامة الشام ، ونادرة الأيام ، والمجدد لعلوم الإسلام ، محيي السنة بالعلم
والعمل والتعليم ، والتهذيب والتأليف ، وأحد حلقات الاتصال بين هدي السلف ،
والارتقاء المدني الذي يقتضيه الزمن ، الفقيه الأصولي ، المفسر المحدث ، الأديب
المتفنن ، التقي الأواب ، الحليم الأواه ، العفيف النزيه ، صاحب التصانيف الممتعة ،
والأبحاث المقنعة ، صديقنا الصفي ، وخلنا الوفي ، وأخونا الروحي ، قدس الله
روحه ، ونور ضريحه ، وأحسن عزاءنا عنه )
ثم ذكرت تصانيفه ورسائله ( في ص 628 منه ) مرتبة على الحروف ،
فبلغت 79 ، ومنها هذا الكتاب ( قواعد التحديث ) الذي عُني بطبعه نجله الكريم
السيد ظافر القاسمي ، فتم في هذا الشهر ( شوال سنة 1353 ) وكان يرسل إلي ما
يتم طبعه منه متفرقًا لأنظر فيه ، وأكتب للقراء تعريفًا به ، على علم تفصيلي
بمباحثه وأسلوبه ، وتقسيمه وترتيبه ، فأقول :
ليتني كنت أملك من وقتي الحاشك بالضروريات ، الحاشد بالواجبات ، فرصة
واسعة ، أو نهزًا متفرقة في شهر أو شهرين أقرأ فيه هذا السفر النفيس كله ، فأتذكر
به من هذا العلم ما لعلي نسيت ، وأتعلم مما جمعه المؤلف فيه ما جهلت ، فهو
الحقيق بأن يُقرَأ ما كتب ، ويُحصَى ما جمع ، لتحريه النفع ، وحسن اختياره في
الجمع ، وسلامة ذوقه في التعبير والتقسيم والترتيب والوضع ، وقد بلغ في مصنفه
هذا سدرة المنتهى من هذا العلم الاصطلاحي المحض ، الذي يوعى بكد الحافظة ،
ويستنبط بقوة الذاكرة ، فلا يستلذه الفكر الغواص على حقائق المعقولات ، ولا
الخيال الجوال في جواء الشعريات ، ولا الروح المرفرف في رياض الأدب أو
المحلق في سماء الإلهيات ؛ إذ جعله كأنه مجموعة علوم وفنون وأدب وتاريخ وتهذيب
وتصوف ، مصطفاة كلها من علم حديث المصطفى صلوات الله عليه وعلى آله ،(1/348)
ومن كتب طبقات العلماء المهتدين به ، كأنه قرص من أقراص أبكار النحل جنته
من طرائف الأزهار العطرية ، ومجّت فيه عسلها المشتار من طوائف الثمار الشهية ،
فلعل الظمآن لهذا العلم لا يجد فيه كتابًا تطيب له مطالعته كله ، فينهله ويعله ولا
يمله ، كأنه أقصوصة حب أو ديوان شعر ، اللهم إلا هذا الكتاب .
أقول هذا بعد أن طفت بجميع أبوابه ، وكثير من مباحثه وفصوله ، طوافًا
سريعًا كأشواط الرمل في طواف النسك ، ثم قرأت فيه بعض ما اختلف العلماء في
تحقيقه ، وبعض ما لم يسبق لي الاطلاع عليه من مختارات نقوله ، فصح لي أن
أصفه وصفًا صحيحًا مجملاً يهدي إلى تفصيل .
صفة الكتاب وما فيه :
فأما تقسميه وترتيب أبوابه وفصوله ومباحثه ووضع عناوينها ، فهو غاية في
الحسن ، وتسهيل المطالعة والمراجعة بكثرتها ، وجعلها عامة شاملة لوسائلها
كمقاصدها ، وفروعها كأصولها ، وزادها حسنًا مراعاته في الطبع ، بجعلها على
أحدث وضع : من ترك بياض واسع بين سوادها ، شامل للمعدود بالأرقام من
مباحثها ، مع إفراط فيه بترك بعض الصفحات بعد ختام للفصل أو البحث خالية
كلها ؛ ولكن إذا اشتد البياض صار برصًا .
ومن آيات إخلاص المؤلف وحسن اختيار الناشر أن طبعه في هذا العهد الذي
توجهت فيه همم الكثيرين من أهل الدين وطلاب العلم إلى الاشتغال بما كان متروكًا
من علم الحديث ، والاهتداء بالسنن الصحيحة في هذه الأقطار العربية ، واجتناب
الروايات الموضوعة والمنكرة والواهية ، واشتدت حاجتهم إلى معرفة الشذوذ والعلل
والتعارض والترجيح فيها ، وبيان ذلك في كتاب سهل العبارة ، جامع لأهم ما
يحتاجون إليه من المصطلحات في الرواية والدراية ، ووصف دواوين السنة من
المسانيد والصحاح والسنن ، وكل ما يرشد إلى الاحتجاج والعمل ، وأحسن أقوال
الحفاظ ورجال الجرح والتعديل وعلماء أصول الفقه في ذلك ، وإنهم ليجدون كل
هذه المطالب في هذا الكتاب دانية القطوف ، مع زيادة يندر فيها المكر ويكثر(1/349)
المعروف .
وأما طريقة المؤلف في تدوينه فهو أنه طالع كثيرًا من مصنفات المُحَدِّثين
والأصوليين والفقهاء ، والصوفية والمتكلمين والأدباء من المتقدمين والمتأخرين ،
وكتب مذكرات فيما اختار منها في هذا الفن ، وما يتصل به من العلم ، ثم جمعها
ورتبها كما وصفناها ، وقد وفى بعض المسائل حقها ، ببيان كل ما تمس إليه حاجة
طلابها ، وأوجز في بعضها واختصر ، إما ليمحصه في فرصة أخرى ، وإما
ليفوض أمره إلى أهل البحث والنظر ، ولا غضاضة عليه في هذا ، فإمام المحدثين
محمد بن إسماعيل البخاري قد سبقه في بعض أبواب جامعه الصحيح إلى مثله .
وقد فتح فيه بعد الخطبة المقدسة تسعة أبواب لمباحث الحديث من فضله
وعلومه ومصطلحاته ورواته وكتبه ومصنفيها ودرجاته وما يحتج به ، وما لا يحتج
به ، وحكم العلم به ، وغير ذلك من المسائل في نوعي الرواية والدارية ، فاستغرق
ذلك 254 صفحة ، وفتح الباب العاشر لفقه الحديث ومكانه من أصول الدين
والمذاهب فيه ، وما روي وأُلِّف في الاهتداء والعمل به ، فبلغت صفحاته بهذه
المباحث 383 يليها الخاتمة ، وهي في فوائد متفرقة يضطر إليها الأثري .
الكتب التي استمد منها هذا الكتاب :
وأما المصنفات التي استمد منها مباحث الكتاب ومسائله فأكثرها لأشهر علماء
الإسلام ، من الأئمة المستقلين أو المنتسبين إلى المذاهب المتبعة في الأمصار
المعتمدة عند أهلها ، وأقلها للمشهورين عند عوام القراء ومقلدة العمائم بالعلم
والعرفان ، أو بالولاية والكشف والإلهام ، لهذا تجد فيه كل فئة من القراء ما تنتقد
عليه نقله ، من حيث تجد فيه كل فئة ما تعتمد ممن تقبل علمه ورأيه .
وأما المؤلف فغرضه من هذا وذاك أن تنتفع بكتابه كل فئة من هذه الفئات ،
فأهل البصيرة والاستدلال يزدادون علمًا ونورًا بما اختاره لهم من كتب الأئمة
وعلماء الاستقلال ، ولا يضرهم ما لا يوثق به من أقوال المقلدين ومدعي الكشف(1/350)
والإلهام ؛ ولكن الذين يقدسون هؤلاء يجدون من أقوالهم ونقولهم وكشفهم أنهم يتفقون
مع الآخرين على أن أصل هذا الدين الإسلام الأساسي المقدس المعصوم الذي لا
يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، هو كتاب الله وكلامه ( القرآن العظيم )
ويليه ما بيَّنه للناس بأمره من سنة رسوله خاتم النبيين ، التي تواترت أو اشتهرت
عنه بعمل الصحابة والتابعيين وأئمة الأمصار ، ويليها ما صح عند هؤلاء الأئمة من
حديثه صلى الله عليه وسلم المروي بنقل الثقات ، وما دون هذا من الأخبار والآثار
التي اختلف الحفاظ في أسانيدها ، أو استشكل فقهاؤهم متونها ، فهو محل
اجتهاد .
ويجد قارئ هذا الكتاب من أقوال أصناف العلماء فيه ما لعله لا يجده مجموعًا
في غيره ، وإنني أورد نموذجًا من مباحثه وطريقته في نقوله .
المذاهب في الضعيف والمرسل والموقوف :
من أهم هذه المباحث أقوال المحدثين في معنى الحديث الضعيف الذي وقع
الاختلاف في العمل به ، فاستحبه بعضهم في فضائل الأعمال ، والأخذ به في
المناقب ، ومن فروع هذا الاختلاف أن الضعيف في جامع الترمذي دون الضعيف
في مسند أحمد ، فيقبل من ضعاف المسند ما لا يقبل من ضعاف الترمذي ؛ لأنها
تساوي الحسان فيه .
ومنها الاحتجاج بالحديث المرسل واختلاف المذاهب فيه ، واستنثاء الجمهور
مراسيل الصحابة ، وحجتهم وحجة مخالفيهم ، والأقوال في الموقوف على الصحابي
الذي له حكم المرفوع ، والذي يعد رأيًا له ، والأقوال في عدالة جميع الصحابة في
الرواية عند جمهور أهل السنة وحجة مخالفيهم فيها ، وغير ذلك من المسائل التي لا
يستغني عن معرفتها الذين هداهم الله في هذا العهد إلى الاهتداء بهدي محمد صلى
الله عليه وسلم على صراط الله الذي استقام عليه السلف الصالح وهي كثيرة .
وقد بين المؤلف رحمه الله تعالى رأيه وفهمه في بعضها دون بعض ، وما كان
لمن يعنى بكثرة النقل ، وعرض وجوه الاختلاف في العلم أن يمحص المسائل كلها(1/351)
فيه ، ويكون له حكم الترجيح بينها ، على أن رأي كل مؤلف في مسائل الخلاف ينتظم
في سلك سائر الآراء ، والواجب على المطلع عليه من أهل العلم أن ينظر في دليله
كدلائل غيره ، ويعتمد ما يظهر له رجحانه كما فعل المؤلف في بحث الجلال الدواني
في الحديث الضعيف وأبدى رأيه في الاختلاف فيه إذ قال :
( 35 ) بحث الدواني في الضعيف :
( قال المحقق الجلال الدواني في رسالته أنموذج العلوم : اتفقوا على أن
الحديث الضعيف لا تثبت به الأحكام الشرعية ، ثم ذكروا أنه يجوز بل يستحب
العمل بالأحاديث الضعيفة في فضائل الأعمال ، وممن صرح به النووي في كتبه ،
لا سيما كتاب الأذكار ، وفيه إشكال ؛ لأن جواز العمل واستحبابه كلاهما من الأحكام
الشرعية الخمسة ، فإذا استحب العمل بمقتضى الحديث الضعيف كان ثبوته بالحديث
الضعيف ، وذلك ينافي ما تقرر من عدم ثبوت الأحكام بالأحاديث الضعيفة ) .
ثم نقل عن الدواني أن بعضهم حاول التفصي من هذا الإشكال ، وتصحيح
كلام النووي بما أورده وناقش فيه ، ثم نقل عن الشهاب الخفاجي مناقشته للدواني في
المسألة من شرحه للشفاء ، ورد عليه ردًّا شديدًا فوق المعهود من لين الأستاذ
القاسمي بأن حكم على كل مناقشات الخفاجي بأنها عادة استحكمت في مصنفاته لا
يحظى واقف عليها بطائل ، وأنه سود وجه القرطاس هنا ، وأن كلام الجلال لا
غبار عليه ، وأن مؤاخذته بمطلق الفضائل افتراء أو مشاغبة ، وختم الرد بقوله :
( فتأمل لعلك تجد القوس في يد الجلال ، كما رآها الجمال ) . اهـ .
وأقول : نعم إنها قد تحلت وتجلت بحلة الجلال والجمال ، ولو أن الثاني حوَّل
نظره عن كتب هذه الطبقة الوسطى من العلماء المستدلين كالدواني والنووي
والمناقشة العلمية فيها ، إلى كتب المناقب والفضائل لجامعي كل ما روي من
المحدثين ، وكتب الأوراد والتصوف التي لفقها مَنْ دونهم من المؤلفين ، لوجد فيها(1/352)
من الغلو في الإطراء المنهي عنه والتشريع الذي لم يأذن به الله ، ومن الاحتجاج
بأقوال الصوفية ومقلدة الفقهاء وعباداتهم المبتدعة ، ما فيه جناية على عقائد الإسلام
القطعية ، ومخالفة لنصوص القرآن والأحاديث الصحيحة ، ولوجدهم يحتجون عليها
بقول من قالوا : إنه يجوز الأخذ والعمل بالأحاديث الضعيفة ، وهم لا يميزون بين
الضعاف التي ألحقوها بالحسن ، والمنكرة الواهية التي لم يقل بالأخذ بها أحد ،
والتي نقل لنا القاسمي عن الإمام مسلم في مقدمة صحيحه وعن غيره من الإنكار
عليها ما نقل ، ولعقد لهذا البحث فصلاً خاصًّا به .
الموضوعات والأحاديث غير المُخَرَّجَة :
عقد المؤلف المقصد 48 من الباب الرابع للكلام على الحديث الموضوع بعد
أن تكلم على الحديث الضعيف بما نقلنا لبعضه عنه آنفًا ، وأورد في هذا المقصد
14 مسألة ، الخامسة منها فتوى الشيخ أحمد بن حجر الفقيه الشافعي في خطيب لا
يبين مخرِّجي الأحاديث نقلها من كتابه ( الفتاوى الحديثية ) ملخصة ، فلم يذكر فيها
اعتماده على ما نقله عن الحافظ ابن حجر في منع ولي الأمر لهذا الخطيب من
الخطبة إذا لم يكن مُحَدِّثًا يروي الحديث بنفسه ، فعلم بهذا أن ما اشترطه على نفسه
من التزام نقل الأقوال بحروفها أغلب لا مطرد ، ثم قال :
( 36 ) ما جاء في نهج البلاغة من وجوه اختلاف الخبر وأحاديث البدع :
( سئل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه عما في أيدي الناس
من أحاديث البدع واختلاف الخبر ، فقال : ( إن في أيدي الناس حقًّا وباطلاً ،
وصدقًا وكذبًا ، وناسخًا ومنسوخًا ، وعامًّا وخاصًّا ، ومحكمًا ومتشابهًا ، وحفظًا
ووهمًا ، ولقد كُذِبَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم على عهده حتى قام خطيبًا
فقال : ( من كذب عليّ متعمدًا فليتبوا مقعد من النار ) .
وإنما أتاك بالحديث أربعة رجال ليس لهم خامس : ( رجل منافق مُظهر
للإيمان ، متصنع بالإسلام ، ولا يتأثم ولا يتحرج ، يكذب على رسول الله صلى(1/353)
الله عليه وسلم متعمدًا ) ... وقد أخبرك الله عن المنافقين بما أخبرك ... ، ثم بقوا
بعده عليه السلام ، فقتربوا إلى الأئمة بعده [1] صلى الله عليه وسلم فولوهم الأعمال ،
وأكلوا بهم الدنيا ، وإنما الناس مع الملوك والدنيا إلا من عصم الله ) .
( ورجل سمع من رسول الله شيئًا لم يحفظه فوهم فيه ) ... إلخ
( ورجل ثالث سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا يأمر به ، ثم
نهى عنه وهو لا يعلم ، فحفظ المنسوخ ولم يحفظ الناسخ ، فلو علم أنه منسوخ
لرفضه ، ولو علم المسلمون أنه منسوخ لرفضوه )
( وآخر رابع لم يكذب على الله ولا على رسوله ) ووصفه بجودة الحفظ
ومعرفة الناسخ والمنسوخ ، والخاص والعام ، والمتشابه ومحكمه ، ما عني به رسول
الله صلى الله عليه وسلم من كل ذلك ) ثم قال : ( وقد كان يكون من رسول الله صلى
الله عليه وسلم الكلام له وجهان : فكلام خاص وكلام عام ، فيسمعه من لا يعرف ما
عنى الله به ، ولا ما عنى به رسوله صلى الله عليه وسلم ، فيحمله السامع ،
ويوجهه على غير معرفة بمعناه وما قصد به ، وما خرج من أجله ، وليس كل
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان يسأله ويستفهمه ، حتى إن كانوا
ليحبون أن يجيء الأعرابي الطارئ فيسأله عليه السلام حتى يسمعوا ، وكان لا يمر
بي من ذلك شيء إلا سألت عنه وحفظته ، فهذه وجوه ما عليه الناس في اختلافهم
وعللهم في رواياتهم ) اهـ ( من ص 45 و 136 ) .
( أقول ) نقل المصنف عفا الله عنا وعنه هذا وسكت عنه ، وقصاراه أنه لا
يصح أن يقبل من أحاديث الصحابة المسندة المرفوعة إلا بعض أفراد القسم الرابع
منهم ، وظاهره أنه لم يوجد منه إلا فرد واحد هو صاحب الكلام ، وكأنه شهد لنفسه
- إن صح إسناده إليه - ولمن عسى أن يكون مثله فيما أثبته لها بعد النفي ، ووجود
مثله مشكوك فيه ، ولو صح معناه لكان هادمًا لكل ما نقله المصنف من قبول(1/354)
مراسيل الصحابة وموقوفاتهم التي قيل : إن حكمها حكم المرفوع إلى النبي صلى الله
عليه وسلم ، وإن المرفوع من الوحي ، بل مبطلاً لكل رواياتهم المرفوعة إلى النبي
صلى الله عليه وسلم ، أو مشككًا في أكثرها ومبطلاً لأقلها ، ولما نقله بعد ذلك في
الباب الخامس الذي فتحه لمباحث الجرح والتعديل من قول جمهور أهل السنة
بعدالتهم كلهم ، بل هو عند واضعيه هادمًا لكتب الحديث كلها صحيحها وسننها
ومسانيدها ، ولكل ما وضع لرواتها ورواياتها من كتب التاريخ والجرح والتعديل
والمصطلح والأصول ، ولما استنبط منها من القواعد والآداب وأحكام الفروع ،
فيكف ينقله ويسكت عنه ؟ لعله لو طُبع الكتاب في حياته لحذفه منه أو لرد عليه .
رواية نهج البلاغة موضوعة ومن قال كله موضوع :
إنني على مخالفتي لمن قال من الحفاظ : إن نهج البلاغة موضوع بجملته على
أمير المؤمنين علي عليه السلام ، وإن واضعه هو الشريف المرتضى أو الرضي ،
وعلى ما عندي من النظر في مذهب من أطلقوا القول في الاحتجاج بمراسيل
الصحابة ، والقول بأن ما وقفه الصحابي مما لا مجال للرأي فيه له حكم المرفوع ،
وإطلاق القول بأن جميع الصحابة رضي الله عنهم عدول مع تعريفهم الصحابي بأنه
من رأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو مسلم ، وما سبق لي من التحقيق في هذه
المسائل بمجلتي ( المنار ) إنني على هذا كله أجزم بأن الجملة التي نقلها الجمال
القاسمي هنا عن نهج البلاغة موضوعة على علي كرم الله وجهه ؛ ولكني لا أقول
إن الشريف هو الواضع لها فالله أعلم بواضعها .
إن حفاظ الحديث لا يعتدون برواية لخبر نبوي ولا لأثر صحابي ولا لقول
محدث ولا فقيه إلا إذا كان له سند متصل رجاله معرفون يكون الحكم بقبوله أو رده
تبعًا لحال رجال هذا السند في ميزان الجرح والتعديل ، وجامع نهج البلاغة لم يرو
شيئًا منه بالأسانيد المعروفة ولا المجهولة التي وجودها كعدمها عندهم ، فلهذا كان(1/355)
حكمه حكم الموضوع في أن رواياته لا يحتج بها على رأي المعزوة إليه ، وإن كان
هذا لا يمنع أن يكون لبعضها أصل كما قالوا في الموضوعات والأحاديث المنكرة
والواهية ؛ ولكن العمدة فيما يحتج به في الدين والعلم أن يكون له سند صحيح
متصل بقائله لا شذوذ فيه ولا علة ، فلا يرد عليهم ما قاله المنكرون لحكمهم على
نهج البلاغة بالوضع من أن عدم السند المتصل له على طريقتهم لا يقتضي أن
يكون المروي كله أو جله كذبًا مفترى ، وأن يكون ناقله هو المفتري له ، ومن أن
بعض ما في النهج مذكور في كتب أخرى مؤلفة قبل جمع الشريف له ؛ فإن
المحدثين يقولون في روايات تلك الكتب ما قالوه فيه .
ثم إن لعلماء فقه الحديث من وراء نقد أسانيد الأخبار والآثار نقدًا آخر لمتونها
من نواحي معانيها ولغتها وحكم العقل والشرع فيها وتعارضها مع غيرها ،
ويشاركهم في هذا النوع من النقد رجال الفلسفة والأدب والتاريخ ويسمونه في
عصرنا النقد التحليلي ، ومن ثم استشكلوا كثيرًا من الأحاديث حتى الصحيحة
الأسانيد تكلموا عليها في شروحها ، وصنف بعضهم فيها كتبًا خاصة بها أشهرها
كتاب مشكل الآثار للطحاوي ، وكلمة نهج البلاغة التي نحن بصدد البحث فيها لا
تثبت أمام هذا النوع من النقد ، بل يكون مثلها فيه ? كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ
فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً ? ( البقرة : 264 ) ، أو ? كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي
يَوْمٍ عَاصِفٍ ? ( إبراهيم : 18 ) لا تذر منه ذرة ، لهذا نحكم بأنها موضوعة على
إمام الأمة الأعظم علي كرم الله وجهه ، وإنني أشير في هذا التقريظ إلى المهم من
مستندات وضعها ، فإن سهل المراء في بعضها لم يسهل في جملتها ، فأقول :
مستندات وضع رواية نهج البلاغة :
( أولها ) أنه لم يكن في عهد أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه أحاديث في
البدع ولا في غيرها تتداولها أيدي الناس فتقبل دعوى سؤاله عنها ؛ فإن الصحابة(1/356)
رضي الله عنهم لم يدونوا الأحاديث ويلقوها إلى الناس ، بل لم يصح عنهم أنهم
كتبوا عنها إلا قليلاً لم تتداوله الأيدي ، أصحه صحيفته كرم الله وجهه التي كان
علقها بسيفه ، فقد قال : ( ما كتبنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا القرآن
وما في هذه الصحيفة ) رواه الشيخان وأصحاب السنن الأربعة ، وكان فيها تحريم
المدينة كمكة وأحكام العقل أي الدية وفكاك الأسير ولا يُقْتَل مسلم بكافر - كما في
روايات البخاري ، وفي مسلم إن فيها ( لعن الله من ذبح لغير الله ) وزاد النسائي
وأحمد على ذلك .
وروى البخاري والترمذي عن أبي هريرة أنه قال : ما من أصحاب النبي صلى
الله عليه وسلم أحد أكثر مني حديثًا إلا ما كان من عبد الله بن عمرو ؛ فإنه كان
يكتب ولا أكتب ، والمحدثون لا يعدون ما يوجد في صحيفة محدث أو عالم رواية
صحيحة عنه ، إلا إن حدث أنه سمعها من صاحبها ، ويسمونها الوِجادة بالكسر ،
واختلافهم في الاحتجاج بها معروف ، ومن المشهور عندهم الاختلاف في رواية
عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وهو محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص ،
قالوا : كانت عنده صحيفة فأنكروا عليه ما لم يصرح بسماعه من أبيه عن جده
وحملوه على النقل من تلك الصحيفة مع احتمال أن يكون ما فيها هو ما كتبه جده
عبد الله بن عمرو مما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم .
( ثانيها ) أن تقسيم الأخبار إلى ما ذكر ، ولا سيما الناسخ والمنسوخ ، والعام
والخاص ، والمحكم والمتشابه ، والحفظ والوهم وعلل الحديث تقسيم فني حدث بعد
الصحابة والتابعين مما اصطلح عليه المصنفون في أصول الفقه بعد الشروع في
تدوين الأحاديث ، ولم يكن مما يدور على ألسنتهم ، ولا مما يروونه عن النبي صلى
الله عليه وسلم ، وما ورد في القرآن من هذه الألفاظ لم يرد كله بهذه المعاني
الاصطلاحية التي حددوها حتى قوله تعالى : ? مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا ? ( البقرة :(1/357)
106 ) الآية كما حققناه في تفسيرها ، وكذلك المحكم والمتشابه ، وما روي من
أثر القاضي الذي سأله علي عن معرفة الناسخ والمنسوخ بهذا اللفظ فقال : لا ، قال :
هلكت وأهلكت ، ما أراه يصح ، فإنه لم يرو عن علي أنه كان يسأل قضاته عن ذلك ،
ولا أنه كان يعلمهم إياه ، وروي مثل هذا الأثر عن ابن عباس ، وقد ورد في
النسخ آثار أخرى تدل على أن معناه عندهم أعم من معناه الاصطلاحي ، وكانوا
يقضون بالقرآن ، ثم بالسنة العملية التي قضى بها النبي صلى الله عليه وسلم أو
الخلفاء من بعده ، ولم يكن في أيديهم أحاديث قولية من موضوع بحثنا يقضون بها ،
ويطلب منهم معرفة ناسخها من منسوخها مثلاً ، وجملة القول في هذا النقد أن ذلك
الكلام في جملته مما يستبعد أن يجعله علي رضي الله عنه تفصيلاً لأنواع الأحاديث
التي قيل إنه سئل عنها ، وإن كان معناه غير الاصطلاحي مما لا يعزب عن علمه
الواسع .
( ثالثها ) أن حديث ( من كذب علي متعمدًا ) ... إلخ لم يكن سببه كذب
المنافقين عليه صلى الله عليه وسلم ، ولا كان المنافقون يبالون بهذا الوعيد ، وفي
القرآن ما هو أشد عليهم ، وإنما هو للتحذير من جريمة الكذب عليه صلى الله عليه
وسلم ، وأنه ليس كالكذب على غيره ليحتاط كل مؤمن فيه .
( رابعها ) أن المنافقين الأقحاح الذين كانوا يستحلون الكذب عليه صلى الله
عليه وسلم كانوا كلهم من أهل المدينة وما حولها ، ولم يكن في المهاجرين أحد منهم ،
وأكثر كذبهم كان للدفاع عن أنفسهم ، لا في رواية الأحكام الشرعية لغش المؤمنين
بها ؛ فإن هذه الأحكام لم تكن تعنيهم ، وكانوا يتربصون بهم الدوائر ظانين أن
الإسلام يزول بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، أو بظهور المشركين أو الروم
عليهم ، وقلما بقي إلى خلافة علي أحد منهم ، فقد آمن أكثرهم قبلها بظهور أمر
الإسلام على الروم والفرس كما وعد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، فإن وجد(1/358)
شيء من رواياتهم فهو قليل فيما لا شأن له ؛ خلافًا لما تتقوله الرافضة على الصحابة
حتى كبار المهاجرين منهم ، ويحتجون بعبارة نهج البلاغة الموضوعة على رفض
أحاديثهم .
( خامسها ) أن تهمة تقرب المنافقين إلى الأئمة الذين قبله رضي الله عنه
وعنهم وتوليتهم إياهم الأعمال وأكلهم الدنيا بهم ، فيها نظر من وجوه ، نعم إن من
المعلوم بالضرورة من تاريخه وسيرته كرم الله وجهه أنه لم يكن يثق بدين معاوية
وعمرو بن العاص اللذين توليا مصر والشام في إمامة عمر ، وأنه كان يعتقد بحق
أنهما من طلاب الدنيا والملك ؛ ولكنهما لم يكونا من رواة الأحاديث التي قيل إنها في
أيدي الناس في عهده ، وليس فيما روي عنهما في الصحاح من بعده ما هو محل
تهمة وهو قليل ، ليس لمعاوية في صحيح البخاري إلا ثمانية أحاديث ، ولا لعمرو
إلا ثلاثة أحاديث ، ولم يكونوا من المهاجرين الأولين فإن عَمرًا أسلم بين الحديبية
وخيبر أو في صفر سنة ثمانٍ ومعاوية أظهر إسلامه عام الفتح ، وروى الواقدي أنه
كان أسلم بعد الحديبية وكتم إسلامه ، والواقدي لا يحتج بروايته ، وعلى كل فهما
ليسا من المهاجرين السابقين ؛ ولكن الطعن في سياستهما بحق ، لا يقتضي الطعن
في روايتهما بدون شبهة ، بله الطعن في إيمانهما ، ولقد كانت سيرة عمرو في مصر
حميدة ولا تزال محل إعجاب مؤرخي الإفرنج وغيرهم ، فهل كان هذا إلا من هداية
الإسلام ؟
( سادسها ) أن الرجل الثاني من رواة الصحابة الصادقين الذي وهم في
حديثه ولم يكذب ، والثالث الذي عرف الناسخ ولم يعرف المنسوخ ، هما مما يحكم
العقل بإمكان وجودهما ، وإن تعذر معرفة أشخاصهما ، ونقاد الأحاديث من الحفاظ
والفقهاء هم الذين قاموا بما يجب من التمييز بين الروايات عن الجميع ، ومن معرفة
سيرة الرراة كلهم ووزنها بميزان الجرح والتعديل ؛ فلذلك لا يقبلون حديثًا ولا أثرًا
ليس له سند معروف كهذا الأثر وأمثاله من آثار نهج البلاغة .(1/359)
( سابعها ) قال في آخر الكلام عن القسم الرابع من رواة الصحابة وهو الفرد
الكامل في الصدق والضبط والعلم والفهم : ( وليس كل أصحاب رسول الله صلى
الله عليه وسلم من كان يسأله ويستفهمه ، حتى إن كانوا ليحبون أن يجيء الأعرابي
الطارئ فيسأله عليه السلام حتى يسمعوا ) وهذا القول فيه نظر وبحث من وجوه
( منها ) أنهم كانوا يسألونه ويستفهمونه عن كل ما يشكل عليهم حتى النساء لا تمنعهن
مهابته صلى الله عليه وسلم عن الواجب لاقترانها بلطفه وتواضعه ، ومن استحيا من
سؤال كلف غيره أن يسأله عنه كما أمر علي المقداد بسؤاله عن حكم المذي إذ كان
كرم الله وجهه مذاء ، وقد أغضبوه مرة لكثرة سؤالهم وهو على المنبر حتى سأله
بعضهم من أبي لشكه فيه فقال : ( أبوك حذافة ) رواه الشيخان ، ومنها أنهم لم
يكونوا يسألونه صلى الله عليه وسلم عما نهاهم الله ورسوله عنه من السؤال ، وقد
فصلناه في تفسير ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ?
( المائدة : 101 ) من جزء التفسير السابع ص 125 ، ومنها أن سبب نهيهم عن
كثرة السؤال الثابت في الصحاح أنه يقتضي كثرة أحكام التكليف ، والله ورسوله
يريدان التخفيف عن هذه الأمة ، ومنها أن الأعراب لم يكونوا يعلمون هذا النهي
فكان أحدهم يسأل عن كل ما يخطر بباله ويرى أنه محتاج إليه ، وكانوا كلهم يحبون
الزيادة من العلم فيعجبهم سؤال الأعرابي الطارئ ، ولا فرق بينه كرم الله وجهه
وبين سائر علمائهم في شيء من ذلك ، إلا أنه كان في الذروة منهم ، وفي الآيات
والأحاديث الصحيحة ما يدل على ما قلنا ، وهذه الأربعة تضم إلى ما قبلها وما
بعدها .
( وثامنها ) أن هذا الكلام في جملته قد وضع بالاصطلاح الجدلي ليكون
أساسًا لمذهب الشيعة الإمامية في الطعن على الخلفاء الثلاثة وعلى ( جمهور )
الصحابة من المهاجرين والأنصار الذين نزل القرآن مصرحًا برضا الله عنهم(1/360)
ورضاهم عنه ، وبعدم الاحتجاج بالأحاديث المروية في الصحاح والسنن ،
ويعارضه ما هو مخالف له من المروي عن علي رضي الله عنه بأسانيد الثقات في
اعتقاده وعلمه وعمله وتأييده وولايته للأئمة الذين قبله ، وفي قضائه والأحاديث
المروية عنه ، وفي أسلوب كلامه أيضًا ، وله نظائر في نهج البلاغة وغيره مما
انفردوا بحكايته عنه وعن آله عليهم السلام من غرائب بأسلوب يشبه نظريات
المتكلمين وتكلفات المولدين .
كلام ابن أبي الحديد في شرح كلمة النهج :
هذا وإنني قد راجعت بعد كتابة ما تقدم شرح ابن أبي الحديد لنهج البلاغة ،
فرأيته يستشكل هذا الكلام ، ويتكلف تصحيح معانيه ؛ لأن شرحه للنهج مبني على
التسليم لروايته ، ففرض بقاء بعض المنافقين بعد النبي صلى الله عليه وسلم ،
ومخالطة حديثه صلى الله عليه وسلم كذب كثير منهم بقصد الإضلال على ما بينه
من اشتغالهم بالحروب والفتح والغنائم عما كانوا ينقمونه من أمور الإسلام وتصريحه
بأنه قد صح إيمان بعضهم .
والحق أن أكثر الموضوعات في هذا الباب كان من مبتدعة الرافضة
والخوارج وغيرهم ، وقد قال ( ابن أبي الحديد بعد ذكر هذا من ص 15 مجلد 3 ) ما
نصه :
( وقد قيل : إنه افتعل في أيام معاوية خاصة حديث كثير على هذا الوجه ، ولم
يسكت المحدثون الراسخون في علم الحديث عن هذا ، بل ذكروا كثيرًا من هذه
الأحاديث الموضوعة ، وبينوا وضعها وأن رواتها غير موثوق بهم ، إلا أن
المحدثين إنما يطعنون فيما دون طبقة الصحابة ، ولا يتجاسرون في الطعن على أحد
من الصحابة ؛ لأن عليه لفظ الصحبة ، على أنهم طعنوا في قوم لهم صحبة كَبُسْر
بن أرطأة وغيره .
( فإن قلت : من هم أئمة الضلالة الذين يتقرب إليهم المنافقون الذين رأوا
رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبوه للزور والبهتان ؟ هل هذا إلا تصريح بما
تذكره الإمامية وتعتقده ؟ قلت ليس الأمر كما ظننت وظنوا ، وإنما يعني معاوية(1/361)
وعمرو بن العاص ومن شايعهما على الضلال كالخبر الذي رواه من رواه في حق
معاوية )
( وذكر بعض أحاديث الفضائل وقول الباقر فيها ثم قال ( في ص 17 ) :
( واعلم أن أصل الأكاذيب في أحاديث الفضائل كان من جهة الشيعة ؛ فإنهم
وضعوا في مبدأ الأمر أحاديث مختلفة في صاحبهم حملهم على وضعها عداوة
خصومهم ( وأشار إلى بعضها ثم قال ) فلما رأت البكرية ما صنعت الشيعة
وضعت لصاحبها أحاديث في مقابلة هذه الأحاديث ) ( وأشار إلى بعضها برأيه )
والمحدثون بينوا كل ذلك ، ولم يكن فيهم طائفة تسمى البكرية .
ثم أقول : كإن هذا التقسيم الذي قاله صحيح في جملته واستدلاله ، وإن
أسلوبه الكلامي والمنطقي قوي ؛ ولكن علمه بالروايات ضعيف ، فالرجل معتزلي
متكلم ومتشيع غير محدث ، والأحاديث الموضوعة في العقائد وأصول الأحكام
والتفسير لم يضع أحد من الصحابة شيئًا منها ، لا مؤمنوهم الصادقون وهم السواد
الأعظم ولا منافقوهم القليلون الذين ربما كانوا قد انقرضوا عند وضعها ؛ وإنما
وضعها الزنادقة من مسلمة اليهود والمجوس وملاحدة الشيعة الباطنية لا الإمامية .
ولكن الإمامية خُدعوا بالكثير منها لظنهم أن أولئك الملاحدة منهم ، وأن أكثر
الصحابة كانوا أعداء لعلي وأهل بيته فلا يوثق بروايتهم ، مع قلة علمهم بنقد
الروايات ، وقد اشتهر الشيعة بالكذب عند المحدثين والمؤرخين حتى الإفرنج ، وأهم
أسبابه ما أشرت إليه ، وحسبي هذا الاستطراد الضروري في تقريظ كتاب ( قواعد
التحديث ) وأعود إلى بيان أهم فوائده فأقول :
أهم فوائد الكتاب المقصودة منه بالذات :
الجمال القاسمي رحمه الله تعالى من المصلحين المجددين في هذا القرن
( الرابع عشر للهجرة ) وغرضه الأول من هذا الكتاب بث هداية الكتاب والسنة في
الأمة على منهاج السلف الصالح وتسهيل سبيلها ، وما أهلك المسلمين في دينهم
ودنياهم إلا الإعراض عن هذه الهداية التي شرع الله الدين لأجلها .(1/362)
ولهذا الإعراض سببان أهونهما الجهل البسيط وهو عدم العلم بما خاطب الله
الناس في كتابه ، وبما بيته لهم ورسوله صلى الله عليه وسلم منه بسنته وهديه ،
وبما كان عليه أهل العصر الأول عصر النور من الاهتداء بالكتاب والسنة علمًا
وعملاً وخلقًا وجهادًا وفتحًا وحكمًا بين الناس ، وأعسرهما وأضرهما الجهل المركب
وهو التعليم التقليدي لكتب المتأخرين من المتكلمين والفقهاء والصوفية ، والاستغناء
بها عما كان عليه السلف ، ومنهم أئمة الأمصار من المحدثين والفقهاء بشبهة
شيطانية ، هي أن فهم الكتاب والسنة خاص بالمجتهدين ، وأن المتأخرين من العلماء
أعلم بما فهمه المصنفون المقلدون للأئمة في القرون الوسطى ، وأولئك أعلم بما
فهمه الأئمة المجتهدون منهما مباشرة ، وأن العلماء على طبقات في تقليد بعضهم
عدها بعض متأخري الفقهاء خمسًا ، وعدها الشعراني من متأخري الصوفية ستًّا ،
كل طبقة تحجب أهل عصرها عما قبله ، حتى تجرأ بعض من يؤلفون ويكتبون في
المجلات ممن أعطوا ( لقب كبار علماء الأزهر ) - وهم الطبقة العاشرة على
حساب الشعراني - على التصريح في عصرنا هذا بأن من يؤمن بآيات القرآن في
بعض صفات الله تعالى على ظاهرها يكون كافرًا ( ! ! ! ) وتجرأ بعض من قبله
منهم على التصريح في مجلس إدارة الأزهر بأن من يقول إنه يعمل بما صح من
الأحاديث على خلاف فقهاء المذهب فهو زنديق - كما بيناه في المنار وفي تاريخ
الأستاذ الإمام - وهؤلاء يكرهون علم الحديث وأهله ، وقد صرح الحفاظ الأولون بأن
الوقيعة في أهل الأثر من دأب أهل البدع كما نقله المؤلف ( في ص 31 ) .
نقوله ودروسه وغرضه الإصلاحي فيهما :
نقل لنا الجمال القاسمي - بحسن اختياره وجماله وقسامته في إرشاده -
نصوصًا من كتب أشهر الأئمة من علماء الملة المستقلين ، وكتب المنتسبين إلى
مذاهب الكلام والفقه والتصوف المقلدين ، صريحة في اتفاق الجميع على وجوب(1/363)
الاهتداء والعمل بكتاب الله وسنة رسوله واتباع سلف الملة في الدين ، وعلى خطأ
من يخالفهم في هذا بما يقطع ألسنة الذين يصدون عن سبيل الله من عميان الجهل
المركب : الذين لا يعلمون ولا يعلمون أنهم لا يعلمون ، وهم الذين وصفهم أبو
حامد الغزالي بقوله : ( وأولئك هم العميان المنكوسون ، وعماهم في كلتا العينين ) ،
فهذه حكمة نقله عن كل طبقة من العلماء المشهورين حتى المعاصرين له ، ولنا من
المصنفين ومحرري المجلات العلمية ومنها المنار ومما نقله عنه ما ترى في ص
250 ؛ ولكنه لم يصرح باسمه ولا باسم صاحبه خوفًا من الحكومة .
وصفتُ الأستاذ القاسمي في ترجمة المنار له بالإصلاح ، ورددت على من
ينكر على هذا الوصف بما بينت به طريقته فيه ، واستنبطت مما اطلعت عليه من
كتبه ومن حديثي معه أربعًا من مزاياه في الاستقامة على هذه الطريقة :
( أولاهن ) سبب تدريسه لبعض الكتب المتداولة كجمع الجوامع وكتب السعد
التفتازاني وما هي كتب إصلاح ، بل فنون اصطلاح أشبه بالألغاز .
( الثانية ) الاستعانة بنقول بعض المشهورين على إقناع المقلدين والمستدلين
جميعًا من المعاصرين بما يقوم عليه الدليل .
( الثالثة ) أنه كان يتحرى مذهب السلف في الدين وينصره في دروسه
ومصنفاته ، وما مذهب السلف إلا العمل بالكتاب والسنة بلا زيادة ولا نقصان .
وذكرت شاهدين من شعره على مذهبه هذا .
( الرابعة ) أنه كان يتحرى في المسائل الخلافية الاعتدال والإنصاف ،
واتباع ما يقوم عليه الدليل من غير تشنيع على المخالف ولا تحامل .
وقد أطلت في هذه بما لم أطل فيما قبلها ، وذكرت ما أنكره عليه بعض متبعي
السلف من أنه خالفهم في كتابه ( تاريخ الجهمية والمعتزلة ) وكتابه ( نقد النصائح
الكافية ) وبينت ما توخاه من التأليف بين فرق المسلمين الكبرى فيهما ، بما لا محل
لإعادته هنا ، وإنما ذكرت هذا الموضوع لأذكر به من يستنكر مثله في هذا الكتاب ،(1/364)
وقد نقل فيه عن داعية السلف المحقق العلامة ابن القيم سبقه إلى مثله وتصريحه
بأن في كلام كل فرقة ومذهب حقًّا وباطلاً .
كذلك : وقد ألف الأستاذ الشيخ طاهر الجزائري رحمه الله بعده كتاب ( توجيه
النظر إلى أصول أهل الأثر ) وهو في موضوع ( كتاب قواعد التحديث )
والعلامتان الجزائري والقاسمي كانا سيين في سعة الاطلاع ، وحسن الاختيار ، إلا
أن الجزائري أكثر اطلاعًا على الكتب ، وولوعًا بالاستقصاء والبحث ، والقاسمي
أشد تحريًا للإصلاح ، وعناية بما ينفع جماهير الناس ، فمن ثم كان كتاب الجزائري
وهو أطول قاصرًا على المسائل الخاصة بمصطلح الحديث وكتب المحدثين التي
قلما ينتفع بها إلا المشتغلون بهذا العلم ، فقد وفى بعض مسائلها حقه من الاستقصاء
بما لم يفعله القاسمي ؛ ولكنه أطال كل الإطالة بتلخيص ( كتاب علوم الحديث )
للحاكم النيسابوري وهي اثنان وخمسون نوعًا ، ثم بما لخصه من ( كتاب علل
الحديث ) لابن أبي حاتم الرازي ، ثم بما استطرد من الكلام في مبحث كتابة
الحديث إلى الكلام في ( الخط العربي ) وتدرجه بالترقي إلى وصوله للكمال الذي
عليه الآن ، وما يحتاج إليه بعد هذا الكمال من علائم الوقف والابتداء ، وهو على
إطالته في هذا الفن لم يراعه في العمل ، فكتابه كأكثر الكتب القديمة ، وكتاب
القاسمي كما علمت في تقسيمه وتفصيل عناوينه ، والبياض بينها لتسهيل المطالعة
والمراجعة ، فهو في هذا وفي طبعه على أحسن ما انتهت إليه الكتب الحديثة ، كما
أنه أكثر جمعًا ، وأعم نفعًا ، وخلاصة القول في تقريظ هذا الكتاب أننا لا نعرف
مثله في موضوعه وسيلة ومقصدًا ، ومبدأ وغاية ، فنسأل الله تعالى أن يحسن جزاء
مؤلفه وطابعه ، وأن يوفق الأمة للانتفاع به .
________________________
(1) في نسخة من النهج : إلى أئمة الضلالة والدعاة إلى النار بالزور والبهتان .
(( مجلة المنار ـ المجلد [ 34 ] الجزء [ 8 ] صـ 613 ذو القعدة 1353 ـ مارس 1935 ))(1/365)
عود إلى سرد الأحاديث الموضوعة
مناقب الصديق
( 1 ) حديث إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم وآله وسلم قال : ( يا أبا بكر ألا
أبشرك ؟ قال : بلى فداك أبي وأمي ، قال : إن الله عز وجل يتجلى للخلائق يوم
القيامة عامة ويتجلى لك خاصة ) رواه الخطيب عن أنس مرفوعًا ، وقال : لا أصل له
وضعه محمد بن عبد بن عامر ، وله طرق منها أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال
لأبي بكر : ( أعطاك الله الرضوان الأكبر ) فقال بعض القوم : يا رسول الله وما
الرضوان الأكبر ؟ قال : ( يتجلى الله في الآخرة لعباده المؤمنين عامة ويتجلى لأبي
بكر خاصة ) رواه أبو نُعيم عن جابر مرفوعًا ، وفي إسناده محمد بن خالد الختلي وهو
كذاب ، ولا يَغُرنك ذِكْر الحاكم له في مستدركه فكم في المستدرك في الأحاديث
الموضوعة والواهية .
( 2 ) حديث إن أبا بكر قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إني كنت معك في
الصف الأول فكبرت وكبرت فاستفتحت بالحمد فقرأتها فوسوس إليَّ شيء من
الطهور ، فخرجت إلى باب المسجد فإذا أنا بهاتف يهتف بي وهو يقول : وراءك ،
فالتفت فإذا أنا بقدس من ذهب مملوء ماء ، أبيض من الثلج وأعذب من الشهد
وألين من الزبد عليه منديل أخضر مكتوب عليه : لا إله إلا الله . الصديق أبو بكر ،
فأخذت المنديل فوضعته على منكبي وتوضأت للصلاة وأسبغت الوضوء ورددت
المنديل على القدس ، ولحقتك وأنت في ربع الركعة الأولى فتممت صلاتي معك
يا رسول الله ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : أبشر يا أبا بكر الذي وضأك
للصلاة جبريل ، والذي مندلك ميكائيل ، والذي مسك ركبتي حتى لحقت للصلاة
إسرافيل . هو موضوع ومحمد بن زياد المذكور في إسناده كذاب ، وقد روى نحو هذا
لعلي بن أبي طالب ، وفيه ذكر المنطل والمنديل ، والكل كذب موضوع .
ونقول : يا ليت عزرائيل انتقم من واضع هذا الحديث ؛ لأنه لم يجعل له حظًّا
في هذه الخدمة فأخذ روحه الخبيثة قبل أن تصل أكاذيبه إلى الناس . وإن الممارس(1/366)
للسنة الفقيه في الدين ليعرف فيه الكذب وإن لم يطلع على نقلنا عن المحدثين في
وضعه وكذب مخترعه ، ولكن جهلة العامة يُفتنون بمثله وينظمونه في سلك الكرامات
والخوارق .
( 3 ) حديث إن الله لما خلق الأرواح اختار روح أبي بكر الصديق من بين
الأرواح ، فجعل ترابها من الجنة ، وماءها من الحيوان ، وجعل له قصرًا في الجنة
من درة بيضاء ... إلخ رواه الخطيب عن عائشة مرفوعًا ، وقال : لا يثبت وقد اتهم
به هارون بن أحمد العلاف المعروف بالقطان . وقد جزم الذهبي في ترجمته
من الميزان بأن هذا باطل ، وفي معناه أحاديث نترك ذكرها ، فلتقس عليه .
( 4 ) حديث أن يهوديًّا قال لأبي بكر : والذي بعث موسى وكلمه تكليمًا إني
أحبك ، فلم يرفع أبو بكر له رأسًا تهاونًا به فهبط جبريل وقال : ( يا محمد إن العلي
الأعلى يقرئك السلام ويقول لك : قل لليهودي الذي قال لأبي بكر : إني أحبك - إن
الله قد أحاد عنه في النار خلتين : لا توضع الأنكال في عنقه ولا الأغلال في عنقه
لحبه أبا بكر ... ) ... إلخ رواه ابن عدي عن أنس مرفوعًا وهو موضوع في
إسناده وضَّاعان .
( 5 ) حديث : ( إن الله جعل أبا بكر خليفتي على دين الله ووحيه فاسمعوا
له تفلحوا وأطيعوه ترشدوا ) رواه الخطيب عن ابن عباس مرفوعًا ، وهو موضوع
للاحتجاج به على الشيعة ، بل كل هذه الأحاديث قد وضعت لمثل هذا الغرض فقد
كانت سوق الرواية رائجة في أيام الفتن والخلاف ، فوضع الكذابون من كل قوم
من الأحاديث ما شاءوا ، ينصرون بها مذهبهم فما كان أشأم تلك المذاهب على
الإسلام ! ! !
( 6 ) حديث : بينما النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع جبريل إذ مرَّ أبو بكر
فقال : ( هذا أبو بكر ) قال : ( أتعرفه يا جبريل ؟ ) قال : ( نعم ، إنه لفي السماء
أشهر منه في الأرض وإن الملائكة لتسميه حليم قريش ، وإنه وزيرك في حياتك
وخليفتك بعد موتك ) رواه ابن حبان عن أبي هريرة مرفوعًا ، وفي إسناده إسماعيل(1/367)
ابن محمد بن يوسف كذاب . وذكر له صاحب ( اللآلئ المصنوعة في الأحاديث
الموضوعة ) طريقًا أخرى فيها وضاع . وقال الذهبي : إسناده مظلم ، وتعقبه ابن
حجر في لسان الميزان بأن رجاله معروفون بالثقة ، وليس فيهم من ينظر في حاله إلا
المعلَّى بن الوليد ، وقد ذكره ابن حبان في الثقات . قال في الفوائد المجموعة مستدركًا
على ابن حجر : بل في إسناده إسماعيل بن محمد وهو كذاب ، وقد قال الحاكم : إنه
يروي الموضوعات . فلينظر القارئ كيف يشتبه في مثل هذا الحديث الحافظ ابن
حجر ، وينسى إسماعيل الذي حكم عليه بالوضع الحاكم على تساهله ووقوعه في
رواية الموضوعات بحسن ظنه .
________________________
(( مجلة المنار ـ المجلد [ 6 ] الجزء [ 9 ] صـ 355 غرة جمادى الأول 1321 ـ 26 يوليو 1903 ))
السنن والأحاديث النبوية
بحث العمل بأحاديث الآحاد والحديث المتواتر
وَلْنَعُدْ , فنقول : التواتر هو وإنْ كانَ من الطرق المفيدة للعلم إذا وجد إلا أنا لا
نحصر إفادة العلم بالأخبار فيه , كما إنا لا نلزم به كل أحد قبل أن يعرف أنه متواتر
إذا لم يقصر في الطلب أو كان معذورًا لبعده عن أهله .
قال حضرة الدكتور : لم يتواتر من أقواله - صلى الله عليه وسلم - إلا القليل
الذي لا شيء فيه من أحكام الدين .
أقول ما ذكره غير مسلَّم , والتواتر هو ما نقله جَمْعٌ عَن جمع , يبعد تواطؤهم
على الكذب ، أي عن محسوس ، وقد اختلفوا اختلافًا كثيرًا في تعيين هذا الجمع .
وبناءً على تعيين الجمع فيما نظنّ قال بعضهم بندرة وعزة المتواتر في الأحاديث
النبوية . وهذا أولى ما يقال في الاعتذار عن ابن الصلاح في قوله بذلك .
قال السيوطي نقلاً عن شيخ الإسلام : إن قول ابن الصلاح نشأ عن قلة
الاطلاع على كثرة الطرق وأحوال الرجال وصفاتهم المقتضية لإبعاد العادة أن
يتواطئوا على الكذب أو يجعل منهم اتفاقًا - قال : ومن أحسن ما يقرر به كون(1/368)
المتواتر موجودًا وجودَ كثرةٍ في الأحاديث أن الكتب المشهورة ( أي المتواترة عن
مؤلفيها ) بأيدي الناس شرقًا وغربًا المقطوع عندهم بصحة نسبتها إلى مؤلفيها إذا
اجتمعت ( أي أو اجتمع بعضها كما قال ذلك جمهور أهل الحديث ) على حديث ,
وتعددت طرقه تعددًا تحيل العادة تواطؤهم على الكذب ، أفاد العلم اليقيني بصحته
إلى قائله . قال : ومثل ذلك في الكتب المشهورة كثير اهـ .
وأقول أيضًا : إن مَن تجرد عن التعصب والتقليد لا تخفى عليه الحقيقة
المنشودة في هذا الباب . وبما قدمناه وما يأتي يظهر للمنصف مكانة الخبر الذي ينقله
آحاد ثقات قد عرفوا بقوة الحفظ والذكاء والعدالة والورع والتقوى , وعرفوا أن
الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس ككذب على أحد ، وأن مَن
كذب عليه متعمِّدًا يتبوأ مقعده من النار , اعتقدوا ذلك وهم بالصفات التي عَرفتَ
وتحملوا من الرواية ما اعتقدوا وُجُوب العمل به , ثم وجوب تأديته لغيرهم كالأمانة,
وقد علموا ما في الخيانة من الوعيد والترهيب عن كتم العلم .
فإذا اتصل سند الخبر بمثل من ذكرناه فهو فيما نعتقد مفيد للعلم أي يبعد أن
يمنع العقل عن مثل من نعتناه الكذب عادة , ورب رجل يعدل رجالاً - فإن قيل :
سلمنا أنّ مَن كان مثل هذا يبعد منه الكذب عادة إلا أنه لا يؤمن عليه النسيان , قُلْتُ :
قد علم من عادة المحدثين كتابة ما سمعوه , وعلى الأقل للمراجعة إلى وقت التأدية ,
وهم لا يعتمدون على المكتوبات إلا ما كان موثوقًا به ومحفوظًا بغاية الاحتياط ,
ولا يقبلون المكتوبات التي لا يُدرى حالها وإنْ كانَ كاتبها ثقة - وهذا أكبر دليل على
أن ما عندهم من الأخبار أصح ما وجد من الأخبار في العالم بعد كتاب الله - وإنما
كان تواتر القرآن مقدمًا على كل خبر ؛ لأنه نقل بمثل هذه الأسانيد اليقينية متواترة .
على أنا نستبعد عادة أن الراوي الذي ذكرنا صفاته يحدث بما نسيه إذْ لو فعل(1/369)
ذلك لم يكن بالمرتبة التي ذكرناها لا سِيَّمَا في أحاديث الأحكام والأعمال لشدة حاجته
وحاجة معاصريه إلى العمل بها . على أنه إذا نسي ذلك لا يحدث به , وإن حدث
فإنه يذكر اللفظ بالشك . ويبعد كل البعد أن ينسى نسيانه لذلك وأبعد من ذلك أنْ لا
يوجد هذا الحديث عند غيره .
على أنه لو فرض وقوع ذلك وهو غاية الندور فلا نسلم أن ذلك يضر في
الدين إذْ قد اغتفر ذلك ، أي النسيان والخطأ ، فيما حاجة الناس إليه أكثر ، وفيما
وجب فيه زيادة الاحتياط ، وهما فيه أشد ضررًا وفيما هو سبب للضرر بلا واسطة
وذلك في القضاء ؛ لأن أحد الخصمين قد يكون أَلْحَنَ بحُجّته من الآخر , فلم يضر
الحاكم أن يحكم بخلاف الواقع في هذه الحالة إذا لم يقصر فلأَنْ يغتفر ذلك في
الرواية أولى لكون الضرر منها إن وجد لا يكون هو السبب المباشر للضرر غالبًا .
فتبين بذلك أن ما عسى أن يطعن به في الرواية التي وصفناها مع كونه لا يضر في
الدين هو بناء شاذ على شاذ على شاذ , كلُّ منها يبعد وقوعه عادة - بل هو أولى
بالوثوق من خبر الجمع الفسقة غير الموثقين الذين يقال في خبرهم يمنع أو يبعد
العقل تواطؤهم على الكذب عادة . فبعد الكذب عمن ذكرناه أكثر من بعده عن جمع
التواتر الذي ذكروه .
وحَيْثُ كان الأصل في جميع العلوم سواء كانت تصورية أو تصديقية هو ما
أدركه الشخص بأحد مشاعره الظاهرة أو الباطنة , أو ما دل العقل عليه أو الوحي
السماوي ، وهذا الأخير لا يكون إلا علمًا حقًّا دائمًا ، وما تقدمه يتفاوت الناس فيه
تفاوتًا لا يحصره حد , فقد صحّ لدينا عن المتقدمين وشهدنا ورأينا ما لا يحصى في
زماننا أنه قد تصحح الجماعات ما يعدونه علمًا لديهم بتطبيقه على معلومات فرد
واحد ، بل قد يتبين فساد معتقدهم في جانب معلومات الفرد الواحد - وذلك دليل
واضح على أن الفرد الواحد الممتاز بالكمال في صفاته وعاداته يعادل بل يرجح
بالأفراد الكثيرين من بني نوعه .(1/370)
ونحن أيضًا نرى الشخص المنصف قد يتهم نفسه فيما سمعه بأذنه إذا خالفه فيه
من يعتقد أنه أحفظ منه فمثل هذا المنصف إذا اتهم نفسه فيما سمعه بأذن نفسه , وقدم
على ذلك الخبر الممتاز الذي ذكرناه قد يبعد كل البعد أن يقدم على خبر سمعه بنفسه
خبر الكثيرين غير العدول - وهل يمكن أن يقال ما علمه الإنسان وسمعه لا يسمى
علمًا لجواز زواله بالنسيان ؟ فتبين بطلان الخبر أو العلم بعد اعتقاد ثبوته هو عندنا
يضارع زوال العلم بالنسيان .
وأيضًا احتمال النسيان في الخبر مع الذهول عنه كما أنه لا يضر الخبر وهو
علم في حقه ما لم يتذكر أنه نسيه ، فكذلك لا يضر المُخبَر بالفتح إذا كان المُخبِر
بالكسر بالصفات التي ذكرناها .
إن خبر الآحاد قد اتَّفَقَ على اعتباره جميعُ البشر كما هو مشاهد واعتبرته
الكتب السماوية في شرائعها وأنبياء الله ورسله في التبليغ عنه والله ورسوله أمر
الأمة أن يبلغوا عنهما جمعًا وفُرَادَى ، وبعبارة أخرى كل فرد من الأمة مأمور
بالتبليغ , والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وكليم الله موسى بن عمران عليه
السلام ترك بلدًا من أمره الله بإنذارهم , وخرج من بين أظهرهم إلى مَدْيَن معتمدًا
على خبر الواحد . وأثنى الله على من احتج بخبر الواحد كمؤمن آل فرعون إلى
غير ذلك مما لا يكفي لبسطه المجلدات .
كل ذلك معلوم بالضرورة ولا ينكره إلا مكابر ، فكيف يصح قول حضرة
الدكتور : لا يجب العمل بخبر الآحاد مطلقًا , ومِنْ ثَمَّ قال الإمام أحمد رحمه الله :
إن خبر الآحاد الصحيح يفيد العلم ، وبه قال داود الظاهري و الكرابيسي و المحاسبي ,
وحكي هذا عن مالك بن أنس .
فإن قيل : إن الجمهور قائلون بأن خبر الآحاد يفيد الظنّ . قلنا : أولاً إذا كان
غرض الباحث مقصورًا على طلب الحق , وهو ضالته فلا محل لهذا الاعتراض من
أصله , على أنه يحتمل أنْ يكونَ قولهم ( خبر الآحاد يفيد الظنّ ) قضية مهملة أي(1/371)
وهي في قوة الجزئية [1] , وبهذا الاعتبار يكون بعض أخبار الآحاد قد يفيد العلم .
وأيضًا المعروف من مذهب الجمهور أن المشهور والمستفيض لا يجري فيه
الخلاف , وذهبوا أيضًا إلى أن خبر الآحاد يفيد العلم إذا تلقته الأُمّة بالقَبُول بحَيْثُ
يكونون بين عامل به ومتأول له ، لأن التأويل فرع القبول وجعلوا من هذا القسم
أحاديثَ الصحيحين - بل أكثر أحاديث ما صنف فيما يحتج به من الكتب التي
صنفتْ في الصحاح والحسان لانجبار الحسان بتعدد الطرق - ولا يهولنك ما قد
تسمع به من التفرقة بين رجال الصحيح ورجال الحسن , فإن شرائطهم في رجال
الحديث الحسن ربما لا يبلغها من وسم بأعلى سمات الفضل والعدالة في زماننا هذا -
يدلك على ذلك ما عرف عنهم من أقوالهم في الجرح حتى إنهم قد يعدون أحاديث
من سمع في بيته الغناء موضوعة - فإن قيل : إن هذا إفراط قد يؤدي إلى ضياع
كثير من السنن . قلنا : لكنه يدل على أن ما في أيديهم مما وسموه بالصحة والحسن
مُنَقّى ومبرّأ من كل احتمال يؤدي إلى عدم قَبُوله - على أنّا لا نسلّم انحصار وجود
ذلك عند من تركوه , بل يجوز وجود ذلك عند غيره مِن الثقات إنْ كانَ هو مِن السُّنَّة
في نفس الأمر , وإنْ كانَ مكذوبًا فلا حاجة لهم ولا لنا به .
إن أحاديث الكتب المشهورة عن مؤلفيها فيما يحتج به من السنن النبوية قد
عرفت الأمة بأسرها صحتها أو حسنها ؛ لتعدد الطرُق ، وصارت مقبولة عند الكل
وأكثرها قد جمعت ودونت في عهد التابعين أو تابعيهم , أما مجرد الكتابة بلا ترتيب
للعمل أو للحفظ فقد كان في زمن الصحابة - رضي الله عنهم - كما ثبت ذلك من
طرُق عديدة .
وعليه فما قرروا صحته فقد اتفقت الأمة على قبوله إذْ كانوا بين عامل به
ومتأول ، وهو يفيد العلم ، لأن سكوتهم عن الطعن فيما هو كهذا بل قبولهم له يدل
على معرفة كل واحد من العاملين به أو المتأولين له بصحته ، وهم في كل طريق(1/372)
وطبقة عدد كثير , لا يُجَوِّزُ العقلُ تَوَاطُؤَهُمْ على الكذب عادة .
وأيضًا يدل ذلك على أن هناك طرقًا معضدة كثيرة ألجأتهم إلى عدم الرد ،
ولهذا نرى من لم يلتزم ذلك بالعمل عدل إلى التأويل - وإن ما هذه حاله لا يبعد أن
نقول : إنه أَعْلَى من بعض أنواع المتواتر - وما ذكرناه معلوم إن عرف حال
المحدثين واحتياطهم في رواية السنة .
ألا تراهم قد عمدوا حتى إلى جميع ما شاع على ألسنة العوامّ مما نسب إلى
النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم صرحوا بتزييف الزائف وما له أصل ردوه إلى
أصله ، فما بالك وما رأيك فيهم إذا وجدوا ما لا يصح مكتوبًا في كتب الهداية ؟
أَتُرَاهُم يسكتون عليه , وقد عرف من عادتهم أن ما في إسناده ولو مجهول واحد لا
يُحتجُّ به عندهم ؟ إن أهل الحديث لا يعتبرون رواية من انحطت درجته عن مرتبة
رجال الحسن لاعتقادهم أن كثرة الكذابين ونحوهم لا يزيدون الخبر إلا وهنًا .
لو كانوا يأخذون برواية كل من روى حتى الكذابين والفسقة والكفار كما هي
عادة التواترية لبلغ رواة كل حديث من أحاديث الأحكام في كل طبقة إلى حدّ الكثرة
التي يعتبرها التواترية - فإنْ كانَ أحدٌ يشكّ في قولنا فليتتبع كتب الصحاح
والحسان , وكتب الأحاديث الضعيفة , وكتب موضوعات الحديث , وغيرها مِن كتب
السير والمغازي والتواريخ المسندة والتفاسير وغيرها - أنا لا أشك أنه يجد أسانيدَ
متعددةً لكل حديث , فإذا لم يتقيد بطريقة أهل الحديث في شرائط الرواية وجرى
على طريقة التواترية فهو يجزم بأن رجال هذه الأسانيد يبعد تواطؤهم على الكذب -
لا سِيَّمَا إذا لاَحَظَ من عمل بكل حديث من العلماء من عهد النبي - صلى الله عليه
وسلم - إلى حين كتابتها في كتب الحديث .
يقول التواترية : إن خبر الآحاد يفيد الظنّ , وقد قدمنا فساده , ويرتبون على
ذلك كبرى قياس من الشكل الأول ، وهي فكل ظنّ أو كل عمل بالظنّ فهو مذموم(1/373)
بنص القرآن ، وقد عرفت فساد الصغرى [2] , والحق أن بعض الآحاد يفيد العلم .
وأيضًا نحن لا نسلم الكبرى كلية ؛ لأن القرآن إنما ذمّ الخرص وبعض الظنّ
لقوله تعالى : ? إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ? ( الحجرات : 12 ) , وأيضًا ما ذكره الله مِن
الظنّ المذموم إنما هو الظنّ في تأسيس الشرائع بلا اعتماد على بينة من الله في ذلك ،
ومَن تتبع آياتِ القرآن في ذلك وجده إنما يذم هذا النوع من الظنّ , أو ما هو في
معناه كما قال تعالى قبل ذلك : ? إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَذَا ? ( يونس : 68 ) ,
وقوله : ? مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ ? ( يوسف : 40 ) , وقد يذمهم الله
بمعارضتهم ما أنزل من الحق بهذا الظنّ الفاسد الذي لا يستند إلى أصل صحيح كما
يرد عليهم تعالى شأنه في قوله : ? إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئًا ? ( يونس :
36 ) .
وهذا لا يصدق على الأحاديث الصحاح , ولو كانت آحادًا ولا على من يعمل
بها ولو كان يعتقد أن ذلك من الظنّ ؛ إذْ لا يصدق ولا نسلم أنها من الظنّ المذموم إذْ
هؤلاء لم يعارضوا بها المقطوع اليقيني ، غاية ما في الباب أن بعض أهل الحديث
أو أكثرهم قد جوزوا نسخ القرآن بأحاديث الآحاد الصحاح ، وقد قدمنا أن جمهورهم
يقول : إن بعض الآحاد تفيد العلم ، ومن كان هذا قوله فلا إيراد عليه ، وأمّا مَن
يقول بأن ذلك يفيد الظنّ , فكذلك لا إيراد عليه لأنه يقول : إن بقاء الحكم ظنيًّا
والحكمِ المتأخرِ عنه في الحديث الصحيح أقوى وأرجح , فهو إنما أجاز نسخ الظنّ
الضعيف بالظنّ القوي .
إن من قال بأن جميع أخبار الآحاد تفيد الظنّ ، وإن كل الظنّ مذموم عند الله
وفي كتابه القرآنِ الكريم - لزمه أن القرآن متناقض متخالف , وأنه مِن عِنْدِ غير الله ؛
لأن الله أمر وأوجب الحكم بخبر الآحاد وسمّاه عدلاً في قوله : ? وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ(1/374)
النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ? ( النساء : 58 ) - وكون الشيء هناك مذمومًا , وهنا
عدلاً تناقض وخلف ، وهو في القرآن محالٌ , وما أنتج المحال فهو مثله فلزم أن الذم
لا يتناول خبر الآحاد حتى على التسليم بأنه ظنّ , فعلى كل تقدير خبر الآحاد
الصحيح عدلٌ , واجب العمل به على كل من عرف أنه صحيح ، والله أعلم .
وأيضًا إطلاق الظنّ مقابلاً للعلم إنما هو اصطلاح حادث مخالف لاصطلاح
القرآن وعادته في محاوراته , لأن الله جل وعلا قد أطلق على العلم اسمَ الظنّ في
مواضعَ كثيرة مِن القرآن , كما قال تعالى حكاية عن الجن : ? وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن
نُّعْجِزَ اللَّهَ ? ( الجن : 12 ) , وقوله : ? إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ ? ( الحاقة :
20 ) ? وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ ? ( يونس : 22 ) ? وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا ?
( يوسف : 110 ) ? فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا ? ( الكهف : 53 ) إلى غير ذلك مما أطلق
في لفظ الظنّ ، والمراد به العلم ، فكذلك حملة القرآن مِن العلماء لا يبعد أن يطلقوا
على العلم لفظ الظنّ كلهم أو بعضهم .
فمن يقول منهم : إن بعض الأحاديث الصحاح تفيد الظنّ يمكن أن يحمل قوله
على ما ذكرنا على أنَّا قد قدمنا أنه لا تصدق على ذلك تلك الآيات الواردة في ذمِّ
بعض الظنّ لعدم العلة الجامعة - وفوق ذلك نقول : إن عملهم بالأحاديث الصحاح
إنما هو من باب الاختبار والعمل بأحسن الأمرين , أو الأمور التي انحصر الحق
فيها وما ذلك إلا لمرجح علموه لا ظنوه كما قال تعالى : ? وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ
إِلَيْكُم ? ( الزمر : 55 ) - ? نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا ? ( الأحقاف : 16 )
إلى غير ذلك ، فإذا تعارضت أدلّة , ولا سبيلَ للخروج عنها كلها لانحصار الحق
فيها - والحالة أن الاتباع فرض لازم , كما قال تعالى : ? قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ(1/375)
فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ? ( آل عمران : 31 ) , فيجب على العالم أن يجتهد ، وإذا
رجح أحدها فهو إنما يرجح بمرجح علمه لا ظنه , فلا يصحُّ أنْ يقال : إن هذا
عمل بالظنّ حتى يقال : إنه مذموم .
ثم نقول للتواترية : إن كل ما ألزمتم به متبعي حديث الآحاد الصحيح هو لازم
لكم في تواتركم بمعناه عندكم , وزيادة على ذلك تلزمكم شناعات وفظائع لا يلتزمها
إلا من نفض يديه من دين الإسلام , بل من سائر الأديان ونحن نبرئ حضرة
الدكتور عن التزام ما يؤدي إلى ذلك لما عرفنا من كتابته السابقة التي أعلن الرجوع
عنها نعتقد أنه إنما يحب الحق وإظهاره وأنه عند تجليه له لا يتوانى عن قَبُوله بغاية
السرور والبشاشة , بل يُظْهِر للملأ رجوعه ، وإن ذلك لَمِمّا يَزِيدُهُ عند كل منصف
إجلالاً .
* * *
( بحث التواتر )
ما هو التواتر ؟ هو غير معروف عند السلف من المسلمين ، وإنما يعبرون
عما كثرت رواته أو ما روته الجموع بالمشهور وهو عندهم كغيره لا بُدَّ من رواية
الثقات له وإلا لم يكن مقبولاً .
أما من عرف عنه التواتر فقد اختلفت عباراتهم في تفسيره أي حدّه , فمنهم من
قال : هو ما نقله جمع يحصل العلم بروايتهم ضرورة - ومنهم من قال خبر جمع
عن محسوس يمتنع تواطؤهم على الكذب عادة من حَيْثُ كثرتهم - ثم اختلفوا هل
يمكن تعيين جمع يكون أقل نصاب جمع التواتر ، فقال بعضهم : أقله أربعة وقيل :
خمسة , وقيل : عشرة , وقيل : اثنا عَشَرَ , وقيل : عشرون , وقيل : أربعون ,
وقيل : سبعون , وقيل : ثلاثمائة وبضعةَ عَشَرَ , وقيل : أربعَ عَشْرَةَ مائة ,
وقيل : جميع الأمة , وقيل : بحَيْثُ لا يحويهم بلد ولا يحصرهم عدد ، والمرجح
عند التواتريين عدم تعيين عدد مخصوص ، وإنما مداره عندهم على حصول العلم
من حَيْثُ كثرةُ العدد تارةً , ومِن حَيْثُ القرائنُ أخرى .
أقول : مَن أحاط علمًا بما ذكرناه مِن اختلافهم في هذا التواتر , وفي شرائطه(1/376)
تحقق أن هذا شيء ليس مِن عِنْدِ الله ؛ إذْ لا يمكن القطع به , ولا يمكن طرده , ولا
تطبيقه على كل ما في الأعيان من الوقائع طردًا على وتيرة واحدة بحَيْثُ يتفق عليه
كافة الناس , ويكون قاعدةً يصحّ المرجع إليه لفصل النزاع .
يوضح ذلك أنه يمكن على معتمد التواترية وقول جمهورهم أنْ يكونَ خبر أهل
البلدة العظيمة متواترًا كباريس مثلاً , وإذا كان خبر الثلاثة والأربعة أو الخمسة
يصحّ أنْ يكونَ متواترًا , بمعنى أنه يمتنع تواطؤهم على الكذب عادة , والامتناع هذا
يكون تارةً لمجرد الكثرة , أي بِلا اعتبار قيد من القيود المعتبرة في الرواة عند أهل
الرواية : كالبلوغ , وكمال العقل والإسلام , والعدالة , إلى غير ذلك . وإذا كان
الأمر كذلك فإذا أخبر خمسة من الفَجَرَةِ بِخَبَرٍ مثلاً فنحن نناشدُ اللهَ كل ذي عقل
وبصيرة , هل يحصل له العلم الضروري بخبرهم ؟ وهل يمتنع عنده تواطؤهم على
الكذب ؛ لكونهم جمعًا حتى لو كانوا كفارًا فَجَرَةً أخبروا مرة دفعة واحدة ؟ فإن كابر ,
وقال : نعم ، قلنا له : وهل يجب أن يحصل لكل أحد مثل علمك من خبر هؤلاء ؟
وهل تعد من خالفك مكابرًا بدلاً عن تكون أنت المكابر ؟ نحن نستبعد ادعاء عاقل
مثل هذه الدعاوى الباطلة .
وكذلك نقول : إن كل جمع يفرضه التواتر مفيدًا للعلم من جهة أنه جمع فقط لا
بُدَّ أن يرد عليه إيراد صحيح ينقضه إلا أنه في بعضها أبين وأظهر مِن بعض ، ألا
ترى أن أعلى ما مثلوا به لذلك هو قولهم : كأن يخبر أهل باريس بقتل أو موت
كبيرهم مثلاً ، قالوا : إن هذا يفيد العلم بسبب كثرتهم . ونحن نقول في الجواب عن
ذلك : هذا مثال واحد , ولا يمكن وجود مثله دائمًا حتى يصحَّ طرده في كل موضع
مما يتنازع الناس فيه . ويُقال فيه أيضًا : يمكن أنْ يكونَ إفادة الخبر العلم في مثل
هذا المثال إنما كان لقرائن ككونهم أي أهل باريس ونحوهم لا فائدة ولا نقصان ولا(1/377)
مضرة عليهم مِن إظهار مثل هذه الواقعة , فصدقهم هنا إنما هو للقرائن لا الكثرة ؛
لأنا نجد الفرق بين مثل هذا المثال وبين خبر أهل باريس أنفسهم فيما إذا كانوا
محصورين بعساكر الإنكليز مثلاً , فأخبروا بقدوم عساكر الروس إلى بلدهم
لإمدادهم ، فهل خبرهم والحالة ما ذكرنا يفيد العساكر المحاصرة العلم الضروري
بحَيْثُ لا يتشوقون إلى صحته ؟ وهل يمكن كذبهم والحالة هذه أمْ لا ؟ نحن لا
نستبعد الكذبَ فضلاً عن عدم إمكانه حينئذ .
فإن قيل : نحن نرى أنفسنا مطمئنةً لا ينازعها شكٌّ في وجود البلدان النائية
التي لم نَرَهَا ولا نرى سببًا لذلك إلا ما تواتر إلينا من الأخبار بوجودها .
قلنا : نعم ، والأمر كذلك ، لكن لا يستلزم أنْ يكونَ سبب هذا العلم مجرد
الكثرة , وإنْ كانَوا كُفّارًا أو فَسَقَةً فُجّارًا ، بل لَعَلّ ذلك من الكثرة مع انضمام
القرائن .
فإن القرائن أنواع وأصناف لا يكاد يحصرها حدٌّ أو عدٌّ ، بل القرائنُ قد تقارن
خبر الواحد الكاذب المعروف بكذبه وفسقه , فيفيد خبره العلم إذا قارنته وأيدته ،
وهي تختلف باختلاف أماكن المخبرين وزمانهم ككونهم أخبروا دفعةً أو متفرقين ,
وباختلاف حالهم من خوف وأمان , وعسر ويسر , وحب الأوطان والإقدام والفخر
وإرهاب ورجاء , إلى غير ذلك مما يعود على الأفراد بفائدة أو نقص ولو بتوسط
فائدة أو نقص طوائفهم وأممهم وأقوامهم وأوطانهم .
ولِمَا ذكرناه وأضعاف أضعافه مما لم نذكره ولتعسر ذلك لو سلم صحته , ولأن
تكليف العباد به تكليف لما لا يستطاع , بل التزامه وحصر العلم الخبري فيه تعطيل
لأكثر معارف البشر وإلغاء لأكثر أحكام الديانات إنْ لم نقل لكلها وإخراج للناس في
جميع معاملاتهم ومعاشاتهم , وموجب لتقاطعهم فردًا فردًا كالبهائم لم يجعل الله ذلك
أصلاً ولا قاعدة ولا مناطًا لتحقيق شيء من الأمور الدينية ولا الدنيوية ولا نبه عليه(1/378)
أحد من أنبيائه عليهم الصلاة والسلام ولم نعرفه عن أحد من السلف الصالح لا
الصحابة ولا تابعيهم بإحسان .
فالحق عندنا أن أخبار الجموع لا تفيد العلم إلا إذا أيدتها القرائن أو شاركهم
الثقات - وخبر الثقات المتواتر هو أعلاها كتواتر القرآن الكريم - ثم خبر الآحاد
الأثبات الضابطين بشروطهم يفيد من عرف حالهم أو حال من وثقهم العلم ويجب
على مَن بَلَغَهُ خَبَرٌ عن المعصوم - صلى الله عليه وسلم - أن يبحث عن حاله وحال
رواته ، فإذا وجدهم بالشروط المعتبرة فلا يجوز له إهمال ذلك الخبر لأجل كونه لم
يتواتر لما عرفت مما قدمناه كما هو إجماع المسلمين ، والله المستعان .
( للرسالة بقية )
((يتبع بمقال تالٍ))
________________________
(1) المنار : أي هي بمعنى بعض خبر الآحاد يفيد الظنّ ، وفيه أن المتبادر من الإضافة العموم الذي
هو بمعنى الكلية وكلامهم صريح في هذا .
(2) المنار : أي قولهم : إن خبر الآحاد يفيد الظنّ ، وهي المقدمة الأولى من مقدمتي القياس أي
الدليل.
(( مجلة المنار ـ المجلد [ 11 ] الجزء [ 6 ] صـ 454 جمادى الآخر 1326 ـ يوليو 1908 ))
السنن والأحاديث النبوية
( 5 )
بحث العمل بالأحاديث القولية والأحاديث الفعلية
يقول حضرة الدكتور : أمّا السُّنّة القولية ( الأحاديث ) فبعضها نسخ بالقرآن ،
وبعضها الآخر نُسِخَ بالأحاديث الأخرى . ونحن نقول : ما الدليل الذي قام لدى
حضرة الدكتور في التفرقة بين السنة القولية والسنة الفعلية ؟ ولِمَ لا يكون النسخ في
الفعلية ؟ وما الدليل على ذلك ؟ أليس من المُقَرّر والمسلم أن أصل كل تشريع إنما
هو القول ؟ وهل يعرف الواجب والحرام , والسنة والمكروه إلى غير ذلك إلا بالقول ؟
ألم يكن من المعلوم أن الأفعال تتطرقها احتمالات كثيرة إذا لم يقارنها البيان بالقول ،
وقد تبقى مجملة لا يتعين المراد منها إلا به ؟
يقول حضرة الدكتور : ( فبعضها نسخ بالقرآن ) ويقال عليه : إن نسخ السنة(1/379)
بالقرآن ؛ قد قال الإمام الشافعي : إنه لا يكون ، حتى حَكَى بعض الشافعية عنه أنه
قال حيث وقع نسخ السنة بالقرآن فمعه سنة عاضدة له .
حضرة الدكتور لم يذكر ذلك عنه ، بل نقل بعض قوله , وترك البعض ودونك
قول الإمام في الرسالة : ( لا ينسخ كتاب الله إلا كتابه ، ثم قال : وهكذا سنة رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - لا ينسخها إلا سنته ) فإن جاز الاستدلال بقول الإمام
هناك جاز هنا , وإلا فلا في الموضعين .
وقوله : ( وبعضها الآخر نسخ بالأحاديث الأخرى ) يقال عليه : فهذه الأخرى
الناسخة هل هي معلومة أم لا ، وهل هذه هي المدونة عند أهل الحديث أم هي
أحاديث غيرها ؟ وأين هي ؟ وَمَنْ أدراك بها , فإنك قد قررْتَ أنك لا تقبل النسخ إلا
أن تجد الله أو رسوله قال هذا ناسخ وهذا منسوخ , وينقل إلينا ذلك بالتواتر ؛ فَهَلاَّ
أنصفْتَ مناظريك ؟
وقوله : ( وعندنا أنه لن يبقَ منها شيء يجب العمل به غير موجود في القرآن )
الجواب عليه هنا أن يقال : إن هذه مجرد دعوى لا يستطيع حضرته أن يقيم البينة
عليها هو ولا غيره , فإن في السنن من الأحكام والآداب أضعاف ما في القرآن ,
وهي بفضل الله تعالى لا تخالف مقاصد القرآن , وهي مطابقة للعقل , ولا يمكن أن
يستغني عنها البشر , ولولا خوف الإطالة لأتينا بجمل منها , وبيّنا ما لها وما عليها ,
ومقدار الحاجة إليها فليتتبع ذلك حضرته .
بل نقول : ولا يبعد أن القرآن محتاج إلي السنة أكثر من احتياج السنة إليه ،
يوضحه أن القرآن الكريم ذو أوجه والسنة مبينة للمراد منه تارة وشارحة ومفسرة
أخرى . أو تأتي بأحكام زائدة على ما فيه يشرعها الله على لسان رسوله - صلى الله
عليه وسلم - لشدّة حاجة البشر إليها إظهارًا لكرامة رسوله - صلى الله عليه وسلم -
عليه وليتعودوا طاعته واتباعه كما أَمَر بذلك في كتابه ، ولئلا تجرّهم الشبهات إلى
ردّ بيانه للكتاب الكريم . ولبسط ذلك محل آخر .(1/380)
يقول حضرته : ( لأنها لم تكن إلا شريعة وقتية تمهيدية لشريعة القرآن الثابتة
الباقية ) وأقول : هذه دعوى وتعليل لما شاء بما شاء , وكل أحد يمكنه أن يدعي ،
فأين الدليل ؟ أما قوله تعليلاً لذلك : نُهِيَتِ الصحابة عن كتابتها ، فيقالُ عليه : إن
مسألة النهي عن الكتابة والترخيص فيها هي مسألة لا تدلّ على نسخ السنن النبوية
بأحد الدلالات مطلقًا ، والقارئ يرى أن حضرة الدكتور قد ملأ الكون صياحًا بالإنكار
على العمل بالظّنّ ، فما لنا نراه قد انسلّ هنا إلى هَدْم ما كان أسسه ، ثم يَعْمِد إلى هدْمِ
القصور اليقينية ، فيرد جميع السنن ويلغي طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم -
التي أمر الله بها في غير موضع من كتابه , والأحاديث المتواترة لفظًا ومعنًى في
وُجُوب اتباعه واتباع سنته . ويرد إجماع الصحابة ، بل جميع الأمة ، ما له يردّ ذلك
كله بالخرص والتخمين الذي لا يبلغ إلى أضعف مراتب الظن ، بل لا يصح أن
يعتبره معتبر ، فليعتبر حضرته بمناقضته لنفسه بنفسه .
إن أمر النهي عن الكتابة لم ينقل إلينا متواترًا ، بل قد اختلف في رفعه إلى
المعصوم - صلى الله عليه وسلم - وفي نسخه ، وقد عارضه ما هو أقوى منه ، ولم
ينصَّ فيه على أن المراد منه أن السنن موقت شرعها ، أو أنها منسوخة بعد مُدّة كذا
من الزمن , ولا أنه نُهِيَ عنها لأجل أن تندثر السنن بطول الزمن . إن أحد هذه
الأمور التي ذكرناها تمنع الاستدلال على ما قصده حضرة الدكتور ، فكيف يصح أن
يكون ما هذا حاله معارضًا لجميع الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وإجماع
الصحابة ، بل وسائر المسلمين ! فطاعة الرسول ووجوب اتباع سننه معلوم
بالضرورة من دين الإسلام - لا سِيَّمَا إذا كان حديث النهي عن الكتابة مُعَلّلاً بعلة
منصوصة عن رواية ، وهو خوف الالتباس بالمصحف . وكل من روي عنه من
الصحابة النهي أو الامتناع عن كتابة الحديث فهو دائر على هذه العلة ، كما صرحوا(1/381)
بذلك . ومنهم من خاف أن يقع في الوعيد على الكذابين ، ومنهم من نهى عن كتابة
رأيه , فاشتبه ذلك على الناظرين , فظنوا أنه نهي عن كتابة السنة النبوية ، وليس
الأمر كذلك - فالقول بأن نهيهم عن كتابة العلم أو الحديث نصّ في النهي عن كتابة
السنن النبوية هو قول بالخرص .
ثم هل يجوز لمن لا يُجَوِّز العملَ بالظن أن يأخذ أقوالهم في أمر قد صرحوا
بسببه أن يتركه ويهمله , ثم يحمل قولهم على غير ما أرادوه ، بل على ما نُهُوا عنه ،
وهو ترك اتباع السنة واعتقاد وجوب اتباعها . ثم نقول : الحقُّ أن الأمور المعللة
يدور حكمها مع عللها ، وحيث زالت العلة زال الحكم ، وهو هنا خوف الالتباس
بالمصحف ، فقد وقع الإجماع على جواز - بل استحباب - كتابة الحديث ، وقال
بعضهم بالوجوب ، وهو الحق . هذا كله إذا سلمنا أن حديث النهي مرفوع وأنه غير
منسوخ . ومن اطلع على القاعدة الأصولية من أنه إذا وقع التعارض بين دليلين
أحدهما مانع والآخر مرخص مثلاً , عرف أن الإجماع على كتابة السنن غير
معارض لنص ؛ لأنه بعد تساقط الدليلين المتعارضين ، أعني حديث النهي عن
الكتابة وأحاديث الأمر والترخيص فيها ، تبقى البراءة الأصلية , والإجماع إن لم نقل
هو حجة ، فهو مؤيد لها .
ونحن نسأل حضرة الدكتور ، هل حكم حديث النهي عامّ وباقٍ أم لا ؟ فإنْ قُلت
بالأخير ، فقد وافقتنا ، وحينئذ لا يصحّ لك الإلزام به . وإن قلت بالأول لزمك أن
تمنع عن كتابة جميع العلوم المستنبطة من القرآن بل أولى من ذلك كله أن تمنع عن
كتابة سائر العلوم .
إن كان الاختلاف في كتابة السنة قادحًا في العمل بها مسوغًا لاقتراح أن علة
ذلك وسببه كونها شريعةً مؤقتةً - فإن الاختلاف قد وقع في جميع القرآن وكتابته ،
وأول من خالف في ذلك الخليفة الأول , ثم رجع إلى قول عمر - رضي الله عنه -
قِيل يسوغ أن يقال : إن الصِّدِّيق رضي الله عنه لم يخالف في ذلك إلا لأن شريعة(1/382)
القرآن مؤقتة ؟ لا - لا - في الأمرين ، فإن قيل : إن الصِّدِّيق قد وقع الإجماع عليه ،
والفاروق لما سأل الصحابة رأيهم في جمع السنن أشاروا عليه بجمعها ، ولكنه
خالفهم للسبب الذي ذكرناه ، كما صرح بذلك هو ؛ إذ لم يحن له الوقت المناسب
الذي يزول فيه خوف الالتباس ، ولما كان هو إذ ذاك صاحب الأمر لم يستطع من
أشار عليه منهم أن يفعل غير ما أمضاه الخليفة .
ومن تفكر في أهل زماننا بل منذ أزمان قديمة رأى صحّة هذا التعليل
المنصوص دراية كما هو صحيح رواية , فإنك تجد مصداق ذلك فيما نراه من
انكباب الناس وانهماكهم على كُتُب شحنت بآراء مشايخهم وأسلافهم حتى جعلوها
كالمصاحف ، بل قدموها على المصحف وعلى السنة النبوية على صاحبها ألف
صلاة وتحية .
أما قوله : ( ولم يعاملها النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه بالعناية
التي عُومِلَ بها القرآنُ لِتزول مِن بينِ المسلمين وتندثر ) فأقول : أي المعاملات يريد
حضرة الدكتور ؟ فإنْ كان يريد أن القرآن يمتاز بأنه كلام الله لفظًا ومعنى ، وأنه
معجز متحدّى به ، وأنه متعبّد بتلاوته ، وأنه كلام الخالق غير المخلوق ونحو ذلك ,
فهذا صحيح وسنن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يمكن أن تعامل بهذه
المعاملة كلها ، فكما أن الله جلَّ وعلا هو الربّ والإله المعبود و محمد - صلى الله
عليه وسلم - عبده ورسوله وداعٍ إليه بإذنه , فلا يعامل بما يعامل به الإله مما يخصّ
الألوهية والربوبية , فكذلك كلامه - صلى الله عليه وسلم - لا يعامل بما يعامل به
القرآن من كل الوجوه كما تقدم ، وإن أراد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم
يعامل سنته بما يعامل به القرآن مِن حيثية التشريع , كأن يأمر الأمة بما لا يجب
الائْتِمَار به , وينهاهم عمّا لا يجب أن ينتهوا عنه , أو أنه يعتقد ذلك , أو أن
أصحابه يرون عدم وُجُوب اتّباعه في جميع أقواله وأفعاله , وفيما شرع الله مِن الدِّينِ(1/383)
على لسانه ، فإرادة هذا منه - صلى الله عليه وسلم - أو منهم هو أمحل المحال ،
وحضرة الدكتور نجله أن يعني ذلك ، فمن زعم أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم -
أوجب ما ليس بواجب , وحرّم ما ليس بحرام على الأمة ، وأنه يعلم ذلك ويعتقده ،
أو أن أصحابه يعتقدون ذلك ، أو أنهم لم يأتمروا به .. إلخ ، فخطؤه فوق كل خطأ ،
وافتراؤه فوق كل افتراء ، ومع ذلك كله هو غير مستند إلى شيء يصحّ الاعتماد
عليه حتى ولا شبهة .
فقول القائل : إن ما أوجبه أو حرمه النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما هو
مقيّد بوقت حياته - هل يصحّ ويثْبُت بدعوى عدم الكتابة أو دعوى النهي عنها أو
أنها لم تكتب مدونة مرتبة ؟ قد قدمنا أن عدم الكتابة مطلقًا لم يرد فيها إلا حديث
واحد قد اخْتُلِفَ في رفْعِه وسبب النهي منصوص كما قدمناه مع معارضته لما هو
أصحّ منه .
فهل يصح أن يكون ذلك الحديث المذكور ناسخًا للآيات الكثيرة القرآنية
المصرحة بوجوب ولزوم طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - واتباعه ؟ إنّ
طاعة الله لا ينازع أحد في وجوبها في وقته - صلى الله عليه وسلم - وبعد وفاته ،
وإنها - أي طاعة الله - واجبة علينا كما هي واجبة على أول الأمة .
لكنّا نرى القرآنَ مصرّحًا بأنّ طاعة الله مشروطة بطاعة الرسول - صلى الله
عليه وسلم - وهل طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلا الائتمار بأمْرِه
والانتهاء لنهيه ، وإلا لم تكن له طاعة , وقد عرفت ثبوتها ودَلَّ القرآنُ عليها نصًّا
كما يأتي ، وهي لا تكون إلا في سننه القولية ، كما قال تعالى : ? وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ
رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً * مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ
عَلَيْهِمْ حَفِيظاً ? ( النساء : 79-80 ) أمّا الاتِّبَاع والتَّأَسِّي, فيكون في الفعلية العمليّة
والقوليّة .
مهما يمكن لأحد أن يعبّر عن وُجُوب اتّباع أحد وطاعته لا يمكنه أن يعبّر عن(1/384)
ذلك بأكثر وأوضح مما عبّر الله به في وُجُوب اتباع رسوله محمد - صلى الله عليه
وسلم - فإنْ كان ذلك قابلاً للتشكيك لزم أنْ لا يوجد في العالم خير يوثق به وبدلالته .
إن الله جلّ شأنُه لم يأمر بطاعته في القرآن إلا وأمر بطاعة رسوله - صلى
الله عليه وسلم - معه , بل قد يُفْرِدُ الأمر بطاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم -
ويجعلها شرطًا لطاعته ولم يفرد طاعته عن طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم -
ثم هو تارةً يأمر باتباعه , وتارةً يأمر بالتحاكم إليه , ويجعل ذلك من شرائط الإيمان ,
وكذلك تسليم ذلك له , وعدم وجدان الحرج - وتارةً يأمر بالتأسّي به , وتارةً يقول :
? وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ? ( الحشر : 7 ) , وتارةً يُعْلِمنا
بأنه المبلّغ عنه المؤتمن , وتارةً ينسب التحليل والتحريم إليه - صلى الله عليه وسلم
- ثم نراه ينبّه في محلّ آخرَ بأنّه لا ينطق عن الهوى إنْ هو إلاّ وَحْيٌ يُوحَى -
وتارةً يأمره أنْ يحكم , وأن لا يحكم إلا بما أراه الله - وتارةً يقول له : ? قُلْ إِن كُنتُمْ
تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ? ( آل عمران : 31 ) , فجعل اتباع الرسول -
صلى الله عليه وسلم - مقدمًا على طلبتهم محبة الله وبابًا لمحبة الله لهم وهذا لا يمكن
أن يخص بقوم دون قوم وزمان دون زمان - وتارة ينهى عن التقدم بين يديه بقول أو
فعل ، وتارة ينهى عن التولي عنه وعن أمره - وتارة ينهى عن مخالفة أمره ، وتارة
ينهى عن التسوية بين دعائه ودعاء غيره ، وقد قرر أنه الداعي إلى الله حتى إنهم
كانوا يرون إجابته غير مبطلة للصلاة ، وتارة وتارة يحذر عن مخالفتهم أمره :
? فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ? ( النور : 63 ) الآية - وتارة ينهى أن يجعلوا
لأنفسهم الخيرة من أمرهم مع أمره - وتارةً ينهى عن مشاقّته ، وأن من شاقّه فقد(1/385)
شاقّ الله ، وتارةً يجعل من صفات الإيمان بالله المبادرة إلى طاعة الرسول - صلى
الله عليه وسلم - إلى غير ذلك مِن أساليب التعبير والتفنن فيه لإيضاح وُجُوب اتّباع
الرسول - صلى الله عليه وسلم - فإن القرآن ملآن مِن أوله إلى آخره بذلك حتى
القصص , فإنها إنما سِيقَت للاعتبار وليطاع الله ويطاع رسوله - صلى الله عليه
وسلم - ويتبع وليؤمن الناس بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم .
فهل يصحّ أنْ يهدم هذا كله بشبهة حديث أبي سعيد - رضي الله عنه - على
ما فيه مما قدمناه ؟ أم هل يسوغ أن يقال : إن الصحابة - رضي الله عنهم - خالفوا
ذلك كله , وإنهم لم يعتنوا بسنته إذا رأينا أحدهم احتاط في الرواية , أو حكم بخلاف
السنة بعذر أنها لم تبلغه , ولو بلغته لرجع إليها كما قد شوهد عنهم الرجوع إليها في
جميع أحوالهم ، وهل يصحّ اعتبار قول مَن خالف ما ذكرناه كائنًا مَن كان ما لم يكن
عن الله أو عن رسوله , وقد عرفت حكمها في ذلك .
فكيف يصح قول الدكتور إن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لم
يعاملوا السنن النبوية بغير ما عاملوا به القرآن إلا لتندثر وتزول من بين المسلمين
مع ما عرفت مما قدمناه عن القرآن . وَلِمَ لَمْ يصرح الله ولا رسوله - صلى الله
عليه وسلم - ولا أصحابه - رضي الله عنه - بما صرح به حضرة الدكتور ؟
إنّ مَن تتبع أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - ووصاياه ومواعظه وخطبه
يجدها موافقة لِمَا دلّ القرآن عليه ، ومناقضة لما زعمَه حضرة الدكتور : ( إنِّي
تَارِكٌ مَا إنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا ، كِتَابَ اللهِ وَسُنَّتِي ) , والأحاديث متواترة في أمْرِه
- صلى الله عليه وسلم - أن يبلغ عنه ، وفي وجوب اتباع سننه أيضًا تواترًا معنويًا ،
أما أقوال الصحابة - رضي الله عنهم - في اتباع الكتاب والسنة ، فأكثر من أن
تستقصى ، بل ذلك إجماع عنهم وعن سائر المسلمين ، وكل ما خالف الكتاب والسنة ,(1/386)
فإنما هو عند الصحابة - رضي الله عنهم - من الرأي المذموم ، وهو الظن
المشئوم الذي حذر الله عنه في كتابه , فحمله حضرة الدكتور على الرواية والمروي
بلا بيّنة ، بل بناءً على اصطلاح المصطلحين . على أن كل مَن سِوَى الرسول
- صلى الله عليه وسلم - غير معصوم من الخطأ والسهو .
هذا ولا يحيط بسنته - صلى الله عليه وسلم - إلا مجموع الأمة , وما عند
الأمة من ذلك قد دوّن وها هو بين أيدينا , فهلمّوا بنا إلى اقتفائه واتباعه - صلى الله
عليه وسلم - الذي لا حياة ولا نجاة لنا إلا به ? وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ?
( الأنفال : 46 ) ? فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ? ( النور : 63 ) الآية
? وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ ? ( النور : 52 )
نسأل الله لنا ولأخينا الدكتور الهداية والتوفيق لصراط الذين أُنعم عليهم من النبيين
والصِّدِّيقِينَ والصالحين ، وأن يوفق من أراد له الهداية ، إنه سميع مجيب , وآخر
دعوانا أَنِ الحمد لله ربّ العالمين , وصلى الله وسلم على رسوله الأمين وآله
وأصحابه الطيبين ومتبعيهم بإحسان إلى يوم الدين آمين .
كتبه بيده وقاله بفمه
الحقير صالح بن علي اليافعي عفا الله عنه
( المنار )
إذا أراد الدكتور محمد توفيق أفندي صدقي أن يرد على هذه الرسالة ، فالمرجو
منه أن يبين ما يراه منتقدًا منها بالاختصار , ولا يطيل في أصل الموضوع ، وأن
يُسلِّم بغير المنتقد عنده تسليمًا صريحًا .
((يتبع بمقال تالٍ))
________________________
(( مجلة المنار ـ المجلد [ 11 ] الجزء [ 7 ] صـ 521 رجب 1326 ـ أغسطس 1908 ))
السنن والأحاديث النبوية
كلمات في النسخ والتواتر وأخبار الآحاد والسنة
رد على الأستاذ الفاضل الشيخ صالح اليافعي [*]
أنا لا أريد أن أناقش أخانا الفاضل العالم العامل الأستاذ الشيخ صالحًا اليافعي(1/387)
في جميع ما كتبه ردًّا عَلَيَّ , فإن ذلك يؤدي إلى التطويل والتشويش وملل القارئين
وسآمتهم وضياع أوقاتهم وربما خرجنا بالتطويل عن الغرض ، وتركنا الجوهر
وأكثرنا الكلام في العرض ، فلذا آثرت أن أذكره بكلمات قليلة في الموضوع هي
تبصرة للمفكرين . وعبرة للناقدين ? وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ المُؤْمِنِينَ ? ( الذاريات :
55 ) , وقبل البدء في هذه الكلمات أقدم له جزيل الشكر على غيرته على دينه ,
وعلى ما أبداه من الأدب العالي في جميع ما خطَّه قلمُه , وأسأل الله تعالى أن يكثر
بين المسلمين من أمثاله . وهذه هي الكلمات :
( الكلمة الأولى ) - في تقرير بعض شبهات غير المسلمين على مسألة النسخ
في القرآن - قالوا : إن محمدًا قد بلغ من الدهاء مبلغًا بحيثُ صار يلعب بعقول
أصحابه , ويجعلهم يقبلون منه ما لا يُقْبَل من غيره , فكان يأتيهم بالآية من قرآنه ,
فإذا اتَّضَحَ له فيها عيب , أو سمع عليها انتقادًا في مغزاها , أو معناها أمر أصحابه
بإسقاطها من القرآن بدعوى أنها نسخت . وبلغ به الأمر أنه إذا كان ما في الآية من
الأحكام متفقًا مع هوى الأُمّة أو مصلحتها , ولكن كان في إنشائها شيء لم يرق له
بعد إذاعتها أسرع بنسخ لفظها دون معناها خوفًا من أن يوجد في العرب من يمكنه
أن يعارضها في بلاغتها . وإذا أتاهم بحكم واتضح له بعد تجربته أنه لم يَرْضِ
الناس أو أنه لا ينفعهم , أو قد يضر بمصلحتهم الْتَجَأَ إلى حيلته المشهورة ، وهي
دعوى النسخ في الأحكام ، وبذلك كثرت بين المسلمين الآيات المنسوخة لفظًا وحكمًا ,
أو لفظًا فقط , أو حُكْمًا فقط .
( قالوا ) : ولا يدري أحد ما الحكمة في كل هذا التقلب والتلون سوى
التخلص مما كان يقع فيه من الورطات والغلطات ، ولولا ذلك لما أمكنه التخلص
منها ، وقد ضاع بسبب ذلك مما أتى به من القرآن آيات كثيرة جاء ذكرها في
أحاديث المسلمين ، وهي وإنْ كان أكثرها مما فقد بسبب إهماله في المحافظة على(1/388)
قرآنه إلا أن المسلمين اعتذروا عن ذلك بدعوى النسخ , وقالوا تحكّمًا : إنها جميعًا
مما نسخ لفظه ، وإن كان لا يمكنهم التعليل عن ذلك بعِلّة معقولة ، ولا يمكنهم الإتيان
بحكمة لذلك مقبولة ، على أن أكثر الروايات التي ذكرت فيها هذه الآيات صريحة
في أنها ضاعت من القرآن , ولم يَرِدْ فيها ذِكْرٌ للنسخ لا تصريحًا ولا تلميحًا ، وما
بقي من القرآن الآن بعد كل هذا التصحيح والتنقيح تجد شططًا في كثير من أحكامه
فضلاً عما في عباراته من المتناقضات والاختلافات والمسائل الخاصّة بمحمد وأهل
بيته ، ولا فائدة منها لأحد سواه ، كالآيات الكثيرة من سورة الأحزاب والتحريم
وكبعض آيات سورة الحجرات والمجادلة ، فإذا صح عند المسلمين نسخ ألفاظ الآيات
التي أدت وظيفتها وانقضى زمنها ، فلماذا لم تنسخ ألفاظ أمثال هذه الآيات الواردة
في حالات خَاصَّة وفي وقائع خَاصَّة ، وقد أدت وظيفتها وانقضى زمنها ؟ وما حكمة
نسخ ألفاظ آية الرَّجْم مثلاً مع بقاء حكمها في شريعة المسلمين ؟
هذا شيء من شبهات القوم على مسألة النسخ في القرآن ، وقد قررناه هنا كما
يقررونه في كتبهم الطاعنة في الإسلام ، ومنه ترى أن اعتمادهم فيها إنما هو على
روايات الآحاد التي يتمسك بها المسلمون , وعلى ما اتفق عليه جمهورهم من تسليم
مسألة النسخ والقول بها ، وكان الأولى بعلمائهم الذين يقولون بالنسخ أن ينظروا في
أمثال هذه الشبهات نظرة تحقيق وتدقيق ، ويردوها بالبرهان إن كانوا قادرين ، بدل
أن يقوموا في وجهنا ويردّوا مذهبنا في هذه المسائل بما هو في الحقيقة طعن في
أصول الدين ، وبمثابة تسليم سكاكين للخصم ليقطع بها منهم الوتين ، فَحَسْبُنَا الله
ونعم الوكيل .
أنا لا أقول ذلك ليأخذ المسلمون برأيي بلا برهان ، بل قد قدمت من البراهين
ما يقنع المنصفين ، ويهدي المستهدين ، وسأزيد الأمر قوة في الكلمات الآتية بما(1/389)
سيكون إن شاء الله نافعًا للمؤمنين ، هادمًا لجميع شبهات أعدائهم المخالفين .
( الكلمة الثانية ) - في بيان أسباب نشوء مذهب النسخ بين جمهور المسلمين
وتواتره في جميع الأزمنة - اعلم أن من أسباب ذكره في عصر الصحابة أمورًا منها :
( 1 ) كلامهم في نسخ الأحاديث والسنة ، فقد كانت الأحاديث والسنن تنسخ
بأحاديث وسنن مثلها وتنسخ أيضًا بالقرآن الشريف ، فالكلام في النسخ قديم بين
المسلمين ، ونشأ منذ نشوء الشريعة الإسلامية .
( 2 ) ثم إن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يستعملون لفظ النسخ في
القرآن بمعنى أوسع مما جرى عليه المتأخرون ، فكانوا يريدون به تخصيص العامّ ,
وتقييد المطلق وتبيين المجمل ؛ لأن من معاني النسخ الرفع ، وفي كل ما تقدم رفع
لدلالة العام والمطلق والمجمل ، فلذا تواتر بين المسلمين الكلام في نسخ القرآن كما
تواتر بينهم الكلام في نسخ السنة والأحاديث . أما رفع حكم الآية مطلقًا فقد دلّ
الاستقراء على عدم وجود شيء منه في القرآن كما بيناه في المقالات السابقة , ولم
يرد نصّ قاطع عن الرسول بشيء من ذلك , ولم يصرح به الكتاب العزيز , وإن
سلم أن بعض الصحابة قال به في بعض الآيات فهو مذهب له في فهمها , ولسنا
ملزمين بتقليد أي صحابي فيما فهم ، ولذلك خالف جميع المفسرين ابن عباس وهو
أعلم الصحابة بالتفسير في كثير مما ذهب إليه فيه على أن أكثر الروايات المأثورة
عن الصحابة في التفسير موضوعة كما قال الإمام أحمد بن حنبل ونقله عنه
السيوطي في الإتقان ، فلا يمكننا أن نعلم باليقين رأي الصحابة في أكثر الآيات التي
يحصل فيها هذا الخلاف .
على أنه قد نقل فيما صح عندهم من الروايات أن بعض الصحابة كان ينكر
النسخ في الآيات ، بمعنى أن يبطل حكمها مطلقًا , أو أن تلغى فلا تتلى ولا يعمل بها ،
كأبي بن كعب فإنه رضي الله عنه كان يقول : ( إني لا أدع شيئًا سمعته من(1/390)
رسول الله صلى الله عليه وسلم ) . يريد بذلك أنه لا يترك آيةً ما بدعوى أنها
منسوخة كما رواه البخاري في صحيحه ، فالنسخ وإن أنكرناه بمعناه عند الخلف ,
فنحن لا ننكره ببعض معانيه كما عند السلف , ولا نرى عيبًا في تسميتهم
التخصيص والتقييد والتبيين نسخًا . فإن كان هناك اختلاف ما بين مثل أبي مسلم
الأصفهاني أحد منكري النسخ وبين الصحابة , فهو خلاف لفظي لا حقيقي كما لا
يخفى .
فمسألة النسخ هذه اختلف فيها المسلمون من عدة وجوه :
( 1 ) في معانيها .
( 2 ) في الآيات المنسوخة ، وقد أنكر الإمام الشوكاني وغيره النسخ إلا في
بضع آيات , وأنكره غيره في جميعها بمعناه عند المتأخرين كما هو مذهبنا .
( 3 ) في جواز نسخ القرآن بالسنة ، وأنكره الإمام الشافعي رضي الله عنه ،
فأنا بما قلته في هذه المسألة لم أكن بدعًا من المسلمين في شيء ، فإن المسألة فيها
خلاف من عدة وجوه من العصر الأول إلى اليوم , وأكثر ما فيها من الخلاف هو في
الحقيقة لفظي , وإن كان لتقريرها على الوجه الذي ذهبنا إليه فيما كتبناه سابقًا تَندكّ
دعائم شبهات المخالفين لنا في الدين وتسقط حجتهم .
أما الروايات التي تفيد نسخ لفظ القرآن أو ضياع شيء منه فقد أنكرها كثير
من محققي أئمة المسلمين سلفًا وخلفًا , وأظهر بعضهم أن أكثرها من وضع الملاحدة
لتشكيك المؤمنين . وهي تنافي النصوص المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم الصادق الأمين : ? إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ? ( الحجر : 9 ) -
? وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا ?
( الكهف : 27 ) , وهي لا تتفق مع ما علم بالتواتر من عناية المسلمين بكتابهم حفظًا
وكتابةً مِن عهد الرسول إلى اليوم ، فهي إن لم تكن موضوعة من أعداء الإسلام
المنافقين لغش المسلمين وتشكيكهم في دينهم, فلا يبعد أن يكون الواضع لها من(1/391)
بعض الفرق الإسلامية لتأييد مذهب لهم في مسألة ما , أو إثبات دعوى باطلة لا
يجدون لها سندًا من الكتاب المتواتر , فيختلقون الروايات , ويدّعون أنها كانت قرآنًا
ونسخ ، وقد انطلت حيلتهم هذه على بسطاء المحدثين ، كما انطلت عليهم في مسائِلَ
أخرى كثيرةٍ , يقف عليها من مَارَسَ علم الحديث ؛ فاخترعوا من الأحاديث ما يؤيد
مذاهبهم ومزاعمهم . وقد يكون منشأ بعضها خطأ الراوي وعدم فهمه حقيقة بعض
المسائل , فيظن أن كل ما أوحي إلى النبي ولا يجده الآن في القرآن كان قرآنًا ونسخ
كحديث : ( بلغوا قومنا أنا قد لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه ) , فوقع بسبب
ذلك في الغلط رواية ودرايةً ، ولو علم أن من الوحي ما ليس بقرآن مطلقًا لما سمّاه
قرآنًا .
وإني لأَعْجَب من قبول بعض المسلمين ذلك منهم واستشهادهم على نسخ اللفظ
بآية : ? سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى * إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ ? ( الأعلى : 6-7 ) مع أن مثل هذا
الاستثناء قد ورد - كما قرره الأستاذ الإمام - في القرآن لتأييد النفي ، ولبيان أن لا
شيء في هذا الوجود يستعصي على مشيئة الله ، فكأنه يقول : إنك لا تنسى أبدًا إلا
إن قضى الله بذلك ، فلا رادّ لقضائه ، ولكنه تعالى لا يقضي به كما وعد بذلك في
مثل الآيتين السابقتين . وقد ورد مثل هذا المعنى في آيات كثيرة في القرآن الشريف
كقوله تعالى : ? خَالِدِينَ فِيهَا مَادَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ ? ( هود :
107 ) مع قوله : ? خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ? ( النساء : 57 ) ? وَمَا هُم مِّنْهَا
بِمُخْرَجِينَ ? ( الحجر : 48 ) وغيره كثير .
((يتبع بمقال تالٍ))
________________________
(*) للدكتور محمد توفيق أفندي صدقي .
(( مجلة المنار ـ المجلد [ 11 ] الجزء [ 8 ] صـ 594 شعبان 1326 ـ سبتمبر 1908 ))
السنن والأحاديث النبوية
( 2 )
كلمات في النسخ و التواتر وأخبار الآحاد والسنة(1/392)
رد على الأستاذ الفاضل الشيخ صالح اليافعي [*]
( الكلمة الثالثة ) في بيان ما استشكله الأستاذ الشيخ اليافعي في تفسيرنا
للآيات التي يستدلون بها على النسخ في القرآن . إن استدلالهم على النسخ بقوله
تعالى : ? مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ? ( البقرة : 106 ) قد
فنده الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى في تفسيره كما نقلنا ملخصه عنه في مقالة الناسخ
والمنسوخ ، وقلنا : إن المراد بالآية هنا هي العلامة والدليل على النبوة كالمعجزة
ونحوها ، ومعنى نسخها : ترك العمل بها في التأييد وعدم إظهارها مرة أخرى
لتصديق النبي ، وذلك على حد قوله تعالى في آية أخرى في هذا المعنى : ? وَلَقَدْ
أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ
بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ? ( الرعد : 38 ) أي لكل زمن حال مكتوب عليهم ومقدر
لهم لا يناسبهم غيره ? يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ ? ( الرعد : 39 ) من الآيات السابقة
وغيرها ، فلا يعيدها مرة أخرى للأمم اللاحقة ، لعدم مناسبتها لحالهم ، فهو كقوله
هناك : ? مَا نَنْسَخْ ? ( البقرة : 106 ) فالمجرد النسخ في الآيتين بمعنى واحد
? وَيُثْبِتُ ? ( الرعد : 39 ) ما يشاء مما يرى الحكمة في إبقائه أو إعادته ? وَعِندَهُ أُمُّ
الكِتَابِ ? ( الرعد : 39 ) أي العلم التامّ بكل حال وما يناسبه : فالسياق في هاتين
الآيتين يدل على ما قلناه فيهما ، وهما مُفسِّرتان بعضهما لبعض .
يقول الأستاذ الفاضل : لو كان تفسيرنا لهذه الآية صحيحًا لكان التقدير فيها :
ما ننسخ من مثل آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها . ونقول : نعم , فليكن كذلك
فهو كقوله تعالى : ? وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ ?(1/393)
( الإسراء : 59 ) , فإن تقديره : وما منعنا أن نرسل بالآيات التي تقترحونها إلا أن
كذب بمثلها الأولون ، وقوله تعالى : ? نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ? ( البقرة : 106 ) ,
فإنما المثلية في قوة الحجة والإقناع ، لا في كُنْهها وماهيتها ، فأي عيب يراه
الأستاذ في هذا المعنى ، وكيف يفسر هذه الآيات وآية ? وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ ?
( الرعد : 38 ) إلخ الآية التي سبق ذكرها ؟ .
فكل آية من آيات الأنبياء السابقين التي نسيها الناس أو لم يظهرها الله تعالى
مرة ثانية على يد النبي صلى الله عليه وسلم قد أتى بمثلها في الإقناع والهداية أو
بخير منها في ذلك ، فأظهر تعالى على يده معجزات كثيرة ، وأنزل عليه آيات
الكتاب العزيز ، فهو المعجزة العظمى الباقية ، وآية الآيات الكبرى الخالدة ، التي
رآها الناس في كل زمان ومكان ، ويقدرها العقلاء قدرها ، فإنها لا تشتبه بسحر ولا
بشعوذة أو غش أو تدليس ، فهي خير من جميع المعجزات التي سبقتها ، وأعم فائدة
وأتم دليلاً ، وأكثر مناسبة لحال البشر ، وقد ظهر ذلك الآن أتم الظهور ، فنرى
العلماء اليوم في أوربا وكثير من البلاد المتمدنة صاروا ينفرون من ذكر المعجزات
الحسية ، ويودون لو أوتي أنبياؤهم معجزات غيرها علمية عقلية أدبية ، أي كمعجزة
القرآن الشريف . فلو لم يؤت صلى الله عليه وسلم سواه لكفى ، ولذلك قال تعالى :
? أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ
يُؤْمِنُونَ ? ( العنكبوت : 51 ) فما بالك وقد أعطي معجزات كثيرات غيره ، كما
تواترت به الأخبار .
واعلم أن نظم الآية التي نحن بصدد تفسيرها لا يقبل أي معنى آخر سوى ما
اخترناه فيها ، ولذلك ختمت بقوله تعالى : ? ألَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ?(1/394)
( البقرة : 106 ) , فلو كان المراد آيات الأحكام ، كما يقولون لقال : ألم تعلم أن الله
عليم حكيم ، فإنه أتم مناسبة وأشد ملاءمة لما يقولون ، ولما قال بعدها : ? أَلَمْ تَعْلَمْ
أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ * أَمْ
تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ
ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ? ( البقرة : 107-108 ) فقد سأل بنو إسرائيل موسى من قبل
مقترحين آيات غير ما أراهم عنادًا وكفرًا ? فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً ? ( النساء :
153 ) , فإذا كان تفسيرهم صحيحًا ، فما مناسبة هذا الكلام هنا ، وما معناه ؟ ! وإذا
كان المراد آيات الأحكام لا المعجزات ، فهل الله تعالى أتى بدل الآيات المنسوخة
بآيات خير منها ؟ إن كان ذلك صحيحًا ، فكيف نسخ كثير من أحكام القرآن بالسنة
على قول بعضهم ؟ مثلاً قالوا : إن آية ? الوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ ? ( البقرة :
180 ) قد نسخت بحديث ( ألا لا وصية لوارث ) فلم لم يأت بدلها في القرآن ؟
وأين البدل للآيات التي نسخ لفظها وحكمها معًا ؟ كقوله : عشر رضعات معلومات
يحرمن ، الذي نسخ على زعمهم بقوله : ( خمس رضعات معلومات ) , ثم نسخ لفظ
هذا الأخير ، ولم يأت بدله ، ولا يزال حكمه باقيًا ، كما في مذهب الشافعي ، وكذلك
لم يأت بدل للفظ : الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة ، وغير ذلك كثير ! !
أما آية مناجاة الرسول التي فسرناها في مقالاتنا السابقة ، فنزيد على تفسيرنا
لها أن قوله تعالى فيها : ? فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ ? ( المجادلة :
13 ) إلخ ، معناه : إن لم تفعلوا ما ندبتم إليه من تقديم الصدقات قبل مناجاة(1/395)
الرسول ، والحال أن الله قد رجع إليكم بالتخفيف والتسهيل فيما شرعه لكم ، فلم
يعاملكم كما كان يعامل الأمم السابقة ، ولم يعنتكم بشيء مما أوجبه عليكم ، فلذا ندبكم
إلى هذا الأمر ، ولم يجعله عليكم فرضًا ، كما هي سنته في معاملتكم بالرأفة والرحمة ،
فأقيموا الصلاة إلخ ، فقوله : ? وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ? ( المجادلة : 13 ) قد ورد هنا
بمعنى الرجوع إلى التخفيف والتسهيل على هذه الأمة والعدول عن معاملتها
كسابقيها ، لا بمعنى التجاوز عن السيئات وغفران الذنوب . وقد ورد بذلك المعنى
أيضًا في آية أخرى في سورة المزمل ، وهي قوله تعالى : ? عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ
عَلَيْكُمْ ? ( المزمل : 20 ) أي : رجع إليكم بالتخفيف , ورفع عنكم ما يشق
عليكم ، وليس معناه في هاتين الآيتين العفو عن الذنوب ، إذ لا ذنب هنا صدر
منهم .
قال الأستاذ الفاضل الشيخ اليافعي ، منتقدًا على تفسيرنا لآية ? وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً
مَّكَانَ آيَةٍ ? ( النحل : 101 ) : إن السياق لا يدل على أن هذا القول صدر عن أهل
الكتاب كما قلنا ، فإنه لم يتقدم لهم ذكر في السورة .
ونقول : إن صدور هذا الكلام من أهل الكتاب لا ينافي أن غيرهم من العرب
شاركهم في ترديده والموافقة عليه ، عنادًا للنبي صلى الله عليه وسلم وتكذيبًا له ،
فلذلك وردت هذه الآية في سياق الكلام عن مشركي العرب ، فإنهم وافقوا أهل
الكتاب منهم في دعاويهم الباطلة وتعاونوا بهم على تكذيب النبي عليه الصلاة والسلام ،
ولذلك كانوا يقولون تقليدًا لهم في تكذيب القرآن ?? أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ
شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ ? ( الأنبياء : 5 ) , فإنهم لا يؤمنون برسل
الأولين ولا يعرفونهم ولا يصدقون بآياتهم ، ولكنهم يرددون ما يلقيه لهم أهل الكتاب ،
وإن خالف معتقداتهم ، مادام فيه تكذيب للنبي وإغاظة له ، ولذلك ترى في القرآن(1/396)
آيات كثيرة أمثال هذه التكذيبات اليهودية أو النصرانية واردة في سياق الكلام مع
مشركي العرب ، فإنهم جميعًا كانوا متضامنين ومتحدين بعضهم مع بعض على
بغض النبي صلى الله عليه وسلم وتكذيبه وعرقلة مساعيه ، فهم - وإن اختلفت
أديانهم - أمة واحدة ويد واحدة على رسول الله صلى الله عليه وسلم . فمن أمثلة هذا
التضامن والاتحاد في التكذيب قوله تعالى : ? وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا
أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ ? ( الأنعام : 91 ) ولما كان اليهود هم المُوعِزين إلى
المشركين بذلك عنادًا لرسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، وحقدًا عليه ومكابرة له
قال تعالى له : ? قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ
تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ ? ( الأنعام : 91 ) الآية ، وهي واردة في سياق الكلام مع
مشركي العرب للسبب الذي ذكرناه ، وهو أنهم أمة واحدة ومتحدون على بغض
الرسول صلى الله عليه وسلم ، وتكذيبه وتلقين بعضهم بعضًا صنوفًا من الشبهات
والتشكيكات غير مبالين بمخالفتها لمعتقداتهم ، فلذا صح أن ينسب ما يقوله بعضهم
لهم جميعًا لاتباعهم له وتعويلهم عليه في تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم ، وكذلك
في جميع اللغات المعروفة ، ينسب عمل بعض أفراد الأمة إلى الأمة جميعها ،
خصوصًا إذا رضيت به وأقرته ، وإن اختلفوا عقيدة ، فما بالك إذا كانوا جميعًا
يأتون الشيء ويعملونه .
ومن أمثلة ذلك أيضًا قول المشركين : ? لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى ?
( القصص : 48 ) مع أنهم لا يؤمنون بموسى ، ولا بما جاء به ، وهو يدل على أنهم
كانوا يقلدون اليهود تقليدًا أعمى ، ويطيعونهم في جميع ما يوعزون به إليهم ، وإن
نافى معتقداتهم ، كما قلنا إرضاءً لهم واستجلابًا لودهم ومعاونتهم لهم على الرسول
صلى الله عليه وسلم . فكثير من مثل هذه الأقوال كان صادرًا عن اليهود , ثم تبعهم(1/397)
فيه المشركون وصاروا يرددونه عنهم ، فلذا اتبعوا اليهود في تكذيبهم النبي صلى
الله عليه وسلم في قوله : إن القرآن نسخ بعض شرائع التوراة ، كالسبت وتحريم
بعض اللحوم . ولذلك جاءت آية ? وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ ? ( النحل : 101 ) في
سياق الكلام مع المشركين ، مع أن القول صدر أولاً من أهل الكتاب ، وقلدهم فيه
المشركون تقليدًا أعمى ، كما قلدوهم في غيره مما سبق بيانه ، وجاءت به الآيات في
سياق الكلام معهم .
هذا وإن الأستاذ الفاضل قد استنكر جَعْل قوله تعالى : ? إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ
بِآيَاتِ اللَّهِ لاَ يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ? ( النحل : 104 ) وصفًا لليهود ، وفاته
أن الله تعالى قد وصفهم بمثله في آيات أخرى كثيرة ، كقوله : ? وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ
وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ ? ( المائدة : 43 ) - إلى قوله - ? وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ? ( المائدة :
43 ) , وقوله : ? مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ
أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ القَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ ?
( الجمعة : 5 ) .
( الكلمة الرابعة ) - بيان أسباب أن أحاديث الآحاد لا تفيد اليقين .
أولاً : قد يكون الراوي كذوبًا ، لكنه منافق ومتظاهر بالصلاح والتقوى لسبب
ما من الأسباب التي تحمل الناس على الكذب ، وهي كثيرة معروفة ، فيغتر به
بعض الناس ، لعدم معرفتهم عنه شيئًا يجرحه ، لشدة احتراسه وتستُّره . وقد يكون
بعض المحدثين مؤمنًا صادقًا مخلصًا صالحًا لكنه ينخدع لظاهر هؤلاء المنافقين ،
فيأخذ الحديث عنهم ويصدقهم ، وهم كاذبون ، إذ كلما اشتد صلاح المرء ، وخوفه
من الله ، ظن أن أمثاله كثيرون وكثر انخداعه بأعمال المنافقين وظواهرهم ، وتجنب(1/398)
إساءة الظن والتجسس لشدة ورعه وتقواه ، أو بساطته وسذاجته في بعض الأحوال .
وكثرة الكذابين وكثرة ما يضعونه من الأحاديث يشوش على الناقدين الباحثين عملهم
ويوقعهم في الارتباك والخطأ كثيرًا ، فيقبلون أحيانًا ما ليس صحيحًا ويرفضون ما
هو صحيح ، ولا يلزم مِنْ كوْنِ المرءِ غيرَ صالح أو عرف عنه بعض الكذب أن
جميع ما يقوله كذب ، وقد يكون منفردًا بحديث ، فلا يقبل منه لذلك ، مع أنه قد
يكون صادقًا فيه . وقد يكون المرء صالحًا صادقًا ، ولكنه يضطر في بعض الأحيان
إلى أن يكذب ، ولو واحدة ، فلا يسلم ما يؤخذ عنه من أن يكون فيه بعض الكذب أو
المبالغة .
ثانيًا : قد يكون بعض الرواة من الصالحين الصادقين المخلصين ، ولكنه
يخطئ المراد ولا يفهم الحقيقة ، فَيُحدِّث كما فهم معتقدًا أنه صحيح . والتحديث
بالمعنى كان عندهم جائزًا . وقد ينسى شيئًا مما سمعه ويقع في الغلط ، بسبب ذلك
بدون أن يشعر به . ولذلك قال عمران بن حُصَيْن رضي الله عنه : ( والله إن كنت
لأرى أني لو شئت لحدثت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يومين متتابعين ،
ولكن بطأني عن ذلك أن رجالاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعوا
كما سمعت وشهدوا كما شهدت ويحدثون أحاديث ما هي كما يقولون ، وأخاف أن
يشبه لي كما شبه لهم ) ؛ كما رواه ابن قتيبة في كتابه تأويل مختلف الحديث .
ثالثًا : إثبات عدالة رجال الأسانيد كثيرًا ما تكون مبنيةً على شهادة شاهد أو
رواية واحد ، فكأنهم يثبتون صحة الروايات بعدالة الرجال ، ثم يثبتون عدالة الرجال
بالروايات ، ولا يخفى على أحد فساد ذلك ، فإن ما يقال في رجال الأسانيد يقال مثله
جرحًا وتعديلاً فيمن يشهد لهم ويوثقهم ، وربما أدانا ذلك إلى التسلسل أو الدور في
البرهان .
رابعًا : أكثر الأحاديث والروايات مقتضبة ، فلا يعرف المقام الذي قِيلَتْ فيه
ولا مناسباتها ، ومن المعلوم أن الأقوال إذا لم تعرف الظروف التي قيلت فيها قد(1/399)
تخرج عن المراد منها خروجًا كليًّا أو جزئيًّا .
خامسًا : من المشاهد في جميع الأجيال ، وفي جميع الأمم أن حفظ الأحاديث
إذا كانت طويلة أو كثيرة بدون تحريف في ألفاظها أو معانيها ، ولا تبديل ولا زيادة
ولا نقص ، عسير جِدًّا على الناس ، إلا من شذّ ، وقليل هو ، وخصوصًا إذا ألقيت
مرة واحدة . ولذلك جزم بعضهم بأن من ادعى نقل الشيء كما هو بحروفه في مثل
هذه الأحوال فهو مغتر كذاب ، فالنقل في أغلب هذه الأحوال هو تقريبي ، ولا يخفى
ما ينشأ من مثل هذا النقل من الافتراءات والاختلافات والأكاذيب ، فإذا امتاز بعض
الناس بهذه المقدرة فليس جميع الرواة ممن امتازوا بهذه المزية الشاذة .
سادسًا : قبل زمن تدوين الأحاديث ، كان جل رواتها إن لم نقل كلهم ، لا
يكتبون الحديث ولا يعتمدون فيها إلا على ذاكرتهم ، وقد سبق لنا كتابات طويلة في
هذا الموضوع في المنار ومجلة الحياة وجريدة الدستور ، وقد أيدنا فيها الأستاذ الكبير
والعلامة المحقق صاحب المنار الأغر . ومن اعتمد على ذاكرته فقط لا نبرئه من
الخطأ والنسيان في جميع الأحوال مهما كان .
هذا شيء مما يقال في روايات الآحاد ، فهي عندنا لا تفيد اليقين لطروء مثل
هذه الاحتمالات عليها ، وبذلك قال أيضًا الجمهور ، وإن أراد أن ينكر ذلك الأستاذ
اليافعي زاعمًا أنها تفيد اليقين .
وإذا كانت هذه الاحتمالات مما يرد على أحاديث المسلمين ورواياتهم ، فما يرد
على أحاديث غيرهم أشد وأقوى وأكثر ، فإنه لم يعرف عن أي أمة مثل ما عرف
عن الأمة الإسلامية من العناية والتمحيص في الروايات والنقد والبحث في رجال
الحديث ، ولم يكن يخطر على بال غيرهم شيء من مثل ذلك .
ولا خوف على الدين الإسلامي المتين من هذه المطاعن التي أوردناها على
روايات الآحاد ، فإن حجته ناهضة بالمتواتر فيه ، والمجمع عليه فليهدأ المسلمون
بالاً .
( الكلمة الخامسة ) : في ذكر شيء مما خالفوا فيه القرآن لأجل الحديث .(1/400)
قال الله تعالى : ? سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ
حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ
فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ ? ( الأنعام : 148 ) في
هذه الآية - وأمثالها في القرآن كثير - يذم الله تعالى اتباع الظن والقول في دين الله
بغير علم ، أي بغير ما يفيد اليقين ، وهي واردة في سياق الكلام مع من حرموا
أشياء ليس عندهم دليل على أن الله حرمها عليهم ، وقال أيضًا قبل ذلك بقليل :
? وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ
إِلاَّ يَخْرُصُونَ ? ( الأنعام : 116 ) - إلى قوله : ? وَإِنَّ كَثِيراً لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم
بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ ? ( الأنعام : 119 ) , ومنه ترى أن العمل
بالظن في شريعة الله غير جائز ، اللهم إلا إذا اضطررنا إليه ، كما في بعض الأحكام
القضائية ، بِنَاءً على قاعدة : الضروراتُ تبيح المحظورات المؤيدة بالكتاب والسنة ،
وإلا فإنه يحرم على الإنسان أن يحل شيئًا أو يحرمه لدليل ظني ، فما بالك بمن
يعارض القطعي بالظني ؟ لا شك أنه يكون مرتكبًا لإثم كبير . وقد أقر الأستاذ
الفاضل الشيخ اليافعي بأن الظن إنما يذم إذا عارضنا به الأمر القطعي . يقول ذلك
وقد غاب عنه أنه هو ومن على مذهبه كثيرًا ما عارضوا نصوص القرآن الشريف
الصريحة وخالفوها لأجل أحاديث الآحاد ، وهي لا شك ظنية ، كما عليه الجمهور .
وإليك بعض الأمثلة على ذلك :
( 1 ) خالفوا قوله تعالى : ? إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الوَصِيَّةُ(1/401)
لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقاًّ عَلَى المُتَّقِينَ ? ( البقرة : 180 ) الآيات ، لحديث :
( ألا لا وصية لوارث ) .
( 2 ) حرموا أكل الحمر الأهلية التي كانت تأكلها العرب كثيرًا ، لما رووه
من أن النبي صلى الله عليه وسلم حرمها ، مع أن القرآن الشريف يقول : ? قُل لاَّ
أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً ? ( الأنعام :
145 ) الآية . ويقول : ? إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ المَيْتَةَ وَالدَّمَ ? ( البقرة : 173 ) الآية ،
ونحوها كثير .
( 3 ) قالوا بحرمة استعمال الذهب والفضة والحرير للأحاديث التي روَوْها ،
والقرآن يقول : ? قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ
هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَةِ ? ( الأعراف : 32 )
فهي للمؤمنين يتمتعون بها في الدنيا ، وستخلص لهم وحدهم يوم القيامة فيُحلَّون
فيها مِن أساورَ مِن ذهب ولؤلؤًا , ولباسهم فيها حرير .
( 4 ) حرموا أن تنكح المرأة على عمتها أو خالتها للحديث ، وخالفوا قوله
تعالى : ? وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ ?
( النساء : 24 ) بعد أن ذكر سائر المحرمات ، وليس من بينهن المرأة على عمتها أو
خالتها .
( 5 ) أوجبوا القتل مطلقًا على من ارتد عن الإسلام للحديث ، والقرآن يقول :
? لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ ? ( البقرة : 256 ) ? فَمَن شَاءَ
فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ? ( الكهف : 29 ) .
فهذه بعض أمثلة مما عارضوا فيه القطعي بالظني ، وهو مما نكرهه ونذمه ،
وقد ذمه الله تعالى في كتابه العزيز ، كما أقر به الأستاذ المناظر ، وإذا تتبعنا(1/402)
مذاهبهم وجدنا أمثلة غير ذلك كثيرة ، فهل يعقل أن الله يبيح للمسلمين ما كان يذم
لأجله غيرهم في كتابه ؟ .
أنا لا أقول : إن جميع هذه الأحاديث يجب أن تكون موضوعة ، ولكن لا يبعد
أن بعضها كان كذلك والبعض الآخر يغلب الظن أن له أصلاً صحيحًا ، وأنه كان
شريعة خاصة بأحوال خاصة وظروف مخصوصة في مبدأ الإسلام ، ولا تخفى
حكمة ذلك على الناقد البصير إذا تأملها . وما جاء به القرآن هو الشرع العام لكل
زمان ومكان ، ولذلك لم تأت أمثال هذه المسائل الخاصة فيه , ونهى رسول الله
صلى الله عليه وسلم المسلمين عن تدوينها كي لا تكونَ خالدةً بينهم كالقرآن الشريف
ولتزول من بينهم بزوال عللها وأسبابها ، كما سنبينه إن شاء الله تعالى في رسالة لنا
في هذه المسائل سنطبعها على حِدَة لطولها . فالمسلمون اتبعوا كثيرًا من مثل هذه
الأحاديث مع اعترافهم بأنها ظنية ، وخالفوا لأجلها القرآن الشريف مع أن ذلك مذموم
فيه . وقد نسوا علل ما كان صحيحًا منها ولم يراعوا أسبابها ولا الظروف التي قيلت
فيها ، مع أن معرفة أسباب الأحاديث النبوية يحتاج إليها أكثر من الاحتياج إلى
معرفة أسباب نزول القرآن الشريف ، ولذا لم يحسن المسلمون الجمع بين هذه
الأحاديث وبين نصوص الكتاب العزيز . وهذه الأشياء هي مما ننكره عليهم ،
وخصوصًا لأن من الأحاديث التي يسلمونها ما يوجب الطعن في الكتاب المتواتر
نفسه ، كما أشرنا إليه في الكلمة الأولى . فلولا تغالبُهم في اعتبار الأحاديث لَمَا وقعوا
في كثير مما وقعوا فيه من الاختلافات والإشكالات والشبهات وغيرها ، حتى جعلوا
اليسر عسرًا والسهل لغزًا .
وإني لأعجب من أهل الحديث ، هل إذا سمعوا أي قول منسوب إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم يلزمون أنفسهم بالبحث في رجال سنده وتواريخهم أم عليهم
العمل به لمجرد نسبته إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بدون بحث ولا تنقيب .(1/403)
أما الأمر الثاني فهم لا يجوزونه لظهور فساده ، وأما الأمر الأول فكأنه يجب
على كل مسلم بمجرد ما سمع أقوالاً منسوبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
يفني حياته في معرفة أحوال رجالها والوقوف على أمورهم ، وإذا لاحظنا أن التقليد
في الإسلام منهي عنه وجب على كل فرد أن يبحث في أحوال الرجال وينقدهم
ويمحص كل ما وصله في الأحاديث وما يصله بنفسه ، وإلا بقي دينه ناقصًا ، فأي
حرج في الدين أكبر من هذا ، وخصوصًا كلما طال العهد على رجال الأسانيد وبُعْد
مكانهم وزمانهم عنا . والله يقول : ? مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ? ( الحج :
78 ) .
((يتبع بمقال تالٍ))
______________________
(*) للدكتور محمد توفيق أفندي صدقي .
(( مجلة المنار ـ المجلد [ 11 ] الجزء [ 9 ] صـ 688 رمضان 1326 ـ أكتوبر 1908 ))
حديث منع الدين بنصارى من ربيعة
س 28 : من الشيخ محمد سالم الكلالي بسنغافورة .
سيدي الأستاذ المحدث السيد محمد رشيد رضا المحترم متع الله المسلمين
بحياته .
بعد السلام : قد أشكل على العبد الفقير ما جاء في الصفحة الـ 333 من
الجزء الخامس من كتاب تهذيب التهذيب ، لابن حجر في ترجمة عبد الله بن عمر
القرشي حديث : ( إن الله يمتنع ( كذا ) هذا الدين بنصارى من ربيعة ) انتهى فما هو
صواب عبارة هذا المتن ؟ ثم ما معناه وهل هو صحيح أم لا ؟ أفيدونا لا زلتم مصدرًا
للإفادات في المشكلات والسلام .
ج - صواب متن الحديث : ( إن الله سيمنع هذا الدين بنصارى من ربيعة )
فالتحريف من الطبع فيما يظهر والنسخة المطبوعة عندي بمصر ولا أعلم أنها توجد
هنا - في الآستانة - ومعنى المنع الحماية ومنه منع الأنصار النبي صلى الله عليه
وسلم مما يمنعون منه نساءهم وأهلهم في حديث الهجرة ؛ أي : حمايته ، وهو
يحمل على من أسلم منهم ، وأما سنده فقد رواه عن سعيد بن عمرو بن سعيد ابن(1/404)
العاص وأخرجه عنه النسائي ورجاله كلهم في تهذيب التهذيب لديكم فراجعوا تراجمهم
فيه وفي غيره مما لديكم . وما أراه يصح عنه ، ولكن ليس لدي الآن وأنا في السفر ما
أراجع فيه ، ولا الحديث من المشهورات فيحفظ ولا هو مما يتعلق به عمل فيضر
تأخير البيان فيه.
________________________
(( مجلة المنار ـ المجلد [ 13 ] الجزء [ 5 ] صـ 344 جمادى الأولى 1328 ـ يونيه 1910 ))
حديث إن شريعتي جاءت على 360 طريقة
( س 52 ) من م . م الجاوي في بتاوى
ما قولكم دام فضلكم في حديث رواه الطبراني مرفوعًا ؛ وهو قوله صلى الله
عليه وسلم : ( إن شريعتي جاءت على ثلاث مئة وستين طريقة فمن سلك طريقة
منها نجا ) فما معنى الطريقة التي مُيزت بها الشريعة إلى ذلك العدد وكلها على هدى
وصواب ؛ بدليل قوله صلى الله عليه وسلم : ( فمن سلك طريقة منها نجا ) وكل
واحدة منها على خلاف الأخرى ؛ بدليل قوله : ( منها ) ، الذي يشير إلى التبعيضية
ذكر ذلك الحديث الولي الرباني الشيخ عبد الوهاب الشعراني في كتابه ميزان
الخضرية ، وقال قُبيل ذلك الحديث ، وسمعت سيدي عليًّا الخواص رحمه الله يقول :
إياكم والإنكار على كلام أحد من العلماء إلا بعد الإحاطة بجميع طرق الشريعة ، ولم
تجدوا ذلك الكلام فيها ، ثم عقب واستنبط بهذا الحديث بقوله : ( فقد روى الطبراني
مرفوعًا ) ، فتفضلوا يا سادات الكرام بالجواب بهذا ، وقد سألنا عنه مشايخ الجاوه
مرارًا ، ولم يكشف أحد على ذلك فبقينا متألمين .
( ج ) هذا الحديث لا يصح بل يمكن الجزم بوضعه ؛ لما يأتي من الدليل ،
ولم يذكر في أي كتب الطبراني هو و سليمان الطبراني ، قد أورد في معجمه
الأوسط عن كل شيخ من شيوخه ما له من الغرائب والعجائب في روايته ، قال
الحافظ ابن حجر : ( وفيه كل نفيس وعزيز ومنكر ) ، والظاهر أن هذا من منكراته
وصنف المعجم الصغير وهو عند كل شيخ له حديث واحد ، ومتى أطلق المحدثون(1/405)
ما أنفرد به الطبراني عنَوْا : أنه ضعيف ، ونقْل الشعراني للحديث واحتجاجه به ،
لا يدل على صحته ولا على كونه صالحًا للاحتجاج به ، وهذا الحديث مخالف لما
ورد في الكتاب والسنة ؛ من كون سبيل الحق وطريقه واحدة ، كقوله تعالى :
? وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ?
( الأنعام : 153 ) وما فسره به النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فيما رواه ابن مسعود
قال : خط رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خطًّا ثم قال : ( هذا سبيل الله ) ثم خط
خطوطًا عن يمين ذلك الخط وعن شماله ثم قال : ( وهذه السبل ليس منها سبيل
إلا عليه شيطان يدعو إليه ) ثم قرأ هذه الآية ، رواه أحمد وابن حميد والبزار
والنسائي وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه ،
والآية والحديث المفسر لها موافقان للآيات والأحاديث الكثيرة الناهية عن
تفرُّق المسلمين في دينهم إلى الشيع والطرائق ، وحديث الطبراني هذا يخالفها ،
ومنها قوله تعالى : ? وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً ?
( الجن : 11 ) ثم قال في هذه السورة سورة الجن ? وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ
لأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقاً ? ( الجن : 16 ) ، فعلم من ذلك أن الطريقة المعرَّفة هي طريقة
الحق التي كان عليها الصالحون ، وأن الذين كانوا على سائر الطرائق القِدَد ليسوا
على الحق ، ويخالف حديث تفرق الأمة على 73 فرقة كلها في النار إلا واحدة ،
وهو مع ذلك لا ينطبق على حديث شعب الإيمان كما ظن بعض أصحابنا ؛ لأن تلك
الشعب تجمعها طريقة واحدة هي طريقة الكتاب والسنة على الوجه الذي كان عليه
النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه ، فإنَّ أَعْلاها شهادة التوحيد وأدناها إماطة
الأذى عن الطريق ، ولا يمكن أن يكون التوحيد طريقة ، والصلاة طريقة أخرى ،(1/406)
وإماطة الأذى عن الطريق شعبة أخرى ، فالحديث موضوع قَطْعًا .
________________________
(( مجلة المنار ـ المجلد [ 13 ] الجزء [ 11 ] صـ 828 ذو القعدة 1328 ـ ديسمبر 1910 ))
فوائد شتى [*]
بسم الله الرحمن الرحيم
العمل بالحديث الصحيح
قال السِّندي في حواشيه على فتح القدير من كتب الحنفية : الحديث حجة في
نفسه ، واحتمال النسخ لا يضر فإن من سمع الحديث الصحيح فعمل به ، وهو
منسوخ فهو معذور إلى أن يبلغه الناسخ ، ولا يقال لمن سمع الحديث الصحيح : لا
يَعمل به حتى يعرضه على رأي فلان وفلان ، فإنما يقال له : انظر هل هو منسوخ
أم لا ؟ . أما إذا كان الحديث قد اختلِفَ في نسخه ، فالعامل به في غاية العذر ، فإن
تطرُّق الاحتمال إلى خطإ المفتي أقوى من تطرق الاحتمال إلى نسخ ما سمعه من
الحديث . قال ابن عبد البر : يجب على من بلغه شيء أن يستعمله على عمومه
حتى يثبت عنده ما يخصصه أو ينسخه ، وأيضًا فإن المنسوخ من السنة في غاية
القلة حتى عده بعضهم أحدًا وعشرين حديثًا ، وإذا كان العامي يسوغ له الأخذ بقول
المفتي ، بل يجب عليه مع احتمال خطإ المفتي فكيف لا يسوغ له الأخذ بالحديث إذا
فهم معناه وإن احتمل النسخ ؟
ولو كانت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يسوغ العمل بها بعد
صحتها حتى يعمل بها فلان ، لكان قولهم شرطًا في العمل بها ، وهذا من أبطل
الباطل .
وقد أقام الله - تعالى - الحجة برسوله - صلى الله عليه وسلم - دون آحاد
الأمة ، ولا يعرض احتمال الخطإ لمن عمل بالحديث ، وأفتى به بعد فهمه إلا
وأضعاف أضعافه حاصل لمن أفتى بتقليد من لا يُعلم خطؤه من صوابه ، ويجري
عليه التناقض والاختلال ، ويقول القول ويرجع عنه ، ويحكى عنه في المسألة عدة
أقوال .
وهذا كله فيمن له نوع أهلية ، أما إذا لم يكن له أهلية ففرضه ما قال الله -
تعالى - : ? فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ? ( النحل : 43 ) وإذا جاز(1/407)
اعتماد المستفتي على ما يكتبه له المفتي من كلامه أو كلام شيخه ، وإن علا فَلأَنْ
يجوز اعتماد الرجل على ما كتبه الثقات من كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
أولى بالجواز ، ولو قُدِّر أنه لم يفهم الحديث فكما لو لم يفهم فتوى المفتي يسأل
من يعرفها ، فكذلك الحديث . انتهى كلام السندي ملخصًا ، وقد أطال من هذا النفس
العالي - رحمه الله تعالى ورضي عنه - .
***
الفقه في الدين والاجتهاد
قال الإمام تقي الدين ابن دقيق العيد من أئمة الشافعية في خطبة ( شرح الإلمام )
كما نقله عنه السبكي في طبقاته في ترجمته : إن الفقه في الدين منزلة لا يخفى
شرفها وعُلاها ، ولا تحتجب عن العقول طوالعها وأضواؤها ، وأرفعها بعد فهم
كتاب الله المنزَّل ، البحث عن معاني حديث نبيه المرسل ؛ إذ بذاك تثبت القواعد
ويستقر الأساس ، وعنه يقوم الإجماع ويصدر القياس ، لكن شرط ذلك عندنا أن
يحفظ هذا النظام ، ويجعل الرأي هو المأموم والنص هو الإمام ، وترد المذاهب إليه ،
وترد الآراء المنتشرة حتى تقف بين يديه .
وأما أن يُجعل الفرع أصلاً ، ويرد النص إليه بالتكلف والتحيّل ، ويحمل على أبعد
المحامل بلطافة الوهم وسعة التخيل . ويرتكب في تقرير الآراء الصعب والذّلول ،
ويحتمل من التأويلات ما تنفر منه النفوس وتستنكره العقول ، فذلك عندنا من أردأ
مذهب وأسوأ طريقة ، ولا نعتقد أنه يحصل معه النصيحة للدين على الحقيقة ،
وكيف يقع أمر مع رجحان منافيه ؟ وأنَّى يصح الوزن بميزان مال أحد الجانبين فيه ؟
ومتى يُنصف حاكم ملَكَته غضبة الصبية ؟ وأين يقع الحق من خاطر أخذته العزة
بالحمية ؟ .. . إلخ ( الفتوى في الإسلام صحيفة 44 ) .
***
السؤال عما لم يقع
قال الحافظ البيهقي : وقد كره بعض السلف للعوام المسألة عما لم يكن ، ولم
يمض به كتاب ولا سنة ، وكرهوا للمسئول الاجتهاد فيه قبل أن يقع ؛ لأن الاجتهاد(1/408)
إنما أُبيح للضرورة ، ولا ضرورة قبل الواقعة ، وقد يتغير اجتهاده عند الواقعة فلا
يغنيهم ما مضى من الاجتهاد ، واحتج في ذلك بما روي عن النبي - صلى الله عليه
وسلم - ( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ) انتهى ( الفتوى في الإسلام
صحيفة 45 ) .
***
معنى حديث : ( إن الله خلق آدم على صورته )
سئل أحمد بن عطاء أبو عبد الله الروزبادي المتوفى سنة 369 قال الحافظ
ابن عساكر : وفي مروياته أحاديث وهم فيها وغلط غلطًا فاحشًا عن قول النبي -
صلى الله عليه وسلم - ( إن الله خلق آدم على صورته ) فقال : إن الله جل ثناؤه
خلق الخلق مرتبة بعد مرتبة ، ونقله من حال إلى حال كما قال : ? وَلَقَدْ خَلَقْنَا
الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ? ( المؤمنون : 12-
13 ) - إلى قوله- ? فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ ? ( المؤمنون : 14 ) وخلق آدم
ليس على هذه الأحوال ، وإنما خلق صورته كما هي ، ثم نفخ فيه من روحه ؛
فلأجله قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( إن الله خلق آدم على صورته )
اهـ مختصر تاريخ ابن عساكر جزء صحيفة 394 ) .
***
نشوء علم الفلسفة
قال الإمام الذهبي في تذكرة الحفاظ في آخر الكلام على الطبقة السادسة من
طبقاتهم : وكان في زمان هؤلاء خلائق من أئمة الحديث ومن أئمة المقرئين كوَرْش
واليزيدي والكسائي وإسماعيل بن عبيد الله المكي القسط ، وخلق من الفقهاء كفقيه
العراق محمد بن القاسم ، وخلق من مشايخ القوم كشقيق البلخي وصالح المري
الواعظ والفضيل والدولة لهارون الرشيد والبرامكة ثم بعدهم اضطربت الأمور ،
وضعف أمر الدولة بخلافة الأمين - رحمه الله - فلما قتل واستخلف المأمون على
رأس المائتين نجم التشيع وأبدى صفحته ، وبَزَغ فجر الكلام ، وعُرِّبت حكمة
الأوائل ومنطق اليونان ، وعمل رصد الكواكب ، ونشأ للناس علم جديد مُرْدٍ مُهلك(1/409)
لا يلائم عِلم النبوة ولا يوافق توحيد المؤمنين ، قد كانت الأمة منه في عافية .
وقويت شوكة الرافضة والمعتزلة وحمل المأمون المسلمين على القول بخلق
القرآن ودعاهم إليه فامتحن العلماء ، فلا حول ولا قوة إلا بالله ؛ إن من البلاء أن
تعرف ما كنت تُنكر وتُنكر ما كنت تعرف ، وتقدم عقول الفلاسفة ، ويعزل منقول
أتباع الرسل ، ويُمارى في القرآن ، ويتبرم بالسنن والآثار ، وتقع في الحيرة ،
فالفرارَ الفرارَ قبل حلول الدمار ، وإياك ومضلات الأهواء ومجاراة العقول ،
? وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم ? ( آل عمران : 101 ) ( تذكرة
الحفاظ جزء 1 ص 300 ) .
***
كتاب المهذب للذهبي
وجدت بدار الكتب المصرية كتاب ( المهذب ) للذهبي بخطه ، وعلى ظهر
المجلد الأول ما نصه بخطه - رحمه الله تعالى - : ( المجلد الأول من كتاب
المهذب في اختصار السنن الكبير ، تأليف الإمام الحافظ أبي بكر أحمد بن الحسين
بن علي البيهقي - رحمه الله تعالى - اختصار كاتبه محمد بن أحمد بن عثمان
بن الذهبي غفر الله له ) وتحت ذلك بخطه - رضي الله عنه - أيضًا ما نصه :
قال ابن الذهبي : لم أختصر من أحاديث الكتاب شيئًا بل اختصرت الأسانيد ،
فإن بها طال الكتاب ، وبقيت من السند ما يُعرف به مخرج الحديث ، وما حذفت من
السند إلا ما قد صح إلى المذكور ، فأما متونه فأتيت بها إلا في مواضع قليلة جدًّا من
المكرر ، قد أحذفها إذا قرب الباب من الباب ، وآتي ببعض المتن ، وقد تكلمت على
كثير من الأسانيد بحسب اجتهادي ، والله الموفق .
وقد رمزت على الحديث بمن خرجه من الأئمة الستة ( خ م د ت س ق) ولم
أتمم هذا ، فإن فَسَحَ الله في الأجل طالعت عليه الأطراف لشيخنا أبي الحجاج الحافظ
إن شاء الله - تعالى - ، وهذا أمر بيِّنٌ هيِّن ، كل من هو محدث فإنه يقدر على
رمز أحاديث الكتاب من الأطراف ، وما خرج عن الكتب الستة فقد بينت لك إسناده(1/410)
ومخرجه ، فاكشف عليه ، إن شئت من كُتب الجرح والتعديل ، فالرجال ثلاثة ، إما
موثَّق مقبول ، وإما مضعَّف غير حُجَّة ، وإما مجهول ، لكن كل قسم من الثلاثة
على مراتب في القوة واللِّين والجهالة ، انتهى . والنسخة نفيسة جدًّا ، كلها بخطه
خمسة مجلدات تنقص الثاني ، والموجود منها أربعة ، وفق الله لنا من يطبعه ،
وينشره آمين .
***
كتاب الجمع بين الصحيحين
وجدت بدار كتب رواق الأروام بالأزهر جزءًا من الجمع بين الصحيحين
للحميدي وهو السادس ، وقد أحببت نقل خاتمته لما فيها من النفائس ، قال - رحمه
الله تعالى - :
( تم جميع الكتاب بحمد الله وعونه ، نسأل الله - تعالى - أن يجعله خالصًا
لوجهه ، إنه ولي التوفيق ، وهو على كل شيء قدير ، وهو حسبي ونِعم الوكيل ،
ثم قال عقب ذلك :
( وهذه الأصول تتصل بآخر ما في الصحيحين من مسند الصحابة - رضي
الله عنهم - وهو آخر ما قصدنا إليه من الجمع بين الصحيحين ، وتمييز ما اتفقا
عليه من المتون المخرَّجة فيهما ، وما انفرد به أحدهما منها مستقصًى على شرطنا
مرتبًا على ما بدأناه به وبيناه مع الاختصار المعِين على سرعة الحفظ والتذكار ، ولم
يبق للباحث المجتهد إلا النظر فيها والتفقه في معانيها ، ومراعاة حفظها وإقامة
الحُجّة بها ، فإلى هذا قصد المتقدمون من أئمة الدين في حفظ إسنادها للمتأخرين ؛
لتكون حاكمة بين المختلفين وشواهد صدق للمتناظرين - رضي الله عنهم أجمعين
ووفق التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين - .
فأما إسنادنا في هذين الكتابين فقد روينا كتاب الإمام أبي عبد الله البخاري
بالمغرب من غير واحد من شيوخنا بأسانيد مختلفة تتصل بأبي عبد الله محمد بن
يوسف بن مطر الفربري عن البخاري ، ثم قرأته بمكة - أعزها الله - على المرأة
الصالحة كريمة بنت أحمد بن محمد بن حاتم المروزي غير مرة لعلو إسنادها فيه ،
كأنا قرأناه على أبي ذر عبد بن أحمد الهروي عن أبي الهيثم بن المكي بن محمد بن(1/411)
زراع الكُشميهني عن أبي عبد الله محمد بن يوسف بن مطر بن صالح بن بشير بن
إبراهيم الفربري عن أبي عبد الله محمد بن الفرج بن عبد المولى الأنصاري ، وهو
روايته عن أبي العباس أحمد بن الحسن الحافظ الرازي ، سمعه منه بمكة سنة ست
وأربعمائة .
قال : ثنا أبو أحمد محمد بن عيسى بن عمرويه بن منصور الجلودي قال :
أنا الفقيه أبو إسحق إبراهيم بن محمد بن سفيان النيسابوري ، قال: سمعته من الإمام
أبي الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري - رضي الله عنه - .
***
فصل
( وقد استشرف بعض الطالبين إلى معرفة الأسباب الموجبة للاختلاف بين
الأئمة الماضين - رضي الله عنهم أجمعين - مع إجماعهم على الأصل المتفق
المستبين ، حتى احتيج إلى تكلف التصحيح في طلب الصحيح ، وقرَّبت على هذا
الطالب معرفة بعض العُذر في اختلاف المتأخرين لبُعدهم عن المشاهدة ، وإنما تعذر
عليه معرفة الوجه في اختلاف الصحابة - رضوان الله عليهم - مع مشاهدتهم نزول
التنزيل وأحكام الرسول - صلى الله عليه وسلم - وحرصهم على الحضور لديه ،
والكون بين يديه ، والأخذ عنه والاقتباس منه ، وهذا الذي وقع لهذا الطالب الباحث
قد وقع لمن قبله الخوض فيه والبحث عنه .
وخرّج في هذا المعنى بعض الأئمة من علماء الأمة فصلاً رأينا إثباته ههنا
( كذا ) [1] هذا الشبه عن هذا الطالب الباحث وغيره ممن يخفى ذلك عليه ويتطلع
إلى معرفة الوجه فيه ، وبهذا الفصل يتصور ( كذا ) لك كل [2] صورة وقوع ذلك
منهم وكيفية اتفاقه لهم ، حتى كأنه شاهده معهم ) .
وهذا أول الفصل المخرّج في ذلك أوردناه بلفظ مصنفه -رحمة الله عليه-
( قال لنا الفقيه الحافظ أبو محمد بن علي بن أحمد بن سعيد اليزيدي الفارسي
-رضي الله عنه- في بيان أصل الاختلاف الشرعي وأسبابه ) .
***
سبب القول والفتيا بما يخالف القرآن أو السنة
( تطلعت النفس بعد تيقُّنها أن الأصل المتَّفق عليه المرجوع إليه أصل واحد(1/412)
لا يختلف وهو ما جاء عن صاحب الشرع - صلى الله عليه وسلم - إما في القرآن ،
وإما من فعله أو قوله ، الذي لا ينطق عن الهوى فيه ، لما رأت وشاهدت من
اختلاف علماء الأمة في ما سبيله واحدة وأصله غير مختلف فبحثت عن السبب
الموجب للاختلاف ، ولترك من ترك كثيرًا مما صح من السنن ، فوضح لها بعد
التفتيش والبحث أن كل واحد من العلماء ينسى كما ينسى البشر ، وقد يحفظ الرجل
الحديث ولا يحضره ذكره حتى يفتي بخلافه وقد يَعرِض هذا في آي القرآن .
( ألا ترى أن عمر - رضي الله عنه - أمَر على المِنبر ألا يُزاد في مهور
النساء على عدد ذكره مَيلاً إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يزد على ذلك
العدد في مهور نسائه حتى ذكرته امرأة من جانب المسجد بقول الله - عز وجل - :
? وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً ? ( النساء : 20 ) فترك قوله ، وقال : كل أحد أعلم منك
حتى النساء .
وفي رواية أخرى : امرأة أصابت ورجل أخطأ . علمًا منه - رضي الله عنه
- بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن كان لم يزد في مهور النساء فإنه لم يمنع
مما سواه والآية أعم ، وكذلك أمر - رضي الله عنه - برجم امرأة ولدت لستة أشهر
فذكَّره علي قول الله - تعالى - ? وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً ? ( الأحقاف :
15 ) مع قوله - تعالى - ? وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ ? ( البقرة :
233 ) فرجع عن الأمر برجمها ، وهم أن يسطو بعيينة بن حصن إذ جفا عليه حتى
ذكره الحُر بن قيس بقول الله - عز وجل - ? وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ ?
( الأعراف : 199 ) فأمسك عمر . وقال - رضي الله عنه - يوم مات رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - : والله ما مات رسول الله ولا يموت حتى يكون آخرنا حتى
قُرئت عليه ? إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ ? ( الزمر : 30 ) فرجع عن ذلك ، وقد كان
علم الآية ، ولكنه نسيها لعظيم الخطب الوارد عليه ، فهذا وجه عمدته [3] ( كذا )(1/413)
الخلاف للآية أو للسنة بنسيان لا بقصد .
وقد يذكر العامل الآية أو السنة لكن يتأول فيها تأويلاً من خصوص أو نسخ
أو معنًى ما ، وإن كان كل ذلك يحتاج إلى دليل ، ولا شك أن الصحابة - رضي الله
عنهم - كانوا بالمدينة حوله - عليه السلام - مجتمعين ، وكانوا ذوي معايش ،
يطلبونها ، وفي ضَنْك من القوت فمن متحرف في الأسواق ومن قائم على نخله ،
ويحضره - عليه السلام- في كل وقت منهم طائفة إذا وجدوا أدنى مما هم بسبيله ،
وقد نص على ذلك أبو هريرة - رضي الله عنه - فقال : إن إخواني من المهاجرين
كان يشغلهم الصَّفْق بالأسواق ، وإن إخواني من الأنصار كان يشغلهم القيام على
نخلهم وكنت امرءًا مسكينًا أصحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ملء
بطني .
وقد قال عمر - رضي الله عنه - : ألهاني الصفق في الأسواق في حديث
استئذان أبي موسى ، فكان - عليه السلام - يُسأل عن المسألة ويحكم بالحكم ،
ويأمر بالشيء ويفعل الشيء ، فيحفظه من حضره ويغيب عن من غاب عنه ، فلما
مات - عليه السلام - وولي أبو بكر - رضي الله - عنه كان إذا جاءت القضية
ليس عنده فيها نص ، سأل من بحضرته من الصحابة فيها ، فإن وجد عندهم نصًا
رجع إليه ، وإلا اجتهد في الحكم فيها ، ووجه اجتهاده واجتهاد غيره منهم - رضي
الله عنهم - رجوع إلى نص عامّ أو إلى أصل إباحة متقدمة أو إلى نوع من هذا
يرجع إلى أصله .
ولا يجوز أن يظن أحد أن اجتهاد أحد منهم هو أن يشرع شريعة باجتهاده ،
أو يخترع حُكمًا لا أصل له ، حاشَ لهم من ذلك ، فلما ولي عمر - رضي الله عنه -
فُتحت الأمصار وتفرق الصحابة في الأقطار ، فكانت الحكومة تنزل بمكة أو
بغيرها من البلاد ، فإن كان عند الصحابة الحاضرين لها نص حُكِمَ به ، وإلا
اجتهدوا في ذاك ، وقد يكون في تلك القضية نص موجود عند صاحب آخر في بلد
آخر- وقد حضر المدني ما لم يحضر المصري ، وحضر المصري ما لم يحضر(1/414)
الشامي ، وحضر الشامي ما لم يحضر البصري ، وحضر البصري ما لم يحضر
الكوفي ، وحضر الكوفي ما لم يحضر المدني .
كل هذا موجود في الآثار وتقتضيه الحالة التي ذكرنا من مغيب بعضهم عن
مجلسه -عليه السلام- في بعض الأوقات وحضور غيره ثم مغيب الذي حضر
وحضور الذي غاب ، فيدري كل واحد منهم ما حضره ويفوته ما غاب عنه ، وقد
كان علم التيمم عند عمار وغيره ، وغاب عن عمر ، وابن مسعود حتى قالا : لا
يتيمم الجُنُب ولو لم يجد الماء شهرين ، وكان حكم المسح على الخفين عند علي
وحذيفة ولم تعلمه عائشة ولا ابن عمر ولا أبو هريرة على أنهم مدنيون ، وكان
توريث بنت الابن مع البنت عند ابن مسعود ، وغاب عن أبي موسى ، وكان حكم
الاستئذان عند أبي موسى وأُبيّ وغاب عن عمر ، وكان حكم الإذن للحائض في أن
تنفر قبل أن تطوف عند ابن عباس وأم سلمة ولم يعلمه عمر وزيد بن ثابت ،
وكان حكم تحريم المُتعة والحُمُر الأهلية عند علي وغيره ، ولم يعلمه ابن عباس ،
وكان حكم الصرف عند عمر وأبي سعيد وغيرهما ، وغاب ذلك عن طلحة وابن
عباس وابن عمر ، وكذلك حكم إجلاء أهل الذمة من بلاد العرب كان عند ابن عباس
وعمر فنسيه عمر سنين فتركهم حتى ذكر بذلك فذكره فأجلاهم ، ومثل هذا كثير .
فمضى الصحابة - رضي الله عنهم - على هذا .
ثم خَلَفَ بعدهم التابعون الآخذون عنهم ، وكل طبقة من التابعين في البلاد التي
ذكرنا ، فإنما تفقَّهوا مع من كان عندهم من الصحابة ، فكانوا لا يتعدَّون فتاويهم ، لا
تقليدًا ولكن لأنهم أخذوا وروَوْا عنهم ، إلا اليسير مما بلغهم عن غير مَن كان في
بلادهم من الصحابة - رضي الله عنهم - ، كاتِّباع أهل المدينة في الأكثر فتاوى ابن
عمر ، واتِّباع أهل مكة فتاوى ابن عباس ، واتِّباع أهل الكوفة في الأكثر فتاوى ابن
مسعود ، ثم أتى من بعد التابعين فقهاء الأمصار كأبي حنيفة وسُفيان ، وابن أبي(1/415)
ليلى بالكوفة وابن جُريج بمكة ، ومالك وابن الماجِشون بالمدينة ، وعثمان البَتِّي
وسوَّار بالبصرة والأوزاعي بالشام والليث بمصر فجرَوْا على تلك الطريقة ، من
أخذ كل واحد من التابعين من أهل بلده وتابعوهم عن الصحابة - رضوان الله
عليهم - في ما كان عندهم ، وفي اجتهادهم فيما ليس عندهم ، وهو موجود عند
غيرهم ولا يكلِّف الله نفسًا إلا وُسعها .
وكل من ذكرنا مأجور على ما أصاب فيه أجرين ومأجور فيما خفي عليه ،
ولم يبلغه أجرًا واحدًا . قال الله - تعالى - ? لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ ? ( الأنعام :
19 ) .
وقد يبلُغ الرجل ممن ذكرنا نصان ظاهرهما التعارض ، فيميل إلى أحدهما
بضرب من الترجيحات ، ويميل غيره إلى النص الذي ترك الآخر بضرب من
الترجيحات أيضًا ، كما رُوي عن عثمان في الجمع بين الأختين : أحلَّتهما آية
وحرَّمتهما آية . وكما مَالَ ابن عمر إلى تحريم نساء أهل الكتاب جملةً بقوله -
تعالى -? وَلاَ تَنكِحُوا المُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ ? ( البقرة : 221 ) وقال : لا أعلم
شِركًا أعظم من قول المرأة : إن عيسى ربُّها . وغلب ذلك على الإباحة المنصوصة
في الآية الأخرى ، ومثل هذا كثير .
فعلى هذه الوجوه ترك بعض العلماء ما تركوا من الحديث ومن الآيات ،
وعلى هذه الوجوه خالفهم نظراؤهم لأخذ هؤلاء ما ترك أولئك ، وأخذ أولئك ما ترك
هؤلاء ، لا قصدًا إلى خلاف النصوص ، ولا تركًا لطاعتها كذا ، ولكن لأحد الأعذار
التي ذكرنا ، إما من نسيان ، وإما أنها لم تبلغهم ، وإما لتأويل ما ، وإما لأخذ بخبرٍ
ضعيفٍ ، لم يَعلم الآخذ به ضعف رواته وعلمه غيره ، فأخذ بخبرٍ آخر أصحَّ منه أو
بظاهر آية .
وقد يشتبه بعضهم في النصوص الواردة إلى معنى ، ويلوح له حكم بدليل ما
ويغيب كذا غيره ، ثم كثرت الرِّحل إلى الآفاق ، وتداخل الناس وانتدبت أقوام لجمع
حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - وضمه وتقييده ، ووصل من البلاد البعيد إلى(1/416)
من لم يكن عنده ، وقامت الحُجة على من بلَغه شيء منه ، وجمعت الأحاديث المبينة
لصحة أحد التأويلات المتأولة في الحديث ، وعرف الصحيح من السقيم ، وزيف
الاجتهاد المؤدي إلى خلاف كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإلى ترك
عمله ، وسقط العُذر عمن خالف ما بلغه من السُّنن ببلوغها إليه ، وقيام الحُجة بها
عليه ، فلم يبق إلا العِناد والتقليد .
وعلى هذه الطريقة كان الصحابة - رضوان الله عليهم - وكثير من التابعين
يرحلون في طلب الحديث الأيامَ الكثيرةَ طلبًا للسُّنن والتزامًا لها ، وقد رحل أبو
أيوب من المدينة إلى مصر في طلب حديث واحد إلى عقبة بن عامر ، وقد رحل
علقمة والأسْوَد إلى عائشة وعمر ، ورحل علقمة إلى أبي الدرداء بالشام ، وكتب
معاوية إلى المغيرة اكتب إليّ بما سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم -
ومثل هذا كثير .
( قال أبو عبد الله ) : فقد بيَّنَّا - والحمد لله - وجه من ترك بعض الحديث ،
والسبب الموجب للاختلاف ، وشفينا النفس مما اعترض فيها ، ورفعنا الإشكال عنها ،
والله - عز وجل - المعين على البحث والهادي إلى الرشد بمنِّه .
وبهذا البيان كشف به هذا الإمام في هذا الفصل صورة الحال في أسباب
الاختلاف الواقع بين الصحابة فمن دونهم ، صح للأئمة المتقدمين - رضي الله عنهم
أجمعين - وجوب طلب التصحيح للنصوص الواردة في شرائع الدين ، لتقوم الحُجة
بما صح منها على المختلفين ، وقد قام الكل منهم في ذلك بما قدر عليه ، وانتهت
استطاعته إليه ، إلى أن انفرد بالمَزِيَّة في الاجتهاد ، والرحلة إلى البلاد ، في جمع
هذا النوع من الإسناد ، بعد التَّتبُّع والانتقاد ، الإمامان أبو عبد الله البخاري وأبو
الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري - رضي الله عنهما - ، فحازا قَصَب السَّبْق
فيه في وقتهما ، ولفَرْط عنايتهما وبلوغهما غاية السعي والتشمير فيه قويت هممهما(1/417)
في الإقدام على تسمية كتابيهما بالصحيح ، وعلم الله - عز وجل - صِدق نيتهما فيه
ومشقة قيامهما به وحُسن انتقادهما له ، فبارك لهما فيه ورزقهما القبول شرقًا
وغربًا ، وصرف القلوب إلى التعويل عليهما والتفضيل لهما ، والاقتداء في شروط
الصحيح بهما ، وتلك عادة الله فيمن أحبه ، أن يضع له القبول في الأرض كما جاء
في الخبر الصادق عن المبعوث الحق - صلى الله عليه وسلم - ، فهنيئًا لهما ،
ولمن اهتدى في ذلك بهُداهما ، والواجب علينا وعلى من فهم الإسلام ، وعرف قدْر
ما حَفِظَا من الشرائع والأحكام ، أن يخلِص الدعاء [4] لهما ، ولسائر الأئمة الناقلين
إليهما وإلينا قواعد هذا الدين ، وشواهد أحكام المسلمين . ونحن نبتهل إلى الله -
تعالى - في تعجيل الغُفران لهما ولهم ، وتجديد الرحمة والرضوان عليهما وعليهم ،
وأن يبوئ الكل منهم في أعلى درجات الكرامات ، من غُرُفات الجنات ، وأن يوفقنا
أجمعين للاقتداء بهم ، والسلوك في سبيلهم ، والدعاء إليه وإلى رسوله ، والانقياد
لمحكمات تنزيله ، والتفقه في دينه ، والإخلاص في عبادته ، والانقطاع إليه ،
وصِدْق التوكل عليه ، حتى يتوفانا مسلِمين مسلَّمين ، غير مبدِّلين ولا مغيِّرين ، وأن
يغفر لنا ولآبائنا ولجميع المسلمين .
تم الجزء السادس وبتمامه تم الكتاب . والحمد لله وحده وصلواته على سيدنا
محمد نبيه ، وآله وصحبه وسلامه . وافق الفراغ من نسخه لخمس ليالٍ بَقِين من ذي
القَعدة سنة ثلاث وعشرين وستمائة .
________________________
(*) من جمع الشيخ أحمد شاكر بن محمد شاكر والحواشي والعناوين من وضع صالح رضا .
(1) ربما سقط من الأصل كلمة هي ( لإزالة ) أو ما في معناها وأن ( هذا ) محرَّف عن هذه .
(2) لعل كلمة ( كل ) زائدة من النُّسَّاخ .
(3) ربما كان الأصل ( فهذا وجه ما عمدته الخلاف ) إلخ .
(4) في نسخة الأصل ( للدعاء ).(1/418)
(( مجلة المنار ـ المجلد [ 19 ] الجزء [ 5 ] صـ 266 ذو الحجة 1334 ـ أكتوبر 1916 ))
??
??
??
??
11(1/419)