مصطلح (حسن) عند الترمذي
بقلم الدكتور عبد القادر المحمدي
اختلف العلماء من أهل المصطلح من المتأخرين في مفهوم الحسن عند المتقدمين من المحدّثين ، وطولوا فيه وقصروا ، وناقشوا فأسهبوا ، ولسنا في مجال مناقشة هذه الآراء ، لكن يهمنا هنا أن نفهم مفهوم الحسن عند الترمذي في جامعه لأهمية ذلك في بحثنا ، وعلينا أن نشير بادئ ذي بدئ أن لفظة (حسن) استعملت من قبل علماء الحديث وعرفت قديماً،فممّن استعملها:الإمام الشافعي،وعلي بن المديني،والبخاري،ويعقوب بن شيبة،والترمذي،وغيرهم (1).
وقد استعملوها على المعنى اللغوي ، لا الاصطلاحي،فقد أطلقوا على الصحيح حسناً ، وعلى كل حديث مقبول غير مردود حسناً،ومرادهم : الحسن الذي يقابله المنكر ، أو الباطل ، أو الموضوع (2).
يقول الذهبي رحمه الله تعالى :"ويلزم على ذلك أن يكون كل صحيح حسن وعليه عبارات المتقدمين فإنهم قد يقولون فيما صح:هذا حديث حسن (3) ".
ويقول الحافظ ابن حجر : " وقد وجد التعبير بالحسن في كلام من هو أقدم من الشافعي ،لكن منهم من يريد بإطلاق ذلك المعنى الاصطلاحي ، ومنهم من لا يريده .
__________
(1) انظر مقدمة ابن صلاح ص36 ، وشرح علل الترمذي ، ابن رجب 2/574 ، والنكت ، ابن حجر 1/424 – 429 ومصطلح حسن غريب ، أسامة النمر ص1.
(2) مصدر سابق .
(3) الموقظة ص32 .(1/1)
فأما ما وجد من ذلك في عبارة الشافعي ومن قبله بل وفي عبارة أحمد بن حنبل فلم يتبين لي منهم إرادة المعنى الاصطلاحي ، بل ظاهر عبارتهم خلاف ذلك ، فإن حكم الشافعي على حديث ابن عمر في استقبال بيت المقدس ... بكونه حسناً خلاف الاصطلاح(1) ، بل هو صحيح متفق على صحته .... وأما أحمد فإنه سُئل فيما حكاه الخلال عن أحاديث نقض الوضوء بمس الذكر فقال : " أصح ما فيها حديث أم حبيبة ".وسُئل عن حديث بسرة فقال صحيح ، قال الخلال : إن أحمد بن أصرم سأل أحمد عن حديث أم حبيبة في مس الذكر فقال : هو حديث حسن . فظاهر هذا أنه لم يقصد المعنى الاصطلاحي لأن الحسن لا يكون أصح من الصحيح"(2).
أما عند الإمام الترمذي – وهو الذي يهمنا هنا – فإنه عرفه في علله آخر الجامع فقال: " وما ذكرنا في هذا الكتاب حديث حسن فإنما أردنا به حُسْنَ إسناده عندنا : كل حديث يروى لا يكون في إسناده من يهتم بالكذب ولا يكون الحديث شاذاً ، ويروى من غير وجه نحو ذاك فهو عندنا حديث حسن"(3).
فوضع شروطاً ثلاثة للحسن عنده:-
1- براءة السند من الكذابين .
2- انتفاء الشذوذ – يعني المخالفة - .
3-عدم تفرد الراوي به – دون الصحابي - .
وبيان ذلك بما يلي :-
أ - إن الحديث الصحيح يشترط فيه العدالة والضبط ،وإن اشتراط الترمذي في حد الحسن أن لا يكون في إسناده من يتهم بالكذب :
يعني أنه أراد الراوي غير الثقة وإلاّ لَمَا عَدَل عن قوله " ثقة " وهي كلمة واحدة إلى قوله"غير متهم بالكذب"إلاّ لإرادة قصور روايته عن وصف"ثقة "(4).
__________
(1) يريد عند المتأخرين .
(2) النكت على ابن الصلاح 1/ 424- 426 ، وانظر نظرات جديدة ، المليباري ص22 .
(3) علل الترمذي – الصغير – آخر الجامع 5/758 .
(4) انظر الخلاصة ، الطيبي ص43،والنكت على ابن الصلاح،ابن حجر 1/476 .(1/2)
ب- إن من شروط الحديث المقبول أنْ يكون متصلاً سنداً وهذا يعني أن راوي الصحيح وراوي الحسن لذاته غير داخلين في تعريفه. (1)
ج - إن الحديث المقبول هو الحديث الذي يقوم بذاته،فاشتراطه العدد وأن يأتي من غير وجه،كما في حديث الحسن ، يخرجان الصحيح والحسن لذاته . (2)
فالإمام الترمذي عرف الحسن في جامعه وأراد به معنى اصطلاحياً؛أراد به درجة معينة من الحديث ، وهو غير الصحيح بلا شك،وهو واضح من تعريفه الذي مر .
قال الإمام الذهبي معقباً على تعريف الترمذي للحسن : "وتحسين الترمذي لا يكفي في الاحتجاج بالحديث "(3).
وقال الحافظ ابن حجر في ذلك:"إنَّ الترمذي لم يعرف الصحيح ولا الضعيف ولا الحسن المتفق على كونه حسناً –يعني عند المتقدمين كالشافعي والبخاري وأحمد – بل عرف حديث المستور ، ومن يشترك معه بسبب ضعفه أو اختلاطه أو تدليسه أو ما في سنده انقطاع خفيف فكل ذلك من قبيل الحسن بالشروط الثلاثة"(4).
ومما مر نفهم أن الحسن عند الإمام الترمذي ليس من جنس الصحيح(5)
__________
(1) انظر النكت على ابن الصلاح 1/388 .
(2) انظر تدريب الراوي ، السيوطي 1/124 ، وتوضيح الأفكار ، الصنعاني1/157.
(3) تاريخ الإسلام الطبقة 5 / ترجمة 15 .وهي ترجمة سيدنا الحسن بن علي - رضي الله عنه -.
(4) النكت 1/387 بتصرف يسير .
(5) وقد اختلف علماء المصطلح في قيد الحسن عند الترمذي هل يخرج الثقة والصدوق أو لا ؟ وكانوا على فريقين :
الأول : يعتبر تعريف الترمذي قد أخرج بقيده " شروطه " الثقة ، والصدوق . وإليه ذهب : ابن الصلاح ، والطيبي ، وابن حجر والسخاوي ، والصنعاني ، وغيرهم .انظر مقدمة علوم الحديث ص31 ، الخلاصة ص43، و النكت على ابن الصلاح 1/387 و 476 فتح المغيث 1/75 وتوضيح الأفكار 1/168 و الموازنة ، نور الدين عتر ص156 .
والثاني : ذهب إلى كون الحسن عند الترمذي يشمل الثقة ، والصدوق ، والمستور ...
وإليه ذهب : أبو عبد الله محمد بن يحيى ، ابن المواق ، وابن الدقيق العيد ، وابن جماعة ، وابن رجب ، وأبو الفضل العراقي ، واللكنوي ، والمباركفوري ، وغيرهم . انظر النفح الشذي ، ابن سيد الناس 1/290 ،و الاقتراح ص10،و المنهل الروي ص36،و شرح علل الترمذي 2/606،و التبصرة ، العراقي 1/110، ومصطلح حسن غريب ، أسامة النمر ص9 .(1/3)
،وقد دراسنا باسهاب مفهوم الحديث الحسن عند الترمذي،في بحث منفرد، واستوعبنا فيه جميع الأحاديث التي اقتصر الترمذي على تحسينها في الجامع وتوصل إلى أن هذا التعبير إنما يستعمله الترمذي للحديث المعلول عنده (1).
والذي أريد أن أتسائل عنه : هو لماذا عرف الإمام الترمذي الحسن والغريب فحسب ؟ وقد استعمل مصطلحات أخرى كثيرة ؟!.
ولو كان المراد – عنده – من الحسن هو ما أراده البخاري وغيره فلماذا لم يطلقه في جامعه دون أنْ يصرح بحده ؟ كما فعل في العلل الكبير .
والجواب : هو أن الإمام الترمذي حينما قال:"وما ذكرناه في هذا الكتاب حديث حسن فإنما أردنا به حسن إسناده عندنا : كل حديث يروى لا يكون في إسناده من يتهم بالكذب ...."فإنه أراد أن مصطلح " حسن " المستعمل في هذا الجامع مصطلح خاص به ، يخالف المعنى الشائع في زمانه ، ولو كان المعنى الذي عرف به شائعاً عندهم لمَا احتاج إلى هذا البيان ، ولهذا ترك تعريف الحديث الصحيح ، لذا فإنه قال " وما ذكرناه في هذا الكتاب " ، " عندنا " : ثم عرفه .
وهكذا فإن استعمال الترمذي لمصطلح"حسن"في الجامع يختلف عما يستعمله ويطلقه في علله الكبير،لأنه في العلل ينقل عن الأئمة وخاصة البخاري شيخه العبقري الذي أكثر من إطلاقه:"حسن" بالمعنى الذي شاع عندهم ومراده الحديث الصحيح (2)
__________
(1) البحث تحت الطبع نسأل الله أن ييسر لنا إخراجه ،وهو بعنوان "الحديث الحسن عند الترمذي دراسة تطبيقية" .
(2) فتأمل هذه الأحاديث في كتابه العلل الكبير :-
1- قال الترمذي في العلل (143) : حدثنا قتيبة قال:حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن عطاء عن صفوان بن يعلى عن أبيه قال:" سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ على المنبر:ونادوا يا مالك "سألت محمداً عن هذا الحديث فقال : هوحديث حسن وهو حديث ابن عيينة الذي ينفرد به ".
فأطلق البخاري مصطلح "حسن " على حديث متفق عليه ، أخرجه في صحيحه (3230 و 3266 و 4819) ، والإمام مسلم أيضاً 2/594 (871).
2- وقال في ص 98 (165):قال أبو عيسى:سألت محمداً:قلت: أي الروايات في صلاة الخوف أصح ؟فقال:كل الروايات عندي " صحيح"وكل يستعمل،وإنما هو على قدر الخوف إلا حديث مجاهد عن أبي عياش الزرقي فإني أراه مرسلاً .
-ثم قال -(166):وحديث سهل بن أبي حثمة هو حديث حسن وهو مرفوع رفعه شعبة عن عبد الرحمن بن القاسم . (167)وحديث عبد الله بن شقيق عن أبي هريرة حسن . (168) وحديث عروة بن الزبير عن أبي هريرة حسن ".
قلت:سوّى الإمام البخاري بين الصحيح والحسن وبيّن منهجيتهم في مفهوم الصحيح،فقال:"وكل يستعمل "،فالذي يصلح للعمل يسمونه صحيحاً،بخلاف منهجية المتأخرين ، فحديث سهل بن أبي خيثمة صحيح أخرجه البخاري في صحيحه (4131)، ومسلم (841) ، والترمذي في الجامع (565) ، وقال :"حسن صحيح".، وقال الترمذي في حديث عبد الله بن شقيق (3035): "حسن صحيح غريب من عبد الله بن شقيق "،وقد بينا سلفاً أن الترمذي أراد أن يميز بين الحسن الذي يستعمله الناس،والحسن الذي عرفه في جامعه وأستعمله فيه ، فقرنه بالصحيح ، والغريب ، وهكذا الحال في هذا الحديث ، وأما حديث أبي هريرة فقد أخرجه النسائي 3/ 173.
3- وقال الترمذي (419) : حدثنا محمد بن بشار قال:حدثنا محمد بن جعفر قال:حدثنا شعبة قال:سمعت قتادة يحدث عن أنس بن مالك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنه أتي برجل قد شرب الخمر فضربه بجريدتين نحو الأربعين وفعله أبو بكر فلما كان عمر استشار الناس فقال عبد الرحمن بن عوف كأخف الحدود فأمر به عمر ". قال محمد:وحديث أنس في هذا الباب حسن " =
= أقول : أطلق البخاري مصطلح –حسن-على حديث متفق عليه أخرجه في صحيحه (6773 و 6776 )،ومسلم (1706)،وقال الترمذي لما خرجه في الجامع(1443):"حسن صحيح" .(1/4)
.
وهكذا نخلص إلى أن إطلاق مصطلح"حسن"عند الإمام الترمذي في علله الكبير يختلف عما هو في جامعه ،ففي العلل استعمله "على المعنى اللغوي " أي على ما هو معروف عند العلماء ،وأما في جامعه فإنه خصه لنفسه،فهو يطلقه ويريد به الحديث الضعيف،وأنَّ راويه هو من دون مرتبة الصدوق–كما شرطه على نفسه في علله- .(1/5)