مصادر السنة ومناهج مصنفيها
فضيلة الشيخ
د.الشريف حاتم بن عارف العوني
فُرغت الأشرطة بإذن من الشيخ
almodhe1405@hotmail.com
almodhe@yahoo
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على إمام الأنبياء ن والمرسلين ، وعلى آله وأصحابه ، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد :
فأسأل الله - عز وجل - أن يبارك لنا في العلم ، والعمل ، وأن يجعل خطواتنا إلى هذه الدروس في موازين الحسنات ، وأن يُخْلِصَ النَّوايا ، ( ويتقبل الأعمال ، إنه ولي ذلك والقادر عليه .
ستكون دورتنا هذه بإذن الله تعالى بعنوان " مصادر السنة ، ومناهج مصنفيها ")(1).
والمقصود بمصادر السنة : الكتب التي جَمَعَتْ سنة النبي عليه الصلاة والسلام واعْتَنَتْ بها وبعلومها على مختلَف أوجه التصنيف فيها .
يعني : السنة هناك مؤلفات كثيرة فيها وهناك وجوه من التصنيف وطرائق للتصنيف فيها مختلفة.
ولقاءاتنا هذه ستكون حول هذه المصادر التي اعتنت بسنة النبي عليه الصلاة والسلام وأَلَّفَتْ في هذه الوجوه المختلفة من وجوه التصنيف فيها .
__________
(1) ما بين القوسين سَقْطٌ مِنْ الْمَسْموع، وأَكملنا السِّياق بما يُناسب .(1/1)
والغرض من هذه اللقاءات هو : التعريف بهذه المصادر المتنوعة وبطريقة تأليفها وبأغراض مؤلِّفيها ليتمكن طالب العلم من الاستفادة من هذه الكتب الاستفادة الصحيحة ؛ لأن المرء إذا عرف منهج المؤلف ومقصده ، وغرضه من التأليف ، استطاع أن يستثمر ويستفيد من هذا الكتاب الاستفادة الصحيحة ، وإذا أقدم عليه لا يُقدِم عليه وكأنه أمر مجهول لا يَعرف حقيقته بل يُقدم عليه وهو يعرف لِمَا اختار هذا الكتاب دون غيره ، وماذا سيجد في هذا الكتاب ، وما الذي لا يُتَوقع أن يوجد في مثل هذا الكتاب ، فهو يُقدم عليه على علم ، وبينة وهذا أمر ضروري لطالب العلم حتى لا يضيع وقته دون فائدة ، وحتى يستطيع أن يستثمر قراءته في كتب السُّنة الاستثمار الكامل الصحيح .
ولا أُخفي سرًّا - كما يقال – إذا قلتُ بأن حُسْنَ التعامل مع مصادر السنة في الحقيقة هو نصف هذا العلم إن صح التعبير ؛ لأن الباحث الذي يحسن التعامل مع المصادر وله اطِّلاعٌ كاملٌ على هذه المصادر وعلى مناهجها هو الذي سيستطيع أن يؤلف وأن يُحضِّر وأن يتعامل مع هذه الكتب التعامل الصحيح ، وبالتالي يستطيع أن يصل إلى نتائج في هذا العلم تَفُوق غيره ممن لا يُحسن التعامل مع مثل هذه الكتب .
وقد اخترتُ أن أَبْتَدِئ في الكلام عن مصادر السنة بقِمَّة هذه المصادر وبأعلاها وهي كتب الصِّحاح ، الكتب التي اشترطت الصحة .(1/2)
وهناك دورة سابقة كانت قبل أسابيع من الآن عنوانها كعنوان هذه الدورة ، لكن مضمونها مختلف تمامًا عن مضمون هذه الدورة ، وكانت في مكة زادها الله تشريفًا وتعظيمًا ، كانت حول تاريخ التصنيف أو تاريخ وجود التصنيف في السنة النبوية ، وهناك تكلمت عن مصادر السنة لا من جهة أنواع التصنيف كما أنني أفعله الآن ، وإنما عن طريقة نُشوء التصنيف ؛ ما هي أوائل المصنفات في السنة ؟ ما هي أسباب وجود هذه المصنفات ؟ ما هي الأغراض التي حَرَّفَتْها في كل فترة من الفترات ؟ وهكذا ؛ عَرْضٌ تاريخي لمصنفات السنة .
أما الذي ننوي أن نقوله في هذه اللقاءات فهو : الكلام عن مصادر السنة ووجوه تصنيفها ، وأهم المؤلفات لكل وجه من وجوه التصنيف ومنهج هذه المؤلفات .
فإذا أتينا إلى الكتب الصحاح لا شك أَنَّ قمة كتب الصحاح ما هو ؟
- " صحيح البخاري " ، أصلًا إذا قلنا مصادر السنة أول ما يبتدر بالذهن كتاب الإمام البخاري عليه رحمة الله ، فهو أول كتاب سنحاول أن نتعرف عليه وعلى منهجه بشيء مما يُعين على الاستفادة من هذا الكتاب الاستفادة الصحيحة الكاملة بإذن الله تعالى قدر المستطاع وحسب ما يسمح به الوقت .
نبتدئ كالعادة بإعطاء نُبذة سريعة عن الإمام البخاري وإن كان الإمام البخاري معروفًا عند طلبة العلم ، لكن لا بد أن نذكر هذا الإمام بشيء من الترجمة وفاءً بحقه في أقل تقدير .
فهو : أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بَرْدِزْبَة الجعفي مولاهم البخاري .
كما ترون هو : محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة ؛ أسماء عربية ، هؤلاء الأجداد كلهم مسلمون ، بردزبة : هو الذي كان على المجوسية ومات على المجوسية ؛ لأن الديانة التي كانت شائعة في بخارى قبل دخول الإسلام إليها كانت هي المجوسية .(1/3)
والمغيرة جَدُّ أو أبي جَدِّ الإمام البخاري ، أسلم على يَدِ رجل يقال له اليمان الجعفي ، ولذلك يقال للإمام البخاري : الجعفي مولاه ؛ لأن الولاء يكون لأحد ثلاثة أسباب .
يُنسب الإنسان إلى القبيلة ولاءً لأحد ثلاثة الأسباب :
1- إما بالعتق : أن يكون عبدًا رقيقًا فيُعتقه سيدُه فيُنسب إلى سيده ولاءً .
2- أو بالحِلف : أن تكون قبيلة حالفت قبيلة فيُنسب إلى القبيلة التي حالفها .
3- أو بالإسلام : وهذه فيها خلاف عند أهل العلم ، لكن قالوا تُلحق بعتق الرقبة ؛ لأن الذي أسلم على يديه رجل كأنه أعتقه من النار ، ولذلك استحَق أن يكون سيدً ا له .
وُلِدَ الإمام البخاري عليه رحمة الله في بخارى ، وهي من بلاد ما وراء النهر - كما هو معروف – في دولة جاكستان الحالية ، في سنة أربع وتسعين ومائة من الهجرة ، أي : في أوائل القرن الثاني الهجري ، ووُلد أعمى أو أُصيب بالعمى بعد ولادته بشيء يسير ؛ على خلاف ، فرأتْ أمه رؤية صالحة أن إبراهيم - عليه السلام - خليل الرحمن عَلَّمَها دعاءً ، وأن بهذا الدعاء سيُشفى ويبرأ إذا دَعَتْ به ، فاستيقظت ودعت به فشُفِيَ ولدها الإمام البخاري ، وهذه كانت الحقيقة - كما يقال إرهاص - للإمام البخاري ولمكانته التي سيحتلها بين علماء المسلمين وأئمة المسلمين .
كرامة أعطيتها أمُّ هذا العالِم ليتحقق قضاء الله وقدره في هذا الإمام بأن ينال المكانة السامية بين علماء المسلمين التي نالها أو التي عُرف بها .
نشأ نشأة صالحة ، أبوه من العلماء من طلبة الحديث ، وقد ترجم لوالد الإمام البخاري إسماعيل الإمامُ البخاري بنفسه في كتابه " التاريخ الكبير " ترجمة تدل على أنه له عناية بالرواية ، فاعتنى بولده هذا ، ووَجَّهَهُ إلى السُّنة وإلى تَعُلُّمِها من فترة مبكرة .(1/4)
وكان – ولا شك – لِنُبُوغ هذا الإمام عبقريته الفذة دور كبير في بُروزه وفي تَعَلُّمه ، فقد بلغ مرتبة من العلم في فترة مبكرة جدًّا من عمره ، بل له قصة مع أحد شيوخه وهو الدَّاخِلِيُّ وله من العمر أحد عشر عامًا .
كان هذا الشيخ يُحدِّث فروى حديثًا : عن إبراهيم عن أبي سُبَيْعٍ ..
فقال : له البخاري وهو عمره أحد عشرة سنة : هذا خطأ !! والشيخ كبير في السن ، حوله الطلاب ، وهذا غلام عمره أحد عشرة سنة ، يعني مثل بعض الأبناء الجالسين معنا الآن . أحد عشرة سنة!! والشيخ يُحَدِّث وأمامه الطلاب ، وهذا يقف أمام الناس ويقول : أخطأت .
فقال له الداخلي وزَبَرَهُ ونهره ، وبعض الجلوس كيف تقول تُخَطِّئ الشيخ ؟!
فقال : ما حَدَّث به الشيخ خطأ .
فالشيخ كأنه تردد فدخل إلى بيته لينظر في كتابه الذي نسخه بخط يده ، فخرج وهو يضحك فقال : أصاب الغلام . كيف الصواب يا غلام ؟ يعني : أقر بأنه خطأ لكن يريد هل يَعرف الصواب .
فقال له البخاري : الصواب إبراهيم عن الزبير بن علي ، ما هو : إبراهيم عن أبي سبيع ، وإنما : إبراهيم عن الزبير بن علي .
قال : ما أدراك ؛ كيف عرفتَ أن هذا هو الصواب ؟
قال : لأن إبراهيم لا يروي عن أبي سبيع ، وإنما يروي عن الزبير بن علي .
فيصل به الجزم بالصواب ومعرفة الصواب إلى درجة الجرأة بالرد على شيخ كبير في السن يُحدث الطلبة.
مثل هذه القصة تكفي لبيان مقدار العبقرية التي أُوتِيهَا الإمام البخاري في تلك الفترة المبكرة من عمره .
ثم بعد ذلك خرج للحج ووالدته - ووالده توفي وهو صغير - وأخوه ، ومر ببعض المدن الإسلامية من طريقه إلى بخارى في خراسان في العراق ، وسمع بها من عدد كبير من الشيوخ ، ثم لَمَّا أرادت أمه أن ترجع مع أخيه إلى بخارى استأذنها الإمام البخاري في المُكث في مكة لطلب العلم ، فأذنت له بذلك ، فرجعوا إلى بلدهم ومَكَثَ هو في رحلته في طلب .(1/5)
وتَلَقَّى العلم على عدد كبير جدًّا من الشيوخ يزيدون على ألف شيخ ، وإن كان لم يُخْرِج في " الصحيح " قطعًا إلا على العدد يسير منهم ممن رضي عدالتهم وضبطهم ، فكما يذكر الإمام البخاري أنه سمع من أكثر من ألف شيخ كلهم يقولون بـ: أَنَّ الإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ ، يعني هؤلاء الأكثر من ألف شيخ كلهم من أهل السنة ، ليس فيهم أحد من أهل البدع ، فلو أضفت إليهم مَن لَقِيَهُمْ من أهل البدع لتضاعف هذا العدد .
من أبرز شيوخ الإمام البخاري :
وهم كُثُرٌ كما ذكرنا – شيخه علي بن المديني ؛ علي بن عبد الله جعفر بن نجيح المديني ، الإمام الشهير إمام العلل الذي كان يقول عنه الإمام النسائي : كأنما خُلق علي بن المديني بعلم العلل – أو بالعلل .
هذا الإمام الكبير وهو رأس علم العلل في بداية القرن الثالث الهجري تَتَلمذ عليه الإمام البخاري واستفاد من رواياته ومن فهمه وغوصه في علم العلل استفادة عظيمة ، وكان يقول الإمام البخاري كلمته الشهيرة : ما استصغرتُ نفسي عند أحد إلا عند علي بن المديني .
يقول : ما هانت عليَّ نفسي ولا صَغُرت عليَّ نفسي عند أحد من العلماء إلا عند علي بن المديني ، أَعْرِفُ مقدار جهلي أمام علمه ، هذا مع أنه لقي الإمام أحمد ولقي يحيى بن معين ، من هم أكبر من الإمام البخاري ، وهم من شيوخه ، يقول هذه العبارة في علي بن المديني لتعرف مكانة هذا الإمام في علم الحديث ، وفي علم العلل ، إلا أن علي بن المديني لما بلغته هذه العبارة ، لما بلغته كلمة الإمام البخاري وأنه كان يقول : ما استصغرتُ نفسي عند أحد إلا عند علي بن المديني ، قال : دعوه فإنه لم يَرَ مثل نفسه .
يعني يقول: هذه الكلمة - ما استصغرتُ نفسي عند أحد إلا عند علي بن المديني - يقولها البخاري تواضعًا ، وإلا فهو أعلم مني ، بل هو أعلم من جميع شيوخه . أي كل الذين رآهم من العلماء دونه في العلم ، وهو أعلم من جميع من لقيهم .(1/6)
ذكرنا من شيوخه : الإمام أحمد ، وابن مَعِين ، والحُمَيْدِي ، وإسحاق بي رَاهَوَيْهِ ، ومحمد بن يحيى الذُّهْلِي ، وجماعة من أهل العلم هؤلاء من أعيانهم .
جَابَ بلدان العالم الإسلامي في الرحلة في طلب العلم ، وتميز – كما ذكرنا – بحافظة باهرة وشهيرة ، وقِصَصَه في ذلك أكثر من قصة ، وكان إمامًا في أبواب كثيرة من أبواب الخير ، وكان من العُبَّاد ، لا يكاد يترك يومًا إلا ويتهجد لله عز وجل فيه ، بل كان له في رمضان ختمتان : قراءة لنفسه يختم فيها كل ثلاثة أيام ، يعني يقرأ كل يوم عشرة أجزاء ؛ هذه لنفسه ، وإذا أَمَّ بالناس يختم كل عشرة أيام ؛ يعني يقرأ كل يوم عشرة أجزاء وأضف إليها تقريبًا ثلاثة أجزاء ، فتقريبًا ثلاثة عشر جزءًا كل يوم ؛ ثلاثة إذا أَمَّ بالناس وعشرة لنفسه .
وكان مضرَب المثل في الكرم والسَمَاحة والجود ، هو الذي كان يقول : ما ماكس رجلٌ ولا ساوم في بيته ، يعني إذا جاء يشتري يقول : هذه السلعة بكذا ، مباشرة يدفع المبلغ دون أن يساوم ، ويرى أن هذا مما يَحُطُّ بالمروءة وأنه لا ينبغي للإنسان أن يساوم ، في أمور الدنيا يتساهل .
في الجهاد كان فارسًا ، وهذا لعله لا يُعرف ، يقول عنه تلميذه ووَرَّاقه محمد بن أبي حاتم : ما أخطأ سهم محمد بن إسماعيل قط ، ولا سابقه أحدٌ إلا وسبقه أبو عبد الله ؛ على الخيل يعني ، فكان فارسًا شجاعًا يُرابط على الحدود .
وفي يوم من الأيام وهو على الرباط على الحدود نام نومًا عميقًا فَعَجِبَ تلميذه من هذه النومة لأجل أن يقوم الليل ، فقال له : يا أبا عبد الله فِعْلت اليوم لم أعهدكَ أن تفعله . فقال : إننا على الثغر وأخشى أن يُباغِتَنا العدو ، فلا بد أن أكون في قوة واستعداد وتَأَهُّب لمواجهة الأعداء . فلم ينم إلا لأجل أن يتقوى الجهاد وعلى مواجهة أعداء الله عز وجل .(1/7)
له أيضًا موقف مهم جدًّا في قضية الغِيبة ، ما أعرف أني اغتبت رجلًا منذ عرفت أَنَّ الغيبة حرام ، يعني من يوم أن بلغ ، من يوم أن أصبح مكلفًا ما اغتاب أحدًا ، وله تفسير في هذا الجانب عجيب : في يوم من الأيام كان أحد شيوخه يُحدث ، والإنسان في بعض الأحيان قد يقول معلومة جيدة أو كذا فيفرح المتكلِّم أنه أفاد السامعين بهذه الفائدة ، فابتسم هذا الشيخ وهو يُحدث فرحًا وإعجابًا بالفائدة التي أفاد بها الطلاب ، يقول البخاري : فابتسمت لابتسامة الشيخ ، يعني : عرفتُ أنه فرح على الفائدة التي أفادنا إياها ، فخشي أن تكون هذه الابتسامة غيبة ، فبعد أَنْ انتهى الدرس ذهب للشيخ يَتَحَلَّلُهُ ويطلب من الشيخ أن يعفو عنه ، يقول : وقع مني كذا ؛ ابتسمتَ ، فابتسمتُ لابتسامتكَ ووقع في قلبي كذا وكذا . فقال : اذهب رحمك الله فأنت في حِلٍّ . ما في أعظم من هذا الورع ، يعني إلى هذا الحد ، مجرد ابتسامة خشي أن تُحسب عليه غيبة عند الله عز وجل ، فرأى أن يعتذر وأن يتحلل قبل أن يُقتص منه يوم القيامة .
الكلام في أبي عبد الله البخاري طويل جدًّا ، لكن طبعًا حصلت له ابتلاءات في حياته ، وهذه سُنة الله عز وجل في أهل الصلاح ، وأهل العلم ، لا بد أن يقع لهم ابتلاء ؛ إما أن يُبْتَلَوْا بالنِّعم ويمتحنهم الله عز وجل ليرى هل يشكروها حق شكرها ويقوموا بها ؟ أو يُبتلوا بالبلايا والضُّر ليرى الله عز وجل صبرهم واحتمالهم واحتسابهم ، وليُكَفِّر عنهم سيئاتهم وليرفع درجاتهم عنده سبحانه وتعالى .(1/8)
ابتُلِيَ الإمام البخاري بأكثر من فتنة وأكثر من ابتلاء ، وصبر واحتسب وضرب أروع الأمثلة في الصبر والاحتساب ، وأشد هذه الابتلاءات اتهامه بالبدعة وهو الذي كان إمامًا من أئمة السنة ينصر السنة ويدافع عنها ، ولا شك أن هذا الاتهام كان باطلًا ، وقد عَرَف ذلك كثير من معاصريه ممن كان يتهمه ، وأعلنوا توبتهم واعتذارهم في حياته وبعد وفاته أعلنوا توبتهم لله عز وجل مما قالوه في حقه .
تُوفِيَّ هذا الإمام في سَنة سِتَّة وخمسين ومائتين من الهجرة .
وقد ترك مؤلفات كثيرة جدًّا في السنة وعلومها ، من أشهرها كتابه :
" الصحيح " الذي سيكون مَحَطَّ كلامنا ، وكتاب " التاريخ الكبير " ، و" التاريخ الأوسط " ، و" التاريخ الصغير " ؛ وكلها في تراجم الرواة ، ليست في علم التاريخ المعروف ، إنما هي في تراجم الرواة ، وكتاب " الضعفاء الكبير " ، وكتاب " الضعفاء الصغير " ، وكتاب " القراءة خلف الإمام " ، وكتاب " الأدب المفرد " ، و" جزء رفع اليدين في الصلاة " ، وغيرها من المؤلفات الكثيرة العديدة والتي فُقِدَ شيء كثير منها وبقي منها أهمُّها ، وأهم كتابين له في الحقيقة هما : " الصحيح " ، و" التاريخ الكبير " ، هذه أهم كتب الإمام البخاري وكلاهما موجود مطبوع بحمد الله تعالى .
أما كتابه " الصحيح " ، فنبتدئ أولًا في سبب تأليف هذا الكتاب :
يذكر الإمام البخاري أن سبب تأليفه لهذا الكتاب أنه كان في مجلس إسحاق بن رَاهُويه – إسحاق بن إبراهيم الحنظلي – شيخه ، فقال إسحاق : لو أن أحدكم يجمع مختصرًا في صحيح أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام ، يقترح هذا الشيخ على طلابه أن يجمعوا كتابًا مختصرًا في صحيح السنة النبوية .
يقول البخاري : فوقع هذا الكلام في نفسي ، يعني يوم اقترح علينا إسحاق بن راهويه هذا الاقتراح قَدَح في ذِهني أن أقوم بهذا الجَمْع ، وبادر بالفعل بهذا الجمع من فترة مبكرة .(1/9)
وقد حاول أحد العلماء أو الباحثين المعاصرين وهو الشيخ عبد الفتاح أبو غدة عليه رحمة الله أن يُحدد بداية تأليف الإمام البخاري لكتابه الصحيح ، اعتمد في ذلك على خبر ذكره الإمام العُقَيّلي ؛ يذكر الإمام العقيلي عليه رحمة الله أن البخاري عرض كتابه " الصحيح " على ثلاثة من شيوخه وهم : الإمام أحمد ، ويحيى بن معين ، وعلي بن المديني ، وأنهم وافقوه عليه وعلى صحة ما فيه إلا أربعة أحاديث فقط ، يقول العقيلي : والصواب فيها مع البخاري ، حتى هذه الأربعة أحاديث فالصواب فيها مع البخاري .
فحاول الشيخ أن يستنبط بداية التأليف من تواريخ وافيات هؤلاء العلماء ؛ لأن أقدم واحد من هؤلاء - وهو يحيى بن معين – تُوفي سنة ثلاثة وثلاثين ومائتين من الهجرة ، ومعنى ذلك أنه لا بد من أن البخاري ابتدئ في تأليف الصحيح قبل سنة مائتين وثلاثة وثلاثين ، ولنفرض مثلًا ابتدئ في التأليف سنة مائتين واثنين وثلاثين ؛ هذا في أقل تقدير ، فيكون عمره حينها كم سنة ؟ وُلد سنة أربع وتسعين ومائة ، كم يكون عمره ؟ ثمانية وثلاثين سنة هذا . ماهو البداية ، هذا آخر تأليفه ؛ لأنه عَرَض الصحيح كاملًا ، يعني انتهى من تأليف الصحيح المفترض يكون قبل تَقدِيمِه سنة مائتين واثنين وثلاثين ؛ لأنه عرض الصحيح كاملًا على هؤلاء الشيوخ الثلاثة ، وأولهم وفاةً هو يحيى بن معين ؛ سنة ثلاثة وثلاثين ومائتين ، لكن نفرض أنه لعرض قبله وبعده بسنة على أقل تقدير ، سنة مائتين واثنين وثلاثين ، معنى ذلك أنه كان عمره ثمانية وثلاثين سنة يوم أن انتهى من تأليف الصحيح .(1/10)
ويذكر البخاري نفسه أنه مكث في تأليف الصحيح ستة عشر عامًا ، يعني معنى ذلك سنة كم ابتدئ في تأليفه ؟ مائتين اثنين وعشرين . كم كان عمره ؟ كان عمره ستة عشر سنة يوم ابتدئ بتأليف الصحيح ، وانتهى وعمره ثمانية وثلاثين سنة ، وهذا أيضًا دليل آخر على نبوغ هذا الإمام ، وعلى مبادرته إلى التأليف من هذه الفترة المبكرة ، والتأليف فيه فن وفيه وجه من وجوه التصنيف لم يُسبق إليه ، فكما سيأتي إن شاء الله هو أول من ألف في الصحيح المجرد ، ولذلك كانت هذه الفكرة أول من اقترحها إسحاق بن راهويه وأول من بادر في تنفيذها الإمام البخاري .
ونأخذ من هذه فائدة يا إخواني لإخواننا وأبناءنا الشباب ألا يحقر الإنسان نفسه – كما نقول دائمًا – ابن ستة عشر أو خمسة عشر أو أربعة عشر ، إذا ابتدئ من هذه الفترة بتكوين نفسه وبمشروع علمي ، قد يمكث عشر سنين عشرين سنة يؤلف كتابًا ينفع الأمة طوال قرونها وبقائها ، فلا يستخف الإنسان بنفسه ، عليه أن يكون عالي الهمة ويبادر في خدمة السنة النبوية .
المقصود أن هذه هي بداية تأليف الإمام البخاري تقريبًا في هذه الفترة وفي هذا التاريخ ، في سنة تقريبًا مائتين واثنين وعشرين وكان عمره ستة عشر سنة .
انتخب الإمام البخاري صحيحه من نحو ستمائة مائة ألف حديث ، اختار أحاديث الكتاب من نحو ستمائة مائة ألف حديث كان قد سمعها من شيوخه ، طبعًا المقصود بهذا العدد لا أن المتون ستمائة ألف متن ، وإنما المقصود به الأسانيد والأحاديث ؛ سواء كانت مرفوعة ، أو موقوفة على الصحابة ، أو مقطوعة على التابعين ، يعني سواء كان منتهى الإسناد فيها إلى النبي عليه الصلاة والسلام أو إلى الصحابة أو إلى التابعين فمن دونهم ، فالمقصود أنه انتخبه من ستمائة ألف رواية أو إسناد .
الابتداء في تأليف هذا الكتاب في المسجد الحرام في مكة ، ووضع تراجمه في المدينة النبوية أو العكس وضع التراجم في مكة ووضع الأحاديث في المدينة.(1/11)
ويُذكر أنه ما وضع حديثًا إلا وتوضأ – وفي رواية : اغتسل – وصلى ركعتين ، قبل كل حديث من أحاديث " الجامع " وهو يقصد بذلك طلب التوفيق والإعانة من الله سبحانه وتعالى على أن يوفقه في اختيار الأحاديث الصحيحة التي ليس لها علة ولا شيء يقدح في صحتها .
اسم هذا الكتاب الكامل الصحيح :
" الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه "
هذا اسم صحيح البخاري الكامل الذي سماه به المؤلف وهو البخاري ، وهذا الاسم مهم وسنقف مع كلمة من كلماته لنشرحها ونبين من خلالها منهج الإمام البخاري ، " الجامع المسنَد الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه ".
فأولًا كلمة " الْجَامِع " التي ذكرها الإمام البخاري هنا : المقصود بـ" الجامع " والمقصود بهذه العبارة أن هذا الكتاب يجمع أبواب العلم كلها ، ولا يقتصر فقط على نوع من أنواع الأحاديث أو قسم من أقسام الأحاديث ، يعني هناك طريقة في التصنيف سيأتي الكلام عليها بإذن الله تعالى وهي طريقة التصنيف على السنن ، كتب السنن أكثر عنايتها بالأحاديث التي تتعلق بالأحكام الفقهية ، أما كتب الجوامع فهي تشمل كل الأحاديث ، سواء استُنْبِط منها حكم فقهي أو لم يُستنبط منها حكم فقهي .
س: هل يمكن أن يوجد حديث لا يُستنبط منه حكم فقهي أو لا يوجد؟
ج: يوجد .
س: مثل ؟
ج: أحاديث الترغيب والترهيب .
أحاديث الترغيب والترهيب ممكن يقال أنه يستنبط منها استحباب أو كراهة .
س: مثل أيش ؟
ج: أحاديث السيرة والمغازي.
مثل بعض أحاديث السيرة والمغازي لا يستنبط منها حكم . صحيح .
س: غيرها؟
ج: أشراط الساعة .
أشراط الساعة ، صفة الجنة والنار ، أهوال يوم القيامة ، هل هذه متعلقة بأحكام الحلال والحرام ؟! ما يمكن ؛ لأنها أمور صحاح متعلقة بالاعتقاد ، وجوب اعتقاد صحتها إذا ثبتت ، لكن لا يتعلق به حكم فقهي من حلٍّ أو حرمة أو ما شابه ذلك .(1/12)
فهذه التي تعتني بها كتب السنن ؛ الأحاديث الخاصة بأحاديث الأحكام أو أحاديث الفقه ، أما الجوامع فتجمع كل السنة، سواء متعلقة بالأحكام أو غير متعلقة بالأحكام ، وهذا واقع صحيح البخاري ؛ ولذلك أورد فيه أحاديث علامات الساعة ، وفي كتاب التفسير أورد بعض أحاديث التفسير وأصلًا أحاديث التفسير لا علاقة لها بالأحكام ، وفي فضائل الصحابة والبلدان والقبائل ؛ هذه لا يتعلق بها أيضًا حكم في كثير من الأحيان .
المقصود : أنه أخرج ما يتعلق بجميع أبواب العلم ، استُنبط منها حكم فقهي أو لا ، ولذلك قد وصف بـ" الجامع " .
ما دمنا نتكلم عن أن هذا الكتاب شَمِل جميع أبواب العلم ، فنريد أن نتكلم عن تبويبات البخاري ومزايا هذه التبويبات :
تميَّز الإمام البخاري في تراجم أبوابه وعناوين هذه الأبواب التي وضعها للصحيح ، وحتى قِيلَت العبارة الشهيرة التي يقال فيها : فقه البخاري في تراجم أبوابه أو في تراجم صحيحه ، يعني من أراد أن يعرف فقه البخاري وآرائه الفقهية فعليه أن يقرأ تراجم الأبواب فإنه سيعرف فقه الإمام البخاري .
وتراجم الإمام البخاري تنقسم إلى قسمين كما بَيَّن ذلك الحافظ ابن حجر : منها تراجم ظاهرة المقصود ، يعني يكون علاقة الترجمة بالحديث ظاهرة وبيِّنة .
مثل : باب التداوي بأبوال الإبل وألبانها ، أورد فيه حديث العُرَانِيِّينَ ?? الَّذِينَ اجْتَوَوْا الْمَدِينَة فَأَوْصَاهُمُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأَنْ يَخْرُجُوا إِلَى رَاعيه له ، وذُودٍ له مِنَ الْإِبِلِ لِيَشْرَبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا ?? ويتداووا بذلك مما أصابهم من الداء .
هذا التبويب علاقته بالحديث واضحة وصريحة ، لا تحتاج إلى دقة استنباط وفَهم .(1/13)
لكن هناك أبواب أَتْعَبت العلماءَ في معرفة علاقة الحديث بالباب وكيف استنبط الإمام البخاري ذلك الحكم من ذلك الحديث الذي أورده تحت ذلك الباب ، ومن أمثلة ذلك باب عقده الإمام البخاري في صحيحه ، قال : باب تزويج المعسِر الذي معه القرآن والإسلام ، ثم أورد فيه حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال : ?? كُنَّا نَغْزُو مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ لَنَا نِسَاءٌ ، فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللهِ أَلَا نَسْتَخْصِي - استأذنوا النبي عليه الصلاة والسلام في الخِصاء ؛ أن يَخْصُوَا أنفسهم حتى لا يقعوا في الإثم ، يقول ابن مسعود – فَنَهَانَا عَنْ ذَلِكَ ?? .
ما هي علاقة هذا الحديث بباب تزويج المُعْسِر الذي معه القرآن والإسلام ؟
علاقة خفية جدًّا ، يقول بعض العلماء الذين شرحوا هذا الحديث : لمَّا كان الشاب – وهذا ينفعكم الآن ، خاصة الذي لم يتزوج منكم - لا يستغني عن الزواج ولا بد له من الزواج وهو مأمور بأن لا يقع في الإثم وأن يرتكب الفاحشة ، يعلم النبي عليه الصلاة والسلام أن نَهْيَهُ عن الخصاء في مثل هذه الحالة سيحقق له مشقة عظيمة ، فقير كما تأتي رواية أخرى لابن مسعود : ?? وَلَيْسَ لَنَا شَيْءٌ ?? . يعني ليس عندنا مال حتى نتزوج ، فليس عنده مال حتى يتزوج وهو في حاجة إلى الزواج ومنهي عن الخصاء ولا يمكن أن يرتكب الفاحشة المنهي عنها ؛ هذه مشقة عظيمة ، إذًا ما هو الحل ؟ لا حَلَّ إلا أن يُزَوَّج بما معه من القرآن والإسلام ؛ لأنه لا يخلو مسلم أن يكون معه شيء من القرآن ، فدل ذلك على أن النبي عليه الصلاة والسلام لما نهاهم عن الاختصاء كأنه يقول للناس : فزَوُّجوهم وإن كانوا فقراء بما معهم من الإسلام والقرآن .(1/14)
شوف الاستنباط . بعيد ودقيق جدًّا !! وللإمام البخاري من هذه الأمثلة شيء كثير ، ولذلك اعتنى العلماء بتأليف مؤلفات خاصة في بيان علاقة الحديث بالباب ، وقد طُبع من هذه المصنفات عدة كتب ، من أشهرها ، ومن أولاها بالذكر ثلاثة كتب يأتي ذكرها إن شاء الله عندما نتكلم عن أهم الكتب التي تكلمت عن كتاب البخاري .
قلنا أن تراجم البخاري إما أن تكون ظاهرة وإما أن تكون خفية ، والخفية ضربنا لها مثالًا ، لكن ما هو سبب هذا الخفاء في تراجم البخاري ، يعني هل الإلغاز وذكر التراجم على هذا الوجه من الغموض مَطْلَب ؟
لا شك أنه ليس مطلبًا ، والوضوح حسن ومطلوب ، لكن سبب هذا الغموض هو أن البخاري قد لا يجد حديثًا صحيحًا على شرطه ينص على هذا الحكم ، فيضطر أن يستنبط هذا الحكم من حديث على شرطه ولو كان هذا الاستنباط فيه شيء من الخفاء ، ولكون الكتاب يريده مختصرًا لم يزد في الشرح والإيضاح ؛ يضع التبويب ويضع تحته الحديث ، ولا شك أن أمثال الإمام البخاري من الأذكياء والعباقرة – وما أقلهم ! – ربما ظن الأمر في غاية الوضوح لشدة ذكائه وهو عند غيره في غاية الغموض ، ولذلك عُرف الإمام البخاري بكثرة إِلْغَازِه في جميع مصنفاته ، حتى في كتابه " التاريخ الكبير " ، يعني منهج الإلغاز والأسرار والغموض والفوائد المختفية في أثناء الكتاب هذه منتشرة في كل كتب الإمام البخاري ، وهذا مرده – والله أعلم – إلى شدة ذكائه ؛ يظن أن الكلام واضحًا وهو قد يكون كذلك عند غيره من الناس بل من العلماء ، حتى أنهم تَعِبوا كثيرًا في بعض الأبواب .(1/15)
لكن في الحقيقة هناك بعض الأبواب أعيت العلماء أن يجدوا لها جوابًا ، ما عرفوا علاقة الباب بالحديث أبدًا ، فوجهوا هذا الأمر بتوجيه معين ، فإما أن يكون هذا عجز من العالم ألا يجد وجه الترابط بين الباب والحديث ؛ هذا وجه وارد ، وهناك سبب آخر بينه أحد رواة " صحيح البخاري " ، وهو أنه ذكر أنهم لما نسخوا " صحيح البخاري " من نسخة تلميذ البخاري الْفَرَبْرِي وجدوا أبوابًا وليس تحتها أحاديث ، يعني أن البخاري كان يضيف ويحدث في كتابه على مدى عمره ، ربما وضع ترجمة باب أو عنوان باب وترك تحته بياض على أساس أنه يريد أن يبحث على حديث على شرطه ويضعه تحت هذا الباب ، فمات ولم يُتم هذا العمل ، وهناك أحاديث وضعها ولم يضع لها أبوابًا على أساس أنه سيعود إليها مرة أخرى ويضع لها عنوانًا ، فتُوفي ولم يضع بعض هذه العناوين ، وهي قليلة في الكتاب لكن هذا وقع ، فجاء بعض النُّسَّاخ فصار يُدخل بعض هذه الأحاديث التي ليس لها أبواب ضمن الأبواب التي ليس تحتها أحاديث ، وصارت بهذه الطريقة بعض هذه الأحاديث لا علاقة لها بالتبويب .
فيقول الحافظ ابن حجر : لكن هذا لا نلجأ إليه – هذا التوجيه أول شيء أنه قليل في الصحيح – ولا نلجأ إليه إلا إذا تعذر علينا أن نجد وجه الترابط بين الباب والحديث ، عندها نقول : لعل هذه الأحاديث من ضمن تلك الأحاديث التي وُضعت في غير محلها من النُّسَّاخ الذين نسخوا " صحيح البخاري " ورَوَوْهُ عن تلميذه الفربري .
من منهج البخاري في الصحيح أنه قد يُترجم بتراجم محتَمَلة ، بمعنى أنه لا يجزم فيها بالحكم ، كالتراجم التي تبتدئ بالاستفهام : باب هل يفعل المسلم كذا ؟ هل يفعل المصلي كذا ؟
لا يجزم فيها بحكم ، ما هو سبب عدم الجزم ؟
يذكر العلماء أن أسباب عدم الجزم للإمام البخاري :(1/16)
الاحتمال الأول : أن يكون وجه الدلالة محتمل ، وأن لا يكون وجه الدلالة صريح بالحكم فورعًا منه لا يجزم بالحكم ؛ مجرد يشير ، من منطلق هذا الدليل مُحْتَمَل أن يُستنبط منه هذا الحكم ، ويترك الحكم أو الجزم للدارس ، الباحث ، العالم الذي سيستفيد من هذا التبويب ويستفيد من هذا الحديث لاستنباط الحكم .
والاحتمال الثاني : أن يكون هذا الحديث قد اختُلف في رفعه ، ووقفه ، كيف اختُلف في رفعه ووقفه؟
ولكننا نرى بعض صغار السنن فلابد من توضيح بعض الأمور الجلية .
المرفوع : هو الحديث الذي نُسب إلى النبي عليه الصلاة والسلام .
الموقوف : هو الحديث الذي نُسب إلى الصحابة رضوان الله عليهم .
فإذا اختلف في الحديث في رفعه ووقفه ؛ هل هو من كلام النبي عليه الصلاة والسلام أومن كلام الصحابي ، عندها أيضًا الإمام البخاري يقوم بوضع ترجمة محتَمِلة غير قاطعة بالحكم لورود الخلاف في الحديث ، وإن كان البخاري قد يرجح الرفع ، لكن لوجود الخلاف لا يجزم أيضًا من باب الإشارة إلى وجود خلاف ومن باب الورع أيضًا في عدم الجزم بحكم قد يكون فيه خلاف .
مما يتعلق أيضًا بتراجم البخاري أَنَّ البخاري قد يترجم بما ورد في بعض طرق الحديث ، يعني قد يأتي بلفظ للحديث لكن الترجمة لا تنطبق على اللفظ الذي ذكره ، لكنها تنطبق على لفظ آخر للحديث ، فهو عندما يترجم هذه الترجمة يُومِئ بأن للحديث لفظ آخر يجب أن تنتبه إليه ، وهذه الطريقة يتبعها الإمام البخاري .
لِمَ لَمْ يَذكر اللفظ الآخر ؟
إما من باب شَحْذ الذهن ، حتى يتعود القارئ الذكاء والفهم والاستنباط ، أو لأن هذا اللفظ ليس على شرطه ولذلك ذكره وأومئ إليه دون أن يورد الحديث الذي يوافق هذا اللفظ ؛ وهذه أيضًا من مَلاحِظ البخاري الدقيقة في تراجمه .(1/17)
وكثيرًا أيضًا ما يترجم الإمام البخاري في ألفاظ الآثار للصحابة والتابعين ، يكون في قول عمر ، قول أبي بكر ، قول زيد بن ثابت ، قول علي بن طالب ؛ يحذف هؤلاء الصحابة ويضع كلامه كأنه عنوان في بداية الباب ثم يُورد تحت ذلك الباب الحديث الذي يدل على مقتضى تلك الترجمة .
المقصود أن تراجم البخاري بث فيها علمًا كثيرًا وفقهًا جزيلًا ، ودل فيها أنه إمام من أئمة الفقه المجتهدين اجتهادًا مطلقًا ، وأنه – بحَقٍّ – ممن جَمَعَ بين علميّ الفقه والحديث على أتم وجه ؛ عليه رحمة الله .
الكلام حول التراجم – حقيقةًً - طويل ، لكن لا نريد أن نطيل في الكلام عنها وخاصة أن الوقت قد أدركنا ، لكن نريد أن نذكر بعض الكتب التي قلنا أنها اعتنت بالتراجم في آخر كلامنا عن التراجم ؛ منها :
1- كتاب " المُتَوَارِي " على تراجم أبواب البخاري لناصر الدين بن المُنَيِّر الإسكندراني .
وهو مؤلف ، أو له تأليف لابن المنير الإسكندراني كتاب شهير يتعلق بكتاب كبير في التفسير ، تعرفون كتاب " الكشاف " للزمخشري ؟ لابن المُنَيِّر تعقبات عليه يتعقب فيها آرائه الاعتزالية ، ابن المنير أشعري فيتعقبه في آرائه التي يخالف فيها الأشاعرةُ المعتزلةَ .
2- كتاب " مناسبات تراجم البخاري " لبدر الدين بن جماعة .
وقد استفاد من الكتاب السابق تقريبًا وزاد عليه ، بعني : اختصر الكتاب السابق - تقريبًا- وزاد عليه بعض الزيادات .
3- من الكتب المتأخرة " شرح تراجم أبواب البخاري لأحد علماء الهند المتأخرين " للشاه أحمد بن عبد الرحيم الدِّهْلَوِي الهندي ، المتوفى سنة : ألف مائة وسبعة عشر من الهجرة ، وهو كتاب مطبوع وفيه إضافات متعددة على الكتب السابقة .(1/18)
يبتدئ الإمام البخاري كما هو معروف بكتاب " بَدْء الوحي " ؛ أول كتاب في " صحيح البخاري " هو كتاب : " بَدْء الوحي " ، وأول حديث فيه حديث : ?? إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ?? ، وآخر كتاب في " صحيح البخاري " : " كتاب التوحيد " ، وآخر حديث فيه حديث : ??كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ، ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ : سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ ، سُبْحَانَ اللهِ الْعَظِيمِ ?? .
ويقول بعض أهل العلم إن بداية الإمام البخاري بـ" بَدْء الوحي " لبيان أن كتابه سيشمل جَمْع هذا الوحي وهو سنة النبي عليه الصلاة والسلام ، وابتدئ بحديث : ?? إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ?? ليستحضر هو وقارئ الكتاب إخلاص النية من أول تَعَلُّمه للسنة النبوية ، وخَتَم بـ" كتاب التوحيد " ؛ لأنه هو المرجِع والأساس الذي ينبني عليه قَبول العمل والثواب عليه في الآخرة ؛ قَبول العمل في الدنيا وهو أن يكون صوابًا لا بد من التوحيد ، وأن يُؤْجَر عليه الإنسان في الآخرة ، إذا لم يكن الإنسان من أهل التوحيد لا شك أن أعماله ستكون كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف ، وختم بحديث : ?? كَلِمَتَانِ...?? تذكيرًا بآخر ما يحصل في يوم القيامة وهو وَزْن الأعمال ، وأن سيكون آخر ما يبين مصير الإنسان من السعادة أو الشقاء هو هذا الميزان الذي تُوزَن فيه الأعمال .
على كل حال هذه بعض الأقوال الفقهية في توجيه بداية الإمام البخاري بحديث : ?? إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ?? ، وفي ختمه بحديث : ??كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ...?? .
الكلمة الثانية في عنوان " الصحيح " : " المسند " .
؛ قلنا " الجامع المُسْنَد ".
وقبل أن نستمر ، نحن نريد أن نأخذ عنوان البخاري ونشرح الكتاب بناءً على هذا العنوان ، لِمَا نفعل هذا ؟
لعدة أسباب :(1/19)
السبب الأول : أن الإمام البخاري لم يذكر مقدمة يبين فيها منهجه في " الصحيح " ، لو كتب مقدمة لأراحنا ؛ يقول فيها شرطي كذا منهجي كذا ، مجرد أن نقرأ هذه المقدمة نشرحها في أكثر ما نحتاج ، لكن الإشكال أن الإمام البخاري لم يكتب مقدمة لصحيحه ، فلا يوجد لنا شيء ممكن نعرف من خلاله منهج البخاري إلا كتابه " الصحيح " نفسه مع عنوانه ، والعنوان بالفعل من خلاله ممكن نعرف أهم عناصر منهج الإمام البخاري ، فذكرنا " الجامع " ومعنى " الجامع " ، ومنه تفرقنا إلى تصنيف البخاري أو تبويبات البخاري ، الآن نقف عند كلمة " المسند " .
ما هو " المسند " عند المحدثين حتى نعرف أو نستطيع أن نعرف شرط البخاري في هذا الكتاب ؟
يصف كتابه بأنه مسند ، والمسند اختُلف في تعريفه لكن من أشهر التعاريف له أنه : المرفوع المتصل . والتعريف الذي عرفه به الحافظ ابن حجر هو : " مرفوع صحابي بسند ظاهره الاتصال " .
على كل حال كلا التعريفين ينفع في بيان منهج الإمام البخاري في هذا الكتاب .
إذًا أول شرط للإمام البخاري نستفيده من كلمة " مسند " في هذا الكتاب شرط الاتصال : أن يكون الحديث متصلًا ، وهذا الشرط هو الذي يجعلنا نعتبر كتاب الإمام البخاري هو أول كتاب أُلِّفَ في الصحيح المجرد .
لأن هناك من العلماء من سبق البخاري وجَمَع الأحاديث المقبولة ، لكنه أدخل بينها أحاديث غير متصلة ، ونقصد بالذات الإمام : مالك بن أنس في كتابه " الموطأ " الذي كان يقول فيه الإمام الشافعي : " لا أعرف كتابًا على أديم الأرض أصح من كتاب مالك بن أنس " ، أو عبارة نحوها . طبعًا الشافعي قال هذا الكلام قبل أن يؤلف البخاري كتابه ؛ لأن الشافعي توفي سنة مائتين وأربع من الهجرة ، يعني كان عمر البخاري عشر سنوات ، يعني ما ابتدئ أصلًا بتأليفه " الصحيح " .
لكن بعض العلماء انتقضوا كابن الصلاح لما ذكر أن كتاب البخاري هو أول كتاب في الصحيح المجرد ، قالوا : قد سبقه مالك .(1/20)
فأجاب بعض أهل العلم قالوا : لكن " مالك " فيه مراسيل وفيه بلاغات .
فأجاب – يعني الذين يدافعون : على أن كتاب مالك هو أول كتاب في الصحيح المجرد – قالوا : والبخاري فيه معلقات ، وهي غير متصلة . فما هو الجواب ؟
الجواب هو كلمة : " المسند " ، لما قال " المسند " بَيَّنَ أنه إنما يشترط الصحة في الأحاديث المتصلة ، أما ما في سواها فإنه أوردها عَرَضًا ، يعني ناحية يتفرع بها ، فوائد يتفرع بها ، ليست أصلًا في شرط الكتاب ، شرط الكتاب الأصلي هي الأحاديث المسندة المتصلة ، ولذلك صح أن نقول بأن كتاب البخاري هو أول كتاب في الصحيح المجرد ... ، أما مالك فأخرج تلك المراسيل يَحْتج بها .بخلاف الإمام البخاري ويراها مقبولة ، وكذلك البلاغات يحتج بها ويبني عليها مذهبه ، أما البخاري فلا يحتج إلا بالمسند ولا يصحح إلا المسند ، ولذلك صح أن نعتبر أن كتاب البخاري أول كتاب في الصحيح المجرد .
كذلك كلمة " المسند " من وجه آخر كما ذكرنا المرفوع تُخْرِج الآثار - آثار الصحابة والتابعين - لما قلنا أن المسند شرطه أن يكون مرفوعًا متصلًا ، إذًا الآثار التي يوردها الإمام البخاري لا يوردها أصالةً وإنما يوردها عرضًا لفائدة جانبية ، ولذلك أكثر هذه الآثار التي يوردها غير متصلة ، معلقة ، فيقول : قال عمر ، قال أبو بكر ، قال فلان ، قال فلان . إلا آثار قليلة جدًّا أوردها أصالةً .
وهذه الآثار التي أوردها أصالة تنقسم إلى قسمين :
قسم منها مما له حكم الرفع ؛ هو موقوف لكن له حكم الرفع .
من أوضح هذه الآثار أو من أمثلتها الصريحة والواضحة حديث عائشة في " صحيح البخاري " تقول رضي الله عنها : ?? فَرَضَ اللهُ الصَّلَاةَ حين فَرَضَهَا رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ زِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ رَكْعَةٌ?? هل يمكن أن تقول عائشة هذا الكلام بالاجتهاد؟! هل يمكن أن يكون هذا الكلام بالاستنباط؟!(1/21)
ولا هذا لا بد أن يكون تلقته عن النبي عليه الصلاة والسلام ، تقول : ?? فَرَضَ اللهُ الصَّلَاةَ ?? . وهناك أمثلة كثيرة أخرى في صحيح البخاري تدل على أنه إذا كان الكلام لا يمكن أن يكون باجتهاد واستنباط ولا بد أن يكون مأخوذًا عن النبي عليه الصلاة والسلام وليس مما يؤخذ من الإسرائيليات ، فعند ذلك يكون له حكم الرفع كما هو معروف في هذه المسألة : أن الأثر الموقوف يكون له حكم الرفع إذا لم يكن للاجتهاد فيه مَدْخَل ، وإذا لم يكن مما يُحتمل أن يؤخذ عن الإسرائيليات أو يغلب على الظن ليس مأخوذًا عن الإسرائيليات ، وهذا يتحقق في هذا الأثر وفي غيره من الآثار التي أخرجها البخاري .
إذًا هي وإن كانت موقوفة لكن لها حكم المرفوع ، ولذلك أدخلها ضمن الكتاب الذي أسماه بـ" المسند " والذي يشبه أن يكون مرفوعًا .
هناك آثار قليلة في الحقيقة لم يظهر للعلماء أو للباحثين وجه الحكم بالرفع فيها ، وأوردها الإمام البخاري مسنده متصلة ، ولا أَجِدُ في الحقيقة حتى الآن جوابًا عليها ؛ كيف أوردها أصالة وهو اشترط أن يكون الكتاب مسندًا .
يعني مِن بين ذلك : أنه مثلًا أنه بَوَّبَ على تقبيل الميت وأورد فيه حديث أبي بكر أنه ?? دَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَهُوَ مُسَجَّى فَكَشَفَ عَنْ ثَوْبِهِ وَقَبَّلَهُ ?? . هذا أثر عن أبي بكر وبعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام لا يقال إقرار من النبي عليه الصلاة والسلام ؛ أثر لأبي بكر رضي الله عنه ، فما هو وجه إسناده وروايته له ؟!(1/22)
ولذلك الضياء المقدسي أورد بعض الآثار الموقوفة - الضياء المقدسي صاحب كتاب " المختار " واشترط فيه أن يورد الأحاديث المسندة مثل البخاري ، الصحيحة التي لم يُخرجها البخاري ومسلم سيأتي الكلام عليها إن شاء الله – أورد بعض الآثار الموقوفة ثم قال بعد أحد الآثار في كتابه يقول : هذا حديث حسن عن أبي بكر إلا أنه ليس فيه شيء من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد روى البخاري في كتابه غير شيء من كلام الصحابة .
كأنه يقول : لا أحد ينتقدني بإخراج هذا الأثر ، فقد سبقني البخاري فأخرج آثارًا للصحابة ، وهذه الآثار كما ذكرت ليست من باب ما له حكم الرفع ، بل هي موقوفات لا يقال أن لها حكم الرفع ، فما هو وجه إخراج البخاري لها ؟! هذه تنفع أن تكون مشروعًا علميًّا يقوم به أي واحد منكم أو غيركم ؛ يَجْمَع هذه الآثار الموقوفة التي أسندها البخاري ويبين وجه إخراج البخاري لهذه الآثار الموقوفة ، لما أخرجها في كتابه ؟! مجال من مجالات دراسة صحيح الإمام البخاري .
سنقف على الاتصال مرة أخرى عند شرط الصحة وسنتكلم عليه إن شاء الله .
الكلمة الثالثة في العنوان : " الصحيح " .
طبعًا هي لُبُّ العنوان وهي أكبر ما يُمَيّز هذا الكتاب ؛ اشتراط الصحة ، وبذلك يعلن البخاري شرطه من عنوان كتابه ، فشرط الصحة لم يكن باستنباط من العلماء ، يعني ما عرفوا أنه اشترط الصحة من خلال دراسة الكتاب وإنما من عنوان الكتاب ومن تصريح المؤلف أنه سيخرج الحديث الصحيح .
وتعريف الحديث الصحيح ؟ أي تعريف من التعاريف التي ذكرها أهل العلم ؟ من يذكر تعريف الحافظ ابن حجر ؟
هو قال : خَبَر أَحَادٍ . مُتَّصِل السَّنَدِ . بِنَقْلِ عَدْلٍ . تَام الضَّبْطِ . غَيْر مُعَلَّلٍ ولا شَاذ ؛ هذا تعريف الحافظ ابن حجر للحديث الصحيح .
إذًا هناك خمسة شروط للحديث الصحيح :
الأول : اتصال السند .
الثاني : عدالة الرواة .
الثالث : تمام الضبط . كما يقول الحافظ ابن حجر .(1/23)
الرابع : السلامة من الشذوذ ، أو عدم الشذوذ .
الخامس : عدم العلة ، أو السلامة من العلة . ...
هذه الخمسة شروط ، إذًا ما دام البخاري اشترط الصحة لا بد أن تجتمع الشروط الخمسة بأحاديث كتابه التي يسندها ، التي يرويها مسندة متصلة .
هذا العنوان واضح منه أن الإمام البخاري سيشترط هذه الشروط في كل كتابه . وبذلك نقف عند شرطه في الرواة أولًا : العدالة والضبط .
ما دام أن شرط الصحيح ألا يُخرج إلا للعدل الضابط ، فهل يمكن أن يُخرج البخاري لراوٍ مشهور مثلًا في كتابه هو يجهله لا يعرفه ؟
س : من هو الراوي المجهول ؟
ج : هو مَنْ لم يَثْبُت فيه لا جَرْحًا ولا تعديلًا .
لأنه لو عرفناه بالجرح صار ضعيفًا على مراتب الضعف ، ولو عرفناه بالعدالة صار عدلًا على مراتب العدالة أيضًا إذا انضَمَّ إليه الضبط.
إذًا شرط " الصحيح " ألا يُخرج لا لمجروح ولا لمجهول ؛ ولذلك يقول الحافظ ابن حجر : إنه لا يصح أبدًا أن نحكم على راوٍ في " الصحيح " بأنه مجهولٌ خاصةً . لماذا ؟ لأن مجرد إخراج البخاري له يعني أن البخاري قد عرفه بالعدالة وارتضاه ، فلو جاء أي عالم من العلماء وقال : فلان مجهول ، وقد أخرجه البخاري – نُقَدِّم كلام مَنْ ؟
- البخاري . لماذا ؟ لأنه البخاري أم لأمر آخر ؟
الذي يقول : أنا اعرفه وهو ثقة ؛ هذا عنده زيادة علم ، أما الآخر يقول : أنا لا أعرفه . هل نجعل الذي يقول : لا أعرفه حُجة أم الذي يقول : أنا أعرفه ، من هو الحجة ؟(1/24)
هذا يتكلم من عدم علمه ، معذور ، يقول : أنا لا أعرف فلانًا ، والآخر يقول : أنا أعرفه وقد عرفته بالعدالة والضبط ، ولذلك نقدم كلام من كان عنده زيادة علم على من ليس عنده هذه الزيادة ، ولا شك ، ولا أجعل كلام الأقل علمًا حجة على من عنده علم ؛ هذا نفس وأكمل المنهج الصحيح في التعامل مع مثل هذه القضايا ، ولذلك لا يمكن أبدًا أن أقبل – وهذا نص عليه الحافظ ابن حجر – من أحد أن يقول عن راوٍ في صحيح البخاري : إنه مجهول ؛ لأن مجرد إخراج البخاري له يقتضي أنه قد عَرَفَه بالعدالة والضبط ، ولذلك يقول الحافظ : من ادعى أن راوٍ في " الصحيح " مجهول يكون هذا نازَع البخاري علمَه . كأنه يقول للبخاري : أنت لا تعرف فلانًا ، البخاري يقول : أعرفه ، وهذا يقول : لا أنتَ لا تعرفه ومجهول ، وهذا لا يصح ولا يُقبل منه.
فالمقصود أن الحكم بالجهالة على راوٍ وهو في " الصحيح " هذا لا يمكن أبدًا ، لذلك لو وقفت على راوٍ من شيوخ البخاري أو ممن فوقهم حُكم عليه بالجهالة أو ما وجدتَ فيه جرح ولا تعديل ، مجرد إخراج البخاري له يقتضي أنه معروف عند البخاري وأنه في درجة القبول ؛ وهذه فائدة مهمة نستفيدها في كل كتب الصحاح ، وسيأتي الكلام عن بقية الكتب إن شاء الله.
س : هل هناك راوٍ روى له البخاري ، وقال عنه أهل العلم مجهول(1)؟
ج: وُجد هذا قديمًا وحديثًا ؛ من رد بعض الأحاديث لأنه فيها فلانًا مجهول ، أو نجد راوٍ في البخاري وقال عنه أبو حاتم مثلًا : مجهول ، وهو في البخاري ؛ فهل نقدم كلام أبي حاتم أم ما يقتضيه فعل البخاري ؟
نقدم ما يقتضيه فعل البخاري ؛ لأنه كما قلنا : الحكم بالجهالة ليس معارضًا للذي حكم عليه بالعدالة والضبط .
__________
(1) هذا سؤال من أحد الطلبة ، وهو غير مسموع ، فَقَدَّرناه ، ووضعناه في مكانه .(1/25)
كما أن الحكم بالجهالة لا يعارض قول من ضعفه ، لو وجدنا عالم يقول : فلان مجهول ، والآخر يقول : ضعيف ، نقدم كلام من قال : ضعيف ؛ لأن الذي يقول مجهول يقول : أنا لا أعرفه لا بعدالة ولا ضبط ، والذي يقول ضعيف يقول : أنا عرفته بالضعف ، فنقدم من كان عنده زيادة علم .
كذلك من حَكَمَ عليه بالتوثيق ؛ نقدِّم كلامه ، متى يصير المسألة فيها إشكال ؟ إذا تعارض الجرح أو التعديل ، واحد يقول ضعيف والثاني يقول ثقة ، هنا تأتي مسألة تعارض الجرح والتعديل ولها خطوات معينة ، وقد تُدرس إن شاء الله في الدورة في علم الجرح والتعديل ، ما هي طريقة التعامل مع الراوي الذي اختلفت فيه أقوال أهل العلم جرحًا وتعديلًا .
سؤال يقول : هل شرط الإمام البخاري في الحديث الصحيح هو التعريف الذي ذكر آنفًا ؟
نقول على وجه الإجمال : نعم ، لا بد من شرط العدالة ، لا بد من شرط الضبط ، لا بد من شرطا الاتصال ، لا بد من عدم الشذوذ ومن عدم العلة . وسنقف مع كل شرط من هذه الشروط ونتكلم عن موقف البخاري منها بإذن الله تعالى ، لكن فقط الشيء الذي يجعلني أقول في كل تفاصيله قضية تمام الضبط ؛ تمام الضبط هذه ليست شرطًا لا للبخاري ولا لغيره ، فكم من راوٍ وُصف بخفة الضبط أخرج له البخاري ولربما فيما يسمى بالأصول ، يعني هو حسب اصطلاحنا نحن يكون في الحسن ، وسيأتي الكلام عن هذا إن شاء الله على كل حال وذِكر كلام أهل العلم حول هذه المسألة.(1/26)
المقصود : أن البخاري اشترط القبول ، سواء كان حسنًا أو صحيحًا ، ولا شك أنه اشترط أعلى القبول ولذلك أعلى شرطه هو أن يكون هذا الحديث في قمة الأحاديث المقبولة ، ولذلك أكثر وغالب أحاديث " الصحيح " هي من رواية تَامِّي الضبط ، يقل فيها جدًّا أن تجد رواية خفيف الضبط في أصول الأبواب ، لكن يوجد ؟ نعم يوجد ، قليل ؛ لأنه الإمام البخاري شرطه أن يُخرج الأحاديث المقبولة الصالحة للاحتجاج ، فإن وجدها في أعلى المراتب كانت هذه أعلى شرط ، إن لم يجد في الباب إلا هذا الحديث الذي هو مقبول - ولو في المرتبة الدنيا من القبول – أخرجه في كتابه ، وخاصة إذا تذكرنا ما قررناه في السنة الماضية : أن أول من اصطلح – وهذه المرحلة هي القسم الأوسط – هو الإمام الترمذي ، فكل من سبقه ما كانوا يستخدمون الحسن بالمعنى الاصطلاحي ولا كان عندهم الحديث المقبول ينقسم إلى صحيح وحسن ، فليس هناك داعٍ عنده إلى أنه ما يُخرج إلا فقط ما يسميه برواية تام الضبط ، لأنه ما عنده مسمى لخفيف الضبط ، كل عنده في فقه حديث الصحيح ، وإن كان البخاري كما قلنا يحرص أن يُخرج أصح الصحيح ، فاتفق مع ذلك أن يكون أصح الصحيح من رواية تام الضبط غالبًا ، تام الضبط سيكون أتقن لروايته من خفيف الضبط ، ولذلك وافق أن تكون أغلب أحاديث صحيح البخاري هي من رواية من كان عدلًا تام الضبط .(1/27)
من القضايا المهمة المتعلِّقة بشرط البخاري في الرواة - وقد يُعترض على البخاري بها - روايته عن أهل البدع ؛ لآن من المعروف أن البدعة تعارض شرط العدالة ، وأن البدعة ربما قدحت في عدالة الراوي ؛ أقول : ربما ؛ لأن البدعة قد لا تقدح في عدالة الراوي على الصحيح ، فيما لو كان الراوي مُتَأَوِّلًا ، إذا كان الراوي مُتَأَوِّلًا فإن البدعة ؛ مع تحذيرنا منها ، مع تحذيرنا من صاحبها ، مع بيان خطرها ، إلا أننا لا نتهم هذا الراوي بالفسق ، وبعدم العدالة إلا إذا عرفنا أنه غير مُتَأوِّل ، إذا قامت عندنا قرائن تدل - أو أَيْقَنَّا أو غلب على ظننا - أنه غير متأول ، أي أنه يرتكب هذه البدعة وهو على عِلم بمخالفتها لنصوص الكتاب والسنة ؛ هذا الذي يُفَسَّق ، ولذلك تساهل العلماء ومنهم الإمام البخاري في الرواية عن بعض أهل البدع ، لأن الراجح أن أهل البدع لا يُطلق القول برد روايتهم ولا بقبول روايتهم ، وإنما هناك تفصيل في قبول روايتهم .
وهذا التفصيل ينبني على شروط ثلاث أساسية وهي:
الشرط الأول : أن لا يكون الراوي مُكَفَّرًا في بدعته .
الشرط الثاني : وأن لا يكون معاندًا ، يعني أن يكون متأولًا فلا يكون معاندًا .
الشرط الثالث : ألا يروي حديثًا منكرًا يؤيِّد البدعة ، ما هو أي حديث منكر وإنما حديث منكر يؤيد البدعة ، وهذه لها مجال آخر وسبق أن تكلمنا عليها في دروسنا .
وقد طَبَّق هذه الشروط الإمام البخاري ، وبهذه الشروط لا تجد أي تناقض بين تصرف البخاري وبين هذه الشروط ؛ لأنه بعضهم مثلًا قال بأن شرط البخاري ألا يُخرج للدعاة . وجدنا أن البخاري قد أخرج لبعض دعاة البدع ؛ داعية من دعاة البدع وأخرج له البخاري . ومن قال مثلًا أنه ترك الرواية عن المبتدعة فهذا قول باطل ، ولا شك أنه أخرج عن عدد من المبتدعة ليس بالقليل .
فمثلًا عندي هنا بعض الأمثلة :(1/28)
أولًا : الذين وُصفوا بالبدعة وأخرج لهم البخاري حسب ما في " كتاب الميزان " بلغوا تسعة وستين راوٍ في صحيح البخاري ؛ منهم من كان داعية من الدعاة إلى البدعة : سالم بن عجلان ، وكان داعية إلى الإرجاء ، ومثله تمامًا : شبابة بن سوَّار ، كان داعية إلى الإرجاء ، وعبد الله بن أبي نجيح كان من رءوس الدعاء إلى القدر كما يقول يحيى بن سعيد القطان ، يقول : كان من رءوس الدعاة إلى القدر ، بل وُصف أيضًا بالاعتزال ، وأحمد بن بشير الكوفي يقول عنه ابن نُمير : حسن المعرفة بأيام الناس ، حسن الفهم ، كان رأسًا في الشعوبية يخاصم في ذاك ، يعني : داعية ويدعوا وبجَلَد وبقوة ويخاصم الناس ويُعادي ويوالي بناءً على هذه البدعة ، والشعوبية ما هي ؟ من يعرف هذه البدعة ؟
التي هي ضد القومية العربية وهي نفي أن يكون للعرب أي مزية على غيرهم ، وهذا خلاف مذهب أهل السنة والجماعة ؛ يرون لجنس العرب فضلًا على جنس العجم ، وإن كانوا عند الله عز وجل سواسية من ناحية الأعمال والفرائض والواجبات والمنهيات ، لكن هذا الجنس أفضل من غيره من الأجناس من ناحية الصفات التي وضعها الله عز وجل فيه وجعله مادة الإسلام ، وهو الذي انتشر على يده هذا الإسلام في أقطار العرب ؛ المقصود هذا الرجل كان رأسًا من رءوس الشعوبية وكان داعية إلى هذا المذهب .
إذًا إخراج البخاري لهؤلاء توجيهه : أنه أخرج لهم بناءً الشروط الثلاثة السابقة ، ولن تجد هذه الشروط مناقضة لإخراج البخاري لواحد من هؤلاء ؛ لأنك لو قلت الداعية فهؤلاء دعاة ، حتى إذا قلت حديثًا يؤيد البدعة سيأتي إن شاء الله أن أصحاب الصحيح قد يخرجان أحاديث من رواية المبتدع وتؤيد بدعته لكنها ليست مُنْكرة ، وسيأتي له مثال صريح عن كلامنا على الإمام مسلم عليه رحمة الله . هذا بالنسبة لاشتراط العدالة في " صحيح البخاري " .(1/29)
طبعًا هناك كلام حول شرط البخاري أثاره الحاكم لا أريد أن أتوسع في ذكره ، لكن أقل شيء فيه هو الإشارة إليه الآن ، وهو أن الحاكم ذكر كلامًا فُهِمَ منه أنه يدعي أن شرط البخاري في الراوي الذي يُخرج له ألا يُخرج إلا لراوٍ قد عُرِفَ برواية اثنين عنه .
هذا الكلام ذكره الحاكم ؛ صحيح ، لكنهم اعترضوا عليه بأن البخاري ومسلم قد أخرجا لجماعة من الرواة لم يرو عنهم إلا رجل واحد ، وضربوا أمثلة لذلك من الصحابة ومن غير الصحابة ، لكن في حقيقة النظر في كلام الإمام الحاكم في " المستدرك " وفي كتابه " المدخل إلى كتاب الإكليل " وجدنا أنه يقصد من هذا الكلام أن يُبَيّن أعلى شرط الصحيح ؛ لأَنَّه صرح في مواطن أن البخاري ومسلم أخرجا لأقوام تفرَّد بالرواية عنهم شخص واحد فهو كان على علم بذلك .
إذًا ما هو مَقْصودِهِ لما ذكر أن شرط البخاري هو أن لا يُخرج إلا لمن روى عنه أو من عُرف برواية اثنين عنه ؟
قصده من ذلك : أَنَّ هذا هو أعلى شرط " الصحيح " كما ذكرنا سابقًا في التام الضبط ، يعني البخاري يحرص ألا يُخرج إلا لمن عرف برواية اثنين عنه ، فإن وَجَد أصلًا من الأصول واجتمعت فيه شروط القبول من رواية مَن لم يُعرف إلا برواية رجل عنه أخرجه في تلك الحال ، لكنه لا يلجأ لإخراج أمثال هؤلاء إلا إذا فقد القسم الأول من الرواة ، وهو من عُرف برواية رجلين عنه فأكثر ؛ هذا هو توجيه كلام الحاكم وهو من أعرف الناس بكتاب الصحيح ، وقد نص كما ذكرت وهذا بسبب التأويل ، يعني قرين التأويل من كلام الحاكم أنه كان على علم كما نص على ذلك بأن البخاري ومسلم قد أَخرجا لجماعة من الرواة روى عنهم رجل واحد .(1/30)
نرجع إلى شرط البخاري في الضبط ، فنقول شرط الضبط لا شك أنه من شروط الحديث الصحيح ولا بد من وجود هذا الشرط حتى يُقبل الحديث ، والإمام البخاري كذلك اشتراط دقيق وشديد جدًّا ، وقد بَيَّنَ ذلك بالمثال أحدُ العلماء وهو الإمام الحازمي ؛ حيث إن الرواة المقبولين لهم طبقات ، وضرب لذلك مثالًا قال : لو أتينا بأحد العلماء المشهورين كالإمام الزهري مثلًا .
نجد أن الإمام الزهري مكث يحدث سنوات طويلة جدًّا وتتلمذ على يديه تلامذة كُثُر ، بعض هؤلاء التلامذة مع تمام ضبطهم لازم الزهري ملازمة طويلة ؛ في السفر والحضر ، في كل أحواله ، فهو صاحب حفظ قوي جدًّا ، ضبط تام ، ووافق مع ذلك أنه لازم الزهري ملازمةً كبيرة جدًّا ، هؤلاء أعلى طبقة من الرواة عن الزهري .
الطبقة الثانية : هم طبقة مَنْ كان ثقة ضابطًا ضبطًا تامًّا ، لكنه لم يلازم الإمام الزهري ، وإنما جَلَسَ معه مجلسين ، ثلاثة ، أربعة ، عشرة ، مجالس معدودة لم يلازم الزهري ولم يكن خبيرًا بأحاديثه أو بمروياته .
يقول : لأن الإمام البخاري شرطه الأعلى ، يعني : يحرص ألا يُخرج إلا للطبقة الأولى من الرواة ، وهو أن يكون الراوي ضابطًا ضبطًا تامًّا وملازمًا للشيخ الذي روى عنه ، فإن لم يجد من رواية رجل من هؤلاء حديثًا أصلًا في باب من الأبواب ، عندها ينتقل للطبقة الثانية .
وسيأتي بقية الطبقات والكلام عنها عندما نتكلم عن مناهج بقية الكتب بإذن الله تعالى ، لكن المقصود أن البخاري يحرص ألا يُخرج إلا للطبقة الأولى ؛ هذه قمة حقيقة في النقل وفي التحري وفي التثبت ، فإن لم يجد إلا المرحلة الثانية - وهي أيضًا للثقة التام الضبط – أخرج لها في كتابه " الصحيح " ، لكنها تعتبر شرط فرعي – إن صح التعبير – في كتاب " الصحيح " .(1/31)
مازلنا نتكلم عن العدالة والضبط ، وقد يَعترض بعض الناس على ذلك لوجود رواة تُكُلِّم فيهم في " صحيح البخاري " ، وقد عدَّهم الحافظ ابن حجر ، قال : إنهم نحو الثمانين راوٍ ، وهناك كتاب آخر واسع في ذِكْر من تُكُلِّم فيه من رجال الصحيحين ، وهو كتاب أبي زرعة العراقي واسمه : " البَيَان والتوضيح لمَنْ مُسَّ بِضَرْبٍ من التجريح أُخْرِج له في الصحيح " لأبي زُرعة أحمد بن عبد الرحيم بن حسين العراقي ، ذكر في هذا الكتاب سبعة وخمسين وثلاثمائة راوٍ تُكُلِّم فيهم في " صحيح البخاري " ، لكن بالطبع أكثر هؤلاء الرواة لم يُتَكَلَّم فيهم بشيء يُنزل مرتبتهم أصلًا ، يعني الذين فيهم كلام فيه شيء من الوَجَاهَة ، فيه شيء من القوة لعلهم لا يبلغون حد الثمانين كما ذكر الحافظ بن حجر هذا العدد الكبير .
ما هو موقفنا من هؤلاء الرواة ؟
نقول : نقسم هؤلاء الرواة إلى أقسام :
القسم الأول : مَنْ تُكُلِّم فيه بالجهالة ، وقلنا : أنه لا يُقبل الحكم بالجهالة على راوٍ من رواة " الصحيح "
القسم الثاني : المُتَكَلَّم فيه ببدعة وهم قسم كبير من هؤلاء الرواة ، بيَّنا موقف البخاري من هن رواية المبتَدِع وموقفه منهم ، والموقف الصحيح الذي صار عليه المحدثون ، وسيخرج أيضًا عددًا كبيرًا من هؤلاء الرواة .
القسم الثالث : مَنْ تُكُلِّم فيه لأنه وَهِم في حديث أو أخطأ في حديثين أو ثلاثة ، لكنه ما زال في درجة الضبط والإتقان ، فمثل هؤلاء لا تُترك رواياتهم كلها من أجل خطأين أو ثلاثة أو أربعة أو من أجل أنه خف ضبطه .(1/32)
القسم الرابع : من كان ضعيفًا على الواضح عندنا نحن ، وإن كان في علم البخاري قد يكون بخلاف ذلك ، المقصود أنه قد يكون ضعيفًا حتى عند البخاري ، فمثل هؤلاء ربما أخذ البخاري من هؤلاء وانتقى من حديثهم ما ضبطوه وأتقنوه ؛ لأنه حتى سيئ الحفظ لا يُتَصَوَّر أَلَّا يضبط وَلَا حديث ، قد يكون غالب عليه الوهم ، لكن توجد هناك أحاديث أصاب فيها ، فيُخرج لمثل هؤلاء وغالبًا يكون إخراجه لمثل هؤلاء في المتابعات والشواهد .
لكن الحقيقة قبل أن نترك هذه المسألة نقرر قضية مهمة وهي أن البخاري لا يمكن أن يخرج لراو في صحيحه إلا وهو عنده في درجة القَبول ، ولا نَخرج عن هذا الأصل إلا بدليل قطعي يقيني أنه ضعيف عند البخاري لمَّا أخرج له في " الصحيح " ؛ لأن شرط الصحيح كما قلنا : العدالة والضبط ، ولا يمكن أن نخرج عن هذا الأصل إلا بدليل واضح ، ولا يكون الدليل واضحًا إلا إذا عرفت أنه ضعيف عند البخاري لا عند غيره ، قد يكون ثقة عند البخاري ضعيفًا عند غير البخاري ، هذا لا يهمني ، يهمني أن أعرف رأي البخاري فيه ، قضية الترجيح هذا أمر مختلف ، لكن يريد أن يعرف رأي البخاري في هذا الراوي ، كما قلنا : مجرد إخراج البخاري له يدل على أنه ما زال في درجة القبول ولهذا أدلة متعددة .
نستثني من هذا الإطلاق - كما قلت : كل رواة الصحيح في درجة القبول – الصور الآتية :
أولًا : من أخرج له البخاري مقرونًا ، كيف أخرج له مقرونًا ؟! ما هي صورة الرواية القرناء ؟
المقرون : هو الذي يُسَمَّى في الإسناد مع غيره . فيقال مثلًا : حدثني فلان وفلان . فممن أَخْرَج له البخاري مقرونًا : من قد يكون ضعيفًا عند البخاري .
ما هو وجه الإخراج لهم بهذه الصورة ؟
قد يكون من التقوي وأنه يَعتبر هذا الراوي ما زال يُعتبر به ، فهو معتمد على راوٍ ثقة وإنما أورد هذا من باب زيادة الفائدة .(1/33)
وقد يورده كذلك لأن البخاري سمعه على هذه الصورة ، يعني سمع الحديث من أحد شيوخه يرويه عن شيخين له ، فيورده كما سمعه تمامًا ، دون زيادة ولا نقص ، حتى لا يُغَيِّر من سياق الإسناد شيئًا ، والحقيقة عندي أمثلة ، لكن أنا كنت أتصور أن " صحيح البخاري " سننتهي منه اليوم ونبتدئ في " مسلم " ، لكن ما زلنا في الكلام عن البخاري وسوف نختصر كثيرًا في الأمثلة .
أو من خلال أيضًا الذين يُوردهم البخاري لا للاحتجاج ، قد يوردهم خلال سِيَاقَة أحد رجال الإسناد بطريقين له ، يعني : في أحد الرواة مثل سفيان بن عيينة .
يقول الإمام البخاري : ?? حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ : حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي مُسْلِمٍ عَنْ طَاوُسٍ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ قَالَ اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ ...?? إلى آخر الحديث .
ثم قال سفيان : ?? وَزَادَ عَبْدُ الْكَرِيمِ أَبُو أُمَيَّةَ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ?? .
الآن الإمام البخاري يروي هذا الحديث عن شيخه علي بن المديني وشيخه يروي عن سفيان ، وسفيان أورد الحديث بطريقين فالبخاري أوردها كما سمعها ، فكان في الطريق الثاني راوٍ اسمه عبد الكريم بن أبي المُخَارِق أبي أمية ، وعبد الكريم بن أبي المُخَارِق ضعيف ، فالبخاري ما أورده لأنه حجة عنده ولكن لأن سفيان بن عيينة حدث بهذا الحديث بهذه الصورة فأورده كما سَمِعَهُ .(1/34)
وفي ذلك فائدة مهمة ولذلك أوردها البخاري : أن الراوي قد يخطئ ؛ فيذكر لفظ الراوي الضعيف في رواية الراوي الثقة ، فأراد البخاري أن يبرأ ذمته بنقل الحديث كما سمعه ، فلو وقع وهم أو خطأ يعرف الناقلون أن هذا من قِبل سفيان بن عيينة لا من قِبل شيخه ولا من قِبل البخاري نفسه .
فهذه صورة أخرى تدعو البخاري إلى أنى يذكر الراوي الضعيف في صحيحه وإن لم يكن ثقة عنده .
الصورة الثالثة : أن يورده بمتابعات ، ونقصد من المتابعات الروايات التي يُعَلِّقها البخاري في آخر الصحيح ، فيقول مثلًا بعدما يورد الحديث ، يقول : وقد رواه معمر وفلان وفلان عن - مثلًا - همام أو عن فلان ؛ أحد الرواة ، يذكر من تابع رواة الحديث الذي أسنده عقب الحديث مباشرة ، يذكرها معلقة ، هؤلاء أيضًا لا يُشترط فيهم أن يكونوا عدولًا أو ضابطين .
إذًا الرواة الذين يشترط فيهم أن يكونوا عدولًا ضابطين هم الذي يخرج لهم مُسْنَدَات ، يعني حديث مسند متصل بشرط ألا يكون مقرونًا ولا يكون ورد كذلك بالإسناد ؛ يعني إسناده عقب إسناد ، وبشرط ألا يكون بمتابعاته التي يُسوقها معلقة في آخر الحديث ، من سوى هؤلاء فكلهم عند البخاري لا ينزلون عن درجة القبول ، ولو في آخر مراتبها .
وصلى اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وعلى آله ، وصحبه وسلم .(1/35)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على إمام الأنبياء والمرسلين وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد ..
فَنُكْمِل ما كنا قد بدأنا به بالأمس وهو بقية الكلام عن كتاب الإمام البخاري وهو :
" الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسننه وأيامه " .
وكنَّا قد تكلَّمنا بالأمس عن منهج هذا الكلام في الترتيب لمَّا تعرضنا لكلمة الجامع لعنوانه ، وتكلمنا أيضًا عن قضية اشتراط الرفع لمَّا تكلمنا عن المسند كلمة المسند في العنوان، ثم لمَّا وصلنا إلى الكلام عن اللفظ السالف في هذا العنوان ، وهو الصحيح تكلمنا عن شرط العدالة والضبط في هذا الكتاب ، وتكلمنا عن منهج الإمام البخاري في إخراجه للرواة المتكلم فيهم.
وخَرَجْنَا بِقَاعِدَةٍ : " أَنَّ كَلَّ مَنْ أَخْرَجَ لَهُمْ البُخَاريُّ فِي الصَحِيحِ فَهُوَ مَقْبول عِنْدَهُ حُجَّة عِنْدَهُ إلا مَنْ تُكُلِّمَ فِيهِ وأَخْرَجَ لَهُ مَقْرونًا ، أو أَخْرَجَ لَهُ خِلَالَ إِسْنَاد " .
يعني: يكون أحد شيوخه أورد إسنادين، فيورد الإسنادين لا احتجاجًا بكلا الإسنادين، وإنما احتجاجًا بأحد الإسنادين، وأورد الحديث كما سمعه من شيخه ، أو أن يكون أورده في المتابعات، ونقصد بالمتابعات أي الأسانيد أو الطرق التي يوردها معلقةً في أواخر الحديث يقول: رواه فلان ، وفلان ، وفلان دون أن يسندها ، وهؤلاء الذين يذكر رواياتهم هؤلاء لا يلزم أن يكونوا عنده من الثقات لا يلزم أن يكونوا من الثقات، وهذا آخر ما ذكرناه بالأمس.
اليوم نكمل الكلام عن بقية عن شروط الصحيح :
والشرط الثالث من شروط الصحيح: الاتصال .
وسبق أن تكلمنا عن الاتصال بشيء من الكلام لمَّا تعرضنا لكلمة المسند، وقلنا بأن الحديث المسند هو المرفوع المتصل، أو مرفوعه صحابي بإسناد ظاهره الاتصال، لا شك أن الاتصال شرط مهم من شروط الصحة.(1/1)
المهم في شرط الاتصال عند البخاري: أن بعض أهل العلم نسبوا إلى الإمام البخاري أن له شرطًا يخالف فيه مسلمًا أو أن مسلم يخالف البخاري في شرط في طريقة تحَقق الاتصال عند كل واحد منهما، فالبخاري نُسِبَ إليه أنه لا يقول باتصال الحديث المُعَنْعَن الذي يرويه الراوي عن من يرويه عنه بصيغة عن أو قال أو أي صيغة أخرى ليست صريحة بالسماع، مثل: قال وذكر وحدَّث، وأخذت هذه الصيغة بالكلام لأنه لا خلاف بين أحد من أهل العلم أن الحديث الذي يكون فيه أو يقول به الراوي حدَّثنا أو أخبرنا أو سمعت أن هذا متصل لا خلاف بين البخاري ومسلم في الحديث الذي فيه التصريح بالسماع، إنما الخلاف المنقول والمذكور بين البخاري ومسلم هو في الحديث الذي يرويه الراوي عن من يرويه عنه بصيغة محتملة للسماع كـ "عن " و " قال " وما شابههما، فذكر عن الإمام البخاري أنه يشترط لاتصال الحديث المعنعن أو للحكم على الحديث المعنعن بأنه متصل:
الشرط الأول: أَنْ يكون الراوي غير مدلس .
الشرط الثاني: أن يثبت ولو مرة لقاؤه بمن روى عنه، أن يثبت عند البخاري أنه لقي هذا الراوي الذي روى عنه بصيغة محتملة، فإذا ثبت عنده اللقاء ولو مرة حمل بقية روايات هذا الراوي عن ذلك الشيخ على الاتصال بشرط ألا يكون مدلسًا كما ذكرنا سابقًا.
أما مسلم فشرطه قد صرَّح به في مقدمة صحيحه وسنذكره الآن وإن كان هذا متعلق بـ " مسلم " ، وسنذكره الآن حتى نعرف الفرق بين المذهبين اللذين ذُكِرَا أو نسب للبخاري ... ومسلم.
مذهب مسلم : أن الحديث المعنعن لا يحكم له بالاتصال إلا بثلاثة شروط:
الشرط الأول: هو نفس الشرط الأول عند البخاري، وهو ألا يكون الراوي مدلس، أو بعبارة أدق ألا تكون عنعنة الراوي مردودة بالتدليس أو لا يوصف بالتدليس الذي يقتضي رد العنعنة، ألا يوصف الراوي بالتدليس الذي يقتضي رد العنعنة، هذا شرط البخاري ومسلم اتفقا في هذا الشرط، ثم ينفرد مسلم بالشرطين التاليين:(1/2)
الشرط الثاني : أن يكون هذا الراوي معاصرًا لمن روى عنه .
يعني : عاش في زمنه، فلا يكون وفاة الشيخ قبل ولادة الراوي عنه، لا بد أن يكونا عاشا في زمن واحد، هذا الشرط الثاني.
الشرط الثالث : ألا يوجد دليل ولا قرينة تدل على عدم السماع ، ألا يوجد دليل يدل على عدم السماع، ولا قرينة تشهد بعدم السماع من ذلك الشيخ، فإذا اجتمعت هذه الشروط ، فإن الإمام مسلم يحكم على الحديث بالاتصال، فأي الشرطين في رأيكم أكثر تشددً؟ شرط البخاري، مع أنهم شرطين.
كيف يكون شرطين أكثر؟ مسلم ثلاثة شروط.
قلنا البخاري له شرطان، وأما مسلم فله ثلاثة شروط؛ لأنه يشترط العلم باللقاء وهذا لا شك أشد .
هذا الشرط يا إخوان نقل عن الإمام البخاري بالطبع ؛ لأننا قلنا: إن البخاري لم يذكر هذا الشرط، ولم يذكر أصلًا شروطه في مقدمة الكتاب لأن الكتاب ليس له مقدمة، إلا أن هذا الشرط هناك شك في نسبته إلى الإمام البخاري بل الراجح عندي والله أعلم أنه لا تصح نسبته إلى الإمام البخاري، وأن شرط البخاري ومسلم في الاتصال واحد ، ولا فرق بينهما في ذلك، وأن الإمام مسلم لمَّا نقل الإجماع على الشرط الذي ذكره في مقدمة الصحيح كما سيأتي كان ينقل الإجماع بالفعل الذي يتناول البخاري ومسلمًا ، وعلي بن المديني ، وجميع من يعرفهم من أهل الحديث، فشرط البخاري ومسلم في الحديث المعنعن واحد، وهو الشرط الذي نقلناه سابقاً عن مسلم أنهما يحكمان بالاتصال إذا لم يكن الراوي مردود العنعنة بالتدليس، إذا كان معاصرًا، إذا لم يقم دليل ولا قرينة تدل على عدم السماع، هذا هو شرط البخاري ومسلم على الصحيح، والمسألة فيها طول لكن يكفي أن نَعْرِض لهذا الشرط من شروط الإمام البخاري وهو شرط الاتصال .(1/3)
لا شك أن هذا الشرط كما ذكرنا لا يمكن أن يُصْحِح الحديث إلا بحصوله وهو شرط الاتصال، فهنا ينقدح في الذهن الكلام عن المعلقات، يعني : ولما أخرج البخاري إذًا المعلقات في صحيحه، أو ما وجه إخراجها في الصحيح ؟ هل هي صحيحة عنده ؟هل نحكم بصحتها لمجرد أن البخاري أخرجها في الصحيح؟
لا شك أن المعلقات خارجة عن شرط الصحيح، المعلقات الأصل فيها أنها خارجة عن أصل الصحيح، لما، ليش خارجة عن أصل الصحيح؟ لشرطين أو للكلمتين اللتين وردتا في عنوان الكتاب:
الشرط الأول : كلمة المسند ، والمعلق ليس بمسند لأن ما هو متصل .
الشرط الثاني : وهو الصحة، وشرط الصحة أن يكون الحديث متصلًا، والمعلَّق ليس بمتصل .
ولذلك المعلقات الأصل أنها ليست داخلة ضمن شرط الصحيح ، إلا أن العلماء وخاصة الحافظ ابن حجر قد اعتنى بهذه المعلقات عناية فائقة جدًا ، وكان من أوائل كتبه التي ألفها ، والتي أشتهر بها كتاب خاص بمعلقات صحيح البخاري وهو كتاب " تَغْلِيق التَعْلِيق " الذي وَصَلَ فيه هذه المعلقات؛ أي بيَّن أسانيدها إلى من انتهت إليه ، سواءً كانت منسوبة إلى النبي عليه الصلاة والسلام مرفوعة أو موقوفة على الصحابة أو التابعين أو من جاء بعدهم .
ولذلك لن تجد خيرًا من الحافظ بن حجر معرفة بأنواع هذه المعلقات ، وأقسامها لأنه صاحب عناية فائقة ومتميزة بمعلقات صحيح البخاري، وقد لخَّص هذا الكتاب أيضًا " تَغْلِيق التَعْلِيق " في مقدمة شرحه لصحيح البخاري "فَتْح البَارِي" المقدمة المشهورة باسم " هدي الساري " .
لخَّص كتابه " تغليق التعليق " تلخيصًا كبيرًا وقدَّم هذا الباب بذكر أنواع المعلقات في صحيح البخاري، ويمكن أن نقسم هذه التعليقات بناء على كلام الحافظ بن حجر يعني حاولوا أن ترسموها شجرة في أذهانكم أو في أوراقكم التي معكم .
نقسم هذه المعلقات إلى قسمين أساسين:
معلقات المتون . ومعلقات الأسانيد . أو الطرق والروايات.
هذه لها كلام وهذه لها كلام.(1/4)
نبتدئ بمعلقات المتون :
معلقات المتون: يعني أن يروي متنًا لكن لتعليقه، نحن نقول معلق ، نحتاج إلى شرح المعلق قبل أن ندخل فيه، ما هو المعلق؟ نحن طبعًا شرحناه السنة الماضية أنا معتمد إنه محفوظ من السنة الماضية المعلق.
- ما حذف من مبتدأ إسناده واحد فأكثر، زاد الحافظ بن حجر: بتصرف مصنفه : هذا هو المعلق.
صورته حتى نعرف: مثل أن يقول الإمام البخاري في حديث ?? إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّياتِ ?? الذي يرويه عن الْحُمَيْدي عَنْ سفيان عَنْ إبراهيم .. إلى آخر السند .
كأن يقول مثلًا: ?? قَالَ سُفْيَانُ .. الحديث ?? .
هل البخاري سمع الحديث من سفيان؟
- لا . إنما سمعه من الْحُمَيدي ، أو أن يقول : قال يحيي بن سعيد الأنصاري ، هل سمعه من يحيي بن سعيد الأنصاري ، أو أن يقول : قال علقمة بن وقاص، هل سمعه من علقمة ؟ لا، أو يقول: قال عمر بن الخطاب، أو يقول يحذف السند كله، ويقول: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ?? إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّياتِ ?? .
فإذا حذف شيخه هذا يُسمى معلق، فإذا أضاف إلى شيخه رجل ثاني أو ثالث أو رابع أو كل السند أيضًا يُسمى معلق ، هذه هي المعلقات، وقد يكون المعلق حديث مرفوع كما ذكرنا إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وقد يكون أثرًا موقوفًا عن أحد الصحابة أو عن أحد التابعين، فمن جاء بعدهم، فنقول: أن هذه المعلقات قد يسوقها الإمام البخاري يسوق بعض السند أو يحذف السند كله، ويذكر المتن المروي سواء كان مرفوعًا أو موقوفًا أو مقطوعًا، فهذه المتون تنقسم أو معلقات المتون تنقسم أيضًا إلى قسمين، ليت عندنا لوحة كان نرسم لكم شجرة؛ هذا لأنها مرسومة عندي أنا في الورقة هذه، فهذه المعلقات المتون أيضًا تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول : الذي وصله الإمام البخاري في الصحيح، معلقات وصلها في كتابه الصحيح.
القسم الثاني : معلقات لم يصلها في الصحيح.
كيف يعني معلقات وصلها في الصحيح؟ ومعلقات لم يصلها؟(1/5)
بعض المعلقات يذكرها الإمام البخاري في موطن ويحذف من مبتدأ السند واحد فأكثر، ويوردها في موطن آخر مسندةً ، يذكر من سمع منه الحديث إلى منتهى السند .
ما حكم هذه المعلقات التي يصلها البخاري في صحيحه؟
صحيحة وهي على شرطه ؛ لأنه أخرجها مسندة في موطن آخر من كتابه الصحيح .
لما علقها ؟
هنا سؤال: ما دام إنها على شرطه وأخرجها في موطن آخر مسندة، فلم لم يصلها في كل موطن يوردها فيه مع أننا نعرف أن البخاري يكرر حديثه، يعني كثير من الأحاديث يكررها ويقسم الحديث ويوزع الحديث على الأبواب، فلم لم يرو هذا الحديث الذي علقه بإسناد متصل لا منتهاه ؟
يقول : للاختصار .
ولما لم يفعل هذا اختصار في الروايات الأخرى التي أسندها وكررها في أبواب أخرى، يعني لابد في فرق بين الصورتين، مرة لا يعلق الحديث وإن تكرر، ومرات يعلقه إذا تكرر، فما الفرق بين الحالتين؟
يقول: بسبب ضيق المخرج ؟ الإمام البخاري من طبعه وقلنا وهذا من سجيته من ذكائه أنه يكره الإعادة التي لا فائدة فيها، حتى الأحاديث التي كان يكررها مسندة لابد أن يكون هناك إضافة في كل مرة يروي فيها الحديث ولو أقل شيء من ناحية الرواية ؛ كأن يرويه مرة عن شيخ، ومرة يرويه عن شيخ آخر، يرويه مرة بإسناد، ويرويه مرة بإسناد آخر، يرويه مرة بلفظ ويرويه مرة أخرى بلفظ فيه شيء من الاختلاف ينفع في بيان الحكم المستنبط من الحديث.
أما الحديث الذي لا يوجد عنده إلا من وجه واحد، ولم يروه إلا عن شيخ واحد مثلًا، وليس هناك فائدة من إعادته هذا الذي يرى أنه يجب أن يختصر؛ لأنه إن كرره بنفس السند وبنفس اللفظ لا فائدة تذكر في مثل هذا الفعل، ولذلك يقوم بتعليقه من باب كراهية التكرار الذي لا فائدة منه.
نرجع إلى القسم الثاني وهو :
الأحاديث التي علقها ولم يصلها في الصحيح هذه أيضًا تنقسم إلى قسمين :
الشجرة كل مدى تتفرع أكثر وأكثر.(1/6)
القسم الأول من هذه المعلقات التي لم يصلها في الصحيح: هي المعلقات التي أوردها بصيغة الجزم.
والقسم الثاني التي أوردها بصيغة التمريض .
ما هي صيغة الجزم وصيغة التمريض؟
صيغة الجزم: هي التي يقطع فيها بنسبة ذلك القول إلى قائله كأن يقول: قال فلان، قال عمر، قال سفيان، قال علي بن أبي طالب، قال محمد بن سيرين، أو ذكر أو حدَّث، أي صيغة فيها جزم بنسبة هذا القول أو هذا الإسناد أو الأمر المنقول عن من سَمَّاه.
صيغة التمريض: هي التي ليس فيها جزم؛ كأن يقول: رُوي، قيل، ذُكر عن فلان، لاحظتم.
إذًا: صيغة الجزم هي في الغالب تكون طبعًا بصيغة المبني للمعلوم، وصيغة التمريض تكون بصيغة المبني للمجهول.
نبتدئ بالقسم الأول وهو ما رواه بصيغة الجزم:
ما رواه بصيغة الجزم طبعًا هذا ما رواه بصيغة الحزم ولم يصله في الصحيح لأنه انتهينا الآن مما وصله في الصحيح نتكلم الآن عن الأحاديث التي علقها ولم يصلها في الصحيح، وقلنا إنها تنقسم إلى قسمين، هذه الأحاديث التي عَلَّقها بصيغة الجزم الحافظ بن حجر باستقرائه
القسم الأول : وجد أن بعض هذه الأحاديث صحيحة على شرط البخاري هذا القسم الأول.
القسم الثاني: صحيحة على غير شرط البخاري.
القسم الثالث : في مرتبة الحسن ليست صحيحة.
القسم الرابع: فيها ضعف من قِبَل انقطاع يسير في الإسناد، لا من جهة طعن في الرواة، وأيضًا يكون الحديث هذا مُنْجَبِر.
إذًا: هي أربعة أقسام الأحاديث المعلقة التي يذكرها بصيغة الجزم.
1- ما كان صحيحًا على شرط البخاري، وسنتكلم الآن عن كل قسم .
2- ما كان صحيحًا على غير شرط البخاري.
3- ما كان حسنًا لم يصل إلى درجة الصحة.(1/7)
4- ما كان ضعيفًا، لكنَّ سبب ضعفه انقطاع يسير في الإسناد وليس من جهة طعن في أحد الرواة، ثم يكون هذا الحديث أيضًا منجبر، أي متقوي بمجيئه من وجه آخر، هذا حسب استقراء الحافظ، يقول: هذه المعلقات التي بصيغة الحزم لا تخرج عن واحد من هذه الأقسام الأربعة، وذكر أمثلة مثلًا للحديث الصحيح:
أول شيء الحديث الصحيح الذي على شرطه، قال لما لم يخرجه في الصحيح ما دام صحيح وعلى شرطه، لِمَ لم يسنده؟
يقول الحافظ بن حجر: لذلك عدة أسباب:
1 - أن يكون قد أخرج ما يقوم مقامه . وقلنا إن شرط البخاري وسيأتي هذا في العنوان أنه مختصر؛ فإذا أورد حديثًا مسندًا بنفس معنى هذا الحديث الآخر يرى أنه ما في داعي لتكرير الحديث الآخر فيورده معلقًا وإن كان صحيحًا على شرط البخاري.
2 - أن يكون أخذه في حالة المذاكرة .
يعني : أخذه في حالة المذاكرة أو تلقاه عن شيخه أثناء المذاكرة .
المذاكرة غير مجالس السماع؛ مجالس السماع هي المجلس الذي يتصدى فيه الشيخ للتحديث ويسمع الطلاب منه، أو يقرؤون عليه وهو يسمع، هذه مجالس إملاء ومجالس تحديث يكون الشيخ فيها متحري ومتوقي ، والطالب منتبه ويكتب أو يحفظ أثناء السماع أو يعارض إذا كان عنده النسخة التي تُقرأ على الشيخ.
أما المذاكرة: ما أشبهها بمجالس المذاكرة التي يعرفها الناس الآن؛ يجلس الحافظ أي الحافظ أي المحدِّث مع بقية المحدثين، ويقول لهم: أنا أروي حديث كذا وكذا وكذا، عندي رواية من رواية فلان عن فلان عن فلان لا يكون فيها متوقي ، ومتحري تحريه الذي يفعله في مجالس التحديث، فاحتمال الوهم فيها أو احتمال الاختصار، أو الرواية بالمعنى واردة ، ولذلك الإمام البخاري يرى أنه يميز هذه الروايات التي تلقاها بالمذاكرة عن الروايات التي تلقاها في مجالس السماع والتحديث فيروي هذه الأحاديث وإن كانت على شرطه بصيغة الجزم معلقة إلى من نسبها إليه.
3 - ألا تكون مسموعة له كأن يكون وجدها وجادة .(1/8)
يعني : ألا تكون مسموعة عند البخاري لا في المذاكرة ولا مجالس السماع، وإنما وجدها في كتاب من الكتب ولذلك لم يوردها متصلة، واكتفى بتعليقها مجزومة إلى من علقها عنه.
القسم الثاني الذي هو صحيح على غير شرطه:
قال مثاله حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قد علقه البخاري قال : ?? قَالَتْ عَائِشَةُ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ اللَّهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ?? وهذا الحديث أخرجه الإمام مسلم في الصحيح، فهو صحيح لكن على غير شرط البخاري، طيب ليش ما أخرجه في الصحيح؟ لأنه على غير شرطه، الجواب معروف.
قال: القسم الثالث: ذكرناه الحسن، ومثاله:
قال: قال بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ?? إِنَّ اللَّهُ أَحَقّ أَنْ يُسْتَحْيَى مِنْه ُ?? هذا الإسناد يُضرب به المثل للإسناد الحسن، ولذلك لم يخرجه الإمام البخاري لأنه ليس في المرتبة العليا من مراتب القبول التي هي ما نسميه نحن ، أو المتأخرون يسمونه بالصحيح لذاته ، ولذلك لم يخرجه الإمام البخاري.
مثال القسم الرابع من الأقسام وهو الضعيف الذي يضعه من جهة انقطاع في الإسناد لا من جهة ضعف في الرواة أو طعن في الرواة، وهو مُنْجَبِر، قال: الحديث رواه طاووس عن معاذ في الزكاة أورده الإمام البخاري مجزومًا بنسبته إلى طاووس، وطاووس لم يسمع من معاذ بن جبل، وإن كان عاصره، لكنه لم يسمع منه، ولذلك علقه الإمام البخاري، إلا أن العمل على مقتضى هذا الحديث ولم يخالف فيه الفقهاء، وهناك أدلة تدل على صحة ما جاء في هذا الحديث، ولذلك علقه الإمام البخاري بصيغة الجزم.
ماذا تفيد هذه الصيغة الآن عند البخاري لمَاَّ يقول: قال فلان ؟
تفيد : أَنَّ هذا الحديث أو هذا الأثر صحيح إلى من علقه عنه - انتبهوا للقيد - أن هذا الأثر أو الحديث صحيح إلى من علقه عنه .
من هي فائدة هذا التقييد ، لماذا لم نقل صحيح ونسكت؟(1/9)
يدل على صحته الصيغة تدل على الجزم أو القطع، فلم لم نقل بأنها تدل على الصحة وإنما قلنا صحيح إلى من علقها عنه لِمَ؟
هو الآن جزم الساقط انتهينا منه، لكن مثلًا يقول: قال طاووس عن معاذ، فهو الآن يجزم لنا أن الإسناد الساقط مقبول في درجة القبول، فلِمَ قال: قال طاووس عن معاذ ولم يقل: قال معاذ؟
أنا الآن بينت السبب ، لأنه هناك احتمال أن يفعل البخاري ذلك إذا كان الباقي في الإسناد الذي يذكره من الإسناد فيه علة، فيه سبب من أسباب الرد، فكيف يجزم بنسبة الحديث إلى معاذ والحديث لم يثبت إسناده إلى معاذ، فهو إذا قال؟: قال فلان فهو يجزم بصحة الإسناد إلى الذي سمَّاه، ثم يجب عليك أن تنظر في بقية الأسماء التي ذكرها بإسناد وتدرس بقية الإسناد المتبقي، فقد يكون مقبولًا وقد لا يكون مقبولًا، ومثاله مثال: طاووس عن معاذ الذي ذكرناه سابقًا، ولذلك لم يقل: قال معاذ، ما قال مثل حديث عائشة السابق: ?? قَالَتْ عَائِشَةُ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ اللَّهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ?? ؛ لأن الحديث إلى عائشة صحيح في صحيح مسلم ما في خلاف أبدًا، وقد يقول في أحاديث أخرى: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث آخر قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ?? الإسْلَام جِهَادٌ وَنِيَّة ?? وجزم بنسبة هذا الحديث إلى النبي عليه الصلاة والسلام ولم يتردد في ثبوته لأنه صحيح إلى النبي عليه الصلاة والسلام، لكن في حديث معاذ قال: قال طاووس، ومع ذلك يجب عليك أن تنظر في بقية الإسناد الذي ذكره الإمام البخاري فلعل هناك علة في بقية هذه الأسماء التي ذكرها؛ إما طعن في الرواة أو انقطاع في الإسناد، وإذا كان بصيغة الجزم لا يكون انقطاعًا في الرواة وإنما يكون من جهة القطع في الإسناد كما سبق، هذا هو القسم الأول الذي أورده بصيغة الجزم .(1/10)
القسم الثاني : مما لم يصله في الصحيح : وهو ما أورده بصيغة التمريض وبينا ما هي صيغة التمريض . نقول صيغة التمريض وصيغة التمريض مثالها: " قيل " ، و " ذُكِرَ " و " حُدِّث " .. وما شابه ذلك.
ما هي إفادة صيغة التمريض؟
قلنا: بأن صيغة الجزم تدل على أن الإمام البخاري يجزم بهذا القول إلى من علقه عنه .
وصيغة التمريض تدل على ماذا؟ هل صيغة التمريض تدل على التضعيف؟
هذا هو المهم لأن ؛ لو قلنا تدل على عدم الجزم فهي كلمة عامة ، وقد يكون عدم الحزم مع الدلالة على الضعف، وقد لا تكون كذلك، قد يكون مراده فقط بيان أن هذا الحديث أو يريد أن يُبرئ ذمته من الجزم بنسبة هذا الحديث إلى قائله والصحيح هو هذا الأخير أن صيغة التمريض لا تدل وحدها على التضعيف عند البخاري، فقط تدل أن البخاري لا يقطع بنسبة هذا القول إلى قائله فقط .
ومن ظن أنها دالة على الضعف يرد عليه أن الإمام البخاري أورد أحاديث بصيغة التمريض ووصلها في صحيحه .
ومثال ذلك : أثر ابن عباس الذي قال فيه الإمام البخاري قال : وَيُذْكَرُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : ?? الرُّقَى بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ ?? .
الآن هذه صيغة تمريض ولَّا حزم ؟
صيغة تمريض؛ يُذكر عن ابن عباس ، هذا الحديث هو الحديث الذي أخرجه الإمام البخاري في الصحيح في قصة أبي سعيد الخدري لما رقى سيد القوم الذي لُدغ بفاتحة الكتاب، نفسه البخاري أخرجه في الصحيح، طيب لِمَ أورده بصيغة التمريض مع أنه صحيح وعلى شرطه؟(1/11)
يقول الحافظ بن حجر: سبب ذلك بالاستقراء الذي قام به الحافظ بن حجر أنه يفعل ذلك إذا ذكر الحديث بالمعنى، ولم يذكره باللفظ، فمثلًا في هذا الحديث يقول: يُذكر عن ابن عباس في الرقى بفاتحة الكتاب، ما ذكر لفظ الحديث، وإنما أورده بالمعنى، فإذا أورد الحديث بالمعنى فإنَّه في بعض الأحيان يعلقه بصيغة التمريض، هذا بالنسبة للأحاديث التي علَّقَها بصيغة التمريض وهي موصولة في الصحيح، انتبهوا، أما الأحاديث التي علقها بصيغة التمريض ولم يصلها في الصحيح، فهذه سيأتي الكلام عنها الآن .
يعني الآن ممكن أيضًا الأحاديث التي علقها بصيغة التمريض ممكن نجعلها قسمين:
قسم : وصله في الصحيح . ... قسم : لم يصله في الصحيح.
1 - التي وصلها في الصحيح : علقها بصيغة التمريض ؛ لأنه أوردها بالمعنى .
2 - التي لم يصلها في الصحيح هذه تنقسم إلى أربعة أقسام :
القسم الأول : صحيح على غير شرطه.
القسم الثاني: الحسن.
القسم الثالث: أن يكون الحديث ضعيفًا لكنَّ العمل عليه . ويأتي أمثلتها.
القسم الرابع: هو الضعيف الذي لا جَابِر له ، ولم يفت به عامة أهل العلم .
وهذا القسم الأخير لا يكاد البخاري يذكره إلا وينبه على ضعفه صراحة كما يأتي في الأمثلة التي نسوقها.
مثال القسم الأول - وهو الذي يعلقه بصيغة التمريض - وهو صحيح على غير شرطه:
أَنَّ البخاري قال: يُذكر عن عبد الله بن السائب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ?? قَرَأ بـ " المْؤمِنُونَ" فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ ?? وهذا الحديث أخرجه مسلم في صحيحه، أورده بصيغة التمريض، وهو صحيح على شرط مسلم.
مثال القسم الثاني ، هو الحديث الحسن :
قال: يُذكر عن عثمان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لَهُ : ?? إِذَا بِعْتَ فَكِلْ وَإِذَا ابْتَعْتَ فَاكْتَلْ ?? .
وهذا الحديث أخرجه الإمام أحمد ، والدار قطني بإسناد حسن ، ولذلك علقه الإمام البخاري بصيغة التمريض.
مثال القسم الثالث: وهو الضعيف لكن عليه العمل :(1/12)
ضعيف لكن عمل الفقهاء عليه ربما كان إجماع العلماء على العمل به، وإن كان الحديث ضعيف، طبعًا الإجماع لا يُشترط أن يكون مبني على هذا الحديث الضعيف، قد يكون مبني على دلائل الشرع الأخرى الاجتهاد والقياس، المقصود أن هناك وَرَدَ حديث ضعيف والإجماع يدل على ما دلَّ عليه هذا الحديث الضعيف أو عمل الفقهاء أو أكثر الفقهاء بما يدل عليه هذا الحديث الضعيف.
مثال ذلك: قال الإمام البخاري: ?? وَيُذْكَرُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالدَّيْنِ ?? أي في التركة، في الإرث أول ما يُبدأ بسداد الدين ثم بالوصية ثم بتوزيع التركة على المستحقين الورثة .
هذا الحديث أخرجه الإمام الترمذي ، وضعفه وهو ضعيف ، لكن العمل عليه، الفقهاء يفتون بأن نقل عليه الإجماع ولعل الإجماع فيه صحيح أنه يبتدأ بالدين قبل الوصية .
مثال القسم الأخير ، وهو الضعيف الذي لا جابر له :
والذي قلنا إن البخاري لا يكاد يذكره إلا وَيُنَبِه صراحةً إلى ضعفه .
من أمثلته: قال الإمام البخاري: يُذكر عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ?? لَا يَتَطَوَّعُ الْإِمَامُ فِي مَكَانِهِ ?? قال الإمام البخاري " وَلَمْ يَصِحَّ " .
ذكر الأثر أو الحديث بصيغة التمريض ثم بعد أن انتهى منه قال: " وَلَمْ يَصِحَّ " ، فصرَّح بضعفه.
ومثال آخر: قال الإمام البخاري في كتاب الهبة: قال : " مُنْ أُهْدِيَ لَهُ هَدِيَّة وَعِنْدَهُ جُلَسَاؤُهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا " هذا الباب ، قال: " وَيُذْكَرُ عَنْ اِبْن عَبَّاس ?? أَنَّ جُلَسَاءَهُ شُرَكَاؤُهُ ?? . وَلَمْ يَصِحَّ .(1/13)
أيضًا بعد أَنْ ذكر هذا الحديث قال: " وَلَمْ يَصِحَّ " هذا الحديث أورده ابن الجوزي في الموضوعات، لكن أورده مرفوعًا، أما البخاري فأورده موقوفًا عن ابن عباس، والبخاري مع أنه أورده موقوفًا ومعلقًا بصيغة التمريض نبَّه أيضًا على ضعفه، أما ابن الجوزي فأورد الحديث مرفوعًا يعني من طريق آخر مرفوع وحكم عليه بالوضع، وهذا الحديث هو الحديث الوحيد الذي أورده ابن الجوزي ، أو الكلمة الوحيدة التي أوردها ابن الجوزي في الموضوعات وهي مما ذُكر في صحيح البخاري، طبعًا هذا ليس فيه لوم على الإمام البخاري لأنه :
أولًا : لأنه ليس بمسند، ما هو من شرط كتابه.
ثانيًا: أنه علقه بصيغة التمريض.
ثالثًا: أنه صرَّح بتضعيفه.
رابعًا: أنه إنما أورده موقوفًا وأما الذي حكم عليه بالوضع ابن الجوزي فهو الحديث المرفوع، ولم يحكم على الحديث الموقوف بالوضع، الحديث الموقوف لا يزيد أن يكون ضعيفًا، لا يصل إلى درجة الحكم عليه بالوضع، وهناك حديث آخر نُسب إلى الإمام البخاري خطأً وذكره ابن الجوزي في الموضوعات لعلنا نذكره في ما يأتي من الكلام بإذن الله تعالى.
هذه خلاصة المعلقات أو أقسام المعلقات في صحيح البخاري .
وخلاصة هذا الكلام كله :
" أن كل ما علقه البخاري فهو صالح للعمل إلا ما صرَّح بتضعيفه، أن كل ما علقه البخاري سواء بالجزم أو بالتمريض، سواء وصله أم لم يصله فهو صالح للعمل إلا ما صرَّح بتضعيفه "
تقول لي: كيف ما قلت إن فيه أحاديث ضعيفة ؟
قلنا لكم: إن الأحاديث الضعيفة عليها العمل.
يبقى القسم الأخير: وهو الضعيف الذي ليس عليه العمل، قلنا إن البخاري لا يسكت عن بيان ضعفه، وينبه صراحة إلى ضعفه، ولذلك نحن نقول: إن كل معلقات البخاري صالحة للعمل إلا ما بيَّن ضعفه، هذه خلاصة المعلقات في صحيح البخاري .
لكن ننبه إلى كلمة أخيرة :(1/14)
وهو أن هذا الحكم لم نصدره على هذه المعلقات لمجرد أن البخاري علقها في الصحيح، وإنما أُصدرت هذه الأحكام وعرفنا هذه الأقسام لما وُصِلَت هذه المعلقات، وَصَلَها الحافظ بن حجر في " تغليق التعليق " وحكمنا على أسانيدها بما يليق بها من القبول والرد ، فليس لِذِكر الإمام البخاري لهذه المعلقات في صحيحة مزية خاصة يبقى الحديث المنقطع ليس بحجة سواء عند البخاري أو عند غيره، ولذلك اضطر الحافظ أن يجتهد ويحاول أن يصل هذه الأحاديث ليعرف مراتبها من القبول والرد، هذا أمر مهم حتى نعرف أن المحدِّثين ساروا على قاعدة مُطَّرِدَة في رد المنقطع وعدم قبوله، وأن الأصل في المنقطع عدم القبول ولو كان مُخَرَّجًا في كتاب اشترط صاحبه فيه الصحة، وإن كان طبعًا اشتراطه كان خاصًا بالأحاديث المسندة ولم يتناول الأحاديث المعلقة إلا أن ذكره لهذه المعلقات في الصحيح لا شك أنها تُلْمِح إلى أنها في الغالب ستكون في درجة القبول، ولذلك بالفعل واقع هذه المعلقات كما ذكرنا أنها في أقل أحوالها صالحة للعمل كما ذكرنا في خلاصة هذا التقسيم .هذا فيما يتعلق بمعلقات المتون.
باقي القسم الآخر الذي هو : " معلقات الأسانيد " .
وقلنا: نفصد بمعلقات الأسانيد أو الطرق: هي الأسانيد التي يذكرها أو الطرق التي يذكرها الإمام البخاري في سياق المتابعات، بعدما يسوق الحديث يقول: ورواه سفيان والزهري ، وفلان ، وفلان ، وفلان عن شعبة مثلًا ، ولا يذكر الإسناد إلى هؤلاء ، ساق الحديث قبل ذلك متصلًا من أحد الوجوه ثم يذكر هذه المتابعات معلقة، هذه المعلقات سبب تعليق الإمام البخاري لها :
السبب الأول : أنه إنما ذكرها متابعةً لا أصالةً .(1/15)
السبب الثاني : يقول الحافظ بن حجر: أَنَّه وَجَدَ الإمام البخاري إذا حصل اختلاف في الحديث في إسناده ، أو في متنه، فإنه يخرج في صحيحه الرواية الراجحة مسندة متصلة ، ثم يعلق الرواية المرجوحة ليبين لك أنه على علم بالخلاف ، لا يأتي واحد ويقول: والله الإمام البخاري فاته الخلاف ولعل الرواية التي تركها هي الأرجح من الرواية التي ذكرها ، فيذكر الرواية المرجوحة مُعَلَّقة حتى يعرف القارئ أن الإمام البخاري كان على إطلاع بهذه الرواية وإنما تركها لأنها عنده مرجوحة أي خطأ ووهم ممن رواها، ولذلك اكتفى بأحد الوجهين أو أحد الأوجه من الخلاف وترك الوجه الآخر واضح يا إخوان؟ هذا فيما يتعلق بمعلقات الأسانيد، وبذلك ننتهي من شرط الاتصال والكلام عنه.
ننتقل إلى شرط " عدم الشذوذ " .
طبعًا اشتراط عدم الشذوذ الذي يُذكَر في الحديث الصحيح هناك حقيقة طبعًا أول من ذكر هذا التعريف، تعريف الحديث الصحيح بشروطه الخمسة المشهورة أول من ذكر هذا التعريف هو ابن الصلاح ذكره بهذه الشروط المعروفة هو ابن الصلاح، ثم تابعه بعد ذلك العلماء ومنهم الحافظ بن حجر، فاخْتُلِفَ في تفسير الشذوذ الوارد في هذا التعريف؛ لابن الصلاح تعريف للشذوذ، وللحافظ بن حجر تعريف آخر للشذوذ، فأي التعرفين هو المراد في تعريف الحديث الصحيح ؟
الحافظ بن حجر ماذا عرف الشاذ يا من درست النزهة ؟
- ما خالف فيه المقبول من هو أولى منه بالقبول .
إذًا: شرط الشاذ عند الحافظ بن حجر أن يكون هناك مخالفة بين راويين مقبولين الأصل فيهما القبول لكنَّ أحدهما أرجح من الآخر إما من جهة العدد يعني يخالف شخص عددًا من الأشخاص، أو من ناحية زيادة الإتقان والضبط؛ يكون أحدهما أكثر ضبطًا واتقانًا فتكون روايته أرجح من رواية الآخر، هذا الشاذ عند الحافظ بن حجر، فهل هذا هو الشاذ الذي أراده ابن الصلاح لما عرَّف الحديث الصحيح وقال: إنه من غير شذوذ ولا علة، هل هذا هو الشاذ؟(1/16)
هذا الشاذ يا إخوان هو قسم من أقسام العلة، ما هي العلة؟ كيف تُكتشف العلة في الحديث؟ ...
من خلال الموازنة، الموازنة بين الروايات، فإذا رجحت رواية على رواية، هذا هو الشذوذ عند الحافظ بن حجر، فإذا كان الشذوذ قسم من أقسام العلة لِمَ يذكره ابن الصلاح في تعريفه كان يكتفي بالعلة، ويقول من غير علة، ليش ينص على الشذوذ خاصة؟
الواقع أن ابن الصلاح أراد بالشذوذ معنى آخر وقد صرح ابن الصلاح ، صرَّح بتعريف الشاذ في كتابه، وذكر أن الشاذ قسمان:
القسم الأول: قال: " هو مخالفة الراوي لمن هو أولى منه " .
أول شيء انتبه هذا القسم الأول من الشاذ، أنه لم يقل: مخالفة الراوي المقبول، لم يقيده بأن يكون مقبولًا، وإنما أطلق أي راوي، مخالفة أي راوي لمن هو أولى منه، هذا القسم الأول من الشاذ، وهذا هو الذي قلنا بأنه من أقسام العلة، فلا يمكن أن يكون ابن الصلاح أراد هذا القسم من الشاذ لأنه داخل ضِمن العلة، ولا يصح التكرار في التعريف كما هو معروف.
القسم الثاني : " تفرد من لا يقع في ضبطه وإتقانه ما يجبر تفرده ".
يعني : الآن قد يكون الراوي في الأصل مقبول الرواية، لنفترض مثلًا أضرب لكم مثال واقعي حتى نقرب الصورة أن هناك شخصًا تتلمذ على أحد العلماء فترة طويلة جدًا أو تلامذة كثيرون تتلمذوا على أحد المشايخ المشهورين سنوات طويلة ، وهم أعرف الناس بأقواله وآرائه، ثم جاءنا في يوم من الأيام أحد الناس الثقة نثق في دينه ونقله وضبطه وكل شيء ، لكنه نقل لنا فتوى عن هذا العالم لم ينقلها أحد من تلامذته الملازمين له ، وهذا الشخص نعرف أنه ما لقي هذا العالم إلا مرة أو مرتين ، ولقيه في مجلس عام أيضًا ليس في مجلس خاص مثلًا هل يمكن نقبل منه هذه الرواية هذا النقل؟
- ما يمكن . نحمله على الكذب؟ لا؛ هو صادق .
إذن نحمله على أَيْش ؟(1/17)
- الوهم والخطأ، أخطأ . هذا هو تفرد الراوي أن يتفرد الراوي بحديث ويقع في ضبطه وإتقانه ما يجبر تفرده ؛ كأن يأتي رجل إلى الزهري ، والزهري إمام مشهور كان يُقْصَد من كل مكان له تلامذة كثيرون لازموه حضرًا وسفرًا كما ذكرنا، وهذا الشخص لم يلق الزهري إلا يوم أو يومين أو في مجلس أو مجلسين، ثم ينفرد عن الزهري بحديث لا يرويه أحد من تلامذة الزهري إلا هو، ما في مخالفة، هو ينفرد بحديث أصل، لو كان مخالفة كان يرجع للصور الأولى ، لا ، هو ينفرد بحديث لا يشاركه في أصل روايته أحد، ففي مثل هذه الحالة يشك العلماء في صحة نقل هذا الراوي ولو كان هذا الراوي عدلًا ضابطًا؛ لأن تفرده هذا يوقع الريبة في صحة نقله .
هذا هو القسم الثاني من الشاذ، وهذا ليس من العلة؛ لأنه لا يدرك من خلال جمع الطرق، وهذا هو الذي يريده ابن الصلاح من اشتراط الشذوذ في الحديث الصحيح ليش نقول هذا؟ لأننا نريد أن نقول بأن هذا هو الشرط أيضًا يشترطه البخاري في أحاديث كتابه: ألا ينفرد من لا يقع في ضبطه وإتقانه ما يجبر تفرده، أما مخالفة المقبول لمن هو أولى منه: فهي داخلة ضمن اشتراط عدم العلة؛ لأنه من العلل، مخالفة الراوي المقبول لمن هو أولى منه هذا من أقسام العلل القادحة، فهي مشترطة بقولنا: ولا يكون مُعلًا ، خلاص انتهينا من هذه الصورة يبقى الصورة الأولى إذا ما فسرنا الشاذ بهذا التفسير يبقى فيه طعن في الصحيح من جهة أنه هناك أحاديث تصحح وهي في الأصل أو في قواعد المحدثين يجب أن تكون مردودة لأنها لم يقع في ضبط راويها ما يجبر روايته التي تفرد بها، واضح .
رواية السجود: مثل رواية محمد بن حسن عن أبي الزناد التي تفرد بها وأبو الزناد إمام مشهور من أئمة أهل المدينة وله تلامذة كثيرون وتفرد به رجل كان يسكن البادية وليس معروفًا بصحبة أبي الزناد فهذا داعي رد روايته، وأمثلة ذلك كثيرة وهناك مقالات قرأتها في هذا الموضوع .(1/18)
على كل حال لا نريد أن ندخل في تفاصيل هذه المسألة.
المهم أن نعرف أن الشاذ المقصود بالتعريف ليس هو الشاذ الذي عَرَّفه به الحافظ بن حجر، وإنما هو القسم الثاني من الشاذ الذي ذكره ابن الصلاح، وهذا لا شك أنه شرط في الصحة وقد أعلَّ الإمام البخاري أحاديث فيما نقل عنه الترمذي وفي كتابه التاريخ الكبير بالتفرد فدلَّ ذلك على أن هذا شرطًا عنده في قبول الحديث أن الراوي إذا تفرد ولم يقع في ضبطه وإتقانه ما يجبر تفرده أن هذا داعٍ لرد الحديث، وما دام أن الإمام البخاري كان متبع لهذا المنهج فلا يمكن أن يصحح حديثًا هو نفسه يعل ما شابهه ونَاظَره لتحقق هذا النوع من أنواع الشذوذ فيه.
يبقى الشرط الأخير : اشتراط " عدم العلة " .
لاشك أيضًا أن هذا الشرط واضح عند جميع المحدثين وقد ملأ الإمام البخاري كتابه التاريخ الكبير ببيان العلل وبرد الأحاديث بأمثال هذه العلل، وهذا أمر لا يخفى على الإمام البخاري، وسيأتي أنه حتى في صحيحه نبه على بعض العلل في صحيحه، لكن قبل أن نأتي للأمثلة نذكر عبارة للحَاكِم فيها شيء من الإشكال لأنه ما دام تطرقنا للكلام عن العلل لابد أن نذكر الأشياء التي قد يتمسك بها من يظن أن الإمام البخاري لم يشترط هذا الشرط، لمَّا ألَّف الإمام الحاكم أبو عبد الله كتابه المستدرك على الصحيحين والذي سيأتي الكلام عنه .
قال في مقدمة هذا الكتاب وَهو يَتَكَلَّم عَنْ شَرطِهِ فيه قَالَ:
" أَنْ أَجْمَعَ كتابًا يَشْتَمِل عَلَى الأَحَادِيث المْرَوية بِأَسَانيد يَحْتَج مُحَمَّد بْنُ إِسْمَاعِيل وَمُسْلِم بْنُ الْحَجْاج بِمِثْلِهَا ، إِذْ لَا سَبِيل إِلى إِخْراج مَا لَا عِلَة لَهُ، فَإِنَهما رَحِمَهُمَا الله لَمْ يَدَّعِيا ذَلِكَ لِأَنْفََُسِهِمَا " .
هنا الإشكال؛ أيش ظاهر هذه العبارة؟(1/19)
يقول: أنا سأخرج أحاديث أخرج البخاري ومسلم أمثالها - يعني هي على شرط البخاري ومسلم- ثم يقول: وإن كان لبعض هذه الأحاديث علل، قال: سأخرجها، ثم يبين لما أخرجها مع أنها علل، قال: لأن حتى البخاري ومسلم ما ادعيا أن الأحاديث الموجودة في كتابيهما لا علة لها.
معنى ذلك : أن هناك يعني الحاكم يعتبر أن اشتراط انتفاء العلة ليس شرطًا في صحيح البخاري هذا ظاهر العبارة، هل يمكن أن يقصد الحاكم هذه العبارة؟
- لا يمكن أبدًا؛ الحاكم إمام ويعرف أن اشتراط العلة، انتفاء العلة شرط أكيد في الحديث الصحيح، وقد صَرَّح بذلك، فليست قضية إحسان ظن به، مع أنه أهل لإحسان الظن، لكن أيضًا صرح بهذا الشرط في كتابه " معرفة علوم الحديث " لما عرَّف الحديث الصحيح، وسنقرأ كلامه حتى نعرف بالفعل أننا إذا أوَّلنا هذا الكلام عندنا القرينة الصارفة لكلام الأول عهن ظاهره، وهي تصريح باشتراط عدم العلة في الحديث الصحيح حيث قال في كتابه " معرفة علوم الحديث " :
قال لما ذكر ثلاثة أحاديث ظاهر أسانيدها الصحة لكن لها علل خفية تقدح في صحتها، هذا ذكره في معرفة علوم الحديث، وهو كتاب في المصطلح كما هو معروف ومن أقدم كتب علوم الحديث.
ثم قال بعد ذلك قال: ففي هذه الأحاديث الثلاثة قياس على ثلاثمائة أو ثلاثة آلاف وأكثر من ذلك.
يعني : هذه يقول الثلاثة أحاديث هي أمثلة فقط أسوقها وهناك ألوف الأحاديث مثلها، ظاهر إسنادها الصحة وهي غير صحيحة.
يقول: إن الصحيح لا يُعرف بروايته فقط، وإنما يُعْرف بِالفَهم والحفظ وكثرة السماع، وليس لهذا النوع، أي لمعرفة الصحيح نوع معرفة الصحيح، وليس لهذا النوع عون أكثر من مذاكرة أهل الفهم والمعرفة ليظهر ما يخفى من علة الحديث " .(1/20)
ثم يكمل فيقول: فإذا وُجد مثل هذه الأحاديث – الأحاديث التي ظاهرها ظاهر أسانيدها الصحة – فإذا الصحيحة غير مُخَرَّجةٍ في كتابي الإمامين البخاري ومسلم لزم صاحب الحديث التنقيب عن علته ومذاكرة أهل المعرفة به لتظهر علته، هذا كلام صريح .
يقول: أغلب الأحاديث التي ظاهر أسانيدها الصحة وهي غير موجودة في البخاري ومسلم ما تركها البخاري ومسلم إلا لأن فيها علة، إذًا: هذا كلام صريح من الحاكم أنه كان يعتبر أن ما أخرجه البخاري ومسلم يشترطان فيه انتفاء العلة، لا يمكن أن يكون قائل هذا الكلام يرجع ويقول مرة أخرى: فإن البخاري ومسلم يخرجا أحاديث فيها علل قادحة للصحيح، إذًا: ما هو مراده بالعبارة الأولى؟
يحتمل ذلك أحد معنيين، العبارة التي ذكرها في المستدرك التي تدل على أن البخاري ومسلم قد يخرجا أحاديث فيها علل لها أحد توجيهين:
التوجيه الأول: أن يُحمل على العلل غير القادحة؛ لأن العلل في منها ما هو قادح، وفي منها ما هو ليس بقادح، مطبق الاختلاف هذا يُسمى علة، لكن ليس كل اختلاف يقدح في صحة الحديث .
مثلًا: كالاختلاف في الصحابي هل هو ابن عباس أو ابن عمر ؟ هل يقدح في صحة الحديث؟ ما يقدح، لِمَ؟ لأن الصحابة كلهم عدول.
مثل: الاختلاف في لفظ لا يؤثر في المعنى، اختلاف في لفظ لا يؤثر في المعنى مثل حديث ?? إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّات?? الذي أخرجه الإمام البخاري مختصرًا في موطن وكاملًا في موطن آخر، أيضًا هذا اختلاف ويُسمى علة عند المحدثين، لكنها ليست علة قادحة، فقد يكون مراد الحاكم أن العلل غير القَادِحة لا تنافي شرط الصحة وهذا لا خلاف فيه، هو يريد أن يبين أنه إذا وجدت اختلاف فمعنى ذلك أن هذا اختلاف لا يصل إلى درجة القدح في الحديث ولذلك أخرجته في كتاب المستدرك.(1/21)
التوجيه الثاني : أن يُحمل على أنه سيخرج أحاديث لها علل قادحة وأن البخاري ومسلمًا قد أخرجا أحاديث لها علل قادحة، لكن مع بيان علتها، وهذا صحيح وسيأتي أن البخاري ومسلمًا قد أخرجا أحاديث وأعلَّاها -هما أنفسهما- في كتابيهما الصحيح، فإذا أخرجا أحاديثًا لها علة قادحة يبين ذلك البخاري ومسلم أن هذا الحديث له علة قادحة، فإما أراد هذا المعنى أو أراد هذا المعنى، وكلا المعنيين صحيح، سواء أراد هذا أو ذاك.
ننتقل غلى قضية مهمة : أثارها الحافظ بن حجر، ونقلها عنه اثنان من تلامذته وهما: السخاوي والبقاعي وأحد تلامذة تلامذته وإن كان له من إجازة وهو السيوطي، نقلوا عن الحافظ بن حجر كلامًا أنه يقرر في هذا الكلام أن الشذوذ بتعريفه هو لا يناقض وصف الحديث بالصحة، الشذوذ بتعريف الحافظ له، الآن انتهينا من الشذوذ عند ابن الصلاح وبينا أنه هو المراد في تعريف الحديث الصحيح، لكن الحافظ بن حجر يقول بأن الشاذ الذي هو مخالفة الراوي المقبول لمن هو أولى منه ليس شرطًا منافيًا للصحة، وهذا قاله صراحة ونقله عنه كما قلت ثلاثة من العلماء منهم تلميذه السَخَاوي ، وتلميذه البِقَاعي وأيضًا الإمام السيوطي كلهم نقلوا هذا الكلام عن الحافظ بن حجر وهو يعني بنقل هؤلاء ثابت وإن كنا لم نجده في شيء من كتبه لأن هناك كتاب اسمه " النُكَت الكُبْرَى " للحافظ بن حجر مطبوع عليه " النُكَت الصُغْرَى" النكت على كتاب ابن الصلاح للحافظ بن حجر هذه هي النكت الصغرى، هناك " النكت الكبرى" لا نعرف عن مكان وجودها شيئًا فلعل ما نقل أو ما نقله هؤلاء العلماء من النكت الكبرى والتي كان السيوطي يصرح بالنقل منها في كثير من الأحيان فلعل هذا النقل من النكت الكبرى للحافظ بن حجر.
المقصود: أن الحافظ بن حجر يستدل على هذه الدعاوى بأمثلة ، يقول: يدل على أن الشذوذ لا ينافي وصف الحديث بالصحة أي مخالفة الراوي المقبول لمن هو أولى منه استدل بعدة أمثلة منها :(1/22)
1 - حديث شراء النبي - صلى الله عليه وسلم - لجمل جابر ، وما وقع في هذا الحديث بالاختلاف وساق البخاري هذا الاختلاف في الصحيح، فوقع مثلًا اختلاف في هذه القصة في ثمن الجمل؛ أحد يذكر كذا وكذا من الدراهم، وبعضهم يذكر عدد آخر، والثالث يذكر عدد آخر، ويورد البخاري أكثر من رواية في صحيحة مع أننا نعرف أن الجمل واحد والقصة واحدة فهو إما بيع بهذا الثمن أو بيع بهذا الثمن، وما يمكن أن يكون بِيعَ بِكِلا الثْمَنين.
أيضًا في القصة نفسها أمر له علاقة بالفقه وهو اشتراط الركوب ، هل اشترط النبي - صلى الله عليه وسلم - لما اشترى الجمل من جابر هل اشترط عليه جابر أن يركبه إلى أن يدخل إلى المدينة ثم يعطيه للنبي عليه الصلاة والسلام أو لا؟
جاءت رواية فيها اشتراط الركوب، وجاءت رواية ليس فيها اشتراط الركوب، وأخرج البخاري كلا الروايتين .
فيقول الحافظ بن حجر : إخراج البخاري لهذا الحديث مع هذا الاختلاف يدل على أن الشذوذ ليس شرطًا، انتفاء الشذوذ ليس شرطًا في الصحة .
لأن لابد أن تكون إحدى الروايتين خطأ، ومع ذلك أخرجها في الصحيح .
ومثال آخر أيضًا يضربه الحافظ بن حجر قال: - وقع في صحيح مسلم - : مثل ركعتي الفجر، سنة الفجر، فإنه من المعروف أن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا صلى ركعتا الفجر اضطجع اضطجاعه خفيفة إلى أن تُقَام الصلاة، ثم يقوم ويصلي الفرض بالمسلمين ،كل الرواة اتفقوا على أن هذه الاضطجاعة بعد ركعتي الفجر، بعد سنة الفجر الراتبة إلا الإمام مالك انفرد فذكر أن هذه الاضطجاعة قبل سنة الفجر، وأخرج الإمام مسلم الروايات كلها، ومنها رواية الاضطجاع التي قبل النافلة، والتي بعد النافلة، مع أنه لا يمكن أن يكون إلا أحد الأمرين .
فيقول الحافظ بن حجر: معنى ذلك أن الإمام مسلم كان يعرف إن إحدى الروايتين خطأ ومع ذلك أخرجها في الصحيح، ما وجه إخراجها في الصحيح؟
- قال لأن انتفاء الشذوذ ليس شرطًا في الصحة.(1/23)
طبعًا هذا الكلام حقيقة فيه قدر كبير من الغرابة ؛ لأن الحافظ لمَّا عرَّف الحديث الصحيح اشترط فيه ألا يكون شاذًا، وفي تعريفه قد تقول لعل هو أراد بالشاذ الذي عند ابن الصلاح، لا، لكنه عرَّف في شرحه لتعريف الحديث الصحيح الشاذ، وبيَّن أنه مخالفة الراوي لمن هو أولى منه، فما في احتمال أن نحمله على الشاذ عند ابن الصلاح، عرَّفه بهذا التعريف في كتابه النزهة، وفي كتابه النكت وكل كتبه وكل كلامه فيه اشتراط هذا الشرط، ثم يؤكد هذا الشرط أيضًا لمَّا تكلم عن زيادة الثقة ورد على من ادعى أن زيادة الثقة مقبولة مطلقًا حيث قال: كيف تجمع بين اشتراطك عدم الشذوذ مع قولك بأن زيادة الثقة مقبولة مطلقًا هذا تناقض ، نفس الحافظ بن حجر يقول هذا، يؤكد أن اشتراط انتفاء الشذوذ عنده شرط أكيد في الحديث الصحيح، فحقيقة هذا الموقف فيه شيء من التناقض ولا أعرف له توجيهًا في كلام الحافظ بن حجر، لكننا ندع كلام الحافظ بن حجر الآن جانبًا مُشْكِل، لا أعرف له توجيهًا ولا قرأت له توجيهًا لأحد من أهل العلم .
لكن الذي يُهمنا أكثر وهو المتعلق بشرط البخاري: كيف أخرج البخاري مثل هذه الأحاديث بالفعل؟ وكيف أخرج مسلم هذه الأحاديث مع أننا جميعًا متفقون أن شرط الصحيح ألا يكون الحديث شاذًا، كيف أخرج هذه الروايات التي بعضها ينقض بعضًا، وبعضها يخالف بعضًا؟(1/24)
قبل الدخول في بعض التقسيمات نقول بأنه لا يمكن أن نعتبر إخراج البخاري ومسلم لهذه الأحاديث التي وقع فيها شيء من الاختلاف دالًا على أن اشتراط الشذوذ ليس أو أن اشتراط عدم الشذوذ ليس من شروط الصحة، لا يمكن أن نقول هذا إلا إذا عرفنا أن البخاري كان يعتبر أن هذه الرواية شاذة بالفعل، ومع ذلك أخرجها في الصحيح، إذا عرفنا أن البخاري أخرج رواية وهو يعلم أنها شاذة في الصحيح عندها نقول هذا إشكال ويخالف ما قررناه سابقًا من أن الحديث الصحيح يحب ألا يكون شاذًا، لكن إذا لم يكن عندنا علم أن البخاري كان يعلم بشذوذ هذه الرواية أو كان مقتنع بشذوذها هل يمكن أن أعترض عليه وأقول له بأن هذا الحديث شاذ وكيف تخرجه في الصحيح، قد يكون شاذ عندي لكنه ليس بشاذ عند البخاري ، وقد يكون اجتهاد البخاري هو الصواب وقد يكون اجتهاد غيره ممن حكم عليه بالشذوذ هو الصواب، لكن المهم أن البخاري عند نَفْسِهِ ما نقض شرط الصحة، فلا يمكن أن أعتبر مجرد إخراج البخاري للحديث الذي فيه شذوذ دالًا على عدم اشتراط الشذوذ إلا إذا عرفت أن البخاري يعرف أن هذا الحديث فيه شذوذ ومع ذلك أخرجه في الصحيح ، بغير ذلك لا يمكن أن أعترض على البخاري، هذا واضح .
الأحاديث التي لا نشك أنها واضحة الشذوذ مثل حديث جمل جابر .
لا يمكن أن البخاري اعتبر كل الروايات صحيحة قلنا القصة واحدة .
لِمَ أخرج البخاري هذا الحديث مع الاختلاف الظاهر الذي فيه ؟ فما هو التوجيه فيه؟
نقول له جوابان :
الجواب الأول: أن يكون الإمام البخاري أخرج هذا الحديث الذي وقع في بعض ألفاظه اختلاف لا يحتج بالألفاظ التي وقع فيها الاختلاف وإنما يحتج بما اتفقت عليه الروايات .(1/25)
يعني مثلًا: اختلاف في الثمن، لم يحتج البخاري بهذه المسألة في ثمن الجمل على مسألة فقهية عنده ، فهو لا يهمه اختلاف الرواة في الثمن هذا غير مهم عنده ، يريد أن يقص لنا القصة وما حصل فيها من أمور يستنبط منها أحكام فقهية لا علاقة لها بثمن الجمل سواءً كان عشرة دراهم ولَّا عشرين ولَّا ثلاثين ولَّا مائة ، هذا لا علاقة له بالحكم الفقهي، فهو أخرج هذا الحديث مع ما فيه من الاختلافات لكنه لم يحتج بموطن الاختلاف ، وإنما احتج بما اتفق عليه الرواة ، والصورة طبعًا تكون أوضح في مثل جمل جابر ؛ لأن ثمن الجمل أصلًا لا علاقة له بالفقه أصلًا ، فقد تكون المسألة أصلًا التي اُخْتُلِفَ فيها لا يُستنبط منها حكم ، هل نستفيد حكم إذا كان بعشرة ولَّا ثلاثين ولَّا أربعين يخرج عندنا، يعني لو قلت ثمن الجمل أربعين درهم ما يجوز إنه يزيد أو ينقص؟ ما يقول هذا أحد، لا علاقة لقيمة الجمل بالفقه أصلًا، ولذلك الاختلاف ليس مهمًا، ولذلك لمسلم يضبط الرواة هذا الثمن أصلًا ، فإذا كان الأمر المختلف فيه ليس له قيمة من ناحية الحكم الفقهي ، أو حتى لو كان له أثر لكن البخاري لم يستند إلى هذا الجزء الذي وقع فيه الاختلاف وإنما استند إلى بقية الحديث التي لم يقع فيها اختلاف، إذًا هذا لا اعتراض فيه على البخاري لأنه أورد حديثًا شاذًا في صحيحه مع علمه به .
الجواب الثاني : أن يكون البخاري أخرج هذا الحديث الشاذ وهذه الرواية الشاذة لبيان شذوذها، وهذا قد وقع في قصة جمل جابر أيضًا صراحة، فمثلًا قضية اشتراط الركوب، صرَّح البخاري بأن اشتراط الركوب هو الأصح، حيث أوردها بعد ما أوردها قال: أصح من غيره من الروايات، بعد أن أورد اشتراط الركوب قال : "هذا أصح من غيره من الروايات" ، فبيَّن أنه الصحيح اشتراط الركوب، أما الرواية الأخرى التي ليس فيها اشتراط الركوب فليست بصحيحة عنده.(1/26)
إذًا: لمَّا أخرج هذه الرواية أخرجها منبهًا على ضعف الرواية الأخرى وأن الرواية التي فيها اشتراط الركوب أولى وأرجح فهي المحفوظة، وتلك الشاذة حسب تعريف الحافظ بن حجر للشاذ والمحفوظ.
ومثله تمامًا الإمام مسلم وسيأتي الكلام عن ما وقع التجاذب بين مدلوليه عند الإمام مسلم وذكر الأمثلة، حتى القصص نافلة الفجر الإمام مسلم أوردها لبيان علتها ومن نظر في الباب الذي أورده الإمام مسلم في هذه القصة يظهر له ذلك جليًا ، وكذلك غيره من الأحاديث التي وقع التجاذب بين مدلوليها في صحيح مسلم أوردها لبيان الاختلاف الذي فيها ، ولبيان علة الرواية التي يرى أنها مرجوحة، وبهذا التوجيه لا يمكن أبدًا يعني بهذين الجوابين:
الجواب الأول: أن نقول بأَنَّه أَثْبِت أولًا أن هذا الحديث شاذ عند البخاري، إذا ما أثبت أن هذا الحديث شاذ عند البخاري لا يمكن أن تقول أن البخاري لا يشترط الشذوذ؛ لأنه قد يكون شاذ عندك وليس بشاذ عند البخاري ، إذا كان الحديث يظهر من سياق الروايات أنه لا يمكن أن يكون البخاري لا يرى خطأ إحدى الروايات؛ لأنه مما وقع التجاذب ، والتعارف بين مدلولين ولا يمكن أن تكون كلا القصتين أو كلا الخبرين صحيح لابد أن يكون أحدهما صواب والآخر خطأ .
في مثل هذه الحالة نوجه بأحد احتمالين:
إما بأن نقول بأن البخاري إنما احتج بالجزء الذي اتفق عليه الرواة للحديث لا بالجزء الذي اختلفوا فيه مثل ما قلنا في الثمن، أو يدخل في هذا أن أصلًا الجزء المختلف فيه لا يستنبط منه حكم فقهي، ولذلك لا قيمة للاختلاف فيه.(1/27)
الصورة الثانية : أَنَّ يكون البخاري قد صرَّح بشذوذ تلك الزيادة أو ذلك الاختلاف وبيَّن الراجح والمرجوح عنده ، بذلك لا يُقال بأن البخاري أو أن شرط الشذوذ ليس مشترطًا في الحديث الصحيح، انتفاء الشذوذ، وبذلك نجيب عن الإشكال الذي أورده الحافظ بن حجر، والذي جعله يقول كلام ظاهره التناقض مع كل كلامه السابق وكلام من سبقه ومن لحقه من أنهم عرَّفوا الحديث الصحيح واشترطوا فيه عدم الشذوذ، الأحاديث التي استشكلها الكلام عليها الجواب عليها لائق وظاهر، ما في إشكال الحمد لله رب العالمين، وانتهت المشكلة من أساسها.
يبقى قضية موقف الحافظ بن حجر من هذه المسألة ، لا شك أن فيه شيء من التناقض والغموض الله أعلم بصوابه وبصحته.
بعد هذا الكلام عن اشتراط الشذوذ والعلة نريد أن نعطي إحصائيات معينة عن:
الأحاديث التي أُعلت في صحيح البخاري :
يذكر الحافظ بن حجر أن عدد الأحاديث التي أعلَّها الدار قطني في الصحيحين بلغت مائتين وعشرة حديث، أعلَّ الدارقطني هذه الأحاديث في كتاب " التَتَبُع " .(1/28)
أما كتاب " الإلزامات " ليس فيه انتقاد، وإنما يلزم البخاري ومسلم بإخراج روايات يرى أنها على شرطهما في كتاب التتبع ، وهو مطبوع باسم " الإلزمات والتتبع " ، ولكن الصواب أنه كتابان كتاب الإلزامات كتاب، وكتاب التتبع كتاب آخر منفصل ، يقول: بأن عدد الأحاديث التي انتقدت على البخاري ومسلم في هذا الكتاب مائتين وعشرة، هذه إحصائية الحافظ بن حجر، يقول: اختص البخاري منها بأقل من ثمانين، الأحاديث التي تخص البخاري ثمانين ، يخص مسلم منها مائة وثلاثين تخص مسلم ، يعني هذا ظاهر كلام الحافظ بن حجر في "النزهة" ، وفي " الفتح" ، وفي " النكت" وفي غيرهم لمَّا ذكر الإحصائية هذه، لكنه في الحقيقة الظاهر أنه لم يَتَعن بإحصائها بدقة ؛ لأنه هو نفسه لمَّا ذكر الأحاديث التي انتقدها الدار قطني على البخاري في كتابه "هدي الساري" لأنه عقد بابًا في "هدي الساري " الذي في مقدمة الفتح، ذكر فيه كل الأحاديث التي وقف عليها مما أعلها الدار قطني في التتبع، وبعض العلماء سوى الدار قطني ممن انتقدوا البخاري، وعقد لها فصلًا خاصًا وأوردها حديثًا حديثًا ودافع عنها حديثًا حديثًا، وتكلم عنها كلام في غاية الجودة ، ولخص نتائج ذلك في آخر كلامه، لمَّا ذكرها بلغت عنده الأحاديث التي انتقدها الدار قطني اثنين وتسعين حديث ، الأحاديث التي انتقدها الدار قطني على البخاري بلغت حسب ما ذكره الحافظ في " الهدي " اثنين وتسعين منها ثلاثة أحاديث يقول الحافظ بن حجر أنه وقف عليها في كتاب سوى التتبع ، في كتاب للدار قطني سوى التتبع وهو جزء حديث مخطوط حتى الآن لم يطبع خصه الدار قطني ببعض الأحاديث المنتقدة على البخاري ولم يذكرها في كتابه التتبع، ما طبع حتى الآن ، ونسمع أن شيخكم الشيخ سَعد الْحُمَيد يقوم بتحقيق هذا الجزء نسأل الله عز وجل أن يوفقه هو أو غيره ممن يحقق هذا الكتاب، المقصود أن هذا الجزء موجود واطلع عليه الحافظ بن حجر.(1/29)
المقصود : أَنَّ عدد الأحاديث التي في التتبع اثنين وتسعين حديث حسب إحصاء الحافظ بن حجر، لكن هذا الإحصاء يخالف إحصاء آخر، والغريب أن الكتاب واحد، كتاب التتبع مطبوع بتحقيق الشيخ مقبل بن هادي الوادعي عليه رحمة الله ، فأحصى الإمام الشيخ الوادعي عليه رحمة الله أحاديث التتبع فقال: أن عدد هذه الأحاديث التي يَنْتَقد فيها الدار قطني البخاري ومسلمًا مائتين حديثًا فقط في التتبع التي ينتقد فيها البخاري ومسلم، ليست مائتين وعشرة، يقول: لأن بعضها أحاديث مكررة، وبعضها أحاديث أوردها إلزام لا من باب التتبع، وبعضها أحاديث ينسبها للبخاري ومسلم أو لمسلم وهي غير موجودة في واحد منهما، فمجمل الأحاديث الموجودة في البخاري ومسلم التي انتقدها الدار قطني مائتين حديث فقط ، وهناك كتاب للدكتور ربيع بن هادي المدخلي بعنوان " بين الإمامين مسلم والدار قطني " جمع فيها الأحاديث التي انتقدها الدار قطني على مسلم ، وسنتكلم عليها حديث ونبين أي القولين هو الراجح ، فبلغ عدد الأحاديث المنتقدة على مسلم من الدار قطني في هذا الكتاب أربعة وتسعين حديث، يقول: هذه هو الأحاديث التي انتقدها الدار قطني على مسلم، إذًا يبقى : أربعة وتسعين من مائتين ، مائة وستة، وهذا غريب يعارض ما نعرفه دائمًا من أن عدد الأحاديث المُعلة في صحيح البخاري أقل من الأحاديث المعلة في صحيح مسلم وهذا الذي قرره الحافظ بن حجر قبل قليل كما ذكرنا عندما قال: إنه نحو ثمانين فقط في البخاري والباقي عند مسلم فخرجنا أن مائة وثلاثين عند مسلم، وثمانين فقط عند البخاري، لكن هذه الإحصائية الحديثة تبين أن هذا الكلام يحتاج إلى إعادة نظر، والغريب أن هذه الكتب متخصصة في هذا الجانب، يعني في كتاب التتبع هو نفسه قام بالإحصائية، وذكر أن عدد الأحاديث المنتقدة مائتين فقط، جاء أحد الباحثين وهو الدكتور ربيع واستخرج التي انتقدت على مسلم فيقول: إنها أربعة وتسعين حديث، إذًا: الأصل أن(1/30)
يبقى الباقي خاص بالبخاري وهي مائة وستة أحاديث.
على كل حال هي على نحو المائة حديث التي انتقدها الدار قطني وهناك علماء آخرون انتقدوا البخاري سوى الدار قطني منهم أبو مسعود الدمشقي في كتابه " أطراف الصحيحين " انتقد أحاديث أخرى وذكر بعضها الحافظ في " الهدي" وأيضًا أبو علي الغساني في كتابه " تقييد الْمُهْمَل وتمييز الْمُشْكَل " وهو كتاب مطبوع ، وربما نجد أيضًا أقوال أخرى متناثرة في بعض الكتب تنتقض أحاديث أخرى في صحيح البخاري ، لكن بعد ذكر هذه الإحصائيات :
ما هو وجه إخراج البخاري لبعض هذه الأحاديث المعلة ؟
نحن قلنا: إِنَّ الحديث الْمُعَل أو اشتراط عدم العلة هذا شرط لازم لوصف الحديث بالصحة، فكيف يخرج البخاري لهذه الأحاديث المعلة بهذا العدد الذي هو يسير على كل حال؟
فنقول لذلك عدة أجوبة:
الجواب الأول: أن البخاري يخرج بعض الأحاديث ليبين علتها، يخرج بعض الأحاديث في صحيحه ليبين علتها، ومن أمثلة ذلك الحديث الذي أتيت به الآن أورده الإمام البخاري في كتاب باب الخلع وكيف الطلاق فيه .
قَالَ: ?? حَدَّثَنَا أَزْهَرُ بْنُ جَمِيلٍ : حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ : حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ مَا أَعْتِبُ عَلَيْهِ فِي خُلُقٍ وَلَا دِينٍ وَلَكِنِّي أَكْرَهُ الْكُفْرَ فِي الْإِسْلَامِ ...??
بعدما أورده البخاري قال : " قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ – يعني البخاري - : لَا يُتَابَعُ فِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ .أهـ .(1/31)
ثم أورد هذه الرواية نفسها من طريق عكرمة مرسلة دون ذكر عبد الله بن عباس ، وأورد اختلاف في هذا الحديث منهم من يصله ومنهم من يرويه مرسلًا ، وهذا الحديث ذكره الدار قطني ورجح فيه الإرسال، والذي يظهر لي أن البخاري أورده لِيُبَين علته، وخاصة أنه صرَّح لما ذكر رواية ابن عباس قال : قال أبو عبد الله : ولا يُتابع عليه . أي من قال إنه عن ابن عباس لا يُتابع على هذه الرواية، طبعًا الحافظ بن حجر أوَّل هذا الكلام بأنه يقصد خصوص هذه الرواية، رواية خالد الحذاء أنه ما أراد عن ابن عباس، لكن ظاهر كلام البخاري في بقية الباب أنه يقصد أن هذا الحديث ما صح متصلًا من وجه من الوجوه، وقد نص على هذا الحافظ ابن حجر في أكثر من موطن أن البخاري قد يخرج الحديث لبيان علته، لكن الذي استوقفني مرة في حديث عند البخاري أنه يبدي لنا أن البخاري ربما كان في بداية تصنيفه للصحيح يورد الأحاديث المُعَّلة وينبه على عللها في نفس الصحيح، ثم أصبح في غالب الأحاديث هذه التي في علل يضرب عليها، يعني يشطبها كما نقول، بقيت بعض الأحاديث التي فيها علل مبينًا لعلتها، يدل على ذلك الحديث التالي الذي أورده الإمام البخاري برقم [6443] حديثًا لزيد بن وهيب عن أبي ذر بعد أن أورده عن أبي ذر مرفوعًا للنبي عليه الصلاة والسلام ..
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ : " حَدِيثُ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مُرْسَلٌ لَا يَصِحُّ إِنَّمَا أَرَدْنَا لِلْمَعْرِفَةِ " .أهـ.
انتبه لهذه الكلمة : " إِنَّمَا أَرَدْنَا لِلْمَعْرِفَةِ " هذه العبارة في كل طبعات صحيح البخاري التي أعرفها رجعت إليها فتوثقت منها، إنما أردنا للمعرفة .
ثم يقول البخاري: " وَالصَّحِيحُ حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ " .(1/32)
قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ - هذا الراوي ينقل لنا ما حصل في ذلك المجلس ، يعني سُئل البخاري لما روى هذا الحديث أثناء روايته لكتابه الصحيح - حَدِيثُ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ مُرْسَلٌ أَيْضًا لَا يَصِحُّ وَالصَّحِيحُ حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ وَقَالَ اضْرِبُوا عَلَى حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ هَذَا ?? إِذَا مَاتَ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ عِنْدَ الْمَوْتِ ?? .
يعني : الذي فيه هذه الزيادة، هذا فيه إشارة إلى أن هذا الحديث كان في صحيح البخاري، وأن البخاري لأنه مرسل وكان قد أورده في كتابه، وبيَّن أنه مرسل قال: اضربوا عليه، وكأن البخاري كان في أول تصنيفه يورد الأحاديث التي فيها علل منبهًا على عللها ، ثم صار يضرب على الأحاديث حديثًا حديثًا وبقيت هناك أحاديث ببيان عللها في كتابه .
الغريب طبعًا هذه العبارة ما شرحها الحافظ أصلًا في الفتح، ما تطرق إليها، تكلم عنها قليلًا العيني شرحها شرح يسير العيني في كتابه " عمدة القاري" هذا التوجيه الأول لإيراد الإمام البخاري للأحاديث المُعلَّة .
الجواب الثاني : أن الحافظ بن حجر بيَّن أن الإمام البخاري قد يورد الأحاديث التي فيها علل لأسباب قال :
1- إذا كان الحديث من بعض وجوهِهِ صحيحًا فإن البخاري قد يخرج الوجه الصحيح، وغيره – أي وغير الصحيح- اكتفاء بالصحيح، يخرج الصحيح ويخرج غير الصحيح، لكن هو مكتفي بالوجه الصحيح، هذا التوجيه الأول وذكره الحافظ بن حجر في " هدي الساري" وفي " الفتح " .
2- الوهم اليسير في متن الحديث لا يقدح في الحديث خاصةً إذا أخرج البخاري كلا الوجهين.(1/33)
قال: قد يكون هناك وهم يسير في المتن، لا يعتمد عليه البخاري في الاستنباط وإنما يعتمد على الجزء الذي ليس فيه وهم كما ذكرنا سابقًا، قال: هذا الوهم اليسير الذي لا يؤثر في الحديث لا يقدح في صحة الحديث ويورده البخاري وقد يورد الرواية التي ليس فيها وهم كما فعل أيضًا في حديث جمل جابر.
3- قد يخرج البخاري حديثًا منقطع إذا أخرج المتصل من وجه آخر، هذه قضية مهمة، أنك قد تجد الحديث في صحيح البخاري وهو منقطع عند البخاري ؛ لأنه أخرجه متصلًا من وجه آخر، فهو اعتماده على الوجه المتصل، لا على الوجه المنقطع، فليس كل إسناد في صحيح البخاري يلزم أن يكون متصلًا، هذا الأصل ، ونعتمد عليه إلا إذا جاء ما يدل على أن هذا الحديث أورده البخاري مع علمه بانقطاعه لأنه اعتمد أنه أيضًا أخرج من وجه آخر متصلًا .
4- قد يقصد البخاري من إخراج الوجهين بيان الاختلاف لا للاحتجاج بكلا الوجهين، قد يخرج الوجهين والاختلاف لبيان أن هذا الحديث وقع فيه اختلاف، وقد لا يكون يحتج بكلا الوجهين - وهذا غريب ، وهذا ذكره الحافظ بن حجر وهو أعرف الناس بصحيح البخاري كما هو معروف - ومن ذلك أنه قد يخرج المنقطع أو المتصل ليبين أنه يعني هذا وجه آخر قد يتعلق بما سبق أنه يرجح المتصل.
قبل أن ننتقل من هذه المسألة مسألة العلل نتكلم عن كتاب التتبع بكلام يسير:(1/34)
الذي ذكرناه كتاب التتبع للدار قطني الذي بيَّن فيه علل بعض الأحاديث نقول: ننبه إلى مسألة مهمة وهو أنه ليس كل ما في كتاب التتبع أحاديث يرى الدار قطني أنها ضعيفة في البخاري ومسلم فبعض الأحاديث التي يذكرها الدار قطني في كتاب التتبع إنما أوردها لبيان الاختلاف فقط، يعني قد يكون الدار قطني نفسه يرى أن الحديث صحيح من الوجه الذي أورده البخاري، لكن يريد ينبهنا إلى أن الحديث قد وقع فيه اختلاف، وهذا صرَّح به الدار قطني نفسه في بعض الأحاديث، وقد يورد بعض الأحاديث من باب الإلزام فهي كان ينبغي أن تُذكر في كتاب الإلزامات، لكن معروف أن العلماء قد يستطرد فيذكر أشياء ليست من شرط الكتاب، فيذكر ويقول: هذا الحديث يلزم البخاري إخراجه وهو ليس في البخاري أصلًا، وإنما يُلزم البخاري بإخراجه، وقد نتكلم عن قضية الإلزام إذا سنحت الفرصة.(1/35)
أكثر الأحاديث التي ينتقدها الدار قطني انتقادها راجع إلى الصنعة الحديثية ؛ يعني يكون المتن لا خلاف عند الدار قطني في أنه صحيح، لكن بعض الرواة رواه عن حماد بن سلمة، وبعضهم رواه عن حماد بن زيد، فيرى مثلًا أن رواية حماد بن زيد هي الأصح وأن البخاري أورده برواية حماد بن سلمة التي هي مرجوحة ، المتن لا خلاف في صحته مروي من وجوه كثيرة صحيحة وإنما يخالف في هذا الإسناد يرى أنه لا يصح من هذا الوجه ، فهو في الصنعة لا في نقد المتن، وإنما في نقد السند، أكثر انتقادات الدار قطني من هذا الباب، فلا يَهُولَنَّك إنها مائتين ولَّا مائة ولَّا خمسين أكثر هذه، في مسلم كما سيأتي عدد المتون المنتقدة عند الدار قطني لا يتجاوز ثمانية أحاديث وحسب إحصائي السريع غير الدقيق في البخاري لعلها لا تتجاوز خمسة أحاديث المتون التي ينتقدها الدار قطني ويبقى إنه قد يكون الراجح قول البخاري وطبعًا نحن نتكلم عن الدار قطني فقط، وإلا هناك علماء آخرون كما ذكرنا انتقدت البخاري ومن حق العالم المتأخر أنه يرجح أحد القولين على الآخر.
تكون الأسئلة في بداية الدرس القادم بإذن الله تعالى غدًا في أول الدرس نقرأ الأسئلة.(1/36)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على إمام الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد . . كنا قد وعدنا بالبداية بالأسئلة الموجودة :
السؤال الأول ، يقول : هل يمكن معرفة بعض الكتب التي تفيد في هذه المسائل المذكورة في الدرس
الإجابة : نعم . هناك كتب نافعة في استحضار بعض المادة التي تُذْكر في هذا الدرس ؛ هناك كتب عامة حول كتب متعددة ، وهناك بعض الكتب ربما اختَصَّت بكتاب معين .
فمثلًا من الكتب العامة :
1- كتاب " شروط الأئمة " لابن منده .
2- وكتاب " شروط الأئمة الخمسة " للحازمي .
3- وكتاب " شروط الأئمة الستة " لمحمد بن طاهر المقدسي .
4- وكتاب " الحِطَّة في ذكر الصحاح الستة " للقنوجي . السيد صديق حسن .
5- وكتاب " الرسالة المستطرفة " لمحمد بن جعفر الكِتَّاني .
ومن البحوث المتأخِّرة :
1- وهو كتاب جيد ؛ كتاب " بحوث في تاريخ السنة المشرفة " للدكتور أكرم ضياء العُمَرِي .
2- وكتاب " مناهج المحدثين " للشيخ سعد الحُمَيِّد .
3- وكتاب " تدوين السنة النبوية " للدكتور محمد بن مَطَر الزهراني .
وهناك كتب خاصة ببعض الكتب مثل : " هدي الساري " بالنسبة لصحيح البخاري للحافظ ابن حجر ، وسيأتي بعض الكتب التي اختَصَّت بكتبٍ معينة عند ذكر هذه الكتب ؛ إذا تكلمنا عن مسلم – إن شاء الله – أو الآن إذا انتهينا من البخاري أيضًا ، نذكر بعض الكتب التي ربما تنفع في هذا المجال ، لكن تلك الكتب تشمل الكلام عن كتب متعددة ، ليست خاصة بكتاب واحد .
هذا بالنسبة للسؤال الأول .
السؤال الثاني : ما مذهب الإمام البخاري ؟ اذكر مثال عن معلقات الأسانيد ، وتعريفها ؟(1/1)
الإجابة : مذهب الإمام البخاري ؛ إذا كان يقصد مذهبه الفقهي فهو إمام مجتهد ، عدَّه الحنابلة من الحنابلة ، وعده الشافعية من الشافعية ، والصواب أنه ليس بحنبلي ، ولا شافعي ، وإنما هو إمام مجتهد يتَّبِع الدليل ، مثلُه في ذلك مثل الأئمة الكبار .
وأما المعَلَّق وأمثلته ذكرناه بالأمس ؛ يعني هذا السؤال قبل ذكر الأمثلة .
السؤال الثالث ، يقول : هل بالإمكان أن نصور المذكرات ، حتى نتمكن من الإلمام بكل ما تقول ؛ لأنه لا يتسنى لنا كتابة ما تقول كله ؟
الإجابة : ليس لديَّ مانع من كتابة المذكرات ، لكن أول شيء هذه المذكرات بعضها رءوس أقلام ، وفيها إحالات ، وفيها أشياء ، لا يُحسن الاستفادة منها إلا العبد الفقير ، لكن عندكم الأشرطة يمكن الاستفادة منها ، ولعل الأشرطة إذا فرِّغَت أعطي الأخ الذي يفرِّغ الأشرطة المذكرات هذه لينقل إن كان هناك نقول معينة أو أشياء ممكن تُعِينه في إكمال هذه النُّقول ، اسم الكتاب ورقم الصفحة ، فيمكن أيضًا ليستفيد من هذه الأرقام للصفحات والعَزْو ، فتكون هذه المذكرة مفرَّغة ، ويكون هذا أكثر فائدة – إن شاء الله - بمجرد أني أُعطيكم هذه الأوراق ، لكن إذا فرغت الأشرطة ممكن نعطي الذي يفرغ هذه الأوراق .
السؤال الرابع ، يقول : بخصوص الكلام على : لماذا لم يقطع البخاري بصحة المعلقات التي بصيغة الجزم ، هل هذا يطبق على الأقسام الأربعة المذكورة أم على القسم الرابع فقط ؟
الإجابة : نحن قلنا إذا كان بصيغة الجزم ، فإن البخاري يقطع بصِحَّتِه إلى من علَّقه عنه .
السؤال الخامس : هل في صحيح البخاري حسنٌ ، وضعيف ؟
الإجابة : أما ضعيف فليس في صحيح البخاري حديث ضعيف إلا وقد نَبَّهَ عليه ، البخاري لا يذكر حديثًا هو يرى أنه ليس بصحيح إلا وينبه على ما فيه من علة ، وما فيه من ضعف .
لكن هل يوجد في صحيح البخاري حديث ضعيف عند غيره من العلماء ؟(1/2)
نعم . ولذلك ذكرنا أن الدارقطني انتقد بعض الأحاديث ، وغيره من العلماء انتقدوا بعض الأحاديث ، فإذا كان السؤال عن البخاري ، فالجواب تقدَّم ، وإن كان السؤال عن غيره فالخلاف في ذلك مشهور ، ولم يُسَلَّم للبخاري كل ما ذكره ، نعم المنتقَد قليل ويسير جدًّا بالنسبة لما لم يُنتقد ، لكنه يوجد أحاديث منتقدة في " صحيح البخاري " .
السؤال السادس ، يقول : ألا يمكن الجمع بين الروايات في حديث الاضطجاع قبل أو بعد سنة الفجر ، أن ما ورد من رواية أن الاضطجاع كان قبل السنة ورواها مَالِكٌ أنها كانت بعض أحوال النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟
الإجابة : لا يمكن ؛ لأن الحديث واحد ، مَطْلَع الحديث ، ومَخْرَج الحديث واحد ، يعني : شيخ مالك وشيخ غيره من الرواة شيخٌ واحد ، بالإسناد إلى النبي عليه الصلاة والسلام ، فهو حديث واحد ، لا يمكن أن نقول أنهما حديثان مختلفان ، لو كان هذا مثلًا من حديث صحابي ، وهذا من حديث صحابي آخر ؛ كان يمكن أن نقول هذا الكلام ، لكن لما يكون الحديث إسناده واحد ، الذي حدَّث مالكًا هو نفسه الذي حدَّث الآخرين ، وَاختُلِفَ على هذا الشيخ ؛ فمالِكٌ ذكر أن الاضِّجَاعة قبل سنة الفجر ، والبقية ذكروا أن الاضجاعة بعد السنة .
ولذلك فإن ابن عبد البر ، وهو الإمام المحدث المالكي ، الذي كان حريصًا كل الحرص عن الدفاع عن الإمام مالك ما استطاع إلا أن يُقِر بأن هذا الوهم من مالك ! فلو كان هناك مجال للدفاع أو لأن نقول إن الإمام مالك لم يهم في هذا الحديث ، لكان أولى الناس بمثل هذا القول هو ابن عبد البر في كتابه " التمهيد " .
السؤال السابع ، يقول : هل على كتاب " فتح الباري " ، وكذلك كتاب " شرح مسلم " للنووي مأخَذ ، وهل وجدت كتب توضح هذه المآخذ والملاحظات ؟(1/3)
الإجابة : ما في كتابٍ يخلو من مَلْحَظ ، كل كتاب خلا " كتاب الله " عز وجل لا بد وأن يكون فيه نقض وخلل وخطأ ؛ قد تكثر هذه الأخطاء وقد تقل ، قد تَفْحُش وقد تَخِفُّ ، فلا يوجد كتابًا ليس فيه أخطاء ، وهذان الكتابان لا شك - لأهميتهما - اعتنى بعض العلماء والناصحين والباحثين بهما فبَيَّنوا بعض الأخطاء ، خاصة الأخطاء العَقَدية ، أُلِّفَتْ أكثر من رسالة وأكثر من كتاب حول آراء الحافظ ابن حجر العقدية في كتابه " فتح الباري " ، وكذلك " شرح النووي على صحيح مسلم " هناك أكثر من بحث ومقال ، وكتاب حول آراء الإمام النووي العقدية في كتابه " شرح صحيح مسلم " ، وهذه الكتب لا شك أنها نافعة ؛ خاصة إذا كان المؤلف من أهل السنة ، لبيان المسائل التي ربما أخطأ فيها الإمام الذي ألَّف هذا الكتاب كابن حجر أو النووي ؛ لتَجَنُّب الوقوع في مثل هذه الأخطاء دون أن يتنبه طالب العلم إليها ، فهذه تنبهه إلى هذه الأخطاء ليتجنبها .
السؤال الثامن : ما هو الأصل في المسلم العدالة أم الجرح ؟
الإجابة : هذا ليس علاقة بالدرس ، لكن الجواب باختصار أن الأصل في المسلم العدالة ولا شك ، لأن ??كُلُّ مَوْلُودٍ وُلِدَ عَلَى الْفِطْرَةِ?? . إذا كان المقصود به أصل الخِلقة والنشأة ، فالأصل في المسلم العدالة ، وإن كان المقصود الواقع ؛ واقع الناس : الأصلُ في الناس اليوم - وقبل اليوم - الفِسْقُ لا العدالة ؛ لأن غالب الناس - للأسف الشديد - بعيدين عن الديانة { وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ } [سبأ : 13] ، فهناك فرق ! يجب أن يحدد السائل مقصوده ؛ إن قَصَد أصل الخلقة : فأصل الخلقة الناس وُلدوا على الفطرة وعلى الدين ، وإن قصد واقع الناس : فواقع الناس مختلف عن ذلك ??فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ?? ونُضيف لفظة مُدْرَجة من عندنا : أَوْ يُفَسِّقَانِهِ ، فهذا واقع الناس .(1/4)
وهذه المسألة فيها كلام طويل لأهل العلم ، ومن أراد أن يقف على كلام طويل فيها فهناك كلام مُطَوَّل من أجود الكتب التي رأيتُها تكلمت عن هذه القضية : كتاب " الإنصاف " لمرداوي في باب " الشهادة وبيان العدالة في الشهود " ، تكلم عن هذه المسألة ونقل كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم ولغيرهما من أهل العلم حول قضية : هل الأصل في المسلم العدالة أو لا ؟!
السؤال التاسع ، يقول : نريد منكم ما هو موقف طالب علم الحديث من مسألة التفريق بين منهج المتقدمين والمتأخرين ؟
لا يخالِف أحدٌ في أن هناك متقدمين ومتأخرين ؛ هناك خلاف أنه في أناس متقدمين وأناس متأخرين ؟!
ما في خلاف ، فالقضية ليست بقضية وصف علماء بأنهم متقدمون ووصف علماء آخرين بأنهم متأخرون ، ما هو بهذا الخلاف ، هل يشك أحدٌ أن يحيى بن معين أو القطان متقدِّم بالنسبة للحافظ ابن حجر ، بالنسبة للسخاوي ، بالنسبة للزبيدي ، بالنسبة للشيخ الألباني ، أحد يشك أن هذا متقدم وهذا متأخر ؟! ما في خلاف فيه ، لكن الكلام : ما هي الأمور التي ترتبط بهذا التقسيم ؟ فإذا كان المقصود الأمور التي ترتبط بهذا التقسيم . أنا رأيي في هذه المسألة بينتُه واضحًا في كتاب " منهج المُقْتَرَح " ، ولا اعتِبَارَنا إلا رأيٌّ ، إن كان لأحد آراء أخرى فهذا هو حر فيها ، فكل إنسان مسئول عما يقول وآرائه الذي يتبَنَّى ، ورأيي كما ذكرتُ بينتُه في كتاب " منهج المُقْتَرَح " ، من أراد أن يعرف رأيِي بالتفصيل فعليه به .
السؤال العاشر : هل يمكن أن يوصف الحديث بالصحة وهو ليس بصحيح ، ولا تجتمع فيه شروط الحديث الصحيح الخمسة ؟
الإجابة : هو الصحيح لغيره ، يمكن أن نقول الحسن إذا تعددت طرقُه .
نختم كلامنا عن " صحيح البخاري " لنبتدئ بـ" صحيح مسلم " بعد ذلك :(1/5)
تكلمنا عن " صحيح البخاري " وشروطه ومنهجه ، ونختم اليوم بالعبارة الأخيرة في عنوانه ، وهي كلمة : " المختصر " ؛ " الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسننه وأيامه " .
كلمة " المختصر " هذه صريحة بأن الإمام البخاري لم يقصد استيعاب كل الأحاديث الصحيحة ، أنه لم يُرِد استيعاب كل الأحاديث الصحيحة ، فلا شك أن هناك أحاديث صحيحة كثير يعرفها البخاري غير التي ذكرها في الصحيح ، وقد صرح بذلك عندما قال : " أحفظ مائة ألف حديث صحيح " .
وسيأتي أن عدد أحاديث " صحيح البخاري " دون هذا العدد بكثير ، لعلها تقارب اثنين ونصف في المائة من هذا العدد ؛ حيث إن عدد أحاديث " صحيح البخاري " غير المكررة : ألفان وستمائة واثنان من الأحاديث ، أما بالتكرار : فسبعة آلاف وثلاثمائة وسبعة وتسعون حديث .
طبعًا هذه كلها الأحاديث المسندة بالتكرار ، وبغير تكرار : ألفان وستمائة واثنين ، لكن إذا أضفنا إليها المعلقات والمتابعات التي يورِدها معلقةً أيضًا ، فإنها تصل إلى : تسعة آلاف واثنين وثمانين حديث .
فبغير تكرار : ألفان وستمائة واثنان ، بالتكرار : سبعة آلاف وثلاثمائة وسبعة وتسعون ، بالمعلقات والمتابعات : تسعة آلاف واثنان وثمانون حديث .
آخر جملة في عنوان هذا الكتاب : " من أمور رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسننه وأيامه " .(1/6)
هذه دالة على أن الإمام البخاري سيحرص أن يذكر كل ما يتعلق بالنبي عليه الصلاة والسلام ولو كان من أمور السيرة ، ولذلك عقد كتابًا في " صحيحه " عن المغازي ؛ مغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فحتى الأمور التي لا تَعَلُّق لها بالأحكام يُخرِجها الإمام البخاري ؛ لأنه أراد أن يُخرج ما صح مما يتعلق بشخص النبي عليه الصلاة والسلام ، سواء كان هذا من السيرة ، أو مما يمكن أن يُستنبط منها حكم فقهي ، أو غير ذلك من أبواب العلم كما سبق ذكره لما تكلمنا عن معنى قوله " الجامع " في عنوان الكتاب .
نختم بالجهود التي بذلها العلماء في خدمة هذا الكتاب ، ما هي الكتب التي ألَّفها العلماء لخدمة هذا الكتاب ؟
لا يُعرف – في الحقيقة – كتاب بعد " كتاب الله " عز وجل خدمته الأمة الإسلامية كما خدمت " صحيح البخاري " ، فلا شك أن الكتب التي تخدم القرآن بوجوه مختلفة أنها هي أكثر مصنتفات صنفها علماء المسلمين من يوم أن بُعث النبي عليه الصلاة والسلام إلى هذا اليوم ، يليها مباشرةً خدمة علماء المسلمين لـ" صحيح البخاري " ، وهناك كتاب حاول أن يجمع مؤلِّفُه أكثر الجهود التي عرفها بخدمة " صحيح البخاري " اسمه : " إتحاف القاري بمعرفة جهود العلماء على صحيح البخاري " لباحث اسمه : محمد عصام الحَسَنِي ، ذكر خمسة وسبعين وثلاثمائة كتاب أُلِّفت حول " صحيح البخاري " ، فلا يمكن بالطبع أن نستعرض هذه الكتب كلها ، لكننا سنذكر أهم أوجه التصنيف وأهم المؤلفات في هذه الأوجه المهمة .
فأول ما نبتدئ بشروح " صحيح البخاري " :
سؤال : من يعرف أقدم شرح لـ" صحيح البخاري " ، أول مَنْ شرح " البخاري " ؟
إجابة : " فتح الباري " أَجَلّ شرح ، لكن نريد أقدم شرح ؟
لا ، قبل شرح " ابن بطال " .(1/7)
1- أقدم شرح لـ" صحيح البخاري " : شرح الإمام الخطَّابي ، المتوفى سنة : ثمان وثمانين وثلاثمائة للهجرة ، المسمى بـ : " أعلام الحديث " للإمام الخطابي ، وهو أقدم شرح لـ" صحيح البخاري " ، وهو مطبوع في أربعة مجلدات .
2- يليه في التاريخ من كتب الشروح المهمة : " شرح ابن بطال " ، ابن بطال توفي سنة : تسع وأربعين وأربعمائة من الهجرة ، علي بن خلف بن عبد الملِك المالكي المعروف بابن بطال ، ونقل عنه الحافظُ كثيرًا في " فتح الباري " .
3- يليه كتاب : " المُخْبِر الفَصِيح في شرح الجامع الصحيح " لابن التِّين المالكي أيضًا ، المتوفى سنة : إحدى عشر وستمائة من الهجرة .
4- ثم كتاب : " البَدْر المنير السَّاري " لقطب الدين الحلبي عبد الكَرِيم بن عبد النور ، المتوفى سنة : خمس وثلاثين وسبعمائة من الهجرة ، وهو من الشروح التي نقل منها الحافظ ابن حجر ، وهو شرح أثنى عليه كثير من أهل العلم ، لكنه لم يُطبع حتى الآن ، مع أنه موجود مخطوطًا ، لكنه لم يُطبع حتى الآن .
5- ثم أيضًا كتاب : " التَّنْوِيه في شرح الجامع الصحيح " لِمُغُلْطَايْ بن قُلَيْج الحافظ العالِم المصري ، المتوفى سنة : اثنتين وستين وسبعمائة من الهجرة ، وهو من الشروح التي استفاد منها الحافظ كثيرًا في كتابه " فتح الباري " .
6- من الشروح المهمة جدًّا - وهو مطبوع ويكاد يكون مرجِعًا أساسيًّا للحافظ ابن حجر - كتاب : " الكواكب الدَّرَارِي " لمحمد بن يوسف الكَرْمَاني ، شرح الكَرْمَاني كما يقول الحافظ دائمًا : قال الكرماني قال الكرماني ، ينقل عنه في " الفتح " كثيرًا ، وكتابه اسمه : " الكواكب الدَّرَارِي " ، والكرماني توفي سنة : ست وثمانين وسبعمائة من الهجرة .
7- ثم يليه كتاب : " فتح الباري " لابن رجب - غير " فتح الباري " لابن حجر - المتوفى سنة : خمس وتسعين وسبعمائة من الهجرة .(1/8)
8- ثم كتاب : " التوضيح شرح الجامع الصحيح " لابن المُلَقِّن ، وهو مطبوع ، وهو شيخ الحافظ ابن حجر ، المتوفى سنة : أربع وثمانمائة من الهجرة ، وهو أيضًا من مصادر الحافظ ابن حجر التي أكثر مِن النقل عنها .
8- ثم يأتي كتاب : الحافظ ابن حجر " فتح الباري " .
9- وكتاب قَرِينِه : الإمام بدر الدين العَيْنِي " عمدة القاري " .
ومن المعروف أن العيني استفاد كثيرًا من " فتح الباري " ، وكان الحافظ – كما تعرفون – يُملي كتابه " فتح الباري " إملاءً على طلابه ، فكان العيني كلما بلغه أن الحافظ أملى مجالسَ ، أخذ هذه المجالس واستفاد منها ونقل منها في كتابه ، وتَعَقَّب الحافظَ ابن حجر في شرحه في مواطن كثيرة ، يعني كان يخطئ الحافظ في بعض المسائل ، فبلغ الحافظَ ابن حجر هذه التعقبات وأن العيني خطأه في بعض هذه التعقبات ، فأَلَّف كتابًا يرد على هذه التعقبات سماه : " انتقاد الاعتراف " .
ثم جاء أحد تلامذة الحافظ ابن حجر وهو البُوصيري ، فجمع بين كلام الحافظ ابن حجر وكلام العيني وبعض المسائل التي انتقد فيها العيني الحافظَ ابن حجر ولم يذكرها الحافظُ في " انتقاد الاعتراف " ، وحاول أن يحاكم بين هذين الإمامين ويرجِّح قول أحدهما في تلك المسائل في كتاب سماه : " مُبْتَكَرَات اللَّآلِي والدُّرَر في المُحَاكَمَة بين العَيْنِي وابن حَجَر " .
هذه الكتب – الحقيقة – مهمة ، لم أذكرها استطرادًا ، بل أنا أنصح طالب العلم وخاصة الذي يريد أن يستوعب النظر في الحديث ، أقل شيء ألا يتجاوز : " فتح الباري " ، و" عمدة القاري " ، مع " انتقاد الاعتراف " ، و" مُبْتَكَرَات اللَّآلِي والدُّرَر " ؛ لأن العيني قد يصيب في بعض الانتقادات ، وإن رد عليه البوصيري ، فالبوصيري متحَمِّس للدفاع عن الحافظ ابن حجر ، فالمُنْصِف قد يقف على الرأي الصواب من خلال هذه المناقشات .(1/9)
ثم هذه المناقشات ولو أخطأ فيها العيني ، لكنها توسِّع المدارك وتبيِّن للإنسان بعض الأدلة التي قد تخالف الرأي الذي يرجحه ، فيحرص على دفع شبه تلك الأدلة ليستقيم له القول الذي يتبناه ، فهي – في الحقيقة – مفيدة ونافعة كثيرًا للتحضير لمن يريد أن يدرِّس مثلًا أحاديث من " صحيح البخاري " ، أو يريد أن يقرأ هو قراءة واعية لا يكون فيها مقلِّدًا لأحد من أهل العلم .
10- من الكتب المهمة التي جاءت بعد الحافظ ابن حجر : " إرشاد الساري " للقَسْطََلانِي ، وهو طبعًا بعد الحافظ ابن حجر ، توفي سنة : ثلاثًا وعشرين وتسعمائة ، يمتاز كتابه هذا بأنه جَمَع ما في " عمدة القاري " وما في " فتح الباري " ، وفيه مَزِيَّة كبرى أخرى ، وهو أنه نقل لنا الفروق بين نُسَخ البخاري التي كان قد قيَّدَها أحد العلماء - وهو : اليُونِينِي - على نسخته الشهيرة من " صحيح البخاري " ، للفروق بين نُسَخ " صحيح البخاري " نقلها لنا الْقَسْطَلَانِي كاملةً في شرحه لـ" صحيح البخاري " ، وهو أكثر من نقل هذه الفروق من المتأخرين ومن المعاصِرين .
11- من الشروح المتأخرة أو المعصرة إن صح التعبير ، أو المحدثة – ليست معاصرة – كتاب : " فيض الباري على صحيح البخاري " لأحد علماء الهند ، وهو محمد أنور شاه الكَشْمِيري ، المتوفى سنة : اثنتين وخمسين وثلاثمائة وألف ، وهو من الشروح المتأخرة التي فيها إضافات وفيها فوائد أيضًا لا يُستغنى عنها .
هذه الشروح أشهر الشروح على " صحيح البخاري " .
من جهود العلماء حول " صحيح البخاري " : المُسْتَخْرَجات .
والمستخرجات قد تكلمنا عنها في السَّنة الماضية لما تكلمنا عن " نُزهة النظر " ، وهي وجه من وجوه التصنيف في السُّنة النبوية ؛ المقصود أنها كتب تخدم " صحيح البخاري " .
ومن أشهر هذه المستخرجات :
1- مستخرج الإسماعيلي .
2- مستخرج أبي نُعَيْم .
3- مستخرج البارقاني .(1/10)
لكن للأسف الشديد لا نعرف شيئًا عن هذه الكتب إلا ما ينقله عنها أهل العلم ، فليس هناك كتاب معروف موجود من المستخرجات على " صحيح البخاري " ، توجد مستخرجات على غير البخاري ، لكن البخاري كلها مفقودة حسب علمي .
هناك من ألَّف حول شيوخ البخاري في " الصحيح " :
وكتبهم مطبوعة ؛ جمع شيوخ البخاري الذي روى عنه في صحيحه كـ :
1- كتاب ابن عدي .
2- وكتاب ابن منده .
3- وكتاب أصفهاني .
وهناك من جمع تراجم رجال البخاري :
تراجم رجال البخاري عمومًا ؛ ليس الشيوخ فقط ، بل رجال البخاري عمومًا ، من هذه الكتب :
1- كتاب (...) ، وقبله الدار قطني "رجال البخاري ومسلم " للدارقطني ، وفَصَل كتاب رجال البخاري عن كتاب رجال مسلم ؛ رجال البخاري جعلهم في المجلد الأول ، ورجال مسلم جعلهم في المجلد الثاني .
2- وبعده الحاكم : أيضًا جمع رجال البخاري ومسلم في كتابه " المدخل إلى معرفة الصحيح من السقيم " ، فإنه عقد فصلًا كبيرًا - تقريبًا ثلثي الكتاب - حول رجال البخاري ومسلم .
3- وهناك من خص البخاري بمُؤَلَّف وهو الكَلَابَازِي في كتابه : " رجال صحيح البخاري " .
4- وهناك من جمع بين الشيخين أيضًا في كتاب منفصل وهو : محمد بن طاهر المقدسي في كتابه " رجال الصحيحين " .
5- وهناك من ضم رجال البخاري إلى غيره من الكتب الستة ، مثل : كتاب " الكمال " للمقدسي ، وكتاب " تهذيب الكمال " للمِزِّي ، والكتب التي تَبِعَتْ كتاب " تهذيب الكمال " بعد ذلك .
هناك كتب المختصرات ؛ مختصرات " صحيح البخاري " ، مثل :
1- مختصر ابن أبي جَمْرة .
2- ومختصر الزَّبِيدي الذي هو " تجريد الصحيح " .
3- وأيضًا مُؤَخَّرًا كتب الشيخ الألباني مختصرًا لـ" صحيح البخاري " .
هناك من اعتنى بضبط الأسماء والكلمات الغريبة في هذا الكتاب :
وأشهر كتاب في ذلك :
1- كتاب " تقييد المُهْمَل وتمييز المشكِل " لأبي علي الغَسَّاني الجَيَّاني .(1/11)
2- وأيضًا كتاب " مشارق الأنوار " للقاضي عياض ، الذي اعتنى بمشكلات الضبط في الصحيحين و" موطأ " مالك .
كتاب " مشارق الأنوار " للقاضي عياض ضم إلى الصحيحين " موطأ " مالك ، أما كتاب " تقييد المُهْمَل " فهو خاص بالصحيحين .
هناك كتب الخُتُوم :
والمقصود بـ" كتب الخُتُوم " : أن المحدثين كانوا إذا رَوَوُا الكتابَ يجعلون آخر مجلس - إذا ختم الكتاب وانتهى من قراءة الكتاب كاملًا - بعد ذلك يعقد مجلسًا يبيِّن فيه منهج المؤلف وترجمة المؤلف وبعض فضائل هذا الكتاب ؛ يسمون هذا المجلس الأخير الذي يُمْلِيه المُحَدِّث بـ " ختم صحيح البخاري " ، " ختم صحيح مسلم " ، " ختم سنن أبي داود " . . وهكذا .
وللمحدِّثين خُتُوم على " صحيح البخاري " كثيرة ، مطبوع منها :
1- كتاب " عمدة القاري والسامع " للسَّخاوي .
2- وأيضًا خَتْم " صحيح البخاري " لابن ناصر الدين الدمشقي ، مطبوع .
من الجهود حول " صحيح البخاري " : كتب الأطراف .
ومعروف أن كتب الأطراف هو : أن يأخذ الكتاب ويرتبه على المسانيد ويرتب الرواة عن كل صحابي على حروف المعجم ، كما أنه يرتب أسماء الصحابة على حروف المعجم ، وينقل الإسناد كاملًا ، ويكتفي بذكر طَرَف المتن للدلالة عليه ، ولذلك سميت كتب الأطراف ؛ لأن المؤلف يكتفي بذكر طرف المتن للدلالة على الحديث المقصود ، وإلا فهي إعادة لترتيب الكتاب الذي يُرَتَّب في ذلك الكتاب الذي أُلِّف على أطراف المسانيد ، ويُرَتب المسانيد على حروف المعجم ، ويرتب الرواة عن الصحابي أيضًا على حروف المعجم ، وربما استمر في هذا الترتيب في الطبقات المتأخرة ؛ في طبقة الراوي عن الراوي عن الصحابي عن طبقة التابعي وتابع التابعي .
1- ومن أشهر هذه الكتب ؛ أول من نعرفه ألَّف كتابًا حول أطراف الصحيحين – لا " صحيح البخاري " خاصة وإنما الصحيحين – أبو مسعود الدمشقي .
2- وتلاه خَلَف الواسِطي .(1/12)
3- ثم جاء الإمام المِزِّي فأَلَّف كتابه " تحفة الأشراف " الذي ذكر فيه أطراف الصحيحين مع بقية مصنفات أصحاب الكتب الستة الشهيرة ؛ يعني الكتب الستة مضافًا إليها كتاب " المراسيل " ، وكتاب " السنن الكبرى " للنسائي ، وأيضًا ربما أضاف إليها بعض الأحاديث من كتب أخرى .
هذه أهم الجهود حول " صحيح الإمام البخاري " ، ونختم بها الكلام عن " صحيح البخاري " عليه رحمة الله .
ونبتدئ بالكتاب الثاني من كتب الصحيح :
ولا شك أن طلبة العلم يعرفون أن ثاني أصح كتاب بعد " كتاب الله " هو : كتاب الإمام مسلم بن الحجاج عليه رحمة الله ، فنقف وقفة يسيرة مع ترجمة هذا الإمام .
هو الإمام مسلم بن الحجاج أبو الحسين القُشَيْري النَّيْسَابُوري ، وقُشَيْر قبيلة عربية ، وهو من العرب صَلِيبة ، والله أعلم ؛ هذا الراجح فيه ، وإن كان هناك خلاف في هذه القضية ، لكنه من العرب .
ونيسابور مدينة شهيرة في خراسان ، وهي الآن في إيران ، لكن ينطقونها بالشين : نيشابور ، واسمها قديمًا نيسابور ، كانت دارًا للسُّنة والعَوَالي كما يقول الإمام الذهبي .
ولد في هذه البلد ونشأ فيها ، وكانت تَعُجُّ بالمحدِّثين ، وكان لا يساوي بغداد أو يقاربها في كثرة السنة وكثرة المحدثين إلا نيسابور في بلاد العالم الإسلامي ، فنشأ في هذه البلد التي امتلأت بالعلماء ، ولا شك أنه استفاد من هذا الوسط العلمي .
وُلِد سنة مائتين وستة للهجرة ، قيل : مائتين وأربعة ، وقيل غير ذلك ، لكن الراجح – والله أعلم – أنه سنة مائتين وستة للهجرة ، فبينه وبين البخاري كم سنة ؟ اثنا عشر سنة ؛ لأن البخاري قلنا ولد سنة : مائة وأربعة وتسعين ، مسلم ولد سنة : مائتين وستة .
وتوفي الإمام مسلم سنة : مائتين وواحد وستين ، عليه رحمة الله .(1/13)
بدأ السماع سنة مائتين وثمانمائة عشرة ؛ أول سماعه للحديث كان سنة مائتين وثمانمائة عشرة ، يعني كم كان عمره ؟ كان عمره اثني عشرة سنة ، وأول من سمع منه الحديث هو يحيى بن يحيى بن بُكَيْر التَّمِيمي النيسابوري ، وهو أحد رواة " الموطأ " عن الإمام مالك ، ولذلك فإن الإمام مسلم يروي " موطأ مالك " من رواية يحيى بن يحيى بن بكير التميمي . انتبهوا ! هو غير يحيى بن يحيى اللَّيْثِي المَصْمُودي صاحب الرواية الشهيرة للموطأ ، فالإمام مسلم لم يروِ " موطأ مالك " من طريق الليثي ، وإنما رواه من طريق يحيى بن يحيى بن بكير التميمي .
ومن قدماء شيوخه ومشاهيرهم أيضًا : عبد الله بن مسلمة القعنبي ، وإسحاق بن راهويه ، وقتيبة بن سعيد .
وعدد شيوخ الإمام مسلم الذي روى عنهم في صحيحه : مائتان وإحدى عشر شيخ ، وروى خارج " الصحيح " عن ست وعشرين شيخًا آخرين ، فيكون عدد شيوخه : مائتين وخمسة وثلاثين شيخ ، الذين وقفنا عليهم ، وإلا عدد شيوخه أكثر من ذلك بكثير .
رحل من نيسابور إلى بلدان العالم الإسلامي ، فسمع بالمدينة لإسماعيل بن أبي أُوَيْس ، وبالبصرة من أكثر من واحد من أهل العلم ، ومن بَلْخ ، وبغداد ، ولقي الإمام أحمد وسمع منه ومن غيره من أهل بغداد ، وبالكوفة ، والرَّي ، والشام ، ومصر ، فله رحلة واسعة جدًّا تناولت بلدان خراسان والمشرق الإسلامي ، وأيضًا العراق بما فيها المدن ، وبلاد الشام بما فيها المدن ، والحجاز ؛ الحرمين ، وأيضًا رحل إلى مصر وسمع من علماء مصر ، وكان دخوله مصر قبل سنة مائتين واثنين وأربعين ؛ لأن بعض شيوخه المصريين توفي سنة مائتين واثنين وأربعين ، فمعنى ذلك أنه لقيهم قبل سنة وفاتهم ، وهذا يدل على أن رحلته إلى مصر أيضًا كانت قبل هذه السنة .(1/14)
الذين أكثر عنهم في " الصحيح " من شيوخه هم : أبو بكر بن أبي شيبة ، وزُهير بن حرب ، ومحمد بن المثنى ، وقتيبة بن سعيد ، والعَبْد بن حُمَيْد ، ومحمد بن عبد الله بن نُمَيْر ، وأبو كُرَيْب محمد بن العلاء ، ومحمد بن بشار الشهير ببُنْدار ، ومحمد بن رافع ، ومحمد بن حُجْر ، ومحمد بن حاتم بن الميمون البغدادي ؛ هؤلاء هم الذين أكثر جدًّا من الرواية عنهم في " صحيحه " .
نريد أن نذكر بعض كلمات الأئمة في ثناءهم عليه :
1- يقول عنه إسحاق بن راهويه ، وإسحاق بن راهويه كما ذكرنا توفي سنة ثمانية وثلاثين ومائتين من الهجرة ، يعني كم كان عمر الإمام مسلم لما توفي إسحاق ؟ كان عمره اثنين وعشرين سنة . يقول عنه إسحاق بن راهويه وقد رأى نبوغه المبكر ، يقول : " أي رجل يكون هذا " ، يقول : إذا كَبُر هذا الفتى ماذا سيكون أمره ؟! فقد تَوَسَّم فيه أنه سيكون له شأن آخر إذا كبر في السن .
2- ويقول عنه أحد شيوخه وهو محمد بن بشار الذي ذكرناه قبل قليل ممن أكثر عنه ، وانتبه لأن ثناء الشيخ له مكانه خاصة ، يعني معنى ذلك أنه أثنى عليه في زمن الطلب ، ومع ذلك ماذا يقول عنه محمد بن بشار بندار ؟ يقول : " حُفَّاظ الدنيا أربعة - انظر الكلمة كبيرة جدًّا ! – أبو زُرعة بالرَّي ، ومسلم بن الحجاج بنيسابور ، والدارمي بسَمَرقَنْد ، والبخاري ببُخارى " . هذه كلمة جليلة جدًّا تبين نبوغ الإمام مسلم وأنه كان يُعد من أربعة هم أفضل علماء الحديث في زمنهم ، وقُرِن بالبخاري وقرن بأبي زرعة وقرن بالدارمي ، وهؤلاء كلهم من شيوخ الإمام مسلم ، ومع ذلك يُقْرَن بهم ويعتبر من حفاظ زمانه .
ويقول أبو حامد بن الشَّرَقي : " إنما أخرجت خراسان من أئمة الحديث خمسة : محمد بن يحيى الذهلي ، ومحمد بن إسماعيل البخاري ، وعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي ، ومسلم بن الحجاج ، وإبراهيم بن أبي طالب " . يقول إن هؤلاء هم أفضل العلماء الذين أخرجتهم خراسان .(1/15)
ويقول ابن الأخرم وهو من تلامذة الإمام مسلم ، يقول : " إنما أخرجت مدينتنا هذه – أي نيسابور – من رجال الحديث ثلاثة : محمد بن يحيى الذهلي ، ومسلم بن الحجاج ، وإبراهيم بن أبي طالب " .
تلامذته :
روى عنه بعض شيوخه كأبي حاتم الرازي ، لكن من أشهر تلامذته : ابن خزيمة ، وأبو العباس السراج صاحب المسند الذي طُبع مؤخرًّا ، والإمام الترمذي روى عنه في كتاب " الجامع " أيضًا ، ومحمد بن مَخْلَد الدوري وهو من حفاظ بغداد الشهيرين ، ومحمد بن النضر الجارُودي وهو من نقاد وحفاظ ذلك العصر .
لكن الذين رَوَوْا عنه " الصحيح " ثلاثة ، وهم : إبراهيم بن محمد بن سفيان ، وأحمد بن علي بن الحسين القَلانِسِي ، ومَكِّي بن عبدان ، إلا أن " صحيح مسلم " ما وصل إلينا إلا من رواية اثنين ؛ هما : إبراهيم بن محمد بن سفيان ، وأحمد بن علي بن الحسين القَلانِسِي ، وغالب رواية المشارقة من رواية ابن سفيان ، أما المغاربة فلهم رواية أخرى وهي رواية القَلانِسِي مع رواية ابن سفيان .
المقصود أن هؤلاء هم أشهر الرواة ، أيضًا أبو عوانة صاحب " المستخرج " من الرواة عن الإمام مسلم .
المؤلفات المطبوعة لهذا الإمام والموجودة :
1- كتاب " الأسماء والكُنى " .
2- كتاب " التَّمْيِيز " الذي وُجِدت قطعة منه وطُبعت .
3- كتاب " رجال عروة بن الزبير وغيره " .
4- كتاب " الطبقات " .
5- كتاب " المنفَرِدات والوحدان " .
6- كتاب " المخضرَمون " .
وكتاب المخضرمين وجدتُ أن أكثر من ترجم للإمام مسلم يعدونه ضمن كتب الإمام مسلم المفقودة ، والصحيح أنه ليس كتابًا مفقودًا ، بل هو موجود برمته بكامله في كتاب " معرفة علوم الحديث " للحاكم ، أورده بالكامل بالإسناد ، قال : حدثنا فلان عن فلان عن مسلم ، ثم أورد كتاب مسلم في المخضرمين كاملًا .
طبعًا كتابه الأخير كتاب " الصحيح " ... الذي سنتكلم عنه الآن .(1/16)
اسم كتاب " صحيح مسلم " بالكامل ؛ منهجنا في دراسة الكتاب تبتدئ بذكر الاسم لأن الاسم له فائدة كبيرة في معرفة منهج المؤلف ، اسمه : " المسنَد الصحيح المختَصَر من السنن بنقل العَدْل عن العدل عن رسول الله صلى الله عل وآله وسلم " .
بدأ الإمام مسلم تصنيف هذا الكتاب سنة مائتين وخمسة وثلاثين للهجرة ، كم كان عمره يعني ؟ تسعة وعشرين سنة ، وانتهى من تأليفه سنة مائتين وخمسين ، يعني مكث في تأليفه خمسة عشرة سنة ؛ من مائتين وخمسة وثلاثين إلى مائتين وخمسين .
وهنا أُنَبِّه إلى قضية مهمة تجاه هذا التاريخ ، وهي أن لقاء الإمام مسلم بالبخاري إنما كان سنة مائتين وخمسين ؛ لأن الإمام البخاري ورد نيسابور سنة مائتين وخمسين ، فكان هذا هو أول لقاء للإمام مسلم به ، ولعل هذا أحد ما يبين لنا السبب الذي من أجله لم يروِ الإمامُ مسلم عن البخاري في كتابه " الصحيح " ؛ لأنه إنما ورد نيسابور ولقاءه بالبخاري كان بعد أن انتهى من تأليف " الصحيح " ؛ هذا جواب على من قد يسأل : لما لم يُخْرِج مسلمٌ عن البخاري في كتابه " الصحيح " مع شدة إجلاله له وتعظيمه له إلى وفاة البخاري ؛ إلى أن توفي ، حتى - كما قلنا - أنه ابتُلي البخاري وربما خَطَّأَهُ بعض تلامذته ، إلا مسلمًا وقلة من الرواة استمروا على وفائهم لشيخهم إلى أن توفي الإمام البخاري ، وكان يزوره في بلده نيسابور وحتى بعد خروجه منها إلى أن توفي الإمام البخاري ، ومع ذلك لم يرو عنه شيئًا في " الصحيح " لأنه انتهى من تأليف " الصحيح " قبل لقاءه بالبخاري .(1/17)
انتقى الإمام مسلم أحاديث كتابه من ثلاثمائة ألف حديث ، وتمتاز فترة تأليفه لكتابه أنه ألفه في بلده نيسابور وفي حياة كثير من شيوخه كما ذكرنا ، وعنده أصولُه كاملةً ، يعني ما كان يكتب من حفظه وإنما يكتب من أصوله ، وهذه أحد مزايا " صحيح مسلم " على " صحيح البخاري " كما يأتي ؛ البخاري ربما سمع الحديث بالحجاز ويكتبه بالشام ، وربما سمعه بالشام ويكتبه بالعراق ، يعني كان يؤلف الصحيح أثناء رحلته ، أما مسلم فألفه أثناء مُكثه بنيسابور وفي حالة وجود كتبه وشيوخه ، حتى لو شك في رواية أو في كلمة يمكن يراجع بعض شيوخه في بعض الأمور ، ولذلك يتميز " صحيح مسلم " بالدقة في قضية سياق ألفاظ الأسانيد والمتون في صحيحه الذي نتكلم عنه .
أول كلمة في هذا العنوان : " المسند " .
وسبق الكلام عنها وعن دلالتها وهو أنه المرفوع المتصل ، وذكرنا أن الإمام البخاري قد ذكر بعض الموقوفات في صحيحه ، وأما مسلم فإنه ذكر بعض الموقوفات والمقطوعات ، لكنه أقل من البخاري بكثير في هذا الجانب ، إلا أن بعض أهل العلم وهو ابن الصلاح لما ذكر الفروق بين البخاري ومسلم قال من بين الفروق أو من بين الأمور التي فُضل بها " صحيح مسلم " عن " صحيح البخاري " قال : " إنه لا يوجد فيه بعد مقدمته إلا الحديث المسند الصحيح الْجَرد دون أن يضيف إليه شيئًا آخر " .
ففهم بعض أهل العلم من هذه العبارة أنه ليس بـ" صحيح مسلم " أحاديث موقوفة ، ولذلك أَلَّف الحافظ ابن حجر كتابًا سماه : " الوقوف على ما في صحيح مسلم من الموقوف " ، وأورد في هذا الكتاب مائة واثنين وتسعين أثر موقوف على الصحابة والتابعين ، لكن غالب هذه الآثار لم يوردها الإمام مسلم أصالةً ، وإنما يكون كلامًا للصحابي ؛ إما عقب روايته للحديث أو قبل روايته للحديث المرفوع بما فيه من كلام الصحابي ، فيذكرها الإمام مسلم كما سمع .(1/18)
وزادت مُحَقِّقة الكتاب ؛ لأن كتاب الحافظ ابن حجر " الوقوف " له تحقيقان فيما علمتُ ، إحدى الطبعتين بتحقيق امرأة ، قامت بجَرْد الصحيح واستخرجت أيضًا عددًا آخر من الأحاديث لم يذكرها الحافظ ابن حجر ، بلغت واحدًا وخمسين حديثًا ، إضافة للمائة واثنين وتسعين ، واحد وخمسين حديثًا موقوفًا ؛ إما على الصحابة أو التابعين .
شرط الاتصال المأخوذ من قوله " المسند " ومن قوله " الصحيح " أيضًا يجعلنا نقول بأن الإمام مسلم – ولا شك – لم يُورِد شيئًا من الأحاديث المنقطعة عنده ، وإن كان أورد بعض المعلقات ، لكنها قليلة ، وهناك إحصائية دقيقة لهذه المعلقات استفدتُها من تحقيق شيخكم الشيخ سعد الْحُمَيد لكتابه الذي حققه " الدرر والفوائد المجموعة في بيان ما وقع في صحيح مسلم من الأسانيد المقطوعة " ؛ هذا كتاب لرَشيد الدين العَطَّار .
في هذا الكتاب تعرَّض رشيد الدين العطار للأحاديث التي حُكِمَ عليها بالانقطاع ، أو بالتعليق ، أو بالإرسال ، أو التي أُخذت وِجادة ، أو مكاتَبة في " صحيح مسلم " ، وكان من شأن الشيخ – حفظه الله ووفقه الله – أن بَيَّن صُور هذه الأحاديث وأقسام هذه الأحاديث في الإحصائية التالي ذكرها .
يقول : " إِنَّ عدد المعلقات في صحيح مسلم ستة فقط " .
انظر الفرق الكبير بينه وبين صحيح البخاري ، عدد المعلقات في صحيح مسلم على الراجح والصحيح ستة .
" خمسة منها وصلها في صحيحه نفسه " .
إذًا يبقى الذي لم يصله في الصحيح حديث واحد ؛ هذا فرق كبير بينه وبين البخاري من هذه الناحية .
" الأحاديث المنقطعة هي واحد وعشرون حديثًا ، لكن حسب الإحصائية - يقول – كلها في المتابعات والشواهد ، التي فيها راوٍ مبهَم " .
من هو الراوي المبهم ؟
هو الذي لم يُسَمَّ .
" فعدد الأحاديث التي فيها رواة مبهمون اثنا عشر حديثًا ، وكلها في المتابعات والشواهد أيضًا ، ومنها ما سمي المبهم خارج الصحيح " .(1/19)
من هذه الأحاديث الاثني عشر أيضًا قد عَرفنا المبهم من خارج " صحيح مسلم " ، لكن كلها في المتابعات والشواهد .
رابعًا : الوِجادات :
الوِجادة تعريفها : هي التلقي أو الأخذ أو التحمل – أي عبارة اختارها - عن الكتاب دون سماع أو عَرْض أو إِذْن بالرواية ؛ حتى نُخرج الإجادة أيضًا ، هذه هي الوجادة .
ففي مسلم بعض الوجادات ، وعدد هذه الأحاديث التي رواها بالوجادة ثلاثة أحاديث ؛ منها اثنان رواها مسلم من وجه آخر متصلة من غير وجادة ، والحديث الثالث رُوي موصولًا عند البخاري ، لم يروِه مسلم موصولًا وإنما روي موصولًا عند البخاري ؛ إذًا كل الوجادات تعتبر متصلة عند مسلم .
خامسًا : المراسيل :
نقصد بالمرسل ما رواه التابعي إلى النبي عليه الصلاة والسلام ، وهي قسمان :
القسم الأول : ما ورد عرضًا تبعًا للموصول ؛ والذي إنما أورده مسلم من أجله ، يعني الإمام مسلم يُخْرِج الحديث المتصل ، وقد يكون للتابعي بعد المتصل كلام مرسل ، فيورده الإمام مسلم ، فيكون اعتماده لا على المرسل ولا قصد إخراج المرسل ، وإنما قَصَد إخراج الوجه المتصل أو القطعة المتصلة من هذا الحديث ، وعدد هذه الأحاديث تسعة أحاديث .
القسم الثاني : ما أورده مرسلًا مستقِلًّا ، ولم يأتِ موصولًا ، وإنما ورد موصولًا من طريق ضعيف ، وهو حديث واحد .
ومع كونه أيضًا حديثًا واحدًا لم يُخْرِجه مسلم للاحتجاج ، وإنما أخرجه لبيان الخلاف في إحدى المسائل الفقهية التي أوردها ، فهو حديث واحد ، الحديث المرسل الذي لم يُرو متصلًا إلا من وجه واحد ، إلا من وجه – يعني – خارج الصحيح ، وهو أيضًا وجه ضعيف ، هو حديث واحد ، والنظر في الحديث يبين أن مسلمًا ما قصد من إخراجه الاحتجاج ، وإنما قصد من ذلك بيان أنه قد وقع خلاف في فقه هذا الحديث وفي الاستنباط المأخوذ منه .(1/20)
الخلاصة من هذا العرض أنه لا يَلْحَق مسلمًا من ذلك عيبٌ ولا ذمٌّ بهذه الأحاديث ، وكل هذه الأحاديث – في الحقيقة – الجواب عليها سبق ذكره .
طبعًا هناك مراسيل - ممكن تعتبره قسمًا ثالثًا - هو أوردها مرسلة ، ووصلها في الصحيح في موطن آخر
من فوائد هذه التسمية مما لم يَسبق ذكره في " صحيح البخاري " :
1- أن " المسند الصحيح " غير كتاب " الجامع " للإمام مسلم ؛ لأن هناك كتاب للإمام مسلم اسمه " الجامع " غير كتابه " الصحيح " ؛ لأن بعضهم يظن أن كتاب " الجامع " لمسلم هو كتابه " الصحيح " ، ولذلك طُبع الكتاب في بعض طبعاته بعنوان : " الجامع الصحيح " ، وهذا خطأ ، كتاب " الجامع " للإمام مسلم كتاب منفصل عن كتاب " المسند " ، وقد حقَّق هذه المسألة الشيخ عبد الفتاح أبو غُدَّة في كتابه المسمى بـ" تحقيق اسمي الصحيحين واسم جامع الترمذي " ؛ بَيَّن أن كتاب " المسند الصحيح " – وهو " صحيح مسلم " – غير كتاب " الجامع " للإمام مسلم .
2- من فوائد هذه التسمية أيضًا : أن نعلم أن التسمية بالمسند لا يلزم منها أن يكون الكتاب مرتبًا على أسماء الصحابة ؛ لأن المشهور في الكتب التي وُصِفَت بالمسند هي الكتب التي رُتبت فيها الأحاديث على حسب أسماء الصحابة ، لكن هذا ليس على اضطراده ؛ لأنه هناك كتب متعددة وُصِفت بأنها مسند وهي غير مرتبة على أسماء الصحابة ، وعلى رأسها كتاب " مسلم بن الحجاج " ، وكتاب " مسند الدارمي " ، وكتاب " مسند السَّرَّاج " ، وكتب متعددة أخرى وُصفت بأنها وُسِمَتْ أو سماها أصحابها بالمسند ، وهي غير مرتبة على أسماء الصحابة .
ما دام أننا تعرضنا إلى قضية أن كتاب مسلم مع تسميته بـ" المسند " إلا أنه مرتَّب على الأبواب ، فنتطرق إلى تبويب الإمام مسلم :(1/21)
من المعلوم أن هذا الكتاب – كما ذكرنا – مرَّتَب على الأبواب وعلى الكتب ، لكن الأمر المستَغْرَب الملْفِت للنظر أن الإمام مسلم لم يضع عناوين للأبواب ، ليس هو الذي بَوَّبَ كتابه ، هو مُرَتَّب على الأبواب ، وبدقة ، لكنه لم يضع عناوين لتلك الأبواب المرتبة ، وضع عناوين الكتب : " كتاب الإيمان " ، " كتاب الطهارة " ، " كتاب الصلاة " . . هذه من وَضْع الإمام مسلم ، لكن عناوين الأبواب الداخلية ضمن كل كتاب منها ؛ هذه لم يضعها الإمام مسلم .
تقولون : طيب! الكتاب مطبوع بعناوين !!
هذه العناوين بعضها من النُّسَّاخ ، وبعضها من الشُّرَّاح ؛ أضافها إما ناسخ الكتاب ليُمَيِّز كل مجموعة من الأحاديث متعلقة بتبويب ، وبعضها مأخوذ من الشراح ، وأغلب المطبوعات لـ" صحيح مسلم " اعتمدت كثيرًا على تبويبات الإمام النووي لشرحه لـ" صحيح مسلم " ، فهذه التبويبات ليست من وَضْع مسلم ، وإنما هي من وَضْع الشراح ، وفي بعض النسخ من وَضْع النُّسَّاخ ؛ لأن هناك نُسَخ قبل الإمام مسلم وجدنا فيها تبويبات ، فهذا يدل على أن هذه التبويبات ربما فعلها أيضًا النساخ أنفسهم .
وهذا الأمر – الحقيقة – يحتاج إلى وَقفة ؛ لأن الكتاب – كما ذكرت – مُرَتَّب بالفعل على الأبواب ، إلا أنه لم يذكر هذه العناوين .
فما هو السبب في عدم ذكره لهذه العناوين مع أنه قام بالجهد المطلوب وهو ترتيبه على الأبواب ؟
هناك سببان محتملان إما يكون هذا أو ذاك ، ويحتمل أن يكون كلا السببين هما اللذان دَعَيَا الإمام مسلم إلى حذف هذه التبويبات :
السبب الأول : الاختصار ؛ فإنه نص في عنوان كتابه أن كتابه مختصر ، فأراد أن يحذف هذه التبويبات للاختصار .
السبب الثاني والذي يظهر أن هو الأقوى : أنه أراد أن يجعل كتابه خالِصًا للأحاديث النبوية دون أن يُبَيِّن رأيه فيها ؛ أن يترك الناظر يَستنبط هو وحده من هذه الأحاديث الحكم المُسْتَنْبَط منها .(1/22)
وفي هذا السياق أتذكر كلمة الإمام أحمد عندما انتقد كتاب " الموطأ " للإمام مالك أنه جمع فيه بين الرأي والحديث ، يعني الفقه والحديث ، وكان يرى الإمام أحمدُ أنه لو خُلِّصَ الحديث وحده لكان هذا أولى ، فلعل الإمام مسلم يرى هذا الرأي ، قد يكون استفاده من شيخه أحمد أو من غيره وقد يكون هو مُتَبَنٍّ لهذه الفكرة أيضًا ، المقصود أن هذا العمل لمسلم الظاهر – والله أعلم – أنه قصد به بالفعل أن يجعل كتابه جامعًا للأحاديث دون تَدَخُّل منه في الفقه المُسْتَنْبَط من هذه الأحاديث .
وهذا منهج محمود ، ومنهج البخاري أيضًا محمود ولا شك ، فكم كنا سنفقد من العلم لو أن الإمام البخاري لم يبين لنا فقهه من تلك الأحاديث ، وكل اجتهد ويؤجر على اجتهاده إن شاء الله .
ومن هنا ندخل إلى أعظم ما يُمَيِّز " صحيح الإمام مسلم " على " صحيح البخاري " ، وهو قضية " الترتيب والتبويب " :
فمن أهم مزايا " صحيح مسلم " على " صحيح البخاري " : جَمْعُهُ طرقَ الحديث وألفاظه في مكان واحد ، يمتاز الإمام مسلم أنه إذا أخرج الحديث يذكر الطرق كاملةً بألفاظها في موطن واحد ، بخلاف البخاري الذي ذكرنا أنه يروي الحديث في كل موطن حسب التبويبات التي يذكرها ، وربما اختلفت ألفاظ الحديث ، وربما قَطَّع الحديث الواحد إذا كان طويلًا فيختصره فيذكر موطن الشاهد فقط تحت كل باب ، أما مسلم فيمتاز بأنه يذكر الحديث كاملًا بطرقه وألفاظه في موطن واحد .
وفي الحقيقة هذه تكاد تكون كل كتب المصطلح ، تذكر أن هذا هو الوجه الذي فُضِّل به " صحيح مسلم " على " صحيح البخاري " .(1/23)
ولكن هذا الوجه – من باب الإنصاف للبخاري ومسلم – هو مَزِيَّة من وجه ، وتصرُّف البخاري أَمْيَز وأفضل من وجه آخر ، فلا شك أن من أراد الفقه والاستنباط سيجد أن فعل البخاري أفضل ، ومن أراد أن يعرف الصَّنْعة الحديثية وأن يحفظ الحديث بطرقه وألفاظه سيجد أن صنيع مسلم أفضل ، ولذلك لا يمكن أن نُطْلِق القول بأن " صحيح مسلم " أفضل من " صحيح البخاري " من ناحية الترتيب والتبويب ، إلا أن نقول : إنه أفضل من " صحيح البخاري " من ناحية الترتيب والتبويب للمُحَدِّث ، أما إذا قلنا بأنه أفضل وأردنا أن نعرف للفقيه أيهما أفضل ، فلا شك أن " صحيح البخاري " يكون أفضل من " صحيح مسلم " ، فإذا أردنا أن نطلق هذه العبارة لا بد أن نقيدها بهذا القيد ؛ أنه أفضل للمحدِّث الذي يريد أن يعرف الطرق والألفاظ ، أما من أراد أن يعرف الفقه فـ" صحيح البخاري " أفضل .
من مزايا " صحيح مسلم " - وسبق ذكرها - على " صحيح البخاري " : عنايته الكبرى باللفظ - بلفظ الحديث - وتحرير اختلاف الرواة في الألفاظ ولو دَقَّتْ ، بل حتى في صيغ الأداء مثل : " حدثنا ، وأخبرنا " ، وسبب ذلك : أن مسلمًا يفرِّق بين استخدام " حدثنا " واستخدام " أخبرنا " ، وهذه مسألة خلافية عند المحدثين : هل حدثنا وأخبرنا بمعنى واحد أو ليست بمعنى واحد ؟
فمن أهل العلم مَنْ يرى أنها بمعنًى واحد ، وعلى رأس هؤلاء البخاري ، البخاري يرى أن " حدثنا وأخبرنا وسمعت وعن " كلها بمعنى واحد تؤدي الاتصال .
وأما مسلم فيفرِّق بين " حدثنا " و" أخبرنا " ، ويعتبر أن " حدثنا " لفظ يُستخدم لِمَا أُخذ عن الشيخ بالسماع ؛ لأن طرق التَّحَمُّل - كما سبق في درسنا العام الماضي - منها طريقة السماع ، ومنها طريقة العَرْض أو القراءة على الشيخ .(1/24)
السماع : أن يحدِّث الشيخ ويسمع الطلاب ، والقراءة : أن نأتي بحديث هذا الشيخ ونقرأه عليه وهو يسمع ، مثل طريقة قراءة طلبة القرآن على مشايخهم ؛ يأتي الطالب ويقرأ على الشيخ والشيخ يسمع ، إذا كان هناك أخطاء يصوبها له .
فهاتان طريقتان من طرق التلقي في السُّنة ؛ فمسلم يرى أن ما أُخذ بالسماع يُستخدم معه كلمة " حدثنا " ، و ما تُلُقِّي بالعَرْض يستخدم معه كلمة " أخبرنا " ، ولذلك كان يُدَقِّق في ألفاظ شيوخه وشيوخ شيوخه الذين استخدموا هذه العبارة ، ولذلك تجده مثلًا مرة يقول : " حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وابن نُمَيْر ؛ أما ابن أبي شيبة فقال أخبرنا ، وأما ابن نمير فقال حدثنا " ، مع إنها عند البخاري واحد ما كان يُتْعِب نفسه ويقول أما وأما ... ، لكن لأنه يفرِّق ويريد أن يدقق في ألفاظ الشيوخ ، حتى هذه الصيغ كان يبيِّن الفروق فيما بينها عليه رحمه الله .
هذا من مزاياه الكبرى في الحقيقة والتي تبين دقته المتناهية ، لِأَنه دَقَّقَ في مثل هذه الألفاظ وتَحَرَّى في هذه الاختلافات اليسيرة ، فكيف سيكون تَحَرِّيه في متن الحديث وألفاظ الحديث ؟! لا شك أن هذا دلالة وعلامة أنه سيبلغ من التحري مبلغًا عظيمًا .
من مزايا الإمام مسلم في هذا الكتاب وهي متعلقة أيضًا بدقته وتحريه : ما ذُكر عنه من منهجه في سياق الأحاديث التي تُروى بإسناد واحد ، فمثلًا صحيفة همام بن مُنَبِّه عن أبي هريرة كلما أراد أن يروي حديثًا منها يروي بالإسناد عن همام بن منبه عن أبي هريرة يقول : " وذَكَر أحاديث ومنها حديث كذا " .
أما البخاري فربما فعل شيئًا آخر يقول بالإسناد : " حدثنا همام بن منبه عن أبي هريرة . . " يذكر أول حديث من هذه النسخة ثم يذكر الحديث الذي يريد أن يستدل به ؛ هذه طريقة عند الإمام البخاري في إيراده لهذه النسخة ، أو أن يكتفي فقط بالحديث التي يريد أن يحتج بها .(1/25)
فتصرف مسلم لا شك أنه أوضح وأدق من تصرف الإمام البخاري في هذه المسألة .
الكلمة الثانية في العنوان " الصحيح " :
ولا شك أن هذا تصريح منه بشرط كتابه ، وأنه يشترط ألا يورد فيه إلا الأحاديث الصحيحة .
وهناك أيضًا عبارة أخرى في كتابه غير المقدمة ؛ ميزة الإمام مسلم أن له مقدمة ، فنحن لسنا مضطرين فقط إلى أخذ شرطه من عنوان الكتاب ، بل أيضًا مقدمة " صحيح مسلم " مليئة ببيان شرطه في كتابه .
لكن أيضًا حتى في أثناء الكتاب له عبارة تبين منهجه وهي عبارة مهمة ويجب أن نقف عندها : لما سُئل عن حديث ??إِذَا قَرَأَ الْإِمَامُ فَأَنْصِتُوا?? أو ??إِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا?? سُئل عن هذا الحديث في صحيحه ؛ لأنه رواه من حديث أبي موسى بهذه اللفظة ، وسُئل عن هذه اللفظة التي وردت أيضًا في حديث أبي هريرة ؟
فقال : " هو عندي صحيح " .
فقال له السائل : لِمَا لم تضعه هاهنا ؟ أي ما دام أنه صحيح لِمَا لم تدخله في صَحِيحك ؛ حديث أبي هريرة ??إِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا?? ؟
فقال الإمام مسلم : وهذا الكلام كله في " صحيح مسلم " كما هو معروف قال : " ليس كل شيء عندي صحيح وضعته هاهنا ، إنما وضعتُ هاهنا ما أَجْمَعُ عليه " .
هذه كلمة مهمة في بيان شرط مسلم في كتابه ؛ لأنها تبين أنه قد يترك بعض الأحاديث لأنها مما لم يُجمع عليه ، ومنها حديث أبي هريرة الذي ذكره .
الذي نحتاج للوقوف عنده : ما معنى قوله في هذه العبارة " إنما وضعت هاهنا ما أجمع عليه " ؟ لأنها عبارة فيها شيء من الإشكال ، نحن نقرر أن هناك أحاديث انتُقِدت على البخاري ومسلم ، فما هو مقصود الإمام مسلم بهذه العبارة ؟
هناك عدة فُهوم ذُكرت في الكتب التي تكلمت عن شرط مسلم :
الرأي الأول : منهم من قال بأن هذا على ظاهره ، وأن مسلمًا يرى أن العلماء أجمعوا على صحة هذا الحديث إجماعًا أُصوليًّا كاملًا ؛ هذا هو الرأي الأول .(1/26)
الرأي الثاني ؛ وهو قريب من السابق : أنه إجماع أئمة الحديث ، كأنه يريد أن يُخرج الفقهاء أو الأصوليين أو ما شابه ذلك ، يقول : ما أَجْمَع أئمةُ الحديث على صحة هذه الأحاديث ؛ هذا الرأي الثاني .
الرأي الثالث ؛ قالوا : إنه أراد أربعة من أئمة الحديث خاصة ، أنهم إذا اتفقوا على صحة الحديث أَخَرج هذا الحديث ، واختلفوا في هؤلاء الأربعة :
فهناك قول يقول إنهم : ابن معين ، وأحمد ، وعثمان بن أبي شيبة ، وسعيد بن منصور ؛ هذا قول .
والقول الثاني أنهم : ابن معين ، وأحمد ، وأبو زرعة ، وأبو حاتم الرازي .
الرأي الرابع : أنه ذَكَر ما اجتمعت فيه شرائط القبول ، يعني يقول : " إنما ذكرت في هذا الكتاب الأحادي التي اجتمعت فيها شروط الصحة " ، أو الشروط التي أجمعوا على وجودها أو اشتراط وجودها ، الشروط التي أجمعوا على أن الحديث لا يُصحح إلا بوجودها ، فإذا كان الحديث صحيحًا لكن على شرط لم يُتفق عليه لا يخرجه في الصحيح ، إنما يذكر ما صح بالشروط المتفَق عليها ؛ هذا قول .
الرأي الخامس ، أنهم قالوا : أنه يريد ما لم يختلف فيه الثقات ، أنه يخرج الأحاديث التي لم يقع فيها اختلاف ؛ لا في متنها ولا في إسنادها .
لكن - في الحقيقة - هذه الأقوال كلها في رأيي فيها شيء من النظر ، وسأُبين لكم الآن باختصار النظر في هذه الأمور :
فمثلًا بالنسبة للذين يقولون إن شيوخه عامة وأئمة الحديث ، ذكرنا أن هناك علماء للحديث خالفوه في بعض الأحاديث ، وبعضهم عرف انتقادتهم ويسمع بها ويعرفها - ولا شك - ، فلا يمكن أن يكون مقصوده إجماع العلماء بهذا المعنى .
الشيء الثاني الذي يرد على بعض هذه الأقوال قضية من قال بأنه يريد الشروط التي قد اجتُمِع عليها .(1/27)
الصحيح أن شروط الحديث الصحيح الخمسة مُجْمَع عليها ومتفق عليها بين أئمة الحديث ، وهذا الذي يترجح عندي والله أعلم ؛ أن خلاف المحدثين في التصحيح لا يرجع إلى اختلاف في الشروط ، وإنما إلى الاختلاف في وجود هذه الشروط من عدم وجودها . أما الشروط فقد اتفق أئمة الحديث على اشتراط هذه الشروط ؛ فالقول الأخير إذن يكون غير صحيح .
من يقول بأنه يقصد الأئمة الذين سُمُّوا ، نحن نجد أحاديث انتقدها ابن معين وانتقدها أبو حاتم وانتقدها أبو زرعة وهي موجودة في " صحيح مسلم " ، ممكن يقول واحد : لعله مثلًا انتقدها بعد أن رأى " صحيح مسلم " . لكن هذا مستبعد في الحقيقة ليس بأمر قريب ، بل الأقرب أن الإمام مسلم يقصد معنى آخر .(1/28)
الذي يظهر لي أن الإمام مسلم قصد بهذه العبارة معناها السهل الواضح بعيد كل البعد عن المعنى الأصولي ، وهو : أنه لا يعرف خلافًا في قبول هذه الأحاديث ، أنه أخرج الأحاديث التي لا يَعرف هو فيها خلافًا ، فهو يُخبر حسب ما يعرف ، ولذلك حديث أبي هريرة يرى أنه صحيح لكن ما أخرجه لأنه يعرف أن غيره يخالفه فيه ويضعفه ، والأحاديث التي لا يعرف فيها خلافًا هي التي أخرجها في صحيحه ، وقد يشير إلى ذلك القصة الصحيحة التي يأتي ذكرها بلفظها أنه عرض صحيحه على أبي زرعة فما أشار عليه أبو زرعة بأنه منتَقد حَذَفَهُ ،وإِنْ كان في هذه القصة لا إشكال فيها ؛ لأننا ذكرنا أن أبا زرعة انتقد أحاديث وهي موجودة في " صحيح مسلم " ، لكن لعل أبا زرعة استعرض الصحيح استعراضًا سريعًا كما هو بادي النظر في القصة أن مسلمًا آتاه وعرض عليه الصحيح ولنفترض أنه بقي عنده يومًا أو يومين فلعله استعرضه استعراضًا سريعًا ، فنبهه على بعض الأحاديث فضرب عليها مسلم ، ولا يلزم من ذلك أن يكون أبو زرعة درس الكتاب دراسة مستقصية وكاملة وأنه فَلَّ الكتاب من أوله إلى آخره ، القصة ليس فيها ما يثبت أنه جرد الكتاب من أوله إلى آخره بالتتبع وأن كل ما انتقده هو كل المنتَقَد عنده .
فوجود أحاديث ينتقدها أبو زرعة موجودة في " صحيح مسلم " لا يعارِض القصة الثابتة الصحيحة من عَرْضه لهذا الكتاب الصحيح على الإمام أبى زرعة .
ما دام نتكلم عن شرط الصحيح ، ومن شرط الصحيح عدالة الرواة وضبطهم ، فسنتكلم عن شرط الإمام مسلم في الرواة :
وسبق أن ذكرنا شرط الإمام البخاري أن يُخرج للطبقة الأولى والثانية ، وقلنا إن المقصود بالطبقة الأولى والثانية - كما ذكر الحازمي - هم الرواة الذين عُرِفوا بالضبط الكامل والإتقان والحفظ ، وعرفوا أيضًا بملازمة الشيوخ الذين رَوَوْا عنهم ملازمة طويلة ؛ هذه الطبقة الأولى ، وهم الشرط الأعلى للبخاري .(1/29)
الطبقة الثانية : وهم الرواة الحفاظ الثقات الضابطون ضبطًا تامًّا ، لكنهم لم يلازموا الشيوخ الذين رَوَوْا عنهم ، يقول الحازمي : " وهؤلاء من شرط مسلم " فإن مسلمًا يُكْثِر من الإخراج لهؤلاء ، بل إن مسلمًا عليه رحمة الله صرَّح أنه سيخرج أيضًا في المتابعات والشواهد لِمَن كان خفيف الضبط .
وسنقرأ عبارة الإمام مسلم التي ذكر فيها شرطَه في الرجال لنقف عندها لأن فيها خلافًا بين أهل العلم .
يقول الإمام مسلم بعد أن ذكر كلامًا حول شرطه في الرجال وذكر أن الرواة الحفاظ المتقنين وضرب لهم أمثلة ، هؤلاء يقول هم القسم الأول من الرواة ؛ ا ... لحفاظ المتقنين الضابطين أصحاب الضبط التام ، يقول في مقدمة صحيحه : " فأما القسم من الرواة فإنا نتوخَّى أن نقدِّم الأخبار التي هي أسلم من العيوب من غيرها وأنقى ، من أن يكون ناقلوها أهل الاستقامة في الحديث وإتقان لما نقلوا ، لم يوجد في رواياتهم اختلاف شديد ولا تخليط فاحش ، كما قد عُثِر فيه على كثير من المحدثين وبان ذلك في حديثهم " . هؤلاء أصحاب الضبط التام القسم الأول .
ثم يقول : " فإذا نحن تقصَّيْنا أخبار هذا الصِّنف من الناس أَتْمَمْناها أخبارًا يقع في أسانيدها بعض من ليس بالموصوف بالحفظ والإتقان كالصنف المتقدِّم قبلهم ، وإن كانوا فيما وصفنا دونهم فإن اسم السِّتر والصدق وتعاطي العلم يشملهم ، كعطاء بن السائب ، ويزيد بن أبي زياد ، وليث بن أبي سليم وأضرابهم من حُمَّال الآثار ونُقَّال الأخبار ، فهم وإن كانوا بما وصفنا من العلم والستر عند أهل العلم معروفين ، فغيرهم من أقرانهم ممن عندهم ما ذكرنا من الإتقان والاستقامة في الرواية يفضلونهم في الحال والمرتبة ؛ لأن هذا عند أهل العلم درجة رفيعة وخصلة ثَنِيَّة " .(1/30)
هنا يصرح أنه سيُخرج أولًا ويعتني أولًا بالطبقة الأولى وهي : المتقنون الحفاظ ، ثم يقول إذا أخرجتُ رواية هؤلاء قد أُخْرج أيضًا لمن كان دونهم في الحفظ والإتقان وهم آخر مراتب القبول .
فهؤلاء الرواة الذين سماهم عند مسلم هم في آخر مراتب القبول ، ولذلك يقول : " فإن اسم الستر والصدق وتعاطي العلم يشملهم " . وأنبه هنا أن المقصود بالسِّتْر ليس المقصود به ما اصطلح عليه المتأخرون من أن المستور هو : القسم الأول من المجهول وهو من روى عنه راويان عدلان ولم يُجْرَح ولم يُعَدَّل ؛ هذا هو المستور عند المتأخرين عند ابن الصلاح . ليس هذا هو المقصود بالستر هنا وإنما المقصود بالستر هنا أنه لم يُعرف عنه الفِسق .
فهذا القسم من الرواة هم كما ذكرنا هم الرواة الخفيفون الضبط ، على كل حال كلام الإمام مسلم ظاهر والأمثلة التي ذكرها تدل على ذلك .
أما بالنسبة لهؤلاء الذين ضرب بهم المثل وهم :
1- عطاء بن السائب : فهو راوٍ اختَلَط ؛ فروايته قبل الاختلاط مقبولة وروايته بعد الاختلاط ضعيفة ، ومسلم لم يُخرج له في الصحيح أبدًا ، مع أنه ضرب به المثل لكنه لم يُخرج له في الصحيح أبدًا .
2- وأما يزيد بن أبي زياد : فهو راوٍ فيه خلاف كبير ، والراجح أنه حَسَن الحديث ، خاصة إذا صرَّح بالسماع ، ولم يرو له مسلم إلا حديثًا واحدًا متابعةً ، لم يُخرج له مسلم إلا حديثًا واحدًا في المتابعات .(1/31)
3- وليث بن أبي سليم : فيه خلاف أكبر من الخلاف الذي في يزيد بن أبي زياد ، وكثير من أهل العلم يضعفه ، لكن الراجح عندي - والله اعلم - وهو الراجح عند مسلم قبل ذلك أنه في آخر مراتب القبول وأنه يُحتج به لكن في آخر مراتب القبول ، وهو أيضا لم يخرج له الإمام مسلم إلا حديثًا واحدًا مقرونًا براوٍ آخر ، وبذلك بالفعل يُطَبِّق مسلم الشرط الذي ذكره ؛ أنه يخرج لهؤلاء في متابعات كتابه ، لكن أيضًا حتى هؤلاء الرواة عند مسلم لم ينزلوا عن درجة القبول ، وهذا الذي نؤكده أن حتى رواة المتابعات والشواهد عند صاحبي الصحيح الأصل فيهم أيضًا أن لا ينزلوا عن درجة القبول ، وكلام مسلم في هذا الموطن صريح بهذا الأمر .
قد يعترض بعض طلبة العلم بأمر وهو كلام أبي زرعة الذي قلنا بأننا سنذكره بعد قليل ، قصة الإمام مسلم مع أبي زرعة ؛ حيث يقول البَرْذعِي وهو تلميذ للإمام مسلم وتلميذ لأبي زرعة يقول : " شهدتُ أبا زرعة ذَكَر كتاب الصحيح الذي ألفه مسلم ثم الفضل الصائغ على مثاله ، فقال لي أبو زرعة : هؤلاء قوم أرادوا التقدم قبل أوانه فعملوا شيئًا يتشوفون به ، ألفوا كتابًا لم يُسبقوا إليه ليقيموا لأنفسهم رياسة قبل وقتها " .
هذا اجتهاد من أبي زرعة ، لا نشك أنه أخطأ فيه ، يعني اعتبر أن هذا التصرف من مسلم لأن مسلمًا من طبقة تلامذته وإن كان قريب منه في السن لكنَّ أبا زرعة أكبر منه سنًّا ولعله علمًا أيضًا ، فانتَقَد عمل مسلم هذا ، وسيأتي وجه انتقاده ، ولذلك أساء النية في الإمام مسلم .
يقول البرذعي : " وأتاه ذات يوم - يعني جاء مسلم لأبي زرعة في ذات يوم – وأنا شاهد رجلٌ بكتاب الصحيح من رواية مسلم ، فجعل ينظر فيه ، فإذا حديث أسباط بن نصر فقال لي أبو زرعة : ما أبعد هذا من الصحيح يُدْخل في كتابه أسباط بن نصر " . انتقد عليه أن يروي لرجل اسمه أسباط بن نصر ، وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله .(1/32)
قال : " ثم رأى في الكتاب قَطَن بن نُسَيْر ، فقال لي : وهذا أَطَمُّ من الأول ؛ قطن بن نسير وصل أحاديث عن ثابت جعلها عن أنس ، ثم نظر فقال : يروي عن أحمد بن عيسى المصري في كتاب الصحيح ، قال لي أبو زرعة : ما رأيت أهل مصر يشكون في أن أحمد بن عيسى وأشار بيده إلى لسانه كأنه يقول الكذب " . يعني يتهم أحمد بن عيسى بالكذب وانتقد على الإمام مسلم أنه يروي عنه في الصحيح .
ثم قال : " يحدِّث عن أمثال هؤلاء ويترك عن محمد بن عجلان ونُظَرائه " .
هذا نقد ؛ أنه انتقده في رواياته عن بعض الرواة وهو يرى أنهم ليسوا أهلًا لإدخالهم في الصحيح .
النقد الثاني قال : " ويُطَرِّق لأهل البدع علينا ، فيجدون السبيل بأن يقولوا لحديث إذا احتُج عليهم به : ليس هذا في كتاب الصحيح " .
يعني يقول بأن أهل البدع سيدَّعون بأن كل الصحيح هو الموجود في " صحيح مسلم " ، فإذا احتججنا عليهم بحديث صحيح غير موجود في " صحيح مسلم " ، يقولون : لو كان صحيحًا لأورده مسلم في الصحيح ؛ فهذا هو وجه النقد الثاني عند أبي زرعة عليه رحمة الله .
قال : " ورأيت يذم وَضْع هذا الكتاب ويُؤَنِّبُه " .
يقول البرذعي : " فلما رجعتُ إلى نيسابور في المرة الثانية ذكرتُ لمسلم بن الحجاج إنكارَ أبي زرعة عليه وروايته في هذا الكتاب عن أسباط بن نصر ، وقطن بن نسير ، وأحمد بن عيسى ، فقال لي مسلم : إنما قلت صحيح " .
أَيْش معنى : " إنما قلت صحيح ؟ " .
يعني : أنا ما قلتُ بأن هذا هو الصحيح وحده ، أنا قلتُ : ما أذكره في هذا الكتاب فهو صحيح ، ولم أقل إن ما لم أذكره في هذا الكتاب ليس بصحيح .
فالنقد الذي يقول إنه يُطَرِّق لأهل البدع غير وارد ، فكيف إذا استحضرنا قضية كلمة " المختصر " التي أوردها والتي هي قاطعة بأنه لا يريد استيعاب الحديث الصحيح .
وسنكمل بالغد إن شاء الله كلام أبي زرعة وموقف الإمام مسلم منه ، وجواب الإمام مسلم على هذه الانتقادات .(1/33)
وصلى اللهم وسلم ، وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين .(1/34)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على إمام الأنبياء والمرسلين وعلى آله وأصحابه والتابعين له بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد ..
فنكمل ما كنا قد بدأنا به بالأمس حول منهج الإمام مسلم عليه رحمة الله في كتابه " الصحيح " .
وكنَّا قد توقفنا عند الكلام عن انتقادات أبي زرعة على الإمام مسلم ، وابتدأنا بسياق الخبر المتعلِّق بذلك وانتهى الوقت قبل أن ننتهي من قراءة هذا الخبر المهم .
ابتدأنا بذكر أول جواب للإمام مسلم على انتقادات أبي زرعة ، وهي قول الإمام مسلم رادًّا على أبي زرعة لما ذكر أن تأليفه للصحيح بهذا العدد يُطَّرق – أي يجعل - لأهل البدع طريقًا على أهل السنة بأن يقولوا : لم يصح عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلا هذا القدر الذي أخرجه مسلم في صحيحه ، وأجاب مسلم عن ذلك بأنه لم يدعِ الاستيعاب وأنه إنما وسم كتابه بـ" الصحيح " ولم يقل إنه جامع لكل الصحيح ؛ هذا هو الجواب الأول .
ثم يُكمل الإمام مسلم كلامه لما انتقد عليه أبو زرعة الإخراج لثلاثة من الرواة وهم : أَسْبَاط بن نَصْر ، وقَطَن بن نُسَيْر ، وأحمد بن عيسى ، فقال الإمام مسلم عليه رحمة الله :
يقول البَرْدَعِي : فقال مسلم : إنما قلتُ صحيح ؛ هذا الجواب الأول ، وإنَّ ما أدخلتُ من حديث أَسْبَاطٍ وقَطَنٍ وأحمد ما قد رواه الثقاتُ عن شيوخهم ، إلا أنه ربما وقع إليَّ عنهم بارتفاع ، ويكون عندي مِن رواية مَن هو أَوْثَقُ منهم بِنُزُول ، فأَقْتَصِر على أولئك ، وأَصْلُ الحديث معروف من رواية الثقات .أهـ.(1/1)
فبَيَّن الجواب عن الإخراج لأولئك الرواة بأنه لم يُخرج لهم ما تفردوا به ، وإنما أخرج لهم ما تُوبعوا عليه ، وأما روايته عنهم في " الصحيح " دون رواية الثقات الآخرين الذين تابعوهم فسبب ذلك أنه وقعت له أحاديث لهؤلاء عالية ووقعت له من رواية الثقات الذين هم أوثق منهم نازلة ، والعلو معروف : هو قِلَّة عدد الرواة في الإسناد ، والنزول : كثرة العدد .
فيقدم الإمام مسلم العلو في هذه الحالة على النزول ، وهو لم يعتمد على أولئك الرواة الاعتماد الكامل ؛ لأنه يعرف أن هذا الحديث ثابت من وجوه أخرى ، وهذا هو اعتذاره .
نُكمل قراءة النص ثم نعود إلى هذه النقطة لأنها مهمة في بيان منهج الإمام مسلم ، يقول البَرْدَعِي :
" وقَدِمَ مسلم بعد ذلك إلى الرَّيِّ – إلى البلد الذي فيه أبو زرعة – فبلغني أنه خرج إلى أبي عبد الله محمد بن مسلم بن وَارَهْ فجَفَاهُ - أي : ابن واره وهو من حفاظ الري من أقران أبي زرعة وأبي حاتم ؛ يعني أغلظ القول أو جفا الإمام مسلمًا في مقابلته له وهو عاتِبٌ عليه نفسَ عَتِب أبي زرعة ، يعني : كان ابن واره يعتب على مسلم في تأليفه " الصحيح " كما عَتِبَ عليه أبو زرعة من قبل ، يقول : - وعاتبه على هذا الكتاب وقال له نحوًا مما قال له أبو زرعة : إن هذا يُطَرِّق لأهل البدع علينا ، فاعتذر إليه مسلم وقال : إنما أخرجت هذا الكتاب وقلتُ : هو صحاح ، ولم أقل : إن ما لم أُخرجه من الحديث في هذا الكتاب ضعيف ، ولكني إنما أخرجتُ هذا من الحديث الصحيح ليكون مجموعًا عندي وعند من يكتبه عني فلا يُرتاب في صحتها ، ولم أقل : إن ما سواه ضعيف ، ونحو ذلك مما اعتذر به مسلم إلى محمد بن مسلم ، فقَبِلَ عذرَه وحدَّثَهُ .
يعني: اعتذر له بنفس الاعتذار السابق فقَبِلَ محمد بن مسلم بن واره وحدثه وترك الجفاء الذي كان واجهه به .
لكن نريد أن نعود إلى الرواة الثلاثة الذين ذكرهم أبو زرعة وإلى اعتذار الإمام مسلم :(1/2)
هل كان مسلم يعتبر هؤلاء الرواة ضعفاء ومع ذلك أخرج لهم في صحيحه ؟ هل هم ضعفاء بالفعل ؟ وهل انتقاد أبي زرعة صواب ، خاصة في أحمد بن عيسى كأنه يشير إلى كونه كذابًا ؟ ولو كان أحمد بن عيسى كذابًا عند مسلم هل يصح لمسلم أن يروي عنه ولو في المتابعات والشواهد ؟ هذه كلها أسئلة تحتاج إلى جواب .
ذكرنا أن الإمام مسلم بَيَّن في مقدمة الكتاب أنه سيخرج لأهل الحفظ والإتقان ؛ وهؤلاء هم شرطه الأكبر ، ثم إنه إذا أخرج في المتابعات لمن دونهم فإنهم لا ينزلون عن مرتبة القبول ، وضرب لذلك مثلًا لثلاثة من الرواة وقال : إن اسم الستر والصدق وتعاطي العلم يشملهم ، فبَيَّن أنهم لا ينزلون عن درجة القبول ، حتى الذين أُخرج لهم في المتابعات .
إذًا ظهار تصرف مسلم أن هؤلاء الرواة الثلاثة الذين انتقدهم عليه أبو زرعة أنهم أيضًا لا ينزلون عن درجة القبول عنده .
وبالنسبة لكل راوٍ منهم سنتكلم عنها الآن :
أما بالنسبة لأسباط بن نصر : فالراجح فيه أنه صدوق ؛ وهذا هو الذي مال إليه الحافظ ابن حجر في " التقريب " حيث قال : صدوق كثير الخطأ يُغْرِب . يعني : في آخر مراتب القبول ، وقد أخرج له مسلم حديثًا واحدًا فقط .
وأما الراوي الثاني وهو قَطَن بن نُسَيْر : فالراجح فيه أيضًا عند مسلم أنه صدوق ، وقد أخرج له - مع ذلك – حديثين اثنين مقرونين بغيرهما ، وقلنا إن الاقتران هذا قد يفعله المحدث والناقد حتى مع الراوي الضعيف لأنه يعلن بذلك أنه لم يعتمد عليه أبدًا ، كما فعل الإمام البخاري .(1/3)
روى عنه حديثين ؛ أحدهما مقرونًا والثاني متابعة ولم يَسُقْ لفظه ؛ يعني الرواية الثانية لقطن بن نسير كانت في سياق المتابعات ، ولسوء حفظ قطن بن نسير عند مسلم لم يسق لفظ الرواية التي رواها عنه ، وإنما فقط اكتفى بالإسناد ، وسيأتي إن شاء الله أن من طرق مسلم في الإشارة إلى الإعلال هو ذِكْر السند دون المتن ، إذا ذَكَر السند دون المتن فهذا فيه إشارة إلى إعلال الحديث كما سيأتي إن شاء الله تعالى .
الراوي الثالث وهو أحمد بن عيسى : وهو في الحقيقة الذي فيه إشكال ؛ لأن أبا زرعة أشار إلى أنه كذاب كما سبق ، يقول أبو زرعة : ما رأيت أهل مصر يَشُكُّون في أن أحمد بن عيسى ، وأشار أبو زرعة بيده إلى لسانه كأنه يقول : الكذب .
هذا الراوي أولًا لم ينفرد مسلم بالإسناد عنه ، بل قد روى عنه أيضًا البخاري ؛ أحمد بن عيسى المصري ، وروى عنه أيضًا واحتج به الإمام النسائي ؛ على تَشَدُّده ، بل وقال عنه في مشيخته : لا بأس به .
إذًا هذا الراوي فيه خلاف شديد ، فلا يمكن أن يكون الإمام مسلم أخرج له لو كان يرى أنه كذاب ، وهذا يدل على أن انتقاد أبي زرعة لهؤلاء الرواة الثلاثة من باب اختلاف الاجتهاد ، لا يمكن أن نحتج بهذا التصرف من أبي زرعة أن مسلمًا أخرج لرواة ضعفاء يعلم هو نفسه أنهم ضعفاء ، ولكن أخرج لهم وهو يرى أنهم أهل للرواية عنهم ، وإن كان يعترف أنهم دون غيرهم في الضبط والإتقان .
وأقرب مثال على ذلك أحمد بن عيسى ، فإِنَّ أحمد بن عيسى لو كان كلام أبي زرعة فيه صحيحًا لما جاز لمسلم أن يُخرج له ؛ لا في الأصول ولا في المتابعات ولا في الشواهد ، لو كان كذابًا ، فإن الراوي الكذاب لا شك أنه بالاتفاق ليس من شرط كتب الصحاح ، فمسلم والبخاري إخراجهما لهذا الرجل مع توثيق النسائي له واحتجاجه به ، لا شك أنه يدل أن هذا الراوي فيه خلاف كبير .(1/4)
والحق يقال : إن القلب يميل إلى قبول هذا الراوي ، ويكفي هذا الراوي أن يحتج به البخاري ومسلم والنسائي ؛ على تشدده ، وخاصة النسائي ، وأذكر النسائي خاصة لأنه أولًا قد روى عن هذا الشيخ ولقيه بمصر ، فهو ممن خَبَرَهُ خِبْرَةً تامة ، أضف إلى ذلك أن النسائي ممن استقر في مصر ، وهو من أعرف الناس بالمصريين ، ومع ذلك قال عنه : لا بأس به ، واحتج به في كتابه " السنن " .
فدل ذلك على أنه لا يمكن أن يقبل فيه أي كلام ، وانظر إلى كلام أبي زرعة ، كأن أبا زرعة يعتمد في ذلك على نقل بعض الناس من أهل مصر ولم يسم لنا هؤلاء الناس ، ولا نعرف في مصر في زمن الإمام النسائي أعلم من النسائي ، فالنسائي هو أعلم من كان في عصره على رأس الثلاثمائة كما يقول الإمام الذهبي ، حتى إن الإمام الذهبي يقول : إنه لم يوجد على رأس الثلاثمائة أعلم من النسائي ، وهو في درجة البخاري وأبي زرعة في العلم ، فيقول : إنه يفوق في العلم الإمام مسلم وأبا داود والترمذي . ومع ذلك يوثق هذا الرجل أو يقول : لا بأس به . ويحتج به ، وهو من أهل مصر ، وهو شيخه ، مع احتجاج البخاري ومسلم له في صحيحيهما مع إمامتهما وجلالتهما .
الذي أُخذ على هذا الراوي ، يعني الذي ربما كان سبب ادعاء أنه كذاب : أنه قيل أنه يروي من كتب لم يسمعها .(1/5)
وهذا لا شك أنه ليس هو الوضع في المتون ؛ فَرْقٌ بين أن يروي الإنسان من كتاب لم يسمعه وبين أن يكذب في المتن على النبي عليه الصلاة والسلام ، يروي أحاديث لم يقلها النبي عليه الصلاة والسلام ؛ هذا إن صحت هذه الدعوى ، وأقصى ما يقال في هذا أنه كان يروي وجادة من الكتب ، وليس هذا مما يقتضي الطعن ، فما دام أنه عُدِّلَ من هؤلاء الأئمة الكبار : البخاري ومسلم والنسائي وغيرهم ، فإنه ليس من السهل أن نقبل فيه طعن ، خاصةً بالتكذيب ؛ لو أنه طعن بسوء الحفظ ، لو أنه بالتساهل في الأخذ ، كان يمكن وجدنا لذلك وجهًا ، لكن أن يتهم بالتكذيب مع اعتماد هؤلاء العلماء ؛ لا شك أن هذا فيه بُعد كبير .
ومما يدل حقيقةً على كثرة روايته لهذا الرجل من الرواة الثلاثة ؛ أنتم تلاحظون أن الراوي الأول - أسباط –ما أخرج له إلا حديثًا واحدًا ، قطن : ما أخرج له إلا حديثين ؛ واحد مقرون والثاني متابعة ، أما أحمد بن عيسى فأخرج له أربعة وثلاثين حديثًا ، أكثر هذه الأحاديث في المتابعة ؛ يعني يقول : حدثني أحمد بن عيسى وحرملة بن يحيى . حدثني أحمد بن عيسى وفلان . فهو يقرنه بغيره ، إلا أن هناك حديثًا واحدًا أخرجه في الشواهد أيضًا ؛ لا في المتابعات ، ولم يسقه إلا من رواية أحمد بن عيسى ، وهو حديث ?? أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى حِمَارًا مَوْسُومَ الْوَجْهِ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ ?? .
وهذا الحديث على كل حال أيضًا أحمد بن عيسى متابَع فيه على شيخه المباشر لكن خارج " صحيح مسلم " ، عند ابن حبان .(1/6)
فلا انتقاد على مسلم ، حتى لو كان هذا الراوي فيه كلام ، لا انتقاد على مسلم في شيء من الأحاديث التي رواها عنه ، فكل الأحاديث التي رواها عنه أوردها مقرونًا مع غيره إلا حديثًا واحدًا أخرجه في الشواهد ؛ لأن هذا الحديث أخرجه من حديث ابن عباس وهناك روايات أخرى - عن جابر وعن غيره بنفس معنى هذا الحديث – أخرجها مسلم في صحيحه ثم أخرج بعد ذلك رواية أحمد بن عيسى المذكورة ، ثم وجدنا أَنَّ أحمد بن عيسى متابعًا عند ابن حبان في صحيحه حيث روى الحديث من رواية أحمد بن عيسى وحرملة بن يحيى بإسناده إلى منتهى السند .
إذًا لا انتقاد في الحقيقة على مسلم بهؤلاء الرواة ، ولا دليل في كلام مسلم على أن صاحب الصحيح قد يُخرج للضعيف الذي يعرف ضعفه ، وهذا الذي نريد أن نقرره دائمًا ، وهو الذي قرره ابن طاهر المقدسي ، وقرره الحازمي قبل ذلك في كتابيهما عن شروط الأئمة الستة وشروط الأئمة الخمسة ، أنه حتى رواة المتابعات والشواهد لا ينزلون عن أصحاب الصحيح عن درجة القبول عندهما ، قد يخالفهما غيرهم ، لكن ... أن يكون الراوي ضعيفًا عند صاحب الصحيح ويُخْرِج له ؛ هذا أمر ليس مقبولًا في الصحيح ، ويكفي انتقاد أبي زرعة ، يعني لو احتج إنسان بأنه كيف أن جواب مسلم يدل على أن مسلم قد يُخرج لراوٍ ضعيف ؟
نقول له : إذًا لما انتقد أبو زرعة ، انتقاد أبي زرعة يدل على أن من شرط الصحيح ألا يُخرَج إلا لمن كان مقبول الرواية ، ووجه انتقاده أنه كان عنده أن هؤلاء الرواة في درجة الرَّدِّ ، بخلاف مسلم الذي كان يرى أنهم ما زالوا في درجة القبول ؛ وهذا هو وجه إخراج الإمام مسلم لأمثال هؤلاء الرواة .
ما دام أننا تَطَرَّقْنَا إلى الرواة ومراتبهم كما ذكرنا .
نذكر الرواة الذين انتقدوا على مسلم ، وبعض الإحصائيات التي ذكرت في ذلك :
للإمام الحاكم - كم ذكرنا - كتاب مهم في رجال الصحيحين وفي مواضيع أخرى وهو كتاب :(1/7)
" المدخل إلى معرفة الصحيح من السقيم وما أَشْكَل من رجال الصحيحين " .
عقد في هذا الكتاب المهم الجليل من كتب الحاكم بابًا بعنوان : " باب من عِيبَ على مسلم الإخراج لهم في الصحيح " ؛ " باب من عِيبَ " أي : أُخذ على مسلم أنه أخرج لهم في الصحيح ، أورد في هذا الباب ثمانية وتسعين راويًا ، وتكلم عنهم وحاول أن يعتذر عن كل راوٍ من هؤلاء الرواة .
وسبق أن ذكرنا إحصائية أخرى ذكرها الحافظ ابن حجر عندما وازن بين البخاري ومسلم في الصحيح ؛ فذكر أن عدد الرواة الذين انتُقِدوا على البخاري نحو الثمانين ، وعدد الرواة الذين انتُقِدوا نحو المائة والستين ؛ يعني الضعف .
لكني في الحقيقة كما ذكرت لكم سابقًا قمتُ بإحصائية في كتاب هو أوسع كتاب في ذِكر من انتُقِدوا على الصحيحين ، هو كتاب " البيان والتوضيح " ، فتبين لي إحصائية أخرى وهي أن البخاري قد أخرج لثلاثمائة وسبعة وخمسين راوٍ مُنْتَقَد ، وأما مسلم فأخرج عن أربعمائة وواحد وثلاثين راوٍ مُنْتَقَد .
طبعًا نبهت في لقاءنا الماضي وفي السنة الماضية وذكرت هذه الإحصائية أيضًا أن غالب هذه الانتقادات انتقادات لا تعود بالضعف في الراوي ولا عند بعض المنتقِدين أنفسهم ، انتقادات يسيرة جدًّا لا علاقة لها في بعض الأحيان بالقبول أو الرد ، فهذه الأعداد في الحقيقة لا تمثل المنتقَدين بالفعل ، وإنما هي إحصائيات من خلال كتاب اشترط أن يذكر كل من تُكُلِّم فيه ولو بأدنى كلام ، بأدنى عيب ، بأدنى لَمْز ، ولو كان هذا اللَّمْز أو العَيْب لا علاقة له بقبول روايته أو ردِّها .
ومن هنا يمكن أن نتطرق إلى قضية المفاضلة بين البخاري ومسلم من جهة الرواة :(1/8)
لا شك أن هذه الإحصائية تبين أن عدد الرواة المنتقَدين على البخاري أقل من عدد الرواة المنتقَدين على مسلم ، سواء اعتمدنا الإحصائية التي ذكرها الحافظ أو الإحصائية التي ذكرتها من خلال كتاب " البيان والتوضيح " لأبي زرعة العراقي ، الحافظ ابن حجر لم يعتمد في تفضيل البخاري على مسلم على هذه الإحصائية فقط ؛ بل بَيَّن أن من وجوه تقديم البخاري على مسلم من جهة الرواة أن البخاري يُقل من الإخراج للرواة الذين انتُقِدوا ، بخلاف مسلم فإنه يُكثر الرواية عن الرواة الذين انتُقِدوا ، وكأن منطق البخاري ومسلم في ذلك أن البخاري يقول : ما دام أن هذا الراوي مُنْتَقَد - ولو كان عندي ثقةً - فإني أَحْرِص ألا أُخْرِج له إلا القليل خُرُوجًا من الخلاف .
أما مسلم فوجهة نظره يقول : ما دام أن هذا الراوي صحيح عندي في أنه مقبول ، فلا عليَّ فيمن تكلَّم فيه ، فسوف أُخْرِج له كل ما شئتُ من الروايات .
فانظر إلى كلا المنهجين : منهج البخاري لا شك في هذه الحالة أكثر احتياطًا من منهج مسلم ؛ ولا شك .
الآن ذكرنا سببين من أسباب ترجيح البخاري على مسلم ؛ من ناحية الزيادة في العدد والنقل ، من ناحية أن البخاري يُقِل من إخراج الرواية لهم ، وأما مسلم فيُكثر من الرواية لهم ، سبب ذلك هو أن نسبة مَن أَخْرَج لهم البخاري ممن تُكُلِّم فيهم من شيوخه أكثر ممن أَخْرَج لهم الإمام مسلم وهم من شيوخهم المُتَكَلَّم .
يعني - بالإحصائية أيضًا – أن عدد الذي تُكُلِّم فيه من شيوخ البخاري بلغ اثنين وستين راوٍ ؛ اثنان وستون من ثلاثمائة وسبعة وخمسين ، وعدد الذين تكلم فيهم من شيوخ مسلم اثنان وثلاثين من أربعمائة وواحد وثلاثين .
ما هو وجه ترجيح صحيح البخاري على مسلم من هذه الناحية ؟!(1/9)
عدد الذين تُكُلِّم فيهم من شيوخ البخاري اثنان وستين ، وأما مسلم فاثنان وثلاثين ، يعني نقص ثلاثين راوٍ ، قرابة النصف يعني ، كأنه الضِّعْف ، فما هو وجه ترجيح صحيح البخاري على مسلم من هذه الحيثية ؟ مع أنه قد يتبادر في الذهن أنه بالعكس ، هذا داعٍ لترجيح مسلم على البخاري ؟!
بيَّن ذلك الحافظ ابن حجر في " النزهة " بأن الراوي إذا كان من شيوخ البخاري ومسلم فسيكون البخاري ومسلم أعلم به من غيرهما ، فإذا رجَّح البخاري ثقته سيكون كلامه فيه أولى من كلام من جاء بعده ممن لم يتتلمذ على هذا الشيخ لأن الرجل أعرف بشيوخه ، لذلك نعتبر أن الراوي إذا تُكُلِّم فيه وهو من شيوخ البخاري أن الأرجح والأقوى أنه ثقة ؛ لأن البخاري أعرف به من غيره ، لذلك نعتبر هذا وجهًا من وجوه الترجيح : عدد الرواة الذين انتُقِدوا وهم من شيوخ البخاري أكثر من الرواة الذين انتُقِدوا من شيوخ مسلم ؛ هذا وجه من وجوه ترجيح - أيضًا - البخاري على مسلم .
وجه آخر أضافه الحافظ في " النكت " لم يذكره في " النزهة " ومتعلق بالرواة أيضًا ، قال : إن البخاري لا يكاد يُخْرِج لهؤلاء المتكلم فيهم إلا في المتابعات ، أما مسلم فيُخْرِج لهم في الأصول .
هذا من أوجه الترجيح البخاري على مسلم من جهة الرواة ، وبذلك أجيب عن سؤال دائمًا أُسأل عن ؛ لما قررنا أن شرط البخاري ومسلم في العنعنة واحد .
فكثيرًا ما أُسأل : فما هو وجه تقديم البخاري على مسلم إذًا ما دام أن شرط الاتصال واحدًا ؟
فنقول : هناك أوجه أخرى للتقديم ومن بينها : الفرق في ناحية الرواة كما ذكرنا لكم الآن ، أضف إلى ذلك - يأتي إن شاء الله - أن عدد الأحاديث المعلَّلة في مسلم - كما ذكرنا أيضًا – أكثر من عدد الأحاديث المعلَّلة في البخاري ، وترجيحات أخرى .(1/10)
ثم لنفترض أنه آل بنا الأمر إلى أن نقول بأن البخاري ومسلم في مستوى واحد ، وأنهم على درجة واحدة من الصحيح ، هل في هذا إشكال ؟ ما في إشكال ، سبقنا إلى ذلك - أقل شيء - أبو علي النيسابوري عندما قال : لا أعلم كتابًا تحت أديم السماء أصح من كتاب مسلم . فتَأَوَّل الحافظ ابن حجر عبارته بأنه قصد بأنهما بمستوى واحد ، أو أن عبارته لا تدل على أكثر من كونهما بمستوى واحد ، فهذا ليس قولًا جديدًا ولا مبتَدَعًا ، لو قلنا به - لا أقول به – لكن لو قلتُ به فإنه وجه وهناك من قال به من أهل العلم ممن عرفوا صحيح البخاري ومسلم .
نقف أيضًا مع الرواة المبتدعة في " صحيح مسلم " :
كما وقفنا معهم في " صحيح البخاري " ، فقد أخرج أيضًا لجماعة من المبتدعة وللدعاة من بعض المبتدعة مثل : شبابة بن سوار ، وعبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد وهما من دعاة المرجئة ، وأيضًا : عبد الله بن أبي نجيح وهو من دعاة القدر ، والتَّشَيُّع مثل عدي بن ثابت .
وسنقف مع عدي بن ثابت لأن إخراج مسلم له يعطينا مثالًا صحيحًا لشرط قبول رواية الراوي المبتدع الداعية ؛ لأن الإمام مسلمًا أخرج لعدي بن ثابت في ظاهره يؤيد البدعة .
وقد ذكرنا – سابقًا - أن من شرط قبول رواية المبتَدِع :
أولًا : ألا يكون مُكَفَّرًا ببدعته على التعيين .
ثانيًا : ألا يكون معانِدًا ، يعني أن يكون مُتَؤَوِّلًا غير معاند .
ثالثًا : ألا يروي حديثًا منكرًا يؤيد البدعة .(1/11)
الآن نذكر لكم مثالًا ينطبق عليه هذه الشروط الثلاثة بكل وضوح ؛ فقد أخرج مسلم لهذا الراوي وهو عدي بن ثابت ، وهو قيل عنه إنه داعية ، وقيل عنه إنه من غلاة الرافضة ، فهو مبتدع من الدرجة الأولى ، مع ذلك أخرج له الإمام مسلم حديثًا في ظاهره يؤيد البدعة ؛ لأنه أخرج له من طريق عدي عن زِرٍّ عن علي بن أبي طالب عن النبي عليه الصلاة والسلام قال لعليٍّ : ?? وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسْمَةَ إِنَّهُ لَعَهْدُ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ إِلَيَّ ؛ إِنَّهُ لَا يُحِبُّكَ إِلَّا مُؤْمِنٌ وَلَا يُبْغِضُكَ إِلَّا مُنَافِقٌ ?? .
هذا الحديث في فضل علي بن أبي طالب ، فظاهره أنه يؤيد البدعة ، وأخرجه مسلم لراوٍ مبتدع داعية وفيه غُلُوٌّ ، كما نص بعض أهل العلم ؛ فما هو وجه إخراج مسلم له ؟!
- أنه اختل شرط أو فقرة من شرط من شروط رد رواية المبتدع ، وهو أن هذا الحديث وإن كان يؤيد البدعة لكنه ليس منكرًا ، لماذا ليس منكرًا ؟ هل يشك أحد أنه لا يحب عليَّ بن أبي طالب إلا مؤمن ولا يبغضه إلا منافق ؟ هل في هذا شك ؟ ليس في هذا شك ، بل هذا لا يخص علي بن أبي طالب ؛ كل أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام : ?? وَاللهِ لَا يُحِبُّهُمْ إِلَّا مُؤْمِنٌ وَلَا يُبْغِضُهم إِلَّا مُنَافِقٌ ??(1)، ألم يقل النبي عليه الصلاة والسلام : ?? آيَةُ الْإِيمَانِ حُبُّ الْأَنْصَارِ ، وَآيَةُ النِّفَاقِ بُغْضُ الْأَنْصَارِ?? .
فالحديث وإن كان في ظاهره يؤيد البدعة لكنه ليس فيه نكارة ، فقد ثبت لعلي بن أبي طالب من الفضائل ما هو أعظم من هذا الحديث ؛ لأن له خصائص اختُصَّ بها دون بقية الصحابة ، أما هذا الحديث فيعمه هو والصحابة الآخرين ، لذلك أخرجه الإمام مسلم وإن كان من رواية مبتدع ، وإن كان في ظاهره يؤيد البدعة ، وإن كان داعية للمبتدع ، لكن هذا الحديث :
__________
(1) أول هذا الحديث : ?? الْأَنْصَارُ لاَ يُحِبُّهُمْ إِلاَّ مُؤْمِنٌ .. ?? .(1/12)
الأمر الأول : هذا الراوي ليس معانِدًا ، كان مُتَؤَوِّلًا يظن نفسه على حق وهو ليس على حق ، ولا شك .
الأمر الثاني : أن هذا الحديث ليس منكَرًا ، ولذلك أخرجه مسلم من طريقه .
وبذلك تَعْرِف بالفعل أن هذه الشروط الثلاثة التي ذكرتها لكم أنها تحل إشكال رواية المبتدع في الصحيحين ، ولا ينحل هذا الإشكال إلا بهذه الشروط الثلاثة ؛ من قال بأنه داعية أو قال كذا أو الشروط التي ذكرها الحافظ ابن حجر وحده ؛ هذه كلها تُبقي في المسألة إشكالًا ، لأنهم قد أخرجوا لبعض الدعاة ، قد أخرجوا أحاديث تؤيد البدعة ، فلا بد أن نُقَيِّد بأن المقصود بالمبتدع هو المعانِد ، وأن نُقَيد بأن الرواية التي تُرد للمبتدع أنها تكون منكرة تؤيد البدعة ، طبعًا ولذلك تفاصيل ليس هذا وقت ذكرها .
وبذلك ننهي من قضية شرط الرواة التي هي العدالة والضبط .
ونقف الآن مع " شرط انتفاء العلة " .
لا شك أن انتفاء العلة شرط عند مسلم وغيره ، وللإمام مسلم كتاب اسمه " التمييز" كله بناه على بيان أن العلل الخفية تقدح في صحة الحديث ، وهو كتاب طُبِعَتْ قطعة مباركة منه طيبة لأن الباقي في حكم المفقود ، وملأ الكتاب بذكر أحاديث مُعَلَّة ، وبَيَّنَ أنها بسبب هذه العلل رُدت ، وبعضها مِن رواية مَن الأصل فيه القبول ، يعني أسانيد في ظاهرها الصحة ، لكن لكون الراوي أخطأ أو وَهِمَ - بأدلة الخطأ أو الوهم المختلفة التي يذكرها الإمام مسلم في هذا الكتاب الجليل له - رَدَّها ، فلا شك أن اشتراط العلة عند مسلم وارد .
وقد بَيَّنَ مسلم أن له منهجًا خاصًّا في كتابه بخصوص العلل ، وله عبارة لا بد أن نقف منها ، وهي قوله في مقدمة " الصحيح " .
يقول الإمام مسلم في مقدمة صحيحه :(1/13)
" قَدْ شَرَحْنَا مِنْ مَذْهَبِ الْحَدِيثِ وَأَهْلِهِ بَعْضَ مَا يَتَوَجَّهُ بِهِ مَنْ أَرَادَ سَبِيلَ الْقَوْمِ وَوُفِّقَ لَهَا وَسَنَزِيدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى شَرْحًا وَإِيضَاحًا فِي مَوَاضِعَ مِنْ الْكِتَابِ عِنْدَ ذِكْرِ الْأَخْبَارِ الْمُعَلَّلَةِ "
فظاهر هذه العبارة أنه سيذكر أخبارًا معللة في كتابه .
ثم يقول : " إِذَا أَتَيْنَا عَلَيْهَا فِي الْأَمَاكِنِ الَّتِي يَلِيقُ بِهَا الشَّرْحُ وَالْإِيضَاحُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى "
هذه العبارة ظاهرها أنه سيذكر أحاديث مُعَلَّة ويبين عللها في كتابه .
اختلف بعض أهل العلم في هذه العبارة :
فذهب الحاكم والبيهقي وبعض من تابعهما إلى أن الإمام مسلمًا توفي قبل أن يتمم هذا المشروع ، وأنه لما أخرج الأحاديث الصحيحة ... وكان يريد أن يتمم الكتاب ويذكر القسم الثاني وهو الأحاديث المعلَّة اخْتَرَمَتْهُ المنية فلم يستطع أن يُكْمِل هذا المشروع الذي ذكره .
وذهب آخرون من أهل العلم وعلى رأسهم أبو مسعود الدمشقي صاحب كتاب " أطراف الصحيحين " ، والقاضي عياض ، والنووي ، وجمع كبير ممن جاء بعدهم ، إلى أن مسلمًا قد وَفَّى بهذا الشرط ، وأنه قد أخرج أحاديث مُعَلَّة وبَيَّنَ عللها في " الصحيح " .
الحمد لله أن مسألة الخلاف في كتاب موجود بين أيدينا حتى نستطيع أن نرجح ، لو أن الكلام كان في كتاب مفقود لَمَا استطعنا أن نُرَجِّح ، لكن كتاب مسلم موجود .
هل أخرج مسلم أحاديث وأعلها بالكتاب ؟
لا شك أنه قد أخرج أحاديث وأَعَلَّها بالكتاب ، وسنذكر الآن الأدلة الدالة على هذا الأمر .
أولًا : صرح مسلم ببعض العلل في صحيحه ، ولا بأس أن نذكر بعض الأرقام وترجعون إليها أنتم الآن إن شاء الله أو في أي وقت .
فمثلًا الأحاديث التي صرح مسلم ببعض الأخطاء والعلل فيها في صحيحه :
الحديث رقم [711] ، والحديث رقم [450] ، والحديث رقم [1471] .(1/14)
هذه أحاديث يصرح مسلم فيها بعللها في صحيحه ، فما يمكن أن يختلف بعد ذلك اثنان أن مسلمًا قد أخرج أحاديث وبَيَّن عللها في " الصحيح " ، نفس صاحب " الصحيح " يخرجها ، وسيأتي أمثلة الآن نقرأها من هذه العلل عندما نذكر منهج الإمام مسلم في بيان العلل ، يعني هنا فقط أذكر أرقامًا وبعد ذلك نذكر أمثلة واقعية لطريقة إبراز مسلم للعلل .
ثانيًا : أيضًا دليل آخر غير كلام الأئمة وغير إعلال مسلم الصريح ، مع أنه في الحقيقة إعلال مسلم الصريح في " الصحيح " هذا كافٍ لإثبات أنه قد وَفَّى بشرطه وأنه لم تَخْتَرِمْهُ المنية ، وأدلة ذلك متعددة ، لكن أيضًا هناك حديث أخرجه مسلم في " الصحيح " وهو نفسه أعلَّه في كتابه " التمييز " ، هذا الحديث هو الحديث رقم [1669] وأعله الإمام مسلم في كتابه " التمييز "(1)؛ هذا حديث آخر أخرجه مسلم في الصحيح وأعله هو نفسه في " التمييز " .
طبعًا قضية أنه اخْتَرَمَتْهُ المنية ولم يُكمل " الصحيح " هذا فيه بُعد ؛ لأن مسلم كما ذكرنا انتهى من تأليف " الصحيح " سنة كم ؟ مائتين وخمسين ، كم مكث حتى توفي ؟ إحدى عشرة سنة ؛ لأنه توفي سنة مائتين وواحد وستين ، ففي خلال الإحدى عشرة سنة هذه ما استطاع أن يُكمل الكتاب ؟! هو أَلَّفَ الكتاب كاملًا في خمس عشرة سنة ، فإحدى عشرة سنة لا تكفي لإكمال المشروع ؟! أضف إلى ذلك أن راوي " الصحيح " عنه – الذي هو إبراهيم محمد بن سفيان الذي يروي " صحيح مسلم " – انتهى من سماع " صحيح مسلم " سنة مائة وسبعة وخمسين ، يعني انتهى من سماع " الصحيح " قبل وفاة مسلم بأربع سنوات .
أيضًا هذا دليل آخر أن كلام الحاكم – الحقيقة – ومن تَبِعَهُ مستبعَد غاية الاستبعاد.
__________
(1) انظر التمييز ( ص 191 ، 192) .(1/15)
ثالثًا : ثم أيضًا من الأدلة الصريحة والواضحة : أن بعض الأحاديث التي أخرجها مسلم ظاهرة العلة لا يمكن أن يختلف فيها اثنان أنه لا يمكن أن يُصَحَّح كلا الحديثين ، أوضح مثال لذلك حديث صلاة الكسوف ؛ حيث أخرجه الإمام مسلم من حديث عائشة أن صلاة الكسوف صفتها - طبعًا قبل ذلك نقرر أن صلاة الكسوف إنما صلاها النبي عليه الصلاة والسلام على الصحيح مرة واحدة في حياته يوم وفاة ابنه إبراهيم - كما هو مشهور في قصة مشروعية صلاة الكسوف ، ومع ذلك أورد الإمام مسلم ثلاث صفات لهذه الصلاة ، هي صلاة واحدة ومع ذلك أورد لها ثلاث صفات .
والصفة الأولى التي هي الصفة المشهورة : رُكُوعَانِ فِي كل ركعة ؛ هذه الصفة الأولى وهي حديث عائشة . وأخرجه أيضًا من حديث عائشة أنها ست ركعات ؛ يعني في كل ركعة ثلاث ركوعات . وأخرجه من حديث جابر أنها أيضًا ست ركعات ؛ يعني في كل ركعة ثلاث ركوعات . وأخرجه من حديث ابن عباس برواية مثل حديث عائشة ، ورواية أخرى أنها ثماني ركعات ؛ يعني في كل ركعة أربعة ركوعات .
يعني : حتى لا يأتي إنسان ويقول : ما أدراكم أن النبي عليه الصلاة والسلام ما صلى صلاة الكسوف إلا مرة واحدة ، مع أن هذا بعض أهل العلم نقل عليه الإجماع ؟(1/16)
لكن هذا الإجماع مُنْخَرِم في الحقيقة ؛ لأنه في من قال : يُحتمل أن النبي عليه الصلاة والسلام صلى هذه الصلاة أكثر من مرة ، وإن كان هذا القول لِفِئَام قليل جدًّا من أهل العلم ، أما أغلب أهل العلم فيقولون لم يصلها إلا مرة واحدة في حياته عليه الصلاة والسلام ، فالذي يرد على هذا الاحتمال ردًّا صريحًا أن حديث جابر الذي ورد فيه أنه صلى ست ركعات صرح في الرواية نفسها أنه في يوم وفاة ابنه إبراهيم ، مثل حديث عائشة الذي صُرح فيه أنه يوم وفاة ابنه إبراهيم ، إذًا حتى لو كان صلاها صلوات متعددة لكن الآن في قصة واحدة وردت هيئتان ؛ هيئة بأربعة ركوعات وهيئة بستة ركوعات ، فهل يمكن أن يتصور عاقل أن مسلم أخرج هذه الروايات ويتصور صحتها جميعًا ، هل يمكن أن يقول هذا أحد ؟! لا يمكن ، ولذلك نقول : هذا دليل جديد قاطع بأن مسلمًا أخرج هذه الروايات لبيان الاختلاف والتعليل ؛ وهذا تصرف صريح وواضح للإمام مسلم لهذه المسألة .
إذن تَبَيَّنَ عندنا الآن أن الإمام مسلم قد يخرج الحديث ليبين علته ، فما هي طريقة بيان الإمام مسلم للعلل ؟
الطريقة الأولى : أن يَحذف موطن العلة من الحديث ويُصَرِّح به ، يعني : يُورد الحديث كاملًا فإذا جاء إلى موطن العلة فيه يحذفها ، ثم يُبَيِّن أنه حذفها لأن فيه علة ؛ وهذا أيضًا من المواطن التي يصرح فيها بالتعليل .
مثال ذلك : أنه أخرج من حديث أبي قتادة الأنصاري : ?? أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ عَنْ صَوْمِهِ وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ ، قَالَ : ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ وَيَوْمَ بُعِثْتُ ?? .
انظر الترجمة!! قال مسلم : وفي هذا الحديث من رواية شعبة قال : ?? وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ ?? فسَكَتْنَا عن ذِكر يوم الخميس لِمَا نراه وهمًا .(1/17)
كلام صريح ! يقول : تركتُ ذكر يوم الخميس لأني أعتبر أن هذه الزيادة وهمًا ؛ هنا صرَّح مع أنه أورد الحديث بالإسناد الذي فيه هذه اللفظة ، لكن لو حذفها من المتن وصرح لما حذفها من المتن وهي لكونها وهمًا ؛ هذا في كتاب " الصحيح " .
الطريقة الثانية لإبراز العلة في " الصحيح " : أن يحذف موطن العلة من الحديث ولا يصرح به .
وهذه أكثر غموضًا ؛ الأولى يحذف ويُصَرِّح ، الثانية يحذف ولا يصرح .
مثال ذلك : الحديث الذي ذكرنا أنه ذكره في كتاب " التمييز " وأعله وهو حديث أخرجه من طريق الزهري عن سعيد عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في حديث : ?? فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا ?? .
أخرجه من طريق ابن عيينة ولم يذكر لفظ ابن عيينة ؛ لأن ابن عيينة قال بدل كلمة ?? فَأَتِمُّوا?? ، ??فَاقْضُوا ?? . بَيَّن الإمام مسلم في " التمييز " أن هذه اللفظة وهم وأنها ليست صحيحة ، ولذلك سكت عنها في صحيحه ولم يورد لفظ ابن عيينة .
حتى لا يقول قائل : ما أدراكم أنه لما سكت سَكَتَ للاختصار ؟
نقول : لا ، صرح في كتابه " التمييز " أنها وهم ، ولذلك تركها ، وبذلك نعرف أن من منهج الإمام مسلم أنه إذا سكت عن اللفظ ربما سكت عنه لأنه وهم وخطأ ، وليبين أنه فيه علة ؛ هذا منهج آخر للإمام مسلم في بيان العلل .
الطريقة الثالثة : أن يُخْرِج طرفًا من الرواية المُعَلَّة ويختصر باقيها .
ومن أمثلة ذلك : الحديث المشهور حديث الإسراء والمعراج الذي أخرجه البخاري كاملًا ؛ رواية شَرِيك بن عبد الله بن أبي نَمِر عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - ، وقد أورد الإمام البخاري هذه الرواية كاملةً ، أما مسلم فأخرج هذا الحديث أول السند وبداية المتن ، يعني اكتفى بقوله :(1/18)
?? سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يُحَدِّثُنَا عَنْ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَسْجِدِ الْكَعْبَةِ أَنَّهُ جَاءَهُ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ وَهُوَ نَائِمٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ... ??
وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِقِصَّتِهِ نَحْوَ حَدِيثِ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ وَقَدَّمَ فِيهِ شَيْئًا وَأَخَّرَ وَزَادَ وَنَقَصَ .اهـ.
انظر !! يشير إلى مخالفات شريك بن أبي نمر لثابت البناني : اكتفى بسياق الإسناد وطَرَف المتن ، واختصر المتن ، وبَيَّنَ أن هناك خلاف بقوله أن شريك قدَّم وأخر في المتن وزاد ونقص .
وهذه إشارة صريحة وواضحة منه إلى أنه إنما ترك هذا اللفظ لما فيه من المخالفات لرواية ثابت البناني ، ثابت من أوثق الناس في أنس بن مالك ، فحديثه يُقدم على حديث شريك بن أبي نمر .
الطريقة الرابعة : أن يذكر الإسناد دون المتن .
ولذلك أمثلة متعددة يمكن ترجعون إلى " هدي الساري "(1)، الحافظ ذكر أن هذا منهج الإمام مسلم وضرب له أمثلة ، إذًا حتى الحافظ ابن حجر كما ذكرنا ممن يرى أن الإمام مسلم أخرج أحاديث مُعلَّة بدليل هذين الموطنين في " هدي الساري " .
الطريقة الخامسة : من طرائق الإمام في بيان العلة أن يذكر الشيء وضده .
__________
(1) انظر هدي الساري ص377 ، ص402 .(1/19)
سواء كان الاختلاف في الإسناد كأن يكون الحديث روي موصولًا مرسلًا ومتصلًا ، موقوفًا ومرفوعًا ، فيخرج الوجهين ليبين أن فيه خلاف ، وأن هذا الحديث فيه اختلاف بين الرواة ، وأيضًا في المتن كما سبق في حديث الكسوف ، لَمَّا صار في تضاد في المتن يخرج الوجهين ليبين أن هذا الحديث فيه اختلاف ، وأيضًا مثال آخر في المتن الذي ذكرناه بالأمس حديث اضجاعة الفجر وهل هي قبل راتبة الفجر أو بعد راتبة الفجر ، فقد قام مسلم بإخراج رواية مالك وبجَمْع من الرواة الذين خالفوه في هذا اللفظ ليبين أن هذه الرواية من مالك وهم وأنه قد أخطأ في هذه الرواية .
يبقى قضية مهمة بعد أن بينا أن من منهج الإمام مسلم أن يخرج الأحاديث المعلة : أنه ظاهر كلام الإمام مسلم في الموطن الثالث وموطن آخر أنه يبتدئ بالأحاديث التي لا علة فيها ويؤخر الأحاديث المعلة في آخر الباب ، فهل التزم مسلم بهذا الترتيب تمامًا؟
الذي يظهر لي أنه لم يلتزم بهذا الترتيب على الصراط ، قد يكون هذا هو الغالب في كتابه أنه إذا ذكر حديثًا معلًّا فإنه يؤخره عن الحديث الصحيح ولكن هناك بعض المواطن ابتدئ بالحديث المُعَلِّ مثل حديث اضجاعة الفجر الذي رواه مالك ؛ فإنه صدَّر به الباب ، ثم أورد الرواية الأخرى التي تخالف الإمام مالك ، مما يدل على أنه لم يلتزم هذا الترتيب في كتابه ، وإن كان يمكن أن يقال بعد الاستقراء ، وأنا لم أقم بهذا الاستقراء ، والأمر يحتاج إلى بحث عميق جدًّا ، وهو أن تُدرَس أبواب مسلم على هذا المنهج لنعرف ما هي الأحاديث التي أخرجها الإمام مسلم ليبين علتها ؟ وما هي طريقة إعلاله لها ؟ وما هو رأيه فيها ؟(1/20)
طبعًا بعد أن انتهيتُ من هذا الكلام أنبه إلى أن ذلك لا يعني أن مسلمًا جعل كتابه كتابًا في العلل ، هو سماه " الصحيح " ، لكنه – كما ذكرت – أنه قد يخرج الأحاديث الْمُعَلة في بعض الأحيان ويبين عللها ، ولا يخرجه ذلك عن أن يكون من كتب الصحاح وليس من كتب العلل ، وقد سبق أن الإمام البخاري فعل ذلك ، والحافظ ابن حجر كان ينبه إلى أن البخاري قد يخرج أحاديث لبيان علتها ونفس البخاري أخرج بعض الأحاديث وأعلها كما سبق ، فكون صاحب " الصحيح " يُخرج في بعض الأحيان أحاديث ويبين عللها لا يعني ذلك أن كتابه خرج عن موضوعه الأصلي ، وإنما يضيف هذه الفوائد لينبه على علل تلك الأحاديث وليبين لِمَا اختار هذه الرواية – يعني التي صححها – دون الرواية الأخرى التي تخالفها ، حتى لا يقول قائل : لماذا لم يخرج الرواية الأخرى لعلها أصح ؟ لينَبِّهك بذلك إلى أنه كان على علم بالخلاف وأنه ما اختار هذه الرواية إلا على علم وفهم وإحاطة باختلاف الرواة ، وأن هذا الاختيار كان بناءً على اتباع القواعد الصحيحة بالقبول والرد .
ما هو عدد الأحاديث المعلة في " صحيح مسلم " ؟
سبق أن ذكرنا بأنها في كتاب " التتبع " بلغت أربعة وتسعين حديثًا ، منها حديث في مقدمة " صحيح مسلم " ، وهنا ننبه إلى قضية مهمة ، وهي أن مقدمة " صحيح مسلم " لم يشترط فيها الصحة ، وهذا أمر مهم جدًّا لمن يتعامل مع كتاب " مسلم " ، وقد أورد في هذه المقدمة بعض الرواية وبعض الرواة الذين هو نفسه يضعفهم ، وقد ضعف عددًا منهم في نفس هذه المقدمة ، فالمقدمة شأنها شأن آخر غير شأن بقية " الصحيح " ، ولذلك يميزون العلماء بين من أخرج له مسلم في المقدمة ومن أخرج لهم في " الصحيح " ، فمثلًا المزي وابن حجر إذا أرادا أن يذكرا الراوي الذي أخرج له مسلم في " الصحيح " ، ما هو رمز مسلم عند المزي ؟
(م) .
طيب! إذا كان في المقدمة ؟
(مق) .
لماذا هذا التفريق ؟(1/21)
لأنه في فرق بين منهج مسلم في المقدمة وبين منهجه في " الصحيح " ، لو كان الشرط واحد ما كان في داعي لهذا التمييز ، لكن لأنه في فرق في الشرط ميز العلماء بين المقدمة و" الصحيح " .
المقصود أن عدد الأحاديث المعللة عند مسلم أربعة وتسعين ، منها حديث واحد في المقدمة ، إذًا يصير عدد الأحاديث ثلاثة وتسعين في الحقيقة ؛ التي في " الصحيح " ثلاثة وتسعين حديث .
وقد دافع العلماء عن هذه الأحاديث ، ومن أقدم من دافع عن هذه الأحاديث أبو مسعود الدمشقي إبراهيم محمد بن عبيد ، توفي سنة أربعمائة وواحد من الهجرة في كتاب سماه : " كتاب جواب أبي مسعود إبراهيم محمد بن عبيد الدمشقي لأبي الحسن الدارقطني عما بين فيه غَلَطَ أبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري تغمده الله برحمته " . هذا عنوان الكتاب وقد طبع بعنوان " الأجوبة " لأبي مسعود المشقي .
ذكر فيه خمسة وعشرين حديثًا ، يعني دافع عن خمسة وعشرين حديثًا من ثلاثة وتسعين حديثًا ، وبين في بعضها أن الصواب مع مسلم ، وبَيَّن في بعضها أن الدار قطني ما أراد الإعلال وإنما أراد أن يبين الاختلاف وإلا فهو موافق لمسلم في صحة الحديث ، وبَيَّنَ في بعضها أن مسلمًا إنما أخرج بعضها لبيان العلة ، فيكون في ذلك في الحقيقة لا خلاف بينه وبين الدار قطني ؛ الدار قطني يُعِل ومسلم أيضًا إنما أخرج الحديث من أجل أن يعله ، فليس في ذلك انتقادًا على الإمام مسلم عليه رحمة الله .(1/22)
وممن دافع أيضًا عن الإمام مسلم في انتقادات الدارقطني له الإمام النووي في شرحه لـ" صحيح مسلم " ، وأيضًا هناك الكتاب الذي ذكرناه سابقًا وهو كتاب " بين الإمامين مسلم والدار قطني " للدكتور ربيع المدخلي والذي هو أيضًا مختص بهذا الجانب حيث حصر الأحاديث التي انتقدها الدارقطني على الإمام مسلم ، ودافع عن الإمام مسلم ، أو درسها دراسة مستفيضة ونافعة ، وقد خَرَج بالنتيجة التي لا بأس أن أقرأ عليكم ملخصها كما ذكر ذلك في خاتمة كتابه .
يذكر إحصائية ، يقول :
إن أنواع الأحاديث التي انتقضها الدارقطني على مسلم أربعة أنواع :
النوع الأول : انتقاد مُوَجَّه إلى أسانيد معينة إلا أن متن الحديث ليس فيه علة .
يعني حتى الدارقطني لا يخالف في صحة متن الحديث .
عبارة الدكتور ربيع يقول :
" انتقاد موجه إلى أسانيد معينة فيُبدي لها عللً - أي الدارقطني – من إرسال أو انقطاع أو ضعف راوٍ أو عدم سماع أو مخالفته ، ويتبين في ضوء الدراسة والبحث أنه غير مصيب فيما أبداه من علة " .
يعني : هو يُعل هذه العلل في الإسناد ثم بعد الدراسة يتبين أن هذه الانتقادات ليست صحيحة وأن رأي مسلم هو الصحيح .
يقول : وعدد هذه الأحاديث أربعين حديثًا .
هذا القسم الأول : عدده أربعين حديثًا ، وبذلك نعرف أنه ما يحق للإمام مسلم منها عيب ، بالعكس ؛ المنتقِد هو المختلط بذلك وهو الدارقطني .
النوع الثاني : انتقاد مُوَجَّه إلى الأسانيد ويكون مصيبًا فيما أبداه - نقد موجه إلى الإسناد ويكون مصيبًا فيما أبداه - لكن تأثيره قاصر على الإسناد دون المتن ، فهي علل إسنادية لا تؤدي إلى ضعف المتن ، يبقى المتن صحيحًا .
قال : وعدد هذه خمسة وأربعون حديثًا ، أربعون وخمسة وأربعين : خمسة وثمانين .
يقول : انتقاد موجه إلى المتن .
- كأن يدعي في حديث ما أنه لا يصح إلا موقوفًا ولم يثبت رفعه ، لكن يكون الصواب مع الدارقطني
ويقول : وعددها ثمانية أحاديث فقط .(1/23)
- التي هي انتقادات تعود إلى المتن والصواب مع الدارقطني .
النوع الرابع : انتقاد موجه إلى المتن لكن الصواب فيه مع مسلم ، وعدد هذه الأحاديث كم يجب أن يكون ؟
اثنان مع الذي في المقدمة حتى تصير عشرة أحاديث ، المقصود يصير العدد الآن كم ؟ أربعة وتسعين أو خمسة وتسعين ؟ خمسة وتسعين ؟ أربعة وتسعين الظاهر أو لا ؟ خمسة وأربعين وخمسة وثمانين وثمانية ، ثلاثة وتسعين ، واثنين ، خمسة وتسعين ، المفترَض أنها تصير أربعة وتسعين ، لكن هو ذكر في الخاتمة أن هناك حديث ذكره للإلزام ، فلعله أدخله في العد ، هناك حديث أدخله للإلزام وكنا قد ذكرناها أيضًا في لقاء سابق ، قلنا : أنه ذكر بعض الأحاديث للتتبع ولم يقصد بها التتبع إنما قصد بها الإلزام ، فهي خمسة وتسعين حديثًا ، لكن منها حديث ذكره للإلزام وأربعة وتسعين هي التي ذكرها للانتقاد .
المقصود أن هذه الإحصائية التي خرج بها الشيخ ربيع .
من هذه الأحاديث المنتَقَدة الثمانية التي ذكرها حتى نعرف نماذج منها حديث : ??إِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا?? رواية أبي موسى الأشعري التي جاء فيها قول النبي عليه الصلاة والسلام عن الإمام : ??إِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا?? ، هذا الحديث أورده الإمام مسلم في صحيحه وانتقده الدار قطني ، ويرى الشيخ ربيع أن هذا الحديث الصواب فيه مع الدار قطني .
لكن الغريب أن أبا مسعود الدمشقي لَمَّا ذكر هذا الحديث ذكر أن مسلم إنما أخرجه ليبين علته ، إذًا نرجع إلى أن بعض هذه الأحاديث الثمانية أيضًا ما أخرجها مسلم إلا ليبين علتها ، فيتقلص أيضًا العدد .
هناك حديث آخر أخرجه الإمام مسلم وهو الحديث رقم [567] من الأحاديث التي ذكرها الدكتور ربيع ، لكن الحقيقة هذا الحديث أخرجه الإمام مسلم وله شواهد في الباب ، وقد أوردتُ معي هذا الحديث لكن لا داعي للإطالة بذكره .(1/24)
وحديث أيضًا رقم [853] وهو حديث ساعة الجمعة ، وأن النبي عليه الصلاة والسلام قال : ??هِيَ مَا بَيْنَ أَنْ يَجْلِسَ الْإِمَامُ إِلَى أَنْ تُقْضَى الصَّلَاةُ?? .
أعلَّه الدار قطني أنه من كلام أبي بردة ، والظاهر أن هذه هو الراجح بالفعل ؛ أن وقت استجابة الدعاء في يوم الجمعة أنه بين أن يجلس الإمام إلى أن تقضى الصلاة أن هذا لا يصح فيه حديث ، وأصوب الأقوال في ذلك إما أنها مطلقة أو أنها في آخر ساعة في الجمعة ، وأما أنها في وقت صعود الإمام إلى المنبر إلى أن يصلي هذا لم يصح فيها حديث ، الحديث الذي أورده الإمام مسلم انتقده الدار قطني والصواب فيه مع الدارقطني .
ومنها أيضًا حديث أبي هريرة مرفوعًا : ?? يَدْخُلُ الْجَنَّةُ أَقْوَامٌ أَفْئِدَتُهُمْ كَالطَّيْر ِ?? .
رجح الدارقطني أنه مرسل عن أبي سلمة عن أبي هريرة ، ووافقه الدكتور ربيع على ذلك ويقول : إنه لم يجد لهذا الحديث متابعات في كتب السنة .
على كل حال يبقى أن الحديث التي انتُقِد متنها لا تتجاوز سبعة أحاديث مما لم يقصد مسلم إخراجه لبيان علته ، ولعلنا لو أَعَدْنا الدراسة لعل هذا يتقلص بذلك ، لكن هذا حسب الدراسة السابقة .
ممن انتقد الإمام مسلم في الأحاديث وأعل بعض الأحاديث في " صحيح مسلم غير الدار قطني :
أحد العلماء الذين ألفوا كتابًا خاصًّا بمسلم وبعلل أحاديث " صحيح مسلم " وهو أبو عمار الشهيد واسمه " محمد بن أبي الحسين بن أحمد بن محمد بن عمار الجارودي الهروي " .(1/25)
المتوفى سنة سبع عشرة وثلاثمائة للهجرة ، والذي لُقب بالشهيد لأنه قتل على يد القرامطة لما دخلوا مكة - المسجد الحرام - وكان هذا الرجل في المسجد الحرام يوم دخولهم فقتل مع من قُتل من المسلمين في تلك المذبحة العظيمة التي هزت العالم الإسلامي حينها والتي لا يُعرف في الحقيقة حادثة في شناعتها وقعت للمسجد الحرام من يوم أن بُعث النبي عليه الصلاة والسلام إلى يوم الناس هذا ؛ حيث قُتل الناسُ الحُجَّاجُ في الطواف قتلًا ذَرِيعًا ، واقتُلع الحجر الأسود من مكانه ، وسُلِبت الكعبة من بابها الذي كان من الفضة والذهب وميزابها الذي كان أيضًا من تلك المعادن ، وأُخِذ الحجر الأسود ومَكَث قرابة عشرين سنة عند القرامطة في منطقة هَجَر ، أي في المنطقة الشرقية من هذه البلاد ، كانت دولتهم في تلك المنطقة ، ولم يَعُد إلا بعد نحو عشرين سنة إلى موضعه .
المقصود أن هذا العالِم قُتِلَ في هذا اليوم ولذلك لُقب بالشهيد عليه رحمة الله .(1/26)
هذا العالِم له كتاب سماه : " علل الأحاديث في كتاب الصحيح لمسلم بن الحجاج " ، ذكر فيه ستة وثلاثين حديثًا ؛ ستة وثلاثين حديثًا أعلها في " صحيح مسلم " ، مما يلفت الانتباه أنه ذكر ثلاثة أحاديث ونسبها إلى مسلم وهي غير موجودة في " صحيح مسلم " ولم ينسبها إليه أحد ممن أَلَّف حول مسلم سواه ، كالمزي مثلًا في " تحفة الأشراف " لم يذكر هذه الثلاثة الأحاديث ، وهذا قد يدل على أن هناك أكثر من رواية لـ" صحيح مسلم " ، ولعل إحدى هذه الروايات كانت عند ابن عمار وقد فُقِدَت ، وفقدان هذه الثلاثة أحاديث يدل على أن مسلم قد حذف هذه الأحاديث من النسخة الأخيرة التي رواها إبراهيم بن محمد بن سفيان ، ونعود بذلك إلى أن الإمام مسلم لعله مثل البخاري ؛ كان يُنَقِّح في كتابه ويُعَدِّل في كتابه خلال فترات عُمُره بعد أن أَلَّفَ الكتاب ، وهذا يعود يُذَكِّرُنا بقضية نَفْي أن مسلمًا تُوفي واخْتَرَمَتْهُ المنيةُ ؛ الرجلُ صار يُنَقِّح ويُعَدِّل في كتابه ، فما أَبْعَدَ ذلك القول من الصواب !
مما انتقدوا أحاديث مسلم في " صحيحه " ابنُ حزم :
حيث ألف جزءًا صغيرًا جدًّا في حديث انتقده على مسلم وحديث آخر انتقده على البخاري ، أما حديث مسلم الذي انتقده ابن حزم في هذا الجزء هو حديث ابن عباس رضي الله عنهما في قول أبي سفيان بن حرب للنبي - صلى الله عليه وسلم - : ?? يَا نَبِيَّ اللهِ . ثلاث أَعْطِينِهِن ، قَالَ : نَعَمْ . قَالَ : عِنْدِي أَحْسَنُ الْعَرَبِ وَأَجْمَلُهُ ؛ أُمُّ حَبِيبَةَ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ أُزَوِّجُكَهَا ، قَالَ : نَعَمْ . قَالَ : وَمُعَاوِيَة تَجْعَلُهُ كَاتِبًا بَيْنَ يَدَيْكَ ، قَالَ : نَعَمْ . قَالَ : وَتُؤَمِّرُنِي حَتَّى أُقَاتِلَ الْكُفَّارِ كَمَا كُنْتُ أُقَاتِلُ الْمُسْلِمِينَ ، قَالَ : نَعَمْ ?? .(1/27)
رَدَّه ابن حزم بأن أم حبيبة للاتفاق والإجماع أن النبي عليه الصلاة والسلام قد تزوجها ودخل عليها قبل إسلام أبي سفيان ، فكيف يقول له : أزوجك ابنتي ؟! وأن هذا بعد إسلامه ؟! يقول : هذا يدل على أن هذا الحديث غير صحيح ، وحكم عليه بالبطلان وبالوضع ، لكن بعض أهل العلم دافع عن هذا الحديث وقالوا : لعل مراده أن يجدد العقد ، وأن النبي عليه الصلاة والسلام رضي بذلك تطييبًا لخاطره ؛ لأن العرب تَأْنَف من أن تتزوج بناتها دون إذنها ، وأبو سفيان كان سيدًا من سادات قريش ، فأَحَبَّ أن يمحو هذا العار عن نفسه أن ابنته تزوجها النبي عليه الصلاة والسلام دون إذنه ، فبعد إسلامه أراد أن يجدد العقد وكأنه زوجها برضاه وبقبوله .
على كل حال هذا التوجيه قبلناه أو لم نقبله ، المسألة هينة في ذلك ، وإن كان قبوله في الحقيقة له وجه ؛ لأن ظاهر الإسناد الصحة ، والحديث في إسناده مجال للنقد ، فما دام له توجيه صحيح هذا المقصود ، والحمد لله رب العالمين .
الحديث الثاني في " صحيح مسلم " وفي " صحيح البخاري " هو حديث شريك بن أبي نَمِر الذي ذكرناه سابقًا في الإسراء ، انتقده ابن حزم على البخاري ، ولم ينتقده على مسلم ! وهنا نقف ، لماذا لم ينتقده على مسلم مع أن مسلمًا أخرج إسناده وطرف المتن ؟! لأنه فَهِمَ ابنُ حزم أن إخراج مسلم له إنما كان من أجل أن يبين علته ، ولذلك ما اعتبره حديثًا منتقدًا على مسلم ، وإنما اعتبره حديثًا منتقدًا على البخاري ، مع أن الحافظ يقول : إن البخاري أخرجه أيضًا ليبين علته ، فانظر! كيف مواقف العلماء من هذه المسائل لتعرف أن المسألة ليست بالأمر الهين ، استخراج الحديث الذي أُخرج لبيان العلة يحتاج إلى دراسة واستقصاء وتَأَنٍّ ونظر دقيق في المسألة .(1/28)
من العلماء الذين انتقدوا بعض الأحاديث في " صحيح مسلم " أبو مسعود الدمشقي في كتابه " أطراف الصحيحين " ، ومن العلماء الذين انتقدوا أيضًا أبو علي الحسين محمد الغَسَّاني ، وقد ذكرنا كتابه سابقًا وهو كتاب " تَقْيِيد المُهْمَل وتَمْيِيز المُشْكِل " عقد فيه فصلًا بالأحاديث المنتقدة في " صحيح مسلم " ، أغلب هذه الأحاديث انتقادها من جهة الرواة عن مسلم لا من جهة مسلم أو ممن روى عنه مسلم .
هناك حديث واحد نورده في هذا السياق أخرجه مسلم وأورده ابن الجوزي في " الموضوعات " ، وكان هذا سبب لانتقاد ابن الجوزي نقدًا شديدًا لازعًا ؛ حيث إن الحديث صحيح وفي ثاني أصح كتاب بعد كتب الله ، ومع ذلك أورده ابن الجوزي في " الموضوعات " ! .
هذا الحديث هو في الحقيقة ليس الخطأ فيه فقط من ابن الجوزي ، بل سبقه إلى ذلك والذي اعتمد عليه في الحكم بالوضع هو ابن حبان ، هو حديث أبي هريرة مرفوعًا إلى النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال : ?? إِنْ طَالَتْ بِكَ مُدَّةٌ أَوْشَكَ أَنْ تَرَى قَوْمًا يَغْدُونَ فِي سَخَطِ اللهِ وَيَرُوحُونَ فِي لَعْنَتِهِ ، فِي أَيْدِيهِمْ مِثْلُ أَذْنَابِ الْبَقَرِ?? .
يعني يشير بذلك إلى الشُّرَط . هذا الحديث ذكره ابن الجوزي في كتابه برقم [1544] وأورده الإمام مسلم في الصحيح .
سبب خطأ ابن الجوزي : أن هذا الحديث أورده ابن حبان في ترجمة راوٍ اسمه أفلح بن سعيد ، وأفلح بن سعيد هذا بالفعل ضعيف ، ثم لما أورده ابن حبان في ترجمة أفلح بن سعيد قال عقب الحديث : وهذا خبر بهذا اللفظ باطل ، وأفلح كان يروي عن ثقات الموضوعات ولا يحل الاحتجاج به .(1/29)
ولكن لم ينتبه ابن حبان ولا ابن الجوزي : أن لهذا الحديث طرقًا أخرى بنفس هذا اللفظ صحيحة ، وهي التي أخرجها مسلم في صحيحه ، ليس فيها علة هذا الراوي ، ولذلك هذا الحديث تعقبه الحافظ ابن حجر في كتابه " القول المسدَّد " ؛ لأن هذا الحديث أخرجه مسلم والإمام أحمد ، و" القول المسدد " هو في الذب عن مسند الإمام أحمد ، يعني إيراد الأحاديث الموضوعة التي حكم عليها ابن الجوزي بالوضع وهي في مسند أحمد ، وبين أنه في " صحيح مسلم " وفي " مسند أحمد " ، ثم قال رادًّا على ابن الجوزي ، يعني وصف تصرف ابن الجوزي قال : وإنه غفلة شديدة .
يعني : أن ابن الجوزي غفل غفلة شديدة ، أخطأ خطأً شديدًا ؛ حيث أورد هذا الحديث الصحيح في كتابه الذي خصه بالموضوعات ؛ وهذا أحد أكبر الأسباب التي يتكئ عليها من يصف ابن الجوزي بالتسرع في الحكم بالوضع ، أنه أخرج حديثًا في " صحيح مسلم " في " الموضوعات " حاكمًا عليه بالوضع ، وقلنا عذره أنه قلد في ذلك ابن حبان ، وابن حبان أورده من طريق فيه ضعف ، لكن مسلمًا أورده من طرق أخرى سالمة من هذا الراوي الضعيف أو المتكلَّم فيه .
الكلمة الثالثة في عنوان " صحيح مسلم ": " المختصر " من المسند الصحيح المختصر.
وهذا أيضًا - كما نذكر دائمًا - رد على من يدعي أن مسلمًا أراد استيعاب الصحيح أو أنه ألف هذا الكتاب وكان تأليفه له سببًا أن يقول أهل البدع بأن كل ما في خارج هذا الصحيح ليس بصحيح عند مسلم ، فمسلم يصرح الآن أنه مختصر ، فما هناك داعٍ لدعوى أنه يطرق لأهل البدع أن يدعوا بأن ما ليس في الصحيح لا يكون صحيحًا لعدم إخراج مسلم له فيه .
عدد أحاديث " صحيح مسلم " ما دمنا نتكلم عن الاختصار والعدد : ثلاث آلاف وثلاثة وثلاثين حديث ؛ بغير تكرار .
كم عدد الأحاديث في " صحيح البخاري " بغير تكرار ؟
- ألفان وستمائة واثنين .
إذًا أيهما أكبر وأكثر عددًا ؟(1/30)
مسلم ؛ وهذه مزية ولا شك لمسلم ، وهذه المزية تذكرنا من باب الإنصاف لمسلم أنه ما دام عدد أحاديثه أكثر ، هذا لا شك سيكون داعٍ لأن تكون عدد الأحاديث المنتقدة عليه أكثر ؛ طبيعي ، وهذا يجب أن يوضع في الاعتبار من أجل أن ننصف مسلمًا ولا نبخسه شيئًا من حقه ، فكون الرجل تصدى لإخراج عدد أكبر من الأحاديث ، هذا داعٍ لأن يكون عدد الأحاديث المنتقدة عليه أكثر ، وقد بينا لكم من خلال كتاب الدار قطني نفسه أن العدد إن لم يكن مسلم مساوٍ للبخاري فربما كان البخاري أكثر أحاديث منتقدة في التتبع ، حتى تعرفوا أن القضية تحتاج إلى دراسة واسعة حتى نَخرج إلى قول منصِف لكلا الإمامين ، ولا فَرْق عندنا بين البخاري ومسلم ، كلاهما إمام ، وكلاهما نُجِلُّه ، وكلاهما نعظِّمُه ، وليس هناك عندنا عصبية لواحد منهما على الآخر ، بل مُبْتَغانَا هو الحق ومعرفة الصحيح والصواب في هذه المسائل ، وإن كنا في الإجمال – يعني المتقَرِّر في القلب – أن البخاري أرجح من مسلم ، لو لم يكن في ذلك إلا ما يُقِرُّ به مسلم أن البخاري أعلم منه لكفى في ذلك دليلًا على تقديم البخاري على مسلم .
قلنا عدد الأحاديث بغير تكرار : ثلاث آلاف وثلاثة وثلاثون ، بالتكرار : سبعة آلاف وثلاثمائة وثمانية وثمانون .
العبارة الرابعة في العنوان ، قال : " من السنن " .
والمقصود بها أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سواء كانت متعلقة بالأحكام أو بغيرها ، بالطبع هذا الكتاب يعتبر من كتب الجوامع ، وليس من كتب السنن التي اعتنت فقط بأحاديث الأحكام ، بدليل أنه أورد فيه كُتُبًا لا علاقة لها بأحاديث الأحكام ، مثل : كتاب " الفضائل " ، وكتاب " صفة الجنة " ، وكتاب " صفة النار " ، وكتاب " التفسير " الذي هو من أصغر كتب " صحيح مسلم " ، وهو آخر كتاب في " صحيح مسلم " ؛ كتاب " التفسير " للإمام مسلم .
الكلمة الأخيرة في عنوان الكتاب : " بنقل العدل عن العدل " .(1/31)
وهذا في تأكيد على شرط الرواة ؛ وأنه لن ينزل رواة كتابي على درجة المقبولين .
وأنبه هنا إلى فائدة أن العدل يطلق عند المحدثين ولا يريدون بها العدالة الدينية وحدها ، إذا أَطْلَق المحدث على راوٍ فقال : هو عدل . فيقصد أنه عدل في دينه عدل في روايته ، أي : عدل ضابط ، أي : ثقة . وهذا يدل عليه عنوان الإمام مسلم ، وهذا سينفعنا مع ابن خزيمة وشرطه في الصحيح ؛ لأنه تُكُلِّم في شرطه بسبب أنه استخدم مثل هذه العبارة وقيل أنه لا يشترط الضبط لكونه اكتفى باشتراط العدالة ، فنريد أن نؤكد أن هذه ليس بصحيح ، وإذا صح أن نحتج بكلام ابن خزيمة على أنه لا يشترط الضبط يلزم أن نفعل ذلك مع " صحيح مسلم " وهذا لا قائل به ؛ أن مسلمًا إنما يشترط العدالة فقط دون الضبط هذا لم يقل به أحد ، وكلام مسلم في مقدمة الصحيح وفي كل كتبه صريح بخلاف هذا الكلام ، وهذا أصلًا رأي لا يمكن أن يقول به أحد من أهل الحديث ممن يعرفون أن الراوي لا يمكن أن يُقبل إلا إذا جمع هذين الأمرين : العدالة والضبط .
طبعًا أيضًا هذه عبارة ترد على من ادعى أن المحدثين إذا قالوا عدل يقصدون بها العدالة الدينية ، وممن قال ذلك الإمام السخاوي في كتاب " فتح المغيث " ، لكن تصنيفات المحدثين تدل على أنهم يطلقون العدل ويقصدون به الثقة ، أي العدل في الدين وفي الرواية ، إلا إذا قيدوا فقالوا : عدل إلا أنه سيئ الحفظ ، صالح في الدين إلا أنه كذا .. عندها يحمل على ما ذكروا ، لكن إذا أطلقوا العبارة ، إذا سأل أحد طلبة الحديث في ذلك الزمن أحد أئمة الجرح والتعديل فقال له : ما رأيك في فلان ؟ فقال له : عدل .
يعني : أنه ثقة عدل ضابط ، إلا إذا قيد فقال : هو عدل لكنه ليس بحافظ . فعندها نحمل هذا التعبير على أنه مختص بالعدالة الدينية .
عناية العلماء بـ " صحيح مسلم " :(1/32)
تقدم ذكر بعض أنواع العنايات في مثل كتاب " التتبع " والكتب التي انتَقَدَت ، وغيرها من الكتب التي سبق ذكرها أثناء كلامنا السابق .
نذكر الآن بعض الأمور التي لم تذكر سابقًا :
أولًا : عناية العلماء برجال مسلم :
1- وقلنا – لما تكلمنا عن البخاري - أن هناك كتاب للدار قطني جمع فيه بين رجال البخاري ومسلم ، رجال البخاري كانوا في كتاب ورجال مسلم في مجلد آخر .
2- أيضًا للحاكم في كتابه " المدخل إلى معرفة الصحيح " ؛ بَيَّن فيه من انفرد بالإخراج لهم البخاري ومن انفرد بالإخراج لهم مسلم ومن اتفقا عليه من الرواة .
3- أيضًا كتاب ابن طاهر المقدسي " رجال الصحيحين " .
4- ثم الكتب التي تلت ذلك ، مثل : " تهذيب الكمال " ، و" تهذيب التهذيب " ، وغيرها التي جمعت رجال الصحيحين مع بقية أصحاب الكتب الستة .
خصَّ ابنُ مانجويه - أحد العلماء - مسلمًا بالتأليف فأَلَّفَ " رجال صحيح مسلم " ، وهو أحمد بن علي الأصبهاني الشهير بابن مانجويه ، المتوفى سنة ثماني وعشرين وأربعمائة من الهجرة ، وهو كتاب مطبوع ، وهو في هذا الكتاب كثيرًا ما يتَّبع ابن حبان في ترجمة للرواة ، يكاد ينقل ترجمة ابن حبان في كتابه " الثقات " كما هي في كتابه ، حتى إذا أخطأ ابن حبان يتابعه ابن مانجويه تمامًا في هذا الكتاب .
اعتنى أيضًا العلماء بذكر شيوخ الإمام مسلم والبخاري ، وسبق بعض الكتب المتعلقة بالبخاري ، ونذكر الآن كتابين متعلقين بشيوخ مسلم مع البخاري ، منهم :
1- كتاب " المُعْلِم بِشيوخ البخاري ومسلم " لمحمد بن إسماعيل بن خَلَفون - بفتح اللام لا بسكونها كما أسمع كثيرًا من طلبة العلم – وهو إمام أندلسي له مؤلفات متعددة ، تُوفي سنة ست وثلاثين وستمائة من الهجرة .(1/33)
2- أيضًا كتاب " المعجَم المشتَمِل على أسماء شيوخ الأئمة النُّبْل " لأبي القاسم ابن عساكر صاحب " تاريخ دمشق " والمتوفى سنة إحدى وسبعين وخمسمائة من الهجرة ، هذا يشمل شيوخ الأئمة الستة جميعًا ؛ مسلم وبقية الأئمة الستة .
من الكتب التي تخدم الصحيح كتاب " أطراف الصحيحين " لأبي مسعود الدمشقي ولخَِلَف الواسطي كما ذكرنا سابقًا ، والمزي في كتابه " تحفة الأشراف " .
هناك مستخرجات على " صحيح مسلم " سنقتصر على المطبوع منها :
المستخرج الأول : طُبع من المستخرجات على " صحيح مسلم " كتاب " المستخرج لأبي عوانة يعقوب بن إسحاق " المتوفى سنة ستة عشرة وثلاثمائة ، ويمتاز هذا الكتاب في الحقيقة بمزية عظمى وهي أن المؤلف شارك مسلمًا في بعض شيوخه ، يعني أبو عوانة سمع من بعض شيوخ مسلم ، ففي بعض الأحاديث يتابع مسلمًا تمامًا في رواية الحديث عن نفس الشيخ ، وأنبه بخصوص هذا الكتاب إلى أنه ليس مختصًّا بمسلم فقط ، هو مستخرج على " صحيح مسلم " وعلى صحيح قرين مسلم وزميله وتلميذه وهو أحمد بن سلمة النيسابوري ، فهو مستخرج على كلا الكتابين ، ولذلك قد نجد أحاديث يذكرها في هذا الكتاب ليس لها ذكر أبدًا في " صحيح مسلم " ، إذًا يكون وجه إخراجه لها على أية وجه ؟
أنه مستخرجة على أحاديث في " صحيح أحمد بن سلمة النيسابوري " ، و" صحيح أحمد بن سلمة النيسابوري " أصلًا كان قد اتبع فيه شيخه أو قرينه الإمام مسلم ، يعني كان يأخذ نفس الأحاديث التي سمعها مسلم ويخرجها في كتابه ، إلا زيادات قليلة هي التي خَرَّج عليها أيضًا أبو عوانة بعض الأحاديث مستخرجة في كتابه المسند المعروف بـ" مستخرج أبي عوانة " .
والمستخرج الثاني على " صحيح مسلم " هو : " مستخرج أبي نعيم " ، وقد طبعت قطعة كبيرة منه في أربعة مجلدات .
من الخدمات حول صحيح مسلم :
الجمع بين صحيحي البخاري ومسلم ، وهناك جموع كثيرة ، لكن طُبع منها جمعان مهمان وهما :(1/34)
1- " الجمع بين الصحيحين " للحميدي محمد بن أبي نصر فتوح الأندلسي ، المتوفى سنة ست وستين وأربعمائة للهجرة .
2- وأيضًا كتاب " الجمع بين الصحيحين " لعبد الحق الإشبيلي .
ولكل كتاب منهما مزية ، فمزية الحميدي أنه يذكر الزيادات الواردة في المستخرجات التي لم ترد في الصحيحين ، زيادات المتون الواردة في المستخرجات يوردها الحميدي في جمعه للصحيحين .
ولهذا الكتاب مقدمة مهمة جَمْع الحميدي يتكلم فيها عن مزية الصحيحين وعن قدرهما وجلالتهما ، وينقل الاتفاق والإجماع على صحتهما ، ولهذا الإجماع أهمية لأنه إمام متقدم كما ذكرنا ، سنة ست وستين وأربعمائة من للهجرة .
أما عبد الحق الإشبيلي فله مزية أخرى وهي :
أولًا : لم يضف لفظًا زائدًا على الصحيحين من خارجهما ، كل ما فيه من الألفاظ من الصحيحين ، واعتنى عناية كبيرة جدًّا ببيان اختلاف الألفاظ في الروايات في الصحيحين ، فإذا كان البخاري أورد الحديث في باب بلفظ وأورده في باب آخر بلفظ آخر ، يبين الفروق في الألفاظ ، بل ويذكر تبويبات البخاري ، خاصة اللطيفة منها ، يقول : أخرجها في الحديث تحت باب كذا وباب كذا وباب كذا ، كلٌّ من أجل أن ينبه على فقه البخاري المستنبَط من تلك الأحاديث ، ولذلك أن أنصح لمن أراد أن يستعرض متون الصحيحين أن يأخذ كتاب عبد الحق الإشبيلي ، هو خير له في ذلك من كتاب " الجمع " للحميدي .
مختصرات " صحيح مسلم :
1- كـ" مختصر القرطبي " أبو العباس القرطبي ، وهو طبعًا غير أبو عبد الله القرطبي صاحب " الجامع لأحكام القرآن " ، هذا إمام وذاك إمام آخر .
2- أيضًا مختصر صحيح مسلم للمنذري واسمه " الجامع المعلِم لمقاصد جامع مسلم " .(1/35)
3- أيضًا كتاب " تنبيه المعلِم بمبهمات صحيح مسلم " ، هذا الكتاب ليس في المختصرات ، وإنما في المبهمات وهو الأسماء التي أُبْهِمَتْ في " صحيح مسلم " سواء في الأسانيد أو المتون ، واعتنى بالمتون خاصة ، لسبط بن العجمي تُوفي سنة أربع وثمانين وثمانمائة للهجرة .
هناك أيضًا كتاب عصري حول " صحيح مسلم " وهو كتاب جيد ونافع ، هو كتاب " عبقرية الإمام مسلم " للدكتور حمزة الليباري وهو كتاب جيد ونافع في بيان منهج الإمام مسلم في كتابه .
من الشروح حول " صحيح مسلم " ؛ وهذه مهمة :
1- من أقدم هذه الشروح كتاب " المعلِم " لمحمد بن علي المازني ، المتوفى سنة ست وثلاثين وخمسمائة للهجرة ، الذي كتب عليه القاضي عياض كتابه " إكمال المعلم " للقاضي عياض ، المتوفى سنة أربع وأربعين وخمسمائة للهجرة .
2- ثم جاء بعدهم بنحو أقل من قرن أو قرن الإمام ابن الصلاح ، فأَلَّف كتابًا سماه : " صيانة صحيح مسلم من الإخلال والغَلَط ، وحمايته من الإِسْقاط والسَّقَط " ، وهو كتاب مطبوع لابن الصلاح ، وهو على صغر حجمه إلا أنه كثير الفائدة .
3- من شروح مسلم المهمة : كتاب " المفهِم " لأبي العباس القرطبي ، وهو كتاب مهم جدًّا الحقيقة ، قلنا أبو العباس القرطبي اختصر " صحيح مسلم " فشرح فيه مختصره هذا ، ولذلك فهو خاص بالمتون ، يعني لا يشرح الأسانيد والعلل والاختلافات ، وإنما يتكلم فقط عما يُستنبط من تلك الأحاديث من الفوائد العلمية .
4- ثم جاء الإمام النووي في شرحه الشهير المسمى بـ المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج .(1/36)
5- ثم جاء محمد بن خليفة الأُبِّي المتوفى سنة سبعة وعشرين وثمانمائة في كتاب سماه : " إكمال إكمال المعلِم " ، جَمَع في هذا الكتاب بين شرح المازِري وشرح القاضي عياض وشرح القرطبي وشرح النووي مع زيادات واجتهادات له ، فكتاب الأُبِّي يكاد يشمل على أربعة كتب سابقة مع زيادات له ، وهو كتاب مطبوع لكن مع الأسف الشديد طبعته رديئة وسقيمة .
6- أيضًا كتاب " الديباج " للسيوطي ، وهو شرح مختصر جدًّا لصحيح الإمام مسلم .
7- من شروح مسلم أيضًا " فتح الملهِم " لأحد علماء الهند وهو شِبِّير بن أحمد العثماني المتوفى سنة تسع وستين وثلاثمائة وألف .
8- أيضًا " فتح المنعم " لأحد دكاترة الأزهر المعاصرين ، واسمه : موسى شاهين لاشين ، واسم كتابه " فتح المنعِم " .
9- هناك كتاب في غريب ألفاظ الإمام مسلم ، وهو كتاب " المفصِح المفهِم والموضِح الملهِم لمعاني صحيح مسلم " لمحمد بن يحيى بن هشام الأنصاري النحوي ، المتوفى سنة ست وأربعين وستمائة ، وهو غير ابن هشام صاحب مغني اللبيب المشهور النحوي ، لكن أيضًا هذا كان نحويًّا لغويًّا شهيرًا جدًا في زمنه ، أَلَّف كتابًا خاصًّا بغريب ألفاظ " صحيح مسلم " .
10- هناك كتابان يتكلمان عن منهج الإمام مسلم ، وكثير من المعلومات التي ذكرتها لكم مستقاة من هذين الكتابين ، وهما كتاب " الإمام مسلم ومنهجه في الصحيح " لمحمد بن عبد الرحمن الطوايبة ، وكتاب " الإمام مسلم بن الحجاج ومنهجه في الصحيح " لمشهور حسن سلمان .
هذه أهم الكتب التي اعتنت بصحيح مسلم وبمنهجه في كتاب الصحيح ، ونكتفي بهذا القدر .
وصلى اللهم وسلم ، وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين .(1/37)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على إمام الأنبياء والمرسلين وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد ..(1)
نبدأ اليوم ببعض الأسئلة المتعلقة ببعض الدروس السابقة ؛ ثم نبدأ بلقائنا اليوم إن شاء الله .
السؤال الأول : ما المقصود بالأصول والشواهد والمتابعات في الصحيحين ؟ وكيف نميز بينها ؟ وما دلالة إفراد صاحبي الصحيحين للراوي في أحد الفرعين السابقين ؟
أما بالنسبة للأحاديث التي يخرجها أصحاب الصحيح فكل ما أخرجه أصحاب الصحيح فهو صحيح عندهم إلا ما بينوا علته صراحة أو تلميحاً ؛ فليس هناك حديث في الصحيحين لا يحتج به صاحب الصحيح إلا أن يكون قد بيَّن علته صراحة أو تلميحاً ؛ فبهذا المعنى كل أحاديث الصحيح هي من أحاديث الأصول عندهم إذا قصدنا الاحتجاج فكلها صحيحة إلا ما بيَّن علته كما ذكرنا لا نستثني إلا هذا .
أما بالنسبة للرواة ؛ فلا شك أن هناك رواة يعتمد عليهم صاحب الصحيح أكثر من بعض ، وهؤلاء هم الذين عليهم غالب الكتب الصحاح ، وهناك مرتبة أقل منهم في الدرجة هؤلاء إذا ضاق على صاحب الصحيح مخرج الحديث فلم يجده إلا من حديث أمثال هؤلاء فإنه يخرج الحديث لهم ، وهؤلاء هم الذين أخرج لهم صاحب الصحيح وخاصة البخاري الأحاديث المسندة المتصلة ، أما رواة المتابعات فهم الذين يذكرهم البخاري في الروايات المعلقة التي يقول فيها عقب الحديث ورواه فلان ، وفلان ، هؤلاء هم رواة المتابعات .
__________
(1) هذه المقدمة سَقْطٌ ليست مِنْ الْمَسْموع.(1/1)
إلا أنه في الحقيقة بالنسبة للقسمين الأوليين وهم من أخرج لهم وهم أصل الاحتجاج ، ومن أخرج لهم دونهم في الدرجة تمييز هؤلاء من أولئك ليس بالأمر الهين ، وهم محل اجتهاد لا يمكن في كثير من الأحيان أن أجزم أن هذا الراوي ليس من الطبقة العليا عند البخاري وإنما هو من الطبقة الثانية ؛ لأنه يحتاج إلى أنك تستعرض الصحيح كاملاً ، وتنظر في رواية هذا الراوي وكيف أخرج له البخاري ؛ ثم في كثير من الأحيان أو في كل الأحيان تقريباً يبقى الأمر ليس مقطوعاً به ؛ لأن ما هي طريقة معرفة أن هذا الراوي هو أصل الاحتجاج أو لا ؟ يعني لو وجدنا مثلاً في الباب ثلاثة أحاديث ؛ أو حديث واحد رواه بثلاثة أسانيد الذي يعمله العلماء أنه إذا وجدوا راوي في أحد تلك الأسانيد فيه شيء من الكلام قالوا : هذا أخرج له متابعة .
معنى هذا لا يلزم قد يكون عند البخاري هذا الراوي أوثق ممن لم يُتكلم فيه ، وأضبط ؛ فكون نحن نقسم هؤلاء الرواة بناءً على اجتهادنا نحن وبناءً على ما ننزل عليه نحن الرواة هذا ليس عملاً صحيحاً ؛ لذلك في الحقيقة أنا من البداية أؤكد على قضية أن كل من أخرج له البخاري فهو في درجة القبول إلا من استثنيناهم من روى له مقبولاً ، أو هكذا وقع في الإسناد أو ذكره في المتابعات ، وهذا يؤيده يا إخوان أمور كثيرة أنا في الحقيقة تعرضت لهذه القضية في شرح ابن الصلاح و توسعت فيها جداً لإثبات أن كل من أخرج له أصحاب الصحيح فهو في درجة القبول من بين الأدلة على ذلك ولأبين أنه رأي لبعض كبار الأئمة .(1/2)
الدار قطني مثلاً في كتابه " رجال البخاري " اعتبر كل من أخرج له البخاري حديثاً مسنداًَ أنه ممن احتج به البخاري ، ولم يذكر إلا في آخر الكتاب قال : من أخرج له البخاري في المتابعات ، وذكر أن هؤلاء الرواة الذين سنذكرهم في الروايات المعلقة ؛ أما عموم رواة البخاري وهم أكثرهم فاعتبر أنه يخرج لهم البخاري احتجاجاً ، و لذلك كما ذكرنا سابقاً ينتقد بعض العلماء أصحاب الصحيح لإخراجهم لبعض من تُكلم فيهم ولا يقولون إن كانوا أخرجوا لهم متابعة ، أو في الأصول ، أو في الشواهد والمتابعات لو كانت هذه قضية مُسَلم بها و مقبولة لما انتقدوا على صاحبي الصحيح أنهم أخرجوا لفلان أو لفلان ليأتي بعض المتأخرين ويقول : قد أخرج له في المتابعات ، وفلان نقده يتوجه على البخاري أو مسلم .
و المقصود : أن تمييز هؤلاء الرواة ليس أمراً متفقاً عليه ، و يبقى محل اجتهاد ، وهو الطبقة الأولى والثانية ، وكلهم يحتج بهم البخاري لكنها مرتبة دون مرتبة هذا كل ما في الأمر الذين نقول بأنه لا يمكن نقول بأنهم احتج بهم البخاري الذين لم يخرج لهم روايات مسندة ؛ وإنما أخرج لهم في المتابعات بمعنى أنه في الروايات المعلقة هؤلاء الذين يمكن أن نقول بأنه ليس لدي دليل أَنَّ البخاري يحتج به ، قد يكون البخاري يحتج به لكن من خلال تصرفه في الصحيح ، لكني لا أجزم بأنه احتج بهم ؛ فهذا الذي يمكن أن يعين في هذا الجانب ؛ فالأصل فيمن أخرج لهم أصحاب الصحيح أنه مقبول هذه القاعدة ؛ إلا من استثنيناه .
السؤال الثاني : هل ألفاظ مسلم ومتونه أضبط من ألفاظ ومتون البخاري ؟(1/3)
لا يمكن إطلاق مثل هذه العبارة ؛ فلا شك أن كتاب البخاري قمة من الضبط والإتقان ؛ لكن لكون البخاري يقطع الحديث ، ولكونه يريد أن يبين موطن الشاهد في الأحاديث ؛ فربما اضطر أثناء اختصاره أن يذكر عبارة في بداية الحديث ، أو في آخر الحديث تنبه على حصول اختصار فيه ، أو تبين السياق الذي ورد فيه ذلك الحديث فهو ليس من باب أضبط أو ليس بأضبط لو قلنا أضبط يعني مسلم أكثر ضبطاً من البخاري ؛ لكن نقول بأن ميزة مسلم أنه يسوق الأحاديث بألفاظها أما البخاري فربما تصرف في اللفظ لغرض الاختصار ، ولغرض بيان موطن الشاهد في الحديث ، أمر آخر وهو ليس دليل قطعي بأن مسلم أضبط من البخاري - كما يقول السائل - وإنما أشاعوا عند العلماء أنه لو وقع خلاف في اللفظ بين البخاري ، ومسلم فإنه قد يميل إلى إثبات لفظ مسلم لأن مسلم ألف كتابه ، وبين يديه أصوله ، وفي حياته كثير من شيوخه أما البخاري فكان يؤلف كتابه أثناء ترحاله في الأمصار ، والبلدان .
السؤال الثالث : هل هناك علاقة بين التاريخ الكبير للبخاري وصحيح البخاري ؟
الجواب : هما كتابان منفصلان لمؤلف واحد لكن يمكن أن ننتفع بكتاب التاريخ الكبير للبخاري لمعرفة آراء للبخاري مختلفة حول بعض الأحاديث ، وحول بعض الرواة الذين أخرج لهم في الصحيح لا شك أن أولى ما يُرجع إليه لدراسة أسانيد البخاري هو رأي البخاري نفسه في هذا الراوي ، وهذا الذي يُعرف من خلال كتبه المختلفة ، هذا لا شك فيه لكن أنه يتمم العمل أو كذا أو لا يمكن أن يُستفاد من صحيح البخاري إلا بالتاريخ الكبير للبخاري فهذا محل نظر ؛ لأنهما كتابان منفصلان للإمام البخاري .
السؤال الرابع : أسانيد الأحاديث لها نفس الاستقامة لأسانيد أثار في صحيح البخاري ؟(1/4)
الجواب : لعل مقصود السائل هل الآثار الموقوفة صحيحة كما أن الأحاديث المرفوعة صحيحة في نفس الدرجة ، قلنا بأن البخاري إذا أسند الحديث الأصل فيه أنه على شرطه إلا ما بين علته ، وأنه أخرج بعض الأحاديث الموقوفة وهي على شرطه هذا الأصل في ذلك ؛ إلا إذا ظهرت لنا قرينة أن البخاري أراد الإعلال فهذا أمر مختلف يكون أمراً آخر لكن الأصل فيه ما أخرجه في صحيحه من أحاديث و أثار مسنداً أنه على شرطه .
السؤال الخامس : ما توجيه صنيع الحافظ الزيلعي في " نصب الراية " حيث قال في أحد المواضع كما بوَّب مسلم ، هل التبويب من صنيع مسلم ؟
قلت لكم إن أكثر أهل العلم نصوا على أن مسلم لم يبوب الصحيح ، وهناك نسخة من صحيح مسلم متقدمة موجودة حتى اليوم ليس فيها تبويبات لمسلم ، توجيه الزيلعي إما أنه وقف على نسخة فيها هذه التبويبات فظن أن بعض هذه التبويبات من مسلم ، أو لعل صحيح مسلم في بعض رواياته وضع بعض الأبواب اليسيرة القليلة ، الاحتمال وارد في بعض الروايات في بعض نسخه و لا يعارض ذلك أن غالب الصحيح ليس مبوباً . والأدلة على أن صحيح مسلم غير مبوب كثيرة من بينها اختلاف التبويبات المتابينة تبايناً كبيراً بين نُسخ صحيح مسلم ، و بعض هذه التبويبات موجودة في الشروح مما يبين أنها مأخوذة من هذه الشروح شرح النووي ، شرح القرطبي ، شرح فلان ، وفلان ، وهذا يؤكد أنها ليست من مسلم هذا التباين الكبير يؤيد أنها ليست من مسلم.
يعني البخاري مع كثرة نسخه تكاد تجد في الغالب التبويبات متفقة مما يؤكد أنها من البخاري وهذا اشهر من أن يستدل عليها لأن فيها فقه البخاري كما ذكرنا ، ودقة استنباطه البالغة ، وتكلم عنها حتى تلامذة البخاري ومن جاء بعدهم ، أما مسلم فليس كذلك .
السؤال السادس : نريد إفادتنا ببعض المراجع للبحث الذي بعنوان (تبيين وجه إخراج الآثار في صحيح البخاري ) ؟(1/5)
هذا المشروع الذي ذكرت لكم ليس فيه الحقيقة مرجع معين إلا صحيح البخاري نفسه ، ترجع إلى صحيح البخاري وتجرده ، وتستخرج ما فيه من الآثار الموقوفة المسندة ؛ أما المعلقة ما لنا علاقة فيها الآثار الموقوفة المسندة التي رواها البخاري بالإسناد إلى الصحابي ثم تحاول تدرس هذه الآثار ما وجه إخراج البخاري لها ؟ فستجد مثلاً ممكن تقسمها مثل كما ذكرنا سابقاً أن ما له حكم الرفع فيكون هذا هو توجيه إخراج البخاري لها وهذا يكون ظاهراً حديث موقوف ولكن له حكم الرفع فيكون هذا هو توجيه إخراج البخاري له ، وستقف على أحاديث أخرى لا ترى فيها دليلاً على أن لها حكم الرفع هذه هي التي تحتاج إلى توجيه لما أخرجها البخاري في الصحيح ؟ وما هو عدد هذه الآثار الموقوفة التي لا يمكن أن يكون لها حكم الرفع ؟ وتحاول توجه إخراج البخاري الذي اشترط أن لا يخرج في كتابه إلا الحديث المسند أي المرفوع المتصل ، وعلى كل حال المشاريع حول البخاري ومسلم مشاريع متعددة حقيقة ، وما زال يحتاج إلى جمع .
يعني مثلاً السؤال الذي سبق قضية الرواة الذين أخرج لهم في المتابعات ، و الشواهد ممكن ينقدح في الذهن يعني موضوع وهو مهم جداً الرواة الذين انتقدوا على البخاري ، ومسلم من خلال كتاب " البيان والتوضيح " ندرس هؤلاء الرواة الذين أخرج لهم البخاري وانتقدوا عليه من ناحية مراتبهم في الجرح والتعديل ما هو الراجح فيهم ؟ كل راوي يدرس ؛ ثم نعرف معنى طريقة إخراج البخاري لهم ونحاول أن نعرف كيف اخرج البخاري لهم ؟ هل أخرج لهم في المتابعات كما يقال ؟ هل اعتمد عليهم فأخرج لهم مفاريد – حديث ليس في الباب إلا هو وأخرجه من طريق هذا الراوي - ؛ ثم يدل على أنه اعتمد عليه اعتماداً كاملاً ؛ هل كلما أخرج لهم يقرنهم بغيرهم مثلاً ؟ يعني يعرف ما هو موقف البخاري من هؤلاء الرواة ؟ وكذلك مسلم ؟ نفس هذا المشروع مهم ، ونافع جداً .(1/6)
الأحاديث المنتقدة على الصحيحين ليس فقط في التتبع ، والتي ذكرها الحافظ في الهدي لأن هناك أحاديث ما ذكرها الحافظ لا في الهدي ولا في الفتح موجودة في كتب العلل ، وفي كتب الجرح والتعديل ، والسؤالات ، وغيرها فلو جمعت هذه الأحاديث كاملة ، ودرست ، وبين ما هو نوع النقد الموجه إليها هل هو في الصنعة فقط أم في المتون أم ما شابه ذلك؟ أيضاً مشروع مهم ولا أعرف كتاباً استقصى فيه الاستقصاء الكامل لدراسة مثل هذه الأحاديث ، المقصود أن المشاريع كثيرة حقيقية ، ولعل الأسئلة هي التي تذكرني ببعض المشاريع التي أقترحها لمن يريد أن يعمل ، وأن يجتهد في تعلم السنة .
مشروع هو يتعلم ويستفيد منه ؛ ولو أتمه تمكن من خدمة ينفع الأمة به ، تكون خدمة نسأل الله عز وجل أن تكون في ميزان حسناته يوم القيامة .
السؤال السابع : ما أسباب التفضيل لكتاب البخاري على كتاب مسلم عند الجمهور ؟ ذكرنا الأسباب قلنا إن هناك أكثر من سبب :
هناك سبب اختلاف الرواة ، ومن ناحية الأحاديث المعلة .
الأحاديث المعلة في صحيح البخاري كما يقول الحافظ ابن حجر أقل من الأحاديث المعلة في صحيح مسلم ؛ لكن هناك وجه آخر لعله ليس عليه انتقاد وليس عليه مَلْحَظ بالنسبة للأحاديث المعلة ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية يقول : بأن أكثر ما انتقد على البخاري أو نسبة ما انتقد على البخاري والصواب فيه للبخاري أكثر من نسبة ما انتقد على مسلم ، والصواب فيه مع مسلم فهذا أيضاً وجه آخر يرجح فيه صحيح البخاري على صحيح مسلم و ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية ؛ فهذه الأوجه التي يرجح بها صحيح البخاري على صحيح مسلم .
السؤال الثامن : هل يوجد ضعف في الإسناد في صحيح البخاري كما في الإسناد الثالث في سنن أبي داود ؟
قلنا بأن شرط الصحيح أن لا يكون فيه ضعف فكيف يكون صحيح وضعيف ، إلا أن يكون الحديث أخرجه البخاري لبيان علته فقط أما أن يكون ضعيف عند البخاري ويخرجه ويسكت عليه هذا يعارض شرط الصحة .(1/7)
السؤال التاسع : ماذا تعني عبارة " على شرط البخاري أو مسلم " أو " على شرط الصحيحين " ؟
هذه سنتعرض لها عندما نتكلم عن شرط الحاكم في المستدرك .
السؤال العاشر : هل يوجد في صحيح البخاري حديث ضعيف ولم يبين علته ؟
الجواب: تكلمنا أيضاً عن هذا .
السؤال الحادي عشر : ما رأيكم في المحدثيْن " أبي رملة ، ومخنف بن سُليم " ؟
لا أذكر الآن الكلام فيهما .
السؤال الثاني عشر: هل يؤخذ كلام الأقران بعضهم في بعض ؟
كلام الأقران بعضهم في بعض من أقوى الكلام يعني القرين أعلم الناس بقرينه فالأصل قبول كلام الأقران بعضهم في بعض إلا إذا وجدت لدينا قرينة أو دليل يدل على أن هذا الكلام خرج بغير إنصاف كأن يكون بينهما عداوة معروفة أو يكون بينهما اختلاف في المذهب مثل أن يتكلم ناصبي في شيعي مثلاً فعندها نعرف أن الناصبي لن ينصف الشيعي ، أو أن الشيعي لن ينصف الناصبي , فإذا ظهرت عندنا قرينة تدل على أن هذا الكلام خرج بغير إنصاف أو مثلاً كلام القرين أحد القرينين تكلم في قرينه ، وقرينه هذا ممن ثبتت عدالته كل الأمة على توثيقه وتعديله ، وجاء هذا وحده فقط وخالف وتكلم فيه هذا دليل واضح على أنه كلام بغير إنصاف ؛ فالمقصود أن كلام الأقران في بعض من أقوى الكلام لأن القرين هو أعلم الناس بقرينه ، ولذلك فمن المرجحات التي نذكرها دائماً أن كلام المعاصر أولى من كلام المتأخر عن عصر الراوي لأن المعاصر اعرف بالراوي ، وأدرى به بخلاف المتأخر خاصة إذا كان الكلام متعلق بالعدالة أي إذا كان النقد متعلق بالعدالة ؛ لأن المعاصر رآه وربما سمع منه ، وربما عاشره فترة طويلة وربما ماشاه فعرف من أخباره ، وأحواله ما لا يعرفه عنه من لم يره ومن لم يلقه فقاعدة كلام الأقران يطوى ولا يروى هذه القاعدة يجب أن تقيد بما ذكرت وهو فيما لو ظهرت قرينة أو دليل يدل أن الكلام خرج بغير إنصاف أما بغير ذلك فهذه القاعدة ليست على افتراضها .(1/8)
السؤال الثالث عشر : لماذا تطلقون على السند إسناد ، وأنتم تعلمون أن هناك فرق بين السند ، والإسناد ؟
كما نعلم أن هناك فرق بين السند ، والإسناد من ناحية اللغة ؛ فإننا نعلم أن المحدثين لم يفرقوا بين السند ، والإسناد من جهة الاستخدام ولذلك لا نفرق بينهما نحن أيضاً في الاستخدام .
السؤال الرابع عشر : هل يقال إن كل الأحاديث المنتقدة على مسلم ، والبخاري أنها كلها إما لبيان علتها أو أنه ذكرها مع المتابعات ؛ أو أن له شواهد ذكرها لفائدة أو أن تكون هذه القاعدة مطردة ؟
لا ؛ بل هناك لاشك أن البخاري ومسلم عملهم عمل بشري , ولا بد أن يكون فيه نقص أبى الله أن يتم إلا كتابه ؛ فلابد أن يكون هناك نقص في هذا العمل البشري ؛ فهناك أحاديث أخرجها البخاري ، ومسلم واعتقدا صحتها , وخالفهم بعض أهل العلم ، وقد يكون الراجح كما نقول دائماً ما ذهب إليه البخاري ، ومسلم ؛ وقد يكون الراجح في بعض الأحيان ما ذهب إليه المنتقد ؛ فكون أنه كل الأحاديث المنتقدة , والبخاري ومسلم يعرفان علتها , و أنهما أخرجاهم لبيان علتها , وهذا يعارض الواقع ؛ فإننا نجد أحاديث منتقدة ما بين البخاري ومسلم علتها , ولا بأي وجه من وجوه البيان ، وإذا بلغ البيان لدرجة الخفاء ولدرجة أنه لا يظهر لأحد فما أصبح بياناً .
السؤال الخامس عشر : ذكر الخطيب البغدادي في تاريخه قصة الإمام البخاري مع أهل بغداد ما صحة هذه القصة ؟(1/9)
لا أرى داعي للوقوف عندها كثيراً ، القصة المشهورة عندما ورد على أهل بغداد فقلب عليه عشرة من المحدثين كل واحد منهم عشرة أحاديث قلبوا أسانيدها ومتونها فكان كلما ألقى عليه واحد منهم الحديث يقول لا أعرفه لا أعرفه حتى انتهوا من المائة ؛ فلما انتهوا عاد البخاري إلى تلك الأحاديث ، وبيَّن خطأ كل واحد من هم وصوابه يقول ؛ أما حديث كذا فصوابه كذا ، وأما حديث كذا فصوابه كذا حتى انتهى من الأحاديث المائة كاملة ، وهذه القصة أخرجها ابن عدي في كتابيه " الكامل " , " مشايخ البخاري " , وخاصة في كتاب مشايخ البخاري أنا موقن بأنه أخرجها فيه ولعله أخرجها أيضًا في الكامل ، والمقصود أنه أخرجها في كتاب " مشايخ البخاري " في ترجمة البخاري في مقدمة الكتاب يقول في بدايته : حدثني عدة من شيوخي وابن عدي يروي عن البخاري بواسطة واحدة مثل الدولابي , ومثل غيره ممن روى عنهم عن البخاري , يروي عن عدد من تلامذة البخاري عن البخاري فكونه يقول حدثني عدة من شيوخي في قصة ليس فيها أمر مستنكر بالنسبة لحافظة الإمام البخاري هذا يكفي ، وأنا أضرب مثال للأخوة دائماً حتى يعرفوا مثل هذه الأخبار والقصص لا تحتاج لقواعد المحدثين حتى نقبلها ونردها .(1/10)
لو أن أحدكم سمع مثلاً الشيخ ابن باز رحمه الله , أو الشيخ ابن عثيمين رحمه الله , أو أحد مشايخنا الشيخ صالح الفوازان في الموجودين حفظهم الله يقول : حدثني عدة من شيوخي أن فلان من علمائنا كان يفعل كذا ، وكذا ؛ هل يمكن لأحد أن يجد في نفسه أن يشكك في هذا ؟ الخبر لو سمع الشيخ ابن باز يقول : حدثني عدد من شيوخي عن فلان من علمائنا أنه كان يفعل كذا ، وكذا أو يقول كذا ، كذا , ويوردها مورد يعني الثقة بهذا الخبر هل تقولون والله هذا الخبر نرده وما نقبله من الشيخ ما أظن في أحد يتجرأ على مثل هذه العبارة فليش لما قالها : ابن عدي نتوقف , و نردها يعني عامل العلماء السابقين كما تعامل من تجلهم من المعاصرين خاصة وأن من شدة ثقته كأنه يرى ما في داعي أن يقول : حدثني فلان أو فلان فهذا الخبر عنده مسموع عن عدد من شيوخه ، والقصة ليست أثرا يستنبط منه حكم ، ويكفي فيها مثل هذا الإسناد , ولو لم يذكرها بإسناد ابن عدي لربما أيضاً احتججنا بها قال : وقع للبخاري كذا وكذا , وهو قريب عهد به يكفي في القصة مثل هذا النقل من إمام متثبت متحري مثل ابن عدي ، وخاصة أنه لن ينبني على هذه القصة استنباط حكم نخالف به نصوص ثابتة في الكتاب والسنة .
السؤال السادس عشر : ما مذهب الإمام مسلم ؟
ذكر الإمام مسلم من بين تلافي الشافعية ، وأيضاً من ضمن الحنابلة لأنه روى أيضاً عن الإمام أحمد , والظاهر كما نقول دائماً أن هؤلاء الأئمة الكبار لا يصح نسبتهم نسبة تقليد إلى أئمة المذاهب , لكن ربما استفادوا من هؤلاء ولا شك في علمهم ، والإمام مسلم يجل الشافعي كما في أحد كتبه المفقودة و الذي نقله عنه الخطيب في كتابه " مسألة الاحتجاج بالشافعي " , ولعل هذا أيضا من أسباب إيراد الإمام مسلم في طبقات الشافعية ، لكن لا يمكن الجزم بأنه متبع أو أنه مقلد لأحد الأئمة .
السؤال السابع عشر : الإمام مسلم يورد العلل في الصحيح لأني قرأت لأحدهم أنه ينفي ذلك ؟(1/11)
ما في أكثر من الأدلة التي ذكرناها هذا السؤال ليس له محل من الإعراب في الحقيقة بعد الأدلة التي ذكرناها من أن مسلم يذكر العلة ، ويضعف الحديث وهو نفسه في التمييز يضعف حديث وأورده في الصحيح , وكلام العلماء الذين سبقوا ، وطريقة إعلاله للأحاديث المختلفة بطرق مختلفة كل هذا يبقى هل يخرج الحديث الذي فيه علة فلن نكرر الكلام مرة ثانية .
السؤال الثامن عشر : أرجو أن تلخصوا الدرس في مذكرات كما فعله الشيخان يحيى البكري و سعد الحميد .
هناك من سينسخ هذه الدروس ، وقد بلغني بذلك جزاه الله خيراً وإذا نسخها انتفع بها الجميع إن شاء الله .
السائل : ممكن تفيدنا في المراجع ؟
تكلمنا عنها مصادر السنة ذكرنا ها بالأمس .
السائل : ما رأيك في هذا الحديث ؟
ليس متعلقاً بالدرس .
يكفي ما ذهب من الوقت ونبدأ بموضوعنا هذه الليلة
وهو الكتاب الثالث من كتب الصحاح :
" صحيح ابن خزيمة "
نبدأ بترجمة مختصرة لإمام الأئمة : محمد بن اسحق بن خزيمة السلمي مولاهم النيسابوري الشافعي .
واضح من هذه التسمية أنه ينتسب إلى بني سُليم ولاءً ، ومعنى ذلك انه ليس من العرب في الأصل لكنه مولى لهم وانه نيسابوري من بلد نيسابور الموجودة الآن في إيران مثل الإمام مسلم ، وأنه منسوب إلى الإمام الشافعي في المذهب .
وهو قد يعظم الإمام الشافعي , ويتبعه في كثير من أقواله ؛ لكنه يرجح خلاف مذهب الشافعي لو ظهر له الدليل بخلاف قوله .
ولد هذا الإمام سنة ثلاثة وعشرين ومائتين للهجرة ، وتوفي سنة إحدى عشرة وثلاثمائة من الهجرة .
من أكبر شيوخه وأعلاهم سنداً :
? اسحق بن رَاهُوْيَه . توفي سنة ثمانية وثلاثين ومائتين .
? محمود بن غيلان .توفي سنة تسع وثلاثين ومائتين .
? محمد بن أسلم الطوسي . توفي سنة اثنتين وأربعين ومائتي .
? أحمد المنيع .
? أبو كريب محمد بن علاء الهمداني .
? غندار .
? محمد بن المثنى .
? البخاري .
? مسلم .
? يونس بن عبد الأعلى .(1/12)
? إسماعيل بن يحيى المزني . تلميذ الشافعي .
? محمد بن عبد الله بن عبد الحكم . الإمام المالكي الشهير .
? الربيع بن سليمان المرادي .تلميذ الشافعي الشهير ، وناقل كتبه عنه .
تلاحظون أن أقدم شيوخه وفاة هو اسحق بن راهويه فتوفي , وقد بلغ محمد بن اسحق خمس عشرة سنة معنى ذلك أنه طلب العلم قبل بلوغه خمس عشرة عاماً هذا يبين تبكيره في طلب الحديث حتى إنه سمع من اسحق بن راهويه قبل أن يبلغ الخامسة عشرة من عمره .
من أشهر تلامذة هذا الإمام : الإمام ابن المنذر صاحب الأوسط وغيره من الكتب وهو قريب في السن لابن خزيمة توفي سنة ثماني عشرة وثلاث مائة .
أبو علي محمد بن عبد الوهاب الثقفي .
أبو بكر أحمد بن اسحق الصبغي .
دعلج السجزي .
ابن عدي .
الإسماعيلي صاحب المستخرج على صحيح البخاري .
من أشهر تلامذته ابن حبان صاحب الصحيح .
وكان ابن حبان يعظم ابن خزيمة تعظيماً بالغاً , ولازمه ملازمة طويلة جداً , وكان يقيد عنه كل ما يصدر منه حتى أنه في مرة من المرات كان يمشي بجوار ابن خزيمة في أحد الطرق ؛ فأكثر ابن حبان على ابن خزيمة في السؤال وضايقه وأضجره بكثرة الأسئلة حتى قال له ابن خزيمة : ابتعد عني يا بارد يعني يا سمج ؛ فمباشرة أخذ القلم ابن حبان, وكتب هذه الكلمة فقيل تكتب حتى هذا قال : أكتب عنك كل شيء أي كل ما يصدر عن هذا الإمام اعتبره فائدة وأقيده ، وهذا يبين تعظيمه الشديد لابن خزيمة وكثرة استفادته منه عليه رحمة الله .
من مصنفات هذا الإمام المعروفة لدينا كتاب الصحيح ، وكتاب التوحيد , وهما الكتابان اللذان وردانا , وسنتكلم في آخر هذا اللقاء إن شاء الله عن صلة هذين الكتابين بعضهما ببعض ؛ هل كتاب التوحيد جزء من الصحيح ، أو كتاب منفصل .
نقف كالعادة مع اسم كتاب ابن خزيمة :(1/13)
يقول : مختصر المختصر من المسند الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم بنقل العدل عن العدل موصولاً إليه صلى الله عليه وسلم ؛ من غير قطع في أثناء السند , ولا جرح في ناقلي الأخبار التي نذكرها بمشيئة الله تعالى ، هذا هو عنوان الكتاب الكامل الوارد في نسخته ، والذي نقل كثيراً من مقاطعه أكثر من واحد من أهل العلم .
أولاً نقف مع هذا العنوان اللطيف , أو الكلمة التي افتتح بها عنوانه : مختصر المختصر .
اعتدنا أن يصف البخاري كتابه بالمختصر ، مسلم يقول المسند الصحيح المختصر ؛ فلما يقول ابن خزيمة مختصر المختصر ؟
مع أن الواقع إنه أوسع من صحيح البخاري ، ومن صحيح مسلم تجد أن الأحاديث فيه أكثر من عدد الأحاديث في الصحيحين فما هو هذا الداعي ؟
بعض الباحثين ظن أن لابن خزيمة كتابين في الصحيح أحدهما المسند الكبير , وهذا هو الكتاب الأصلي ، وأما كتابه الموجود لدينا فهو مختصر من ذلك الكتاب ؛ لكن هذا التوجيه ليس صحيحاً لأن المسند الكبير لابن خزيمة لم يشترط فيه الصحة ويدل على ذلك عبارات لابن خزيمة أوردها في صحيحه مثل قوله في أحد المواطن: ذكر حديثاً ثم قال خرّجت طرق أخبار ابن عباس في كتابي الكبير ، ولست أحفظ في تلك الأخبار إسناداً ثابتاً من جهة النقل ؛ فهنا يصرح أن حديث ابن عباس هذا قد استوعب طرقه في كتابه الكبير مع أنه ليس في تلك الأسانيد إسناد ثابت ، وهذا يبين أن هذا الكتاب لم يقصه بالصحيح ، وله أيضاً أكثر من موطن قال : هي عبارات تدل على أن كتابه المسند الكبير ليس خاصاً بالصحيح ، وإنما هو كتاب يشمل فيه الصحيح وغيره .
إذن ما هو مقصوده من مختصر المختصر ؟(1/14)
الذي يبدو ويظهر لي أنه أراد أن يؤكد على المعنى الذي انتقد على البخاري ، ومسلم من أنهما يُطَرِّقان لأهل البدع أي يقولوا بأنه لا يصح إلا هذا القدر , يعني لما قال البخاري المختصر ما نفع وزعم بعض الناس أن كل الصحيح موجود في صحيح البخاري , ومسلم قال المختصر , ولا أفاد فظن بعض الناس أن مسلم يعتقد أن كل الصحيح في كتابه ، فهذا رأى أن كلمة مختصر لا تكفي ، فقال : " مختصر المختصر " ؛ حتى يبين أنه لم يزعم , ولم يدعي أنه سيحصر الصحيح كاملاً في عبارة صريحة وتكون أول كلمتين في عنوان الكتاب مختصر المختصر ؛ ثم يقول من المسند الصحيح , وتكلمنا عن المسند بما فيه الكفاية الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم بنقل العدل عن العدل موصولاً إليه صلى الله عليه وسلم من غير قطع في أثناء السند ، ولا جرح في ناقلي الأخبار التي سنذكرها بمشية الله هذه كلها داخلة تحت شرط الصحيح .
نعطي كلاماً عن منهجه , وعدد أحاديثه , ومنهجه في تبويب كتابه , وما إلى ذلك .
وهذا الكتاب لم يصلنا كاملاً للأسف الشديد بل هو مفقود من زمن متقدم فشرف الدين الدمياطي وهو صاحب المتجر الرابح والمتوفى سنة سبع مائة وخمسة من أعيان القرن السابع الهجري توفي في فاتحة القرن الثامن الهجري هذا الإمام في مقدمة المتجر الرابح يخبر أنه لم يقف إلا على ربع كتاب ابن خزيمة ، وهو ربع العبادات وهو نفس الربع الموجود لدينا نحن اليوم وكذلك ذكر ذلك الحافظ بن حجر , وإن كان بن حجر عنده غير ربع العبادات كتابان آخران من كتاب صحيح بن خزيمة كما سيأتي ذكره فعنده كتاب السياسة وكتاب التوكل من صحيح ابن خزيمة ، ونحن لا نعرف عن مكان وجودها حتى اليوم .
فعدد الأحاديث في هذا الجزء المتبقي الذي يمثل ربع الكتاب حسب ترقيم المطبوعة ثلاث آلاف وتسعة وسبعين حديث ؛ فلو افترضنا أن ربع العبادات , وهو في العادة إما ربع أو خمس أو ربع كل الكتاب ، كم سيكون عدد الأحاديث لو كان كاملاً ؟(1/15)
أكثر من عشرة آلاف حديث على أقل تقدير اثنا عشر ألف ؛ أو أقل بقليل ؛ أو تسعة آلاف بدون المكرر ، وهذا يدل على أنه أوسع بكثير من صحيح البخاري ومسلم حتى لو وقفت النصف منها ما يزال العدد أكبر بكثير من صحيح البخاري ، ومسلم مما يدل على أن هذا الكتاب كان كتاباً واسعاً في التصحيح ، وهذا في الحقيقة هذا المطلب مرده إلى أن ابن خزيمة مطلع على صحيح البخاري ، ومسلم , ومن أراد أن يؤلف لابد أن يضيف فائدة جديدة فكأنه يريد أن يضيف أحاديث أخرى لم يصححها البخاري ومسلم على ما صححه البخاري ومسلم . فكل من جاء بعد البخاري ، ومسلم وألَّف في الصحيح تجد عنده مَلْحَظ الاستدراك إضافة أحاديث صحيحة لم يصححها البخاري ومسلم سنجد هذا عند ابن خزيمة ، وعند ابن حبان ، وعند الحاكم ، وعند الضياء , وكل من ألَّف في الصحيح بعد البخاري ، ومسلم إلا أصحاب المستخرجات الذين عملهم ألا يخرجوا عن أحاديث صاحب الكتاب الذين استخرجوا عليه .
الباقي من الكتاب كما ذكرنا وهو نحو ربعه سبعة كتب (كتاب الوضوء ، كتاب الصلاة ، وكتاب الإمامة ، والجمعة ، والصيام ، والزكاة والمناسك ) يمتاز بن خزيمة بمزية خاصة في ترتيب كتابه , وهو أنه رتبه على ثلاثة أقسام , العادة و نحن نعرف العلماء يرتبون على قسمين كتاب وتحت الكتاب أبواب أما ابن خزيمة رتب كتابه على ثلاثة فروع يعني أصل ، وفرع ، وتحت الفرع أيضاً فروع ؛ فأول شيء الكتاب يقول كتاب كذا ؛ ثم يضع تحت الكتاب يسميه جماع الأبواب ؛ ثم تحت جماع الأبواب يضع تفاصيل الأبواب مثاله قال : في كتاب الطهارة يقول جماع أبواب الأفعال اللواتي توجب الوضوء ؛ ثم أورد تحت هذا الجماع أبواب نواقض الوضوء لكل ناقض يعقد باباً كذلك فعل في الأواني يقول جماع أبواب الأواني ثم يذكر ما يتعلق بأبواب الأواني في هذا الجماع ؛ فهو فيه دقة في الترتيب من هذه الناحية تعينك أكثر على استيعاب موضوعات الكتاب .(1/16)
لاشك أن ابن خزيمة في كتابه الصحيح تميز تميزاً واضحاً جداً استفاده من بعده ابن حبان في فقه الحديث حيث إنه يفصل في الفقه المستنبط من الحديث تفصيلاً لا خفاء فيه ليس مثل البخاري الذي يبوب ولا يبين العلاقة لا ؛ بل يدقق ويوضح وجه الاستنباط بصورة واضحة جداً في غاية البيان في أغلب الأحيان ، وتبويباته مفصلة مبينة ، ودقيقة ، ويمكن من خلالها وبسهولة أن نعرف فقه ابن خزيمة وفي الحقيقة إن هذا الكتاب يحتاج إلى خدمة جيدة في جمع آراء ابن خزيمة الفقهية ، ودراساتها دراسة جيدة ومعرفة منهجه في الاستنباط ومذهبه في ذلك مع إن القطعة الموجودة لا تمثل كل الكتاب لكنها قطعة مباركة حيث تناولت أبواب العبادات كاملة كما ذكرنا لكم , ومما يدعونا إلى دراسة هذا الإمام انه كان من كبار الفقهاء فقيهاً فحلاً من كبار الفقهاء ، وكان عنده دقة في الاستنباط يكاد يفوق بها أكثر أهل عصره في ذلك الزمن الذي كان زاخراً بالفقهاء و العلماء في القرن الثالث وأوائل الرابع الهجري ، وهناك عبارات لبعض كبار العلماء في ابن خزيمة تدل على مكانته في الفقه ؛ فيقول عنه قرينه , وهو إمام الشافعية على الإطلاق في زمنه و أحد من لقبوا بشيخ الإسلام وهو أبو العباس بن سُرَيج وهو من كبار فقهاء الإسلام على مر التاريخ هذا الإمام الكبير يقول عن ابن خزيمة : يستخرج النكت من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمنقاش ، يعني هذا ثناء دقيق على دقة استنباط بن خزيمة والمقصود بالنكت أي الفوائد الخفية , وبالمنقاش أي التتبع والاستنباط الدقيق جداً حتى يستخرج الفائدة الحديثية .
ويقول عنه تلميذه وأكبر تلامذته أبو علي الحسين بن علي بن يزيد النيسابوري ، وهو من كبار المحدثين الحفاظ ، والنقاد الكبار يقول عنه : لم أر مثله ، وكان يحفظ الفقهيات من حديثه كما يحفظ السورة .(1/17)
ويوضح هذا أيضاً ابن حبان الذي أثنى على شيخه هذا في المجروحين بقوله : ما رأيت على أديم الأرض من كان يحسن صناعة السنن , ويحفظ الصحاح بألفاظها , ويقول بزيادة كل لفظة زادت في الخبر ثقة حتى كأن السنن كلها نصب عينيه إلا محمد بن اسحق بن خزيمة فقط .
يقول حفظه للأحاديث ومعرفته لزيادات الألفاظ التي تؤثر في المعاني والفقه لا أعرف أحداً مثل ابن خزيمة في ذلك حتى كأن السنة كلها صفحة مفتوحة بين عينيه هذا كلام ابن حبان الخبير بابن خزيمة والذي هو إمام كبير فحل فلا يعظم في عينيه ولا يثني على أحد بمثل هذا الثناء إلا إذا كان عظيماً بالفعل ويستحق مثل هذا الثناء , وهذه العبارات كلها تؤكد على ضرورة العناية بفقه ابن خزيمة المبثوث في كتابه الصحيح .
نقف الآن عند شرط ابن خزيمة حيث اشترط الصحة في كتابه لكن ما هو شرطه في الصحة ؟
وجدنا أن الحافظ بن حجر قد تعرض لشرط ابن خزيمة في صحيحه في كتاب النكت فنريد أن ننقل كلام ابن حجر ثم ندرسه , ونرى هل هذا الكلام يسلم أم يحتاج إلى إعادة نظر؟
لما ذكر ابن الصلاح عليه رحمة الله أن الصحيح الزائد على ما في الصحيحين يستفاد من تصحيحات الأئمة الذين جاءوا بعد صاحبي الصحيح ضرب أمثلة من هؤلاء العلماء الذين نستفيد أحكاماً جديدة منهم بالصحة على بعض الأحاديث سوى ما أخرجه الشيخان سمى من بينهم ابن خزيمة في صحيحه ، فتعقبه الحافظ ابن حجر في كتابه النكت على كتاب ابن الصلاح ، تعقب ابن الصلاح في هذا الرأي حيث قال :
ومقتضى هذا أن يؤخذ ما يوجد في كتاب ابن خزيمة ، وابن حبان وغيرهما ممن اشترط الصحيح بالتسليم ، وكذا ما يوجد في الكتب المخرجة على الصحيحين ، وفي كل ذلك نظر هذا كلام الحافظ .(1/18)
يقول : أما النظر الأول ؛ فلم يلتزم ابن خزيمة , وابن حبان في كتابيهما أن يخرجا الصحيح الذي اجتمعت فيه الشروط التي ذكرها المؤلف ؛ لأنهما ممن لا يرى التفرقة بين الصحيح والحسن بل عندهم الحسن قسم من الصحيح لا قسيمه ، وقد صرَّح ابن حبان بشرطه , و حَاصِله أن يكون راوي الحديث عدلاً مشهوراً بالطلب غير مدلس سمع ممن فوقه إلى أن ينتهي ؛ فإن كان يروي هذا شرط ابن حبان الآن يقول ؛ فإن كان يروي من حفظه ؛ فليكن عالماً بما يحيل المعاني يقول: فلم يشترط على الاتصال والعدالة ما اشترطه المؤلف في الصحيح من وجود الضبط ، ومن عدم الشذوذ والعلة الآن الكلام على ابن حبان يقول إن ابن حبان لا يشترط في الصحيح إلا الاتصال ، والعدالة , ولا يشترط الضبط , ولا عدم الشذوذ , ولا عدم العلة يقول : وهذا وإلا لم يتعرض ابن حبان لاشتراطه ؛ فهو إن وجده كذلك أخرجه , وإلا فهو ماش على ما اصَّل يعني إذا وجد الحديث وجدت فيه هذه الشروط فيخرجه في الكتاب , ولكن لو لم يجد في الحديث هذه الشروط ؛ فإنه على أصله يخرجه في كتابه يقول لأن وجود هذه الشروط لا ينافي ما اشترطه ؛ ثم يقول عن ابن خزيمة يقول: وسمَّى ابن خزيمة كتابه المسند الصحيح المتصل بنقل العدل عن العدل من غير قطع في السند ولا جرح في النقل , وهذا الشرط مثل شرط ابن حبان سواء ؛ لأن ابن حبان تابع لابن خزيمة مغترف من بحره ناسج على منواله ...إلخ كلامه .
هنا يقرر الحافظ ابن حجر أن ابن خزيمة مثل ابن حبان , إنما يشترط العدالة ، والاتصال ولا يشترط الضبط , ولا نفي العلة , ولا نفي الشذوذ فهل هذا الكلام صحيحاً بالنسبة لابن خزيمة ؟ ابن حبان يكون له لقاء منفصل .
لكن ابن خزيمة هل بالفعل كان لا يشترط هذه الشروط ؟ هل يمكن أن يوجد محدث لا يشترط هذه الشروط في الصحيح ؟(1/19)
على كل حال الصحيح أن شرط ابن خزيمة مثل شرط غيره كما أنبه دائماً أن منهج الأئمة في القبول ، والرد في أصول المسائل متحد , ولا خلاف بينهم في ذلك ، ولا يمكن أن يكون بينهم خلاف في هذه المسائل أصول القبول والرد واحدة بين المحدثين لا تقول لي المتكلمين ولا الفقهاء الذين لا علم لهم بالحديث تدخلهم في الموضوع هؤلاء لا علاقة لهم بعلم الحديث يجب أن يقلدوا أهل الحديث في هذه المسائل لكن أئمة الحديث لا خلاف بينهم في الشروط الكبرى في القبول والرد قد يختلفون في جزئيات في تفاريع المسائل أما في الأصول فإنهم لا يختلفون في القبول ، والرد وليس هذا الكلام نقوله اعتباطاً ولكن لأنه واقع عمل المحدثين يدل على ذلك وسأذكر على كل حال مسائل ابن خزيمة لأقطع هذا الكلام ؛ لكن من بين الأمور التي نقف عنها في كلام الحافظ ابن حجر حول شرط ابن خزيمة أننا نقول شرط الضبط أمر بديهي لا يحتاج إلى تنصيص .
أولاً : هل يتصور أن هناك واحد منكم أنتم الآن يسمع خبر من شخص , ولو كان من أعبد الناس لكن تعرف أنت أنه لا يحفظ شيئاً ، ولا يكاد يقيم رواية ؛ هل يمكن أن تقبل منه خبراً ينقله ؟ هذا أمر عقلي منطقي لا يحتاج إلى أن نبحث إلى هل يشترطه ابن خزيمة أو لا ؟ أمر واضح وبيَّن لا يمكن أن نقبل رواية أحد نعرفه بكثرة التخليط لمجرد أنه عدل في دينه هذا أمر واضح لا يحتاج إلى استدلال .
ثانياً : أن ابن خزيمة اشترط الضبط بقوله " بنقل العدل عن العدل " كما قلنا في مسلم ، و قلنا بأن العدل ... عند المحدثين يطلق على من جمع بين العدالة الدينية والعدالة في الرواية , وهي الضبط ، و هناك عبارات متعددة تدل على ذلك سيأتي في كلام ابن حبان , ويقطع بأن العدل عندهم هم من جمع بين الأمرين ، أيضاً هناك عبارة لابن أبي حاتم ، ولغيره حقيقة عبارات كثيرة تدل على أن العدل عندهم إذا أُطلق يقصد به العدل في الدين ، وفي الرواية يعني العدل الضابط يعني الثقة .(1/20)
ثالثاً : قوله من غير جرح لناقلي الأخبار ، الذي ليس بضابط أليس مجروحاً ؟ مجروح
فقوله من غير جرح هذا يدل على أنه يشترط الضبط هذا دليل ثالث .
رابعاً : رده الصريح لأحاديث رواة يصرح بنفسه إنما رد أحاديثهم لعدم ضبطهم مثال ذلك أمثله كثيرة منها : يقول بعد أن أورد حديثاً من رواية عبد الرحمن بن زيد بن أسلم يقول : ليس هو ممن يحتج أهل التثبت بحديثه وذلك : لسوء حفظه للأسانيد , وهو رجل صناعته العبادة ، والتقشف ، والموعظة ، و الزهد ، و ليس من أهل الحديث الذي يحفظ الأسانيد فهو عدلٌ عابدٌ زاهدٌ إلا أنه ليس بحافظ . عبارة صريحة لا تحتاج إلى كثرة استدلال .
وقال عن عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم العمري الصغير يقول : وفي القلب من سوء حفظ عبد الله بن عمر العمري رحمه الله يعني يقول قلبي لا يطمئن إلى روايته لسوء حفظه ، ويقول عن ابن أبي ليلى محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى أحد كبار فقهاء المسلمين كان يقرن بأبي حنيفة في الفقه يقول عنه : ليس بالحافظ , و إن كان فقيهاً عالماً يؤكد أنه يرد حديثه لأنه ليس بالحافظ , و إن كان ليس فقط من العباد بل من فقهاء المسلمين وعلماء المسلمين هذا بالنسبة لشرط الضبط .(1/21)
أيضاً هناك عبارة لأحد العلماء لا أنساها تبين تشدد ابن خزيمة في قضية الضبط ، و في غيرها يقول الإمام الذهبي في ترجمة ابن خزيمة في سير أعلام النبلاء يقول : وقد كان هذا الإمام الجهبذ بصيراً بالرجال فقال فيما يرويه عنه أبو بكر محمد بن جعفر شيخ الحاكم يعني يقول ابن خزيمة : لست أحتج بشهر بن حوشب ، (...) ولا بعبد الله بن عمر , ولا ببقية , ولا بمقاتل ابن حيان , ولا أشعث بن سوار , ولا بعلي بن جدعان لسوء حفظه يؤكد , ولا بعاصم بن عبيد الله , ولا بابن عقيل , ولا بيزيد بن أبي زياد , ولا بمجاهد , ولا بحجاج بن أرطأة إذا قال عَنْ - لأن حجاج مدلس - ولا بأبي حذيفة النهدي , ولا بجعفر بن برقان , ولا بأبي معشر نجيح , ولا بعمر ابن أبي سلمة , ولا بقابوس بن أبي ظبيان .
يقول الذهبي ثم سمى خلقاً دون هؤلاء في العدالة .
ثم يقول الذهبي : فإن المذكورين احتج بهم غير واحد يعني يريد أن يبين تشدد ابن خزيمة في الرواة ، وأنه لا يحتج بجماعة احتج بهم أناس اخرون سواه مما يدل على أن دعوى أنه لا يشترط الضبط ما أبعدها عن الصواب .
نأتي لقضية اشتراط العلة ، هل يمكن أن يتصور أن محدثاً ناقداً كابن خزيمة لا يرى العلة قادحة أبداً ؟
هذه أمور بديهية يا إخوان إذا كنت أنت لا تتصور أن الحديث قد يكون معلاً بعلة قادحة , ومع ذلك تحتج به , وتصححه فكيف بإمام ناقد من أئمة النقد والرواية , ويدل على ذلك أيضاً تصرفات صريحة لابن خزيمة .
فمثلاً من العلل كما ذكرنا مخالفة الراوي المقبول لمن هو أولى منه , وهو شذوذ عند الحافظ ابن حجر ؛ فنريد أن نبين أنه رد أحاديث لمخافة الراوي المقبول لمن هو أولى منه في صحيحه .
ذكر ابن خزيمة حديث محمد بن يزيد الواسطي عن شعبة عن قتادة عن ابي أيوب الأزدي عن عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث مواقيت الصلاة أنه قال صلى الله عليه وسلم : ووقت المغرب إلى أن تذهب حُمْرة الشفق .(1/22)
ثم قال : لو صحت هذه اللفظة في هذا الخبر ( حُمرة الشفق ) لكان في هذا الخبر بيان أن الشفق الحمرة إلا أن هذه اللفظة تفرد بها محمد بن يزيد إن كانت حُفظت عنه ؛ وإنما قال أصحاب شعبة في هذا الخبر ( ثور الشفق ) أي ثورانه وانتشاره .
ما كان ما قاله محمد بن يزيد حمرة الشفق ثم بين أن هذه اللفظة غير ثابتة مع أن محمد بن يزيد مقبول الرواية ، وقال في حديث آخر ابن وهب أعلم بحديث أهل المدينة من عبيد الله بن عبد المجيد ، وعبيد الله بن عبد المجيد صدوق ، وقال في موطن ثالث والحكم لعبيد الله بن موسى على محمد بن جعفر محال لا سيما في حديث شعبة , ولو خالف محمد بن جعفر عدد مثل عبيد الله في حديث شعبة لكان الحكم لمحمد بن جعفر عليهم ، مع أن عبيد الله بن موسى العبسي ثقة ، ومع ذلك يرجح رواية غندر محمد بن جعفر عليه , وهذا ترجيح بناءً على الأضبط والأتقن يرى أن محمد بن جعفر أضبط لحديث شعبة من عبيد الله بن موسى العبسي ، وهذا هو الشاهد عند الحافظ ابن حجر ، وهو يصرح الآن بأنه يرجح بناءً على ذلك .
وقال في العلاء بن صالح الكوفي وهو ثقة يقول : سفيان الثوري أحفظ من مائتين مثل العلاء بن صالح مع أنه ثقة إلا أنه يقدم حديث سفيان على مائتين من مثله ، هذه أيضاً عبارة صريحة بأنه يرد إذا خالف الراوي من هو أولى منه .الأمثلة كثيرة حقيقة .
هذا بالنسبة لموقفه من الشاذ كما يعرفه الحافظ بن حجر ، والشاذ كما عرفه ابن الصلاح وهو تفرد من لا يحتمل التفرد ؛ هل كان يعتني بهذا الأمر أيضاً ابن الصلاح حتى أنه في شروط الصحيح عنده وهي كاملة بالفعل ؟ نقول نعم , والأمثلة على ذلك في صحيح ابن خزيمة .(1/23)
مثلاً قال في صحيحه : حدثنا أبو موسى قال حدثني الضحاك بن مخلد أبو عاصم قال أخبرنا سفيان قال حدثني عبد الله بن أبي بكر عن سعيد بن المسيب عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا أدلكم على ما يكفر الله به الخطايا ويزيد في الحسنات قالوا بلى يا رسول الله قال إسباغ الوضوء على المكاره ... آخر الحديث .
قال ابن خزيمة بعده هذا الخبر لم يروه عن سفيان غير أبي عاصم ، يقول فإن كان أبو عاصم قد حفظه فهذا إسناد غريب ، ثم يقول والمشهور في هذا المتن عبد الله بن محمد بن عقيل عن سعيد عن أبي سعيد لا عن عبد الرحمن بن أبي بكر إسناد آخر غير الإسناد السابق لا يمكن أن يعان به يعني ما هو الخلاف الآن في راو واحد لو أنه مثلاً جاء برواية لسفيان الثوري , ولو أن تلامذة سفيان خالفوا أبا عاصم لكان هذا من نوع الشاذ الذي ذكره الحافظ ابن حجر مخالفة الراوي لمن هو أولى منه لكن هذا إسناد وذاك إسناد آخر
ممكن واحد يقول : أَيْش يمنع أن يكون أبو عاصم قد حفظ هذا الحديث ؟ ومع ذلك يتوقف ابن خزيمة عن قبول هذا الإسناد لتفرد أبي عاصم به .
أيضاً استدرك على تفرد أبي عاصم بهذا الحديث الدارقطني حيث أورد هذا الحديث في أطراف الغرائب و الأفراد وقال : رواه أبو عاصم النبيل عن الثوري عن عبد الله بن أبي بكر عن سعيد , ولم يتابع أبو عاصم عن الثوري ، وأورده أيضاً البزار في مسنده فقال : لا نعلم رواه عن الثوري إلا أبو عاصم ، ونظن عبد الله بن أبي بكر هو عبد الله بن محمد بن عقيل أيضاً يشير إلى أن لعل الصواب في الرواية هو الرواية الأخرى كما ذهب إليه ابن خزيمة .(1/24)
أيضاً يصرح بمجمل شرطه ابن خزيمة في موطن من كتابه حيث أورد العنوان السابق لكن بشيء من الطول حيث قال : مختصر المختصر من المسند الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم بنقل العدل عن العدل موصولاً إليه من غير قطع في أثناء السند ولا جرح في ناقلي الأخبار التي نذكرها إلا ما نذكره أن في القلب من بعض الأخبار شيء .
يبين الآن بعض أنواع العلل التي يرد بها الحديث والتي يشُك في صحة الحديث من أجلها فيقول : إما لشك في سماع راويٍ ممن فوقه خبراً الشك في الاتصال والسماع , أو راويٍ لا نعرفه بعدالة ولا جرح وهذا مهم لأنه ينص هنا أنه لا يقبل رواية المجهول ، ويقول : أو راويٍ لا نعرفه بعدالة ولا جرح إذن فابن خزيمة لا يحتج بالمجهول .
حتى لا يأتي واحد من الناس ويقول شرط ابن خزيمة مثل شرط ابن حبان في الرواة المجهولين , وأنه يوثق المجهولين على أن ابن حبان سيأتي الكلام عنه ، وبيان موقفه من هذه المسألة أيضاً لكن هذا أيضاً صريح من كلام ابن خزيمة أنه لا يحتج بالمجهول ثم يقول : فنبين أن في القلب من ذلك الخبر يعني إن كان من رواية المجهول نبين أننا نشك في صحة هذا الخبر ، وقد فعل ذلك بالفعل فإنه أورد عدداً من الرواة في صحيحه ، وقال فلان لا نعرفه بعدالة ولا جرح أو بعبارة نحوها .
لكن المقصود أنه أعلَّ أكثر من حديث في صحيحه بجهالة الحال براويه ، وأنه لا يعرف راويه بعدالةٍ ولا جرح .
ثم يقول: فإِنَّ لا نستحل – انتبهوا للعبارة المهمة هذه والتي الحقيقة تدل على عِظَم ورع هذا الإمام - يقول: فإِنَّ لا نستحل التمويه أي التدليس أو الخداع أو ما شابه ذلك ؛ فإِنَّ لا نستحل التمويه على طلبة العلم بذكر خبر غير صحيح لا نبين علته ؛ فيغتر به من يسمعه .(1/25)
يبين أنه لن يسكت عن حديث فيه علة ، وأنه إذا فيه علة لابد أن يبيِّنها ، وهذا أيضًا كلام صريح من ابن خزيمة أنه من شرطه ألا يكون الحديث مُعلًَّا ، فهذا كله في الحقيقة صريح لرد ما نسبه الحافظ بن حجر إلى ابن خزيمة .
يبقى قضية واحدة من ذاك النقد، وهو أن ابن خزيمة ، وابن حبان لا يفرقان بين الصحيح والحسن ، وهذا في الحقيقة لم يُختص به ابن حبان وابن خزيمة ، بل كل من قبل الترمذي لا يفرِّقون بين الصحيح والحسن ؛ لأن اصطلاح الحسن بالمعنى الاصطلاحي , أو لفظ حسن بالمعنى الاصطلاحي أول من استخدمه بهذا المعنى هو الترمذي ، ولذلك تجد أن كثير من العلماء قبل الترمذي أطلقوا على أحاديث صحاح أنها حِسان ، وأطلقوا على حِسان أنها صحاح ، وكذلك بعد الترمذي مثل ابن خزيمة وابن حبان والحاكم، وقد نصَّ الحاكم على أن الحاكم أيضًا لا يفرِّق بين ، نصَّ الحافظ بن حجر على أن الحاكم لا يفرِّق بين الصحيح والحسن ، فالتفريق يكاد يختص في الحقيقة بابن خزيمة هذا مصطلح خاص بابن خزيمة ، لم يستخدمه أحد قبله بهذا المعنى ، ولم يشع حتى بعد ابن خزيمة ، فإن كان ابن خزيمة وابن حبان ، والحاكم كلهم لا يفرقون بين الصحيح والحسن فمن الذي يفرق بين الصحيح والحسن؟
ونجد أنه حتى استخدامات الدار قطني لا تدل على استخدام ، استخدم كلمة الحسن في السنن وفي غيره ، لا تدل على المعنى الذي ذكره أو الذي استخدمه به الترمذي ، بل حتى الخطيب البغدادي لمَّا عرَّف الحسن بيَّن أنه يُطلق عند العلماء بمعنى الغريب ، والخطيب متأخر ، ولا أشار للمعنى الذي ذكره الترمذي ، مما يدل على أن هذا المصطلح لم يشع لا قبل الترمذي ولا بعد الترمذي ، وأنه يكاد يكون مصطلح خاص بكتاب الترمذي نفسه ، وهذا هو الصحيح بالنسبة لهذه المسألة ، وعلى كل حال فليس نقدًا، نحن يهمنا شرط ابن خزيمة من جهة القبول ، هل تحقق فيه الشروط المُتفق عليها ؟(1/26)
نقول : نعم تحققت فيه الشروط المُتفق عليها بهذه الأدلة الكافية ، وفي الحقيقة يعني أنا يستوقفني كثيرًا مثل هذا التقرير النظري من الحافظ بن حجر ، تقرير نظري بعيد كل البعد عن واقع كتاب ابن خزيمة ، وهذا أؤكد عليه كثيرًا حتى لا يقودنا تعظيم العالِم إلى الغلو في قبول أخباره مثل ما يُقال لي دائمًا : إن الحافظ استقرأ كل المصطلحات.
يا أخي كيف تقول: استقرأ ، وهو ما قال هذا الكلام ؟ كيف تدعي عليه أنه استقرأ كل المصطلحات ؟
هذا هو ما استقرأ صحيح ابن خزيمة فنسب إليه شروطًا في غاية الوضوح أنها باطلة ، وأنها لا تصح لابن خزيمة ، ففي غيرها من مسألةٍ أعمق خطأُه فيها أورد وأوضح قد يكون ، فلا تستغرب مثل هذا الأمر ، وهذا ليس فيه انتقاص للحافظ بن حجر له مواطن أخرى كثيرة أبدع فيها وأصاب فيها، لكن يبقى أنه بشر ، وأنه إذا لم يستقرأ ولم ينظر في تطبيق العالِم أنه قد يخطئ ، وهذا أمر قد وقع له في أكثر من موطن ، المقصود أن هذا الخطأ في مثل صحيح ابن خزيمة ، وكما سيأتي أيضًا في ابن حبان حيث نسب إليه ما ليس من شرطه ، هذا كله يدل على أن العالِم الكبير قد يخطئ الخطأ الكبير ، وكما قال الحافظ نفسه في " فتح الباري " يقول : أخطاء الكبار كبار .
كلمة جميلة ذكرها الحافظ بن حجر ، ونحن كما قالها الحافظ بن حجر على أحد العلماء الكبار الذين أخطئوا خطأ كبيرًا ، نحن نقولها اليوم على الحافظ بن حجر ، نقول : أخطاء الكبار قد تكون في بعض الأحيان كبار.
وهذا ما يتعلَّق بشرط ابن خزيمة ، لكن نريد أن نقف مع إخراجه للأحاديث المُعلَّة في كتابه ، ومنهجها في إخراجها وعدد هذه الأحاديث المُعلة تقريبًا في كتابه .(1/27)
يقول المًتكلِّم : إن ابن خزيمة يخرج بعض الأحاديث المُعلَّة في كتابه ، ويبين عللها ، وبلغ عدد هذه الأحاديث التي أُعلَّت في صحيح ابن خزيمة ، تعرفون صحيح ابن خزيمة علَّق عليه الشيخ الألباني عليه رحمة الله، وأيضًا محققه الأعظمي، فضعفوا بعض الأحاديث ، قام بإحصائها أحد الباحثين سيأتي ذكره في آخر كلامنا عن ابن خزيمة ومن خدم كتابه ، فبلغت مائتين وثمانية وثلاثين حديثًا عدد الأحاديث التي انتقدها الألباني والمحقق في صحيح ابن خزيمة مائتين وثمانية وثلاثين حديثًا.
عدد الأحاديث الواهية منها الشديدة الضعف حسب هذه الإحصائية التي قام بها هذان العالِمان هي خمسة عشر حديثًا ، يعني خمسة عشر من مائتين وثمانية وثلاثين، البقية ضعيفة لكن خفيفة الضعف ، أما خمسة عشر فهي شديدة الضعف حسب رأي الألباني ، والأعظمي ، سيأتي الكلام عن هذه الإحصائية بشيء من التوسع ، لكن نريد أن نقول: كيف كانت ، أو ما هي طريقة ذكر ابن خزيمة للأحاديث المُعلَّة في كتابه ؟
كيف ينبِّه على العلة في كتابه ؟
فيقول : إن له عدة طرق في التنبيه على العلَّة منها :
الطريقة الأولى : أن يتعقب الحديث أو يقدمه ، أو يذكر أثناء السند عبارة صريحة دالة على توقفه عن تصحيح الحديث , أو على تضعيفه وردِّه ؛ إما يُقدِّم الحديث بعبارة ، أو يتعقب الحديث بعبارة ، أو في أثناء السند يقول عبارة صريحة بتضعيف ذلك السند ، أو بالتوقف أقل شيء يقول : أنا أتوقف عن تصحيح هذا الحديث ، وهذا له أمثلة كثيرة جدًا ويستخدم كثيرًا ابن خزيمة عبارات يكررها دائمًا في بيان العلة مثل قوله : في القلب من هذا الخبر شيء، أو قوله : فيه نظر ، أو قوله : إن صحَّ الخبر ، أو قوله : إن ثبت الخبر ، أو قوله : أنا أبرأ من عهدة هذا الإسناد ، أو قوله : إن جاز الاحتجاج بهذا الخبر أو بخبر فلان .
هذه العبارات دائمًا يكررها ابن خزيمة لبيان ضعف الحديث .(1/28)
الطريقة الثانية : ألا يبوِّب للحديث ؛ يعني يكون الحديث يدل على معنى فقهي معين ، ومع ذلك لا يبوِّب لهذا المعنى ابن خزيمة ، وهذه الطريقة حقيقة لم أقف على أحد نصَّ عليها مع أن ابن خزيمة صرَّح بها في صحيحه ، حيث قال في أحد المواطن يقول : لم أجعل لهذا الخبر بابًا لأنهم قد اختلفوا في هذا الإسناد ، وبيَّنته في الكبير .
يقول : لم أجعل لهذا الخبر بابًا : ما بوَّبت لفقهه للاختلاف في إسناده ، ثم قال : بأني قد بينت هذا الاختلاف في كتابي " الكبير " وهذا أحد الأدلة الأخرى على أن الكتاب الكبير ليس شرطًا ، لم يشترط فيه الصحة .
ويقول في موطن آخر من صحيحه في بيان أيضًا هذا المنهج في بيان العلة ، وهذا طريقة خفية ، ربما إنسان انتقد ابن خزيمة , وهو لم ينتبه إلى أن ابن خزيمة لم يبوِّب لهذا الحديث وأشار بذلك إلى ضعف الحديث وهو يظن أن ابن خزيمة يصحح الحديث.
يقول في موطن آخر أيضًا في بيان هذه الطريقة يقول : هذا خبر ليس له من القلب موقع ، وهو خبر منكر ، لولا ما استدللت من خبر صفية على إباحة السمر للمعتكف ، لم يجز أن يُجعَل لهذا الخبر بابٌ على أصلنا ، فإن هذا الخبر ليس من الأخبار التي يجوز الاحتجاج بها ، إلا أن في خبر صفية غُنية في هذا ، فإن خبر صفية ثابت صحيح ، وفيه ما دلَّ على أن محادثة الزوجة زوجها في اعتكافه ليلًا جائز وهو السمر نفسه.
يعني أورد حديث صفية في اعتكاف النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنها كانت تأتي إليه في الليل ، وتحادثه وقتًا طويلًا ، فدلَّ ذلك على جواز السمر بعد العشاء ، وفي الليل .(1/29)
وأورد حديثًا آخر صريحًا فيه جواز السمر بعد العشاء ، لكنه ليس بصحيح ، مع ذلك بوَّب لهذا الحديث الضعيف ( باب جواز السمر في الليل أو بعد العشاء ) فبيَّن أن هذا الحديث منكر وضعيف ، لكنه قال يقول : لولا أن الخبر يدل على فقه هذا الحديث لما بوَّبت له لأنه ضعيف ، وهذه أيضًا صريحة على شرطه السابق ، وأنه إذا كان الحديث ضعيف لا يبوِّب له أبدًا .
الطريقة الثالثة : أن يُعلِّق الحديث ثم يسنده بشرط ألا يكون قد رواه مسندًا على الجادة قبل ذلك أو بعده .
في طريقة أيضًا لابن خزيمة في بيان أن هذا الحديث لا يصح : أنه يورده معلقًا أولًا.
فيقول مثلًا : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - أو ذُكر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: كذا كذا كذا ، حدثناه فلان عن فلان عن فلان، يذكر الإسناد عقب المتن ، طبعًا الأصل أن يُذكر الإسناد ثم المتن ، لكن إذا كان في الحديث علة يذكر المتن أولًا طرف الإسناد ثم المتن ثم يذكر إسناده إلى من علَّق عنه ، وهذه أيضًا طريقة من طرق ابن خزيمة ، لكن بشرط هذه لا يعتبرها إشارة للضعف إلا بشرط ألا يكون قد أسند الحديث نفس هذا الحديث قبل الحديث أو بعد الحديث.
يدل على ذلك عبارة واضحة في هذا المنهج لابن خزيمة مثل قوله في كتاب ( التوحيد ) , وهو يشترط فيه الصحة كما سيأتي ، يقول : روى هشام بن حسان – الآن هذا كلام ابن خزيمة – يقول : روى هشام بن حسان عن الحسن عن جابر بن عبد الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ?? لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ قَدْ دَعَا بِهَا فِي أُمَّتِهِ ، وَإِنَّي استخَبَأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ ?? .(1/30)
حدثناه إسماعيل بن بشر بن منصور السلمي قال حدثنا عبد الأعلى عن هشام ؛ ثم يقول ابن خزيمة , وإنما قلت في هذا الخبر روى الهشام عن الحسن لأن بعض علمائنا كان ينكر أن يكون الحسن سمع من جابر يقول ؛ إنما علقت هذا الخبر بهذه الطريقة لأن هناك خلاف بسماع الحسن من جابر لهذا الخلاف توقف ابن خزبمة عن تصحيح هذا الحديث فهو متوقف عن تصحيحه فواضح هنا أنه ينقل الخلاف ؛ ولذلك علق هذا الخبر بهذه الطريقة , وتوقفه يدل على عدم جزمه بالصحة كما ذكرنا .(1/31)
قال في موطنٍ آخر من صحيحه وجاء عن خالد بن حيان أو جاء خالد بن حيان بطامة رواة عن ابن عجلان في حديثٍ ذكره رواة عن بن عجلان عن سعيد بن المسيب عن أبي سعيد حدثناه جعفر بن محمد الثعلبي عنه علق الحديث ثم أسنده ثم قال بعد هذا التصرف ولا أحل لأحد أن يروي عني هذا الخبر إلا على هذه الصفة هكذا وردت الكلمة في إتحاف المهرة ووردت محرفة في صحيح بن خزيمة على هذه الصيغة أما في إتحاف المهرة فذكر الحافظ على هذه الصفة وهي أصرح في الدلالة على المقصود يقول ولا أقول لأحدٍ أن يروي عن هذا الخبر على هذه الصفة فإن هذا إسناد مقلوب هنا أيضًا يؤكد ابن خزيمة أنه سار على هذا المنهج وأنه لا يحل لأحد أن ينقل هذا الحديث إلا بهذه الطريقة التي يعتبره دالة على عدم قبول الحديث , ولعل هذا الموطن أو غيره هو الذي عناه الحافظ ابن حجر عندما قال في الفتح عندما علق البخاري أثرًا ثم أسنده البخاري فعل هذا الفعل في مرة , وهذا قد يلحق نسينا أن نذكره من طرق بيان البخاري لعلله فقد يكون البين طرق إعلال البخاري أن يفعل نفس الفعل ابن خزيمة كما سيأتي الآن من كلام الحافظ ابن حجر فإنه يقول عندما علق البخاري خبرًا ثم أسنده وفي مغايرة البخاري سيق الإسناد عن ترتيبه المعهود إشارة إلى أن ما يريده من هذه الكيفية ليس على شرطه هذا كلام الحافظ وإن صارت صورته صورة الموصول , وقد صرح ابن خزيمة بهذا في صحيحه بهذا الاصطلاح هذا كلام الحافظ بن حجر , وأن ما يورده على هذه الكيفية ليس على شرط صحيحهِ , وحرج على من يغير هذه الصيغة هكذا ورد في فتح الباري , أو من يغير هذه الصيغة المصطلح عليها إذا أخرج منه شيئًا على هذه الكيفية فهو يرى الحافظ أن هذا هو رأيهُ انتبه لقولهُ لعل الحافظ قصد هذا الموطن لماذا الموطن السابق لماذا يقول لعله قصد هذا الموطن لم أجزم بذلك ولا يحق لأحد أن يجزم بذلك لماذا لأن الحافظ وقف على جزأين من كتاب ابن خزيمة مفقودين بالنسبة لنا(1/32)
التوكل والسياسة فلعل الكلام الذي يقصده الحافظ هنا الذي يقول أن صحيح بمنهج ابن خزيمة كان في أحد هذين الكتابين لا يحق لي أن أجزم بأنه ذلك الموطن أو ليس هو مع أن الموطن السابق أيضًا ظاهره بالفعل أنه يشترط فيه هذا الشرط أن هذا منهجًا لابن خزيمة أيضًا يفعل هذا المنهج الحافظ ابن حجر في إتحاف المارة عندما قال في موطن وقاعدة ابن خزيمة إذا علق الخبر لا يكون على شرطه في الصحة ولو أسنده بعد أن علقه ، وهذا أيضًا ذكره السخاوي بل ذكر السخاوي في " فتح المغيث " أن إسماعيل نص على هذا المنهج إن الإسماعيلي في مقدمة المستخرج نص أنه إذا أراد أن يعل فإنه يعلق الخبر ثم يسنده , وهذا يدل على أن هذا منهج شائع بين المحدثين يعني البخاري فعله والإسماعيلي نص عليه فمبدأ الإنكار أن هذا منهج لابن خزيمة في صحيحه , وقد جاءت عبارات وتصرفات تدل على أن هذا منهجًا له .
وقد وجدت أن ابن خزيمة في كثيرٍ من الأحيان في الأحاديث التي يضعفها بالفعل يفعل هذا الفعل يعني يضعفها صراحة , ويقول قد قدم المتن على الإسناد فيها وربما أذكر هنا بعض أرقام الأحاديث هذه مثلاً [ 1692 – 1967- 1972 – 2691 – 2703 – 2733 – 2734 – 2840 – 2841 ]
هذه كلها مواطن وغيرُها يورد الأحاديث الطريقة السابقة ليس هذا فقط , ويضعفه صراحة فجمع بين طريقتين من طرق الإعلان التصريح وطريقة التقديم والتأخير وأذكر بالشرط الذي ذكرته بشرط تعتبر علامة على التضعيف أو إشارة إلى التضعيف بشرط ألا يكون قد أفسد الحديث قبله على الجادة بالطريقة , ولا بعده على الطريقة الجادة المعهودة في مثل ذلك .
آخر شيء من طرق الإعلال ونقف , ومنها أن يستثني عدد من الأحاديث من شرط كتابه من طرق إعلانه الحديث أن يستثني عدد من الأحاديث , ومثال ذلك أنه قال عند كلامه عن أحاديث إفطار الصائم من الحجامة يقول , فكل ما لم أقل إلى أخر هذا الباب إن هذا صحيح فليس من شرطنا في هذا الكتاب .(1/33)
يقول كل الأحاديث التي أذكرها من أول هذا الباب إلى آخره فليست صحيحه على شرطنا إلا إذا قلت أنه صحيح , فربما فعل أيضًا مثل هذا الأمر , وهو ينص على ضعف مجموعة من أخرج الأحاديث قبل يعني في أثناء كتابه ويبين حدود هذا الشرط في كتابه .
وصلى اللهم وسلم ، وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين .(1/34)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على إمام الأنبياء والمرسلين وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد ..
فنكمل قراءتنا ، أو كلامنا عن صحيح ابن خزيمة عليه رحمة الله وكنا قد توقفنا بالأمس عند طرق بيان ابن خزيمة للعلل في كتابه الصحيح ، واستكمالًا لهذا الموضوع نريد أن نذكر ما هو وجه إيراد ابن خزيمة لهذه الأحاديث الضعيفة، يعني ما هو وجه الاعتذار عن ابن خزيمة فيما أورده من الأحاديث الضعيفة مطلقا سواء التي أَعَلَّها أو التي لم يُعلها، لِمَ ذكرها في كتابه الصحيح؟
طبعًا نقصد بهذه الأحاديث الضعيفة الأحاديث التي هي مائتين وثمانية وثلاثين التي ضعفها الشيخ الألباني ومحقق الكتاب في حاشية صحيح ابن خزيمة، فما هو وجه الاعتذار عن ابن خزيمة في هذه الأحاديث؟
هناك أكثر من اعتذار يمكن أن يذكر:
الأول : أن يكون الصواب مع ابن خزيمة؛ يعني أننا بعد دراسة الحديث قد يتبين لنا في بعض الأحاديث أن الصواب مع ابن خزيمة وأن من ضعف الحديث اجتهد فأخطأ في ذلك.
الحالة الثانية: أن يكون أوردها بسبب من الأسباب التي ستأتي بعد قليل؛ يعني يكون هناك سبب لإيرادها، وسيأتي ذكر هذه الأسباب بعد قليل.
الاعتذار الثالث : أن يكون نبه على ضعفها فيما لم يصل إلينا من كتابه، قد يكون نبه عليها في الجزء المتأخر من كتابه مثلًا، ولذلك اكتفى بالبيان هناك عن أن يكرره في موطن آخر، ولذلك مثال حيث ضعف أحد الرواة صراحة في صحيحه وهو إبراهيم بن الحكم بن أبان العدني ونقل هذا التضعيف عنه الحافظ بن حجر ثم نجد أنه أخرج لهذا الراوي حديثًا في الجزء المتبقي من صحيحه، ولم يتعقبه بشيء، فلعل ابن خزيمة اكتفى بالتعقيب عليه في موطن لاحق في الكتاب على أن ينبه في كل موطن على ضعف حديثه، مادام أنه قد عرفه بالضعف هذا يدل على أنه لم يكن غافلًا عن ضعفه لما أخرج له الجزء الذي وصلنا من كتابه.(1/1)
الاعتذار الرابع : أن يكون مجال الاختلاف في ذلك الحديث سائغًا؛ يعني هناك أحاديث وإن كنا قد نرجح ضعفها لكن الخلاف فيها قديم وللعلماء فيها من قديم آراء متباينة ومختلفة، ومن أمثلة ذلك الأحاديث التي يرويها أحد الرواة وهو كثير بن عبد الله الْمُزني ني وهو راوي أطلق عليه كثير من أهل العلم الضعف، بل ربما ضعفه بعضهم بضعف شديد، إلا أن الترمذي حسن له بل والبخاري قال عنه: إنه مقارب الحديث وأخرج له ابن خزيمة في صحيحه، فلعل ابن خزيمة على رأي البخاري وعلى رأي الترمذي وإذا عرفنا أن هذا الراوي قد خالف في توفيقه البخاري والترمذي وكذلك ابن خزيمة نعرف أنه ليس على ابن خزيمة لوم كبير؛ اجتهد كما اجتهد غيره فقبل هذا الراوي، وهذا الراوي في الحقيقة ضربت به مثالًا لسبب معين وهو أنه أحد الرواة الذين اُنتقد الترمذي لتحسينه لهم، ووصف الترمذي بالتساهل بسبب أنه حَسَّن له، مع أن هذا الراوي قد سبق البخاري الترمذي في تحسين حديثه عندما قال عنه إنه مقارب الحديث ، فالترمذي متبع للبخاري فإذا كان مجرد إخراج حديث هذا الراوي وتحسينه أو تصحيحه يقتضي التساهل فليوصف بذلك البخاري ولا قائل بذلك ، وهذا يدل على أن المسألة مسألة اختلاف واجتهاد، وليست مسألة تساهل وتشدد كما قد يتوهم البعض .
الاعتذار الخامس والأخير: أن يكون من باب الخطأ الذي لا يخلو منه بشر، فهذا البخاري وهذا مسلم قد انتقدت عليهم بعض الأحاديث ولا شك أن فيما انتقد عليهما بعض ما لا ينهض الجواب بالاعتذار عنهما فيه إلا بأن يقال بأنهما أخطئا ، فَهُمَا بشر وكذلك ابن خزيمة، فحصول الخطأ منهما أو منهم جميعًا وارد ولابد من وقوعه لما تضمنه الجهد البشري وطبيعة البشرية من الخطأ والنسيان والوهم التي هي طبيعة البشر، ومما رُكبت عليه عقولهم وجهودهم.
أما بالنسبة للأحاديث الشديدة الضعف :(1/2)
فهناك أحد الباحثين وهو الدكتور عبد العزيز القبيصي وله دراسة سيأتي ذكرها في آخر هذا الكلام، قام بدارسة الألف الحديث الأولى، يعني قال أنه يريد أن يعرف مستوى صحيح ابن خزيمة فأنا أدرس الألف الحديث الأولى من صحيحه وأعرف منزلة هذه الأحاديث الألف حتى تعطيني نسبة تقريبية ونظرة تقريبية لقوة صحيح ابن خزيمة بالنسبة للكتب الأخرى، فلم يجد في هذه الأحاديث الألف إلا ثلاثة أحاديث غير صالحة للاحتجاج، حسب إحصائيته وجهده، يقول: لم أجد في ألف حديث إلا ثلاثة أحاديث غير صالحة للاحتجاج، وبنسبة النظر في هذه الثلاثة الأحاديث وجدت أن أحد هذه الثلاث أحاديث في الواقع أنه صالح للاحتجاج خلافًا لما ذكر الدكتور القبيصي وفقه الله، فالمقصود أنه حسب هذه الإحصائية لا يصفو إلا حديثان فقط اللذان لا يصلحان للاحتجاج، لكن هناك أيضًا إحصائية أخرى قمت بها من خلال تعقبات السيوطي على ابن الجوزي، وابن الجوزي له كتاب " الموضوعات " حكم على بعض الأحاديث بالوضع فتعقبه السيوطي في بعضها وبين أن بعض تلك الأحاديث قد أخرجها ابن خزيمة في صحيحه وبإحصاء وباستقراء هذا الكتاب وهو كتاب " النكت البديعات" للسيوطي الذي هو تعقبات على ابن الجوزي لم يذكر أو لم ينسب السيوطي في كتابه هذا من الأحاديث إلى ابن خزيمة إلا أربعة أحاديث، يعني هناك أربعة أحاديث حكم عليها ابن الجوزي بالوضع وهي في صحيح ابن خزيمة:(1/3)
الحديث الأول : ?? إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَرَأَ طه وْ يس قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِأَلْفِ عَامٍ ?? هذا الكتاب في كتاب التوحيد لابن خزيمة الذي هو قيل إنه جزء من الصحيح، وإنما ذكرته هنا باعتبار أن نعرف مكانة تصحيح ابن خزيمة سواء في صحيحه أو في كتابه التوحيد، هذا الحديث أورده ابن الجوزي في كتاب " الموضوعات " ودافع عنه السيوطي، وقد حكم عليه قبل ابن الجوزي بالوضع، ابن حبان حكم على هذا الحديث بالوضع، ودافع عنه الحافظ بن حجر في " إتحاف المهرة " أيضًا دافع عن هذا الحديث وبيَّن أو رأى أنه لا يصل إلى درجة الحكم عليه بالوضع، والحديث قد أخرجه أيضًا الإمام الدارمي في مسنده الذي هو من الكتب الأصول والتي وصفها بعض أهل العلم بالصحيح، وإن كان هذا الوصف لا يصح لكن على كل حال هو كتاب متقدم وإخراج الحديث فيه يعطيه شيء من القوة، الحديث لا شك أنه في الحقيقة شديد الضعف، هذا الحديث أقل أحواله أن يكون شديد الضعف هذا ما لا خلاف فيه .
الحديث الثاني : هو حديث الذي أورده ابن الجوزي في " الموضوعات " هو حديث صلاة التسابيح المشهور، لكنَّ ابن خزيمة وإن كان أورده في الصحيح إلا أنه بيَّن أنه لا يصححه عندما قدَّم الخبر بقوله: " إن صحَّ الخبر فإن في القلب من هذا الإسناد " .
إذن: يكون هذا الحديث لا لوم على ابن خزيمة في إخراجه في الصحيح بعد أن بيَّن أنه غير واثق من صحته وأنه مرتاب في صحته.
الحديث الثالث : حديث عبد الله بن عمرو مرفوعًا ?? مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ لَمْ يَقْبَلْ اللَّهُ لَهُ صَلَاةً أَرْبَعِينَ لَيّلَة ?? أورده ابن الجوزي في " الموضوعات " لكن بزيادة هي غير واردة عند ابن خزيمة فهذه الزيادة ?? فَإِنْ مَاتَ مَاتَ كَافِرًا ?? فهو بهذه الزيادة موضوع، وابن خزيمة لم يورده بهذه الزيادة، وعليه لا يكون على ابن خزيمة نقد أيضًا في هذا الحديث .(1/4)
الحديث الرابع : هو حديث أيضًا في التوحيد وهو حديث أنس مرفوعًا ?? يَمْكُثُ رَجُلٌ فِي النِّارِ فَيُنَادِي أَلْفَ عَامٍ يَا حَنَّانُ يَا مَنَّانُ ?? أورده ابن الجوزي في " الموصوعات " لكنَّ ابن خزيمة أشار إلى ضعفه في كتابه التوحيد .
إذًا: لا يصفو لنا من هذه الأحاديث في الحقيقة إلا الحديث الثاني والثالث، هما أولًا اللذان ذُكرا في كتاب الصحيح، وأما الأول والرابع فذُكرا في كتاب التوحيد، ثم الحديث الأول في صحيح ابن خزيمة هو حديث التسابيح بيَّن ابن خزيمة ضعفه ، والحديث الثاني الصواب أن اللفظ الذي أخرجه ابن خزيمة ليس بموضوع .
إذًا: لا يصفو لنا من هذه الأحاديث ولا حديث مما أورده السيوطي في " النكت البديعات " في التعقب على ابن الجوزي.
ما هي أسباب إيراد الحديث الضعيف في صحيح ابن خزيمة ؟
هي الأسباب التالية :
أولاً: للتوقف في تضعيفه وتصحيحه فيورده للنظر منبهًا على سبب توقفه، يعني لِمَ يورد الحديث الضعيف وهو يعلم أنه ضعيف في كثير من الأحيان كما بينا .
فنقول: إنه أورده للتوقف في تضعيفه وتصحيحه، هو لم يجزم لا بضعفه ولا بصحته، وهذا في مثل ما يقول: وفي النفس من هذا الخبر شيء، وفي القلب من هذا الخبر شيء، فهو لم يجزم لا بصحته ولا بضعفه، فوجه إخراجه كأنه يقول: هذا الحديث مستند للصحة وللضعف، فمن تبيَّن له أن الصواب فيه أنه صحيح فيكون إدخاله في الكتاب لا مَلْحَظ فيه، ومن تبيَّن له أنه ضعيف يكون ليس هناك انتقاد على ابن خزيمة لأنه بيَّن أنه متوقف في تضعيفه ، فليس عليه نقد من هذه الناحية .
السبب الثاني : للتنبيه على ضعف هذه الأحاديث ، وهذا وإن كان يعني يكون يجزم بضعف الحديث وهذا كما نقلنا بعض عباراته يجزم بضعف الحديث فيمكن أن نقول: إنه أخرجه للتوقف أو للشك.
لِمَ أوردها في الصحيح ؟(1/5)
نقول: كما فعل البخاري وكما فعل مسلم أخرجها ليبين ضعفها لأنه قد يكون يعرف أن بعض الناس قد اعتقدوا ثبوتها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو أراد أن يبين أنها لا تصح، وهذه الأحاديث خارجة عن شرط كتابه وإنما أوردها زيادة فائدة للقارئين والسامعين.
السبب الثالث : أن يكون إيراده لها لأنه سمع هذا الحديث الذي فيه ضعف عقب حديث قد سمعه متصلًا أو صحيحًا ليس فيه نقد، يعني يكون هذا الإسناد تابع لإسناد آخر فيورده كما سمعه ولا يكون اعتماده على الإسناد الذي فيه ضعف وإنما اعتماده على الإسناد الذي ليس فيه ضعف، ولذلك أمثلة متعددة يعني مثلًا قال بعد حديث مرسل يقول ابن خزيمة : أمليت الجزء الأول وهو مرسل لأن حديث أنس الذي بعده حدثناه عيسى في عَقِبِهِ، يعني بمثله، لولا هذا –هذا بقية كلام ابن خزيمة- يقول: لولا هذا لما كنت أخرج المرسل في هذا الكتاب .
ما الذي حصل ؟
يقول: إني سمعت هذا الحديث من شيخي أورد أولًا الحديث المرسل الذي هو غير متصل، ثم بعد أن أورد الحديث المرسل شيخ ابن خزيمة أورد الحديث المتصل ولم يقل بعد إيراده للحديث المتصل لم يذكر شيخه المتن كاملًا ، وإنما قال: مثله ، لما جاء للمتن، يعني عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله فأحال في الإسناد المتصل على لفظ الإسناد المرسل ، فهو نقل ما ذكره شيخه تمامًا ، لم يُحتمل أن يكون الشيخ قصد بمثله نحوه، يعني مع اختلافات يسيرة ، فمن دقة ابن خزيمة رأى أن ينقل الحديث كما سمعه حتى لا يكون هناك عليه نقد من هذه الناحية سمع الحديث أولًا مرسلًا ثم متصلًا لكن لفظ المتصل أُطيل في معرفته على لفظ المرسل فأورد الحديث كما سمعه ونبه إلى أنه لا يعتمد على الحديث المرسل وإنما يعتمد على الحديث المتصل الذي هكذا سمعه من شيخه .(1/6)
السبب الرابع : أن يُورِد هذه الضعيفة متابعة أو شاهدًا أو لوجود ما يدل على معناها ولو كانت هذه الأحاديث غير صالحة للاعتبار أصلًا، يعني هذا القسم يعني به أنه قد يكون الحديث في المتابعات والشواهد كما حصل مع البخاري ومسلم، وقد يكون هذا الحديث غير صالح للمتابعات والشواهد أصلًا يعني يكون شديد الضعف، وابن خزيمة نفسه يعرف أنه شديد الضعف فهو لا ينفع أن يرتقي أو يرقي غيره لأنه شديد الضعف، إذًا لِمَ أخرجه؟
أخرجه لأن هناك حديث صحيح أورده هو في صحيحه يدل على نفس المعنى، وهذا كما ذكرنا سابقًا حديث السمر بعد العشاء الذي حكم ابن خزيمة نفسه عليه بأنه مُنْكَر، وبيَّن أنه إنما أخرجه في الصحيح لأن حديث صفية في اعتكاف النبي - صلى الله عليه وسلم - يدل على نفس المعنى فنبه على شدة ضعف الحديث وبين أنه إنما أخرجه لقيام حديث صحيح بالدلالة على نفس ما دلَّ عليه ذلك الحديث الضعيف، فهذا سبب رابع.
السبب الخامس : أن يوردها منبهاً على ضعفها لكونها مما لا يتعلق بها حكم، قد يورد الحديث الضعيف، لكن السبب هنا لا لأن كونه نبَّه على ضعفها لكن لكونها لا يتعلق بها حكم .
يعني : سبب إيرادها هنا لا لمجرد التنبيه على ضعفها ولكن لأنها مما لا يتعلق به حكم فيوردها وينبه على ضعفها ، لكن لم يوردها فقط للتنبيه على ضعفها وإنما لكونها مما لا يتعلق بها حكم .
ولذلك مثال : وهو أنه أورد حديثًا في الدعاء عشية عرفة في الحج، ثم قال عقبه أو في بداية الباب عندما بوَّب لهذا الحديث قال: (بابٌ ذِكْرُ الدعاء على الموقف عشية عرفة إن ثبت الخبر ولا إخاله) .
أي : ولا أحسبه ثابتًا، فهو يبين هنا أنه شاكٌ في ثبوت هذا الخبر .
ثم يقول : " إلا أنه ليس في الخبر حكم، وإنما هو دعاء، فَخَرَّجنا هذا الخبر وإن لم يكون ثابتًا من جهة النقل إذ هذا الدعاء مباح أن يدعو به على الموقف وغيره " .(1/7)
كلمة " وَغَيْرِهِ " ضع تحتها ثلاثة خطوط ما هو خط واحد، لأنه هنا يبين أنه لم يخرج هذا الحديث مع علمه بضعفه وهو يستحب أن يُدعى به في يوم عرفة خاصة، لأنه لو قال هذا لدخل في باب الابتداع ؛ لأن الحديث الضعيف لا ينهض في إثبات حكم كما نقول دائمًا، ولذلك قال: أنا إنما أخرجت هذا الحديث لأنه ورد في يوم عرفة وأنا لم أورده مستنبطًا منه حكم صرَّح بذلك، لا استحباب ولا كراهة ، لأن الاستحباب حكم، يقول: لكن أوردته لأنه دعاء مباح، ما في هذا الدعاء شيء مُحرم، ولا فيه شيء من محاذير الدعاء، ولذلك يقول: فهذا الدعاء يُباح أن يُدعى به في عرفة وفي غير عرفة، فلا تخص يوم عرفة بهذا الدعاء ولا غيره، وإنما أخرجه كأنه للفائدة فقط ؛ إن هذا لفظ جميل في الدعاء ، فمن أحب أن يدعو به في يوم عرفة أو في غير يوم عرفة فليدع به، هذا مثال لهذه الصورة.
السبب السادس : أن يخرج هذه الأحاديث التي بيَّن ضعفها وينبِّه على ضعفها لكون حُكْمِهَا مجمعًا عليه
يعني : يخرج الحديث الضعيف ، ويبيِّن ضعفه وهو إنما أخرجه لكون الحكم المستنبط منه أمرًا مجمعًا عليه ، فسواءً ورد هذا الحديث أو لم يَرِد هذا الحديث فهذا الحكم هو الذي يقول به الفقهاء استنباطًا من أدلة الشرع الأخرى ، وقد أجمعوا عليه.
مثال ذلك: أنه قال: (بابٌ ذِكْرُ خبر المفسِّر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما كان يجهر في الأوليين من المغرب والأوليين من العشاء لا في جميع الركعات كلها من المغرب والعشاء إن ثبت الخبر مسندًا ولا إخاله ) .
أي : ولا أحسبه ثابتًا، وإنما خرجت هذا الخبر في هذا الكتاب إذ لا خلاف بين أهل القبلة في صحة متنه وإن لم يثبت الخبر من جهة الإسناد الذي نذكره .(1/8)
لا شك هل في خلاف بأنه يُجهر في الركعتين الأوليين من صلاة المغرب والعشاء ويُسر في الركعتين الثانيتين من العشاء والثالثة من المغرب ، فهذا أمر مُجمع ومُتفق عليه كما ذكرت، فهو إنما أخرج هذا الخبر لكونه دالًا على أمر مُجمع عليه مع تبينه لضعف الحديث حتى لا يُقال ليش أخرجت الحديث مع إن فيه ضعف، يقول: أنا بيَّنت الخبر وكأنه إنما أورد هذا الخبر للتبويب عليه ، يعني يريد أن يُبوِّب يبين أن هذه هي السنة ، ولم يجد خبرًا صحيحًا على شرطه ينص على هذه السنة ، وإن كان الأمر مُجمع عليه، مُتَفق عليه ، فالإجماع دال عليه وقطعي في الدلالة عليه ، وأخرج هذا الخبر لمجرد فقط من أجل أن يُبَوِّب على هذه السنة منبهًا على ضعفها، مشيرًا إلى صحة ما ورد فيها وأنه أمر مُجمع عليه .
السبب السابع : أن يخرج الحديث ثم بعد إخراجه للحديث ، وعندما أخرجه كان يعتقد صحته، بعد إخراجه له يتبين له ضعفه، يعني يكتب الحديث على أنه صحيح، ثم إما بعد ذلك بفترة يسيرة أو طويلة يتبين له أنه ضعيف، فيُلْحِق كلامًا يدل على ضعفه وعدم قبوله، وهذا يدل على أن ابن خزيمة كان يُعدِّل في كتابه، وَيُصَوِّب في كتابه بعد تأليفه .
ومثال ذلك : قوله عقب حديث في صحيحه يقول بعد ما أورد الحديث يقول:
" غَلِطنا في إخراج هذا الحديث لأن هذا مرسل ؛ موسى بن أبي عثمان لم يسمع من أبي هريرة " .(1/9)
يعني : عبارة صريحة، أنه أخرجه معتقدًا صحته ويعترف على نفسه بالغلط ، وهذا من ناحية أخرى يدل على تمام ورع هذا الإمام وتواضعه، وعدم استكباره في أنه قد أخطأ في مسألة ما، فلم يحذف الحديث، ويضرب عليه حتى يعني ما أحد يرى هذا الكلام بل أبقاه أدبًا يتأدب به العالِم وطالب العلم إلى قيام الساعة، أخرجت هذا الحديث كنت أعتقد صحته ثم تبيَّن لي أنه غلط، وهذا هو سبب الغلط يذكره حتى يعرف طالب العلم أن هذا أدبٌ يجب أن يتحلَّى به، ويجب أن يعرف أن الاعتراف بالخطأ كما يُقَال فضل، وأنه ليس بعيب ولا يُذم به الإنسان، ويجب أن يُعود طالب العلم نفسه كلمة أخطأت، إذا أخطأ يجب أن يقول : أخطأت ، ولا يلف ويدور ، ولا يحاول يتهرب من الخطأ ، فضلًا عن أنه يصر على الخطأ ، المصيبة تكبر إذا أصر على الخطأ ، وصار يُكابر ، يعني كونه يعترف بأنه ذكَّرته بأن كلامه في شيء من الغموض ، لكنه قصد وقصد يحاول يتأوَّل هذه، ربما تكون ربما في بعض الأحيان قد تكون أهون ، لكن الفضل الكامل هو أن يقول : أخطأتُ ، ويُعوِّد لسانه هذه العبارة ، ولا يستكبر في التلفظ بها ، والغريب أنه قد يحصل معه العكس، قد يعتقد ضعف الحديث ثم يتبَّين له صحته ، ولذلك مثال .
فمثلًا : قال في كتاب التوحيد:
" باب ذِكْرِ أَنَّ الصديقين يتلون النبي - صلى الله عليه وسلم - في الشفاعة يوم القيامة، إلى أن قال في آخر التبويب: إن صحَّ الخبر " .
هذا على منهجه يدل على أنه متوقف في صحة هذا الحديث الذي بوَّب له بهذا الكلام، ثم أخرج هذا الحديث من طريق البراء بن نوفل عن وَالَان عن حذيفة عن أبي بكر، هذا الحديث طبعًا في التوحيد لا في الصحيح ، ثم قال : إنما استثنيت صحة الخبر في الباب – الآن يبين لما استثنى صحة الخبر- يقول :(1/10)
" إنما استثنيت صحة الخبر في الباب لأني في الوقت الذي ترجمت الباب لم أكن أحفظ في ذلك الوقت عن وَالَان خبرًا غير هذا الخبر ، يقول: هذا الراوي الذي اسمه " وَالَانَ " لمَّا وضعت ترجمة الباب كنت أظن أنه لم يرو إلا هذا الخبر ولم يرو عنه إلا رجل واحد، فهو على هذا الكلام يعتبر مجهولًا ؛ لكونه لم يرو عنه إلا رجل واحد، يقول: فقد روى عنه مالك بن عمير الحنفي غير أنه قال " العجلي " لا " العدوي " ، ثم بيَّن له أنه قد عرف عدالته الظاهرة برواية رجل آخر عنه وهو مالك بن عمير ، وأسند ذلك الخبر، وهو أثر موقوف من طريق وَالَان .
المقصود : أنه كان يَجْهَل حال وَالَان ولذلك شك في ثبوت الخبر، وبوَّب على ذلك في الباب، ثم بعد أن أخرج هذا الحديث وقف على خبر آخر لـ وَالَان يرويه عنه شخص آخر، فروى عنه عدلان فزالت عنه جهالة العين، وأصبح مجهول الحال .
أو حسب رأي آخر : أصبح مستورًا ، يعني معروف العدالة الظاهرة ، مجهول العدالة الباطنة ، هذه أسباب إخراج ابن خزيمة للأحاديث الضعيفة التي بيَّن ضعفها في صحيحه .
نتوقف الآن عند :
كلام بعض أهل العلم في مرتبة ومكانة صحيح ابن خزيمة بين كتب الصحاح عمومًا :(1/11)
فمن أول من وقفت عليه تكلم عن منزلة صحيح ابن خزيمة الخطيب البغدادي، فقد عدَّ الخطيب البغدادي كتاب ابن خزيمة بعد الصحيحين وسنن أبي داود والترمذي والنسائي، طبعًا ليس يقصد إن مرتبة تصحيحه دون هؤلاء جميعًا، لكن هو كان لأنه لم يكن يتكلم عن مراتب التصحيح ، وإنما يتكلم عن أمهات كتب السنة ، ما هي أهم كتب السنة ؟ هو لا يتكلم عن مراتبها في التصحيح، وإنما يتكلم عن أهم كتب السنة ، فابتدأ بالكتب الخمسة، ولم يذكر ابن ماجة ؛ لأن ابن ماجة لم يُلحق بالكتب الستة إلا متأخرًا نوعًا ما ، فالمقصود أنه ذكر الكتب الخمسة، وهي: صحيح البخاري ومسلم وسنن أبي داود والترمذي والنسائي ثم أتبعها مباشرة بصحيح ابن خزيمة ونص على أن ابن خزيمة قد اشترط الصحة في هذا الكتاب .
الخطيب نصَّ على ذلك في كتابه " الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع ".
كذلك عدَّه ابن الصلاح ، أي : عدَّ صحيح ابن خزيمة ابنُ الصلاح ضمن الكتب التي يُستفاد منها صحة الحديث ، وسبق أن ذكرنا أن ابن الصلاح لمَّا ذكر هذا انتقده الحافظ بن حجر كما قرأنا في لقائنا بالأمس .
وانتقده من جهتين:
أولًًا : لأن ابن خزيمة لا يفرِّق بين الحسن والصحيح، فربما كان الحديث حسن عنده وهو يصفه بالصحيح.
ثانيًا : قضية أنه لا يشترط الضبط وانتفاء الشذوذ ولا انتفاء العلة .
وقد بيَّنا الرد على كلا الأمرين في لقائنا بالأمس.
أما الحافظ بن حجر فقد عدَّه في النكت كما سبق أن ذكرنا عنه ضمن الكتب التي تشترط الحديث المقبول عند المؤلف ، يعني ولا يلزم أن تكون كذلك عند غيره .
على كل حال : هناك أكثر من واحد من أهل العلم اعتبروا صحيح ابن خزيمة في المرتبة الثالثة بعد صحيح البخاري وصحيح مسلم، أن أصح كتاب بعد البخاري ومسلم من الكتب التي اشترطت الصحة كتاب ابن خزيمة عقب كتابي البخاري ومسلم.
ما هو موقفنا من تصحيح ابن خزيمة وغيره من أهل العلم ؟(1/12)
نقول: من تصحيح ابن خزيمة وغيره من أهل العلم عمومًا ، يعني هل نقلد ؛ أي حديث صححه ابن خزيمة لا يحق لنا أن نخالف فيه ؟
نحن ذكرنا أن بعض أهل العلم ضعف بعض الأحاديث في صحيح ابن خزيمة فهل هذا الموقف صحيح، هل يمكن أن ندرس أسانيد ابن خزيمة ونوافقه أو نخالفه في الحكم على الحديث ؟
هذا أمر لابد من التنبيه عليه في بيان الفرق بين الصحيحين وغيرهما من كتب الصِّحاح، فالصحيحين مزية ليست لغيرهما من الكتب، ذلك أَنَّ الصحيحين صحيحي البخاري ومسلم تلقتهما الأمة بالقبول، ودُرست أحاديثهما، واستقصى العلماء وجوه الدارسة فيهما إلى أبعد حد، لذلك رأى جمع من أهل العلم أنه لا يحق لأحد أن ينتقد حديثًا في الصحيحين إلا أن يكون مسبوقًا إلى هذا الانتقاد من إمام مُعتبر، من إمام ناقد مُعْتَبر من الأئمة الحفاظ المتقدمين، أما بغير ذلك فلا يحق لك أن تنتقد حديثًا في الصحيحين لأنك في ذلك تطعن في جهود هؤلاء العلماء جميعًا، ليس في جهد البخاري وحده بل في جهد كل من وافق البخاري في أن ما في كتابه صحيحًا.
أما الأحاديث المُنتقدة: فهي بانتقاد العلماء لها خرجت عن أن تكون مُتلقاه بالقبول ،كذلك أضاف الحافظ بن حجر قسمًا آخر كما تذكرون وهو الأحاديث التي وقع التجاذب بين مدلوليها ، هذا إذا كان البخاري ومسلم أخرجا هذه الأحاديث على اعتقاد صحتها، وإلا قد بيَّنَّا لكم أنه قد يخرجان مثل هذه الأحاديث للتنبيه على ضعفها وعلتها، مثل حديث صلاة الكسوف ومثل غيره .
فالمقصود أن أحاديث الصحيحين التي لم تُنتقد هذه لا يحق لأحد أن يتجرأ في نقدها لأن الأمة قد تلقتها بالقبول .(1/13)
أما ما سوى الصحيحين : ما سوى أحاديث الصحيحين فلا شك أن أحكام العلماء من أمثال ابن خزيمة وابن حبان ، والحاكم ، والضياء ، وخاصة يعني حقيقة ابن خزيمة قبلهم كلهم قلنا لأن مرتبته تأتي في قمة هذه الكتب بعد الصحيحين وكذلك من سبق الترمذي ممن صحح وضعف مثل الترمذي ومثل النسائي ومثل غيرهم ، الأصل في أحكامهم الاعتماد والقبول ولا يحق لأحد أن يخالف إلا إذا تبين له الدليل الواضح في خطأ هذا العالِم ، ولذلك قيد دقيق ، فأقول هي معتمَدة إلا إن ظهر للعالم المتأخر .
أولًا : أول شيء يجب أن يكون المتكلم عالمًا ، ما يحق لكل أن يكون إنسان يتكلم ، لا نقبل أن كل إنسان أو أول جهد نراه لشخص أول عمل أول بحث يقوم به شخص أن يمسك صحيح ابن خزيمة ويصحح ويضعف ويخالف ابن خزيمة ، وأنت في أول سلم التعليم تقذف مباشرة إلى الانتقاد والاعتراض على أهل العلم !! هذا لا يصح ، بل ينبغي أن يكون هذا قاصرًا على أهل العلم من أهل الخبرة والتأهل في ذلك .
ثانيًا : أن يكون مبني على إظهار علة ظاهرة ، أو خفية في الحديث ، ينتقد الحديث هذا المتأخر سواء في العصر هذا أو قبله بعلة ظاهرة أو خفية تقدح في صحة الحديث .
ولا يحق للعالم المأخر - المتأهل - أن يُعِلَّ حديثًا في صحيح ابن خزيمة وغيره من كتب الصحاح إذا كان إعلاله بأمر محتمَل ، مثل ماذا ؟
يعني مثل التدليس مثلًا ؛ يأتي إلى راوٍ مدلِّس وقد عَنْعَن في صحيح ابن خزيمة ، لا يحق له أن يضعِّف هذا الحديث بهذا الأمر المحتمَل ؛ لأن كون الراوي مدلِّسًا لا يلزم منه أن يكون قد دلس في هذا الحديث ، أليس كذلك ؟ نحن لما نتوقف في حديث المدلِّس الذي عنعن ؟ هل نتوقف في قبوله لكوننا نقطع بأن هذا الحديث غير متصل ؟ أو لكونه من المحتمَل ألا يكون سمعه ؟(1/14)
السبب الأول : في الغالب لأن من المحتمل ألا يكون سمعه إلا إذا جاءت رواية أخرى تَذْكر واسطة أو هو يصرح بعدم السماع برواية أخرى ، يعني إذا لم يأتِ شيء من ذلك فنحن نتوقف على قبول المكثِر من التدليس الذي يُستحَق أن تُرَد عنعنته بتدليسه ، نحن نفعل ذلك لاحتمال ألا يكون قد سمعه من هذا الشيخ لا لكوننا نقطع ، فإذا وقفتُ على حديث من رواية مدلِّس في صحيح ابن خزيمة فلا يحق لي أن أرد هذا الاجتهاد من هذا العالم لمجرد هذا الاحتمال ؛ أولًا لأنه احتمال ، يعني واحد مثبِت والآخر نافٍ ، أو واحد عنده علم والآخر يقول والله يحتمل عندي أنه ما هو بصحيح ، والثاني يقول : صحيح ، فالأصل يقدم كلام القاطع الجازم المثبِت ؛ هذا السبب الأول .
السبب الثاني : أن العلماء وعلى رأسهم ابن خزيمة في صحيحه وفي غيره كان متشددًا في ناحية التدليس ، حتى إنه رد في صحيحه ، وفي غيره أحاديث عدد المدلسين لكونهم عنعنوه ، ومع ذلك فإنه لا يخالفنا في القاعدة ، وقد صرح ابن حبان في مقدمة الصحيح كما سيأتي أن لا يقبل عنعنة المدلِّس ، وذكر ابن حبان كما سيأتي أنه لا يخرج للمُدَلِّس إلا حديثًا قد صرح به بالسماع وإن كان لا يلتزم بذكر الرواية التي فيها التصريح بالسماع . فقد يذكر الرواية التي فيها التصريح بالسماع وقد يذكر رواية أخرى فيها العنعنة ، وبذلك يبين لنا أنه لا يحق أن تنظر في الإسناد فقط فتقول هو أخرجه بالعنعنة إذًا لم يصرح أرده إذًا أرده ، لأنه قد ضمن لك أنه لا يخرج لمدلس إلا ما صرح فيه بالسماع ، سواء وقع هذا التصريح في صحيحه أو وقع خارج صحيحه .
قد يقول قائل : لعل هذا المدلس لم يكن يعرفه هذا الإمام بالتدليس ، ويكون سبب إيراده له بالعنعنة لكونه لا يعرفه بالتدليس ؟(1/15)
فنقول الجواب عن ذلك : إِنَّ الذي ترد عنعنته بالتدليس هو من غلب عليه التدليس وكثر منه ، ليس من وقع منه التدليس قليلًا أو نادرًا ، ومن كثر منه التدليس لا يتصور أن ناقدًا كبيرًا يجهل أنه مدلس ، الذي يمكن يخفى على ابن خزيمة وعلى ابن حبان هو من وقع منه التدليس قليلًا ونادرًا ، يعني إذا عرفت أنت أنه مدلس ووصل به كثرة التدليس إلى أَنْ تحكم عليه برد العنعنة ، فهل تتصور أنك أنت تعرف أنه مدلس وابن خزيمة ما يعرف أنه مدلس ، يعني أنت أعلم من ابن خزيمة وابن حبان وأمثالهم في مثل هذه الأمور ، خاصة أنه يتكلم على من غلب عليه التدليس واشتهر بين العلماء بذلك ، فإذا كان كذلك فلا يتصور أن يكون هذا الراويَ قد جَهِلَ هذا الِإمامُ الحكم عليه بالتدليس ، فلذلك نقول : لا يحق للمتأخر أن يخالف هذا الإمام المتقدم في أمر مُحْتَمَل إذا كان هو صاحب هذا الحكم ، لكن إذا سُبق من إمام متقدِّم بتضعيف هذا الحديث لهذا الأمر المحتمل ، فإذنه يحق للمتأخر أن يرجح بين القولين ، يعني مثلًا لو وجدنا أن ابن خزيمة أخرج الحديث من رواية مدلس أو من رواية مختلِط لم يتميز عندنا سماع الراوي منها ؛ هل هو كان قبل الاختلاط أو بعد الاختلاط ، ثم وجدنا أن أبا حاتم الرازي أو أبو زرعة أو الدارقطني أو فلان أو فلان من العلماء المتقدمين قال : هذا الحديث – نفس الحديث الذي أخرجه ابن خزيمة – ضعيف ؛ لأن فلان قد دلس هذا الحديث ، أو لأن فلان الذي روى عن هذا المختلط سمع منه هذا الحديث بعد اختلاطه ، أو لكون هذا الراوي أخطأ في هذا الحديث ، أو لأي عبارة تدل على إعلاله لهذا الإمام المتقدم ، عنده يصبح حكم هذه الحديث مثل حكم الأحاديث المنتقدة في الصحيحين ، نحن إذا قلنا : إن كان الحديث إذا منتقدًا في الصحيحين – وهما الأجل – يحق للمتأخر أن يرجح بين قولين ، فكيف إذا كان هذا الانتقاد في صحيح ابن خزيمة ؟! فسواء كان التضعيف بأمر محتمل أو بأمر غير محتَمل ،(1/16)
ما دان أن المتأخر مسبوق بها بالحكم من إمام سابق فإنه يحق له أن يرجح بين القولين .
المقصود أنه على المتأهل المتأخر أن يضع نصب عينيه أن أهليته لم تصل إلى حد الاجتهاد المطلق ، ليس في المتأخرين من بلغ رتبة الاجتهاد المطلق في علوم الحديث ، الاجتهاد المطلق في علوم الحديث يحتاج إلى حفظ شامل للسنة ، كامل للسنة ، إلى فهم دقيق وعميق ، لا يكاد يوجد إلا في أفراد قلائل من المتقدمين فضلًا من أن يوجد في المتأخرين ، فهم قلة جدًا يوم أن كان الحفاظ بالألوف ، النقاد يعدون على الأصابع ، فكيف بمن بعدهم ؟!
وهناك مناسبات كثيرة ذكرت فيها عبارات لبعض أهل العلم منن المتأخرين ، هم أنفسهم يصرحون بهذا الأمر ، فليست هذه دعوى منا – يعني ضدهم – بل هم لفضلهم وعلمهم وتورعهم يعرفون مقدار ما عندهم من العلم في مقابل ما كان عند من سبقهم وقد كانوا عارفين بمنزلتهم في مقابل منزلة من سبقهم من أهل العلم الحفاظ ، فليس في ذلك انتقاص لقدرهم ، بل هذا هو الحق والواقع وهم يعترفون بذلك ونحن نعرف ذلك ، حتى من لم يصلنا له كلام في ذلك نحن نتبين ذلك من جهوده العلمية ومما وصفوا به من العلم وغيره في تراجمهم .
فما دام أن العالم المتأخر لم يصل إلى درجة الاجتهاد المطلق كالأئمة المتقدمين في علوم الحديث ، فينبغي عليه ألا يخالف الإمام المتقدم في التصحيح والتضعيف ، إلا إذا عرف مأخذه في التصحيح والتضعيف وتبين له أن هذا المأخذ ليس بسديد ، أما إذا ما عرف سبب حكمه بالصحة ولا سبب حكمه بالضعف فلا يحق له أَنْ يخالف .
وهذا مثله في ذلك مثل الفقه ، حتى الفقه – يعني المسألة الفقهية – إذا لم يكن عندك أهلية النظر في الدليل ولم تفهم الدليل فإنه يلزمك أن تقلد العالِم ، أما إذا كنت تفهم الدليل وتعرف دليل هذا ودليل هذا من مفتيه ، ووجه الاستدلال هنا ووجه الاستدلال هنا فإنه يحق لك أن ترجح .(1/17)
وهنا أنبه إلى أن الاجتهاد ، يعني قد يتمكن الإنسان من الاجتهاد في مسألة ، ولا يتمكن من الاجتهاد في مسألة أخرى ، كونه يجتهد في مرة أو يكتشف علة مرة مثلًا في الحديث ، لا يعني ذلك أنه سيكتشف كل علة في كل حديث ، لا يلازم من ذلك ، الذي من شأنه أنه يَكْتَشِف كل علة في كل حديث صاحب الاجتهاد المطلق ، أما من كان صاحب اجتهاد مقيد وترجيح بين الأقوال وما شابه ذلك فقد يلزمه في بعض الأحيان التقليد ، وقد نص على ذلك الحافظ ابن حجر في " النكت " في قضايا العلل الخفية ، وهو أنه يلزم المتأخرين أن يقلدوا المتقدمين في إعلالهم بتلك العلل الخفية التي ربما لم يظهر للمتأخر وجه الإعلال بها وكذلك نفعل في صحيح ابن خزيمة وغيره ، ونحن ندرس الإسناد إذا ظهرت لنا فيه علة ظاهرة من حقنا أن نخالف أو علة باطلة من حقنا أن نخالف أيضًا مع التأكد والتريث والتثبت وعدم الإعلال بالأمر المحتمَل كما ذكرنا .
لكن الأصل في أحكامه الاعتماد ، ومن اعتمد تصحيح ابن خزيمة ، حتى إن كان الصواب أنه مخطئ فهو معذور لأنه قلد إمامًا معتبرًا في التصحيح والتضعيف ، فلا عتب عليه لو قلد إمامًا معتبرًا في ذلك ، كما نقول ذلك في الفقهيات : يحق لك أن تقلد أحمد ، ويحق لك أن تقلد الشافعي ، لكن إذا ظهر لك الدليل الصريح بمخالفة قول هذا الإمام فإنه يلزمك حينها بالفعل أن تخالف قول ذلك الإمام ، وخاصةً إذا وجدت أن هذا القول الذي دلك عليه الدليل قد شُدِدْتَ إليه من إمام معتبر من أهل العلم حتى لا تخرق الإجماع وأنت لا تدري بسبب سوء فهمك للنص .
هذا موقفنا من صحيح ابن خزيمة ومن غيره من تصحيحات العلماء .
يعني : قسمنا الكتب الصحيحة كلها إلى قسمين :
1- الصحيحان لهما حكم خاص .
2- وبقية كتب الصحاح وكل تصحيحات العلماء الأخرى لها حكم خاص آخر .(1/18)
الصحيحان لا يُنتقد إلا ما انتُقِد ، ولا يحق لك أن تتكلم في حديث فيهما إلا أن تكون مسبوقًا من إمام من أهل النقد الكامل ، والاجتهاد الكامل ، وأما من سواهما فيحق لك أن تنتقد وتخالف بشرط ألا تنتقد بأمر محتمَل ، وأن تتأكد وتتريث من هذا النقد غاية التريث والتأكد ، وأن تكون أصلًا من أهل العلم المتأهلين للحكم على الحديث .
ننتهي بذلك إلى جهود أهل العلم حول هذا الكتاب الذي هو صحيح ابن خزيمة :
1 - جمع رجال صحيح ابن خزيمة ابن المُلَقِّن ، له كتاب اسمه : " إكمال تهذيب الكمال " ، وقيل إن اسمه : " مختصر تهذيب الكمال والتذييل عليه " .
يعني : ذُكر له اسمان ، هذا الكتاب كتاب مفقود ، لكن يُذكر أنه اختصر فيه " تهذيب الكمال " للمزي . فأضاف رجال أصحاب الكتب الستة ، أضاف إلى هذه الكتب الستة كتبًا ستة أخرى يخدم رجالها ، وهي : مسند أحمد ، وصحيح ابن خزيمة ، وصحيح ابن حبان ، ومستدرك الحاكم ، وسنن البيهقي ، وسنن الدارقطني . لكن هذا الكتاب على كل حال كتاب في حكم المفقود ، يعني لا نعرف عن مكان وجوده شيئًا .
2- خدمة أخرى وجهت إلى صحيح ابن خزيمة وهو ترتيب أحاديثه على الأطراف ، يعني مثل تحفة الأشراف ، وذلك في كتاب ماذا ؟ ما هو الكتاب الذي رتب أحاديث صحيح ابن خزيمة مع كتب أخرى على الأطراف ؟
كتاب " إتحاف المهرة بالفوائد المبتكرة من أطراف الأحاديث العشرة " للحافظ ابن حجر ، الذي طبع منه حتى الآن ثمانية عشر مجلدًا ، ولعله يخرج في ستة وعشرين مجلدًا أو أكثر من ذلك بقليل .
من جهود العلماء حول صحيح ابن خزيمة عمل مستخرج عليه أو مستخرج على مختصره أو ممكن نقول مستخرج على أصول الأحاديث التي فيه ، ما هو هذا الكتاب الذي أُلِّفَ كالمستخرج على صحيح ابن خزيمة ، من يعرفه ؟
" المنتقى" لابن الجارود الذي ذكر الحافظ ابن حجر ، والعراقي أنه كالمستخرج على صحيح ابن خزيمة .(1/19)
ابن حبان قال بعض أهل العلم أنه استفاد كثيرًا وأنه نقل غالب الكتاب في كتابه ، لكن هذا لا دليل عليه في الحقيقة ، روى عن ابن خزيمة كثيرًا ، لكنه لا يصل إلى درجة أن يكون ربع الكتاب ولا خمس الكتاب ولا أقل من ذلك ، هو من الشيوخ الذين أكثر عنهم ، لكن روى عن شيوخ آخرين كثيرًا جدًّا ولا يمكن بأن ندعي بأنه كالمستخرج على كتابه ، بل هو كتاب منفصل ، وإن كان استفاد من شيخه كما ذكرنا كثيرًا ، لكن الحكم عليه بالاستخراج غير قضية الاستفادة .
3- هناك كتاب حول ابن خزيمة وصحيحه ، وقد استفدت منه كثيرًا فيما ذكرت لكم من الفوائد ، وهو كتاب الإمام ابن خزيمة ومنهجه في كتاب الصحيح للدكتور عبد العزيز شاكر القبيصي ، وهو كتاب مطبوع في مجلدين .
4- أيضًا من الكتب التي ألفت حول صحيح ابن خزيمة ، أو أستطيع أن أقول إنه مشروع مؤلَّف – لا داعي من ذكر اسمه ما دام أنه لم ينته من مشروعه – يؤلف في زوائد رجال صحيح ابن خزيمة على الكتب الستة على منوال الكتاب الذي ألفه شيخكم الشيخ يحيى الشِّهْرِي في زوائد رجال ابن حبان ، نفس المنوال أحد المعاصرين يؤلف كتابًا في زوائد رجال ابن خزيمة .
هذا ما يتعلق بصحيح ابن خزيمة .
وسنتكلم الآن بكلام يسير عن كتاب التوحيد لابن خزيمة :
لأن من أهل العلم من ألحقه بالصحيح ، كتاب التوحيد لابن خزيمة اسمه الكامل :
" كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب عز وجل التي وصف بها نفسه في محكم تنزيله الذي أنزله على نبيه المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وعل لسان نبيه بنقل الأخبار الثابتة الصحيحة نقل العدول عن العدول من غير قطع في إسناد ولا جرح في ناقلي الأخبار" .
هذا العنوان الكامل الوارد على أغلفة المخطوط لهذا الكتاب ، ويتبين من هذا العنوان موضوع الكتاب ، وهو أنه في التوحيد وأنه في باب الأسماء والصفات خاصة .(1/20)
الأمر الثاني : أنه اشترط في الصحة كما اشترط في كتابه الصحيح ، وهو كتاب مهم وجليل ومن أهم كتب المعتقد التي ألفها السلف ، ويمتاز عن أكثر كتب المعتقد أن مؤلفه قد اشترط الصحة فيه ، وإن كان قد يورد الأحاديث الضعيفة بأحد الاعتذارات التي سبق ذكرها ، يعني منهجه في هذا الكتاب من ناحية الصحة وشرطه في الصحة مثل شرطه تمامًا في كتاب الصحيح .
لكن هل هذا الكتاب جزء من الصحيح أو ليس جزءًا من الصحيح ؟
لما رتب الحافظ ابن حجر في " إتحاف المهرة " صحيح ابن خزيمة وبين أنه لم يقع له منه إلا ربع العبادات ، قال : إلا كتب منفصلة مثل كتاب " التوكل " و " السياسة " و " التوحيد " ؛ ذكر هذه الكتب ، فـ "كتاب التوحيد " لابن خزيمة أيضًا رُتبت أحاديثه على الأطراف في كتاب " إتحاف المهرة " ، فعد بعض أهل العلم ذلك دليلًا على أن كتاب التوحيد من كتاب الصحيح ، لكن الواقع في الحقيقة أن مجرد إدخال الحافظ ابن حجر للتوحيد لابن خزيمة في " إتحاف المهرة " لا يدل على أنه من كتابه الصحيح ؛ لأنه فعل ذلك مع ابن حبان مثلًا ، فلابن حبان كتاب غير الصحيح اسمه : " كتاب الصلاة " ، وأدخله الحافظ ابن حجر في ترتيبه لإتحاف المهرة ، فلم يكن ذلك دليلًا على أن "كتاب الصلاة " من صحيح ابن حبان ، فكذلك ليكن "كتاب التوحيد " لابن خزيمة ، فليس في تصرف الحافظ ابن حجر ذلك ما يدل على أنه من كتاب الصحيح ، أضف إلى ذلك – وهو أهم شيء في الحقيقة – اختلاف العنوان ؛ عنوان الكتاب ، قرأنا عنوان الكتاب في التوحيد أو في الصحيح ، كلما كرر العنوان في أجزاء الكتاب يكرره بنفس العنوان : مختصر المختصر ... إلى أخره .
أما في " كتاب التوحيد " فإنه ما فعل ذلك أبدًا ، بل العنوان مختلف من أول كلمة فيه : "كتاب التوحيد وإثبات صفات رب العالمين .. " ولم يشترط فيه ذلك .(1/21)
الأهم من ذلك كله : أن سبب تأليف التوحيد قصة مشهورة معروفة وقعت سنة ثلاثمائة وتسعة للهجرة ، بين تلامذة لابن خزيمة تأثروا بعلم الكلام ، فأراد ابن خزيمة أن يبين خطأهم في ذلك فَأَلَّف هذا الكتاب ردًا عليهم ، فللكتاب قصة مختلفة وللكتاب سبب تأليف مختلف عن كتاب " الصحيح " ، وكل ذلك يدل على أن كتاب " التوحيد " غير كتاب " الصحيح " ، وليس في ذلك إشكال ، ما هو مهم عندنا ما دام الشرط واحد ، لكن هذا من باب بيان الواقع ، وهو أن كتاب " التوحيد " لابن خزيمة الظاهر – والله أعلم – أنه ليس جزءًا من كتاب " الصحيح " له .
وبذلك ننتهي من الكلام عن ابن خزيمة .
نبدأ الآن بالكتاب الثاني وهو كتاب : " الصحيح " لابن حبان .
ونبدأ كالعادة بترجمته:
فهو : محمد بن حبان بن معاذ التميمي أبو حاتم البُسْتي ، واضح من هذه التسمية أنه من بني تميم ، وهو من بني تميم صَلِيبَةً ، ونسبه في كتب التراجم متصل على عدنان – جد العرب العدناني – فهو من بني تميم ، صليبة ، لا شك في ذلك ، وهو مولود في مدينة بست وهي من مدن خراسان أيضًا ، ويقال بأنها تقع الآن في أفغانستان ، يعني حسب الجمهوريات الإسلامية الحديثة .
ولِدَ هذا الإمام سنة بضع وسبعين ومائتين ، يعني بعد السبعين ومائتين من الهجرة ، بالضبط متى ؟ بعد السبعين – الله أعلم – إلا أنه بعد ثلاث وسبعين ومائتين من الهجرة ، وقبل الثمانين ، يعني قبل مائتين وثمانين ، خلال السبع سنوات هذه ولد هذا الإمام .
وتوفي سنة أربع وخمسين وثلاثمائة ، عمره بضع وثمانون ، لا يمكن أن يكون أكثر من واحد وثمانين سنة ، لأنا قلنا بضع وثمانون ، فهو لو وُلِد في أول سنة بعد المائة وثلاثة وسبعين سيكون عمره واحد وثمانين سنة ، فلم يتجاوز عمره هذا السن ، المقصود أنه توفي وعمره نحو الثمانين عامًا .(1/22)
بدأ رحلته سنة ثلاثمائة من الهجرة ، يعني وعمره فوق العشرين بقليل ، ودخل نيسابور في هذه السنة ، يعني سنة ثلاثمائة من الهجرة وعمره فوق العشرين ، نيسابور من ولاة خراسان كما ذكرنا ، وهي قريبة نوعًا ما من بلده ، فرحل إليه للسماع وكانت حاضرة من حواضر العالم الإسلامي .
رحلته :
رحل رحلة واسعة جدًّا ؛ رحلة ابن حبان يُضرب بها المثل في السعة ، فرحل إلى أقصى العالم الإسلامي ، وهي قرية غير مشهورة وغير معروفة اسمها : (إسبيجا) ، في أقصى المشرق الإسلامي ، بعد بخارى وسمرقند ، وبعد هذه البلدان كلها وصل إليها في الرحلة ، وفي المغرب وصل إلى الإسكندرية ، يعني أقصى ما وصله في المغرب الإسلامي الإسكندرية ، يعني دخل مصر والشام والعراق والجزيرة شمال العراق والحجاز وبلاد خراسان وما جاورها من البلدان ، فهي رحلة واسعة جدًّا شملت عموم العالم الإسلامي أو حواضر العالم الإسلامي الكبرى في ذلك الوقت .
من مشاهير شيوخه :
جماعة كبيرة ، لكن يكفي أن نشير إلى ابن خزيمة صاحب الصحيح ، وإلى أبي يعلى صاحب المسند ، وإلى أبي عروبة الحراني صاحب كتاب الطبقات ، وإلى أبي خليفة الفضل بن الْحُباب ، وعدد كبير حقيقة ممن روى عنهم في صحيحه ، وهناك أكثر من دراسة عن شيوخه الذين أكثر عنهم ، لكن المقصود أن هؤلاء من الشيوخ الذين أكثر عنهم .
مذهب هذا الإمام :
مذهب هذا الإمام واضح من كتابه ومن تراجم العلماء له ، أنه كان ميالًا إلى مذهب الشافعي ، لكنه مع ذلك كان ربما خالف الشافعي لو خالف الدليل قوله ، وقد صرح بذلك في أكثر من موطن في صحيحه ، وكان في مخالفته للشافعي يدل على أنه كان مُعَظِّم للشافعي في الفقه مما يؤيد نسبة إليه على الإجمال ؛ لأنه في موطن من المواطن لما خالف الشافعي قال : إن هذا القول الذي قلتُ به هو قول الشافعي .(1/23)
مع أن الشافعي يقول بخلافه ، ثم بَيَّنَ وجه هذا الكلام قال : فإنه قد حدثني فلان عن المزني عن الشافعي بأنه قال : إذا صح الحديث فهو مذهبي .
يقول : هذه العبارة تبين أننا إذا خالفنا الشافعي بناءًا على الدليل فإننا نكون في الحقيقة قد اتبعنا الشافعي على المعنى الصحيح ؛ لأن الشافعي يقول : إذا صح الحديث فهو مذهبي ، فإذا وجدنا الحديث يدل على شيء ، ولو كان قول الشافعي بخلافه ، فإن اتباع الشافعي الحقيقي يلزم بالقول بظاهر هذا الحديث .
وتخصيصه الشافعي بالكلام مما يدل على أَنَّ للشافعي عنده مكانه خاصة في الاستنباط والفقه ، وأنه لا يخالفه إلا إذا ظهر الدليل له بخلاف قول الشافعي .
وإِنْ كان كغيره من المحدثين له اجتهادات كما ذكرنا متعددة ، يعني انتسابه للشافعي ليس كانتساب المقلدة ، لا وإنما هو انتساب متبع بالدليل .
من أدلة مخالفته للشافعي : أنه خالف الشافعي في مسائل متعددة ، فمثلًا خالفه في نقض لحم الإبل للوضوء ، وفي أن القنوت لا يكون إلا للنازلة ؛ وهذا خلاف مذهب الشافعي المعمول به كما هو معروف ، وفي مسائل متعددة .
وهذا الإمام في الحقيقة مع إمامته في علم الحديث – يعني ما دام تطرقنا لمذهبه – فقد كان من كبار الفقهاء ، بل كان قاضيًا ، لم يكن فقط فقيهًا ، بل كان من قضاة المسلمين ، وقد تولى القضاء في أكثر من بلد من بلدان المسلمين ؛ تولى القضاء في سمرقند وتولاها في بُسْت وتولاها في أكثر من بلد من بلدان المسلمين مما يدل على إمامته في الفقه في عصره وعلم الناس بمكانته في الفقه أيضًا .
تتلمذ عليه عدد من الحفاظ والعلماء ، منهم : الحاكم النيسابوري وهو من أشهر تلامذته ، وممن استفاد منه ولو بالوجادة كما يقال الدارقطني ، فإنه استفاد من كتبه واستفاد من كتابه " المجروحين " ، وله عليه تعقبات وتعليقات لكنه استفاد من علمه ، وتلامذته كثيرون .(1/24)
راوي الصحيح عنه هو : محمد بت أحمد بن هارون الزوزني ؛ هذا هو راوي الصحيح عن ابن حبان .
كان هذا العالم فيما يبدو من الناحية المادية عنده شيء من الثراء ، ولذل استغل هذا المال الصالح في أعمال الخير ، فأقام مدرسة كبيرة في بلده الذي هو فيه ، وبنى بجوارها منزلًا كبيرًا وقفًا على المدرسة للطلاب الذين يدرسون في هذه المدرسة كسكن للطلاب ، وبنى مكتبة ضخمة أوقف فيها عددًا كبيرًا من الكتب ، ومما أوقف فيها : كتبه نفسه في هذه المكتبة ، فكانت ما أشبهها بجامعة في ذلك العصر ، وجعل هذه المدرسة وقفًا على طلاب العلم ، وهذا مما يدل على حبه في نشر العلم وحرصه عليه واستثمار لتلك الثروة التي حصلها في نشر العلم وفي الدعوة إلى الله ، وهذا مما يُذكر لهذا الإمام ، نسأل الله عز وجل أن يكتب له أجر هذا الفعل .
أثنى عليه كثير من أهل العلم ، والثناء عليه أكثر من أن يحصى ، منها :
قول الحاكم - وهو تلميذه كما ذكرنا – يقول عنه : كان من أوعية العلم في اللغة والفقه والحديث والوعظ ، ومن عقلاء الرجال ، صنف فخرج له من التصنيف في الحديث ما لم يُسبق إليه .
ويقول عنه السمعاني : هو إمام عصره ، صنف تصانيف لم يسبق إلى مثلها .(1/25)
وقد ذكر الخطيب البغدادي قائمة كبيرة جدًّا بمصنفات ابن حبان في كتابه " الجامع بأخلاق الراوية وآداب السامع " ذكر قائمة كبيرة من مصنفات ابن حبان لعلها نحو الأربعين كتابًا ، وللأسف الشديد لم يبق من هذه الكتب إلا الكتب التي يأتي ذكرها وهي كتب قليلة ، ومن عناوين تلك الكتب يظهر أن هذا الإمام قد ألف في أعمق أنواع علوم الحديث وفي أبوابٍ في غاية الأهمية والقيمة الكبرى في علم الحديث ، ولذلك لما ذَكَرَ الخطيب تحسر على فقدان أكثر تلك الكتب ، يعني هي مفقودة من زمن الخطيب ، يعني ما أفقدها التتار - هو كل شيء نعلقه على أعدائنا - بل أفقده جهلُنا ، نفس المسلمين تساهلوا في هذا الوقت فضيعوه ، ولم يستفيدوا من هذه الكتب ولم ينسخوها ، ولذلك تحسر الخطيب على فقدان هذه الكتب وقال بأن سبب فقدانها هو جهل أبناء تلك المنطقة الذي دعاهم إلى عدم الحرص على تلك الكتب بنسخها ونشرها بين الناس وروايتها حتى تبقى ليستفيد منها الناس .
المقصود أن له مؤلفات كثيرة ، لكن الباقي من هذه المؤلفات هذه الكتب الخمسة التالي ذكرها :
أولها : كتاب " الصحيح " . الذي سيأتي ذكره .
ثانيها : كتاب " الثقات " .
ثالثها : كتاب " معرفة المجروحين من المحدثين والضعفاء والمتروكين " ؛ كتاب واحد بهذا العنوان ، وهو المشهور بكتاب " المجروحين " لابن حبان .
رابعها : كتاب " مشاهير علماء الأمصار" .
خامسها : كتاب " روضة العقلاء " ؛ وهو كناب في الأدب ، وهو من الكتب التي ليست في علم الحديث ، وإنما هي كتاب في الأدب ، وإن كان تضمن أسانيد وأحاديث ، لكن الكتاب مؤلف في علم الأدب في الأخلاق ، وأورد فيه أشعارًا وقصصًا وأخبارًا وأحاديث في الأخلاق المختلفة التي يحسن وينبغي على المسلم أن يتحلى بها .
هذا فيما يتعلق بترجمة ابن حبان عليه رحمة الله .
أما كتابه الصحيح ومنهجه فيه فسنذكر عنوان صحيح ابن حبان :(1/26)
ولكنا لن نفعل كما اعتدنا في العادة أننا نتكلم على المنهج من خلال العنوان ؛ ذلك لأن ابن حبان قد كتب مقدمة في غاية الأهمية لصحيحه أعلن فيها شرطه في غاية الوضوح ، فلسنا في حاجة إلى أن نتلمس الشرط من خلال كلمة أو كلمتين واردة في العنوان ، بل ننظر في مقدمته ، ومن خلال هذه المقدمة نعرف شرط ابن حبان .
وأهمية معرفة شرط ابن حبان تظهر من نواحٍ متعددة ، ومنها أنه قد وصف بالتساهل في التوثيق ، وهذا ما دعى كثيرًا من طلبة العلم بل من العلماء أن - ربما - يتساهلوا ، أو يستخفوا ، أو لا يعتمدوا على تصحيح ابن حبان في بعض الأحيان ، فنقول بأن الوقوف مع شرطه أرى أنه في غاية الأهمية وخاصة في قضية دعوى تساهله في الرواية عن المجهولين .
اسم الكتاب :
نقف مع اسمه لأنه لم يطبع على اسمه الصحيح ، اسم الكتاب هو :
" المسنَد الصحيح على التقاسيم والأنواع من غير وجود قَطْع في سندها ولا ثبوت جَرْح في ناقِلها ".
المسند : على الشرط المعهود أنه يخرج الحديث المرفوع المتصل .
الصحيح : اشتراط الصحة ، وسيأتي الكلام عن شرطه في الصحة من خلال مقدمته .
لكن الذي يستوقف في هذا العنوان قوله : " على التقاسيم والأنواع " :
حتى هذه العبارة الأخيرة وهي : " من غير وجود قَطْع في سندها ولا ثبوت جَرْح في ناقِلها " هذه واضحة وقد سبق مثلها عند ابن خزيمة ، لكن الجديد في عنوان صحيح ابن حبان هو قوله : " على التقاسيم والأنواع " ، ولغرابة هذا الاسم ربما اختصر بعض أهل العلم عنوان صحيح ابن حبان ، فقالوا : كتابه " التقاسيم والأنواع " ؛ لأن هذه الجملة هي التي تميز عنوان صحيح ابن حبان على عنوان غيره ممن أَلَّف في الصحيح .(1/27)
وقصدُه بـ التقاسيم والأنواع : أن ابن حبان في ترتيبه لأحاديث كتابه انتهج نهجًا غريبًا انفرد دون بقية العلماء جميعًا ، لم يؤلف أحدٌ قبله على طريقته ، ولم يؤلف أحد بعده على طريقته ، هو منهج فريد لم يوافقه عليه أحد لا سابق ولا لاحق ؛ ذلك أنه رأى أن يُقَسِّم كتابه على خمسة أقسام أساسية ، وكل قسم منها يقسمه إلى أنواع ، ولذلك سماه " التقاسيم والأنواع " ، فهي خمسة أقسام أساسية – سيأتي ذكرها – تحت كل قسم أنواع كثيرة حسب ما يظهر له من الأنواع .
القسم الأول : قسم الأوامر ؛ الأحاديث التي فيها أمر .
القسم الثاني : النواهي .
القسم الثالث : الأخبار .
القسم الرابع : الإباحات ؛ الأحاديث التي تدل على الإباحة .
القسم الأخير : الأفعال ؛ أفعال النبي عليه الصلاة والسلام .
فهي خمسة أقسام ، تحت كل قسم أنواع .
والغريب أن ابن حبان يقول : إنه ألَّف هذا الكتاب على هذه الطريقة ليُعَسِّر على من أراد الوقوف على الحديث أن يقف عليه ، وصرح بذلك ، يعني ما ألف الكتاب ويخفي هذا الغرض ، بل يقول : أنا ألفت الكتاب حتى لا يمكن لأحد أن يقف على الحديث بسهولة في هذا الكتاب .
لِمَا فعل ذلك ؟ فعله من أجل أن يُعسِّر على أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - الاستفادة من كتابه ؟
لا ، وإنما يقول : لأني أريد أن أجبر من يريد أن ينتفع بكتابي أن يحفظ هذا الكتاب كاملًا ، وضرب مثلًا بذلك القرآن الكريم ، يقول : فإنك إذا جئت لشخص لا يحفظ القرآن الكريم وقلت له آية كذا أين ؟ يقول : لا أستطيع إلا أن يستعرض القرآن كاملًا ، أما إن كان حافظًا فهو مباشرة يقول : هذه في سورة كذا ويقرأ لك ما قبلها وما بعدها .
يقول : فأردت أن يكون صحيحي مثل القرآن من هذه الناحية ؛ لا ينتفع به إلا من حفظه من أَلِفِه إلى يائه كاملًا ، وفعل ذلك لأنه بدأ في زمنه يظهر على طلبة العلم ملامح النقص في الحفظ ، فأراد أن يحثهم على الحفظ بهذا التصرف .(1/28)
طبعًا للأسف الشديد أن هذا الفعل من ابن حبان أدى إلى قلة المستفيدين من كتابه لأن الهمم قصرت ، بل جاء بعد ذلك عدد من أهل العلم ونكثوا غرض ابن حبان فرتبوا الكتاب ترتيبًا سهلًا وأعادوا ترتيبه حتى أصبح من السهل جدًّا أن ينتفع الإنسان بالكتاب ولو لم يكن حافظًا له ، كما سيأتي من جهود العلماء حول هذا الكتاب في آخر كلامنا عنه إن شاء الله .
المقصود أن هذا هو ترتيب ابن حبان في كتابه ، وهو ترتيب غريب لم يُسبق إليه ولم يوافقه أحد عليه ممن جاء بعده كما ذكرنا .
عدد أحاديث هذا الكتاب : نذكر الأمور الشكلية إلى أن ندخل في المقدمة وفي شرطه فيها .
عدد أحاديث الكتاب : سبعة آلاف وأربعمائة وواحد وتسعين حديث . حسب ترقيم المحقق ؛ بعضها مكرَّر ، وهذا العدد بالتكرار ، لكن الحقيقة أن عدد أحاديث الكتاب كثيرة بالفعل ، ويدل على ذلك عدد ما لديه من الزوائد على الصحيحين ، فسيأتي أن هناك من أَلَّفَ في زوائد ابن حبان على الصحيحين ، في الأحاديث الموجودة في صحيح ابن حبان وهي غير موجودة في صحيحي البخاري ومسلم كليهما ، فعدد هذه الأحاديث الزوائد : ألفان وستمائة وسبعة وأربعون حديث ؛ عدد كبير .
عدد أحاديث " صحيح البخاري " ألفان وستمائة واثنان ، يعني أكثر من ضعف ما عند البخاري من الأحاديث زوائده على الصحيحين ، ما هو على البخاري فقط ، فهذا يدل على ضخامة هذا الكتاب وعلى كثرة الأحاديث الزائدة التي في صحيحه ، وصححها على الصحيحين ، أو زائدة على الصحيحين ، وهذا يبين أهمية هذا الكتاب في الحقيقة ؛ لأنه يضيف لنا كَمٌّ كبير من الأحاديث يحكم عليها إمام ناقد معتَبر لم يحكم عليها البخاري ومسلم وهما أجل كتابين في الصحيح .
أما شرطه في الكتاب :(1/29)
فقد بينه في مقدمة كتابه بيانًا حَرِصَ أن يكون شافيًا ، وإن كان وقع خلاف في فَهم كلامه ، وتباينت الآراء في فهم بعض مقاصد هذا الكتاب ، وأستبيحكم العذر قليلًا في أننا قد نطيل شيئًا قليلًا في صحيح ابن حبان لأهمية هذا الكتاب في الحقيقة ، ولكونه – كما ذكرنا آنفًا – ممن اتُّهِم بالتساهل حتى وصل الأمر عند بعض طلبة العلم - ولا أريد أن أقول عند بعض أهل العلم – إلى أن يتساهلوا بهذا الكتاب وبتصحيح ابن حبان حتى كادوا ألا يعتمدوا تصحيحه أبدًا ، وألا يروا في تصحيحه وزنًا ، ولا يرفعون بكلامه رأسًا كما يقال ، فنريد أن نؤكد على أن هذا الإمام معتَبر معتَمد ويجب أن يُحْتَرَم قوله ورأيه في التصحيح والتضعيف وغير ذلك ، وأن بعض ما اتهم به لا تَثْبُتُ نسبته إليه في أقل الأحوال إن لم نقل إن بعض ما نُسِب إليه خطأ محضًا .
فيقول مثلًا في شرط كتابه ، وفي شرطه في الرواة أصلًا في أول كلامه عن صحيحه ، يقول في مقدمة الصحيح ؛ وأنا أنقل طبعًا من صفحات مُصَوِّرُها من نفس الصحيح .
يقول :
وأما شرطُنا في نَقَلَةِ ما أَوْدَعْناهُ كتابنا هذا من السنن .
- في المطبوعة ، يعني الظاهر أن هناك خطأً لأنها وردت العبارة : وأما شرطُنا في نَقلِهِ ما أَوْدَعْناهُ ، الظاهر أنها : في نَقَلَةِ ، وعلى كل حال المعنى لا يختلف كثيرًا وإن كان بالصيغة المطبوعة يكون مرتبكًا قليلًا .
يقول : وأما شرطُنا في نَقَلَةِ ما أَوْدَعْناهُ كتابنا هذا من السنن فإِنَّا لم نحتج فيه إلا بِحَديث اجتمع في كل شيخ مِنْ رُوَاتِهِ خمسة أشياء .
الآن يبين ما هي الشروط التي يشترطها في كل راوٍ من رواة صحيحه ، نريد أن نعرف : هل هو متساهل ؟ هل كان يوثق المجاهيل ؟ هل كان يخرج في صحيحه مجاهيل ، سيقول في مقدمة الصحيح .
الأول : العدالة في الدين بالستر الجميل .
لن نشرحها لأنه هو الآن سيشرح هذه النقاط ، نخن سنشرح الشرح إذا احتاج الأمر إلى شرح ، يقول :(1/30)
الثاني : الصدق في الحديث بالشهرة فيه .
الثالث : العقل بما يُحَدِّث من الحديث .
الرابع : العلم بما يُحيل من معاني ما يروي .
الخامس : المُتَعَرِّي خبرُه عن التدليس .
ثم يقول :
فكل من اجتمع فيه هذه الخصال الخمس احتججنا بحديثه وبنينا الكتاب على روايته ، وكل من تعرى عن خصلة من هذه الخصال الخمس لم نحتج به .
لو نقصت خصلة من هذه الخصال لم نحتج به ، لا بد أن تتم هذه الخصال الخمس كلها في كل راوٍ في الصحيح ، ثم يبين الآن مقصوده بالعدالة .
يقول : والعدالة في الإنسان هو أن يكون أكثر أحواله طاعة الله ؛ لأنه متى لم نجعل العدل إلا من لم يوجد منه معصية بحال أدانا ذلك إلى أن ليس في الدنيا عدل .
كل إنسان يخطئ .
إذ الناسُ لا تخلو أحوالهم من ورود خلل الشيطان فيها ، بل العدل من كان ظاهر أحواله طاعة الله ، والذي يخالف العدل من كان أكثر أحواله معصية الله .
- سنعود لهذا الكلام بالشرح ، لكن نكمل ، فيقول :
وقد يكون العدل الذي يشهد له جيرانه وعدول بلده به وهو غير صادق فيما يروي من الحديث ؛ لأن هذا شيء ليس يعرفه إلا من صناعته الحديث ، وليس كل مُعَدِّل يعرف صناعة الحديث حتى يُعَدِّل العدل على الحقيقة في الرواية والدين معًا .
نقف مع هذا المقطع لأنه مهم جدًّا ومتعلق بأهم ما اتُّهِم به ابن حبان وهو قضية التساهل في توثيق المجاهيل .
أول شيء يقول في الشرط ، يقول : العدالة في الدين بالستر الجميل .
العدالة في الدين هذا شرط صريح ، بعضهم يتمسك بكلمة : " بالستر الجميل " وحملها على الاصطلاح المتأخر وهو : المستور ، وأن المستور هو من عرفت عدالته الظاهرة دون الباطنة ؛ أصلًا القول بأن مجهول العدالة الظاهرة مردود مطلقًا ، هذا القول فيه نظر ويخالف كثيرًا من أهل العلم ، ولعل الراجح هو هذا القول ، لكن ما هو هذا الآن الذي يهمنا .
الذي يهمنا أن ابن حبان هل أراد بالستر الجميل هنا هو المستور ؟(1/31)
العبارة لا تؤدي هذا المعنى أبدًا ، ونعرف أن هذا الاصطلاح أصلًا متأخِّر لم يكن معروفًا ، ووجدنا أن العلماء في عصور متأخرة يستخدمون كلمة مستور بخلاف هذا المعنى تمامًا ، فمثلًا تذكرون عبارة الإمام مسلم لَمِّا ذكر الثلاث رواة الذين هم من الطبقة الثانية التي يُخْرِج لها ، قال : (وهؤلاء ممن يشملهم تعاطي الصدق والستر) .
مع أنه ليس واحد من هؤلاء الرواة مستور بالمعنى الاصطلاحي – يعني معلوم – بل معروفون تمامًا بالعدالة ، إنما الضعف جاءهم من قِبَل صفة الضبط فقط ، فهم معلومون العدالة الظاهرة والباطنة ، إنما تُكُلِّم فيهم من جهة الضبط ؛ فهذا مسلم يستخدم كلمة (الستر) بالمعنى اللغوي المعهود المذكور .
ما معنى الستر ، لو تقول : فلان مستور ؟! وإلى الآن الناس يستخدمون هذه العبارة ، إذا سُئِلْتَ عن فلان تقول : رجلٌ خَيِّرٌ وكذا ... مستور . ماذا تقصد بمستور ؟ يعني أن الله عز وجل ستر عليه فلم يُفْتَضَح بمعصية أمام الناس ؛ هذا هو المقصود بها ، لأنه معروف أن كل إنسان له معاصٍ ، فلولا أن الله عز وجل شملنا بسِتْره لَافْتَضَحْنَا جميعًا ، ما في إنسان يخلو من معصية .
فهذا هو المقصود في كلام ابن حبان ، وقد كرر هذه العبارة على نفسه أيضًا في نفس المقدمة مثلًا ، يقول في أواخرها - مما يدل على أن هذا الاستخدام شائع عند ابن حبان وعند غيره - يدعو لنفسه بدعاء في آخر كتابه ، يقول : " جعلنا الله ممن أسبل عليه جلابيب الستر في الدنيا " .
نسأل الله عز وجل أن نكون مستورين في هذه الدنيا فلا نُفْتَضَح بمعاصينا التي يعلمها الله ولا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى .
فهذا هو معنى (بالستر الجميل) حتى انظر هذا الوصف! واضح أن المقصود به أن الله عز وجل يسترنا بستره في الدنيا والآخرة ، نسأل الله عز وجل أن يشملنا بجلابيب ستره في الدنيا والآخرة كما قال ابن حبان عليه رحمة الله . آمين .(1/32)
فالمقصود : أن هذا مقصوده في العدالة ، ويؤكد ذلك بكلامه الذي شرح فيه عبارته ، حيث قال :
(والعدالة في الإنسان) : الآن يشرح العدالة بكل صراحة .
يقول : " هو أن يكون أكثر أحواله طاعة الله " .
وهذا هو تعريف العدالة بكل سهولة وبساطة ، يعني الذي يقول : هي المَلَكة التي تحمل صاحبها على ملازمة التقوى والمروءة يقصد هذا المعنى ؛ أن يكون أكثر أحواله طاعة الله ، وهو يصرح الآن بهذا الشرط تمامًا بكل وضوح .
ثم يبين لِمَا يقول هذا الكلام ، يقول : لأنه متى لم نجعل العدل إلا من لم يوجد فيه معصية ... إلى آخر كلامه ، سيُبين إلى أنه ليس من شرط العدل أن يكون لا معصية له ؛ لأنه لا يوجد أحد كذلك إلا من عَصَمَ الله عز وجل من الأنبياء والرسل ، أما من سواهم فإنهم يقع منهم الخطأ والمعصية ، لكن العدل من كان غالب أحواله طاعة الله عز وجل .
في آخر عبارة ؛ مما قد يكون أيضًا مُتَمَسَّك لمن يقول بأن ابن حبان يكتفي بعدالة ظاهرة ، حيث قال :
بل العدل من كان أكثر أحواله طاعة الله ، والذي يخالف العدل من كان أكثر أحواله معصية الله ، هل تدل هذه العبارة على أنه كان يكتفي بالعدالة الظاهرة ؟ هل ترون فيه هذه الدلالة ؟
الأمر الأول : لا يمكن أولًا لكلامه الصريح السابق ذكره ؛ بتعريف العدل أنه كم كان أكثر أحواله طاعة الله .
الأمر الثاني : نحن نقول دائمًا إن الذي نقول بأنه ثبتت له العدالة الباطنة .
ماذا نقصد بالعدالة الباطنة ؟ هل نقصد بالعدالة الباطنة ما في داخل قلبه ونواياه ؟
لا ؛ إنما نقصد ما ظهر لنا من أحواله ، ما الفرق بين العدالة الظاهرة والباطنة إذًا ؟(1/33)
العدالة الظاهرة التي تُعرف بالخبرة غير الدقيقة ، مجرد أني أراه يذهب إلى المسجد ، يأتي من المسجد ، أحسن فيه الظن ، ومسلم ، كذا ... فأقول : هذا عدل ، أما العدالة الباطنة فهي التي تحصل من طول الخبرة والمعايشة والسؤال والتحري في شأنه ؛ هذا الفرق فقط بين العدالة الظاهرة والباطنة ، فليس معنى الباطنة أني حَكمْتُ على ما في داخل قلبه ؛ هذا لا يعلمه إلا الله عز وجل ، ولذلك لا نُعَدِّل عدالة باطنة من الناس إلا من عدله الله عز وجل ورسوله كالصحابة رضوان الله عليهم ، فهؤلاء هم الذين ثبتت لهم العدالة الباطنة بالمعنى الدقيق ، وهو أننا نُعَدَّل ما في قلوبهم ونزكي ما في قلوبهم ؛ لأن الله عز وجل حكم لهم بالعدالة وهو العالم بما في قلوبهم ، أما من سواهم فلا يمكن أن نقول ذلك ، فهذا هو مقصوده ، ويدل على ذلك أنه قال : (بل العدل من كان ظاهر أحواله طاعة الله ، والذي يخالف ذلك) الآن لا بد أن يأتي بالنقيض ، قال : والذي يخالف ذلك من أكثر أحواله معصية الله .
إذًا معنى من كان ظاهر أحواله طاعة الله يعني من كان أكثر أحواله طاعة الله ؛ لأن الأمر يتبين بضده ، على كل حال هذا كلام ربما اضطررنا إلى بيانه لصورة أكثر ، وأرجو أن يكون بَيِّنًا بما ذكرناه .
يبقى في كلامه التالي حول العدالة أيضًا ؛ حيث بَيَّنَ أنه ليس كل من عدَّله الناس ربما قُبلت يَستحق أن يكون مقبولًا في الرواية . لماذا ؟
يقول ابن حبان كلامًا صريحًا :
وقد يكون العدل الذي يشهد له جيرانه وعدول بلده به – يعني بالعدالة - وهو غير صادق فيما يروي من الحديث ؛ لأن هذا شيء ليس يعرفه إلا من صناعته الحديث .
ما هو الذي ليس يعرفه إلا من صناعته الحديث ؟ لا يعرف من هو المتقن الصادق في روايته إلا من كان ناقدًا في الحديث ؟ لماذا ؟ يؤكد هذه المسألة الآن ويبين العلة ، فيقول :
وليس كل مُعَدِّل يعرف صناعة الحديث حتى يُعَدِّل العَدْل على الحقيقة في الرواية والدين معًا .(1/34)
- وهنا أذكركم بالفائدة التي قلناها لكم أن العدل يطلق عند المحدثين على العدل الضابط ، على من شمل بين الضبط والديانة ، بدليل ؟
يقول : حتى يُعَدِّل العدل على الحقيقة .
من هو العدل على الحقيقة عند المحدثين ؟
قال : في الرواية والدين معًا .
فالعدل في الرواية هو الضابط ، والعدل في الدين هو صاحب الملكة ، التي هي الديانة ، التي هي العدالة المشهورة ؛ هذه أحد العبارات الصريحة بأن العدل عند المحدثين تشمل الضبط والديانة .
وبذلك انتهينا من شرط العدالة عند ابن حبان في هذا الكتاب ، وتبين أنه يشترط فيه الشرط الذي يشترطه غيره من أهل العلم وأنه لا يحتج بالمجهول ، وقلت لكم : إذا رأيتم أن الأمر يحتاج إلى زيادة إيضاح ممكن نجعل هذا لدرس ، وهو الكلام عن توثيق ابن حبان بصورة إجمالية ، وكتابه " الثقات" خاصة ؛ لأنه من كتابه " الثقات " استنبطوا تساهله في التوثيق واعتبروه متساهلًا في التوثيق ، فإذا رأيتم أن المسألة تحتاج إلى ذلك ليس لدي مانع في أن أتكلم عن منهجه في كتاب " الثقات" وأن أبين أنه ليس متساهلًا في التوثيق – عليه رحمة الله – وأنه مثله في ذلك مثل غيره من العلماء ، والكلام يحتاج إلى تفصيل .
الشرط الثاني الذي ذكره ابن حبان : والآن يشرحه .
يقول : والعقل بما يُحَدِّث من الحديث هو أن يعقل من اللغة بمقدار ما لا يُزِيل معاني الأخبار عن سَنَنِها ، وَيَعْقِلَ من صناعة الحديث ما لا يُسند موقوفًا أو يرفع مرسلًا أو يصحف اسمًا .
هنا يشترط في الراوي ؛ يعني مقصوده بالعقل بما يُحَدِّث من الحديث ألا يكون مغفلًا ، والمقصود بالغفلة : ضعف العقل إلى درجة أن الإنسان يصل إلى درجة - لا يصل إلى درجة الجنون - ما نسميه بالحمق ، قلة الفهم القلة الشديدة وخفاء الأمور الواضحات على فهمه وعقله ؛ هذا هو المغفل الذي يقصده ابن حبان في هذا الكلام .
ويفسر ذلك فيقول : هو أن يعقل ، يعني : من هو هذا العاقل الغير مغفل ؟(1/35)
قال : هو أن يعقل من اللغة بمقدار ما لا يزيل معاني الأخبار عن سَنَنِها .
وهناك عبارات لبعض أهل العلم تبين المقصود بهذا القسم .
من ذلك عبارة الإمام مالك المشهورة عندما قال :
" لا تأخذ العلم عن أربعة - فذكر منهم - قال : ولا من شيخ له فضل وعبادة إذا كان لا يعرف ما يُحَدِّث به ".
يعني : الشخص الذي لا يعرف شيئًا من معنى الخبر ، لا يفهم ولا حتى المعنى الإجمالي من الخبر ؛ لأن مثل هذا الإنسان هل يؤمن على النقل ؟! إنسان ما عرف شيئًا ، الكلام عنده الذي يقرئه كأنه باللغة الإنجليزية ، ما فهم منه ولا شيئًا ، لا يقصد الفقيه الذي يعرف دقائق المعاني ؛ هذا سيأتي ذكره بعد قليل فيما لو روى بالمعنى ، لكن لا ، نقصد حتى الذي يعرف المعنى الإجمالي إذا كان هذا الشخص ما فهم من هذا الخبر شيئًا ، هل يمكن أن يضبط هذا الخبر ؟! أنت الآن لو طلبت أنك تحفظ ثلاث مقاطع من اللغة الهيروغليفية ، وقلت : احفظ هذه الكلمات وكررها واحفظها طوال عمرك ، هل يمكن تحفظها وأنت لا تدرك من معانيها شيئًا ؟! لا يمكن أبدًا ؛ لأن المعنى يساعد كثيرًا على الضبط ، فلذلك اشتُرط ألا يكون من هذا القسم .
أيضًا هناك عبارة أخرى للإمام مالك ، أنه قال : لقد أدركتُ بهذا البلد مشيخة لهم فضل وعبادة وصلاح يُحَدِّثون ، ما سمعت من واحد منهم حديثًا قط .
قيل : ولِمَا يا أبا عبد الله ؟!
قال : لم يكون يعرفون ما يحدثون به .
يعني - نفس تلك المعنى - لم يكون يعرفون ، يعني لا يدري شيئًا من معاني ما يروي .
وقال إبراهيم النخعي في هذا السياق أيضًا : لقد رأيتُنا وما نأخذ الحديث إلا ممن يعلم حلالها من حرامها ، وإنك اتجد الشيخ يحدث بالحديث فيحرف حلاله عن حرامه ، وحرامه عن حلاله وهو لا يشعر .
هذا القسم من الناس هو الذي يقصده ابن حبان .
أيضًا قسم ثانٍ من الناس وهو عندما قال : ويعقل من صناعة الحديث ما لا يسند موقوفًا أو يرفع مرسلًا أو يصحح اسمًا .(1/36)
يعني : إذا أيضًا لا يستطيع أن يضبط الإسناد إلى درجة أنه يجعل المرسل مرفوعًا والمرفوع موقوف ويقلب الأسانيد ويغير الأسماء ، فهو لا يعقل من هذا الخبر شيئًا ، لا من إسناده ولا من متنه .
ومثل هذه العبارة كلمة الإمام البخاري عندما قال : كل من لا يعرف صحيح حديث من سقيمه لا أُحَدِّث عنه ؛ هذا العبارة نقله الترمذي عن البخاري ، كل من لا يعرف صحيح حديث من سقيمه لا أُحَدِّث ، يعني نفس ما ذكره ابن حبان : هو الذي لا يعقل صناعة الحديث فيُسند موقوفًا أو يرفع مرسلًا أو يصحف اسمًا ، إذا بلغ به الأمر إلى هذا الحد فإنه ى يستحق أن يروى عنه .
نقف هنا ، ونكمل بعد ذلك إن شاء الله .
وصلى اللهم وسلم ، وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين .(1/37)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على إمام الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد ..
فكنا قد توقفنا في لقائنا الماضي أثناء شرحنا لشروط ابن حبان عليه رحمة الله في صحيحه ، وتوقفنا قليلًا عند شرط العدالة عند ابن حبان ، وقد رأيت في الحقيقة أن أؤكد على هذا الشرط ؛ لأن أهم قَدْحٌ قُدِحَ في صحيح ابن حبان إنما جاء من جهة العدالة وما يتعلق بها ، ولا يليق أن نترك هذا الأمر دون بيان واضح بإذن الله تعالى حتى يتبين وجه الترجيح فيما نذكر بإذن الله تعالى .
ذكرنا سابقًا أن ابن حبان شرطه في العدالة كشرط غيره من أهل العلم ، وأنه لا يقبل رواية المجهول كما ادُّعِي ذلك عليه .
لكن قبل الدخول في هذه المسألة – طبعًا نحن قرأنا كلام ابن حبان وأكدنا على هذه المسألة من خلال نصه الذي أورده في مقدمة الصحيح – أريد أن أنبه إلى أن الراوي الذي عُرفت عدالته الظاهرة وجهلت عدالته الباطنة أن الراجح في شأنه : أنه إذا سُبِرتْ أخباره وتبين أنه موافق للثقات وأنه لم يرو المنكرات أنه يكون مقبول الرواية ، وهذا هو الذي عليه عمل كثير من أهل العلم كما نص على ذلك من المتأخرين مثلًا الشيخ الْمُعَلِّمِي عليه رحمة الله بالنسبة لابن معين والنسائي وغيرهما كما يقول ، ومعروف أن النسائي وابن معين ممن عُدَّ من المتشددين في الجرح والتعديل ، ومع ذلك فقد اكتفيا بالعدالة الظاهرة مع سبر المرويات في توثيقهم للرواة .(1/1)
أيضًا نص على أن هذا هو الذي ابنُ الصلاح ؛ لما ذكر المستور وذكر أن بعض الشافعية احتج بحديثه ؛ سُليم بن أيوب الرازي ، قال : ويشبه أن يكون العمل على ذلك في كثير من الكتب المعتمدة أو المشهورة في جماعة – أو في كثير - من الرواة الذين تقادم العهد بهم ، فبَيَّنَ أن العمل في الكتب المشهورة – ولا شك أن سيقصد بالكتب أمهات السنة – على قبول رواية من جُهِلَت عدالته الباطنة وعُرِفت عدالته الظاهرة ، بشرط أن تسبر مروياته ونعرف أنه ليس مردود الرواية ، وقبول عدالة الرواة مسألة طويلة وشائكة ، وقد تعرضت لها في شرح " ابن الصلاح " تَعَرُّضًا واسعًا جدًّا ، فمن أراد أن يعرف حدودها وضوابتها وأقوال أهل العلم فيها فعليه أن يرجع إلى تلك الدروس لعله يجد فيها ما يريد .
فالمقصود أن ابن حبان إذا اكتفى بالعدالة الظاهرة لم يأت بذلك في هذا الأمر بأمر جديد ، فإذا اعتبرنا هذا تساهلًا فلنعتبر ابن معين والنسائي وأصحاب الكتب المعتمدة المشهورة وعامة المحدثين أنهم متساهلين ، ولا شك أن هذا ليس بقوي صحيح ، وأن جريان العمل على هذا الأمر كافٍ ، بل هناك ناقشتُ قضية حتى قبول العدالة الظاهرة في الشهادة والخلاف بين الفقهاء فيها وما ذكروه في هذه المسألة فضلًا عن الرواية ، والفرق بين الشهادة والرواية في هذا الجانب تظهر من أن الشاهد يمكن أن يتثبت من عدالته الباطنة لكونه موجودًا بين يدي القاضي ، يمكن أن يسأل ويتثبت في قضية عدالته الباطنة ، أما الرواة خاصة – لأنه تقادم العهد بهم كما قال ابن الصلاح – فهؤلاء لا سبيل إلى معرفة عدالتهم الباطنة ؛ لأنه بيننا وبينهم أزمنة ودهور ، ولا يمكن أن نعرف عدالتهم الباطنة ، فيُكتفى فيهم بالعدالة الظاهرة .(1/2)
وبينت في ذلك الدرس علاقة ذلك بمسألة هل الأصل في المسلم العدالة أم الأصل في المسلم عدم العدالة ، وبينت أنه لا يصح أن نربط قضية الرواة بهذه المسألة ، بل الصواب أن نقول : هل الأصل في رواة السنن - ممن ظهرت عدالتهم الظاهرة – أنهم عدول أو غير عدول ؟ راوٍ عرفناه بالعدالة الظاهرة ؛ ليس مطلق راوٍ ، ليس مطلق مسلم ، وإنما شخص لم نعرفه إلا بالعدالة الظاهرة ، وهو من حملة العلم ، أو حتى دون هذا القيد . رجل عرفناه بالعدالة الظاهرة ، هل الأصل فيه العدالة أو لا ؟
- الأصل فيه العدالة ، هذا لا شك فيه ، أما إذا قلت الأصل في الناس ماذا ؟ أقول : صح ، أكثر الناس كما قلنا بعيدين عن العدالات ، إذا قلت من عرفناه بالعدالة الظاهرة الأصل فيه أن يكون عدلًا في الباطن ، هذا لا شك فيه ، فكيف إذا تذكرت أننا نتكلم نحن وابن حبان الذي اتُّهِم بالتساهل عن الرواة وتذكر أننا نتكلم عن الرواة غالبًا أيضًا في زمن التابعين وأتباع التابعين الذين هم في القرون المفضَّلة ، لا شك أن الاكتفاء بالعدالة الظاهرة يكون حينها هو المتوجِّه وهو الصحيح ؛ فهذه مسألة يجب أن تكون مستحضرة في الذهن قبل أن نتهم ابن حبان بالتساهل أو بعدم التساهل .
الأمر الثاني : أكد ابن حبان على شروط الحديث المقبول كما ذكرنا هنا في الصحيح وذكر نفس هذه الشروط لكن بألفاظ أخرى تُعين على فَهْمِ كلامه أيضًا في الصحيح في مقدمة كتابه " المجروحين " ؛ حيث يقول مثلًا في مقدمة هذا الكتاب :
"وأقل ما يثبت به خبر الخاصة حتى تقوم به الحجة على أهل العلم".
خبر الخاصة المقصود به خبر الآحاد ، يعني يقول هنا : ما هي أقل شروط يجب أن تتوفر في الحديث من أجل أن يكون حجة ؛ هذا أقل درجة من درجات القبول عند ابن حبان ، فيذكر الآن الشروط .
يقول :
" هو خبر الواحد الثقة في دينه " .(1/3)
أول شرط : أن يكون ثقة في دينه ، يعني عدلًا ، بين الآن أنه يشترط العدالة أو لا ؟ كلام صريح أو ليس بصريح ؟ صريح ، وهذا أقل درجات القبول عنده : أن يكون ثقة في دينه ، فلا يمكن بعد ذلك أن نقول بأنه يقبل رواية المجهول ، فأول شيء : يكون ثقة في دينه .
" المعروف بالصدق في حديثه ".
يؤكد قضية العدالة الدينية وأنه يجب أن يكون صادقًا في حديثه .
" العاقل في حديثه ".
كم ذكر في صحيحه .
" العاقل بما يحدث به ".
ما يكون مغفلًا.
" العالم بما يحيل المعاني ".
معاني الحديث من اللفظ ، يعني إذا رواه بالمعنى لا يُحيل المعنى .
"المتبري عن التدليس في سماع ما يروي عن الواحد مثله – يعني هذا عند العنعنة - بالأحوال التي وصفتها حتى ينتهي ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سماعًا متصلًا".
يؤكد على شرط الاتصال أيضًا .
فهذه عبارة صريحة أيضًا تُفَسِّر ما ذكره في مقدمة الصحيح العدالة الدينية ، وتؤكد أنه بالفعل لا بد عنده من ثبوت العدالة .
هناك أيضًا عبارات مختلفة لابن حبان في عدد من كتبه تؤكد أنه لا يقبل رواية المجهول ، تقطع بذلك ، لا أقول فقط تؤكد ، يعني عبارته السابقة واضحة في الحقيقة في اشتراط العدالة ، لكن أيضًا له عبارات أخرى تؤكد أنه لا يقبل رواية المجهول .
من أهم هذه العبارات قوله في كتاب " المجروحين " :
" أجمع الجميع على أن الشاهدين لو شهدا عند الحاكم على شيء من حطام هذه الدنيا ولم يعرفهما الحاكم بعدالة أن عليه أن يسأل المعَدِّل عنهما ، فإن كتم المعدل عيبًا أو جرحًا علمه فيهما أَثِمَ ، بل الواجب عليه أن يخبر الحاكم بما يعلم عنهما من الجرح والتعديل ، حتى يحكم الحاكم بما يصح عنده".
ثم يقول ؛ موطن الشاهد المهم :(1/4)
" فإذا كان ذلك جائزًا لأجل التافه من حطام هذه الدنيا الفانية ، فكان ذلك عند ذَبِّ الكذب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولى وأحرى ، فإن الشاهد إذا كذب في شهادته لا يتعداه كذبه ، والكاذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُحِلُّ الحرام ويحرم الحلال ويتبوأ مقعده من النار ".
يقول : إذا نشترط العلم بحال الراوي ولا نقبل رواية المجهول في الأمر التافه من حطام هذه الدنيا ، فكيف في أمر الدين وفي أمر التحليل والتحريم ؛ أيضًا عبارة واضحة في أنه لا يمكن أن يكون يقبل المجهول .
يقول في إحدى التراجم في " المجروحين " أيضًا ، في ترجمة عثمان بن عطاء بن أبي مسلم الخراساني ، يقول عن هذا الراوي ، نذكر عبارة كاملة حتى يتضح المعنى ، يقول:
" يروي عن أبيه ، روى عنه محمد بن شعيب بن شابور والناس ، وأكثر روايته عن أبيه ، وأبوه لا يجوز الاحتجاج بروايته لما فيه من المقلوبات التي وهم فيها ".
هذا الرجل يروي عن أبيه وأبوه فيه ضعف ، وأكثر مروياته عن أبيه التي فيها أخطاء وفيها أوهام - حسب كلام ابن حبان – ثم يقول :
" فلست أدري ؛ البلية في تلك الأخبار منه أو من ناحية أبيه ".
يعني الروايات التي يرويها عن أبيه وفيها مناكير وفيها أخطاء ، هل الخطأ منه أو من أبيه ؛ لأن أباه أيضًا معروف بالخطأ والوهم ، فكل حديث يقع فيه خطأ ووهم لا ندري هل هو من الابن أم من الأب الذي أيضًا غير معروف بالعدالة أو غير معروف بالضبط ، يقول ابن حبان يكمل كلامه :
" وهذا شيء يَشْتَبِه ؛ إذا روى رجلٌ ليس بمشهور بالعدالة عن شيخ ضعيف أشياءَ لا يرويها غيرُه ، لا يتهيأ إِلْزَاق القدح بهذا المجهول دونه ، بل يجب التَّنَكُّب عما رويا جميعًا حتى يحتاط المرء فيه ، لأن الدين لم يُكَلِّف الله عبادَه أخذه عن كل من ليس بعدل مَرْضِي ".(1/5)
يقول : هذا الرواي نحن ما نعرفه ، يروي عن والده ، فلا ندري الأخطاء هذه منه أو من والده ، يقول نترك رواية الاثنين ، مع أنه ما جزم بجرح الابن ؛ لأننا من نحن مكلَّفين أن نأخذ ديننا ممن لم نعرفه بالعدالة ، ما دام أنه ليس بعدل فلا نأخذ روايتنا عنه أو أحاديثنا عنه أو ديننا عنه ، يؤكد ذلك في ترجمة أخرى بصورة أوضح ؛ في ترجمة عبد الله بن مُؤَمَّل المخزومي ، يقول :
" كان قليل الحديث ، منكر الرواية ، لا يجوز الاحتجاج بخبره إذا انفرد ؛ لأنه لم يتبين عندنا عدالته ، فيُقبل ما انفرد به ، وذاك لأنه قليل الحديث ، لم يتهيأ اعتبار حديثه بحديث غيره لقلته فيُحْكَم له بالعدالة أو الجرح - يقول ، انتبهوا الآن للعبارة : - ولا يتهيأ إطلاق العدالة على من ليس نعرفه بها يقينًا ".
يقول : لا يمكن أن أصف إنسانًا بالعدالة إلا إذا تيقنتُ أنه عدل ، إذًا ابن حبان لا يُعَدِّل من لم يعرف بالعدالة يقينًا .
يقول :
" قيُقبل ما انفرد به ، فعسى أن نحل الحرام ونحلل الحرام برواية من ليس بعدل ، أو نقول على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لم يقل اعتمادًا منا رواية من ليس بعدل عندنا ، كما لا يتهيأ إطلاق الجرح على من ليس يستحقه بإحدى الأسباب التي ذكرناها من أنواع الجرح في أول الكتاب وعائذ بالله من هاتين الخصلتين ؛ أن نجرح العدل بغير علم ، أو نعدل المجروح بغير يقين " .
يقول : أعوذ بالله من أن أعدل مجروحًا بغير يقين أو أن أجرح عدلًا بغير علم ويقين .
في الحقيقة الكلام لعله أيضًا متكرِّر في تراجم أخرى ، لكن في هذه الترجمة ؛ ترجمة يزيد بن الربيعة الرحبي يقول :
" الجرح والعدالة ضدان ، فمتى كان الرجل مجروحًا لا يُخرجه عن حد الجرح إلى العدالة إلا ظهور أمارات العدالة عليه " .
إلا أن تظهر عليه علامات العدالة :
" فإذا كان أكثر أحواله أمارات العدالة صار من العدول كذلك ".(1/6)
الكلام الذي ذكره في مقدمة الصحيح وهو : "أن يكون أكثر أحواله طاعة الله عز وجل" .
" كذا إذا كان الرجل معروفًا يكون جائز الشهادة ، فهو كذلك حتى يظهر منه أمارات الجرح ، فإذا صار أكثر أحواله أسباب الجرح خرج عن حد العدالة إلى الجرح وصار في عداد من لا تجوز شهادته وإن كان صدوقًا فيما يقول ، وتبطل أخباره .. " إلى آخر كلامه في هذه الترجمة .
ننبه هنا إلى أن لابن حبان اصطلاحًا خاصًّا في المجهول ، لا بد أن نتطرق إليه ؛ لأنه قد يُظَن أن هذا الاصطلاح له أثر فيمن يدعي أنه عدل .
فإِنَّ ابن حبان لا يصف الرجل بمجهول إلا في ثلاث حالات :
الحالة الأولى : إما أنه لا يروي إلا عن ضعيف .
الحالة الثانية : أو أن يكون هذا الراوي لا يروي عنه إلا ضعيف .
الحالة الثالثة : ترجع إلى الحالتين السابقتين وهي : أن يكون لا يروي عنه وهو لا يروي إلا عن ضعيف .
يعني شيخه ضعيف وتلميذه ضعيف ، أبدًا لم نجد له رواية إلا بهذه الصورة .
هذا عند ابن حبان هو المجهول ، وقد بَيَّنَ بكل صراحة في مواطن من كتابه " المجروحين " ، وبين السبب ؛ لِمَا يخص هذا فقط بوصفه بالجهالة ؟ من يستطيع أن يستنبط هذا السبب ؟ لِمَا يخص ابن حبان هذه الأقسام الثلاثة بوصف الجهالة خاصة ؟
يقول : هؤلاء هم المجهولون حقيقة ، الذين لا شك في جهالتهم ، لِمَا ؟
لا يشترط أن يكون الراوي العدل لا يروي عنه إلا العلماء ، قد يروي عنه راوٍ ثقة لكنه ليس بعالم ، وهذا كيف يكون له أثر في قبوله أو في تعديله ؟ يعني إذا لم يرو عنه إلا ضعيف أو لم يرو إلا عن ضعيف ؟
حسب الصورة الثانية قد لا يكون الراوي عنه عالم وعدل ، لكنه هو لا يروي إلا عن ضعيف فلِمَ لا نعتبره عدلًا ؟
إذا عرف أنه ليس بعدل يصبح مجروحًا ، ليس مجهولًا ، لكن هذا الراوي لا يعرفه لا بعدالة ولا جرح .(1/7)
أقصد الآن : لم يعتبر هذا فقط هو المجهول ، لماذا غيره لا يعتبره مجهولًا ؟ لِمَ اعتبر من لا يروي إلا عن ضعيف ومن لا يروي عنه إلا ضعيف هذا هو المجهول ومن سواه لا يلزم أن يكون مجهولًا ؟
هو في مَلْحَظ معين عند ابن حبان أكد عليه في مواطن كثيرة ، وهو في أحد المواطن التي تكلم فيها عن المجهول ، وهو أن من كان حاله ما ذكرتُ لكم من أنه لا يروي إلا عن ضعيف ولا يروي عنه إلا ضعيف ، هذا لا يمكن أن يُسْبَر خبره ليُعرف هل هو متقِن أو غير متقِن ، لِمَا ؟
لأن كل حديث يرويه ، حتى لو وجدنا في الحديث نكارة ، فيحتمل أن تكون هذه النكارة من الضعيف الذي روى عنه أو الذي هو يروي عنه ، ولذلك لا يمكن أن نعرف هل هو ضابط أو لا ؛ لأننا إن أردنا أن نحكم عليه من خلال هذه الروايات التي فيها نكارة مثلًا فإننا سنجد أننا لا نستطيع أن نجزم هل هذه النكارة بسبب شيخه الضعيف أو تلميذه الضعيف ، ولذلك لا يمكن أن يُحكم عليه ، مثل هذا لا يمكن أن يُسْبَر خبرُه ، وهذا ما وضحه ابن حبان في مواطن كثيرة .
مثلًا يقول في موطن كان : " الشيخ إذا لم يرو عنه ثقة فهو مجهول لا يجوز الاحتجاج بخبره ؛ لأن رواية الضعيف لا تخرج من ليس بعدل عن حد المجهولين إلى جملة أهل العدالة كأنما روى الضعيف وما لم يرو في الحكم سيان " ؛ هذا في موطن .
ويقول في موطن آخر :
" الراوي منكَر الحديث ، ولا أعلم له راويًا إلا موسى بن عبيدة الربزي ، وموسى ليس بشيء في الحديث ، ولا أدري البلية في أحاديثه والتخليط في رواية منه أو من موسى ، ومن أيهما كان وما لم يرو سيان ".
ويقول في ترجمة أخرى :
" منكر على قلته ، لا تتميز كيفية سببه في النقل ؛ لأن راويه جابر الجعفي ، فما يَلْزَق به إلى الوهن فهو لجابر مُلْزَق أيضًا ، فمن هاهنا اشتبه أمره ووجب تركه ".
ما نقبل روايته ؛ لأن كل منكر لا ندري هل هو منه أو من الضعيف الذي يروي عنه .
موطن آخر لعله واضح أيضًا ، يقول :(1/8)
" والشيخ إذا لم يرو عنه ثقة فهو مجهول لا يجوز الاحتجاج به ؛ لأن رواية الضعيف لا تخرج من ليس بعدل عن حد المجهولين إلى جملة أهل العدالة ، كأن ما روى الضعيف وما لم يرو في الحكم سيان .." إلى آخر الموطن الأخر .
هذه كلها تقريبًا فيمن لم يرو عنه إلا ضعيف .
الآن فيمن لم يروي هو إلا عن ضعيف ، يقول :
" منكر الحديث جدًّا ، مشتبِه الأمر ، لا يوجد الاتضاح في إطلاق الجرح عليه أبيه ".
لا يمكن أن نجرحه يقينًا .
يقول : " لأنه لا يروي إلا عن أبيه ، وأبوه ليس بشيء في الحديث ، ولا يروي عنه إلا أسيد بن زيد ، وأسيد يسرق يسرق الحديث ، فلا يتهيأ إطلاق القدح على من يكون بين ضعيفين - هذه الصورة الثالثة ؛ بين ضعيفين – إلا بعد السبر والاعتبار بما يروي عن غير الضعيف ".
أن نجد له رواية عن غير الضعيف فنسبر روايته هذه.
يقول :
" ولا سبيل إلى ذلك فيه – هذا الراوي لا سبيل إلى ذلك فيه – لأنه لم يرو إلا عن ضعيف ، فهو ساقط الاحتجاج ، حتى تتبين عدالته بروايته عن ثقة إذا كان دونه ثقة واستقامت الرواية فلم يخالف الثقات ".
فهنا يؤكد على ما ذكرته لكم .
ولذلك نجد أن ابن حبان بناءً على هذا التقسيم قَسَّمَ جميع الرواة إلى قسمين :
القسم الأول : إلى من عرفه بجرح .
وهذا الذي ذكره في كتاب : " المجروحين " .
القسم الثاني : من لم يعرفه بجرح ، سواء عرفه بالعدالة والثقة أو لم يعرفه بذلك .
وهذا القسم ذكره في " الثقات " ؛ يأتي الكلام عن الثقات بعد قليل .
فهذا منهج ابن حبان في تقسيم الرواة : الراوي إما معروف بجرح ؛ وهذا يذكر في " المجروحين " ، وإما غير معروف بجرح ؛ وهذا ذكره في كتاب " الثقات " .
ما هو وجه ذكر القسم الثاني في كتاب " الثقات " ، مع أن منهم من لم يعرفه أيضًا بالعدالة كما سيأتي ، ما هو وجه ذكره في " الثقات " ؟(1/9)
ليس قضية الأصل ، لا ، وهل كل عدل في الظاهر ضابط متقِن ، لا تنسوا أنه عندنا شرط ثان في الرواية لا يكفي فيها العدالة الظاهرة فقط ، فلذلك قلنا الأصل فيه العدالة ، بقية الشرط الثاني وهو الضبط .
لأن هذا القسم هذا هو الذي يمكن أن يُسْبَر حديثه ويُعرف هل هو عدل أو ليس بعدل ، فكل من أورده في " الثقات " هو عنده صالح أن يُسبر خبرُه ، ولذلك لم يعتبره مجهولًا بمعنى أنه لا يمكن أن يسبر حديثه ، فالمجهول عند ابن حبان هو الذي لا يمكن أصلًا أن يُعرف هل هو ثقة أو لا ، ولا بأي حال من الأحوال ؛ لأنه لا يروي إلا عن ضعيف أو لا يروي عنه إلا ضعيف ، فهذا لا يمكن أن يعرف خبرُه من خلال السَّبْر ؛ أما من سواه فإما أن يكون عدلًا في الظاهر وضابط ، وهذا يستحق أن يدخل في " الثقات " ، وإما أن يكون عدلًا في الظاهر ولا يعرف ضبطه ، وهذا يُدخل في " الثقات " باعتبار أنه يمكن أن يسبر حديثه فنعرف هل هو ضابط أو غير ضابط ، ولذلك سيأتي تصريح ابن حبان أنه لم يُدخل في " الثقات " كلَّ من عرفهم بالعدالة والضبط ، وأن ذكره للراوي في " الثقات " لا يلزم منه أن يكون ثقة عند ابن حبان نفسه .
أيضًا من المسائل المتعلقة بالمجهول قبل أن نكمل هذا السياق : أنه جرح بالجهالة وحدها وحدها في كتابه " المجروحين " ، لكن طبعًا بالجهالة على تعريفه هو الذي سبق ؛ أنه لا بد أن يكون لا يروي إلا عن ثقة ولا يروي عنه إلا ثقة ، فمثلًا يقول في ترجمة محمد بن عبد الله البصري :
يقول : " منكر الحديث على قلته ، لا يُحتج به ؛ لجهالته وقلة شهرته في أهل العلم بالرواية ، مع ما يأتي من المنكر فيما يروي ".
يقول : أنا أوردته هنا لسببين :
أولًا : لأنه مجهول ، غير مشهور .
ثانيًا : لأنه يروي المناكير .
وهنا ييؤكد أن الجهالة سبب للرد ، فإذا انضاف إليه منكر الحديث ؛ هذا أدعى لذكره في " المجروحين " .
يقول أيضًا في ترجمة راوٍ آخر ؛ الهيثم بن محمد بن حفص الداري يقول :(1/10)
" منكر الحديث على قلته لا يجوز الاحتجاج به لما فيه من الجهالة والخروج عن حد العدالة إذا وافق الثقات ، فكيف إذا انفرد بالأوابد والطامات ".
انظر! هنا كلام أصرح من السابق ، يقول : لا يجوز الاحتجاج بخبره حتى لو وافق الثقات لكونه مجهولًا ، فكيف إذا انفرد بالأوابد و الطامات ؛ هذا أولى أن يكون مردودًا ، وهذا يؤكد لي أنه يجرح بمجرد الجهالة أيضًا في كتابه " المجروحين " .
إذًا تَوَضَّح الآن أن ابن حبان لا يقبل المجهول كما يُدَّعَى عليه ، كونه يعتبر المجهول في هذا القسم فقط ويرد رواية هذا القسم ؛ هذا صريح بأنه يشترط العلم بالعدالة والضبط ، لماذا ؟ لأنه كونه قَسَّم المجهولين إلى قسمين : قسم لا يمكن أن يُسْبَر أخباره ، وقسم يمكن أن يُسبر أخباره ؛ أقصد بالمجهولين الذي هو مستور الحال ، الذي هو معلوم العدالة الظاهرة مجهول العدالة الباطنة ، ما دام أنه قَسَّمَ المجهولين من هذا القسم إلى قسمين ؛ من يمكن أن يسبر خبره ، ومن لا يمكن أن يسبر خبره .
دل ذلك على : أنه أولًا لا يقبل المجهولين مطلقًا ، في قسم لا يقبله ؛ هذا أول ثمرة نقطع بها ، بخلاف ما نُسِب إليه من أنه يقبل المجهول مطلقًا ، فأقل ما نصل إليه حتى الآن أن في قسم من المجهولين لا يقبله ابن حبان .
القسم الثاني ممن يسمى بالمجهول : وهو المعلوم العدالة الظاهرة ؛ هذا أيضًا كما ذكرنا لا يقبله ابن حبان مطلقًا لماذا ؟ لأن ظاهر التقسيم يقتضي ذلك ، قال : قسم يمكن أن يسبر أخباره ، وقسم لا يمكن ، إذًا ما هو داعي هذا التقسيم ؟(1/11)
أن هذا القسم الذي يمكن أن يسبر أخباره لا نقبله إلا إذا سبرنا خبره ؛ لأنه إذا لم يسبر خبر هذا الذي يمكن سَبر خبره ساوى المجهول الذي لم يصل فيه إلى حكم ، صار مستويًا معه في الحكم ، لم يصل فيه إلى نتيجة ، ولذلك يجب أن يَسبر خبر الراوي المعلوم العدالة الظاهرة حتى يوثقه ، فإذا لم يفعل ذلك فهو لا يكون ثقة عنده ولا يكون مقبول الرواية عند ابن حبان .
هناك مواطن متعددة في كتاب " الثقات " فيها ما يدل على هذا الأمر ، يعني مثلًا في إحدى التراجم ؛ يبين أنه ليس كل راوٍ ذكره في " الثقات " أنه يلزم قبول خبره مطلقًا عنده ، فإنه يقول في إحدى التراجم : سليمان بن عبد الرحمن بن بنت شرحبيل .
يقول : " يعتبر حديثه إذا روى عن الثقات المشاهير ، فأما روايته عن الضعفاء والمجاهيل ففيها مناكير كثيرة لا اعتبار بها ، وإنما يقع السبر في الأخبار والاعتبار بالآثار برواية العدول والثقات دون الضعفاء والمجاهيل " .
انظر ! عبارة أيضًا صريحة في هذا الباب .
يقول في ترجمة أخرى ، يقول عمر بن شوذب ترجمته ، يقول : " يروي مقاطيع " ، ثم قال : " يعتبر حديثه إذا روى عنه الثقات المشاهير ، فإن له رواية كثيرة عن أقوام مجاهيل ".
متى نعتبر حديثه ؟ يعني متى يحق لنا أن نسبر أخباره ؟
إذا روى عنه الثقات المجاهيل ، أما الرواية التي يرويها عنه المجاهيل فإن له رواية كثيرة عن أقوام مجاهيل يعني : هذه خارجه عن أن تكون صالحة للاعتبار والسبر والاختبار ؛ وهذا أيضًا في تراجم متعددة هذان مثالان منها .
يؤكد على أن ليس كل من ذكره في الثقات ثقة عنده ، في أكثر من ترجمة ، فيقول مثلًا في ترجمة سليم بن عثمان أبو عثمان الطائي ، يقول :(1/12)
" يروي عن جماعة من أهل الشام ، روى عنه سليمان بن سلمة الخبائري الأعاجيبَ الكثيرة ، ولستُ أعرفه بعدالة ولا جرح – هذا من هو ؟ سليم بن عثمان ، يقول : ولستُ أعرفه بعدالة ولا جرح – ولا له راوٍ غير سليمان ، وسليمان ليس بشيء ، فإن وُجد له راوٍ غير سليمان بن سلمة اعتُبِر حديثُه ، ويُلْزَق به ما يَتَأَهَّلُه من جرح أو تعديل".
صريحٌ أنه أورد هذا الراوي لا لأنه ثقة عنده ، ولكن أورده على احتمال ؛ يقول : واللهِ أنا لا أعرف هذا الراوي إلا برواية رجل ضعيف عنه وهو سليمان بن سلمة الخبائري ، يقول : فأنا أوردته هنا لأني لم أَسْبُر أخبارَه جميعها ، فلعل هناك راوٍ آخر ثقة يروي عنه ، فإذا وجدتم يا أيها الناظرون رواية لسليم بن عثمان من رواية ثقة عنه فعندها اسبُرُوا هذه الروايات من رواية هذه الثقة عنه وألحقوا هذا الراوي بما يستحق من العدالة أو الجرح ؛ هذا ذكره في كتاب " الثقات " ، إذًا قد يورد في " الثقات " أقوامًا هو نفسه لا يعتقد أنهم ثقات ، وهذه نتيجة مهمة جدًّا تجعلك يجب أن تعرف كيف تتعامل مع كتاب " الثقات " لابن حبان ، ولا تجعل شرط الثقات مثل شرط الصحيح ، شرط الصحيح غير شرط الثقات ؛ فالثقات يورد فيه كل من كل من لم يعرفه بجرح ، فيحتاج إلى سبر مروياته إذا كان الشخص من أهل السبر أو أن ننظر في أقوال النقاد الآخرين في هذا الراوي .
ترجمة أخرى ، يقول فيها مما يؤكد على أنه يورد الرواة الذين هو نفسه لا يجزم بثقتهم ، يقول في ترجمة سيف أبي محمد ، يقول : " شيخ يروي عنده منصور ، روى عنه عمرو بن محمد العَنْقَذي ، ولست أعرف أباه " يعني هذا الرجل يروي عنده أبيه ، يقول : "فإن كان" هذا الراوي "سيفَ بن محمد فهو واهٍ" انتبهوا ، هو أورد رجلًا اسمه سيف أبو محمد ، وهو لا يدري هل هذا الراوي راوٍ آخر اسمه سيف بن محمد أو شخص آخر ؛ لأنه يقول :(1/13)
" لست أعرف أباه ، فإن كان سيف بن محمد فهو واهٍ ، وإن كان غيره فهو مقبول الرواية حتى تصح مخالفته الأثبات في الروايات أو يُسلك به غير مسلك العدول في الأخبار ، فحينئذٍ يُلزق به الوهي " .
يقول : إن كان هو سيف بن محمد فهو راوٍ واهٍ ضعيف أعرفه بالضعف ، وإن كان غيره فهذا يحتاج إلى أن ننظر في أخباره ورواياته ، فإما نُلْحِقه باثقات أو نلحقه بالضعفاء ، أورد هذا الراوي مع هذا الاحتمال ، هذا يعني أيش ؟ أنه لم يجزم أنه ثقة ؛ إما أنه راوٍ واهٍ أو راوٍ آخر يحتاج إلى سَبْر مروياته ، ويصرح بذلك صراحة ، إذًا أورده لم يجزم بثقته وعدالته ، فقد يورد الراوي وهو نفسه لا يجزم بعدالته وثقته .
أوضح مثال في هذا الباب ، وأن ابن حبان قد يورد الراوي وهو لا يعتقد ثقته وعدالته ترجمة هذا الراوي وهو اسمه : فَزَع (فاء ، زاي ، عين) يقول : "يروي عنده المُقَنَّع ، وقد قيل إن للمقنع صحبه ، ولستُ أعرف فزعًا ، ولا مقنعًا " لا يعرف لا التلميذ ولا الشيخ ، ثم يقول : "ولا أعرف بلدهما ، ولا أعرف لهما أبًا" طيب! لِمَا ذكرتَ هذا الراوي " الثقات " ، يجيب الآن فيقول : "وإنما ذكرتهما للمعرفة لا للاعتماد على ما يَرْوِيانِه " كلمة في غاية الصراحة! أوردهما لِمَا إذًا؟ من أجل أن يُعرفا فقط ، تاريخ يَذكر فيه كل الرواة ، كما قلنا : الرواة إما مجروحين يذكرهم في " المجروحين " ، أو غير مجروحين يذكرهم في " الثقات " ، لكن ليس كل من أوردهم في " الثقات " يكونوا ثقة عنده ، فهذا هو موقف ابن حبان من المجهولين ، سواء عُرفت عدالتهم ... الظاهرة أو الباطنة ، أو لم تُعرف عدالتهم الظاهرة أو الباطنة ، أو عُرفت عدالتهم الظاهرة دون الباطنة ، وسواء سُبِرَتْ أخبارهم أو لم تُسْبَر أخبارهم .(1/14)
ويتبين من هذا أن من ذكره ابن حبان في " الثقات " وقال : "لا أعرفه ولا أعرف من أبوه" أو "لا أدري من هو ولا أدري من أبوه" لا يصح أن نحتج بهذه العبارات على أن ابن حبان يوثِّق المجاهيل ؛ لأنه بين لنا أن من منهجه أن يذكر الراوي وهو ليس بثقة عنده ، طيب! هذا يتعارض مع ما ذكره في المقدمة ومع عنوان الكتاب أنه يورد الثقات ، فما هو التوجيه ؟
نقول :
الجواب الأول : هذا أصل وضع الكتاب ؛ هذا الجواب الأول ، أصل وضع الكتاب للثقات.
الجواب الثاني : أنه - كما قلنا – هؤلاء كلهم يحتمل أن يكونوا ثقات .
أنا لا أدعي بأن هذا حل الإشكال كاملًا ، انتبهوا ! لكن الذي يهمني في هذه المسألة ألا يُلْحَق بابن حبان مذهب شاذ غريب لا يُعرف عنده أحد من أهل العلم لمجرد عبارات هنا وهناك لم نستطع أن نفهمها الفهم الصحيح .(1/15)
أول شيء : ابن حبان شافعي المذهب كما ذكرنا ، وكان فقيهًا ، وكان قاضيًا كما سبق ، وهو يعرف اشتراط العلماء للعدالة وما إلى ذلك ، والشافعية أكثر أصحاب المذاهب تشددًا في باب العدالة والشهادة ، أضف إلى ذلك أن كل المحدثين قبلهم لم يقل أحد منهم بقبول المجهول مطلقًا ، وهو نفسه ابن حبان هنا ينقل الإجماع على عدم قبول شهادة المجهول ويقول : من باب أولى أن نفعل ذلك في الرواة ، فهو كان على علم بهذا الإجماع وهذا الاتفاق ، فهل يُعْقَل أنه لو أراد أن يخالف ؛ قبل ذلك! ابنُ خزيمة شيخه يرد رواية المجهول ، فلو تصورنا أنه يريد أن يخالف هذه الإجماعات والذي عليه كل عمل المحدثين بعد ذلك ، هل يُتصور أن يفعل ذلك دون أن يقرر هذا المذهب بكل وضوح وصراحة ، ويستدل له ؟! لا يُتصور ؛ لأنه يريد أن يخالف من سبقه ، فعدم ذِكره لشيء من ذلك ، هذا يدل على أنه لم يُرِد المخالفة ، وليس من مذهبه المخالفة ، وقد ذكرنا من كلامه الصريح في اشتراطه العدالة - في صحيحه وفي غيره ، حتى في كتابه " المجروحين " كما ذكرنا – ما يقطع بأنه على منهج غيره وعلى مذهب غيره في رد رواية المجهول .
يبقى أن نقف في مقدمة كتابه " الثقات " مع بعض العبارات التي ذكرها تحتاج إلى توجيه ، ولا أرى أنني محتاج إلى الوقوف عند جميعها ، لكن أذكر عبارة واحدة التي ذكرها في مقدمة كتابه ، وهي قوله في مقدمة " الثقات " يقول :
" ولا أذكر في هذا الكتاب الأول إلا الثقات الذين يجوز الاحتجاج بخبرهم " هذه عبارة .
ثم يقول : " فكل من أذكره في هذا الكتاب الأول فهو صدوق ، يجوز الاحتجاج بخبره إذا تَعَرَّى خبره عنده خصال خمس :"(1/16)
ثم ذكر هذه الخصال الخمس ، لا علاقة لنا بها ، يعني المقصود أنه إذا وجد خبر منكر لرجل من الرواة الثقات ، فإنه لا يتعرى أن تكون النكارة لأمر آخر سوى الثقات ، تلحق هذه النكارة شخصًا آخر سوى الثقات ، فإما أن يكون هذا الحديث منقطع ، أو يكون في راوٍ ضعيف قبله ، أو راوٍ ضعيف متقدم عليه ، أو يكون مدلَّس ، أو يكون مرسل ؛ فبهذه الأحوال نُلحق النكارة بهذا الساقط أو بذلك الضعيف الذي قبل أو بعد هذا الراوي الثقة .
يقول: "ولا يمكن أن يوجد حديث منكر من رواية رجل ثقة لم يكن هو الواهم في هذا الخبر ، ففي هذه الحالة لا يمكن أبدًا أن يوجد حديث صحيح أو حديث من رواية ثقة منكر لم تتحقق هذه الخصال الخمس التي ذكرها كما ذكرنا ؛ هذه عبارتان سنقف عندها بعد قليل .
ثم يقول أيضًا : "فكل من ذكرته في كتابي هذا إذا تعرى خبره عنده الخصال الخمس التي ذكرتها فهو عدل يجوز الاحتجاج بخبره ؛ لأن العدل من لم يُعرف منه الجرح ضد التعديل ، فمن لم يُعرف بجرح فهو عدل إذا لم يَبِنْ ضده ، إذ لم يُكلف الناس من الناس معرفة ما غاب عنهم ، وإنما كُلِّفُوا الحكم بالظاهر من الأشياء غير المغيَّب عنهم" .
واحتُجَّ بهذه العبارة على أن ابن حبان يكتفي بالعدالة الظاهرة ، وقلنا أصلًا : لو كانت هذه العبارة تدل على ذلك ، فإنه لا إشكال ؛ لأن الاكتفاء بالعدالة الظاهرة هو مذهب كثيرين من أهل الحديث ، بل يكاد يكون مذهب المحدثين غالبًا أو قاطبة أو إجماعًا ، وخاصة فيمن تقادم العهد بهم ولم يمكن سَبْر أخبارهم ، لكن مع ذلك هذه العبارة في الحقيقة لا تدل على الاكتفاء بالعدالة الظاهرة ، لماذا ؟(1/17)
مثل ما ذكرنا في مقدمة الصحيح ، هنا يتكلم على أننا نحن إنما نُكَلَّف بالظواهر والله يتولى السرائر ، يقول : أنت تحكم على ظاهر الشخص ، أما باطنه ونيته وداخله فهذه لا يعرفها إلا الله سبحانه وتعالى ، فنحن علينا أن نحكم على ظاهر الشخص ، أما ما غاب عنا .. انظر العبارة وأيش يقول فيها!
"فمن لم يُعلم بجرح فهو عدل إذا لم يَبِنْ ضدُّه ؛ إذ لم يُكَلَّف الناس من الناس معرفةَ ما غاب عنهم ، وإنما كُلِّفوا الحكم بالظاهر" هذا صريح ؛ نحن مكلفين بالحكم بالظاهر .
"من الأشياء غير المغيَّب عنهم ، جعلنا الله ممن أسبل عليه جلابيب الستر في الدنيا.." ورجع إلى كلامه السابق .
فهو يريد أن يبين أننا إنما نحكم بناءً على ما يظهر لنا من أحوال هذا الشخص ، ولا شك أن العدالة الباطنة والظاهرة إنما نحكم بها من خلال الظاهر ، أما البواطن فلا يعلمها إلا الله ، فالمقصود بالعدالة الباطنة – كما أكرر دائمًا – ليس المقصود بها الحكم بما في داخل قلب الرجل وبما في نيته وصدره ، وإنما المقصود بها الخبرة الدقيقة بالراوي ، والعدالة الظاهرة يعني الخبرة السطحية – كما يقال - أو البديهية أو السريعة ؛ هذا المقصود بالعدالة الظاهرة والباطنة ، أما ما في دقائق القلوب فإنه لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى .
وبذلك يتضح أن ابن حبان لا يخالف غيره من أهل العلم في هذا الباب .
يبقى موقفنا من كتاب " الثقات " ، ما دام قلنا أن كتاب " الثقات " يذكر فيه كل من لم يعرفه بجرح ، ولا يلزم لذكره لراوٍ في " الثقات " أن يقول : ثقة عنده . وعلى ذلك لا يصح أن تقول للراوي الذي ذكره ابن حبان في " الثقات " : وثقه ابن حبان ، وإنما تقول : ذكره ابن حبان في " الثقات " ؛ لأنه قد يكون ذكره في كتاب " الثقات " وهو ليس بثقة عنده ، ووجهه أن كلامه لِمَ أورده ضمن هذا الكتاب ؟
قلنا : لأنه ليس بمجروح ، وأنه يمكن أن تُسْبَر أخباره فيكون ثقة ونعرفه بالعدالة والضبط .(1/18)
قضية مهمة :
وهي أن بعض أهل العلم يُقَسِّم من ذكره ابن حبان في " الثقات " إلى طبقات ، ذكروا من بين هذه الطبقات أن مَن وثقه صراحة في هذا الكتاب فهو ثقة عند ابن حبان ؛ وسأقف عند هذه العبارة .
الذين قالوا هذا الكلام هو الشيخ المُعَلِّمِي عليه رحمة الله ، والشيخ الألباني ، هم من يتهمون ابن حبان بتوثيق المجاهيل ، ولذلك استثنوا هذه الطبقات الخمس فيمن يُقبل ذِكر ابن حبان في " الثقات " على أنه ثقة عند ابن حبان ، منها مَن صرح بتوثيقه ، لو كان ابن حبان يوثق المجاهيل ؛ ما الفرق بين من قال عنه ثقة ومن أورده في " الثقات " ، حتى لو قال : ثقة ، قد يكون مجهولًا ، فلماذا يستثنوا هذا الشرط خاصة ؟! إذًا حتى من يقول عنه ثقة صراحة ، ما دام أن من منهجه أن يوثق المجاهيل قد يكون مجهولًا عنده ، ومع ذلك وثقه ؛ هذا شيء من التناقض ، ولذلك التصرف الصحيح أن نقول : لا ، منهج ابن حبان أنه لا يوثق إلا من كان ثقة مثل نظائره ، لكن منهجنا أو تعاوننا مع كتابه " الثقات " يختلف ، فإن قلتَ : الآن ما عاد في فرق بينك وبين مثلًا الشيخ الألباني والمعلمي؟ لأنهم لا يقبلون مجرد ذِكر الراوي في " الثقات " ؛ لا أقول الفرق كبير .
الأمر الأول : تَجْلِية المسألة ، وبيان أن ابن حبان لا يوثق المجهول .(1/19)
الأمر الثاني : سيتبين الفرق في مثل ما لو أن ابن حبان أورد الراوي في صحيحه أو وثقه في صحيحه ، فعلى حسب كلامهم لا فرق ، حتى من وثقه صراحة في خارج ، أو من أخرجه في الصحيح بصورة أدق ، من أخرج له في الصحيح فإنه لا يعتمد عليه ؛ لأنه يوثق المجاهيل ، لكن إذا قلنا : لا واللهِ ، منهج ابن حبان كغيره من العلماء ، لكن كتابه " الثقات " لا يُمَثِّل من وثقهم ، فهنا نقول : لا مجرد ذِكر الراوي في " الثقات " لا يلزم منه أن يكون ثقة عند ابن حبان ، لكن إذا وثقه صراحة ؛ سواء في " الثقات " أو خارج " الثقات " ، أو أخرج له في صحيحه ، فإن ذلك يلزم منه أن يكون ثقة عند ابن حبان ؛ وهنا يتبين الفرق بين التقريرين وبين الرأيين .
وأعود أؤكد على قضية دعوى أن من وثقه صراحة في " الثقات " يكون ثقة ؛ هذا يَنْسِف أن ابن حبان يوثق المجاهيل ، بأي حق أنت قبلتَ من وثقه ابن حبان ؟ قد يكون مجهولًا ، فلماذا تستثني هؤلاء ؟! إذًا كل راوٍ لم يوثقه إلا ابن حبان يجب عليك ألا تقبل روايته بناءً على هذا الرأي ، أما أن تستثني ، تقول : شيوخه الذين عرفهم ؛ هذه ممكن نفهم لها سببًا ، أو الذين وثقهم صراحة ، أو الرواة المشهورين الذين لا يتصور أن ابن حبان لا يعرفهم ، أو الذين أطلق فيهم عبارات تدل على معرفته بهم ؛ يعني كل هذه فيها شيء من الدَّخَل وخاصة من قال عنه ثقة أو أي عبارة توثيق أخرى ، فإنه قد يكون أيضًا عنده مجهولًا لو كنا نقرر أن ابن حبان يوثق المجاهيل كما سبق .(1/20)
على كل حال هذا ما أحببت التأكيد عليه على توثيق ابن حبان حتى نعرف بالفعل أن توثيق ابن حبان له مكانته ، وأنه لا يخالف العلماء في ذلك ، وموقفنا من كتابه " الثقات " موقف – لا شك – تَثَبُّت وتَرَيُّث ، ولا نقطع بأن ابن حبان يوثِّق الراوي لمجرد إيراده في " الثقات " ، بل لا بد من تَلَمُّس التوثيق من جهة أخرى غير جهة ذكره في كتاب " الثقات " ؛ لأنه قد لا يكون ثقة حتى عند ابن حبان نفسه .
وبذلك ننتهي من قضية العدالة التي هي أهم ما طُعِن فيه ابن حبان وادُّعِي عليه بأنه متساهل بسببه .
لنكمل الكلام عن شرطه الذي بينه في مقدمة الصحيح :
ذكرنا بالأمس الكلام عن العقل بما يُحَدِّث من الحديث أليس كذلك ؟! الآن نقف عند قوله : والعلم بما يحيل من معني ما يروي .
هو شرح هذه العبارة قائلًا : "هو أن يعلم من الفقه بمقدار ما إذا أدى الخبر أو رواه من حفظه أو اختصره ، لم يُحِلْه عن معناه الذي أطلقه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى معنى آخر".
يبين أنه لِمَا يشترط أن يكون الراوي فقيهًا ؟ وهذا يؤكد أن هذا القسم غير قسم : "والعقل بما يحدث من الحديث" ؛ العقل بما يُحَدِّث من الحديث – كما قلنا – هو أن يعرف المعنى الإجمالي للحديث ، أن يكون مدركًا للمعنى العام لهذا الحديث الذي يدركه كل عاقل .
أما الشرط الآخر : "العلم بما يحيل من المعاني" ؛ وهو أن يكون فقيهًا ، لماذا يشترط أن يكون فقيهًا ؟
حتى إذا اختصر الحديث ، أو روى بالمعنى ، أو روى بحفظه وأراد أن يروي بالمعنى ، لا يحيل المعاني ؛ لأن من يروي باللفظ لا يُشترط أن يكون فقيهًا ، هو أدى اللفظ كما سمعه ، سواء كان فقيهًا أو ليس بفقيه ، ??نَضَّرَ اللهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَأَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا ، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ??.(1/21)
المهم أن يؤدي كما سمع ، حتى ولو ليس بفقيه ، لكن إذا أراد أن يروي بالمعنى لا بد أن يكون فقيهًا حتى لا يحيل المعاني ؛ فهذا هو معنى هذا الشرط وهذا الذي يؤكد أن هذا الشرط غير ما ذكر سابقًا : العقل بما يحدث من الحديث غير . العلم بما يحيل من المعاني ؛ الثانية : الفقه ، والأولى : مجرد الإدراك العام لمعنى الحديث .
ثم في الشرط الأخير – الخامس - يقول : "والمتعري خبره عن التدليس هو أن يكون الخبر عن مثل من وصفنا نَعْتَه بهذه الخصال الخمس ، فيرويه عن مثله سماعًا حتى ينتهي ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " .
ثم ذَكَر شدة انتقاءه للرواة - وأريد أن أقف عند هذه العبارة حتى تعرفوا بالفعل أن مكانة الصحيح ليست كغيره من الكتب وأن الاستخفاف بمن ذكره ابن حبان في صحيحه وأنه يروي عن مجهولين ؛ هذا خطأ .
يقول : "ولعلنا قد كتبنا عن أكثر من ألفي شيخ" .
عدد شيوخه أكثر من ألفين شيخ . "من إسبيجان" التي قلنا أنها من أواخر مدن المشرق الإسلامي . "إلى الإسكندرية ، ولم نرو في كتابنا هذا إلا عن مائة وخمسين شيخًا أقل أو أكثر". يقول : عدد شيوخي في هذا الكتاب نحو المائة والخمسين هم في الحقيقة حسب الإحصاء والعد بلغوا نحو المائتين ، مائتان من ألفين ، يعني كم في المائة ؟ يعني عشرة في المائة فقط ، انظر شدة الانتقاء والاختيار! عشرة في المائة نسبة شيوخه الذين روى عنهم في صحيحه ؛ لأنه يقول :
"ولعل مُعَوَّل كتابنا هذا يكون على نحو من عشرين شيخًا ممن أَدَرْنَا السنن عليهم واقتنعنا برواياتهم عن رواية غيرهم على الشرائط التي وصفنا".(1/22)
يقول : وأيضًا حتى من هؤلاء المائة والخمسين أو المائتين على حسب ما ذكرنا ، يقول : غالب من أُخْرِج لهم في الصحيح هم عشرين شيخًا ، يقول : عشرون شيخ من شُيُوخِي هؤلاء الذين أكثرت عنهم في الصحيح وهم أكثر نمت أعتمد عليه ، والبقية ثقات عدول لكن أخرجتُ لهم أحاديث أخرى لَمَّا لم أجدها من رواية هؤلاء العشرين الذين هم أوثق وأعدل وأفضل .
ثم يقول : "وأحتج بمشايخ قد قدح فيهم بعض أئمتنا ، مثل : سماك بن حرب ، وداود بن هند ، ومحمد بن إسحاق بن يسار ، وحماد بن سلمة ، وأبي بكر بن عياش ، وأضرابهم ممن تنكب عن روايتهم بعض أئمتنا ، واحتج بهم بعضهم ، فمن صح عندي منهم بالبراهين الواضحة وصحة الاعتبار على سبيل الدين أنه ثقة احتججت به ، ولم أُعَرِّج على قول من قدح فيه ، فمن صح عندي بالدلائل النيرة والاعتبار الواضح على سبيل الدين أنه غير عدل لم أحتج به ، وإن وثقه بعضُ أئمتنا ".
ينص هنا إلى أنه بالنسبة للرواة المختلف فيهم جرحًا وتعديلًا أنهم لا يُقَلِّب ، وأنه يدرس كل راوٍ من هؤلاء دراسة خاصة ، فإن ترجح عنده بالأدلة النيرة الواضحة – كما يقول – أنه ثقة ، أخرج عنه ، وإن ترجح عنده بالأدلة النيرة الواضحة أنه ليس بثقة ، لم يُخْرِج عنه ؛ وهذا أيضًا يؤكد على تَحَرِّيه وتثبته في كتابه ، وأنه حتى الراوي المختلف فيه لا يقلد في أحد ، بل هو نفسه يجتهد فيه اجتهاد العالم الذي عنده أهمية الاجتهاد المطلق في الرواة ، فيُصدر عليه حكم باجتهاده لا تقليدًا لأحد .
ثم أخذ يتكلم عن حماد بن سلمة يضرب به المثال ، ويلوم البخاري على تجنُّبه لإخراج حديثه ، ويقول : لِمَا لم تخرج حديثه ؟! إذا قلتَ : له أخطاء . فلغيره أخطاء . إذا قلتَ كذا .. المهم أنه صار يرد على البخاري لتجنبه على إخراج حديث حماد بن سلمة ويدافع عن حماد بن سلمة ، إلى أن يقول في أثناء هذا الكلام ، يقول :(1/23)
"ولا يستحق لإنسان ترك روايته حتى يكون منه الخطأ ما يغلب صوابه ، فإذا فَحُشَ ذلك منه وغلب على صوابه يستحق مجانبة روايته". ليبين أن مجرد الخطأ لا يلزم منه ترك الرواية ، بل لا يترك الراوي حتى يكون الخطأ غالبًا عليه أو غالبًا على صوابه .
يؤكد قضية التحري في موطن آخر ، فيقول : "وقد اعتبرنا حديث شيخٍ شيخٍ على ما وصفنا من الاعتبار على سبيل الدين" . يقول : كل رواة هذا الكتاب اعتبرت مروياتهم شيخًا شيخًا ، راويًا راويًا .
"فمن صح عندنا منهم أنه عدل احتججنا به ، وقبلنا ما روى ، وأدخلناه في كتابنا هذا ، ومن صح عندنا أنه غير عدل بالاعتبار الذي وصفناه لم نحتج به ، وأدخلناه في كتاب " المجروحين " من المحدثين بأحد أسباب الجرح ؛ لأن الجرح في المجروحين على عشرين نوعًا" . ثم أشار على أنه تكلم عن هذه الأنواع في كتابه .
يتكلم عن قضية زيادة الثقة ؛ وهذه مسألة مهمة أيضًا مما اتُّهم بها ابن حبان أو اتُّهم ابن حبان بالتساهل فيها ، ويبين منهجه في قبول زيادة الثقة ، ولا بد أن نقف من عبارته في هذا الجانب أيضًا ، يقول :
"وأما قبول الرفع في الأخبار فإنَّا نقبل ذلك عن كل شيخ اجتمع فيه الخصال الخمس التي ذكرتها".
الخصال الخمس : أن يكون عدلًا في الدين ، ضابطًا للرواية ، ... الشروط التي يشترطها بقية العلماء سواه .
يقول : "فإن أرسل عدلٌ خبرًا ، وأسنده عدل آخر" . عدل أرسل وعدل أسند ؛ في خلاف في الإسناد والإرسال. "قبلنا خبر من أسند ؛ لأنه أتى بزيادة حفظها ما لم يحفظ غيره ممن هو مثله في الإتقان ، فإن أرسله عدلان وأسنده عدلان ، قبلتُ رواية العدلين الَّذَيْنِ أسنداه على الشرط الأول" . أيش هو الشرط الأول ؟ "أن يكون العدلان مثل من أرسل الحديث بالإتقان" كما ذكر ؛ لأنه قال في العبارة الأولى : " فإن أرسل عدلٌ خبرًا ، وأسنده عدل آخر ، قبلنا خبر من أسند ؛ لأنه أتى بزيادة حفظها ما لم يحفظ غيره ممن هو مثله في الإتقان" .(1/24)
ثم يقول : "فإن أرسله عدلان وأسنده عدلان ، قبلتُ رواية العدلين الَّذَيْنِ أسنداه على الشرط الأول ، وهكذا الحكم فيه ، كثر العدد فيه أو قل".
سواء رواه ثلاثة وثلاثة ، أسنده ثلاثة وأرسله ثلاثة ، أسنده أربعة وأرسله أربعة ، إذا اسْتَوَوْا في الإتقان فإنه يُقَدِّم رواية الزائد على رواية الناقص ، هل هذه العبارة تدل على قبول زيادة الثقة مطلقًا ؟ تَأَمَّلْتُم العبارة جيدًا ، هل تدل على قبول زيادة الثقة مطلقًا ؟
نعم ، إذًا ينص هنا : إنه يقبل زيادة الثقة إذا تكافأت الروايات ، إذا تساوت الروايات ، إذا كان عدل متقِن وأمامه عدل متقِن في نفس الدرجة ، إذا كان مثله في الإتقان ، إذا تساويا في الإتقان قَبِلَ الزيادة ، وبين لما يقبل الزيادة ، إذا تكافأت الروايات لماذا يقبل الزيادة ؟(1/25)
مثل ما نقول في الشهادة : لأن الشاهد إذا شهد شهادة ، ثم جاء عدل مثله وزاد عليه ، فإنه لا يكون مكذبًا للشاهد ، يقول له : أنتَ صدقتَ فيما نقلتَ ، لكن هناك أمر غاب عنك وهو كذا وكذا ، لكن إذا قَدَّمْنا شهادة الشاهد الذي أنقص في الشهادة نكون قد كذَّبْنا الزائد ، كذلك في الزيادة إذا تساوت الروايات وتكافأت ، فالأصل قبول الزيادة ؛ لأنه هذا عدل ، بأي حق ترد الزيادة التي عنده ؟! لعله اختصر ، لعله نسي ، لعله كذا .. أما الزائد فعنده زيادة علم يجب أن تُقبل ، وهذا نقوله عند تساوي الروايات وتكافئها ، وقد صرح بهذا المنهج وبهذا الرأي ابنُ خزيمة في بعض تعليقاته على أحاديثه ، وقلنا سابقًا ذِكْرَ الحافظ ابن حجر أن ابن حبان ناتج على منوال ابن خزيمة ؛ أنه هذا عند التكافؤ ، وعلى ذلك يحمل كثيرًا من عبارات العلماء الذين يقولون زيادة الثقة مقبولة من النقاد الأوائل ، يقصدون إذا تكافأت الروايات ، في كثير من الأحيان يكون مقصودهم هذا المعنى ، ويؤكد ابن حبان أنه لا يقبل زيادة الثقة عند عدم التكافؤ ببقية كلامه ؛ معنى ذلك : أنه لا يقبل الزيادة مطلقًا ، وأنه إذا لم تتكافأ الروايات لا يقبل الزيادة .
يقول : "وهكذا الحكم فيه ؛ كثر العدد فيه أو قل ، فإن أرسله خمسة من العدول وأسنده عدلان" . الآن ما في تكافؤ ؛ خمسة أسندوه وعدلان أرسلا الحديث .
يقول : "نظرتُ حينئذٍ إلى من فوقه بالاعتبار ، وحكمت لمن يجد" . إذًا واضح أنه يضطرد في حكمه ؛ يقول : نظرت في هذا الراوي الذي اختُلِف عنه ، فإن وجدت من وافق على الثقتين العدلين على إرساله أو إسناده ، فإنني أقبل روايتهما ، إما إذا لم أجد ذلك فإنني لا أقبل هذه الرواية ، ويؤكد ذلك بقيةُ كلامه ، يضرب مثال .(1/26)
يقول : "كأَنَّا جئنا إلى خبر رواه نافع عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، اتفق مالكٌ وعبيدُ الله بن عمر ويحيى بنُ سعيد وعبدُ الله بن عون وأيوبُ السختياني عن نافع عن ابن عمر ورفعوه ، وأرسله أيوبُ بن موسى وإسماعيلُ بن أمية ؛ وهؤلاء كلهم ثقات ، أو أسند هذان وأرسل أولئك" . يعني سواء كان المسنِد أو المرسِل هم العدد الأكثر ؛ هذا لا يفترق .
يقول : " وأرسل أولئك ، اعتبرت فوق نافع ؛ هل روى هذا الخبر عن ابن عمر أحد من الثقات غير نافع مرفوعًا ، أو من فوقه على حسب ما وصفنا ، فإذا وجدنا ما قلنا قبلنا خبر من أتى بزيادة في روايته" .
يقول : إذا اختلف هؤلاء الرواة عن نافع أَنْظُر ؛ هل روى مثلًا سالم هذا الحديث عن ابن عمر مرفوعًا ، فإذا وجدنا أنه فيمن روى هذا الحديث عن سالم مرفوعًا قبلتُ هذا الخبر ، فإذا لم أجد ! واضح من كلامه أنه لن يقبل ، وأنه سيتوقف عن قبول هذه الزيادة .
إذًا ليس هناك حكم مُطَّرد في قبول زيادة الثقة إلا إذا تكافأت الروايات ، فإنه يقبلها مطلقًا إذا تكافأت الروايات ، ولذلك من أن ابن حبان يقبل زيادة الثقة مطلقًا ليس بمصيب لصريح كلامه هنا في هذا الموطن في هذه المسألة .
لابن حبان كلام في " المجروحين "حول زيادة الثقة أو الزيادة عمومًا في الإسناد والمتن نفرق بها بين الحافظ والفقيه ، ليس هذا مجال ذكر هذه المسألة .(1/27)
وأنبه هنا إلى أن ابن حبان مع تقرير هذا الشرط قد يخطئ فيه كما يخطئ البخاري ومسلم ، فكوني أجد رواية أو روايتين أو عشرة أو عشرين رواية يخطئ فيها ابن حبان فيقبل بها الزيادة والراجح فيها عدم القبول ، لا يلزم من ذلك أن هذا هو منهجه ، نقول : لا ، هو قرر المنهج على الوجه الصحيح ، لكن كما يخطئ البخاري ومسلم ، كما يخطئ كل عالم من العلماء ممن نص أنه لا يقبل زيادة الثقة مطلقًا فيقبل الزيادة وهي مرجوحة ، نقول كذلك في ابن حبان : أخطاءه هذه ليست أخطاءً منهجية وإنما هي أخطاء جزئية تدل على أنه رجح المرجوح ، لكن ليست مبنية على منهج عنده في قبول زيادة الثقة مطلقًا ؛ كيف يُنسب إليه ذلك وهو صاحب هذا الكلام ، وهو صاحب الكلام الذي في " المجروحين " الذي فيه تشدد ، يقول : لا أقبل الزيادة في المتون إلا من فقيه ؛ هذا تشدد ، وإن كان لهذه العبارة معنى شرحته وبينته في غير هذا الموطن ، لكن المقصود أن ابن حبان لا يمكن أن يُنسب إليه قبول زيادة الثقة مطلقًا ؛ هذا منهج صرح هو نفسه بخلافه في الصحيح في " المجروحين " .
طبعًا هنا يتكلم عن الزيادة في الأسانيد ، وهنا يتكلم عن الزيادة في المتون ، نقرأ عبارته في الصحيح .
يقول : "وأما زيادة الألفاظ في الروايات فإنَّا لا نقبل شيئًا منها إلا عمن كان الغالب عليه الفقه ، حتى يُعلم أنه كان يروي الشيء وَيَعْلَمَهُ ، حتى لا يُشك في أنه أزاله عن سَنَنِه أو غَيَّرَهُ عن معناه أم لا ؛ لأن أصحاب الحديث الغالبُ عليهم حفظ الأسامي والأسانيد دون المتون ، والفقهاء الغالب عليهم حفظ المتون وأحكامها وأدائها بالمعنى دون حفظ الأسانيد وأسماء المحدثين" .(1/28)
هذا الكلام هو الذي ذكره في كتاب " المجروحين " أيضًا ، وقد بَيَّنَ ابن رجب أن هذا الكلام يحتمل أن يَقْصِد به أهل زمنه خاصة ، وهذا هو صريح كلامه في كتاب " المجروحين " أنه تكلم عمن عاصرهم من المحدثين ، وبَيَّن هناك أنه يقصد بهذا الكلام أيضًا فيما لم يحدث المحدث من كتابه ، يعني رجل فقيه أو مُحَدِّث لم يحدث من كتابه ؛ في حال المذاكرة حتى ، وهو ممن كان في عصر ابن حبان ممن لم يُعرفوا بحفظ العلماء السابقين وإتقانهم للروايات ، يقول : لا أقبل من هذا القسم أن يزيد لي في لفظ ما دام أنه ليس بفقيه ؛ لأن هؤلاء المحدثين غير الفقهاء المتأخرين - بالنسبة لمن قبلهم ممن عاصروهم ابن حبان – إذا رووا من حفظهم وهم غير فقهاء أخطئوا في المتون ، ولا يضبطون المتون ، ولذلك قال تلك العبارة المشهورة ، يقول : "إلا ابن خزيمة" من شيوخه ؛ فإنه هو الشخص الوحيد الذي كان يضبط ألفاظ المتون ، حتى لو حدَّث من حفظه ، وعلى ذلك لو حدَّثَكَ المحدِّث المتأخر من كتابه فإنه سيقبل زيادته في المتن إذا اجتمعت له بقية الشروط التي اشترطها على نفسه وهي : تكافؤ الأدلة أو أن تكون روايته أرجح من رواية غيره .
ثم يقول عن الزيادة في الأسانيد أيضًا ، يقول : "فإذا رفع محدث خبرًا وكان الغالب عليه الفقه لم أقبل رفعه ، كما نعامل المحدث غير الفقيه بأننا نتشدد في قبول زيادته في المتون نعامل المحدث الفقيه الذي يقل عنايته بالأسانيد بأننا نتشدد في قبول زيادته في الأسانيد" .(1/29)
وكل هذا يؤكد أنه يراعي القرائن وأنه لا يحكم بقبول الزيادة مطلقًا ، وقلنا بأنه مقصوده بهذا الكلام - كما سبق وأيضًا نبه عليه ابن رجب - من عاصره من المحدثين لأنهم لم يكونوا بحفظ من سبقهم ، وأضيف أنا معنى آخر صريح في كلامه في " المجروحين " وهو إذا كان هذا المحدِّث لا يحدِّث من كتابه وإنما يحدث من حفظه ، سواء كان محدِّثًا فقيهًا ليس حافظًا للأسانيد أو كان محدثًا غير فقيه حافظًا للأسانيد .
ثم يتكلم عن حكم رواية المبتدع – وعبارته تحتاج إلى وقفة أيضًا - فيقول :
"أما المنتحلون المذاهبة من الرواة مثل الإرجاء والتَّرَفُّض وما أشبهها ، فإنَّا نحتج بأخبارهم إذا كانوا ثقات على الشرط الذي وصفناه ، ونكل مذاهبهم وما يتقلدوه فيما بينهم وبين الله جل وعلا ، إلا أن يكونوا دعاة إلى ما انتحلوا ، فإن الداعي إلى مذهبه والذاب عنه حتى يصير إمامًا فيه ، وإن كان ثقة ثم روينا عنه جعلنا للاتباع لمذهبه طريقًا وسَوَّغْنَا للمتعلم الاعتماد عليه وعلى قوله ، فالاحتياط ترك رواية الأئمة الدعاة منهم والاحتجاج برواة الثقات منهم على حسب ما وصفنا".
هنا يفرق بين الداعية وغير الداعية ، فيرى أننا علينا أن نترك رواية المبتدع الداعية ، سبق أن ذكرنا الراجح في حكم رواية المبتدع ، وقلنا أنه لا ترجع إلى قضية داعية وغير داعية .
ما هو وجه كلام ابن حبان هنا ؟
وجه كلام ابن حبان هو الذي دائمًا ننبه عليه وذكره ابن رجب في شرح " العلل " ، وهو أن كثيرًا من كلام العلماء حول الدعاة من المبتدعة أنه ليس من باب القبول والرد ، وإنما هو من باب الهجر والحث على عدم إشاعة البدعة ، وهذا صريح في كلام ابن حبان هنا .
يقول : " إلا أن يكونوا دعاة إلى ما انتحلوا فإن الداعي إلى مذهبه والذاب عنه حتى يصير إمامًا فيه ، وإن كان ثقة".
يعني : هنا يصرح أن من الدعاة من هو ثقة ؛ هذا واحد .(1/30)
يقول : " وإن كان ثقة ثم روينا عنه جعلنا للاتباع لمذهبه طريقًا " . روايتنا عنه تجعلنا نجعل الناس ربما يغتروا ببدعته .
ثم يؤكد أيضًا ، يقول : "وسَوَّغْنَا للمتعلم الاعتماد عليه وعلى قوله ، فالاحتياط" . يصرح إلى أن ترك الرواية عنهم لا من باب القطع بأن روايته مردودة ، ولكن من باب الاحتياط ، "فالاحتياط ترك رواية الأئمة الدعاة منهم" .
فهنا يصرح ابن حبان إلى أن ترك رواية الداعية لا لأنه يستحق أن تُتْرَك روايته ، بل قد يكون ثقة ، ولكن أولًا : من باب الاحتياط .
ثانيًا : من أجل ألا يجعل الرواية عنه سببًا لانتشار بدعته والاشتهار ولأن يُقصد ويصبح كأنه إمام ، فيؤدي ذلك إلى بَثِّهِ البدعة بين الناس ، ولذلك صرح بعض الأئمة كابن دقيق العيد في مثل هذه الصورة - حتى نعرف ما هو محل النزاع – : لو وجد المحدِّث راويًا مبتدعًا داعية انفرد بسنة وهو يثق في هذا المبتدع كما قال ابن حبان : يعرف أنه صادق في هذه الرواية ، ولم يجد هذه السنة إلا عند هذا المبتدع الداعية ، هل يترك هذه السنة ولا يرويها ولا يطبقها ؟ هل يجوز له أن يفعل ذلك ؟ لا ، لأنه لا بد أن يرويها ، هذه سُنَّة ! لا يعرفها إلا من طريق هذا الرجل ، وهو يعرف أنه صادق وإن كان داعية .
عند تعارض الاحتياطان ؛ هناك احتياط بالترك من أجل ألا تنتشر البدعة ، وهنا احتياط للدين والاحتياط للدين أولى ، الاحتياط لئلا يضيع شيء من الدين .
وهنا يبين محل النزاع :(1/31)
في الحقيقة الذي لا يمكن أن يختلف فيه اثنان ، أنا أوافق أن الأولى عدم الرواية عن المبتدع الداعية ، لكن لو وجدت أن هذه السنة لا يرويها إلا رجل مبتدع داعية ، فعندها لا بد أن أروي عنه ، وهذا الذي جعل العلماء – كما ذكرنا - البخاري ومسلم وغيرهم يروون عن مبتدعة دعاة بعض السنن ، لماذا ؟ لأنهم ما وجدوها إلا من طريقه ، ولذلك لَمَّا ذكر الذهبي بعض من اتُّهِم بالبدعة كعبد الرزاق ، قال : لو تُرك حديث عبد الرزاق للتشيع ، ولو تُرك حديث قتادة للقدر ، ولو تُرك حديث فلان لكذا ، واو تُرك ... لضاعت السنن ، وذهب أمر الدين ، وظهر الدجال ، وإنا لله وإنا إليه راجعون ؛ كذا يقول الذهبي ، فلا بد من أن يكون الاحتياط في الرواية عن أهل البدع منضبط بقواعد علمية مراعية للاحتياط للدين والحفاظ على دين الله عز وجل ، وهنا يؤكد هذه المسألة طبعًا ، لكن نكتفي بكلامه عن المبتدع بهذا القدر .
الآن يتكلم عن المختلِط ؛ نلخص عبارته لأنها فيها طول ، يقول :
المختلِط نقبل روايته في حالتين :
الحالة الأولى : أن يكون من روى عنه قد سمع منه قبل الاختلاط .
المختلِط : هو من طرأ سوء الحفظ عيه بعد إتقان وضبط وحفظ .
فيقول : هذا الذي طرأ عليه سوء الحفظ لا أقبل روايته إلا إذا علمت أن من روى عنه قد سمع منه قبل الاختلاط ؛ وهذه مشهورة جدًّا ويوافق عليها ابن حبان كل أهل العلم ، لكن أيضًا صورة أخرى يقبل فيها رواية المختلِط .
يقول : وأيضًا أقبل رواية المختلِط فيما لو تابعه رجل آخر غير مختلِط .(1/32)
فلنفترض مثلًا السعيد بن أبي عروبة وهو أحد المختلِطين روى عنه مثلًا أبو نعيم الفضل بن دكين بعد الاختلاط ، فوجدت الحديث برواية أبي نعيم عن سعيد عن قتادة بن دعامة عن أنس بن مالك مثلًا ؛ هذا الإسناد ظاهره الأصل فيه الرد ، فلو وجدت أن راويًا آخر روى هذا الحديث عن قتادة وليكن شعبة ، روى نفس هذا الحديث عن قتادة عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل حديث سعيد بن أبي عروبة سواء ، يصبح هذا الحديث مقبولًا أو لا ؟
مقبول ، لماذا ؟ لأنا عرفنا أن هذا الحديث وإن كان الراوي سمعه من سعيد بعد الاختلاط إلا أن هذا الحديث مما ضبطه سعيد ولم يختلط فيه ؛ لأن المختلِط ما يلزم أن يختلط في كل حديثه ، قد يختلط في أغلب حديثه ، في كثير من حديثه ، لكن يبقى هناك أحاديث ضبطها ، والذي يدلنا على الذي ضبطه - مما رواه بعد الاختلاط أن يتابعه عليه الثقات الآخرون في روايته عن شيخه نفسه بإسناده ومتنه ، ولذلك بهاتين الحالتين يَقبل رواية المختلِط .
وهذا يذكرنا بفائدة مهمة :
وهي أنك إذا وجدت رواية لمختلِط في أحد كتب الصحاح من رواية رجل ممن قيل أنه سمع بعد الاختلاط أو ممن لم يميزه ، لا يدل ذلك على أنه سمعه قبل الاختلاط ؛ إذ لعله إنما أخرج له صاحب الصحيح لأنه متابَع ، وهذه وَجَدْتُ كثيرًا من الناس يخطئ ويَهِم فيها ويتصور أنه يلزم لإخراج أصحاب الصحيح للراوي المختلِط عن شيخه عنه أو عن راوٍ عنه أن هذا يلزم منه أن يكون هذا الراوي قد سمع منه قبل الاختلاط وهذا خطأ ، نعم ممكن أن أعتبر هذه قرينة ، خاصة إذا أكثر صاحب الصحيح في الرواية عن ذلك المختلِط عن تلميذ مُعَين عنه دون بقية التلاميذ ، أجده دائمًا يختار تلامذة معينين يروي عنهم ويتجنب أخطاء الآخرين ؛ هذا يمكن أن أعتبره قرينة ، إشارة إلى أن هذا أقوى في الحديث عن غيره ، لكن أعتبره دليلًا قاطعًا ! لا يصح لورود احتمال أنه أخرج له في المتابعات لا احتجاجًا بهذا السياق .(1/33)
وصلي اللهم وسلم ، وبارك على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه ، وسلم(1/34)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على إمام الأنبياء والمرسلين وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد ..
فهنا أربعة أسئلة متعلقة بالموضوع يسأل عنهم بعض الإخوة :
السؤال الأول: يقول ما هو قولكم - أو حسب تعبير الأخ – أَيْشٍ قولكم في تقسيم الشيخ المُعلِّمي لكلام ابن حبان ؟
ما ذكره الشيخ المعلمي في تقسيمه لما ذكره ابن حبان في الثقات تقسيم صحيح وسديد ، ونقدي له بالأمس لا يعني أنه غير مُعْتَمد ، لكني أنا أنتقد مَنْ يَصِفُ ابن حبان بوصف المجاهيل بأنه يوثق المجاهيل ثم يعتمد على قوله ثقة أو صدوق فقط وإلا فأنا أوافق على التقسيم الذي ذكره الشيخ المعلمي وأرى أنه تقسيم صحيح ، لكن يلزم من هذا التقسيم أن ابن حبان إذا وثَّق إذا عرفنا أنه وثَّق يقينًا فإنه يكون مُعتمد التوثيق ، وهذا يعني أن كتاب الثقات لا يمثل من هم ثقات عند ابن حبان ، وهذا بخلاف ما وصفه به الشيخ المعلمي نفسه حيث وصفه بالتساهل ، وغيره طبعًا ممن سبقوه.
وبالمناسبة فإن الحافظ العراقي له كلام صريح في اعتماد توثيق ابن حبان ذكره الحافظ بن حجر في أسئلته التي وجهها للشيخ العراقي حتى إن العراقي في آخر جوابه على الحافظ بن حجر قال له أن راويًا وصفه أبو حاتم الرازي بأنه مجهول ووثقه ابن حبان فإنه يُقدَّم توثيق ابن حبان على قول أبي حاتم إنه مجهول ، يعني بلغ بالعراقي وهو الإمام العارف أَنْ يعتمد توثيق ابن حبان إلى هذا الحد ، فاعتماد توثيق ابن حبان ليس أمرًا منكرًا ولا غريبًا ، وإِنْ كان ليس هو المشتهر بين طلبة العلم اليوم لكنه اعتمده كثير من العلماء وقبلوه ولم يردوه مطلقًا كما هو حال كثير من طلبة العلم اليوم .
السؤال الثاني : يقول ما معنى مقولة ابن حبان " لا تُقبل الزيادة إلا من فقيه " ؟(1/1)
تكلمنا عن هذا الأمر بالأمس وقلنا: إنه يتكلم عن محدِّثي عصره إذا حدَّثوا من حِفْظِهِم لا من كتابهم ، فمثل هؤلاء الذين لم يُعرفوا بالفقه إذا ذاكروا بالحديث لا في مجلس السماع ، ودون أن يرجعوا إلى كتبهم ، وهم ليسوا بحفاظ لا يُؤمَن عليهم أن يُخطئوا في رواية الحديث؛ لأنهم ليسوا بفقهاء ليميزوا زيادات الألفاظ ، وليسوا بحفاظ متقنين كالحفاظ الأوائل من المحدِّثين الذين كانوا يعتمدون على حفظ الصدور ، بل هؤلاء في الغالب يعتمدون على حفظ السطور والكتب ، ولذلك يرى ابن حبان أنه لا يُقبل منهم من هؤلاء الذين هم في طبقة شيوخه وأقرانه إلا أن يحدثوا من كتبهم ، فإذا حدَّثوا من كتبهم قُبلت الزيادة منهم سواء كانوا فقهاء أو غير فقهاء ، فهذا بالنسبة للزيادة في المتون ، والأسانيد مثلها لكن بمعاملة الفقهاء بخلاف المحدِّثين كما بيناه في لقاء الأمس .
السؤال الثالث : يقول ما التوجيه في الرواة الذين ذكرهم ابن حبان في كتاب الثقات وذكرهم أيضًا في كتاب المجروحين ؟
هناك عدد من الرواة ذكرهم ابن حبان في الثقات وفي المجروحين ، فهناك دراسة سمعت عنها ولم أَطَّلِع عليها جمعت هؤلاء الرواة ودرستهم وكنت أتمنى أن أطلع على هذا الكتاب ، أو هذه الدراسة وقد طُبعت ، لكن الظاهر أن نشرها لم يكن بالصورة الجيدة ، لكن على كل حال الذي يظهر أن هناك أكثر من توجيه حول هذا التصرف من ابن حبان ، فهو إما أنه تغير اجتهاده ، فأورد الرجل في الثقات ثم أورده في المجروحين أو العكس .(1/2)
احتمال أنه تردد كان مترددًا فيه فإِنَّه ذكر جماعة من الرواة في الثقات ، ومثلهم في المجروحين ، ويقول: هذا ممن أستخير الله فيه ، يعني أنا لم أجزم فيه بمرتبة معينة ، وقد يشير إلى أن هذا منهج لابن حبان أنه يفعل هذا حتى في الطبقات ، فيذكر الراوي في التابعين ، ويذكره أيضًا في اتباع التابعين ، وفي بعض الأحيان ينص أنه فعل ذلك لأنه متردد هل هو سمع من الصحابة أو لم يسمع من الصحابة ، فيضعه في كلا الطبقتين على الاحتمال ، فلعل فعله في هؤلاء الضعفاء الذين أو هؤلاء الذين أوردهم في الثقات والمجروحين كان من باب التردد أيضًا .
واحتمال آخر: أن يكون وهمًا وخطأ في بعض الرواة ، فهو غير مُنَزَه عن الخطأ والوهم ، فقد يخطئ وقد يهم فيورد الراوي في الثقات ، ويخطئ فيورده أيضًا في المجروحين ، وهناك أسباب أخرى منها عمومًا عند ابن حبان وعند غيره وهو أن يفرق بين المُتفِق مثلًا ؛ يبرى أن هذا الراوي هم شخصان ، فيذكر أحدهما في الثقات باعتبار أنه مثلًا ما وجد له مرويات منكرة ، والآخر الذي فارقه عنه وهو في الحقيقة واحد يعني كأن ينسب الراوي إلى جده في روايات ، ويُنسب إلى أبيه في روايات أخرى ، فَيَدْرُس الروايات التي عن أبيه فيجد أنها ليس فيها شيء من النكارة ويكون هذا مما وقع قدرًا فيحكم عليه بأنه مقبول الرواية ، والآخر يقف له على مناكير فيذكره في المجروحين ، وهما في الحقيقة راوٍ واحد.
أسباب الخطأ في مثل هذا الأمر كثيرة ، وقد تكون أيضًا من باب الوهم والخطأ كما ذكرنا ، وكان بودي إني أطلع على هذه الدراسة وأنتم إذا اطلعتم عليها لعلها تكون فيها أجوبة أخرى أكثر شفاء في هذا الأمر .
السؤال الرابع : يقول ما الحال إذا لم نجد أحدًا من الرواة إلا في كتاب ابن حبان ولم يذكره أحد غيره ؟(1/3)
الراوي الذي يُذْكَر في الثقات ننظر هل هو من الطبقات التي ذكرها الشيخ المعلمي ، هل وثقه صراحة ، هل هو من شيوخه ، هل هو من الرواة المشهورين ، هل ذكر ما يدل على معرفته به ، فإن كان في واحد من هذه الطبقات الأربعة ، فهو مقبول الرواية ، توثيقه يُعْتَد به ، ويُعتمد عليه.
وأما إذا أورده ولم يذكر فيه شيئًا مما سبق ، أو لم يكن من أحد الأقسام الأربعة فإنه لا يُنسب إلى ابن حبان توثيق حينه إنما نقول ذكره ابن حبان في الثقات ، إلا إن وجدنا أن هذا الراوي قد أخرج له في صحيحه فعندها يصح أن نقول: بأنه وثقه ابن حبان إذا وجدنا أن هذا الراوي ولو سكت عنه في الثقات لكن أخرجه في الصحيح فإنه يصح أن نقول: إنه وثقه ابن حبان لأن مجرد إخراج ابن حبان للراوي في صحيحه هذا يدل على أنه ثقة عند ابن حبان ، فإذا ذكر عبارة تدل على عدم علمه به هذا أولى ألا ننسب إليه قولًا ، كأن يقول لا أدري من هو ، لا أعرفه ، ولا أعرف من أبوه ، وما شابه ذلك من العبارات ، فهذا أولى ألا يُعتمد أو لا يُنسب إليه توثيق ، أولى حينها ألا يُنسب إليه توثيق لهذا الراوي.
السؤال الخامس : يقول هل توثيق النسائي وابن معين لمجاهيل التابعين مقبول مطلقًا ، أم أنَّا نرد ما أُنكر عليهما من الروايات ونعلل حكمنا أنهما لم يطلعا على هذه الرواية ؟(1/4)
إذا وَثَقَ النسائي وابن معين لأحد الرواة وغيرهما لأن الْمُعَلَّمي الذي نسب هذا الكلام للنسائي وابن معين لم يحصره فيهما لأنه قال: قد يفعل ذلك ابن معين والنسائي وغيرهما ، فلم يحصره في هذين الإمامين فقط ، فقلنا: إن هذا منهج لعموم أهل الحديث أصلًا ، فإذا وثَّق النسائي وابن معين رجل ، ولم نجد فيه كلامًا إلا لابن معين أو النسائي بالتوثيق فإنه لا شك أنه مُعتمد ، وإذا وجدت حديثًا منكرًا لهذا الراوي ، رواه هذا الراوي فإنه يجب عليك أول شيء تُحَاوِل أن تعرف ما هو سبب النكارة ، فإن تمكنت من أن تكون تبعة هذه النكارة تُلحق بغير واحد من الثقات بغير أحد من الثقات الذين في الإسناد هذا لك أولى ، كأن يكون مثلًا الإسناد فيه راوي مدلس وقد عنعن مثلًا ولو كان تدليسه قليلًا ، ما دام إنه فيه نكارة ، فتُحمَّل هذه النكارة ذلك الساقط الذي يُحْتَمَل أن يكون هذا الراوي قد أسقطه لمَّا عنعن ، فإن لم تجد وسيلة أو وجهًا إلا أن النكارة يتحملها هذا الثقة كأن يكون منفرد بهذا الحديث بنص أحد من أهل العلم على انفراده به ، وهو منكر ، طبعًا قضية الحكم عليه بالنكارة مع كونه ثقة تحتاج إلى زيادة تثبت وتحري ، فإذا كان ذلك عندها يمكن أن تقول بأن هذا حديث منكر ، وترده ولا تقبله ، لكن لا يلزم من ذلك أن يُصْبِح الراوي ضعيفًا ، فإن الراوي الثقة قد يروي أحاديث تُسْتَنكَر عليه ويبقى ثقةً لأنها تكون من باب الوهم والخطأ ، فنرد منه هذا الوهم ويبقى الراوي كما هو ثقة ، هذا الأصل فيمن وثقه هؤلاء الأئمة ، ولو وجدنا له حديثًا منكرًا وكم من راوٍ ثقة ، بل من الحفاظ استنكر عليه العلماء أحاديث وردوها عليه ، ولم يقبلوها وبقي ثقةً عندهم يحتجون به فيما سوى تلك الأحاديث اُستنكِرَت وَرُدَت عليه ، فليكن هذا الراوي من قبيل أولئك الرواة ، فالمقصود أن توثيق هؤلاء العلماء لا شك أنه مُعتمد إذا لم يُخالفوا ، إذا لم يجد ، ما أحدًا يخالفهم ، أما إذا(1/5)
اختلفوا فلا شك أننا نلجأ عندها إلى المرجحات والأدلة والقرائن ولربما رجحنا توثيق الراوي ولربما رجحنا ضعفه ، فحالهما كحال غيرهما من الأئمة ، بل هما أي ابن معين والنسائي من أشد العلماء تحريًا وتثبتًا في باب الجرح والتعديل حتى عُدا من المتشددين في التعديل كما تعرفون ، وكلاهما أيضًا من كبار أئمة النقد ، أما ابن معين فهو إمام الجرح والتعديل على الإطلاق ، ولذلك لا يصح أن يُوجه إلى منهج ابن معين نقد ؛ هو إمام الجرح والتعديل فأن ينبغي أن تؤخذ قواعد الجرح والتعديل من هذا الإمام لأنه قمة هذا الهرم ، فلا يصح أن ننتقد المنهج الذي سار عليه ابن معين في الجرح والتعديل .
إذا انتقدته فكأني أنتقد من دونه ، وكل من سوى ابن معين فهو دونه في الجرح والتعديل كما نص على ذلك الإمام أحمد عندما قال : هو أعلمنا بالرجال ، وكما نصَّ على ذلك أبو داود عندما قال: إن ابن معين هو أعلم الثلاثة – لمَّا سئل عن أحمد ، ويحيي ، وعلي بن المديني- قال أعلمهم بالرجال يحيي ، وأعلمهم بالعلل علي بن المديني ، وأعلمهم بالفقه - بفقه الحديث - أحمد بن حنبل ، لذلك لا نقبل نقد منهج لابن معين ، أما أن تنتقد راويًا وثقه ابن معين أو ضعفه وخولف في ذلك فهذا خلاف جزئي يُباح لك أن تفعل هذا الأمر ؛ لأن حصول الوهم في مثل هذه الأمور أمر مُتصور ، أما أن يحصل له وهم منهجي وهو إمام الجرح والتعديل هذا لا يمكن أن يَصح ؛ لأن هذا خلاف منهج سيتطرق أو سيؤدي إلى أخطاء كثيرة جزئية ، فكيف يخطئ كثيرًا ثم يوصف بأنه إمام جرح وتعديل هذا لا يمكن.
السؤال السادس : يقول: ما هو تفسير كلام ابن حبان في الإمام أبي حنيفة ؟(1/6)
ليس ابن حبان أول من يتكلم في أبي حنيفة رحمه الله فقد تكلم فيه غيره من المحدثين ، ولابن حبان اجتهاده ورأيه وقد أبداه بكل صراحة وجرأة وشجاعة في كتابه المجروحين ، فإن أصاب فله أجران ، وإن أخطأ فله أجر واحد ، وليس هو في ذلك بمنفرد دون بقية أهل الحديث ، فأكثر أهل الحديث على تضعيف أبي حنيفة في باب الرواية .
ننتقل إلى كلامنا عن ابن حبان ، وكنا ذكرنا بالأمس آخر ما توقفنا عنده :
الكلام عن المختلطين .
أريد أن أنبِّه على قضية بالنسبة للمختلط وهي:
أنه لا يصح أن تنتقد حديثًا في صحيح ابن حبان ، أو غيره من الصحاح إذا وجدته من رواية مختلط بل من رواية رجل سمع مِنْ مختلط بعد اختلاطه ، لا يصح شان تنتقد رواية في كتب الصحاح برواية رجل سمع من مختلط بعد اختلاطه ؛ لَأَنَّ ابن حبان بيَّن أنه قد يخرج رواية مختلط عن من سمع منه بعد الاختلاط لكون هذا المُختلِط مُتابَع مُوافَق ، ولم يشترط على نفسه أن يخرج هذه المتابعة ، فهو لعلمه بهذه المتابعة يخرج رواية المختلط ، ولعله يخرجها إما لعلوها أو لأي سبب آخر ، ولذلك هذه من صور التضعيف المُحتَمَل الذي قلت: إنه لا يصح للمتأخر أن يعارض به المُتقدِّم ؛ لأن المتقدم يعلم قاعدة المختلط ، وبعلم متى يُقبل ومتى يُرد ، وقد نص ابن حبان هنا إلى أنه قد يفعل ذلك أيضًا صراحة ، فلا يحق لك بعد ذلك أن تنتقد حديثًا في كتب الصحاح أو صححه أحد العلماء بمثل هذا الأمر ، إلا إذا خالفه ناقد آخر مثله ، فعندها يحق لك الترجيح وترجح إما كلام ابن حبان أو كلام من انتقده كأبي زرعة أو أبي حاتم أو من انتقد هذا الحديث ممن تقدم ابن حبان أو ممن تأخروا عنه من النقاد.
من المسائل التي أثارها ابن حبان في صحيحه قضية نفي وجود المتواتر :(1/7)
وأن الأحاديث كلها آحاد ، لن نقف عندها كثيرًا ، لكن ننبه إلى أن عبارته في ذلك قد فُهِمَت أنه يشترط العزة في الحديث ، أو أنه يرى أو أنه لا يرى وجود عزيز ، أنه يرى أنه ليس هناك حديث عزيز على اصطلاح الحافظ وهو ما لم يروه أقل من اثنين عن اثنين ، حسب تعريف الحافظ ابن حجر للعزيز ، فيقول الحافظ بن حجر في " النزهة " : إن ابن حبان ادعى عدم وجود حديث عزيز ، لكن ، هو مُعْتَمد على هذه العبارة التي في مقدمة صحيحه ، لكن هذه العبارة في الحقيقة لا تدل على نفي وجود العزيز وإنما يقصد بها ابن حبان نفي وجود المتواتر لا وجود العزيز؛ لأنه يقول في هذه العبارة: فأما الأخبار فإنها كلها أخبار آحاد ، والعزيز من أخبار الآحاد ولَّا من غيره ؟ من الآحاد ، فهو لا ينفي وجود العزيز ، إنما ينفي صورة من صور الحديث التي اشترط المتكلمون ألا يقبلوا الحديث إلا طريقها ، وهي أن تكون الرواية كالشهادة على الشهادة ، يروي الراوي ، أو يروي الحديث صحابيان وعن كل صحابيين تابعيان ، وعن كل تابعي اثنان من أتباع التابعين؛ يعني إذا كان الحديث يرويه اثنان من الصحابة في الطبقة الثانية يجب أن يكونوا أربعة ، في الطبقة الثالثة يحب أن يكونوا ثمانية ، في الطبقة الرابعة يجب أن يكونوا ستة عشر ، وهكذا إلى أن يصل إلى السامع ، يقولوا: والحديث لا يكون مقبولًا إلا بهذه الصورة ، طبعًا يُشترط في كل راويين أن يكونا عدلين ضابطين متقنين أيضًا فلو اختل في واحد من هذه الْمُشَجَّرة سقط العمل بهذا الحديث عندهم ، يعني لو في الستة عشر ما وجدته إلا من رواية خمسة عشر سقط العمل بهذا الحديث ، وهي صورة خيالية اخترعها بعض المتكلمين كالْجُبْائِي ليردوا بها السنن حتى لا يفاجئوا المسلمين بأننا نرد السنن مطلقًا ، ما يستطيعوا أن يقولوا هذا ، فقسموا السنن حسب أهوائهم إلى متواتر وآحاد ، ثم وجدوا أن كثيرًا من المسلمين أيضًا لا يقبل منهم رد الآحاد مطلقًا ، قالوا:(1/8)
نقبل نوع من الآحاد ، لكن بشروط ، فاخترعوا هذا الشرط الذي لا وجود له حتى يُباح لهم ويُتاح لهم رد الأحاديث الآحاد كلها ، وحتى المتواتر يردونه فيما لو وجد متواتر بالشروط التي ذكروها يردونه بأنهم لم يستفيدوا العلم الضروري منه ؛ لأن استفادة العلم الضروري من الخبر المتواتر ليست مفترضة في كل أحد ، فقد يتواتر عندك حديث لا يتواتر عندي أنا ، فإذا جاء الرجل من أهل السنة يريد أن يحتج عليَّ بخبر عند السني متواتر يقول لك : إنه ما تواتر ، أَيْش الرد عليه ؟
لا يمكن أن نقول له: لابد أن تعلم علمًا ضروريًا مثل ما أنا علمت علمًا ضروريًا ، فهو في الحقيقة تحايل إلى رد السنن ، حتى المتواتر قالوا ، إن يريدوا أن يحتجوا به قالوا هذا متواتر واستفدنا منه العلم الضروري ، والذي لا يريدون أن يحتجوا به قالوا: هذا ليس متواتر لأننا لا نستفيد منه علمًا ضروريًا .
يقول : كونك أنت استفدت لا يلزم أن أكون قد استفدت ؛ لأن هذا أمر يهجم على القلب دون شعور ، فلا يمكن أن يجزم الناس بعلم ، وهذا المسألة واضحة في هذا الجانب ، على كل حال فابن حبان لا ينفي أو لا يشترط العزة في الحديث ، وبعبارة صحيحة لا ينفي وجود العزيز ، بل إنما ينفي وجود الحديث المتواتر ، وقد تكلمت عن هذه المسألة في مكان آخر .
ثم تعرض بعد ذلك ابن حبان للمدلسين :
فبين أنه لا يقبل من المدلس إلا ما صرح فيه بالسماع ، إلا في الحديث الذي صرح فيه بالسماع ، إلا قسمًا من المدلسين وهو من لم يعرف أنه دلَّس إلا عن ثقة ، من عرفناه أنه لا يدلس إلا ثقة ، لكنه قال بعد أن استثنى هذا القسم يقول: وهذا ليس في الدنيا إلا سفيان بن عيينة وحده ، فإنه كان يدلس ولا يدلس إلا عن ثقة متقن ، ولا يكاد يوجد لسفيان بن عيينة خبر دلس فيه إلا وجد ذلك الخبر بعينه قد بيَّن سماعه عن ثقة مثل نفسه.(1/9)
يقول : أنا استثني من جميع المدلسين – هذا ظاهر العبارة - سفيان بن عيينة لأنه كان لا يدلس إلا الثقة ، لكن يُحتمل أن ابن حبان استثنى سفيان بن عيينة ولا يلزم من ذلك أنه لا يستثني غيره ، لكن استثناه لمزيد صفة فيه وهي أنه لم يكن لا يدلس إلا الثقات فقط ، بل كان لا يدلس إلا كبار الثقات والمتقنين؛ لأنه يقول في العبارة: ولا يكاد يوجد لسفيان بن عيينة خبر دلَّس فيه إلا وجد ذلك الخبر بعينه قد بيَّن سماعه من ثقة مثل نفسه ، يعني مثل درجة سفيان بن عيينة من حفظ وإتقان ، لا تكاد تجد له حديث دلَّسه إلا وقد دلسه عن إمام حافظ كبير ، ويؤكده بالعبارة السابقة عندما قال: أنه ما دلس فإذا كان ذلك يقول: فإنه كان يدلس ولا يدلس إلا عن ثقة متقن ومعروف أنه تكرير مثل هذه العبارة تشير إلى أنه هذا المُسقَط والمدلَّس ليس فقط ثقة ، ليس فقط مقبول بل من أعلى مراتب القبول ، ما أقربه لئن يكون من الحفاظ المشهورين.
على كل حال سواء قصد ابن حبان هذا أو هذا ، هذا يدل على تشدده في التدليس حتى إنه أورد في من يرد عنعنته جماعة ممن يرى غيره أنه مقبولوا العنعنة مثل الثوري والأعمش وأبي إسحاق السبيعي ، فإنه بيَّن أنه لا يقبل منهم إلا أن يصرحوا بالسماع مع أن الثوري خاصة منهم الراجح فيه أنه مقبول العنعنة حتى عند الحافظ بن حجر حيث أورده في المرتبة الثانية لقلة تدليسه في جنب ما روى كما بيَّن ذلك في كتابه " تعريف أهل التقديس " .(1/10)
فالخلاصة : أن ابن حبان كان متشددًا في هذا الأمر ، ونص أيضًا في هذا السياق إلى أنه مع اشتراطه ألا يخرج المدلس إلا ما صرح فيه بالسماع فإنه لا يلتزم بذكر الرواية التي فيها التصريح بالسماع ، هو لا يصحح إلا حديث قد صرح فيه المدلس بالسماع ، لكن لا يلتزم أن يورد الرواية التي فيها التصريح بالسماع في صحيحه ، فقد يورد رواية بالعنعنة في صحيحه وهو قد عارض السماع من رواية أخرى عنده ، ويقول يصرح بذلك في قوله : " فإذا صح عندي خبر من رواية مدلس أنه بيَّن السماع فيه لا أبالي أن أذكره من غير بيان السماع في خبره بعد صحته عندي من طريق آخر " .
كلام صريح ، لأنه لم يلتزم ذكر الرواية التي فيها التصريح بالسماع ، وهذا يعود بنا إلى أن نقول: إذًا لا يحق لك أن تنتقد حديث في صحيح ابن حبان بأنه من رواية مدلس وقد عنعنه ؛ لأنه لو لم يكن قد صرح بالسماع لما أخرجه ابن حبان في صحيحه على حسب رأيه ، وكلنا نعرف أن الاطلاع على الأسانيد ومعرفة هذا الأمر لا يتيسر لنا في هذا الزمان كما كان متيسرًا للحفاظ في الزمن الأول ، وسيأتي تأكيد ذلك في ما نستقبل بإذن الله تعالى عندما نتكلم عن مستدرك الحاكم .
يتكلم بعد ذلك ابن حبان عن منهجه في تكرار الأحاديث فإنه يقول: " وأتنكب عن ذكر المعادِ فيه إلا في موضعين إما لزيادة لفظة لا أجد منها بدًا ، أو للاستشهاد به على معنى في خبر ثانٍ ، فأما في غير هاتين الحالتين فإني أتنكب ذكر المُعادِ في هذا الكتاب ".
يبين أنه لا يميل إلى التكرار بغير فائدة إلا لفائدتين:
إما لزيادة لفظ ، أو للاستشهاد به على معنى ، كأنه قد يكون بغير واضح في اللفظ الأول فيورده في رواية أخرى ليؤكد على هذا المعنى وليؤكد على صحة استنباطه منه.(1/11)
من مقاصد ابن حبان في كتابه الحقيقة التي تظهر من مقدمته ومن الكتاب كله أيضًا أنه كان يقصد زيادة عدد الأحاديث الصحيحة عما أخرجه الشيخان أو بخاصة البخاري ، ويتبين ذلك من نقده للبخاري في مقدمة الصحيح ، نقده المُغلّف المخفي للبخاري لتركه جماعة من الثقات الذين احتاط في شأنهم البخاري فلم يخرج لهم حديثًا كثيرًا أو تركهم بالكلية مثل :
حماد بن سلمة ، وأبو بكر بن عياش وأمثالهم ، فانتقد عدم الإخراج لأمثال هؤلاء ، وكأنه يقول: إنني ما دمت سأؤلف بعد البخاري ، والبخاري قد احتاط لأنه أول ممن ألف فيريد أن يخرج أصح الصحيح فالآن أنا أريد سأتمم عمل هذا الإمام فأخرج أحاديث زائدة على عمله ، وعندها لا يصح أن احتاط الاحتياط الذي يؤدي بي إلى ترك بعض الصحيح زيادة في التوقي ، بل لابد أن أخرج كل ما صح عندي باجتهادي ، ولو كان عند غيري ربما توقف فيه أو لم يقبله ، ولذلك كثرت الزيادات في زوائد أو في صحيح ابن حبان حتى بلغ عدد هذه الزوائد ألفين وستمائة وسبعة وأربعين حديث ، زوائد ابن حبان على الصحيحين ، يعني الأحاديث الزائدة في ابن حبان على الصحيحين ، ما وافق صحيح البخاري ألفين وستمائة وسبعة وأربعين حديث ، يعني أكثر من صحيح البخاري كاملًا ، عدد زوائد ابن حبان ألفين وستمائة وسبعة وأربعين ، وقلنا بأن عدد أحاديث الكتاب أكثر من سبع آلاف حديث أصلًا ، عدد الزوائد منها ألفين وستمائة وسبعة وأربعين ، هذا يؤكد على أنه كان يقصد الزيادة على الصحيح الذي أخرجه البخاري ومسلم وأن هذا كانت مطلبًا من مطالب تأليفه لكتابه.
يبقى التنبيه على مكانة تصحيح ابن حبان :
بَيّنا سابقًا أنه من حيث الشروط لا يختلف عن غيره من حيث الشروط ، واتهامه بالتساهل في باب العدالة هذا اتهام كما ذكرت ليس بمتين ، وليس بقوي ، بل الصحيح أنه مثل غيره في هذا الباب.
هل يعني ذلك أن صحيحه بلغ مرتبة الصحيحين ؟(1/12)
لا يلزم من الاتفاق على الشروط اتفاق درجة أحاديث ابن حبان مع درجة أحاديث البخاري ومسلم ؛ لأنه حتى لو جاء إنسان وعرف شرط البخاري ومسلم بدقة وأراد أن يخرِّج أحاديث على شرطهما ، فإنه لا يلزم من فعله هذا ، أو لا يعني يحصل من فعله هذا أنه سيخرج أحاديث لو أراد ذلك على مستوى ما في البخاري ومسلم بسبب أن علم البخاري ومسلم أعمق وأجل من علم من جاء بعدهما كابن حبان مثلًا ، فالتأكد من وجود شروط الصحة هذا يختلف باختلاف زيادة العلم ، فكلما كان الناقد أكثر علمًا وإحاطة بالرواة وإحاطة بالأسانيد ، ومعرفة للعلل الخفية ، ملما كان حكمه بوجود هذه الشروط أقوى وأمتن ، وكلما كان علمه أقل في هذا الباب لا شك أنه سيتطرق الخلل إلى أحكامه الجزئية ، ولذلك لا شك أن ابن حبان لا يصل إلى درجة البخاري ومسلم في العلم بنقد الرواة والأحاديث والعلل ، وهذا ما جعل مرتبة صحيحه دون مرتبة البخاري ومسلم ، نحن ألم نقل بأن مسلم دون البخاري في الصحة ، ألم نقرر ذلك ؟ قررنا هذا .
هل يعني ذلك أن شرط مسلم في الصحة غير شرط البخاري ؟ لا ، ما يلزم من ذلك.
إذًا ما هو السبب ؟ أن درجة علم مسلم أقل من درجة علم البخاري ، كذلك نقول في ابن حبان ، اختلاف علم ابن حبان عن علم البخاري ومسلم بدرجات هذا ما أدى به إلى أوهام في صحيحه أكثر من الأوهام التي وقعت من البخاري ومسلم ، ولذلك تكلم العلماء من قديم على أن ابن حبان فيه شيء من التساهل في التصحيح ، وممن ذكر ذلك :
ابن الصلاح عندما ذكر الحاكم وتساهله قال: ويقاربه في حكمه صحيح أبي حاتم ابن حبان البستي .(1/13)
فقال: إن ابن حبان قريب من الحاكم في التساهل ، لكن هذه العبارة في الحقيقة لم يرضها كثير من أهل العلم ، فبينوا أو وجهوها وبينوا أن مقصود ابن الصلاح أن عنده تساهل لا يعني أن درجة تصحيح ابن حبان مثل درجة الحاكم ، وقدَّموا ابن حبان على الحاكم ، ومن ذلك عبارة الحازمي والحاومي طبعًا قبل ابن الصلاح ، لكن قال عبارة يدلل فيها على متانة علم ابن حبان بالنسبة للحاكم حيث قال: إن ابن حبان أمتن من الحاكم : يعني أشد إتقانًا من الحاكم لعلم الحديث.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه " قاعدة جليلة " يقول : ذكر ابن حبان فقال: فإن تصحيحه فوق تصحيح الحاكم وأجل قدرًا.
ويقول ابن كثير : بعد ذكر ابن خزيمة وابن حبان وصحيحيهما يقول: وهما خير من المستدرك ، وأنظف أسانيد ومتون .
ويقول غيرهم يعني يرجح كثير منهم العراقي ، والزيلعي ، والسيوطي رجحوا ابن حبان على الحاكم.
وهناك دراسة حديثة لأحد المعاصرين وهو محمد عبد الله أبو صعيليك في رسالة له بعنوان: الإمام محمد بن حبان البستي فيلسوف الجرح والتعديل ، كتاب مختصر حول ابن حبان وكتابه الصحيح ، قام بدراسة معينة فيقول في هذه الدراسة: إنه أحصى عدد الأحاديث المنتقدة على زوائد ابن حبان على الصحيحين ، التي عددها ألفين وستمائة وسبعة وأربعين.
يقول : لِمَ اقتصرت على هذا الجانب ؟ يقول: لأن ما في الصحيحين هذا صحيح ما فيه كلام ، لكن نريد أن نعرف ما هو درجة تصحيح ابن حبان في الزوائد على الصحيحين ؟
يقول: فوجدت حسب كلامي والدراسة –يعني العهدة عليه أنا ناقل- يقول: وجدت عدد الأحاديث المنتقدة عند ابن حبان خمسمائة وواحد وستين حديثًا منها - من هذه الأحاديث - ثلاثة وتسعون حديثًا ضعيفة لا يمكن أن تنجبر ، حسب رأيي غير نافعة للتقوي ، وبقية الأحاديث كلها نافعة للتقوي.(1/14)
إذًا: في الحقيقة ممكن نقول الأحاديث المنتقدة فعلًا هي الثلاثة والتسعين فقط ، لنقل إنها مائتين يبقى من عدد أحاديث الكتاب كَمٌّ كبير جدًا ما زاد فيه ابن حبان – نتذكر ونحن نتكلم الآن عن الزوائد فقط لكن عدد أحاديث الكتاب أكثر من سبع آلاف حديث فإذا استثنيت مائتين فقط منها كم بقي ؟ عدد كبير ، يعني إذا كان في البخاري ومسلم ، في البخاري ومسلم مائتين حديث ، وعدد أحاديث ابن حبان تكاد تكون ضعف من في البخاري ومسلم.
إذن: تعرف أن عدد المنتقد على ابن حبان ليس عددًا هائلًا يكاد ، يعني نسبة المنتقد على ابن حبان يكاد يساوي المنتقد على البخاري ومسلم ، ومع ذلك حسب الإحصائية هذه التي ذكرها ، ومع ذلك قد يكون عدد المنتقد على ابن حبان أكثر من ذلك ، لكن يبقى أن الغالب على أحكامه الصواب ، وأن اعتقاد أن هذه الأحكام بالتساهل تقتضي رد تصحيحه مطلقًا هذا ليس قولًا صحيحًا بل هو قول مدخول ويؤيده كل الكلام السابق ، ويؤيده إمامة ابن حبان ، ويؤيده كلام العلماء عن اعتماده ، اعتماد توثيقه ، واعتماد كلامه في الجرح والتعديل والتصحيح وغير ذلك.
مثلًا السيوطي الذي حكم عليه بأنه متساهل كان يكتفي في الرد على ابن الجوزي إذا أورد حديثًا في الموضوعات يكتفي في الرد عليه بأن يقول: أخرجه ابن حبان في صحيحه ، لو كان تصحيح ابن حبان عند السيوطي لا وزن له لما عرض حكم ابن الجوزي بالوضع بمجرد إخراج ابن حبان للحديث في الصحيح ، أصلًا إهدار أحكام إمام بالكلية هذا لا يصح أبدًا ؛ لأننا إذا قلنا: بأن ابن حبان إمام ولا أظن أن في أحد يجرأ ليقول: ابن حبان ليس إمامًا في علم الحديث ، لا أعرف أحدًا قال هذا ولا أتوقع أن يقول هذا أحد ، ولو قاله لرد عليه كل الناس ، فلو قال أحد: فما دام أن الجميع متفق أن ابن حبان إمام ، والأصل في الإمام أن تكون غالب أحكامه صوابًا ولَّا خطأ ؟(1/15)
صوابًا ، لأننا لو قلنا خلاف ذلك لا يصح أن يوصف بالإمام ، أنا وأنتم ممكن تكون غالب أحكامنا خطأ ، لكن إمام لا يوصف بالإمامة إلا إذا كانت غالب أحكامه صوابًا ، وإذا كانت غالب أحكامه صوابًا ، إذًا الأصل في أحكامه الاعتماد ولَّا عدم الاعتماد ؟ الاعتماد؛ لأن الحكم الغالب والنادر لا حكم له ، لذلك لا يصح أن تُهدر أحكام ابن حبان مطلقًا كما يتصور بعض الناس ، وربما لو قلت له صححه ابن حبان لا يقبل هذا التصحيح أصلًا ، نعم لا يعني ذلك كما قررنا ذلك في كلامنا عن ابن خزيمة لما قسمنا كتب الصحيح كلها على قسمين:
الصحيحان ، وما سوى الصحيحين ، وقلنا إن ما سوى الصحيحين تُدرك الأسانيد ويُحكم عليها بما يليق بها بشرط ألا نعترض على صاحب الصحيح بتعليل أو تضعيف مُحتَمَل كما بيناه وشرحناه فيما سبق ، وحتى إذا كان في أمر محتمل التضعيف ، لكني سُبِقتُ بهذا التعليل من إمام ناقد فيحق لي أيضًا أن أنتقد هذا الإمام الذي صحح هذا الحديث ، فإذًا لا نكن مقلدين لابن حبان متبعين له دون بصيرة بل نكون ناظرين في أحكامه ، وفي أسانيده ، لكن نراعي إمامته ونقص أهليتنا عن أن نبلغ اطلاعه الكامل على السنة وأسانيدها.
آخر ما يتطرق إليَّ بخصوص ابن حبان :
عناية العلماء بكتاب ابن حبان :(1/16)
1 - من أهم هذه العنايات وأشهرها كتاب الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان ، الذي هو مطبوع ، المطبوع الآن باسم صحيح ابن حبان ، أو باسم الإحسان هو هذا الكتاب الذي نذكره ، فصحيح ابن حبان لم يُطبع على ترتيبه الأصلي وإنما طُبع بترتيب هذا العالِم الذي نذكره ، الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان للأمير علاء الدين أبي الحسن علي بن بَلَبَان ، بفتح اللام ، علي بن بلبان الفارسي ، الذي تُوفيَ سنة تسع وثلاثين وسبعمائة ، وقد قام بهذا العمل أيضًا – يعني : الترتيب - عدد من العلماء آخرون منهم: مغلطاي ومنهم: نصر الدين محمد بن عبد الرحمن الصالحي وغيرهم ، لكن الذي طُبع هو كتاب علاء الدين بن بلبان الفارسي.
2 - من الخدمات حول كتاب ابن حبان: إكمال تهذيب الكمال لابن المُلَقِّن ، وقد سبق أن ذكرناه في كلامنا عن ابن خزيمة حيث ترجم فيه لأصحاب الكتب الستة مضيفًا إليها كتبًا ستةً أخرى ، وهي: مسند أحمد ، وصحيح ابن خزيمة ، وصحيح ابن حبان ، ومستدرك الحاكم ، وسنن الدارقطني ، وسنن البيهقي ، هذه هي الكتب الستة التي أضافها إلى الكتب الستة وترجم لرجال هذه الكتب الاثني عشر كتابًا.
3 - موارد الظمآن للهيثمي . نور الدين الهيثمي ، الذي هو موارد الظمآن في زوائد صحيح ابن حبان ، وهو مطبوع.
4 - إتحاف المهرة في الفوائد المبتكرة الذي رتَّب فيه الحافظ بن حجر كتاب ابن حبان مع كتب عشر أخرى ، بل إحدى عشر على الأطراف ، وقد سبق ذكره أيضًا.
من الرسائل الحديثة حول ابن حبان :
? الإمام محمد بن حبان ومنهجه في الجرح والتعديل لـ عَدَّاب الحمش ، وهي رسالة ماجيستير لم تُطبع حتى الآن وهي في خمسة مجلدات كبار ضخام.
? كتاب آراء ابن حبان في العقيدة للشيخ عبد العزيز المُبَدَّل وفقه الله.
? آراء ابن حبان في مسائل الاعتقاد لأحمد بن صالح الزهراني .
? كتاب منهج ابن حبان في مشكل الحديث لإبراهيم عسعس.(1/17)
? كتاب المجهولون ومروياتهم في صحيح ابن حبان لعبد الباسط الحموي.
? كتاب الإمام محمد بن حبان فيلسوف الجرح والتعديل لمحمد عبد الله أبو صعيليك.
? كتاب فقه ابن حبان للدكتور عبد المجيد محمود.
هذه أهم الدراسات التي وقفت عليها ولا أنسى رسالة شيخكم(1)الجليلة المهمة وهي زوائد رجال صحيح ابن حبان على الكتب الستة التي طُبِعَت في ست مجلدات ضخام كبار بذل فيها جهدًا مشكورًا وفقه الله تعالى وأعانه على أعماله العلمية الأخرى.
وبذلك ينتهي الكلام عن كتاب ابن حبان ، وأنتقل إلى الكتاب رقم كم ؟ رقم خمسة.
الكتاب الخامس من كتب الصحاح وهو كتاب :
" المستدرك على الصحيحين " لأبي عبد الله الحاكم النيسابوري.
هذا الإمام هو محمد بن عبد الله بن حمدويه الضبي أبو عبد الله النيسابوري الشهير قديمًا كان مشهورًا في زمنه بابن البيع ، ثم أصبح مشهورًا عند المتأخرين بأبي عبد الله الحاكم النيسابوري ، ولُقِّبَ بالحاكم لتوليه القضاء لأنه تولى القضاء ، بخلاف ما اشتُهر عند بعض المتأخرين من أن هذا اللقب لقب من ألقاب الحديث مثل الحافظ ، ومثل المتقن ، ومثل أمير المؤمنين في الحديث هذا خطا ، بل الصواب أن الحاكم لقب لمن تولى القضاء .
وُلِدَ هذا الإمام سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة من الهجرة ، وتُوفي سنة خمسة وأربعمائة من الهجرة ، عمره أربعة وثمانين .
ابتدأ سماعه أول سماع سنة ثلاثمائة وثلاثين ، يعني كان عمره : تسع سنوات ، وهذا يدل على تبكيره في طلب الحديث ، ورحل في الأمصار والأقطار في طلب العلم ، فجال خرسان التي هي المقاطعة التي يعيش فيها فدخل مرو ، والري وغيرها من بلاد خراسان ، ؟ وأيضًا بلاد ما وراء النهر في بخارى وسمرقند ، وما جاورها ، ورحل أيضًا على العراق ، وإلى الحجاز ، وإلى بلدان أخرى كثيرة متعددة فله رحلة واسعة.
من أهم شيوخه :
__________
(1) يقصد: الشيخ يحيى الشهري وفقه الله(1/18)
ابن حبان صاحب الصحيح ، والدار قطني ، وله عناية بالدار قطني بالغة حتى إنه سأله عن مجموعة من الرواة في أسئلة مشهورة ومُدوَّنة ومطبوعة للحاكم عن الدار قطني ؛ يعني : سأله عن بعض الرواة في الجرح والتعديل وقيَّد أقوال الدارقطني في كتاب مطبوع متداول .
ومن شيوخه أيضًا : أبو بكر محمد بن عبد الله الشافعي وهو صاحب الفوائد الغيلانيات المشهورة.
ومحمد بن يعقوب بن الأكرم ، ومحمد بن يعقوب أبو العباس الأصم ، وغيرهم.
ومن أهم تلامذته :
أشهر تلامذته في الحقيقة هو الإمام البيهقي صاحب السنن الكبرى ، وهو الذي كان كما يقول عنه الذهبي: قد حمل عن الحاكم وقِرَ بعير من الكتب ، يعني سمع منه ما يساوي حمل بعير من الكتب ، كل هؤلاء الكتب سمعها على شيخه الحاكم ، وقد أكثر من الرواية عنه في كتبه.
ومن تلامذته أيضًا : الخليل صاحب الإرشاد.
والسِّجْزِي صاحب السؤالات المطبوعة عنه.
أشهر مصنفات هذا الإمام :
? المستدرك على الصحيحين .
? معرفة علوم الحديث . وهو كتاب مشهور وهو من أوائل كتب مصطلح الحديث وعلوم الحديث وَمِنْ أَجَلِّهَا .
? كتاب المدخل إلى معرفة الصحيح من السقيم .
? كتاب المدخل إلى كتاب الإكليل .
? سؤالاته للدار قطني . والتي سبق ذكرها .
? سؤالات مسعود السِّجْزِي له ، وأسئلة البغداديين له ، وهما كتابان طُبعا في كتاب واحد.
هذه مجمل مصنفات الحاكم التي بلغتنا ووصلت إلينا ، وله كتب أخرى مفقودة .
ننتقل إلى الكلام عن هذا الكتاب المهم وهو :
" المستدرك " .
فنقف أولًا عند الغرض من تأليف هذا الكتاب:
يظهر هذا الغرض الحقيقة أولًا من عنوان الكتاب " المستدرك على الصحيحين " فهو يريد أن يورد أحاديث يستدركها على صحيحي البخاري ومسلم ، ووجه الاستدراك أن تكون صحيحة في أقل الأحوال ، ولم يخرجها البخاري ومسلم ، وقد بيَّن سبب توجهه إلى هذا الغرض في مقدمة كتابه حيث قال يقول في مقدمة كتابه :(1/19)
وقد نبغ في عصرنا هذا جماعة من المبتدعة يشمتون برواة الآثار بأن جميع ما يصح عندكم من الحديث لا يبلغ عشرة آلاف حديث ، وهذه الأسانيد المجموعة مشتملة على ألف جزء أو أقل أو أكثر منه كلها سقيمة غير صحيحة .
يقول : إن بعض المبتدعة ادعى بأنه لا يصح إلا مقدار عشرة آلاف حديث ، يقصدون ما أخرجه البخاري ومسلم ، وأن كمل ما سوى ذلك وهي أحاديث كثيرة لا يصح منها شيء ، فهؤلاء المبتدعة لم يستفيدوا من العناوين التي وضعها البخاري ومسلم – المختصر- وغيرهم ، فظنوا أن كل الصحيح هو ما أودعه البخاري ومسلم ، وأن ما خرج عن البخاري ومسلم فإنه ليس بصحيح ، ولذلك صاروا يشمتون برواة الآثار كما يقول ، فيقول: أنتم عندكم الأحاديث الصحيحة ليش تشتغلون بالسنن ؟ وأما هذه الألوف من الأحاديث التي عندكم فكلها ضعيفة لا وزن لها ولا اعتبار ، فكان ينبغي عليكم أن تشتغلوا بعلوم أخرى غير علم الحديث.
إذًا: فكان المقصد الأساسي في أن يستدرك على الصحيحين هو يريد أن يثبت أن هناك أحاديث زائدة على الصحيحين لم يذكرها صاحبا الصحيح ، أحاديث صحيحة زائدة على الصحيحين لم يذكرها صاحبا الصحيح ، هذا هو كان المقصد الأساسي للحاكم ، وسنرى أن هذا المقصد قد أثر في تأليف كتابه أثرًا كبيرًا وبالغًا .
إذًا - في الحقيقة - هما سببان أساسيان :
1 - الزيادة على عدد الصحيح .
2 - الرد على هذا المبتدع .(1/20)
بدأ الحاكم في إملاء كتابه في محرم من سنة ثلاثمائة وثلاثة وتسعين ، ابتدأ أول مجلس أملاه للمستدرك في إملائه للمستدرك ، كان سنة ثلاثمائة وثلاثة وتسعين في المحرم ، في أوائل تلك السنة ، يعني كم كان له من العمر أول ما ابتدأ بالتأليف ؟ اثنين وسبعين عامًا ، فهذا يتبين أنه ابتدأ بتأليف الكتاب في أواخر عمره ، وسيأتي أن هذا أيضًا عذر من الأعذار التي أُعتذر بها للحاكم ، وهو عذر صحيح؛ لأنه نصَّ في مقدمة " المستدرك" أن إملائه لأول مجلس كان سنة ثلاثمائة وثلاثة وتسعين ، وإن كانت تحرفت في المطبوعة إلى ثلاثمائة وثلاثة وسبعين ، في أول المستدرك تحرفت التسعين إلى سبعين ، والصواب أنها تسعين وليست سبعين.
قبل أن ندخل في شرطه للكتاب ، نذكر بعض الأمور المتعلقة بذلك:
عدد أحاديث الكتاب : تسع آلاف وخمسة وأربعين حديثًا ، يعني قرابة عشرة آلاف حديث ، أو تسع آلاف حديث ، ولهذا العدد الكبير ا لذي أورده في " المستدرك " ذهب الحافظ بن حجر إلى أنه لا يكاد يوجد حديث صحيح خارج عن الصحيحين ومستدرك الحاكم ، فإنه مع انتقاده لمستدرك الحاكم يقول: لكن يصفو منه قدر كبير من الصحيح ، وهو مع الصحيحين يكاد يستوعب كل الصحيح.
نحن لا نقل هذه العبارة دقيقة بكل تفاصيلها ، لكن نقول: لعلنا لو أضفنا صحيح ابن حبان وصحيح ابن خزيمة ومسترك الحاكم وتصحيحات العلماء الآخرين كالترمذي ، وكسكوت النسائي عن الحديث ، وما شابه ذلك ، هذا كله لا شك لو أضفناه إليه لوجدنا أن عدد الأحاديث الصحيحة سيكون بالغًا عددًا كبيرًا ، ولا يكاد بالفعل يجد الإنسان بعد ذلك حديثًا صحيحًا إلا وقد سُبق بالحكم عليه من إمام مُتقدِّم قد حكم عليه بالصحة من هؤلاء العلماء الذين ذكرناهم ، ومن سواهم ممن صحح وضعَّف.(1/21)
الكتاب مُرتَّب على الكتب والأبواب : وهو من كتب الجوامع لأبواب العلم؛ لأنه شامل لأحاديث الأحكام ، ولكل الأحاديث التي يُستنبط منها حكم ، وما لا يُستنبط منها حكم ، ولذلك عقد كتاب "التفسير" وعقد كتاب " الفضائل " و " معرفة الصحابة " و " التاريخ " ، وغير ذلك ، مسائل مختلفة لا يستنبط منها حكم ، فهو من كتب الجوامع لأبواب العلم .
مما سنذكره الآن وهو من أهم المسائل المتعلقة بمستدرك الحاكم ، وهو شرطه في الكتاب .
شرطه في هذا الكتاب :
وسنبتدئ بعبارته في المقدمة لننطلق منها في معرفة شرطه في هذا الكتاب.
يقول في مقدمته بعد أن ذكر كلام هؤلاء المبتدعة يقول:
" وقد سألني جماعة من أعيان أهل العلم في هذه المدينة - يعني : نيسابور- وغيرها أن أجمع كتابًا يشتمل على الأحاديث المروية بأسانيد يحتج محمد بن إسماعيل ومسلم بن الحجاج بمثلها ، إذ لا سبيل لانعقاد ما لا علة له ، فإنهما -رحمهما الله- لم يدعيا ذلك لأنفسهما ، وقد خرج جماعة من علماء عصرهما ومن بعدهما عليهما أحاديث قد أخرجاها وهي معلولة ، وقد جهدت في الذب عنهما في المدخل إلى الصحيح بما رضيه أهل الصنعة ، وأنا أستعين الله الآن –المقطع الآتي مهم- يقول: وأنا أستعين الله على إخراج أحاديث رواتها ثقات قد احتج بمثلها الشيخان -رضي الله عنهما- أو أحدهما ، وهذا شرط الصحيح عند كافة فقهاء أهل الإسلام ، وأن الزيادة في الأسانيد والمتون من الثقات مقبولة .
هذه عبارته في مقدمة " المستدرك".
أما الكلام عن العلة فقد السبق الحديث عنها وعن مقصوده فيها لمَّا تكلمنا عن شرط البخاري في الإعلال ، وأنه إما قصد العلل غير القادحة ، أو قصد ما يخرجه ليبين علته كما حصل في البخاري ، فالبخاري ومسلم قد يخرجان أحاديث لها علة لكنها غير مؤثرة ، أو يخرجان الحديث وفيه علة مؤثرة لكن يخرجانه لبيان علته ، فهذا مقصوده بالعلة.(1/22)
أما مقصوده بشرط الشيخين : فهذه مسألة مهمة وقد طال فيها الخلاف؛ لأن الحاكم يخرج الأحاديث وكثيرًا ما يتعقبها بعبارات مثل قوله :
? صحيح على شرط الشيخين .
? صحيح على شرط البخاري .
? صحيح على شرط مسلم .
? رجاله رجال الشيخين .
? رجاله رجال البخاري .
? رجاله رجال مسلم .
وقد يقول: صحيح ولا ينسبه إلى شرط واحد منهما ، ولا إلى رجال واحد منهما ، يقول صحيح فقط ، وقد يسكت عن الحديث ، وقد يتعقب الحديث ببيان ضعفه ، فأحاديث " المستدرك " منقسمة إلى هذه الأقسام كلها ، فما هو مقصوده بشرط البخاري ومسلم أو شرط أحدهما ؟
ذكر عبارة فيما سبق اختلفت فيها فُهُوم النقاد ، العبارة هي قوله: وأنا أستعين الله على إخراج أحاديث رواتها ثقات قد احتج بمثلها الشيخان -رضي الله عنهما- أو أحدهما.
فذهب بعض أهل العلم إلى أن المقصود بالمثلية هنا أنه لا يشترط أن يخرج لنفس رجال البخاري ومسلم ، ولكن يخرج لمن كان مثيلهما في الضبط والإتقان ، وأنه لا يشترط أن يخرج لمن أخرج له البخاري ومسلم أنفسهم ، نفس الرواة أنفسهم ، وإنما يخرج لمن كان في درجتهم ، يعني إذا وجد الراوي من رجال البخاري ومسلم أخرج له ، لكن إن وجد الحديث من رواية رجل في مثل درجة من أخرج له البخاري ومسلم في الصحيح ، فإنه يخرجه ويقول: على شرط البخاري ومسلم ، أو على شرط أحدهما ، هذا القول تَبَنَّاه الحافظ العراقي ، لكن يرد عليه أمران .
يرد على هذا الرأي أمران ويبين أنه ليس بصحيح:
لا يقصد المثلية هنا ، يعني من شابه رجال الصحيحين في الضبط والإتقان ، ولا يلزم منه أن يكون أعيان هؤلاء الرواة هم الذين أخرج لهم البخاري ومسلم ، يرد على هذا الرأي أمران:(1/23)
الرد الأول: تنويع الحاكم في التعبير عن هذه المسألة ؛ فإنه يقول مثلًا في بعض الأحاديث كما ذكرنا يقول: صحيح على شرط مسلم ، ويقول في بعضها: صحيح على شرط البخاري ، فلو كان يقصد بالمثلية هنا مثلية الضبط والإتقان أنهم مثلهم في الضبط والإتقان لكان كل من كان على مثل درجة رجال البخاري من باب أولى أن يكون على مثل درجة رجال مسلم ، فلم يعد هناك معنى للتفريق بأن يقول مرة على شرط البخاري وشرط مسلم ، لاحظتم هذا الرد الأول.
الرد الثاني : عبارات صحيحة وقعت في (المستدرك) تدل على أنه يقصد بالشرط هنا الرجال أعيان الرجال ، كقوله عقب حديث ?? لَا تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إِلَّا مِنْ شَقِيٍّ ?? وهو حديث أبو عثمان عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم قال الحاكم بعده ، بعد أن صححه قال: ولم أقل إنه صحيح على شرط الشيخين ، أو قال: يقول أبو عثمان هذا – في عبارة الحاكم بعد أن صحح الحديث- يقول: أبو عثمان هذا ليس هو النهدي ، ليس هو أبو عثمان النهدي وهو عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ مُلٍّ ، يقول : ولو كان هو النهدي لقلت: إنه صحيح على شرط الشيخين .
هذه عبارة صريحة على أنه يقصد بالشرط أعيان الرجال ، ولا يقصد المثلية .
القول الثاني : هو أنه أراد بالشرط الرجال ، رجال الشيخين ، وهذا الذي عليه أكثر أهل الحديث ، أكثر المحدِّثين على أن مقصوده بالرجال أو بالمثلية هنا الرجال أنفسهم أو خلِّينا في الذي في الشرط ، يعني مقصوده بشرط الشيخين يعني رجاله رجال البخاري ومسلم ، فإذا قال حديث صحيح على شرط الشيخين ، يعني : حديث صحيح رجاله رجال البخاري ومسلم ، إذا قال صحيح على شرط البخاري يعني رجاله رجال البخاري ، شرط مسلم يعني رجاله رجال مسلم ، فمقصوده بالشرط الرجال.
ما هو تفسير المثلية التي وردت في المقدمة بناء على هذا الرأي ؟
يقولون: المقصود بالمثلية يعني الذي ذكر في ذلك ثلاثة أقوال:(1/24)
القول الأول: أنه قصد نفس رجال الشيخين كما تقول مثلًا: لو وجدت الآن إسناد من رواية مالك عن نافع عن ابن عمر ، وإسناد آخر من رواية مالك عن نافع عن ابن عمر في كتاب آخر ، هل يحق لي أقول هذا مثل هذا ، هذا الإسناد مثل هذا ؟
لا يلزم من ذلك التغاير ، لكن لمَّا اختلف محل الإسنادين صح أن أقول مثل هذا ، لمَّا اختلف الرجل هذا ذكر الرجل في يعني : أبو عثمان النهدي مثلًا صحيح البخاري وهنا في مستدرك الحاكم ، يصح أقول إنه مثله ، كأن أقول أيضًا: بَدْرُ هذا الشهر مثل بَدْرِ الشهر الماضي ، هل يعني ذلك إن البدر اختلف ؟
لكن لمَّا اختلف الوقت ، لمَّا اختلف المكان صحَّ إطلاق المثلية في هذا السياق ، فلغةً يصح أن أقول مثل ، ولا يقتضي التغاير ، هذا الجواب الأول .
القول الثاني : أَنْ يقال إن المقصود بالمثلية طبقة من فوق ، أو من بعد شيوخ البخاري ومسلم ، فإنه معروف أن الحاكم متأخر ، وُلد سنة ثلاثمائة وواحد وعشرين يعني بعد وفاة البخاري ومسلم ، فطبقت شيوخه وشيوخ شيوخه لن يكونوا من رجال البخاري ومسلم في كثير من الأحيان ، وخاصةً طبقة شيوخه يقينًا ، فهؤلاء ما هو شرطه فيهم ؟
شرطه فيهم أن يكونوا مثل رجال البخاري ومسلم في الضبط والإتقان ، هذا احتمال وارد ، وقد قاله بعض المعاصرين.
الاحتمال الأخير: وهو أقوى الاحتمالات عندي أنه قصد بالمثلية هنا الأحاديث وأرى العبارة صريحة في ذلك لأنه أَيْش يقول ؟
يقول: وأنا أستعين الله على إخراج أحاديث رواتها ثقات قد احتج بمثلها
الضمير هنا يعود للأحاديث ولَّا للرجال ؟
لأنه لو أراد الرجال أيش يقول ؟ بمثلهم ، هو يقول: " بمثلها " .
أعيد العبارة: وأنا أستعين الله على إخراج أحاديث رواتها ثقات قد احتج بمثلها الشيخان.(1/25)
فيريد يقول: شرطي في الأحاديث مثل شرط البخاري ومسلم أو أحدهما ، فهو يقصد هنا هذه الأحاديث أي بأسانيدها ومتونها أشترط أن تكون على شرط البخاري ومسلم يعني رجالها رجال البخاري ومسلم ، أو رجال البخاري وحده ، أو رجال مسلم وحده ، فهو يتكلم عن الأحاديث التي اجتمعت فيها شروط الشيخين ، ومن بين شروط الشيخين: أن يكونوا رجاله رجال البخاري عندي إذا كان شرط البخاري ، أو رجاله رجال مسلم عند مسلم ، وهذا هو الذي يترجح عندي في قوله أو في مسألته المثلية التي ذكرها في كلامه .
لكن نريد أن نتوقف عند وصف الحديث الذي رجاله رجال الشيخين بأنه على شرط الشيخين :
هل هذا الوصف صحيح ، أو هذا الإطلاق دقيق ؟ هل شرط الشيخين فقط أن يتحقق بإسناد وجود هؤلاء الرجال ؟
لاشك أنه ليس هذا هو شرط البخاري ومسلم وحدهما ، فكان الأولى بالحاكم ومن وافقه على استخدام هذا التعبير إذا أراد أن يُعبر عن إسناد رجاله رجال البخاري ومسلم أو أحدهما أن يقول: رجاله رجال البخاري ومسلم ، أو رجاله رجال البخاري ، أو رجاله رجال مسلم ، لا يقول شرطه أو هو على شرط الشيخين؛ لأن الشرط ليس قاصرًا على الرجال فقط ، بل يجب أن يكون هذا الحديث مثلًا: غير مُعَل ، غير شاذ ، هذا شرط ، فقد يكون الحديث رجاله رجال البخاري لكنه عند البخاري ومسلم شاذ أو مُعل ولذلك لم يخرجاه فلذلك لم يخرجاه ، فكيف يوصف مع ذلك بأنه على شرط الشيخين ؟
لكن لو قلت: رجاله رجال الشيخين هذا ليس فيه نقد ولو ظهر فيه علة خفية ؛ لأن العلة الخفية لا علاقة لها بالرجال وبالسند وبظاهر السند ، فهذا الوصف في الحقيقة هو الذي أدى بالتساهل بالحاكم وبغيره؛ يعني أصبح كأن مجرد تحقق وجود رجال هذا كافٍ للحكم على الحديث بالصحة وهذا ليس بصحيح .(1/26)
أيضًا حتى رجال البخاري ومسلم بعض رجال البخاري ومسلم ما أخرجوا لهم احتجاجًا بكل مروياتهم كما هو معروف ، فربما انتقوا من مرويات بعض من لهم أوهام ما لم يخطئوا فيه فيخرجونه ، وتركوا أحاديث لهؤلاء الرواة أنفسهم لأنهم رأوا قد أخطئوا فيها ووهموا ، فكوني أخرج لهذا الراوي كل ما روى وأدعي أنه شرط البخاري ومسلم هذا خطأ لأن البخاري قد يكون تعمَّد ترك هذا الحديث لكونه مما أخطأ فيه ذلك الراوي الذي خرَّج له في صحيحه ، ولذلك قَسَّم الحافظ بن حجر أحاديث " المستدرك" إلى ثلاثة أقسام أساسية .
يقول في هذه الأقسام الأساسية
القسم الأول: أن يكون إسناد الحديث الذي يخرِّجه الحاكم محتجًا برواته في الصحيحين أو أحدهما على صورة الاجتماع سالمًا من العلل .
انتبهوا العبارة دقيقة : يقول: احترزنا بقولنا (على صورة الاجتماع) عما احتج بروايته على صورة الانفراد .
يقول: هناك رواة احتج بهم البخاري ، أو مسلم لكن ما احتجوا بهم في السياق الذي احتج به الحاكم ، وإنما احتجوا بهم في سياق آخر ، أو برواية هذا الراوي عن رجل آخر ، يضرب لذلك مثال الحافظ يقول: مثل: سفيان بن حسين والزهري .
سفيان بن حسين من رجال البخاري ، والزهري من رجال البخاري ، لكنَّ البخاري لم يخرج لسفيان بن حسين عن الزهري حديثًا أبدًا ؛ لأن سفيان بن حسين ضعيف في الزهري يخطئ كثيرًا في روايته عن الزهري ، فأخرج لسفيان بن حسين عن غير الزهري ، وأخرج للزهري من غير رواية سفيان بن حسين عنه ، فكوني أركِّب إسناد لم يخرجه البخاري وأنسب هذا الشرط إلى البخاري هذا خطأ ؛ لأنه البخاري تجنب هذا الإسناد متعمدًا لما قيل في هذا الإسناد من الضعف والوهن ، يقول: لذلك قلنا محتجًا برواية في الصحيحين أو أحدهما على صورة الاجتماع .
أيضًا يدخل ضمن هذا القيد على صورة الاجتماع صورة أخرى فمثلًا:(1/27)
سماك بن حرب احتج به مسلم ، وعكرمة احتج به البخاري ، فسِماك من رجال مسلم ، وأما عكرمة من رجال البخاري ، فإذا جاء في الإسناد رواية لسِماك عن عكرمة عن ابن عباس يقول الحاكم صحيح على شرطهما ، مع أن هذا ليس بصحيح؛ لأن أحد الراويين على شرط البخاري والثاني على شرط مسلم ، فهنا لم يحصل احتجاج برواتهم على صورة الاجتماع كما قال .
فصورة الاجتماع تشمل صورتين:
1 - صورة فيما لو لم يخرجا لهذا الإسناد بهذا التركيب.
2 – صورة فيما لو كان أحدهم احتج براوٍ والآخر احتج براوٍ آخر دون الأول .
قالوا القيد الثاني: سالمًا من العلل؛ قال لاحترز بذلك عما وُجدت فيه علةٌ خفيةٌ تقدح في الحديث مثل تدليس المدلس ، فمجرد إنه يكون الرجال رجال البخاري ومسلم ولو على صورة الاجتماع لا يلزم منه أن يكون صحيحًا فقد يكون فيه علة خفية تقدح في صحة الحديث ، ثم بعد أن أورد هذا القسم الحافظ بن حجر قال بالنص الواحد يقول:
ولا يوجد حديث في " المستدرك " بهذه الشروط لم يخرجا له نظيرًا أو أصلًا إلا القليل.
نعم في جملة مستكثرة بهذه الشروط لكنها مما أخرجاها أو أحدهما استدركها الحاكم واهمًا .
يقول الحافظ بن حجر : إن الأحاديث التي من هذا القسم قليلة جدًا في كتاب الحاكم ، ويندر أن يوجد حديث ، يعني هذا القسم طبعًا هو الذي يصح أن يُقال عنه على شرط الشيخين ، يقول: هذا قليل في مستدرك الحاكم ، وإن وُجد من ذلك شيء فلابد أن تجد أن البخاري ومسلم في الغالب قد أخرجا نظيرًا له ، ما يدل على نفس معناه ، أصل من الأصول يدل على نفس ذلك الحديث ، ويندر أن تجد حديثًا أصلًا في الباب على شرط الشيخين أخرجه الحاكم ولم يخرج البخاري ومسلم له نظيرًا في صحيحيهما ، هذا بالنسبة للقسم الأول من أقسام أحاديث " المستدرك ".
يقول:
القسم الثاني: أن يكونا –البخاري ومسلمًا- أخرجا لرواته جميعهم في المتابعات والشواهد .(1/28)
وسبق أن تكلمنا عمن أخرجه البخاري ومسلم في المتابعات والشواهد.
يقول الحافظ ابن حجر يقول: هذا لأن الحاكم لا يفرِّق بين الصحيح والحسن.
يعني يبين أن رواة المتابعات لا ينزلون عن منزلة أو من يُحَسَّن حديثه ، ولأن الحاكم لا يُفرِّق بين الصحيح والحسن كابن خزيمة ابن حبان أيضًا ، فإنه يخرج من أخرج له البخاري ومسلم في المتابعات في كتابه الصحيح ، ويصححه ، وربما صححه على شرط الشيخين مع أن الشيخين –حسب رأي الحافظ- لم يخرجا لهؤلاء الرواة إلا في المتابعات والشواهد.
القسم الثالث: قال ألا يكون الحديث على شرطهما في الأصول ولا في المتابعات ، لكن يدعي الحاكم في هذا القسم غالبًا أنه على شرط أحدهما؛ يقول: ألا يكون حديث لا على شرطهما ولا رجاله رجال البخاري ومسلم لا في الأصول ولا في المتابعات ، وهذا يقول: غالبًا يكون دون مرتبة الصحيح ، بل ربما دون مرتبة القبول أصلًا .
هناك أمر نسيت ذكره سابقًا : الذي هو ، أو القسم الأول الذي هو على شرط الشيخين ذكر الحافظ أن ما وقع للحاكم من الأحاديث التي على شرط الشيخين وهي على شرط الشيخين بالفعل ، يقول: ليست كثيرة ، فإن وجدنا حديثًا أصلًا في الباب أخرجه الحاكم وهو على شرط الشيخين بالفعل ، يقول: لابد أن تجد له نظيرًا في البخاري ومسلم ، أو الاحتمال الثاني: أن تجده في صحيح البخاري ومسلم وقد أخطأ الحاكم بظنه أنهما لم يخرجا هذا الحديث ، فقد تجده بالفعل في البخاري ومسلم ، والغريب أني وقفت مرة على عبارة للحاكم أنه ذكر حديثًا ثم قال: هذا حديث صحيح وبلغني أن مسلم أخرجه في الصحيح.
نحن نعرف يقينًا أن صحيح مسلم بين يديه ، فليش يقول: بلغني ؟!(1/29)
كأن الأمر يتكلم عن غائب مجهول ، الذي أظنه أن هذا راجع إلى لاختلاف روايات صحيح مسلم ، فكانت عنده رواية هي التي اعتمد عليها ، وربما هناك رواية أخرى توجد فيها أحاديث لا توجد في الرواية التي عنده ، وقد يؤيد ذلك ما ذكرناه من انتقاد ابن عمار الشهيد لأحاديث ثلاثة نسبها إلى مسلم صراحة وهي غير موجودة في صحيح مسلم ، يعني هذا الشاهد قد يؤيد أن هناك روايات في صحيح مسلم تختلف فيها أعداد الأحاديث أو يوجد هناك أحاديث غير موجودة في الروايات الأخرى ، وعليه يمكن أن نقول:
وعليه فإن شرط الحاكم يتلخص فيما يلي :
1- أن تكون الأحاديث صحيحة غير موجودة في الصحيحين ، فإن كان رجال الأحاديث رجال الشيخين أو أحدهما فهذه أولى بالإخراج من غيرها.
نقف عند العبارة الأولى:
أن تكون الأحاديث صحيحة غير موجودة في الصحيحين.
الأول: أن تكون صحيحة ، هذا شرطه الأول ، ولاشك هذا هو معنى تأليفه كتاب " المستدرك على الصحيحين" ويظهر هذا من كلامه في المقدمة الذي ذكر فيه غرضين للتأليف ، وهي الزيادة ورد على أهل البدع.
لكنه مع اشتراطه الصحة قد يخرج أحاديث هو نفسه يعلم أنها غير صحيحة ، وهو نفسه ينبِّه على ضعفها ، ولذلك صور متعددة أذكر منها ما يلي:
أنه قد يخرج ما لا يصح عنده لبيان علته مثل البخاري ومسلم ، كما فعل ذلك في حديث ?? لَا مَهْدِيَّ إِلَّا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ?? فإنه أخرجه ، ولم يصححه ، وقال عقبه : " إنما ذكرته تعجبًا لا محتجًا " .
يقول : أخرجت هذا الحديث متعجبًا منه لا بغرض الاحتجاج ، فبيَّن هنا أنه لم يخرجه معتقدًا صحته ، وإنما خرَّجه ليبين ما فيه من علة ، وقد وضَّح العلة وضوحًا قويًا.(1/30)
وقد يذكر الحديث ويبين أو يشير إلى ضعفه ، ويقول: إنه قد أدت الضرورة إلى إخراجه ، وهذه تحتاج إلى دراسة فعلها في أكثر من موطن ، مثل حديث أخرجه في كتاب " التفسير" ثم قال: أدت الضرورة إلى إخراج هذا الحديث ، والذي يظهر لي أن هذا الحديث أخرجه لأنه لم يجد حديثًا مرفوعًا في تفسير هذه الآية إلا هذا الحديث ، فأورده مع علمه بضعفه مُنبِّهًا على ضعفه .
مثال آخر:
أنه أورد ستة أحاديث في كتاب " البيوع " متعلقة بتحريم التسعير ورفع الأسعار على الناس في البيع والشراء وكذا ، ستة أحاديث ، ثم بيَّن أن هذه الستة كلها غير صحيحة ، وقال: إنما أخرجتها لأن الناس يعيشون في ضيق وضغط وضنك في هذه الأيام ، وأحببت إني يعني أرهب الذين يُعسِّرون على الناس في مثل هذه الحالة ، حالة قحط وفقر وجوع ، فأراد إخراج هذه الأحاديث من باب الوعظ والتذكير بها ، ولكن للأسف الشديد أن هذه الأحاديث أغلبها شديدة الضعف .
المقصود : أنه بيَّن ضعفها وأنها غير صحيحة عنده وأنه إنما أخرجها مراعاة لواقع الناس في زمنه ، فهذا غرض من أغراض إخراجه للحديث الضعيف ، وهو غرض غريب ، لا أعرف أنه تحقق مع غيره من أهل العلم ، أخرجها لأنه لمجرد إن زمنه كان فيه شيء من الغلاء والفقر فأراد أن يقاوم هذا الغلاء والفقر بهذه الموعظة .
نقول أن تكون الأحاديث صحيحة غير موجودة في الصحيحين ، وذكرنا أنه قد يخرج الحديث الموجود في الصحيحين مع علمه بذلك ، بعض الأحيان مع عدم علمه ، وبعض الأحيان مع علمه بذلك.(1/31)
ومن ذلك حديث أخرجه في الصحيحين وهو موجود في الصحيحين ، وقال أخرجته لأني لم أجد لأبي سلمة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسندًا غير هذا ، أبو سلمة أحد الصحابة الذين ذكرهم في كتاب " معرفة الصحابة " فجاء يريد أن يترجم لهذا الصحابي لم يجد له حديثًا مرفوعًا صحيحًا إلا الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم ، وهو يريد أن يُعرِّف بهذا الصحابي ، يقول: أخرجت هذا الحديث لأني لم أجد لهذا الراوي حديثًا مرفوعًا إلا هذا الحديث وإن كان موجودًا في الصحيحين ، ومع ذلك أنه قد يخرج أحاديث يعرف أنها في الصحيحين لغرض ما ، إما لأنه لم يجد في الباب ما يدل عليه أو لغير ذلك.
نحن قلنا بأن شرطه الأساسي أن يخرج الحديث الصحيح مطلقًا ، فإن كان هذا الحديث الصحيح على شرط الشيخين فهذا أولى وأولى أن يخرجه ، يعني : أعلى شرط له أن يكون رجاله رجال الشيخين ، فإن لم يتحقق ذلك فيخرجه ولو كان رجاله ليس برجال الشيخين ، ولذلك نجده في كثير من الأحيان يقول: صحيح دون أن ينسبه إلى الشيخين ، يعني إلى شرط الشيخين أو أحدهما أو إلى رجال الشيخين أو أحدهما.
2- أَنَّه لا يلتزم الحكم على الآثار الموقوفة ، وقد بيَّن ذلك في أكثر من موطن ، وهذا لائح في الحقيقة خاصة من كتابه " معرفة الصحابة " لا يحكم على أغلب الآثار الموقوفة الواردة في ذلك الباب أو الكتاب.
3 - أن ما سكت عنه من الأحاديث ، قلنا: إن هناك أحاديث يسكت عنها ، فلا يصححها على شرط الشيخين ، ولا على غير شرطهما ولا يضعفها ، يسكت عنها؛ يورد الحديث ولا يتكلم عقبه ، فوجدت بعض المُعاصرين يقول: إن مجرد إخراجه في " المستدرك " يدل على أنه صحيح عنده.
أقول: هذا حقيقة استدلال فيه نظر لسببين:
الأول: أننا وجدنا أنه يُضعِّف بعض الأحاديث في " المستدرك " فمجرد إيراده في " المستدرك" لا يقتضي أو لا يلزم منه أن يكون صحيحًا ، ثم وجدناه في كثير من الأحيان يتعقب بالصحة ، فلِمَ سكت في بعض الأحيان ؟(1/32)
فمادام أنه قد سكت أقل الأحوال نقول: بأنه لم يجزم برأيه في هذا الحديث ، ويؤيد هذا ما ذكرناه من أنه ألَّفه في آخر عمره ، ولعله كان يريد أن يعود إلى هذه الأحاديث لتحريرها وتنقيحها وبيان حكمها الصحيح.
وأيضًا مما يؤيد ذلك: أن سكوته في النصف الأخير من الكتاب أكثر من سكوته في النصف الأول من الكتاب ، مما يدل بالفعل أنه لمَّا طال به الوقت ودنا أجله ، وزاد ضعفه بكبر السن أصبح يُعجِّل في إخراج الكتاب ، وهذا يؤيده ما ذكرته سابقًا من أنه ابتدئ بتأليف الكتاب قلنا سنة ثلاثمائة وثلاثة وتسعين ، ومن خلال مجالس الإملاء لأنه كل تقريبًا ثلاثين صفحة في بداية الكتاب يبتدئ مجلس إملاء جديد ، تواريخ المجالس تقريبًا بين كل مجلس ومجلس قرابة ثلاثة أشهر ، يعني يجلس يحضر لهذه الأحاديث حتى يملأ تقريبًا ثلاثين صفحة من المطبوع تقريبًا ، ثم بعد ثلاث أشهر يملي هذا القدر ، ويمكث ثلاث أشهر أخرى ليعقد مجلس آخر لإملاء جزء جديد ، فحسب الشيخ المعلمي عليه رحمة الله هذه الأوراق مع تلك المدة فوجد أنه لو أراد أن يؤلف الصحيح كاملًا على هذا المنهج لما انتهى المستدرك إلا عام أربعمائة وعشرة ، والحاكم تُوفيَ سنة أربعمائة وخمسة ، يعني لو مشى على هذا المنوال كل ثلاثين صفحة يمكث فيها ثلاث أشهر ، يعني في كل سنة لا يُملي إلا تسعين صفحة تقريبًا أو مائة صفحة معنى ذلك إنه يحتاج إلى من ثلاثة وتسعين إلى أربعمائة وعشرة يعني ثلاثة عشر سنة حتى ينتهي من الكتاب ، وهذا يؤكد إلى أنه كان في البداية يتريث ، ثم في الأخير استعجل بصورة واضحة جدًا ، وصار يُملي إملاءً سريعًا ، بل توقف إملاؤه للكتاب عام أربعمائة وثلاثة على الصحيح .(1/33)
المعلمي قال: أربعمائة واثنين ، لكن الصحيح أنه توقف في أوائل عام أربعمائة وثلاثة ، يعني قبل وفاته بسنتين ، وتوقف في نصف المجلد الثالث ، مستدرك الحاكم أربع مجلدات ، توقف في نصف المجلد الثالث عن الإملاء ، وبقية المجلد الثالث الذي هو النصف الثاني من المجلد الثالث ، والمجلد الرابع كاملًا هذا لم يمله أصلًا ، الظاهر مع كبر السن سلَّم مُسَوَّداته للطلاب ورووها عنه إجازةً ، ما استطاع أن يملي الكتاب ولا أن ينقحه ، وهذا يؤيد قضية أنه بالفعل تُوفيَ ولم يحرر الكتاب ، وأنه اختَرَمَتْه المنية قبل أن ينتهي من تصنيف هذا الكتاب ، وهذا أمر واضح من خلال التواريخ ومن خلال منهجه في إملاء هذا الكتاب.
وصلي اللهم وسلم ، وبارك على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه ، وسلم .(1/34)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على إمام الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين .
ابتدأنا بالأمس الكلام عن شرط الحاكم ، وذكرنا الشرط الأول وتحدثنا عنه .
الشرط الثاني : لا يلتزم بحكم الآثار الموقوفة .
هذا هو الذي ذكرناه بالأمس وتوقفنا عنده .
ومما يدل على أنه لا يلتزم الحكم بالأحاديث أو بالآثار الموقوفة قوله : " هذا حديث صحيح على شرطهما ولم يُخْرِجاه " ، ذَكَر - طبعًا - في هذا الموطن عددًا من الآثار الموقوفة ثم أَتْبَعَها بحديث مرفوع ثم قال : " هذا حديث صحيح على شرطهما ولم يخرجاه ، والأسانيد التي قبله كلها صحيحه ولم يخرجاها ، وإنما تركتُ الكلام عليها ؛ لأنها غير مسنَده ، وهذا مسنَد "(1).
فبَيَّن من خلال هذا السياق أنه إنما سكت عن تلك الآثار الموقوفة لأنها ليست مرفوعة ، ولو كانت مرفوعة لتكلم عليها .
وهذا أحد الأدلة أن سكوته لا يقتضي التصحيح ؛ فإنه بَيَّن أنه سكت عن هذه الآثار لأنها خارجه عن شرط كتابه ، وهذا فيه إشارة أيضًا إلى أن سكوته للحديث لا يقتضي تصحيح الحديث الذي يريده .
الشرط الثالث : أنه يتساهل في غير أحاديث الأحكام ، وذلك ما نص عليه في أول كتاب الدعاء(2)حيث قال في بداية هذا الكتاب : " وأنا بمشيئة الله أُجْرِي الأخبار التي سقطت على الشيخين - يعني التي لم يخرجها الشيخان - في كتاب الدعوات على مذهب أبي سعيد عبد الرحمن بن مهدي ، ثم أسند إلى عبد الرحمن بن مهدي كلمته الشهيرة التي يقول فيها : " إذا روينا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحلال والحرام والأحكام شددنا في الأسانيد وانتقدنا الرجال ، وإذا روينا في فضائل الأعمال والثواب والعقاب والمباحات والدعوات تساهلنا في الأسانيد " .
__________
(1) انظر جـ 1 / ص 316 .
(2) جـ 1 / ص490 .(1/1)
فهنا يبين أنه في الأحاديث التي ليست من أحاديث الأحكام سيتساهل أكثر من تساهله في أحاديث الأحكام ؛ وهذا يجب أن يراعيه طالب العلم ، لأننا كما ألمحنا إليه في أكثر من موطن وكما سيأتي أن الحاكم فيه تساهل عمومًا ، فإذا كان سيتساهل في هذه الأبواب أكثر ، إذًا الأبواب التي نص أنه سيتساهل فيها أكثر يجب أن يحتاط فيها الإنسان من تصحيح الحاكم أكثر من غيرها من الأبواب.
كما أنه قال أيضًا لما ذكر حديثًا لعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ؛ وهذه النسخة كما تعرفون فيها خلاف ، وإن كان الراجح أنها تساوي حسن الحديث ، قال بعد إيراده لحديث لعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده : " لم أُخرج من أول الكتاب إلى هذا الموضع حديثًا لعمرو بن شعيب ، وقد ذكرتُ في أول كتاب الدعاء والتسبيح مذهب الإمام أبي سعيد عبد الرحمن بن مهدي في المسامحة في أسانيد فضائل الأعمال " .(1)
يعني يريد أن يقول : إنما أخرجته هنا لأنه أيضًا في فضائل الأعمال . وقال نحو هذه العبارة أيضًا في المجلد الأول .(2)
الشرط الرابع : أنه يتساهل في الشواهد .
وقد نص على ذلك الحاكم ؛ حيث أورد حديثًا لسليمان بن أرقم - وهو متروك الحديث - ثم قال : " ليس من شرط الكتاب ، وقد اشترطنا إخراج مثله في الشواهد " . فبين أنه يخرج لهذا الراوي في الشواهد ، والواقع أن شواهد أبي عبد الله الحاكم النيسابوري - في الحقيقة - شديدة الضعف ، في كثير من الأحيان هي شديدة الضعف ، التي يخرجها وينص أنه إنما أخرجها للشواهد ، أو شاهدًا لحديث أورده قبله أو بعده ، أو ما شابه ذلك ، في الغالب تكون شديدة الضعف .
بعد هذا الكلام حول شرط الحاكم نريد أن نعرف درجة أحاديث كتابه " المستدرك " :
لا شك أن الحاكم اتفق أهل العلم على أنه متساهل في التصحيح ؛ هذا لا شك فيه ، وقد وصفه بذلك كثير من أهل العلم .
هناك بعض العبارات الشهيرة حول وصفه بالتساهل :
__________
(1) جـ 1 / ص 500 .
(2) ص 501 .(1/2)
منها : عبارة عبد الغني المقدسي ؛حيث قال عن " المستدرك " : " ليس فيه سوى ثلاثة أحاديث على شرط الشيخين " .
عبارة شديدة جدًّا !
ويقول أحد المحدثين أيضًا وهو أبو سعد الْمَالِينِي : " طالعت كتاب المستدرك الذي صنفه الحاكم من أوله إلى آخره ، فلم أر فيه حديثًا على شرطهما " .
الأول قال : ثلاثة . والثاني يقول : ليس فيه حديث على شرطهما .
وهذا لا شك فيه شيء من المبالغة في الحط من كتاب أبي عبد الله الحاكم النيسابوري ، ولذلك تعقب الإمام الذهبي كلمة أبي سعد الماليني بقوله في سير أعلام النبلاء : " هذه مكابرة وغلو ، وليست رتبة أبي سعد أن يحكم بهذا " .
أي : إن أبا سعد الماليني ليس من فرسان صنعة الحديث ، وليس من كبار الأئمة النقاد ، ولذلك لا يصح أن يُعْتَمَد على مثل عبارته هذه التي يدعي فيها أنه ليس في صحيح الحاكم حديث على شرط الشيخين ، ويرى أنه لا يمكن أن يُعْتَمَد على قوله هذا في كتاب أبي عبد الله الحاكم .
ثم يقول الإمام الذهبي : " بل في المستدرك شيء كثير على شرطهما " .
انتبهوا الآن إلى الإحصائية التي يذكرها الذهبي ، والذهبي من أعرف الناس بالمستدرك ؛ لأنه هو صاحب تلخيص المستدرك ، هو الذي اختصر المستدرك كما سيأتي في عناية العلماء بكتاب الحاكم .
يقول : " بل في المستدرك شيء كثير على شرطهما ، وشيء كثير على شرط أحدهما ، بل لعل مجموع ذلك ثلث الكتاب ، بل أقل " .
يقول : هناك عدد كبير من الأحاديث على شرط الشيخين أو على شرط أحدهما ، ولعل مجموع ذلك يقارب ثلث الكتاب أو دون ثلث الكتاب ، يعني كأنه يرجح أنه دون ثلث الكتاب بقليل .
ثم قال : " فإن في كثير من ذلك أحاديث في الظاهر على شرط أحدهما أو كليهما ، وفي الباطن لها علل خفية مؤكدة .(1/3)
يقول : في هذا الثلث الذي هو على شرطهما ، أو على شرط أحدهما ، هناك منها قسم هي بالفعل على شرط الشيخين وليس لها علل ، لكن أيضًا هناك قسم كبير منها فيه علل خفية تقدح في صحة الحديث ، يعني يكون ظاهرُ السند ، أو رجالُ الحديث رجالَ البخاري ومسلم ، لكن في الحديث علة تقدح في صحة الحديث ، إذًا حتى هذا الثلث أو أقل من الثلث بقليل ليس كله على شرط الشيخين ، الآن هذه الإحصائية ، وهناك إحصائية أخرى بعد قليل ، قد يتوهم الناظر أنها تخالف الإحصائية التي نقرأها الآن .
الآن بعدما انتهى مما هو على شرط الشيخين ، يقول : " قطعة من الكتاب إسنادها صالح وحسن وجيد ، وذلك نحو رُبُعه " .
الربع الثاني من الكتاب ، ثلث – في البداية - قال : أو أقل من الثلث – ثم ربع الكتاب أحاديث أسانيدها مقبولة ، دائرة بين الصحيح والحسن والصالح وما شابه ذلك ، المقصود أنها أسانيد مقبولة ، ظاهرها القبول ؛ هذا ربع الكتاب تقريبًا .
يقول : " وباقي الكتاب مناكير وعجائب " .
يعني حتى بعد الإحصائية ؛ ثلث وربع ، في الغالب مقبولة ، وإن كان حتى في الثلث الأول أحاديث فيها علل قادحة ، لكن بقية الكتاب بعد هذا الثلث والربع يقول : " مناكير وعجائب ، كنت أفردت منها جزءًا " . يقول : كنت أخرجت بعض هذه المناكير ، بل للذهبي كتاب في الموضوعات التي أوردها الحاكم في كتابه المستدرك ، أَلَّف كتابًا في الموضوعات التي أوردها الحاكم في المستدرك ، يقال بأن عدد هذه الموضوعات التي أوردها الذهبي نحو مائة حديث ، وسيأتي أن ابن الجوزي عدد الأحاديث التي ذكرها في كتاب الموضوعات وأخرجها الحاكم ستون حديثًا ، فهي نحو المائة حديث المحكوم عليها بالوضع أو التي حكم عليها الذهبي بالوضع واستخرجها من كتاب المستدرك .
ثم يقول : " وبكل حال فهو كتاب مفيد ، قد اختصرتُه ويُعْوِذُه عمل وتحرير " .
يقول :(1/4)
الأمر الأول : إن هذا الكتاب مع هذه النقادات فيه مازال كتابًا مفيدًا ، لم تنعدم منه الفائدة .
الأمر الثاني : يخبر أنه قد اختصر هذا الكتاب وأن هذا الاختصار يُعْوِذُه عمل وتحرير ، يعني يقول بأنني لم أُتْقِن هذا الاختصار الإتقان الكامل .
وسيأتي الحديث عن كتاب الذهبي " التلخيص " ومنهجنا في التعامل معه .
لكن للذهبي أيضًا إحصائية أخرى ذكرها في " تاريخ الإسلام " ؛ الإحصائية الأولى ذكرها في " سير أعلام النبلاء " في ترجمة الحاكم .
والإحصائية الثانية ذكرها أيضًا في " تاريخ الإسلام " في ترجمة الحاكم أيضًا ، في هذه الإحصائية - وهي أوضح من الإحصائية السابقة - يقول : " وفي المستدرك جملة وافرة على شرطهما ، وجملة كبيرة على شرط أحدهما ، لعل مجموع نحو نصف الكتاب " . يقول : نصف الكتاب أحاديث إما على شرطهما أو على شرط أحدهما .
هذا يخالف الإحصائية الثالثة التي يقول فيها : إن في ثلث الكتاب أو أقل على شرطهما أو شرط أحدهما ، لكن لعل الذي يجمع بين الصورتين : أنه هنا يقصد ظاهر السند فقط ، وأما هناك فمع النظر إلى العلل الخفية ، يعني الثلث والأقل من الثلث ، هذه الأحاديث التي ظاهرها أنها على شرط الشيخين وإن وجد فيها بعض العلل الخفية ، أما النصف فهو الأحاديث التي ادعى فيها الحاكم أنها على شرط الشيخين أو أحدهما دون التعرض لنسبة ما هو مقبول منها مما ليس بمقبول .
ثم يقول : " وفيه نحو الربع مما صح سنده " .
يقول : وفي الربع الثالث من الكتاب أحاديث صحيحة ليست على شرط الشيخين ، ومنها ما هو له علة ربما تقدح في صحة الحديث .
يقول : " وما بقي وهو نحو الربع فهو مناكير وواهيات لا تصح - الربع الأخير هو المناكير والواهيات التي لا تصح - وفي بعض ذلك موضوعات - يعني من هذا الربع أيضًا أحاديث موضوعة - قد أَعْلَمْتُ بها لما اختصرت هذا المستدرك " .اهـ .(1/5)
ظاهر هذه العبارة أنه إنما اعتنى بالتعليق على الموضوعات ، يعني أكثر عناية الذهبي في اختصاره أنه يتعقب الموضوعات ، أما بقية المناكير والواهيات فظاهر هذه العبارة أنه لم يعتنِ بالنص على نكارته ؛ لأنه يقول : " وما بقي وهو نحو الربع فهو مناكير وواهيات لا تصح ، وفي بعض ذلك موضوعات قد أَعْلَمْتُ بها لما اختصرت هذا المستدرك ونبهتُ على ذلك " .
هذا كلام الإمام الذهبي في المستدرك ، وقلنا أنه من أعرف الناس بهذا الكتاب .
أيضًا هناك عبارة لابن الصلاح نقف عندها بعد قليل عند بيان كيفية التعامل مع كتاب المستدرك ، لكن ننتقل إلى عبارة لشيخ الإسلام ابن تيمية ، حيث يقول عن كتاب الحاكم في مجموع الفتاوى :
" إن تصحيح الحاكم وحده وتوثيقه وحده لا يوثق به في ما دون هذا " .
يعني : مع معارضة غيره ؛ لأنه تكلم عن حديث يعارض حكم الحاكم فيه أحكامًا لغيره من الأئمة فيقول : " إن تصحيح الحاكم وحده وتوثيقه وحده لا يوثق به في ما دون هذا " أي فيما دون ما لو أعرض من هو أتقن منه وأعلم منه .
ثم قال : " فكيف في مثل هذا الموضع الذي يعارِض فيه بتوثيق الحاكم ، وقد اتفق أهل العلم في الصحيح على خلافه " .
يقول : إنه خالف أهل العلم جميعًا في تصحيحه لهذا الحديث .
ثم يقول : " ومن له أدنى خبرة في الحديث وأهله لا يعارض بتوثيق الحاكم وقد ثبت في الصحيح خلافه " .
يقول : لا يصح أبدًا أن تعارض بتصحيح الحاكم إذا جاء في الصحيحين أو من كلام النقاد الذين هم أتقن منه ما يخالف كلامهم لأنه دونهم في المنزلة .(1/6)
ثم يقول – انتبهوا إلى هذه العبارة - : " فإن لأهل العلم متفقون على أن الحاكم فيه من التساهل والتسامح في باب التصحيح - هنا ينقل الاتفاق أن الحاكم متساهل بين أهل العلم - حتى إن تصحيحه دون تصحيح الترمذي والدار قطني وأمثالهما بلا نزاع ، فكيف بتصحيح البخاري ومسلم ، بل تصحيحه دون تصحيح ابن خزيمة وابن حبان وأمثالهما ، بل تصحيح الحافظ أبي عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي في مختاراته خير من تصحيح الحاكم ، فكتابه في هذا الباب خير من كتاب الحاكم بلا ريب عند من يعرف الحديث ، وتحسين الترمذي أحيانًا يكون مثل تصحيحه أو أرجح ، وكثيرًا ما يصحح الحاكم أحاديث يُجْزَم بأنها موضوعة لا أصل لها " .
يعني : هذا النقد حقيقةً مع فائدة أن فيه بيان أن الحاكم متساهل ، فيه فائدة أخرى وهو نقل الاتفاق على وصفه بالتساهل ، فيه فائدة ثالثة أخرى وهي مهمة وهي بيان مراتب كتب الصحيح ومن صحح الأحاديث ، فمن خلال كلام ابن تيمية هذا نعود ؛ هذه فائدة يجب في الحقيقة أن ننتبه إليها وتفيدنا في معرفة مراتب هذه لكتب ، عندما قال : " فإن لأهل العلم متفقون على أن الحاكم فيه من التساهل والتسامح في باب التصحيح ، حتى إن تصحيحه دون تصحيح الترمذي والدار قطني وأمثالهما بلا نزاع ، فكيف بتصحيح البخاري ومسلم " أيش نستفيد من هذا ؟
? أن تصحيح البخاري ومسلم هو المرتبة العليا ، دونه تصحيح الترمذي والدارقطني .
ثم يقول : " بل تصحيحه دون تصحيح ابن خزيمة وابن حبان وأمثالهما " .
? إذًا المرتبة الثالثة تصحيح ابن خزيمة وابن حبان ، أو شيء البخاري ومسلم ؛ هذا حسب الكلام هذا في ظاهره ، ثم الترمذي والدارقطني ، ثم ابن خزيمة وابن حبان .
ثم يقول : " بل تصحيح الحافظ أبي عبد الله – الذي هو الضياء المقدسي - خير من تصحيح ... " .(1/7)
? إذًا المرتبة الرابعة تصحيح الضياء المقدسي ، فهي مراتب أربعة حسب رأي شيخ الإسلام : البخاري ومسلم ، الترمذي والدارقطني ، ابن خزيمة وابن حبان ، ثم أخيرًا الضياء المقدسي .
ثم يعقد أيضًا مقارنة بين تصحيح الحاكم وتحسين الترمذي ، فيقول : تصحيح الحاكم قريب من تحسين الترمذي ، بل إن تحسين الترمذي ربما كان أرجح من تصحيح الحاكم .
وقد صرح بذلك في موضع آخر من مجموع الفتاوى حيث قال : " وتصحيح الحاكم دون تحسين الترمذي " . قطع بذلك في موطن آخر في مجموع الفتاوى .(1)
يقول: " وتصحيح الحاكم دون تحسين الترمذي وكثيرًا ما يصحح الموضوعات ، فإنه معروف بالتسامح .
النقل الأول موجود في مجموع الفتاوى .(2)
أيضًا يقول ابن قيم الجوزية في كتاب " الفروسية " عن كتاب الحاكم ، ذكر حديثًا صححه الحاكم ، ثم قال : " لم يصححه إلا من تصحيحه كالقبض الماء " .
يمكن يُقبض على الماء ؟ لا يمكن ، إذًا أيش يقصد ؟ لا يمكن أن يُعتمد عليه ، فيقول : " من تصحيحه كالقبض الماء ، وقد عُهِدَ منه تصحيح الموضوعات وهو أبو عبد الله الحاكم " . وهذه عبارة قوية جدًّا من ابن قيم الجوزية حول كتاب الحاكم عليه رحمة الله .
سنقف قليلًا الآن مع الاعتذار للحاكم في تساهله ثم نعود إلى كيفية التعامل مع تصحيح الحاكم أو ما مدى استفادتنا من تصحيح الحاكم .
الاعتذار الأول الحقيقة في اعتذار الحاكم سبق أن ذكرنا عدة أسباب أو اعتذارات للحاكم ، أو لعلنا ذكرنا سببًا واحدًا وهو تأخر تأليف الحاكم لكتابه إلى أواخر عمره ، حيث ذكرنا أن أول مجلس أملاه سنة ثلاثمائة وثلاثة وتسعين ؛ هذا أول مجلس أملاه من الكتاب ، يعني ألفه وهو في الثانية والسبعين من عمره ، ولا شك أن الرجل في الثانية والسبعين يضعف عن البحث وعن ويضعف حفظه وتضعف قدرته على المراجعة والتصنيف وما شابه ذلك .
__________
(1) مجموع الفتاوى ( 23 / 108 ) .
(2) مجموع الفتاوى ( 22 / 426) .(1/8)
ثم بينا أيضًا من الاعتذار له أنه ابتدئ في أول الكتاب كل نحو ثلاثين ورقة يكتبها في نحو ثلاثة أشهر ، واستمر على ذلك في أوائل الكتاب ، حتى إذا انتصف الكتاب تقريبًا ابتدأت المجالس تطول جدًّا ، ثم ما جاء لمنتصف المجلد الثالث حتى أوقف الإملاء وأجاز كتابه إجازة ولم يُمْلِه ، وهذا يدل على أنه في آخر الكتاب تسرع وأخرج مُسَوَّدة الكتاب دون تبيضها ، وهذا أحد الأمور التي اعتذر بها العلماء عن أبي عبد الله الحاكم ، أنه توفي ولما يبيض كتابه التبييض الكامل .
أيضًا يكفيكم أنه كان كما ذكرنا يكتب ثلاثين صفحة تقريبًا ثم يمليها على الطلاب ، ليس مثل الذي يؤلف الكتاب كاملًا ، ثم يعود له بالتنقيح مرة أخرى ، يعني حتى هذا الذي أملاه ما أشبهه بأن يكون مسودة للكتاب ، أين هذا من البخاري الذي مكث في تأليف كتابه ستة عشر عامًا ، ومن مسلم الذي مكث في تأليف كتابه خمسة عشر عامًا ؛ هذا – لا أبدًا – كل ثلاثين صفحة يمكث فيها ثلاثة أشهر ، صحيح ثلاثة أشهر كثيرة ، لكن كون الإنسان يملي الكتاب كاملًا ثم يعود له بالتنقيح ، لا شك أن هذا سيكون أتقن لعمله وأوثق ، فهذا سبب ظاهر من أسباب أخطاء الحاكم .
وسبب اعتذارنا للحاكم ، يعني : لما نحرص على الاعتذار على الحاكم ؟
لأن الحاكم أطبقت كلمة النقاد والأئمة الذين عاصروه وممن عرفوه على الثناء عليه بأنه إمام وفحل وأنه من كبار الحفاظ وأنه كان ممن يُرجع إليه في معرفة الصحيح من السقيم في زمنه ، ونصوص العلماء في ذلك كثيرة وأكثر من أن تحصى ، وإجلال العلماء له قديمًا وحديثًا أمر عظيم جدًّا ، فكيف نوافق بين هذه المنزلة العالية للحاكم ، وبين ما وقع له من أخطاء كثيرة في كتاب المستدرك ؟!
نوافق بين تلك الأحكام وبين هذه الأخطاء بما ذكرنا من هذا الاعتذار الأول ، إذًا هذا هو الاعتذار الأول كما ذكرنا .(1/9)
ويؤكد قضية أن الحاكم في أول الكتاب كان فيف شيء من التريث أن واقع كتاب الحاكم في أوله أتقن من آخره ، وأن أغلب المنتقَد يأتي في النصف الأخير أو في الربع الأخير من الكتاب ، وأكد ذلك شيخكم الشيخ سعد الْحُميد في كتابه مناهج المحدثين ؛ حيث ذكر الإحصائية التالي ذكرها :
ذكر أن عدد ما انتقده الذهبي في الربع الأول من الكتاب – طبعًا مستدرك الحاكم عبارة عن أربع مجلدات تقريبًا ، طُبع الطبعة الشهير له في أربعة مجلدات - يقول : إن الربع الأول - يعني المجلد الأول - من مستدرك الحاكم عدد الأحاديث التي انتقدها الذهبي فيه مائة وستون حديثًا ، وأما في الثلاثة مجدات الأخيرة فعدد المنتقَد فيها نحو ألف حديث ، إذًا تقريبًا في كل مجلد من هذه المجلدات كم حديث يكون منتقد ؟ نحو أكثر من ثلاث مئة حديث ، يعني ضعف ما في المجلد الأول من الأحاديث المنتقَدة ، ففي المجلد الأول مائة وستون فقط ، وأما في الثلاثة مجلدات فألف حديث ، يعني تقريبًا في كل مجلد من الأحاديث التي انتقدها الذهبي ضعف ما انتقده في المجلد الأول ، وسيأتي ذكر الإحصائية هذه كاملة بإذن الله تعالى ؛ ما هو عدد الأحاديث التي انتقدها الذهبي بدقة ؛ لأن الشيخ في هذه الإحصائية ذكر هذا على وجه الإجمال أو التقريب .
الاعتذار الثاني : الذي يُعْتَذر به للحاكم عليه رحمة الله هو ما ذكره الإمام الذهبي في كتابه الموقظة عندما تكلم عن تجنُّب أصحاب الصحاح لعنعنة مشاهير المدلسين ، ذكر أن أصحاب الصحاح تجنبوا عنعنة مشاهير المدلسين ، ثم قال في بيان صعوبة نقد الأحاديث التي رواها المدلسون بالعنعنة ، يقول : وهذا في زماننا يَعْسُر نقده على المحدِّث ، فإن أولئك الأئمة كالبخاري وأبي حاتم وأبي داود عاينوا الأصول وعرفوا عللها ، أما نحن فطالت علينا الأسانيد ، وفُقِدَت العبارات المتيقنة ، وبمثل هذا ونحوه دخَلَ الدَّخَلُ على الحاكم في تصرفه في المستدرك .(1)
__________
(1) الموقظة ص 46.(1/10)
بماذا يعتذر هنا الإمام الذهبي عن الحاكم ؟
يعتذر بأكثر من عذر ؛ عذرين تقريبًا :
العذر الأول : طول الأسانيد ، وأنه جاء في زمن قد طالت فيه الأسانيد طولًا يزيد عما وقع في زمن البخاري ومسلم ومن كان في عصرهما ، ولا شك أن هذا صحيح ، فالحاكم ولد سنة ثلاثمائة وواحد وعشرين كما ذكرنا ، وابتدئ سماعه من فترة مبكرة صحيح ، لكن غالب شيوخه هم من عاشوا في أواسط القرن الرابع الهجري ، فبينه وبين طبقة البخاري ومسلم قرابة قرن من الزمان ، وأما بينه وبين طبقة شيوخ البخاري ومسلم فأكثر من ذلك .
فالمقصود أن طول الإسناد لا شك أنه سيؤدي إلى صعوبة نقد الحديث من عدة وجوه :
الأمر الأول : إذا طال الإسناد كثر عدد الرواة ؛ وهذا يستلزم أن نعرف درجة كل هؤلاء الرواة جرحًا وتعديلًا ، فإذا كان الرواة الذين يَخْبُرهم البخاري مثلًا لنقل مثلًا أنهم ثلاثون ألفًا ، فالذين يحتاج أن يَخْبُرهم الحاكم سيكونون تقريبًا ستين ألفًا أو أكثر ؛ أن يعرف أحوال ما يقارب ستين ألفًا من الرواة حتى يعرف هل هم مقبولون أو غير مقبولين ؟ نعم هو التزم برجال الشيخين ، لكن عنده طبقة شيوخه وشيوخ شيوخه ، ويحتاج أيضًا فيه من البحث ؛ هذه نقطة تحتاج إلى بيان عذر الحاكم فيها .
الأمر الثاني : أنه كلما طالت الأسانيد وابتعد زمن النبوة ، ازدادت الأسانيد تشعبًا وانتشارًا ، وزيادة تشعبها وانتشارها يؤدي إلى ظهور وجوه في الاختلاف في الرواية في السند والمتن لم تكن موجودة في العصور السابقة ، فإذا كان مثلًا اختلف الرواة فيما سبق على وجهين ، فإذا امتد الزمن الأوهام والأخطاء ستزيد هذين الوجهين إلى وجوه أخرى ، وتضيف وجوهًا جديدة في الوهم والخطأ ، فكلما انتشر الإسناد وتشعب الإسناد أدى ذلك إلى زيادة الاختلاف فيه .(1/11)
ثم طول الإسناد أيضًا : يؤدي إلى زيادة احتمالات الوهم في هذا الإسناد ، ولذلك قدم المحدثون العالي من الحديث على النازل ؛ الحديث العالي : الذي قَلَّ عدد رجال إسناده ، والحديث النازل : الذي كثر عدد رجال إسناده ، لما قدَّم المحدثون العالي على النازل ؟ قالوا : لقلة احتمالات الوهم في ذلك الإسناد ؛ لأنه إذا كان كل راوٍ ثقة يحتمل منه أن يقع الوهم ، فمعنى ذلك أن الرواة الثقات - إذا كان في الإسناد ثلاث ثقات فاحتمالات الوهم تكون في كل واحد منهم ؛ يعني يحتمل في الأول والثاني والثالث أن يخطئ ، فإذا كانوا أربعة صارت الاحتمالات أربعة ، فإذا كانوا خمسة صارت الاحتمالات خمسة ، وكلما زاد العدد زاد احتمال الوهم ، وكلما قل العدد كلما قلت احتمالات الوهم ، فالحاكم عدد رجال أسانيده لا شك أنها أَنْزَلُ بعدد واضح ؛ برجلين وثلاثة وأربعة عما كان في زمن الصحيحين البخاري ومسلم أو الكتب الستة عمومًا .
فهذا لا شك أنه سَبَبٌ أول أشار إليه الذهبي لصعوبة نقد الأسانيد بالنسبة للمتأخرين .
السبب الثاني الذي أشار إليه : أن قرب عهد الأئمة الذين ذكرناهم كالبخاري ومسلم أكثر من زمن الحاكم ، أن هذا يؤدي إلى سهولة نقد الأسانيد والمتون ، من جهة أن هؤلاء العلماء ربما عاينوا أصول الرواة التي يرووا منها ، فمثلًا إذا كان هناك راوٍ مدلِّس مثل : الوليد بن مسلم أو مثل : بقية بن الوليد أو أي راوٍ من الرواة ، وسمع البخاري حديثه مُعَنْعَنًا من أحاديث تلامذة بقية ، يقول هذا التلميذ مثلًا : حدثني بقية عن فلان من الناس . فبإمكان البخاري أن يتثبت ماذا قال بقية بالرجوع إلى أصل بقية ، فربما كان أصل بقية الذي كتبه بخطه موجودًا عند أحد تلامذته ، وهذا وقع كثيرًا ، وكثيرًا ما يرجع إليه النقاد ، فيقولون : رأيت أصل فلان بخط يده فيه كذا وكذا وكذا ، فيسهل عليه النقد بهذه الصورة .(1/12)
يعني مثل في مرة من المرات يقول علي بن المديني : وقفت على كتاب محمد بن سيرين عن أبي هريرة بخط يده . في أكثر من هذا ! يعني قدرة على النقد غير متوفِّرة بالنسبة لنا !
مثلًا الآن لو وجدنا حديثًا رواه عشرة من الرواة الثقات عن محمد بن سيرين مرفوعًا أو متصلًا ، ثم انفرد راوٍ واحد ورواه عن محمد بن سيرين مرسلًا ، القاعدة المتبَعة عندنا : أن نُقَدِّم الرواية العشرة وهي المتصلة ونرد الرواية المرسلة ، لكن لو جاءنا علي بن المديني وقال : المرسل أصوب . حتى لو لم يبين بماذا رجح ، قد نَستغرب نحن ونقول : لا ، ونعارض كلام ابن المديني !.(1/13)
علي بن المديني وقف على أصل محمد بن سيرين بخط يده ، فيمكنه أن ينقد هذا الحديث بمعطيات غير موجودة عندك أنت أصلًا ، فوقوفه على هذا الكتاب يُتيح له من النقد ما لا يُتِيحه أمر آخر ؛ اختلاف الرواة ، عدم اختلافهم ، هذه كلها أشياء تفيد غلبة الظن ، أما الوقوف على أصل الكتاب ، هذا لا شك أنه أقوى من غيره ، فأولئك النقاد كانوا ربما وقفوا على أصل الكتاب ، أضف إلى ذلك ، يعني حتى ولو لم يقف على أصل الكتاب ، بسهولة جدًّا يعرف ما هو الصواب في رواية هذا الراوي بأن يسمع هذا الحديث من جماعة من تلامذته وهم قريبو عهد ممن يُختلف عليهم ومن الرواة الذين يُرجع إليهم في معرفة صواب الرواية ، ولذلك كان يقول يحيى بن معين : الحديث إذا لم نكتبه من ثلاثين وجهًا ما عقلناه ، والباب إذا لم تُجمع طرقه ما عقلناه ، وما شابه ذلك من العبارات ، فكان الرجل منهم يسمع الحديث ، مثلًا من حديث حماد بن سلمة يسمعه يحيى بن معين من عشرة أو عشرين أو ثلاثين من الرواة ومع ذلك يزداد أيضًا في طلبه ، يريد أن يعرف ماذا قال تلامذة حماد بن سلمة عن حماد بن سلمة ، أما نحن ذكرنا قسم من المتابعات أو من الرواة عن حماد بن سلمة ، نقف على اثنين ، ثلاثة ، عشرة ، خمسة عشر ، لا نكاد نصل أكثر من ذلك في كثير من الأحيان ، وربما أقل ذلك ، وربما لم نجده إلا من وجه واحد وهو كان في زمن الرواية معرفًا من وجوه مختلفة عن ذلك الراوي ، فكانت عندهم قدرة على النقد لم تكن موجودة ، أو ليست متيسرة لمن تأخر عنهم من النقاد ، وهذا وقع بعضه للحاكم ، لم يقع كله ، طبعًا ما زال الحاكم أقرب عهدًا من غيره من تلك الفترة ، لكن كل ما في الأمر نريد أن نبين أَنَّ مَنْ أسباب تساهله عما وقع للبخاري ومسلم ومن سواهما أنه تأخر في الزمن عن أولئك ، يعني لو وُجِدَ البخاري في زمن الحاكم لن يكن عمله مثل عمله في الفترة التي عاش فيها ، نعم لن يكون في مثل تساهل الحاكم ، لكنه أيضًا طول(1/14)
الإسناد وهذا التشعب وهذه الصعوبات سيواجهها ، ولا شك أن هذه الصعوبات سيكون لها أثرًا - ولو يسير - على كتابه أكثر مما لو كان في زمنه الذي عاش فيه وهو قبل زمن الحاكم بِقَرنٍ كامل من الزمان .
فهذان السببان أشار إليهما الذهبي في كتابه " الموقظة " .
ذكر المعلمي في " التنكيل " خمسة أسباب لتساهل الحاكم :
السبب الأول : يقول : غرضه من التصنيف .
يقول أول سبب لتساهله أن غرض الحاكم من تصنيف كتابه الرد على أهل البدع الذين زعموا أنه لا يصح من الأحاديث الصحيحة إلا قدر عشرة آلاف حديث وهي التي أخرجها البخاري ومسلم ، فهو يريد أن يبين لهم خطأ هذا القول ، وأن قولهم هذا مباين للصواب كل المباينة ، فهذا دعاه إلى التوسع في التصحيح ، يعني كأنه يريد أن يقول : قولكم أبعد من أن يكون على الصواب ، فهذا الدافع النفسي يجعل الإنسان حريصًا على أَنْ يكون عدد الأحاديث أكثر مما يتوقعه كثير من الناس ، وهذا قاده إلى التساهل في الأحاديث التي صححها .
وهذه القضية - وإن كان من لم يُمْعِن فيها النظر - قد يظنها اعتذارًا في غير محله أو ما شابه ذلك ، لكن من يعرف تأثر الإنسان - الضعيف بطبعه - الذي يحتاج إلى إعانة ربه في كل خطوة يخطوها ، تأثر الإنسان بالغرض الذي يقع في ذهنه أو في عقله ، فهذا الفعل منه أو هذا التأثر يجعله يقوده - وهذا يمكن أن تسميه بالهوى ، هوى ، لكن لا يشعر به - إلى أمور قد تكون مخالفة للقواعد العلمية وللموضوعية في البحث والدراسة دون أَنْ يشعر ، وهذه طبيعة البشرية ، لا يكاد يخلو منها أحد ، فتجد مثلًا العالِم إذا جاء مثلًا في باب مناقب وفضائل ومكانة النبي عليه الصلاة والسلام يتوسع في إيراد الأحاديث الدالة على فضل النبي عليه الصلاة والسلام ، فإذا جاء في باب ذكر الأحاديث الباطلة والموضوعة ربما حكم على أحاديث مما وردت في ذلك الكتاب بأنها باطلة وموضوعة .(1/15)
هذا تناقد ، لكنه لما فعل ذلك ؟ قلة ديانة كما قد يتصور البعض ، فأورد تلك الأحاديث من أجل أن له فيها مصلحة ! لا ، هذا أمر - حقيقة - ربما فعله دون أن يشعر ، الموضوع يقوده إلى ذلك ، وأنتَ هذا من نفسك وأمثلته كثيرة ، يعني مثل ما نذكر نحن في التوثيق النسبي والتضعيف النسبي ، لما يُسأل الناقد عن كبار الحفاظ ومعه رجل حسن الحديث ، فتجده يقول : فلان إمام ثقة ، وأما فلان فضعيف . ما يقصد بضعيف أنه مردود الرواية ، لكن يقصد أنه ليس كالأول ؛ هذا التصرف نوع من التأثر الذي لا يشعر به الناقد .
ومثله تمامًا أيضًا التوثيق النسبي ، كأن يسأل عن رجل كذاب ورجل ضعيف لكنه صادق ، فيقول : أما فلان فكذاب ، وأما فلان فصدوق . يقصد صدوق اللسان ليس بكذوب ، فهذا التأثر لا بد للإنسان أن يقع في قدر منه وفي شيء منه ، لكن ما بين مستقل ومستكثر ، ومنهم من يوفقه الله عز وجل ويعينه فتكون غالب أحكامه موفَّقة مقارِبة للصواب ، ومنهم من يخطئ ويَعْثُر أكثر من الأول ، فهذا أمر طبيعي ، وإذا الإنسان وضع غرضًا أمامه لا بد أن يتأثر به ، لكن ليسأل الله العون وكذا ، وأن يوفقه إلى أن يتبع هذا الهوى دون شعور ، فهذا أمر واقعي ويقع من كل شخص ، والحاكم لما وضع هذا الغرض في كتابه لائِح أنه كان حريصًا على أن يُكَثِّر عدد الأحاديث الصحيحة ، وإلا لِمَا يُخْرِج بعض الأحاديث فيقول مثلًا في بعضها : هذا حديث صحيح لولا إرسال فلان .
طيب ! ما دام تعرف أنه مرسل لماذا تذكره في الكتاب ؟
لما يقول مثلًا : هذا حديث صحيح إن سلم من فلان .
طيب ! لماذا تذكره ؟ !
لغرض تكثير العدد .
فالمقصود أن هذا غرض صحيح وسبب صحيح لأخطاء الحاكم وتساهل الحاكم في كتابه .
السبب الثاني الذي ذكره الشيخ المعلمي عليه رحمة الله في كتابه " التنكيل " : أنه قد يقع له السند العالي أو الغريب مما ينافس فيه المحدثون ، فيحرص على إثباته .(1/16)
وهذا بالفعل وقع له ؛ فذكر مرة حديثًا لعطية العَوْفِي فبين أنه إنما أخرجه لأنه عالي السند .
معروف أن المحدثين - كما ذكرنا – يرغبون في الحديث العالي ، وللحديث العالي وللحديث الغريب المستفاد شهوةٌ عند المحدثين ، لا يكادون ينجون منها ، تستولي على قلوبهم ، لذة عارمة لا توصف ، يعني كما يُبْتَلَى الإنسان بالدينار والدرهم ولذائد الدنيا هم يفتنون بالحديث العالي والحديث الغريب ، يعجبهم إعجابًا كبيرًا ، وربما شعروا له بلذة أعظم من تلك الَّذائذ كلها ، بل هم يصرحون بذلك .
فلما يقف على إسناد عالٍ يتمنى أنه تجتمع فيه شروط الصحة حتى يخرجه في كتابه ، فلربما تساهل من أجل هذا الغرض الذي ذكرنا أيضًا أنه من أنواع الهوى الخفية إلى نسأل عز وجل أن ينجينا منها ؛ لأنه لا يكاد ينجو منها أحد .
السبب الثالث : أنه لم يلتزم أَنْ يخرج ما لا علة له .
لم يلتزم أن يخرج ما لا علة له ؛ هذا حسب كلامه في المقدمة ، لكن سبق توجيه كلامه في مقدمة كتابه .
وهناك - الحقيقة - ملحظ آخر لعل الحاكم يقصده ، نحن ذكرنا هناك توجيهين لكلام الحاكم ؛ لما قال أن البخاري ومسلم أخرجا أحاديث لها علل وأني سأفعل مثلهما أخرج أحاديث لها علل ؛ هذا مضمون كلامه الذي ذكرناه بالنص في اللقاء الماضي وفي موطن آخر أيضًا لما تكلمنا على شروط لحديث الصحيح عند البخاري ومسلم .(1/17)
لكن هنا أمر ثالث : يمكن أن نذكره هنا الآن ، وأخرته متعمدًا لأني أريد أن أذكر هذا الأمر الثالث بعد أتكلم عن الغرض من تأليف الكتاب وهو زيادة عدد الصحيح للرد على المبتدعة الذين زعموا أن عدد الأحاديث الصحيحة قليلة ، وأنها فقط هي التي في الصحيحين ، فإذا تذكرتَ هذا الغرض ثم عرفتَ أن الحاكم يريد أن يكثر عدد الأحاديث كما ذكرنا ، فإنه إذا وقف على حديث إسناده ظاهره الصحة ، ولو كان فيه علة خفية ، ألا ترى أن هذا سيعينه في الرد على المبتدعة ؟ سيعينه ، ولذلك ربما بالفعل أخرج الحديث واكتفى بظاهر سنده دون الكلام عن عِلَلِهِ ، ولذلك في بعض الأحاديث ينص على أن الحديث في شك في إسناده أو فيه علة أو فيه مخالفة ، دون أن يصرح بضعفه ، فيقول : هذا إسناد صحيح لولا كذا ، لو سلم من فلان ، وفي بعض الأحيان يقول : هذا إسناد صحيح ويسكت ، ثم تذكروا أنه كثيرًا ما يحكم على الإسناد فقط ، يقول : هذا إسناد صحيح على شرط الشيخ . بل غالب عمله كذلك ، فكأنه بالفعل شرطه أو غرضه بزيادة عدد الصحيح جعلته يتعامى عن العلل الخفية التي تقدح في الحديث ؛ لأنه غرضه الأساسي هو الرد على ذلك المبتدع ، وهو يعلم أن هذه الأسانيد الصحيحة منها ما صحيح بالفعل ومنها ما هو فيه علة تقدح في الحديث ؛ فهذا لعله من الأسباب أيضًا التي جعلت الحاكم أيضًا يتساهل في الحكم على الأحاديث .
السبب الرابع : هو في الحقيقة راجع - هذا الذي ذكره الشيخ المعلمي - إلى الشرطين الأول والثاني ؛ لأنه يقول أنه لأجل السببين الأولين توسع في معنى قوله : بأسانيد يحتج بمثلها الشيخان ، فبنى على أن رجال الصحيحين ممن فيه كلام ، فأخرج عن جماعة يُعْلَم أن فيهم كلامًا .(1/18)
يعني يقول : أنه لغرض السببين الأولين وهو : زيادة عدد الصحيح ، وزيادة الأحاديث العوالي أو حرصه لإخراج الأحاديث العوالي ، جعله يتساهل في بعض الأحاديث ، فربما كان الحديث وإن كان رجاله رجال الشيخين ، لكن البخاري ومسلم أخرجا لهذا الرجل مع مدلسًا ما صرح فيه بالسماع ، أو مع كونه مختلطًا برواية من سمع منهم قبل الاختلاط ، فلم يُخرج البخاري ومسلم لهذا المختلط كل أحاديثه ، فيأتي الحاكم فيكتفي بكونه ممن أخرج له الشيخان فَيُخرِج له ، يتساهل في هذا الجانب ؛ كله بسبب الغرضين الأولين : زيادة عدد الصحيح والرغبة في الحديث العالي .
هذه الأسباب إلى ذكرها الشيخ المعلمي عليه رحمة الله ، لكن - الحقيقة - هناك أيضًا سبب أشرنا إليه سابقًا ، لكن أريد التأكيد عليه ، وهو أنه الذي يظهر لي : أن الحاكم ؛ وهو حافظ من الحفاظ ، كان مُعْتَزًّا بحفظه وفي قدراته على استحضار السنة دون الرجوع إلى الأصول ، ولذلك أحسب أن أكثر أخطاء الحاكم مرجعها إلى أنه لم يكن يراجع أصوله ، لما أقول هذا الكلام ؟
لأن للحاكم من التناقدات ما يعجب لها الإنسان ، ولا يمكن أن تقع فيما لو كان يرجع إلى كتبه وأصوله عند التأليف ، فكم من راوٍ مثلًا ذكره في كتابه - المدخل إلى معرفة الصحيح من السقيم - في الباب الذي عقده للرواة الضعفاء الذين هم شديدو الضعف ، والذين يقول في ذلك الكتاب أنه لن يذكر في هذا السياق إلا من عرف هو باجتهاده أنه ضعيف ولا تحل الرواية عنه ، ثم نجد أنه أخرج لجماعة هؤلاء الرواة في المستدرك مصححًا لهم ، ما هو وجهه هذا الفعل ؟(1/19)
تجده يوثق الراوي في موطن ويضعفه في موطن آخر ، فهذا يَشْهَد إلى أن الرجل ، يعني الذي يراجع الأصول لا يمكن أن يقع ، الذي يحرر ويرجع إلى كتبه ويحرر لا يمكن أن يقع في هذا التناقد ، هذا التناقد ظاهري ، ليست المسألة مسألة أمور خفية أو قد تخفى على الإنسان ، لا ، الرجل هو الرجل هنا ، ما الذي جعلك تصحح له هنا وتضعفه هناك ؛ هذا يدل بالفعل على أن ربما اكتفى بحافظته ، وهو مع كونه حافظًا تَأَخُّرُ زمنِه يجعل ثقل ضبط أصعب بكثير ممن قبله ، فالذي عاش قبل القرن الثاني الهجري أو الثالث الهجري الحفظ عليه أسهل ممن جاء في القرن الرابع والخامس الهجري ولا شك ، وكلما امتد الزمن كلما عَثُرَ الحفظ ؛ نحفظ الإسناد هذا بطوله ، وتشعب الأسانيد ، واختلاف الرواة كما سبق ، هذا يجعله أمرًا عسرًا جدًّا جدًّا ، فتأخر زمنه مع اعتماده على الحفظ هذا أدى أيضًا إلى أوهامه الكثيرة في كتابه المستدرك .
بعد هذه الاعتذارات ، وبعد ما بينا ما للحاكم من التساهل في كتابه .
ما هي الطريقة الصحيحة في التعامل مع كتابه ، أو ما هي درجة أحاديث كتاب الحاكم ؟
حول كتاب الحاكم يقول ابن الصلاح ؛ يقول عن الحاكم :
" وهو واسع الخَطْوِ في شرط الصحيح ، متساهل في القضاء به ، فالأَوْلى أن نتوسط في أمره فنقول : ما حكم بصحته ولم نجد ذلك فيه لغيره من الأئمة ، إن لم يكن من قبيل الصحيح فهو من قبيل الحسن ، يُحْتَج به ويُعْمَل به ، إلا أن تظهر فيه علة توجب ضعفه " .
هذه العبارة اختلف العلماء في فهمها اختلافًا كبيرًا ، ولكنها في الحقيقة لمن تمعنها واضحة .
فيقول هنا ابن الصلاح : إن أحاديث المستدرك موقفنا منها يتفرع إلى فرعين :
الفرع الأول : وهو الذي أخر ذكره ، قال : أن نجد علة في الإسناد تضعف الحديث .(1/20)
وهي عندما قال : " إلا أن تظهر فيه علة توجب ضعفه " ، فمعنى ذلك أن أَدْرُس إسناد الحاكم ؛ فإن وجدت فيه علة تقتضي رده رددتُه ؛ وهذا صريح كلام ابن الصلاح ، وإن كان بعض أهل العلم نقلوا عنه خلاف هذا الرأي ، لكن كلامه صريح ، يقول : " إلا أن تظهر فيه علة توجب ضعفه ، فأدرس الإسناد ، فإن ظهر لي فيه علة توجب ضعفَه ضَعَّفْتُ هذا الحديث ، فإن لم يظهر لي فيه علة تضعفه وترده " يعني : ظهر لي أن الإسناد في درجة القبول ؛ صحيح أو حسن .
يقول : " فإن لم يُسْبَق الحاكم – بالحكم على هذا الحديث بالصحة ، فهذا الحديث دائر بين الصحيح والحسن " حتى لم يُجزم بأنه حسن - كما نقل عنه - وإنما يقول : بين الصحيح والحسن .
إذًا يمكن أن نقول – في الحقيقة – أن الأحاديث التي يصححها الحاكم ثلاثة أقسام ، ليست قسمًا واحدًا ؛ حسب رأي ابن الصلاح .
1- قسم ظهرت علتُه ؛ وهذا الذي نضعفه .
2- قسم سُبق الحاكم بتصحيحه ؛ فهذا يمكن اعتماد تصحيح الحاكم عندها لأنه مسبوق بإمام متقدِّم لو وافقه على الحكم عليه بالصحة .
3- قسم لم نجد من وافق الحاكم على تصحيحه ؛ وهذا القسم دائر بين الصحة والحسن .
- ما هو القسم الدائر بين الصحة والحسن ؟
هو الذي درسته فلم أجد له علة تقدح فيه ، وانفرد الحاكم بتصحيحه ؛ هذا دائر بين الصحة والحسن .(1/21)
وهذا - واللهِ - رأي في غاية القوة ، وسيأتي من كلام العلماء ما يدل على أن هذا الاعتبار أو هذا المنهج منهج صحيح ؛ أنا أَدْرُس الحديث فإن ظهرت لي فيه علة استثنيته ولا أقبل تصحيح الحاكم لذلك ، إن لم تظهر لي فيه علة وسُبق الحاكم بتصحيح ابن حبان أو ابن خزيمة أو كذا ، فهو عندي أنا أصلًا لو درست الإسناد وحدي لظهر لي أنه مقبول : صحيح أو حسن ، فعندها لو قَبِلتُ تصحيح الحاكم وقلت : صحيح ، هذا مقبول جدًّا وليس عليه نقد ، فإن لم أجد أحدًا وافق الحاكم مع كوني لم أجد له علة وظاهر إسناده القبول ، قال : هذا الحديث دائر بين الصحة والحسن .
هذا تعامل سليم مع كتاب الحاكم ، وعليه نعرف أنه لن نجعل الحاكم مثل مرتبة الصحيحين ، وقلنا الصحيحين لا بد من التوثق والتحري لأهل الفن وأهل العلم في حكم حديثهم ، أما من ليس عنده القدرة على التمييز بين الصحيح والسقيم ، من ليس عنده أهلية الاجتهاد فعليه أن يقلد ، مثل أبواب الفقه يقلد ، فيقلد الحاكم أحسن ما يقلد من ليس بأهل للحكم على حديث أصلًا ، أو من لا يصل إلى درجة الحاكم في تمييز الصحيح من السقيم .
هناك كلام من شيخ الإسلام ابن تيمية الذي له العبارات السابقة القوية تبين منزلة كتاب الحاكم أيضًا والطريقة الصحيحة في التعامل معه أو كيف نُنْزِله مع هذه الأخطاء ، ما هي مرتبته مع هذه الأخطاء التي نص عليها هو .
يقول لما ذكر حديثًا للحاكم ورده :
" ولهذا كان أهل العلم بالحديث لا يعتمدون على مجرد تصحيح الحاكم ، وإن كان غالب ما يصححه فهو صحيح " .(1)
هذه ضع عندها خطوطًا : " وإن كان غالب ما يصححه فهو صحيح " ، فيبقى الحاكم إمامًا الغالب عليه الصواب ؛ هذا أمر مهم جدًّا .
يقول : " هو في المصححين بمنزلة الثقة الذي يكثر غلطه ، وإن كان الصواب أغلب عليه " .
__________
(1) مجموع الفتاوى ( 1 / 255) .(1/22)
يقول : منزلة الحاكم في المصححين كمنزلة الثقة الذي له أخطاء كثيرة ، هل الثقة الذي له أخطاء كثيرة نرد حديثه ولا نقبله ؟
- لا ، نقبله ، ما يزال مقبول الرواية ، نستثني هذه الأخطاء التي أخطأ فيها ، خطأه قد يدعونا إلى زيادة التحري والتثبت في روايته ، كذلك الحاكم ما يزال مقبول التصحيح لكن خطأه يدعونا إلى زيادة التحري ، والتثبت في أحكامه .
وهذا كلام – الحقيقة – مُتْقَن وقريب من كلام ابن الصلاح ، عندما دعى وبَيَّن أنه لا بد من دراسة أسانيده لمعرفة ما إذا كان لها علة تقدح في صحة الحديث أو لا .
نستأنف بقية كلام شيخ الإسلام ، يقول : " وليس فيمن يصحح الحديث أضعف من تصحيحه ، بخلاف أبي حاتم ابن حبان البُسْتِي ؛ فإن تصحيحه فوق تصحيح الحاكم وأجل قدرًا " .
هذه عبارة نقلناها في كلام عن ابن حبان ؛ أنه قدم ابن حبان على الحاكم .
ثم يقول : " كذلك تصحيح الترمذي والدارقطني وابن خزيمة وابن منده وأمثالهم فيمن يصحح الحديث ، فإن هؤلاء – وإن كان في بعض ما ينقلونه نزاع – فهم أتقن في هذا الباب من الحاكم ، ولا يبلغ تصحيح الواحد من هؤلاء مبلغ تصحيح مسلم ، ولا يبلغ تصحيح مسلم مبلغ تصحيح البخاري " .
إذًا لو أردتَ أنك تُقَسِّم الكتب على حسب تقسيم شيخ الإسلام ابن تيمية : البخاري ثم مسلم ، ثم الترمذي والدارقطني ، ثم ابن خزيمة وابن حبان ، ثم الضياء ، ثم الحاكم ؛ هذا حسب كلام شيخ الإسلام .
أيضًا سنقف مع كلام للذهبي يبين الموقف الصحيح للحاكم :(1/23)
سبق أن ذكرنا بأن الذهبي من أعرف الناس بالمستدرك ، وله الإحصائيات التي سبق ذكرها ، إلى قسم فيها كتاب المستدرك إلى أقسام ، هل بلغ الحاكم عنه الذهبي إلى درجة أنه لا يُعتمد على تصحيحه ؛ هذه النقطة التي أريد أبينها ؛ لأن كثير من طلبة العلم بل من الباحثين والكاتبين يظن أن وصف الحاكم بالتساهل يقتضي رد أحكامه وعده الاعتماد عليها تمامًا ، فهل تساهله يقتضي هذا الأمر ؛ إهدار أحكامه وألا لها وزن ؟
سبق طبعًا من كلام لابن الصلاح ولشيخ الإسلام ابن تيمية ما يرد على هذا الرأي .
أيضًا حتى الإمام الذهبي صاحب الخبرة الكبيرة لكتاب المستدرك يقطع بذلك أنه في كتابه " الموقظة " ذكر الرواة الذين لم يجد فيهم جرحًا ولا تعديلًا ، راوٍ بحسب ترجمته فربما وجدت له ترجمة لكن لم أجد أحد لأهل العلم وثقه ولا أحد من أهل العلم ضعفه ورد حديثه .
فيقول في هذا الراوي : " إن وجدت أن البخاري ومسلم أخرجا له فهو ثقة بذلك " لو لم تجد في هذا الراوي إلا أنه من رجال البخاري ومسلم فاحكم عليه بأنه ثقة واعتمد تصحيح حديثه ، لما يقول هذا الكلام ؟
لأن شرط الحديث الصحيح أن يكون الراوي عدلًا ضابطًا ، فإذا قال البخاري : هذا حديث صحيح ؛ يعني أَيْش ؟
يعني : أن رواته عدول ضابطون ، فأعتبر مجرد إخراج البخاري للرجل أنه ثقة ، وهذا سبق الكلام عنه ، حتى قلنا : إنه لا يمكن أن نعارض تجهيل إمام بتصحيح إمام آخر ، مثلًا لو وجدنا البخاري ومسلم يصحح الحديث وقال أبو حاتم عن أحد الرواة : إنه مجهول . نقول : من علم حجة على من لم يعلم ، إخراج البخاري له يقتضي أنه ثقة عنده ، كونك يا أبا حاتم أو يا فلان أو يا فلان من النقاد جهلته فقد عرفه غيرُك بالثقة والعدالة والضبط ، فمعرفته مقدمة على جهلك بحالِِهِ ، فهذا هو وجه ما ذكره الذهبي حول البخاري ومسلم ، ثم قال : " فإن صحح له الترمذي وابن خزيمة فهو جيد الحديث أيضًا " .(1/24)
يقول : لو وجدنا هذا الراوي الذي لم يُجرح ولم يُعدل صحح له الترمذي وابن خزيمة فهذا جيد الحديث أيضًا ؛ انتبه إلى كلمة جيد هنا ، ما قال : صحيح ، لكنه قال أيضًا : (أيضًا) .
يعني : قريب تمامًا من المرتبة الأولى وقد ينزل قليلًا عنها .
ثم قال : " فإن صحح له الحاكم فأقل أحواله حسن حديثه " .
فأقل أحواله حسن حديثه ؛ يعني هو دائر بين ما سماه (جيد) وما يقول عنه بأنه (حسن) ، هذا الراوي الذي لم يجد فيه جرحًا ولا تعديلًا ، هل تستفيد من ذلك أن الذهبي أهدر أحكام الحاكم ؟
بالعكس ، هذا محل النزاع – يعني تحرير هذه المسألة – يحرر محل النزاع ، لأن هذا الراوي ليس فيه جرح ولا تعديل ، واكتسبنا أو عرفنا قبوله بمجرد تصحيح الحاكم بالنسبة للدرجة الأخيرة ، استفدنا قبوله وأنه أقل أحواله حسن حديثه من مجرد تصحيح الحاكم له ؛ هذا قاطع بأن الذهبي لم يهدر أحكام الحاكم وما زال يراه عمده في التصحيح ؛ لأنه لم يكتَفِ فقط بالاعتماد على تصحيحه ، بل بما يقتضيه هذا التصحيح من كونه لا يمكن أن يصحح لهذا الراوي إلا وهو عنده معروف بالعدالة والضبط ، لكن لكونه متساهلًا أنزل درجة هذا الراوي من أن نقول بأنه ثقة إلى درجة أن نقول إنه حسن الحديث في أقل أحواله ، انظر! عبارته حتى دقيقة ، يعني حج لا تقل : حسن ، .. يمكن يصل إلى درجة .. ، لا ، أقل أحواله حسن حديثه ، لا ينزل عن درجة الحسن أبدًا معنى ذلك .(1/25)
طبعًا مقرر هذا الأمر ؛ وأنا أرى أن هذا الكلام صحيح وأن من صحح له الحاكم ولم يجد فيه جرحًا ولا تعديلًا أنه أقل أحواله حسن حديثه ، لكن نحن لو وجدنا إمام من الأئمة الآخرين قال عن أحد الرواة مثلًا : إنه صدوق أو لا بأس به ، ثم وجدنا قرائن اجتمعت على أن هذا الراوي ربما كان ضعيفًا ، أو ربما تفرد بالمنكرات ؛ نحن نتكلم على من لم يجد فيه جرحًا ولا تعديلًا ، أو ربما أشار أحد الأئمة الآخرين إلى أنه تفرد بأحاديث تُسْتَنْكَر منه مثلًا !! هذا قد يجعلني أتريث وأتثبت في الحكم على هذا الراوي ، كذلك نقول في الحاكم : الأصل فيمن صححه ، والأصل فيمن صحح له أنه في مرتبة الحسن ، إلا إذا جاءت قرائن تدل بخلاف ذلك ، فلا أقول بأن كل من صحح له الحاكم في مرتبة الحسن ؛ طبعًا الكلام عن من صحح له الحاكم ولم نجد فيه جرحًا ولا تعديلًا .. انتبهوا ؛ لأن من صحح له الحاكم ووجدنا فيه جرحًا قد يُقدم الجرح على تصحيح الحاكم ، نحن نتكلم على من لم نجد فيه جرحًا ولا تعديلًا ؛ هذا القسم قد أجد فيه تصحيحًا للحاكم ، لكني أجد مثلًا أن هذا الراوي في أكثر من مرة يتفرد بأحاديث منكرة ، عندها أقدم هذا على مجرد تصحيح الحاكم ؛ أولًا : لأن الحاكم متساهل ، ثانيًا : لأننا استفدنا القبول من توثيق ضمني ، والتوثيق الضمني دون منزلة التوثيق الصريح ، وهو مثل لو قال الحاكم : ثقة . أو غيره ، استنبطتُ قبول هذا الراوي بمجرد تصحيح حديثه ، ولا شك أن التوثيق الضمني أبدًا التوثيق الصريح ، ولذلك أعتبر إذا وجدت قرائن قد تقدح في صحة أو في توثيق هذا الراوي أخذت بهذه القرائن ورددت ما استفدته من كلام الحاكم ، إلا أن الأصل أن الحاكم يقتضي قبول الرواة ، وهذا تصرف من الذهبي قاطع بأنه لم يُهدر أحكام الحاكم ، وهذا هو الذي نؤكد عليه ، قلنا أنه متساهل ، قلنا بأنه كذا .. لكن لم نصل إلى درجة الرد .(1/26)
أيضًا للحافظ ابن حجر عبارة تحتاج إلى وقوف ؛ نقل جزءًا منها السيوطي في مقدمة " النكت البديعات " ؛ من يعرف " النكت البديعات " للسيوطي الذي هو تعقبات على " الموضوعات " لابن الجوزي ، فابن الجوزي حكم على أحاديث بالوضع ، يرى السيوطي أن هذه الأحكام في غير محلها ، فاستخرج هذه الأحاديث وذكرها في كتابه " النكت البديعات " .
قي مقدمة " النكت البديعات " نقل كلامًا للحافظ ابن حجر أنه يقول فيه : " إن هناك كتابين تساهل مؤلفيهما أعدم الاستفادة منهما ؛ الكتاب الأول : هو كتاب الحاكم ، فإن تساهله أعدم الاستفادة منه ؛ لأنه ما من حديث فيه صححه إلا ويمكن أن يكون ضعيفًا أو موضوعًا ، والكتاب الثاني : كتاب " الموضوعات " لابن الجوزي ؛ لأنه تسرع في الحكم على بعض الأحاديث بالوضع وهي لا تصل إلى هذه الدرجة ، صحيحة أو حسنة أو خفيفة الضعف ، وهذا جعل العلماء – ممن جاءوا بعد ابن الجوزي – لا يعتمدون على أحكامه بالوضع ؛ لأنه يحتمل أن يكون هذا الحديث الذي حكم عليه بالوضع مقبولًا أو صحيحًا على الراجح " .
هذه العبارة – في الحقيقة – التي ذكرها السيوطي وجدتها بكاملها في موطن آخر لا تدل على هذا الإطلاق ولكن مراد الحافظ ابن حجر منها كما يظهر من كلامه أنه لا يمكن الاعتماد على مجرد – كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في موطن آخر – إخراج الحاكم ، ونحن قلنا بأن كل من سوى البخاري ومسلم على العالم المتأهل ألا يقلد ، فإذا وجدت الحديث لابن خزيمة أدرس هذا الإسناد ، لا أعتمد على مجرد إخراج ابن خزيمة له ، وابن حبان ، والترمذي ، والحاكم ، والضياء ، كل هؤلاء ، فالعالم المتأهل عليه أن يجتهد في حكم هذا الحديث ، إلا البخاري ومسلم استَثْنَيْناهُما ؛ لأنهما ممن تلقتهما الأمة بالقبول فيما سوى الأحاديث التي انتقدها بعض الحفاظ عليهما ، أو مما وقع التجاذب بين مدلوليه كما سبق .(1/27)
فأشار إلى الحاكم بذلك ، أو ممن غيره ممن جاء بعد الصحيحين أو ممن ألف الصحيح بعد الصحيحين ، فمقصوده بالاعتماد : الاعتماد الكامل ، كاعتماد البخاري ومسلم ، يقول : لا يمكن أن يُعتمد عليه كما اعتمد على البخاري ومسلم ، بل لا بد من دراسة الإسناد لنعرف هل هو صحيح أو ليس بصحيح ، وهذا نقوله مع الحاكم وغيره ، فليس بأنه لا يُعتمد أبدًا على تصحيح الحاكم .
ابن قيم الجوزية الذي نقلنا عبارته سابقًا عندما وصف أن الاعتماد عليه كالقبض على الماء ، نجد أنه يعتمد على تصحيح الحاكم في أماكن أخرى ، حتى إنه يسميه في مواطن كثيرة يقول : في كتابه المستدرك الصحيح ، ويكتفي بذلك للاعتماد على الحديث .
إذًا ما مقصوده بهذا الكلام ؟
هذا الكلام ذكره في سياق بيانه لضعف حديث خالف الحاكم فيه عدد من العلماء ، وفيه علل ظاهرة ، وفيه اختلافات ، وفيه أشياء كثيرة أعل بها الحديث ابن قيم الجوزية ، فيقول : لا يمكن أن تُعارَض هذه العلل كلها ، وهذه الأدلة كلها بمجرد تصحيح الحاكم ، فهو جاء في سياق معين ، لم يقصد به أيضًا إهدار حكم الحاكم تمامًا ، وهذا لا يقوله أحد .
وأفضل وصف للحاكم ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية من أنه : كالثقة الذي يُكْثُر من الخطأ ، والأصل فيه قبول رواياته ، إلا ما وقع فيه الخطأ وعرفنا هذا الخطأ ظاهرًا فيه .
هذه كيفية التعامل مع كتاب الحاكم .
جهود العلماء حول كتاب الحاكم :
نقف أولًا مع كتاب الإمام الذهبي وهو تلخيص المستدرك .
قام الإمام الذهبي بتلخيص المستدرك ، وطريقته في هذا التلخيص أنه يقتصر على طرف الإسناد ؛ جزء من الإسناد ، وغالبًا يكون بعد شيخ الحاكم برجل أو رجلين ، يعني تقريبًا من مخرج الحديث - الذي عُرف به - إلى آخر السند ، ثم يذكر المتن كاملًا ، ثم يذكر حكم الحاكم على الحديث مختصرًا ، فإذا قال الحاكم مثلًا : صحيح على شرط الشيخين . يقول الذهبي بعد إيراده الحديث :(1/28)
* (خ . م) ؛ (خ) : رمز البخاري ، و(م) : رمز لمسلم .
* فإذا قال على شرط البخاري يقول : (خ) .
* فإذا قال على شرط مسلم يقول : (م) .
* فإذا قال صحيح يقول : (صحيح) ؛ فقط يكتفي بهذا ، مثلما يقول الحاكم .
في بعض الأحاديث بعد أن يورد حكم الحاكم عليها بالصحة مثلًا ، فمثلًا لو قال الحاكم : " صحيح على شرط الشيخين " . يقول الذهبي : (قلتُ : الحديث واهٍ ، فيه فلان ضعيف ، هذا مرسل) يتعقب الحاكم ، يكون التعقب بعد ما يقول كلمة (قلتُ:) .
* فإذا لم يقل كلمة (قلتُ:) يكون ناقل لكلام الحاكم .
* هناك أحاديث سكت الذهبي عنها - فلم يتعقبها بشيء - صححها الحاكم ، فما هو الموقف من هذه الأحاديث ؟ فسكوت الذهبي هل نتعامل معه على أنه يقتضي الإقرار والموافقة وأنه يوافق الحاكم في تصحيحه ، أم نعتبر هذا السكوت غير دالٍّ على الموافقة كما أنه غير دالٍّ على الاعتراض ، يعني كأنه يقول : هذا حكم الحاكم وأنا بريء الذمة من هذا التصرف .
طبعًا هذا الأمر فيه خلاف :
* من أهل العلم يرى أن سكوته يقتضي الموافقة ؛ ولذلك تجدون كثيرًا من الباحثين وحتى بعض العلماء المتقدمين – لا نقل متقدمين ، لكن كانوا قبل هذا العصر ، قبل قرنين وثلاثة وأربعة من الزمن – يقولون : " صححه الحاكم ووافقه الذهبي " . يقصدون بـ" وافقه " أنه نقل حكم الحاكم ولم يتعقبه بشيء ، فيعتبرون هذا موافقة من الذهبي للحاكم .
* وهناك من يرى أن هذا التصرف من الذهبي ليس دالًّا على الموافقة .(1/29)
الذي يترجح عندي أن هذا الحكم لا يدل على الموافقة ، ووجه ذلك أن الإمام الذهبي يختصر كتابه ، والأصل فيمن يختصر الكتاب أنه لا يضيف إلى هذا الكتاب شيئًا ، الأصل فيه أنه فقط يكتفي على مختصر هذا الكتاب ، أنتَ إذا قلتَ : مختصر كتابي كذا ؟! يعني أنك تريد أن تذكر بعض ما في هذا الكتاب ، كونك تضيف أشياء من عندك ، هذا خلاف شرط الاختصار ، كأنك تؤلف كتابًا جديدًا ، فالأصل في الاختصار أنه لا يضيف المختصِر في هذا الكتاب شيئًا ؛ هذا الأصل يجب ألا نخرج عنه أبدًا ويجب أن يكون مستحضَر في الأذهان .
الذين يقولون بأن تصحيح الذهبي يقتضي الموافقة يقولون : يدل على ذلك أنه تعقب بعض الأحاديث ، فتعقبه على بعض الأحاديث يدل على أن سكوته يقتضي الموافقة .
لماذا تعقب بعض الأحاديث وسكت عن بعضها ؟
نقول : الإمام الذهبي شأنه في كل كتبه - حتى في اختصاره للسنن الكبرى للبيهقي – تهذيب السنن – وفي كل الكتب التي اختصرها مثل : تلخيص كتاب " العلل المتناهية " لابن الجوزي ، وتلخيص كتاب " الموضوعات " – لا يُخلي هذه الكتب من بعض الفوائد التي يَنْثُرهَا هنا وهناك ، وهي عبارة عن تعليقات وفوائد يَنْثُرها كيفما اتفق ، لم يلتزم فيها شرطًا معينًا ، يعني ما يقول مثلًا في كل حديث يورده في ابن الجوزي في " الموضوعات " : (أني إذا سَكَتُّ عنه فهذا يقتضي مني موافقة ابن الجوزي ، وإذا تعقبته فهذا يقتضي أني مخالف له) !! لم يقول هذا ، لكن ربما وجد حديثًا لم يحتمل صدره أن يسكت عنه فيتعقبه .
وحتى في عبارة سابقة ذكرناها يظهر منها هذا الأمر من أنه إنما اعتنى بالتعقب على: الموضوعات ، يعني يبين أن أكثر عنايته بالتعقب عند ذكر الموضوعات في المستدرك ، مع أنه لو أورد حديثًا ضعيفًا أو شديد الضعف لم يعتن الذهبي بالتعليق عليه ؛ وهذا ظاهر عبارته السابق .(1/30)
دليل آخر هو أصرح من السابق : أن الإمام الذهبي الإحصائيات التي ذكرها في " تاريخ الإسلام " أوضح من الإحصائيات التي ذكرها في كتابه الآخر وهو " السير " ؛ لأنه قسم الكتاب إلى أربعة أرباع يمكن التعامل معها بسهولة :
النصف الأول : في الأحاديث التي على شرط الشيخين أو أحدهما .
الربع الثاني : في أحاديث في ظاهر إسنادها أنها صحيحة ، ليست على شرط الشيخين ، لكن فيها أحاديث لها علل خفية تقدح في صحتها .
الربع الأخير ؛ قال : هو المناكير والعجائب وفيها موضوعات .
عدد أحاديث المستدرك : أكثر من تسعة آلاف وخمسة وأربعين حديث كما ذكرنا سابقًا .
عدد الأحاديث التي انتقدها الذهبي في المستدرك - بالضبط حسب مختصر كتاب ابن الملقن في اختصار كتاب الذهبي الذي حققه الدكتور : سعد الْحُمَيد ودكتور آخر معه - ألف ومائة واثنين وثمانون ؛ هذه الأحاديث التي تعقبها الذهبيُّ على الحاكم وخالف فيها الحاكمَ .
الربع تقريبًا – الذي حسبته أنا - ألفان ومائتان وواحد وستون ، إلا بكسور عشرية ، فمعنى ذلك : ما نسبة عدد الأحاديث التي تعقبها الذهبي على الربع ؟
قرابة النصف ، أليس كذلك ، ألفان ومائتان وواحد وستون هذا ربع الكتاب ، وعدد الأحاديث التي تعقبها : ألف ومائة واثنان وثمانون ، يعني قرابة نصف ربع أحاديث الكتاب ، وقد صرح الذهبي أن ربع الكتاب مناكير وواهيات .(1/31)
إذًا هو كان يعلم أن هناك ربع أو نصف الأحاديث التي تستحق التعقب لم يتعقبها بشيء ؛ هذا كلام صريح من الذهبي أن سكوته لا يقتضي الموافقة ، من خلال هذه الإحصائية نعرف أنه لا يمكن أبدًا أنه يقصد أن كل ما سكت عنه فهو صحيح عنده ، كيف وهو يصرح هنا من خلال هذه الإحصائية أن فيما سكت عنه ما هو ضعيف ، بل لو أضفت الأحاديث التي فيها علة أيضًا من الأحاديث التي ظاهرها الصحة لزاد العدد كثيرًا ، ولتبين أنه إنما حكم تقريبًا على ربع الأحاديث التي تحتاج إلى تضعيف ، وأن هناك عدد أحاديث كثيرة جدًّا يراها أنه ضعيفة وسكت عنها في كتابه المختصر .
يدل على ذلك أيضًا أمور أخرى ، منها : أنه سكت عنها في المستدرك وضعفها في كتبه الأخرى ، ولا داعي للإطالة بذكرها ، وهناك لها أمثلة متعددة في " الميزان " وغيره .
هذا أول كتاب اعتنى بكتاب الحاكم ؛ نختم بقية الكتب بسرعة :
الكتاب الثاني : مختصر تلخيص الذهبي لابن المُلَقِّن .
جاء ابن الملقن فاختار الأحاديث التي تعقب الذهبي فيها الحاكم ، ووضعها في كتاب منفصل ؛ هذا فقط جهد ابن الملقن .
ألف الذهبي جزءًا – كما ذكرنا – في الأحاديث الموضوعة في كتاب الحاكم .
من الجهود حول كتاب الحاكم : أن ابن الملقن ترجم لرجال الحاكم ذكرناها أكثر من مرة : " إكمال تهذيب الكمال " والذي ترجم فيه اثنيْ عشر كتابًا ، منها كتاب الحاكم .
ألف أيضًا حول كتاب الحاكم الحافظ ابن حجر كتابه " إتحاف المهرة " الذي رتب فيه إحدى عشر كتابًا على الأطراف ، وكان منها كتاب الحاكم أحد الكتب التي رتبها على الأطراف ؛ وهذا آخر ما أوردنا ذكره حول كتاب الحاكم عليه رحمة الله .
وصلى اللهم وسلم ، وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين .(1/32)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على إمام الأنبياء والمرسلين وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد . .
فنكمل قراءتنا في كتاب ابن الصلاح فنكمل كلامنا عن مناهج الأئمة وقد توقفنا بالأمس عند نهاية كلامنا عن الحاكم عليه رحمة الله ، وهناك تنبيه أود أن أنبه عليه وهو أن ما ذكرناه بالأمس عن تساهل الحاكم وعن أوهامه فإن ذلك متعلق بأحكامه على الأحاديث ليس متعلقًا بروايته فالحاكم كان متقنًا حافظًا ، ضابطًا لروايته لا يخطئ ، فالأوهام التي ذكرناها إنما هي فيما يتعلق بأحكامه على الأحاديث ، أما رواياته فهي مُتقَنة ليس فيها خلل .
أيضًا تقعيده لعلوم الحديث من أحسن التقعيد ؛ فكلامه في معرفة علوم الحديث عن قواعد قبوله ورده وعن معرفة أنواع علوم الحديث كلام مُتقَن ، وإن كان لا يخلو كلام أحد أن يكون فيه خطأ ، لكنَّ هذا الخطأ قليل بالنسبة لكثرة الصواب الذي في كتابه .
إذًا : الخلل يأتي في أحكام الحاكم لا في تقعيده ولا في رواياته ، هذا ما أحببت التنبيه عليه قبل الدخول في بقية الكتب التي اشترطت الصحة .
الكتاب السادس الذي اشترط الصحة هو كتاب :
" المختارة " للضياء المقدسي
ونقف مع ترجمة المؤلف أولًا فهو :
محمد بن عبد الواحد بن أحمد بن عبد الرحمن المقدسي ثم الصالحي نسبة إلى الصالحية قرية بجوار دمشق ، ولذلك يُقال له أيضًا الدمشقي أبو عبد الله ضياء الدين الحنبلي ، ولذلك يُقال له الضياء ؛ لأن لقبه ضياء الدين .
وُلد سنة تسع وستين وخمسمائة من الهجرة ، وتُوفيَ سنة ثلاثة وأربعين وستمائة من الهجرة ، وابتدأ السماع وله ثمان سنوات سنة ست وسبعين وخمسمائة من الهجرة .
سمع من جماعة كبيرة من أهل العلم من مشاهيرهم :
عبد الغني بن عبد الواحج المقدسي صاحب كتاب " الكمال في أسماء الرجال " .
وابن الجوزي أبو الفرج بن الجوزي الإمام المعروف .(1/1)
وأبو المظفر بن السمعاني وهو حفيد أو ابن صاحب الأنساب ، وحفيد صاحب قواطع الأدلة ، فعائلة السمعاني أو آل السمعاني عائلة علم تداولتن العلم أبًا عن جد .
له رحلة واسعة في خرسان مكث فيها سنين ، يعني رحل من دمشق إلى خرسان ومكث فيها سنين ، وسمع بمرو ونيسابور وأصبهان وهاره وغيرها من بلدان خرسان ، ودخل العراق ، فدخل بغداد والموصل وحرَّان وغيرها من البلدان البغدادية ، وامتدت رحلته إلى مصر فسمع أيضًا بمصر من جماعة من العلماء والشيوخ فيها ، والحجاز وهو من أهل الشام فسمع أيضًا من العلماء بالشام في دمشق وحلب وبيت المقدس وغيرها من البلدان .
تتلمذ عليه عدد كبير من العلماء من أشهرهم .
أبو بكر بن نقطة صاحب كتاب التقييد ، وصاحب كتاب " تكملة الإكمال " .
وأيضًا من مشاهير تلامذته : ابن النجار صاحب " ذيل تاريخ بغداد " الشهير .
له مصنفات كثيرة طُبع منها شيء كثير ، منها : كتاب " أحاديث الأحكام " ومنها كتاب " النهي عن سب الأصحاب " .
وكتاب " صفة النار " وكتاب " المرض والكفارات "وغيرها من الكتب وله كتاب في ترجمة أحد أبناء عمومته وهو : عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي وهو شيخه ، مطبوع ، كتب كثيرة ومتعددة طُبعت لهذا الإمام ، من أشهرها كتابه “ المختارة “ ا لذي سأتكلم عليه في هذا اللقاء .
اسم الكتاب على الراجح والصحيح الأحاديث المختارة مما لم يخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما ، فابتدأ بتصنيف هذا الكتاب في أواخر عمره حيث إن أول سماع عليه كان سنة اثنتين وثلاثين وستمائة من الهجرة ، يعني قبل وفاته بأحد عشر سنة ؛ لأنه تُوفيَ سنة ستمائة وثلاثة وأربعين كما سبق ، وهذا الإملاء هو أول إملائه لهذا الكتاب سنة ستمائة واثنين وثلاثين .(1/2)
سيأتي الكلام عن شرطه لكن نريد أن نتكلم عن ترتيبه ؛ لأن ترتيبه يُعتبر غريب بالنسبة للكتب الصحاح فهو الكتب الوحيد الذي من كتب الصحاح الذي رُتِّب على المسانيد ، كل كتب الصحاح السابقة رُتِّبت على الكتب والأبواب حسب الموضوعات ، إلا كتاب الضياء فإنه مرتب على المسانيد ؛ يعني يسمي كل صحابي ويذكر اسمه أو تحت اسمه الأحاديث التي رواها ،وأيضًا هو فوق كونه من كتب المسانيد ، فإنه يصح أن يوصف أيضًا أنه من كتب المعاجم لأنه رتَّب أسماء الصحابة على حروف المعجم ، فقط اختل هذا الترتيب عنده عندما ابتدأ بالعشرة المبشرين بالجنة ، فابتدأ بالصحابة العشرة المبشرين بالجنة حسب ترتيب الخلفاء المعروفين ، ثم ببقية العشرة ، ثم ساق بعد ذلك بقية الصحابة مرتبين على حروف المعجم ، إلا أن المؤلف تُوفيَ ولم يتم الكتاب ، وصل إلى مسند عبد الله بن عمر فيما قيل ، وتُوفيَ ولم يتم هذا الكتاب ، وللأسف الشديد فإن هذه القطعة التي ألَّفها المؤلف لم تصل إلينا أيضًا كاملة ، وصلت إلينا مجلدات متعددة منها ، لكنها لا تشمل كل ما ألَّفه المؤلف .
طريقته في ترتيب كل مسند :
أيضًا فيها شيء من الدقة حيث يرتب مسند كل صحابي حسب الرواة عنه ، فينظر في كل مسند صحابي ويرتب الرواة عن هذا الصحابي حسب حروف المعجم ، وهو بذلك يشبه كتب الأطراف من هذه الجهة ويمتاز عليها بأنه يسوق المتن والإسناد كاملًا .
لم يختل هذا الترتيب إلا في مسند أبي بكر أول مسند فإنه رتبه أو رتب الرواة عن أبي بكر حسب الأفضلية ، لا حسب حروف المعجم ، فابتدأ بما رواه عمر بن الخطاب عن أبي بكر ، ثم ببقية الصحابة ، ثم ببقية مشاهير التابعين وهكذا ، فعموم الكتاب مرتب على المسانيد وفي مسند كل صحابي رُتِّب على التابعون أو الرواة عنه على حروف المعجم إلا في مسند أبي بكر كما سبق .(1/3)
مكانة هذا الكتاب : سبق كلام جماعة من أهل العلم وأنا أعيد هنا بعض العبارات يقول إبراهيم الصارفيني المُتوفى سنة إحدى وأربعين وستمائة يقول عن كتاب “ المختارة “ للضياء المقدسي شرطه فيه خير من شرط الحاكم ، وسبق أن ذكرنا عن شيخ الإسلام ابن تيمية أنه قال عنه عن كتاب “ المختارة “ الذي هو أصح من صحيح الحاكم ، وقال في موطن آخر : وشرطه فيه خير من شرط الحاكم .
ويقول ابن كثير : هو أجود من مستدرك الحاكم .
ويقول ابن عبد الهادي : الغلط فيه قليل ، ليس هو مثل صحيح الحاكم .
وتقديم الضياء على الحاكم خاصة هو قول جماعة من أهل العلم كابن القيم والعراقي والسخاوي .
ويقول الزركشي في النكت : إن تصحيحه أعلى مزية من تصحيح الحاكم ، وإنه قريب من تصحيح الترمذي ، وابن حبان ، وهو بذلك رفعه منزلة أعلى من المنزلة التي وضعه فيها شيخ الإسلام ابن تيمية كما سبق في لقائنا السابق .
شرطه في هذا الكتاب : للكتاب مقدمة مختصرة جدًا ، لكنها تنبئ عن مضمونه حيث ذكر في هذه المقدمة أنه سيخرج أحاديث لم يخرجها البخاري ومسلم ، يعني أحاديث صحيحة أسانيدها صحيحة لم يخرجها البخاري ولا مسلم ، فهو من كتب المستدركات ، يُعتبر كالمستدرك على الصحيحين للحاكم لأنه اشترط فيه ألا يخرج إلا الأحاديث التي لم يخرجها البخاري ومسلم .(1/4)
ثم قال بعد أن ذكر هذا الأمر قال : لكنه سيخرج أحاديث بأسانيد جياد ولها علل ليبين علتها ، يقول : سأذكر في هذا الكتاب مع الأحاديث التي أسانيدها صحيحة أحاديث أخرى فيها أسانيدها ظاهرها الجودة والصحة إلا أن لها علل خفية تقدح في صحة تلك الأحاديث ، وقد صار على هذا المنهج بالفعل في كتابه ، فربما أورد الحديث وتكلم عن صحته كأن يصححه صراحة ، أو ينقل تصحيح بعض أهل العلم له كتصحيح الترمذي أو ابن خزيمة أو ابن حبان وهو كثير النقل عن هؤلاء العلماء ، وبالطبع لن ينقل عن البخاري ومسلم لأنه اشترط ألا يذكر حديثًا في البخاري ومسلم ، فتصحيحاته التي ينقلها غالبًا تكون مأخوذة عن غير أو لا تكون مأخوذة عن البخاري ومسلم ، وإنما تكون مأخوذة عن الترمذي ، وعن ابن خزيمة وعن ابن حبان وربما عن الحاكم ، لكن لا ينقل عن الشيخين شيء لأن مستدرك على الصحيحين .
فإذا كان في الحديث علة ، اختلاف ، قد تكون هذه العلة أو ذلك الاختلاف يقدح في صحة الحديث ، وقد لا يقدح في صحته ، فهو يعرض لذلك في كتابه ، ويبينه ، وكثيرًا ما يعتمد على العلماء السابقين في ذلك كالدارقطني فينقل كلام الدارقطني كاملًا في كتابه ؛ إذا أعلَّ الدارقطني هذا الحديث في كتابه “ العلل “ ينقل كلام الدارقطني كاملًا وترجيحه ، ومما يدل على إمامة هذا العالِم أنه وإن كان يوافق الدارقطني وغيره من أهل العلم في كثير من الأحيان بل في أغلب الأحيان إلا أنه لربما خالف تعليل الدارقطني ورجح غير ترجيح الدارقطني في حكمه على الحديث بالصواب أو الخطأ ، وهذا يدل على إمامة هذا العالِم ، وأنه كان يرى من نفسه الأهلية في مخالفة مثل الدارقطني عليه رحمة الله .(1/5)
لكني أتوقف عند هذا الشرط الذي ذكره ، وهو أنه سيخرج أحاديث أسانيدها جياد ، وإن كانت مُعلَّة ؛ يعني معنى كلامه أنه سيستوعب كل الأحاديث التي ظاهرها الصحة ، سواء أكانت أو سواء وقف على علة فيها ، أو لم يقف على علة فيها ، هذا المنحى وهو أنه سيخرج كل ما يعرفه من الأحاديث التي أسانيدها جياد مما لم يخرجه البخاري ومسلم حتى ، ولو كانت فيها علة هذا فيه إشارة واضحة إلى أن الضياء المقدسي معتمد في حكمه على الحديث على أمرين :
الأمر الأول : على دراسة ظاهر السند .
الأمر الثاني : على من سبقه من الأئمة النقاد الذين حكموا على هذا الحديث ؛ فإن سبقه أحد في الحكم عليه بالصحة ولم يُعِلَّه أحد ، ولم يخالفه أحد فهذا لا شك مرتبة عليا من أحاديث “ المختارة “ أن يخرجها الضياء ولا نجد أحدًا من أهل العلم قد انتقد هذا الحديث ، بل قد نجد أن الضياء قد ذكر بعض النقاد ممن صححوا هذا الحديث كالترمذي وابن خزيمة وابن حبان كما سبق .(1/6)
المرتبة الثانية أو القسم الثاني : وهو الأحاديث التي أخرجها الضياء في “ المختارة “ ونقل تعليل بعض أهل العلم لها ، وربما أيَّد أنها مُعلَّة وأنها لا تصح ، وهذا يشير إلى أن جهد الضياء منصب في جهة جمع هذه الأحاديث أولًا ثم في دراسة أسانيدها والحكم عليها حسب أسانيدها ، ثم في معرفة أحكام الأئمة السابقين حولها ، وهنا يظهر في الحقيقة الفرق بين تصحيحات أمثال الضياء ومن في زمنه ومن جاء بعد زمنه ، وتصحيحات أمثال البخاري ومسلم والترمذي وابن حبان وابن خزيمة ممن كانوا يحكمون على الحديث بإسناده ومتنه فيقطعون بصحة الحديث لصحة إسناده ولخلوه من العلل القادحة ومنهج الضياء الذي يكتفي فيه بالحكم على ظاهر السند ، وهذا هو ما جعله يخرج الأحاديث التي أسانيدها جياد وإن كانت فيها علل قادحة ؛ لأنها كأنه يقول مادام أنا شَرْطِي إخراج الأحاديث التي أسانيدها جياد ، فيلزمني أن أذكر الكل ، سواء وقفت على علة قادحة فيه أو لم أقف على علة قادحة فيه ؛ لأن عدم وقوفي على علة قادحة في الأحاديث التي أوردتها في الكتاب لا يدل على عدم وجود علة فيها ؛ لأنه لم يدع نفسه ، ولا يدعي المتأخرون نفسهم أنهم قادرون على نفي وجود العلل الباطنة في الأسانيد الصحيحة ، ولذلك التزم ذكر كل الأحاديث التي أسانيدها جياد سواء أكانت ظاهرها الصحة وباطنها كذلك ، أو كان ظاهرها الصحة وباطنها بخلاف ذلك ، فتكون فيها علة قادحة تقدح في صحة الحديث ، وهذا فارق كبير بين تصحيح الضياء وتصحيح من سبقه من أهل العلم .
فإن قيل كيف قُدِّم الضياء على “ المستدرك “ ؟(1/7)
فنقول : لأن أغلب انتقادات العلماء على أحاديث “ المستدرك “ هو من قِبَلِ علله الظاهرة ، قَبل العلل الباطنة ، هناك الأحاديث المُنتقدة على الحاكم في الغالب أن فيها رجالًا ضعفاء أو متروكين أو متهمين ، أو من جهة كون الإسناد فيه انقطاع ظاهر واضح فأغلب الانتقادات التي على مستدرك الحاكم راجعة إلى هذين الأمرين ؛ فلما كان الانتقاد راجع إلى انتقاد العلل الظاهرة ، والأسباب الظاهرة في رد الحديث ووجدوا أن كتاب الضياء أنقى من كتاب الحاكم من هذه الجهة رجحوا كتاب الضياء على كتاب الحاكم ، وهو لا شك كذلك ، لكن لا يعني ذلك أن كتاب الضياء خالٍ من الأحاديث التي يصححها وهي في الراجح ضعيفة ، بل مرتبته في ذلك كما سبق مرتبة تكاد تكون الأخيرة قبل الحاكم ، فهو آخر من اشترط الصحة في المرتبة قبل كتاب الحاكم فالحاكم بعده ، وأضف إلى ذلك أنه يوجد فيه أحاديث محكوم عليها بالضعف وبشدة الضعف ، بل بالوضع ، وذكر بعضًا منها السيوطي في تعقباته على ابن الجوزي في الكتاب الذي ذكرناه مرات متعددة ، فيبقى أن أحكام الضياء متناولة لظاهر السند بخلاف أحكام الأئمة السابقين ، ولها مكانة ولا شك ، وهي معتمدة إلا أن يظهر لنا خلاف قوله ، كما ذكرنا في غيره من أهل العلم ، فندرس فلربما وافقنا الضياء في حكمه ، ولربما خالفناه ، لكننا إذا وافقناه في حكمه فإن موافقتنا له في الحكم تزيدنا اطمئنانًا على صواب ما وصلنا إليه لأننا قد ثُبتنا من إمام عالِم حافظ كالضياء المقدسي بتصحيحه لذ ... لك الحديث ، وهذا يزيدنا ثقة في النتيجة التي توصلنا إليها من تصحيح الحديث .
يتميز كتاب الضياء المقدسي :(1/8)
من مزايا هذا الكتاب في الحقيقة سوى قضية التصحيح أنه حفظ لنا أسانيد كتب كثيرة منها ما هو مفقود ، ومنها ما هو موجود لكنَّ نسخه فيها أخطاء وأوهام ؛ فيأتي نقل الضياء من هذه الكتب ليصحح لنا تلك الأوهام والأخطاء ، وقد اعتمد على مصادر كثيرة ، وخاصةً كتب المسانيد ، اعتمد كثيرًا على كتب المسانيد المرتبة على أسماء الصحابة ، وسبب عنايته لكتب المسانيد ما هو ؟ لما اعتنى بكتب المسانيد أكثر من كتب المرتبة على الأبواب كالسنن والجوامع ؟
لأن كتابه مُرتَّب على المسانيد ؛ فكأنه وضع هذه المسانيد بين يديه مسند أحمد والمسانيد الآتي ذكرها ، فصار يدرس الأسانيد أي إسناد منها يجده صحيح ليس مخرجًا في الصحيحين يودعه في كتابه ، وهذا ولا شك أسهل له من أن ينتقل إلى كتب الأبواب ويرتب ترتيب جديد ، يخرج هذه الأحاديث من الباب ، ويبحث عن مسنده ثم يضعه فيه كل ما في الأمر كل الذي يحتاجه يأتي إلى مسند أبي بكر فينظر في كل هذه المسانيد ، ويخلِّص ما فيها من الأسانيد الصحيحة الغير مُخرَّجة في البخاري ومسلم فيودعها في كتابه ، لذلك نجد كثيرًا من طرقه ترجع إلى أحد المسانيد المشهورة ؛ يعني يروي بإسناد من طريق أحمد أو من طريق غيره ممن ألَّف المسانيد .
ومن أشهر الكتب أو من أكثر الكتب التي رجع إليها :
كتاب مسند الإمام أحمد ، ولا شك فهو موسوعة ضخمة ، وله جلالة ومؤلفه هو إمام مذهب المعروف ، ولا ننسى أن الضياء حنبلي المذهب ، فعنايته لمسند الإمام أحمد لا تُستغرب بعد ذلك ، لذلك كثير من أحاديث كتابه ترجع إلى مسند الإمام أحمد .
أيضًا من المسانيد التي اعتنى بها : مسند أبي يعلى الموصلي ، ولمسند أبي يعلى الموصلي روايتان :
المسند الكبير والمسند الصغير .
المطبوع هو المسند الصغير .
يمتاز كتاب الضياء أنه نقل كثيرًا من النسخة الأخرى وهي المسند الكبير والذي حتى الآن لم يُطبع ولا يُعرف عن مكان وجوده شيء .(1/9)
من المسانيد التي اعتنى بها أيضًا ، ونقل منها كثيرًا : مسند أحمد بن منيع وهو من شيوخ أصحاب الكتب الستة مسند أحمد بن منيع .
وأيضًا من المسانيد التي أكثر النقل عنها : مسند الهيثمي بن كُلَيب الشاشي .
بالنسبة لمسند أحمد بن منيع كتاب مفقود لا توجد منه إلا زوائده في بعض كتب الزوائد ، ومسند الهيثمي بن كُليب طُبع منه ثلاثة مجلدات وباقيه مفقود ، فيأتي كتاب الضياء ليبقي لنا جزءًً كبيرًا وافرًا من هذا المسند الذي فقدنا قطعةً كبيرةً منه .
من المصنفات التي اعتنى بها أيضًا : مصنفات أبي نعيم الأصبهاني عمومًا مصنفات أبي نعيم الأصبهاني ، والظاهر أن سبب عنايته بمصنفات أبي نعيم أنه لما رحل إلى أصبهان سمع مؤلفات أبي نعيم بإسناد عالٍ جدًا ، ولذلك كان يحرص أن يخرج الأحاديث من طريق أبي نعيم لعلو إسنادها ، وقد ذكرنا سابقًا حرص المحدِّثين على إخراج الحديث العالي ، وأبو نعيم الأصبهاني له مصنفات كثيرة مثل ؟ ما هي مصنفات أبي نعيم ؟
حلية الأولياء وطبقات الأصفياء وهو من أشهر كتبه - دلائل النبوة - معرفة الصحابة ، هذه من أشهر كتبها وأكبرها - أيضًا له كتب كثيرة جدًا :
كتاب " صفة الجنة " وكتاب " الإمامة " وكتاب " رياضة الأبدان " وغيرها من الكتب ، وكتاب " الشعراء " وغيرها من الكتب ، و" المُستَخرَج على صحيح البخاري وعلى صحيح مسلم " لكنه لن يخرج من المُستَخرَجيَن لأن الأحاديث الموجودة فيهما ستكون على شرط البخاري أو موجودة في البخاري ومسلم ، ففي الغالب لن يخرج إلا إذا كان قد أخرج أحاديث زوائد في هذه المستخرجات على الصحيحين فقد يخرجها الضياء المقدسي في كتابه “ المختارة “ .(1/10)
اعتنى أيضًا بذكر بعد أن يخرج الأحاديث من هذه الطرق التي ربما كانت أقل شهرة من غيرها يبين منن خرَّج الحديث من أصحاب الكتب المشهورة ؛ فبعد أن يخرجه من طريق أحمد يقول مثلًا : أخرجها أبو داود من طريق فلان عن فلان ، وأخرجها النسائي من طريق فلان عن فلان ؛ فيبين من خرَّج هذا الحديث ، ويعتبر الكتاب أيضًا يصلح أن يكون من كتب التخريج ؛ فإنه يذكر الحديث ومن خرَّجه ، ثم يعقب ذلك أيضًا ببيان من صحح الحديث أو ضعفه ، أحكام العلماء فيه كما ذكرنا سابقًا ، فيذكر إن كان صححه الترمذي أو حسنه ، أو صحح ابن خزيمة أو ابن حبان أو تكلم فيه الدارقطني أو غيرهم من أهل العلم ، وله في ذلك عناية بالغة جدًا كما سبق ، وكما تقدَّم هو بذلك يمكن أن يعين على تصحيح أخطاء مطبعية وتصحيفات واردة في مطبوعات هذه الكتب التي في كثير من الأحيان نجد فيها أخطاء يصعب حلها إلا بالرجوع لمثل كتاب الضياء المقدسي من الكتب المتأخرة التي نقلت عنها .
من جهود العلماء حول هذا الكتاب أو قبل ذلك :(1/11)
نشير إلى أن هذا الكتاب أو إلى أن الضياء المقدسي قد صرف في كتابه بإعلال الأحاديث بأوجه مختلفة ، فمثلًا أعلَّ فيه بعض المواطن بالزيادة أو النقص ، فهو لا يقبل الزيادة مطلقًا ، بل ربما يرد الزيادة ، لا كما نُقل عن بعض الباحثين أن المتأخرين يتساهلون في قبول الزيادة فقد وجدنا أو ربما أطلق بعضهم القول : بأنهم يقبلون الزيادة مطلقًا فقد وجدنا الضياء يرد بعض الزيادات كما أنه يُعل بالاختلاف بالوقف والرفع ، فإذا اختلف الرواة في الحديث هل هو موقوف أو مرفوع ... يُعلُّه بالوقف والرفع ، ولذلك أمثلة ، وبالوصل والإرسال ، وبإبدال راوٍ براوٍ آخر ، كما أنه يُعل بالانقطاع الظاهر والخفي ويُعل بعدم الضبط ، فهو سارٍ في طريقة حكمه على الأسانيد على الطريقة المعروفة التي لا يُخالف فيها أحد ، وقد نثر في كتابه قواعد جيدة ، فمثلًا : اعتمد في موطن لتوثيق راوٍ من الرواة بمجرد إخراج أصحاب الصحيح ؛ يعني جاء لراوٍ من الرواة لم يجد فيه جرحًا ولا تعديلًا فوثقه لمجرد أن أصحاب الصحيح أخرجوا له ، وهذا في المجلد الرابع ، صفحة ثلاثة وسبعين .
وأيضًا : اعتمد التوثيق الضمني من مثال اعتماده لرواية الراوي الذي لا يروي إلى عن ثقة ، إذا كان في هناك راوي أو عالِم أو حافظ معروف أنه لا يروي إلا عن ثقة يعتمد ذلك في الحكم على الراوي بأنه ثقة ، ولو لم يقف لذلك الراوي على جرح أو تعديل .
يعني مثلًا : عبد الرحمن بن مهدي معروف أنه لا يروي إلا عن ثقة ، فإذا روى عن رجل حتى لو لم نجد فيه جرحًا أو تعديلًا فإنا نعتبره بذلك ثقةً عند عبد الرحمن بن مهدي لأنه لا يروي إلا عن ثقة عنده أو عن مقبول عنده ، فهو يعتمد هذه الطريقة في قبول الرواة .
كما أنه صرح في موطن بتقديم التعديل على الجرح المُبهم ، وهذا يحتاج إلى دراسة .(1/12)
قلنا سابقًا : بأن هناك أحاديث مُتَعَقبَة على كتابه ، هناك منها واحد وخمسين حديث ذكرها المناوي في “ فيض القدير “ أو انتقدها المناوي في “ فيض القدير “ وهو كتاب في شرح الجامع الصغير للسيوطي .
وهناك أحاديث أخرى ذكرها السيوطي كما ذكر في تعقباته على الموضوعات .
من جهود العلماء حول الكتاب هذا :
أولًا : أكمله أحد علماء الحنابلة وهو : محمد بن المحب الصامت ، المُتوفى سنة تسع وثمانين وسبعمائة من الهجرة ، ألم نقل بأن الضياء توقف عند مسند عبد الله بن عمر ، فجاء هذا العالِم وحاول أن يُكمِل هذا الكتاب ، فيرتب بقية الصحابة على حروف المعجم ، ويتمم خطة الكتاب ، طبعًا هذه التكملة لا نعرف عن مكان وجودها الآن شيئًا .
أيضًا من جهود العلماء حول هذا الكتاب :
أن الذهبي اختصره في كتاب سمَّاه “ المنتقى من المختارة “ وسبق أن ذكرنا أن الذهبي له اختصارات كثيرة لكتب السنة منها : اختصاره لكتاب “ المختارة “ للضياء المقدسي .
أيضًا من عنايتهم به :
تأليف في أطرافه ؛ يعني ترتيبه على الأطراف ، وقد ألَّف الحافظ كتاب “ الإنارة في أطراف المختارة “ لكن هذا الكتاب من كتب الحافظ بن حجر المفقودة التي لا يُعرف عن مكان وجودها شيء .
هناك رسالة دكتوراه بجامعة أم القرى بعنوان “ الضياء وكتابه المختارة “ أو “ الضياء المقدسي وجهوده في علم الحديث “ لإحدى الباحثات في جامعة أم القرى ، وقد نوقشت الرسالة من سنوات .
هذا ما يتعلق بكتاب الضياء المقدسي .
وسنقف الآن وقفات أرجو أن تكون سريعة حول بعض الكتب التي اشترطت الصحة سوى الكتب السابقة ، أو القبول مطلقًا ، أو ذكر بعض أهل العلم أنها تشترط الصحة سوى كتاب الضياء ، ذكرنا سابقًا ستة كتب ، ويبقى بعض الكتب رأينا أن نُلحق ذكرها بالكتب السابقة منها :(1/13)
كتاب نبتدئ بالموطأ ؛ لِقِدَمِهِ ، منها كتاب “ الموطأ “ للإمام مالك بن أنس ، وكتاب “ الموطأ “ أو الإمام مالك بن أنس كما هو معروف هو الإمام مالك بن أنس بن مالك الأصلحي أبو عبد الله المدني ، المولود سنة ثلاث وتسعين بالهجرة ، والمُتوفى سنة مائة وتسعة وسبعين للهجرة ، وهو صاحب المذهب الشهير إمام أهل المدينة ، إمام دار الهجرة كما يُلقَّب بذلك .
هذا الإمام أشهر من علم لا يحتاج إلى طول ترجمة ، تتلمذ على بعض كبار التابعين كنافع ، وسالم ، والزهري ، وغيرهم من كبار التابعين ، وروى عنه عدد كبير جدًا من الرواة جمعهم الخطيب البغدادي في كتاب في تلامذة مالك أو الرواة عن مالك بعنوان “ الرواة عن مالك “ وزاد عليهم رشيد الدين عطار مجموعة ، المقصود إن عدد الرواة عنه يزيد على ألف راوي ، الرواة الذين رووا عنه وذُكروا في هذا الكتاب يزيدون على ألف راوٍ ، ولا شك أن هذا العدد أيضًا مع ضخامته لا يمثل الواقع كل التمثيل ، فهذا ما بلغنا ممن روى عنه ، وإلا فقد كان يرد إلى المدينة من حمَّال الآثار ومن النقلة ومن العلماء الأعداد الغفيرة في كل موسم من مواسم الحج ، وفي غيرها ، وكان إمام أهل المدينة حينها الإمام مالك بن أنس ، والجميع يتزاحم على السماع منه والتلقي عنه .
وترجمة هذا الإمام ترجمة شهيرة وزهده وعبادته وعلمه أمر مُشتَهِر ، وتعظيمه لسنة النبي -عليه الصلاة والسلام- أمر لا يوصف ، وتحريه وتثبته والمبالغة في ذلك غاية المبالغة الأخبار فيه شهيرة ومنتشرة .(1/14)
ألَّف كتابه “ الموطأ “ الذي يُعتبر أقدم كتاب مطلقًا ، أو نقُل تقريبًا وصلنا حتى نكون فينا حرص أكثر ، وصلنا فيه شيء من الترتيب الدقيق ، المُبوَّب تبويبًا جيدًا من كتب تلك الفترة ، يعني غالب الكتب السابقة له كان ترتيبها فيه شيء من الخلل ، فيه شيء من عدم التنسيق ، أما كتاب “ الموطأ “ فهو أول كتاب بلغنا رُتِّب على حسب الكتب ، وتحت كل كتاب أبواب ، هناك كتب قريبة من عصره لكن كانت مُرتَّبة على الأبواب ، والأبواب منتثرة ، فربما ابتدأ بباب في الجهاد ثم ينتقل بعده مباشرة إلى باب في الطهارة ، ثم يرجع إلى باب في البيوع ، ثم يعود إلى باب في الجهاد ، مُرتَّب على الأبواب لكن الأبواب غير مُنسقة ، أما كتاب “ الموطأ “ ففيه تنسيق جيد حيث وضع كتاب وتحت كل كتاب أبواب متفرعة عنه ، والإمام مالك كان هذا أحد أهم مقاصده من تأليف الكتاب ، ولذلك سمى كتابه “ الموطأ “ أَيْش معنى الموطأ ؟ يعني المُسَهَّل ، فواضح من هذه التسمية أنه من أهم أغراضه في تأليف هذا الكتاب تسهيل الكتاب لمن أراد أن ينتفع به من خلال هذا الترتيب الدقيق الذي سبق به أهل زمنه .
يُذكر أن هناك من سبق مالك في تأليف موطأ ، وهناك من يخالف فيقول : إن مالك أول من ألف الموطأ ، لكن لم يبلغنا على كل حال إلا هذا الكتاب ، وقطعة من كتاب “ موطأ ابن وهب “ إذا صحت تسمية هذا الكتاب لابن وهب ، وابن وهب من تلامذة مالك على كل حال ، يعني متأخر عنه ، وتأليفه لكتابه متأخر عن موطأ مالك .
على كل حال هذا هو السبب الأول الذي قيل في سبب تسمية مالك لكتابه بالموطأ .
هناك سبب آخر : قيل مالك سمى كتابه “ الموطأ “ لأنه عرض كتابه على سبعين إمامًا أو فقيهًا فكلهم واطئه عليه ، أي وافقه عليه ، وقيل لذلك سُميَ “ الموطأ “ لكن السبب الأول هو الأظهر والله أعلم .(1/15)
مكث الإمام مالك في تأليف هذا الكتاب إحدى عشرة سنة ، وكان ذلك حسب ما قدَّره أحد الباحثين من سنة مائة وثمانية وأربعين إلى سنة مائة وتسعة وخمسين ، ثم مكث بعد سنة مائة وتسعة وخمسين يُعدِّل في كتابه ويزيد وينقص في هذا الكتاب إلى أواخر عمره ، وهذا كما سيأتي أحد أسباب اختلاف الروايات الموطأ عن الإمام مالك .
عدد الأحاديث :
هناك إحصائيات مختلفة ، فمن أقدم الإحصائيات التي بلغتنا قول أبو بكر الأبهري يقول : جملة ما في “ الموطأ “ من الآثار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة والتابعين ألف وسبعمائة وعشرين حديثًا ، المُسند منها ستمائة ، يعني الأحاديث المرفوعة المتصلة في “ الموطأ “ ستمائة حديث ، والمرسل منها مائتين واثنين وعشرين حديث ، والموقوف على الصحابة ستمائة وثلاثة عشر ، ومن قول التابعين مائتين وخمسة وثمانين ، هذه أقدم إحصائية وصلتنا .
أما عدد أحاديثه في طبعة محمد فؤاد عبد الباقي وهي من أشهر طبعات الكتاب ثمانمائة وثلاثة وخمسين ، طبعًا هذا العدد يشمل المرسل ، والمتصل وغير ذلك .
وعدد المرفوع المُسند في رواية ابن القاسم عبد الرحمن بن القاسم ، عدد الأحاديث المُسنَدة المرفوعة يعني المرفوعة المتصلة في هذا الكتاب من رواية ابن القاسم خمسمائة وسبعة وعشرين حديث .
على كل حال غالب الإحصائيات التي ذُكرت تشير إلى أن عدد الأحاديث المسندة ، أي المرفوعة المتصلة في كتاب “ الموطأ “ للإمام مالك تبلغ نحو ستمائة حديث ، وبذلك تعرف أن هذا الكتاب يعتبر كتاب مختصر في مقابل مثل كتاب البخاري ومسلم والكتب التي جاءت بعده ، ليس فيه من الأحاديث المسندة إلا نحو ستمائة حديث فقط ، وهذا أمر طبيعي لمن كان من أوائل من صنَّف في السنة كالإمام مالك بن أنس عليه رحمة الله .
مكانة هذا الكتاب بين أهل العلم :(1/16)
لاشك أن هذا الكتاب من يوم أن ألفه الإمام مالك احتل مكانة كبرى ، وطغى على الكثير من المؤلفات التي في زمنه ، وبهذه المناسبة أشير إلى قصة مشهورة ومُتناقَلَة وهي أن الإمام مالك يُقال أنه لما ابتدأ بتأليف “ الموطأ “ قال له بعض الناس : لقد سبقك الناس إلى تأليف موطأت سوى الموطأ الذي تؤلفه ، فما الفائدة من تأليفك هذا الكتاب ؟!
تقول هذه القصة بأن مالك دعى أو طلب أن يؤتى له بهذه الموطأت فنظر فيها فقال عبارة مشهورة انتشرت عنه قال : ما كُتِبَ لله يبقى .
يقول راوي القصة : فكأنما أُلقيت تلك الكتب في الآبار ؛ يعني لم ينتشر منها شيء ، وما بقي من هذه الموطآت إلا موطأ مالك بن أنس ، لكن هذه القصة في الحقيقة استوقفتني لأن فيها شيء من الاتهام لأولئك العلماء وهم علماء أجلَّة لا يقلون عن مالك في الجلالة بأنهم ليسوا من أهل الإخلاص في تأليف تلك المؤلفات ، فبحثت عن إسنادها فوجدت أنها لا تصح عن مالك بن أنس ، ذكرها ابن عبد البر في مقدمة “ التمهيد “ ورواها بالإسناد ، لكن إسنادها منقطع بين راويها عن الإمام مالك ، والإمام مالك نحو مائة سنة ؛ يعني بين الذي يذكر هذه القصة ومالك نحو مائة سنة ، فهو كما يقول العلماء :
فيها انقطاع تنقطع فيها أعناق المطي أو هي مفازة تنقطع فيها أعناق المطي يعني أن هناك انقطاع كبير جدًا لا يمكن أن يوثق بالقصة بسببه ، أضف إلى ذلك أن فيها نكارة كما ذكرت من جهة أن فيها اتهامًا لأولئك العلماء ، ومنهم ابن أبي زيد وابن أبي شوم وغيرهم بأنهم لم يكونوا من أهل الإخلاص .(1/17)
أضف إلى ذلك أيضًا : أن الواقع يدل على خلاف ذلك ، فكم من كتاب فاسد خبيث بقي من يوم أن ألَّفه المؤلف إلى اليوم ، فكثير من كتب المعتزلة وكتب البدع باقية من يوم أن ألفها مؤلفوها إلى اليوم ، فهل يعني ذلك تزكية لها ، وثناءً عليها لمجرد بقائها ، فبقاء الكتب ليس دليلًا قاطعًا على إخلاص صاحبه وعلى أنه مُتقبَل عند الله عز وجل ، واندسار الكتب ليس دليلًا على عدم إخلاص صاحبها وعدم تقبله عند الله عز وجل ، فلذلك أردت التنبيه على خطأ هذه القصة .
على كل حال لا شك أن كتاب “ الموطأ “ من يوم أن أُلِّف احتل مكانةً كبيرةً وقد عُرض على مالك من قِبل الخليفة -قيل : إنه أبو جعفر المنصور ، وقيل إنه هارون الرشيد- أن يجعل كتابه هذا دستورًا وقانونًا للعالم الإسلامي ، وأن يُلزم العلماء بالإفتاء به إلا أن الإمام مالك لعلمه وإنصافه وعقله أبى ذلك ، ورأى أن لكل عالِم مجتهد رأيه في هذه المسائل ، وأنه لا يحق لأحد أن يُلزِم الناس بكتاب واحد أو برأي واحد من الآراء الفقهية ، لكن هذا يشير إلى مكانة هذا الكتاب من يوم أن ألَّفه حتى كاد أن يكون مرجعًا للفقهاء والعلماء في العالم الإسلامي .
أُلحق هذا الكتاب بالكتب الستة كما سبق في أكثر من موطن ، فعدَّه مثلًا : ابن الأثير الكتاب السادس من الكتب الستة بدلًا من سنن ابن ماجه ، فالكتب الستة عند ابن الأثير البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي وموطأ مالك ، بدل ابن ماجه وضع موطأ مالك .
وهناك عبارة ذكرها الإمام الشافعي كَثُرَ أن نقلها أهل العلم في كتبهم وهي قول الشافعي : ما بعد كتاب الله كتابٌ أصح من كتاب مالك ، وفي رواية : أفضل من كتاب مالك .
وهذه شهادة عصري للإمام مالك ، اطلع على كثير من الكتب المؤلفة في ذلك الزمن ، وهو أحد أئمة الإسلام ، وهو الإمام الشافعي ، ويُطلِق مثل هذه العبارة بلا شك وسام شرف كما يُقال لهذا الكتاب الجليل كتاب “ الموطأ “ للإمام مالك بن أنس .(1/18)
تكلم عن هذا الكتاب جماعة من أهل العلم ؛ فمنهم من قدَّمه على الصحيحين ، منهم من أهل العلم من قدَّم موطأ مالك على الصحيحين ، وهم كثير من علماء المالكية ، ومنهم : أبو بكر بن العربي صاحب أحكام القرآن ، وصاحب “ عارضة الأحوذي “ وغيرها من الكتب قدَّم موطأ مالك على الصحيحين .
ومنهم من جعله في منزلة الصحيحين ، ومنهم ممن فعل ذلك مغلطاي بن قليج العالِم المملوكي الشهير .
يُعتبر كتاب “ الموطأ “ في مرتبة الصحيحين ، وانتقد ابن الصلاح لمَّا ذكر ابن الصلاح أن أول من ألَّف في الصحيح المجرد البخاري انتقد عليه بأنه قد سبقه إلى ذلك مالك بن أنس .
ومنهم من جعله في مرتبة ثالثة بعد الصحيحين ، يعني بعد صحيح البخاري ومسلم يأتي موطأ مالك .
ومنهم من اعتبره في مرتبة سنن أبي داود والترمذي والكتب المشهورة التي لم تشترط الصحة .
ومن العبارات التي ذُكرت حول كتاب " الموطأ " للإمام مالك :
عبارة الإمام الذهبي في السِيَر لما نقل كلامًا لابن حزم ، لابن حزم كلام طويل ذكر فيه أمهات السنن ، فابتدأ بالصحيحين وبغيرها من الكتب التي اشترطت الصحة ، ثم ثنَّى بكتب المسانيد مثل مسند أحمد ، وبقي بن مخلد ، وغيرها من المسانيد التي باقي شيء منها اليوم من بعضها ، وكثير منها مفقود ، ثم أورد بعد ذلك كتاب “ الموطأ “ للإمام مالك ، فتعقبه الإمام الذهبي بقوله : ما أنصف ابن حزم ؛ بل رتبة “ الموطأ “ أن يُذكر تلو الصحيحين مع سنن أبي داود والنسائي ، ولكنه تأدب – أي ولكن ابن حزم
تأدب - وقدم المسندات النبوية الصِرف - أي الكتب التي لا تضم إلا الأحاديث المرفوعة إلى
النبي - صلى الله عليه وسلم - لجلالة هذه الأحاديث على غيرها من الآثار الموقوفة على الصحابة والتابعين - ثم يقول الإمام الذهبي : وإن للموطأ لموقعًا في النفوس ومهابةً في القلوب لا يوازنها شيء .(1/19)
وهذا حق فالحديث الذي يوجد في “ الموطأ “ له مكانة ، ولذلك الصحيح في أحاديث هذا الكتاب أن كل حديث مُسنَدٍ فيه فهو صحيح ، إلا أحاديث يسيرة جدًا انتُقِدَت بالوهم من مالك وهي أحاديث معدودة ، لكن عموم أحاديثه المُسندَة أي المتصلة المرفوعة فهي صحيحة ، ولذلك يمكنك أن تطمئن إذا ما حفظت الأحاديث المسندة أي المتصلة المرفوعة في موطأ مالك أنك حفظت أحاديث صحيحة ، وكيف لا تكون صحيحة ، ومالك كثيرًا ما يروي أو أغلب أحاديثه ثلاثيات عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مالك ، أو حتى ثنائيات ، فيها كثير من الثنائيات وفيها ثلاثيات مثل :
نافع عن ابن عمر ، سالم عن ابن عمر ، الزهري عن أنس ، وما شابه ذلك .
وفيها ثلاثيات مثل :
روايته عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة ، روايته عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة وغيرها .
فأقصى ما ينزل فيه تقريبًا ثلاثة ، ثلاثة رواة فقط ، وبينه وبين النبي عليه الصلاة والسلام ، وله ثنائيات كثيرة ، فليس بينه وبين النبي -عليه الصلاة والسلام- إلا تابعي وصحابي ، هذا أمر واضح فيه الصحة ، فأحد أسانيده عليها نور ، ولها وقظة جلالة في النفوس خاصة ما نعرفه من شدة تحري هذا الإمام وتثبته في الرواية ، ولذلك يقول أحد العلماء حول رجال “ الموطأ “ يقول الفسوي في كتاب “ المعرفة والتاريخ “ يقول :
ومن كان من أهل العلم ونصح نفسه علم أن كل من وضعه مالك في موطئه وأظهر اسمه ثقة تقوم به الحجة .(1/20)
فيقول إن كل رواة “ الموطأ “ ثقات عند مالك ، يعني حتى يكون الكلام دقيقًا نقول : إن كل من أخرج له مالك في “ الموطأ “ فهو ثقة عند الإمام مالك ، فقد يكون ثقةً عنده ضعيفًا عند غيره ، وهذا وقع في رواة قلة ، أكثرهم ممن وردوا إلى المدينة ليسوا من أهلها ، أما أهل المدينة فلا تكاد تجد راويًا مدنيًا وثَّقه مالك والراجح فيه أنه ضعيف ؛ لأنه أعرف الناس بأهل المدينة ، لكن الضعف يأتي فيما لو كان هذا الراوي ممن وردوا إلى المدينة فحسَّن فيه الظن الإمام مالك ، وروى عنه في “ الموطأ “ وقد يكون الصواب أنه ليس بثقة ، وهؤلاء الرواة قلائل جدًا من أمثلة عبد الكريم بن أبي المخارق الذي روى عنه الإمام مالك ، وهو من أهل العراق ، وكان ضعيفًا ليس ضابطًا ومتقنًا ، لكنهم قلة ومُستثنون ، وسيأتي الكلام عن من ألَّف في رجال “ الموطأ “ لمن أراد إنه يحصر هؤلاء الرواة ، أو يقوم بدراستهم .
ذكرنا سابقًا أن الإمام مالك لما ألَّف “ الموطأ “ أخذ يرويه سنوات طويلة ، إذا كان انتهى من “ الموطأ “ سنة مائة وتسعة وخمسين ، وتُوفيَ سنة مائة وتسعة وسبعين ، يعني كم مكث يروي هذا الكتاب ؟(1/21)
عشرين عامًا ، كان في كل فترة يغير ويبدل في هذا الكتاب ، ويزيد وينقص من الأحاديث والآثار ، وربما شك في رواية فحذفها واستبدلها بغيرها ، أو ربما شك في الحديث ؛ هل هو متصل أو مرسل ، فإذا شك وغلب عليه الشك يرجح المرسل على المُسنَد ، وهذا من شدة تحريه ، فلذلك اختلفت روايات “ الموطأ “ عن مالك ، فكل راوي كان يأتي مثلًا في عام من الأعوام ، لنفترض إنه جاء أحد الرواة في أول عام ألَّف فيه الإمام مالك “ الموطأ “ سيسمع “ الموطأ “ بالرواية أو بالمنهج الذي سار عليه الإمام مالك في تلك الفترة ، إذا جاء راوي آخر في السنة التي تليه قد يكون مالك قدَّم أو أخَّر فيسمع “ الموطأ “ بزيادات أو بنقص أو بتغيير بخلاف ما كان عليه في السابق ، وهكذا في كل عام من الأعوام ، ولذلك نقول : كَثُرَت اختلافات الرواة عن مالك ، وهذا ما دعى أهل العلم إلى العناية بهذه الاختلافات ؛ لأننا نريد أن نعرف لِمَ الإمام مالك قدَّم وأخَّر ؟ لِم زاد أو نقص ؟ لِمَ حذف بعض الأحاديث ؟ لِمَ أضاف بعض الأحاديث ؟
نريد أن نعرف ما هي الأحاديث المُسندة في كل الروايات ؟
هذه كلها مطالب قام العلماء بدراستها في مؤلفات مستقلة .
بلغ عدد رواة “ الموطأ “ عن الإمام مالك تسعة وسبعين راوي ، الذين رووا عنه “ الموطأ “ خاصة ، نحن قلنا : إن عدد تلامذته تجاوز الألف ، هؤلاء الذين رووا عنه مطلقًا ، لكن الذين رووا عنه “ الموطأ “ وعرفنا أسمائهم بلغوا تسعة وسبعين راوي ، للأسف الشديد لم تبق كل هذه الروايات ، ولا أكثرها ، بل لم يبق منها اليوم إلا عدد يسير من هذه الموطآت ، والموجود منها اليوم الموطآت التالي ذكرها :
أشهرها رواية يحيي الليثي ، والتي عليها غالب الشروح ، رواية يحيي بن يحيي الليثي المصمودي وهي الرواية المشهورة .(1/22)
أيضًا : رواية محمد بن الحسن الشيباني وسيأتي الكلام عن شيء من هذه الرواية ؛ لأن لها مزية خاصة تختلف عن بقية الروايات ، رواية محمد بن حسن الشيباني .
ورواية سويد بن سعيد ، ورواية القعنبي وهي قطعة من رواية القعنبي لم توجد كاملة ، ورواية زياد بن عبد الرحمن شبطون ، وهي أيضًا قطعة من “ الموطأ “ برواية شبطون ليست كلها ، ورواية أبي مصعب الزهري ، وهذه الرواية هي من الروايات التي قيل إنها من أوسع الروايات ، بل أطلق ابن حزم أنها أوسع الروايات من جهة عدد الأحاديث والآثار ، رواية أبي مصعب الزهري مطبوعة كاملة ، ورواية ابن بكير ، وهي مخطوطة لم تُطبع حتى اليوم ، لكنها موجودة ، ورواية عبد الرحمن بن القاسم ، وقد طُبع ملخصها للقابسي ، قام بتلخيص هذه الرواية اختصر فقط على الأحاديث المسندة المرفوعة المتصلة القابسي أخرج هذه الأحاديث المسندة من رواية ابن القاسم وأفردها بالتأليف ، فمن أراد أن يحفظ الأحاديث المسندة في موطأ مالك من أفضل الكتب التي يمكن أن يرجع إليها كتاب تلخيص القابسي لموطأ مالك برواية ابن القاسم ؛ لأنه اقتصر فقط في هذا الملخص على الأحاديث المُسندة أي المتصلة المرفوعة في مسند أو في موطأ مالك عليه رحمة الله .
يُذكر عن مالك بأنه كان في كل عام لشدة تحريه ينقص من عدد أحاديث كتابه ، وأن الروايات الأولى عن مالك أكبر حجمًا من الروايات الأخيرة عن الإمام مالك ، هذه القصة مشهورة ويتناقلها كثيرٌ من أهل العلم حتى إن بعضهم قال مازحًا : لعل مالك لو عاش سنين أخرى لما أبقى في الكتاب حديثًا ، من شدة تحريه ، كل سنة ينقص ، كل سنة ينقص ، نخشى إنه لو طال به العمر ما أبقى في الكتاب حديثًا واحدًا .(1/23)
لكن هذه العبارة في الحقيقة عليها مَلحَظ قوي جدًا وهو أن رواية أبي مصعب الزهري من أواخر الروايات عن مالك ، رواية أبي مصعب الزهري من أواخر الروايات ، بل من أهل العلم من قال إنه آخر من أخذ “ الموطأ “ عن مالك ، ومع ذلك هي إن لم تكن أوسع الروايات على الإطلاق فهي من أوسع الروايات على الإطلاق ، بل إن ابن حزم وهو من أحد أكثر العلماء عناية بالموطأ وهو أندلسي ، والأندلس كانت زاخرة بالموطآت برواياتها لكثرة المالكية فيها ، وعناية علماء المالكية بالموطأ ، لمَّا تكلم عن الموطآت أو روايات “ الموطأ “ ذكر أن أوسع رواية على الإطلاق هي رواية أبي مصعب الزهري ، فلو كان الكلام السابق صحيحًا كيف نجد أن رواية أبي مصعب أوسع من رواية غيره من رواة “ الموطأ “ عن مالك ، هذا مما يدل على أن ذلك القول قول فيه مبالغة وغلو ، نعم كان مالك يحذف ويُغيِّر وربما تردد وأرسل في رواية ، ووصل في رواية ، لكن لا يلزم من ذلك أنه صار ينحو منحى النقص والاختصار في كتابه على مدى الأعوام ، ربما نقص من جهة وزاد في جهة أخرى ، نقص من باب وزاد في باب آخر ، أو استبدل حديث بحديث ، أو إسناد بإسناد وهكذا .
من أهم أو من أوثق الروايات عن الإمام مالك الروايات التالي ذكرها :
فمن أوثق الرواة عن الإمام مالك ممن روى عنه “ الموطأ “ الإمام الشافعي وفيه عبارة الإمام أحمد الشهيرة حيث قال الإمام أحمد : سمعت “ الموطأ “ من بضعة عشر رجلًا من حفَّاظ أصحاب مالك ، فأعدته على الشافعي لأني وجدته أقومهم ، يعني أقوم الرواة .(1/24)
لكن الحقيقة هذه العبارة تحتاج إلى دراسة اكثر ؛ لأن الإمام أحمد في مُسنده لم يعتمد على رواية الشافعي عن مالك ، وإنما اعتمد على رواية عبد الرحمن بن مهدي عن مالك ، ولم يعتمد رواية الشافعي بل لم يخرج للشافعي عن مالك إلا أحاديث يسيرة جدًا ، فإما أنه اعتمد على عبد الرحمن المهدي لأنه أقوم ، أو لأنه سمع عليه “ الموطأ “ على الوجه كما يُقال ، أو لكونه أعلى سندًا ، لكن لا فرق بين الشافعي وعبد الرحمن بن مهدي كلاهما يروي عن مالك مباشرة .
المقصود أنه يعني اختصاص الإمام أحمد لرواية عبد الرحمن بن مهدي بالرواية في مسنده هذا يدعونا إلى إعادة النظر في عبارة الإمام أحمد المذكورة ، أو أن نفهمها بشيء من التقييد ، لا على أنه الأقوم والأثبت مطلقًا ، لكنه لعله يقصد من أقومهم ، من أثبتهم .
من الروايات الثابتة للموطأ :
رواية القعنبي ، وعبد الله بن يوسف التنيسي ، يقول ابن معين : أثبت الناس في “ الموطأ “ القعنبي وعبد الله بن يوسف التنيسي .
أما رواية القعنبي فهي التي اعتمد عليها أبو داود في السنن ؛ إذا أراد أن يخرج حديثًا من رواية مالك فإنه يخرجه عن القعنبي عن مالك بن أنس ، وأما رواية عبد الله بن يوسف التنيسي فهي التي اعتمدها الإمام البخاري في صحيحه ، وهذا مما يبين لنا أنهم كانوا ينتقون أصح وأتقن الروايات .(1/25)
وقدَّم أيضًا القعنبي على عموم رواة “ الموطأ “ ابن المديني علي بن المديني ، والإمام النسائي قدما القعنبي على جميع رواة “ الموطأ “ وأثنى النسائي ثناءً عاطرًا على رواية عبد الرحمن بن القاسم عن مالك ، فهو أيضًا من أثبت الناس في مالك ، وذكر السيوطي أن بعد هؤلاء يأتي معن بن عيسى ، ويحيي بن يحيي بن بكير ، ويحيي بن يحيي بن بكير التميمي النيسابوري هو الذي روى من طريقه الإمام مسلم موطأ مالك ، فالإمام مسلم إذا أراد أن يروي عن مالك شيئًا في موطئه يرويه عن يحيي بن يحيي بن بكير ، وقد تصحح في بعض الكتب التي تكلمت عن هذه الرواية إلى يحيي بن يحيي بن كثير ، وهذا خطأ ، لا أقول تصحفت بل هذا وهم ؛ لأن يحيي بن يحيي بن كثير هو الليثي ، يحيي بن يحيي بن كثير الليثي المصمودي ، أما الذي روى عنه الإمام مسلم فهو يحيي بن يحيي بن بكير النيسابوري وهو من أعلى شيوخ الإمام مسلم ، ولذلك روى عنه الإمام مسلم “ الموطأ “ ولو أراد الإمام مسلم أن يروي موطأ مالك من رواية غيره لربما احتاج إلى أن يروي عنه برجلين عن مالك ، وإن كان هناك أيضًا رواة آخرون سمع منهم الإمام مسلم يرون عن مالك مباشرة مثل قتيبة بن سعيد .
يأتي بعد هؤلاء جميعًا يحيي بن يحيي بن كثير الليثي ، والظاهر أن سبب انتشار رواية يحيي بن يحيي أكثر من غيره ، مع أن غيره أتقن منه أولًا :
انتقال يحيي بن يحيي إلى الأندلس وكانت معقِل المالكية في ذلك الوقت ، واعتنوا بروايته بسبب ذلك .
الأمر الثاني : أنه تأخرت وفاته ، فعلى إسناده عن مالك ، فأصبح الناس يحرصون على روايته أكثر من رواية غيره ممن لا يصلون إليهم إلا بواسطة أو بواسطتين ، أما تأخر رواية يحيي بن يحيي جعلت إسناده عاليًا يُحرص عليه .
وهناك أسباب أخرى هي التي دعت كثيرًا من أهل العلم لاعتماده .(1/26)
على كل حال أخطاء يحيي بن يحيي الليثي معدودة ومعروفة ، وقد ذكرها بعض أهل العلم فذكرها الخشني في كتابه “ أخبار فقهاء الأندلس ومحدثيها “ وهو كتاب مطبوع ، وعدَّها في ترجمة يحيي الليثي كاملة ، ويمكن الوقوف عليها أيضًا من خلال التمهيد ، فإن ابن عبد البر في شرحه للموطأ كلما جاء إلى حديث وقع فيه ليحيي الليثي وهم نبَّه عليه ، وغيرهم أيضًا “ كتاب الداني “ الآتي ذكره وأطراف الموطأ ينبِّه على أوهام يحيي الليثي في هذا الكتاب .
قلنا إن من أشهر الروايات رواية محمد بن حسن الشيباني ، ولنا من هذه الرواية وقفة خاصة ؛ لأن هذه الرواية تتميز عن غيرها بعدة مزايا :
أولًا : طبعًا راوي هذا الكتاب عن مالك هو محمد بن الحسن الشيباني أحد أكبر تلامذة الإمام أبي حنيفة ، وهو في الحقيقة ناصر هذا المذهب ، والذي نشره ، وعلى يديه انتشر في الآفاق ، وصنَّف فيه واحتج له في الكتب المشهورة له .
موطئه عن الإمام مالك ليس كبقية الموطآت من جهة أنه كأنه تأليف مستقل لمحمد بن الحسن ؛ يعني ليس كالروايات السابقة مقتصرة على كلام مالك وروايات مالك ، بل في هذا الكتاب روايات عن غير مالك ومنها روايات عن أبي حنيفة محمد بن الحسن يروي عن أبي حنيفة في كتاب “ الموطأ “ وفي بعض الأحيان يذكر كلام مالك في ذكر الحديث وينص على مخالفته ، ويخالف رأي مالك ويستدل بذلك وربما يذكر كلام مالك ويقول : وبه نأخذ ليبين أنه يوافق الإمام مالك ، فهو ما أشبهه بكتاب مستقل بمحمد بن الحسن ، لكن من قال : إنه موطأ مالك برواية محمد بن الحسن ؛ لأن غالب ما فيه روايات مالك ، وقد تفرد هذا الكتاب بعدد من الأحاديث والآثار بلغت مائة وخمسة وسبعين حديثًًا وأثرًا على رواية الليثي .(1/27)
في كثير من هذه الزيادات أحاديث لا تصح ، يعني انظر دخل خلل في هذه الروايات ، مالك كان شديد الانتقاء بخلاف أحاديث أهل الكوفة التي كانت كلها خطأ ، والخلل كثيرًا ، وفيها رواة ضعفاء كثيرون ، فدخل الخلل في موطأ محمد بن الحسن من هذه الجهة ، من جهة الزيادات التي يوردها على موطأ الإمام مالك .
طبعًا اعتنى بشرح هذا الكتاب رواية مالك برواية محمد بن الحسن علماء الحنفية ومنهم :
الملا علي القاري في كتاب “ الفتح المُغطى “ وهو كتاب مخطوط لم يُطبع حتى الآن .
المقصود أن هناك شروح متعددة لعلماء الهند ومنها :
شرح علي القاري وهو من علماء الحنفية في شرح موطأ الإمام مالك بن أنس عليه رحمة الله .
عناية الإمام بموطأ الإمام مالك :
اعتنى العلماء بموطأ مالك عناية بالغة جدًا فلا يكاد حقيقة يوجد كتاب بعد الصحيحين اعتنى العلماء من كتب السنة اعتنى العلماء به كما اعتنوا بموطأ الإمام مالك ؛
أولًا :لجلالة هذا الكتاب .
ثانيًا : لإمامة مصنفه .
ثالثًا : لكونه إمامًا لمذهب مُتبع ، يتبعه فئام كبير من العالم الإسلامي ، ومن علماء العالم الإسلامي ، وهم المالكية أتباع الإمام مالك ، لذلك كثرت عناية العلماء بهذا الكتاب عناية بالغة جدًا ، ولا تكاد تُحصى الكتب التي اعتنت بكتاب الإمام مالك ، ولو ذهب الإنسان ليجمع كل ما كُتب عنه لصلح أن يكون رسالة مؤلفة مستقلة حول جهود العلماء حول الإمام مالك ، أنا أقصد بالرسالة يعني كتاب منفصل حول موطأ الإمام مالك .
لكن من هذه الجهود المطبوعة والمهمة مثلًا :
بالنسبة لشيوخ مالك هناك من أفرد شيوخ مالك بالتأليف ، ومن أشهر الكتب في ذلك كتاب : ابن خلفون المالكي الأونبي وهو كتاب مطبوع .
وكتاب حول رجال الموطأ كتاب “ إسعاف المبطى برجال الموطأ “ للسيوطي .(1/28)
وهناك كتاب حول فضائل “ الموطأ “ وهو “ كشف المُغطى في فضائل الموطأ “ لابن عساكر الدمشقي صاحب تاريخ دمشق ، وهناك من جمع الأحاديث المسندة المتصلة المرفوعة من عدد من الروايات وهو أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن محمد الغافقي المشهور بالغافقي المُتوفى سنة خمس وثمانين وثلاثمائة من الهجرة ، وكتابه مطبوع بعنوان “ مسند الموطأ “ جمع الأحاديث المسندة أي المرفوعة المتصلة من عدد من روايات “ الموطأ “ وبيَّن اختلاف الرواة إذا كان بعضهم اختلف بوصل هذا الحديث أو قطعه أو إرساله أو وقفه أو رفعه ، وحاول أن يرجح في بعض الأحيان .
من الكتب حول كتاب “ الموطأ “ : “ اختلافات الموطأ “ للدرقطني أيضًا ينص على بعض الاختلافات في المتون في كتاب “ الموطأ “ .
من العنايات بكتاب “ الموطأ “ ترتيبه على الأطراف ، مرتبه على الأطراف الداني كما ذكرنا ، وكتابه حُقق رسالة علمية في الجامعة الإسلامية ولم يُطبع بعد ، وكتاب “ إتحاف المهرة بأطراف الكتب العشرة “ أو” بالفوائد المبتكرة من أطراف الكتب العشرة “ للحافظ بن حجر الذي رتب فيه أحد عشر كتاب ، منها كتاب “ الموطأ “ للإمام مالك .
أما الشروح :
فهي كثيرة ، من أشهرها : أكتفي بأربع أو خمس شروح :
كتاب “ التمهيد “ لابن عبد البر الأندلسي ، وهو كتاب جليل ، أقول دائمًا وأثني عليه بأنه من أجل كتب الإسلام ، ومن أعظم الكتب المؤلفة في الإسلام ، وهو من مَرَاجِع المحدِّثين الكبرى ، ومن مراجع الفقهاء الكبرى ، والإمام الذهبي له عبارة شهيرة عندما قال عن مُحلَّى ابن حزم ، والتمهيد لابن عبد البر ، والمغني لابن قدامة ، والسنن الكبرى للبيهقي قال : من أجمل فيها النظر فهو الفقيه حقًا .
من الكتب المهمة أيضًا :(1/29)
كتاب “ الاستذكار “ لابن عبد البر في شرح “ الموطأ “ وقد يستغرب السامع كيف يشرح مؤلف واحد كتابًا واحدًا ويكون لكل كتابٍ منهما مزية تختلف عن الآخر ؛ هذا وقع بالفعل في هذين الكتابين ؛ حيث إن كتاب “ التمهيد “ أولًا مقتصرًا على الأحاديث المسندة ؛ لا يشرح إلا الأحاديث المسندة ، أما الموقوفات والمقطوعات عن التابعين فإنه لا يشرحها .
الأمر الآخر : أنه رتَّب هذا الكتاب على حسب شيوخ مالك ، لم يشرح “ الموطأ “ على حسب ترتيبه ، ابتدئ من أول الكتاب إلى آخره يشرح حديثًا حديثًا ، وإنما رتَّب أحاديث “ الموطأ “ حسب شيوخ الإمام مالك ، ثم أخذ يشرح هذه الأحاديث ، ففي ترتيبه يختلف عن ترتيب “ الموطأ “ .
أما “ الاستذكار “ : فهو شرح كبقية الشروح ترك “ الموطأ “ على وضعه ، وابتدأ بشرح “ الموطأ “ من أوله إلى آخره ، ولا يقتصر فقط على المُسنَد ، فيشرح المسند والموقوف والمقطوع ، ويتكلم عن كلام مالك الذي يتعقب به الأحاديث ليبين فقهها ويشير إلى اختلافات الفقهاء في ذلك ، إلا أن المسألة مبحوثة في كتاب “ التمهيد “ تجد أنها أوسع وأشمل من بحثها في كتاب “ الاستذكار “ ولذلك كثيرًا من يحيل في “ الاستذكار “ إلى “ التمهيد “ فيأتي إلى بعض المسائل ويقول : هذه المسألة قد فصلتها في كتاب “ التمهيد “ فكتاب “ الاستذكار “ له مزايا ، ولكتاب “ التمهيد “ مزايا أخرى .
من أشهر شروح “ الموطأ “ :(1/30)
كتاب “ المنتقى في شرح الموطأ “ لأبي الوليد سليمان بن خلف الباجي المُتوفى سنة أربع وسبعين وأربعمائة من الهجرة ، وهو كتاب مهم خاصة أن أبا الوليد الباجي كان معاصرًا لابن عبد البر ، فليس كالكتب المتأخرة التي في الغالب تأخذ عن ابن عبد البر أو عن غيره ، وعبارة عن اختصار لكتابه : لأبي الوليد الباجي جهد مستقل ، لم يطلع على جهد ابن عبد البر وشرح الكتاب بجهد مستقل ، فتجد فيه زوائد وفوائد لا تجدها في كتاب ابن عبد البر ، وأكثر عناية أبي الوليد الباجي بالفقه بفقه الحديث ، أما ابن عبد البر فاعتنى بجانبين :
الصنعة الحديثية ، والجانب الفقهي .
من شروح “ الموطأ “ اللطيفة والتي لها منهج غريب :
كتاب “ القبس “ لأبي بكر بن العربي المُتوفى سنة ستٍ وأربعين وخمسمائة للهجرة ، وهو كتاب لا يُستغنى عنه في الحقيقة ، وفيه لطائف ، وفيه التنبيه على بعض الفوائد الخفية ، وهو كتاب كتبه ابن العربي بإسلوبه الأدبي البليغ المشهور به .
هذه أهم الكتب حول كتاب “ الموطأ “ للإمام مالك بن أنس .
سبق أن ذكرنا أن كتاب “ الموطأ “ للإمام مالك بن أنس فيه أحاديث مرسلة ، وفيه بلاغات كثيرة ، والبلاغات هي مثل المُعلَّقات تمامًا ، يعني تعريف البلاغ هو تعريف المُعلَّق ، وهو ما حذف من مبتدأ إسناده واحد فأكثر ، إذا قال الإمام مالك : بلغني عن ابن عمر : هذا بلاغ ، إذا قال : بلغني عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : هذا بلاغ وهو أيضًا مُعلَّق ؛ لأنه حذف من مبتدأ إسناده واحد فأكثر ، لكن أُطلق على مُعلَّقات الإمام مالك بلاغات ؛ لأنه كثيرًا ما يستخدم كلمة “ بلغني عن فلان “ فقط ، وإلا هي مُعلَّقات .
هذه البلاغات اعتنى العلماء بوصلها كما اعتنوا بوصل بلاغات البخاري ، وممن اعتنى بها : ابن عبد البر في كتابين له :(1/31)
في كتاب “ التمهيد “ وفي كتابه “ التجريد “ أيضًا وهو كتاب مختصر من كتاب “ التمهيد “ اعتنى بوصل هذه البلاغات إلا أن هناك أربعة بلاغات لم يقف على وصلها ابن عبد البر في جميع “ الموطأ “ فجاء ابن الصلاح ليصل هذه البلاغات ، ويذكر أسانيدها التي رويت بها ، لكن نريد أن ننبِّه إن قولنا : بأن بلاغات “ الموطأ “ كلها قد وُصِلت لا يعني ذلك أن كلها صحيحة ، هي كلها قد عُرفت أسانيدها ، لكن منها ما هو صحيح ، ومنها ما هو ضعيف ، ومنها ما يمكن أن يُقال بأنه فيه نكارة ، فيه شيء من النكارة .
المقصود أن هذه البلاغات ليس لها حكم موطأ مالك من القبول ومن الاحتجاج الذي ذكرناه له سابقًا .
كلام يسير عن أحد الكتب ننتقل إليه :
كتب ابن الصلاح مطبوع ، مطبوع في آخر كتاب توجيه النظر لطاهر الجزائري وأيضًا طُبع في كتاب “ خمس وسائل في علوم الحديث “ بتحقيق عبد الفتاح أبو غدة ، فطُبع في هذا وطُبع في الكتاب الآخر .
نقف الآن وقفة سريعة مع أحد الكتب التي اشترطت الصحة وهو كتاب “ المُنتقى “ لابن الجارود .
اسم مؤلف : أبو محمد عبد الله بن علي بن الجارود النيسابوري ، المولود سنة مائتين وثلاثين للهجرة ، المُتوفى سنة ثلاثمائة وسبعة للهجرة .
سمع من علي بن خشرم ، ويعقوب بن إبراهيم الدورقي ، وزياد بن أيوب ، وبحر بن نصر وغيرهم ، وروى عنه الطبراني الإمام الطبراني ودعلج السجزي وغيرهما من الحفاظ ، اسم كتابه “ المنتقى في السنن المسندة “ .
يقول الذهبي عن هذا الكتاب مبينًا درجة أحاديثه وواصفًا له يقول : مجلد واحد في الأحكام .
هذا يبين أن هذا الكتاب خاص بأحاديث الأحكام ، هذا أول فائدة نستفيدها من كلام الإمام الذهبي ، وواقع الكتاب يدل على ذلك .
ثم قال : مجلد واحد .(1/32)
هذا فيه إشارة إلى أنه كتاب مُختصَر وصغير ، وهو بالفعل كتاب مختصر وصغير ، وعدد الأحاديث فيه ألف ومائة وأربعة عشر حديث ، وبذلك تعرف أيضًا أنه أقل من صحيح البخاري ومسلم ، يكاد يقارب نصف حجم صحيح البخاري أو أقل من ذلك .
يقول الإمام الذهبي مُكمِلًا كلامه قال : لا ينزل فيه عن رتبة الحسن أبدًا إلا في النادر ، في أحاديث يختلف فيها اجتهاد النقاد .
يقول : أحاديث هذا الكتاب لا تنزل عن درجة الحُسن إلا نادرًا جدًا .
ذكر بعض أهل العلم ومنهم الحافظ العراقي : أن هذا الكتاب كأنه مستَخرج لصحيح ابن خزيمة ؛ يعني يحرص ابن الجارود أن يروي أحاديث ابن خزيمة عن شيوخ ابن خزيمة ؛ لأنه مُعاصِر لابن خزيمة ، وهو قرين له ، واقتصر فقط على أصول أحاديث ابن خزيمة يعني الأحاديث التي يرويها ولها متابعات أو شواهد لا يعتني بإخراجها ، ولذلك جاء كتابه مختصرًا ، لم يأت كتابًا مُطوَّلًا .
ذكر هذا الكتاب أيضًا : ابن حزم عقب كتب الصحاح مباشرة ، مما يدل على أنه بالفعل من الكتب التي اشترطت القبول في أحاديث الكتاب .
يقول ابن حزم : أول الكتب الصحيحين ، ثم صحيح ابن السكن ، والمنتقى لابن الجارود ، والمنتقى لقاسم ، ثم بعد هذه كتاب أبي داود وكتاب النسائي .
فقدَّم كتاب “ المنتقى “ لابن الجارود على كتاب أبي داود وكتاب النسائي .
من جهود العلماء حول هذا الكتاب :
ألَّف أحد العلماء شرحًا له هذا العالِم اسمه يوسف بن عبد الله بن سعيد بن عياد الأندلسي ، المُتوفى سنة خمس وسبعين وخمسمائة للهجرة ، كتابه سمَّاه “ المرتضى في شرح المنتقى” .
وأيضًا هناك طبعة لكتاب “ المنتقى” بعنوان " غوث المكدود في تخريج المنتقى لابن الجارود " لأبي إسحاق الحويني الأثري وفقه الله تعالى .
وصلى اللهم وسلم ، وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين .(1/33)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على إمام الأنبياء والمرسلين وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد .
فتوقفنا بالأمس بعد أن انتهينا من الكلام عن كتاب " المنتقى " لابن الجارود عليه رحمة الله .
ونستأنف الآن بعضًا من مصادر الكتب التي اشترطت الصحة باختصار بالغ ؛ لأننا نريد أن ندخل إلى سنن أبي داود والكلام عن منهجه فيها ، فنقول :
إن من الكتب التي اشترطت الصحة كتاب :
1- كتاب " السنن الصغرى " للنسائي ؛ كتاب " المُجْتَبَى من السنن " الذي هو السنن الصغرى
للنسائي ، فمنها الإمام النسائي قد صرح بأنه لا يخرج في هذا الكتاب - وهو السنن الصغرى – إلا الأحاديث الصحيحة ، إلا ما بَيَّن علته فيه ، فإنه اشترط أنه إذا لم يبين علة الحديث فإِنَّ الحديث عنده يكون صحيحًا ، وأنبه إلى أن الصحيح عند أكثر العلماء يندرج فيه الحسن ، حتى الحسن يندرج في الصحيح ، فالمقصود أن هذا الكتاب لا تنزل أحاديثه عن مرتبة الحسن باصطلاح المتأخرين ، إلا في الأحاديث التي يبين علتها ، وقد يبين علتها صراحة ؛ بأن يضعف رجلًا في إسناد الحديث ، أو يحكم عليه بالانقطاع أو ما شابه ذلك ، أو يبين العلة بطريقة غير صريحة ؛ كأن يدرج الحديث موصولًا من جهة ومرسلًا من جهة أو ما شابه ذلك ، فهذا أيضًا فيه بيان لعلة الحديث ، وكل طريقة ذكرناها عند البخاري أو عند مسلم أو عند ابن خزيمة في بيان علة الحديث بطريقة صريحة قد يتبعها الإمام النسائي في إعلامه غير الصريح للأحاديث .
إذًا كتاب النسائي الذي هو " السنن الصغرى " يعتبر من كتب الصحاح ، ولذلك أطلق عليه غير واحد من أهل العلم بأنه الصحيح ، يقول فيه صحيح النسائي ، منهم : الخطيب البغدادي ، والْخَلَيِلِي ، وابن عدي ، وغير واحد من أهل العلم ؛ يطلقون على سنن النسائي " الصحيح " .(1/1)
وبالمناسبة : فإنه قد كان لي كلام عن منهج النسائي وابن ماجه في دورة سابقة من خمسة سنوات أو نحوها حول سنن النسائي وابن ماجه ، ولذلك لعلنا نُرفق بأشرطة هذه الدورة تلك الأشرطة السابقة حتى يصير عند السامع لهذه الأشرطة منهج أصحاب الكتب الستة جميعًا ؛ لأننا نرجو أن نتكلم اليوم عن أبي داود وغدًا عن الترمذي ، فيصبح تكلمنا عن البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه في الأشرطة السابقة ، إضافة إلى بقية كتب الصحاح التي ذكرناها ، فيصير كتب الصحاح مع بقية كتب السنن المشهورة كلها مجموعة في مكان واحد ، ولذلك فلم نتكلم طبعًا ولم نجد فرصة أصلًا للكلام على سنن النسائي وابن ماجه ، وقد اكتفينا بما ذكرناه في الأشرطة السابقة بدلًا من أن نعيد الكلام مرة أخرى ما دام أنه مسجلة ومتداولة بحمد الله تعالى .
هذا بالنسبة لكتاب " المجتبى " ، وبالنسبة لمنهجه والكلام عنه بالتفصيل ستجدونه إن شاء الله في الأشرطة إذا أحب أحدكم أن يتوسع في هذا الأمر .
2- من الكتب أيضًا التي اشترط أصحابها الصحة في أصول أحاديث كتاب : " تهذيب الآثار " لمحمد ابن جرير الطبري ، المتوفى سنة عشر وثلاثمائة ، صاحب كتاب " التفسير " وأيضًا : " التاريخ " ؛ كتابه " التاريخ " يعتبر أصل كتب التاريخ كلها ، وكتابه في التفسير يعتبر أيضًا أصل كتب التفسير كلها .
لهذا الإمام كتابٌ اسمه : " تهذيب الآثار" وهو كتاب ضخم كان ينوي مؤلفه وهو ابن جرير الطبري أن يجعله ديوانًا من دواوين الإسلام العظمى ، لكنه توفي قبل أن يُتِمَّه ، وللأسف الشديد أيضًا القدرُ الذي ألفه فُقِد كثير منه ، ولم يبق منه إلا قطع متفرقة ، فبقي منه جزء من مسند عمر بن الخطاب ، وجزء من مسند علي بن أبي طالب ، وجزء من مسند بقية العشرة ، وجزء من مسند بن عباس رضي الله عنهما .(1/2)
وهذا الكتاب كما لاحظتم مرتب على المسانيد ، رتب أحاديث هذا الكتاب على المسانيد ، وطريقته حتى يتبين الشرط أنه يورد الحديث الذي من رواية عمر بن الخطاب ، والذي يشترط فيه الصحة يورده أولًا ، ثم يتكلم عن إسناده ، ثم يورد متابعات هذا الحديث وشواهد أو الأحاديث التي تعارضه ، ثم يتكلم عن فقه الحديث ويتوسع في الكلام عن فقه الحديث ، ثم يختم بالكلام عن لغة الحديث وما في الآثار والأحاديث التي ساقها سابقًا من غريب الألفاظ ، وغريب التراكيب فيشرحها شرحًا لغويًّا بديعًا جدًّا ، فهو كتاب حديثٍ وفقهٍ ولغة ، ولذلك كان ينوي بالفعل أنه لو أتمه سيكون مصدرًا مهمًّا من مصادر كتب الإسلام عمومًا ، شاملة لأهم علوم الإسلام ؛ الحديث والفقه واللغة ، فيشترط في الحديث الذي يورده في أول الباب الصحة ، ولذلك يتعقب كل حديث يورده فيقول : هذا إسناد صحيح .
ولهذا الإمام منهج غريب في هذا الكتاب ؛ حيث إنه بعد أن يصحح هذا الإسناد ؛ إسناد هذا الحديث يقول : وكان ينبغي أن يكون هذا الحديث عند غيرنا غير صحيح ، أو غير مقبول ، ثم يذكر عللًا يرتبها (1 ، 2 ، 3 ، 4 ، ..) يقول : لعل غيرنا لو نظر في هذه العلل لرد هذا الحديث ، ثم يسكت عن الرد عنها صراحة ويبتدئ مباشرة بذكر متابعات أو شواهد أو ما شابه ذلك ، فهذا التصرف من ابن جرير الطبري جعل كثيرًا من الناس يستبهم أو يستغلق عليه مقصوده منه ؛ لأنه يذكر عللًا بعضها قد تبدو أنها عللًا حقيقية ، فكيف صحح الحديث مع كونها عللًا حقيقية ؟!(1/3)
الذي يظهر – والله أعلم – أنه يقصد بذكره لهذه العلل التي يسوقها بعد الحديث أنها علل يمكن لغيره في هذا الحديث أن يُعِلَّ بها الحديث ، ولا نقصد بذلك أن منهجه في التصحيح يخالف منهج من كانوا يُعل بهذه الطرائق التي يذكرها ، بل يبين أن كل حديث يمكن أن تختلف فيه وجهات النظر ، فالخلاف في هذه المسألة يعتبر – حسب ما يذكر ابن جرير – خلافًا جزئيًّا وليس خلافًا منهجيًّا ، يعني قد يورد مثلًا حديث ويقول : هذا الحديث تفرد به فلان وينبغي أن يُتَثَبَّت فيما تفرد به .
تصحيحه للحديث يدل على أنه درس هذا الحديث ودرس هذا التفرد ، فوجد أن هذا الراوي يحتمل هذا التفرد ، أو ربما يرى أن هذا الراوي لم يتفرد ولذلك يصحح الحديث ، لكن لم يورد علة يمكن أن تكون عند غيره ممن لم يوافقه في وجهة النظر حول هذا التفرد أنها قد تكون سببًا للضعف .
ويدل على ذلك - أن هذا مقصوده – أنه قد يورد عللًا حقيقية حتى عند ابن جرير نفسه يعتبرها عللًا حقيقية ، ثم لا يلتفت إليها ، مما يدل على أنه قصد أن هذه العلة غير قادحة في هذا الحديث بالذات ، وإن كانت قد تقدح في غيره من الأحاديث ، نعم لابن جرير آراء ربما خالفت بعض آراء المحدثين ، كاحتجاجه بالحديث المرسل مثلًا فإنه قد صرح بذلك ، وهو بذلك يميل إلى الفقهاء ، وخاصة فقهاء أهل الرأي الذين لهم موقف معين من الحديث المرسل ويحتجون به ؛ هذا صحيح ، لكن في بقية المسائل هو جارٍ في ذلك على منهج المحدثين ، والكلام في هذا الموضوع طويل جدًّا ، لكن أحببت فقط الإلماح إليه .
المقصود أن " تهذيب الآثار " لابن جرير الطبري أحد الكتب التي اشترطت في أصول أحاديث كتابه أن تكون صحيحه .
3- الكتاب الآخر : بيان مشكل أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واستخراج ما فيها من الأحكام ونفي التضاد عنها وهو الكتاب الشهير بـ" شرح مشكل الآثار " لأبي جعفر الطحاوي .(1/4)
اشترط الطحاوي في مقدمة كتابه ألا يورد حديثًا في هذا الكتاب إلا أن يكون حديثًا مقبولًا ؛ هكذا اشترط ، أن يكون كل الأحاديث التي يورده مقبولة ، لكن من خلال النظر في كتابه عرفنا مقصوده من تلك العبارة التي ذكرها في مقدمة كتابه ، وهي أنه يشترط القبول بقيدين :
القيد الأول : أن يكون الحديث الذي يشترط فيه القبول هو الحديث الذي يورده في أصل الباب لبيان أن هناك حديث آخر يعارضه ؛ لأن طريقة هذا الكتاب أنه يورد أحاديث مشكلة ، ومشكل الحديث : هو الحديث الذي وقع التعارض بينه وبين آية أو حديث آخر أو عقل ؛ أمور عقلية حسية مثلًا ، إما عقلية أو حسية . فيحاول بعد إيراده هذا الإشكال أن يحل هذا الإشكال أن يحل هذا الإشكال بين هذا الحديث وتلك الآية أو الحديث والحديث أو الحديث والعقل أو الحس .
فإذًا هو أولًا يورد حديثًا في أصل الباب ، ثم يورد مثلًا حديثًا آخر يبين أنه يعارض الحديث الأول ، فهو يشترط في هذين الحديثين - إذا أراد أن يجمع بينهما – أن يكونا مقبولين ، والأهم من ذلك الحديث الأول الذي يعقد له الباب يشترط فيه أن يكون مقبولًا ، إلا أن يورد ما يدل على ضعفه ، إلا أن يصرح بضعفه ، فالأصل في الأحاديث التي يوردها ولا يضعفها أنها عنده في درجة القبول ، وهذا الذي يوافق كلامه في المقدمة ؛ حيث اشترط القبول مطلقًا ، لكن واقع كتابه وتصرفه يدل على أنه إنما يقصد بذلك الأحاديث التي يوردها لبيان ما فيها من الإشكال ، أما الأحاديث التي يوردها في بيان قوة تفسيره للحديث وصحة شرطه للحديث فهذه غير داخلة في ضمن شرطه القبول ، قد يورد أحاديث ضعيفة أو غير ذلك في أثناء شرحه للحديث وفكه للإشكال الذي فيه ، أي ليست داخلة ضمن شرط القبول .(1/5)
وشرطه في القبول في ذلك شرط صحيح ولا بد منه ؛ لأن الجمع بين الحديث والآية ، أو الحديث والحديث ، أو محاولة تأويل الحديث ليوافق الواقع ؛ هذا فرع قبوله ، التوجيه توجيه الإشكال فرع للحكم على الحديث بالقبول ؛ لأنه لو كان الحديث ضعيفًا ، ما في داعي! يقول : ما في إشكال مباشرة يقول : هذا حديث ضعيف ، إذًا لا إشكال بينه وبين حديث آخر صحيح ، أو بين آية أخرى ، أو بين العقل والحس ، فما دام أنه يريد أن يوجه ويتعب نفسه في التوجيه فلا بد أن يكون الحديث يستحق هذا التعب وتوجيهه أن يكون مقبولًا ، ولذلك اشترط في مقدمة الكتاب هذا القبول ، إلا أن يكون هناك أحاديث قليلة أوردها وبَيَّنَ ضعفها ثم وجهها ، وكأنه يقول : " أنا أُضَعِّفُها لكن قد يخالفني غيري فيقبلُها ، فلذلك أُوَجِّهُ ما نَهَى .
فتكون هذه الأحاديث القليلة خارجة عن شرط القبول الذي اشترطه في البداية ، وأما ما سواها فلا يندرج ضمن المقبول ، فيمكن أن أحتج بسكوت الطحاوي على الحديث وإيراده في " شرح مشكل الآثار " على أنه في درجة القبول عند الطحاوي ، وبذلك يزيد عدد من الأحاديث ربما لم أقف على أحد من العلماء قام بتصحيحها ، وهذه يغفل عنها كثير من الناس ، فهل وجدتم فِئَامًا كثيرًا من المحققين يقولون : قَبِلَهُ الطحاوي في " شرح مشكِل الآثار " ؟ ما عندهم من يفعل ذلك ، ثم يتمسكون بأشياء ضعيفة ولا قيمة لها مثل سقوط الذهبي على الحاكم ، مع أنهم ربما لو التفتوا لبقية تصحيحات الأئمة التي ذكرناها لكم سابقًا لاكتفوا بهذه التصحيحات على أن يتمسكوا بأمر لا حجة فيه ولا قوة فيه .
4- هذا الكتاب الذي أحببنا ذكره ، أيضًا من الكتب التي اشترطت الصحة كتاب : " الإلزامات " للدارقطني ؛ حيث إنه كتاب اشترط فيه الدارقطني أن يورد أسانيد وأحاديث على شرط الشيخين - حسب رأيه - ولم يخرجها الشيخان ، فهو من هذا الجانب كأنه من الكتب المستدركة .
الأول : مستدرك الحاكم .(1/6)
الثاني : " المختار " للضياء .
الثالث : " الإلزامات " .
إذًا الآن عندنا ثلاثة مستدركات ذكرناها على الشيخين .
وكتاب " الإلزامات " مطبوع مع كتاب " التتبع " .
ومقصودُه بالإلزام لا كما فُهم عنه أنه يلزم الشيخين بإخراج كل ما في كتابه .
وإنما مقصوده بالإلزام أحد معنيين :
المعنى الأول : أن يقصد أن بعض هذه الأحاديث التي أوردها أنها تدل على مسائل أصلية في الفقه ، فهي أحاديث أصول ، ومن شرط البخاري ومسلم أن يخرجا الأحاديث الأصلية في الدلالة على حكم مما اجتمع فيه شروط الصحة التي اشترطاها في كتابيهما ، فكأنما يقول : أنتم اشترطتم ألا تخلو كتابكم من أصلٍ يدل على حكم اجتمع فيه شروط الصحة التي عندكم ، فأنا وقفت على أصول اجتمعت فيها شروط الصحة ، فيلزمكم على ذلك إخراجها في الصحيح .
وهذا ملمح ألمح إليه أكثر من عالم ومنهم الحاكم النيسابوري ، فإنه لما أخرج حديث :??لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ?? . وصححه وهو أصل في الباب بالفعل ، أصل في اشتراط الولي لعقد النكاح ، قال : أنا أَسْتَغرِب أو أَعْجَب من الحاكم من الشيخين ؛ كيف لم يخرجا هذا الحديث . هذا يبين بالفعل أن هذه نظرة كانت موجودة عند العلماء ؛ أنهم يستغربون من عدم إخراج الشيخين لأصل في الباب وُجدت فيه شروط الصحة عندهما ؛ هذا المعنى الأول من مقصود الدار قطني بالإلزام .
المعنى الثاني : أنه لمن أراد أن يُخرج أحاديث على شرط الشيخين لم يخرجاها يلزمه أن يُخرج هذه الأحاديث ، أو بعبارة أخرى : هي أحاديث اجتمعت فيها شروط الشيخين فهي لازمة الإخراج لمن أراد أن يؤلف على شرطهما ؛ هذا المقصود الثاني للدارقطني ، وإلا الدارقطني لا يخفى عليه أن البخاري ومسلم ما ادعى الاستيعاب ، فلا يمكن أن يقال للدارقطني : كيف تلزمهما وهما لم يشترطا الاستيعاب ؛ هذا أمر واضح لا يخفى عن صغار طلبة العلم ، وهو واضح من عنوان الكتابين كما سبق أن ذكرنا في لقاءاتنا السابقة .(1/7)
5- من الكتب الملحقة بكتب الصحاح : المستخرجات على كتب الصحاح ، فهي أيضًا من الكتب الملحَقة بكتب الصحاح ؛ كـ: " المستخرج على صحيح البخاري " ، " المستخرج على صحيح مسلم " ، " المستخرج على المنتقى لابن الجارود " ؛ هذه كلها داخلة ضمن الكتب الصحاح .
وللعلماء كلام حول هذه الكتب ، لكن ننبه إلى قضية معينة ، وهي : أن زيادات الألفاظ - يعني زيادات المتون - الواردة في هذه الكتب لا يلزم أن تكون صحيحة ، فيحتاج الحكم على صحة هذه الزيادات التي في هذا المتون إلى دراسة تلك المتون والتثبت من أن هذه الزيادات ليست شاذة وليست وهم وخطأ من رواتها ، لكن رجال الأسانيد في هذه الكتب وأسانيد هذه الكتب الأصل فيها الصحة ، الأصل في متونها الصحة أيضًا إلا إذا ظهر لنا أن هناك مخالفة لما صح من الروايات الأخرى الواردة في الصحيحين أو الواردة خارج الصحيحين ، فلكونها مستخرجة على الكتب التي اشترطت الصحة فيلزم أن تكون أصول أحاديثها صحيحة في أقل تقدير ، وهذا لا شك فيه لأن أصول أحاديثه هي الواردة في كتاب البخاري ومسلم ، والمستخرجات كثيرة ، الذي طُبع منها حتى الآن ؛ على مسلم لم يُطبع إلا مستخرجان وهو : مستخرج أبي عوانة ، ومستخرج أبي نعيم ، ولم يطبع حتى الآن شيء المستخرجات التي على صحيح البخاري ولا يعلم عن مكان وجودها شيء .
هذه الكتب الصحاح التي أحببنا أن نلحقها بالكتب السابقة حتى لا يفوتنا الكلام عن عموم كتب الصحاح الموجودة والتي يمكن الاستفادة منها .
نبتدئ الآن بالكلام عن أبي داود عليه رحمة الله ، وكتابه " السنن " .
أولًا : ترجمة المؤلف : هو سُليمان بن الأَشْعَث بن إسحاق بن بشير الأَسْدِي أبو داود السجستاني .
والأسد قبيلة يَمَنِيَّة كما هو معروف ، وهو منهم صَلِيبة ؛ يعني من قبيلة الأَسْد ، فهو عربي من هذه القبيلة .(1/8)
السجستاني : نسبة إلى سجستان ، وهي إقليم واسع ، الآن حسب الحدود الجغرافية الحديثة يقع جزء منه في أفغانستان ، وجزء منه في إيران ، وجزء منه في تركمانستان ؛ في هذا البلدان الثلاثة ، فهو في الشمال الشرقي من أفغانستان ، ويقع منها جزء في إيران ، وجزء في تركمانستان في الشمال ؛ هذه هي منطقة سجستان .
ولد هذا العالِم في هذا البلدة سنة : مائتين واثنين من الهجرة ، وتوفي سنة مائتين وخمسة وسبعين من الهجرة ، فعاش على هذا : ثلاثة وسبعين عامًا .
بدأ رحلته في الصغر : وأول ما ابتدئ الرحلة سمع بإقليمه هذا الذي هو منه ، ثم خرج إلى إقليم خُرَاسَان فسمع بنَيْسَابُور وبِمَرْو وبِبَلْخ وبِهَرَاة ، وبغيرها من بلدان هذه المنطقة ، ثم دخل بغداد وعمره ثمانية عشر عامًا ، يعني رحلته في خراسان كانت قبل أن يُتم ثمانية عشرة سنة ، ومع ذلك كان بداية طلبه للعلم بداية مبكرة ؛ لأنه أول البدء طلب العلم في بلده وفي إقليمه ثم ارتحل إلى خراسان ثم ارتحل إلى بغداد ، عرفنا زمن هروبه إلى خراسان وهو أنه كان سنة مائتين وعشرين أي لما كان عمره ثمانية عشر عامًا .
ودخل البصرة أيضًا - قلنا أنه دخل بغداد في مائتين وعشرين – ودخل البصرة أيضًا في هذه السنة ، وسمع من أحد كبار شيوخها وهو أبو عمر حفص بن عمر الظهير ، وتوفي هذا الشيخ في هذه السنة ، سمع منه مجالس متعددة ثم توفي في نفس هذه السنة التي سمع منه أبو داود فيها .
ثم دخل الكوفة سنة مائتين وواحد وعشرين ، ودخل دمشق أيضًا ، رحل إلى الشام في هذه السنة ؛ سنة مائتين وواحد وعشرين ، وانتقل لِطَوِّهِ في الآفاق فجال أغلب بلدان الشام حتى أقصى شمال بلدان الشام وهي طَرْسُوس ، آخر ثغر شامي على حدود بلاد الروم ، ومكث فيه فترة طويلة - في طَرْسُوس – وهو ثغر ، يعني كان يجلس فيه المجاهدون للرباط ، وهذا يدل على حرص هذا العالِم على أن يقوم بهذه الفريضة وهي الغزو والرباط في سبيل الله عز وجل .(1/9)
ثم أيضًا انتقل إلى مصر ورحل إلى مصر ، وسمع من علمائها هناك ، وطبعًا حَجَّ إلى الحجاز - الحرمين – وسمع من علمائها في مكة والمدينة ، وطَوَّف الآفاق في جمع سنة النبي عليه الصلاة والسلام ، وكان من الرحالة في جمع السنن .
ومن أَجَلِّ شيوخه وأقدمهم :
الإمام أحمد بن حنبل ، ويحيى بن معين ، وإسحاق بن راهويه ، وسليمان بن حرب ، والقعنبي ، ومسدد بن مسرهد ، وسعيد بن منصور ، وأقدم شيخ له هو : مسلم بن إبراهيم الأزدي ؛ حيث إنه الشيخ الوحيد الذي روى عنه حديثًا ثلاثيًّا في كتابه السنن ، فليس في كتاب السنن لأبي داود إلا حديثٌ ثلاثيٌّ واحد ، أيش يعني ثلاثي ؟ يعني ليس بين أبي داود والنبي عليه الصلاة والسلام إلا ثلاثة أشحاص ، وهذا الحديث الثلاثي هو حديث يقول فيه أبو داود :
حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ أَبُو طَالُوتَ ، قَالَ :??شَهِدْتُ أَبَا بَرْزَةَ دَخَلَ عَلَى عُبَيْدِ اللهِ بْنِ زِيَادٍ?? أبو برزة صحابي ، وذكر قصة فيها سؤال عبيد الله بن زياد عن الحَوْبِ ؛ حَوْبِ النبي - صلى الله عليه وسلم - الكَوْثَر ، فأجابه أبو برزة بما أجابه به .
المقصود أن هذا الحديث ظاهر أنه ثلاثي : مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عن عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ أَبُو طَالُوتَ عن أَبِي بَرْزَة ؛ وهو الصحابي راوي الحديث ، وهو الثلاثي الوحيد في كتاب " سنن أبي داود " .
والثلاثيات وُجِدت في : صحيح البخاري ، وفي سنن أبي داود ، وفي سنن ابن ماجه ، أما كتاب النسائي وكتاب مسلم فليس فيهما من الثلاثيات شيء ، والترمذي أظن فيه أيضًا ثلاثيات ، لست واثقًا ، لكن أظن فيه شيئًا من الثلاثيات ، قد نتوثق ونأتي لكم بالخبر في الغد إن شاء الله .
عدد شيوخ أبي داود في كتابه " السنن " .(1/10)
بلغ تسعًا وأربعين وأربعمائة شيخ ، وهو عدد كبير ولا شك ، وقد أَلَّف في جمعهم أحد العلماء كتابًا سماه : " تسمية شيوخ أبي داود " ، وهو كتاب مطبوع لأبي علي الغَسَّاني المتوفى سنة ثمانية وتسعين وأربعمائة من الهجرة .
من تلامذته المشهورين :
الإمام الترمذي ، والنسائي ، وأبو عوانة صاحب المستخرج على مسلم ، وابن أبي الدنيا ، ومحمد بن نصر المَرْوَزِي ، وهؤلاء كلهم أئمة حفاظ كبار مما يدل على جلالة أبي داود حتى روى عنه هؤلاء الأئمة الكبار .
أما رواة سننه فهم كثيرون :
ذكر منهم السخاوي في كتابه " بذل المجهود في خَتْمِ أبي داود " أحد عشر راويًا ، رووا عنه كتابه " السنن " ، لكن أشهر هؤلاء الرواة : الرواة الخمسة ، سنذكر الآن رواة السنن عن أبي داود ، ونذكر كلامًا مختصرًا حول مزية بعض هذه المرويات على بعض .
الرواية الأولى : رواية أبي سعيد أحمد بن محمد بن زياد الشهير بـ : ابن الأعرابي ، المتوفى سنة أربعين وثلاثمائة من الهجرة ، وهذه الرواية فيها سقط بعض الكتب ؛ لأن ابن الأعرابي لم يسمعها من أبي داود ، تغيب بعض المجالس ففاتته بعض كتب السنن ، وهذه الكتب هي كتاب : " الفتن ، والملاحم ، والحدود ، والخاتم ، ونصف اللباس " ، كما أنه فاتته أجزاء من أبواب من كتب أخرى في ابن العربي ، في رواية تعتبر من أنقص الروايات للسنن لأبي داود .
الرواية الثانية : رواية أبي الحسن ، علي بن الحسن ابن العبد البصري الوراق ، المتوفى سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة للهجرة ، وهي الرواية الشهيرة برواية ابن العبد .
تمتاز هذه الرواية بـ :
1- أنها أكثر الروايات كلامًا وروايات ، أو بأَدَقَّ : أكثر الروايات كلامًا بالأخص على الروايات ، يعني أبو داود سنذكر إن شاء الله أنه تعقب الروايات لبيان ما فيها من الضعف مثلًا ، فأكثر الروايات اعتناءً بذكر كلام أبي داود على الأحاديث هي رواية ابن العبد .(1/11)
2- ومن مزايا هذه الرواية أن ابن العبد سمعها على أبي داود ست مرات ، وأن آخر مرة سمعها كانت آخر مرة يملي فيها أبو داود السنن ، حتى إن أبو داود تُوفي ولم يُتِم إملاء آخر رواية عنه ، سمع الكتاب ست مرات ، وآخر مرة منها كانت سنة مائتين وخمسة وسبعين وهي السنة التي توفي فيها أبو داود وكان أبو داود لم يُتم السنن ، وهذا يدل على شدة توثق ابن العبد في روايته عن أبي داود .
الرواية الثالثة : هي رواية أبي بكر محمد بن بكر بن محمد بن عبد الرزاق بن دَاسَهْ البصري التَّمَّار ، وهي الرواية الشهيرة برواية ابن دَاسَهْ ، وضَبْطُها : بتخفيف السين ، ومن أهل العلم من ضَبَطَها بالتشديد : دَاسَّهْ ، لكن الأشهر أنها بتخفيف السين .
المتوفى سنة ست وأربعين وثلاثمائة ، وهو آخر رواة السنن عن أبي داود وفاةً ، كل الرواة تُوُفُّوا قبله إلا هذا هو آخِرُهم وفاةً ولذلك اشتهرت روايته اشتهارًا بالغًا لعلوِّ سنده بالرواية عن أبي داود .
تمتاز هذه الرواية بأنها أكمل الروايات وأكثرها حديثًا ، فأكثرُ الروايات حديثًا عن أبي داود هي رواية ابن دَاسَهْ عن أبي داود ، فلذلك تجد فيها أحاديث لا تجدها في الروايات الأخرى .
الرواية الرابعة : رواية أبي عيسى إسحاق بن موسى بن سعيد الرملي ، وهي من الروايات المشهورة والتي تداولها أهل العلم .
والرواية - الأخيرة - الخامسة : رواية أبي علي محمد بن أحمد بن عمرو اللؤلؤي ، المتوفى سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة للهجرة .
تمتاز هذه الرواية بـ :
1- أن صاحبها كان هو هذا الذي يقرأ على أبي داود السنن لمدة عشرين عامًا ، الذين يقرءون(1/12)
" السنن " ويتلقون عن أبي داود كان القارئ لهذه " السنن " مدة عشرين عامًا هو هذا العالِم الذي هو اللؤلؤي ، ولذلك اشتُهرت هذه الرواية أكثر من غيرها من الروايات ، وتعتبر هي أشهر روايات " السنن " ، أشهر روايات " السنن " على الإطلاق رواية اللؤلؤي ، وغالب المطبوعات الموجودة : إما من رواية اللؤلؤي ، أو مُلَفَّقة من رواية اللؤلؤي وغيرها من الروايات وخاصة رواية ابن داسه معه .
2- أيضًا من مزايا هذه الرواية : أن اللؤلؤي أيضًا كان قد حضر آخر عَرْضَة على أبي داود قبل وفاته ، فهو في ذلك مساوٍ لابن العبد من ناحية أنه حضر العَرْضَة الأخيرة لسنن أبي داود .
تمتاز رواية ابن داسه عليها بزيادة الأحاديث ، ولذلك نحن في حاجة - في الحقيقة - إلى رواية تخرج رواية اللؤلؤي وفي حاشيتها بيان الفروق في الروايات ، فتضيف لنا الأحاديث الواردة في رواية ابن داسه ، وتضيف لنا أيضًا كلام أبي داود الوارد في روايات أخرى وخاصة رواية ابن العبد التي قلنا بأنها أكثر الروايات اعتناءً بنقل كلام أبي داود ، وسيظهر بعد قليل – إن شاء الله عز وجل – أهمية مثل هذه الزيادات التي تورد كلامًا لأبي داود على " السنن " قد لا يوجد إلا في بعض الروايات دون بعضها .
هذه أهم روايات " السنن " وأهم ما يميز كل رواية منها .
مصنفات أبي داود ، ومؤلفاته :
? الكتاب الأول : كتاب " السنن " ، وهو أشهرها .
? الكتاب الثاني : كتاب " المراسيل " ، وهو مطبوع في آخر كتاب " السنن " ، وهو في الحقيقة جزء من كتاب " السنن " ، وليس كتابًا منفصلًا عن كتاب " السنن " ، بل هو قطعة منه ؛ لأنه وارد في عدد من الروايات عقب " السنن " مباشرة ، مثل كتاب " العلل الصغير " للترمذي الذي هو أيضًا من كتاب " الجامع " للترمذي ، كذلك كتاب " المراسيل " .
ويدل على ذلك أيضًا كلام لأبي داود في رسالته إلى أهل مكة كتاب " المراسيل" جزء من كتاب " السنن " .(1/13)
? الكتاب الثالث : هو كتاب " الزهد " .
وهو مطبوع ، لن أذكر إلا الكتب المطبوعة الآن ، له كتبٌ كثيرة مفقودة ، لن أذكر منها إلا الكتب المطبوعة .
? الكتاب الرابع : كتاب " سؤالات أبي داود لأحمد " ، وإذا قلنا : " سؤالات أبي داود لأحمد " فنقصد بها سؤالاته الحديثية التي يسأله فيها عن مسائل في الحديث ؛ في الجرح والتعديل والتعليل ، فله سؤالات حديثية للإمام أحمد .
? الكتاب الخامس : " مسائله لأحمد " ، وإذا قلنا : " مسائله " نقصد بها المسائل الفقهية ، وهي أنه كان يسأل الإمام أحمد عن آرائه الفقهية في بعض المسائل ، فيجيبه الإمام أحمد بما من حكم فقهي لتلك المسائل .
? الكتاب السادس : " أجوبته لأبي عبيد الآجُرِّي " ، أبو عبيد الآجري أحد تلامذة أبي داود ، له سؤالات حديثية لأبي داود ؛ يسأله عن الرواة وعن الأحاديث ، يعني مثل سؤالات أبي داود لأحمد ، هناك أحد تلامذة أبي داود كان يسأله عن بعض مسائل الجرح والتعديل ، والكلام في الرواة والأحاديث ، وكان يجيبه ، وهي مطبوعة أيضًا .
? الكتاب السابع : " رسالة أبي داود إلى أهل مكة في وصف سننه " ، وهي رسالة مطبوعة أكثر من طبعة .
? الكتاب الثامن : كتاب " الإخوة والأخوات " لأبي داود ، وهو يبين من روى السنن عن النبي عليه الصلاة والسلام من الرواة الذين تربطهم ببعض علاقة الأُخُوَّة ، فيقول : فلان وفلان وفلان إخوة ، ثم يذكر إخوة آخرون ، وهكذا ، فهو جامع للإخوة من الرواة .
هذا فيما يتعلق بترجمة أبي داود عليه رحمة الله .
أما الكلام عن " سننه " :
فيُبتدئ تاريخ " السنن " فيما يظهر من وقت مبكر ، فقد ورد أنه عرض كتاب " السنن " على الإمام أحمد فاستحسنه وجَوَّدَ تصنيفه واعتبر أنه كتاب جيد حسب التصنيف .(1/14)
والإمام أحمد توفي سنة مائتين وواحد وأربعين ، يعني نفترض مثلًا أنه عرضه على الإمام قبل وفاته بخمس سنين أو ثلاث سنين ، لأن الإمام أحمد في أواخر عمره اعتزل اعتزالًا شديدًا ، فلا يتصور أنه عرضه عليه في أواخر عمره تمامًا ، يعني في سنة وفاته أو قبل سنة وفاته بسنة أو سنتين ، نقول : بخمس سنوات تقريبًا .
معنى ذلك أنه عرضه عليه سنة مائتين وخمسة وثلاثين أو ستة وثلاثين ، فإذا كان ولد أبو داود سنة مائتين واثنين ، معنى ذلك كم كان عمره يوم أن انتهى من تأليف " السنن " ؟
أربعة وثلاثين سنة تقريبًا ، قل إنه مكث في تأليف " السنن " عشر سنوات تقريبًا ؛ لأنه إذا قلنا أن البخاري مكث ستة عشر ومسلم خمسة عشر ، فليكون أبو داود عشر سنوات ، وهذا وقت بالاجتهاد يكفي لتأليف مثل هذا الكتاب العظيم ، ونحن نعرف الأئمة كيف كانوا يُجَوِّدُون تصنيفهم ويصبرون عليه ولا يتعجلون في التأليف ، معنى ذلك أنه ابتدئ التأليف وعمره كم تقريبًا ؟ أربعة وعشرون سنة أو خمسة وعشرين سنة أو نحوه ، وهنا أعود وأؤكد على قضية أن تكون همة الشاب عالية ، انظر العلماء من متى ابتدءوا بالتأليف والتصنيف ؟! من فترة مبكرة من حياتهم ، ما قال أحد منهم : من أكون ؟! وكيف ؟! ولا يحق لي ! لا ، ابْتَدَع ، حتى أثناء طلب العلم ، يعني هو مشروع بالفعل عندهم ، أثناء تطْوَافِه وأثناء طلبه للعلم كان يُبَوِّب ويُصَنِّف ، وفي باله خُطَّة معينة يريد أن يصل إليها ، ووصل إليها عليه رحمة الله ، فكان هذا جهد سنوات طويلة حتى وصل إلى تأليف هذا الكتاب العظيم .
وقد انتقى كتابه هذا - كما ذكر - من خمسمائة ألف حديث كَتَبَها بخط يده ، غيرَ الأحاديث التي اقتَنَى نُسَخَها ولم يَكتبْها بخط يده ، ومعنى ذلك أنه انتقى كتابه هذا من أكثر من خمسمائة ألف حديث بكثير ، ولعلها ضِعْف هذا العدد .(1/15)
المقصود أنه كتب خمسمائة ألف حديث بخط يده وكان انتقائه من ضمن هذه الخمسمائة ألف حديث التي كتبها عن النبي عليه الصلاة والسلام ، أو التي كتب أسانيدها سواء عن النبي أو النبي الصحابة والتابعين .
أهم مزية في هذا الكتاب : عنايته بأحاديث الأحكام ، ولذلك سماه بكتاب " السنن " ، كذا سماه مؤلفه ، ونريد أن نقف الآن عند عبارة (السنن) .
وعبارة (السنن) تدل على أنه سيعتني بأحاديث الأحكام ، وقد صرح بذلك في " رسالته لأهل مكة " عندما قال : وإنما لم أصنف في كتاب " السنن " إلا الأحكام . هو نفسه أبو داود يقول هذا ،
يقول : " ولم أصنف كتب الزهد وفضائل الأعمال وغيرها ، فهذا الأربعة آلاف والثمانمائة – التي هي عدد أحاديث كتابه – كلها في الأحكام ، فأما أحاديث كثيرة صحاح في الزهد والفضائل وغيرها فلم أُخَرِّجْهَا " . وهي عبارة صريحة بأنه سيقتصر على أحاديث الأحكام دون غيرها من الأحاديث ، نعم هناك كتب في صحيحه غير متعلقة بالأحكام ، مثل : كتاب " الفتن " ، و" الملاحم " ، و" المهدي " ، لكنها قليلة بالنسبة لغيرها ، فكأن – يعني ممكن نؤول عبارته بأن – أقصى عنايته وأكثر عنايته بأحاديث الأحكام ، ولا يُخرج مما لا يُستنبط منها حكم إلا شيئًا قليلًا ، ولذلك تَجَنَّب أبوابًا كبرى لم يذكرها مثل : كتاب " فضائل الصحابة " مثلًا ، ما يدخل تحت فضائل البلدان والقبائل وما شابه ذلك ، كتاب " تفسير القرآن " ، " صفة الجنة والنار " ، وما إلى ذلك ، كل هذه أبواب لم يُدخلها في " السنن " لأنها لا يستنبط منها حكم فقهي ، وإنما ورد في الكتاب ما يُستنبط منه حكم فقهي .
أيضًا مما يتعلق بهذا العنوان " كتاب السنن " :(1/16)
كلمة (السنن) تدل على أنه سيعتني بالأحاديث المرفوعة ؛ لأن السنة الأصل فيها أن تُطلق على ما للنبي عليه الصلاة والسلام ، ولذلك كان قول الصحابي :??مِنَ السُّنَّةِ كذا?? . يعني أن له الرفع ، أنه مما يُنقل النبي أن عليه الصلاة والسلام ، فالأصل في كلمة (السنن) الدلالة على الرفع ، ولذلك نجده لا يورد الموقوفات إلا نادرًا .
وله عبارات أيضًا تدل على تجنبه لرواية الموقوفات ، فإنه لما أثنى على كتابه الثناء البالغ في " رسالة أبي داود إلى أهل مكة " قال في هذا الثناء : " ولا أعلم شيئًا بعد القرآن أَلْزَمَ للناس أن يتعلموه من هذا الكتاب ، ولا يَضُرُّ رجلًا ألا يكتب من العلم بعدما يكتب هذه الكتب – يعني سننه – شيئًا " . يقول : لو أن إنسان لم يُحصل إلا القرآن ثم كتب هذا الكتاب لكفاه ذلك النبي غيره من الكتب ، وهذا ثناء بالغ في كتابه .
مع ما يراه من أن هذا الكتاب يُغني في باب السنن إلا أنه يقول بعد ذلك في " رسالته لأهل مكة " يقول : " ويعجبني أن يكتب الرجل مع هذه الكتب " .
مقصود الكتب هنا : كتب " كتاب السنن " الطهارة ، الصلاة ، الزكاة ، الواردة في " السنن " .
يقول : " ويعجبني أن يكتب الرجل مع هذه الكتب من رأي أصحاب أن - صلى الله عليه وسلم - " .
يعني هو هنا يعرف أنه يحتاج الإنسان إلى القرآن وإلى كتاب " السنن " وإلى فقه الصحابة ، وفقه الصحابة لأنه غير موجود في كتابه " السنن " ، فإنه يقول يجب عليك أن تستكملها من كتب أخرى .
وهذا يبين فيه :
أولًا : إلى أنه إلى يُخرج الموقوف مع أهميته ، لكنه اشترط أن يُخرج المرفوع .
ثانيًا : أنه ينبه إلى ضرورة الرجوع إلى فقه السلف وإلى فهم السلف لفهم الكتاب والسنة ، وأنه لا ينبغي لأحد أن يستدرك بالاستنباط دون الرجوع إلى فهم السلف من الكتاب والسنة .(1/17)
مما يتعلق بشرطه في الجمع والتأليف - وسيأتي شرطه في القبول بعد قليل – أنه قصد استقصاء أصول أحاديث الأحكام ، انتبهوا إلى القيد !! ما قلتُ : أحاديث الأحكام ، وإنما قلتُ : أصول الأحاديث ، وهو يصرح بذلك في " رسالته إلى أهل مكة " في أكثر من موطن ، فيقول مثلًا : أولًا بالنسبة للاستقصاء قال عبارة شهيرة جدًّا تدل على شدة اعتزازه بهذا الكتاب ، يقول : " ولا أعرف أحدًا جمع على الاستقصاء غيري " . يقول : لا أعرف أحدًا سبقني إلى الجمع المستقصي كما استقصيت في جمعي هذا ، وهذا أيضًا فيه دلالة إلى أن كتاب أبي داود هو أول كتاب في أحاديث الأحكام على وجه الاستقصاء ، سبقته كتب لم تَتَعَنَّ الاستقصاء ، أما كتابه فهو أول كتاب مصنَّف في أحاديث الأحكام على وجه الاستقصاء ، .
ثم يقول : " فإن ذُكر لك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - سنة ليس مما خرَّجْتُه فاعلم أنه حديث واهٍ ، إلا أن يكون في كتابه من طريق آخر ، فإني لم أُخرِّج الطرق لأنه يكبر على المتعلم " .
يقول : كل سُنة ترد عن النبي عليه الصلاة والسلام غير موجودة في هذا الكتاب فاعلم أنها واهية لا تصح عن النبي عليه الصلاة والسلام ، لم يقل : كل حديث ، وهذا يدل على أنه يقصد إخراج أصول الأحكام ، لا يقصد إخراج كل الأحاديث الصحيحة الواردة في الأحكام أو المقبولة أو الدائرة بين القبول والرد في درجة الخفة والضعف ، لا ، إنما يقصد أصول أحاديث الأحكام .
أيضًا ربما يشير إلى ذلك قوله عن كتابه : " وهو كتاب لا ترد عليك سنة – انظر! ما قال : حديث – عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بإسناد صالح إلا وهي فيه ، إلا أن يكون كلام استُخْرِج من الحديث ، ولا يكاد يكون هذا " .
يقول : إنه لا يكاد يوجد سنة عن النبي عليه الصلاة والسلام إلا وفي هذا الكتاب ما يُثْبِت وجود هذه السنة عن النبي عليه الصلاة والسلام .(1/18)
" إلا أنه ربما يتوصل الفقيه إلى سنة من خلال الاستنباط ، غير صريحة في السنن " .
سنة يَستنبطها من الحديث بصورة خفية ؛ هذه قد تخفى ، لكنه يعود ويقول :
" ولا أظن أنه قد فاتني أيضًا من هذه السنة الخفية شيء في هذا الكتاب " .
وهذا يدل على أنه سيراعي قضية الاستنباط الخفي من السنن ، وأنه سيكتفي بالحديث الوارد غير كان جامعًا لسنن كثيرة جلية وخفية في كتابه " السنن " .
ويدل على هذا الأمر أيضًا ؛ أنه يقصد استخراج أصول أحاديث الأحكام قوله لما ذكر كتب الفقه التي ألفها العلماء قبله التي فيها بيان مسائل الفقه عندهم ، يقول : " وأما هذه المسائل ؛ مسائل الثوري ومالك والشافعي ، فهذه الأحاديث أصولها " .
يقول : هذه الأحاديث التي أوردتها أصول مسائل الفقه ، أيضًا يعود ويؤكد أنه سيعود ويُخرج أصول أحاديث الأحكام من خلا كتابه " السنن " ، وهذا يعني أنه - كما ذكرنا – لم يقصد استيعاب كل أحاديث الأحكام ، وقد صرح بذلك ، فقال مثلًا في بيان أن كتابه هذا سيقتصر على أصول الأحاديث لا على كل الأحاديث ، قال في رسالته : " ولم أكتب في الباب إلا حديثًا أو حديثين وإن كان في الباب أحاديث صحاح ، فإنه يكتب ، وإنما أردتُ قرب منفعته " .
يقول : لو كان في الباب عشرة أحاديث صحيحة إنما أكتفي بحديث أو حديثين منها ، وهذا كلام صريح بأنه ينتقي بعض الأحاديث دون بعض ، وأنا أقصد من التأكيد على هذا حتى لا يُظن بأبي داود – وحاشا أن يَظن أحد به هذا – أنه لَمَّ به الجهل ، هناك أحاديث كثيرة صحيحة لم تَرِد في كتاب أبي داود وهو يدعي أنه استقصى؟! فنقول : لا ، هو أن يستقصي أصول أحاديث الأحكام ، وإلا فهو على علم بأن هناك أحاديث كثيرة صحيحة ، لكن ما ذكرها في كتابه يغني عنها ، ويكفي في الدلالة على الحكم دونها ، ولا يعني ذلك أنه لم يَفُتْه شيء ، لكن أغلب ما نقف عليه قد وقف عليه وتركه عن عمد وقصد .(1/19)
ثم يؤكد أيضًا قصده في الاختصار إذ يقول وأنه لا يريد أن يكرر ، يعني هنا ربما ننتقل إلى فائدة جديدة تتلو الفائدة السابقة ، وهي أنه يعتني بالاختصار حتى إنه يكتفي بحديثين عن أحاديث كثيرة وأيضًا اشترط على نفسه ألا يكرر إلا لفائدة ، لا يكرر الحديث في باب آخر ولو كان يُستنبط منه حديث إلا مع زيادة فائدة ، فيقول : " وإذا أَعَدْتُ الحديث في الباب من وجهين أو ثلاثة فإنما هو من زيادة كلام فيه " .
يقول : فإذا وجدتني أعدت الحديث فلا تظن أن هذا يعارض شرطي في الاختصار والتيسير على الناس ، وإنما أعيده لزيادة فائدة في هذا الحديث ؛ إما في الإسناد أو في المتن ، فلا أزيده إلا لزيادة فائدة ، أما أكرر دون فائدة ؛ فهذا لا أفعله .
ثم يبين أيضًا أنه سيختصر الحديث الطويل ويقتصر على موطن الشاهد منه ، حتى يتيسر على الناس أن يعرفوا كيف استنبط الحكم من هذا الحديث ؛ حديث طويل جدًّا وموطن الشاهد منه ربما ثلاث أو أربع كلمات ، فلو أورد الحديث كاملًا قد يضيع الإنسان في هذا الحديث ويعرف كيف يستنبط هذا الحكم من هذا الحديث ، فلذلك فإنه يقتصر على موطن الشاهد ليدل القارئ على موطن الاستدلال الذي يستدل به على ذلك التبويب الذي بوب له في " السنن " ؛ حيث يقول في رسالته : " وربما اختصرت الحديث الطويل لأني لو كتبته بطوله لم يعلم بعض من سمعه ولا يفهم موضع الفقه منه ، فاختصرته لذلك " . يصرح بهذا الأمر .
من أنواع اختصاره أيضًا في الكتاب : التعليق ، فقد علق أحاديث كثيرة جدًّا في كتابه ، وقد رأيت رسالة مطبوعة مؤخرًّا لأحد الباحثين المعاصرين سماها : " تغليق التعليق في سنن أبي داود " ، وهي في ثلاثة أو أربعة مجلدات فيما أذكر ، رسالة كبيرة أظنها ثلاث مجلدات كلها في تغليق التعليق في سنن أبي داود ، وهذا جهد جيد ومبارك ويشبه كتاب " تغليق لتعليق " الذي ألفه الحافظ ابن حجر على صحيح البخاري .(1/20)
المقصود أنه خُدمت أيضًا المعلقات في سنن أبي داود من خلال هذه الرسالة المطبوعة والموجودة المتوفرة في المكتبات حتى اليوم .
ترتيب الكتاب وتبويبه وعدد أحاديث :
أما عدد الكتب في هذا الكتاب ؛ يعني : كتاب الطهارة ، الزكاة ، الصلاة ، ... ، فعددها : ست وثلاثون كتابًا .
عدد أبوابه : ألف وثمانمائة وتسعة وثمانون بابًا .
عدد أحاديثه : ذكر هو أنها أربعة آلاف وثمانمائة حديث ، لكن حسب الترقيم الموجود في المطبوعة : خمسة آلاف ومائتان وأربعة وسبعون حديث ، وسبب ذلك لعله التكرار ؛ لأنه إذا تكرر إسناد يضعون له رقمًا جديدًا ، فهي على كل نحو خمسة آلاف حديث ؛ تزيد أو تنقص قليلًا .
شُبهت سنن أبي داود بصحيح البخاري من جهة :
1- أن أبا داود يحرص على بيان فقه الحديث كما كان يحرص عليه البخاري ، وله في التبويبات من فقه الحديث يشبه ما للبخاري من بيان فقه الحديث من خلال تبويباته ، وكتابه جليل ومهم من هذه الناحية جدًّا ، وكيف لا يعتني بهذا وقد ألف الكتاب لأحاديث الأحكام ، فهو أصلًا إنما ألف هذا الكتاب لغرض الفقه فيه ، ولذلك حتى لم يَعْتَنِ باستقصاء أو بأن لا يُخرج إلا الحديث الصحيح ، توسَّع من أجل أن يذكر كل ما يمكن أن يذكره من أحاديث الأحكام التي احتج بها الفقهاء ، ولذلك اعتنى كثيرًا بتبويباته الفقهية الدالة على الأحكام المستنبطة من الأحاديث .
ويمتاز على البخاري بما ذكرنا أن البخاري اقتصر على الأحاديث الصحيحة ، أما هو فإنه يُخرج كل حديث احتج به فقيه أو يمكن أن يحتج به فقيه مما يدور بين الصحة والحسن والضعف الخفيف ، وربما ضعف شديد لكن مع بيانه كما يأتي .
2- ومما يشابه فيه البخاري أيضًا - في أثناء كتابه وفي خدمته لكتابه - بيانه للغريب ؛ إذا وردت كلمة غريبة في المتن في بعض الأحيان يبين ويفسر ويشرح هذه الكلمة الغريبة كما يفعل الإمام البخاري أيضًا في مواطن من كتابه الصحيح .(1/21)
ومن أمثلة هذه الكلمات الغريبة أنه لما ذكر بناء مسجد النبي عليه الصلاة والسلام ذكر فيه كلمة : (الْقَفْصَة) وأنهم كانوا يستخدمونها في البناء ، فقال : (الْقَفْصَة) هي الجِدْر ؛ فسر كلمة (الْقَفْصَة) .
وكما يُشبه بالبخاري في هذين الأمرين يُشبه بمسلم أمور أخرى وهي :
1- في حرصه على تمييز ألفاظ الشيوخ في الصيغ ، ألم نقل أن مسلمًا كان يفرق بين حدثنا وأخبرنا وألفاظ شيوخه فيها ؟! كذلك كان أبو داود يفعل .
2- وفي الأنساب الذين يَرِد ذكرُهم في الأسانيد ، فمثلًا قد ينسب أحد الرواة شيخه نسبة كاملة ، فيقول : حدثني فلان بن فلان بن فلان مثلًا ، أما الآخر فيكتفي بكنيته أو بنسبته ، فإذا جاء يريد أن يسوق الحديث من رواية هذين الشيخين فيبين أيهما الذي نسب هذا الراوي ، فيقول : أما فلان فقال – مثلًا - : علي ، وأما الثاني فقال : علي بن زيد بن جدعان مثلًا ، حتى يبين من هو الذي نسب هذا الراوي ممن لم ينسبه ، وهذه دقة متناهية جدًّا عُرف بها أبي داود .
3- أيضًا من المسائل التي يدقق فيها جدًّا وهو يشابه في ذلك مسلمًا تدقيقه في المتون ، واختلاف الرواة في ألفاظ المتون ، ولأبي داود في هذا الجانب – الحقيقة – إبداع بالغ وتدقيق بالغ جدًّا يظهر من أوائل الصفحات في كتابه " السنن " ؛ يظهر تدقيقه البالغ في بيان اختلاف الرواة في المتون ونسبة كل لفظ وكل رواية إلى قائلها .
من دقة أبي داود أيضًا في كتابه ما دمنا نتكلم عن الدقة :
1- أنه إذا سمع من الشيخ حديثًا وفاتته كلمة أثناء سماعه لهذا الحديث فإنه ينبه على ذلك ؛ يسوق المتن ثم يقول : " وكلمة لم أسمعها " .(1/22)
2- وإذا فاتته كلمة فسأل أحاديث من بجواره فقال : ماذا قال الشيخ ؟ فقال : كذا . يسوق الحديث ثم يقول : " إلا كذا فقد ثبتني فيها فلان بن فلان " ، يعني كانت غابت عن سمعي أثناء كلام الشيخ فسألت من بجواري فقال : قال الشيخ كذا وكذا ، فينبه من هو الذي بَيَّن له صحة هذه اللفظة أو ماذا قال الشيخ ؛ وهذا من تمام دقته أيضًا عليه رحمة الله .
3- من دقته أيضًا وأمانته أنه سمع من أحد شيوخه وهو الحارث بن مسكين دون علمه ؛ لأن الحارث بن مسكين كان متشددًا جدًّا في الرواية ولا يحدث أحد ، فكان يأتي بجوار مجلس تحديثه دون أن يعرف الحارث بن مسكين أنه يسمع ، ويسمع الحديث ويكتبه ، ولذلك صار إذا أراد أن يروي عن الحارث بن مسكين يقول : " قُرِأَ عليه وأنا شاهد " ما يقول : أخبرنا ، ولا يقول : أخبرني ؛ لأن الحارث بن مسكين لم يقصد إسماعه ؛ ما قصد أن يُسمعه ، قصد أن يُسمع الموجودين عنده ، ما كان يدري أن أبا داود يسمع ، لذلك كلما أراد أن يروي عن الحارث بن مسكين يقول : " قُرِأَ عليه وأنا شاهد " ، وهذا من تمام دقته أيضًا في صيغ الأداء .
يتميز أيضًا بذكره لمذاهب السلف ؛ ربما يذكر من قال بفقه هذا الحديث من الصحابة والتابعين ، ويشبه بذلك عمل الترمذي كم سيأتي ذكره .
أيضًا يعتني كثيرًا بتسمية الرواة الذين وردوا في الأسانيد بكُناهم أو بأنسابهم مُهْمَلِين ، فبعد ذكره لكنية الراوي يقول : هو فلان بن فلان ، بعد ذكره للنسب وحده في الإسناد يقول : هو فلان بن فلان ، يعتني ببيان الرواة المهمَلِين الواردين في الأسانيد .(1/23)
أيضًا في كتابه – الحقيقة – يذكر فوائد غريبة وكثيرة في أبواب مختلفة ، فمثلًا من أغرب الفوائد التي ذكرها أنه قال في كتاب الزكاة ، يقول : " شَبَّرْتُ قِثَّائَةً بِمِصْرَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ شِبْرًا " . هذا خبر أكيد ، أبو داود يقوله في كتاب " السنن " ، وهذا خبر غريب ، كأنه أراد فقط أن يُلَطِّف " السنن " بمثل هذا الخبر الغريب .
ثم قال أيضًا يذكر خبرًا آخر : " وَرَأَيْتُ أُتْرُجَّةً عَلَى بَعِيرٍ قُطِعَتْ عِدْلَيْنِ وَصُيِّرَتْ مِثْلَ الْعِدْلَيْنِ" .
يعني من ضخامة هذه الأترجة ، لعلها مثل نصف هذه الطاولة ، قطعوها نصفين فجعلوا أحدها على الطرف الأيمن من البعير والثاني على الطرف الأيسر من البعير ، وهذا يدل على ضخامة هذه الأترجة ، ومعروف أن الأترجة تقريبًا في هذا الحجم ، مثل الخِرْبِز لا يزيد عن ذلك ، أما أن يكون بهذا الحجم والرقم فهذا من أندر ما يكون ، وهذه أيضًا أوردها في " السنن" ، وكأنه أيضًا ليلطف الكتاب بمثل هذا الخبر .(1/24)
أيضًا له عناية بالتدقيق حول الأخبار المتعلقة بالأماكن ، فلما أورد حديث بئر بضاعة ذكر أنه ذهب إلى بئر بضاعة وقاسها بردائه ، وأنه تبلغ – كما ذكر – ستة أذرع ؛ عرضها ستة أذرع ، وتكلم مائها وعن عمق الماء ، وكيف يصبح الماء إذا بلغ أقصى ما يصل إليه ، وإذا نقص ما هي أقصى درجات نقص هذا الماء ، وبذلك أعطانا تصورًا واضحًا وكأننا نرى بئر بضاعة اليوم ، مع أنها الآن مندثرة ، لا يعرف أحد الآن مكان بئر بضاعة ، لكن من خلال كلام أبي داود عرفنا تمامًا مقاييس هذه البئر وطبيعة مائِها الذي فيها ، وهذا يدل في الحقيقة على – كما نقول – سبق تاريخي وعلمي ، يعني كان مستحضرًا أن هذه البئر قد تضيع ، ومتعلق بها خبر في السنة ، فيجب أن أعطي الأمة ما يبين لهم الفقه الذي يمكن أن يستنبط من هذا الحديث ، والفقه لا يمكن أن يعرف إلا من خلال معرفة طبيعة هذه البئر وحجمها ، فحرص على أن يعطي هذه التفاصيل كاملة ؛ عليه رحمة الله .
ننتقل الآن - الحقيقة – إلى ما يكاد يكون أهم ما في سنن أبي داود وهو شرطه في درجتها من القبول والرد .
درجة أحاديث كتابه من القبول والرد والمسائل المتعلقة بذلك :
فأولًا بين أبو داود عليه رحمة الله أنه سيعتني بإخراج صنف معين من الروايات ، وهو الأحاديث المشهور ، وأنه سيتجنب إخراج الأحاديث الغرائب قدر المستطاع ، ولا يعني ذلك أنه ليس فيه حديث غريب ، فيه أحاديث غريبة وهو نفسه ينص على غرابتها ، لكنه سيحرص ألا يخرج إلا المشهور ، فإن لم يجد غير المشهور ، يعني فإن لم يجد إلا الغرائب ، أورد الغرائب حينها ، لكن أصل كتابه معتن بالمشهور ، ولذلك يقول : والأحاديث التي وضعتها في كتاب " السنن " أكثرها مشاهير ، وهي عند كل من كتب شيئًا من الحديث ، إلا أن تمييزها لا يقدر عليه كل الناس ، والفخر بها أنها مشاهير " .(1/25)
ثم بين السبب الذي من أجله أخرج هذه المشاهير وحاول أن يكتفي بها ، قال : "لأن الحديث الغريب حتى ولو كان المنفرد به إمام حافظ ناقد من أحفظ الناس ، فيمكن لمن تحتج عليه بهذا الحديث الغريب ، يقول لك : هذا حديث تفرد به فلان ولعله واهم أو مخطئ " فبمجرد أنه يريد أن يبين ما يمكن الخصم من الحجج حرص على ألا يخرج في كتابه الأحاديث الغرائب إلا إذا اضطُر إليها ؛ هذا أول ما يمكن أن نذكره حول شرط أبي داود في كتابه .
بين في مقدمة الكتاب أيضًا أنه سيورد أصح ما في الباب ، يعني إذا جاء باب من أبواب العلم ، مسألة من مسائل الفقه ، سيورد في هذا الباب أصح ما ورد في الباب - وسنقف عند كلمة (أصح) بعد قليل – إلا إذا وجد حديثًا إسناده أصح وهذا الحديث نفسه مروي بإسناد آخر ، أقل درجة في الصحة ، لكنه أعلى إسنادًا ، يقول : عندها سأقدم الأعلى على الأصح ، يقول : وهذا لم يقع مني إلا نادرًا وربما في عشرة أحاديث فقط ، يعني التي قدم فيها العلو على الصحة أو على الأصحية بعبارة أدق ؛ يقول : هذا لم يقع مني إلا في نحو عشرة أحاديث في الكتاب .
إذًا عموم الكتاب يقدم فيه الأصح ، لكن ما هو مقصوده بالأصح ، هل يقصد بالأصح : الصحيح ؟
على ، وإنما يقصد الصحيح والحسن والضعيف ؛ يعني يمكن أن نعبر عنه بعبارة أدق : يعني أَمْثَل ما في الباب ، سواء كان صحيحًا أو حسنًا أو ضعيفًا خفيف الضعف ، بل إذا لم يجد في الباب إلا حديثًا منكرًا ذكره ، لكن التزم أن يبين نكارته ، فهو يخرج أمثل ما في الباب ، ولذلك يقول مثلًا - كما سيأتي – أو نذكره الآن حتى نبين وجه الاستدلال ، يقول : " وإذا كان فيه – أي في الباب – حديث منكر ، بينت أنه منكر وليس على نحوه في الباب غيره " . يقول يعني : لا أخرج في الباب الحديث المنكر إلا إذا لم أجد غيره ، وإذا خرجته بهذه الصورة بيَّنْتُ أنه منكر ، إذًا لما أخرج الحديث المنكر ؟(1/26)
لأنه أمثل ما في الباب ، مع كونه منكرًا ، لو وجد أمثل منه لأخرجه واستغنى عن هذا الحديث المنكر .
بين أيضًا أنه إذا لم يجد في الباب حديثًا متصلًا مسندًا فإنه يخرج المرسل ، وتكلم عن حجية المرسل في هذا الكتاب بكلام لا داعي لذكره لأنه يتعلق برأي أبي داود بالمراسيل ، وهذا أمر مختلف لا أريد أن أخوض في ذكره ، لكن المقصود أنه إذا أورد المرسل في الباب فاعلم أنه لم يجد في الباب متصلًا ولذلك أورد هذا الحديث المرسل .
ثم نقف عند العبارة التي كثر فيها الاختلاف وهي قوله : " وما كان في كتابي من حديث فيه وهم شديد فقد بينتُه ، ومنه ما لا يصح سنده ، وما لم أذكر فيه شيئًا فهو صالح ، وبعضها أصح من بعض ، ...إلى آخر كلامه " .
نعيد العبارة مرة ونقف عندها ، يقول : " وما كان في كتابي من حديث فيه وهم شديد فقد بينتُه " . يقول : إذا أوردت حديثًا في كتاب " السنن " فيه ضعف شديد فإني ألتزم ببيانه ، وظاهر هذه العبارة أنه لن يسكت عن حديث ضعيف شديد الضعف ، بشرط أن يكون شديد الضعف ؛ لأنه قال : " وهم شديد " ، ما قال : وهم فقط أو ضعف ، قال : " وهم شديد " ، وهذا سيعيننا على فهم العبارة التالية عندما قال : " وما لم أذكر فيه شيئًا فهو صالح " .
الآن الأحاديث كم قسم من جهة القبول والضعف ؟
شديد الضعف بينا أنه سيبينه ، أعلى منه منزلة قليلًا أًيْش ؟
ضعيف ، وأعلى من الضعيف الحسن ، وأعلى من الحسن الصحيح .
ما دام أنه اشترط أن يبين فقط الشديد الضعف ، إذًا الذي سيسكت عنه ؛ ما هي الأقسام التي سيسكت عنها ؟ الصحيح والحسن والضعيف ، إذًا سيكون سكوت أبي داود شاملًا لهذه الأقسام الثلاثة ، إذًا ما هو معنى قوله " صالح " بناءً على ذلك ؟ صالح للاحتجاج أو صالح للاعتبار ؟
للاعتبار ، أًيْش ... يعني الاعتبار ؟
يعني أن يكون هذا الحديث صالح لأن يَتقوى أو يُقوي غيره .(1/27)
وكلمة (صالح للاعتبار) – في الحقيقة – تشمل الصحيح والحسن والضعيف ؛ لأن حتى الصحيح صالح لأن يتقوى لذي القوة ولأن يقوي غيره ، والحسن صالح لأن يتقوى فيصل إلى درجة الصحة وصالح لأن يقوي غيره ، والضعيف هو أيضًا صالح أن يتقوى فيصل إلى درجة الحُسن وأن يقوي غيره فيصل إلى درجة الحُسن ، فكلمة (صالح للاعتبار) شاملة الأقسام الثلاثة ، وبذلك يصح أن نقول بأن ما سكت عنه أبو داود بأنه صالح للاعتبار ويكون ذلك شاملًا للصحيح والحسن والضعيف .
هذا ظاهر هذه العبارة ، لكن اختلف العلماء في فهمها اختلافًا ليس بالقليل ؛ هي تقريبًا قولان ، لكن سنذكرهما إن شاء الله :
القول الأول : وهو الذي يرجحه الخطابي حيث قال في مقدمة كتابه " معالم السنن " لما ذكر الأقسام الثلاثة للأحاديث وهي الصحيح والحسن والسقيم ، قال : " وأما السقيم فهو على طبقات ؛ شرها الموضوع ثم المقلوب – أعني ما قُلب إسناده - ، ثم المجهول ، وكتاب أبي داود خلي منها ، بريء من جملة وجوهها – التي هي الأحاديث الشديدة الضعف - ، فإن وقع فيه شيء من بعض أقسامها لضرب من الحاجة تدعوه إلى ذكره ، فإنه لا يألو أن يبين أمره ، ويذكر علته ، ويخرج عن عهدته ، وحكي لنا عن أبي داود أنه قال : ما ذكرت في كتابي حديثًا اجتمع الناس على تركه " .
ظاهر هذا الكلام أن أبا داود سيتكلم عن الحديث الضعيف والشديد الضعف ، وأنه أي حديث سكت عنه فإنه في درجة القبول .
أيضًا تقريبًا صرح بذلك ابن الصلاح في كتابه " المقدمة الشهيرة " .(1/28)
أيضًا تبنى هذا الرأي كذلك المنذري ، فقال في مقدمة " الترغيب " : " وأنبه على كثير مما حضرني حال الإملاء مما يتساهل أبو داود في السكوت عن تضعيفه " . يعني اعتبر سكوت أبي داود عن الضعيف هذا تساهلًا منه ، وكأنه يرى أن سكوت أبي داود يقتضي القبول ، ولذلك ينتقد هذا التصرف منه فيعتبره تساهلًا ، فلو كان يعتبر أبا داود أنه سيسكت عن الحديث الضعيف ما يعتبر هذا تساهلًا ، لكن لأنه اعتبر أن منهج أبي داود ألا يسكت إلا عن الحديث الحسن أو الصحيح اعتبر سكوته عن بعض الأحاديث الضعيفة تساهلًا .
أيضًا للإمام النووي في ذلك كلام على هذا الرأي ، وإن كان له رأي آخر هو الصواب وصوبه الحافظ ابن حجر وهو قول النووي : " والحق أن ما وجدناه في سننه مما لم يبينه ولم ينص على صحته أو حسنه أحد ممن يُعتمد فهو حسن ، وإن نص على ضعفه من يُعتمد أو رأى العارف بسنده ما يقتضي الضعف ولا جابر له حكم بضعفه ولم يلتفت إلى سكوت أبي داود " .
يعني يقول النووي أن التصرف الصحيح من كتاب أبي داود أن ندرس هذا الحديث ، فإن وجدنا في إسناده ضعفًا رددناه ، وإن وجدناه مقبولًا قبلناه ، إن وجدنا أحدًا من أهل العلم صححه فهذا ممكن يعتمده الإنسان ويعتمد تصحيح هذا الإمام ، وإن وجدنا أحدًا من أهل العلم ضعفه رددنا هذا الحديث واعتمدنا تضعيفه وقدمناه على مجرد سكوت أبي داود .
وصف هذا الكلام للنووي الحافظ ابن حجر قال : وهذا هو التحقيق ، لكنه خالف في ذلك في موضع من " شرح المهذب " ، المهم ذكر أن النووي له كلام آخر يخالف هذا التقرير .
لكن هناك جماعة من أهل العلم فهموا أن مراد أبي داود بالصالح أنه صالح للاعتبار ، ومن أقدم هؤلاء الإمام الحازمي ، وكلامه فيه شيء من الدقة ، نَوَدُّ أن نقرأه لفائدته لأنه أيضًا له علاقة بكتاب الترمذي الذي سنتكلم عنه بإذن الله تعالى إن يسر الله عز وجل .(1/29)
الإمام الحازمي قلنا بأنه يريد أن يبين اختلاف شروط الأئمة : البخاري ، ومسلم ، وأبي داود ، والنسائي ، والترمذي . الخمسة ؛ لأن كتابه شروط الأئمة الخمسة ، يريد أن يبين اختلاف شروط الأئمة الخمسة في طريقة إخراجهم لسند الحديث وإلى الحديث ، فضرب مثالًا وسبق أن ذكرنا هذا المثال لكن بشيء من الاختصار ، قال : " أننا لو جئنا مثلًا إلى الزهري ، فإننا سنجد أن تلامذة الزهري ينقسمون إلى أربعة طبقات :
الطبقة الأولى : وهم الحفاظ العدول الذين لازموا الزهري ، قالوا : هؤلاء هم شرط البخاري ، أعلى شرط للبخاري .
الطبقة الثانية : هم الثقات العدول الذين لم يلازموا الزهري ، قال : وهؤلاء شرط مسلم ، وقد يخرج لهم البخاري في شواهد كتابه .
الطبقة الثالثة : وهم الرواة الذين فيهم جرح وتعديل ، وحديثهم متردد بين القبول والرد ، لكنهم لَزِمُوا الزهري ، قال : وهؤلاء شرط أبي داود والنسائي ، يعني يمكن أن نعتبر هذا قسم من يُحَسَّن حديثه عن هذا الشيخ ؛ لأنه فيه ضعف خفيف ، فسواء كان هذا الضعف يصل به إلى درجة الرد أو هو في مراتب الحُسن ، لكن ملازمته لهذا الشيخ يجعله متقنًا عن هذا الشيخ يكون حديثه في مرتبة الحسن عن هذا الشيخ .
يقول : وهؤلاء هم شرط أبي داود والنسائي ؛ يقصد أعلى شرط أبي داود والنسائي .
ثم ذكر الطبقة الرابع والأخيرة ، قال : وهم الذين شاركوا الطبقة الثالثة في الجرح والتعديل ، يعني تُكُلِّم فيهم مثلما تكلم في الطبقة الثالثة ، لكنهم لم يُعرفوا بملازمة الزهري أو لم يلازموا الزهري ، قال : وهؤلاء شرط أبي عيسى الترمذي .
لكنه قال بعد ذلك ، بعد أن قرر هذا الكلام الآن يبين أن أب عيسى الترمذي شرطه أخف من شرط أبي داود والنسائي ، ثم بعد ذلك مباشرة يقول : وفي الحقيقة شرط الترمذي أبلغ من شرط أبي داود .
هذا غريب !! كأنه يناقض كلامه السابق ، الآن يبين لنا .(1/30)
يقول : لأن الحديث إذا كان ضعيفًا أو مطلعة من حديث أهل الطبقة الرابعة ، فإنه يبين ضعفه وينبه عليه ، فيصير الحديث عنده من باب الشواهد والمتابعات ، ويكون اعتماده على ما صح عند الجماعة .
لما قدم الترمذي على أبي داود ؟ قال : لأنه إذا أخرج للطبقة الرابعة فإنه لا يسكت يبين الضعف .
معنى ذلك أن أبا داود قد يخرج أيضًا للطبقة الرابعة ، لكن الذي يقدم الترمذي عليه أن أبا داود يسكت ، وأما الترمذي فيبين ، فلذلك اعتبر شرط الترمذي أبلغ من شرط أبي داود .
ما معنى هذا الكلام ؟
معنى هذا الكلام أن الحازمي يرى أن أبا داود قد يسكت عن الحديث الخفيف الضعف ، وأنه لم يفهم عبارته السابقة بقوله ( صالح ) أنه صالح للاحتجاج ، بل أنه قد يكون صالحًا أيضًا للاعتبار .
ثم يكمل الحازمي كلامه ، يقول : وعلى الجملة فكتابه مشتمل على هذا الفن ، فلهذا جعلنا شرطه دون شرط أبي داود .
نعود لنلخص كلامه : إذًا هو يرى أن أبا داود شرطه الطبقة الثالثة ، لكنه قد يخرج للرابعة ويسكت عنه ، فكأن أبا داود يخرج للطبقة الرابعة لكن قليلًا ، أما الترمذي فيخرج لهم كثيرًا لكن يبين ؛ هذا هو الفرق بين أبي داود والترمذي في الطبقة الرابعة ، أبو داود يخرج لهم قليلًا ويسكت ، أما الترمذي فيخرج لهم كثيرًا لكن يبين الضعف ، وبذلك صار أبو داود على رأيه من وجه أعلى من الترمذي ، ومن وجه آخر دون الترمذي ، بسكوته نزل ، وبعدم إكثاره من إخراجه على هؤلاء علا على الترمذي ؛ هذا كلام الحازمي .(1/31)
أيضًا هناك كلام للإمام الذهبي مهم في هذا الباب ، وهو قوله في " السير " في ترجمة أبي داود ، بعد أن نقل كلام أبي داود قال : " فقد وفى رحمه الله بذلك – يعني بهذا الشرط أبي داود - ... حسب اجتهاده ، وبين ما ضعفه شديد ووهنه غير محتمل ، وكاثر عما ضعفه خبيث محتمل - كاثر يعني : غض الطرف ، يعني غض الطرف وسكت عما ضعفه خفيف محتمل ، وهذه عبارة صريحة – فلا يلزم من سكوته والحالة هذه عن لحديث أن يكون حسنًا عنده ، ولكنَّا إذا حكمنا على حد الحسن باصطلاحنا المُوَلَّد الحادث ، الذي هو عرف السلف يعود إلى قسم من أقسام الصحيح .
الآن بين أن ضعيف يسكت عنه ؛ هذه فائدة مهمة استفدناها ، ثم الآن يبين أقسام الأحاديث في كتاب أبي داود ، فيقول : فكتاب أبي داود أعلى ما فيه من الثابت ما أخرجه الشيخان ، وذلك نحو شطر الكتاب ، يقول نصف كتاب أبي داود قد أخرجه البخاري ومسلم ؛ هذا نصف الكتاب ، هذا القسم الأول ، ثم يليه ما أخرجه أحد الشيخين ورَغِبَ عنه الآخر ، فالقسم الثاني ما انفرد بإخراجه البخاري أو انفرد بإخراجه مسلم .
يقول : ثم ما أخرجه أحد الشيخين ورغب عنه الآخر ، ثم يليه ما رغبا عنه وكان إسناده جيدًا سالم من العلة فيه شروط .
القسم الثالث : ما لم يخرجه البخاري ومسلم ، لكنه إسناده مقبول ، سالم من الشذوذ ومن العلة ، فهو في درجة القبول أيضًا .
القسم الرابع : يقول : ثم يليه ما كان إسناده صالحًا وقَبِلَه العلماء لِمَجِيئِه من وجهين لَيِّنَيْنِ فصاعدًا ، يعضد كل إسناد منهما الآخر .
القسم الرابع هو الحسن لغيره بعرف المتأخرين .
يقول : ثم يليه ما ضُعِّفَ إسناده لنقص حفظ راويه – الذي هو الضعيف الخفيف الضعف – فمثل هذا يُمَشِّيه أبو داود ويسكت عنه غالبًا .
القسم الأخير : ثم يليه ما كان بَيِّنَ الضعف من جهة راويه ؛ فهذا لا يسكت عنه ، بل يوهنه غالبًا .(1/32)
وهذه فائدة جديدة ؛ أنه حتى شديد الضعف قد يسكت عنه أبو داود لكن قليلًا ، أما خفيف الضعف فالأصل فيه السكوت ، وقد يبينه قليلًا ؛ قد يبين قليل الضعف قليلًا ، أما شديد الضعف فالأصل بيان شدة ضعفه ، وقد يسكت عنه في بعض الأحيان .
الآن يبين لما يسكت عن شديد الضعف .
يقول الذهبي : وقد يسكت عنه بحسب شهرته ونكارته .
يقول : ربما سكت عن الأحاديث الشديدة الضعف لوضوح شدة ضعفها ، وكأنه يقول : مجرد إيراد هذا المتن شديد النكارة والضعف هذا مُغْنٍ عن أن أتكلم وأبين ما فيه من شدة الضعف ؛ هذا رأي الإمام الذهبي حول تفسير كلام أبي داود .
أما الحافظ ابن حجر فإنه قسم أحاديث أبي داود ؛ ممكن أن نعتبرها أقسامًا ستة :
القسم الأول : الصحيح .
والصحيح بقسميه : صحيح لذاته ، وصحيح لغيره ؛ حسب تقسيمات المتأخرين .
القسم الثاني : الحسن لذاته .
القسم الثالث : الحسن لغيره .
القسم الرابع : ضعيف ، لكنه من رواية من لم يُجمع على تركه غالبًا .
يعني : خفيف الضعف .
القسم الخامس : الحديث الخفيف الضعف ، لكنه مخالف لمن هو أولى منه ، يعني المنكر .
إذًا القسم الخامس هو الحديث المنكر ، وهو مخالفة الضعيف لمن هو أولى ؛ حسب تعريف الحافظ ابن حجر للمنكر هذا القسم الخامس .
القسم السادس : الشديد الضعف ، وهذا يبينه غالبًا ، لكنه قد يسكت عنه ، واعتذر الحافظ ابن حجر لسكوت أبي داود باعتذارات وصلى اللهم وسلم ، وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين .(1/33)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على إمام الأنبياء والمرسلين وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين .
أما بعد ..
فكنا قد توقفنا بالأمس أثناء كلامنا عن كتاب السنن لأبي داود عليه رحمة الله وتوقفنا خاصة عند تقسيم الحافظ ابن حجر لأحاديث السنن .
قلنا بأن الحافظ ابن حجر قسم أحاديث أبي داود إلى أقسام ستة هي : الصحيح والحسن لذاته والحسن لغيره والضعيف الذي يكون خفيف الضعف ، وأنه قد يكون هذا الحديث الذي من رواية خفيف الضعف إلا أنه مخالف لمن هو أولى منه فيكون منكراً ، هذا قسم خامس يعني خفيف الضعف الذي له مخالف وخفيف الضعف الذي له مخالف أولى منه فيكون منكراً .
القسم السادس أنه قد يكون فيه من هو شديد الضعف هذه هي الأحاديث التي سكت عنها أبو داود في سننه ، هذه هي أقسام الأحاديث التي سكت عنها أبو داود في سننه ومنها ما هو شديد الضعف .
ثم أخذ الحافظ يعتذر عن إيراد أبي داود للأحاديث شديدة الضعف في سننه مع سكوته عنها باعتبارات عدة :
أولها : أن يكون قد تكلم عن هذا الراوي في موطناً آخر من كتابه فاكتفى بذلك يعني قد يخرج أي داود الحديث الشديد الضعف ويسكت عنه أكتفاءً منه بأنه قد تكلم عن هذا الراوي في موطن سابق من كتابه ، وكأنه يقول : أنا قد بينت ضعف هذا الحديث لما حكمت على هذا الراوي بالضعف في موطن متقدم من الكتاب .
الاعتذار الثاني : أن يكون من باب اختلاف الروايات عن أبي داود .(1/1)
سبق أن ذكرنا أن لأبي داود أن لسنن أبي داود روايات متعددة هي خمسة روايات نعم أن هناك خمس روايات بلغتنا ووصلت إلينا وهي أشهر الروايات عن أبي داود بسننه أن في هذه الروايات في بعضها كلاماً على الأحاديث قد لا يوجد في البعض الآخر قد نجد كلاماً في رواية ابن العبد على أحاديث قد لا نجد هذا الكلام في رواية بن اللؤلؤي ، فيجب على الإنسان ألا يتسرع بقوله أن هذا الحديث سكت عنه أبو داود حتى ينظر في بقية الروايات ، فلعله تكلم عنه في رواية ، سكت عنه في رواية أخرى ، وهذا عمل شاق يبين ضرورة أن يحقق الكتاب كما ذكرنا على روايته المختلفة .
الاعتذار الثالث : أن يكون ذهولاً من أبي داود خطأ ، ووهم أراد أن يعلق فنسي ظن أنه تكلم عنه في موطن سابق ولم يحدث ذلك نوع من الغفلة التي هي من طبيعة الإنسان ولا يعني ذلك أنه قد خفيا عنه ، أو خفيا عليه شدة ضعف هذا الحديث هو يعلم أنه شديد الضعف لكنه نسي أو غَفِلَ لسبب ما أن يعلق عليه ويبين شدة ضعفه هذا أمر وارد لأن من طبيعة البشر الخطأ .
الاعتذار الرابع : أَنْ يكون سَكَتَ عنه لِشِدَة وضوح ضعفه وهذا الذي ذكرناه أيضاً عن الإمام الذهبي وأيضاً ذكره النووي أنه قد يسكت عن الحديث لشدة ضعفه وهذا أمر مهم جداً ، ويبين لكم خطأ من يعتمد على مجرد سكوت أبي داود لقوله : أن أبي داود قد قبل هذا الحديث أو أنه عنده لا ينزل إلى درجة شديد الضعف واعتبار هذا عمدة في الباب وأنه يعني حكم فاصل في هذه القضية وهذا خطأ ولا شك .(1/2)
وقد ذكر الحافظ أيضاً كلاماً آخر في نتائج الأفكار ، والكلام السابق في النكت على كتاب ابن الصلاح لكن ذكر مرة حديثاً في كتابه نتائج الأفكار وقال عقبة وسكت عليه أبو داود يعني أخرجه أبو داود وسكت إما لحسن ظنه في زيداً العامي هناك راوي أسمه زيد العامي ضعيف مشهور بالضعف فيقول إما أنه كان يحسن الظن في هذا الراوي ، فهذا سبب آخر نضيفه إلى الأسباب السابقة وهو اختلاف الاجتهاد قد يكون سكوت أبي داود بناءً على أنه كان يعتقد أن هذا الحديث مقبول مثلاً ، وهو ليس كذلك عند غيره من أهل العلم هذا احتمال وارد أيضاً .(1/3)
قال : إما لحسن ظنه بـ زيداً العامي وإما لشهرته بالضعف هذا مثل السبب قبل الرابع الذي ذكرنه سابقاً شهرة الحديث بالضعف وضوح ضعفه ولذلك لم يعلق علية بالضعف قال وإما لكونه في فضائل الأعمال هذا أيضاً يضيف لنا سبب جديد يعني كانت أصلاً الأسباب أو الاعتذارات ستة أول أربعة وهنا ذكرنا ثلاثة لكن واحد منها واحد هو الرابع السابق ستة اعتبارات إما لكونه في فضائل الأعمال يعني أنه في فضائل الأعمال لاتساعه في إخراج بعض الأحاديث الضعيفة هذه الأقسام التي ذكرها الحافظ ابن حجر لأحاديث أبي داود أيضاً هو الكلام للبِقَاعي حول أقسام هذا الأحاديث لا داعي لِنَقْلِهِ لكن نبه أبو داود أو نبه ابن كثير عليه رحمة الله على أمراً مهم ، وهو أن سكوت أبي داود أيضاً لا يمكن الاعتماد عليه وحده ؛ لأن أبا داود كما سبق يتكلم عن الحديث رواية ويسكت عنه رواية أخرى ، وأضاف أمر آخر يجب أن يراعى قال أننا قد نجد أن أبا داود قد حكم على أحد رجال الإسناد بالضعف ، أو على حديثٍ بالضعف في سؤالات أبي عبيد الآجري له ، ومع ذلك سكت عنه في السنن وهذا يلزمنا بأننا نعرف رأي أبي داود أيضاً في هؤلاء الرواة من خلال كتاب أبو عبيد الأجوري ، وهو تلميذ لأبي داود كان يسأله عن الأحاديث وعن الرواة في كتاب طبع في مجلدين مليئة بالفوائد فقبل أن أجزم بأن هذا الحديث مقبول عند أبي داود يجب أن أعرف ما هو رأي أبي داود في هؤلاء الرواة جميعاً في هذا الإسناد ولعله قد صرح بتضعيفه في سؤالات أبي عبيد كما سبق .
لكن العراقي تعقب ابن كثير في هذا التوجيه أو في هذا الاعتراف بقوله أنه لا يمكن أن يعترض على أبي داود بإيراده حديثاً مسكوتاً عليه إلا إذا كان هذا الحديث شديد الضعف عند أبي داود .
قال : لأن أبا داود اشتراط أن لا يتكلم إلا عن شديد الضعف أما ما فيه ضعف خفيف فقد بينا أنه ما يتكلم عنه .(1/4)
فيقول : يمكن أن يورد هذا الذي ذكره ابن كثير في ما لو وجدنا حديثاً شديد الضعف سكت عنه أبو داود في رواية ، وضعفه في رواية أخرى عنه ، عندها نقول : والله يحتمل أن يكون حديث شديد الضعف وإن سكت عنه أبو داود في إحدى روايات السنن وهذا الذي ذكره الإمام العراقي قد وجدنا له مثالاً بالفعل ، وهو الحديث التالي ذكره حديث شديد الضعف ، وسكت عنه أبو داود في رواية وتكلم عنه أخرى هذا الحديث هو حديث سراقة بن مالك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ?? خَيْرُكُمْ الْمُدَافِعُ عَنْ عَشِيرَتِهِ مَا لَمْ يَأْثَمْ?? .
هذا الحديث سكت عنه أبو داود في رواية اللؤلؤي التي هي أشهر الروايات كما ذكرنا ، لكنه قال عن هذا الحديث في رواية ابن العبد ، قال : أيوب بن سويد ضعيف .
فهنا قد تكلم على هذا الحديث في رواية ابن العبد قد يقول قائل كيف هذا لا يقتضي الحديث شديد الضعف .
لا إن الواقع أن الحديث شديد الضعف حتى أن أبا حاتم الرالي قال عنه في كتاب العلل حديثٌ موضوع حكم عليه بأنه موضوع على هذا الحديث فكلام أبي داود أخرج الحديث عن أن يكون من المسكوت عنه ، هذا يكفي وطبعاً كلمة ضعيف لا تعني أنه خفيف الضعف لا يلزم من ذلك عندما قال أبو داود فلان ضعيف لا يلزم أن يكون حديث خفيف الضعف .(1/5)
المهم أن هذا الحديث لم يسكت عنه أبو داود رواية تكلم عنه فبين أنه ليس خفيف الضعف عنده ثم قد تبين أن هذا الحديث الصحيح فيه أنه شديد الضعف ، وقد حكم عنه عليه أحد النقاد بأنه حديث مكذوب عن النبي عليه الصلاة والسلام ونكارته ظاهرة من متنه : ?? خَيْرُكُمْ الْمُدَافِعُ عَنْ عَشِيرَتِهِ مَا لَمْ يَأْثَمْ?? هذه دعوة للقابلية وللتعصب القبلي وإن كانت جاءت هذه ما لم يأثم كأنها قيد لكن يبقى أنه لما يخص بأنه يعطى هذا الفضل الكبير لمجرد أنه دافع عن عشيرته ! هذا يعني أمر حقيقة بسائغٍ في نصوص الشرع المقصود أن هذا المثال من الأمثلة التي طالب بها الحافظ العراقي وتبين أن إيراد ابن كثير في محله بسبب ذلك .
أيضاً هناك أحاديث حقيقها حتى نعرف أنه لا يمكن الاعتماد على سكوت أبي داود أن هناك أحاديث متعددة حكم عليها بالوضع أو بشدة الضعف وهي موجودة في سنن أبي داود ، وقد سكت عنها مثل حديث ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ?? نَهَى أَنْ يَمْشِيَ يَعْنِي الرَّجُلَ بَيْنَ الْمَرْأَتَيْنِ ?? .(1/6)
سكت عنه أبو داود وفيه راوي اسمه داود ابن أبي صالح منكر الحديث قال البخاري والعقيلي وابن عدي عن هذا الحديث لا يتابع عليه وقال عنه أبو ذرعه أبو حاتم الرازي منكر ، وقال ابن حبان عن داود ابن صالح هذا يروي الموضوعات عن الثقات حتى كأنه يتعمد لها روى عن نافع عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يمشي الرجل بين المرأتين يعني كان يكثر بين النساء من أمثلة هذه الموضوعات حديث نهى النبي أن يمشي الرجل بين المرأتين ، وهو الحديث الذي أخرجه أبو داود وسكت عنه المقصود أن هذا الحديث يعني شديد الضعف بل إِنَّ الشيخ الألباني عليه رحمة الله قد حكم عليه بأنه موضوع في السلسلة الضعيفة أيضاً مثال آخر حديث عمر أنه ?? سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ يَنْهَى عَنْ الْعُمْرَةِ قَبْلَ الْحَجِّ ?? .
سكت عنه أبو داود وقال ابن قيم الجوزية في حاشيته على تهذيب السنن يقول : " هذا الحديث باطل " ثم تكلم عنه ، وأيضاً قال : عنه ابن حزم هذا الحديث قال : " هذا حديث في غاية السقوط ، لأنه مرسل عن من لم يسمى "
وفيه أيضاً ثلاثة مجهولون . إلى أخر كلامه .
أيضاً هناك حديث آخر عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ابن عباس أنه قال ?? السِجِلّ كَاتِب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ?? .
قال ابن القيم الجوزية في هذا الحديث سمعت شيخنا أبا العباس بن تيمية يقول : " هذا الحديث موضوع " .
هذا مثال ثالث أيضاً لحديث محكوم عليه بالوضع فسكت عنه أبي داود في سننه أيضاً حديث ?? الْإِسْلَامُ يَزِيدُ وَلَا يُنْقِص ?? إذا ضُبِطَت ويقال: ?? يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ ??
يعني منهم من رواة يزيد ولا ينقص وهناك رواية أخرى لعلها هي الأرجح في هذا اللفظ الإسلام يزيد ولايُنقص .
قال عنه الجوزقاني في الأباطيل ، والمناكير : " حديث باطل " .(1/7)
وهو أيضاً من الأحاديث التي سكت عنها أبو داود المقصود أن إيراد أبي داود للحديث وسكوته عنه لا يقتضي أنه مقبولاً عنده فيه الصحيح والحسن والضعيف ، وفيه شديد الضعف ، وقد بَيَنَّا وجه إخراجه لشديد الضعف من خلال كلام الحافظ ابن حجر ، واعتباراته التي ذكرها طيب لما أورد الحديث الضعيف لما أورد الأحاديث الضعيفة الخفيفة الضعف وسكت عنها .
نحن الآن قررنا أمراً معيناً وهو : أنه إذا سكت عن الحديث محتمل أن يكون صحيح ويحتمل أن يكون حسن ويحتمل أن يكون ضعيف خفيف الضعف ، ويحتمل أيضاً بندرة وقلة أن يكون شديد الضعف ، الأصل في شديد الضعف أَنْ يبين شدة ضعفه وقد يوجد في ما يذكره ما هو شديد الضعف ، لما أورد الأقسام الثلاثة أما شديد الضعف فاعتبراً له لما أورده وسكت عنه طيب الأقسام الثلاثة وفي ذبك الضعيف خفيف الضعف لم أورده في السنن نعم هذا أحد أسباب : أَنَّ الحديث خفيف الضعف صالحٌ لاعتباره يعني صالح أن يتقوى أو يقوي غيره فهو يورد الحديث عسى أن يقف أحداً غيره على سند آخر فيتقوى على الحديث هذا سبب السبب الثاني أنه شرط على نفسه أن يذكر أصول أحاديث أحكام بإطلاق يريد أن يجمع الأحاديث التي احتج بها الفقهاء سواء أكانت صحيحة مقبولة ، أو غير مقبولة ولا يمكن أن يلام على أمراً لم يشترطه ، يعني : كما أن لا لوم على الإمام أحمد وغيره ممن ألفوا في السنة ولم يشترطوا الصحة كذلك نفعل مع أبو داود .
نعم ، يمكن أن يعني يلام العالم إذا اشترط الصحة ثم أخرج الضعيف مع علمه بضعفه هذا ممكن أن يكون له في محله .(1/8)
أيضاً سبب ثالث لإيراد الحديث الضعيف : أن الحديث الضعيف لو افترضنا أنه يعني ليس له طريق آخر يتقوى به فهو حديث فرد في الباب ؛ حتى لا يُقَال أنه أخرجه من أجل أن يعتبر به ويتقوى حديث لا يمكن أن يتقوى ؛ لأنَّّه هو الوحيد الإسناد الوحيد الذي ورد بهذا الحديث وليس أيضاً مما يحتج به أهل الفقه ما احتج به أحد من العلماء فلما يخرجه هناك سبب آخر وهو : أَنَّ الحديث خفيف الضعف قد ينف ويستفاد منه ترجيح اجتهاداً على اجتهاد قياساً على قياس فقد يتردد الفقيه في المسألة بين قياس على أصلين ، كل أصل منهما ينتج عنه حكم مختلف عن حكم القياس الآخر فيأتي هذا الحديث الضعيف يرجح أحد القياسين على الآخر ، هذا قياس وهذا قياس وظاهر هذا القياس أنه صحيح وظاهر هذا القياس أنه صحيح فبأي الحكمين أخذ هل يتخير بدون أي قواعد ولا ضوابط إن وجد حديثاً ضعيفاً خفيف الضعف مرسلاً مثلاً أو ما شبه ذلك فإنه يجعل من هذا الحديث مرجحاً لأحد القياسين على الآخر فهو لم يستدل بالحديث الضعيف ويحتج به وإنما اعتبره مُعَضِد ، أو ممكن نقول أيضاً أنه مُرَجِح فقط ، مجرد مرجح لاجتهاد على اجتهاد فهذه أحد الأوجه أو الوجه الثلاثة يعني لأسباب إخراج أبي داود للحديث خفيف الضعف في سننه .
هذا هو شرط أبي داود في كتابه السنن وبالمناسبة فإن عدد الأحاديث التي حكم عليها ابن الجوزي بالوضع في سنن أبي داود تسعة أحاديث فقط ، وبعضها الصواب فيه مع أبي داود ، وأنها ليست موضوعة وبعضها نفس أبي داود نبه إلى ضعفها ولم يسكت عنها وإن كان في سنن أبي داود أحاديث محكوم عليها بالوضع من غير أبي داود كما سبق وأَنْ ذكرنا الأمثلة التي سبقت قبل قليل .
ننتهي بعناية العلماء بكتاب أبي داود :
? أُلِفَت كتب متعددة حول كتاب أبي داود منها شيوخ أبي داود ، أو تسمية شيوخ أبي داود لأبي علي الغثاني الجياني ، وقد سبق ذكر هذا الكتاب .(1/9)
? أَلَف في جمع رجالة أيضاً الإمام المزي في كتابه " تهذيب الكمال" مع بقية الكتب الستة كما هو معروف ثم تلا الإمام المزي من وافقه في التأليف في هذا الباب .
? اختصره الإمام المنذري . واختصار المنذري اختصار مشهور وهو مطبوع قد طبع اختصار المنذري وبحاشيته شرح الخطابي الآتي ذكره وبحاشية شرح الخطابي أيضاً تهذيب السنن لابن القيم الذي هو شرح باختصار ، أو حاشية لكتاب المنذري حاشية لكتاب المنذري .
شروح كتاب أبي داود :
? أقدمها كتاب " معالم السنن " للإمام الخطابي .
والكتاب مطبوع أكثر من طبعة منها الطبعة السابقة التي هي حاشية مختصر سنن أبي داود للمنذري .
? تهذيب السنن لابن القيم .
وهو حاشية ، وقد يتكلم عن بعض الأحاديث ويسكت عن بعض الأحاديث وقد يطيل جداً في بعض الأحاديث ، وقد يتكلم عن بعض الأحاديث بكلامٍ يسير جداً ، فهي على شرط الحواشي ؛ لا تلتزم بشرح الكتاب كله على منهج واحد ، قد تشرح حديث يعني حسب ما اتفق ، وكما يتيسر فقد يطول في شرح الحديث ، وقد لا يشرح بعض الأحاديث بالكلية وقد يختصر جداً في شرح بعض الأحاديث هذا هو واقع حال تهذيب السنن لابن القيم عليه رحمة الله .
? من شروح أبي داود لكنه مخطوط شرح ابن رسلان أحمد بن حسين بن رسلان الشافعي المتوفى سنة أربع وأربعين وثمانمائة من الهجرة وهو شرح كامل لسنن أبي داود ، وليت هذا الشرح يطبع ؛ لأنه أقدم الشروح الكاملة التي وصلتنا عن أبي داود .
? من الشروح المهمة ، ولكنه ليس كاملاً لم يتمه المؤلف شرحٌ للعيني .
الإمام العيني صاحب عمدة القارئ الشهيرة المتوفى ستة خمسة وخمسين وثمانمائة من الهجرة .
شرح لسنن أبي داود ، وموجود منه قطعة بخط المؤلف ولكنه لم يطبع منه حتى الآن .
? من شروح أبي داود " مرقاة الصعود في شرح سنن أبي داود " . للسيوطي ، وهو مخطوط لم يطبع .
? من شروح أبي داود المطروحة " عون المعبود في شرح سنن أبي داود " للعظيم آبادي .(1/10)
المتوفى سنة تسعٍ وعشرين وثلاثمائة وألف أحد علماء الهند اسم الكتاب عون المعبود وهو أشهر شروح أبي داود وأكثرها تداولاً بين طلبة العلم .
? " الْمَنْهَل العَذْب المورود " لمحمود محمد خطاب السبكي أحد علماء الأزهر توفي عليه رحمة الله وله شرح مطول لكنه لم يتم فأتمه ابنه لكن شرح الأب أتقن وأقوى من شرح الابن .
? " بذل المجهود في شرح سنن أبي داود " لخليل بن أحمد السهارنفوري وهو من علماء الهند توفي سنة ستاً وأربعين وثلاثمائة وألف . اعتني بمعلقاته كما سبق في رسالة علمية في إحدى الجامعات السعودية وطبعت هذه الرسالة في عنوان " تغليق التعليق في سنن أبي داود .
? قام بشرح زوائد أبي داود على الصحيحين الإمام البلقيني لكن شرحه هذا لم يطبع أيضاً .
مستخرجات على سنن أبي داود :
تلك المستخرجات التي على الصحيحين مستخرج عليه عدد من أهل العلم منهم : محمد بن عبد الملك بن أيمن الأندلسي المتوفى سنة ستة وثلاثين وثلاثمائة للهجرة وأيضاً استحوذ عليه قاسم بن أصبغ المتوفى سنة أربعين وثلاثمائة للهجرة هذا فيما يتعلق بسنن أبي داود عليه رحمة الله .
ننتقل الآن إلى الكتاب الأخير الذي سنتعرض له في لقاءتنا بإذن الله تعالى وهو كتاب : الإمام الترمذي وهو الكتاب الرابع من الأمهات الست كما هو معروف نقف مع الإمام الترمذي وقفة خفيفة .
أما السُّلَمِي فهي نسبة إلى قبيلة سليم ولم أقف على من بين هل هو ولاءً أو صليبة . لكن نسبته البوهي هذه نسبه إلى قرية بجوار ترمذ ويقال أن هذه القرية التي توفيّ فيها الترمذي ، وترمذ مدينة تقع اليوم في جمهورية أفغانستان الإسلامية .(1/11)
سنة ولادته : ولد علية رحمة الله تقريباً سنة ميتين وتسعة للهجرة وتوفي سنة متين تسعة وسبعين يعني عاش سبعين سنة عاش سبعين سنة ولد سنة ميتين وتسعة ، نقول: إن أقدم شيوخه وفاة وهو محمد جعفر السمناني القومسي توفي قبل سنة مائتين وعشرين ، يعني : نقل : سنة مائتين وتسعة عشر فيكون سمع من هذا الشيخ وعمره أقل من عشر سنوات سمع من هذا الشيخ وعمره أقل من عشر سنوات .
بدء رحلته : تقريباً نحو سنة مائتين وخمسة وثلاثين للهجرة يعني كان عمره نحو خمسة وعشرين سنة نحو خمسة وعشرين سنة وأطال الرحلة ، وبقي في الرحلة فترة طويلة إلى نحو سنة مائتين وخمسة وخمسين للهجرة يعني كم سنة مكث تقريباً في الرحلة نحو عشرين عاماً دخل فيها العراق وبغداد على الراجح ؛ لأن بعض أهل العلم نفى أن يكون دخل بغداداً وقد نص بعض أهل العلم الآخرون على أنه دخل بغداد وسمع منها والذي جعل بعض أهل العلم ينفون دخوله بغداد أن الخطيب البغدادي لم يترجم له في تاريخ بغداد ، لكن هذا ليس بلازم فإن الخطيب البغدادي كما نقول دائماً قد غفل عن ترجمة بعض من لم يشك في دخولهم بغداد ، وهو نفسه يعلم أنهم دخلوا بغداد وهذا من أغرب الأمور منهم شيخه أبو نعيم الأصفهاني شيخ الخطيب البغدادي دخل بغداد ويعرف الخطيب البغدادي أنه دخل بغداد ولكنه لم يترجم له في كتابه من باب النسيان . فلم لا يكون الترمذي كذلك وقد سمع من عدد كبير جداً من البغداديين وهناك أكثر من نقطة على دخوله بغداد على كل حال دخل بغداد ، والعراق ، والكوفة ، والبصرة - بلدان العراق عموماً - ودخل أيضاً الحجاز ويذكر له رحلة شامية أيضاً - وإن كان أيضاً لم يترجم له ابن عساكر في تاريخ دمشق - لكنه يقال أنه دخل دمشق وسمع بها من بعض شيوخها فالبلدان التي رحل إليها هي : خراسان والعراق والحجاز والشام اشتمالاً .
أشهر شيوخه : شيوخه في الحقيقة يعني المشهورون جداً يكفي أن نذكر منهم مثلاً :(1/12)
البخاري ، والدارمي ، وأبو زرعة ، ومسلم بن الحجاج ، وأبو داود السجستاني صاحب السنن ، وعمرو بن علي الفلات ، وقتيبة بن سعيد ، وعلي بن حجر ، وأحمد بن منيع وغيرهم من كبار المحدثين بلغ عدد شيوخه جسماً واحد وعشرين ومائتين شيخ . .
تلامذته : أشهر تلامذته في الحقيقة هو راوي السنن عن وهو أبو العباس محمد بن أحمد بن محبوب المحبوبي .
وكل من تلامذته الآتون ممن روى عنه السنن وهم : المحبوبي السابق ذكره ، والهيثم بن كليب الشاشي وأبو ذر محمد بن إبراهيم ، وأبو محمد الحسن إبراهيم القطان وأبو حامد أحمد بن عبد الله التاجر وأبو الحسن الوازري ومحمد بن محمد بن يحيى القراط .هؤلاء ممن روى عنه السنن لكن أشهر رواية لسنن الترمذي هي رواية المحبوبي وأما الشاشي فعرفت عنه روايته لكتاب الشمائل للترمذي ، والكتاب سيأتي ذكره هو والشمائل الذي يرويه عنه والطريق به مشهورة ومعروفة هي رواية الشاشي عن الترمذي لكتاب الشمائل أم السنن فهو من رواية المحبوبي تلامذته قلنا بأن المحبوبي هو راوي السنن عنه والباقية وكلهم من رواة السنن لكن إنما اشتهر من رواية المحبوبي .
مصنفاته :
? الجامع وهو كتابه الشهير المعروف .
? والعلل الكبير وهو كتاب مطبوع منفصل عن كتاب الجامع لأن هناك كتاب العلل الصغير ملحق بالجامع وهناك العلل الكبير وهو منفصل عن الجامع .
? كتاب الشمائل المحمدية وفيه صفات النبي عليه الصلاة والسلام الخَلقية والخُلقية وبعض خصائصه عليه الصلاة والسلام .
? تسوية أصحاب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وها الكتب كلها مطبوعة وله كتب أخرى مفقودة .(1/13)
بالنسبة لما كنا قد ذكرنه أمس حتى لا ننسى حول ثلاثيات الترمذي وقلت أريد أن أتثبت من هذا الموضوع لم أجد في الترمذي في ما نص عليه إلا حديث واحد ثلاثي ، وإسناده ضعيف لا يصح وهو حديث يقول فيه الإمام الترمذي حدثنا إسماعيل بن موسى الفزاري بن ابنة السدي الكوفي قال حدثنا عمر بن شاكر عن أنس بن مالك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ?? يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ الصَّابِرُ فِيهِمْ عَلَى دِينِهِ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ ?? .
قال الترمذي عقبة هذا حديث غريب من هذا الوجه والترمذي كما سيأتي إذا قال غريب وحدها ولم يتبعها بحكم بحسن أو صحة هذا يساوي الضعف عنده ومعنى ذلك أنه يرى أن هذا الحديث ضعيف وهذا الحديث بالفعل ضعيف لأن عمر بن شاكر ضعيف كما قال الحافظ ابن حجر في التقريب .
هذا فيما يتعلق بترجمة الإمام الترمذي عليه رحمة الله .
جامع الترمذي : الكلام عنه ، بدء الترمذي تأليف الكتاب فيما يبدو عام خمسة وخمسين ومائتين للهجرة وسبب اقتراح هذا العنوان أمور متعددة أن لقاءه بالإمام البخاري غالباً ، وقع لما ورد الإمام البخاري نيسابور ، والبخاري وصل إلى نيسابور سنة مائتين وخمسين ومكث بها إلى مائتين وخمسة وخمسين .
والترمذي قد صرح في كتابه العلل وفي كتابه الجامع أن غالب ما في كتابه الجامع مأخوذاً عن البخاري أن غالب ما في كتابه من التعليم ، والجرح والتعديل والكلام عن الأحاديث أنه استفاده من البخاري إذاً فيكون تأليفه للجامع بعض لقاءه بالبخاري ومعروف أن الترمذي لازم البخاري ملازمة طويلة لا تقل عن خمس سنوات التي مكثها البخاري في نيسابور إذن يغلب على الظن أن تأليفه للكتاب الجامع بعد سنة مائتين وخمسة وخمسين يعني بعد انتقال البخاري من نيسابور إلى بخارى والتي توفي فيها بعد ذلك بسنة واحدة حيث توفي سنة ستة وخمسين ومائتين البخاري .(1/14)
انتهى من تأليف كتابه كما ذكر بعض أهل العلم أنه شاهد على نسخة خطية عتيقة من كتاب الجامع للترمذي بخط أحد تلامذة الترمذي : أَنَّ الترمذي انتهى من تأليف هذا الكتاب سنة سبعين ومائتين . يعني إن كان مكث في تأليفه نحو خمسة عشر عاماً ، أو أقل من ذلك لم يكمل بعد خمسة وخمسين إلى السبعين ، لكن هناك ما يعارض هذا الأمر . يعني : ما وجد على هذه النسخة الخطية من أنه انتهى سنة مائتين وسبعين من تأليف كتابه ، وهو أَنَّ المحبوبي ذُكِرَ عته أنه سمع الجامع من الترمذي سنة أو العبارة الدقيقة لقي الترمذي ، وسمع منه سنة مائتين وخمسة وستين أو مائتين وسبع وستين وهذا قد يقال أن هذا قد يدل على أن الترمذي انتهى قبل مائتين وسبعين ولكن يمكن أن يجمع فيما لوكان كلا الخبرين صحيح أن نقول لعله ابتدأ السمع من الترمذي في هذه السنة ويلزم أن يكون أول ما سمع منه الجامع قد يكون سمع منه بعض مؤلفاته الأخرى أو قد يكون ابتدأ بسماع الجامع والترمذي ولم ينته بعد كان يروي كل يوم مجلي إلى أن انته سنة مائتين وسبعين وقد انتهى من تأليف الكتاب ، لكن يمكن أن يجمع بين الأمرين بأحد هذين الوجهين من الجمع .
المقصود : بأنه مكث في تأليف الكتاب نحو عشر سنوات أقل شيء وأنه انتهى من تأليف الكتاب في حدود سنة مائتين وسبعين أو قبلها بسنة أو سنتين أو ثلاثة أو نحوها من السنوات مكث حدود عشر سنوات في تأليف الكتاب .(1/15)
هناك خبر مشهور جداً يذكره أهل العلم في الثناء على الجامع قد أيضاً يشير إلى اعتراض حول سنة انتهاء الترمذي من تأليفه وأنه جاء عن الترمذي أنه قال : عرضت كتابي على فقهاء أهل الحجاز فرضوا عنه ، وعرضته على فقهاء أهل العراق فرضوا عنه ، وعرضته على فقهاء أهل خراسان فرضوا عنه ، هذا قد يشير إلى أنه ألف الكتاب أثناء رحلته وتنقله لكن بالنظر في إسناد هذا الخبر تبين أن إسناده شديد الضعف راوي هذا الخبر عن الترمذي رجل كذاب مشهور بالكذب فهذا الخبر لا يعتمد عليه في تحديد السَّنة ولا في الثناء على كتاب الترمذي وكتاب الترمذي ثناء العلماء علية أكثر من أن يحصى وليس في حاجة إلى مثل هذه العبارة التي إنما تفرد بروايتها رجل كذاب .
اسم كتاب الترمذي الكامل هو :
" الجامع المختصر من السنن ومعرفة الصحيح والمعلول وما عليه العمل " .
هذا العنوان الجليل المهم يبين بالفعل حقيقة منهج الترمذي في كتابه وللأسف الشديد فإن هذا العنوان لم يكتب على أغلفة كتاب الترمذي بل كتبة عليه عنوانين مختلفة كلها غير صحيحة وبعيد في بعض الأحيان كل البعد عن هذا العنوان مثلاً طبع بعنوان " الجامع الصحيح " ، وطبع بعنوان " السنن" ، وطبع بعنوان " الجامع الكبير " وكلها عناوين غير صحيحة ، والعنوان الصحيح هو الذي سبق ذكره . نقف مع هذا العنوان كما اعتدنا لنعرف منهج الترمذي فيه :
أولاً : كلمة " الجامع " .
هذا يدل على أن هذا الكتاب ليس من كتب السنن أي ليس خاصاً بأحاديث الأحكام ، فهو من الكتب الجامعة لأبواب العلم وهذا هو واقع هذا الكتاب فإن فيه كتاب الفضائل ، وكتاب التفسير ، وكتاب صفة الجنة والنار و، كتاب الزهد ، وكتاب الأمثال وغير ذلك بل وفي أخره كما سيأتي كتاب العلل وهو يخرج عن أن يكون داخل ضمن السنن أيضاً .
الكلمة الثانية في العنوان " المختصر " .(1/16)
فهو يرى أنه ألف هذا الكتاب مختصراً من عددٍ كبيرٍ من الأحاديث عدد أحاديثه حسب المطبوعة ثلاثة آلاف وتسعمائة وستة وخمسين ثلاثة آلاف وتسعمائة وستة وخمسين يعني نحو أربعة آلاف حديث نحو أربعة آلاف حديث ، وكما سيأتي أنه قليل التكرر ويكاد يكون هذا العدد يمثل الواقع أو قريباً منه أو لعل العدد يكون ثلاثة آلاف وتسعمائة ونحوها ؛ لأن الترمذي قليل التكرار في كتابه للحديث وقد أكد على أنه يريد الاختصار في العلل عندما قال في أخر كتابه العلل : وقد وضعنا هذا الكتاب على الاختصار لما رجونا فيه من المنفعة .
هو نفسه يقول هذا الكلام فبين أنه تعمد الاختصار لتسهل الاستفادة منه ويقرب المنفعة من هذا الكتاب
يقول : " من السنن " .
وهذا يبين أنه خاصٌ بالمرفوعات أن هذا الكتاب خاص بالمرفوعات وهذا واقع الكتاب ولم يورد الموقوفات إلا نادراً وأغلب الموقوفات التي يوردها عي المعلقات التي يوردوها لبيان من عمل بالحديث من الفقهاء تميز هذا الكتاب في ترتيبه يعني بأنه لم يبوب على الكتب ، يعني : بعنوان كذا وإنما يقول أبواب الطهارة أبواب الصلاة أبواب الجهاد لم يفعل كغيره عندما يقول كتاب كذا كتاب كذا وإنما اعتاض عنها بكلمة الأبواب ثم يذكر الأبواب بعد ذلك يتميز من جهة بشبهه بالإمام مسلم من جهة عنايته ببيان الفروق في صيغ الأداء ثم بأن الإمام مسلم يميز بين حدثنا ، وأخبرنا أثناء روايته كذلك الترمذي .(1/17)
الترمذي شرع في كتابة على التمييز بين حدثنا وأخبرنا في أثناء الإسناد وله في ذلك تدقيقات تشبه تدقيق الإمام مسلم عليه رحمة الله وأيضاً عنده عناية كبيرة تشبه عناية مسلم بالتنبية على الفروق في ألفاظ المتون إذا كان بعض رواة الحديث روى الحديث بلفظ والآخر زاد لفظ أو نقص لفظه فإنه ينبه على هذه الاختلافات في زيادات المتون في جامع الترمذي في جامعه يشبه أيضاً مسلم في كونه يأتي بالحديث بروايته وألفاظه وأسانيده في موطنٍ واحد بخلاف البخاري الذي يفرق الحديث في أبواب متفرقة هذه أيضاً مزيه من مزايا الترمذي أو من خصائص كتاب الترمذي التي شابه فيها مسلمًا .
أيضاً يشابه مسلم في العناية البالغة بالصنعة الحديثية ، وبإبراز العلل قلنا أن مسلم له عناية بذلك كذلك الترمذي له عناية فائقة بذلك ويمتاز الترمذي على مسلم بمزيتين المزيه الأولى التصريح بالإعلال بخلاف الإمام مسلم الذي في الغالب يكتفي بالتلميح عن التصريح .
الأمر الثاني يتميز كتاب الترمذي من ناحية العلل بإيراده لكتاب العلل الصغير الذي في أخر الجامع وهذه مزية كبرى لكتاب الترمذي .
بالنسبة لطريقة إيراده للأحاديث المعلة :(1/18)
ذكر بن رجب في شرحه لعلل الترمذي منهج الإمام الترمذي في إيراده للأحاديث المعلة ، وهو منهج ينفرد به هو والنسائي دون بعض العلماء الآخرين سواه سواهما حيث يقول ابن رجب وقد اُعترض على الترمذي رحمه الله بأنه في الغالب يبدأ بالأحاديث الغريبة الإسناد غالباً وليس ذلك بعيب فإنه رحمه الله يبين ما فيها من العلل ثم يبين الصحيح في الإسناد وكان قصده رحمه الله ذكرُ العلل أو ذكر العلل ولهذا تجد النسائي إذا استوعب طرق الحديث بدأ بما هو غلط ثم يذكر بعد ذلك الصواب المخالف له وأما أبو داود فكانت عنايته بالمتون أكثر هنا ينبه إلا أن الترمذي من منهجه كثيراً في كتابه أنه يبدأ بالحديث الذي فيه عله ثم يثني بالحديث المقبول ، وأن النسائي أيضاً يفعل هذا الفعل وهذا يخالف ما ذكره الإمام مسلم في مقدمة الصحيح من أنه ظاهر كلامه أنه يبدأ بالحديث المقبول ثم يؤخر الأحاديث التي فيها علل وإن كان لم يلتزم ذلك في الصحيح في كل المواقف المقصود أن هذا منهج الترمذي والنسائي أنهما يبدءان بالحديث الضعيف أو الذي فيه عله ويثنون بالحديث الذي ليس فيه عله وأما أبو داود فلم يعتني بهذا الجانب كثيراً بل اكتفى بالعناية بالمتون أكثر من غيرها وإن كان له تعرض من العلل ولكن ليس كتعارض الترمذي خاصة .
من أمثلة هذه الأحاديث التي ابتدأ فيها بالحديث الضعيف ثم ثنى بالحديث المقبول ، قال الترمذي ( باب ما جاء في الإمام ينهض في الركعتين نسياً ) .(1/19)
ثم أورد تحت هذا الحديث حديث يقول حدثنا أحمد بن منيع قال حدثنا هشيم قال أخبرنا ابن أبو ليلى عن الشعبي قال صلى بنا المغيرة بن شعبة فنهض في الركعتين ثم ذكر حديثاً في سجود السهو ثم قال بعد الحديث - الإمام الترمذي – وقد تكلم بعض أهل العلم في ابن أبي ليلى من قبل حفظه وبين الترمذي أن هذا الحديث ضعيف من جهة قلة ضبط وحفظ محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى رَاَوِيهِ ثم بعده بعد هذا الحديث الذي ابتدأ به الباب ابتدأ البخاري بإيراد حديث آخر أو رواية أخرى لهذا الحديث من رواية زياد بن علاقة عن المغيرة بن شعبة وهذا ثم قال عقبه وهذا حديثٌ صحيح .
والحديث بالفعل صحيح من هذا الوجه وابتدأ بالحديث الذي فيه ضعف ثم ذكر الحديث الصحيح .(1/20)
مما يتميز به : ويشبه في ذلك البخاري ذكرنا شبه بمسلم نذكر الآن شبه بالبخاري في بعض الأمور كثرة تعليقه للمتابعة البخاري في نهاية الحديث يقول وتابعه فلان وفلان عقب الحديث معلقاً أيضاً يفعل ذلك الإمام الترمذي لكنه يخالف البخاري في المعلقات أَنَّه لا يورد معلقاتٍ لا علاقة لها بحديث الباب البخاري يذكر بعض المعلقات التي ليست من باب المتابعة وإنما هي روايات منفصلة أما الإمام الترمذي فإنه لا يذكر إلا المتابعات الحديث الذي يورده متابعات الحديث الذي يورده بالإسناد الذي يورده أمر ثاني مما يشبه فيه البخاري عنايته بفقه الحديث وهذا أمر واضح من عنوان الكتاب حيث قال في عنوان الكتاب - أخر جملة فيه- " وما عليه العمل " فواضح من عنوان الكتاب أنه حريص على بيان فقه العلماء الذي استنبطوه من هذه الأحاديث التي يوردوها في الجامع ولذلك نصتفي أول كتاب العلل أن كل ما ورد في هذا الكتاب فهو صحيح معمول به إلا حديثين مها حديث من شرب الخمر قال في الرابعة فاقتلوه في السنة الأولى قال فاضربوه وفي السنة الرابعة قال فاقتلوه وحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جمع بين الصلاتين من غير خوفاً ولا سفر وقال بأن هذين الحديثين لم يعمل بهما أحدٍ من الفقهاء وهناك حديث ثالث أيضاً ذكره في أثناء الجامع ذكره الحافظ ابن رجب في شرحه للعلل .(1/21)
المقصود : أن كل أحاديث الجامع سوى هذه الأحاديث الثلاثة قد عمل بها الفقهاء عند الترمذي وهذا يبين حرصه على بيان فقه المسألة ومن عمل به من الفقهاء فهو يتابع البخاري مع إيراده للفقه الذي أورده في التبويبات وفي أثناء ذكره لمن عمل بهذا الحديث من الفقهاء أنه يذكر من عمل بهذا الحديث من الفقهاء ويشير في بعض الأحيان ويصرح بمن خالفهم ويقول عمل بهذا الحديث مثلاً سعيد بن المسيب وعبد الله بن المبارك ، وأحمد وإسحاق ، وخالفهم الشافعي وفلان وفلان ومالك وما شابه ذلك فينص على عمل الفقهاء في هذه الأحاديث وهو بذلك يعتبر مصدر مهم من مصادر معرفة مذاهب الفقهاء وخاصة بعض الفقهاء الذين اندثرت مذاهبهم بعد ذلك كالثوري وعبد الواحد بن المبارك والأوزاعي وأمثالهم وإسحاق بن راهويه وأمثالهم من العلماء الذين اندثرت مذاهبهم ، ومن أهمية هذه النقول أنه بين أنه يرويها بالإسناد إلى هؤلاء كما ذكر ذلك في كتاب العلل وذكر أسانيده إلى هؤلاء العلماء الفقهاء الذين ذكر أقوالهم في كتابه الجامع من خصائص هذا الكتاب كما ذكرنا والتي يخالف فيها البخاري أنه يندر في كتابه التكرار يندر في كتابه التكرار الأحاديث وأيضًا يندر فيه الاختصار يعني أن يورد الحديث مختصرًا في باب لا يريد أن يبين موطن الشاهد لا يورد الحديث في الغالب كاملاً دون تغييرًا فيه ،(1/22)
من مزايا هذا الكتاب : أنه يتبع الأحاديث التي يريدها بشواهد الباب فيقول عقب كثير من الأحاديث وفي الباب من حديث أبي هريرة وأبي سعيد وابن عمر وفلان ،وفلان ، وفلان يسمي جماعة من الصحابة فيبين الشواهد التي وردت في هذا الباب وبالمناسبة ننبه أنه إذا قال وفي الباب لا يقصد أن الحديث الأحاديث التي يوردها من أحاديث هؤلاء الصحابة أو التي أشار إليها من أحاديث هؤلاء الصحابة أنها بنفس لفظ حديث الباب لا يلزم ذلك بل في الغالب تكون داله على فقه الباب فقط وليست بلفظ الباب نفسه فقد يكون الحديث دالاً على فقه الباب نفسه لكنه ليس بلفظ الحديث الذي يريده ، هذا منهج الإمام الترمذي في كتابه إذا قال : (وفي الباب ) .
وطريقته في اختيار حديث الباب وأحاديث الشواهد المعلقة تتبين من خلال ثلاثة طرائق :
يعني كيف لما يختار حديث معين ويذكره بالإسناد والمتن ثم يشير إلى الرواية الأخرى وبقوله وفي الباب ما هو علاقة هذا الحديث بتلك الأحاديث من جهة القوة والضعف فلذلك ثلاثة أحوال :
الحالة الأولى : أنه يذكر الحديث الصحيح المشهور في الباب ثم يشير إلى ما كان دونه في الشهرة في الشواهد الحالة الأولى أن يذكر أصح ما في الباب ثم إذا قال وفي الباب من الأحاديث عن فلان وفلان من الصحابة هذه الأحاديث تكون أقل صحة وأقل شهرة من الحديث الأول الذي ساقه مسندًا .
ومثال ذلك : أنه ذكر حديث ابن عباس لا تصوموا قبل رمضان أو نعم أن يذكر حديثًا صحيحًا مشهور في الباب مثل ما ورد حديث "إنما الأعمال بالنيات" وأشار إلى أن هناك أحاديث أخرى بنفس المعنى في الباب .(1/23)
الحالة الثانية : أن يعرض عن الحديث الصحيح المشهور ويخرج حديثًا آخر صحيحًا ولكن ليس كشهرة الحديث الذي أورده يعني لا يذكر الحديث الصحيح المشهور وإنما يذكره في الشواهد ويذكر حديث آخر صحيح ولكنه ليس كصورة الحديث الذي أورده في الشواهد يعني كأنه أتى بالأقل درجة وأورده بإسناده ومتنه ، ثم أورد بعد ذلك الحديث الذي كان يظن أنه يفترض أن يكون هو حديث الباب ويذكره في الشواهد ومثال ذلك حديث ابن عباس مرفوعاً ?? لَا تَصُومُوا قَبْلَ رَمَضَانَ صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ حَالَتْ دُونَهُ غَيَايَةٌ فَأَكْمِلُوا ثَلَاثِينَ يَوْمًا ?? .
هذا الحديث صحيح لكن هناك أحاديث أخرى وقد ذكر الترمذي قال وفي الباب عن أبي هريرة وأبي بكرة وابن عمر وهذه الأحاديث كلها أخرجها البخاري ولم يخرج حديث بن عباس فترك الأحاديث الأكثر شهرة والأصح وأورد حديثًا صحيحًا ، ولكنه ليس في شهرة هذه الأحاديث وقوتها من جهة الصحة .(1/24)
طريقته الثالثة :- وهي أغرب الطرق - أنه يذكر الحديث الضعيف في بابه ويشير إلى الأحاديث الصحيحة في الشواهد وهي أغرب طرق في إيراد الحديث وكثيرًا ما يفعل ذلك وفعله لذلك كثير ليس بالقليل ومثال ذلك أنه أورد حديث فاطمة بنت الحسين عن جدتها فاطمة بنت علي بنت النبي عليه الصلاة والسلام فاطمة الكبرى أنها قالت كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى على النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال رب اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك دعاء دخول المسجد المشهور ثم قال بعده وفي الباب عن أبي حميد وأبي أثيد وأبي هريرة ثم بين أن هذا الحديث الذي أورده حديث منقطع لأن فاطمة الصغرى التي هي فاطمة بنت الحسين لم تسمع من جدتها فاطمة بنت محمد - صلى الله عليه وسلم - ورضي الله عنها فهو أخرج هذا الحديث ونبه إلى ضعفه وأشار إلى أحاديث أخرى في الشواهد هي الصحيحة في الباب ومنها مثلاً حديث أبي أسيد الذي أخرجه الإمام مسلم في صحيحه بدعاء دخول المسجد بنفس لفظ الحديث الذي أورده الترمذي مع علمه بالحديث الصحيح لنه أورد الحديث الضعيف الذي ضعفه هو أيضًا نفسه .
نقف الآن مع مصطلحات الترمذي : وهو من أهم ما يتعلق بكتاب الإمام الترمذي .
جاء في كتاب الترمذي أنه يتعقب الأحاديث بالأحكام عليها بالألفاظ المختلفة فبعضها يقول فيه الصحيح وبعضها يقول فيه : " حسن صحيح " ، وبعضها يقول فيه : " حسن صحيح غريب " ، وبعضها يقول فيه : " غريب " ، وبعضها يقول فيه : "حسن " ، وبعضها يقول فيه : " حسن غريب " ألفاظ مختلفة ومتباينة في الحكم على الأحاديث .
الاصطلاح الأول : " الصحيح " .(1/25)
واستخدامه له ليس بالكثير خاصةً مقرنتًا بقوله : " حسن صحيح " بل استخدامه له قليل جداً في الحقيقة يعني أن يطلق على الحديث صحيح قليل جداً في كتابة والصحيح معروف تعريفه لا يحتاج إلى تعريف ، وليس للترمذي فيه اصطلاح خاص ، فالصحيح عنده هو الصحيح عند غيره ، لكن الملفت للنظر أنه قليلاً ما يستخدم هذا المصطلح .
الاصطلاح الثاني : " حسن صحيح " .
وهو الذي أكثر منه كثيرًا في كتابه الجامع ، كثيرًا ما يستخدمه وهناك إشكال أثاره كثير من أهل العلم حول هذا المصطلح ، هذا الإشكال راجع إلى أن الحديث الحسن معروف عند المتأخرين أنه مرتبة وسطى بين الصحة والضعف ، والحديث الصحيح هو مرتب عليا أعلى من الحديث الحسن .
فكيف يجتمع في الحديث الواحد يعني هذا الاجتهاد الذي عندهم أن يكون في المرتبة الدنيا من القبول وهو أيضاً في المرتبة العُليا من القبول .
وقالوا : إما أن يكون الحديث حسن ، أو أن يكون الحديث صحيحًا .
أحد الأقوال التي قيلت ، وهو قول ابن الصلاح قالوا هو : حسن باعتبار طريق صحيح باعتبار طريقٍ آخر قول آخر .
هذا قول بن كثير أيضًا أنه إذا قال : " حسن صحيح " هذه مرتبة وسطى بين الحسن والصحة مثل ما اصطلح علية بعد المتأخرين كلمة " جيد " التي هي مرتبة بين الحسن والصحة هذا قول ابن كثير ، جاء الحافظ ابن حجر ، وجمع بين القولين وقال بأن الحديث إذا كان غريباً وقال : " حسن صحيح ".
فإِنَّه يقصد أَنَّه بين المنزلتين وكأنه قال : حسن ، أو صحيح . وإذا كان الحديث ليس غريبًا أي : مروي من وجه متعددة ، فيكون مقصودة أنه حسن باعتبار إسناد ، صحيح باعتبار إسناد آخر ، وكأنه قال فيها : حسن (و)صحيح ، إذا كان غريب يكون حسن (أو) صحيح .
يعني : معنى حسن وصحيح .حسن من وجه ، وصحيح من وجه آخر .(1/26)
هناك قول آخر أيضًا أن حسن صحيح ، هذا القول أيضاً ونسب لا بن الصلاح وإن كان عبارة ابن الصلاح لا تدل على ذلك يقينًا إِنَّه : " حسن الإسناد صحيح المتن " ، أو العكس : "صحيح الإسناد وحسن المتن " .
هناك قول آخر : وهو قول ابن دقيق العيد ، والذهبي وهو : أن "حسن صحيح " تساوي " صحيح " .
ما هو توجيه ها الإشكال السابق ؟
قالوا : بأن وجود الصفة الدنيا لا يعارضه وجود الصفات الصفة العليا ، ونضرب لذلك مثال في الإسلام والإيمان اللذان هما إذا اجتمعا افترقا ، وإذا افترقا اجتمعا مع ذلك لو قلت على الرجل أنه مسلم مؤمن لا يأتي واحد يقولي : كيف تقول مسلم مؤمن ؛ لأن الإسلام دون الإيمان وأن هذه هي الصفة الدنيا وهذه هي الصفة العليا ؟ .. ما ينقدح هذا الإشكال في الذهن ؛ لأنه كأني أريد أؤكد أن أنه وصل إلى مرتبة العليا فيقول أنه مسلم وتجاوز ذلك إلى أن التزم بأحكام الدين فأصبح صفة الإيمان متحققة فيه كذلك إذا قال حسن صحيح يعني على رأيهم قد يكون ذلك معناه : أنه وصل مرتبة الحسن ثم تجاوز إلى مرتبة الصحة ولكن هذا الكلام كله بناءً على أن الحسن عند الترمذي هو الحسن عندنا نحن وهو المرتبة الوسطى وسيأتي أن هذا الكلام فيه نظر ، وأن الحسن عند الترمذي ليس هو المرتبة الوسطى كما يقرره المتأخرون .
على كل حال لا شك أن "حسن صحيح " تساوي " صحيح " هذا الذي لا أشك فيه والذي يدل عليه أمور كثيرة ومتعددة فحسن صحيح فالقول الأخير هو القول الصواب أن " حسن صحيح " يساوي " صحيح " تمامًا .
يدل على ذلك أمور متعددة منها :
? أن الترمذي أكثر ما يستخدم في التعبير عن الصحة هذا المصطلح .
فهل يتصور أنه في كل لفظ أو في كل حديث ما من الأحاديث كان مرة يقصد أنه حسن باعتبار إسناده ، صحيح باعتبار إسناد آخر أو أنه متردد ، وما يكون الأحاديث التي يحكم عليها ويجزم لها بالصحة إلا أحاديث قليلة جدًا ؟ هذا مستبعد .(1/27)
? يؤكد ذلك أيضًا أن هناك أحاديث أخرجها الشيخان فهي من أصح الصحيح أو في البخاري وحده أو في مسلم وحده يقول عنها الترمذي " حَسَنٌ صَحِيحٌ غَريب " ؛ حتى لا يقول واحد حسن باعتبار إسناد صحيحٌ باعتبار إسناد يقول " غَرِيب " ومع ذلك أخرجها البخاري ومسلم فهي من أصح الصحيح ، ومع ذلك يقول عنها "حسن صحيح" فلا يمكن أن يقصد بها أَنَّه متردد لأن أول شيء قال حَسَنٌ صَحِيحٌ غريب فهي ليست وباعتبار إسناد آخر ؛ لأنها غريبة .
? الأمر الآخر أنه لا يمكن أن يكون متردد ؛ لأنها من أصح الصحيح ، ويؤكد ذلك أيضًا من وجهٍ آخر أن هناك أسانيد من الأسانيد التي وصفت أنها من أصح الأسانيد ، ومع ذلك يخرجها الترمذي ويقول : " حَدِيَثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَا مِنْ هَذَا الْوَجْه ". فلا يمكن أيضاً متردد ولا يمكن أن يكون قال باعتبار إسنادين ؛ لأنه يقول : غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، أوضح مثال على ذلك عند الترمذي نفسه أورد مرة حديثا وهو نفسه قال عنه : " حَسَنٌ صَحِيحٌ" ثم بعد أسطر قال هو : حديث صحيح وهذه قاطعة قال عنه : حسن صحيح ثم بعدها بسطرين قال صحيح وهو الحديث التالي ذكره ، هوحديث أورده من : حديث عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ : ?? قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرْمِي الصَّيْدَ فَأَجِدُ فِيهِ مِنْ الْغَدِ سَهْمِي قَالَ إِذَا عَلِمْتَ أَنَّ سَهْمَكَ قَتَلَهُ وَلَمْ تَرَ فِيهِ أَثَرَ سَبُعٍ فَكُلْ ?? .
قَالَ الترمذي : " هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ... وَرَوَى شُعْبَةُ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ وَعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَيْسَرَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ مِثْلَهُ وَكِلَا الْحَدِيثَيْنِ صَحِيحٌ وَفِي الْبَاب عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ(1/28)
يقول أولًا عن الحديث حسن صحيح ثم بَيّن أن هذا الحديث يروى من وجهين من حديث عدي بن حاتم ومن حديث أبي ثعلبة الخشني ثم قال : وكلا الحديثين صحيح فهذه عبارة صريحة منه أنه يطلق الحسن والصحيح على الصحيح وأَنَّه لا فرق عنده بين الحكم على الحديث بحسن صحيح وبين الحكم عليه بصحيح ، والأدلة على ذلك مختلفة ، وقد تكلمت عنده في درس ابن الصلاح .
المصطلح الثالث : " حَسَن " .
وهو مصطلح مهم جداً ؛ لأن الترمذي أول من استخدم الحسن بالمعنى الاصطلاحي ، بل يقول شيخ الإسلام ابن تيمية أنه اختص بهذا المعنى الاصطلاحي يعني : لا وافقه عليه أحد قبله ولا تابعه أحد عليه أحدًا ممن جاء بعده ، يذكر هذا شيخ الإسلام ابن تيمية وهو الصحيح أن مصطلح الحسن في مراد الترمذي لا نعرف أحدًا وافقه عليه إلا لمن ينقل كلام الترمذي فقط ، فهو ناقل لكلام الترمذي وليس حاكماً على أحاديث التي جرى حكمها بالحسن الذي أراده الترمذي .
فما هو مراده بالحسن ؟
عَرَّفَ الترمذي الحديث الحسن في أخر كتابه الجامع في كتاب " العلل الصغير " : " وَمَا ذَكَرْنَا فِي هَذَا الكِتَاب حَدِيثٌ حَسَنٌ فإنما أردنا به حُسْنَ إسناده عِنْدَنا كُلُّ حَدِيث يُروَى لا يكون فِي إِسْنَادِهِ مَنْ يُتَهَم الكذب ولا يكونُ شاذاً ، وَيُرْوَى مِنْ غير وَجْهٍ نحو ذلك فَهُوَ عِنْدَنا حَدِيثٌ حَسَن .
إذاً يشترط في الحديث الحسن ثلاثة شروط :
الأول : ألا يكون راوية متهماً بالكذب .
الثاني : ألا يكون شاذاً .
الثالث : أن يروى من غير وجه .
يقول : كل حديث اجتمعت فيه هذه الثلاثة شروط هو عندي حديث حسن ، ويصف هذا الحسن بأن إسناده حسن .
ما هو مَقْصودِهِ بهذا التعريف ؟(1/29)
مع تعريفه بهذا المصطلح بهذا التعريف إلا أنه قد اُخْتُلِف في فهم كلام الإمام الترمذي اختلافًا كثيرًا جدًا ولا أريد أن أدخل في الخلافات لأن هذا التعريف وهذه الكلام قد سبق وأن ذكر في كتاب ابن الصلاح لكن أذكر أرجح الأقوال في رأيي الذي يظهر لي أن مراد الترمذي ، وهو ترجيح ظني لا أقطع به لكن هو الذي بدا لي حتى الآن والمسألة تحتاج إلى زيادة تحمل وتثبت الذي يظهر لي أن مراد الترمذي بالحديث الحسن عنده هو : الحديث الصالح لاحتجاج ، إما لقبول إسناده أو لضعفه المتقوي بعمل أهل العلم .
هذا الذي ترجح عندي من معنى قولت الترمذي حسن .
ومعنى ذلك أَنَّه قد يصف الحديث بالحسن ، وهو صحيح عنده لأن الصالح للاحتجاج ، صحيح صالح للاحتجاج وقد يكون حسن باصطلاحنا لأن الحسن صالح للاحتجاج وقد يكون ضعيفاً خفيف الضعف لكن عليه العمل فهو يتقوى بعمل أهل العلم بهذا الحديث فهو ضعيف خفيف الضعف ممكن أن نلحقه بالحسن لغيره يمكن أن يلحق بالحسن لغيره عند المتأخرين حسب ما نرى من بعض تصرفاتهم في تحسين الأحاديث .
المقصود : أن الحديث الذي يصفه بالحسن في المنازل هذه الثلاثة ، فلا يعارض وصف الحديث بالحسن أن يكون صحيحًا عند الترمذي ، ولا أن يكون حسناً عند الترمذي بالمعنى الاصطلاحي عندنا – الْحَادِث - وهو المرتبة الوسطى ولا أن يكون ضعيفًا خفيف الضعف متقوي لابد أن يكون هذا الحديث الضعيف متقوي إما بورود متون أخرى كما ذكر في التعريف ، أو بعمل أهل العلم على هذا الحديث أما مسألة عمل أهل العلم فهو قد نص أن كل ما في كتابه قد عمل به أهل العلم بعض أهل العلم هذا انتهينا منه إلا الثلاثة أحاديث التي ذكرنها ، فهذه مسألة منتهيين منها لكن لما يقول هذه العبارة أيضًا لأننا وجدنا جملة أحاديث فيها ضعف هو نفسه يضعفها يصفها بالحسن يقول هذا حديث حسن إسناده ليس بقائم هذا حديث حسن فيه فلان ، وهو سيء الحفظ ومع ذلك يقول : حسن .(1/30)
قال ذلك لأنه قد يطلقه على الصحيح والمطلق على الصحيح فهناك مثال واضح جداً في هذه المسألة ولم أقف على من نبه هذا المثال مع أهميته وهو حديث أورده حديث " العَارِيَة الْمُؤَدَّاة " أورده الترمذي في ثلاثة مواطن في كتابه :
1 - مرة قال عنه : " هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ " إذًا عنده معناه صحيح .
2 - مرة أخرى أورد الحديث نفسه بنفس الإسناد وقال : " هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ " .
3 - مرة ثالثة أورده فقال : " هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ " .
حديث واحد ، بإسناد واحد يقول عنه : " حسن " ، و " حسن صحيح " ، و " حسن غريب " مما يدل على أن هذه مصطلحات عنده لا تتعارض ولا تتناقض فالحسن عنده شامل للضعيف المتقوي كما ذكرنا وللحسن باصطلاحنا وللصحيح باصطلاح الجميع .
نقف عند كلمة من كلمات التعريف الذي ذكره وهي قوله : " كل حديث يروى في إسناده من يتهم بالكذب " .
طبعاً واضح من هذه العبارة أن كل الأحاديث التي ليس في إسناده راوي يتهم بالكذب واجتمعت فيه بقية الشروط فهو واقع ضمن التحسين عنده .
يعني : أنه يشترط في راوي الحديث الحسن ألا يكون ممن يتهم بالكذب والراوي يتهم بالكذب ، هو إما غير العدل الذي ليس بعد يعني : الفاسق أو الذي عرف منه الكذب في حديث الناس ، أو في حديث النبي عليه الصلاة والسلام فكل راوي ليس فاسقاً ، ولا متهم بكذب فهو عنده يصلح أن يحسن حديثه إذا اجتمعت بقية الشروط في هذا الحديث أما قوله : " ولا يكون الحديث شاذاً " .
ومن أهل العلم من قال أن مراده بالشذوذ هنا مراد الشافعي وكما يذكر الحافظ ابن حجر أيضاً في تعريف الشاذ وهو : مخالفة المقبول لما هو أولى منه .
لكن الصحيح والله اعلم أن مراده بالشذوذ هنا التفرد المستنكر .(1/31)
فإِنْ قِيل : إِنَّ قوله هو يروى من غير وجه يغني على أن يقول : ولا يكون شاذ ويريد التفرد للمستنكر يعني ما دام أنه يشترط أنه يروى من غير وجه ، إذا فيكون الحديث ليس بفرد ، فلما يقول : ولا يكون شاذًا ، ويروى من غير وجه .
نقول : لا ؛ فرق بين التفرد المستنكر وبين الغرابة ؛ لأن الحديث قد يستنكر متنه مع كونه له روايات مقبولة تشهد لصحة معناه .
يعني : يستنكر اللفظ - لفظ المتن - ويبقى على المعنى صحيح الوارد فيه والتي تدور علية نصوص أخرى ولكن نحن نستنكر هذا اللفظ ونسبته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا قد يحصل وقد يستنكر إسناد ، إسناد معين لحديث مع كون هذا الحديث مروي من وجوه أخرى مسندًا متصلاً صحيحا فالتفرد بالمستنكر غير الغربة ، صورة أدق منها " فكل شذوذ غريب وليس كل غريب شذوذًا " .
ولذلك عاد ، وقال : ويروى من غير وجه ليبين أن يشترط فيه أيضًا أن يكون له متابعة وشواهد تشهد لصحة معناه .
هذا هو مراده الحديث الحسن فيما يظهر لي .
قوله : " حسن غريب " .
فيقصد به معنى "الحسن " السابق ذكره ويضاف إليه أن هذا الحديث غريب أي تفرد براويته شخص واحد لأن الغريب هو الذي تفرد براويته شخص واحد وما دام أنا سنتكلم عن الغريب فسنتكلم عن الغريب عند الترمذي ؛ لأنه في بعض الأحيان نقول كلمة غريب وحدها أيضاً .
يقول : " هذا حَدِيثٌ غَرِيبٌ " وبالاستقراء تبين أن الترمذي إذا وصف الحديث بالغربة وحدها فإنه يقصد بذلك الضعف ، إذا قال : " هذا حديث غريب " فاعلم إنه يشير بذلك إلى ضعف هذا الحديث وقد نص على ذلك غير واحد من العلماء ومن الباحثين منهم " مُغْلَطَاي " في كتابه " الإعلام بسنته عليه السلام " وهو شرح لسنن ابن ماجة ذكر أن هذا هو مصطلح الترمذي .(1/32)
ذكر ذلك من الباحثين المعاصرين الدكتور نور الدين عتر في كتابه يأتي ذكره في آخر اللقاء إن شاء الله إذًا إذا قال غريب يقصد به ضعيف ، لكن ننبه إلى أن الغربة عن الترمذي تنقسم إلى أربعة أقسام هو ذكره نفسه في كتابه العلل الصغير .
أربعة أقسام للغريب عند الترمذي:
القسم الأول : ما لا يروى إلا من وجه واحد .
قال : ولذلك صورتان - لهذا القسم فرعان - الفرع الأول : إسناده غريب لا يروى به إلا حديث واحد - إسناد واحد ليس له مثيل - لا يروى بهذا الإسناد إلا حديث واحد ، قال :
عَنْ أَبِي الْعُشَرَاءِ الدَارِمِي عَنْ أَبِيهِ قَالَ : ?? قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمَا تَكُونُ الذَّكَاةُ إِلَّا فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ – التي هي النحر- قَالَ لَوْ طَعَنْتَ فِي فَخِذِهَا لَأَجْزَأَ عَنْكَ ?? . طبعاً الحديث ضعيف .
المقصود أنه هذا الإسناد لا يروى حديث بهذا الإسناد إلا هذا الحديث هناك أحاديث أخرى روية لكنه الصحيح أنه لم يثبت من رواية أبي العشراء الدارمي عن أبيه إلا هذا الحديث فهو حديث غريب سندًا ومتنًا ، ولا يرى بهذا السند إلا هذا المكان فقط هذه الصورة الأولى .
الصورة الثانية : أن يكون إسناد الحديث مشهوراً بمعنى أنه تروى به أحاديث كثيرة إسناد حديث تروى به أحاديث كثيرة لكن يتفرد أحد هذه الأسناديد أو هذه النسخة تتفرد بمتنٍ لا يروى إلا بهذا الإسناد .
مثاله : عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر هذا إسناد مشهور مروي به أحاديث كثيرة لكن هناك حديث واحد رواه عبد الله بن دينار عن ابن عمر وتفرد به لم يروي أحد غيره وهو حديث أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ?? نَهَى عَنْ بَيْعِ الْوَلَاءِ وَهِبَتِهِ ?? .
فمع كونه إسناد مشهور ومتداول وتروى به أحاديث كثيرة لكن هناك متن من هذه المتون لم يروى إلا من خلال رواية عبد الله بن دينار عن ابن عمر هذا نوع الغربة الأول .(1/33)
نوع الغربة الثاني : ما نسمي نحن في اصطلاحنا " زيادة الثقة " .
وهو أن ينفرد راوي مقبول الرواية عن غيره بزيادة في متن الحديث وضرب لذلك مثالاً بحديث زكاة الفطر : ?? فَرَضَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الْفِطْرِ ... عَلَى كُلِّ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى مِنْ الْمُسْلِمِينَ ?? .
كلمة " من المسلمين " زيادة زادها الإمام مالك ، وتفرد بها فيما قيل عن دون أيوب بن أبي تميمة ، ودون عبيد الله بن عمر العمري كلاهما رواه عن نافع من دون هذه الزيادة وتفرد مالك برواية هذا الحديث عن نافع عن بن عمر بهذه الزيادة فالنوع الثاني من الغربة زيادة الثقة فيصح أن يقال عن زيادة الثقة الحديث الذي فيه زيادة ثقة أنه حديث غريب وهذا يجب أن ينتبه إليه وهذه أحد وجوه الغربة التي نص عليها الترمذي .
الوجه الثالث : من وجه الغربة أن يكون للحديث طرقاً معروفة فيروى عن أحد الصحابة بسندٍ غريب يعني أن يكون الحديث معروف من حديث عددٍ من الصحابة ، لكن يأتي راوي من الرواة ويتفرد براويته عن صحابي آخر غير الصحابة الذين عرف الحديث من طريقهم .
مثال ذلك : حديث أَبِي أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ جَدِّهِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ?? الْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ وَالْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ ?? .
هذا الحديث لم يروى عن أبي موسى إلا من هذا الوجه عن رواية أبي أسامة عن أبي بريد بن عبد الله بن أبي بردة مع أن الحديث صحيحاً من حديث أبي هريرة ومن حديث ابن عمر في الصحيحين عن حديث بن عمر لكنه غريب من حديث أبي موسى الأشعري . المتن مشهور برواية عدد من الصحابة لكن من رواية واحد منهم يعتبر غريبًا فقد يوصف الحديث بالغربة من هذا الوجه .
القسم الرابع من الغربة وهي أيضاً فرعان :(1/34)
الفرع الأول : يكون الحديث مشهوراً عن صحابي من طريق ويستغرب عنه من وجه آخر .
يكون الحديث رواه عن الصحابي عدد من الناس مثلاً حديث معروف عن الصحابي مشهور عنه يأتي راوي آخر وينفرد بهذا الحديث من وجه آخر دون هذا الوجه الذي اشتهر عن واحد من الصحابة مثال ذلك حتى تتضح الصورة حديث السائب عن عائشة مرفوعًا ?? مَنْ تَبِعَ جَنَازَةً فَصَلَّى عَلَيْهَا فَلَهُ قِيرَاطٌ وَمَنْ تَبِعَهَا حَتَّى يُقْضَى قَضَاؤُهَا فَلَهُ قِيرَاطَانِ?? . يعني : له الأجر .
قال الترمذي عقبة : غريب من حديث السائب معروف من حديث عائشة من وجوهٍ عنها .
إذًا : هو غريب من جهة رواية السائب بن يزيد عن عائشة ذلك الوجه هو الغريب ، لكن هناك طرق أخرى عن عائشة سوى هذا الطريق .
الفرع الثاني : أن يخالف أحد الرواة برواية الحديث متصلاً وهو إنما يعرف مرسلاً .
يكون الحديث معروف مرسلاً ويأتي راوي واحد ويرويه متصلاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا وجه من وجوه الغربة وهو نوع من أنواع النكارة والشذوذ أيضًا عند الحافظ ابن حجر وهو نوع من أنواع المخالفة والوهم والخطأ .
مثال ذلك : حديث المغيرة بن أبي قرة السدوسي عَنْ أنس يَقُولُ : ?? قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْقِلُهَا وَأَتَوَكَّلُ أَوْ أُطْلِقُهَا وَأَتَوَكَّلُ قَالَ اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ ?? .
هذا الحديث قال الترمذي في عقبه : " وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَ هَذَا " .
عمر بن أمية تابعي فبين إنما هو معروف ومشهور مرسلاً ، وأما الرواية المتصلة فهي رواية غريبة ، وأشار بذلك إلى وهمها وخطئها هذه هي مقاصد الترمذي بالحكم على الحديث بالغربة .
مكانة أحكام الإمام الترمذي :(1/35)
وُصِفَ الترمذي بالتساهل ، وممن وصفه بالتساهل الإمام الذهبي في مواطن متعددة حيث قال في كتاب ذكر من يعتمد قوله في الجرح والتعديل لما تكلم عن أئمة الجرح والتعديل المتشدد منهم والمتساهل قال : قسم منهم متعنتٌ في الجرح متثبتٌ في التعديل ثم قال وقسم في مقابلة هؤلاء يعني متساهلون كأبي عيسى الترمذي والحاكم والبيهقي متساهلون فوصف الترمذي بالتساهل ، وقال أيضاً في الموقظة المتساهل كالترمذي والحاكم ، والدار قطني في بعض الأوقات يعني الدار قطني في بعض الأحيان يتساهل هذا كلام الذهبي في الموقظة حسب المطبوع .
وقال في السير " جامعه - أي جامع الترمذي - قاضيًا له بإمامته وحفظه وفقهه ولكن يترخص في قبول الأحاديث ولا يشدد نفسه في التضعيف رخو يعني لين وسهل .
وقال في الميزان : في ترجمة كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني بعد نقله تضعيفه عن بعض من أهل العلم قال وأما الترمذي فروى من حديثه الصلح جائز بين المسلمين وصححه فلهذا لا يعتمد العلماء على تصحيح الترمذي .
هكذا يقول الذهبي وقال في الميزان في ترجمة محمد بن حسن بن أبي يزيد الهمذاني بعض نقله تضعيفه أنه وأن من أحاديثه ?? مَنْ شَغَلَهُ قِرَاءَة الْقُرْآَن عَنْ دُعَائِي وَمَسْأَلتي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَل مَاَ أُعْطِي الشَّاكِرِين ?? .
قال الذهبي : حَسَّنَه الترمذي فَلْم يُحْسِن .
وقال أيضاً - في ترجمة أخرى - حسنه الترمذي مع ضعف ثلاثة فيه فلا يعتد بتحسين الترمذي فعند المحققة غالبها ضعاف .
هذا كلام الذهبي يقول في موطن لا يعتمد العلماء على تصحيح الترمذي وفي موطن آخر يقول غالب تحسينات الترمذي ضعاف . هذه أشد عبارتين من الإمام الذهبي حول الإمام الترمذي يقول لا يعتمد على تصحيحه وفي موطن يقول غالب تصحيحاته ضِعَاف .
أيضاً أشار إلى تساهله ابن القيم الجوزية في كتابه الفروسية .(1/36)
أود أن انبه مهم : وهو أن الوصف بالتساهل والتشدد لا يقتضي إهدار توثيق أو تصحيح المتساهل ولا رد تضعيف المتشدد لم يقصد هذا لا الذهبي ولا غيره ولذلك وسيأتي إن شاء الله أن الذهبي نفسه اعتمد على تصحيح الترمذي واحتج به الذي يقول قبل قليل لا يعتمد عليه سنعرف ما هو مقصودة بعدم الاعتماد لا كما يتصور .
وهذا أمر وصف مثلي ولذلك كما يقول الشيخ المعلمي عليه رحمة الله يقول : قد يتساهل المتشدد وقد يتشدد المتساهل .
يعني : قد نجد في بعض الأحيان الترمذي يتشدد ، ويضعف أحاديث أو يحسن أحاديث هي في الصحيحين أو أحدهما وقد نجده يتساهل كذلك مثلًا يحيى بن معين فهو متشدد قد يتساهل فيوثق رواة يضعفهم غيره من أهل العلم فهو ليس أمرًا مطردًا ومطلقًا .
الأمر الثاني : أن هذا الأمر ليس المقصود منها أن يتخذ قاعدة لا تنخرم ، بل يتخذ قرينة من قرائن الترجيح عند التعارض .
يعني : لو وجدنا مثلاً البخاري ضعف الحديث وصححه الحاكم أرجح تضعيف البخاري على تصحيح الحاكم لأن البخاري منصف والحاكم متساهل .
كذلك في التوثيق نقوله لو وثقنا مثلاً ذكره ابن حبان في الثقات على قول أنه متساهل ذكره ابن حبان في الثقات وضعفه غيره أُقدم تضعيف غيره على توثيقه وهكذا ، فالمقصود أنها نافعة عند التعارض وليس قواعد مطردة .
ويدل على اعتماد الإمام الذهبي للترمذي أنه لما كما ذكرنا في موطنًا سابق الراوي الذي ليس فيه جرحًا ولا تعديلاً قال في هذا الراوي الذي ليس فيه جرحًا ولا تعديل إذا أخرج له البخاري ومسلم في الصحيح فهو ثقةٌ بذلك .
ثم قال : وإذا صحح له مثل الترمذي وابن خزيمة فجيدٌ أيضًا ، وإن صحح له كالدارقطني والحاكم فأقل أحوله حُسْن حديثه .(1/37)
إذًا هنا الإمام الذهبي اعتمد على صحيح الترمذي أم لم يعتمد عليه ؟ واضح أنه اعتمد عليه لأن هذه الصورة هي الصورة التي تبين هل سيعتمد عليه أو لا ؛ لأنه ليس هناك معارض للترمذي ولا موافق له إذا وجد معارض قد نقول مثل ما نقول نحن الآن نقول قد نرجح كلام معارض الترمذي هذا ما فيه خلاف وإذا وجد من يوافقه قد يقول قائل لعله لم يعتمد على الترمذي وإنما اعتمد ولكن اعتمد على من وافقه من أهل العلم لكن هذا راوي سَلِمَ من ذلك ؛ لم يوافقه أحد ولم يعارضه أحد ومع ذلك يرى الإمام الذهبي أن مجرد تصحيح الترمذي لهذا الراوي أَنَّ هذا يقتضي أن حديثه جيد يعني لا ينزل عن درجة بل هو أعلى من الحسن بل هو بدرجة أعلى من درجة الحديث الحسن وما أقربه أن يكون ثقة .
يعني : ما أقرب أن يكون هذا الراوي ثقة وأن يكون حديثه صحيحاً بالفعل ولذلك لما قال الذهبي عبارته السابقة فلهذا لا يعتمدُ العلماء على تصحيح الترمذي رد هذه العبارة العراقي برد قوي في شرحه لجامع الترمذي حيث قال : ما نقله عن علماء من أنهم لا يعتمدون على تصحيح الترمذي ليس بجيد ، ومازال الناس يعتمدون تصحيحه .
هذا كلام العراقي يرد على الذهبي .
أيضًا نص على اعتماد تصحيح الترمذي ابن الصلاح لما ذكر الصحيحين قال : وهناك حديث زوائد على الصحيحين قال ونستفيد هذه الأحاديث الصحيحة الزائدة عن الصحيحين من عددٍ من الكتب ذكر من بينها تصحيحات الترمذي فابن الصلاح نص أيضًا على اعتماده على تصحيحات الترمذي .
الأدلة على ذلك كثيرة ومتعددة ، لكن يكفي ما ذكرنه ويكفي أيضًا أن نُذَكر بإمامة الترمذي وهذا أمر دائمًا نؤكد عليه يعني الإمام الترمذي الآن سبق حتى الإمام الذهبي يقول وكتابه قاضٍ له بالإمامة في الحديث والفقه واللغة وما شبه ذلك .(1/38)
فكيف نعتقد في إمام من أئمة الحديث أنه لا يلتفت أصلاً إلى تصحيح لأنه من هو الذي لا يعتمد على تصحيحه من كان الغالب عليه الوهم والخطأ ، أما من كان الغالب عليه الصواب فيجب أن يعتمد تصحيحه ، ومتى يوصف الإنسان بالإمامة إذا كان الغالب عليه الخطأ أم الذي كان الغالب عليه الصواب ولا شك أن الإمام الترمذي باتفاق الناس كلهم إذا القول بإهدار أحكامه ليس بصحيح هل اعتمد اعتمادي على تصحيح البخاري ومسلم بمعنى أني لا أنظر في إسنادها ؟ لا ؛ سبق أن قررنا ذلك بكل وضوح عندما تكلمنا عن كتاب بن خزيمة وقلنا بأن كل ما سوى الصحيحين يجب أن يدرك إسناده من أهل العلم إذا كنت من أهل العلم تستطيع أن تدرس أُدرس ، وأما إذا كنت لست من أهل العلم ولست إلا مقلداً فعليك أن تقلد العلماء والترمذي أن تقلده أولى من أن تقلد من جاء بعده مثلاً ممن يقلون علمًا عن الإمام الترمذي .
أيضًا مما يتعلق باتهام التساهل أن هذا راجع في الحقيقة أيضًا إلى عدم فَهْم اصطلاحه في الحسن لما قال الإمام أن غالب تحسيناته ضعاف هذا على حسب اصطلاحًا نحن لأننا نقول أن حسن يجب أن يكون مرتبة وسطى بين الصحيح والحسن ولكن بين أنه لا يلزم من ذلك أن يكون هذا هو اصطلاح الترمذي فوصفه بالتساهل بناءً على ذلك ليس بصحيح .(1/39)
الأمر الأخير الذي يمكن أيضًا أن يدفع به تجاه وصفه بالتساهل : أن بعض الأحكام قد تكون من باب اختلاف الاجتهاد فقد يُحَسِّن الإمام أو يُصَحِح لراوي وغيره يضعفه وهذا لا يخلو منه عالم من العلماء فكم من راوي وثقه يحيى بن معين وهو إمام الجرح والتعديل وهو الموصوف بالتشدد وضعفه بعضٌ من أهل العلم بل وكان الراجح أنه ضعيف وأن وصف يحيى بن معين له بأنه ثقة مخالف للصواب فهل نقول لوجود هذه الأمثلة بأن يحيى بن معين متساهل أنه وَثَّق ضعفاء هذا لا يخلو منها أحد فكذلك الترمذي يعني مثلاً كثير بن عمرو بن عبد الله المزني الذي قال عنها الإمام الذهبي كما سبق عبارته عندما قال وصححه بل هذا ولا يعتد العلماء على تصحيح الترمذي : هذا الراوي نفسه وهذا الحديث نفسه سئل الترمذي البخاري عنه فقال هذا حديث حسن وقال عن كثير بن عبد الله بن عمرو المزني مقارب الحديث فإذا كان وصف الترمذي بالتساهل مبني على تحسينه أو تصحيحه لهذا الحديث فصفوا البخاري بالتساهل ؛ لأنه أيضًا كان يرى أن هذا الراوي مقبول الرواية نعم هذا الراوي في الراجح وفي الصحيح أنه ضعيف ولا يحتج به لكن أريد أن أبين أن بعض المسائل مبنية على الاختلاف في الاجتهاد وليست مبنية على التساهل والتشدد ، وإلا لو اعتبرنا هذه الطريقة صحيحة لصح أن نعتبر الترمذي متساهلاً متشددًا في نفس الوقت فإن هناك حديثًا يُضَعف وهو صحيحاً عند غيره وهناك أحاديث صححها هو ضعيفة عند غيرة فاعتبره في هذا الجانب متشدد وفي هذا الجانب هو متساهل هذا لا يصح المسألة مبنية على اختلاف الاجتهاد في كثير من الأحيان وليس مبنية على اختلاف القواعد القبول والرد أو على التساهل المفرط الذي يؤدي في الغالب إلى ما لا يستحق القبول أو التشدد المفرط الذي يؤدي إلى تضعيف في الغالب إلى ما يقبله غيره من أهل العلم .(1/40)
هذه أهم اصطلاحات الترمذي ومكانته أيضًا فيما يتعلق بمكانة الترمذي وجدت أن عدد الأحاديث التي أوردها ابن الجوزي في الموضوعات مما أخرجه الترمذي اثنين وثلاثين حديث هذا مما عدد الأحاديث التي أخرجها الترمذي ، وأوردها ابن الجوزي في الموضوعات قد يقال اثنين وثلاثين حديث كثيرة سبق أنه في أبي داود تسعة فقط فنقول الآن ببقية هذه الإحصائية يتبين لك أنها ليست مؤثره في كتاب الترمذي إلى هذا الحد لأنه قد بين ضعف ثلاثة وعشرين حديث منها نفس الترمذي تعقب ثلاثة وعشرين حديث منها ببيان ضعفها إما بالحكم عليها بالغاربة أو بالتصريح بضعفها واضح ثلاثة وعشرين حديث وثلاثة أحاديث منها أو أربعة أحاديث منها الصواب فيها مع الترمذي ، وأنها في درجة القبول وأن الحكم عليها بالوضع ليس بصحيح وأربعة أحاديث أخرى ليست صحيحة ولم يحكم عليها الترمذي بالضعف يعني نعيد ذِكر الإحصائية : ثلاثة وعشرين ضعفها الترمذي فلا ينتقد الترمذي بإيرادها ؛ لأنه بَيّن ضعفها . القسم الثاني وهي التي لم يبين ضعفها : والصواب أنها ضعيفة ، ولم يبين ضعفها وهي أربعة أحاديث هذه الأربعة أحاديث التي لم يبين ضعفها وهي ضعيفة أيضًا لم يمكن نجزم بأنها موضوعة يعني يمكن يقال عنها شديدة الضعف يمكن يقال عنها ضعيفة لكن لا يمكن أن توصف ولكن يمكن أن تنزع في الوضع وممن نازع في ذلك السيوطي نفسه أنه دافع عن هذا الأحاديث أنه بين أنها لا تصل إلى درجة الحكم بالوضع بقية الأحاديث : خمسة أحاديث الصواب فيها مع الترمذي وأنها مقبولة في درجة القبول وبذلك نخرج إلى أن الأحاديث التي يمكن أن نقول بأنها منتقدة نحو أربعة أحاديث فقط في كتاب الترمذي ، يعني التي أوردها ابن الجوزي في الموضوعات وهي منتقدة بالفعل لأنه حكم بقبولها وهي غير مقبولة لكن أيضًا بأن الحكم عليها بالوضع مما يُنَازَع فيه .
عناية العلماء بكتاب الترمذي .
فنبدأ بالشروح وقد أوشكنا على النهاية بحمد الله :(1/41)
? من أقدم الشروح الترمذي المطبوعة كتاب " عارضة الأحوذي " لأبي بكر بن العربي المتوفى سنة ست وأربعين وخمسمائة من الهجرة ، وهو مطبوع .
? كتاب " النفح الشذي " لأبي الفتح بن سيد الناس المتوفى سنة أربعًا وثلاثين وسبعمائة فطبع من مجلدًا والمؤلف توفيا أصلاً ولم يتمه فأكمله بعده الحافظ العراقي أكمل النفح الشذي الحافظ العراقي في كتابٍ مخطوط لم يطبع حتى اليوم لكن قد سمعنا أن أحد علماء الحديث في عصرنا قد انتهى من تحقيقه وقد يطبع بإذن الله تعالى النفح الشذي الذي لم يطبع منه إلا مجلدان هناك أيضًا تكمله له انتهى من تحقيقها محققه وتكملة العراقي قد تخرج قريبًا إن شاء الله بنفس تحقيق هذا الرجل الفاضل وهو الدكتور أحمد عبد الكريم معبد وفقه الله تعالى .
? من شروح الترمذي " قوت المغتذي " للسيوطي وهو مطبوع قديمًا في الهند وفي القاهرة أيضًا .
? من شروح الترمذي " تحفة الأحوذي " وهو من أشهر الشروح وأكثرها تداولاً تحفة الأحوذي للمباركفوري من علماء الهند .
? هناك " شرح علل الترمذي " الذي هو ملحق في أخره لابن رجب وهو من أجّل وأفضل وأعمق كتب علم الحديث .
من الكتب التي تكلمت عن الإمام الترمذي وعن منهجه في الكتابة الكتب الثلاثة الآتية :
1 – كتاب " فضائل الكتاب الجامع لأبي عيسى الترمذي " تأليف أبي القاسم عبيد بن محمد الإسِعردي بكسر العين . المتوفى سنة اثنتين وتسعين وستمائة من الهجرة وهو كتاب مطبوع .
2 - كتاب " الإمام الترمذي والموازنة بين جامعه والصحيحين " للدكتور نور الدين عِتر وهو كتاب جيد ونافع وقد استفدت منه كثيرًا فيما ذكرته اليوم لكم حول كتاب الترمذي وهي رسالته للدكتورة أو للماجستير فيما أحسب .
3 - كتيب صغير بعنوان " تراث الترمذي العلمي " للدكتور أكرم ضياء العمري .(1/42)
وبذلك نكون قد انتهينا من كتاب الإمام الترمذي وهو أخر كتاب تيسر لنا الكلام عنه في هذه اللقاءات وقد سبق وأن ذكرت أن كتاب النسائي وابن ماجه قد ألقيت فيهما لقاءات ودروس سابقة قبل سنوات وهي موجودة ومتوفرة ، وقد تلحق بأشرطة هذه الدورة حتى يكتمل الكلام عن الكتب الستة جميعها مضافًا إليها كتب الصحيح أو التي تشترط الصحة كما تكلمنا عنها أيضًا في هذه اللقاءات .
الأسئلة :
س : يسأل عن حديث ?? إن الله لا ينظر إلى الصف الأعوج ?? ؟
ج : لم يصح عن النبي عليه الصلاة والسلام .
س : هل هناك مؤلف خاص يبحث اصطلاحات الترمذي ؟
ج : ذكرنا كتاب أكرم ضياء العمري أيضًا هناك رسالة لم تطبع بعد وهي رسالة الحديث الحسن تعرض للحديث الحسن خاصة عند الترمذي وعند غيره للدكتور خالد منصور الدريس وهي رسالة لم تطبع وقد تطبع قريبًا إن شاء الله .
س : هنا يسأل عن حديث الرجل الذي طرق الثلاثة الذين وردوا المدينة فطرق كل رجلاً أهله فوجد ما يكرهه ويسأل عن صحته .
ج : لا أذكر الحكم على هذا الحديث الآن .
س : ما أفضل طبعات البخاري ومسلم ؟
ج : الحقيقة أفضل طبعة هي الطبعة اليونانية بالنسبة لصحيح البخاري وقد طبعة مؤخرًا في حجم كبير ومرقمه لكن يبقى أن ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي الموجود مع فتح الباري هو المعتمد وهو غالبًا الذي يعزى إليه والذي يقتني الطبعتين يكون أفضل ، وأما بالنسبة لصحيح مسلم فأفضل طبعاته حتى اليوم هي طبعة محمد فؤاد عبد الباقي .
س : هنا يسأل عن حديث جب الحزن الذي تستعيذ منه جهنم ؟
ج : هذا أحد الأحاديث المنتقدة على الترمذي أخرجه الترمذي وحكم عليه ابن الجوزي بالوضع لكن الترمذي قال عنه غريب فأشار بذلك إلى ضعفه وهو حديث ضعيف لا يصح عن النبي عليه الصلاة والسلام .
وأسأل الله عز وجل أن يبارك لنا في ما قلنا وما سمعنا وأن يجعل أعمالنا خالصة لوجهِه الكريم
وصلى اللهم وسلم ، وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين .(1/43)