مسالك العلة في أحاديث الثقات .
تسلك العلة عدة مسالك لتقدح في الإسناد أو المتن ، أو فيهما معاً ، ومن تلك المسالك :-
النسيان.
النسيان :" هو غفلة القلب عن الشيء بحيث يحتاج إلى تحصيل جديد " أو " زوال الصورة عن القوة المدركة ، مع بقائها في الحافظة " (1) ، وهذا المسلك للعلة ناتج عن الضعف البشري الذي لا يسلم منه أحد ، فقد ينسى الراوي شيئاً مما كان يحفظه ، أو يحدث بما يذكره في حينه غافلاً عن الوجه الصحيح للرواية.
قال ابن تيمية :" ومنها أن يكون المحدث قد نسي ذلك الحديث فلم يذكره فيما بعد أو أنكر أن يكون حدث به معتقداً أن هذا علة توجب ترك الحديث " (2).
قال شعبة:" قال لي حماد بن أبى سليمان :" يا شعبة لا توقفنى على إبراهيم فإن العهد قد طال وأخاف أن أنسى أو أكون قد نسيت " (3).
قال الحميدي : " كان سفيان ابن عيينة يحدث بحديث عن عاصم بن كليب ، عن أبي بكر بن أبي موسى الأشعري ، عن أبيه - رضي الله عنه - ، فقيل له : إنما يحدثونه عن أبي بردة بن أبي موسى ، فقال : أما الذي حفظت أنا فعن أبي بكر فإن خالفوني فيه فاجعلوه ، عن ابن أبي موسى ، فكان سفيان بعد ذلك ربما قال : عن ابن أبي موسى ، وربما نسي فحدث على ما سمع عن أبي بكر " (4).
و يكون النسيان مسلكاً من مسالك العلة إذا نتج عنه اختلاف بين ما ثبت عن الراوي أنه قد حدث به ، وحُمل عنه ، و نسيه بمرور الزمن ، فلا يذكر ذلك الحديث أو يسئل عنه فينكره ، أو يعمل بخلافه ، فتعل إحدى الروايات بما يخالفها.
خطأ الراوي ، ووهمه .
الوهم لغة :" وهم القلب والجمع أوهام ،وتوهمت في كذا وأوهمته أي أغفلته ووهم يوهم وهما أي : غلط " (5).
__________
(1) الكليات ص 506.
(2) رفع الملام ص 5.
(3) الجرح والتعديل 1/166.
(4) مسند الحميدي 1/29 ، وأخبار المكيين ص 409.
(5) العين 4/100.(1/1)
قال الكفوي في بيان ورود أمر ما :" إن كان طرف الوقوع على السوية فهو الشك ، وإن كان أحد الطرفين راجحاً والآخر مرجوحاً ، فالمرجوح يسمى وهماً ، والراجح يسمى ظناً ".
وقال الفيروزآبادي الوهم :" مرجوح طرفي المتردد "(1).
وقال التهانوي :" الوهم : بالفتح وسكون الهاء قد يطلق على الاعتقاد المرجوح "(2).
الوهم عند المحدثين :" رواية الحديث على سبيل التوهم " (3).
فكأن الراوي روى الحديث على الوجه المرجوح ، متوهماً صحته ، قال عبد الرحمن بن مهدي :" الناس ثلاثة رجل : حافظ متقن فهذا لا يختلف فيه ، وآخر يهم والغالب على حديثه الصحة فهو لا يترك ولو ترك حديث مثل هذا لذهب حديث الناس ، وآخر الغالب على حديثه الوهم فهذا يترك حديثه "(4).
وقال الحاكم :" فان المعلول ما يوقف على علته أنه دخل حديث في حديث أو وهم فيه راو أو أرسله واحد فوصله واهم "(5).
وقد كثر في كلام أهل العلم بالعلل وصف غلط الراوي وخطئه بالوهم ، قال مسلم :" وسألت أن أذكر لك في كتابي رواية أحاديث مما وهم قوم في روايتها فصارت تلك الأحاديث عند أهل العلم في عداد الغلط والخطأ " (6).
ومن الأمثلة على أن الوهم يعد مسلكاً من مسالك العلل ما يلي :-
قال الترمذي : سألت محمداً ، عن حديث وساق الترمذي إسناده .
فقال : حديث سفيان الثوري وهم ؛ وهم فيه سفيان فقال : عن عبيد الله بن عبد الله بن عباس ، والصحيح : عبد الله بن عبيد الله بن عباس " (7).
ومثل قول ابن أبي حاتم :" سألت أبي عن حديث .
قال أبي :" هذا خطأ ؛ وهم فيه ابن فضيل يرويه أصحاب الأعمش عن الأعمش عن مجاهد قوله "(8).
مخالفة الثقات.
__________
(1) القاموس المحيط ص 1507.
(2) كشاف اصطلاحات الفنون 2/1808.
(3) شرح شرح النخبة للملا علي القارئ ص 455.
(4) التمييز لمسلم ص 179 ، و شرح علل الترمذي 1/109.
(5) معرفة علوم الحديث ص 183.
(6) التمييز ص 170.
(7) العلل الكبير 1/ 420.
(8) علل الحديث 1/101.(1/2)
فقد يكون الشيخ مكثراً من الرواية ، والآخذون عنه كثر ، ولاختلاف مراتبهم في الحفظ ، ولاختلافهم في طول مدة ملازمة الشيخ أو قلّتها ، ومدى قربهم من الشيخ من حيث النسب أو البلد ، فقد يقع بينهم بعض التغاير والاختلاف في رواية حديث واحد بعينه إما في سند الحديث أو متنه .
والمخالفة إحدى الأمور التي تعرف بها العلة يقول ابن الصلاح :" ويستعان على إدراكها – أي العلة- بتفرد الراوي ، وبمخالفة غيره " (1) ، ولا تعرف مخالفة الراوي لغيره إلا بوجود اختلاف على مدار تعود إليه طرق الحديث.
ويعرف أبو داود السجستاني الاختلاف بقوله :" والاختلاف عندنا ما تفرد قوم على شيء وقوم على شيء " (2).
وضابط الاختلاف الذي يلزم منه اعتبار وجود المخالفة ما قاله ابن الصلاح :" وينبغي في التعارض أن يكون المخرج واحداً ، وإلا فتعد الأوجه المختلفة طرقاً مستقلة "(3).
قال مسلم في التمثيل والتقعيد عند النظر في مخالفة الثقات :" أن يروي نفرٌ من حفاظ الناس حديثاً عن مثل الزهري أو غيره من الأئمة بإسنادٍ واحدٍ ، ومتنٍ واحدٍ مجتمعون على روايته في الإسناد والمتن لا يختلفون فيه في معنى فيرويه آخر سواهم عمن حدث عنه النفر الذين وصفناهم بعينه فيخالفهم في الإسناد أو يقلب المتن فيجعله بخلاف ما حكى من وصفنا من الحفاظ فيعلم حينئذ أن الصحيح من الروايتين ما حدث الجماعةُ من الحفاظ دون الواحد المنفرد وان كان حافظاً .
على هذا المذهب رأينا أهل العلم بالحديث يحكمون في الحديث مثل شعبة ، وسفيان بن عيينه ، ويحيى بن سعيد ، وعبد الرحمن بن مهدي ، وغيرهم من أئمة أهل العلم "(4).
__________
(1) المقدمة ص 259.
(2) تهذيب الكمال 26/431.
(3) المقدمة ص 94.
(4) التمييز ص 172.(1/3)
ومن الأحاديث التي أعلّت بمخالفة الثقات ، مثل : روى ابن أبي حاتم عن علي بن المديني قال :" سمعت أبا داود - يعنى الطيالسي - قال : سمعت خالد بن طليق يسأل شعبة فقال يا أبا بسطام حدثني حديث سماك بن حرب في اقتضاء الورق من الذهب حديث بن عمر ؟ فقال : أصلحك الله هذا حديث ليس يرفعه أحدٌ الا سماك ، قال : فترهب أن أروى عنك؟ قال : لا ولكن حدثنيه قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، عن ابن عمر ، ولم يرفعه ، وأخبرنيه أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر ، ولم يرفعه ، وحدثني داود بن أبى هند ، عن سعيد بن جبير ، ولم يرفعه ، ورفعه سماك فانأ أفرقه (1).
فكأن شعبة بن الحجاج يرى خطأ رواية الرفع لمخالفة الراوي لغيره برفع ماهو موقوف .
وسئل الدارقطني عن حديث أبي الطفيل عامر بن واثلة عن معاذ بن جبل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجمع بين الصلاتين ؟.
فقال : " تفرد به عثمان بن عمر في روايته عن الثوري ، ووهم فيه ، وخالفه أصحاب الثوري : منهم وكيع ، وابن مهدي ، وعبد الرزاق ، وعبيد الله بن موسى ؛ فرووه عن الثوري ، عن أبي الزبير ، عن أبي الطفيل ، عن معاذ ، وهو الصحيح "(2).
التفرد.
فقد ينفرد أحد الرواة بحديث لا يرويه غيره عن شيخ مكثر من الرواية ، وله تلاميذ كثر لم ينقل عنهم ذلك الحديث ، فيكون تفرده بهذا الحديث دون بقية الرواة قرينة على إمكان أن يكون الراوي قد أخطأ فيه ، قال ابن الصلاح :" ويستعان على إدراكها – أي العلة- بتفرد الراوي ، وبمخالفة غيره " (3).
وقال ابن رجب :" وأما أكثر الحفاظ المتقدمين فإنهم يقولون في الحديث إذا تفرد به واحد ولم يرو الثقات خلافه : إنه لا يتابع عليه ، ويجعلون ذلك علّة فيه "(4).
__________
(1) الجرح والتعديل 1/158 ، والضعفاء الكبير للعقيلي 2/178 ، وفي التمهيد لابن عبد البر 16/15 ، بلفظ :" وأنا أفرق منه "
(2) العلل 6/40-41.
(3) المقدمة ص 259.
(4) شرح علل الترمذي(1/4)
قال الإمام أحمد :" إذا سمعت أصحاب الحديث يقولون : هذا حديث غريب أو فائدة فاعلم أنه خطأ أو دخل حديث في حديث أو خطأ من المحدث أو حديث ليس له إسناد وإن كان قد روى شعبة وسفيان فإذا سمعتهم يقولون : هذا لا شيء فاعلم أنه حديث صحيح " (1).
وقال ابن جرير الطبري :" والخبر إذا تفرد به عندهم منفرد ، وجب التثبت فيه " (2).
وقال البرديجي :" لا يلتفت إلى رواية الفرد عن شعبة ممن ليس له حفظ ، ولا تقدم في الحديث من أهل الإتقان " (3).
وقد كان العلماء يعرضون عن الغرائب والأفراد ، ويحثون على المشهور من الحديث قال مالك :" شر العلم الغريب ، وخير العلم الظاهر الذي قد رواه الناس "(4).
وقال شعبة :" اكتبوا الحديث المشهور عن المشهور " (5).
فلذلك كان إعراض العلماء عن رواية الحديث الغريب الذي تفرد به راوٍ لأنه مظنة الخطأ والوهم ولو كان صحيحاً لأقبل عليه الأئمة ورووه في كتبهم ، سئل الإمام أحمد عن حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً : الخلافة بالمدينة ، والملك بالشام ، فقال : لا نعرف هذا ، أصحاب أبي هريرة المعروفون ليس عندهم هذا " (6).
قال أبو داود في وصف سننه :" والأحاديث التي وضعتها في كتاب السنن أكثرها مشاهير ………… ولو احتج رجل بحديث غريب ، وجدت من يطعن فيه …… فأما الحديث المشهور المتصل الصحيح فليس يقدر أن يرده عليك أحد " (7).
__________
(1) الكفاية في علوم الراوية للخطيب البغدادي ص 142.
(2) تهذيب الآثار 2/757.
(3) شرح علل الترمذي لابن رجب 2/697.
(4) أدب الإملا والإستملاء للسمعاني ص 58.
(5) المصدر السابق.
(6) المنتخب من علل الخلال ص 228.
(7) رسالة أبي داود إلى أهل مكة ص 29.(1/5)
وقد كثر في كلام علماء العلل تعليل الأحاديث بتفرد أحد الرواة ، ومن ذلك قال الترمذي :" حدثنا عبد الله بن أبي زياد وغير واحد قالوا : حدثنا شبابة بن سوار ، : حدثنا شعبة ، عن بكير بن عطاء ، عن عبد الرحمن بن يعمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الدباء والمزفت.
قال أبو عيسى :" هذا حديث غريب من قبل إسناده لا نعلم أحداً حدث به عن شبابة وحديث شبابة إنما يستغرب لأنه تفرد به عن شعبة ، وقد روى شعبة وسفيان الثوري بهذا الإسناد عن بكير بن عطاء ، عن عبد الرحمن بن يعمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " الحج عرفة " ، فهذا الحديث المعروف عند أهل الحديث بهذا الإسناد " (1).
وسئل الدارقطني عن حديث أبي الأسود الدئلي عن أبي ذر قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :" إن أحسن ما غيرتم به الشيب الحنا والكتم" ؟.
فقال : " يرويه عبد الله بن بريدة واختلف عنه : فرواه سعيد الجريري ، عن عبد الله بن بريدة ، عن أبي الأسود ، عن أبي ذر تفرد به معمر بن راشد عنه وأغرب به "(2).
رواية الحديث بالمعنى.
فقد يروي الراوي الحديث بمعناه الذي فهمه فيحيل معنى الحديث إلى غير ما ورد به ، وتؤدي الرواية بالمعنى إلى اختلاف ألفاظ الناقلين لذلك الحديث ، فيعتقد الناظر أنهما حديثين مختلفين بينما هما في الأصل حديث واحد فيعمد الناظر فيهما إلى الجمع أو الترجيح بين رواتها ظناً منه أن ذلك اختلاف بين رواة الحديث.
والأصل أن يؤدي الراوي الحديث باللفظ الذي سمعه وذلك أخذاً من حديث البراء بن عازب في الذكر قبل النوم ، قال البراء عندما أعاد الحديث على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :" آمنت بكتابك الذي أنزلت وبنبيك الذي أرسلت فقلت كما قال إلا أنى قلت ورسولك فقال بيده في صدري وبنبيك " .(3)
__________
(1) العلل الصغير الملحق بالجامع الكبير 6/255.
(2) العلل 6/278-279.
(3) رواه البخاري كتاب : الوضوء ، باب فضل من بات على وضوء ح 247.(1/6)
ذكر الخطيب البغدادي في باب : من لم يجز تقديم كلمة على كلمة ، أن ابن عمر - رضي الله عنه - سمع رجلاً يردد حديث الأركان الخمسة الذي يرويه ابن عمر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فقدم بعضها على بعض ، فقال له ابن عمر :" اجعل صيام رمضان آخرهن كما سمعت من فيّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " (1).
وقد أنكر إسماعيل بن علية على شعبة بن الحجاج روايته بالمعنى قال إسماعيل بن علية :" روى عني شعبة حديثاً واحداً ، فأوهم فيه ، حدثته عن عبد العزيز بن صهيب ، عن أنس ان النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يتزعفر الرجل ، فقال شعبة :" أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن التزعفر " (2).
قال السخاوي (3):" فهذا اللفظ يدل على عموم ذلك للرجال والنساء ، وهو مخالف للفظ الصحيح للحديث حيث قيده بالرجال : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يتزعفر الرجل " (4).
مثال آخر :
روى مالك بن أنس ، وابن جريج ، وابن عيينة ويونس ، ومعمر خمستهم عن الزهري عن
علي بن الحسين ، عن عمرو بن عثمان ، عن أسامة بن زيد - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :" لا يرث المسلم الكافر ، ولا الكافر المسلم "
وخالف الرواة عن الزهري هشيم بن بشير ، فرواه عن الزهري به ، بلفظ " لا يتوارث أهل ملتين ".
قال ابن حجر :" وقد حكم النسائي وغيره على هشيم بالخطأ فيه ، وعندي أنه رواه من حفظه بلفظ ظن أنه يؤدي معناه ، فلم يصب ، فإن اللفظ الذي أتى به أعم من اللفظ الذي سمعه " (5).
__________
(1) الكفاية في علوم الرواية 1/494.
(2) الكفاية في علوم الرواية 1/494.
(3) فتح المغيث للسخاوي 2/241.
(4) رواه البخاري ، كتاب : اللباس ، باب النهي عن التزعفر للرجال ح 5846.
(5) النكت 2/775.(1/7)
وقال العلائي في حديث ذي اليدين حيث وقع اختلاف في ألفاظ الناقلين له:" وهذا الحديث بهذه الألفاظ مداره على أبي هريرة - رضي الله عنه - ، والظاهر أن القصة واحدة ، ولكن الرواة تصرفوا فيها ، فرواه بعضهم بالمعنى على نحوٍ مما سمع ، فحصل هذه الاختلافات " (1).
اختلاط الراوي.
الاختلاط لغة : يقال اختلط فلان : فسد عقله ، واختلط عقله فهو مختلط إذا تغير عقله ، وهو بمعنى الخرف : فساد العقل مع الكبر (2).
ولم أقف على حد له في كتب المصطلح ، وهو : حالة تعتري الراوي لعارض يحدث له ، وقد تمتد وتشتد ، فتؤثر في حفظه ، فيخطئ في أداءه للحديث.
قال ابن الصلاح عن معرفة اختلاط الرواة :" إنه فن عزيز مهم " (3).
فقد يطرأ الاختلاط على أحد الثقات ، ويؤثر على حفظه ، فتكثر الأوهام في مروياته ، فيحدث بالحديث الواحد على وجوه مختلفة ، فتتعدد روايات الحديث الواحد عنه ، ويؤدي كل راوٍ منهم ما سمع من شيخه ، ولا يدري بعضهم بأن هذه الرواية أنها خطأ قد حملها عن شيخه الثقة في حال اختلاطه فتظهر حينئذ العلل في مرويات ذلك الشيخ.
وقد كان من منهج النقاد معاودة سماع الحديث من الشيخ مرات عدة ليعرف مدى ضبطه لحديثه ، وهل طرأ عليه عارض يخل بضبطه أم لا ، قال حماد بن زيد :" ما أبالي من خالفني إذا وافقني شعبة ؛ لأن شعبة كان لا يرضى أن يسمع الحديث مرة واحدة يعاود صاحبه مراراً "(4).
__________
(1) نظم الفرائد ص111 ، هكذا (( حصل )) في كلا طبعتي الكتاب .
(2) مختار الصحاح ص 77 مادة ( خ ل ط ) ، لسان العرب 7/295 ، مادة ( خ ل ط ).
(3) المقدمة ص 660.
(4) الجرح والتعديل 1/168.(1/8)
وقد قام العلماء بجهد علمي مميز في بيان من اختلط من الرواة الثقات ، وبيان بداية اختلاط الواحد منهم ، وكم استمر في حال الاختلاط ، وذكر من أخذ عنه قبل الاختلاط فيقبل حديثه إذا كان ثقة ، وترد رواية من أخذ عنه في الاختلاط ، أو في الحالتين معاً ولم يميز بين مارواه قبل الاختلاط وفي أثنائه صيانة لحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - .
قال ابن حبان :" لأن حكمهم وإن اختلطوا في أواخر أعمارهم وحمل عنهم في اختلاطهم بعد تقدم عدالتهم حكم الثقة إذا أخطأ أن الواجب ترك خطئه إذا علم والاحتجاج بما نعلم أنه لم يخطىء فيه ، وكذلك حكم هؤلاء الاحتجاج بهم فيما وافقوا الثقات وما انفردوا مما روى عنهم القدماء من الثقات الذين كان سمعاهم منهم قبل الاختلاط سواء " (1).
ومن الأمثلة على إعلال بعض الأحاديث باختلاط رواتها :-
روى النسائي حديثاً اختلف فيه على حصين بن عبد الرحمن ، وذكر مرويات الرواة المختلفين عنه ، ثم قال :" حديث شعبة ، وعبد العزيز بن مسلم ، وعباد بن العوام أولى عندنا بالصواب من حديث خالد وبالله التوفيق ، وقد كان حصين بن عبد الرحمن اختلط في آخر عمره " (2) ، فكأن سبب الاختلاف بين الرواة ، وإعلال الحديث عند النسائي من جراء اختلاط حصين بن عبد الرحمن.
قال الترمذي :" حدثنا إسحاق بن منصور : حدثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن ابن أبي ذئب ، عن صالح مولى التوأمة ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال :" كان لنعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبالان" (3).
__________
(1) مقدمة صحيح ابن حبان ، ينظر الإحسان 1/161.
(2) عمل اليوم والليلة ص 186.
(3) قبالان : قِبالان القِبال زِمام النَّعْل وهو السَّير الذي يكون بين الإصبَعين وقد أقْبل نَعْلَه وقابَلها ، النهاية في غريب الحديث 4/8.(1/9)
سالت محمداً عن هذا الحديث ، قلت : كيف صالح مولى التوأمة ؟ ، قال : قد اختلط في آخر أمره من سمع منه قديماً سماعه مقارب وابن أبي ذئب ما أرى أنه سمع منه قديماً يروي عنه مناكير (1).
وسئل الدارقطني عن حديث : عبيدة عن عبد الله علمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التشهد فقال :" يرويه عطاء بن السائب واختلف عنه ، ثم ذكر أوجه الاختلاف عن عطاء رفعاً ووقفاً ، ثم قال :" وهذا من عطاء بن السائب فإنه اختلط في آخر عمره" (2) .
جمع المفترق من سند الحديث أو متنه.
وهو أن يروي الراوي الحديث عن شيخين أو أكثر ، ويكون عند بعضهم ما ليس عند الآخر في الإسناد أو المتن ، فيجمعها أحد الرواة ويسوقها مساقاً واحداً ولا يميز بينها .
وبهذا تدخل بعض الروايات المعلة في ثنايا الروايات الصحيحة ، فحين لا يبين الراوي اختلاف الناقلين للخبر سواءً في الإسناد أو المتن زيادة أو نقصاً ، وعند عدم البيان والتفصيل وتمييز رواية كل راو عن غيره يؤدي إلى دخول ما ليس من الحديث فيه ، فيدخل الموقوف في المرفوع ، وحديث الضعيف الذي لم يضبط في حديث الثقة الضابط ، ويصبح كأنه حديثاً واحداً.
قال يعقوب بن شيبة :" أن سفيان بن عيينة كان ربما يحدث بحديثٍ واحدٍ عن اثنين ، ويسوقه بسياقة واحد منهما ، فإذا أفرد الحديث عن الآخر أرسله أو وقفه " (3).
وقد كان الجمع بين الرواة دون الفصل في رواياتهم من أسباب رد روايات بعض الثقات ، قال ابن علية قال لي شعبة :" ما حدثك عطاء بن السائب عن رجاله : عن زاذان وميسرة وأبي البختري فلا تكتبه ، وما حدثك عن رجل بعينه فاكتبه " (4) ، وهذا خشية أن دخول الوهم في جمع ألفاظ الشيوخ في سياق واحد (5) .
__________
(1) العلل الكبير 1/292.
(2) العلل 5/188.
(3) شرح علل الترمذي لابن رجب 2/678.
(4) الضعفاء الكبير للعقيلي 3/398 ، وشرح علل الترمذي لابن رجب 2/559.
(5) جمع المفترق من الحديث ، د ياسر الشمالي ص 22.(1/10)
وقال الإمام أحمد في حديث جمع فيه حماد بن سلمة بين عدد من شيوخه : هذا من قبل حماد ، كان لا يقوم على مثل هذا يجمع الرجال ثم يجعله إسناداً واحداً وهم يختلفون "(1).
وقال يحيى بن سعيد القطان : قال لي شعبة في أحاديث عوف عن خلاس عن أبي هريرة ، ومحمد عن أبي هريرة إذا جمعهم ، قال لي شعبة : ترى لفظهم واحد !! ، قال ابن أبي حاتم : كالمنكر على عوف " (2).
قال الخطيب :" باب فيمن سمع حديثاً من رجلين فحفظه عنهما واختلط عليه لفظ أحدهما بالآخر أنه لا يجوز إفراد روايته عن أحدهما " ، ثم ذكر حديثاً عن سفيان بن عيينة جمع فيه سفيان بين شيخين اختلفا في لفظ الحديث ، ثم قال سفيان :" سمعته من عبدة منذ تسع وستين سنة وسمعته من عبد الملك فاختلط عليّ هذا من هذا " ، ثم قال الخطيب عقبه :" واستحب لمن أصابه مثل هذا أن يبينه خوفاً من أن يفرق الطالب روايته عنه في موضعين يفرده في كل واحد منهما عن أحد الشيخين ظناً منه أنهما اتفقا في روايته على لفظ واحد " (3).
أخذ الراوي الحديث في مجالس المذاكرة .
فقد كان العلماء يعقدون مجالس للتحديث ، وأخرى لمذاكرة الحديث ، وكانوا يتسامحون في مجالس المذاكرة بخلاف مجالس التحديث وإسماع الحديث ، وقد يذكر الشيخ بعض الأحاديث للمذاكرة مع غيره من العلماء إما تعجباً من أسانيدها ، أو لبيان خطأ من رواها ، فيذكرها من غير أن يتحرى في تأدية الحديث كما سمعه فيظن من سمعها أن تلك الأحاديث من مرويات ذلك الشيخ فيحدث بها عنه فتظهر روايات يتفرد بها بعض الرواة ، أو يخالفون بها الروايات التي ساقها الشيخ في مجالس التحديث .
__________
(1) شرح علل الترمذي 2/675.
(2) الجرح والتعديل 1/147 ، وشرح علل الترمذي لابن رجب 2/177.
(3) الكفاية في علوم الرواية ص 379.(1/11)
قال الخطيب :" إذا أورد المحدث في المذاكرة شيئاً، وأراد السامع له أن يدونه عنه فينبغي له إعلام المحدث ذلك ليتحرى في تأدية لفظه وحصر معناه ، ثم حكى عن عبد الرحمن بن مهدي أنه كان يقول : حرام عليكم أن تأخذوا عني في المذاكرة حديثاً لأني إذا ذاكرت تساهلت في الحديث " (1).
وكان علماء الحديث يدركون ما يقع في مجالس المذاكرة من تساهل قد يفضي إلى وقوع الخطأ دفع ذلك بعضهم إلى التشدد في تلك المجالس فكان أبو علي النيسابوري مثلاً لا يسامح في المذاكرة بل يواجه بالرد في الملأ فوقع بينه وبين عبدان (2).
و كان التساهل المفضي إلى الوهم والخطأ مما يؤثر في الحكم على الراوي ، قال ابن حبان عن داود بن الزبرقان : " كان شيخا صالحاً يحفظ الحديث ويذاكر به ولكنه كان يهم في المذاكرة " (3).
ومن الأحاديث التي أعلها العلماء بسبب أن الراوي أخذ الحديث في مجالس المذاكرة :-
قال ابن أبي حاتم : " سألت أبا زرعة عن حديث يحيى بن يمان ، عن سفيان ، عن منصور عن خالد بن سعد ، عن أبي مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عطش حول الكعبة فاستسقى فأتى بشراب من السقاية فشمه فقطب فقال: "على ذنوباً من زمزم فصبه عليه ثم شربه ".؟
قال أبو زرعة :" هذا إسناد باطل عن الثوري ، عن منصور ؛ وهم فيه يحيى بن يمان وإنما ذاكرهم سفيان عن أبي صالح ، عن المطلب بن أبي وداعة مرسل ، فلعل الثوري إنما ذكره تعجباً حين حدث بهذا الحديث مستنكراً " (4).
__________
(1) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع 2/36.
(2) سير أعلام النبلاء 14/170.
(3) المجروحين 1/292.
(4) علل الحديث 2/25.(1/12)
وقال ابن حبان عن حديث :" وهذا خبر مقلوب تتبعته مرة لأن أجد لهذا الحديث أصلاً أرجع إليه فلم أره إلا من حديث إسحاق بن أبي فروة ، عن نافع ، عن بن عمر ، وإسحاق بن أبي فروة ليس بشيء في الحديث وعبيد الله بن عمر ، وسمع من إسحاق بن أبي فروة فكأن موسى بن أعين سمعه من عبيد الله بن عمرو في المذاكرة عن إسحاق بن أبي فروة فحكاه فسمعه منصور بن سقير عنه فسقط عليه إسحاق بن أبي فروة راوي بن عمر فصار عبد الله بن عمر ، عن نافع " (1).
وروى الترمذي حديثاً عن أبي كريب ، عن أبي أسامة ، عن يزيد بن عبد الله بن أبي بردة عن جده أبي بردة ، عن أبي موسى ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :" الكافر يأكل في سبعة أمعاء والمؤمن يأكل في معي واحد ".
سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث ؟ ، فقال :" هذا حديث أبي كريب عن أبي أسامة لم نعرفه إلا من حديث أبي كريب عن أبي أسامة ……………وقال :" كنا نرى أن أبا كريب أخذ هذا الحديث عن أبي أسامة في المذاكرة " (2).
قال ابن رجب :" وما حكاه الترمذي هنا عن البخاري ، فهو تعليل للحديث ؛ فإن أبا أسامة لم يرو هذا الحديث عنه أحد من الثقات غير أبي كريب ، والمذاكرة يحصل فيها تسامح ، بخلاف حال السماع أو الإملاء " (3).
ومثال آخر : فقد روى يونس بن أبي إسحاق ، وولداه إسرائيل ، وعيسى ، ، وأبو عوانة : وضاح اليشكري ، وشريك بن عبد الله ، وزهير بن معاوية سبعتهم عن أبي إسحاق السبيعي عن أبي بردة عن أبيه أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :" لا نكاح إلا بولي ".
ورواه شعبة بن الحجاج ، وسفيان الثوري كلاهما عن أبي إسحاق عن أبي بردة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر مثله ، مرسلاً.
__________
(1) المجروحين 3/40.
(2) العلل الصغير الملحق بالجامع الكبير 6/254.
(3) شرح علل الترمذي 1/442.(1/13)
وبعد جمع طرق الحديث والنظر نجد أن من رواه عن أبي إسحاق موصولاً قد أخذوا الحديث سماعاً من أبي إسحاق مع اختلاف مجالسهم وتعددها ، أما شعبة وسفيان فإنما أخذا الحديث عن أبي إسحاق في مجلس واحد عن طريق المذاكرة للحديث وسؤالهم أبا إسحاق عن هذا الحديث تبين ذلك من خلال النظر في روايات الحديث قال الترمذي :" ورواية هؤلاء الذين رووا عن أبي إسحاق عن أبي بردة عن أبي موسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " لا نكاح إلا بولي " عندي أصح لأن سماعهم من أبي إسحاق فيما روينا مختلفة وإن كان شعبة والثوري أحفظ وأثبت من جميع هؤلاء الذين رووا عن أبي إسحاق هذا الحديث فإن رواية هؤلاء عندي أشبه لأن شعبة والثوري سمعا هذا الحديث من أبي إسحاق في مجلس واحد ومما يدل على ذلك ما حدثنا محمود بن غيلان ، قال :حدثنا أبو داود ، قال : أنبأنا شعبة ، قال : سمعت سفيان الثوري يسأل أبا إسحاق أسمعت أبا بردة يقول قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " لا نكاح إلا بولي ".
فقال :" نعم " ، فدل هذا الحديث على أن سماع شعبة والثوري عن أبي إسحاق هذا الحديث في وقت واحد (1).
التصحيف في السند أو المتن.
التصحيف : تغيير اللفظ حتى يتغير المعنى المراد من الموضع ، وأصله الخطأ ، يقال : صحفه فتصحف أي غيره فتغير حتى التبس "(2) ، وهو : تحويل الكلمة من الهيئة المتعارفة إلى غيرها".(3)
قال عبد الله بن الزبير الحميدي فيما يرد به الرجل الرضا الذي لا يعرف بكذب :" أو يصحف تصحيفاً فاحشاً يقلب المعنى ، لا يعقل ذلك فيكف عنه " (4).
فقد يقع التصحيف من أحد الرواة في إسناد حديث أو متنه ، فتختلف الروايات تبعاً لذلك ، فيظن الناظر فيه أن تلك مخالفة من أحد الرواة .
__________
(1) سنن الترمذي 3/409 ، وأيضاً العلل الكبير 1/428-430.
(2) المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي ، للفيومي ص 395.
(3) فتح المغيث للسخاوي 2/67.
(4) أخبار المصحفين للعسكري ص 39.(1/14)
قال مسلم :" فأعلم ، أرشدك الله إن الذي يدور به معرفة الخطأ في رواية ناقل الحديث - إذا هم اختلفوا فيه - من جهتين :
أحدهما : أن ينقل الناقل حديثاً بإسناد فينسب رجلاً مشهوراً بنسب في إسناد خبره خلاف نسبته التي هي نسبته أو يسميه باسم سوى اسمه، فيكون خطأ ذلك غير خفي على أهل العلم حين يرد عليهم.
و كنحو ما وصفت من هذه الجهة من خطأ الأسانيد فموجود في متون الأحاديث مما يعرف خطأه السامع الفهم حين يرد على سمعه ، نحو رواية بعضهم حيث صحف فقال :" نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن التحير أراد النجش .
وكما روى آخر فقال : إن أبغض الناس إلى الله عز وجل ثلاثة ملحد في الحرفة وكذا وكذا أراد ملحداً في الحرم.
وكرواية الآخر إذ قال :" نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تتخذ الروح عرضاً أراد الروح غرضا "(1).
أما في الأسماء والأسانيد فكثير ، ومن ذلك :-
قال الإمام أحمد : قلت ليحيى إن عبيد الله القواريري حدثنا عن بن مهدي عن جامع بن مطر عن أبي زوية رأيت على أبي سعيد الخدري عمامة سوداء فقال أخطأ هذا حدثناه غيره عن جامع بن مطر عن أبي رؤبة وصحف عبيد الله لا يُدرى من أبو زوية (2).
قال الدارقطني في حديث يرويه معمر بن راشد حكى عنه هشام بن يوسف ، قال فيه حبيش بن حذافة صحف فيه ، وأما عبد الرزاق فقال : عن معمر خنيس بن حذافة أو حذيفة والصحيح أنه خنيس بن حذافة بن قيس السهمي أخو عبد الله بن حذافة (3).
وسئل الدارقطني عن حديث أنس بن مالك عن أبي ذر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث المعراج فقال يرويه الزهري عن أنس حدث به عنه عقيل ويونس واختلف عن يونس فقال أبو ضمرة عن يونس عن الزهري عن أنس عن أبي وأحسبه سقط عليه ذر فجعله عن أبي بن كعب ووهم فيه (4).
__________
(1) التمييز ص 171.
(2) العلل ومعرفة الرجال 3/19.
(3) العلل 1/155.
(4) العلل 6/233-134.(1/15)
وقال في حديث آخر :" والمحفوظ عن عفان عن حماد قال سمعته يذكر عن عطاء بن السائب فصحفه الراوي فقال شعبة " (1) ، فصحف ( سمعته ) إلى ( شعبة ).
قبول الراوي للتلقين.
والتلقين : أن يلقى على الراوي شيئاً مما يصلح دخوله في إسناد الحديث أو متنه - وليس منه - فيظن أن ذلك من حديثه فيحدث به ظاناً أن ذلك من الحديث الذي يرويه ؛ لخفة ضبطه للحديث ، أو سوء حفظه ، أو لا ختلاطه ، فختلف الروايات عنه.
قال مسلم عن أصناف الرواة :" فمنهم الحافظ المتقن الحفظ، المتوقي لما يلزم توقيه فيه، و منهم المتساهل المشيب حفظه بتوهم يتوهمه، أو تلقين يلقنه من غيره فيخلطه بحفظه، ثم لا يميزه عن أدائه إلى غيره" (2)
وقد أعل العلماء جملة من الروايات التي بان الخلل فيها بسبب قبول راويها التلقين ممن يلقنه ، ومن ذلك :-
سئل أبو زرعة عن حديث رواه ليث بن سعد اختلف على ليث فيه فمرة يروى من طريقه عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - ، ومرة يروى عنه عن سعيد بن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - .
فقال أبو زرعة في كتاب الليث في أصله سعيد بن أبي سعيد ولكن لقن بالعراق عن سعد (3).
وسئل أبو حاتم عن حديث رواه هشام بن عمار ، عن مروان الفزاري ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن قيس بن أبي حازم ، عن جرير بن عبد الله قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : من يتزود في الدنيا ينفعه في الآخرة .
فقال أبي :" هذا حديث باطل إنما يروى عن قيس قوله ، قلت : ممن هو ؟ ، قال : من هشام بن عمار كان هشام بآخرة كانوا يلقنونه أشياء فيلقن فأرى هذا منه " (4).
قال الأثرم :" سمعت أبا عبد الله يُسأل عن حديث " النار جبار " ؟.
__________
(1) العلل 3/207.
(2) التمييز ص 63.
(3) علل الحديث 1/188.
(4) علل الحديث 2/135.(1/16)
فقال :" هذا باطل ؛ ليس من هذا شيء ، ثم قال :" ومن يحدث به عن عبد الرزاق ".؟ قلت :" حدثني أحمد بن شبويه " ، قال :" هؤلاء سمعوا بعدما عمي كان يلقن فلقنه وليس هو في كتبه وقد أسندوا عنه أحاديث ليست في كتبه كان يلقنها بعدما عمي " (1).
وفي ثنايا كلام الإمام مسلم عن حديث :" من أعتق نصيباً له في عبد " ، قال : أما ابن أبي ذئب فلم يذكر ابن أبي فديك السعاية عنه في خبره، وهو سماع الحجازيين، فلعل ابن أبي بكير حين ذكر عنه السعاية كان قد لقن اللفظ؛ لأن سماعه عن ابن أبي ذئب بالعراق فيما نرى ، وفي حديث العراقيين عنه كثير" (2) .
اضطراب الراوي في الحديث.
الاضطراب لغة :" يقال : الموج يضطرب أي : يضرب بعضه بعضاً ،ويقال : اضطرب الحبل بين القوم إذا اختلفت كلمتهم ، ، واضطرب أمره : أختل ، وحديث مضطرب السند ، وأمر مضطرب " (3).
واصطلاحاً :قال ابن الصلاح : " هو الذي تختلف الرواية فيه فيرويه بعضهم على وجه وبعضهم على وجه آخر مخالف له وإنما نسميه مضطرباً إذا تساوت الروايتان " (4).
هذا فيما إذا كان الاختلاف الوارد في سند الحديث أو متنه إنما جاء من قبل رواة اشتركوا في الرواية عن شيخ ،ولم يمكن الجمع بين الروايات المختلفة ، أو ترجيح إحدى تلك الروايات على الباقي ، أما كون الاضطراب مسلكاً من مسالك العلة إذا كان مصدره الشيخ الذي يروى عنه الحديث ، فقد لا يكون ضابطاً لحديثه فيحدث به على أوجه مختلفة ويحمل كل راوٍ عنه ما سمع منه ، قال الذهبي: " إذا اختلف جماعة فيه، وأتوا به على أقوال عدة فهذا يوهن الحديث ويدل على أن راويه لم يتقنه " (5) .
__________
(1) تهذيب الكمال 18/57 ، وشرح علل الترمذي لابن رجب 2/752.
(2) التمييز ص 75.
(3) لسان العرب 1/543-544.
(4) المقدمة 269.
(5) الموقظة ص 53.(1/17)
وقال المعلمي :" الاضطراب الضار : أن يكون الحديث حجة على أحد الوجهين مثلاً دون الآخر ، ولا يتجه الجمع ولا الترجيح ، أو يكثر الاضطراب ويشتد بحيث يدل أن الراوي المضطرب الذي مدار الحديث عليه لم يضبطه "(1).
قال الصنعاني :" والاضطراب نوع من الإعلال " (2)، ومن الأمثلة على إعلال أحاديث بعض الرواة بسبب اضطرابهم فيها :-
قال أبو داود :" سمعت أحمد ذكر حديث هشيم ، عن منصور بن زاذان عن الحسن ، عن أبي بكرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - :" الحياء من الإيمان " ، قال أحمد :" هذا جاء من هشيم – يعني اضطرابه فيه - ، فحدث به مرةً عن الحسن ، عن أبي بكرة ، ومرةً عن الحسن ، عن الحصين بن عمران ، قال أحمد : وقد سمعته من هشيم ، عن عوف ، عن الحسن مرسلاً (3) .
وزاد الخلال فقلت : أيهما أصح ؟ قال : لا أدري (4) .
وقال الدارقطني عن حديث اختلف فيه على عاصم الأحول :" وأحسب أن هذا الاختلاف من عاصم كأنه كان يشك ممن سمعه عن بن مسعود (5).
و قال عن حديث اختلف فيه على عبد الملك بن عمير :" ويشبه أن يكون الاضطراب في هذا الإسناد من عبد الملك بن عمير لكثرة اختلاف الثقات عنه في الإسناد (6).
قال ابن أبي حاتم :" سألت أبي عن حديث رواه حماد بن سلمة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل بيت أم سلمة فرأى عندها مخنثاً ؟ الحديث ، قال أبي :" هذا خطأ اضطرب فيه حماد " (7).
سلوك الجادة.
جادة الطريق : مسلكه وما وضح منه (8).
__________
(1) التنكيل 2/9.
(2) نتائج الأفكار 2/37.
(3) مسائل الإمام أحمد رواية أبي داود السجستاني ص 437.
(4) المنتخب من العلل للخلال ص 246.
(5) العلل 5/338.
(6) العلل 2/125.
(7) علل الحديث 2/237.
(8) لسان العرب 3/110 ، مادة (( جدد )) .(1/18)
فلأن كثيراً من الأحاديث تروى من طرق مشهورة كمالك عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنه - ، و مالك يروي أحاديث لابن عمر - رضي الله عنه - من غير هذا الطريق ، فقد يروي أحد الرواة حديثاً لابن عمر من طريق مالك فيكون الطريق عن نافع أسرع إلى ذهن الراوي ، وأسبق على لسانه لكثرة الأحاديث الواردة عن مالك بتلك الطريق .
قال الإمام أحمد :" أهل المدينة إذا كان الحديث غلطاً يقولون : ابن المنكدر عن جابر ، وأهل البصرة يقولون : ثابت عن أنس ، يحيلون عليهما "(1).
وقال ابن رجب :" إن كان المنفرد عن الحفاظ مع سوء حفظه قد سلك الطريق المشهور ، والحفاظ يخالفونه ؛ فإنه لا يكاد يرتاب في وهمه وخطئه ؛ لأن الطريق المشهور تسبق إليه الألسنة والأوهام كثيراً ، فيسلكه من لا يحفظ ".
ثم ذكر مثالاً لذلك بحديث رواه حماد بن سلمة عن حبيب بن أبي سبيعة الضبعي عن الحارث أن رجلاً قال : يا رسول الله إني أحب فلاناً . الحديث .
وحماد بن سلمة ، هو أحفظ أصحاب ثابت ، وأثبتهم في حديثه ، وخالفه من لم يكن في حفظه بذاك من الشيوخ الرواة عن ثابت كمبارك بن فضالة ، وحسين بن واقد ، فرووه عن ثابت عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
قال أبو حاتم : " مبارك لزم الطريق " (2)، يعني أن راوية ثابت عن أنس سلسلة معروفة مشهورة تسبق إليها الألسنة والأوهام ، فيسلكها من قلّ حفظه ، وأبو حاتم كثيراً ما يعلل الأحاديث بمثل هذا ، وكذلك غيره من الأئمة (3).
قال ابن عدي عن حديث رواه عبد الله بن أبي بكر المقدمي عن حماد بن زيد عن ثابت عن أنس : كذا قال المقدمي عن حماد بن زيد عن ثابت عن أنس وهذا الطريق كان أسهل عليه ، لأن ثابتاً أبداً يروي عن أنس ، وإنما روى ثابت هذا الحديث عن عبد الله بن رباح عن أبي قتادة " (4).
__________
(1) شرح علل الترمذي 2/502.
(2) علل الحديث 1/107.
(3) شرح علل الترمذي 2/725-726.
(4) الكامل 4/ 259 .(1/19)
قال المعلمي :" الخطأ في الأسانيد أغلب ما يقع بسلوك الجادة فهشام بن عروة غالب روايته عن أبيه عن عائشة ، وقد يروي عن وهب بن كيسان ، عن عبيد بن عمير ، فقد يسمع رجل من هشام خبراً بالسند الثاني ، ثم يمضي على السامع زمان فيشتبه عليه فيتوهم أنه سمع ذاك الخبر من هشام بالسند الأول على ما هو الغالب المألوف ، ولذلك تجد أئمة الحديث إذا وجدوا راويين اختلفا بأن رويا عن هشام خبراً واحداً جعله أحدهما عن هشام ، عن وهب عن عبيد ، وجعله الآخر عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة ، فالغالب أن يقدموا الأول ويخطئوا الثاني ، هذا مثال ومن راجع كتب علل الحديث وجد من هذا ما لا يحصى "(1).
تصرف الراوي في الرواية.
فقد كان بعض الرواة الثقات يتحرز ويتوقى في نسبة الحديث إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فيروي الحديث مرة مرفوعاً ويوقفه أخرى أو يرسله وهو عنده موصول ، فيظن الناظر أن هذا اختلاف على الراوي ، وأن إحدى تلك الروايتين تعلّ الأخرى .
قال الدارقطني في حديث اختلف فيه أصحاب ابن سيرين : فمنهم من رفعه ومنهم من وقفه قال : قد تقدم قولنا في أن ابن سيرين من توقيه وتورعه ، تارةً يصرح بالرفع ، وتارة يومئ ، وتارة يتوقف على حسب نشاطه " (2).
قال يعقوب بن شيبة عن حماد بن زيد :" أن ابن زيد معروف بأنه يقصر في الأسانيد ويوقف المرفوع وكثير الشك بتوقيه وكان جليلاً لم يكن له كتاب يرجع إليه فكان أحيانا يذكر فيرفع الحديث وأحياناً يهاب الحديث ولا يرفعه " (3).
__________
(1) التنكيل 2/67.
(2) العلل 10/23.
(3) تهذيب التهذيب 3/10.(1/20)
روى سفيان بن عيينة ، عن عاصم بن عبيد الله العمري ، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة ، عن أبيه ، عن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :" تابعوا بين الحج والعمرة ، فإن متابعة بينهما يزيدان في الأجل ……… الحديث " ، ثم قال :" هكذا سمعته منه مرة ، بعد ذلك ، فمرة يقف على عمر ، ولا يذكر فيه عن أبيه ، وأكثر ذلك كان يحدث عن عبد الله بن عامر عن أبيه عن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ثم قال :" وربما سكتنا عن هذه الكلمة (( يزيدان في الأجل )) فلا نحدث بها مخافة أن يحتج بها هؤلاء القدرية ، وليس فيها حجة " (1) ، وهذا النص يبين بجلاء كيف كان الرواة يتصرفون في رواياتهم في سند الحديث أو متنه ، فينتج عنه اختلاف بين الحاملين لهذا الحديث عن الراوي الواحد.
وقد يكون التصرف من الشيخ في إسناد الحديث مثل ما كان في المتن ،لأمر يراه المحدث، جاء شعبة إلى حميد ، فساله عن حديث ، فحدثه به ، قال : أسمعته ؟ ، قال : أحسب ، فقال شعبة بيده هكذا – أي لا أريده – فلما قام وذهب ، قال حميد : قد سمعته من أنس ، ولكنه شدّد عليّ ، فاحببت أن أشدّد عليه " (2) ، فعندما شدّد شعبة على حميد الطويل بناءً على موقف شعبة من التدليس ، والمدلسين ، أوهمه حميد بعدم السماع بقوله : أحسب ، تأديباً له ، ومعاملة له بالمثل (3).
تحديث الراوي من حفظه دون الرجوع إلى كتبه.
فقد جعل ابن الصلاح من شروط الراوي الثقة : أن يكون متيقظاً غير مغفل ، حافظاً عن حدث من حفظه ، ضابطاً لكتابه إن حدث منه " (4).
__________
(1) أخبار المكيين ص 404-405.
(2) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع 2/46.
(3) بتصرف من آداب المحدثين في التربية والتعليم ص 196.
(4) المقدمة لابن الصلاح ص 94.(1/21)
والضابط من الرواة : هو الذي يقل خطؤه في الرواية ، وغير الضابط هو الذي يكثر غلطه ووهمه فيها ، سواءً كان ذلك لضعف استعداده ، أو لتقصيره في اجتهاده (1) .
فقد كان بعض الرواة يعتمد على حفظه في التحديث فيخطئ ،ومن ثم يظهر الوهم في رواياته ، مع أن كتبه وأصوله متوافرة عنده .
قال الخطيب :" من حدثّ من حفظه فخولف فيه ، فإنه يلزمه الرجوع إلى الأصل ، لجواز الخطأ على الناقل في حال النقل " (2).
قال أحمد بن حنبل :" كان ابن المبارك يحدث من الكتاب فلم يكن له سقط كثير ، وكان وكيع يحدث من حفظه فكان يكون له سقط" "(3) .
وذكر ابن أبي حاتم أن سلماً بن ميمون الخواص دفن كتبه وكان يحدث من حفظه فيغلط (4).
وقال الإمام أحمد عن أبي عوانة كان يحدث من حفظه فربما وهم وحديثه من كتابه اثبت " (5).
وقال ابن حبان عن محمد بن عبيد الله العرزمي :" وكان صدوقاً إلا أن كتبه ذهبت وكان رديء الحفظ فجعل يحدث من حفظه ويهم فكثر المناكير في روايته" (6).
وقال يحيى بن معين عن محمد بن مسلم الطائفي :" وقال يحيى بن معين :" ثقة ، لا بأس به ، وكان إذا حدث من حفظه يخطئ ، وإذا حدث من كتابه فليس به بأس " (7).
قال البخاري :" خرجت من الكتّاب بعد العشر فجعلت أختلف على الداخلي ، وغيره فقال يوماً فيما كان يقرأ للناس : سفيان ، عن أبي الزبير ، عن إبراهيم .
فقلت له :" إن أبا الزبير لم يرو عن إبراهيم " ، فانتهرني ، فقلت له :" ارجع إلى الأصل فدخل فنظر فيه ثم خرج.
__________
(1) توجيه النظر ص .
(2) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع 2/39.
(3) سير أعلام النبلاء 8/407.
(4) الجرح والتعديل 4/267.
(5) الجرح والتعديل 9/40.
(6) المجروحين 2/246.
(7) تاريخ يحيى بن معين رواية الدوري 3/67.(1/22)
فقال لي:" كيف هو يا غلام"؟ ، قلت :" هو الزبير بن عدي عن إبراهيم فأخذ القلم مني وأحكم كتابه ، وقال :" صدقت " (1).
ومن الأمثلة على وقوع الوهم في حديث الراوي لأن راويه حدث من حفظه دون الرجوع إلى كتبه ، قال أبو داود :" سمعت أحمد ذكر حديث الدرواردي ، عن هشام بن عروة، عن أبيه عن عائشة :" أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يستعذب له الماء من بيوت السقيا " فقال : هذا أراه ريح .
وسمعت أحمد ذكر هذا الحديث فقال : ليس هذا الحديث في كتاب الدراوردي -كان يحدثه حفظاً ، فقال أحمد :" كتابه أصح من حفظه " (2).
قال يحيى بن معين :" الدراوردي عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعمار :" تقتلك فئة باغية ".
لم يوجد في كتاب الدراوردي ، والدراوردي حفظه ليس بشيء كتابه أصح (3).
تحديث الراوي خارج بلده من غير أصوله فيقع منه الوهم.
فقد كان مما يحرص عليه المحدثون الرحلة في طلب الحديث ، وقد يرحل أحدهم لأي سبب من الأسباب التي تعرض للإنسان ، وقد يحتاج العالم منهم إلى عقد مجالس للتحديث خاصة إذا كان مشهوراً ، وقد لا يكون ضابطاً لحديثه حفظاً كما هو في كتابه فيحدث من حفظه معتمداً على ذاكرته فيقع بسبب ذلك الوهم في روايته ، وينتج عن ذلك اختلاف بين الرواة عنه الذين رووا عنه في بلده الأصلي والذين رووا عنه في البلد الذي رحل إليه ، ويعد هذا مسلكاً لوقوع العلة في روايات الثقات.
__________
(1) سير أعلام النبلاء 12/393 ، وهدي الساري ص 477.
(2) مسائل الإمام أحمد ، رواية أبي داود ص 418.
(3) تاريخ يحيى بن معين رواية ابن طهمان ص 113.(1/23)
ومن أولئك العلماء معمر بن راشد الصنعاني ، قال أبو داود :" قلت لأحمد : ما حدث معمر بالبصرة ؟ قال : أخطأ بالبصرة في أحاديث " (1) ، قال الذهبي :" ومع كون معمر ثقة ثبتاً فله أوهام لا سيما لما قدم البصرة لزيارة أمه فإنه لم يكن معه كتبه فحدث عن حفظه فوقع للبصريين عنه أغاليط "(2).
ومثل محمد بن إبراهيم الطرسوسي من أهل بغداد ، قال ابن حبان :"دخل مصر فحدثهم من حفظه من غير كتاب بأشياء أخطأ فيها ، فلا يعجبني الاحتجاج بخبره إلا ما حدث من كتابه "(3).
ومثل أيوب بن عتبة من أهل اليمامة ، قال أبو حاتم :" أيوب بن عتبة فيه لين قدم بغداد ولم يكن معه كتبه فكان يحدث من حفظه على التوهم فيغلط وأما كتبه في الأصل فهى صحيحة " (4).
وبمعرفة علماء العلل لهذا المسلك الذي يدخل على روايات الثقات كانوا يكشفون كثيراً من علل أحاديث من روى أحاديث من حفظه دون كتابه في غير بلده .
قال الإمام أحمد :" حديث غيلان أنه أسلم وله عشر نسوة ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : اختر منهن أربعاً " ، معمر أخطأ بالبصرة في هذا الإسناد ، ورجع باليمن ؛ جعله منقطعاً "(5).
و قال ابن أبي حاتم :" سألت أبي عن حديث رواه جعفر بن برقان ، عن الزهرى ، عن سعيد بن المسيب أن رجلاً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال إني هلكت وقعت على أهلي في رمضان "؟.
قال أبى :" هذا خطأ ؛ إنما هو الزهرى ، عن حميد بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " ، قال أبي :" قدم جعفر بن برقان الكوفة وليس معه كتب فكان يحدث من حفظه فيغلط" (6).
اختصار الحديث.
__________
(1) مسائل الإمام أحمد برواية أبي داود ص 409.
(2) سير أعلام النبلاء 7/12.
(3) الثقات 9/137.
(4) الجرح والتعديل 2/253.
(5) مسائل الإمام أحمد رواية أبي الفضل صالح بن احمد ص 330.
(6) علل الحديث 1/749.(1/24)
فقد يقع اختلاف بين رواة حديث ما في سياق متنه ، ويرجع ذلك إلى أن أحد الرواة روى الحديث باختصار لفظه ، ورواه غيره تاماً ، فينتج عن ذلك الاختصار اختلاف في ألفاظ الحديث بين الرواة عنه ، ومن ثمّ يقع الاختلاف فيما يبنى عليه من أحكام شرعية.
قال ابن أبي حاتم :" سمعت أبي وذكر حديث شعبة ، عن سهيل ، عن أبيه ، عن أبي هريرة قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :" لا وضوء إلا من صوت أو ريح ".
قال أبي : هذا وهم ؛ اختصر شعبة متن هذا الحديث فقال : لا وضوء إلا من صوت أو ريح ، ورواه أصحاب سهيل ، عن سهيل ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا كان أحدكم في الصلاة فوجد ريحاً من نفسه فلا يخرجن حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً (1).
وروى الترمذي حديثاً من طريق عبد الرزاق ، عن معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من حلف فقال إن شاء الله لم يحنث ".
سألت محمداً عن هذا الحديث؟ ، فقال :" جاء مثل هذا من قِبل عبد الرزاق وهو غلط إنما اختصره عبد الرزاق من حديث معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قصة سليمان بن داود حيث قال :"لأطوفن الليلة على سبعين امرأة "، الحديث (2).
وذهب الإمام أحمد إلى أن الاختصار كان من معمر ، فقال عقب روايته للحديث :" قال عبد الرزاق : وهو اختصره يعنى معمراً"(3).
وأيّاً كان مصدر الفعل يبقى اختصار الحديث بلفظ غير ما ورد به مما يوقع الاختلاف بين رواة الحديث فيعد مسلكاً من مسالك العلة ، قال يحيى بن آدم :" ما رأيت أحداً يختصر الحديث إلا وهو يخطئ إلا ابن عيينة "(4).
الإدراج.
__________
(1) علل الحديث ص1/47.
(2) العلل الكبير 1/253 .
(3) المسند 13/450 ، وقد ذهب الحافظ ابن حجر إلى أنهما حديثين مختلفين ، ينظر فتح الباري 11/605.
(4) أخبار المكيين ص 382.(1/25)
الإدراج لغة :" الطي واللف ، وإدخال الشيء في الشيء "(1) .
واسم المفعول منه مدرج : بضم الميم فتح الراء.
المدرج عند المحدثين :" ما أدرج في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من كلام بعض رواته "(2) وأغلب من عرف المدرج إنما قصره على ما أدرج في متن الحديث دون الإسناد.
وكون الإدراج مسلكاً من مسالك العلّة فلأن الراوي لا يفصل كلامه عن لفظ حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فيتوهم من يسمعه منه أن ذلك من الحديث ، يقول ابن كثير في تعريفه للمدرج :" وهي أن تزاد لفظة في متن الحديث من كلام الراوي فيحسبها من يسمعها مرفوعة في الحديث فيرويها كذلك " (3) ، ويقول الخطيب البغدادي في صفات الحافظ :" ويعرف اللفظة في الحديث تكون وهماً وما عدها صحيحاً ويميز الألفاظ التي أدرجت في المتون فصارت بعضها لاتصالها بها" (4) ، ومن ثم صنف كتاب الفصل للوصل المدرج في النقل ، وذلك لتمييز ما أضيف إلى حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - من قول غيره ، وقد وُصف كتابه بأنه من كتب العلل ، قال ابن خير الأشبيلي :" وهو من كتب العلل التي لا مثيل لها في معناها " (5).
ومن الأمثلة على إعلال بعض الروايات بالإدراج:-
سئل أبو حاتم عن حديث رواه إبراهيم بن طهمان مرفوعاً : " إذا استيقظ أحدكم من منامه فليغسل كفيه ثلاث مرات قبل أن يجعلهما في الإناء فأنه لا يدري أين باتت يده ثم ليغترف بيمينه من إنائه ثم ليصب على شماله فليغسل مقعدته ".
قال :" ينبغي أن يكون : ثم ليغترف بيمينه إلى آخر الحديث من كلام إبراهيم ابن طهمان فأنه قد كان يصل كلامه بالحديث فلا يميزه المستمع " (6).
__________
(1) لسان العرب 2/266، مادة (( درج )).
(2) المقدمة ص 274.
(3) الباعث الحثيث ص 42.
(4) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع 2/173.
(5) فهرسة ابن خير الأشبيلي ص 182.
(6) علل الحديث 1/65.(1/26)
وقال عن حديث آخر : " يشبه أن يكون عامة هذا الكلام من كلام الزهري …………فكان أقوام لا يضبطون فجعلوا كلامه في الحديث ، وأما الحفاظ وأصحاب الكتب فكانوا يميزون كلام الزهري من الحديث.
قال ابن أبي حاتم :" فذكرت هذا الحديث لأبي زرعة " ، فقال :" الذي عندي أن هذا كله كلام الزهري وذكر نحو ما قال أبي في بيان علة هذا الحديث" (1).
وسئل الدارقطني عن حديث لجابر بن عبد الله - رضي الله عنه - يرويه عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ، وبعد أن ذكر الاختلاف الوارد فيه قال :" ورواه أبو أحمد الزبيري عن الثوري ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، عن عمر هذا الحديث وألحق به كلاماً آخر أدرجه فيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - :" لأنهين أن يسمى رباحاً ونجيحاً".
ووهم في إدراجه هذا الكلام عن عمر وغيره عن الثوري ، عن أبي الزبير ، عن جابر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (2).
وسئل عن حديث اختلف فيه عن إسحاق بن سليمان فيه فقال :" يرويه يعلى بن المنهال عن إسحاق بن سليمان عن الجراح :" وفضل كلام الله على سائر خلقه " ، أدرجه في كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما هو من كلام أبي عبد الرحمن السلمي وبين ذلك إسحاق بن راهويه وغيره في روايتهم عن إسحاق بن سليمان (3).
وسأل الترمذي الإمام البخاري عن حديث يحيى بن سعيد الأموي عن ابن إسحاق عن الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استخلف أبا رهم كلثوم بن حصين الغفاري على المدينة ومضى لسفره ، يعني عام الفتح ؟.
فقال :" أخشى أن يكون هذا مدرجاً والحديث هو الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج عام الفتح في رمضان . لعل هذا الذي ذكر هو قول ابن إسحاق ذكره عى أثر الحديث "(4).
دخول حديث في حديث.
__________
(1) علل الحديث 2/30.
(2) العلل 2/95.
(3) العلل 3/57-58.
(4) العلل الكبير 2/946-947.(1/27)
فقد يدخل على الراوي حديث في حديث ، إما في الإسناد أو المتن ، ويقع ذلك إما لعدم ضبط الراوي للحديث حفظاً ، أو من جراء الخطأ في النسخ من الكتب ، فتختلف الروايات عن الراوي أو عن من فوقه بسبب هذا التداخل في الروايات.
قال الإمام أحمد :" إذا سمعت أصحاب الحديث يقولون : هذا حديث غريب أو فائدة فاعلم أنه خطأ أو دخل حديث في حديث " (1).
قال الحاكم :" فإن المعلول ما يوقف على علته أنه دخل حديث في حديث "(2).
ومن الأمثلة على أن العلة تسلك هذا المسلك :-
قال ابن أبي حاتم :" سالت أبي وأبا زرعة عن حديث رواه يحيى بن يمان فقال : عن الثوري عن منصور ، عن خالد بن سعد ، عن أبي مسعود ، في إسناد هذا الحديث :" أخطأ ابن يمان وروى هذا الحديث عن الثوري ، عن أبي صالح ، عن المطلب بن أبي وداعة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال أبي: والذي عندي أن يحيى بن يمان دخل حديث له في حديث رواه الثوري ، عن منصور ، عن خالد بن سعد مولى أبي مسعود :" أنه كان يشرب نبيذ الجر " ، وعن أبي صالح ، عن المطلب ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يطوف بالبيت الحديث ، فسقط عنه فجعل إسناد منصور ، عن خالد ، عن أبي مسعود لمتن حديث الكلبي.
وقال أبو زرعة :" وهم فيه يحيى بن يمان إنما هو الثوري ، عن أبي صالح ، عن المطلب ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " (3).
قال ابن بي حاتم :" سألت أبي عن حديث رواه إسماعيل بن عياش ، عن هشام ابن عروة ، عن أبيه ، عن سهل بن أبي حثمة ، عن خوات بن جبير قال :" السنة في صلاة الخوف " ، فذكر الحديث بطوله.
قال أبي هذا حديث مقلوب جعل إسنادين في إسناد (4).
__________
(1) الكفاية في علوم الراوية ص 142.
(2) معرفة علوم الحديث ص 183.
(3) علل الحديث 2/26.
(4) علل الحديث 1/151.(1/28)
وقال سمعت أبي وذكر حديث عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن أم حبيبة ، قال أبي هذا خطأ إنما هو الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي سفيان ابن سعيد بن المغيرة بن الأخنس ، عن أم حبيبة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
دخل لابن أبي سلمة الماجشون حديث في حديث (1).
وسئل أبو حاتم عن حديث فقال :" نظرت في بعض أصناف محمد بن شعيب فوجدت هذا الحديث رواه محمد بن شعيب ، عن محمد بن يزيد البصري ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه، ورأيت بجنبه حديث عبد الله بن العلاء ، عن سالم ، عن أبيه ، فعلمت أنه سقط على هشام بن إسماعيل متن حديث عبد الله بن العلاء وبقي إسناده وسقط إسناد حديث محمد ابن يزيد البصري فصار متن حديث محمد بن يزيد البصرى بإسناد حديث عبد الله بن العلاء (2).
و قال أبو حاتم وأبو زرعة :" عن حديث رواه موسى بن داود عن الماجشون عن حميد عن أنس عن أم الفضل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى في ثوب واحد.
قالا :" هذا خطأ قال أبو زرعة :" إنما هو على ما رواه الثوري ومعتمر ، عن حميد ، عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه صلى في ثوب واحد فقط " ، دخل لموسى حديث في حديث يحتمل أن يكون عنده حديث عبد العزيز قال :" ذكر لي عن أم الفضل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ في المغرب بالمرسلات وكان بجنبه عن حميد ، عن أنس فدخل له حديث في حديث " (3).
__________
(1) علل الحديث 1/33.
(2) علل الحديث 2/77.
(3) علل الحديث 1/84-85.(1/29)