بسم الله الرحمن الرحيم
محاضرات الدورة المفتوحة الأولى في الحديث الشريف وعلومه
( المستوى الأول )
محاضرات الشيخ عاصم القريوتي حفظه الله
جمعها ورتبها
أبو عمر القلموني
عفا الله عنه
المحاضرة الأولى
{ شرح حديث " خير الناس قرني " }
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله - صلى الله عليه وسلم - .
?????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????، ????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????، ???????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????أما بعد ،
فإن خيرَ الكلامِ كلامُ الله - عز وجل - وأحسنَ الهديِ هديُ محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها ، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ ، وكلَّ ضلالةٍ في النارِ .
إخوةَ الإسلامِ ، أُحَيِّيكُم بتحيةِ الإسلامِ : السلامُ عليكم ورحمةُ الله وبركاته .(1/1)
أولاً ، أُذَكِّرُ نفسي ومنْ يسمعُ من إخواني وأخواتي بضرورةِ الإخلاصِ للهِ - عز وجل - في أقوالِنا وأعمالِنا ، وأسألُ اللهَ - عز وجل - أن نبتغيَ جميعاً في هذه الدورةِ وجهَ اللهِ سبحانه وتعالى ؛ والفقهَ في دينِه كما قال - صلى الله عليه وسلم - : " مَن يُرِدِ اللهُ به خيراً يُفَقِّهْهُ في الدينِ " ، فهذه ذكرى لي ولإخواني ، والذكرى تنفع المؤمنين .
أما حديثُنا اليومَ فهو مِنْ خلالِ حديثِ النبي - صلى الله عليه وسلم - : " خير الناس قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم .." .
- الحديث وسنده :
قال البخاريُّ رحمه الله : حدثنا عَبْدانُ ، عن أبي حَمْزَةَ ، عن الأعمشِ ، عن إبراهيمَ ، عن عَبيدَةَ ، عن عبد اللهِ - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " خيرُ الناسِ قرني ، ثم الذين يَلونَهُمْ ، ثم الذين يلونهم ، ثم يجيءُ من بعدهم قومٌ تَسْبِقُ شهادتُهم أَيْمانَهم ، وأيمانُهم شهادتَهم " .
هذا الحديثُ رواه الإمامُ البخارِيُّ في صحيحِهِ في كتابِ ( الرِّقاق ) في باب : ما يُحْذَر من زهرةِ الدنيا والتنافُسِ فيها .
يرويه الإمامُ البخاريُّ عن شيخِهِ عَبْدَانَ ، وهو : عبدُ الله بنُ عثمانَ العَتَكِيُّ ، و( عبدان ) لَقَبُهُ
عن أبي حمزةَ ، وهو : محمدُ بن ميمونَ المروزي .
عن الأعمشِ ، وهو : سُليمانُ بنُ مَهرانَ الأَزْديُّ .
عن إبراهيمَ ، وهو : إبراهيمُ بنُ يزيدَ بنِ قَيْسٍ النخعي .
عن عَبِيدَةَ ، بفتح العين ، وهو : ابنُ عمرو السَّلْماني .
عن عبد اللهِ ، الصحابيِّ الجليلِ من كبارِ علماءِ الصحابة ، وهو : عبدُ الله بنُ مسعودٍ - رضي الله عنه - .(1/2)
وهذا الحديثُ رواه مسلمٌ في صحيحِه بسندِهِ إلى إبراهيمَ ، عن عَبيدةَ ، عن عبدِ الله ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " خيرُ الناسِ قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ، فلا أدري في الثالثةِ أو في الرابعةِ قال : ثم يَتَخَلَّفُ من بَعْدِهِم خَلًفٌ تَسْبِقُ شهادةُ أحدهم يمينَه ويمينُه شهادتَه " .
وروى مسلمٌ عن أبي هريرةَ قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " خيرُ أمتي القرنُ الذينَ بُعِثْتُ فيهم ثم الذين يلونهم ، واللهُ أعلمُ أَذَكَرَ الثالثَ أم لا ، قال : ثم يَخْلُفُ قومٌ يُحِبُّونُ السَّمانةَ يشهدون قبلَ أن يُسْتَشْهَدوا " .
وروى البخاريُّ عن عِمرانَ بنِ حُصَينٍ رضي الله عنهما قال : قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : " خيرُكم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ، قال عمرانُ : لا أدري أذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - بعدُ قرنينِ أو ثلاثةً ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : إنَّ بعدَكُم قوماً يخونون ولا يُؤْتَمنونَ ، ويشهدون ولا يُسْتَشهدون ، ويَنْذِرونَ ولا يِفونَ ، ويَظْهَرُ فيهِمُ السِّمَنُ " .
وأما ما اشْتَهَرَ في بعضِ الكتبِ بلفظ ( خير القرون قرني ) فلمْ نَقِفْ عليه في شيءٍ من المصادرِ
- من روى الحديث من الصحابة :
هذا الحديثُ النبويُّ العظيمُ الذي ذكرناه من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - مَرْوِيٌّ في أصحِّ الكتبِ بعدَ كتابِ الله - عز وجل - : البخاري ومسلم .
و رواهُ من الصحابةِ أكثرُ من اثني عشرَ صحابياً ، منهم ما ذكرناهُ عن ابنِ مسعودٍ وعمرانِ بنِ حُصَينٍ رضي الله عنهما . وهاتانِ الروايتانِ في البخاري ومسلم .
وجاء عن أبي هريرةَ وعائشةَ رضي الله عنهما ، وهاتان الروايتان في مسلمِ ، وقد سبق ذكرُ روايةِ أبي هريرة .(1/3)
وأما بقيةُ الصحابةِ الذين رووا هذا الحديثَ ، فهم : بُرَيْدَةُ بن الْحُصَيْبِ ، والنعمانُ بنُ بَشير ، وأبو برزةَ الأسلمي ، وعمرُ بنُ الخطاب ، وسعدُ بن تميم ، وجعدةُ بن هبيرة ، وسمرةُ بن جندب ، وجميلةُ بنتُ أبي لهب ، رضي الله عن الجميع ، وروايتهم في المسانيد ومعاجم الطبراني وغيرها .
وهؤلاءِ الذين ذكرتهم كلُّهُم صحابةٌ إلا جعدة بن هبيرة فلقد اختُلِفَ في صُحْبَتِهِ كما قال الحافظُ ابنُ حَجَرَ رحمه الله في الإصابةِ ، بينما نصَّ على صحبته رحمه اللهُ في كتابه ( تقريبُ التهذيبِ ) ، وذكره في الإصابةِ في القسمِ الثاني من كتابه ؛ وذكر من جزم بصحبته من الأئمة.
وجعدةُ وُلِد في عهدِ النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهنا وقع الخلافُ هل لَقِيَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أم لم يَلْقَه .
وكتابُ ( الإصابة ) للحافظِ ابنِ حَجَرَ العسقلاني كتابٌ عظيمٌ في تمييزِ الصحابة ، وهو من أعظمِ الكتبِ في الدلالةِ على معرفةِ الصحابةِ .
فوائد :
ويجدُرُ أن ننبهَ على بعضِ الفوائدِ المتعلقةِ بهذا الكتابِ بهذه المناسبةِ للفائدةِ :
_ وذلكَ أن هذا الكتابَ معَ اشتمالِهِ على عددٍ كثيرٍ من الصحابةِ وشمولِهِ ، ولكنه لا يعني أن الترجمةَ التي لا تُوجَدُ في الكتابِ أن صاحبَها ليس بصحابيٍّ لأنه فاتَهُ شيءٌ وإن كان ليسَ بالكثيرِ
_ الأمرُ الآخرُ أن نعلمَ أن الحافظَ ابن حجرَ رحمه الله قد قَسَّمَ كتابَه إلى أقسامٍ أربعةٍ ، فينبغي أن يُلاحِظَ طالبُ العلمِ في هذا الكتابِ أنه ليس مجرد أن رأى ترجمةً في هذا الكتابِ يعني أن صاحبَها صحابيٌّ ، ذلك لأنه قَسَّمَ كتابَه إلى أربعةِ أقسام :
ـ القسمُ الأولُ : ما جاءَ ذِكْرُهُ في الأسانيدِ وثبتَتْ صحبتُه أو ذُكِرَ ولو دونَ الثبوتِ في أسانيدَ ولكنْ فيها تصحيحُ الصحبةِ .(1/4)
ـ القسمُ الثاني : لمن وُلِدَ في عهدِ النبي - صلى الله عليه وسلم - ممن كان دونَ سِنِّ التمييزِ ولم يُتَأَكَّدْ من لقائهِم مع النبي - صلى الله عليه وسلم - .
ـ القسمُ الثالثُ : جَعَلَهُ للمُخَضْرَمينَ ، وهم الذين أدرَكُوا الجاهليةَ وأدركوا الإسلامَ ولكنْ لم يحصُلْ لهم شرفُ اللقاءِ بالنبي - صلى الله عليه وسلم - .
ـ القسمُ الرابعُ : الذين ذُكروا في الصحابةِ على سبيلِ الْوَهْمِ والخطأِ ، فنبه الحافظُ رحمه الله على هذا
هذه بعضُ الأمورِ أحببتُ أن أُنَبِّهَ بها على هذا الكتابِ العظيمِ ( الإصابةُ في تمييزِ الصحابةِ ) للحافظِ ابنِ حَجَرَ العسقلانيِّ رحمه الله تعالى .
- تواتر الحديث :
هذا الحديثُ العظيمُ إضافةً لكونِهِ رواه الإمامانِ العظيمانِ البخاريُّ ومسلمٌ عن الصحابي الجليلِ ابنِ مسعودٍ - رضي الله عنه - وعمرانِ بنِ حُصَين - رضي الله عنه - ، فهو يُعَدُّ من الأحاديثِ المتواترةِ عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ، وممن نصَّ على تواترِ هذا الحديثِ :
_ الإمامُ الحافظُ ابنُ حجرَ في مقدِّمَةِ كتابِهِ ( الإصابة ) .
_ كذلك ذكره السيوطيُّ في كتابِه ( الأزهارُ المتناثرةُ في الأحاديثِ المتواترةِ ) .
_ وكذلك الزُّبَيْدِي مؤلفُ ( تاجُ العَروسِ شرحُ القاموسِ ) في كتاب ( لقطُ اللآلئ المتناثرةِ في الأحاديثِ المتواترةِ ) .
_ وكذلك ذكرَهُ الكَتَّاني في كتابٍ له في الأحاديثِ المتواترة .
_ وذكرَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ رحمه الله ورحمَ جميعَ علماءِ المسلمينَ أن النصوصَ استفاضَتْ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " خير الناس قرني الذين بُعِثْتُ فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ) .
- تنبيه :
ثَمَّةَ أمرٍ آخرَ أريدُ أنْ أُنَبِّهَ عليه إخوتي :(1/5)
أنه ينبغي أن يُتَلَقّى العلمَ عن أهلِهِ ومِن كُتِبَ العلماءِ الْمُخْتَصِّينَ ، وخاصةً هذا العلمَ الشريفَ المختصَّ بالأحاديثِ النبويةِ ، لأننا رأَيْنَا وخاصةً في هذا العصرِ للأسفِ نوعاً من التَّجَرُّؤِ على الأحاديثِ النبويةِ وبعضُها يتعَلَّقُ في أمرِ الاعتقَادِ ، فيأتي بعضُ الناسِ ويَدَّعي أن هذه أحاديثَ ليستْ من الأحاديثِ المتواترةِ ، ويَبْنُونَ هذا على قاعدةٍ سقيمةٍ لهم أن المتواترَ هو الذي يُحْتَجُّ به فقط في العقيدةِ ؛ وأما غير ذلك فلا يمكنُ الاحتجاجُ به في العقيدةِ . ولن نخوضَ في هذه المسألةِ الآنَ لنُبَيِّنَ مخالفتَها للصوابِ وأنها قاعدةٌ مبتدَعَةٌ ، ولكنْ للأسفِ فهم مع ذلكَ يخوضونَ في هذهِ المسألةِ بغيرِ علمٍ ولا درايةٍ وبلا أساسٍ علميٍّ ، ويأتونَ على أحاديثَ فَيَدَّعُونَ أنها غيُر متواترةٍ وأنها رواياتُ آحادٍ بينما هي في الحقيقةِ على خلافِ ذلكَ كما هو مقرَّرٌ عندَ العلماءِ الْمُحَدِّثِينَ وعندَ أهلِ العلمِ بضوابِطِ الجرحِ والتعديلِ .
ولا أريدُ مناقشةَ تلكَ المقولةَ التي ذكروها ، ولكنْ للأسفِ رأيتُ التَّجَرُّؤَ دونَ علمٍ على تمييزِ الأحاديثِ من دَعوى أن هذا الحديثَ ليسَ متواتراً إنما هو آحادٌ ، وهذا كلُّه إنما هو ضربٌ بلا علمٍ ولا أساسٍ ، وهذه ذكرى أردتُ بيانَها .
- ألفاظ الحديث :
وأما حَدِيثُنا ، حديثُ : " خير الناس قرني .. " ، فقدْ جاءَ في إِحدى الرواياتِ : أن رجلاً سألَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - : أيُّ الناسِ خيرٌ ؟ أي جاء هذا من خلالِ كلامٍ من رجُلٍ عن بيانِ أي الناس خير ، والألفاظُ التي جاءت في الخيريةِ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعضها كما هو حديثنا " خير الناس قرني " وبعضها " خير أمتي قرني " ، وبعضها " خير هذه الأمة القرن الذي بعثت فيه " ، وبعضها " خيركم قرني " .(1/6)
وجاء في روايةٍ أيضاً في المسندِ " خير هذه الأمة " ، وأما اللفظُ المشهورُ بيَن الناسِ " خير القرون قرني " فهذا لم يَرِدْ في شيءٍ من كتبِ السنةِ المعتَمَدَةِ كما ذَكَرَ ذلك بعضُ العلماءِ ، ولم نَقِفْ عليه في شيءٍ من المصادرِ مع كثرةِ البحثِ من خلالِ مجموعةٍ من طَلَبَةِ العلمِ والباحثين .
فنأخُذُ بالرواياتِ الثابتةِ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وفي ذلك غُنْيَةٌ وكفايةٌ ، وحَرِيٌّ بالمسلمِ أن يتثبتَ في حديثِ النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا ينسبُ إليه - صلى الله عليه وسلم - إلا ما صحَّ عنه ، وإلا يُخشَى أن يدخُلَ ويندرِجَ ضمنَ جملةِ الكذابين كما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " من حدث عني حديثاً يُرى أنه كذب فهو أحد الكاذِبِينَ " أو " أحد الكاذبَيْن " .
والمقصودُ أن الإنسانَ يجب عليه أن يتحرى حديثَ النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا ينسبَ شيئاً إليه إلا بعد أن يتأكدَ من ثبوته وصحتِه إلى نبي الله - صلى الله عليه وسلم - .
ـ من ألفاظِ هذا الحديثِ رواية عمران بن حصين التي هي في صحيح البخاري ، وفيه قوله : قال عمران : لا أدري أذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - بعدُ قرنين أو ثلاثة .
ذكر الحافظُ ابنُ حجرَ أن هذا الشكَّ قد وقع في حديثِ ابنِ مسعودٍ وأبي هريرةَ عند مسلمٍ ، وفي حديثِ بُريدة عندَ أحمد ، وأن أكثرَ الرواياتِ جاءت بغير شكٍّ ، أي جاء فيها ذكرُ قرنِهِ - صلى الله عليه وسلم - ثم ذِكْرُ قرنينِ بعدَ ذلك وذكر أنه جاءَ في حديثِ جعدةَ بنِ هُبيرةَ عند الطبراني وابنِ أبي شيبةَ إثباتُ القرنِ الرابعِ ، ولكن كما ذكرنا الاختلافُ واقعٌ في صحبةِ جعدة بن هبيرة كما سبق .
- شرح الحديث :
ـ قوله : ( خير الناس قرني ) ، أو ( خير أمتي قرني ) :
أي : أهلُ قرني .(1/7)
وجاء من حديثِ أبي هريرةَ - رضي الله عنه - في البخاري أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " بُعِثْتُ من خيرِ قرونِ بني آدمَ قرناً فقرناً حتى كنتُ من القرنِ الذي كنتُ فيه " .
والقرنُ كما يقولُ العلماءُ : أهلُ زمانٍ واحدٍ متقاربٍ اشتركوا في أمرٍ من الأمورِ المقصودةِ ، ويُطْلَقُ القرنُ على مُدَّةٍ من الزمانِ ، واختلفوا في تحديدِها ، وأَوْلَى الأقوالِ ما وقعَ في حديثِ عبدِ الله بنِ بُسْرٍ عند مسلمٍ ما يَدُلُّ على أن القرنَ مائةَ عامٍ ، وهو المشهورُ كما ذكر ذلك الحافظُ ابنُ حجرَ رحمه الله .
فقرنُه - صلى الله عليه وسلم - خيرُ القرونِ على الإطلاقِ كما دَلَّ عليه حديثُ أبي هريرة - رضي الله عنه - .
والمرادُ بقرنه - صلى الله عليه وسلم - : صحابتُه رضي الله عنهم ولا شكَّ في ذلك ولا ريبَ ، ثم الذين يلونهم أي التابعون ، ثم الذين يلونهم أي أتباع التابعين .
فاقتضى هذا الحديثُ واستلزمَ أن يكونَ الصحابةُ خيراً من التابعينَ ، والتابعون خيراً من أتباعِ التابعين .
وقد يَسْتَشْكِلُ بعضُ الأخوةِ في تفضيلِ الصحابةِ بحديثٍ رواه أبو داود والترمذي من حديث أبي ثعلبةَ الْخُشَنِيِّ أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال : " تأتي أيامٌ للعاملِ فيهنَّ أجرُ خمسينَ ، قيل : منهم أو منا يا رسولَ الله ؟ قال : لا ، بلْ منكُم " .
فقد يُشْكِلُ على بعضِ الأخوةِ هذا الحديثُ لأنه يتعارضُ في الظاهرِ مع حديثِ النبي - صلى الله عليه وسلم - " خير الناس قرني ".
فَأَوَدُّ أن أُذَكِّرَ أولاً بما هو معلومٌ بأن الشرعَ لا يعارضُ بعضُه بَعْضاً ، فلا تعارضُ آيةٌ آيةً ، ولا يعارضُ حديثٌ آيةً ، ولا يعارضُ حديثٌ صحيحٌ حديثاً صحيحاً آخر .(1/8)
وذلك لأن القرآنَ كلامُ الله - عز وجل - ووحيٌ من اللهِ سبحانه وتعالى ، وكذلك سنةُ النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما هي من الوحيِ ، والقرآنُ والسنةُ كلٌّ منهما وحيٌ ، على بعضِ الفروقِ كما أشارَ إلى ذلك فضيلةُ الدكتور محمدُ طُرهوني سابقاً .
فالتعارضُ الذي قد يظهَرُ للإنسانِ في معارضةِ آيةٍ بآيةٍ ، أو حديثٍ بآيةٍ ، أو حديثٍ بحديثٍ ، إنما هو معارضةٌ باعتبارِ الظاهرِ ، وإنما في الحقيقةِ الشرعُ واحدٌ ولا تُعارِضُ آيةٌ آيةً أخرى ، ولا حديثٌ آيةً ، ولا حديثٌ حديثاً ، وإنما هذا التعارضُ فيه بحسبِ الظاهرِ لثِقَلِ أفهامِنا ، وكلَّما أعطى اللهُ سبحانه وتعالى العبدَ من العلمِ والبصيرةِ أمكنَهَ فهمُ النصوصِ والتوفيقُ بينها إذ لا تعارضَ بينها ، إنما هو بحسب الظاهرِ فقط .
على كلِّ حالٍ ، حديثُنا هذا الذي قد يُشكِلُ على بعضِ الأخوة مع حديث " تأتي أيام .." فأوجَهُ الأمورِ في الجمعِ بينهما أن يُقال فيه :
إن هذا الحديثَ لا يَدُلُّ على أفضليةِ غير الصحابةِ على الصحابةِ ، لأن مجرَّدَ زيادةِ الأجرِ لا يستلزمُ ثبوتَ الأفضليةِ في كلِّ شيءٍ .
وأيضاً ، الأجرُ إنما يقعُ تفاضُلُهُ بالنسبةِ إلى ما يماثِلُهُ في ذلكَ العملِ ، فأما ما فازَ به من شاهدَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - من زيادةِ فضيلةِ المشاهدَةِ فلا يعدِلُهُ فيها أحدٌ .
وفضيلةُ الصحبةِ لا يعدِلُها عملٌ ؛ لمشاهدَةِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأما من اتَّفَقَ له الذَّبُّ عنه والسبقُ إليه بالهجرةِ أو النُّصرةِ وضبطِ الشرعِ المتَلَقَّى عنه وتبليغِه لمن بعدَه ، فإنه لا يعْدِلُه أحدٌ ممنْ يأتي بعدَهُ لأنه ما مِنْ خصلةٍ من الخصالِ المذكورةِ إلا والذي سبقَ بها له أجرُ مَنْ عَمِلَ بها من بَعْدِهِ ، فظهر فضلُهم .
فبهذه الطريقةِ يمكنُ الجمعُ بين هذا الحديثِ وحديثِ " خير الناس قرني .. " الذي يتعلقُ بأفضليةِ الصحابةِ رضي الله عنهم .(1/9)
ـ قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( يخونون ولا يؤتمنون ) :
أي يأتي بعدَهم أقوامٌ لا يُؤْتَمَنُون ولا يَثِقُ بهم الناسُ ولا يعتقدون أنهم أمناءُ ، وذلك لأن خيانتَهم تكون ظاهرةً ، نسأل الله السلامة .
وهذه الصفةُ التي ذكرها النبي - صلى الله عليه وسلم - لما يأتي بعدَ القرونِ الثلاثةِ التي بعدَه ، هي صفةُ ذمٍّ كما قال الإمامُ الباجي رحمه الله : ( ساقَ ما وصفَهُم به مساقَ العَيْبِ ، والجائزُ لا يُعابُ فَدَلَّ على أنه غيرُ جائزٍ ) .
ـ قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ويشهدون ولا يستشهدون ) :
أوجهُ الأقوالِ فيها : أنهم يُؤَدُّونَ الشهادةَ دونَ أن تُطلَبَ منهم .
وهذا قد يُشكِلُ على بعضِ طلبةِ العلمِ وبعضِ الأخوة ، يُشْكِلُ عليهم من حيثُ تعارضُه الظاهرُ مع حديثِ زيدِ بن خالدٍ الذي يقول فيه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : " ألا أخبركم بخير الشهداء ؟ الذي يأتي بالشهادة قبل أن يُسأَلها " .
لأنه هنا في حديثِ زيدٍ أخبرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - على وجهِ المدحِ أن خيرَ الشهداءِ الذي يأتي بالشهادةَ قبلَ أن يُسأَلَها ، وفي الحديثِ الذي معنا يُخْبِرُ به على وجهِ الذم . فما وجهُ الجمعِ بينهما ؟
العلماءُ رحمهم اللهُ لهم كلامٌ في الجمعِ بين هذينِ الحديثينِ أو التوفيقِ بين هذين الحديثين ، ولا شكَّ كما هو معروفٌ أن الجمعَ بين النصوصِ أولى من الترجيحِ بينها إلا إذا تَعَذَّرَ الجمعُ ، فهذه من القواعِدِ المسلَّمةِ والمعلومةِ عندَ الجميع .(1/10)
على أيِّ حالٍ ، أوجَهُ ما رأيتُه في الجمعِ بين هذا وبين الحديثِ الذي معنا في قوله - صلى الله عليه وسلم - : " ويشهدون ولا يستشهدون " ، أنَّ المرادَ بقوله - صلى الله عليه وسلم - أنه خيرُ الشهداءِ ؛ هذا فيما يختصُّ بشهادةِ الإنسانِ بحقٍ لا يعلمُ به صاحبُه أو يموتُ صاحبُه العالِمُ به ويُخْلِفُ ورثةً فيأتي الشاهدُ إليهم أو إلى من يتحدثُ عنهم فيُعْلِمُهم بذلكَ حتى لا تضيعَ حقوقُهم ، وهذا أحسنُ الأجوبةِ والله أعلم ، وهذا ما ذكره الحافظُ ابنُ حجرَ رحمه الله ، وبهذا أجاب الإمامُ يحيى بنُ سعيدٍ شيخُ الإمامِ مالكٍ ، وكذلك الإمامُ مالكٌ رحمهم الله جميعاً .
وهناك وجهٌ آخرَ قويٌّ ، وهو : أن المرادَ بخيرِ الشهداءِ الذي يأتي الشهادةَ قبل أن يُسأَلَها ، المرادُ بذلك شهادةُ الحسبةِ وهي التي لا تتعلقُ بحقوقِ الآدميين المختصةِ بهم محضاً ، ويدخل في الحُسبة ما يتعلقُ بحقِّ الله - عز وجل - أو فيه شائبةٌ منه ، منه العَتاقُ والوقفُ والوصيةُ العامة والعدةُ والطلاقُ والحدودُ ونحو ذلك .
ـ وحاصِلُهُ : أن المرادَ بحديثِ ابنِ مسعودٍ - رضي الله عنه - الشهادة في حقوقِ الآدميين ، والمرادَ بحديثِ زيدِ بنِ خالدٍ الشهادةُ في حقوقِ الله . وهذا أوجَهُ الجمع بشأن هذا الحديث ، والله أعلم .
ـ قوله : ( ولا يوفون ) وفي رواية ( ولا يفون ) :
الوفاءُ بالنذرِ من صفاتِ المؤمنينَ كما هو معلومٌ .
ـ قوله : ( ويظهر فيهم السِّمَنُ ) :
أي : يُحِبُّونَ التوسُّعَ في المآكلِ والمشارِبِ ، وهي أسبابُ السِّمَنِ في الغالبِ .
وذكر بعضُ أهلِ العلمِ أن السِّمَنَ إنما كان مذموماً لأنه في الغالبِ قد يُصاحِبُ صاحبَهُ شيءٌ من بلادَةِ الفَهْمِ أو الثِّقَلِ في العبادةِ كما هو حاصلٌ في كثيرٍ ممن يشكو من السمنِ أو فيمن يوجدُ فيه هذا الشيء .
ـ قوله ( خير الناس .. ) :(1/11)
هذه الخيريةُ ينبغي أن نقفَ عندها وقفةً عظيمةً نتأمَّلُها ونتدَبَّرُها تدبراً جيداً .
أقولُ : لا شكَّ أنه يجب علينا أن نقرأَ ونتدبرَ كتابَ الله ، وكذلك سنةَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يجب أن نتدبرَها ونتأملَها ونفهمَها فهماً جيداً .
فهذا الحديثُ ، وقولُه - صلى الله عليه وسلم - ( خير الناس قرني ) المرادُ به كما هو واضحٌ جَلِيٌّ صحابةُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ورضي عنهم فهم المقصودون بقوله ( خير الناس قرني ) .
وهذه الخيريةُ التي أخبر عنها النبي - صلى الله عليه وسلم - خيريةٌ بأي شيء ؟
والجوابُ : أن النصوصَ تُفَسِّرُ بعضُها بعضاً ، فإذا نظرنا لقولِ النبي - صلى الله عليه وسلم - : " مَنْ يُرِدِ اللهُ به خيراً يُفَقِّهْهُ في الدينِ " ، نعلمُ أن هذه الخيريةَ التي شَهِدَ لها المصطفى - صلى الله عليه وسلم - لقرنه ؛ أي الصحابةِ رضي الله عنهم ولمن بعدَهم ولمن بعدهم هي الخيريةُ المقصودةُ بهذا الحديث .
فالله - عز وجل - اختارَ الصحابةَ لنبيه - صلى الله عليه وسلم - وهم خيرُ الناسِ ، وأعطاهم الأمانةَ والفقهَ والوفاءَ بالعهدِ مع الإيمانِ بالله ومخافتِهِ سبحانه ما لم يكنْ لغيرِهم .
وأعظمُ ما ينصرِفُ إليه الخيريَّةُ في أصحابِ النبي - صلى الله عليه وسلم - منهجُ الاعتقادِ ومنهجُ العبادةِ والسلوكِ بلْ كلُّ شأنٍ من شؤونهم هو خيرٌ كما أخبَر النبي - صلى الله عليه وسلم - .
فاختارَهُمُ الله - عز وجل - لصحبَةِ نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، فآمنوا بالله حقَّ الإيمانِ ، وخافوا اللهَ مخافةً لا تَعْدِلُها مخافةٌ وأحَبُّوا اللهَ ورسولَه والدينَ والإسلامَ والدعوةَ في سبيلِ الله والجهادَ في سبيلِهِ ، وتَجَشَّمُوا في ذلكَ أشدَّ أنواعِ الشدائدِ وهاجروا وتركوا أوطانَهم وبذَلوا الغالي والنفيسَ من النفسِ والمالِ وغيرِ ذلك .
وهم خيرُ الناسِ من حيثُ العلمِ مع العملِ إذْ لا يعرِفُون عِلْماً دون عملٍ .(1/12)
وهم خيرُ الناس في اتباعِ السنةِ والابتعادِ عن الابتداعِ في دينِ الله ومخالفةِ هديِ النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وكلُّ ما يخطُرُ في بالِ المرءِ من الخيريةِ ومن الأفضليةِ ومن السَّبْقِ في محاسنِ الأخلاقِ ومن فضائِلِها ، كلُّ ذلك تجدُهُ لديهم رضي الله عنهم .
فأكرَمَهُمُ الله سبحانه وتعالى بتأييدٍ منه سبحانَه ، وجعلَ فيهم من روائِعِ الخصالِ الْخَيِّرَةِ من العَدْلِ والتواضِعِ والزُّهْدِ والرحمةِ والصبرِ والورعِ وغيرِ ذلك من المحامدِ التي يضيقُ المقامُ لضبْطِها وبيانِها ، فحسبُنا قولُه - صلى الله عليه وسلم - : " خير الناس قرني .. " صلى الله عليه وآله وسلم ورضيَ الله تباركَ وتعالى عن جميعِ أصحابِه .
ـ وهذا الحديثُ العظيمُ وهو قولُه : " خير الناس قرني .. " يَدُلُّنا دلالةً واضحةً لا شكَّ فيها ولا ريبَ على أن منهجَ السلفِ وهم أهلُ القرونِ الثلاثةِ الأولى ، _ وهو منهجٌ خَيِّرٌ فاضل _ هو منهجٌ أَسْلَمُ وأعلمُ وأحكمُ من أي منهجٍ يأتي بعدَه ، ويا عجباً لمن يزعُمُ ويَدَّعي أن منهجَ السلفِ أسلمُ وأن منهجَ الخلفِ أعلمُ وأحكمُ . فسبحانك ربي ! يقول المصطفى - صلى الله عليه وسلم - : "خير الناس قرني .. " ثم يأتي أقوامٌ ويزعُمونَ أن مذهبَ الْخَلَفِ أعلمُ وأحكمَ من منهجِ السلفِ ، فلا واللهِ ، إنما مذهبُ السلفِ وما كان عليه أهلُ القرونِ الثلاثةِ الأولى إنما هو الأسلمُ وهو الأعلمُ وهو الأحكمُ ؛ ولا شكَّ في ذلكَ ولا ريبَ .
وإن صحابةَ نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كلَّهم عدولٌ بتعديلِ الله تبارك وتعالى لهم ، والآياتُ في كتابِ الله كثيرةٌ ومتضافرةٌ في تأييدِ ذلك ، ومن ذلك :
_ قوله - عز وجل - : ???????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????? } . ( آل عمران ، من الآية : 110 )(1/13)
فهذه الآيةُ الكريمةُ دالَّةٌ دلالةً واضحةً على أَفْضَلِيَّتِهِم لأنهم هم المخاطَبون بهذه الآيةِ وإن كانَ اللفظُ يعمُّ سائرَ أمةِ النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فهم أصلُ الخطابِ ، أعني : أصحابَ النبي - صلى الله عليه وسلم - .
_ قولُه تبارك وتعالى :??????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????التوبة ، آية : 100 )???
وأما الأحاديثُ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فمتضافرةٌ في فضائلِ صحابةِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ، ومن ذلك :
_ الحديثُ الذي بين أيدينا وهو ظاهرٌ جَلِيٌّ في الدَّلالةِ على هذه الأفضليةِ والمكانة .
_ عن أبي سعيدٍ الخُدْرِي - رضي الله عنه - قال : قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا تَسُبُّوا أصحابي ، فلو أن أحدَكُم أنفقَ مثلَ أُحُدٍ ذهباً ما بلغ مُدَّ أحدِهم ولا نَصِيفَهُ " .
فهذا الحديثُ العظيمُ من النبي الكريمِ - صلى الله عليه وسلم - في بيان فضيلةِ الصحابةِ وبأن الإنسانَ مهما أنفقَ ما بَلَغَ شيئاً يسيراً من فضيلَتِهِم رضي الله عنهم .
وهذا يَدُلُّ دلالةً واضحةً على عَظَمَةِ مكانةِ الصحابةِ عندَ النبي - صلى الله عليه وسلم - .
والأحاديثُ كثيرةٌ في هذا البابِ .
وأما ما أُثِرَ عن سَلَفِنا وأئمَّتِنا وعلمائِنا في هذا البابِ فكثيرٌ جداً ، ومن ذلك :(1/14)
_ قولُ الإمامِ الجليلِ أبي زرعةَ رحمه الله : ( إذا رأيتَ الرجلَ ينتقصُ أحداً من أصحابِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فاعلمْ أنه زِنْديقٌ ، وذلكَ أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عندنا حقٌّ ، والقرآنُ حقٌّ ، وإنما أَدَّى إلينا هذا القرآنَ والسنةَ الصحابةُ ، وهؤلاءِ يريدون أن يُجَرِّحُوا شهودَنا ليَبْطِلُوا الكتابَ والسنةَ ، والجرحُ بهم أولى وهُم زنادقةُ ) .
_ قال الإمامُ ابنُ الصلاحِ : ( ثم إن الأمةَ مُجْمِعَةٌ على تعديلِ جميعِ الصحابةِ ، ومنْ لابَسَ الفتنَ منهم فكذلكَ بإجماع العلماءِ الذينَ يُعْتَدُّ بهم في الإجماعِ ، إحساناً للظنِّ بهم ونظراً إلى ما تَمَهَّدَ لهم من المآثِرِ ، وكأنَّ اللهَ سبحانه أباحَ الإجماعَ على ذلكَ لكونهم نَقَلَةُ الشريعة ) .
ـ فاعتقادُ أهلِ السنةِ والجماعةِ في الصحابةِ ومذهبُهم في ذلكَ وسطٌ بين طَرَفَيْ نقيضٍ ، كما أنهم وسطٌ في كلِّ شيءٍ ، فهم وسطٌ في هذا الأمرِ بين الغلاةِ الذين يرفعونَ مَنْ يُعَظِّمونَه من الصحابةِ إلى مصافِّ النبيين والمرسلين أو أكثرَ من ذلك ، وبينَ الغلاةِ الذين ينتَقِصُونَهم ولا يعرفونَ لهم قدرَهم ومكانَتَهم .
ـ فأهلُ السنةِ والجماعةِ يُحِبُّونَ أصحابَ رسولِ الله جميعاً ، ويُنْزِلُونَهم منازِلَهُمُ التي يستَحِقُّونها بالعدلِ والإنصافِ .
_ ولقد قالَ الإمام أبو جعفرَ الطحاوي في عقيدته المشهورةِ في شرحِها المشهورِ ( شرح العقيدة الطحاوية ) قال : ( ونحنُ نُحِبُّ أصحابَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ولا نُفَرِّطُ في حبِّ أحدٍ منهم ، ولا نَتَبَرَّأُ من أحدٍ منهم ، ونُبْغِضُ من يبغضهم وبغيرِ الحقِّ يَذْكُرُهُم ، ولا نذكرُهم إلا بخيرٍ ، وحبُّهم دينٌ وإيمانٌ وإحسانٌ ، وبغضُهم كفرٌ ونفاقٌ ) .(1/15)
_وقال شيخُ الإسلامِ ابنِ تيميةَ رحمه الله : ( ومن أصولِ أهلِ السنةِ والجماعةِ سلامةُ قلوبهم وألسنتِهم لأصحابِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ) .
وأوَدُّ أن أشيَر أيضاً إلى ما يتعلقُ بما شجرَ بينَ الصحابةِ رضي الله عنهم وإن سبقت الإشارةُ إلى شيءٍ من ذلك ، وذلك كما يقول شيخُ الإسلامِ رحمه الله : أنَّ أهلَ السنةِ يتبرأون من طريقَةِ الروافضِ الذين يُبغضونَ الصحابةَ ويَسُبُّونَهم ، ويتبرأون من طريقةِ النواصبِ الذين يُؤذون أهلَ البيتِ بقولٍ أو عملٍ ، ويُمْسِكُونَ عما شَجَرَ بين الصحابةِ، فعقيدَتُنا في الصحابةِ وفيما شجر بينهم : أن نُمْسِكَ عن ذلك ، ويقولون : إن هذه الآثارَ المرويةَ في مساوِيهم منها ما هو كاذبٌ ، ومنها ما قد زِيد فيه ونَقَصَ ؛ وغُيِّرَ عن وجهه ، ولا شكَّ أن الناظرَ في الآثارِ التي وردتْ في الفِتَنِ والمشاكَلَةِ بين الصحابةِ رضي الله عنهم هي إما أن تكونَ مكذوبةً ولا تصحُ أسانيدُها ، بل فيها من المتَّهَمِين والمكذَّبِين ، وإما أن تكون أسانيدُها صحيحةً ولكن وَقَعَ فيها من الزيادةِ والنقصانِ ما وقع .
فمذْهَبُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعَةِ أن القولَ في ذلك : أنَّ من وقعَ في هذه الفتنِ من الصحابةِ فهم جميعاً معذورونَ فيه ؛ إما مجتَهِدُونَ مُصِيبون وإما مجتهدُون مُخْطِئُونَ كما يذكرُ ذلكَ شيخُ الإسلامِ .
وهذه المسألةُ : أعني الخوضَ فيما وقعَ بين الصحابةِ من الأمورِ التي يجب الإمساكُ عنها وإعذارُ الصحابةِ جميعاً رضي الله عنهم ، فهم مجتهدونَ وأمرُهم دائرٌ بين الأجرِ والأجرَيْنِ فيما وقعَ بينهم ، فحرِيٌّ بنا أن نُمْسِكَ عما وقعَ بينهم رضي الله عنهم أجمعين .(1/16)
وللأسفِ نَجِدُ أقواماً في هذا الزَّمانِ تَطَاوَلَتْ ألسنَتُهُم بالقولِ في صحابةِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وتَصَدّى لذلكَ ابتداءً المُسْتَشْرِقُونَ ووافَقَهُم بعضُ أهلِ البِدَعِ ، كذلك بعضُ الناسِ بعِلْمٍ أو بغيرِ علمٍ ، وهذه من المزالِقِ الخطيرةِ والعظيمةِ .
فحَرِيٌّ بنا جميعاً أن نتدبرَ ونتفكرَ في هذا الأمرِ العظيمِ ، أعني فضيلةَ الصحابةِ رضي الله عنهم وفضيلةَ قَرْنِهِ - صلى الله عليه وسلم - على القرون كلِّها ، وفضيلةَ التابعينَ وتابعي التابعينَ أيضاً .
وفي هذا الحديثِ فوائدُ كثيرةٌ وعظيمةٌ غيرُ هذه ،ونكتفي بما ذكرنا ، وهذه ذكرى من هذا الحديث النبوي العظيم ، وأسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعلَنا ممن يستمعون القولَ فيَتَّبِعُونَ أحْسَنَه ، وأن يجعلَنا مِمَّنْ يُحِبُّ سنةَ رسولِه - صلى الله عليه وسلم - وممن يحب صحابتَه رضي الله عنهم ، وأسألُ اللهَ - عز وجل - لي ولكم التوفيقَ والسدادَ ، وصلى الله وسلم على رسوله وعلى آله وصحبه .
- موضوعات الحديث ومباحثه :
ـ نَصُّ الحديثِ " خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم " .
ـ لفظه وألفاظ رواياته .
ـ من رواه من الصحابه .
ـ تواتره وكونه في أصح الكتب بعد كتاب الله عز وجل .
ـ معاني غريب الحديث .
ـ التوثيق بين حديث خير الناس قرني وحديث يأتي على الناس زمان ....
ـ التوفيق بين يشهدون ولا يستشهدون وحديث من يأتي بالشهادة قبل أن يسألها .
ـ فضيلة الصحبة .
ـ عدالة الصحابة في القرآن والسنة .
ـ وجوب الكف عما شجر يبنهم .
- مصادر لمراجعة شرح الحديث :
1_(فتح الباري) لابن حجر (7/42-44) .
2_ (شرح النووي) (8/333-334) .
3_ (تحفة الأحوذي) (4/ 359-360) .
4_ (عون المعبود) (3/ 346-347).
5_ ( عشرون حديثاً من صحيح مسلم دراسة أسانيدها وشرح متونها ) للشيخ عبد المحسن العباد- حفظه الله- ص :152-164.(1/17)
- مصادر نافعة في الموضوع للمزيد في الموضوع :
1_ (تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة) لِ د.محمد أ مخزون ، تكلم في مبحث خاصٍ عن سبّ الصحابة رضي الله عنهم (1/136-143).
2_ (الصارم المسلول على شاتم الرسول - صلى الله عليه وسلم - )لابن تيمية ، حيث خصَّص فصلاً في حكم من سبّ أحداً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ص:571-587 .
3 _ (الشفا بتعريف حقوق المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ) للقاضي عياض ، وقد خصّص فصلاً في حكم سبّ آل بيته وأزواجه وأصحابه - صلى الله عليه وسلم - (2/1106-1114).
4 _ (إلقام الحجر لمن زكّى سابّ أبي بكر وعمر) للسيوطي ،تكلم في سبّ أبي بكر وعمر- رضي الله عنهما- في فصلين، أحدهما: بيان أنّ سبّهما كبيرة ،والثاني: حكم سابّ الشيخين ص:63-74 .
5_ (شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة) لللالكائي. ساق أحاديث بأسانيدها إليه في الوعيد لمن تناول الصحابة أو تنقصهم ثم ذكر ما رويَ من دعاء السلف على لاعني الصحابة _ رضي الله عنهم _ بأسانيده ثم ساق عقوبات رويت عن السلف في من سبّ الصحابة رضي الله عنهم (7/1320-1346).
6_ (عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام)ل د. ناصر علي عائض ،
7_ ( إتحاف ذوي النجابة في فضائل الصحابة ) للعربي التباني.
المحاضرة الثانية
{ شرح حديث العرباض " وعظنا رسول الله " }
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، ومن يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله - صلى الله عليه وسلم - .(1/18)
?????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????، ????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????، ???????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????أما بعد ،
فإن خير الكلام كلام الله - عز وجل - وأحسن الهديِ هديُ محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار .
إخوةَ الإسلامِ : السلامُ عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاتُه .
حديثُنا في هذهِ الليلةِ ؛ وفي هذا المجلِسِ المبارَكِ إن شاء اللهُ تعالى عن حديثِ العِرْبَاضِ بنِ ساريةَ - رضي الله عنه - المشهور : (( وَعَظَنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مَوْعِظَةً بليغة ذَرَفَتْ منها العيونُ ووَجِلَتْ منها القلوبُ ...))
- سياق الحديث :
روى أبو داودَ في كتابِه ( السنن ) ؛ في كتابِ ( السنةِ ) ، بابُ ( لزومِ اتباعِ السُّنَّةِ ) ، قال رحمه الله :(1/19)
حدثنا أحمدُ بنُ حنبلٍ ، حدثنا الوليدُ بنُ مسلمٍ ، حدثنا ثورُ بنُ يزيدَ قال : حدثني خالدُ بنُ معدانَ ، قال : حدثني عبدُ الرحمنِ بنُ عَمْروٍ السُّلَمِيُّ وحُجْرُ بنُ حُجْرٍ قالا : أتَيْنَا العِرْباضَ بنَ سارِيَةَ وهو ممن نزل فيه ?????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????? } ( التوبة ، من الآية : 92 ) ، فسلَّمْنا وقلنا : أتيناكَ زائِرَيْن وعائدَيْنِ ومُقْتَبِسَيْنِ ، فقال العرباضُ : صَلّى بنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ذاتَ يومٍ ثم أَقْبَلَ علينا فوَعَظَنا مَوْعِظَةً بليغة ذَرَفَتْ منها العيونُ ووَجِلَتْ منها القلوبُ ، فقال قائلٌ : يا رسولَ اللهِ كأنها موعِظَةُ مُوَدِّعٍ ! فماذا تعْهَدُ إلينا ؟ فقال : " أُوصيكُم بتقْوى اللهِ ، والسمعِ والطاعةِ وإِنْ عَبْداً حَبَشِيًّا ، فإنه من يَعِشْ منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً ، فعليكُمْ بسُنَّتي وسُنَّةِ الخلفاء المَهْدِيِّين الراشِدينَ ؛ تمسَّكوا بها وعَضُّوا عليها بالنَّواجِذِ وإياكم ومُحْدَثاتِ الأمورِ فإن كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ " .
- رواة الحديث ودرجته :
هذا الحديثُ الذي سُقناهُ بسندِ أبي داودَ رحمه الله ؛ رواه جمعٌ من الأئمةِ في مصنَّفاتهم ، منهم :
الترمذيُّ وابنُ ماجه في ( سننهما ) ، وأحمدُ في ( مسنده ) ، والحاكمُ في ( المستدرك ) وفي ( المدخل ) ، والدارميُّ في ( سننه ) ، والبيهقي في ( السنن الكبرى ) وفي ( الاعتقاد) وابنُ أبي عاصم في ( السنة ) ، والبغويُّ في ( شرح السنة ) ، والطحاوي في ( مشكل الآثار ) ، والطبراني في ( المعجم الكبير ) ، وابن عبد البر في ( جامع بيان العلم ) ، وأبو نعيم في ( المستخرج على صحيح مسلم ) ، وغيرهم .(1/20)
وهذا الحديثُ بالسندِ الذي ذكرناه ، رجالُه ثقاتٌ غيرُ عبدِ الرحمنِ بنِ عمرو السلمي ، وقد وثَّقه ابنُ حَجَرَ في ( موافقةُ الخُبْرِ الخَبَرِ ) ، وقال الذهبيُّ في ( الكاشف ) : صدوق ، وذكره ابن حبان في ( الثقات ) ، وروى عنه جمعٌ من الثقاتِ ، وصحح له الترمذي وابن حبان والحاكم ، ولكن قال الحافظ في التقريب : مقبول ( يعني حيث يُتابِع ) .
وهذا الرجلُ ، جاء في عديدٍ من الطُّرُقِ أنه هو الذي روى الحديثَ عن العرباضِ بنِ ساريةَ وأقلُّ أحوالِ هذا الرجلِ أن يكونَ حَسَنَ الحديثِ ؛ لِما ذَكَرْنا من ذكرِ ابنِ حبان له في الثقاتِ ، ولكونِه أُضيِفَ إليه روايةُ جمعٍ من الثقاتِ ، ولكونِ الترمذي صَحَّحَ حديثَه وكذا ابنُ حبان والحاكم .
وهو مع ذلكَ لم يَنْفَرِدْ بالحديثِ عن العرباضِ ؛ فقد تابعَه جماعةٌ عن العِرْبِاضِ ، وهم :
1_ حُجرُ بنُ حُجْرٍ ، كما في الطريق التي سُقْناها من سننِ أبي داود ، وهي كذلك في إحدى رواياتِ الإمامِ أحمدَ في المسندِ ، و حُجْرٌ تابعيٌّ ذكره ابنُ حبان في الثقات .
2_ يحيى بن أبي المطاعِ ، عند ابنِ ماجه والحاكم ، وسندُه صحيحٌ . وصحَّ سماعُ يحيى من العرباضِ بن ساريةَ كما ذكر البخاريُّ في التاريخ الكبير .
3_ المُهاصِرُ بنُ حبيبِ بنِ عاصمٍ عند الطبراني بسندٍ صحيح .
والشاهدُ : إن عبدَ الرحمنِ بنَ عمروٍ السلمي لم ينفرِدْ بالحديثِ عن العرباض ، فهذه متابعاتُ تُقَوِّي الحديثَ وتجعلُه من درجاتِ الصحيحِ ، وهو ظاهرٌ في ذلك .
- من صحح الحديث من العلماء :
لقد صحَّحَ هذا الحديثَ عددٌ كبيٌر من العلماءِ ، أسوقُهم سرداً ، منهم :
_ الضياءُ المقدسي في ( جزء اتباع السنن واجتناب البدع ) .
_ الهروي في ( ذم الكلام ) .
_ البغوي في ( شرح السنة ) .
_ ابن عبد البر في ( جامع بيان العلم وفضله ) .
_ أبو نعيم ، كما قال الزركشي في ( المعتبر ) وابن كثير في ( تحفة الطالب ) .(1/21)
_ الحافظ محمد بن عبد الرحمن الدغولي ، كما في ( المعتبر ) و ( تحفة الطالب ) .
_ الحافظ ابن قيم الجوزية في ( إعلام الموقعين ) .
_ الحافظُ ابنُ رَجَبَ الحنبلي في ( جامع العلوم والحكم ) .
_ الحافظ ابن كثير في ( تحفة الطالب ) .
_ الحافظ الزركشي في ( المعتبر ) .
_ الحافظ ابن حجر في ( موافقة الخبر الخبر ) .
_ أبو إسماعيل الأنصاري كما في ( الخبر ) .
_ شيخنا الألباني في ( إرواء الغليل ) وفي ( السلسلة الصحيحة ) .
_ ويلحق بهؤلاء المصحِّحِينَ كلٌّ من احتجَّ بهذا الحديث أو شَرَحَهُ وهم _ كما يقول شيخُنا الألبانيُّ رحمه الله _ جمعٌ غفيٌر لا يمكن حصرُهم ، منهم الخطيب ، والخطابي ، وابن تيمية ، والشاطبي ، وغيرهم كثير وكثير جداً .
وبهذا يظهرُ بُطْلانُ من زعمَ ضعفَ هذا الحديث و الحمد لله رب العالمين .
ـ ومن تأمَّلَ هذا الحديثَ أيضاً ، يجد جُمَلَه ومَقاطِعَهُ لها شواهدُ كثيرةُ مما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا ظاهرٌّ جَلِيٌّ ، ولولا ضيقُ المقامِ لَسَرَدْنا ذلكَ في بيانِ طُرُقِهِ وشواهده ما هو في فقراته وعباراته .
- ألفاظ الحديث :
أخرج الإمامُ أحمدُ أيضاً هذا الحديثَ من الوجهِ الذي ذكرناه وزاد في حديثه : " فقد تَرَكْتُكُم على البيضاءِ ليلُها كنهارِها لا يزيغُ عنها بعدي إلا هالكٌ " ، وهذه الزيادةُ ثابتةٌ صحيحةٌ . وزاد في آخرِ الحديثِ أيضاً : " فإنما المؤمنُ كالجملِ الأَنِفِ حيثما قِيد انقادِ " ، وهذه الزيادةُ الأخيرةُ أنكَرَها طائفةٌ من الحُفّاظِ وقالوا : إنها مدرَجَةٌ في الحديثِ وليست منه ، وقد ذكر شيخُنا الألباني رحمه الله هذا الحديثَ في السلسلةِ الصحيحةِ بهذه الزيادةِ وكأنه جعلَ لها شاهداً من روايةِ مُرْسَلَةٍ ، فالأمرُ يحتاجُ لشيءٍ من التَّأَمُّلِ في هذه الزيادةِ الأخيرةِ .
- صحابي الحديث :(1/22)
هو العِرْباضُ بكَسْر أوَّلِهِ وسكونِ الراء وبعدها موحدة ( نقطة ) وبعد الألف معجمة . صحابي مشهورٌ منسوبٌ إلى أهلِ الصُّفَّةِ ، وهو ممن نزل فيهم قوله تعالى : ????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????سورة التوبة ، الآية : 92 )?
كان قديمَ الإسلامِ جداً ، نزل حمصَ ، وله روايةٌ في السننِ الأربعة ، مات سنة 75هـ رضي الله عنه .
- شرح الحديث :
ـ قوله ( وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظة بليغة ) :
هذا الوعظُ من رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - هو امتثالٌ لأمرِ الله سبحانه وتعالى إذْ يقولُ له : { ????????????????????????????????????????????????????????????????????????????سورة النساء ، من الآية : 63 ) ، وكان من هديه - صلى الله عليه وسلم - في وعظه أن لا يُديمَ عليهم الوعظَ ، بل يَتَخَوَّلُهم بها أحياناً مخافةَ السآمةِ والمللِ كما ذكر ذلك ابنُ مسعودٍ - رضي الله عنه - وقد كان يُذَكِّرُ الناسَ كلَّ يومِ خميسٍ فقال له رجلٌ : يا أبا عبدِ الرحمنِ، إنا نُحِبُّ حديثَكَ ونشتَهِيهِ ولَوَدِدْنَا أنك تحدِّثُنا كلَّ يومٍ ، فقال : ( ما يمنعُني أن أحَدِّثَكُم كلَّ يومٍ إلا كراهةَ أن أُمِلَّكُم ، إن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كان يَتَخَوُّلُنا بالموعظةِ كراهةَ السآمةِ علينا ) .
_ وقوله ( بليغة ) : البلاغةُ كما يقولُ العلماءُ هي : التَّوَصُّلُ إلى إِفْهامِ المعاني المقصودةَ وإيصالُها إلى قلوبِ السامعينَ بأحسنِ صورةٍ .(1/23)
وكان من هديِهِ - صلى الله عليه وسلم - في خُطَبِه أنه يَقصرُ منها ولا يُطيلُ إذ كان يُبْلَغُ ويُوجِزُ عليه الصلاة والسلام . روى ذلك الإمامُ مسلمٌ في صحيحه عن عَمّارِ - رضي الله عنه - قال : إني سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ :" إن طولَ صلاةِ الرجلِ وقِصَرَ خُطبتِه مَئِنَّةٌ من فِقْهِهِ فأطِلِ الصلاةَ وأَقْصرِ الخطبةَ فإن من البيانِ سِحْراً ".
ـ قوله ( ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب ) :
( ذرفت ) أي : سالَتْ ودَمَعَتْ إذ كان عيونُهم سريعةَ البكاءِ ، فسالتْ من عظمةِ بلاغةِ هذه الخطبةِ الجليلةِ العظيمةِ من رسولِ الرحمة - صلى الله عليه وسلم - .
( وجلت ) كسمعت أي : خافت .
و هذانِ الوصفانِ وصفانِ عظيمانِ ، وهما من صفاتِ المؤمنينَ كما قال الله - عز وجل - في غيرِ آيةٍ كقوله تعالى : ????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????سورة الأنفال ، آية : 2 )
ـ وكان من هديِهِ - صلى الله عليه وسلم - أن يتغيرَ حالُهُ عندَ الموعظةِ كما قال جابرٌ - رضي الله عنه - : " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا خطب وذكر الساعة اشتد غضبُهُ وعلا صوتُه واحْمَرَّت عيناه كأنه مُنْذِرُ جيش يقول : صّبَّحَكُم ومَسّاكم " .
وعنِ النُّعمانِ بنِ بشيرٍ - رضي الله عنه - أنه قال : سمعت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يخطُب يقول : " أنذرتُكُمُ النارَ ، حتى لو أن رجلاً كان بالسوقِ لسمِعَ من مقامِي هذا ، قال : حتى وقعتْ خميصةٌ كانت على عاتقَيْهِ عند رجلَيْهِ " .(1/24)
وفي الصحيحين عن عَدِيِّ بنِ حاتمٍ - رضي الله عنه - قال : قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : " اتقوا النارَ ، اتقوا النارَ ، اتقوا النارَ ، قال : ثم أعرضَ وأَشاحَ ثلاثاً حتى قلتُ : إنه ينظر إليها ، ثم قال : اتقوا النار ولو بشِقِّ تمرة ، فإن لم يجِدْ فبكلمَةٍ طَيِّبَةٍ " .
ـ وهنا أريدُ أن أذَكِّرَ نفسي وغيري من الأخوَةِ أنه ينبغي أن نلاحِظَ في دعوتِنا وفي خُطَبِنا وفي مواعِظِنا أن نَمْزِجَ دروسَنا وجداولَنا العلميةَ بشيءٍ من العِظة وترقيقِ القلوبِ لأن هذا كان من هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - .
ـ قولهم ( يا رسول الله كأنها موعظة مُوَدِّعٍ فأوصنا ) :
يدلُّ على أن خطبةَ النبي - صلى الله عليه وسلم - أو موعظتَه كانت بليغةً فَفَهِموا منها أنها موعظةُ مُوَدِّعٍ ؛ لأن المودعَ يَظْهَرُ عليه من العلاماتِ ما يَعْرِفُه بذلك السامعونَ ، فهكذا شعرَ الصحابةُ رضي الله عنهم .
وحصلَ من النبي - صلى الله عليه وسلم - مواقفُ شبيهةٌ بهذا يَشعُرُ الصحابةُ فيها أن هذه الموعظةَ كأنها موعظةُ مُوَدِّعٍ
وكان - صلى الله عليه وسلم - أحياناً يذكُرُ شيئاً من مثلِ هذا كما قال في حِجَّةِ الوداعِ في خطبته : " لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا .." .
فهذه الخطبةُ التي أشارَ إليها العرباضُ في حديثِهِ لعلَّها كانتْ بعضَ هذهِ الخُطَبِ أو شَبِيهاً بها مما يُشْعِرُ بتوديعِ النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه رضوانُ الله عليهم .
ـ وهنا لما اسْتَشْعَرُوا وداعَ النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا الفراقَ العظيمَ والخسارةَ العظيمةَ لفقدِهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - حرِصوا على توجيهٍ ونصحٍ منه - صلى الله عليه وسلم - ، فطلبوا منه أن يُوَجِّهَهُم ويُرْشِدَهُم فقالوا : ( يا رسولَ الله كأنها موعظةُ مُوَدِّعٍ فَأَوْصِنا ) يعني : يريدونَ وصيةً جامعةً تنفَعُهُم في دينِهِم ودنياهم .(1/25)
ـ قوله - صلى الله عليه وسلم - ( أوصيكم بتقوى الله ، والسمع والطاعة ) :
هاتانِ الكلمتانِ العظيمتانِ تَجْمَعانِ سعادةَ الدُّنيا والآخرة :
_ أما التقوى ، فَهِيَ حقُّ اللهِ تعالى على عبادِه ، وهي وصيةُ اللهِ - عز وجل - للأوَّلينَ والآخرين ، قال الله تبارك وتعالى : { ???????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????? }
ـ وأصلُ التَّقْوَى : أن يَجْعَلَ العبدُ بينَه وبينَ ما يخافُهُ ويحْذَرُهُ وقايةً تَقيهِ منه ، فتقوى العبدِ لرَبِّهِ أنْ يَجْعَلَ بينَه وبينَ ما يخشاهُ من ربِّهِ وغَضَبِهِ وسخَطِهِ وعقَابِهِ وقايةً تَقِيهِ من ذلك ؛ وهو فعلُ طاعتِهِ واجتنابُ معاصِيهِ .
ـ والتقوى تَرِدُ مضافةً إلى الله - عز وجل - كما في قوله تعالى : { ?????????????????????????????????????????????????????? } فإذا أضيفتِ التقوى إليه سبحانَه فالمعنى : اتقوا سَخَطَهُ وغَضَبَه ، وهو أعظمُ ما يُتَّقى . وقد قال تعالى : { ????????????????????????????????????????? } ، وقال : { ??????????????????????????????????????????????????????????? } .
وتارةً تُضافُ التقوى إلى عقابِ اللهِ وإلى مكانِه كالنارِ ، أو إلى زمانِ العقابِ وهو يومُ الحسابِ ، كما في قوله تعالى : ??????????????????????????????????????????????????????????????????????.(1/26)
ـ والتقوى الكاملةُ يدخُلُ فيها فعلُ الواجباتِ وتركُ المحرَّماتِ والشُّبُهاتِ ، وربما أدخَلَ في ذلك بعضُ العلماءِ فعلَ المندوباتِ وتركَ المكروهاتِ ؛ وهي أعلى درجات التقوى ، والأدلَّةُ على ذلك من القرآنِ ظاهرةٌ جّلِيَّةٌ ، ومن ذلك قولُه - عز وجل - : ???????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????? .
ـ وإن الذي يتدبَّرُ كلامَ سلفِنا من الصحابةِ والتابعينَ ومن بعدَهم يجدُ كلاماً كثيراً في باب التقوى وأهميتِها وفضيلتِها ، وذلك لأن التقوى هي وصيةُ الله لجميعِ خلقِهِ ووصيةُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - لأمته .
وكان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا بعثَ أميراً على سَرِيَّةٍ أوصاه في خاصةِ نفسِهِ بتقوى الله وبمن معه من المسلمين خيراً ، ولما خطبَ - صلى الله عليه وسلم - في حِجَّةِ الوداعِ يومَ النحرِ وصّى الناسَ بتقوى اللهِ - عز وجل - وبالسمع والطاعة .
ولم يزلِ السلفُ الصالحُ يتواصَوْن بها ، وكان أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - يقول في خطبه : ( أما بعد، فإني أوصيكم بتقوى الله وأنْ تُثْنوا عليه بما هو أهلُه ) .
وكتب عمرُ بنُ الخطابِ إلى ابنِهِ عبدِ الله رضي الله عنهما : ( فإني أوصيكَ بتقوى الله - عز وجل - فإنه من اتَّقَاه وقَاهُ ) .
ولقد استعمَلَ عليُ بنُ أبي طالبٍ - رضي الله عنه - رجلاً على سريَّةٍ فقال له : ( أوصيك يتقوى الله - عز وجل - الذي لا بُدَّ لكَ مِنْ لقاهُ ) .(1/27)
وكتبَ عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ - رضي الله عنه - إلى رجلٍ : ( أُوصيكَ بتقوى الله - عز وجل - التي لا يُقْبَلُ غيرُها ولا يُرْحَمُ إلا أهلُها ولا يُثيبُ إلا عليها ، فإن الواعظينَ بها كثيرٌ والعاملينَ بها قليلٌ ) . جعلنا الله وإياكم من المتقين .
ـ فحَرِيٌّ بنا إخوةَ الإسلامِ أن نتواصى دائماً ، وأن يوصيَ بعضُنا بَعضاً بتقوى الله - عز وجل - في السرِّ والعَلَنِ ، وهذه هي وَصِيَّةُ الله تعالى ووصيةُ الأنبياءِ والمرسلين ، وهذا ما عَمِلَ الصحابةُ رضي الله عنهم به .
ولقد قالَ عمرُ بنُ عبد العزيز رحمه الله ورضي الله عنه : ( ليس تقوى الله بصيامِ النهارِ ولا بقيامِ الليلِ والتخليطِ فيما بيَن ذلك ، ولكن تقوى اللهِ تَرْكُ ما حَرَّمَ اللهُ وأداءُ ما افترضَ الله ، فمَنْ رُزِقَ بعدَ ذلكَ خيراً فهو خيرٌ إلى خير ) .
ـ وأما السمْعُ والطاعةُ لوُلاةِ أمورِ المسلمينَ ، ففيها سعادةُ الدنيا وبها تنتظِمُ مصالحُ العبادِ في معاشِهِمِ وبها يَسْتَعِينونَ على إظهارِ دينِهم وطاعةِ ربهم .
ـ وقولُه - صلى الله عليه وسلم - : " ولو تأمر عليكم عبدٌ " وفي رواية : " حبشي " ، وفي صحيح البخاري عن أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبدٌ حبشي كأن رأسه زبيبة " .
هذا كلامُ النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يخصُّ طاعةَ أولي الأمرِ من المسلمينَ ، وذلك أن الخروجَ على أُولي الأمرِ من المسلمينَ فيه ما فيه من المفاسدِ العظيمةِ ، ولذا جُعِلَ صلاحُ الناسِ في وجوبِ الطاعةِ لولاةِ الأمرِ من المسلمين وفي نُصْحِهم ما أقاموا الصلاة وحرَّمُوا الحرامَ وأَحَلُّوا الحلالَ .
ـ وقوله - صلى الله عليه وسلم - ( فإنه من يعِشْ منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً ) .(1/28)
هذا البيانُ من الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - يُشابِه قولَه عليه الصلاةُ والسلامُ في الحديثِ الذي فيهِ بيانُ افتراقِ الأمةِ عندما قال : " افْتَرَقَتِ اليهودُ على إِحْدَى وسبعينَ فِرْقةً ، وافترقت النصارى على اثنتينِ وسبعين فرقةً ، وستفترِقُ هذه الأمةُ على ثلاثٍ وسبعيَن فِرقةً كلُّها في النارِ إلا واحدةً " .
إذْ أخبرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديثِ عن افتراقِ هذه الأمَّةِ ، وهذا حديثٌ صحيحٌ له طُرُقٌ عَديدةٌ عن جمعٍ من الصحابةِ منهم : أبو هريرة ، وعليُّ بنُ أبي طالب ، وعوْفُ بنِ مالك ، وأبو أمامةَ ، وابنُ مسعودٍ ، وأبو الدرداءِ ، ووائلةُ ، وأبو موسى الأشعري ، وأنس ، وصَحَّحَه عددٌ من الحُفّاظِ .
ومما يشهدُ للافتراقِ ما رواه مسلمٌ عن سعدٍ أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أقبلَ ذاتَ يومٍ من العالِيَةِ حتى إذا مَرَّ بِمَسْجِدِ بني معاويةَ دخلَ فصلى ركعتينِ وصلَّيْنا معه ودعَا ربَّه دعاءً طويلاً ثم انصرفَ إلينا ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : " سألتُ ربي ثلاثاً فأعطاني ثنتين ومنعني واحدةً ، سألتُ ربي أنْ لا يُهْلِكَ أُمَّتي بالسَّنّةِ _ وهي القحْطُ _ فأعطانيها ، وسألته أن لا يُهْلِكَ أُمَّتي بالغَرَقِ فأعطانيها ، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها " .
فهذا بيانٌ بأن الافتراقَ واقعٌ في الأمَّةِ ، وهذا حديثٌ صحيحٌ لا شَكَّ فيه ولا ريبَ ، ولا ينازِعُ فيه أحدٌ بعدَ روايةِ مسلمٍ هذه ، وإنما قلتُ هذا لأنه زَعَمَ بعضُ أهلِ البدعِ أن حديثَ الافتراقِ الذي سَبَقَ ذكرُهُ غيرُ صحيحٍ ، والحديثُ كما قُلنا مرويٌّ عن جمعٍ من الصحابةِ ، وهو صحيحٌ ، وهذه الروايةُ التي ذكرْتُها أخيراً عند الإمامِ مسلمٍ رحمه الله فيها بيانٌ وتوضيحٌ من رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بأنه لم تُسْتَجَبْ له تلكَ الدعوة .(1/29)
والنبي - صلى الله عليه وسلم - لما أخبرَ عن هذا الافتراقِ وأنه واقعٌ لا محالةَ ، لم يتركِ الناسَ حَيارى وما كانَ له - صلى الله عليه وسلم - أن يتركَ الناسَ حيارى في أمرٍ عظيمٍ يَعْتَري المسلمينَ ، فأخرجَهُم من هذه الحَيْرَةِ وأرشدَهم - صلى الله عليه وسلم - إلى الخلاصِ وإلى المخرجِ من هذه الفتنةِ ، فقال عليه الصلاةُ والسلامُ بعدما قال ما قال : " وإنه من يَعِشْ منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً " ، قال - صلى الله عليه وسلم - :
ـ ( فعليكم بسنَّتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ، عَضُّوا عليها بالنواجذ ) :
فهذا التمسكُ بالسنةٍ هو المخرجُ من الاختلافِ ومن الفرقةِ ومن التنازعِ ، والله سبحانه وتعالى يقول : { ???????????????????????????????????????????????????????????????????? } فالاعتصامُ إنما يكونُ بكتابِ الله - عز وجل - وبِسُنَّة نَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم - وبما أمر به نَبِيُّ الهدى في الالتزام بسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده صلوات الله وسلامه عليه .
ـ والسنةُ لها معانٍ سبق ذكرُها من أخينا فضيلة الدكتور محمد الطرهوني ، ولا أريد أن أعيدَ الخوضَ في هذه المسألة ، والسنة قد تُسْتعملُ عند بعض العلماءِ على الأمورِ الشاملةِ بما يخصُّ الاعتقادَ والأعمالَ والأقوالَ ، وهذا الاستعمالُ سَبَقَ استعمالُه من العُلَماءِ المتقدِّمين .
ـ والنبي - صلى الله عليه وسلم - صحَّ عنه أيضاً أنه قال : " اقتدُوا باللَّذَيْنِ من بعدي " وأشار إلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما .
ـ وذكر ابنُ القَيِّمِ رحمه الله أن المرادَ بسنةِ الخلفاءِ الراشدينَ ما أجمعَ عليه الخلفاءُ الراشدونَ وما اجتَهَدُوا فيه مما لم يَكُنْ في عهدِه - صلى الله عليه وسلم - ، فقال ما نصه : ( وقد قَرَنَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنة أصحابه بسنته وأمر باتباعها كما أمر باتباع سنته ) .(1/30)
وهذا كلامٌ جليلٌ ، وذلك لأنه إذا كان الأمرُ خاصاً فيما كان للرسول - صلى الله عليه وسلم - وفيما سنَّهُ ، فلا يكون لهم خصوصيةٌ في ذلك ، ولكن الأمرَ يشمل ما سنه الخلفاء الراشدون .
ثم يقول رحمه الله مواصلاً الكلام : ( وبالغ في الأمر بها حتى أمر بأن يُعَضَّ عليها بالنَّواجِذِ ( جمع ناجذ وهي الضروس وما جاورها ) ، وهذا ـ أي الأمرُ بالتمسك بسنة الخلفاء الراشدين ـ يتناول ما أفتَوا به وسنَّوْه للأمة وإن لم يَتَقَدَّمْ من نبيِّهم فيه شيءٌ وإلا كان ذلك سنتَه ، ويتناول ما أفتى به جميعُهم أو أكثرُهم أو بعضُهم لأنه عَلَّقَ ذلك ـ أي النبي - صلى الله عليه وسلم - ـ فيما سَنَّه الخلفاءُ الراشدون ، ومعلوم أنهم لم يسنوا ذلك وهم خلفاءُ في آنٍ واحدٍ فعُلِمَ أن سنةَ كلِّ واحدٍ منهم في وقته من سنةِ الخلفاءِ الراشدين رضي الله عنهم جميعاً ) .(1/31)
وقال الشوكانيُّ في الفتحِ الرباني : (( إن أهلَ العلمِ قد أطالوا الكلامَ في هذا وأخذوا في تأويلَه بوجوهٍ أكثرُها متعِسَّفة , والذي ينبغي التعويلُ عليه والمصيرُ إليه هو العملُ بما يدلُّ عليه هذا التركيبُ بِحَسَبِ ما تقتضيهِ لُغَةُ العربِ ، فالسنةُ هي الطريقةُ فكأنه قال الزَمُوا طريقتي وطريقةَ الخلفاءِ الراشدين ، وقد كانتْ طريقتُهم هي نفسُ طريقته ، فإنهم أشدُّ الناسِ حِرْصاً عليها وعملا بها في كلِّ شيءٍ . وعلى كلِّ حالٍ كانوا يَتَوَقُّونَ مخالفَتَه في أصغرِ الأمورِ فضلاً عن أكبِرها . وكانوا إذا أعوَزَهُم الدليلُ من كتابِ الله وسنةِ رسولِه صلى الله عليه وسلم عَمِلُوا بما يظهرُ لهم من الرأيِ بعد الفَحْصِ والبحثِ والتشاوُرِ والتدبرِ فإن قلتَ : إذا كان ما عَمِلُوا فيه بالرأيِ هو من سُنَّتِهِ لم يبقَ لقولِه وسنةِ الخلفاءِ الراشدينَ ثمرةٌ ، قلتُ : ثمرتُه أنَّ من الناسِ مَنْ لَمْ يدركْ زمنَه صلى الله عليه وسلم وأدركَ زمنَ الخلفاءِ الراشدينَ أو أدركَ زمنَه وزمنَ الخلفاءِ ولكنَّه حدثَ أمرٌ لم يَحْدُثْ في زمنِه فَفَعَلَه الخلفاءُ فأشارَ بهذا الإرشادِ إلى سنةِ الخلفاءِ إلى دفعِ ما عساه يتردَّدُ في بعضِ النُّفوسِ من الشكِّ ويختلجُ فيها من الظنونِ . فأقلُّ فوائِدِ الحديثِ أن ما يصدُرُ عنهم من الرأيِ وإن كان من سنتِه كما تقدَّمَ ولكنه أولى من رأي غيرهم عند عدَمِ الدليلِ . وبالجملةِ فكثيراً ما كان صلى الله عليه وسلم ينسبُ الفعلَ أو التركَ إليه أو إلى أصحابه في حياته مع أنه لا فائدةَ لنسبته إلى غيرِه مع نسبته إليه لأنه محلُّ القدوَةِ ومكانُ الأسوةِ فهذا ما ظهرَ لي في تفسير هذا الحديثِ ولم أَقِفْ عندَ تحريرِهِ على ما يوافِقُهُ من كلامِ أهلِ العلمِ فإن كان صواباً فمنَ الله وإن كان خطأً فمني ومن الشيطانِ وأستغفرُ اللهَ العظيمَ . انتهى كلام الشوكاني .(1/32)
ـ والأقوالُ فيما يَخُصُّ الشيخينِ الجليلينِ أبي بكر وعمر رضي الله عنهما كثيرةٌ جليلةٌ ، ونتقربُ إلى الله بحبِّهم وببغضِ من يبغِضُهم . وكان ابنُ مسعودٍ - رضي الله عنه - يحلفُ بالله العظيمِ أن الصراطَ المستقيمَ هو ما ثَبَتَ عليه عمرُ حتى دخلَ الجنةَ . رضي الله تبارك وتعالى عنهم وعن سائرِ الصحابة وسلم أجمعين .
ـ وبالمناسبةِ وإن أخرجْ قليلاً ، دخلتُ اليوم في حوارٍ من خلالِ موقِعِ (( البالتوك )) في صباحِ هذا اليوم في حوارٍ مع بعضِ أهل البِدَعِ من الرافضةِ قَبَّحَهُمُ اللهُ وسألتُ المشرفَ على الحوارِ سؤالاً : ما قولُكم في أبي بكر وعمرَ رضي الله عنهما ؟ فقال : نحن نقولُ ما يقولُه القرآنُ ، فما شَهِدَ القرآنُ بالثناءِ عليه وبتعدِيلِه ؛ نُثني عليه ونقولُ ذلك ، وأما من تَعَلَّقَ بالجبتِ والطاغوتِ فَنُمْسِكُ عنهم . هذا كلامُ هذا الخبيثِ . وهو كلامٌ مشهورٌ من خُبْثِ القومِ قَبَّحَهُم اللهُ تعالى ، ولهم دعاءٌ مشهورٌ في سبِّ صَنَمَيْ قُرَيْشٍ ، ويقْصِدُون بهما أبا بكر وعمرَ رضي الله عنهما وقَبَّحَ من سَبَّهُما وأبغضهما ) ، وهو موجودٌ في بعضِ كُتُبِهِم نسألُ اللهَ السلامةَ والعافيةَ ، وإن كان من شأنهم أنهم لا يُصَرِّحون بمعتقداتِهم الخبيثةِ إذا ضُيِّقَ عليهم الخناقُ بالنِّقاشِ ، ولكنَّ باطلَهم ظاهرٌ نسألُ الله العافية .
وهذا بيانٌ لأن القومَ مهما بلغَ بهم الأمرُ من التظاهرِ بالتقاربِ مع السنة فهم يُبْغِضون السنة أَيَّما بُغْضٍ نسأل الله - عز وجل - العفو والعافية .
نعودُ إلى حديثِنا إذ أوصانا النبي - صلى الله عليه وسلم - بالالتزامِ بسنته وسنةِ الخلفاءِ الراشدين ، لماذا ؟ لأنهم عرفوا الحق وقَضَوا به .(1/33)
والراشِدُ : ضدُّ الغاوي ، فهؤلاءِ الخلفاءُ الراشدون ؛ راشدون مهدِيُّونَ ، وذلك لأن الله هداهُم للحقِّ ولم يُضِلَّهم عنه تبارك وتعالى ، وكلُّ مُهْتَدٍ هدايةٍ تامةً فهو راشدٌ ؛ لأن الهدايةَ كما يقولُ العلماءُ إنما تَتِمُّ بمعرفةِ الحقِّ والعملِ به ، ولقد بَلَغُوا في ذلكَ العُلا وتَمَّتْ لهم الرفعةُ رضي الله عنهم أجمعين .
ـ وقوله ( وإياكم ومحدثاتِ الأمور فإن كل بدعةٍ ضلالةٌ ) :
هذا تحذيرٌ من نبيِّ الهدى - صلى الله عليه وسلم - منِ اتباعِ الأمورِ المحدَثة المُبْتَدَعةَ ، وأكَّدَ ذلك بقوله ( فإن كل بدعة ضلالة ) فهذا كلامُ نبي الهدى - صلى الله عليه وسلم - ، ولقد قالَ كما في خطبته التي يرويها جابر - رضي الله عنه - : " إن خير الحديثِ كلامُ الله ، وخير الهدْيِ هديُ محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمورِ محدَثاتُها ، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ ، وكل بدعةٍ ضلالةٌ " .
فالنبي - صلى الله عليه وسلم - قد حذَّر من الابتداعِ في الدينِ في هذه الوصيةِ العظيمةِ الجامعةِ ، كأنها وصيةُ مُوَدِّعٍ إذْ لَمّا رأى الصحابةُ حالَه وعِظَمَ موعظتِه وطلَبوا منه الوصيةَ ، فأوصاهم وحذَّرَهم من الابتداعِ والإحداثِ في دينِ الله - عز وجل - ، وهذا يدُلُّنا دلالةً ظاهرةً على خَطَرِ الابتداعِ والإحداثِ في الدين .
والكلامُ في هذا البابِ طويلٌ ، وحسبُنا ما أَشَرْنا إليه ، ونُضيفُ إلى ذلك ما نسمعُ كثيراً من حديثِ النبي - صلى الله عليه وسلم - : " من أحْدَثَ في أمرِنا هذا ما ليسَ منه فهو ردٌّ " وقوله - صلى الله عليه وسلم - : " من عمِلَ عملاً ليس عليه أمرُنا فهو رَدٌّ " .(1/34)
وذلك لأن الابتداعَ في دينِ الله - عز وجل - هو استدراكٌ على الشارعِ الحكيمِ سبحانه ، وهذا كما يقولُ الإمامُ الجليلُ إمامُ دارِ الهجرةِ الإمامُ مالكٍ رحمه الله : ( من ابتدع في الإسلام بدعةً يراها حسنة – أي : بزعمه وظنه وتصوره – فقد زعمَ أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - خانَ الرسالةَ ، اقرءوا قولَ ربكم : { ?????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????? } ) . ثم يقول الإمامُ مالكٌ رحمه الله هذه المقولةَ الرائعةَ " : ( ولا يصلُحُ آخرُ هذه الأمةِ إلا بما صلُح به أوَّلُها ، فما لم يكن يومئذٍ ديناً فلا يكون اليوم ديناً ) .
نعم ، الذي لم يكنْ في عهدِ النبي - صلى الله عليه وسلم - ديناً لا يكون يوماً من الأيامِ من دينِ الله - عز وجل - ، وإن طريقَ الخلاصِ هو الالتزامُ بما كان عليه سلفُ الأمة وبما سار عليه الأقدمون المشهودُ لهم بالخَيْرِيَّةِ رحمهم الله .
وأذكرُ أثراً عن الإمامِ الجليلِ الإمامِ مالكٍ نفسِهِ رحمه الله إذْ سألَه سائلٌ : مِنْ أينَ أُحْرِمُ ؟ قال له : منْ حيثُ أحرمَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ، أي : من الميقاتِ من ذي الحليفةِ ، فقال الرجلُ : أفَلا أُحْرِمُ من عندِ الحجرةِ ؟ قال : لا ، أخشى عليك الفتنةَ ، فقال الرجلُ : أيُّ فتنةٍ هذه ! إنما هي أميالٌ أزيدُها ( كأنه يقول : إنما هي بضعة كيلومترات بين الميقات وبين الحجرة ، فماذا يؤثر هذا الإحرام لو أحرمت ) ؟ و يعني بالإحرامِ : النيةَ ، أما اللباسُ فلا يُؤَثِّرُ إذا لُبِسَ قبلَ الميقاتِ ولكن النيةَ تكونُ من الميقاتِ ، فهذا الرجلُ يقولُ : أيُّ فتنةٍ هذه ؟ فقال له : يقول الله تبارك وتعالى : { ??????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????(1/35)
انظروا أخوةَ الإسلامِ هذا الفقهَ العظيمَ من هذا الإمامِ الجليلِ : الإمامِ مالكٍ إمامِ دار الهجرةِ رحمه الله وجزاه خيراً عن حِرْصِهِ على التَّمَسُّكِ بهذا الدينِ وبما كان عليه الصحابةُ والتابعون رضي الله عنهم .
ومما يجدُرُ أن أشيرَ إليه بأنهُ قد يَلْتَبِسُ على بعضِ الناسِ أو يُلَبِّسُ بعضُ الناسِ على دُعاةِ السنةِ بذكرِهِم لبعضِ الأمورِ التي جاءتْ في عصرِ السَّلَفِ ومما أُطْلِقَ عليها بأنها من البدعِ فأخذوا من تلكَ الأقوالِ الاستحسانَ لهذه البِدَعِ وقَرَّرُوها وأجازُوها .
والمتأمِّلُ لهذه النصوصِ يجدُ دلالةً واضحةً لا شَكَّ فيها ولا ريبَ أن المقصودَ في هذه الأمورِ التي يستشهدونَ بها البدعةِ من حيثُ اللغةِ ، وليس كونُ هذه البدعةِ أو هذا الأمر هو أمرٌ لم يأتِ به النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وإنما هو تقريرٌ لأمرٍ فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم تُرِكَ هذا الأمرُ ؛ فجاء أحدُ الناسِ وفعلَ هذا الأمرَ ، فعندئذٍ يكونُ من حيثُ اللغةِ جاء هذا ببدعةٍ ، بمعنى أنه جديدٌ من حيثُ اللغةِ ، ولكنْ ضابطُ ذلكَ أن يكونَ موافقاً لفعلِ النبي - صلى الله عليه وسلم - .
ولقد رأيتُ نقلاً لبعضِ المعاصرينَ استدَلَّ بمقولَةٍ للإمامِ الشافعي رحمه الله على أن البدعَ منها ما هو محمودٌ ومنها ما هو مَذْمومٌ ، وللأسفِ لم ينقلْ عبارةَ الشافعي بتمامها ، وعبارةُ الشافعي بتمامها كما رواها أبو نُعَيْمٍ في كتابه ( الحلية ) : ( البدعة بدعتان : بدعةٌ محمودةٌ وبدعةٌ مذمومةٌ ، فما وافقَ السنةَ فهو محمودٌ ، وما خالفَ السنةَ فهو مذمومٌ ) ، واحتجَّ بقولِ عمرَ - رضي الله عنه - ( نعمت البدعة هذه ) المعروفةِ في صلاةِ التراويحِ بجماعةٍ وبإقرارِ الناسِ على الاجتماعِ في صلاةِ التروايح .(1/36)
فهذا الأثرُ عن الإمامِ الشافعي رحمه الله ظاهرٌ جليٌّ في أنه يريدُ البدعةَ اللغويةَ وأن المقياسَ هو موافقةُ هذا الأمرِ للسنةِ ، فما كانَ موافقاً للسنةِ ولما كانَ عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - فهذا هو المشروعُ وما خالفَ ذلك فهو ظاهرٌ بأنه مذمومٌ ومردودٌ .
وعجباً لمن يُطْلِقُ على البدعةِ باصطلاحِ الشرعِ بأنها ليستْ بضلالةٍ وبأنها ليستْ بمحدَثَةٍ ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقولُ صراحةً : " كلُّ مُحْدِثَةٍ بِدْعَةٌ " ، و( كل ) من ألفاظِ العمومِ كما هو معلومٌ من قواعِدِ اللغةِ والأصولِ ، فلما قال - صلى الله عليه وسلم - : " كلُّ مسكرٍ خمرٌ وكلُّ خمرٍ حرامٌ " ، فهل لقائلٍ أن يقولَ : يوجَدُ مسكِرٌ ليسَ بخمرٍ أو يُوجَدُ خمرٌ ليسَ بحرامٍ !!! .
ـ إذاً ، ما يُورَدُ في هذا البابِ مما أَطْلَقَ عليه بعضُ العلماءِ أو بعضُ السَّلَفِ لفظَ البِدْعَةِ إنما المرادُ به عندَ التَّدَبُّرِ ومعرفةِ ذلك : موافَقَةُ الشرعِ لأمرٍ قد تركه الناسُ كما في صلاةِ التراويحِ ، حيثُ تركها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - خشيةَ أن تُفْرَضَ عليهم ، فلما رأى عمرُ أُبَيَّ بنَ كعبٍ وجمعَ الناسَ للصلاةِ اسْتَحْسَنَ ذلك - رضي الله عنه - ، لماذا ؟ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قد فعله ثم تركَه لِعِلَّةٍ ، وهي خشيةُ أن تُفْرَضَ عليهم ، وكما يقولُ العلماءُ : ( لما ذهبتِ العلةُ ذهب المعلولُ ) فهناك لم يبقَ خوفٌ من أن تُفْرَضَ عليهم لانقطاعِ الوحيِ فرجعَ الأمرُ إلى أصْلِ حُكْمِهِ ، ولهذا قال عمرُ - رضي الله عنه - : ( نعمتِ البدعةُ هذه ) أي : هذا الأمرُ الذي جاء به جديدٌ ولكن هل جاء أبيٌّ بنُ كعبٍ بأمرٍ لم يفعلْهُ المصطفى عليه الصلاةُ والسلامُ البتَّةَ ؟ كلا ، وإنما جاء بأمرٍ فعَلَهُ النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم تركه لِعِلَّةٍ ، فلما ذهبتِ العلةُ زالَ المعلولُ فعندئذٍ أقَرَّ هذا الأمرَ الشرعيَّ .(1/37)
أضِفْ إلى ذلكَ ما يَخُصُّ عمرَ - رضي الله عنه - وهو خليفةٌ راشدٌ وقد أُمِرْنا باتباعِ سنته وأقرَّه على ذلك الصحابةُ رضي الله عنهم .
وفي الحقيقةِ الكلامُ فيما يخصُّ الابتداعَ كثيرٌ ، والردُّ على شُبُهاتِ ما يَتَطَرَّقُ إليه بعضُ أهلِ البِدَعِ كثيرٌ ولكنْ أردتُ التذكيرَ وكما قلت : إن من يتأملُ هذه النصوصَ لا يخرجُ إلا بهذه النتيجة .
فهم إما أن يستَدِلُّوا بأشياءَ لا تصحُّ الْبَتَّةَ ، وإما أن يستَدِلُّوا بأشياءٍ صحيحةٍ ولكنْ فهمُ هذه النصوصِ لا يُسْعِفُهُم ولا يساعِدُهُم على ما يحتَجُّون به ولا على ما يُريدُون به من نَشْرِ بِدَعِهِم والدفاعِ عنها والتهاونِ في شأنها .
والبدعُ شأنُها عظيمٌ وخطيرٌ جداً ، بل ذكرَ العلماءُ أن البدعةَ أخطرُ على الدينِ من المعصيةِ ، لأن المبتدعَ يستدركُ على الشرعِ حيثُ أنه لم يأتِ هذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكأن هذا المبتدعَ جاء بأحسنَ من الشرعِ في مثلِ هذا الفعلِ ؛ وإن لم يُصَرِّحِ الواحدُ منهم بهذا ولكن هذا هو لسانُ حالِهِ ، و الأمرُ كما قيل : لسانُ الحالِ أَنْطَقُ من لسانِ المقالِ .
وإنه منَ اللَّطائِفِ في حديثِنا هذا في قولِه - صلى الله عليه وسلم - : " وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً " ما قاله الإمامُ ابنُ حِبان رحمه الله : ( هذا دليلٌ صحيحٌ على أنه - صلى الله عليه وسلم - أمَرَ أمَّتَهُ بمعرفةِ الضعفاءِ منهم من الثقات ) .
فكيف يكونُ هذا ؟
يقول هذا الإمامُ المُحَدِّثُ الكبيُر رحمه الله : ( لأنه لا يَتَهَيَّأُ لزومُ السنةِ مع ما خَالطَها من الكذبِ والأباطيلِ إلا بمعرفةِ الضعفاءِ من الثقاتِ ) نعم ، ما دام أن الأمرَ قد اختلطَ فلا سبيلَ إلى اتباعِ السنةِ إلا باتباعِ الصحيحِ منها ، والصحيحُ لا يَتَمَيَّزُ إلا بمعرفةِ الضعفاءِ من الثقاتِ )
وهذا من الفقه من هذه الإمام رحمه الله .
أخيراً أقولُ :(1/38)
هذا الحديثُ العظيمُ ، حديثُ العرباضِ بنِ ساريةَ - رضي الله عنه - نجدُ فيه فوائدَ عظيمةً ، من ذلك :
ـ فضيلةُ العرباضِ بنِ ساريةَ ، وما جاء في سياقِ هذه الروايةِ منْ رفعِ الحرجِ عنه بالتخلفِ عن الغزو .
ـ حرصُ التابعينَ ومنهم هنا عبدُ الرحمنِ بنُ عمروٍ وحُجْرُ بنُ حُجْرٍ على لقاءِ الصحابة والاستفادةِ من علمِهِم وزيارتهم للصحابِة وعيادَتِهم كما قالوا : ( أتيناك زائرين وعائدين ومقتبسين ) .
ـ حرص الصحابة رضي الله عنهم على الاجتماعِ بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وحُسْنِ الإصْغاء إليه ، كما قال : ( فوعَظَنا موعظةً وَجِلَتْ منها القلوبُ وذَرَفَتْ منها العيونُ ) ففيه بيانُ ما كان عليه سلفُنا وصحابةُ رسولِ الله رضي الله عنهم من رِقَّةِ القُلُوبِ .
ـ فيه بيانُ أن المخرجَ من الافتراقِ هو الالتزامُ بسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - .
ـ وجوبُ الاهتمامِ والالتزامِ بتقوى الله سبحانه وتعالى .
ـ وجوبُ طاعةِ أولي الأمرِ من المسلمين .
ـ أهميةُ التَّمَسُّكِ والالتزامِ بسنةِ نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، والتحذيرُ من الأمورِ المحدَثَةِ لأن كلَّ محدثَةٍ بدعةٌ ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ ، وكل ضلالة في النار .
ـ وفي هذا الحديثِ بيانٌ واضحٌ إلى أن منهجَ الصحابةِ والتابعيَن هو المخرجُ من الفِتَنِ .
وأسألُ الله أن يحفظَني وإياكم من الفتن ، وأن يرزقَنا الاتباعَ الحقَّ لسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - وأن يرزقنا حبَّ صحابتِه جميعاً لا سيَّما الخلفاءَ الراشدينَ ، رضي الله عنهم جميعا .
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله و صحبه .
و الحمد لله رب العالمين .
المحاضرة الثالثة
{ شرح حديث " لَتُسَوُّنَّ صُفوفَكُم " }(1/39)
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، ومن يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله - صلى الله عليه وسلم - .
?????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????، ????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????، ????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????أما بعد ،
فإن خير الكلام كلام الله - عز وجل - وأحسن الهديِ هديُ محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار .
أيها الإخوةُ والأخواتُ : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، ومرحباً بكم في هذا اللقاءِ في هذه الدورةِ المفتوحةِ ، و موضوعُنا هذه الليلةَ المباركةَ إن شاء اللهُ شرحُ حديثِ النبي - صلى الله عليه وسلم - " لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم " .(1/40)
وسنتكلمُ إن شاء الله تعالى حولَ متنِ هذا الحديثِ ، ونُنَبِّهُ على بعضِ الفوائدِ في السَّنَدِ ، ونستعرضُ بعضَ النصوصِ الواردةِ بهذا الخصوصِ ، مع شرحٍ مُجْمَلٍ للحديثِ ، وبيانِ أن الخلافَ في الظاهرِ سببٌ من الأسبابِ الناتجَةِ عن الخلافِ في الباطنِ ، وكذلك نُبَيِّنُ إن شاء الله تعالى بعضَ المسائلِ المتعلقةِ في الصلاةِ وبعضَ الأخطاءِ التي قد تقعُ في تسويةِ الصفوفِ .
- رواية الحديث :
روى الإمامُ مسلمٌ في صحيحِه قال : حدثنا أبو بكرِ بنِ أبي شَيْبَةَ ، حدثنا غُنْدَرٌ ، عن شُعْبةَ ح وحدثنا محمدُ بنُ المُثَنَّى وابنُ بشارٍ قالا حدثنا محمدُ بنُ جعفرٍ ، حدثنا شعبةُ ، عن عمروِ بنِ مرةَ قال : سمعتُ سالمَ بنَ أبي الجعدِ الغَطَفانيِّ قال : سمعت النعمانَ بنِ بشيرٍ قال : سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " لَتُسَوُّنَّ صفوفَكُم أو لَيُخالِفَنَّ اللهُ بينَ وُجوهِكم " .
- من لطائف الإسناد :
هذا الحديثُ يرويه الإمامان البخاريُّ ومسلمٌ وغيُرهما ، وقد ذكرنا لفظ مسلم ، ولفظُهما واحد
فهُنا يرويه مسلمٌ عن شيخه أبي بكر بن أبي شيبةَ ، وهو عبد الله بنُ محمدٍ بنِ أبي شيبة .
عن غُنْدَرٍ ، وهو لَقَبٌ للإمام محمدِ بنِ جعفرٍ .
عن الإمامِ شعبةَ ، وهو الإمام المشهورُ شعبةُ بنُ الحجّاج .
ونلاحظُ أنه بعدَ شعبةَ يوجدُ حرفُ ( ح ) وهذا الحرفُ يكثُرُ ورودُه في صحيحِ مسلمٍ وبعضِ كتب الحديث ، وهو قليل في صحيح البخاري .
وهذا الحرفُ للعلماءِ في توجيهِه أقوالٌ :(1/41)
1_ إنه من حالَ بين الشيئينِ ، لأنه حَجْزٌ بين إسنادين . لأن هذا الرمزَ لا يُستعمَلُ إلا إذا كان للحديثِ إسنادان أو أكثرَ ، أما إذا كان للحديثِ إسنادٌ واحدٌ فهذا لا يُستعمل . فمن هناك قالوا : إن ( ح ) من حال بين الشيئين ، لأن هذا الرمز حَجَزَ بين الإسنادين وحالَ بينهما . وأصحابُ هذا القولِ لا يَرَوْنَ أنه يُلْفَظُ بهذا الحرف عند الانتهاءِ إليه ، ويقولون إنها ليست الرواية .
2_ إنه رمزٌ إلى قولِكَ ( الحديث ) كأنكَ تذكرُ السندَ أو طَرَفاً من المتنِ ثم تقولُ ( الحديث ) أي تمامَ الحديثِ ، وأهلُ المَغْرِبِ كانوا إذا وَصَلُوا إلى هذا الحرفِ ؛ قالوا : الحديث .
3_ أنه مَأْخُوذٌ من التَّحَوِّلِ ، أي : التحول من إسنادٍ إلى إسنادٍ ، وهو الأَوْجَهُ وهو المختارُ كما قال النوويُّ رحمه الله تعالى ، وأنه يقولُ القارئُ إذا انتهى إليها ( ح ) ويستمر في قراءة ما بعدها
والحديثُ رواه أصحابُ السننِ ، وكذلك هو في عددٍ كثيرٍ من المصادرِ الحديثية .
- اهتمام النبي - صلى الله عليه وسلم - بتسوية الصفوف :
إن الذي يتأمَّلُ النصوصَ النبويةَ التي جاءت في تسويةِ الصفوفِ والاهتمامِ بها ؛ يجدُ حرصاً عظيماً كبيراً بالغاً من النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولا غرابةَ في ذلك إذ يقول الله تعالى : ?????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????فالله - عز وجل - أَمَرَنا أن نقيمَ الصلاةَ وأن نُؤْتِيَ الزكاةَ وأن نَرْكَعَ مع الراكعينَ ، فكان هذا البيانُ في سنة خاتَمِ الأنبياءِ والمرسلينَ في صلاتِه لما صلى بالناس إماماً على المنبرِ ثم لما فرغَ من صلاته قال : " إنما فعلتُ هذا لِتَأْتَمُّوا بي ولتعلَموا صلاتي ، صلُّوا كما رأيتُمُوني أصلي " .(1/42)
فإذاً ، كان يُوَجِّهُهُم صلواتُ الله وسلامُه عليه إلى كل ما يُصَحِّحُ هذه العبادةَ العظيمةَ التي هي (الصلاة ) تجاهَ الوجهِ المرغوبِ لله سبحانه وتعالى .
وإذا تدبَّرْنا النصوصَ الواردةَ في تسويةِ الصفوفِ في الصلاةِ نجد كما أشرتُ اهتماماً عظيماً في ذلكَ إذْ كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " أقيموا صفوفَكم فإني أراكُم من وراءِ ظهري " .
وهذه الرؤيةُ من وراءِ ظَهْرِهِ من مُعجِزاتِ المصطفى صلوات الله وسلامه عليه .
وكان يقول : " سَوُّوا صفوفَكم فإن تسويةَ الصفوفِ من إقامةِ الصلاةِ " ، وفي رواية " من تمام الصلاة " وفي بعضها " فإن إقامةَ الصفِّ من حسنِ الصلاة " ، وكان يقول أيضاً : " تراصُّوا واعْتَدِلُوا " ، وكان يقول أيضاً : " استووا واعدلوا صفوفكم " ، وكان يقول : " راصُّوا صفوفَكم وقارِبوا بينها وحاذوا بالأعناقِ ، فوالذي نفسُ محمدٍ بيده إني لأرى الشيطانَ يدخُلُ من خلالِ الصفِّ كأنه الحَذَف " ( يعني صغار الغنم ) .
وكان عليه الصلاة والسلام يمسحُ عواتِقَ الصحابةِ بيده ويُسَوِّي الصفوفَ بيده الشريفةِ - صلى الله عليه وسلم - .
وكما أشرتُ إن الرواياتِ في هذا الباب كثيرةٌ تَدُلُّنا على مدى أهمية هذا الأمر العظيم في هذه العبادة العظيمة .
- شرح الحديث :
ـ قوله - صلى الله عليه وسلم - ( لَتُسَوُّنَّ ) :
هكذا في هذهِ الروايةِ ، وفي روايةٍ لِلْمُسْتَملي ( لَتُسَوُّون ) ، وفي رواية النسائي ( لتُقيمُنَّ ) من الإقامة بنون التوكيد .
وهذه الجملةُ قائمةٌ مقامَ القَسَمِ ، وجاء في بعضِ الرواياتِ القَسَمُ صريحاً كما في رواية أبي داود ( والله لتسون ...) .
ـ قوله - صلى الله عليه وسلم - ( أو ليخالِفَنَّ الله بين وجوهكم ) :
هذه العقوبةُ العظيمةُ الشديدةُ جعلها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لمن خالفَ هذا الأمرَ النبويَّ وهذا التوجيهَ والإرشادَ منه - صلى الله عليه وسلم - .(1/43)
وقد اختلفوا في هذا التهديدِ ؛ فقيل : هو على حقيقتِهِ ، والمرادُ : تحويلُ الوجهِ بتحويلِ خَلْقِه عن وضعِه بجعلِهِ موضعَ القَفا أو نحوِ ذلك ، ومنهم من حَمَلَهُ على وُقُوعِ العدواةِ والبغضاءِ واختلافِ القلوبِ كما تقول : تَغَيَّرَ وجهُ فلانٍ ، أي : ظهرَ لي من وَجْهِهِ كراهةٌ ، لأن مخالفتَهم في الصفوفِ مخالفةٌ في ظواهرهم ، واختلافُ الظواهرِ سببٌ لاختلافِ البواطنِ ، وهذا المعنى ذكره الإمامُ النوويُّ في شرحِ مسلمٍ وغيرُه ، وهو الصوابُ والله أعلم .
ـ وهذا الحديثُ يَدُلُّنا دَلالةً ظاهرةً جليةً على العلاقةِ بينَ الأعمالِ الظاهرةِ وبيَن الأعمالِ الباطنةِ
وهو تأصيلٌ عظيمٌ في هذا البابِ خلافاً لما يَكْثُرُ سماعُه من كثيرٍ من العوامِ إن طالبْتَه بأمرٍ أو قلتَ له عن شيءٍ من أمورِ الالتزامِ من حيثُ المظهر يقولُ لك : ( الإيمان في القلب ولا عبرة بالمظهر ) وهذا في الحقيقةِ من الفهمِ السقيمِ .
فانظروا كيف كان هذا الاختلافُ من حيثُ الظاهرِ في تسويةِ الصفوفِ ؛ كان سبباً من أسبابِ الاختلافِ بين الوجوهِ أو القلوبِ كما أخبرَ المصطفى - صلى الله عليه وسلم - .
- بعض النصوص التي تدل على العلاقة بين الظاهر والباطن :
1_ روى أبو داودَ وغيرُه عن أبي ثعلبةَ الخُشَنِيِّ - رضي الله عنه - قال : كان الناسُ إذا نزلوا منزِلاً ـ قال عمرو : كان الناسُ إذا نزلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - منزلاً ـ تفرَّقوا في الشعابِ والأوديةِ ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن تفرقكم في هذه الشعاب والأودية إنما ذلكم من الشيطان " ، فلم يَنْزِلْ بعدَ ذلك منزلاً إلا انْضَمَّ بعضُهم إلى بعضٍ حتى يقال : لو بُسِطَ عليهم ثوبٌ لَعَمَّهُم .(1/44)
فهذا التفرقُ الذي كان من الصحابةِ رضي الله عنهم مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فيتفرقون بالأوديةِ والشعابِ أخبرهم - صلى الله عليه وسلم - أن هذا من عملِ الشيطانِ ، وكان الصحابةُ رضي الله عنهم من حُبِّهِم للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولهذا الدين ، ولصِدْقِ متابَعَتِهِم للمصطفى - صلى الله عليه وسلم - يُبادِرون للإجابةِ إلى هَدْيِهِ وإرشادِهِ ، فلهذا كانوا بعدَ ذلك لَمّا أخبرَهم عن التَّفَرُّقِ وإنما هو من الشيطانِ ، فكانوا كما قال : فلم ينزلْ بعد ذلك منزلاً إلا انْضَمَّ بعضُهم إلى بعضٍ حتى يُقَال : لو بُسِطَ عليهم ثوبٌ لعَمَّهم .
2_ مما يُؤَصِّلُ هذا الذي ذكرناه ؛ قولُه - صلى الله عليه وسلم - الذي جاء في الحديث الذي يرويه البخاريُّ عن أبي واقدٍ اللَّيْثِيِّ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينما هو جالسٌ في المسجدِ والناسُ معه إذ أقبلَ ثلاثةُ نَفَرٍ فأقبلَ اثنانِ إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وذهب واحِدٌ ، قال : فوقفا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأما أحَدُهما فرأى فُرْجَةً في الحَلْقَةِ فجلسَ فيها ، وأما الآخرُ فجلسَ خلفَهم ، وأما الثالثُ فَأَدْبَرَ ذاهباً ، فلما فرغ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " ألا أُخْبِرُكُم عن النَّفَرِ الثلاثة ؟ أما أحدهم فأوى إلى الله فَآواهُ اللهُ ، وأما الآخَرُ فاستحيا فاستحيا الله منه ، وأما الآخرُ فأعْرَضَ فأعرضَ اللهُ عنه " .
فهذا الحديثُ فيه توجيهٌ عظيمٌ إلى الاجتماعِ في حِلَقِ الذِّكْرِ وفي مجالسِ الذكر ؛ والتَّقَاربِ إلى المتحدِّثِ الذي يقرأُ في كتابِ الله وسنةِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أو غيرِ ذلك من علومِ الشرع ، إذ هذا الحديثُ دليلٌ واضحٌ على ذلك .(1/45)
وهذه الأحاديثُ التي سَبَقَ ذِكْرُها مع حديثِ الباب " لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم " أو " بين قلوبكم " كما في الروايةِ الأخرى ، تَدُلُّنا دَلالةً واضحةً على العلاقةِ بين الظاهرِ والباطنِ ، بمعنى أن صلاحَ الظاهرِ له علاقةٌ بصلاحِ الباطنِ ؛ و أن صلاحَ الباطنِ ينشأ عنه صلاحُ الظاهرِ ، وأن فسادَ الظاهرِ له علاقةٌ بفسادِ الباطنِ ؛ وأن فسادَ الباطنِ ينشأ عنه فسادُ الظاهرِ ، وهذا ظاهرٌّ جَلِيٌّ في قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المشهور ، حديث النعمانِ بنِ بشير - رضي الله عنه - : " إن الحلال بَيِّنٌ وإن الحرام بين .." حيثُ يقولُ - صلى الله عليه وسلم - في نهايةِ الحديثِ : " ألا وإن في الجسد مضغةً إذا صَلَحَتْ صلَحَ الجسدُ كلُّه ، وإذا فسدتْ فسد الجسدُ كلُّه ؛ ألا وهي القلب "
فبهذا يظهرُ جَلِيًّا أن صلاحَ الظاهرِ واهتمامَ المرءِ بمظْهَرِه حتى يكونَ موافقاً لتعاليمِ الإسلام رجلاً كان أم امرأةً ، هذا الاهتمامُ هو ناتجٌ عن صلاحِ الباطنِ ، و أن الإخلالِ في الظاهرِ وفي مظهرِ الإنسانِ أيضاً ناتجٌ عن قُصُورٍ وخللٍ في باطنِهِ ، إذ كما قال المصطفى - صلى الله عليه وسلم - : " ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله ، ألا وهي القلب " .
وإن اللهَ سبحانه وتعالى ، وكما هو معلومٌ ، ينظرُ إلى القلوبِ والأعمالِ ، والأمورُ الظاهرةُ من الأعمالِ التي طالَبَنَا الشرعُ بها أيضاً ، ومن الفهمِ السقيمِ لبعضِ العَوامِّ أنهم إذا طُولِبوا ببعضِ الأعمال يَحْتَجُّونَ بحديثِ مسلم : " إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ .." ، ولكنْ غابَ عنهم أو تَغَافَلُوا عن الشَّطْرِ الآخَرِ لهذا الحديثِ النبوي ، وهو " ..وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُم ".(1/46)
فالمقياسُ بينَ الناسِ في الأعمالِ أعمالِ القلبِ وأعمالِ الجوارحِ كما قال تعالى : { ???????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????? ولهذا ولغيره نحنُ مُطالَبونَ بالعملِ بما يُطالِبُنا به الشرعُ من سائرِ الأمورِ ، ومن الخطأِ ما نَسْمَعُه من بعضِ المسلمين أحياناً نتيجةَ عدمِ الإدراكِ لهذه المسألة ، إنْ كلَّمْتَهُ ببعضِ الأمورِ يقولُ : هذه المسألةُ من القشورِ في الدينِ ، فهذه من الأخطاءِ التي ليستْ بالقليلةِ ، بل يُخْشى أن تكون عاقبتُها وخيمةً ، وذلك لأن الدِّينَ كلَّه لبٌّ وليس في ديننا شيءٌ من القٌشُورِ ، ويُخْشى أن يكونَ في هذه الكلمةِ شيءٌ من الاستخفافِ بشرعِ الله تعالى ، فينبغي للمسلمِ أن يحذَرَ من مثلِ تلكَ الكلماتِ التي قد تكونُ سبباً من الأسبابِ التي تُؤَدّي به إلى المهالِكِ فيما يخصُّ الشرعَ الحكيمَ .
فالشرعُ كلُّه لُبٌّ ، نعم هناك مسائلُ قد تُقَدَّم ، وهناك أوْلويّات ، وهذا كلام آخر ، وأما الإطلاقُ على بعضِ أحكامِ الشرعِ أن هذا من اللُّبِّ وهذا من القشورِ فهذا لا يجوز إطلاقُه على شَرْعِنا الحكيمِ .
ولهذا أردتُ أن أُذَكِّرَ الإخوانَ بأن يلاحظوا هذه المسألةَ فيمن يتكلمُ بمثلِ هذه التعبيراتِ لأن فيها ما فيها من المخالفةِ أو شيءٍ من السخريةِ أو عدمِ إعطاءِ الشرعِ حَقَّهُ في هذه الأمورِ ، فينبغي أن نَحْذَرَ مثلَ هذه المصطلحاتِ الباطلةِ .
- كيفية تسوية الصفوف :
وأما ما يَخُصُّ كيفيةِ تسويةِ الصُّفوفِ ، فإن المتأملَ للسنةِ النبويةِ يَجِدُ أن التسويةَ التي وجَّهَ إليها النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما تكون بأمور :(1/47)
1_ المحاذاةُ بالأعناقِ ؛ وذلكَ بأنْ يَنْظُرَ ا1لمصلي وهو قائمٌ معتدلٌ بعُنُقِهِ إلى يمينِهِ وشمالِه حتى لا يرى إلا جارَهُ الملاصقَ يميناً وشمالا ، فبهذه الطريقةِ تكونُ تسويةُ الصفوفِ ، ولهذا لما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً بادياً صدرُهُ أنكرَ عليهم هذا النكير وغضِبَ لما رأى الرجلَ بادياً صدره .
2_ كذلك تسوية الصفوف تكون بالتراصِّ بين الصفِّ والصفِّ الآخرِ ؛ أعني : بالتقاربِ بين الصفِ و الصف الآخَرِ ولا يكون هناك مسافاتٌ زائدةٌ بين الصفوفِ ، وما نَجِدُهُ أحياناً من تساهُلٍ في بعضِ المساجدِ إذ نَجِدُ فيها فراغاً كبيراً بين الصَّفِّ والآخرِ مما يَتَّسِعُ لصفٍّ خلالَها أو قريباً من ذلك فهذا أمرٌ مخالِفٌ لِسُنَّةِ النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وفي الغالبِ يكون هذا لِتَسَرُّعِهِم في إدراكِ الركعةِ فَيَأْتُونَ ويُنْشِئون صفاً آخرَ فلا يتقدمون ويَصُفُّون كما هو مطلوبٌ ، بل قد يَقَعُون في خطأٍ أكبرَ من ذلك إذا كان هناك صفوفٌ غيرُ ممتلئةٍ فيُنْشِئُون صفوفاً أخرى قبل أن تمتلئَ الصفوفُ التي فيها فَجَوَاتٌ ومَكانٌ لأن يُصلّيَ ليسَ واحداً فقط بل أحياناً يصلي فيه عددٌ ليس بالقليل .
3_ التراصُّ بين المصلي وبين من هو بجانبه يميناً وشمالاً .
4_ كما تكون التسوية من جهة الإمام بأن يُقبِلَ على المأمومينَ ويُوَجِّهُهُم ويحثُّهم على تسويةِ الصفوفِ ويبالغُ في ذلك ويتابعُ ذلك ولا يدخلُ في تكبيرةِ الإحرامِ إلا بعد أن تكونَ قد استوتْ الصفوفُ كما كان هديُ المصطفى عليه الصلاة والسلام .(1/48)
5_ ويلحَقٌ بذلك ما وجَّهَ إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله : " لِيَلِيَني منكم أولو الأَحْلامِ والنُّهى " ، فهذه أيضاً مما ينبغي أن تُلاحظ في تسويةِ الصفوفِ بأن يليَ الإمامَ أولو الأحلامِ والنُّهى ، وهذه للأسفِ من الأمورِ التي لا يُعْمَلُ بها في كثيرٍ من المساجدِ ؛ فتجدَ العوامَ خلفَ الأئمةِ بينما نجدُ العلماءَ أو الحفاظَ بعيدين يَمْنَةً أو يَسرةً ، وهذا التوجيهُ من النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرٌ مطلوبٌ وداخلٌ في هذا الباب .
- كيفيةُ التراصِّ بين المصلي ومن هو بجانبه :
وأما كيفيةُ التراصِّ بين المصلي وبين من هو بجانبه يميناً أو شمالاً ، فهذا التراصُّ يُخْبِرُنا أنسٌ - رضي الله عنه - فيما رواه الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه إذ يقولُ أنسُ بنُ مالكٍ - رضي الله عنه - فيما يرويه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " أقيموا صفوفكم فإني أراكم من وراء ظهري " ، فيقول أنسٌ بعد ذلك : " وكان أحدنا يُلْزِقُ مَنْكِبَه بمنكبِ صاحبِه وقدَمَه بقدَمِه " .
وقال النعمانُ بنُ بشير - رضي الله عنه - : " رأيت الرجل منا يُلْزق كعبَه بكعبَ صاحبه " . وهو في البخاري أيضاً .(1/49)
فهذه الآثارُ العمليةُ من الصحابةِ في بيانِ كيفيةِ التَّراصِّ بين المصلي وبين من هو بجانبِهِ ، وهذا العملُ من الصحابةِ كان في عهدِ النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولو كان مثلُ هذا النصِّ من غيرِ بيانٍ منه - صلى الله عليه وسلم - لكان حجةً لكونِ ذلك كان في زمانه ، فكيف مع التصريحِ بأنه كان بتوجيهٍ من النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم بأن يقيموا صفوفَهم ، وكانوا يفعلونَ ذلك معه - صلى الله عليه وسلم - وهم يُصلُّون خلفَه ، إذ لم يكنِ الأمرُ فقط أنه في عهدِ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقط بينما كان خلالَ صلاتهم مع الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - إذ هذا أبلغُ وأوضحُ وأصرحُ في الدلالةِ على أن هذا التوجيهَ هو التوجيهُ المأمورُ به كما فهم ذلك الصحابةُ وطبَّقُوه وعَمِلُوه ولا يُعلَمُ لهم مخالِفٌ البتة .
وقد صَرَّحَ الإمامُ ابنُ حزمٍ رحمه الله بإجماعِ الصحابة رضي الله عنهم على ذلك إذ جاءت آثارٌ عديدةٌ بذلك ولا يُعلَم لهم مخالِفٌ من الصحابة رضي الله تبارك وتعالى عنهم .(1/50)
ويجدرُ أن نشيَر أيضاً إلى أنه ليس هنالك تفريقٌ بين الرجالِ والنساءِ فيما يَخصُّ تسويةَ الصفوفِ ونحوِها إلا فيما يتعلقُ بتقديِم صفوفِ الرجالِ على النساءِ من حيث الخيرية ؛ وأن خيَر صفوفِ النساء آخرُها خلافاً لما هو شأنُ الرجال ، وأما ما عدا ذلك من الأحكامِ فالأمرُ فيه عامٌ والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد قال : " صلوا كما رأيتموني أصلي " ، وهذا التوجيهُ منه - صلى الله عليه وسلم - توجيهٌ عامٌ يشملُ الأمةَ كلَّها رجالاً ونساءً ، ولا يخرج من هذا العموم شيء إلا بدليلٍ من كتابِ الله أو بما صحَّ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا هو قولُ طائفةٍ من أهلِ العلم كما يقول إبراهيم النخعي رحمه الله : ( تفعل المرأة في الصلاة كما يفعل الرجل ) رواه ابنُ أبي شيبةَ عنه بسندٍ صحيحٍ ، وهذا قد نبَّهَ عليه شيخُنا الألبانيُّ رحمه الله في صِفَةِ صلاةِ النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال بعد ذلك : ( أما حديثُ انضمامِ المرأةِ في السجودِ وأنها ليستْ في ذلك كالرجلِ فهذا مرسَلٌ لا يَصِحُّ ) ، وكذلك ما رواه الإمامُ أحمدُ في مسائِلِ ابنِه عبدِ الله عن ابن عمرَ رضي الله عنهما أنه كان يَأْمُرُ نساءَه يَتَرَبَّعْنَ في الصلاةِ ، فهذا أيضاً لا يَصِحُّ .
ثم ذكرَ رحمه الله أثراً عن الإمامِ البخاري رحمه الله في ( التاريخ الصغير ) إذ روى بسندٍ صحيحٍ عن أمِّ الدرداءِ أنها كانت تجلسُ في صلاتها جِلْسَةَ الرجلِ وكانتْ فقيهةً رضي الله عنها ورحمها .
فهذا بيانٌ وذكرى في هذه المسألةِ ، وكما ذكرتُ هناكَ أقوالٌ لبعضِ أهلِ العلمِ في بعض الجلساتِ وبعضِ الحركاتِ فيما يخصُّ الصلاةَ في المفارَقَةِ بين الرجالِ والنساءِ ، ولكن الأصلَ أنه لا تفريقَ بين صلاةِ الرجلِ والمرأةِ إلا ما خَصَّه الشرعُ فإن صَحَّ منه شيءٌ فنأخُذُ به ، والله أعلم .(1/51)
ومن الأمورِ التي نُلاحِظُها من الإخلالِ في جانبِ تَسْوِيَةِ الصفوفِ أو بعبارةٍ أخرى في المبالغةِ في هذا الشأنِ مبالغةً تخالفُ الشرعَ ما نرى من المباعَدَةِ بين الأقدامِ حتى يكونَ الإنسانُ مُلْتَصِقاً بمن هو بجانبه يميناً أو يساراً ، وهذا في الحقيقةِ _ أي المباعدةُ بين الأقدامِ فقط مع إغفالِ التقاربِ بين المنكبين _ مخالفٌ للسنةِ ولهدي النبي - صلى الله عليه وسلم - .
فالإنسانُ يَرُصُّ نفسَه ويتقارَبُ مع من بجانبه من حيثُ القَدَمِ بالقدمِ والمنكبِ بالمنكبِ ، وأما المباعدةُ بين القدمين ويكونُ مع ذلك التباعُدِ بين المنكبين من الجهتين من اليمين والشمالِ ، فهذا مخالِفٌ للسنةِ النبوية . وإن مثلَ هذه الوقفاتِ قد يكونُ فيها شيءٌ من التَّكَلُّفِ .
- الأخطاء الواردة في تسوية الصفوف :
كما ذكرنا من الاهتمامِ بتسويةِ الصفوفِ وأنه مما يجبُ أن يُهتم به ومن الأمورِ التي يجب أن تُراعى ، فبخلافِ ذلك يُعَدُّ من الإهمالِ بها . ومن الأخطاءِ الواردةِ في التسويةِ بمعنى الإهمال :
ـ إن بعضَ الأئمةِ قد لا يلتفِتُوا إلى المأمُومينَ ولايَحُضُّونهم على تسويةِ الصفوفِ ولايُراعون الصفوفَ بأن تكونَ منضبطةً ، وهذا من الخللِ في ذلك .
ـ ويدخلُ فيه تركُ الفُرَجِ بين المصلي والآخر كما أشرنا .
ـ وكذلك تَوَلّي غيرُ أولي الأحلامِ والنهى الصلاةَ خلفَ الأئمةِ إذ قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لِيَلِيَني منكم أولو الأحلام والنهى " .
وأما ما يخصُّ حكمَ تسويةَ الصفوف :
فقد جاءتِ الأوامرُ كما سمعنا من الأحاديثِ النبويةِ الماضيةِ بالأمرِ بالتسويةِ كقوله - صلى الله عليه وسلم - : " أقيموا صفوفَكم " " سووا صفوفكم " " اعدلوا صفوفكم " كلُّ هذه أوامرٌ من المصطفى - صلى الله عليه وسلم - فيما يتعلقُ بحكمِ تسويةِ الصفوفِ .(1/52)
وقد ذهبَ كثيرٌ من العلماءِ إلى أن المرادَ بذلك من حيث الحكمِ هو الاستحبابُ ، واستدلوا على قولِ الاستحباب بحديث : " إن إقامة الصف من حسن الصلاة " ، وقالوا ما دامَ هذا من حسنِ الصلاةِ وحسنُ الصلاةِ شيءٌ زائدٌ على تمامها ، فاستدلوا بهذا على أن الأمرَ بالتسويةِ ليس للوجوبِ وإنما هو من بابِ الاستحبابِ ، و هذا هو رأيُ جمهورِ العلماءِ .
ولكنْ في الحقيقةِ الذي يتأمَّلُ هذه النصوصَ يرى شِدَّةَ اهتمامِ النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك وغضبَه وإنكارَه على من أخَلَّ بتسوية الصفوف ، حتى أنه لا يكاد أن يُكَبِّرَ ثم يرى ما يرى من خلل فيغضب - صلى الله عليه وسلم - لذلك ، ويؤكد هذا بالقسم " لَتَسُوَّنَّ صفوفكم " وكذا قوله صراحة " والله لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين قلوبكم " .(1/53)
أقولُ هذا الوعيدُ الشديدُ وهذا التأكيدُ من الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - يكادُ لا يكون يقالُ في تركِ شيءٍ مستحَبٍّ مندوبٍ فقط ، لذا ذهبَ الإمامُ ابنُ حزم الظاهريُّ رحمه الله إلى القولِ بوجوبِ تسويةِ الصفوفِ في الصلاة ، فقال : ( إنه فرضٌ على المأمومينَ تعديلُ الصفوفِ والتراصِّ فيها والمحاذاةُ بالمناكبِ والأرجلِ ) واستدلَّ ابنُ حزم بما ذكرنا من حديث النعمان بن بشير وما قاله أنس فيما رواه البخاري في صحيحه عنه حيث كان يقول : " وكان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه وقدمه بقدمه " ثم قال رحمه الله : ( وهذا إجماعٌ منهم ) . وهذه لفتَةٌ دقيقةٌ عظيمةٌ في الحقيقةِ ، ثم قال : ( وبقولِنا يقولُ السلفُ الصالحُ ، روينا بأصحِّ إسنادٍ عن أبي عثمانَ النهدي قال : كنت فيمن ضَرَبَ عمرُ بنُ الخطابِ قَدَمَهُ لإقامة الصفِّ في الصلاة ) يعني : عمر - رضي الله عنه - رأى من أَخَلَّ بذلك فضرب قدمَ هذا الْمُخِلِّ بتسويةِ الصفوف في الصلاة . قال ابن حزم : ( ما كان - رضي الله عنه - ليضربَ أحداً لتركِ مستحَبٍّ إنما لكونه فعل أمراً محرماً وترك شيئاً واجباً ) .
وكذلك حكى ابنُ حزمٍ أن عثمانَ - رضي الله عنه - كان يبعثُ رجلاً لذلك وأنه لا يُكَبِّرُ حتى يخبرَه باستواءِ الصفوفِ ، قال : فهذا فعلُ الخليفتيِن يَحْضُرُهُ الصحابةُ لا يُخَالفُهُم فيه أحدٌ .
فاستدَلَّ بهذا الكلامِ على وجوبِ التسويةِ ، أي : من فعلِ الصحابة رضي الله عنهم والتشديدِ منهم في ذلك وأنهم واصلوا ما كان يفعله - صلى الله عليه وسلم - .
كما أن الإمامَ البخاريَّ رحمه الله لما ذكر كلامَ أنسٍ - رضي الله عنه - ذَكَرَهُ ضمنَ بابِ إثمِ مَنْ لم يُتِمَّ الصفوفَ و هذا من فقهِ الإمامِ البخاري رحمه الله .(1/54)
وهذا كما ذكرنا اختصارٌ لكلامِ أهلِ العلمِ فيما يَتَعَلَّقُ بتسويةِ الصفوفِ ، وأن المؤمنَ وطالبَ العلمِ على الخصوصِ حرِيٌّ به أن يلتزمَ هديَ النبي - صلى الله عليه وسلم - ويحرصَ على ذلك في كل أمرٍ وفي سائرِ شؤونِ حياتِه ، لا سِيَّما في هذه العبادةِ العظيمة الجليلة .
- من فوائد النصوص الوارده في تسوية الصفوف :
إن النصوصَ الواردةَ في تسويةِ الصفوفِ في الصلاةِ نَجِدُ فيها فوائدَ عظيمةً ، منها :
ـ ما أَشَرْنا إليه من أن تسويةَ الصفوفِ في الصلاةِ تكونُ باعتدالِ القامةِ وسَدِّ الفُرَجِ .
ـ إن الجزاءَ من جنسِ العملِ ، وذلك لما تَوَعَّدَ اللهُ به من المخالفةِ بين الوجوهِ والقلوبِ لكونهم خالفوا بين الصفوف .
ـ جوازُ الكلامِ بين الإقامةِ والدخولِ في الصلاةِ عند الحاجةِ ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد إقامةِ الصلاةِ وعندَ إرادةِ التكبيرِ رَجَعَ لَمّا رأى رجلاً بادياً صدرُه قال له ....
ـ على الإمامِ قبل الدخولِ في الصلاةِ أن يُسَوِّيَ صفوفَ المصلين ويأمرَهم بذلك .
ـ غضبُ النبي - صلى الله عليه وسلم - على الإخلالِ بتسويةِ الصفوفِ .
ـ الأجرُ العظيمُ في إقامةِ الصلاةِ وتسويتِها لأن في ذلك امتثالاً لأمرِ النبي - صلى الله عليه وسلم - .
ـ إثباتُ معجزةٍ ظاهرةٍ للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهي رؤيتُه لمن وراءَه لما كان يصلي مع الصحابةِ رضوانُ الله عليهم .
ـ إقبالُ الإمامِ على الناسِ عند تسويةِ الصفوفِ .
فهذه طائفةٌ من الفوائدِ وغيرُها كثيرٌ من الفوائدِ التي نَسْتَفِيدُها من الأحاديثِ الواردةِ بشأن تسويةِ الصفوفِ والاهتمامِ بها .
وأسألُ الله - عز وجل - بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يجعلَنا من الذين يُقِيمونَ الصلاةَ حقاً كما أَمَرَنا ربُّنا تباركَ وتعالى وكما أرشدَنا إليه نبينا - صلى الله عليه وسلم - .
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد و على آله و صحبه وسلم
والحمد لله رب العالمين(1/55)
المحاضرة الرابعة
{ شرح حديث " الدين النصيحة " }
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، ومن يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله - صلى الله عليه وسلم - .
?????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????، ????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????، ?????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????أما بعد ،
فإن خير الكلام كلام الله - عز وجل - وأحسن الهديِ هديُ محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار .
أيها الأخوةُ والأخواتُ :
حديثُنا هذه الليلةَ هُو تَدَارُسٌ لحدِيثٍ عظيمٍ ؛ ألا وهو حديثُ تميمٍ الداريٍّ - رضي الله عنه - الذي يرويه الإمامُ مسلمٌ في صحيحِه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " الدينُ النصيحةُ ، قلنا : لمن يا رسولَ الله ؟ قال : للهِ ولكتابهِ ولرسولِهِ ولأئَمَّةِ المسلمينَ وعامَّتِهم " .(1/56)
وهذا الحديثُ رواهُ جَمْعٌ من الأَئِمَّةِ أصحابِ المصنَّفاتِ الحديثيَّةِ . ورواه الترمذيُّ والنَّسائيُّ وأبو داودَ والإمامُ أحمدَ والدارّمِيُّ ، كلُّهم من حديثِ تميمٍ الدّارِيِّ - رضي الله عنه - إضافة إلى رواية مسلمٍ التي ذكرناها في بدايةِ الحديث
وهذا الحديثُ ذكره الإمامُ البخارِيُّ في صحيحه تعليقاً .
- فائدة في الحديث المعَلَّق :
من بابِ الاستفادةِ ، نقولُ : الحديثُ أو الأثرُ المعلَّقُ هو – كما يقول العلماءُ – ما حُذِفَ من أوَّلِ إسنادِهِ راوٍ فأكثَرَ .
وهذا موجودٌ كثيراُ في صحيح البخاريِّ .
والحافظُ ابنُ حجَرَ رحمه الله قد أبانَ عن هذه التعليقاتِ التي ذكرها البخاريُّ في صحيحه وبَيَّنَ أن منها ما هو موصولٌ في صحيح البخاري في موضع آخرَ ؛ ومنها ما هو موصولٌ في صحيحِ مسلمٍ ؛ و منها ما هو موصولٌ في الصحيحين ؛ ومنها ما هو موصولٌ في كتبٍ أخرى بأسانيدَ مختلِفة . وما كان في غير الصحيحينِ منها فإن كان مجزوماً به من البخاري فهو صحيحٌ إلى مَنْ عَلَّقَهُ عنه .
وله في هذا كتابٌ عظيمٌ اسْمُه ( تغليقُ التَّعليق ) ، وقد لَخَّصَه في مقدِّمَةِ كتابه ( فتحُ الباري ) المُسَمّى ( هديُ السٍّاري ) .
والبخاريُّ يفعلُ ذلك لأسبابٍ كثيرةٍ بيَّنها الحافِظُ رحمه الله تعالى في كتابه المذكورِ .
- راوي الحديث :
هو الصحابيُّ الجليلُ تميمُ بنُ أوْسٍ بنِ خارِجَةَ بنِ سُوَيْدٍِ الداريُّ ، من بني الدار نسبةً إلى جدِّه الدار ، و يقال الدَّيْري نسبةُ إلى دير كان يتعبَّدُ فيه قبل الإسلام .
و تميمٌ رضي الله عنه كان نصرانياً فأسلم سنةَ تسعٍ من الهجرّةِ .
وهو من أفاضلِ الصحابةِ ، وله مناقبُ جَمَّةٌ كثيرةٌ ومتعدِّدَةٌ .
ومن مناقِبِه أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - حدَّثَ عنه في إحدى خُطَبِهِ بقِصًّة الجَسّاسةِ والدَّجَالِ .(1/57)
وحديثُ ( الدين النصيحة ) المشهورُ هو من روايةِ تميمِ الداري - رضي الله عنه - ، وقد جاءَ في غيرِ ما كتابٍ عن غيرِ تميمٍ ، ولكنَّ المشهورَ بالصحةِ روايةُ تميم - رضي الله عنه - .
- بعض نصوص الكتاب والسنة في النصيحة :
جاء ذِكْرُ النصيحةِ في كتابِ الله تعالى في آياتٍ كثيرةٍ ، فمنها :
ـ قولُه سبحانه وتعالى فيما يُخْبِرُ به عن نوحٍ عليه السلام في قوله لقومه :
{ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ }
وقال الله عنه:?????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????
وكذلك قال هودٌ عليه السلام لقومه كما أخبر الله : ?????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????
و قال صالح عليه السلام لقومه كما قال الله :
???????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????
وقال الله عز وجل عن شعيب عليه السلام : { يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِين } .
وكان هذا دأبُ جميعِ الأنبياءِ صلواتُ الله وسلامُه عليهم ، أي : النصحُ لله ولأنفسِهم لا ولأقوامِهم .
والنصحُ داخِلٌ ومتَضَمَّنٌ قولَه سبحانه وتعالى في السورةِ العظيمةِ سورةِ العصرِ إذ يقول جَلَّ شأنُه : ???????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????(1/58)
و ذلك لأن التواصي بالحقِّ والتواصي بالصبرِ ، وقبلَ ذلك الإيمانَ بالله - عز وجل - وبما أنزلَ اللهُ سبحانه وتعالى والعملَ الصالح ، هذا كلُّه من المعنى الصحيحِ للنصيحَةِ كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى ، ولما هو ظاهر جَلِيٌّ في بيانه - صلى الله عليه وسلم - لمعنى النصيحة .
* أما السُّنَّةُ فقد جاءَ ذكرُ النصيحةِ فيها لعامةِ المسلمين في أحاديثَ كثيرةٍ عن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فمن ذلك :
ـ حديثُ جريرِ بنِ عبد الله البَجَليِّ المشهورُ في الصحيحين أنه قال : " بايعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - على إقامةِ الصلاةِ وإيتاءِ الزَّكاةِ والنُّصْحِ لكلِّ مسلمٍ " .
ـ حديثُ أبي هريرةَ - رضي الله عنه - في صحيح مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " حقُّ المسلمِ على المسلمِ ستٌّ .. " فذكر منها : " وإذا اسْتَنْصَحَكَ فانْصَحْ لَهُ " .
* كذلك جاءتْ أحاديثُ عن المصطفى عليه الصلاةُ والسلام في النُّصْحِ لولاةِ الأمورِ ونصحِهم لرعاياهُم ، فمن ذلك :
ـ ما جاء في صحيح مسلمٍ عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " إن اللهَ يرضى لكم ثلاثاً : يرضى لكم أن تعبُدوه ولا تُشْرِكوا به شيئاً ، وأن تعتصِموا بحبْلِ الله جميعاً ولا تَفَرَّقوا ، وأن تُناصِحوا من وَلاّهُ اللهُ " .
وغير ذلك كثيرٌ في الأحاديث النبوِيَّةِ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
- الحديثُ من جوامِعِ الكَلِمِ :
يُعْتَبَرُ هذا الحديثَ العظيمَ " الدين النصيحة " من جوامِعِ كَلِمِ النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وذلك أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قد أُعْطِيَ جوامعَ الكَلِمِ واخْتُصِرَ له الحديثُ اختصاراً كما دلتَ على ذلك نصوصٌ عديدةٌ ثابتةٌ في السنَّة النبويةِ .(1/59)
فهذا الحديثُ العظيمُ من جوامعِ كَلِمِهِ - صلى الله عليه وسلم - إذ هذا الحديثُ وغيرُهُ من الأحاديث التي تُعّدُّ من جوامِعِ الكلمِ إذ هو كلماتٌ قليلةٌ من حيثُ العدَدِ ؛ لكن فيها من البداعةِ لشمولِها على كثيرٍ من الحِكَمِ وأنواعِ العلوم في كلماتٍ معدودةٍ محدودةٍ محصورةٍ ، وحسبُنا قوله - صلى الله عليه وسلم - : " بُعِثْتُ بجوامِع الكلم " ، كما في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - .
ولقد اعتنى العلماءُ كثيراً بالأحاديثِ التي تُعَدُّ من جوامعِ كَلِمِهِ عليه الصلاة والسلام ، ومن ذلك :
ـ صنَّفَ الإمامُ الحافظُ أبو بكرِ بنُ السُّنِّيّ رحمه الله كتاباً سماه ( الإيجاز وجوامع الكلم من السنن المأثورة ) .
ـ ذكر الإمامُ الخَطّابيُّ صاحب كتاب ( غريب الحديث ) في مُقّدِّمة كتابه المذكور عدداً من الأحاديثِ التي تُعَدُّ من جوامعِ كلمه - صلى الله عليه وسلم - .
ـ الإمام أبو عمروِ بنُ الصّلاح له مجلسٌ عقده جَمَعَ فيه الأحاديثَ التي تُعَدُّ من جوامعِ كَلِمِهِ - صلى الله عليه وسلم - والتي عليها مدارُ الدين .
ـ الإمامُ النووي رحمه الله تعالى ورحم جميعَ علماء الإسلام كان ممن اهتمَّ بذلك أيضاً في كتابِه الشهيرِ المعروفِ بـ ( الأربعون النووية ) فجمع هذه الإمامُ هذه الأحاديثَ الأربعين التي تُعَدُّ من جوامع الكلم ، وزاد عليها بعدَه الحافظُ ابنُ رَجَبٍ رحمه الله تعالى بضعةَ أحاديث وشَرَحَها في كتابٍ قيِّمٍ عظيمٍ مشهورٍ وهو المسمى بـ ( جامعُ العلومِ والحِكَم ) وهو كتاب جديرٌ بأن يقتَنِيَه كلُّ طالبِ علمٍ و أن يكون في كلِّ بيتٍ ، لشُمُولِه على علومٍ شتّى وفوائدَ جَمَّةٍ .
- كلام العلماء على أهمية هذا الحديث :
للعلماءِ على أهميةِ هذا الحديثِ كلامٌ كثيرٌ ، فمن ذلك :(1/60)
ـ قولُ الإمامِ أبي داودَ رحمه الله : ( أقمتُ بطَرَسوسَ عشرين سنةً أكتبُ المسندَ فكتبتُ أربعةَ آلاف حديثٍ ، ثم نظرت فإذا مدارُ الأربعةِ الآلاف على أربعةِ أحاديثَ لمن وَفَّقَه اللهُ تعالى :
فأَوَّلُها حديثٌ " الحلالُ بَيِّنٌ والحرامُ بين " .
وثانيها حديث " إنما الأعمالُ بالنيات " .
وثالثها " إن الله طيبٌ لا يقبلُ إلا طيباً " .
ورابعها " من حُسْنِ إسلامِ المرءِ تَرْكُهُ ما لا يعنيهِ " .
قال النووي رحمه الله مُعَقِّباً :
قلت : وقد قيلَ إن مدارَ الإسلامَ على حديثَ " الدين النصيحة " .
ـ ذكر الإمام ابنُ الصلاح أن الفقهَ يدورُ على خمسةِ أحاديثَ وذكر منها هذا الحديث .
- شرح الحديث :
ذكرنا أن العلماءَ لهم كثيرٌ حولَ أهميةِ هذا الحديثِ وأنه يدورُ عليه الإسلامُ أو الدينُ ، ولا غرابةَ في ذلك بعدَ قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " الدين النصيحةُ " ، وذلكَ لأن هذا النصَّ من النبي - صلى الله عليه وسلم - يفيدُ الحصرَ ؛ فأفاد حصرَ الدينِ بالنصيحةِ ، وهذا دليلٌ على مكانتِها وأهمِّيَتِها وعظمتِها
أو يكونُ المرادُ مكانةَ النصيحةِ إلى غيرها من أمورِ الدينِ كما قال عليه الصلاة والسلام بشأن الحجِّ : " الحجُّ عرفةُ " ، ومعروفٌ مكانةُ عَرَفَةَ بالنسبةِ للحج ولسائرِ أعمالِ الحج . و الأوَّلُ أوجَهُ لشُمُولِ النصيحةِ كما بَيَّنَ المصطفى - صلى الله عليه وسلم - على الدينِ كله .
ـ قوله - صلى الله عليه وسلم - ( الدين النصيحة ) :
ما معنى النصيحة وما المراد بها ؟
يقولُ العلماءُ : النصيحةُ من حيثُ اللغة مأخوذةٌ من معنيين :
1ـ المعنى الأول : أنها مأخوذةٌ من قولكَ : نصَحْتُ العسلَ ، أي : صَفَّيْتُه من شوائِبِهِ .
2ـ المعنى الثاني ، من قولِكَ : نصَحْتُ الثوبَ ، أي : خُطْتُ الثوبَ مما أصابَه من تَشَقُّقٍ ونحوِ ذلك .(1/61)
ووجهُ العلاقةِ بين المعنى اللغويِّ للنصيحةِ وبين ما سيأتي من كلامِ العلماءِ للنصيحةِ بالمعنى الاصطلاحيِّ أنك إذا نصحتَ العسلَ فقد صَفَّيتَه من شوائبه ؛ فكذلك المَرْءُ لما ينصحُ نفسه بما أمرَ اللهُ وينصحُ غيرَه فكأنما يُصَفّي نفسَه مما عَلِقَ بها من شوائبِ وبما علق من أخيه المسلمِ من شوائِبٍ
وكذلك بالمعنى الآخر ، عندما ينصَحُ المرءُ نفسَهُ وينصَحُ غيرَه ؛ فكأنما يَلُمُّ ما تَشَتَّتَ وتفرَّقَ من نفسه أو من أخيه ، وهذا وجهُ العلاقةِ بين المعنييِن اللغويِّ والاصطلاحي .
وأما كلامُ العلماءِ في تحديدِ وتعريف هذه الكلمةِ الجامعةِ النافعةِ ، فلهُمْ كلامٌ كثيرٌ يدورُ على أن النصيحةَ كلمةٌ يعبَّرُ بها عن جملةٍ هي ( إرادةُ الخيرِ للمنصوحِ له سواءٌ كان لنفس المرءِ أم لغيرهِ ) .
ولا يمكن أن يُعَبَّرَ عن هذا المعنى بكلمةٍ واحدةٍ ويجمعُ معناها غيرها . أي : مهما بلغَ الإنسانُ ومهما أوتيَ من فصاحةٍ لا يستطيعُ أن يأتيَ بكلمةٍ جامعةٍ مانعةٍ تقومُ مقامَ هذه الكلمةِ العظيمةِ وتؤدّي معناها المطلوب .
ولهذا يقولُ بعضُ الأئمَّةِ : إن النصيحةَ تُسَمّى ديناً وإسلاماً ؛ لأن الدينَ يقع على العملِ كما يقعُ على القولِ ، ولهذا تكلَّم العلماءُ على هذا الحديث كثيراً من جوانبَ عدةٍ لشموله على الدينِ وعلى الإسلامِ والإيمانِ والإحسانِ .
ـ النصيحةُ لله تعالى :
إن الله - عز وجل - غنِيٌّ عن العالمين ، وغني عن كل ناصحٍ ، وإنما المرادُ من قولِه - صلى الله عليه وسلم - لما سُئل لمن تكون النصيحةُ وبيانُه بأن النصيحةَ تكونُ لله - عز وجل - ، إنما مرادُه أن ينصحَ الإنسانُ نفسَه تجاهَ ربِّه تبارك وتعالى ، وأن ينصحَ غيرَه من الخلقِ تجاهَ ربِّه تبارك وتعالى .
فالأمر مُنْصَرِفٌ إلى الإيمانِ بالله سبحانه وتعالى بربوبِيَّتِه وألوهيته وبأسمائِه وصفاتِه ، وبنفيِ الشركِ عنه وتركِ الإلحادِ بأسمائه وصفاته تبارك وتعالى .(1/62)
فالإيمانُ الحقُّ بالله سبحانه وتعالى يكونُ كما أوْجَبَ علينا دينُنا بإثباتِ ما أثبتَ الله لنفسه في كتابه وبما بَيَّنَه لنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فيما صحَّ عنه . هذا هو الإيمانُ الحقُّ و بالتصديقُ بما جاءَ به ربُّنا - عز وجل - وبما أخبرَ به نبيُّنا - صلى الله عليه وسلم - فيما صحَّ عنه .
هذا الإيمان الحقُّ والتصديقُ بما جاء به ربُّنا وبما أخبرَ به نبيُّنا - صلى الله عليه وسلم - عن ربه هو من النصيحةِ لله ومن نصيحةِ المرءِ لنفسه ونصيحتِه لغيره ، إذِ النصيحةُ لله تستلزمُ الإيمانَ التام بكلِّ ما أوجَبَ الله سبحانه لنفسه أو أوجَبَه نبيه - صلى الله عليه وسلم - وتعظيمَ ذلك وأداءَ ما أوجبَ اللهُ علينا نحوه .
ـ النصيحة لكتاب الله :
الواجبُ على المرءِ أن يُؤْمِنَ بأن القرآنَ الكريمَ هو كلامُ اللهِ تبارك وتعالى أنزله ربُّنا سبحانه على نبينا - صلى الله عليه وسلم - ، وأن هذا الكلامَ مُعْجِزٌ .
ومن النصيحةِ لكتابِ الله تعالى أن يُؤْمِنَ العبدُ بأن القرآنَ الكريمَ كلامُ الله حقيقةً ـ تكلَّمَ اللهُ تعالى به بحرفٍ وصوتٍ ، و أنزله على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - وأن الله تعالى قد تكفّلَ بحفظِ هذا لقرآن الكريم كما في قوله - عز وجل - : ????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????? وأن نؤدِّيَ حقَّ هذا الكتاب العظيمِ من الإيمانِ به بأنه معجِزٌ ، وأن نَتْلُوَهُ حقَّ تلاوته ، وأن نتدبَّرَه ، و نعملَ به ، ونتحاكمَ إليه ، وأن نحافظَ عليه وعلى حروفِه ، وأن ندافِعَ عنه مما يمكنُ أن يتعرَّضَ له من بعضِ الْمُغْرِضِينَ و أصحابِ الأهواءِ .(1/63)
فالنصيحةُ لكتابِ الله تستلزِمُ تعظيمَ هذا القرآنِ وتَنْزِيهَهَ عن كلِّ ما لا يليقُ ، ومدارُ ذلك كله هو الإيمانُ بما أخبرّ به سبحانه وتعالى وبما بَيَّنَهُ نبيُّنا - صلى الله عليه وسلم - وهذا هو المِعْيارُ في كافَّةِ قضايا الإيمانِ .
ـ النصيحة للرسول - صلى الله عليه وسلم - :
وذلك بالإيمان بنبوَّة ورسالَةِ محمد - صلى الله عليه وسلم - ونصرته حياً وميتاً ، فمن كان في حياته كان واجباً عليه أن ينصرَه ، ومن لم يدرِكْهُ وجب عليه أن ينصرَه و ذلك بالإيمانِ به - صلى الله عليه وسلم - وباتباع سنَّته وإطاعةِ أوامرِه واجتنابِ نواهيه . ومن لوازمِ النصحِ له - صلى الله عليه وسلم - العملُ على نشرِ الشريعةِ والدعوى إليها والتمسُّكِ بآدابها وبما أمرتْ وَوَجَّهَتْ إليه من التعاليمِ من هذين الوحيين كتابَ الله تعالى وسنَّةَ نبيه - صلى الله عليه وسلم - .
ومن لوازِمِ النصحِ للرسولِ عليه الصلاة والسلام التمسُّكُ بسنة المصطفى عليه الصلاة والسلام والرجوعُ إلى السنَّة مع كتاب الله في التحاكمِ إليها في كل شؤون الحياة .
ومن النصحِ أيضا أن يَتْبَعَ المرءُ ما صحَّ له عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأن لا يُفَرِّقُ بينها وبين القرآن بمعنى : أن يأخذ بما جاء في القرآن ويعرضَ عما جاء في السنة النبوية فهذا إعراضٌ عن السنة وإعراضٌ عن كتابِ الله تعالى .
ـ النصيحةُ لأئمَّةِ المسلمينَ :
أي خلفاؤُهم وقادتُهم و علماؤُهم .
والنصيحةُ لهم تكونُ بمعاونَتِهم على الحقِّ ، وطاعتِهم فيه ، وتنبيهِهم وتذكيرِهم برفْقٍ ولُطْفٍ ، وإعلامِهم بما غَفَلُوا عنه ، وتركِ الخروجِ عليهم ، والدعاءِ لهم بالتوفيقِ والرشدِ والهدايةِ ولقد أُثِرَ عن الإمام أحمد رحمه الله قولُه (( لوكان لي دعوةٌ مستجابةٌ لجعَلْتُها للسلطانِ )) و ذلك لما هو معلوم من أثر صلاح الحاكم على الرعية.
ـ النصيحة لعامة المسلمين : ٍ(1/64)
وهؤلاءِ أي عامةُ المسلمينَ غيرُ ولاةِ المسلمينَ ممن سبق ذكرُهم ، فهنا النصيحةُ لعامة المسلمين
ومعنى النصيحةِ لعامة المسلمين : إرشادُ عامَّة المسلمينَ لمصالحهم في أمور أخراهم ودنياهم وكفِّ الأذى عنهم ، فيجب أن يُعَلَّموا ما جهِلوا من دينَهم ، ويُعانُوا عليه بالقولِ والفعلِ ويُدفَع الضررُ عنهم ويسعىُ إلى جلب المنفعة لهم . و من ذلك أن يوجَّهوا بالموعظة الحسنة وترك الفحشِ والحسدِ ، وأن يحب المرءُ ما يحبُّ لنفسه من الخير ، وأن يكره لهم ما يكره لنفسه من الشر .
فالنصيحة لعامة المسلمين أمرٌ عظيمٌ ، ينبغي على المرء أن لا يغفلَ عنها لوصيَّةِ النبي - صلى الله عليه وسلم - .
- النصح أنواع :
إن من أنواعِ النصحِ ما هو خاصٌّ ومسؤوليةٌ كبرى ، وهو ما يختصُّ به العلماءُ ، وذلك أن العلماءَ ورثةُ الأنبياءِ ، فعليهم مسؤولية عظيمةٌ في النصحِ لله تعالى ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا من خصوصياتِ العلماءِ الذين هم ورثةُ الأنبياء .
فهم الذين يتولَّوْن إقامةَ هذا الدينِ ونَشْرَه والدفاعَ عما يُنْسَبُ إليه .
وهم الذين إذا أخطأَ أحدُ العلماءِ – لأنهم غير معصومين – قاموا ببيانِ هذه الزلَّة بالحكمةِ وبالأسلوبِ الحسن ، لأن هذه أمانةٌ ومسؤوليةٌ .
وكذلك يبيِّنوا و يُوَضِّحوا كتابَ الله وسنَّةَ نبيه - صلى الله عليه وسلم - للأمَّةِ ، وهذا من تَمَامِ النُّصْحِ .(1/65)
ويدافِعوا عن كلِّ ما يُنْسَبُ إلى كتابِ الله أو سنةِ رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، فقامَ العلماءُ بهذا الواجبِ حقَّ القيامِ وبيّنوا حديثَ النبي - صلى الله عليه وسلم - وبَيَّنوا الصحيحَ من السقيمِ ، واعْتَنَوا بذلك عنايةً متميزةً لا توجدُ في دينٍ من الأديانِ ، وهذا من حفظ الله - عز وجل - للدينِ ، ومن قيامِ العلماءِ بواجبِ النصحِ لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم . ولعلَّ هذا من خصوصياتِ هذه الطائفة المبارَكة ، أعني قيامَ العلماءِ بهذا الواجب .
وتجبُ النصيحةُ أيضاً ولو كانت في أمرِ من الأمورِ الخاصةِ غيرِ العامة ، وخاصة إذا طُلِبَتْ كما أشارَ إلى ذلك الإمامُ ابنُ تيميةَ رحمه الله مشيراً إلى حديثِ فاطمةَ بنتِ قيسٍ رضي الله عنها لما اسْتَشَارتِ النبي - صلى الله عليه وسلم - فيمن تنكِحُ ، وأخبرته أنه قد خَطَبَها معاويةُ وأبو جهمٍ ، فقال لها : " أما معاويةُ فصعلوكٌ لا مالَ له ، وأما أبو جهمٍ فضرّابٌ للنساءِ " . فيشير هنا إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بيَّنَ ما يجبُ أن يُبَيَّنَ لما استُنْصِحَ من قِبَلِ فاطمةَ بنتِ قيسٍ ، وأخبرَ عما يعلم عنْ كلِّ واحدٍ منهما ، وكان هذا نُصْحاً لها وهي فردٌ في الأمةِ .
فإذا كان بيانُ هذا العيبِ في هذا الخاطبِ الذي هو فَرْدٌ ، فكيف يكونُ النصحُ فيما يتعلقُ به حقوقُ عمومِ المسلمين من الأمراءِ والحكامِ والشهودِ والعمالِ وغيرهم . يقول شيخ الإسلام رحمه الله : فلا ريبَ أن النصحَ في ذلك أعظمُ كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "الدين النصيحة ، قلنا : لمن يا رسول الله ؟ قال : لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم " .
و إن الذي يُبَيِّنُ دينَ الله ويدافعُ عنه ويَرُدُّ على أهلِ البِدَعِ ضلالاتِهم ومنكراتِهم ، فهذا نفعُهُ لعمومِ المسلمين ، فنفعُه أكبرُ وأعظمُ من الذي يعملُ نفعاً ولا يعودُ نفعُه إلى على نفسه .(1/66)
وهذا كما أَشَرْتُ فقهٌ عظيمٌ جليلٌ من هذا الإمامِ المباركِ شيخِ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى .
- الفرق بين النصيحة والتعيير :
من الأمورِ التي يجب أن نلاحظَها : أن العلماءَ ذكروا وفرَّقوا بين النصيحةِ والتَّعْيِير ، وذلك أنه هناك حالاتٌ ينبغي أن تكونَ النصيحةُ فيها سراً بين الناصحِ وبين المرادِ نصحه فقط ، ولا تكون النصيحةُ علنيةً لأنه بهذه الطريقةِ لا تكون هناك نصيحةٌ وإنما تكونُ نشرٌ لما وَقَعَ فيه ذلك الأخُ . وهذا أمرٌ من الأمورِ يجبُ أن يلاحِظَها المسلم ، وهذه في الغالبِ تكون في الحالاتِ الخاصةِ والفَرْدِيَّةِ ، وأما إذا كان الخطأُ على وجهِ العُمومِ بمعنى أنه أخطأ في أمرٍ أمامَ الناس فيمكنُ أن يبيَّنَ ذلك له ، فإن رجعَ عن ذلك حَصَلَ المقصودُ وإلا بعدَ ذلك يبين للناسِ علانيةً بالحكمةِ و لا حَرَجَ عليه في ذلك .
والمقصودُ أنه هنالك ضوابط ، فهناك حالاتٌ يبين فيها النُّصحُ للأمةِ على الوجه العلني ، وهناك حالاتٌ تكون فيها النصيحةُ على الوجهِ الخاصِّ بعدم نشرِها ، وأن تكونَ بين الناصحِ وبين المرءِ المرادِ نصحُه كما أشَرْنا ، وهذا في الغالبِ يكون أنفعَ وأوقعَ في النفس كما نعلمُ من الأخطارِ والآثارِ الناتجةِ عن النصيحةِ الْعَلَنِيَّةِ أمامَ الناسِ أجمعين .
هذه بعضُ الأمورِ أحببتُ أن أُذَكِّرَ بها نفسي أولاً من تعاليمِ هذا الحديثِ العظيمِ ، والكلامُ فيه طويلٌ كما هو معلومٌ ، والحديثُ محفوظٌ مشهورٌ عند الصغارِ والكبارِ ، ولكننا بحاجةٍ دائماً إلى نتذاكرَ في أحاديثِ نبينا عليه الصلاة والسلام .(1/67)
وأسألُ الله سبحانه وتعالى أن يجعلَني وإياكم مفاتيحَ للخيرِ مغاليقَ للشَّرِّ ، وأن نكونَ ممن ينصحون أنفسَهم تجاهَ ربهم - عز وجل - وتجاهَ كتابِه الكريمِ ، وتجاهَ نَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم - و تجاهَ أئمَّتِنا أو تجاهَ عامتنا حتى نكونَ كما أَمَرَنا ربُّنا وكما أرشدَنا إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - .
واللهَ أسألُ لي ولكم التوفيقَ و السدادَ .وأن يرزُقَنَا حسنَ القولِ والعملِ .
المحاضرة الخامسة
{ شرح حديث " حق المسلم على المسلم " }
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، ومن يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله - صلى الله عليه وسلم - .
?????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????، ?????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????، ???????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????أما بعد ،
فإن خير الكلام كلام الله - عز وجل - وأحسن الهديِ هديُ محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وشرَّ الأمور محدثاتُها ، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ ، وكلَّ ضلالةٍ في النار .
إخوة الإسلام :(1/68)
مرحباً بكم في هذه المحاضرة من محاضرات الدورة المفتوحة في علوم الحديث . وموضوعنا هذه الليلةَ المباركةَ إن شاء الله تدارسٌ في حديثِ النبي المصطفى - صلى الله عليه وسلم - :" حقُّ المسلمِ على المسلم ستٌّ "
- رواية الحديث وطرقه وألفاظه :
هذا الحديث رواه الإمام مسلمُ بنُ الحَجّاج في صحيحه فقال رحمه الله :
حدثنا يحيى بنُ أيوبَ وقُتَيْبَةُ وابنُ حُجْرٍ قالوا : حدثنا إسماعيلُ وهو ابنُ جعفر ، عن العلاءِ ، عن أبيه ، عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " حقُّ المسلمِ على المسلمِ ستٌّ ، قلنا : ما هي يا رسول الله ؟ قال : إذا لقيتَه فَسَلِّمْ عليه ، وإذا دعاكَ فأَجِبْهُ ، وإذا استَنْصَحَكَ فانصحْ له ، وإذا عَطَسَ فحَمِدَ اللهَ فشَمِّتْهُ ، وإذا مرِض فعُدْهُ ، وإذا مات فاتبعه " .
هذا الحديث كما ذكرنا رواه الإمام مسلم في صحيحه وسنده الذي تقدم .
وروى الشيخان : البخاري ومسلمٌ هذا الحديثَ عن أبي هريرةَ ، ولكن فيه أن حقَّ المسلمِ على المسلم خمسٌ ، وذكر ردَّ السلامِ بدلاً من إلقائه ، وعيادةَ المريض ، واتباعَ الجنائزِ ، وإجابةَ الدعوةِ ، وتشميتَ العاطسِ ، فهذه خمسٌ ، والتي لم تذكَرْ هي : وإذا استنصحك فانصح له .
وجاء في الصحيح قوله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه البراء بن عازب : " أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسبعٍ : أمرنا باتباع الجنائز ، وبعيادة المريض ، وبإجابة الداعي ، وبنصر المظلوم ، وبإبرار القسم ، وبرد السلام ، وبتشميت العاطس " ، فهذه سبع ذُكِرَت في حديث البراء و هي من أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وفي هذا الحديث ؛ حديث البراء ، أمران زائدان وهما : نصرُ المظلومِ وإبرارُ المقسم ، ولم يُذْكَرْ في هذا الحديث " وإذا استنصحك فانصحه " .
- شرح الحديث :(1/69)
هذا الحديثُ العظيمُ عن الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - في بيانِ حقِ المسلمِ على المسلم أمرٌ يجب أن نتدبَّرَه وأن نتفكَّرَ فيه وأن لا نغفلَ عنه ، لأنه وإن كان محفوظاً عند الصغار والكبار ؛ لكنه في الحقيقة يجب علينا أن نتأمَّلَهُ لكي يعلمَ المسلمُ حقَّ أخيه عليه ، وحتى يؤديَ هذا الحقَ ولا يعتريه شيءٌ من التقصيرِ أو الخللِ .
وأولُ هذه الحقوق المذكورة في هذا الحديث النبوي العظيم :
1ـ إلقاءُ السَّلامِ :
والسلام فضلُه عظيمٌ جداً إذ يقول الله سبحانه وتعالى : ?????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????سورة النور ، آية : 27 ) . ويقول سبحانه : { ?????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????? } ( سورة النور ، من الآية : 61 ) ، ويقول سبحانه : ???????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????سورة النساء ، الآية : 86 ) ، ويقول تعالى :??????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????سورة الذاريات ، الآية : 24و25 )
فأصلُ السَّلامِ مذكورٌ في كتابِ الله - عز وجل - على وجهِ الأمر والثناءِ .
وأما السنةُ النبويةُ فالنصوصُ فيها كثيرةٌ في فضل السلام والأمرِ بإفشائِهِ والإرشاداتِ المتعلقةِ بشأنه ، ومن ذلك :(1/70)
ـ ما رواه البخاريُّ ومسلمٌ من حديث عبدِ اللهِ بنِ عمروِ بنِ العاصِ رضي الله عنهما أن رجلاً سأل النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - : أيُّ الإسلامِ خيرٌ ؟ قال : " تطعمُ الطعامَ وتقرأُ السلامَ على من عرَفْتَ ومن لم تعرِفْ " .
ـ وكذلك روى الشيخان عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " لما خلق الله تعالى آدم عليه السلام ، قال : اذهب فسَلِّمْ على أولئك ، لنفرٍ من الملائكةِ جلوسٌ، فاستمِعْ ما يُحَيّونك ، فإنها تحيُّتُكَ وتحية ذُرِّيَّتِكَ ، فقال : السلام عليكم ، فقالوا : السلام عليك ورحمة الله ، فزادوه : ورحمة الله " .
ـ وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه مسلمٌ من حديثِ أبي هريرة - صلى الله عليه وسلم - : " لا تدخلوا الجنةَ حتى تؤمنوا ، ولا تؤمنوا حتى تحابُّوا ، أَوَلا أدلُّكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم ؟ أفشوا السلام بينكم " .
ـ ما رواه أبو داود والترمذي من حديث عمرانَ بنِ حُصَيْنٍ قال : جاء رجلٌ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : السلام عليكم ، فَرَدَّ عليه ، فجلس ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "عشرة " ، ثم جاء آخر فقال : السلام عليكم ورحمة الله ، فرد عليه فجلس ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : " عشرون " ، ثم جاء آخر فقال : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، فرد عليه فجلس ، فقال : " ثلاثون " . قال الترمذي : حديث حسن ، وأخرجه البخاري في ( الأدب المفرد ) ..
وهذا الحديث قوَّى إسنادَه الحافظُ ابنُ حجر في كتابه ( فتح الباري ) .
ـ و لقد جاء في ( الأدب المفرد ) بإسنادٍ صحيحٍ عن ابنِ مسعودٍ أنه مرَّ عليه رجلٌ فقال : السلام عليك يا أبا عبد الرحمن ( يعني : ابن مسعود ) فردَّ عليه عبد الله بنُ مسعود ثم قال : إنه سيأتي على الناس زمانٌ يكون السلامُ للمعرِفَةِ .(1/71)
فإخبارُ بعضُ الصحابةِ رضي الله عنهم أن من أشراط الساعة السلامَ للمعرفة ، مما لا يُقالُ من جهةِ الرأي ، وهم قد علموا كما سبق عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سئل أي الإسلام خير ؟ فقال : " تطعمُ الطعامَ وتقرأُ السلامَ على من عَرَفْتَ ومن لم تعرِف "
وهذا للأسف مشاهَدٌ في زماننا ، فلا نكاد نجد السلام بين المسلمين للأسف إلا إذا كان هناك معرفة ، إلا من رحِمَ اللهُ وقليل ما هم .
ـ ما جاء في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي يقول فيه : " مَا حَسَدَتْكُمْ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ مَا حَسَدَتْكُمْ عَلَى السَّلَامِ وَالتَّأْمِينِ " .
والسلام كما جاء في بعض الروايات اسم من أسماء الله تبارك وتعالى .
ولقد كان من حرصِ الصحابةِ رضوانُ اللهِ عليهم وامتثالاً منهم لإرشاداتِ وتوجيهاتِ النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم إذا كانوا يسيرون وحال بينهم شجرةٌ أو حجر أو جدارٌ ثم التقَوا ؛ يُسَلِّمُ بعضُهم على بعض امتثالا لما جاء في بعض الأحاديث النبوية .
ولقد بلغ الأمرُ من ابنِ عمرَ رضي الله عنهما ، وهو المعروفُ بشدَّةِ حِرْصِهِ واتباعه لسنة المصطفى عليه الصلاة والسلام أنه كان ينزل إلى السوق وليس له حاجةٌ في السوق من التسوُّقِ أو غير ذلك ، لا ينزل إلا ليسلم على الناس ليأتمِرَ بقوله - صلى الله عليه وسلم - : " أفشوا السلام بينكم " ، ولينال الأجرَ العظيم في هذا العمل .
وهكذا كان شأنُ صحابةِ النبي - صلى الله عليه وسلم - في الامتثالِ والالتزامِ بجميع ما يوجههم إليه نبيُّ الهدى - صلى الله عليه وسلم - من أوامر الله و أوامره .
- حكم السلام :
وأما ما يخص حكمَ إلقاء السلام ، فقد ذكر طائفةٌ من أهلِ العلمِ أنه للوجوبِ لأمرِ النبي - صلى الله عليه وسلم - به ، ولكونه حقاً من حقوق المسلم على أخيه ، فإذا لقيَه وقابَلَهُ كان لازماً أن يبدأه بالسلام .(1/72)
وذكر طائفةٌ من أهل العلم أن الابتداءَ بالسلامِ مستحبٌّ ، ولكنَّ الرَّدَّ هو الواجبٌ .
فالردُّ واجبٌ باتفاقِ أئمةِ الإسلامِ ، وإنما الخلافُ وقع في وجوبِ ما يخُصُّ إلقاءَه .
- ومن الأمور المتعلقةِ بالسلامِ
ومن الأمور المتعلقة بالسلام أنه لا ينبغي للإنسانِ أن يبدأ بالسؤال أو الكلام قبل أن يسلم كما وَجَّهَ إلى ذلك النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذ جاء في بعض النصوص : " السلامُ قبلَ السؤالِ " وفي بعضها : " السلام قبل الكلام ، فمن بَدَأَكُم بالكلام قبل السلام فلا تُجيبوه " .
ومن المخالفات في هذا ما نجده ممن يستعمل الهاتفَ من الابتداءِ بكلماتٍ غيرِ صيغ السلامِ ، فهذه من المخالفاتِ ، وحَرِيٌّ بالمسلمِ أن يفاتِحَ أخاهُ المسلمَ بالسلامِ كما وجَّهَ إلى ذلك نبيُّ الهدى - صلى الله عليه وسلم -
- مسائل من هديه - صلى الله عليه وسلم - في السلام :
ـ كان من هديه - صلى الله عليه وسلم - أنه يسلِّمُ على أهله إذا دخل المنزلَ .
ـ وكان من هديه أيضاً أن يسلم على الصبيان إذا مرَّ بهم .
ـ كما أرشدَنا النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى مخالفةِ اليهودِ والنصارى في أمرِ التسليمِ فَنَهى عن التسليمِ بالإشارةِ إذ أن التسليمَ بالإصابعِ من شأن اليهود ؛ والتسليمَ بالأَكُفِّ من شأن النصارى إذ قال رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَشَبَّهَ بِغَيْرِنَا لَا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ وَلَا بِالنَّصَارَى فَإِنَّ تَسْلِيمَ الْيَهُودِ الْإِشَارَةُ بِالْأَصَابِعِ وَتَسْلِيمَ النَّصَارَى الْإِشَارَةُ بِالْأَكُفِّ " .
ـ وجاء أنه - صلى الله عليه وسلم - سلم على النساء أيضاً ، فقد ثبت أنه مرَّ على نسوةٍ فسلَّمَ عليهنَّ .
و الأمرُ في السلامِ على النساءِ يُراعى فيه دفعُ المفاسدِ و يَرجع الأمرُ فيه أيضاً إلى العرفِ ، وإذا طرقَ الإنسانُ بيتاً أو اتصل بهاتفٍ فردت عليه امرأة فيبدأ بالسلام .(1/73)
والمقصودُ بالسلامِ على النساء هو السلامُ بالقولِ وبالكلامِ وليس بالمصافحةِ كما هو واضحٌ ، إذا أن مصافحةِ الرجلِ للمرأةِ الأجنبيةِ أي التي لا تَحِلُّ له من الأمور المحرَّمة ، ولقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يبايعُ النساء بالقولِ ولم يصافحْ امرأةً قطُّ عليه الصلاة والسلام ، بل جاء التحذيرُ والوعيدُ في مصافحةِ المرأة الأجنبيةِ في حديثٍ فيه : " لَأَنْ يُطْعَنَ في رأسِ أحدِكم بمِخْيَطِ من حديدٍ خيرٌ له من أن يَمَسَّ امرأةً لا تحِلُّ له " وصح عنه قوله - صلى الله عليه وسلم - : " إني لا أصافح النساء " .
ومن العجب ما يزعمُهُ بعضُ الناس من أن السلام على النساء من غير مصافحة فيه شيءٌ من الكبرٍ ، وهذا مما يوسوسُ ويُزَيِّنُ به الشيطانُ لبعض الإخوة أو الأخوات في هذا الشأن . وهذا القول هو في الحقيقة انتقاصٌ من أمرِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وهديِهِ لأنه كان مع الحاجة في أمر عظيم ألا وهو البيعةُ ، ومع ذلك كان يعتَذِرُ ويمتنعُ عن مصافحةِ النساء بقولهِ : " إني لا أصافحُ النساءَ "
فأنّى لامرئٍ أن يزعم أن امتناعه - صلى الله عليه وسلم - عن مصافحةِ النساء كان عن كِبْرٍ ، والعياذ بالله عز وجل
فهذه المسألة أردت أن أذكر بها لما نسمعه من بعض الطوائف والجماعات التي تنادي بتطبيق الإسلام ولكنها للأسف تتساهل في هذا الأمر وتزْعُمُ أنه يجوزُ للرجلِ أن يصافحَ المرأةَ الأجنبيةَ بل قد يبالغُ بعضُهُم بشيءٍ أكبرَ من هذا القول .
وهذا كلُّه يتنافى مع الإسلام ومع تشريعِ النبي - صلى الله عليه وسلم - ومع هديه عليه الصلاة والسلام .
ـ ومن تعليماتِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أن يسلِّمَ القليلُ على الكثيرِ ، والراكبُ على الماشي ، والقائمُ على القاعدِ ، والماشي على الجالسِ ، و الصغير على الكبير ، كما صح ذلك عنه صلوات الله وسلامه عليه .(1/74)
ـ ويُجْزِئُ عن الجماعة أن يسلم أحدُهُم وكذا في الردِّ أن يردَّ واحدٌ منهم نيابة عن الباقي كما دلَّتْ على ذلك النصوص النبويةُ .
2ـ إجابةُ الداعي :
وهو الأمر الثاني من حق المسلم على المسلم الوارد في هذا الحديث العظيم .
والمقصودُ بإجابةِ الدعوةِ هنا إجابةُ الوليمةِ ، أي : وليمة الزفاف أو وليمة النكاح .
ولقد بوَّبَ الإمامُ محمدُ بنُ إسماعيلَ البخاريُّ في كتاب الصحيح ، فقال : باب حقُّ إجابة الوليمة والدعوة .
وجاء في صحيح البخاري أيضاً قولُ النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لو دُعِيتُ إلى كُراعٍ لأجَبْتُ ، ولَوْ أُهْدِيَ إليَّ كراعٌ لقبلت " ، وهذا من هديه وتواضعِهِ - صلى الله عليه وسلم - .
والمقصودُ أن الدعوةَ أياً كانت إذا دُعِيَ إليها الإنسانُ فينبغي أن تقبلَ ، وهذا من هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي الحديث دليلٌ على حُسْنِ خُلُقِهِ صلى الله عليه وسلم وتواضُعِهِ وجَبْرِه لقلوبِ الناس .
والكُراعُ : بضم الكاف وفتح الراء المخففة هو مُسْتَدَقُّ الساقِ من الرِّجْلِ ، ومن حد الرسغ من اليد ما دون الكعب من الدابة .
وجاء الأمرُ بوجوبِ تلبيةِ الدعوةِ بالنسبةِ للوليمَةِ في أحاديثَ ، مثل قوله - صلى الله عليه وسلم - : " إذا دعي أحدُكُم إلى وليمةٍ فَلْيَأْتِها " .
وذكر الحافظ رحمه الله في ( فتح الباري ) أسماء الولائم وأنواعها يُرجعُ إليه لمن شاء .
وأما فيما يخص حكمَ الإجابةِ لوليمةِ الزفافِ ، فقد نقل الحافظ ابنُ عبد البَرِّ القرطبيُ ثم القاضي عياض ثم الإمام النووي رحمهم الله الاتفاقَ على القولِ بوجوبِ الإجابةِ على وليمةِ العرسِ ، وهو المشهورُ .
وقال بعضُ الشافعيةِ والحنابلةِ إنها سنةٌ مستحَبَّةٌ ، ولكن الذي دَلَّتْ عليه الأدلةُ والذي عليه الجمهورُ هو وجوبُ تلبيةِ دعوةِ الوليمة .
- شروط إجابة الدعوة :
ولقد ذكر أهلُ العلم أنَّ لإجابةِ الدعوةِ شروطٌ يجبُ أن تُلاحظَ :(1/75)
1_ أن لا تُسبَقَ بدعوة ، فإذا كانت الدعوةُ مسبوقةً بدعوةٍ أخرى فلا يجبُ تلبيةُ هذه الدعوة لأن الإنسان قد تَلَقَّى دعوةً قبلَها ، فلا يجبُ عليه إجابةُ هذه الدعوة ، وإنما يجيب الدعوة الأولى.
2_ أن لا يكون في الدعوة معصيةٌ ، وعلى ذلك جاءت نصوصٌ وآثارٌ عن السلف ، ومن أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - ما رواه الترمذي وغيره قوله - صلى الله عليه وسلم - : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقعُدُ على مائدةٍ يدارُ عليها الخمرُ " .
وقد امتنع عمرُ رضي الله عنه عن دعوة رجل من الشام لكون ذلك المكان فيه صورةٌ .
وقال الإمام الأوزاعيُّ رحمه الله : ( لا تدخلْ وليمةً فيها طبلٌ ولا مِعْزافٌ ) ، لأنه كما هو معروف إن أن آلاتِ الطربِ والغناءِ مُحَرَّمَةٌ ولا يُستثنى منها إلا ما استثناه الشرع ، وما استثناه الشرعُ في الزفافِ هو استعمالُ الدُّفِّ فقط ، وأما غيرُ ذلك فهو على الأصلِ في تحريمه ، ولا يُستثنى كما ذكرنا إلا ما استثناه الشرعُ ، والشرعُ هو الذي استثنى الضربَ بالدفِّ عند الزفافِ وكذا ضربَ البناتِ على الدف في العيدين .
ومن الأمور التي لها بعضُ العلاقةِ في الوليمةِ أن الإنسانَ إذا أقامَ وليمةً فلا يدعو إليها الأغنياءَ ويتركَ المساكينَ ، فقد أخبر - صلى الله عليه وسلم - أن شرَّ الطعامِ طعامُ الوليمةِ يُدعى إليها الأغنياءُ ويتركُ المساكين
- من آداب إجابة الدعوة :
ـ من الآداب المتعلقة بالوليمة أن الإنسان إذا دُعِيَ إلى وليمةٍ وكان معه أحدٌ وأراد أن يصطحِبَهُ فلا يأخذْه معه إلا إذا استأذن من صاحب الدعوة ، وهذا ما جاء في حديثٍ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندما دعاه رجلٌ من الأنصار فتبعه رجل ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - للداعي : " لقد تبعنا فلانٌ فإن شئتَ أنْ تَأْذَنَ لَهُ فَأْذَنْ ، وإن شئتَ أن يرجع فليرجع " ، فما كان من هذا الصحابي الجليل إلا أن أذن له .(1/76)
ـ وكان من هديِ ابنِ عُمَرَ - رضي الله عنه - وحرصِهِ على اتباعِ سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يُلَبّي الدعوةَ أياً كانت هذه الدعوة ، سواء كانت وليمة عرس أو غير ذلك .
ـ وهذا الذي ذكرناه آنفاً من شرط عدم وجود المنكرات في تلبية الدعوة للوليمة أمرٌ من الأمور التي يجب أن يلاحظَها طلابُ العلمِ ومن يُنْسَبون إلى العلم وأهلِهِ أو ما يعبَّرُ عنه اليوم بالالتزام ، لأن حضورَ الإنسانِ مثلَ هذه المجالس يفتح باباً عظيماً من الشرِّ ليس بالإثم فقط عند الحضور ؛ ولكن يجعل ذلك حجةً ودليلاً عند عامة الناس على إباحة هذه الأشياء ، فينبغي للإنسان أن ينصَحَ إنْ ذهب ووجدَ بعضَ المنكراتِ ، فإن انتهى الناس عما هم فيه من المنْكَرِ فيجلس ؛ وإلا انصرف ، أو لا يذهبُ أَصالَةً إلى هذه المجالس ، إذا كان لا ينكر المنكر لما هو معروفٌ ما للقُدْوَةِ الحسنةِ من أثَر ، ويخشى _ بل على اليقين _ بأن التساهلَ ممن ينتسب إلى العلم رجالاً كانوا أم نساءً في حضور بعض المناسبات التي يخالطُها شيءٌ من المنكراتِ فيه من تَأْيِيدٍ ودفعِ للتساهل لدى العوام ، فحري بطلبة العلم المنتسبين إليه أن يلاحظوا هذه الأمر .
كذلك من حضر الدعوة يُسَنُّ له أمران :
1ـ أن يَدْعُوَ لصاحبها بعدَ الفراغِ من الطعامِ كما ثبتَ هذا عن المصطفى ومما جاء في ذلك دعاؤه - صلى الله عليه وسلم - عليه الصلاة والسلام بقوله : " اللهم اغفرْ لهم وارحَمْهُم وبارِكْ لهم في ما رزقتهم " وجاء أيضاً : " اللهم أطعِمْ من أطعمني واسْقِ من سقاني " ، وغير ذلك مما جاء عنه عليه الصلاة والسلام .(1/77)
2ـ يُسَنُّ للمرءِ إذا حضرَ وليمةَ نكاحٍ أو زفافٍ أن يَدْعُوَ للعروسَين بالخيرِ والبركة ، ولا يقالُ كما نسمعُ من بعضِ الناسِ وكما هي عادةُ الجاهليةِ ؛ فلا يقالُ : بالرفاءِ والبنين ، وإنما يدعو له بالبركة فيقال له : بارك الله لك وبارك عليك وجمع بينكما في خير أو على خير . وأما قول ( بالرفاء والبنين ) فهو من تحية الجاهلية كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - .
3ـ إذا استنصحك فانصح له :
ذكرنا البارحةَ حديثَ النبي - صلى الله عليه وسلم - : " الدينُ النصيحة " ، وبينا هناك أن النصيحةَ هي بَذْلُ الوُسْعِ في إرادةِ الخيرِ للمنصوحِ له ، وبيَّنا أنَّ هذه الكلمةَ كلمةٌ عظيمةٌ جامعةٌ ، ( أعني : النصيحة ) ولا أريدُ أن أعيدّ القولَ فيما سَبَقَ ذكرُه ، ولكن النصيحةَ هي من حقِّ المسلمِ على المسلمِ ، وتزدادُ أحَقِّيَتُها إذا طلبَ منه النصحَ ؛ فيزدادُ عندَ ذلك أحَقِّيَةُ النصيحةِ وأهميتُها وعظمتُها ووجوبُ التأديةِ لها .
ولهذا لما جاءتْ فاطمةُ بنتُ قيسٍ رضي الله عنها وقد خَطَبَها معاويةُ وأبو جهم ، رضي الله عنهما وأخبرتْ بذلك النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، أخبرها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن حالهما ، وهذا من الأمانةِ والديانة والنصحِ ، لأن الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - قد استُنْصح بهذا الشأن .
ولهذا ذكرَ العلماءُ بأن الغِيبةَ ( وهي ذكرُكَ أخاكَ بما يَكْرَهُ سواءٌ كان رجلاً أو امرأة ) في بعضِ المواضعِ ليستَ من الغيبةِ المذمومةِ الممنوعةِ شَرْعاً ، ولكنها من الغيبةِ التي يتطلبُ الشرعَ بيانَها ، وهي ستةُ أمورٍ قد جُمِعَتْ في بيتين عظيمين من الشعرِ إذ يقول القائلُ :
والقَدْحُ ليسَ بغيبةٍ في سِتَّةٍ مُتَظَلِّمٍ ومُعَرِّفِ ومُحَذِّرِ
ومجاهِرٍ فِسْقاً ومُسْتَفْتٍ ومَنْ طَلَبَ الإعانةَ في إزالةِ مُنْكَرِ(1/78)
ولقد أبانَ الإمامُ الشوكانيُّ رحمه الله في رسالةٍ له نافعةٍ في هذا البابِ ما يجوزُ وما لا يجوزُ من الغيبةِ ، واسمُ هذه الرسالة ( رفعُ الريبةِ فيما يجوزُ وما لا يجوزُ من الغيبةِ ) وقد طُبِعَتْ ضمنَ مجموعةِ الرسائلِ المَنيرية ، وطبعت أيضاً مفردة ، وفيها فوائدُ جَمَّةٌ ويُرْجَعُ إليها لما فيها من الفوائد
4ـ تشميت العاطس :
إذا عطسَ المسلمُ فحمِد اللهَ سبحانه وتعالى فعندئذٍ يُشَمَّتُ ، وقد ذكرنا حديث الإمام مسلم في صحيحه في ابتداء الشرح ، وذكرت ( تسميت العاطس ) بالسين المهملة ، وهذا اللفظ قد ورد فيه الوجهان :
أ _ تسميتُ العاطسِ بالسين المهملة ، والمهملة : التي خلت من النقط .
ب ـ تشميت العاطس بالشين المعجمة ، والمعجمة : التي وضع لها نقط .
والتشميت هو الأكثر ، ومعناه : التبريك ، أي : الدعاء بالبركة .
وأما التسميت بالمهملة ، فالمراد : القصد والطريق القويم ، أي : الدعاء له بذلك .
- حكم تشميت العاطس :
ـ وأما حكمُ تشميتِ العاطسِ إذا حمِدَ اللهَ سبحانه ، والمرادُ من ذلك المسلمُ بالطبعِ ، فحكمُ تشميتِه أو تسميتِه :
أشارَ الحافظُ ابنُ حجرَ رحمه الله إلى أن هذه الأحاديثَ ظاهرُها الوجوبُ ، وبه قال جماعةٌ من
أهل العلم .
وبالقول بالوجوبِ قال ابنُ القيّم رحمه الله في حاشيةِ سننِ أبي داود ، وهذا كتاب عظيم طيب نافع فيه فوائد حديثية وفقهية جمة ، فقال رحمه الله : ( إن القول بالوجوب في حكم تشميت العاطس يقال به لأسباب عديدة منها :
ـ مجيءُ الحقِّ الدّالِّ على الوجوبِ ، وذلك في قوله عليه الصلاة والسلام : " حق المسلم على المسلم ست .." .
ـ مجيءُ الأمرِ به عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : " وإذا عطس فحمد الله فشمته .."
وذكر رحمه الله أوجهاً أخرى منها : أن الصحابي قال : " أمرنا بسبع .." وفيها : تشميت العاطس .
قال : ولا ريب أن الفقهاء قد أثبتوا وجوب أشياء كثيرة بدون مجموع هذه الأشياء .(1/79)
وهذا كلامٌ وجيهٌ من ابنِ القيم رحمه الله ، وهو يدلُّ على فقهِهِ وسعةِ اطّلاعه رحمه الله .
والأظهرُ من ذلك والله أعلم وجوبُ تشميتِ العاطسِ المسلمِ إذا حمِد الله تعالى ، كما أيد ذلك ابن القيم .
- صيغ الحمد :
وأما صِيَغُ الحمد : أي ما يقوله العاطس ، فالذي دَلَّتْ عليه السُّنَّةُ صِيَغٌ ثلاثةٌ :
أ ـ أن يقول : الحمد لله ، كما روى أحمدُ والبخاري في الأدب المفرد وابن ماجه.
ب ـ أن يقول : الحمد لله رب العالمين ، كما روى ذلك والإمام أحمد والطبراني والحاكم .
ج ـ أن يقول : الحمد لله على كل حال ، كما روى ذلك الترمذي والحاكم .
فهذه صيغٌ ثلاثةٌ ثابتةٌ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم للمرءِ أن يقولَ أيَّ واحدةٍ منها .
- جواب العاطس :
وأما جوابُ العاطسِ بعدَ أن يُقالَ له : يرحمك الله ، فقد جاء في السنة وجهان :
أ ـ أن يقول : يهديكم الله ويصلح بالكم .
ب ـ أن يقول : يغفر الله لنا ولكم .
فهذانِ وجهانِ في ردِّ العاطسِ على من شَمَّتَهُ .
وأما ما يقوله بعضُ الناس من قولهم : أثابنا الله وإياكم ونحو ذلك ، فهذا لم يَرِدْ في سنة النبي صلى الله عليه وسلم .
ومن اللطائِفِ في هذا الباب ما جاء عن ابنِ عمرَ رضي الله عنه أن رجلاً عطسَ عنده فقال العاطسُ : الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، فقال له هذا الصحابيُّ الجليلُ عبدُ الله ابنُ عُمَرَ رضي الله عنهما : وأنا أقولُ معك الحمد لله والصلاةُ والسلامُ على رسول الله ، ولكن ما هكذا عَلَّمَنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم . إذا عطس أحدكم فليقل : الحمد لله .(1/80)
فانظروا إلى هذا الفقهِ الدقيقِ العظيمِ من الصحابي الجليلِ الحريصِ على اتباع سنة المصطفى عليه الصلاة والسلام ، إذ لما عطس هذا العاطسُ وزاد زيادة لم يفعلها النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : الحمدُ لله والصلاةُ والسلامُ على رسولِ الله ، فماذا قال له هذا الصحابي الجليلُ ابنُ عمرَ ؟ لم يقلْ له : يرْحَمُكَ اللهُ إذْ لمْ يعتبرْ أنَّ هذا العملَ هو عملٌ موافقٌ لهديِ المصطفى عليه الصلاةُ والسلام مع أنه ذكرَ صيغةَ الحمدِ ؛ ولكنه زادَ فيها من عنده الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام ، فكان هذا الفقهُ الجليلُ العظيمُ بأن قالَ له عبدُ الله بنُ عمرَ : وأنا أقولُ معك : الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، لكن ما هكذا علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم أرشدَهُ إلى السنة في ذلك . وهذا لو حصل اليوم في بعضِ بلادِ الإسلامِ وعندَ بعضِ الناسِ وقلتَ له ذلك ؛ لسارعكَ بالقولِ : أنتَ لا تُحِبُّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم . وهذا من الفقهِ السقيم للأسف .
وهذا أثرٌ نفيسٌ وفيه لطائفُ وبيانُ أن اتباعَ السنةِ يجبُ أن يكونَ كما كان هديُ النبي صلى الله عليه وسلم ، والمعيارُ هو الاتباعُ وليسَ تحسينَ العقلِ .
ومن آدابِ العطاسِ ما أرشدَ إليه المصطفى بقوله : " إذا عَطَسَ أحدُكُم فليضَعْ كَفَّيْهِ على وجهه وليخفِضْ صوتَهُ " ، فحَرِيٌّ بالمرءِ إذا أرادَ أن يعطِسَ أن يحاولَ ويجتَهِدَ لأنْ لا يرفعُ صوتَه إلا بأنْ يغلبَ على ذلك ، وكذلك أن يضعَ كفيه على وجهِه حتى لا يتناثرَ شيءٌ من ذلك على مَنْ حولَه ، وهذا إرشادٌ نبويٌ في شأن ذلك .
ومن أمورِ هذا البابِ أيضاً أنه : إذا زادَ العاطِسُ على ثلاثٍ فهو مزكومٌ ، ولا يلزم بعد ذلك أن يُشَمَّتَ لكونِهِ مَزْكوماً .(1/81)
ـ أشرنا إلى أن شَرْطَ التشميتِ أن يحمد العاطسُ رَبَّهُ عز وجل ، وهذا خاصٌّ بالمسلمِ أي : لو عطسَ الكافرُ فلا يُقالَ له : يَرْحَمُكَ الله ولو قالَ الحمد لله ، وإنما يقالُ له : يهديكم الله ويصلحُ بالَكُم . وقد كان اليهودُ يتعاطَسونَ أمامَ النبي صلى الله عليه وسلم فلا يقولُ لهم : يرحمُكُمُ اللهُ ، ولكن يقولُ لهم : يهديكُمُ اللهُ ويصلحُ بالَكُم ، فهذا هديُه صلى الله عليه وسلم في الرَّدِّ على غيرِ المسلمِ في العُطاسِ ، إذ لا يُدْعى لهم بالرحمةِ
ومن اللطائفِ في هذا البابِ فيما يَخُصُّ تشميتَ العاطِسِ ما ذكره الصنعاني رحمه الله في كتاب ( سبل السلام ) وهو ما أخرجه ابن عبد البر بسند جيد عن الإمام أبي داود صاحب السنن أنه كان في سفينةٍ فسمِعَ عاطساً على الشطِّ فاكترى قارباً بدرهمٍ حتى جاءَ إلى العاطسِ فشمته ثم رجع فسئل عن ذلك فقال : لَعَلَّه يكونُ مجابَ الدعوة فلما رقدوا سمعوا قائلاً يقول إن أبا داود اشترى الجنةَ من الله بدرهم .
فهذا من حرصِ أئمتنا المحدثين و الفقهاء على اتباعِ هديِ النبي صلى الله عليه وسلم .
5 ـ إذا مرض فعده :
وهذا مما أوصى به النبيُّ عليه الصلاة والسلام وبَيَّنَهُ في حقِّ المسلمِ على المسلمِ عيادةُ المريضِ ، وهذا الأمرُ أمرٌ عظيمٌ ، إذ المسلمُ أخو المسلمِ ، والمسلمُ يشعرُ معَ أخيه إذا مرِضَ ويواسيه في مرضه ويدْعو له في مَرَضِهِ كما ورد ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في أحاديث كثيرة من الرقية ومن الدعاء للمريض ، وما جاء من الأجرِ العظيم في زيارة المريض ، إذ بوَّبَ البخاريُّ رحمه الله في صحيحه ، باب وجوب عيادة المريض ، وجاء بأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في فضيلة عيادة المريض ، ومن ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - : " المسلم إذا عاد أخاه لم يزل في خُرْفَة الجنة " ، أي : ثمار الجنة وهذه فضيلة عظيمة لعيادة المريض .(1/82)
وعيادةُ المريضِ واتباعُ الجنائزِ كما جاء في بعض الأحاديث تُذَكِّرُ الآخرةَ ، لأن الإنسانَ لمّا يرى أخاه مُبْتَلىً يتذكرُ نعمةَ اللهِ عليه ويتذكرُ الصّحةَ والعافيةَ إضافةٍ إلى ما في ذلك من المواساةِ مع أخيه المسلم المبتلى ، مع ما في ذلك من الأجر العظيم.
وعيادةُ المريضِ لها أمورٌ تتعلق بها : فأحياناً قد لا يكون من المصلحة أن يُزارَ المريض ، وفي بعض الأحيان قد لا تكون المصلحةُ أن يُطالَ الجلوسُ أو المكوثُ عند المريض . فهذه الأمور أيضاً مما ينبغي أن تُراعى ، وهي جديرةٌ بأن يلاحظَها المرءُ لما هو معلومٌ من أن المرضى تتفاوتُ أحوالَهم وحالاتِهم حسبَ أمراضهم .
وعيادة المريض تكونُ حتى ولو كان المرضُ يسيراً ، فقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد زارَ أحداً من الصحابة لرَمَدٍ في عينيه ، وهذا يسمى مرضاً سواء أكان قليلا أم كثيرا ً .
وفيه كما هو معروف ما يدل على زيادة المحبة والأخوة بين المسلمين .
6 ـ إذا مات فاتبعه :
هذا هو الأمرُ السادسُ النبويُّ في هذا الحديثِ العظيمِ في بيانِ حقِّ المسلمِ على أخيه المسلم .
أي : إذا مات أخٌ لنا من إخواننا المسلمين فينبغي علينا أن نشهد جنازتَه ، وعدَّ الإمامُ ابنُ المُنَيِّر وهو شارحُ تراجمِ صحيحِ البخاري في كتاب له اسمه ( المتواري في شرح تراجم أبواب البخاري ) اتباعَ الجنازةِ من واجباتِ الكفايةِ .(1/83)
والإمام البخاري رحمه الله إمامٌ عظيمٌ محدث فقيه مفسر أبدع إبداعاً عظيماً في كتابه الصحيح في تراجمه ، أي : عناوين الأبواب ، فله فيها فقهٌ دقيقٌ عظيمٌ ، ولعظمة فقهِهِ أن العلماءَ اعتَنَوْا بشرحِ أبوابِهِ عنايةً خاصة ، ومنهم الإمام ابنُ المنيِّر الذي صنف في ذلك كتاب المتواري ، ولهذا كان العلماء يقولون : فقه البخاري في تبويبه ، ولهذا نجد الحافظ ابن حجر رحمه الله يبين في كتابه وجه المطابقة بين هذه الترجمة التي ذكرها البخاري وبين الأحاديث التي ساقها خلال الترجمة رحمه الله .
فابنُ المُنَيِّرِ رحمه الله عَدَّ اتباعَ الجنائزِ من واجباتِ الكفايةِ .
واتباعُ الجنائز هو السيرُ خلفَها ، وهو على مرتبتين :
الأولى : اتباعُ الجنازةِ من مكانِ صدورِها من عندِ أهلِها حتى الصلاة عليها .
والاتباع الآخر : هو أن يتبعَها من عندِ خروجِها من أهلِها حتى يُفرَغ من دفنها .
وكلا الأمرين فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - . واتباعُها حتى الفراغَ من دفنِها أعظمُ أجراً لقوله عليه الصلاة والسلام : " من شهد الجنازة من بيتها ( وفي رواية من اتبع جنازة مسلم ) حتى يصلي عليها فله قيراطٌ من الأجرِ . قالوا : يا رسول الله ، ما القيراطُ ؟ قال : مثل أحد " . فهذا أجر عظيم في اتباع الجنازة .
والاتباع للجنازة خاص بالرجال دون النساء كما دلت عليه السنة .
ومن المنهيات أن تُتْبَعَ الجنازةَ بصوتٍ أو نارٍ ، فقد جاء النهيُ عن ذلك عن المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ، وقد نقل البيهقي رحمه الله أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا يكرهون رفعَ الصوتِ عند الجنائز ، ورواته ثقات .(1/84)
ولذا فإن ما نسمَعُهُ عند اتباع الجنائز في بعض البلاد من رفع الصوتِ بالذكرِ أو التهليلِ أو قول أحدِهِم وَحِّدوا اللهَ أو نحوِ ذلك ثم يذكرون الله رافعين أصواتَهم ، هذا كلُّه ليس من هديِ النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا من هدْيِ أصحابِه كما ذكرنا ذلك من قول البيهقي رحمه الله تعالى .
ويراجع فيما يخص هذا الباب ( باب اتباع الجنائز ) كتاب ( أحكام الجنائز ) لشيخنا الألباني رحمه الله ، وهو كتابٌ عظيمٌ في بابِهِ ، بل يقولُ شيخُنا حمادُ الأنصاري رحمه الله في هذا الكتاب : لم يصنَّفْ في الإسلامِ مثلُه في بابه ، ولا شكَّ في ذلك ولا ريب أنه لا يوجدُ كتابٌ خاصٌ يتعلقُ بالجنائزِ وأحكامِها مثلَه .
فحَرِيٌّ بنا جميعاً إخوة الإسلام أن يلاحِظَ كلٌّ منا هذه الحقوقَ التي ذكرَها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ونعملَ بها ونلتزمَ بها ، لأنه في الحقيقةِ نرى في أنفسِنا تقصيراً تجاهَ إخواننا مع كونِ هذه الأحاديث محفوظةً معلومةً ، ولكننا بحاجة دائمةٍ إلى أن نَتَذاكرَ وإلى أن يُذَكِّرَ بعضُنا بعضاً وإلى أن يوصي بعضنا بعضاً بتقوى الله سبحانه وتعالى .
و أسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرزقنا وإياكم العلم والعلم ، وأن ينفعنا بما سمعنا . وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
المحاضرة السادسة
{ شرح حديث " ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه " }
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ،
له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله - صلى الله عليه وسلم - .(1/85)
?????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????، ????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????، ????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????أما بعد ،
فإن خير الكلام كلام الله - عز وجل - وأحسن الهديِ هديُ محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وشرَّ الأمور محدثاتُها ، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ ، وكلَّ ضلالةٍ في النار .
إخواني وأخواتي :
مرحباً بكم في هذا الاجتماعِ المبارَكِ إن شاء اللهُ تعالى أن يجمَعَ شَمْلَنا ويجمعَنا على حَوْضِ نبيِّه - صلى الله عليه وسلم - .
وإننا في هذا الوقتِ في تدارسِ حديثٍ عظيمٍ من أحاديثِ المصطفى ألا وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - : " ألا وإني أُوتِيتُ القرآنَ ومثلَه معَه " .
- رواية الحديث :
هذا الحديثُ يرويهِ الإمامُ أحمدُ في مسنَدِه ، إذ يقولُ :(1/86)
حدثنا يزيدُ بنُ هارونَ قال أنا حَرِيزُ بنُ عبدِ الرحمنِ بنِ أبي عَوْفٍ الجُرَشِيِّ عن المقدامِ بنِ مَعْدِ يكَرِبٍ الكِنْدِيِّ قال : قال رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " ألا إِنّي أُوتِيتُ الكتابَ ومِثْلَه مَعَهَ ألا إني أُوتِيتُ القرآنَ ومِثْلَهُ مَعَهُ ، ألا يُوشِكُ رَجُلٌ يَنْثَنِي شَبْعَانَ على أَرِيكَتِهِ يقولُ : عَلَيْكُمْ بالقرآنِ فما وجَدْتم فيهِ من حَلالٍ فَأَحِلُّوهُ وما وجدتم فيهِ مِنْ حَرامٍ فَحَرِّمُوهُ ، أَلا لا يَحِلُّ لَكُمْ لَحْمَ الحِمارِ الأَهْلِيِّ ولا كُلُّ ذي نابٍ منَ السِّبَاعِ ألا ولا لقطةٌ من مالِ مُعَاهِدٍ إلا أن يستغنيَ عنها صاحبُها ، ومَنْ نَزَلَ بقوْمٍ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يُقْرُوهُم فإِنْ لَمْ يُقْرُوهُم فَلَهُم أنْ يُعْقِبُوهُم بمثلِ قِراهُمْ "
هذا الحديثُ حديثٌ صحيحٌ رواهُ بالإضافةِ إلى الإمامِ أحمدَ : أبو داودَ والترمِذِيُّ وابنُ ماجه والدارميُّ والطبرانيُّ في الكبير والبيهقي في دلائلِ النبوةِ وغيرِهم كثيرٌ من أصحابِ المصنَّفات الحديثيةِ .
وشيخُ الإمامِ أحمدَ هو : يزيدُ بنُ هارونَ السُّلَمي .
وحَرِّيزُ هو ابنُ عثمانَ الرحبي الحمصي .
وعبدُ الرحمن بن عوف الجُرَشي .
وهؤلاءِ كلُّهم ثقاتٌ .
وصحابيُّ الحديثِ هو : المقدامُ بنُ مَعْدِيْكَرِبٍ ، يُكْنَى بأبي كريمة ويقال له أيضاً أبو يحيى ، روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحاديثَ ، وروى عنه بعضُ الصحابةِ كخالدِ بنِ الوليدِ ، وأبي أيوبَ ، وغيرهم .
وهذا الصحابيُّ نزلَ حِمْصَ بالشّامِ ، ومات سنة 87 على الصحيح .
وروى الترمذي أيضاً والإمامُ أحمد عن أبي رافعٍ قال : قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - :" لا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئاً على أريكتِه يأتيهِ الأمرُ مما أَمَرْتُ به أوْ نهَيْتُ عنه فيقول : لا أدري ، ما وجَدْنا في كتابِ اللهِ اتَّبَعْناهُ ". ورواه أحمد أيضاً عن أبي رافعٍ .
- شرح الحديث :(1/87)
في هذا الحديثِ يُخبِرُ النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أوتِيَ القرآنَ ومثلَه معه . أي : إن الذي جاءَ به النبي - صلى الله عليه وسلم - هو مثلُ الكتابِ من حيثُ أنه وحيٌ ، ولكنَّ هذا الوحيَ غير مَتْلُوٍّ .
والوجهُ الآخرُ أنه مثلُه من حيثُ أنه مبيِّنٌ لهذا الوحيِ المتلُوِّ الظاهرِ بتعميمٍ أو بتخْصيصٍ أو بتقييدٍ أو غير ذلك .
ـ قوله : ( ألا يوشك رجل منكم شبعان على أريكته .. فحرموه ) :
هذا تحذيرٌ شديدٌ من مخالَفَةِ السُّنَّةِ التي سنَّها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما ليسَ له ذِكْرٌ في القرآنِ .
وإخبارُ المصطفى عن شأن من يأتي وَوَصَفَه النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه رجلٌ شبعانَ ، وهذا كما يقولُ العلماءُ : كنايةٌ عن البلادةِ وسوءِ الفهمِ النَّاشئِ عن الشِّبَعِ أو عن الحماقةِ اللازمةِ للتَّنَعُّمِ والتَّرَفُّهِ والغرورِ بالمالِ والجاهِ . يأتي هذا على أريكته ( أي : على سريرهِ المُزَيَّنِ بالحُلَلِ والأثوابِ ) فيقول ما يقول .
وهذا الحديث وما فيه من إِخبارِ النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يوشِكُ أن يأتيَ رجلٌ على هذه الهيئةِ يقول هذا الكلامَ عَلَمٌ ودليلٌ من دلائلِ نبوَّتِهِ عليه الصلاة والسلامُ وعلامةٌ من علاماتها .
ولقد وقعَ هذا الأمرُ الذي أخبرَ به النبي - صلى الله عليه وسلم - وإني لأعرفُ رجلاً ثرياً من كبارِ الأثرياءِ وهو في منطقة البنجابِ من باكستانِ ، وهو رأسٌ من رؤوسِ الضلالِ والكفرِ والإلْحادِ إذ يزعُمُ أنَّ الذي يجب التحاكُمُ إليه هو القرآنُ وحدَه ، وهو مُنْكِرٌ للسُّنّةِ النبوية البتة . ولقد وقع في نفسي وأنا أقرأ هذا الحديثَ ذلك الرجلُ الخبيثُ المسمى غلام أحمد برويز . وإني لأعرفه منذ زمنٍ ولقد هَلَكَ منذ فترةٍ أهلَكَه الله ، ورأيت مِنَ الشُّرّاحِ من أشارَ إليه بذلك ونسألُ الله - عز وجل - أن يُهلِكَ كلَّ من كان على هذه الطريقة .(1/88)
والمقصودُ أن هذا عَلَمٌ من أعلامِ النبوة ومن علاماتِ صدقِ نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - في إخبارِهِ عن مجيءِ مثلِ هذه الافتراءات .
ـ وهذه الدعوى التي أخبر عنها - صلى الله عليه وسلم - أنها ستكونُ ممنْ يأتي بعدَه من أنه لا يَجِبُ الرجوعُ والتحاكمُ إلا إلى كتابِ الله ؛ هذه دعوى باطلةٌ بالطبعِ كما سيأتي إن شاء الله تعالى .
ثم أخبرَ المصطفى - صلى الله عليه وسلم - عن بعض الأمورِ التي سنَّها عليه الصلاة والسلام مما هي ليستْ في القرآنِ الكريمِ فقال - صلى الله عليه وسلم - :
ـ ( ألا لا يَحِلُّ لكم لحمُ الحمارِ الأَهْلِيِّ ) :
فهذا نصٌّ على تحريمِ الحُمُرِ الأهليةِ وهذا بالطبعِ ليس في القرآن الكريمِ ، ثم ذكرَ تحريمَ كلِّ ذي نابِ من السِّباعِ وكذلك تحريمَ كلِّ لُقَطَةٍ من مالِ معاهِدٍ ( أي : الذي بَيْنَهُ وبينَ المسلميَن عهدٌ بأمانٍ ) فلُقَطَتُهُ لا تحِلُّ ، وخَصَّ المعاهِدَ حتى لا يُظَنَّ أنه لكفره إذا سقطَ منه شيءٌ فيجوزُ للإنسانِ أن يأخُذَهُ لكونِهِ كافراً . فأخبرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك بأنه محرَّمٌ إلا أن يستغنيَ عنها صاحبُها ، أي : إذا تركها ذلك المعاهدُ لمن أرادَ أن يأخذَها أو استغنى عنها أو كان شيئاً حقيراً .
ثم أضاف أيضاً النبي - صلى الله عليه وسلم - أمراً آخرَ وهو يتعلَّق بقِرى الضَّيْفِ ، فقال :
ـ ( ومن نزل بقومٍ فعليهم أن يُقْرُوهُم .. ) :
وهذا يتعلَّقُ بمعاقبةِ من لا يقومُ بحقِّ الضِّيافةِ ، فللإنسانِ الحقُّ بأن يأخذَ حقَّهُ من هؤلاءِ . وهذا من عظيمِ تعاليمِ الإسلامِ وآدابِ الإسلامِ في وجوبِ حق الضَّيفِ .(1/89)
وقال الإمامُ الخطّابيُّ رحمه الله : في هذا الحديثِ دليلٌ على أنه لا حاجةَ للحديثِ لأن يُعْرَضَ على الكتابِ وأنه مهما ثبتَ عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - شيءٌ كانَ حُجَّةً بنفسه ، فأما ما رواه بعضُهم أنه قال : ( إذا جاءكم الحديثَ فاعرِضوه على كتابِ الله فإن وافقَه فخُذوهُ ) فإنه كلامٌ باطلٌ لا أصلَ له ، وقد ذكر زكريا السّاجي عن الإمامِ يحيى بنِ معين أنه قال : ( هذا حديثٌ وضَعَتْهُ الزَّنادِقَةُ ) .
أخوة الإسلام :
إن الحديثَ عن حجَّةِ السُّنَّةِ النبويةِ أمرٌ عظيمٌ وخطيرٌ .
وإذا تأمّلْنا كتابَ الله سبحانه وتعالى ؛ نجدُ آياتٍ كثيرةً تدورُ حول وجوبِ الرُّجوعِ والالتزامِ بسنَّة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وسنذكُرُ طائفةً من آياتِ الله نذكرها استقلالاً لأنها تتضمن الرَّدَّ على الذين يزعُمُونَ أنهم يتحاكَمون إلى القرآنِ فقط من الفرقةِ التي تُسَمّى بالقرآنيَّةِ أو القرآنيون .
- وجوب اتباعِ السُّنَّةِ من القرآن الكريمِ :
هذه طائفةٌ مبارَكةٌ من الآياتِ في هذا البابِ إذ نَجِدُ القرآنَ الكريمَ يأمُرُ بطاعةِ نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - فيقول الله سبحانه وتعالى :
_????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????
- ???????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????
???????????????????????????????????????????????????????????????????????
- ????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????(1/90)
- ???????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????
- ?????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????
- ??????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????
والقرآن الكريمُ أيضاً يأمر بالاستجابةِ لدعوةِ الرسولِ عليهِ الصَّلاةُ والسلامُ والأخذِ بما جاءَ به والانتهاءِ عما نهى عنه ، فيقول سبحانه وتعالى :
- ???????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????
والقرآنُ الكريمُ يَعِدُ من أطاعِ الرَّسولَ بالجنَّةِ ومن يَعْصِهِ بالنّارِ فقال سبحانه :
_ ???????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????
- ??????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????(1/91)
- ويقول سبحانه : ???????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????
- ويقول - عز وجل - : { ??????????????????????????????????????????????????????????????????????????????
- ويقول : ???????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????
- ويقول سبحانه وتعالى : ????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????
والقرآن الكريمُ يدعو إلى التَّأَسِّي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - حيث يقول سبحانه :
- ??????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????
ويقول - عز وجل - : ??????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????(1/92)
- ?????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????
والحكمةُ أخوة الإسلام هي السنة . يقول الله سبحانه :
-??????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????
- ???????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????
والقرآن الكريم يدعو إلى التأسّي بالرسولِ - صلى الله عليه وسلم - :
- ????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????
ويقول سبحانه : { ???????????????????????????????????????????????????????????
والقرآن الكريمُ يبيِّنُ أن حقيقة محبَّةِ الله إنما هي باتِّباعِ رسولِه عليه الصلاةُ والسلام ، فيقول سبحانه :
- ????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????
وطاعةُ النبي - صلى الله عليه وسلم - هي طاعةٌ لله تعالى ، قال تعالى :
- ?????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????
والسنَّةُ وحيٌ من اللهِ كما قال سبحانه :
_ { ???????????????????????????????????????????????????????????????????? } .(1/93)
_ ????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????
والسنةُ هي الْمُبَيِّنَةُ للقرآنِ ، وتَكَفَّلَ الله بحفظِها مع القرآن ، فقال سبحانه :
- ???????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????
- وقال سبحانه : { ??????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????
أخوةَ الإسلامِ ، هذه آياتٌ عظيمةٌ من كتابِ اللهِ - عز وجل - تُبَيِّنُ وجوبَ اتَّباعِ سنةِ نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأينَ يذهبُ هؤلاءِ الذينَ يزعُمونَ أنهم قرآنيُّونَ ، وإنهم ورَبِّ الكعبة من أبعَدِ الناسِ عن القرآن.
ففي هذه الآياتِ القرآنيةِ التي سَبَقَتْ من كتابِ اللهِ سبحانه وتعالى ، نجدُ دلالاتٍ قويةً متعدِّدَةً حولَ حُجِّيَّةِ السنَّةِ النبويَّةِ ، يمكن إجمالُها بما يلي :
1_الأمرُ بطاعةِ الله وطاعةِ رسولِهِ .
2_ وجوبُ الرَّدِّ والرُّجوعِ عندَ التَّنازُعِ إلى الله ؛ أي : إلى كتابه وهو القرآنُ الكريمُ ، وإلى الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - ؛ أي : إليه - صلى الله عليه وسلم - في حياتِه وإلى سنَّتِهِ بعد موته .
3_ وجوبُ الاستجابةِ لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ولأوامِرِه لأنها سببٌ للحياةِ الطَّيِّبَةِ ولسعادةِ الدنيا والآخرةِ
4_ إن طاعتَه - صلى الله عليه وسلم - سببٌ لدخولِ الجنَّةِ والفوزِ الكبيرِ ، ويكون المطيعُ مع النَّبِيِّين والصِّدِّيقين والشهداءِ والصالحين ، نسأل الله تعالى أن يجعلنا منهم ، كما أن معصيتَه - صلى الله عليه وسلم - سببٌ للعذاب الأليمِ أجارني اللهُ وإياكم منه .
5_ إن من عصى الرَّسولَ وشاقَّهُ واتَّبَعَ غيرَ سبيلِ المؤمنينَ فسبيلُه جهنَّمُ وساءت مصيراً .
6_ عصيانُ الرَّسولِ ومخالَفَةُ أمرِهِ - صلى الله عليه وسلم - تكون سبباً للفتنةِ أو العذابِ الأليمِ .(1/94)
7_ إن من صفاتِ المنافقينَ الذين يتظاهرونَ بالإسلامِ ويُبْطِنونَ الكفرَ أنهم إذا دُعوا إلى التحاكم إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وإلى سنَّتِه لا يستجيبون بل يصدُّون عنها صدوداً .
8_ ذَكَرَ ابنُ القيِّمِ رحمه الله تعالى تحت قوله تعالى : ?????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????
كلاماً طيِّباً فقال : ( أقسم الله بنفسه المقدّسّةِ قسماً مؤكَّداً بالنفي قبلَه على عدمِ إيمانِ الخَلْقِ حتّى يُحَكِّموا رسوله في كلِّ ما شَجَرَ بينهم من الأصولِ والفروعِ وأحكامِ الشَّرْعِ وأحكامِ المعادِ وسائرِ الصِّفاتِ وغيرها ، ولم يُثْبِتْ لهم الإيمانَ بمجَرَّدِ هذا التَّحْكيمِ حتى ينتفيَ عنهم الحرجُ وهو ضِيقُ الصَّدْرِ وتنشرَحَ صدورُهُم لحُكْمِهِ كلَّ الانشراحِ وتنفسح له كلَّ الانفساحِ وتقبلَه كلَّ القبولِ ، ولم يثبت لهم الإيمان بذلك أيضاً حتى ينضافَ إليه مقابلة حكمَه بالرِّضا والتَّسليمِ وعدمِ المنازعة وانتفاءَ المعارِضِ والاعتراض .
9_ أنه لا فرقَ بين قضاءِ اللهِ - عز وجل - وقضاء رسولِه - صلى الله عليه وسلم - ، وكلٌّ منهما ليس للمؤمنِ خِيَرَةٌ في مخالفتهما وأن عِصيانَ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - كعصيان اللهَ تباركَ وتعالى .
10_ المؤمنونَ على خلافِ المنافقينَ ؛ فإنهم إذا دُعوا إلى التحكيمِ إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بادروا للاستجابةِ لذلك وقالوا بلسانِ حالِهم ومقالِهم : سمعنا وأطعنا ، وأنهم بذلك يكونون من المفلِحينَ الفائزين .
11_ التَّوَلِّي عن طاعةِ اللهِ والرسولِ إنما هو من شأنِ الكافرينَ .
12_ طاعةُ اللهِ وطاعةُ الرَّسولِ من أسبابِ رحمةِ اللهِ - عز وجل - .(1/95)
13_ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أسوتُنا وقدوتُنا وهادينا إلى الصِّراطِ المستقيمِ وذلك إن كنا نرجو اللهَ واليومَ الآخرَ .
14_ منُّ اللهِ على المؤمنين أ ن بعثَ فيهم محمداً - صلى الله عليه وسلم - معلِّماً للكتابِ والحِكْمَةِ .
15_ المحبَّةُ الحقيقيةُ لله سبحانه إنما تكونُ باتِّباعِ أوامرِه وأوامِرِ نبيِّه - صلى الله عليه وسلم - ، وأن اتباعَ أوامِرِ المصطفى عليه الصلاةُ والسلامُ سببٌ لمحبَّةِ اللهِ - عز وجل - للعبْدِ ومغْفِرَةِ ذنوبِه .
16_ طاعةُ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - طاعةٌ لله تعالى ، وكلامُ النبي وفعلُه وتقريرُه فيما يتعلَّقُ بالتشريعِ كلُّه وحيٌ .
17_ السنَّةُ هي المُبّيِّنَةُ للقرآنِ .
18_ الله - عز وجل - قد تكَفَّلَ بحفظِ القرآنِ والسنَّةُ تَبَعٌ له .
فهذه الآياتُ الكريمةُ العظيمةُ الماضيةُ ، وهذه الدِّلالات من هذه الآياتِ وغيرها إذا تدبَّرنا كتابَ اللهِ - عز وجل - نجدُ الشيءَ العظيمَ ، فإن هؤلاءِ الذينَ يزعُمونَ أنهم قرآنيون ويزعمون أنهم لا يأخذونَ بسنَّةِ النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ فهذا هو القرآنً ينطِقُ بالحقِّ ويُخْرِسُ هذه الدعاوى الكاذبةَ الفارغةَ .
- وجوبُ اتباعِ السنةِ من حديث الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - :
الأحاديثُ النبويةُ في وجوبِ طاعته - صلى الله عليه وسلم - كثيرةٌ جداً أيضاً ، منها :
ـ ما رواه البخاريُّ بسنده عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " دعوني ما تركتُكُم فإنما أهْلَكَ من كانَ قبلَكُم كثرَةُ سؤالِهم واختلافُهُم على أنبيائهم ، فإذا نهيتُكُم عن شيءٍ فاجتنبوه ؛ وإذا أمرتُكُم بأمرٍ فَأْتوا منه ما استطعتم ".(1/96)
ـ روى البخاريُّ بسنده عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - ، عن رسولِ - صلى الله عليه وسلم - : " كلُّ أمتي يدخلونَ الجنَّةَ إلا من أبى . قالوا :فمن يأبى يا رسولَ الله ؟ قال : من أطاعني دخلَ الجنَّةَ ومن عصاني فقد أبى " .
ـ ما رواه البخاري أيضاً عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " من أطاعني فقد أطاعً اللهَ .. ".
وحديثُنا حديثُ البابِ واضحٌ جليٌّ ظاهرٌ في اتِّباعِ سنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتحذيرِ من الذين لا يرون الاحتجاجَ بها ، ولقد وقع الوعيدُ على من خالفَ هديَ النبي - صلى الله عليه وسلم - وذلك فيما رواه مسلمٌ عن سلمةَ بنِ الأّكْوَعِ - رضي الله عنه - : أن رجلاً أكلَ عند النبي - صلى الله عليه وسلم - بشمالِهِ ، فقالَ له - صلى الله عليه وسلم - : " كُلْ بيمينِكَ " قال : لا أستطيعُ ، قال : " لا استَطَعْتَ " ، ما منعه إلا الكبر ، قال : فما رفعها إلى فيه .
فهذه الأحاديثُ وأحاديثُ أخرى معها ترْشِدُنا إلى وجوبِ الانتهاءِ عما نهى عنه رسول - صلى الله عليه وسلم - ووجوبِ الائتمارِ بما أمر به ربنا سبحانه وتعالى .
وأن القرآن لا يُغْني عن السُّنَّة ، بل هي مثلُه في وجوبِ الطّاعةِ والاتباعِ ، وأن المستغنيَ عنها هو مُسْتَغْنٍ في الحقيقةِ عن كتابِ الله تعالى ، وهو غير مطيعٍ لكلام الله سبحانه وتعالى ، وأن طاعةَ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - طاعةٌ لله تعالى وعصيانَه عصيانٌ لله .
وأن ما حرَّم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مثل ما حرَّمَ اللهُ ، وكذلك كلُّ شيءٍ جاءَ به رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مما ليسُ في القرآنِ فهو كالذي جاءَ به القرآنُ .
وأن العصمةَ من الانحرافِ والضَّلالِ إنما هي بالتمسُّكِ بالقرآنِ والسنَّةِ معاً .(1/97)
وأن من عصى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يستَحِقُّ العقاب في الدُّنيا والآخرة ، لقوله تعالى : { ??????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????
أخوة الإسلام :
وإذا تدَبَّرْنا هذه الآياتِ مع هذه الأحاديثِ ونظرنا إلى وظيفةِ السنَّةِ النبويَّةِ مع القرآنِ الكريمِ نجدُ أنها تؤَيِّدُ القرآن الكريم في أموره ، سواءٌ أكانت من السننِ القوليَّةِ أم السنن الفعلية .
فمثلاً كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمرُ الصحابةَ بصيامِ رمضانَ وبالحجِّ ، وهذا الأمرُ موافقٌ للقرآنِ حيث يقول الله - عز وجل - : ?????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????
ويقول : ?????????????????????????????????????????????????? } وكذلك من السنن الفعليَّة نجد أشياءَ وهي في القرآن الكريم .
ونجد أيضاً أقوالاً أُجْمِلَتْ في القرآن بلفظِ لا يُدرَى المرادُ منها تفصيلاً ؛ فجاءت السُّنَّةُ مبيِّنَةً لذلك ، فمثلاً أمر الله بالصلاةِ والصومِ والزكاة والحج ولم يُبَيِّنْ لنا أعدادَ الرَّكعاتِ ولا كيفياتِها ولا أوقاتَها ، فجاءت السُّنَّةُ مبيِّنَةً لذلك ، فصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بأصحابه على المنبرِ يوماً وقال : " إنما فعلتُ لتأتمّوا بي ولتعلموا صلاتي ، صلوا كما رأيتموني أصلي " .
وحجَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بصحابته وقال : " خذوا عني مناسِكَكُم ؛ فإني لا أدري لعلي لا ألقاكُم بعدَ عامِي هذا " .
وهناك سُنَنٌ لم تأتِ في القرآنِ الكريمِ ، وإنما جاءتْ بها السُّنَّةُ النبويةُ كما جاءَ في هذا الحديثِ في تحريمِ لحومِ الحُمُرِ الأهليَّةِ وتحريمِ كلِّ ذي نابٍ من السِّباعِ ، وكما جاءَ في إثباتِ حقِّ الشُّفعَةِ ونحو ذلك .(1/98)
وإن القرآنَ الكريمَ لا يستغني به المرءُ عن السُّنَّةِ النبويَّةِ مهما بلغ فصاحةً ودرايةً باللغةِ العربيةِ إذْ لا غِنَى عنِ السنةِ النبويةِ لأيِّ فردٍ مهما بَلَغَ من الفصاحةِ والبيانِ .
والسنةُ داخِلَةٌ ضمن الذِّكْرِ ، ولقد سُئِلَ الإمامُ الجليلُ عبدُ اللهِ بنُ المباركِ عن الأحاديثِ الضعيفةِ والموضوعةِ فقال : تعيشُ لها الجهابذةُ ، ثم تلا قولَه تعالى : ??????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????
وأما ما يخُصُّ فتنةَ إنكارِ السُّنَّةِ النبويةِ وما يتعلَّقُ بشبهاتِ بهؤلاء المنكِرينَ فيمكن أن نقولَ إن هؤلاء المنكرين ينقسمون إلى أقسامٍ :
1_ أما القسمُ الأولُ ؛ وهم من سَبَقَتِ الإشارةُ إليهم ، وهم القرآنيون الذين يَزْعُمُونَ أنهم يَحْتَجُّونِ بالقرآنِ فقط ولا يرجَعونَ إلى السُّنَّةِ النبوية ، وقد مضى ما يتعلَّقُ بكتابِ الله من الآياتِ ما فيه الدلالةُ الواضحةُ البيِّنَةُ التي لا شكَّ فيها ولا ريبَ ولا يشكُّ عاقلٌ منصفٌ يريدُ الحقَّ أنَّ وجوبَ اتباعِ السنة النبوية من القرآن أمرٌ ظاهرٌ جَلِيٌّ واضحٌ لا ينتابه أدنى شكِّ أو ريبٍ أو تردُّدٍ
وإن من الطعنِ بالسنَّةِ النبويةِ الطعنُ في رواتها وخاصةً الطعنُ في الصحابةِ رضي الله عنهم. فالذي يطعن بالصحابة في روايةِ الأحاديثِ كأبي هريرةَ وأم المؤمنيَن عائشةَ رضي الله عنهم فهذا لا شكَّ طَعَنَ في السنة النبوية لأنهم رواتُها وحملتُها ونقلتُها .(1/99)
وكذلك من الِطَّعْنِ في السنة أن يُحْصَرَ الاستدلالُ بالرواياتِ التي رواها أهلُ البيتِ فقط دون غيرهم ، وهذه دعوى زائفة كاذبةٌ باطلةٌ ، وهم يزعمون ذلك ويطعنون بعائشةَ أم المؤمنين رضي الله عنها وهي أوَّلُ من يدخلُ في أهلِ البيتِ كما جاء في كتابِ اللهِ تعالى حيث أخبر - عز وجل - عن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّهُنَّ داخلاتٌ في أهلِ البيتِ بقوله : { ?????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????
ولهذا فإن الطعنَ بالصحابةِ رضي الله عنهم وبأمهاتِ المؤمنين مدخَلٌ للطعنِ في السنة النبوية ، وكما سبقَ عن الإمامِ أبي زرعةَ رحمه الله في محاضرةٍ سابقةٍ قولُه : إذا رأيْتُمُ الرجلَ يتكلَّمُ في الصحابة فاعلَمُوا أنه زِنديق ، وإنما يريدُ هؤلاءِ أن يَطْعَنُوا في شهودِنا ، فهؤلاءِ الرواةُ من الصحابةِ هم الذين نقلوا لنا القرآنَ وبَيَّنُوا لنا سنةَ النبي - صلى الله عليه وسلم - فالطعن فيهم طعنٌ في السنةِ النبوية .
ومن صُوَرِ عدمِ تعظيمِ السنةِ ؛ ومن صُوَرِ التَّساهُلِ في سُنَّةِ النبي - صلى الله عليه وسلم - فتنةً انتشرتْ في العصورِ المتأخرةِ ، وهي تدورُ على أن حديثَ الآحادِ ( أي : الحديث الذي لم يَجمع صفاتِ التواترِ ) لا يُحْتَجُّ به فيما يخُصُّ أمورَ العقيدةِ .
وهذه فتنة عظيمةٌ في الحقيقةِ ، وهي مدخَلٌ لإنكارِ السنة النبوية .
وإن المتأمِّلَ لآياتِ اللهِ وسنةِ النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يجد إلا أن الأمرَ عامٌّ في اتباعِ السنةِ أياً كانتْ ، والتفريقُ بين أخبارِ الآحادِ والأحاديثِ المتواترةِ في أمورِ العقيدة أمرٌ محدَثٌ باطلٌ ودلَّتْ السنةُ وعَمَلَ الصحابةِ رضي الله عنهم على أن هذا التفريقَ أمرٌ محدّثُ باطلُ .(1/100)
ولقد أفاضَ الإمامُ الشافعيُّ رحمه الله تعالى ورضي عنه في كتابِهِ العظيمِ ( الرسالة ) الدلالة على لزومِ ووجوبِ الاحتجاجِ والعملِ بِخَبَرِ الواحِدِ دونَ التَّفْرِيقِ بينَ الآحاد والمتواترِ .
وأنتم تعلَمونَ جميعاً أن الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - كان يرسلُ الواحدَ من الصحابةِ يُبَلِّغُ ويَدْعُو ، فَبِمَ كان يدعو؟ وإلى ماذا كان يدعو ؟ هل يدعو إلى الأحْكامِ فقط دون العقيدة ؟ حاشا وكلا . وإنما كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذٍ : " إنك تأتي قوماً أهلَ كتابٍ فليكن أوَّلَ ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله .." الحديث .
فهذه النصوصُ الكثيرةُ في إرسالِ الرسولِ الواحدِ حُجَّةٌ ظاهرةٌ قويةٌ على الاحتجاجِ بأخبارِ الآحادِ في العقيدة ، وظاهرةٌ في أن التفريقَ بين خبرِ المتواترِ وخبرِ الآحادِ في الاحتجاجِ بها في أمورِ العقيدةِ فَلْسَفَةٌ دخيلةٌ في الإسلامِ لا يعرفُها السلفُ الصالحُ البَتَّةَ ولا الأئمةُ الأربعةُ رضي الله عنهم أجمعين .
ومن لطائفِ هذا البابِ أن واحداً من هؤلاء المفتونينَ بهذا القولِ ، وهو أن خَبرَ الآحادِ لا يُحْتَجُّ به في العقيدةِ ؛ أنه كان يتحدَّثُ فلما فرغَ من حديثه قال له أحدُ الناسِ : يا أستاذُ سمعنا منك أنك تقولُ إن خبرَ الآحادِ لا يُحْتَجُّ به في العقيدة ؛ فنحن يا أستاذُ نطالبُكَ بهذا الأمرِ الذي هو من أمورِ العقيدةِ بأنه لا بدَّ أن يكونَ قولُكَ متواتراً ، فأين التواترُ على ما تقولُ ؟ فسكتَ هذا وخَمَدَهُ اللهُ تبارك وتعالى .
وممن أفاضَ الكلامَ في هذا البابِ الإمامُ ابنُ القيِّمِ رحمه الله في كتابِهِ العظيمِ ( الصواعقُ المرسَلَة ) فأفاضَ وأطالَ الكلامَ جداً في بيانِ أن خبرَ الآحادِ حجَّةٌ في العقيدةِ والأحكامِ ولا فرقَ بينها .(1/101)
وأختمُ هذه المسألةَ بقولِ الإمامِ الشافعيِّ رحمه الله تعالى : ( أَجْمَعَ أهلُ العلمِ قديماً وحديثاً على تثبيتِ خبرِ الواحدِ والانتهاءِ إليه ..) إلى أن قال : ( ولم أَحْفَظْ عن فقهاءِ المسلمينَ أنهم اختلفوا في تثبيتِ خبرِ الواحدِ ) وهذا القولُ ظاهرٌ جليُّ من هذا الإمامِ الجليلِ على أن هذا التفريقَ لم يكن في عصورهم وإنما هو أمرٌ مبتَدَعٌ وفيه ما فيه من الضّلالِ والانحرافِ ، نسألُ الله السلامةَ والعافيةَ .
وهنالك نوعٌ للأسَفِ من التَّساهُلِ في سنة المصطفى عليه الصلاة والسلام ومِن ردِّها وهو إذا كان هذا الحكمُ من السنة مخالفاً للمذهبِ أو لرأيٍ ما .
فهذه من المسائلِ الخطيرةِ ، ويجبُ على المرءِ أن يحكِّمَ كتابَ الله سبحانه وتعالى وسنَّةَ نبِيِّه - صلى الله عليه وسلم - في سائرِ شؤون الحياةِ ولا يردُّ آيةً ولا حديثاً سواءٌ وافقَ مذهبَهُ أو خالفَه .
وإذا تأمَّلْنا أقوالَ الأئمةِ الكبارِ الأئمةِ الأعلامِ والأئمة الأربعةَ وغيرهم رحمه الله ، نجدُ أن كلامَهم كثيرٌ في تعظيمِ السنَّةِ النبويَّةِ . وما من واحدٍ منهم إلا صحَّ عنه قولُه : ( إذا صحَّ الحديثُ فهو مذهبي ) أو نحو ذلك .
ويقولُ الإمامُ مالكٌ رحمه الله : ( كلٌ يؤخَذُ منه ويُرَدُّ عليه إلا صاحبُ هذا القبر ) وأشار إلى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - .
ويقول الإمامُ أبو حنيفةَ : ( حرامٌ على من لم يعرِفْ دليلي أن يُفْتِيَ بقولي ) حتى بَلَغَ من أمرِه أن ضعيفَ الحديثِ أحبُّ إليهِ من الرأْيِ . وكلامُ الأئمةِ كثيرٌ جداً في تعظيم السنَّةِ النبويةِ .
فالانتسابُ الحقُّ إلى الأئمةِ الكرامِ رحمهم الله جميعاً هو في طاعة كتاب اللهِ وسنَّةِ نبيِّه - صلى الله عليه وسلم - ولا يرد حديثٌ من أحاديثِ النبي - صلى الله عليه وسلم - بزعمِ أنه مخالفٌ للمذهب ، وهذه فتنةٌ عظيمةٌ إذا دبَّتْ في طالبِ العلمِ .(1/102)
ومن المؤسفِ لَهُ أن نجدَ في بعضِ المدارسِ العالمُ يُقْرَأْ الحديثُ وتُقرَأُ كتبُ السنة ولكن إنما تُقْرَأ كما يقال للبركةِ وليس للعملِ بها ، لأن الأمورَ عندهم ثابتةٌ وإنما يقرؤونها قراءة سرداً دون تأمُّلٍ ودون تدبُّرٍ .
فأسألُ الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعَلَني وإياكم ممن يَذُبُّونَ عن سنةِ المصطفى عليه الصلاة والسلام ، ومع الذين يَدْعُون إليها وينشُرُونها ، وممن رُزِقوا النَّضارةَ التي وَعَدَ بها النبي - صلى الله عليه وسلم - وأسأل الله لي ولكم التوفيق والهدايةَ .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه والحمد لله رب العالمين .
المحاضرة السابعة
{ شرح حديث سؤال الجارية " أين الله " }
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله - صلى الله عليه وسلم - .
?????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????، ????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????، ?????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????أما بعد ،(1/103)
فإن خير الكلام كلام الله - عز وجل - وأحسن الهديِ هديُ محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وشرَّ الأمور محدثاتُها ، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ ، وكلَّ ضلالةٍ في النار .
إخوةَ الإسلام :
حديثُنا في هذا اللقاءِ المبارَكِ إن شاء الله تعالى تأملاتٌ وشرحٌ لحديثِ معاويةَ بنِ الحَكَمِ السُّلَميِّ الذي رواه الإمامُ مسلمٌ في صحيحه :
- رواية الحديث :
قال الإمامُ مسلمٌ رحمه الله في صحيحه :(1/104)
حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَتَقَارَبَا فِي لَفْظِ الْحَدِيثِ قَالا حَدَّثَنَا إِسْمَعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ حَجَّاجٍ الصَّوَّافِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ هِلالِ بْنِ أَبِي مَيْمُونَةَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ قَالَ : بَيْنَا أَنَا أُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ فَقُلْتُ : يَرْحَمُكَ اللَّهُ ، فَرَمَانِي الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ فَقُلْتُ : وَاثُكْلَ أُمِّيَاهْ مَا شَأْنُكُمْ تَنْظُرُونَ إِلَيَّ ؟ فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُصَمِّتُونَنِي لَكِنِّي سَكَتُّ . فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلاَ بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ فَوَاللَّهِ مَا كَهَرَنِي وَلاَ ضَرَبَنِي وَلاَ شَتَمَنِي ، قَالَ : إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لاَ يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلامِ النَّاسِ إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ إِنِّي حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ وَقَدْ جَاءَ اللَّهُ بِالإِسْلامِ وَإِنَّ مِنَّا رِجَالاً يَأْتُونَ الْكُهَّانَ ، قَالَ : فَلا تَأْتِهِمْ . قَالَ : وَمِنَّا رِجَالٌ يَتَطَيَّرُونَ ، قَالَ : ذَاكَ شَيْءٌ يَجِدُونَهُ فِي صُدُورِهِمْ فَلا يَصُدَّنَّهُمْ . قَالَ ابْنُ الصَّبَّاحِ : فَلا يَصُدَّنَّكُمْ .(1/105)
قَالَ : قُلْتُ : وَمِنَّا رِجَالٌ يَخُطُّونَ ، قَالَ : كَانَ نَبِيٌّ مِنْ الأنْبِيَاءِ يَخُطُّ فَمَنْ وَافَقَ خَطَّهُ فَذَاكَ . قَالَ : وَكَانَتْ لِي جَارِيَةٌ تَرْعَى غَنَمًا لِي قِبَلَ أُحُدٍ وَالْجَوَّانِيَّةِ فَاطَّلَعْتُ ذَاتَ يَوْمٍ فَإِذَا الذِّيبُ قَدْ ذَهَبَ بِشَاةٍ مِنْ غَنَمِهَا وَأَنَا رَجُلٌ مِنْ بَنِي آدَمَ آسَفُ كَمَا يَأْسَفُونَ لَكِنِّي صَكَكْتُهَا صَكَّةً ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَظَّمَ ذَلِكَ عَلَيَّ . قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلا أُعْتِقُهَا ؟ قَالَ : ائْتِنِي بِهَا فَأَتَيْتُهُ بِهَا فَقَالَ لَهَا : أَيْنَ اللَّهُ ؟ قَالَتْ : فِي السَّمَاءِ . قَالَ : مَنْ أَنَا ؟ قَالَتْ : أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ . قَالَ : أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ ".
هذا الحديثُ العظيمُ يرويه الإمامُ مسلمٌ عن شيخينِ من شيوخه :
الأول : أبو جعفرٍ محمدُ بنُ الصَّباح .
والثاني : أبو بكرِ بنِ أبي شيبةَ .
ويُخْبِرُ الإمامُ مسلمٌ رحمه الله أنهما تقاربا في لفظِ هذا الحديثِ ، وهذا من دِقَّةِ وعنايةِ علماءِ الإسلامِ بألفاظِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - عنايةً لا نظيرَ لها في ديانةٍ من الأديانِ ، وهذا من خصائصِ الأمَّةِ المحمَّديةِ بالعناية بالأسانيدِ والدقَّةِ فيها والاحتياطِ . فيقول الإمامُ مسلمٌ رحمه الله في روايةِ شَيْخَيْهِ ( وتقاربا في لفظِ الحديث ) .(1/106)
ويروي الشيخانُ من شيوخِ مسلمٍ ( أبو جعفر محمد بن الصباح وأبو بكرِ بنِ أبي شيبة ) هذا الحديثُ عن إسماعيلَ بنِ إبراهيمَ ، وهو يروي عن حجّاجِ الصوّافِ – وهو حجاج بن أبي عثمانَ – والصوافُّ لَقَبٌ له ، ويرويه حجاجُ الصوّاف عن يحيى بنِ أبي كثيرٍ ، وهو يروي عن هلالِ بن أبي ميمونةَ – وهو هلالُ بنُ علي بنِ أسامةَ – وهو يروي عن عطاءِ بنِ يسارٍ الهلالي ، ( وهؤلاءِ الرجالِ كُلُّهُم ثقاتٌ ) ، ويروي عطاءُ بنُ يسارٍ هذا الحديثَ عن الصحابيِّ الجليلِ معاويةَ بنِ الحَكَمِ السُّلَميِّ - رضي الله عنه - .
وهذا الصحابيُّ الجليلُ معاويةُ بنُ الحكمِ كان يسكنُ بني سُلَيْمٍ وينزِلُ المدينةَ ، وقال البخاري : له صحبةٌ ، يُعّدُّ في أهلِ الحجازِ ، وروايته في صحيحِ مسلمٍ كما سمعتم في هذا الحديث العظيم
- من روى الحديث ؟
هذا الحديثُ رواهُ جمعٌ غفيرٌ من أصحابِ الصحاحِ و المسانيدِ و السننِ و الجوامعِ والمعاجمِ و غيرِ ذلك من أهلِ العِلْمِ من أصحابِ المصنَّفاتِ الحديثية في كتبهم ، ولذلك يكادُ لا يستطيعُ المرءُ أن يُحصيَ من روى هذا الحديثَ لكثرتِهِم ، ومهما حصرَ واجتهدَ سيفوته أناسٌ لشِدَّةِ وكثرةِ روايةِ العلماءِ لهذا الحديثِ .
فرواهُ إضافةً إلى الإمامِ مسلمٍ : النسائيُّ وابنُ ماجه وأبو داود في ( سننهم ) ، وأحمد في ( المسندِ ) ، والبخاري في ( القراءة خلف الإمام ) ، وابن الجارود في ( المنتقى ) ، وأبو عوانة في ( المستخرج ) ، والبغوي في ( شرح السنة ) ، والطيالسي في ( المسند ) ، والدارمي في ( السنن ) ، والبيهقي في ( السنن ) ، والطبراني في ( المعجم الكبير ) ، وابن خزيمة في ( التوحيد ) ، والدارمي في ( الرد على الجهيمة ) والشافعي في ( الرسالة ) وابن أبي عاصم في ( السنة ) ، وابن منده في ( الإيمان ) ، و غيرهم كثير جدا .
- تنبيه :(1/107)
يجدُرُ أن نشيرَ هنا إلى أن سؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - بـ ( أينَ اللهُ ) ؟ تكرَّرَ في عِدَّةِ أحاديثَ عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - لغيرِ هذه الجاريةِ التي جاءَ ذكرُها في هذا الحديثِ الذي يرويه الإمام مسلمٌ في صحيحه
وهذا التعَدُّدُ لا يعني الاضطرابَ في هذه الروايةِ ؛ وإنما هي قصصٌ مختلِفةٌ وحوادثُ متعدّدةٌ وكلُّها دالَّةُ على مشروعيَّةِ هذا السؤالِ ( أين الله ) ؟ وعلى الإقرارِ بعلُوِّ اللهِ تباركَ وتعالى ، وسيأتي الردُّ والبيانُ على بعضِ من يعترِضُ على مشروعيَّةِ هذا السؤال .
والمقصودُ أن هذا الحديثَ ثابتٌ رواهُ الإمامُ مسلمٌ في صحيحه ، ولا شكَّ في وضوحهِ ودلالتِهِ وصِحَّتِهِ ولا مَطعَنَ ولا مَغْمَزَ فيه البتَّةَ إلا من صاحب هوى نسأل الله السلامة .
و أما ما جاء في بعضِ الرواياتِ أن الجاريةَ أعجميةٌ وأنها أشارتْ إلى السماء بدون قوله قالت : في السماء كما في المسند 2/ 291 و البيهقي 7 / 388 ففي إسنادها المسعودي : عبدُ الرحمنِ بنُ عبدِ الله بنِ عتبةَ بنِ مسعودٍ وكان قد اختلَطَ . ومما يُؤَكِّدُ ضعفَ هذه الزيادة ( أعجمية ) أن الطُّرُقَ الأخرى تخلو منها . كذلك في هذه الرواية لسؤال بـ ( أين الله ) ، وهذا يَرِدُ على المانعين أيضا .
علماً أنه قد صحتِ الإشارةُ إلى السماءِ كما في حديث جابر في الحج الذي رواه مسلم : برقم 1218 و فيه :" ... . وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنْ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ كِتَابُ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ قَالُوا نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ فَقَالَ بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إِلَى النَّاسِ اللَّهُمَّ اشْهَدْ اللَّهُمَّ اشْهَدْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ"
- الحديث عظيم الفوائد :(1/108)
وإن هذا الحديثَ العظيمَ - حديث معاوية بن الحكم السلمي - مهما بلغَ الإنسانُ في تدارُسِهِ وفي تبيانِ فوائدِه وحِكَمِهِ وما يستفادُ منه في العقيدةِ والأحكامِ والمواعظِ والآدابِ والتَّقْعِيدِ ، مهما بلغ في بيانِ هذه الفوائدِ الجّمَّةِ في هذا الحديثِ ، في الحقيقةِ يبقى قاصراً لشموله على تلكَ الفوائِدِ كلِّها بل وزيادة .
وإننا نحن نستعينُ بالله - عز وجل - في بيانِ ما يُيَسِّرُه اللهُ حسبَ الجهدِ والطاقةِ والوقتِ في توضيحِ هذا الحديثِ العظيمِ الذي يرويه هذه الصحابيُّ الجليلُ معاويةُ بنُ الحكم السلمي - رضي الله عنه - .
- شرح الحديث :
يقول هذا الصحابيُّ الجليلُ :
ـ ( بَيْنَا أَنَا أُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ فَقُلْتُ : يَرْحَمُكَ اللَّهُ ) :
كان السلامُ والكلامُ مشروعاً في فترةٍ في الصلاةِ ، فلعلَّ هذا الصحابيُّ الجليلُ كان يظنُّ أن الكلامَ ما يزالُ مشروعاً ، فلما عَطَسَ أحدُ الصحابةِ جاءَ وشَمَّتَه امتثالاً لأمرِ النبي - صلى الله عليه وسلم - ولتَوْجِيهِه عندما قال : " إذا عطسَ أحدُكُم فليَقُلْ الحمد لله ؛ وليقُلْ له من حولَهُ : يرحمكَ الله " .
فهذا الصحابيُّ الجليلُ لما عَطَسَ واحدٌ من القومِ قال له : يرحَمُكَ الله ، فكان يظن فيما يبدو أن الكلامَ يجوزُ في الصلاةِ لأنه كان مشروعاً قبل ذلك ، إذ روى مسلمٌ عن ابن مسعودٍ - رضي الله عنه - قال : ( كنا نُسَلِّمُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاةِ فَيَرُدَّ علينا فلمّا رَجَعْنا من عندِ النَّجاشيِّ سَلَّمْنا عليه فلم يَرُدَّ علينا فقلنا : يا رسولَ الله كنا نُسَلِّمَ عليك في الصلاة فتردَّ علينا فقال : " إن في أو في الصلاةِ لَشُغُلاً " .
فهذا الحديثُ وغيرُه يَدُلُّ دلالةً واضحةً على أن الكلامَ كان مشروعاً قبل ذلك .(1/109)
والشاهدُ أن هذا الصحابيَّ إما أن يكونَ لم يَعْلَمْ أن هذا نُسِخَ أو كان على غير درايةٍ بهذا الأمر .
والمقصودُ أنه شَمَّتَ صاحبَه عندما عطسَ وهو في الصلاةِ ؛ فقال للعاطسِ : يرحمك الله .
ـ يقول معاوية : ( فرماني القومُ بأبصارِهم ) :
أي : أخذوا ينظرون إليه بأبصارِهم أي يُنكرون عليه بذلك هذا الأمرَ الذي فعلَه ، يقول : فقلت :
ـ ( واثُكْلَ أُمِّياهُ ) : بضم الثاء وإسكان الكاف ، وفي رواية ( واثَكَلَ أمِّياه ) بالفتح لغتان صحيحتان :
والثُّكْلُ ، كما يقول العلماءُ : هو فقدانُ المرأةِ لولدها .
ـ ( ما شأنكُم تنظرون إليَّ ) :
فزادَ الطِّينَ بِلَّةً رضي الله عنه ، أولاً لأنه قال لصاحِبِه : يرحمك الله ، ثم لما رأى ما رأى من الصحابةِ عندما أخذوا ينظرون إليه زاد فقال : ( ما شأنكم تنظرون إلي ) ، فجعلوا يضربونَ بأيديهم على أفخاذِهِم ، وهم أيضاً أَخَذُوا أشدَّ من ذلك بالنكيرِ على هذا الصحابيِّ في كلامِه في هذه الصلاة .
ـ ثم قال : ( فلما رأيتهم يصمتونني لكني سَكَتُّ ) :
سَكَتَ بعد ذلك .
ـ ( فلما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأبي هو وأمي ما رأيت معلِّماً قبله ولا بعده أحسنَ تعليماً منه ) :
إن المرءَ مهما يَبِلُغُ في الثناءِ والوصفِ لِمَا كان عليهِ النبي - صلى الله عليه وسلم - لن يَبلغَ قولَ الله سبحانه وتعالى : ????????????????????????????????????????????ولهذا لما سُئِلَتْ عائشةُ رضي الله عنها عن خلقِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قالت : " كان خُلُقُه القرآن " .
فيقول ( ما رأيت معلِّماً قبلَه ولا بعدَه أحسنَ تعليماً منه ) صلى الله عليه وسلم .
ـ ثم يقول : ( فوالله ما كهرني ولا ضربني ) :
( ما كهرني ) : أي : ما انتهرني ، وقد جاءَ في قراءةٍ ليست مُتَواتِرَةً وإنما هي من القراءاتِ الشَّاذَّةِ ( وأما اليتيمَ فلا تَكْهَرْ ) ، فالكهر : هو الانتهار .(1/110)
يقول : فوالله ما كهرني ، أي : ما انتهرني .
ـ ( ولا ضربني ولا شتمني ، قَالَ : إِنَّ هَذِهِ الصَّلاةَ لاَ يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلامِ النَّاسِ إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ ) :
والمقصودُ من هذا أن هذه الصلاةَ لا يصلُحُ فيها شيءٌ من كلامِ الناس مما هو خارجٌ عن أمرِ الصلاةِ ؛ إذ فيها إضافةً إلى التسبيحِ والتكبيرِ وقراءةِ القرآن كما هو معلومٌ في أدعيةِ الركوعِ والرفعِ منه والسجودِ والجلوسِ وفي التحياتِ وأدعيةِ قبل السلام وهكذا .
والمقصودُ أن ما يُشرَع في الصلاةِ ما يتعلقُ بها ؛ وليس هنالك أمرٌ يُتَحَدَّثُ به خارجٌ عن أمرِ الصلاةِ إضافة إلى ما هو من هدي النبي عليه الصلاة والسلام .
وهنا أخوةَ الإسلامِ ، لا بدَّ لنا من وقفةٍ عندَ هذا الحديثِ العظيمِ حيث سمعنا ماذا كان من هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - مع هذا الصحابيِّ عندما أخطأَ وتَكلَّمَ في الصلاةِ وحصلَ له ما حصلَ ، فما كَهَرَهُ النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا ضربه ولا شتمه ، ولكن أرشَدَه وعَلَّمَه ، فنعمَ الإرشادُ ونعمَ التوجيهُ ، ونعمَ المرشِدُ ونعمَ الموجهُ - صلى الله عليه وسلم - .
فَحَرِيٌّ بنا إخوةَ الإسلام أن نستفيدَ من هذا الحديثِ العظيمِ العِبَرَ والدروسَ والفوائدَ . ونحن نعلمُ ونقرأُ ونسمعً ما كان من هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضاً في شأن ذلك الرجلِ الأعرابيِّ الذي دخلَ وبالَ في المسجِدِ وماذا كان من شأن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الإنكارِ عليه ثم ماذا كان التوجيهُ النبوي بهذا الشأن . وهذا كلُّه يعطينا دَرْساً عظيماً على الرِّفقِ بالعامَّةِ وبالجهّالِ ، فالواجبُ علينا أن نرفُقَ بهم وأن نوجِّهَهُم حسبَ تعاليمِ دينِنا الحنيفِ .(1/111)
وهذا التوجيهُ وهذا الرِّفقُ وهذا اللُّطْفُ بالعوامِ له آثارٌ كبيرةٌ نافعةٌ ، ومن ذلك أن هذا الصحابيَّ الجليلَ معاويةَ بنَ الحكمِ لما رأى سَعَةَ الصَّدْرِ والخُلُقَ العظيمَ والتَّوجيهَ الرَّشيدَ من رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بشأنِ ما تكلَّمَ به في الصلاة ، ولما رأى ما رأى من حسنِ التعليمِ ، فوجدها فرصةً عظيمةً ليسألَ عن أسئِلَةٍ أخرى تجولُ في نفسِهِ ، وهذا كما أشرتُ فيه دلالةٌ على أَثَرِ الرِّفقِ بالعامَّةِ وحسنِ التوجيهِ .
ومما يَجْدُرُ أن أشيرُ إليه ؛ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا كان الأمرُ يتعلَّق بالتوحيدِ والإخلالِ بعبادةِ الله سبحانه وتعالى ، أو فيه شيءٌ من الإشراكِ بالله - عز وجل - كان يغضبُ أيَّما غضب - صلى الله عليه وسلم - ولذا لما قال رجلٌ يوماً ( ما شاء الله وشئتَ ) قال له : " ويحَكَ ، ما شاء الله وحده ، أجعلتني لله نِداًّ " ؟ وهذا له نظائرُ عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - .
إذاً وَجَدَ معاويةُ - رضي الله عنه - عند هذه الفرصةِ العظيمةِ من رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فيما وجدَ من خُلُقٍ إذ كان خُلُقُهُ القرآنَ فأخذ يسألُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عما يجول في نفسه من أمور ، فقال :
ـ ( إني حديثُ عهدٍ بجاهلِيَّةٍ وَقَدْ جَاءَ اللَّهُ بِالإِسْلامِ وَإِنَّ مِنَّا رِجَالاً يَأْتُونَ الْكُهَّانَ ، قَالَ : فَلا تَأْتِهِمْ ) .
هنا يُخْبِرُ معاويَةُ - رضي الله عنه - أنه حديث عهدِ بجاهليَّةٍ ، أي : أسْلَمَ قريباً وهو حديث عهد بجاهلية ، والمرءُ كما هو معلومٌ إذا عاشَ في جاهليَّةٍ فتخالطُهُ أمورٍ وتبقى عنده إشكالاتٌ ومشكلاتٌ ، فحريٌّ به أن يسألَ ويبحثَ عما كان عندَهُ من أمورِ الجاهليَّةِ ليعرفَ صِحَّةَ ذلك وموقفَ هذه الأمورِ من دين الإسلامِ .(1/112)
وهنا أيضاً وقفةٌ في هذا الشأنِ ، حيث نعلمُ أن المرء إذا كان في جاهليةٍ يجب علينا أن نَرْفُقَ به لأنه وإن أسلَمَ وأكرمَه اللهُ بالإسلامِ ؛ فلا يخلو أن يبقى متأثِّراً أو عنده استفساراتٍ أو تساؤلاتٍ في مسائلَ تتعَلَّقُ بالعقيدةِ ، وهذا لا يقدَحُ فيه ما دامَ أنه يريدُ الحقَّ ويريدُ معرفةَ دينِ الإسلامِ وما هو شرعُ اللهِ تبارك وتعالى .
فكان الشأنُ من هذا الصحابيِّ الجليلِ أنه أخبرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه حديثُ عهدٍ بجاهليَّةٍ وقد جاءَ اللهُ بالإسلامِ ومنهم رجالٌ يأتون الكُهّانَ ، أي : سألَ النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هذا الأمرِ وهو مجيءُ رجالٍ منهم في الجاهليَّةِ أو أهلِ الجاهلية الكهان ، فقال له - صلى الله عليه وسلم - : " لا تأتِهِمْ " .
والكِهانَةُ : هذا المرضٌ الخطيرٌ الخبيثُ الذي يُخِلُّ بالإيمانِ باللهِ تباركَ وتعالى ، الذي قد جاءَ فيه الوعيدُ الشَّديدُ من رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إذ روى مسلمٌ في صحيحه عن بعض أزواجِ النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاةٌ أَرْبَعِينَ يوماً " وجاء في رواية : " فقد كفر بما أُنْزِلَ على محمد - صلى الله عليه وسلم - " .
والعِرافَةُ والكِهانةُ بينهما تداخُلٌ ، وهما مرضانِ خطيرانِ من الأمراضِ لأنهما يُخِلاّنِ بالإيمانِ باللهِ - عز وجل - لأن الكاهنَ يَدَّعي معرفَةَ أمورٍ غائبةٍ أو ضائعةٍ أو مستقبَلَة ، والكُهّانُ كانوا يأخذون عن مُسْتَرِقّي السَّمْعِ ، وهم موجودونَ وإن كانت نسبَتُهم قليلةً ؛ وقد قلُّوا لأن اللهَ سبحانه وتعالى قد حرَسَ السَّماءَ بالشُّهُبِ ولم يبقَ عندَهم إلا ما يُلْقِيهِ الأعلى للأسفلِ قبلَ أن يُصِيبَهُ الشهابُ .(1/113)
والشاهدُ أن الكِهانةَ والعِرافةَ من الأمراضِ الخطيرةِ التي فيها التعَدّي على أمرٍ من أمورِ الغيبِ التي هي تَخُصُّ ربَّنا تباركَ وتعالى . ولهذا جاء للعلَماءِ كلامٌ كثيرٌ في التحْذِيرِ من الكِهانةِ ومن الذَّهابِ إلى الكُهّانِ والعرّافينَ الذين يَدَّعونَ معرِفَةَ الأشياءِ الغائِبَةِ والمفقودَةِ والضّائِعَةِ ونحو ذلك .
ويَدْخُلُ في أمرِ الكُهّانِ صُوَرٌ حديثةٌ انتشَرَتْ بين الناسِ اليومَ ؛ من القراءةِ عن طريقِ الكّفِّ ومن الاعتقادِ بما يُسَمّى الأبراج ، وهذه كلُّها كِهانةٌ عصريَّةٌ خبيثةٌ ، وكذا الاعتبارُ بالطّالِعِ ونحوِ ذلك ، وهذا كلُّهُ من علومِ الغيبِ .
ولقد صَدرتْ عدَّةُ فتاوى لكبارِ العلماءِ في هذا الشَّأْنِ وفي هذه المسائلِ التي عمَّ انتشارُها للأسفِ وكَثُرَ نزولُها في الجرائدِ والمَجَلاّتِ ويتداولُها كثيرُ من الناسِ مع الأسفِ الشَّديدِ ، ولسماحةِ شيخِ الإسلامِ ابنِ بازٍ رحمه الله فتوى خاصَّةٌ تتعلَّقُ بحكمِ الكِهانةِ والعِرافةِ والتعلُّقِ بالنَّجومِ والأبراجِ والطّالعِ ، وقد صَرَّحَ بهذه الرّسالةِ رحمه الله فقال : ( إن ما يُسَمّى بعلمِ النُّجومِ والحَظِّ والطّالِعِ من أعمالِ الجاهليةِ التي جاءِ الإسلامُ بإبْطالِها وبيانِ أنها من الشركِ لما فيها من التَّعَلُّقِ على غيِر الله تعالى واعتقادِ الضُّرِّ والنَّفْعِ في غيره وتصديقِ العَرّافينَ والكهنةِ الذينَ يَدَّعونِ علمِ الغَيْبِ زُوراً وبهتاناً ويَعْبَثونِ بعُقولِ السُّذَّجِ والأغْرارِ من الناس ليَبْتَزّوا أموالَهم ويُحَرِّفوا عقائِدَهُم ) إلى آخرِ كلامِهِ رحمه الله .
وينبغي أن نُحّذِّرَ ممن ينشُرُ مثلَ هذه الأمورِ التي تتعارضُ مع الإيمانِ بعِلْمِ الغَيْبِ الذي اختصَّ به ربُّنا تبارك وتعالى .
ـ يقول معاوية : ( ومنا رجالٌ يتطيّرون ، قَالَ : ذَاكَ شَيْءٌ يَجِدُونَهُ فِي صُدُورِهِمْ فَلا يَصُدَّنَّهُمْ ) :(1/114)
أخبر معاويةُ عن حالِ ما كان يراهُ في الجاهلِيَّةِ من كونِ هناكَ رجالٌ يتطيَّرون ، فأَخْبَرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - أن هذا الشيءَ يجدونه في صدورِهِم فلا يصُدَّنَّهُم .
والتَّطَيُّرُ أخوةَ الإسلامِ : أنهم كانوا يعتقِدون إذا جاء الطَّيْرُ يُمْنَةً تَيَمَّنوا به ؛ وإن جاء يسرةً تشاءموا به ، وكانوا يعتقدون أن لهذا الطيرِ تأثيراً عليهم في جلبِ النَّفْعِ أو دفعِ الضُّرِّ . فلذا دفعَ النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الاعتقادَ الذي كان عليه أهلُ الجاهليَّةِ فأرشد النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمرٍ وهو أنه إذا وَجَدَ الإنسانُ في نفسه شيئاً من ذلك فينبغي أن لا يَصُدَّهُ عن مُرادِه وعن عملِه وعن إرادته في الفعلِ .
أي : لو حَصَلَ في النفسِ شيءٌ من ذلك فيجِبُ أن لا يكون فيه تأثيرٌ على المرْءِ ، فقال :" هذا شيءٌ يجدونه في صدورهم فلا يصدنهم " .
ولذا جاءَ في أحاديثِ كثيرةٍ عن الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - : " لا عدوى ولا طِيَرَةَ ولا هامةَ ولا صفرَ " وهو حديثٌ رواه البخاريُّ في صحيحِه والمرادُ من ذلكَ نفيُ اعتقادِ أهلِ الجاهليَّةِ وما كانوا يعتقدونه في تأثيرِ هذه الطيورِ إن جاءتْ يمنةً أو جاءتْ يسرةً . ولهذا جاء في الحديث "ولا هامةَ ولا صَفَرَ " ، والهامة : طائرٌ كالبومةِ يتشاءمون بها ويزعم بعضهم أن عظامَ الميتِ تصيرُ هامةً فتطيرُ بعد ذلك . وهذا القولُ هو كقولِ أهلِ التناسخِ ، وهذه عقائدُ جاهليةٌ أبطلها الشَّرعُ ، وكانوا يتشاءمونَ من شَهْرِ صفرَ فأبطلَ الإسلامُ هذه الاعتقاداتِ الفاسدةَ لتعارضها مع شرعِنا الحكيمِ .(1/115)
ولذا أرشَدَ الشرعُ إلى التَّفاؤلِ وجاءَ ذِكْرُ هذا في أحاديثَ كثيرةٍ عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إذ جاءَ أنه كان يعجبُهُ الفَاْلُ ؛ قالوا : وما الفألُ ؟ قال : الكلمة الطيبةُ . أي : تقال الكلمةُ الطيّبةُ للمريضِ أو لفاقدِ الشيءِ ونحوِهِ بما فيها من التفاؤلِ ، وهذا عامٌ في سائرِ شؤونِ المرءِ أن يكونَ كلامُهُ فيه من الفألِ ، وهذا كما ذكرنا إرشادٌ نبويٌّ كريمٌ .
وجاءَ في حديثٍ رواه أبو داود وغيرُه : " الطيرةُ شركٌ " .
فحرِيٌّ بالمرءِ أن يبتعِدَ عن كلِّ ما حذَّرَ منه - صلى الله عليه وسلم - مما يتعارضُ مع الاعتقادِ الصحيحِ بالله تباركَ وتعالى .
_ قال مسلمٌ : ( قال ابن الصباح : فلا يصدنكم ) :
ابنُ الصَّباحِ هذا من شيوخِ مسلمِ في الحديث كما ذكرنا ، وقد سبق أن الإمامَ مسلماَ ذكر أن شيخيهِ قد تقارَبا في الحديثِ ، وهنا يذكرُ أن ابنَ الصباح ذكر في روايته ( فلا يصدنكم ) ، وأما أبو بكر فقال في روايته ( فلا يصدنهم ) ، والمعنى واحدٌ .
ـ قال معاوية - رضي الله عنه - : ( وَمِنَّا رِجَالٌ يَخُطُّونَ ، قَالَ : كَانَ نَبِيٌّ مِنْ الأنْبِيَاءِ يَخُطُّ فَمَنْ وَافَقَ خَطَّهُ فَذَاكَ ) :
هذا بيانٌ لهذا الأمرِ ، وهو ما يتعَلَّقُ بالخَطِّ والضربِ بالرَّمْلِ ونحوِه . ففيه بيانُ أن نبياً من الأنبياءِ كان يفعلُ هذا ، فأخبر - صلى الله عليه وسلم - أن من وافقَ خطَّه فذاك ، أي : من اسْتَطاعَ أن يفعلَ ويوافِقَ ما كان يَخُطُّهُ ذلك النبُّي فلْيَفْعَلْ .
وهذا كما يقولُ العلماءُ من التعليقِ على المحالِ ، لأن الإنسانَ لا يستطيعُ أن يعملَ هذه الخطوطَ ويوافقَ ذلك الأمرَ الذي كان لذلك النبي ؛ فعَلَّقَ هذا الأمرَ كما يقولون على المحال ، أي : لا يستطيعُ أن يفعلَ المَرْءُ فعلَ ذلك النبي .(1/116)
ثم بعد ذلكَ واصلَ معاويةُ - رضي الله عنه - الأسئلةَ للنبي - صلى الله عليه وسلم - والاستيضاحَ والاسترشادَ منه عليه الصلاة والسلامُ لِمَا رأى ما رأى من تَجاوُزِهِ - صلى الله عليه وسلم - عن تلك الأسئلةِ وما رأى من تلك الإجاباتِ فأضاف وقال - رضي الله عنه - :
ـ (وَكَانَتْ لِي جَارِيَةٌ تَرْعَى غَنَمًا لِي قِبَلَ أُحُدٍ وَالْجَوَّانِيَّةِ ) :
والجوانيَّةُ : موضِعٌ بالمدينةِ .
ـ يقول : ( فَاطَّلَعْتُ ذَاتَ يَوْمٍ فَإِذَا الذِّيبُ قَدْ ذَهَبَ بِشَاةٍ مِنْ غَنَمِهَا ) :
لما رأى ما رأى ذلك الصحابيُّ من هذه الجاريةِ كأنه رأى أن هذا فيه من الإهمالِ والتقصيرِ في المسؤوليةِ ، فقال : ( وَأَنَا رَجُلٌ مِنْ بَنِي آدَمَ آسَفُ كَمَا يَأْسَفُونَ لَكِنِّي صَكَكْتُهَا صَكَّةً ) ، إنه رجلٌ يأسفُ كما يأسفون ، أي : يغضبُ ، وطبيعةُ ابنِ آدمَ أنهم يغضبون .
ـ قال : ( لَكِنِّي صَكَكْتُهَا صَكَّةً ) :
جاءَ إلى هذه الجاريةِ وغضبَ لما رأى من تفريطِها وكونِ الذئبِ قد ذهب بشاةٍ من غَنَمِها ؛ فضرب هذه الجاريةَ ضربةً شديدةً .
ـ يقول : ( فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَظَّمَ ذَلِكَ عَلَيَّ ) :
أي : شَدَّدَ الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - وعظَّمَ عليه فعلتَهُ بضربِ هذه الجاريةِ . وهذا فيه أدبٌ عظيمٌ بالرفقِ بالعبدِ والجاريةِ والخادمِ ، فالإنسانُ عليه أن يَرْفُقَ بإخوانه ، وهنا عَظَّمَ النبي - صلى الله عليه وسلم - على هذا الصحابيَّ ما فَعَلَه تجاهَ هذه الجاريةِ لما ضربها .
ـ يقول : ( يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلا أُعْتِقُهَا ) ؟
أي : مقابلَ هذا الفعلَ الذي فعلتُ ، يريدُ أن يُكَفِّرَ عن فِعْلتِه وعما حصل منه ، فقال له - صلى الله عليه وسلم - :
ـ ( ائْتِنِي بِهَا ) :
بعد ذلك دعاها النبي - صلى الله عليه وسلم - وطلبَ من سيدِها فجاء بها .(1/117)
ـ يقول : ( فَأَتَيْتُهُ بِهَا فَقَالَ لَهَا : أَيْنَ اللَّهُ ؟ قَالَتْ : فِي السَّمَاءِ . قَالَ : مَنْ أَنَا ؟ قَالَتْ : أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ . قَالَ : أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ ) :
هنا في هذا الحديثِ العظيمِ ؛ سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الجارية بسؤالَيْن عظيمين :
الأول : سألها ( أين الله ) ؟ فقالت له : في السماء .
الثاني : سألها ( من أنا ) ؟ فقالت : أنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وقد ضَعَّفَ بعضُ المُبْتَدِعَةِ هذا الحديثَ ، وزعموا أن هذه الجاريةَ كانت خرساءَ ولهذا سألها النبي - صلى الله عليه وسلم - وقبل جوابها بهذا .
وهذا الكلام باطلٌ من وجوه :
الحديثُ لا مَطْعَنَ في الحديثِ بعدَ روايةِ الإمامِ مسلمٍ له في صحيحه لهذا الحديث .
إن روايةَ الخرساءَ لا تَصِحُّ كما سبق بيانه .
3- لو كان الأمرُ صحيحاً بأنَّ هذه الجاريةَ كانت خرساءَ فكان يمكنُ أن يسأَلَها بوجهٍ آخرَ بغيرِ السؤالِ بأينَ الله ؟ فقال لها مثلاً : مَنْ رَبُّكَ ؟ وماذا تعبدين ؟ ونحو ذلك .(1/118)
ومع هذا كله ، سواءٌ أكانت خرساءَ أم كانتْ غيرَ خرساءٍ فإن سؤالَ النبي - صلى الله عليه وسلم - بالأَيْنِيَّةِ ( أين الله ) دليلٌ على مشروعيةِ هذا السؤالِ ، وجوابُها وإخبارها إخباراً صحيحاً عن هذا عندما قالتْ ( إن الله في السماء ) وعندما سألها ( من أنا ) فقالت : أنت رسولُ الله ، وشهادةُ الرسولِ بإيمانها بهذا إذ قَبِلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - هذه الشهادةَ العظيمةَ من هذه الجاريةِ وشَهِدَ لها بالإيمان وقال :" أعْتِقْها فإنها مؤمنة " . وحسْبُنا شهادةٌ من النبي - صلى الله عليه وسلم - على من أَقَرَّ بذلك بالإيمانِ ، وهذا فِقْهٌ عظيمٌ جليلٌ من هذه الجاريةِ التي ترعى الغنمَ حيث أجابتْ عن سؤالٍ عظيمٍ في أمرِ من أمورِ الاعتقادِ ، ولكن مع ذلك للأسفِ نَجِدُ كثيراً من طلابِ العلمِ أو ممن ينتسبونَ إلى العلمِ تضيقُ صدورَهم عن فهمِ هذه الحقائقِ أو لَدَيهِم صورٌ مختلفةٌ يُناقِضُون فيها حديثَ النبي - صلى الله عليه وسلم - فيُخَطِّئون السؤالَ بهذا بل ويخطئون أيضاً الإجابة بهذا وهم يعترِضُونَ في حقيقةِ الأمرِ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وإن القرآنَ الكريمَ مليءٌ بالأدِلَّةِ الدالةِ على عُلُوِّ اللهِ تبارك وتعالى على خلقه ، وفي القرآن الكريم ما يَدُلُّ على استواءِ اللهِ سبحانه على عرشه في سبعةِ مواضعَ من كتاب الله تبارك وتعالى ، وهي قوله - عز وجل - : ?????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????? } ?( الأعراف: من الآية 54)
???????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????? } ?(يونس:3)(1/119)
?????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????? (الرعد:2) ??????????????????????????????????????????????????????(طه:5) ??????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????? (الفرقان:59)
????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????? (السجدة:4) ????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????? } ? (الحديد:4) وفي هذه المسألةِ أدِلَّةٌ كثيرةٌ من السنة وأقوالِ السلف والتابعين ومن بعدهم ، من الأئمة المحدثين و الفقهاء ونجدها مُدّوَّنَةً منثورةً في كثيرٍ من الكتب .
وإذا رجعنا إلى كتاب ( العلو للعلي الغفار ) للإمام الذهبي رحمه الله نجد نُقولاً كثيرةً مستفيضةً عن أئمة الإسلام في ذلك ، وكثيرٌ من كتبِ العقيدةِ وكتبِ السنة مليئةٌ بالآثارِ عن الصحابة والتابعين وأحاديثِ سَيِّدِ المرسلين مما يدلُّ دلالةً واضحةً لا شَكَّ فيها ولا ريبَ على علوِّ الله تبارك وتعالى على خلقه بل الإجماعُ قائمٌ على ذلك .(1/120)
وإنه جديرٌ بنا أن ندرِكَ بعضَ الأمورِ التي تَتَعَلَّقُ ببابِ الأسماءِ والصفاتِ ، وذلك لأن إغْفالَ بعضِ الأمورِ التي تتعلقُ بهذا الباب يُؤَدّي إلى المهلكةِ ، فينبغي علينا أن نتنبه لهذا الأمرِ العظيمِ ؛ أمرِ الإيمانِ بأسماءِ الله وصفاته تبارك وتعالى .
ومدارُ هذه القواعدِ وهذه الأُسُسِ على عِدَّةِ أمورٍ أبرزُها ما يلي :
1_ يجبُ علينا أن نسميَ اللهَ سبحانه بما سمى به نفسَه في كتابه أو بما سماه به رسولُه - صلى الله عليه وسلم - إذ إن مصدرَ التَّلَقّي للعلمِ وخاصةً العلمَ المتعلِّقَ بالله سبحانه وتعالى هو أخذُ هذا العلمِ عن الله - عز وجل - لأنه أَعلمُ بنفسه سبحانه وتعالى ، وبما أخبرَ به الرسلُ الصادقون المُصَدَّقون وسيُّدُهم محمدٌ عليه الصلاة والسلام ، فالكتابُ والسنةُ هما المصدران الأساسيان لتلقي هذا الباب ؛ بابِ أسماءِ لله - عز وجل - وصفاته تبارك وتعالى ، فنسمي اللهَ بما سمى به نفسَه في كتابه وبما سماه به رسولُه - صلى الله عليه وسلم - ولا نَزيدُ على ذلك شيئاً ولا ننقص منه شيئاً .
2_ يجب علينا أن نُثْبِتَ كلَّ الصفاتِ التي أثبتها الله تعالى لنفسِه أو أثْبَتَها له رسولُه - صلى الله عليه وسلم - إثباتاً لا تحريفَ فيه ولا تعطيلَ ولا تكييفَ ولا تمثيلَ . فلا نُحَرِّفُ الكلمَ عن مواضعه ، ولانعطِّل هذه الصفاتِ عن معانيها ، ولا نُؤْمِنُ ببعضِ الصفاتِ دون بعضٍ ، ولا نقولُ إن هذه الصفاتِ على الكيفيةِ الفُلانِيَّةِ أو إنها مثل صفةِ فلانٍ أو غير ذلك ، وإنما نؤمن بهذه الصفات إثباتاً ونفياً بمعنى : أننا نُثْبِتُ لله - عز وجل - ما أثبته لنفسه وننفي عنه أيضاً ما نفاه عن نفسه في كتابه أو نفاه رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، فيجب أن ننفيَ ذلك مع اعتقادِ أن اللهَ سبحانه وتعالى له الوصفُ بالكمالِ كلِّه مع نفي كلِّ ما يناقض هذا الكمال من مشابهة للمخلوق أو مماثلة.(1/121)
3_ من الأمورِ التي ينبغي أن ندركَها في هذه القواعدِ والأسس ؛ أن المشابهةَ بين الأسماءِ والصفاتِ التي تتعلقُ بالله - عز وجل - ، بمعنى : إذا حصل هناك بعضُ اشتراكٍ بينها وبين المخلوقِ فهذا لا يستلزمُ ولا يعني البتةَ المماثلةَ والمشابهةَ بين الخالقِ والمخلوقِ . ونحن نعلمُ جميعاً أن الله - عز وجل - من أسمائه ( العزيز والرؤوف والرحيم ) ومع ذلك فقد سمى الله محمداً - صلى الله عليه وسلم - ووصفه بذلك تعالى في قوله: ???????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????? (التوبة: 128) فالله سبحانه قد أثبت لنبيه - صلى الله عليه وسلم - العزَّةَ والرأفة والرحمةَ ، ونحن نعلم أن العزيزَ والرؤوفَ والرحيمَ من أسماءِ الله تعالى ومما يَتَّصِفُ بها سبحانه وتعالى . لكننا نعتقدُ جازمينَ بأن رحمةَ المخلوقِ وعزةَ المخلوقِ مهما بلغتْ في هذا المخلوقِ من مكانةٍ فلا تبلغُ رأفةَ الله ولا رحمةَ الله تباك وتعالى إذ { ?????????????????????????????????????????????????????????????????? (الشورى: من الآية11) .(1/122)
وكذلك آياتٌ كثيرة وأدلةٌ كثيرةٌ فيها اشتراكٌ من حيث الاسمِ ومن حيث الصفةِ بين الخالقِ والمخلوقِ ، فيجبُ أن لا نتصورَ المماثلةَ والمشابهةَ البتةَ بين هذه الأسماءِ وبين هذه الصفاتِ ، والله سبحانه وتعالى يقول : ????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????? (الروم: من الآية19) فمن المخلوقاتِ من يَتَّصِفُ بالحياةِ ، وشَتَّانَ بين الحيِّ الذي لا يموتُ والحيِّ الذي يموتُ وإنْ عُمِّرَ فإنما يعمِّرُ لأيامٍ معدوداتٍ . وهكذا كلُّ اسمٍ وصفةٍ يَشْتَرِكُ إطلاقُها على الله وعلى المخلوقِ فيجب أن تعتقدَ أنه لا مماثلةَ ولا مشابهةَ فيه البتة .
4- القاعدةُ العظيمةُ الكبرى في هذا الباب – باب الأسماء والصفات – هي قولُ الله سبحانه وتعالى : { ?????????????????????????????????????????????????????????????????? (الشورى: من الآية11) . فالذي يتدبرُ هذه الآيةَ العظيمةَ يجدُ الخلاصَ والنّجاةَ في هذا البابِ ؛ لأن الله سبحانه قد نفى المماثلةَ والمشابهةَ في هذه الآية الكريمة عندما قال - عز وجل - : { ????????????????????????????? } ، فهذا هو التنزيهُ ، فالله ليس كمثله شيءٌ لا مَلَكٌ ولا نبيٌ ولا وليٌّ ولا شيءٌ البتةَ ، ثم بعد ذلك أثبت الله لنفسه السمعَ والبصرَ فقال سبحانه { ????????????????????????????????????? وهذا هو الإثباتُ ، أي : أن السمعَ والبصرَ صفتان يتَّصِفُ بهما ربُّنا تباركَ وتعالى ؛ ولكن هذا الإثباتُ للسمعِ والبصر يجبُ أن يكونَ بلا مماثلةٍ ولا مشابهةٍ بين الخالقِ والمخلوقِ مهما كانت منزلةُ هذا المخلوقِ .(1/123)
فهذه الآيةُ قاعدةٌ عظيمةٌ من تدبَّرَها وسارَ من خلالها وجعلها قاعدةً لكلِّ ما أثبتَ اللهُ لنفسِهِ ولكلِّ ما وصفه به نبيُّه - صلى الله عليه وسلم - لاقى المرءُ ربَّه بسلامٍ وأمانٍ واطمئنانٍ .
فالمرءُ عندما يثبتُ لربِّه ما أخبر عنه ، وعندما يثبت لربه ما أخبرَ عنه نبيُّه الصادقُ المصدوقُ فماذا يكون بعد ذلك ؟
وكذلك نعلمُ أن الذين وقعوا في المغالطاتِ والمخالفاتِ في بابِ أسماءِ الله سبحانه وتعالى ، وأعني خاصةً الذين أرادوا تنزيهَ اللهِ سبحانه وتعالى في هذا البابِ ؛ نقول : إن هذا القصدَ خيرٌ وعظيمٌ ولكنهم أخطأوا الجادةَ وانحرفوا عن الطريقِ ؛ لأنَّ إثباتَ ما أثبتَ اللهُ لنفسِهِ وما أثبتَه له رسولُه - صلى الله عليه وسلم - لا يستلزِمُ التشبيهَ ولا المماثلةَ البتَّةَ بين الخالقِ والمخلوقِ . ولقد كانت هذه الآياتُ تُتْلى في أسماءِ الله - عز وجل - وصفاته على الصحابةِ والتابعينَ ومن بعدهم ؛ وهذه كتبُ السنَّةِ توجّدُ فيها هذه الأحاديثَ ولم نَجِدْ هذه الإشكالاتِ ولا هذه الوساوسَ في القرونِ المفَضَّلَةِ الفاضلَةِ .
ويجبُ أن نعلمَ أن الذين وقعوا في هذه الوساوسِ والأوهامِ إنما تصوَّروا المماثلةَ والمشابهةَ بين الخالقِ والمخلوقِ عندما سمعوا هذه النصوصَ المتعلقةَ بجنابِ اللهِ سبحانه وتعالى فتَصَوَّروا المماثلةَ والمشابهةَ أوَّلاً ثم نفَوا بعد ذلك هذه الصفاتِ ولَجَأُوا إلى تأويلِها أو تحريفِها ثانياً ، فقد وقعوا في التشبيهِ في الذهنِ ثم بعد ذلك أوَّلوا هذه الصفة أو الصفاتِ الأخرى .(1/124)
فهم للأسفِ كما أشرتُ كان قصدُهم نفيَ التشبيهَ عن الله - عز وجل - وأرادوا التنزيه ، ولكنهم وقعوا بعد ذلك وللأسفِ في الذي فروا منه ، فوقعُوا في هذا الإشكالِ ، فتصوروا المماثلةَ والمشابهةَ ثم بعد ذلك جاءوا وأوَّلوا وانحرفوا بذلك عن الطريق السليمِ وعن الجادةِ الصحيحةِ . وكما قلت وأشرتُ بأن الأسلمَ للمرءِ والأوجبَ عليه أن يؤمنَ بكلِّ ما أخبرَ عنه ربُّنا تبارك وتعالى وما أخبر عنه نبيُّه عليه الصلاةُ والسلام من أسماء الله وصفاته مع نفي المماثلةِ والمشابهة دون تحريفٍ أو تأويلٍ أو تعطيلٍ .
فحرِيُّ بالمؤمن أن يتدبَّرَ هذه المسائلَ العظيمةَ المتعلِّقةِ بتوحيد الله سبحانه وتعالى ولأنها من أول ما يجب على المرءِ معرفته .
فحريٌّ بنا أن نستفيدَ من هذه النصوصِ العظيمةِ من كتاب الله تعالى ومن نصوصِ حديثِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وكما ذكرتُ في مطلِعِ كلامي عن هذا الحديثِ العظيمِ – حديث معاويةَ بنِ الحكم السلمي – أن هذا الحديثَ فيه فوائدُ جمَّةٌ عظيمةٌ يقصُرُ ويضيقُ الوقتُ عن ذكرها وبيانها ، وهذه ذكرى والذكرى تنفع المؤمنين .
وأسأل الله العظيمَ بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يوفقنا وإياكم لهذا الفقه العظيم أعني الفقه الذي يخصُّ الاعتقادَ وهو المسمّى الفقه الأكبر في جانب الإيمان والتوحيد وأسأل الله - عز وجل - أن يغفر لي ولكم . وصلى الله وسلم وبارك على نبيه محمد وعلى آله وصحبه .
المحاضرة الثامنة
{ شرح حديث " كفى بالمرء كذباً أن يحدِّثَ بكلِّ ما سمع " }
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، ومن يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله - صلى الله عليه وسلم - .(1/125)
?????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????، ????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????، ???????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????أما بعد ،
فإن خيرَ الكلامِ كلامُ الله - عز وجل - وأحسنَ الهديِ هديُ محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وشرَّ الأمور محدثاتُها ، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ ، وكلَّ ضلالةٍ في النار .
إخوة الإسلام :
مرحباً بكم جميعاً في هذا اللقاءِ المبارَكِ إن شاء الله .
ولقاؤُنا اليومَ شرحٌ لحديثٍ رواه الإمامُ مسلمٍ في مقدِّمة صحيحه ، وهو " كفى بالمرءِ كذباً أن يُحّدِّثَ بكلِّ ما سمع " .
- رواية الحديث ولطائف إسناده :
قال الإمام مسلمٌ رحمه الله : حدّثنا عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيّ : حَدّثَنَا أَبِي ح وَحَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى : حَدّثَنَا عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيَ ، قَالاَ: حَدّثَنَا شُعْبَةُ ، عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبا أَنْ يُحَدّثَ بِكُلّ مَا سَمِعَ".(1/126)
وحدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ: حَدّثَنَا عَلِيّ بْنُ حَفْصٍ: حَدّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرةَ عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ ذَلِكَ
هذا الحديثُ الذي قرأناه من صحيحِ مسلمٍ من مُقَدِّمتِه ، يرويه الإمامُ مسلمٌ رحمه الله عن شيخِه ( عُبَيْدِ اللهِ بنِ مُعاذٍ العنبريِّ ) عن أبيه ( معاذِ بنِ معاذِ العنبري ) ثم ذكر ( ح ) وهي علامةٌ لتحويلِ الإسنادِ التي سبقَ أن ذكرناها في بعض المحاضراتِ السابقةِ .
ثم قال : وحدثنا محمدُ بنُ المثنى ( وهو ابنُ عُبَيْدِ العَنَزي ) قال : حدثنا عبدُ الرحمن بن مهدي ( وهو الإمامُ المشهورُ ) قالا ( أي معاذُ العنبريُّ وعبدُ الرحمن بنُ مهدي ) حدثنا شعبةُ ( وهو الإمامُ المشهورُ ؛ شعبةُ بنُ الحجاج ) عن خُبيبِ بنِ عبدِ الرحمن ، عن حفصِ بن عاصمٍ ( وهو حفصُ بنُ عاصمٍ بن عمرَ بنِ الخطابِ ؛ وهو تابعيٌّ ) قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ..
و تلاحظون في هذا الإسنادِ أن الراوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو حفصُ بنُ عاصم ، وهذه الرواية مرسلةٌ من هذه الطريقِ لأن حفصَ بنَ عاصِمٍ كما ذكرنا هو تابعي ولم يُسندْ هذا الخبرَ عن أيِّ واحدٍ من الصحابةِ وإنما رفعه للنبي - صلى الله عليه وسلم - .
فهذه الروايةُ التي نحنُ بصددها روايةٌ مُرْسَلَةٌ ، ولقد اتفق المحدِّثون على أنها مرسلةٌ ، إلا أن أحدَ الرواةِ لصحيحِ مسلمٍ ذكرَ في روايتِه بعد حفصٍ أن حفصاً أخذه عن أبي هريرةَ .
والعلماءُ قد خَطَّأوا هذا الراوي لهذه النسخةِ من نسخِ صحيح مسلمٍ ، وبقيَّةُ النُّسَخِ من صحيح مسلمِ فيها أن الروايةَ مرسَلَةٌ وليس فيها ذكرٌ للصحابيِّ من روايةِ حفصِ بنِ عاصمٍ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فهذه الروايةُ إذاً روايةٌ مرسلةٌ .
وأيضاً هناك فائدةٌ أخرى :(1/127)
وهي أنه وقع في كثيرٍ من الكتبِ الموجودةِ من طبعاتِ صحيحِ مسلِمٍ في هذه الروايةِ ذِكْرُ أبي هريرةَ من روايةِ حفصِ بنِ عاصمٍ عنه ، وهذا خطأٌ . وهو للأسف قد وقع في عدَّةِ كتبٍ منها الطبعةُ المشهورةُ ؛ طبعةُ محمدِ فؤادِ عبدِ الباقي ، وكذلك في طبعة شرح مسلمٍ للنووي فيها هذا الخطأ ، كما وقع هذا الخطأُ وهو ذكر أبي هريرةَ في هذه الرواية في كثيرٍ من النُّسَخِ المطبوعةِ .
ولكن وقع على الصوابِ بالإرسالِ في طبعةٍ قديمةٍ من الطبعاتِ المصريَّةِ مطبوعةٌ في دار مطبعةِ دار الطباعةِ عام 1290هـ.
وأنتم لما تقرأون شرحَ النووي تلاحظون أن الكلام يُفْهَمُ منه أن الروايةَ مرسلةٌ وأن ذكرَ أبي هريرة - رضي الله عنه - فيها خطأٌ .
وقد وقع هذا على الصوابِ أيضاً في صحيحِ مسلمٍ المطبوعِ مع شرح ( فتحُ الملْهِم ) .
فهذه بعض التنبيهاتِ أردتُ أن أبيِّنها في إسناد هذه الحديث ، ولذلك رأيت أن أكتب الإسنادَ أمامَكم زيادةً في التوضيحِ والبيانِ .
وخلاصةُ الأمرِ في هذا الإسنادِ هذا الذي ذكرناه أنه مرسلٌ وعلى ذلك اتفق المحدِّثونِ لأن حفصَ بنَ عاصمٍ وهو تابعيٌّ يروي الحديثَ عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - .
وعندنا الطريقُ الأخرى عند مسلم ، وهي قوله : ( وحدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ: حَدّثَنَا عَلِيّ بْنُ حَفْصٍ: حَدّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرةَ عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ ذَلِكَ ) .
هذه الطريق الثانيةُ اختلَفَ فيها أهلُ العِلْمِ ، هل هي مرسَلَةٌ أو موصولةٌ ؟
فرجَّحَ بعضُ الأئمةِ ومنهم الإمامُ الدّارَقُطْنيُّ أنها مرسلةٌ لروايةِ معاذِ العنبري وعبد الرحمنِ بنِ مهدي لها دون ذكر الصحابي .
وساقها أبو داود في سننه بالوجهين ( أي : بوجه الإرسالِ ووجهِ الوصلِ عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - )(1/128)
وممن جَزَمَ باتصالها وأنها ليستْ مرسلة الإمامُ الحاكمُ في المستدرك ، ورجَّحَ ذلك النووي في شرحِهِ على صحيحِ مسلمٍ .
وهذا على قاعدةِ ( تعارض الإرسالِ والوصلِ ) على القولِ بأن الوصلَ هو زيادةٌ من ثقةٍ وعلى ما رَجَّحَهُ الخطيبُ في الكفايةِ في هذا الشّأنِ ، فهذه الروايةُ تكون موصولةً .
ولقد احتَجَّ بهذا الحديثِ أيضاً ابنُ حِبّانِ في مقدِّمَةِ كتابه المجروحين . واحتجاجُه بهذا الحديثِ مع نسبتهِ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - دليلٌ على كونِ هذا الحديثِ صحيحاً عنده أو لَدَيْهِ .
يُضافُ إلى ذلك أن هذا الحديثَ جاءُ ذِكْرُهُ في مقدِّمِ صحيح مسلمٍ وغيره عن عمرَ بنِ الخطابِ وابنِ مسعودٍ رضي الله عنهما أيضاً من قولهما ، أي موقوفاً عليهما .
فذكر مسلمٌ بسنده إلى عمرَ بنِ الخطّابِ - رضي الله عنه - أنه قال : " بِحَسْبِ الْمَرْءِ مِنَ الْكَذِبِ أَنْ يُحَدّثَ بِكُلّ مَا سَمِع " ، وروى مثلَه عن ابن مسعود - رضي الله عنه - .
فأصبحَ عندنا الروايةُ الأولى المرسَلَةُ المسندَةُ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والثانيةُ التي اختلَفَ في إرسالها ووصْلِها ؛ والوصلُ فيها أرجَحُ ، وعندنا أثرانِ عن صحابيَّين جليلين وهما عمرُ بنُ الخطاب وابنُ مسعودٍ رضي الله عنهما .
وإن الناظرَ في النصوصِ من كتابِ الله - عز وجل - وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - يجِدُ أن لهذا الحديثِ أُسُساً موجودةً في الأدِلَّةِ الشَّرعِيَّةِ ، فمن ذلك :(1/129)
_ قول الله سبحانه وتعالى : ??????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????(الحجرات: من الآية6) وفي قراءة { فَتَثَبَّتوا } ، فهذا مما يُسْتَأْنَسُ به كشاهِدٍ لتلكَ الرِّوايةِ بأن الإنسانَ لا يُحَدِّثُ بكلِّ ما يسمع ؛ وإنما يحب عليه أن يتثَبَّتَ ويتروّى ويتأكَّدُ من صحَّةِ ما يقولُ .
_ قول الله - عز وجل - : { ??????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????? (المائدة: من الآية2) أيضاً شاهدٌ على هذا المعنى من حيث أن الإنسانَ إذا سمع كلاماً ولو كان حقاً كلَّ الحقِّ فلا يتحدث فيه في كلِّ وقتٍ وفي كل حينٍ ؛ بل قد يكون الكلامُ وإن كان صدقاً يكون في نقلِهِ أحياناً إثماً وعدواناً ومفسدةً ، وعندها يندرجُ هذا تحت قوله تعالى : { ????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????? } .
كذلك أحياناً يكون نقلُ الكلامِ سبباً لإشاعةِ الفاحشَةِ بين المؤمنينَ وإن كان الكلامُ صحيحاً ؛ وهذا كما يقول الله سبحانه وتعالى : ?????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????? (النور:19) .(1/130)
والمقصودُ أن هذا الحديثَ شواهدُهُ وطُرُقُهُ وما ذُكِرَ عن الصحابيِّين الجليلين عمرَ وابنِ مسعودٍ وما ذكرنا من الآياتِ ودلالاتها ، كلُّ ذلك دلالاتٌ ومُرَجِّحاتٌ تُقوّي ما ذهب إليه بعضُ الأئمَّة من وصلِ هذا الحديثِ ، و إن معانيه كما ذكرنا مؤصَّلَةٌ في قواعدَ عديدةٍ من كتابِ اللهِ تباركَ وتعالى ، ومن السنة النبوية.
- فائدة حول مقدِّمة الإمام مسلم للصحيح :
مقدِّمة الإمامِ مسلمٍ لصحيحِه مشهورةٌ بهذا الاسم ، ولهذا إذا ذُكِرَ حديثٌ في المقدِّمَةِ يقالُ : ( رواه مسلمٌ في مقدِّمَةِ صحيحه ) ، ويُفَرَّقٌ بين المقدّمة وبين غيرها سواءٌ في العزوِ للمتون أم للرواةِ فيقال لرواة المقدمة هذا من رجال مسلم في مقدمة صحيحه كما صنع العلماء .
وهذه المقدمةُ من هذا الإمامِ الجليلِ فيها فوائدُ جليلةٌ عديدةٌ جداً جديرٌ بطالبَ العلمِ أن يقرأَها ويتدَبَّرَها لأنه نبَّه فيها على نفائسَ عديدةٍ واهتمَّ بأمورٍ عظيمةٍ خاصَّةً في وجوبِ الروايةِ عن الثقاتِ ، وتركِ الروايةِ عن الكذابينِ ، ووجوبِ التثبُّتِ في الروايةِ . كذلك في التحذيرِ من الكذبِ على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - والتغليظِ في ذلك ، ثم النهيُ عن التحدِّثِ بكلِّ ما يسمعُه المرءُ ، وكذلك النهيُ عن الروايةِ عن الضعفاءِ والاحتياطِ في تحمُّلِهم ، وكذلك أن الإسنادِ من الدّينِ وأن جرحَ الرُّواةِ بما فيهم لا يُعَدُّ من الغيبةِ وهو جائزٌ بل واجبٌ إذ هو ليس من الغيبةِ المحرَّمةِ بل هو من الذَّبِّ عن الشريعةِ المُكَرَّمةِ .
كذلك تكلم في هذه المقدِّمة عن صحَّة الاحتجاجِ بالحديثِ المعَنْعَنِ في الكلامِ المشهورِ في اشتراطِ المعاصرةِ مع السَّماعِ ، فأرادَ أن يُدَلِّلَ على تلكَ المسألةِ .
- خطورةُ الكذبِ :(1/131)
والكذبُ كما هو معلومٌ لدينا جميعاً داءٌ خطير عظيمٌ ؛ إذ هو من قبائحِ الذنوبِ وفواحشِ العيوبِ ، ولقد جعلَ الشَّرعُ الكذبَ من آياتِ النِّفاقِ وعلاماتهِ ، ووُجُودُه يُعَدُّ قادحاً كبيراً في إيمانِ المرءِ لأنه مُجانبٌ للإيمانِ ، ولهذا كان هذا الخُلُقُ ( الكذب ) أبغضَ الخلقِ إليه - صلى الله عليه وسلم - .
وتحريمُ الكذبِ وخطرُهُ معلومٌ عند الصغيرِ والكبيرِ ، وقولِ النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أربعٌ من كُنَّ فيه كان منافقاً خالصاً ، ومن كانت خصلةٌ منهنَّ كانتْ فيه خصلةٌ من النِّفاقِ حتى يَدَعَها : إذا ائتمن خان ، وإذا حدَّث كذبَ ، وإذا عاهدَ غدرَ ، وإذا خاصمَ فجرَ " ، حديثٌ مشهورٌ معروفٌ .
ومن اللطائفِ في هذا البابِ أنه لما جاء من خصائصِ النِّفاقِ في الإنسانِ أنه إذا حدَّثَ كذبَ ؛ أنه لما سئلَ الإمامُ أحمدَ رحمه الله بِمَ نعرفُ الكذابين ؟ قال هذا الإمامُ الجليلُ : انظروا إلى مواعيدِهم .
وهذا الأثرُ عن هذا الإمامِ الجليلِ نفيسٌ وخطيرٌ جداً ، انظروا كيف أجابَ عن هذا السؤالِ في كيفيةِ معرفةِ الكذابين حيث أجابُ بأنهم يعرفونَ بمواعيدهم ، يعني : إذا صدقوا في هذا الموعدِ فهذا من علاماتِ صدقهم وإذا كذبوا في هذا الموعِدِ فعند ذلك يقدحُ هذا في صدقِهِم ، وبهذا يُعْرَفُ الصادقُ من الكاذِبِ .
وهذه ذكرى لي ولإخوانِنا ولمن يسمعُ بأن يَتَحَرّى الصدقَ في كلِّ شيءٍ حتى في المواعيدِ ، لأننا نجدُ بعضَ الأخوةِ ملتزماً من حيثُ الصدقِ في الكلامِ في الغالبِ ولكن نجدُ تقصيراً شديداً في المحافظةِ على المواعيدِ ، وهذه ذكرى والذكرى تنفع المؤمنين .(1/132)
وأخطرُ الكذبِ وأقبحُهُ وأشنعُه وأشدُّه ما كان متعلِّقاً بالله سبحانه وتعالى وبرسوله - صلى الله عليه وسلم - ، أي : بكلِّ ما يتعلَّقُ بمصادِرِ التشريعِ . والله تعالى يقول : ?????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????? } (الأنعام: من الآية21) والأحاديثُ في الترهيبِ من ذلك وفي خطورةِ الكذبِ على النبي - صلى الله عليه وسلم - وبأن صاحبَه يتبوَّاُ مقعدَه من النارِ متواترةٌ عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - . فالكذبُ على النبي - صلى الله عليه وسلم - والكذبُ على الشرعِ من أخطرِ وأقبحِ وأشنعِ الكذبِ . وينبغي في هذا البابِ أن لا يتكلَّمَ الإنسانُ بلا علمٍ في أمورِ الشَّرعِ وينسب الأحكامَ الشرعيةَ إلى الله سبحانه وتعالى ، والإخبار عن حكم الله ، فيتكلمُ في الأحكامِ الشرعيةِ من غيرِ علمٍ ولا هدىً ولا بصيرةٍ ، فهذا داخلٌ في الكذبِ على الله وعلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
ولهذا فإن الإمامَ ابنَ القيِّمِ رحمه الله لما ألَّف كتابه ( إعلام الموقعين عن رب العالمين ) ذكر أن الإنسانَ العالِمَ كأنه يُوَقِّعُ عن رب العالمين فيما يُصدِرُ من أحكامٍ وفتاوى . ولذا فالخوضُ في الأحكامِ الشرعيَّةِ ونسبةُ الأمورِ إلى الله سبحانه وتعالى وإلى نبيه - صلى الله عليه وسلم - من غير تَثَبُّتٍ ودرايةٍ أمرُها خطيرٌ وعظيمٌ .(1/133)
وهذا عامٌ لا فرقَ في الكذبِ على النبي - صلى الله عليه وسلم - سواءٌ أكان الأمرُ يتعلَّقُ بالأحكامِ الشَّرعيَّةِ أو ما يتعلقُ بأمورِ الترغيبِ والترهيبِ . فإن بعضَ أهلِ البدعِ يرَوْنَ أن الكلامَ بشأنِ الأمورِ المتعلِّقَةِ بالترغيبِ والترهيبِ والمواعظِ يجوزُ فيها الكذبُ والعياذُ باللهِ ، وهذا محرَّمٌ لا شكَّ فيه ولا ريبَ ، إذ إن جميعُ صُوَرِ الكذبِ وحالاتُهُ على الله - عز وجل - وعلى نبيه - صلى الله عليه وسلم - إنما هي داخلَةٌ ضمنَ ما حَذَّرَ منه الشَّرعُ الحنيفُ .
- شرح الحديث :
ـ قوله - صلى الله عليه وسلم - : (كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبا أَنْ يُحَدّثَ بِكُلّ مَا سَمِعَ ) :
يقول الله سبحانه وتعالى : ????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????
قال ابن عباس رضي الله عنهما : ( لا تقف ) لا تقل ولا تَرْمِ أحداً بما ليس لك به علمٌ . وقال قتادة : لا تقل رأيتُ ولم ترَ ، وسمعتُ ولم تسمعْ ، وعلمتُ ولم تعلمْ فإن اللهَ سائلُكَ عن ذلك كلِّه .
ولهذا أيها الأخوة ؛ اتفق العلماءُ على تحريمِ روايةِ الحديثِ الموضوعِ من غير بيان حالِهِ وأنه لا يصحُّ نسبتُهُ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا بالطبعِ من الأمورِ التي ينبغي على طالبِ العلمِ أن يلاحظها ويحرصَ عليها ، وهو:أن لا يرويَ شيئاً عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إلا بعد التثبُّتِ من ذلك والتحرِّي . ولا يكفي في ذلكَ أن يكونَ قد سمع من بعض الناسِ شيئاً ، بل لا بد أن يكون هذا ممن مكَّنَه اللهُ - عز وجل - وأكرمه بمعرِفَةِ هذا العلمَ ؛ ومن خلال كتبِ العلماءِ المعروفينَ من الجهابذةِ المحدِّثينَ .(1/134)
وهناك حديثٌ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول فيه : " مَنْ حَدَّثَ عنّي حديثاً يُرَى أنه كذِبٌ فهو أحَدُ الكاذِبِينَ " ، هذا وجهٌ في روايةِ هذا الحديثِ ، وهناكَ وجهٌ آخرَ " يَرى أنه كذبٌ فهو أحدُ الكاذبَيْنِ " .
وهذا الحديثُ ظاهرُ الدِّلالةِ في تغليظِ وتحريمِ الكذبِ على النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن الإنسانَ يدخلُ ضمنَ الكاذبين وإن لم يكنْ هو الكاذبُ أصلاً ، ولكن لكونِه نقلَ الخبرَ كذباً وإن كان غير جازم بأن هذا الخبرَ مكذوب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ لكن لكونه يروي بلا جزمٍ وتَيَقٌّنٍ أن هذا الحديثَ من كلامه - صلى الله عليه وسلم - فهو داخلٌ ضمنَ هذا الترهيبِ الشَّديدِ ؛ فهو أحدُ الكاذبين إذ الكاذبُ الأولُ هو صاحب الحديثِ المكذوبِ الذي كذب والآخرُ هو ناقلُه ، وهذا أمرٌ خطيرٌ جداً .
فحريٌّ بنا أن نلاحظَ هذه المسألةَ في وجوبِ التثبُّتِ في الروايةِ عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ، وكما قال عمر - رضي الله عنه - : " بحسب المرءِ من الكذبِ أن يحدِّثَ بكلِّ ما سمع " ، أي : يكفيه من الكذبِ هذه الحالُ وهي أن كلَّ شيءٍ يسمعه فيحدثُ به من غير تثبُّتٍ وتروٍّ وتدبُّرٍ ، والمرءُ ناقلُ الكذبِ يدخلُ ضمن الكذابين وإن لم يكذِبْ نفسُه كما تضح مما سبق .
ولهذا كان الحرصُ من علماءِ الإسلامِ رحمهم الله تعالى أنهم إذا ذكروا الحديثَ عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وشكُّوا في لفظةٍ منه أو روَوْهُ بالمعنى _ وهذا من شأن الصحابةِ _ أنهم إذا رووا الحديثَ بالمعنى كانوا يقولون ( أو كما قال صلى الله عليه وسلم ) ، وهذا من الاحتياطِ والتثبتِ والتورع ؛ وإن كان الإنسانُ يجزِمُ بأن هذا الحديثَ صحيحٌ و لكنه شكَّ في لفظة أو روى الحديثَ أو بعضه بالمعنى فعندئذٍ يقول بعد ذكر الحديثِ ( أو كما قال - صلى الله عليه وسلم - ) .(1/135)
وقد بلغ الأمر من علمائنا من المحدثين الجهابذةِ أئمةِ الإسلامِ رحمهم الله جميعاً من الاحتياطِ في دينِ الله - عز وجل - والتروّي في ذلك فيما يُنْسَبُ للنبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم خلالَ قواعدِهم التي وضعت في ضوابطِ الجرحِ والتعديلِ كانت لا تأخذهم في ذلك لومةُ لائمٍ ويتكلم الإنسانُ في ذلك ديانةً في هذا الأمرِ ولو كان الكلامُ في أقربِ الناسِ إليه .
ولقد سطَّرَ التاريخُ لنا في هذا البابِ نفائسَ كثيرةً من أقوالِ الأئمةِ في أقربِ الناسِ إليهم ، وهذا يدُلُّ على أهمِّيَةِ العلمِ ( علم الإسنادِ من الدينِ ) وعلى الورعِ في النَّقْلِ عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا كان شأنُ الصحابةِ رضي الله عنهم ولا يجرؤ مسلمٌ أن ينسبِ شيئاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ما لم يقُلْهُ وكيف يمكنُ أن يُتصَوَّرَ أن يقول الصحابيُّ شيئاً لم يقله عليه الصلاة والسلام فحاشا وكلا .
ومن هذه الصور الفريدةِ الرائعةِ من علمائنا علماءِ الإسلامِ ؛ أنقُلُ لكم بعض الأقوالِ من بعض الأئمَّةِ في أقرب الناسِ إليهم لنعلمَ هذه الميزة وهذه الخِصّيِصَةِ ، ومن ذلك :
_ كان الإمامُ ابنُ المديني رحمه الله يُضَعِّفُ أباه .
_ و كان الإمام أبو داود السجستاني يقول في ابنه إنه كذاب .
_ وهذا الإمامُ يحيى بنُ مَعينٍ كان يكَذِّبُ محباً له ويقول : أستحي من الله أن أقول إلا الحق .
_ قال أبو الوليد : سمعت شعبةَ يقولُ : لو حابيتُ أحداً حابيتُ هشامَ بنَ حسانٍ ؛ كان خَتَني لكنه لم يكن يحفظ . ( الختن : زوج البنت ) يقول : لو كنت أجاملُ أحداً وأحابيه لحابيت هشاماً زوجِ ابنتي ولكن لم يكن يحفظ .
_ وقال أيضاً : سمَّيت ابني سعداً فما سعد ولا أفلح .
_ وقال عبيد الله بنُ عمرو : قال لي زيدُ بنُ أبي أُنَيْسَةَ : لا تكتبْ عن أخي فإنه كذابٌ .(1/136)
_ وقال أبو حاتم : قدمت مع خالي فحمل إليَّ خالي مسنَدَه فنظرتُ في أوَّلِ مسندِ أبي بكرٍ فإذا حديثٌ كذبٌ عن شعبةَ فتركته ، وجهد خالي أن أكتب عنه فلم تطاوعْني نفسي .
_ وهذا الذهبيُّ يقول : لو حابيتُ أحداً لحابيتُ أبا عليٍّ لمكانِ علوِّ روايتي في القراءة عنه ( كان لشيخه هذا علوٌ في القراءات ) .
فهذه الأقوالُ وغيرها من صور التحري والتثبت والكلام حتى في أقربِ الناس إليهم من أجلِ حديثِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - والذّبِّ عنه ، ولم يكن هذا عن رجم بالغيبِ ولم يكن خلطاً وإنما كان عن علمٍ تامٍّ ومعرفةٍ دقيقةٍ بهؤلاء الرواةِ ، ولم يكن هذا من قبيلِ الرجمِ بالغيبِ ، ولا شكَّ أنه نصيحةٌ لله سبحانه وتعالى وابتغاء لمرضاته - عز وجل - .
وإن من مفاسدِ التحديثِ بكلِّ ما يسمع المرءُ أن الكلامَ ولو كان حقاً إذا حدُّثَ به الإنسانُ فإنه قد يكون من قبيل إشاعةِ الفاحشةِ أو المنكرِ ، ويجعل الناسَ يتساهلون في هذا البابِ وإن لم يقصِدْ صاحبُ الخبرِ إشاعةَ الفاحشةِ ، ولكن نشر المنكرِ على الملأ يؤدي إلى تساهل العامة في هذا الباب .
فحريٌّ بالمرءِ أ ن يتفكر في هذه المسألة .
والنصيحةُ كما أشرنا إليها ضمن الكلام على قوله - صلى الله عليه وسلم - : " الدين النصيحة " ، أي : أن هناك مواطنَ يجب أن تكون بسترٍ وليس هنالك تعيير وهتك ؛ ولهذا أُثِرَ عن الفضيلِ بن عِياضٍ رحمه الله أنه قال : ( المؤمن يستر وينصح ، والفاجر يهتك ويعير ) فالمؤمن شأنه في النصيحة أن يستر أخاه وينصحه في ذلك ولا يهتك بذلك ولا يعيره ولا يبين أمره أمام الملأ ، وهذا لما فيه من مفاسدَ عديدة متنوعة سبق الإشارة إليها في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - : " الدين النصيحة " ، والمسلمُ مطالبٌ بأن يسترَ أخاه المسلم ، وقد جاء ذلك في أحاديثَ كثيرةِ منها قوله - صلى الله عليه وسلم - : " من ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة " .(1/137)
وأما تتبعُ عوراتِ المسلمينَ فهذا فيه خطرٌ عظيمٌ ، بل جاء الترهيبُ من ذلك في أحاديثَ كثيرةٍ عن الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - شَدَّدَ فيه على من تتبع عوراتِ المسلمين ، فقد جاء عن ابنِ عُمَرَ قالَ: "صَعِدَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم الْمِنْبَرَ فَنَادَى بِصَوتٍ رَفِيعٍ قالَ: يَا مَعْشَرَ مَنْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُفْضِ الإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ، لاَتُؤْذُوا المُسْلِمينَ وَلاَ تُعَيّروهُمْ وَلاَ تَتّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنّهُ مَنْ تَتَبّعَ عَوْرَةَ أَخيهِ المُسْلِمِ تَتَبّعَ الله عَوْرَتَهُ، وَمَنْ تَتَبّعُ الله عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِهِ". رواه الترمذي ، وله شواهد عند أبي داود وأحمد وغيرهم .
فسترُ المسلمِ مطلوبٌ ، ونشرُ عيوبِ المسلمِ على الملأ فيها ما فيها من المحاذير .
والمقصودُ أن نقلَ الكلامِ لا يكون دائماً فيه الحكمةُ وإن كان الكلامُ صدقاً بل لا بدَّ من أن نراعي فيه أيضاً المصلحة والمفسدةَ .
فهذا مسألةٌ أردتُ أن أذكِّرَ فيها .
كذلك يدخل في ذلك أيضاً النميمة ، وهي ( نقلُ الكلامِ على وجهِ الفتنةِ والإفسادِ ) فهذا أيضاً خطرٌ عظيمٌ كما جاء في الحديثِ " لا يدخلُ الجنَّةَ قَتَّاتٌ " . مع ما فيه من مفاسدَ عظيمةٍ .
والمقصودُ أن الإنسانَ لا يتكلم ولا يذكرُ إلا ما صحَّ وثبتَ لديه ، وكذلك لا يذكره إلا حسب المصلحةِ والحاجةِ والضرورةِ إذ ليس كلُّ حقٍّ يقال في كلِّ مكانٍ ومحلٍّ .(1/138)
فهذا الحديثُ العظيمُ والذي أُصولُه في شرعِ الله - عز وجل - من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ومن أعظمِ ذلك قوله سبحانه : { ??????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????? } . حريٌّ بالمسلم أن يتدبرَه وأن يحدِّثَ بكلِّ ما يكون داخلاً تحت قوله سبحانه : { ?????????????????????????????????????????????????? } وأن يمتنع ويمسك ويسكت عن كل ما يدخل تحت قوله تعالى : { ??????????????????????????????????????????????????????? } وإذا عملنا بموجب هذه الآيةِ العظيمةِ كان حالُ المسلمينَ حالاً عظيمةُ يفتخر به ولم يكن الحال كما هو مشاهَدٌ من حالات عديدة من واقعنا المعاصر ، وأعظم من ذلك ما يتعلق بدين الله - عز وجل - من القولِ على الله والقول على رسوله - صلى الله عليه وسلم - بدون علمٍ ، فالواجب التثبت والتروي في ذلك .
وأما ما يخص الناس عموماً فإن في مراعاة معاني هذا الحديث وتلك النصوص ، إيجابيات ومنافع كثيرة تعودُ على المجتمع المسلم وعلى البيت المسلم بالخير العظيم والعميم ، إذ يحصل التآلف والتوادُّ والتراحمُ بذلك وتنعدم أو تقل المشاحنة والمباغضة والتحاسد بين الناس ، وأيضاً يعود هذا على الدول بشكلٍ عامٍ إذ يقلُّ التنازع فيما بينها إذا حصل التروي والتثبت بالأخبار .
وأيضاً ممن ينبغي أن يتأملَ هذا الحديث وما فيه من المعاني العظيمة الذين يعملون في مجال الإعلامِ أصحاب الإذاعاتِ والمقالاتِ ، عليهم أن يتريَّثوا فيما يسمعوا ولا ينشروا شيئاً إلا بعد التثبُّتِ من والتحري من صُوَرِهِ وأمورِه .(1/139)
وأقول أيضاً ، إنه مما يجب أن يُراعى في هذا البابِ ما يتعلَقُ بعلمائنا علماءِ الإسلامِ ، ينبغي إذا بلغ الإنسانَ منا شيءٌ عن العلماءِ أن نتثبتَ ونتروّى ولا نذكرُ شيئاً إن ظهر لنا أنه مخالفٌ لكتابِ الله وسنةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا ننشرَ شيئاً إلا بعد التثبتِ وبأن نكلمَ هذا العالم أو نكاتب هذا القائل ونستوضح منه لعله قصد هذا أولم يقصده ، والتروي والاحتياط في مثل هذه الأمورِ من الواجبات المطلوبةِ ، وكما أشرت فإن ذلك يعود على الأمة بالخير العظيم ، وأعظم ذلك أن يلاقيَ الإنسانُ ربَّه بقلبٍ سليمٍ وبأمنٍ واطمئنانٍ .
وهذه بعضُ التنبيهاتِ أردت بيانها حول هذا الحديث ، وأسأل الله سبحانه أن ينفعني وإياكم بما سمعنا ، وأن يجعلنا ممن يستمعون القولَ فيتبعون أحسنه ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
المحاضرة التاسعة
{ شرح حديث " أينا لا يظلم نفسه " }
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، ومن يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم .(1/140)
?????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????، ????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????، ???????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????أما بعد ،
فإن خير الكلام كلام الله وأحسن الهديِ هديُ محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار .
إخوةَ الإسلام : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
حديثُنا اليومَ إن شاء اللهُ تعالى شرحٌ لحديثٍ في الصحيحينِ يتعلق بقولِ الصحابةِ عليهم رضوان الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم : " أيُّنا لا يظلمُ نفسَه " ؟
- رواية الحديث :
قال الإمامُ مسلمٌ رحمه الله :
حدَّثنا أبو بكر بنُ أبي شَيْبَةَ ، قال : حدثنا عبدُ اللهِ بنُ إدريس وأبو معاويةَ ووكيعٌ عن الأعمشِ ، عن إبراهيمَ ، عن علقمةَ ، عن عبد اللهِ قال : لما نزلت : ????????????????????????????????????????????????????????????????????????? } شقَّ ذلكَ على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : أيُّنا لا يظلمُ نفسَه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليسَ هُوَ كمَا تَظُنُّونَ ، إنما هو كما قالَ لقمانُ لابنه ( يا بني لا تشركْ باللهِ إن الشركَ لظلمٌ عظيمٌ ) .
وهذا الحديثُ مرويٌّ في الصحيحين وغيرهما .(1/141)
- فائدة في أسباب النزول :
هذا الحديثُ إخوةَ الإسلام يتعلق بعلمٍ من علومِ القرآنِ الكريمِ الذي يُسَمّى بعلم ( أسباب النزول ) ومعرفتِه ، و العلمُ بأسبابِ النزولِ ومعرفتِه أمرٌ عَظيمٌ اهتمَّ به العلماءُ كثيراً لأنه يُعينُ على فهمِ كتابِ اللهِ تعالى .
ولذلكَ اهتمَّ العلماءُ بالتقييدِ والتدوينِ في هذا العلمِ العظيمِ ، فكان من أوَّلِ من ألَّفَ في ذلكَ على ما نُقِلَ هو الإمامُ ابنُ المديني في كتاب له اسمه ( أسبابُ النزولِ ) .
وهناك مؤلفاتٌ متعددةٌ في هذا العلم منها :
_ أسباب النزول ، لمحمد بنِ أسعدَ العراقي .
_ أسبابُ النزولِ للواحدي ، وهو مطبوعٌ .
_ أسبابُ النزولِ لابنِ الجوزي .
_ العُجابُ في بيانِ الأسبابِ لابن حجرَ العسقلاني .
_ لُبابُ النقولِ في أسبابِ النزول للسيوطي ، وهو من أجمعها ، وكذلك كتاب الحافظ ابن حجر .
كذلك من الكتبِ المعاصِرَةِ في هذا العلمِ :
_ الصحيح المسندُ من أسبابِ النزولِ للشيخ مقبل بنِ هادي الوادعي رحمه الله تعالى ( توفي بعد تفريغ هذه المحاضرة ) .
_ أسبابُ النزولِ عن الصحابةِ والتابعين لشيخِنا عبدِ الفتاحِ القاضي من كبارِ المقْرِئينَ رحمه الله تعالى وغفر له .
والمقصودُ أن هذا العلمَ اعتنى به العلماءُ كثيراً ، وفائدتُه العونُ على فهمِ الآياتِ المتعلقة بكتابِ اللهِ تعالى .
- الظلم المرادُ بالآية :
لما نَزَلَتْ هذه الآيةُ الكريمةُ ?????????????????????????????????????????????????????????????????????????? } شقَّ ذلك على الصحابةِ عليهم رضوان الله تعالى ، لأنهم تصوَّروا أن الظلمَ المرادَ هو الظلمُ العامُ المعروفُ الذي يَعْتَري كلَّ مَرْءٍ فيقَصِّرُ في حقِّه تجاهَ رَبَّهِ أو في حَقِّهِ مع من يجبُ عليه أموراً تجاهَهم أو يرتكِبُ بعضَ أشياءٍ ، فلهذا ؛ الظلمُ لا يَسْلَمُ منه أحدٌ من البشر .(1/142)
فلما شقَّ عليهم هذا الأمرُ ووجدوا حرجاً من ذلك ، سألوا النبيَّ لما خافوا من هذا الأمر ، فأخبرهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن هذا الأمرَ ليس هو كما يظنون فليس الظلمُ العام هو المقصودُ وإنما هو كما قال لقمانُ لابنِهِ : { ?????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????
- خطورةُ الشركِ :
وفي قولِه تبارك وتعالى في هذه الآية العظيمة: ??????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????دلالةٌ واضحةٌ على أن الذينَ يُكْرِمُهُم اللهُ سبحانه وتعالى بالأمنِ مع الهدايةِ ؛ هم الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانَهم بظلمٍ ألا وهو الشركُ أي لم يُخالِطوا إيمانَهم بشيءٍ من الشركِ ، فذِكْرُ الآية التي فيها وصيَّةُ لقمانَ لابنه وهي قوله : { ??????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????تُبَيِّن لهم أن الظلمَ المقصودَ إنما هو الشركُ بالله تبارك وتعالى .
ونحن نعلمُ جميعاً خطرَ الشركِ بالله تعالى ، وذلك لأن الشركَ محبطٌ لجميعِ الأعمالِ ، فيجبُ على المرءِ أن يُوَحِّدَ اللهَ سبحانه وتعالى ويخلِصَ لربِّهِ عز وجلَّ في كلِّ شؤونه .
( والعبادةُ على المعنى الشاملِ هي : اسمٌ شاملٌ لكلِّ ما يحبه اللهُ من الأقوالِ والأعمالِ سواءٌ كانت من الأعمال الظاهرةِ أو الباطنةِ ) .
فالمحبةُ مثلاً من العبادة ، فيجبُ على المرءِ أن يحبَّ سبحانه وتعالى محبةً لا تَشوبُها ولا تساويها ولا تعادِلُها محبةٌ .(1/143)
وكذلك الخوفُ والتَّوَكُّلُ لا يكون إلا لله سبحانه وتعالى . وكذلك الدعاءُ فلا يدعى إلا الله سبحانه وتعالى . وكذلك النَّذْرُ فلا يُنْذَرُ إلا له . وكذلك الطوافُ فلا يطافُ إلا بالبيت العتيقِ لأنه عبادة ، ولا يستغيثُ المرءُ بأحدِ فيما لا يقدر عليه ؛ وإنما يُسْتغاثُ بالله تبارك وتعالى .
فالواجبُ : إخلاصُ العباداتِ كلِّها لله تبارك وتعالى .
ولقد حذّرَ اللهُ تعالى من هذا الشركِ كثيراً ، وهذه كانت دعوةُ جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في الأمرِ بعبادةِ اللهِ وحدَهُ والتحذيرِ من الشركِ به تعالى، كما يقولُ الله سبحانه وتعالى : ???????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????? } ويقول سبحانه : ???????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????? } .
وإن من الأمرِ المؤسِفِ حقا أننا نجدُ صُوَراً كثيرةً من الشركِ منتشرةً في كثيرٍ من بقاعِ العالمِ الإسلاميِّ على وجهِ خاصٍّ في صورٍ وأشكالٍ متعددةٍ ، فنجِدُ الاستغاثةَ بغيرِ الله تعالى ودعاءَ غير الله سواءٌ كانت هذه الاستغاثةُ بالنبي صلى الله عليه وسلم أو ببعض الصحابةِ كما يفعل بعض أهل البدَعِ اليومَ من الاستغاثةِ بعلي رضي الله عنه و الاستغاثة بأيِ وليٍّ كان .
فهذه الاستغاثةُ من الأمورِ التي لا يجوزُ صرفُها لغيرِ الله تعالى ، وهي من الشركِ الأكبرِ الصريحِ المُحْبِطِ لجميعِ العملِ .
كما نَجِدُ للأسفِ حالاتٍ من الذبحِ عندَ قبورِ بعضِ الأولياءِ أو الأنبياءِ فيُقصدُ هؤلاء الأنبياءُ أو الأولياءُ بالذبحِ لهم ، ونجد للأسفِ صُوَراً من الغلوِّ في الصالحين وعندَ قبورِهِم ويطافُ ويُجتَمَعُ عند هذه القبور ويُعْمَلُ عندها ما لا يجوز عمله إلا عند الطواف بالبيتِ .(1/144)
وهذه الصورٌ الكثيرةٌ المنتشرةٌ في بلاد المسلمين مما تُخِلُّ بجنابِ التوحيدِ لله تعالى.
ومن ذلك الكِهانةُ والعِرافةُ و التنجيم و القراءة بالكف و اعتبار الأبراج و الطالع ، ولقد سبق الكلامُ عليها ، وهذا يكثرُ عندما يعتري الناسَ بعضُ الشدائدِ أو يفقدون بعضَ الأشياءِ ، فنجد للأسفِ هذه الأمورَ يحصلُ الإقبالُ عليها لدى كثيرٍ من الناسِ إلا من رحم اللهُ وقليلٌ ما هم .
أما ما دون ذلك مما هو من الشركِ الأصغرِ فأَمْرٌ حدِّثْ عنه ولا حرجَ من صُوَرِ الحَلِفِ بغير الله تعالى .
وهذا الأمرُ أعني الحلفَ بغير الله وإن كان من الشركِ الأصغرِ وهو دونَ الأمر الأكبرِ الذي هو الاستغاثةُ بالله تعالى لكنه قد يُفْضي إلى الشرك الأكبرِ والعياذ بالله تعالى ، وأنا أضرب لذلك مثالاً ، وهو : أنه يوجدُ في إحدى المناطقِ من بلادِ المسلمينَ ، يوجد وليٌّ مشهورٌ عندهم ، وفي المحكمة في تلك المناطقِ عند الخِصامِ لا يُطْلَبُ الحلِفُ بالله لأن من الناس عندهم -و العياذ بالله- من تَحْلِفُ بالله كاذبةٍ ولا تتورعُ عن ذلك ، ولكنهم يخافون من الحلِفِ بذلك الولي كاذبين ، وهذه من الطاماتِ الكبيرةِ ، وفي مثل هذه الحالاتِ ينتقلُ الحلِفُ بغير الله من الشركِ الأصغرِ إلى الشركِ الأكبرِ .
والمقصودُ أن صورَ الشركِ كثيرةٌ للأسفِ الشديد ومنتشرةٌ في العالمِ الإسلاميِّ ، والله قال في محكمِ كتابهِ : ????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????(1/145)
وقال أيضاً : ???????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????
وقال تعالى : { ?????????????????????????????????????????????????????????
وغيُر ذلك كثيرٌ من الآياتِ العظيمةِ الدّالَّةِ على ما أعد اللهُ لعبادِهِ المتقينَ في الدنيا إضافةً إلى ما أعدَّه لهم في الآخرةِ من الجزاءِ العظيمِ في جنته تبارك وتعالى .
- وقفةٌ مع قوله تعالى : { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات .. } :
هذه آيةٌ عظيمةٌ جديرٌ بنا أن نتدبّرها جيِّداً ، وذلك أن اللهَ سبحانه وتعالى وَعَدَ فيها هذه الطائفةَ التي من خصائِصِها الإيمان والعملَ الصالحَ بالاستخلاف في الأرض والتمكينِ فيها وبالأمن بدلَ الخوفِ ، فهذه الوعودُ كلُّها لهذه الطائفةِ التي من صفاتها أنها تجمعُ بينَ الإيمانِ وعملِ الصالحاتِ وبتحقيقِ العبادةِ لله سبحانه وتعالى وتركِ الشركِ به ، كما قال في هذا الآيةِ في بيانِ وصفِ هؤلاء : { ???????????????????????????????????????????????? } .(1/146)
فجديرٌ وحريٌّ بدعاةِ الإسلامِ وبالدعاةِ إلى الله - عز وجل - في هذا الزمان أن يتدبروا هذه الآيةَ العظيمةَ وأن يجعلوا الدعوة0َ إلى التوحيدِ نصبَ أعينهم في كلِ حينٍ ، والتحذيرِ من الشركِ بالله سبحانه وتعالى في كلِّ وقتٍ ، لأن العملَ مرتبطٌ بتجريدِ التوحيدِ لله سبحانه وتعالى والإخلاصِ له بكلِّ المعاني التي سبق ذكرُها وغيرها كثيرٌ إذ لا يُقْبَلُ عملُ امرئٍ مهما كان إلا إذا تَوَفَّرَ فيه الإخلاصُ لله سبحانه وتعالى والتوحيد لربنا عز وجل وعبَدَ اللهَ سبحانه على هديِ النبي صلى الله عليه وسلم وطريقتِه . والغفلةُ في الحقيقةِ كثيرةٌ من الذينَ يعملونَ للإسلامِ ويدعونَ إليه عن هذا الأصلِ العظيمِ إلا من وَفَّقَه اللهُ لذلك ، فهذه ذكرى في هذا الباب والذكرى تنفع المؤمنين .
- فائدة في التفسير بالمأثور :
في هذا الحديثِ لما أنزلَ اللهُ تلك الآية : ??????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????وشَقَّ ذلك على الصحابة ، ثم بيانِ النبي صلى الله عليه وسلم للمرادِ من خلالِ وصيةِ لقمانَ لابنه : { ????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????
فهذه مسألةٌ تتعلقُ بمسألةٍ مذكورةٍ في التفسيرِ أو في علومِ القرآن ، وهي ما يتعلقُ بأنواعِ التفسيرِ فيما يُعَبَّرُ عنه بالتفسيرِ بالمأثور ، وهو أجودُ أنواعِ التفسيرِ إذ هو يتعلقُ بتفسيرِ القرآنِ بالقرآن ، ففي هذه الآيةِ لما أَشْكَلَ على الصحابةِ ذلك الأمرُ أخبرهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن المعنى المرادِ وأن المقصودَ بذلك إنما هو الشركُ وليسَ عمومَ الظلمِ فبَيَّنَ لهم ذلكَ من خلالِ آيةٍ أخرى وهي وصيةُ لقمانَ لابنه ، فهذا تفسيرٌ للقرآنِ بالقرآنِ .(1/147)
ولقدِ اهتمَّ العلماءُ كثيراً بهذا النوعِ من أنواعِ التفسيرِ ، ومن أجمعِ الكتبِ في ذلك وأجودِها وأكبرِها تفسيرُ الإمامِ الطبري المشهور ، وهو تفسيرٌ يُثْني عليه شيخُ الإسلام كثيراً كونه كتاباً مسنَداً خالياً من البدعِ ويجتنبُ النقلَ عن المُتَّهَمِين والكذابين .
وهناك كتبٌ كثيرةٌ لها عنايةٌ بالتفسير بالمأثورِ غير هذا الكتاب .
والمقصودُ أن هذا العلمَ الذي هو التفسيرُ بالمأثورِ أَجْوَدُهُ ما كان من تفسيرِ القرآنِ بالقرآن وهو مِثْلُ الذي في الحديثِ الذي بين أيدينا .
ومن التفسيرِ بالمأثورِ أيضاً تفسيرُ القرآنِ بالسنةِ ، والتفسيرُ بأقوالِ الصحابةِ والتابعيَن أيضاً.
- الخلاف بين السلف في التفسير :
مما يَجْدُرُ التنبيهُ عليه أن الخلافَ بين السلفِ في الرواياتِ الواردةِ عنهم في التفسيرِ قليلٌ كما ذكر ذلك شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّةَ رحمه الله في كتابه العظيم ( مقدمة في أصول التفسير ) وهو كتابٌ جديرٌ بأن يُراجَعَ ويستفادَ منه .
فذَكَرَ أن الخلافَ بين السَّلَفِ في التفسيرِ قليلٌ ، وأن خلافَهم في الأحكامِ أكثرُ من خلافِهِم في التفسيرِ ، وغالبُ ما يصِحُّ عنهم من الخلافِ إنما يرجع إلى اختلاف التَنَوُّعٍ لا اختلاف التضادٍّ(1/148)
وهذا المصْطَلَحُ ( اختلافُ التَّنَوُّعِ واختلافُ التَّضادِّ ) من الأمورِ التي ينبغي أن يلاحِظَها الإنسانُ ويعرفَها طالبُ العلمِ ، لأنه ليس كلُّ الاختلافِ الموجودِ هو من اختلافِ التضاد وإنما كما يقولُ العلماءُ من اختلاف التنوع كَصُوَرِ أدعية الاستفتاحِ في الصلاة أو صور أدعية الركوع أو السجود أو الأدعية بين السجدتين أو غير ذلك كصيغِ الأذانِ وصِيَغِ التشهد وأمثال ذلك ، فهذه كلها يُطْلَقُ عليها اختلافُ التنوعِ إذ يجوزُ أن يفعلَ المرءُ هذا أو ذاك وإن كان يمكن أن يُقالَ إن هذه الصيغةِ أفضلُ من تلكَ ، لكن هذا الاختلاف ليس اختلاف تضاد بين الروايات وهذه الصيغ ، بل كلها من اختلاف التنوع .
أما الخلافُ الآخرُ وهو اختلافُ التضاد بأن يكون هذا الأمرُ مضاداً للآخرِ مغايراً له .
ثم ذكر شيخُ الإسلام رحمه الله أيضاً أن هناك بعضَ الأمورِ التي اختلفَ عليها الصحابةُ أو السلفُ في التفسير إنما هي من قَبِيلِ الأسماءِ المتكافئةِ التي هي قريبةٌ من الترادفِ ، وذكر بعضَ الحالاتِ التي تدلُّ على أن السلفَ كان الخلاف بينهم قليلٌ فيما يتعلق بالتفسير .
فهذه بعضُ التنبيهاتِ التي تتعلقُ بهذا العلمِ وهو التفسيرُ بالمأثورِ .
- من هو لقمان .
فيما يتعلقُ بلقمانَ الذي ذُكِرَ في هذا الحديثِ فهو الذي ذكره الله تعالى بقوله ????????????????????????????????????????????????????????????????????????????. } ، فلقمانُ مشهورٌ بحِكْمَتِهِ حتى اشتَهَرَ بلقمانَ الحكيمِ . واختلفَ السلفُ في أمرِهِ هل هو نبيٌّ أم هو عبدٌ صالحٌ من غير نبوة ، والجمهورُ من السلفِ على أن لقمانَ إنما هو عبدٌ صالحٌ ولم يكن نبياً كما ذكر ذلك وفصَّلَه الحافظ ابنُ كثيرٍ رحمه الله تعالى في كتابه تفسير القرآن العظيم.
وذكروا أثراً عن عِكرِمةَ أنه قال بأن لقمانَ كان نبياً ، وهذا القولُ عن عكرمةَ لم يصح من جِهَةِ السندِ ، ففيهِ جابرٌ الجُعْفيّ وهو ضعيف .(1/149)
وعلى كل حالٍ فهناك أقوالٌ لبعضِ السلفِ لكنَّ المعتمدَ والذي عليه أكثرُ العلماءِ أن لقمانَ كان عبداً صالحاً آتاه الله الحكمةَ كما ذكر تبارك وتعالى عنه .
- أهمية وصية الأبناء بالتوحيد :
هذا الحديثُ العظيمُ يفيدنا أيضاً فائدةً عظيمةً فيما يتعلَّق بالوصيةِ والاهتمامِ بالأبناءِ ، فإذا كان لقمانُ يوصي ابنَه وهو يعظُه في اجتنابِ الشركِ وأن الشركَ ظلمٌ عظيمٌ ، فهذا يعطينا العبَرَ والفوائدَ على التحذيرِ من الشرك بالله والاهتمام به ، ووصيةِ الأبناءِ بذلك ، وحثِّهِم على التوحيدِ واجتنابِ الشرك ، وهذا أعظمُ وأولى ما يجبُ على الإنسانِ أن يوصيَ به خاصةً أهلَه والأقربين .
- من فوائد الحديث :
هذا الحديثُ العظيمُ فيه فوائدُ كثيرةٌ جداً ، فيمكن أن نستفيدَ منه إضافةً لما سبق :
1- بيانُ خَطَرِ الشركِ بالله عزوجل ، وأن العملَ الذي يُخالِطُه شركٌ ليسَ لصاحبه الأمنُ و ليس من المهتدين .
2 ـ أن الظلمَ متفاوتٌ وليس على درجةٍ واحدة ، فمن الظلمِ ما يكون شركاً وكفراً محضاً ، ومنه ما يكونُ دونَ ذلكَ ، ودليلُ أن الظلمَ قد يكون دونَ ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أقرَّ الصحابةَ على فهمهم العمومَ في الآيةِ السابقةِ ولكن أخبرهم أن المقصودَ في هذه الآيةِ إنما هو الشركُ . ولهذا يقولُ العلماءُ أيضاً : في هذا الحديثِ دليلٌ على أن الخاصَّ يقضي على العامِ .
3 ـ المعاصي لا تُسَمّى شركاً لأن الظلمَ ما دامَ يشمَلُ أموراً كثيرةً ، أخبرَ عليه الصلاةُ والسلامُ أن الظلمَ المقصودَ إنما هو الشركُ كما في وصيةِ لقمانَ لابنه .
فدلَّ هذا على أن هناكَ أنواعاً من الظلمِ وهي المعاصي ليست من الشركِ بالله سبحانه وتعالى .
4- بيانُ تفسيرِ القرآنِ بالقرآنِ من الرسولِ صلى الله عليه وسلم .
5- بيانُ أن السنةَ النبويةَ لا يُسْتَغْنَى عنها بالقرآن .(1/150)
6 - إن الإنسانَ مهما بَلَغَ من العلمِ باللغةِ العربيةِ فلا يستغني بها لفهمِ القرآنِ عن السنة النبوية
7- حرصُ السلفِ والصحابةِ على العملِ الصالح وخوفِهِم من الله عز وجل .
8- رجوعُ الصحابةِ رضي الله عنهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم لتوضيحِ ما أَشْكَلَ عليهم .
هذه بعضُ الأمورِ المتعلِّقَةِ بهذا الحديثِ العظيمِ أردتُ أن أُذَكِّرَ بها نفسي وإخواني ، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا جميعاً من الدعاة إلى توحيد الله سبحانه وتعالى وإلى سنة نبيه عليه الصلاة والسلام ، وأن يجعلنا من المحذِّرين من الشرك صغيرِه وكبيرِه ، وأن يوفق الجميع لما يحب ويرضى . وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً .
المحاضرة العاشرة
{ شرح حديث الدعاء على من أكل بشماله }
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، ومن يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله - صلى الله عليه وسلم - .
?????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????، ????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????، ????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????أما بعد ،(1/151)
فإن خير الكلام كلام الله - عز وجل - وأحسن الهديِ هديُ محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وشرَّ الأمور محدثاتُها ، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ ، وكلَّ ضلالةٍ في النار .
أخوةَ الإسلام :
مرحباً بكم في هذا اللقاءِ من لقاءاتِ الدورةِ المفتوحةِ الأولى في علوم الحديثِ ، وأسأل الله - عز وجل - أن ينفعني وإياكم بها .
وحديثُنا هذه الليلةِ إن شاء الله عن حديثٍ رواه الإمامُ مسلمٌ في صحيحه ، وهو دعاءُ النبي - صلى الله عليه وسلم - على من أكل بشماله .
- رواية الحديث وبعض لطائف إسناده :
قال الإمامُ مسلمٌ رحمه الله : حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ، حَدّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ ، عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمّار ، حَدّثَنِي إِيَاسُ بْنُ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ أَنّ أَبَاهُ حَدّثَهُ أَنّ رَجُلاً أَكَلَ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم بِشِمَالِهِ ، فَقَالَ : "كُلْ بِيَمِينِكَ" قَالَ : لاَ أَسْتَطِيعُ . قَالَ: "لاَ اسْتَطَعْتَ" مَا مَنَعَهُ إِلاّ الْكِبْرُ. قَال َ: فَمَا رَفَعَهَا إِلَىَ فِيهِ .
هذا الحديثُ يرويه الإمامُ مسلمٌ رحمه الله عن شيخِهِ أبي بكر بنِ أبي شيبةَ وقد تقدَّمَ ذكرُه في أحاديثَ كثيرةٍ ، ويروي أبو بكر هذا الحديثَ عن زيدِ بنِ الحبابِ ..(1/152)
وهنا يَحْسُنُ أن أَلفِتَ نظرَ الإخوةِ إلى أننا لا نجدُ في كثيرٍ من الكتبِ كلمةَ ( قال ) عند الفصلِ بينَ الراوي وشيخه ؛ وإنما نجدُ صيغةَ التحديثِ ( حدثنا أو أخبرنا أو نحو ذلك ) ، فكلمة ( قال ) تُحْذَفُ كتابة اختصاراً ولكن عند النطقِ بها بالحديثِ والكلامِ ينبغي أن تقالَ كلمةُ ( قال ) . فهنا مثلاً الحديث موجودٌ في صحيحِ مسلمٍ ليس فيه كلمةُ ( قال ) بعد ( حدثنا ابن أبي شيبة ) وإنما الموجود بعد ذلك ( حدثنا زيد ) بينما إذا أردنا أن ننطقَ هذا الحديثَ أو نرويَ أو نقرأ هذا الحديثَ ينبغي أن نذكرَ كلمة ( قال ) قبل ( حدثنا أو أخبرنا أو غير ذلك ) فنقول هكذا ( قال أبو بكر بنُ أبي شيبةَ ، قال حدثنا زيدُ بنُ الحبابِ عن عكرمةَ بنِ عمارٍ قال حدثني إياسُ بنُ سلمةَ بنِ الأكوعِ أن أباه حدَّثه ..) .
والصحابيُّ في هذا الحديثِ هو سلمةُ بنُ الأكوعِ رضي الله عنه ، وهذا يسمى عند المحدِّثينَ ( مُسْنِدُ الحديثِ ) أي : الذي أسندَ الحديثَ من الصحابةِ . فإذا أردنا أن نبحثَ في كتب الأطرافِ عن هذا الحديثِ من خلال المسانيدِ فإننا نرجعُ إلى مسندِ ( سلمةَ بنِ الأكوعِ ) رضي الله عنه .
- صحابيُّ الحديث :
صحابيُّ هذا الحديثِ هو سلمةُ بنُ الأكوعِ بن عمروِ بن سنانِ الأنصاري رضي الله عنه ، وهو ممن شهِدَ الحُدَيْبِيَةَ وممن بايعَ النبي - صلى الله عليه وسلم - تحت الشجرةِ على الموتِ ، وكان عنده من الشجاعةِ الشيءَ الكثير حتى أنهم ذكروا أنه كان يسبقُ الفرسَ بالعدو ، وفضائلُه كثيرة ، رضي الله عنه وعن سائر الصحابة أجمعين .
- من هو الرجل المذكور في الحديث ؟(1/153)
هذا الحديثُ الذي فيه أن رجلاً أكلَ عند النبي - صلى الله عليه وسلم - بشمالِهِ ؛ جاء في صحيحِ مسلمٍ هكذا من غير ذكرِ اسمِ هذا الرجلِ ، وجاء في بعض الرواياتِ في مسند الإمامِ أحمدَ التصريحُ باسمه ، وكذلك جاء مصرَّحاً باسمه أيضاً في سنن الدارمي وصحيحِ ابنِ حبّانَ ومعجمِ الطبرانيِّ ومسندِ عبدِ بنِ حُمَيْدٍ .
وجاء أن اسمه ( بُسْرٌ ) بالمهملة ( أي بالسين ) و ضم الباءِ وجاء ذكرُه في بعض التراجم عند بعضِ العلماءِ أنه ( بشر ) بالمعجمة ( أي بالشين ) ، وفي هذا كلامٌ لأهلِ العلمِ ، والأظهرُ والأرجحُ أنه ( بسرٌ ) بالمهملة .
واسْمُه الكاملُ ( بُسْرُ بنُ راعي العَيْرِ بفتح العين كما قال النووي ) .
والمقصودُ أنه جاء التصريحُ باسم هذا الرجلِ الذي أكلَ عندَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بشماله ؛ ثم جرى ما ذُكِرَ في بقيةِ هذا الحديثِ .
وأما هذا الرجلُ المذكورُ هل هو صحابيٌّ أم لا ؟
فمن خلالِ النظرِ في هذه الرواياتِ وكلامِ الأئمةِ نجدُ أن من الأئمةِ من عَدَّ بسرَ أو بشرَ بنَ راعي العير من الصحابةِ ، ولم يذكروا دليلاً على صحبته إلا هذا الحديث فقط مع هذه القصةِ التي جرت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكن رجَّحَ الحافظُ ابنُ حَجَرَ رحمه الله على أن هذا الاستدلالَ في ذِكْرِ بُسْرٍ هذا في الصحابة فيه نظرٌ لأنه ليس هناك دليلٌ ومستنَدٌ على صحبةِ هذا الرجلِ إلا هذه الرواية ، وهذا لا يكفي .
ولقد ذكر بعضُ الأئمة ومنهم القاضي عياض بشرحه لصحيح مسلمٍ أن هذا الرجلَ الذي حصلَتْ معه القصةُ كان منافقاً . ولقد ردَّ النووي رحمه الله هذا الكلامَ ؛ أي : كون هذا الرجل كان منافقاً ورجح أنه صحابيٌّ .
ولكن الأرجحَ أن هذا الرجلَ لم يكن بصحابيٍّ ولا دليلَ على صحبته ، ولقد لجأ الحافظُ ابنُ حجر رحمه إلى الجمعِ بين القولينِ بأنه كان منافقاً لم يُسلِمْ ثم أسلمَ بعد هذه القصَّةِ أو هذه الواقعة ، والله أعلم .(1/154)
فهذا كلامُ أهل العلمِ في هذا الرجلِ وهل هو صحابيٌّ أو منافقٌ كان آنذاكَ في ذلك الوقتِ ثم أسلم بعد ذلك . ولا شكَّ أن هذا الأمرَ أعني : عدمَ الاستجابةِ لأمرِ النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرٌ عظيمٌ خطيرٌ يبعُدُ أن يحصُلَ مثلُهُ من الصحابةِ رضي الله عنهم .
وقد ذكر النوويُّ رحمه الله أن العصيانَ أو المعصيةَ يمكن أن يقعَ فيها بعض الصحابةِ ، وهذا لا شكَّ فيه ولا ريبَ ، ولكن في الحقيقةِ هذا الحديث وهذه الواقعةُ ليست مجرَّدَ مخالفةٍ عمليَّةٍ لحديثِ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقط وإنما كما جاء في النصِّ أنه لما أخبره النبي - صلى الله عليه وسلم - ووَجَّهَهُ إلى الأكلِ بيمينه لَمّا كان يأكلُ بشماله ؛ فقال هذا الرجلُ : لا أستطيعُ ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك " لا استطعتَ " أي : دعا عليه بأن لا يستطيعَ حقاً . يعني : أن هذا الرجلَ كان باستطاعتِه أن يأكلَ بيمينِه ولكنه قال هذا الكلامَ تَكَبُّراً وعناداً ، ولهذا جاء في الروايةِ نفسِها ( ما منعه إلا الكِبْرُ ) .
والكبرُ أمرُه عظيمٌ وخطيرٌ ، أن يتكبرً الإنسانُ على الشَّرعِ ؛ على أوامر كتاب الله - عز وجل - أو على أوامرِ رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا مرجِّحٌ قويٌّ على أن الرجلَ لم يكن من الصحابةِ آنذاكَ ، وإن ثَبَتَتَ صحبتُه فبعد ذلك ، لأن مجرَّدَ المعصيةِ شيءٌ والتكبرَ على الشرعِ شيءٌ آخرَ . ونحن لما نقرأ سِيَرَ الصحابةِ نرى كيف كان حالُهم مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الاستجابةِ لأوامرِه والتسابقِ في ذلك ولا يَتَرَدَّدُون في طاعته - صلى الله عليه وسلم - قيدَ أَنْمُلَةٍ ، وكانوا سباقينَ إلى الامتثالِ بأوامره - صلى الله عليه وسلم - وأوامر ربهم تبارك وتعالى .(1/155)
وهذا كما ذكرتُ مرجحٌ قويٌّ على كون هذا الرجلِ في هذه القصَّةِ لم يكن من الصحابةِ آنذاكَ ، وإن ثبتت صحبته فإنما يكونُ أسلمَ بعد ذلك ، وإنما كان من المنفقين كما ذكره القاضي عياضٌ في شرحه لصحيحِ مسلمٍ ، وهو توجيه وجمعٌ جيدٌ من الحافظِ ابنِ حجرَ رحمه الله والذي سبق أن أشرت إليه .
- استعمال اليمين بالأكل والشرب وغير ذلك :
وأما ما يتعلقُ باليمينِ واستغلالِها في الطعامِ والشرابِ وتقديمِها في الملبسِ ونحو ذلك ، فهذا أمرٌ حثَّ عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان يحبُّ التيامنَ في كلِّ شيءٍ وكان يعجبُه التيامنُ في شأنه كلِّه .
ولهذا جاء في أحاديثَ كثيرةٍ ( إذا أكلَ أحدُكم فليأكلْ باليمينِ ، وإذا شرِبَ فليشرَبْ باليمينِ ، وإذا أخذَ فليأخذْ باليمينِ ، وإذا أعطى فليُعْطِ باليمينِ ، لأن الشيطانَ يأكلُ بشماله ويشربُ بشماله ويأخذُ بشمالِه ويعطي بشماله ) فأخبرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا لمفارقةِ الشيطانِ في أفعالِه وفي صفاته .
- من آداب الطعام :
الشرعُ الحكيمُ أرشَدَنا إلى آدابٍ كثيرةٍ تتعلقُ بالطعامِ ، منها :
ـ التسميةُ عند البدءِ بالطعامِ ، كما قال عليه الصلاة والسلام : " يا غلامُ ! سمِّ اللهَ وكلْ بيمينِكَ وكلْ مما يَلِيكَ " . فالتسميةُ من الأمورِ المطلوبةِ التي أمر بها النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وصيغتُها( بسم الله ) فقط، أي : لا يُزادُ على ذلك ويقال ( الرحمن الرحيم ) لأن هذا هو الذي ثَبَتَ من فعله - صلى الله عليه وسلم - أنه كان إذا قُدِّمَ إليه الطعامُ قال ( بسم الله ) وكذلك جاء من توجيهه - صلى الله عليه وسلم - أيضاً بقوله : " يا غلام ! سمِّ اللهَ وكلْ بيمينكِ " .
ولهذا ذكر السيوطيُّ رحمه الله إلى أن الزيادةَ على ( بسم الله ) تُعتَبَرُ من البدعةِ في الدينِ ، و لا شكَّ أن خيرَ الهديِ هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - .
و من آدابِ الطعام :(1/156)
ـ الأكلُ مما يلي الإنسانَ ؛ وهو مما جاء التوجيه به أيضاً في آدابِ الطعامِ .
ـ الاجتماعُ على الطعامِ ، فقد حثَّ الشرعُ الحنيفُ على ذلك لما في من البركةِ .
ـ عدمُ عيبِ الطعامِ وذَمِّه ، فإن اشتهى الإنسانُ الطعامَ أكلَه وإن لم يشتهِهِ تَركه ولم يذمَّ هذا الطعامَ .
ـ حثُّ الشرعِ على لَعْقِ الإناءِ أو الأصابعِ عند الفراغِ من الطعام .
ـ حمدُ الله سبحانه وتعالى عند الفراغِ من الطعامِ .
وغيرُ ذلك من الآدابِ التي أرشدنا إليها نبيُّ الهدى عليه الصلاةُ والسلامُ ، ومنها هذا الحديثُ الذي نحن بصدده حيث أنه لما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الرجلَ يأكلُ بشماله فأنكرَ عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه الصلاة والسلام ووجَّهَهُ بأن يأكلَ بيمينه .
- حكم الأكل باليمين :
وأما ما يتعلقُ بحكمِ الأكلِ باليمينِ ؛ فذكرَ بعضُ أهلِ العلمِ أنه يُستحَبُّ ذلك .
ولكنَّ الأظهرَ في ذلك وهو ما رجَّحه بعضُ الأئمةِ أن الأكلَ باليمينِ من الأمورِ الواجبةِ لأمرِه به - صلى الله عليه وسلم - ولكونِه عليه الصلاةُ والسلامُ لما أمرَ هذا الرجلَ أن يأكلَ بيمينه ؛ ولما لم يلتزِمْ هذا الرجلُ بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فحصلَ له ما حصلَ من كونه لم يَسْتَطِعْ أن يَرفعَ بعدَ ذلكَ يدَهُ إلى فيه ، فقالوا : هذه كلُّها مرجِّحاتٌ للقولِ بالوجوبِ ، إضافةً إلى أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قد أمرَ بذلك ، والأصلُ في الأمرِ أنه للوجوبِ . وكذلك مجيءُ النهيِ عن الأكلِ بالشمالِ .
فالأظهرُ في ذلكَ أن الأكلَ باليمينِ هو أمرٌ مأمورٌ به على الوجوبِ كما هو ظاهرٌ من أدلَّةِ متعدِّدَةٍ وقد قال بهذا عددٌ من الأئمةِ رحمهم الله جميعاً .
من فوائد الحديث :
من هذا الحديثِ يتَّضحُ لنا جلياًّ وجوبُ تعظيمِ الشَّرعِ ووجوبُ تعظيمِ أوامرِه وأن مخالفةَ الشَّرعِ والتكبرِ عليه ليسَ بالأمرِ اليسيرِ .(1/157)
وأنَّ تعظيمَ الشرعِ أصلُه في كتابِ اللهِ تباركَ وتعالى ، فمن ذلك :
ـ قوله تبارك وتعالى : ?????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????(الحج: من الآية32)
ـ قوله تعالى : { ??????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????? (النور: من الآية63) .
ـ قوله سبحانه : ????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????(النساء:115)
ففي هذه الآياتِ الكريمةِ المباركةِ أمرٌ بتعظيمِ شعائرِ اللهِ - عز وجل - وإخبارٌ بأنها من تقوى القلوبِ وتهديدٌ ووعيدٌ للذين يخالفون أوامرَ اللهِ وأوامرَ رسولِه - صلى الله عليه وسلم - بأن تصيبَهم فتنةٌ أو يصيبَهم عذابٌ أليمٌ ، وأن الذي يشاققِ الرسولَ من بعد ما تبيَّن له الهدى ويَتَّبِعْ غير سبيلِ المؤمنينِ وهم الصحابةُ والتابعونَ المشهودُ لهم بالخيريةِ فإنه يُولَّى ما تولى ويُصْلى جهنَّم وساءت مصيراً ، وسبيلُهم وهديُهُم تعظيمُ الشرعِ وأوامرِه ، والتقديرُ والإجلالُ للشرعِ ولتعاليمه .
وأما السخريةُ والاستهزاءُ بدين الله - عز وجل - أو بأوامرِ الله سبحانه وتعالى ، فهذا ليس من شأنِ المؤمنينَ ولا من شأنِ المسلمينَ . ولقد قال الإمامُ سليمانُ بنُ عبد اللهِ بنِ محمدٍ من أئمَّةِ الدَّعْوَةِ : ( أجمع العلماءُ على كفرِ من شيئاً من ذلك ، فمن استهزأ بالله أو بكتابه أو برسولِه أو بدينِه كَفَرَ ولو كان هازلاً لم يقصد الاستهزاءَ إجماعاً ) أي : إن إجماعَ العلماءِ على كُفْرِ من استهزأ بالله سبحانه وتعالى أو بكتابه أو برسوله أو بأي شيءٍ من شعائرِ الدينِ ولو هازلاً لم يقصِدْ حقيقةَ الاستهزاءِ .(1/158)
وهذا له أصلٌ وقصَّةٌ تتعلَّقُ بقول الله - عز وجل - : { ?????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????? } (التوبة: من الآية : 64و65) . فهذه القصةُ أو هذه الآيةُ لها مناسَبَةٌ وذلك فيما رواه ابنُ جريرٍ الطبريُّ وابنُ أبي حاتمٍ عن ابنِ عمرَ رضي الله عنهما أنه قال : ( قال رجلٌ في غزوةِ تبوكٍ : ما رأينا مثلَ قرّائنا هؤلاءِ أرغبَ بطوناً ولا أكذبَ حديثاً ولا أجبنَ عند اللقاءِ . يعني بذلك هذا الرجلَ : رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابَه القُرّاءَ . فقال عوفُ بنُ مالكٍ : كذبتَ ولكنَّكَ منافقٌ ، لأخبرنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ، فذهبَ عوفٌ إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ليُخْبِرَهُ فوجدَ القرآنَ قد سبقه . وجاء ذلك الرجلُ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد ارتحلَ وركبَ ناقتَه فقال : يا رسولَ اللهِ ! إنا كنا نخوضُ ونلعبُ ونتحدَّثُ حديثَ الرَّكبِ نقطَعُ به عنا الطريقَ . قال ابنُ عمر - رضي الله عنه - : كأني أنظر إليه متعلِّقاً بحَقْبِ ناقةِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وإن الحجارةَ لتنكبُ رجلَيْهِ وهو يقولُ : إنا كنا نخوضُ ونلعبُ فيقولُ له رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : { ??????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????ما يلتفتُ إليه أحدٌ وما يزيد عليه ) .
هذا البيانُ فيه بيانٌ لهذه الآيةِ الكريمةِ ، وإسنادُ هذا الحديثِ إسنادٌ حسنٌ عن ابن عمرَ ، ورُوِيَ من أوجهٍ أخرى عن محمد بنِ كعبٍ وزيدِ بنِ أسلمَ وقتادةَ ولكنها مرسلةٌ ، وأما هذا الوجهُ عن ابنِ عمرَ فهو حسنٌ كما نبَّه على هذا الشيخُ مقبلُ بنُ هادي الوادعيُّ رحمه الله تعالى في كتابه ( الصحيح المسنَدُ من أسباب النزولِ ) .(1/159)
فالمتأمِّلُ إخوانَنا في هذا الحديثِ يجد أن هذا الرجُلَ وما تَفَوَّهَ به من الاستهزاءِ والسخريةِ ؛ يجد أنه لم يكنْ يَقْصِدْ الاستهزاءَ بهذا وإنما كان يقصُدُ فيما يدَّعي الخوضَ في ذلكَ واللعبَ وقطعَ المسافةِ حتى تكونَ قصيرةً ، ولكن هذا كلَّه لم يكنْ له بعذْرٍ وإنما كما قال الله تعالى : ??????????????????????????????????????????????????????????????? } .
فهذا الأثرُ أو الحديثُ حديثٌ عظيمٌ جديرُ بأن نتدبَّرَه وأن نتأمَّلَه لأننا للأسفِ الشَّديدِ نجد ممن ينتسبُ إلى الإسلامِ اليومَ صُوَراً كثيرةً متعدِّدَةً من الاستهزاءِ والسخريةِ ببعضِ شعائرِ الله سواءٌ أكانَ بالقرآنِ أو بالإسلامِ أو بالدينِ أو ببعضِ شعائرِ الدينِ ؛ ففي الحجابِ مثلاً ومن يزعُمُ أن الحجابَ تخلُّفٌ أو رجعيَّةٌ ، أو التحاءِ الرجلِ وتركِهِ حلقَ لحيتِه هذا فيه تشويهٌ أو أنه رجعيَّةٌ أو السخريةُ بمظهرِ المرءِ المسلمِ ويلحقُ بذلك السخريةُ والاستهزاءُ بالعلماءِ إذا كان القصدُ السخريةَ والاستهزاءَ بكونهم مسلمينَ ويدعون إلى الله - عز وجل - ويحثُّونَ الناسَ ويدعونهم إلى اتباعِ كتابِ الله وسنَّةِ نبي الله - صلى الله عليه وسلم - .(1/160)
والشاهدُ أن صورَ الاستهزاءَ والسخريةَ كثيرةٌ وللأسفِ الشديدِ ، والأئمةُ رحمهم الله تعالى لهم جهودٌ وكلامٌ كثيرٌ نفيسٌ بحضِّ الناسِ على اتباعِ السنةِ وتعظيمِ الشرعِ وأوامرِه ، والآثارُ في ذلك كثيرةٌ جداً ، وإذا رجعَ الإنسانُ إلى سننِ الدارميِّ ونظر في مقدِّمته ورأى مقدِّمةَ سنن ابنِ ماجه أيضاً ونظر في بعض الرسائِلِ المؤلَّفَة في البدعِ ككتاب ( البدع ) لابن وضّاحٍ القرطبيِّ وكتابِ ( الباعث على إنكارِ البدعِ والحوادث ) لأبي شامةَ المقدسي يرى آثاراً كثيرةً جليَّةً واضجةً في بيانِ مدى حرصِ الصحابةِ والتابعينَ على اتباعِ السنةِ وتعظيمِهم لأمرِ السنةِ النبويَّةِ والتحذيرِ من مخالفةِ هديِ النبيٍّ - صلى الله عليه وسلم - .
وإني لأذكرُ لكم بعض هذه الآثارَ لنرى ما كان عليه سلفُنا من الصحابةِ والتابعينِ وأئمَّةَ المسلمين ، فمن ذلك :
ـ قولُ الخليفةِ الراشدِ خليفةِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - : ( لستُ تاركاً شيئاً كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يعملُ به إلا عملتُ به ، وإني لأخشى إن تركتُ من أمره أن أزيغَ ) .
فانظروا إلى كلامِ هذا الخليفة الراشدِ في الخوفِ والحذرِِمن تركِهِ شيئاً كان يعمله الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - وخشيته على نفسه من الزَّيغِ بذلك ، ولذلك عقب الإمامُ ابنُ بطةَ في كتابه ( الإبانة ) على هذه المقولةِ العظيمةِ لأبي بكرٍ الصدِّيقِ - رضي الله عنه - فقال : ( هذا يا إخواني الصديق الأكبرُ يتخوَّفُ على نفسِه الزَّيْغَ إن هو خالفَ شيئاً من أمرِ نبيِّه - صلى الله عليه وسلم - ، فماذا عسى أن يكون من زمانٍ أضحى أهلُه يستهزئون بسنَّةِ نبيِّ الله - صلى الله عليه وسلم - وبأوامره ويتباهَوْنَ بمخالفته ويسخرون بسنته نسأل الله العصمةَ من الزَّيغِ والنجاةَ من سوءِ العملِ .(1/161)
ـ قال ابنُ عباس - رضي الله عنه - عندما حصل حوارٌ بينه وبين بعضِ الصحابةِ في مسألةِ متعة الحجِّ ( حول التمتع بالحج ) وجرى ذِكْرُ رأي أبي بكر وعمر رضي الله عنهم جميعاً ، فقال ابن عباس : ( توشك أن تنزل عليكم حجارةٌ من السماءِ ؛ أقول قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وتقولون : قال أبو بكرٍ وعمرَ ) .
إذا كان هذا شأنُ ابنِ عباسٍ لمن يحتجُّ بقولِ أبي بكرٍ وعمرَ على مخالفةِ السنَّةِ ؛ فماذا يكون الحالُ في مخالفِ قولِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - لقولِ فلانٍ أو فلانٍ من الناسِ أو لعقلِه القاصرِ .
ـ جاء في كلام الإمامِ الذهبي رحمه الله أيضاً أنه قال : ( إذا رأيت المتكلمَ المبتدِعَ يقول : دعنا من الكتاب ودعنا من أحاديث الآحادِ وهاتِ العقلَ فاعلم أنه أبو جهل ) .
فهذا بيانٌ من هذا الإمامِ الجليلِ على أن ردَّ الكتابِ وردَّ أحاديثِ الآحادِ واعتبارِ المنهجِ العقليِّ بذلك ؛ إنما ذلك على طريقةِ أبي جهل .(1/162)
ـ كان من شِدَّةِ حرصِ الإمامِ مالكٍ رحمه الله تعالى على السنَّةِ أنه لما سأله سائلٌ في المدينة : من أين أُحرِمُ ؟ قال له : أَحْرِمْ من حيث أحرمَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - . قال له : أفلا أُحْرِمُ من عند الحجرةِ ؟ قال : لا ، أخشى عليك الفتنةَ . قال : أيُّ فتنةٍ ؟ إنما هي أميالٌ أزيدها ؟ فقال له الإمامُ مالكٍ : { ?????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????? (النور: من الآية63) وهذا لأن الرجلَ خالفَ هديَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ويريد أن يحرمَ من الحجرةِ ولا يريد أن يحرمَ من الميقاتِ ، وكما هو معلومٌ أنه لا ضَيْرَ على المرءِ أن يلبسَ ثيابَ الإحرامِ ويستعدَّ لذلك قبل الميقاتِ ، وأما النيَّةُ فمكانها من الميقاتِ . ولكن هذا الرجلَ لما كان من سؤاله مخالفة هديَ الرسولِ في ذلك خَشِيَ هذا الإمامُ إمامُ دار الهجرةِ عليه من الفتنةِ وهي مخالَفَةُ أمرِ النبي - صلى الله عليه وسلم - وسنته فقال له : أخشى عليك الفتنةَ ثم ذكر قوله تعالى : { ????????????????????????????????????????????????????????? } أي : عن هديه وطريقته وسنته { ?????????????????????????????????????????????????????????????????????????
ـ قال الإمامُ أحمدُ إمامُ أهلِ السنَّةِ والجماعةِ : ( ومن ردَّ حديث رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فهو على شفا هَلَكَةٍ )
ـ قال البربهاريُّ في ( شرح السنة ) : ( وإذا سمعتَ الرجلُ يطعنُ بالآثارِ أو يردُّ الآثارَ أو يريدُ غيرَ الآثارِ فاتهمه على الإسلامٍِ ولا تشكَّ أنه صاحبُ هوىً مبتدعٌ ) .(1/163)
ـ ذكر بعضُ الأئمةِ أنه جاءَ رجلٌ إلى سعيدِ بن المسيب في حجٍّ أو عمرةٍ فقال له : [ لا تبرح حتى تصلي ( أي لا تذهب حتى تصلي لأنه سمع النداءَ ويريد أن يمشي ) فإن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لا يخرج بعد النداءِ من المسجدِ إلا منافق إلا رجلٌ أخذته حاجةٌ وهو يريد الرجعة إلى المسجدِ . فقال هذا الرجل : إنما أصحابي بالحرَّةِ فخرج . قال : فلم يزل سعيد يولَع بذكره حتى أُخْبِرَ أنه وقع من راحلته فانكسرت فخذه ] .
فهذه طائفةٌ من الآثارِ التي ذكرها الأئمةُ في خطورةِ مخالفةِ سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرُ ذلك كثيرٌ .
والآثارُ الكثيرةُ الواضحةُ عن أئمتنا من الصحابةِ والتابعينَ في تعظيمِ السنة ووجوبِ احترامِها وتقديرِها وعَدَمِ السخريةِ بأيِّ أمرٍ من أمورِ هذا الدينِ ومن ذلك :
ـ ذكر الإمامُ أبو القاسمِ الأصفهاني أن أهلَ السنة من السلفِ كانوا يَرَوْنَ إذا طَعَنَ الرجلُ في الآثارِ أنه ينبغي أن يُتَّهَمَ على الإسلام .
والمقصودُ أن الآثارَ في هذا البابِ عديدةٌ كثيرةٌ ، كلُّها تتعلق بوجوب تعظيمِ أوامرِ الله - عز وجل - وأوامرِ رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأن ذلك كله من تقوى القلوب .
فحريٌّ بنا أن نعتني بكتاب الله وبهدي نبيه عليه الصلاة والسلام .
وإن الأمرَ الذي يؤسفُ له أننا نَجِدُ تهاوناً من جماعةٍ أو طائفةٍ أو أشخاصٍ يريدون العمل للإسلامِ أو الدعوةَ للإسلامِ ، ولكنهم للأسفِ فيهم التقصيرُ العظيمُ في هذا البابِ مما يفتح مجالاتٍ للذينَ يَهْزَءُون ويسخَرُون ويَرُدُّونَ سنةَ المصطفى عليه الصلاةُ والسلامُ ، فحذارِ حذارِ من هذه السبلِ ، والواجبُ علينا الانقيادُ التامُّ لأوامرِ الله سبحانه وتعالى ولأوامر رسوله - صلى الله عليه وسلم - .(1/164)
وهذا الحديثُ الذي ذكرناه من روايةِ مسلمٍ مع قصةِ هذا الرجلِ الذي أكل بشماله ولما رآه النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له : " كل بيمينك " ولما امْتَنَعَ وتَكَبَّرَ عن هذا الأمرِ وقال : لا أستطيع ، قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لا استطعت " فعند ذلك استجابَ الله دعاءَ نبيه - صلى الله عليه وسلم - فما استطاعَ هذا الرجلُ أن يرفعَ يدَه بعدَ ذلك إلى فيه .
أقولُ : هذا الحديثُ فيه فوائدُ كثيرةٌ متعددةٌ ، من ذلك :
1_ وجوبُ اتباعِ سنةِ النبي - صلى الله عليه وسلم - وعدمُ التهاونِ في أيِ أمرٍ من الأمورِ التي أرشدَ إليها النبي - صلى الله عليه وسلم - .
2- يظهرُ جلياً عقوبةُ مخالفةِ هديِ النبي - صلى الله عليه وسلم - في الدنيا ناهيكَ بما يكون في الآخرةِ نسأل الله السلامةَ والعفو والعافية ..
3- عناية الشرعِ بآداب الطعامِ والتوجيه في ذلك وسبق ذكر شيء من هذا .
4- أهميةُ الأمرِ بالمعروف والنهيِ عن المنكر ، وليس لهذا وقتٌ مُحَدَّدٌ وإنما يكون في كل وقتٍ وكلِّ حينٍ إلا ما استُثْنِي من ذلك ، فوقتُ الطعامِ ووقتُ الشرابِ لا يمنعُ المرءَ من الأمرِ بالمعروفِ والنهي عن المنكرِ ، فلما أنكرَ الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - على من أكلَ بشماله فإن رأينا من أخطأَ أو نَسِيَ فكان يأكلُ بشمالِه ؛ علينا أن نُوَجِّهَهُ إلى الأكلِ باليمينِ كما أرشدَ إلى ذلك سيدُ المرسلين ، فالأمرُ بالمعروفِ والنهيُ عن المنكرِ يكونُ حتى لو كان الإنسانُ على الطعام .
5- خطورةُ السخريةِ والاستهزاءِ بالشرعِ و أوامره .(1/165)
وإذا نظرَ الإنسانُ للأئمةِ في بابِ الرِّدَّةِ فيما يتعلَّقُ بالسخريةِ والاستهزاءِ يجدُ صوَراً عجيبةً جعلوها من الردة . وهذه الصورُ وإن كان قد يكونُ في بعضها شيءٌ من النظر في الحكم عليها بالردة ، ولكن تَدُلُّنا هذه الأقوالُ والآراءُ على خطورةِ وعظمةِ الاستهزاءِ بدين الله - عز وجل - أو شعائرِ الله - عز وجل - فمن ذلك مثلاً أنه ذكر بعضُ الأئمةِ أن تصغيرَ المصحفِ بأن يقال ( مصيحِف ) أو تصغيرَ المسجدِ بأن يقال ( مُسيجِد ) ذكر بعضهم أن هذا من الردةِ لأن فيه استهزاءً وتصغيراً لكتابِ الله ولبيتٍ من بيوتِ الله . وكما أشرتُ قد لا يُسلَّمُ القولُ بهذا إلا إذا أراد الإنسانُ الانتقاصَ والازدراءَ فلا شك أنه خطيرٌ جداً .
والمقصودُ من هذا أن من يرى أقوالَ الأئمةِ في هذا البابِ يجد أقوالاً كثيرة عدَّها العلماءُ والأئمَّةُ من الردة عن دين الله - عز وجل - لما فيها من السخريةِ والاستهزاءِ وإن كانت ليست جلية ظاهرةً ولكنها تدلنا على خطورة هذه المسألةِ وأهميتها .
فحريٌّ بنا أن نلتزمَ بكلِّ ما يخبرنا به ربُّنا تبارك وتعالى ، وبكلِّ ما يوجهنا إليه نبيُّ الهدى - صلى الله عليه وسلم - وفي ذلك الفلاحُ والنورُ العظيمُ في الدنيا والآخرةِ .
وأسأل الله تعالى أن يوفقني وإياكم لما يحب ويرضى ، وأن نكون ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه .
والحمد لله رب العالمين .
المحاضرة الحادية عشرة
{ شرح حديث " لا يؤمن أحدكم " }
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، ومن يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله - صلى الله عليه وسلم - .(1/166)
?????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????، ????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????، ???????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????أما بعد ،
فإن خير الكلام كلام الله - عز وجل - وأحسن الهديِ هديُ محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وشرَّ الأمور محدثاتُها ، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ ، وكلَّ ضلالةٍ في النار .
أخوة الإسلام :
مرحباً بكم في هذا اللقاء في شرح حديثٍ من أحاديثِ المصطفى عليه الصلاة والسلام وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - :" لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ والِدِهِ وَوَلِدِهِ والنَّاسِ أَجْمَعِيَن " .
- عناية الأمة بالإسناد :
من المعلومِ أن العنايةَ بالإسنادِ من خصائصِ هذه أمَّةِ المصطفى عليه الصلاةُ والسلامُ . ولا يوجَدُ في أمةٍ من الأممِ عنايةٌ به كما هو موجودٌ في هذه الأمَّةِ الإسلاميَّةِ المباركةِ . ولهذا دَأَبَ علماؤنا المحَدِّثونَ على وصلِ أسانيدِهِم بأسانيدِ الأَئِمَّةِ أصحابِ المصنَّفاتِ الحديثِيَّةِ ليحصُلَ لهم البَرَكَةُ والخيرُ والنفعُ باتِّصالِ الإسنادِ إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - .(1/167)
وأوصى بعضُ المحدِّثينَ كما نقل ذلكَ المحدِّثُ عبدُ الحقِّ بنُ سيفِ الدينِ الدَّهْلويُّ أن شيخه العلامة عبد الوهاب المتقي أوصاه بأنه ينبغي للمحدِّثِ أن يختارَ لنفسِهِ من الأسانيدِ التي حصلَتْ له من المشايِخِ سنداً واحداً يحفظُهُ ليَتَّصِلَ به إلى سيِّدِ المرسلينَ وتعودَ بركتُهُ على حامِلِه في الدنيا والآخرةِ .
وكما أَشَرْتُ ، من ثمراتِ بقاءِ هذه السلسلةِ واتصالِ الأسانيدِ المحافظةُ على هذه الميزةِ التي تمتازُ بها أمَّةُ الإسلامِ باتصالِ سندِها إلى نبيِّ الهدى عليه الصلاةُ والسَّلامُ .
ولهذا سأذكُرُ حديثَنا هذا ؛ حديثَ الليلةِ بالسَّندِ إلى الإمامِ البخاري رحمه الله ، ومنه بسندِهِ إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - تأسيّاً بما سارَ عليه علماؤنا علماءُ الحديثِ .
- سند الحديث :
أخبرنا شيخُنَا العلاّمَةُ الحافظُ محمد الجُونْدَلَوي إجازة ( وهو من كبارِ علماءِ الحديثِ والتفسيرِ والفقهِ ، وهو من كبارِ علماءِ باكستانِ ، توفِّيَ رحمه الله عام 1405 من الهجرةِ ، ولقد دَرَّسَ صحيحَ البخاريِّ أكثرَ من خمسينَ مرَّةً وكان يحفظُ فتحِ الباري غيباً ، ولقد حدَّثني الشيخُ العلاَّمةُ إحسانُ إلهي ظهير _ وهو خَتَنُهُ ، أي : زوجُ ابنتِه _ أنه _ أي الشيخُ الحافظُ محمد الجوندلوي ، لم يكن يقرأُ الصُّحُفَ والأخبارَ لقوَّةِ حافظَتِهِ ولأنه كان إذا قرأ شيئاً حفِظَهُ ، ولم يكن يُشْغِلُ نفسَهُ بالأخبارِ ونحوها ؛ وإنما كان دائمَ المطالعةِ في كتابِ الله - عز وجل - وحديثِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وكان مشهوراً بكثرَةِ محافظَتِهِ على الأذكارِ والأدعيَةِ .(1/168)
و يروي شيخنا الجوندلوي رحمه الله ، عن شيخِه حافظِ القرآنِ و الحديثِ الشيخِ عبدِ المنّانِ الوزيرِآبادي ، عن الشيخِ العلامة عبدِ الحقِّ بنِ فضلِ اللهِ البَنارِسي ، عنِ الإمامِ المحقِّقِ محمدِ بنِ عليٍّ الشَوْكانيِّ ، عن عبدِ القادرِ بنِ أحمدَ الكَوْكَبانِيِّ ، عن عبد الخالقِ بنِ أبي بكرٍ المزجاني ، عن إبراهيمَ بنِ حسنٍ الكُردِي ، عن البابِلِيِّ ، عن محمدِ بن أحمدَ الغِيطي ، عن الزين زكريا الأنصاري ، عن الحافظِ ابنِ حجرَ العَسْقَلاني ، عن إبراهيمَ بنِ أحمدَ التَّنُوخي ، عن أبي العباسِ أحمدَ بن أبي طالبٍ الحَجّارِ ، عن الحسيِن بنِ المبارَكِ الزُّبَيدِي ، عن أبي الوَقْتِ عبدِ الأول بنِ عيسى السِّجْزِي الهرَوِي ، عن أبي الحسنِ عبدِ الرحمنِ بنِ المظفَّرِ الداودي ، عن أبي محمدٍ عبدِ اللهِ بنِ أحمدَ السَّرخَسِي ، عن أبي عبدِ الله محمدِ بنِ يوسفَ بنِ مَطَرَ الفِرَبْرِي ، عن أميرِ المؤمنينَ في الحديثِ أبي عبدِ اللهِ محمدِّ بنِ إسماعيلَ البخاريِّ قال : حدَّثني آدمُ ، حدثنا شُعْبَةُ ، عن قتادةَ عن أنسٍ قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا يؤمنُ أحدُكُم حتى أكونَ أحبَّ إليهِ من والده وولده والناس أجمعينَ " .
وترجُمَةُ شيخنا الجوندلوي موجودةٌ في مقدمة كتابِ ( إتحافُ النَّبيهِ فيما يحتاجُ إليه المحدِّثُ والفقيهُ ) و في كتابي (( كوكَبَةٌ من أئمةِ الهدى ومصابيحِ الدُّجى )) والإسنادُ إلى الإمامِ الشوكانيِّ في هذا عالٍ جداً إذ في الإسنادِ بينَ شيخِنا الحافظِ ( الجُوندلوي ) رحمه الله والإمامِ الشَّوكانيِّ بينهما واسطتانِ فقط ، وهذا من علوِّ الإسنادِ وهو من الإسنادِ العزيزِ والنَّادِرِ جداً ، وبقيَّةُ رجالِ الإسنادِ معروفون ، ورجالُه كلُّهُم مشهورونَ .(1/169)
وكما قلتُ : ذكرنا هذا للحفاظِ على هذه الميزَةِ وعلى هذا الاتِّصالِ بأحاديثِ المصطفى عليه الصلاةُ والسَّلامُ ؛ وللمحافظَةِ على هذه الميزةِ التي تمتازُ بها أُمَّتُنا الإسلاميَّةُ . نسأل اللهَ - عز وجل - أن يُتَمِّمَ لنا ولكم بخيرٍ وأن يُثَبِّتَنا بالقولِ الثَّابِتِ في الحياةِ الدنيا والآخرةِ .
- حقيقة محبَّةِ النبي - صلى الله عليه وسلم - :
وحديثُنا هذا الذي ذكرناهُ من روايةِ أنسٍ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لا يؤمنُ أحدُكُم حتى أكونَ أَحَبَّ إليهِ من والدِهِ وولدِه والناسِ أجمعينَ " . هذا الحديثُ مشهورٌ ومحفوظُ لَدَى الخَواصِّ وعامَّةِ الناسِ ، وهو حديثٌ جليلٌ إذ فيه بيانٌ من النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه لا يؤمنُ أحدُكُم حتّى يكون النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أحبَّ إليهِ من والدِه وولدِه والنّاسِ أجمعينَ .
وفي هذا دِلالةٌ على أنه لا يحصُلُ للمرءِ الإيمانُ الذي تبرأُ به ذمَّتُه ويستحقُّ به دخولَ الجنَّةِ بلا عذابٍ ؛ حتى يكون الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - أحبَّ إليه من ولدِهِ ووالدِهِ والناسِ أجمعينَ ، بل لا يحصُلُ له ذلكَ حتى يكونَ الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - أحبَّ إليه من نفسِهِ ؛ كما جاءَ في حديثِ عمرَ - رضي الله عنه - عندما قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - : ( يا رسولَ اللهِ ، لأنتَ أحبَّ إليَّ من كلِّ شيءٍ إلا من نفسي ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : " لا، والذي نفسي بيده ، حتى أكون أحب إليك من نفسك ". فقال له عمرُ: فإنه الآن ، والله ، لأنتَ أحبُّ إليَّ من نفسي ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " الآن يا عمر " ) .(1/170)
ويقول العلماءُ في قصةِ عمرَ هذه : المرءُ مجبولٌ على حبِّه لنفسِه ، فمن هنا استثنى عمرُ نفسَه بهذه المحبَّةِ ، لأن محبَّةَ الإنسانِ لنفسِهِ محبَّةٌ جِبِلِّيَّةٌ لا يعتريها شيءٌ آخر ،بينما حبُّ الإنسانِ لغيره يكون له وسائطٌ ومسبباتٌ ، فلما أخبره النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لا بدَّ أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - أحبَّ إليه من نفسِهِ ، فما كان من عمرَ الفاروق الذي لو سلكَ فجاً لسلَكَ الشيطانُ فجّاً غيرَه ، ما كان منه - رضي الله عنه - إلا الالتزامَ بهذا الأمرِ والتوجيه فبادرَ على الفورِ وقال للنبي - صلى الله عليه وسلم - : فأنت الآنَ واللهِ أحبُّ إليَّ من نفسي ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : الآن يا عمر ، أي :صدقتَ .
وإن ادعاءَ المحبَّةِ لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ليس بالأمرِ السَّهلِ ، فلا بدَّ من تصديقِ تلكَ الدَّعوَةِ بالعملِ والمتابعةِ لها ؛ وإلا كان المُدَّعي لها كاذباً .
والقرآنُ الكريمُ يبيِّنُ أن المحبَّةَ التي في القلبِ تستلزمُ العملَ الظّاهرَ ، كما قال تباركَ وتعالى : ?????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????? (آل عمران:31) وقال سبحانه : ???????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????? (النور:47) إلى قوله : ?????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????(النور:51) .(1/171)
ويقولُ سبحانه : ??????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????? (التوبة:24) ولقد علَّق الإمامُ القاضي عياض على هذه الآيةِ فقال : ( كفى بهذا حضاً وتنبيهاً وإلزاماً وحُجَّةً على إلزامِ محبَّتِهِ ووجوبِ فرضها وعظمة أمرها ) .
- بعض آثار محبَّة السلف للنبي - صلى الله عليه وسلم - :
وإن المتدَبِّرَ يا إخوانَنا للآثار عن الصحابةِ والسلفِ في محبَّتِهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - يجِدُ الشيءَ العظيمَ في ذلك
ولقد سُئِلَ عليٌّ - رضي الله عنه - : كيف كان حبُّكُم لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال : كان والله أحبَّ إلينا من أموالنا وأولادنا وأمهاتنا ومن الماء البارد على الظَّمأ .
وقال عمروُ بنُ العاصِ - رضي الله عنه - : ما كان أحدٌّ أحبُّ إليَّ من رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أجلَّ في عينَيَّ منه ، وما كنت أطيقُ أن أملأَ عينَيَّ منه إجلالاً ، ولو سئلتُ أن أصفَه ما أطَقْتُ لأني ما كنت أملأً عيني منه .
ولقد كان الصحابةُ رضي الله عنهم عندما يسمعون حديث الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - كأن على رؤوسهم الطيرَ من الخشوعِ والعظمةِ لأمرِ النبي - صلى الله عليه وسلم - .
ولما وَعَظَهُم النبي - صلى الله عليه وسلم - تلكَ الموعِظَةِ العظيمةَ المشهورةَ كيفَ ذرفَتْ عيونُهُم وكيف وَجَلَتْ قلوبهُم(1/172)
وكان من أدَبِهِم مع المصطفى عليه الصلاة والسلام أنهم كانوا يَطْرُقٌون أبوابَه عليه الصلاةُ والسلامُ بالأظافيرِ . فكان من أدبهم أنهم لا يطرقونَ البابَ طرقاً كالطرقِ المعتادِ ؛ وإنما كانوا يتلَطَّفونَ ويتأدَّبون حتى كانوا يطرقون أبوابه طرقاً بالأظافيرِ ، فرضي الله عنهم وصلى الله على هذا النبي الهادي البشير ، وغير ذلك كثيرٌ من الآثارِ عن السلفِ في تعظيمِهِم لحديثِ نبيِّهِم - صلى الله عليه وسلم -
- مظاهر المحبة للنبي - صلى الله عليه وسلم - ودلالات صدقها :
إن من أعظمِ مظاهرِ المحبَّةِ للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأبرزِ دلالاتِ صدقِها :
1ـ تجريدُ التوحيدِ لله سبحانه وتعالى ، وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرسلَهُ اللهُ - عز وجل - بهذا الأمرِ العظيمِ ؛ لعبادةِ اللهِ وحدَهُ ، فَصِدْقُ المتابعةِ تستلْزِمُ تحقيقَ التوحيدِ وتجريدَه لله سبحانه وتعالى .
2 ـ تستلزِمُ المحبَّةُ تقديمَ محبَّةِ النبي - صلى الله عليه وسلم - لذاتِه على الولد والوالدِ والأهلِ والناسِ أجمعينَ ، والنفسِ كما جاءَ في حديثَ عمرَ السَّابقِ .
3ـ تستلزم هذه المحبَّةُ تجريدَ المتابعةِ للنبي - صلى الله عليه وسلم - بتقديمِ أقوالِه وأفعاله - صلى الله عليه وسلم - على أوامرِ غيرِه .
4ـ تستلزم المحبَّةُ الصادقةُ للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتولّى المرءُ الصحابةَ رضي الله عنهم الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه .
5ـ تستلزم هذه المحبَّةُ الذَّبَّ عن السنة والتَّصَدِّي للمغرِضينَ والمنافقينَ والمنهزِمِينَ والمستشرِقينَ والمستغربينَ الذي ترصَّدوا لهذه السنة النبوية الشريفةِ .
6ـ تستلزم المحبةُ تصديق النبي - صلى الله عليه وسلم - في كل ما أخبرَ به ، فهو الصادق المصدوقُ - صلى الله عليه وسلم - .
7ـ تستلزم الإيمانَ بأنَّ كلَّ ما جاءَ به المصطفى عليه الصلاةُ والسلامُ إنما هو وحيٌ من الله سبحانه وتعالى .(1/173)
8 ـ تستلزم هذه المحبَّةُ سلوكَ الأدبِ في الصلاة والسلامِ عليه بالصِّيَغِ الواردةِ عنه وليس بالصيغ المحدثة المبتدعةِ .
9ـ تستلزم هذه المحبةُ التحاكمُ إلى سُنَّتِهِ - صلى الله عليه وسلم - ، ويقولُ ربُّنا تبارك وتعالى : ????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????(النساء:65) ، ويقول سبحانه : { ?????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????? } (النساء: من الآية59) .
10ـ تستلزم هذه المحبة الرِّضا بهذا التحاكمِ والاطمئنانَ التامَّ .
11ـ تستلزم هذه المحبةُ الذَّبُّ عن صحابةِ النبي - صلى الله عليه وسلم - فيمن ينال منهم ، والذب عن أمهات المؤمنين رضي الله عنهن ، ومحبتهنَّ .
12ـ تستلزم هذه المحبة السعيَ في نشرِ السنة النبوية والدعوةِ إليها والتحذيرِ من كلِّ ابتداعٍ وإحداثٍ في دينِ الله - عز وجل - .
- من مظاهر الجفاء للنبي - صلى الله عليه وسلم - :
أما مظاهرُ الجفاءِ مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فهي متعَدِّدَةٌ أيضاً ، وكما قيل ( وبضدِّها تتبيَّنُ الأشياءُ ) فكلُّ ما سبق من مظاهرِ المحبَّة ضدُّه يكون من مظاهرِ الجفاءِ مع النبي - صلى الله عليه وسلم - .
ويمكن أن نُجْمِلَ بعض الأمورِ بما يتعلَّقُ بمظاهرِ الجفاءِ مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فمن ذلك :
1ـ الجفاءُ الظاهرُ بالتحَوُّلِ إلى العاداتِ ونسيانُ أن هذه الأعمالَ إنما هي من سننِ المصطفى - صلى الله عليه وسلم - فلا بدَّ لنا من تجريدِ المتابعةِ للنبي - صلى الله عليه وسلم - واستحضارِ أن هذه الأعمالَ إنما هي من سننِ المصطفى .(1/174)
2ـ ردُّ الأحاديثِ الصحيحةِ بزَعْمِ أنها مخالفةٌ للعقلِ أو أنها تتعارضُ مع العقلِ الصحيحِ أو تتعارضُ مع الواقعِ أو ببعضِ المكابراتِ وقواعدِ الفلسفَةِ المختلِفَةِ والمتنوِّعَةِ .
3ـ العدولُ عن سيرتِه وعن سننه في المأكلِ والمشرب والملبسِ وسائرِ شؤون الحياة .
4ـ عدمُ الهيبةِ عند سماع الحديثِ عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - . وسبقَ أن أشرنا إلى بعضِ النماذِجِ عن الصحابةِ رضي الله عنهم ، وكيف كان شأنهم مع النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وإذا رأينا في أقوال الأئمةِ وفيما نُقِلَ عن أئمَّتِنا نجدُ في ذلك آثاراً كثيرةً أيضاً منها :
_ ما جاء في البخاري عن السائبِ بنِ يزيدَ قال : كنتُ قائماً في المسجِدِ، فحَصَبَني رجلٌ، فنظرتُ فإذا عمرُ بنُ الخَطّابِ، فقال : اذهبْ فأْتِني بهذين ، فجئْتُه بهما، قال: من أنتما ؟ أو من أين أنتما ؟ قالا: من أهل الطائف ، قال : لو كنتما من أهل البلد لأوجعْتُكُما ، ترفعانِ أصواتَكما في مسجدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
انظروا إلى هذا الأدب ، وكيف كان هذا الإنكارُ على هذينِ في رفعِهِما لأصواتِهما في مسجِدِ رسولِ الله .
_ ولهذا أُثِرَ عن الإمامِ مالكٍ رحمه الله _ وكان من أشدِّ الناسِ تعظيماً لحديثِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أنه إذا جلس للفقهِ جلسَ كيفَ كان ، وإذا أراد الجلوسَ للحديثِ اغتسلَ وتطَيَّبَ ولبس ثياباً جُدُداً وتعّمَّمَ وجلس على مِنَصَّتِهِ بخشوعٍ وخضوعٍ ووقارٍ ، ويجلسُ في ذلك المجلسِ ، وكان يُبَخِّرُ ذلك المجلسَ من أوَّلَهِ إلى آخرِه تعظيماً لحديثِ المصطفى عليه الصلاة والسلام .(1/175)
_ كان الإمامُ الشهيرُ ابنُ مهدي إذا قرأ حديثَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أمرَ الحاضرينَ بالسُّكوتِ فلا يتحدَّثُ أحدٌّ ولا يُبْرى قلمٌ ولا يتبسَّمُ أحدٌ ولا يقوم أحد قائماً كأن على رؤوسهم الطيرَ أو كأنهم في صلاةٍ ، فإذا رأى أحداً منهم تبسَّمَ أو تحدَّثَ لبس نعلَه وخرجِ .
فانظروا إلى هذه الآثارِ العظيمةِ التي تدلُّنا دِلالاتٍ واضحة قويَّةٍ على مدى تعظيمِ واحترامِ هؤلاءِ الصحابةِ والتابعينَ لنبي الله - صلى الله عليه وسلم - .
5 ـ من مظاهر الجفاء أيضاً للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولسنته : الابتداعُ في الدينِ لما في الابتداعِ من خطرٍ واستدراكٍ على شرعِ الله - عز وجل - ؛ على كتاب الله وعلى نبي الهدى عليه الصلاة والسلام . ونحن نسمعُ كثيراً قوله - صلى الله عليه وسلم - : " إياكم ومحدَثاتِ الأمور ، فإن كلَّ محدَثَةٍ بدعةٌ ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ ، وكلَّ ضلالةٍ في النار " .
فالذي يبتدع في دين الله - صلى الله عليه وسلم - فهذا من الجافي لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - لأنه خالفَ ما حذَّرَ منه النبيُّ .
6ـ من مظاهرِ الجفاءِ الكبرى : الغلوُّ في النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلكَ فقال : " لا تُطْرُوني كما أطْرَتْ النَّصارى عيسى بنَ مريَمَ ، إنَّما أنا عبدٌ ، فقولوا : عبدُ اللهِ ورسولُهُ " . وسيأتي إن شاء الله تنبيهٌ حولَ هذه الظاهرَةِ ؛ ظاهرة الغلوِّ في النبي عليه الصلاة والسلام .
ولقد حذَّرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - من اتخاذِ قبرِهِ عيداً ، وحذَّرَ من رفعه فوق مرتبته عندما قال ذلك الرجُلُ : ما شاء اللهُ وشئتَ ، فقال : " ويحَكَ بل ما شاءَ الله وحدَه " .
7ـ ومن مظاهرِ الجفاءِ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : الحَلِفُ به ، لما عُلِمَ من أن الحلفَ بغير اللهِ - عز وجل - يُعَدُّ من الشِّرْكِ .(1/176)
8ـ من مظاهر الجفاءِ : تركُ الصلاةِ والسلامِ عليه إذا ذُكِرَ ، ولقد صحَّ عنه قوله - صلى الله عليه وسلم - : " رَغِمَ أنفُ رجُلٍ ذُكِرْتُ عندَه فلم يُصَلِّ عليَّ " . صلى الله عليه وعلى آله وصحبه .
- الغلوُّ وخطرُه :
سبق قولُه عليه الصلاة والسلام : " لا تطروني كما أطرتِ النصارى ابنَ مريم ، إنما أنا عبدٌ ، فقولوا : عبد الله ورسوله " . وصحَّ عنه أنه قال : " إياكُمْ والغلوِّ فإنما أهلكَ من كان قبلَكم الغلوُّ " . وقال : " هلكَ المُتَنَطِّعونَ ، هلك المتنطعون ، هلك المتنطعون " ، وقال قُبَيْلَ موتِه : " لعن الله اليهودَ ؛ اتخذوا قبورَ أنبيائهم مساجدَ " يحذِّرُ ما صنعوا .
فهذا تحذيرٌ من النبي - صلى الله عليه وسلم - من الغلوِّ فيه ، وغيره كثيرٌ وكثيرٌ جداً .
ومن المؤسفِ له ؛ أن طوائفَ من الأمة باسم المحبَّةِ للنبي - صلى الله عليه وسلم - وقعت في صُوَرٍ وأشكالٍ كثيرةٍ متعدِّدَةٍ بالغلوِّ وبالغلوِّ الشَّديدِ الذَّميمِ . بل بلغَ بهم الغلوُّ إلى رفعِ النبي - صلى الله عليه وسلم - من درجةِ العبوديةِ إلى درجةِ الألوهية ، فنسبوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأسماء والصِّفاتِ ما لا يجوزُ أن يُطلَقَ إلا على ربِّنا تباركَ وتعالى .
وأذكرُ نموذجاً من نماذجِ الغلوِّ الشَّديدِ القبيحِ المنتشِرِ في كثيرٍ من بلادِ الإسلامِ إلا من رحمَ اللهُ ، وهذا الغلوُّ هو من القصيدَةِ المشهورةِ بالبردةِ للبوصيري ، وهذه القصيدةُ مع الأسفِ فيها من الغلوِّ الشديدِ الشنيعِ ما هو يخالفُ تعاليم الإسلامِ وتوحيدَ الله سبحانه وتعالى .
وأذكرُ بعض أبياتٍ من هذه القصيدةِ لنعلمَ ما أَوْصَلَ الغلوُّ صاحبّ هذه القصيدةِ وما وقع به كثير من الناسِ من حفظها والتغني بها نسأل الله العفوَ والسَّلامةَ .
فمما جاء في هذه القصيدةِ من الغلوِّ :
دَعْ ما ادَّعَتْهُ النَّصارى في نَبِيِّهِمُ واحْكُمْ بما شِئْتَ مدحاً فيه واحْتَسِبِ(1/177)
ومما جاء أيضاً فيها :
وإنَّ من جُودِكَ الدُّنْيا وضَرَّتَها ومن عُلُومِكَ علمُ اللَّوْحِ والقَلَمِ
فجعلَ هذا الناظِمُ الدنيا والآخرةَ من عطاءِ النبي - صلى الله عليه وسلم - وإفضالِهِ . والجودُ هو :العطاءُ والإفضالُ .
وهنالِكَ أبياتٌ كثيرةٌ في هذه القصيدةِ فيها من الغُلُوِّ الشَّديدِ لنبيِّ الهدى عليه الصلاة والسلام .
فدينُنا دينٌ وسطٌ لا إفراطَ فيه ولا تفريطَ ، فلا مجافاةَ في حّقِّهِ - صلى الله عليه وسلم - ولا غُلُوَّ في أمرِهِ عليه الصلاةُ والسَّلامُ وأن يُرْفَعَ بهذا الغلُوِّ إلى مرتَبَةِ الألوهيةِ والعبوديَّةِ .
والله سبحانه وتعالى قد وَصَفَ عبدَه محمداً - صلى الله عليه وسلم - في موطِنٍ من أشرَفِ المواطِنِ بالعبوديَّةِ للدلالةِ على رِفْعَةِ هذه المنزلَةِ والمكانةِ ، فقال سبحانه :???????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????? (الاسراء:1) .
وإن من الأمورِ المحدَثاتِ الشَّنيعَةِ التي انتشرتْ في كثيرٍ من البلادِ إلا ما شاء اللهُ ما يسمَّى بالاحتفالِ بولادةِ النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ويُعَبَّرُ عنه بعيدِ المولِدِ النَّبَويِّ .
إن الذي ينظُرُ إلى سيرةِ النبي - صلى الله عليه وسلم - وينظُرُ في سِيَرِ الصحابةِ والتابعينَ ، ويطلُبُ أصحابَ المُصَنَّفاتِ الحديثيةِ ، ويطلب الأئمةَ أصحابَ المذاهبِ الأربعةِ ويطلب كتبَ هؤلاءِ الأئمةِ جميعاً إلى القرنِ السادسِ لا يجِدُ أيَّ دليلٍ على مشروعيَّةِ ما يُعَبَّرُ عنه بالمولد النبوي الشَّريفِ(1/178)
ولا شكَّ أن ما جاءَ به النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الهُدى أيَّما هدى وأن المحبَّةَ الصَّادِقَةَ إنما تكونُ بالاتِّبَاعِ ولا تكون بالابتداعِ . فهل غابَ عن ذلكَ الجيلِ الذي أَثْنى عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقولِهِ : " خير الناسِ قرني ، ثم الذي يلونهم ، ثم الذين يلونهم " ، هل غابَ عن هؤلاءِ محبَّةُ النبي - صلى الله عليه وسلم - على الوجْهِ الذي يفعلُهُ هؤلاء ؟ لا واللهِ ، لقد كانوا أشَدَّ حبّاً للنبي - صلى الله عليه وسلم - كما سبقَت الإشارةُ إليه من ذلك ، وغيره كثير وكثيرٌ جداً ، ولكن كانوا يعلمون أن المحبَّةَ الحقَّةَ والمحبَّةَ الصادِقَةَ لنبي الهدى - صلى الله عليه وسلم - إنما هي بالاتباعِ وليس بالابتداعِ .
وأوَّلُ ما أُثِرَ هذا الاحتفالُ بالمولِدِ النبوي على ما يقولُه من يتحَمَّسُ لذلك كان في القرنِ السّادِسِ ، فأينَ كان المسلمونَ في خمسةِ قرونٍ أو ستةِ قرونٍ سابقةٍ ابتداءً بالصَّحابةِ إلى ذلك الوقتِ ؟ هل كانوا غافلينَ عن هديِ النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟وهل كانوا غافلينَ عن محبَّتِهِ ؟ وهل كانوا مقصِّرينَ في ذلكَ ؟ حاشا وكلاّ .
ولكنَّ المحبَّةَ الصّادِقَةَ إنما تكون في اتِّباعِ النبي - صلى الله عليه وسلم - .
ولا أريدُ الخوضَ كثيراً في هذه المسأَلَةِ وإنما أردتُ لفتَ الانتباهِ فقط ، وكيفَ أجمعتِ الأُمَّةُ خلال خمسةِ أو ستةِ قرونٍ على تركِ هذا الأَمْرَ ثم جاءَ من جاءَ بهذه الأمورِ وأصبحَ التَّمَسُّكُ بها كأنَّه هو السنة ، مع أننا نجدُ في مثلِ هذه الاحتفالاتِ من المنكراتِ بل من الشِّركِ والاستغاثةِ بغير الله الشيءَ الكثيرَ والكثيرَ نسألُ اللهَ السَّلامةَ والعفوَ والعافيةَ .(1/179)
وإني أسأل الله - عز وجل - بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرزقنا وإياكم محبَّةً صادقةً لنبيه - صلى الله عليه وسلم - وأن يرزقَنا محبةً صادقة لصحابتِه عليهم رضوان الله ، وأن يرزقنا سُبُلَ الهدى والتقى ، وأن يجعلَنا من الدعاة إلى السُّنَّةِ لا من الدعاةِ إلى البدعةِ والضَّلالةِ ، وأن يجعلَنا من أئِمَّةِ المتَّقينَ الذين يكونون مفاتيحَ للخيرِ مغاليقَ للشَّرِّ في كلِّ زمانٍ وفي كلِّ وقتٍ وفي كلِّ حينٍ . وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلني وإياكم من الذين يستمعون القولَ فيتبعون أحسنه ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه .(1/180)