(
محاضرات الدورة المفتوحة الأولى في الحديث الشريف وعلومه
المستوى الأول
محاضرات الدكتور محمد الطرهوني حفظه الله
المحاضرة الأولى
( تعريف السنة ومكانتها وحجيتها (
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، ومن يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ( . أما بعد ،
فإن خير الكلام كلام الله ( وأحسن الهديِ هديُ محمد ( ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار .
في الحقيقة علم الحديث علم هام جداً ، وينبغي على طلب العلم أن يهتم بهذا العلم اهتماماً خاصاً لما له من أثر عظيم في التعامل مع نصوص الشريعة ، ليس فقط مع أحاديث النبي ( ؛ وإنما مع القرآن ، كما سيأتي أثناء الحديث معكم اليوم إن شاء الله تعالى .
( تعريف السنة :
ـ السنةُ عند أهل اللغة تعني : الطريقة ، ويسمي العرب الطريق : السَّنَن .
وقد ورد استعمال لفظة السنة بمعناها في اللغة في أحاديث النبي ( وفي القرآن الكريم ، ومن ذلك قوله ( في الحديث المشهور : " لتتبعُنَّ سُنَنَ من كان قبلكم .. " ، وقوله ( : " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهدِيين .. " ، وهي هنا تجمع بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي لأن المعنى الاصطلاحي مرتبط بالمعنى اللغوي .
وأما في القرآن الكريم ؛ فهناك آيات جاء فيها ذكر ( السنة ) كما في قوله تعالى : ( سنةَ مَنْ قَدْ أرسلنا قبلَك مِنْ رُسُلِنا ..( ونحو ذلك من الآيات التي جاء فيها كلمة ( السنة ) وكان معناها : الطريقة .
ـ وأما في الاصطلاح ( أي عند أهل العلم ) إذا أُطلق لفظ ( السنة ) فهو يختلف باختلاف مشارب أهل العلم :(1/1)
أ _ فإذا كان أهل العلم من أهل الحديث ؛ فإذا قالوا ( سنة ) فإنه يُعنى بها : ( كل ما أُثِرَ عن النبي ( من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خَلْقِيّة أو خُلُقِيّة أو سيرة ) ، يعني : جميع ما أُثِر وحُفِظَ عن النبي ( فهذا الذي يسميه أهل الحديث ( سنة ) ، لماذا ؟
لأن تخصصهم واهتمامهم يتعلق بكل ما يتعلق به ( .
ب_ السنة عند الأصوليين تختلف عن هذا ، فهي عندهم : ( كل ما أثر عن النبي ( من قول أو فعل أو تقرير ) فيقفون عند هذا . لماذا ؟
لأن الصفة الخلقية والخلقية أو السيرة لا تتعلق بما يؤصل به الأصوليون القواعد ويستنبطون منه الأحكام ، فهم يهتمون بالأقوال والأفعال والتقريرات لأنها هي المصدر الذي يؤصلون به القواعد ويستنبطون منه الحكام .
وكذلك تطلق عندهم ( السنة ) على سنة الخلفاء الراشدين بدلالة الحديث السابق ، لأنهم أيضاً يحتجون بأفعال الخلفاء الراشدين ، فربما أطلقوا كلمة السنة وأرادوا بها سنة الخلفاء الراشدين .
ج_ أما السنة عند الفقهاء فهي قسم من أقسام الأحكام ، وهي عندهم : ( ما نُقِلَ عن النبي ( من غير افتراض ولا وجوب ) ، لماذا ؟
لأن اهتمام الفقهاء يتعلق بالأحكام الخمسة ، ويراد بها عندهم ( الوجوب ، والتحريم ، والندب ، والكراهة ، والإباحة ) فالأشياء عندهم :
إما واجبة يلزم فعلها ويعاقب من تركها .
وإما محرمة يلزم تركها ويعاقب من فعلها .
وإما مندوبة مستحبة ، وهي ما يطلقون عليه لفظ ( السنة ) . يثاب من فعلها ولا يعاقب من تركها ففعلها أولى من تركها .
وإما مكروهة فالأولى تركها ، وهي يثاب تاركها ولا يعاقب فاعلها .
وإما مباحة يستوي فيها الفعل والترك ، ولا يتعلق بها ثواب ولا عقاب .
فهذه هي السنة عند الفقهاء ، إذا قالوا ( سنة ) فالمراد عندهم ما ليس بواجب .
د_ كذلك تطلق ( السنة ) عند الفقهاء وعند أهل العقيدة من أهل العلم على ما يقابل البدعة ، فإذا قالوا ( هذه السنة ) يعني ما قابلها بدعة .(1/2)
وأهل العلم من المتخصصين في العقيدة ، يطلقون ( السنة ) ويريدون بها : ( منهج النبي ( في الاعتقاد ، وما كان عليه سلفنا الصالح ) ، مثل الإمام أحمد بن حنبل عندما سمى ولدُه كتاب ( السنة ) وروى فيه عن أبيه أمور الاعتقاد ، وكذلك الإمام ابن نصر المروزي الذي ألف كتاب ( السنة ) ، وكذلك الإمام ابن أبي عاصم الذي ألف كتاب ( السنة ) ، وكلها تتكلم عن أمور الاعتقاد .
ـ أمر آخر يتعلق بتعريف ( السنة ) :
أنها تشمل الحديث النبوي ، والحديث القدسي ، يعني : إذا قيل ( السنة ) ، دخل في ذلك حديث النبي ( الذي يذكره مباشرة ، وحديث النبي ( الذي يرويه عن الله سبحانه وتعالى وليس من القرآن .
وهذا يجعلنا نتعرض إلى الضابط الذي نعرف به أقسام الوحي ، فنقول :
ـ أقسام الوحي ثلاثة :
أ _ القرآن الكريم :
كلنا يعرف أن القرآن الكريم هو كلام الله ( ، والضابط فيه أن معناه يكون من عند الله ، ولفظه أيضاً من عند الله ( ، وهو كلام الله تعالى تكلم به حقيقة ، ويتميز بأنه معجِز في لفظه ونظمه ومعانيه ، ويضاف إلى ذلك بأنه يُتَعَبَّدُ بتلاوته ، يعني إذا قرأه الإنسان فإنما يتقرب بقراءته إلى الله ( ويؤجر على ذلك ، وله طريقة مخصوصة لقراءته ، ولا يجوز روايته بالمعنى ، فجبريل عليه السلام سمع القرآن من رب العزة سبحانه وتعالى فأداه كما سمعه إلى النبي ( ، فأداه لنا النبي ( كما سمعه من جبريل . هذا هو القرآن
أما السنة النبوية ؛ فهي وحي كذلك كما سيأتي التفصيل أكثر وهي تنقسم إلى قسمين :(1/3)
أ _ الحديث النبوي : وهو وحي من الله ( ولكنه يختلف كثيراً عن القرآن ، فإن معناه من الله سبحانه وتعالى ؛ ولفظه من الرسول ( ( معناه من الله سبحانه وتعالى بطرق الوحي التي لا نريد أن نطيل بها الآن ، ولكن اللفظ من النبي ( ) وهو كلام غير معجِز ، فليس هو مثل القرآن معجز في لفظه وإنما هو كلام بليغ في أعلى درجات البلاغة ؛ كما قال ( : " أوتيت جوامع الكلم " ، ولكنه غير معجز بمعنى : أنه لا يعجز البشر عن الإتيان بما يشبهه أو يقاربه ، ثم الحديث أيضاً لا يتعبد بتلاوته ، ويجوز روايته بالمعنى .
إذاً ، هو يفارق القرآن في كل شيء ما عدا أن معناه من الله سبحانه وتعالى .
ب _ الحديث القدسي :
وهو والقسم الثاني من الحديث ، وهو مثل الحديث النبوي في جميع الضوابط التي ذكرناها إلا في لفظه فقد اختلف فيه أهل العلم ، ممن هو ؟
فقال البعض : هو من الله ، وهذا مُشْكِلٌ جداً ، لأنه إذا كان من الله ( فيحصل التعارض بين التعريف وبين هذا القول ؛ لأن كلام الله ( لا يشبه كلام البشر ، وهو معجز فلا يكون غير معجز ، ثم ما الفارق بينه وبين تعريف القرآن ؟ فلذا لا يُرْتَضى هذا ممن قاله .
وهناك من قال : لفظه من النبي ( فيقال : إذا ما الفائدة في قوله : ( قال الله سبحانه وتعالى ) ؟ وأيضاً إذا قيل : إن لفظه من النبي ( اشتبه بتعريف الحديث النبوي فلم يكن هناك أي ضابط .
القول الثالث ـ وهذا القول تطمئن إليه النفس ـ وهو أنه من قول جبريل عليه السلام ، يعني لفظه من جبريل ، وقد يؤيد هذا القول وصف الحديث بأنه قدسي ، وجبريل عليه السلام وصفه الله ( بأنه روح القدس كما هو معروف ، فهذا القول لعله أقرب ، والله سبحانه وتعالى أعلم .
( شبهات وردها :(1/4)
وهنا تأتي بعض الشبهات على تعريفنا للسنة بأنها وحي من الله ( واللفظ من الرسول ( ، فنجد مثلاً أن الله سبحانه وتعالى قد عاتب النبي ( في أمر الأسارى ببدر بعدما استشار أبا بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما ، فمال النبي ( إلى رأي أبي بكر في قبول الفداء ، فلما قبل الفداء نزل العتاب من الله سبحانه وتعالى لنبي ه ( في قبوله الفداء في الآية المشهورة : ( ما كان لنبيٍ أن يكون له أسرى حتى يُسْخِنَ في الأرض .. ( ، ومعلوم أن النبي ( بكى هو وأبو بكر عندما عاتبه الله ( في هذه الآيات .
وهناك آية أخرى ، عندما أذن النبي ( للمخلَّفين في غزوة تبوك ، عاتبه الله ( أيضاً فقال له : ( عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين ( .
وكذلك قصة ابن أم مكتوم التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في سورة ( عبس وتولى ) ونزلت فيها بداية السورة : ( عبس وتولى . أن جاءه الأعمى . وما يدريك لعله يزكى . أو يذكر فتنفعه الذكرى ( . فهذا عتاب من الله سبحانه وتعالى أيضاً للنبي ( على فعله .
فكيف نجمع بين هذه المواقف وبين ما قلناه بأن النبي ( إنما سنته كلها من الله سبحانه وتعالى ؟
فنقول : هذا نوع من التشريع ، يعني : يقدر الله سبحانه وتعالى أمراً ويجعل نبيه ( يفعله حتى يحصل التشريع بطريقة تربوية وفعلية ، وهذا أوقع وأبلغ في أداء المطلوب .
وقد روى الإمام مالك رواية مرسلة فيها شيء من الضعف ، ولكنها على حد ما ذكرنا ، وهي روايته عن النبي ( : " إنما أَنْسى أو أُنَسّى لأُشَرِّعَ " ، فهذا من مراسيل الإمام مالك في الموطأ وله ارتباط بما ذكرنا ، فهو موضح له .
ـ تأتي شبهة أخرى ، وهي شبهة قد أكثر البعض في ذكرها ، فنقول أولاً :(1/5)
إن ما قاله النبي ( ونص على كونه ظناً منه _ والوحي لا ظن فيه _ فهذا وحي من الله لنبيه ( أن يعمل بما يظن أو يخبر بما يظن خارجاً عن الوحي الذي هو جزم من الله ( ، فهذا نوع من الاجتهاد ، كما حصل في قضية تأبير النخل ، فالنبي ( مر على الصحابة عندما جاء المدينة ورآهم يُؤَبِّرون النخل ، يعني يلقحونه بطريقة يدوية فيأتون إلى النخلة الذكر فيأخذون منها مادة التلقيح ويضعونها في النخلة الأنثى ويعالجونها بطريقة معينة ، وهذا يسمى ( تأبير النخل ) ، فلما رآهم يفعلون ذلك قال لهم : " أظن أن ذلك لا يغني شيئاً " ، فلما قال لهم النبي (ذلك تركوا تأبير النخل ، فلما خرج الثمر خرج نوعاً رديئاً التمر ، فلما علم النبي ( قال : " إنما ظننت ظناً " يعني : ما دام أخبر وقال : أظن ، فهذا ليس من الوحي لأن الوحي لا ظن فيه ، ولهذا قال لهم : " أنتم أعلم بشؤون دنياكم " .
فإذاً ، كل ما ورد عن النبي ( وليس فيه نص أو لفظ أن ذلك ظن ، فهذا من الوحي .
( مكانة السنة النبوية :
هذا الأمر ذو شجون كما يقولون ، لأنه نبغ نابغة ينكرون السنة ويقعون في أحاديث من الصحيحين ومما اتفقت عليه الأمة ونحو ذلك ، فهذا القسم من المحاضرة له أهمية قصوى ، وكان مناسباً في أول محاضرة أن نتحدث عن ذلك ، وسوف يشبع هذا أيضاً الدكتور عاصم لأن في أحاديثه ما هو متعلق بذلك .
ونحن هنا نقول :
إن الرسالة المحمدية تنقسم إلى قسمين لا يمكن أن ينفصل أحدهما عن الآخر بأي حال من الأحوال ، وهذان القسمان هما : الكتاب والسنة .
فالسنة كما قدمنا وحي من الله سبحانه وتعالى كما أن القرآن وحي من الله سبحانه وتعالى ، وهي من الذكر الذي تكفل الله بحفظه ، ونذكر في هذا المقام حديث المقدام بن معدي كرب ( الذي يرويه عن النبي ( ، وسوف يشرحه لنا إن شاء الله تعالى الدكتور عاصم في محاضرة مستقلة .(1/6)
ـ يقول النبي ( : " ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه ، لا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول : عليكم بهذا القرآن ، ما وجدتم فيه من حلال فحللوه ، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه " ، وهذا هو حال البعض في أيامنا ولا حول ولا قوة إلا بالله .
والتعبير بـ ( شبعان على أريكته ) يدلل على بِطْنَتِه واهتمامه بدنياه وليس له في الآخرة من فهم ولا اهتمام ، ولأجل هذا هو لا يفهم أن السنة والقرآن صنوان لا يفترقان .
ـ وقد قال ( : " من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن عصاني فقد عصى الله " . فما هو الذي يدخل تحت قوله ( من أطاعني ، ومن عصاني ) ؟ لا شك أنه كلامه ( ولو كان القرآن لكفى ذكر طاعة الله ، وإنما جعل النبي ( طاعته طاعة لله تعالى للدلالة على أن السنة والقرآن صنوان لا يفترقان .
ـ كذلك قال ( : " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي .. " ، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين إنما هي مستقاة من السنة النبوية وتطبيق عملي لها ، فهم لم يجتمعوا إلا على شيء ثابت عن النبي ( ، وإن ما أُثِرَ عنهم إنما هو تطبيق والتزام بسنة رسول الله ( ، ولأجل هذا لا يفترقان أبداً كما ذكرنا .
ـ كذلك السنة هي البيان للقرآن ، فإن لم تكن السنة فكيف نفهم كتاب الله تعالى .
فالسنة كما ذكر بعض أهل العلم قاضية على القرآن ، بمعنى أن ما أُجْمِل في هذا القرآن وما احتاج لشرح فيه ، وكل ما ورد فيه إنما هو مفتقر ومحتاج إلى شرح النبي ( وتطبيقه الفعلي لما ورد فيه ، ولا يمكن أن يُفْهَم القرآن بحال من الأحوال إلا بالسنة النبوية ، ولهذا قال سبحانه : ( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نُزِّلَ إليهم ..( ، فالسنة من الذكر الذي أنزل عليه ( ليبين للناس ما نزل إليه من القرآن الكريم .
وروي عن عمران بن حصين ( أنه أتاه رجل فقال له : ( يا أبا نُجيم ، إنكم تحدثوننا أحاديث لا نجد لها أصلاً في القرآن ..) ،(1/7)
سبحان الله ! هذه الشبهة التي يطرحها بعض الجهلة اليوم لها أصل في تلك الأيام الفاضلة ، ولعل لها أصابع خفية كانت هي الأساس لإثارة مثل هذه الأمور .
فماذا كان موقف عمران ( ؟ غضب عمران غضباً شديداً وقال للرجل : ( قرأت القرآن كله ؟ قال : نعم ، قال : هل وجدت فيه صلاة المغرب ثلاثاً ، وصلاة العشاء أربعاً ، وصلاة الغداة ركعتين ، وصلاة الظهر أربعاً ؟ أوجدتم في القرآن في كل أربعين شاة شاة ..) ؟
بدأ معه بالصلاة إلى أن انتهى معه في حوار طويل دلل فيه على حجية السنة النبوية وأنه لا يمكن الاستغناء عنها بحال من الأحوال .
كذلك الرواية المشهورة في أن امرأة سمعت ابن مسعود ( وهو يلعن النامصات والمتنمصات ، والواشمات والمستوشمات ، والواصلات والمستوصلات ، والمتفلجات للحسن المغيرات لخلق الله .
هذه الكلمات لعل أكثركم يعرف معناها ، ولكن لا بأس أن نعرج عليها سريعاً :
_ النامصة : هي التي تنتف شعر الحاجب من النساء .
_ المتنمصة : التي تطلب أن يُفعَل بها ذلك .
_ الواشمة : التي تعمل الكتابة على الجسم بطريقة معينة ؛ بحيث لا تزول هذه الكتابة ، وهو ما يسمى بالوشم ، وهو للأسف منتشر في بقاع كثيرة من بلاد المسلمين ، وكذلك في أوروبا والغرب بصفة عامة .
_ المستوشمات : النساء اللاتي يطلُبْنَ أن يُفعل بهن ذلك .
_ الواصلات : المرأة التي تصل شعرها بشعر مستعار لأجمل التجمل أو غيره .
_ المستوصلات : اللاتي يطلبن ذلك .
_ المتفلجات للحسن : المرأة التي تبرد أسنانها أو فيما بين الأسنان ليظهر شكلها أجمل .
وقد عبر النبي ( عن هؤلاء أنهن مغيرات لخلق الله .(1/8)
فلما لعن ابن مسعود هذه الأصناف من النساء ؛ أنكرت المرأة عليه ذلك ، فقال : ( وما لي لا ألعن من لعن رسول الله ( وذكره الله في كتابه ؟ ) فتعجبت المرأة وقالت : ( لقد قرأت ما بين اللوحين فلم أجد ذلك ) ، يعني : أن فهمها كان قاصراً ، فظنت أنها ستجد في القرآن ( لعن الله الواشمة ..) فقال لها ابن مسعود : لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه ، ثم قرأ لها قول الله ( : ( وما آتاكمُ الرسولُ فخذوه وما نهاكمْ عنه فانتهوا ( .
فهذه الآية نص في حجية السنة ، ومثلها قوله تعالى : ( من يُطِعِ الرسولَ فقد أطاع اللهَ ( وقوله ( : ( وإن تطيعوه تهتدوا ( ، وقوله أيضاً سبحانه وتعالى : ( قل إن كنتمْ تحبون اللهَ فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ اللهُ ويغفِرْ لكمْ ذنوبكم ( ، وقال سبحانه وتعالى : ( فليحذرِ الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنةٌ أو يصيبهم عذاب أليم ( .
ـ كذلك سنته ( شاهدة على صدق رسالته ودالة على نبوته بما احتوت عليه من جوامع الكلم التي يحار فيها الطرف ، ومن إخبار كما في القرآن الكريم بالمغيبات والنبوءات والمعجزات .
ـ وكذلك السنة النبوية هي الحكمة التي ذكرها الله في كتابه ف مواضع كثيرة ، قال تعالى : ( واذْكُرْنَ ما يُتْلى في بيوتكُنَّ من آيات الله والحكمة ..( فهذه الحكمة هي السنة كما ذكر جُلُّ المفسرين من السلف والخلف .
( أقسام السنة من حيث النقل :
ننتقل إلى فقرة تتعلق بالسنة ، فنقول :
ـ إن السنة تنقسم من حيث النقل إلى قسمين :
1_ نقل عن طريق التواتر . والتواتر ينقسم إلى قسمين :(1/9)
أ _ تواتر لفظي : وهو رواية الجمع عن الجمع في جميع طبقات السند التي انتقل إلينا النص عن طريقه إلى النبي ( ، وبشرط أن يكون هذا الجمع بحيث تحيل العادةُ تواطُؤَهم على الكذب . يعني : لا يمكن أن يكون هذا الجمع قد اتفق على الكذب أو حصل منه ذلك خطأ . وتكون هذه الرواية بنفس اللفظ أو نحوه ، وبمعنى آخر نقول : التواتر للفظي : هو ما رواه جماعة عن جماعة في جميع طبقات السند حتى نصل إلى النبي ( ، وهؤلاء الجماعة في كل طبقة تحيل العادة أن يتواطؤا على الكذب أو يتواردوا على الخطأ ، وأن تكون الرواية بنفس اللفظ أو بنحوه . فهذا هو التواتر اللفظي وهو نوع من نقل السنة .
ومثال ذلك ، حديث : " من كذب عليَّ متعمداً فَلْيَتَبَوَّأْ مقعده من النار " ، فهذا الحديث قد اجتمعت فيه هذه الأوصاف ، ومثله أحاديث أخرى .
ب _ تواتر معنوي : فهو نفس الشرط الذي ذكرناه في التواتر اللفظي ؛ ولكن في المعنى فقط ، يعني : تأتي الرواية بالمعنى . وذلك كثير في السنة ، مثل : أحاديث المسيح الدجال .
ـ والمتواتر من الحديث يكاد يكون في مستوى من الصحة يقارب مستوى القرآن ، لأن القرآن نقل إلينا بالتواتر اللفظي ، فرواه أُمَّةٌ عن أمة تحيل العادة أن يتفقوا على الكذب أو يتواردوا على الخطأ .
2_ السنة غير المتواتر ، وهي تسمى الآحاد :
وطريق الآحاد يدخل فيه بعض الأقسام ويجمعها جميعاً :
ما لم يتوافر فيه شرط التواتر ، وهو الشرط المذكور سابقاً ، وإنما جاء في بعض الطبقات أو كلها أو أكثرها الرواية ليس فيها هذا الشرط ، فربما جاءت الرواية من طريق واحد أو طريقين أو أكثر ولكن لا يكون فيها الشرط الذي ذكرناه من استحالة العادة تواطؤهم على الكذب أو تواردهم على الخطأ .(1/10)
ـ وأهم شيء عندنا أن نقول : السنة كلها حجة سواء كانت بنقل التواتر اللفظي أو المعنوي ، أم كانت بطريق نقل الآحاد ولو بطريق واحد فقط بشرط أن تتوافر فيه الصحة ، وهذا ما سنتكلم فيه أيضاً بعد قليل إن شاء الله تعالى .
لكن يبقى شيء واحد يتعلق بالسنة ، وهو أنها درجات :
فالمتواتر درجته في الصحة أعلى من درجة الآحاد ، وكذلك الآحاد يتفاوت في الصحة فيما بينه وبين بعضه . وسيكون لهذا تفصيل في دورات أخرى إن شاء الله تكون أعلى مستوى من هذه الدورة ، لأن هذه الدورة مدخل إلى علو م الحديث وليست تدريساً لعلوم الحديث جملة وتفصيلاً .
ـ وهنا أمر من أهم الأمور ننبه عليه ، وهو من أساسيات هذه المقدمة :
الاحتجاج بخبر الآحاد في العقائد والأحكام هو منهج سلف الأمة ، وهو ما يدل عليه فعل النبي ( وفعل صحابته الكرام رضي الله عنهم ، ومن ذلك :
أ _ النبي ( ثبت عنه أنه أرسل معاذاً إلى اليمن ، وهو رجل واحد أرسله إلى أمة ليعلمهم دينهم ويقضي بينهم بشريعة الله ، فمن أين يأتي معاذ بالتواتر وهو رجل واحد ، ولو كانوا اثنين أو ثلاثة ما تغير شيء ، فهو أيضاً آحاد ، فما بالكم ومعاذ أرسله النبي ( معلماً وقاضياً في اليمن فكان كل ما وصله معاذ من اعتقادات ومن عبادات ومن معاملات وغير ذلك ، كل ذلك من الآحاد وإنما نقله عن النبي ( بطريق الآحاد ويكاد يكون أقل درجات الآحاد لأنه نقل من طريق واحدة ، ولكن يكفي في ذلك أن معاذاً حجة في نقله من جهة العدالة والضبط ، والحمد لله .
ومثل ذلك أيضاً يقال في بعثه ( غير معاذ ، فقد ثبت أنه بعث أبا موسى الأشعري على مكان آخر من اليمن ، وبعث أبا عبيدة بن الجراح إلى أهل نجران ، وبعث علياً عدة مرات ، وغير هؤلاء أرسلهم النبي ( وهم آحاد ،وإنما كان خبرهم كله يدخل تحت مسمى الآحاد .
ب _ قبول النبي ( لخبر الآحاد :(1/11)
فالنبي (قبل خبر الآحاد من الناس ، وليس هناك أعظم من خبر الدجال وقصة الجساسة ، هذا الحديث الطويل الذي رواه مسلم وفيه من الغرائب والعجائب ما يحار فيه العقل ، ومع ذلك قبله النبي ( من رجل واحد وهو تميم الداري ، وكان تميم كافراً عندما حصلت له تلك القصة ، ولكنه أسلم وأخبر النبي ( بقصته التي حصلت له وقد كان نصرانياً ، فقام النبي ( مسروراً به وخطب به في الناس ، ورواه عن تميم فقط وهو آحاد ، والخبر مشهور رواه مسلم رحمه الله في صحيحه من حديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها ، وتلقته الأمة بالقبول ، ولا نطيل بذكر هذا الحديث لأنه يحتاج إلى محاضرة خاصة .
ج _ كذلك الصحابة رضي الله عنهم قبلوا خبر الواحد ، ونحن إنما نمشي على منهج ، ومنهجنا هو :
الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة رضي الله عنهم الذين شُهِد لهم بالفضل والورع والعلم وعاينوا التنزيل وخاطبهم القرآن والسنة مباشرة وبصفة أساسية ، وإنما نحن تبع لهم .
فأخذ الصحابة بعد النبي ( بخبر الآحاد ، فأخذ أبو بكر الصديق به في ميراث الجدة ؛ لما تخير الصحابة رضي الله عنهم ماذا تأخذ الجدة من الميراث ، فسأل من حوله فأخبره أحدهم بأن النبي ( قضى للجدة بكذا من الميراث ، وأخذ بهذا الحكم .
وأخذ به عمر أيضاً في قصة الطاعون ، يعني طاعون عمواس ، عندما أراد أن يدخل المنطقة التي بها الطاعون ، فسمع أن النبي ( أخبر بأنه لا يدخل عليها ، فأخذ بهذا الخبر وهو من رجل واحد .
وكذلك عندما سأل عن الجزية في مجوس هجر ، فعلم أن النبي ( أخذ الجزية من المجوس فحكم بذلك ، ولأجل هذا عمل الصحابة كلهم بخبر الآحاد ، وهذا هو المنهج الذي ساروا عليه .
فما الذي حصل إذاً ؟(1/12)
حصلت التفرقة بين الآحاد والمتواتر في الاحتجاج عندما دبت البدع والأهواء في المسلمين ، ولم يجد أهل البدع ملجأً لدفع الحجج المتوجهة ضدهم من الأحاديث الكثيرة الصحيحة إلا بأن يتذرعوا بتلك البدعة الجديدة من القول بأن خبر الآحاد ظني لاحتمال الخطأ فيه .
يعني يقولون : ما دام الرواة واحداً أو اثنين أو ثلاثة مهما كانوا من الثقات فالخطأ وارد ، فيمكن أن يخطئ الثقة أو الثقتان ، وهذا دليل على أن هذه الأحاديث ظنية غير مجزوم بها فلا يمكن أن يؤخذ بها في الاعتقاد .
وهذه الشبهة باطلة شبهة باطلة من عدة وجوه :
1_ ما قدمناه من مخالفتها لفعل النبي ( وأصحابه من الخلفاء الراشدين وغيرهم .
2_ أن الله ( قد تكفَّل بحفظ السنة ، فما أخطأ فيه راوٍ قد حفظه الله براوٍ آخر ، والحمد لله ، فلا يمكن أن يأتينا رواية فيها خطأٌ إلا وقد حفظ الله لنا بتصحيحها من رواية أخرى لأن ذلك من حفظ الدين كما قال تعالى : ( إنا نحنُ نزّلنا الذكرَ وإنا له لحافظون ( ، وقد قدمنا أن السنة من الذكر المنزل من الله سبحانه وتعالى على نبيه ( .
والأمثلة على ذلك كثيرة ، من أراد أن يتتبعها وجدها ، فسبحان الله ! يخطئ الراوي في كلمة فتجد روايةً أخرى قد صححت خطأه الذي جاء في روايته .
3ـ أننا أُمِرنا بقبول خبر العدل الضابط ، ففي كتاب الله ( أمرنا اللهُ تعالى أن نقبل الرواية بشروط معينة ، فقال ( : ( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسقٌ بنبأٍ فتبينوا .. ( فشرط التَّبَيُّنَ في رواية الفاسق ، أما العدل فلم يشترط فيه التبين ، وهذا يعني القبول .
وقال في الآية الأخرى : ( فلولا نَفَرَ من كلِّ فرقةٍ منهم طائفةٌ ليَتَفَقَّهوا الدين ولِيُنْذِروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ( ، فجعل شرط قبول النِّذارة أن تكون الطائفة التي نقبل منها ـ وهي من الواحد فأكثر ـ أن يكون متفقهاً في الدين ، بمعنى : الحفظ والضبط ، فهذان الشرطان الواردان في كتاب الله تعالى :(1/13)
ـ أن يكون الراوي عدلاً .
ـ أن يكون متفقهاً أي ضابطاً لما رواه .
فليس لنا إلا أن نطبق ما أمرنا الله سبحانه وتعالى به ، وعلى ذلك ستكون المحاسبة لنا من الله سبحانه وتعالى .
4ـ النقطة الرابعة ، وهي قاطعة وظاهرة لا تحتاج إلى بيان :
هم يقولون : القرآن متواتر ، والسنة آحاد . فنقول : القرآن الكريم لفظه متواتر ، ولكن دلالته بالاتفاق ظنية ، فدلالة القرآن على الاعتقاد وغيره دلالة ظنية .
والعمل إنما يكون بالدلالة لا بالثبوت ، فنحن نعتقد ونعمل بما نظن ولا نعتقد ونعمل بذات النص ، فإذا كان النص ثابتاً بطريقة ظنية أو بطريقة قطعية فلا يعنينا هذا ، وإنما يعنينا أن الجميع دلالته ظنية ، فإذاً نحن نعمل بالظن سواءٌ كان الثبوت قطعياً أم ظنياً .
ومنهج رد أحاديث الآحاد هو منهج الفرق الضالة من العقلانيين ، والذين يسمون أنفسهم بالقرآنيين وهم في الحقيقة لا قرآنيين ، لأنهم خالفوا القرآن فيما أمر به من اتباع النبي صلى الله عليه وسلم ، ولأخذ بما جاء به .
ونكتفي بهذا القدر في هذه المحاضرة ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وسلم .(1/14)
(
محاضرات الدورة المفتوحة الأولى في الحديث الشريف وعلومه
المستوى الأول
محاضرات الدكتور محمد الطرهوني حفظه الله
المحاضرة الثانية
( السنة في العهد النبوي وعوامل انتشارها (
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، ومن يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ( . أما بعد ،
فإن خير الكلام كلام الله ( وأحسن الهديِ هديُ محمد ( ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار .
فأُذَكِّركم وإياي بما ذكرنا به فضيلة الدكتور عاصم القريوتي حفظه الله في محاضرته الآنفة بأن نخلص نياتنا وأن نقصد بعملنا هذا وجه الله سبحانه وتعالى ، لعل الله ( أن يتقبل منا هذا العمل .
إخواني وأخواتي بارك الله فيكم :
لنربط محاضرة اليوم بالمحاضرة الآنفة ؛ أجيب على سؤال سأله أحد الأخوة في المحاضرة السابقة ، وهو سؤاله عن حديث عمران بن حصين ( في الاحتجاج بالسنة ، وأنه لا يُسْتغنى عن السنة بالقرآن الكريم ، وأنها مبينة له ، وأنها هي والقرآن صنوان لا يختلفان ولا يفترقان .
( تخريج حديث عمران بن حصين ( :
نقول : حديث عمران بنِ حُصَيْنٍ ( رواه أبو دواد ، والطبراني ، والحاكم ، وابن أبي عاصم في ( السنة ) ، وابن نصر المروزي في ( تعظيم قدر الصلاة ) ، وابن حبان ( الثقات ) والمزي في ( تهذيب الكمال ) بإسناده .
وله طريقان : الأول فيه ضعف ، والثاني مُقَوٍّ له ، فهو حديث حسن إن شاء الله تعالى .
ولا بأس من ذكر لفظه المطول من كتاب الطبراني :(2/1)
ـ قال رجل لعمران بن حصين عندما سئل في المسجد الجامع عن الشفاعة ـ والشفاعة كما تعلمون من أصول أهل السنة والجماعة في العقيدة وأنها حاصلة يوم القيامة ، وهي أنواع ، وللنبي ( عدة أنواع من الشفاعات ، والشفاعة الأصل فيها وهي أعظم شفاعاته ( هي الشفاعة العظمى عندما يريح الناس من الموقف يوم القيامة ، كذلك عندما يُخرِج المسلمين الذين وقعوا في شيء من المعاصي فعوقبوا به في نار جهنم ، فيقوم النبي ( بالشفاعة لهم حتى يخرجهم من النار ـ فكان عمران جالساً في المسجد فذكروا عنده الشفاعة فأقرها طبعاً عمران ومن معه ، فقال رجل : يا أبا نجيم ، إنكم لتحدثونا بأحاديث لا نجد لها أصلاً في القرآن ، فغضب عمران وقال للرجل : أقرأت القرآن ؟ قال : نعم ، قال : فهل وجدت فيه صلاة المغرب ثلاثاً ، وصلاة العشاء أربعاً ، وصلاة الغداة ركعتين ، والأولى أربعاً _ يعني الظهر _ والعصر أربعاً ؟ قال : لا ، قال : فمن أين أخذتم هذا الشأن ؟ ألستم أخذتموه عنا وأخذناه عن رسول الله ( ؟ ثم قال : أَوَجَدْتُم في القرآن في كل أربعين درهم درهماً ، وفي كل كذا وكذا شاةٍ شاةً ، وفي كذا وكذا بعير كذا ؟ أوجدتم هذا في القرآن ؟ قال : لا ، قال : فمن أخذتم هذا ؟ قال : أخذناه عن رسول الله ( وأخذتموه عنا ، قال : فهل وجدتم في القرآن ( فليطوفوا بالبيت العتيق ( وجدتم هذا : فليطوفوا سبعاً وصلوا ركعتين خلف المقام ؟ أوجدتم هذا في القرآن ؟ عمن أخذتموه ؟ ألستم أخذتموه عنا وأخذناه عن رسول الله ( ؟ أوجدتم في القرآن : ( لا جلب ولا جنب ولا شغار في الإسلام ) ؟ قال : لا ، قال : إني سمعت رسول الله ( يقول : " لا جلب ولا جنب ولا شغار في الإسلام " ، قال : أسمعتم الله ( قال لأقوامٍ في كتابه : ( ما سلككم في سقر . قالوا لم نك من المصلين . ولم نك نطعم المسكين ...( حتى بلغ : ( فما تنفعهم شفاعةُ الشافعين ( .(2/2)
فذكر عمران ( هذه الآية المجملة وبَيَّن أن السنة فَسَّرتْها وفصلَّتها وبينت أنواع الشفاعات ؛ كما بينت ما تقدم من أحكام تتعلق بأركان الإسلام الأساسية .
( تعليق على ما سبق من الدلالة الظنية للقرآن :
ننتقل إلى فقرة أخرى تتعلق أيضاً بالمحاضرة السابقة ، وهي ما انتهينا إليه في آخر المحاضرة فيما يتعلق بالقطعي والظني ، وقطعي الثبوت وظنيةُ دِلالته ؛ ونحو ذلك مما انتهينا إليه وسأل عنه بعض الأخوة ، وقد تفضل الدكتور عاصم حفظه الله بالإشارة إلى توضيح تلك المسألة بطريقة أوسع ، وقد وجدت أن أفضل طريقة كما يقولون : ( بالمثال يتضح المقام ) ، فحتى نوضح هذه المسألة نضرب لها الأمثلة .
وقبل أن نضرب هذه الأمثلة نذكر بما قلنا حتى يستطيع الأخوة الحضور الذين لم يكونوا معنا في المرة السابقة المتابعة معنا بشيء من التركيز .
قلنا : إن بعض الفرق الضالة أو التي عندها شيء من الزيغ في بعض مسائل الاعتقاد ، وكما تعلمون أن النبي ( قال : " افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة كلهم في النار ، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة كلهم في النار ، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلهم في النار إلا واحدة .." .
وللحديث رواياتٌ وألفاظٌ ، وهو بمجموع طرقه حديث ثابت صحيح .
هذه الفرق بعضها أراد أن يخرج من الأدلة المُفْحِمَةِ التي تَرُدُّ عليهم ففيما ضلّوا به من مسائل الاعتقاد ، فكلما جاء حديث صحيح صريح يرد عليهم أُسْقِطَ في أيديهم ، فلجأوا إلى حيلة للتهرب من الأدلة التي تبين زَيْغهم وضلالهم ، وهي : التَّذّرُّعُ بمسألة القطعي والظني ، وهي كلمة محدَثةٌ الغرضُ منها كما ذكرنا هو الهروب من النصوص الشرعية المفحمة التي تُدَلِّلُ على اعتقاد أهل السنة والجماعة الصحيح ، فقالوا :(2/3)
الأحاديث الواردة في هذه المسائل ـ مسائل الاعتقاد ـ أحاديثُ آحاد ولا يُحْتَجُّ بها في الاعتقاد ، لأن الاعتقاد لا يكون إلا بأمور قطعية لا ظنية ، وأحاديث الآحاد قد يتطرق إليها الخطأ والوهم ونحو ذلك ، مهما كانت عن الثقات ، فنحن لا نأخذ بها في الاعتقاد لأجل هذه الحيثية .
فقلت في المحاضرة السابقة :
إن الرد عليهم من أربعة وجوه ، والوجه الرابع هو الذي حصل فيه استشكال من بعض الأخوة ، ونحن سنذكره الآن ، فنقول لهم في الوجه الرابع :
_ إن دلالة النص القرآني على الاعتقادات وغيرها أيضاً دِلالةٌ ظنية ، بمعنى : جُلُّ الآيات وجل النصوص وليس بمعنى الكل تماماً لأن هناك أموراً وهي قليلة قد اتفق عليها الجميع ولم يحصل بها شيء من الاختلاف ، وأما جل الأمور فقد حدث فيها الاختلاف .
وهذه الحجة نُحاجُّهُمْ بها من طريق الاحتجاج عليهم بما يحتجون به وليس من باب اعتقادنا نحن ، فنحن وجميع ما نعتقده في أمور العقيدة عندنا قطعي الثبوت ولا شيء فيه ظني سواءٌ كان النص عندهم قطعيٌ أم ظنيُّ الثبوت .
ولكن نضرب لهم المثال وقد جاء الآن وقته :
_ يقول الله ( في قضية سجود إبليس لآدم عليه السلام وامتناعه عن ذلك : ( ما منعك أن تسجُدَ لما خَلَقْتُ بيدَيَّ ( .
فهذه الآية أهل السنة والجماعة يقولون فيها ، كلمة ( بيدي ) المراد بها صفة لله سبحانه وتعالى ، صفة اليد ، وهي صفة ذات تليق بالله سبحانه وتعالى ونثبتها له من غير تكييف ولا تعطيل ولا تشبيه ولا تمثيل ، فلا نشبه اللهَ سبحانه وتعالى بخلقه .
أما أهل البدع ، فهم متفقون معنا ومع الجميع على أن هذا النص قطعي الثبوت ، فنأتي لدلالة النص ، فنجدهم يقولون : اليد هنا يُعْنى بها القدرة ، فنقول لهم :
هل دِلالة اليد هنا على القدرة دِلالة قطعية ؟ فإن قالوا : لا ؛ إنما هي دلالة ظنية ، انتهينا ، وأصبح الآن الوجه الرابع مفحماً لهم وقاطعاً . لماذا ؟(2/4)
لأن الدلالة إن كانت ظنية فليس هناك فرقٌ بين الدلالة الظنية والثبوت الظني ، فالكلُّ ظنٌّ ، فقد أخذتم بالظن في الاعتقاد .
وإن قالوا : لا ، الدلالة من قوله تعالى ( بيدي ) قطعية ، وأن المراد به القدرة ، فنقول لهم : كذبتم لأننا نخالفكم بذلك ، ولو كان الأمر قطعياً لما اختلفنا ، لأن الاختلاف يدل على عدم القطع وعلى وجود الظن في الاستدلال ، لأن الاستدلال فهم ، فأنتم استدلالكم خطأ وليس صحيحاً من الأساس حتى يكون قطعياً .
فإذاً أنتم أخذتم بدلالة ظنية فلتأخذوا بدليل ظني وبنص ظني لأن الأمر واحد .
_ كذلك قال الله ( : ( ونضع الموازينَ القِسْطَ ليوم القيامة ( .
نقول لهم : ما دلالة كلمة الموازين ؟ يقولون : المراد بها حصولُ العدلِ وعدمِ الظلم .
قلنا لهم : هل هذه الدِّلالةُ قطعيةٌ أم ظنية ؟ فإن قالوا : ظنية فقد أَفْحَمْناهم بالنقطة الرابعة ، وإن قالوا : قطعية ، قلنا : كذبتم لأننا نقول إن الموازين يوم القيامة عبارة عن ميزان له كَفَّتانِ توضع فيه الأعمال وتزن وتثقل إحدى الكفتين ؛ ويحاسب العبد على ذلك ، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة والذي قَرَّرَتْهُ الأحاديث كما تعلمون ؛ كما في حديث البطاقة المشهور الذي طاشَتْ فيه السجلات وثقُلَتْ فيه البِطاقةُ الني فيها لا إله إلا الله ، فإذاً نحن نطالبكم بكون هذه الدلالة قطعية ، وهو غير صحيح لأننا خالفناكم في ذلك .
فمن أسعد ؟ نحن الذين أخذنا بالحديث الذي تزعمون أنه ظنيٌّ ؛ أم أنتم الذين أخذتم برأيكم الذي هو ظنيٌّ بل هو باطل وليس بصحيح أساساً .
هذا ما أردت بيانه ، ولا شك أن هذه المحاضرة في السنة النبوية وليست في العقيدة ، ولهذا لا نريد أن نسترسل أكثرَ من ذلك ، وإلا فإن الأدلةَ كثيرةٌ جداً في مسائل الاعتقاد التي تُبَيِّنُ هذا الذي ذكرناه .
( عودة إلى موضوع المحاضرة :(2/5)
ننتقل إلى موضوع المحاضرة وهو ( السنة في عهد النبي ( وعوامل انتشارها ) ، ونتكلم عن حفظ السنة في عهده ( ، فنقول :
لقد كانت السنة تُحْفِظُ في عهده ( بطريقتين :
1ـ الضبط في الصدور : بمعنى الحفظ الذي كان العربُ مشتهَرين به في ذلك الزمان ، وقد سخَّرَهم اللهُ تعالى لحفظ هذا الدين بإعطائهم تلك الملكةَ التي اشتهروا بها .
2ـ التقييدُ بالسطور : وهذا كان محدوداً وكان الكَتَبَةُ قليلين ، ومع ذلك فقد اجتمع الأمران والحمد لله في تقييد السنة النبوية منذ عهدها الأول ، عهد رسول الله ( .
ـ وبالنسبة للحفظ ، كان للصحابة جهابذةٌ حفاظ كأبي هريرة ( ، وأبو هريرة قد أكثر المغرضون والمستشرقون في الطعن في أحاديثه وهم يظنون أن عُمْدَةَ الحديث عليه ، فأرادوا أن يطعنوا فيه ، وقد ردَّ اللهُ كيدَهم في نحورهم ، وانْبَرى كثيرٌ من أهل العلم للرد عليهم وتبيين أن جُلَّ الأحاديث التي رواها لم ينفرد بها ؛ وإنما رواها غيره من الصحابة رضي الله عنهم بل كثير غيره من الصحابة ، لكنَّ أبا هريرةَ أكرمه الله بحفظِ الكثير من الأحاديث حتى فاق غيره من حُفّاظِ الصحابة وليس المعنى أنه تفرَّدَ بتلك الروايات التي روها وإنما قد شاركه فيها غيره كما ذكرت .
والسبب في كون أبي هريرة ( كان أحفظَ أصحاب النبي ( في الحديث وأكثرَهم رواية ؛ لأنه اختُصَّ في ذلك بمَيْزَةٍ لم تحصل لغيره .(2/6)
فعن أبي هريرة ( قال : " إن الناس يقولون : أكثر أبو هريرة ، ولولا آيتان في كتاب الله تعالى ما حدثت حديثاً ، ثم تلا قوله تعالى : ( إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم اللهُ ويلعنهم اللاعنون ( إلى قوله : ( الرحيم ( ، ثم قال : إن إخواننا من المهاجرين كان يشغَلُهم الصَّفْقُ بالأسواق ، وإن إخواننا من الأنصار كان يشغَلهم العمل في أوالهم ، وإن أبا هريرة كان يلزم رسول الله ( بشِبَعِ بَطنِه ، ويحضر ما لا يحضرون ، ويحفظ ما لا يحفظون " .
فهذا السبب الأول لكون أبي هريرة ( أكثرَ الصحابة حديثاً ؛ أنه لم يكن صاحبَ تجارةٍ ينشغلُ بعقد الصفقات في الأسواق ومراعاة تجارته ، ولا بصاحب زرع وثمار ينشغل بماله ؛ كما كان الأنصار رضي الله عنهم جميعاً ، وإنما كان مصاحباً لرسول الله ( يأكل إن وجَدَ طعاماً ويجوع إن لم يجد طعاماً ، ويحضر مع النبي ( ويحفظ عنه في حين ينشغل بقية الصحابة رضي الله عنهم في أعمالهم .
ثم هناك معجزة أخرى خاصة بأبي هريرة ، وهو ما رواه أيضاً فقال : " يا رسول الله ، إني أسمع منك حديثاً أنساه ، فقال : أبسط رداءَكَ ، قال : فبسطته ، قال : فغرف بيده ثم قال : ضمه ، فضمه أبو هريرة قال : فما نسيت شيئاً بعده " .
إذاً قال له رسول الله ( : " أبسط رداءك " فلما بسطه كان ذلك من الله ( كرامة له وإكراماً لصاحب نبيه ( أن أصبح يحفظ ما يذكره رسول الله ( من حديث ، ولم يتمتع أحد من الصحابة بتلك المزية .
_ وعنه أيضاً قال : قلت : يا رسول الله ، من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة ؟ قال ( : " لقد ظننتُ يا أبا هريرةَ أن لا يسألَني عن هذا الحديث أحدٌ أوَّلَ منك ؛ لما رأيت من حرصك على الحديث ، أسعدُ الناس بشفاعتي يوم القيامة ؛ من قال لا إله إلا الله خاصاً من قلبه أو من نفسه " .
إذاً ، نستخلص من ذلك أن أبا هريرة ( اجتمع فيه أمورٌ ثلاثةٌ :(2/7)
الأول : أنه كان متفرِّغاً لا تجارة له ولا مال ، ومن أجل ذلك كان ملازماً لرسول الله ( ملازمةً شديدةً جعلتْه مع تَأَخُّرِ إسلامه عن غيره من الصحابة ؛ تمكن من حفظ الشيء الكثير من أحاديثه ( .
الثاني : أنه كان طالب علم حريصاً جداً على طلب الحديث ؛ بدلالة الرواية الأخيرة التي ذكرناها .
الثالث : الكرامة التي أكرمه الله تعالى بها على يد رسول الله ( من قصة الرداء الذي جعله يحفظُ كل ما يسمع من رسول الله ( .
ـ ولم يكن أبو هريرة ( الراوي الوحيد ولا الحافظ الوحيد من الصحابة ، وإنما كان عدد رواة الحديث من الصحابة ما يقارب الألف نفس ، من أراد أن يراجع أسماءهم فقد ذكرهم الإمام أبو محمد ابن حزم رحمه الله في رسالته المسماة ( أسماء الصحابة الرواة وما لكل واحد من العدد ) ، فذكر منهم أبا هريرة وذكر أن له ( 5374 ) حديثاً ، وذكر من أصحاب الألفين فما زاد ابنَ عمرَ وأنساً وعائشةَ ، وذكر من أصحاب الألف فما زاد عبدَ الله بنَ عباسٍ وجابراً وأبا سعيد الخدري رضي الله عن الجميع ، وهكذا استمر في ذكر كل واحد وما له من الأحاديث .
ـ كذلك الإمام الذهبي رحمه الله في كتابع العظيم ( تذكرة الحفظ ) ذكر الحفاظ الجهابذة من الصحابة ، أي الذين عليهم عمدة رواية الحديث ، فذكر أنهم بلغوا ثلاثة وعشرين نفساً وترجم لكل واحد منهم .
هذا بالنسبة للحفظ في الصدور ، وكما قلنا إن ذلك كان عمدةَ الحفظ في ذلك العهد ، وقد اشترك معه الكتابةُ ؛ فكان الكتبة من الصحابة الذين سجلوا الحديث : رافعَ بنَ خَديج ، وعبدَ اللهِ بنَ عمروِ بنِ العاص ، وعليَّ بنَ أبي طالب ، وابنَ عباس ، وأبو سعيد الخدري ، هؤلاء كانوا من كتاب الحديث في عهد النبي ( ، وسوف نتعرض لمسالة المنع من كتابة الحديث في أول تالأمر ثم ما حصل بعد ذلك من فتح الباب في كتابته في محاضرة أخرى إن شاء الله تعالى .(2/8)
وقد كان من حرص الصحابة على تلقي العلم من النبي ( في ذلك العصر ، ما كان يفعله عمرُ ( مع جار له من الأنصار ؛ فكانا يتناوبان الحضور في مجلس رسول الله ( ثم كان يبلغ كل واحد منها الآخر ما سمع من رسول الله ( كما ثبت ذلك في صحيح الإمام البخاري رحمه الله في القصة المطولة في مسألة ما أُشِيعَ من تطليق النبي ( لنسائه ، وهي قصة طويلة من أراد أن يراجعها فليرجِعْ إليها في صحيح البخاري .
ـ كذلك كان الصجابةُ رضي الله عنهم ،يكثرون من المجيء إلى رسول الله ( رجالاً ونساءً لسؤاله عن أمور دينهم ، وأيضاً حرصت النساء على تعلم السنة عن طريق أمهات المؤمنين رضي الله عنهن فكُنَّ يَأْتِينَ إلى بيوت النبي ( فيتعلَّمْنَ من نسائه أمثال عائشةَ وأم سلمةَ وحفصةَ رضي الله عنهن جميعاً .
ـ بل إن الرحلة في طلب الحديث ، وتعلمون أن الرحلة في طلب الحديث باب من أبواب علم الحديث اهتم بع أهل العلم وطبقوه ، وهو من علامات الحرص على طلب العم ؛ أن يرحل الإنسان لكي يحصل العلم النافع ويتعلم حديث رسول الله ( ، ونحن الآن في في هذه الشبكة في نعمة عظيمة ، ونسأل الله أن يعيننا على استخدامها في الخير وأن يجنبنا ما فيها من المفاسد إنه جوادٌ كريم .
وقد بدأت الرحلة في طلب العلم في عهده ( ، ومن ذلك الحديث المشهور في قدوم ضِمامِ بنِ ثعْلَبَةَ ( لسؤاله ( عما افترض الله عليه ، فقد أتاه ضمامُ فقال له : إن رسولك أخبرنا بكذا وكذا .. آللهُ أرسلك ؟ ثم أخذ يسأله عن أمور الإسلام الأساسية وعما افترض الله عليه ، وكذلك قدمت الوفود إليه ( مثل وفد عبد القيس وغيرهم من الوفود الذين تعلموا الدين والإيمان من رسول الله ( .
ـ إذاً يمكننا أن نُلَخِّصَ عوامل انتشار السنة في العهد النبوي في النقاط التالية :(2/9)
أ _ حث النبي ( أصحابه رضي الله عنهم على تلقي السنة وعلى تبليغها ، ومن ذلك قوله : " نَضَّّرَ االلهُ امرَءاً سمع مقالتي فوعاها ؛ فأداها كما سمعها ، فربَّ مُبَلَّغٍ أوعى من سامع " ، وكذلك قوله ( : " فلْيُبَلِّغِ الشاهدُ الغائبَ " ، فهذا أيضاً يدل على حثه ( لأصحابه أن يبلغوا العلم الذي تعلموه لغيرهم .
ب _ وصيته ( بأهل الحديث ، وقد كان بعض السلف إذا أتاه طلاب العلم وطلاب الحديث قال لهم : ( مرحباً بوصية رسول الله ( ) وهو من الصحابة .
ج _ حرص الصحابة على تعلم السنة كما قدمنا ، فكانوا حريصين جداً على تعلم العلم وسلكوا في ذلك الطرق الميسرة لهم في ذلك الوقت .
د _ وجود حفاظ جهابذة بعضهم بسبب ما اشتهر عن العرب من شدة الحفظ كما قدمنا ، وبعضهم بسب الدعوة الخاصة مثل ما كان من أبي هريرة ( .
هـ _ استعانة البعض بالكتابة وترخيص النبي ( لهم في ذلك كما ذكرنا في أسماء بعضهم .
و _ البعوث التي بعثها النبي ( لتعليم الناس دينَهم ، فقد يعث مجموعة كبيرة من الصحابة لتعليم الناس أمرَ دينِهِم حتى وهو في مكة ، فكان أول من أرسله لذلك مصعب بنُ عُمَيْرٍ ( كما تعلمون ، ويسميه أهل العلم ( أول سفير في الإسلام ) .
ز _ الوفود التي كانت تقدم على النبي ( بين الفَيْنَةِ والأخرى للتعلم والتفقه في الدين .
فهذه العوامل السبعة هي خلاصة العوامل التي كانت سبباً في انتشار السنة في العهد النبوي .
ونكتفي بهذا القدر في هذه المحاضرة ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه .(2/10)
(
محاضرات الدورة المفتوحة الأولى في الحديث الشريف وعلومه
المستوى الأول
محاضرات الدكتور محمد الطرهوني حفظه الله
المحاضرة الثالثة
( تعريفُ الصحابةِ وطُرُقُ معرفتِهم وطبقاتُهم (
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، ومن يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ( . أما بعد ،
فإن خير الكلام كلام الله ( وأحسن الهديِ هديُ محمد ( ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار .
فلقد أكرمنا الله سبحانه وتعالى بأن انتهينا من الحديث عن السنة النبوية في عهد النبي ( ، وننتقل اليوم إلى الحديث عن السنةِ النبويةِ في عصر الصحابة رضي الله عنهم وعلاقتهم بحديث رسول الله ( ، ذلك بكلماتٍ موجَزَة ؛ لأن المجالَ لا يَتَّسِّعُ للتوسُّعِ في مثل هذه المسائل العلمية ، وإن ما نتكلم فيه هو مدخلٌ إلى هذا العلم الشريف .
( تعريف الصحابي :
الصحابيُّ هو : من لَقِيَ رسول الله ( بعد بِعْثته وقبل موته مؤمناً به ومات على ذلك .
نلاحظُ أن هذا التعريفََ يجمع ضوابطَ مُعَيَّنة لا بد من الانتباه إليها لمعرفة ما يخرج منها وما يدخل فيها .
وهذا التعريف مجموعُ ما ذكره الإمامُ ابنُ الصلاح وابنُ كثير وابنُ حَجَر والسُّيوطيُ رحمهم الله تعالى .
( من يدخل في هذا التعريف :
ويدخل في هذا التعريفِ وتحتَ مُسَمّى الصحابةِ :
ـ الجنَّ : لأننا قلنا ( من لقي رسول الله ( ) وهذا عمومٌ يدخل فيه الإنسُ والجنُّ .
ـ من قَصُرَتْ صُحبتُه ولو كانت للحظة .
ـ من كان صغيراً ولو غَيْرَ مُمّيِّزٍ ، يعني : لو كان دون السابعة أو السادسة ولقي رسول الله ( فهذا يدخل أيضاً لعموم الضوابطِ التي ذكرناها .(3/1)
ـ من لم يَرْوِ عنه شيئاً ومن لم يسمعْ منه شيئاً . يعني : هناك من لقي رسولَ الله ( وسمع منه ولكنه لم يروِ عنه شيئاً ، فهذا له أيضاً شَرَفُ الصحبةِ ويُعْتَبَرُ من الصحابة . وهناك من لم يسمعْ من رسول الله ( وإنما رآهُ فقط ، فهذا أيضاً يدخل لأنه مندرِجٌ تحت مُسَمّى الصحابي .
ـ مَنْ مَنَعَهُ مِنْ رُؤْيَةِ رسولِ الله ( عارضٌ مثلُ العَمى ، فإن كان الرجلُ أعمى يدخل أيضاً تحت التعريف لأننا قلنا ( من لقي رسول الله ( ) ولم نقيدْ ذلك بالرؤية .
ـ من آمنَ برسولِ الله ( ومات على هذا الإيمان ولو كان قد دخل في الرِّدَّة بين إيمانه وبين موته مؤمناً . يعني : لو ارتَدَّ أثناء حياته ( ثم عاد إلى الإيمانِ أثناءَ حياته أيضاً دخل كذلك في هذا التعريف وشَرُفَ بمسمى الصحبة . لأن الضابط كما ذكرنا ( من لقي النبي( بعد بعثته وقبل موته مؤمناً به ومات على ذلك ) ولا يَضُرُّ ما حدث بين إيمانه وموته على الإيمان كما ذكرنا .
إذاً ، هذه النوعيات كلها تدخل في مسمى الصحبة وتتشرف بالصحبة وبفضل الصحبة الذي سَنُفْرِدُ له محاضرةً إن شاء الله تعالى .
( من لا يدخل في التعريف :
ويخرج من هذا المسمى ومن هذا الضابط :
ـ من لقي النبي ( كافراً وإن أسلم بعد موته ( . فهناك من لقي النبي ( وبقي كافراً في حياته ولكنه أسلم بعد موت النبي ( فهذا لا يدخل في مسمى الصحبة ولا يكون له شرفُ الصحبة .
ـ من لقي النبي ( متظاهراً بالإسلام وثَبَتَ نِفاقُه . فإذا ثبت نفاقُ الشخصِ خرج من مسمى الصحبة . لأننا ذكرنا أن الضابط ( من لقي النبي ( مؤمناً به ) فلا بد من حصول الإيمان ، ومن ثبت نفاقه فليس بمؤمن .
· كيف يثبت النفاق ؟
ثبوتُ النفاقِ لا بُدَّ فيهِ من وجودِ النَّصِّ على نفاقِ المذكور من رسول الله ( أو من تواترِ ذلك من النصوص الواردةِ عن الصحابةِ المشهودِ لهم بالفضلِ في حياته ( ممن أَعْلَمَهُم رسولُ الله ( بذلك مثل حذيفة ( .(3/2)
ـ من لَقِيَهُ مؤمناً ولكن بغيره من الأنبياء . فلا بد أن يكون مؤمناً به ( ، فلو كان مؤمناً بغيره من الأنبياء ولم يؤمِنْ به فلا يدخل في الصحبة ، وذلك مثل من لقيه من أهل الكِتابِ .
ـ من لقيه قبلَ بِعْثَتِهِ ( ثم آمن به ولم يَرَهُ حالَ الإيمانِ . يعني : من لقي رسول الله ( قبلَ البِعْثَةِ ثم سمع به وآمن ؛ ولكنه لم يلقَهُ حالَ إيمانه ، فهذا لا يُعَدُّ في الصحابة .
ـ من رأى النبي ( بعد موته ، وهذا لا يكون إلا مناماً . ومن ذهب إلى أن النبي ( يمكن أن يُرَى في اليقظة بعد مماته ؛ فهذا قولٌ باطلٌ لا يَصِحُّ ، وقول النبي ( : " من رآني في المنام فسوف يراني في اليقظة " ، يُرادُ به البِشارَةُ له بأنّه من أهلِ الجنة إن شاء الله تعالى .
ويشترط لرؤيته ( حتى في المنام أن تكون مطابقةً لأوصافه الواردةِ والتي أَشْبَعَها أهلُ العِلمِ تحقيقاً ، وإذا خالفَ المرئيُّ صورةَ رسول الله ( فهذه ليست رؤياله ( لأن الشيطانَ لا يستطيعُ أن يَتَمَثَّلُ في صورته ، وإنما يمكنُ أن يتمثل في صورةٍ أخرى ويُلَبِّسُ على الشخص بأنه رسول الله ( .
ـ مِنِ ارْتَدَّ ومات على الرِّدَّة والعياذُ باللهِ خَرَجَ من مُسَمّى الصحبةِ ولو كان مُصاحباً لرسول الله ( حالَ إيمانه ما دامَ قَدِ ارتد ومات على الردة .
وتعلمون أن رسول الله ( ذكر أنه يُزادُ أقوامٌ عن حوضه فيقول : " أصحابي أصحابي " فيقال : " إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك " ، وهؤلاء جمعٌ من الأعرابِ الذين لَقوا رسول الله ( وآمنوا به ثم لما توفي رسول الله ( ارتدوا على أعقابهم وخرجوا من الإسلام وقد قاتلهم أبو بكر الصديق ( .
ملاحظات :
1_ هذا التعريف الذي ذكرناه قد خالف فيه بعضُ أهلِ العلمِ ولكنَّ المختارَ من التعريفاتِ هو ما ذكرناه والحمد لله رب العالمين .(3/3)
2_ يوجدُ أثرٌ عن أنس بن مالك قد يُشْكِلُ مع هذا التعريف ، وهو قول أنس ( عندما قيل له : هل بقي من أصحاب رسول الله ( أحدٌ غيرُك ؟ قال : ( ناسٌ من الأعرابِ رأوه ، وأما من صَحِبَهُ فلا ) .
فإذا تأملنا هذا الأثرَ نََجِدُ فيه شيئاً من التعارضِ الظاهرِيِّ مع التعريفِ الذي قد ذكرناه ، ولكنه في الحقيقة لا يوجد تعارضٌ لأن أنساً إنما أراد بذلك الصحبةَ الخاصةَ وليس الصحبةَ العامَّةَ التي نحن بصدد تعريفها ، ولا ينافي قولُه هذا ما اصطلح عليه الجمهورُ لشرفِ رسول الله ( وجلالة قدره وقدرِ من رآه .
ويدلُّ على ما ذكرناه الحديثُ الصحيحُ الذي رواه البخاري ومسلم ، واللفظ الذي سنذكره هو لفظ مسلم ، يرويه عن أبي سعيد الخدري ( عن رسول الله ( قال : " يأتي على الناس زمانٌ يَغْزو فِئامٌ من الناس فيقال لهم : فيكم من رأى رسول الله ( ؟ فيقولون : نعم ، فيُفْتَحُ لهم . ثم يغزو فئام من الناس فيقال لهم : فيكم من رأى من رأى رسول الله ( ؟ فيقولون : نعم ، فيفتح لهم . ثم يغزو فئام من الناس فيقال : هل فيكم من رأى من رأى من رأى رسول الله ( ؟ فيقولون : نعم ، فيفتح لهم " .
فهذا الحديث يدل على عِظَمِ شرفِ الصحبةِ ولو كانت برؤية رسول الله ( فقط .
( طرق معرفة الصحابي :
الصحابيُّ يعرفُ بِعِدَّةِ طُرُقٍ ، ويَهُمُّنا في علمِ الحديث أن نتعرف على الصحابي من غيره ، وسنذكر أهمية ذلك في نهاية المحاضرة إن شاء الله تعالى . أما طرق معرفة الصحابي فمنها :
1_ التواترُ ، الذي تكلمنا عليه في المحاضرة الأولى . يعني : الذي لا يختلف عليه الناس في كونه صحابياً ولا يمكنُ أن يَتَطَرَّقَ إليه شكٌّ ، وهؤلاءِ مثلُ العَشَرَةِ المبشرين بالجنة ونحوهم من المشاهيرِ الذين لا يجادلُ أحدٌ في كونهم قد صحبوا رسول الله ( .
والعشرةُ المُبّشَّرونَ بالجنة فهم كما يقول الشاعر :
أَكْرِمْ بطلحةَ والزبيرِ وسَعْدِهمْ وسعيدهم وبعابدِ الرحمن(3/4)
وأبي عُبَيْدةَ ذي الديانةِ والتُّقى وامدَحْ جماعةَ بيعةِ الرِّضْوانِ
فقد جمعَ العشرةَ في البيت الأول وفي بداية البيت الثاني ، وهؤلاء مشهورون .
2_ الاستفاضةُ ، فهناك صحابةٌ قد استفاضت معرفةُ صُحبتهم ولو كانوا دون المشاهير الذين عُرِفوا بالتواترِ ، مثل ضمامِ بنِ ثَعْلَبَةَ الذي جاء الرسول( وسأله عن أركان الإسلام ، ومثلُ عُكّاشةَ بنِ مِحْصَنٍ الذي قال له النبي ( : " أنت منهم " عندما ذكر حديث السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب .
3_ شهادةُ غيرِهِ من الصحابة ، بأن يشهدَ له من ثبتت صحبتُه بأنه كان معهم في صحبة رسول الله ( ، فنعرف من ذلك أنه من الصحابة .
4_ روايتُهُ عن النبي ( سماعاً أو مشاهدةً ، كأن يأتي فيقول : سمعت رسولَ الله ( أو يقول : رأيت رسول الله ( يفعل كذا ، بشرط المعاصرةِ خلالَ مائةِ سنة من وفاته ( . لماذا ؟ لأن النبي ( قبل وفاته بشهرٍ قال : " أرأيتم ليلتَكم هذه ؟ فإنه على رأسِ مائةِ سنةٍ لا يبقى على وجه الأرض ممن هو اليومَ عليها أحدٌ " ، وهذا الحديث في الصحيحين .
إذاً ، من روى عن النبي ( سماعاً أو مشاهدة مع المعاشرة خلال مائة سنة من وفاته ، فهذا يُحْمَلُ أيضاً على الصحبة بشرط ثبوتِ ذلك عنه مع العدالدة .
5_ شهادةُ تابعيٍّ عدلٍ . يعني : إذا روى تابعيٌّ عن رجلٍ وذكرَ أنه من الصحابة وأنه روى عنه عن رسول الله ( ، فهذا أيضاً طريقٌ لمعرفةِ الصحبةِ .
6_ إذا قال شخصٌ عن نفسه : أنا صحابيٌّ أو أنا صحبت رسولَ الله ( بشروط العدالةِ له والمعاصرة .
فهذه هي طرقُ معرفةِ الصحابي .
( طبقاتُ الصحابةِ :
الصحابةُ رضي الله عنهم طبقاتٌ . يعني : صَنَّفَهُم أهلُ العِلْمِ في مجموعاتٍ مُتَوافِقَةٍ في شيءٍ مُعَيَّنٍ . وهذه المجموعاتُ تَتَذفاوتُ في الفضلِ وفي السَّبْقِ وفي المَنْزِلة ، ولها علاقةٌ بمعرفةِ التاريخ ، ومعرفةِ الحوادثِ التي كانت في ذلك العهد .(3/5)
والمشهورُ في تقسيمِ الصحابة في الطبقات أنهم اثنتا عشرة طبقة :
1- الطبقة الأولى : من أسلم قديماً بمكةَ ، فهذه طبقةُ المسلمين الأوَّلين .
2- الطبقة الثانية : من أسلمَ بعدَ إسلامِ عمرَ بنِ الخطابِ ، فهذا حَدٌّ جُعِلَ لطبقة من طبقات الصحابة ، وهم الذين أسلموا بعد إسلامِ عُمَرَ ( كفاصلٍ بينَ من أسلمَ بعده وبين من أسلم قديماً بمكةَ ، وتعلمون أنَّ ابنَ مسعودٍ ( قال : ( ما زِلنا أعِزَّةً منذُ أسلمَ عمرُ ) فمن أسلم بعد إسلام عمرَ فقد انتقل إلى طبقةٍ أخرى لأجلِ إسلامِ عمرَ بنِ الخطابِ .
3- الطبقة الثالثة : مهاجِرَةُ الحَبَشَةِ ، يُعتبرون طبقةً من طبقاتِ الصحابة ، يقال : مهاجرة الحبشة ، لأن مهاجرة الحبشة لهم أجران : أجرُ هجرتهم إلى الحبشة ؛ وأجرُ هجرتهم إلى المدينة .
4- الطبقة الرابعة : أصحابُ العَقَبَةِ الأولى الذين بايعوا رسولَ الله ( وكانوا اثني عشر رجلاً منهم عبادة بن الصامت ( ومشهورةٌ بيعتُهم ، ولم تكنْ هذه البيعةُ على القتال ، وإنما كانت كما يسميها عبادة : بيعة النساء .
5- الطبقة الخامسة : : أصحاب العقبة الثانية الذين بايعوا النبي ( بيعة القتال ، وكانت هي الفتحَ الأعظمَ الذي مَهَّدَ للهجرةِ إلى المدينة وإقامةِ المجتمعِ المدني .
6- الطبقة السادسة : المهاجرون قبل دخول النبي ( المدينةَ . فهناك من هاجرَ قبل أن يأتيَ النبيُّ ( إلى المدينةِ ، وكانوا قد جاءوا وأقاموا في المدينة في بني عمرو بن عوف وأقاموا الدين فيها حتى أتاهم النبي ( .
7- الطبقة السابعة : أهلُ بدرٍ وهم طبقةٌ محايدة .
8- الطبقة الثامنة : من هاجَر بعد غزوة بدر . فبدرٌ كانت فتحاً عظيماً وبدأ من خاف في مكة التفكيرَ في الهجرة أيضاً ، فمن هاجرَ بعد بدر فهؤلاء طبقة محايدة .(3/6)
9- الطبقة التاسعة : أهلُ بيعةِ الرضوانِ في غزوةِ الحُدَيْبِيَةِ ، وسُمِّيَتْ بيعةَ الرضوان لأن الله ( قال فيها : ( لقد رضِيَ اللهُ عنِ المؤمنينَ إذْ يبايعونَكَ تحتَ الشَّجَرَةِ ..( ، فهذه بيعةُ الشجرة ؛ بيعة الرضوان ، لها فضلها العظيم ، فجُعِل أهلها طبقة محايدة .
10- الطبقة العاشرة : من هاجر بعد الحديبية . فبعد بيعة الرضوان والمعاهدةِ مع قريش في الحديبية هاجر أيضاً أناسٌ إلى رسول الله ( فجعلوا طبقة واحدة .
11- الطبقة الحادية عشرة : مُسْلِمَةُ الفتحِ ، وهم من أسلم عامَ الفتح ، فهؤلاء طبقةٌ محايدة لأنهم أسلموا بعد أن وصل النبيُّ ( إلى مكةَ وفتحها .
12- الطبقة الثانية عشرة : طبقةُ الصبيان والأطفالِ الذين رَأَوْا رسولِ الله ( يوم الفتح وفي حجة الوداع . فهؤلاء جعلوا طبقة واحدة أيضاً لتوافقهم على أنهم من الصبيان والأطفال .
( عدد الصحابة :
أما عدد الصحابة فكثير جداً ، فقد أوصلهم بعضُ أهلِ العلمِ إلى مائةٍ وأربعةَ عشرَ ألفاً
( أكثر الصحابة رواية :
أكثر الصحابة رواية ؛ أبو هريرةَ ( وقد ذكرنا السبب في ذلك ، ثم تَلَتْهُ عائشةُ الصديقةُ بنتُ الصِّدِّيقِ ، ثم أنس بن مالك ، ثم ابن عباس ابن عم رسول الله ( ، ثم عبد الله بن عمر ، ثم جابر بن عبد الله ، ثم أبو سعيد الخدري ، ثم ابن مسعود ، ثم عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم أجمعين .
فهؤلاء أكثر الصحابة رواية عن رسول الله ( .
( آخرُ مَنْ ماتَ من الصحابة :
أما آخرُ من مات من الصحابة رضي الله عنهم فهو : عامرُ بنُ واثِلَةَ ؛ أبو الطُّفِيْل . وقال بعضهم هو : أنس بن مالك ، والصحيح أن آخرهم مطلقاً هو عامر بن واثلة .
وهناك من أهلِ العلمِ مَنْ يُفَصِّلُ حَسْبَ بُلدانِ الصحابة ، فيقول مثلاً :
آخر من مات بمكةَ ابنُ عمرَ ، وآخر من مات بالمدينة جابرٌ ، وآخر من مات بالبصرة أنسٌ ، وهكذا ..
وفي الجزم بذلك اختلاف بين أهل العلم .(3/7)
( من صَنَّفَ في معرفة الصحابة :
إذا أردنا أن نعرف الصحابةَ ونَتَعَرَّفَ عليهم وإلى أسمائِهم وأخبارِهم وكيفيةِ دخولِهم في الإسلامِ ، وعن شيءٍ مما رَوَوْا ونحوِ ذلك ، فنستطيعُ أن نتعرفَ على كلِّ هذا وعلى أكثرَ منه من الكتب التي صُنِّفَتْ في معرفة الصحابة .
وممَّنْ صَنَّفَ في ذلك جماعةٌ من أهلِ العلمِ ، منهم من أفْرَدَ ذلك في بابٍ مُسْتَقِلٍّ في كتابه ، يعني : يكون قد صنف كتاباً فجعل له باباً للصحابة ولمعرفتهم ، ومن هؤلاء :
_ الإمام الحافظ الحاكم صاحب كتاب ( المستدرك على الصحيحين ) فقد أفرد باباً خاصاً سماه ( معرفة الصحابة ) .
وهناك من أفرد هذا النوع من العلم بكتبٍ خاصةٍ ، وهؤلاءُ كثيرٌ ، منهم :
- الإمامُ ابنُ قانعٍ ، له كتاب يسمى ( معجمُ الصحابة ) وقد طُبع حديثاً .
- البَغَوِيُّ ، له كتاب يسمى ( معرفة الصحابة ) .
- ابن مِنْدَه ، له كتاب يسمى ( معرفة الصحابة ) وكلاهما غير مطبوع .
- أبو نُعَيْمٍ ، له كتاب أيضاً يسمى ( معرفة الصحابة ) وقد طبع كاملاً ، وعندي عمل في تحقيقه آخر ولكن لم يكمل بعد .
- ابنُ حَجَرَ العسقلانيُّ ، وكتابه يسمى ( الإصابةُ في تمييز الصحابةِ ) وهو من الكتب المشهورة في معرفة الصحابة ، وهو مُتَداوَلٌ ومن أعظمِ الكتب في ذلك العلم
- ابنُ عبدِ البَرِّ ، وكتابه يسمى ( الاستيعابُ في معرفة الأصحاب ) وهو أيضاً مشهور متداول .
- ابن الأثير ، وكتابه يسمى ( أُسْدُ الغابةِ في معرفة الصحابة ) ، وهو مطبوع .
- الذهبي ، وكتابه يسمى ( تجريدُ أسماءِ الصحابة ) وهو كتابٌ مخْتَصَرٌ مطبوع أيضاً ولله الحمد .
( فائِدَةُ معرفةِ الصحابة :
نَخْتِمُ محاضرةَ اليومِ بفائدةٍ معرفةِ الصحابةِ ، فنقول :(3/8)
إنَّ فائدةَ معرفةِ الصحابةِ فائدةٌ عظيمةٌ لأنَّ بها يَتَمَيَّزُ الحديثُ المُتَّصِلُ من الحديثِ المُرْسَلِ . فنحن قلنا : الحديثُ يُرْوى بإسنادٍ من الشخصِ الذي يرويهِ من كتابه أو حفظه حتى يصلَ إلى النبي ( بإسناد يسمى ( متصلاً ) إذا كان لا انقطاعَ فيه .
والانقطاعُ يحصلُ بطرقٍ عِدَّةٍ ، ونحنُ الآن نتكلمُ عن مسألةٍ من مسائلِ الانقطاعِ وهي الإرسالُ ، فنقول :
إذا لم نعرفِ الراوي عن رسولِ الله ( هل هو صحابي أو غير صحابي ، فهذه نقطة تبين الانقطاع وغيره .
إذا كان الشخصُ صحابياً فهذا يعني أن هناك اتصالاً بين الراوي الأخيرِ وبين رسول الله ( ، لكن إن لم يكن صحابياً فهذا يعني الانقطاعَ أو الإرسالَ إذا كان الراوي تابعياً ، يعني : إذا قال التابعيُّ : قال رسولُ الله ( سُمِّيَ هذا الحديثُ مرسلاً .
ولأجل هذا يحصلُ خلطٌ بين الأحاديث كما يقول الحافظ رحمه الله ، فله كلمة مهمة بهذه المسألة إذ يقول : ( ومن تَبَحَّرَ في معرفةِ الصحابةِ فهو حافظٌ كاملٌ ) يقول : ( فقد رأيتُ جماعةً من مشايخِنا يرْوُون الحديثَ المرسَلَ عن تابعيٍّ عن رسولِ الله ( يَتَوَهَّمونَه صحابياً ، وربما رَوَوْا المسندَ عن صحابيٍّ فيتوهمونه تابعياً ) .
فهذا العلمُ هامٌ في معرفةِ اتِّصالِ الحديث ، وهامٌّ أيضاً لمعرفةِ منازلِ الصحابة وفضلهم ، لأنَّ دخولَ الشخصِ في فضلِ الصحابة أمرٌ ليس بالهَيِّنِ وإنما هو أمرٌ عظيمٌ ، ولهذا لا بُدَّ من التَّحَرُّزِ والاهْتِمامِ بمعرفةِ الصحابة رضي الله عنهم .
وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه ، وسوف نفرد كما ذكرنا إن شاء الله تعالى محاضرةً في فضلِ الصحابة رضي الله عنهم ، والحمد لله رب العالمين .
……………(3/9)
(
محاضرات الدورة المفتوحة الأولى في الحديث الشريف وعلومه
المستوى الأول
محاضرات الدكتور محمد طرهوني حفظه الله
المحاضرةالرابعة
( عدالةُ الصحابةِ وفضلُهم (
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، ومن يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ( . أما بعد ،
فإن خير الكلام كلام الله ( وأحسن الهديِ هديُ محمد ( ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار .
فحديثُنا اليومَ عن عدالةِ الصحابةِ وفضلِهم ، وعن اقتدائِهم بالنبي ( .
( عدالة الصحابة :
والصحابةُ رضي الله عنهم كُلُّهُم عُدولٌ ، والعدلُ : هو الذي يفعل ما أُمِرَ به ويجتنب ما نهى الله تعالى عنه .
وعدالةُ الصحابة مذهبُ أهلِ السنة والجماعة ، وذلك لما أثنى اللهُ تعالى عليهم في كتابه ، ولما نطقت به السنَةُ النبويةُ في المدح لهم ، ولما بذلوه من الأرواحِ والأموالِ بين يدَيْ رسولِ الله ( وبعد وفاته ، وذلك كان منهم لنصرة هذا الدين ولإعلاءِ كلمةِ التوحيدِ حتى أصبحَ كلُّ من أتى بعدَهم من أُمَّةِ الإسلامِ حسنةً من حسناتهم .
فنحن جميعاً ، ومن سبقَنا ، ومن سيأتي بعدنا ، أعمالنا في ميزان حسناتهم إن شاء الله تعالى .
وأما ما حصل بينهم فهو لا يخلو من أمرين :
الأول : أن يكون من غير قصدٍ ، وذلك نحو يوم الجمل ، ويوم الجمل الذي حدث فيه
القتال بين علي ( وبين عائشة رضي الله عنها ، وكان السببَ في ذلك خطةٌ خبيثة أوقعت القتال بين الطرفين ، فحدث ذلك على سبيل الخطأ .(4/1)
الثاني : أن يكون خطأ ، مثل القتال يوم حنين بين علي ( وبين معاوية ( ، وأهل العلم على أن الخطأ كان من معاوية (، ولكنه كان مجتهداً ، والمجتهد له أجرٌ واحدٌ إن أخطأ ، وأما المصيبُ فله أجران ، ولذلك فإنه لا يخلو صحابة رسول الله ( في تلك الفتن من أن يكون أحدُهم مأجوراً أجراً واحداً أو أن يكون مأجوراً أجرين .
ولا بدَّ أن نعلم أن الصحابة رضي الله عنهم ليسوا بمعصومين ، وهذا هو مذهبُ أهل السنة والجماعة ، وإنما هم بشرٌ يجوزُ عليهم ما يجوز على غيرهم .
وإن ما صدر من بعضهم ولو كان فيه ما فيه ، فهو إلى جانبِ شرفِ الصحبة وفضلِها مُغْتَفَرٌ ومَعْفُوٌّ عن صاحبه ، وكما تعلمون الحسناتِ يُذْهِبْنَ السيئات ، ومقامُ أَحَدِ الصحابة مع النبي ( لحظة من اللحظات في سبيل هذا الدين لا يعدلها شيء ، ثم ما وضع في ميزانهم من أعمال المسلمين الذين كانوا حسنة من حسنات تلك اللحظة ، كلها في ميزان حسناته ، فماذا تعمل الغلطة والغلطتان ؟
وتعلمون أن الله سبحانه وتعالى كما ثَبَتَ في الحديث الصحيح قد اطَّلَع على أهل بدر فقال : " اعملوا ما شئتم إني قد غفرت لكم " .
وتجاوزَ الله سبحانه وتعالى عمن تولى يوم أُحُدٍ من الصحابة وذكر ذلك في كتابه في آية تتلى إلى يوم الدين ، فقال سبحانه وتعالى : ( إن الذينَ تَوَلَّوا منكم يومَ التقى الجَمْعانِ إِنَّما اسْتَزَلَّهُمُ الشيطانُ ببعضِ ما كَسَبوا ولقد عفا عنهم ( .
وكذلك في مسألة أخذ الفداء التي تعرضنا لها في محاضرة سابقة ، أيضاً نص القرآنُ على أن الله سبحانه وتعالى سامحهم في ذلك ، فقال ( : ( لولا كتابٌ من اللهِ سَبَقَ لمسَّكُمْ فيما أَخَذْتُمْ عذاب عظيم . فكلوا مما غنِمْتُم حلالاً طيّباً واتقوا الله ..( .(4/2)
وتعلمون جميعاً قصة ماعِزٍ وقصةِ الغامدية ، وقد وقع كلٌ منهما في فاحشة الزنا ، ولكن إيمانهم جعل كلَّ واحد منهما يأتي رسولَ الله ( ويطلب منه أن يطهِّرَه من تلك المعصية ، وقد تاب كل واحد منهما توبة لو وُزِّعَتْ على أهلِ الأرضِ لوسِعَتْهُم .
ولا يعرَفُ في أهل العلم من الصحابة ورواة هذا الدين أحدٌ قد وقع في معصيةٍ عامداً وقاصداً لها تطعنُ في عدالته ، بل كلُّهم والحمد لله قد ذُكِروا بالثناء الحسن والذكر الجميل والطاعة الكاملة لهذا الدين .
وأما الخطأ والنسيان الذي لا يخلو منه بشر فهذا قد وقع ولكنه قليل .
وكما ذكرنا في السابق قد تكفَّلَ اللهُ ( بحفظ هذا الدين ، والسنة النبويةُ من الذكر الذي أنزله الله سبحانه وتعالى وتكفَّلَ بحفظه . وهؤلاءِ الصحابةِ هم رواة هذا الدين وهم حملة هذا العلم ، ولأجل هذا فإن الله سبحانه وتعالى يكشف ما قد يعتري روايات بعضهم من خطأ أو نسيان فتتبين في حفظ البعض الآخر ويظهر الصواب ولله الحمد والمنة .
ولقد جمع الإمام الزركشي كتاباً سماه ( الإجابةُ فيما استدركته عائشة على الصحابة ) بين فيه شيئاً من ذلك وهو مطبوعٌ وفيه أمثلةٌ كثيرةٌ لهذا الذي ذكرناه .
أما اقتداء الصحابة بالنبي ( فهذا أشهر من أن نحتاج أن نُدَلِّلَ عليه ، فقد وصل الأمر بصحابي مثل ابن عمر ( أنه كان يتحَرّى المكان الذي بالَ فيه النبي ( فيبولَ فيه .
وفي حديث جمعِ القرآن المشهور ؛ عندما أقْدَمَ أبو بكر الصديق ( على جمع القرآن عندما استحَرَّ القتل بالقراء يوم اليمامة وفي حروب الردة ، وهَمَّ بجمعِ القرآن استَعْظَمَ هذا الأمر جداً لأن النبي ( لم يفْعَلْه ، وأخذ يشاور في ذلك حتى شرح الله صدره . وهذا من كمال اقتدائهم برسول الله ( وخوفِهِم من أيِّ شيء مُحْدَثٍ ولو كان في مصلحةِ هذا الدينِ فإنهم يترددون ويبحثون ويتأكدون حتى لا يقعوا في أي مخالفة ولو كانت يسيرة .(4/3)
والصحابة رضي الله عنهم قد ثبت تعديلُ اللهِ لهم وثبت تعديل رسول الله ( لهم ، وثبت تعديل بعضهم لبعض ، فنتكلم عن كل فقرة من ذلك في حديث مستقلٍ الآن .
ـ أما تعديل الله سبحانه لهم فقد جاء في أكثر من موضع من كتابه ( ، ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى : ( محمدُ رسولُ اللهِ والذين مَعَهُ أَشِدّاءُ على الكُفّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُم تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغونَ فَضْلاً مِنْ َربِّهِمْ ورِضْواناً سيماهُمْ في وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلكَ مَثَلُهُمْ في التوراةِ ومثَلُهُمْ في الإنجيلِ كزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فآزَرَهُ فاسْتَغْلَظَ فاستوى على سوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرّاعَ ليغيظَ بهم الكفار ..(
فأي تعديلٍ بعد هذا التعديل ، وأيُّ مدحٍ وأي ثناء بعد ذلك الثناء ؟
لقد اتضح من تلك الآية فقط ما عليه الصحابةُ رضوان الله عليهم من هذا الالتزام بالدين ومن الحرص على عبادة الله سبحانه وتعالى وعلى رضوان الله سبحانه وتعالى ، فيا ويل من وقع فيهم وخالف تلك الآيات البينات ، فإنه لا شك هو المُزْريُّ عليه وسوف يبوء بالخسران والعذاب يوم القيامة .
وقال الله سبحانه وتعالى فيهم أيضاً : ( والسّابقون الأولون من المهاجرينَ والأنصارِ والذين اتَّبعوهمْ بإِحسانٍ رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعدَّ لهم جنات ..( ، وقال كذلك : ( لقد رضيَ اللهُ عن المؤمنينَ إذ يبايعونك تحتَ الشَّجرةِ فعَلِمَ ما في قلوبهم فأنزل السَّكينةَ عليهم وأَثابهم فتحاً قريباً ( وقال سبحانه : ( كنتُمْ خيرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ للناسِ تأْمُرونَ بالمعروف وتَنْهَوْن عن المنكرِ وتؤمنون بالله ( وقال : ( وكذلك جعلناكُم أُمَّةً وسطاً ( أي : عدولاً شهوداً على غيركم .
فهذه الآيات وما في معناها قاطعةٌ في عدالة الصحابة وفضلهم وتقدمهم في المنزلة عند الله سبحانه وتعالى .(4/4)
ـ أما تعديل رسولِ اللهِ ( لهم ، فقد ثبت في غير حديث ، ونذكر منها الحديثَ المشهورَ عندما مرَّتْ جنازةٌ برسولِ الله ( ومعه جماعةٌ من أصحابه ؛ فأثْنَوا عليها خيراً ، فقال ( : " وَجَبَتْ " ، ثم مرتْ جنازة أخرى فأثنوا عليها شراً ، فقال : " وجبت " ، فسألوه عن ذلك فقال : " أما الأول فوجبت له الجنة ، وأما الثاني فوجبت له النار ، أنتم شُهَداءُ اللهِ في الأرض " . وهذا تعديلٌ صريحٌ لهم وقبولٌ لما رَأُوْهُ وجزموا به .
كذلك من الأحاديث التي فيها تعديلٌ للصحابة قوله ( : " اللهم اغفِرْ للأنصار ولأبناء الأنصار ولأبناء أبناء الأنصار " . وهذا الاستغفار من رسول الله ( يمحو عنهم بإذن الله كلَّ ما قد ترتكبه النفسُ البشريةُ التي لا تخلو من ارتكابها شيء .
وهذه الأحاديث التي نذكرها في الصحيحين ، وهي أحاديث ثابتة والحمد لله رب العالمين .
وهناك حديثٌ عظيمٌ في فضلِ الصحابةِ رضي الله عنهم وهو أيضاً في الصحيح ، وهو قوله ( : " آية الإيمان حبُّ الأنصارِ ، وآيةُ النفاق بغضُ الأنصار " . فمن أحب الصحابة فهو مؤمن ، ومن أبغضهم فهو منافق متزندق لا يرى الجنة ولا يَرَحْ رائحتها ، لأن من طعن في الصحابة إنما يطعن في كتاب الله ( وفي سنة رسوله ( وفي الدين ككل لأنهم كما ذكرنا هم حَمَلَةُ الشريعة وهم الذين طبقوا هذا الدين . فطعْنُهُم مدخلٌ خَفِيٌّ على البعض وهو غير خفي على أهل العلم في الطعن بهذا الدين وفي تقويضه من أساسه .(4/5)
ومن الأحاديث التي وردت في فضل الصحابة وتعديلهم ، قوله ( كما في الصحيح : " الأنصار شعارٌ والناسُ دثارٌ " ، والشعار الثوب الذي يُلْبَسُ فَيَلي الجسد مباشرة ، والدثارُ هو الذي يلبس فوقه . فمعنى الحديث : قربُهُم من النبي ( والتصاقُهُم به وبهذا الدين ، وبقية الحديث يقول فيه : " الأنصارُ كَرْشي وعَيْبَتي ، لو سَلَكَ الأنصارُ شعباً وسلك الناس شعباً لسلكت شعب الأنصار ، ولولا الهجرة لكنت امرَءاً من الأنصار " ( أي : لاخترت أن أكون من الأنصار ) .
ومن ذلك قوله ( ، وهذا القول إنما قاله في بعض مسلمة الفتح ، وهم طبقةٌ كما ذكرنا من طبقات الصحابة متأخرة ، لما سبَّ أحدُهُمْ صحابياً من السابقين الأولين ، فقال النبي ( لهذا الصحابي الآخر الذي هو من مسلمة الفتح ، قال له : " لا تسبوا أصحابي ، فوالذي نفسي بيده لو أَنْفَقَ أحَدُكُم مثلَ أُحُدٍ ذهباً ما بلغَ مُدَّ أحَدِهِم ولا نَصِيفَه " ، وهذا واضح جداً في عدالة الصحابة وفي منزِلَتِهم ، فإن العملَ اليسيرَ منهم في ميزان الحسناتِ عظيمٌ جداً لما يترتب على ذلك من الخير للأمة عامة .
وفي الصحيحين وغيرهم قول النبي ( : خيرُ الناسِ قرني ، ثم الذين يلونَهُم ، ثم الذين يلونهم " . وقد تفضَّل فضيلة الدكتور عاصم القريوتي بشرح هذا الحديث باستفاضة في محاضرة سابقة وقد سمعتموه جميعاً ، وهو مسجَّلٌ كما ذكرنا ومُنَزَّلٌ في الموقع .
وسبق أن ذكرنا حديث الغَزْوِ الذي بفضلِ رؤيةِ أحد الصحابة لرسول الله ( يُفْتَحُ على المجموعة التي هو فيها أثناءَ الغَزْوِ .(4/6)
وروى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي موسى الأشعريِّ ( قولَه ( : " النُّجومُ أَمَنَةٌ للسماءِ ؛ فإذا ذهبت النجومُ أتى السماءَ ما توعَدُ " ، يعني : النجوم هي دلالة على قيام هذا الكون ، فإذا زالت النجوم عُلِمَ من ذلك أن هذا الكون قد انقضى وقد أتى وقتُ الساعة . والنبي ( يقول في بقية الحديث : " وأنا أمنة لأصحابي ؛ فإذا ذهبتُ أتي أصحابي ما يوعدون ، وأصحابي أمنة لأمتي ؛ فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون " . وهذا فيه دلالة عظيمة على ما ذكرناه من عدالة الصحابة .
ويَجْدُرُ بنا أن نشيرَ إلى حديثٍ مُشْتَهِرٍ على ألسنة الناس ويذكره البعضُ وهو حديث : " أصحابي كالنجوم بأيِّكم اقتديتم اهتديتم " ، فهذا الحديث لا يصح وقد تكلم فيه جماعة من أهل العلم وبينوا ما فيه من العللِ ، والحمد لله رب العالمين .
أما تعديل الصحابة لبعضهم البعض فهو كثير ، ونذكر هنا قولَ ابنِ مسعودٍ ( عندما قال : ( إن الله نظر في قلوب الناس فَوَجَدَ خيرها قلبَ محمد ( فاختاره واصطفاه لرسالته ، ثم نظر في قلوب الناس فوجد قلوب أصحابه خير القلوب فاختارهم لصحبة نبيه ، فما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسنُ ، وما رآه المسلمون سيئاً فهو عند الله سيِّئٌ ) ، وذلك لأن الصحابة كما ذكرنا هم شهداءُ اللهِ في الأرض ، وقد عدَّلَهم الله سبحانه وتعالى وأثنى عليهم هو ورسولُهُ ( ، وسبيلهم هو سبيل المؤمنين كما قال تعالى : (ومَنْ يُشاقِقِ الرسولَ من يعدِ ما تبيَّنَ له الهدى ويتَّبِعْ غيرَ سبيلِ المؤمنين نُوَلِّهِ ما تولّى ونُصْلِهِ جهنمَ وساءت مصيراً ( .
ومن ذلك أيضاً قول عمر ( ـ لتعلمون ما هو عمر ـ فإنه كان يقول : ( أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا ) .
وننبه في هذه العُجالةِ على مسألة مع أنها لا تحتاج لكثيرِ كلامٍ لوجود القولين عند أهل العلم فيها ، وهي مسألةُ قول ( سيدنا ) على أحدٍ من الناس .(4/7)
فقد ثبت عن النبي ( أنه قال له الصحابة : ( أنت سيدنا ) فقال : " إنما السيدُ اللهُ ، وإنما أنا عبدُ اللهِ ورسولُه " ، فقول عمر ( : ( أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا ) لم يَقُلْهُ على سبيل الملازمةِ ، فنلاحظ أننا لا يمكن أن نجد رواية قال فيها : قال سيدُنا أبو بكر ، أو قلت لسيدنا أبي بكر ، أو قال سيدنا بلال ، أو رأيت سيدنا بلالاً ، ونحو ذلك ، ولا يوجَدُ ذلك لأحد من الناس حتى ولا لرسول الله ( في كتب أهلِ العلم أو في روايات الحديث ، وإنما الكلُّ يلتزِمُ بقولِ : قال رسول الله ( ، أو حبيبنا ، أو حدثني حبيبي ، رسولُ الله ونحو ذلك احتراماً لقوله ( : " إنما السيد الله " .
وعندما قالوا له : أنت سيدنا وابن سيدنا قال : " يا أيها الناس قولوا بقولكم لا يستهوينكم الشيطان ، إنما أنا عبد الله ورسوله " .
لأجل ذلك فالأولى والأفضل أن يلتزم المسلم بهذا المنهج الذي سار عليه الصحابة وسار عليه العلماء من بعدهم .
أما لفظة السيد التي وردت في أحاديث كثيرة وفي هذا اللفظ ، فإن لكلمة السيد معانٍ عدة تذكر في موضعها الذي تفيده ، ولا يعني هذا أنها تصاحب اسم أحد ، وإنما هي لله سبحانه وتعالى ، وهذا هو الأولى .
ومعنى قول عمر هنا ( أبو بكر سيدنا ) يعني : إمامنا وأعلمنا وأفضلنا ، ( وأعتق سيدنا ) يعني : أعتق بلالاً الذي هو أفضلنا وأكرمنا ولا يضره أنه كان عبداً في يوم من الأيام .
وكذلك قوله ( : " إن ابني هذا سيد وإن الله يصلح به بين طائفتين عظيمتين من المؤمنين " ، يعني بذلك : الحسن بن علي ( ، إنما أراد به أنه إمام من الأئمة وسوف يصلح الله به الناس في إمامته ، وهذا ما حصل فعلاً .
وكذلك قوله ( للصحابة من بني سَلِمة : " من سيدكم يا بني سلِمة " ؟ قالوا : الجد بن قيس على أننا نبخله ، يعني : رجل بخيل ، قال : " وأيُّ داءٍ أدوى من البخل ؟ سيدكم البراءُ بنُ معرور " .(4/8)
وكذلك قوله ( : " قوموا لسيدكم فأنزلوه " ، يعني : سعد بن معاذ ، إنما عنى بذلك السيد الذي هو رئيس قومه .
وكما ذكرنا أنه لم يأت في رواية من الروايات أن هذه اللفظة قد صاحبت أحداً على سبيل الملازمة كلما ذكر .
هذا استطراد ولكن لا بأس به لأجل توضيح هذه المسألة الذي قد يحصل بها بعض الإشكال ، وهي مسألة سهلة إن شاء الله سبحانه وتعالى .
نرجع إلى عدالة الصحابة فنقول :
كلنا يعلم أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى ورضي عنه إنما كان على درجة كبيرة عالية جداً من الدين ومن الخير ومن الزهد في هذه الدنيا ، ومن العزوف عنها وعن شهواتها ، الأمر الذي حدا بكثير من أهل العلم أنه عده خامس الخلفاء الراشدين ، ومع شرفه وفضله ذلك ؛ قال بعض أهل العلم : ( ليوم شهده معاوية ( مع رسول الله ( خيرٌ من عمرَ وأهل بيته ) لماذا ؟
كما ذكرنا لشرف الصحبة ولفضلها ولما في ميزان أهلها من حسنات عظيمة لا تنقضي إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .
( المصنفات في فضائل الصحابة :
وقد صنف في فضل الصحابة ومناقبهم كثير من أهل العلم ، ومنهم من ضمن ذلك ضمن كتابه كما فعل البخاري رحمه الله عندما عقد باباً في مناقب الأنصار سماه ( باب مناقب الأنصار ) وذكر فيه أحاديث كثيرة في فضل الصحابة على الإجمال وفضل بعضهم على سبيل الإفراد .
وصنف في فضل الصحابة جماعة من أهل العلم ، وأفردوا ذلك في كتب خاصة ، ومن هؤلاء :
الإمام أحمد بن حنبل الذي له كتاب عظيم سماه ( فضائل الصحابة ) .
وقد اتفق أهل العلم من أهل السنة والجماعة على أن أفضل الصحابة على الإطلاق هو أبو بكر الصديق ثم عمر بن الخطاب ثم عثمان بن عفان ثم علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين ، وهذا ما دلت عليه الروايات الكثيرة عن المهاجرين والأنصار .(4/9)
وذهب بعض أهل العلم وهم قلة إلى تقديم علي على عثمان رضي الله عنهما ، وهذا القول ضعيف ، وقال الدارقطنب تعقيباً على هذه القول قولة واضحة ومدللة جداً ؛ فقال : ( من قدم علياً على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار ) وهذا أمر واضح ؛ فإن المهاجرين والأنصار لو كان علي أفضل من عثمان لما قدموا عليه عثمان ، وهم الذين لا يخافون في الله لومة لائم ، وما كانوا ليقدموا أحداً وهناك من هو أولى منه بحال من الأحوال .
وبالنسبة للنساء فإن من فضليات نساء الصحابة النبي ( أزواج النبي ( وذكرهن الله في كتابه ذكراً حسناً وقال : ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً ( ، وعائشة رضي الله عنها على وجه الخصوص قد قال فيها النبي ( : " وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام " ، وهذا كما تعلمون ثناء ومدح لها رضي الله عنها ، وهي الصديقة بنت الصديق التي نزلت براءتها من فوق سبع سماوات وجاء ذم من وقع فيها وأقيم عليهم الحد وبقي الذي تولى كبر الطعن فيها ليتلقى عذابه يوم كاملاً وهو رأس النفاق عبد الله بن أبي بن سلول .
وكذلك بنات النبي ( وأم سليم وأم حرام وأم عمارة وأم الدرداء الكبرى وغيرهن من النساء ، وقد ورد فيهن نصوص كثيرة في فضلهن وبلائهن مع النبي ( .
وأكتفي بهذا القدر من المحاضرة ونفتح باب السؤال لمن كان عنده سؤال .
وصلى الله على نبيه محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً .
( فوائد من الأسئلة :
1ـ بعض الصحابة قد يقع في شيء من المعاصي الكبيرة ، مثل ما وقع من بعض الصحابة رضي الله عنهم من التكلم في عائشة رضي الله عنها ، هل يقدح هذا في عدالتهم أم لا ؟
والجواب :
قلنا من وقع في شيء من ذلك فقد أخذ جزاءه في الدنيا مثل حسان ومسطح وحمنة رضي الله عنهم ، أما المنافق عبد الله بن أبي بن سلول فقد تركه الله تعالى ليستوفي كامل العذاب يوم القيامة .(4/10)
وتعلمون أن حسان بن ثابت وهو ممن أقيم عليه الحد في عائشة قد أثنى عليها ثناء عطراً قال فيه :
حَصانٌ رَزانٌ لا تُزَنُّ بِريبةٍ وتُصْبِحُ غَرْثى من لُحومِ الغَوائِلِ
وله أبيات كثيرة في الثناء عليها رضي الله عنها وعنهم ، وكما ذكرنا إما أن يتوب الصحابي مما وقع فيه ، والتوبة تمحو كل ذنب ولا يبقى عليه شيء والحمد لله ، ولا سيما وقد يقام عليه الحد ، والحد كفارة لصاحبه ولا يبقى شيء من الذنوب ثابتاً على أحد من الصحابة باقياً متعمداً له خاصة في أهل العلم وأولي الفضل منهم الذين نقلوا لنا هذا الدين عن نبينا صلى الله عليه وسلم .
أما أفرادهم الذين لم يُذكروا ولم يكن لهم دورٌ في نقل هذا العلم أو في الفتيا أو في تفسير كتاب الله تعالى ، فهؤلاء لا يضر إن وقع منهم أحد في شيء لأننا نريد هنا هؤلاء الذين نقلوا لنا هذا الدين لأننا نتكلم في نقل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .
2ـ ما هو الحد الأدنى في الحكم على الشخص بأنه عدل من غير الصحابة ؟
الحد هو حد واحد : إذا كان الشخص يجتنب المناهي ويأتي ما أٌمِرَ به فهو عدلٌ ، أما إذا وقع في شيء من المعاصي عامداً بذلك فهو يفسق بارتكاب تلك المعصية ويقدح ذلك في عدالته ، أما إن كان خالياً من هذا القادح فهذا هو العدل .
3ـ قول التابعي : حدثني رجل من الصحابة فيه تفصيل عند أهل العلم ، فإن كان التابعي يعلم الصحابة وقد عاصر الصحابة ويستطيع التفرقة بين الصحابي ومدعي الصحبة فقوله : حدثني رجل من الصحابة قول مقبول ، وأما إن كان من التابعين الذين ليسوا بهذه المنزلة ، فقوله يحتاج إلى تثبت ونظر ، لأنه ربما أخذ من قول رجل من الناس لا يعلم صحبته وأخذ منه قوله : قد صحبت رسول الله ولم يتحقق من عدالته .(4/11)
فمن قال من العلماء بعدم قبول قول التابعي : حدثني رجل من الصحابة ؛ فإنما عنى القسم الثاني ، ومن قال إن التابعي إذا جزم بصحبة أحد فهو مقبول وهو معدود من طرق معرفة الصحابة ، فهو إنما قصد القسم الأول .
4ـ ما يذكر في بعض الكتب من أن حسان بنَ ثابتٍ ( كان جباناً وما صحة ذلك ؟
هذه المقولة على إطلاقها ليست صحيحة ، وإنما ورد في سيرة ابن هشام بسند لا بأس به ، ومع ذلك يحتاج إلى تدقيق أكثر ؛ أن حسان بنَ ثابت ( كان حارساً على حصن من الحصون في غزوة أحد كما أذكر ، فجاء رجل من الكفار يطوف بالحصن ، فقالت له صفية رضي الله عنها : هذا رجل يطوف بالحصن انزل فاقتله ، فرفض أن ينزل وقال : لا حاجة لي في سلبه ، فنزلت فضربته بقضيب على رأسه فقتلته .
فهذا قد حمله البعض على الجبن ، وهو لا يحمل على إطلاقه لأنه قد يكون له سبب معين في عدم نزوله لقتل الرجل ولا لأخذ سلبه ، ليبقى في هذا المكان لحراسته مثلاً ويخشى أن ينزل فيقتله الرجل وهو موكل بعمل معين ، فلا يحكم على حسان بذلك ، والأمر يحتاج إلى استفاضة أكثر ، وسوف أبين ذلك إن شاء الله تعالى عندما أصل إليه في كتابي ( صحيح السيرة النبوية ) .
5ـ الصحابيان اللذان زنيا وأقيم عليهما الحد ، هل يعدان من الصحابة ويترضى عنهما ؟(4/12)
لا شك أن هؤلاء من الصحابة ؛ بل من خيرة الصحابة ، ويترضى عنهم ، ويكفي في ذلك قوله ( عن المرأة : " لقد تابت توبة لو وزعت على أهل المدينة _ أو على أهل الأرض _ لوسعتهم ، فما هو الفضل الذي يعلو ذلك الفضل ، وقد جادوا بأنفسهم في سبيل الله توبة لله . وضابط الصحبة متوفر فيهم وبدقة لأنه كما تعلمون من فعل الغامدية في إتيانها النبي ( عدة مرات تطلب منه أن يطهرها من ذلك الذنب ، وكذلك ماعز يأتي النبي ( ويكرر عليه طلبه للتوبة ؛ والنبي ( يحاول أن يثنيه عن ذلك ويوكل أمره إلى الله تعالى لعله يتوب عليه من غير إقامة الحد ، ولكن كل منهما يريد أن يلقى الله نقياً من الزلة التي وقع فيها ، وليس هناك أحد من لأهل العلم من أهل السنة والجماعة يقول غير ذلك .
6ـ هل يحكم بالتشيع على من قدم علياً على عثمان رضي الله عنهما ؟
من قدم علياً على عثمان رضي الله عنهما ، فيه تشيع يسير غير مؤثر في اعتقاده ، لأن التشيع نوعان :
تشيع بمعنى محبة علي وتفضيله على عثمان ، فهذا قد وجد في بعض السلف ، وهو لا يقدح في عقيدة الشخص بمعنى أنع يعتبر شيعياً .
وإنما التشيع المذموم هو تقديم علي على الشيخين والتدرج من تلك النقطة إلى الوقوع في الصحابة حتى وصل الأمر بهؤلاء إلى تكفير الصحابة ومنهم الشيخان وتكفير عائشة وغيرهم رضي الله عنهم .
والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه .(4/13)
(
محاضرات الدورة المفتوحة الأولى في الحديث الشريف وعلومه
المستوى الأول
محاضرات الدكتور محمد الطرهوني حفظه الله
المحاضرة الخامسة
( التعريف بالتابعين وفضلهم وطبقاتُهم (
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، ومن يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ( . أما بعد ،
فإن خير الكلام كلام الله ( وأحسن الهديِ هديُ محمد ( ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار .
تحدثنا في المحاضرة السابقة بفضل الله تعالى عن الصحابة ، وعرَّفْنا بهم وبفضلهم ، وتحدثنا عن طبقاتهم ، واليوم نتحدث عن تلاميذ الصحابة الذين نَهَلوا من علمهم ، ونقلوا لنا هذا الدين وهم أُمَنَاءُ عليه ، وهم التابعون لهم بإحسان .
والتابعون هم نقلةُ العلم من صحابة رسول الله ( على تابعي التابعين ، وهكذا حتى وصلنا هذا التابعين .
( تعريف التابعي :
التابعي عند أهل العلم هو : ( من لَقِيَ الصحابيَّ وروى عنه ) .
قال الحافظ ابنُ كثيرٍ رحمه الله : ( لم يكتفوا في التابعي بمجرد رؤيةِ الصحابي كما اكتفوا بإطلاق اسم الصحابي على من رآه ( ، والفرق عندهم شرفُ رؤيته عليه الصلاة والسلام ) . هكذا قال الحافظ ابن كثير .
ولعلَّ اعتبارَ الرؤيةِ قولٌ أقوى وأرجح ، للحديث الذي ذكرناه في تعريف الصحابي ، وهو حديث الغزو السابق الذي فيه : " يغزو فئامٌ من الناس ... فيقال لهم : هل فيكم من رأى من رأى رسول الله ( " ، فهذا الحديث العظيم اعتُبِرَ فيه رؤيةُ من رأى النبي ( ، وهو في الحقيقة مرتبطٌ بشرف رؤيتِه ( لأن من رآه شرُفَ برؤيته ؛ وكذلك من رأى من رآه فقد شرف برؤية من رأى رسول الله ( ، فاعتبار الرؤية لعله أقوى وأرجح .
ولأجل ذلك يمكن أن يدخل في تعريف التابعي : ( من رأى الصحابي وليس من روى عنه فقط ) .(5/1)
( طبقات التابعين :
أما طبقات التابعين فهي تتفاوت بتفاوت اصطلاح كل واحد من أهل العلم كما ذكرنا في طبقات الصحابة ، وقد جعلها الحاكم النيسابوري رحمه الله في ( علوم الحديث ) خمس عشرة طبقة ، وهي كالتالي :
1ـ الطبقة الأولى : التابعون الذين لحقوا العشرة المبشرين بالجنة ، وقد ذكرناهم في بيتين من الشعر في محاضرة سابقة ، وهما :
أكْرِمْ بطلحَةَ والزبيرِ وسَعْدِهِمْ …… وسعيدهِم وبعابِدِ الرَّحْمنِ
وأبي عُبَيْدَةَ ذي الديانةِ والتُّقى وامدَح جماعةَ بيعةِ الرِّضْوانِ
فهؤلاء العشرة المبشرون بالجنة اعتُبِرَ من لحِقَهم من الطبقة الأولى من طبقات التابعين .
2ـ الطبقة الثانية : طبقة تلي الأولى ، وهي طبقة مسروق والأسود بن يزيد ونحوهما.
3ـ الطبقة الثالثة : طبقة تلي هؤلاء ، وهي طبقة عامر الشعبي ومن قارنه من التابعين .
ـ ثم تَدَرَّج الحاكم رحمه الله في طبقات التابعين حتى وصل إلى آخر طبقة من طبقات التابعين ، وهي طبقة من لقي أنساً من أهل البصرة ، ونحوه ممن لقي أخر الصحابة موتاً في البلدان المختلفة .
وقد ذكرنا في قضية آخر الصحابة موتاً مذهبين لأهل العلم ، وهما :
من يقول آخر الصحابة موتاً على الإطلاق ، ومن يقول آخر من مات بالبصرة فلان ، وآخر من مات بالمدينة فلان ..وهكذا .
وهؤلاء التابعون الذين لقُوا آخرَ من مات من الصحابةِ في البلدان المختلفةِ ، هؤلاء هم الطبقة الأخيرة من طبقات التابعين .
( ملاحظات :
أ ـ في الطبقة الأولى من التابعين ، طبقةٌ تسمى طبقة المخضرَمين .
والتابعي المخضرم هو : من أدركَ الجاهليةَ والإسلامَ ولم تكتب له الصحبة . بمعنى : أنهم لم يُكْتَبْ لهم الالتقاءُ بالنبي ( ، وهؤلاء مثل أبي عثمانَ النهدي ، وأبي رجاءَ العُطارِدِي ، وعمروِ بنِ ميمونٍ . فهؤلاء ممن أدرك الجاهلية والإسلام ولم يكتب لهم لقاء النبي ( .(5/2)
ب ـ هناك من التابعين من وُلِدَ في عهد النبي ( ولم تُكْتَبْ له رؤيةٌ . فبعضُ الأطفال الذين ولِدوا في عهد رسول الله ( كتب الله لهم رؤية النبي ( وحتى الصغار جداً منهم ، فبعضهم أُتِيَ به إلى الرسول ( ، ومنهم من ولِدَ في عهده ( ولم يكتب لهم شيء من ذلك ، منهم يوسف بن عبد الله بن سلام الحبر المعروف الذي أسلم ونزلت فيه آية من كتاب الله تعالى ، ويوسف هذا ولده .
( تقسيم آخر لطبقات التابعين :
قَسَّمَ ابنُ سعدٍ في كتابه ( الطبقات ) التابعين تقسيماً آخر غير التقسيم الذي قسمه الحاكم ، فجعل التابعين أولاً حسب البلدان التي نزلوها فبدأ بالكوفيين ثم البصريين ثم هكذا ..
فقسم أولاً حسب بلدانهم ، ثم جعل كلَّ منطقةٍ طبقات ، فجعل الطبقةَ الأولى من روى عن أبي بكرٍ وعمرَ ، ثم قسم هؤلاء إلى أقسام فذكر مثلاً من روى عن عمرَ وابنِ مسعودٍ ولم يروِ عن عمرَ وعلي ، ثم من روى عن عمر ولم يروِ عن علي ، ثم من روى عن علي ...وهكذا حتى انتهى من كل منطقة .
وعلى أيٍّ ، فهي مسألة وجهات نظر كما ذكرنا ، لأن ذلك من باب الاصطلاح ..
( تقسيم آخر :
وأما الحافظ ابن حجرَ فقد قَسَّمَهم في ( تقريب التهذيب ) إلى تقسيم آخر :
1ـ الطبقة الأولى : وهي طبقة كبار التابعين كابن المسيِّب ونحوه ، وأدرج في هذه الطبقة المخضرمين .
2ـ الطبقة الثانية : سماها الطبقى الوسطى من التابعين ، وجعل فيها الحسن البصري وابن سيرين ومن شابههم .
3ـ الطبقة الثالثة : طبقة تلي هؤلاء ، وهم الذين أكثر روايتهم عن كبار التابعين وليست عن الصحابة ، وهؤلاء أمثال الزهري وقتادة .
4ـ الطبقة الرابعة : وهي الطبقة الصغرى من التابعين ، وهم الذين رَأَوْا الواحد والاثنين من الصحابة ولم يثبت لبعضهم سماع منهم كالأعمش ونحوه .(5/3)
5ـ الطبقة الخامسة : وهي آخرُ طبقةٍ عنده من طبقاتِ التابعين ، وهي طبقةٌ عاصرتْ الطبقة التي سبقتها ولكن لم يثبت لهم لقاءَ أحدٍ من الصحابة ، وهؤلاء أمثال ابن جريج ونحوه .
وهذا التقسيم تقسيمٌ مختصرٌ وجيد ، ويكفينا في معرفة طبقات التابعين رحمهم الله .
( فائدة معرفة التابعين وطبقاتهم :
معرفة التابعين وطبقاتهم هامَّةٌ جداً ، لأنه من غفل عنها لم يستطع أن يفرق بين الصحابة والتابعين ، وبالتالي لا يستطيع أن يفرق أيضاً بين التابعين وأتباع التابعين .
والتفرقة بين الصحابة والتابعين وبين التابعين وأتباع التابعين هامة جداً لمعرفة اتصال الإسناد وعدمِ اتصاله ، وبالتالي معرفة صحة الحديث من عدم صحته .
( فضل التابعين واقتداؤهم بالنبي ( :
قال الله تعالى : ( والسابقون الأولون من المهاجرينَ والأنصارِ والذينَ اتَّبعوهم بإحسانٍ رضيَ اللهُ عنهم ورضوا عنه وأعدَّ لهم جنات ..( ، فذكر الله جل في علاه التابعين بإحسان بالذكر الحسن وأنه قد رضي عنهم ورضوا عنه .. .
وقد قال النبي ( في الحديث الذي سبق شرحه من فضيلة الدكتور عاصم القريوتي : " خيرُ الناسِ قرني ثم الذين يلونهم .." ، كما ذكرنا قبل قليل حديث اعتبار الرؤية في فضل التابعين حيث فتح للمسلمين بمجرد وجود تابعي فيهم ، وهذا فضل كبير وشرف عظيم .
والتابعون هم تلاميذ الصحابة الذين نهلوا من علمهم واقتداؤهم بالنبي ( مشهور ومعروف لهم ، ولهم مواقف كثيرة قد أفاض في ذكرها الحافظ أبو نعيم في كتابه ( حلية الأولياء ) ، وللزهري رحمه الله _ وهو كما ذكرنا من التابعين _ قولةٌ عظيمة رواها البخاري في صحيحه ، وهي منهجٌ ينبغي _ بل يجب _ على كل مسلم أن يرتسمه في حياته ، فهو يقول : ( من الله الرسالة ، ومن الرسول البلاغ ، وعلينا التسليم ) ، فهذه القولة منه رحمه الله قولة عظيمة لا بد أن ننصبها نصب أعيننا في تعاملنا مع أوامر الله ورسوله ( .(5/4)
وفي فضل التابعين جملة طيبة قالها ابنُ أبي حاتم في مقدمة ( الجرح والتعديل ) فبعد أن ذكر الصحابة وفضلهم قال : فخلف بعدهم التابعون الذين اختارهم الله ( لإقامة دينه وخصهم بحفظ فرائضه وحدوده وأمره ونهيه وأحكامه وسنن رسوله ( ، فحفظوا عن صحابة رسول الله ( ما نشروه وبثوه من الأحكام والسنن والآثار وسائر ما وصفنا الصحابة به رضي الله عنهم فاتقنوه وعلَّموه وفقهوا فيه ، وكانوا من الإسلام والدين ومراعاة أمر الله تعالى بحيث وضعهم الله ( ونصبهم له إذ يقول ( : ( والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه .. ( فصاروا برضوان الله ( لهم وجميل ما اثنى عليهم بالمنزلة التي نزههم الله ( عن أن يلحقهم مَغْمَزٌ أو تلحقهم وصمة ................................ولأنهم البررة الأنصار الذين ندبهم الله ( لإثبات دينه وإقامة سننه وسبله .
وهذه الكلمات من ابن أبي حاتم كلمات عظيمة تدلل على شرف التابعين وفضلهم .
( أفضل التابعين :
أفضل التابعين سعيد بن المسيب ، وقيل : الحسن البصري ، وقيل غير ذلك .
هذا الذي ذكره كثير من أهل العلم ، ولكن الذي ثبت في الحديث المرفوع أنه أويس القرني ، وهو أولى ما يذهب إليه لثبوت ذلك في حديث صحيح مرفوع أخرجه الإمام مسلم في صحيحه ، نسوقه الآن حتى يتبين ما ذكرناه :(5/5)
فعن أسيد بن جابر رحمه الله قال : كان عمر بن الخطاب إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن ( وأمداد أهل اليمن : هم الجماعة من الرجال الذين يمدون جيوش الإسلام في الغزو ، واحدهم : مدد ) سألهم : أفيكم أويس بن عامر ؟ حتى أتى على أويس فقال : أنت أويس بن عامر ؟ قال : نعم ، قال : من مراد ثم من قرن ؟ ( ذكر قبيلته وما تفرع منها ) قال : نعم ، قال : فكان بك برص فبرأت منه إلا موضع درهم ؟ ( والبرص مرض معروف في الجلد يبيض الجلد ، وموضع الدرهم أي موضع صغير قدر الدرهم ) قال : نعم ، قال : لك والدة ؟ قال : نعم ، قال : سمعت رسول الله ( يقول : " يأتي عليكم أويس بن عامر ، من أمداد أهل اليمن ، من مراد ثم من قرن ، كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم ، له والدة هو بها بَرٌّ ، لو أقسم على الله لأبره ، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل " ، فاستغفر لي ( يعني طلب منه عمر أن يستغفر له) فاستغفر له ، فقال له عمر : أين تريد ؟ قال : الكوفة ، قال : الا أكتب لك إلى عاملها ؟ قال : أكون في غبراء الناس أحب إلي . ( يعني : لا يريد الشهرة والظهور في الناس ، وإنما يريد أن يكون في ضعفائهم وصعاليكهم الذين لا يؤبه لهم ) ، قال : فلما كان من العام المقبل حج رجلٌ من أشرافهم فوافق عمر فسأله عنه عمر ، قال : تركته رث البيت قليل المتاع ( يعني : ما عنده شيء وفي ضيق من العيش ) قال : سمعت رسول الله ( يقول : يأتي عليكم أويس بن عامر ..ثم ذكر الحديث . فأتى الرجل إلى أويس فقال : استغفر لي ، قال : انت أحدث عهداً بسفر صالح ( يعني قال له أويس ذلك ، والمسافرله دعوة مستجابة ) فقال له : استغفر لي ، ( يعني : الح عليه ) فقال له مثل ما قال ، وفي النهاية قال له أويس : لقيت عمر ؟ قال : نعم ، فعرف أن الرجل عرف الحديث ، قال : فاستغفر له ، وبدأ الناس يعلمون به وفطنوا له ، فانطلق على وجهه ( يعني : تركهم وانطلق إلى مكان آخر حتى لا يعرفه الناس الذين هم فيه ) قال(5/6)
أسيد : وكسوته بردة ( يعني : أعطاه لباساً جيداً ) فكان كلما رآه إنسان قال : من أين لأويس هذه البردة ؟ ( يعني : كان لا يأبه لمثل هذه الأمور ، وكان رجلاً قانعاً بالشيء اليسير من الدنيا ) .
فهذا أويس بن عامر ، وقد وردت ألفاظ مختصرة لهذا الحديث تدلل على أنه هو خير التابعين ، وهذا النص أولى من الاجتهاد الذي اجتهده بعض أهل العلم .
ومن سادات التابعين ما يعبر عنهم أهل العلم بالفقهاء السبعة ، وهم فقهاء المدينة الذين كان بعض أهل العلم لا يخالف قولاً اجتمعوا عليه ، وهؤلاء الفقهاء السبعة هم :
ـ سعيد بن المسيب ، وهو ابن المسيب بن حَزْنٍ ، وجده حزن هو الذي لقي النبي ( فأراد رسول الله ( أن يغير اسمه من حزن إلى سهل ، فقال : لا أغير اسماً سمانيه أبي ، قال ولده : فما زالت الحزونة فينا بعد ( والحزونة : الصعوبة . والحزن : ضد السهل ) ، وذلك لعدم استجابته لما أراده النبي ( فخسر بذلك تلك البركة العظيمة ، وهذا مما تميز به بعض الأعراب وبعض العرب من الغلظة .
ـ القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق .
ـ عروة بن الزبير بن العوام .
ـ سليمان بن يسار .
ـ خارجة بن زيد .
ـ عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود .
ـ سالم بن عبد الله بن عمر ، وقيل غيره (مثل أبي بكر بن عبد الرحمن ورجحه الذهبي وقال الناظم :
إذا قيلَ من في العلمِ سبعةُ أَبْحُرٍ روايتُهُم في العلمِ ليسَتْ خَارِجَةْ
فقل هم عبيد الله عروة قاسم سعيد أبو بكر سليمان خارجه) (إضافة)
هؤلاء هم السبعة الفقهاء بالمدينة المنورة .
ومن كبار التابعين وساداتِهم أيضاً : ابنُ سيرين ، وطاووس ، وعلقمة ، وجماعة كبيرة غيرهم .
ومنهم أئمةٌ في التفسير على وجهِ الخصوصِ كمجاهدٍ ، وقد كان تلميذاً لابن عباس رضي الله عنهما ، وقد عرض عليه القرآن ثلاث مرات يوقفه عند كل آية فيسأل ابن عباس عن هذه الآية وفيم نزلت ومعناها .(5/7)
ومنهم سعيد بن جبير ، وعكرمة ، وهم تلاميذ ابن عباس المقربين الذين رووا عنه التفسير ، وكانوا أئمة لا يشق لهم غبار كما يقال في تفسير كتاب الله تعالى .
وكذلك من المفسرين من التابعين : قتادة بن دعامة السدوسي ، والحسن البصري ، وأبو مالك ، ومرة الهمداني ، وعامر الشعبي ، وغيرهم .
كما كان منهم أئمة هم العمدة في سيرة رسول الله ( ، وعلى رأسهم إمام المغازي عروة بن الزبير بن العوام ، وتلميذه الزهري ، وكذا محمد بن كعب القرظي رحمهم الله جميعاً .
وكذلك برز جماعة في إقراء القرآن ، منهم : زر بن حبيش ، وأبي عبد الرحمن السلمي ، ونافع بن أبي نعيم القارئ وجماعة كبيرة .
أما النساء فكان من سيدات نسائهم : حفصة بنت سيرين ، وهي : أخت أنس بن سيرين ، ومعبد بن سيرين ، ومحمد بن سيرين .
وحفصة رحمها الله وكانت تسمى أم الهذيل ، قد قرأت القرآن وهي بنت اثنتي عشرة سنة ، ومن أقوالها العظيمة التي هي نبراسٌ لكل امرأة مؤمنة تريد الله سبحانه وتعالى ، كانت تقول : ما كنا نكلم أزواجنا إلا كما تخاطبون أمراءكم .
ومنهم أيضاً عمرة بنتُ عبد الرحمن ، وكانت يتيمةٍ في حجر عائشة رضي الله عنها ، وتربَّتْ تحت ظِلِّها ، وكانت من أعلم الناس بحديثها .
ومنهم أيضاً أم الدرداء الصغرى ، وقد ذكرنا الكبرى في الصحابة ، وكلتاهما كانت زوجة لأبي الدرداء ( ، وأم الدرداء الكبرى اسمها خولة بنت أبي حدرد وهي صحابية كما ذكرنا .
وأم الدرداء الصغرى تابعية اسمها هجينة أو جهينة بنت حيي الوصابية ، وكانت يتيمة في حجر أبي الدرداء يربيها ، حتى إنه كان يأخذها معه في صفوف الرجال تصلي بينهم في بُرْنُسٍ ، وتجلس في حِلَقِ القراء ، إلى أن بدأ يظهر عليها علامات ما يقارب البلوغ ، فقال لها أبو الدرداء : الحقي بصفوف النساء . يعني : بلغت كما يقول أهل العلم سن ( ) ويعتبرونه التاسعة ، وبعضهم يرى أصغر من ذلك .(5/8)
فأبو الدرداء لما كبرت قليلاً البنت فَصَلَها عن أماكنِ الرجال ، ثم بعد ذلك أراد الله ( أن يتزوجها .
هذا ما أردت الحديث عنه حول التابعين وفضلهم ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .(5/9)
(
محاضرات الدورة المفتوحة الأولى في الحديث الشريف وعلومه
المستوى الأول
محاضرات الدكتور محمد طرهوني حفظه الله
المحاضرة السادسة
( تثبت الصحابة والتابعين واحتياطهم قبول الحديث واحتياطهم في الرواية (
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، ومن يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ( . أما بعد ،
فإن خير الكلام كلام الله ( وأحسن الهديِ هديُ محمد ( ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار .
نتحدث الليلة بإذن الله وتوفيقه عن احتياط الصحابة والتابعين في رواية الحديث ، وكذا تثبتهم في قبولهم للرواة .
فلقد كان الصحابة رضوان الله تعالى عليهم والتابعون رحمهم الله تعالى في القمة في هذا المجال ، فلم يكن أحد منهم يرضى أن يحدث عن رسول الله ( إلا بما ثبت عنده وتأكد من أن النبي ( قد قاله ، ويجزم بذلك في قرارة نفسه .
وكذلك لم يكونوا ليحدثوا عن كل أحد ينقل لهم حديثاً عن رسول الله ( ، وإنما كانوا يتثبتون تثبتاً في أعلى الدرجات حتى إذا نقلوا هذه الأحاديث لم ينقلوها إلا وهم في ثقة تامة من صحة ما نقلوه . لأن هذا هو دينهم الذي ائتمنوا عليه وكانوا هم نقلته إلى أمتنا الإسلامية .
( تحرج الصحابة واحتياطهم في رواية الحديث :(6/1)
كان ابن مسعود _ وهو من تعرفون _ الذي كان يدخل على النبي ( بلا إذن ، وكان النبي ( يقول له : " إذنك أن تسمع ......... حتى أنهاك " ، وكان هو وأمه يدخلون على النبي ( ويجلسون عنده حتى يظن الظان أنهم من أهل بيته . كان إذا روى عن رسول الله ( ارتعد ( أي : أخذته الرجفة ) وكان يقول بعد أن يذكر الحديث : أو نحواً من ذا ، أو قريباً من ذا ، أو فوق ذا ، أو دون ذا ، فكان يخشى من أن يكون قد أخطأ في شيء من اللفظ أو لم يسقه بدقة كما هو لفظه ( ، ولأجل هذا كان يتحرج ويقول : أو نحواً من ذا .. إلخ ، حتى يبرئ نفسه من القول على رسول الله ما لم يقل ، وإن كان المعنى هو نفسه المعنى الذي قاله رسول الله ( .
أما أنس وتعلمون ما أنس الذي خادم النبي ( ، وكان ملازماً له ، ويعتبر تربى في بيته ( حيث أن أمه أتت به النبي ( أول ما قدم المدينة وهو ابن عشر سنين ، فخدم رسول الله ( عشر سنوات ملازماً له ، فقد كان مع هذا القرب إذا حدث عن النبي ( يتبع حديثه بقوله : أو كما قال .
وتلاحظون أن هذه الكلمة يُكْثِرُ منها الناسُ ، وهذا لا بأسَ به حتى يبرأ الإنسان من كون الألفاظ ليست هي نفس الألفاظ وإنما هو المعنى .
فكان أنس على حفظه وضبطه _ وتعلمون حفظ العرب _ وقربه من رسول الله( يستخدم هذه اللفظة ( أو كما قال ) إذا انتهى من الحديث حذراً من الوهم أو عدم ضبط اللفظ عن رسول الله (.
وعبد الله بن الزبير بن العوام أتى إلى أبيه الزبير فقال : يا أبت إني لا أسمعك تحدث عن رسول الله ( كما يحدث فلان وفلان ، فقال : أما إني لم أفارقه ، ولكني سمعته يقول : " من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار " .
وهذا الحديث قد ذكرنا أنه مثال للحديث المتواتر الذي تواتر نقله عن جمع كبير من الصحابة ، وما زل يُنْقَل بصورة المتواتر في جميع الطبقات .(6/2)
وهذا الحديث كان سبباً في تحرج الزبير بن العوام من الإكثار من الحديث عن رسول الله ( خشية أن يقع في غلط أو كلمة لم يقلها رسول الله ( فيخشى أن يندرج في هذا اللفظ .
وزيد بن أرقم كان يقول له الناس : حدثنا ، فيقول : كبرنا ونسينا ، والحديث عن رسول الله ( شديد .
وهذا منهم رضي الله عنهم نوع من التواضع في الحقيقة ، وليس هو من باب الكبر أو النسيان ، وإن كان كبر الشخص وتطرق النسيان إليه بلا شك مدعاة إلى حصول الخطأ والوهم ، ولكن هذا التحجج منهم إنما كان من باب الورع والاحتياط والخوف من الوقوع في المحظور .
( تحرج التابعين واحتياطهم في رواية الحديث :
كان القاسم بن عبيد الله وهو من هو يُسأل فلا يجيب ، فيقال له : إنه قبيح على مثلك ( يعني : كيف أنت مع ما أنت فيه من العلم والمنزلة تسأل فلا تجيب ، فهذا يقبح أن يصدر من مثلك ) ، فيقول : أقبح من ذلك أن أقول بغير علم ، وآخذ عن غير ثقة .
فالقول بغير علم لم يكن منهج السلف ، وإنما هو الخلوف التي خلفتهم ، وتلاحظون أن كثيراً من الناس يتشدقون بما لا يعرفون ، وقد قال ( : " المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور " ، فهؤلاء قد جمعوا بين الأمرين : بين الجهل وبين القول على الله بما لا يعرفون .
وقد روي نحو هذا القول عن ابن عمر أيضاً .
وكان سليمان التيمي ، وهو من جهابذة التابعين ورواة السيرة ، كان إذا حدث بالحديث عن النبي ( تغير وجهه ، وهذا من شدة الخوف وشدة الوجل أن يقول على النبي ( ما لم يقل . وهذا أيضاً فيه احترام وتقدير للحديث عن رسول الله ( ، والحديث عنه كما قال زيد بن أرقم شديد .
وذلك لأن الكلمة من رسول الله ( دينٌ يأخذه الآخر عن الأول ويدين به الناس ربهم ، فالكلام فيه ليس كالكلام في أي شيء آخر ، وإنما هو كلام عظيم من تساهل فيه وأدخل فيه ما ليس منه فقد تحمل إثماً عظيماً من كل من عمل بما قال وهو في الحقيقة ليس من الدين(6/3)
ونلاحظ أن كثيراً من الصحابة رضي الله عنهم والتابعين من كان مقلاً جداً في الرواية ، يعني : إذا بحثنا عن الأحاديث التي رواها نجدها أحاديث قليلة مع توفر الدواعي من طول صحبة ونحو ذلك .
ولكن لم يكثر إلا أهل الحفظ منهم الذين تأكدوا من حفظهم وتثبتوا بما سمعوه ، أو من كان منهم ذا كتاب يكتب عن النبي ( فكان يتأكد من ضبط صدره بضبط كتابه ، أو من كان من النوعية التي لها خاصية
مثل أبى هريرة الذي كما ذكرنا أكرمه الله ( بكرامة الحفظ كما في قصة الرداء الذي ذكرناه قبل وغير ذلك من المزايا التي تميز بها فكان أكثر الصحابة حديثاً كما تكلمنا قبل ذلك .
هذا بالنسبة لتثبت الصحابة والتابعين في رواية الحديث ، وأما تثبتهم في قبول الحديث من غيرهم فهو ما نذكره أيضاً على وجه الاختصار والإجمال كما ذكرنا القسم السابق ، فنقول :
( تثبت الصحابة والتابعين في قبول الحديث من غيرهم :
التزم الصحابة والتابعون بالتثبت في قبول الحديث ، ملتزمين بذلك أمر النبي ( وتوجيهه :
فعن أبي هريرة ( عن النبي ( أنه قال : " سيكون في أمتي أناس يحدثونكم بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم ، فإياكم وإياهم " . وهذا الحديث رواه الإمام مسلم في صحيحه ، وقد حذر فيه النبي ( ممن يحدث بالغرائب ومما لا أصل له ولا صحة في الدين ، وحذر أن يأخذ الإنسان من هؤلاء ، فالتزم بذلك الصحابة والتابعون فلم يقبلوا من الروايات إلا ما تأكدوا من صدق صاحبه وتثبتوا منه .(6/4)
وقال أيضاً رسول الله ( فيما رواه مسلم عنه : " كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما سمع " ، لأنه إذا تحدث الإنسان بكل ما سمع لا شك أنه سيقع في الكذب ، لأن هناك من يحدثه كذباً وهناك من يحدثه صدقاً . ونحن يجب علينا أن نلتزم هذا المنهج ، وإذا كان الصحابة رضي الله عنهم وتابعوهم الذين هم أولوا العلم والفضل وكانوا في القرون المفضلة ، ومع ذلك كانوا يتثبتون فلا يقبلون من الأخبار إلا ما تأكدوا من صحته ومن ثبوته ، ولا يأخذون من كل أحد ، فنحن أولى وأحرى أن نتثبت في كل ما نسمع فلا نقبل العلم إلا من أهله ومن يوثق فيه ويعرف بالنقل الصحيح والتثبت في الاستدلال وفي نقل الروايات .
وأما هؤلاء الذين كلما تكلم أحدهم ذكر رواية ضعيفة أو قصة باطلة أو أخذ من الأشياء غرائبها ليجذب الناس بالحديث المعسول ويظن أن في ذلك خيراً لهم . فهذا خطأ واضح ولا ينبغي أن يؤخذ من أمثال هؤلاء لئلا يختلط الطريق الصحيح بالطريق الباطل .
وهناك حديث عجيب أيضاً رواه مسلم في مقدمة صحيحه عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، وهو يعتبر من قبيل الحديث المرفوع كما لو قال : قال رسول الله ( لأنه لا يقال من جهة الرأي .
يقول عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما : " إن الشيطان ليتمثل بصورة الرجل فيأتي القوم فيحدثهم بالحديث من الكذب فيتفرقون ؛ فيقول الرجل منهم : سمعت رجلاً أعرف وجهه ولا أدري ما اسمه يحدث " .
هذا الحديث العجيب فيه تحذير من قبول رواية المجاهيل ، فليست العبرة بأن يسمع الإنسان شخصاً فينقل عنه ولا يدري من هذا الشخص وماذا نقل عنه .(6/5)
ونحن دائماً ننصح ونقول : لا بد للمسلم إذا روى حديثاً أو مسألة فقهية عن أحد من أهل العلم أن يعلم القائل ، وأن يكون على علم بمنزلته العلمية ، ولا يكون تمسكه بهذا القول أو نحوه عن ميل هوى أو توجه معين ، وإنما لا بد أن يكون مبنياً على معرفة بهذا الشخص وبعلمه وفضله ، وبشهادة أهل العلم له بذلك حتى نتجنب هؤلاء الذين اعتبروا من الداخلين فيما لا يحسنون في مثل هذه العلوم .
وحديث ابن عمرو واضح في عدم قبول رواية المجاهيل لأن الشيطان كما ذكر يمكن أن يتمثل في صورة الإنسان كما يتمثل في صور بعض الدواب ، وهذا أمر مشهور في الأحاديث الصحيحة ، ومنها حديث زكاة رمضان وما حصل فيها من أخذ الجني عنها كما رواه البخاري في صحيحه ، وغير ذلك من الأحاديث الواردة عن أبي بن كعب ومعاذ بن جبل في تمثل الشيطان ببعض الدواب ، ولا نطيل في هذه المسألة فهي من المسائل المعروفة والتي عليها أهل السنة والجماعة .
فإذا تمثل الشيطان في صورة رجل وأتى القوم وحدثهم ؛ فيتفرق الجهلة منهم وينقلون هذا الكلام على أنه من الدين ويأخذه أيضاً من لا علم لديه وممن لا تَثَبُّتَ له في قبول الرواية .
فهكذا كان الصحابة يحذرون ويوجهون الناس ، وتلاحظون في زماننا كثيراً من طلبة العلم وللأسف يقول : سمعت هذه الفتوى من أحد من المشايخ أو سمعت هذا الحديث من خطيب على المنبر يوم الجمعة ولا يدري من المتحدث ولا منزلته العلمية ، فإذا به يحتج بكل ما ذكر ، وهذا باطل ، فلا بد أن يتثبت في هذا النقل وأن يتأكد من أن القائل من أهل العلم المعتبرين .
ولا بد أن يرجع هذا العلم إلى مصادره الأساسية حتى يلزم الناس به ، ويستطيع غيره أن يأخذ بقوله .
وهذه قصة أخرى أيضاً حدثت من ابن عباس ( فقد جاء رجل فجعل يحدثه عن رسول الله ( وابن عباس لا يأذن لحديثه ولا ينظر إليه ، يعني : غير مكترث ولا منصت لروايته .(6/6)
فقال له الرجل : يا ابن عباس مالي أراك لا تسمع لحديثي ؟ أحدثك عن رسول الله ( ولا تسمع ، فقال ابن عباس : إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلاً يقول : قال رسول الله ( ابتدرته أبصارنا وأصغينا إليه بآذاننا ، فلما ركب الناس الصعب والذلول لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف .
فسبحان الله ! هذا في عصر الصحابة رضي الله عنهم ، فماذا نقول نحن الآن ؟
إن ابن عباس لم يلتفت لهذا الرجل لأنه لا يثق في روايته وفي قوله ، ولا يعتبره حتى يأخذ منه دينه ، وصرح له بالسبب الذي جعله لا ينصت له ولا يسمع فقال ما معناه : إنه في وقت من الأوقات وهو الوقت الذي لم يدخل في الإسلام من لم يعرفه جيداً ولم ينشأ الذي يتقول على رسول الله ( ما لم يقل أو الذي يأخذ عن كل ما هب ودب من غير أن يتثبت ، فكان ابن عباس يسمع ممن يروي عن رسول الله ( ويبتدره بصره ، يعني : يتنبه إليه بشدة ويلتفت إليه ويصغي إلى ما يرويه حرصاً على نقل الدين وحفظه ، وأما بعدما تساهل الناس وحصل ما حصل وهو ما عبر عنه بقوله ( ركب الناس الصعب والذلول ) ، يعني : لم يتحرجوا في شيء من الرواية وإنما أخذوا عن كل ما هب ودب ، قال ابن عباس : لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف .
والذلول : الناقة التي تتخذ للسفر والانتقال ، وهي مذللة طائعة .
والصعب : الناقة أو الجمل الذي يصعب ركوبه ولا يصلح للسفر والانتقال عليه ، وهذا التعبير يراد به أنه لا فرق عندهم بين الطيب والخبيث ، ولأجل هذا لم يأخذ من الناس إلا ما يعرف ، يعني : يعرف صدق صاحبه ويعرف صحة روايته .
ـ وننتقل إلى التابعين ، فنجد أن ابن سيرين ثبت عنه قولة عظيمة دائماً يذكرها أهل العلم لأنها كلمة جامعة ، وهي قوله رحمه الله : ( إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم ) .(6/7)
فلا يظن الإنسان أن هذا العلم من باب الترف أو من التزيد ، وإنما هو دينه الذي سوف يلقى الله تعالى عليه ويتقرب إلى الله أخذاً بما فيه ، فلا بد أن ينظر عمن يأخذ هذا الدين .
وإن الإنسان إذا أراد شيئاً من متاع الدنيا يسأل عنه القريب والبعيد والقاصي والداني حتى يتوصل إلى أفضل شيء في هذا المطلوب ، فكيف بدينه الذي هو رأس ماله والذي هو أساس حياته الدنيوية والأخروية .
وقال طاووس : إن كان صاحبك ملياً فخذ عنه ، أي : لا تأخذ عمن قلَّ علمه ولم يكن من الممحصين المتقنين ، وإنما لا بد أن تأخذ عن الملي ، وهو الممتلئ علماً الذي ضبط ما يقول وأتقنه فهذا الذي تأخذ عنه الدين .
وكان أبو الزناد يقول : ( أدركت بالمدينة مائة كلهم مأمونون ما يؤخذ عنهم الحديث ، يقال : ليس من أهله ) .
وهذه مسألة دقيقة وهي : أنه ليس معنى أن لا نأخذ الحديث من فلان أو لا تأخذ الرواية من فلان أنه إنسان مطعون في دينه أو مشكوك في صدقه وفي خلقه فهذا غير مراد ، وإنما الرواية تؤخذ من الحافظ الضابط بغض النظر عن مسألة كونه صاحب تدين وزهد وعبادة ، بل لا بد من حصول الأمرين :
الحفظ والاتقان ، وكذلك الدين . أما الدين فقط فلا يكفي في قبول الرواية من صاحبها
وهذه مسألة كما قلت مهمة ، فإن بعض أهل العلم على دينه وصلاحه كان من أوهى الناس في الرواية ، وبعضهم كان قد برَّزَ في جانب معين من العلوم ؛ ومع ذلك فلا يقبل روايته في الحديث .
وأضرب مثالاً على ذلك : الإمام حفص بن سليمان ، الإمام القارئ الذي أخذت الأمة قراءته وانتشرت قراءته في بلاد المسلمين منذ زمن طويل ، فحفص بن سليمان مع أنه من أتقن الناس لقراءة القرآن إلا أنه من المتروكين في الحديث لأنه انشغل بفنه الذي هو فيه عن ضبط الروايات التي وردت عن رسول الله ( فدخل عليه الخطأ والوهم وأصبح لا يضبط هذه الروايات ، ولأجل ذلك تركه أهل العلم ولم يؤثر ذلك على قبول قراءته .(6/8)
وكذلك من القراء الإمام البزي الذي يروي عن ابن كثير قارئ مكة ، فهو مثل حفص بن سليمان أيضاً .
وهناك مجموعة من العباد والزهاد مثل يزيد الرقاشي وصالح المري ومجموعة . فهؤلاء على دينهم وعبادتهم وتزهدهم كانوا ضعفاء في الرواية ، ولأجل ذلك قلنا : ليس هناك تلازم بين دين الشخص وبين ضعفه في الحديث .
وقال أبو العالية : كنت أرحل إلى الرجل مسيرة أيام ، ( وهذا من سلوك السلف رحمهم الله أنهم كما ذكرنا كانوا يرحلون في طلب الحديث فكان أبو العالية يرحل في طلب حديث من راويه مسيرة أيام ليسمع منه ) ، فأول شيء يتفقده من الرجل صلاته ، يقول : ( فأول شيء أتفقد منه صلاته ، فإن أجده يقيمها أقمت وأخذت منه ، وإن وجدته يضيعها تركته وقلت :هو لغير الصلاة أضيع ) .
فهذا من أبي العالية رحمه الله درس لنا أيضاً أن لا نقبل ممن ظهر منه أعمال فسق أو تفريط في أمور الدين أن لا نقبل منه الدين وخاصة في أمر الصلاة إن كان الرجل لا يحسنها ولا يوليها اهتماماً فهو كما قال أبو العالية لما سواها أضيع .
وكذلك من كان متظاهراً بفسق ومعصية لله سبحانه وتعالى ، فهو حقيق أن لا نقبل منه شيئاً من ديننا ، وإنما نقبل ممن ظهر منه لنا عدله ونوكل سره إلى الله سبحانه وتعالى .
وبلغ من شدة تثبت الصحابة في قبول الحديث أن بعضهم كان يطلب ممن يروي له حديثاً من يشهد له على هذا الحديث .
فقد طلب أبو بكر الصديق راوياً آخر غير المغيرة بن شعبة عندما روى له حديث ميراث الجدة ، فأبو بكر الصديق عندما سأل الصحابة من يعرف ما حكم به رسول الله ( في ميراث الجدة ، فروى له المغيرة بن شعبة في ذلك أن النبي (أعطاها السدس ، فطلب منه أبو بكر رجلاً آخر سمع ذلك من حديث رسول الله ( .(6/9)
وهكذا عمر ( عندما سمع حديث الاستئذان من أبي موسى الأشعري فقال له : من سمع ذلك غيرك ؟ فأتى أبو موسى إلى جمع من الصحابة وطلب منهم من يشهد له بأنه سمع ذلك أيضاً من رسول الله ( فقالوا له : والله لا يخرج معك إلا أصغرنا ، فقام معه أبو سعيد الخدري وشهد له .
وكذلك كان علي إذا حدثه الشخص حديثاً استحلفه على هذا الحديث هل سمعه من رسول الله ( حقيقة وصدقاً أم لا ؟
ولم يكن ذلك منهم على سبيل الشرط في قبول الرواية ، وإنما كان من باب الاحتياط والتزيد في التثبت ، ولم يكن ذلك منهم إلا فيما يستغربونه فقط من أحاديث لأنهم ثبت قبولهم في معظم الأحاديث التي سمعوها بدون هذا الأسلوب وبدون هذا التثبت الزائد ، ولكن نحن ذكرنا هذه الحوادث القليلة النادرة لكي ندلل على هذا التثبت العظيم الذي كان في ذلك العصر والذي يجب علينا نحن طلبة العلم أن نلتزم به في قبول الروايات في أخذ هذا الدين قربة لله تعالى وخشية أن نقع في مسؤولية إذا نقلنا ما لا يصح وما لا يثبت فأخذه عنا غيرنا فأصبح في ميزان سيئاتنا والعياذ بالله .
هذا ما أردت قوله الليلة في هذه المسألة ، وأكتفي بهذا القدر ، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
??
??
??
??
1(6/10)
(
محاضرات الدورة المفتوحة الأولى في الحديث الشريف وعلومه
المستوى الأول
محاضرات الدكتور محمد طرهوني حفظه الله
المحاضرة السابعة
( انتشار الحديث في عصر الصحابة والتابعين (
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، ومن يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ( . أما بعد ،
فإن خير الكلام كلام الله ( وأحسن الهديِ هديُ محمد ( ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار .
حديثنا الليلة عن انتشار الحديثِ في عصر الصحابة والتابعين إن شاء الله تعالى .
وهو مرتبطٌ بالمحاضراتِ السابقةِ لا سيَّما ما ذكرناه من حرصِ الصحابةِ والتابعينَ رضي الله عنهم على طلبِ الحديثِ وتثبُّتِهم في روايته وفي تناقله وفي سماعه .
وكما تقدَّمَ فقد اشتَهَرَ من الصحابةِ جماعةٌ من المكثرينَ الحُفّاظِ أمثالَ أبي هريرةَ وعائشةَ وابنِ عباسٍ رضي الله عنهم أجمعين .
( اهتمام الصحابة بتحصيل الحديث :(7/1)
لقد اهتمَّ الصحابةُ بتحصيلِ الحديثِ وسماعِهِ اهتماماً عظيماً ، فعن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال : ( كان يبلُغُنا الحديثُ عن رجلٍ من أصحابِ النبي ( فلو أشاءُ أن أُرْسِلَ إليه حتى يجيئني فيحدِّثَني فعلتُ [ وذلك لما تعلمونه من قربِ ابنِ عباسٍ من النبيِّ صلى الله عليه وسلم وشرفِهِ ومنزلته عند المسلمين أجمعين ، وكان معتَبَراً ربيباً للنبي ( حيث كان يذهبُ إلى بيت خالته ميمونةَ ، وكانت تحت رسول الله ( ، وكان يتعلَّمُ مباشرةً من رسول الله ( ويتربّى في بيته التربيةَ النبوِيَّةَ ، ونشأ على العِلْمِ والفهمِ ، وقد دعا له الرسولُ ( أن يُفَقِّهَه في الدينِ ويُعَلِّمَهُ تأويلَ القرآن ؛ وقد كان ذلك ؛ وأصبح ابنُ عباسٍ إماماً في تفسير كتاب اللهِ وسُمِّيَ حبرَ الأمَّةِ وسمَّيَ تَرجُمانَ القرآن ، ولأجلِ ذلك كان ( إذا بلغه الحديثَ عن رجلٍ من أصحابِ النبيِّ ( يقول : لو أرسلت إليه حتى يأتيَ إليَّ فيحدثني بالحديثَ لفعلت ، ولكن من أدبه في طلب العلمِ وحرصهِ على الحديثِ واهتمامهِ به وتشريفِه لحديثِ رسولِ الله ( كان يذهبُ هو بنفسه ] فيقول : ولكني كنت أذهب إليه فأَقِيلَ على بابه [ يعني : يجلس في وقت القيلولة وينتظر في حرِّ الظهيرةِ حتى يخرجَ إليه فيحدثَّه ] يقول : ولكني كنت أذهب إليه فأقيل على بابه حتى يخرجَ إليَّ فيحدِّثني ) .(7/2)
هذا ما قاله ابنُ عباسٍ رضي الله عنهما ، وثبت هذا من فعله أيضاً ، وذلك في قصة المتظاهرتين الوارد في تأويل قوله تعالى : ( ?????? ????????????? ???????? ????????? ?????? ???? ??????????? ????????????? ?????????? ???????????????? ?????????????????????? ??????? ??????? ???????? ( ، فكان ( حريصاًعلى معرفةِ من المرأتان اللتان نزلت فيها هذه الآيةُ ، فبقي سنةً كاملَةً يريد أن يسألَ عمرَ ( ويختلِفَ على بابِه وتمنعُه هيبةُ عمرَ من أن يسألَه ، وكان ينتظره على بابه تسُفُّهُ الريحُ ولا يجرؤ أن يسأله حتى اجتمع معه في حج فسأله .
والقِصَّةُ مُطَوَّلَةٌ ومفيدةٌ رواها الإمامُ البخاريُّ في صحيحه في كتابِ التفسير وفي مواضع أخرى مختصرةٌ ومُطَوَّلَةٌ .
( نشر الصحابة للحديث :
قام الصحابةُ بنشرِ الحديثِ في الأمصارِ المختلفةِ نتيجةَ الفتوحِ ، وتعلمون أنه بعد أن أرسى النبيُّ ( قواعدَ هذا الدينِ وتمَّ له الفتحُ المبينُ ، وقبضه اللهُ سبحانه وتعالى بعد أن أَتَمَّ عليه النِّعمةَ بإكمالِ هذا الدين ، سار الصحابةُ يفتحون بلادَ المعمورةِ وينشرون دينَ اللهِ تعالى ، ومَصَّرَ عمرُ الأمصارَ وأرسلَ البعوثَ ، وكان ذلك منذ زمانه ( لأن أبا بكرٍ ( قد انشغلَ خلال سَنَتَيْ الخلافةِ في حروبِ الرِّدَّةِ وفي قَمْعِ الفتنِ التي أثارها المرتدون .
فبدأ النشاط يعود أو يَكْثُرُ في عهد عمر ( واستمرَّ بحمد للهِ تعالى ، فنشر الصحابةُ الحديثَ في الأمصارِ المختلفةِ نتيجةً للفتوحِ التي ذكرناها وامتثالاً لقوله عليه الصلاة والسلام : " ألا فَلْيُبَلِّغِ الشاهدُ الغائبَ " ، وغيرِ ذلك من أسبابِ انتشارِ الحديثِ التي سَبَقَ ذكرُها في محاضرةٍ سابقةٍ .
( الرحلة في طلب الحديث عند الصحابة والتابعين :
نتيجة لانتشار الحديث النبوي والاجتهاد في ذلك ، بدأت الرحلةُ في طلبِ الحديث .(7/3)
فما دام أن الصحابةَ قد تفرَّقوا وعندهم كثيرٌ عن رسولِ الله ( فمنهم من أقام بالكوفة ومنهم من أقام بالبصرة ومنهم من أقام بالشام ومنهم من أقام بالعراق ، وهكذا ..
فلزمت الرحلةُ لطلب الحديثِ وجمعِهِ من أفواهِ الرجال ، لأنه كما ذكرنا هي المصدر الثاني للتشريع والوحي وهي وكتاب اللهِ صِنْوان يفترقان كما أكَّدْنا ذلك مراراً .
فأقول : بدأت الرحلةُ في طلب الحديث إلى الصحابةِ والتابعين للتَّثَبُّتِ من الأحاديث ، ولتحصيلِ ما لم يحصلوه منها ، وطلباً لِعُلُوِّ الإسنادِ .
ونفسر هذه الجملة ( طلب علو الإسناد ) ، والمعنى :
أن الحديثَ يبلُغُ الشخصَ عن طريقِ غيره ولكنه يحب أن يسمعَه بنفسِه من الراوي الأصلي ، فهذا هو العلُوُّ في الإسناد وهو محمود عند أهل العلم وأصحاب الحديث . فإذا سمع الصحابيُّ حديثاً عن صحابيٍّ آخرَ بواسطةٍ ؛ فالأولى والأكملُ أن يذهبَ إلى صاحبِ الحديثِ الأصليِّ فيسمعه منه مباشرةً من غير واسطةٍ ، فهذا ما يعبِّرُ عنه أهلُ الحديث بعلوِّ الإسنادِ .
وما زالَ الأمرُ إلى الآن ، يحرصُ طلاّبُ العلمِ على علوِّ الإسنادِ ، فكلَّما علِموا أحداً من أهلِ العلمِ يكونُ بينه وبين رسولِ الله ( عددٌ أقلُّ من غيره حرِصوا على أخذِ الإجازةِ منه حتى يحظى لهم العلُوُّ بالإسناد .
ونذكرُ هنا بعضاً أو طرفاً من قَصَصِ الصحابةِ والتابعينَ الذينَ رحَلوا طلباً لعلوِّ الإسنادِ أو طلباً للحديثِ علوماً نتيجةً لانتشار الحديث في بقاع المعمورةِ .(7/4)
ـ فممن رحَلَ في طلبِ الحديثِ وقصَّتُهُ مشهورةٌ : أبو أيوبَ الأنصاريُّ ( الذي رحل من المدينةِ إلى عقبةّ بنِ عامرٍ بمصرَ ، فلما قدِم أتى منزِلَ مسلمةَ بنِ مُخَلَّدٍ الأنصاري - وهو أميرُ مصرَ - فأُخْبِرَ به مسلمةُ فخرج إليه فعانقه ( وقد كانوا يحترمون أهل العلم ويقدرونهم وينزلونهم منازلهم ) فقال له : ما جاءَ بكَ يا أبا أيوب ؟ ( يعني : ما الذي أقْدَمَكَ إلى مصرَ ) قال : حديثٌ سمعتُه من رسول الله ( لم يَبْقَ أحدٌ سمعَه غيري وغيرُ عقبةَ فَابْعَثْ من يدُلُّني على منزلِه . قال : فبعث معه من يدُلُّه على منزله ، فاُخْبِرَ عقبةُ به ، فعجَّلَ فخرجَ إليه أيضاً احتراماً له وترحيباً فعانقه وقال : ما جاء بكَ يا أبا أيوب ؟ فقال : حديثٌ سمعتُه من رسول الله ( لم يبقَ أحدٌ سمعَه غيري وغيرُكَ في سِترِ المؤمنِ ( أراد أبو أيوبَ ( أن يسمعَ الحديثَ ليَتَثَبَّتَ مما حفِظَه من رسول الله ( ، فانظروا إلى هذه الدَّقَّةِ وهذا الحرصِ على الرغمِ من أن أبا أيوب كان قد سمع هذا الحديثَ من رسول الله ( إلا أنه كان حريصاً أن يُثَبِّتَ حفظه بسماعه من أخيه الذي سمعه منه ) فقال له عقبةُ : نعم ، سمعت رسولَ الله ( يقول : من سَتَرَ مؤمناً في الدنيا على عورةٍ ستره الله يوم القيامةِ ( والعورة : يعني : المعصية أو السوأة فلم يفضحه بين الناسِ ) . قال له أبو أيوب : صدقتَ ، ثم انصرفَ أبو أيوب راجعاً .
وهذا حديثٌ صحيحٌ وفضلُه عظيمٌ في فضل من يسترُ على أخيهِ المسلِمِ إن وَجَدَهُ على معصيةٍ ، لأن فضحَ المؤمنِ لا يجوزُ ، وإنما عليه أن ينصَحَه نصيحةً تُعينُه على الشيطانِ ولا تعين الشيطانَ عليه .(7/5)
فانظروا إلى هذا الأمرِ العجيبِ : هذه الرحلةُ الشَّاقَّةُ التي ربما أخذت قرابةَ شهرٍ لمجرَّدِ سماع هذا الحديث للتثبت ، ثم عاد في مدَّةٍ مثلِها ، حتى أن جائزةَ مسلمةَ وهو أميرُ مصرَ لم تُدْرِكْهُ إلى في الطريق ( يعني : أدركتْه وهو في الطريق عائداً ، وكان الأمراءُ يُجيزون الوفودَ والزوّارَ بالهدايا والصِّلاتِ ) .
ـ أيضاً ، رحلَ رجلٌ من المدينةِ لأبي الدرداء بدمشقَ ليسمعَ منه حديثاً بلغَه أنه يُحَدِّثُ به ، فيحكي لنا كثير بنُ قيسٍ - وهو من التابعين - يقول : كنتُ جالساً مع أبي الدرداء في مسجدِ دمشق فناداه رجلٌ ، فقال : يا أبا الدرداء ، جئتُكَ من المدينة ، مدينةِ رسولِ الله ( لحديثٍ بلغني أنك تُحَدِّثُه عن رسولِ الله ( ( انظروا ماذا قال له أبو الدرداء ) قال : ولا جئتَ لتجارةٍ ؟ قال : لا ، قال : ولا جئتَ لحاجةٍ ؟ قال : لا ، قال : ولا جئت إلا لهذا الحديثِ ؟ قال : نعم ، قال : فإني سمعتُ رسول الله ( يقول : " من سَلَكَ طريقاً يطلُبُ فيه علماً سلكَ به طريقاً من طُرُقِ الجنَّةِ ، وإن الملائكةَ لَتَضَعُ أجنِحَتها رضاً لطالب العلم ، وإن فضلَ العالمِ على العابدِ كفضلِ القمرِ على سائرِ الكواكب ، وإن العالمَ ليستغفِرُ له من في السماواتِ من في السماوات ومن في الأرضِ وكلُّ شيءٍ حتى الحيتانَ في جوفِ الماءِ ، وإن العلماءَ ورثةُ الأنبياءِ ، إن الأنبياءَ لم يُوَرِّثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم ، فمن أخذه أخذ بحظٍّ وافِرٍ " .
وهذا الحديثُ حديثٌ حسنٌ ، وهو حديثٌ عظيمٌ ، وما فيه من فضل العلم وأهلِ العلمِ شيءٌ عظيمٌ ، ونسأل اللهَ أن يحشُرَنا في زمرةِ أصحابِ هذا الحديثِ وأن يُجَنِّبَنا جميعاً الزَّلَلَ والفتن ، إنه وليُّ ذلكَ والقادِرُ عليه .
وهذا الحديثُ من الأحاديثِ التي رُحِلَ من أجلِها ، وكانت في زمن الصحابةِ والتابعينَ يُرحَلُ لأجلِ استماعه .(7/6)
ـ أيضاً هناك رحلَةٌ مشهورةٌ ، وهي رحلةُ جابرِ بنِ عبدِ الله الذي رحل شهراً إلى عبد الله بنِ أُنِيْسٍ في حديثٍ بَلَغَهُ أنه يُحَدِّثُ به عن رسولِ الله ( ، فكان جابرُ يقول :
بلغني عن رجُلٍ من أصحابِ رسول الله ( حديثاً عن رسولِ الله ( ولم أسمعه منه ، قال : فابْتَعْتُ بعيراً فشددْتُ عليه رَحْلي فسِرْتُ إليه شهراً حتى أتيتُ الشامَ فإذا هو عبدُ اللهِ بنُ أُنَيْسٍ الأنصاري ( ( يعني : هذا الحديث كان عند عبدِ اللهِ بنِ أنيس الأنصاري ) قال : فأرسلتُ إليهِ أن جابراً على البابِ . قال : فرجعَ الرسولُ إليَّ فقال : جابرَ بنَ عبد الله ؟! قال : فرجع الرسولُ إليه فخرجَ إليَّ فاعتنقني واعتَنَقْتُهُ ( وذلك لطول المدَّةِ التي افترقا فيها ) قال : قلتُ : حديثٌ بلَغني أنك سمعتَ من رسولِ الله ( لم أسْمَعْه ( يعني هذا الحديث ) فخشيت أن أموتَ أو تموتَ قبلَ أنْ أن أسمعَه ( أي : خوفاً من أن يموتَ أحدُهُما فلا يسمعُ هذا الحديث منه ) فقال له : سمعتُ رسولَ اللهِ ( يقول : " يحشُرُ اللهُ العبادَ - أو قال : الناسَ - وأومأ بيده إلى الشامِ ( يعني جهةَ الشامِ ، وتعلمون أن الشامَ هي أرضُ المحشرِ ) عراةً غُرْلاً بُهْماً ( الغُرْلُ :غير المختونين كما قال تعالى : ( ????? ????????????? ???????? ?????? ????????????? ( ) قلت : ما بُهْماً ؟ قال : ليس معهم شيءٌ ( يعني : يحشرون ليس معهم شيء عراة غرلاً على خلقتهم الأساسية ) قال : فيُناديهم بصوتٍ يسمعُهُ من بَعُدَ كما يسمعُهُ من قَرُبَ ، فيقول الله سبحانه وتعالى : أنا الملِكُ ، أنا الدَّيَّانُ ، لا ينبغي لأحدٍ من أهلِ الجنة أن يدخلَ الجنَّةَ وأحدٌ من أهلِ النارِ يطلبُهُ بمظلَمَةٍ ( يعني لا يمكن أن يدخل أحدٌ الجنةَ حتى يستوفيَ منه أصحابُ الحقوقِ حقوقهم ولو كانوا من أهلِ النارِ ) ولا ينبغي لأحدٍ من أهلِ النارِ أن يدخلَ النارَ وأحدٌ من أهلِ الجنةِ يطلُبُه بمظلَمَةٍ حتى(7/7)
اللطمةَ . ( يعني : لا بدَّ من استيفاءِ الحقوقِ بينَ الناسِ يومَ القيامةِ ، فإذا استوفِيَتْ الحقوقُ ذهبَ كلُّ فريقٍ إلى مكانه الذي يستحِقُّه سواءٌ كان من الجنة أو النارِ ) . قال : قلنا : كيف هو ، وإنما نأتي الله تعالى عُراةً غُرْلاً بُهْماً ؟ ( يعني : ما عندنا شيءٌ ولا نملكُ شيئاً ، فكيف نُوفّي الحقوقَ ) قال : بالحسناتِ والسيئاتِ "
وهذا الحديث حديثٌ صحيحٌ أخرجه الإمامُ أحمدُ وغيرُه .
فهذا من أحاديث الرحلةِ كذلك .
* أما بالنسبة للتابعين :
ـ فقد وَفَدَ زِرُّ بنُ حُبَيْشٍ في خلافةِ عثمانَ بنِ عفّانَ ( ، ولم يَفِدْ عليه إلا للُقِيِّ أبيِّ بنِ كعبٍ وأًصحابِ رسول اللهِ ( . وتعلمون أن زراً كان إماماً في القراءة وقد أخذ قراءته عن أبي بنِ كعبٍ وغيره من أصحابِ النبيِّ .
ويروي لنا زرٌّ موقفاً له عندما أتى صفوانَ بنَ عسّالَ المراديَّ - وهو من أصحابِ رسول الله ( - فقال له : ما جاء بك ؟ قلت : ابتغاءَ العلمِ . قال : فإني سمعتُ رسولَ الله ( يقول : " من خرج من بيته ابتغاءَ العلم العم وضعَتِ الملائكةُ أجنِحتها رضاً بما يصنع " .
وهذا الحديثُ أيضاً حديثٌ عظيمٌ فيه شَرَفُ طالب العلم وفضلُه عند الله تعالى ، وما أعظمَ من أن تضعَ الملائكةُ الذين اصطفاهم الله سبحانه وأكرمهم وجعلهم ( ???? ?????????? ?????? ???? ??????????? ???????????????? ??? ???????????? ( أنهم يضعون أجنحتهم رضاً وتكريماً لطالبِ العلمِ بما يصنع .
( فائدة :(7/8)
ذكر الخطيبُ البغداديُّ رحمه الله قصة : أن أحد السُّفهاءِ كان يمشي مع مجموعةٍ من طلبةِ العلمِ وهم في طريقهم لسماعِ مجلسِ من مجالسِ العلمِ ، فقال لهم : عليكم بالمشيِ هوناً حتى لا تقتلوا الملائكةَ تحتَ أقدامكم ( من باب السخرية ، وما أكثرَ من يفعلُ ذلك في أيامنا ولا حول ولا قوة إلا بالله ) . يقولون : فيبس في مكانه وأصيب بشلل كامل . ( من أجل سخريته بهذا الحديث ، نسأل الله السلامة والعافية ) .
فهذه أيضاً رحلةُ زر بنِ حبيش وحرصه على الذهاب إلى أماكن الحديث المنتشرةِ لسماعها .
ـ وقال أبو العالية رحمه الله : كنا نسمع بالرواية عندَ أصحابِ رسولِ الله ( بالبصرة فلم نرضَ حتى أتيناهم فسمعنا منهم . ( يعني : كان رحمه الله ينتقل من المدينة إلى البصرةِ فيسمعَ من أصحابِ رسول الله ( .
وكان يقول : كنتُ أرحَلُ إلى الرجلِ مسيرةَ أيامٍ لأسمع منه .
ـ وعن سعيدِ بنِ المُسَيِّبِ رحمه الله قال : إن كنتُ لأسيرُ الأيامَ واللياليَ في طلبِ الحديثِ الواحدِ . ( حديث ٌ واحدٌ يسير له أياماً وليالي في تحصيله ) .(7/9)
ـ قصة أخرى عن التابعين ، وهي : رحلةُ عبيدِ اللهِ بنِ عَدِيِّ بنِ الخِيارِ الذي رحَلَ إلى عليِّ بنِ أبي طالبٍ في العراقِ لسماعِ حديثٍ خافَ إن مات أن لا يجدَه عندَ غيرِه فيقول : بلغني حديث عن علي بن أبي طالب خفت إن مات أن لا أجدَه عندَ غيره ، فرحلتُ فقدِمتُ العراقَ فسألتُه عن الحديثِ فحدَّثَني وأخذ عليَّ عهداً ألا أُخْبِرَ به أحداً ، ولوَدِدْتُ لو لم يفعلْ فأُحَدِّثُكُموه ، فلما كان ذاتَ يومٍ جاءَ حتى صعَد المنبرَ في إزارٍ ورداءٍ متوشِّحاً قرناً . فجاء الأشعثُ بنُ قيسٍ حتى أخذ بإحدى عضادَتَي المنبر ، ثم قال عليٌّ ( : ما بالُ أقوامٍ يكذِبونَ علينا ؛ يزعُمون أن عندنا عن رسولِ الله ( ما ليس عند غيرنا ، ورسولُ الله ( كان عاماً ولم يكن خاصاً ( يعني : لم يُرسَلْ النبي ( بهذا الدينِ لأناسٍ بخصوصهم ؛ وإنما أرسِلَ لأمة كاملة ولجميعِ الناسِ ، فلا يخصُّ أحداً بشيءٍ من هذا الدينِ دون غيرِهِ من الناسِ ، لأنه ( أرسل رحمةً للعالمين كما جاء في كتاب الله ( وكما دلَّتْ عليه النصوصُ المتواترةُ ) . ثم قال : ما عندي عنه ما ليس عند المسلمين إلا شيءٌ في قرني هذا ( يعني : القرابَ الذي كان متوشحاً به ) قال : فأخرجَ منه صحيفةً ، وإذا فيها " من أحدثَ حدثاً أو آوى مُحْدِثاً فعليه لعنةُ اللهِ والملائكةِ والناسِ أجمعينَ ، لا يُقبَلُ منه صرفٌ ولا عدلٌ " . هذا لفظ الرواية في القصة ، والحديثُ موجود في صحيح الإمام مسلم بأطوَلَ من ذلك ، وأراد بمن أحدثَ حدثاً أو آوى محدِثاً في مدينة رسول الله ( ، وهذا من فضائل المدينة .
وكان أيضاً في الكتابِ ( العَقْلُ ) التي هي العقول والديات ، وما يكون بين الناس في الدجال وفكاك الأسير ، وان لا يقتلَ مسلمٌ بكافرٍ .(7/10)
فهذا الحديث حديثٌ عظيمٌ ، وقد رحل فيه عبيد الله بن عدي بن الخيار ، وهو - أي الحديث - حجَّةٌ على الشيعةِ وأمثالهم الذين يدَّعون أن علياً ( كان لديه قرآن غير قرآننا ، ولديه كتابٌ يسمى ( الجَفْر ) فيه العلم الذي لا يعلمه غيره ، وغير ذلك من التُّرَّهاتِ الباطلة .
ـ أما أبو عثمانَ النهديُّ رحمه الله الذي ذكرناه في أئمة التابعين وقلنا إنه كان من المخضرَمينَ الذين أدركوا الجاهليَّةَ والإسلامَ ، فقد رحل للحج وهو لا يريدُ الحجَّ ، لم تكن نيّته لأجلِ الحجِّ بل للقاءِ أبي هريرةَ ( ليسمعَ منه حديثاً ، يقول :(7/11)
بلغني عن أبي هريرةَ حديثاً أنه قال : " إن الله ليكتُبُ لعبده المؤمن بالحسنةِ الواحدة ألفَ ألفَ حسنة " ، يقول : فحججت ذلك العام ولم أكن أريد الحج إلا للقائه لأسمعَ ذلك الحديثّ . فأتيتُ أبا هريرةَ فقلتُ : يا أبا هريرة ، بلغني عنك حديثٌ فحججتُ الآن ولم أكن أريد الحجَّ إلا لألقاكَ ( انظروا إلى صدقهم وحرصهم على أن لا يدخلَ الشيطانُ في نفوسهم ،يُظْهِرون ما يُبطِنون ، ولو كان غيرُه لتظاهرَ بأنه أراد الحجَّ وإنما لقيَ أبا هريرةَ لقاءً عابراً ، وهذا كما قال بعض السلف : وقد استيقظتُ ولم يكن ذلك لأجلِ صلاةٍ وإنما لدغتني عقربُ ، فسبحان الله ، هذا من صدقهم مع أنفسهم وصدقهم مع الله سبحانه وتعالى ) . قال له أبو هريرة ( : فما هو ؟ قال : قلت : إن الله ليكتب لعبد المؤمن بالحسنة الواحدة ألف ألف حسنة ، قال : ليس هكذا قلتُ ولم يحفظِ الذي حدَّثك . قال أبو عثمان : فظننت أن الحديثَ قد سقط ، قال : إنما قلتُ : إن الله ليُعطي عبده المؤمنَ بالحسنةِ الواحدةِ ألفي ألف حسنة ، ثم قال : أَوَلَيْسَ في كتاب الله تعالى ؟ قال : قلت : كيف ؟ فذكر قوله سبحانه وتعالى : ( ???? ??? ???????? ????????? ?????? ????????? ???????? ???????????????? ?????? ???????????? ?????????? ( قال : والكثيرة عند الله أكثر من ألفي ألف وألفي ألف . وهذا الحديث حسن وله طرقٌ . وكما رأينا بين أبو هريرة أن أصله في كتاب الله سبحانه وتعالى .
ـ وهناك رحلةُ ابنُ الدَّيْلَمِيِّ ليسمع من عبدِ اللهِ بنِ عمروِ بنِ العاصِ رضي الله عنهما فركب إليه إلى الطائف وقد كان ابنُ الديلمي بفلسطين ، وذهب إليه فقال له : يا أبا محمد سمعت رسول الله ( يقول في شاربِ الخمرِ شيئاً ؟ قال : قال عبدُ اللهِ بنُ عمرو : نعم ، سمعت رسولَ الله ( يقول : " من شرب الخمرَ لمْ تُقْبَلْ له أربعينَ صباحاً " . وهذا الحديثُ حديثٌ صحيحٌ .(7/12)
وقد ألَّفَ الحافظُ الخطيبُ البغداديٌّ رحمه الله كتاباً حافلاً جميلاً جمع فيه كثيراً من تلك الآثار وسماه ( الرحلةُ في طلبِ الحديثِ ) وهو كتابٌ مطبوعٌ ومتداولٌ .
وهناك نقطةٌ ننبِّهُ عليها ، وهي : أن المكثرينَ من الحديث كانوا ممسكينَ عن الإكثارِ من الحديثِ في عهدِ صدرِ الصحابةِ ، يعني : في ذلك الوقت كان التحديثُ محدوداً لانشغالهم بتحصيلِ الحديثِ وسماعهِ قبل نشره ، وكذلك كانت خطَّةُ عمرَ ( أن يحمِلَ الناسَ على الاهتمامِ بالقرآنِ الكريمِ والتثبُّتِ في الحديثِ عن رسولِ الله ( .
أقول : هناك سببان لقلَّةِ التحديثِ في عصر الصحابةِ ، يعني : في الصدرِ الأوَّلِ من عصرِ الصحابةِ لأمرين :
1ـ انشغالهم بتحصيلِ الحديثِ وسماعه أكثرَ من نشرِه ، لأنه في ذلك الوقت كما ذكرنا كلن الصحابةُ قد انتشروا في الأمصارِ واحتيجَ إلى جمع الحديثِ ، وانشغَلَ طلبةُ العلمِ منهم الحريصون على الحديثِ في جمعه ممن انتشرَ في الأمصارِ .
2ـ خطَّةُ عمرَ ( في حملِ الناسِ على الاهتمامِ بالقرآن ، وذلك حتى لا يتفاعلَ الناسُ في الحديثِ عن رسول الله ( ويتحدَّثَ كلُّ من هبَّ ودبَّ في ذلك العصرِ إلى ما يسمع من الحديث ، وفي ذلك خطرٌ عظيمٌ وهو انتشارُ ما لا يصحُّ عن رسولِ الله ( أو ما لم يتثبت منه لدرجةِ أن أبا هريرة ( وقيل له : أكنت تحدث في زمن عمر هكذا ؟ قال : لو كنت أحدِّثُ في زمنِ عمرَ مثلَ ما أحدَّثُكُم لضربني بالدرَّة .(7/13)
أما بعد انقضاء عهد عمر( وانتشرتِ الفتوحُ زاد انتشارُ الحديثِ انتشاراً ملحوظاً ونشطت الرحلةُ كما تقدّم وساعد على انتشار الحديث في عصرِ الصحابةِ والتابعينَ في تلكَ الفترةِ بدايةُ التدوين للحديث بصورة أوسعَ ، فبدأ الناسُ يكتبون الحديثَ بصورةٍ واسعةٍ ، وقد كانت الكتابةُ عهده ( ولكنها كانت على نطاقٍ ضيِّقٍ ثم اتسعَ هذا النطاقُ وأخذتِ الكتابةُ صورةً أخرى غير الصورة لأولى التي كانت عليها في زمنه ( وكان ك سبباً عظيماً لانتشارِ الحديثِ ، وهذا ما سيأتي الكلامُ عليه في المحاضرةِ القادمة إن شاء الله تعالى ، والتي سنتحدَّثُ فيها عن تدوين السنة النبوية وما مرَّتْ به من مراحل .
هذا وأسأل الله تعالى أن يتقبل مني ومنكم صالح الأعمال ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه .(7/14)
(
محاضرات الدورة المفتوحة الأولى في الحديث الشريف وعلومه
المستوى الأول
محاضرات الدكتور محمد طرهوني حفظه الله
المحاضرة الثامنة
( تدوين الحديث : المرحة الأولى والثانية (
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، ومن يهده الله فلا مضلَّ له ، ومن يضلل فلا هادي له . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ( . أما بعد ،
فإن خير الكلام كلام الله ( وأحسن الهديِ هديُ محمد ( ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار .
إخواني وأخواتي : الليلة سنتكلم بإذن الله تعالى حول تدوين السنة النبوية ، وسيكون حديثنا عن مرحلتين مرَّ بهما هذا التدوينُ ، ثم نتكلم في محاضرة أخرى عن التدوين الرسمي للسنة .
( الكتابة عند العرب :
كانت الكتابةُ قبل عصر النبوة معروفةً في العرب ، ولكن لم يكن لها انتشارٌ واسعٌ .
وقد حدا هذا ببعض أهلِ العلم أن أفرَطَ في التعبيرِ فوصف ذلك بالنُّدرة .
والذي يثبته البحث العلمي عدمُ صحَّةِ ذلك ؛ وأن الصحيحَ أن الكتابةَ كانت معروفةً ، وكما تعلمون كان العرب يكتبون المعلقات ويعلقونها على الكعبة ، وإنما سميت بذلك لأجل كتابتها وتعليقها .
وقد ساعد على عدم انتشار الكتابة انتشاراً ملحوظاً وواضحاً اعتمادُهم في الأساس على الحفظ ، فقد كانوا ذوي ملكة عظيمة في الحفظ ، وكانت الأمية قد غلبت عليهم .
والأمية : هي عدم القراءة والكتابة ، وهذا كان الغالب في العرب ، وسمي ذلك بالأمية كما ذكر بعض العلم نسبةً إلى الأم ، بمعنى أن الشخص لم تتغير حالُه في ذلك الأمر عما ولدتْه أمُّه .(8/1)
وقد قال النبي ( : " نحن أمةٌ أمِّيَّةٌ لا نقرأ ولا نحسب " ، يعني : هذا هو الحالُ . وقد ذكر النبي ( هذا الحديث في معرضِ الكلام عن الهلال ، فجعلَ الهلالَ يُحسَب برؤيته ولا يحسب بالحساب في تحديد بدايةِ الشهرِِ ، فلأجل ذلك قال : " الشهر هكذا وهكذا " فبين أن الشهر إما أن يكون ثلاثين يوماً وإما أن يكون تسعاً وعشرين يوماً على حسب الرؤية ولا عبرةَ للحسابِ بذلك .
وقد ربط الله سبحانه وتعالى أوقات الصلوات وكثيراً من أمور العبادة في الحج والصيام بهذه الأمور المرئيَّة المحسوسةِ لأجلِ تعَلُّقِ ذلك بأمِّيّة الأمة وعدم ارتباطها بمعلومات معينة يصعُبُ أن تتوفر بكلِّ وقت .
وقد قال سبحانه وتعالى : ( ????? ???????? ?????? ? ?????????????????? ???????? ?????????? ??????????? ??????????? ????????????? ?????????????? ??????????????? ???????????? ?????????????? ?????? ????????? ??? ???????? ????? ???????? ???????? ( وكان رسولُ الله ( يسمّى رسولَ الأمّيّين أو نبي الأميين
وقد جاءت بعض الرواياتُ تشيرُ إلى مجيء الإسلام وفي قريش بضعةَ عشرَ كاتباً ، وهذا عددٌ لا بأسَ به يرفع مسمى النُّدرةِ الذي ذهب إليه بعضُ أهل العلم .
وأما في المدينة فقد كان عدَّةُ رجالٍ يكتبون ، وقد ذُكِرَ منهم أحدَ عشرَ كاتباً ، وساعد على ذلك في المدينة وجود اليهود فيهم وقد كان كثيرٌ منهم يكتبون فهم أهل كتاب .
وكما ثبت في الصحيح أن ورقةَ بنَ نوفلٍ كان يعرف الكتابةَ العربيةَ والعبرانية ؛ فكان يكتب بالعربية ويترجم بالعبرانية ويكتب بالعبرانية ويترجم بالعربية وكان يقرأ الكتابين .
ولما قاطعت قريشٌ رسول الله ( كما تعلمون وحاصروه في شعب بني هاشمٍ للضغط عليه حتى يقلع عن الدعوة ؛ واستمرت هذه المقاطعةُ ثلاثَ سنين وكتبوا لذلك كتاباً . فهذا أيضاً من الأشياء التي تثبت وجود الكتابة في العرب قبل أمر النبي ( بها أو حصولها عند المسلمين .(8/2)
( الكتابةُ في العصر النبوي :
أما في العصر النبوي فقد أخذت الكتابة وضعاً جديداً ، فكان النبي ( حريصاً على كتابة الوحي واتخذ له كُتّاباً كثيرين ، وكان إذا نزلت سورةٌ يقول : " ادعو لي زيداً وليأت بالكتب والدواة " ، يعني : حتى يكتب ما نزل .
وكان إذا نزلت عليه آيةٌ يقول : " ضعوا هذه الآية في موضع كذا من سورة كذا " ، وكان له كُتّابٌ كثيرون منهم زيدُ بن ثابت ، وخالُ المؤمنين معاوية ( .
وقد ثبت حثُّ النبي ( على تعليم الكتابة وورد ذلك في عِدَّةِ نصوصٍ ثبت منها ما نذكره الآن ، وهو :
ـ أمره ( لإحدى الصحابيات وتسمى الشفاء وكانت دخلت عليه فقال لها : " علمي حفصةَ الكتابةَ كما عَلَّمْتيها الرقيةَ " ، وكانت قد علَّمت حفصةَ رقيةً من مرضٍ يسمى النملة .
وكذلك طلب النبي ( من زيدِ بنِ ثابتٍ ( أن يتعلم السريانية _ وهي كتابة اليهود _ لأنهم لا يأمنهم على كتابتهم ؛ فأمر زيداً أن يتعلم هذه اللغة واستطاع زيدٌ أن يتعلمها في بضعةَ عشرَ يوماً .
وروي أيضاً أنه ( جعل فداءَ من ليس له مالٌ من أُسارى بدر أن يعلم عشرة من أبناء المسلمين الكتابةَ .
أيضاً ثبتت الكتابةُ في نزولِ قوله تعالى : ( ????? ???????????????? ?????????? ????????????? ??????? ???????????? ??? ????????????? ??? ????????? ??????? ?????? ?????? ???????????? ???????????? ?????????? ?????????? ???? ???????????? ??????????? ( لما نزلت هذه الآية كتب بها عمرُ إلى من حصلَ له شيءٌ من الفتنة وبقيَ في مكةَ ولم يهاجرْ إلى المدينة ، فكتب إليهم عمرُ بهذه الآية يبشِّرهم أن البابَ مفتوحٌ للتوبةِ ويمكنهم أن يرجعوا ويهاجروا إلى رسول الله ( .(8/3)
وهناك قصَّةٌ أيضاً حدثت في عهد رسول الله ( جاء فيها ما يدلُّ على حصول الكتابة في العهد النبوي ، وهي قصة حاطبِ بنِ أبي بلتعةَ ( ، وتعلمون أن حاطباً كان من أهل بدرٍ ، وكان له أهلٌ بمكة ، وهو متيقنٌ بنصرِ اللهِ ( لرسوله ( ، فلما علم أن رسول الله ( مُتَوَجِّهٌ إلى مكة كتب إلى أهل مكة كتاباً يريد أن يتَّخِذ عندهم يداً بذلك الكتاب ، ويعلم أن ذلك لن يفلحَ ولن ينفعَهم في شيء وأرسلَ بهذا الكتاب إلى قريشٍ وأعطاه إلى ظعينةٍ - وهي المرأة المسافرة - فأَخْفّتِ هذا الكتابَ في شعرها وانطلقت . وجاء الوحيُ رسولَ الله ( بما فعل حاطبُ فأرسلَ خالداً وعلياً وذكر لهم المكانَ الذي يجدون فيه الظعينة في كتابٍ أيضاً وأمرهم أن لا يفتحوا الكتابَ حتى يبلُغوا المكان وهو روضةُ خاخ ، فلما وصلوا إلى هذا المكانِ فتحوا الكتابَ وعلموا أن هناكَ ظعينةً في ذلك المكان عليهم أن يأخذوا منها كتاباً أُرسِلَ إلى أهل مكة ، وفعلاً وجدوا المرأة وتهددوها حتى أخرجتِ الكتابَ من شعرِها . والقصَّةُ مشهورةٌ وهي في الصحيحِ وأراد عمرُ أن يضربَ عُنُقَ حاطبٍ لأنه اعتبرَ ذلك نوعاً من النفاقِ ، فقال له النبي ( : " لا تدري لعلَّ الله اطَّلَعَ على أهلِ بدرٍ فقال لهم : اعملوا ما شئتُمْ إني قد غفرْتُ لكم " ، وقد برَّرَ حاطبٌ فعلَه لرسول الله ( وأكَّدَ له حُبَّه لله ولرسوله .
أيضاً ثبتت الكتابةُ في مراسلةِ النبي ( للملوكِ ، وأيضاً في كتابته لكثيرٍ ممن وَفَدَ إليه . فقد راسل النبي ( هرقلَ والمقوقسَ وكسرى والنَّجاشيَّ ودعاهم إلى الإسلام كتابة .
وكذلك كتب لمن وَفَدَ إليه بإقطاعِ بعض الأراضي وببعض الأحكامِ الشرعيَّةِ . وهو مذكورٌ في السيرةِ في مواضعَ عدةٍ ؛ من أرادَ أن يراجِعَه فليراجعْهُ .
( مراحل تدوين الحديث النبوي في عهد النبي ( :
الحديث النبوي على وجهِ الخصوصِ فقد مرَّ تدوينُه بمرحلتَيْن :(8/4)
ـ المرحلة الأولى : وهي منعُ النبي ( لكتابةِ الحديثِ جملةً وتفصيلاً ، فقال : " لا تكتبوا عني شيئاً سوى القرآن ، ومن كتبَ عني شيئاً غيرَ القرآن فَلْيَمْحُهُ " ، وهذا الحديثُ أخرجه مسلم عن أبي سعيدٍ الخدريِّ ( ، وهو واضحٌ في النهي عن كتابةِ أي شيءٍ سوى القرآن ، بل فيه الأمرُ أيضاً بمحْوِ ما كُتِبَ سوى القرآن .
وقد رُوِيَتْ كراهةُ كتابة الحديث عن بعض الصحابةِ ؛ منهم عمرُ وابن مسعودٍ وزيدِ بنِ ثابتٍ وغيرِهم
وهذا النهي الواردُ في حديثِ أبي سعيد ( كان من أجْلِ الحفاظِ على القرآنِ حتى لا يختلِطَ بغيره ؛ أو يُشْتَغَلَ بالحديث عنه مع الحاجةِ الشَّديدةِ لحفظِ القرآنِ والحفظ عليه في ذلك الوقتِ ، بالإضافة أيضاً لقلَّةِ الخبرة في الكتابةِ وقِلَّةِ الكتبة ، فلما أُمِنَ ذلك نُسِخَ ذلك الحكمُ وجاءت
ـ المرحلة الثانيةُ ، وهي الإذنُ والسماحُ بالكتابةِ .
والذي يدلُّ على ذلك قولُه ( يومَ الفتحِ : " اكتبوا لأبي شاةٍ " . وأبو شاة أحد الصحابة كان يسمع خطبةَ النبي ( فطلب منه أن يكتبَ له ذلك ، فقال النبي ( عندها ذلك . والحديث في البخاري ومسلم .
كذلك روى أبو داود والحاكم وغيرهما عن عبدِ الله بنِ عمروِ بنِ العاصِ رضي الله عنهما أنه قال : يا رسول الله ، إني أسمع منك الشيءَ فأكتبَه ؟ قال : نعم . قال : في الغضب والرضا ؟ قال : نعم ، فإني لا أقول فيهما إلا حقاً " .
وقد قلنا : إن السنَّة وحيٌ من الله سبحانه وتعالى ، وقد قال الله ( : ( ????? ???????? ???? ??????????? ????? ???? ??????? ?????? ???????? ( .
وكذلك في مَرَضِه الأخيرِ ( وقبل وفاته أراد أن يكتُبَ للصحابةِ كتاباً لا يضلوا بعده أبداً ، فقال : " ايتوني أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعدي أبداً " . وقد كان (قد اشتدَّ عليه المرضُ فأشفق عليه عمرُ ( وقال : ( حسبنا ما في كتاب الله ) . لأنه يعلم أن الأمةَ لن تضلَّ ما تمسَّكَتْ بكتابِ الله ( .(8/5)
وهذا الكتابُ كان لمجرَّدِ التوضيحِ وحتى لا يحدثَ اختلافٌ ، وقد ذكرَ كثيرٌ من أهلِ العلم أن هذا الكتابَ كان لأجلِ الوصِيَّةِ لأبي بكرٍ الصديق ، وقد عُلِمَ ذلك من إشاراتٍ كثيرةٍ ، منها جعلُه ( أبا بكرٍ هو الذي يصلَي بالناس في مرضه ، ولما كشف النبي ( السِّتْرَ قال : " يأبى اللهُ والمؤمنون إلا أبا بكر ، يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر " ، وهذا عندما أرادت عائشة أن يصلي بالناس غيرُه . ولا نطيلُ في هذه القصَّة ولكن عرجنا عليها تعريجاً سريعاً حتى نُزيلَ أي إشكالٍ يحصُلُ في مثل هذه الحادثة .
كذلك روى البخاري عن أبي هريرة ( قال : " ليس أحدٌ من أصحابِ رسول الله ( أكثرَ حديثاً مني إلا ما كان من عبد اللهِ بنِ عمروٍ فإنه كان يكتب ولا أكتبُ " .فكان عبد الله بنُ عمرو يكتبُ الحديثَ عن رسول الله ( وأما أبو هريرة فكان يعتمِدُ على حفظِه لما ذكرناه في السابق بما تميّزَ به من ميزات جعلتْه أحفظَ الصحابةِ .
وقد رُوِيَتْ إباحةُ الكتابةِ عن علي ( والحسن وأنس رضي الله عنهم .
وكما ذكرنا ونؤكد أن النهيَ أولاً يرجع إلى الحِفاظِ على كتاب الله حتى لا يختلِطَ به غيرُه في ذلك الوقتِ المتقدم ، لأن كلامَ الله معجِزٌ ولفظُه عجيبٌ ، وهو متعبَّدٌ بتلاوته ، وله خواصٌّ كثيرةٌ ليست كغيره ، فهو كلام الله سبحانه وتعالى .
وأما كلامُ النبي ( فهو وإن كان معناه وحياً من عند الله كما ذكرنا ، إلا أن اللفظَ فيه لفظٌ بشريٌّ ليس فيه إعجازٌ ولا يتعَبَّدُ بتلاوته . فلو ذهب شيءٌ من لفظه فلن يذهب معناه من صدور الصحابةِ رضي الله عنهم لأن العهدَ قريبٌ والاعتماد فيه على الحفظ لا ضررَ فيه ، وأما القرآن فلا بدَّ فيه من ضبطِ اللفظِ تماماً وليس فيه رواية بالمعنى كما ذكرنا قبل ذلك .
ثم رخَّصَ النبي ( بالكتابة عندما أمِنَ اختلاطُ القرآن بغيره ، وقد كان نزلَ جُلُّ القرآن وكُتِبَ وحَفِظَه جماعةُ .(8/6)
وفي هذا سرٌّ عجيبٌ لأنه ( لو لم يرخِّصْ في كتابة الحديث لأعرضَ المسلمون في سائر الأزمنةِ عن كتابته ففقدنا الكثيرَ منه وأضِيفَ فيه ما ليس منه .
والخلاصةُ أنه قد حكى أهلُ العلمِ انعقادَ الإجماعِ مؤخَّراً على تجويز كتابة الحديث واندفع الخلاف في ذلك والحمد لله رب العالمين .
وهناك مدوَّناتٌ اشتهُرِتْ في عهده ( ، وأشهر هذه المدوَّنات الوثيقة التي كتبها ( بين المهاجرين والأنصار ؛ وبين المسلمين واليهود ؛ عندما قدِمَ إلى المدينة ، وهي وثيقةٌ مشهورةٌ ولها عدةُ طُرُقٍ ، وفيها من الفوائد الشيء الكثير ، وورد أجزاءٌ منها في أحاديثَ كثيرةٍ مستقلَّةٍ ولها عدَّة طرُقٍ تصل إلى درجة التحسين ، من أراد أن يراجعها فليرجع إليها في كتب السير والمغازي التي ساقتها بطولها .
كذلك الكتب التي كتبها النبي ( للملوك ، وهذه من المدوَّنات المشتهرة ، ويُذْكَرُ أن بعضاً منها لا يزال موجوداً إلى الآن ويتداولُ الناسُ صُوَراً منها لعلها صحية وربما تكون مصطنعة ، فلا نستطيع الجزم بواحدٍ من الأمرين الآن .
أيضاً كتب النبي ( لأهل اليمن كتاباً وأعطاهُ إلى عمروِ بنِ حزمٍ ، وهو كتابٌ مشهورٌ أيضاً ، وهناك بعضُ ألفاظٍ له لا تثبت من جهة السَّند .
وقد ذكرنا فيما مضى الصحيفة التي كانت عند علي بن أبي طالب ( وكانت معه في قراب سيفه ، وفبها أحاديث للنبي ( في الديات والعقول وفكاك الأسير ، وفيها في فضل المدينة أنه من أحدث فيها حدثاً أو آوى فيها محدِثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه صرف ولا عدل يوم القيامة هذه أشهر المدونات التي دونت في العصر النبوي ، ونكتفي بهذا القدر لنبدأ الحديث في المحاضرة التالية إن شاء الله تعالى عن التدوين الرسمي للسنة النبوية .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً .(8/7)
(
محاضرات الدورة المفتوحة الأولى في الحديث الشريف وعلومه
المستوى الأول
محاضرات الدكتور محمد طرهوني حفظه الله
المحاضرة التاسعة
( التدوين الرسمي للسنة (
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، ومن يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ( . أما بعد ،
فإن خير الكلام كلام الله ( وأحسن الهديِ هديُ محمد ( ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار .
تحدثنا في المحاضرة السابقة عن تدوين السنة النبوية في عهد رسول الله ( ، وذكرنا أنها مرَّت بمرحلتين :
المرحلة الأولى : كانت المنع من الكتابة .
والمرحلة الثانية : كانت بالإذن فيها .
والليلة إن شاء الله تعالى ، سنتحدث عن التدوين الرسمي للسنة .
( بداية التدوين الرسمي :
بدأت فكرةُ تدوينِ السنةِ في عهدِ عمرَ بنِ الخطابِ ( ، فقد روي عن عروةَ بنِ الزبير أن عمرَ بنَ الخطابِ أراد أن يكتب السنة ؛ فاستشار في ذلك أصحابَ رسول الله ( ، فأِشاروا عليه بأن يكتبها ، فطفِقَ عمرُ يستخيرُ اللهَ فيها شهراً ؛ ثم أصبح يوماً وقد عزم على أن لا يكتبَها ،وقال لهم : إني كنتُ أردت أن أكتبَ السنن ، وإني ذكرتُ أقواماً قبلَكم كتبوا كتباً فأكَبُّوا عليها وتركوا كتابَ الله ، وإني والله لا ألبِسُ كتابَ اللهِ بشيءٍ أبداً .(9/1)
فقد بيَّن الوجهةَ التي من أجلِها لم يبدأْ في كتابة السنةِ كتابةً رسميَّةً وتدوينٍ رسميٍّ ، وأن ذلكَ كان منه خشيةً مما ذكرَ حيث كان الوضعُ العامُ للمسلمين يُؤَيِّدُ ما ذهبَ إليه ، فإن الناسَ كانوا يدخلونَ في دينِ اللهِ أفواجاً من أجناسٍ شتّى مختلفةٍ ، وكان الذي ينبغي أن يُوَجَّهوا إلى كتابِ اللهِ ويجتهدوا في حفظِهِ وتدُبِّرِهِ وأن لا ينشغِلِ المسلمونَ الجُدُدُ بغير ِذلك بصفةِ رسميَّةٍ ، وكان الوضعُ يشبه الوضعَ الأوَّلَ عندما منعَ رسولُ اللهِ ( من الكتابةِ مطلَقاً .لذلك رأى عمرُ ( أن يمنعَ التدوينَ الرسميَّ في تلكَ الفترةِ حتى زالَ ما كان يحذَرُهُ ( وبدأ التدوينُ .
( العوامل التي أدَّتْ إلى قلَّةِ التدوينِ في الصًّدْرِ الأول :
من المهم أن نركّزَ على العوامل التي أدت إلى قلة التدوين في الصدر الأول ، وهي عوامل كثيرة منها :
1ـ النهيُ عنه في بداية الأمرِ لئلاّ يُشتغلَ به عن القرآن أو يُخْلَطَ بالقرآنِ غيرُه .
2ـ ما كان يتمتَّع به العربُ في تلكَ الآوِنَةِ من سَعَةِ الحفظِ وسَيَلانِ الذِّهنِ ، فخشيةَ أن يُتَّكَلَ على الكتابةِ فيقلَّ الحفظُ بل ربما بطل كما هو الحالُ في زماننا ولا حولَ ولا قوَّةَ إلا بالله ، فإن الحفظَ أصبحَ ضعيفاً جداً لكثرةِ الاعتمادِ على الكتابةِ والأمور الحديثةِ من التقنيات مثل ما نحن فيه الآن من الكومبيوتر والآلات ونحو ذلك .
3ـ أن أكثرَ الناس في ذلك الوقت كانوا لا يعرفون الكتابة ، وقد ذكرنا أن بعض أهل العلم ذهب إلى القولِ بأن الكتابةَ كانت تعتبرُ نادرةً .
4ـ قربُ العهدِ ، فإن الصدر الأول كان قريبَ العهدِ برسولِ الله ( وبالحديث ، كانت الاختلافات قليلةً ، فلم يكن هناك حاجةٌ ماسّةٌ لضبطِ النُّصوصِ خشيةَ الاختلاف أو النسيانِ .(9/2)
5ـ تقاربُ الإسنادِ ، يعني : نحن الآن أو في مراحلِ الإسلامِ المتأخرة نوعاً ما ، نلاحظ أن هناك سلسلةً من الرجالِ تمثِّلُ إسنادَ الرِّوايةِ . فهذه السلسةُ قد يحصُلُ فيها وهمٌ ونسيانٌ وأخطاءٌ ، ولكن إذا قرُبَ الإسنادُ فإن ذلك يؤمَنُ فيه حصولُ الخطأُ والنسيانُ . ففي الصدر الأول لم يكن الإسنادُ طويلاً لدرجةِ حصولِ مثل هذه الأمور ، بل ربما كان الحديثُ عن رسولِ الله ( مباشرة أو ربما كان عن صحابي عن آخر ونحو ذلك .
وكذلك لم يكن قد مات الرواة وصعُبَ التأكّدُ من روايتهم مباشرة ، وإنما كان يمكن للسامعِ أن يتأكّدَ من الرواة مباشرةً .
6ـ غلبةُ الصدقِ والأمانة ، فإن العربَ كانوا يحذرون الكذبَ حتى في الجاهلية ؛ فكان الرجلُ منهم يخشى أن تُحفَظَ عليه كذبة ، والأمانة كانت متوافرةً في الصَّدرِ الأول ، وتعلمون حديثَ أبي سفيانَ عندما ذهب إلى هرقلَ وهم أو فكَّرَ بأن يكذب على رسولِ الله ( أمامَ هرقلَ ولكنه خشيَ أن تُحسَبَ عليه تلك الكذبة فيتحدثَ الناسُ بأنه كذب .
هذه هي أهَمٌّ العواملُ التي أدَّتْ إلى قلَّةِ التدوينِ ، ولكن لما بدأ الخوف على السُّنَّةِ من ظهور الأهواء ، وبدأت البدعُ تدخل في صفوف المسلمين ، وبدأ الكذبُ يظهرُ على الناس ، وكذلك بدأت الأسانيد تطولُ ، وانتشرت الرواياتُ ، أصبح أمرُ تدوينِ السنَّة من الضرورة بمكان .
( مراحل التدوين وأشهر المدونات :(9/3)
تكاد تجمع الروايات على أن أولَ من فكَّرَ بالجمعِ والتدوينِ من التابعينَ كان عمرَ بنَ عبد العزيز رحمه الله تعالى ، فإنه أرسلَ إلى أبي بكر بن محمد بنِ حزم وقال له : انظر ما كان من حديث رسولِ الله ( فاكتبه فإني خفتُ دُروسَ العلم وذهابَ العلماء ، وطلب منه أن يكتبَ له ما عند عمرةِ بنتِ عبد الرحمن وما عند القاسم بن محمد بنِ أبي بكر الصديق ، وكما ذكرنا أن عمرة كانت ربيبة عند عائشةَ ( وحفظت كثيراً من العلم ، وأن القاسمَ كان من السبعةِ الفقهاء كما سبق ذكره .
وقد كتب عمرُ إلى أهلِ الآفاق : انظروا إلى حديث رسولِ الله ( فاجمعوه ، فهذا كان التدوين الأول للسنة في عهد خامسِ الخلفاءِ الراشدين رحمه الله تعالى .
ثم بعد ذلك كان الزهري هو أشهر من دون الحديث في ذلك العصر ، وهو من التابعين .
واشتهر من المدوَّنات في تلك الآونةِ صحيفةُ همّامِ بن مُنَبِّهٍ عن أبي هريرةَ التي سبق أن أشرنا إليها .
ثم استمر التدوينُ بعد ذلك فكان من مشاهيرِ المدونين ابنُ جُرَيجٍ الذي ألف كتاب ( السنن ) ، وابنُ إسحاق الذي ألف كتاب ( السنن ) أيضاً وكتاب ( المغازي ) المشهور الذي هو عمدةُ المغازي .
وكذلك الإمامُ مالكُ بنُ أنسٍ الذي ألّف كتابه ( الموطّأ ) ، ثم الثوري الذي ألّف كتابَ ( التفسير ) ، وابن المبارك الذي ألّف ( الزهد والرقائق ) ( والأربعين في الجهاد ) ، وأيضاً معمرُ بنُ راشد الذي ألّف كتاباً عظيماً في المغازي .
فهذا العصرُ هو عهدً التابعين ، ثم كبار تابعي التابعين .
* لما جاء القرنُ الثالثُ : بدأ التدوينُ يأخذُ وضعاً جديداً ، وأصبحَ هذا القرنُ - أعني القرن الثالث - هو عصر ازدهار التدوين . ففيه ازدهرت المصنفات وانتشرت ، وكانت لها طرائقُ متعدّدةٌ ، فمن ذلك :(9/4)
ـ المسانيد : وهي كتبٌ تجمعُ أحاديثَ كلِّ صحابيٍّ على حِدَةٍ . ذولك مثل مسند مُسَدَّدٍ بنِ مُسَرهَد ، ومسند إسحاق بنِ راهُويَهْ ، ومسند ابن أبي شيبةَ ، ومسند أبي يعلى الموصلي ، وغيرها كثير . وكلنا يعلم أشهرَ المسانيد على الإطلاق وهو مسند اإلإمام أحمد بنِ حنبل .
ـ المصنَّفات : وهي كتب تجمع بين الأحاديثِ المرفوعةِ - يعني التي وردت عن النبي ( - وبين الآثارِ الواردة عن الصحابة والتابعين ، وهي تركِّزُ على الآثار تركيزاً معيّناً .
واشتهر منها مصنَّفان عظيمان ، هما :مصنف عبد الرزاق بن همام الصنعاني ، ومصنف ابن أبي شيبة .
ـ السنن والصحاح : وهي كتبٌ تجمعُ الأحاديثَ الصحيحةَ حسبَ الأبواب الفقهية والفنون .
وأشهر هذه الكتب : الكتبُ الستَّةُ التي انتشرت واشتهرت في شتى العصور ، وهي : الصحيحان ؛ صحيح البخاري وصحيح مسلم ، والسننُ الأربعة ؛ سنن الترمذي وأبي داود والنَّسائي وابن ماجه . كما اشتهر من السنن : سنن الدارمي ؛ وكثير يطلق عليه مسند الدارمي ، وهو في الحقيقة والأصح اسمه السنن لأنه مصنف حسب تصنيف السنن .
ـ الأجزاء الحديثية والفوائد : وهي كتبٌ تجمعُ أحاديثَ تتفقُ في أمرٍ ما ؛ إما من جهة موضوعها ( يعني : تجمع أحاديث تتكلم في موضوع معين واحد ) مثل :
جزء الحوض والكوثر لبَقِيِّ بنِ مَخْلَدِ القرطبي .
وجزء إكرام الضيف لأبي إسحاق الحربي .
وجزء تقبيل اليد لابن ذاذان .
فهذه أجزاءٌ تجمع أحاديث تتفق في أمر واحد من جهة الموضوع .
أو أنها تتفق في أمرٍ واحدٍ من جهة الإسنادِ ، مثل :
جزء نسخة وكيع عن الأعمش ، فهذه تجمع أحاديث تجتمع في كونها عن وكيع عن الأعمش .
أو كلها من طريق رجل واحد ، مثل :
جزء الليث بن سعد ، الذي يروي فيه أحاديث كلها من طريقه في مجلس معيَّن لفوائده .
ونحو ذلك من الموضوعات التي صُنِّفت من أجلها هذه الأجزاء الحديثية .(9/5)
* أما القرن الرابع ؛ فقد اشتهر فيه الإمام الطبراني الذي ألف ما يسمى بالمعاجم :
ـ والمعاجم التي ألّفها تنقسم إلى ثلاثة :
ـ المعجم الكبير : وهو على المسانيدِ ؛ فيَذْكُرُ الصحابَّي ويَذْكُرُ نبذةً عنه ، ثم يذكر ما وصل إليه من روايات مسندة من طريق هذا الصحابي .
ـ المعجم الأوسط : وجمع فيه أحاديث شيوحه كل شيخ على حدة ، فيبدأ بأسماء الشيوخ فيذكرُ اسمَ الشيخ ثم يذكر ما رواه عن هذا الشيخ من روايات .
ـ المعجم الصغير : وهذا الكتاب ذكر فيه حديثاً واحداً لكلِّ شيخ من شيوخه ؛ فيذكر اسمَ الشيخ فيذكر حديثاً واحداً مما سمعه من ذلك الشيخ .
ـ وهناك معاجم أخرى اشتهرت ، منها : معجم ابنِ قانع ، ومعجم البغوي ، وغير ذلك .
ـ واشتهر أيضاً تلميذه الحافظ أبي نُعَيم صاحب كتاب ( حلية الأولياء ) وكتاب ( دلائل النبوة ) وغيرها من الكتب العظيمة .
وكذلك الإمام الدارقطني الذي ألف كتابه ( السنن ) وأيضاً ابن حبان الذي ألف كتابه ( الصحيح ) .
* ثم جاء القرن الخامس ؛ واشتهر بالحاكم النِّسابوري الذي ألف كتابه ( المستدرك ) استدرك فيه أحاديثَ كثيرةً رأى أنها على شرط البخاري ومسلم ، بمعنى أن رجالَ أسانيدِ هذه الروايات هم أنفُسُهم الرجالُ الذين أخرجَ لهم البخاري ومسلم أو أحدهما .
واضطرب الناس في معرفة ضابط قولة الحاكم ( على شرط الشيخين البخاري ومسلم ) ، وعلى كل حال فإن الكلام في استدراكات الحاكم على الشيخين يطول ، ولا شك أنه حصلت له أوهام كثيرة وألزم البخاريَّ ومسلماً ما لا يلزمهما .
وقد اعتذر عنه كثيرٌ من أهل العلم ؛ فمنهم من قال : إنه سَوَّدَ الكتابَ ، يعني : كان الكتاب مسوَّدة ولم يُنَقِّحْه ومات قبل أن ينتهي من التنقيح وإنما نقَّح جزءاً من أوله .
ومنهم من قال : إنه في ذلك الوقت كان قد حصل له شيء من النسيان والأوهام بسبب الشيخوخةِ والكِبَرِ . وغير ذلك من الأعذارِ .(9/6)
وعلى كل حال كتابٌ عظيمٌ ، وخلط له شيء كثير من الأحاديث التي استدركها على البخاري ومسلم وهي على شرطهما .
وقد اختصره الحافظُ الذهبي ، وحذف منه أجزاء من الأسانيد ، وعلَّق على بعض الروايات التي رأى أنه تحتاج إلى تعليق بسبب ظهور الوهم والخطأ فيها ظهوراً جليّاً ، وسكت عن أكثر الأحاديث ، وكما ذكرنا لم يكن سكوتُ الذهبي موافقةً للحاكم وإنما هو مجرَّدُ تلخيص ولا يُلزَم الذهبي بكلام الحاكم الذي سكت عليه وإنما يلزم بكلامه الذي عقَّب به على الحاكم .
وكانت طريقته أنه بعد أن ينتهي من التلخيص يقول : قلت ، ثم يذكر قوله الذي يدين الله به .
ـ وكذلك اشتهر في ذلك الوقت تلميذ الحاكم النيسابوري ، وهو الإمام البيهقي الذي ألف كتابه العظيم ( السنن الكبرى ) وكذلك كتابه العظيم ( دلائل النبوة ) إلى غير ذلك من الكتبِ العظيمةِ .
وإلى القرن الخامس ، نكتفي بمسالةِ التدوينِ الرسمي للسنة ، وإذا استعرضنا التَّدَرُّجَ في هذا التدوين يتَّضح لنا تاريخُ التدوين بصفةٍ متدرِّجة ، ويستطيع الإنسانُ أن يتصوَّرَ كيف وصلنا حديثُ رسولِ الله وكيف انتقلَ إلينا بطريقةٍ منظَّمَةٍ ومحكومةٍ لا يدخلها بحمد الله شيءٌ من الخللِ ، وكلُّ ما نحتاجُه هو معرفةُ الأسانيدِ التي وصَلَت لنا بها هذه الروايات والنظرُ فيها ومعرفةُ صحيحِها من سقيمها ، وبناءً على ذلك نعرف ما الذي ندينُ الله ( به وما الذي لا يجوزُ لنا أن نأخذَ به في ديننا .
ونكتفي بهذا القدر وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً .(9/7)
(
محاضرات الدورة المفتوحة الأولى في الحديث الشريف وعلومه
المستوى الأول
محاضرات الدكتور محمد طرهوني حفظه الله
المحاضرةالعاشرة
( علم الحديث رواية ودراية وألقاب المحدثين (
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، ومن يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ( . أما بعد ،
فإن خير الكلام كلام الله ( وأحسن الهديِ هديُ محمد ( ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار .
أيها الأخوة :
في هذه الليلة سوف نتحدَّثُ إن شاء الله تعالى عن الفرق بين علمِ الحديثِ روايةً وعلم الحديثِ درايةً .
وهذه المحاضرة والتي تليها أحتاجُ إلى تركيزٍ أكثرَ مما سبقَ ؛ وذلك لأننا سوف نحاولُ أن نُلَخِّصَ فيهما مجملَ علمِ الحديثِ أو علم مصطلحِ الحديثِ بمعنى أصحٍ .
( أقسام علم الحديث :
علم الحديث من حيثُ تعريفُهُ ينقسم إلى قسمين :
1ـ علم الحديث رواية :
وهو علمٌ يشتمِلُ على أقوالِ النبي ( وأفعالهِ وروايتها وضبطِها وتحريرِ ألفاظها .
يعني : القسم الأول من علم الحديث بتعبيرٍ مختصَرٍ وتبسيطٍ للأمرِ أو تقريبِه يتعلق بالمتن أي : نفس الرواية التي تتضمَّنُ قولاً للنبي( أو فعلاً له فهذا القسم يتعاملُ مع هذه الروايات من حيثُ ضبطُها وضبطُ ألفاظها وتحريرُها وبيانُها ومعانيها ونحو ذلك .
2ـ علم الحديث دراية :
هو علمٌ يُعرَفُ منه حقيقةُ الروايةِ وشروطُها وأحكامُها وحالُ الرُّواةِ وشروطُهم وأصنافُ المرويّاتِ وما يتعلَّقُ بها .
وأيضاً لتقريب المعنى يمكن أن نقولَ :
إن علمَ الحديثِ المختصَّ بالدرايةِ هو علمٌ يتعاملُ مع السَّنّدِ ، أي مع الطريقِ الذي جاءت لنا به الروايةُ ، فهو علمٌ يُعرَف به حقيقةُ الرواية .(10/1)
ـ ( وحقيقةُ الرواية ) هو نقلُها وإسنادُ ذلك إلى من عُزِيَتْ إليه . .يعني : نقلُ الروايةِ سواءٌ كانت عن رسول الله ( أو عن أحدٍ أصحابه أو التابعين ، وإسنادُ ذلك إلى من عُزِيَتْ إليه . يعني : ذكرُ السَّند إلى صاحب هذه الرواية بالتحديث ( أي : لفظ حدثنا ) أو بالإخبار ( لفظ أخبرنا ) أو نحو ذلك من الألفاظِ التي يُساقُ بها سندُ الروايةِ مثل : أنبأنا وحدثني وأخبرني وقرأت على فلان ، ونحو ذلك من ألفاظ التَّحَمُّلِ . هذا معنى كلمة ( حقيقة الرواية ) .
ـ ( وشروطها ) شروط الرواية : تتعلَّقُ بتحمل الراوي ، يعني : الراوي الذي سمع هذه الرواية كيف سمعها ؟ فهناك شروط لقبول هذا التحمل ؛ فلا بدَّ أن يكون سماعاً أو عرضاً أو إجازةً أو نحو ذلك .
وأنواعُ التحمِّلِ ذكر بعضُ أهل العلم أنها ثمانيةٌ ، والبعض يُفَصِّلُ فيها من خلال كل قسم فيقسمه إلى أقسام ، ولذلك قد تزيد ، ولكن المشهور أنها ثمانية ، وهي :
أ - السماع : وهو أن يقولَ : سمعتُ أو حدّثني . وهذا النوع من أنواعِ تحمُّلِ الروايةِ يكون بسماعِ الشيخ مباشرة ، وفيه تفصيلٌ نُرْجِئُه لمرحلة أعلى ، فنحن الآن نريد أن نتكلم عن هذه التعريفات باختصارٍ موجَزٍ حتى نفهم التعاريفَ في أقلِّ مستوى من المعلومات .
فالسماعُ إذاً : أن يسمع الراوي الشيخَ .
ب - العرض : وهو أن يقرأ قارئٌ من كتاب الشيخ مثلاً على الشيخ ويسمع الناسُ حولَه .
ج - القراءة : وهي أن يسمعَ الشخصُ من يقرأُ على الشيخِ ، فهذا سماعٌ للقارئِ وليسَ للشيخ ، وهو نوعٌ من أنواعِ التَّحَمُّلِ .
د - الإجازة : أن يُجيزَ الشيخُ تلميذَه في أن يروي عنه ما صَحَّتْ له روايته .
هـ - المناولة : وهي أن يأخذَ الشيخُ كتاباً من كتُبِه من سماعه ؛ فيناولَه لطالبه ويأذنَ له في رواية ذلك مناولة .
و - الوِجادة : وهي أن يجِدَ الطالبُ شيئاً بخطِّ الشيخ ويرويه بناءً على ذلك .(10/2)
ز - الإعلام : وهو أن يُعلِم الشيخُ الطالبَ أن هذا من حديثه ولا يأذنُ له في روايته ، يعني : لم يحصل له إذنٌ في الروايةِ ولكن عَلِمَ من الشيخِ أن هذا من حديثه ، وبناءً على ذلك يروي الرواية عنه .
ح - الوصية : وهي تكون بأن يوصي الشيخ بكتابٍ لفلانٍ عند وفاته ، فيروي هذا الكتابَ بناءً على الوصية وليس على الإذن في الرواية ؛ ولكن باعتبار أنه أوصى له بهذا الكتاب فهو يروي الروايات الواردة فيه عن هذه الشيخ .
وهذه الأنواعُ ليستْ كلُّها مقبولة ، فهناك منها ما هو مقبولٌ وهناك ما هو غير مقبولٍ ، ومنها ما فيه تفصيلٌ في فروعه ، ومجالُ ذلك ليس الآن .
ـ ( وأنواعها ) : أنواع الرواية تتعلق باتصالها ( هل هي رواية متصلة ) أو انقطاعها ( هل هي منقطعة ) أو إرسالها أو إعضالها ونحو ذلك . ومن تلك الأنواع :
أ - الاتصالُ : وهو عدم وجود انقطاعٍ في السَّنَد . بمعنى : أن كلَّ راوٍ قد سمع أو لقيَ الراوي الآخرَ حتى وصلَ الحديثُ إلى منتهاه .
ب - الانقطاع : وهو وجود سقطٍ في السند بحيث انقطع الاتصالً بين راوٍ وآخر .
ج - الإرسال : أن يروي التابعي عن رسول الله ( ، فهو انقطاعٌ خاصٌّ .
د - الإعضال : وهو سقوطُ رجلان فأكثر من السَّنَد على التوالي . والفرق بينه وبين الانقطاع هو في عدد الساقطين .
هـ - المقطوع : وهو ما كان من لفظِ التابعين . ونلاحظُ أن هناك فرقاً بين المقطوع والمنقطع . فالمنقطع ما سقط منه رجلٌ ، والمقطوعُ هو ما كان من لفظ التابعي وليس من لفظ الصحابي أو النبي ( .
و - المرفوع : ما كان من لفظ النبي ( .
ز - الموقوف : هو ما كان من لفظ الصحابي .
وهناك أنواع أخرى قد نتعرض لها في المحاضرة القادمة إن شاء الله تعالى . وهذه نخبةٌ من أنواعِ الروايةِ ذكرناها كأمثلة .
ـ ( وأحكامها ) تتعلق بقَبولِها أو ردِّها ؛ فإما أن يكون حكمُ الروايةِ القبول وإما أن يكون حكمها الرد .(10/3)
ويندرجُ تحت قبولِ الرواية أقسام تُدْرَجُ في هذا الباب ، وهو ما يتعلق ببيان الحديث الصحيح وبيان الحديث الحسن وبيان الحديث الضعيف وكذلك الموضوعُ المكذوبُ على رسول الله ( . وسوف نتعرَّضُ لشيء من التفصيلِ في المحاضرة القادمة إن شاء الله تعالى .
وكذلك في موضوعِ أحكام الرواية يُدرَس ما يسمى بالاعتبارات والشواهد والمتابعات ، وكذلك العلل التي تكون في بعض الأحاديث مثل ما يسمى بالاضطراب وما يسمى بالإدراج ونحو ذلك .
والاعتبارات والشواهد : عبارة عن سَبْرِ طُرُقِ الروايات والبحثِ عن الشواهدِ التي تشهدُ للروايات المشابهة لأجل التقوية ورفع الحديث مثلاً من درجة الضعف إلى درجة الحسن ، أو من درجة الحسن إلى درجة الصحة ونحو ذلك .
أما العلل : فالعلة أمرٌ خفِيٌّ يظهرُ لكبار الحفَّاظ ، وقد تكون العلةُ قادحةً في الرواية وقد لا تكون قادحة ًفيها . ومن أنواع العلل : الاضطراب ؛ بأن يضطرب الراوي في روايته سواء كان اضطراباً في إسنادِ الرواية أو اضطراباً في متنها .
كذلك من العلل : الإدراج ؛ وهو دخولُ لفظٍ ليس من متن الرواية وإنما هو من كلامِ أحدِ الرواةِ على لفظ الحديث ، وقد يكون في أول الحديث وقد يكون في آخره .
ـ ( وحالُ الرُّواة ) نعني به :العدالةَ والجرحَ . أي : الكلام عن رواة هذه الرواية من حيثُ عدالتُهم أو جرحُهم .
وهنا يتحدث أهل العلم في هذا القسم في صفة من تُقبَلُ روايتُه ومن تُرَدُّ ، وكيف يُعرَفُ ضبطُ الراوي لما يروي ، وما الذي يُقبَل من كلام أهل العلم في الجرحِ والتعديلِ .
ونعني بالجرح : بيان ما يجرح الراوي ويكون سبباً في ردِّ روايته .
ونعني بالتعديل : بيانُ ثقةِ الراوي وقبول روايته .
وقد يتعارضُ الجرحُ والتعديلُ فنجد من أهل العلم من يجرح الراوي ، ونجد من يُعَدِّلونه .(10/4)
وهذا الباب ( تعارض الجرح والتعديل ) مما يُبحَثُ في قسم حال الرواة وله ضوابط في ما الذي يُقَدَّمُ وما الذي يُرَدُّ وما شروط ذلك .
كذلك في حال الرواة يُبحَثُ في رواية المجهول الذي لم يوثِّقْهُ أحدٌ ، والمستور الذي روى عنه عدلٌ أو ثقةٌ ولم يثبتُ فيه قولٌ للموثِّقين .
وكذلك يبحث في رواية المرأة وقبولها .
وكذلك في رواية المبتدع ، هل تقبَلُ أم لا تقبل .
وكذلك في رواية التائب من المعاصي إذا كان مجروحاً ومتهماً بفسقٍ ونحو ذلك ثم تاب الله عليه فهل تقبل روايته أم لا ؟
وقد ذكرنا شيئاً من ذلك في الردِّ على سؤال أحد الإخوة في محاضرةٍ سابقة ؛ هل تقبل توبة الكاذب ؟ وكان الجواب أن الكاذب في غير حديث رسول الله ( وتاب من ذلك ؛ فإنما هي معاصي كسائر المعاصي وإن شاء الله تقبل روايتُه ، وأما إن كان الكاذبُ في حديث رسول الله ( فالعمل على عدم قبول روايته وإن تاب .
كذلك يُبحَث في هذا القسم من حال الرواة ألفاظُ الجرحِ والتعديل .
فهناك ألفاظٌ تعارف عليها أهل العلم وانتشرت في كلامهم ، وكل عالمٍ من علماءِ الجرح والتعديل يتفرَّدُ أحياناً باصطلاح خاصٍّ في بعض الألفاظ ، ويهمنا أن نعرفَ أن هناك ألفاظاً في التعديل مثل : ثقة ، أوثق الناس ، ثقة ثقة ، ثقة ثبت ، صدوق ، ونحو ذلك .
وهناك ألفاظٌ للجرح مثل : ضعيف ، مجهول ، يَهِمُ ، غير معروف ، وغير ذلك من ألفاظ الجرح ، وهي كثيرةٌ سواءٌ كانت في ألفاظِ التعديل أو ألفاظ الجرح ، وكما ذكرنا فهي تتفاوت في بعض الألفاظ بين أهل العلم .
ـ ( وشروطهم ) فهذه تكون في التحمُّلِ وفي الأداء .
والتحمُّلُ بمعنى :حمل الرواية ، والأداءُ بمعنى أداء الرواية .
فالتحمل يدخلُ فيه سماعُ الصغير ؛ هل يُقبَلُ أن يحمل الصغير العلمَ ويسمعَ الحديثَ فيُقبلَ ذلك منه ، وكذلك سماع الضرير الذي لا يرى ؛ هل يقبل تحمله ، وأيضاً الذي يسمع الحديث من وراء حجابٍ ؛ هل يقبل تحمله أم لا ؟(10/5)
وفيما يتعلق بالأداء ؛ فيدخل فيه الرواية من الحفظ ، والرواية من الكتاب .
وهل هذه الرواية رواية باللفظ أم بالمعنى .
وهل هذه الحديث رواه الراوي كاملاً أم رواه مختصراً .
ويبحَث أيضاً في هذا القسم من الشروط : آداب المحدث والسامع وغير ذلك . وقد صنَّفَ الخطيب البغداديُّ في آداب المحدث والسامع كتاباً عظيماً وهو كتاب ( الجامعُ في أحكام الراوي وآداب السامع ) وينبغي على كل طالبٍ لعلم الحديث أن يقتني هذا الكتابَ وأن يقرأ فيه لما له من أهميَّة قصوى .
ـ ( وأصناف المرويات ) يراد بذلك المصنفات من مسانيد ومعاجم وغيرها .
فهناك المسانيد كما ذكرنا في المحاضرة الماضية ، وهناك المعاجم ، وهناك المصنفات ، وهناك السنن ، وهناك الأجزاء الحديثية والفوائد ، وقد فصلناها في المحاضرة السابقة بفضل الله تعالى .
ـ ( وما يتعلق بها ) أي : وما يتعلق بأصناف المرويات ، وهو أن نعرفَ اصطلاحَ أهلِها .
فأهل هذه المصنَّفات كلٌّ منهم له اصطلاحٌ ، فمثلاً المعاجم ، وقد ذكرنا منها معاجم الطبراني الثلاثة وذكرنا اصطلاحه فيها . وهناك معاجم أخرى : كمعجم الشيوخ لابنِ جُمَيْعٍ فهذا ذكر فيه شيوخه وبعض الروايات التي رواها عنهم .
وهناك معجم الصحابة للبغوي وهو يذكر الصحابي وما وصله من حديثه .
وهكذا هناك اصطلاحات لكل صاحب كتاب ، وبالتالي لا بد أن نعرف هذه الاصطلاحات وذلك من علوم الحديث المتعلقة بالدراية .
ونعيد تعريف علم الحديث دراية فنقول ( هو علمٌ يعرَف به حقيقةُ الروايةِ وشروطُها وأنواعها وأحكامها وحال الرواة وشروطهم وأصناف المرويات وما يتعلق بها ) وقد فصلنا الكلام في كل قسم من أقسام التعريف ، وذِكْرُ أن ذلك هو علم الحديث المختص بالدراية هو اصطلاح المتأخرين ، وهو نفسه ما يسمى بعلم أصول الحديث أو علم مصطلح الحديث .
( أول من ألف في علم الحديث أو مصطلح الحديث :
هذا العلم أبوابه كثيرة ، وأول من صنَّف في هذا الفن :(10/6)
الرّامَهُرْمُزِيُّ الذي ألف كتابه ( المحدث الفاصل ) وهو يُعتَبَرُ أقدم كتاب في علم مصطلح الحديث .
ثم ألف بعده الحاكمُ النِّيسابوي فألف كتابه العظيم ( معرفة علوم الحديث ) ثم جاء الخطيبُ البغداديُّ الذي يُعتَبَرُ أجمع من خدم هذا العلمَ فألَّف كتابه ( الكفاية في علم الرواية ) ثم أخذ يصنِّف في كل فنٍّ من فنون علم الحديث كتاباً ، فأكثر في تصنيف المصنَّفات التي تتعلق ببعض علوم الحديث كلٌّ على حِدَةٍ ، فألف كتاب ( المتفق والمفترق ) وألف كتاباً في أخلاق الراوي كما ذكرنا ، وهكذا .
ومن استطاع أن يجمع كتب الخطيب البغدادي في علوم الحديث حاز علماً عظيماً في هذا الباب .
( ألقاب المحدِّثين العلمية :
لأهل الحديثِ ألقابٌ تتفاوتُ بحسبِ منزلَتهم بهذا العلم ، وهي :
أ - المُسْنِدُ : وهو من يروي الحديثَ بإسناده . يعني : كلُّ من روى الحديثَ بسنده فهو مسندٌ بغضِّ النظرِ عن مستواه وكثرةِ ما يحفظُ .
ب - المحدِّثُ : وهو أعلى درجة من المسند . وأهل العلم يختلفون كثيراً في ضوابط ذلك خاصةً مع تفاوتِ الأزمِنَةِ وضعفِ مستوى العلم كلما تقدَّم الزمانُ . ولكنهم في الغالب يطلقونها على من عرف الأسانيدَ والعللَ وأسماءَ الرجالِ ، وعرف العالي والنازل من الأسانيد ، ومع ذلك حفِظَ جملةً كبيرة من المتون ، وسمِعَ الكتبَ السِّتَّةَ ومسندَ أحمد وسنن البيهقي ومعجم الطبراني ، وما يزيد عن ألف جزء حديثي في أحاديث رسول الله ( .
ج - الحافظ : وهو يُطلَقُ على درجةٍ معيَّنة أعلى من درجةِ المحَدِّث . وقد ذكر بعضُهم أن هذه الدرجةَ هي درجةُ من كان ما يعرفه من الرجالِ وتراجُمِهِم وأحوالهم وبلدانهم أكثرَ من الذين لا يعرفهم ، يعني : أحاط بأكثرِ تراجم رجال الحديث وعرف أحوالهم وعرف بلدانهم ، وقد قدر بعضُهم مقدارَ ما يحفظه الحافظُ من الحديث بما يقارب الخمسمائة ألف حديث ، وهذا هو ضابط ما يحفظه الحافظ .(10/7)
د - الحاكم : وهذه الدرجةُ تكون لمن أحاطَ بكل الحديث وما يتعلق به إلا القليل . وهذه هي الدرجة القصوى التي تطلق من ألفاظ المحدثين العلمية .
نكتفي بهذا القدر ، ويبقى لنا المحاضرة الأخيرة إن شاء الله تعالى لنستكمل فيها بعض مصطلحات المحدثين ، ونسأل الله تعالى أن ينفعنا بما علمنا ، وأن يعلمنا ما ينفعنا ، وأن يتقبل منا إنه هو السميع العليم .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً .(10/8)
(
محاضرات الدورة المفتوحة الأولى في الحديث الشريف وعلومه
المستوى الأول
محاضرات الدكتور محمد طرهوني حفظه الله
المحاضرةالحادية عشرة
( بعض مصطلحات المحدثين(
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، ومن يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ( . أما بعد ،
فإن خير الكلام كلام الله ( وأحسن الهديِ هديُ محمد ( ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار .
أيها الأخوة :
هذه المحاضرةُ الأخيرة من محاضرات هذه الدورة المباركةِ إن شاء الله ، نسأل الله ( أن يتقبَّلَ منا ، وأن يجعلَ ذلك في ميزانِ حسناتنا جميعاً إنه جوادٌ كريمٌ .
وفي هذه المحاضرةِ سوف نتحدَّثُ عن بعض مصطلحاتِ المحدِّثينَ كتكمِلَةٍ للمحاضرةِ السابقة ، وأكرِّرُ التنبيه على أن هذه المحاضرة كسابقتها تحتاج إلى تركيزٍ معيَّنٍ والاهتمامِ بالانتباه إلى ما يقالُ فيها ؛ لكثرةِ المعلومات المضغوطةِ التي بها .
وهذه المصطلحاتِ التي نتحدَّثُ عنها اليوم قد تكلمنا عن بعضها أثناءَ المحاضراتِ السابقة ، ولكن لا بأسَ أن نُدليَ الكلامَ فيها في هذه المحاضرةِ أيضاً حتى يتوالى الكلامُ بصفةٍ مركَّزَةٍ .
( بعضُ اصطلاحات المحدثين :
المحدِّثون يطلقونَ عباراتٍ معيَّنَةٍ أو ألفاظاً معينة ، ولها عندهم دلالاتٌ مخصوصةٌ ، من ذلك :
ـ المتن : يعنون به لفظَ الروايةِ . يعني : الكلماتِ التي جاءتْ مرويَّةً عن النبي ( مثلاً أو عن الصحابي أو التابعي ونحو ذلك .
ـ السَّنَد : يطلقونه ويريدون به الإخبارَ عن طريقِ المتنِ . يعني : كلمة السند عبارة عن الطريق الذي جاء به هذا المتنُ من رجلٍ عن آخرَ حتى وصلَ إلى منتهاهُ الذي جاء عنه لفظُ الروايةِ .(11/1)
ـ الحديث : هذه الكلمة يطلقونها ويريدون بها أقوالَ النبي ( أو الصحابة أو التابعين وأفعالَهم وتقريراتِهِم . هذا كلُّه عندهم يسمّى الحديثَ . وكذلك ( الخبرُ ) وكذلك ( الأثرُ ) . فهذا الإطلاقُ عند أكثرِ أهلِ العلم .
وبعضهم يخُصُّ الحديثَ لما جاء عن النبي ( ويجعل ( الخبرَ ) و( الأثرَ ) لما جاء عن غيره من الصحابةِ والتابعين .
وقولنا ( النبي ( أو الصحابي أو التابعي ) يعني : ما جاء لفظاً ؛ أما الفعلُ فهو ما جاء حكايةً عن فعلِ النبي ( أو الصحابي أو التابعي .
وأما قولُنا ( التقريرُ ) فهو ما سكتَ عنه النبي ( مما فُعِلَ أمامَه ولم يعتَرِضْ عليه ، فهذا يسمّى تقريراً .
ـ الحديث الصحيح : يطلق المحدِّثون هذه الكلمةَ ويعنون بها :
ما اتَّصَلَ إسنادُه بنقلِ العدلِ الضابطِ عن العدلِ الضابطِ إلى منتَهاهُ ؛ ولا يكونُ شاذَاً ولا معلَّلاً .
هذا الضابطُ هو ضابطُ الحديث الصحيح . ونفصِّلُ معنى هذا التعريف فنقول :
- ( ما اتصل إسناده ) : يرادُ به عدم الانقطاع في أيِّ مرحلةٍ من مراحلِ السَّنَدِ . يعني : لم يسقُطْ أحدٌ من هذا الإسنادِ ، وإنما يرويه كلُّ واحدِ عن الآخرِ بدونِ انقطاعٍ .
- ( بنقل العدلِ الضابط ) : أن يكون الراوي في كل مرحلةٍ من مراحلِ السَّنَدِ موصوفاً بالعدالةِ وبالضَّبْطِ .
والعدالة كما ذكرنا قبل : فعلُ الأوامرِ واجتناب النواهي ، فإذا كان الراوي يفعل ما أُمِرَ في الشريعة ويجتنب ما نهي عنه فيما يظهرُ للناسِ وفيما يعرف الناسُ _ لأن القلوب علمُها عند الله _ فهو العدل .
والضابطُ : هو الذي يحفظُ ما يرويهِ ، يعني : إذا سمِعَ شيئاً حفظَه ، سواءٌ حفظه في صدره أو في كتابٍ يرجِعُ إليه عند التحديثِ . ولذلك يقَسِّمُ أهلُ العلمِ الضبطَ إلى ضبطِ صدرٍ وضبطِ كتابٍ ، وتعلمون حديث النبي ( : " نَضَّرَ اللهُ امرَءأً سمِع مقالتي فوعاها فأدّاها كما سمعها " . فهنا معناه ضبط الصدر الذي تكلمنا عليه الآن .(11/2)
وأكثرُ أهلِ العلمِ يهتمّون أيضاً بضبطِ الكتابِ ، ولكن كان كثيرٌ من السلف رحمهم الله تعالى لا يكتبون اعتماداً على حفظهم ؛ فقد كانوا يملكونَ ملّكّةً عظيمةً جداً في الحفظِ حتى إن بعضهم كان لا يستعيدُ الحديثَ ممن سمعه منه مرَّةً ثانيةً ، بل يكتفي بمرة واحدةٍ .
وقد استعاد الإمامُ مالكٍ الزُّهْريَّ في روايةٍ طويلةٍ ؛ فتعجَّبَ الزهري من استعادةِ مالكٍ لذلك وقال : تستعيد الحديثَ مرة أخرى ؟ فهذا لِما كان لديهم من مَلَكَةِ حفظٍ قويَّةٍ .
هذان الشرطان إذا توفّرا في الراوي ، فهو ( الثقة ) الذي يُعْتَبَرُ حديثُه صحيحاً .
- ( إلى منتهاه ) : لا بدَّ أن يكون هذا الشرطُ متواتراً في كلِّ السلسلة التي جاءَ بها السند ، ولأجلَ هذا نقولُ ( عن العدل الضابط إلى منتهاه ) أي : إلى آخرِ رجلٍ في السلسلةِ الذي إليه ينتهي الإسنادِ وهو صاحبُ الرِّوايةِ سواءٌ كان رسولَ الله ( أو الصحابيِّ أو التابعي .
- ( ولا يكون شاذاَّ ولا معلّلاً ) : هذا استثناء مهم جداً في ضابط الحديث الصحيح .
- والشّاذُُّ : تعريفه عند أهل الحديث وفي اصطلاح المحدثين ؛ هو : ما خالفَ فيه الثِّقَةُ من هو أوْثَقُ منه ، أو ما يُعَبِّرُ عنه بعضُ أهلِ الحديثِ بقوله ( مخالفةُ الثقةِ لما رواهُ الناسُ ) . فإذا كان الرجلُ ثقةً في نفسه وروايته دائماً مقبولةٌ ؛ قد يحدثُ منه في وقتٍ من الأوقاتِ شيءٌ من الخطأِ أو الوهمِ ، وهذا يتبين عندما يخالف غيره من الثقاتِ الذين روَوْا نفسَ الروايةِ سواءٌ كانت هذه المخالَفَةُ في الإسنادِ أو في المتنِ ، فهذا يُسمَّى شاذاًّ .
- تنبيهات :
1ـ الفرق بين الشاذِّ والمنكرِ :
فالشاذ هو مخالفةُ الثقةِ لمن هو أوثقُ منه أو لما رواه الناسُ . أما المنكرُ فهو مخالفةُ الضعيف لما رواه الثقة ، ولهذا يسمى منكراً ، وهو من أنواعِ الحديثِ الضعيفِ التي سنتكلم عنها بعد قليلٍ إن شاء الله(11/3)
2ـ زيادة الثقة : فالزيادة لا تعتبر شذوذاً ولا تعتبر خطأً ، فربما ضَبَطَ الثقةُ ما لم يضبطْهُ غيرهُ من الثقاتِِِ ، فإذا كان هناك زيادةٌ في روايةٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍِِِِِ أحد من الثقات فهي مقبولةٌ ولا تُرّدُّ ولا تعتبر مخالفة ، وإنما هي كما يذكر بعض أهل العلم فيقولون : إنها تعتبر كأنها حديثٌ مستقِلٌّ بذاته . فزيادةُ الثقةِ زيادةٌ مقبولةٌ سواءٌ كانت في الإسنادِ أم في المتن .
- أما العلَّةُ : فهي سببٌ خفيٌّ قادحٌ في الحديث مع أن الظاهرَ السلامةَ منه .
وقد تكون العلَّةُ غيرُ قادحةٍ ، فإذا كانت العلةُ غير قادحةٍ فليس هناك إشكالٌ ؛ لأن الحديث يبقى صحيحاً كما هو .
أما العلة التي استثنيناها هنا في تعريف الحديث ؛ فالمرادُ بها العلة القادحة مع أن الظاهرَ السلامة منها . يعني : أنه إذا نظرَ الشخصُ إلى إسنادِ الحديثِ ومتنه لا يجِدُ فيه شيئاً ، ولكنه إذا نظر إليه الناقد البصيرُ الحافظُ الجَهْبَذُ يعرف أن فيه علةً معيَّنةً لم تتبين لمن ليس بهذا المنزِلةِ . ولأجل هذا كان يُسأَلُ بعضُ الحفّاظِ فيقال له : كيف تعرفون العلة ؟ فيقول : أرأيتَ الصَّيْرَفِيَّ الذي ينظر إلى الدراهم فيعرفُ الجيِّدَ منها من الرديء ؟ فكذلك علم الحديث المُتَمَكِّنُ هو الذي يستطيعُ أن يتبيَّنَ له الحديثُ المعلولُ من الحديثِ غيرِ المعلولِ .
وأنواع العلل كثيرةٌ ، ولا نريد أن نطيلَ بضرب الأمثلَةِ لها ، ولعله أن يكون هناكَ مجالٌ لتفصيلِ الحديثِ عن أنواعِ العلل .
هذا الحديثُ الصحيحُ الذي ذكرنا تعريفَه له مظانٌّ يرجَعُ إليه فيها ، ومن ذلك كما تعرفون جميعاً :
صحيح البخاري وصحيح مسلم وهما الصحيحان اللذان تلقتهما الأمة بالقبول .
ومثل هذين الكتابين في مظانِّ الصحيح ما صنَّفَه أئمَّةُ الحديث الذين شرطوا الصحيح ؛ ولكنهم لم يصلوا إلى نفس المنزلة التي وصل لها الصحيحان ، ومن ذلك :(11/4)
صحيح ابنِ خُزَيْمَةَ ، وصحيح ابنِ حِبّان ، وصحيح البرقاني ، وصحيح الإسماعيلي ، وكذلك المستدركُ على الصحيحين ، ونحو ذلك من الكتب التي شرط أصحابُها الصحَّةَ ولكنهم لم يُوَفّوا بالشرط تماماً في جميع ما ذكروه ؛ أو كان لهم نظرةٌ معيَّنَةٌ لم يوافقهم عليها غيرُهم من أهلِ العلم فيما أجازوه في الصحيح .
- الحديث الحسن : ويطلق المحدثون ذلك على ( ما رواه العدلُ الذي خفَّ ضبطُهُ بنفس شروط الصحيح ) . يعني : أن تعريف الحديثَ الحسنِ عند جمهورِ أهلِ العلم هو نفسُ تعريف الحديث الصحيحِ إلا أن هناكَ فرقاً في كلمةِ العدل الضابطِ فهي تكون في الحديثِ الحسنِ : العدل الذي خف ضبطه ، يعني : لم يصل إلى الدرجةِ القصوى من ضبطِ الصَّدرِ أو ضبطِ الكتابِ ، وإنما كان في درجةٍ أقَلَّ في الضبط ، ولكن لم يغلبْ عليه الوهمُ أو الخطأُ . ولأجل هذا فحديثه مقبولٌ أيضاً وهو في درجة الحسن .
وهذا النوعان الصحيح والحسن هما نوعا الحديث المقبول من الحديث ، وأما المردود فهو ما لم يتوافرُ فيه شرط الصحة أو شرط الحسن .
ومن مظانِّ الحديث الحسن التي يكثر فيها وُرُودُه ؛ السنن الأربعةُ ، وكذلك الكتب الأخرى التي ذكرناها من غير الصحيحين فيوجد فيها جملةٌ كثيرةٌ من الحديث الحسن .
- الحديث الصحيح لغيره : وهو الحديثُ الحسنُ الذي جاء من عِدَّةِ طُرُقٍ ؛ كلُّ طريقٍ يعتبرُ حسناً لذاته فإن اجتمعت هذه الطرق ارتقى هذا الحديثُ إلى درجةِ الصحيحِ ،لأن خفَّةَ الضبطِ التي كانت في الطريق ِ ارتفعتْ وقواها الرواياتُ الأخرى التي جاءتْ بنفس اللفظ أو بنفس المعنى فأصبحَ الحديثُ صحيحاً .
- الحديث الحسنُ لغيره : هو الذي نزل عن درجة ولكنه جاء من طُرُقٍ متعَدِّدَةٍ فارتفعَ بتعدُّدِ الطُّرُقِ إلى درجةِ الحسن وصار مقبولاً ، وهذا ما يسميه أهل العلم ( الاعتبار والشواهد ولمتابعات ) .
- الاعتبار : هو البحثُ عن الطرق التي جاء منها الحديثُ .(11/5)
- المتابعة : هو وجود راوٍ آخر قد وافق الراوي على روايته . فإن وافقه في نفس شيخه فهي ( المتابعة التامَّة ) ، يعني : أن يروي أحد الرواة حديثاً عن شيخ معين ؛ ثم يأتي راوٍ آخرَ فيروي نفس الحديث عن شيخ هذا الراوي فهذه يسمونها التامة . وإن وافقه في شيخ آخر ممن هو فوق شيخه في السند فهي ( المتابعة القاصرةُ ) ، يعني : المتابِع ليس في نفس درجة المتابَع وإنما في درجةٍ أخرى من درجاتِ السَّنَدِ فهي المتابعة القاصرة .
وعلى كلٍّ ، فالمتابعات سواءٌ كانت تامَّةً أو قاصرةً يتقوَّى بها الحديثُ ويرتقي من الضَّعفِ إلى الحُسْنِ ومن الحسن إلى الصِّحَّة .
- الشاهد : يختلفُ عن المتابعةِ بأن المتابعةَ تكون بنفس الرواية ، وأما الشاهدُ فيكون برواية ثانيةٍ بنفسِ اللفظ أو بمعناه . فإذا جاءتْ لنا روايةٌ بلفظ رواية أخرى من طريق ثانية عن صحابي آخر قلنا : هذا شاهدٌ باللفظ . وإن كانت الرواية الثانية بمعنى الأولى قلنا : هذا شاهدٌ بالمعنى .
ويتوسَّعُ أهل الحديث بهذا الاصطلاح فيطلقون الشاهدَ على المتابعةِ ؛ وليس هناك إشكالٌ ، فربما قالوا هذا شاهد ويقصدون المتابعة .
- الحديث الضعيف : وهو عند المحدِّثين الذي لم يَسْتَوْفِ شروطَ الصحة ولا شروط الحسن .
وهذا الحديث الضعيف أقسامه كثيرةٌ جداً ، وقد ذكرنا منها بعضاً ونعيده هنا :
- المنقطع : وهو ما سقطَ من وَسَطِ إسنادِهِ رجل .
- المعضَلُ : وهو ما سقط من وسطِ إسناده رجلانِ فأكثر على التوالي .
- المرسل : وهو الحديثُ الذي يرويه التابعي فيقول : قال رسولُ الله ( .(11/6)
وهنا إشكال يحصُلُ من بعضِ المعرِّفين فيقول : هو ما سقط منه الصحابيُّ . وهذا التعريفُ غير صحيح لأنه ربما يظنُّ الظانُّ أن هذا الحديث مقبول ؛ يقول : ما دام التابعي يقول : قال رسول الله ( فهذا يعني أنه سقط الصحابيُّ ، وهذا لا يضرُّ بالحديث لأن الصحابةَ كلُّهم عدولٌ . وهذا غير صحيحٍ ؛ لأن التابعيَّ قد يروي الحديثَ عن تابعيٍّ آخرَ وهذا التابعيُّ الآخرَ يرويهِ عن تابعيٍّ آخرَ وهكذا ، ولا يكون هذا سقوطاً للصحابيٍّ وإنما هناك مجموعةٌ من التابعين روى بعضُهُم عن بعض .
وقد حصلَ هذا في أحاديثَ كثيرةٍ من روايةِ التابعين بعضهم عن بعض .
ومما صنَّفه الخطيبُ البغداديُّ كتاب ( جزء الستَّة من التابعين ) وهو مما حقَّقْتُه من التحقيقات . وهو كتابٌ خصَّصه الحافظ الخطيبُ البغداديُّ لرواية تابعين ستة عن بعضهم البعض في نسقٍ واحدٍ . ولأجلِ هذا فلا يصحُّ تعريفُ المرسلِ بأنه ما سقطَ منه الصحابيُّ .
- المرسلُ : وهو ما سقطَ منه الصحابيُّ .
- فالمرسلُ من أقسامِ الضعيف لأننا لا ندري هل التابعين الذي روى الحديثَ عن رسولِ الله ( ، هل روى هذا الحديث عن صحابيٍّ أم عن تابعيٍّ آخرَ ، وربما كان هذا التابعيُّ الآخرَ ضعيفاً . لأن الصحابةَ كلُّهم عدولٌ لكن التابعين ليسوا كذلك .
وهناكَ كتبٌ معيَّنَةٌ مصنَّفَةٌ للمراسيلِ ، نذكرُ منها :
كتاب المراسيل لأبي داود ، وهو مشتهرٌ .
ومن مظانِّ الأحاديث المرسلةٍ أيضاً ؛ سنن سعيد بنِ منصورٍ ، وغير ذلك من كتب السُّنَّة ، والأحاديث المرسلةُ متفرِّقَةٌ في كتب السنة جملةٍ ، ولكن هذان الكتابان يوجد فيها ذلك بكثرة .(11/7)
- المدَلَّس : والتدليس عند أهلِ الحديثِ اصطلاحٌ يطلَقُ على رواية الراوي عمن عاصرَهُ ولقيَه ما لم يسمع منه موهِماً أنه سمعَ منه . يعني : هناك بعضُ الرواةِ قد عاصروا شيوخاً فيروون رواياتٍ عن هؤلاء الشيوخِ مع عدمِ سماع ذلك منهم ، فيظن الظانُّ انهم سمعوا ذلك منهم ولكن في حقيقة الأمرِ هم قد سمعوا هذه الرواياتِ عن طريقِ رواةٍ آخَرين وبواسطةٍ بينهم وبين هؤلاء الشيوخ ولم يذكروا الواسطةَ .
وهذا التدليسُ اختلف أهلُ العلمِ فيه :
فمنهم من استقبحَهُ جداً حتى قال بعضهم : لأن أَزْنِيَ أحبَّ إليَّ من أن أُدَلّسَ حديثاً ، ونحو ذلك من العبارات الشديدة .وهناك من تسامحَ فيه إذا كان التدليسُ عن ثقةٍ . أما إذا تعمَّدَ الراوي أن يدَلِّسَ عن الضعفاءِ فهذا حرامٌ لا يجوز ، وهذا هو التدليسُ القبيحُ المُسْتَنْكَرُ .
والتعريفُ الذي ذكرناه للتدليسِ ؛ هو التعريف للنوع المشهور من التدليس .
وللتدليسِ أنواعٌ أخرى ، منها :
(تدليس الشيوخ : وهو أن يذكر شيخه بما لم يشتهر به كأن ينسبه لجده أو يذكره بكنيته التي لم يشتهر بها أو ينسبه إلى صنعته التي لا يعرف بها ونحو ذلك ليخفي أمره على السامع .) (زيادة)
تدليس التسوية : وقد عُرِفَ بعضُ المحَدِّثينَ بذلك ، منهم بَقِيَّةُ بنُ الوليدِ الذي كان إذا حدَّثَ يسقِطُ من الإسنادِ أيَّ ضعيفٍ يجدُهُ في السلسة ، فإذا عرف ضعيفاً أسقطه ولا يسقط شيخه في الرواية فقط إن كان ضعيفاً وإنما يأخذ الإسنادَ فيُسَوِّيه ، يعني : يصلِحُهُ ويسقط منه الضعفاءُ . وهذا التدليس شرُّ نوعٍ من أنواعِ التدليسِ ، وهو قبيحٌ جداً ، ولأجلِ هذا قال أهل العلم :
أحاديث بقية ليست نقية فكن منها على تقية
تدليس السكوت : وهو من أنواع التدليس ، وهو أن يروي الراوي الروايةَ ثم يسكتُ ثم يذكُرُ الشيخ موهِماً أنه سمع منه وهو في الحقيقة لم يسمع منه وإنما أراد أن يوهِم بسكوته اتصالَ الكلام وهو في الحقيقة غيرُ متصل .(11/8)
تدليس العطف : وهو أن يروي عن شخصٍ سمع منه هذا الحديثَ ثم يعطِفُ عليه رجلاً آخرَ لم يسمعْ منه هذا الحديث . فهذا أيضاً من أنواعِ التدليسِ .
- الحديث المضطرب ، والحديث المدرَج ، والحديث المقلوب ، كلها من أنواع الحديث الضعيف ، ويكفي ما فصَّلناه في الأنواع السابقة ، وهناك أنواعٌ أخرى لم نذكُرْها وسوفَ يكونُ لها إن شاءَ اللهُ تفصيلٌ في دوراتٍ أخرى أعلى مستوىً من هذه الدورة .
ومن أهم أنواعِ الحديث الضعيفِ ، وبعضهم يجعله قسماً مستقلاًّ ، ولكنه في داخلٌ في الحديثِ الضعيفِ :
- الحديث الموضوعُ : وهو روايةُ الكذَابين .
- وللوضعِ في الحديثِ أسبابٌ كثيرةٌ ، أشهرها :
حبُّ القصّاصين للغرائبِ : فهناك من يتصدَّرُ لوعظِ الناسِ ودعوتهم وهو ممن يحبًّ الأشياءَ الغريبةَ فيؤلِّف أو يتلقف ما رواه غيره من أحاديثَ مكذوبةٍ على رسول الله ( ولكنها مشوِّقةٌ ويحبها العامَّةُ ، فيكثرون من ذلك ويضعونها .
وبعضهم اجتمع لوضعِ أحاديثَ في فضائلِ القرآنِ ، فلما كُلِّموا في ذلك قالوا : وجدنا الناسَ قد انصرفوا عن القرآن فأردنا أن نضع لهم أحاديثَ تُرَغِّبُهُم في القرآن حُسْبَةً لله سبحانه وتعالى . وهذا من جهلِهم بل من فَرَطِ جهلهم ، لأن التقرَّبَ إلى الله لا يكون بالكذب على رسول الله ( ، فإن الكذبَ على رسولِ الله ( أوصلَه بعضُ أهلِ العلم إلى الكفرِ والعياذ بالله .
كذلك من أسباب الوضعِ المذاهبُ المختلفةُ : فهناك بعض الجهلة يضعون أحاديثَ تعصُّباً لمذهبهم الفقهيِّ أو لإمامهم صاحبِ المذهبِ .
وأيضاً هناك شبب مهم ، وهو الاتجاهُ العقديّ ، فالشيعةُ مثلاً لعنة الله عليهم وضعوا أحاديثَ كثيرةً مكذوبةً فضائل أهلِ البيتِ وفي فضلِ عليٍّ ( وفي ذمِّ الشيخينِ وكلُّها كذبٌ لا أزِمَّةَ لها ولا أسانيد .
وقد صنف أهل العلم كتباً للتحذيرِ من الأحاديثِ الضعيفةِ والموضوعةِ ، نذكر منها على سبيل المثال :
كتاب الموضوعات لابن الجوزي .(11/9)
تمييز الطيب من الخبيثِ فيما يدورُ على ألسنة الناس من الحديث للشيباني
ومشهورٌ لديكم جميعاً جهدُ الشيخُ الألبانيُّ رحمه الله في سلسلةِ الأحاديثِ الضعيفة والموضوعة ، جعلها الله في ميزان حسناته فإنها من خير ما كُتِبَ في ذلك الفن .
من اصطلاحات المحدثين أيضاً قولهم :
- هذا حديثٌ مرفوعٌ : ويقصدون بذلك ما نُسِبَ للنبي ( . ومظانُّ الحديث المرفوعِ ؛ الكتب الصحيحة التي ذكرناها وكتب السنن وغيرها من الكتب التي دونت السنة ؟
- الحديث الموقوف : ويطلقونه على ما كان من لفظ الصحابي . وهذا مظانُّه المصنَّفات كمصنَّف ابن أبي شيبةِ ومصنف عبد الرزاق الصنعاني .
- الحديث المقطوع : ويطلقونه على ما نسب للتابعي . وهذا مضانه أيضاً المصنفات وكتب التفسير كتفسير الطبري وغيره ، وهي مشهورة .
- الحديث المعلق : وهو ما حُذِفَ من أوَلِ إسناده واحدٌُ أو أكثر .
فإذا حذف من بداية السند يعني من عند صاحب الكتاب مثلاً ، فإذا علَقَ الحديث حذف من حدَّثه وربما من حدّث من حدّثه ، المهم واحدُ أو أكثرَ . فالبخاريُّ رحمه الله أكثر من التعليقاتِ في صحيحه قبلَ أن يبدأَ بسردِ الأحاديثِ المتصلة .
وهذه المعلَّقاتُ اهتم بها الحافظ ابنُ حجرَ رحمه الله في كتابٍ عظيمٍ سماه ( تغليقُ التعليق ) وتَتَبَّعَ ما علَّقه البخاريُّ فذكره موصولاً من مظانِّه .
ومعلقات البخاري باستقراء الحافظ ابن حجر وجد أنها نوعين :
ما علقه بما يسميه المحدِّثون ( صيغة الجزم ) وهي أيضاً من اصطلاحات المحدثين ، ومعناها : أن يقول الراوي : قال فلانُ أو روى فلانُ أو حدَّث فلان ، فهذه الصيغ تسمى صيغة الجزم .
وهناك صيغة أخرى وهي في مقابل صيغة الجزم وتسمى ( صيغة التمريض ) ، وهي من اصطلاحات المحدثين أيضاً ، وهي أن يقال : قيل عن فلان ، وروي عن فلان ، ونحو ذلك فهذه من صيغ التمريض(11/10)
والمقصودُ أن البخاريَّ إذا روى رواية معلٌّقةً بصيغة الجزم فقال : روى أو قال فلان أو نحو ذلك ، فهذه المعلقات يقول فيها ابن حجر بعد استقرائها إنها صحيحةٌ إلى من علقها عنه البخاري .
أما إذا علقها بصيغة التمريض فقال : روي أو قيل عن فلان أو نحو ذلك فهي قد تكون صحيحة وقد تكون حسنة وقد تكون ضعيفة ضعفاً خفيفاً .
وأيضاً الإمام مسلمٌ له تعليقٌ يسير في صحيحه ، وعلى كلٍّ فهي موصولةٌ من طرقٍ أخرى والحمد لله .
يبقى لنا من الاصطلاحات :
- علم الجرح والتعديل : وقد تكلمنا عنه في المحاضرة السابقة ، وهو علمٌ يبحثُ عن أحوالِ الرُّواةِ وأمانتِهم وثقتِهم وعدالتِهم وضبطِهم . أو عكسِ ذلك أن يطعن في أحوالهم ويبين عدم عدالتهم أو ضبطهم أو أمانتهم . فهذا هو علمُ الجرحِ والتعديلِ .
وقد صنف فيه كتبٌ كثيرةٌ جداً ؛ هي العمدةُ في التدقيقِ في الأسانيد ومعرفةِ ما صحَّ من حديثِ رسول الله ( وما لا يصحُّ ، ومن هذه الكتب :
الجرح والتعديل لابن أبي حاتم .
التاريخ الكبير للبخاري .
كتاب المجروحين والمتروكين لابن حبان .
كتاب الثقات له أيضاً .
تهذيب الكمال للمزي .
ميزان الاعتدال للذهبي .
تهذيب التهذيب ، وتقريب التهذيب ، ولسان الميزان لابن حجر .
وغيرها كتب كثيرةٌ في علم الرجال كلها تتحدث عن رواة الأسانيد والتدقيق في تاريخهم ومعرفة أحوالهم ، حتى نستطيع أم نتبين هل هذا الرجل تقبَلُ روايته أم تُرَدُّ .
وهذا فضل من الله ( على هذه الأمة ، ولا يوجدُ في تاريخ الديانات في أية ديانة من ديانات المعالم مثل ما عندنا من هذا العلم العظيم والحمد لله ، مما يجعلنا على يقين مما نحن فيه ولا يمكن أن يتطرق إلينا الدخيل ، فالحمد لله يمكننا أن نتعرف عليه وأن نخرجه من ديننا ولا يبقى في هذا الدين إلا ما صح والحمد لله رب العالمين .(11/11)
وبهذا نكون قد انتهينا من المدخل المراد بعلوم الحديث ، ونسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما علمنا ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً .(11/12)