الوقائي، وذلك حتى لا تنتقل الأمراض الفتاكة إلى جسم الإنسان، وقد ظهر في أوروبا عام (1986م) مرض عرف باسم "مرض جنون البقر"؛ وهذا المرض يهاجم مخ الحيوان فيدمره تدميراً بتحويله إلى حالة إسفنجية منخربة ومتآكلة، فيفقد السيطرة على ذاته ويهيج هياجاً شديداً حتى الموت، وقد ثبت انتقال هذا المرض إلى الإنسان الذي يأكل لحمه أو يشرب لبنه، وسبب هذا المرض هو تغذية كل من الأغنام والماشية والدواجن بفضلات ذبح الحيوانات من الدماء، والشحوم، والأحشاء، ومساحيق العظام، وذلك طمعاً في زيادة إنتاجها من اللحوم والألبان والبيض، وبعد الخسارات الكبيرة التي وقعت بها أكثر الدول غير الإسلامية فقد أصدرت قراراً بمنع إطعام تلك الحيوانات تلك المواد المستقذرة(1).
__________
(1) الإعجاز العلمي في السنة النبوية: د.زغلول النجار: 2/89- 92، الطب الوقائي النبوي: د.محمود الحاج قاسم محمد: 50، من إعجاز السنة المشرفة: د.محمد فؤاد شاكر: 48.(20/30)
ب ـ تحريم أكل ذي الناب والمخلب من الحيوانات: للحديث الذي رواه ابن عباس رضي الله عنهما قال:" نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير"(1)، وعلة تحريم أكل لحوم وشرب ألبان هذا النوع من الحيوانات هو أكلها للنجاسات من الجيف وغيرها مما يؤدي إلى انتقال الأمراض إلى جسم الإنسان، وهناك وقاية طبية نفسية للإنسان في هذا الحديث وهو أن أكل الحيوانات المفترسة لابد أن ينعكس على أخلاق وطباع آكله بشيء من التوحش والقسوة والغضب والميل إلى العنف، والرغبة في سفك الدماء، وهذا ما أثبتته بعض البحوث والدراسات العلمية المعاصرة(2).
2ـ أسلوب ذبح الحيوانات الجائز أكلها:
__________
(1) رواه البخاري في كتاب: الصيد والذبائح، باب: أكل كل ذي ناب من السباع، (الحديث: 5104)، ورواه مسلم في كتاب: الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان، باب: تحريم أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير، (الحديث: 3574)، واللفظ له.
(2) الإعجاز العلمي في السنة النبوية: د.زغلول النجار: 3/193-195، الإعجاز العلمي في الإسلام: السنة النبوية: محمد كامل عبد الصمد: 83- 86.(20/31)
لقد أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نذكر اسم الله تعالى عند الذبح؛ فقال - صلى الله عليه وسلم - :" ما أنهر الدم، وذكر اسم الله عليه فكلوه ما لم يكن سن ولا ظفر، وسأحدثكم عن ذلك، أما السن فعظم وأما الظفر فمدى الحبشة" (1)، وأمره - صلى الله عليه وسلم - هذا يتعلق بأمر عقيدي وأمر عبادي وأمر صحي؛ وقريباً تبين لنا السبب الصحي؛ فقد تبين أن اللحم الذي ذكر اسم الله عند ذبحه كان زهري اللون فاتحاً، وبدا عقيماً من الناحية الجرثومية والفطرية بدرجة كبيرة؛ أما الذي لم يذكر اسم الله عليها فقد بدا لونه أحمر قاتماً يميل للزرقة؛ وبدا فيه نمو جرثومي كثيراً وغزيراً وأن النسيج اللحمي فيه عدد أكبر من كريات الدم الحمراء والبيضاء؛ فالأول الذي ذكر اسم الله عليه أصبح في حالة من الهدوء النفسي والانصياع لإرادة الله؛ وأصبحت أخلاطه وأحشاؤه في حالة لا يحدث معها اختلاط أو تلوث(2)
__________
(1) رواه البخاري في كتاب: الذبائح والصيد، باب: إذا أصاب قوم غنيمة فذبح بعضهم غنماً أو إبلاً، (الحديث: 5117)، واللفظ له، ورواه مسلم في كتاب: الأضاحي، باب: جواز الذبح بكل ما أنهر الدم إلا السن والظفر، (الحديث: 3638).
(2) العلوم والإيمان: د.خليل إبراهيم ملا خاطر العزامي: 212 وما بعدها، وانظر للتوسع: الله أكبر رفقاً بالحيوان: محمد أمين شيخو: 82 وما بعدها .(20/32)
.
3ـ نظافة الطعام والشراب:
يؤكد الطب الوقائي الحديث على أهمية نظافة الأدوات المستخدمة في الطعام والشراب، والأدوات الشخصية؛ وسأختار نموذجين لذلك:
تغطية أواني الطعام والشراب: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - :" غطوا الإناء، وأوكوا السقاء، وأغلقوا الباب، وأطفئوا السراج..."(1)، ينصح الحديث بتغطية أواني الطعام والشراب وعدم تعرضهما للجو، حتى لا يتلوث ما بها؛ ولئلا تتعرض لناقلات الأمراض مثل الذباب والفئران وغيرها(2).
__________
(1) رواه مسلم في كتاب: الأشربة ، باب الأمر بتغطية الإناء وإيكاء السقاء وإغلاق الأبواب، (الحديث: 3755).
(2) الطب الوقائي من القرآن والسنة: د.عبد الباسط محمد السيد:91، التغذية والطب الوقائي: دراسة في الأحاديث الشريفة: د.محمد عيد محمود الصاحب: 29-30.(20/33)
تطهير أواني الطعام والشراب التي ولغ فيها الكلب: يقول - صلى الله عليه وسلم - :" طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب"(1)؛ وهذه الوصفة الوقائية النبوية للوقاية من مرض المشوكات وطوره اليرقاني الذي يصيب الإنسان في مختلف أجزاء جسمه، وفيه الإشارة إلى العدوى بداء الكلب ( السعار) من خلال خدوش في اللثة أو الغشاء المخاطي للفم بالأكل من إناء ولغ فيه الكلب، وفي الحديث إشارة إلى الدور الميكانيكي والكيميائي والحيوي للتراب في القضاء على الطفيليات والفيروسات والجراثيم عند ولوغ الكلب في الإناء(2)
__________
(1) رواه البخاري في كتاب: الوضوء، باب: الماء الذي يغسل به شعر الإنسان، (الحديث: 167)، ورواه مسلم في كتاب: الطهارة، باب: حكم ولوغ الكلب، (الحديث: 420)، واللفظ له.
(2) انظر للتوسع: الإعجاز الطبي للسنة النبوية من خلال صحيح البخاري ومسلم: د.أحمد وصفي محمد أحمد العزب:236 وما بعدها، الموسوعة العلمية الشاملة في الإعجاز النبوي: د.سمير عبد الحليم: 1/ 39، من إعجاز السنة المشرفة: د.محمد فؤاد شاكر: 69 وما بعدها، الإعجاز الطبي في القرآن: د.السيد الجميلي: 267، الأربعون العلمية صور الإعجاز العلمي في السنة النبوية: عبد الحميد محمود طهماز: 105 وما بعدها.(20/34)
.
4ـ آداب الطعام والشراب:
وسأتناول مثالين اثنين من هذه الآداب التي نجدها كثيرة في السنة النبوية: واخترت من آداب الطعام ما يلي:
النهي عن الأكل متكئاً: بين - صلى الله عليه وسلم - بسنته الفعلية الهيئة الصحية في الجلوس للأكل لقوله - صلى الله عليه وسلم - :" لا آكل متكئاً"(1)؛ وإنما ذلك لأجل أن يكون الجهاز الهضمي في أتم الاستعداد لاستقبال وجبة الطعام؛ ولأجل قدوم أكبر كمية ممكنة من الدم كافية للجهاز الهضمي كان وجوب الجلوس وثني الساقين لحصر الدم في الجهاز الهضمي، وتقليل اتساع المعدة فيشعر المرء بالشبع فيقل طعامه ولا يصاب بالتخمة، وهذه الجلسة تجعل المعدة حرة دون ضغط عليها، وفي هذه الجلسة تسهل سير الطعام في المريء، ويسهل الهضم بخلاف الأكل حال الاتكاء أو الوقوف أو السير.
__________
(1) رواه البخاري في كتاب: الأطعمة، باب: الأكل متكئاً، (الحديث: 4979).(20/35)
أما الاتكاء أثناء الطعام فإنه يسبب تشنج واضطراب تقلصات البلعوم فلا يستطيع الإنسان بلع الأكل بارتياح؛ وهذه الوضعية تحدث ارتخاء في عضلات البطن فلا تستقبل المعدة الطعام بصورة صحيحة، أما الأكل قائماً فإنه يوتّر الأعصاب ويؤدي إلى دفع الدم إلى العضلات بدلاً من الجهاز الهضمي؛ وهذا يؤدي إلى عسر الهضم وظهور الأمراض الهضمية(1).
__________
(1) الإعجاز العلمي في الإسلام: السنة النبوية: محمد كامل عبد الصمد: 23-24، الموسوعة العلمية الشاملة في الإعجاز النبوي: د.سمير عبد الحليم: 2/ 22-25، التغذية والطب الوقائي: دراسة في الأحاديث الشريفة: د.محمد عيد محمود الصاحب: 39 وما بعدها.(20/36)
2- النهي عن الشرب من فيّ السقاء: وهو ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال:" نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الشرب من فم القربة أو السقاء ..."(1)، من أجل ما يخاف من أذى؛ عساه أن يكون فيه ولا يراه الشارب فيدخل في جوفه، ولكن الشرب في إناء ظاهر يبصر إن كان به أذى؛ ولما في الشرب من فم السقاء تلويث له؛ ولما فيه من نقل للجراثيم من الفم إلى السقاء(2)، ويتسبب في نقل الأمراض المعدية إلى بقية الشاربين(3).
5ـ الحض على تناول بعض أنواع من الطعام والشراب:
ومن الأطعمة التي تناولتها السنة الفعلية أو حث النبي - صلى الله عليه وسلم - عليها التمر، ومن السوائل زيت الزيتون.
__________
(1) رواه البخاري في كتاب: الأشربة، باب: الشرب من فم السقاء، (الحديث: 5196).
(2) التغذية والطب الوقائي: دراسة في الأحاديث الشريفة: د.محمد عيد محمود الصاحب: 31-31.
(3) الموسوعة العلمية الشاملة في الإعجاز النبوي: د.سمير عبد الحليم: 2/ 28.(20/37)
التمر: قال - صلى الله عليه وسلم - مبيناً أهمية التمر:" لا يجوع أهل بيت عندهم التمر"(1)، وبين العلم فوائد كثيرة للتمر وقائية وعلاجية؛ أهمها ما يلي: 1- يغذي الدماغ ويقوي الذاكرة لغناه بالفوسفور، وهو مهدئ للأعصاب ويقوي الجهود العضلية والفكرية. 2- يقي من تسوس الأسنان. 3- يقوي السمع والبصر للشيوخ. 4- يقي من السرطان. 5- يقي من الدوخة وهبوط السكر. 6- يساعد على تخفيف الوزن. 7- يعالج ارتفاع ضغط الدم والإمساك والبواسير وفقر الدم وجفاف الجلد وتكسر الأظافر والسعال المزمن والبلغم إذا أخذ على الريق. 8- يخفف من احتقان السوائل في الجسم. 9- له فوائد خاصة بالمرأة الحامل والمرضع(2)
__________
(1) رواه مسلم كتاب: الأشربة، باب: في إدخار التمر ونحوه من الأقوات للعيال، (الحديث: 3811).
(2) الموسوعة العلمية الشاملة في الإعجاز النبوي: د.سمير عبد الحليم: 2/ 53 وما بعدها، وانظر للتوسع: الإعجاز الطبي في القرآن والأحاديث النبوية: الرطب والنخلة: د.عبد الله عبد الرزاق السعيد: 111 وما بعدها، التمر: د.سمير إسماعيل الحلو: 2 وما بعدها، ماذا كان يأكل النبي - صلى الله عليه وسلم - وبم كان يتداوى؟: د.محمد كمال عبد العزيز: 17، المعارف الطبية في ضوء القرآن والسنة: د.أحمد شوقي إبراهيم: 4/ 114، الإعجاز العلمي في السنة النبوية: د.صالح بن أحمد رضا: 1/268.(20/38)
. 10- يطرد السموم. 11- يعالج الفشل الكلوي والمرارة والنقرس(1).
زيت الزيتون: قال - صلى الله عليه وسلم - :" كلوا الزيت وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة"(2)، وقد أيد الطب الحديث وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - الوقائية والعلاجية؛ فذكر العلماء هذه الفوائد: 1- يقي زيت الزيتون من حدوث تصلب الشرايين . 2- يقي من حدوث الجلطة في الدم التي تسبب الجلطة القلبية والدماغية. 3 - يقلل من امتصاص الكولسترول في الجسم . 4- يقي من الأمراض السرطانية . 5- يمنع نمو الجرثومة المسؤولة عن قرحة وسرطان المعدة. 6- يساعد على نمو الأطفال ويمنع تقوس الساق وشلل الأطفال ويغذي الدماغ وينشط الذكاء والذاكرة ويزيد الطاقة الجنسية والإخصاب. 7- يخفّض مستوى الكولسترول الكلي والضار في الدم . 8- يعالج ارتفاع ضغط الدم الشرياني وداء
__________
(1) الإعجاز العلمي في السنة النبوية: د.زغلول النجار: 1/56.
(2) رواه الترمذي في كتاب: الأطعمة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب: ما جاء في أكل الزيت، (الحديث: 1774)، ورواه ابن ماجه في كتاب: الأطعمة، باب: الزيت، (الحديث: 3310)، ورواه أحمد في مسند أبي أسيد الساعدي رضي الله عنه، (الحديث: 15474).(20/39)
السكري. 9- يعالج التهاب المفاصل الرثوي. 10- يعالج الإمساك والبواسير والتهاب المرارة وأمراض اللثة والأمراض الجلدية(1).
رابعاً : الطب الوقائي في البيئة :
إن مسؤولية نظافة البيئة تقع على كل أفراد المجتمع؛ لذا حافظ الإسلام بهديه العلمي على بقاء بيئة المجتمع الإسلامي نظيفة خالية من الأمراض؛ ويمكن أن نقسم الطب الوقائي في البيئة من خلال الوصايا النبوية إلى قسمين؛ نظافة الطريق، ونظافة الماء، وسأذكر مثالا واحداً لكل منها:
نظافة الطريق :
__________
(1) الموسوعة العلمية الشاملة في الإعجاز النبوي: د.سمير عبد الحليم: 2/63، وانظر للتوسع: زيت الزيتون بين الطب والقرآن: د.حسان شمسي باشا: 55 وما بعدها، ماذا كان يأكل النبي - صلى الله عليه وسلم - وبم كان يتداوى؟: د.محمد كمال عبد العزيز: 30وما بعدها، الإعجاز العلمي في السنة النبوية: د.صالح بن أحمد رضا: 1/307.(20/40)
وتشتمل على نظافة المساكن وأماكن الاستراحات كظل الشجر؛ والحث على التشجير وقتل الحيوانات الضارة ومن ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - : " ... نظفوا أفنيتكم ولا تشبهوا باليهود"(1)، وقد ثبت علمياً وجود مجموعة من الأمراض تزيد وتنتشر في الأماكن سيئة النظافة والتهوية، ومن تلك الأمراض كالإسهال والتهاب الحلق المتكرر والدرن والحمى الروماتزمية؛ وتزيد قذارة الطرق من تكاثر الحشرات كالذباب والفئران والصراصير.. (2).
نظافة الماء :
__________
(1) رواه الترمذي في كتاب: الأدب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب: ما جاء في النظافة، (الحديث: 2723).
(2) أصول الطب الوقائي في الحديث النبوي: د.أيمن محمود السعيد: 38-39، وانظر للتوسع: الإعجاز الطبي للسنة النبوية من خلال صحيح البخاري ومسلم: د.أحمد وصفي محمد أحمد العزب: 145وما بعدها، الإعجاز العلمي في السنة النبوية: د.صالح بن أحمد رضا: 1/481 وما بعدها، تفوق الطب الوقائي في الإسلام: د.عبد الحميد القضاة: 22 وما بعدها، الإعجاز الطبي في القرآن: د.السيد الجميلي: 271 وما بعدها، الطب النبوي والعلم الحديث: د.محمود ناظم النسيمي: 2/157.(20/41)
جزء من نظافة البيئة؛ ولذلك فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن تنجيسه وخاصة الماء الراكد ؛ كما روى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يبال في الماء الراكد"(1)، ويركز الحديث على الماء الراكد الذي لا نبع له والساكن الذي لا يتحرك؛ والذي يعتبر بيئة مثالية لحياة وتكاثر الميكروبات وبعض الديدان، وهذا الماء ينقل عدوى المرض من المريض إلى الماء، ومنه إلى كل من يشربه أو يلمسه في بعض الأمراض(2)، هذا وقد وردت أحاديث تنهي عن الاغتسال من الماء الراكد لا مجال لبيانه في هذا المجال .
خامساً : الطب الوقائي في الصحة العامة :
__________
(1) رواه مسلم في كتاب: الطهارة، باب: النهي عن البول في الماء الراكد، (الحديث: 423).
(2) أصول الطب الوقائي في الحديث النبوي: د.أيمن محمود السعيد: 38، من إعجاز السنة المشرفة: د.محمد فؤاد شاكر : 63-64، وانظر للتوسع: الإعجاز الطبي للسنة النبوية من خلال صحيح البخاري ومسلم: د.أحمد وصفي محمد أحمد العزب: 113 وما بعدها، الطب النبوي والعلم الحديث: د.محمود ناظم النسيمي: 2/157.(20/42)
تناولت السنة النبوية جوانب طبية وقائية عديدة في الصحة العامة منها: التحذير من عدوى الأمراض كالجذام والطاعون، وما يعرف الآن بالحجر الصحي عند وقوع الأوبئة(1)، ومن ذلك تحريم الزنى واللواط؛ وهذا ما سأتناوله بشيء من البيان.
__________
(1) انظر: العدوى بين الطب وحديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم - : د.محمد علي البار: 23- 112، الإعجاز الطبي في الأحاديث الواردة في العدوى: د.محمد علي البار: 56- 62، الإعجاز الطبي في الأحاديث الواردة في الجذام: د.محمد علي البار: 82- 88، العدوى في السنة المطهرة والحقائق العلمية: د.عبد الرحمن عبد الله الرفاعي: 55- 77.(20/43)
يقول - صلى الله عليه وسلم - :" يا معشر المهاجرين، خمس إذا ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن، لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا . . ."(1)، وفعلاً سمي الإيدز بسرطان الشواذ وطاعون القرن العشرين، لكن الإسلام ربى أتباعه تربية لا تدع مجالاً للانحراف الجنسي أو الشذوذ الجنسي؛ وسن تشريعات وقائية منها تحريم الزنى وتجريمه، والتشجيع على الزواج، وغض البصر عن النظر المحرّم، وحفظ العورة، وحجاب المرأة، وتحريم الاختلاط الفاسد بين الجنسين، وتحريم الخلوة بين الرجل والمرأة الأجنبية التي يحل له الزواج بها، والتفريق في المضاجع بين الأطفال والشباب، والاستئذان، وتحريم لمس المرأة الأجنبية والرجل الأجنبي، وتحريم قذف المرأة والرجل بالفاحشة .
__________
(1) رواه ابن ماجه في سننه في كتاب: الفتن، باب: العقوبات، (الحديث: 4009)، واللفظ له، ورواه مالك في الموطأ في كتاب: الجهاد، باب: ما جاء في الغلول، (الحديث: 870).(20/44)
وبمخالفة هذه التشريعات تنتشر الأمراض كمرض الإيدز؛ هذا المرض يأتي عن طريق الاتصال الجنسي غير الشرعي؛ من تعدد اتصال المرأة برجال متعددين بعلاقات غير شرعية، ويأتي من خلال جماع المرأة في دبرها، أو اللواط بين الرجلين، وقال بعضهم: إنه يحدث من خلال لواط الإنسان بالحيوانات .
وصور انتقال الإيدز: الزنى أو اللواط أو نقل الدم الذي يحمل الفيروس إلى غيره، وكذلك عن طريق حقن المخدرات، أو ينتقل المرض إلى الجنين من أم حاملة للمرض، كما ينتقل المرض عن طريق وصوله من مصاب إلى سليم عن طريق الجروح ومنها استعمال أدوات الحلاقة الملوثة بالدم؛ إذن فالعدوى تنتقل بالدم أو المني أو مفرزات المهبل وعنق الرحم، وكذلك المفرزات المخاطية في الشرج والفم أيضاً .(20/45)
وهذا المرض ليس له علاج إلا العلاج الوقائي(1)، وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ يقول :" ما ظهر الغلول في قوم قط إلا ألقى في قلوبهم الرعب، ولا فشا الزنى في قوم قط إلا كثر فيهم الموت . . . "(2)
__________
(1) التشريعات الإسلامية الوقائية والعلاجية للأمراض الجنسية: د.محمد عبد الرزاق أسود: 3 وما بعدها، وانظر للتوسع: المعارف الطبية في ضوء القرآن والسنة: د.أحمد شوقي إبراهيم: 3/30وما بعدها، الوقاية من الإيدز والسرطان من ثنايا آيات القرآن: د.محمود محمد شعبان: 80 وما بعدها، الإيدز من عهد لوط إلى عصر الشذوذ: يسري عبد الغني البشري: 84 وما بعدها، الإيدز: محمد نظام: 49 وما بعدها، العين وغض البصر: د.ماجدة عامر: 14 وما بعدها، من إعجاز السنة المشرفة: د.محمد فؤاد شاكر: 54، الإعجاز العلمي في السنة النبوية: د.زغلول النجار: 1/84 وما بعدها، موسوعة الإعجاز العلمي في الحديث النبوي الشريف: عبد الرحيم مارديني: 119، الإعجاز العلمي في الإسلام: السنة النبوية : محمد كامل عبد الصمد: 39، الطب الوقائي النبوي: د.محمود الحاج قاسم محمد: 53 وما بعدها، الموسوعة العلمية الشاملة في الإعجاز النبوي: د.سمير عبد الحليم: 1/75.
(2) رواه مالك في الموطأ في كتاب: الجهاد، باب: ما جاء في الغلول، (الحديث: 870).(20/46)
.
سادساً : الطب الوقائي في الصحة النفسية :
تناولت السنة جوانب طبية وقائية عديدة في الصحة النفسية منها ؛ الإيمان بالقضاء والقدر، والصبر، والعفو وعدم الغضب، والذكر، والتوكل، والرقية، والتوبة، والاستقامة، والدعاء؛ وأختار الوقاية من الأمراض بترك الغضب؛ وفي هذا وقاية للمؤمن من الأمراض التي تنجم عن الغضب كالشقيقة ( الصداع النصفي )، والربو، والذبحة الصدرية، وقرحة الاثنا عشرية، وارتفاع الضغط، وأمراض القلب، والسكري(1)، وارتفاع الكولسترول والشحوم الثلاثية في الدم مما ينتج أمراض القلب أو الجلطة، والغضب أيضاً يؤدي إلى إضعاف المناعة، والسرطان، والإمساك المزمن،
__________
(1) الموسوعة العلمية الشاملة في الإعجاز النبوي: د.سمير عبد الحليم: 57 وما بعدها، وانظر للتوسع: موسوعة الإعجاز العلمي في الحديث النبوي الشريف: عبد الرحيم مارديني: 203 وما بعدها، العلوم والإيمان: د.خليل إبراهيم ملا خاطر العزامي: 255 وما بعدها، الطب النبوي والعلم الحديث: د.محمود ناظم النسيمي: 2/5وما بعدها، الأربعون العلمية صور الإعجاز العلمي في السنة النبوية: عبد الحميد محمود طهماز: 118، الحديث النبوي وعلم النفس: د.محمد عثمان نجاتي: 284.(20/47)
والتقرح المزمن في الكولون؛ وهذا العلاج الوقائي كله في وصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - بكلمة واحدة كررها تأكيداً على الوصية ؛ كما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أوصني ، قال :" لا تغضب، فردد مراراً قال: لا تغضب" (1)، بل إنه - صلى الله عليه وسلم - نصح بإجراءات وقائية تخفف من الغضب كالجلوس أو الاضطجاع والوضوء وخاصة بالماء البارد وكذلك أوصى بالسكوت عند الغضب.
الفصل الثاني : السنة النبوية وأثرها في الطب العلاجي المعاصر
وقد قسمت هذا الفصل إلى ثلاثة مباحث: الطب العلاجي النفسي، والطب العلاجي المادي، والطب العلاجي النفسي المادي.
المبحث الأول : الطب العلاجي النفسي :
تعددت الوصايا النبوية في العلاج الروحي والنفسي سواء للمتاعب النفسية أو البدنية؛ ومن تلك الوصايا قراءة القرآن، والتوبة، والاستقامة، والتوكل، والصبر، والاستغفار، والإيمان، والدعاء، وهو ما سأتناوله هنا .
__________
(1) رواه البخاري في كتاب: الأدب، باب: الحذر من الغضب، (الحديث: 5651).(20/48)
إن أمل المؤمن في استجابة الله لدعائه يخفف من كربه وهمه، ويمده بقوة تعينه على التحمل والصبر، وتبث فيه الشعور بالراحة النفسية، فالمؤمن يعلم أن الله إما أن يستجيب له، وإما أن يصرف عنه بلاءاً لم ينزل، أو يدخر له ثواباً في الآخرة، وإما أن يكفّر عنه ذنوبه؛ لذا هو يعتقد أن الدعاء خير وفائدة في الدارين على أي حال .
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلّم أصحابه الاستعانة بالدعاء في علاج كثير من الاضطرابات النفسية؛ مثل: الكرب والهم والحزن والأرق والفزع من النوم(1)؛ ومن ذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل ذات يوم المسجد فإذا هو برجل من الأنصار يقال له أبو أمامة فقال:" يا أبا أمامة؛ مالي أراك جالساً في المسجد في غير وقت الصلاة، قال: هموم لزمتني وديون يا رسول الله؛ قال: أفلا أعلمك كلاماً إذا أنت قلته أذهب الله عز وجل همك وقضى عنك دينك، قال: قلت: بلى يا رسول الله؛ قال: قل إذا أصبحت وإذا أمسيت: اللهم إني أعوذ بك من الهم
__________
(1) الحديث النبوي وعلم النفس، د. محمد عثمان نجاتي: 333 وما بعدها، أساليب العلاج النفسي في ضوء القرآن الكريم والسنة النبوية: د.رشاد علي عبد العزيز موسى: 98 وما بعدها.(20/49)
والحزن؛ وأعوذ بك من العجز والكسل؛ وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال، قال: ففعلت ذلك فأذهب الله عز وجل همي وقضى عني دَيني"(1).
المبحث الثاني : الطب العلاجي المادي :
تعددت الوصايا والوصفات النبوية في العلاج المادي، وذلك بأدوية عديدة؛ فمن هذه الوصايا ما هو علاج من أصل نباتي، وما هو علاج من أصل حيواني، ومثال ذلك ما يلي:
أولاً : العلاج بدواء نباتي :
__________
(1) رواه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: في الاستعاذة، (الحديث: 1330).(20/50)
وأمثلة هذا العلاج كثيرة جداً؛ منها: الكمأة(1)، والسنا(2)، والقسط أو العود الهندي(3)، والحناء(4)، والورس(5)
__________
(1) انظر: الطب النبوي والعلم الحديث: د.محمود ناظم النسيمي: 3/280- 286، الإعجاز العلمي في السنة النبوية: د.زغلول النجار: 1/133- 137، أحاديث الطب في السنة النبوية: دراسة حديثية علمية: د.قاسم محمد غنام: 16- 19،
(2) انظر: التداوي بالسنا: سنة نبوية ومعجزة طبية: شهاب البدري يس: 44- 55، 71، الإعجاز العلمي في السنة النبوية: د.صالح بن أحمد رضا: 2/842، أحاديث الطب في السنة النبوية: دراسة حديثية علمية: د.قاسم محمد غنام: 23.
(3) انظر: الطب النبوي والعلم الحديث: د.محمود ناظم النسيمي: 3/266- 274، أحاديث الطب في السنة النبوية: دراسة حديثية علمية: د.قاسم محمد غنام: 21- 23، روائع الطب الإسلامي: القسم العلاجي: د.محمد نزار الدقر: 1/225- 231.
(4) انظر: الطب النبوي والعلم الحديث: د.محمود ناظم النسيمي: 3/221، روائع الطب الإسلامي: القسم العلاجي: د.محمد نزار الدقر: 1/124- 128، موسوعة الإعجاز العلمي في الحديث النبوي الشريف: عبد الرحيم مارديني: 209- 214.
(5) انظر: الطب النبوي والعلم الحديث: د.محمود ناظم النسيمي: 3/224، روائع الطب الإسلامي: القسم العلاجي: د.محمد نزار الدقر: 1/274- 275.(20/51)
، والذريرة(1)، والخل(2)، والحلبة(3)، والثفاء (حب الرشاد) (4)، والقثاء(5)، والصَّبِر(6)، والحبة السوداء،
__________
(1) انظر: الطب النبوي والعلم الحديث: د.محمود ناظم النسيمي: 3/177، روائع الطب الإسلامي: القسم العلاجي: د.محمد نزار الدقر: 1/132.
(2) انظر: الإعجاز العلمي في السنة النبوية: د.زغلول النجار: 2/57- 61، روائع الطب الإسلامي: القسم العلاجي: د.محمد نزار الدقر: 1/129- 131، الأربعون العلمية صور الإعجاز العلمي في السنة النبوية: عبد الحميد محمود طهماز: 89- 90.
(3) انظر: الإعجاز العلمي في السنة النبوية:د.زغلول النجار: 2/83-85،موسوعة الإعجاز العلمي في الحديث النبوي الشريف:عبد الرحيم مارديني: 166.
(4) انظر: روائع الطب الإسلامي: القسم العلاجي: د.محمد نزار الدقر: 1/97- 99.
(5) انظر: روائع الطب الإسلامي: القسم العلاجي: د.محمد نزار الدقر: 1/223- 224.
(6) انظر: روائع الطب الإسلامي: القسم العلاجي: د.محمد نزار الدقر: 1/176- 182، موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة المطهرة: يوسف الحاج أحمد: 888- 895، الأربعون العلمية صور الإعجاز العلمي في السنة النبوية: عبد الحميد محمود طهماز: 114- 117.(20/52)
وسأتناول هنا بالبيان الحبة السوداء كنموذج على ذلك.
يقول فيها - صلى الله عليه وسلم - :" الحبة السوداء شفاء من كل داء إلا السام، والسام الموت، والحبة السوداء الشونيز"(1)، ويعني الحديث أن في الحبة السوداء نسبة من الشفاء في كل داء؛ وقد ثبت أن الحبة السوداء تنظم توازن أعضاء الجسم وتمنع عنها الخلل والاضطرابات وتستخدم الحبة السوداء في علاج الأمور التالية:
1ـ تسكن الآم الأسنان. 2ـ تعالج السعال. 3ـ تعالج نزف الأنف. 4ـ تعالج النقرس. 5ـ تعالج المغص المعدي.
6ـ تعالج الثعلبة والصدف والإكزيمة والفطور والبهاق. 7ـ تعالج الربو والزكام والتهاب القصبات.
8ـ تعالج الأمراض الناجمة عن نقص المناعة كالسرطان والإيدز أو تخفف منه؛ لأنها تقوي المناعة. 9ـ تقي من الجلطات.
10ـ تقي من الحصيات البولية؛ لأنها تدر البول وتطرح الفضلات. 11ـ تقي من ارتفاع ضغط الدم وتعمل على تخفيضه.
__________
(1) رواه مسلم في كتاب: السلام، باب: التداوي بالحبة السوداء، (الحديث: 4104).(20/53)
12ـ تقي من تضخم البروستات. 13ـ تؤخر أعراض الشيخوخة(1).
ثانياً : العلاج بدواء حيواني :
__________
(1) من أوجه الإعجاز العلمي في حديث الحبة السوداء شفاء من كل داء: د.أحمد القاضي، د.أسامة قنديل: 24-25، الحبة السوداء شفاء من كل داء: د.محمد نزار الدقر: 35 وما بعدها، وانظر للتوسع: الشفاء بالحبة السوداء بين الإعجاز النبوي والطب الحديث: د.حسان شمسي باشا: 21 وما بعدها، معجزة الشفاء بالحبة السوداء: مرزوق علي إبراهيم : 31 وما بعدها، روائع الطب الإسلامي: القسم العلاجي: د.محمد نزار الدقر: 1/ 107.(20/54)
وأمثلة هذا العلاج كثيرة؛ منها: ألبان البقر(1)، وألية الشاة(2)، والكبد والطحال(3)، والسمك والحوت(4)، والعسل(5)
__________
(1) انظر: التداوي بألبان البقر والتحذير من لحومها: شهاب البدري يس: 19- 31، الإعجاز الطبي في الكتاب والسنة: حسن ياسين عبد القادر: 39- 44، الإعجاز العلمي في قيمة اللبن الغذائية: د.علي أحمد علي الشحات: 13، 22.
(2) انظر: الطب النبوي والعلم الحديث: د.محمود ناظم النسيمي: 3/288- 290، أحاديث الطب في السنة النبوية: دراسة حديثية علمية: د.قاسم محمد غنام: 29- 30، الموسوعة العلمية الشاملة في الإعجاز النبوي: د.سمير عبد الحليم: 1/31- 34.
(3) انظر: الطب النبوي والعلم الحديث: د.محمود ناظم النسيمي: 3/244- 248،
(4) انظر: الأسرار الطبية في السمك والحوت: د.حسان شمسي باشا: 20، 47- 86، روائع الطب الإسلامي: القسم العلاجي: د.محمد نزار الدقر: 1/164- 169.
(5) انظر: الإعجاز الطبي للسنة النبوية من خلال صحيح البخاري ومسلم: د.أحمد وصفي محمد أحمد العزب: 288- 305، الإعجاز الطبي في الكتاب والسنة: حسن ياسين عبد القادر: 27- 31، التداوي بالأعشاب والطب النبوي: د.عبد الباسط محمد سيد: 88- 102، الحشرات في ضوء القرآن الكريم والسنة النبوية والعلم الحديث: د.عبد الحكيم عبد اللطيف الصعيدي: 130- 134.(20/55)
، والمسك(1)، والحرير(2)، وأبوال الإبل، وسأتناول هنا أبوال الإبل كنموذج للعلاج النبوي من الحيوان؛ وقد ورد أن ناساً من عرينة قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة فاجتووها(3)، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :" إن شئتم أن تخرجوا إلى إبل الصدقة، فتشربوا من ألبانها وأبوالها؛ ففعلوا فصحوا، ثم مالوا على الرعاة فقتلوهم وارتدوا عن الإسلام؛ وساقوا ذود(4) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فبلغ ذلك النبي - صلى الله
__________
(1) انظر: الطيب: فوائده الصحية والنفسية والاجتماعية: د.سمير إسماعيل الحلو: 22- 25، روائع الطب الإسلامي: القسم العلاجي: د.محمد نزار الدقر: 1/272- 273.
(2) انظر:الطب النبوي والعلم الحديث:د.محمود ناظم النسيمي:3/226،موسوعة الإعجاز العلمي في الحديث النبوي الشريف:عبد الرحيم مارديني: 231.
(3) أي أصابهم الجوى: وهو المرض وداء الجوف إذا تطاول، وذلك إذا لم يوافقهم هواؤها.انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر: ابن الأثير الجزري: 173.
(4) الذود من الإبل: ما بين الثنتين إلى التسع، وقيل: ما بين الثلاث إلى العشر. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر: ابن الأثير الجزري: 330.(20/56)
عليه وسلم - فبعث في أثرهم، فأتى بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم؛ وسمل(1) أعينهم؛ وتركهم في الحرة حتى ماتوا"(2).
وقد استخدم بول الإبل العربية منذ قرون في علاج الأمور التالية:
1ـ علاج الحبن ( الاستسقاء ). 2ـ علاج الشعر وتحسينه فيعالج القرع وتساقط الشعر والقشرة. 3ـ تطهير الجروح والقروح، والحساسية والحروق وحب الشباب وإصابات الأظافر 4ـ علاج السرطان. 5ـ وقد شفى عدة حالات من تليف الكبد... وغيرها مما شهدت به التجارب والدراسات العلمية(3).
ثالثاً : العلاج بدواء من طبيعة الأرض :
__________
(1) أي فقأها بحديدة محماة أو غيرها. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر: ابن الأثير الجزري: 442.
(2) رواه مسلم في كتاب: القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب: حكم المحاربين والمرتدين، (الحديث: 3162).
(3) التداوي بألبان وأبوال الإبل: شهاب البدري يس: 46 وما بعدها، روائع الطب الإسلامي: القسم العلاجي: د.محمد نزار الدقر: 1/ 257.(20/57)
والأمثلة على ذلك متنوعة؛ مثل: ماء زمزم النابع في مكة المكرمة(1)، والماء العادي(2)، والإثمد وهو الكحل(3)، والرماد(4)، وتراب المدينة المنورة؛ وسأشرحه كنموذج للعلاج
__________
(1) انظر: معجزات الشفاء بماء زمزم: محمد عبد العزيز أحمد، مجدي السيد إبراهيم: 45- 53، 76- 79، زمزم بين عجائب التاريخ ومكتشفات العلم: علي عوض عويضا: 56- 59، 74- 80، روائع الطب الإسلامي: القسم العلاجي: د.محمد نزار الدقر: 1/270.
(2) انظر: روائع الطب الإسلامي: القسم العلاجي: د.محمد نزار الدقر: 1/265- 269، أحاديث الطب في السنة النبوية: دراسة حديثية علمية: د.قاسم محمد غنام: 10، الإعجاز الطبي في الكتاب والسنة: حسن ياسين عبد القادر: 35.
(3) انظر: أحاديث الطب في السنة النبوية: دراسة حديثية علمية: د.قاسم محمد غنام: 19- 20، الإعجاز العلمي في السنة النبوية: د.صالح بن أحمد رضا: 1/111، روائع الطب الإسلامي: القسم العلاجي: د.محمد نزار الدقر: 1/66- 69.
(4) انظر: الطب النبوي والعلم الحديث: د.محمود ناظم النسيمي: 3/250، روائع الطب الإسلامي: القسم العلاجي: د.محمد نزار الدقر: 1/134- 136، في رحاب الطب النبوي والعلم الحديث: د.محمود طلوزي: 70.(20/58)
النبوي من طبيعة الأرض؛ وذلك من خلال ما روته عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اشتكى الإنسان الشيئ منه أو كانت به قرحة أو جرح؛ قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:" بإصبعه هكذا؛ ـ ووضع سفيان سبابته بالأرض ثم رفعها ـ باسم الله تربة أرضنا، بريقة بعضنا، ليُشفى به سقيمنا بإذن ربنا"(1)، وهذا التراب يعالج من القروح والجراحات الطرية لا سيما عند عدم وجود غيرها من الأدوية؛ وكذلك الريق يساعد على شفاء الجروح ويخفف من تأثير المواد المسرطنة ويقضي على كثير من الجراثيم الممرضة(2).
المبحث الثالث : الطب العلاجي النفسي المادي :
__________
(1) رواه البخاري في كتاب: الطب، باب: رقية النبي - صلى الله عليه وسلم -، (الحديث: 5304)، رواه مسلم في كتاب: السلام، باب: استحباب الرقية من العين والنملة والحمة والنظرة، (الحديث: 4069).
(2) الطب النبوي: ابن قيم الجوزية: 140- 142، الموسوعة العلمية الشاملة في الإعجاز النبوي: د.سمير عبد الحليم: 1/91، روائع الطب الإسلامي: القسم العلاجي: د.محمد نزار الدقر: 1/300- 301.(20/59)
وخير مثال على هذا النوع من الطب هو: التلبينة، وهو حساء الشعير، وفيها أحاديث كثيرة؛ أهمها: قوله - صلى الله عليه وسلم - :" التلبينة مجمة لفؤاد المريض تذهب ببعض الحزن"(1)، وتستخدم التلبينة في علاج الأمور التالية:
1ـ الاكتئاب النفسي والحزن. 2ـ تخفض الكوليسترول في الدم. 3ـ تعالج أمراض القلب والدورة الدموية.
4ـ لعلاج السرطان وسرطان الأمعاء. 5ـ تعمل على تأخير الشيخوخة. 6ـ لعلاج ارتفاع السكر في الدم.
7ـ لعلاج ارتفاع ضغط الدم. 8ـ تعالج التهابات الأمعاء وملينة لها؛ ومهدئة للقولون.
9ـ تعالج الضعف الجنسي عند الرجال. 10ـ تكافح الإسهال. 11ـ لعلاج التهابات المجاري البولية.
12ـ لعلاج ضعف الكبد. 13ـ لعلاج إفراز الصفراء. 14ـ لعلاج التيفوئيد. 15ـ لعلاج بطء النمو عند الأطفال.
__________
(1) رواه البخاري في كتاب: الأطعمة، باب: التلبينة، (الحديث: 4997)، ورواه مسلم في كتاب: السلام، باب: التلبينة مجمة لفؤاد المريض، (الحديث: 4106)، واللفظ لهما.(20/60)
16ـ لعلاج أمراض الصدر. 17ـ تدر البول وتخلص الجسم منه. 18ـ تقوي الأعصاب عامة(1).
الخاتمة
بعد الطواف في بحث أثر السنة النبوية في الطب الوقائي والعلاجي المعاصر، توصلت إلى النتائج التالية:
1ـ تظهر خصائص الطب الوقائي في السنة في عشرة صفات؛ وهي: السبق المبكر، والمصداقية، والبساطة واليسر، ولا تستلزم المؤهلات الصحية، والذاتية في التنفيذ، والشمولية، والحماية من الأمراض الجنسية، والتركيز على الوقاية، والديمومة، وتعنى قوانينه بالنفس والجسد.
2ـ تتركز أقسام الطب الوقائي في السنة النبوية في ستة أنواع؛ وهي: الطهارة والنظافة، والعبادات، والطعام والشراب، والبيئة، والصحة العامة، والصحة النفسية.
__________
(1) التلبينة وصية نبوية وحقيقة علمية: د.صهباء محمد بندق: 2- 10، العلاج بالتلبينة: عبد الكريم التاجوري: 11- 24، 61- 64، الغذاء الميزان: القمح والشعير: د.جميل القدسي الدويك: 138- 152، عشرون بشارة نبوية لعلاج الأمراض المستعصية: شهاب البدري يس: 54- 55.(20/61)
3ـ أبرز مجال الطب الوقائي في الطهارة والنظافة التي تناولتها: سنن الفطرة (النظافة الشخصية) وهي: الختان، والاستحداد، وقص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الآباط، ونظافة الجلد والشعر من خلال غسلهما، ونظافة الفم والأسنان بالسواك، ونظافة اليدين من خلال غسلهما وخاصة عند الاستيقاظ من النوم، السبيلين من خلال الاستنجاء بالشمال وثلاثاً وقاعداً، والاهتمام بمادة النظافة بالسدر.
4ـ العبادات جميعاً (الوضوء والصلاة والصيام والزكاة والحج) شفاء نفسي عظيم، وعلاج وقائي لكل ما يصيب النفس الإنسانية من أمراض واضطرابات.
5ـ يظهر الطب الوقائي في الطعام والشراب من خلال المظاهر التالية: تحريم أكل بعض الحيوانات وشرب ألبانها مثل: الجلالة وذي الناب والمخلب، وأسلوب ذبح الحيوانات الجائز أكلها من خلال التسمية عليها، ونظافة الطعام والشراب كتغطيتهما وغسلهما عند ولوغ الكلب فيهما، وآداب الطعام والشراب كالنهي عن الأكل متكئاً والشرب من فيّ السقاء، والحض على تناول بعض أنواع من الطعام والشراب كالتمر وزيت الزيتون.
6ـ أهم مظاهر الطب الوقائي في البيئة هو: نظافة الطريق، ونظافة الماء، وقد حرصت السنة النبوية على ذلك أيما حرص.(20/62)
7ـ أوضح مجال للطب الوقائي في الصحة العامة هو: التحذير من عدوى الأمراض كالجذام والطاعون، وما يعرف الآن بالحجر الصحي عند وقوع الأوبئة، وكذلك تحريم الزنى واللواط، وهو ما شرحته مفصلاً.
8ـ تناولت السنة جوانب طبية وقائية عديدة في الصحة النفسية أهمها: الإيمان بالقضاء والقدر، والصبر، والذكر، والتوكل، والرقية، والتوبة، والاستقامة، والدعاء؛ والعفو وعدم الغضب، وهو ما شرحته مفصلاً.
9ـ انقسم الطب العلاجي في السنة النبوية إلى ثلاثة أقسام؛ وهي: الطب العلاجي النفسي، والطب العلاجي المادي، والطب العلاجي النفسي المادي.
10ـ تعددت الوصايا الطبية النبوية في العلاج النفسي من خلال قراءة القرآن، والتوبة، والاستقامة، والتوكل، والصبر، والاستغفار، والإيمان، والدعاء، وهو ما شرحته مفصلاً.(20/63)
11ـ تعددت الوصفات النبوية في العلاج المادي، وهو على ثلاثة أنواع؛ وهي: ما هو علاج من أصل نباتي، مثل: الكمأة، والسنا، والقسط أو العود الهندي، والحناء، والورس، والذريرة، والخل، والحلبة، والثفاء (حب الرشاد)، والقثاء، والصَّبِر، والحبة السوداء، وهي ما شرحتها مفصلاً، وما هو علاج من أصل حيواني، مثل: ألبان البقر، وألية الشاة، والكبد والطحال، والسمك والحوت، والعسل، والمسك، والحرير، وأبوال الإبل، وهو ما شرحته مفصلاً، وما هو علاج بدواء من طبيعة الأرض، مثل: ماء زمزم النابع في مكة المكرمة، والماء العادي، والإثمد وهو الكحل، والرماد، وتراب المدينة المنورة؛ وهو ما شرحته مفصلاً.
12ـ أبرز مثال شرحته بالتفصيل للعلاج النفسي المادي؛ هو التلبينة، وهو حساء الشعير.
التوصيات
1ـ ضرورة التواصل بين كليات وأقسام ومراكز السنة النبوية ومؤسساتها الخاصة والرسمية؛ والكليات والأقسام والمراكز العلمية الطبية المتخصصة الخاصة والرسمية؛ لمتابعة تطور البحوث العلمية؛ وإفادتها بالوصايا النبوية؛ لبناء بحوث علمية عليها.(20/64)
2ـ تشجيع تناول البحوث العلمية الجامعية (الماجستير والدكتوراه)، والمحكمة في الهدي النبوي في الطب للاختصاصين في علوم الشريعة أو العلوم العلمية؛ بحيث تسير على منهجية علمية دقيقة؛ مما يسهم أيضاً في الدعوة إلى دين الله وإلى التمسك بآدابه وسننه.
3ـ إنشاء هيئة عالمية متخصصة بالهدي النبوي في الطب؛ مكونة من مراكز وهيئات ونقابات طبية وإسلامية لعمل النشاطات الدولية الدورية من مؤتمرات وندوات وورشات عمل ودورات تدريبية.
4ـ إنشاء مجلة علمية دورية متخصصة بالهدي النبوي في الطب؛ فقد وجدنا عدداً من المجلات تشتمل على الإعجاز العلمي في الكون عامة؛ ولكننا لم نجد مجلات متخصصة في الطب؛ حتى ترتقي بالثقافة الطبية لدى عامة الناس؛ وتزيدهم إعجاباً وتمسكاً بدينهم ودعوتهم إليه.
5ـ إقامة محاورات علمية مع كبار علماء العالم الكونيين يدعى الناس لحضورها مع دعوة الصحفيين والإعلاميين؛ لتغطيتها ليسمعوا شهادة العلم بصدق ما ورد في السنة النبوية، ومن ثم يؤدون دورهم في إيصالها للجماهير.
6ـ رصد الجوائز المالية الكافية لإقامة مسابقة علمية لأفضل كتاب أو بحث طبي نبوي.(20/65)
7ـ السعي في إنشاء دائرة معارف أو موسوعة الإعجاز الطبي في السنة النبوية.
فهرس المصادر والمراجع
أحاديث الختان حجيتها وفقهها: د.سعد المرصفي، ط1، (1415هـ، 1994م)، مكتبة المنار الإسلامية: الكويت.
أحاديث الطب في السنة النبوية: دراسة حديثية علمية: د.قاسم محمد غنام، بحث في ندوة الطب في السنة النبوية، (1424هـ، 2003م)، جمعية الحديث وإحياء التراث: عمان.
الأربعون العلمية صور الإعجاز العلمي في السنة النبوية: عبد الحميد محمود طهماز، ط1، (1418هـ، 1997م)، دار القلم: دمشق.
أساليب العلاج النفسي في ضوء القرآن الكريم والسنة النبوية: د.رشاد علي عبد العزيز موسى، ط1، (1421هـ، 2001م)، مؤسسة المختار: القاهرة.
الاستشفاء بالصلاة: دراسة حول الفوائد الصحية للصلاة على ضوء العلم الحديث: د.زهير رابح القرامي، ط1، (1417هـ، 1996م)، هيئة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة: رابطة العالم الإسلامي: مكة المكرمة.
الأسرار الطبية في السمك والحوت: د.حسان شمسي باشا، ط2، (1413هـ، 1993م)، دار المنارة: جدة.
الأسرار الطبية لصلاة الليل: د.مصطفى سلمان محمد الخلف، ط1، (1420هـ، 1999م)، دار الصفوة: بيروت.(20/66)
أصول الطب الوقائي في الحديث النبوي: د.أيمن محمود السعيد، كتاب الإعجاز في القرآن والسنة، العدد (5)، ط1،(1422هـ، 2001م)، جمعية الإعجاز العلمي للقرآن والسنة: القاهرة.
إعجاز الطب النبوي: د.السيد عبد الحكيم عبد الله، ط1، (1418هـ، 1998م)، دار الآفاق العربية: القاهرة.
الإعجاز الطبي في الأحاديث الواردة في الجذام: د.محمد علي البار، الكتاب الثالث، ط2، (1421هـ، 2002م)، هيئة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، رابطة العالم الإسلامي: مكة المكرمة.
الإعجاز الطبي في الأحاديث الواردة في العدوى: د.محمد علي البار، الكتاب الثالث، ط2، (1421هـ، 2002م)، هيئة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، رابطة العالم الإسلامي: مكة المكرمة.
الإعجاز الطبي في القرآن والأحاديث النبوية: الرطب والنخلة: د.عبد الله عبد الرزاق السعيد، ط1، (1405هـ، 1985م)، الدار السعودية: جدة.
الإعجاز الطبي في القرآن: د.السيد الجميلي: دار النصر: دمشق.
الإعجاز الطبي في الكتاب والسنة: حسن ياسين عبد القادر، ط1، (1417هـ، 1997م)، مكتبة وهبة: القاهرة.(20/67)
الإعجاز الطبي للسنة النبوية من خلال صحيح البخاري ومسلم: د.أحمد وصفي محمد أحمد العزب، (1423هـ، 2002م)، رسالة دكتوراه، كلية أصول الدين، جامعة الأزهر: القاهرة.
الإعجاز العلمي في الإسلام: السنة النبوية : محمد كامل عبد الصمد، ط5، (1421هـ، 2001م)، الدار المصرية اللبنانية: القاهرة.
الإعجاز العلمي في السنة النبوية: د.زغلول النجار، ط3، (1422هـ، 2002م): دار نهضة مصر: القاهرة.
الإعجاز العلمي في السنة النبوية: د.صالح بن أحمد رضا، ط1، (1421هـ، 2001م)، مكتبة العبيكان: الرياض.
الإعجاز العلمي في قيمة اللبن الغذائية: د.علي أحمد علي الشحات، ط2، (1421هـ، 2001م)، هيئة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة: رابطة العالم الإسلامي: مكة المكرمة.
الإيدز من عهد لوط إلى عصر الشذوذ، يسري عبد الغني البشري، مكتبة ابن سينا: القاهرة.
الإيدز، محمد نظام، مكتبة نظام، دمشق.
البطنة تذهب الفطنة: د.سمير إسماعيل الحلو، ط1، (1412هـ، 1991م)، مكتبة دار التراث: المدينة المنورة.
تحبير السِفر بذكر فوائد شجر السدر: أبو عمر نادر بن وهبي الناطور، بحث في ندوة الطب في السنة النبوية، (1424هـ، 2003م)، جمعية الحديث وإحياء التراث: عمان.(20/68)
التداوي بالأعشاب والطب النبوي: د.عبد الباسط محمد سيد، ط3، (1424هـ، 2004م)، الشركة المصرية العالمية: القاهرة.
التداوي بألبان البقر والتحذير من لحومها: شهاب البدري يس، (1422هـ، 2002م)، مكتبة منهاج النبوة: القاهرة.
التداوي بألبان وأبوال الإبل: شهاب البدري يس، ط2، (1424هـ، 2003م)، مكتبة منهاج النبوة: القاهرة.
التداوي بالسنا: سنة نبوية ومعجزة طبية: شهاب البدري يس، ط1، (1425هـ، 2004م)، مكتبة منهاج النبوة: القاهرة.
التداوي بالصيام: محمد إبراهيم سليم، (1411هـ، 1991م)، مكتبة ابن سينا: القاهرة.
التشريعات الإسلامية الوقائية والعلاجية للأمراض الجنسية، د.محمد عبد الرزاق أسود، بحث غير مطبوع.
التغذية والطب الوقائي: دراسة في الأحاديث الشريفة: د.محمد عيد محمود الصاحب، بحث في ندوة الطب في السنة النبوية، (1424هـ، 2003م)، جمعية الحديث وإحياء التراث: عمان.
تفوق الطب الوقائي في الإسلام: د.عبد الحميد القضاة، الكتاب الثالث، ط2، (1421هـ، 2002م)، هيئة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، رابطة العالم الإسلامي: مكة المكرمة.(20/69)
تقليم الأظفار في ضوء السنة النبوية والعلوم الطبية: د.أبو الوفا عبد الآخر، د.يحيى ناصر، (1416هـ، 1996م)، مكتبة الآداب: القاهرة.
التلبينة وصية نبوية وحقيقة علمية: د.صهباء محمد بندق، بحث غير مطبوع.
التمر: د.سمير إسماعيل الحلو، بحث في ندوة الطب في السنة النبوية، (1424هـ، 2003م)، جمعية الحديث وإحياء التراث: عمان.
الجوارح وأسرار الوضوء: د.ماجدة عامر، مؤسسة الفلاح: القاهرة.
الحبة السوداء شفاء من كل داء: د.محمد نزار الدقر، ط1، (1425هـ، 2005م)، دار المعاجم: دمشق.
الحديث النبوي وعلم النفس: د.محمد عثمان نجاتي، ط4، (1421هـ، 2000م)، دار الشروق: القاهرة.
الحشرات في ضوء القرآن الكريم والسنة النبوية والعلم الحديث: د.عبد الحكيم عبد اللطيف الصعيدي، ط1، (1425هـ، 2004م)، مكتبة الدار العربية: القاهرة.
الحكمة من الختان: محمد أمين شيخو، ط3، (1416هـ، 1996م)، مكتبة البشير: دمشق.
الختان: د.محمد علي البار، ط1، (1414هـ، 1994م)، دار المنارة: جدة.
الخشوع في الصلاة: أهميتها- أسرارها- إعجازها الطبي: محمد نجدات المحمد، ط1، (1423هـ، 2003م)، دار الرؤية.(20/70)
روائع الطب الإسلامي: القسم العلاجي: د.محمد نزار الدقر، ط2، (1425هـ، 2004م)، دار المعاجم: دمشق.
زمزم بين عجائب التاريخ ومكتشفات العلم: علي عوض عويضا، ط2، (1417هـ، 1997م)، دار الكلم الطيب: دمشق.
زيت الزيتون بين الطب والقرآن: د.حسان شمسي باشا، ط4، (1417هـ، 1997م)، دار المنارة: جدة.
سنن الإمام ابن ماجه، (1395هـ، 1975م)، دار إحياء التراث العربي: بيروت.
سنن الإمام أبي داود السجستاني، المكتبة العصرية: بيروت.
سنن الإمام الترمذي، دار إحياء التراث العربي: بيروت.
سنن الإمام النسائي، (1406هـ، 1986م)، دار البشائر الإسلامية: بيروت.
السواك: د.محمد علي البار، ط1، (1414هـ، 1994م)، دار المنارة: جدة.
الشفاء بالحبة السوداء بين الإعجاز النبوي والطب الحديث: د.حسان شمسي باشا، ط2، (1419هـ، 1999م)، دار القلم: دمشق.
صحيح الإمام البخاري، (1407هـ، 1987م)، دار القلم: بيروت.
صحيح الإمام مسلم، (1392هـ، 1972م)، دار إحياء التراث العربي: بيروت.
الصوم وأمراض السمنة: د.محمد علي البار، ط1، (1412هـ، 1992م)، دار القارئ العربي: القاهرة.(20/71)
الصيام معجزة علمية: د.عبد الجواد الصاوي، ط2، (1421هـ، 2000م)، هيئة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة: رابطة العالم الإسلامي: مكة المكرمة.
الطب النبوي والعلم الحديث: د.محمود ناظم النسيمي، ط4، (1417هـ، 1996م)، مؤسسة الرسالة: بيروت.
الطب النبوي: ابن قيم الجوزية، تحقيق: محمد محمد تامر، محمد السعيد محمد، ط1، (1419هـ، 1999م)، دار الفجر: القاهرة.
الطب الوقائي النبوي: د.محمود الحاج قاسم محمد، ط2، (1422هـ، 2001م)، دار النفائس: دمشق.
الطب الوقائي من القرآن والسنة: د.عبد الباسط محمد السيد، ط1، (1423هـ، 2002م)، دار ألفا: القاهرة.
الطيب: فوائده الصحية والنفسية والاجتماعية: د.سمير إسماعيل الحلو، ط1، (1412هـ، 1992م)، مكتبة دار التراث: المدينة المنورة.
العدوى بين الطب وحديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم - : د.محمد علي البار، ط5، (1405هـ، 1985م)، الدار السعودية: جدة.
العدوى في السنة المطهرة والحقائق العلمية: د.عبد الرحمن عبد الله الرفاعي، العدد (10)، (1412هـ، 1992م)، مجلة كلية الدراسات الإسلامية والعربية، جامعة الأزهر: القاهرة.(20/72)
عشرون بشارة نبوية لعلاج الأمراض المستعصية: شهاب البدري يس، ط2، (1424هـ، 2003م)، مكتبة منهاج النبوة: القاهرة.
العلاج بالتلبينة: عبد الكريم التاجوري، مطابع مركز الفجر.
العلاج بالطاقة الحيوية: د.عواد أبو زينة، ط1، (1427هـ، 2006م)، دار عالم الثقافة: عمان.
العلاج بالطاقة وأصوله في القرآن والسنة: عبد التواب عبد الله حسين، كتاب الإعجاز في القرآن والسنة، العدد (8)، ط1،(1425هـ، 2004م)، جمعية الإعجاز العلمي للقرآن والسنة: القاهرة.
العلوم والإيمان: د.خليل إبراهيم ملا خاطر العزامي، ط1، (1424هـ، 2004م)، دار القبلة: جدة.
العين وغض البصر، د. ماجدة عامر، مؤسسة الفلاح: القاهرة.
الغذاء الميزان: القمح والشعير: د.جميل القدسي الدويك، ط1، (1424هـ، 2003م)،
في رحاب الطب النبوي والعلم الحديث: د.محمود طلوزي، ط2، (1414هـ، 1994).
الكعبة والعلم الحديث: د.علي محمد مطاوع، ط2، (1402هـ، 1982م)، دار الكتاب المصري: القاهرة.
الله أكبر رفقاً بالحيوان: محمد أمين شيخو، (1419هـ، 1999م)، دار نور البشير: دمشق.
ما هو بقول بشر: د.نبيل عبد السلام هارون، (1411هـ، 1991م)، مكتبة ابن سينا: القاهرة.(20/73)
ماذا كان يأكل النبي - صلى الله عليه وسلم - وبم كان يتداوى؟: د.محمد كمال عبد العزيز، (1423هـ، 2003م)، مكتبة القرآن: القاهرة.
مسند الإمام أحمد بن حنبل، (1400هـ، 1980م)، دار المعارف: القاهرة.
المعارف الطبية في ضوء القرآن والسنة: د.أحمد شوقي إبراهيم، ط1، (1423هـ، 2002م)، دار الفكر العربي: القاهرة.
معجزات الشفاء بماء زمزم: محمد عبد العزيز أحمد، مجدي السيد إبراهيم، مكتبة القرآن: القاهرة.
معجزة الشفاء بالحبة السوداء: مرزوق علي إبراهيم، (1409هـ، 1989م)، دار الفضيلة: القاهرة.
معجزة الصلاة في الوقاية من مرض دوالي الساقين: د.توفيق علوان، ط3، (1415هـ، 1995م)، دار الوفاء: المنصورة.
من إعجاز السنة المشرفة: د.محمد فؤاد شاكر، دار النبيل: القاهرة.
من الإعجاز الحركي في الصلاة: جلال الشافعي، (1424هـ، 2003م)، دار البشير للثقافة والعلوم: طنطا.
من أوجه الإعجاز العلمي في حديث الحبة السوداء شفاء من كل داء: د.أحمد القاضي، د. أسامة قنديل، ط2، (1421هـ، 2000م)، هيئة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة: رابطة العالم الإسلامي: مكة المكرمة.(20/74)
موسوعة الإعجاز العلمي في الحديث النبوي الشريف: عبد الرحيم مارديني، ط1، (1422هـ، 2002م)، دار المحبة: دمشق.
موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة المطهرة: يوسف الحاج أحمد، ط2، (1424هـ، 2003م)، مكتبة ابن حجر: دمشق.
الموسوعة العلمية الشاملة في الإعجاز النبوي: د.سمير عبد الحليم، ط1، (1426هـ، 2005م).
موطأ الإمام مالك بن أنس، (1408هـ، 1988م)، دار إحياء العلوم: بيروت.
النهاية في غريب الحديث والأثر: ابن الأثير الجزري، تحقيق: رائد بن صبري ابن أبي علقمة، بيت الأفكار الدولية: عمان.
هل هناك طب نبوي: د.محمد علي البار، ط1، (1409هـ، 1988م)، الدار السعودية: جدة.
الوقاية من الإيدز والسرطان من ثنايا آيات القرآن، د. محمود محمد شعبان، دار الفتح للإعلام العربي: القاهرة.(20/75)
بسم الله الرحمن الرحيم
ورقة بحثية
بعنوان
المنهج النبوي في التربية والتعليم وأثره على المجتمع الإسلامي
إعداد
الدكتور محمد مصلح الزعبي
جامعة آل البيت-كلية الدراسات الفقهية-قسم أصول الدين-الأردن
مقدمة إلى
مؤتمر السنة النبوية
الذي سيعقد في رحاب جامعة اليرموك
في الفترة الواقعة ما بين17-18/2007
المقدمة:
الحمد الله الذي بعث لهداية خلقه مزيدا من الرسل والأنبياء، وخصهم بمزيد التعظيم والتبجيل، وجعل من أفضلهم وأكملهم سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - وخصه بغاية التكريم والتفضيل، وميز شريعته باليسر والتسهيل، وحفظها من التغيير والتبديل، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، وعلى من تبعهم إلى يوم الدين وبعد:
ففي هذا الوقت العصيب الذي يتعرض فيه الإسلام والمسلمون إلى هجمة شرسة لا تفرق بين طائفة وأخرى حتى طالت هذه الهجمة سيد الكونين والثقلين؛ نبي الرحمة ورسول الهدى سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم -فبات الدفاع عن دين الله ونبيه واجبا عينيا.(21/1)
والأمة الإسلامية التي اختارها الله جل وعلا من بين جميع الأمم، وميزها الله بالوسطية لتكون شاهدة على غيرها، فقال جل ذكره: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً } [البقرة:143]، وهذه الأمة هي خير الأمم على الإطلاق، والخيرية فيها نابعة من اضطلاعها بمسؤولياتها التي على رأسها: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } [آل عمران:110].
وهذه الخيرية باقية في الأمة ما دامت قائمة على المهمة التي كلفت بها، واختيار السبيل الأمثل في الدعوة، كما في قوله تعالى: { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } [النحل:125].(21/2)
ولعل أفضل وسيلة للدفاع عن النبي- صلى الله عليه وسلم - التعريف بجوانب شخصيته المختلفة حتى يعلم الذين أساءوا له أي شخص أساءوا له، وأي جريمة اقترفوا بنيلهم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وقد تناولت في بحثي أحد الجوانب التي تعرف بشخصية النبي- صلى الله عليه وسلم - وهو: "منهج النبي- صلى الله عليه وسلم -في التربية والتعليم"؛ وذلك لما لهذا الجانب من أثر بالغ في نهضة الأمة العلمية والثقافية، فشخصية النبي- صلى الله عليه وسلم - التربوية؛ شخصية فريدة من نوعها، حيرت علماء التربية قديماً وحديثاً، إذ كيف لرجل أمي لا يعرف القراءة ولا الكتابة ولد في مجتمع فشا فيه الظلم والجهل والفساد، يحكمه قانون القوة، وتسوده شريعة الغاب، استطاع في أقل من ربع قرن أن يصنع من هذا المجتمع تاريخاً يخيل لناظره أنه ضرب من الأساطير، فقد حوّل البداوة إلى حضارة، والفرقة إلى وحدة، والضعف إلى قوة، والأمية إلى علم، وحوّل الحفاة العراة إلى خير أمة أخرجت للناس؟؟(21/3)
فالتربية النبوية حققت نجاحاً باهراً ليس له مثيل في تاريخ البشرية، فقد أوصل النبي- صلى الله عليه وسلم - المجتمع الإسلامي إلى مستوى لم يستطع كبار الفلاسفة والمفكرين والمصلحين على مدى العصور السابقة واللاحقة أن يصلوا بمجتمعاتهم إليه، وأثبت أن التربية الإسلامية تستطيع تغيير الأنفس والمجتمعات والوصول بها إلى المثالية الواقعية.
وقد حاولت المجتمعات الحديثة تطوير وتحديث مناهج التربية بمعزل عن المنهج النبوي، ورصدت لذلك الأموال الطائلة، وأنشأت لها المعاهد والجامعات، إلا أنها فشلت فشلا ذريعا؛ فانتشر الفساد، وازدادت الجرائم وتطورت أساليبها، وفشا الظلم، وفتكت الأمراض الاجتماعية بجسد الأمة، وعجزت كل النظريات المادية الحديثة عن معالجة القضايا المستجدة التي استفحلت في المجتمعات، فلم يجدوا بداً من العودة لتبني الأساليب النبوية في التربية ويعلنوا استسلامهم لها من أجل تطهير المجتمعات من الأمراض التي أصيبت بها؛ لأنهم أدركوا أن الله تبارك وتعالى قد اختار النبي - صلى الله عليه وسلم - ليكون مربياً ومعلماً ليس للمسلمين فحسب وإنما للبشرية جمعاء، فقال تعالى: { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ(21/4)
إِلَيْكُمْ جَمِيعاً } [لأعراف:158].
من هنا نجد أنه لا بد لكل مسلم أن يتعرف على مناهج النبي- صلى الله عليه وسلم - في التربية والتعليم لتكون منارة يهتدي بها، وقدوة يقتدي بها في مسيرة حياته، ووجب على المجتمع المسلم أن ينشر هذه المناهج في نفوس أبنائه حتى يشحذ الهمم التي تقاصرت، ويعيد لهذه الأمة مجدها وسؤددها وتستعيد مكانتها اللائقة بها بين الأمم.
المبحث الأول
جوانب شخصية النبي- صلى الله عليه وسلم -
إن شخصية النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات جوانب متعددة، وكل جانب من هذه الجوانب كان له تأثير بالغ في إنشاء جيل من الصحابة قادر على أن يقود العالم بأسره في فترة لم تتجاوز ثلاثة عقود، فقد تقاصر أمام النبي- صلى الله عليه وسلم - كل كبير، وتقزم أمامه كل عظيم، وأصبحت أمته بفضل قيادته؛ سيدة الأمم، "ومن تأمل حسن رعايته للعرب مع قسوة طباعهم، وشدة خشونتهم، وتنافر أمزجتهم، وكيف ساسهم واحتمل جفاءهم، وصبر على أذاهم، إلى أن انقادوا إليه، والتفُّوا حوله، وقاتلوا أمامه ودونه أعزَّ الناس عندهم، وآثروه على أنفسهم، وهجروا في طاعته ورضاه أحباءَهم وأوطانَهم وعشيرتهم وإخوانَهم"(1)
__________
(1) أبو غدة، عبد الفتاح، الرسول المعلم وأساليبه في التعليم، مكتب المطبوعات الإسلامية، حلب-سوريا، الطبعة الأولى1996م.(هامش الصفحة10-11).(21/5)
.
ولذلك نجد النبي- صلى الله عليه وسلم - قد اهتم بمختلف جوانب الحياة في جميع المجالات، ولم يترك شأناً من شؤون الحياة الاجتماعية، إلا وتحدث عنه بما ينظم حياة الفرد والجماعة، ويكفل لكل واحد حقوقه، ويبين واجباته تجاه نفسه، وأهله، ومجتمعه، وأمته.
ففي المجال الديني: نجد الحديث عن الإيمان، والتقوى، والشرك، والارتداد، والنفاق، والإلحاد، والجدل، والفتنة، وسوء الظن،والتوبة، والتسامح، وغير ذلك.
وفي مجال الأسرة: نجد الحديث عن الزواج، والنشوز، والطلاق، والعزوبة، وحقوق الزوجين، وحقوق الوالدين، والأبناء، والحضانة، والرضاعة، والوصية، وغير ذلك.
وفي المجال الاقتصادي: نجد الحديث عن الزكاة، والصدقة، والملكية الفردية، والشركات، والبيع، والشراء، والمداينة، والربا، والعقود، والرهن، والضرائب، وغير ذلك.
وفي المجال التربوي، والأخلاقي: نجد الحديث عن الصدق، والعلم، والعمل، والإصلاح بين الناس، والتضامن، والإخاء، والرياء، والسخرية، وغير ذلك.
وفي مجال التشريع الجنائي: نجد الحديث عن القصاص، والحدود، والعفو، والجزاء، والشفاعة، والغدر والانتقام، وغير ذلك.(21/6)
وفي المجال السياسي: نجد الحديث عن الشورى، والسلطة، والعلاقات الدولية، والمعاهدات، وغير ذلك(1).
وهكذا نرى أن الإسلام لا يفصل بين الحياة الاجتماعية_التي هي موضوع النظم الاجتماعية التي تشملها دراسات علم الاجتماع_ وبين الدين، فهما توأمان.
ولعل جانب التربية والتعليم من أهم الجوانب التي ركز عليها النبي- صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه بعث في أمة جاهلية، قاسية الطباع، طغى عليها مبدأ القوة، وشريعتها أشبه بشريعة الغاب؛ القوي يأكل الضعيف، والغني يستعبد الفقير، والإنسان الضعيف لا يختلف كثيراً عن أي سلعة أخرى، فهو يباع بثمن بخس دراهم معدودة.
__________
(1) انظر: السعيد: لبيب، الدراسة الأولى في مناهج البحث الاجتماعي في القرآن الكريم وعند علمائه ومفسريه، دار عكاظ، جدة-السعودية، الطبعة الأولى1400هـ-1980م. (69-71).(21/7)
ومثل هذه الأمة لا بد من لها من التربية قبل التعليم، فكان - صلى الله عليه وسلم -مؤهلاً لمثل هذه المهمة حتى قبل بعثته، فقد اختاره الله خيار من خيار، إذ يقول - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله خلق السماوات سبعا ثم خلق الخلق فاختار من الخلق بني آدم، ثم اختار من بني آدم العرب ثم اختار من العرب مضر ثم اختار من مضر قريشا ثم اختار من قريش بني هاشم ثم اختارني من بني هاشم فأنا خيار من خيار"(1).
__________
(1) رواه الحاكم في المستدرك(4/83)، والطبراني في المعجم الكبير(12/455)، وفي الأوسط(6/199)، وذكره الحافظ ابن حجر في الأمالي المطلقة(1/68) وقال: هذا حديث حسن.(21/8)
وقد فهم رسول الله هذا المقصد فقال: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْنِي مُعَنِّتًا وَلَا مُتَعَنِّتًا وَلَكِنْ بَعَثَنِي مُعَلِّمًا مُيَسِّرًا "(1)، وكان- صلى الله عليه وسلم -يسلك منهجاً تربويا راقياً في تعليم أصحابه الذين نقلوا هذا المنهج من جيل إلى جيل، ولذلك نجد أن الإسلام كان سباقاً في الدعوة إلى التكافل الاجتماعي، ورص الصفوف، والتعاون على الخير، وتنظيم العلاقة بين الفرد والمجتمع فلا تطغى مصلحة أحدهما على الآخر، "وإن حقوق الإنسان الواردة في القرآن -والسنة-قد سبقت إعلان حقوق الإنسان المعروفة عند "توماس بين " وغيره من المُحْدَثين "(2).
__________
(1) رواه مسلم في صحيحه ( 2/1104)، كتاب الطلاق ح رقم(1478).
(2) أبو ريان: محمد علي أسلمت المعرفة العلوم الإنسانية ومناهجها من وجهة نظر إسلامية، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية – مصر، طبعة بلا ص305.(21/9)
وقد اهتم الإسلام بالإنسان وكل ما يحقق له السعادة في الدارين، " وإذا كان مدار البحث في علم الاجتماع: النظم الاجتماعية بشكل عام مع التركيز على الأسرة ونظامها، فإننا نجد الإسلام يتخذ مواقف ذات تأثير بالغ في استمرار الأسرة وهذه المواقف تشكل مبادئ أساسية في علم الاجتماع "(1).
وهكذا نرى أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قد نظم المجتمع الإسلامي تنظيماً علمياً دقيقاً، وربط ذلك بالإيمان بالله جل وعلا، فالمؤمن يسعى إلى تطبيق هذه القوانين بنفس راضية دون الحاجة إلى رقيب أو حسيب، مبتغياً بذلك الوصول إلى رضا الله ومحبته، حتى أصبح المسلمون مصدراً للحضارات الأخرى، ولم تخل نظرية علمية أو تربوية إلا وللثقافة الإسلامية تأثير أساسي عليها، ولم يترك الإسلام نظاماً من النظم الاجتماعية إلا وقال فيه كلمته الواضحة من خلال المصادر الأساسية للتشريع: القرآن، والسنة، الإجماع، والاجتهاد.
__________
(1) المصدر السابق (ص306).(21/10)
وقد حث النبي - صلى الله عليه وسلم - على العلم بقوله:" مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَبْتَغِي فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضَاءً لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّماَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْمَاءِ، وَفَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَ بِهِ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ"(1).
__________
(1) الترمذي: محمد بن عيسى بن سورة، جامع الترمذي، تحقيق: إبراهيم عطوة عوض، دار إحياء التراث، بيروت-لبنان، الطبعة الأولى،وقد روى الحديث في كتاب العلم، باب فضل الفقه على العبادة برقم(2682).(21/11)
وهذه النفحات الربانية، والتوجيهات النبوية، شحذت الهمم لدى العلماء فـ "قد وضع علماؤنا لبنة البحث العلمي الأولى، وشاركوا في تصميم أسسه، كما أفاضوا في الكتابة والتأليف، وابتدعوا أدوات البحث، والقياس، والتجريب"(1).
ولعل العالم المسلم: عبد الرحمن بن خلدون، هو المؤسس الحقيقي الأول لعلم الاجتماع، ومن أبرز رواد الفكر الاجتماعي بأفكاره المستندة على مشاهدة الظواهر الاجتماعية، وملاحظة تكرارها للخروج بقوانين معينة تحكم حركة المجتمعات الإنسانية"(2).
ولا أبالغ إذا قلت: إن معظم العلوم بقسميها: العلمية، والإنسانية، أصلها إسلامي، "فديكارت، وكانت، ونيوتن" الذين بُهر العالم الغربي باكتشافاتهم في مجال الطبيعة، والضوء، والإنكسار، والابصار، وطنطن لهم، ثبت أن أغلب أصولها مأخوذة من ابن الهيثم، وكذلك فإن ابن النفيس هو المكتشف الحقيقي للدورة الدموية، التي ينسبها العالم الغربي إلى "هارفي".
فالعلوم الاجتماعية، علوم إسلامية، ومن الخطأ نسبتها إلى الغرب، أو غيرهم.
__________
(1) شفيق: محمد، البحث العلمي، المكتب الجامعي الحديث، الإسكندرية-مصر، طبعة بلا1998م، ص10.
(2) المصدر السابق نفسه هامش(2).(21/12)
وقد تنبه المسلمون لهذا الخطأ الشائع، وحاولوا تصحيح هذا المفهوم، وأصبحت العلوم الاجتماعية تدرس في الجامعات ، لا بل وفي رحاب كليات الشريعة، التي صارت جزءاً من الكليات الإنسانية."(1).
المطلب الأول: صفات النبي- صلى الله عليه وسلم - في القرآن الكريم:
إنَّ أعلم الناس بالخلق هو خالقهم، ولذلك فإن أصدق وصف لشخصية النبي - صلى الله عليه وسلم - ما وصفه به ربه جل وعلا، وقد جاء وصف النبي- صلى الله عليه وسلم - في القرآن شاملاً لجميع جوانب شخصيته، ولكني سأقتصر على الأوصاف التي تخص الجانبين: العلمي والتربوي ومنها:
أولاً: أهليته لقيادة العالم وتعليمه: فقد أخبرنا المولى عز وجل أن النبي- صلى الله عليه وسلم - لم يبعث لأمة الإسلام فحسب وإنما بعث للناس كافة، فقال جل في علاه: { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً } [لأعراف:158]، وقال أيضاً: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } [سبأ:28] .
__________
(1) ينظر: المصدر السابق (ص11).(21/13)
ثانياً: رحمته ورأفته العامة: فلم تقتصر رحمته - صلى الله عليه وسلم - على المسلمين، بل تعدت ذلك إلى جميع المخلوقات، قال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } [الانبياء:107]، وقال أيضاً: { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ } [التوبة:128].
ثالثاً: سمو أخلاقه: أثنى الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأكد سمو أخلاقه، وأكد ذلك بقوله تعالى: { وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ } [القلم:4].
رابعاً: أهليته للتعليم: وقد تأهل النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن يكون المعلم الأول للبشرية جمعاء بفضل تعليم الله إياه، فقال عز وجل: { وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً } [النساء:113].(21/14)
خامساً: صبره: التعليم يحتاج إلى الصبر، قد أمر الله نبيه بالصبر بقوله تعالى: { فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً } [المعارج:5]،وقال عز وجل أيضاً: { وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ } [المدثر:7]، وقال جل جلاله أيضاً: { فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً } [الانسان:24].
سادساً: تواضعه: قال تعالى: { وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ } [الحجر: 88].وسيأتي الكلام عن تواضعه - صلى الله عليه وسلم - تفصيلا في المطلب القادم.
المطلب الثاني: النبي- صلى الله عليه وسلم - في عيون أصحابه:(21/15)
إن وصف الصحابة - رضي الله عنهم -لشخصية النبي- صلى الله عليه وسلم - كثيرة لا تعد ولا تحصى، إذ نعتوه بكثير من الأوصاف، فقد روى البخاري بسنده من طريق أنس - رضي الله عنه -قال: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -أَحْسَنَ النَّاسِ وَأَشْجَعَ النَّاسِ وَأَجْوَدَ النَّاسِ وَلَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ فَكَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - سَبَقَهُمْ عَلَى فَرَسٍ وَقَالَ وَجَدْنَاهُ بَحْرًا"(1)، كما روى بسنده من طريق عبدالله بن عمرو قال: " إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَكُنْ فَاحِشًا وَلَا مُتَفَحِّشًا وَكَانَ يَقُولُ إِنَّ مِنْ خِيَارِكُمْ وقال : إِنَّ مِنْ أَحَبِكم إِليّ أَحْسَنَكُمْ أَخْلَاقًا "(2).
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب الجهاد والسير ، باب الشجاعة في الحرب والجبن، برقم(2820).
(2) صحيح البخاري، كتاب المناقب، باب مناقب عبد الله بن مسعود، برقم(3760).(21/16)
وروى الترمذي بسنده من طريق الحسن بن علي - رضي الله عنه -قال: " سألت خالي هند بن أبى هالة، وكان وصافاً، قلت: صف لي منطق رسول الله- صلى الله عليه وسلم -، قال: كان رسول الله متواصل الأحزان، دائم الفكرة، ليست له راحة، طويل السكت، لا يتكلم في غير حاجة، يفتتح الكلام ويختمه باسم الله تعالى، ويتكلم بجوامع الكلم، كلامه فصل، لا فضول ولا تقصير، ليس بالجافي ولا المهين، يعظم النعمة وإن دقت، لا يذم منها شيئاً، غير أنه لم يكن يذُمُّ ذواقاً ولا يمدحه، ولا تغضبه الدنيا ولا ما كان لها، فإذا تُعدِّيَ الحقُّ لم يقم لغضبه شئ حتى ينتصر له، ولا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها، إذا أشار أشار بكفه كلها، وإذا تعجب قلبها، وإذا اتصل بها وضرب براحته اليمنى بطن إبهامه اليسرى، وإذا غضب أعرض وأشاح، وإذا فرح غض طرفه، جُلُّ ضحكه التبسم، يَفْتَرُّ عن مثل حب الغمام"(1).
__________
(1) الترمذي، محمد بن عيسى بن سورة، الشمائل المحمدية والخصائل المصطفوية، سيد عباس الجليمي، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت-لبنان1412هـ(1/184).(21/17)
كما روى الترمذي بسنده من طريق الحسين بن علي- رضي الله عنه -، قال: "سألت أبي عن سيرة رسول الله في جلسائه فقال: "كان رسول الله دائم البشر، سهل الخلق، ليُّن الجانب، ليس بفظ ، ولا غليظ، ولا صخَّاب، ولا فحَّاش، ولا عيَّاب، ولا مدَّاح، يتغافل عما لا يَشتهي، ولا يُؤْيِسُ منه راجيه، ولا يُخِيْبُ فيه، قد ترك نفسه من ثلاث: المراء، والإكثار، وما لا يعنيه. وترَكَ الناس من ثلاث: كان لا يذم أحداً ولا يعيبه، ولا يطلبُ عورته، ولا يتكلم إلا فيما رجا ثوابه، وإذا تكلم اطرق جلساؤه، كأنما على رؤوسهم الطير، فإذا سكت تكلموا، لا يتنازعون عنده الحديث، ومن تكلم عنده أنصتوا له حتى يفرغ، حديثهم عنده حديث أولهم، يضحك مما يضحكون منه، ويتعجب مما يُتعجب منه، ويصبر للغريب على الجفوة في منطقه ومسألته، حتى إن كان أصحابه ليستجلبونهم، ويقول: إذا رأيتم طالب حاجة يطلبها فأرفدوه، ولا يقبل الثناء إلا من مكافئ، ولا يقطع على أحد حديثا حتى يجوز، فيقطعه بنهي أو قيام"(1).
المطلب الثالث: وصف النبي- صلى الله عليه وسلم - في الكتب السابقة:
__________
(1) المصدر السابق(1/290-291).(21/18)
أخبر الله عز وجل عن صفة محمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في التوراة والإنجيل فقال عز من قائل: { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً } [الفتح:29].(21/19)
وروى البخاري بسنده من طريق عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: لَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي التَّوْرَاةِ قَالَ: أَجَلْ وَاللَّهِ إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِي التَّوْرَاةِ بِبَعْضِ صِفَتِهِ فِي الْقُرْآنِ { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً } وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي سَمَّيْتُكَ المتَوَكِّلَ لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ وَلَا سَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ وَلَا يَدْفَعُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللَّهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ بِأَنْ يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَيَفْتَحُ بِهَا أَعْيُنًا عُمْيًا وَآذَانًا صُمًّا وَقُلُوبًا غُلْفًا "(1).
المبحث الثاني
منهج النبي- صلى الله عليه وسلم - في التربية والتعليم
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب البيوع، باب كراهية الصخب بالأسواق برقم(2125).(21/20)
وهذا الجانب هو مدار البحث، الذي يهدف إلى إبراز بعض الجوانب المهمة في شخصية النبي- صلى الله عليه وسلم -، والتعريف ببعض الأساليب التي سلكها النبي- صلى الله عليه وسلم - في التربية والتعليم؛ لتكون هادية لنا في مسيرتنا التعليمية والتربوية، فقد "كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم - من الرأفة والرحمة، وترك العنت وحب اليسر، والرفق بالمتعلم، والحرص عليه، وبذل العلم والخير له في كل وقت ومناسبة: بالمكان الأسمى والخلق الأعلى"(1)، وقد شهد له بذلك القاصي والداني، حتى أن غير المسلمين شهدوا له بالفضل في تغيير العرب من أمة جاهلية تعيش على هامش التاريخ إلى أمة مؤهلة لقيادة العالم بأسره في زمن قصير، فها هو "كارليل" يصف العرب قبل بعثة النبي- صلى الله عليه وسلم - وبعدها فيقول" هم قوم يَضرِبون في الصحراء، ولا يُؤْبَهُ لهم عدة قرون، فلما جاءهم النبي العربي، أصبحوا قبلَة الأنظار في العلوم والعرفان، وكَثُروا بعد القلة، وعَزُّوا بعد الذلة، ولم يمض قرنٌ حتى استضاءت أطراف الأرض بعقولهم وعلومهم"(2)، والفضل ما شهدت به الأعداء.
__________
(1) الرسول المعلم وأساليبه في التعليم، مرجع سابق(هامش الصفحة11)
(2) المصدر السابق نفسه(21/21)
وقد تميز النبي- صلى الله عليه وسلم - بصفات كثيرة ساهمت في إثراء شخصيته التربوية، وامتلاكه لبعض مهارات الاتصال التي تفوقت على أحدث الوسائل التي توصل إليها العلم الحديث، وكانت هذه المهارات مرجعا لكبار علماء التربية واستفادوا منها في تقعيد معظم القواعد في التربية والتعليم ، وسأذكر بعض هذه الصفات على سبيل المثال لا الحصر:
أولاً: الإخلاص في القول والعمل:
الإخلاص له أثر بالغ في إنجاح عملية الاتصال، ولذلك بين الله جل وعلا أن الإخلاص سبب رئيس في قبول العبادات، وركن من أركانها، قال تعالى: { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ } [البينة:5]، كما جعل الله الإخلاص سببا في إجابة الدعاء، فقال تعالى: { هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [غافر:65]، وقد ربط النبي- صلى الله عليه وسلم - الأعمال بالنيات بقوله: " إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى(1).
__________
(1) صحيح البخاري، ح رقم(1).(21/22)
ثانياً: حسن السيرة(1) والسريرة(2): فقد كان النبي- صلى الله عليه وسلم - يهتم بمظهره ويحافظ على هيئته مما يضفي عليه هيبة ووقاراً، ويجعل كلامه يقع موقعا حسنا في نفوس الناس؛ فإن الناس يحبون جمال المظهر، وترتاح له نفوسهم، بل إنَّ الله عز وجل أمر بالزينة عند دخول المساجد فقال جل في علاه: { يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ } [لأعراف: من الآية31].
__________
(1) السِّيرَةُ الهَيْئَةُ وبه فُسِّر قولهُ تعالى " سَنُعِيدُها سِيرَتَها الأُولَى (تاج العروس1/2981).
(2) السَّرِيرَةُ : عَمَلُ السِّرِّ من خَيْرٍ أو شَرٍّ. (تاج العروس1/2938).(21/23)
وروى الإمام مسلم بسنده من طريق عبد الله بن مسعود أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: " ... إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ..." (1).، كما روى أبو داود بسنده من طريق جابر بن عبد الله قال: أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -فَرَأَى رَجُلًا شَعِثًا قَدْ تَفَرَّقَ شَعْرُهُ فَقَالَ أَمَا كَانَ يَجِدُ هَذَا مَا يُسَكِّنُ بِهِ شَعْرَهُ وَرَأَى رَجُلًا آخَرَ وَعَلْيِهِ ثِيَابٌ وَسِخَةٌ فَقَالَ أَمَا كَانَ هَذَا يَجِدُ مَاءً يَغْسِلُ بِهِ ثَوْبَه ؟ "(2).
__________
(1) صحيح مسلم1/93، كتاب الإيمان، باب تحريم الكبر وبيانه ح رقم(91)
(2) سنن أبي داود2/449كتاب اللباس، باب في غسل الثوب والخلقان ح رقم(4062) ورجاله كلهم ثقات، وقد صححه الشيخ الألباني .(21/24)
ورُوي أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: " إِنَّكُمْ قَادِمُونَ عَلَى إِخْوَانِكُمْ فَأَصْلِحُوا رِحَالَكُمْ وَأَصْلِحُوا لِبَاسَكُمْ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لا يُحِبُّ الْفُحْشَ وَلا التَّفَحُّشَ "(1). فكل هذه الآثار تدل على اهتمام النبي- صلى الله عليه وسلم - بالمظهر العام للمسلم.
أما فيما يخص سريرته- صلى الله عليه وسلم -: فقد شهد له ربه بكرم أخلاقه - صلى الله عليه وسلم - وصفاء سريرته، فقال جل ذكره: { وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ } [القلم:4]. ومن الجوانب التي تدل على حسن سريرته- صلى الله عليه وسلم -:
__________
(1) مسند أحمد4/179، وقال الشيخ شعيب : محتمل للتحسين]وفي رواية الطبراني زاد بعد قوله:"لباسكم": "حتى تكونوا كأنكم شامة في الناس"(المعجم الكبير5/163)(21/25)
1. حسن الخلق: فقد كان - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس خلقاً، وكان يأمر بحسن الخلق، وهذا ما أكده أصحابه، فقد روى مسلم بسنده من طريق أنس بن مالك قال: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا"(1)، وروى الترمذي بسنده من طريق أبي ذر- رضي الله عنه - قال : قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - اتَّقِ اللَّهِ حَيْثُمَا كُنْتَ وَأَتْبِعْ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ "(2).
__________
(1) صحيح مسلم1/ 457 كتاب الفضائل ح رقم(2310).
(2) جامع الترمذي4/355 كتاب البر والصلة، باب معاشرة الناس برقم1987وقال: "حديث حسن صحيح".(21/26)
2. التواضع: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم - من أشد الناس تواضعاً لأصحابه، ولم يكن يترفع عنهم أو يميز نفسه عنهم بشيء، بل كان يمتزج بهم، حتى لا يُعرف من بينهم فقد روى البخاري بسنده من طريق أنس بن مالك قال:: بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -فِي الْمَسْجِدِ دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى جَمَلٍ فَأَنَاخَهُ فِي الْمَسْجِدِ ثُمَّ عَقَلَهُ ثُمَّ قَالَ لَهُمْ أَيُّكُمْ مُحَمَّدٌ وَالنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -مُتَّكِئٌ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ فَقُلْنَا هَذَا الرَّجُلُ الْأَبْيَضُ الْمُتَّكِئُ "(1). ، وروى أيضاً بسنده من طريق أنس بن مالك قال: " إِنْ كَانَتْ الْأَمَةُ مِنْ إِمَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَتَأْخُذُ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَنْطَلِقُ بِهِ حَيْثُ شَاءَتْ " (2).
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب العلم باب ما جاء في العلم...برقم(63).
(2) صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب الكبر برقم(6072).(21/27)
وكان- صلى الله عليه وسلم - يأمر أصحابه بالتواضع فقد وروى مسلم بسنده من طريق عن عياض بن حمار أخي بني مجاشع قال: قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم خطيبا فقال: "... وَإِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ وَلَا يَبْغِ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ "(1).
وروى ابن حبان بسنده من طريق أبي سعيد الخدري عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم -قال : "من تواضع لله درجة يرفعه الله درجة حتى يجعله في أعلى عليين..." (2)
__________
(1) صحيح مسلم4/2197،ح (2865).
(2) صحيح ابن حبان12/491ح رقم(5678).(21/28)
وكان النبي- صلى الله عليه وسلم - يشارك أصحابه في العمل الجماعي كي يشعرهم بأنه واحد منهم مما يجعله قريبا منهم ، ويجعل لكلامه أثراً في نفوسهم ، ففي غزوة الخندق كان يشاركهم الحفر فقد روى البخاري بسنده من طريق البراء بن عازب- رضي الله عنه - قال: رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَهُوَ يَنْقُلُ التُّرَابَ حَتَّى وَارَى التُّرَابُ شَعَرَ صَدْرِهِ وَكَانَ رَجُلًا كَثِيرَ الشَّعَرِ "(1).
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب الرجز في الحرب ورفع الصوت في حفر الخندق برقم(3034).(21/29)
3. الزهد: لم يكن النبي- صلى الله عليه وسلم - يهتم بالدنيا، ولا يركن إليها، وكان يحذر أصحابه من الركون إلى الدنيا، وكان يقلل من شأن الدنيا، فقد روى الترمذي بسنده من طريق سهل بن سعد قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :"لَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ "(1)، كما روى بسنده من طريق عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه -قال : نَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى حَصِيرٍ فَقَامَ وَقَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ اتَّخَذْنَا لَكَ وِطَاءً فَقَالَ مَا لِي وَمَا لِلدُّنْيَا مَا أَنَا فِي الدُّنْيَا إِلَّا كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا " قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح(2).
__________
(1) جامع الترمذي4/560كتاب الزهد، باب هوان الدنيا على الله، برقم(2320) وقال الترمذي: هذا حديث صحيح غريب من هذا الوجه).
(2) جامع الترمذي4/ 588كتاب الزهد، باب ما جاء في أخذ المال بحقه برقم(2377).(21/30)
وروى الحاكم بسنده من طريق سهل بن سعد - رضي الله عنه - أن النبي- صلى الله عليه وسلم -وعظ رجلاً فقال : ازهد في الدنيا يحبك الله عز و جل، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس"، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد و لم يخرجاه"(1). قلت: كلام الحاكم فيه نظر (2).
__________
(1) المستدرك (4/ 348).
(2) قلت: في إسناده: خالد بن عمرو بن محمد القرشي، وهو: ضعيف،(قال أحمد بن سيار عن أحمد بن حنبل: منكر الحديث، وقال عبدالله بن أحمد عن أبيه: ليس بثقة يروي أحاديث بواطيل، وقال عباس عن يحيى بن معين: ليس حديثه بشيء وقال الحسين بن حبان عن يحيى: كان كذابا يكذب حدث عن شعبة أحاديث موضوعة وقال البخاري والساجي وأبو زرعة: منكر الحديث وقال أبو حاتم: متروك الحديث ضعيف، وقال أبو داود: ليس بشيء، وقال النسائي: ليس بثقة، وقال صالح بن محمد البغدادي: كان يضع الحديث، وقال ابن حبان: كان يتفرد عن الثقات بالموضوعات لا يحل الاحتجاج بخبره.تهذيب التهذيب3/94).(21/31)
4. الحلم: فقد كان يضرب المثل بحلمه- صلى الله عليه وسلم - وقد أثنى عليه ربه جل وعلا بقوله: { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ } [آل عمران:159].
وروى البخاري بسنده من طريق أنس بن مالك- رضي الله عنه - قال: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم - بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَذَبَهُ جَذْبَةً شَدِيدَةً حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ أَثَّرَتْ بِهِ حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِنْ شِدَّةِ جَذْبَتِهِ ثُمَّ قَالَ مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ فَضَحِكَ ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ"(1).
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب فرض الخمس، برقم(3149).(21/32)
5. التوسط: الوسطية هي من الصفات التي ذكرها الله في كتابه ووصف بها أمة النبي محمد- صلى الله عليه وسلم -فقال عز وجل: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً } [البقرة: من الآية143]، وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم - يأمر أصحابه بالتوسط في كل شيء، في أمور الدين والدنيا، فأما في أمور الدين، فقد روى البخاري بسنده من طريق أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -قال: "إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنْ الدُّلْجَةِ "(1)، كما روى بسنده من طريق أنس بن مالك- رضي الله عنه - قال: " جاء ثلاث رهط إلى بيوت أزواج النبي- صلى الله عليه وسلم - يسألون عن عبادة النبي- صلى الله عليه وسلم -فلما أُخبروا كأنّهم تقالّوها، فقالوا: أين نحن من النبي- صلى الله عليه وسلم -؟ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبداً، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب الدين يسر برقم(39).(21/33)
أبداً، فجاء رسول الله- صلى الله عليه وسلم -فقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا ؟ أما والله أنّي لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني"(1).
وأما في أمور الدنيا، فقد أمر أصحابه بالاعتدال وأن يطلبوا من الدنيا قدر الكفاية، فقد روي أنه كان يقول لأصحابه: " خيركم من لم يترك دنياه لآخرته، و لا آخرته لدنياه، ولكن خيركم من أخذ من هذه و هذه" ،و هذا صحيح؛ لأن الانقطاع إلى أحدهما اختلال و الجمع بينهما اعتدال، و قال - صلى الله عليه وسلم -: " نعم المطية الدنيا فارتحلوها تبلغكم الآخرة "(2)
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح، برقم(5063).
(2) الماوردي، أبو الحسن علي بن محمد، أعلام النبوة، تحقيق: محمد المعتصم بالله البغدادي، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الأولى1987م. (1/268) بتصرف يسير، وقد ذكر الماوردي الأحاديث من غير إسناد. وقد ذكر العجلوني قريبا من معنى هذه الأحاديث فذكر حديث: " ليس خيركم من ترك الدنيا للآخرة ولا الآخرة للدنيا ولكن خيركم من أخذ من هذه لهذه" ثم قال بعده: رواه ابن عساكر والديلمي عن أنس بلفظ: "ليس بخيركم من ترك دنياه لآخرته ولا آخرته لدنياه حتى يصيب منهما جميعا فإن الدنيا بلاغ إلى الآخرة ولا تكونوا كلا على الناس"، وأخرجه أبو نعيم والخطيب في تاريخه والديلمي من وجه آخر.(كشف الخفاء 2/1135).(21/34)
.
ثالثاً: توافق القول مع العمل: القول إذا لم يقترن بالعمل لا يؤثر في نفوس المخاطبين، وقد عاب الله جل جلاله على الذين يقولون مالا يفعلون فقال تبارك وتعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ } [الصف:2-3].
والنبي- صلى الله عليه وسلم - هو أحق من يتبع كلام الله، بل إنه أمر بقتال من يقولون ما لا يفعلون بشتى الوسائل، فقد روى مسلم بسنده من طريق عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - قال: " مَا مِنْ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ فِي أُمَّةٍ قَبْلِي إِلَّا كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ وَأَصْحَابٌ يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ وَيَفْعَلُونَ مَا لَا يُؤْمَرُونَ فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ "(1)
__________
(1) صحيح مسلم1/59، كتاب الإيمان برقم(50).(21/35)
.
وها هو الصحابي الجليل عمرو بن العاص يصف النبي- صلى الله عليه وسلم - للجُلَنْدي ملك عمان بقوله: "
لقد دلني على هذا النبي الأمي إنه لا يأمر بخير إلا كان أول آخذ به، ولا ينهى عن شر إلا كان أول تارك له"(1) .
وهذه الصفات والميزات غيض من فيض، وسطر من قمطر، فصفاته - صلى الله عليه وسلم - أكبر من أن يحيط بها مثل هذا البحث المتواضع، وإنما أردت أن أشير إلى بعض الصفات التي امتاز بها - صلى الله عليه وسلم -وكان لها تأثير واضح في بروز شخصية النبي- صلى الله عليه وسلم - التربوية والعلمية.
المبحث الثالث
الأساليب التي استخدمها النبي- صلى الله عليه وسلم - في التربية والتعليم.
__________
(1) ابن حجر، أحمد بن علي، الإصابة في تمييز الصحابة، تحقيق: علي البجاوي، دار الجيل، بيروت-لبنان، الطبعة الأولى1421هـ.(1/538).(21/36)
استخدم النبي- صلى الله عليه وسلم - أفضل أساليب التربية والتعليم وأحسنها، وكان - صلى الله عليه وسلم - يُنَوِّع من أساليبه؛ بقصد البعد عن الرتابة والملل، وكان يختار من الأساليب أحسنها وأفضلها، وأوقعها في نفس المخاطب وأقربها إلى فهمه وعقله، وأشدّها تثبيتاً للعلم في ذهن المخاطب، وأكثرها مساعدة على إيضاحه له ، وكان يلوّن الحديث لأصحابه بألوان كثيرة، فتارة فيكون سائلا،ً وتارةً يكون مجيبا،ً وفي بعض الأحيان يجيب السائل بقدر سؤاله، وفي بعضها الآخر يزيده على ما سأل، وأحياناً يضرب المثل لما يريد تعليمه، وأحياناً أخرى يُصحبُ كلامه القسم بالله تعالى، ومرة يعلّم بطريق الكتابة، أو بطريق الرسم، وقد يستخدم التشبيه أو التصريح، وقد يستخدم الإبهام أو التلويح، وكان - صلى الله عليه وسلم - يورد الشبهة ليذكر جوابها، أو يسلك سبيل المداعبة والمحاجاة في ما يعلّمه، أو يمهد لما يشاء تعليمه وبيانه تمهيداً لطيفا،ً أو يسلك سبيل المقايسة بين الأشياء، أو يشير إلى عللها لذكر جوابها، أو يسأل أصحابه وهو يعلم ليمتحنهم بذلك، وتارةً يسألهم ليرشدهم إلى موضع الجواب ،وتارةً يلقي إليهم العلم قبل السؤال، وتارةً يخصّ النساء ببعض(21/37)
مجالسه ويعلمهنّ ما يحتجنّ إليه من العلم، وتارةً يراعي حال من بحضرته من الأطفال والصّغار، فيتنزّل إليهم ويعلّمهم بما يلاقي طفولتهم ولهوهم البريء، إلى غير ذلك من الفنون التعليمية(1) .
المطلب الأول: الأساليب التربوية:
أولاً: التربية بالقدوة:
لقد أثبتت معظم الدراسات أن التربية بالقدوة من أفضل أساليب التربية والتعليم وأشدها تأثيراً في نفوس المخاطَبين، فكل إنسان صغيراً كان أم كبيراً لا بد له من قدوة حسنة يتشرب منها المبادئ الثابتة، ويتلمس خطاها في سيره ويسير على نهجها ويقتفي أثرها، وقد أرشدنا الله جل في علاه إلى أعظم قدوة يمكن أن نقتدي بها في حياتنا فقال جل ذكره وتقدست أسماؤه: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً } [الأحزاب:21] .
__________
(1) الرسول المعلم، مرجع سابق(ص63-64) بتصرف.(21/38)
كما أشار الباري عز وجل إلى أن اتباع النبي- صلى الله عليه وسلم -هو السبيل إلى التعبير عن محبة الله جل في علاه ، فقال تعالى على لسان نبيه- صلى الله عليه وسلم -: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [آل عمران:31]، ودلت الأحاديث النبوية الشريفة على ضرورة اتباع النبي- صلى الله عليه وسلم - في كل شيء، فقد روى البخاري بسنده من طريق مالك بن الحويرث - رضي الله عنه -قال: أتينا النبي - صلى الله عليه وسلم - ونحن شببة متقاربون فأقمنا عنده عشرين ليلة فظن أنا اشتقنا أهلنا وسألنا عمن تركنا في أهلنا فأخبرناه وكان رقيقا رحيما فقال:" ارجعوا إلى أهليكم فعلموهم ومروهم وصلوا كما رأيتموني أصلي وإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم ثم ليؤمكم أكبركم "(1).
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب الأدب ح رقم(6008).(21/39)
وروى مسلم عن سهل بن سعد - رضي الله عنه -في صفة منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "...ولقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -قام عليه فكبر وكبر الناس وراءه وهو على المنبر ثم رفع فنزل القهقرى حتى سجد في أصل المنبر ثم عاد حتى فرغ من آخر صلاته ثم أقبل على الناس فقال يا أيها الناس إني صنعت هذا لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي"(1).
وروى الإمام أحمد بسنده من طريق المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم-رضي الله عنهما- قصة صلح الحديبية في حديث طويل فلما تم الصلح بين النبي- صلى الله عليه وسلم - ومشركي قريش قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "يا أيها الناس انحروا واحلقوا" قال: فما قام أحد، قال ثم عاد بمثلها، فما قام رجل حتى عاد بمثلها، فما قام رجل، فرجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدخل على أم سلمة فقال: "يا أم سلمة! ما شأن الناس؟ قالت: يا رسول الله قد دخلهم ما قد رأيت، فلا تكلمن منهم إنساناً، واعمد إلى هديك حيث كان فانحره، واحلق فلو قد فعلت ذلك، فعل الناس ذلك، فخرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم -لا يكلم أحدا حتى أتى هديه فنحره ثم جلس
__________
(1) صحيح مسلم(1/386)، كتاب المساجد، ح رقم(544).(21/40)
فحلق، فقام الناس ينحرون ويحلقون"(1)، فالصحابة- رضي الله عنهم - اقتدوا بالنبي- صلى الله عليه وسلم - في فعله، وكان هذا أبلغ من الأمر القولي.
وهكذا كان الصحابة - رضي الله عنهم - يقتدون بالنبي- صلى الله عليه وسلم - في كل أعمالهم، فها هو عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يأتي الحجر الأسود فيقول: " إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم -يقبلك ما قبلتك"(2)، والأمثلة على ذلك كثيرة لا حصر لها.
ثانياً: التربية بالموعظة:
__________
(1) مسند أحمد(4/ 323).
(2) صحيح البخاري، كتاب الحج، ح رقم(1597).(21/41)
الموعظة: "النُّصْح والتذْكير بالعَواقِب"(1)، قال تعالى { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ } [النحل: من الآية125]، وقال أيضاً: { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً } [النساء:63]، وقد كان النبي- صلى الله عليه وسلم - يتخير الوقت المناسب للموعظة، ويراعي أوقات النشاط عندهم خشية الملل، فقد روى البخاري بسنده من طريق ابن مسعود- رضي الله عنه - قال: "كان النبي- صلى الله عليه وسلم - يتخولنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا"(2)، "وكان عبد الله ابن مسعود يذكر الناس في كل خميس فقال له رجل يا أبا عبد الرحمن لوددت أنك ذكرتنا كل يوم ؟ قال أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملكم وإني أخولكم بالموعظة كما كان - صلى الله عليه وسلم
__________
(1) الوَعْظ والعِظةُ والعَظةُ والمَوْعِظةُ: النُّصْح والتذْكير بالعَواقِب قال ابن سيده هو تذكيرك للإِنسان بما يُلَيِّن قلبَه من ثواب وعِقاب وفي التنزيل: { فمَن جاءه مَوْعِظة من ربه } .(لسان العرب7/466).
(2) صحيح البخاري، ح رقم(68).(21/42)
-يتخولنا بها مخافة السآمة علينا"(1)، وكان- صلى الله عليه وسلم - يخصص يوماً للنساء يعظهنّ فيه، فعن أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه -أن النساء قلن للنبي - صلى الله عليه وسلم -: اجعل لنا يوماً، فوعظهن وقال: "أيما امرأة مات لها ثلاثة من الولد كانوا لها حجابا من النار " قالت امرأة: واثنان؟ قال: "واثنان"(2).
ثالثاً: التربية بالقصة: من أهداف القصة: شد المستمع واسترعاء انتباهه بهدف التأثر بشخصياتها، ومحاولة الإقناع عن طريق الإيحاء الفكري، وبيان أهمية العمل الصالح؛ فللقصة سحر على النفوس من خلال انفعال النفس بالمواقف، والمشاركة الوجدانية لأشخاص القصة، وغير ذلك، وقد اتسمت القصة النبوية بوضوح الأسلوب وبساطته، وجاذبيتها التي تأخذ بمجامع القلوب، ولعل قصص الأنبياء سواء التي في القرآن أم تلك التي قصها النبي- صلى الله عليه وسلم - على أصحابه كان لها أعظم الأثر في نفوسهم، كقوله تعالى: { وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ } [البقرة:35]، وقوله: { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ } [المائدة:27)، وقوله: { أَلَمْ
__________
(1) صحيح البخاري ح رقم(70).
(2) صحيح البخاري ح رقم(1250).(21/43)
يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَات } ِ[التوبة:70]،وقوله: { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ } [يونس:71[،وقوله: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ } [البقرة:258] ، وقوله: { وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا } [لأعراف:155]، وقوله: { إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ } [آل عمران:45].(21/44)
أما القصص في السنة المطهرة، فأمثلته كثيرة-أيضاً-، ومنه ما رواه البخاري بسنده من طريق عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -يقول: " انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم حتى أووا المبيت إلى غار فدخلوه فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعو الله بصالح أعمالكم، فقال رجل منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلا ولا مالاً فناء بي في طلب شيء يوما فلم أرح عليهما حتى ناما، فحلبت لهما غبوقهما، فوجدتهما نائمين وكرهت أن أغبق قبلهما أهلا أو مالا فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر فاستيقظا فشربا غبوقهما اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة فانفرجت شيئا لا يستطيعون الخروج قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: وقال الآخر: اللهم كانت لي بنت عم كانت أحب الناس إلي فأدرتها عن نفسها فامتنعت مني حتى ألمت بها سنة من السنين فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها ففعلت حتى إذا قدرت عليها قالت لا أحل لك أن تفض الخاتم إلا بحقه فتحرجت من الوقوع(21/45)
عليها فانصرفت عنها وهي أحب الناس إلي وتركت الذهب الذي أعطيتها اللهم إن كنت فعلت ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها، قال النبي- صلى الله عليه وسلم - وقال الثالث: اللهم إني استأجرت أجراء فأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال فجاءني بعد حين فقال يا عبد الله أد إلي أجري فقلت له كل ما ترى من أجرك من الإبل والبقر والغنم والرقيق فقال يا عبد الله لا تستهزئ بي فقلت إني لا أستهزئ بك فأخذه كله فاستاقه فلم يترك منه شيئا اللهم فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون "(1).
__________
(1) صحيح البخاري، ح(2272).(21/46)
كما روى البخاري بسنده من طريق أبي هريرة- رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله- صلى الله عليه وسلم -يقول: " كانت امرأتان معهما ابناهما جاء الذئب فذهب بابن إحداهما فقالت صاحبتها إنما ذهب بابنك وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك فتحاكمتا إلى داود فقضى به للكبرى فخرجتا على سليمان بن داود فأخبرتاه فقال ائتوني بالسكين أشقه بينهما فقالت الصغرى لا تفعل يرحمك الله هو ابنها فقضى به للصغرى(1).
رابعاً: الترغيب والترهيب: الترغيب والترهيب من طرق التربية والتعليم التي استخدمها النبي- صلى الله عليه وسلم - في تربية أصحابه وتعليمهم حتى يبقى الواحد منهم يعيش بين الخوف والرجاء، قال تعالى: { وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } [لأعراف:56] ، وقال تعالى: { إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } [لأعراف:167]، ويقول الرسول المعلم - صلى الله عليه وسلم -: "لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنته أحد ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من جنته أحد"(2).
__________
(1) صحيح البخاري ح( 3427).
(2) صحيح مسلم(4/2109)ح(2755).(21/47)
خامساً: التربية بالعقوبة: إذا لم تفلح الوسائل السابقة فلا بد من اللجوء إلى العقوبة من أجل إعادة الأمور إلى نصابها الصحيح، لكن هذا الأسلوب لا يلجأ إليه إلا إذا فشلت جميع الأساليب الأخرى، ولا بد من التدرج في العقوبة؛ كالتلويح بها، ثم التهديد بعدم رضاء الله، ثم التهديد بغضب الله، ثم التهديد بعقاب الآخرة، ثم تعجيل العقوبة الدنيوية وتنفيذها، ابتداءً بالتعزير وانتهاء بالحدود، قال تعالى: { وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً } [النساء: 34]، ويقول عز وجل: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ } (البقرة:278-279)، وقال تعالى: { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }(21/48)
[المائدة:38]، ويقول أيضاً: { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [النور:2]، وهكذا ينبغي التدرج في العقوبات؛ لأن العقوبة ليست مقصودة لذاتها، وإنما هي وسيلة للإصلاح، وتنظيم الحياة، قال تعالى: { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [البقرة:179].
المطلب الثاني: الأساليب التعليمية:(21/49)
أولاً: مميزات الأسلوب النبوي في إلقاء الخطاب: قبل الحديث عن الأساليب التعليمية لا بد من التعريف بميزات الأسلوب النبوي في إلقاء الخطاب، فالنبي- صلى الله عليه وسلم - أوتي جوامع الكلم، وهذا ما أخبر به بقوله- صلى الله عليه وسلم -: " بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ "(1) ، كما أن الحديث النبوي امتاز بقوة البيان الذي يأخذ بمجامع القلوب، حتى أن الله عز وجل سماه: "حكمة" فقال تعالى: { وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } [النساء: 113]، وهذا جعل حديثه- صلى الله عليه وسلم - يقع موقعا حسناً في نفوس الصحابة- رضي الله عنهم -ويؤثر فيهم تأثيراً بالغاً، ويسهل عليهم حفظه وتطبيقه، ومن أهم ميزات الأسلوب النبوي:
1. الإيجاز: كان كلام النبي- صلى الله عليه وسلم - قصداً، فلم يكن يطيل الكلام، وإنما يكتفي بالألفاظ القليلة التي تؤدي معان كثيرة، وتصف السيدة عائشة-رضي الله عتها-حديثه بقولها:" إنما كان النبي- صلى الله عليه وسلم - يُحَدِّثُ حَدِيثًا لَوْ عَدَّهُ الْعَادُّ لَأَحْصَاهُ "(2).
__________
(1) صحيح البخاري، ح(7013).
(2) صحيح البخاري، ح(3568)ومسلم، ح(2493).(21/50)
2. إظهار المحبة للمخاطبين: المحبة رسول القلوب، وفي إظهارها تقوية لأواصر الصلة بين المتخاطبين، بحيث تطمئن النفوس وتزيد من ثقة المخاطب بالمتكلم، فيقع كلام المتكلم موقعاً حسنا في قلب المخاطب، فيتلقاه بنفس راضية، ويبعث الشوق في نفسه.
وقد حرص النبي- صلى الله عليه وسلم - على هذا الجانب، فقد أخذ- صلى الله عليه وسلم - بيد معاذ بن جبل- رضي الله عنه -وقال له: " يَا مُعَاذُ وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ فَقَالَ أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ لَا تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ تَقُولُ اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ "(1)
__________
(1) أرويه بسندي المتصل إلى النبي- صلى الله عليه وسلم -، وقد رواه أبوداود(1/475 ح1522)، والنسائي في الكبرى(1/475 ح رقم9937)، وابن خزيمة في صحيحه(1/369ح751)، وابن حبان(5/364ح2020)بسند صحيح.(21/51)
وروى الحاكم بسنده من طريق أبي إسحاق أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم -قال لعقيل بن أبي طالب: يا أبا يزيد إني أحبك حبين؛ حبا لقرابتك مني، و حبا لما كنت أعلم من حب عمي إياك"(1)، وروى بسنده من طريق أنس- رضي الله عنه -أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم -استقبل غلمان من غلمان الأنصار، و إماء وعبيدا فقال : "والله إني لأحبكم"، قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم و لم يخرجاه "(2).
__________
(1) المستدرك(3/667)ح(6464)وفي الحديث الذي بعده(6465) رواه من طريق حذيفة بن اليمان- رضي الله عنه -بنحوه.
(2) المستدرك(4/90)ح(6976).(21/52)
3. التأني وعدم سرد الحديث متتابعا: كان - صلى الله عليه وسلم -يتأنى في إلقاء الكلام إلى أصحابه ليتمكنوا من فهمه وحفظه، حيث كان جل اعتمادهم في الحديث على الحفظ، وهذا ما أشارت إليه السيدة عائشة-رضي الله عنها-بقولها: "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَكُنْ يَسْرُدُ الْحَدِيثَ كَسَرْدِكُمْ "(1) ، وفي رواية أخرى قالت: "ما كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم - يسرد سردكم هذا، ولكنه كان يتكلم بكلام بيّن فصل يحفظه من جلس اليه"(2).
4. التكرار: فكان- صلى الله عليه وسلم - يكرر بعض الكلامات المهمة أو الصعبة ليبين أهمية الكلام من جهة، ولتعيه صدور المخاطَبين من جهة أخرى، ويسهل عليهم حفظه، فقد عقد البخاري باباً في كتاب العلم بعنوان: "من أعاد الحديث ثلاثا ليفهم عنه" ومما جاء في هذا الباب ما رواه بسنده من طريق أنس- رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: كَانَ إِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَعَادَهَا ثَلَاثًا حَتَّى تُفْهَمَ عَنْهُ "(3).
__________
(1) صحيح البخاري، ح(3568)ومسلم(4/1940)ح(3375).
(2) الشمائل المحمدية للترمذي(1/183)ح(224).
(3) صحيح البخاري، ح رقم(95).(21/53)
5. استخدام ألفاظ العموم تجنباً لإحراج المخاطبين: إن عدم تخصيص المذنب بالكلام يجنبه الحرج، ويجعله يقبل الموعظة بنفس راضية، ويقذف حب المتكلم في قلب المخاطب؛ لأنه ستر عليه ولم يفضحه، ويسارع إلى الانتهاء عن المخالفة من باب رد الجميل، وحتى تبقى صورته حسنة في نفوس الناس، ولذلك كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم - يستخدم ألفاظ العموم في عتاب أصحابه، فقد روى أبو داود بسنده من طريق عائشة-رضي الله عنها-قالت: كان النبي- صلى الله عليه وسلم -إذا بلغه عن الرجل الشيء، لم يقل: ما بال فلان يقول ؟ ولكن يقول: "ما بال أقوام يقولون كذا وكذا ؟" وروى البخاري بسنده من طريقها-أيضاً-قالت: أَتَتْهَا بَرِيرَةُ تَسْأَلُهَا فِي كِتَابَتِهَا فَقَالَتْ: إِنْ شِئْتِ أَعْطَيْتُ أَهْلَكِ وَيَكُونُ الْوَلَاءُ لِي ، فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -ذَكَّرَتْهُ ذَلِكَ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -ابْتَاعِيهَا فَأَعْتِقِيهَا فَإِنَّ الْوَلَاءَ لِمَنْ أَعْتَقَ "، ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -عَلَى الْمِنْبَر فَقَال:"َ مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَ فِي(21/54)
كِتَابِ اللَّهِ مَنْ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَلَيْسَ لَهُ وَإِنْ اشْتَرَطَ مِائَةَ شرط"(1)، وفي رواية أخرى لها قالت: " صَنَعَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -شَيْئًا فَرَخَّصَ فِيهِ فَتَنَزَّهَ عَنْهُ قَوْمٌ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَخَطَبَ فَحَمِدَ اللَّهَ ثُمَّ قَالَ مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَتَنَزَّهُونَ عَنْ الشَّيْءِ أَصْنَعُهُ فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُهُمْ بِاللَّهِ وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً"(2).
__________
(1) صحيح البخاري، ح(456).
(2) صحيح البخاري، ح(6101).(21/55)
6.مراعاة الفروق الفردية: إن من فقه الإمام أن يراعي الفروق الفردية بين السائلين في فتواه، والنبي- صلى الله عليه وسلم - هو المعلم الأول، وهو الذي قرر هذه القاعدة، وتعلمها منه أصحابه- رضي الله عنهم -، فقد روى الإمام أحمد بسنده من طريق عبد الله بن عمرو قال: كُنَّا عِنْدَ النبي- صلى الله عليه وسلم - فَجَاءَ شَابٌّ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أُقَبِّلُ وَأَنَا صَائِمٌ؟ قَالَ: لَا، فَجَاءَ شَيْخٌ فَقَالَ: أُقَبِّلُ وَأَنَا صَائِمٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَنَظَرَ بَعْضُنَا إِلَى بَعْضٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -قَدْ عَلِمْتُ لِمَ نَظَرَ بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ! إِنَّ الشَّيْخَ يَمْلِكُ نَفْسَهُ"(1).
وهذا الحديث ضعفه الألباني.
قلت: هو حسن لغيره لأن له شاهد من حديث أبي هريرة، فقد روى أبو داود بإسناد حسن عن أبي هريرة أن رجلا سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -عن المباشرة للصائم فرخص له، وأتاه آخر فسأله فنهاه، فإذا الذي رخص له شيخ والذي نهاه شاب" قال الشيخ الألباني : "حسن صحيح"(2) .
__________
(1) مسند أحمد(2/185) .
(2) صحيح سنن أبي داود، ح(2387).(21/56)
ومن ذلك أن النبي- صلى الله عليه وسلم - كان يقبل الإجابة عن بعض الأسئلة من قوم دون قوم، فقد روى مسلم بسنده من طريق أنس بن مالك قال: نهينا أن نسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -عن شيء، فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله ونحن نسمع، فجاء رجل من أهل البادية فقال: يا محمد أتانا رسولك فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك ؟ قال: "صدق"، قال: فمن خلق السماء ؟" قال: "الله"، قال: فمن خلق الأرض ؟" ...الحديث"، قال: "الله" قال: فمن نصب هذه الجبال وجعل فيها ما جعل قال: "الله" قال: فبالذي خلق السماء وخلق الأرض ونصب هذه الجبال آلله أرسلك؟ قال: "نعم" قال: وزعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا قال: "صدق... قال: ثم ولى قال والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهن ولا أنقص منهن فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -لئن صدق ليدخلن الجنة"(1).
ثانياً: الأساليب التعليمية النبوية:
1. تقريب لغة الخطاب وتبسيطها للمخاطبين: وهذا يكون على ضربين:
__________
(1) صحيح مسلم، ح( 12).(21/57)
أ. مخاطبة الناس باللهجة التي يفهمونها؛ لأن المخاطب إذا لم يفهم كلام المتكلم فكأنه لم يسمعه أصلا، إذ الهدف من الخطاب بالدرجة الأولى: أن يفهم المخاطب المقصود من الخطاب، وقد كان لبعض القبائل أو المناطق لهجة خاصة بهم يفهمون الخطاب بواسطتها أكثر من غيرها، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يراعي هذه المسألة، فقد جاء في بعض طرق حديث: "ليس من البر الصوم في السفر"(1): "" ليس من أم بر أم صيام أم سفر" ، قال الحافظ ابن حجر: " رواه أحمد من حديث كعب بن عاصم الأشعري بلفظ: " ليس من أم بر أم صيام أم سفر" وهذه لغة لبعض أهل اليمن يجعلون لام التعريف: ميماً ويحتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم -خاطب بها هذا الأشعري كذلك؛ لأنها لغته، ويحتمل أن يكون الأشعري هذا نطق بها على ما ألف من لغته فحملها عنه الراوي عنه وأداها باللفظ الذي سمعها به وهذا الثاني أوجه عندي والله أعلم"(2).
__________
(1) صحيح البخاري، ح(1946).
(2) ابن حجر، أحمد بن علي، تلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير، تحقيق: عبد الله اليماني، المدينة المنورة1964م.(2/205).(21/58)
وروى أبو داود بسنده من طريق عبد الله بن فضالة عن أبيه قال: "علمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان فيما علمني: " وحافظ على الصلوات الخمس " قال قلت: إن هذه ساعات لي فيها أشغال، فمرني بأمر جامع إذا أنا فعلته أجزأ عني فقال " حافظ على العصرين " وما كانت من لغتنا فقلت: وما العصران ؟ فقال: " صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها"(1).
ب. التنزل بالخطاب لمستوى المخاطَبين؛ لأن الخطاب إذا كان فوق مستوى المخاطب فلا يؤتي ثماره، ولذلك لا بد للمتكلم أن يراعي أحوال المخاطبين وقدراتهم على الفهم والاستيعاب،ومخاطبتهم بما تتحمله عقولهم، وتعيه قلوبهم، وقد عقد البخاري في كتاب العلم باباً بعنوان: "باب من خص بالعلم قوم دون قوم كراهية ألا يفهموا" وذكر فيه حديث علي بن أبي طالب- رضي الله عنه -: "حدثوا الناس بما يعرفون أتريدون أن يكذب الله ورسوله" (2)
__________
(1) سنن أبي داود، كتاب الصلاة، ح(428) .
(2) صحيح البخاري، ح(127)، رواه البخاري تعليقا عن علي، ثم قال: حدثنا عبيد الله بن موسى عن معروف بن خربوذ عن أبي الطفيل عن علي بذلك، وقد ضعفه الألباني في( الجامع الصغير وزياداته1/645) وكلام الشيخ الألباني فيه نظر؛ لأن الحديث متصل فقد أورد البخاري إسناده متصلاً، وحتى لو كان معلقا فقد علقه بصيغة الجزم إلى علي- رضي الله عنه - ثم رواه متصلاً.(21/59)
.
2. استخدام الحوار كوسيلة من وسائل الإقناع: والحوار وسيلة من وسائل الإقناع وإيصال المقصود في الحالات التي يصعب على المستمع استيعاب الصورة مجردة في بعض الأمور المشكلة، فالحوار يثير انتباه السامعين، ويشوقهم لسماع الجواب مما يجعل ذلك أوقع في نفوسهم، ومن أشهر الأحاديث في الحوار حديث جبريل- عليه السلام - الذي رواه مسلم بسنده من طريق عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -قال: بينما نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد حتى جلس إلى النبي- صلى الله عليه وسلم -فاسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً"، قال: صدقت، قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه، قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره" قال: صدقت، قال: فأخبرني عن(21/60)
الإحسان؟ قال: "أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك" قال: فأخبرني عن الساعة؟ قال: "ما المسؤول عنها بأعلم من السائل" قال: فأخبرني عن أمارتها؟ قال: "أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان" قال: ثم انطلق، فلبثت ملياً ثم قال لي: "يا عمر! أتدري من السائل ؟" قلت: الله ورسوله أعلم، قال: "فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم" (1).
وروى البخاري بسنده من طريق أبي هريرة- رضي الله عنه - أن رجلا أتى النبي- صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله ولد لي غلام أسود، فقال-- صلى الله عليه وسلم --: "هل لك من إبل؟" قال: نعم، قال: "ما ألوانها" قال: حمر، قال: "هل فيها من أورق" قال: نعم، قال: "فأنّى ذلك؟" قال: قال لعله نزعه عرق، قال - صلى الله عليه وسلم -: " فلعل ابنك هذا نزعة"(2) .
__________
(1) صحيح مسلم(1/36)، كتاب الإيمان ح رقم(8).
(2) صحيح البخاري ح(5305).(21/61)
وروى الإمام أحمد بسند صحيح عن أبي أمامة أن فتى شابا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم -فقال : يا رسول الله ائذن لي بالزنا! فأقبل القوم عليه فزجروه وقالوا: مه مه فقال: "أدنه" فدنا منه قريبا قال: فجلس، قال- صلى الله عليه وسلم - "أتحبه لأمك؟" قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: "ولا الناس يحبونه لأمهاتهم، قال: أفتحبه لابنتك؟" قال: لا والله يا رسول الله جعلني الله فداءك، قال: "ولا الناس يحبونه لبناتهم، قال: أفتحبه لأختك؟" قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لأخواتهم، قال: أفتحبه لعمتك؟" قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: "ولا الناس يحبونه لعماتهم، قال: أفتحبه لخالتك؟ قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: "ولا الناس يحبونه لخالاتهم، قال: فوضع يده عليه، وقال: "اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصن فرجه"(1).
3. ضرب الأمثال لتقريب الصورة
__________
(1) مسند أحمد(5/256).(21/62)
وهذه الطريقة كان يلجأ إليها النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما تكون المعاني مبهمة أو غير واضحة من أجل تقريب المعنى إلى ذهن المتعلم وتبسيط الصورة، أو إثارة الانفعالات المناسبة للمعنى، وهذا الأسلوب استعمله القرآن في أكثر من موضع، فقال تعالى: { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ } [ابراهيم:24]وقال أيضاً: { مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً } [الجمعة: من الآية5].(21/63)
أما في السنة فالأمثلة كثيرة من ذلك ما أخرجه البخاري بسنده من طريق ابن عمر - رضي الله عنه -قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم - : "إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم فحدثوني ما هي؟" فوقع الناس في شجر البوادي، قال عبد الله: ووقع في نفسي أنها النخلة، فاستحييت، ثم قالوا: حدثنا ما هي يا رسول الله ؟ قال: "هي النخلة"(1)، وروى الشيخان بسندهما من طريق أبي هريرة- رضي الله عنه - : " إنما مثلي ومثل أمتي كمثل رجل استوقد نارا فجعلت الدواب والفراش يقعن فيه فأنا آخذ بحزكم وأنتم تقحمون فيه"(2)، كما روى بسنده من طريق النعمان بن بشير- رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -قال: "مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا، هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً"(3).
__________
(1) صحيح البخاري، ح(61).
(2) صحيح البخاري، ح(3427)، ومسلم4/1789ح رقم(2284).
(3) صحيح البخاري(2493).(21/64)
وروى مسلم بسنده من طريق أبي موسى الأشعري- رضي الله عنه -عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحا طيبة ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد ريحا خبيثة"(1).
4. طرح الأسئلة:
من الطبيعي أن يسأل الطالب سؤال المستفهم، ولكن النبي- صلى الله عليه وسلم - كان يطرح الأسئلة أحياناً بقصد إثارة انتباه السامعين وتشويقهم لمعرفة الجواب، وأحياناً ليحرك ذكاءهم ويثير فطنتهم، ويختبر ما عندهم من علم، ومن ذلك ما رواه البخاري بسنده من طريق ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبي- صلى الله عليه وسلم -بمنى: " أتدرون أي يوم هذا "، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "فإن هذا يوم حرام، أفتدرون أي بلد هذا ؟"، قالوا: الله ورسوله أعلم قال: "بلد حرام، أتدرون أي شهر هذا؟"، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: " شهر حرام، قال: فإن الله حرم عليكم دماءكم وأموالكم وأعراضكم؛ كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا"(2).
__________
(1) صحيح مسلم(4/ 2026) ح(2628).
(2) صحيح البخاري ح(6043).(21/65)
وروى مسلم بسنده من طريق عن أبي ذر الغفاري- رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم -قال يوماً: أتدرون أين تذهب هذه الشمس ؟ قالوا الله ورسوله أعلم قال إن هذه الشمس تجري حتى تنتهي تحت العرش فتخر ساجدة فلا تزال كذلك حتى يقال لها ارتفعي ارجعي من حيث جئت فتصبح طالعة من مطلعها ثم تجري حتى تنتهي إلى مستقرها ذاك تحت العرش فتخر ساجدة ولا تزال كذلك حتى يقال لها ارتفعي ارجعي من حيث جئت فترجع فتصبح طالعة من مطلعها ثم تجري لا يستنكر الناس منها شيئا حتى تنتهي إلى مستقرها ذاك تحت العرش فيقال لها ارتفعي أصبحي طالعة من مغربك فتصبح طالعة من مغربها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتدرون متى ذاكم ؟ ذاك حين: { لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً } [الأنعام:158](1).
__________
(1) صحيح مسلم ح(159).(21/66)
وروى أيضا بسنده من طريق أبي هريرة- رضي الله عنه - أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم -قال: "أتدرون ما الغيبة؟" قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "ذكرك أخاك بما يكره" قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال: "إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته"(1).
وهناك مثلة أخرى كثيرة فقد روي أنه قال: "أتدرون ما المفلس..." (2)وقال:" أتدرون أي الصدقة أفضل..." (3)، وقال:"أتدرون ما العتيرة..." (4)،وقال: أتدرون ما أخبارها..." (5)، وغير ذلك من الأمثلة والأسئلة.
ثالثاً: الوسائل المساعدة في الخطاب النبوي
كان النبي- صلى الله عليه وسلم - يستخدم بعض الوسائل التوضيحية من أجل تقريب المقصود إلى أذهان المخاطبين، ومن هذه الوسائل:
1. الإشارة:
أ. الإشارة ببعض الأصابع: روى البخاري بسنده من طريق سهل بن سعد- رضي الله عنه - قال: قال - صلى الله عليه وسلم -: "بعثت أنا والساعة كهذه من هذه أو كهاتين" وقرن بين السبابة والوسطى"(6).
__________
(1) صحيح مسلم ح(2589).
(2) صحيح مسلم ح(2581).
(3) مسند أحمد(1/463).
(4) سنن أبي داود، ح(2788).
(5) جامع الترمذي، ح(3353).
(6) صحيح البخاري ح( 5301).(21/67)
وروى أبو داورد بسند صحيح عن سهل بن سعد- رضي الله عنه - أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: "أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة " -وقرن بين أصبعيه الوسطى والتي تلي الإبهام"(1).
ب. التشبيك بين الأصابع: روى البخاري بسنده من طريق أبي موسى- رضي الله عنه -أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: "إن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً" وشبك بين أصابعه"(2) ، وروى أبو داود بسند صحيح عن جبير بن مطعم قال...، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -"إنا وبنو المطلب لا نفترق في جاهلية ولا إسلام وإنما نحن وهم شيء واحد " وشبك بين أصابعه- صلى الله عليه وسلم -"(3).
__________
(1) سنن أبي داود ح رقم(5150).
(2) صحيح البخاري ح(481).
(3) سنن أبي داود، ح(2980).(21/68)
جـ.الإشارة باليد: روى البخاري بسنده من طريق ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي- صلى الله عليه وسلم - أمرت أن أسجد على سبعة أعظم على الجبهة - وأشار بيده على أنفه - واليدين والركبتين وأطراف القدمين ولانكفت الثياب والشعر"(1) ، وروى أيضاً بسنده من طريق عبد الله قال: ذُكر الدجال عند النبي- صلى الله عليه وسلم -فقال : "إن الله لا يخفى عليكم إن الله ليس بأعور - وأشار بيده إلى عينه - وإن المسيح الدجال أعور العين اليمنى كأن عينه عنبة طافية"(2) ، وروى مسلم بسنده من طريق ابن أبي أوفى- رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "...إذا رأيتم الليل قد أقبل من ههنا-وأشار بيده نحو المشرق- فقد أفطر الصائم"(3).
__________
(1) صحيح البخاري ح(812).
(2) صحيح البخاري، ح(7407).
(3) صحيح مسلم، ح(1101)(21/69)
د. تحريك الرأس والعض على الشفتين: روى البخاري في الأدب المفرد بسنده من طريق أبي ذر- رضي الله عنه -أتيت النبي- صلى الله عليه وسلم -بوضوء فحرك رأسه وعض على شفتيه قلت: بأبي أنت وأمي آذيتك؟ قال لا ولكنك تدرك أمراء أو أئمة يؤخرون الصلاة لوقتها قلت فما تأمرني قال صل الصلاة لوقتها فإن أدركت معهم فصله ولا تقولن صليت فلا أصلي"(1).
2. استخدام الخطوط التوضيحية: روى البخاري بسنده من طريق عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه -قال: خط النبي- صلى الله عليه وسلم -خطاً مربعاً وخط خطاً في الوسط خارجاً منه وخط خططاً صغاراً إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط وقال: "هذا الإنسان، وهذا أجله محيط به - أو قد أحاط به - وهذا الذي هو خارج أمله وهذه الخطط الصغار الأعراض فإن أخطأه هذا نهشه هذا وإن أخطأه هذا نهشه هذا"(2)، وروى ابن ماجه بسند صحيح عن جابر بن عبد الله- رضي الله عنه - قال: كنا عند النبي- صلى الله عليه وسلم -فخط خطاً، وخط خطين عن يمينه وخط خطين عن يساره ثم وضع يده في الخط الأوسط فقال: "هذا سبيل الله" ثم تلا هذه الآية: { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي
__________
(1) الأدب المفرد(1/330).
(2) صحيح البخاري، ح(6416).(21/70)
مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } [الأنعام: من الآية153] (1).
المبحث الرابع
أثر المنهج النبوي في نفوس أصحابه
إن المنهج النبوي في التربية والتعليم نجح نجاحاً باهراً ليس له مثيل في التاريخ الإنساني لا قبله ولا بعده، فقد استطاع النبي- صلى الله عليه وسلم - أن ينشئ جيلاً راقياً من الصحابة- رضي الله عنهم - يتمتعون بشخصية إسلامية متميزة لم يستطع المفكرون والمصلحون وعلماء الاجتماع والفلاسفة في شتى بقاع الأرض قديماً وحديثاً أن يصلوا بمجتمعاتهم إلى معشار ما بلغ النبي- صلى الله عليه وسلم - بالمجتمع الإسلامي، ولم يخطر ببالهم أو حتى في خيالهم أن يصلوا إلى ما وصل إليه، وفي هذا دليل واضح على أن التربية الإسلامية قادرة على أن تسمو بالمجتمع إلى أرقى مستوى يمكن أن يصل إليه بشر.
__________
(1) سنن ابن ماجه، ح رقم(11).(21/71)
ولعل السر في ذلك أن النبي- صلى الله عليه وسلم - حرص على تربية أصحابه تربية قرآنية، وأقام الدولة على هذا الأساس المتين، فقد ربط بين الدين والحياة برباط وثيق، كما ربط العلم بالدين حتى صار الدين هو الموجه والمرشد للعلم، فقد حث الإسلام على طلب العلم وجعل ذلك واجبا دينيا بشرط أن يكون هذا العلم نافعاً وقابلاً للتطبيق وفق ضوابط معينة في كل مرحلة من مراحل اكتسابه، ولم يكتف بهذا بل حث على نشر العلم وعدم كتمانه، وعدّ كتمان العلم مخالفة دينية يستحق صاحبها العقوبة الإلهية.
وهذه التربية الإيمانية جعلت الصحابة ينقادون انقياداً تاماً للأوامر الدينية بدافع من عقيدتهم، دون حاجة للرقابة، ودون خوف من العقاب الدنيوي حتى أن المذنب كان يبادر بطلب إنزال العقوبة بحقه حتى يطهر نفسه من الخطيئة.
والأمثلة كثيرة يصعب الإحاطة بها في مثل هذا البحث المتواضع لكنني سأشير إلى بعض هذه الجوانب طلباً للاختصار.
المطلب الأول: التضحية بالنفس في سبيل الله:(21/72)
أولاً: حب الشهادة في سبيل الله: الأمثلة على ذلك لا تعد ولا تحصى، فقد كان الصحابة يحبون الشهادة في سبيل الله أكثر من حبهم للحياة، وهذا ما أكده خالد بن الوليد في كتابه إلى قادة الفرس الذي يقول فيه: "...فإذا جاءكم كتابي هذا فاعتقدوا مني الذمة وأدوا إلي الجزية وابعثوا إلي بالرهن وإلا فوالله الذي لا إله إلا هو لألقاكم بقوم يحبون الموت كحبكم الحياة ..."(1).
__________
(1) ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد(6/325)وقال: رواه أبو يعلى وفيه مجالد وهو ضعيف وقد وثق.(21/73)
وها هو عمير بن الحمام يضرب لنا أروع الأمثلة في ذلك عندما دنا المشركون من المسلمين في غزوة بدر قال- صلى الله عليه وسلم -: "روى مسلم بسنده من طريق أبي هريرة أن النبي قال لأصحابه عندما دنا منهم مشركي قريش:" قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض" فقال عمير بن الحمام الأنصاري: يا رسول الله! جنة عرضها السماوات والأرض ؟ قال""نعم"،قال: بخ بخ، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: "ما يحملك على قولك بخ بخ" قال: لا والله يا رسول الله إلى رجاءة أن أكون من أهلها قال: "فإنك من أهلها" فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتل حتى قتل"(1).
__________
(1) رواه مسلم في صحيحه3/1509) ح رقم(1091).(21/74)
ثانياً: الجود بالنفس طلباً لتكفير الذنب: فالمؤمن يعلم أن الدنيا فانية، والآخرة هي الباقية، ولذلك فإن العقوبة في الدنيا ولو كانت الإعدام فهي أهون بكثير من عقوبة الآخرة، فها هو ماعز- رضي الله عنه -يأتي النبي- صلى الله عليه وسلم -مختاراً يطلب تنفيذ عقوبة الرجم حتى الموت بحقه رجاء أن يكفر الله خطيئته ويكفر ذنبه، وكذلك الغامدية فعلت مثله، فقد روى الشيخان وغيرهما-واللفظ لمسلم- أن ماعز بن مالك جاء إلى النبي- صلى الله عليه وسلم - فقال: "يا رسول الله طهرني فقال: " ويحك ارجع فاستغفر الله وتب إليه" قال: فرجع غير بعيد ثم جاء فقال: يا رسول الله طهرني، فقال رسول الله: "ويحك ارجع فاستغفر الله وتب إليه"، قال: فرجع غير بعيد ثم جاء فقال: يا رسول الله طهرني، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم - مثل ذلك، حتى إذا كانت الرابعة قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فيم أطهرك ؟" فقال: من الزنا، فسأل رسول الله " أبه جنون ؟" فأخبر أنه ليس بمجنون، فقال: "أشرب خمرا ؟ " فقام رجل فاستنكهه فلم يجد منه ريح خمر، قال: فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: "أزنيت ؟"، فقال: نعم، فأمر به فرجم فكان الناس فيه فرقتين قائل(21/75)
يقول لقد هلك لقد أحاطت به خطيئته وقائل يقول ما توبة أفضل من توبة ماعز أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يده في يده ثم قال اقتلني بالحجارة قال فلبثوا بذلك يومين أو ثلاثة ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم جلوس فسلم ثم جلس فقال: "استغفروا لماعز بن مالك"، قال: فقالوا: غفر الله لماعز بن مالك، قال: فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: "لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم، قال: ثم جاءته امرأة من غامد من الأزد، فقالت: يا رسول الله! طهرني، فقال: "ويحك، ارجعي فاستغفري الله وتوبي إليه"، فقالت: أراك تريد أن ترددني كما رددت ماعز بن مالك؟ قال: "وما ذاك ؟"، قالت: إنها حبلى من الزنا، فقال: "آنت ؟" قالت: نعم، فقال لها: " حتى تضعي ما في بطنك" قال: فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت، قال: فأتى النبي- صلى الله عليه وسلم -، فقال: قد وضعت الغامدية، فقال: " إذاً لا نرجمها وندع لها ولدها صغيرا ليس له من يرضعه" فقام رجل من الأنصار فقال: إلى رضاعه يا نبي الله، قال: فرجمها"(1).
__________
(1) صحيح مسلم ح(1695)، وينظر صحيح البخاري ح(6824)، والترمذي(1428)،وأبو داود(4419و4442).(21/76)
المطلب الثاني: بذل الأموال في سبيل الله عن طيب نفس:
فقد كان الصحابة- رضي الله عنهم -يتنافسون في الطاعات، ويتسابقون في البذل وتقديم الأموال في سبيل الله رجاء ما عنده من الأجر والثواب، فها هو عمر بن الخطاب- رضي الله عنه - يقول: " أمرنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم - يوما أن نتصدق فوافق ذلك مالاً عندي فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوماً، فجئت بنصف مالي فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما أبقيت لأهلك ؟ " فقلت: مثله، قال: وأتى أبو بكر- رضي الله عنه -بكل ما عنده، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما أبقيت لأهلك ؟ " قال: أبقيت لهم الله ورسوله، قلت: لا أسابقك إلى شيء أبدا(1).
__________
(1) رواه أبو داود في سننه بإسناد حسن(1/526) وحسنه الألباني.(21/77)
وروى الحاكم بسنده من طريق عبد الرحمن بن سمرة قال : جاء عثمان- رضي الله عنه - إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -بألف دينار حين جهز جيش العسرة ففرغها عثمان في حجر النبي- صلى الله عليه وسلم -قال: فجعل النبي يقلبها ويقول: "ما ضر عثمان ما عمل بعد هذا اليوم" قالها مراراً"، قال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد و لم يخرجاه"(1).
المطلب الثاني: الامتثال السريع لأوامر الله ورسوله:
__________
(1) المستدرك(3/110)ح(4553)، والحديث رواه الترمذي برقم(3701) وحَسَّنه.(21/78)
كان الصحابة - رضي الله عنهم -أسرع من الريح المرسلة في تطبيق أوامر الله ورسوله، حرمت الخمرة ونزل قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } [المائدة:90-91]، أسرع الصحابة بالاستجابة لأمر ربهم بقولهم: "انتهينا يارب، فقد روى الطبرى بسنده من طريق ابن بريدة عن أبيه قال : بينما نحن قعود على شراب لنا ونحن على رملة ونحن ثلاثة أو أربعة وعندنا باطية لنا ونحن نشرب الخمر إذ قمت حتى آتي رسول الله- صلى الله عليه وسلم - فأسلم عليه وقد نزل تحريم الخمر ...إلى آخر الآيتين: فجئت إلى أصحابي فقرأتها عليهم إلى قوله : { فهل أنتم منتهون } ؟ قال : وبعض القوم شربته في يده قد شرب بعضا وبقي بعض في الإناء فقال بالإناء تحت شفته العليا كما يفعل الحجام ثم صبوا ما في باطيتهم فقالوا : انتهينا(21/79)
ربنا ! انتهينا ربنا(1).
وروى أبو داود بسنده من طريق أم سلمة قالت: لما نزلت: { يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ } [الأحزاب:95] خرج نساء الأنصار كأن على رءوسهن الغربان من الأكسية"(2) .
ولما تخلف بعض الصحابة عن غزوة تبوك من غير عذر أمر النبي- صلى الله عليه وسلم - بهجرهم، فلم يخرج أحد عن أمره- صلى الله عليه وسلم - حتى أن زوجته اعتزلته، وها هو كعب بن مالك- رضي الله عنه - يروي قصته في الحديث الطويل الذي رواه البخاري ومسلم وغيرهما(3) .
المطلب الثالث: الإيثار والبعد عن الأنانية وحب الذات:
__________
(1) تفسير الطبري(5/33).
(2) رواه أبو داود في سننه بإسناد صحيح(1/526) ح رقم(4101)وصححه الألباني.
(3) ينظر: صحيح البخاري ح رقم(4418)، ومسلم ح رقم(2769).(21/80)
إن حب النفس والأنانية من الطبائع المتأصلة في نفوس البشر، لكن النبي- صلى الله عليه وسلم - اقتلع هذه الصفة من نفوس المؤمنين ورباهم على الإيثار والتضحية، وعلمهم أن من خصال الخير أن يحب المسلم لأخيه المسلم مثلما يحب لنفسه، فقال- صلى الله عليه وسلم -: " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه "(1)، وتحقيقاً لهذا المعنى آخى النبي- صلى الله عليه وسلم - بين المهاجرين والأنصار، فكان الأنصاري يقسم ماله بينه وبين أخيه المهاجر، حنى أن سعد بن الربيع-الأنصاري-- رضي الله عنه - قال لأخيه في الله-المهاجر- عبد الرحمن بن عوف- رضي الله عنه -: قد علمت الأنصار أني من أكثرها مالا سأقسم مالي بيني وبينك شطرين ولي امرأتان فانظر أعجبهما إليك فأطلقها حتى إذا حلت تزوجتها فقال عبد الرحمن بارك الله لك في أهلك"(2)، "دلوني على السوق"(3) فعمل وتاجر حتى أصبح أكثر أهل المدينة مالاً، وقد أثنى الله على المهاجرين والأنصار بقوله تعالى: { وَالَّذِينَ
__________
(1) متفق عليه، البخاري ح رقم(13)، ومسلم ح رقم(45).
(2) ينظر: صحيح البخاري ح رقم(3781)،
(3) قوله: "دلوني على السوق" زادها النسائي في روايته(السنن الكبرى5/86 ح(8322).(21/81)
تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [الحشر:9].
المطلب الرابع: العزة والكرامة والإباء:
غني عن القول أن العرب قبل الإسلام كانوا تبعاً لغيرهم، ليس لهم قيمة أو وزن بين الأمم، فلما بعث فيهم النبي الأمي- صلى الله عليه وسلم -أعزهم الله بهذا الدين، وأصبحوا قادة الأمم قاطبة، وهذا ما أكده الفاروق- رضي الله عنه -بقوله: "إنا قوم أعزنا الله بالإسلام فلن نبتغي العز بغيره"(1).
__________
(1) رواه ابن أبي شيبة في مصنفه(7/10و93)، والحاكم في المستدرك1/130ح(208).(21/82)
وها هو ربعي بن عامر يدخل على رستم قائد جيش الفرس، متقلداً سيفه، فقيل له: ضع سلاحك فقال: إني لم آتكم فأضع سلاحي بأمركم، أنتم دعوتموني، فإن أبيتم أن آتيكم كما أريد رجعت، فأخبروا رستم فقال: ائذنوا له، هل هو إلا رجل واحد؟ فأقبل يتوكأ على رمحه ويطعن به النمارق والبسط، حتى أفسدها، فقال له رستم: ما جاء بكم؟ قال: إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه فمن قبل منا ذلك قبلنا ذلك منه ورجعنا عنه وتركناه وأرضه يليها دوننا ومن أبى قاتلناه أبدا حتى نفضي إلى موعود الله قال وما موعود الله قال الجنة لمن مات على قتال من أبى والظفر لمن بقي" ...ثم قال لرستم: نحن مترددون عنكم ثلاثاً، فانظر في أمرك وأمرهم، واختر واحدة من ثلاث بعد الأجل: اختر الإسلام وندعك وأرضك، أو الجزية فنقبل ونكف عنك، وإن كنت عن نصرنا غنيا تركناك منه، وإن كنت إليه محتاجا منعناك، أو المنابذة في اليوم الرابع، ولسنا نبدؤك فيما بيننا وبين اليوم الرابع إلا أن تبدأنا، أنا كفيل لك بذلك على أصحابي وعلى جميع من ترى، قال: أسيدهم(21/83)
أنت؟ قال لا ولكن المسلمين كالجسد الواحد بعضهم من بعض يجير أدناهم على أعلاهم...وفي اليوم التالي جاء إليهم المغيرة بن شعبة والقوم في زيهم عليهم التيجان والثياب المنسوجة بالذهب فأقبل المغيرة وله أربع ضفائر يمشي حتى جلس معه على سرير رستم ووسادته ، فقال لهم مثل ما قال صاحبه بالأمس وزاد عليه(1).
ولم يكن هذا ليتحقق لرجل من عامة القوم، ولا لقبيلة من مثله لولا عزة الإسلام، وهذا ما أكده النبي- صلى الله عليه وسلم - بقوله: "الميزان بيد الرحمن يرفع أقواما و يضع آخرين "(2).
المطلب الخامس: تجسير الفجوة بين الحاكم والمحكوم:
__________
(1) تاريخ الطبري(2/401)، وتاريخ ابن خلدون(2/524)، وجمهرة خطب العرب(1/242)بتصرف.
(2) رواه الحاكم في المستدرك(1/607)، وقال: صحيح على شرط مسلم.(21/84)
إن العلاقة بين الحاكم والمحكوم هي التي تحدد ملامح المجتمع، فإذا قامت هذه العلاقة على المحبة والاحترام المتبادل، انعكس ذلك على إيجابياً على رفاهية المجتمع وأمنه، وقد راعى النبي- صلى الله عليه وسلم - هذا الجانب، ولذلك نجد الصحابة قد أحبوا النبي- صلى الله عليه وسلم - أكثر من أولادهم ومن أنفسهم، وعدَّوا كل مصيبة بعده جلل، والحوادث الدالة على ذلك كثيرة، منها: نوم علي بن أبي طالب في فراش النبي- صلى الله عليه وسلم - ليلة الهجرة والمشركون ينتظرونه خارجاً، يقول أبو بكر الصديق- رضي الله عنه -: "جئت النبي- صلى الله عليه وسلم - يوم أحد فقال: "عليك بابن عمك" فأتى طلحة بن عبيد الله، وقد نزف، فجعلت أنضح في وجهه الماء، وهو مغشي عليه، ثم أفاق فقال: ما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -فقلت: خيراً، هو أرسلني إليك، قال: الحمد لله كل مصيبة بعده جلل"(1).
__________
(1) تاريخ دمشق(25/77). والجلل: يعُبِّر به شيئين متضادين، فيقعُ على الشيء العظيم والحَقِير، وعلى الكبير والصغير وعلى ذلك قولُه : فكُلُّ مُصِيبَةٍ بَعْدَه جَلَلٌ، هينة. ينظر: (تاج العروس للزبيدي1/6939)، و(المزهر في علوم اللغة للسيوطي1/306).(21/85)
وتذكر كتب السيرة أن النبي- صلى الله عليه وسلم - مرَّ بامرأة من بني دينار، و قد أصيب زوجها وأخوها وأبوها في غزوة أحد فلما نعوا لها قالت : ما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قالوا : خيراً يا أم فلان هو بحمد الله كما تحبين قالت: أرونيه حتى أنظر إليه قال : فأشير لها إليه حتى إذا رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل(1).
وعندما جيء بزيد بن الدثنة- رضي الله عنه -ليصلب ثم يقتل، قال له أبو سفيان: "أنشدك الله يا زيد أتحب أن محمدا عندنا الآن في مكانك نضرب عنقه وأنك في أهلك ؟ قال : والله ما أحب أن محمدا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأني جالس في أهلي فقال أبو سفيان : ما رأيت من الناس أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمد محمداً، ثم قتل- رضي الله عنه -(2).
المطلب السادس: صقل الشخصية
__________
(1) ينظر: سيرة ابن كثير(3/93)، وسيرة ابن هشام(4/50).
(2) ينظر: سيرة ابن كثير(3/125)، وسيرة ابن هشام(4/125).(21/86)
لا أجد مثالاً على صقل الشخصية أوضح من الخنساء-رضي الله عنها-(1)، فقد روي أنها ظلت خمسة عشر عاماً وهي ترثي أخاها صخراً، وأنشدت آلاف الأبيات من الشعر في رثائه، وأجمع أهل العلم بالشعر أنه لم يكن امرأة قط قبلها ولا بعدها أشعر منها.
ولكن بعدما أسلمت وحسن إسلامها انقلب حالها، وضربت للنساء أروع الأمثلة في البطولة والصبر ورباطة الجأش،فعندما كان المسلمون يتجهزون لغزوة القادسية جمعت أبناءها الأربعة وقالت لهم: "يا بني إنكم أسلمتم طائعين وهاجرتم مختارين ووالله الذي لا إله إلا هو إنكم لبنوا رجل واحد كما أنكم بنو امرأة واحدة ما خنت أباكم ولا فضحت خالكم ولا هجنت حسبكم ولا غبرت نسبكم وقد تعلمون ما أعد الله للمسلمين من الثواب الجزيل في حرب الكافرين . واعلموا أن الدار الباقية خير من الدار الفانية يقول الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [آل عمران:200]،فإذا أصبحتم غدا إن شاء الله سالمين فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين وبالله على
__________
(1) هي : تماضر بنت عمرو بن الشريد السلمية . هي الخنساء الشاعرة ينظر: (الاستيعاب 1/580).(21/87)
أعدائه مستنصرين فإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها واضطرمت لظى على سياقها وجللت نارا على أوراقها فتيمموا وطيسها وجالدوا رئيسها عند احتدام خميسها تظفروا بالغنم والكرامة في دار الخلد والمقامة فخرج بنوها قابلين لنصحها عازمين على قولها فلما أضاء لهم الصبح باكروا مراكزهم...واستشهدوا الأربعة جميعاً ومعهم أبوهم، فبلغها الخبر فقالت : الحمد لله الذي شرفني بقتلهم وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته"(1).
فهذا الانقلاب في المواقف ما كان ليحدث لولا أن الإسلام صقل شخصيتها، ورباها تربية إسلامية قائمة على أسس قوية وثابتة.
وهكذا نجد أن التربية النبوية قامت على قواعد راسخة رسوخ الجبال الرواسي فأنتجت جيلا متميزاً من الصحابة يعز وجوده في هذه الأزمان.
الخاتمة
__________
(1) ينظر: الاستيعاب(1/590-591).(21/88)
بعد أن ثبت لنا بما لا يدع مجالا للشك أن شخصية النبي- صلى الله عليه وسلم - منارة يهتدي بها كل من يبحث عن الهدى، إذ أبهرت هذه الشخصية عقول العلماء والباحثين بالنتائج التي حققتها، فلم يجد المنصفون من علماء التربية والتعليم بدا من أن يستعينوا بالقواعد والأسس التي استخدمها النبي- صلى الله عليه وسلم - في مسيرته التعليمية بعد أن عجزت النظريات التربوية الحديثة عن مجاراة هذه القواعد واعترفوا بأن النبي الأمي - صلى الله عليه وسلم -كان أعظم شخصية تربوية عرفها التاريخ واعترفوا له بالفضل والعلم، ولم يتوانى المنصفون من علماء الغرب أن يقفوا إجلالا لسيرة النبي- صلى الله عليه وسلم - ويعلنوا إسلامهم، لكن الذين أعمى الله بصيرتهم منعهم عنادهم من أن يعترفوا بنبوته فوصفوه بالمربي والعبقري وغير ذلك ولم يعترفوا بنبوته، بل تعدى الأمر إلى أن ينعته بعض الحاقدين بصفات يخجل اللسان عن ذكرها، وهذا يدل على حقدهم الدفين، وكيدهم العظيم لهذا الدين فأرادوا النيل من أكبر الرموز فيه، ولكن المخلصين من أبناء هذه الأمة وقفوا لهم بالمرصاد وردوا كيدهم إلى نحورهم.
وقد توصلت إلى بعض النتائج المهمة منها:(21/89)
1.أن النبي- صلى الله عليه وسلم -هو المعلم الأول للبشرية جمعاء، وقد ثبت هذا بالنصوص القرآنية.
2. أن سيرة النبي- صلى الله عليه وسلم - هي الركيزة الأساسية في العملية التربوية والتعليمية، وفي شخصيته الصورة الكاملة للمنهج الإسلامي والصورة الحية الخالدة على مدى التاريخ.
3. أن الجانبين: العلمي والتربوي من أهم الجوانب في شخصية النبي- صلى الله عليه وسلم -، وفيهما توجيه للمعلم والمتعلم على حد سواء.
4.أن أقوال النبي- صلى الله عليه وسلم - فيها أكثر من وجه تعليمي، وتحتوي على أكثر من أسلوب إرشادي أو تربوي، ولذلك نجد أن الحديث الواحد يصلح للاستشهاد في كثير من الأمور.
5.أن الأساليب التربوية والتعليمية التي استخدمها النبي- صلى الله عليه وسلم -كانت الركيزة الأساسية في إنجاح العملية التعليمية وحققت الأهداف المنشودة بدقة وموضوعية.
التوصيات
أوصي بأن تهتم الجامعات في الدول الإسلامية بإبراز شخصية النبي- صلى الله عليه وسلم - العلمية والتربية، ويجب أن تكون هذه الشخصية هاديا لهم ومرشدا في مسيرتهم التعليمية.(21/90)
التركيز على أسلوب التربية والتعليم بالقدوة لأنه من أفضل أساليب التعليم وأشدها تأثيرا وأقربها إلى النجاح، وأن الإسلام يقيم منهجه على هذه الطريقة.
التركيز على ربط التعامل مع جميع أجزاء الوجود(الخالق والمخلوقات) بالوحي بقسميه(المتلو وغير المتلو) وأن يكون التعامل مع الوجود ضمن هذا الأطار.
الدعوة إلى عقد المزيد من المؤتمرات العلمية في الدول العربية والإسلامية من أجل إبراز شخصية النبي الأعظم واستعراض صفاته، ليكون في ذلك ردا عمليا على الذين يحاولون النيل من جنابه الشريف.
الدعوة إلى مقاطعة الدول التي تسمح لرعاياها بالنيل من شخصية النبي- صلى الله عليه وسلم - على جميع الأصعدة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
أن يكون المنهج النبوي هو الأساس في العملية التربوية والتعليمية، وأن يتم تطوير المناهج التعليمية في الدول الإسلامية بما يتوافق مع القرآن والسنة النبوية الشريفة.
وختاماً أسأل الله العلي القدير أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم ، وأشكر راعي المؤتمر ومديره واللجنة التحضيرية وجميع الذين شاركوا في إنجاحه والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الدكتور محمد مصلح الزعبي(21/91)
كلية الدراسات الفقهية والقانونية-قسم أصول الدين
جامعة آل البيت- الأردن.(21/92)
بحث بعنوان
واقع السنة النبوية في المناهج المدرسية وكيفية تطويرها
مقدم إلى المؤتمر العلمي الأول للسنة النبوية
{ السنة النبوية في الدراسات المعاصرة }
جامعة اليرموك / الأردن
إعداد
د.محمد عمر الشامي
خبير التربية الإسلامية
الرئاسة العامة لوكالة الغوث الدولية
عمان - الأردن
تلفون : ... مكتب ... (065808260)
خلوي ... (0799235914)
E-Mail : - ... M.Al-Shami@UNRWA.Org
... ... Moal_Shami@yahoo.com
... ... ص.ب(140157) – الأردن / عمان / بيادر وادي السير
واقع السنة النبوية في المناهج المدرسية وكيفية تطويرها
ملخص البحث ... ... :
شكلت السنة النبوية مرجعاً رئيساً في بناء منهاج التربية الإسلامية بعد القرآن الكريم ، وقد حظيت الموضوعات المنتمية إلى السنة النبوية بمكانة مميزة في المناهج الدراسية لما لها من ارتباط بمحتوى الوحدات المتضمنة في الكتب المقررة.(22/1)
يتناول هذا البحث بالاستقراء والتحليل واقع السنة النبوية في مناهج التربية الإسلامية ، ويبين مدى التفاوت بين مناهج بعض الدول في الثقل النسبي الذي تم اعتماده مقارنة بغيره من الموضوعات ، ولا شك أن هناك تبايناً بين المناهج يرجع إلى أسباب تم تحديدها ، غير أن الغالب وجود اهتمام بارز بتلك الموضوعات مع وجود عدد من الصعوبات والمشكلات التي تم تلخيصها في هذا البحث .
السنة النبوية والأهداف العامة للمناهج المدرسية
تركز المناهج المدرسية على أهداف عامة مرتبطة بالسنة النبوية ، ومثال ذلك ما ورد في وثيقة الإطار العام والنتاجات العامة والخاصة لمبحث التربية الإسلامية في الأردن حيث ورد فيها ما يأتي:
- ... التواصل مع القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة
- ... تعزيز الفهم السليم لمفردات الإسلام على ضوء القرآن الكريم والسنة الشريفة
- ... التبصر بالسنن الكونية والاجتماعية في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة
وجاء في النتاجات العامة في المحاور الرئيسة للمرحلتين الأساسية والثانوية لكل صف من الصفوف فيما يرتبط بمحوري الحديث الشريف وعلومه ، والسيرة النبوية ما يأتي :(22/2)
- ... تقدير الحديث الشريف وعلومه وتعميق الصلة بهما فهما والتزاما ( محور الحديث الشريف وعلومه )
- ... التأسي بسيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتعرف سيرته العطرة والوقوف على نماذج من سير السلف الصالح ( محور السيرة النبوية )
يلاحظ من خلال تحليل النتاجات العامة أن المنهاج قد أعطى السنة النبوية حقها ، فهي المصدر الثاني بعد القرآن الكريم ، وهذا لا ينحصر في المحاور المرتبطة بمباحث الحديث الشريف بخاصة بل تتخلل محاور المنهاج جميعها ، من حيث الاستدلال بها على الأحكام والمسائل المتنوعة .
ويأتي التركيز على الموضوعات الأكاديمية في الحديث الشريف وعلومه ، وسيأتي تفصيل لذلك لاحقاً ، مع الاهتمام بالمجالين الوجداني والأدائي من خلال الاهتمام بأن يكون التعليم موجهاً أيضاً نحو بناء شخصية الطالب بشكل متكامل ، ويظهر هذا من خلال التوجيه إلى قيمة التأسي بسيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وكذلك سيرة أصحابه والسلف الصالح عموماً .(22/3)
وبناء على ما سبق فإن مناهج التربية الإسلامية تركز على جعل السنة النبوية مصدرا رئيساً في استنباط الأحكام ، والاستدلال بها على فروع الدين بعامة ، وكذلك الاهتمام بالناحية العملية المرتبطة بالحديث الشريف وعلومه ، مع التركيز على مبدأ الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وفي هذا تأكيد على مبدأ الشمول في بناء شخصية الطالب ، لأن حياته صلى الله عليه وآله وسلم كانت شاملة لكل ما جاء في الدين من أحكام .
ارتباط السنة النبوية بمجالات النمو
تحرص مناهج التربية الإسلامية على بناء شخصية الطالب في جوانبها المتعددة ، وقد كان للسنة النبوية في المناهج دور مهم في هذا المجال ، وفيما يأتي عرض لدور السنة النبوية في بناء شخصية الطالب بمجالات النمو المختلفة .
- ... المجال العقلي ... :
(البناء المعرفي وتنمية مهارات التفكير لدى الطلبة)(22/4)
من يتتبع مفردات محوري الحديث النبوي الشريف والسيرة النبوية يجد أن هناك تركيزاً على بناء عدد من المفاهيم والمصطلحات لدى الطلبة سواء ما تعلق بنص الحديث الشريف أو العلوم الأخرى المرتبطة به ، وكذلك ما يستنتج من الحديث الشريف من قيم واتجاهات ودروس مستفادة ، وأحكام شرعية ومبادئ ، وأفكار.
وليس الهدف من موضوعات الحديث الشريف وعلومه تلقين الطلبة معلومات للحفظ والتذكر فحسب بل المطلوب في هذين المحورين تنمية المهارات الفكرية لدى الطلبة ، مثل : مهارة الاستنتاج ، والتصنيف ، والتحليل ، والتركيب ، والتقويم ، والتفسير , والتعليل ، والمقارنة ، وغيرها ، من خلال عملية التعليم والتعلم . والحديث الشريف غني بالمواطن التي تستحث عقل المتعلم ، وتدفعه إلى إعمال عقله من أجل الوصول إلى المعرفة ، ولذلك يعد محتوى هذين المحورين مادة للارتقاء بقدرات الطلبة العقلية وإن كان ما تتضمنه من معارف مقصودا كذلك .
- ... المجال الجسمي ... :
(التوجيهات النبوية في رعاية النمو الجسمي)(22/5)
تعددت الأحاديث النبوية الشريفة التي تحض على رعاية الجسم والاهتمام به في المجالات جميعها ، وقد حرصت مناهج التربية الإسلامية على إيراد عدد من الأحاديث الشريفة التي تحض على النظافة الجسمية للطالب والحفاظ على قوة البدن ، وممارسة ألوان الرياضة التي تنمي الطاقات والقدرات ، حرصاً منها على بناء هذا الجانب تطبيقاً للتوجيهات النبوية الشريفة .
- ... المجال الانفعالي ... :
(تهذيب شخصية الطالب من خلال القيم والاتجاهات)
تتميز مادة التربية الإسلامية بغزارة القيم والاتجاهات التي تتضمنها ، ومن يتتبع الأحاديث النبوية الشريفة يجد أنها تزخر بذلك ، ولقد كان من أهداف المنهاج أن يبني لدى الطلبة هذا المجال (الانفعالي والاجتماعي) ، بحيث يحقق لدى الطلبة توازنا انفعاليا واجتماعيا ، وقد اهتمت مناهج التربية الإسلامية بالأحاديث التي تتضمن اتجاهات وقيماً تناسب المرحلة النمائية التي يمر بها الطلبة عبر المراحل الدراسية المختلفة .
- ... المجال النفسي ... :
(تحقيق الاستقرار النفسي ورعاية الصحة النفسية للطالب)(22/6)
لقد حرصت مناهج التربية الإسلامية على إيراد الأحاديث النبوية الثابتة ، وتجنب إيراد الأحاديث الضعيفة والموضوعة ، وهذا الأمر ليس على الإطلاق فهناك بعض الروايات التي ضعفها العلماء ومع ذلك فقد بقيت في المناهج وهذا يحتاج إلى إعادة نظر أخرى ، وهناك من الروايات ما ليس له أصل ، أو ليس موثقا ويستبعد شرعا وعقلا أن يكون من كلام النبوة ، لكن المناهج بعامة حرصت على نبذ الخرافات والأساطير التي تثير القلق في نفوس الطلبة كما راعت التدرج المعرفي للمعرفة لدى الطلبة ، فلم تقدم معرفة للطلبة تحتاج إلى معرفة سابقة على الغالب .
- ... المجال الأدائي ... :
(تمكين الطالب من اكتساب مهارات محددة في المراحل النمائية ، وتنمية مهارات الاتصال وبخاصة اللغوية منها)
تضمنت الأحاديث النبوية وموضوعات السيرة نماذج من السلوك النبوي الشريف في ميادين الحياة الاجتماعية والتواصل مع الآخرين تعدّ مثالاً يقتدي به الطالب ، من حيث تمثل القيم والاتجاهات ، ومهارات الاتصال والتواصل مع الآخرين .(22/7)
وهذا كله تطبيق للهدي النبوي الشريف في إكساب الأفراد مهارات ترقى بالسلوك البشري ، وتعمق العلاقات بينهم ، وتؤسسس لمعايير في الأداء تكون جامعة لهم وموحدة لأنماط السلوك .
أما الاتصال اللغوي بخاصة فله اهتمام مميز ، ينبغي على المعلمين الالتفات إليه من خلال التركيز على تمثل الأساليب النبوية في الخطاب والتواصل ، والأحاديث والمواقف النبوية مليئة بذلك ، وللخطاب النبوي وقع خاص ، وعبارات منتقاة ، ومفردات تزيد من التواصل الفاعل بين الأفراد ، وهنا ينبغي الاهتمام ببيان الأساليب النبوية في الخطاب من حيث اللفظ والمعنى ، وكذلك طريقة الأداء .
السنة النبوية ومحتوى منهاج التربية الإسلامية
* ... الثقل النسبي لموضوعات السنة النبوية في المناهج المدرسية ، وتشمل ( الأحاديث النبوية كأساس للدروس ، أحاديث يستدل بها في الوحدات المختلفة ، علوم الحديث ، التراجم ، السيرة النبوية )(22/8)
إن من يتتبع مناهج التربية الإسلامية يجد أنها تحتوى موضوعات كثيرة مرتبطة بالسنة النبوية ، ولا بد من التذكير بأن تلك الموضوعات قد لا تكون متوافرة في وحدة دراسية بعينها ، بل لا بد من النظر إلى الموضوعات وإن جاءت في ثنايا الدروس ، وبناء على ما سبق فإن وحدة الحديث الشريف , ووحدة السيرة النبوية ، ووحدة التراجم / الشخصيات /الأعلام تعد من الموضوعات المرتبطة بالسنة النبوية بشكل مباشر ، وإذا ما نظرنا إلى مفردات الوحدات الأخرى نجد أن هناك كثيراً من الأحاديث النبوية والمواقف التي يستدل بها على الموضوعات الفقهية أو الخلقية أو العقدية أو العبادية أو في النظم الإسلامية وكلها تنتمي إلى السنة النبوية، ولا غرابة في ذلك فإن المنهاج قد اعتمد السنة النبوية لكونها المصدر الثاني في التشريع .ومن هنا فإن الوزن النسبي لأي موضوع يحسب من خلال حجمه في المنهاج ، والوقت الذي يحتاجها في التنفيذ ، والجهد المبذول في تنفيذه ، وأهميته بالنسبة للموضوعات الأخرى ، ولحياة الطالب ، وكل ذلك متوافر في المناهج لمن يتتبعها .(22/9)
وإذا ما نظرنا إلى بعض المناهج من خلال تحليلها في هذا المجال نجد أن هناك تفاوتاً بينها في الوزن النسبي لوحدة الحديث الشريف ووحدة السيرة النبوية ، والوزن النسبي لكل الوحدات المنتمية للسنة النبوية ، وهذا مثال من مناهج التربية الإسلامية في سوريا :-
جدول رقم (1)
عدد دروس الوحدات المنتمية للسنة النبوية مقارنة بالوحدات الأخرى
الوحدة
الصف ... القرآن الكريم ... الحديث الشريف ... العقيدة ... العبادات ... الأخلاق ... السيرة ... الأعلام
السابع ... 16 ... 7 ... 4 ... 7 ... 5 ... 3 ... 4
الثامن ... 15 ... 7 ... 5 ... 8 ... 5 ... 3 ... 4
التاسع ... 16 ... 7 ... 5 ... 5 ... 6 ... 4 ... 4
ويمثل الشكل الآتي الوزن النسبي لوحدات المنهاج
وإذا جمعنا دروس الوحدات المنتمية للسنة النبوية يتبين أنها تأتي في مرتبة موازية لوحدة القرآن الكريم كما يوضح ذلك الشكل الآتي :-
تباين الاهتمام بين مناهج التربية الإسلامية في مراعاتها للسنة النبوية(22/10)
يلاحظ المتتبع لمناهج التربية الإسلامية أن هناك تفاوتاً في مدى الاهتمام بالمساحة المخصصة لموضوعات السنة النبوية فيها ، ويظهر ذلك من خلال حرص بعض الدول على إفراد تلك الموضوعات في كتاب مستقل ، وما يتضمنه من بحث مفصل في العناوين المختلفة في السنة النبوية بحيث يتم تناول أهم الموضوعات التي يقدّر المنهاج أنها تلزم الطالب لتشكل عنده رصيداً ثقافياً في هذا المجال .
ومن جانب آخر فإن تفاوت الاهتمام يظهر من خلال زيادة الوقت المخصص لموضوعات السنة النبوية في الخطة الدراسية لمبحث التربية الإسلامية ، وهذا يعود إلى تقدير خاص بكل دولة .
أسس اختيار موضوعات السنة النبوية في المناهج المدرسية
يتم اختيار المحتوى لأي منهاج بناء على الأهداف العامة التي تحددها اللجان المكلفة بإعداد المنهاج ، ومن ثم يتم اختيار الموضوعات التي تعمل على تحقيق تلك الأهداف ، وقد تنوعت الأسس التي تم اعتمادها لاختيار موضوعات السنة النبوية كما يأتي :-
- ... مناسبة الموضوعات المختارة للمرحلة النمائية التي يمر بها الطلبة خلال المراحل الدراسية المختلفة ، بحيث تنسجم مع قدراتهم العقلية ومستوياتهم التحصيلية .(22/11)
- ... حاجة الطلبة للموضوعات في حياتهم العملية من حيث بناء شخصيتهم وكذلك بناء ثقافتهم في هذا المجال ، والمجالات الأخرى .
- ... تنوع الموضوعات بحيث لا تقتصر على الأحاديث النبوية الشريفة فقط بل تشمل موضوعات علوم الحديث ، والتراجم وغيرها .
- ... ارتباطها بموضوعات الوحدات الأخرى للمنهاج بحيث تحقق التكامل والترابط معها ، فتكون داعمة ومعززة للمفاهيم والمعلومات الواردة فيها .
- ... القصر والسهولة وعدم التعمق الذي يرهق الطالب ، فترى الأحاديث النبوية غالباً تتميز بالقصر وسهولة العبارة .
- ... اشتمالها على القيم والاتجاهات التي يحرص المنهاج على اكتساب الطلبة لها ، وذلك من خلال ما يتم استنتاجه في المواقف التعليمية / التعلمية .
- ... إظهار الصور المشرقة لحياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ولحياة الصحابة والتابعين ومن بعدهم ، بالإضافة إلى مزايا التشريع الإسلامي ، والاعتدال والوسطية في التطبيق .(22/12)
- ... محاربة الخرافات والأساطير والمعتقدات الباطلة التي يتوارثها الناس بينهم وتتسرب إلى الطلبة من محيطهم الاجتماعي ، من خلال عرض الثابت من الروايات عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذا المجال ليكون حجة للطالب .
- ... خصوصية الظروف لبعض الدول ، فتعرض من الموضوعات المرتبطة بالسنة النبوية ما يعالج بعض القضايا التي يعاني منها المجتمع ، أو يراد تأكيدها لدى الطلبة ، كما تراعى الأوضاع العامة التي يعيشها الطلبة في عصر ما .
- ... تحقيق الاستقرار النفسي والمعرفي للطلبة من خلال تجنب الموضوعات التي تتناقض ظاهرياً مع منطق العقل أو لا يستطيع الطالب استيعابها في مرحلة ما، مع تجنب الموضوعات التي تشتمل على ترهيب لا يتناسب مع مستوى الطلبة.
استراتيجيات التدريس المستخدمة في تدريس موضوعات السنة النبوية
من خلال تتبع الخطوط العريضة لمناهج التربية الإسلامية ، وأدلة المعلمين ، وورشات العمل التدريبية التي تعقد في بعض البلدان العربية والإسلامية ، والكتابات التربوية للمتخصصين في تدريس التربية الإسلامية، يتبين أن أكثر الخطوات تطبيقاً في تدريس الأحاديث النبوية الشريفة هي الخطوات الآتية :-(22/13)
الخطوة الأولى : المقدمة
وتهدف إلى استثارة دافعية الطلبة نحو التعلم ، ويمكن البدء بسبب ورود
الحديث إن وجد ، أو عرض مشكلة منتمية إلى موضوع الدرس، أو ربط الحديث الشريف بدرس سابق، أو طرح سؤال يتضمن الحديث الشريف الإجابة عنه ، أو قصة منتمية، أو مناسبة قائمة في الحياة العملية 0
أما معايير المقدمة فينبغي أن تكون مجملة عامة غير مغرقة في التفاصيل ، ومنتمية إلى موضوع الحديث الشريف ، وقصيرة لا تؤدي إلى الملل ، وفيها عنصر التشريق الذي يثير انتباه الطالب ، وصحيحة علمياً بعيدة عن الخرافات والأساطير والروايات الضعيفة والموضوعة .
الخطوة الثانية : القراءة النموذجية
... وتهدف إلى تأكيد الفهم الإجمالي قبل الشرح التفصيلي، وحتى يسهل أمر
الحفظ والتثبت ، مع ضبط ألفاظ الحديث كي يسهل أمر القراءة على الطلبة ، وللقراءة النموذجية معايير 0
... معايير القراءة النموذجية :
أ0 ... أن تكون على مهل من غير سرعة0
ب0 ... أن تكون مسموعة بوضوح من قبل الطلبة جميعهم 0
جـ0 ... حسن الأداء ، من خلال تمثل الانفعالات المتضمنة في الحديث الشريف 0(22/14)
والأصل أن تتزامن قراءة الحديث الشريف مع عرض نص مكتوب للحديث الشريف على السبورة أو لوحة أو شفافة – للصفوف الثاني فما فوق - ، مع تشكيل المفردات المشكلة، أما مصدر القراءة فيمكن أن يكون المعلم كما يمكن أن يكون الطالب المتقن أو المواد المحوسبة .
الخطوة الثالثة : القراءة الفردية ( أو الزمرية أو الجماعية )
يبدأ المعلم بالطلبة المجيدين، فالمتوسطين، فمن دونهم، ولا يستوعب الطلبة جميعهم لضيق الوقت، ولكن ينبغي الحرص على مشاركة الطلبة جميعهم في نشاطات الحصة جميعها .
يشار هنا إلى أن الأحاديث المقررة في المنهاج غالباً ما تكون قصيرة تتناسب في مبانيها ومعانيها مع الخصائص النمائية للطلبة في المرحلتين الابتدائية الدنيا والعليا .
الخطوة الرابعة: القراءة الصامتة
وهذه الخطوة خاصة بطلاب الصفوف العليا، وتهدف إلى تمكين الطالب من تبين المعاني الإجمالية ، ورصد الطالب الأسئلة التي يثيرها النص لديه ، كما تنمي لدى الطلبة الدراسة الذاتية، مع اعتماده على نفسه في فهم النص.
... ويحسن بالمعلم قبل توجيه الطلبة إلى القراءة الصامتة طرح مجموعة من ... الأسئلة التي يكلف الطلبة بالبحث عن إجابات عنها في الحديث الشريف 0(22/15)
الخطوة الخامسة : الشرح
...
في الصفين الأول والثاني يتم تناول المعاني الإجمالية ، وبعض المفردات والتراكيب الصعبة من خلال تقريب تلك المعاني وربطها بالواقع مع حسن استخدام للوسائل التعليمية/التعلمية .
أما بالنسبة لطلبة الصف الثالث فما فوقه فهذه الخطوة هي الأهم، وفيها يقوم المعلم بتحليل النص، وتمكين الطلبة من استنتاج الأفكار الرئيسة والفرعية، والقيم والاتجاهات، والحقائق، والمبادئ ، والأحكام الشرعية، ويوظف المعلم لذلك مجموعة من الأنشطة والإجراءات التي تعمل على تفاعل الطلبة مع الموقف التعليمي/التعلمي.
الخطوة السادسة : القراءة الفردية
... ...
وهذه خاصة بطلبة الصف الثالث وما فوقه حيث يقوم الطلبة بقراءة
الحديث الشريف مرة أخرى بعد عملية الشرح حتى تتثبت الأفكار والمعاني التي تضمنها الحديث الشريف، ويوزع المعلم هذه القراءة على فئات جديدة من الطلبة.
الخطوة السابعة : الحفظ
...(22/16)
يوجه المعلم الطلبة إلى طرق الحفظ الخمس، ليختاروا ما شاءوا منها ، ويبدأ عملياً بتحفيظ الطلبة نص الحديث الشريف، وغالباً ما يتم حفظه في الحصة نفسها بعد مروره بخطوات التدريس السابقة ، ولعل طريقة المحو التدريجي في الحفظ تعمل على استثارة دافعية الطلبة أكثر من غيرها 0
الخطوة الثامنة : التقويم
وفي هذه الخطوة يقوم المعلم بالتحقق من مدى تعلم الطلبة في
حصة الحديث الشريف ، ويوزع المشاركة على فئات الطلبة المختلفة، ويتم التركيز على الجوانب المهمة في التعلم ، والجوانب التي يخشى المعلم من عدم تمكن الطلبة من إتقانها كي يعمل على معالجتها 0
أساليب التدريس المنتمية إلى موضوعات السنة النبوية في المناهج المدرسية
تقترح مناهج التربية الإسلامية عدداً من الأساليب لتنفيذ دروس الوحدة مثل:
... * أسلوب تحليل النصوص الأصلية .
... وهذا الأسلوب يستخدم في تدريس نصوص الأحاديث الشريفة .
... * الأسلوب القصصي .
ويستخدم في سرد نبذة عن حياة رواة الأحاديث الشريفة ، أو حياة أصحاب كتب السنة النبوية .
... ...
... ... * أسلوب تدريس المفاهيم .(22/17)
فقد تضمنت دروس الوحدة مجموعة من المفاهيم ، ويستخدم المعلمون إحدى الطرائق المتبعة في تدريس المفاهيم ومن أبرزها طريقتان : الاستقرائية ، والاستنتاجية لتدريس المفاهيم الواردة ، مثل : السنة ، والمعروف ، والمنكر .
... ... * أسلوب الحوار والمناقشة . ...
وهذا الأسلوب شائع في كل الوحدات ، وله معايير وضوابط سيأتي الحديث عنها لاحقاً .
* الأسلوب التمثيلي .
يوظف المعلمون هذا الأسلوب في عرض مواقف منتقاة من أجل تمكين الطلبة من متابعة الأحداث بصورة حية ، واستشعار الانفعالات عن قرب ، ومن ثم إثارة دافعية الطلبة نحو تمثل القيم والاتجاهات المتضمنة في الموقف .
كما يستخدم هذا الأسلوب في عرض حياة رواة الأحاديث الشريفة ، وأصحاب كتب الحديث النبوي الشريف .
... ... * أسلوب البحث والاستقصاء .
... ... ...(22/18)
يمكن توظيف هذا الأسلوب في تعلم الطلبة مجموعة الخبرات المتعلقة بحياة رواة الأحاديث الشريفة وأصحاب السنن الأربعة ، وهنا يلزم المعلم أن يقوم بتوضيح كيفية الرجوع إلى تلك الخبرات من خلال تعريف الطلبة بأنواع المصادر والمراجع المنتمية إلى موضوع البحث ، وربما احتاج المعلم إلى عرض نماذج من تلك المصادر والمراجع من أجل تدريب الطلبة على كيفية استخدامها ، وهذا الأمر يعد من الأهداف الخاصة المتعلقة بتنمية كفايات الطلبة على استخدام مصادر التعلم المتنوعة .
... ... * أسلوب العرض العملي .
... ...
وهذا الأسلوب ضروري في تدريس هذه الوحدة ؛ لأن المصادر الواردة فيها تحتاج إلى ممارسة عملية حتى يتمكن الطالب من تنمية قدراته في استخدامها ، ولذلك فالمعلم مطالب بإحضار نماذج عن تلك المصادر وقيامه - أمام الطلبة- بعرض عملي يبين من خلاله كيفية الرجوع إلى تلك المصادر ، واستخراج ما يلزم من معلومات.
الصعوبات والمشكلات التي تواجه عملية التعليم والتعلم لموضوعات السنة النبوية في المناهج المدرسية
هناك عدد من الصعوبات التي تواجه تدريس موضوعات السنة النبوية يمكن حصر أهمها من خلال الاستقراء الميداني والتجربة العملية .(22/19)
- ... ضيق الوقت المتاح لمبحث التربية الإسلامية بعامة ، والوقت المخصص لموضوعات السنة النبوية بخاصة ، حيث يمكن أن يعطى ثقل نسبي أكبر من خلال جعل النصوص المرتبطة بالسنة النبوية هي المحور لتدريس موضوعات التربية الإسلامية الأخرى من فقه وعقيدة وغيرها .
- ... صعوبة المفاهيم والمصطلحات وبخاصة في علوم الحديث الشريف التي تتطلب خبرات سابقة ، مثل : مفاهيم علم المصطلح التي تحتاج إلى شبكة مفاهيمية مترابطة كي يتمكن الطلبة من استيعاب تلك المصطلحات ، ولا يمكن للمعلم السير في عملية التعليم بيسر وسهولة إلا إذا شرح المفاهيم والمصطلحات ذات العلاقة ، مثل : مفهوم الشذوذ ، والعلة ، والتدليس وغيرها .
- ... إسناد تدريس مادة التربية الإسلامية لغير المتخصصين في الشريعة الإسلامية ، بحيث يكمّلون نصاب التدريس المطلوب منهم إدارياً ، وهذا يكون على حساب نوعية التدريس الذي يقدم إلى الطلبة ، لأن هؤلاء المعلمين والمعلمات لا يمتلكون الكفايات اللازمة لتدريس مادة التربية الإسلامية ، فلديهم ضعف تربوي خاص بالتربية الإسلامية ، وضعف أكاديمي أيضاً .(22/20)
- ... عدم مواكبة مناهج التربية الإسلامية للمستجدات التربوية في مجال تقنيات التعليم الحديثة مثل : الإنترنت ، والمواد المحوسبة ودمج ذلك في عملية التعليم ، وبخاصة ما يتعلق بالسنة النبوية ، وبقاء التعليم مرتبطاً بالكتاب المدرسي .
- ... قلة توافر المصادر والمراجع المنتمية إلى السنة النبوية في مكتبات المدارس ، ويعود ذلك إلى صعوبة توفيرها بسبب التكلفة العالية ، حيث إن معظم تلك المصادر والمراجع يغلب عليها كثرة المجلدات ، وهذا يشكل عبئاً على الموازنة المالية للمدارس التي غالباً ما تكون محدودة .
الوسائل التعليمية المساندة في تدريس السنة النبوية
تتنوع الوسائل التعليمية التي تستخدم في تدريس موضوعات السنة النبوية ، فتشمل المصادر ، والمراجع ، واللوحات ، والبطاقات ، والشفافات ، ولوحات الجيوب ، والمجسمات ، والصور ، وأفلام الفيديو ، بالإضافة إلى الأقراص المدمجة (CD) ، وشبكة الإنترنت التي تعدّ مصدراً ثرياً للخبرات في هذا المجال ، حيث ينبغي على المعلمين والمعلمات الالتفات إلى هذا الجانب وتفعيل استخدامه لما فيه من فائدة كبيرة مع استثارته لدافعية الطلبة نحو التعلم .(22/21)
نحو تطوير منهاج يعطي السنة النبوية مكانتها في العملية التعليمية/التعلمية
يمكن الأخذ بالملاحظات الميدانية الآتية التي تعمل على تفعيل تدريس موضوعات السنة النبوية ، وتؤدي إلى مزيد من التحسين في بناء مناهج التربية الإسلامية ، وإليك أهمها .
- ... توظيف المنحى التكاملي في تدريس وحدة السنة النبوية في المناهج المدرسية من خلال ترابطها مع الوحدات الأخرى ، مثل : الفقه وجعل الأحاديث النبوية عناوين للموضوعات الفقهية وكذلك الأحكام الشرعية التي تأتي في ثنايا الدروس ، والتركيز على أسلوب تحليل النص بحيث يجعل الحديث مصدرا للتعلم وهذا ينسحب على سائر الوحدات مثل : العقيدة ، السيرة ، والأخلاق ، والمعاملات ، 000
- ... محاولة بناء المناهج في جزء منها بطريقة تراعي الترابط بين الموضوعات المختلفة بحيث يعطى الطلبة حديثاً نبوياً فيه من الموضوعات المرتبطة بأبواب الدين المختلفة ، ثم يستنتج منه ما يرتبط بها في دراسة شاملة لا تقتصر على وحدة بعينها ، وتجعل في قسم مستقل تحت عنوان ثقافي معين.(22/22)
- ... دور التعليم اللامنهجي (غير النظامي) في تعزيز الاهتمام بالسنة النبوية مثل استخدام الإنترنت ، وزيارة الجمعيات المهتمة بالسنة النبوية ، وكتابة المقالات ، والنشرات ، وعقد المحاضرات والندوات ، وتنظيم الاحتفالات بمناسبات مرتبطة بالسنة النبوية ، وتنفيذ زيارات لمؤسسات بحثية مختصة بالموضوع ، وقد يكون من المناسب أن يطلق على بعض الصفوف أو القاعات أسماء لبعض علماء السنة الذين كان لهم دور بارز في هذا المجال مع وجود ملخص لحياته يعلق في مكان بارز من المدرسة.
المراجع
- ... الإطار العام والنتاجات العامة والخاصة للتربية الإسلامية ، الأردن (2005) .
- ... كتب التربية الإسلامية لصفوف مرحلة التعليم الأساسي في الأردن .
- ... كتب التربية الإسلامية لصفوف مرحلة التعليم الأساسي في سورية .
- ... كتب التربية الإسلامية لصفوف مرحلة التعليم الأساسي في السلطة الوطنية الفلسطينية .
- ... كتب التربية الإسلامية لصفوف مرحلة التعليم الأساسي في لبنان .
- ... الخطوط العريضة لمنهاج التربية الإسلامية ، السلطة الوطنية الفلسطينية (1999) .
Dr.Mohammad Al-Shami/My Doc/Academic Researches(22/23)
أثر السنَّة النّبوية في التقعيد الفقهي
"دراسة تطبيقية في كتابي الأشباه والنظائر للسيوطي وابن نجيم"
إعداد
د. محمد محمود طلافحة
أستاذ مساعد
قسم الفقه وأصوله، كلية الشريعة، جامعة اليرموك
الملخص
أثر السنَّة النّبوية في التقعيد الفقهي
"دراسة تطبيقية في كتابي الأشباه والنظائر للسيوطي وابن نجيم"
يتناول هذا البحث بيان معنى التقعيد الفقهي، ومصادره عموماً، والسنّة النّبوية بشكل خاص، وأثرها عليه، وتناول البحث أيضاً دراسة تطبيقية لأثر السنّة النّبوية في التقعيد الفقهي في كتابَيْ: الأشباه والنظائر" للسيوطي وابن نجيم (رحمهما الله تعالى).
ويخلص البحث إلى أنَّ التقعيد الفقهي يعنى ببيان مصدر تكوين القاعدة الفقهية، حيث تعتبر السنة النبوية مصدراً رئيساً له، إذ قد تكون القاعدة الفقهية بألفاظها حديثاً نبوياً، أو معناها مستنبطاً منه، وهذا ما لمسه الباحث في الدراسة التطبيقية في الكتابين المذكورين.
Abstract
The Impact of Holy Suna' on the Formulation of Jurisprudential Rules.
"Applicable Study on the Books :Al- Ashbah and Al- Nuddar for Al- Saiouti and Ibn Nujaim".(23/1)
... The present study addresses clarifying the meaning of formulation of Jurisprudential rules, its sources in general, and the Holy Suna in particular and its impact on the formulation of Jurisprudential rules. The study also addresses an applicable study of the impact of Holy Suna on the formulation of Jurisprudential rules in the books of Al- Ashbah and Al- Nuddar forAl – Saiouti and Ibn Nujaim "mercy on their souls".
... The study concludes that the formulation of Jurisprudential rule is mainly concerned with clarifying the creation of Jurisprudential rules, as the Holy Suna is a main source for Jurisprudential rules, as Jurisprudential rules in its vocabulary is a Holy Suna, or its meaning is abstracted from it. This what the researcher has concluded in the applicable study conducted on the two books mentioned above.
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة:
الحمدلله ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد،،،(23/2)
فإنَّ تقعيد القواعد في الفقه الإسلامي من الموضوعات المهمة التي تناولها العلماء الأوائل بالتأنَّي والتروّي، والاستقصاء والشمول، فعالجوه بدقة وأصالة واقتدار، فكانت جهودهم ودراساتهم قد أضاءت النور لمن جاء بعدهم، وحذا حذوهم، حتى أضحى هذا العلم مفخرة من مفاخر الفقه الإسلامي، إذ يمثل قمّته ومنتهاه، فالاطّلاع على القواعد يغني عن حفظ الفروع الكثيرة والجزئيات المتناثرة في بطون أمهات المصادر الفقهية.
وأمَّا موضوع الدراسة "أثر السنّة النّبوية في التقعيد الفقهي" فترجع أهميته وسبب اختياره إلى عدّة أمور، من أهمها:
أولاً: ضرورة البحث في مصادر تكوين القاعدة الفقهية عموماً، ومصدر السنّة النّبوية خصوصاً، حيث يعتبر هذا الموضوع ركناً أساسياً في التقعيد الفقهي الذي يعنى ببيان مصادر القاعدة الفقهية ومنابعها.
ثانياً: تسليط الضوء على إعلاء السنّة النّبوية من مكان القواعد الفقهية في حجيّتها والاستدلال بها، واعتبارها من الأدلة الشرعيّة، إذ الاستدلال بها يعتبر من قبيل الاحتجاج بالسنّة النّبوية، إذا كان نصّ القاعدة مأخوذاً من حديث نبوي أو مستنبطاً منه.(23/3)
ثالثاً: بيان تأثُّر الفقهاء بجوامع الكلم في السنة النّبوية وذلك في صياغة القواعد الفقهية، حيث جزالة الألفاظ والإيجاز فيها مع غزارة المعاني والدلالات.
ثانياً: منهج البحث
سلكت المنهج العلمي القائم على الاستقراء والتحليل والاستنباط في عرض عناصر هذا الموضوع، وأمّا آليات هذا المنهج، فهي على النحو الآتي:
عزو الآيات القرآنية إلى سورها من القرآن الكريم.
تخريج الأحاديث النّبوية وذلك بالرجوع إلى مصادر السنّة النّبوية، ونقل الحكم عليها صحةً وضعفاً.
الرجوع إلى المعاجم اللغوية والاصطلاحية لبيان معاني الألفاظ.
وحدة المنهج في الهوامش حيث وضعتها في نهاية البحث وفق الأرقام المتسلسلة في متنه، وذكرت فيها: اسم المؤلف كاملاً، وتاريخ وفاته، ثم اسم الكتاب، ثم مكان النشر، ثم اسم الناشر، ثم تاريخ النشر مع بيان الطبعة (إن وجدت)، ثم رقم الجزء والصفحة (وهذا في حالة ذكر الكتاب لأول مرة، فإذا ذكر مرة أخرى، أوثّقه مختصراً بحيث أقتصر على ذكر شهرة المؤلف، وعنوان الكتاب مختصراً، ورقم الجزء والصفحة).
الاعتماد على المصادر الأصيلة في التوثيق مع عدم إغفال الكتابات الحديثة في هذا الموضوع التي تتسم بالجدية والتعمق.(23/4)
ثالثاً: الدراسات السابقة
من أهم الدراسات السابقة التي تناولت هذا الموضوع عموماً:
مصادر القواعد الفقهية الأصيلة مثل: الأشباه والنظائر للسيوطي وابن نجيم وغيرهما.
مراجع القواعد الفقهية الحديثة مثل: القواعد الفقهية لعلي الندوي ويعقوب الباحسين وغيرهما.
نظرية التقعيد الفقهي وأثرها في اختلاف الفقهاء للدكتور محمد الروكي، وهذا الكتاب في أصله (أطروحة دكتوراه)، وقد قرأته كاملاً، فرسم لي معالم هذا البحث بعون الله تعالى وتوفيقه.
وما تضيفه هذه الدراسة التي قمت بها هو الجمع بين الدراسة النظرية والتطبيقية في إبراز أثر السنّة النّبوية في صناعة القاعدة الفقهية، وتسليط الضوء على ذلك، باعتبار السنّة النّبوية المصدر الرئيس للتعقيد الفقهي.
رابعاً: خطة البحث
اشتملت خطة البحث على مقدمة، وثلاثة مطالب، وخاتمة وذلك على النحو الآتي:
المقدمة: وتتضمن أهمية الموضوع وسبب اختياره، ومنهج البحث والدراسات السابقة.
المطلب الأول: معنى التقعيد الفقهي.
المطلب الثاني: مصادر التقعيد الفقهي وأثرها فيه.
المطلب الثالث: التقعيد بالسنّة النّبوية "دراسة تطبيقية في كتابي الأشباه والنظائر للسيوطي وابن نجيم".(23/5)
الخاتمة: وتتضمن خلاصة لأهم النتائج التي تم التوصل إليها.
وبعد:
فهذا ما وفقني الله تعالى جلّت قدرته إليه، فإن أصبت فهو من توفيق الله تعالى لي وجزيل فضله عليّ، وإن أخطأت أو قصّرت فهو من نفسي والشيطان، والله تعالى ورسوله برئيان منه.
هذا وبالله التوفيق
والحمدلله رب العالمين
المطلب الأول
معنى التقعيد الفقهي
التقعيد الفقهي مركّب وصفي؛ ولأجل معرفة معناه بوضوح، لابُدَّ من معرفة معنى التقعيد لغةً واصطلاحاً، والفقهي لغةً واصطلاحاً، ولبيان ذلك كلّه، عقدت خطة هذا المطلب وفق الفروع الثلاثة الآتية:
الفرع الأول: المعنى اللغوي والاصطلاحي للتقعيد.
الفرع الثاني: المعنى اللغوي والاصطلاحي للفقه.
الفرع الثالث: معنى التقعيد الفقهي باعتباره مركّباً تركيباً وصفياً.
الفرع الأول: المعنى اللغوي والاصطلاحي للتقعيد.
أولاً: المعنى اللغوي للتقعيد:(23/6)
التقعيد في اللغة: هو مصدر الفعل الرباعي (قَعَّد)، فهو على وزن (تفعيل) الذي هو مصدر للفعل الرباعي (فعَّل)، وهو مزيد بالتضعيف حيث أصله الثلاثي (قَعَدَ)، والذي اشتقت منه أيضاً القاعدة – على وزن فاعلهُ – التي هي بمعنى الأصل والأساس، وجمعها: قواعد، وقواعد البيت: أساسه وأصوله(1).
ثانياً: المعنى الاصطلاحي للتقعيد:
إنّ الراجع إلى المصادر التي تعنى ببيان المعاني الاصطلاحية للألفاظ الفقهية، لا يجد معنى للتعقيد، وإنما يجد عبارات منثورة للعلماء – رحمهم الله تعالى – يقرنون فيها بين لفظ "التقعيد" و "القواعد" على غرار المعنى اللغوي – الذي سبق بيانه آنفاً -، ومن هذه العبارات:
__________
(1) جمال الدين محمد بن مكرم (توفي سنة 711هـ/1311م)، لسان العرب، بيروت، دار صادر، ج3، ص 163، محمد مرتضى الحسيني الزبيدي (توفي سنة 1205هـ/1790م)، تاج العروس، الكويت، وزارة الإعلام، 1975م، ج9، ص 60، أبو السعادات مبارك بن محمد بن الأثير (توفي سنة 606هـ/1265م)، النهاية في غريب الحديث والأثر، بيروت، دار الفكر، 1979م، ج4، ص 86.(23/7)
- ما جاء في فتح الباري: "....لكن لما كان كل حكمٍ منها يشتمل على تقعيد قاعدة يستنبط العالم الفطن منها فوائد جمة ...." (1).
- وما جاء أيضاً في فتاوى السغدي:" ..... بل يقتصر على تقعيد القواعد العامة والتفصيلية بأسلوب موجز ....." (2).
من هنا، وقفت على معنى للتقعيد عند أحد الباحثين المعاصرين وهو الدكتور محمد الروكي في كتابه القيم "نظرية التقعيد الفقهي وأثرها في اختلاف الفقهاء"، وهو في أصله أطروحة دكتوراه، حاول أن يربط بين التقعيد والقاعدة فاستفاد من عبارات العلماء القدامى – رحمهم الله تعالى – آنفة الذكر، فعرّف التقعيد بقوله: "عملية إنشاء القاعدة وتركيبها وصياغة عناصرها"(3).
__________
(1) أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (توفي سنة 852هـ)، فتح الباري شرح صحيح البخاري، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، بيروت، دار المعرفة، 1379هـ، ج9، ص 405.
(2) علي بن الحسين السغدي (توفي سنة 461هـ)، فتاوى السغدي، تحقيق د. صلاح الدين الناهي، عمّان، دار الفرقان، 1404هـ، (ط2)، ج2، ص 875.
(3) محمد الروكي، نظرية التقعيد الفقهي وأثرها في اختلاف الفقهاء، بيروت، دار ابن حزم، 2000م (ط1)، ص 33.(23/8)
ومن الجدير بالذكر، أنَّ القاعدة في الاصطلاح العام قد تناول عدد غير قليل من العلماء بيان معناها، اكتفي بذكر تعريف واحد للجرجاني حيث عرّفها بقوله: "قضية كلية منطبقة على جميع جزئياتها"(1).
الفرع الثاني: المعنى اللغوي والاصطلاحي الفقه
أولاً: المعنى اللغوي للفقه:
الفقه في اللغة: هو الفَهْم والعِلْم، يُقال: فقه أي فهم، وكل علم لشيء فهو فقه، وفَقُه: إذا صار الفقه له سَجيّة، والفقه على لسان حملة الشرع علم خاص(2).
ثانياً: المعنى الاصطلاحي للفقه:
__________
(1) علي بن الجرجاني (توفي سنة 816هـ/1413م)، التعريفات، تحقيق إبراهيم الأبياري، بيروت، دار الكتب العلمية، 1983م، (ط1)، ص 195.
(2) أحمد بن محمد بن علي الفيومي (توفي سنة 770هـ/1368م)، المصباح المنير، بيروت، مكتبة لبنان، 1987م، ص 182.(23/9)
خُصَّ بعلم الشريعة ابتداءً، حيث نُقل عن أبي حنيفة (رحمه الله تعالى) أنّه قال: "الفقه معرفة النفس ما لها وما عليها"(1) فالفقه إذن، في الاصطلاح كان يطلق على جميع الأحكام الدينية التي جاءت بها الشريعة الإسلامية سواء كانت هذه الأحكام متعلقة بأمور العقيدة (كوجوب الإيمان بالله تعالى)، أو بأمور الأخلاق (كوجوب الصدق)، أو بأمور العبادات والمعاملات (الأحكام العملية كوجوب الصيام وإباحة البيع)، وبذلك جاء تعريف الأمام أبي حنيفة (رحمه الله تعالى) السابق للفقه شاملاً لجميع الأحكام التي جاءت بها الشريعة الإسلامية(2).
ثم لمّا استقرَّ علم الفقه عُرِّف بأنّه:" العلم بالأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية"(3).
الفرع الثالث: معنى التقعيد الفقهي باعتباره مُركَّباً تركيباً وصفياً
__________
(1) عبدالله بن مسعود البخاري، التوضيح شرح التنقيح بحاشية التلويح، بيروت، دار الكتب العلمية، 1984م، ج1، ص 10.
(2) عبدالكريم زيدان، المدخل لدراسة الشريعة الإسلامية، بيروت، الرسالة، 1999م، (ط16)، ص 54.
(3) عبدالله بن مسعود البخاري، التوضيح شرح التنقيح، ج1، ص 10.(23/10)
على ضوء بيان المعنى الاصطلاحي لكل من التقعيد والفقه (باعتبار أنَّ الفقهي اسم منسوب إلى الفقه) يمكنني بيان معنى التقعيد الفقهي (باعتباره مركباً تركيباً وصفياً) بأنّه: علم يبحث في صناعة القاعدة الفقهية ويعنى ببيان مصدرها ومنبعها.
وقد عرَّف الدكتور محمد الروكي التقعيد الفقهي بقوله: "هول عمل علمي فقهي، ينتهي بالفقيه إلى صياغة الفقه قواعد وكليات، تضبط فروعه وجزئياته. فالقاعدة هي حكم كلي ....، والتقعيد هو إيجادها واستنباطها من مصادرها"(1).
وعرّفت القاعدة الفقهية بأنَّها: "قضية كلية شرعية عملية، جزئياتها قضايا كلية شرعية عملية"(2).
المطلب الثاني
مصادر التقعيد الفقهي وأثرها فيه
لمّا توصلت في المطلب السابق إلى أنَّ التقعيد الفقهي علمٌ يبحث في صناعة القواعد الفقهية وذلك ببيان مصادرها ومنابعها، رأيت أن أُخصّص هذا المطلب لبيان تلك المصادر عموماً، والسنّة النّبوية بشكل خاص وأثرها فيه.
ونظراً لأهمية هذا المطلب، فقد تم تقسيم خطته وفق الفروع الأربعة الآتية:
__________
(1) الروكي، التقعيد الفقهي، ص 35.
(2) يعقوب عبد الوهاب الباحسين، القواعد الفقهية، الرياض، مكتبة الرُّشد، 1998م (ط1)، ص 53.(23/11)
الفرع الأول: القرآن الكريم.
الفرع الثاني: السنّة النّبوية.
الفرع الثالث: أقوال الصحابة والتابعين والفقهاء المجتهدين.
الفرع الرابع: أثر المصادر السابقة في التقعيد.
الفرع الأول: القرآن الكريم
يُعتبر القرآن الكريم المصدر الأول للتقعيد الفقهي، إذ من سوره صاغ الفقهاء قواعد فقهية، ومن الأمثلة على ذلك:
أولاً: قول الله تعالى: { ( - - ( - ( - ( - - - ( المحتويات ( تمهيد ( - - رضي الله عنه - - ( - ( - ( - - - - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - - ( - ( - ( المحتويات ( تمهيد ( - - عليه السلام - - ( - ((( - - - } [185: البقرة]، وقوله تعالى: { - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - - رضي الله عنهم -(- رضي الله عنهم - - ( - ( - ( - فهرس - - رضي الله عنه -( - (( (((( - - - - - ( صدق الله العظيم ( تم بحمد الله - - - رضي الله عنه - - - رضي الله عنهم - مقدمة } [78: الحج]، فمن هاتين الآيتين الكريمتين جاء الفقهاء بقاعدة فقهية كبرى، وهي:"المشقة تجلب التيسير"(1)
__________
(1) جلال الدين عبد الرحمن السيوطي (توفي سنة 911هـ)، الأشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشافعية، بيروت، دار الكتب العلمية، 1983م، (ط1)، ص 76، زين العابدين بن إبراهيم بن نجيم (توفي سنة 970هـ)، الأشباه والنظائر على مذهب أبي حنيفة النعمان، بيروت، دار الكتب العلمية، 1985م، ص 75.(23/12)
.
ثانياً: قول الله تعالى: { ( صدق الله العظيم - رضي الله عنهم - - - ( { - (((( - - - عليه السلام - - ( - - ( - ( - - رضي الله عنه - - - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - - - رضي الله عنه -( - سبحانه وتعالى - - - ( - المحتويات ( بسم الله الرحمن الرحيم ( { ( مقدمة ( - فهرس - - رضي الله عنه -( } [173: البقرة]، وقوله تعالى: { ( - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - - ( - ( المحتويات ( - - - - } تم بحمد الله - رضي الله عنه - بسم الله الرحمن الرحيم { - - رضي الله عنهم - مقدمة ( المحتويات ( - ( - فهرس - - رضي الله عنه -( - صدق الله العظيم ( { - - رضي الله عنه - تم بحمد الله ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - ( - ( - (((( - - ( مقدمة ( - - - ( { } [119: الأنعام]، فمن هاتين الآيتين الكريمتين وأمثالهما جاء الفقهاء بقاعدة فقهية، وهي: "الضرورات تبيح المحظورات"(1).
__________
(1) بدر الدين محمد بن بهادر الزركشي (794هـ/1392م)، المنثور في القواعد، تحقيق: د. تيسير فائق، الكويت، وزارة الأوقاف، 1405هـ (ط2)، ج2، ص 317.(23/13)
ثالثاً: قول الله تعالى: { } - قرآن كريم ( { ( - - رضي الله عنه - - ( - - - - ( ( المحتويات (- عليه السلام - - ( - - رضي الله عنهم - - ( - - - } [148: البقرة]، وقوله تعالى: { - ((- عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنهم - - ( - ( - - ( { - ( - - عليه السلام - - - - - عليه السلام - - ( - - ( - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ( - ((( - - جل جلاله -- رضي الله عنه - - ( - ( - - - } [26: المطففين]، ففي هاتين الآيتين الكريمتين أمر الله تعالى بالتسابق إلى الخيرات، والتنافس في عملها. فاخذ الفقهاء قاعدة فقهية (شطرها الأول): (الإيثار في القرب مكروه) (1)، لأن إيثار بعضهم في القربات ينافي هذا الأمر ويخالفه، وأمّا قول الله تعالى: { - - - صلى الله عليه وسلم -( - ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - فهرس - - رضي الله عنه -( ( المحتويات ( - ( } (( الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - ( قرآن كريم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه - تمت - - - ( المحتويات ( - ( -
__________
(1) السيوطي، الأشباه والنظائر، ص 116، الباحسين، القواعد الفقهية، ص 214.(23/14)
( { - ( - - (- رضي الله عنهم - - } [9: الحشر] فاستنبطوا من هذه الآية الشطر الثاني من القاعدة الفقهية المذكورة أعلاه (وفي غيرها محبوب) (1)، فأصبحت القاعدة الفقهية المأخوذة من الآيات القرآنية السابقة على النحو الآتي: (الإيثار في القرب مكروه، وفي غيرها محبوب) (2).
الفرع الثاني: السنّة النّبوية
تعتبر السنّة النّبوية المصدر الثاني من مصادر التقعيد الفقهي، إذ بعض الأحاديث النّبوية تعتبر بذاتها قواعد فقهية، وبعضها الآخر يستنبط من مضمونها القاعدة الفقهية، وفيما يلي أذكر الأمثلة المبينة لهذا الفرع، وأمّا الدراسة التطبيقية التفصيلية للتعقيد بالسنّة النّبوية فهي عنوان المطلب القادم إن شاء الله تعالى.
__________
(1) المصدران السابقان، الصفحات نفسها.
(2) السيوطي، الأشباه والنظائر، ص 116.(23/15)
أولاً: قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (العجماء جُرحها جُبار) (1) فقد أخذ الفقهاء رحمهم الله تعالى من هذا الحديث قاعدة فقهية، وهي:" جناية العجماء جُبار"(2)، ومعنى "جناية العجماء" أي ما تفعله البهيمة من الأضرار بالنفس، أو بالمال، ومعنى "جبار" أي هدر وباطل لا حكم له، إذا لم يكن منبعثاً عن فعل فاعل مختار(3).
__________
(1) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، كتاب الحدود، باب جرح العجماء والمعدن والبئر جبار، رقم الحديث (3226).
(2) لجنة مجلة الأحكام العدلية، مجلة الأحكام العدلية، المادة (94)، علي حيدر، درر الحكام شرح مجلة الأحكام، بغداد، مكتبة النهضة، ج14، ص 83.
(3) أحمد بن محمد الزرقا (توفي سنة 1357هـ/1938م)، شرح القواعد الفقهية، دمشق، دار القلم، 1989م، (ط2)، ص 457.(23/16)
ثانياً: قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -:" البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر"(1)، وقد أخذ الفقهاء رحمهم الله تعالى هذا الحديث النبوي واعتبروه بألفاظه قاعدة فقهية، وهي "البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر"(2). وتعتبر هذه القاعدة من القواعد المهمة التي يرتكز عليها القضاء في فضّ النزاعات بين المتخاصمين، ومعناها: أنَّ المدّعي يكلّف بإقامة البيّنة لإثبات دعواه إذا كان المدِّعى عليه منكراً للدعوى، فإن عجز المدّعي عن إقامة البيّنة، يكلّف القاضي المدّعي عليه باليمين(3)،ويؤيد هذه القاعدة الدليل العقلي، لان كلام المدّعي مخالف للظاهر فهو ضعيف يحتاج لبيّنة تدعمه وكلام المدّعي عليه لمّا كان موافقاً للظاهر فهو
__________
(1) أورده العجلوني في كتابه (كشف الخفاء ومزيل الإلباس عمّا اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس)، حديث رقم (925)، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1985م (ط4)، ج1، ص 342. وحكم عليه بقول النووي عنه (حديث حسن).
(2) لجنة مجلة الأحكام العدلية، مجلة الأحكام العدلية، المادة (76).
(3) محمد عثمان شبير، القواعد الكلية والضوابط الفقهية في الشريعة الإسلامية، عمّان، دار الفرقان، 2000م (ط1)، ص 339-3340.(23/17)
لا يحتاج لتقوية ما سوى يمينه(1).
ثالثاً: قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -:" على اليد ما أخذت حتى تؤدِّي"(2) فمن هذا الحديث الشريف استنبط الفقهاء كثيراً من قواعد الضمان(3)، كقاعدة:" لا يجوز لأحد أن يأخذ مال أحد بلا سبب شرعي"(4)، فإن أخذه كان ضامناً حتى يردّه(5) (للحديث الشريف السابق)، واستنبطوا أيضاً منه قاعدة فقهية أخرى وهي:" المفرط ضامن"(6)، ومعناها: أنَّ
__________
(1) علي حيدر، درر الحكام، شرح المادة (76) البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر، ج1، ص 66.
(2) أخرجه الترمذي في سننه، كتاب العارية، باب ما جاء في أنّ العارية مؤداة، رقم الحديث (1266)، وقال عنه الترمذي: حديث حسن صحيح، ج3، ص 566.
(3) محمد الروكي، القواعد الفقهية من خلال كتاب "الإشراف على مسائل الخلاف" للقاضي عبد الوهاب البغدادي المالكي، دبي، دار البحوث للدراسات الإسلامية، 2003م، (ط1)، ص 197.
(4) مجلة الأحكام العدلية، مادة (97)، علي حيدر، درر الحكام شرح مجلة الأحكام، ج1، ص 86.
(5) مصطفى أحمد الزرقا (توفي سنة 1418هـ/1998م)، المدخل الفقهي العام، دمشق، دار القلم، 1998م، (ط1)، ج2، ص 1042.
(6) الروكي، القواعد الفقهية، ص 339-340.(23/18)
مَن اتلف مال غيره عمداً فهو ضامن له، فالمستعير الذي يهمل العاريّة ولا يحفظها حتى تضيع، يضمنها، إذا ثبت تفريطه، فهو ضامن(1) (للحديث الشريف السابق)، (فوضع اليد التي ليست بمؤتمنة سبب من أسباب ضمان المتلفات عند فقهاء المالكية) (2).
الفرع الثالث: أقوال الصحابة والتابعين والفقهاء المجتهدين
وردت أقوال للصحابة والتابعين والفقهاء المجتهدين (رضي الله عنهم) وقد أخذها بعين الاعتبار الفقهاء الذين صاغوا القواعد الفقهية فيما بعد، حيث كانت بمثابة النواة لتلك القواعد التي استنبطوها، وأكتفي – في هذا المقام – بذكر أنموذج واحد من هذه الأقوال:
__________
(1) المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
(2) شهاب الدين أبو العباس أحمد بن إدريس القرافي (توفي سنة 684هـ)، الفروق، بيروت، دار المعرفة، ج1، ص 206-207، (الفرق الحادي عشر والمائة بين قاعدة ما يضمن وما لا يضمن).(23/19)
أولاً: ورد عن سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - انه قال: "مقاطع الحقوق ثَمَّ الشروط"(1)، ومعنى قوله هو: لزوم الشروط المتفق عليه، وترتب الحقوق وفقه(2).
واعتبر قوله هذا فيما بعد قاعدة في باب الشروط خصوصاً في عقد الزواج المقترن بشرط نافع لأحد المتعاقدين(3).
ثانياً: روى عن القاضي شريح بن الحارث أنّه قال:" من شرط على نفسه شرطاً طائعاً غير مكره أجزناه عليه"(4)، ومقتضاه صحة الشرط، وإلزاميته أن لم يكن مخالفاً للشرع(5).
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب النكاح، باب الشروط في النكاح، ج5، ص 1978.
(2) منصور بن يونس البهوتي (توفي سنة 1051هـ)، الروض المربع، الرياض، مكتبة الرياض الحديثة، 1390هـ، ج3، ص 87.
(3) علي أحمد الندوي، القواعد الفقهية، دمشق، دار القلم، 1998م (ط4)، ص 92، بتصرف يسير.
(4) أورده عبد الرزاق الصنعاني في مصنفه، باب الشروط، رقم (14303)، ج8، ص 59، بيروت، المكتب الإسلامي، 1402هـ (ط2).
(5) إبراهيم بن محمد ضويان (توفي سنة 1353هـ)، منار السبيل، تحقيق عصام القلعجي، الرياض، مكتبة المعارف، 1405هـ (ط2)، ج1، ص 294.(23/20)
واتخذ الفقهاء من هذا القول قاعدة في الشرط وهي: الإلزام بغرامات معيّنة عند تأخير تسليم المعقود عليه في الوقت المتفق عليه في عقود المقاولات(1).
ثالثاً: قال الإمام أبو يوسف - صاحب أبي حنيفة – رحمهما الله تعالى: "ولا يجوز للإمام أن يقطع شيئاً من طريق المسلمين ممَّا فيه الضرر عليهم، ولا يسعه ذلك"(2).
فالضّمير في (عليهم) عائد على الرعيّة، والضمير في الفعل (يسعه) عائد على الإمام، فهذا القول يتمثل فيه مفهوم قاعدة :"تصرُّف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة"(3)، وذلك من خلال عدم صحة جواز التصرُّفات الصادرة عن الإمام، إذا لم تكن مقترنة بالمصلحة، وذلك بأن تكون الأضرار مصاحبة لتلك التصرُّفات.
الفرع الرابع: أثر المصادر السابقة في التقعيد
__________
(1) الندوي، القواعد الفقهية، ص 93.
(2) أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم (توفي سنة 183هـ)، كتاب الخراج، بيروت، دار المعرفة، 1979م، ص 93.
(3) السيوطي، الأشباه والنظائر، ص 121، ابن نجيم، الأشباه والنظائر، ص 123.(23/21)
تبيّن في الفروع الثلاثة السابقة أنَّ مصادر التقعيد قد تكون آية قرآنية من كتاب الله تعالى أو حديثاً نبوياً من السنّة النّبوية أو قولاً لصحابي أو تابعي أو فقيه مجتهد جاء بعدهم استند فيه وفق المصلحة المعتبرة شرعاً، أو الاستقراء للجزئيات، أو الاستدلال بالقياس ونحو ذلك.
فالأثر الرئيس لهذه المصادر في التقعيد هو استمداد لقاعدة الفقهية قوتها وحجيتها من النصّ القرآني أو النّبوي إذا كان أصلها مأخوذاً من آية من القرآن الكريم أو من حديث من السنّة النّبوية، وقد لاحظنا أن هناك من القواعد الفقهية هي بذاتها نصوص من القرآن أو السنّة، فعندئذ تعتبر القاعدة الفقهية دليلاً من الأدلة الشرعية التي تستنبط منها الأحكام الشرعية، ونعاملها معاملة النص القرآني أو النبوي، وفق دلالات ألفاظها على الأحكام من حيث العموم والخصوص والتقييد والإطلاق كما هو مبيّن في علم أصول الفقه(1).
__________
(1) يعقوب الباحسين، القواعد الفقهية، ص 273، 287، علي الندوي، القواعد الفقهية، ص 331، محمد شبير، القواعد الكلية والضوابط الفقهية، ص 87، الروكي، نظرية التقعيد الفقهي، ص 88.(23/22)
وهناك أثر آخر وهو: مساعدة الفقهاء على صياغة القاعدة الفقهية وفقاً للمبادئ الكلية، والأصول التشريعية التي جاءت بها آيات القرآن الكريم، وجوامع الكلم في أحاديث الرسول- صلى الله عليه وسلم -(1).
وأمّا إذا كانت القواعد الفقهية ليست نصوصاً شرعية، وإنما هي صياغة الفقهاء وعباراتهم من الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم، وقد استندوا في أقوالهم إلى الأدلة العقلية الاجتهادية من قياس، أو مصلحة، أو عرف، أو نحو ذلك، فكما أنّ هذه الأدلة مختلف في اعتبارها من المصادر الشرعيّة، فكذلك الحال تأخذ القواعد الفقهية حكمها، لأنها تبع لها(2) - والله تعالى أعلم - .
المطلب الثالث
التقعيد بالسنّة النّبوية
"دراسة تطبيقية في كتابي الأشباه والنظائر للسيوطي وابن نجيم"
__________
(1) إبراهيم محمد الحريري، المدخل إلى القواعد الفقهية الكلية، عمّان، دار عمّار، 1998م، (ط1)، ص 22-23، الروكي، نظرية التقعيد الفقهي، ص 88.
(2) المصادر السابقة، الصفحات نفسها، محمد صدقي البورنو، الوجيز في إيضاح قواعد الفقه الكلية، بيروت، مؤسسة الرسالة، 19998م، (ط5)، ص 35-36، بتصرف، الروكي، نظرية التقعيد الفقهي، ص 203.(23/23)
الأشباه والنظائر علم من علوم الفقه الإسلامي باعتباره يبحث في الفروع الفقهية، ويتفق مع علم القواعد الفقهية من حيث هذا الملحظ، ووحدة الهدف وهو استنباط الحكم الشرعي(1).
وعلم الأشباه والنظائر أعم من القواعد الفقهية، إذ يبحث في بيان الفروع الفقهية التي تتشابه مع بعضها البعض في أكثر الوجوه (وهذا معنى الأشباه اصطلاحاً)، ويبحث أيضاً في الفروع الفقهية التي تتشابه مع بعضها البعض ولو في وجه واحد (وهذا معنى النظائر اصطلاحاً)، ويبحث في الأحكام الفقهية التي هي بمثابة التطبيقات الفقهية للقواعد(2).
ويعتبر كتابا "الأشباه والنظائر" للإمامين الجليلين: الإمام السيوطي الشافعي، والإمام ابن نجيم الحنفي (رحمهما الله تعالى) من أهم الكتب المؤلفة في هذا العلم، وقد حاولت استقراء القواعد الفقهية الواردة في هذين الكتابين؛ للوقوف على أثر السنّة النّبوية في التقعيد الفقهي، فخلصت إلى أمرين، فيما يلي أتناولهما بالتفصيل والبيان:
__________
(1) شبير، القواعد الكلية، ص 32-33.
(2) المرجع السابق، الصفحات نفسها، الباحسين، القواعد الفقهية، ص 97-98.(23/24)
الأمر الأول: إنَ القواعد الفقهية الكبرى في الكتابين كلها مستنبطة من أحاديث نبوية وعددها عند الإمام السيوطي خمسة(1)، وعند الإمام ابن نجيم ستة(2)، وهي على النحو الآتي:
القاعدة الأولى: الأمور بمقاصدها(3)، الأصل فيها قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -:" إنّما الأعمال بالنيّات، وإنّما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى دنيا يُصيبها، أو إلى امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه"(4).
__________
(1) الأولى: الأمور بمقاصدها، والثانية: اليقين لا يزال بالشكّ، والثالثة: المشقة تجلب التيسير، والرابعة: الضرر يزال، والخامسة: العادة محكّمة.
(2) زاد الإمام ابن نجيم على القواعد الخمسة السابقة عند الإمام السيوطي قاعدة سادسة وهي: لا ثواب إلا بالنيّة، (وهي في الواقع مندرجة تحت قاعدة: "الأمور بمقاصدها).
(3) السيوطي، الأشباه والنظائر، ص 8، ابن نجيم، الأشباه والنظائر، ص 27.
(4) أخرجه الإمام البخاري في صحيحه، كتاب الوحي، باب بدء الوحي، حديث رقم (1)، ج8، ص 3.(23/25)
ومعنى هذه القاعدة: أنّ أعمال الشخص وتصرفاته القولية والفعلية تختلف أحكامها الشرعية التي تترتب عليها وفق مقصود الشخص منها(1).
القاعدة الثانية: اليقين لا يزول بالشك(2)، وهي مستنبطة من قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -:" إذا وجد أحدكم في بطنه شيئاً فأشكل عليه اخرج منه شيء أم لا، فلا يخرجنّ من المسجد حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً"(3).
ومعنى هذه القاعدة: أنّ ما كان متيقناً منه لا يرتفع حكمه بمجرد طروء الشك عليه، لأنّ الأمر اليقيني لا يمكن أن يزيله ما هو أضعف منه وهو الأمر المشكوك فيه، بل إزالته ممكنة ممّا يساويه، أو يكون أقوى منه(4).
__________
(1) مصطفى الزرقا، المدخل الفقهي العام، ج2، ص 980.
(2) السيوطي، الأشباه والنظائر، ص 50، ابن نجيم، الأشباه والنظائر، ص 56.
(3) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، كتاب الحيض، باب الدليل على أنّ من تيقّن الطهارة ثم شكَّ في الحدث فله أن يصلّي بطهارته تلك، حديث رقم (99)، ج1، ص 231.
(4) الحريري، المدخل إلى القواعد، ص 78.(23/26)
القاعدة الثالثة: المشقة تجلب التيسير(1)، وهي مستنبطة من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -:" أحبُّ الدين إلى الله الحنيفية السّمحة"(2)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنّ الدين يُسر، ولن يُشادَّ الدين أحد إلا غلبه، فسدّدوا وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغُدوة والرّوحة وشيء من الدُّلجَة"(3).
ومعنى هذه القاعدة: "أنّ الأحكام التي تنشأ عن تطبيقها حرج على المكلف ومشقّة في نفسه أو ماله، فالشريعة تخفّفها بما يقع تحت قدرة المكلّف دون عسر أو إحراج"(4).
__________
(1) السيوطي، الأشباه والنظائر، ص 76، ابن نجيم، الأشباه والنظائر، ص 75.
(2) أخرجه الإمام البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الدين يسر وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -:" أحب الدين إلى الله الحنيفية السّمحة"، ج1، ص 53.
(3) المصدر السابق، الصفحة نفسها، حديث رقم (39).
(4) البورنو، الوجيز، ص 218.(23/27)
فمعنى هذه القاعدة مستنبط من مضمون الحديث السابق حيث (يتخرّج على هذه القاعدة جميع رُخص الشرع وتخفيفاته"(1).
القاعدة الرابعة: الضرر يزال(2)، وأصل هذه القاعدة كما صرّح بذلك الإمامان السيوطي وابن نجيم هو قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -:" لا ضرر ولا ضرار"(3). فالحديث يدلُّ على حرمة إيقاع الضرر بالآخرين ابتداء، ومقابلة الضرر بالضرر، حيث يقول الحافظ ابن رجب الحنبلي في شرحه لهذا الحديث: "أن لا يكون في ذلك غرض سوى الضرر بذلك الغير، فهذا لا ريب في قبحه وتحريمه"(4)
__________
(1) السيد أحمد بن محمد الحموي (توفي سنة 1098هـ/1687م)، غمز عيون البصائر شرح كتاب الأشباه والنظائر، بيروت، دار الكتب العلمية، 1985م (ط1)، ج1، ص 245.
(2) السيوطي، الأشباه والنظائر، ص 83، ابن نجيم، الأشباه والنظائر، ص 85.
(3) أخرجه الإمام ابن ماجه في سننه، كتاب الأحكام، باب من بنى في حقّه ما يضرُّ بجاره، حديث رقم (2340)، ونقل الباجي في كتابعه "المنتقى" قول النووي عن هذا الحديث: (حديث حسن، وله طرق يقوِّي بعضها بعضاً) (انظر: سليمان بن خلف الباجي، المنتقى شرح الموطأ، بيروت، دار الكتاب الإسلامي، ج6، ص 40).
(4) عبد الرحمن بن شهاب الدين البغدادي الشهير بابن رجب الحنبلي (توفي سنة 795هـ)، جامع العلوم والحكم، تحقيق: وليد بن سلامة، القاهرة، مكتبة الصفا، 2002م (ط1)، ص 322.(23/28)
، وترشد هذه القاعدة إلى وجوب إزالة الضرر بعد تحريمه(1).
القاعدة الخامسة: العادة محكّمة(2)، وأصل هذه القاعدة أيضاً كما صرّح بذلك الإمامان السيوطي وابن نجيم هو قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -:" ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن"(3).
__________
(1) أحمد الزرقا، شرح القواعد الفقهية، ص 179.
(2) السيوطي، الأشباه والنظائر، ص 89، ابن نجيم، الأشباه والنظائر، ص 93.
(3) أورده الإمام ابن حجر العسقلاني في كتابه: "الدراية في تخريج أحاديث الهداية"، رقم الحديث (863)، وقال عنه: (لم أجده مرفوعاً، وأخرجه أحمد موقوفاً على ابن مسعود بإسناد حسن، وكذلك أخرجه البزّار والطيالسي وأبو نعيم في ترجمة ابن مسعود، والبيهقي في كتاب الاعتقاد، وأخرجه من وجه آخر عن ابن مسعود)، بيروت، دار المعرفة، ج2، ص 187، وأورده العجلوني في ":كشف الخفاء"، برقم (2214)، ج2، ص 245، وذكر (انه رواه أحمد في كتابه السنّة وليس في مسنده كما وهم عن ابن مسعود .... وهو موقوف حسن)، ج2، ص 245.(23/29)
والمراد بالعادة في هذه القاعدة هو العرف بنوعيه: اللفظي والعملي(1)، وتّتضح أهمية القاعدة بكونها معبّرة عن مكانة العرف واعتباره في الفقه الإسلامي، وأنه المرجع للفصل في الخصومات بين الناس، وتوزيع الحقوق والالتزامات بينهم في التعامل(2).
ثانياً: وأمّا بالنسبة إلى القواعد الكليّة التي يتخرّج عليها ما لا ينحصر من الصور الجزئية، فعددها عند الإمام السيوطي أربعون قاعدة، وعددها عند الإمام ابن نجيم تسع عشرة قاعدة، وجدتُ أن ثماني قواعد منها مستنبطة من السنّة النّبوية عند الإمام السيوطي، وأربع قواعد منها كذلك عند الإمام ابن نجيم، وهي على النحو الآتي:
__________
(1) مصطفى الزرقا، المدخل الفقهي العام، ج2، ص 1008.
(2) المصدر السابق، الصفحة نفسها.(23/30)
القاعدة الأولى: "إذا اجتمع الحلال والحرام غلب الحرام"(1)، واصلها عند الإمامين السيوطي وابن نجيم قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -:" ما اجتمع الحلال والحرام إلا غلب الحرامُ الحلالَ"،(2) وبالرغم من أنّ هذه القاعدة صحيحة في ذاتها، إلا أنّ الحديث السابق الذي أصّله الإمامان لها حديث ضعيف، ولعلَّ الحديث الذي يعتبر أصلاً لهذه القاعدة هو قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -:" الحلال بيّن والحرام بيّن، وبينهما مشبّهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن أتّقى المشبّهات استبرأ لدينه وعِرْضه، ومن وقع في المشبّهات كراعٍ يرعى حول الحمى، يوشك أن يواقعه، ألا وإنّ لكل ملك حمى، إلا إنّ حمى الله في أرضه محارمه، ألا وإنّ في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد
__________
(1) السيوطي، الأشباه والنظائر، ص 105، ابن نجيم، الأشباه والنظائر، ص 109.
(2) أورده العجلوني في كتابه "كشف الخفاء" برقم (2186)، ج2، ص 236 وقال في حكمه: (قال ابن السبكي في الأشباه والنظائر نقلاً عن البيهقي: رواه جابر الجعفي عن ابن مسعود وفيه ضعف وانقطاع. وقال الزين العراقي في تخريج منهاج الأصول لا أصل له، وأدرجه ابن مفلح في أول كتابه في الأصول فيما لا أصل له).(23/31)
كلّه، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب"(1).
فالاستدلال بهذا الحديث قوي لأصل هذه القاعدة؛ لأنه يوضّح أحد أسباب اجتماع الحلال والحرام في أمر واحد وهو قيام الشبهة ووقوعها في الفعل(2)، إذ معنى" مشبّهات" في الحديث الشريف، أي: أمور متردّدة بين الحلِّ والحرمة، ولم يظهر أمرها على التعيين(3).
وعلى فرض الأخذ بالحديث الضعيف السابق (ما اجتمع الحلال ...) فلا يقدح في اتفاق الفقهاء أنّ الأحكام الشرعية لا يعمل فيها إلا بالحديث الصحيح أو الحسن، لأنّ هذا مقرر عند تشريع الحكم ابتداءً كأصل شرعي، وإنّما الغرض منه الاحتياط من الوقوع في الشبهات للالتباس(4).
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب "فضل من استبرأ لدينه"، حديث رقم (52)، ج1، ص 28-29.
(2) عباس أحمد الباز، بحث بعنوان: إذا اجتمع الحلال والحرام غلب الحرام الحلال، مجلة دراسات، علوم الشريعة والقانون، عمّان، الجامعة الأردنية، المجلد 30، العدد 2، 2003م، ص 372.
(3) مصطفى البغا، صحيح البخاري، ضبطه ورقّمه وشرح ألفاظه ووضع فهارسه، ج1، ص 29.
(4) الباز، إذا اجتمع الحلال والحرام، ص 371 وما بعدها.(23/32)
فمعنى القاعدة إذن: إذا اجتمع الحلال والحرام واختلط احدهما بالآخر وامتزجا معاً ولم يمكن فصل احدهما عن الآخر، فإنّ الحرام يغلب الحلال احتياطاً ويصير الجميع مُحرًَّماً(1).
القاعدة الثانية: "تصرُّف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة"(2)، وأصلها عند الإمامين السيوطي وابن نجيم ما أخرجه سعيد بن منصور في سننه: "عن البراء بن عازب قال: قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -:" إني أنزلت نفسي من مال الله عزوجل بمنزلة ولي اليتيم، إن احتجت أخذت منه، فإذا أيسرت رددته، وإن استغنيت أستعففت"(3)
__________
(1) المرجع السابق، الصفحات نفسها.
(2) السيوطي، الأشباه والنظائر، ص 121، ابن نجيم، الأشباه والنظائر، ص 123.
(3) أخرجه سعيد بن منصور في سننه، ج4، ص 1538، بتحقيق: د. سعد بن عبدالله ال حُميِّد، وقال: "سنده ضعيف، وهو حديث صحيح لغيره، فقد نقله الحافظ ابن حجر في فتح الباري، ج6، ص 205، وذكره السيوطي في الدر المنثور، ج2، ص 436، وابن سعد في الطبقات، ج3، ص 276، (وسعيد بن منصور: وهو أبو عثمان، احتجّ به الجماعة أصحاب الكتب الستة في كتبهم، وعلى رأسهم البخاري ومسلم، توفي سنة (227هـ)، (انظر ترجمته في مقدمة المحقق لسننه، د. سعد آل حُميِّد، الرياض، دار الصميعي، 1993م، (ط1)، ص 18-105.(23/33)
.
وأميل إلى القول: بأنّ أصل هذه القاعدة، هو حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -:" ألا كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته"، فالإمام الأعظم الذي على الناس راعٍ وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راعٍ على أهل بياته وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده وهي مسؤولة عنهم، وعبد الرجل راعٍ على مالِ سيِّدِه وهو مسؤول عنه، ألا فكلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته"(1)، وذلك لأنّ من مستلزمات الرعاية مراعاة مصالح المولّى عليه، ووجوب اقتران التصرفات وتعليقها بها، وبناءً على ذلك:
__________
(1) أخرجه الإمام البخاري في صحيحه، كتاب الأحكام، باب قول الله تعالى: { } - قرآن كريم (( - ((- صلى الله عليه وسلم - - { - - - } - قرآن كريم (( - ((- صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه - - قرآن كريم ( - { - - - - - ( - - - صلى الله عليه وسلم -( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - ( - - } - - ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - - ( تم بحمد الله } رقم الحديث (7138).(23/34)
فإنّ قول سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - السابق جاء أنموذجاً تطبيقياً لحديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - السابق – والله تعالى أعلم -.
ومعنى القاعدة: أنّ تصرَّف الإمام ومن يمثّله، يجب أن يكون مبنياً ومعلّقاً ومقصوداً به المصلحة العامة، وما لم يكن كذلك لم يكن صحيحاً، ولا نافذاً شرعاً، ولزمت المناقضة والمنافاة ممّا يؤثر في إبطال التصرُّف على وجه التحقيق(1). وفي هذا يقول الإمام ابن نجيم: "إذا كان فعل الإمام مبنياً على المصلحة فيما يتعلق بالأمور العامة، لم ينفّذ أمره شرعاً إلا إذا وافقه (أي: الشرع) فإن خالفه لم ينفذ"(2).
__________
(1) محمد محمود طلافحة، قاعدة:" تصرف الإمام على الرعية منوطة بالمصلحة" وتطبيقات الفقهية والقانونية في مجال المعاملات المعاصرة، رسالة ماجستير، جامعة اليرموك، 2001م، ص 39.
(2) ابن نجيم، الأشباه والنظائر، ص 124.(23/35)
القاعدة الثالثة: "الحدود تسقط بالشبهات"(1) أو "الحدود تدرأ بالشبهات"(2)، فهذه القاعدة مأخوذة من الحديث الشريف الذي يقول فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم -:" ادفعوا الحدود ما وجدتم له مدفعاً(3)، وفي رواية أخرى:" ادرءوا الحدود بالشبهات وأقيلوا الكرام عثراتهم إلا في حد من حدود الله"(4)، ومعنى هذه القاعدة: أنّ للشبهات تأثيراً في درء الحدود حيث يشترط في الحدود عموماً أن لا يكون لمرتكب جريمتها شبهة تقتضي له تخفيف مسؤوليته بحيث لا يطبّق عليه الحد(5).
__________
(1) السيوطي، الأشباه والنظائر، ص 122.
(2) ابن نجيم، الأشباه والنظائر، ص 127.
(3) أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب الحدود، باب الستر على المؤمن ودفع الحدود بالشبهات، حديث رقم (2545)، ج2، ص 850. (ورمز له السيوطي في الجامع الصغير بـ (ح) أي حديث حسن)، برقم (317) (جلال الدين عبد الرحمن السيوطي (توفي سنة 911هـ) الجامع الصغير في أحاديث البشير النذير، بيروت دار الفكر، ج1، ص 52.
(4) أورده الإمام السيوطي في الجامع الصغير، وحكم عليه بأنه حديث حسن برقم (314)، المصدر السابق، الصفحة نفسها.
(5) مصطفى الزرقا، المدخل الفقهي العام، ج2، ص 675.(23/36)
القاعدة الرابعة: "الخراج بالضمان"(1)، فهذه القاعدة بذاتها حديث نبوي قاله - صلى الله عليه وسلم -:" الخراج بالضمان"(2)، ومعنى هذه القاعدة: "أنّ استحقاق الخراج سببه تحمُّل الضمان (أي تحمُّل تبعة الهلاك)، فمنافع الشيء وغلته يستحقها من يكون هو المتحّّمَل لخسارة هلاك ذلك الشيء لو هلك، فيكون استحقاق الثمرة في مقابل تحمُّل الخسارة"(3).
__________
(1) السيوطي، الأشباه والنظائر، ص 135، ابن نجيم، الأشباه والنظائر، ص 150.
(2) أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب التجارات، باب الخراج بالضمان، رقم الحديث (2243)، ج2، ص 754، وقال العجلوني في كشف الخفاء:" حسّنَه الترمذي)، رقم (1205)، ج1، ص 451.
(3) الزرقا، المدخل، ج2، ص 1037.(23/37)
القاعدة الخامسة: "الحريم له حكم ما هو حريم له"(1). بيّن الإمام السيوطي أنّ أصل هذه القاعدة هو قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -:" الحلال بيّن، والحرام بيّن، وبينهما مشبّهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى المشبهات استبرأ لدينه وعَرْضه، ومن وقع في الشبهات كراعٍ يرعى حول الحمى، يوشك أن يواقعه، ألا وإنّ لكل ملك حمى، ألا إنّ حمى الله في أرضه محارمه، ألا وإنّ في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كلّه ألا وهي القلب"(2).
المقصود بالحريم: هو المحيط بالحرام، كالفخذين فإنهما حريم للعورة الكبرى، وحريم الواجب: هو ما لا يتم الواجب إلا به ومن ثم وجب غسل جزء من الرقبة والرأس مع الوجه ليتحقق غسله(3).
فالقاعدة ترشد إلى أنّ للحريم حكم ما هو حريم له، فإن كان حريماً للواجب فهو واجب، وإن كان حريماً للحرام فهو حرام(4).
__________
(1) السيوطي، الأشباه والنظائر، ص 125.
(2) سبق تخريجه في هامش رقم (67).
(3) السيوطي، الأشباه والنظائر، ص 125.
(4) الباحسين، القواعد الفقهية، ص 206.(23/38)
القاعدة السادسة: "ما كان أكثر فعلاً، كان أكثر فضلاً"(1)، فأصل هذه القاعدة ما جاء في الحديث الصحيح: "أنّ عائشة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله، يصدر الناس بنسكين وأصدر بُنُسك؟ فقيل لها: "انتظري، فإذا طهرتِ فأخرجي إلى التنعيم فأهلِّي، ثم ائتينا بمكان كذا، ولكنها على قدر نفقتك أو نصبك"(2).
ومعنى هذه القاعدة: أنّ كثرة فعل الطاعات سبب في كثرة الثواب والفضل؛ لأنَّ كثرة الطاعات تتطلب الجهد والصبر، وهذا يتفاوت فيه الناس بتفاوت إيمانهم، فكان أكثرهم في ذلك فضلاً، أكثرهم ثواباً وفضلاً(3)، ومثال هذه القاعدة: فصل الوتر أفضل من وصله لزيادة النيّة، والتكبير والسّلام(4).
__________
(1) السيوطي، الأشباه والنظائر، ص 143.
(2) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب العمرة، باب أجر العمرة على قدر النصب، حديث رقم (1695).
(3) الروكي، نظرية التقعيد الفقهي، ص 118.
(4) السيوطي، الأشباه والنظائر، ص 143.(23/39)
القاعدة السابعة: "الفرض أفضل من النّفل"(1). واصل هذه القاعدة مستنبط من قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "وما تقرّب إليّ عبدي بشيء أحبّ إليّ مما افترضت عليه"(2)، ويستفاد من هذا الحديث أنّ أداء الفرائض أحب الأعمال إلى الله تعالى؛ لأن الأمر بالفرائض جازم ويقع بتركها المعاقبة بخلاف النفل، وإن اشترك مع الفرائض في تحصيل الثواب فكانت الفرائض أكمل، فلهذا كانت أحبّ إلى الله تعالى وأفضل(3)، ونقل السيوطي عن ابن السبكي قوله عن هذه القاعدة وأصلها (وهذا أصل مطّرد ولا سبيل إلى نقضه بشيء من الصور) (4).
__________
(1) المصدر السابق، ص 145.
(2) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الرقاق، باب التواضع، جزء من حديث رقم (6502).
(3) العسقلاني، فتح الباري، ج11، ص 343.
(4) السيوطي، الأشباه والنظائر، ص 146.(23/40)
القاعدة الثامنة: "الميسور لا يسقط بالمعسور"(1)، أصل هذه القاعدة مستنبط من قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "دعوني ما تركتكم، إنّما اهلك من كان قبلكم سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم"(2).
فمن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" استنبط الفقهاء هذه القاعدة (الميسور لا يسقط بالمعسور)، وتعني "أنّ المكلّف إذا أمر بفعل شيء فقدر على فعل بعضه دون بعض، فإنّ عليه الإتيان بما قدر عليه، ولا يسقط بالمعجوز عنه؛ لأنّ ما أمكن فعله لا يترك"(3).
فالقادر على قراءة بعض سورة الفاتحة يأتي بها، ومن كان مقطوع بعض الأطراف يجب غسل الباقي(4).
واستنبطوا أيضاً قاعدة فقهية أخرى من الحديث النبوي السابق وهي:
"درء المفاسد أولى من جلب المنافع"(5).
__________
(1) المصدر السابق، ص 159.
(2) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حديث رقم (6858).
(3) الروكي، نظرية التقعيد الفقهي، ص 112.
(4) السيوطي، الأشباه والنظائر، ص 159.
(5) المصدر السابق، ص 90.(23/41)
ومعنى هذه القاعدة: إذا تعارضت المصالح والمفاسد في فعل شيء أو الكفّ عنه، فإنه يقدّم دفع المفاسد على جلب المصالح(1)، وقد علّل هذه القاعدة الشيخ مصطفى الزرقا (رحمه الله تعالى) بقوله: "لأن للمفاسد سرياناً وتوسعاً كالوباء والحريق، فمن الحكمة والحزم القضاء عليها في مهدها، ولو ترتب على ذلك حرمان من منافع أو تأخير لها، ومن ثم كان حرص الشارع على منع المنهيات أقوى من حرصه على تحقيق المأمورات"(2).
ومثال هذه القاعدة: يجب شرعاً منع التجارة بالمحرّمات من خمر ومخدّرات ولو أنّ فيها أرباحاً ومنافع اقتصادية(3).
الخاتمة
الحمدلله الذي بنعمته تتم الصالحات، وبعد فإنّي رأيت أن اجعل خاتمة هذا البحث خلاصة لأهم النتائج التي تمَّ التوصل إليها، وذلك في النقاط الآتية:
__________
(1) شبير، القواعد الكلية، ص 182.
(2) مصطفى الزرقا، المدخل الفقهي العام، ج2، ص 996.
(3) المصدر نفسه، الصفحة نفسها.(23/42)
أولاً: التقعيد الفقهي هو علم يبحث في صناعة القاعدة الفقهية ويعنى ببيان مصدرها ومنبعها، وله مصادره النقلية من القرآن الكريم والسنّة النّبوية، ومصادره الاجتهادية من أقوال الصحابة والتابعين والفقهاء المجتهدين المبنية على الاستدلال بالقياس والمصلحة وسائر الأدلة الشرعية الاجتهادية الأخرى.
ثانياً: إنَّ المصادر التقعيد الفقهي أثراً عليه يتمثل في الحجيّة، والدليليّة، فإذا كان مصدر القاعدة الفقهية آية من القرآن الكريم، أو حديثاً من السنّة النّبوية، فعندئذ تأخذ القاعدة الفقهية قوتها من الدليل نفسه، وتعتبر حجّة، ودليلاً شرعياً من الأدلة التي تستنبط منها الأحكام الشرعية، وينتظمها مباحث العموم والخصوص والتقييد والإطلاق وفق ما رسمه علماء أصول الفقه الإسلامي.
وأمَّا إذا كان مصدر القاعدة الفقهية قولاً لصحابي أو تابعي أو فقيه مجتهد استند فيه على استدلال بالقياس، والمصلحة ونحوها من الأدلة المختلف فيها، فعندئذ يلحق القاعدة الفقهية الاختلاف في حجيتها تبعاً لاختلاف العلماء في الأخذ بهذه الأدلة وعدمه، والله تعالى أعلم.(23/43)
ثالثاً: لمست في الدراسة التطبيقية لأثر السنّة النّبوية في التقعيد الفقهي في كتابي الأشباه والنظائر للإمامين الجليلين الإمام السيوطي والإمام ابن نجيم (رحمهما الله) مدى اعتماد القواعد الفقهية الكبرى على السنّة النّبوية حيث تعتبر هذه القواعد مستنبطة منها، وكذلك عدد غير قليل من القواعد الكلية الأخرى التي يتخرّج عليها ما لا ينحصر من الصور الجزئية، فاكتسبت هذه القواعد القوة في الاستدلال بها جوهراً، واكتست ثوب الصياغة في جزالة الألفاظ، وإيجازها، مع عمق المعنى ومدلوله من جوامع كلمة - صلى الله عليه وسلم -.
والحمدلله رب العالمين
الهوامش
جمال الدين محمد بن مكرم (توفي سنة 711هـ/1311م)، لسان العرب، بيروت، دار صادر، ج3، ص 163، محمد مرتضى الحسيني الزبيدي (توفي سنة 1205هـ/1790م)، تاج العروس، الكويت، وزارة الإعلام، 1975م، ج9، ص 60، أبو السعادات مبارك بن محمد بن الأثير (توفي سنة 606هـ/1265م)، النهاية في غريب الحديث والأثر، بيروت، دار الفكر، 1979م، ج4، ص 86.
أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (توفي سنة 852هـ)، فتح الباري شرح صحيح البخاري، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، بيروت، دار المعرفة، 1379هـ، ج9، ص 405.(23/44)
علي بن الحسين السغدي (توفي سنة 461هـ)، فتاوى السغدي، تحقيق د. صلاح الدين الناهي، عمّان، دار الفرقان، 1404هـ، (ط2)، ج2، ص 875.
محمد الروكي، نظرية التقعيد الفقهي وأثرها في اختلاف الفقهاء، بيروت، دار ابن حزم، 2000م (ط1)، ص 33.
علي بن الجرجاني (توفي سنة 816هـ/1413م)، التعريفات، تحقيق إبراهيم الأبياري، بيروت، دار الكتب العلمية، 1983م، (ط1)، ص 195.
أحمد بن محمد بن علي الفيومي (توفي سنة 770هـ/1368م)، المصباح المنير، بيروت، مكتبة لبنان، 1987م، ص 182.
عبدالله بن مسعود البخاري، التوضيح شرح التنقيح بحاشية التلويح، بيروت، دار الكتب العلمية، 1984م، ج1، ص 10.
عبدالكريم زيدان، المدخل لدراسة الشريعة الإسلامية، بيروت، الرسالة، 1999م، (ط16)، ص 54.
عبدالله بن مسعود البخاري، التوضيح شرح التنقيح، ج1، ص 10.
الروكي، التقعيد الفقهي، ص 35.
يعقوب عبد الوهاب الباحسين، القواعد الفقهية، الرياض، مكتبة الرُّشد، 1998م (ط1)، ص 53.(23/45)
جلال الدين عبد الرحمن السيوطي (توفي سنة 911هـ)، الأشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشافعية، بيروت، دار الكتب العلمية، 1983م، (ط1)، ص 76، زين العابدين بن إبراهيم بن نجيم (توفي سنة 970هـ)، الأشباه والنظائر على مذهب أبي حنيفة النعمان، بيروت، دار الكتب العلمية، 1985م، ص 75.
بدر الدين محمد بن بهادر الزركشي (794هـ/1392م)، المنثور في القواعد، تحقيق: د. تيسير فائق، الكويت، وزارة الأوقاف، 1405هـ (ط2)، ج2، ص 317.
السيوطي، الأشباه والنظائر، ص 116، الباحسين، القواعد الفقهية، ص 214.
المصدران السابقان، الصفحات نفسها.
السيوطي، الأشباه والنظائر، ص 116.
أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، كتاب الحدود، باب جرح العجماء والمعدن والبئر جبار، رقم الحديث (3226).
لجنة مجلة الأحكام العدلية، مجلة الأحكام العدلية، المادة (94)، علي حيدر، درر الحكام شرح مجلة الأحكام، بغداد، مكتبة النهضة، ج14، ص 83.
أحمد بن محمد الزرقا (توفي سنة 1357هـ/1938م)، شرح القواعد الفقهية، دمشق، دار القلم، 1989م، (ط2)، ص 457.(23/46)
أورده العجلوني في كتابه (كشف الخفاء ومزيل الإلباس عمّا اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس)، حديث رقم (925)، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1985م (ط4)، ج1، ص 342. وحكم عليه بقول النووي عنه (حديث حسن).
لجنة مجلة الأحكام العدلية، مجلة الأحكام العدلية، المادة (76).
محمد عثمان شبير، القواعد الكلية والضوابط الفقهية في الشريعة الإسلامية، عمّان، دار الفرقان، 2000م (ط1)، ص 339-3340.
علي حيدر، درر الحكام، شرح المادة (76) البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر، ج1، ص 66.
أخرجه الترمذي في سننه، كتاب العارية، باب ما جاء في أنّ العارية مؤداة، رقم الحديث (1266)، وقال عنه الترمذي: حديث حسن صحيح، ج3، ص 566.
محمد الروكي، القواعد الفقهية من خلال كتاب "الإشراف على مسائل الخلاف" للقاضي عبد الوهاب البغدادي المالكي، دبي، دار البحوث للدراسات الإسلامية، 2003م، (ط1)، ص 197.
مجلة الأحكام العدلية، مادة (97)، علي حيدر، درر الحكام شرح مجلة الأحكام، ج1، ص 86.
مصطفى أحمد الزرقا (توفي سنة 1418هـ/1998م)، المدخل الفقهي العام، دمشق، دار القلم، 1998م، (ط1)، ج2، ص 1042.
الروكي، القواعد الفقهية، ص 339-340.(23/47)
المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
شهاب الدين أبو العباس أحمد بن إدريس القرافي (توفي سنة 684هـ)، الفروق، بيروت، دار المعرفة، ج1، ص 206-207، (الفرق الحادي عشر والمائة بين قاعدة ما يضمن وما لا يضمن).
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب النكاح، باب الشروط في النكاح، ج5، ص 1978.
منصور بن يونس البهوتي (توفي سنة 1051هـ)، الروض المربع، الرياض، مكتبة الرياض الحديثة، 1390هـ، ج3، ص 87.
علي أحمد الندوي، القواعد الفقهية، دمشق، دار القلم، 1998م (ط4)، ص 92، بتصرف يسير.
أورده عبد الرزاق الصنعاني في مصنفه، باب الشروط، رقم (14303)، ج8، ص 59، بيروت، المكتب الإسلامي، 1402هـ (ط2).
إبراهيم بن محمد ضويان (توفي سنة 1353هـ)، منار السبيل، تحقيق عصام القلعجي، الرياض، مكتبة المعارف، 1405هـ (ط2)، ج1، ص 294.
الندوي، القواعد الفقهية، ص 93.
أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم (توفي سنة 183هـ)، كتاب الخراج، بيروت، دار المعرفة، 1979م، ص 93.
السيوطي، الأشباه والنظائر، ص 121، ابن نجيم، الأشباه والنظائر، ص 123.(23/48)
يعقوب الباحسين، القواعد الفقهية، ص 273، 287، علي الندوي، القواعد الفقهية، ص 331، محمد شبير، القواعد الكلية والضوابط الفقهية، ص 87، الروكي، نظرية التقعيد الفقهي، ص 88.
إبراهيم محمد الحريري، المدخل إلى القواعد الفقهية الكلية، عمّان، دار عمّار، 1998م، (ط1)، ص 22-23، الروكي، نظرية التقعيد الفقهي، ص 88.
المصادر السابقة، الصفحات نفسها، محمد صدقي البورنو، الوجيز في إيضاح قواعد الفقه الكلية، بيروت، مؤسسة الرسالة، 19998م، (ط5)، ص 35-36، بتصرف، الروكي، نظرية التقعيد الفقهي، ص 203.
شبير، القواعد الكلية، ص 32-33.
المرجع السابق، الصفحات نفسها، الباحسين، القواعد الفقهية، ص 97-98.
الأولى: الأمور بمقاصدها، والثانية: اليقين لا يزال بالشكّ، والثالثة: المشقة تجلب التيسير، والرابعة: الضرر يزال، والخامسة: العادة محكّمة.
زاد الإمام ابن نجيم على القواعد الخمسة السابقة عند الإمام السيوطي قاعدة سادسة وهي: لا ثواب إلا بالنيّة، (وهي في الواقع مندرجة تحت قاعدة: "الأمور بمقاصدها).
السيوطي، الأشباه والنظائر، ص 8، ابن نجيم، الأشباه والنظائر، ص 27.(23/49)
أخرجه الإمام البخاري في صحيحه، كتاب الوحي، باب بدء الوحي، حديث رقم (1)، ج8، ص 3.
مصطفى الزرقا، المدخل الفقهي العام، ج2، ص 980.
السيوطي، الأشباه والنظائر، ص 50، ابن نجيم، الأشباه والنظائر، ص 56.
أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، كتاب الحيض، باب الدليل على أنّ من تيقّن الطهارة ثم شكَّ في الحدث فله أن يصلّي بطهارته تلك، حديث رقم (99)، ج1، ص 231.
الحريري، المدخل إلى القواعد، ص 78.
السيوطي، الأشباه والنظائر، ص 76، ابن نجيم، الأشباه والنظائر، ص 75.
أخرجه الإمام البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الدين يسر وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -:" أحب الدين إلى الله الحنيفية السّمحة"، ج1، ص 53.
المصدر السابق، الصفحة نفسها، حديث رقم (39).
البورنو، الوجيز، ص 218.
السيد أحمد بن محمد الحموي (توفي سنة 1098هـ/1687م)، غمز عيون البصائر شرح كتاب الأشباه والنظائر، بيروت، دار الكتب العلمية، 1985م (ط1)، ج1، ص 245.
السيوطي، الأشباه والنظائر، ص 83، ابن نجيم، الأشباه والنظائر، ص 85.(23/50)
أخرجه الإمام ابن ماجه في سننه، كتاب الأحكام، باب من بنى في حقّه ما يضرُّ بجاره، حديث رقم (2340)، ونقل الباجي في كتابعه "المنتقى" قول النووي عن هذا الحديث: (حديث حسن، وله طرق يقوِّي بعضها بعضاً) (انظر: سليمان بن خلف الباجي، المنتقى شرح الموطأ، بيروت، دار الكتاب الإسلامي، ج6، ص 40).
عبد الرحمن بن شهاب الدين البغدادي الشهير بابن رجب الحنبلي (توفي سنة 795هـ)، جامع العلوم والحكم، تحقيق: وليد بن سلامة، القاهرة، مكتبة الصفا، 2002م (ط1)، ص 322.
أحمد الزرقا، شرح القواعد الفقهية، ص 179.
السيوطي، الأشباه والنظائر، ص 89، ابن نجيم، الأشباه والنظائر، ص 93.(23/51)
أورده الإمام ابن حجر العسقلاني في كتابه: "الدراية في تخريج أحاديث الهداية"، رقم الحديث (863)، وقال عنه: (لم أجده مرفوعاً، وأخرجه أحمد موقوفاً على ابن مسعود بإسناد حسن، وكذلك أخرجه البزّار والطيالسي وأبو نعيم في ترجمة ابن مسعود، والبيهقي في كتاب الاعتقاد، وأخرجه من وجه آخر عن ابن مسعود)، بيروت، دار المعرفة، ج2، ص 187، وأورده العجلوني في ":كشف الخفاء"، برقم (2214)، ج2، ص 245، وذكر (انه رواه أحمد في كتابه السنّة وليس في مسنده كما وهم عن ابن مسعود .... وهو موقوف حسن)، ج2، ص 245.
مصطفى الزرقا، المدخل الفقهي العام، ج2، ص 1008.
المصدر السابق، الصفحة نفسها.
السيوطي، الأشباه والنظائر، ص 105، ابن نجيم، الأشباه والنظائر، ص 109.
أورده العجلوني في كتابه "كشف الخفاء" برقم (2186)، ج2، ص 236 وقال في حكمه: (قال ابن السبكي في الأشباه والنظائر نقلاً عن البيهقي: رواه جابر الجعفي عن ابن مسعود وفيه ضعف وانقطاع. وقال الزين العراقي في تخريج منهاج الأصول لا أصل له، وأدرجه ابن مفلح في أول كتابه في الأصول فيما لا أصل له).(23/52)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب "فضل من استبرأ لدينه"، حديث رقم (52)، ج1، ص 28-29.
عباس أحمد الباز، بحث بعنوان: إذا اجتمع الحلال والحرام غلب الحرام الحلال، مجلة دراسات، علوم الشريعة والقانون، عمّان، الجامعة الأردنية، المجلد 30، العدد 2، 2003م، ص 372.
مصطفى البغا، صحيح البخاري، ضبطه ورقّمه وشرح ألفاظه ووضع فهارسه، ج1، ص 29.
الباز، إذا اجتمع الحلال والحرام، ص 371 وما بعدها.
المرجع السابق، الصفحات نفسها.
السيوطي، الأشباه والنظائر، ص 121، ابن نجيم، الأشباه والنظائر، ص 123.
أخرجه سعيد بن منصور في سننه، ج4، ص 1538، بتحقيق: د. سعد بن عبدالله ال حُميِّد، وقال: "سنده ضعيف، وهو حديث صحيح لغيره، فقد نقله الحافظ ابن حجر في فتح الباري، ج6، ص 205، وذكره السيوطي في الدر المنثور، ج2، ص 436، وابن سعد في الطبقات، ج3، ص 276، (وسعيد بن منصور: وهو أبو عثمان، احتجّ به الجماعة أصحاب الكتب الستة في كتبهم، وعلى رأسهم البخاري ومسلم، توفي سنة (227هـ)، (انظر ترجمته في مقدمة المحقق لسننه، د. سعد آل حُميِّد، الرياض، دار الصميعي، 1993م، (ط1)، ص 18-105.(23/53)
أخرجه الإمام البخاري في صحيحه، كتاب الأحكام، باب قول الله تعالى: { } - قرآن كريم (( - ((- صلى الله عليه وسلم - - { - - - } - قرآن كريم (( - ((- صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه - - قرآن كريم ( - { - - - - - ( - - - صلى الله عليه وسلم -( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - ( - - } - - ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - - ( تم بحمد الله } رقم الحديث (7138).
محمد محمود طلافحة، قاعدة:" تصرف الإمام على الرعية منوطة بالمصلحة" وتطبيقات الفقهية والقانونية في مجال المعاملات المعاصرة، رسالة ماجستير، جامعة اليرموك، 2001م، ص 39.
ابن نجيم، الأشباه والنظائر، ص 124.
السيوطي، الأشباه والنظائر، ص 122.
ابن نجيم، الأشباه والنظائر، ص 127.
أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب الحدود، باب الستر على المؤمن ودفع الحدود بالشبهات، حديث رقم (2545)، ج2، ص 850. (ورمز له السيوطي في الجامع الصغير بـ (ح) أي حديث حسن)، برقم (317) (جلال الدين عبد الرحمن السيوطي (توفي سنة 911هـ) الجامع الصغير في أحاديث البشير النذير، بيروت دار الفكر، ج1، ص 52.(23/54)
أورده الإمام السيوطي في الجامع الصغير، وحكم عليه بأنه حديث حسن برقم (314)، المصدر السابق، الصفحة نفسها.
مصطفى الزرقا، المدخل الفقهي العام، ج2، ص 675.
السيوطي، الأشباه والنظائر، ص 135، ابن نجيم، الأشباه والنظائر، ص 150.
أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب التجارات، باب الخراج بالضمان، رقم الحديث (2243)، ج2، ص 754، وقال العجلوني في كشف الخفاء: (حسّنَه الترمذي)، رقم (1205)، ج1، ص 451.
الزرقا، المدخل، ج2، ص 1037.
السيوطي، الأشباه والنظائر، ص 125.
سبق تخريجه في هامش رقم (67).
السيوطي، الأشباه والنظائر، ص 125.
الباحسين، القواعد الفقهية، ص 206.
السيوطي، الأشباه والنظائر، ص 143.
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب العمرة، باب أجر العمرة على قدر النصب، حديث رقم (1695).
الروكي، نظرية التقعيد الفقهي، ص 118.
السيوطي، الأشباه والنظائر، ص 143.
المصدر السابق، ص 145.
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الرقاق، باب التواضع، جزء من حديث رقم (6502).
العسقلاني، فتح الباري، ج11، ص 343.
السيوطي، الأشباه والنظائر، ص 146.
المصدر السابق، ص 159.(23/55)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حديث رقم (6858).
الروكي، نظرية التقعيد الفقهي، ص 112.
السيوطي، الأشباه والنظائر، ص 159.
المصدر السابق، ص 90.
شبير، القواعد الكلية، ص 182.
مصطفى الزرقا، المدخل الفقهي العام، ج2، ص 996.
المصدر نفسه، الصفحة نفسها.(23/56)
بسم الله الرحمن الرحيم
بحث
أثر السنة النبوية في التقعيد الفقهي
وتطبيقاتها المعاصرة
إعداد الدكتور
محمد بن منصور ربيع المدخلي
الأستاذ المشارك
جامعة الملك خالد – كلية الشريعة وأصول الدين
قسم الفقه – أبها
المملكة العربية السعودية
ص . ب (1211)
جوال : 0505744567
d_mohmans@hotmail.com
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله والصلاة والسلام على إمام السنة سيدنا محمد بن عبدالله وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً ، أما بعد ..
فإن موضوع أثر السنة النبوية في التقعيد الفقهي وتطبيقاتها المعاصرة من أجل الموضوعات في ساحات البحث المعاصرة لما له من أهمية في واقع التطبيق الشرعي والفقهي ولقد اتبعت فيه أسلوب البحث العلمي باستقصاء المسألة من مظانها المشروعة وتبويبها وفق منهج علمي رصين وبأخذ الأدلة المثبوته ، ومن ثم الحكم عليها وإيراد القاعدة الفقهية عليها وثمار ذلك بحصول الفروع الفقهية وقواعدها وتطبيقاتهاالمعاصرة .
وقد اشتمل البحث على سبعة مباحث :
المبحث الأول : معنى السنة النبوية وأهميتها في التقعيد الفقهي .
المبحث الثاني : تعريف التقعيد الفقهي والألفاظ ذات العلاقة .(24/1)
المبحث الثالث : مصادر التقعيد الفقهي بالسنة النبوية.
المبحث الرابع : صور لبعض القواعد الفقهية المستنبطة من السنة النبوية.
المبحث الخامس : صور لبعض آثار التقعيد الفقهي بالسنة النبويةعلى الفروع الفقهية .
المبحث السادس : أثر السنة النبوية في المقاصد الشرعية والقواعد الفقهية .
المبحث السابع : صور لبعض التطبيقات الفقهية المعاصرة للتقعيد الفقهي بالسنة النبوية .
الخاتمة .
الفهارس .
المبحث الأول : معنى السنة النبوية لغة واصطلاحاً
السنة في اللغة تطلق على الطريقة ، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - : « من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرُها ، وأجرُ من عمل بها »(1) . فإن العادة والسنّة حميدة كانت ، أو ذميمة ، جاء في «القاموس» أن السنة : السيرة ، ومن الله تعالى : حكمه وأمره ونهيه.
وقال الكسائي : معناها الدوام ، ومنه قولهم : سننتُ الماء إذا واليت صبه(2).
__________
(1) أخرجه مسلم (1017) في الزكاة : باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة،
... والنسائي 5/75 ، 76، في الزكاة : باب التحريض على الصدقة من حديث جرير بن عبدالله البجلي.
(2) انظر : الفيروزآبادي ، القاموس المحيط ، مادة سنّ.(24/2)
والسنة عند الفقهاء : تُطلق على ما يقابل الفرض ، كفروض الوضوء ، والصلاة، والصوم ، وسننها . ومنهم من يطلقها على ما ليس بواجب ، فتشمل المندوب والمستحب ، وتطلق على ما كان والنوافل في العبادات .
وقد تطلق على ما يقابل البدعة، فيقال : أهل السنة ، وأهل البدعة . ومنه قول الفقهاء : طلاق السنة كذا، وطلاق البدعة كذا(1).
وعند المحدثين : ما أثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قول ، أو فعل ، أو تقرير ، أو صفة خُلقية ، أوصفة خلقية أو سيرة ، يعتبر سنّةسواء كان ذلك قبل البعثة أو بعدها ، وهي بهذا ترادف الحديث عند بعضهم(2).
وأوسع إطلاقات السنة إطلاق المحدثين ، لأنهم لا يقصرونها على إفادة حكم شرعي فقط .
__________
(1) انظر البهوتي ، الروض المربع جـ6/511 وما بعدها .
(2) انظر الشاطبي الموافقات 4/5 ، وبدران : المدخل إلى مذهب الإمام أحمد ص 89-90.(24/3)
وقد ذكر ابن تيمية أن الحديث عند الإطلاق ينصرف إلى ما حدث به عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد النبوة ، من قوله ، وفعله ، وإقراره . سواء كان خبراً ، أو تشريعاً. وقال : إنه المقصود بعلم الحديث . ثم ذكر إنه قد يدخل فيها بعض أخباره قبل النبوة ، وبعض سيرته قبل نبوته ، كتحنثه بغار حراء ، وحُسن سيرته، وذكر أن ما كان قبل النبوة لا يذكر ليؤخذ شرعاً . وإنما الذي فرض على الأمة الإيمان والعمل به ما جاء بعد النبوة(1).
وعند الأصوليين : ما صدر عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - غير القرآن من قول، أو فعل، أو تقرير(2) يسمى سنّة .
وانفرد الشاطبي بأن السنة ما كان عليه عمل الصحابة كتدوين الدواوين وجمع المصحف وتضمين الصناع(3).
__________
(1) انظر مجموع الفتاوى : 18/6-12.
(2) انظر: البخاري في صحيحه جـ5/236، ومالك في الموطأ 2/662. وعبدالله التركي ، أصول مذهب الامام أحمد ص 217-218.
(3) انظر الموافقات 4/5.(24/4)
وسبب الاختلاف في تعريف السنة بين العلماء مرده إلى الأهداف من سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد رأى أهل الحديث أن مرد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الإمام الهادي ، أسوة الأمة، فنقلوا كل ما يتصل به من سيرة ، وخلق ، وأخبار ، وأقوال ، وأفعال سواء أثبت ذلك حكماً شرعياً أم لا .
ويرى علماء الأصول عندما يبحثون في أدلة الأحكام وأصولها ، بحيث يعتبرون أقوال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله ، وتقريراته التي تثبت الأحكام وتقررها هي السنة.(24/5)
ويرى علماء الفقه أن دلالة أقوال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله ، وتقريراته هي مجموعة الأحكام الشرعية المطبقة على أفعال العباد من وجوب أو حرمة أو إباحة(1)، ويسمّى المشتغل بها محدثاً . ولهذا فإن المحدث هو : المشتغل بالسند والإسناد وطرق الأخذ والتحمل وصيغ الأداء والحكم على الأسانيد صحة وضعاً وتحسيناً وتوهيناً وكذا حفظ النصوص وضبطها ومعرفة المحدثين وأصول الجرح والتعديل ولطائف الإسناد ونحو ذلك مما يعرفه أهل الاختصاص من المحدثين . وكل: صيغة عموم وشمول وتعميم وهي في سياقها كل محدث يمتلك آلية الفن هو فقيه اقتضاء ، لكل محدث حتى لو لم يمتلك آلية الفقه.
وأما الرمزية الإسنادية الدلالية هي أن آلية الفقه والفقيه ليست بأكثر من التأكد من صحة النص سنداً وأما فهم الدلالات والاستنباطات وبقية أدوات الفقه واختصاصات الفقهاء يمكن التغاضي عنها بحيث لا يحتاج "المحدث الفقيه إليها" للاستدلال بالوحي الثاني . ولعل المدرك للغتين والجامع للأمرين اكتساباً ومهارة وطلباً وتعلماً وأخذاً غير داخل في هذه المقولة بدليل " كل" العمومية الشمولية.
__________
(1) انظر «السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي» 61، وما بعده.(24/6)
وإلا فمن المعلوم أن هناك من العلماء من كان جامعاً للفنين بل لأكثر منهما فيكون محدثاً وفقيهاً ، محدث لأنه محدث وفقيه لأنه فقيه ، وليس فقيهاً لكونه محدثاً فحسب كما هو مدلول العبارة السابقة ، والأمثلة على هؤلاء العلماء المالكين لناصية الفنين والعلمين والتخصصين اكتساباً ومهارة وليس اقتضاء عديدة ومنهم الإمام الشافعي رحمه الله صاحب "الرسالة" و "الأم" في الفقه وأصوله والمحدث والنسابة وغير ذلك من العلوم وكذلك الإمام أحمد بن حنبل إمام السنة المعروف والفقيه في المذهب الحنبلي وغيرهم كثير. (1).
وأهمية السنة النبوية تظهر في حجيتها وثبوت الأحكام بها ، وأنها أصل من أصول التشريع(2).
__________
(1) انظر عبدالعزيز الصاعدي ، أصحيح أن كل محدث فقيه وليس كل فقيه محدث ، ص 20 ليوم الثلاثاء الموافق 1/12/1425هـ ، العدد 1572، صحيفة الوطن السعودية.
(2) انظر : ابن حزم ، الإحكام ، 1/87.(24/7)
قال الله تعالى : (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول)(1) . وأن طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - تجب استقلالاً من غير عرض ما أمر به الكتاب ، بل إذا أمر وجبت طاعته مطلقاً ، سواء كان ما أمر به في الكتاب أو لم يكن، فإنه أوتي الكتاب ومثله معه(2).
ومما يدل على أهمية السنة أن علماء الأمة الإسلامية قد اعتنوا بها ، ونقلوها خلفاً عن سلف . وحافظوا عليها جيلاً بعد جيل وذلك بعد أن قعدوا أسانيدها وعللها وحفظ متونها ومصطلحاتها مما يجعلها حجة في الأحكام الفقهية(3).
المبحث الثاني :
تعريف التقعيد الفقهي والألفاظ ذات العلاقة وفيه مطالب :
المطلب الأول : المراد بالتقعيد الفقهي :
__________
(1) ... النساء 59 و " محمد " 33 .
(2) انظر : ابن القيم ، إعلام الموقعين ، 1/48.
(3) انظر : الشوكاني ، إرشاد الفحول ، 33 ، وابن قدامة : روضة الناظر ، 1/236.(24/8)
يُراد بالتقعيد استخراج واستنباط قواعد فقهية مبنيّة على أصول شرعية ينتج منها الحكم الفقهي ، و (( التقعيد الفقهي عمل علمي فقهي ، ينتهي بالفقيه إلى صياغة الفقه قواعد وكليات ، تضبط فروعه وجزئياته ، فالتقعيد استنباط ، لكنه استنباط لأحكام كلية ))(1) .
وتعريف الفقه لغة يأتي بعض العلم بالشيء والفهم له .
قال تعالى حكاية عن موسى : { وأحلل عقدة من لساني ، يفقهوا قولي } (2) .
وكذلك يأتي بمعنى دقّة الفهم ولطف الإدراك ومعرفة غرض المتكلم قال تعالى : {قالوا يا شعيب ما تفقه كثيراً مما تقول }(3) .
وقال تعالى : { فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا }(4) .
... أما الفقه في اصطلاح العلماء : فهو (( العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسبة من أدلتها التفصيلية ))(5) .
__________
(1) انظر د/ محمد الروكي نظرية التقعيد الفقهي ص 33 ـ 35 .
(2) ... طه ، 27 ـ 28 ، وانظر د/ محمد منصور ربيع المدخلي أحكام الملكية في الفقه الإسلامي ص5 .
(3) ... هود ، 91 .
(4) ... النساء ، 78 .
(5) ... الآمدي الإحكام في أصول الأحكام ج1 ص7 ، وانظر الشوكاني إرشاد الفحول ص35 .(24/9)
... قولهم " العلم " : ليس جميع الأحكام الشرعية وإنما يكفي منه جملة ، وما هو مستدرك فيه روح الاستنباط والفهم الدقيق للمسائل ، ومن هنا تسمى هذه الجملة " فقهاً " ويسمى صاحبها " فقيهاً " .
قولهم : الأحكام : هو ما يثبت للمكلفين من وجوب وندب وحرمة وكراهة أو إباحة أو صحة أو فساد أو بطلان .
وقد قُيدت هذه الأحكام بما يلي :
كونها : " شرعية " حتى يخرج منها الأحكام " العقلية " كالعلم أن الواحد نصف الاثنين ، وأن العالم حادث .(24/10)
وأيضاً يخرج منها : " الأحكام الحسيّة " والثابتة بالحس كالعلم بأن النار محرقة . ولا الأحكام الثابتة " بالتجربة " كالعلم بأن السم قاتل .ولا الأحكام " الوضعية " : من وضع البشر مثل العلم بأن كان وأخواتها ترفع المبتدأ وتنصب الخبر . ثم قيدت هذه الأحكام بكونها : " عمليّة " وهي ما تعلقت بأفعال المكلفين من صلاة وبيع وشرب وجناية حتى يخرج منها :الأحكام الاعتقادية فهي مهمة علم التوحيد ، والأحكام الأخلاقية التي من مهمة علم الأخلاق وغيرهما(1) . وقيدت أيضاً بكونها " مكتسبة من الأدلة التفصيلية " : أي مستفادة عن طريق النظر والاستدلال من دلائل الشرع المتمثلة في الكتاب والسنة ومما هو مقيس عليهما بالاجتهاد والرأي . مثل استفادة الحكم الكلي الجماعي من دليل جزئي وهو قوله تعالى : { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل }(2) الذي دلّ على حكم شرعي وهو وجوب إعداد القوة من قبل الجماعة لإرهاب العدو .فقد فهمنا من أن مهمة الفقيه تتبع كل حكم في مسألة معينة مستنيراً بعلم الأصول المتمثل في وضع
__________
(1) ... انظر د/ محمد منصور ربيع المدخلي أحكام الملكية في الفقه الإسلامي دراسة مقارنة ص 7 ـ 8 .
(2) ... الأنفال ، 60 .(24/11)
الأدلة الثابتة بالشرع وصياغة قواعد الاستنباط ومناهج الاستدلال(1) .
... وجاء أثر النصوص على الفقه في التقعيد الفقهي بالنصوص الشرعية التي تتعلق بأعمال المكلفين وتدل على أحكامها الشرعية ، جاءت بصيغ تفيد العموم والشمول والكلية ، وقد اهتدى الفقهاء إلى أن الكثير من هذه النصوص هو بنفس صياغته وبنيته قواعد وكليات تشريعية ، كما توصلوا عن طريق الدراسة والاستنباط وفقه النصوص وتفسيرها إلى استخلاص قواعد فقهية صاغوها بتعبيرهم وأسلوبهم الفقهي الخاضع لضوابط التقعيد وعناصره ، ومن ثم بُني الحكم الشرعي على ضوء ذلك(2) .
المطلب الثالث : تعريف الضوابط والقواعد :
الضوابط في اللغة :
__________
(1) ... انظر : محمد سلام مدكور ـ مباحث الحُكم ص5 ، ود. عبدالكريم زيدان الوجيز في أصول الفقه ص8 .
(2) ... انظر الروكي نظرية التقعيد ص 97 .(24/12)
... جمع لمفرد ضابط من الفعل ضبط ، والمعنى فيه الحزم والحفظ للشيء(1) . يقال : (( رجل ضابط أي حازم )) (2) ، لأنه (( قوي على عمله ))(3) . ومن (( ضبطت البلاد وغيرها إذا قمت بأمرها قياساً ليس فيه نقص ))(4) ، و(( الضابطة : الماسكة . ويصح أن تطلق على ما يسمّى : الفرملة ))(5) ، لأنها تضبط الآلة المركوبة .
الضوابط في اصطلاح الفقهاء :
... هناك تقارب بين المفهوم اللغوي والاصطلاحي للضابط ، ولها فقد تعرّض الفقهاء لذكره كثيراً أثناء بحثهم للقواعد الفقهية ، وما يمكن أن يحفظها ويقيّدها عند التطبيق ، وإلى ذلك النهج أشار ممن كتب في الاقتصاد الإسلامي .
تعريف القاعدة والضابط الفقهي :
__________
(1) ... انظر: مختار الصحاح ص 376 ، النهاية جـ3/72 ، والمعجم الوسيط جـ1/533 .
(2) ... مختار الصحاح ص376 ، وانظر : لسان العرب جـ2/340 .
(3) ... النهاية جـ3/72، وانظر : لسان العرب جـ7/341 .
(4) ... المصباح المنير جـ2/357 .
(5) ... المعجم الوسيط جـ1/533 .(24/13)
جاء عن ابن نجيم(1) الحنفي ما نصّه (( والفرق بين الضابط والقاعدة : أن القاعدة تجمع فروعاً من أبواب شتى ، والضابط يجمعها من باب واحد وهو الأصل )) .ولهذا الجمع حفظ في معناه ، فقد رسم فقهاء الحنفية (( الضابطة بأنها أمر كلّي ينطبق على جزئياته لتعرف أحكامها منه ))(2) .
__________
(1) ... الأشباه والنظائر ص16، وانظر : سليم الباز شرح مجلة الأحكام العدلية ص16 ، 31، 34 ، 160 .
(2) ... الحموي غمز عيون البصائر شرح الأشباه والنظائر جـ2/5 ، وانظر : الجرجاني التعريفات ص137 .(24/14)
والفقهاء وهم يثبتون الضابط الفقهي تجدهم يطلقونه لمعرفتهم بمعناه ، فقد قال ابن(1) العربي وهو يشير إلى حفظ القرآن الكريم (( ومن حفظه تيسير الصحابة لجمعه واتفاقهم على تقييده وضبطه )) حيث يفهم فيه معنى الضبط وقد درج فقهاء الشافعية على ذلك النهج فقد جاء عن عز الدين(2) بن عبدالسلام ما نصّه (( أن معظم مصالح الذنوب والواجبات مبني على الظنون المضبوطة بالضوابط الشرعيّة ))(3) ، ويمثل ذلك بذكر فقهاء الحنابلة ، فقد قال ابن القيم ..(4) (( المقصود لذكر القاعدة التي تنضبط أنواعه
__________
(1) ... أحكام القرآن جـ2/1038، وانظر : الموافقات جـ1/168 ، 235 .
(2) ... ترجمة عز الدين : هو أبو محمد عبدالعزيز السلمي الملقب بعز الدين فقيه شافعي مجتهد ، ولد سنة 577هـ في دمشق ، رحل لطلب العلم في بغداد ، اولى الخطابة والتدريس بالجامع الأموي ، وولي قضاء مصر ، توفي سنة 660هـ ، له قواعد الأحكام والتفسير الكبير ، انظر : شذرات الذهب جـ5/301، والأعلام جـ4/124 .
(3) ... قواعد الأحكام جـ2/62 ، وانظر : السيوطي الأشباه والنظائر ص13 ، 15 ، 395، 427 .
(4) ... بدائع الفوائد جـ3/272 ، وانظر : ابن رجب القواعد في الفقه الإسلامي ص 311 .(24/15)
، والضابط فيه أنه إن كان للمشكوك فيه حال قبل الشك استصحبها المكلف وبنى عليها حتى يتيقّن الانتقال عنها هذا ضابط مسائله )) ، فكان الضابط أصلاً وقاعدة مقيّدة لفروع متناثرة ، وهو الذي عناه فقهاء الأحناف كما قلت آنفاً ، فإن (( من محاسن الشريعة ، كمالها وجمالها وجلالها ، أن أحكامها الأصولية والفروعيّة ، والعبادات والمعاملات ، وأمورها كلّها لها أصول وقواعد تضبط أحكامها ، وتجمع متفرقاتها وتنشر فروعها وتردها إلى أصولها ))(1) .
الضوابط في اصطلاح علماء الاقتصاد الإسلامي :
... وقد تبع الفقهاء في تعريفهم للضابط علماء الاقتصاد الإسلامي . فقد قال عبدالله درّاز في شرحه على الموافقات(2) : (( الضوابط هي عبارة عن القواعد الأصولية والكليّة التي بملاحظتها يمكن تفريع الأحكام ، ومعرفة الحلال والحرام ، بمراعاة الأدلة الجزئية من الكتاب والسنة وغيرهما )) .
... وقال الدكتور رفعت العوضي(3) (( تعنى ضوابط الاستثمار : القواعد والقيود والالتزامات التي ينظم بها الإسلام سلوك رأس مالك في المجتمع )) .
__________
(1) ... السعدي الرياض الناظرة ص230 .
(2) ... جـ1/45 .
(3) ... منهج الادخار والاستثمار في الاقتصاد الإسلامي ص133 .(24/16)
... وقال الدكتور عدنان التركماني(1) (( الضوابط : ما هي إلا عبارة عن القواعد التي يقوم عليها الحق في تقييده للملكية في جميع مراحلها ، سواء حين اكتسابها ، أو التصرف فيها بنقلها من اليد إلى أخرى ، أو استعمالها أو استغلالها )) .
... وحتى يكون الضابط عاماً يدخل في مضمونه كافة الحقوق وآثارها يمكن بأن الضوابط هي مجموعة الأصول والأسس والقواعد الشرعيّة التي تحفظ للناس حقوقهم ، وتقيّد تصرفاتها فيما تقتضيه مصلحة الفرد والمجتمع(2) .
المبحث الثالث :
مصادر التقعيد الفقهي بالسنة النبوية وفيه مطالب :
المطلب الأول : الإسناد في علم الحديث وعلم النحو وأهمية ذلك في التقعيد الفقهي :
__________
(1) ... ضوابط الملكيّة ص89 ، وانظر : د. حسن الشاذلي الاقتصاد الإسلامي ص166 ، 171 ـ 172 ، المودودي معضلات الاقتصاد وحلّها في الإسلام ص196 ، د. شوقي دنيا تمويل التنمية في الاقتصاد الإسلامي ص390 ، د. عبدالحميد البعلي الملكية وضوابطها في الإسلام ص125 .
(2) ... انظر د/ محمد منصور ربيع المدخلي أحكام الملكية والفقه الإسلامي ص217 ـ 220 .(24/17)
... يُعد الإسناد من خصائص علم الحديث النبوي الشريف عند المسلمين ، ويقصد به تلك السلسلة من أسماء الرواة التي تناقلت الحديث أو الأحاديث حتى تصل على الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فيكون الحديث ـ حينئذ ـ مرفوعاً ، فإن لم يصل الحديث إلى الرسول ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ كان موقوفاً . ولقد اهتم المحدِّثون بالسند أشد اهتمام ، وظهرت كتب في تعديل الرواة وتجريحهم ، وهي الكتب المعروفة باسم كتب " الجرح والتعديل " إمعاناً منهم في الوقوف على الأحاديث التي صدرت عن رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ، بالفعل ، ولم تنسب إليه كذباً وزوراً ، وهذا من خصائص هذه الأمة (1) .
... ولكن الإسناد لم يقتصر على الحديث الشريف ، بل ظهر أيضاً في اللغة العربية وفنونها الرواية الأدبية واللغوية (2) ، وذكر أنه ينقسم إلى قسمين : تواتر وآحاد ، كما تكلم في شرط نقل المتواتر ، وشرط نقل الآحاد ، وفي قبول المرسل والمجهول .
__________
(1) ... انظر ابن كثير ، الباعث الحثيث 189 .
(2) ... انظر ابن الأنباري ، لمع الأدلة 83 ـ 91 .(24/18)
... كما تكلم(1) السيوطي ـ فيما بعد ـ في "المزهر" عن معرفة المتواتر والآحاد، ومعرفة المرسل والمنقطع ، ومعرفة من تُقْبل روايته ومن ترد. كذلك تكلم عن طرق التحمل والأخذ : من سماع، وإجادة، وإجازة، ومكاتبة ونحوها(2) .
... وأن الإسناد في الرواية الأدبية محمول على الإسناد في الحديث الشريف ، خلافاً للدكتور ناصر الدين الأسد الذي زعم (( أن الرواية الأدبية أصل قائم بذاته ، وقد وجدت عند العرب من الجاهلية ، فكان علماء النسب الجاهليون ومن أدرك منهم الإسلام يأخذون عليهم بالنسب عن شيوخ هذا العلم ممن تقدمهم أو عاصرهم، وكذلك رواة الشعر والأخبار الجاهلية )) .
__________
(1) ... انظر المزهر 1/113 ـ 144 .
(2) ... انظر المزهر 1/144 ـ 183 وما بعدها .(24/19)
... ولكن الإسناد من مبتكرات أهل الحديث ، ويعد المحدثون رواد الدراسة التاريخية عند العرب ، فهم الذين اهتموا بدراسة المغازي ، وأخبار الرسول ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ وأسسوا بذلك ـ فيما بعد ـ منهجاً في توثيق الرواية ، ومصادرها يعدُّ مثلاً أعلى في التحقيق التاريخي والضبط العلمي . فقد اهتمت كتب الحديث بقواعد التحديث والرواية ، وأسست منهجاً علمياً دقيقاً في توثيق مصادر الخبر ، وفرقت في ذلك بين علمي الرواية والدراية ، وفصلت القول في شروط كل منهما .
والإسناد نشأ أولاً في أحضان الدين ، وفي بيئة المحدثين والفقهاء(1) ، أخذاً بنص الحديث ، حديثه - صلى الله عليه وسلم - المشهور : (( من كَذّب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار))(2) .
__________
(1) ... انظر د / محمد أحمد خلف الله صاحب الأغاني أبو الفرج الأصفهاني الراوية : 230 ، د/ محمد حسن عواد في تحقيقه للكوكب الدرّي ص 106 ـ 107 .
(2) ... انظر : الباعث الحثيث 185 ـ 186 ، قيل إنه متواتر واختلف في عدد رواته عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، شرح النووي على مسلم 1/66 .(24/20)
وأن المنزلة التي ينزلها الحديث في قلب المسلم فضلاً عن منزلة قائله ، غير أن هذا لا يعني إهمال شأن الأدب إهمالاً كلياً باعتباره عرضاً من أعراض الدنيا ، لنقيم ـ بسبب هذا التصور ـ حُجَّة تسوغ انقطاع السند في الرواية الأدبية .
ذلك أن الأمانة مطلوبة على كل حال ، سواء فيما يتعلق بالدين أو الدنيا ، فإذا وجب المبالغة في التحري والتدقيق في علم الحديث ، فلا يجوز نقيض ذلك في الأدب . ويجب المبالغة في التحري والاحتياط والتدقيق فيما يتعلق بالحديث ، على أن نجيز نقيض ذلك في الأدب .
وأن الرواية الأدبية داخلة في دائرة اهتمام النحاة أشد دخولاً من حيث هي آثار يتذوقها الدارسون ليكتشفوا ما فيها من جوانب الإبداع الفني ، ولكن من حيث هي آثار يُراد التحقق من نسبتها إلى أصحابها ، حتى يتم بناء القواعد النحوية على أساسها ، ولهذا عُدَّ النحويون كلام العرب من شعر ونثر وأمثال من أصول الاحتجاج في النحو العربي (1) .
__________
(1) ... انظر : مصادر الشعر الجاهلي : 281 ، د/ محمد حسن عواد في تحقيقه للكوكب الدري ص 107 ـ 114 .(24/21)
... ومما يظهر أهمية علم اللغة والنحو في التقعيد الفقهي ما جاء يطلق في اللغة على الكلمة الواحدة مستعملة كانت أم لا ، وأن أقل ما يمكن أن تكونّ الكلمة على حرفين ، وأن انتقال (الكلام والكلمة ) إلى ما ذكره النحاة عُرِّف لهم حادثْ في اللغة فيتفرع عليه ما قاله أصحابنا الشائعة من إبطال الصلاة بذلك لأن قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ (( أن صلاتنا لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميين )) (1) متداول له لغة ، وعرفاً ، فإن المغمى عليه ونحوه إذا نطق مثلاً بقوله " الله " ونحوه ( يقول الحاضرون ) قد تكلّم ، فتفطن لما ذكرته من المدارك ، فإنه يُشكل على كثير من الناس ، ويتفرع عليه أيضاً ما إذا حَلَفَ لا يتكلم فأتى بذلك (2) .
__________
(1) ... انظر : النسائي السنن 3/1874 وأحمد في المسند 5/447 ، 448 الطبعة الأولى .
(2) ... انظر الأسنوي الكوكب الدري فيما يتخرج على الأصول النحوية من الفروع الفقهية ص 196 .(24/22)
... ومما يؤكد هذا التلازم من الفنون العلمية من علم الحديث واللغة وأصول الدين والفقه من أن الترتيب في أيام الأسبوع أولها الأحد ـ عند أهل(1) اللغة ـ، فإنهم قالوا سمي الأحد بذلك ، لأنه أول أيامه ، وسمي الذي بعده الاثنين ، لأنه ثاني الأسبوع ثم الثلاثاء ، لأنه ثالثه وهكذا الأربعاء والخميس . واختلف النقل فيه عند الفقهاء وينبني عليه تعليق الطلاق والعتق وغير ذلك ، فذكر النووي في كتاب لغات التنبيه ، وفي باب صوم التطوع من شرح المهذب (2) في الكلام على استحباب صوم الاثنين مثل ما ذكر أهل اللغة . وجزم الرافعي ـ وتبعه عليه في الروضة ـ بأن أوله السبت ، ذكر ذلك في باب النذر فقال : ولو عَيَّن يوماً من أسبوع والتبس عليه ، فينبغي أن يصوم يوم الجمعة لأنه آخر الأسبوع فإن لم يكن هو المعين أجزاه وكان قضاء . هذه عبارته . وهذا الثاني هو الصواب . فقد روى مسلم في صحيحه (3) في الربع الأخير من الكتاب عن أبي هريرة قال : (( أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدي فقال : خلق الله
__________
(1) ... انظر ابن منظور لسان العرب جـ18/428 .
(2) ... انظر الشيرازي ، شرح المهذب 6/386 .
(3) ... انظر مسلم في الصحيح 4/3149 ـ 3150 .(24/23)
البرية يوم السبت وخلق (الجبال فيها ) يوم الأحد ، وخلق الشجر فيها يوم الاثنين ، وخلق المكروه يوم الثلاثاء ، وخلق النور يوم الأربعاء ، وبث فيها الدواب يوم الخميس وخلق الله آدم بعد العصر يوم الجمعة ( في آخر الخلق ) في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل .
... وفي حديث الأعرابي الذي قال للنبي ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ وهو يخطب فادع الله ـ عز وجل ـ أن يسقينا .......... الحديث إلى أن قال في آخره (( فوالله ما رأينا الشمس سبتاً ))(1) أي جمعة ، فَعَبَّر بأول أيامها ، على أنه روى أيضاً " ستا" أي اسم العدد الذي بين الخمس والسبع .
... واعلم أنك إذا أردت ضبط ترتيب المخلوقات الواقعة في الحديث ، فأتِ بكلام تكون حروفه مرتبة على ترتيب أوائلها ، وحينئذ يَسْهل استحضاره فدل ذلك على أثر اللغة العربية في التقعيد الفقهي وما يستنبط من الحديث النبوي في ضوء التلازم بين تلك العلوم (2) .
المطلب الثاني : التقعيد الفقهي بالسنة النبوية المتواترة:
__________
(1) ... مسلم في الصحيح كتاب صلاة الاستسقاء 2/612 .
(2) ... انظر الأسنوي الكوكب الدري ، مرجع سابق ص 259 ـ 261 .(24/24)
والتواتر في السنة : هو الحديث الذي رواه جمعٌ لا يتوهم تواطؤهم على الكذب من أول السند إلى مُنتهاه . كحديث « من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار»(1) .
ويفيد العلم عند العلماء بإجماع منهم لادراك وصوله إلينا بالحواس يقيناً وصدقاً(2).
قال ابن تيمية رحمه الله : «فالصواب الذي عليه الجمهور أنه المتواتر ليس له عدد محصور ، بل مإذا حصل العلم من أخبار المخبرين كان الخبر متواتراً»(3) فهو حجة في الاستشهاد به في التحقيق والاستنباط للحكم والتقعيد عليه، كما مضى قبل هذا المطلب .
المطلب الثالث : التقعيد الفقهي بالسنة النبوية عن طريق خبر الآحاد :
وتعريفه كما قال الآمدي في تعريفه : ما كان من الأخبار غير منته إلى حد التواتر (4).
__________
(1) أخرجه من حديث المغيرة بن شعبة : البخاري 3/130 في الجنائز .
(2) انظر ابن تيمية الفتاوى 18/16، والآمدي : الإحكام ، 2/15، بدران المدخل إلى مذهب الإمام أحمد ص 91.
(3) انظر مجموع الفتاوى 1/487.
(4) انظر الآمدي الأحكام 2/31.(24/25)
والأصوليون يعتبرون المشهور والمستفيض من أخبار الآحاد ، لأن الأمة تلقته بالقبول ، وهو حجة عند جمهور العلماء (1).
قال ابن تيمية : « وخبر الواحد المتلقي بالقبول يوجب العلم عند جمهور العلماء من أصحاب أبي حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد ، وهو قول أكثر أصحاب الأشعري(2) ، كما ورد من السنة من رجوع أهل قباء عن القبلة، وإراقة الخمر»(3) وهي بخبر واحد.
المطلب الرابع : التقعيد الفقهي بالسنبة النبوية المرسلة :
والحديث المرسل : هو المطلق الذي سقط منه صحابي ومن لم يذكر ممن سمعه منه(4).
والاحتجاج بالحديث المرسل مقبول عند جمهور العلماء لأن الأصل عدالة الصحابة فلا يسأل عمن رووا (5).
__________
(1) انظر الشوكاني ، إرشاد الفحول 49، ابن قدامة : روضة الناظر ، ص 9، والشافعي الرسالة، ص 40.
(2) انظر الفتاوى الكبرى 1/487-488.
(3) أخرجه البخاري في صحيحه من حديث البراء بن عازب جـ4 /329، 403، ومالك في الموطأ 2/846.
(4) انظر ابن تيمية مجموع الفتاوى 1/486.
(5) انظر النووي شرح على صحيح مسلم 1/230 وابن القيم اعلام الموقعين 1/31، وأبا زهرة كتاب ابن حنبل ص 230.(24/26)
ومما مضى يظهر العمل بحجية السنة المتواترة والصحيحة والأحادية والمرسلة على الراجح وأنها أساس متين وعماد قوي في الاستدلال الشرعي لأخذ الحكم الشرعي ولهذا تجد الحنابلة يأخذون بالكفاءة في النكاح رغم الضعف(1) في الحديث ومنه : «كل الناس أكفاء إلا حائكاً أو حجاماً » قيل لأحمد كيف نأخذ به وأنت تضعفه ؟ فقال : إنما أضعف اسناده ولكن العمل عليه (2).
قال ابن القيم : فتقديم الحديث الضعيف وآثار الصحابة على القياس والرأي: يعني أبا حنيفة وقول الامام أحمد ، وليس المراد بالحديث الضعيف في اصطلاح السلف هو الضعيف في اصطلاح المتأخرين ، بل ما يسميه المتأخرون حسناً قد يسميه المتقدمون ضعيفاً(3).
__________
(1) انظر ابن القيم ، أعلام الموقعين 1/31-32.
(2) أخرجه الحاكم في المستدرك 7/134، وفي نصب الراية 3/197-198.
(3) ابن القيم ، إعلام الموقعين 1/77. وابن قاسم في حاشيته على الروض المربع جـ6/279.(24/27)
ولهذا ينقل عن الإمام أحمد أخذه بالحديث الضعيف إذا لم يكن في الباب ما يدفعه(1) ، ورغم ذلك فإنهم يقعدون مسائل فرعية على هذه الأحاديث مبسوطة في كتب القواعد الفقهية (2) ، وسيأتي مزيد تفصيل لهذا التقعيد في مبحث قادم .
المبحث الرابع
صور لبعض القواعد الفقهية المستنبطة من السنة النبوية
قاعدة الزعيم غارم :
الزعيم هو الكفيل ، ويقال فيه أيضاً : ضامن وحميل ، هو الذي يضمن غيره في حق .
ومعنى القاعدة : أن من تكفل لغيره بحق فهو ضامن له ، ويمكن للمكفول له أن يطالبه قضاء ، كمن كفل المدين للدائن ، فإن الدائن إذا لم يستوف دينه من المدين ، كان له الحق في مقاضاة الكفيل عملاً بالقاعدة (3).
__________
(1) انظر آل تيمية المسودة ص 273-275.
(2) ... انظر ابن رجب في كتابه القواعد كاملاً ، وابن نجيم الأشباه والنظائر كاملاً ، والسيوطي الأشباه والنظائر كاملاً وغيرها .
(3) انظر ابن قدامة ، المغني جـ 5/72، انظر محمد الروكي نظرية التقعيد الفقهي ص 371.(24/28)
والقاعدة هي بنصها جزء مستنبط من حديث رواه أبو أمامه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : « العارية مؤداة، والمنة مردودة ، والدين مقضي ، والزعيم غارم»(1).
فذهب أبو حنيفة ومالك وأحمد إلى أنه يصح . وذهب الشافعي إلى أنه لا يصح. وبذلك قال الثوري والليث وابن أبي ليلى وابن المنذر(2).
قاعدة : الحاجة تنزل منزلة الضرورة :
__________
(1) أخرجه أبو داود في سننه جـ3/35، البيوع باب تضمين العارية.
(2) انظر ابن قدامة المغني 5/3572 .(24/29)
وهي قاعدة ذكرها علماء القواعد الفقهية(1) ، وهي مبنية على أصل شرعي وهو مأخوذ من السنة النبوية ، ورتب عليه جواز أخذ الرخصة في بيع العرايا مع شبهة بالفضل فقد ذكر ابن القيم إباحة ذلك مما تدعو إليه الحاجة كالعرايا (وهي بيع الرطب بالتمر ) فهذا البيع في الحقيقة مشتمل على الربا ، لأن الرطب والتمر من جنس واحد أحدهما أزيد من الآخر قطعاً بلينه ، فهو أزيد أجزاء من الآخر زيادة لا يمكن فصلها وتمييزها ، ولا يمكن جعل الرطب مساوياً للتمر عند كمال نضجه ، فالمساواة مظنونة وليست متيقنة، فلا يجوز قياساً بيع أحدهما بالآخر، لكن جاءت السنة النبوية مبيحة له للحاجة(2)،روى البخاري ومسلم عن زيد بن ثابت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رخص في العرايا أن تباع بخرصها كيلا(3).
__________
(1) ابن نجيم ، الاشباه والنظائر ص 91-92، والسيوطي الأشباه والنظائر ص 97.
(2) انظر اعلام الموقعين 2/159.
(3) حديث : « رخص في العرايا أن تباع بخرصها كيلا» أخرجه البخاري في الصحيح مطبوع مع ابن حجر في فتح 4/390-ط السلفية) ومسلم (3/1169- ط الحلبي) من حديث زيد بن ثابت.(24/30)
قاعدة الخراج بالضمان(1) :
خراج الشيء: غلته ومنفعته. ومعنى القاعدة : أن وضع اليد على الشيء ـ على وجه البيع مثلاُ، أو ما شاكله – يستلزم ضمانه إذا ضاع في تلك البلد. ومقابل ذلك الضمان : فإن لصاحب اليد خراج الشيء الذي هلك في ذمته وفي يده(2).
وهذه القاعدة : هي بنصها حديث مروي عن عائشة رضي الله عنها ، وسبب وروده أن رجلاً ابتاع غلاماً فأقام عنده ما شاء الله أن يقيم ، ثم وجد به عيباً ، فخاصمه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فرده عليه ، فقال الرجل : يا رسول الله قد استغل غلامي ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «الخراج بالضمان»(3).
فهي قاعدة منتزعة من النص النبوي الشريف وهي ظاهرة جلية في أثر السنة في التقعيد الفقهي .
المبحث الخامس
صور لبعض آثار التقعيد الفقهي بالسنة النبوية على الفروع الفقهية
... هناك فروع فقهية وآثار شرعية رتبت على الأخذ بالسنة النبوية المطهرة في التقعيدات الفقهية ومنها :
__________
(1) انظر هذه القاعدة في السيوطي ، الأشباه والنظائر ، 93، وابن نجيم : الأشباه 175.
(2) انظر محمد الروكي نظرية التقعيد الفقهي ص 371.
(3) حديث أخرجه الترمذي في صحيحه جـ3/35.(24/31)
أولاً : نقض الوضوء من القهقهة في الصلاة :
... قال ابن قدامة : « وليس في القهقهة وضوء ورد ما احتج به أصحاب الرأي من وجوب الوضوء من القهقهة داخل الصلاة وهو ما رواه أبو العالية بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي فجاء ضرير فتردى في بئر فضحك طوائف فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الذين ضحكوا أن يعيدوا الوضوء والصلاة(1).
... رده بقوله : «وما رووه مرسل لا يثبت وقد قال ابن سيرين : لا تأخذوا مراسيل الحسن وأبي العالية فإنهما لا يباليان عمن أخذا»(2).
ثانياً: العمل بخبر الواحد إذا خالف القياس :
__________
(1) الدارقطني السنن 1/162-164.
(2) المغني 1/239-240 ط هجر.(24/32)
... قال ابن قدامة : ويقبل خبر الواحد فيما يخالف القياس(1) وعليه قال بثبوت المهر لمن مات عنها زوجها قبل الدخول ولم يسم لها صداقاً واحتج بما روي أن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - قضى لامرأة لم يفرض لها زوجها صداقاً ولم يدخل بها حتى مات، فقال : لها صداق نسائها ، لا وكسى ولا شطط فقام معقل بن سنان الأشجعي فقال : « قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بروع بنت واشق مثل ما قضيت»(2). حيث أخذ بدلالة الأحاديث الأحادية وبنيت عليها الأحكام الشرعية .
ثالثاً: قبول خبر الواحد فيما تعم به البلوى :
... قال في روضة الناظر : « ويقبل خبر الواحد فيما تعم به البلوى»(3).
__________
(1) روضة الناظر 115.
(2) أخرجه أبو داود في : باب من تزوج ولم يسم صداقاً حتى مات ، من كتاب النكاح ، سنن أبي داود 1/487-488. والترمذي ، في : باب ما جاء في الرجل يتزوج المرأة فيموت عنها قبل أن يفرض لها ، من أبواب النكاح، عارضة الأحوذي 5/84، 85 .
(3) روضة الناظر 114.(24/33)
... وقد اختلف الفقهاء في خبر الواحد فيما تعم به البلوى ، فقبله جمهور الفقهاء، ورده أكثر الأحناف(1) . وقد انبنى على ذلك اختلافهم في الفروع الفقهية التي مردها إلى ذلك ، كاختلافهم في التقاء الختانين هل يوجب الغسل أم لا؟ فالذين يقبلون خبر الواحد فيما تعم به البلوى ذهبوا إلى أنه يوجب الغسل لحديث عائشة: «إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل» (2)، والذين لا يقبلون لا يوجبون الغسل.
... ونرى أثر ذلك في حكم ثبوت هلال رمضان : « قال الخرقي: وإذا رأى هلال شهر رمضان وحده صام . وإن كان عدلاً صوم الناس بقوله» . ثم شرح ذلك با : « المشهور عن أحمد أنه يقبل في هلال رمضان قول واحد عدل ويلزم الناس الصيام بقوله» .
__________
(1) انظر : الشيرازي ، التبصرة ، 314، ابن قدامة : روضة الناظر ، 65، الآمدي ، الإحكام 1/290، ومحمد الروكي نظرية التقعيد ص 308.
(2) أخرجه الترمذي في الصحيح جـ1/15.(24/34)
... واستدل لذلك بما روى ابن عباس قال : جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال: «رايت الهلال » قال : «أتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله »؟ قال: «نعم» قال : « يا بلال أذن في الناس فليصوموا غداً»(1).
رابعاً: عدم رد الحديث لإنكار الراوي له ولعمله بخلافه :
... جاء في فقه الحنابلة : « إذا أنكر الشيخ الحديث وقال : لست أذكره ، لم يقدح ذلك في الخبر ، في قول إمامنا ومالك والشافعي وأكثر المتكلمين » (2).
وطبقت هذه القاعدة واستدل لذلك في مسألة غسل الإناء من ولوغ الكلب .
قال الخرقي : « وكل إناء حلت فيه نجاسة، من ولوغ كلب .. فإنه يغسل سبع مرات إحداهن بالتراب»(3).
__________
(1) أخرجه أبو داود في باب في شهادة الواحد على رؤية هلال رمضان ، من كتاب الصوم، سنن أبي داود 1/547 ، والترمذي في : باب ما جاء في الصوم والشهادة من أبواب الصوم عارضة الأحوذي 3/206 .
(2) روضة الناظر ، ص 109.
(3) انظر ابن قدامة المغني 1/73-74.(24/35)
... ويستدل لذلك بما روى أبو هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً»(1).
... بينما نجد الحنفية لا يعملون بهذا الحديث لأن راويه أبا هريرة خالفه فقد روى الطحان والدارقطني موقوفاً على أبي هريرة أنه يغسل من ولوغه ثلاث مرات(2).
المبحث السادس :
أثر السنة النبوية في المقاصد الشرعية والقواعد الفقهية :
__________
(1) أخرجه البخاري في باب الماء الذي يغسل به شعر الإنسان .. من كتاب الوضوء صحيح البخاري 1/54 . ومسلم في : باب حكم ولوغ الكلب من كتاب الطهارة ، صحيح مسلم 1/234، 235.
(2) انظر : الهداية 1/109 ، مطبوعة مع فتح القدير ، وعيد محمد إبراهيم، بحث الفقيه ابن قدامة، مجلة الحق، ع10 صفر 1426هـ، ص 372.(24/36)
... باستقراء القواعد العامة والأمور الكلية يظهر أن هناك قواعد اللغة العربية وضوابطها ، وقواعد الفقه وضوابطه ، والقواعد الفقهية ، والمقاصد الشرعية ، ومن ذلك قاعدة : المشقة تجلب التيسير وقاعدة الأمور بمقاصدها ، وقاعدة الضرورات تبيح المحظورات ، ومن ذلك ضابط (( ضابط الأحداث المتفق عليها في المذاهب ثلاثة أضرب : ذهاب العقل ، وما يخرج من السبيلين ، والملامسة وما في معناها ))(1) .
__________
(1) ... الباجي : المنتقى 1/53 .(24/37)
ويقول ابن تيمية(1) رحمه الله : الصواب الذي عليه الجمهور أمة المسلمين أن النصوص وافية بجمهور أحكام أفعال العباد . ومنهم من يقول إنها وافية بجميع ذلك ، وإنما أنكره لأنه لم يفهم معاني النصوص العامة التي هي أقوال الله ورسوله، وشمولها لأحكام أفعال العباد ، وذلك أن الله بعث محمد - صلى الله عليه وسلم - بجوامع الكلم، فيتكلم بالكلمة الجامعة العامة التي هي قضية كلية وقاعدة عامة تتناول أنواعاً كثيرة ، وتلك الأنواع تتناول أعياناً لا تحصى ، فبهذا الوجه تكون النصوص محيطة بأحكام أفعال العباد ، ومن ذلك مقاصد الشريعة التي فهمت عليها الحكم الشرعي بناء على ذلك المقصد الشرعي المدرك من علماء الفقه الإسلامي وأصوله ، يقول الشاطبي(2) : إن المقاصد الشرعية إما مقاصد ضرورية أو حاجية أو تحسينية ، والأحكام شرعت لمصالح العباد في المعاش والمعاد . فإن (( استقراء الشريعة يقتضي أنه ما من مصلحة إلا وفيها مفسدة ولو قلّت على البعد، ولا مفسدة إلا وفيها مصلحة ولو قلّت على البعد )) (3).
__________
(1) ... مجموع الفتاوى 19/208 .
(2) ... انظره في الموافقات جـ2 2/10 وما بعده .
(3) ... انظر التفتازاني التلويح 2/72 .(24/38)
وبيان كون المقاصد الشرعية من قبيل الدليل الشرعي الكلي وأنها تُعد من الأدلة الشرعية فإن الدليل الشرعي يشمل القاعدة الفقهية والضابط الفقهي والقاعدة الأصولية والقاعدة المقاصدية (1) .
ويذكر الدكتور أحمد الركسوني : إن المقاصد الاستقرائية تمتاز بالقطع ويؤكد الشاطبي على قطعية المقاصد الشرعية الثابتة بالاستقراء .
بل إن مبادئ الشريعة تمثل القواعد الفقهية والأدلة العليا التي تمثل موقعاً أعلى من مرتبة القواعد الفقهية لأنها ليست منحصرة في باب فقهي معين بل تشمل كافة أنشطة البشر ، عدا العبادات ، تدل تلك الأدلة إنها هي مقاصد الشريعة العامة(2) .
فإن حفظ نظام الأمة واستدامة صلاحه بصلاح المهيمن عليه وهو نوع الإنسان ، وتشمل ما يندرج تحت ذلك من مقاصد كلية خمس هي حفظ الدين ، وحفظ النفس ، وحفظ العقل وحفظ النسل وحفظ المال (3) .
__________
(1) ... انظر د/ نور الدين الخادمي المقاصد الاستقرائية ، مجلة العدل السعودية عدد 133 محرم 1428هـ ص 100 ـ 101 .
(2) ... انظر المرجع السابق ، ص 102 .
(3) ... انظر ابن عاشور مقاصد الشريعة ص 13 .(24/39)
ومن ذلك عموم الأحاديث النبوية فمثلاً حديث عائشة رضي الله عنها قالت (( لما ثقل النبي - صلى الله عليه وسلم - واشتد وجعه ، استأذن أزواجه أم يمرّض في بيتي ، فأذنَّ له )) الحديث(1) حديث روعيت فيه المصلحة الشرعية المفهومة من مقاصد الشريعة الإسلامية وهو حفظ النفس ووجوب العمل بقاعدة وجوب العدل بين الزوجات ، حيث يفهم الحكم الشرعي المبني على مقصده أنه على الزوج أن يعدل بين زوجاته حتى مع المريضة والحائض والنفساء والمُحرمة ، لأن القصد الإيواء والأنس والسكن(2) سواء في ذلك الزوجة المسلمة أوالكتابية(3) ، ولذلك مسائل وقواعد ومقاصد منها :.
أولاً : من القواعد المهمة في تحقيق المصالح والمقاصد قاعدة تصرف الإمام في الرعية منوط بالمصلحة(4) كضبط المباحات .
__________
(1) ... أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الأدب المفرد باب حد المريض أن يشهد الجماعة رقم 665 .
(2) ... انظر ابن قدامة المغني 10/263 وما بعدها ، والنووي المجموع 16/427 ، القرطبي الجامع لأحكام القرآن 14/217 .
(3) ... انظر ابن قدامة المغني 10/242 وما بعدها والنووي المجموع 16/431 .
(4) ... السيوطي الأشباه والنظائر ص 131 .(24/40)
وكان يجوز لولي الأمر التدخل في منع المباح في حالات استثنائية للمصلحة العامة وبه قال جمهور الحنفيّة والمالكية والشافعية وابن تيمية من الحنابلة ، وتبعهم في ذلك أكثر من كتب في الاقتصاد الإسلامي ، وهذه بعض نصوص : فقد جاء في الرسالة السادسة من رسائل(1) ابن نجيم الحنفي ما نصّه (( اعلم أن الإمام نصب ناظراً لمصالح المسلمين ، وصرح في فتح القدير بأنه كوصي اليتيم .. وصرح الإمام الزيلعي في شرح الكنز بأن للإمام ولاية عامة ، وله أن يتصرف في مصالح المسلمين ، والاعتياض عن المشترك العام جائز من الإمام ولو باع شيئاً من بيت المال صح بيعه )) ، وتصرّف الإمام في مجال مصالح المسلمين يدخل فيه المباحات ومنها المعادن ، بل أن تحمّله تلك الأمانة مسؤولية أنيط بها قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (( كلكم راع ، وكلكم مسؤول عن رعيته ، فالإمام راع على الناس وهو مسؤول عنهم ))(2) .
__________
(1) ... ص 50 ـ 51 .
(2) ... حديث أخرجه مسلم في صحيحه جـ12/313 ـ باب فضيلة الأمير العادل وعقوبة الجائر والبحث عن الرفق .(24/41)
وقال ابن العربي في أحكام القرآن(1) ما نصّه : (( فجعل - صلى الله عليه وسلم - في هذه الأحاديث الصحيحة كل هؤلاء رعاة وحكاماً على مراتبهم ، وكذلك العالم الحاكم فإنه إذا أفتى يكون قضى ، وفصل بين الحلال والحرام ، والقرض والندب ، والصحة والفساد ، فجمع ذلك فيمن ذكرنا أمانة تؤدى وحكم يقصى )) ، وقد اعتبر تصرف الإمام ـ باعتباره وليّاً عن المسلمين في المباحات في الأمور التي يجتهد فيها مصلحة للعباد في الحياة الدنيا وأجراً له في الآخرة ففي قواعد الأحكام(2) (( وكذلك تصرف الإمام إن تصرف في حقوق الله المحضة كانت مصالح تصرفه آجله ، وإن تصرف في حقوق العباد كانت مصالح العباد عاجلة ومصالح الإمام آجلة ، وإن تصرف لإقامة الحقين حصل المحكوم له على الفوائد العاجلة وحصل الإمام على الأجرين )) ، ومن النصوص الفقهية التي تعتبر جواز تدخل ولي الأمر في منع المباحات ما جاء عن(3) ابن تيمية :
__________
(1) ... جـ1/ 451، وقد ذكر ابن رشد في مقدماته ما يفيد تدخل ولي الأمر في ضبط المباحات ومنها المعادن فانظره جـ1/242 .
(2) ... لعز الدين بن عبدالسلام جـ2/80 ، وانظر : الشربيني مغني المحتاج جـ2/372 .
(3) ... القواعد النورانية ص199 .(24/42)
(( وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، بل الأئمة ، عن بعض أنواع المباح في بعض الأحوال لما في ذلك منفعة المنهي )) ، فهو يقرّر أن تدخل ولي الأمر في حالات استثنائية جلباً للنفع ووقفاً للضرر الناجم عن استعمال ذلك المباح لتقييده أو منعه طبقاً لمصلحة المجتمع العامة ، فالتنقيب عن النفط وغيره من المعادن مثلاً من الأعمال المباحة التي يجوز للأفراد القيام بها ، وإنما لولي الأمر ـ إذا قدر أن اشتغال الأفراد بهذا العمل فيه إضراراً باقتصاد الدولة ـ أن يمنع الأفراد من عمليّات التنقيب هذه ويقصرها عن الدولة وحدها .
وجاء في كتاب الحق ومدى(1) سلطان الدولة في تقييده ، ومن هنا جاز لولي الأمر أن يقيّد استعمال الحق بالقدر الذي يصون به المصلحة العامة ، فله أن يتدخل في شؤون الأفراد لهذا الغرض العام ، ومن أمثلة ذلك في السنة النبويّة .
ويقعّد عليه قاعدة (( تصرف الإمام في الرعية منوط بالمصلحة كما مضى بيانها وهو مستند شرعي قوي والمصلحة من المقاصد الشرعية المناط بها شرعاً .
ثانياً : قاعدة المصلحة الشرعية وما بني عليها من منع الضرر :
__________
(1) ... للدكتور فتحي الدرديني ص 111 .(24/43)
... فإن الأحكام الشرعيّة مبنيّة على المصالح والعدل وعدم الضرر بالمسلمين ، أفراداً وجماعات . قال صاحب الموافقات(1) : (( إن وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معاً )) .
(( وأن مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد ، وهي عدل كلّها ، ورحمة كلّها ، ومصالح كلّها ))(2) ، في مثل هذا يرى الفقهاء أن لولي الأمر أن ينهي هذه الإباحة بحظر يصدر منه لمصلحة تقتضيه ... فإن طاعة ولي الأمر واجبة لقوله : { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم }(3) لأن (( تصرف الإمام في الرعية منوط بالمصلحة )) (4).
__________
(1) ... انظر محمد عاشور في مقاصد الشريعة ص 63 ، والشاطبي جـ2/47 .
(2) ... ابن القيم أعلام الموقعين جـ3/2 .
(3) ... الخفيف الملكية الفردية وتحديدها في الإسلام جـ1/42 من كتاب التوجيه التشريعي ، وانظر : المراجع السابقة .
(4) ... ابن نجيم الأشباه والنظائر ص123 ، والسيوطي الأشباه والنظائر ص 131 ، مجلة الأحكام العدلية المادة 58 .(24/44)
... ولقد جاء في شرح القاعدة السابقة أنه (( لما كان لإمام المسلمين ولاية نظارة على عموم الرعيّة في الأمور العامة كان تصرفه على الرعيّة منوطة بالمصلحة ، ولهذا يجب أن تكون أوامر السلطان وأولى الأمر والنهي موافقة لمصالح الرعية ، لأن السلطان إنما أعطى السلطة من الله تعالى لأجل صيانة دم عباده ووقاية عرضهم وأموالهم )) (1) ، والذي يظهر مما مضى أن ما يحصل به البيان أن الشريعة تعتبر المصالح أساساً في تقييد أمور الناس وضبط تصرفاتهم ومنها الملكية للأموال المباحة والمعادن تدخل ضمن الانضباط . ولهذا جاء في الخراج (2) (( وكل ما رأيت أن الله تعالى يصلح به أمر الرعيّة فافعله ولا تؤخره ، فإني أرجو لك بذلك أعظم الأجر وأفضل الثواب )) ، محققاً بذلك معنى الإصلاح في نفوس أئمة المسلمين .
ثالثاً : قاعدة سد الذرائع لمنع الأضرار والمفاسد :
__________
(1) ... سليم باز في شرحه للمادة رقم 58 من مجلة الأحكام العدلية ص43 ، وانظر : الزرقا المدخل الفقهي العام 2/1050 .
(2) ... أبو يوسف ص187 وقد قال ذلك القول لولي أمر المسلمين آنذاك هارون الرشيد .(24/45)
... فإن قاعدة : " سد الذرائع" (1) من القواعد الشرعية المجمع على اعتبارها وتطبيقها(2) ، و(( حقيقتها : التوسل بما هو مصلحة إلى مفسدة ))(3) حينئذ يتدخل ولاة الأمر لمنع المفاسد والأضرار لأجل (( حسم مادة وسائل الفساد ))(4) وتقي الضرر ابتداء وانتهاء ، والذي يسوغ لولي الأمر العادل التدخل في ضبط أمور الرعيّة ومنها منع تملّك المعادن للأفراد للحديث الوارد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( لا ضرر ولا ضرار ))(5)
__________
(1) ... إدرار الشروق على أنوار البروق جـ2/32 ، الموافقات جـ2/392 ، أعلام الموقعين جـ3/135 ـ 136 ، الزرقا المدخل الفقهي جـ1/98 .
(2) ... انظر : إدرار الشروق على أنوار البروق جـ2/33 ، الموافقات 4/200 ـ 201 .
(3) ... الموافقات 4/199 .
(4) ... تبصرة الحكام 2/364 ، وانظر : البوطي ضوابط المصلحة ص274 .
(5) ... رواه مالك في الموطأ 2/218 ، وهكذا اعتبره السيوطي من الأحاديث الخمسة الأساسية التي عليها مدار الفقه . انظره : في تنوير الحوالك 2/218 . ابن ماجة في سننه جـ2/57 باب من بني في حقه ما يضر بجاره ثم ذكر من رواية محمد بن رمح من طريق أبي صرمة عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (( من ضار أضرّ الله به ومن شاق شق الله عليه )) . وفي الزوائد إسناده صحيح رجاله موثقون . السندي في شرحه على سنن ابن ماجة جـ2/57 .(24/46)
، إذ الضرر بالآخرين وتفويت مصالحهم منتف شرعاً ، ولهذا (( قال الإمام أحمد في رواية حنبل بعد أن ذكر له هذا الحديث كل ما كان على هذه الجهة وفيه ضرر يمنع من ذلك فإن أجاب وإلا أجبره السلطان ولا يضر بأخيه في ذلك وفيه مرفق له ))(1) .
وقد انبثق عن الحديث السابق قواعد شرعيّة بمجموعها تنهي عن إحداث الضرر سواء عن طريق الجزاء المعبّر عنه بالإضرار والناصر في قاعدة (( الضرر يزال )) (2) ، يرى أنها منضبطة بقاعدة أخرى هي (( الضر لا يزال بالضرر ))(3) ، وقاعدة (( الضرر يدفع بقدر الإمكان ))(4) ، وقد اعتبر الفقهاء قاعدة سد الذرائع قائمة على هذه القاعدة ، فقالوا : (( يجب حسم مادة الفساد والوسائل المفضية إليه ، فكل فعل كان مفضياً إلى ضرر راجح يقيناً أو ظناً ، يمنع ، دفعاً للضرر بقدر
__________
(1) ... جامع العلوم والحكم ص 291 .
(2) ... ابن نجيم الأشباه والنظائر ص 85 .
(3) ... ابن نجيم الأشباه والنظائر ص85 ، وانظر : السيوطي الأشباه والنظائر ص86 ، الموافقات 2/349 .
(4) ... مجلة الأحكام العدلية مادة رقم 31 ، وقد كان من فروع القاعدة لأنه (( يمنع أن يتصرف المالك في ملكه إذا كان تصرفه يضرّ بغيره خلاف أصول الفقه ص208 .(24/47)
الإمكان . وهذا مقصد عام يجب أن يراعى في جميغ شؤون الدولة الاقتصادية والاجتماعية ، والسياسية فللدولة أن تسن القوانين ما يدفع الضرر المتوقع عن الأفراد والجماعة ))(1) ، وهذا مما يستفاد منه في تأصيل التقعيد الشرعي من السنن النبوية .
... وفي الشريعة الإسلامية حرص على إيفاء الناس حقوقهم غير أنه إذا حدث وجود ضرراً بارتكاب أخفهما فساداً ، لأن (( قاعدة)) (2) تدخل ولي الأمر لأجل المصلحة العامة تحكمها قاعدة : (( يختار أهون الشرين )) . ولعل فيما مضى من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والمصالح الشرعيّة والقواعد التي تبنى عليها التصرفات والسياسات الشرعية ما يكون مستنداً أساسياً لتدخل ولي أمر المسلمين في ضبط الملكية . وخاصة إذا ما قيل أنه (( من المقرر شرعاً أن على ولي الأمر أن يستجيب إلى داعي المصلحة العامة فيحرم على الناس من المباحات ما يرى أن في الإبقاء على إباحته ضرراً بالمجتمع ، ويوجب على الناس منها ما سرى أن إيجابه دفع
__________
(1) ... د. فتحي الدريني نظرية التعسف في استعمال الحق ص 231 .
(2) ... د. عدنان التركماني ضوابط الملكية في الفقه الإسلامي ص123 . وانظر : مجلة الأحكام العدلية مادة رقم 29 .(24/48)
مفسدة أو جلب مصلحة للمجتمع ))(1)
المبحث السابع
صور لبعض التطبيقات الفقهية المعاصرة للتقعيد الفقهي بالسنة النبوية
... ومن صور التطبيقات المعاصرة للسنة النبوية على التقعيد الفقهي :
أولاً: قاعدة إباحة المحظور للحاجة كذلك ما حرم سداً للذريعة وذلك مثل الحرير محرم على الرجال ولكنه يجوز لبسه للحاجة كإزالة الأذى والحكة(2).
__________
(1) ... الخفيف الملكية جـ1/109 ، وانظر : في اجتهادات الأئمة وبذلك الجهد في تحقيق الأصلح من المصالح والأرجح فيها للمسلمين إدرار الشروق على أنوار البروق جـ3/16 ـ 18 .
(2) انظر الاختيار 3/158، والمنثور 2/25، 26.(24/49)
... والنظر إلى الأجنبية حرام لكنه يباح عند الخطبة وللتعليم وللإشهاد(1) والطبابة والمسألة فإنها حرام لما فيها من الذلة والامتهان ، لكنها تباح للحاجة ، وقد حدد النبي - صلى الله عليه وسلم - مواطن الحاجة التي تبيح السؤال في حديث قبيصة بن مخارق الهلالي الذي رواه مسلم ، قال قبيصة : تحملت حمالة فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسألا فيها فقال : أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها ، قال : ثم قال : يا قبيصة ، إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة : رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك ، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله ، فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش (أو قال سداداً من عيش ) ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجا من قومه : لقد أصابت فلاناً فاقة ، فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش (أو قال سداداً من عيش) فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحتا يأكلها صاحبها سحتا»(2)
__________
(1) انظر ابن نجيم ، الأشباه 76، ما بعدهاوالسيوطي ، الأشباه 87، والاختيار 3/154.
(2) انظر المغني 2/662، وابن عبدالسلام قواعد الأحكام 2/172.
... وحديث قبيصة بن مخارق الهلالي : تحملة حمالة ... " أخرجه مسلم في الصحيح (2/722- ط الحلبي).(24/50)
.
... ويقول ابن القيم : ما حرم سداً للذريعة يباح للمصلحة الراجحة (1). ويمكن تطبيق ذلك كما هو في النظر الوارد في المصحات ودور التعلم والقضاء ونحو ذلك في عصرنا الحاضر ، للحاجة وتطبيقاً للقاعدة السابقة المستندة على الأحاديث الشريفة .
ثانياً: قاعدة لا تحديد لأقل الصداق وأكثره :
... وقد اختلف الفقهاء في أقل الصداق على قولين . الأول مذهب المالكية(2) أنه أقل الصداق ربع دينار أو ما يعادله من الدراهم الشرعية ، أو قيمة ذلك من العروض وذهب الأحناف إلى أقل الصداق عشرة دراهم(3) وعمدتهم فيه النص من ذلك نبوي:
حديث جابر بن عبدالله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : «لا تنكحوا النساء إلا الأكلفاء ، ولا تزوجوهن إلا الأولياء ولا مهر دون عشرة دراهم»(4).
__________
(1) انظره في أعلام الموقعين 2/161.
(2) ابن دقيق العيد 2/107.
(3) السرخسي ، المبسوط ، 5/80.
(4) البيهقي ، السنن الكبرى 7/133.(24/51)
وفي سنده مبشر بن عبيد قال فيه الدارقطني : متروك الحديث ، أحاديثه لا يتابع عليها(1) . وروى البيهقي بإسناده عن أحمد بن حنبل قال : أحاديث مبشر بن عبيد موضوعة كذب(2).
... وفي سنده أيضاً الحجاج بن أرطأة . قال فيه ابن القطان : هو ضعيف ويدلس على الضعفاء (3).
حديث علي أنه قال : « لا تقطع اليد في أقل من عشرة دراهم، ولا يكون المهر أقل من عشرة دراهم»(4).
وفي سنده داود الأودي عن الشعبي عن علي ، قال ابن حبان : داود الأودي ضعيف، كان يقول بالرجعة ، ثم إن الشعبي لم يسمع من علي(5) .
__________
(1) نصب الراية : 3/196.
(2) نصب الراية 3/196، البيقهي : السنن 7/133.
(3) نصب الراية : 3/196.
(4) أخرجه الدارقطني . انظر نصب الراية : 3/199.
(5) نصب الراية : 3/199.(24/52)
القول الثاني : للشافعية والحنابلة ، أنه لا أقل للصداق ولا حد له يصح بالقليل والكثير (1)، لحديث سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاءته امرأة فقالت: إني وهبت نفسي لك ، فقامت طويلاً ، فقال رجل : يا رسول الله زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة ، فقال : « هل عندك من شيء تصدقها ؟ » فقال : ما عندي إلا إزاري هذا ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إزارك إن أعطيتها جلست ولا إزار لك ، فالتمس شيئاً» قال : ما أجد ، قال : «التمس ولو خاتماً من حديد» ، فالتمس فلم يجد شيئاً. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « هل معكم شيء من القرآن ؟» قال : نعم ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «زوجتكها بما معك من القرآن»(2).
... وموضع الشاهد : قوله - صلى الله عليه وسلم - : «التمس ولو خاتماً من حديد».
... وقد ردت الأحناف والمالكية على الشافعية والحنابلة في الاستدلال بهذا الحديث، بردود منها :
__________
(1) انظر الشيرازي : المهذب : 16/322، ابن دقيق العيد : أحكام الأحكام ، 2/201، ابن ضويان: منار السبيل : 2/187.
(2) أخرجه البخاري في صحيحه في النكاح جـ8/136، مع ابن حجر ، فتح الباري .(24/53)
احتمال أن يكون خاصاً بذلك الرجل ، لكنه تخصيص من غير مخصص .
احتمال أن يكون قوله - صلى الله عليه وسلم - : «التمس ولو خاتماً من حديد» إنما أراد به طلب المعجل من المهر ليستحلها به ، وهو – أي المعجل – غير مقدر شرعاً(1)، وهذا احتمال بعيد التنصيص عليه ويبقى القول الثاني (الحنابلة والشافعية) أقوى في الترجيح من غيره ويمكن الأخذ به في العصور الحاضرة لأهميته ومطابقته للواقع المعاصر، وخاصة ازدياد نسبة العنوسة بين الشباب ، ذكوراً وإناثاً .
ثالثاً : قاعدة تقديم الحوائج بعضها على بعض :
... إذا اجتمعت الحوائج وأمكن تحصيلها حصلت ، وذلك مثل المستحقين من الزكاة إذا أمكن إيفاء حاجة الجميع ، فإن تعذر إيفاء حاجة الجميع قدم الأشد حاجة على غيره .
__________
(1) السرخسي : المبسوط ، 5/81، ابن رشد : بداية المجتهد 2/19.(24/54)
... ولذلك لا يجوز أن يتصدق الإنسان بصدقة تطوع وهو محتاج إلى ما يتصدق به لنفقته أو نفقة عياله(1) . لما روى أبو هريرة - رضي الله عنه - أن رجلاً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: عندي دينار ، قال : «أنفقه على نفسك ، قال : عندي آخر ، قال : أنفقه على ولدك ، قال : عندي آخر قال : أنفقه على أهلك ، قال : عندي آخر قال : أنفقه على خادمك ، قال : عندي آخر ، قال : أنت أعلم به »(2).
... وقال ابن قدامة في إخراج الزكاة : يستحب أن يبدأ بالأقرب فالأقرب إلا أن يكون منهم من هو أشد حاجة فيقدمه ، ولو كان غير القرابة أحوج أعطاه ، فإن تساووا قدم من هو أقرب إليه ، ثم من كان أقرب في الجوار وأكثر ديناً (3).
__________
(1) المهذب 1/182.
(2) حديث أبي هريرة : «أن رجلاً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : عندي .. » أخرجه أحمد (2/251- ط الحلبي ) والحاكم (1/415- ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه ووافقه الذهبي.
(3) انظر المغني 2/689، وابن عبدالسلام قواعد الأحكام 58.(24/55)
... ويقول العز بن عبدالسلام في قواعده : (( النفقات التي ليست من العبادات المفتقرات إلى النيات فيقدم المرء نفسه على نفقة آبائه وأولاده وزوجاته ، ويقدم نفقة زوجاته على نفقة آبائه وأولاده ، لأنها من تتمة حاجاته.
... وإذا اجتمع مضطران فإن كان معه ما يدفع ضرورتهما لزمه الجمع بين دفع الضرورتين تحصيلاً للمصلحتين ، وإن وجد ما يدفع ضرورة أحدهما ، فإن تساويا في لاضرورة والقرابة والجوار والصلاح احتمل أن يتخير بينهما ، واحتمل أن يقسمه عليهما ، وإن كان أحدهما أولى مثل أن يكون والداً ، أو والدة ، أو قريباً، أو زوجة ، أو إماماً مقسطاً ، أو حاكماً عدلاً ، قدم الفاضل على المفضول))(1). وهو ملاحظ وموجود في كثير من الأقاليم وغيرها مع وجود الأقليات الاسلامية في البلاد الأجنبية المعاصرة .
رابعاً : قاعدة : جرح العجماء جبار :
... العجماء : البهيمة ، سميت كذلك لأنها لاتتكلم ، والمراد بجرحها : جنايتها وإضرارها ، أي : ما تتلفه أو تفسده من مال ونفس وغيرهما . وجبار : هدر باطل لا عبرة به ولا حكم له.
__________
(1) قواعد الأحكام 1/58-59.(24/56)
... ومعنى القاعدة : أن جناية العجماء وما ينشأ عنها من إتلاف أو إفساد أو إضرار ، هدر ، لا ينبني عليها أي شيء ، ولا تستوجب الضمان من صاحبها ، ما لم يكن معها من يركبها أو يسوقها أو يراها وهي تفعل شيئاً من ذلك.
... ومعنى هذا : أن بطلان الضمان مقيد بما إذا كانت العجماء وحدها ، أما إذا كان معها صاحبها فإن جرحها وجنايتها يكون كأنه صادر عنه(1).
... والقاعدة بنصها وصياغتها هي حديث رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - أنه قال : «جرح العجماء جبار ، والبئر جبار ، والمعدن جبار ، وفي الركاز الخمس»(2).
... ولكن تطبيق حكم جناية الدابة مع سائقها وأثر ذلك في وسائل المواصلات الحديثة مثل القطار والسياره والباخرة والطائرة والحقيقة أن قد اختلف الفقهاء فيما تتلفه الدابة بصحبة سائقها ، هل يكون عليه الضمان في ذلك أم لا ؟ على قولين :
__________
(1) انظر : الروكي : نظرية التقعيد ، ص 375.
(2) انظر البغوي : شرح السنة ، وأورده مالك في الموطأ مرسلاً ص 295.(24/57)
... فذهب المالكية إلى أن جناية الدابة إذا لم تكن بفعل سائقها كما إذا نفحت برجلها أو بيدها ابتداء فلا ضمان عيله(1) . وذهب الأحناف والشافعية إلى أن السائق يضمن في كل حال ، وتعتبر جناية الدابة كجنايته(2).
... وحجة المالكية ومن قال بقولهم: عموم قوله - صلى الله عليه وسلم - : « جرح العجماء جبار»(3). وحجة الأحناف والشافعية : أن جناية الدابة التي معها السائق ، تابعة له؛ لأن الدابة تسير بسيره (4). ولذلك قالوا : إذا غيرت الدابة سيرها ، واستأنفت بمحض اختيارها نمطاً آخر من السير ، أو غيرت وجهتها التي أرسهلا فيها السائق ، فأحدثت شيئاً من الإتلاف فلا ضمان عليه (5).
__________
(1) الإشراف على مسائل الخلاف : 2/196.
(2) السرخسي : المبسوط ، 26/190، والإشراف : 2/196، وانظر شرح السنة : 8/237.
(3) الإشراف : 2/196-197.
(4) المبسوط : 26/190.
(5) المبسوط : 26/190، وانظر الروكي نظرية التقعيد ، ص 178، د/ محمد منصور ربيع المدخلي ، المعادن في الفقه الإسلامي ورقة 349 ـ مخطوطة رسالة ماجستير .(24/58)
... لكن الراجح عليه الضمان في السيارات والدواب وسائر المواصلات الحديثة لتسببها في الجناية مع صاحبها أو قائدها، وهو مطبق في أغلب الأنظمة المرورية المعاصرة في البلدان الحديثة .
الخاتمة
بعد الانتهاء من البحث الموسوم بـ " أثر السنة النبوية في التقعيد الفقهي وتطبيقاتها المعاصرة ، أجد أنني خلصت لأهم النتائج والثمار المرجوة من هذا البحث : ـ
أولاً: ... أهمية التقعيد الفقهي بالسنّة النبوية المطهرة وأنه عبارة عن استنباط لكليات في الشريعة يُبنى عليها الحكم الشرعي للواقعة الفقهية .
ثانياً: ... قوّة الارتباط بين العلوم الشرعية والعلوم النحوية ومنها السنّة النبوية والأصول النحوية وعلم أصول الفقه والفقه الإسلامي ، والقواعد الأصولية والفقهية والمقاصد الشرعية وإمكانية الاستفادة منها في التقعيد الفقهي في كل زمان ومكان .
ثالثاً: ... وضوح الهدف الشرعي من الآثار الفقهية المترتبة على التقعيد بالسنة النبوية في مسائل فقهية معتبرة .
رابعاً: ... قوّة الارتباط العلمي بين المقاصد الشرعية والقواعد الفقهيّة والسنّة النبوية المطهّرة ووضوح الأثر الفقهي منها .(24/59)
خامساً ... : أهمية التقعيد الفقهي بالسنّة النبوية في المسائل والنوازل الفقهية المعاصرة ومن ذلك مسائل الضمان في السيارات والوسائل الحديثية المعاصرة ، وجناياتها، وكذلك سعة الشريعة الإسلامية وإمكانية استثمار السنّة النبويّة في فقه الأسرة مثل الالتماس لتجديد أقل المهر في المجتمعات المعاصرة ، وغير ذلك مما بيّن في البحث المذكور وفق الله القائمين على هذا المؤتمر الرائد في دولة الأردن الشقيقة والذي احتوته جامعة إربد ممثلة في كلية الشريعة بها والله الموفق ،،،
... ... ... ... ... ... د. محمد بن منصور ربيع المدخلي
... ... ... ... ... أستاذ الفقه المشارك بجامعة الملك خالد بأبها
كلية الشريعة وأصول الدين
المصادر والمراجع
القرآن الكريم.
السنة النبوية .
ابن القيم : إعلام الموقعين. دار الفكر ، 1410هـ .
ابن تيمية : المسودة ، بحث مخطوط غير منشور .
ابن تيمية ، مجموع الفتاوى ، المكتبة الإسلامية ، 1405هـ.
ابن حجر : فتح الباري ، دار المعرفة ، بيروت ، 1403هـ، المطبعة السلفية.
ابن حزم ، الأحكام في أصول الأحكام ، طبع دمشق 1379هـ.
ابن دقيق العيد : أحكام في الأحكام ، بيروت ، ط 1400هـ.(24/60)
الرازي : مختار الصحاح ـ الآفاق ـ بيرت .
ابن رشد : بداية المجتهد ، دار الفكر 1402هـ.
ابن ضويان : منار السبيل ، المكتب الإسلامي ، بيروت 1403هـ.
ابن قاسم : حاشية على الروض المربع ، المكتبة الحديثة ، 14029هـ.
ابن قدامة : المغني ، دار الفكر ، بيروت ، ط 1405هـ، طبعة هجر .
ابن قدامة : روضة الناظر ـ مطابع الرياض الحديثة ـ 1402هـ .
محمد الروكي نظرية التقعيد الفقهي ، دار الصفا، نشر دار ابن حزم.
ابن نجيم : الأشباه والنظائر ، مكتبة المعارف .
السيوطي الأشباه والنظائر، الحلبي ، مصر ، 1386هـ.
ابن منظور : لسان العرب ـ دار صادر ـ بيروت .
أبو داود : السنن ، المكتب الإسلامي ، بيروت.
أبو زهرة كتاب ابن حنبل ، الحلبي ، مصر1399هـ.
أحمد : المسند : طبعة أولى .
الآمدي : الإحكام ، دار الفكر ، بيروت، 1402هـ.
بدران : المدخل إلى مذهب الإمام أحمد ـ مطبعة المكتبة العلمية .
البخاري ، الصحيح دار المعرفة بيروت 1403هـ .
الباجي المتقى طبعة أولى مصر 1357هـ .
البهوتي ، الروض المربع ، مطابع الرياض الحديثة ، 1406هـ.
البيهقي : السنن الكبرى ، دار المعرفة ، بيروت ، 1407هـ.
البخاري : الأدب المفرد ، دار المعارف .(24/61)
التفتازاني : التلويح على التوضيح ، مطبعة محمد علي مصر 1377هـ .
الترمذي في الصحيح مع عارضة الأحوذي ،دار الفكر ، 1407هـ.
الحاكم : المستدرك ، دار صادر بيروت ، والمعارف العثمانية .
الزيلعي : نصب الراية، دار الفكر ، بيروت ، 1396هـ.
الدارقطني : السنن ، بيروت 1402هـ.
الدكتور عبدالكريم زيد : الوجيز في أصول الفقه ـ دار الكتب العلمية ، بيروت .
السرخسي ، المبسوط ، دار الكتب العلمية ، بيروت.
السباعي السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي ، الرسالة، 1403هـ ، الاردن.
السيوطي : المزهر في علوم اللغة وأنواعها ، دار إحياء الكتب العربية .
السنن : مطابع الفكر ، بيروت .
الشاطبي ، الموافقات ، بدران : المدخل إلى مذهب الإمام أحمد ، المكتبة العلمية ، بيروت 1405هـ.
الدريني : نظرية التعسف استعمال الحق ـ الشرق ـ دمشق .
الشافعي ، الرسالة ، 1407هـ.
الشوكاني ، إرشاد الفحول ، دار المعرفة ، 1407هـ ، روضة الناظر : المكتبة الحديثة الرياض ، 1399هـ.
الشيرازي : التبصرة ، دار صادر بيروت.
الشيرازي : شرح المهذب ، دار الفكر ، بيروت ، 1402هـ.
صحيفة الوطن السعويدة ، 1572 ، في 1/12/1425هـ.(24/62)
الفيروزآبادي ، القاموس المحيط ، مكتبة الحياة ، بيروت 1377هـ.
الفيومي : المصباح المنير ـ دار إحياء التراث بيروت .
مالك : الموطأ ، مؤسسة الرسالة ط3/عام 1410هـ ،.
مجلة الحق ، ع 10 صفر 1426هـ الاماراة العربية المتحدة ، الشارقة.
ابن ماجة : السنن .
مسلم الصحيح ، دار الفكر 1404هـ ، وطبعة الحلبي.
النسائي ، السنن : المكتب الاسلامي ، بيروت ، طبعة 1395هـ .
النووي : المجموع دار الفكر .
النووي ، شرح صحيح مسلم ، المعرفة ، بيروت ، 1400هـ. .
المرغناني الهداية ، مطبوعة مع فتح القدير ، بيروت.
محمد سلام مدكور : مباحث الحكم ـ مكتبة القاهرة ـ مصر .
محمد منصور ربيع المدخلي ، الملكية في الفقه الإسلامي ـ السعودية ، الرياض ، دار المعراج الدولية 1423هـ .
ابن رجب : جامع العلوم والحكم ، دار المعرفة ، بيروت .
العز بن عبدالسلام : قواعد الأحكام مصوّر .
المجمع اللغوي ، المعجم الوسيط ـ القاهرة .
ابن عاشور : مقاصد الشريعة ـ طبعة أولى 1978م الشركة التونسية للتوزيع .
وزارة العدل السعودية : مجلة العدل السعودية ع 133 محرم 1428هـ .
ابن رجب : القواعد في الفقه الإسلامي طبعة أولى 1391هـ مصر ، المكتبة الأزهرية .(24/63)
ابن القيم : بدائع الفوائد ـ دار المعارف .
الحمدي : غمز عيون البصائر ـ دار إحياء التراث ، بيروت .
الجرجاني : التعريفات ، دار الكتب العلمية .
سليم الباز : شرح مجلة الأحكام العدلية ـ دار الكتب .
رفعت العوضي : منهج الادخار والاستثمار في الاقتصاد الإسلامي .
السعدي : الرياض الناظرة ـ الرياض الحديثة .
التركماني : ضوابط الملكية ، الشروق ـ عمّان .
الشاذلي : الاقتصاد الإسلامي ـ مطابع القاهرة .
المودودي : معضلات الاقتصاد وحلّها في الإسلام ، لبنان .
شوقي دنيا : تمويل التنمية في الاقتصاد الإسلامي ، الشروق .
البعلي : الملكية وضوابطها ، المكتبة العصرية .
ابن كثير : الباعث الحثيث تحقيق أحمد شاكر طبعة 1355هـ.
ابن تيمية : القواعد النورانية ـ نشر مكتبة المعارف .
الزركلي : الأعلام ـ مطابع بيروت .
ابن رشد : المقدمات ـ مطابع العاصمة القاهرة .
ابن الأنباري : لمع الأدلة مطبعة الجامعة السورية 1377هـ .
الزرقا : المدخل الفقهي العام ، دمشق 1387هـ طبرين .
الدريني : الحق ومدى سلطان الدولة في تقييده ـ الشروق ـ دمشق .
د. عبدالله التركي : أصول مذهب الإمام أحمد ـ الشروق .(24/64)
الشربيني : مغني المحتاج ، الفكر طبعة أولى 1425هـ .
د. ناصر الدين الأسد : مصادر الشعر الجاهلي ـ المعارف 1969م .
القرطبي : الجامع لأحكام القرآن دار الكتب المصرية مصوّر .
ابن الجزري :النهاية في غريب الحديث والأثر ـ الحلبي 1383هـ .
الأسنوي : الكوكب الدري فيما يتخرج على الأصول النحوية من الفروع الفقهية ، دار عمار ، الأردن عمان 1405هـ ط أولى .
ابن العماد : شذرات الذهب ـ مكتبة القدسي 1350هـ .
ابن العربي : أحكام القرآن ـ دار المعارف .
محمد خلف الله ـ صاحب الأغاني أبو الفرج الأصفهاني الراوية ـ مطابع 1953م .
ابن فرحون : تبصرة الحكام دار الفكر .
البوطي : ضوابط المصلحة الرسالة ، بيروت .
الموصلي : الاختيار ـ دار الكتب العلمية بيروت .
السيوطي : تنوير الحوالك ـ مطابع الفكر .
ابن الشاط إدرار الشروق على أنوار البروق مطبوع مع القرافي الفروق دار إحياء الكتب العربية ، بيروت .
ابن رشد : بداية المجتهد دار الحديث القاهرة .
د/ محمد منصور ربيع المدخلي : المعادن في الفقه الإسلامي ، رسالة ماجستير ، مخطوط .(24/65)
بسم الله الرحمن الرحيم
معايير
بناء منهاج السنة النبوية
في التعليم الجامعي وأساليب تقييمه وتطويره
بحث مقدم للمؤتمر العلمي الأول
للسنة النبوية في الدراسات المعاصرة
تنظيم كلية الشريعة والدراسات الإسلامية
جامعة اليرموك – الأردن
8 – 9 / 11 / 2006 م.
إعداد
الدكتور : أمين موسى أبولاوي
الأستاذ المشارك
في
قسم المناهج وطرق التدريس
كلية الدراسات التربوية العليا
جامعة عمان العربية للدراسات العليا
عمان - الأردن .
الملخص(25/1)
منهاج السنة النبوية للمرحلة الجامعية يمثل جملة الخبرات التعليمية التعلمية المنظمة ، والمخططة ، التي ينبغي أن يمر بها الطالب الجامعي في دراسته للسنة النبوية الشريفة وعلومها ؛ لتحقيق الأهداف المنشودة ، ومنهاج السنة النبوية الشريفة للمرحلة الجامعية بنوعيه ؛ رواية ودراية ، هو منهج دراسي تسعى الكلية المعنية من خلاله إلى تحقيق جملة من الأهداف التعليمية التعلّمية الخاصة بهذا المبحث ، والتي تنبثق من خصائص السنة النبوية وعلومها ، ومن فلسفة الجامعة في بناء الشخصية العلمية المتكاملة ، وأما عناصر المنهاج الدراسي بعامة ، ومساق السنة النبوية الشريفة بخاصة فهي : الأهداف ، و المحتوى ، و الخبرات التعليمية التعلّمية ( الأنشطة) ، والتقييم ، وأما معايير بناء منهاج السنة النبوية في التعليم الجامعي فهي : المعيار العقدي ، لأن الإسلام منهج تربوي يحمل اعتقاداً وتصوراً يصوغ به الفرد صياغة شاملة ؛ روحه وعقله وجسمه ، لا انفصام بينهما ، والمعيار الاجتماعي ، لأن صياغة المتعلم صياغة تجعله قادراً على التفاعل مع مجتمعه تفاعلاً إيجابياً ، الأمر الذي يجعل من المجتمع أساساً للمنطلقات الفكرية ، والفلسفية في العملية(25/2)
التربوية ، والمعيار المعرفي ، بحيث تكون كل العلوم والمعارف التي عرفتها البشرية ، أو ستعرفها في المستقبل ، تقع ضمن إطار العلوم التي ينبغي تعلمها من قبل الفرد ، أو الجماعة حسب درجة نفعها للفرد ، وحسب ما تقتضيه مصلحة الجماعة ، ومعيار الأخذ أو الترك لهذه المعرفة هو انسجامها مع العقيدة الإسلامية . ويتكون مساق السنة النبوية من السنة النبوية الشريفة المروية (الأحاديث النبوية ) ، التي تشتمل على أبواب الدين ، وعلم الحديث ، والذي يطلق عليها أحياناً علم مصطلح الحديث ، وأما مجالات تقييم منهاج السنة النبوية في التعليم الجامعي فهي : تقييم أهداف مساق السنة النبوية الشريفة وعلومها العامة والخاصة ، و تقييم المحتوى الخاصة بمساق السنة النبوية الشريفة وعلومها ، وتقييم الخبرات التعليمية التعلّمية ( الأنشطة ) ، وتقييم التقييم ، تقييم الخبرات التعليمية التعلّمية ( الأنشطة ) ، وتقييم التقييم ، وأما وسائل التقييم فهي الاختبارات ، و الملاحظة ، و الاستبيان ، و المقابلة .
المقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين(25/3)
أما بعد فإن المنهاج الدراسي بوتقة تتشكل فيها قدرات الأفراد ، وخبراتهم ، ومهاراتهم الحياتية ، بالإضافة إلى ترسيخ عقائدهم ، وقيمهم ، وميولهم ، وتنميتها في الاتجاه المرغوب فيه من وجهة نظر واضع ذلك المنهاج الدراسي ، الأمر الذي يعكس أنماط سلوك الأفراد ، واتجاهاتهم نحو قيم الحياة المختلفة ، ولذا يمكن القول بأن المنهاج الدراسي وسيلة صنع الإنسان وفق مواصفات معينة ، غير أن هذه الصناعة تختلف باختلاف الهدف والمنحى ، فإن كان الهدف عقدياً وسلوكياً ؛ فالصناعة عقدية أيدولوجية ، وإن كان الهدف بناء الشخصية العلمية المزودة بالمعارف والخبرات والمهارات المهنية ؛ فالصناعة علمية ، وهكذا الحال مع المناحي المختلفة ، ولابد هنا من التأكيد على عمق العلاقة بين الأهداف ، وبين المحتوى والخبرات والأساليب التي يتم من خلالها تحقيق الأهداف ، وبالنظر إلى مضامين المناهج ومحتوياتها ومعارفها وخبراتها ، لن يجد المرء مادة دراسية تتناول القيم والميول والاتجاهات بوصفها المسئول الرئيس عن تقويم أنماط السلوك ، وتنميتها ، وتعزيزها ، أقدر على ذلك من مباحث العلوم الإنسانية بعامة ، والعلوم الدينية الإسلامية بخاصة ، والسنة النبوية(25/4)
الشريفة ؛ رواية ، ودراية ، بوصفها أحد فروع العلوم الإسلامية ، التي تتكون من عقائد ، وتصورات ، وقواعد ، وأحكام ، ومواعظ ، وآداب شرعية ، لها كبير الأثر في صياغة فكر الفرد المسلم ، وأنماط سلوكه ، على الصعيدين ؛ الشخصي ، والاجتماعي ، وإذا كان الفرد في المستوى الجامعي فإن العناية بالمنهاج الذي يقدم له ينبغي أن يكون على درجة كبيرة من الدقة ، والإتقان ، وهذا ما يطمح الباحث في هذه العجالة إلى ملامسته ، أو الاقتراب منه ما أمكن ، والله ولي السداد والتوفيق .
المبحث الأول :
عناصر منهاج السنة النبوية في التعليم الجامعي
تمهيد
مفهوم المنهاج الدراسي :
- المنهاج لغة : الطريق الواضح ، قال سبحانه " ِلكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً "(المائدة: 48) ، قال ابن عباس( : " شرعة ومنهاجاً أي سبيلاً وسنة " ( ابن كثير 1969ج2ص66 ) قال ابن كثير : " المنهاج : الطريق الواضح السهل " ابن كثير 1969ج2ص66 ) وعن العباس بن عبد المطلب ( " لم يمت رسول الله ( حتى ترككم على طريق ناهجة " ( الصنعاني 1403ج5ص343) ، قال ابن منظور : " المنهاج الطريق الواضح " ( ابن منظور لات ج6ص4554) .
المنهاج اصطلاحاً :(25/5)
المنهاج الدراسي : سلسلة منظمة من الفعاليات لمخرجات تعليمية مرغوبة ( فالوقي 1997ص78) .
أما منهاج السنة النبوية للمرحلة الجامعية فيعرفه الباحث بأنه : " الخبرات التعليمية التعلمية المنظمة والمخططة التي ينبغي أن يمر بها الطالب الجامعي في دراسته للسنة النبوية الشريفة وعلومها لتحقيق الأهداف المنشودة " .
وتجدر الإشارة هنا إلى أن منهاج السنة النبوية الشريفة للمرحلة الجامعية ؛ بنوعيها رواية ودراية هو منهج دراسي تسعى الكلية المعنية من خلاله إلى تحقيق جملة من الأهداف التعليمية التعلّمية الخاصة بهذا المبحث ؛ والتي تنبثق من خصائص السنة النبوية وعلومها ، ومن فلسفة الجامعة في بناء الشخصية العلمية المتكاملة .
عناصر المنهاج الدراسي :
" لا يوجد اتفاق كامل بين التربويين على تحديد جميع عناصر المنهاج ، وعلى الرغم من ذلك فإن الأدب التربوي المعاصر يؤكد أن التعريفات التي أعطيت للمنهاج تدور حول العناصر الآتية :
الأهداف التربوية العامة ، المحتوى أو أشكال المعرفة المنهجية ، الخبرات التعليمية التعلّمية ، التقييم "(25/6)
( جامعة القدس المفتوحة 1996ص 10 ) ، مع ضرورة الإشارة هنا إلى أن عناصر المنهاج التالي ذكرها في المرحلة الجامعية يجب أن تستوعب في توصيف المساق بحث يتضمن التوصيف بياناً مختصراً لكل عنصر من هذه العناصر ، ليكون عضو هيئة التدريس الموكل بالتدريس على دراية تامة بأهدافه ، ومحتوى مادته العلمية ، والخبرات التعليمية التعلمية ( الأنشطة ) التي يم من خلالها تحقيق التفاعل في العملية التعليمية التعلمية ، وأخيراً ضرورة تقييم العملية التعليمية التعلمية ، لمعرفة مدى تحقق الأهداف لدى المتعلم ، ثم الوقوف على جوانب القوة من أجل تعزيزها ، والوقوف على نقاط الضعف من أجل معالجتها ، وتلافيها في المستقبل ، وأما عناصر المنهاج الدراسي بعامة ومساق السنة النبوية الشريفة بخاصة فهي :
... أولاً : الأهداف(25/7)
الهدف : " نتاج متوقع حدوثه لدى المتعلمين في ضوء إجراءات وإمكانات وقدرات معينة " ( مرعي ، والحيلة 2000ص35)، أو هو : " جمل أو عبارات تصف في مجملها نوع الإنسان المطلوب من المنهج ، ويشير كل منها لماهية المهارة أو السلوك الذي سيتخرج بهما التلاميذ بعد التعلم والتعليم ، وتكون أهداف المنهج من حيث الحجم في نوعين : عامة فيما يشار إليها بالغايات والأغراض ، ثم خاصة فيما تعرف بالأهداف السلوكية " ( حمدان 2004 ، ص22) ، هناك إجماع بين التربويين على اعتبار الأهداف التربوية العامة العنصر الأول والرئيس في عناصر المنهاج الدراسي ، لأن شكل ومضمون العناصر الأخرى مرتبط بالأهداف ارتباطاً عضوياً ، ويجب أن ينظر إلى الأهداف العامة ، والأهداف الخاصة المنبثقة عنها على أنها انعكاس للفلسفة التي تسعى السياسة التعليمية إلى تحقيقها ، ولذلك يرتبط كل مساق دراسي بأهداف عامة يتم اشتقاقها من فلسفة المجتمع وثقافته وقيمه وتطلعاته ، يتحدد من خلالها مواصفات الإنسان الذي يسعى المجتمع لإيجاده ، ومنهاج السنة النبوية واحد من هذه المساقات التي تلعب دوراً هاماً في تحقيق أهداف الأمة وتطلعاتها ، بوصفها مادة علمية إلى جانب كونها مادة(25/8)
اتجاهات وقيم ، تترجم إلى أنماط سلوكية ، وهو ما يفرق بين المسلم الذي يدرس هذا المساق بدوافع عقدية ، وبين المستشرق الذي يدرس السنة النبوية لأغراض غير معلنة ، لا تخفى على كثير من الناس ، الأمر الذي يؤكد أهمية الأهداف وضرورة كونها محددة وواضحة .
أما الأهداف العامة لمنهاج السنة النبوية في مرحلة التعليم الجامعي فإنها تتمثل في الآتي :
المساهمة في بناء الشخصية الإسلامية المتكاملة إلى جانب فروع العلوم الإسلامية الأخرى .
إيجاد الشخصية المسلحة بعلم الحديث النبوي القادرة على معالجة المشكلات ومواجهة التحديات .
مساعدة المتعلم على النمو الذاتي سلوكياً وعلمياً في مجال السنة النبوية وعلومها .
تنمية قدرة المتعلم على حفظ السنة النبوية وعلومها ، والدفاع عنهما .
مساعدة المتعلم على تحقيق حضور فاعل في مجال نشر الثقافة الحديثية في المجتمع .
تنمية قدرة المتعلم على الوصول إلى مصادر المعلومات الخاصة بالسنة النبوية وكيفية التعامل معها .
إكساب المتعلم مهارة التفكير الناقد في مجال السنة النبوية الشريفة وعلومها .
ترسيخ الرغبة في الاستمرار في التعلم ، تحقيق النمو العلمي والمهني لدى الخريج .(25/9)
إكساب المتعلم المعايير التي تمكنه من تقييم تعلمه وأدائه ذاتياً .
إكساب المتعلم القدرة على المشاركة الفاعلة في تنمية مجتمعه .
أما أهداف منهاج السنة النبوية في مرحلة التعليم الجامعي الخاصة فإنها تصنف في ثلاثة مجالات وهو ما يعرف بتصنيف بلوم
( أبو حويج 2000ص36 ) :
المجال الأول : أهداف معرفية إدراكية .
يمثل هذا النوع من الأهداف الجانب المعرفي الإدراكي لفرعي مساق السنة النبوية الشريفة ؛ الحديث النبوي النّصي " الرواية " ، ومصطلح علم الحديث " الدراية " ، بحيث يكون دارس هذا المساق بعد مروره بالخبرات التعليمية التعلّمية قادراً على :
بيان المفهومات والمصطلحات الخاصة بالسنة النبوية .
بيان المفهومات والمصطلحات والقواعد والأحكام الخاصة بعلم الحديث النبوي .
التعريف بمكانة السنة النبوية في الدين الإسلامي .
التعريف بمنزلة السنة النبوية من القرآن الكريم .
التعريف بمعايير الحكم على المتن والسند بالقبول والرد.
بيان درجة الحديث من حيث الصحة و الضعف .
التعريف بالصحابي راوي الحديث .
شرح غريب ألفاظ الحديث النبوي .
شرح الحديث النبوي إجمالاً ، وتفصيلاً .
المجال الثاني : أهداف وجدانية .(25/10)
يطلق على هذا النوع من الأهداف " المجال الإنفعالي " وهو مجال يتصل بالجانب العقدي إلى حد كبير ، لأن هذا المجال يرتبط بأربعة فئات من الصعب فصلها عن الجانب العقدي بحال من الأحوال ، وهذه الفئات هي :
أولاً : " العاطفة ( Emotin ) وهي بمثابة منبه داخلي يحفز الفرد للاستجابة للمثير الذي يسمعه ، أو يراه ، أو يحسه ، أو يلمسه ، في سلوك .
ثانياً : الميل Trend)) نزعة سلوكية عامة لدى الفرد ، للانجذاب نحو نوع من الأشخاص والسلوك والنشاط والأشياء ، يعبر عنه بالحب والكره " ( الخوالدة ، وعيد 2005ص 121 ) .
ثالثاً : الاتجاه ( Attiude ) : سلوك مقصود يعبر عن نزعة عند الفرد أو ميل نحو عناصر الكون التي تحيط به ، مثل الأشخاص ، المواقف ، الأشياء وهو أمر مكتسب ، وقابل للتعديل والتغيير ، والتعزيز والإضعاف والانطفاء ، وذلك بتغيير العوامل المسببة .. وقد تكون الاتجاهات إيجابية مثل حب التعاون ، والإصغاء للآخرين ، وقد تكون الاتجاهات سلبية كالحسد وحب الانعزال ، وكره الخير للناس ، والروح العدوانية " ( جامعة القدس المفتوحة 1997ص 68 ) .(25/11)
رابعاً : القيمة ( Value ) : معيار وغاية نابعة من الشرع ، ومنبثقة من العقيدة الإسلامية ، يقصدها المسلم عند قيامه بالأعمال وتقف في أعلاها غاية الغايات وهي مرضاة الله تعالى " ( جامعة القدس المفتوحة 1997ص 68 ) ، وأما معيار القيم فإنه لا يكون إلا شرعياً ؛ لأن الحسن ما حسنه الشرع ، والقبيح ما قبحه الشرع . هذا وقد صنفت الأهداف التربوية في المجال الوجداني إلى خمسة مستويات هي :
[ الاستقبال – الاستجابة – التقييم ( إعطاء قيمة ) – التنظيم – تمثل القيم وتجسيدها ( إعطاء سمة شخصية ) ] ( مرعي والحيلة 2000ص 238 ) .
وأما الأهداف الوجدانية في مساق السنة النبوية وعلومها فيتمثل في أن يكون دارس هذا المساق بعد مروره بالخبرات التعليمية التعلّمية متمثلاً للآتي :
حب السنة النبوية الشريفة وحب صاحبها عليه الصلاة والسلام .
حب الصحابة الكرام ، وتقدير دورهم في نقل السنة النبوية والمحافظة عليها .
اتخاذ السنة النبوية الشريفة إلى جانب القرآن الكريم مصدراً للأحكام الشرعية .
الرغبة في حفظ أكبر قدر ممكن من الأحاديث النبوية الشريفة .
الرغبة في التزود بأكبر قدر ممكن من قواعد علم الحديث وأحكامه .(25/12)
الدفاع عن السنة النبوية الشريفة ، والحرص على صونها من دسائس المغرضين .
احترام سلف هذه الأمة بعامة ، وسلف أئمة الحديث الذي حفظوا السنة بخاصة .
قبول الرأي الآخر فيما يحتمل الاختلاف من الأراء والمواقف والأحكام .
رفض الأحاديث الموضوعة والضعيفة والحذر من قبولها ، أو العمل بها.
المجال الثالث : أهداف أدائية ( نفس حركية ).
يعبر هذا المجال من مجالات الأهداف عن السلوك العملي والمهاري ، ويتطلب تناسقاً حركياً ونفسياً ، وتستخدم فيه عضلات الجسم بصورة حتمية ، ويقسم هذا المجال إلى خمسة مستويات هي : [ الإدراك – التهيؤ – الاستجابة المجهة – التعويد – الأداء ] ( مرعي والحيلة 2000ص 240 ) .
أما الأهداف الأدائية في مساق السنة النبوية الشريفة وعلومها في المرحلة الجامعية فيمكن إجمالها في الآتي :
قراءة الأحاديث النبوية الشريفة قراءة صحيحة ، وإظهار المعنى في القراءة (الهاشمي 1981ص 108)
التمييز بين الأحاديث الصحيحة والحسنة والضعيفة .
تخريج الأحاديث في مواضعها الأصيلة .
استنباط بعض الأحكام الشرعية من الأحاديث النبوية .
استخلاص الفكرة الرئيسة التي يتضمنها الحديث النبوي .
استخلاص ما يرشد إليه الحديث النبوي .(25/13)
التثبت من صحة الحديث المنسوب إلى النبي(.
استخدام الحاسوب في تخريج الأحاديث النبوية .
التحذير من الأخذ بالأحاديث الموضوعة والضعيفة أو العمل بها .
ثانياً : المحتوى .
المحتوى " نوعية المعارف والمعلومات التي يتم اختيارها وتنظيمها على نحو معين " ، ( مرعي ، والحيلة 2000 ) ، ويقصد بالمحتوى " المقررات الدراسية وموضوعات التعلّم ، وما تحتويه من حقائق ومفاهيم ومبادئ وما يصحبها ، أو ما تتضمنه من مهارات عقلية وجسدية وطرائق البحث والتفكير الخاصة بها ، والقيم والاتجاهات التي تنميها ، وتشمل كل فروع المعرفة المنظمة التي تنشأ نتيجة الدراسة والبحث " ( جامعة القدس المفتوحة 1997ص 11 ) ، إذا كانت أهداف المنهج العامة والخاصة تخضع عند اختيارها لمعايير خاصة ، على رأسها فلسفة المجتمع وتطلعاته .. إلخ ، فإن المحتوى لا يجوز أن تخرج عوامل اختياره عن هذه القيم والمعايير التي انبثقت ابتداء من ذات المعايير التي طبقت عند اختيار الأهداف ؛ لأن المحتوى يرتبط ارتباطاً حتمياً بالأهداف ؛ لأن تحقيقها تاماً أو قاصراً يكون تبعاً لحسن اختيار المحتوى ، أو سوء اختياره ، حيث إن المحتوى الفائق المرتبط بالأهداف يحقق مخرجات المنهج(25/14)
بفاعلية ، " لأن المحتوى هو الترجمة الحقيقية للأهداف ، وما يؤثر فيها من عوامل ، ومن أهم المعايير التي نحكم بها على صحة المحتوى وجديته هو مدى الترجمة للأهداف ، التي وضع في ضوئها ترجمة حقيقية صادقة " ( سليم ، ومينا ، وشحاتة ،وسليمان ، وعفيفي ، وفراج 2006ص155) ، ويصنف المحتوى في الإطار المعرفي المنظم من حيث ارتباطه بالأهداف إلى أربعة أنواع هي : [ المعرفة الإدراكية – المعرفة القيمية – المعرفة الأدائية – المعرفة الاجتماعية ] ( مرعي والحيلة 2000ص 80) ، أما مجالات المعرفة وحقولها فتنقسم إلى خمسة أقسام هي : [ المعرفة الطبيعية – المعرفة الإنسانية – المعرفة الشكلية – المعرفة التطبيقية – المعرفة الحاسوبية ( المعلوماتية ) ] ( مرعي والحيلة 2000ص 80) . أما المعايير التي ينبغي مراعاتها عند ترتيب المحتوى الدراسي في مساق السنة النبوية الشريفة وعلومها في المرحلة الجامعية فهي ( إبراهيم والكلزة ، لات، ص 148 ، بتصرف ) :
الارتباط بأهداف المنهاج
القيمة العلمية للمادة الدراسية .
تحقيق الميول ( التأثير المباشر في سلوك المتعلم ) .
مراعاة الفروق الفردية بين المتعلمين .(25/15)
مراعاة خصائص المتعلمين الجسمية ، والانفغالية وغيرهما .
مساعدة المتعلمين على حل مشكلاتهم المختلفة وعلى رأسها المشكلات الثقافية والاجتماعية .
تنوع موضوعات المحتوى بحيث تشمل أكبر قدر ممكن من مباحث المساق .
ويرى الباحث أن اختيار المحتوى الدراسي لمساق السنة النبوية الشريفة وعلومها في المرحلة الجامعية ، من أهم المهام التي تقع على عاتق الفريق المكلف بوضع منهاج السنة النبوية وعلومها وأدقها ، لأن حسن اختيار المحتوى من حيث الواقع العملي مؤشر نجاح ، في تحقيق الأهداف العامة والأهداف الخاصة ، فكم من متعلم تخرج في كليات الدراسات الإسلامية وهو لا يحسن قراءة حديث نبوي قراءة صحيحة متقنة ، فتجده يخطئ في النطق أو الشكل أو الوقف والوصل ، إلى غير ذلك مما هو ماثل للعيان ، ومما يؤسف له وجود نسبة غير قليلة من طلبة الدراسات الإسلامية في كليات التربية ، ممن يتم تأهيلهم معلمي تربية إسلامية لم ير صحيح البخاري ، أو صحيح مسلم بعينه قط ، فضلاً عن غيرهما من كتب أمهات السنة النبوية ، ما يدل على أن اختيار المحتوى الدراسي في هذا الجانب غير موفق ، الأمر الذي يترتب عليه إخفاق حتمي في تحقيق الأهداف التعليمية التعلمية(25/16)
المرجوة ، ولذا فإن اختيار المحتوى يجب أن يمر في ثلاث مراحل ( حميدة 2002 ص 197 ) هي :
اختيار الموضوعات .
اختيار الأفكار الأساسية .
اختيار المادة الخاصة .
كل ذلك في إطار الأهداف العامة والخاصة ، مع ضرورة التأكد من أن المادة المختارة تحقق الهدف الذي وضعت من أجله .
ثالثاً : الخبرات التعليمية التعلّمية ( الأنشطة) .
التعليمية التعلّمية ( الأنشطة) عنصر إجرائي للتربية المنهجية ( حمدان 2000ص27 ) أو هي " تفاعل بين النظم وبين الظروف البيئية الخارجية التي يعمل فيها المتعلم " ( إبراهيم ، والكلزة ،لات ص138) ، يتكون النشاط التدريسي في المرحلة الجامعية بصورة رئيسة من :
عضو هيئة التدريس ( أستاذ المساق ) .
الطالب ، وهو المستهدف بالعملية التعليمية التعلّيمة .
طرائق وأساليب التدريس التي سيتم من خلالها تنفيذ الإجراءات التعليمية التعلمية المقترحة لتحقيق الأهداف .(25/17)
لقد كان ينظر إلى الأستاذ الذي يقوم بالتدريس على أنه محور العملية التعليمية التعلّمية ، لأنه المرسل في هذه العملية ، والطالب مستقبل ، أو لأنه مصدر للمعرفة والمعلومات التي يتلقاها المتعلم ، أو غير ذلك من الاعتبارات ، إلا أن هذه النظرة في ظل المفهوم الجديد لعضو هيئة التدريس قد تغيرت ، وأصبحت تعني شيئاً آخر ، لقد أصبح دور عضو هيئة التدريس قائداً للعملية التعليمية التعلّيمة ، وموجهاً لها ، ومساعداً للمتعلم على التعلم ، من أجل بلوغ الأهداف المرجوة بنفسه ، ولذا أصبح معنياً بالإعداد لمادته العلمية ، ووضع تصور مسبق للموقف التعليمي التعلّمي ، بحيث يقوم بتصميم إجراءات تعليمية تعلّمية يتعلّم من خلالها المتعلم كيف يتعلّم ، وهذا يتطلب جهداً إضافياً مركزاً ، لأن المحاضرة الجامعية التي مدتها ساعة واحدة يستغرق الإعداد الجيد لها من ساعة إلى ساعتين ، ( بربارا ، وآخرون ترجمة بعارة ، وخطايبة 2000 ص29 ) ، ولا مندوحة لعضو هيئة التدريس في إطار مفهومه الجديد أن يعطي مساحة واسعة لتنمية التفكير الناقد ، والإبداعي ، والاستنتاجي ، والمنطقي والاستقرائي ، والتأملي لدى طلابه ، من خلال الأفكار والقضايا المنبثقة عن(25/18)
الموضوعات الدراسية الخاصة بمساق السنة النبوية الشريفة وعلومها ، وذلك في إطار مستويات التفكير الثلاثة ؛ سطحي ، وعميق ، ومستنير ، متخذاً من توظيف تقنيات التعليم الحديثة في استراتيجيات التدريس ، وطرائقه ، وأساليبه الحديثة معبراً لتحقيق ذلك .
المبحث الثاني
معايير بناء منهاج السنة النبوية في التعليم الجامعي
المعيار العقدي .
العقيدة من " العَقَدَ " نقيض الحل ، الذي منه عقد الزواج ، والعهد ، واليمين ، والعقيد من السوائل الغليظ الذي ترابطت أجزاؤه ، ( ابن منظور لات ج4ص3030) ، والعقيدة ما لا يشك معتقده فيه ، ( مجمع اللغة العربية 1999ص427) ، وتعرّف العقيدة اصطلاحاً بأنها تصديق بالجنان ونطق باللسان وعمل بالأركان ، أو هي تصديق جازم مطابق للواقع ناشئ عن دليل .( أبولاوي 1998ص27) ، " والعقائد في الإسلام هي القضايا العلمية الغيبية التي أخبرتنا بها آيات القرآن ، وصحاح الأحاديث ، ولا تكون عقيدة حتى ينعقد القلب عليها انعقاداً جازماً لا يقبل الاعتراض والمناقشة ، وأصول الاعتقاد التصديق القلبي بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره من الله تعالى " ، ( الأشقر 200ص209) .(25/19)
أما العقيدة الإسلامية بوصفها معياراً لمنهاج السنة النبوية الشريفة وعلومها فلأن العقيدة الإسلامية الأساس الذي تنبثق عنه التصورات الفكرية عن الكون والإنسان والحياة ، " لأن الإسلام منهج تربوي يحمل اعتقاداً وتصوراً يصوغ به الفرد صياغة شاملة ، روحه وعقله وجسمه ، لا انفصام بينهما .. ويكيف هذا الواقع وفق ما يريده ذلك التصور " ( النشمي 1980ص75) ، فلا بد أن ينسجم منهاج السنة النبوية الشريفة وعلومها مع العقيدة الإسلامية ، وأن يعززها في نفوس المتعلمين ، وأن تكون الضابط لكل معرفة ، وكل رأي ؛ فيؤخذ ما يوافقها ، ويرفض كل ما يخالفها ، وأن تتخذ أساساً للأهداف ، والمحتوى ، والأنشطة ، التقويم ، والتطوير ، لأن " غاية التعليم فهم الإسلام فهماً صحيحاً متكاملاً ، وغرس العقيدة الإسلامية ونشرها ، وتزويد الطالب بالقيم والتعاليم الإسلامية ، وبالمثل العليا " ( الإدارة العامة للإشراف التربوي 1418ص20) ، ويمكن ملاحظ هذا التجسيد في حديث الكسوف ؛ فعندما كسفت الشمس ، ووافق ذلك موت إبراهيم ابن النبي ( قال الناس : كسفت الشمس لموت إبراهيم ، فقال عليه الصلاة والسلام : " الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت(25/20)
أحد أو حياته .. " ( البخاري ، لات ، ج2ص209كتاب بدء الخلق ) ، ففي هذا تعليم للمسلمين بأن يتخذوا من العقيدة أساساً لرفض الربط بين موت إبراهيم عليه السلام وبين كسوف الشمس ، لأن عقيدتنا تقوم على ربط الأسباب بالمسببات ، ما لم يندرج الأمر في باب المعجزة والأمور الخارقة للعادة المعلومة من الدين بالضرورة .
المعيار الاجتماعي :
" المجتمع كائن نامٍ ، له حاضره الذي يعيش فيه ، والذي يعبر عن ماض انقضى ، ويتطلع لمستقبل أفضل يأتي بإذن الله تعالى وفلسفة المجتمع هي التصور الاجتماعي للمعايير والقيم والضوابط التي تحكم المجتمع في علاقاته المختلفة ، والتي على أساسها تشكل الأنظمة الداخلية في المجتمع ، وينعكس أثرها على فلسفة التربية ، وتعبر عن الناحية التطبيقية لفلسفة المجتمع " ( القزاز ، والشهري 1989ص34) ، من هنا ينبغي أن تنبثق أهداف منهاج السنة النبوية الشريفة وعلومها ، ومحتواه ، وأنشطته ، وتقييمه ، ودواعي تطويره من فلسفة المجتمع ، وغاياته ، وطموحاته ؛ لأن أحد أبرز أهداف منهاج السنة النبوية الشريفة وعلومها صياغة المتعلم صياغة تجعله قادراً على التفاعل مع مجتمعه تفاعلاً إيجابياً ، الأمر الذي يجعل من المجتمع(25/21)
أساساً للمنطلقات الفكرية والفلسفية في العملية التربوية ، بحيث يتمكن منهاج السنة النبوية الشريفة وعلومها من مراعاة الضوابط الآتية :
أن يبرز منهاج السنة النبوية الشريفة وعلومها آثار التكامل والشمول في التصور الإسلامي من خلال التطبيق الفعلي في واقع الحياة .
أن يعمل منهاج السنة النبوية الشريفة وعلومها على المحافظة على شخصية المجتمع الإسلامي واستقلاليته .
أن يساهم منهاج السنة النبوية الشريفة وعلومها في المحافظ على سلامة الأسرة ، والمجتمع ورفعتهما .
أن يجسيد منهاج السنة النبوية وعلومها لروح التعاون والتواد بين أفراد المجتمع ، في حفظ ثوابته وقيمه .
أن يتم التركيز على النصوص التي تساهم في بناء الشخصية الإسلامية لدى الفرد المسلم ، وبناء شخصية الجماعة المسلمة وفق مبادئ الإسلام وتعاليمه وقيمه .
أن يعمل منهاج السنة النبوية الشريفة وعلومها على محاربة الخرافات ، والبدع ، والأفكار الفاسدة ، التي لحقت بالمجتمع الإسلامي .
أن تكون السنة النبوية الشريفة وعلومها جزء من الثقافة التي تتفاعل في المجتمع ، وأن يكون لها الدور الفاعل في ترسيخ الثقة بالنفس ، ومواجهة المستقبل بفاعلية واقتدار .(25/22)
ج . المعيار المعرفي
تتحدد النظرة الإسلامية للمعرفة بحيث " تجعل كل العلوم والمعارف التي عرفتها البشرية ، أو ستعرفها في المستقبل ، تقع ضمن إطار العلوم التي ينبغي تعلمها من قبل الفرد ، أو الجماعة حسب درجة نفعها للفرد ، وحسب ما تقتضيه مصلحة الجماعة ، ومعيار الأخذ أو الترك لهذه المعرفة هو انطلاقاً من العقيدة ، وعمد تعارضها معها " ( جامعة القدس المفتوحة 1996ص17) ، وفي منهاج السنة النبوية الشريفة وعلومها تنبثق الأصول المعرفية عن نظام الحقائق والمعايير ، والقيم الإلهية الثابتة ، والمعارف والخبرات الإنسانية المتغيرة ، فالثابت من الأحاديث النبوية الشريفة ، وما ترشد إليه من عقائد ، وأحكام ، وقيم شرعية ، يمثل النوع الأول من نظام الحقائق ، والمعايير ، ويلحق بذلك قواعد علم الحديث وأحكامه ، بوصفها حقائق ومعارف ثابتة ، أصبحت جزءا من الثقافة الإسلامية ، وأما النوع الثاني من المعارف والخبرات الإنسانية المتغيرة فيتمثل في جوانب العلم البشري ، لأن العلم عام للبشر جميعاً ، بخلاف الثقافة التي تخص أصحابها دون غيرهم ، لأن الثقافة تنبثق من عقيدة الأمة التي تعتقدها ، فيمكن أن نأخذ بالحقائق العلمية التي عرفتها(25/23)
البشرية ، عن الكون ، والإنسان ، وعالم الحيوان ، والنبات وغير ذلك ، في إبراز جوانب الإعجاز في القرآن الكريم ، والسنة النبوية الشريفة ، من أجل تعزيز الإيمان بصدق الرسالة ، وأن النبي عليه الصلاة والسلام لا ينطق عن الهوى ، (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى)(النجم:4) ، وبالتالي فإن المعيار المعرفي في منهاج السنة النبوية الشريف وعلومها يرتكز على هذين الأساسين ، فيتعين أن يتضمن منهاج السنة النبوية الشريف وعلومها أكبر قدر ممكن من السنة النبوية ، والسيرة النبوية بوصفها ترجمة عملية لحياة النبي الكريم ( ، ومواقفه التي أكثر ما تؤثر في تشكيل المواقف والاتجاهات ، وأن يتضمن أيضاً أكبر قدر ممكن من أحكام ، وأفكار علم الحديث دراية ؛ لأن إتقان هذا النوع من العلوم الشرعية يساعد المتعلم على مواجهة المشككين ، والمفترين على النبي ( وعلى سنته المطهرة وحملة الأحاديث ؛ بغرض الطعن في الإسلام والنيل من الرسالة .
ومن الجدير بالذكر أن مساق السنة النبوية يتكون من العناصر الآتية :(25/24)
أولاً : السنة النبوية الشريفة المروية (الأحاديث النبوية ) ، التي تشتمل على أبواب الدين ؛ أبواب الإيمان ، الطهارة ، العبادات ، المعاملات ، الأنكحة ، التاريخ ، السير ، المناقب ، التفسير ، الآداب ، المواعظ ، أخبار يوم القيامة ، وصفات الجنة والنار ، أخبار الفتن والملاحم ، وأشراط الساعة ، وهي أبواب الدين الإسلامي كافة ( الطحان 1948ص110) .
ثانياً : علم الحديث ، والتي يطلق عليها أحياناً علم مصطلح الحديث ، ويشمل أنواع الحديث المختلفة ؛ باعتبار عدد الرواة ( متواتر ومشهور وعزيز وغريب ) ، واعتبار القبول والرد ( صحيح وحسن وضعيف وموضوع ) وغير ذلك من الاعتبارات والتقسيمات ، ويشتمل علم الحديث أيضاً على جملة من العلوم الفرعية التي انبثقت من علم الحديث ؛ كعلم الجرح والتعديل ، وعلم غريب الحديث ، ومشكل الحديث ، والناسخ والمنسوخ ، والمؤتلف والمختلف ، وعلم الطبقات ، وآداب الحدثين والتلاميذ وغير ذلك من العلوم الفرعية ، ( الشهرزوري 1978ص7) .(25/25)
ثالثاً : أصول التخريج وهو العلم " الذي يعنى بالدلالة على موضع الحديث في مصادره الأصلية التي أخرجته بسنده ، ثم بيان مرتبته عند الحاجة " ( الطحان 1978ص12) ، وهذا العلم على درجة كبيرة من الأهمية في زمننا هذا ، لأن توثيق الأحاديث النبوية الشريفة مشكلة عامة ، يعاني منها بعض المتخصصين في الدراسات الإسلامية ، فضلاً عن غيرهم ، الأمر الذي يقتضي ضرورة توفير هذا العلم في المتطلبات الجامعية بعامة ، وبرامج الدراسات الإسلامية بخاصة ، ومع ضرورة إيلاء الوقوف على درجة الحديث أهمية مناسبة .
المبحث الثالث
تقييم منهاج السنة النبوية في التعليم الجامعي
التقويم التربوي هو " إصدار حكم على الشيء الذي نقيسه ، ووصفه في ضوء كمية ما يحتويه من خصائص وسمات ، .. معرفة التغيّر الحادث في سلوك المتعلم وتحديد درجة ومقدار هذا التغير " ( أبو جلاله 1999ص18) ، أو هو " مواقف تربوية يتحقق بها المختصون من كفاية تحصيل التلاميذ لأهداف ومعارف وخبرات المنهاج " ( حمدان 2000ص28) ،(25/26)
هل ثمة فرق بين التقييم والتقويم ؟ وما الذي نريد تقيمه في منهاج السنة النبوية الشريفة في المرحلة الجامعية ؟ وما الفائدة المرجوة من عملية التقييم ؟ يرى الباحث أن هناك فرق بين التقييم والتقويم من الناحيتين اللغوية والتربوية ، خلافاً لكثير من التربويين الذين لا يرون أي فرق بينهما البتة ، لا من الناحية اللغوية ؛ ولا من الناحية التربوية ، ويكتفي الباحث للدلالة على الفرق اللغوي بين التقييم والتقويم أننا نقول : " قيمت السلعة " و " قومت الاعوجاج " ولا أقول " قومت السلعة " و" قيمت الاعوجاج " لأن السلعة تبين قيمتها أي ثمنها ، والاعوجاج يقوم أي يعدّل ، ومن الناحية التربوية فإن التقييم بيان لمدى تحقق الأهداف المخططة ، أما التقويم فهو مرحلة تلي التقييم يتم من خلالها وضع خَطة علاجية ، لمواطن الضعف ، الذي وقع في أحد جوانب العملية التعليمية التعلمية ، وأما الذي نريد تقييمه في منهاج السنة النبوية الشريفة في المرحلة الجامعية فهو :
أولاً : تقييم أهداف مساق السنة النبوية الشريفة وعلومها العامة والخاصة .(25/27)
يتم تقييم الأهداف الموضوعة من خلال الوقوف على مدى التغير الحاصل في سلوك المتعلمين بعد مرورهم بالخبرات والأنشطة المخططة ، ( مرعي وآخرون 2000ص 97 ) ، وهنا لابد من الإشارة إلى ضرورة أن يشمل التقييم جوانب التغير في شخصية المتعلم ، ومدى احتفاظه بما تعلمه ، وهو ما يسمى في العرف التربوي بالتعلم المستدام .
ثانياً : تقييم المحتوى الخاصة بمساق السنة النبوية الشريفة وعلومها .
يتم تقييم المحتوى الذي تم اختياره من خلال الوقوف على مدى انسجامه مع الأهداف الخاصة ، وقدرته على تحقيقها ، بالإضافة إلى ضرورة الوقوف على السلامة العلمية للمحتوى ، والأسلوب الذي تم عرض المحتوى من خلاله ، ومدى مساعدة المحتوى للمتعلم على الفهم والتفكير والإبداع ، ( الشبلي 2000ص188) .
ثالثاً : تقييم الخبرات التعليمية التعلّمية ( الأنشطة ) .(25/28)
يتم تقييم الخبرات التعليمية التعلّمية ( الأنشطة ) من خلال الوقوف على مدى ملاءمتها لفلسفة المجتمع ،والأهداف العامة والخاصة للمساق الدراسي ، والوقوف على انسجامها مع المحتوى ، والتعلم القبلي لدى المتعلمين ، وظروف المتعلمين الاجتماعية الاقتصادية ، ودرجة مراعاتها للفروق الفردية بين المتعلمين ، ( مرعي وآخرون 2000 ص 90 ) .
رابعاً : تقييم التقييم ، ( مرعي وآخرون 2000ص 95 ) ، (السويدي ، والخليلي 1997 ص 286).
المراد بتقييم التقييم الوقوف على مدى فاعلية أساليب التقييم المستخدمة في تقييم عناصر المنهاج بصورة عامة ، وتقييم الأهداف بصورة خاصة ، لاسيما الأهداف المتعلقة بسلوك المتعلم ، وما يتصل بمجموعة الخبرات ، والمهارات ، والقدرات ، والقيم ، والمفاهيم الصحيحة ، ( إبراهيم والكلزة لات ص 172 ) .
أما وسائل التقييم فهي :
أولاً : الاختبارات .(25/29)
الاختبارات الشفهية ، والتحريرية ، والاختبارات المقالية بنوعيها القصيرة ، والطويلة ، والاختبارات الموضوعية بأنواعها الخمسة ؛ الثنائي ( نعم و لا ) ، والمتعدد ، والمزاوجة ، وملء الفراغ بكلمات موجودة ، والترتيب ، اختبارات تقيس التحصيل الدراسي ، الذي هو أحد الجوانب التي لا بد من الوقوف عليها في عملية التقييم العامة .
ثانياً : الملاحظة .
الملاحظة المباشرة والدقيقة من جانب المعني بالتقييم ، من حيث العلاقات ، والإجراءات ، وأوجه الأداء ، وما يدور حول العنصر المستهدف بالتقييم ، تمكن المقيم من تشخيص الوضع الماثل أمامه ، كما تمكنه من التعرف على نقاط القوة ونقاط الضعف ، علماً بأن الملاحظة في حد ذاتها لا تكفي للحصول على تقييم شامل ، بل تساهم في التشخيص .
ثالثاً : الاستبيان .
الاستبيان أسئلة مكتوبة حول قضية تربوية معينة ، تقدم لشخص ، أو لعدد من الأشخاص ؛ من ذوي الخبرة في المجال التربوي ، وتسلم باليد أو ترسل إليهم بالبريد ؛ ليقوموا بإبداء رأيهم فيها ، وكثيراً ما يستخدم الاستبيان في قياس المجال الوجداني " الاتجاهات والميول " ( أبوجلالة 1999 ص 61 ) .
رابعاً : المقابلة .(25/30)
يتم التقييم بهذه الأداة عن طريق الاتصال الشفهي المباشر بين شخصين ، يطرح الشخص الذي يجري المقابلة أسئلة على الشخص الآخر ، ويتلقى الإجابة عنها مباشرة ، من أجل جمع المعلومات التي تساعد المقيم على إصدار الأحكام واتخاذ القرارات حول القضية التربوية الموقف التعليمي المراد قياسه .
وتشير بعض المصادر إلى أنواع أخرى من أدوات القياس كالاختبارات العملية ، والتقويم الذاتي ، والتقارير ، والسجلات والبطاقات التراكمية وغير ذلك مما يندرج تحت أحد الأدوات الرئيسة المذكورة ، ولا يمكن اعتبارها أنواعاً مستقلة من الأدوات ، ولكل وجهته .
النتائج التوصيات
من خلال هذه الدراسة المتواضعة وما توصلت إليه من نتائج يمكن وضع التوصيات الآتية :
ضرورة بذل المزيد من الاهتمام بالدراسات الخاصة بالسنة النبوية الشريفة وعلومها في مجال المناهج وطرق تدريسها
تحقيق التعاون بين علماء السنة النبوية الشريفة وعلومها وبين المتخصصين في المنهاج وطرق التدريس من أجل تصميم منهاج السنة النبوية الدراسي وتقويمه وفق الأسس التربوية الفاعلة .
العمل على تطوير منهاج السنة الدراسي في مراحل التدريس المختلفة وفق رؤية لإسلامية شاملة .(25/31)
تضمين مؤتمرات السنة النبوية الشريفة وعلومها جوانب إعجازية وأخرى تربوية .
فهرس المصادر والمراجع
- إبراهيم ، فوزي طه ، والكلزة ، رجب أحمد ( لات ) .المناهج المعاصرة . الإسكندرية : منشأة المعارف .
- ابن منظور ، عبد الله بن محمد بن المكرم .(لات) . لسان العرب . دار المعارف .
- أبوجلاله ، صبحي حمدان ( 1999) . اتجاهات معاصرة في التقويم التربوي. الإمارات ، العين : مكتبة الفلاح .
- أبو حويج ، مروان ( 2000) . المناهج التربوية المعاصرة . عمّان : الدار العلمية الدولية ودار الثقافة للنشر والتوزيع .
- أبولاوي ، أمين موسى (1998) . معْلم الثقافة الإسلامية .الدمام : دار ابن الجوزي .
- الإدارة العامة للإشراف التربوي (1418) دليل المعلم . السعودية : وزارة المعارف .
- الأشقر ،عمر سليمان عبدالله ( 2002) . نحو ثقافة إسلامية أصيلة . عمّان : دار النفائس .
- البخاري ، محمد بن إسماعيل ( لات) صحيح البخاري . مصر : دار إحياء الكتب العربية .
- جامعة القدس المفتوحة ( 1996) . أساليب تدريس التربية الإسلامية . عمّان : جامعة القدس المفتوحة .
- حمدان ، محمد زياد (1988) . المنهج المعاصر. عمّان : دار التربية الحديثة .(25/32)
- حمدان ، محمد زياد (2004) . أساسيات المنهج الدراسي . عمّان : دار التربية الحديثة .
- حميدة ، إمام مختار (2002) أسس بناء وتنظيمات المناهج .القاهرة : مكتبة زهراء
- ربربارا ماتيرو ، و آنا موانجي ، ورث شليتي ، ترجمة بعارة ، حسين عبداللطيف ، والخطايبة ، ماجد محمد ( 2000) الأساليب الإبداعية في التدريس الجامعي . عمّان : دار الشروق .
- سليم ، محمد صابر ،ومينا ، فايز مراد ،وشحاتة ، حسن سيد ، وسليمان ،يحيى عطية ، وعفيفي ، يسري عفيفي ، وفراج ، محسن حامد(2006) بناء المناهج وتخطيطها . عمّان : دار الفكر للنشر والتوزيع .
- السويدي ، خليفة علي ، والخليلي ، خليل يوسف. ( 1997) .المنهاج ؛ مفهومه ، وتصميمه ، وتنفيذه ، وصيانته . دبي : دار القلم للنشر والتوزيع .
- الشبلي ، إبراهيم مهدي (2000) .المناهج ؛ بناؤها ، تنفيذها ،تقويمها ، تطويرها .إربد : دار الأمل .
- الشهرزوري ، عثمان بن عبد الرحمن المشهور بابن الصلاح (1978) . مقدمة ابن الصلاح . بيروت : دار الكتب العلمية .
- الصنعاني ، أبو بكر عبد الرزاق ( 1403هـ ) ، مصنف عبد الرزاق . بيروت : المكتب الإسلامي .(25/33)
- الطحان ، محمود ( 1978) . أصول التخريج ودراسية الأسانيد . حلب : المطبعة العربية .
- القزاز ، محمد سعيد ، والشهري ، صالح علي ( 1989) .المبادئ العامة للتربية . خميس مشيط : دار جرش للنشر والتوزيع .
- مجمع اللغة العربية بالقاهرة ، (1999) المعجم الوجيز . دبي : مكتبة دبي للتوزيع .
- مرعي ، توفيق أحمد ، والحيلة ، محمد محمود ( 2000) . المناهج التربوية الحديثة .عمّان: دار المسيرة للنشر والتوزيع .
- النشمي ، عجيل جاسم ( 1980) . معالم في التربية . الكويت : مكتبة المنار الإسلامية .
- الهاشمي ، عابد توفيق (1981) . طرق تدريس الدين .بيروت : مؤسسة الرسالة .(25/34)
اتزان
النظرة إلى
الخلفاء الأربعة
في صحيح
السنة
الدكتور نوح الفقير
القوات المسلحة الأردنية
0777411857
065000125
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله؛ الذي جمع المسلمين على العروة الوثقى، وفاضل بين الناس بالتقوى، والصلاة والسلام على النبي المصطفى، وعلى آله وصحبه، وعلى كل مَن آمن به واقتدى فاهتدى.
وبعد؛
فالخلفاء الأربعة البررة ؛ أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله تعالى عنهم؛ مناراتٌ بها يُهتدى، وآداب بها يُقتدى، وهم الذين حملوا راية النبي ( بعد وفاته، ولزموا غرزه(1)، واقتدوا بسنته؛ كانت غايتهم التنافس في فعل الخير، لا التفاضل في الخيرية، كما كانت وسائلهم شريفة، وأهدافهم نبيلة، وقد أجمعوا على أن أكرمهم عند الله أتقاهم؛ ولذلك لم نجد فيهم من يزكي نفسه؛ لأنهم يعلمون أن الله تعالى يزكي من يشاء، وإنما عزفوا عن الدنيا فأتتهم راغمة، حتى فتحوا الآفاق، وخضعت لسلطانهم الرقاب، وسارت بسيرتهم الركبان، ما تعاقب الجديدان، وأضاء الفرقدان، وشهد لهم بذلك الأعداء قبل الأصدقاء، وهكذا انتظم العقد على نهج قويم، وكثر الاتفاق، وقلّ الافتراق، وانقضت فترة مباركة سادتها الخلفاء
__________
(1) . الغرز هو الركاب ، والمراد لزموا أمره.(26/1)
الراشدون المبشرون، وإنجازاتها بادية للعيون، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
وبعد العصر الراشد حدثت فتن، الحليم فيها حيران، والواقف فيها خير من الماشي، والماشي خير من الساعي، لكن السلف الصالح ظلوا مصرين على نشر دين الله، والجهاد في سبيله، وكانوا في ذلك كالبنيان المرصوص يشدّ بعضه بعضاً، فلم تثنهم عواصف الفتن كثيراً، فسرعان ما تلتقي القلوب المؤمنة في بيوت الله، وسرعان ما تزول الغمة بعد حدوثها، والغصن من الشجرة، وإن مالت به الريح.
واليوم ضعفت الهمم، وكثر قول الناس، وقلّ عملهم، واختلفوا في الجيل الأولّ؛ محاولين إيجاد الأفضل من الخلفاء الأربعة، وبات كثير من المقلدين يدوكون في هذه المفاضلة، وتقاتلوا، وتناحروا، وتشاتموا، حتى أضحى بأسهم بينهم شديد، وليتهم تركوا الأول للأول، وأصلحوا أنفسهم، وتركوا من سبقهم، لأن سلفهم عند خالقهم، وهو أرحم بهم من أنفسهم، فما وجه تضييع الجهد والوقت فيما لا طائل تحته، ولو نظروا في السنة الشريفة لوجدوا صحيحها ناطقاً باتزان، ناظراً بالتوازن، مساوياً بينهم بالصفات، وواعداً إياهم بالجنات؛ يدل على ذلك الحقائق والمُسلَّمات الآتية:(26/2)
عصرهم عصر الخيرية والفضل: ولا شك أن الإنسان يقتبس من معطيات عصره؛ سليمها وسقيمها، والخلفاء الأربعة نشأوا وتربوا في الخيرية؛ التي اتسم بها عصرهم الزاهر؛ فعَنْ أَبِي جَمْرَةَ سَمِعْتُ زَهْدَمَ بْنَ مُضَرِّبٍ سَمِعْتُ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا يَقُولُ قَالَ رَسُولُ الله (: (خَيْرُ أُمَّتِي قَرْنِي، ثمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ - قَالَ عِمْرَانُ: فَلا أَدْرِي أَذَكَرَ بَعْدَ قَرْنِهِ قَرْنَيْنِ أَوْ ثَلاثاً - ثُمَّ إنَّ بَعْدَكُمْ قَوْماً يَشْهَدُونَ وَلا يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَخُونُونَ وَلا يُؤْتَمَنُونَ، وَيَنْذُرُونَ وَلا يَفُونَ، وَيَظْهَرُ فِيهِمْ السِّمَنُ)(1)، وعَنْ عَبْدِ اللهِ عَنِ النَّبِيِّ ( قَالَ: (خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ - فَلاَ أَدْرِي فِي الثالِثَةِ أو فِي الرَّابِعَةِ - قَالَ: ثمَّ يَتَخَلَّفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ، تَسْبقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ، وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ)(2)
__________
(1) . البخاري، كتاب المناقب، باب مناقب الصحابة حديث رقم 3450 .
(2) . مسلم: كتاب فضائل الصحابة ، باب فضل الصحابة، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم حديث رقم 212.(26/3)
، وإذا كان الخلفاء الأربعة عاشوا في خير القرون؛ فهل يحق لأهل زمن فساد الذمم أن يحاكموا من تربع على أعالي القمم؟! اللهم لا، بل إنه حريٌ بهم أن يحرصوا على الاقتداء بالوئام ، بدلاً من الاعتداء بالخصام.
الخلفاء الراشدون الأربعة مبشرون بالجنة: فقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أنهم موعودون بالجنة؛ يدل على ذلك البشارات الآتية:
البشارة على قُفّ بئر أريس(1): فقد وعدهم بذلك مَن لا ينطق عن الهوى (؛ فعن أبي مُوسَى الأشْعَرِيّ: (أَنَّهُ تَوَضّأَ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ خَرَجَ، فَقَالَ: لألزَمَنَّ رَسُولَ اللهِ ( وَلأكُونَنَّ مَعَهُ يَوْمِي هَذَا، قَالَ: فَجَاءَ الْمَسْجِدَ، فَسَأَلَ عَنِ النَّبِيِّ ( فَقَالُوا: خَرَجَ، وَجَّهَ هَهُنَا، قَالَ: فَخَرَجْتُ عَلَىَ إثرِهِ؛ أَسْأَلُ عَنْهُ، حَتَّىَ دَخَلَ بِئرَ أرِيسٍ، قَالَ: فَجَلسْتُ عِنْدَ البَابِ، وَبَابُهَا مِنْ جَرِيدٍ، حَتَّىَ قَضَىَ رَسُولُ اللهِ ( حَاجَتَهُ وَتَوَضَّأ، فَقمْتُ إلَيْهِ، فَإذَا هُو قَدْ جَلَسَ عَلَىَ بِئرِ أرِيسٍ،
__________
(1) . بئر في حديقة بالقرب من مسجد قباء، انظر: الحموي، ياقوت بن عبد الله، أبو عبد الله، معجم البلدان، دار صادر، بيروت، 298(26/4)
وَتَوَسَّطَ قُفَّهَا، وَكَشَفَ عَنْ سَاقَيْهِ، وَدَلاَّهُمَا فِي البِئرِ، قَالَ: فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، ثمَّ انْصَرَفْتُ، فَجَلَسْتُ عِنْدَ الْبَابِ، فَقُلْتُ: لأكُونَنَّ بَوَّابَ رَسُولِ اللهِ ( اليَوْمَ، فَجَاءَ أبُو بَكْرٍ، فَدَفَعَ الْبَابَ، فَقُلتُ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: أَبُو بَكْرٍ.فَقُلْتُ: عَلَىَ رِسْلِكَ. قَالَ: ثُمَّ ذَهَبْتُ. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ هَذَا أَبُو بَكْرٍ يَسْتَأذِنُ، فَقَالَ: ائذَنْ لَهُ، وَبَشِّرْهُ بِالجَنَّةِ، قَالَ: فَأقبَلتُ حَتَّىَ قُلْتُ لأبِي بَكْرٍ: ادْخُلْ، وَرَسُولُ اللهِ ( يُبَشِّرُكَ بِالجَنَّةِ، قَالَ: فَدَخَلَ أبُو بَكْرٍ، فَجَلَسَ عَنْ يَمِينِ رَسُولِ اللهِ ( مَعَهُ فِي القُفِّ، وَدَلَّىَ رِجْلَيْهِ فِي الْبِئْرِ، كَمَا صَنَعَ رَسُولُ اللهِ (، وَكَشَفَ عَنْ سَاقَيْهِ، ثُمَّ رَجَعْتُ، فَجَلَسْتُ، وَقَدْ تَرَكْتُ أخِي يَتَوَضَّأ وَيَلْحَقُنِي، فَقُلْتُ: إنْ يُرِدِ اللهِ بِفُلاَنٍ - يُرِيدُ أخَاهُ - خَيْراً يَأتِ بِهِ، فَإذَا إنْسَانٌ يُحَرِّكُ البَابَ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَقُلتُ: عَلَىَ رِسْلِكَ، ثمَّ(26/5)
جِئْتُ إلَىَ رَسُولِ اللهِ ( فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، وَقُلْتُ: هَذَا عُمَرُ يَسْتَأذِنُ. فَقَالَ: ائْذَنْ لَهُ، وَبَشِّرَهُ بِالْجَنَّةِ، فَجِئتُ عُمَرَ فَقُلتُ: أَذِنَ وَيُبَشِّرُكَ رَسُولُ اللهِ ( بِالْجَنَّةِ، قَالَ: فَدَخَلَ فَجَلَسَ مَعَ رَسُولِ اللهِ ( فِي الْقُفّ، عَنْ يَسَارِهِ، وَدَلَّىَ رِجْلَيْهِ فِي الْبِئْرِ، ثُمَّ رَجَعْتُ فَجَلَسْتُ، فَقُلْتُ: إنْ يُرِدِ اللهُ بِفُلاَنٍ خَيْراً - يَعْنِي أَخَاهُ - يَأتِ بِهِ، فَجَاءَ إنْسَانٌ، فَحَرَّكَ الْبَابَ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، فَقُلْتُ: عَلَىَ رِسْلِكَ، قَالَ: وَجِئتُ النَّبِيَّ ( فَأخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: ائْذَنْ لَهُ، وَبَشِّرَهُ بِالْجَنَّةِ، مَعَ بَلْوَىَ تُصِيبُهُ، قَالَ: فَجِئْتُ فَقُلْتُ: ادْخُلْ، وَيُبَشِّرُكَ رَسُولُ اللهِ ( بِالْجَنَّةِ، مَعَ بَلْوَىَ تُصِيبُكَ، قَالَ: فَدَخَلَ فَوَجَدَ الْقُفَّ قَدْ مُلِئَ، فَجَلَسَ وُجَاهَهُمْ مِنَ الشِّقِّ الآخر، قَالَ شَرِيكٌ: فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: فَأَوَّلْتُهَا قُبُورَهُمْ)(1)
__________
(1) . متفق عليه: البخاري: كتاب فضائل الصحابة، حديث رقم 3471، و مسلم: كتاب فضائل الصحابة، حديث رقم 29، واللفظ لمسلم.(26/6)
، هذه بشارة للثلاثة الأول من الخلفاء الراشدين بالجنة.
بشارة علي بن أبي طالب ( بالمعية: يكفيه قول النَّبِيُّ ( فيه: (أنْتَ مِنِّي وَأنَا مِنْكَ)(1)، وهذه شهادة بالجنة، جلية واضحة، فمن كان من النبي ( فهو معه بلا شك.
أبو بكر الصديق ( يدعى من أبواب الجنة الثمانية: فقد وعده رَسُولَ اللهِ ( بالمناداة عليه من أبواب الجنة كلها؛ فعن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ ( أنَّ أبَا هُرَيْرَةَ ( قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ( يَقُولُ: مَنْ أنْفَقَ زَوْجَيْنِ(2) مِنْ شَيْءٍ مِنْ الأشْيَاءِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ دُعِيَ مِنْ أبْوَابِ - يَعْنِي الْجَنَّةَ- يَا عَبْدَ اللهِ هَذَا خَيْرٌ؛ فَمَنْ كَانَ مِنْ أهْلِ الصَّلاةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلاةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الْجِهَادِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصِّيَامِ وَبَابِ الرَّيَّانِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا عَلَى
__________
(1) . مسلم: فضائل الصحابة، باب فضل عثمان ( حديث رقم 59.
(2) . تصدق بصنفين من نوع واحد؛ والمطلوب تشفيع صدقة بأخرى.(26/7)
هَذَا الَّذِي يُدْعَى مِنْ تِلْكَ الأبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ، وَقَالَ: هَلْ يُدْعَى مِنْهَا كُلِّهَا أحَدٌ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: نَعَمْ وَأرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ يَا أبَا بَكْرٍ)(1).
البشارة لعمر بن الخطاب ( بالحور والقصور في الجنة؛ فعَنْ جَابِرٍ: عَنِ النَّبِيِّ ( قَالَ: (دَخَلْتُ الْجَنَّةَ فَرَأَيْتُ فِيهَا دَاراً أَو قَصْراً، فَقُلْتُ: لِمَنْ هَذَا؟ فَقَالُوا: لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَأرَدْتُ أنْ أدْخُلَ، فَذَكَرْتُ غَيْرَتَك، فَبَكَىَ عُمَرُ وَقَالَ: أي: رَسُولَ اللهِ أَو عَلَيْكَ يُغَارُ؟)(2).
إن الخلفاء الأربعة من أهل الجنة، وهم مبشرون بها وهم أحياء؛ ونحن اليوم لا ندري أفي الجنة نحن أم في النار، ونتخاصم في أهل الجنة، الذين بُشروا بدخولها من أبوابها!! والذي لا يطاق ويُشدُّ لدفعه النطاق أن يحكم أهل الدنيا على بعض الراشدين بدخول النار!! وقد شهد رسول الله ( بالجنة!!
__________
(1) . البخاري : كتاب المناقب، باب قَوْلِ النَّبِيِّ ( لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلاً، حديث رقم 3656.
(2) . متفق عليه: البخاري: كتاب فضائل الصحابة، حديث رقم 3476، ومسلم: فضائل الصحابة، حديث رقم 20.(26/8)
تكامل صفاتهم لا تفاضلها؛ إذ هم متساوون في وصف النبي( لهم بصفات متقاربة، متكاملة، غير متفاضلة، ولا متناقضة؛ فقد وردت أوصاف الخلفاء الأربعة في الحديث الصحيح بما يُفتخر به، مما يدل دلالة واضحة أن لكلٍ منهم صفة تخدم الرسالة السمحة؛ والمحافظة عليها؛ فهم في مجال المحافظة على الدين سواء؛ ومما يدل على التساوي في مدح النبي لهم الروايات الآتية:
جمعوا صفات المُنعَم عليهم والأحسن رفقة: فقد وردت صفات المنعم عليهم في قوله تعالى: ? - ? الله ? الله ? - ? الله أكبر - جل جلاله -? - ? - ? الله - - - الله ?? - ? الله الله - ? - - الله ? ?? الله أكبر تمهيد - ? الله أكبر - - الله أكبر ? الله أكبر ? بسم الله الرحمن الرحيم ? - الله أكبر - الله الله أكبر ? الله ? الله ? الله ??- جل جلاله - - بسم الله الرحمن الرحيم - ? - - الله ? الله ? { الله أكبر الله أكبر ? - - - - ? - - - - ? - ? صدق الله العظيم - - ? الله ? الله ?- جل جلاله - الله ? الله ? - - - الله أكبر الله أكبر - - جل جلاله - - بسم الله الرحمن الرحيم - ?? - - الله ? - - جل جلاله -?? بسم الله الرحمن الرحيم - جل جلاله - - - - ?? - - الله ? - جل جلاله(26/9)
-? - - الله - الله ? بسم الله الرحمن الرحيم الله أكبر ?? - - الله ? - الله ? - - جل جلاله - - - جل جلاله -? - الله أكبر - عز وجل - - الله أكبر ?? - - الله ?? الله ? - { الله - الله ??? ?? تمهيد - ? - - الله أكبر الله أكبر - ? بسم الله الرحمن الرحيم ? - الله أكبر - - - الله أكبر الله أكبر ? - الله أكبر الله أكبر - جل جلاله -? الله } ?(1).
وتطابقت هذه الأوصاف مع وصف النبي ( لهم؛ فعَنْ قَتَادَةَ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ ( حَدَّثَهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ ( صَعِدَ أحُدًا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ، فَرَجَفَ بِهِمْ، فَقَالَ: (اثْبُتْ أحُدُ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ نَبِيٌّ وَصِدِّيقٌ وَشَهِيدَانِ)(2)، هذا في الثلاثة، وأما علي بن أبي طالب ( فهو حارس النبوة بالأخوة، والقائم على الدفاع عن الرسالة بالشجاعة؛ ولذلك قَالَ النَّبِيُّ ( لِه: (أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى)(3)،
__________
(1) . سورة النساء آية 69.
(2) . البخاري: كتاب فضائل الصحابة ، باب: مناقب عثمان ( حديث رقم 3699.
(3) . متفق عليه: البخاري : كتاب المناقب، حديث رقم 3503، ومسلم: فضائل الصحابة، حديث رقم31.(26/10)
فالنبوة والتصديق والشهادة في سبيل الله والمؤازرة صفات متكاملة، اتصف بها السادة الأربعة.
الخلة الصالحة والمعية المباركة لأبي بكر؛ فقد وصف النبي ( أبا بكر الصديق ( بها؛ فعن جُنْدَب ( قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ( قَبْلَ أنْ يَمُوتَ بِخَمْسٍ وَهُوَ يَقُولُ: (إنِّي أبْرَأ إلَى الله أَنْ يَكُونَ لِي مِنْكُمْ خَلِيلٌ، فَإنَّ الله قَدِ اتَّخَذَنِي خَلِيلاً، كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذاً مِنْ أُمَّتِي خَلِيلاً لاَتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلاً)(1)، وَقَالَ رَسُولُ اللهِ (: (إِنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي مَالِهِ وَصُحْبَتِهِ أَبُو بَكْرٍ، وَلَو كُنْتُ مُتَّخِذاً خَلِيلاً لاَتَّخَذتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلاً، وَلَكِنْ أخُوَّةُ الإِسْلاَمِ، لاَ تُبْقَيَنَّ فِي الْمَسْجِدِ خَوْخَةٌ إِلاَّ خَوْخَةَ أَبِي بَكْرٍ)(2)، وعن أَنَس بْن مَالِكٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ حَدَّثَهُ قَالَ: نَظَرْتُ إلَىَ أقْدَامِ الْمُشْرِكِينَ عَلَىَ
__________
(1) . مسلم: كتاب فضائل الصحابة، باب فضل أبي بكر الصديق، حديث رقم 23.
(2) . مسلم: كتاب فضائل الصحابة ، باب فضل أبي بكر، حديث رقم 2(26/11)
رُؤُسِنَا وَنَحْنُ فِي الْغَارِ، فَقُلتُ: يَا رَسُولَ اللهِ لَو أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ إِلَىَ قَدَمَيْهِ أَبْصَرَنَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ، فَقَالَ: يَا أبَا بَكْرٍ مَا ظَنُّكَ بِاثنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهُمَا)(1)؛ وهذه المعية خالدة خلود القرآن؛ قال الله تعالى: {إلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إذ أخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثنَيْنِ إذ هُمَا فِي الْغَارِ إذ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إنَّ اللهَ مَعَنَا فَأنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}(2).
__________
(1) . متفق عليه: البخاري، حديث رقم 3653 ومسلم : كتاب فضائل الصحابة، حديث رقم2381.
(2) . سورة التوبة آية 40.(26/12)
فجُّ عمر بن الخطاب ( ليس فجاً للشيطان: وصف عمر بن الخطاب ( بهيبته وخوف الشيطان منه؛ فعن سَعْد بْن أَبِي وَقَّاصٍ ( قَالَ: اسْتَأذَنَ عُمَرُ عَلَى رَسُولِ اللهِ ( وَعِنْدَهُ نِسَاءٌ مِنْ قُرَيْشٍ؛ يُكَلِّمْنَهُ وَيَسْتَكْثِرْنَهُ، عَالِيَةً أَصْوَاتُهُنَّ، فَلَمَّا اسْتَأْذَنَ عُمَرُ قُمْنَ يَبْتَدِرْنَ الْحِجَابَ، فَأَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ( وَرَسُولُ اللهِ ( يَضْحَكُ، فَقَالَ عُمَرُ: أضْحَكَ اللهُ سِنَّكَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: عَجِبْتُ مِنْ هَؤُلاء اللاتِي كُنَّ عِنْدِي، فَلَمَّا سَمِعْنَ صَوْتَكَ ابْتَدَرْنَ الْحِجَابَ، قَالَ عُمَرُ: فَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كُنْتَ أَحَقَّ أَنْ يَهَبْنَ، ثُمَّ قَالَ: أيْ عَدُوَّاتِ أنْفُسِهِنَّ أتَهَبْنَنِي وَلا تَهَبْنَ رَسُولَ اللهِ (، قُلنَ: نَعَمْ أَنْتَ أَفَظُّ وَأَغْلَظُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ (، قَالَ رَسُولُ اللهِ (: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا لَقِيَكَ الشَّيْطَانُ قَطُّ سَالِكاً فَجًّا إلا سَلَكَ فَجًّا غَيْرَ فَجِّكَ)(1)، ولا يعزبُن عن
__________
(1) . متفق عليه: البخاري : كتاب المناقب، حديث رقم 3120، ومسلم: كتاب فضائل الصحابة ، حديث 2396.(26/13)
البال أن فج عمر ( كان يوافق الوحي؛ فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: (قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ (: وَافَقْتُ رَبِّي فِي ثَلاثٍ؛ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ لَوْ اتَّخَذْنَا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى فَنَزَلَتْ ? ?{وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}(1)، وَآيَةُ الْحِجَابِ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ أَمَرْتَ نِسَاءَكَ أَنْ يَحْتَجِبْنَ؛ فَإِنَّهُ يُكَلِّمُهُنَّ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ فَنَزَلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ(2)، وَاجْتَمَعَ نِسَاءُ النَّبِيِّ ( فِي الْغَيْرَةِ عَلَيْهِ فَقُلْتُ لَهُنَّ: عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبَدِّلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ(3)
__________
(1) . سورة البقرة 125.
(2) . آية الحجاب ? يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا?? الأحزاب 59.
(3) . قال تعالى: ? عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا ? سورة التحريم 5.(26/14)
(1)، ولو لم يكن في الفاروق إلا هذا لكفاه فضلاً وسبقاً.
شجاعة عثمان بن عفان ( محفوفة بالحياء، وحكمته مقرونة بالإيمان، والحياء من الإيمان؛ ولذلك وصفه الرسول ( بالحياء؛ الذي يستوجب على سكان السماء أن يبادلوه هذه الصفة؛ فعن عَائِشَةَ قَالَتْ: (كَانَ رَسُولُ اللهِ ( مُضْطَجِعاً فِي بَيْتِي، كَاشِفاً عَنْ فَخِذَيْهِ، أَو سَاقَيْهِ، فَاسْتَأذَنَ أَبُو بَكْرٍ، فَأَذِنَ لَهُ، وَهُو عَلَىَ تِلْكَ الْحَالِ، فَتَحَدَّثَ، ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُمَرُ فَأَذِنَ لَهُ، وَهُو كَذَلِكَ، فَتَحَدَّثَ، ثُمَّ اسْتَأذَنَ عُثْمَانُ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللهِ ( وَسَوَّىَ ثِيَابَهُ، قَالَ مُحَمَّدٌ: وَلاَ أَقُولُ ذَلِكَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ فَدَخَلَ فَتَحَدَّثَ، فَلَمَّا خَرَجَ قَالَتْ عَائِشَةُ: دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ فَلَمْ تَهْتَشَّ لَهُ، وَلَمْ تُبَالِهِ، ثُمَّ دَخَلَ عُمَرُ فَلَمْ تَهْتَشَّ لَهُ وَلَمْ تُبَالِهِ، ثُمَّ دَخَلَ عُثْمَانُ فَجَلَسْتَ وَسَوَّيْتَ ثِيَابَكَ فَقَالَ: أَلاَ أَسْتَحِي مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحِي
__________
(1) . رواه البخاري: كتاب التفسير، باب {وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}، حديث رقم 4483.(26/15)
مِنْهُ الْمَلاَئِكَةُ)(1).
وصف علي ( بحب الله ورسوله ( له: عَنْ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ( تَخَلَّفَ عَنْ النَّبِيِّ ( فِي خَيْبَرَ، وَكَانَ رَمِدًا، فَقَالَ: أَنَا أَتَخَلَّفُ عَنْ النَّبِيِّ ( فَلَحِقَ بِهِ فَلَمَّا بِتْنَا اللَّيْلَةَ الَّتِي فُتِحَتْ قَالَ: لأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا أَوْ لَيَأخُذَنَّ الرَّايَةَ غَدا رَجُلٌ يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ يُفْتَحُ عَلَيْهِ فَنَحْنُ نَرْجُوهَا، فَقِيلَ: هَذَا عَلِيٌّ فَأَعْطَاهُ فَفُتِحَ عَلَيْهِ)(2).
أرأيت أنهم متصفون بالصفات المتكاملة؛ فما هم حول النبي إلا كقصر تزينت أركانه، وتكامل بناؤه، وكل ركن فيه قائم على أخيه، فأنى للبناء أن يتكامل دون أحد أركانه؟!
__________
(1) . مسلم : كتاب فضائل الصحابة باب من فضائل عثمان بن عفان ( ، حديث رقم 22.
(2) . البخاري: كتاب المغازي ، باب غزوة خيبر، حديث رقم 3972.(26/16)
مصاهرتهم للنبي ( زواجاً وتزويجاً: لقد تزوج النبي ( من بنات بعض الخلفاء الأربعة، وزوّج بعضهم الآخر، حتى شملتهم المصاهرة زواجاً وتزويجاً؛ مما يؤكد تلك المحبة والمودة ما حصل بينهم رضي الله عنهم من مصاهرة ورحم، وليس زواجه بأقل شرفاً من تزويجه؛ فكلهم حازوا شرف مصاهرة رسول الله (.
عائشة وحفصة رضي الله عنهما من أمهات المؤمنين: فقد كانت العلاقة بين بيت النبوة وبيت الصديق وعمر رضي الله عنهم وثيقة؛ لا يتصور معها التباعد والاختلاف؛ إذ تزوج النبي ( بنتي أبي بكر وعمر؛ فعائشة بنت الصديق كانت أحب نسائه إليه، كما كان أبوها رضي الله عنه أحب الرجال إلى النبي ( كما كانت حفصة بنت عمر رضي الله عنها زوجة للنبي ( وأمّاً للمؤمنين، ولا أدري كيف يدعي البعض أن أبا بكر وعمر ارتدا عن الدين؟! إذ كيف يصاهر النبي المعصوم ( من سيؤول أمره إلى الكفر!! وحاشاهما وهما أحباب النبي ( وخيرة أصحابه.(26/17)
عثمان ( ذو النورين: سمي عثمان ( بهذا الاسم لأن النبي ( زوجه ابنتيه؛ الواحدة تلو الأخرى؛ تزوج رقية رضي الله عنها، وتغيب عن بدر لأجل مودتها؛ فعن عُثْمَان بْن مَوْهَبٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ حَجَّ الْبَيْتَ، فَرَأَى قَوْمًا جُلُوسًا، فَقَالَ: مَنْ هَؤُلاءِ الْقَوْمُ؟ فَقَالُوا: هَؤُلاءِ قُرَيْشٌ، قَالَ: فَمَنْ الشَّيْخُ فِيهِمْ؟ قَالُوا عَبْدُاللهِ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: يَا ابْنَ عُمَرَ إنِّي سَائِلُكَ عَنْ شَيْءٍ فَحَدِّثْنِي هَلْ تَعْلَمُ أَنَّ عُثْمَانَ فَرَّ يَوْمَ أُحُدٍ؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: تَعْلَمُ أَنَّهُ تَغَيَّبَ عَنْ بَدْرٍ وَلَمْ يَشْهَدْ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: تَعْلَمُ أَنَّهُ تَغَيَّبَ عَنْ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ فَلَمْ يَشْهَدْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: اللهُ أَكْبَرُ!! قَالَ ابْنُ عُمَرَ: تَعَالَ أبَيِّنْ لَكَ؛ أَمَّا فِرَارُهُ يَوْمَ أُحُدٍ فَأَشْهَدُ أَنَّ اللهَ عَفَا عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ، وَأَمَّا تَغَيُّبُهُ عَنْ بَدْرٍ فَإِنَّهُ كَانَتْ تَحْتَهُ بِنْتُ رَسُولِ اللهِ ( وَكَانَتْ مَرِيضَةً، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ( إنَّ لَكَ أَجْرَ رَجُلٍ مِمَّنْ(26/18)
شَهِدَ بَدْرًا وَسَهْمَهُ، وَأَمَّا تَغَيُّبُهُ عَنْ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ فَلَوْ كَانَ أَحَدٌ أَعَزَّ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ عُثْمَانَ لَبَعَثَهُ مَكَانَهُ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللهِ ( عُثْمَانَ، وَكَانَتْ بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ بَعْدَ مَا ذَهَبَ عُثْمَانُ إلَى مَكَّةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ( بِيَدِهِ الْيُمْنَى هَذِهِ يَدُ عُثْمَانَ، فَضَرَبَ بِهَا عَلَى يَدِهِ، فَقَالَ: هَذِهِ لِعُثْمَانَ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ: اذْهَبْ بِهَا الآنَ مَعَكَ)(1)، ويرشد الحديث أنه ( كان يتقرب إلى الله بمودة رقية رضي الله عنها، ولما انتقلت إلى الرفيق الأعلى تزوج أم كلثوم رضي الله عنها؛ وهي في الفضل كشقيقتها؛ وفي البخاري: أن أنس أثبت بجوار اسمها الشريف جملة (عليها السلام)؛ فعن أَنَس بْن مَالِكٍ (أَنَّهُ رَأَى عَلَى أُمِّ كُلْثُومٍ عَلَيْهَا السَّلام بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ ( بُرْدَ حَرِيرٍ سِيَرَاءَ)(2)، وفي ذلك من الأدلة
__________
(1) . البخاري: كتاب المناقب، باب مناقب عثمان (، 3495.
(2) . البخاري: كتاب اللباس، باب الحرير للنساء، حديث رقم 5504، وسيراء بكسر السين وفتح الياء نوع من البزّ يخالطه حرير كالسيور أي الخطوط.(26/19)
على تقدير الصحابة جميعاً لآل البيت الكرام.
اقتران علي ( بالزهراء أثمر أهل الكساء: فاطمة رضي الله عنها بنت أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها؛ تزوجها علي ( وكان يتقرب إلى الله بمودتها؛ وحسن عشرتها، وهو زواج مثمر، وبيت مكرم، وعائلة مباركة؛ جمعت أهل الكساء، ولأجل بقاء الزواج نقياً منع الرسول (علياً ( أن يتزوج أخرى، وهي معه ؛ فعن الْمِسْوَر بْن مَخْرَمَةَ ُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ ( عَلَىَ الْمِنْبَرِ، وَهُو يَقُولُ: (إِنَّ بَنِي هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ اسْتَأْذَنُونِي أَنْ يُنْكِحُوا ابْنَتَهُمْ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، فَلاَ آذَنُ لَهُمْ، ثُمَّ لاَ آذَنُ لَهُمْ، ثُمَّ لاَ آذَنُ لَهُمْ، إِلاَّ أَنْ يُحِبَّ ابْنُ أَبِي طَالِبٍ أَنْ يُطَلِّقَ ابْنَتِي وَيَنْكِحَ ابْنَتَهُمْ، فَإِنَّمَا ابْنَتِي بَضْعَةٌ مِنِّي، يَرِيبُنِي مَا رَابَهَا وَيُؤْذِينِي مَا آذَاهَا)(1)، وفي الحديث منفذ للنيل من علي بن أبي طالب ( عند سوء النية؛ ولكن أنظر أهل السنة ماذا يقولون؛ قال النووي: قال العلماء: في هذا الحديث تحريم
__________
(1) . متفق عليه : البخاري: كتاب النكاح، حديث رقم4932، مسلم: كتاب فضائل الصحابة 93.(26/20)
إيذاء النبي ( بكل حال وعلى كل وجه، وإن تولد ذلك الإيذاء مما كان أصله مباحاً، وهو حي قالوا: وقد أعلم ( بإباحة نكاح بنت أبي جهل لعلي ( بقوله (: (لَسْتُ أُحَرِّمُ حَلاَلاً) ولكن نهى عن الجمع بينهما لعلتين:
إحداهما: أن ذلك يؤدي إلى أذى فاطمة، فيتأذى حينئذ النبي ( فيهلك من أذاه، فنهى عن ذلك لكمال شفقته على علي وفاطمة رضي الله عنهما.
والثانية: خوف الفتنة على فاطمة رضي الله عنها بسبب الغيرة.
وبذلك لم تترك السنة منفذاً لأحد أن يطعن في علي (؛ ولو رغب في زواج بنت أبي جهل؛ لأن غاية المنع المحافظة على بيت النبوة، ومراعاة حال أم الحسنين رضي الله عنها وعنهما، فإذا ذكر أهل السنة هذا الحديث فإنما يذكرونه من باب فضل آل البيت لا الطعن في علي (.(26/21)
ولقد حرص بعض الخلفاء الراشدين على مودة القربى بالمصاهرة؛ وعبر عمر بن الخطاب ( عن تلك المودة لمّا تزوج أم كلثوم رضي الله عنها بنت علي (؛ قال: أما واللّه ما بي إلا أني سمعت رسول اللّه ( يقول: (كل سبب ونسب فإنه منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي)(1)، مما يدل على أنه كان يرصد كرامتها، فلقد كانت المصاهرة سبيلاً لمعرفة الفضل، وحيازته، ولن أبرح هذا البند حتى أذكر قصة أسماء بنت عميس التي تزوجت الصديق ثم جعفر ابن أبي طالب، وتزوجت بعد وفاته علي ابن أبي طالب ( قال الشعبي: فتفاخر ابناها محمد بن جعفر، ومحمد ابن أبي بكر؛ فقال كل منهما: أبي خير من أبيك فقال علي: يا أسماء: اقضي بينهما، فقالت: ما رأيت شاباً كان خيراً من جعفر، ولا كهلاً خيراً من أبي بكر، فقال علي: ما تركت منها شيئاً ولو قلت غير هذا لمقتك(2).
__________
(1) . رواه الطبراني والبزار والبيهقي والحافظ الضياء في المختارة وقال السيوطي: صحيح، انظر الجامع الصغير، حديث رقم 6309.
(2) . انظر سير أعلام النبلاء 208/1.(26/22)
المحبة المتبادلة بينهم ومودة الخلفاء الراشدين لذوي القربى: العلاقة بين الخلفاء الراشدين وآل البيت واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار، وهي علاقة مودة ومحبة وطاعة لله ولرسوله (، كما أنها جلية لمن صح إسلامه وصلح قلبه؛ فهم يقرأون قول الله تعالى: {ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أجْرًا إلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ}(1)، ولقد ظهر أثر تلاوة هذه الآية على سلوك الخلفاء وفكرهم؛ أما مودة أبي بكر ( فيوضحها ما روي عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ: (ارْقُبُوا مُحَمَّدًا ( فِي أَهْلِ بَيْتِهِ)(2)، وقال: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَرَابَةُ رَسُولِ اللهِ ( أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ أَصِلَ مِنْ قَرَابَتِي) (3)،
__________
(1) . سورة الشورى آية 23.
(2) . البخاري: كتاب المناقب: باب مَنَاقِبِ قَرَابَةِ رَسُولِ اللَّهِ ( حديث رقم 3509.
(3) . متفق عليه: البخاري: كتاب المغازي، حديث رقم 3508، ومسلم: كتاب الجهاد والسير، حديث رقم 52.(26/23)
وتأمل مباسطة الصديق لعلي رضي الله عنهما فيما روي عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: صَلَّى أَبُو بَكْرٍ ( الْعَصْرَ ثُمَّ خَرَجَ يَمْشِي فَرَأَى الْحَسَنَ يَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيَانِ، فَحَمَلَهُ عَلَى عَاتِقِهِ، وَقَالَ: بِأَبِي؛ شَبِيهٌ بِالنَّبِيِّ لا شَبِيهٌ بِعَلِيٍّ، وَعَلِيٌّ يَضْحَكُ)(1) ، وأما الفاروق عمر( فقد شهد لعلي ( بأن النبي ( التحق بالرفيق الأعلى وهو عنه راض كما شهد له بحل المعضلات والبراعة في القضاء؛ إذ قال في الوصية بالخلافة: (إنِّي لا أَعْلَمُ أَحَدًا أَحَقَّ بِهَذَا الأَمْرِ مِنْ هَؤُلاءِ النَّفَرِ الَّذِينَ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ ( وَهُوَ عَنْهُمْ رَاضٍ فَمَنْ اسْتَخْلَفُوا بَعْدِي فَهُوَ الْخَلِيفَةُ فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا فَسَمَّى عُثْمَانَ وَعَلِيًّا)(2)، ومن المحبة التي كان يكنها عمر بن الخطاب ( لابن عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ عُمَرُ
__________
(1) . البخاري: كتاب المناقب، باب صفة النبي (، حديث رقم 3349
(2) . البخاري: كتاب الجنائز، باب مَا جَاءَ فِي قَبْرِ النَّبِيِّ ( وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، حديث رقم 1328.(26/24)
يُدْخِلُنِي مَعَ أَشْيَاخِ بَدْرٍ، فَقَالَ: بَعْضُهُمْ لِمَ تُدْخِلُ هَذَا الْفَتَى مَعَنَا وَلَنَا أَبْنَاءٌ مِثْلُهُ؟ فَقَالَ: إِنَّهُ مِمَّنْ قَدْ عَلِمْتُمْ، قَالَ: فَدَعَاهُمْ ذَاتَ يَوْمٍ وَدَعَانِي مَعَهُمْ، قَالَ: وَمَا رُئِيتُهُ دَعَانِي يَوْمَئِذٍ إِلا لِيُرِيَهُمْ مِنِّي، فَقَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا} حَتَّى خَتَمَ السُّورَةَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أُمِرْنَا أَنْ نَحْمَدَ اللهَ وَنَسْتَغْفِرَهُ إِذَا نُصِرْنَا وَفُتِحَ عَلَيْنَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لا نَدْرِي أَوْ لَمْ يَقُلْ بَعْضُهُمْ شَيْئًا فَقَالَ لِي: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ أَكَذَاكَ تَقُولُ؟ قُلْتُ: لا، قَالَ: فَمَا تَقُولُ؟ قُلْتُ: هُوَ أَجَلُ رَسُولِ اللهِ ( أَعْلَمَهُ اللهُ لَهُ؛ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ فَتْحُ مَكَّةَ فَذَاكَ عَلامَةُ أَجَلِكَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا قَالَ عُمَرُ مَا أَعْلَمُ مِنْهَا إلا مَا تَعْلَمُ) (1)
__________
(1) . البخاري: كتاب التفسير، باب: قوله: {فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا} حديث رقم 4043.(26/25)
، وكان يقول: نعم ترجمان القرآن عبد الله بن عباس.
وأما محبة عمر ( لعلي فثابتة، ونابعة من حب النبي ( له؛ ففي الصحيح: ( َقَالَ عُمَرُ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ ( وَهُوَ عَنْهُ رَاضٍ)(1)، وعَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ قَالَ: (جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عُمَرَ فَسَأَلَهُ عَنْ عُثْمَانَ، فَذَكَرَ عَنْ مَحَاسِنِ عَمَلِهِ، قَالَ: لَعَلَّ ذَاكَ يَسُوءُكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ فَأَرْغَمَ اللهُ بِأَنْفِكَ، ثُمَّ سَأَلَهُ عَنْ عَلِيٍّ فَذَكَرَ مَحَاسِنَ عَمَلِهِ، قَالَ: هُوَ ذَاكَ بَيْتُهُ أَوْسَطُ بُيُوتِ النَّبِيِّ (، ثُمَّ قَالَ: لَعَلَّ ذَاكَ يَسُوءُكَ؟ قَالَ: أَجَلْ قَالَ فَأَرْغَمَ اللهُ بِأَنْفِكَ، انْطَلِقْ فَاجْهَدْ عَلَيَّ جَهْدَكَ)(2)، قال ابن حجر في قوله: "فأرغم الله بأنف" أي: أوقع الله بك السوء، واشتقاقه من السقوط على الأرض فيلصق الوجه بالرَّغام وهو التراب، وقوله: "فَاجْهَدْ عَلَيَّ جَهْدَكَ"؛ أي: ابلغ على غايتك في حقي، فإن الذي قلته لك الحق،
__________
(1) . البخاري: كتاب المناقب، باب مناقب علي بن أبي طالب (، حديث رقم 3497.
(2) . البخاري: كتاب المناقب، باب مناقب علي بن أبي طالب (، حديث رقم 3501.(26/26)
وقائل الحق لا يبالي بما قيل في حقه من الباطل)(1)، هذه مقتطفات من أقوالهم في أنفسهم، ومعانيها جليلة ووفيرة، يتعاتبون فيبكون، ويتساءلون وبالحق يجيبون، ويفترقون وعلى الحق يجتمعون، وشتان بين اتفاق قلوبهم وافتراق قلوبنا، واجتماعهم على حقهم، وافتراقنا على باطلنا.
وقد ثبت عن علي رضي الله عنه بما لا يدع مجالاً للشك القول بتفضيل أبي بكر ومبايعته عمر وعثمان رضي الله عنهم، فعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ: قُلْتُ لأَبِي: أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ (؟ قَالَ: أَبُو بَكْرٍ، قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ عُمَرُ - وَخَشِيتُ أَنْ يَقُولَ عُثْمَانُ – قُلْتُ: ثُمَّ أَنْتَ؟ قَالَ: مَا أَنَا إلا رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ)(2)، رضي الله عنك يا والد الحسنين؛ كثر فضلك وتواضعك، كما كثر علمك، وحسن عملك، لا أحد ينكر الوصية بأهل البيت واحترامهم وإكرامهم؛ إذ هم من الذرية الطاهرة؛ التي هي أشرف بيت وجد على وجه الأرض؛
__________
(1) . ابن حجر، أحمد بن علي، فتح الباري شرح صحيح البخاري ، دار المعرفة بيروت، 1379، 73/7 .
(2) . البخاري: كتاب المناقب: باب قَوْلِ النَّبِيِّ ( لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا.(26/27)
فخراً وحسباً ونسباً؛ قال العجلوني(1):
لقد حاز آل المصطفى أشرف الفخر بنسبهم للطاهر الطيب الذكر
فحبهم فرض على كل مؤمن أشار إليه الله في محكم الذكر
ومن يدعي من غيرهم نسبة له فذلك ملعون أتى أقبح الوزر
ويغنيهم عن لبس ما خصهم به وجوه لهم أبهى من الشمس والبدر
وقد كان علي ( وآل البيت يجلون عثمان ( ويعترفون بحقه، فكان أول من بايعه بعد عبد الرحمن بن عوف علي بن أبي طالب(2) رضي الله عنهما، ولا يخفى دفاعهم عن بعضهم، وإشادة كل منهم بفضل غيره.
توضيح شبهة الخلاف
بين أبي بكر وفاطمة رضي الله عنهما
__________
(1) . العجلوني، الحسين بن الحسين ، كشف الخفاء دار الفكر، 16/1
(2) . البخاري: كتاب المناقب: باب قِصَّةِ الْبَيْعَةِ وَالاتِّفَاقِ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ.(26/28)
لعل قصة ميراث النبي هي التي ذهبت في البعض كل مذهب؛ ولذلك آثرت أن أقف على صحيح الروايات؛ لتنجلي الغمة؛ فعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ (أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ: أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ اللهِ ( أَرْسَلَتْ إلَىَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ تَسْأَلُهُ مِيرَاثَهَا مِنْ رَسُولِ اللهِ ( مِمَّا أَفَاءَ اللهُ عَلَيْهِ بِالْمَدِينَةِ، وَفَدَكٍ، وَمَا بَقِيَ مِنْ خُمُسِ خَيْبَرَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ ( قَالَ: "لاَ نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ، إنَّمَا يَأْكُلُ آلُ مُحَمَّدٍ ( فِي هَذَا الْمَالِ". وَإِنِّي، واللهِ لاَ أغَيِّرُ شَيْئاً مِنْ صَدَقَةِ رَسُولِ اللهِ ( عَنْ حَالِهَا الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهَا فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ ( وَلأعْمَلَنَّ فِيهَا، بِمَا عَمِلَ بِهِ رَسُولُ اللهِ ( فَأَبَىَ أَبُو بَكْرٍ أَنْ يَدْفَعَ إلَىَ فَاطِمَةَ شَيْئاً، فَوَجَدَتْ فَاطِمَةُ عَلَىَ أَبِي بَكْرٍ فِي ذَلِكَ.قَالَ: فَهَجَرَتْهُ، فَلَمْ تُكَلِّمْهُ حَتَّىَ تُوُفِّيَتْ، وَعَاشَتْ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ ( سِتَّةَ أَشْهُرٍ، فَلَمَّا تُوُفِّيَتْ دَفَنَهَا زَوْجُهَا عَلِيُّ(26/29)
ابْنُ أَبِي طَالِبٍ لَيْلاً، وَلَمْ يُؤْذِنْ بِهَا أَبَا بَكْرٍ، وَصَلَّىَ عَلَيْهَا عَلِيٌّ، وَكَانَ لِعَلِيٍّ مِنَ النَّاسِ وِجْهَةٌ، حَيَاةَ فَاطِمَةَ، فَلَمَّا تُوُفِّيَتِ اسْتَنْكَرَ عَلِيٌّ وُجُوهَ النَّاسَ، فَالْتَمَسَ مُصَالَحَةَ أَبِي بَكْرٍ، وَمُبَايَعَتَهُ، وَلَمْ يَكُنْ بَايَعَ تِلْكَ الأَشْهُرَ، فَأَرْسَلَ إلَىَ أَبِي بَكْرٍ: أَنِ ائْتِنَا، وَلاَ يَأْتِنَا مَعَكَ أَحَدٌ، كَرَاهِيَةَ مَحْضَرِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَقَالَ عُمَرُ لأَبِي بَكْرٍ: واللهِ لاَ تَدْخُلْ عَلَيْهِمْ وَحْدَكَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمَا عَسَاهُمْ أَنْ يَفْعَلُوا بِي، إِنِّي واللهِ لآتِيَنَّهُمْ، فَدَخَلَ عَلَيْهِمْ أَبُو بَكْرٍ، فَتَشَهَّدَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ثُمَّ قَالَ: إِنَّا قَدْ عَرَفْنَا، يَا أَبَا بَكْرٍ فَضِيلَتَكَ وَمَا أَعْطَاكَ اللَّهُ، وَلَمْ نَنْفَسْ(1) عَلَيْكَ خَيْراً سَاقَهُ اللهُ إلَيْكَ، وَلَكِنَّكَ اسْتَبْدَدْتَ عَلَيْنَا بِالأَمْرِ، وَكُنَّا نَحْنُ نَرَىَ لَنَا حَقَّاً لِقَرَابَتِنَا مِنْ
__________
(1) . يقال: نفست عليه: بكسر الفاء، أنفس: بفتحها، نفاسة، وهو: قريب من معنى الحسد.(26/30)
رَسُولِ اللهِ ( فَلَمْ يَزَلْ يُكَلِّمُ أَبَا بَكْرٍ حَتَّىَ فَاضَتْ عَيْنَا أَبِي بَكْرٍ، فَلَمَّا تَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَرَابَةُ رَسُولِ اللهِ ( أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ أَصِلَ مِنْ قَرَابَتِي، وَأَمَّا الَّذِي شَجَرَ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ مِنْ هَذِهِ الأَمْوَالِ، فَإِنِّي لَمْ آلُ فِيهَا عَنِ الْحَقِّ، وَلَمْ أَتْرُكْ أَمْراً رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ ( يَصْنَعُهُ فِيهَا إِلاَّ صَنَعْتُهُ، فَقَالَ عَلِيٌّ لأَبِي بَكْرٍ: مَوْعِدُكَ الْعَشِيَّةُ لِلْبَيْعَةِ، فَلَمَّا صَلَّىَ أَبُو بَكْرٍ صَلاَةَ الظُّهْرِ، رَقِيَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَتَشَهَّدَ، وَذَكَرَ شَأْنَ عَلِيٍّ وَتَخَلُّفَهُ عَنِ الْبَيْعَةِ، وَعُذْرَهُ بِالَّذِي اعْتَذَرَ إِلَيْهِ، ثُمَّ اسْتَغْفَرَ، وَتَشَهَّدَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَعَظَّمَ حَقَّ أَبِي بَكْرٍ، وَأَنَّهُ لَمْ يَحْمِلْهُ عَلَى الَّذِي صَنَعَ نَفَاسَةً عَلَىَ أَبِي بَكْرٍ، وَلاَ إنْكَاراً لِلَّذِي فَضَّلَهُ اللهُ بِهِ، وَلَكِنَّا كُنَّا نَرَى لَنَا فِي الأَمْرِ نَصِيباً، فَاسْتُبِدَّ عَلَيْنَا بِهِ، فَوَجَدْنَا فِي(26/31)
أَنْفُسِنَا، فَسُرَّ بِذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ، وَقَالُوا: أَصَبْتَ، فَكَانَ الْمُسْلِمُونَ إلَىَ عَلِيٍّ قَرِيباً، حِينَ رَاجَعَ الأَمْرَ الْمَعْرُوفَ)، هذه الرواية متفق على صحتها(1)، ولا بد من الوقوف على رأي شراح الحديث؛ لمعرفة جوه التأويل التي توافق سيرة السلف الصالح، وحسن نياتهم؛ ولتفسير العبارات المشتبهة التفسير الصحيح، وإليك هذه العبارات وشرحها:
__________
(1) . متفق عليه: البخاري: كتاب المغازي حديث رقم 3998، ومسلم: كتاب الجهاد، وحديث 52.(26/32)
عبارة ( فَوَجَدَتْ فَاطِمَةُ عَلَىَ أَبِي بَكْرٍ فِي ذَلِكَ.قَالَ: فَهَجَرَتْهُ، فَلَمْ تُكَلِّمْهُ حَتَّىَ تُوُفِّيَتْ) قال النووي(1): (أمَّا ما ذكر من هجران فاطمة أبا بكر ( فمعناه: انقباضها عن لقائه، وليس هذا من الهجران المحرَّم، الَّذي هو ترك السَّلام والإعراض عند اللِّقاء، وقوله في هذا الحديث: (فَلَمْ تُكَلِّمُهُ) يعني: في هذا الأمر، أو لانقباضها، لم تطلب منه حاجة، ولا اضطرت إلى لقائه فتكلِّمه، ولم ينقل قط أنَّهما التقيا فلم تسلِّم عليه، ولا كلَّمته) انتهى؛ ولا يخفى أن فاطمة رضي الله عنها ليست محرمة على أبي بكر، فكيف يتوقع أن تتم المواجهة، وتبادل الكلام، وهي رضي الله عنها لا تقل عنه ( في الوقوف عند حدود الله تعالى، ولكلٍ منهما دليل على رأيه؛ فلا يعدو الخلاف أن يكون في رأي؛ سمع الصديق ( دليله، ولم تسمع هي الدليل(2)
__________
(1) . النووي، يحيى بن شرف، المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج، دار المعرفة، بيروت، 1379، 73/12.
(2) . قال ابن حجر: (روى البيهقي من طريق الشعبي " أن أبا بكر عاد فاطمة، فقال لها علي: هذا أبو بكر يستأذن عليك قالت: أتحب أن آذن له؟ قال: نعم، فأذنت له، فدخل عليها فترضاها حتى رضيت " وهو وإن كان مرسلا فإسناده إلى الشعبي صحيح، وبه يزول الإشكال في جواز تمادي فاطمة عليها السلام على هجر أبي بكر) فتح الباري، مرجع سابق، 202/6.(26/33)
.
عبارة (وَكَانَ لِعَلِيٍّ مِنَ النَّاسِ وِجْهَةٌ، حَيَاةَ فَاطِمَةَ، فَلَمَّا تُوُفِّيَتِ اسْتَنْكَرَ عَلِيٌّ وُجُوهَ النَّاسَ، فَالْتَمَسَ مُصَالَحَةَ أَبِي بَكْرٍ، وَمُبَايَعَتَهُ، وَلَمْ يَكُنْ بَايَعَ تِلْكَ الأشْهُرَ)؛ قال النووي: (أمَّا تأخُّر عليٍّ ( عن البيعة، فقد ذكره عليُّ في هذا الحديث، واعتذر أبو بكر ( ومع هذا فتأخُّره ليس بقادح في البيعة، ولا في أبي بكر، وهكذا كان شأن عليٍّ في تلك المدَّة الَّتي قبل بيعته، فإنَّه لم يظهر على أبي بكر خلافاً، ولا شقَّ العصا، ولكنَّه تأخَّر عن الحضور عنده للعذر المذكور في الحديث) انتهى.
وأما سبب عتب علي ( فلأنَّه مع وجاهته وفضيلته في نفسه في كلِّ شيء، وقربه من النَّبيِّ ( وغير ذلك، رأى أنَّه لا يستبدَّ بأمر إلاَّ بمشورته، وحضوره، وكان عذر أبي بكر، وعمر، وسائر الصَّحابة واضحاً: لأنَّهم رأوا المبادرة بالبيعة من أعظم مصالح المسلمين، وخافوا من تأخيرها حصول خلاف ونزاع تتَّرتب عليه مفاسد عظيمة.(26/34)
وأما سبب تأخير دفن النَّبيِّ ( حتَّى عقدوا البيعة فلكونها كانت أهمَّ الأمور، كيلا يقع نزاع في مدفنه، أو كفنه، أو غسله، أو الصَّلاة عليه، أو غير ذلك، وليس لهم من يفصل الأمور، فرأوا تقدُّم البيعة أهم الأشياء.
عبارة (وَلاَ يَأْتِنَا مَعَكَ أَحَدٌ، كَرَاهِيَةَ مَحْضَرِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَقَالَ عُمَرُ لأَبِي بَكْرٍ: واللهِ لاَ تَدْخُلْ عَلَيْهِمْ وَحْدَكَ)، تعني كراهتهم حضور عمر، وخوف عمر ( دخول أبي بكر ( وحده عليهم؛ قال النووي: (أمَّا كراهتهم لمحضر عمر: فَلِمَا علموا من شدَّته وصدعه بما يظهر له، فخافوا أن ينتصر لأبي بكر ( فيتكلَّم بكلام يوحش قلوبهم على أبي بكر، وكانت قلوبهم قد طابت عليه، وانشرحت له، فخافوا أن يكون حضور عمر سبباً لتغيُّرها، وأمَّا قول عمر: لا تدخل عليهم وحدك، فمعناه: أنَّه خاف أن يغلظوا عليه في المعاتبة، ويحملهم على الإكثار من ذلك لين أبي بكر، وصبره عن الجواب عن نفسه، وربَّما رأى من كلامهم ما غيَّر قلبه، فيترتَّب على ذلك مفسدة خاصَّة، أو عامَّة، وإذا حضر عمر امتنعوا من ذلك.
الخلاصة(26/35)
الخلفاء الأربعة الراشدون أهل فضل وخير، وعاشوا في عصر الخيرية، وواكبوا الرسالة، فلا يمكن أن يتنافسوا على أمر دنيوي، بل كان همهم الوصول إلى الرفيق الأعلى وهو عنهم راض، وكذلك كان.
الخلفاء الراشدون مبشرون بالجنة، على لسان النبي (؛ يشهد على ذلك قف بئر أريس وغيره من الأمكنة والأزمنة؛ فلا شك أنهم في الجنة كما وعدهم وبشرهم الرسول (، وبشارتهم بالجنة على لسان النبي ( الذي لا ينطق عن الهوى حماية لهم من الردة أو الانقلاب على العقب بعد وفاة النبي (.(26/36)
لقد وصفهم النبي ( بصفات متكاملة؛ كالتصديق، والشهادة، والمؤازرة، والمناصرة، والخلة الصالحة، والمعية المباركة، والحياء مع الشجاعة، وموافقة الوحي، حتى جمعوا صفات المُنعَم عليهم والأحسن رفقة؛ كما في قوله تعالى: {وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا}(1)، ولقد وُصف بعضهم بأن الشيطان يخاف منه؛ فلا مجال للمفاضلة بين الخلفاء الأربعة الآن، لأن التفاضل بالتقوى، وهم عند ربهم، وهو أرحم بهم وأعلم بتقواهم، ولا فائدة يجنيها المسلمون من وراء هذه المفاضلة، بل تزيد المسلمين انقساماً وتشتتاً.
مصاهرة النبي ( المعصوم لهم؛ زواجاً وتزويجاً، جعل من بنتي أبي بكر وعمر (عائشة وحفصة) رضي الله عنهم أمهات المؤمنين، ورفع عثمان ( إلى مرتبة عالية سُمي من خلالها بذي النورين، واقتران علي ( بالزهراء أثمر أهل الكساء.
__________
(1) . سورة النساء آية 69.(26/37)
علاقة الخلفاء بذوي القربى من آل البيت علاقة مودة؛ أملتها عليهم نصوص القرآن، ومحبة النبي ( ورجاء القرب منه، ولما سمع الفاروق حديث رسول اللّه ( يقول: (كل سبب ونسب فإنه منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي)(1) تزوج (أم كلثوم) بنت علي بن أبي طالب (؛ فكانت المصاهرة سبيلاً لمعرفة الفضل، وحيازته.
المحبة المتبادلة بين الخلفاء الأربعة، دعت الصديق أن يقول: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَرَابَةُ رَسُولِ اللهِ ( أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ أَصِلَ مِنْ قَرَابَتِي)(2)، وهي عبارات باقي الخلفاء، مع اختلاف في الألفاظ؛ ولا أنسى المباسطة؛ كما في قول الصديق ( وهو يلاعب الحسن (: (بِأَبِي؛ شَبِيهٌ بِالنَّبِيِّ لا شَبِيهٌ بِعَلِيٍّ، وَعَلِيٌّ يَضْحَكُ)(3) .
__________
(1) . سبق تخريجه.
(2) . متفق عليه: البخاري: كتاب المغازي، حديث رقم 3508، ومسلم: كتاب الجهاد والسير، حديث رقم 52.
(3) . سبق تخريجه.(26/38)
أن علياً ( لم يستنكف عن بيعة أبي بكر ( وإنما تأخر، ثم بايع، ولو كان منكراً لخلافة الصديق ( لما بايعه مطلقاً، وعنده من الشجاعة والعلم ما يمكنه أن يجهر برأيه؛ كما حصل في حروبه إبان خلافته، ولكنه بايع الصديق، وأبدى رأيه، وأشاد بفضله، فلا مجال للطعن أو للتشكيك في أمر المبايعة، وقد حصلت.
لا حاجة للحكم على الخلفاء الأربعة من خلال أفعال الذين جاءوا بعدهم؛ بل إن هذا الحكم جائر؛ إذ كيف تحكم على الوالد بفعل الولد، والله تعالى يقول: {وَأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إلا مَا سَعَى}(1).
__________
(1) . سورة النجم 39.(26/39)
... ... ... تنمية وتفعيل الشخصية القيادية
في السنة والسيرة النبوية
إعداد
هداية الله أحمد الشاش(1)
1427هـ - 2006م
المقدمة
... ... القيادة من أهم المسائل التي تفتقدها أمتنا الإسلامية ؛ بالرغم من أن الإسلام صنع القادة العظام ، ورعاهم ووجههم ، ولا يستطيع أحد أن ينكر هذه الحقيقة التاريخية .
... ما الذي دهانا ونحن ننتظر الفرج دون السعي لنكون رائدين لأمتنا في عصر بلغت فيه من الوهن الحضاري مبلغاً لما تبلغه في تاريخها أوهن وأشد منه .
... لقد مللنا من السلبية والتشكي ن سوء الحال وبؤسه ؛ وشغلنا هذا التشكي واللوم ونقد الفساد الإداري والمؤسساتي واستغلال المناصب القيادية ، شغلنا عن محاولة تغيير أنفسنا وتطويرها ومن ثم تغيير من حولنا، كل منا في دائرته من خلال الأسرة والمدرسة والمسجد .
__________
(1) باحثة وكاتبة ومحاضرة في العلوم الشرعية والتربوية ، خبيرة ومستشارة تربوية ، رئيسة حملة التوعية الأسرية بجمعية التعليم بحلب ، جوال 0096396966246 / البريد الالكتروني : muhammadaswad@hotmail.com(27/1)
... نعم إن للوسط أبرز الأدوار في تكوين أو تفعيل الشخصية ؛ وما يهمنا وجود المسئولية الاجتماعية لدى أفراد المجتمع المسلم ؛ فهذا الوسط ينبغي أن يوجَه بحيث ينمّي الخواص الاجتماعية للشخصية المسلمة ، وهي الوعي والمرحمة والإلف ، هذا الخواص إنما تنمو بالعمل التعليمي التفاعلي الاجتماعي منذ السن المبكر، وتنمو هذه الخواص بتنمية الإحساس بالآخرين والحساسية للآخرين والطواعية لقيم المجتمع المسلم ومعاييره والتوحد مع هذه الجماعة ؛ وكذلك بتنمية تقويم الفرد للجماعة واستجابة الفرد لتقويم الجماعة له ، وبالوعي أيضاً بمعنى الجماعة ، والتقبل والصبر والتسامح في التعامل مع الجماعة .
... وإنه بفهم الفرد للمسئولية الاجتماعية واهتمامه بها ومشاركته فيها ؛ تتكامل الشخصية الاجتماعية المسلمة فبفهم هذه المسئولية يرتبط بالاهتمام بها ، ويتجلى هذا الفهم بالرعاية العملية .. (1) .
__________
(1) المسئولية الاجتماعية والشخصية المسلمة – دراسة نفسية تربوية ، د. سيد أحمد عثمان : 136 وما بعدها بتصرف.(27/2)
... من هذا المدخل أصل إلى أن الوعي بالمسئولية الاجتماعية يشكل حجر الأساس في بناء الشخصية القيادية، فالمجتمع أفراد وقيادات مسئولة ، يتخرج الفرد من هذا الوسط الموجه ليكون قيادة ؛ لها خواصها وصفاتها ومهاراتها ووظائفها .. ثم تخرج القيادة في المجتمع أفراداً ؛ وهكذا نلاحظ وجود التأثر والتأثير لكل منهما على الآخر .
... وإذا أرنا أن نفهم الجانب الاجتماعي بشكل عام والجانب القيادي للشخصية بشكل خاص ؛ فلا بد أن ندرس الشخصية التاريخية العالمية الأبرز في هذا المجال وهي شخصية سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - .
... ذلك المثل الحي والعملي والنموذجي للقيادة الكاملة ، والتي تجسدت فيها الريادة والتوجيه ، وإرشاد البشرية إلى طريق الخير حتى قيام الساعة ، هذه القيادة صالحة لكل الأزمان والأحوال ، ويلزم كل من جاء بعده - صلى الله عليه وسلم - أن يتبعه في منهجه القيادي .(27/3)
... ولقد ورّث الرسول - صلى الله عليه وسلم - صحبه الكرام صفات هذه القيادة ؛ ليستمر الطريق من بعده - صلى الله عليه وسلم - وعلى منهجه القيادي الذي اتبعوه اتباعاً مخلصاً صادقاً ؛ وكان نجاحهم قائماً على أساس كونهم أتباع صدق لمحمد - صلى الله عليه وسلم - ، وقادة تخرجوا من مدرسة النبوة .
... ولقد أعطى القرآن الكريم حكماً واضحاً صريحاً في أن النموذج الحسن الواجب الاتباع ينحصر في شخص سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة " (1) ؛ ولذلك فإن المجتمع المسلم لا يستطيع أن يرتقي إلى مرتبة القيادة دون اتباع كامل للنبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ ولذلك كانت للقيادة في المجتمع المسلم صفات وملامح محددة كي تقود وكي تسود (2) .
خطة البحث
المقدمة .
المبحث الأول : القيادة والسنة النبوية .
السنة النبوية مصدراً للمعارف الإنسانية .
أزمة المسلمين المعاصرة في التخلف وعدم الفاعلية .
تعريف القائد والقيادة .
هل القيادة ملكة أم تكوين ؟
الرسول ( القائد .
__________
(1) سورة الأحزاب ، الآية : 21.
(2) التغيير على منهاج النبوة ، جمعة أمين عبد العزيز : 422-123 بتصرف.(27/4)
المبحث الثاني : رعاية القادة وتوجيههم في السنة النبوية .
تأهيل القيادات أمانة ورسالة .
القائد ضرورته واختياره في السنة النبوية .
صفات القائد المسلم .
منهج إعداد القائد في السنة النبوية .
قواعد القيادة والتحكم من خلال السنة والسيرة النبوية :
المعرفة .
الإدارة .
التوجيه .
النفوذ .
المهارات الاجتماعية للشخصية القيادية من خلال السنة السيرة النبوية :
الفهم ومهارة الاتصال .
التأثير .
التشجيع .
بناء العلاقات .
المبحث الأول : القيادة والسنة النبوية .
السنة النبوية مصدراً للمعارف الإنسانية
... ... عني المسلمون في مختلف العصور بالسنة النبوية باعتبارها مصدراً ثانياً للتشريع والأحكام بعد كتاب الله تعالى؛ بيد أن هناك مجالاً آخر لم يأخذ حقه الكافي من دراسة الدارسين وبحث الباحثين ؛ ذلكم هو مصدرية السنة النبوية للمعرفة .
... ... وأصل ذلك أن السنة وبخاصة السنة القولية تتضمن أخباراً وإنشاءات – شأنها شأن كل كلام – فالإنشاء هو ما كان من الأمر أو النهي وما في معناهما ؛ ومنه نشأت الأحكام التي عليها مدار الفقه والتشريع ، وقام على أساسها التعبد والسلوك .(27/5)
... ... والخبر هو المجال الأوسع للمعرفة ؛ وخصوصاً فيما لا يدخل في نطاق الحس أو العقل ؛ كحقائق الوجود وعوالم الغيب وأنباء المستقبل .. وغيرها .
... ... ولا نعني أن الإرشادات والأوامر والنواهي النبوية لا تحمل في طياتها معارف ؛ كلا فقد تشير إلى معارف وحقائق نفسية واجتماعية وتربوية واقتصادية وإنسانية ؛ ويجد فيها أهل الاختصاص كنوزاً من المعارف لا يقدر قيمتها إلا العارفون .
... ... إنما نقول إن الخبر هو الأصل في إفادة المعرفة ، والإنشاء تأتي المعرفة معه تبعاً ، وقد ذكر الله تعالى وظائف الرسالة المحمدية في أربع آيات من كتابه ( :ويعلمهم الكتاب والحكمة((1) ، وزاد في آية أخرى (:ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون ((2) فالجزء المعرفي التعليمي جزء من المهمة النبوية الشريفة(3).
__________
(1) سورة البقرة، الآية :129، آل عمران : 164 ، الجمعة : 2.
(2) سورة البقرة، الآية :151.
(3) السنة مصدراً للمعرفة والحضارة ، د. يوسف القرضاوي : 131، 8 بتصرف .(27/6)
... فالسنة النبوية تعتبر – باعتبارها التجسيد العملي للرسالة الإلهية- أول وأوثق مصادر المعرفة السمعية اليقينية في حياة الإسلام والنسق الفكري للمسلمين (1) .
أزمة المسلمين المعاصرة في التخلف وعدم الفاعلية :
... ... إننا – معشر المسلمين - نعيش اليوم أزمة تخلف مريرة في كل شيء ، فما عدنا نقود الأمم ، ولا يوجد عندنا مقومات قيادة الأمم ؛ بالرغم من وجود المنهج الصافي المتمثل في القرآن والسنة ! لكن المشكلة من الذي يطبقها ؟ الذي لا يفهمها ! عندها يصدق فينا حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي يرويه أبو الدرداء - رضي الله عنه - الذي يقول : كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فشخص ببصره إلى السماء ، ثم قال : " هذا أوان يختلس العلم من الناس ؛ حتى لا يقدروا منه على شيء " ، فقال زياد بن لبيد الأنصاري : كيف يختلس منا وقد قرأنا القرآن ؟ فوالله لنقرأنه ولنُقرأنه أبناءنا ونساءنا ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - " ثكلتك أمك يا زياد ، إن كنت لأعدك من فقهاء أهل المدينة ، هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى فماذا تغني عنهم ؟ "
__________
(1) السنة النبوية والمعرفة الإنسانية , د. محمد عمارة : 18 .(27/7)
(1) .
... ... إننا ما عدنا نشعر بالخيرية التي ذكرها الله تعالى في كتابه(: كنتم خير أمة أخرجت للناس ((2) ، والخيرية التي ذكرها ربعي بن عامر عندما قال : " إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ".
__________
(1) رواه الترمذي في كتاب العلم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، باب ما جاء في ذهاب العلم ، الحديث 2653 : 5/31 ، وقال : هذا حديث حسن غريب ، ومعاوية بن صالح ثقة ، ولا نعلم أحدا تكلم يحيى بن سعيد القطان ، وقد روي عن معاوية بن صالح نحو هذا ، وروى بعضهم هذا الحديث عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن عوف بن مالك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
(2) سورة آل عمران، الآية :11.(27/8)
... يقول - صلى الله عليه وسلم -: " تقوم الساعة والروم أكثر الناس " .. ثم قال عمرو بن العاص - رضي الله عنه - : .. إنهم لأحلم الناس عند فتنة ، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة ، وأوشكهم كرة بعد فرة ، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف، وخامسة حسنة جميلة : وأمنعهم من ظلم الملوك" (1).
... ... وللأسف فأزمتنا تنبع من التأثير والتشكيل في عقول الناس ، مع أزمة استشعار لثقل القيادة كما استشعرها عظماؤنا في التاريخ الإسلامي ، وبفقد استشعار ثقل القيادة جاء حب المناصب والزعامات ، والتطاحن من أجلها ؛ فتقدم غيرُ ذوي الكفاءة على الكفؤ (2).
تعريف القائد والقيادة :
... ... في لسان العرب : القَود نقيض السوق : يقال يقود الدابة من أمامها ويسوقها من خلفها (3)، والقيادة : هي عملية تحريك الناس نحو الهدف .
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة ، باب تقوم الساعة والروم أكثر الناس ، الحديث 2898: 4/2222 .
(2) صناعة القائد ، د. طارق السويدان ، فيصل باشراحيل ، ط2 ، مطبوع على نفقة المؤلفين ، 1424هـ-2003م : 43-45 بتصرف .
(3) لسان العرب ، ابن منظور : مادة قود .(27/9)
... ... ومن هنا نحاول أن نصل إلى تعريف القيادة الإسلامية فنقول :هي عملية تحريك الناس نحو الهدف الدنيوي والأخروي وفق قيم وشريعة الإسلام (1).
وأهمية القيادة مختصرة في كلام الأفوه الأودي وهو شاعر جاهلي حيث قال :
لا يَصْلُحُ الناسُ فوضى لا سَراةَ لهم ولا سَراةَ إذا جُهَّالهم سادوا
والبيتُ لا يُبْتنى إلَّا على عُمٍد ولا عمادَ إذا لم تُرْسَ أوتادُ
فإن تَجمَّع أوتادٌ وأعمدةٌ وساكنٌ أبلغوا الأمرَ الذي كادوا(2)
هل القيادة ملكة أم تكوين ؟
__________
(1) صناعة القائد ، د. طارق السويدان ، فيصل باشراحيل : 41 .
(2) صناعة القائد ، د. طارق السويدان ، فيصل باشراحيل :42.(27/10)
... ... القيادة ملكة وتكوين ؛ فإننا نستطيع أن نتعلم الأساليب والمهارات وطرق التخاطب ونحوها بسهولة , ونستطيع أن نتقن النظريات والإستراتيجيات والأساليب القيادية من خلال تدريبات قصيرة أو طويلة , ولكن الذي لا نستطيع إحرازه بسهولة هو المشاعر وسرعة البديهة والعاطفة والرغبات والاهتمام والتعاطف .. ونحوها من الأمور العاطفية التي تصنع القائد . وهناك أناس أُلهموا القيادة , وأناس لم يلهموا , القائد يُصنع بالتدريب والتعليم وإصقال المهارات والتوجيه, سنتنا في ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -للأشج - رضي الله عنه - : " إن فيك خلتين يحبهما الله : الحلم والأناة ، قال : يا رسول الله , أنا أتخلَّق بهما أم الله جبلني عليهما ؟ قال : الله جبلك عليهما , قال : الحمد لله الذي جبلني على خلتين يحبهما الله ورسوله (1) ، وهذا يعني أن الصفة فطرية ، وفي المقابل روي أن رجلاً قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - أوصني ، قال : " لا تغضب " فردد مراراً ، قال : " لا تغضب " (2)
__________
(1) رواه أبو داود في كتاب الأدب ، باب في قُبلة الجسد ، الحديث 5225 : 4/357 .
(2) رواه البخاري في كتاب الأدب ، باب الحذر من الغضب .. ، الحديث 5765 ،5/2267 .(27/11)
, وهذا يدل على أن المسألة قابلة للتعلم (1) .
الرسول ( القائد :
... لعل من أبرز ما يشد الباحث في جوانب العظمة في شخصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو عظمته - صلى الله عليه وسلم - في الجانب القيادي ؛ وهذا بالفعل ما جذب الباحثون في التاريخ في الشرق والغرب ؛ ولهذا عدوه - صلى الله عليه وسلم - أول العظماء في التاريخ - وأذكر أقوالهم هنا لأهمية هذا الموضوع ؛ فهذا مايكل هـ. هارت يقول :"محمد هو الرجل الوحيد في التاريخ الذي تحقق له النجاح الكامل – كل الكمال – على المستوى الديني والدنيوي ، لقد وضع محمد أسس واحد من أعظم الأديان في العالم .. وأصبح أيضاً قائداً سياسياً عظيم التأثير ، واليوم بعد أكثر من ثلاثة عشر قرناً بعد وفاته لا يزال تأثيره قوياً واسع الانتشار ..... فمن الجائز لنا أن نعتبره بحق جديراً بأن يكون هو أعظم القادة السياسيين تأثيراً في كل عصور التاريخ البشري ..... إنه هو إذن التآلف المنقطع النظير بين ما هو دنيوي وما هو ديني ، وهو الذي يجعلني أرشّح محمداً - صلى الله عليه وسلم - ليكون الشخص الأوحد الأكثر تأثيراً في التاريخ
__________
(1) صناعة القائد ، د. طارق السويدان ، فيصل باشراحيل : 61-62 .(27/12)
الإنساني " أ.هـ(1).
... ويقول المؤرخ الأمريكي وليام ماكنيل : " لو كنا نقوم بقياس القيادة قياساً شاملاً سيكون لدينا أسماء هؤلاء القادة العظام في التاريخ : المسيح ، بوذا ، محمد ، كونفوشيوس " .
... ويقول جيمس جافين رجل القوات المسلحة الأمريكية وهو جنرال متقاعد : " .. أبرزهم هو محمد وعيسى المسيح، وربما نعتبر منهم أيضاً لينين ، ومن الممكن أن نعتبر منهم أيضاً ماو ، وبالنسبة للقائد الذي نستطيع أن نستفيد من مميزاته الآن فأنا أختار جون فيتز جيرالد كيندي " .
... أما جون ماسرمان المحلل النفسي الأمريكي وأستاذ علم النفس في جامعة شيكاغو – وهو يهودي - ؛ فيتحدث عما أريد الحديث عنه في هذا البحث فيقول : " إن القادة يلزم أن يؤدي كل منهم ثلاث وظائف في غاية الأهمية :
- الوظيفة الأولى للشخص العظيم : هي أن يحقق مصلحة للجماعة التي يقودها .
- الوظيفة الثانية : هي أن القائد الحقيقي يجب أن يوفر لأتباعه نظاماً اجتماعياً يشعر فيه الناس بالأمن .
__________
(1) محمد - صلى الله عليه وسلم - أعظم عظماء العالم : 5 وما بعدها .(27/13)
- الوظيفة الثالثة للقائد الحقيقي : هي أن يكون قادراً أن يمد أتباعه بمجموعة متسقة من العقائد الصحيحة"... ثم يذكر ماسرمان عدداً من الشخصيات التاريخية كغاندي وهتلر وبوذا ؛ ثم يصل في نهاية تحليله إلى أن يقول : " ربما كان أعظم قائد في كل عصور التاريخ هو محمد ، فهو وحده الذي جمع المزايا الثلاث والوظائف الثلاث للقائد ، وكان موسى أقل منه درجة " (1)
المبحث الثاني : رعاية القادة وتوجيههم في السنة النبوية .
تأهيل القيادات أمانة ورسالة
... ... إن من المبادئ التي تستخلص من السنة النبوية في القيادة وإعداد القادة تؤكد أن القيادة أمانة ورسالة , وأن إعداد الرجال ليكونوا قادة من أسمى مهام القيادة , وأن قيمة أية قيادة تقاس بمقدار ما صنعت وقدمت لأمتها من رجال صالحين لتولي القيادة .
__________
(1) محمد - صلى الله عليه وسلم - أعظم عظماء العالم ، أحمد ديدات ، مايكل هارت : 26وما بعدها نقلاً عن مجلة تايم الأمريكية في 15 يوليه 1974م .(27/14)
... فيقرر عليه الصلاة والسلام أن القائد الذي يريده الإسلام هو القائد المعلم الذي يدرك مسئوليته نحو أتباعه فيجعل على رأس اهتماماته إعدادهم للقيادة , وتعهدهم بالتدريب والتوجيه , ومن ذلك أن يفوض إليهم بعض الصلاحيات , ويعهد إليهم ببعض المهام , ويسند إليهم القيادة تحت رعايته وإشرافه .
... ... أما القائد الذي لا يرضى عنه الإسلام فهو القائد السلبي الذي لا تصل به قدراته أو إيمانه وإدراكه لمسئوليته إلى حد السعي إلى إعداد غيره للقيادة , فنراه لا يحفل بأكثر من تصريف الأمور , ويترك معاونيه ومرءوسيه لعوامل الصدفة في التعلم , ومن هذا النمط من القيادة من يركز كل الأمور في يده , ويحسب أن من صالحه أن يقال عنه : إن الأمور تختل إذا غاب عن قيادته , وقد ينطوي هذا السلوك على سوء النية والحقد وكراهية النجاح لغيره فيتضاعف ضرره .(27/15)
... ... فالقائد المسلم صاحب مدرسة ورسالة , ويدرك تمام الإدراك أن قيامه ببناء القادة من رجاله من أسمى واجباته , وأمانة في عنقه , فنراه يقبل على أداء الواجب وعلى الوفاء بالأمانة بكل حماسة وإخلاص وحيوية دافقة , وذلك بعض ما ينطوي عليه قوله- صلى الله عليه وسلم - : " كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته " (1) .
... ... ولقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو المعلم الذي تنزل عليه الوحي برسالة الإسلام ليبلغها للناس , وصاحب المدرسة التي تخرج منها قادة أمم , وعباقرة حروب , ورجال صلح , وعلماء فلسفة , ورواد حضارة حملوا مشاعل الحرية والنور والعلم للإنسانية جمعاء .
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الجمعة ، باب الجمعة في القرى والمدن ، الحديث 853 : 1/304 .(27/16)
... ... وقد بلغ عدد قادة الفتح الإسلامي 256 قائدا , منهم 216 قائدا من صحابة الرسول القائد - صلى الله عليه وسلم - ، و40 من التابعين بإحسان- رضي الله عنهم - , وهؤلاء هم الذين حملوا رايات المسلمين شرقاً وغرباً , فامتدت فتوحاتهم في أقل من 100 عام من حدود الصين شرقاً إلى شاطئ الأطلسي غرباً (1) .
القائد ضرورته واختياره في السنة النبوية
ج
مبدأ ضرورة القائد وحقه في الطاعة :
... ... قرر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضرورة وجود قائد للجماعة ؛ حتى ولو كانت صغيرة جداً ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : " إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم " (2) ، وقال أيضاً : " لا يحل لثلاثة نفر يكونون بأرض فلاة إلا أمروا عليهم أحدهم" (3) .
__________
(1) سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في القيادة وإدارة الحرب ، محمد جمال الدين محفوظ : 282-283-284 .
(2) رواه أبو داود في كتاب الجهاد ، باب في القوم يسافرون يؤمرون أحدهم ، الحديث 608 : 3/36 .
(3) رواه أحمد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما ، الحديث 6647 : 2/176 .(27/17)
... ... وقد كرم الإسلام القائد خير تكريم ، ووضعه في أسمى منزلة فقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } (1) ، وقال - صلى الله عليه وسلم - : " اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة " (2) .
... ... ولكن الطاعة التي يريدها الإسلام هي طاعة واعية بصيرة كما قال - صلى الله عليه وسلم - : " إنما الطاعة في المعروف"(3)، وقال : " لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق " (4) .
اختيار القائد وتفعيله وتنميته في السنة النبوية :
__________
(1) سورة النساء ، الآية : 59 .
(2) رواه البخاري في كتاب الأحكام ، باب الطاعة للإمام مالم تكن معصية ، الحديث 6723 ، :6/2612.
(3) رواه البخاري في كتاب الأحكام ، باب الطاعة للإمام مالم تكن معصية ، الحديث 6726 : 6/2612.
(4) رواه الشهاب في مسندة في لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق عن عمران بن حصين ، الحديث : 873 ، 2/55 .(27/18)
... ... أبدأ أولاً في كيفية تعامل الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع القادة الذين عيّنهم ؛ فتعامله - صلى الله عليه وسلم - معهم يتمثل في عدة أوجه ؛ فمنها أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يعطيهم فرصة للحوار وإبداء الرأي كما حاور عمر - رضي الله عنه - الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعد صلح الحديبية في الحديث الذي يرويه حين قال للرسول - صلى الله عليه وسلم - : ألست نبي الله حقا ؟ قال بلى ، قلت : ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ؟ قال : بلى ، قلت فلم نعطي الدنية في ديننا إذاً ؟ قال : إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري ، قلت : أو ليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به ؟ قال : بلى ، فأخبرتك أنا نأتيه العام ؟ قال : قلت لا، قال فإنك آتيه ومطوف به " (1) .
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الشروط ، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط ، الحديث 2581 :2/978 .(27/19)
... ومن ذلك منحهم حرية وصلاحيات واسعة مع الإرشاد والمتابعة ، كحوار الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع معاذ حين بعثه مع معاذ حين بعثه إلى اليمن ، حين سأله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " كيف تقضي إذا عرض لك قضاء ؟ " ، قال أقضي بكتاب الله ، قال : " فإن لم تجد في كتاب الله ؟ " قال : فبسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال : " فإن لم تجد في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا في كتاب الله ؟ " ، قال : أجتهد رأيي ولا آلو ، فضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صدره وقال : " الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله " (1) .
__________
(1) الحديث رواه أبو داود في كتاب كيف القضاء ، باب اجتهاد الرأي في القضاء ، الحديث 3592 : 3/303 .(27/20)
... ومن ذلك منح بعضهم خصوصيات وأسرار تظهر خصوصيتهم عن غيرهم ؛ كسؤال الرسول - صلى الله عليه وسلم - أسامة بن زيد واستشارته له في قضية الإفك ؛ حينها أجابه أسامة - رضي الله عنه - : " هم أهلك ولا نعلم إلا خيراً ً" (1) ، ومن تعامله - صلى الله عليه وسلم - مع القادة البارزين من الصحابة - رضي الله عنهم - التجاوز عن هفواتهم كتسامحه مع حاطب بن أبي بلتعة البدري - رضي الله عنه - (2) ، وتسامحه مع جرأة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في بعض المواقف التي بدا فيها - رضي الله عنه - متحمساً للدفاع عن الإسلام أو عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
__________
(1) رواه مسلم كتاب التوبة ، باب في حديث الإفك وقبول توبة القاذف ، الحديث2770: 4/2129 .
(2) رواه البخاري في كتاب الجهاد والسير ، باب الجاسوس وقول الله تعالى { لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء } .. الحديث 2845 : 3/ 1095 .(27/21)
... ... ويقرر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن المعيار الأمثل لاختيار القائد هو أن يجمع القائد بين الكفاية وحب الفريق له ، فقال عليه الصلاة والسلام : " من استعمل رجلاً من عصابة ، وفي تلك العصابة من هو أرضى لله منه فقد المطلوب ؛ وخان رسوله وخان المؤمنين " (1) .
... وقال أيضاً : " من استعمل رجلاً من عصابة وفيهم من هو أرضى لله منه ؛ فقد خان الله ورسوله والمؤمنين"(2).
__________
(1) أخرجه الحاكم في المستدرك في كتاب الأحكام ، وقال هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، 7023 : 4/104 .
(2) أخرجه الحاكم في المستدرك في كتاب الأحكام ، وقال هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، 7023 : 4/104 .(27/22)
... عن طلحة بن عبيد الله أنه صلى بقوم فلما انصرف قال : إني نسيت أن أستأمركم قبل أن أتقدم ؛ أرضيتم بصلاتي؟ قالوا : نعم ، ومن يكره ذلك يا حواري رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال : إني سمعت رسول - صلى الله عليه وسلم - يقول : " أيما رجل أم قوما وهم له كارهون لم تجز صلاته اليسرى " (1) .
... ... فهذا الحديث يضم الشرطين الرئيسيين لاختيار القائد ؛ وهما الكفاءة والحب :
__________
(1) ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد باب فيمن أم قوما وهم له كارهون : 2/67 ، وقال : رواه الطبراني في الكبير من رواية سليمان بن أيوب الطلحي قال فيه أبو زرعة عامة أحاديثه لا يتابع عليها ، وقال صاحب الميزان صاحب مناكير وقد وثق .
وقال الأحوذي في التحفة : قوله أخبرنا محمد بن القاسم الأسدي قال العراقي لم أر له ثم المصنف يعني الترمذي إلا هذا الحديث ، وليس له في بقية الكتب شيء وهو ضعيف جداً ، كذبه أحمد والدارقطني ، وقال أحمد أحاديثه موضوعة عن الفضل بن دلهم بفتح الدال وسكون اللام بوزن جعفر هو لين رمي بالاعتزال من السابعة عن الحسن هو الحسن البصري : 2/288 .(27/23)
الكفاءة – في القسم الأول من الحديث – وهي أساس التفضيل عند الاختيار - إلى درجة أن الانحراف عنها باختيار قائد للجماعة مع أن هناك من هو أفضل منه ؛ يعد غشاً لله ولرسوله ولجماعة المسلمين .
الحب – في القسم الثاني من الحديث - الذي تبلغ أهميته كشرط في اختيار القائد ، إلى حد عدم قبول الصلاة من الإمام الذي يكرهه الناس .
... ... ... ... وقال - صلى الله عليه وسلم - : " خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم ، وتصلون عليهم ويصلون عليكم ، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم ، وتلعنونهم ويلعنونكم " (1) .
أمانة اختيار القائد :
... يقرر - صلى الله عليه وسلم - أن أمانة الاختيار هي الطريق لوضع الرجل المناسب في المكان المناسب ؛ وأنها تعني استقامة الضمير ونقاء النفس وشجاعة الرأي وخلوص القلب من الجبن والرياء والنفاق ؛ على أساس من العلم والمعرفة ؛ وتعني تنزه الإنسان عن اختيار غير الأكفاء لمنفعة أو هوى .
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الإمارة ، باب خيار الأئمة وشرارهم ، الحديث 1855 : 3/1481 .(27/24)
... فعن أبي ذر الغفاري - رضي الله عنه - قال : قلت يا رسول الله ، ألا تستعملني ؟ - أي توليني عملاً عاماً - ، قال فضرب بيده على منكبي ثم قال : يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها أمانة ، وإنها يوم القيامة خزي وندامة ؛ إلا من أخذها بحقها ، وأدى الذي عليه فيها " (1) .
... ... وعنه أيضاً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " يا أبا ذر إني أراك ضعيفاً ، وإني أحب لك ما أحب لنفسي ، لا تؤَّمرن على اثنين ، ولا تَولينَّ مال يتيم " (2) ، والمقصود من كلامه - صلى الله عليه وسلم - أنه يراه ضعيفاً لا يقوى على ممارسة القيادة أو إدارة مال اليتيم ، وقد فسر ضعف أبي ذر بضعفه عن القيام بوظائف الولايات ؛ لأن الغالب على أبي ذر - رضي الله عنه - الزهد والإعراض عن الدنيا .
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الإمارة ، باب كراهة الإمارة بغير ضرورة ، الحديث 1825 : 3/ 1425 .
(2) رواه مسلم في كتاب الإمارة ، باب كراهة الإمارة بغير ضرورة ، الحديث 1825 : 3/ 1426 .(27/25)
... ... وعن يزيد بن أبي سفيان قال : قال لي أبي بكر الصديق حين بعثني إلى الشام : يا يزيد إن لك قرابة عسيت أن تؤثرهم بالإمارة ، وذلك أكثر ما أخاف عليك بعدما قال رسول - صلى الله عليه وسلم - : " قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من ولي من أمر المسلمين شيئاً ؛ فأمر عليهم أحداً محاباة ؛ فعليه لعنة الله ؛ لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً حتى يدخله جهنم " (1).
__________
(1) أخرجه الحاكم في المستدرك في كتاب الأحكام ، وقال هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، 7024 : 4/104 .(27/26)
... ... ومن أروع صور التجرد من الهوى وعدم المحاباة حرص النبي - صلى الله عليه وسلم -أن يواجه آل بيته قبل غيرهم مكاره الحرب ، وأن يقاسموا المسلمين في شدائدها ومصاعبها وبخاصة حين نادى المشركون : يا محمد ، أخرج لنا الأكفاء من قومنا، فقال عليه الصلاة والسلام : " يا بني هاشم قوموا قاتلوا بحقكم الذي بعث الله به نبيكم إذ جاءوا بباطلهم ليطفئوا نور الله " ، فقام حمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب بن عبد مناف (1) .
... ... كذلك عيّن - صلى الله عليه وسلم - بلالاً - رضي الله عنه - والياً على المدينة ، وفيها من فيها من الأنصار والمهاجرين ، وولى أسامة بن زيد قيادة جيش فيه أبو بكر وعمر وكبار الصحابة - رضي الله عنهم - ، وبعث عبادة بن الصامت سفيراً للمسلمين إلى المقوقس .
__________
(1) ذكره الزهري في الطبقات في ذكر عدد مغازي - صلى الله عليه وسلم - وسراياه وأسمائها وتواريخها وجمل ما كان في كل غزاة وسرية منه ؛ في غزوة بدر : 2/17 .(27/27)
... ... ثم إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يُقصر أمانة الاختيار على المسئول عن تعيين القادة ؛ بل يضم إليه كل من يستشار في أمر الاختيار ، فيقول - صلى الله عليه وسلم - : " من شهد على مسلم شهادة ليس لها بأهل ؛ فليتبوأ مقعده من النار " (1) .
... ... إن شأن الذي لا يختار بأمانة ، وشأن من يستشار ولا يقول رأيه بصدق وإخلاص ، واختيار من لا يصلح ؛ شأن من يشهد شهادة الزور ، والشهادة الكاذبة من مظالم اللسان التي يضيع بها الحق ، وتختفي معالم العدل ، والله تعالى حذر من قول الزور ، وقرنه بعبادة الأوثان فيقول : { فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور } (2).
... ... ... وشأن من يتجنب إبداء الرأي في اختيار الأصلح ؛ شأن من يكتم الشهادة ، والله تعالى يحذر من كتمان الشهادة فيقول : { ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه } (3) .
__________
(1) رواه أحمد عن أبي هريرة ، الحديث 10625 : 2/509 .
(2) سورة الحج ، الآية : 30 .
(3) سورة البقرة ، الآية 283 .(27/28)
... ... وعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " من كتم شهادة إذا دعي إليها كان كمن شهد الزور"(1) ، وعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال : " أوصاني خليلي - صلى الله عليه وسلم - بخصال من الخير ... أوصاني ألا أخاف في الله لومة لائم ، وأوصاني أن أقول الحق وإن كان مراً " (2) .
__________
(1) رواه الطبراني في الأوسط ، الحديث 4167: 4/270 .
(2) رواه ابن حبان في صحيحه في باب صلة الرحم وقطعها ، ذكر - صلى الله عليه وسلم - بصلة الرحم وإن قطعت ، الحديث 449 : 2/194 .(27/29)
... ... فأمانة الاختيار تتطلب الموضوعية ؛ والتجرد من كل هوى إلا من جلال الحق والصدق والعدل ، وهذا ما يوجه إليه قوله تعالى : { وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا } (1) . ... ...
صفات القائد المسلم
... إن هناك مجموعة من الصفا ت يتميز بها القائد المسلم عن أي قائد آخر ؛ تنبع هذه الصفات من كونه مؤمناً موحداً يهدف الآخرة قبل الدنيا ؛ هذه الصفات تكاد تكون شروطاً لنجاح القيادة عامة وللقائد المسلم خاصة ، وهي :
الصفة الأولى : الإيمان والتوحيد :
__________
(1) سورة الأنعام ، الآية : 152 ، و عبقرية محمد - صلى الله عليه وسلم - ، عباس محمود العقاد : 88 ، وانظر للاستزادة في اختيار الرسول - صلى الله عليه وسلم - لرجاله : نظام الحكومة النبوية المسمى التراتيب الإدارية ، عبد الحي الكتاني : 183 وما بعدها ، مراسلات النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - وبعثاته الدبلوماسية ، د. سهيل حسين الفتلاوي : 103 وما بعدها ، الفقه السياسي للوثائق النبوية ، خالد سليمان الفهداوي : 112 وما بعدها ، العلاقات الإنسانة في السيرة النبوية وتطبيقاتها في الإدارة المدرسية ، نوال سعد الطويرقي : 234 وما بعدها .(27/30)
... ... ويندرج تحت هذه الصفة صفات :
العقيدة الراسخة :
... يقول الله تعالى: { قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين } (1) ، ليست كلمات العقيدة فلسفة أو كلمات مخزنة في عقولنا ليس لها أثر في واقعنا , بل هي نبض وشعاع يتمثل في قائد شامخ يتقد همة وشعلة وضَّاءة للآخرين , وهي التي من أجلها يضحي الإنسان من أجل لا إله إلا الله محمد رسول الله , وهي منهج حياته وهدفه وضابطه في كل مجالات الحياة .
... يقول أنس بن مالك - رضي الله عنه - : " أنه لما طعن حرام بن ملحان - وكان خاله - يوم بئر معونة ؛ قال بالدم هكذا فنضحه على وجهه ورأسه ثم قال : فزت ورب الكعبة (2) .
... ... ... ... مشى يحدوه منهجه الإلهي ... أبيا في عقيدته يباهي
... ... ... ... ... يخط طريقه يقظا وقورا ويرقب سيره خوف المتاه
... ... ... ... ... مشى والحق يملأ أصغريه ... حصيف الرأي ماض بانتباه
هدفه الأسمى هو الآخرة :
__________
(1) سورة الأنعام، الآية :162-163.
(2) رواه البخاري كتاب المغازي ، باب غزوة الرجيع ورعل وذكوان وبئر معونة وحديث عضل والقارة وعاصم بن ثابت وخبيب وأصحابه ، الحديث 3865 : 4/ 1502 .(27/31)
... ... ... إن القائد المسلم يربط حتى المكاسب الدنيوية بنية صالحة تحيل المباحات إلى أجر وثواب , لأن مفهوم العبادة في الإسلام مفهوم شامل لكل ما يعمله من أمر – غير منهي عنه – مربوط بنية احتساب الأجر ، ولهذا كان القادة المسلمون يوصون جنودهم قبل الحروب بالإخلاص وعدم العجب أو الفخر وإلا خسروا المعركة .
التوكل سمته :
... ... فرغم أخذه بالأسباب من تخطيط وكفاءة إدارية وتوزيع للأعمال وتكامل للفريق والتدريب .. ؛ إلا أنه لا يتوكل على ذكائه وتخطيطه لكنه يتوكل على الله المدبر لكل شيء .
... ومثله في ذلك أم إسماعيل حين " وضعهما إبراهيم وضع عندهما جراباً فيه تمر وسقاء فيه ماء ؛ ثم قفي إبراهيم منطلقاً فتبعته أم إسماعيل ؛ فقالت : يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء ؟ فقالت له ذلك مراراً وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له آلله الذي أمرك بهذا ؟ قال : نعم ، قالت : إذن لا يضيعنا ، ثم رجعت (1).
__________
(1) رواه البخاري كتاب الأنبياء ، باب قول الله تعالى { واتخذ الله إبراهيم خليلا } وقوله { إن إبراهيم كان أمة قانتا } وقوله { إن إبراهيم لأواه حليم } ، الحديث 3184 : 3/1227 .(27/32)
الصفة الثانية : الاتِّباع.
قدوته الرسول- صلى الله عليه وسلم - :
... الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ، والذي استطاع أن يوازن موازنة كاملة في جوانب شخصيته ، وتعدد مهامه ، فهو بحق مدرسة للاقتداء ، ومازال يكتب عنه حتى اليوم ويظهر باستبانات عالمية أنه الشخصية القيادية الأولى في تاريخ البشرية كلها .
الشرع حدوده :
... ... فالقائد المسلم يقيس كل مبادراته بالحلال والحرام ، ولا يبرر وسيلته بغايته التي يسعى لها .
لا يقدس الاجتهاد البشري :
... ... فلا يلغي عقله لشخص ؛ ولا يتبع إنساناً لأنه صاحب فكر أو إنجازات ، وإنما مبدؤه أن كل إنسان يؤخذ منه ويرد ؛ إلا المعصوم - صلى الله عليه وسلم - ، وعلى هذا فهذا القائد ذو عقا حر سائح في الآفاق .
الصفة الثالثة : التزكية :
... وتتضمن الجوانب التالية :
الاستقامة : فالقائد مستقيم في كل تصرفاته ، بحيث تُرى مبادئ ومعاني الإسلام من أحواله كلها ، فيكون باستقامته تلك قدوة لغيره في كل حركاته وسكناته .
الاستغفار المحرك المزكي : الذي يصف حاله ابن الجوزي فيمن يصف : " كلما عبروا مقاماً إلى مقام رأوا نقص ما كانوا فيه فاستغفروا " .(27/33)
دوام الاتصال بالقرآن والسنة : فهما مادة للقيادات البشرية ، وهما محركا الهمم نحو الخير ونحو الفلاح والصلاح.
تذكُر أن القيادة الناجحة من مزارع الآخرة : وهذا القائد يشارك في ترك بصمات مشرقة في التاريخ ، وتذكر الآخرة أيضاً يحفزه على العمل ، ويجعله أكثر سمواً وتطلعاً .
الصفة الرابعة : الاستخلاف :
... فهدفه عمران الأرض وهمه أن يسهم في تأدية المهمة التي وكل الله الإنسان بها حين قال : { إني جاعل في الأرض خليفة } (1) ، وفي ذلك يقول الرافعي : إن لم تزد شيئاً على الدنيا ، كنت أنت زائداً على الدنيا(2).
الصفة الخامسة : حسن الخلق :
... تنبع القيادة في المجتمع المسلم من طهارة الخلق والشخصية ، بينما يركز التعليم الغربي في أهدافه على تحصيل الخبرات والمهارات ، ومن ثم فالناحية المعنوية " الخلقية " ليست ذات أهمية في حس الأوربيين ، ولذلك فإن كل الأفكار المثالية الأخلاقية تتقلص بصورة واضحة في الغرب .
__________
(1) سورة البقرة ، الآية : 30 .
(2) صناعة القائد ، د. طارق السويدان ، فيصل باشراحيل : 178 وما بعدها بتصرف كبير .(27/34)
... ولقد كانت بعثة نبينا محمد- صلى الله عليه وسلم - كمثال كامل للقيادة ، وتجسيداً للأسوة والريادة والتوجيه ، وإرشاد البشرية إلى طريق الخير حتى قيام الساعة ، وهذه القيادة صالحة لكل الأزمان والأحوال ، ويلزم كل من جاء بعده - صلى الله عليه وسلم - أن يتبعه في منهجه القيادي (1) .
... ومن أبرز الأخلاق القيادية النبوية :
- الحلم : هناك الكثير من المواقف التي يمر بها القائد تجعله يفقد السيطرة على نفسه ؛ فيفتح مجالاً للفتن والخصومات ؛ ومن أمثلة حلم القائد من السيرة النبوية ما كان من رسول الله في صلح الحديبية ؛ وخاصة عندما كتب عقد الصلح مع ممثل قريش ، وكذلك حلمه على أبي سفيان يوم فتح مكة ، وغير هذه المواقف كثير .
- العفو : بالعفو يكسب القائد محبة جميع الأفراد وثقتهم ، وبالعفو ينبذ القائد الخلافات الشخصية مقابل المصلحة العامة ؛ ومنه ما كان من عفو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قريش يوم فتح مكة ، وعفوه عن ثمامة بن أثال أيضاً الذي كان يريد قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
__________
(1) التغيير على منهاج النبوة ، جمعة أمين عبد العزيز : 422-123 بتصرف.(27/35)
- التواضع ولين الجانب : ومن ذلك موقفه - صلى الله عليه وسلم - مع أبي قحافة والد أبي بكر الصديق يوم فتح مكة ، يقول أبو بكر- رضي الله عنه - : ثم جئت بأبي أبي قحافة - رضي الله عنه - إلى رسول الله - رضي الله عنه - فقال : هلا تركت الشيخ حتى آتيه ؟ فقلت : بل هو أحق أن يأتيك ، قال : إنا لنحفظه لأيادي ابنه عندنا (1) ثم أسلم (2) .
... ولكن العفو والتواضع لا يعنيان الضعف ؛ فالحزم لا يناقض العفو ؛ فقد كان - صلى الله عليه وسلم - حازماً في مواقف كثيرة منها موقفه مع عمه أبي طالب عندما طلب منه عدم سب آلهة المشركين ، ومع المنافقين في مسجد الضرار وغيرها من المواقف .
__________
(1) رواه الحاكم في كتاب معرفة الصحابة - رضي الله عنهم - ، في ذكر مناقب أبي قحافة والد أبي بكر رضي الله عنهما الحديث 5065 : 3/272 .
(2) رواه الحاكم في كتاب معرفة الصحابة - رضي الله عنهم - ، في ذكر مناقب أبي قحافة والد أبي بكر رضي الله عنهما الحديث 5063 : 3/272 .(27/36)
- حسن الظن : لأن القائد بهذا يغلق الطريق أمام هواة القيل والقال ؛ وذلك بنهيهم عن إشاعة الظنون والأقاويل ؛ لأن كثرتها تؤدي إلى إساءة الظن بالناس وهتك الأسرار ، ويولد الشحناء ؛ ولا يبحث هذا القائد عن خفايا الأمور وأسرار النفوس ، ولا يحكم على الأفراد لمجرد الظن ؛ بل يكون حكمه عليهم إذا ثبتت عليهم الحقائق .
- إنزال الناس منازلهم : وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : " إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه " (1) ، فكان - صلى الله عليه وسلم - ينزل كل شخص في منزله المناسب دون التقليل من شأن أحد على حساب شخص آخر ؛ ومن ذلك ما كان منه - صلى الله عليه وسلم - مع أبي سفيان يوم الفتح ، ومع فاطمة بنت حاتم الطائي أيضاً .
... وهكذا يتمكن القائد بحسن خلقه من خلق جو مناسب من الود والمحبة بينه وبين الأفراد ، وبين الأفراد بعضهم مع بعض ، وهذا يدفع العمل أيضاً إلى أفضل مستوى وأفضل إنجاز (2).
__________
(1) رواه ابن ماجه في كتاب الأدب ، باب إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه ، الحديث 3712 :2/1223 .
(2) العلاقات الإنسانة في السيرة النبوية وتطبيقاتها في الإدارة المدرسية ، نوال سعد الطويرقي : 69 وما بعدها بتصرف .(27/37)
منهج إعداد القائد في السنة النبوية
... ... يقول - صلى الله عليه وسلم - : " إنما الناس كالإبل المائة ؛ لا تكاد تجد فيها راحلة " (1) ، والراحلة هي الناقة القوية السريعة في السير ، وكذلك التميز ؛ ومنه التميز القيادي نادر جداً ؛ فلا تجد الشجاع النبيه الدؤوب ذي الفطرة السليمة إلا بحدود 1% من الناس بغض النظر عن دينهم ؛ فالصحابة القادة أو البارزين عددهم يقارب ألفان وخمسمائة فقط ؛ وقد كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع أكر من مائة ألف ؛فالنبي - صلى الله عليه وسلم - خرّج قادة وجنوداً ؛ ومن الصحابة من توافرت فيه الصفات القيادية قبل إسلامهم ، ثم صقلها لهم الإسلام كعمر وخال ومعاوية وعكرمة بن أبي جهل وعبد الله بن أبي السرح - رضي الله عنهم -.
... ومن الصحابة لم تتوفر فيهم الصفات القيادية ؛ فوجههم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ما يحسنون من الدعوة أو العلم ..
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الرقاق ، باب العزلة راحة من خلاط السوء ، الحديث 6133 : 5/2383 .(27/38)
... ومنهم الذين ولدوا في الإسلام فأكثرهم صاروا قادة في المستقبل ؛ كالحسن والحسين وابن الزبير - رضي الله عنهم - ؛ ومنهم من أسلم ولم يلتقِ بالرسول - صلى الله عليه وسلم - إلا قليلاً ، وأكثر هؤلاء لم يبرزوا كقادة ، ومنهم من أعطته بيئته فرصة للتدريب القيادي كأبناء الزعماء وشيوخ القبائل وكان آباؤهم قد صقلوا بمدرسة النبوة ؛ فبرز أولئك كقادة عظام كعمر بن عبد العزيز .
... إذن فقد صنع النبي - صلى الله عليه وسلم - قادة كثيرين ممن كانت لديهم قدرات قيادية ، ومنهم من وجهته المدرسة النبوية إلى ما يحسن من الدعوة أو العلم .. وأما الذين رباهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد كانوا قادة بارزين في معظمهم (1) .
... وسآخذ النموذج القيادي في القتال والحرب لبيان منهج الرسول - صلى الله عليه وسلم - في إعداد القادة من الصحابة - رضي الله عنهم - :
اكتساب القائد للقدرات القتالية :
__________
(1) صناعة القائد ، د. طارق السويدان ، فيصل باشراحيل : 82 وما بعدها بتصرف .(27/39)
يقرر - صلى الله عليه وسلم - أن بناء المقاتل أساس لبناء القائد ، فلا يقود المقاتلين في المعركة إلا مقاتل ، من أجل ذلك حرص - صلى الله عليه وسلم - على تدريب أصحابه على القتال بالأسلحة المعروفة في عصره كالرماية بالسهام والطعن بالرمح والحربة والضرب بالسيف وركوب الخيل ، فعن عقبة بن عمر - رضي الله عنه - يقول : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبر يقول : { واعدوا لهم ما استطعتم من قوة } (1) ، " ألا إن القوة الرمي ، إن القوة الرمي ، ألا إن القوة الرمي " (2) .
__________
(1) سورة الأنفال ، الآية : 60 .
(2) رواه مسلم في كتاب الإمارة ، باب ألا إن القوة الرمي ، الحديث 1917 : 3/ 1522 .(27/40)
... ... ... وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع نفر من بني أسلم ينتضلون بالسوق ، فقال : ارموا بني إسماعيل ؛ فإن أباكم كان رامياً ، ارموا وأنا مع بني فلان ، فأمسك أحد الفريقين ، فقال : ما لكم لا ترمون ؟ فقالوا : كيف نرمي وأنت معهم ؟ فقال " ارموا وأنا معكم كلكم " (1) .
... ... ... وبلغ من تشجيعه - صلى الله عليه وسلم - على التدريب على الأسلحة ؛ أنه سمح باتخاذ المسجد ميداناً للتدريب ، وذلك في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - : بينما الحبشة يلعبون عند النبي - صلى الله عليه وسلم - بحرابهم ، دخل عمر فأهوى إلى الحصى فحصبهم بها ، فقال : " دعهم يا عمر " (2) .
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الجهاد والسير ، باب التحريض على الرمي وقول الله تعالى { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم } 2743: 3/ 1062 .
(2) رواه البخاري في كتاب الجهاد والسير ، باب اللهو بالحراب ونحوها ، الحديث 2745 :3/1063 .(27/41)
... ... وقد ضرب الرسول القائد - صلى الله عليه وسلم - بنفسه المثل في مجال التدريب على فنون القتال ، فكان يشارك رجاله في التدريب على فنون القتال ، وكان يصرع الرجل القوي ويركب الفرس عارية فيروضها على السير .
التدريب على حسن اتخاذ القرار :
عني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتدريب رجاله على اتخاذ القرارات ؛ لأن الكفاءة الحقيقية للقائد تتجلى في القدرة على اتخاذ القرارات السليمة في المواقف المختلفة ، فقدم الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمثلة عملية كثيرة ؛ فمن قرارته ما يلي :
- عندما خرج المسلمون للقاء قافلة قريش وهي عائدة من الشام ؛ وعندما أفلتت القافلة ؛ لم يشأ الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يبت في الأمر حتى يستشير أصحابه - رضي الله عنهم - الذين يواجهون فيه تحدي القتال لأول مرة بصورة حاسمة ؛ فاتخذ قراره بعد مشورتهم بخوض المعركة .
- خروجه إلى حمراء الأسد في اليوم التالي لغزوة أحد ؛ وكان لهذا القرار آثار رفعت قوة الجيش الإسلامي ، وأرهبت أعداءهم ..(27/42)
- كذّب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الشائعة يوم أحد : يقول ابن عباس : صاح الشيطان " قتل محمد " ، فلم نشك فيه أنه حق ، قال وإنا كذلك لا نشك أنه حق قد قتل ؛ حتى طلع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الشعبين ؛ فعرفته بتكفئه إذا مشى ؛ قال ففرحنا ؛ حتى كأنه لم يصبنا ما أصابنا (1) .
- حسمه - صلى الله عليه وسلم - للموقف عندما دخل المدينة ؛ وكانت كل البيوت تريد أن تحظى به ، فقال - صلى الله عليه وسلم - في ناقته : " دعوها فإنها مأمورة " (2) .
__________
(1) الطبراني في المعجم الكبير ، عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس - رضي الله عنهم - ، الحديث 10731 : 10/301 .
(2) رواه سعيد بن منصور في السنن ، كتاب الجهاد ، باب الأسير يكون في أيدي العدو فيتنصر ، 2978 : 2/400 ، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد في كتاب المغازي والسير ، باب الهجرة إلى المدينة : 6/63 .(27/43)
... ... وهكذا تعلم المسلمون أن المقدرة على عمل تقرير سريع للموقف ، والوصول إلى قرار سليم وحاسم ؛ من القدرات والمهارات التي ينبغي أن يمتلكها القائد المسلم ؛ لأن القائد المتردد لا يتوقف ضرره عند حد الفشل في مواجهة الموقف وقبل أن يفوت الأوان ؛ بل يمتد إلى أتباعه فيشيع فيهم التردد وفقد الثقة والضعف .
المشاركة في التخطيط :
... ... ... أشرك الرسول - صلى الله عليه وسلم - أصحابه في التخطيط الحربي بالتفكير والمناقشة وإبداء الرأي مطبقاً لمبدأ الشورى ، ومن أمثلة ذلك ما يلي :
- استشار أصحابه في مبدأ معركة بدر ، ومكانها .
- استشارهم في البقاء في المدينة أو الخروج يوم أحد .
- استشار - صلى الله عليه وسلم - أصحابه في كافة غزواته عدا غزوة الحديبية ؛ لأنه كان يصر على نواياه السليمة التي تؤمّن له الاستقرار الضروري لانتشار الإسلام ؛ فكان يقصد بذلك أهدافاً بعيدة لم يبح بها ؛ وقد رأى المسلمون بعد ذلك ما حققه الصلح ولمسوا حكمة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وبعد نظره .
... ... ... ومشاركة الصحابة للرسول - صلى الله عليه وسلم - في التخطيط له فوائد عديدة منها :
- التدريب على فن التفكير والتعبير عن الرأي .(27/44)
- التدريب على حل المشكلات عملياً .
- التدريب على المبادأة والتصرف بحرية ، وحسن التصرف في المواقف التي تواجههم دون الرجوع إلى القائد الأعلى .
- التدريب على قاعدة ( إشراك المنفذين في التخطيط ) والاقتناع بالخطة ؛ مما يضمن إيجابيتهم وحماسهم ، ويضمن واقعية الخطة .
- يوجه القادة إلى التنظيم الرأسي الاستشاري .
- يتيح الفرصة لاكتشاف المواهب بين الأتباع، لإعدادهم للمراكز المناسبة لكل منهم .
- التدريب على ضرورة التخطيط ؛ الذي يعتبر الأسلوب الأمثل لتنظيم العمل .
... ... كما قرر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من خلال مشورته في التخطيط ؛ تأكيد مبدأ الشورى وأن التخطيط مسئولية مشتركة ... ، وضرورة استشارة أصحاب الرأي ، وضرورة تنفيذ الخطة بعد المشورة (1) . ... ... ...
تولية بعض الصحابة العمليات القيادية المحدودة :
__________
(1) سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في القيادة وإدارة الحرب ، محمد جمال الدين محفوظ : 278 وما بعدها بتصرف كبير ، وانظر في هذا المجال كتاب قراءة سياسية للسيرة النبوية ، د. محمد رواس قلعه جي : 120-121.(27/45)
... ... إن تولي القيادة الفعلية هو تتويج للجهود التي تستهدف إعداد القادة ؛ وهو انتقال طبيعي من المرحلة النظرية إلى المرحلة العملية ، من أجل ذلك حرص الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يعهد إلى أصحابه بتولي القيادة بأشكال متعددة من أعمال القتال المحدودة ؛ مما يمنحهم الخبرة من جهة والثقة في القدرات من ناحية أخرى ؛ وهذا يؤهلهم لمهام أكبر في الأهداف والقوة ، ومن أمثلة ذلك :
- سرية أو مفرزة الاستطلاع ؛ بقيادة عبد الله بن جحش - رضي الله عنه - ، وقوتها اثنا عشر رجلاً ، وذلك في رجب من السنة الثانية للهجرة .
- مفرزة القتال ؛ كسرية حمزة - رضي الله عنه - وقوامها ثلاثون رجلاً ؛ وكانت في رمضان من السنة الأولى للهجرة .
- الإغارات : كسرية أبي سلمة وقوامها مئة وخمسون رجلاً بقيادة أبي سلمة بن عبد الأسد ، وكانت في ذي الحجة من السنة الثالثة من الهجرة .
قيادة وحدات الجيش تحت القيادة العليا للرسول - صلى الله عليه وسلم - :(27/46)
... وهي صورة أخرى من صور إعداد القادة ؛ إذ كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يعين أصحابه لقيادة الوحدات التي يتألف من كتيبتين ، كتيبة المهاجرين - رضي الله عنه - ، وكتيبة الأنصار - رضي الله عنه - ؛ ولكل منهما قائد ، وهذا يفيد القادة من ناحية مباشرة القيادة تحت إشراف القائد المعلم والإفادة من ملاحظاته وتوجيهاته وتخطيطه .
تولية بعض الصحابة مركز القائد الثاني :
... وهذا من صور التدريب على القيادة وتنمية المواهب القيادية لدى الصحابة - رضي الله عنهم -؛ فكان - صلى الله عليه وسلم - يعين القائد في المركز الثاني أو الثالث للمعركة ليتولى القيادة إذا غاب القائد الأول أو أصيب أو استشهد ، فقد عين جعفر - رضي الله عنه - قائداً ثانياً ويليه عبد بن رواحة - رضي الله عنه - مع زيد بن حارثة الكلبي قائد الجيشين في مؤتة ؛ فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : أمّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة مؤتة زيد بن حارثة ، فقال رسول - صلى الله عليه وسلم - : " إن قتل زيد فجعفر ، وإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة " (1)
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الجهاد والسير ، باب غزوة مؤتة من أرض الشام ، الحديث 4013 : 4/1554 .(27/47)
.
تولي القيادة المستقلة للعمليات :
... ... وهذه أرقى صور إعداد القادة ؛ حيث يباشر القائد مسئولية القيادة الكاملة لإحدى العمليات الهامة ؛ فقد أتاح الرسول - صلى الله عليه وسلم - في غزوة مؤتة لزيد بن حارثة الكلبي قيادة جيش المسلمين الذي كان يتألف من ثلاثة الآف مقاتل ؛ وكان موقع المعركة يبعد عن المدينة أكثر من خمسمائة كيلو متر ، الأمر الذي يترك لزيد حرية التصرف كاملة في المعركة ؛ لبعده عن مركز القيادة العليا في المدينة .
... ... كما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين اختار زيداً اختاره لكونه ملازماً للرسول - صلى الله عليه وسلم - منذ بدر ، وكونه صاحب أكبر رصيد في قيادة السرايا ، وقد أثبت زيد - رضي الله عنه -عملياً في تلك السرايا الخمس كفاءة عالية ؛ فقد حققت كلها أهدافها التي رصدت لها .
اختيار القادة الموهوبين ورعايتهم :(27/48)
كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حريصاً على رعاية من يثبتون كفاءتهم ومن تظهر مواهبهم في القيادة ؛ ومن هؤلاء خالد بن الوليد - رضي الله عنه - ؛ فقد برزت تلك الرعاية بأجلى معانيها حين أشاد - صلى الله عليه وسلم - بخالد - رضي الله عنه - فسماه سيف الله ؛ وهو عائد على رأس جيش المسلمين منسحباً من مؤتة ، وكان المسلمون في المدينة يتلقون العائدين ، فيحثون في وجوههم التراب ، ويقولون : يا فرار يا فرار ، فررتم من سبيل الله ، فيقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ليسوا بفرار ولكنهم كرار إن شاء الله"(1).
__________
(1) ذكر الحديث وساقه بتفصيله الزهري في الطبقات الكبرى ، سرية مؤتة : 2/129 ، وانظر السيرة النبوية ، ابن هشام : 5/33 .(27/49)
... وأبز مثال على تشجيع قدرات صحابته قوله - صلى الله عليه وسلم - : " أرحم أمتي بأمتي أبو بكر ، وأشدهم في أمر الله عمر ، وأصدقهم حياء عثمان ، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل ، وأفرضهم زيد بن ثابت ، وأقرؤهم أبيّ ، ولكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح " (1) .
... فقدم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بذلك صورة رائعة لتصرف القائد الأعلى الذي يحرص على ألا يدع مثل هذا الموقف يقضي على المستقبل العسكري لقائد لديه من الملكات والقدرات ما يجعله أهلاً لتولي القيادة الحربية على أعلى المستويات (2).
__________
(1) رواه الترمذي في كتاب المناقب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، باب مناقب معاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبيّ وأبي عبيدة بن الجراح - رضي الله عنهم - ، الحديث3790 : 5/664 .
(2) خاصة وأن قرار خالد - رضي الله عنه - بالانسحاب كان سليماً من الناحية العسكرية ؛ لأنه خلص جيش المسلمين من الفناء في معركة غير متكافئة كما يقول العقاد في عبقرية خالد .(27/50)
... فالرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يوجهه باللوم والإدانة ؛ ولا بالتزام الصمت أو محاولة التبرير ، ولا بتقديمه كبشاً للفداء إرضاء للشعور العام ؛ على الرغم من أن خالداً - رضي الله عنه - لم يكن معيناً من قِبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وإنما اصطلح اختياره الصحابة الذين في المعركة ؛ وذلك بعد استشهاد قادة الجيش الثلاثة الين عينهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - لتلقي القيادة بالتعاقب (1) .
وهكذا واجه الرسول - صلى الله عليه وسلم - الموقف بما لم يكن في حساب أحد ، وبما لا يخطر على فكر أعظم القادة ؛ فسمى خالداً - رضي الله عنه - بسيف الله ليحافظ على مستقبله القيادي ؛ فهو قائد واعد سوف يكون له شأن كبير في الإسلام؛ وأصبح بالفعل في عداد القادة العظماء في التاريخ (2).
__________
(1) ذكر الحديث وساقه بتفصيله الزهري في الطبقات الكبرى ، سرية مؤتة : 2/129 ، وانظر السيرة النبوية ، ابن هشام : 5/33 .
(2) سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في القيادة وإدارة الحرب ، محمد جمال الدين محفوظ : 296 وما بعدها بتصرف ، وانظر للاستزادة نظام الحكومة النبوية المسمى التراتيب الإدارية ، عبد الحي الكتاني : 313 وما بعدها.(27/51)
... ومن ذلك أن أجاز الرسول - صلى الله عليه وسلم - رافع بن خديج وسمرة بن جندب يوم أحد (1) .. ، فتقدير الرسول - صلى الله عليه وسلم - لإمكانات هؤلاء الشباب الصغار أسهم في بث الحماس والتنافس في نفوسهم ، ومن ذلك أن أمر زيد بن ثابت بتعلم السريانية ، يقول زيد - رضي الله عنه - : أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أتعلم السريانية (2) ؛ وذلك لما رأى من سرعة حفظه وقوة ذاكرته .
__________
(1) ذكره ابن حبان في الثقات : 1/224 .
(2) رواه الترمذي في كتب الاستئذان ، باب ما جاء في تعليم السريانية ، الحديث 2715 : 5/67 .(27/52)
... فالرسول - صلى الله عليه وسلم - قد اكتشف القدرات والإمكانات للصحابة - رضي الله عنهم - ثم قدّرها واستغلها الاستغلال الأمثل لتنمية المجتمع ، فالقائد لا يقتصر على الإشراف ؛ وإنما يكتشف بنفسه القدرات والمواهب ؛ ثم يضع كل فرد في المكان المناسب ، ثم يشجع هذه المواهب ، مما يبث فيهم الحماس ويشجعهم على إنجاز المهام على أكمل وجه (1) . ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
...
قواعد القيادة والتحكم من خلال السنة النبوية
... ... نجد في السنة النبوية قواعد ثابتة في القيادة والتحكم ؛ يمكن تفصيلها بما يلي :
قاعدة الحضور المستمر والمعرفة :
__________
(1) العلاقات الإنسانة في السيرة النبوية وتطبيقاتها في الإدارة المدرسية ، نوال سعد الطويرقي : 188وما بعدها ، وانظر للاستزادة حول اختيار الموهوبيين وذوي الكفاءات النور الخالد محمد - صلى الله عليه وسلم - مفخرة الإنسانية ، محمد فتح الله كَولن : 448 وما بعدها .(27/53)
... عندما يتواجد القائد ويتابع بدقة أتباعه في أجواء عادلة ؛ يشعر الأتباع بقدرة قائدهم على التحكم العادل والتفاعل الإيجابي مع الأحداث ، ومثال ذلك قول عمر - رضي الله عنه - : " إذا استعملت عليكم خير من أعلم ؛ ثم أمرته بالعدل أكنت قضيت ما علي ؟ قالوا نعم ، قال لا حتى أنظر في عمله أعمل بما أمرته أم لا " (1) .
... وفي المعرفة نذكر هذا الحديث : بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمرو بن العاص - رضي الله عنه - في غزوة ذات السلاسل ؛ وفيهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ؛ فلما انتهوا إلى مكان الحرب ؛ أمرهم عمرو أن لا ينوروا ناراً ؛ فغضب عمر وهمّ أن ينال منه ؛ فنهاه أبو بكر - رضي الله عنه - ؛ وأخبره أنه لم يستعمله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليك ؛ إلا لعلمه بالحرب فهدأ عنه عمر"(2).
قاعدة حسن الإدارة :
... ... ... ويندرج تحت الإدارة قواعد عدة تضبط قيادة القائد ؛ منها ما يلي :
__________
(1) رواه البيهقي في سننه الكبرى ، كتاب القسامة ، باب فضل الإمام : 8/170 .
(2) رواه الحاكم في كتاب المغازي والسرايا ، الحديث 4357 : 3/45 .(27/54)
قدرة القائد على الثواب والعقاب العادل المبنية على مصلحة فريق العمل ؛ وليست مبنية على معايير شخصية؛ هذه القدرة تدعو الفريق إلى مراعاة المصلحة العامة اقتداء بالقائد ، وهذا ما فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع سعد بن عبادة - رضي الله عنه - الذي كان يقود كتيبة الأنصار في فتح مكة ؛ فلما قال : اليوم يوم الملحمة ، اليوم تستحل الحرمة ... فعزله - صلى الله عليه وسلم - وجعل الزبير بن العوام مكانه على الأنصار مع المهاجرين (1) ؛ وكان ذلك بطريقة سلسة لا تستفز المشاعر ، أو تحرك الفوضى .
__________
(1) رواه البيهقي في سننه الكبرى في جماع أبواب السير، باب فتح مكة : 9/120 .(27/55)
التذكير بالهدف : ففي أجواء العمل قد ينسى الأتباع الهدف أو ينسون مستقبله ؛ فينجم عن ذلك ذبول طاقة العمل والشعور بالملل أو اليأس ، وفي هذا يروي لنا أنس بن مالك - رضي الله عنه - فيقول : دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو مضطجع على سرير مزمل بشريط ؛ وتحت رأسه وسادة من أدم حشوها ليف ؛ فدخل عليه نفر من أصحابه ؛ ودخل عمر فانحرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انحرافة ؛ فلم ير عمر بين جنبه وبين الشريط ثوباً ؛ وقد أثّر الشريط بجنب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبكى ؛ فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : ما يبكيك يا عمر ؟ قال : والله ما أبكي أن لا أكون أعلم أنك أكرم على الله تبارك وتعالى من كسرى وقيصر ؛ وهما يعيثان فيما يعبثان فيه وأنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمكان الذي أرى ؛ قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة " ، قال عمر : بلى ، قال : " فإنه كذلك " (1) .
__________
(1) ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد في كتاب الزهد ، باب فيما بقي من الدنيا وفيما مضى منها : 10 / 326 .(27/56)
الشجاعة من حسن إدارة القائد ، ولشجاعة القائد من خلال السيرة النبوية صور ، منها :
1- شجاعة المكث والانتظار ؛ كما فعل - صلى الله عليه وسلم - حين أشار - صلى الله عليه وسلم - على المسلمين بالمكث في المدينة ، وأن كثيراً من الناس أبوا إلا الخروج إلى العدو ؛ وكان عامة من أشار عليه بالخروج رجال لم يشهدوا بدراً وقد علموا الذي سبق لأهل بدر من الفضيلة ؛ فلما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الجمعة وعظ الناس وذكرهم وأمرهم بالجد والاجتهاد ؛ ثم انصرف من خطبته وصلاته ؛ فدعا بلآمته فلبسها ثم أذن في الناس بالخروج ؛ فلما أبصر ذلك رجال من ذوي الرأي ؛ قالوا : أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نمكث بالمدينة ؛ فإن دخل علينا العدو قاتلناهم في الأزقة ؛ وهو أعلم بالله وبما يريد ؛ ويأتيه الوحي من السماء ؛ ثم أشخصناه !؟ فقالوا : يا نبي الله أنمكث كما أمرتنا ؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا ينبغي لنبي إذا أخذ لامة الحرب وأذن في الناس بالخروج إلى العدو أن يرجع حتى يقاتل وقد دعوتكم إلى هذا الحديث فأبيتم إلا الخروج فعليكم بتقوى الله والصبر إذا لقيتم العدو، وانظروا ما أمرتكم به فافعلوه(27/57)
" ، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون معه (1).
2- التنازل عن رأي القائد نزولاً عند رغبة الأتباع ، فعندما لبس النبي - صلى الله عليه وسلم - لآمة الحرب خشي الصحابة أن يكونوا قد أثقلوا عليه ، فقال - صلى الله عليه وسلم - بلغة القائد الشجاع : " ما ينبغي لنبي لبس لامته أن يضعها حتى يقاتل.." (2) .
3- عدم الفرار من المعركة ؛ كما يقول علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - : " كنا إذا حمي البأس ؛ ولقي القوم القوم ؛ اتقينا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ فلا يكون أحد منا أدنى إلى القوم منه " (3) .
ج- القدرة على إصدار القرارات الحكيمة في الوقت الحاسم :
__________
(1) رواه البيهقي في سننه الكبرى في كتاب قسم الصدقات ، باب لم يكن له إذا لبس لامته أن ينزعها حتى يلقى العدو ولو بنفسه ، الحديث13060: 7/40 .
(2) رواه في سننه الكبرى في كتاب قسم الصدقات ، باب لم يكن له إذا لبس لامته أن ينزعها حتى يلقى العدو ولو بنفسه ، الحديث13060: 7/40 .
(3) رواه الحاكم في كتاب قسم الفيء ، الحديث 2633 : 2/155 .(27/58)
القائد الماهر يستند في قراراته على التفكير السليم وجمع المعلومات ؛ فقبل معركة بدر حينما سار النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى نزل بدراً ؛ فوجد على ماء بدر بعض رقيق قريش ممن خرج يغيث أبا سفيان ؛ فأخذهم أصحابه فجعلوا يسألونهم ؛ فإذا صدقوهم ضربوهم ؛ وإذا كذبوهم تركوهم ؛ فمر بهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم يفعلون ذلك ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إن صدقوكم ضربتموهم وإذا كذبوكم تركتموهم " ، ثم دعا واحداً منهم ؛ فقال : " من يطعم القوم ؟ " قال : فلان وفلان فعد رجالاً يطعمهم كل رجل منهم يوماً ، قال : " فكم ينحر لهم ؟ " قال : عشراً من الجزور ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " الجزور بمئة ، وهم بين الألف والتسعمائة " (1) ، وكان كما توقع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
__________
(1) رواه عبد الرزاق في مصنفه في كتاب المغازي ، وقعة بدر ، الحديث 9727 : 5/349(27/59)
... ... وكذلك حين طلب عمر - رضي الله عنه - من الرسول - صلى الله عليه وسلم - قتل عبد الله بن أبي المنافق الذي قال : " أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ؛ فبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقام عمر فقال : يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " دعه لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه " (1) .. هذه الحكمة في القرار تزرع الثقة وتولد التحكم .
د - الجرأة والثبات عند تزعزع الآخرين ؛ كما ثبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد ويوم حنين .
__________
(1) رواه البخاري في كتاب التفسير ، باب قوله { سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم إن الله لا يهدي القوم الفاسقين } ، الحديث 4622 : 4/1861 .(27/60)
هـ - التخطيط من سمات القائد ؛ فهو يملك استراتيجية منظمة في المهام الصعبة والخطرة ؛ ففي رحلة الهجرة النبوية يأمر - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - لينام في فراشه ، ويجعل عبد الله بن أبي بكر - صلى الله عليه وسلم - عيناً عما يقوله أهل مكة ، ويأمر عامر بن فهيرة مولى أبي بكر أن يرعى غنمه نهاراً بمكة ويريحها عليهما ليلاً ، وكانت أسماء بنت أبي بكر تزودهما بالزاد (1) ... كل هذه الأمور إنما تدل على تخطيط بارع وقدرة بارعة على ترتيب المهام.
ي- الإبداع بالخطط المبتكرة وعدم تقليد القديم من خصائص القيادة النبوية ؛ فكان منه - صلى الله عليه وسلم - تقسيم الجيش بنظام الصفوف في بدر لم يكن معروفاً من قبل ، وكذلك حفر الخندق في غزوة الأحزاب ؛ لم يكن من الأمور المعروفة عند العرب في حروبهم .
قاعدة حسن التوجيه :
... ... ... ... وتتكون هذه القاعدة من جملة جوانب أهمها الشورى والحزم والعدل .. ، وبيان ذلك فيما يلي :
__________
(1) انظر هذا في الحديث الطويل الذي رواه البخاري في كتاب فضائل الصحابة، باب هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة 5470 : 3/1419.(27/61)
الشورى : أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبني قادة فعالين ، ليسوا بإمعات ؛ فدرّبهم على اتخاذ القرار من خلال تشاوره معهم ؛ فبنى بذلك قيادات قادرة على المناقشة والتفكير وتقليب النظر وتدبير الأمر .
ثقة الأتباع بالقائد : إن التوجيه الفعال يقوم على هذا الجانب ؛ لأن هذه الثقة تجعل الأتباع يحبون قائدهم ويسيرون معه يداً واحدة ، ويتمثل ذلك في قول سعد بن عبادة الذي قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - حين استشارهم - صلى الله عليه وسلم - في الخروج لبدر : " إيانا تريد يا رسول الله ؛ والذي نفسي بيده لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها ، ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد – وهي موضع في اليمن - لفعلنا " (1) .
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الجهاد والسير ، باب غزوة بدر ، الحديث 1779 : 3/1404 .(27/62)
الحزم : فالقيادة تفقد فعاليتها بدون الحزم ، إذ إن الحزم يساهم في تماسك الأتباع ، ويحفظهم من التفلت والفشل ، والحزم هو القدرة على ضبط الأمور بعقل واع وسلوك عادل ؛ ويتجلى هذا الحزم في المبدأ ؛ ومنه ما كان من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندما طلب منه أسامة بن زيد رضي الله عنهما أن يشفع في المخزومية التي سرقت؛ فقال - صلى الله عليه وسلم - : " أتشفع في حد من حدود الله " ؛ ثم قام فاختطب ثم قال : " إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه ؛ وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد ؛ وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها " (1).
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الأنبياء ، باب { أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم .. } ، الحديث 3288 : 3/1282 .(27/63)
... وكذلك ما كان من الصديق - رضي الله عنه - في حرب مانعي الزكاة : " والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم على منعه " (1) .
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة ، باب الاقتداء بسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقول الله تعالى { واجعلنا للمتقين إماماً } ، الحديث 6855 :6/2657 ، وانظر في الحزم في السنة النبوية العلاقات الإنسانة في السيرة النبوية وتطبيقاتها في الإدارة المدرسية ، نوال سعد الطويرقي : 93 .(27/64)
العدل : يمنح الأتباع الثقة بالقائد ؛ وخاصة في الأوقات الصعبة ؛ ومن ذلك ما يرويه أسيد بن حضير - رضي الله عنه - أن رجلاً من الأنصار - رضي الله عنه - بينما هو يحدث القوم ، وكان فيه مزاح بينما يضحكهم ، فطعنه النبي - صلى الله عليه وسلم - في خاصرته بعود ، فقال أصبرني ، قال : " اصطبر " ، قال: إن عليك قميصاً وليس علي قميص ، فرفع النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قميص ، فاحتضنه وجعل يقبل كشحه ، قال : إنما أردت هذا يا رسول الله . وقوله أصبرني : يريد أقدني من نفسك ، وقوله اصطبر معناه استقد (1) .
__________
(1) رواه البيهقي في السنن الكبرى في جماع أبواب ما خص به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دون غيره مما أبيح له وحظر على غيره ، باب ما جاء في قبلة الجسد ، الحديث 1336: 7/102 .(27/65)
... ولكن من العدل أحياناً أن يتدرج القائد في الإصلاح عندما يألف الناس الفساد ؛ فبالعدل يصلح ولكن بدون نقلة مفاجئة سريعة تجعل الأفراد يتملصون من قائدهم ، ومما يحافظ أيضاً على قوة التوجيه أن يقوم قرار القائد وتوجيهه بناء على الأخبار الصادقة ، كما قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا } (1) ، وكما علمنا سيدنا سليمان عليه السلام حين قال للهدهد : { سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين } (2) .
قاعدة النفوذ :
__________
(1) سورة الحجرات ، الآية : 6 .
(2) سورة النمل ، الآية : 27 .(27/66)
... ... ... والنفوذ : هو قدرة القائد على فعل أمر ممنوع أو منع أمر مسموح في بعض الظروف ؛ ما لم ينتهك ذلك الأسس والمبادئ الأساسية أو الحقوق والقيم ؛ ومن ذلك ما راعى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعض أهل الفضل من الصحابة عندما كانوا يتجرؤون في أمر ما ؛ كتسامحه مع حاطب بن أبي بلتعة البدري - رضي الله عنه - (1) ، وتسامحه مع جرأة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في بعض المواقف التي بدا فيها - رضي الله عنه - متحمساً للدفاع عن الإسلام أو الرسول- صلى الله عليه وسلم -.
... ... ... ... ويرى الاختصاصيون أن الالتزام باستعمال اللوائح والأنظمة في كل الأحوال دون النظر إلى الظرف المعني قد يعرقل مصالح الفريق ، وقد يعيق التطور أو الإبداع .
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الجهاد والسير ، باب الجاسوس وقول الله تعالى { لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء } .. الحديث 2845 : 3/ 1095 .(27/67)
... ... ... ... ونجد أن مصادر النفوذ متنوعة هي : الوضع العائلي والاجتماعي لأسرة أو قبيلة ذات نفوذ ، أو الوضع المالي كالأغنياء أو أقربائهم أو أصدقائهم المقربين ، كذلك العلم الواسع ككبار العلماء والأدباء والخطباء والإعلاميون الين يؤثرون في الرأي العام .. أيضاً الشخصيات المؤثرة على الزعماء كزوجاتهم أو مستشاريهم ، وكذلك المناصب العليا والمركزية .
... ... ... كل هذه المصادر تعطي الشخص إما قدرة على التصرف بأموال كبيرة ، أو الوصول للجهات العليا لاتخاذ قرار ما ، أو التأثير على الجمهور (1) .
... ... ... وهناك جوانب عدة في شخصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - يمكن أن تكون إحدى قواعد القيادة والتحكم ؛ كالثقة والعزم ؛ والسيرة النبوية حافلة بنصوص تدل على ذلك ؛ منها ما كان منه - صلى الله عليه وسلم - عندما ساومته قريش على دعوته فأبى ؛ ومنها ثقته بأن " لا إله إلا الله " سيحكم بها المسلمون العرب والعجم ..
__________
(1) صناعة القائد ، د. طارق السويدان ، فيصل باشراحيل : 155 وما بعدها بتصرف كبير .(27/68)
... ... فكانت ثقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القائد بمبدئه وعقيدته تأخذ أبعاداً عميقة ؛ وتتنقل هذه الثقة بالمبدأ والعقيدة إلى صحابته ؛ بل إلى أتباعه المخلصين إلى يوم القيامة .
... ومن تلكم الجوانب القيادية ؛ قدرته على حل جميع المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ، العامة منها والخاصة ؛ مما جعل أتباعه ينظرون إليه كقائد موثوق يعتمد عليه ؛ ومن تلكم المشكلات تقسيم غنائم حنين ، والهجرتين ( إلى الحبشة والمدينة ) ، وصلح الحديبية ، وقدرته - صلى الله عليه وسلم - على المساواة بين كافة شرائح المجتمع الإسلامي بالمدينة ؛ فلم تبرز مشكلة العنصرية والطبقية أبداً ؛ وهي مشكلة موجودة في أيامنا هذه في كل البلاد التي تتعدد فيها الطوائف والأعراق .. كل هذه الشواهد يمكن أن يستخرج منها قوانين كثيرة تحل لنا كثيراً من أزمات المجتمعات المعاصرة والمجال يضيق عن ببيانها (1) .
المهارات الاجتماعية للشخصية القيادية من خلال السيرة النبوية
...
__________
(1) يمكن الاستفادة في هذا الصدد من كتاب النور الخالد محمد - صلى الله عليه وسلم - مفخرة الإنسانية ، محمد فتح الله كَولن : 440 وما بعدها ، 456 وما بعدها .(27/69)
... في السنة النبوية نلاحظ مجموعة من المهارات الاجتماعية التي تتميز بها القيادة ؛ وتحافظ على فاعليتها ، ومن أبرز هذه المهارات ما يلي :
الفهم ومهارة الاتصال :
... ... وتنبني هذه المهارة على عدة مهارات كحسن الاستماع للمتكلم ؛ ولإحساس بمشاعر الآخرين ؛ فالقائد يحس بمشاعر الناس ويحاول جاداً حلها بطريقة مناسبة ؛ بعد أن يُظهر تعاطفه معهم ؛ ومن ذلك أنه قد كان " نبي الله إذا جلس ؛ يجلس إليه نفر من أصحابه وفيهم رجل له ابن صغير ؛ يأتيه من خلف ظهره فيقعده بين يديه ؛ فهلك ؛ فامتنع الرجل أن يحضر الحلقة لذكر ابنه ؛ فحزن عليه ؛ ففقده النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : " مالي لا أرى فلاناً ؟ " قالوا : يا رسول الله بنيه الذي رأيته ؛ هلك ، فلقيه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، عن بنيه فأخبره أنه هلك ، فعزاه عليه ؛ ثم قال: " يا فلان أيما كان أحب إليك : أن تمتع به عمرك ؛ أو لا تأتي غداً إلى باب من أبواب الجنة ؛ إلا وجدته قد سبقك إليه يفتحه لك ؟ " قال: يا نبي الله بل يسبقني إلى باب الجنة فيفتحها لي ؛ لهو أحب إلي ، قال : " فذاك لك " (1)
__________
(1) رواه النسائي في المجتبى ، كتاب الجنائز ، باب في التعزية ، الحديث 2088 : 4/118 .(27/70)
.
... كما أن القائد الفعال لديه قدرة على توقع ما يدور في النفوس ؛ وعلى التعامل مع كل شخص بما يناسبه ؛ فهذا - صلى الله عليه وسلم - يسمع بكاء الطفل فيقصر الصلاة احتراماً لمشاعر الأم والطفل أيضاً ؛ يقول - صلى الله عليه وسلم - : " إني لأقوم في الصلاة أريد أن أطول فيها ؛ فأسمع بكاء الصبي ؛ فأتجوز في صلاتي كراهية أن أشق على أمه " (1) .
مهارة التأثير :
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الجماعة والإمامة ، باب من أخف الصلاة ثم بكاء الصبي ، الحديث 675 : 1/250 .(27/71)
... ... ... ... إن من أبرز وسائل التأثير يكون بالتحريك العاطفي والاهتمام بالإنسانية والإقناع ؛ والعاطفة صمام الأمان تجاه علاقة القائد بالآخرين ، ويستلزم تحريك العاطفة فهم الطبيعة الإنسانية ومعرفة حاجاتها ، خاصة وأن تحريك العواطف يصبح ضرورياً في أوقات الأزمات ؛ وهذا ما فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حادثة توزيع الغنائم بعد غزوة حنين فأعطى قريشاً وبعض قبائل العرب ولم يعطِ الأنصار ، فكانت كلماته - صلى الله عليه وسلم - محركة لعواطف الأنصار ، يقول أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - : ".. فأتاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحمد الله وأثنى عليه بالذي هو له أهل ، ثم قال : " يا معشر الأنصار : مقالة بلغتني عنكم ، وجدة وجدتموها في أنفسكم ، ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله ؟ وعالة فأغناكم الله ؟ وعداء فألف الله بين قلوبكم ؟ " ، قالوا : بل الله ورسوله أمنّ وأفضل ، قال : ألا تجيبونني يا معشر الأنصار ؟ قالوا : وبماذا نجيبك يا رسول الله ، ولله ولرسوله المن والفضل ، قال : "أما والله لو شئتم لقلتم فلصدقتم وصدقتم ، أتيتنا مكذَّباً فصدقناك ، ومخذولاً فنصرناك ، وطريداً فآويناك ، وعائلاً فأغنيناك(27/72)
، أوجدتم في أنفسكم يا معشر الأنصار في لعاعة من الدنيا ؛ تألفت بها قوماً ليسلموا ؛ ووكلتكم إلى إسلامكم ؟ أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير ؛ وترجعون برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رحالكم ؟ فوالذي نفس محمد بيده ؛ لولا الهجرة لكنت امرئ من الأنصار، ولو سلك الناس شعباً ؛ وسلكتْ الأنصار شعباً لسلكتُ شعب الأنصار ، اللهم ارحم الأنصار ، وأبناء الأنصار ، وأبناء أبناء الأنصار " ، قال فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم وقالوا رضينا برسول الله قسماً وحظاً ، ثم انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتفرقنا"(1) .
__________
(1) رواه أحمد عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - ، الحديث 11748: 3/76 .(27/73)
... ومن الأمور العاطفية المهمة التي يتحلى بها القائد المسلم هي خلق الوفاء الذي يُشعر الآخر بأنه مهم لديه ؛ والقائد الفعال يتمثل المعاني الوجدانية العالية في كثير من مواقفه ؛ تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها : " .. وإن كان ليذبح الشاة فيتتبع بها صدائق خديجة فيهديها لهن " (1) .
... ومن وفائه - صلى الله عليه وسلم - أن يبكي ويحزن يوم أحد حين يرى بين الشهداء حمزة بن عبد المطلب وجعفر بن أبي طالب ، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي نظر يوم أحد إلى حمزة وقد قتل ، ومُثل به ؛ فرأى منظراً لم ير منظراً قط أوجع لقلبه منه ولا أوجل .. " (2) .
__________
(1) رواه الترمذي وقال هذا حديث حسن غريب صحيح ، كتاب البر والصلة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، باب ما جاء في حسن العهد ، الحديث 2017 : 4/369 .
(2) رواه الحاكم في كتاب معرفة الصحابة - رضي الله عنهم - ، ذكر إسلام حمزة بن عبد المطلب ، الحديث 4894 : 3/64 .(27/74)
... أما اهتمام القائد بالإنسان كونه كائناً بشرياً يجعل الناس يكبرون القائد ويحترمونه ؛ لأنه يحترم فيهم إنسانيتهم كائناً من كانوا ؛ فهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوم عندما مرت جنازة زفر اليهودي ، فقد قال سهل بن حنيف وقيس بن سعد رضي الله عنهما :" إن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرت به جنازة فقام ، فقيل له : إنها جنازة زفر ، فقال : "أليست نفسا " (1) .
... ومما كان منه - صلى الله عليه وسلم - عندما جاءته الغامدية التي أقرت بالزنى، وطلبت العقوبة للتكفير فقال لها - صلى الله عليه وسلم -: " فاذهبي حتى تلدي "، فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة قالت: هذا قد ولدته، قال: " اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه " فلما فطمته أتته بالصبي في يده كسرة خبز، فقالت : هذا يا نبي الله قد فطمته وقد أكل الطعام، فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين، ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها وأمر الناس فرجموها.. (2).
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الجنائز ، باب من قام لجنازة زفر ، الحديث1250 : 1/1441 .
(2) رواه مسلم في كتاب الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنا ( الحديث 1695) : 3/ 1323.(27/75)
... أما تأثير القائد بالإقناع المنطقي من خلال كسب ثقتهم ومن خلال نقل المعلومات والوقائع والأدلة المادية والحجج ؛ دون إشعارهم بفوقية وإصرار على إقناعهم ؛ فإننا نلاحظ من السيرة النبوية كيف تعامل الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع الشاب الذي طلب منه الإذن بالزنى ، فعن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال : إن فتى شاباً أتى - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ائذن لي بالزنا ، فأقبل القوم عليه فزجروه ، وقالوا مه مه ، فقال : " أدنه " فدنا منه قريباً ، : " أتحبه لأمك ؟ قال : لا والله جعلني الله فداءك ، قال : " ولا الناس يحبونه لأمهاتهم " ، قال : " أفتحبه لابنتك ؟ " قال : لا والله يا رسول الله جعلني الله فداءك ، قال : " ولا الناس يحبونه لبناتهم " قال : "أفتحبه لأختك ؟ " قال : لا والله جعلني الله فداءك ، قال : ولا الناس يحبونه لأخواتهم " ، قال : " أفتحبه لعمتك " ، قال : لا والله جعلني الله فداءك ، قال : " ولا الناس يحبونه لعماتهم " قال : " أفتحبه لخالتك ؟ " قال : لا والله جعلني الله فداءك ، قال : " ولا الناس يحبونه لخالاتهم " ، قال فوضع يده عليه وقال: " اللهم اغفر ذنبه وطهر قلبه وحصن فرجه " ،(27/76)
فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء(1).
مهارة التحفيز والتشجيع :
... ... ... ومن الأساليب القيادية النبوية في التشجيع إشاعة الروح المعنوية وقت الضعف ، والإشعار بالأمن وقت الحرج أو الخوف منه ، وإعطاء الصلاحيات لمبعوثيه وسفراءه ؛ وبيان ذلك من السنة والسيرة النبوية ما يلي:
... ... ... في معركة الخندق نجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبعث التفاؤل في اللحظات الصعبة فأمامه 10,000 مشرك ، وعدد المسلمين قليل ، فيساعدهم مشجعاً ، يقول البراء بن عازب - رضي الله عنه - : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الخندق والتراب قد علا بطنه ، وهو يقول :
" اللهم لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا إن الأولى بغوا علينا
إذا أرادوا ديننا أبينا " (2)
__________
(1) رواه أحمد عن أبي أمامة ، الحديث 22265 : 5/256 ، وانظر للاستزادة في هذا المجال كتاب تسوية المنازعات في عهد النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - ، د. سهيل حسين الفتلاوي ، عمان ، دار الضياء ، 2001م : 33 وما بعدها .
(2) رواه النسائي في كتاب السير ، باب الدعاء ثم حفر الخندق ، الحديث 8857 : 5/269 .(27/77)
وقال - رضي الله عنه - : " لما أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نحفر الخندق ؛ عرض لنا فيه حجر لا يأخذ فيه المعول ؛ فاشتكينا ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فألقى ثوبه وأخذ المعول ، وقال : " بسم الله " فضرب حصول فكسر ثلث الصخرة ، قال : الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام ، والله إني لأبصر قصورها الحمر الآن من مكاني هذا " ، قال : ثم ضرب أخرى وقال : " بسم الله وكسر ثلثا آخر " ، وقال : " الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس ، والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض الآن " ، ثم ضرب ثالثة وقال : " بسم الله " فقطع الحجر ، قال : " الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن ، والله إني لأبصر باب صنعاء " (1) .
__________
(1) رواه النسائي في كتاب السير ، باب الدعاء ثم حفر الخندق ، الحديث 8858 : 5/269 .(27/78)
... والرسول - صلى الله عليه وسلم - كان قائدأً يشعر الصحابة بأنهم يتعاملون مع قائد يحبهم ويرشدهم ويطمئنون إليه ؛ فلقد أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل فكلمه ، فجعل ترعد فرائصه، فقال له : " هوّن عليك فإني لست بملك ، إنما أنا بن امرأة تأكل القديد " (1).
... وهو - صلى الله عليه وسلم - يعطي معاذ بن جبل سفيره إلى اليمن صلاحيات المهمة التي وكلها بها بعد أن وثق بخبرته ؛ ... ثم ضرب صدره وقال له مشجعاً : " الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله " (2) .
... ومن تشجيعه - صلى الله عليه وسلم - قوله - صلى الله عليه وسلم - لعمرو بن العاص الذي كان منفقاً في سبيل الله تعالى : " يا عمرو نعم المال الصالح مع الرجل الصالح " (3) .
مهارة بناء العلاقات :
__________
(1) رواه ابن ماجه في كتاب الأطعمة ، باب القديد ، الحديث 3312 : 2/1101 .
(2) الحديث رواه أبو داود في كتاب كيف القضاء ، باب اجتهاد الرأي في القضاء ، الحديث 3592 : 3/303 .
(3) رواه ابن حبان في كتاب الزكاة ، باب جمع المال من حله وما يتعلق بذلك ، ذكر الإباحة للرجل الذي يجمع المال من حله إذا قام بحقوقه فيه ، الحديث3210 : 8/6 .(27/79)
... ... ... وفي السيرة النبوية نجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتألف القلوب ، ويجذبها بحسن معاملته وعفوه ، ومن ذلك تبسمه - صلى الله عليه وسلم - فقد كان من أكثر الناس بشراً .. ، ويقول جرير بن عبد الله - رضي الله عنه - : " ما حجبني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منذ أسلمت ، ولا رآني إلا تبسم في وجهي " (1) .
5- الوضوح في التعامل :
... فالوضوح في التعامل يعد مبدأً هاماً لتوضيح وجهات النظر بين الفئات المختلفة ؛ وإزالة ما قد يرد إلى الأذهان من شكوك وظنون ؛ وحتى تكون الرؤية أكثر وضوحاً ويكون كل فرد على بينة من أمره ؛ وقد حرص - صلى الله عليه وسلم - على الوضوح في تعامله مع أفراد المجتمع من المسلمين وغير المسلمين ؛ فكسب ثقة كل من تعامل معهم .
__________
(1) رواه البخاري ومسلم ، وانظر صناعة القائد ، د. طارق السويدان ، فيصل باشراحيل : 146 وما بعدها بتصرف كبير وزيادة نصوص من السنة والسيرة النبوية ، وانظر في عبقرية الرسول - صلى الله عليه وسلم - السياسية في عبقرية محمد - صلى الله عليه وسلم -، عباس محمود العقاد : 78 وما بعدها .(27/80)
... وهناك الكثير من المواقف والأحداث التي تبين مدى التزام الرسول - صلى الله عليه وسلم - بهذا المبدأ ؛ ومن ذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - بايع الأنصار بيعة العقبة الثانية ببنود واضحة ، قال جابر - رضي الله عنه - : قلنا يا رسول الله علام نبايعك ؟ قال : " على السمع والطاعة في النشاط والكسل ، وعلى النفقة في العسر واليسر ، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وعلى أن تقوموا في الله لا تأخذكم في الله لومة لائم ، وعلى أن تنصروني إذا قدِمت إليكم وتمنعوني مما تمنعون أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة " (1) ؛ فكانت مطالب الرسول - صلى الله عليه وسلم - واضحة لا لبس فيها ؛ ثم انتخب - صلى الله عليه وسلم - اثني عشر نقيباً على هؤلاء المبايعين ليحملهم مسئولية القوم كاملة ؛ فما كان من النقباء اثني عشر نقيباً على هؤلاء المبايعين ليحملهم مسئولية القوم كاملة ؛ فما كان من النقباء إلا أن أجابوا بالسمع والطاعة .
__________
(1) رواه البيهقي في كتاب السير ، باب الإذن : 9/9 .(27/81)
... ... ومن ذلك وضوح موقفه - صلى الله عليه وسلم - حين قصد مكة معتمراً وليس مقاتلاً ، وكانت بنود صلح الحديبية أيضاً واضحة لا لبس فيها (1) .
الخاتمة والتوصيات
... وبعد فإن البحث أبرز عدداً من النتائج ودلل عليها من السنة والسيرة النبوية ؛ وأهمها ما يلي :
أن السنة النبوية مصدراً للتشريع وللمعارف الإنسانية أيضاً .
أن القيادة ملكة وتكوين .
أن الإسلام يرى أن تأهيل القيادات أمانة ورسالة .
أن أبرز صفات القائد المسلم التي تميزه عن غيره من القادة هي ؛ الإيمان والتوحيد ، الاتِّباع ، التزكية، الاستخلاف ، حسن الخلق .
أن أهم قواعد القيادة والتحكم في السنة النبوية هي : المعرفة ، الإدارة ، التوجيه ، النفوذ .
أن أهم المهارات الاجتماعية للشخصية القيادية من خلال السيرة النبوية هي : الفهم ومهارة الاتصال ، التأثير، التشجيع ، بناء العلاقات .
وأوصى البحث :
بضرورة دراسة الجوانب التربوية والاجتماعية بكل دقائقها التخصصية من السيرة النبوية ؛ وسيرة الخلفاء الراشدين .
__________
(1) العلاقات الإنسانة في السيرة النبوية وتطبيقاتها في الإدارة المدرسية ، نوال سعد الطويرقي: 79وما بعدها بتصرف .(27/82)
تأسيس جمعيات ومراكز تأخذ على عاتقها إصدار دراسات جادة تعمل على تفعيل السيرة بخطوات علمية منهجية عملية ؛ وحبذا لو قدّمت دورات تدريبية في هذا الصدد .
تشجيع الباحثين لا سيّما في الدراسات العليا على تناول موضوعات ما يسمى اليوم "بالتنمية البشرية " منطلقة من القران والسنة وما تشمل عليه من السيرة النبوية الصحيحة ؛ ففي ديننا ومبادئنا الثروة التربوية والنفسية الأصيلة .
قائمة المصادر والمراجع
أولاً : القرآن الكريم .
ثانياً : الكتب والدراسات :
اختيار الرسول - صلى الله عليه وسلم - لرجاله : نظام الحكومة النبوية المسمى التراتيب الإدارية ، عبد الحي الكتاني ، بيروت، دار الكتاب العربي .
التغيير على منهاج النبوة ، جمعة أمين عبد العزيز ، ط1 ، الإسكندرية ، دار الدعوة ، 1415هـ-1995م .
الثقات ، ابن حبان ، تحقيق السيد شرف الدين أحمد ، ط1 ، دمشق ، دار الفكر ، 1395هـ-1975م .
سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في القيادة وإدارة الحرب ، محمد جمال الدين محفوظ ، مجلة مركز بحوث السنة والسيرة، جامعة قطر ، العدد الثالث ، 1408هـ-1988م .(27/83)
السنة النبوية والمعرفة الإنسانية ,للدكتور محمد عمارة , القاهرة , نهضة مصر , 2000م .
السنة مصدراً للمعرفة والحضارة ، د. يوسف القرضاوي ، ط2 ، القاهرة ، دار الشروق ، 1418هـ-1998م .
سنن ابن ماجه ، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي ، بيروت ، دار الفكر .
سنن أبي داود ، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، دمشق ، دار الفكر .
سنن الترمذي ، تحقيق أحمد محمد شاكر وآخرون ، بيروت ، دار إحياء التراث العربي .
سنن الدارقطني ، تحقيق السيد عبد الله هاشم اليماني ، بيروت ، دار المعرفة ، 1386هـ-1966م .
السنن الكبرى ، البيهقي ، محمد عبد القادر عطا ، مكة المكرمة ، مكتبة دار الباز ، 1414هـ-1994م .
السنن الكبرى ، النسائي ، تحقيق عبد الغفار البنداري ، سيد كسروي حسن ، ط1 ، بيروت ، دار الكتب العلمية ، 1411هـ-1991م .
سنن سعيد بن منصور ، د. سعد بن عبد الله آل حميد ، ط1 ، الرياض ، دار العصيمي ، 1414هـ .
سيرة ابن هشام ، تحقيق طه عبد الرءوف سعد ، ط1 ، بيروت ، دار الجيل ، 1411هـ.
صحيح ابن حبان ، تحقيق شعيب الأنؤوط ، ط2 ، بيروت ، مؤسسة الرسالة ، 1414هـ-1994م .(27/84)
صحيح البخاري ، تحقيق د. مصطفى البغا ، ط3، بيروت ، دار ابن كثير ، 1407هـ-1987م .
صحيح مسلم ، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي ، بيروت ، دار إحياء التراث العربي .
صناعة القائد ، د. طارق السويدان ، فيصل باشراحيل ، ط2 ، مطبوع على نفقة المؤلفين ، 1424هـ-2003م
الطبقات الكبرى ، الزهري ، بيروت ، دار صادر .
عبقرية محمد - صلى الله عليه وسلم -، عباس محمود العقاد ، القاهرة ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، 2003م .
العلاقات الإنسانة في السيرة النبوية وتطبيقاتها في الإدارة المدرسية ، نوال سعد الطويرقي ، ط1 ، جدة، دار الأندلس الخضراء ، 1422هـ-2002م
الفقه السياسي للوثائق النبوية ، خالد سليمان الفهداوي ، ط1 ، عمان ، دار عمار ، 1419هـ-1998م.
مجمع الزوائد ، الهيثمي ، بيروت – القاهرة ، دار الريان للتراث ، دار الكتاب العربي ، 1407 هـ .
محمد - صلى الله عليه وسلم - أعظم عظماء العالم ، أحمد ديدات ، مايكل هارت ، القاهرة ، مكتبة القرآن
مراسلات النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - وبعثاته الدبلوماسية ، د. سهيل حسين الفتلاوي ، عمان ، دار الضياء ، 2001م(27/85)
المسئولية الاجتماعية والشخصية المسلمة – دراسة نفسية تربوية ، د. سيد أحمد عثمان ، ط2 ، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية ، 1405هـ- 1985م
المستدرك على الصحيحين ، الحاكم ، تحقيق مصطفى عبد القادر عطا ، ط1 ، بيروت ، دار الكتب العلمية ، 1411هـ-1990م .
مسند الإمام أحمد ، مصر ، دار قرطبة .
مسند الشهاب ، تحقيق حمدي بن عبد المجيد السلفي ، ط2 ، بيروت ، مؤسسة الرسالة ، 1407هـ-1986م.
مصنف عبد الرزاق ، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي ، ط2 ، بيروت ، المكتب الإسلامي ، 1403هـ.
المعجم الأوسط ، تحقيق طارق بن عوض الله بن محمد وعبد المحسن بن إبراهيم الحسيني ، القاهرة ، دار الحرمين ، 1415هـ .
المعجم الكبير ، ط2 ، تحقيق حمدي بن عبد المجيد السلفي ، الموصل ، مكتبة العلوم والحكم ، 1404هـ-1983م .
النور الخالد محمد - صلى الله عليه وسلم - مفخرة الإنسانية ، محمد فتح الله كَولن ، ترجمة أورخان محمد علي ، نشر دار النيل باستانبول ومؤسسة الرسالة ببيروت ، ط1 ، 1420هـ- 1999م .(27/86)
المملكة العربية الأردنية
جامعة اليرموك - الأردن
أردبد
كلية الشريعة والدراسات الإسلامية
بحث بعنوان
السنة النبوية وتوجيه المسلم إلى الصحة النفسية
إعداد
أ.د. هناء يحيى أبو شهبة
أستاذ علم النفس ورئيس شعبة الطفولة
وعميدة كلية الدراسات الإنسانية بنات القاهرة سابقاً
ومقدم إلى
مؤتمر السنة النبوية والدراسات المعاصرة
17-18 إبريل 2007
كلية الشريعة والدراسات الإسلامية
جامعة اليرموك - الأردن
أربدد
السنة النبوية وتوجيه المسلم إلى الصحة النفسية
أ.د. هناء يحيى أبو شهبة
أستاذ علم النفس ورئيس شعبة الطفولة
وعميدة كلية الدراسات الإنسانية بنات القاهرة سابقاً
مقدمة:
... من المتعارف عليه أنه مهما اختلفت عقائد المتدينين، فهناك ميل فطرى للتدين،أى فى الاعتقاد بوجود قوة فوق القوى الطبيعية مسيطرة عليها وعلى القوى البشرية، وإن هذه النزعة إلى التدين قديمة لدى الإنسان وترمى إلى قيادة السلوك الإنسانى وتنظيمه.(28/1)
... ويستطيع الباحث النفسى دراسة الدين ليس من أجل المراهنة على مصداقيته أو عدمه، بل لأنه يرتبط بانفعالات وإدراكات الإنسان، وهناك تشابه بين اهتمامات رجل الدين واهتمامات الباحث النفسى فرجل الدين يهتم اهتماماً شديداً بالمعتقدات الخاصة بدين ما يدينه ودين الآخرين، لأن ما يهمه هو حقيقة اعتقاده فى مقابل اعتقاد الآخرين،وكذلك فالباحث النفسى يهتم اهتماماً شديداً بالمضامين الخاصة بالدين، لأن ما يهمه هو الموقف الإنسانى الذى يعبر عنه الدين، ومدى تأثيره على الإنسان، وهل هذا التأثير حسن أم سيئ على تنمية قوى الإنسان، وهو لا يهتم بتحليل الجذور النفسية للأديان المختلفة فحسب، بل يهتم أيضاً يقيمتها.
... ويقصد بالدين لغوياً: الجزاء والمكافأة تقال (دانه) بدين (دينا) أى جازاه، ويقال (كما تدين تدان) أى تجازى بفعلك وبحسب ما عملت، ومنه (الديان) فى صفة الله و (الدين) أيضاً الطاعة تقول (دان) له بدين (ديناً) أى أطاعه ومنه (الدين) والجمع أديان ويقال دان بكذا ديانه فهو دين و (تدين) به فهو (متدين) و(دينه تديناً) وكله إلى دينه.
(مختار الصحاح، 1984 ، ص 218) من (رشاد عبد العزيز وآخرون 1993)(28/2)
... وبالإضافة إلى ذلك يقصد بالدين لغوياً: (الديان) من أسماء الله عز وجل معناه الحكم القاضى، و(الديان) القهار وقيل : الحكم والقاضى، وهو فعّال من دان الناس أى قهرهم على الطاعة، و(الدين) الجزاء والمكافأة، ودنته بفعله دينا: جزيته ، ويوم الدين: يوم الجزاء، ودانه ديناً أى جازاه، والدين: الجزاء، والدين: الحساب، ومنه قوله تعالى:- (مالك يوم الدين) سورة الفاتحة.
(لسان العرب، د.ت، ص ص 1043-1045) من (رشاد عبد العزيز وآخرون، 1993)
... حيث وردت كلمة الدين بجميع المعانى السابق ذكرها فى آيات القرآن الكريم قال تعالى:: { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } (الفاتحة:4) وقال تعالى { يَا بَنِيَّ إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إلاَّ وأَنتُم مُّسْلِمُونَ } (البقرة: 132) { لا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ } (البقرة:56) { إنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإسْلامُ } (آل عمران:19).(28/3)
... وقد ظهر علم النفس الدينى وانضم إلى فروع علم النفس الأخرى فى السنوات الأخيرة فى الثقافة الغربية، ثم زحف إلى ثقافتنا الشرقية الإسلامية.وظهر علم النفس الدينى (الإسلامى) بظهور أول طبعة لكتابى القرآن وعلم النفس (1982) والحديث النبوى وعلم النفس (1989) لعثمان نجاتى ثم دراسات فى علم النفس الإسلامى محمود البستانى (1988) كما كان هناك محاولات كثيرة لأساتذة علم النفس بجامعة الأزهر لإخراج علم نفس إسلامى على مستوى الدراسات النظرية والتطبيقية كدراسات سعيدة أبو سوسو وهناء أبو شهبه ورشاد موسى وآخرون.
... ولقد سبقت الشريعة الإسلامية علماء الغرب الذين عرفوا علم النفس والشخصية الإنسانية أمثال جوردن آلبورت Gordon- allport وفرويد fraud (1856-1939) وكارل يونج Carl yong (1875 -1961)، ألفرد آدلر alfreid adler (1870-1937).(28/4)
... لأن هناك مئات الآيات القرآنية التى أشارت إلى النفسي فى سوائها ومرضها فقد وصف الله سبحانه النفس السوية الناضجة حينما تودع حياتها الدنيوية ذاهبة إلى الله سبحانه فى قوله تعالى { يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وادْخُلِي جَنَّتِي } (الفجر 27-30)
... فقد وصفها الله بالاطمئنان وعدم الخوف لأنها اخلصت فى تقربها لله تعالى بالعبادات والأعمال الصالحة والابتعاد عن كل ما يغضب الله وتحكمت بقوة فى أهوائها وشهواتها.
... وقد دعى الله سبحانه فى آيات القرآن الكريم دعوه صريحة للبحث فى النفس الإنسانية، ودراستها دراسة علمية تعتمد عى الملاحظة والتفكير كما فى قوله تعالى: { أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِم } (الروم:8).(28/5)
... وتعتبر الصحة النفسية من أهم فروع علماء النفس التى وجه إليها علماء الغرب اهتمامهم فى أواخر القرن العشرين. وأصبحت الشخصية- ينظر إليها نظره شمولية كلية عند دراستها لبيان مدى سوائها من عدمه، وهذه النظرة الكلية استمدها علماء نفس الشخصية من علماء النفس الألمان أمثال فرتهيمر وكوفكا وكهلر أصحاب نظرية الجشتالت فى التعلم، والتى من أهم قوانينها أن الكل أسبق فى إدراكه عن الجزء- ولو طبقنا تلك النظرية على الشخصية، فسوف نقول أننا ندرك شخصية الإنسان بصورة كلية شمولية دون أن نتناول جانباً واحداً أو سمه واحدة، على اعتبار إن الإنسان يعمل ويستجيب ويتفاعل بطريقة تجعل كل أجهزته البدنية والنفسية تتآذر وتتناغم فى تفاعلاتها معا بحيث تحدد سلوكه وتشكل استجاباته، بطريقة قد تجعل كل فرد يتميز بها عن سائر الأفراد من بنى البشر.(28/6)
... إلا أننى أرى نتيجة خبرتى فى مجال الصحة النفسية أن هناك دعامتين أساسيتين أو جانبين رئيسيين تعتمد عليها الشخصية، حيث يقع تحت مسئوليتهما جميع أنماط السلوك الإنسانى- سواء كان سلوكاً داخلياً (التخيل – التفكير- الفهم ....) أو سلوكاً خارجياً (التعبير بالحركة عن الغضب والعدوان... الخ) وسواء كان سلوكا سوياً أو سلوكاً غير سوى. ...
... هذين الجانبين أو الدعامتين هما الجانب العقلى وما يتضمنه من ذكاءات وقدرات- وسمات عقلية يتسم بها وتمتلكها الشخصية، والجانب الوجدانى وما يحتويه من صراعات شعورية، وانفعالات وعواطف ومشاعر سلبية وإيجابية) يعبر عنها بأنماط سلوكية مختلفة، وفى حالة نضج هذين الجانبين وتوازنهما يحدث توافق نفسى واجتماعى للفرد مع نفسه ومع الآخرين ومع هذين النوعين من التوافق هما مؤشران هامين من مؤشرات الصحة النفسية ويمكن تمثيل ذلك بالرسم التالى:(28/7)
... وقد أشارت السنة النبوية لهذين الجانبين الهامين فى الإنسان باعتبارهما أساس السلوك السوى والسلوى اللآسوى فعلى الجانب الوجدانى الذى دائماً نعبر عنه بالقلب يقول - صلى الله عليه وسلم - (الاوان فى الجسد مضفه إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله، إلا وهى القلب)(1).
... وقد أشار الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالجانب العقلى والوجدانى فى وقت واحد فى قوله للأشج اشج عبد القيس:
... (إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناه)(2) وقال النووى فى شرحه لهذا الحديث: إن الحلم هو العقل، وإن الاناه التثبيت وترك العجلة وهى من حبات الجانب الوجدانى ... وهو ضبط وثبات الانفعالات والعواطف. فالعقل يضفى على صاحبه من الصفات الحميدة ما يجعله محبوباً من الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنون لأنه يهدى صاحبه إلى الحق والخير وينأى عن الضلال والشر.
__________
(1) أخرجه البخارى ومسلم (النووى، جـ1، الحديث رقم 8/589).
(2) أخرجه مسلم عن عبيد الله بن معاذ عن أبيه ، جـ1، صـ189.(28/8)
... وقد سبقت السنة النبوية علماء نفس الغرب بقرون، فى توجيه الإنسان إلى السواء والصحة النفسية، فهناك العديد من الأحاديث النبوية التى تناولت النفس محاولة إقناعها، وإصلاحها، وتطورها من أجل أحداث توازن على الجانبين العقلى والوجدانى حتى يحدث التوافق النفسى، أى توافق الفرد مع نفسه، والتوافق الاجتماعى أى توافقه مع الآخرين، حيث يعتبر توازنهما أهم دعائم الصحة النفسية.
مشكلة الدراسة:
طرأت مشكلة الدراسة الحالية نتيجة ما يأتى:-
أشارت معظم نتائج البحوث التطبيقية فى مجال علم النفسى الإسلامى كدراسة هناء أبو شهية (1990) للاتجاهات الوالدية نحو تربية الأنباء تربية إسلامية كما يدركها الأنباء الذكور والإناث، ودراسة هناء أبو شهية (2004) لمدى فاعلية برنامج إرشادى نفسى دينى لتخفيف مشكلات المراهقات الجامعيات. ودراسة سعيدة محمد ابو سوس (1989) لاثر التدين على المخاوف لدى الفتيات الجامعيات، إلى أهمية استخدام علم النفس الإسلامى فى جميع فروع علم النفس وخاصة فى مجال الصحة النفسية.(28/9)
شهد المجتمع العربى الإسلامى تغيرا كبيراً فى الثقافة التى يتلقاها الأطفال والشباب، بسبب العولمة حيث أصبح العالم قرية صغيرة مما عرضهم للصراع الحضارى الثقافى والقيمى نتيجة رؤيتهم للقنوات الفضائية والمواقع الإباحية على الانترنت والذى يؤدى بدوره إلى اضطرابات نفسية لديهم، مما يجعلهم فى حاجة ماسة للسنة النبوية لتوجيههم الوجهة الصحيحة.
هناك قصور بحثى فى الدراسات والبحوث التى اهتمت بالإسلام والصحة النفسية وخاصة فيما يتعلق بدور السنة النبوية وتوجيه المسلم للتوازن النفسى أو الصحة النفسية.
أهمية الدراسة:
... تقدم هذه الدراسة للمكتبة العربية السيكولوجية والمكتبة العربية للدراسات الإسلامية تراثا سيكولوجيا إسلامياً، خاص بالسنة النبوية المطهره فى تناولها لفرع هام من فروع علم النفس الحديث وهو الصحة النفسية حيث، يضم مؤشرات وأساليب وطرق توجيه المسلم لكى يتمتع بصحة نفسية متوازنة على ضوء ما جاء بالسنة النبوية.
الهدف من الدراسة:(28/10)
... الكشف عن الدلائل من السنة النبوية المطهرة التى تشير إلى أن السنة النبوية، قد سبقت علماء نفس الغرب، فى وضع منهج تربوى وقائى للنهوض بالشخصية الإنسانية على الجانبين العقلى والوجدانى، وما يعبران عنهما من سلوكيات سوية متزنه تصل بصاحبها إلى التوازن النفسى والصحة النفسية.
مصطلحات الدراسة:
... السنة النبوية: متمثلة فى الأحاديث الصحيحة كصحيح البخارى ومسلم وكتب السنة لأبى داود، والترمذى والنسائى، وابن ماجه، ومسند أحمد، والدارمى.
الصحة النفسية : Mental Health
... هى التوافق التكيفى التام أو الكامل بين الوظائف النفسية المختلفة، والقدرة على مواجهة الأزمات النفسية العادية التى تطرأ على الإنسان مع الإحساس بالسعادة والرضا، لتأكيده لذاته، واستقلاله لقدراته وامكانياته بصورة إيجابية يرضى عنها وتتفق مع فكرة وعقيدته.
(هناء أبو شهبة،2003)(28/11)
المقصود بالجانب العقلى من الشخصية فى هذه الدراسة: هو مجموعة – الذكاءات المتعددة [الذكاء العام- العملى – والعلمى – اللفظى- النظرى- الاجتماعى- الوجدانى - ...الخ] القدرات- التفكير- القدرة على المثابرة ومقاومة الدوافع الملحة سواء الفسيولوجية الفطرية أو المكتسبة الإرادة القوية فى أداء العبادات القدرة الإيمانية- بعض السمات العقلية [الثقة بالنفس- الاعتماد على النفس- الشعور بالمسئولية- تأكيد الذات والاستقلال فى الرأى – الصبر].
... المقصود بالجانب الوجدانى من الشخصية فى هذه الدراسة: هو كل ما يخص الحالة الشعورية سواء كانت حالة إيجابية أو سلبية، كالصراعات النفسية- مشاعر الأمن النفسى الرضا والسعادة – الانتقالات السلبية الغضب – الخوف- الكبر – العجب بالنفس والعواطف السلبية الكراهية- الحسد- الغيرة- وكذلك الانفعالات الإيمانية الخوف من الله- والعواطف الايجابية كعاطفة الحب.
أولاً: الدراسات السابقة التى تناولت إعداد برامج الإرشاد والعلاج النفسى الدينى الإسلامى:
دراسة إسعاد عبد العظيم البنا (1990)(28/12)
... وهدفت الكشف عن مدى فاعلية أسلوب- الأدعية والأذكار- كأحد طرق العلاج الدينى، فى خفض مستوى القلق، وعما إذا كانت تلك الفاعلية بزيادة عدد الجلسات العلاجية، لتحقيق هذا الهدف فقد استخدمت الباحثة مقياس القلق الصريح لتبلور وتم تطبيقه على عينة من 20 طالبة يعانين من القلق قبل البرنامج العلاجى وبعده الذى استغرق 16 جلسة بواقع ساعة لكل جلسة. وأسفرت النتائج عن صلاحية البرنامج الدينى بالأدعية والأذكار فى تخفيف القلق عند الطالبات.
دراسة محمد على حسين عمار(2001).
... لأثر برنامج إرشادى نفسى- دينى لتخفيف بعض الأعراض الاكتئابية لدى عينة المراهقين من طلاب الثانوية العامة مستخدماً مقياس بيك للاكتئاب بالإضافة للبرنامج الأرشادى على عينة تراوحت أعمارهم من (18: 16) عاماً اختبر منهم 60 طالباً مرتفعى الدرجة على مقياس الاكتئاب وتم تقسيمهم إلى مجموعتين أحداهما تجريبية والأخرى ضابطة، وقد أسفرت النتائج عن صلاحية البرنامج الإرشادى النفسى الدينى فى تخفيف الأعراض الاكتئابية لدى المراهقين المكتئبين.
دراسة هناء يحيى أبو شهبة (2004).(28/13)
... بهدف اختبار فاعلية برنامج إرشادى نفسى دينى لتخفيف الأحساس بالمشكلات لدى المراهقات الجامعيات مستخدمة قائمة للمشكلات 100 عبارة من أعدادها، وتضمنت المشكلات: (الوجدانية- الأسرية – الجسمية- الجنسية- الدينيةو الخلقية)، كما أعددت برنامج إرشادى نفسى دينى من منظور إسلامى اعتمدت فى إعداده على مبادئ ومفاهيم وقيم دينية وخلقية مستمدة من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة مطبقة على 400 طالبة بكليات البنات وطبقته بجامعة الأزهر بنات القاهرة، وقد أسفرت النتائج عن صلاحية البرنامج فى تخفيف الإحساس بالمشكلات على عينة الدراسة.
ثانياً: الدراسات السابقة التى تنازلت القيم الدينية والخلقية والاتجاهات الوالدية فى التربية والتوافق الزواجى فى ضوء الإسلام.(28/14)
دراسة سعيدة محمد أبو سوسو (1986) لاثر التمسك بالقيم الدينية والخلقية على التوافق النفسى والاجتماعى وقد افترضت الباحثة وجود فروق دالة من الطالبات المتمسكات بالقيم الدينية وغير المتمسكات فى التوافق المنزلى- الصحى – الاجتماعى والانفعالى. مستخدمة معيار هيوم بل للتوافق – تعريب محمد عثمان نجاتى، وباستخدام مقياس القيم الفارق البعد الخاص بالتشدد فى الخلق والدين، على عينة من طالبات الجامعة حيث أخذت درجات الرباعى الأعلى وقارنته بدرجات بالرباعى الأدنى فى القيم الدينية فى أبعاد مقياس التوافق (المنزلى-الصحى- الاجتماعى والانفعالى). وأسفرت النتائج عن تمتع الطالبات الأكثر تمسكاً بالقيم الدينية بالتوافق النفسى بأبعادة الأربعة .
دراسة سعيدة محمد أبو سوسو (1989).(28/15)
... لاثر التدين على المخاوف لدى الطالبات الجامعيات مستخدمة مقياس التدين من إعدادها ومقياس المخاوف تعريب جابر عبد الحميد على عينة من ربعمائة طالبة بكلية الدراسات الإنسانية بنات القاهرة. مفترضة أن الطالبات الأكثر تديناً أقل تخوفاً وأسفرت النتائج عن صحة فروضها حيث كانت الطالبات الأكثر تديناً أقل تخوفاً فى كثير من متغيرات الخوف من المرض – الموت- المستقبل- الوحدة ... الخ.
دراسة سعيدة محمد أبو سوسو (1991).
... لسمات شخصية الطفل المسلم حيث قارنت بعض السمات الإيجابية لشخصية الطفل المسلم باستخدام مقياس من إعدادها بين تلاميذ الابتدائى الأزهرى والابتدائى العام على عينة من ربعمائة تلميذ وأسفرت النتائج عن تمتع التلميذ الأزهرى بسمات شخصية الطفل المسلم بصورة أكبر من تلميذ الابتدائية العامة خاصة فى تحمل المسئولية- الصدق- التعاون- الالتزام ... الخ.
دراسة هناء يحيى أبو شهبة (1990).(28/16)
... الاتجاهات الوالدية فى تربية الطفل من منظور إسلامى كما يدركها الأبناء الذكور والأناث حيث أعدت مقياساً فى الاتجاهات الوالدية فى التربية مستمد أبعاده من القرآن والسنة تناول التربية الإيمانية والخلقية والاجتماعية والنفسية والجسمية والعقلية، مستعينة بأسلوب القدوة والملاحظة والموعظة والثواب والعقاب وطبقته، 150 طفلاً لأبناء السيدات العاملات وغير العاملات والمحجبات وغير المحجبات فى أعمار تتراوح من "14-18عاماً" 72 ذكراً و 78 أنثى. وأشارت النتائج إلى أن أبناء المحجبات كن أكثر اتجاهاً نحو تربية الطفل من منظور الإسلام عن غير المحجبات، كما اشارت النتائج إلى أن الأمهات العاملات كن أكثر اتجاهاً نحو تربية الطفل تربية إيمانية وخلقية من منظور الإسلام عن غير المعاملات.
دراسة سعيدة محمد أبو سوس (2001)(28/17)
... للحاجات النفسية للمرأة المصرية وعلاقتها بالتوافق الزواجى فى ضوء القرآن والسنة مستخدمة مقياس التوافق الزواجى من أعدادها، ومقياس التفضيل الشخصى من إعداد صابر عبد الحميد، على عينة من مائة وثمانى وتسعون زوجة جامعية عاملة فى أعمار تراوحت من 30 إلى 45 عاماً، وقسمت العينة إلى ثلاث مجموعات: متوافقة ومتوسطة التوافق وغير متوافق واستبعدت المجموعة المتوسطة وقارنت بين المجموعة الأعلى توافقاً والأدنى توافقاً، وأسفرت النتائج عن وجود ارتباط موجب بين أبعاد التوافق والحاجات النفسية للمرأة، كالحاجة للاستعراض، والخضوع، والنظام، والتواد، والعدوان، وارتباط سالب بين التوافق الزواجى ولوم الذات.
دراسة سعيدة محمد أبو سوسو (2003) .
... عن أساليب المعاملة الوالدية على شخصية الطفل فى ضوء القرآن والسنة النبوية حيث ربطت الباحثة بين العلاقات السوية بين الوالدين والتى يسودها المودة والرحمة كما جاءت فى الإسلام وتأثيرها الإيجابى على شخصية الطفل كذلك ربطت بين العلاقة السوية بين الوالدين والأبناء وأثرها الإيجابى على سلوك الأبناء.
ثالثاً: الدراسات السابقة النظرية فى مجال علم النفس الدينى:(28/18)
... بالنسبة للمراجع فى علم النفس الدينى التى نشرت حديثاً فقد نشر رشاد عبد العزيز موسى. عام (2001) العلاج الدينى، وفى نفس العام العلاج النفسى فى ضوء القرآن، تم الإرشاد النفسى فى حياتنا اليومية فى ضوء الوحى الألهى (2001)، كما نشرت هناء يحيى أبو شهبه عام (2007) الإسلام وتأصيل علم النفس.
... أما عن الدراسات التنظيرية : فقدمت سعيدة محمد أبو سوس (2004) دراسة عن أساليب رعاية الطفل المعوق وذوى الاحتياجات الخاصة فى الإسلام وقدمت هناء يحيى أبو شهبة (2006). سيكولوجية المرأة بين الشريعة الإسلامية وآراء علماء الغرب حيث قدمت الدراسة دلائل من الشريعة (القرآن الكريم – السنة النبوية) على أن الإسلام سبق علماء نفس الغرب فيما يختص ببعض متغيرات البناء النفسى للمرأة [الحاجات النفسية للمرأة – أدوار المرأة الاجتماعية سمات شخصية المرأة السوية]، وفى نهاية الدراسة وضعت الباحثة بعض التوصيات فى ضوء نتائج الدراسة من أهمها استخدام علم النفس الإسلامى لتوعية الشباب وإرشادهم دينيا لأختيار المرأة السوية للزواج – وارشادهم إلى دور المرأة وحقوقها ، وحاجاتها التى اقرها الإسلام- هذا بالإضافة إلى التوصية بنشر مبادئ الإسلام،(28/19)
ودوره فى رفع شأن المرأة المسلمة فى العالم العربى والإسلامى، لمناهضة الأكاذيب، والافتراءات التى بثها بعض أعداء الإسلام، من الكتاب ولإعلاميين.
... كما قدمت هناء يحيى أبو شهبة (2006) التشخيص والإرشاد والعلاج النفسى فى ضوء الإسلام.
... وقد أسفرت الدراسة عن ثبوت صحة فرض الدراسة من وجود دلائل فى الشريعة الإسلامية (الآيات القرآنية والسنة النبوية) على ما جاء فى نظريات علم النفس فى الغرب والخاصة 1- تشخيص الأمراض النفسية ... 2- أهداف الإرشاد النفسى
3- الصفات التى يجب أن يتخلى بها المرشد النفسى 4- الأسس التى يقوم عليها الإرشاد والعلاج النفسى ... ... ... ... 5- أساليب العلاج النفسى.
... وفى ضوء نتائج الدراسة أوصت الباحثة بإعداد برامج إرشاد نفسى دينى لإرشاد الشباب المعرض القلق النفسى وأعراض الاكتئاب الناتج عن ضغوط الحياة، يقوم بها مرشد نفسى مسلم مدرب كما توصى المعالجين النفسائين بإتباع أساليب العلاج النفسى الدينى.
فرض الدراسة الحالية:
... هناك دلائل فى السنة النبوية تشير إلى أساليب وطرق توجيه المسلم إلى التوازن النفسى أو الصحة النفسية فى كل من الجانب العقلى والجانب الوجدانى من شخصية المسلم.(28/20)
نتائج الدراسة وتفسيرها:
أولا: السنة النبوية وتوجيه الجانب العقلى من شخصية المسلم
تنمية الذكاء بأنواعه.
الحث على التفكير السليم.
تقوية الجانب الروحى.
السيطرة على الدوافع الفسيولوجية.
تعلم الخصال السوية من أجل التوافق الاجتماعى.
1- تنمية الذكاء بأنواعه:
... الذكاء هو القدرة العقلية العامة، الذى يتصف بها إنساناً ويتضمن عدة قدرات عقلية مثل الفهم، والتفكير، التذكر، الإدراك، وهناك فروق فردية بين الناس فى الذكاء.
... فهناك الإنسان الذكى جدا وهناك النابغة، كما هناك ذو الذكاء المتوسط العادى (السوى) وهناك الغبى والمعتوه والأبلة ... الخ.
... والذكاء أنواع منه الذكاء العام أى الذى يعتبر سمة أساسية فى الشخصية والذكاء العملى وهو التفوق فى المجال العملى عن النظرى كما أن هناك الذكاء العلمى وهو التفوق فى الدراسات العلمية البحتة عن النظرية والذكاء الاجتماعى وهو قدرة الفرد على عمل علاقات اجتماعية سوية نتيجة كسب رضا وحب الآخرين له، كما لا ننسى الذكاء الوجدانى وهو قدرة الفرد على ضبط انفعالاته وعواطفه وميوله واتجاهاته فى المواقف الحياتية بحيث تؤهله للتفاعل مع الآخرين بصورة سوية.(28/21)
... ويعتبر الذكاء من أهم دعامات الصحة النفسية وخاصة الذكاء الوجدانى والذكاء الاجتماعى اللذين يحققان للفرد قمة الصحة النفسية بتوافقه مع نفسه ومع الآخرين.
... أما الشخص الغبى وجدانياً واجتماعياً فيتعثر فى علاقاته مع الآخرين ويؤدى إلى عدم توافقه النفسى والاجتماعى.
... وهناك فروق فردية فى تلك الذكاءات وقد صنف الرسول - صلى الله عليه وسلم - المسلمين بالنسبة للذكاء إلى ثلاثة أصناف. فمنهم من هو، مثل الأرض الطيبة، قادر على تحصيل العلم وحفظه والعمل به وتعليمه للغير، فينفع به نفسه، وينفع به غيره. ومنهم من هو، مثل الأرض الجدباء (وهى الأرض الصلبه التى لا تشرب الماء)، قادر على حفظ العلم ونقله إلى غيره فينفعه دون أن ينفع هو نفسه، ومنهم، مثل القيعان (وهى الأرض المستوية الملساء التى لا نبات فيها) وهم من لا ينتفعون بالعلم، ولا يحفظونه ليعلموا إلى الغير.
... وقال أيضا: (نحن معاشر الأنبياء أمِرنَا أن تنزل الناس منازلهم، ونكلمهم على قدر عقولهم)(1).
2- الحث على التفكير السليم:
__________
(1) أخرجه أبو داود عن عائشة (تخريج زين الدين أبى الفضل العراقى، جـ1، صـ 57 هامش (2).(28/22)
... يعتبر التفكير أهم قدرة عقلية يتميز بها الإنسان عن بقية مخلوقات الله سبحانه وتعالى، وقد عنى الإسلام عناية فائقة بدعوة الإنسان إلى ملاحظة الظواهر الكونية، والتفكير فى بديع خلق الله تعالى، والنظر فى السموات والأرض، وفى النفس، وفى جميع ما فى الكون من مخلوقات قال تعالى { الَذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وقُعُوداً وعَلَى جُنُوبِهِمْ ويَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً } (آل عمران: 191) { أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِم } (الروم: 8) { قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الخَلْقَ } (العنكبوت: 20) { فَلْيَنظُرِ الإنسَانُ مِمَّ خُلِقَ } (الطارق:5).
... ودعا الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - كذلك إلى التفكير فى آيات الله تعالى، وفى بديع خلقه. فعن أبى هريرة أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "تفكير ساعة خير من عبادة سنة"(1).
__________
(1) الإمام الغزالى (أحياء علوم الدين) جـ4، صـ423، أخرجه زمن الدين أبو الفصل العراقى.(28/23)
... وعن عباس أن قوما تفكروا فى الله عز وجل فقال النبى - صلى الله عليه وسلم -: "تفكروا فى خلق الله ولا تتفكروا فى الله فانكم لن تقدروا قدره"(1).
... وقد أوصانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالتفكير فى خلق الله، ونهى عن التفكير فى ذات الله، لقصور العقل الإنسانى عن إدراك ما هو خارج نطاق قدرته.
... فالعقل الإنسانى يستطيع أن يفكر جيدا فى إطار العالم المحسوس، والمعرفة الحسية التى اكتسبها عن طريق حواسه، وما استنبطه منها من مفاهيم ومعان كلية. أما فيما وراء العالم المحسوس فان العقل الإنسانى لا يستطيع أن يدرك الحقيقة، إلا بفضل من الله تعالى عن طريق الوحى والالهام الإلهى.
... وقد أشاد الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالعقل الذى يقوم بوظيفة التفكير فى قوله للأشج اشج عبد القيس: "أن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله: الحُلم والاّناه"(2)
__________
(1) الإمام الغزالى (أحياء علوم الدين) جـ4، صـ423، 424، أخرجه زمن الدين أبو الفصل العراقى.
(2) أخرجه مسلم عن عبيد الله بن معاذ عن أبيه ، جـ1، صـ189.(28/24)
... وقال النووى فى شرحه لهذا الحديث: أن الحلم هو العقل، وان الاناه هى التثبت وترك العجلة. فالعقل يضفى على صاحبه من الصفات الحميدة ما يجعله محبوبا من الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم -. أن العقل يهدى صاحبه إلى الحق والخير ويناى به عن الضلال والشر. وهذا المؤشر الأول من مؤشرات الصحة النفسية.
3- تقوية الجانب الروحى لدى المسلم:
... وذلك عن طريق تقوية الإيمان بالله ووحدانيته ـ التقوى ـ العبادات ـ التوكل على الله ـ الصبر ـ التوبة.
أ- تقوية الإيمان بالله:
... إن الإيمان بالله هو القيمة الإنسانية العظمى التى على أساسها تقوم الشخصية السوية للإنسان، وقد قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس على أساس الإيمان إلى نمطين رئيسين فقط هما: المؤمن والكافر ثم قسم المؤمن إلى مؤمن يولد مؤمناً ويظل متمسكاً بإيمانه حتى يموت والمؤمن الذى يولد فى بيئة كافرة ثم يؤمن ويموت مؤمناً. والكافر الذى يولد كافرا ويحيا كافراً ويموت كافراً، والكافر الذى يولد فى بيئة مؤمنة ويحيا مؤمنا ثم يرتد عن إيمانه ويموت كافراً.(28/25)
... فعن أبى سعيد الخدرى أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "... الا أن بنى آدم خلُقوا على طبقات شتى. فمنهم من يولد مؤمناً ويحيا مؤمناً ويموت مؤمناً. ومنهم من يولد كافراً ويحيا كافراً ويموت كافراً. ومنهم من يولد مؤمناً ويحيا مؤمناً ويموت كافراً. ومنهم من يولد كافراً ويحيا كافراً ويموت مؤمناً .. الحديث"(1).
... وقد أشارت معظم الدراسات السيكولوجية فى مجال الصحة النفسية كدراسة هناء أبو شهبه (1990) لمدمنى الهيروين ودراسة هناء أبو شهبه (1992) لقاتلات الأزواج أن من أسباب انحراف الشباب وإدمانه للمخدرات والأسباب الرئيسية للجوء السيدات لقتل أزواجهن بعدهن عن الدين وضعف إيمانهم بالله سبحانه وتعالى وبقضائه وقدره.
__________
(1) أخرجه الترمذى فى الفتن بسند صحيح (ناصف، جـ5، صـ289).(28/26)
... فالمؤمن الحق هو الذى يرضى بالقضاء خيره وشره، ولهذا فهو يسلم وجهه لله تعالى، ويعتمد عليه عند توكله فى بداية الأمر ونهايته وبذلك يدفع ما قدر له من الشدائد والمصائب التى قد تحل به فى حياته عن طريق ما يهيئ به الله عبده من الاستعداد النفسى لتقبل ما قد يقع له من هذه المصائب، ولذلك يدعو الرسول - صلى الله عليه وسلم - المسلم إلى الإيمان بالله وتوحيده وعبادته وحده لا شريك له. وقد قضى الرسول - صلى الله عليه وسلم - الثلاث عشرة سنة الأولى من الدعوة يدعو إلى عقيدة التوحيد، ويثبت جذور الإيمان فى قلوب أصحابه، ويصفى نفوسهم ويزكيها بالتقرب إلى الله تعالى وعبادته، ولقد كان للإيمان بالله تعالى أثر عظيم فى تغيير شخصيات العرب، وعلاجهم من المخاوف، كالخوف من الموت، والخوف من الفقر، والخوف من مصائب الدهر، والخوف من الناس، وأصبحوا يعيشون فى أمن نفسى.(28/27)
... فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو أصحابه إلا يخشوا إلا الله تعالى وحدة، والا يسألوا إلا الله وحده ويتضح ذلك من توجيهاته لابن عباس وهو يركب على الرحل خلفه والذى قال فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "إذا سألت فأسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشئ لم ينفعوك إلا بشئ قد كتبه الله لك. ولو اجتمعوا على أن يضروك بشئ لم يضروك إلا بشئ قد كتبه الله عليك ... الحديث"(1).
التقوى:
... ويصاحب الإيمان الصادق بالله تعالى تقوى الله. والتقوى هى أن يقى الإنسان نفسه من غضب الله تعالى وعذابه بالابتعاد عن ارتكاب المعاصى، والالتزام بمنهج الله، فيفعل ما أمره الله به، ويبتعد عما نهاه عنه.
__________
(1) أخرجه الترمذى عن ابن عباس وقال هذا حديث حسن صحيح جـ9، صـ319، 320، واحمد جـ1، ص 293، 303، 307(28/28)
... ويتضمن مفهوم التقوى أن يتحرى الإنسان دائما فى أعماله الحق والعدل والأمانة والصدق، وان يعامل الناس بالحسنى، ويتجنب العدوان والظلم. ويتضمن مفهوم التقوى كذلك، أن يؤدى الإنسان كل ما يوكل إليه من أعمال على أحسن وجه، لأنه دائم التوجه إلى الله تعالى فى كل ما يقوم به من أعمال ابتغاء مرضاته وثوابه. وهذا يدفع الإنسان دائماً إلى تحسين ذاته، وتنمية قدراته ومعلوماته ليؤدى عمله دائماً على أحسن وجه. أن التقوى بهذا المعنى تصبح طاقة موجهة للإنسان نحو السلوك الأفضل والأحسن، ونحو نمو الذات ورقيها، وتجنب السلوك السئ والمنحرف والشاذ".
... فالتقوى إذن من العوامل الرئيسية فى نضوج الشخصية وتكاملها واتزانها، وفى بلوغ التوافق الاجتماعى، وتحقيق السعادة والصحة النفسية.وأفضل الناس من وجهة نظر الإسلام، أقواهم إيمانا وأكثرهم تقوى.(28/29)
... قال الله تعالى: { إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } "وقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم - يا أيها الناس، إلا أن ربكم واحد وأباكم واحد، الا لا فضل لعربى على عجمى، ولا لعجمى على عربى، ولا لأحمر على أسود، ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى .... الحديث"(1)
... وعن عقبه بن عامر أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: ليس لأحد على أحد فضل إلا بدين أو تقوى ..." وفى رواية أخرى: "ليس لأحد فضل إلا بالدين أو عمل صالح .. الحديث"(2).
العبادات:
... إن أداء العبادات التى كلفنا الله تعالى بها من صلاة وصوم وحج وزكاة إنما ليطهر بها النفس ويزكيها ويصقل القلب ويهيئه إلى تلقى تجليات الله عليه بالنور والهداية والحكمة { أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ } (الزمر :22) والإنسان السوى الذى يتمتع بصحة نفسية جيدة هو الشخص الذى يستطيع تأدية العبادات بكفاءة وحق وصدق دون اللجوء إلى النفاق والرياء أو الكسل أو الامتناع عن تأديتها.
__________
(1) أخرجه أحمد عن أبى نضره، جـ5، صـ411.
(2) أخرجه أحمد، جـ4، صـ145 و 158.(28/30)
... إن أداء العبادات تكفر الذنوب ويبعث فى الإنسان الرجاء فى مغفرة الله وعفوه ويقوى فيه الأمل فى الفوز بدخول الجنة، ويثبت فى نفسه الشعور بالأمن والطمأنينة، "فعن حذيفة بن اليمان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "فتنة الرجل فى أهله وولده ونفس وجاره يكفرها الصيام والصلاة والصدقة والأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر"(1).
... أن الإخلاص فى أداء العبادات يقرب العبد من ربه ويجعله يفوز بحبه ورضاه، وإذا أحب الله عبداً احاطة بعنايته ورعايته وكان عونا له فى جميع أموره، فعن أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "أن الله تعالى قال: "من عادى لى وليا فقد اذنته بالحرب وما تقرب إلى عبدى بشئ أحب إلى مما افترضت عليه وما يزال عبدى يتقرب إلى بالنوافل حتى احبه فإذا احببته كنت سمعه الذى يسمع به وبصره الذى يبصر به ويده التى يبطش بها ورجله التى يمشى بها ولئن سألنى لأعطيته ولئن استعاذنى لأعيذنه"(2).
__________
(1) أخرجه البخارى وابن ماجه، واحمد ومسلم والترمذى.
(2) أخرجه البخارى (الشيبانى، جـ3، صـ335، والنووى، جـ1، الحديث رقم 1/95).(28/31)
... أن التكاليف (الصلاة ـ الصوم ـ الحج والزكاة) عندما يؤديها الإنسان فإنها تسهم فى تهذيب النفس والسمو بها عن كل ما من شأنه أن يهبط بها فتقع فى دائرة الاضطراب النفسى من خلال ارتكاب المعاصى، وإذا ما تهذبت النفس وسمت استطاع الإنسان أن يعدل من سلوكياته حسب منهج الله وتخلص من كل آفات النفس التى تفسد عليه علاقته بالآخرين مثل (الكبر ـ العجب ـ الحقد ـ الحسد)، وأصبح من خيار الناس بحسب خلقه. قال - صلى الله عليه وسلم - "إن من خياركم أحسنكم أخلاقا"(1).
... فأداء العبادات بالإضافة إلى أنه يضفى على النفس الشعور بالطمأنينة والأمن فانه يعلم الإنسان كثيرا من الخصال الحميدة مثل الصبر، وتحمل المشاق، ومجاهدة النفس، والتحكم فى أهوائها وشهواتها، والطاعة والنظام وحب الناس والإحسان إليهم، ومساعدة المحتاجين منهم والتعاون والتكافل الاجتماعى.
4- السيطرة على (البدن) الدوافع الفسيولوجية
... من مميزات الجانب العقلى من الشخصية الإنسانية أنه يقوم بعملية ضبط وتنظيم الإشباع للدوافع الفطرية بما يتفق مع مصلحة الفرد والجماعة.
__________
(1) أخرجه مسلم والبخارى (النووى) والشيبانى، جـ4،وأحمد والدرامى.(28/32)
... وتدعو السنة النبوية الشريفة بناء على ما جاء بالقرآن الكريم إلى نوعين من التنظيم فى إشباع الدوافع الفطرية: الجوع - العطش ـ الجنس ـ القوم.
أ- التنظيم الأول: وهو إشباعها عن الطريق الحلال المسموح به شرعاً. ومن أمثلة هذا التنظيم إباحة إشباع الدافع الجنسى عن طريق الزواج فقط، وتحريم إشباعه عن طريق الزنا.
... قال - صلى الله عليه وسلم -: "يا أيها الناس، إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً، وأن الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ واعْمَلُوا صَالِحاً } . وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ" } ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعت اغبر، بمد يديه إلى السماء يارب، يارب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذى بالحرام، فإنى يستجاب لذلك"(1).
... ففى هذا الحديث ينهى الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن الطعام والشراب والملبس الحرام، فان ذلك يغضب الله سبحانه وتعالى، ويؤدى إلى عدم استجابته تعالى للدعاء.
__________
(1) أخرجه مسلم والترمذى (الشيبانى، جـ4، صـ 137، 138). وأحمد والدرامى.(28/33)
... كما ذكر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن إشباع الدوافع عن الطريق الحرام لا يتفق مع حقيقة الإيمان، ولا يقع ممن يكون إيمانه صحيحاً نقياً فعن أبى هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يزنى الزانى حين يزنى وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبه ذات شرف، يرمى الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن"(1) فالشخص المؤمن إيماناً قوياً صادقاً يقيه إيمانه من ارتكاب المعاصى كالزنا، والسرقة وشرب الخمر. أما من يرتكب هذه المعاصى فإن إيمانه لم يبلغ من القوة إلى درجة تمنعه من ارتكابها.
ب- التنظيم عن طريق عدم الإسراف فى الإشباع:
__________
(1) أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذى، والنسائى (الشيبانى، جـ4، صـ309، 310).(28/34)
... دعى الرسول - صلى الله عليه وسلم - أيضا إلى التوسط والاعتدال فى إشباع الدوافع الفطرية ونهى عن الإسراف فى ذلك، مؤكداً لما جاء فى القرآن الكريم من نهى عن الإسراف فى إشباع الدوافع قال تعالى: { يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُوا واشْرَبُوا ولا تُسْرِفُوا إنَّهُ لا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ } (الأعراف، 31).
... وجاءت أحاديث كثيرة للرسول - صلى الله عليه وسلم - مؤكدة لهذا النهى القرآنى عن الإسراف من إشباع الدوافع. فعن أبى ذر أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: "كلوا واشربوا وألبسوا وتصدقوا فى غير إسراف ولا مخيله"(1).
... وقال: "ما ملأ أدمى وعاء شرا من بطنه, بحسب ابن آدم اكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه"(2) وقال - صلى الله عليه وسلم -: "طعام الاثنين كافى الثلاثة، وطعام الثلاثة كافى الأربعة"(3).
__________
(1) أخرجه البخارى (ناصف، جـ3، صـ163).
(2) أخرجه الترمذى واحمد والحاكم (ناصف، جـ5، صـ167)
(3) أخرجه الشيخان ومالك والترمذى (الشيبانى، جـ2، صـ130).(28/35)
... فى هذه الأحاديث نهى الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن الإسراف فى المأكل والمشرب والملبس فالإسراف فى الأكل مضر بالصحة، وتؤدى إلى السمنة التى تسبب كثير من الأمراض الجسمية والأمراض النفسية. كما أن الشره فى الطعام يعتبر نوع من الاضطرابات السلوكية التى تحتاج إلى علاج نفسى وهذا ما أشارت إليه كثير من الدراسات السيكولوجية ومن أحدث هذه الدراسات دراسة (فاطمة خشبه، 2006).
1- السيطرة على الدافع الجنسى:
... يعتبر الدافع الجنسى من أقوى الدوافع الفسيولوجية إلحاحا فى طلب الإشباع وخاصة فى مرحلة المراهقة والشباب، حيث يكون الإنسان فى أوج قوته وحيويته ونشاطه. وقد يشتد إلحاح الدافع الجنسى على الشاب فى بعض الأوقات إلى درجة تسبب له كثيرا من الإزعاج والاضطراب بسبب الصراع الذى يعانيه فى مغالبة هذا الدافع ومقاومته. ولاشك أن الزواج المبكر هو أفضل الوسائل للتخلص من شدة إلحاح الجنس، وما يسببه من صراع نفسى، أن لم يستطيع الشاب حله بطرق شرعية يؤدى به إما إلى الانحراف أو المرض النفسى (قلق) غير أن كثير من الشباب لا يستطيعون الزواج المبكر لأسباب اقتصادية واجتماعية ويستطيع الشاب فى هذه الحالة أن يخفف من حدة إلحاح(28/36)
الدافع الجنس بإتباع عدة وسائل، منها الألعاب الرياضية التى تقوم بتفريغ جزء كبير من طاقته مما يضعف الدافع الجنسى، ومنها كذلك الأعمال الأدبية والفنية والأنشطة الاجتماعية المختلفة التى يقوم فيها الإنسان بتفريغ جزء كبير من طاقته فتضعف نتيجة لذلك أيضا شدة الدافع الجنسى.
... وقد عالج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا الصراع الذى يعيشه الشباب بسبب إلحاح الدافع الجنسى عليهم بحثهم على الزواج فى حالة استعدادهم من حيث مؤن الزواج وتكاليفه، وفى حالة عدم استطاعتهم تكوين تكاليف الزواج فقد أوصاهم بالصوم على اعتبار أن الصوم يؤدى إلى أضعاف الدافع الجنسى بسبب قلة الغذاء من جهة، وبسبب انشغال بال الشاب أثناء صومه بعبادة الله وذكره وتسبيحه من جهة أخرى، فتنصرف صحته عن التفكير فى الجنس.
... قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فانه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فانه له وجاء"(1).
__________
(1) أخرجه البخارى، جـ19، صـ129-132، الحديث رقم 5056، ومسلم، جـ9، صـ172، وأبو داود جـ2، الحديث رقم 2046.(28/37)
... والزواج هو الطريقة المثلى للسيطرة على الدافع الجنسى، فهو يؤدى إلى إشباعه بالطريق الحلال المشروع، فيساعد بذلك على غض البصر وعلى التعفف عن إشباعه بالطريق الحرام. فعن أبى ذر قال: دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجل فقال له عكاف بن بشر التميمى فقال له النبى - صلى الله عليه وسلم - يا عكاف هل لك من زوجة؟ قال: لا، قال: ولا جارية؟ قال: ولا جارية، قال: وأنت موسر بخير؟ قال: وانا موسير بخير، قال: أنت إذن من اخوان الشياطين لو كنت فى النصارى كنت من رهبانهم . أن سنتنا النكاح. شراركم عزابكم، وارازل مواتاكم عزابكم، ابا الشيطان تحرسون. ما للشيطان من سلاح ابلغ فى الصالحين من النساء إلا المتزوجون أولئك المطهرون المرؤون من الخنا. ويحك يا عكاف انهن صواحب أيوب وداود ويوسف وكرسف"(28/38)
فقال له بشر بن عطيه: ومن كرسف يا رسول الله؟ قال: رجل كان يعبد الله بساحل من سواحل البحر ثلاثمائة عام يصوم النهار ويقوم الليل، ثم أنه كفر بالله العظيم فى سبب امرأة عشقها وترك ما كان عليه من عبادة الله عز وجل، ثم استدرك الله ببعض ما كان منه فتاب عليه. ويحك يا عكاف تزوج وإلا فانت من المذبذبين ..(1).
... وحث الرسول - صلى الله عليه وسلم - الآباء على تزويج بناتهم إذا ما تقدم لهن شاب على دين وخلق، وحذر من الامتناع عن تزويجهن ممن يتقدم لهن من الشباب الذين يرضون دينهم وخلقهم، حتى لا يؤدى ذلك إلى انتشار الفساد فى المجتمع. ونحن نرى ونسمع الآن من ظهور انحرافات جنسية ناتجة عن إلحاح الدافع الجنسى لدى الشباب مع رؤيتهم مفاتن جسم المرأة فى القنوات الفضائية مما يثير فيهم الشهوة الجنسية مع نقص الوازع الدينى مما يؤدى إلى تحرشهم واغتصابهم للفتيات والأطفال الصغار.
__________
(1) أخرجه أحمد، جـ5، صـ 163-164.(28/39)
... قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة فى الأرض وفساد عريض"(1).
... كذلك دعا الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى حجاب المرأة وإخفاء زينتها، ونهى أن تلبس ملابس تحكى تفاصيل بدنها حتى لا يتعرض الشباب إلى ما يثير دافعهم الجنس. فعن عائشة أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال لأختها أسماء بنت أبى بكر رضى الله عنه حينما دخلت عليه وهى تلبس ثيابا رقيقا: "يا أسماء أن المرأة إذا بلغت المحيض لم تصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا" وأشار إلى وجهه وكفه"(2).
__________
(1) أخرجه الترمذى فى النكاح، جـ5، جـ305، وابن ماجه فى النكاح (ونسك، جـ2ـ صـ167).
(2) أخرجه أبو داود فى كتاب اللباسـ جـ4، الحديث رقم 1404، انظر أيضا: معوض عوض إبراهيم" الإسلام والأسرة. دار النشر للجامعيين د.ت. القاهرة.(28/40)
... ومما يساعد على السيطرة على الدافع الجنسى ألا يعرض الشاب نفسه إلى رؤية ما يثير فيه الدافع الجنسى. ولذلك نصح الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعدم إطالة النظر إلى النساء، فان ذلك من شأنه إنارة الشهوة، ما من ذلك من شأنه إثارة الشهوة. فعن بريده رضى الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعلى رضى الله عنه: "يا على لا تتبع النظرة النظرة، فان لك الأولى، وليست لك الثانية"(1).
__________
(1) أخرجه أبو داود والترمذى (الشيبانى ، جـ3، صـ41-42).(28/41)
... أما عن الأطفال والصبيان فقد سبقت السنة النبوية نظريات علم النفس وخاصة نظرية التحليل النفسى لسيجموند فرويد Sigmund Freud بأربعة عشرة قرنا من الزمان والتى أشارت إلى أن الدافع الجنسى، وان كان يظهر بوضوح والى ذروته فى فترة البلوغ حينما يتم النضج الجنسى، إلا أن النضج لا يحدث فجأة، وانما يمر بمراحل نمو تمهد لظهوره فى تمام نضجه فى فترة البلوغ. فإذا تعرض الطفل لمثيرات شديدة، وخبرات مهيج لدافعه الجنسى، فان ذلك يساعد على تنشيط دافعه الجنسى فى وقت مبكر، مما يؤثر تأثيرا ضار على يسر نموه الجنسى الطبيعى فيما بعد، فتظهر بعض الميول الشاذة والانحرافات ـ وذلك بتحذيرها من تعرض الأطفال لما يثير فيهم الدافع الجنسى فى سن مبكرة ـ استجابة لتحذير الله تعالى فى آياته الكريمة حيث قال: { يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ والَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الحُلُمَ مِنكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِّن قَبْلِ صَلاةِ الفَجْرِ وحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ ومِنْ بَعْدِ صَلاةِ العِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ ....... } (النور، 58).(28/42)
... وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم فى المضاجع"(1).
5- السنة النبوية وتعليم المسلم الخصال المتصلة بالصحة النفسية
... إن السنة النبوية قد سبقت علماء نفس الغرب الذين أشاروا فى أواخر القرن العشرين إلى مؤشرات ضرورية وهامة يجب أن تتواجد لتتوفر الصحة النفسية للإنسان، ومن هذه المؤشرات أن يتسم الإنسان ببعض السمات والخصائص التى تؤهله للتوافق النفسى أولا ثم التوافق الاجتماعى ثانيا أى توافقه مع الآخرين بالمجتمع.
... فالإنسان اجتماعى بطبعه وفطرته، ولا يستطيع أن يعيش بدون وجود أناس آخرين معه يتفاعل معهم، ومن هنا كان لابد له من التواؤم والتكليف والتوافق حتى يستطيع العيش فى أمن وأمان ورضا عن حياته الاجتماعية.
__________
(1) أخرجه أبو داود (الشبيانى، جـ4، صـ191، ناصف، جـ5، 18).(28/43)
... والتوافق النفسى والتوافق الاجتماعى من أهم مؤشرات الصحة النفسية. ومن متطلبات ذلك ضرورة أن يتسم الإنسان ببعض السمات الخلقية والعقلية والاجتماعية. الناتجة عن إدراك وتفكير عقلى سليم (الاعتماد على النفس ـ والثقة بالذات ـ الشعور بالمسئولية ـ الاستقلال فى الرأى وتأكيد الذات .. ) والأخلاق الحميدة ـ والعادات الحسنة فى ممارستهم المختلفة فى حياتهم اليومية، كحب الناس، التعاون، مدير العون والمساعدة إلى الغير، الرضا بما قدره الله تعالى لهم).(28/44)
... ولقد عنى الرسول - صلى الله عليه وسلم - فى السنوات الأولى من الدعوة الإسلامية بمكة ببناء الإنسان وتربيته، وإعداده لتحمل مسئوليات نشر الدعوة الإسلامية، وإقامة الدولة الإسلامية. فإلى جانب تعليمهم أصول الدين الإسلامى، وأداء العبادات، وبث جذور الإيمان والتقوى فى نفوسهم، فقد كان عليه الصلاة والسلام يعلمهم أيضا الاستقامة فى السلوك، والأخلاق الحميدة، والعادات الحسنة فى ممارساتهم المختلفة فى حياتهم اليومية، وفى تعاملهم مع الناس الآخرين. وكان يغرس فى نفوسهم الأمن والطمأنينة، والتحرر من الجهل والأوهام والخرافات. وكان - صلى الله عليه وسلم - يوجههم أيضا إلى العناية بصحة الجسم وقوته، وتعلم الفروسية والرماية.
... فكان يعلم أصحابه - صلى الله عليه وسلم - كل ما هو حسن وجميل من الخصال والأخلاق التى يعتبرها علماء النفس المحدثين من مؤشرات الصحة النفسية.(28/45)
... فلا غرو، إذن، أن نجد الصحابة، رضوان الله عليهم، الذين تربوا فى مدرسة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، قد صقلت نفوسهم، وتحررت عقولهم، وتحسنت أحلامهم، واستقام سلوكهم، وتعاملت شخصياتهم، فظهر منهم الأبطال الذين هزموا جيوش الفرس والروم، وفتحوا البلاد، وسادوا العالم، وانشأوا الدول. كما ظهر من تسلهم العلماء والمفكرون الذين تعمقوا فى شتى ميادين العلم والمعرفة، والذين كانت كتبهم تدرس فى الجامعات الأوروبية حتى قبيل عصر النهضة الحديثة فى أوروبا، وكان لها الفضل فى تنوير عقول الأوروبيين، ونشأة النهضة العلمية بينهم.
... لقد كانت لتعاليم القرآن الكريم، وتعاليم الرسول - صلى الله عليه وسلم - أكبر الأثر فى تغيير شخصيات المسلمين، فتغيروا من ضعف إلى قوة، ومن تفكك إلى تكامل، ومن عادات سيئة إلى عادات حسنة، ومن انحرافات فى السلوك إلى الاستقامة، ومن أخلاق مذمومة إلى أخلاق حميدة. أى أصبحت شخصياتهم سوية، توفرت فيها الصفات التى تعتبر من المؤشرات الجيدة للصحة النفسية.
(محمد عثمان نجاتى، 1987)(28/46)
... وسوف أشير هنا إلى بعض هذه الصفات على سبيل المثال وليس الحصر (الاعتماد على النفس ـ الثقة بالنفس ـ تحمل المسئولية ـ تأكيد الذات والاستغلال فى الرأى).
1- الثقة بالنفس:
... يتمتع الإنسان السوى بالثقة بالنفس، حيث أن هناك ارتباطا بينها وبين السواء، فتساعد على اتخاذ القرارات وإصدار الأحكام، وتمنعه من التردد فى الرأى، وأيضا تساعده على مواجهة الآخرين والتحدث معهم دون حرج، كما يمكن أن يلتقى بحشد كبير من الناس فى أعمار مختلفة ويتحدث إليهم دون أن يرتبك أو ينتابه توتر أو قلق أو خلافه .. ومن هنا كانت من أهم السمات التى يجب أن تتوافر فى الإنسان حتى يتمكن من التوافق مع نفسه ثم مع الآخرين وبالتالى يتمتع بصحة نفسية.
... والسنة النبوية المطهرة عملت على تربية المسلم تربية تبعث فيه الثقة، مع تخليصه من الشعور بالنقص والضعف والخوف، وحثته على الاعتزاز بالنفس، وعلى الشجاعة فى إبداء الرأى والتعبير عن أفكاره ومشاعره دون خشية من الناس.(28/47)
... عن سعيد الخدرى أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يحقر أحدكم نفسه" قالوا: يا رسول الله، كيف يحقر احدنا نفسه؟ قال: يرى أمرا لله عليه فقال، ثم لا يقول فيه، فيقول: الله عز وجل له يوم القيامة ما منعك أن تقول فى كذا وكذا؟ فيقول خشية الناس، فيقول: فأياى كنت أحق أن تخشى"(1).
... ويتكون مفهوم الإنسان عن نفسه نتيجة معاملة الوالدين والأهل أثناء تنشئته الاجتماعية، ونتيجة خبراته الشخصية فى كثير من المواقف التى يتعرض فيها للفشل أو العقاب أو النقد. والمفهوم الإيجابى عن الذات يؤدى إلى الثقة بالذات والعكس صحيح.
... وقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - نموذجا مثاليا فى حسن معاملته لأبنائه وأحفاده. وحث أصحابه عن حسن معاملة الأولاد فعن انس أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "أكرموا أولادكم وأحسنوا أدبهم"(2)
__________
(1) أخرجه الشيخان والترمذى والنسائى (ناصف، جـ2، صـ35).
(2) أخرجه من ماجه فى الأدب، جـ2، الحديث رقم 3671 .(28/48)
... وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يدرك أهمية الاسم فى تكوين مفهوم الذات لدى الأبناء فالاسم الحسن الجميل من أحد عوامل تكوين المفهوم الحسن عن الذات، وقد ميز بالفعل أسماء بعض أبناء المسلمين كأسم حرب مسلماً، وشهاب هشاماً، المضطجع المنبعث، كما غير العاصى، شيطان ... الخ.
... عن ابن عمر، قال: ابن ابنه كانت تسمى عاصية، فسماها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جميلة وعن أسامة ابن اخدرى أن رجلا يسمى أصرم كان فى النفر الذين أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "وما اسمك؟ قال: أنا اصرم ، قال: بل أنت زرعة"(1)
2- الاعتماد على النفس:
... أن الاعتماد على النفس فى معظم أمور الحياة، وعدم الالتجاء إلى الغير لطلب قضاء الحاجة من السمات الهامة والضرورية لكى يصبح الفرد متوافق نفسياً واجتماعياً وبالتالى متمتعا بالصحة النفسية والاعتماد على النفس يعنى قوة وصلابة الإرادة.
__________
(1) أخرجه أبو داود (ناصف، جـ5، صـ267).(28/49)
... وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يعلم أصحابه الاعتماد على النفس، وتولى شئونهم بأنفسهم، وعدم الاتكال على الغير فى قضاء حاجاتهم. وعن ثوبان أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال:
"من يكفل لى أن لا يسأل الناس شيئاً واتكفل له بالجنة؟" فقال ثوبان: أنا فكان لا يسأل أحدا شيئا"(1)
... وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يحث أصحابه على الاعتماد على النفس فى الكسب والحصول على الرزق، وينهاهم عن سؤال الناس. وعن أبى هريرة أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: والذى نفس بيده لان يأخذ أحدكم حبلة فيحتطب على ظهره خير له من أن يأتى رجلا ليسأله أعطاه أو منعه"(2).
2- الشعور بالمسئولية:
__________
(1) أخرجه أبو داود، جـ2، صـ121.
(2) أخرجه الشيخان والترمذى والنسائى (ناصف، جـ2، صـ35)(28/50)
... تحتوى السنة النبوية المطهرة وما بها من أحاديث شريفة على وصايا الرسول - صلى الله عليه وسلم - للمسلمين للقيام كل بدوره فى الحياة ووضع لكل فرد حقوقه وواجباته تجاه المجتمع وبهذا يكون قد سبق علماء الغرب فى وصف الإنسان السوى الذى يتمتع برضا الله ورسوله ورضا المجتمع وبالتالى من يتمتع بصحة نفسية هو الذى يقوم بدوره وواجبه تجاه الآخرين ويكون بذلك متحملا المسئولية فلو كل إنسان فى جماعة يقوم بدوره سيصلح الجماعة وإذا كل الجماعات وكل الهيئات والمؤسسات فى المجتمع أدت أدوارها فما لاشك فيه سوف يصلح هذا المجتمع.
... وهذا ما أوصانا به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يشير إليه علماء النفس والصحة النفسية حيث أشاروا بان الإنسان الذى يقوم بدوره أو بأدواره بكل إخلاص ودقة فى عمله شخص يتمتع بصحة نفسية فمن الصفات الهامة للشخصية السوية شعور الفرد بالمسئولية فى شتى صورها، سواء كانت مسئولية نحو الأسرة، أو نحو المؤسسة التى يعمل بها، أو نحو زملائه ورفاقه وجيرانه وغيرهم من الناس الذين يختلط بهم، أو نحو المجتمع عامة، أو نحو الإنسانية بأسرها.(28/51)
ولقد عنى الرسول - صلى الله عليه وسلم - بتربية أصحابه على الشعور بالمسئولية ـ فعن ابن عمر أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام الذى على الناس راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وهى مسئولة عنهم، وعبد الرجل راع على مال سيده وهو مسئول عنه، ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته"(1)
... وقرر الرسول - صلى الله عليه وسلم - فى هذا الحديث مسئولية كل فرد نحو ما كلف برعايته أو ما يطلب منه القيام به من أعمال وواجبات. فقد خاطب جميع أفراد المجتمع ثم اخذ نماذج عامة من المسئولية الاجتماعية الإمام والحاكم ـ فى الرجل والمرأة والعبد.
3- تأكيد الذات والاستقلال فى الرأى:
__________
(1) أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذى والنسائى (ناصف، جـ3، صـ47-48).(28/52)
... من سمات الشخص السوى هو استقلاله برأيه دون التبعية للغير أى السير وراء آراء الآخرين دون فهم، فالاستقلال بالرأى أسلوب من أساليب تأكيد الذات. وقد أوصى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسلمين بتأكيد ذاتهم واستقلالهم بآرائهم كما كان ينمى ذلك فى أصحابه، فعن حذيفة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يكن أحدكم إمعه، يقول أنا مع الناس أن أحسن الناس أحسنت، وان أساءوا أسأت. ولكن وطنوا أنفسكم أن أحسن الناس أن تحسنوا، وان اساءوا تجنبوا إساءتهم"(1).
... وفى هذا الحديث يوجه الرسول أصحابه على تأكيد الذات، والاستقلال فى الرأى وينهاهم عن أن يكونوا تابعين للغير، يرون ما يرى الناس، ويفعلون ما يفعل الآخرون دون أن تكون لهم إرادة واختيار فيما يرون ويفعلون.
4- الصبر:
... من المؤشرات الهامة للصحة النفسية قدرة الفرد على تحمل مشاق الحياة والصمود فى مواجهة الشدائد والأزمات، والصبر على كوارث الدهر ومصائبه، فلا يضعف أمامها ولا ينهار، ولا يتملكه اليأس.
__________
(1) أخرجه الترمذى (الشيبانى، جـ4، صـ306-307).(28/53)
... أن الشخص الذى يقابل المصائب والمواقف العصيبة بصبر وثبات، إنما هو شخص سوى الشخصية يتمتع بقدر كبير من الصحة النفسية. وقد أوصانا الله تعالى فى كثير من الآيات بالصبر (محمد عثمان نجاتى، 1993) قال تعالى: { واسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ والصَّلاةِ وإنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إلاَّ عَلَى الخَاشِعِينَ } (البقرة: 45).
... وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يعلم أصحابه أن ما يحل بهم من أمراض أو مصائب إنما هو ابتلاء من الله تعالى، يرفعهم بها درجات، ويمحو بها عنهم خطايا، ويكتب لهم حسنات. وكان هذا التعليم النبوى يقوى منهم عادة الصبر على شدائد الحياة، ويحمل مصائبها بنفس راضية بقضاء الله تعالى فعن أبى هريرة وابى سعيد أنهما سمعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا سقم ولا حزن حتى الهم يهمه إلا كفر الله به من سيئاته"(1)
__________
(1) أخرجه الشيخان والترمذى (الشيبانى، جـ3، صـ343).(28/54)
وعن انس أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا أراد الله بعبد خيرا عجل له العقوبة فى الدنيا. وإذا أراد بعبد الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافى به يوم القيامة"(1)
ثانياً: السنة النبوية وتوجيه الجانب الوجدانى من شخصية المسلم
أ- السنة النبوية والسيطرة على الانفعالات السلبية:
1-انفعال الغضب:
... الغضب انفعال فطرى يظهر عندما يعاق أحد الدوافع الأساسية أو الهامة عن الإشباع. فإذا منع عائق ما الإنسان عن الوصول إلى هدف معين يحقق إشباع أحد دوافعه الأساسية أو الهامة، فانه يغضب ويثور ويقاوم هذا العائق من أجل التغلب عليه وازالته حتى يستطيع الوصول إلى هدفه وإشباع دافعه. وتتوقف درجة شدة الغضب على درجة شدة الدافع، وتبعاً لاهمية الهدف المراد بلوغه.
__________
(1) أخرجه الترمذى (الشيبانى، جـ3، صـ344).(28/55)
... وهناك غضب محمود وآخر مذموم، ولقد اثنى الله تعالى على رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لغضبهم على الكفار فى كفاحهم من أجل نشر الدعوة الإسلامية. قال تعالى { مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ والَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ } (الفتح: 29) والشدة على الكفار نتيجة غضبهم من اعتدائهم على الإسلام.
... والغضب المذموم هو الغضب بسبب عرض زائل من أعراض الدنيا التافهة أى أمر غير أساسى أو ضرورى، وكان الرسول لا يغضب لشخصه، وانما يغضب للحق، وإذا اجترئ على حد من حدود الله. قال على رضى الله عنه: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يغضب للدنيا، فإذا اغضبه الحق لم يعرفه أحد، ولم يقم لغضبه شئ حتى ينتصر له"(1) وللغضب تغيرات فسيولوجية وصفها الرسول - صلى الله عليه وسلم - فى قوله:"ألا وان الغضب جمرة فى قلب ابن ادم، أما رأيتم إلى حمرة عينيه، وانتفاخ اوداجه ... الحديث"(2)
__________
(1) أخرجه الترمذى فى الشمائل (تخريج زمن الدين أبى الفضل العراقى لاحاديث أحياء علوم الدين للغزالى، جـ3، صـ171، رقم 4).
(2) أخرجه الترمذى بسند حسن (ناصف، جـ5، صـ298-299).(28/56)
... وقد أوصى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسلمين بالسيطرة على انفعال الغضب فعن أبى هريرة قال: أن رجلا قال للنبى - صلى الله عليه وسلم - اوصنى قال "لا تغضب" فردد مرراً قال: "لا تغضب"(1) وعن عبد الله بن عمر وانه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ماذا ينقذنى من غضب الله؟ قال: "لا تغضب"(2)
... ونستطيع أن نفهم من هذين الحديثين أهمية التحكم فى الغضب فى حياة المؤمن لأنه ينقذه من غضب الله. ونستطيع كذلك أن نفهم القيمة العظيمة لمجاهدة النفس فى التحكم فى الغضب، فمن يستطيع أن يملك نفسه عند الغضب، يستطيع كذلك أن يملك نفسه فى مواجهة شهوات نفسه واهوائها، ومغريات الدنيا وملذاتها وفضلا عن ذلك، فان التحكم فى الغضب مؤدى إلى حسن العلاقات والتوافق النفسى والاجتماعى، وهما مؤشران هامان فى الصحة النفسية.
__________
(1) أخرجه البخارى ومالك الترمذى (النووى، جـ1، صـ533، الحديد رقم 8/639 الشيبانى، جـ3، صـ247).
(2) أخرجه الطبرانى وابن عبد البرواص (تخريج زمن الدين أبو الفضل العراقى ، جـ3 ، صـ165، هاممش3)(28/57)
... وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يُرَغَب أصحابه كثيرا فى التحكم فى الغضب. مثال ذلك ما رواه عبد الله بن مسعود أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابه: "ما تعدون الصرعة فيكم؟ قالوا: الذى لا تصرعه الرجال. قال: "لا" ولكنه الذى يملك نفسه عند الغضب"(1).
... وفى هذا الحديث يعلم الرسول - صلى الله عليه وسلم - المسلمين معنى جديدا للقوة، وهو معنى خُلُقى نبيل يختلف عن المعنى الذى كان سائدا بين العرب فى الجاهلية، فليست القوة هى قوة البدن، والقدرة على صرع الرجال والبطش بهم، وانما القوة هى مجاهدة النفس والتحكم فى انفعال الغضب.
... وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يحث أصحابه على التحكم فى الغضب، ويعد من يفعل ذلك بالثواب العظيم فى الآخرة. فعن معاذ بن انس أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: "من كظم غيظا وهو قادر أن ينفذه دعاه الله سبحانه وتعالى على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يخير من الحور العين ما شاء"(2).
__________
(1) أخرجه مسلم وأبو داود (الشيبانى، جـ3، 246).
(2) أخرجه أبو داود والترمذى (النووى، جـ1، صـ79).(28/58)
... كذلك أوصى الرسول - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بالعفو عن خدمهم ومملوكيهم، وعدم ضربهم وايذائهم عن أبى مسعود البدرى، قال: "كنت اضرب غلاما لى بالسوط، فسمعت صوتا من خلفى يقول: اعلم أبا مسعود فلم افهم الصوت من الغضب. فلما دنا منى إذا هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول اعلم أبا مسعود. فالقيت السوط من يدى. فقال: اعلم ابا مسعود أن الله اقدر عليك منك على هذا الغلام" قال، فقلت لا اضرب مملوكا بعده أبدا"(1)
... وقد سبق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علماء نفس الغرب الذين اشادوا بعلاج حالة الغضب بالاسترخاء. فقد أشار - صلى الله عليه وسلم - إلى هذه الحقيقة حينما نصح أصحابه بالجلوس إذا غضبوا وهم قائمون، فان لم يذهب الغضب فليطجهوا فعن أبى ذر أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع"(2)
__________
(1) أخرجه مسلم وأبو داود والترمذى (الشيبانى، جـ3، صـ183)
(2) أخرجه أبو داود، جـ4، صـ249، الحديث رقم 4783، واحمد، جـ5، صـ152.(28/59)
... فالجلوس أو الاضطجاع فى حالة الغضب يؤديان إلى استرخاء البدن، مما يساعد على مقاومة التوتر الذى أحدثه الغضب، ويعلل حدة العدوان.
... والوضوء كذلك من الأساليب التى نصح الرسول - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بها أيضا من أجل السيطرة على الغضب. فعن عروه بن محمد بن السعدى أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "أن الغضب من الشيطان، وأن الشيطان خلق من النار، وإنما تطفأ النار بالماء فإذا اغضب أحدكم فليتوضأ"(1)
2- السيطرة على انفعال الكبر:
... الكبر، وهو التعالى عن الناس واحتقارهم، حالة انفعالية مكروهة، وسمة خلقية مذمومة، قد ذمها القرآن الكريم وذمها الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتوعد المتكبرين بعقاب شديد. فعن ابن مسعود أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:"لا يدخل الجنة من كان فى قلبه مثقال ذرة من كبر" فقال رجل: أن الرجل يجب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً. فقال: أن الله تعالى جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمض الناس"(2)
__________
(1) أخرجه أبو داود، جـ4، صـ249، الحديث رقم 4784.
(2) أخرجه مسلم وأبو داود والترمذى (الشيبانى، جـ4، ص150، والنووى، جـ2، صـ الحديث رقم 2/1577.(28/60)
... ففى هذا الحديث وعيد لمن يرد الحق ويرفضه كبرا، ولمن يتعالى على الناس ويحتقرهم، بالحرمان من دخول الجنة. وعن أبى سعيد وابى هريرة قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - راويا عن ربه عز وجل: "قال الله تعالى: الكبرياء ردائى، والعز ازارى، فمن نازعنى شيئا منهما عذبته"(1)
... وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "يُحشر المتكبرون أمثال الذر يوم القيامة، يغشاهم الذل من كل مكان، يساقون إلى سجن فى جهنم يقال له بُولس، تعلوهم نار الانيار، يسقون عصاره أهل النار، طينة الخيال"(2)
... وعن ثوبان أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "من مات وهو برئ من ثلاث: الكبر والغلول والدين، دخل الجنة"(3)
3- السيطرة على انفعال الحزن:
__________
(1) أخرجه مسلم وأبو داود (الشيبانى، جـ4، صـ15)
(2) أخرجه الترمذى (الشيبانى، جـ4، صـ151).
(3) أخرجه الترمذى (الشيبانى، جـ4، صـ306).(28/61)
... يشعر الإنسان بالحزن عندما يفقد شخصا عزيزا، أو شيئا هاما له قيمة. ويحدث الحزن فى الإنسان شعورا بالكدر والضيق. وقد تعوذ منه الرسول - صلى الله عليه وسلم - فى دعائه المعروف "اللهم انى أعوذ بك من الهم والحزن .... الحديث"(1)
... وقد دعى الرسول - صلى الله عليه وسلم - المسلمين إلى السيطرة على الحزن إذا ما حلت بهم مصيبة الموت، أو أى مصيبة أخرى من مصائب الدنيا. وليس المقصود بالسيطرة على الحزن عدم البكاء، وعدم الشعور بالحزن فى القلب لموت شخص عزيز، فان البكاء والشعور بالحزن فى مثل هذه المواقف أمر طبيعى، وانما المقصود بالسيطرة الامتناع عن المبالغة فى البكاء بصوت مرتفع، وعن النياحة، والندب.
__________
(1) أخرجه البخارى وأبو داود والترمذى والنسائى واحمد (وتستك، جـ1، صـ461).(28/62)
... فعن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عاد سعد بن عباده، ومعه عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبى وقاص، وعن عبد الله بن مسعود، فبكى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما رأى القوم بكاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكوا، فقال: "ألا تسمعون؟ أن الله لا يعذب بدمع العين ولا يحزن القلب، ولكن يعذب بهذا أو يرحم وأشار إلى لسانه"(1).
ب- السنة النبوية وتوجيه الانفعالات الايجابية:
1- انفعال الخوف:
... الخوف من الانفعالات الفطرية التى يولد الإنسان مزود بها، ويشعر به الإنسان فى مواقف الخطر التى تلحق به الأذى والضرر، أو التى تهدد حياته بالهلاك أو الموت. فالخوف مفيد للإنسان، فهو يساعده على التهيؤ لمواقف الخطر، وعلى الاستعداد لمواجهتها.
__________
(1) أخرجه الشيخان (النووى، جـ1، صـ 699 الحديث رقم 1/925).(28/63)
... ودلت الدراسات التجريبية الحديثة فى مجال علم النفس على أن الخوف إذا كان معتدلا وغير مسرف، فانه يكون مفيداً فى دفع الإنسان إلى حسن الأداء فيما يقوم به من أعمال. أما إذا كان الخوف على درجة عالية من الشدة أدى ذلك إلى اضطراب الإنسان والى سوء أدائه لما يقوم به من أعمال فالخوف المعتدل يؤدى إلى حسن استعداد التلميذ للامتحانات الدراسية.
وان أهم أنواع الخوف التى يكون لها أعظم الفوائد فى حياة الإنسان هو خوفه عذاب الله تعالى، فهو يدفعه إلى التمسك بواجباته الدينية.
... ولذلك كانت آيات الترهيب من عقاب الله وعذابه فى القرآن ذات أثر فعال قال تعالى: { وخَافُونِ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } (آل عمران: 175).
... عن أبى هريرة أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما من أحد يموت إلا ندم" قالوا: وما ندامته يا رسول الله؟ قال: أن كان محسنا ندم ألا يكون ازداد، وان كان مسيئا ندم ألا يكون نزع"(1)
__________
(1) أخرجه الترمذى (ناصف، جـ5، صـ203) ونزع: أى رجوع عن عصيانه.(28/64)
... وعن أبى هريرة أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن فى الضرع ..."(1).
... فكما أن من المستحيل أن يعود اللبن إلى الضرع بعد خروجه منه، فكذلك من المستحيل أن يدخل النار من خاف الله وبكى من خشيته. ويدل هذا الحديث على أن فى الخوف من الله منجاه من النار، إذ أنه يدفع المرء إلى الطاعات ويبعده عن المعصيات.
... على أن الخوف الشديد جدا من عذاب الله قد يؤدى إلى اليأس من رحمة الله، وحينئذ تضطرب شخصية الإنسان، وقد يسوء أداؤه لواجباته الدينية ليأسه من النجاه من عذاب الله. ولذلك، كان من الضرورى، ومن المفيد أن يصاحب الخوف من عذاب الله، الرجاء فى رحمة الله.
ج- السنة النبوية والسيطرة على العواطف السلبية:
1- عاطفة الكراهية:
__________
(1) أخرجه الترمذى (ناصف، جـ5، صـ204).(28/65)
... من العواطف السلبية التى تنتاب الإنسان نتيجة تكرار سلوك أو مواقف سلبية من الآخرين مما يسبب له الكدر والألم والضيق والغضب ونتيجة تكرار الإحساس بتلك الأحاسيس تتكون هذه العاطفة والكره مضاد للحب، وهناك علاقة ما بين عاطفة الكراهية والسلوك العدوانى والشجار والمقاتلة. وإذا لم تعالج عاطفة الكراهية أدت إلى قطع العلاقات الاجتماعية واضعاف وحدة المجتمع وتماسكه وخاصة إذا طغت على شخصية الفرد وأصبحت سمة عامة يمكن أن تؤدى به إلى السيكوباتية وهى من أسوأ اضطرابات الشخصية.
... وقد أشار الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك فى قوله: "دب إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء ... الحديث"(1)
... والإنسان السوى المؤمن الصادق الإيمان لا مكان للكره والحقد فى قلبه لاى عرض من أعراض الدنيا الغائبة، وانما المؤمن يكره لله ويبغض لله. فهو يكره أن يعتدى أحد على حق من حقوق الله، ويكره أن يرى أحدا يظلم الناس، أو يفسد فى الأرض، أو يسفك الدماء بغير حق.
__________
(1) أخرجه أبو داود من حديث أبى هريرة. وابن ماجه من حديث انس (تخريج زين الدين أبى الفضل العراقى، مرجع سابق، جـ3، صـ187، هامش رقم 1).(28/66)
... فالبغض لله من علامات استكمال الإيمان، هو بغض الشر بكل صوره، وبغض إيذاء الناس والإساءة إليهم، وإلحاق الضرر بالمصلحة العامة للمجتمع، أو الوطن، أو للإنسانية جمعاء.
... وقد أوصى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسلمين بالتحاب والتواد، ونهاهم عن البغضاء أو الشحناء والكراهية. فعن أبى أيوب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان فيعرض هذا،ويعرض هذا، وخيرهما الذى يبدأ السلام"(1)(محمد عثمان نجاتى، 1993)
... كما توعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالعقاب الشديد فى الآخرة لمن يستمر فى هجرانه لأخيه المسلم أكثر من ثلاثة
... "لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، فمن هجر فوق ذلك فمات دخل النار"(2)
2- عاطفة الغيرة:
__________
(1) أخرجه الشيخان "النووى جـ2، صـ1094، الحديث رقم 2/1594.
(2) أخرجه أبو داود، جـ4، صـ279، الحديث رقم 4914.(28/67)
... عاطفة تسبب لصاحبها الكدر والألم، وتنشأ لدى الأبناء منذ مرحلة الطفولة الأولى بسبب التفرقة فى معاملة الآباء وتحيزهم لأحد دون الآخر مما يثير غيرته وحقده على أخيه، وتستمر مشاعر تلك العاطفة لمرحلة المراهقة وتزيد ثم الرشد، ويصقلها الظروف البيئية الاجتماعية التى تعمل على إثارتها كغيرة الرجل من زميله فى العمل إذا نافسه فى الحصول على تقدير رؤسائه، أو غيره شاب من زميله إذا نافسه فى الحصول على حب شخص معين عزيز عليه.
... وقد نهت السنة النبوية المطهرة عن تلك العاطفة المكدرة لصاحبها وعن أبى هريرة أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "أن الله يغار والمؤمن يغار وغيره الله أن يأتى المؤمن ما حرم الله"(1)
وكانت عائشة تغير على النبى - صلى الله عليه وسلم - فعنها أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - خرج من عندها ليلا. قالت فغرت عليه أن يكون اتى بعض نسائه، فجاء فرأى ما اصنع، فقال: "أغرت؟ فقلت: وما لمثلى لا يغار على مثلك؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: لقد جاءك شيطانك .... الحديث"(2)
__________
(1) أخرجه البخارى والترمذى (ناصف، جـ2، صـ3319.
(2) أخرجه مسلم والنسائى (الشيبانى، جـ3، صـ246).(28/68)
... وعن عائشة أيضا قالت: ما رأيت صانعة طعام مثل صفية، صنعت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - طعاما وهو فى بيتى فأخذنى افكل فارتعدت من شدة البرد فكسرت الإناء ثم ندمت، فقلت يا رسول الله، ما كفارة ما صنعت؟ فقال: إناء مثل إناء، وطعام مثل طعام"(1)
... والغيرة نوعان: غيرة محمودة ومستحبة كالغيرة على الأهل إذا كان هناك مبرر حقيقى يستدعى ذلك فأمر محمود ومحبوب، أما الغيرة بسبب التنافس على أعراض الدنيا التافهة، أو بسبب الشكوك والوساوس التى لا أساس لها ولا مبرر فهى مكروهة ومذمومة. فعن جابر بن عتيك أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "من الغيرة ما يحب الله ومنها ما يبغض الله. واما التى يحبها الله عز وجل فالغيرة فى الريبة. واما التى يبغضها الله فالغيرة فى غير الريبة .... الحديث"(2)
3- عاطفة الحسد:
__________
(1) أخرجه أبو داود والنسائى (الشيبانى، جـ3، صـ246) الافعل: يعنى الرعدة من برد أو انفعال كالخوف والغيرة.
(2) أخرجه أبو داود (ناصف، جـ4، صـ371) فى الريبة: أى فى الشك وعلامات الشر.(28/69)
... تنقسم عاطفة الحسد إلى نوعين: أحدهما هو كراهة الفرد رؤية الغير أفضل منه فى نعمة ما، ولذلك فهو يتمنى الحصول عليها، مع تمنى زوالها عن الغير.وهذا هو الحسد المذموم، والحرام والمنهى عنه شرعاً.
... والنوع الثانى: هو كراهه الفرد رؤية الغير أفضل منه فى نعمه ما، ولذلك فهو يتمنى الحصول على مثل هذه النعمة التى لدى الغير، ولكن مع عدم تمنى زوالها عنه. ويسمى هذا النوع من الحسد أيضاً بالغبطة لست عاطفة مذمومه مطلقاً بل هى محمودة فى أعمال البر والخير.(28/70)
... وقد ذك عاطفة الحسد المذموم فى القرآن الكريم فى قوله تعالى : { ومِن شَرِّ حَاسِدٍ } (الفلق3) وذكر الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذا النوع من الحسد المذموم فى كثير من الأحاديث فعن ابن عباس أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال:" إن لنعم الله أعداء" فقيل من هم؟ فقال : "الذين يحسدون الناس على ما أتاهم الله من فضله"(1) وقد ذم الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذا النوع من الحسد فى كثير من الأحاديث الأخرى يذكر منها: "الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب"(2).
كما نهى أيضاً الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن الحسد المذموم فى قوله عن أنس:
__________
(1) أخرجه الطبرانى فى الأوسط تخريج زين العابدين ابى الفضل العراقى لأحاديث كتاب احياء علوم الدين للغزالى،جـ3 صـ188.
(2) أخرجه أبو داود من حديث أبى هريرة، وأن حاجة من حديث أنس(تخريج زين العابدين أبو الفضل العراقى جـ3 صـ187 هامش 3(28/71)
... "لا تباعضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله اخواناً"(1)...." وفى هذين الحديثين توجيه للمسلمين بضرورة التخلص من تلك العاطفة المذمومه (الحسد المذموم) لأنها تذهب الحسنات، وتقطع روابط الأخوة كما يأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - المسلمون بأن يكونوا كالاخوه فى تحابهم.
4- السيطرة على الزهو والعجب بالنفس:
... الزهو والعجب ... هذه العاطفة من العواطف التى يتسم بها بعض الشخصيات المضطربة وجدانيا كالشخصية الهستيرية، والشخصية البارانوية أو الفصامية، وإذا استسلم الإنسان لهذه الصفة البذيئة فإنه سوف يندرج تحت فئة المرض النفسى، أو العقلى كمرض الفصام أو البارانوية.
... لقد ذم القرآن الكريم الزهو والعجب بالنفس فقال تعالى: { ولا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ ولا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } (لقمان :18) .
__________
(1) أخرجه أبو داود فى الأدب، جـ4،صـ278، الحديث رقم 4910 كما أخرجه البخارى، ومسلم، ومالك، الترمذى، ابن ماجه و سنك ،جـ1،جـ1،صـ465.(28/72)
... وعن أبى هريرة أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: بينما رجل يمشى فى حُله تعجبه نفسه مُرَجّل رأسه، يختال فى مشيته أو خُسِفَ به فى الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة"(1) وعن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة"(2) ويتضح من هذين الحديثين أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو أصحابه إلى السيطرة على انفعال الزهو والعجب بالنفس، وطاعتهم على ذلك بالترهيب من العذب فى الحياة الآخرة.
د- السنة النبوية وتوجيه عاطفة الحب وتدعيمها بصورة ايجابية.
1- عاطفة الحب:
__________
(1) أخرجه الشيخان الشيبانى، جـ4، صـ152.
(2) أخرجه البخارى وأبو داود والترمذى والنسائى وأحمد ونسنك، جـ1، صـ461.(28/73)
... تعتبر عاطفة الحب من العواطف الهامة فى حياة الإنسان، لأنها بمثابة مفتاح السعادة والرضا عن الذات، والرضا عن الآخرين، فالحب هو الأساس فى تكوين الاسرة، وفى ترابط أفرادها وتماسكهم وتعاونهم، وبالحب يستطيع الآباء والأمهات تربية أبنائهم وتكوين شخصيتهم بصورة سوية بعيدة عن الاضطرابات والأعراض النفسية، فإحاطة الوالدين للطفل بمشاعر المحبة، والحنان والعطف يبث في نفسه الشعور بالأمن والطمأنينة، فتنمو شخصيته نموا سليماً سوياً متوافقاً نفسياً واجتماعياً.
... أما إذا حُرِمَ الطفل من الشعور بحب الوالدين، لأى سبب من الأسباب، فإنه يفقد الشعور بالأمن والطمأنينة، ويصيبه القلق، وتضطرب شخصيته ويصبح عُرضه مستقبلاً للإصابة بالمرض النفسى.
... وقد خاطبت السنة النبوية المسلمين قبل قرون من ظهور آراء علماء الغرب بشأن تلك العاطفة البناءه للصحة النفسية: فقد تعرض الرسول - صلى الله عليه وسلم - فى كثير من أحاديثه إلى عدة أنواع من الحب. كحب الله وحب الرسول وحب الناس، وحب الحيوان، وحب الكون، وحب الزوج أو الزوجة، وحب الأبناء، حب المال ..... الخ.
2- حب الله:(28/74)
... هو اسمى أنواع الحب الإنسانى، وأكثرها تحقيقاً للسعادة والمتعة الروحية. وهو الأساس الذى تقوم عليه جميع أفعال المؤمن، وهو القوة الموجهة لسلوكه . وحث الرسول - صلى الله عليه وسلم - الناس على حب الله لنعمه الكثيرة عليهم. فعن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "احبوا الله لما يخذوكم من نعمه ... الحديث(1)".
... وعن عبد الله بن يزيد الخطمى الانصارى أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يقول فى دعائه: اللهم أرزقنى حبك، وحب من ينبغى حبه عندك ..... الحديث"(2).
... وعن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال(3): من أحب لله، وابغض لله، وأعطى لله، فقد استكمل الإيمان".
3- حب الرسول
... يأتى حب الرسول فى أعلى درجات الحب الإنسانى رقياً وكمالاً. وحب الله تعالى، وحب الرسول - صلى الله عليه وسلم - يكونان معاً ذروه الحب الإنسانى، وأعلى درجاته روحانية وصفاء ونقاء
__________
(1) أخرجه الترمذى فى أبواب المناقب ، جـ13، صـ201 .
(2) أخرجه الترمذى فى أبواب الدعاء، جـ13، صـ27.
(3) أخرجه أبو داود والترمذى بسند حسن عن أبى أمامع (ناصف، جـ5) صـ78.(28/75)
وقد أمرنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - بحبه وحب أهل بيته . وبعدما نزلت آية 24 من سورة التوبة يامرنا فيها الله سبحانه بحب الله والرسول: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحبوا الله لما يغذوكم من نعمه، واحبونى بحب الله . واحبوا أهل بيتى بحبى(1) ويحب أن يكون حب المسلم للرسول - صلى الله عليه وسلم - أشد من حبه لنفسه، أو لوالدية او أولاده أو لاى إنسان آخر. فعن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين"(2).
__________
(1) أخرجه الترمذى عن انس بسند حسن (ناصف) جـ3،صـ349 ، الشيبانى،جـ3،صـ296.
(2) أخرجه البخارى، جـ1، صـ114، ومسلم، جـ2، صـ15.(28/76)
... ويجد المؤمن فى حبه لله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - لذه وسعادة لا تعدلها أية لذه وسعادة فى هذه الدنيا، ويشعر بها فى نفسه بحلاوة الإيمان. فعن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الايمان. ان يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا الله، وأن يكره أن يعود فى الكفر كما يكره أن يقذف به فى النار(1)".
4- حب الناس
... ألذ وأمتع شئ فى الدنيا أن الإنسان يحب الآخرين ويشعر بحبهم له وخاصة لو كانوا من أسرته، وأقاربه، وجيرانه، ومجتمعه فالسعادة كل السعادة حينما يشعر الفرد أنه استطاع أن يكون علاقات متعددة تتسم بالمشاركة الوجدانية والاجتماعية والفكرية والثقافية وغير ذلك من أنواع العلاقات الإنسانية التى تربط بكثير من أفراد مجتمعة بداية من أفراد أسرته.
__________
(1) أخرجه الشيخان والترمذى والنسائى، (ناصف،جـ5) ، صـ78.(28/77)
... والطفل الذى ينشأ على الحب والحنان والتعاطف والتعاون والود والوفاء والإخلاص، أى الذى ينشأ نشأ سويه يشعر عادة بمحبة للناس جميعاً حيث لا يرى من الدنيا إلا كل شئ جميل، ترى الدنيا من نافذة النور فيقبل على الحياة، ويمد يد العون إلى من يحتاج منهم إلى عون ومساعدة مما يشعره بالرضا، والسعادة وهى من أهم مؤشرات الصحة النفسية ومن هنا تتضح حكمه اهتمام السنة النبوية بدعوة الناس التى التآلف والتواد والتحاب، والتعاون، فارتباط الإنسان بالآخرين بالمودة والمحبة، يقوى انتماءه إلى الجماعة، ويخلصه من الشعور بالقلق الذى ينتج عن الوحدة والعزله عن الجماعة، وهو شعور يعانى منه عادة المريض النفسى.
... فعن الزبير أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "... والذى نفسى بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا ادلكم على ما تحابون به؟ افشوا السلام بينكم"(1).
__________
(1) أخرجه الترمذى (الشيانى) جـ2،صـ23.(28/78)
... عن أبى هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "المؤمن ما ألف، ولا خير في من لا يألف ولا يؤلف"(1)
... وعن أبى هريرة أن النبى - صلى الله عليه وسلم - ذكر سبعة يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله ومن هؤلاء: "رجلان تحابا فى الله اجتمعا عليه وتفرق عليه....."(2) .
... عن أبى هريرة أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال فى حديث طويل جاء فيه " ..... أحب للناس ما تحب لنفسك تكن مسلماً ......."(3)
... وفى هذا الحديث دعا الرسول المسلمين إلى أن يكون حبهم للناس الآخرين صادقاً وخالصاً من عوامل الاثره أو الشح.
... وحب المؤمن للناس يجب أن يكون خالصاً لوجه الله تعالى، لا لمنفعه عاجلة أو لغرض شخص، أو سعياً وراء مال أو منصب أو جاه.
4- حب الأبناء
__________
(1) أخرجه أحمد، جـ2، صـ400 ، وفى راوية أخرى لسهل بن سعد الساعد: "المؤمن مألفة ولا خير فى لا يألف ولا يؤلف أخرجه أحمد،جـ5، صـ335.
(2) أخرجه الشيخان والترمذى والنسائى (انصف،جـ1) صـ231 – 232 والنووى جـ1،صـ547 الحديث رقم 1/659.
(3) أخرجه الترمذى وأحمد (ناصف ،دجـ5، صـ166-167.(28/79)
... دعى الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى حب الأبناء وحسن تأديبهم ورعايتهم،وكان عليه السلام أسوه حسنه للمسلمين فى ذلك. فقد كان يحب الحسن والحسين رضى الله عنهما، وكان يحنو عليهما، ويعانقهما، ويقبلهما، ويحملهما فوق ظهره. عن البراء، قال: - صلى الله عليه وسلم - رأيت النبى - صلى الله عليه وسلم - والحسن على عاتقه يقول اللهم أنى أحبه فأحبه وعنه ايضاً : أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال اللهم :انصر حسنا وحسينا إنى أحبهما فأحبهما"(1).
... كما كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - ينصح المسلمين بحسن رعاية الفتيات، فعن ابن عباس أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال "من كانت له انثى فلم يئدها ، ولم يهنها، ولم يؤثر ولده عليها(2) أدخله الله الجنة".
... وعن عائشة، قالت: جاءتنى امرأه ومعها اثنتان تسألنى فلم تجد عندى غير تمره واحده، فأعطيتها فقسمتها بين ابنتيها ثم قامت فخرجت. فدخل النبى - صلى الله عليه وسلم - فحدثته، فقال: "من بلى من هذه البنات بشىء فأحسن اليهن كن له سترا من النار".
السنة النبوية وتوازن الشخصية
__________
(1) أخرجه الرمذى (ناصف، جـ3، صـ358).
(2) أخرجه أبو داود (ناصف، جـ5،صـ7).(28/80)
1- الصراع Conflict
... تشير هناء أبو شهبة (2003) إلى أن أهم أسباب اعتلال الصحة النفسية للفرد هو معاناته من الصراع النفسى، والصراع هو العمل المتزامن أو المتوقف للدوافع أو الرغبات المتعارضة أو المتبادلة. وينتج عن وجود حاجتين لا يمكن إشباعهما فى وقت واحد، أو هو اصطدام بين قوتين واحدة تدفع والأخرى تمنع، مما يؤدى إلى التوتر الانفعالى أو القلق واضطراب الشخصية ولا يخلو فرد من الصراع خلوا تاماً ولكن المطلوب والمرغوب أن يكون هذا الصراع فى الحد الأدنى بحيث لا يستنفذ طاقة الفرد النفسية، ويبددها.... ويمكن تمثيل الصراع بين دوافع الفرد وحاجاته بالحرب الأهلية داخل الشخصية فتنهك قواها على سبيل المثال إذا دفع الإنسان تحت تاثير دافعين قوتين متساويين فى القوه ومتضادين فى الاتجاه، فيجذيه أحد الدافعين إلى هدف ما، ويجذبه الدافع الآخر إلى هدف آخر مضاد للهدف الأول، فيشعر الإنسان بحاله من الحيرة والتردد، لا يستطيع معها أن يتجه إلى أى من هذين الهدفين.(28/81)
... فهو إن اتجه إلى الهدف الأول، فإن قوة الدافع الذى يجذبه إلى الهدف المضاد تشتد فتوقف حركته، وتأخذ فى شدة نحو الاتجاه المؤدى إلى الهدف الآخر المضاد. فإذا أبتعد قليلا عن الهدف الأول تشتد قوة الدافع الذى يجذبه إليه فتوقف حركته... وهكذا يقع الفرد فى حالة من التردد والحيرة بين هذين الهدفين لا يستطيع أن يصل إلى أى منهما وتعرف هذه الحالة بالصراع النفسى.
... وقد وصف الرسول - صلى الله عليه وسلم - حالة الصراع النفسى الذى يشعر به المراهق فى تردده بين الانضمام إلى جماعة المسلمين أو إلى جماعة الكفار، وشبهه بحالة الشاه الحائره بين مجموعتين من الضم، فتنضم إلى أحداهما مره وإلى الأخرى مره، ليس لها ثبات فى الاستقرار فى إحدى المجموعتين فعن ابن عمر أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: "مثل المنافق كمثل الشاه العائره بين الغنمين تصير إلى هذه مرة ولى هذه مرة"(1)
__________
(1) أخرجه مسلم فى كتاب المنافقين (ناصف ، جـ5،صـ45).(28/82)
... كما وصف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصراع النفسى بين الجانب المادى والجانب الروحى فى الإنسان وصفاً دقيقاً بتمثيله بمثال واقعى يصور هذا الصراع تصويراً حياً دافعياً فقال : "مثلى كمثل رجل استوقد ناراً، فلما أضاءت ما حولها، جعل الفراش وهذت الدواب التى فى النار يقعن فيها، وجعل يجزهن ويقلبنه فيتحمن فيها، فذلكم مثلى ومثلكم أنا آخذ بحجزكم عن النار، هلم عن النار، هلم عن النار، فتفلبونى وتقحمون فيه"(1).
... وقد صور رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى هذا الحديث صورة الصراع بين الشهوات الحية ومغريات الحياة الدنيوية من جهة، والدوافع الدينية والروحية التى تحث الإنسان على عدم الانغماس فى شهواته وأهوائة من جهة أخرى.
__________
(1) أخرجه مسلم، جـ15، صـ49.(28/83)
... ولكل من البدن والروح حاجات تتطلب الأشباع. فالبدن يحتاج إلى الغذاء والماء والنوم، وتجنب الحرارة والبرودة والألم، كما يحتاج إلى أليف من الجنس الآخر، وغير ذلك من الحاجات البدنية الضرورية لحياته وبقائه، وللروح أيضاً حاجاته الخاصة به، فهو يتشوق إلى معرفة الله تعالى وعبادته والتقرب إليه بالطاعات والأعمال الصالحة، وقد يقع الصراع بين متطلبات كل من البدن والروح ويعجز الإنسان عن تحقيق قدر معقول من التوازن بينهما فقد يميل إلى الأسراف فى إشباع دوافعه البدنية. وفى كلا الحالتين يحدث انحراف عن الفطرة السليمة، ويحتل التوازن فى شخصية الإنسان.(28/84)
... واقد اعتنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتحقيق التوازن بين البدن والروح، وعلى سبيل المثال أنه اعتبر العمل عباده. فمن سعى فى سبيل كسب قوته، وأعاله والديه وزوجته وأولاده، فهو فى سبيل الله. كان الرسول- صلى الله عليه وسلم - جالساً مع أصحابه ذات يوم فرأى شاباً ذا جلد وقوة قد خرج مبكراً يسعى فقالوا: ويح هذا الشاب. لو كان شبابه وجلده فى سبيل الله ! فقال - صلى الله عليه وسلم -. "لا تقولوا هذا، فإنه إذا كان يسعى على نفسه ليكفها عن المسألة، ويغنيها عن الناس، فهو فى سبيل الله، وأن كان يسعى على أبوين ضعيفين أو ذريه ضعاف ليعيهم ويكفيهم، فهو فى سبيل الله، وأن كان يسعى تفاخراً وتكازا فهو فى سبيل الشيطان"(1).
2- الشعور بالأمن النفسى
__________
(1) أخرجه الطبرانى فى معاجمة الثلاثة من حديث كعب بن حجره بسند ضعيف (تخريج زين الدين العراقى، جـ2، صـ61 ، هامش رقم4).(28/85)
... يذكر عثمان لبيب خراج (د.ت) أن مؤشرات الصحة النفسية هو الشعور بالأمن النفسى وهذا أيضاً ما أشارت إليه معظم الدراسات السيكلولوجية فى مجال الصحة النفسية الأجنبية والعربية والسنة النبوية المطهرة قد سبقت تلك الدراسات والكتابات، فقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دائم الدعوة لأصحابة إلى الايمان بالله تعالى، ودائم الترغيب لهم فى تقوى الله تعالى أخلافى الفوز غفرنه ورضوانه، وفى ثوابه العظيم باليقين الدائم فى الجنة.
... وكان هذا الأمل دافعا قويا لهم فى الاخلاص فى عبادة الله، وفى الاستقامة فى السلوك، وفى الابتعاد عن كل مظاهر الانحراف، مما كان له أثر كبير فى شعورهم بالطمأنينة والأمن النفسى.(28/86)
... وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يبث فى أصحابه روح الإخاء والتعاون والتماسك أو التكامل الاجتماعى، ويقوى فيهم روح الانتماء إلى الجماعة ، ويقرر بينهم أواصر العلاقات الاجتماعية، ويدعوهم إلى حب الناس، مما جعل المجتمع الاسلامى فى عصر الرسول نموذجاً مثالياً للمجتمع الإنسانى، فالشعور بالحب نحو الأفراد الآخرين والشعور أيضاً بأنه مقبول ومحبوب منهم، من العوامل الهامة لشعور الفرد بالراحة النفسية والأمن النفسى- وقد أشار الرسول - صلى الله عليه وسلم - فى حديث عن عبيد الله بن محصن الخطمى أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أصبح آمنا فى سربه، معافى فى جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذا فيرها(1)".
... ففى هذا الحديث أشار الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى ثلاثة أسباب رئيسية للسعادة، وهى الشعور بالأمن فى الجماعة، وصحة الجسم، والحصول على القوت. ولا شك فى أن شعور الإنسان بالأمن النفسى فى معيشته فى الجماعة التى ينتمى إليها، وصحته البدنيه وخلوه من الأمراض، وإشباعه لحاجاته الفطرية بطرق مشروعه من مؤشرات الصحة النفسية.
(عثمان نجاتى، 1993)
__________
(1) أخرجه الترمذى (الشيبانى ، جـ4، صـ45).(28/87)
التوصيات والمقترحات
وفى ضوء نتائج الدارسة توصى الباحثة التوصيات الآتية:-
أوصى الآباء والمربين والمهتمين بالأبناء والطفولة والمراهقة والمسئولين عن النشء، إتباع الأساليب التربوية المستمدة من السنة النبوية المطهرة تى نصل بهم جميعاً إلى أجيال أصحاء نفسياً.
توصيه إلى وزارة التربية والتعليم بوضع مناهج دراسية – للمرحلة الابتدائية والمرحلة الثانوية وهما المرحلتين التربويتين التى تقابل مرحلتى الطفوله والمراهقة – نتناول فيها السنة النبوية ومخاطبتها للجانب العقلى والجانب الوجدانى من الشخصية الإنسانية وخاصة فى منهج التربية الدينية.
توصية لوسائل الإعلام والمسئولين عنها فى الوطن العربى والإسلامى بضرورة الاهتمام بصورة أكبر بالسنة النبوية وتوجيهها للصحة النفسية من خلال الدراما المرئية والمسموعة، وكذلك من خلال المقالات وقصص الأطفال المقروءة.(28/88)
ولا ننسى دور وزارات الثقافة فى الوطن العربى والإسلامى بعمل ندوات إرشادية نفسية دينية لغرس القيم الدينية والخلقية التى اهتمت بها السنة النبوية الشريفة للنهوض بشبابنا ضد الصراعات النفسية الناشئة عن سلبيات الثقافة الغربية التى يستمدها الشباب من القنوات الفضائية والانترنت.
... وفى ضوء نتائج الدراسة يمكن وضع المقترحات لبحوث ودراسات أخرى فى مجال علم النفس الدينى (الإسلامى)
أولا: على المستوى النظرى اقترح الدراسات الآتية :-
1- دراسة أثر السنة النبوية فى توجيه الشباب للابتكار.
2- دراسة السنة النبوية وتنمية الإبداع لدى الأطفال.
3- دراسة السنة النبوية وتوجيه المسلم لمحاربة قضايا الفساد الاجتماعى.
ثانياً: على المستوى التطبيقى اقترح عمل البحوث التالية:
مدى فاعلية برنامج ارشادى معرفى دينى / سلوكى لتغيير اتجاهات الشباب نحو ادمان الانترنت (المواقع الاباصية) فى ضوء السنة النبوية المطهرة.
مدى فاعلية برنامج ارشادى معرفى دينى / سلوكى لتغيير اتجاهات الشباب نحو ادمان المخدرات فى ضوء السنة النبوية المطهرة.(28/89)
فاعلية برنامج ارشادى نفسى معرفى سلوكى لإرشاد الشباب المعرض للاضطرابات النفسية فى ضوء السنة النبوية المطهرة.
والله الموفق لما فيه الخير لما يرضى الله ورسوله،،،
المراجع
القرآن الكريم
أ. ى ونسنك، وى ، ب، منسنج (1936-1969) المعجم المفهرس لالفاظ الحديث النبوى، ليدن.
ابن منظور (د.ت) "لسان العرب"، إعداد يوسف الخياط، دار لسان العرب، بيروت.
أبو الحسين مسلم (1924): "صحيح مسلم ـ شرح النووى) الجزء الثانى المطبعة المصرية ومكتبها، القاهرة.
أبو حامد محمد بن محمد الغزالى (د.ت) "أحياء علوم الدين، دار المعرفة"، بيروت.
أبو داود سليمان بن الاشعث السجستانى (د.ت): سنن أبى داود تحقيق: حجى الدين عبد الحميد، دار الفكر، بيروت.
أبو زكريا يحيى النووى "د.ت" رياض الصالحين من كلام سيد المرسلين دار ابن الهيثم، القاهرة.
أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن على بن بحر النسائى (د.ت) سنن النسائى، شرح الحافظ جلال الدين السيوفى، دار الكتاب العربى، بيروت.
أبو عبد المالك (1983): مواطأ الإمام مالك، رواية يحيى بن يحيى الليثى، ط7، إعداد أحمد راتب موسى، دار النقائس، بيروت.(28/90)
أبو عيسى الترمذى (د.ت) صحيح الترمذى، شرح الإمام ابن العربى المالكى، دار الكتاب العربى، بيروت.
أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدرامى (1984): "سنن الدرامى"، تحقيق وتعليق: عبد الله هاشم، فيصل آباد، نشاط أمادة حديث، الكادحى.
اسعاد عبد العظيم البنا (1990): دور الادعية الدينية والأذكار فى علاج القلق، الجمعية المصرية للدراسات النفسية، المؤتمر السادس لعلم النفس، بالقاهرة.
سعيدة محمد أبو سوسو (1989): أثر التدين على المخاوف لدى طالبات المرحلة الجامعية، مجلة كلية الدراسات الإنسانية، بنات جامعة الأزهر، القاهرة.
سعيدة محمد أبو سوسو (1991): سمات شخصية الطفل المسلم، مجلة كلية التربية، جامعة الأزهر، القاهرة.
سعيدة محمد أبو سوسو (2003): "أساليب المعاملة الوالدية واثرها على شخصية الطفل فى ضوء القرآن والسنة".
سعيدة محمد أبو سوسو (2004): "رعاية الطفل المعوق وذوى الاحتياجات الخاصة فى الإسلام" مؤتمر جامعة المنصورة بعنوان: تربية الأطفال ذوى الاحتياجات الخاصة، مجلد المؤتمر، المنصورة.
عبد العلى الجسمانى (1997): القرآن وعلم النفس، الدار العربية للعلوم، القاهرة.(28/91)
محمد عثمان نجاتى (1987): "القرآن وعلم النفس، ط3، دار الشروق، بيروت.
محمد عثمان نجاتى (1993): "الحديث النبوى وعلم النفس، ط2، دار الشروق، القاهرة.
منصور على ناصف (1975): التاج الجامع للأصول فى أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ط4، دار الفكر، القاهرة.
هناء يحيى أبو شهبه (1990): الاتجاهات الوالدية نحو تربية الطفل من منظور إسلامى كما يدركها الذكور والإناث، مجلد مؤتمر الطفولة فى الإسلام كلية الدراسات الإنسانية، جامعة الأزهر، القاهرة.
هناء يحيى أبو شهبه (2003): الصحة النفسية للطفل، دار الفكر العربى، القاهرة.
هناء يحيى أبو شهبه (2004): "فاعلية برنامج ارشادى نفسى دينى لتخفيف الإحساس بالمشكلات لدى المراهقات الجامعيات" مجلد مؤتمر التوجهات التنموية فى تطوير التعليم الجامعى العربى، جـ2، كلية الدراسات الإنسانية، جامعة الأزهر، بنات القاهرة.
هناء يحيى أبو شهبه (2006): "سيكولوجية المرأة بين الشريعة الإسلامية وآراء علماء الغرب" مؤتمر المرأة ، كلية الدراسات الإسلامية والعربية، بنات جامعة الأزهر، القاهرة.(28/92)
هناء يحيى أبو شهبه (2006) "التشخيص والإرشاد والعلاج النفسى فى ضوء الإسلام"، بحث ألقى ونوقش ونشر فى مؤتمر العلاج النفسى رؤية تكاملية، كلية الأداب ، جامعة المنوفية.
هناء يحيى أبو شهبة (1992) الدلالات الكلينكية لاستجابات قاتلة الزوج على اختبار بقع الحبر لروشاح (دراسة حالة)، العدد الواحد والعشرون – السنة السادسة- يناير- الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة.
هناء يحيى أبو شهبة (1990) "دينامية شخصية مدمن الهيروين" العدد الحادى عشر، السنة الخامسة- يناير – مجلة كلية التربية، جامعة الزقازيق.(28/93)
بسم الله الرحمن الرحيم
سعادة الأستاذ الدكتور أمين القضاة المحترم- رئيس اللجنة التحضيرية لمؤتمر:
السنة النبوية في الدراسات المعاصرة
تحية طيبة لشخصكم الكريم ولكافة الزملاء وبعد:
فأبعث إليكم بمشاركتي في المؤتمر أعلاه ببحث يتعلق بالمحور الثالث حول:
"توظيف السنة النبوية السياسية في العلاقات بين المسلمين وغيرهم"
المنوي عقده في رحاب جامعة اليرموك في فترة 17-18 نيسان القادم بعد التأجيل، وإذ أتطلع إلى لقائكم والاجتماع بكم أتمنى لهذا المؤتمر كل النجاح بعونه تعالى، كما وآمل أن يصلني من طرفكم ما يفيد من ترتيبات المشاركة، إن رأيتم ذلك مناسباً.
أكرر تقديري واحترامي راجياً لكم التوفيق إن شاء الله
وتفضلوا بقبول فائق الاحترام
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أ.د. ياسين محمد غادي
21/2/2007م
ملاحظة:
القرص المرن ونسخة من البحث في طريقه للوصول إليكم
أعتذر إن كان هناك بعض تأخير.
بسم الله الرحمن الرحيم
بحث في
توظيف السنة في العلاقات السياسية بين المسلمين وغيرهم
مقدم لمؤتمر
السنة النبوية في الدراسات المعاصرة
جامعة اليرموك- إربد – الأردن
إعداد
أ.د. ياسين محمد غادي(29/1)
كلية الشريعة والقانون /جامعة الإمارات العربية المتحدة
ص.ب 15551/ هاتف: 0502238137
فاكس: 97137550655 البريد الاليكتروني: yasinma@uaue.ac.ae
ملخص في المحور الثالث
توظيف السنة النبوية في العلاقات السياسية بين المسلمين وغيرهم
برزت في الآونة الأخيرة الحاجة الماسة إلى تجديد علاقات المسلمين مع غيرهم، مع أن أصل العلاقة مؤصل في القرآن الكريم والسنة النبوية، لكن لأن الطروحات المستجدة في عالم متسارع وتكنولوجية متقدمة ودول تدعو إلى العالمية- مع استخدام آليات مختلفة لحمل الناس على التعامل معها، تارة بالإقناع وغالباً بالضغوط لتسويق وهيمنة مصالحها- كثيرة فلا بد والحالة هذه من إبراز وإعادة النظر في عرض السنة النبوية بطريقة تواكب هذه المستجدات، ثم لا بد من إظهار الصور الناصعة في السنة وهي تتعامل مع الآخر بالحكمة والموعظة الحسنة، وذلك لاجتثاث دعوات العنف والإرهاب المسلطة على بلاد المسلمين، ولا أحد يشك في أن السنة النبوية فيها من التعليمات والأدلة ما يدمغ أية فرية، ويبدد أية مقولة تحاك ضد المسلمين في هذا الخصوص، وعليه سأبحث في ورقتي التي سأقدمها للمؤتمر-بعون الله- المباحث التالية:(29/2)
التمهيد: مفهوم العلاقة السياسية بين المسلمين وغيرهم في زمن المستجدات
المبحث الأول: أصل علاقة المسلمين السياسية مع غيرهم المؤصلة بالسنة
المبحث الثاني: استشرافات سياسية جديدة من السنة لا بد من محاكاتها وتعريف الآخر بها
المبحث الثالث: طريقة عرض السنة والمكلفون بذلك
التمهيد: مفهوم العلاقة بين المسلمين وغيرهم في زمن المستجدات
لا يشك أحد في قيمة العلاقات بين الأفراد والشعوب والدول، فهي قديمة وضرورة من ضرورات الحياة لا يستغنى عنها، وعند التأمل في علاقة المسلمين مع غيرهم من الشعوب والأقوام يتبين لنا أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- هو الذي أصلها تأصيلاً فذاً، وضبط قواعدها ضبطاً محكماً ودقيقاً قبل أربعة عشر قرناً ونيف، لكن هذه العلاقات اعتراها مد وجزر، ورأي ورأي آخر في حقب التاريخ المختلفة وإلى يومنا هذا، على أن الأبرز والأغرب هو ما شهدته وتشهده هذه العلاقات من تبدلات واختراقات في زمننا الحاضر زمن العولمة والتحديات المتسارعة التي أصبحت هم الناس الأكبر، وشغلهم الشاغل، ومن المعلوم أنه مع التحديات تكثر التساؤلات والشكوك والأوهام والخرافات والإحباطات المضللة تارة، والآمال والأحلام وردود الفعل(29/3)
المتفائلة تارة أخرى.
إذا علمنا هذا نقول: لا بأس أن نردد أن الإسلام له طبيعته وفهمه الخاص عن العلاقات بينه وبين الشعوب الأخرى استمدها من القرآن الكريم والسنة النبوية ابتداء، ثم ترجمها إلى واقع عملي تمثلت في ممارسات إنسانية من خلال أوائل الصحابة والتابعين والفقهاء والخلفاء والعلماء المحدثين إلى وقتنا الحاضر.
أما عن مضمون هذه العلاقات ومحتواها وأبعادها فإنها تنبع من النظرة الإسلامية الشاملة للكون والإنسان والحياة، أي التنبيه والتركيز على ظاهرة الوحي والواقع، وبهذا يكون الإسلام هو السباق في هذا الميدان وهذا الشمول، وذلك لأن نظرة القوانين الوضعية تخفي إلى حد كبير ظاهرة الوحي وتكتفي بالمادية على حساب الروح.
هذه الأبعاد جعلت الإسلام يسمو في علاقاته مع الأمم والشعوب الأخرى، فسموه يكمن في نظرة الاحترام واللين واللطف والتعاون والمحبة لهم، وبالتالي السلم والسلام معهم، دون عداء وحقد وكراهية وعنف.(29/4)
أما ترتيب فصول التعاون وتجسيد الاحترام، وتسويد المحبة، وتحييد العنف والكراهية والحقد مما سنشهده لاحقاً(1)، فقد كان صناعة من صناعات الرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتوظيفاً من توظيفاته الكثيرة بعد أن تراجعت البشرية إلى أدنى مستوى لها، وانحدرت إلى أسفل هاوية.
هذا ولأن تأصيل السنة للعلاقات، وتوظيفها للأحداث مع هذا الآخر مترامية الأطراف، وموزعة هنا وهناك، ولها جذور وفروع شتى يصعب الإلمام بها دفعة واحدة فسأقصر البحث وأركزه على نوع واحد من هذه العلاقات ألا وهي العلاقة السياسية، وسأربطه بما لا بد من ذكره من أنواع أخرى، ومما يحتاج إليه من تصنيفات ضرورية كلما لزم الأمر.
المبحث الأول: أصل علاقة المسلمين السياسية مع غيرهم المؤصلة بالقرآن الكريم والسنة النبوية
__________
(1) عند الكلام عن أصل العلاقات بين المسلمين والشعوب والأمم الأخرى في المبحث الثاني.(29/5)
المتمعن في تعليمات السنة النبوية وثوابتها يجد أن الأصل في علاقة المسلمين مع غيرهم من الأمم والشعوب هو السلم لا الحرب، وحتى يتسم كلامنا بالدقة والموضوعية أكثر فأكثر نطرح الطروحات والآراء التالية التي عول عليها كثير من كتاب السنة والفقه حيث توصلوا من تقسيماتهم واختلافاتهم في هذا إلى نتائج باهرة جديرة بالتنبية والتأمل وهي كالتالي:
أولاً: يرى كثير من الفقهاء والكتاب المسلمين أن أصل العلاقة السياسية بين المسلمين وغيرهم التي رتب قواعدها القرآن الكريم، وأرست دعائمها السنة النبوية وباركتها هو السلم، بل السلم دائماً وأبداً، وقد جنح إلى هذا الرأي الإمام سفيان الثوري والإمام الأوزاعي وغيرهم، وقد صرحوا بأن القتال مع المشركين لا غرض فيه، ولا معنى له ما لم تكن البداية منهم، عندها يجب قتالهم، وذلك دفعاً للأذى لقوله تعالى: (وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة)(1).
__________
(1) سورة التوبة، آية36.(29/6)
ثانياً: النصوص القرآنية الكثيرة التي تدعو إلى السلم مثل قوله تعالى: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها)(1)، وقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين)(2)، وقوله تعالى: (ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة)(3)
أما الأدلة التي ساقوها والبراهين التي أوردوها فكما يلي:
من القرآن الكريم
إن الآيات القرآنية الواردة بشأن القتال قد جاءت في كثير من السور المكية والمدنية مبينة للسبب الذي من أجله أذن في القتال ، وهو إما لدفع الظلم أو قطع الفتنة، فالله عز وجل أوجب على المسلمين قتال المعتدين حتى لا تكون فتنة ولا محنة، ودفعاً للاعتداء. قال تعالى: (وقاتلوا في سبيل الله الذي يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين)(4).
من السنة النبوية
__________
(1) سورة الأنفال، آية61.
(2) سورة البقرة، آية208.
(3) سورة النساء، آية94.
(4) سورة البقرة، آية190.(29/7)
إن السنة النبوية ضربت أروع الأمثلة وساقت أدق التفاصيل في ضرورة إفهام الأمم والشعوب أن رسالة الإسلام سلمية، وإنها رسالة تفاهم واستدراك، وتبادل أفكار ومصالح، لكن دول الاستعباد والظلم ودولة القطب الواحد والأحادي، لا تقيم لهذه المناداة وزناً، ولا تقبل بها عرضاً، بل وإمعاناً في الغي والضلال تشدد من قبضتها على الدول الضعيفة، وتستقوي عليها استعماراً واحتلالاً بأساليب أكثر تقنيناً، وأدق تكتيكاً وإحكاماً من تلك التي عايشناها، وذلك بفضل الآلة الحربية المدمرة والفتاكة التي تمتلكها.
هذا واقرأ إن شئت توجيهات السنة بالمناداة السلمية بقوله صلى الله عليه وسلم: (أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية)(1)، وقوله عليه الصلاة والسلام: (اسلم تسلم، وإن أبيت فعليك إثم الأريسين)(2).
ج- من الاجماع
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد، انظر صحيح البخاري، ضبط وترقيم مصطفى البغا، ج3.
(2) أخرجه البخاري في كتاب التوحيد، انظر صحيح البخاري، ضبط البغا، 6/2714، والأريسين يعني بهم الأعوان والخدم، انظر أبو عبيد، الأموال، 2/31.(29/8)
أجمع جمهور الفقهاء والعلماء المسلمين على عدم جواز مقاتلة الأعداء ابتداءً، وإن كان فبعد النبذ، ومع القتال يمنع، بل ويحرم قتل غير المقاتلين من النساء والصبيان والرهبان والشيخ الكبير والأعمى والزمن(1)، لأنهم ليسوا من المقاتلة، فلو أن القتال كان لإجابة الدعوة لما ساغ استثناء هؤلاء.
__________
(1) الزمن: يقال زمن زمناً وزمنة وزمانة: مرض مرضاً يدوم طويلاً وضعف بكبر سن أو مطاولة علة: انظر، المعجم الوسيط، زمن وزمين، 3/403.(29/9)
كما واستنبط الفقهاء من توجيهات السنة النبوية وتوظيفاً لها أن لا يكره أحد من شعوب الأرض على اعتناق دعوة لا يستسيغها بحيث تكون عبئاً وثقلاً عليه، ولعمري إنها للفتة حكيمة واستيعاب جلل لنتائج بعيدة توظفها هذه السنة، قال تعالى: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي)(1)، وعليه فالسنة تقدم الدعوة بطريق الحجة والبرهان دون لجوء إلى السيف والسنان ما دام الأمر مقدوراً عليه، وما دام التناور في الإقناع ميسراً ومبسوطاً(2).
__________
(1) سورة البقرة، آية256.
(2) بخلاف دعوات المشرعين من رجال المبادئ المنحرفة الذين يحملون غيرهم على السرعة في الاستجابة لدعاويهم المنحرفة والمبتورة، وإلا كان النتائج المترتبة عليه شر وبيلة وظالمة.(29/10)
هذا واستوعب الكثير الكثير من أبناء المسلمين الأدب والجمال في توظيف السنه لمبادئ التسامح والتفاهم التي احتوتها فباركوا وسارعوا في إقناع الغير بضرورة التعامل مع نصوصها، يشمل ذلك جملة المبايعين من رجال الفكر الإسلامي ومحبي نشر قواعد العدالة والتسامح مع أهل الديانات الأخرى، فقد زف لنا الشيخ عبد الوهاب خلاف- رحمه الله- جملته في النظر الصحيح في هدي السنة في هذا الشأن حيث قال: النظر الصحيح هو ما تراه السنة من تأييد أنصار السلم القائلين بأن أسس علاقات المسلمين بغيرهم قائم على المسالمة والأمان لا على الحرب والقتال)(1).
كما وزف لنا الشيخ أبو زهرة –رحمه الله – مؤكداً على تعليمات السنة السلمية التي تضمنت المعنى السابق ذاته إذ يقول: (إن الأصل في علاقات المسلمين مع غيرهم هو السلم، حتى لا يكون الاعتداء بالاعتداء على الدولة الإسلامية فعلاً أو بفتنة المسلمين عن دينهم)(2)، ويؤكد على المعنى ذاته الذي قررته السنة إلى أن يقول: (وننتهي من هذا إلى أن الأصل في العلاقات بين المسلمين وغيرهم هو السلم)(3).
__________
(1) السياسة الشرعية، ص76.
(2) العلاقات الدولية في الإسلام، ص48.
(3) المرجع السابق.(29/11)
يتبين لنا من هذا كم السنة القرآن والسنة يحضان بل مولعان بمبادئ التسامح وأفكار السلم، وإيصاد الأبواب في وجه من يزعم أن أفكار الحرب والقتل والاعتداء مررت من خلالهما أي القرآن والسنة، لأنهما باركا السلم ابتداء، وفي الوقت نفسه أكدا عن رضاهما عن ميول الشعوب الشخصية، حتى مع الذين لم يستظلوا بظل القرآن ولم يقبلوا بتعليمات السنة ابتداء واتهامهم لهذين المصدرين بتضليل الشعوب بالتزييف تارة، واستغلال فترات ضعفها لحربها والسيطرة عليها، والأمثلة على كثيرة فليرجع إليها في مصادرها حتى لا يظن ضان أننا ندافع عن القرآن والسنة لذات الدفاع دون براهين وأدلة(1)
__________
(1) أرى أن توظيف السنة من خلال الدفاع عنها فقط لا يفيد، وخاصة مع أولئك النفر من الناس الذين استهوتهم أفكار الشياطين من المرتزقة والمرتدين والمارقين والعابثين بمقدرات شعوب العالم الإسلامي، وخاصة أننا كلما حاولنا إظهار وجه السنة المشرق، والرضا بالتسامح وقبول الآخر- ولو على حسابنا- ازدادوا إمعاناً في اتهامها وقذفها والاعتداء وإعلان الحرب عليها ليصلوا إلى مبتغاهم في أن أفكار وتعليمات السنة النبوية هدامة وطائشة، فيجب والحالة هذه إغلاق المنافذ حولها وعدم التصويب نحوها كما يزعمون، لأن التوظيف الأمثل لا يكون من خلالها بل يجب التصويب إلى الأفكار الشرقية والغربية والتقاطها، لأنها الأساس في العلاقات، وإلا كيف كيف نفسر ما نسمعه وما نشاهده كل يوم من اتهامات وانتهاكات لشخصية الرسول محمد صلى الله عليه وسلم؟! وكذلك كيف يصور الابتذال المنكر على هذه الشخصية بالرسوم الكاريكتارية الفاحشة والدنيئة واللئيمة، مثل هؤلاء ازدادوا استعاراً وناراً على السنة وأفكارها، وأفكار من يمثلها، لأن أفكارهم التي أوردوها، وبرروا إقحام الناس عليها كلها مغالطات، وعلى كل حال فشلت وتفشل.
أقول: إن هؤلاء لا ينفع معهم فصول السلم الكثيرة، ولا يستفاد منهم التعامل بالحسنى ، فالحل هو أن نظهر عليهم، ونظهر لهم قدراً كافياً من القوة والقدرة على التعامل بالمثل مع المحافظة على الثوابت والأصول دون تجاوز للحدود.
أقول: لا يجب ولا يجوز أن يفهم البعض أن السنة النبوية تبنت بعض الحرفيات في فهم مبادئ وأفكار الشعوب بمعنى أنها تضيق ذرعاً بهذه الشعوب في بعض الأحيان فتلجأ إلى محاربتهم والتأثير عليهم، ولو أدى هذا إلى تغيير وصفها الذي تبنته وأعلنت عنه.
أٌول: إذا كان الأمر قد وصل عند البعض من المتهمين للسنة بأنها لا تعرف غير القتل والسفك وإعلان الحرب دون هوادة ودون أسباب، فعندها نحن غير هيابين ولا وجلين من الإعلان على أن السنة تحمل السلاح الذي ينطلق ، وغير هيابين ولا وجلين من نعت السنة بأن توظيفها للعلاقات، وترتيبها للمعاهدات، وتبنيها للمعاشات ولأبواب السياسة والاقتصاد والإدارة والعلاقات قاصر، فإلى متى يظل المسلمون يقتلون ويضربون ويذبحون بالسلاح الذي يمتلكونه؟ وإلى متى تظل إراداتهم مواردهم وخيراتهم تنتهك وتنتهب وتسلب باسم التسامح والتوظيف!(29/12)
.
ثانياً: يرى فريق آخر من فقهاء المسلمين وعلمائهم ومفسريهم وكتابهم أن أصل علاقة المسلمين مع غيرهم من الأمم والشعوب التي أصلها القرآن والسنة، ودعيا إليها هو الحرب(1).
ولعلهم في تقديرهم هذا- كما يقول الزحيلي- تأثروا بالحالة الواقعية للمسلمين في عصر الاجتهاد الفقهي في القرن الثاني الهجري التي تستلزم الثبات أمام الأعداء، بحيث يكون المسلم في حالة حرب مع العدو دائماً(2).
قال ابن رشد ما نصه: فأما الذين يحاربون فاتفقوا على أنهم جميع المشركين لقوله تعالى: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله)(3)، إلا ما روي عن مالك قال: لا يجوز ابتداء الحبشة بالحرب ولا الترك لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال: (ذروا الحبشة ما وذرتكم)(4)، وقد سئل الإمام مالك عن صحة هذا الأثر فلم يعترف ولكن قال: لم يزل الناس يتحامون غزوهم)(5).
__________
(1) ابن قدامة، المغني، 10/367، 386.
(2) آثار الحرب ص130، والعلاقات الدولية للمؤلف نفسه، ص93.
(3) سورة الأنفال، آية39.
(4) وذرتكم: تركتكم، انظر المعجم الوسيط، 2/1034، مادة(وذر).
(5) بداية المجتهد ونهاية المقتصد، ص381.(29/13)
هذا واستحسن فكرة الحرب- وبلورة أن أصل العلاقة يجب أن تظهر موقف الإسلام القوي والتي أماط عنها القرآن والسنة- بعض الفقهاء والمفسرين القدامى والمحدثين(1)، حيث نجد أن مجمل كلامهم يوحي بأن الأمر بنزول الجهاد والقتال جاء مرتباً، فقد كان النبي- صلى الله عليه وسلم- مأموراً في الابتداء بتبليغ الرسالة والإعراض عن المشركين، قال الله تعالى: (فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين)(2)، وقال تعالى: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن)(3)، ثم أمر بالمجادلة بالتي هي أحسن، قال تعالى: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن)(4)، ثم أذن لهم بالقتال بقوله تعالى: (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وان الله على نصرهم لقدير)(5)، ثم أمروا بالقتال بعد انسلاخ الأشهر الحرم كما قال تعالى: (فإذا انسلخ الأشهر
__________
(1) كالإمام محمد بن الحسن الشيباني، وابن القيم، ومجاهد وعطاء وعكرمة، انظر شرح السير الكبير، للإمام محمد بن الحسن، 1/188، وزاد المعاد، لابن القيم، 2/58. ومختصر تفسير ابن كثير، تحقيق الصابوني، 2/116.
(2) سورة الحجر، آية94.
(3) سورة النحل، آية125.
(4) سورة النحل، آية125.
(5) سورة العنكبوت، آية46.(29/14)
الحرم فاقتلوا المشركين)(1)، كما قال تعالى: (وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم)(2)، واستقر الأمر على هذا، ومقتضى الأمر اللزوم، إلا أن فريضة القتال المقصود إعزاز الدين وقهر المشركين.
ويوحي مجمل كلامهم أيضاً كما عبر عنه ابن القيم- رحمه الله- بأن الله سبحانه وتعالى أمر المسلمين بالعفو والصفح دون الإذن لهم بالقتال حتى قويت الشوكة واشتد الجناح فإذن لهم في القتال، ولم يفرضه عليهم، إلى أن يقول: ثم فرض عليهم القتال بعد ذلك من قاتلهم دون من لم يقاتلهم فقال: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم)، ثم فرض عليهم قتال المشركين كافة، وكان محرماً ثم مأذوناً به ثم مأموراً به لمن بدأهم بالقتال ثم مأموراً به لجميع المشركين(3)، ويضيف ابن القيم قائلاً....فأقام عليه السلام بضع عشرة سنة بعد نبوته ينذر بالدعوة بغير قتال ولا جزية ويؤمر بالكف والصبر والصفح، ثم أذن له بالهجرة وأذن له في القتال ثم أمر أن يقاتل من قاتله ويكف عمن اعتزله ولم يقاتله، ثم أمر بقتال المشركين حتى يكون الدين كله لله)(4).
__________
(1) سورة الحج، آية39.
(2) سورة البقرة، آية244.
(3) ابن القيم، زاد المعاد، 2/58.
(4) المرجع السابق، 2/81.(29/15)
أما بعض المفسرين الذين رأوا في إعلان الحرب على المشركين هو الذي يجب أن يكون ويصار إليه فقالوا: إن آية السلم (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها)(1) منسوخة بآية السيف في سورة براءة، قال تعالى: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله)(2)، وفيه نظر لأن آية براءة فيها الأمر بقتالهم إذا أمكن ذلك، فأما إن كان العدو كثيفاً فإنه يجوز مهادنتهم كما دلت عليه هذه الآية الكريمة، وكما فعل النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية فلا منافاة ولا تخصيص ولا نسخ.
__________
(1) سورة الأنفال، آية61.
(2) سورة التوبة، آية69.(29/16)
وتجد المعنى ذاته في أن الدفاع عن الدعوة والتعامل مع الأعداء سلمياً لا يجدي في كلام سيد قطب- رحمه الله- إذ يقول: إن محاولة إيجاد مبررات دفاعية للجهاد الإسلامي بالمعنى الضيق للمفهوم العصري للحرب الدفاعية ومحاولة البحث عن أسانيد لإثبات أن وقائع الجهاد الإسلامي كانت لمجرد صد العدوان من القوى المجاورة على الوطن الإسلامي وهو في عرف بعضهم جزيرة العرب فهي محاولة تنم عن قلة إدراك لطبيعة هذا الدين، ولطبيعة الدور الذي جاء ليقوم به في الأرض إلى أن يقول: ترى لو كان أبو بكر وعمر وعثمان قد أمنوا عدوان الروم والفرس على الجزيرة أكانوا يقعدون إذن عن دفع العقبات المادية من أنظمة الدولة السياسية وأنظمة المجتمع العصرية والسياسية والاقتصادية الناشئة عن الاعتبارات العنصرية والطبقية التي تحميها القوة المادية للدولة كذلك؟ إنها -والكلام لسيد- سذاجة أن يتصور الإنسان دعوة تعلن تحرير الإنسان في الأرض كل الأرض، ثم تقف أمام العقبات تجاهدها باللسان والبيان(1).
أما الأدلة والتوجيهات التي ساقها فريق الدعوة إلى الحرب وعدم التخاذل بإظهار صور التسامح غير المتكافئة فكالتالي:
من القرآن الكريم
__________
(1) في ظلال القرآن، 9/1436.(29/17)
جميع الآيات القرآنية التي تفيد عالمية الدعوة الإسلامية، وهداية الناس جميعاً، وهذه كثيرة منها قوله تعالى: (وما هو إلا ذكر للعالمين)(1)، وقوله عز من قائل: (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً)
فالأصل في هذه الآيات وجوب تصدير الدعوة للناس جميعاً دون استثناء، وهذا يستلزم قتالهم إن لزم الأمر، وإلا لما كان معنى لدعوتهم.
إن آية السيف:(وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة)(2) أو آية (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم)(3) نسخت مائة وأربعاً وعشرين آية من الآيات التي تدعو للعفو والصفح عن المشركين لأن قتالهم كان ممنوعاً.
من السنة
__________
(1) سورة القلم، آية52.
(2) سورة سبأ، آية28.
(3) سورة التوبة، آية5.(29/18)
الذي يبحث في السنة- وبالفعل نحن نبحث فيها عن علاقة المسلمين السياسية مع غيرهم- يجد على رأي هذا الفريق استفاضة في الحض على عدم المهادنة في علاقتنا السياسية مع الشعوب التي تكيد لنا، وتتآمر علينا، وتدبر لنا المكائد والدسائس، لأن المسلمين ما هكذا شأنهم، وما علمهم دينهم ذلك، ولا أقرت لهم سنتهم بتسليم الضعفاء المنهزمين، لأنهم خلقوا ليكونوا أقوياء، وانطلقوا لكي يسودوا، قال عليه الصلاة والسلام: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة فبعثت إلى الناس عامة)(1)، وقال صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله)(2)، قال عليه الصلاة والسلام:
__________
(1) أخرجه البخاري في أبواب التيمم، انظر صحيح البخاري، ضبط البغا، 1/168.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، انظر صحيح البخاري، ضبط البغا، 1/ 117.(29/19)
(اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليداً)(1).
ج- من الإجماع والعقل
استنتج الفقهاء والعلماء أن تقسيم الدنيا إلى دارين دار الإسلام ودار للحرب هو في الأصل لتتميز كل من الدارين عن الأخرى، وبالتالي لا يصح أن نعامل أهل الحرب والشرك بمثل التعامل الذي يسود في دار الإسلام، فجهاد دار الحرب ومقاتلتهم واجب وفرض، ولا يجوز تركه بأمان أو موادعة إلا أن يكون الترك سبيلاً إليه بأن كان الغرض منه الاستعداد حين يكون بالمسلمين ضعف.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد، انظر صحيح البخاري، ضبط البغا، 3/1098.(29/20)
هذا وعند مقارنة من صوب نحو العلاقة بين المسلمين وغيرهم بأن تأسيسها واستمراريتها مع أهل الأرض يجب أن يكون سلماً، وبين من صوب نحو أنها يجب أن تكون حرباً أقول: مع وجاهة كل من الرأيين، ومع وجاهة الأدلة التي ساقوها، لكن ذلك لا يمنع عندي من تقدير الموقف، فتارة نأخذ بذاك، وتارة نأخذ بذاك الآخر، لأن الحالة الواقعة للأمم والشعوب والدول التي تتعامل مع المسلمين اليوم تتبدل وتتغير، فما يفهمه البعض عن الإسلام والمسلمين، ويقبله بسهوله قد لا يفهمه البعض الآخر، وما يعتقده البعض بأن الإسلام حازم إذا جد الجد، يعتقده البعض الآخر بأنه استسلام وحزم الضعيف، فلم والحالة هذه التسليم بالسلم بالكلية(1)
__________
(1) صحيح أن الغالبية العظمى من الفقهاء والعلماء صوبوا نحو اعتبار العلاقة مع الشعوب الأخرى التي أكدت عليها السنة هي سلم، وأن لغة الحرب مستثناة، إلا عند الضرورة، والضرورة تقدر بقدرها، وبنفس الوقت قالوا: ضرورة الحرب شرعت لإيجاد السلم، لكن هذا لا يمنع من أن نجد في طلب الحرب، وأن نبحث عنها لا لأنها غاية في ذاتها، بل لأنها توصلنا إلى السلم الذي نتوق إليه ونتمناه، على أني أعتذر عندما لا أجد فيما أقدمه من جديد في هذا البحث سوى التمني الذي مللناه وأصبحنا نستحي منه في كتاباتنا، وفي أقلامنا لما يسببه لنا من ضجر وألم.(29/21)
؟، وما نشهده من صفع واستهانة بمقدرات المسلمين في بقاع الأرض يجعلنا لا نؤمم شطر السلم وحده، لأن السلم بحد ذاته هو حزم، يتضمن معنى القوة والغلبة والانتصار ودفع الظلم وإغاثة الملهوف والضرب على أيدي العابث.
هذا ولو خشية التحول إلى عبارات الإنشاء لسقت مئات الأمثلة التي ترجمتها سنتنا المطهرة ووظفتها حين بادرت بالسعي إلى قبول الآخر سلماً والتعامل معه إن أمكن، وإلا فلا، أما أن نظل نردد عبارات التحذير من الوقوع في المحظور، والتؤدة والصبر والتأني على هذا الآخر، ونحن نذبح ونقتل، وتهتك أعراضنا وتترمل نساؤنا فما أظن أن ذلك هو السلم الذي حرضت عليه السنة.
المبحث الثاني: استشرافات سياسية جديدة من السنة لا بد من محاكاتها وتعريف الآخر بها
مقدمة
مارس العرب السياسة منذ القدم في الجاهلية، وأتقنوها، فظهرت نتائجها في إقامة علاقات سريعة وودية بين بعضهم البعض من جهة، وبينهم وبين جيرانهم من الشعوب الأخرى المجاورة والبعيدة من جهة أخرى.(29/22)
ولما بدأ الإسلام دعوته أتقن رسول الله صلى الله عليه وسلم فن العلاقات مع الأمم، وسارع إلى عقد المواثيق والعهود تمثلت في المراسلات النبوية الداخلية والخارجية، حيث إنه عليه الصلاة والسلام وظف هذه المراسلات والعلاقات لخدمة شؤون دولته، واستثمرها لنشر الإسلام إلى أقطار الأرض.
أما استشرافات السنة التي يصح أن نعتبرها مؤسسية وجدية وجديدة وعصرية تصلح للإعادة والتمثيل والتطبيق من جديد فنذكرها للاستئناس بها مع ضرورة الحض على محاكاتها من جديد بعد أن فشلت كل المحاولات والمداولات القانونية المزيفة والأرضية اليوم، أسوقها بطريق الاستفهام الاستنكاري للحض عليها وأعتبرها من وجهة نظري سفراً واسشرافاً جديداً ولائقاً، ولو أن زمانها فات، ووقتها انتهى، بحسب زعم الزاعمين وترصد المترصدين المنددين بها على اعتبار أنها لا تصلح للزمان الذي نعيشه، ولا البيئة الواقعة التي نحيا عليها، لأن كل شيء قد تبدل وقد تغير، فصار لازماً أن تتبدل هذه الاستشرافات تبعاً للمتغيرات.(29/23)
فمن الذي بعث الوفود كسفارات للتهاني والمشاورات والمفاخرات والمنافرات بلغة العصر الذي وجدت فيه؟ ولماذا- والحالة هذه- ينكر علينا أن نمثلها من جديد مع استئناس ووعي وتوظيف لدور الذي مثلها ووظفها محمد صلى الله عليه وسلم(1)؟!
__________
(1) فالناظر يجد أنه حتى كلمة سفارة كانت معروفة بترتيبات معينة كأثر من آثار السنة المطهرة، فالسفارة كانت وظيفة في مكة تفصل شؤون الصلح بعد القتال، وقد كانت لبني عدي، وتولاها عمر بن الخطاب، حيث كان آخر سفراء قريش في الجاهلية، فهذا الصنيع الفذ من رسول الإسلام يجب إدراجه كأثر محمود من آثار ترتيب العلاقات التي صاغها نبي الإسلام؟ أليست الدول اليوم تنادي بإقامة العلاقات عن طريق السفارات والقناصل لتبادل وجهات النظر والتقارب ما بينها ما أمكن، فالرسول صلى الله عليه وسلم أثبته ووطده قبل أربعة عشر قرناً ونيف لأهداف صادقة ونبيلة وليست خبيثة كما تفعله كثير من دول الغاب اليوم، انظر إلى قيمة السفارات في الإسلام، ابن الجوزي، سيرة عمر بن الخطاب، ص6.(29/24)
ومن الذي بعث الرسائل إلى ملوك العرب وأمراء العالم يدعوهم إلى الإسلام(1)؟ ولماذا –والحالة هذه- ينكر علينا أن نمثل هذا الدور من جديد مع استئناس ووعي وتوظيف وذكر للدور الذي لعبه رسول الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم؟!
ومن الذي ذاعت وصاياه لقواد الجيوش الخارجين للحرب بنشر الدعوة واحترام وتعظيم كل شيء يمرون به من إنسان وحيوان وجماد، فلا يقتلوا إنساناً لا يحارب، ولا يقطعوا شجرة ولا نخلاً مثمراً، ولا يعبثوا بالصوامع والأديرة والكنائس والمساحد ودور العلم وغيرها، فلماذا نحرم-والحالة هكذا- من تمثيل هذا الدور من جديد مع استئناس ووعي وتوظيف وذكر للدور الذي لعبه رسول الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم؟!
__________
(1) تروي كتب السيرة أنه صلى الله عليه وسلم بعث أكثر من أربعين وثيقة نبوية بين رسالة إلى ملك أو أمير أو قائد لعقد اتفاق أو أمان، أرسلها عليه السلام لحسم مسائل النزاع، وشاءت الأقدار أن يسلم منها ثلاثة أصول خطية لا زلنا –والحمدلله – نتداولها، لأن فيها أس العلاقات ككتابه ووثيقته إلى النجاشي، وكتابه أو وثيقته إلى هرقل، وكتابه أو وثيقته إلى المقوقس.(29/25)
هذا ولنفاسة رسائل الرسول صلى الله عليه وسلم أستعرض جانباً منها لبيان لب العلاقة النبوية مع الشعوب لتكون لنا نموذجاً ومؤنساً فيما نبحث عنه من توطين للعلاقات مع الغير، لا سيما العلاقات السياسية مدار بحثنا.
نموذج 1
رسالته إلى النجاشي الأول ملك الحبشة(1)
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد رسول الله إلى النجاشي الأصحم ملك الحبشة، سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن، وأشهد أن عيسى بن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة، فحملت بعيسى فخلقه من روحه كما خلق آدم بيده ونفخه، وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له والموالاة على طاعته وإن تتبعني فتؤمن بي وبالذي جاني فإني رسول الله، وقد بعثت إليكم ابن عمي جعفراً، ومعه نفر من المسلمين فإذا جاءوك فأقرهم ودع التجبر، وإني أدعوك وجنودك إلى الله عز وجل وقد بلغت ونصحت فاقبلوا نصيحتي والسلام على من اتبع الهدى)
نموذج2
رسالته إلى هرقل(2)
بسم الله الرحمن الرحيم
__________
(1) القلقشندي، صبح الأعشى، 6/379.
(2) أخرجه البخاري، ضبط البغا، 3/1076.(29/26)
من محمد عبدالله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام اسلم تسلم، واسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسين(1)،(قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً، ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون)(2).
نموذج 3
رسالته إلى المقوقس(3)
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبدالله إلى المقوقس عظيم القبط، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد:
فإني أدعوك بدعاية الإسلام اسلم تسلم، واسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإنما عليك إثم القبط(قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً، ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون)(4).
__________
(1) المقصود بهم الأعوان والخدم، انظر أبو عبيد، الأموال، ص31.
(2) سورة آل عمران، آية64.
(3) القلقشندي، صبح الأعشى، 6/378، وانظر ابن قيم الجوزية، زاد المعاد، 3/61، والعسقلاني، المواهب اللدنية1/397.
(4) سورة آل عمران، آية64.(29/27)
فمن خلال هذه النماذج التي أوردناها يتبين لنا كم هو رسول الإنسانية مبلغ وموظف للسنة في النوع والكم لعلاقات الدولة الإسلامية بغيرها من الدول، إذ النصوص تحاكي نفسها بنفسها من حيث الالتزام بقواعد العدالة وأسس التعامل الإنساني الصادق.
فانظر إن شئت إلى تصريحه عليه السلام بقوله: ملك الحبشة، عظيم الروم، عظيم القبط، ضغاطر الأسقف، أليس هذا أجمل ما يقرأ ويسمع ويدون في ترتيب العلاقات؟ فلا ينكر عليه الصلاة والسلام عليهم ألقابهم التي كانوا يخاطبون بها دون الألقاب التي كان يريدها هو مع أن صورة العداء في نفوسهم كانت ما تزال باقية، وحبذا لو كان هناك بعض المقارنات والموازنات عما تنعت به عولمة اليوم رسول الإسلام، من ألقاب ومسميات، حتى أنكرت بل بالغت في أوصاف مقززة لهذا النبي.
وانظر إن شئت إلى ما بين السطور من الذي احتوته هذه النماذج من دبلوماسية تقوم على المسالمة والمرونة، وإنكار الذات، (ادعوك بدعاية الإسلام)، (اسلم تسلم)، أليس هذا من أجمل ما يقرأ ويكتب في توطئة العلاقات؟ وحبذا لو تفهم عولمة اليوم كيف ينكر الذات؟ وكيف يساعد الآخرون للإقبال على السلم ؟(29/28)
ثم انظر إن شئت إلى عنصر الجرأة في مواطن الحق من نبي الرحمة- ذلك النبي الذي لم يكن قد نجا بعد من اضطهاد قومه، ولم يكن له سلطان ليعتد به-عندما أقدم بشجاعة يدعو هؤلاء إلى اعتناق دعوة جديدة لم تتجاوز مرحلة الخطر بعد مما يعد مجازفة خطيرة كان من الممكن أن تنتهي إلى أحداث جسام لو علم أن محمداً عليه الصلاة والسلام كان يسير بوحي من السماء وأنه لا ينطق عن الهوى.
إن دول العولمة مطالبة اليوم، وقبلها دول العالم، ولا سيما العالم العربي والإسلامي أن أن يفهموا أن توظيف الرسول لسنته في هذه في البعوث ومخاطبة الملوك كان واجباً، ومتمماً للرسالة في عالمية الدعوى لا عولمتها، في تغذية شعوب العالم بالأمان لا إرهابهم والحقد عليهم.
المبحث الثالث: طريقة عرض السنة والمكلفون بذلك(29/29)
أزعم أنه بالرغم من الذي قدمناه لحد الآن عن السنة وتوظيفها لنماذج حية لرسالة الإسلام وإتقانها وأدبها في التعامل مع شعوب الأرض قاطبة، أزعم أن موظِفيها لا زالوا عاجزين عن إقناع الآخرين بها(1)، وبغض النظر عن ذكر الأسباب لأن غالبيتها صحيحة، لكن أرى أن توسيد الأمر إلى غير أهله هو الذي جعل السنة تتراجع كالتالي:
1. إن المتصدرين للفتوى بالسنة، وإعمال التوظيف مغيبون اليوم، وبعيدون، ولذلك ترى الفتاوى الهابطة والرخيصة والمباعة والمشتراه في كل الميادين والصعد من فضائيات وإعلاميات ووسائل إعلام كالحة وهزيلة.
2. كما وإن المطالبين بإحياء السنة قليلون، وإن كانوا فلا يراوحوا مكانهم داخل القاعات المغلقة وضمن الدوائر المستورة غير المباحة.
3. كما وإن المستفيدين من السنة آثروا هجرها، بعد أن رأوا أساتذتهم قد تخلوا عنها، أو أنهم قالوا فيها ما لم يقولوه سابقاً.
__________
(1) وهذا لا يعني أنني أتراجع عما أشرت إليه سلفاً بوفاء السنة بوعدها، وانخراطها بالكلية لنقل أفكارها ومبادئها السمحة إلى الآخرين، كما لا يعني أنني أصبت باليأس والقنوط لكل الأفكار الواردة في ثنايا البحث، لأنه معجوز عن تطبيقها.(29/30)
4. كما وإن مروجي الحلول المستجدة من السنة الداعون إلى استنباط الأحكام المتسامحة منها ينقلون في كثير من الأحيان العبارات التي تتماشى مع أفكارهم وأهدافهم دون الأجزاء الأخرى التي أحكامها تخالف تماماً ما نقلوه أو دعوا إليه، وهذه تنبئ عن الاجتزاء المتعمد الذي في غالبيته متعمد، وإن كان غير ذلك فالجهل.
5. كما وإن المؤتمرات والندوات واللقاءات التي تعقدها الدول ومن بينها دول العالم الإسلامي والعربي تعرف أن المؤتمرين في النهاية سيضعون اللوم على السنة لعدم كفاءتها في الاستجابة للمستجدات وبالأخص التكنولوجية.
6. كما وإن سماسرة تسويق السنة اليوم يبحثون عن محبي السنة، وعن المناوئين لها بنفس المعيار والدرجة، ويلاحقونهم في كل مكان، فإن وجدوهم فقد قطعوا نصف الشوط أو كادوا في تحقيق ما يصبون إليه، لأنهم وجدوا ضالتهم وربحوا جوائزهم في إبانة وكشف أهل العنف والقتلة بزعمهم، وإن لم يجدوا دفعوا الأموال الطائلة للمناوئين ليمثلوا وجه السنة الآخر الذي هو غير حقيقي وغير صحيح.
الخاتمة(29/31)
بعد أن طوفنا في أركان وأجواء السنة النبوية المطهرة من حيث وجهها السياسي في تعاملها مع الأمم والشعوب- وكيف أنها وظفت أفكارها واستثمرتها في حقبة من حقبها التاريخية الإسلامية فأثمرت وآتت أكلها - أرى أنها اليوم بحاجة إلى انبعاث جديد، لا في ثوابتها وأصولها بل في فروعها وغصونها تبعاً للمستجدات المتسارعة، وأول ما أسجله هنا لأحكم على هذا البحث في جديته وجديده جملة التوصيات والاستنتاجات التالية:
أولاً: السنة نجحت أيما نجاح في ترجمة أفكارها ونقل مبادئها في الأزمنة الأولى من الدعوة.
ثانياً: تركت السنة الأبواب مشرعة، وغير مؤصدة لكل من يريد أن يتتلمذ عليها من جديد، أو يستنتج إشارات وإيماءات مستمدة من أركانها وثوابتها.
ثالثاً: لا محاصصة على السنة من حيث تقسيمات العارفين لها أو المناوئين حولها، لأنها فهمها وضرورة التعامل معها حكم تشريعي واجب يستحق المقصر فيه العقوبة، والمنكر له وصف الكفر.(29/32)
توظيف السنة النبوية في بناء الشخصية
بحث مقدم لمؤتمر
السنة النبوية في الدراسات المعاصرة
كلية الشريعة والدراسات الإسلامية
جامعة اليرموك
إعداد الدكتور: يحيى ضاحي شطناوي
بسم الله الرحمن الرحيم
توظيف السنة النبوية في بناء الشخصية
ملخص
أولى الإسلام الشخصية الإنسانية عناية فائقة، وجعل بناءها من أولوياته التي تقوم على مقاييس محددة في غاية الدقة والإتقان، بخلاف المقاييس البشرية التي ترتكز في معظمها على الأهواء البشرية والمصالح الضيقة.
ويعود اهتمام الإسلام ببناء شخصية الفرد المسلم لكونه اللبنة الأولى التي من مجموعها يتكون بناء المجتمع، والذي بدوره يمثل الأساس لقيام الدولة الإسلامية.
وقد عملت السنة المطهرة على تهيئة كافة الأسباب التي تحقق بناء الشخصية في جميع جوانبها المختلفة: مادية وعقلية وروحية.
وجاء هذا البحث ضمن هذا السياق، ليلقي بعض الضوء على بعض الجوانب التي اهتمت بها السنة المطهرة في بناء الشخصية.
المقدمة
الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة وأزكى التسليم على سيد الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:(30/1)
فيسرني أن أتقدم بهذا البحث إلى مؤتمر السنة النبوية في الدراسات المعاصرة، والذي سيعقد في رحاب كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة اليرموك، راجيا أن يسهم في تحقيق أهداف المؤتمر، وقد جاء ضمن المحور الثالث من محاور المؤتمر، وتحت عنوان: توظيف السنة النبوية في بناء الشخصية.
هدف البحث ومسوغاته
يهدف البحث إلى التأكيد على أهمية السنة النبوية ودورها الفعال في بناء شخصية الفرد، وأنها سبقت الأبحاث المعاصرة في التعامل مع الشخصية البشرية في جميع جوانبها.
أهمية البحث
إن بناء الشخصية في الإسلام يقوم على مقاييس في غاية الدقة والإتقان، بخلاف مقاييس البشر التي ترتكز في معظمها على الأهواء والمصالح من طبقة اجتماعية أو جنس أو لون أو قومية ووطن، إلى غير ذلك من النظرات الضيقة.
والفكر قاعدة السلوك ومرتكز الشخصية، والتخريب الفكري أخطر بكثير من التخريب السلوكي، فالأخير يمكن أن يتغير بوقفة أو لفتة أو تذكير أو عظة، بينما الفكر يحتاج إلى بناء أو إعادة إعمار إن حصل فيه الانهدام.(30/2)
وتزداد أهمية هذا الموضوع في عصرنا الحاضر – عصر العولمة – الذي أصبحت فيه الشخصية الإسلامية تعاني اضطرابا في المفاهيم وتبدلا في الأفكار، واختلاط الأصيل بالزائف، والثابت بالمتغير، مما نتج عنه ضياع الهوية وفقدان الشخصية لتفردها وتميزها، الأمر الذي يحتم علينا التركيز على الثوابت أملا في عودة الشخصية الإسلامية إلى سالف عهدها.
خطة البحث
اقتضت طبيعة البحث تناوله على النحو الآتي:
تعريف الشخصية وأهميتها
بعض الجوانب التي اهتمت بها السنة المطهرة لبناء الشخصية:
الحكمة في معالجة الخطأ
الحرية في طرح السؤال
التفاؤل والإيجابية
الاعتداد بالنفس وعدم التبعية
الصراحة وعدم المداهنة
الاعتدال في العبادة ومراعاة الظروف
مراعاة الآداب مع الآخرين
والحقيقة أن الجوانب التي عُنيت السنة المطهرة بها كثيرة جدا، لكني آثرت ذكر بعض النماذج على سبيل المثال لا الحصر، مراعيا أن تكون النماذج من صحيح السنة، وفي معظمها من صحيحي البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى، راجيا من العلي القدير التوفيق والسداد.
1) تعريف الشخصية وأهميتها(30/3)
قال ابن فارس:" الشين والخاء والصاد أصل واحد يدل على ارتفاع في شئ، من ذلك الشخص، وهو سواد الإنسان إذا سما لك من بعد، ثم يحمل على ذلك، فيقال: شخص من بلد إلى بلد"(1).
وجاء في لسان العرب:" الشخص سواد الإنسان وغيره تراه من بعيد، تقول: ثلاثة أشخص، وكل شئ رأيت جسمانه، فقد رأيت شخصه،، والشخص: كل جسم له ارتفاع وظهور، والمراد به: إثبات الذات، فاستعير لها لفظ الشخص، والشخيص: العظيم الشخص، والأنثى شخيصه، وقيل شخيص: إذا كان ذا شخص وخلق عظيم بين الشخاصة، والشخوص: ضد الهبوط، وشخص السهم يشخص شخوصا فهو شاخص: علا الهدف..."(2).
والمقصود بالشخصية عند علماء النفس والتربية: النظام المتكامل من مجموعة الخصائص الجسمية والوجدانية والنزوعية والادراكية التي تحدد ذاتية الفرد وتميزه عن غيره(3).
__________
(1) ابن فارس: أحمد بن فارس بن زكريا ت(395)، معجم مقاييس اللغة، 3/254 مادة (شخص) الدار الإسلامية، 1410/1990 تحقيق وضبط: عبد السلام هارون
(2) ابن منظور: جمال الدين محمد بن مكرم، لسان العرب 7/45 مادة (شخص)، دار صادر، بيروت، بدون تاريخ
(3) فرغل: يحيى هاشم حسن، معالم شخصية المسلم، ص7، المكتبة العصرية، بيروت(30/4)
... وهي أيضا: حاصل جمع كل الاستعدادات والميول والغرائز والدوافع والقوى البيولوجية الفطرية الموروثة، وكذلك الصفات والاستعدادات والميول المكتسبة من الخبرة(1).
" والشخصية الإسلامية شخصية متفردة في التاريخ لأنها تسير وفق منهاج رباني لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، وضعت نصب أعينها الأسوة الحسنة وخير قدوة محمد صلى الله عليه وسلم الذي حدد لها تفاصيل طريق العمل ودلها على الحلال فاتبعته، وعلى الحرام فاجتنبته، وعن شر أو خير، فتنة فصبرت عليه، هذه الشخصية لها صفاتها ومكوناتها، وهي فاعلة في الفرد والجماعة، ولها دور أساسي في بناء المجتمع إذ هي أداة التغيير ووسيلة الإصلاح"(2).
"وأولى خطوات الإصلاح: إصلاح النفس، واستقامتها على الخير لتربي فردا خلوقا مؤثرا في مجتمعه، ذلك لأن الفرد هو أداة التغيير في المجتمع، بصلاحه يصلح وبفساده يفسد"(3).
__________
(1) فرغل: معالم شخصية المسلم، ص7
(2) عبد العزيز: جمعة أمين، التغيير على منهاج النبوة "إرادة العمل"، ص31، دار الدعوة، مصر، ط2، 1416/1996
(3) عبد العزيز: التغيير، ص45(30/5)
ونظرا لأهمية الشخصية، فقد حفلت المكتبة المعاصرة بكتب كثيرة لتطوير الشخصية والارتقاء بها.
وبالرجوع لمصادرنا الإسلامية نجد الاهتمام المنقطع النظير بالشخصية سواء في كتاب الله أو سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، غير أننا سنقتصر في هذا البحث على ذكر بعض الجوانب التي اهتمت بها السنة المطهرة.
بعض الجوانب التي اهتمت بها السنة المطهرة لبناء الشخصية:
الحكمة في معالجة الخطأ
النفس البشرية مجبولة على الخطأ، وهذه سنة إلهية وضعها الباري في البشر، فكل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون.
... ومن هنا تكمن البراعة في الإرشاد إلى الخطأ بأسلوب حكيم يمنع تكراره، ودون إشعار المخالف بالذم والانتقاص.
... وقد اتبع النبي صلى الله عليه وسلم جملة من الأساليب في معالجة الخطأ، ومنها:
أ) الإرشاد إلى الخطأ بالتوجيه المباشر
حفلت السنة المطهرة بنماذج وافرة من التوجيه المباشر لإصلاح الخطأ، وهو أسلوب تربوي هادف ينبغي استخدامه إذا لزم الأمر، لأن به يصحح المخطئ سلوكه، ولو ترك دون تنبيه لبقي على خطئه، ومن هذه النماذج:(30/6)
روى البخاري بسنده عن عمر بن أبي سلمة قال: كنت غلاما في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا غلام، سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك" فما زالت تلك طعمتي بعد(1).
وعن عدي بن ثابت قال: سمعت سليمان بن صرد- رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم- قال: استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم فغضب أحدهما فاشتد غضبه حتى انتفخ وجهه وتغير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه الذي يجد"، فانطلق إليه الرجل فأخبره بقول النبي صلى الله عليه وسلم وقال: تعوذ بالله من الشيطان، قال: أترى بي بأس، أمجنون أنا اذهب..."(2).
__________
(1) البخاري، الجامع الصحيح مع فتح الباري 10/653 ح5376 كتاب الأطعمة، باب التسمية على الطعام والأكل باليمين، دار الفكر، بيروت، 1416/1996
(2) البخاري: الصحيح مع الفتح 12/83 ح6048 كتاب الأدب، باب ما ينهى عن السباب واللعن(30/7)
وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى خاتما من ذهب في يد رجل فنزعه فطرحه وقال: "يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده" فقيل للرجل بعد ما ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم خذ خاتمك انتفع به، قال: لا والله، لا آخذه أبدا وقد طرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم(1).
وفي هذا الحديث معالجة حكيمة للخطأ بالتوجيه المباشر، وتتجلى هذه الحكمة في أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر اسم الرجل، ثم نفّر من الفعل بتشبيهه بجمرة من النار، مما جعل الاستجابة فورية، بل جعلت الرجل يرفض الانتفاع بخاتمه فيما بعد.
وهو أسلوب تربوي فريد هادف قائم على الإصلاح والتقويم، لا التشفي والانتقام.
ويدخل في هذا السياق محاورة النبي صلى الله عليه وسلم للشاب الذي جاء يستأذنه في الزنا، ثم اقتنع الشاب أخيرا بالمحاورة العقلية بحرمة ذلك العمل(2).
__________
(1) مسلم: الصحيح بشرح النووي 14/65 كتاب اللباس والزينة، باب تحريم خاتم الذهب على الرجال، دار الكتب العلمية، بيروت، 1401/1981
(2) انظر مسند الإمام أحمد 5/256(30/8)
وكذلك معالجة النبي صلى الله عليه وسلم للشك الذي وجده أحد الناس في نفسه بأسلوب حكيم مقنع، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن أعرابيا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن امرأتي ولدت غلاما أسود وإني أنكرته، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل لك من إبل؟ قال: نعم، قال: فما ألوانها؟ قال: حمر، قال: هل فيها من أورق؟ قال: إن فيها لورقا، قال: فأنى ترى ذلك جاءها؟ قال يا رسول الله عرق نزعها، قال: ولعل هذا عرق نزعه، ولم يرخص له في الانتفاء منه"(1).
... وبهذه المعالجة حفظت الأسرة من الانهيار واطمأن الرجل وزال ما كان بنفسه من اضطراب وشكوك.
وعن عباد بن تميم عن عمه أنه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل الذي يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة فقال: لا ينفتل – أو لا ينصرف- حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا"(2).
__________
(1) البخاري: 15/230 ح 7314، كتاب الاعتصام، باب من شبه أصلا معلوما باصل مبين
(2) البخاري: 1/319 ح137 كتاب الوضوء، باب لا يتوضأ من الشك حتى يستيقن(30/9)
قال ابن حجر:" ودل حديث الباب على صحة الصلاة ما لم يتيقن الحدث... وقال النووي: هذا الحديث أصل في حكم بقاء الأشياء على أصولها حتى يتيقن خلاف ذلك، ولا يضر الشك الطارئ عليها، وأخذ بهذا الحديث جمهور العلما"(1).
ب) الإرشاد إلى الخطأ بالإشارة
... ومن الأساليب في معالجة الخطأ أن يباشر الشخص تصحيح الخطأ بنفسه ودون أن يتكلم، كأن يقوم بإشارة مثلا بحيث يفهم المخالف أنه على خطأ، ومن ذلك ما رواه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: كان الفضل رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءت امرأة من خثعم، فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر، فقالت: يا رسول الله، إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يثبت على الراحلة، أفأحج عنه، قال: نعم، وذلك في حجة الوداع(2).
ج) معالجة الخطأ بالتوبيخ
__________
(1) فتح الباري: 1/320
(2) البخاري: الصحيح مع الفتح 4/152 ح1513 كتاب الحج، باب وجوب الحج وفضله(30/10)
... قد يستخدم المربي أسلوبا أكثر زجرا إذا كانت القضية لها أهمية معينة وتشكل مفصلا في حياة الناس، فيلجأ إلى أسلوب التوبيخ، ومن ذلك ما رواه المعرور بن سويد عن أبي ذر قال: رأيت عليه بردا وعلى غلامه بردا، فقلت: لو أخذت هذا فلبسته كانت حلة، وأعطيته ثوبا آخر، فقال: كان بيني وبين رجل كلام وكانت أمه أعجمية، فنلت منها، فذكرني إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لي: أساببت فلانا؟ قلت: نعم، قال: أفنلت من أمه؟ قلت: نعم، قال: إنك امرؤ فيك جاهلية، قلت: على حين ساعتي هذه من كبر السن، قال: نعم هم إخوانكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن جعل الله أخاه تحت يده، فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس، ولا يكلفه من العمل ما يغلبه، فإن كلفه ما يغلبه فليعنه عليه"(1).
__________
(1) البخاري: الصحيح مع الفتح 12/83 ح6050 كتاب الأدب، باب ما ينهى عن السباب واللعن(30/11)
قال ابن حجر:" واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: فيك جاهلية، أي خصلة جاهلية، مع أن منزلة أبي ذر من الإيمان في الذروة العالية، وإنما وبخه بذلك، على عظيم منزلته عنده، تحذيرا له عن معاودة مثل ذلك، لأنه وإن كان معذورا بوجه من وجوه العذر، لكن وقوع ذلك من مثله يستعظم أكثر ممن هو دونه..."(1).
د) معالجة الخطأ بالضرب
... هذا الأسلوب لا يلجأ إليه إلا بعد استنفاذ كل السبل، ومع فئة قليلة استعصت على العلاج، ولم تفلح الأساليب الأخرى في تقويمها، ومن هذا القبيل قوله صلى الله عليه وسلم: مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين، وفرقوا بينهم في المضاجع"(2)
__________
(1) فتح الباري 1/120 عند شرح الحديث رقم(30) كتاب الإيمان، باب المعاصي من أمر الجاهلية
(2) رواه أبو داود: انظر سنن أبي داود مع عون المعبود 2/162 ح491 كتاب الصلاة، باب متى يؤمر الغلام بالصلاة، ضبط وتحقيق: عبد الرحمن محمد عثمان، ط2، 1388/1968 نشر المكتبة السلفية.(30/12)
ومن الأهمية بمكان أن نشير هنا ونؤكد على أن المقصود بالضرب هنا ضرب الرحمة والإصلاح، لا ضرب الشدة والقسوة، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستخدم الضرب، وكان يشير بعود الأراك كعلامة على التنبيه للخطأ، ثم إنه صلى الله عليه وسلم نهى عن ضرب الوجه الذي كرمه الله تعالى، فقال:" إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه"(1).
ومثل هذا الأسلوب جاءت الإشارة إليه في كتاب الله تعالى لمعالجة نشوز الزوجة فقال سبحانه" فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن" [سورة النساء:34]
الحرية في طرح السؤال
اتبعت السنة المطهرة منهجا فريدا في الإفساح للأسئلة التي تتردد في الصدور كي تخرج إلى حيز الوجود، فقد كان الصحابة الكرام يشعرون بأسئلة حول بعض القضايا لكنهم يخشون البوح بها، مخافة أن تؤثر على إيمانهم، أو أن فيها جرأة غير معهودة.
__________
(1) البخاري: الصحيح مع الفتح 6/154 ح2559 كتاب العتق، باب إذا ضرب العبد فليجتنب الوجه، ومسلم: الصحيح بشرح النووي 16/165 كتاب البر والصلة، باب النهي عن ضرب الوجه.(30/13)
... ولكن المربي الفاضل صلى الله عليه وسلم لم يقمع هذه الأسئلة، لتبقى حبيسة أو تبحث في الخفاء، فسمح لهم بالبوح بما تكنه صدورهم ثم أرشدهم إلى الجواب الصحيح، ولم يكن يضيق بأي سؤال.
روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به، قال: وقد وجدتموه، قال: نعم، قال: ذلك صريح الإيمان"، وقال صلى الله عليه وسلم: لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال: هذا خلق الله الخلق، فمن خلق الله؟ فمن وجد من ذلك شيئا فليقل آمنت بالله"(1).
__________
(1) مسلم: صحيح مسلم بشرح النووي، كتاب الإيمان، باب الوسوسة في الإيمان 2/153(30/14)
... قال النووي:" أما معاني الأحاديث وفقهها فقوله صلى الله عليه وسلم ذلك صريح الإيمان ومحض الإيمان معناه: استعظامكم الكلام به هو صريح الإيمان، فإن استعظام هذا وشدة الخوف منه ومن النطق به فضلا عن اعتقاده إنما يكون لمن استكمل الإيمان استكمالا محققا وانتفت عنه الريبة والشكوك" وقال: وقيل معناه أن الشيطان إنما يوسوس لمن أيس من إغوائه فينكد عليه بالوسوسة لعجزه عن إغوائه، وأما الكافر فإنه يأتيه من حيث شاء ولا يقتصر في حقه على الوسوسة بل يتلاعب به كيف أراد"(1).
... وتجد عند كثير من الشباب أسئلة تدور في أذهانهم، تتعلق بذات الله تعالى وصفاته، وحول حقيقة البعث والقضاء والقدر، أو أسئلة عن أمور جنسية، فيتحرجون من البوح بها، لأنهم يخشون التأنيب ممن تنتظر منهم الإجابة، فيلجئون إلى طرحها فيما بينهم، أو عند أناس غير مؤهلين للإجابة، لكون هؤلاء الأخيرين قد فتحوا صدورهم لأولئك، فوثق بهم الشباب في غيبة أصحاب العلم الثقات.
__________
(1) شرح النووي على مسلم 2/154(30/15)
فنجد في الحديث السابق أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتهمهم في دينهم وإنما دلهم على مصدر السؤال –وهو الشيطان- ، ولذا جاء في الحديث: فليستعذ بالله" أي من الشيطان.
... وهكذا كان ديدنه صلى الله عليه وسلم في معالجة كل سؤال على حدة بحكمته وتوجيهه، دون أن يتهرب أو يتوارى، يجيب على ما يدور في نفوسهم حتى قبل أن يتكلموا به، ما دام لم يظهر على ذلك سمة المراء والجدل. وقد جاءه ضمام بن ثعلبة يوما قبل أن يسلم وقال له: إني سائلك فمشدد عليك في المسألة، فلا تجد علي في نفسك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سل ما بدا لك..."(1) وبعد أن أجابه النبي صلى الله عليه وسلم عن جميع أسئلته أسلم، ثم رجع يبلغ قومه.
وعن ابن مسعود قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي العمل أفضل؟ قال: الصلاة على ميقاتها، قلت ثم أي؟ قال: ثم بر الوالدين، قلت ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله" فسكت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو استزدته لزادني"(2).
__________
(1) البخاري 2/136 ح63 كتاب العلم، باب ما جاء في العلم ... ... ...
(2) البخاري 7/3 ح2782 كتاب الجهاد والسير، باب فضل الجهاد والسير(30/16)
وفضلا عن إجابة النبي صلى الله عليه وسلم السائل على سؤاله كان أحيانا يزيده في الجواب ليغطي كل جوانب الموضوع، فعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا سأله ما يلبس المحرم، فقال: لا يلبس القميص ولا العمامة ولا السراويل ولا البرنس، ولا ثوبا مسه الورس أو الزعفران، فإن لم يجد فليلبس الخفين وليقطعهما حتى يكونا تحت الكعبين"(1).
... قال ابن حجر:" وفي الحديث أيضا العدول عما لا ينحصر إلى ما ينحصر طلبا للإيجاز، لأن السائل سأل عما يلبس فأجيب بما لا يلبس، إذ الأصل الإباحة، ولو عدد له ما يلبس لطال به، بل كان لا يؤمن أن يتمسك بعض السامعين بمفهومه فيظن اختصاصه بالمحرم، وأيضا فالمقصود ما يحرم لبسه لا ما يحل له لبسه، لأنه لا يحب له لباس مخصوص بل عليه أن يجتنب شيئا مخصوصا"(2)
ولما سئل عن طهارة ماء البحر قال:" هو الطهور ماؤه الحل ميتته"(3).
__________
(1) البخاري 2/209 ح134 كتاب العلم، باب من أجاب السائل بأكثر مما سأله
(2) فتح الباري 2/209
(3) رواه أبو داود: السنن مع عون المعبود 1/152 ح83 كتاب الطهارة، باب الوضوء بماء البحر، تحقيق عبد الرحمن محمد عثمان، دار الفكر، ط3، 1399/1979(30/17)
كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يطرح أسئلة على صحابته من باب التدريب وتنمية القدرات العقلية وشحذ الذهن وتشجيعهم على الجرأة في الكلام.
ومن ذلك ما رواه ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها وإنها مثل المسلم، فحدثوني ما هي؟ فوقع الناس في شجر البوادي، قال عبد الله: ووقع في نفسي أنها النخلة، فاستحييت، ثم قالوا: حدثنا ما هي يا رسول الله؟ قال: هي النخلة"(1).
... قال ابن حجر: وفي هذا الحديث من الفوائد: امتحان العالم أذهان الطلبة بما يخفى مع بيانه لهم إن لم يفهموه، وفيه ضرب الأمثال والأشباه لزيادة الإفهام، وتصوير المعاني لترسخ في الذهن، ولتحديد الفكر في النظر في حكم الحادثة"(2).
__________
(1) البخاري: 1/197 ح61، كتاب العلم، باب طرح الإمام المسألة على أصحابه ليختبر ما عندهم من العلم
(2) فتح الباري 1/198-199(30/18)
وعن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه ذكر النبي صلى الله عليه وسلم قعد على بعيره وأمسك إنسان بخطامه – أو بزمامه – ثم قال: أي يوم هذا؟ فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه سوى اسمه، قال: أليس يوم النحر؟ قلنا: بلى، قال: فأي شهر هذا؟ فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: أليس بذي الحجة؟ قلنا: بلى، قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ليبلغ الشاهد الغائب، فإن الشاهد عسى أن يبلغ من هو أوعى له منه"(1).
... قال ابن حجر: قال القرطبي: سؤاله صلى الله عليه وسلم عن الثلاثة وسكوته بعد كل سؤال منها كان لاستحضار فهومهم وليقبلوا عليه بكليتهم، وليستشعروا عظمة ما يخبرهم عنه، ولذلك قال بعد هذا: فإن دماءكم... مبالغة في بيان تحريم هذه الأشياء"(2).
__________
(1) البخاري: 1/213 ح67 كتاب العلم، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم رب مبلغ أوعى من سامع
(2) فتح الباري 1/214(30/19)
وفي الأمور الجنسية وهي موضوعات حساسة وشائكة لا زالت تطرق على استحياء وخوف، والناس على ثلاثة اتجاهات، اتجاه يرى وجوب حجب القضية عن النقاش العام، واتجاه يرى ضرورة طرحها بحرية وبدون قيود، واتجاه يطرح القضية ويجيب عن التساؤلات ولكن بقيود وحسب الحاجة.
والتجربة الغربية أثبتت فشلها في فتح الباب على مصراعيه، وانتجت انحرافات سلوكية، والتغييب التام أنتج مشكلات خطيرة استفحلت في الخفاء إلى كوارث معلنة، ولذا كان من الأهمية بمكان أن يعمل العقلاء إلى إيجاد معادلة للنظر إلى الموضوع بواقعية وصدق، فالأمر من السنن الكونية العامة التي إن لم يلجأ الشخص للتساؤل عنها علنا ومن أناس ثقات، فسيلجأ ولا شك للبحث عنها بالخفية عبر وسائل أخرى قد تحمل خطرا ومغالطات كبيرة.
ولابد من مد جسور الثقة بين الوالدين والأبناء، تناسب كل مرحلة عمرية، ومن دون التوسع الشديد الذي قد يشتت تركيزهم ويربكهم بسبب قصور نضجهم وادراكهم.
وقد سأل الصحابة الكرام - رجالا ونساء - عن أمور قد يظنها البعض معيبة، وأجابهم عنها المربي الكريم صلى الله عليه وسلم بكل أريحية.(30/20)
ومن ذلك ما روته أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها قالت: جاءت أم سليم امرأة أبي طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، إن الله لا يستحيي من الحق، هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم إذا رأت الماء"(1).
وعن عبد الله بن عمر أنه قال: ذكر عمر بن الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تصيبه الجنابة من الليل، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: توضأ واغسل ذكرك ثم نم"(2).
وعن أسماء بنت أبي بكر أنها قالت: سألت امرأة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، أرأيت إحدانا إذا أصاب ثوبها الدم من الحيضة، كيف تصنع؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أصاب ثوب إحداكن الدم من الحيضة فلتقرصه ثم لتنضحه بماء ثم لتصلي فيه"(3).
فهذا يدل على جواز سؤال المرأة عما يستحيى من ذكره، والإفصاح بذكر ما يستقذر للضرورة(4).
...
التفاؤل والإيجابية
__________
(1) البخاري: 1/516 ح282 كتاب الغسل، باب إذا احتلمت المرأة
(2) البخاري: 1/523 ح290 كتاب الغسل، باب الجنب يتوضأ ثم ينام
(3) البخاري: 1/545 ح307 كتاب الحيض، باب غسل دم الحيض
(4) فتح الباري 1/545(30/21)
تغرس السنة في شخصية الإنسان التفاؤل والإيجابية، وتنأى به عن التقاعس والكسل، حتى على مستوى الكلمة يقولها الشخص في حق نفسه، فعنه صلى الله عليه وسلم قال:" لا يقولن أحدكم خبثت نفسي، ولكن ليقل: لقست نفسي"(1)، ومعنى لقست غثت، وهو يرجع إلى معنى خبيث، ولكنه لم يستخدم اللفظة الصريحة بذلك(2)
وقال صلى الله عليه وسلم:" على كل مسلم صدقة، قالوا: يا نبي الله! فمن لم يجد؟ قال:" يعمل بيده فينفع نفسه ويتصدق، قالوا: فإن لم يجد؟ قال: يعين ذا الحاجة الملهوف، قالوا: فإن لم يجد؟ قال: فليعمل بالمعروف وليمسك عن الشر، فإنها له صدقة"(3).
__________
(1) البخاري: الصحيح مع الفتح 11/475 ح6179، كتاب الأدب، باب لا يقل: خبثت نفسي
(2) انظر فتح الباري 11/475
(3) البخاري: الصحيح مع الفتح 4/62 ح1445 كتاب الزكاة، باب على كل مسلم صدقة(30/22)
... ومن الإيجابية أن لا ينزوي ويعتزل، بل يشارك الناس ويصلح بين المتنازعين، فينصر المظلوم ويردع الظالم، وينمي روح المشاركة الوجدانية في نفسه ولا يكبحها، ويشبع حاجته الطبيعية إلى الانتماء الاجتماعي، فإن المجتمع مثل الجسد الواحد، قال صلى الله عليه وسلم:" مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"(1).
وفي هذا المجال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" انصر أخاك ظالما أو مظلوما، قالوا يا رسول الله، هذا ننصره مظلوما فكيف ننصره ظالما؟ قال: تأخذ فوق يديه(2).
ومعنى تأخذ فوق يديه: كنى به عن كفه عن الظلم بالفعل إن لم يكف بالقول، وعبر بالفوقية إشارة إلى الأخذ بالاستعلاء والقوة(3).
... ولهذا المعنى قال صلى الله عليه وسلم:" المؤمن للمؤمن يشد بعضه بعضا" وشبك بين أصابعه(4).
__________
(1) مسلم: 16/140 كتاب البر والصلة والأدب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم
(2) البخاري: الصحيح مع الفتح 5/387 ح2444 كتاب المظالم، باب أعن أخاك ظالما أو مظلوما
(3) فتح الباري 5/387
(4) البخاري: 5/388 ح2446 كتاب المظالم، باب نصر المظلوم(30/23)
وقال صلى الله عليه وسلم:" لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"(1).
... وتبرز إيجابية المسلم في أن الذي يخدم الناس وهو مفطر أعظم أجرا من الصائم، فعن أنس رضي الله عنه قال:" كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم أكثرنا ظلا الذي من يستظل بكسائه، وأما الذين صاموا فلم يعملوا شيئا، وأما الذين أفطروا فبعثوا الركاب، وامتهنوا وعالجوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" ذهب المفطرون اليوم بالأجر"(2).
... وقال صلى الله عليه وسلم:" إذا قامت القيامة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها"(3).
وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان"(4)
__________
(1) البخاري: 2/54 ح13 كتاب الإيمان، باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه
(2) البخاري: 6/178 ح2890 كتاب الجهاد والسير، باب فضل الخدمة في الغزو
(3) رواه أحمد في مسنده 3/184
(4) مسلم: الصحيح بشرح النووي، 2/6 كتاب الإيمان، باب الحياء شعبة من الإيمان(30/24)
وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شئ فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان"(1).
فهذه إيجابية لا استسلام فيها حتى لا تمتد العطالة والإصابة إلى المستقبل ، فهو يوفر الطاقة ويحول دون العجز والسقوط والبكاء على الأطلال.
... وفي مجال التفاؤل نهت السنة عن التشاؤم والتطير والاستقسام بالأزلام، وبدلا عن ذلك أرشدت إلى الاستخارة الشرعية.
ففي الحديث عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" لا عدوى ولا طيرة ويعجبني الفأل، قالوا وما الفأل؟ قال: كلمة طيبة"(2).
وحرمت إتيان الكهان فضلا عن تصديقهم " من أتى عرافا فسأله عن شيء، لم تقبل له صلاة أربعين ليلة"(3).
__________
(1) مسلم: الصحيح بشرح النووي 16/215 كتاب القدر، باب الإيمان للقدر والإذعان له
(2) البخاري 11/411 ح5776 كتاب الطب، باب لا عدوى
(3) رواه مسلم: 14/277 كتاب السلام، باب تحريم الكهانة وإتيان الكهان(30/25)
وبلغت الإيجابية أوجها حين أرشدت السنة من يرى رؤيا مزعجة بأن لا يستسلم لها وعزت مصدرها للشيطان، فعن أبي سعيد الخدري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا رأى أحدكم رؤيا يحبها فإنما هي من الله فليحمد الله عليها وليحدث بها، وإذا رأى غير ذلك مما يكره، فإنما هي من الشيطان فليستعذ من شرها ولا يذكرها لأحد فإنها لا تضره"(1)
وليبقى المسلم متفائلا حررت السنة شخصيته من كل ضغط نفسي يمكن أن يؤثر عليه، مثل الخوف من انكسار النفس وازدراء النعمة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال والخلق، فلينظر إلى من هو أسفل منه ممن فضل عليه"(2). زاد مسلم: فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله"(3).
__________
(1) البخاري: 14/394 ح6985 كتاب التعبير، باب الرؤيا من الله
(2) البخاري: 13/119 ح6490 كتاب الرقاق، باب لينظر إلى من هو أسفل منه، ولا ينظر إلى من هو فوقه
(3) مسلم: 18/97 كتاب الزهد(30/26)
ونقل ابن حجر عن بعض العلماء قوله: في هذا الحديث دواء الداء لأن الشخص إذا نظر إلى من هو فوقه لم يأمن أن يؤثر ذلك فيه حسدا، ودواؤه أن ينظر إلى من هو أسفل منه ليكون ذلك داعيا إلى الشكر"(1).
وكذلك حررت السنة الشخص من الخوف من الموت (توفني ما كانت الوفاة خيرا لي) ومن الخوف من المرض (معافى في بدنه)، والخوف من انقطاع الرزق ( حتى تستوفي رزقها).
... إن مثل هذه الروح الإيجابية التي تغرس في شخصية الفرد المسلم من شأنها أن تدخل الطمأنينة والسعادة إلى نفسه، ثم تنتقل إلى المجتمع ليصبح هذا الفرد عنصرا فعالا منتجا.
... بل إن السنة النبوية وسعت دائرة الإيجابية لتشمل الحيوان، وبذلك أسهمت السنة في رفد المجتمع بأفراد عاملين منتجين بعيدين كل البعد عن الأنانية والعصبية، فكانوا مصدر خير، وعنصر إنتاج وإفادة للبشر وغيرهم من الكائنات الحية.
__________
(1) فتح الباري 13/120(30/27)
... عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" ما من مسلم يغرس غرسا إلا كان ما أكل منه له صدقة، وما سرق منه له صدقة، وما أكل السبع منه فهو له صدقة، وما أكلت الطير فهو له صدقة، ولا يرزؤه أحد إلا كان له صدقة"(1)
... ولا ننسى في هذا المقام أن نشير إلى أن من الإيجابية التي حثت عليها السنة المطهرة التوكل مع اتخاذ الأسباب، فقد أرشدت الفرد المسلم إلى ذلك نظريا وعمليا، وحذرت من التواكل والكسل، فعن أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا يقول: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والبخل والجبن، وضلع الدين وغلبة الرجال"(2).
واتخاذ الأسباب لا ينافي التوكل، بل من التوكل أن يأخذ الإنسان بالأسباب، فعن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها"(3).
__________
(1) رواه مسلم 10/213 كتاب المساقاة، باب فضل الغرس والزرع
(2) البخاري: 6/182 ح2893 كتاب الجهاد والسير، باب من غزا بصبي للخدمة
(3) البخاري 11/332 ح5728 كتاب الطب، باب ما يذكر في الطاعون(30/28)
وقد طبق الخليفة عمر رضي الله عنه ذلك عمليا حين خرج إلى الشام فسمع أن الوباء قد حل بها، فرجع ولم يدخل، ولما قيل له: أفرارا من قدر الله، قال: نعم، نفر من قدر الله إلى قدر الله"(1).
الاعتداد بالنفس وعدم التبعية
حثت السنة المطهرة الفرد المسلم على الاعتداد بنفسه، وعدم الركون للذلة والمسكنة، قال صلى الله عليه وسلم:" لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة الحطب على ظهره فيبيعها فيكف الله بها وجهه، خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه"(2).
وعن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال:" سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم قال:" يا حكيم، إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، اليد العليا خير من اليد السفلى" قال حكيم: فقلت يا رسول الله، والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحدا بعدك شيئا حتى أفارق الدنيا... فلم يرزأ حكيم أحدا من الناس بعد"(3).
__________
(1) البخاري 11/332 ح5729
(2) البخاري: 4/97 ح1471 كتاب الزكاة، باب الاستعفاف عن المسألة
(3) البخاري: 4/97-98 ح1472 كتاب الزكاة، باب الاستعفاف عن المسألة(30/29)
... وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يباشر أموره بنفسه على الرغم من وجود من يكفيه ، فعن عائشة رضي الله عنها قالت:" اشترى رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهودي طعاما نسيئة، ورهنه درعه(1).
قال ابن حجر:" وفي هذه الأحاديث مباشرة الكبير والشريف شراء الحوائج وإن كان له من يكفيه إذا فعل ذلك على سبيل التواضع، والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، فلا يشك أحد أنه كان له من يكفيه ما يريد من ذلك، ولكنه كان يفعله تعليما وتشريعا"(2).
وقد طبق الصحابة ذلك عمليا فكان يسقط سوط أحدهم وهو راكب على راحلته ولا يطلب من أحد أن يناوله إياه(3).
__________
(1) البخاري: 5/44 ح2096 كتاب البيوع، باب شراء الإمام الحوائج بنفسه
(2) فتح الباري: 5/44
(3) انظر الحديث في صحيح مسلم 7/132 كتاب الزكاة، باب النهي عن المسألة، عن عوف بن مالك الأشجعي(30/30)
ومن الاعتداد أن لا يتراجع الشخص في قرار اتخذه، طالما لم يتبين له أنه كان مخطئا، وإلا فالعود للحق أمر محمود، ومن ذلك النهي عن العودة في الهبة، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال:" قال النبي صلى الله عليه وسلم: العائد في هبته كالعائد في قيئه"، وعنه رضي الله عنه قال:" ليس لنا مثل السوء، الذي يعود في هبته كالكلب يرجع في قيئه"(1).
ومن الأمور التي حثت عليها السنة في عدم التبعية وأن تكون للشخص المسلم شخصيته المستقلة المتميزة، ما رواه ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" من تشبه بقوم فهو منهم"(2)، وأرشدت إلى مخالفة أهل الكتاب وغيرهم في أمور كثيرة مثل: استقبال القبلة، والصلاة بالنعال، والترغيب في السحور، وتعجيل الفطر، وتغيير الشيب، والنهي عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت غروبها، وعن قيام المأمومين والإمام قاعد، إلى غير ذلك.
__________
(1) البخاري 5/556 ح2621، وح2622 كتاب الهبة، باب لا يحل لأحد أن يرجع في هبته وصدقته
(2) أبو داوود: السنن 4/44 ح4031 كتاب اللباس، باب في لبس الشهرة، مراجعة وضبط وتعليق: محمد محيي الدين عبد الحميد، بدون تاريخ(30/31)
إن الذي يشعر بالدونية يتنازل عن عقيدته، ثم يبدأ بحب أعداء الإسلام، وفي هذا يقول صلى الله عليه وسلم:"لا يحقر أحدكم نفسه، قالوا يا رسول الله، كيف يحقر أحدنا نفسه، قال: يرى أمرا لله عليه فيه مقال، ثم لا يقول فيه، فيقول الله عز وجل له يوم القيامة، ما منعك أن تقول في كذا وكذا، فيقول: خشية الناس فيقول فإياي كنت أحق أن تخشى"(1)، وقال أيضا:" لا تكونوا إمعة تقولون إن أحسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا فلا تظلموا"(2).
__________
(1) رواه ابن ماجه في سننه، 2/1328 كتاب الفتن، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، بدون تاريخ
(2) رواه الترمذي: السنن مع تحفة الأحوذي للمباركفوري 6/145-146 ح2075، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في الإحسان والعفو، من حديث حذيفة، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه، دار الفكر، ط3، 1399/1979(30/32)
قال الزمخشري:" الإمعة الذي يتبع كل ناعق، ويقول لكل أحد: أنا معك، لأنه لا رأي له يرجع إليه"(1).
ويقول القاري تعليقا على كلام الزمخشري :" وفيه اشعار بالنهي عن التقليد المجرد حتى في الأخلاق فضلا عن الاعتقادات والعبادات"(2).
ومن الاعتداد بالنفس: أن يهتم الشخص بمظهره الخارجي بغية الحصول على القبول الاجتماعي، ولكن بدون غرور وكبرياء ومغالاة أو إسراف.
عن عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة، قال: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس"(3).
وعن عائشة قالت: كنت أطيب النبي صلى الله عليه وسلم بأطيب ما يجد، حتى أجد وبيص الطيب في رأسه ولحيته"(4).
__________
(1) الفائق في غريب الحديث 1/57 مادة (امع) تحقيق: علي البجاوي ومحمد أبو الفضل، ط3، 1399/1979 دار الفكر
(2) تحفة الأحوذي 6/145
(3) مسلم 1/89، كتاب الإيمان، باب تحريم الكبر
(4) البخاري 11/310 ح5923 كتاب اللباس، باب الطيب في الرأس واللحية(30/33)
إن اختيار الملابس الحسنة يظهر الشخص بالمظهر الحسن، ويجعل الشخص محل الاحترام والتقدير والقبول الاجتماعي، مما يفرض عليه أن يكون جوهره كمظهره في غالب الأحيان.
وهذه العناية غير المبالغ فيها بالمظهر أثر من آثار نعمة الله تعالى على عبده، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده"(1).
ومن هنا فإن السنة تريد بناء جسم الإنسان في جميع جوانبه، ولم تكتف بجانب على حساب جانب، فالمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير.
غير أن هذه القوة " ليست قوة الجسم وحده ولكنها قوة الكيان الإنساني كله، الجسم والنفس والطاقة والخلق، إنها القوة المتكاملة التي ترتبط بالحق والعدل، التي لا تترك جانبا من جوانب الإنسان يدب إليه الوهن والحزن"(2).
__________
(1) الترمذي: سنن الترمذي بشرح تحفة الأحوذي 8/106 ح2973 كتاب الأدب، باب ما جاء إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده، وقال الترمذي: حديث حسن
(2) عبد الواحد: د. مصطفى، شخصية المسلم في القرآن والسنة، ص131، دار الرائد العربي، بيروت، ط8، 1407/1987(30/34)
... ومن صور الاعتداد بالنفس التي عملت السنة على إذكائها تنمية روح التنافس في الخيرات بين الأفراد، فكثيرا ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يرفع من شأن الفرد ويعلي من معنوياته بأسلوب يدفعه لإتقان العمل والمواظبة على الاتيان بالمزيد، ومن ذلك ما رواه أبو هريرة أنه قال: قيل يا رسول الله: من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك، لما رأيت من حرصك على الحديث، أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه أو نفسه"(1).
وكذا حديث أبي بكر رضي الله عنه حين سأل عن أبواب الجنة الثماني وهل بإمكان شخص أن يدخل منها جميعها، فقالى صلى الله عليه وسلم:" نعم وأرجو أن تكون أنت يا أبا بكر"(2).
__________
(1) البخاري: 1/260 ح99 كتاب العلم، باب الحرص على الحديث
(2) انظر البخاري: 5/98 ح1897 كتاب الصوم، باب الريان للصائمين(30/35)
وحديث ابني عفراء في معركة بدر، حينما تسابقا لقتل أبي جهل، وبعد أن ضرباه جاءا مسرعين يخبران رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر، فنظر في سيفيهما وقال:" كلاكما قتله"(1).
وحديث أبي دجانة في معركة أحد: إذ أخذ النبي صلى الله عليه وسلم سيفا، وقال:"من يأخذ مني هذا بحقه"(2).
وحديث:" لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول(3)"
وحديث:"لا تحاسد إلا في اثنتين"(4) وغيرها الكثير.
__________
(1) انظر مرويات غزوة بدر، جمع ودراسة وتحقيق: أحمد محمد العليمي باوزير، ص223، مكتبة طيبة، السعودية، ط1، 1400/1980، وانظر فتح الباري لابن حجر 8/252
(2) انظر القسطلاني: أحمد بن محمد، ت(923)، المواهب اللدنية بالمنح المحمدية، 1/206، شرح وتعليق: مأمون محيي الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1416/1996.
(3) انظر البخاري 3/180 ح721 كتاب الأذان، باب الصف الأول
(4) انظر البخاري 14/188 ح7232 كتاب التمني، باب تمني القرآن والعلم(30/36)
وأذكت السنة روح التنافس حين سمحت للطاقات العقلية الإبداعية بالتحرر ولم تحجر عليها، فقد كان الصحابة يقفون عند نصوص الوحي ويأخذونها بالتسليم المطلق، وفيما عدا ذلك أدلوا بآرائهم فتفتقت أذهانهم عن أمور إبداعية، فهذا الحباب بن المنذر يشير على النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر الكبرى بأن المنزل الذي نزل به الجيش ليس بمنزل، وأن المكان الأنسب هو ماء بدر، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الرأي(1).
ومن هذا الباب موافقات عمر رضي الله عنه(2).
وإشارة سلمان الفارسي رضي الله عنه بحفر الخندق(3).
ولهذا شجع النبي على الاجتهاد فقال:" إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر"(4).
__________
(1) انظر مرويات غزوة بدر، ص158، والسيرة النبوية لأبي الحسن الندوي، ص218، دار الشروق، جدة، ط7، 1408/1987
(2) انظر البخاري 2/449 ح402 كتاب الصلاة، باب ما جاء في القبلة
(3) انظر القسطلاني: المواهب اللدنية 1/238، وفتح الباري 8/335
(4) البخاري 14/271 ح7352 كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ(30/37)
وبلغ التشجيع مبلغه حين دعت السنة إلى ضبط الانفعالات ومقاومة الاندفاعات العاطفية، واستعمال التفكير الواعي الفاعل، فقال صلى الله عليه وسلم:" ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب"(1).
وطبق النبي الكريم هذا الأمر عمليا حين كلف كل شخص بالشيء الذي يبدع فيه، فخالد للمهام العسكرية، ومعاذ للحلال والحرام، وزيد للفرائض، وأبيّ للقراءة، وهذا ينسجم مع فطرة الله التي خلق الناس عليها، بأن زودهم بميول متنوعة وهذا التنوع هو أساس تكامل الحياة البشرية وتمازجها. (إن سعيكم لشتى).
إن استشعار الميول لدى الشخص يجعل النجاح حليفه، وهو ما نعبر عنه اليوم: وضع الرجل المناسب في المكان المناسب.
وكان صلى الله عليه وسلم يقول دائما لصحابته الكرام:" اعملوا فكل ميسر لما خلق له"(2).
الصراحة وعدم المداهنة
__________
(1) البخاري 11/438 ح6114 كتاب الأدب، باب الحذر من الغضب
(2) انظر البخاري 12/424 ح6605 كتاب القدر، باب: وكان أمر الله قدرا مقدورا، وانظر مسلم 16/198 كتاب القدر، باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه(30/38)
تربي السنة المطهرة الشخصية الإسلامية على الوضوح والاعتدال في طرح الأمور والبعد عن المداهنة والتملق والنفاق، ولذا أرشدت إلى عدم المغالاة في المدح، فعن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه قال:" أثنى رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ويلك قطعت عنق صاحبك، قطعت عنق صاحبك (مرارا) ثم قال:" من كان منكم مادحا أخاه لا محالة فليقل: أحسب فلانا والله حسيبه، ولا أزكي على الله أحدا، أحسبه كذا وكذا، إن كان يعلم ذلك منه"(1).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا ائتمن خان وإذا وعد أخلف(2).
__________
(1) البخاري: 5/606 ح2662 كتاب الشهادات، باب إذا زكى رجل رجلا كفاه
(2) البخاري: 5/625 ح2682 كتاب الشهادات، باب من أمر بإنجاز الوعد، وفعله الحسن(30/39)
وأُثبت في هذا المقام نموذجاً للوضوح والبعد عن المجاملة الذي تحلى به سلفنا الصالح، حيث لم يتحرج أحدهم من عرض ابنته للزواج على من هو أهل لذلك، ونجد صراحةً من الطرف الآخر في الرفض الصريح، وترحيباً من الطرف الأول بهذا الموقف وتضايقاً من الصمت والمجاملة، فقد روى البخاري عن سالم بن عبد الله أنه سمع عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يحدث: أن عمر بن الخطاب حين تأيمت حفصة بنت عمر من خنيس بن حذافة السهمي، وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوفي بالمدينة، فقال عمر بن الخطاب: أتيت عثمان بن عفان فعرضت عليه حفصة، فقال: سأنظر في أمري، فلبثت ليالي، ثم لقيني فقال: قد بدا لي أن لا أتزوج يومي هذا، قال عمر: فلقيت أبا بكر الصديق، فقلت: إن شئت زوجتك حفصة بنت عمر، فصمت أبو بكر فلم يرجع إلي شيئاً، وكنت أوجد عليه مني على عثمان، فلبثت ليالي، ثم خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنكحتها إياه، فلقيني أبو بكر فقال: لعلك وجدت عليّ حين عرضتَ عليّ حفصة فلم أرجع إليك شيئاً؟ قال عمر: قلت: نعم، قال أبو بكر: فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت عليّ إلا أني كنت علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذكرها،(30/40)
فلم أكن لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو تركها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلتها"(1).
ويظهر من هذا النص مقدار الوضوح في التعامل، ومع أن الرد كان على خلاف المبتغى، إلا إنه كان مريحاً، ثم قارن بما يعانيه الكثير من أفراد مجتمعنا جراء تلك المجاملات المفرطة، فكم من فتاة ضاعت عليها فرصة الزواج بسبب كلمة شفوية جامل فيها أحد الطرفين الآخر، وبقيت الفتاة حبيسةً على اسم فلان، حتى إذا جدّ الجدّ تنكر أحد الطرفين لكلمته، وذهبت الفتاة ضحية المجاملة.
وتجد أحياناً أن ولي الفتاة المخطوبة يقع أسير المجاملة الزائفة، فيتنازل عن حق ابنته في المهر، ليحظى بالمديح، ثم تتجرع الفتاة مرارة ذلك الفعل، إذا ما حصل خلاف في المستقبل.
الاعتدال في العبادة، ومراعاة الظروف
عملت السنة المطهرة في بنائها للشخصية المسلمة على مراعاة الاختلاف الجسدي والعقلي والاستعداد الروحي، فأمرت بتحديث الناس على قدر عقولهم، وعدم المبالغة في العبادة.
__________
(1) البخاري: الجامع الصحيح مع فتح الباري، كتاب النكاح، باب عرض الإنسان ابنته أو أخته على أهل الخير، 10/219-220 حديث رقم(5122) وانظر 10/252 حديث رقم(5415) باب تفسير ترك الخطبة).(30/41)
عن عبد الله بن عمرو قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحب الصيام إلى الله صيام داود، كان يصوم يوما ويفطر يوما، واحب الصلاة إلى الله صلاة داود، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه"(1).
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عبد الله ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال: فلا تفعل، صم وأفطر، وقم ونم، فإن لجسدك عليك حقا، وإن لعينك عليك حقا، وإن لزوجك عليك حقا"(2).
ويذكر في هذا المجال حديث سلمان حين قال لأبي الدرداء:" إن لربك عليك حقا، ولنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه" فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدق سلمان"(3).
__________
(1) البخاري: 7/121 ح3420 كتاب أحاديث الأنبياء، باب أحب الصلاة إلى الله صلاة داود
(2) البخاري: 10/374 ح5199 كتاب النكاح، باب لزوجك عليك حق
(3) البخاري: 4/726 ح1968، كتاب الصوم، باب من أقسم على أخيه ليفطر في التطوع(30/42)
وعن أنس قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم فإذا حبل ممدود بين الساريتين فقال: ما هذا الحبل؟ قالوا: هذا حبل لزينب، تصلي فإذا فترت تعلقت، فقال النبي صل الله عليه وسلم: لا، حلوه، ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليقعد"(1).
وراعت السنة الفوارق بين الذكور والإناث، إذ لكل مجاله وإسهامه فيما يبدع فيه حسب تكوينه الجسدي وقدراته، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال" وعنه قال: لعن النبي صلى الله عليه وسلم المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء، وقال: أخرجوهم من بيوتكم"(2).
__________
(1) البخاري: 4/31 ح1150 كتاب التهجد، باب ما يكره من التشديد في العبادة
(2) البخاري: 11/521-522 ح5885، وح5886 كتاب اللباس، باب المتشبهون بالنساء والمتشبهات بالرجال(30/43)
وأكدت السنة على الفروق الفردية وشبهته بتشبيه رائع، إذ شبهت الناس بالمعادن، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: تجدون الناس معادن، فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، وتجون من خير الناس في هذا الأمر أكرههم له قبل أن يقع فيه، وتجدون من شرار الناس ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه"(1)، وعن عائشة رضي الله عنه قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف"(2).
فهذا الحديث يدل على أن الناس يختلفون في تراكيبهم وطبائعهم، كحال المعادن تختلف في نفاستها وقيمتها، ولا يستهان بأي معدن منها وإن قلت قيمته عن غيره، لأنه يسد حاجة ماسة قد تظهر إليه، ويصلح لغرض معين لا يصلح له سواه(3).
__________
(1) مسلم: 16/78-79 كتاب فضائل الصحابة، باب خيار الناس
(2) البخاري: 7/304 ح3336 كتاب أحاديث الأنبياء، باب الأرواح جنود مجندة
(3) انظر الزنتاني: د. عبد الحميد الصيد، أسس التربية الإسلامية في السن النبوية، ص149 ، الدار العربية للكتاب، ليبيا، 1984(30/44)
ومن هنا ينبغي التمييز في المعاملة على أساس الفروق الفردية حتى يلقى كل فرد العناية والاهتمام اللازم على قدر حاجته إليه، وبما يتناسب مع مستواه العقلي والتحصيلي، مما يساعد على تنمية شخصية الفرد، ولذا قال صلى الله عليه وسلم:" أنزلوا الناس منازلهم"(1).
ومن باب الاعتدال: عدم المداومة على الموعظة مخافة السآمة والملل، فعن ابن مسعود قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا"(2).
... وعن أبي وائل قال: كان عبد الله يذكر الناس في كل خميس، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن لوددت أنك ذكرتنا كل يوم، قال: أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملكم، وإني أتخولكم بالموعظة كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بها مخافة السآمة علينا"(3).
__________
(1) أبو داود، السنن، ص1102 ح4842 كتاب الأدب، باب في تنزيل الناس منازلهم، ط1، 1420/1999 بيروت، شركة دار الأرقم، بعناية: هيثم بن نزار تميم
(2) البخاري: 1/218 ح68 كتاب العلم، باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولهم بالموعظة والعلم كي لا ينفروا
(3) البخاري: 1/220-221 ح70، كتاب العلم، باب من جعل لأهل العلم أياما معلومة.(30/45)
... قال ابن حجر:" يستفاد من الحديث: استحباب ترك المداومة في الجد في العمل الصالح خشية الملال، وإن كانت المواظبة مطلوبة لكنها على قسمين: إما كل يوم مع عدم التكلف، وإما يوما بعد يوم، فيكون يوم الترك لأجل الراحة ليقبل على الثاني بنشاط، وإما يوما في الجمعة، ويختلف باختلاف الأحوال والأشخاص، والضابط الحاجة مع مراعاة وجود النشاط"(1).
وقد لخص الأمر عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حيث قال:" حدث القوم ما حدجوك بأبصارهم، وأقبلت عليك قلوبهم، فإذا انصرفت عنك قلوبهم فلا تحدثهم، قيل: وما علامة ذلك؟ قال: إذا التفت بعضهم إلى بعض، ورأيتهم يتثاءبون، فلا تحدثهم"(2)، والمعنى حدثهم ما داموا يشتهون حديثك فإذا أعرضوا عنك فاسكت، وهذه قاعدة عظيمة نتمنى أن يضعها الوعاظ نصب أعينهم، ويراعوا الزمان والمكان والمناسبة التي يتكلمون فيها، فتجد وللأسف من إذا تسلم زمام الحديث ينسى نفسه ويبدأ بشرح موضوع والدخول في آخر وكأنه يريد شرح أحكام الإسلام كلها في هذه
__________
(1) فتح الباري 1/220
(2) البغوي: الحسين بن سعود ت(516) شرح السنة 1/313، تحقيق وتخريج: شعيب الأرناؤوط ومحمد زهير الشاويش، المكتب الإسلامي، بيروت، ط2، 1403/1983(30/46)
العجالة، ولا يراعي تململ الناس مما يجعلهم في النهاية لا ينصتون إلى حديثه، فمجالس الوعظ يراعى فيها أحوال الناس واستعدادهم ، بخلاف مجالس العلم التي تعطى للمختصين والراغبين، فهذه لا بأس من التطويل فيها.
... ويدخل في هذا التيسير وعدم التشديد ، ما رواه أبو مسعود الأنصاري قال: قال رجل يا رسول الله: لا أكاد أدرك الصلاة مما يطول بنا فلان، فما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في موعظة أشد غضبا من يومئذ، فقال: يا أيها الناس إنكم منفرون، فمن صلى بالناس فليخفف، فإن فيهم المريض والضعيف وذا الحاجة"(1).
وكذلك حديث معاذ المشهور الذي رواه البخاري "أفتان أنت يا معاذ"(2).
__________
(1) البخاري: 1/251 ح90 كتاب العلم، باب الغضب في الموعظة والتعليم إذا رأى ما يكره
(2) البخاري: 3/167 ح701 كتاب الأذان، باب إذا طول الإمام وكان للرجل حاجة فخرج فصلى(30/47)
... وعن عبد الله بن عمرو: قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم عند الجمرة وهو يسأل، فقال رجل: يا رسول الله: نحرت قبل أن أرمي، قال: ارم ولا حرج، قال آخر: يا رسول الله: حلقت قبل أن أنحر، قال: انحر ولا حرج، فما سئل عن شئ قدم ولا أخر إلا قال: افعل ولا حرج"(1).
ومن الاعتدال ما دعت السنة إليه في الترويح البرئ عن النفس مخافة الملل والسآمة، إذ لابد لأي فرد من التمتع بقسط كاف من الراحة بعد الأعمال المضنية، كي لا يصاب بالإرهاق المتواصل ثم القعود عن العمل، فالترويح البرئ يجدد النشاط والطاقة، ولم تمانع السنة من المزاح والتفكه والملاطفة والتبسم، وحديث "نافق حنظلة" معروف لدى الجميع، وفيه يقول صلى الله عليه وسلم:" ولكن ساعة وساعة"(2).
__________
(1) البخاري: 1/300 ح124 كتاب العلم، باب السؤال والفتيا عند رمي الجمار
(2) رواه مسلم: 17/66 كتاب التوبة، باب فضل دوام الذكر والفكر في أمور الآخرة(30/48)
"فالإسلام لا يريد للمؤمنين أن يقهروا بشريتهم المادية، ويروضهم على التجرد الروحي والزهد فيما تتعلق به فطرة الناس من متع الحياة الدنيا والطيبات من الرزق، ولهذا أبطل الإسلام الرهبانية التي عزلت الدين عن الحياة" "وليس صحيحا ما يغلب على الظن من أن العناية بالمظهر لباسا وزينة، يجافي شخصية المسلم، وما يجافيها إلا الترف والسرف، والتبرج والخيلاء، فإذا اتقاها المؤمن فلا حرج عليه في أن يعنى بمظهره ويأخذ زينته تجملا وتهذيبا لا عن شهرة وخيلاء"(1).
وفي الموطأ عن عطاء بن يسار قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فدخل رجل ثائر الرأس واللحية، فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده أن اخرج كأنه يعني إاصلاح شعر رأسه ولحيته، ففعل الرجل ثم رجع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أليس هذا خيرا من أن يأتي أحدكم ثائر الرأس كأنه شيطان"(2).
__________
(1) بنت الشاطئ: عائشة عبد الرحمن، الشخصية الإسلامية دراسة قرآنية، ص75، دار العلم للملايين، بيروت، ط3، 1980
(2) موطأ الإمام مالك بن أنس، ص815 ح113 كتاب الجامع، باب إصلاح الشعر،ط1، 1979 دار الافاق الجديدة، بيروت، بعناية فاروق سعد(30/49)
كما أخذت السنة المطهرة الظروف المحيطة بعين الاعتبار، فلم تأمر بمصلحة ينتج عنها مفسدة أعظم، وهذا واضح جلي في نصوص كثيرة ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: يا عائشة لولا قومك حديث عهدهم بكفر، لنقضت الكعبة فجعلت لها بابين، باب يدخل الناس، وباب يخرجون"(1).
قال ابن حجر:" يستفاد ترك المصلحة لأمن الوقوع في المفسدة، ومنه ترك إنكار المنكر خشية الوقوع في أنكر منه، وأن الإمام يسوس رعيته بما فيه صلاحهم ولو كان مفضولا ما لم يكن محرما"(2).
ومن ذلك عدم قتل زعيم المنافقين (عبد الله بن أبي) مخافة أن يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه(3).
مراعاة الآداب مع الآخرين
... عملت السنة الشريفة على رعاية مصالح الآخرين مهما كانت منزلتهم، مثلما راعت مصلحة الشخص نفسه، وهذا نابع من نظرة السنة للمجتمع ككل متكامل ووحدة واحدة.
__________
(1) البخاري: 1/303 ح126 كتاب العلم، باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه فيقعوا في أشد منه
(2) فتح الباري 1/303
(3) انظر الحديث في صحيح مسلم 16/138 كتاب البر والصلة والأدب، باب نصر الأخ ظالما أو مظلوما(30/50)
... ومن هنا ينبغي مراعاة الآداب مع الاخرين وعدم إزعاجهم بأي وسيلة مهما صغرت، حتى لو كان بالرائحة الكريهة.
قال صلى الله عليه وسلم:" من أكل ثوما أو بصلا فليعتزلنا، أو ليعتزل مسجدنا"(1).
... فقد رخص النبي صلى الله عليه وسلم في التخلف عن صلاة الجماعة على الرغم من أهميتها، مخافة إلحاق الأذى بالمصلين، وبالملائكة الذين يحضرون الصلاة.
وهذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم يستأذن غلاما صغيرا لأن الحق له، ولم يتغاض عن حقه لصغر سنه، على الرغم من وجود من هو أكبر سنا منه، فعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال:" أُتي النبي صلى الله عليه وسلم بقدح فشرب منه، وعن يمينه غلام أصغر القوم، والأشياخ عن يساره، فقال:" يا غلام أتأذن لي أن أعطيه الأشياخ؟ قال: ما كنت لأوثر بفضلي منك أحدا يا رسول الله، فأعطاه إياه"(2).
__________
(1) البخاري: 10/721 ح5452 كتاب الأطعمة، باب ما يكره من الثوم والبقول
(2) البخاري: 5/301 ح2351 كتاب المساقاة، باب من رأى صدقة الماء وهبته ووصيته جائزة
انظر تربية الأولاد لعلوان ص763(30/51)
وراعت السنة الآداب مع الخدم الذين لا يعير لهم أحد باله في كثير من الأحيان، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" إذا أتى أحدكم خادمه بطعامه، فإن لم يجلسه معه فليناوله أكلة أو أكلتين، أو لقمة أو لقمتين، فإنه ولي حره وعلاجه"(1).
وبلغت الآداب مع الآخرين مبلغا قل نظيره في الثقافات الأخرى، فهذا نبي الله صلى الله عليه وسلم يُقدّر النفس الإنسانية حتى لو كانت على غير دين الإسلام، ففي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم مرت به جنازة فقام، فقيل له: إنها جنازة يهودي، فقال: أليست نفسا؟(2).
... ومن الآداب التي ينبغي مراعاتها عدم الخروج على أعراف الناس أو لفت انتباههم بما يستنكرونه، ومن ذلك ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" لا يمشي أحدكم في نعل واحدة ليحفهما جميعا أو لينعلهما جميعا"(3).
__________
(1) البخاري: 10/728 ح5460 كتاب الأطعمة، باب الأكل مع الخادم
(2) البخاري: 3/533 ح1312 كتاب الجنائز، باب من قام لجنازة يهودي
(3) البخاري: 11/495 ح5856 كتاب اللباس، باب لا يمشي في نعلة واحدة(30/52)
ومن الآداب مع الآخرين: عدم تناجي اثنين دون ثالث، وحفظ السر، والنهي عن الشماتة، وعدم جلوس الرجل مكان أخيه، وفي هذا يقول صلى الله عليه وسلم:" لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه"(1).
ومن الآداب تعويد النفس البشرية على سماع النقد البناء والنصح الهادف، ولكي يتحصل ذلك، لابد من محاسبة الإنسان لنفسه حسابا جادا، ولومها واتهامها بالتقصير، حتى لا يحمّل الآخرين سبب مشكلاته وتقصيره "وابك على خطيئتك".
__________
(1) البخاري: 12/51 ح6269 كتاب الاستئذان، باب لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه(30/53)
ويدخل في هذا الباب: تحديث الناس على قدر عقولهم، وتخصيص قوم بالعلم دون قوم كراهية أن لا يفهموه، فقد روى البخاري: عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم ومعاذ رديفه على الرحل، قال:" يا معاذ بن جبل ، قال: لبيك يا رسول الله وسعديك، قال: يا معاذ، قال: لبيك يا رسول الله وسعديك (ثلاثا) قال: ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صدقا من قلبه إلا حرمه الله على النار" قال: يا رسول الله أفلا أخبر به الناس فيستبشروا؟ قال: إذا يتكلوا" وأخبر بها معاذ عند موته تأثما(1).
__________
(1) البخاري 1/304-305 ح128 كتاب العلم، باب من خص بالعلم قوما دون قوم كراهية أن لا يفهموا(30/54)
كما يدخل في السياق ذاته الاهتمام بشؤون الآخرين وسؤالهم عن أحوالهم، فقد روى أبو داود عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم المسجد، فإذا هو برجل من الأنصار يقال له: أبو أمامة، فقال: يا أبا أمامة مالي أراك جالسا في المسجد في غير وقت الصلاة؟ قال: هموم لزمتني وديون يا رسول الله، قال: أفلا أعلمك كلاما إذا أنت قلته أذهب الله عز وجل همك وقضى عنك دينك؟ قال: قلت: بلى يا رسول الله، قال: قل إذا أصبحت وإذا أمسيت: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال" قال: ففعلت ذلك، فأذهب الله عز وجل همي وقضى عني ديني"(1).
الخاتمة
أهم النتائج
لا يمكن للشخصية البشرية أن تستقيم على الصراط المستقيم إلا بالرجوع إلى منهل السنة النبوية الصحيحة إلى جوار كتاب الله تعالى، لأنهما المصدران الأساسيان للتوازن والاعتدال.
__________
(1) أبو داود: السنن، ص361 ح1555، كتاب الوتر، باب في الاستعاذة، ط1، 1420/1999 دار الأرقم، بيروت(30/55)
اهتمام السنة بجميع جوانب شخصية الإنسان مادية وروحية وعقلية، مما يجعل الشخصية سوية متكاملة لا تعاني من الخلل العصبي أو العلل النفسية أو الاضطرابات العقلية.
كان للسنة النبوية المطهرة قصب السبق في الاهتمام بالشخصية وإعدادها الإعداد المناسب قبل كل الأبحاث والنظريات التي جاءت عن علماء الغرب المعاصرين.
عملت السنة على تكوين روح الاعتزاز بالدين
عملت على تحصين شخصية المسلم وحمتها من الذوبان
عملت على تكوين روح الاعتداد بالنفس من غير كبرياء
عملت على تكوين روح الجماعية لدى المسلم، فجعلته ميالا إلى أمته الإسلامية متعاونا معها.
والله أسأل أن يوفق الجميع لما يحب ويرضى ، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(30/56)
الحصانة الفكرية في ضوء الحديث النبوي الشريف
الدكتور محمد عيسى الشريفين
جامعة آل البيت
كلية الدراسات الفقهية والقانونية
قسم أصول الدين
عنوان البحث: الحصانة الفكرية في ضوء الحديث النبوي الشريف
وصف عام للبحث:
قسمت بحثي إلى مقدمة، وتمهيد تحدثت فيه عن تعريف الحصانة الفكرية، وفصلين، تناولت في الفصل الأول: الهدي النبوي في تنظيم عملية التفكير، من خلال المطالب التالية:
المطلب الأول:
الهدي النبوي في إزالة عوائق التفكير السليم، وعوائق التفكير متعددة كالجهل، أو التخلف؛ لأن الجاهل قد تحضره المعلومة ولا يعمل بها، أما المتخلف فهو الذي تغيب عنه المعلومة، والتقليد الأعمى، والإمعية، والخرافة، والعصبية، والرق، والفرقة، والهوى، والابتداع.
أما المطلب الثاني: فكان الهدي النبوي في بناء المرجعية:
وحتى نصل إلى حصانة فكرية لا بد لنا من بناء المرجعية، وفي هذا المطلب تحدثت عن المحاور الآتية:
المحور الأول:
تحديد المرجعية(القرآن والسنة، وما يتفرغ عنهما كالكون، والتاريخ)
أما المحور الثاني:
فكان عصمة المرجعية. أما المحور الثالث: فهو فاعلية التوحيد الخالص في بناء المرجعية.(31/1)
المطلب الثالث: الهدي النبوي في إعادة ترتيب أولويات التفكير.
وحتى نستطيع إعادة ترتيب أولويات التفكير لا بد من أن نضمن غرس المفاهيم التالية في الفرد المسلم، وهذه المفاهيم هي:
أولا: التأسي والاقتداء. ثانيا: البصيرة. ثالثا: الصراحة والوضوح. رابعا: فهم طبيعة الآخر ونفسيته. خامسا: التخطيط الدقيق.
الفصل الثاني: الهدي النبوي في تنظيم تبادل المعلومات
وقد جعلت هذا الفصل في خمسة مطالب:
المطلب الأول: تبليغ المعلومات لغير المسلمين.
المطلب الثاني: أخذ المعلومات من غير المسلمين.
المطلب الثالث: أثر العلم في ترشيد الأخذ وزيادة العطاء.
المطلب الرابع: ضوابط تبادل المعلومات.
المطلب الخامس: قضايا يجب التنبه إليها في عملية تبادل المعلومات.
مشكلة البحث:(31/2)
لا شك أن العالم الإسلامي يعيش في هذه الأيام أزمة منقطعة النظير، أسها السيطرة على فكر أبناء هذه الأمة، وغزوها فكريا في عقر دارها، ومع التطورات التكنولوجية المتسارعة أصبح الغزو الفكري مهمة أسهل مما كان عليه من قبل، وتكمن أهمية هذه الدراسة في أنها محاولة لعلاج قضية ندر الحديث فيها، ألا وهي قضية الحصانة الفكرية، هذه المحاولة تتميز بأصالتها من حيث إنها تعتمد على نصوص نبوية مقبولة، وهذا ما تفتقر إليه كثير من الدراسات الإنسانية المعاصرة، وكذلك ففيها تلبية لحاجة ماسة إلا وهي حاجة المسلمين الملحة إلى الحصانة الفكرية المستمدة من شرعنا الحكيم، حيث حرص المصطفى على تحصين المجتمع المسلم تحصينا فكريا وبنى لذلك الأساس، وقد عملت بقدر استطاعتي على كشف اللثام عن أهم معالم هذا الحصن الذي بناه المصطفى صلى الله عليه وسلم من أجل الحفاظ على هوية هذه الأمة، هذا وكان منهجي، أن أجعل النصوص النبوية هي الأصل لا أن أضع القواعد ثم أبحث عن نصوص نبوية مناسبة لهذه القواعد والضوابط، وكان تركيزي على ذات النص حيث لم أستعن كثيرا بكتب الشروح لأنها لم تعن بهذا الموضوع لعدم الحاجة إلهي في تلك الأزمنة، أو لعدم التركيز على(31/3)
البعد الواقعي في تلك الشروح، والأحاديث النبوية تصلح كل زمان ومكان، وقضية الاستدلال بهذه النصوص ليست قضية توقيفة إنما قضية اجتهادية.
النتائج :
أولا: الحصانة الفكرية هي: (عبارة عن تنظيم عملية التفكير وتبادل المعلومات بين المسلم وغيره).
ثانيا: لقد أدرك المصطفى صلى الله عليه وسلم أهمية تنظيم عملية التفكير لدى أتباعه صلى الله عليه وسلم من الصحابة الكرام، وقد سلك في ذلك مسالك، كان من أهمها إزالة عوائق التفكير السليم، ومن ثم بناء المرجعية، المتمثلة بالقرآن والسنة النبوية، وركز على عصمة هذه المرجعية.
ثالثا: نجح النبي الكريم صلى الله عليه وسلم نجحا منقطع النظير في إعادة ترتيب أولويات التفكير لدى صحابته الكرام، وكان ذلك من خلال: التأسي والاقتداء، والبصيرة، والصراحة والوضوح، وفهم طبيعة الآخر ونفسيته، والتخطيط الدقيق.
رابعا: نظم النبي صلى الله عليه وسلم عملية تبادل المعلومات، سواء كان هذا التبادل بين المسلمين، أو بين المسلمين وغيرهم، وقد ركز المصطفى صلى الله عليه وسلم على العلم ، والتعلم.
خامسا: ضبط النبي صلى الله عليه وسلم عملية تبادل المعلومات بضوابط منها:(31/4)
مراعات المتلقي في عملية نقل المعلومات على المستوى الداخلي والخارجي.
عدم أخذ الأمور الدينية من الكفار؛ لأن القرآن والسنة قد كفتانا ذلك.
ضرورة تقديم المعلومات وبثها بشكل لائق,
مراعاة الأعراف الدولية.
سادسا: نبه النبي الكريم صلى الله عليه وسلم على قضايا مهمة يجب التنبه إليها في عملية تبادل المعلومات. وهذه القضايا هي:
اختيار الشخص المناسب لتلقي أو تبليغ المعلومات والأفكار.
أصحاب روح الاستقلالية خلال عملية تبادل المعلومات.
الربط بالآخرة.
التوصيات:
أولا: لا بد لنا كباحثين أن تلقت إلى كنوز السنة النبوية، وهنا أشير إلى أن الاشتغال بعلم أصول السنة النبوية وسيلة لا غاية، أما الهدف من دراستها فهو إصلاح المعاش.
ثانيا: تحصين الأفراد والجماعات والمجتمعات أمر متفق عليه، وكل يمارسه وفق ما تمليه عليه مبادئه أو عقيدته.
ثالثا: التفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى الجانب المعاشي فأصلحه، وقد كان للمصطفى صلى الله عليه وسلم لمسات رائعة في شتى ميادين الحياة.
رابعا: الحصانة الفكرية هي عبارة عن تنظيم عملية التفكير وتبادل المعلومات بني المسلم وغيره.(31/5)
خامسا: حتى نحافظ على بنياننا لا بد من الإلتفات إلى تحصين أفرادنا من الداخل من الأفكار الذي يهدف إلى التخريب، أما الداخل الذي يعني تلاقح الأفكار فالحكمة ما ينشده المؤمن في كل زمان ومكان.
سادسا: على طلبة الحديث النبوي الشريف الالتفات إلى الهدف والغاية السامية من هدي النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو إصلاح الدنيا والآخرة، والاشتغال بعلم أصول الحديث غايته تمييز الصحيح من الضعيف للوصول إلى هذه الغاية السامية، أما اتخاذ الأصول شغلا فهذا مما لا ينبغي.
والحمد لله بجميع محامده ما علمت منها وما لم أعلم وعلى جميع آلائه ما علمت منها وما لم أعلم، وصلى الله على الحبيب.(31/6)
الأحاديث النبوية و القواعد الفقهية
بقلم
د.عواد الخلف
رئيس قسم النشر العلمي
جامعة الشارقة
فاكس 0097165050555
بريد الكتروني alkhalaf@sharjah.ac.ae
بحث مقدم للمؤتمر العلمي الأول للسنة النبوية – جامعة اليرموك
8-9/11/2006م
الحمد لله حق حمده ، الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه و عظيم سلطانه ، الحمد لله رب العالمين الذي خلق الإنسان ، علمه البيان ، والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، معلم الناس الخير ، ومنقذ البشرية وهادي الإنسانية ، منّة رب البرية المبعوث رحمة للعالمين
اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً وعملاً صالحاً متقبلاً .
وبعد ؛
فإن علم قواعد الفقه من أجل ما كتب في الفقه ، ففي هذا الفن الفقهي نجد العبارات المصقولة الموجزة ، تحوي بين طياتها أحكاما فرعية عديدة ، و مسائل جزئية منثورة بألطف عبارة و أوجز إشارة .
و إن الحديث النبوي لب العلوم و عين معارفها ، و لا شك أن كلام خير البشر بدائع حكم ، و جوامع كلم ، يستضاء بنورها ، ويهتدى ببدورها.(32/1)
وهناك عدد من الأحاديث النبوية سرت مسرى القواعد و الضوابط الفقهية - ولعدم علمي بمن قام باستقصائها - كان هذا البحث لسبر تلك الأحاديث من كتب السنة وتخريجها و معرفة الصحيح و الضعيف منها.
وقد جعلت البحث في مقدمة و مبحثين و خاتمة.
المبحث الأول و فيه لمحة عن نشأة القواعد الفقهية.
المبحث الثاني و فيه الأحاديث الواردة كقواعد أو ضوابط فقهية مرتبة على حروف المعجم.ثم ختمت بخاتمة بينت فيها نتائج البحث ، و قد ذيلت البحث بفهرس المصادر والمراجع التي رجعت إليها في هذا البحث.
كتبه: د. عواد الخلف
رئيس قسم النشر العلمي
جامعة الشارقة
المبحث الأول:
لمحة عن نشأة القواعد الفقهية
أ – في عهد النبوة :
... كان عهد النبوة هو بداية نشأة القواعد ، ولا غرو فالنبي - صلى الله عليه وسلم - أفصح العرب وهو من أوتي جوامع الكلم ، ولذا جعل أهل العلم عدداً من الأحاديث النبوية قواعد ينطوي تحتها فروع كثيرة ومن تلك الأحاديث النبوية التي سرت مسرى القاعدة والضابط فيما بعد :(32/2)
1 – قوله - صلى الله عليه وسلم - : " الخراج بالضمان "(1)
2 – قوله - صلى الله عليه وسلم - : " لا ضرر ولا ضرار " (2)
وغير ذلك من الأحاديث التي جمع فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - بما أوتي من جوامع من جوامع الكلم فروعاً عدة في قاعدة واحدة .
ب - في عهد الصحابة :
... هناك عدد من الآثار المنقولة عن الصحابة ، جرت مجرى القاعدة و الضابط من ذلك:
__________
(1) حديث حسن، أخرجه أبو داود في سننه – حديث 3508 و الترمذي في جامعه – حديث 1285 و قال حديث حسن صحيح ، و أخرجه النسائي في سننه – حديث 4490 و ابن ماجه في سننه – حديث 2242 و ابن حبان في صحيحه – حديث 1125 ، و في إسناده مخلد بن خفاف لكن للحديث طرقا يتقوى بها كما في سنن أبي داود – حديث 3510 و سنن ابن ماجه – حديث 2243 ، و الحديث صححه ابن القطان كما في التلخيص (3/22).
(2) أخرجه ابن ماجه في سننه – حديث 2340 ، و أحمد في مسنده- حديث 22272 كلاهما من طريق موسى بن عقبة عن إسحاق بن يحيى عن عبادة به ، و في إسناده ضعف لجهالة إسحاق و للانقطاع بينه و بين عبادة.(32/3)
... 1 – قول عمر - رضي الله عنه - : " مقاطع الحقوق عن الشروط " (1) .
... 2 – قول علي - رضي الله عنه - : " من قاسم الربح فلا إثم عليه (2) ".
ج - في عصر التابعين :
... مازالت القواعد يتناقلها أهل العلم وإن كان بعضها نقل عن الصحابة أو التابعين بل إن بعضها كما مر حديث نبوي ، ومن النصوص التي عرف قائلها في عهد التابعين وعرف صاحبها وجرت مجرى القاعدة الفقهية :
1 – قول القاضي شريح : " من شرط على نفسه طائعاً غير مكره فهو عليه "(3).
2 – قول جبير بن نعيم : " من أقر عندنا بشيء ألزمناه إياه "(4) .
__________
(1) ذكره البخاري معلقاً في باب الشروط في النكاح بعد حديث 2720 لكن وصله سعيد بن منصور في سننه كما أفاد ذلك الحافظ ابن حجر في فتح الباري ( 5/380 ).
(2) أخرجه عبدالرزاق في مصنفه ( 8/253 ).
(3) علقه البخاري في صحيحه كما في ترجمة الباب التي قبل حديث 2585 ووصله الحافظ ابن حجر في تغليق التعليق (3/415).
(4) أخبار القضاة للقاضي وكيع ( 3/231 ) .(32/4)
... ثم تتابعت الحركة الفقهية بعد ذلك حتى ازدهر الفقه ونهض به علماؤه بم استنبطوه من دلالات النصوص وبما قدموه من قواعد ضمنوه كتبهم وفتاواهم ، إلى أن جاء القرن الرابع الذي أفردت فيه القواعد بالتصنيف على وجه مستقل :
... أ – كتب الأشباه والنظائر نحو :
... 1 – الأشباه والنظائر لابن الوكيل الشافعي ( ت716 ) .
... 2 – الأشباه والنظائر لتاج الدين السبكي الشافعي ( ت771 هـ ) .
... 3 – الأشباه والنظائر ، لابن نجيم الحنفي ( ت 970 هـ ) .
... ب – كتب القواعد التي سميت بذلك :
... 1 – القواعد الفقهية للزركشي .
... 2 – القواعد في الفقه الإسلامي لابن رجب .
... 3 – قواعد الأحكام في مصالح الأنام للعز بن عبدالسلام الشافعي .
ج – كتب جمعت بين القواعد الفقهية وأصول الفقه منها :
... 1 – تأسيس النظر لأبي زيد الدبوسي .
... 2 – القوانين الفقهية لابن جزي المالكي ( ت 741 هـ ) .
... 3 تخريج الفروع على الأصول للزنجاني ( ت 656هـ ) .
القاعدة الفقهية(32/5)
تعريف القاعدة لغة (1) : تفيد مادة قعد ( القاف والعين والدال ) الاستقرار و
الثبات ، ومن ذلك قوله عز وجل : { والقواعد من النساء } (2) .
... كما تفيد معنى الأساس ، فقواعد البيت أساسه ومن ذلك قوله تعالى { وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت } (3).
... تعريفها اصطلاحاً :عرفها عدد من العلماء بتعريفات عدة منها :
1 - ما عرَّفه الفيومي ( ت 770هـ ) في المصباح المنير حيث قال : ( والقاعدة في الاصطلاح بمعنى الضابط ، وهي الأمر الكلي المنطبق على جميع جزئياته ) (4).
2 – تعريف تاج الدين ابن السبكي ( ت 771هـ ) لها حيث قال :
( الأمر الذي ينطبق عليه جزئيات كثيرة تفهم أحكامها منها ، ومنها مالا يختص بباب ، كقولنا : اليقين لا يرفع بالشك ، ومنها ما يختص كقولنا : كل كفارة سبيلها معصية فهي على الفور ) (5) .
__________
(1) انظر معجم مقاييس اللغة ( 5/108 ) وانظر المجمل ( 2/760 ) ومفردات القرآن 424 وتاج العروس ( 2/474 ) المعجم الوسيط ( 2/755 )
(2) سورة النور : 60
(3) سورة البقرة : 127
(4) المصباح المنير – مادة قعد – ص 510
(5) الأشباه والنظائر له ( 10/11 ) – دار الكتب العلمية ببيروت(32/6)
3 – تعريف سعد الدين التفتزاني ( ت 792 هـ ) : " القاعدة حكم كلي ينطبق على جزئياته ليتعرف أحكامها منه "(1) .
4 – تعريف الجرجاني (ت 816هـ ) :
القاعدة : هي قضية كلية منطبقة على جميع جزئياتها (2) .
5 – تعريف ابن الهمام ( ت 861 هـ )
ومعناها كالضابط والقانون والأصل والحرف .
قضية كلية كبرى سهلة الحصول لانتظامها على أمر محسوس (3) .
6 – تعريف جلال الدين المحلي( ت 864 هـ ) : القاعدة قضية كلية يتعرف منها أحكام جزئياتها(4) .
7 – تعريف ابن النجار ( ت 972 هـ ) :
هي عبارة عن : صور كلية تنطبق كل واحدة منها على جزئياتها التي تحتها(5) .
8 – تعريف العلامة المقري المالكي في قواعده : ( ونعني بالقاعدة كل كلي هو أخص من الأصول وسائر معاني العلية العامة ، وأعم من العقود وجملة الضوابط الفقهية الخاصة(6) .
__________
(1) التلويح ( 1/20 )
(2) التعريفات ص 149
(3) التحرير بشرح التقرير ( 1/28 )
(4) شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع ( 1/21 )
(5) شرح الكوكب المنير ( 1/44 )
(6) القواعد له – اللوحة الأولى نقلاً عن الندوي في كتابه ن القواعد الفقهية ص 41(32/7)
... وغير ذلك من تعريفات العلماء إلا أني اكتفيت بما سبق لما فيه من الغنية .
ونلحظ من التعريفات السابقة أن عدد من العلماء جمع في تعريفه بين القاعدة والضابط وسوى بينهما ومنهم من فرق ، كما نلحظ الدقة في تعريف المتأخرين .
تعريف الضابط الفقهي :
1 – تعريف تاج الدين السبكي : ( فيما اختص بباب ، وقصد به نظم صورة متشابه أن يسمى ضابطاً ) (1) .
2 – تعريف ابن نجيم في الأشباه والنظائر (2) : ( الضابط يجمع الفروع من باب واحد ) .
3 – تعريف أبي البقاء في الكليات : ( والضابط يجمع فروعاً من باب واحد ) (3).
... وقد جمع ابن نجيم في كتباه ( الفوائد الزينية في فقه الحنفية ) الضوابط الفقهية في المذهب فجمع خمسمائة ضابط ، وضمنه ضمن كتابه الأشباه والنظائر – الفن الثاني ، وهو مطبوع .
الفرق بين القاعدة والضابط :
... ومن خلال سرد التعريفات للقاعدة والضابط يتضح أن العلماء في تفريقهم بين القاعدة والضابط على مذهبين :
الأول : طائفة لم تفرق بين القاعدة والضابط وعرفته بتعريف واحد ومن هذه الطائفة:
__________
(1) الأشباه والنظائر للسبكي – المقدمة
(2) الاشباه والنظائر له ص 192
(3) كليات أبي البقاء ص48(32/8)
... 1 – ابن الهمام ( ت 861هـ ) في التحرير
... 2 – الفيومي ( ت 770هـ ) في المصباح المنير
... 3 – عبدالغني النابلسي في كشف الخطاير (1) . ...
الثاني : طائفة فرقت بين القاعدة والضابط ومنهم :
... 1 – تاج الدين ابن السبكي ( ت771 هـ )
... 2 – الزركشي ( ت 794 ) كما نص على ذلك في ( تشنيف المسامع مع شرح جمع الجوامع ) .
... 3 – السيوطي ( ت 911 هـ ) كما نص على ذلك في الأشباه والنظائر(2).
... 4 – ابن نجيم في كتباه الأشباه والنظائر .
... وقد مضى كثير ممن جاء بعده على التفريق بين القاعدة والضابط كأبي البقاء في كلياته .
الفرق بين القاعدة والضابط لدى الفريق الثاني :
أن القاعدة عندهم تجمع فروعاً من أبواب عدة نحو قاعدة " الأمور بمقاصدها " فقد جمعت هذه القاعدة فروعاً من أبواب شتى كالعبادات والبيوع ... إلخ .
أما الضابط فيجمع فروعاً من باب واحد كقوله - صلى الله عليه وسلم - " أيما إهاب دبغ فقد طهر "(3) فإن هذا الضابط يختص بباب واحد وهو باب الأواني وطهارتها .
وكما مر فالأمر اصطلاحي ولا مشاحة في الاصطلاح .
__________
(1) انظر القواعد الفقهية للندوي ص47
(2) 1/7 )
(3) الحديث أخرجه الإمام مسلم في صحيحه – حديث 366(32/9)
وجه التفريق بينهما :
أن القاعدة كما مر في الشرح جمعت فروعاً من أبواب شتى بخلاف الضابط الذي جمع فروعاً من باب واحد فالأمور بمقاصدها تدخل في العبادات والمعاملات أما الضابط المذكور فهو في فروع باب واحد وهو باب الآنية وطهارتها .
الترجيح بين المذهبين :
... إن عدداً من العلماء لم يفرق بين اصطلاح القاعدة وعدد آخر فرق بينهم ولا مشاحة في الاصطلاح ولا شك أن التفريق فيه زيادة دقة ومزيد تفريق دقيق ، لا سيما عند المتأخرين وهذا يدل على نضوج هذا العلم ، وأما من قال بما قال به أصحاب المذهب الأول فإن له سلفاً من كبار العلماء ويسعه ما وسعهم ولا مشاحة كما قلنا في
الاصطلاح ، لذا رأيت في هذا البحث أن أجمع القواعد والضوابط من حديث النبي- صلى الله عليه وسلم - .
وهذا ليس طعناً في المتأخرين بل أردت أن أجمع ما سماه المتقدمون قاعدة وما سماه المتأخرون قاعدة و ضابطاً فأكون من بحثي هذا قد جمعت القواعد والضوابط .
أنواع القواعد الفقهية :
النوع الأول : القواعد الفقهية الكلية الكبرى
وهي القواعد التي يدور حولها معظم مسائل الفقه الإسلامي وهي خمسة قواعد :
1 – لا ثواب إلا بالنية (1)
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص29(32/10)
2 – الأمور بمقاصدها (1)
3 – اليقين لا يزال بالشك (2)
4 – المشقة تجلب التيسير (3)
5 – الضرر يزال(4)
6 – العادة محكمة (5)
النوع الثاني : قواعد كلية مسلم بها في المذاهب لكنها أقل شمولاً من النوع الأول ، مثال هذا النوع قاعدة " الخراج بالضمان " .
وهذا النوع ينقسم قسمين :
القسم الأول : قواعد كلية مذهبية مسلم بها في بعض المذاهب دون بعض ، نحو قاعدة " الرخص لا تناط بالمعاصي " فهي عند الشافعية ولا يقول بها الحنفية (6).
القسم الثاني : قواعد كلية مذهبية مختلف فيها في المذهب الواحد نحو قاعدة "هل العبرة بالحال أو المآل فهي قاعدة مختلف فيها في المذهب الشافعي (7).
أهمية القواعد الفقهية
1 – ضبط المسائل الفقهية وحفظها بعبارة سهلة وصياغتها بعبارة جامعة،يقول الزركشي(8) : " فإن ضبط الأمور المنتشرة المتعددة في القوانين المتحدة أوعى لحفظها وأدعى لضبطها " .
__________
(1) المصدر السابق ص 39
(2) المصدر السابق ص 75
(3) المصدر السابق ص 96
(4) المصدر السابق ص 105
(5) المصدر السابق ص 115
(6) المصدر السابق ص 147
(7) الفروق ( 1/3 )
(8) المنثور ( 1/65 ) .(32/11)
2 – المساهمة في تكوين الملكة الفقهية لدى الفقهية لأنها تجمع بين المتشابهات من المسائل وتفرق بين المختلفات منها يقول قطب الدين السنباطي (1) : " الفقه معرفة النظائر " .
3 – معرفة القواعد الفقهية تساهم في إدراك مقاصد الشريعة .
يقول القرافي (2) : وهذه القواعد مهمة في الفقه عظيمة النفع ، وبقدر الإحاطة بها يعظم قدر الفقيه ويظهر رونق الفقه ويعرف وتتضح مناهج الفتاوى وتكشف . "
4 – إدارك قدر العالم وفقهه وفضله على غيره من خلال ضبطه لهه القواعد ، كما قال الإمام في النقل السابق .
5 – الاستغناء عن حفظ الجزئيات بحفظ الكليات ، قال القرافي (3) : " ومن ضبط الفقه بقواعده استغنى عن حفظ أكثر الجزئيات " .
المبحث الثاني : الأحاديث الواردة كقواعد أو ضوابط فقهية – مرتبة على حروف المعجم- :
أفضل الصلاة طول القنوت(4)
دليل لضابط انظر المغني لابن قدامة (5)
__________
(1) المصدر السابق و انظر أهمية القواعد في الأشباه لابن السبكي ( 1/204 ) .
(2) الفروق .
(3) انظر المصدر السابق .
(4) أخرجه مسلم في صحيحه – حديث 756
(5) 1/442)(32/12)
أكثر عذاب القبر في البول(1)
إن الحلال بين و إن الحرام بين(2)
أصل لقاعدة كما في قواعد الأحكام 2/106
أنت و مالك لأبيك(3)
ضابط فقهي انظر مشكل الآثار (4)
إنما الأعمال بالنية(5)
أصل لقاعدة انظر الأشباه و النظائر للسيوطي ص 8
إنما النفقة و السكنى لمن كانت عليه الرجعة(6)
أصل قاعدة كما في القواعد لابن رجب (7)
__________
(1) أخرجه ابن ماجه في سننه – حديث 348 و أحمد في مسنده - حديث 8131 و في رفعه ضعف و الأصح وقفه.
(2) متفق عليه أخرجه البخاري في صحيحه - حديث 52 ومسلم في صحيحه - حديث 1599 من حديث النعمان بن بشير به.
(3) حديث حسن ، أخرجه ابن ماجه في سننه – حديث 2291 ، و الحديث صححه ابن القطان و قال ابن حجر في فتح الباري (5/211) :"فمجموع طرقه لا تحطه عن القوة".
(4) 2/279
(5) متفق عليه أخرجه البخاري في صححيحه - حديث 6689 ومسلم في صحيحه - حديث 1907
(6) في رفعه ضعف، و قد أخرجه النسائي في سننه – حديث 3403 و الدارقطني في سننه – حديث 3957 و بين الخطيب في المدرج أن مجالد بن سعيد تفرد برفعه و هو ضعيف و الصواب وقفه على فاطمة ، لذا الحديث في صحيح مسلم – حديث 1480 دون هذه الزيادة
(7) ص 319(32/13)
أيما إهاب دبغ فقد طهر(1)
ضابط فقهي انظر المجموع شرح المهذب(2)
البيعان بالخيار(3)
أصل قاعدة كما في أنوار البروق (4)
البينة على المدعي و اليمين على المدعى عليه(5)
أصل لقاعدة انظر أنوار البروق (6)
التراب طهور المسلم ما لم يجد الماء(7)
ضابط فقهي انظر العناية شرح الهداية (8)
التسبيح للرجال و التصفيق للنساء (9)
ضابط فقهي انظر غمز عيون البصائر (10)
__________
(1) في صحيح مسلم – حديث 366 بلفظ " إذا دبغ الإهاب فقد طهر" .
(2) 1/267)
(3) متفق عليه أخرجه البخاري في صححيحه - حديث 2079ومسلم في صحيحه - حديث 1532
(4) 3/ 270
(5) أخرجه الدارقطني في سننه – حديث 3191 بإسناد فيه لين ، إلا أن الحديث في الصحيحين بلفظ "لكن اليمين على المدعي"
(6) 4/413
(7) أخرجه ابن حبان في صحيحه – حديث 1313 و الدارقطني في سننه (1/186)
(8) 1/123
(9) متفق عليه أخرجه البخاري في صحيحه - حديث 1203 ومسلم في صحيحه - حديث 422 .
(10) 3/383(32/14)
الحدود تدرأ بالشبهات(1)
ضابط فقهي كما في المنثور في القواعد (2)
الحرام لا يحرم الحلال(3)
انظر الأشباه و النظائر للسيوطي (4)
الخال وارث من لا وارث له(5)
ضابط فقهي انظر كشاف القناع (6)
__________
(1) أخرجه ابن ماجه في سننه - حديث 2545 بلفظ "ادفعوا الحدود ما وجدتم لها مدفعا"و في إسناده إبراهيم بن الفضل المخزومي ضعفه أحمد و ابن معين و البخاري و النسائي و الأزدي والدارقطني و له شاهد من حديث عائشة عند الترمذي – حديث 1424بلفظ " ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم " و أشار الترمذي إلى أن كونه موقوفا أصح.
(2) 1/400
(3) تقدم في 16
(4) ص 115
(5) أخرجه الترمذي في جامعه- حديث 2104 و قال حديث حسن غريب و أخرجه الدارقطني في سننه – حديث 4116
(6) 4/456(32/15)
الخراج بالضمان(1)
قاعدة فقهية كما في الأشباه و النظائر للسيوطي (2)
خير الأضحية الكبش(3)
ضابط فقهي انظر المجموع شرح المهذب (4)
دع ما يريبك إلى ما لا يريبك (5)
أصل قاعدة انظر قواعد الأحكام (6)
__________
(1) حديث حسن، أخرجه أبو داود في سننه – حديث 3508 و الترمذي في جامعه – حديث 1285 و قال حديث حسن صحيح ، و أخرجه النسائي في سننه – حديث 4490 و ابن ماجه في سننه – حديث 2242 و ابن حبان في صحيحه – حديث 1125 ، و في إسناده مخلد بن خفاف لكن للحديث طرقا يتقوى بها كما في سنن أبي داود – حديث 3510 و سنن ابن ماجه – حديث 2243 ، و الحديث صححه ابن القطان كما في التلخيص (3/22).
(2) ص 136
(3) أخرجه الترمذي في جامعه 1517 ، و ابن ماجه في سننه - حديث 3130 ،وقال الترمذي : حديث غريب و عفير يضعف في الحديث.
(4) 8/368
(5) أخرجه الترمذي في جامعه – حديث 2518 و قال حديث حسن صحيح و أخرجه النسائي في سننه 5711و ابن حبان في صحيحه (2/498)- حديث 722 ، و الحاكم في مستدركه (2/13) و صححه ووافقه الذهبي.
(6) 2/60(32/16)
ذكاة الجنين ذكاة أمه(1)
ضابط فقهي كما في المنثور (2)
الرهن بما فيه(3)
ضابط فقهي كما في المغني لابن قدامة (4)
الزعيم غارم(5)
ضابط فقهي كما في المغني لابن قدامة (6)
الشفعة كنشطة عقال(7)
ضابط فقهي كما في المغني لابن قدامة (8)
__________
(1) حديث حسن،أخرجه أبو داود في سننه – حديث2827 و الترمذي في جامعه - حديث1476 و قال :"حديث حسن صحيح" و ابن ماجه في سننه – حديث 3199 من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - .
(2) 1/239
(3) أخرجه الدارقطني في سننه – حديث 2916 وضعفه الدارقطني بقوله :"لايثبت هذا عن حميد وكل من بينه و بين شيخنا ضعفاء".
(4) 4/257
(5) حديث حسن، أخرجه أبوداود في سننه - حديث 3565 والترمذي في جامعه- حديث 1265 و قال: "حديث حسن غريب" ،و حسنه الحافظ في التلخيص (3/92).
(6) 4/345
(7) المحلى(9/91) وفي إسناده ابن البيلماني ضعيف، و انظر تلخيص الحبير(3/56)
(8) 5/187(32/17)
العارية مضمونة(1)
انظر الأشباه و النظائر للسيوطي (2)
الفضل ربا(3)
ضابط فقهي كما في الفروق (4)
فيما سقت السماء العشر(5)
ضابط فقهي كما في الأم (6)
كل ذي ناب من السباع فأكله حرام(7)
ضابط فقهي كما في غمز عيون البصائر (8)
كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل(9)
ضابط فقهي كما في الأم (10)
__________
(1) حديث حسن ، أخرجه أبو داود في سننه – حديث 3565 ، الترمذي في جامعه- حديث1265 و قال حسن غريب ، وابن ماجه في سننه - حديث 2398 بلفظ " العارية مؤداة" من حديث صدي بن عجلان- رضي الله عنه - ، وفي سنن البيهقي الكبرى(6/89)- حديث 11257 بلفظ " عارية مضمونة " من حديث جابر- رضي الله عنه -.
(2) ص 467
(3) الآثار ليعقوب الأنصاري ،ص183 – حديث 832 من قول عمر - رضي الله عنه - .
(4) 2/107
(5) أخرجه البخاري في صحيحه - حديث 1483
(6) 7/205
(7) متفق عليه أخرجه البخاري في صححيحه - حديث 5530ومسلم في صحيحه - حديث 1932 بلفظ " نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع"
(8) 3/232
(9) متفق عليه أخرجه البخاري في صححيحه - حديث 456ومسلم في صحيحه - حديث 1504
(10) 5/79(32/18)
كل قرض جر منفعة فهو حرام(1)
انظر غمز عيون البصائر (2)
كل مسكر حرام(3)
ضابط فقهي كما في الأم (4)
كل معروف صدقة(5)
دليل قاعدة كما في قواعد الأحكام (6)
لا صلاة إلا بقراءة (7)
ضابط فقهي كما في المجموع (8)
لا ضرر و لا ضرار (9)
أصل قاعدة الضرر يزال انظر الأشباه و النظائر للسيوطي (10)
__________
(1) أخرجه الهيثمي في مسند الحارث – حديث 437 و في إسناده سوار بن مصعب ، و لا يصح مرفوعا ، و الصواب وقفه كما في مصنف ابن أبي شيبة – حديث 20691 و مصنف عبد الرزاق – حديث14657 ، و انظر التلخيص الحبير (3/34).
(2) 3/98)
(3) متفق عليه أخرجه البخاري في صححيحه - حديث 4343ومسلم في صحيحه - حديث 1733
(4) 6/194
(5) أخرجه البخاري في صححيحه - حديث 6021
(6) 1/82
(7) أخرجه مسلم في صحيحه -حديث 396
(8) 3/301
(9) أخرجه ابن ماجه في سننه – حديث 2340 ، و أحمد في مسنده- حديث 22272 كلاهما من طريق موسى بن عقبة عن إسحاق بن يحيى عن عبادة به ، و في إسناده ضعف لجهالة إسحاق و للانقطاع بينه و بين عبادة.
(10) ص 83(32/19)
لا طلاق في إغلاق(1)
ضابط فقهي كما في أنوار البروق في أنواع الفروق (2)
لا طلاق قبل نكاح ، و لا عتق قبل ملك(3)
أصل قاعدة كما في غمز عيون البصائر (4)
لا وصية لوارث(5)
انظر المنثور في القواعد للزركشي (6)
لا يحرم الحرام الحلال(7)
انظر الأم للشافعي (8)
__________
(1) حديث ضعيف أخرجه أبو داود في سننه-حديث2193 و ابن ماجه في سننه- حديث 2046 من حديث عائشة رضي الله عنها ، و في إسناده محمد بن عبيد ضعيف ورواه الحاكم في المستدرك (2/216)- حديث 2802من طريق محمد بن عبيد به و قال صحيح على شرط مسلم.
(2) 3/84
(3) أخرجه ابن ماجه في سننه 2048 و و قال أبو حاتم " حديث منكر" كما في العلل لابن أبي حاتم، و ذكره ابن الجوزي في علله628 .
(4) 4/234
(5) حديث حسن ، أخرجه أبو داود في سننه – حديث 2870،و الترمذي في جامعه – حديث 2121 و النسائي في سننه – حديث 3641و ابن ماجه في سننه 2714، وقال الترمذي "حديث حسن صحيح".
(6) 3/382
(7) حديث صحيح ، أخرجه ابن ماجه في سننه – حديث 2015 و عبدالرزاق في المصنف – حديث 12766 والدارقطني في سننه - حديث 3679.
(8) 8/270(32/20)
لا يحل دم امرئ(1)
أصل لقاعدة كما في قواعد الأحكام (2)
لا يقتل والد بولده أو لا يقاد الأب بابنه (3)
الأشباه و النظائر (4)
ليس لعرق ظالم حق(5)
انظر المنثور في القواعد (6)
المؤمن لاينجس(7)
ضابط فقهي انظر المجموع شرح المهذب (8)
ما أبين من حي فهو ميت(9)
__________
(1) متفق عليه أخرجه البخاري في صححيحه - حديث 6878 ومسلم في صحيحه - حديث 1676
(2) 2/155
(3) حديث حسن ، أخرجه الترمذي في جامعه- حديث 1400- وابن ماجه في سننه - حديث 2662و الدارقطني في سننه – حديث 3273.
(4) ص 102
(5) أخرجه أبو داود في سننه- حديث 3073 والترمذي في جامعه- حديث 1378 و أعله الترمذي بالإرسال و رجح الدارقطني إرساله أيضا .
(6) 2/185
(7) متفق عليه أخرجه البخاري في صححيحه - حديث 285 ومسلم في صحيحه - حديث 371
(8) 2/579
(9) أخرجه ابن ماجه في سننه - حديث3217 و فيه "قطع" بدل " أبين"،من حديث تميم الداري - رضي الله عنه - ، و في إسناده أبو بكر الهذلي متروك الحديث ، و أخرجه الحاكم في مستدركه (4/267) – حديث 7598 و قال "صحيح على شرط الشيخين و لم يخرجاه" و الحديث اختلف في وصله و إرساله ، و قال الدارقطني "و المرسل أصح".(32/21)
ضابط فقهي انظر المغني (1)
المسلمون عند شروطهم(2)
ضابط فقهي انظر المغني لابن قدامة (3)
من عتق شركا له في عبد(4)
ضابط فقهي كما في أنوار البروق في أنواع الفروق (5)
من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد(6)
ضابط كما في المجموع شرح المهذب(7)
من كسر أوعرج فقد حلّ ، و عليه الحج من قابل(8)
ضابط انظر شرح منتهى الإرادات (9)
من وجدتموه على بهيمة(10)
ضابط فقهي انظر المغني لابن قدامة (11)
__________
(1) 1/60
(2) أخرجه الترمذي في جامعه – حديث 1352 و قال :" حديث حسن صحيح" و أخرجه الدارقطني في سننه- حديث 2892
(3) 9/236
(4) متفق عليه ، فقد أخرجه البخاري في صحيحه – حديث 2491 ، و مسلم في صحيحه – حديث 1501 عن ابن عمر مرفوعا.
(5) 3/263)
(6) متفق عليه أخرجه البخاري في صححيحه - حديث خ2697 ومسلم في صحيحه - حديث 1718
(7) 1/487
(8) ت 940 س 2860 د 1862 جه3077
(9) 1/600)
(10) شرح مشكل الآثار (9/437) و في إسناده عمرو بن أبي عمرو ضعيف.
(11) 9/60(32/22)
الولاء لحمة كلحمة النسب (1)
أصل قاعدة كما في المنثور في القواعد الفقهية (2)
الولاء لمن أعتق(3)
ضابط فقهي كما في الأم (4)
الولد للفراش و للعاهر الحجر (5)
ضابط فقهي انظر الفروق (6)
يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب(7)
انظر القواعد لابن رجب (8)
اليقين لا يزول بالشك
انظر غمز عيون البصائر (9)
__________
(1) أخرجه ابن حبان في صحيحه - حديث 4950و الشافعي في مسنده (2/72) و البيهقي في سننه – حديث (10/292) من حديث ابن عمر مرفوعا ، و أخرجه عبدالرزاق في مصنفه – حديث 16149عن سعيد بن المسيب موقوفا ، و قال الحافظ ابن حجر و المحفوظ ما أخرجه عبد الرزاق .
(2) 1/291
(3) متفق عليه أخرجه البخاري في صححيحه - حديث 456ومسلم في صحيحه - حديث 1504.
(4) 4/74
(5) متفق عليه أخرجه البخاري في صححيحه - حديث 2053ومسلم في صحيحه - حديث 1457
(6) 1/291
(7) متفق عليه أخرجه البخاري في صححيحه - حديث 2645 ومسلم في صحيحه - حديث 1447 و هذا لفظ البخاري ،و عند مسلم "الرحم" بدل " النسب".
(8) ص 324
(9) 1/193(32/23)
يُودَى المكاتب بقدر ما أدّى(1)
ضابط فقهي كما في المغني (2)
الخاتمة
لقد تناولت في هذا البحث نشأة القواعد الفقهية و تطورها،و أنواعها ، و أهميتها، كما تناولت الأحاديث التي سرت مسرى القاعدة الفقهية ، و من نتائج هذا البحث:
الأحاديث النبوية هي أحد مصادر القواعد الفقهية.
أكثر المتقدمين لم يفرقوا بين القاعدة و الضابط بخلاف المتأخرين، و قد بينت الرأيين مع الترجيح.
هذا البحث محاولة لاستقصاء و سبر الأحاديث التي سرت مسرى القاعدة الفقهية .
عدد أحاديث هذا البحث خمسون حديثا سرت مسرى القاعدة و الضابط الفقهي و بعضها أصل لقاعدة .
جلّ هذه الأحاديث صحيحة عشرة منها فقط في صحتها أو في رفعها ضعف.
للأحاديث النبوية أثر واضح في القواعد الفقهية ، فمن الأحاديث ما هو قاعدة بنفسة أو أصل لقاعدة أو ضابط فقهي .
و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
فهرس المصادر و المراجع
__________
(1) حديث حسن، أخرجه أبو داود في سننه – حديث 4581و الترمذي في جامعه – حديث 1259 و قال:"حديث ابن عباس حديث حسن"، و النسائي في سننه – حديث 4808
(2) 6/230(32/24)
الآثار، تأليف: يعقوب بن إبراهيم الأنصاري أبو يوسف، دار النشر: دار الكتب العلمية - بيروت - 1355، تحقيق: أبو الوفا
أخبار القضاة ، للقاضي وكيع، عالم الكتب، مصورة.
الأشباه و النظائر ، تاج الدين السبكي،دار الكتب العلمية بيروت.
الأشباه و النظائر، لابن نجيم المصري،دار الكتب العصرية ،بيروت.
الأشباه والنظائر، تأليف: عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، دار النشر: دار الكتب العلمية - بيروت - 1403، الطبعة: الأولى
الأم ، لمحمد بن إدريس الشافعي،دار المعرفة ، بيروت.
أنوار البروق في أنواع الفروق، لأحمد بن إدريس القرافي ، عالم الكتب ، بيروت.
بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث، تأليف: الحارث بن أبي أسامة / الحافظ نور الدين الهيثمي، دار النشر: مركز خدمة السنة والسيرة النبوية - المدينة المنورة - 1413 – 1992، الطبعة: الأولى، تحقيق: د. حسين أحمد صالح الباكري
تاج العروس من جواهر القاموس، تأليف: محمد مرتضى الحسيني الزبيدي، دار النشر: دار الهداية، تحقيق: مجموعة من المحققين
التعريفات، تأليف: علي بن محمد بن علي الجرجاني، دار النشر: دار الكتاب العربي - بيروت - 1405، الطبعة: الأولى، تحقيق: إبراهيم الأبياري(32/25)
التقرير والتحرير في علم الأصول، تأليف: ابن أمير الحاج. ، دار النشر: دار الفكر - بيروت - 1417هـ - 1996م.
تلخيص الحبير في أحاديث الرافعي الكبير، تأليف: أحمد بن علي بن حجر أبو الفضل العسقلاني - المدينة المنورة - 1384 - 1964، تحقيق: السيد عبدالله هاشم اليماني المدني
جامع الترمذي، تأليف: محمد بن عيسى أبو عيسى الترمذي السلمي، دار النشر: دار إحياء التراث العربي - بيروت - -، تحقيق: أحمد محمد شاكر وآخرون
الجامع الصحيح المختصر، تأليف: محمد بن إسماعيل أبو عبدالله البخاري الجعفي، دار النشر: دار ابن كثير , اليمامة - بيروت - 1407 - 1987، الطبعة: الثالثة، تحقيق: د. مصطفى ديب البغا.
سنن ابن ماجه، تأليف: محمد بن يزيد أبو عبدالله القزويني، دار النشر: دار الفكر - بيروت - -، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي
سنن أبي داود، تأليف: سليمان بن الأشعث أبو داود السجستاني الأزدي، دار النشر: دار الفكر - -، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد
سنن البيهقي الكبرى، تأليف: أحمد بن الحسين بن علي بن موسى أبو بكر البيهقي، دار النشر: مكتبة دار الباز - مكة المكرمة - 1414 - 1994، تحقيق: محمد عبد القادر عطا(32/26)
سنن الدارقطني، تأليف: علي بن عمر أبو الحسن الدارقطني البغدادي، دار النشر: دار المعرفة - بيروت - 1386 - 1966، تحقيق: السيد عبد الله هاشم يماني المدني
السنن الصغرى، تأليف: أحمد بن الحسين بن علي البيهقي أبو بكر، دار النشر: مكتبة الدار - المدينة المنورة - 1410 - 1989، الطبعة: الأولى، تحقيق: د. محمد ضياء الرحمن الأعظمي
سنن النسائي (المجتبى)، تأليف: أحمد بن شعيب أبو عبد الرحمن النسائي، دار النشر: مكتب المطبوعات الإسلامية - حلب - 1406 - 1986، الطبعة: الثانية، تحقيق: عبدالفتاح أبو غدة
شرح التلويح على التوضيح لمتن التنقيح في أصول الفقه.، تأليف: سعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني الشفعي، دار النشر: دار الكتب العلمية - بيروت - 1416هـ - 1996م. ، تحقيق: زكريا عميرات
شرح الكوكب المنير،تأليف: تقي الدين أبو البقاء الفتوحي، دار النشر:مطبعة السنة المحمدية.
شرح المحلي على جمع الجوامع،جلال الدين محمد بن أحمد المحلي،مطبعة مصطفى البابي الحلبي
شرح منتهى الإرادات، لمنصور بن يونس البهوتي ، عالم الكتب ، بيروت.(32/27)
صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان، تأليف: محمد بن حبان بن أحمد أبو حاتم التميمي البستي، دار النشر: مؤسسة الرسالة - بيروت - 1414 - 1993، الطبعة: الثانية، تحقيق: شعيب الأرنؤوط
صحيح مسلم، تأليف: مسلم بن الحجاج أبو الحسين القشيري النيسابوري، دار النشر: دار إحياء التراث العربي - بيروت، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي
غمز عيون البصائر،لأحمد بن محمد الحموي، دار الكتب العلمية ، بيروت.
الفروق ، للقرافي
الفروق، تأليف: أسعد بن محمد بن الحسين النيسابوري الكرابيسي، دار النشر: وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - الكويت - 1402، الطبعة: الأولى، تحقيق: د. محمد طموم
قواعد الأحكام في مصالح الأنام ، لعز الدين عبد العزيز بن عبد السلام، دار الكتب العلمية ، بيروت.
القواعد الفقهية ، مفهومها نشأتها ، تطورها، لعلي أحمد الندوي ، تقديم مصطفى الزرقا،دار القلم، دمشق.
القواعد الفقهية، لابن رجب الحنبلي،دار الكتب العلمية ، بيروت.
الكتاب المصنف في الأحاديث والآثار، تأليف: أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي شيبة الكوفي، دار النشر: مكتبة الرشد - الرياض - 1409، الطبعة: الأولى، تحقيق: كمال يوسف الحوت(32/28)
كشاف القناع عن متن الإقناع ، لمنصور بن يونس البهوتي ،دار الكتب العلمية ، بيروت.
كليات معجم في المصطلحات والفروق اللغوية ، تأليف: أبو البقاء أيوب بن موسى الحسيني الكفومي، دار النشر: مؤسسة الرسالة - بيروت - 1419هـ - 1998م. ، تحقيق: عدنان درويش - محمد المصري
المجمل في اللغة ، لابن فارس، دار إحياء التراث العربي.
المجموع شرح المهذب ، للنووي يحيى بن شرف ، المطبعة المنيرية .
مسند الإمام أحمد بن حنبل، تأليف: أحمد بن حنبل أبو عبدالله الشيباني، دار النشر: مؤسسة قرطبة – مصر
المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي ، تأليف: أحمد بن محمد بن علي المقري الفيومي، دار النشر: المكتبة العلمية – بيروت
المصنف، تأليف: أبو بكر عبد الرزاق بن همام الصنعاني، دار النشر: المكتب الإسلامي - بيروت - 1403، الطبعة: الثانية، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي
المعجم الوسيط (1+2)، تأليف: إبراهيم مصطفى / أحمد الزيات / حامد عبد القادر / محمد النجار، دار النشر: دار الدعوة، تحقيق: مجمع اللغة العربية
معجم مقاييس اللغة،لأبي الحسين أحمد بن فارس، تحقيق عبد السلام هارون ،دار الفكر للطباعة و النشر.(32/29)
المغني لابن قدامة ،دار إحياء التراث العربي، بيروت.
المفردات في غريب القرآن،الراغب الأصفهاني ،تحقيق محمد سيد كيلاني.
المنثور في القواعد، لبدر الدين الزركشي،تحقيق الدكتور تيسير فائق،وزارة الأوقاف و الشؤون الإسلامية ، الكويت.(32/30)
إشارات طبية في السنة النبوية
دراسة حديثية علمية
إعداد:
الدكتور قاسم محمد غنام
كلية الشريعة/ جامعة جرش
مقدمة:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا ينطق بشيء عن هوى أو غرض دنيوي أو مصلحة شخصية بل هو مبلِّغ عن ربه - عز وجل - من غير زيادة أو نقصان، والله جلّ شأنه يقول: { ولو تقوَّل علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين، فما منكم من أحد عنه حاجزين } [الحاقة:44]؛من أجل ذلك يجب على المسلم طاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كل ما يأمر به، إذ لا فرق بين طاعة الله - عز وجل - وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، كما ويجب عليه أيضاً تصديق النبي - صلى الله عليه وسلم - في كل ما يخبر من أمور غيبية لا يمكن للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعرفها من غير وحي من الله - عز وجل -.(33/1)
ومن ذلك ما جاء في أحاديث كثيرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من معلومات تتعلق بالناحية الطبية للإنسان، وإننا نجد في هذه الأحاديث الكثير من الإرشادات والنصائح التي لو أخذ بها الإنسان لتجنب الإصابة بالعديد من الأمراض ولشفي من أمراض أخرى، ولقد جرَّب هذه النصائح والإرشادات الكثير الكثير من الناس وانتفعوا بها، وكيف لا ينتفعون بها وهي أخبار من الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام الذي يقول الله - عز وجل - فيه: { وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى } [النجم:3].
اهمية البحث وسبب اختياره :
يذهب البعض عن الإشارات العلمية والطبية او ما يعرف بـ ( الإعجاز العلمي والطبي ) محصور في القرآن الكريم ، وأنه لا وجود له في السنة النبوية .
ويذهب البعض الآخر الى ان ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأمور العلمية والطبية إنما هو بإجتهاد منه صلى الله عليه وسلم وهو قابل للخطئ والصواب .(33/2)
والباحث يعرض في هذا البحث أمثله لأنواع من العلاج وردت في السنة النبوية ولم يتوصل إليها العلم إلا بعد زمن طويل من بعثته صلى الله عليه وسلم. وبعضها لا يمكن أن يعرفه النبي صلى الله عليه وسلم عن طريق الملاحظة والتجربة أو من واقع البيئة التي كان يعيش فيها كحديث الذباب مثلاً.
الكتابات السابقة:
كثيرون هم الذين كتبوا في (الطب في السنه النبوية) قديماً وحديثاً. ولكني أردت في هذا البحث أن أجمع عدداً مما صح من الأحاديث وأدرسها دراسة حديثيه علمية. ليجمع فيها الصحة من الناحية النقلية والقوة من الناحية العلمية.
منهج البحث:
مهدت للدراسة ببحث مستقل بعنوان (منزلة أحاديث الطب في السنة النبوية) وبينت أن هذه الأحاديث وحي من الله عزوجل. ثم ذكرت الأحاديث المتعلقة بالناحية الطبية وقد جمعتها من كتب السنة المختلفة من صحاح وسنن ومسانيد وغيرها، فجمعت ثلاثين حديثاً مما صحّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقمت بتخريجها ودراسة أسانيدها والتعليق عليها.(33/3)
ثم نقلت شرح العلماء لها من الكتب التي اهتمت بالطب في السنة مما كتبه المتقدمون أمثال ابن القيم والذهبي ، وما كتبه المحدثون أمثال الدكتور محمد ناظم النسيمي في كتابه: "الطب النبوي والعلم الحديث"، والدكتور عبدالرزاق الكيلاني في كتابه: "الحقائق الطبية في الإسلام" وغيرهما من المهتمين والباحثين في هذا المجال.
والأحاديث الصحيحة التي تناولت قضايا طبية اكتشفها في العصور المتأخرة أكثر من ذلك بكثير ولكنني اكتفيت بهذا القدر تماشياً مع ما هو مسموح به في المؤتمر.
هذا وقد اقتصرت في بحثي على ما صحّ من أحاديث دون الضعيف إذ إن العمدة في هذه المسائل على ما صح من الأحاديث، وقسمت هذه الأحاديث اثني عشر قسماً، وجعلت لكل قسم منها عنواناً يناسبه، وذيلت البحث بخاتمة ذكرت فيها أهم النتائج والتوصيات التي توصلت إليها، وختمت هذا كله بقائمة بأهم المصادر والمراجع التي رجعت لها.
... تمهيد: منزلة أحاديث الطب في السنة النبوية(33/4)
إن الأحاديث التي تتناول الناحية الطبية للإنسان ، لا تختلف عن سائر الأحاديث التي تتناول الناحية التشريعية فهي وحي من الله عزوجل ، وقد ذهب البعض إلى أن أحاديث الطب هي من أمور الدنيا ، وقد يصيب فيها النبي صلى الله عليه وسلم وقد يخطئ احتجاجاً بحديث طلحة قال: مررت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم على رؤوس النخل فقال: ما يصنع هؤلاء؟ فقالوا : يلقحونه يجعلون الذكر في الأنثى فيتلقح ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (وما أظن يغني ذلك شيئا) قال فأخبروا بذلك فتركوه فاخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال (إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه. فإني إنما ظننت ظناً. فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئا ، فخذوا به ، فإني لن أكذب على الله عزوجل)(1) وفي رواية عن أنس قال: فخرج شيصاً(2) ، قال (أنتم أعلم بأمور دنياكم)(3).
لكن لا يصلح هذا الحديث كي نعتبر ما يتعلق بالطب من أمور الدنيا ، والتي قد يخطئ فيه النبي صلى الله عليه وسلم وقد يصيب لأسباب منها :
__________
(1) - صحيح مسلم (2361).
(2) - الشيصى هو البسر الرديء الذي يبس صار حشفاً.
(3) - صحيح مسلم (2363).(33/5)
أن من أحاديث الطب ما لا علاقة له بالخبرة أو الدراية ، ولا يمكن أن يكون إلا بوحي من الله عزوجل كما هو الحال في حديث الذباب مثلاً أو الحبة السوداء ، في أنها : شفاء من كل داء ، أو الطواعين والأوبئة .
أن العلم لم يتوصل إلى ما أخبرت عنه هذه الأحاديث إلا في العصور المتأخرة فمثل هذا لا يمكن أن يكون إلا بوحي ، ويتضح هذا لكل من يقرأ شرح هذه الأحاديث في ضوء ما توصل إليه العلم الحديث ، وهذا ما حرصت على التنبيه إليه في هذه الدراسة.
أن العلماء الذي صنفوا في احاديث الطب كانوا يشيرون عند الكثير من هذه الأحاديث إلى أنها وحي من الله عزوجل ، ولا يمكن أن يكون مما عرفه النبي صلى الله عليه وسلم بالتجربة والخبرة وبخاصة أنه لم يكن معروفاً بممارسة الطب فهذه الحادثة واقعة عين ، ولا يمكن أن نرد بسببها الأحاديث المتعلقة بالطب لا سيما وانه عليه الصلاة والسلام عبر بالظن في هذا الحديث بقوله ( لا أظن يغني ذلك شيئاً). وهذا نصوص عن بعض من كتبوا في أحاديث الطب تؤيد ما ذكرته من أن هذه الأحاديث وحي من الله عزوجل.(33/6)
فهذا الإمام شمس الدين ابو عبد الله محمد البعلي الحنبلي الدمشقي يقول عند شرحه حديث الاكتحال بالإثمد بعد أن ذكر بعض فوائده : ولم يذكر الأطباء في مصنفاتهم شيئاً من ذلك ، لكن أخباره صلى الله عليه وسلم أبلغ من غيره لأنه مخبر عن الله عزوجل(1).
وهذا الشيخ الإمام الفاضل الطبيب : ابو الحسن علي بن عبد الكريم بن طرخان بن تقي الحموي علاء الدين الكحال في شرحه لحديث من اشتكي بطنه فقال النبي صلى الله عليه وسلم المسائل (اسقه عسلا) وفي آخره قال (صدق الله ، وكذب بطن أخيك) يقول : إشارة إلى تحقيق نفع العسل من ذلك المرض ، لأنه صلى الله عليه وسلم إنما يأمر بالوحي (وما ينطق عن الهوى)(2) . وليس طبه صلى الله عليه وسلم كطب الأطباء ، فإن طب النبي متيقن قطعي النفع به ، وطب الأطباء مظنون ، فافترقا(3).
__________
(1) - صحيح الطب النبوي للبعلي الحنبلي ، ص93 ، خرج أحاديثه وضبطها وعلق عليها : عزه محمد فوده ، دار ابن حزم.
(2) - الأحكام النبوية في الصناعة الطبية لابن طرخان الكحال ، ص77 ، تحقيق د. أحمد الجمل ، دار ابن حزم.
(3) - الآية 3 من سورة النجم .(33/7)
وهذا الإمام ابن القيم يقول في كتابه (الطب النبوي) : وليس طبه صلى الله عليه وسلم كطب الأطباء ، فإن طب النبي صلى الله عليه وسلم متيقن قطعي إلهي ، صادر عن الوحي ومشكاة النبوة وكمال العقل ، وطب غيره اكثره حدس وظنون وتجارب ، ولا ينكر عدم انتفاع كثير من المرضى بطب النبوة ، فإنه إنما ينتفع به من تلقاه بالقبول ، واعتقاد الشفاء له ، وكمال التلقي له بالإيمان والإذعان (1).
أولاً: الاحتماء من التخم والزيادة في الأكل
1-عن المقدام بن معد يكرب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما ملأ آدمي وعاء شراً من بطن، بحسْبِ ابن آدم أُكُلات يقمن صُلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه"(2)
__________
(1) - الطب النبوي لابن القيم ، ص33-34 ، مكتبة النهضة الحديثة.
(2) -رواه الترمذي (2380) وقال: حسن صحيح، وابن ماجه (3349) وأحمد 4/132 والنسائي في السنن الكبرى (6769) (6770)، وابن حبان (674،5213)، والحاكم 4/121 و331 وسكت عليه في الموطن الأول وصححه الذهبي، وصححه في الموطن الثاني ووافقه الذهبي. وحسنه الحافظ في الفتح 9/528.
واعلم أنه قد اختلف في سماع يحيى بن جابر الراوي عن المقدام من المقدام فنفاه أبو حاتم والبخاري وأثبته غيرهما ،وقد وقع تصريحه بالسماع منه في بعض طرق الحديث عند أحمد وغيره.(33/8)
.
2-وعن ابن عمر: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "المؤمن يأكل في معي واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء" متفق عليه(1).
هذان الحديثان وأحاديث أخرى كثيرة يحث فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - على الاقتصاد في الطعام وعدم الإسراف فيه. وقديماً قال العرب: "المعدة بيت الداء، والحمية رأس الدواء"(2). ويجمع الأطباء قديماً وحديثاً على أن الإفراط في تناول الطعام والشراب سبب مباشر للكثير من الأمراض. نذكر من هذه الأمراض: التخمة وعسر الهضم واحتقان الكبد وتوسع المعدة، وارتفاع الضغط، وخاصة عند المستعدين له، كما ويزيد الإسراف المستمر في تناول الطعام من إمكانية الإصابة بالنقرس، والسكري والذبحات الصدرية والجلطات وقصور الكلى. ناهيك عن أن كثرة الأكل والشرب يعقبه كسل في النفس وبلادة في الفكر وميل إلى
__________
(1) -رواه البخاري (5394)، ومسلم (2060)، وأحمد 2/21، والترمذي (1818)، والنسائي في الكبرى (6771)، وابن ماجه (3257).
(2) -يظن الكثير من الناس أن هذا حديث نبوي ولكن بيّن العلماء أنه من كلام الحارث بن كلدة طبيب العرب أو غيره. كما في المقاصد الحسنة للسخاوي حديث رقم 1035، وفي: كشف الخفاء للعجلوني حديث رقم 1169.(33/9)
النوم. وفي ذلك خسارة ومضيعة للأوقات. وهذا بخلاف ما للإسراف من أضرار اقتصادية على الفرد والمجتمع(1).
لقد بيّن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الأول طريق الاعتدال في الطعام والشراب وأن على الإنسان أن يراعي التوفيق بين حاجته للطعام وحاجته للماء وحاجته للنفس.
وأما الحديث الثاني فللعلماء مذاهب شتى في شرحه: فمنهم من ذهب إلى أنه خاص بكافر معين وليس على إطلاقه. ومنهم من قال: إنما هو مثل ضرب للمؤمن وزهده في الدنيا والكافر وحرصه عليها، فكأن المؤمن لتقلله من الدنيا يأكل في معي واحد والكافر لشدة رغبته فيها يأكل في سبعة أمعاء. ومنهم من قال: إن المؤمن حينما يسمي الله فإن الشيطان لا يشركه فيكفيه القليل، والكافر لا يسمي فيشركه شيطانه. وهناك آراء أخرى ذكرها شراح الحديث في كتبهم(2).
ثانياً: وجع البطن واستطلاقه
__________
(1) -انظر: الطب النبوي والعلم الحديث للدكتور النسيمي 3/248-252، والحقائق الطبية في الإسلام للدكتور عبدالرزاق الكيلاني 231-233.
(2) -انظر: فتح الباري 538-540، وصحيح مسلم بشرح النووي 14/24.(33/10)
1-عن أبي سعيد الخدري قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن أخي استَطْلَق بطنه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "اسقه عسلاً" فسقاه، ثم جاءه فقال: إني سقيته عسلاً فلم يزده إلا استطلاقاً، فقال له ثلاث مرات، ثم جاء الرابعة فقال: "اسقه عسلاً" فقال: لقد سقيته فلم يزده إلا استطلاقاً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "صدق الله، وكذب بطن أخيك" فسقاه فبَرأ(1).
2-وعن ابن عباس يرفعه: "الشفاء في ثلاث: شربة عسل، وشَرطة محجم، وكيّة نار، وأنهى أمتي عن الكي"(2).
__________
(1) -أخرجه البخاري(5684)، ومسلم(2217) واللفظ له.
(2) -رواه البخاري (5680).(33/11)
أرشد النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الأول السائل إلى شرب العسل للعلاج من استطلاق البطن وهو ما يعرف بالإسهال وتم الشفاء بإذن الله. فالعسل فيه شفاء من الإسهال إذ إنه يجلو الأوساخ التي في العروق والأمعاء ويدفع الفضلات ويغسل خمل المعدة، ويسخنها تسخيناً معتدلاً ويفتح أفواه العروق، ويشد المعدة والكلى والكبد والمثانة، وفيه تنقية الكبد والصدر، وإدرار البول والطمث، ونفع للسعال الكائن من البلغم، وهو شراب من الأشربة، وحلوى من الحلاوات، وطلاء من الأطلية، ومفرح من المفرحات، وإن اكتحل به جلا ظلمة البصر، وإن استن به صقل الأسنان وحفظ صحتها، ومع ذلك فهو مأمون الغائلة قليل المضرة. إلى غير ذلك من الفوائد التي من الصعب أن يجمعها شخص في مصنف واحد(1).
__________
(1) -انظر: الأحكام الطبية للكحال ص75-76، والطب النبوي لابن القيم ص13-23، والطب النبوي للذهبي ص98، والقانون في الطب لابن سينا 1/619-620، والطب النبوي والعلم الحديث 3/69-90.(33/12)
وقد كرر النبي - صلى الله عليه وسلم - الأمر للسائل بأن يسقي المريض عسلاً لأن الدواء يجب أن يكون له مقدار وكمية بحسب الداء إن قصر عنه لم يدفعه بالكلية، فلما تكررت الشربات بحسب مادة الدواء برئ بإذن الله. ومعنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وكذب بطن أخيك" إشارة إلى أن هذا الدواء نافع، وأن بقاء الداء ليس لقصور الدواء في نفسه ولكن لكثرة المادة الفاسدة(1).
وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الثاني أن الشفاء في ثلاثة أشياء وهي: شربة عسل، وشرطة محجم، وكية نار، وسيأتي الحديث عن الحجامة والكي. وليس معنى الحديث حصر العلاج في هذه الثلاثة فإن الشفاء قد يكون في غيرها، وإنما نبه بها على أصول العلاج(2).
ثالثاً: العجوة
1-عن سعد بن أبي وقاص عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أكل سبع تمرات عجوة مما بين لابتي المدينة على الريق لم يضره يومه ذلك سُم حتى يُمسي"، وفي رواية: "ولا سحر"(3).
__________
(1) -انظر: فتح الباري 10/209-210.
(2) -انظر: فتح الباري 10/171.
(3) -رواه البخاري(5445،5768، 5779)، ومسلم(2047)، وأحمد1/168 واللفظ لهما.(33/13)
وزاد فليح –أحد رواة الحديث عند أحمد-: "وأظنه قال: "وإن أكلها حين يمسي لم يضره شيء حتى يصبح".
2-وعن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن في عجوة العالية شفاء، أو إنها ترياق، أول البُكرة"(1).
3-وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "العجوة من الجنة وفيها شفاء من السُّمّ"(2).
__________
(1) -رواه مسلم(2048)، وأحمد6/77.
(2) -رواه أحمد2/301 وابن ماجه(3455) والنسائي في الكبرى(6672،6673)و(6398) وأبو يعلى(6398) و(6407) من طرق عن شهر بن حوشب عن أبي هريرة . وشهر لخص حاله الحافظ في التقريب 1/355 بقوله: صدوق كثير الإرسال والأوهام، ثم رواه شهر من وجه آخر وأدخل بينه وبين أبي هريرة عبدالرحمن بن غنم، أخرجه من هذا الوجه أحمد2/325 والنسائي في الكبرى(6670) و(6721). وأخرجه الترمذي من طريق آخر(2066) عن سعيد بن عامر عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة وقال: "هذا حديث حسن غريب وهو من حديث محمد بن عمرو، ولا نعرفه إلا من حديث سعيد بن عامر عن محمد بن عمرو".
أقول: وسعيد ثقة صالح فتفرده مقبول، والله أعلم.(33/14)
دلت هذه الأحاديث على أن في العجوة شفاء من السم والسحر. والعجوة كما في النهاية هي نوع من تمر المدينة أكبر من الصيحاني يضرب إلى السواد من غرس النبي - صلى الله عليه وسلم -.(1)
وفي بعض روايات الحديث تخصيص التمر بتمر العالية. والعالية هي القرى التي في جهة العالية من المدينة وهي جهة نجد(2).
وفي بيان فضل تمر العالية والتمر عموماً يقول ابن القيم: تمر العالية من أجود أصناف تمر المدينة، فإنه متين الجسم لذيذ الطعم، صادق الحلاوة، والتمر يدخل في الأغذية والأدوية والفاكهة، وهو يوافق أكثر الأبدان مقوٍّ للحار الغريزي، ولا يتولد عنه من الفضلات الرديئة ما يتولد عن غيره من الأغذية والفاكهة، بل يمنع لمن اعتاده من تعفن الأخلاط وفسادها(3).
__________
(1) -النهاية لابن الأثير 3/188.
(2) -انظر: فتح الباري 10/239.
(3) -الطب النبوي ص91.(33/15)
وحديثاً توصل العلماء إلى أن التمر غذاء متكامل، لاسيما إن أضيف إليه شيء من اللبن (الحليب) فالتمر فيه 2.8% من وزنه ماء و65.7% سكريات و4.4% بروتين و5.5% سليلوز هذا بالإضافة إلى فيتامينات "أ" و"ب" و"د"، وفسفور وكالسيوم وحديد ومغنيسيوم(1).
أما عن شفائه من السموم فتفسير ذلك في الطب الحديث أن الكبد في الإنسان يحتاج كل يوم إلى كميات كبيرة من سكر العنب لكي يستطيع القيام بعمله كأكبر مصفاة للسموم في البدن والتمر غني جداً بهذا السكر(2).
وأما فيما يتعلق بنفعه في السحر فيقول البعلي الحنبلي: وأما كونها نافعة من السحر فلبركتها–أي عجوة العالية- بنسبتها إليه - صلى الله عليه وسلم - بكونه الغارس لها، وقد أخبر أن المعذبَيْن في قبورهما لعله يخفف عنهما بوضع الجريدتين على قبريهما ما لم ييبسا، وما ذاك إلا ببركته - صلى الله عليه وسلم - (3).
رابعاً: الكمأة
__________
(1) -انظر: الحقائق الطبية في الإسلام ص303-304، والطب النبوي والعلم الحديث 3/294-295.
(3) -انظر: صحيح الطب النبوي لشمس الدين البعلي الحنبلي ص86. وحديث الجريدتين رواه البخاري 6052 ، والنسائي 401، وأحمد 1/255.(33/16)
1-عن سعيد بن زيد قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "الكمأة من المنّ، وماؤها شفاء للعين"(1).
-وفي رواية لمسلم من حديث سعيد بن زيد يرفعه: "الكمأة من المَنّ، الذي أنزله الله - عز وجل - على بني إسرائيل، وماؤها شفاء للعين".
الكَمْأَة جمع، واحده: كَمْء، على غير قياس وهي من النوادر فإن القياس العكس(2).
وهي نوع من الفطر ينمو تحت سطح الأرض على عمق حوالي ثلاثين (30) سنتمتراً أو أقل، ويكون في جماعات من عشرة إلى عشرين، وجسمها كروي لحمي، رخو سطحه أملس أو درني، وشكلها مستدير، وهي كثيرة بأرض الجزيرة العربية، وتوجد بالشام ومصر، وتوجد أيضاً في أوربا خصوصاً في فرنسا وإيطاليا، وأجود أنواعها ما كان صغيراً، والكائن في الرمال والقفار.
__________
(1) -رواه البخاري (5708)، ومسلم(2049).
(2) -انظر: النهاية لابن الأثير 4/199.(33/17)
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : "إنها من المنّ" أي أن الله سبحانه امتن على عباده بها، فهي ليست بنبات، ولا هي أيضاً حيوان، وليس لها خصائص النبات، فليس لها أوراق ولا جذور ولا ساق ولا أزهار، كما أنها تنبت بلا تكلفة بذر، ولا فلاحة، ولا زرع، ولا سقاية، فهي ممنون بها علينا من الله، وهي فوق ذلك لا تزرع ولا تستزرع، وقد أثبتت كل الدوائر العلمية أن كل محاولات استزراعها باءت بالفشل، لكي تبقى منة منَّ الله علينا بها(1).
__________
(1) -من كتاب: الكمأة ص23-24، للدكتور عبدالله السعيد، وشرح صحيح مسلم 14/232-234 للنووي.(33/18)
وقال ابن القيم في "الطب النبوي"(1): "ومادتها من جوهر أرضي بخاري محتقن في الأرض نحو سطحها، يحتقن ببرد الشتاء، وتنمّيه أمطار الربيع، فيتولد ويندفع نحو سطح الأرض متجسداً، ولذلك يقال لها: جُدري الأرض(2) تشبيهاً بالجدري في صورته ومادته… وهي مما يوجد في الربيع، ويؤكل نيئاً ومطبوخاً وتسميها العرب: نبات الرعد لأنها تكثر بكثرته وتنفطر عنها الأرض.. وهي أصناف منها صنف قتال يضرب لونه إلى الحمرة يحدث لأجله الاختناق… والاكتحال بها نافع من ظلمة البصر والرمد الحار، وقد اعترف فضلاء الأطباء بأن ماءها يجلو العين، وممن ذكره المسيحي(3)، وصاحب القانون وغيرهما".
__________
(1) -الطب النبوي ص322-323.
(2) -ورد ذلك في حديث عن أبي هريرة، أخرجه أحمد 2/325،357، والترمذي (2068)، وابن ماجه(3455)، والنسائي في السنن الكبرى(6670) ورجاله ثقات إلا شهر بن حوشب ففيه مقال، وله شاهد من حديث جابر ذكره الحافظ في "الفتح" 10/163-164. وعزاه للطبري، وسكت عليه.
(3) -هو يوحنا بن ماسويه، وسيأتي خبره مع الخليفة المتوكل، وانظر "القانون في الطب"1/527 لابن سينا.(33/19)
وقال الدكتور محمود ناظم النسيمي في "الطب النبوي والعلم الحديث" (1)بعد أن عدد الفوائد الغذائية التي تحتويها الكمأة: "إن الأمطار المبكرة في شهري تشرين الأول والثاني والمصحوبة مع الرعد، وأمطار الربيع (آذار) المترافقة مع الرعد ضروريان لتأمين موسم جيد للكمأة، على أن يرافق هذه الأمطار الرعدية ارتفاع ملموس في درجات الحرارة فيتحول آزوت الهواء الحر (النتروجين) إلى حمض الآزوت الذي تمتصه التربة مع مياه الأمطار فيتحول إلى نترات ذلك السماد الذي تستفيد منه الكمأة لأنها تحتاج إلى أسمدة آزوتية".
واختلف الأطباء في طريقة استخراج مائها واستعماله:
فقال عبدالملك بن حبيب الأندلسي في" الطب النبوي"(2): "تعصر وهي رطبة ثم يرفع عصيرها ويكتحل به من اشتكى عينه من الرمد وغيره".
وذكر ابن سينا: أن ماءها كان يغلى ثم يبرد ثم يكتحل به.
ويبدو أن ابن سينا استفاد ذلك من عمل يوحنا بن ماسويه مع الخليفة المتوكل(3).
__________
(1) -"الطب النبوي والعلم الحديث " ص281.
(2) - الطب النبوي ص69.
(3) -انظر "الكمأة" لعبدالله السعيد ص23، وكتاب محمود النسيمي 3/284.(33/20)
ذكر المستغفري(1)عن علي بن الجهم قال: دعاني المتوكل أمير المؤمنين فقال لي: قد أكثرتُ من الأدوية لعيني، وليس يزداد إلا رمداً، فسل أهل العلم هل يعرفون في ذلك أثراً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟قال: فمضيت إلى أحمد بن حنبل فسألته عن ذلك، فقال: روى شهر بن حوشب عن عبدالرحمن بن غنم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين" قال ابن الجهم: فرجعت إلى المتوكل فأخبرته، فقال: ادع لنا يوحنا بن ماسويه(2)، فدعوته، فقال له المتوكل: كيف تستخرج ماء الكمأة؟ قال: أنا أستخرج ذلك، فأخذ الكمأة فقشرها ثم سلقها بعدما نضجت أدنى النضج ثم شقها واستخرج ماءها بالميل فكحل به عين المتوكل، فبرأت في الدفعة
__________
(1) -أبو العباس جعفر بن محمد بن المعتز بن محمد بن المستغفر المستغفري توفي سنة 432هـ له كتاب "الطب النبوي" نقل منه السيوطي في مواضع، طبع في النجف عن المطبعة الحيدرية، سنة 1965م.
(2) -يوحنا بن ماسويه، أبو زكريا البغدادي النسطوري، طبيب ماهر له مصنفات في الطب، اتصل بالخلفاء العباسيين وخدمهم. انظر ترجمته في "عيون الأنباء في طبقات الأطباء" 1/175 لابن أبي أصيبعة.(33/21)
الثانية، فعجب من ذلك يوحنا، وقال: أشهد أن صاحبكم كان حكيماً –يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - -(1).
وفي العصر الحديث تم استعمال ماء الكمأة في تجارب لعلاج أمراض العين، حيث جمع منه كمية ثم جفف وحول إلى مسحوق للاحتفاظ به مدة طويلة، ويتم استعماله بعد ذلك بإضافته إلى ماء مقطر حتى يصل إلى نفس نسبة تركيز ماء الكمأة الطبيعي، وماء الكمأة بني اللون وله رائحة نفاذة. ثم قام الأطباء بمعالجة الرمد الجيبي (التراكوما) في أطوار مختلفة مع إضافة أدوية أخرى لأمراض العين ثم ملاحظة النتائج الأخيرة والتي كانت إيجابية إلى حد كبير(2).
خامساً: الحبة السوداء
1-عن عائشة وأبي هريرة أنهما سمعا النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول:"في الحبة السوداء شفاء من كل داء إلا الموت"(3).
__________
(1) -ذكر الخبر السيوطي في الطب النبوي" ص336.
(2) -انظر تفصيل ذلك في كتاب الدكتور عبدالله السعيد "الكمأة" ص27-35، نقلاً عن المؤتمر الأول للطب الإسلامي المنعقد في الكويت /يناير 1981م.
(3) -رواه البخاري (5687-5688) عنهما ومسلم (2215) عن أبي هريرة فقط.(33/22)
2-وعن أبي بكر بن أبي عتيق قال: عليكم بهذه الحُبيبة السوداء، فخذوا منها خمساً أو سبعاً فاسحقوها، ثم اقطروها في أنفه –يعني المريض- بقطرات زيت في هذا الجانب وفي هذا الجانب، فإن عائشة حدثتني أنها سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ……ثم ذكر حديثها السابق(1).
الحبة السوداء عرّفها الأطباء المسلمون واستخدموها في العلاج لما لها من فوائد كثيرة ولما صح من أحاديث في فائدتها وهي الشونيز في لغة الفرس. ونقل الذهبي عن عبداللطيف البغدادي قوله: الشونيز هو الكمون الأسود ويسمى الكمون الهندي، ومنافعها جمة، ولذلك شاع إطلاق أنها شفاء من كل داء فيكون إطلاقاً كلياًّ ويراد به الأكثر مبالغة، وقال الله تعالى: { وأوتيت من كل شيء } ، ثم ذكر الذهبي فوائد عديدة لها(2).
__________
(1) -رواه البخاري (5687).
(2) -الطب النبوي للذهبي ص64.(33/23)
وحديثاً اكتشف العلماء فوائد جديدة وكثيرة للحبة السوداء فمن فوائدها أنها تستعمل لعلاج الجرب والقمل وعلاج الصداع، والحصى البولية، وضغط الدم، والجلطة الدماغية في الكبار، والسعال الحاد والمزمن، والزكام، وعلاج السكري، وأمراض أخرى كثيرة يطول ذكرها. بل وأثبتت الأبحاث الحديثة قدرة حبة البركة في الوقاية من السرطان، وتثبيط نمو أنواع من الخلايا السرطانية. ولعل أهم جانب فيما يتعلق من مكتشفات حول الحبة السوداء تقويتها للجهاز المناعي الذي هو خط الدفاع الأول في الجسم، من هنا نعلم السر الذي من أجله وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - الحبة السوداء بأنها شفاء من كل داء(1).
والحديث الثاني وهو حديث ابن أبي عتيق، فإن طريقة العلاج التي أشار إليها هي ما ذكره الأطباء في علاج الزكام العارض الذي يكون معه عطاس كثير، وظاهر سياقه أنها موقوفة عليه ويحتمل أن تكون مرفوعة للنبي - صلى الله عليه وسلم - كما أشار لذلك الحافظ في الفتح(2).
سادساً:السنا والسنوت
__________
(1) -انظر: الحقائق الطبية في الإسلام 342-354.
(2) -انظر: فتح الباري 10/144.(33/24)
1-عن أُبي بن أم حرام قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "عليكم بالسنا والسَّنُّوت، فإن فيهما شفاء من كل داء، إلا الموت"(1).
__________
(1) -رواه ابن ماجه (3457) والحاكم4/224، من طريق عمرو بن بكر السكسكي ثنا إبراهيم بن أبي عبلة عنه قال الحاكم: صحيح الإسناد، فرده الذهبي بقوله: "قلت: عمرو اتهمه ابن حبان وقال ابن عدي: له مناكير". وعبارة ابن حبان في عمرو هذا شديدة فقال: روى عن إبراهيم بن أبي عبلة الأوابد والطامات الذي لا يشك من هذا الشأن صناعته أنها معمولة أو مقلوبة لا يحل الاحتجاج به. وله شاهد من حديث أسماء بنت عميس رواه الترمذي (2086) وقال: حديث حسن غريب. لكن قال الشيخ الألباني في الصحيحة (1798): وفي إسناده جهالة وانقطاع، وهو معنى ما قاله الحافظ في التهذيب في ترجمة عتبة بن عبدالله أحد رواة الحديث. وشاهد آخر عن أم سلمة، قال الهيثمي 5/90: "رواه الطبراني من طريق وكيع بن أبي عبيدة عن أبيه عن أمه، ولم أعرفهم".وله شاهد مثله من حديث أنس، أخرجه النسائي في السنن الكبرى(7577)، وإسناده حسن، وفيه زيادة: قالوا: يا رسول الله، هذا السنا قد عرفناه فما السنوت؟ قال: "لو شاء الله لعرفكموه".(33/25)
السنا: عشب يستعمل لتسهيل إمساك البطن، وهو معروف في أرض الحجاز ويسمى بالسنامكي.
قال الكحال: وهو دواء شريف مأمون الغائلة، قريب من الاعتدال… يقوي جِرم القلب، وهذه فضيلة شريفة فيه، ثم عدد الكحال منافعه(1)، ويستعمل بمفرده أو مع إضافة أعشاب أخرى(2).
وأما السنوت، فاختلفوا في تعيينه على ثمانية أقوال ذكرها الكحال وابن القيم، ومال الكحال إلى أن السنوت هو العسل الذي يكون في زقاق السمن قال: وهو أجدر بالمعنى وأقرب إلى الصواب، أي يخلط السنا مدقوقاً بالعسل المخالط للسمن ويلعق فيكون أصلح من استعماله مفرداً، لما فيهما من إصلاحه وإعانته على الإسهال، وهذا قول عبداللطيف البغدادي الطبيب(3).
وقد استعمل السنا في الطب الحديث في هيئة أقراص ملينة أو مسهلة (4).
__________
(1) -الأحكام النبوية في الصناعة الطبية 139-140.
(2) -انظر في طرق استعمال السنا، "الطب النبوي والعلم الحديث" 3/233-234، وهامش مختصر الطب النبوي لابن حبيب ص213.
(3) -انظر الطب النبوي: ابن القيم71-72، والأحكام النبوية في الصناعة للكحال ص140-141، والطب النبوي للسيوطي 297-298.
(4) -راجع لذلك هامش الطب النبوي لابن حبيب 226-227 والطب النبوي والعلم الحديث 3/232.(33/26)
سابعاً: الحجامة
1-عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن أمثل ما تداويتم به الحجامة والقسط البحري"..الحديث(1).
2-وعن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ما مررت ليلة أسري بي بملأ من الملائكة إلا قالوا: يا محمد مُر أمتك بالحجامة"(2)
__________
(1) -رواه البخاري(5696) ومسلم(1577).
(2) -رواه أحمد 1/354 والترمذي (2053) وابن ماجه(3477) والعقيلي3/136، والحاكم 4/209 من طريق عباد بن منصور عن عكرمة عن ابن عباس به قال الترمذي: حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث عباد بن منصور. أقول: نقل العقيلي عن ابن المديني عن يحيى القطان عن عباد بن منصور أنه سمع هذا الحديث من ابن أبي يحيى عن داود بن حُصين عن عكرمة، وابن أبي يحيى هذا هو إبراهيم بن محمد متروك وداود بن حصين ضعيف في عكرمة خاصة.
وله شاهد من حديث أنس عند ابن ماجه(3479) وابن عدي في الكامل6/2084 من طريق جُبارة بن المغلِّس عن كثير بن سُليم عنه. قال البوصيري2/213: هذا إسناد ضعيف لضعف كثير وجبارة.
وشاهد آخر من حديث ابن مسعود، رواه الترمذي(2052) من طريق عبدالرحمن بن إسحاق عن القاسم بن عبدالرحمن عن أبيه عنه وقال: حديث حسن غريب. أقول: عبدالرحمن بن إسحاق أبو شيبة الواسطي، ضعيف. وشاهد من حديث ابن عمر رواه البزار(3020) وفي إسناده عبدالله بن صالح كاتب الليث سيئ الحفظ .
وشاهد عن مالك بن صعصعة، رواه الطبراني في الكبير19/600 قال الهيثمي في المجمع 5/91: رجاله رجال الصحيح.(33/27)
.
3-وعن ابن عباس قال: احتجم النبي - صلى الله عليه وسلم - في رأسه وهو محرم من وجع كان به. وفي لفظ: من شقيقة كانت به(1).
4-وعن عبدالله بن بُحينة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - احتجم وهو محرم في وسط رأسه"(2).
5-وعن أنس قال: احتجم النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو محرم على ظهر القدم من وجع كان به(3).
6-وعن أنس قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحتجم في الأخدعين والكاهل، وكان يحتجم لسبع عشرة، وتسع عشرة، وإحدى وعشرين(4).
__________
(1) -رواه البخاري (5700و5701)، ورواه مسلم مختصراً(1202).
(2) -رواه البخاري(5698) ومسلم(1203).
(3) -رواه أبوداود(1837)، والترمذي في "الشمائل"(258)، والنسائي5/194 وصححه ابن خزيمة(2659) وأبو يعلى(3041) وابن حبان(3952)، وقال الحافظ: رجاله رجال الصحيح انظر فتح الباري 10/154.
(4) -رواه الترمذي(2051) وأبو داود(3860) وابن ماجه(3483)، وأحمد3/119،192 مختصراً مقتصراً على الجملة الأولى، وقال الترمذي: حديث حسن غريب، وصححه الحاكم4/210 على شرط الشيخين، وأقره الألباني في" الأحاديث الصحيحة"(908)، وفي لفظ لأحمد: كان يحتجم ثلاثاً واحدة على كاهله واثنتين على الأخدعين.(33/28)
7-وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من احتجم لسبع عشرة وتسع عشرة وإحدى وعشرين كان شفاء من كل داء"(1).
تحدثت هذه الأحاديث عن فائدة الحجامة، وعن مواضعها في الجسم، والأوقات التي تستحب فيها.
__________
(1) -رواه أبو داود(3861) والحاكم4/210 من طريق أبي توبة: الربيع بن نافع عن سعيد بن عبدالرحمن الجمحي عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عنه، قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. أقول: لكن سعيد بن عبدالرحمن في حفظه شيء ولذلك تكلم فيه أبو حاتم فقال: لا يحتج به ، وقال الساجي: له أحاديث لا يُتابع عليها وقال ابن عدي: له أحاديث غرائب حسان وأرجو أنها مستقيمة، وشنع عليه ابن حبان فقال: روى عن الثقات أشياء موضوعة، انظر الميزان 2/148. وقد تحرف الإسناد على ابن القطان صاحب بيان الوهم والإيهام فوقع عنده سهل عن أمه عن أبي هريرة فقال سهل وأمه مجهولان 4/620، وله شاهد من فعله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أنس الذي قبل هذا. وآخر من حديث ابن عباس، وهو جزء من حديث ما مررت ليلة أسري بي في نفر من الملائكة إلا قالوا: مر أمتك بالحجامة الذي خرجته قبل قليل.(33/29)
الحجامة: امتصاص الدم بآلة الحجم(1). وفي الأحكام النبوية للكحال: الحجامة تفرق اتصال إرادي، يتبعه استفراغ الدم من نواحي الجلد غالباً(2).
والحجامة نوعان: جافة، ومدماة. والجافة تكون باستعمال ما تسميه العامة: (كاسات هوا) ولا يكون معها تبزيغ للجلد بآلة حادة بخلاف المدماة. ولكل منهما فواد كثيرة، فتفيد الجافة في الصداع والآلام الوربية والقطنية والآلام المفصلية، وألم ذات الجنب، وتفيد في التهاب القصبات، وذات الرئة وغيرها من الأمراض. أما الحجامة المدماة فإنها تفيد إضافة لفوائد الحجامة الجافة في ارتفاع الضغط الشرياني، وقصور القلب الشديد وقصور الكلى الحاد والتسممات(3).
__________
(1) -المعجم الوسيط 1/165.
(2) -الأحكام النبوية في الصناعة الطبية 164.
(3) -انظر: الحقائق الطبية في الإسلام 284-285.(33/30)
والحجامة على الكاهل(1) تنفع من وجع المنكب والحلق، وعلى الأخدعين(2) تنفع من أمراض الرأس، ومن أمراض أجزائه، كالوجه، والأسنان والأذنين والعينين، والأنف والحلق إذا كان حدوث ذلك عن حدوث كثرة الدم أو فساده أو منهما جميعاً والحجامة على البطن والساقين نافعة من دماميل الفخذ وجربه وبثوره ومن النقرس والبواسير.
وأما عن أوقاتها المستحبه لها فالحديث يعين أيام الربع الثالث من الشهر القمري، وبالتحديد السابع عشر والتاسع، والواحد والعشرون.
قال ابن القيم: وهذه الأحاديث موافقة لما أجمع عليه الأطباء: أن الحجامة في النصف الثاني وما يليه من الربع الثالث من أرباعه أنفع من أوله وآخره(3).
وقال ابن سينا: يؤمر باستعمال الحجامة لا في أول الشهر لأن الأخلاط لا تكون قد تحركت أو هاجت ولا في آخره لأنها تكون قد نقصت بل في وسط الشهر حين تكون الأخلاط هائجة تابعة في تزيدها لتزيد النور في جرم القمر(4).
ثامناً: التداوي بالكي عند الحاجة إليه
__________
(1) -الكاهل: مقدم أعلى الظهر. النهاية لابن الأثير 4/214.
(2) -الأخدعان: عرقان جانبي العنق ، النهاية لابن الأثير 2/14.
(3) -الطب النبوي 55.
(4) -القانون في الطب 1/299-300.(33/31)
1-عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن كان في شيء من أدويتكم شفاء ففي شرطة محجم أو لذعة بنار، وما أحب أن أكتوي"(1).
2-وعن جابر قال: رمي سعد بن معاذ في أكحله. قال: فحسمه النبي - صلى الله عليه وسلم - بيده بمشقص. ثم ورمت فحسمه الثانية(2).
3-وعن المغيرة بن شعبة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من اكتوى أو استرقى فقد برئ من التوكل"(3).
الكي معروف لدى العرب قبل الإسلام وكانوا يفرطون في استعماله، ولكن بسبب ما يحدثه من ألم، وما يحدثه من أثر، كانوا لا يلجؤون إليه إلا عند استنفاد الوسائل الأخرى، ولذلك قالوا في المثل: "آخر الدواء الكي".
__________
(1) -رواه البخاري(5704) ومسلم(2205).
(2) -رواه مسلم (2208)، وأحمد 3/312، 350، 386.
(3) -رواه الترمذي(2055) وابن ماجه(3489)، وأحمد4/249 و252 و253، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، والحاكم4/415 وصححه، والحميدي(763) والطبراني في الكبير20/890و891و892، والنسائي في الكبرى(7605)، وابن حبان(6087) والبيهقي في السنن9/341.(33/32)
ومع مجيء الإسلام، فقد أجاز النبي - صلى الله عليه وسلم - الكي. ولكن هناك تفصيل في ذلك. فقد نقل الكحال عن ابن قتيبة قوله: الكي جنسان: كيّ الصحيح لئلا يعتل، فهذا الذي قيل فيه: لم يتوكل من اكتوى، لأنه يريد أن يدفع القدر عن نفسه. الثاني: كي الجرح إذا نفل، والعضو إذا قطع، ففي هذا الشفاء، وأما إذا كان الكي للتداوي الذي يجوز أن ينجع ويجوز أن لا ينجع، فإنه إلى الكراهة أقرب(1). وأما كويه - صلى الله عليه وسلم - سعداً فيقول الخطابي: "إنما كوي سعد ليرقأ الدم من جرحه، وخاف عليه أن ينزف فيهلك"(2). والأحاديث ظاهرها التعارض في هذا الباب. ولكن العلماء جمعوا بينها. ومنهم الإمام الذهبي حيث يقول:
والجمع بينها: –أن النهي إنما كان من أجل أنهم يعظمون أمر الكي ويرون أنه يحسم الداء، وأنه إن لم يكووا العضو بطل فنهاهم، إذا كان على هذا الوجه، وأباحه إذا كان سبباً للشفاء لا علة، فإن الله تعالى وهو الذي يشفي ويبرئ لا بالكي ولا بالدواء(3).
__________
(1) -الأحكام النبوية في الصناعة الطبية 105-106.
(2) -المصدر السابق 108.
(3) -الطب النبوي للذهبي ص161.(33/33)
وقد تطور الكي بالنار في الطب الحديث وأصبح ضرورياً في الجراحات وعمليات البتر، وآلته في ذلك حديثة وسائرة المفعول (1).
تاسعاً: علاج عرق النِّسا
1-عن أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "شفاء عرق النِّسا، ألية شاة أعرابية تذاب، ثم تجزّأ ثلاثة أجزاء، ثم يشرب على الريق، في كل يوم جزء"(2).
__________
(1) -راجع الطب النبوي والعلم الحديث للنسيمي3/106-107 وهامش الطب النبوي لابن حبيب ص147-148 بقلم محمد علي البار.
(2) -رواه أحمد 3/219، وابن ماجه(3463) والحاكم 2/292 و4/206 و408 والطبراني في الأوسط (2088)، قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين. وقال البوصيري في مصباح الزجاجة 2/212: "هذا إسناد صحيح رجاله ثقات"، ثم عزاه لابن أبي شيبة في مسنده وزاد: " ليس بصغيرة لا كبيرة فيقطعها صفار". وزاد مسدد في مسنده كما في إتحاف الخيرة(5300) للبوصيري: قال أنس: وقد وصفت ذلك لثلاثمئة كلهم يعافيه الله..(33/34)
عرق النسا هو: وجع يبتدئ من مفصل الورك، وينزل من خلف على الفخذ، وربما امتد على الكعب، وكلما طالت مدته زاد نزوله، وتهزل معه الرجل والفخذ(1). هكذا عرفه الكحال المتوفى سنة 720هـ.
وما يراد منه قديماً هو نفس المراد منه حديثاً. كما بيّن النسيمي في (الطب النبوي والعلم الحديث)(2).
والنسا: بوزن العصا، عرق يخرج من الورك فيستبطن الفخذ، ويقال فيه عرق النسا، كما في الحديث، لأن الشيء إذا كان له اسمان جاز أن يضاف الأعم منهما بالأخص، كحبل الوريد، وحب الحصيد(3).
__________
(1) -الأحكام النبوية في الصناعة الطبية ص136.
(2) -الطب النبوي والعلم الحديث 3/288.
(3) -انظر: صحيح الطب النبوي للبعلي الحنبلي ص102.(33/35)
وسمّي بذلك لأن ألمه ينسي ما سواه(1). ومن أسباب هذا المرض انضغاط جذور العصب بفتق نواة القرص الغضروفي بين الفقرات (الديسك)، ومن أسبابه أيضاً الرثية (الروماتزم) أو البرد أو النقرس أو السكري أو الانتانات. وبين الأطباء حديثاً أن (عرق النسا) الناتج عن (الديسك) لا بد له من جراحة أما ما سوى ذلك فيمكن معالجته بما ورد في هذا الحديث الشريف وبخاصة ما كان ناتجاً عن (الروماتزم) أو (البرد)(2). وأما عن سبب تخصيص الشاة الأعرابية فيقول الكحال: وقصد بالشاة الأعرابية قلة فضولها، وصفر مقدارها، ولطف جوهرها، ولما كان رعيها أعشاب البر الحارة كالشيح والقيصوم ونحوهما(3).
عاشراً: إذا وقع الذباب في الإناء
__________
(1) -انظر: الأحكام النبوية في الصناعة الطبية ص136.
(2) -انظر: الحقائق الطبية في الإسلام للدكتور عبدالرزاق الكيلاني ص373، والطب النبوي والعلم الحديث 3/288-289.
(3) -الأحكام النبوية في الصناعة الطبية ص136.(33/36)
1-عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه كله ثم ليطرحه، فإن في إحدى جناحيه داء وفي الآخر شفاء"(1).
2-وعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "في أحد جناحي الذباب سُم، وفي الآخر شفاء، فإذا وقع في الطعام، فامقلوه فيه، فإنه يقدم السم ويؤخر الشفاء"(2).
قال ابن القيم: هذا الحديث فيه أمران: أمر فقهي، وأمر طبي. فأما الأمر الفقهي: فهو دليل على أن الذباب إذا مات في ماء أو مائع، فإنه لا ينجسه، وهذا قول جمهور العلماء…
__________
(1) -رواه البخاري(3320) (5782)، وأحمد2/398 والدارمي2/98 وابن ماجه(3505) وابن حبان(1246) من رواية عبيد بن حُنين عنه.
وأخرجه أحمد2/229، و246و443 وأبو داود (3844) والبيهقي1/252 وابن خزيمة(105) من رواية سعيد المقبري عنه وزاد: "وإنه يتقي بجناحه الذي فيه الداء".
(2) -رواه ابن ماجه(3504)بهذا اللفظ، وذكره البوصيري في مصباح الزجاجة 2/218 وحسّن إسناده، وقد رواه من نفس الطريق بلفظ أخصر: أحمد في مسنده 3/24و67 والنسائي7/178-179 والبيهقي في السنن الكبرى1/253 وأبو يعلى(986) وابن حبان(1247).(33/37)
وأما المعنى الطبي: فقال أبو عبيد: معنى "امقلوه" : اغمسوه ليخرج الشفاء منه كما خرج الداء.
واعلم أن في الذباب عندهم قوة سُمِّيَّة يدل عليها الورم والحكة العارضة عن لسعه، وهي بمنزلة السلاح، فإذا سقط فيما يؤذيه اتقاه بسلاحه، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقابل تلك السمية بما أودعه الله سبحانه في جناحه الآخر من الشفاء، فيغمس كله في الماء والطعام فيقابل المادة السمية المادة النافعة، فيزول ضررها.
وهذا طب لا يهتدي إليه كبار الأطباء وأئمتهم بل هو خارج من مشكاة النبوة، ومع هذا فالطبيب العالم العارف الموفَّق، يخضع لهذا العلاج، ويقرُّ لمن جاء به بأنه أكمل الخلق على الإطلاق، وأنه مؤيد بوحي إلهي خارج عن القوى البشرية(1).
وقال الذهبي: وقد نقل الأطباء أن الذباب الذي يسمى الذراريح في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء(2).
وقال الحافظ ابن حجر: ولم يقع لي في شيء من الطرق تعيين الجناح الذي فيه الشفاء من غيره، لكن ذكر بعض العلماء أنه تأمله فوجده يتقي بجناحه الأيسر فعرف أن الأيمن هو الذي فيه الشفاء(3).
__________
(1) -الطب النبوي104-105.
(2) -الطب النبوي79.
(3) -فتح الباري10/251.(33/38)
وهذا ما توصل إليه الطب الحديث وهو أن الذباب يحمل عاملاً مضاداً للجراثيم ، وإليك ملخصاً لما كتبه محمد سعيد السيوطي في كتابه "معجزات في الطب للنبي العربي محمد - صلى الله عليه وسلم - "(1):
"لقد أثبتت التجارب الفنية الحيوية الحديثة أن الذباب بجانب نقله للجراثيم المسببة للأمراض فإنه يحمل مضادات لهذه الجراثيم تسمى ((باكتريوفاج –Bacteriophage))، أو عامل الشفاء وهي صغيرة الحجم يقدر طولها بـ(20-25) ميلي ميكرون وقد قام أحد الباحثين في بدايات القرن العشرين وهو الأستاذ دريل مع زملائه من العلماء والأطباء بأبحاث طويلة لمعرفة أسباب ظهور جائحات الكوليرا العديدة في الهند وطرق انطفائها وانتهائها وطريقة التحفظ منها ومنع انتشارها وأثبتوا أخيراً أن الباكتريوفاج الذي يحمله الذباب هو العامل الوحيد في إطفاء جائحات الكوليرا حيث إنه يوجد في براز الناقهين من المرض، ويقوم الذباب بنقله من البراز إلى آبار ماء الشرب فيشربه المصابون مما يكون له الأثر الكبير في شفائهم، وقد تمكن الأستاذ دريل من تكثير الباكتريوفاج الذي حصل عليه من جسم الذباب وتنميته وكان يأمر المريض بتناول جرعات محدودة منه مع الماء فلا يلبث
__________
(1) -ص64-74.(33/39)
أن يشفى في مدة لا تتجاوز اليومين. كما أن هذه التجارب ذاتها نجحت في البرازيل على مرض الديزانتريا الحادة فكان يشفى المريض في مدة لا تزيد عن يوم واحد وكذلك فالأطباء الإيطاليون استعملوا الباكتريوفاج المأخوذ من جسم الذباب في علاج الحمى التيفوئيدية والباراتيفوئيدية فحصلوا على نتائج حسنة. إذن فإخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - عن عامل الداء محمولاً على الذباب وكذا عامل الشفاء مع أن العين لا ترى شيئاً من ذلك ولم يكن لعلم الجراثيم أثر ولا للآلات الكاشفة المكبرة (ميكروسكوب) وجود، هو معجزة عظيمة ودليل قاطع على صدق نبوته - صلى الله عليه وسلم - "(1).
حادي عشر: العدوى والأمراض المعدية
1-عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لا عدوى ولا طِيَرة ولا هامة ولا صفر، وفرَّ من المجذوم كما تفرُّ من الأسد"(2).
__________
(1) - "معجزات في الطب للنبي العربي محمد - صلى الله عليه وسلم - " المعجزة الخامسة، ص64-74.
(2) -رواه البخاري (5707) عن سعيد بن ميناء عنه، انظر فتح الباري10/158، ورواه أحمد من وجه آخر عنه، انظرالفتح الرباني17/197.(33/40)
2-وروى البخاري عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا توردوا الممرضَ على المصح"(1).
3-وعن الشريد الثقفي قال: كان في وفد ثقيف رجل مجذوم ، فأرسل إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - : "إنا قد بايعناك، فارجع"(2).
ظاهر هذه الأحاديث التعارض إذ كيف ينفي النبي - صلى الله عليه وسلم - العدوى ثم يأمر بالفرار من المجذوم. وينهى أن يورد الممرض على المصح. وقد ذكر الحافظ ابن حجر مسالك عديدة في الجمع بين هذه الأحاديث تختار منهما مسلكين: الأول: يحمل الخطاب بالنفي والإثبات على حالتين مختلفتين، فحيث جاء (لا عدوى) كان المخاطب بذلك من قوي يقينه وصحّ توكله بحيث يستطيع أن يدفع عن نفسه اعتقاد العدوى، كما يستطيع أن يدفع التطير الذي يقع في نفس كل أحد، لكن القوي اليقين لا يتأثر به، وهذا مثل ما تدفع قوة الطبيعة العلة فتبطلها، وعلى هذا يحمل حديث جابر(3)
__________
(1) -رواه البخاري(5771،5774) ومسلم(2231).
(2) -رواه مسلم(2231).
(3) -يقصد حديث جابر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ بيد رجل مجذوم، فأدخلها معه في القصعة، ثم قال: كل، ثقة بالله وتوكلاً على الله، رواه أبو داود (3925)، والترمذي (1817)، وابن ماجه (3542) وقال الترمذي: "هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث يونس بن محمد عن الفضل بن فضالة، والمفضل بن فضالة شيخ بصري "ثم بين –رحمه الله- أن الصحيح وقف الحديث على ابن عمر.
أقول: والمفضل بن فضالة: ضعيف الحديث، وذكر ابن عدي في "الكامل" حديثه هذا عن جابر وقال: لم أر له أنكر من هذا. انظر تهذيب التهذيب 10/244، والكامل 8/151.(33/41)
في أكل المجذوم من القصعة، وسائر ما ورد من جنسه، وحيث جاء (فر من المجذوم) كان المخاطب بذلك من ضعف يقينه، ولم يتمكن من تمام التوكل فلا يكون له قوة على دفع اعتقاد العدوى فأريد بذلك سد باب اعتقاد العدوى عنه بأن لا يباشر ما يكون سبباً لإثباتها.
الثاني: أن المراد بنفي العدوى أن شيئاً لا يعدي بطبعه نفياً لما كانت الجاهلية تعتقده أن الأمراض تعدي بطبعها من غير إضافة إلى الله فأبطل النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتقادهم ذلك وأكل مع المجذومين ليبين لهم أن الله هو الذي يمرض ويشفي، ونهاهم عن الدنو منه ليبين لهم أن هذا من الأسباب التي أجرى الله العادة بأنها تفضي إلى مسبباتها، ففي نهيه إثبات الأسباب، وفي فعله إشارة إلى أنها لا تستقل، بل الله هو الذي إن شاء سلبها قواها فلا تؤثر شيئاً، وإن شاء أبقاها فأثرت(1).
قلت: وهذا المسلك هو الذي ذهب إليه الإمام النووي، وهو اختيار ابن الصلاح(2).
ومن المعلوم في الطب الحديث ما للعدوى من أثر كبير في انتقال الكثير من الأمراض.
وهو ما نصت عليه الأحاديث النبوية.
__________
(1) -فتح الباري 10/198-199.
(2) -صحيح مسلم بشرح النووي 14/213-214، وعلوم الحديث لابن الصلاح ص285.(33/42)
ثاني عشر: الطواعين والأوبئة(الحجر الصحي)
1-عن أسامة بن زيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا سمعتم بالطاعون في أرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها"(1).
2-وعن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تُفنى أمتي إلا بالطعن والطاعون" قلت: يا رسول الله، هذا الطعن قد عرفناه، فما الطاعون؟ قال: غدَّة كغدة البعير، المقيم بها كالشهيد، والفار منها كالفار من الزحف"(2).
والطاعون كما عرّفه الكحال: ورم رديء قتال، يخرج مع تلهب شديد مؤذ جداً مجاوزاً المقدار في ذلك، ويصير ما حوله في الأكثر أسود أو أخضر أو أكمد، أو غير ذلك، ويؤول أمره إلى التقرّح سريعاً، يحدث في الأكثر في أحد المواضع الثلاثة التي هي الإبط، وخلف الأذن والأرنبة، وبالجملة في اللحوم الرخوة(3).
__________
(1) -رواه البخاري(5728) ومسلم(2218).
(2) -رواه أحمد 6/82،133و145و255، وأبو يعلى (4408) وصحح سنده البوصيري في الإتحاف3/186.وقال الهيثمي في المجمع 2/314-315 بعد أن عزاه لأحمد وأبي يعلى والطبراني في الأوسط، : ورجال أحمد ثقات، وبقية الأسانيد حسان".
(3) -الأحكام النبوية في الصناعة الطبية ص82.(33/43)
والغدة: عضو مفرز مكون من خلايا بشرية (نسبة إلى البشرة) وقد تكون له قناة، أو لا تكون(1).
وغدة البعير هي: طاعون الإبل، وقلما تسلم منه(2).
والطاعون: مرض انتاني وبائي، عامله جرثومة بشكل العصية، اكتشفها العالم ييرسين سنة 1894م فسميت باسمه (عصية ييرسين). وكان يأتي بشكل جائحات تجتاح البلاد والعباد، وتحصد في طريقها الألوف من الناس، وهو يصيب الفئران عادة، ثم تنتقل جراثيمه منها إلى الإنسان بواسطة البراغيث(3).
وحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - : "إذا سمعتم بالطاعون…" هو أساس الحجر الصحي الذي لم يعرف إلا في القرن العشرين. فإذا وقع وباء معد في بلد ما يضرب عليه حجر صحي، فلا يدخل إليه أحد، ولا يسمح لأحد بالخروج منه، خوفاً من أن يكون مصاباً بالمرض، ولا يزال في دور الحضانة، فينقل الوباء إلى خارج البلد(4).
ونهيه - صلى الله عليه وسلم - من في البلد عن الخروج لأمرين الأول: الثقة بالله والتوكل عليه والتسليم لأمره والصبر على البلاء. والثاني: حتى لا يصاب به أكبر عدد من الناس.
__________
(1) -المعجم الوسيط 2/668.
(2) -النهاية لابن الأثير 3/343.
(3) -انظر: الحقائق الطبية في الإسلام ص47.
(4) -انظر: المصدر السابق ص100.(33/44)
ونهيه - صلى الله عليه وسلم - عن الدخول إلى البلد الموبوء، من باب الأخذ بالأسباب، والنهي عن التعرض للتهلكة. وخبر عمر معروف حين خرج إلى الشام، فوجد أن الوباء انتشر فيها فرجع فقال له أبو عبيدة: أفراراً من قدر الله؟ فقال عمر: نفرّ من قدر الله تعالى إلى قدر الله تعالى، أرأيت لو كانت لك إبل فهبطت وادياً له عدوتان، إحداهما: خصبة، والأخرى: جدبة. ألست إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله؟ وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله تعالى؟(1) ففعل عمر - رضي الله عنه - ليس فراراً من قدر الله، ولكنه أخذ بالحزم والحذر الذي أمرنا الله به، وطلب الأسباب التي هي سوابق القدر، وأسرار القضاء، كما أمرنا باجتناب الفواحش والمخاوف، والمهالك(2).
وجاءت أهم النتائج والتوصيات التي خرجت بها من هذه الدراسة كالآتي:
أولاً: النتائج :
1-إن السنة النبوية اهتمت بكل جانب من جوانب الحياة البشرية ومنها الجانب الصحي حيث أولته عناية فائقة.
__________
(1) -صحيح البخاري (5729)، وصحيح مسلم (2219).
(2) -انظر: الأحكام النبوية في الصناعة الطبية ص90.(33/45)
2-إن السنة النبوية تزخر بالأحاديث التي فيها إشارات طبية لطيفة لو أخذ بها الناس لكان لها الأثر الكبير في الوقاية من كثير من الأمراض ، والشفاء من أمراض أخرى.
3-هنالك معلومات طبية دقيقة لم يتوصل إليها العلم إلا في عصور متأخرة قد جاءت بها السنة النبوية بشكل واضح وصريح وهذا دليل من أدلة كثيرة على صدق نبوة النبي الأمي محمد - صلى الله عليه وسلم - .
ثانياً: التوصيات:
1-يوصي الباحث بضرورة مواصلة البحث في موضوع الطب في السنة النبوية إذ أن الموضوع واسع وهنالك جوانب كثيرة بحاجة للمزيد من البحث.
2-كما ويوصي الباحث بالعمل على إصدار موسوعة الطب في السنة النبوية تعنى بهذا الموضوع من كل جوانبه.
3-كما ويوصي الباحث أيضاً بضرورة تكاتف جهود علماء الشريعة مع الأطباء في خدمة السنة النبوية وذلك بالعناية بالتفسير العلمي للأحاديث النبوية ، وبيان توافقها مع ما توصل إليه الطب الحديث ، وفي هذا إبراز لمعجزة نبوية ذات شأن ، لها أثر كبير على المسلمين وغيرهم.
المراجع :(كتب الحديث النبوي)
البخاري ، محمد بن إسماعيل ، الصحيح بهامش فتح الباري ، طبعة دار الفكر .(33/46)
البزار ، أحمد بن عمرو بن عبد الخالق ، زوائده للهيثمي ( كشف الأستار عن زوائد البزار ) تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي ، نشر مؤسسة الرسالة ط1 1399هـ .
البوصيري ، أحمد بن أبي بكر ، مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه ، دراسة وتقديم كمال الحوت ، دار الجنان ، ط1 1995م .
البيهقي ، أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي ، السنن الكبرى ، دار الفكر .
الترمذي ، محمد بن عيسى بن سورة .السنن ، تحقيق أحمد محمد شاكر وآخرون ، دار إحياء التراث العربي ، 1995م .
ابن أبي حاتم ، عبد الرحمن .
علل الحديث ، دار المعرفة 1985م .
المراسيل، علق عليه أحمد عصام الكاتب، دار الكتب العلمية، ط1 1983م.
الحاكم ، أبو عبد الله النيسابوري ، المستدرك ، دار المعرفة .
ابن حبان ، أبو حاتم البستي ، الصحيح ، ترتيب ابن بلبان ، تحقيق الشيخ شعيب الأرناؤوط ، مؤسسة الرسالة ط2 1993م .
ابن حجر ، أحمد بن علي العسقلاني .
تهذيب التهذيب ، دار الفكر ، ط1 1984م .
الإصابة في تمييز الصحابة، دار الكتاب العربي.
ابن حنبل ، أحمد بن محمد إمام أهل السنة .المسند ، المكتب الإسلامي .(33/47)
ابن خزيمة، أبو بكر محمد بن إسحاق، الصحيح، تحقيق د. محمد مصطفى الأعظمي، مؤسسة الرسالة ط1 1975م.
الخطيب، أبو بكر أحمد بن علي ،تاريخ بغداد، دار الكتاب العربي.
أبو داود ، سليمان بن الأشعث السجستاني ، السنن ، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد دار إحياء السنة النبوية .
الدارقطني : علي بن عمر .
السنن ، عالم الكتب ، ط4 1986م .
العلل ، تحقيق وتخريج الدكتور محفوظ الله السلفي ، دار طيبة ، ط1 1985م .
15-الدارمي، عبد الله بن عبد الرحمن، السنن، دارالكتب العلمية.
16-الذهبي ، شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان ، ميزان الاعتدال في نقد الرجال ، تحقيق علي محمد البجاوي ، دار المعرفة .
17-ابن أبي شيبة ، أبو بكر ، عبد الله بن محمد ، المصنّف ، تحقيق وتعليق سعيد اللحام ، دار الفكر ط1 1989م .
18-الصنعاني ، عبد الرزاق بن همام ، المصنّف ، حققه الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي ، من منشورات المجلس العلمي .
19-ابن الصلاح ، أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن ، علوم الحديث ، تحقيق د.نور الدين عتر، دار الفكر المعاصر بيروت ، ودار الفكر دمشق .(33/48)
20- الطبراني ، سليمان بن أحمد ، المعجم الكبير، حققه وخرج أحاديثه حمدي السلفي، مكتبة ابن تيمية.
21-الطحاوي ، أحمد بن محمد بن سلامة .
شرح معاني الآثار ، حققه محمد زهدي النجار ، ومحمد سيد جاد الحق ، عالم الكتب ط1 1994م .
شرح مشكل الآثار ، حققه شعيب الأرناؤوط ، ط1 1994م .
22-ابن عدي ، أبو أحمد عبد الله بن عدي ، الكامل في ضعفاء الرجال ، دار الفكر ط2 1985م .
23-العقيلي ،أبو جعفر محمد بن عمرو ،الضعفاء الكبير ،تحقيق د.عبد المعطي قلعجي دار الكتب العلمية ط1 1984م .
24-العلائي ،صلاح الدين بن خليل ،جامع التحصيل في أحكام المراسيل ، تحقيق حمدي السلفي ،عالم الكتب ط2 1986 م.
25-ابن القطان، أبو الحسن علي بن محمد، بيان الوهم والإيهام، تحقيق د. الحسين آيت سعيد، دار طيبة، ط1 1997م.
26-ابن ماجه ،محمد بن يزيد القزويني ، السنن ،تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي ، المكتبة العلمية . 27-مالك، ابن أنس ، الموطأ ، حققه محمد فؤاد عبد الباقي ، دار إحياء التراث العربي.
28-مسلم ،ابن الحجاج النيسابوري ،الصحيح ، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي ، دار إحياء الكتب العربية .
29-النسائي ، أحمد بن شعيب .(33/49)
السنن الصغرى (المجتبى) دار الفكر ، مصورة عن الطبعة الأولى 1930م .
السنن الكبرى ،تحقيق د. عبد الغفار البنداري وسيد كسروي ،دار الكتب العلمية ط1 1991 م.
30-أبو نعيم ، أحمد بن عبد الله الأصبهاني ، الحلية، دار الكتب الفكر.
31-الهيثمي ،نور الدين علي بن أبى بكر ، مجمع الزوائد ، ط3 1982 م.
32-أبو يعلى ، أحمد بن علي بن المثنى الموصلي ، المسند ، حققه حسين سليم أسد، دار الثقافة العربية ط2 1992 م.
المراجع المتعلقة بالطب:
1-الأحكام النبوية في الصناعة الطبية، لابن طرخان الكحال، تحقيق د.أحمد عبدالغني الجمل، دار ابن حزم ط1 1424هـ.
2-الحقائق الطبية في الإسلام، للدكتور عبدالرزاق الكيلاني، مكتبة الرسالة ط1 1412هـ.
3-الطب النبوي لابن القيم، نشر مكتبة النهضة الحديثة بمكة 1398هـ.
4-الطب النبوي للذهبي، نشر مكتبة القرآن –القاهرة دون تاريخ.
5-الطب النبوي للسيوطي، مؤسسة الكتب الثقافية –بيروت 1406هـ.
6-الطب النبوي لعبدالملك بن حبيب الألبيري الأندلسي، شرح وتعليق د.محمد علي البار، نشر الدار الشامية –بيروت 1413هـ.
7-الطب النبوي والعلم الحديث تأليف د.محمود ناظم النسيمي ، نشر مؤسسة الرسالة ط4 –1417هـ.(33/50)
8-من الإعجاز الطبي في الأحاديث النبوية (الكمأة) تأليف د. عبدالله عبدالرزاق السعيد، نشر دار الضياء –الأردن 1410هـ.
9-القانون في الطب لابن سينا، دار الكتب العلمية –بيروت 1422هـ.(33/51)