ورقة بحثية بعنوان
دراسة السنة النبوية في جامعة العلوم الإسلامية بماليزيا
من إعداد
الدكتور إحسان موسى حسن الربيعي
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
لقيت السنة النبوية الشريفة اهتماماُ بالغاً وأحتراماً عظيماً من المسلمين منذ عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - وحتى يومنا الحاضر سيما وهي أقوال وأفعال وتقريرات سيد الخلق محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى وقد بذل العلماء المسلمون كل جهودهم وحياتهم في خدمة كتاب الله سبحانه وتعالى وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - المصدر الثاني للتشريع في الإسلام فدونوا الأحاديث النبوية وحقققوها ونقحوها وخرجوها وقيموها وميزوا الصحيح منها من الضعيف في جهود جبارة لم تبذل مثلها جهود في أي علم من العلوم الأخرى في التدقيق والتمحيص والدراسة فوصلت إلينا السنة النبوية كاملة منقحة محققة مدروسة من كل وجوهها من حيث الأسانيد والمتون لنبني اليوم علومنا الشرعية عليها ونستمد منها أدلتنا في الاجتهاد والأحكام التي نحتاج إليها في حياتنا كمسلمين على مختلف ألواننا وأعراقنا ولغاتنا وبلداننا، وهذا مما يميز هذا الدين العظيم أنه توفر على خدمته من كل أشكال(1/1)
البشر وألوانهم وأصولهم عرباً وأعاجم وعلى مر الصور فكان من خيرة علماء السنة ورواتها وعلمائها من الأعاجم الذين دفعهم لذلك إيمانهم وإسلامهم ولم تتوقف تلك الجهود حتى يومنا هذا فكلما تطورت العلوم وتوسعت المعارف قيض الله سبحانه وتعالى علماء مخلصين وفي كل بقاع الأرض لخدمة دينة وتفعيله في الحياة الإنسانية للبشر وللمسلمين بشكل خاص، وقد تأسست الجامعات والمعاهد ودور العلم لدراسة هذا الدين بمختلف فروعه ، وقد تخصصت بعض الجامعات في العالم الإسلامي في الدراسات الشرعية وركزت عليها باعتبارها منهج حياة وذلك من أجل تطبيقها عمليا وتنظيم حياة المجتمع الإسلامي وفق الأسس التي رسمها النبي - صلى الله عليه وسلم - في القرآن الكريم وسنته الشريفة، ومن بين تلك الجامعات التي انبرت لخدمة كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - جامعة العلوم الإسلامية بماليزيا حيث تأسست لتحقيق هذا الغرض السامي وفق أسس علمية عصرية تتناسب والمرحلة الزمنية التي تمر بها البشرية من انفتاح وتواصل بين الحضارات الإنسانية بكل أشكالها ولأجل تحصين المسلمين بالعلم الشرعي والمعرفة الإسلامية الصحيحة في ظل التحديات والمؤثرات الخارجية التي تواجه(1/2)
المسلمين في عصر العولمة الذي يعد من أخطر العصور وأعقدها بالنسيبة للأمة الإسلامية بحيث جندت إمكانيات وطاقات هائلة من أعدائها لغرض طمس هويتها وإظهارها بمظر المتخلف عن الركب العلمي الذي يسير بالبشرية نحو التقدم والتطاول العلمي، فبدأت هذه الجامعة بوضع العلوم الشرعية والعلم الديني عملياً في الحياة العصرية وربطه بالمعارف الحديثة التي تخدم البشرية فجعلت الطالب للعلوم الشرعية على معرفة ودراية بعلوم العصر والتكنولوجيا الحديثة ليجعل العلم الديني هو مصدر إلهام وتقويم للتطور العلمي بكل فروعه وجالاته وليكون قادراً على مواجهة تحديات العصر ومتطلبات الحياة العصرية والتفاعل فيها وتقديم مايتعلمه من علم شرعي عمليا من التكنولوجيا والعلوم الديثة مما يدلل على خاتمية هذا الدين وصلاحيته للحياة البشرية في كل زمان ومكان مهما تطورت العلوم والمعارف، وفي هذه الورقة المتواضعة سأحاول بإذن الله تعالى بيان نبذة مختصرة عن هذه الجامعة وعن الدراسات الشرعية فيها مع التركيز على دراسة السنة النبوية التي تميزت بها هذه الجامعة من خلال كلية دراسات القرآن والسنة والبرامج الدراسية في ذلك حيث وضع فيها برنامج خاص عن دراسات السنة(1/3)
والتكنولوجيا الحديثة اضافة إلى تدريس السنة في جميع البرامج والتخصصات الأخرى حتى العلمية منها.
لمحة تاريخية عن جامعة العلوم الإسلامية الماليزية:
انسجاماً مع التقدم والنهضة العلمية التي تشهدها ماليزيا فقد أقر مجلس الوزراء تأسيس جامعة العلوم الإسلامية ( كويم ) في الاجتماع الذي عقد بتاريخ الحادي عشر من يونيو سنة 1997م، ثم أعلن عنها رسميا في الثاني عشر من مارس سنة 1998م، ويهدف إنشائها إلى رفع مستوى الدراسات الإسلامية والتعليم الإسلامي بماليزيا.
وقد انطلقت مسيرتها العلمية في العام الدراسي 2000/ 2001م، حيث استخدمت عند انطلاقها جزءاً من مبنى كلية الدراسات الإسلامية في الجامعة الوطنية الماليزية، ثم انتقلت بعدها إلى مبنى المعهد المهني لبيت المال التخصصي في كولا لمبور، وبدأت مرحلتها الأولى بثلاث كليات هي: كلية الشريعة والقضاء، وكلية دراسات القرآن والسنة، وكلية الدعوة والإدارة.(1/4)
وقد بدأ الفصل الدراسي الأول من العام الدراسي 2000/2001م بدفعة أولى من الطلبة وعددهم 255 طالباً وطالبة في الكليات الثلاث، وفي العام الدراسي 2001/2002م تم تسجيل الدفعة الثانية وكان عددهم 556 طالباً وطالبة وقد شجعت هذه الزيادة في عدد طلبة الجامعة إلى استئجار جزءاً من مبنى المجلس البلدي لمنطقة أمبانج جايا البناية (أ) في منطقة باندان إينده في كولالمبور، ووقد انتقلت الجامعة إدارة وتدريساً إلى هذا المبنى بتاريخ 21/1/2002م.
ولغرض الوصول إلى الأهداف المرجوة من تأسيسها وجعلها جامعة إسلامية متميزة في ماليزيا، تم إنشاء كلية جديدة في سنة 2002م وهي كلية الاقتصاد والمعاملات، حيث بدأت هذه الكلية مسيرتها العلمية في العام الدراسي 2002/2003م بدفعة أولى من الطلبة وكان عددهم 103 طالب وطالبة، وفي العام الدراسي 2004/2005م تم افتتاح كلية العلوم والتكنولوجيا، وكلية الطب والعلوم الصحية، وكلية اللغات الرئيسة، وبرنامج التمهيدي لطلاب العلوم والقانون، ثم افتتحت في العام 2006م كلية طب الأسنان، ليصبح بذلك عدد كليات الجامعة ثمانية كليات.(1/5)
ومع إطلالة العام 2007م شهدت الجامعة حدثاً تاريخياً هاماً وذلك بتغيير اسم الجامعة ليصبح جامعة العلوم الإسلامية الماليزية لتصبح في مصاف الجامعات الحكومية الماليزية العريقة.
أسس التدريس ومجالاته في الجامعة
إن الفكرة الأساسية في التعليم بالجامعة تقوم على الدمج والتكامل المعرفي بين العلوم النقلية والعقلية في جميع البرامج الدراسية المقدمة فيها، لذلك فهي متيمزة عن غيرها من الجامعات في جميع مجالات التعليم تحقيقاً للأهداف المنشودة من إنشائها.
أما لغة التدريس في الجامعة فهي: اللغة الماليزية والتي تعتبر اللغة الرسمية للجامعة، واللغة العربية وهي لغة التدريس للدراسات الإسلامية، إلى جانب اللغة الإنجليزية، لكي يكون الطلبة على مستوى عال من الاستيعاب والتمكن من العلوم المدروسة جميعاً وذلك من خلال لغة كل علم من تلك العلوم، سيما العلوم الشرعية المتمثلة في القرآن والسنة والفقه وغيرها من العلوم الشرعية، وذلك لتحقيق التكامل في عملية التعليم والتعلم في الجامعة.(1/6)
وبما أن الجامعة تعد إحدى المؤسسات التعليمية المتميزة في دراساتها الدينية والعلمية التي تقوم على التربية الإسلامية، فهي تسعى لأن يصل عدد طلابها إلى عشرة آلاف لتكون جامعة متمكنة في كل المجالات العلمية التي تقدمها، ولكي تخرج أجيالاً من الدارسين متمكنين من اللغة العربية والإنجليزية في جميع ميادين العلوم، وذلك ليتم الاعتراف بها كجامعة رصينة، في داخل البلاد وخارجها، مواكبة لأهداف الحكومة في إنشاء المراكز العلمية في البلاد.
4. ... أهداف الجامعة
تفتح جامعة العلوم الإسلامية الماليزية مجالاً رحباً لطلبة المدارس الدينية لمواصلة دراستهم ورفع مستواهم العلمي، فقد وضعت لها جملة من الأهداف لتحقيق هذا المطلب منها:
الارتقاء بالتربية الإسلامية وتفعيلها في المجتمع لكونها من الاهتمامات الأساسية للحكومة المركزية في البلاد.
تمكين الطلبة الخريجين منها من التوفيق بين النظرية والتطبيق في كل المجالات العلمية.
إعداد قيادات فكرية وعلمية متشبعة بالتربية الإسلامية المتكاملة قادرة على قيادة المجتمع الماليزي نحو التنمية الوطنية الشاملة.
إحياء ودراسة التراث الإسلامي والعلوم الإسلامية بما يتلائم ومتطلبات العصر الحديث.(1/7)
هـ. إعداد كوادر بشرية قادرة على فهم الإسلام فهماًًًًًً دقيقاً وتأدية واجباتها محلياً وعالمياً.
5. ... برامج الجامعة الأكاديمية:
تقدم الجامعة برامجها الأكاديمية من خلال ما يلي:
1. الشريعة والقانون.
2. دراسات القران والسنة.
3. القيادة والإدارة الإسلامية.
4. الاقتصاد والمعاملات.
5. العلوم والتكنولوجيا
6. الطب والجراحة.
7. اللغات الرئيسة.
8. طب الأسنان.
نبذة عن كلية دراسات القرآن والسنة
تحقيقاً لأهداف الجامعة أسست كلية دراسات القرآن والسنة في عام 2000م/ 2001م، وانطلقت مسيرتها العلمية ببرنامج واحد هو دراسات القرآن والسنة. وذلك من أجل إعداد خرجيين مؤهلين متخصصين في مجال دراسات القرآن والسنة، وأن تكون الكلية قادرة على تجسيد شعار الإسلام ورفع رايته، وفسح المجال أمام الباحثين والدارسين لنشر علوم القرآن والسنة في المجتمع والدولة.
إن مجال القرآن والسنة يعد من أهم المجالات في العلوم الإسلامية لأنها تعد دستوراً للمسلمين، لذلك لا بد من تفعيلها في حياتهم مواكبة لعصر التطور العلمي والتكنولوجي، ولبناء إنسان حضاري قادر على المساهمة بشكل فعال في تقدم الإنسانية.
أهداف الكلية(1/8)
1. تخريج كوادر علمية متخصصة في دراسات القرآن والسنة وعلى قدر من المعرفة بها قادرين على استنباط الأحكام والمعارف من مصادرها الأصلية القرآن والسنة.
2. إعداد كوادر مثقفة بالفكر الإسلامي الأصيل الذي يشتمل على العقيدة والشريعة والأخلاق المستندة إلى القرآن والسنة لتأصيل الفكر الإسلامي استناداً إليها.
3. تخريج كوادر بشرية مؤهلة وقادرة على تأدية واجباتها في المجتمع في مجال دراسات القرآن والسنة، والعلوم الحديثة والتكنولوجيا، وذلك في جميع المجالات التعليمية والوظيفية والاجتماعية.
البرامج الدراسية في الكلية:
للتوسع في مجالات البحث والدراسة في مجال القرآن والسنة، فإن الكلية تقدم برامج علمية مختلفة وهي:
الإجازة العالية في دراسات القرآن والسنة (مع مرتبة الشرف)
الإجازة العالية في دراسات القرآن والملتيميديا (مع مرتبة الشرف)
الإجازة العالية في دراسات السنة وإدارة المعلومات مع (مرتبة الشرف)(1/9)
يتضح لنا بعد هذه النبذة المختصرة عن الجامعة وكلية دراسات القرآن والسنة مدى اهتمام الجامعة بالدراسات الشرعية ومصادرها الأصلية المتمثلة بالقرآن والسنة، حيث أدخلتها في جميع برامجها الدراسية حتى في العلوم والاقتصاد والطب وكافة المجالات لتعريف الطلبة بأهمية القرآن الكريم والسنة النبوية، ومحاولة دفعهم نحو البحث العلمي وتطبيق ماورد في القرآن الكريم والسنة النبوية عملياً في كل مجالات العلم والبحث في الإعجاز العلمي فيما من خلال التجربة العلمية التي يعيشونها في دراساتهم العلمية المتنوعة، ومن خلال هذا البحث المتواضع سوف أركز على دراسة السنة النبوية في الجامعة لكونها محورأ من محاور المؤتمر وإطلاع القارئ الكريم على هذه التجربة الرائدة في بلد إسلامي متنوع الأعراق والديانات ويركز على تكريس العلم الشرعي الإسلامي في الحياة العملية لأهله.
دراسة السنة النبوية في كلية القرآن والسنة(1/10)
كما اطلعنا على مجال تركيز اهتمام الجامعة والكلية نجد أن جل اهتمامهما بالقرآن والسنة حيث جعلت الكلية مدار أهدافها هو دراسة وتفعيل القرآن والسنة في الحياة والمجتمع وربطها بالواقع المعاصر والاستفادة من التكنولوجيا الحديثة في مجال دراستها، فكان للسنة النبوية اهتماماً خاصاً حيث تم إنشاء برنامج علمي يعنى بدراستها مع القرآن الكريم تحت عنوان دراسات القرآن والسنة، وبرنامج متخصص فيها تحت عنوان دراسات السنة وإدارة المعلومات وسأبين باختصار هذين البرنامجين مع التركيز على مجال السنة النبوية فيهما، وفي الكليات الأخرى حيث تدرس مواد من السنة النبوية في الكليات العلمية في الجامة.
أولاً: برنامج دراسات القرآن والسنة
نظرة عامة عن البرنامج:
أسس هذا البرنامج استناداً للأسباب التالية:
لم يطرح هذا البرنامج على مستوى الإجازة العالية في الجامعات الحكومية الماليزية من قبل بل كان ضمن الدراسات الإسلامية العامة، وطرح في هذه الجامعة كتخصص مستقل وعلى مستوى الإجازة العالية لأول مرة.(1/11)
تلبية لطموحات المجتمع والحكومة في ماليزيا للارتقاء بمستوى الدراسات القرآنية والسنة والثقافة الإسلامية، وبسب إقبال المجتمع الماليزي على ذلك، اقتضت الحاجة إلى إنشاء هذا البرنامج.
لظهور بعض الأفكار والأعمال المخالفة للسنة النبوية المطهرة وإنكار البعض لحجية السنة في المجتمع الماليزي، دعت الحاجة إلى إنشاء هذا البرنامج للوقوف بوجه هذه الأفكار وتصحيحها وفق السنة الصحيحة التي تعد المصدر الثاني للتشريع في الإسلام.
أهداف البرنامج
إعداد جيل من الدراسين قادرين على فهم واستعاب الأحكام الشرعية من مصادرها الأصلية المتمثلة بالقرآن والسنة النبوية.
إعداد جيل متفهم للفكر الإسلامي في العقيدة والشريعة والأخلاق بناءً على أسس تقوم على القرآن والسنة، مع فهم التيارات الفكرية المعاصرة.
رفد المجتمع بكوادر كفوءة للقيام بأعباء التربية، والعمل الإداري، وفق الأسس الإسلامية الصحيحة بطريقة علمية تنسجم وروح العصر.
1. تحليل محتوى برنامج دراسات القرآن والسنة ولمواد التي تدرس فيه:
نوع المادة ... اسم المادة ... الوحدات
1.مواد جامعية ... أ. مادتي الحضارة الإسلامية والآسيوية
1. الحضارة الإسلامية والآسيوية(1/12)
2. التعايش في المجتمع المتنوع الأعراق ... 2
2
ب. مواد في الدراسات العامة
1. المدخل إلى تكنولوجيا المعلومات
2. الفكر النقدي والإبداعي
3. المدخل إلى علم العلاقات والاتصالات
4. مبادىء الإدارة النوعية
5. مناهج البحث العلمي
6. حلقة دراسية
7. محادثة حرة ... 2
2
2
2
2
1
1
جـ- المهارات اللغوية العربية
1. مهارة القراءة
2. مهارة المحادثة والخطابة
3. مهارة الكتابة
4. مهارة الاستماع والفهم
5. العربية الاتصالية
د- المهارات اللغوية الإنجليزية
1. اللغة الإنجليزية 1
2. اللغة الإنجليزية 2
3. اللغة الإنجليزية للدراسات الإسلامية 1
4. اللغة الإنجليزية للدراسات الإسلامية 2
هـ- مادة واحدة من المواد اللاصفية ... 2
2
2
2
2
2
2
2
2
3
د. مادة إضافية
1. الحلقة الدراسية
2. محادثة حرة ... 2
2
مجموع الوحدات ... 37
نوع المواد ... المادة ... الوحدات
2.مواد أساسية لكلية دراسات القرآن والسنة ... جـ - مواد إجبارية للدراسات الإسلامية
1. العقيدة الإسلامية
2. الأخلاق والتصوف
3. فقه العبادات والمناكحات
4. فقه المعاملات والجنايات
5. أصول فقه 1
6. علوم القرآن
7. علوم الحديث
8. المدخل إلى علم القراءات والتحفيظ(1/13)
9. مناهج الدعوة
10. الفكر الإسلامي المعاصر
11. سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم
12. تاريخ التشريع
13. نظام القوانين الماليزية ... 2
2
2
2
2
2
2
2
2
2
2
2
2
مجموع الوحدات ... 26
نوع المادة ... المادة ... الوحدات
3.مواد تخصص كلية دراسات
القرآن والسنة ... 1. تفسير آيات الأحكام
2. حديث الأحكام
3. دراسة القراءات
4. موقف المستشرقين من القرآن والسنة
5. علم رجال الحديث
6. علم التخريج
7. السنة والبدعة والخرافة
8. تفسير 1
9. حديث 1
10. تفسير 2
11. حديث 2
12. دراسة الأحاديث الضعيفة والموضوعة
13. البحث العلمي
14. حفظ القرآن الكريم
15. التفسير العلمي
16. الترنم
17.دراسة القرآن والحديث في عصر التكنولوجيا
18. تطبيقات نظام بريل للمكفوفين في دراسة القرآن والسنة
19. البحث العملي ... 3
3
3
3
3
3
3
3
3
3
3
3
3
3
3
3
3
3
6
مجموع الوحدات ... 60
4.مواد إختيارية ... 1. الإسلام والقضايا المعاصرة
2. أخلاق العمل الإسلامية
3. أدب الاختلاف
4. السياسة الشرعية
5. القواعد الفقهية
6. الفقه المعاصر
7. الأدب الإنجليزي
8. الكتابة الابداعية
9. اللغة الإنجليزية 3 ... 3
3
3
3
3
3
3
3
3
مجموع الوحدات ... 27(1/14)
وفيما يلي وصف لبعض المواد في السنة النبوية والتي تدرس في هذا البرنامج وكمايلي:
1. الحديث 1
تتناول هذه المادة أحاديث مختارة متعلقة بالعلم والإيمان والتوحيد والأخلاق والرق والتربية والاعتصام والفتن، اعتماداً على المصادر الحديثية الأصلية.
2. الحديث 2 ...
تتناول هذه المادة أحاديث مختارة مما يتعلق بالقيادة والاقتصاد والعلوم والطب وخلق العالم وخلق الإنسان، اعتماداً على المصادر الحديثية الأصلية والكتب العلمية للعلماء المسلمين التي درست هذه الأحاديث كل في مجاله سواء من ناحية الاستدلال أو الإعجاز.
3. دراسة الأحاديث الضعيفة والموضوعة
هذه المادة تدرس تاريخ ظهور الأحاديث الموضوعة، وتبحث في الأحاديث الضعيفة وتحليل أراء العلماء في
حكم الرواية والعمل فيها. وتدرس أمثلة من الأحاديث الموضوعة والضعيفة وأثرها السلبي على الأمة
الإسلامية.
4. السنة والبدعة والخرافة(1/15)
تقوم هذه المادة بتعريف السنة وأنواعها وتعريف البدعة والخرافة والفرق بينهما وتاريخ نشأة البدعة ومصادرها.وتحلل آيات القرآن الكريم والأحاديث التي ترد على البدعة. وتناقش أعراف الملايويين، وما يعتريها من بدع ومخالفات للسنة ومحاولة نقدها وتصحيحها في المجتمع.
5. موقف المستشرقين من القرآن والسنة
تتناول هذه المادة تاريخ ظهور المستشرقين وأهدافهم بإيجاز. وتناقش أيضاً موقفهم من الإسلام والنبي محمد - صلى الله عليه وسلم - وآرائهم وموقفهم من القرآن والسنة مع الأمثلة والقضايا التي يثيرونها.
6. علم رجال الحديث
تبحث هذه المادة في تعريف السند و الإسناد والتجريح ومنهجه والتعديل وتاريخ علم السند والإسناد والجرح والتعديل ومعرفة السند العالي والنازل المسلسل ورواية الأكابر عن الأصاغر ورواية الآباء عن الأبناء ورواية الأبناء عن الأباء، والحديث وما يتعلق به. وتتعرض أيضا لتجريح وتعديل رواة الحديث وحكم تخريج الراوي وشروط المرجح والمعدل وغيرها.
7. علم التخريج
هذه المادة تساعد الطلبة على البحث وتعيين المصادر الأصلية للحديث ورتبته من حيث الصحة والضعف وغيرهما. وهذا لتوجيه الاحتجاج بالحديث في القضيا المعاصرة وغيرها.(1/16)
8. حديث الأحكام
... تدرس هذه المادة الأحاديث المتعلقة بالأحكام الشرعية العملية المتعلقة بالطهارة والعبادات والجنايات والمناكحات وتركز المناقشة على اختلاف آراء العلماء وحججهم استنادا إلى الأحاديث النبوية.
9. علوم الحديث
تحتوي هذه المادة على موضوعات أساسية في علوم الحديث منها: معنى الحديث وأنواعه وأقسامه ، والحديث من ناحية الدراية والرواية، والحديث القدسي، وتاريخ رواية الحديث، وعلم الجرح والتعديل، والأحاديث الموضوعة، وتخريج الحديث، وعلاقة الحديث بالقرآن، موكانة الحديث النبوي في الشريعة الإسلامية، وتعريف موجز بالكتب الستة: ( صحيح البخاري، صحيح مسلم، سنن الترمذي، سنن أبي داود، سنن النسائي، سنن ابن ماجه ).
10. سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -(1/17)
تدرس هذه المادة حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - على ضوء القرآن والسنة، ويكون التركيز على دراسة شخصية الرسول عليه الصلاة والسلام من النواحى التالية: الرسول كإنسان، كرسول، كقائد، كزوج، كأب، وكصديق، وذلك ليكون - صلى الله عليه وسلم - خير قدوة لبناء الإنسان الكامل وتكوين المجتمع الفاضل. إضافة إلى ذلك تتناول المادة تاريخ العرب قبل الإسلام، وحياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة، والسابقون الأولون، وموقف قريش من الدعوة الجديدة، وسياسة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فى مواجهة التحديات، والهجرة إلى الحبشة، والهجرة إلى المدينة، وميلاد الدولة الإسلامية فى المدينة، وعلاقة المسلمين باليهود وبالقبائل العربية الأخرى ومناقشة صحيفة المدينة المنورة.
هذه المواد التي تتعلق بالسنة النبوية في هذا البرنامج فهي تقدم فهماً شاملاً لما يتعلق بالسنة النبوية ودراستها بجانب المواد الأخرى لتؤسس طلبة يحملون ثقافة دينية عالية يستطيعون من خلالها التأثير في مجتمعهم الذي يعيشون فيه.
ثانياً: برنامج دراسات السنة وإدارة المعلومات:
الأسس التي يقوم عليها هذا البرنامج مايلي:(1/18)
1. أن مجال دراسة السنة له علاقة قريبة بإدارة المعلومات، ولكن لم يسبق تقديمهما من أي المعاهد العامة للتعليم العالي بماليزيا، وإن كان الطلب في هذا المجال كبيراً. إذ أن مجال دراسة السنة كمصدر رئيسي في دراسة الإسلام، ويتكون من المجالات الأساسية للدراسة كالحديث، والسيرة، والتاريخ، وغيرها مما يحتوي على معلومات وبينات متعلقة بالدراسة (كالتراجم، والجغرافية، والقضاء وغيرها. وهي في غاية الأهمية في فهم الإسلام ودراسة حضارته. أما مجال إدارة المعلومات فيتركز في الجانب التقليدي على إدارة البينات والمعلومات العامة. لذا ينبغي إيجاد برامج خاصة تجمع بين الجانبين، للحصول على مهارات علمية وعملية في المعارف الإسلامية والإدارة المكتبية التي نحتاج إليها في مختلف المؤسسات والمعاهد الأكاديمية والإدارة وغيرها.(1/19)
2. الحاجة الماسة إلى خريجين ماهرين في مجال المعلومات الإسلامية والإدارة المكتبية، لا سيما في عصر تطور تقنية المعلومات والمعارف، حيث لا توجد أي معاهد عالية للعلوم حالياً تقدم مثل هذا البرنامج ونحوه. ولذلك تعتبر كلية دراسات القرآن والسنة في جامعة العلوم الإسلاميةسباقة في ذلك، وهذه المحاولة تعتبر أول محاولة في إعداد طاقات بشرية وعمال ماهرين في هذين المجالين في آن واحد.
3. توسيع مجال التخصصات الدراسية في دراسة القرآن والسنة أكثر من شكلها التقليدي والتراثي إلى المجال العملي التطبيقي لكي تتماشى وغاية الحكومة من إنشاء كلية دراسات القرآن والسنة في هذه الجامعة.
4.الحاجة الحالية إلى طاقات ماهرة عاملة في مجالي المعلومات الإسلامية والإدارة المكتبية لبناء المجتمع الوطني ليتماشى مع النمو الاقتصادي للبلاد والعالم، وتطور المكتبات والمعاهد المعتمدة على المعلومات والمعارف ( Knowledge-based economy and institutions).(1/20)
5. قدمت كلية دراسات القرآن والسنة هذا البرنامج، لغرض تسهيل الحصول على العمل للخريجين من هذه الكلية حيث يتنافس جميع الطلبة بينهم عليها. وتستطيع كلية دراسات القرآن والسنة أن تنافس بقية الكليات الأخرى في الجامعة من خلال تقديم برنامج مختلف عن طريق الدمج بين الدراسة التراثية والتكنولوجيا الحديثة، وذلك لمواجهة تحديات العصر والمنافسات الكبيرة على فرص العمل وفتح أفاق مستقبلية للطلبة في الحصول على فرص عمل مناسبة.
اهداف البرنامج
من أهم الأهداف التي أسس من أجلها هذا البرنامج مايلي:
أن يقدم للمجتمع خريجين ماهرين في مجال دراسة القرآن والسنة وفي نفس الوقت ماهرين في مجال إدارة المعلومات على شكل يجمع بين الجانب النظري والعملي، حتى يتمكن هؤلاء الخريجون من العمل في المؤسسات التي تعتمد على المعارف وإدارة المعلومات كالمكتبات والدوائر الخدمية وغيرها.(1/21)
لتلبية الطلب المتزايد من قبل المجتمع على خريجين جامعيين في الدراسات الإسلامية متمكنين في استخدام التكنولوجيا الحديثة في وظائفهم اليومية. ووظائف خريجي الدراسات الإسلامية في عصرنا الحاضر لاتتعلق بالتعليم الديني فقط بل تعد موظفين ماهرين في الإدارة التدبيرية. ولذلك ينبغي تزويد الطلبة بمختلف المعارف والمهارات في التكنولوجيا الحديثة المتعلقة بالبرنامج المذكور حتي يتأهل الخريجون لخدمة المجتمع والبلاد. وويؤدوا مسؤولياتهم بأمانة وإتقان.
إعطاء فرص إضافية لخريجي الدراسات الإسلامية التراثية كدراسات القرآن والسنة حتى يتفقهوا في مجال تخصصهم وتمكنهم على المنافسة في سوق العمل في الوقت الحاضر من خلال مهارتهم في التكنولوجيا القائمة على المعلومات والمعارف. وكذلك لتصحيح نظرة المجتمع إلى خريجي الدراسات الإسلامية وإسهامهم في بناء البلاد.
تمكن الطلبة في مجال التكنولوجيا الحديثة بجانب الدراسات الإسلامية وإدارة المعلومات تفتح لهم بعد تخرجهم السبيل إلى مجال التجارة entrepreneurship خصوصاً فيما له علاقة بإدارة المعلومات الإسلامية.(1/22)
إن هذا البرنامج يمكن أن يسهم في سد الحاجة إلى موظفين ذوي خلفية في الدراسات الإسلامية وإدارة المعلومات نتيجة لظهور النهضة الإسلامية الحديثة وفق منهج الوسطية.
وتمح الجامعة لخريجي هذا البرنامج أن يسهموا بقوة وإتقان في تطوير مجال المعلومات وإدارتها ومصادرها المتعلقة بالدراسات الإسلامية في مختلف المؤسسات، كالمكتبات ومراكز المعارف، ومختلف المنظمات الحكومية والخاصة التي تعتمد في عملها على المعلومات والبرمجة الحاسوبية وإدارة الإعلام. كما يمكنهم العمل مجال التجارة المتعلقة بالمعلومات الإسلامية اعتماداً على التكنولوجيا الحديثة التي يكتسبون المهارة بها من خلال هذا البرنامج. وبهذه العلوم والمعارف يستطيعوا أن يروجوا لإنتاجهم أو سلعهم أو خدماتهم للمجتمع بأفضل الوسائل، مما يخفف اعتمادهم الكبير على التوظيف والعمل لدى الحكومة.
ويقدم هذا البرنامج مواد متكاملة في مجالي الدراسات الإسلامية والحديثية بشكل خاص ومجال التكنولوجيا الحديثة وإدارة المعلومات وكما يلي:
المواد التي تقدم في هذا البرنامج
فيما يلي تحليل لمحتوى برنامج السنة وإدارة المعلومات
نوع المادة ... اسم المادة ... الوحدات(1/23)
1. مواد إجبارية جامعية ... أ. مادتي الحضارة الإسلامية والآسيوية
1. الحضارة الإسلامية والآسيوية
2. التعايش في المجتمع المتنوع الأعراق ... 2
2
ب. مواد في الدراسات العامة
1. المدخل إلى تكنولوجيا المعلومات
2. الفكر النقدي والإبداعي
3. المدخل إلى علم العلاقات والاتصالات
4. مبادىء الإدارة النوعية
5. مناهج البحث العلمي
6. حلقة دراسية
7. محادثة حرة ... 2
2
2
2
2
1
1
جـ- المهارات اللغوية العربية
1. مهارة القراءة
2. مهارة المحادثة والخطابة
3. مهارة الكتابة
4. مهارة الاستماع والفهم
5. العربية الاتصالية
د- المهارات اللغوية الإنجليزية
1. اللغة الإنجليزية 1
2. اللغة الإنجليزية 2
3. اللغة الإنجليزية للدراسات الإسلامية 1
4. اللغة الإنجليزية للدراسات الإسلامية 2
هـ- مادة واحدة من المواد اللاصفية ... 2
2
2
2
2
2
2
2
2
3
جـ - مواد إجبارية للدراسات الإسلامية
1. العقيدة الإسلامية
2. الأخلاق والتصوف
3. أصول فقه 1
4. علوم القرآن
5. علوم الحديث
6. سيرة الرسول ... 2
2
2
2
2
2
مجموع الوحدات ... 49
نوع المواد ... المادة ... الوحدات
2.مواد تخصص دراسات السنة وإدارة المعلومات ... مواد دراسات السنة(1/24)
تفسير آيات الأحكام
أحاديث الأحكام
موقف المشتشرقين من القرآن والسنة
علم رجال الحديث
علم التخريج
دراسة الأحاديث الضعيفة والموضوعة
تطبيقات بريل للمكفوفين في القرآن والسنة
دراسة القرآن والسنة في عصر التكنولوجيا
تاريخ تنظيم المكتبات الإسلامية
مصادر البحث في الدراسات الإسلامية
مدخل لدراسة المخطوطات الملايوية والإسلامية
دراسة ونقد المخطوطات الملايوية والإسلامية
الحديث كمصدر للأحكام
البحث العلمي
البحث العملي /والتجاري
مواد الملتيميديا
الخدمات والتسهيلات للمعلومات
نظام استرجاع المعلومات
تكنولوجيا إدارة شبكة المعلومات
الدراسات الستراتيجية في المعلومات
إدارة العلوم
المكتبات الرقمية ومصادر المعلومات
نظام استرجاع المعلومات
تكنولوجيا إدارة شبكة المعلومات
مدخل لتنظيم البيانات المركزية
تعامل الانسان مع الكمبيوتر ... 3
3
3
3
3
3
3
3
3
3
3
3
3
3
6
3
3
3
3
3
3
3
3
3
3
مجموع الوحدات ... 84
نوع المادة ... المادة ... الوحدات
4.مواد إختيارية ... 1. الإسلام والقضايا المعاصرة
2. أخلاق العمل الإسلامية
3. أدب الاختلاف
4. السياسة الشرعية ... 3
3
3
3
مجموع الوحدات ... 27(1/25)
وأدناه وصف لبعض المواد التي لم يرد وصفها في البرنامج السابق وتدرس في برنامج السنة وإدارة المعلومات:
1. الحديث كمصدر للأحكام
تركز هذه المادة على دراسة الأمور الأساسية والأصولية في دراسة الحديث دراسة تحليلية ونقدية وقضية حجية السنة كمصدر رئيسي في الإسلام، وكونها المصدر الثاني بعد القرآن الكريم. وهذه المادة مهمة لمواجهة المنكرين للسنة كليا أو جزئيا. وهي تبين أوجه حجية السنة بالبراهين من القرآن والسنة والعقل، وبيان الجذور التاريخية لظهور حركة المنكرين السنة في العالم الإسلامي من خلال التعرف على بعض زعماءهم ومناهجهم وأدلتهم تكميلا للمادة. وتتكلم أيضاً عن حجية حديث الآحاد وفق آراء العلماء. ومنهج المادة هو منهج التحليل والنقد ، وذلك لتدريب الطلبة على مهارة المناظرة.
التنظيم المكتبي والمعلومات
حلقة دراسية
2. سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -(1/26)
الهدف من هذه المادة هو البحث عن حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - استناداً إلى القرآن والسنة والمصادر الأخرى المتعلقة بسيرة الرسول.وتناول هذه المادة العناوين المتعلقة بها من خلفية شبه جزيرة العرب، والتعرف على أحوال مكة المكرمة وحياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأهله ما قبل البعثة، وبدء الوحي ودعوته - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الأوليين، ومعارضة قريش للدعوة، وخطوات النبي - صلى الله عليه وسلم - في مواجهة المعارضة. والهجرة إلى الحبشة ويثرب، والدولة الإسلامية في المدينة، وصحيفة المدينة، وعلاقة قريش باليهود وقبائل العرب، والعناصر الخارجية، ووضع جزيرة العرب في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأحوال النبي - صلى الله عليه وسلم - كونه إنساناً عادياً، ورسولاً، وقائداً ، وزوجاً، وأباً، وكونه قدوة حسنة في بناء شخصية المسلم وبناء المجتمع.
3. تاريخ المكتبات الإسلامية دورها وتطورها(1/27)
هذه المادة عبارة عن مدخل إلى أهمية الكتاب في المجتمع الإسلامي وتاريخ المكتبة ومراكز العلوم الأساسية الإسلامية منذ بداية تاريخ الإسلام إلى الآن. وتتحدث المادة عن القضايا المتعلقة بالكتب والمكتبة الإسلامية والمسائل المتعلقة بطباعة الكتب وتصنيفها ونشرها وقراءتها وبجانب ذلك تتكلم أيضاً عن تاريخ المكتبات وتطورها في الحضارة الإنسانية خصوصاً في شبه الجزيرة الملايوية. وتعد هذه المادة ذات أهمية كبرى في تعريف الطلبة بفلسفة المكتبة ودورها في بناء المجتمع المثقف. والهدف منها هو التعريف بالعناصر الرئيسية في تكوين المكتبة وإدارة المصادر الإسلامية الكاملة. وتتكلم أيضاً لجزء تكميلي للمادة عن الأمور المتعلقة بتحديات العصر للمكتبة الإسلامية ومسائلها خصوصاً في ضوء التطور التكنولوجي للمعلومات والاتصالات.
4. الحصول على المعلومات(1/28)
تتناول هذه المادة دراسة تخزين البيانات والمعلومات و استرجاعها ضمن منظور إدارة العلم. كما أنها تركز في: أشكال قيام البيانات algorithms ، و دراسة النصوص، أسئلة (query)، ونماذج مهمة في استرجاع المعلومات، و بناء الفهرس الآلي، مع مراعات اللغة، وتقييم التركيب للنظام والاستخدام والمسائل المتعلقة بها حسب التطور التكنولوجي الحديث نحو CD-ROM، OPEC و غيرها. وتركز إلى جانب الاستخدام المؤثر المتقن على منظور المكتبة وإدارة مراجع ومصادر المعلومات.
5. دراسة نظام استرجاع المعلومات
تهدف هذه المادة إلى التعريف بفكرة نظام استرجاع المعلومات وأجزاء المتكامل منها: الملف، البينات وأشكالها واستخدامها ونظامها. وتركز أيضا في جوانب أخرى متعلقة بمجال الإتصال واللغة كمهارة أساسية للطلبة في الدراسة المتعلقة بميدان المعلومات. أما التركيز الأهم فهو في كيفية تركيب نظام استرجاع المعلومات المكتبية ومضمونه. لتزويد الطلبة بمهارة استعمال بعض البرامجيات في نظام استرجاع المعلومات المعهودة في مختلف المعاهد في إدارة المعلومات.
6. تكنولوجيا الملتيميديا/ مختلفة الوسائل في إدارة البيانات(1/29)
الهدف من هذه المادة هي إعطاء معرفة أساسية عن أنواع تكنولوجيا الملتيميديا (مختلفة الوسائل) بشكل عام، والتي يمكن اعتمادها في إدارة نظام المعلومات. كما تتناول المادة أيضاً الصيغ والأفكار المختلفة مثل: ملتيميديا (مختلفة الوسائل)، (النص العالي) hypertext، (الوسائل العالية) hypermedia، إنهاض الوسائل (media) نحو الخطوط البيانية (graphic) والصوت الموسيقي، والصور المتحركة (animation) وطريقة الاندماج بين كل هذه الوسائل باستعمال برنامج خاص، يعتبر كمكمل في معرفة علاقة البرامج مختلفة الوسائل، ومناهجها، ودورها، في الوصول إلى الحد الأقصى من إدارة البيانات لهيئات معينة أو نظام المعلومات.
7. إدارة شبكة المعلومات
تدرس هذه المادة أساسيات شبكات الكمبيوتر، ومن ضمنها الربط والمعاملة بين الكمبيوترات وTERMINAL والبروتوكول المطبق وOSI وPROTOCOL POLLING SELECTION وشبكات الأقمار الصناعية، وشبكات الكمبيوتر المحلي (WAN & LAN) وشبكات الكمبيوتر الشخصي، وغير ها، وذلك من ناحية التطبيق وإدارة النظام.
8. دراسة الكتب والمصادر الإسلامية(1/30)
الهدف من هذه المادة تنمية مهارة الطلبة على التعامل مع مصادر المعلومات الرئيسية والثناوية ؛ MONOGRAF، الكتب، والمجلات، والتقارير، ووثائق الحكومة، والنشرات، والقواميس، والموسوعات، والتقاويم وغيرها مما يعتبر جزءاً رئيسياً الحضارة العلمية للمجتمع. والتركيز أيضاً على أشكال المصادر، والمختارات، والفهارس الرئيسية التي أعدها علماء المسلمين مثل: كشف الظنون وغيرها. وأنها تعتبر الهيكل الرئيسي لهذه المادة في التعريف بمصادر المعلومات الإسلامية ومنهج فهرستها وتصنيفها، وهي مكملة للمصادر الالكترونية الحديثة وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات.
محادثة حرة
9. مناهج البحث العلمي(1/31)
تركز هذه المادة إهتماماتها على إجراءات البحث العلمي بدءا من معرفة المشاكل المتعلقة بالبحث وانتهاء بالنتائج التي سيتحصل عليها هذا البحث. ومن الموضوعات التي ستتناولها المادة بالشرح والإيضاح : فلسفة وأخلاقيات البحث العلمي، العناصر الأساسية في البحث ، الهيكل العام للبحث، والاستبيان، قواعد جمع المعلومات، إختبار المعلومات، غربلة وتنقيح المعلومات، عملية تحليل وتقييم المعلومات وعلاوة على ذلك فإن ه المادة ستقوم بشرح كيفية إعداد خطة البحث وكيفية إعداد التقرير الأخير للبحث.
10. موقف المستشرقين من القرآن والسنة
تتناول هذه المادة تاريخ ظهور المستشرقين وأهدافهم بإيجاز. وتدور المناقشة أيضا حول موقفهم من الإسلام والنبي محمد صلى الله عليه وسلم وآرائهم وموقفهم من القرآن والسنة مع ضرب الأمثلة والقضايا التي يؤثرونها.
11. التدريب العملي الميداني:(1/32)
وهو مادة إجبارية يجب على الطالب النجاح بها، وتتكون من 6 وحدات دراسية ويحصل الطالب فيها على تقدير من غير أن يحسب ذلك لبتقدير في المعدل التراكمي العام له، ويؤخذ هذا التدريب العملي في المؤسسات الحكومية الأخرى خارج الجامعة بما يتناسب ةتخصص الطالب،وقد حددت الجامعة هذه المؤسات مسبقاً. ويهدف هذا التدريب لتعريف الطلاب بأجواء العمل الميداني وممارسته عملياً وتطبيق المواد التي درسوها في الجامعة في تلك المؤسسات، كما يهدف إيضاً إلى إيجاد علاقة عملية بين الجامعة والمجتمع خارجها.
12. إدارة المكتبات ومراكز المعلومات(1/33)
هدف من هذه المادة هو لمناقشة عن جوانب هيئة وإدارة المكتبات والمراكز المعلومات، متعلقا بإنشاء مجموع. وداخل في المناقشة أمور آتية، وهي: النظري، العملية وتقنية التصنيف، وعمل الفهرس، وترتيب، كتابة ملخص المعلومات فهرستها على طريق منوال و كمبيوتر. وناقش أيضا عن أمور متعلقة بالمشاكل ودور الطلبة في رفع مستوى تأثير إدارة المعلومات في هيئة المعارف والمعلومات. كما ناقشت أيضا عن مسائل متعلقة ببوليصة، ترويج الخدمات المكتبية، إرجاع المجموع وحفظه، وتنفيذ وترتيب المواد في الرفوف وغير ذلك. ويتمنى في نهاية المادة استطاع الطلبة أن تقوم بعملية الفهرست، والتصتيف، والفهرس، والملخص على طريق المنوال والرقمي (كمبيوتر).
13. تطبيقات نظام بريل للمكفوفين في دراسات القرآن والسنة(1/34)
تتناول هذه المادة دراسة عن النظرية المتعلقة بنظام بريل للمكفوفين والتدريب عليه . وتتضمن هذه النظرية عدة أمور متعلقة بحركات اليد والعين أثناء الطباعة، ومقدار سرعة الطباعة. والتدريب في هذه المادة يكون بشكل مستمر حتى يتمكن الدارس من إتقان المهارات المتعلقة بالنظام. وقراءة بريل للمكفوفين تطبق في تلاوة الآيات القرآنية و وقرآءة نصوص السنة النبوية في مستوى المدارس الأساسية والمتوسطة والعالية. والحاجة إلى تعليم هذه المادة تكمن في:
أهميتها في جانب تعليم القرآن والسنة وتعلمهما خصوصاً لدى المكفوفين.
قلة في عدد المسلمين الماهرين بنظام بريل للمكفوفين.
كونها جزء من تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، حيث لا يوجد حتى الآن بديل لنظام بريل لكونه واسطة جيدة في تعليم المكفوفين وتعلمهم في ماليزيا.
تزوّد طلبة كلية دراسات القرآن والسنة بمهارات إضافية في ميدان التعليم المعاصر، من خلال تمكنهم على مهارة النظام بشكل تكنيكي و تنفيذي.(Applied and technical).
14. إدارة وربط أنظمة المعلومات(1/35)
تعتبر هذه المادة مدخلاً إلى نظام شبكة الكومبيوتر. ومن العناوين الرئيسية لهذه المادة هي الاتصال بين الكمبيوتر ومحطته، وأنواع البروتوكولات، TCP/IP وأنواع الشبكات مثل شبكة المناطق المحلية (LAN)، وشبكة المناطق الواسعة (WAN) وغيرها، مع التركيز في الشبكات المستخدمة في المكتبات و إدارات المعلومات. وتكلم أيضا في المسائل المتعلق بتكنلجي الإتصالات، أنواعه ودوره في نشر العلم والمعلومات كـVIDEO-CONFERENCING، TELETEX، وقانة الاتصال الرقمية وغيرها.
15. المكتبات الرقمية ومصادر المعلومات
تناول هذه المادة مسائل في النهوض بالمكتبات الرقمية. وتتناول هذه المادة بعمق الجوانب المتعلقة بالتعريف، والمسائل الخرافية، والتحديات، ومشاكل النهوض بالمكتبات الرقمية وإدارتها. وستتناول هذه المادة الموضوعات الأخرى التي تتعلق بدور شبكة الانترنت، والبحث الصرفي، ونظام إدارة استرجاع المعلومات، وترتيب الفهارس، وحفظ حقوق المخترع، ونظام إرسال الوثائق، والإدارة، والاسهام، والتخطيط الإستراتيجي في النهوض بالمكتبة الرقمية. وبجانب ذلك تعتبر المادة متممة للمدخل إلى جمع مصادر المعلومات على شكل رقمي للاستعمال المتنوع وإدارتها.(1/36)
16. مدخل إلى دراسة المخطوطات الملايوية والإسلامية
تعتبر المخطوطات إحدى المصادر الرئيسية للمعارف والمعلومات المتعلقة بالدراسات الإسلامية. وأنها تعبر عن مستوى التطور العلمي والفكري والثقافي للشعوب. ودراسة المخطوطات وتحليلها تحتاج إلى منهج خاص لأجل الاستفادة منها ونشرها. وقد سابق الباحثون الغربيون بقية الأمم في جمع مخطوطات المسلمين وتسجيلها. لذلك فهم يملكون لمعارف دقيقة وكاملة عن التيار الفكري لكل مجتمع وتطور علومهم ومعارفهم. وخاصة في ماليزيا، حيث توجد آلاف المخطوطات الملايوية الإسلامية والتي تعد من تراث السابقين الأولين. وتعطي هذه المادة مدخلاً في أهمية المخطوطات، وظهور كتابة المخطوطات في تاريخ الإسلام خصوصاً في الجزيرة الملايوية، وترجمة العلماء المشهورين الذين أسهموا في تطور المعارف، وتبين أيضاً أنواع المخطوطات وأشكالها ومصادرها وتسجيلها وفهرستها وما يتعلق بها.
17. المكتبات الرقمية ومصادر المعلومات(1/37)
تناول هذه المادة مسائل في النهوض بالمكتبات الرقمية. وتتناول هذه المادة بعمق الجوانب المتعلقة بالتعريف، والمسائل الخرافية، والتحديات، ومشاكل النهوض بالمكتبات الرقمية وإدارتها. وستتناول هذه المادة الموضوعات الأخرى التي تتعلق بدور شبكة الانترنت، والبحث الصرفي، ونظام إدارة استرجاع المعلومات، وترتيب الفهارس، وحفظ حقوق المخترع، ونظام إرسال الوثائق، والإدارة، والاسهام، والتخطيط الإستراتيجي في النهوض بالمكتبة الرقمية. وبجانب ذلك تعتبر المادة متممة للمدخل إلى جمع مصادر المعلومات على شكل رقمي للاستعمال المتنوع وإدارتها.
18. إستراتيجية إدارة نظام المعلومات
إن وجود نظام معلومات متقن ومنضبط يستند إلى مهارة التنفيذ وحسن التدبير. والوعي بمدى الحاجة لذلك، وهذه المادة تقدم فكرة إستراتيجية إدارة نظام المعلومات، وعلاقتها بنظام تنفيذ البيانات، و تناول المادة بالتفصيل عن بعض العناوين الأخرى التعلقة، منها: الأهداف، ودراسة الحاجيات، والتخطيط، والأدوار، والمعارف والاستعمال، والتقرير والتنفيذ.
19. تعامل الإنسان مع الكمبيوتر(1/38)
تتناول هذه المادة بعض القضايا المتعلقة بتعامل الإنسان مع الكمبيوتر وتدخل فيها الأمور الآتية: أشكال الإتصالات وأسبابها وهيكالها وهيئات الاتصالات. وتتناول أيضاً أنواع اتصالات الإنسان الواقعية بالكمبيوتر في الأسواق.
20. دراسة المخطوطات الملايوية الإسلامية وتحليلها
هذه المادة تعتبر مكملة لدراسة المخطوطات. وتتعلق بتسجيل المخطوطات، وتحقيقها، وحفظها. بجانب دراسة عن بعض التسجيلات الرئيسية للمخطوطات وفهارسها، و منهج دراسة المخطوطات وتحليلها من الجانب التقني ومضمونها. وهذه المادة تركز على الجوانب النظرية والتطبيقية، لغرض تعريف الطلبة بمنهج دراسة مخطوطات مختارة بشكل العملي.
21. إدارة العلم(1/39)
تركز هذه المادة في قضايا العلم في نظر هيئة المعارف لكونها واسطة في إذاعة ونشر المعلومات ودورها معتمدة على الجوانب التاريخية والاجتماعية. من أجل ذلك تتناول هذه المادة مدخلاً إلى إدارة العلم وعلاقتها بنظام المعلومات وهيئة (agent) المهارة (professional) بالمعلومات، منها: لتنمية، إدخال و codification اشتراك العلم واستعماله في مختلف الأنواع والأشكال. والتركيز فيها هو حول تقنية الإدارة ودور حضارة الهيئة في إدارة العلم.
22. خدمة المعلومات وتسهيلاتها
هذه المادة تهدف للتعريف بفكرة المعلومات والمجتمع وتعريفها ونظرياتها من وجهة نظر المجتمع العالمي عامة وفي المجتمع الماليزي خاصة. ومناقشة قضية تغيير مستوى المعلومات، حيث يتم تغيرها من كونها بضاعة إجتماعية إلى كونها بضاعة إقتصادية حسب تغير الأمصار. كما أنها تتعلق بجانب تنمية المكتبة والمرجع المركزي، والقوانين، والتسهيلات، والتخطيط الإستراتيجي، ومسائل العمل في الهيئات المعنية وفرصها اعتماداً على المعلومات والمعارف.
23. دراسة القرآن والحديث في عصر أي سي تي
The Study of Al-Qur’an And Al-Hadith In The Era Of ICT(1/40)
تناقش هذه المادة القضايا الأساسية المتعلقة بالمناهج في دراسة القرآن والسنة كما لدى العلماء في كتبهم. وفيها تعريف بمناهج وتاريخ العلماء البارزين في مجال القرآن والسنة، مع التركيز على القضايا المتعلقة بهما في العصر الحاضر وكيفية معالجتها.
بالإضافة لهذه البرامج التي تقدمها كلية دراسات القرآن والسنة بشكل متخصص، تقدم الجامعة أيضاً مواد من السنة النبوية الشريفة للكليات العلمية مثل كلية الطب والعلوم الصحية وكلية طب الأسنان ومن هذه المواد مايلي:
24. حفظ القرآن الكريم
تدرس هذه المادة في كل فصل دراسي لطلبة كلية الطب وطب الأسنان ولمدة الدراسة كاملة ويحفظ فيها مابين خمسة إلى ستة أجزاء من القرآن الكريم.
25. الحديث 1 ... ... ... ... ... ... ... ...
تتضمن هذه المادة دراسة في الحديث النبوي الشريف من خلال تعريف الحديث النبوي الشريف وأقسامه ومصطلحاته، وأشهر الكتب فيه، ودراسة نماذج من الأحاديث النبوية الشريفة في مواضيع الأخلاق والعقيدة والعلم والطب، في كتب شروح الحديث على اختلاف مذاهبها، وبيان معاني الأحاديث والفوائد والأحكام المستنبطة منها وذكر الآيات التي تعززها، ويلزم الطلاب بحفظ بعض الأحاديث.(1/41)
26. الحديث 2 ... ... ... ... ... ... ... ...
تتضمن هذه المادة دراسة جملة مختارة من الأحاديث النبوية الشريفة، التي ترتبط بالعلم والتي تعزز المعرفة بالإعجاز العلمي في الأحاديث النبوية الشريفة، أو ما يرتبط منها بالعلوم المعاصرة، وما يحث عليها لزيادة ثقافة طالب الطب بالسنة النبوية والارتباط الكبير بينها وبين العلم في كل عصر وزمان.
27. التفسير 1 ... ... ... ... ... ... ... ...
يدرس في هذه المادة تعريف القرآن والتفسير وأقسامه، وأشهر الكتب فيه كما تقوم على دراسة نماذج مختارة من الآيات القرآنية من مختلف سور القرآن الكريم في موضوع الأخلاق والطب وما يرتبط به من علوم والتفسير العلمي والتحليلي لتلك الآيات ودراسة مفرداتها وتراكيبها، وبيان المباحث اللغوية فيها والاعجاز القرآني وما يستنبط منها من مواعظ وعبر.
28. التفسير 2 ... ... ... ... ... ... ... ...(1/42)
تقوم هذه الدراسة على دراسة الآيات القرآنية المتعلقة بموضوعٍ معين وتنحصر في الآيات المتعلقة بالمحرمات من الأطعمة والأشربة، وخلق الإنسان وخلافته في الأرض، وخلق الحيوانات والحكمة من ذلك، من خلال كتب التفسير بمناهجها المختلفة، لغرض تعريف الطلاب بعظمة الخالق وعظمة القرآن الكريم، وما جاء به من رحمة وخير للبشرية، وتقوية مهاراتهم الذهنية في الربط بين العلم والإيمان.
29. الإعجاز العلمي والطبي في القرآن الكريم والسنة ... ...
تقوم هذه المادة على دراسة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، وتدرس معنى الإعجاز ووجوهه في القرآن والسنة، ودراسة آيات مختارة من القرآن الكريم منها ما يتعلق بأصول نشأة الإنسان ومراحل تكوينه، وآية النحل وسر الإعجاز فيها، وسر تحريم بعض الأطعمة كالخنزير والميتة، والخمر.
وحديث الذبابة والداء والدواء، وحديث مراحل خلق الإنسان ونفخ الروح فيه، وحديث التداوي بالعسل، وحديث مفاصل الإنسان، وحديث عجب الذنب.
30. تاريخ الطب في الإسلام(1/43)
يدرس في هذه المادة نبذة عن التاريخ الإسلامي ومصادره ، والتركيز على تاريخ الطب في الإسلام منذ عصر النبي صلى الله عليه وسلم، وإسهامات الأطباء المسلمين في العلوم الطبية وغيرها بين الماضي والحاضر، كدراسة ابن سينا والخوارزمي، وابن الهيثم، وابن النفيس، وابن القف، والزهراوي، والرازي، وغيرهم من العلماء المسلمين الذين أسهموا إسهاماً كبيراً في مختلف مجالات الطب كالجراحة والقلب وطب العيون والأمراض الجلدية وغيرها.
كل هذه المواد تدرس باللغة العربية، وبالإضافة لهذه المواد تدرس مادة اللغة العربية بمهاراتها المختلفة لطلبة كلية الطب وطب الأسنان لتقوية ملكتهم على فهم النصوص الشرعية والدراسات الإسلامية من مصادرها الأصلية.
وهناك برنامج ثالث تقدمه كلية دراسات القرآن والسنة هو برنامج دراسات القرآن والملتي ميديا ومواده كما يلي:
تحلي محتوى برنامج القرآن والملتيميديا
نوع المادة ... اسم المادة ... الوحدات
1. مواد إجبارية جامعية ... أ. مادتي الحضارة الإسلامية والآسيوية
1. الحضارة الإسلامية والآسيوية
2. التعايش في المجتمع المتنوع الأعراق ... 2
2
ب. مواد في الدراسات العامة
1. المدخل إلى تكنولوجيا المعلومات(1/44)
2. الفكر النقدي والإبداعي
3. المدخل إلى علم العلاقات والاتصالات
4. مبادىء الإدارة النوعية
5. مناهج البحث العلمي
6. حلقة دراسية
7. محادثة حرة ... 2
2
2
2
2
1
1
جـ- المهارات اللغوية العربية
1. مهارة القراءة
2. مهارة المحادثة والخطابة
3. مهارة الكتابة
4. مهارة الاستماع والفهم
5. العربية الاتصالية
د- المهارات اللغوية الإنجليزية
1. اللغة الإنجليزية 1
2. اللغة الإنجليزية 2
3. اللغة الإنجليزية للدراسات الإسلامية 1
4. اللغة الإنجليزية للتجارة 1
هـ- مادة واحدة من المواد اللاصفية ... 2
2
2
2
2
2
2
2
2
3
مواد جامعية إجبارية ... جـ - مواد إجبارية للدراسات الإسلامية
1. العقيدة الإسلامية
2. الأخلاق والتصوف
3. أصول فقه 1
4. علوم القرآن
5. علوم الحديث
6. سيرة الرسول ... 2
2
2
2
2
مجموع الوحدات ... 49
نوع المواد ... المادة ... الوحدات
2.مواد تخصص دراسات القرآن والملتيميديا ... مواد دراسات القرآن
تفسير آيات الأحكام
أحاديث الأحكام
موقف المشتشرقين من القرآن والسنة
تفسير 1
تفسير 2
تطبيقات بريل للمكفوفين في القرآن والسنة
دراسة القرآن والسنة في عصر التكنولوجيا
علم التجويد
ضبط رسم القرآن الكريم والفواصل(1/45)
الترنم
قراءات عملي 1
قراءات عملي 2
البحث العلمي
إعجاز القرآن
منهج تدريس القرآن والحفظ
البحث العملي/ التجاري
مواد الملتيميديا
المدخل لبرمجة مواقع الانترنت
المدخل للرسم البياني لمواقع الانترنت
البرمجة المبنية على شيء
الرسم البياني المتقدم لمواقع الانترنت
الشبكات وإدارة النظام
نظام إدارة قاعدة المعلومات ملتيميديا
تكنولوجيا ملتيميديا والتطبيق
تكنولوجيا ملتيميديا والتطبيق المتقدم
تفاعل الإنسان مع الكمبيوتر
ملتيميديا الانترنت ... 3
3
3
3
3
3
3
3
3
3
3
3
3
3
6
3
3
3
3
3
3
3
3
3
3
مجموع الوحدات ... 81
نوع المادة ... المادة ... الوحدات
4.مواد إختيارية ... 1. الإسلام والقضايا المعاصرة
2. أخلاق العمل الإسلامية
3. أدب الاختلاف
4. السياسة الشرعية ... 3
3
3
3
مجموع الوحدات ... 27
1. أما الجانب التقدي لمحتوى الخطط الدراسية(1/46)
فتعتبر هذه الخطط الدراسية جديدة في محتواها وتصميمها وخصوصاً في مجال الدراسات الشرعية حيث يتم الربط فيها بين العلوم الحديثة والعلوم الشرعية لغرض تفعيل العلوم الشرعية وخصوصاً السنة النبوية الشريفة في الحياة العملية للإنسان والمجتمع، وفي نفس الوقت خلق فرص عمل لخريجي الدراسات الشرعية في مختلف الدوائر الحكومية أو الشركات وغيرها من التي تتعامل بالطرق الإسلامية في إدارة أعمالها، وفي البنوك الإسلامية التي بدأت تنتشر في جنوب شرق آسيا وفي العالم الإسلامي عموماً حيث يتمكن هؤلاء الخريجون من إدارة التكنولوجيا الحديثة مع التمكن من الشريعة الإسلامية بشكل عام والقرآن والسنة بشكل خاص.
ومن أهم المآخذ على هذه الخطط الدراسية مايلي:
مواجهة الطلبة لبعض الصعوبات في دراسة السنة النبوية وخصوصاً مسألة اللغة العربية حيث تدرس كل المواد الشرعية باللغة العربية.
اعتماد بعض الكتب في السنة النبوية التي تكون أعلى من مستوى الطالب اللغوي والعلمي الذي يؤهله لدراسة هذه المواد.
صعوبة فهم بعض النصوص في السنة النبوية وغيرها لضعف اللغة، أو اعتماد اترجمة في بعض الأحيان مما يجعل الطالب يتكل عليها ولايحاول الفهم بلغة الكتاب.(1/47)
البيئة المحلية وصعوبة تفعيل السنة النبوية بالشكل المطلوب، وبسبب بعض الأعراف والتقاليد.
ومن أهم المزايا التي تتميز بها هذه الخطط الدراسية مايلي:
إن جامعة العلوم الإسلامية تعد الجامعة الأولى في منطقة جنوب شرق آسيا والتي تقدم مثل هذه البرامج الدراسية.
محاولة تفعيل السنة النبوية في المجتمع الماليزي المسلم والدفع نحو الالتزام بتعليم السنة النبوية المطهرة.
دراسة الأحاديث الشائعة في المجتمع ومحاولة تنقيتها من الأحاديث الضعيفة والموضوعة من خلال إشاعة روح التحري والدقة في استعمال الحديث الصحيح والابتعاد عن غيره.
إشاعة الأخلاق الإسلامية الصحيحة التي تضمنتها السنة النبوية في المجتمع الماليزي المسلم.
ربط المواد الحديثية بكل التخصصات الشرعية في الجامعة.
تثقيف طلبة التخصصات العلمية كالطب وطب الأسنان والصيدلة والهندسة والعلوم بالقرآن والسنة النبوية من خلال تدريس أربع مواد قرآنية وحديثية وبواقع 4ساعات في كل فصل دراسي.
2. أما الصعوبات والتحديات التي تواجه الجامعة في هذه الخطط الدراسية فأهمها مايلي:
ضعف تصميم المناهج في السنة النبوية للناطقين بغير اللغة العربية.(1/48)
قلة الكادر التدريسي المتخصص في طرق وأساليب تدريس السنة النبوية.
عدم وجود تخصص دقيق في السنة النبوية في الجامعات الماليزية التي تخرج المحاضرين.
قلة المصادر القديمة في السنة النبوية في الجامعة .
قلة اهتمام المتخصصين في الدراسات الشرعية بالحديث النبوي.
عملية انتقاء الأحاديث التي تدرس للطلبة في الجامعة وافتقارها إلى منهج علمي صحيح في ذلك.
قلة الدورات التدريبية والتنشيطية للكادر التدريسي في الجامعة بما يتلائم وتخصص كل محاضر.
مستوى المواد التي تدرس يكون في بعض الأحيان أعلى من مستوى الطلبة.
3. من أهم الخبرات التي اكتسبتها الجامعة من خلال هذه الدراسات والإنجازات فكمايلي:
إنشاء معمل لتخريج الحديث ونصوص السنة النبوية.
ربط طرق تدريس السنة النبوية بالتقنيات التربوية الحديثة.
دراسة الأحاديث النبوية الشائة في المجتمع الماليزي سواء على لسان الأئمة والخطباء أم على لسان العامة المسلمين في المجتمع الماليزين من أجل تنقيتها من الأحاديث والنصوص الضعيفة والموضوعة التي درج الناس عليها، من خلال إجراء البحوث والدراسات التطبيقية والميدانية على الظواهر الاجتماعية السائدة والمساجد في ماليزيا.(1/49)
تواصل الجامعة مع المجتمع لتقديم السنة النبوية بشكلها الصحيح وتطبيقها في المجتمع، ومحاربة الظواهر المخالفة لها، وذلك من خلال عقد المؤتمرات والندوات والدورات للأئمة والخطباء والدعاة في ماليزيا وبلدان جنوب شرق آسيا، وتثقيفهم بالسنة النبوية الصحيحة وإرشادهم إلى كيفية تفعيلها في المجتمع.
أقامت الجامعة دورات في ذلك للأئمة والخطباء والدعاة من الصين في مجال السنة النبوية والعلوم الشرعية الأخرى لتعليمهم المنهج الصحيح في العلم والدعوة وإطلاعهم على العلوم الشرعية الصحيحة ومنهجها السليم.
لدى الجامعة مشروع لإنشاء مركز لدراسة المخطوطات الخاصة بالسنة النبوية في منطقة الملايو في جنوب شرق آسيا.
الخلاصة(1/50)
تعتبر جامعة العلوم الإسلامية من الجامعات المتميزة، في ماليزيا وبلاد الأعاجم الإسلامية حيث تدرس كل المواد الشرعية فيها باللغة العربية، وأنها تقدم برامج دراسية قادرة على مواكبة التطور العلمي في العصر الحاضر، ويكون لدى الخريجين قدرة على العمل في مختلف ميادين العمل استناداً لما يحملونه من معرفة بالعلوم والتكنولوجيا الحديثة والعلوم الشرعية التي يجب على المسلم أن ينظم حياته وفق الشرع الإسلامي، كما أنها تعد رائدة في مجال التثقيف الإسلامي المتميز لطلبة العلوم الأخرى لكي يكونوا مستقيمين ويسهمون في بناء مجتمع إسلامي حضاري يتفاعل مع الحياة العصرية بما ينسجم وشرع الإسلام، ولجعلهم باحثين في ما يبين عظمة القرآن الكريم وإجازه الذي يتجدد كلما تجدد العلم وتطور، من خلال دراستهم للإعجاز القرآني والآيات التي تتضمن صوراً من ذلك الإعجاز ومن خلال التجربة العملية في الطب نحو العظمة الربانية في خلق الإنسان وغيرها مما يتفاعل معه طالب العلوم الطبية ليرى ويظهر عظمة الخالق في كل مايدرسه من علوم، فلو عملت الجامعات في البلاد الإسلامية على توظيف مثل هذا المنهج من تربية طلبة العلم تربية صحيحة لأنتجت أجيالاً مثقفة(1/51)
دينياً ومتفوقة علمياً لما في دين الإسلام من أهمية للعلم والمعرفة والتفوق الذي ننشده لأمة الإسلام على سائر الأمم، حيث تملك الأسس الربانية العظيمة لذلك التفوق والرقي ولكن الكثير من بلدان المسلمين توجهت نحو تلك العلوم والتفوق بها بعيداً عن العلوم الدينية التي يحتاج إليها كل مسلم مهما كان تخصصه وفي أي علم كان.
هذا وأسأل الله تعالى أن يوفق أمتنا للتمسك بدينها والحفاظ على هويتها وسلوك طريق التفوق وبناء الحضارة الإسلامية من جديد من خلال بوابة الإسلام الحنيف التي تؤدي إلى الخير والرقي.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين(1/52)
الحوار التربوي في السنة النبوية ودلالاته التربوية
الباحث : د . أحمد محمد عقلة الزبون
جامعة البلقاء التطبيقية / كلية عجلون الجامعية
2006 /2007 م
مقدمة الدراسة وأهميتها :
قال تعالى : " ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين " ( النحل : الآية 125 ) .
الحمد لله الذي جعل الحوار منهجاً تربوياً للمدرسة الإسلامية الكبرى ، والصلاة والسلام على مربي البشرية الأول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي امتثل لأمر ربه ، فحاور أصحابه بالحكمة والموعظة الحسنة ، وجادل أهل الشرك بالتي هي أحسن ، فكانت نتيجة هذا الحوار وهذه المجادلة أن دخل الناس في دين الله أفواجا .(2/1)
إن من أبرز المزايا التي اختص بها الحوار التربوي الإسلامي عالمية الحوار المستمدة من عالمية الدين الإسلامي ، أكد هذا رب العزة في محكم تنزيله إذ قال : " وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا " ( الحجرات : الآية 13 ) أي ليعرف بعضكم بعضاً من خلال التحاور المؤدي إلى التعارف والتحاب بين بني البشر فالحوار بهذا المعنى ظاهرة إنسانية عالمية ، وضرورة حياتية يبررها التفاوت البشري في العقول والأفهام والأمزجة ، فقد قال تعالى مؤكداً هذا التفاوت والاختلاف : " ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم " ( هود : الآية 118 ) .(2/2)
ولما كان الحوار التربوي الإسلامي من أهم وسائل التفاهم بين الناس ، ومن أهم الوسائل الموصلة إلى الحق باعتباره فريضة شرعية وضرورة إنسانية ، فإن ذلك يلزم دعاة هذا الزمان أن يتفننوا في استخدامه بهدف الولوج إلى العقول والقلوب البشرية ، وإزالة أدران الجهل والتخلف منها وغرس محمود الفضائل وكريم الطباع . فيها فمن هنا تنبع أهمية هذه الدراسة في كونها من الدراسات التربوية التي ستحاول الكشف عن سماحة الإسلام وأهله ، الذين ارتضوا بالحوار منهجاً لحياتهم وسبيلاً لدعوتهم الإسلامية ، لا سيما في هذا الزمان الذي تتعالى فيه صيحات الحاقدين على الإسلام وأهله ، موجهة بهتانها وزورها إلى عزة الإسلام وكبريائه ، واصفة إياه بأنه دين العنف والإرهاب . لهذه الأهمية تأتي هذه الدراسة كي تؤكد المعاني الحقة والمبادئ العظيمة التي رسمها نبي الرحمة من خلال الحوار والمجادلة بالتي هي أقوم وأحسن وأهدى . فمن لدن هذا الواقع المعاصر ، جاءت هذه الدراسة فتناولت موضوعاً مهماً من المواضيع التربوية الإسلامية ، حيث ستعالج موضوع الحوار النبوي في السنة النبوية ودلالاته التربوية وذلك من خلال عدة محاور أهمها :(2/3)
أولاً : مفهوم الحوار في اللغة والاصطلاح .
ثانياً : أهداف الحوار التربوي في السنة النبوية .
ثالثاً : أنواع الحوار التربوي في السنة النبوية .
رابعاً :المنظومة القيمية للحوار التربوي في السنة النبوية .
خامساً : التطبيقات التربوية للحوار التربوي في السنة النبوية .
مشكلة الدراسة وأسئلتها :
تتناول الدراسة موضوع الحوار التربوي في السنة النبوية ودلالاته التربوية ، حيث سيحاول الباحث الكشف عن أهم الدلالات التربوية للحوار النبوي في السنة النبوية وبيان أهم أهداف هذا الحوار التربوي ، والوقوف على القيم الأخلاقية التي ارتكز عليها الحوار التربوي في السنة النبوية ، ثم ربط هذا الجهد النظري بالواقع والتطبيق التربوي من خلال توضيح بعض التطبيقات التربوية للحوار التربوي في السنة النبوية . وتحدد مشكلة الدراسة بـ " الحوار التربوي في السنة النبوية ودلالاته التربوية " من خلال الإجابة عن الأسئلة الآتية :
ما مفهوم الحوار عند أهل اللغة والاصطلاح ؟
ما أهداف الحوار التربوي في السنة النبوية الشريفة ؟
ما أنواع الحوار التربوي في السنة النبوية الشريفة ؟(2/4)
ما أهم القيم التي ارتكز عليها الحوار التربوي في السنة النبوية الشريفة ؟
ما أهم التطبيقات التربوية للحوار التربوي في السنة النبوية الشريفة ؟
أهداف الدراسة :
هدفت الدراسة إلى تحقيق المقاصد التالية :
استنتاج أهم الدلائل التربوية للحوار في السنة النبوية .
بيان أهداف الحوار التربوي في السنة النبوية .
توضيح أهم أنواع الحوار التربوي في السنة النبوية الشريفة .
تتبع أهم القيم التربوية التي استند عليها الحوار النبوي في السنة النبوية .
الوقوف على أهم التطبيقات التربوية للحوار التربوي في السنة النبوية الشريفة .
مصطلحات الدراسة :
الحوار التربوي : أن يتناول الحديث طرفان أو أكثر عن طريق السؤال والجواب ، بشرط وحدة الموضوع أو الهدف ، فيتبادلان النقاش حول أمر معين وقد يصلان إلى نتيجة ، وقد لا يقنع أحدهما الآخر ، ولكن السامع يأخذ العبرة ويكون لنفسه موقفا .
السنة النبوية : هي كل ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خلقية أو خلقية .
حدود الدراسة :(2/5)
... ... ستقتصر الدراسة على دراسة موضوع الدلائل التربوية للحوار التربوي في السنة النبوية الشريفة ، وذلك من خلال الحوارات النبوية التي جرت بينه صلى الله عليه وسلم وبين أصحابه ، وبينه وبين مشركي مكة وأهل الكتاب من اليهود والنصارى .
منهجية الدراسة :
بما أن هذه الدراسة تتناول موضوع الحوار التربوي في السنة النبوية ودلالاته التربوية ، فإن المنهج الوصفي التحليلي هو المنهج المناسب لهذه الدراسة ، حيث سيقوم الباحث بوصف وتحليل أهم الحوارات التربوية التي دارت بين الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه وبينه وبين المشركين وأهل الكتاب للتوصل إلى أهم الدلائل التربوية التي تضمنتها تلك الحوارات التربوية .
إجراءات الدراسة :
اتبعت الدراسة عدة إجراءات من أهمها ما يلي :
- تحديد مصادر الدراسة المتمثلة بالمراجع الأولية والثانوية .
- استنباط مفهوم الحوار عند أهل اللغة والاصطلاح .
- استخلاص أهم الأهداف التربوية للحوار التربوي في السنة النبوية الشريفة .
- بيان أنواع الحوار التربوي في السنة النبوية الشريفة .
- إبراز أهم القيم التربوية التي استند إليها الحوار التربوي في السنة النبوية الشريفة .(2/6)
إيراد بعض التطبيقات التربوية للحوار التربوي في السنة النبوية الشريفة .
أولاً : مفهوم الحوار :
أ – الحوار في اللغة : من حور، الحور : الرجوع عن الشيء وإلى الشيء ، حار إلى الشيء وعنه حوراً ومحاراً ومحارة وحؤوراً : رجع عنه وإليه ؛ وقول العجاج : في بئر لا حور سرى وما شعر أراد : في بئر لا حؤور أراد في بئر ماء لا يحير عليه شيئاً وفي الحديث : من دعا رجلاً بالكفر وليس كذلك حار عليه ؛ أي رجع إليه ما نسب إليه . ( ابن منظور ، 1955 ) .
وجاء في المعجم الوسيط : أن كلمة الحوار في اللغة مشتقة من تحاور وتحاوروا ، أي تراجعوا الكلام بينهم ، والحوار حديث يجري بين شخصين أو أكثر في العمل القصصي ، أو بين ممثلين أو أكثر على المسرح . ( مصطفى ، 1960 )
وذكر الأصفهاني ( د . ت ) بأن المراد بالحوار المرادة في الكلام ، ومنه التحاور قال الله تعالى : ( والله يسمع تحاوركما ) ( المجادلة ، الآية 1 ) .
ب – الحوار في الاصطلاح :
أورد العلماء تعريفات كثيرة للحوار من أهمها :(2/7)
عرف الهاشمي (1981 ) الحوار التربوي بقوله : " الحوار وسيلة تستخدم الإقناع الذاتي لتمحيص الأفكار والمعلومات السابقة ، واختبارها بطريق غير مباشر للتأكد من صحتها أو خطئها ؛ لذا فهي لا تعتمد التلقين المجرد القائم على الأمر والنهي أو على مجرد الإلقاء والسماع المطلقين ، فالحوار طريقة تقوم على المناقشة المتبادلة بين طرفين وتتخللها أسئلة وإجاباتها .
يرى الشيباني (1985 ) بأن الحوار تلك الطريقة التي تقوم على أساس الحوار والنقاش بالأسئلة والأجوبة للوصول إلى حقيقة من الحقائق لا تحتمل الشك ولا النقد ولا الجدل .
- وأشار زيادة ( د . ت ) إلى أن الحوار في جملته من الأساليب التي توظف لنقل معلومة لا بطريق الخبر وإنما من خلال السؤال والجواب أو رأيين يلتقيان أو يفترقان من حول الشيء ونقيضه مما يعطي الإطار الذي تنقل به المعلومة حيوية تفضل السرد الذي قد يشعر السأم والملل .
نستنتج من خلال ما تقدم من تعريفات بأن الحوار التربوي أسلوب تعليمي ، يستخدم فيه أطراف الحوار الأسئلة وإجاباتها ، بهدف إثارة أذهان المتعلمين ودفعهم إلى تمحيص الأفكار ومحاكمتها عقلياً ، للوصول إلى الحقائق التي لا تقبل الشك أو الجدل .(2/8)
ثانياً : أهداف الحوار التربوي في السنة النبوية :
استخدم الرسول صلى الله عليه وسلم أسلوب الحوار والمناقشة في العديد من المواقف التعليمية مع صحابته الكرام رضوان الله عليهم ، فقد كان صلى الله عليه وسلم يختار الأسلوب التربوي الذي يناسب المقام التعليمي ؛ لهذا فقد تنوعت الحوارات النبوية تنوعاً يتلاءم أيضاً مع الهدف المقصود المراد تحقيقه من الحوار ، فمن أهم أهداف الحوار التربوي في السنة النبوية ما يلي :
أ – الأهداف الوجدانية أو العاطفية :(2/9)
من أهم أهداف الحوار التربوي في السنة النبوية الشريفة إثارة عواطف المتعلمين وانفعالاتهم الوجدانية ، لما يترتب عليها من آثار تربوية طيبة ، تتمثل في انقياد المتعلم للسلوك الحسن والعمل الصالح ؛ لهذا فقد دأب الرسول صلى الله عليه وسلم في العديد من المواقف التعليمية على استخدام الحوار بهدف إثارة عواطف المتعلمين وتوجيه انفعالاتهم نحو الصالح من الأعمال . ففي غزوة حنين استخدم الرسول صلى الله عليه وسلم الحوار لإثارة عواطف الأنصار وتوجيهها التوجيه الصحيح ، وذلك عندما خطب الرسول صلى الله عليه وسلم بهم بعد غزوة حنين قائلاً : " يا معشر الأنصار مقالة بلغتني عنكم ، وموجدة وجدتموها في أنفسكم ؟ ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله ؛ وعالة فأغناكم الله ؛ وأعداء فألف بين قلوبكم ! "
قالوا : بلى ، لله ولرسوله المن ، والفضل .
فقال : " ألا تجيبوني يا معشر الأنصار ! " قالوا : وبماذا نجيبك يا رسول الله ؟ لله ولرسوله المن والفضل !(2/10)
قال : " أما والله لو شئتم لقلتم ، فصدقتم ولصدقتم : اتيتنا مكذباً فصدقناك ، ومخذولاً فنصرناك ، وطريداً فآويناك ، وعائلاً فآسيناك . وجدتم في أنفسكم يا معشر الأنصار في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوماً ليسلموا ، ووكلتكم إلى إسلامكم ! أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم ! فوالذي نفس محمد بيده ، لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار ، ولو سلك الناس شعباً وسلكت الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار ! اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار ، وأبناء أبناء الأنصار " قال : فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم ، وقالوا : رضينا برسول الله قسماً وحظاً . ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرقوا ( الطبري ، د . ت ) .
إن هذه التربية النبوية العظيمة وهذا الحوار النبوي العاطفي يدلان من الناحية التربوية على أمور عديدة ، من أهمها :
- الاعتماد على العواطف والانفعالات في المواقف الخطيرة يجب أن يسبقه تربية صحيحة وعميقة لهذه العواطف ؛ فقد ربى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه العواطف في نفوس الأنصار حتى أصبح الله ورسوله أحب إليهم من المال والولد والناس أجمعين ( النحلاوي ، 1979 ) .(2/11)
- مراعاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الأنصار بشر وليسوا ملائكة ، وأرادهم أن يدافعوا عن أنفسهم بشيء من القول ، فلما استحيوا منه دافع عنهم بالنيابة عن أنفسهم لئلا يترك في نفوسهم شيئاً من الوجد فقال : " أما والله لو شئتم لقلتم فصدقتم ولصدقتم : اتيتنا مكذباً فصدقناك ، ومخذولاً فنصرناك ، وطريداً فآويناك ....... " . وكأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول للمربين : يجب عليكم ألا تصدروا حكماً في المواقف الحرجة قبل أن تسمعوا ممن تتولوا تربيتهم ( النحلاوي ، 1979 ) .
ب: الأهداف المعرفية التوضيحية :
استخدم الرسول الكريم أسلوب الحوار التربوي لتوضيح الكثير من الأمور التي أشكلت على الصحابة الكرام ، وتعريفهم بالعديد من الحقائق المعرفية التي عجزوا عن فهمها والوقوف على معانيها ، وذلك من خلال التركيز على أسلوب طرح السؤال للكشف عن مدى فهم المتعلمين ومعرفتهم ، ثم يتولى بعد ذلك صلى الله عليه وسلم مهمة الإجابة عن الأمور التي سأل عنها .(2/12)
لقد ظهر هذا الأسلوب التربوي الفريد في عدة أحاديث للرسول الكريم ، لعل من أبرزها الحديث الذي يرويه أبو هريرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما سأل أصحابه قائلا : " أتدرون ما الغيبة ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال ذكرك أخاك بما يكره . قيل : أفرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال : إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته ( مسلم ، 2000 ) .
ففي هذا الحديث نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم اتخذ من هذا الأسلوب الحواري طريقة تربوية لتوضيح الفرق بين الغيبة والبهتان ، وهي من الأمور التي لا يستطيع الصحابة فهم معناها وإدراك حقيقتها لولا أن بينها الرسول صلى الله عليه وسلم ، فهو من أوتي القرآن ومثله معه فالمتأمل في آي الذكر الحكيم يجد أن الله سبحانه وتعالى استخدم هذا الأسلوب الحواري في تربية المؤمنين وتنقية سرائرهم من الغيبة ، وذلك من خلال قوله تعالى : " ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم " ( الحجرات : الآية 12 ) .(2/13)
كما حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على تعريف المؤمنين بأمور دينهم من خلال أسلوب الحوار التربوي ، ذلك الحوار الذي يبدؤه المسلمون بالسؤال بهدف إثارة تفكيرهم وتعويدهم السؤال عن الأمور التي يجهلونها ، فقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بارزاً يوماً للناس ، وفي رواية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سلوني " فهابوه أن يسألوه ، فجاء رجل فجلس عند ركبتيه فقال : يا رسول الله ، ما الإسلام ؟ قال : " لا تشرك بالله شيئاً ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان " . قال : صدقت . ثم سأله عن الإيمان والإحسان وموعد قيام الساعة . قال أبو هريرة : ثم قام الرجل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هذا جبريل أراد أن تعلموا إذ لم تسألوا " وفي لفظ للبخاري " هذا جبريل جاء يعلم الناس دينهم " ( البخاري ، د . ت )(2/14)
نستنتج من هذا الأسلوب الحواري النبوي توجيهاً نبوياً كريماً لمعلمي هذا الزمان ومربيه بضرورة تشجيع المتعلمين في أن يكونوا المبادرين في طرح السؤال ، لما في ذلك من أثر تربوي كبير يتمثل في اختيار المتعلمين الموضوعات التعليمية التي يرغبونها ، الأمر الذي يكون أشد أثراً ووقعاً في نفوسهم .
ج : الأهداف المعرفية العقلية:
قال تعالى مخاطباً معلم البشرية الأول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم : " ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ( النحل : الآية 125 ) فامتثل الرسول الكريم لهذا الأمر الإلهي ، وذلك من خلال محاورة غير المسلمين بالتي هي أحسن بهدف إقناعهم بالإسلام ، وتأليف قلوبهم بنعمة الإيمان . من ذلك مثلا محاورة الرسول صلى الله عليه وسلم للفتى الذي أراد أن يدخل في الإسلام شريطة أن يأذن له بارتكاب فاحشة الزنا ، فحاوره الرسول صلى الله عليه وسلم محاورة قائمة على الرفق والإقناع العقلي ، نتج عنها دخوله في دين الله بدون إكراه أو إجبار ، فقد روى أبو أمامة أن فتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ائذن لي بالزنا ، فأقبل(2/15)
القوم عليه فزجروه ، وقالوا : مه مه ، فقال صلى الله عليه وسلم : " أدنه فدنا منه قريباً قال فجلس . قال : أتحبه لأمك ؟ قال : لا والله جعلني الله فداءك . قال : " ولا الناس يحبونه لأمهاتهم " . قال : " أفتحبه لابنتك ؟ قال : لا والله يا رسول الله جعلني الله فداءك . قال : " ولا الناس يحبونه لبناتهم " . قال أفتحبه لأختك ؟ قال : لا والله جعلني الله فدائك . قال : " ولا الناس يحبونه لأخواتهم " . قال : " افتحبه لعمتك " قال : لا والله جعلني الله فداءك . قال : " ولا الناس يحبونه لعماتهم " قال : " أفتحبه لخالتك " قال : لا والله جعلني الله فداءك . قال : " ولا الناس يحبونه لخالاتهم " . قال : فوضع يده عليه وقال : " اللهم اغفر ذنبه ، وطهر قلبه ، وحصن فرجه " . فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء ( ابن حنبل ، د . ت ) .(2/16)
وحاور الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه بهدف إقناعهم بهوان الدنيا وقلة شأنها عند الله يوم القيامة ، وذلك عندما أقسم بأن مكانة الدنيا وقلة شأنها عند الله عز وجل كحال الجدي الميت قليل الشأن عند أهل الدنيا ، فعن جابر بن عبد الله – رضي الله عنهما - : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بالسوق داخلاً من بعض العالية ، والناس على كنفتيه ، فمر بجدي أسك ميت فأخذ بأذنه ، ثم قال : " أيكم يحب أن هذا له بدرهم ؟ " فقالوا : ما نحب أنه لنا بشيء . وما نصنع به ؟ قال : " أتحبون أنه لكم " قالوا : والله لو كان حياً كان عيباً فيه لأنه أسك فكيف وهو ميت ؟ فقال : " فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم ( مسلم ، 2000 ) .(2/17)
واستخدم الرسول صلى الله عليه وسلم أسلوب الحوار التربوي القائم على الإقناع وإقامة الحجج والبراهين العقلية مع أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، فقد أورد الإمام أحمد والترمذي عن عدي بن حاتم – رضي الله عنه – أنه لما بلغته دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فر إلى الشام وكان قد تنصر في الجاهلية فأسرت أخته وجماعة من قومه ، ثم من رسول الله صلى الله عليه وسلم على أخته وأعطاها ، فرجعت إلى أخيها فرغبته في الإسلام وفي القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقدم عدي إلى المدينة ، وكان رئيساً في قومه طيئ وأبوه حاتم الطائي المشهور بالكرم ، فتحدث الناس بقدومه ، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنق عدي صليب من فضة ، وهو يقرأ هذه الآية " اتخذوا أحبارهم ورهباهم أرباباً من دون الله " قال ، فقلت : إنهم لم يعبدوهم ، فقال : " بلى إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم " . وقال رسول الله صلى عليه وسلم : " يا عدي ما تقول ؟ أيضرك أن يقال الله أكبر ؟ فهل تعلم شيئاً أكبر من الله ؟ أيضرك أن يقال : لا إله إلى الله ، فهل تعلم إلهاً غير الله ؟ ثم دعاه إلى الإسلام فأسلم وشهد(2/18)
شهادة الحق ، قال : فلقد رأيت وجهه مستبشراً ، ثم قال : " إن اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون " ( ابن كثير ، د . ت ) .
د: الأهداف النفس حركية ( المهارية )
استخدم الرسول صلى الله عليه وسلم أسلوب الحوار التربوي بهدف تعليم الصحابة كيفية أداء بعض الأعمال التي تحتاج إلى تطبيق عملي من الرسول صلى الله عليه وسلم كالصلاة والحج وغيرهما من العبادات الإسلامية ، فقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال : " صلوا كما رأيتموني أصلي " وحج وقال : " لتأخذوا عني مناسككم " . ومن الشواهد العملية على هذا النوع من الحوار التربوي ما دار بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحد الصحابة من حوار بهدف تعليمه مهارة أداء الصلاة الصحيحة ، فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله دخل المسجد فدخل رجل فصلى ، ثم جاء فسلم على رسول الله ، فرد رسول الله السلام فقال : " ارجع فصل فإنك لم تصل " فرجع الرجل فصلى كما كان صلى ، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فسلم عليه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وعليك السلام ثم قال : " ارجع فصل فإنك لم تصل " حتى فعل ذلك ثلاث مرات . فقال الرجل : والذي بعثك بالحق ما أحسن غير هذا(2/19)
. علمني . قال : " إذا قمت إلى الصلاة فكبر . ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً ، ثم ارفع حتى تعتدل قائماً ، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً ، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً . ثم افعل ذلك في صلاتك كلها " ( مسلم ، 2000 ) .
إن في هذا الحديث لفتة تربوية تشير إلى منح المتعلم فرصة استعمال قدراته العقلية وتجربته الشخصية في معرفة الأخطاء التي وقع فيها للقيام بمعالجتها وعدم العودة إليها من خلال تكرار الرسول صلى الله عليه وسلم قوله للصحابي : " ارجع فصل فإنك لم تصل " ، وفيه إثارة حوافزه لطلب التعليم والتوجيه من المعلم والمربي ، وضرورة نصح المتعلمين وإرشادهم من خلال بيان الأخطاء التي يقعون بها ، وتوجيههم إلى الصواب من تلك الأفعال بالممارسة العملية ( الربابعة ، 1999) .
ثالثا ً : أنواع الحوار التربوي في السنة النبوية .
تنوعت حوارات الرسول صلى الله عليه وسلم بين تذكير للصحابة الكرام بنعم الله تعالى ، ووصف للعديد من الأمور التي لا يتضح معناها إلا من خلال وصف دقائقها وأسرارها بأسلوب وصفي تارة وقصصي تارة أخرى ، فمن أهم أنواع الحوار التربوي النبوي ما يلي :
أ – الحوار الخطابي التذكيري(2/20)
إن المتتبع لأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم يجد عدداً لا حصر له من الحوارات التربوية التي خاطب بها الرسول الكريم صحابته الكرام مذكراً إياهم بعظيم نعم الله تعالى عليهم ، كتذكيرهم بنعمة الإيمان والهداية وغيرهما من النعم التي يوقظ التذكير بها عاطفة العرفان بالجميل والشكر لله تعالى . ونظراً لأهمية هذا الأسلوب الحواري التذكيري فقد أكده رب العزة في محكم التنزيل عندما خاطب الرسول محمداً صلى الله عليه وسلم بقوله : " ألم يجدك يتيماً فآوى ووجدك ضالاً فهدى ؟ ووجدك عائلاً فأغنى ؟ " فكانت الإجابة على هذه النعم الربانية متمثلة في قوله تعالى : " فأما اليتيم فلا تقهر ، وأما السائل فلا تنهر ، وأما بنعمة ربك فحدث " ( الضحى : الآيات 6 - 11 ).(2/21)
إن من أبرز الشواهد العملية على الحوار الخطابي التذكيري في السنة النبوية الحوار الذي دار بين الرسول صلى الله عليه وسلم والأنصار بعد غزوة حنين ، عندما ذكرهم بعظيم نعم الله عليهم ، كنعمة الهداية بعد الضلال ، والغنى بعد الفقر ، والتآلف والتحاب بعد العداوة والتباغض . فقد خاطبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : " يا معشر الأنصار مقالة بلغتني عنكم ، وموجدة وجدتموها في أنفسكم ؟ ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله ؛ وعالة فأغناكم الله ؛ وأعداء فألف بين قلوبكم ! "
قالوا : بلى لله ولرسوله المن والفضل .
فقال : " ألا تجيبوني يا معشر الأنصار ! " قالوا : وبماذا نجيبك يا رسول الله ؟ لله ولرسوله المن والفضل !(2/22)
قال : " أما والله لو شئتم لقلتم ، فصدقتم ولصدقتم : آتيتنا مكذباً فصدقناك ، ومخذولاً فنصرناك ، وطريداً فآويناك ، وعائلاً فآسيناك . وجدتم في أنفسكم يا معشر الأنصار في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوماً ليسلموا ، ووكلتكم إلى إسلامكم ! أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم ! فوالذي نفس محمد بيده ، لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار ، ولو سلك الناس شعباً وسلكت الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار ! اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار ، وأبناء أبناء الأنصار " قال : فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم وقالوا : رضينا برسول الله قسماً وحظاً . ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرقوا ( الطبري ، د . ت ) .
من خلال ما تقدم نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم اتبع مع الأنصار منهجاً تربوياً فريداً ، خاطب فيه عقولهم وعواطفهم فكانت النتيجة أن بكوا حتى أخضلوا لحاهم وانقادوا طائعين مختارين لقسمة الله تعالى ورسوله .
ب – الحوار الوصفي :(2/23)
إن من أبرز أشكال الحوار التربوي في السنة النبوية الحوار الوصفي الذي يقوم على أساس إثبات وصف حي لحالة نفسية أو واقعية لمن يوجه إليهم الحوار بقصد الاقتداء بصالحهم ، والابتعاد عن شريرهم ، والتأثر بهذا الجو تأثراً وجدانياً ينمي العواطف الربانية والسلوك الإنساني التعبدي الفاضل ، والأمثلة على هذا اللون من الحوار وافرة في السنة النبوية نذكر منها الحديث الذي يصف محاججة الجنة والنار من خلال حوار وصفي يكشف النقاب عن نوع الناس الذين يدخلون الجنة والنار ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " تحاجت النار والجنة فقالت النار : أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين . وقالت الجنة : فمالي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم وعجزهم . فقال الله للجنة : أنت رحمتي ، أرحم بك من أشاء من عبادي . وقال للنار : أنت عذابي ، أعذب بك من أشاء من عبادي ، ولكل واحدة منكم ملؤها . فأما النار فلا تمتلئ ، فيضع قدمه عليها . فتقول ، قط قط . فهنالك تمتلئ . ويزوي بعضها إلى بعض ( مسلم ، 2000 ) .(2/24)
إن الحوار الوصفي يعرض صورة حية لأحوال أهل النار وأهل الجنة النفسية ، فهو يستعين بالمخيلة والوصف الدقيق على تربية العواطف الربانية والتأثير في نفس القارئ أو السامع . هذا فضلاً عن الإيحاء الذي يعتمد عليه الحوار النبوي الوصفي كما يبدو ذلك واضحاً في الحوار الذي دار بين الجنة والنار ، وما فيه من تحذير للمتكبرين والمتجبرين من أهل الدنيا دون أن يرد في الحديث ما مفاده " عليكم أن تنتهوا عن التجبر والتكبر لئلا يكون مصيركم النار " ( النحلاوي ، 1979 ) .
وحاور الرسول صلى الله عليه وسلم صحابته الكرام حواراً وصف فيه صفات أهل الجنة وطعامهم ، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون ولا يتفلون ولا يبولون ولا يتغوطون ولا يمتخطون " . قالوا فما بال الطعام ؟ قال : " جشاء ورشح كرشح المسك . يلهمون التسبيح والتحميد كما تلهمون النفس ( مسلم ، 2000 ) .
ج – الحوار القصصي :(2/25)
أكد الرسول صلى الله عليه وسلم أهمية الحوار القصصي في تعامله مع صحابته الكرام ، وهو حوار يأتي على صورة قصة واضحة في تسلسلها القصصي ، تجعل السامع شغوفا لمعرفة الدروس والعبر التي أسفرت عنها تلك القصص ، والأمثلة على هذا الأسلوب الحواري في السنة النبوية كثيرة وواضحة ، نذكر منها تلك الأحاديث التي تتحدث عن قصص الأنبياء والرسل السابقين ، فعن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لم يكذب إبراهيم النبي ، عليه السلام ، قط ، إلا ثلاث كذبات . ثنتين في ذات الله . قوله ( إني سقيم )( الصافات : 89 ) وقوله ( بل فعله كبيرهم هذا ) ( الأنبياء : 63 ) وواحدة في شأن سارة . فإنه قدم أرض جبارة ومعه سارة . وكانت أحسن الناس . فقال لها : إن هذا الجبار ، إن يعلم أنك امرأتي يغلبني عليك فإن سألك فأخبريه أنك أختي . فإنك أختي في الإسلام . فإني لا أعلم في الأرض مسلماً غيري وغيرك . فلما دخل أرضه رآها بعض أهل الجبار . أتاه فقال له : لقد قدم أرضك لا ينبغي لها أن تكون إلا لك . فأرسل إليها فأتي بها . فقام إبراهيم عليه السلام إلى الصلاة . فلما دخلت عليه لم يتمالك أن بسط يده إليها فقبضت يده قبضة شديدة ، فقال(2/26)
لها : ادعي الله أن يطلق يدي ولا أضرك ففعلت فعاد فقبضت أشد من القبضة الأولى فقال لها مثل ذلك ففعلت ، فعاد فقبضت أشد من القبضتين الأوليين ، فقال : ادعي الله أن يطلق يدي فلك الله أن لا أضرك ، ففعلت وأطلقت يده ، ودعا الذي جاء بها فقال له : إنك إنما أتيتني بشيطان ولم تأتني بإنسان ، فأخرجها من أرضي وأعطها هاجر . قال : فأقبلت تمشي ، فلما رآها إبراهيم عليه السلام انصرف فقال لها : مهيم ؟ قالت : خيراً كف الله يد الفاجر وأخدم خادما . قال أبو هريرة : فتلك أمكم يابني ماء السماء ( مسلم ، 2000 ) .
د – الحوار الجدلي لإثبات الحجة :(2/27)
يعد الحوار الجدلي من أبرز أنواع الحوار النبوي ، وهو حوار قائم على النقاش والجدل الهادف إلى إثبات الحجة على المشركين للاعتراف بضرورة الإيمان بالله وتوحيده ، والاعتراف باليوم الآخر وبرسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، وببطلان آلهتهم وصدق أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم . ولعل الحوار الجدلي الذي دار بين الرسول صلى الله عليه وسلم وعتبة بن ربيعة من أبرز الأمثلة على جدلية الحوار النبوي الهادفة إلى إثبات الحجة والبرهان على صدق رسالته صلى الله عليه وسلم ، فعن جابر بن عبد الله قال : اجتمعت قريش يوماً فقالوا : انظروا أعلمكم بالشعر والكهانة والسحر فليأت هذا الرجل الذي فرق جماعتنا ، وشتت أمرنا ، وعاب ديننا ، فليكلمه ولينظر ماذا رده عليه ، فقالوا : ما نعلم أحداً غير عتبة بن ربيعة ، فقالوا : أنت يا أبا الوليد ، فأتاه عتبة فقال : يا محمد أنت خير أم عبد الله ؟ فسكت عليه الصلاة والسلام ، فقال : أنت خير أم عبد المطلب ؟ فسكت الرسول ، قال : فإن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة التي عبت ، وإن كنت تزعم أنك خير منهم فتكلم حتى نسمع قولك ، إنا والله ما رأينا قط سخلة ( مولوداً ) قط أشأم على قومه منك ،(2/28)
فرقت جماعتنا وشتت أمرنا وعبت ديننا ، وفضحتنا في العرب ، حتى لقد طار فيهم أن بقريش ساحراً ، وأن في قريش كاهناً ، والله ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف حتى نتفانى ، أيها الرجل ، إن كان ما بك الحاجة جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلا ، وإن كان الباءه فاختر أي نساء قريش شئت فلنزوجك عشرا . فقال عليه الصلاة والسلام : " فرغت " قال : نعم فقال عليه الصلاة والسلام : ( بسم اله الرحمن الرحيم * حم تنزيل من الرحمن الرحيم * كتاب فصلت آياته قراناً عربياً لقوم يعلمون ) إلى أن بلغ : ( فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود ) فأمسك عتبة على فيه وناشده الرحم أن يكف عنه ، ولم يخرج إلى أهله واحتبس منهم ، فقال أبو جهل : يا معشر قريش ما نرى عتبة إلا صبأ إلى محمد وأعجبه طعامه ، وما ذلك إلا من حاجة أصابته ، انطلقوا بنا إليه ، فأتوه فقال أبو جهل : والله ما جئنا إلا أنك صبوت إلى محمد وأعجبك أمره ، فإن كان بك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن طعام محمد ، فغضب وأقسم بالله ألا يكلم محمداً أبدا وقال : لقد علمتم أني من أكثر قريش مالا ولكني أتيته ، وقص عليهم القصة ، فأجابني بشيء(2/29)
والله ماهو بسحر ولا بشعر ولا بكهانة ، قرأ ( بسم الله الرحمن الرحيم * حم تنزيل من الرحمن الرحيم * كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون ) إلى أن بلغ : ( فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود ) فأمسكت بفيه وناشدته الرحم أن يكف ، وقد علمتم أن محمداً إذا قال شيئاً لم يكذب ، فخفت أن ينزل عليكم العذاب ( الوقفي ، 1993 ) .
من خلال ما تقدم فإننا نلاحظ أن الرسول صلى الله عليه وسلم اتبع أسلوباً حوارياً جدلياً قوامه الحكمة والموعظة الحسنة ، وعماده احترام الآخر والإستماع لحجته حتى لو كان مشركاً ، تمثل ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم لعتبه : " فرغت " ، فلم يقاطعه حتى أكمل حجته فرد عليه رداً استطاع من خلاله أن يعجزه ، وهو الفصيح البليغ العالم بلغة العرب وشعرهم ، بل وأكثر من ذلك كان عالماً بشعر الجن والكهانة والسحر ، فما كان من ذلك الشاعر الفصيح البليغ إلا أن توسل إلى سيدنا محمد عليه السلام وناشده أن يتوقف عن تلاوة القرآن ، فكانت نتيجة ذلك الحوار الجدلي أن أقسم ذلك المشرك قائلاً : " والله إن لقوله الذي يقوله لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإنه لمثمر أعلاه ، مغدق أسفله ، وإنه يعلو ولا يعلى ،(2/30)
وإنه ليحطم ما تحته .
رابعاً :المنظومة القيمية للحوار التربوي في السنة النبوية .
أ – الرفق :
قال تعالى مخاطباً رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم : " فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر " ( آل عمران :الآية 159 ) لهذا فقد امتثل الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لأمر ربه ، فكان خلقه الرفق والحلم أثناء حواراته المتنوعة والمتعددة ، فاستطاع من خلال هذا الخلق الكريم أن يجذب قلوب المدعوين والمتعلمين من أبناء المسلمين ، وأوصاهم بوجوب اتباع الرفق في حواراتهم مع غيرهم ، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم موضحاً أهمية الرفق واللين : " إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه ( مسلم ، 2000 ) . وقال صلى الله عليه وسلم في موضع آخر : " من حرم الرفق حرم الخير " ( مسلم ، 2000 ) .(2/31)
إن السنة النبوية الشريفة حافلة بالحوارات التربوية التي أظهرت شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم بمظهر الرحيم والحليم والرفيق ، نذكر منها حواره صلى الله عليه وسلم مع الصحابي الجليل معاوية بن الحكم السلمي الذي قال : بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ عطس رجل من القوم فقلت : يرحمك الله ، فرماني القوم بأبصارهم فقلت : واثكل أمياه ما شأنكم تنظرون إلي؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم ، فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكت ، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبأبي هو وأمي ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه ، فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني قال : " إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن ( مسلم ، 2000 ) .(2/32)
إن الرفق الذي نهجه الرسول صلى الله عليه وسلم في حواره السابق هو الذي جعل الصحابي الجليل يقبل على النصيحة إقبال المتعلم الحريص في طلب العلم ، فقد وجد في شخصية الرسول من الرفق ما جعله يفديه بأبيه وأمه ، فهو لم يواجه معلماً أحلم وأرفق منه ، فكان صلى الله عليه وسلم معه بخلاف الصحابة الذين رموه بأبصارهم حتى تمنى أن تثكله أمه ، فما هي إلا لحظات وانقضت الصلاة ، فكان ذلك الصحابي بين يدي معلم رفيق ، لم يشتمه ولم يضربه ، بل علمه برفق أن الصلاة لها من القداسة والتعظيم ما يجعلها منزهة عن كلام الناس ، بل هي للتسبيح والتكبير وقراءة القرآن .(2/33)
وتجلى رفق الرسول صلى الله عليه وسلم في الحوار الذي دار بينه وبين الأعرابي الذي بال في المسجد ، وذلك في الحديث الذي يرويه الصحابي الجليل أنس بن مالك إذ يقول : بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء أعرابي ، فقام يبول في المسجد فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : مه مه . قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تزرموه . دعوه " فتركوه حتى بال . ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه فقال له : " إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر . إنما هي لذكر الله عز وجل ، والصلاة ، وقراءة القرآن " ، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : فأمر رجلا من القوم فجاء بدلو من ماء ، فشنه عليه ( مسلم ، 2000 ) .
ب – التواضع :(2/34)
يعد التواضع من أبرز الأخلاق الإسلامية التي ارتكز عليها الحوار النبوي ، فلم يكن فيها ما يدل على ترفع نفسية الرسول صلى الله عليه وسلم وتعاليها على الآخرين ، أو ما يشير إلى الاستخفاف بهم ، بل كان صلى الله عليه وسلم المثال الذي يحتذى في احترام شخصية المتعلمين مهما اختلفت درجاتهم وتباينت جنسياتهم ، وذلك امتثالاً للأمر الرباني العظيم ( واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين) ( الشعراء : الآية 215 ) . فقد كانت سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم التطبيق العملي لخلق التواضع ولين الجانب مع غيره من المؤمنين وغير المؤمنين .(2/35)
إن من الشواهد العملية على اتصاف الرسول بهذا الخلق العظيم الحوار الذي دار بينه وبين الصحابي الجليل سواد بن غزية في غزوة بدر ، وذلك في الحديث الذي يرويه حبان بن واسع بن حبان بن واسع عن أشياخ من قومه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عدَل صفوف أصحابه يوم بدر وفي يده قدح يعدَل به القوم ، فمر بسواد بن غزية حليف بني عدي بن النجار وهو مستنتل من الصف ، فطعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في بطنه بالقدح ، وقال : استو يا سواد بن غزية ، قال : يا رسول الله أوجعتني وقد بعثك الله بالحق ، فأقدني قال فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه ثم قال : استقد قال فاعتنقه وقبل بطنه فقال : " ما حملك على هذا يا سواد ؟ فقال : يا رسول الله حضر ما ترى فلم آمن القتل فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك فدعا له رسول الله بخير وقال له خيراً ( الطبري ، د . ت ) .
ج – الصبر :(2/36)
اتصف الرسول صلى الله عليه وسلم بخلق الصبر وكظم الغيظ في حواراته العديدة والمتنوعة ، فلم يرد عنه صلى الله عليه وسلم أنه غضب لنفسه إلا أن تنتهك حرمة من حرمات الله تعالى ، فكان صلى الله عليه وسلم صبوراً حليما حتى مع من أراد أن يؤذيه من أعدائه ، يبدو هذا واضحاً في الحوار الذي دار بينه وبين فضالة بن عمير الملوح الليثي عندما أراد قتله وهو يطوف بالبيت عام الفتح ، فقد أورد ابن كثير أن فضالة بن عمير الملوح الليثي أراد قتل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت عام الفتح ، فلما دنا منه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أفضالة ؟ قال : نعم فضالة يا رسول الله ، قال صلى الله عليه وسلم: " ماذا كنت تحدث به نفسك؟ قال لا شيء ، كنت أذكر الله . قال : فضحك النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال : " استغفر الله " ثم وضع يده على صدره فسكن قلبه فكان فضالة يقول : والله ما رفع يده عن صدري حتى ما من خلق الله شيء أحب إلي منه ، قال فضالة : فرجعت إلى أهلي فمررت بامرأة كنت أتحدث إليها ، فقالت : هلم إلى الحديث ، فقال لا ، وانبعث فضالة يقول :
قالت هلم إلى الحديث فقلت لا يأبى عليك الله والإسلام(2/37)
أو ما رأيت محمداً وقتيله بالفتح يوم تكسر الأصنام
لرأيت دين الله أضحى بيناً والشرك يغشى وجهه الإظلام .
( ابن كثير ، 1966 ) .
د – حسن الاستماع :
إن من ينعم النظر في الحوارات النبوية الكريمة يستنتج أن الرسول صلى الله عليه وسلم ضرب أروع الأمثلة في احترام الآخر وتقديره ظهر ذلك جلياً في حسن استماعه صلى الله عليه وسلم لمن يحاوره وعدم مقاطعته فكثيراً ما كان عليه السلام يسأل من يحاوره هل أكملت حديثك أو هل فرغت من الحديث كي يتسنى له محاورته والرد عليه الرد الجميل . والسنة النبوية حافلة بالحوارات التي تكشف لنا عن حسن استماع الرسول صلى الله عليه وسلم لحديث من يحاوره لعل من أبرزها الحوار الذي أوردناه سابقاً بين الرسول صلى الله عليه وسلم وعتبه بن ربيعة فبعد أن تكلم عتبة سأله الرسول صلى الله عليه وسلم " فرغت " فبعد أن تأكد من انتهاء عتبه من الكلام رد عليه صلى الله عليه وسلم من القرآن الكريم رداً جميلاً مقنعاً وهو العالم بلغة العرب وأشعارهم فشهد شهادة للقرآن بأنه فوق لغة العرب وأشعارهم وذلك عندما أقسم عتبة للمشركين قائلاً : والله ماهو بسحر ولا بشعر ولا بكهانة .
هـ - التيسير :(2/38)
إن المتتبع لأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم يجد ، بما لا يدع مجالاً للشك ، أنه لم يخير عليه الصلاة والسلام بين أمرين إلا اختار أيسرهما ، حتى في حواره مع صحابته الكرام كان خلقه التيسير ونبذ التعسير ، فلم يرد عنه صلى الله عليه وسلم أنه شق على مؤمن أو عسر على مسلم ، فقد ورد في السنة النبوية الكثير من الحوارات التي تشير إلى اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم منهج التيسير في القول والعمل ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : هلكت يا رسول الله ، قال : " وما أهلكك ؟ " قال : وقعت على امرأتي في رمضان . قال : " هل تجد ما تعتق رقبة ؟ " قال : لا . قال : فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين ؟ " قال : لا . قال : " فهل تجد ما تطعم ستين مسكيناً ؟ " قال : لا . قال : ثم جلس . فأتى النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيه تمر . فقال : " تصدق بهذا " قال : أفقر منا ؟ فما بين لابتيها أهل بيت أحوج إليه منا . فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه . ثم قال : " اذهب فأطعمه أهلك " ( مسلم ، 2000 ) .
خامسا ً : التطبيقات التربوية للحوار التربوي في السنة النبوية .(2/39)
أ – الحوار النبوي وتربية الصحابة العسكرية :
ربى الرسول صلى الله عليه وسلم صحابته الكرام تربية عسكرية استخدم فيها أسلوب المحاورة والتشاور بهدف إشراكهم في اتخاذ القرارات الحربية ، وتحمل المسؤلية في العديد من الغزوات والوقائع الحربية التي شهدها الرسول صلى الله عليه وسلم ، لعل من أبرزها الحوار الذي دار بينه صلى الله عليه وسلم وبين الصحابة الكرام في غزوة بدر ، فقد أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر عن قريش ومسيرهم ليمنعوا عيرهم الآتية من الشام بقيادة أبي سفيان ، فاستشار الناس وأخبرهم عن قريش فقام أبو بكر الصديق فقال وأحسن ، ثم قام عمر بن الخطاب فقال وأحسن ، ثم قام المقداد بن عمرو فقال : يا رسول الله امض لما أراك الله فنحن معك ، والله لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى : ( اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ) ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا ودعا له ، ثم قال صلى الله عليه وسلم : أشيروا علي أيها الناس ، وإنما يريد الأنصار ، وذلك أنهم كانوا عدد الناس ،(2/40)
وأنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا : يا رسول الله إنا براء من زمانك حتى تصل إلى ديارنا ، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمتنا ؛ نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوف أن لا يكون الأنصار ترى عليها نصره إلا ممن داهمه بالمدينة من عدوه ، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم ، فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له سعد بن معاذ : والله كأنك تريدنا يا رسول الله قال : " أجل " قال : فقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق ، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة لك ، فامض يا رسول الله لما أردت ونحن معك ، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا البحر فخضته لخضناه معك ، ما تخلف منا رجل واحد ، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا ، إنا لصبر في الحرب صدق عند اللقاء ، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك ، فسر على بركة الله ، قال : فسر رسول الله بقول سعد ونشطه ثم قال : " سيروا وأبشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين والله كأني أنظر إلى مصارع القوم " ( الوقفي ، 1993 ) .(2/41)
نستنتج مما سبق من حوار أن الرسول صلى الله عليه وسلم ركز على أهمية استنهاض الهمم والمعنويات ، وبث الروح العسكرية في صفوف الجند بأسلوب تربوي فريد ، فقد كان بإمكانه صلى الله عليه وسلم أن يوجه سؤالاً مباشراًً للأنصار حول مشاركتهم في القتال ، وتكون النتيجة موافقتهم على ذلك من غير أن يلجأ إلى هذا الحوار المطول ، لكنه أراد أن يثير دافعيتهم نحو القتال بهمة وعزيمة عالية ، وبعبارة أخرى أراد أن يربيهم تربية عسكرية ويشركهم في تحمل المسؤلية من خلال هذا التشاور وهذه المحاورة .(2/42)
ومن الأمثلة الأخرى على الحوار النبوي الهادف إلى التربية العسكرية ما جرى بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين صحابته الكرام في غزوة أحد ، فقد قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه حين علم بجيش مشركي مكة لغزوة أحد : " امكثوا بالمدينة ، واجعلوا الذراري بالآطام ، فإن دخل علينا القوم في الأزقة قاتلناهم ورموا من فوق البيوت " فقال الذين لم يشهدوا بدرا : كنا نتمنى هذا اليوم وندعو الله فقد ساقه إلينا وقرب المسير ، وقال رجل من الأنصار : متى نقاتلهم يا رسول الله إذا لم نقاتلهم عند شعبنا ؟ وأبى كثير من الناس إلا الخروج إلى العدو ، ولم يتناهوا إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأيه ، ولما صلى عليه الصلاة والسلام الجمعة انصرف من خطبته وصلاته إلى بيته فدعا بلأمته فلبسها ، ثم أذن في الناس بالخروج ، فلما رأى ذلك رجال من ذوي الرأي قالوا : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نمكث بالمدينة ، وهو أعلم بالله وما يريد ويأتيه الوحي من السماء ، فقالوا : يا رسول الله امكث كما أمرتنا ، فقال قد دعوتكم إلى هذا الحديث فأبيتم إلا الخروج ، فعليكم بتقوى الله والصبر عند البأس إذا لاقيتم العدو ، وانظروا إلى ما أمركم الله(2/43)
به فافعلوا ( الوقفي ، 1993 ) .
ب - الحوار النبوي ومحاججة مشركي مكة :
إن من أهم مقاصد الحوار النبوي وغاياته إثبات الحجة على المشركين للاعتراف بضرورة الإيمان بالله وتوحيده ، والاعتراف باليوم الآخر وبرسالة محمد صلى الله عليه وسلم وببطلان آلهتهم وصدق أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم . ولعل الحوار الجدلي الذي دار بين الرسول صلى الله عليه وسلم والوليد بن المغيرة خير شاهد على ذلك فعن ابن عباس أن الوليد بن المغيرة اجتمع ونفر من قريش وكان ذا سن فيهم ، جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن فكأنه رق له ، فبلغ ذلك أبو جهل فأتاه فقال : يا عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا ، فقال : لم ؟ قال : ليعطوكه فإنك أتيت محمدا لتعرض ما قيله ، فقال : قد علمت قريش أني أكثرها مالا . قال : فقل فيه قولا ً يبلغ قومك أنك منكر له ، قال : وماذا أقول ؟ فوالله ما منكم رجل أعرف بالأشعار مني ولا أعلم برجزه ولا قصيده مني ، ولا بأشعار الجن ، والله ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا ، والله إن لقوله الذي يقوله لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإنه لمثمر أعلاه ، مغدق أسفله ، وإنه يعلو ولا يعلى ، وإنه ليحطم ما تحته ،(2/44)
قال : قف عني حتى أفكر فيه ، فلما فكر قال : إن هذا إلا سحر يؤثر يأثره عن غيره فنزلت : ( ذرني ومن خلقت وحيدا * وجعلت له مالا ممدودا * وبنين شهودا ) ( الوقفي ، 1993 ) .
ومن الأمثلة الأخرى لمحاججة الرسول صلى الله عليه وسلم لمشركي مكة المحاورة التي دارت بين الرسول صلى الله عليه وسلم وعتبة بن ربيعة تلك التي أوردناها سابقاً فهي محاورة ، تبين اعتراف الكفار ، وبشكل واضح بعظمة القرآن وإعجازه ، وأنه من عند غير محمد صلى الله عليه وسلم ، حاول عتبة أن يبين لرسول الله أنه قادر على أن يرضيه بأي أمر من الأمور التي يرغبها ، كما وحاول أن يتفوق على رسول الله إذ وجه إليه عدداً من الأسئلة فلم يجب النبي صلى الله عليه وسلم ، لأنه يعلم تمام العلم ما الذي يريده عتبة ( زيادة ، د . ت ) .(2/45)
حاول عتبة أن ينتصر على رسول الله صلى الله عليه وسلم ظناً منه أن أسئلته تلك كفيلة بأن تضيق الخناق حول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكن رسول الله المؤيد من السماء معه أقوى دليل وأعظم حجة وأبين برهان على صدق دعواه ألا وهو القرآن الكريم فبمجرد أن قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة فصلت على عتبة حتى ذهل عتبة ، وفقد صوابه وقفل راجعاً إلى أهله معلناً بهته وهزيمته أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم وحجته القوية القرآن الكريم ( زيادة ، د . ت ) .
ب – الحوار النبوي ومجادلة أهل الكتاب :
أولاً : مجادلة النصارى :(2/46)
تشير كتب السيرة النبوية أن الرسول صلى الله عليه وسلم حاور نصارى العرب والعجم من خلال الكتب التي أرسلها إلى عدد منهم يدعوهم فيها إلى الإسلام ، فقد كتب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ملك الحبشة ، وإلى هرقل ملك الروم ، وكتب إلى المقوقس ملك الإسكندرية ، وإلى المنذر بن ساوى وغسان ملك الشام ، وهم جميعاً كانوا نصارى على اختلاف مذاهبهم ومللهم ، فقد كانت هذه الكتب بمثابة المحاورة والمجادلة بالتي هي أحسن ، نتج عنها أن وفدت الوفود الكثيرة من النصارى إلى المدينة تجادل الرسول صلى الله عليه وسلم في الإسلام وفي النصرانية وفي عيسى ابن مريم . مثل وفد نجران إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقد جاءوا إلى المدينة المنورة ودخلوا المسجد حين صلى رسول الله العصر ، وعليهم ثياب الحبرات يقول بعض من رآهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ : " ما رأينا وفداً مثلهم " . وقد حانت صلاتهم فأقبلوا يضربون الناقوس وصلوا ، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله هذا في مسجدك فقال : دعوهم ، فصلوا إلى المشرق . فلما فرغوا دنوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : إلام تدعو ؟ فقال : شهادة أن لا إله إلا(2/47)
الله ، وأن عيسى عبد مخلوق يأكل ويشرب ويحدث فقالوا : ومن أبوه ؟ فنزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم : ما تقولون في آدم أكان عبداً يأكل ويشرب ويحدث ويتزوج ؟ قالوا : نعم . قال : فمن أبوه ؟ وأنزل الله سبحانه ( إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له : كن فيكون . الحق من ربك فلا تكن من الممترين )( آل عمران : الآية 59 ) . ثم سألوه وسألهم وكان ذلك في جو من الحرية والصفاء ثم وصل بهم الحوار إلى أن دعاهم رسول الله إلى المباهلة ؛ وهي دعوة الأبناء والنساء والجميع ، والتوجه إلى الله سبحانه بطلب اللعنة على الكاذبين ، وذلك في قوله تعالى " فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين " ( آل عمران : الآية 61 ) .(2/48)
قال ابن هشام : فلما أتى رسول الله الخبر من الله عنهم ، والفصل من القضاء بينه وبينهم ، وأمر بما أمر به من ملاعنتهم إن ردوا ذلك عليه ، دعاهم إلى ذلك . فقالوا له : يا أبا القاسم ، دعنا ننظر في أمرنا ثم نأتيك بما تريد أن نفعل فيما دعوتنا إليه ، فانصرفوا عنه ثم خلوا بالعاقب وهو رئيسهم وصاحب رأيهم فقالوا : يا عبد المسيح ماذا ترى ؟ فقال : والله يا معشر النصارى لقد عرفتم أن محمدا لنبي مرسل ، ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم ، ولقد علمتم ما لاعن قوم نبياً قط فبقي كبيرهم ولا نبت صغيرهم ، فوادعوا الرجل ثم انصرفوا إلى بلادكم . فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا أبا القاسم قد رأينا ألا نلاعنك ، وأن نتركك على دينك ونرجع على ديننا ، ولكن ابعث معنا رجلا من أصحابك ترضاه لنا يحكم بيننا في أشياء اختلفنا فيها من أموالنا |؛ فإنكم عندنا رضاً ، فقال صلى الله عليه وسلم : ائتوني العشية فأبعث معكم القوي الأمين ، فبعث فيهم أبا عبيدة عامر بن الجراح ( الخياط ، 1995 ) .
ثانياً : مجادلة اليهود :(2/49)
لم يكن حوار رسول الله مقتصراً على النصارى من أهل الكتاب ، بل تعدى ذلك إلى اليهود الذين كانوا يسكنون المدينة المنورة ، فقد جادلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتي هي أحسن ، فعلى خداعهم ونقضهم للعهود مع المسلمين وتدبيرهم المكائد للقضاء على محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه ، إلا أن الرسول قابل مساوئهم وإيذاءهم بالمحاورة القائمة على اللين والرفق والمنطق العقلي ، ومن الأمثلة على ذلك الجدال والحوار العقلاني مع اليهود ما رواه الإمام مسلم في صحيحه أنه مر على النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي محمماً مجلوداً . فدعاهم صلى الله عليه وسلم فقال : " هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم ؟ " قالوا : نعم . فدعا رجلاً من علمائهم . فقال : " أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى ، أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم ؟ " قال : لا . ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك . نجده الرجم . ولكنه كثر في أشرافنا . فكنا ، إذا أخذنا الشريف تركناه . وإذا أخذنا الضعيف ، أقمنا عليه الحد . قلنا : تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع . فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اللهم إني أول من أحيا(2/50)
أمرك إذ أماتوه " فأمر به فرجم . فأنزل الله عز وجل : " يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إلى قوله : " إن أوتيتم هذا فخذوه " ( المائدة : الآية 41 ) يقول ائتوا محمداً صلى الله عليه وسلم فإن أمركم بالتحميم والجلد فخذوه . وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا . فأنزل الله تعالى : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) ( المائدة : الآية 44 )
وعن نافع أن عبد الله بن عمر اخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بيهودي ويهودية قد زنيا ، فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاء يهود فقال : " ما تجدون في التوراة على من زنى ؟ " قالوا : نسود وجوههما ونحملهما ونخالف بين وجوههما . ويطاف بهما . قال : " فأتوا بالتوراة . إن كنتم صادقين " فجاؤوا بها فقرؤوها حتى إذا مروا بآية الرجم ، وضع الفتى الذي يقرأ يده على آية الرجم . وقرأ ما بين يديها وما وراءها. فقال له عبد الله بن سلام وهو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم : مره فليرفع يده . فرفعها . فإذا تحتها آية الرجم . فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما ( مسام ، 2000 ) .
نتائج الدراسة :
- أظهرت الدراسة عدة نتائج جاءت على النحو الآتي :(2/51)
أولاً :النتائج المتعلقة بالسؤال الأول: ما المقصود بالحوار التربوي في السنة النبوية ؟
أثبتت الدراسة أن المقصود بالحوار التربوي في السنة النبوية أسلوب تعليمي استخدم فيه الرسول صلى الله عليه وسلم الأسئلة وإجاباتها بهدف إثارة أذهان المتعلمين ودفعهم إلى تمحيص الأفكار ومحاكمتها عقلياً للوصول إلى الحقائق التي لا تقبل الشك أو الجدل .
ثانياً : النتائج المتعلقة بالسؤال الثاني : ما أهداف الحوار التربوي في السنة النبوية الشريفة ؟
- أوضحت الدراسة أن من أهداف الحوار التربوي في السنة النبوية إثارة عواطف المتعلمين وانفعالاتهم الوجدانية ، وتعريف الصحابة بالكثير من الأمور التي أشكلت عليهم ، وتعليم الصحابة كيفية أداء بعض الأعمال التي تحتاج إلى تطبيق عملي من الرسول صلى الله عليه وسلم كالصلاة والحج وغيرهما من العبادات الإسلامية .
ثالثاً : النتائج المتعلقة بالسؤال الثالث : ما أنواع الحوار التربوي في السنة النبوية الشريفة ؟(2/52)
- كشفت الدراسة عن أهم أنواع الحوار التربوي في السنة النبوية ؛ كالحوار الخطابي التذكيري ، والحوار الوصفي ، والحوار القصصي ، والحوار الجدلي لإثبات الحجة على المشركين وأهل الكتاب من اليهود والنصارى .
رابعاً : النتائج المتعلقة بالسؤال الرابع : ما أهم القيم التي ارتكز عليها الحوار التربوي في السنة النبوية الشريفة ؟
بينت الدراسة وجود عدد من القيم التي ارتكز عليها الحوار التربوي في السنة النبوية مثل : الرفق ، والتواضع ، والصبر ، وحسن الاستماع ، والتيسير .
خامساً : النتائج المتعلقة بالسؤال الخامس : ما أهم التطبيقات التربوية للحوار التربوي في السنة النبوية الشريفة ؟
كشفت الدراسة عن أهم التطبيقات التربوية للحوار التربوي في السنة النبوية ، كالحوار التربوي مع الصحابة الكرام ، ومحاججة مشركي مكة ، ومجادلة أهل الكتاب من اليهود والنصارى .
قائمة المراجع :
الأصفهاني ، الراغب ، ( د. ت ) . معجم مفردات ألفاظ القرآن الكريم ، ( د . ط ) ، بيروت ، دار الفكر .
البخاري ، ( د . ت ) ، صحيح البخاري ، ( د . ط ) ، بيروت ، دار الجيل .
ابن حنبل ، أحمد ، ( د . ت ) ، المسند ، ( د . ط ) ، دمشق ، دار الفكر .(2/53)
الخياط ، عبد العزيز، ( 1995 ) ، أدب الحوار، ( د . ط ) ، عمان ، وزارة الشباب .
الربابعة ، فراس محمد ، ( 1999 ) . الحوار النبوي في العهد المدني ، رسالة ماجستير غير منشورة ، إربد ، الأردن ، جامعة اليرموك .
زيادة ، خليل ، ( د . ت ) ، الحوار والمناظرة في القرآن الكريم ، ( د . ط ) ، القاهرة ، دار المنار .
الشيباني ، عمر التومي ، ( 1985 ) . فلسفة التربية الإسلامية ، ( ط5 ) ، طرابلس ، المنشأة العامة للنشر والتوزيع .
الطبري ، أبي جعفر محمد بن جرير ، ( د . ت ) . تاريخ الرسل والملوك ، ( د . ط ) ، القاهرة ، دار المعارف .
ابن كثير ، عماد الدين أبي الفداء ، ( 1966 ) ، البداية والنهاية ، ( ط1 ) ، بيروت ، مكتبة المعارف .
ابن كثير ، عماد الدين أبي الفداء ، ( د . ت ) . مختصر تفسير ابن كثير ، ( ط3 ) ، بيروت ، دار القرآن الكريم .
مسلم ، أبي الحسين ، ( 2000 ) ، صحيح مسلم ، ( ط1 ) ، بيروت ، دار إحياء التراث العربي .
مصطفى ، ايراهيم ، ( 1960 ) ، المعجم الوسيط ، ( د . ط ) ، القاهرة ، مجمع اللغة العربية .
ابن مظور ، أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم ( 1955 ) ، لسان العرب ، ( د . ط ) ، بيروت ، دار صادر .(2/54)
النحلاوي ، عبد الرحمن ، ( 1979 ) . أصول التربية الإسلامية وأساليبها في البيت والمدرسة والمجتمع ، ( ط1 ) ، دمشق ، دار الفكر .
الهاشمي ، عبد الحميد ،( 1981 ) . الرسول العربي المربي ، ( ط1 ) ، دمشق ، دار الثقافة للجميع .
الوقفي ، إبراهيم ، ( 1993 ) ، الحوار لغة القرآن الكريم والسنة النبوية ، ( ط1 ) ، القاهرة ، دار الفكر العربي .(2/55)
اتجاهات البحث الحديثي في رسائل الماجستير و الدكتوراه
(السعودية نموذجا)
أهداف البحث :
يهدف البحث الى رصد الاتجاهات التي انطلق منها البحث الحديثي في مرحلة الدراسات العليا،لمعرفة طبيعة تلك الدراسات المتخصصة والمعمقة من جهة، ومقدار الاضافات المعرفية المستفادة من التراكم المعرفي من خلال سير تلك الرسائل الحديثة، كما يهدف إلى:
1- خدمة الباحثين و المختصين في ميدان الحديث وعلومه خدمة تمكنهم من مواصلة البحث والدراسة في مجالات لم يطرقها البحث الحديثي أو لم تخدم خدمة كافية لما اعتورها من نقص أو قصور في الرسائل لتسديدها وتقويمها .
2- لفت أنظار المسؤولين والقائمين على الدراسات العليا وغيرها من المراكز البحثية العلمية الى خدمة المشروع الحديثي المتكامل لا المجزأ ولا المبعثر .
3- خدمة الأمة بتكامل الجهود والاستفادة من الخبرات البحثية في مشروع النهضة للأمة حيث تمثل السنة النبوية الركيزة الكبرى بعد القران الكريم فيه على أسس متينة.
منهجية البحث :(3/1)
قام الباحثان برصد عدد الرسائل المقدمة في الجامعات السعودية ( النموذج) في مرحلتي الماجستير والدكتوراة، حيث تمثل نقلة نوعية في الدرس الحديثي المعاصر، وبلغ عدد الرسائل التي دخلت عينة الدراسة (1200) رسالة جامعية، حيث تم فرزها حسب خطوط عريضة أعدت خصيصا لتخدم أهداف البحث المعلنة من أجل الوصول إلى نتائج علمية تستثمر في مجال التقويم وبيان مواطن الإبداع أو الخلل، وفي الآتي ذكر للعناصر التي أدرجت تحتها العناوين:
جمع المرويات وتخريجها أو دراستها.
التحقيق أو الالتحقيق والدراسة.
دراسة مسائل تتعلق بعلم الحديث وتوضيحها.
الدراسات المنهجية.
الدراسات المتعلقة بالتحقيق المعرفي.
الدراسات النقدية.
الدراسات المتعلقة بجهود العلماء في البحث الحديثي.
الدراسات التي تمثل الإضافات المعرفية ( إبداعا وابتكارا).
خاتمة البحث والنتائج المرجوة منه:
يرجو الباحثان أن يقدما صورة واضحة لخريطة البحث العلمي في ميدان الدراسات الحديثية ومسار البحث فيها ضمن الخطوط العامة التي تمت الإشارة إليها، وأن يكشفا عن حقيقة المسار الحديثي، وهل كان يسير وفق خطة واضحة ام هي العشوائية والجهود المتناثرة.
الباحثان: د. عبد الرزاق أبو البصل(3/2)
د. عبد الله محمد الجيوسي(3/3)
توظيف السنة النبوية في بناء الشخصية الإبداعية
مقدّم إلى مؤتمر السنة النبوية في الدراسات المعاصرة
المحور الثالث:
السنة النبوية الواقع والتطلعات:
أ. توظيف السنة النبوية في بناء الشخصية
إنصاف أيوب المومني
2006-2007م
قائمة المحتويات
الموضوع ... الصفحة
قائمة المحتويات ... ب
المقدمة ... 1
المبحث الأول: مفهوم الإبداع ... 4
الإبداع لغة ... 4
الإبداع في التصور الأرضي ... 4
الإبداع في التصور الإسلامي ... 5
التجديد ... 6
الاجتهاد ... 7
الإحسان ... 7
السنّة الحسنة ... 9
المبحث الثاني: أبرز منطلقات ومبادئ بناء الشخصية الإبداعية من السنوية النبوية ... 11
أولاً: الحرية ... 11
ثانياً: تنمية الذوق الجمالي ... 13
ثالثاً: الانتقاء الحضاري ... 16
رابعاً: العصف الذهني ... 18
خامساً: الدعوة إلى العلم ... 21
سادساً: علو الهمة وسمو الطموح ... 25
سابعاً: فتح باب الاجتهاد ... 27
الخاتمة .......................................................................... 28
التوصيات ....................................................................... 30
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة(4/1)
... الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه، أما بعد:
... إن للإبداع حضوراً بارزاً في الساحة العالمية، فيُعدّ عصب الحضارة المادية التي تقوم على التكاثر المعرفي والسباق التقني، وإن الراصد لحركة التاريخ وتجارب الحضارات الإنسانية نهوضاً وانكساراً، يلحظ اللحمة الوثقى بين تفعيل دور المبدعين وتعطيله وبين هذا النهوض والانكسار.
... إن الأمة الإسلامية وهي تتطلع إلى الشهود والإبداع الحضاري، وتفعيل دورها الغائب المرتقب، لابد لها من العودة إلى الينابيع الأولى (الكتاب والسنة) التي استقى منها الرعيل الأول تجربته الإبداعية الرائدة؛ انطلاقاً لبناء النخبة المبدعة التي تمثل عقل الأمة وقلبها النابض لتصمد قبالة هذه الأعاصير العاتية من الداخل والخارج، والتي تسعى لتقتلع ثوابتها العقدية، وربما أدتى حقوقها الإنسانية، "فإن المبدعين الإسلاميين وما ينجزون من إبداعات إذا تكاملت متطلبات تنشئتهم ورعاية مواهبهم، فإنهم سيصبحون من أبرز الأدوات الحضارية في توجيه طاقات الأمة، ووقاية مقوماتها، من حيث: كوادرها ونسقها العقدي وثقافتها ورسالتها الحضارية ولغتها ومؤسساتها وحمايتها من التخلخل الداخلي(4/2)
الذي يهدد بناها الأساسي، ومن التغلغل الخارجي الوافد الذي يهدد كيانها ورسالتها الحضارية، إضافة إلى تهديد قدرتها على التجديد والارتقاء والتميّز"(1).
... فمن مخادعة الذات أن نبحث عن أقزام نظريات أرضية(2) لعلها تضيء لنا ظلمة العصر الحالكة، فتختلط الرؤى ويتعثر المسير، ونغفل ونتجاهل أن (التفوق الغربي) كان امتداداً للمنهجية النّبوية في الدعوة إلى العلم والتعلم، والتمييز والابتكار والارتقاء، وصناعة الطليعة المبدعة التي سُعدت بها الإنسانية، فاختزلت الزمان والمكان واحترمت الأديان، وصانت كرامة الإنسان، خلافاً للحضارة المعاصرة، وبالرغم من أنها أقامت العمران، إلا أنها أهانت الإنسان وأقصت الأديان، وإن علا صوتها ولمع بريقها في الأرض والأنفس والأفاق.
__________
(1) عبد القادر رمزي، مفهوم الإبداع في النسقية الإسلامية، إسلامية المعرفة، 2005م، عدد 41، ص 13.
(2) ينظر: من هذه الدراسة الانتقاء الحضاري وفيه تفصيل للانفتاح على خبرات الآخرين، ص 16.(4/3)
... لذا جاءت هذه المحاولة الاستقصائية للوقوف على أبرز معالم بناء الشخصية الإبداعية من السنّة النّبوية منطلقاتها ومرتكزاتها؛ لتوظيفها عملياً، ولا نزعم أن هذه المحاولة بهذه المساحة يمكن أن تعطي الموضوع حقه، فما هي إلا نافذة على هذا الفضاء الرحب، إضافة إلى أن مفهوم الإبداع وثيق الارتباط بالرؤية الإسلامية، فلا ضير من جعله متداولاً في الأوساط الفكرية الإسلامية لعل الطاقات الفتية والهمم الجادة تقتحم عقبته وتلج بابه، علماً بأن المكتبة الإسلامية تعاني فقراً جلياً في هذا المجال البحثي برؤيته الإسلامية المستقلة الجادة، رغم الحاجة الملحة له في اللحظات الراهنة، وربما هذا الصراع على الجبهات المتعددة والترهل الحضاري، يشكّل المنبه المناسب لتنشيط الإرادة واستعادة الهمة لإشعال فتيلة الإبداع "للمشروع الحضاري الإسلامي العالمي".
... ومما يجدر الإشارة إليه أننا غير معنيين بالإبداع في تصوره الأرضي، إلا بالحاجة التي يقتضيها المقام. فالوقفة المتأنية والمراجعة الشاملة – في هذه الدراسة - محورهاالإبداع الإسلامي برؤيته الجديدة.(4/4)
وإن هناك مغايرة بين السالف ذكرهما. فالإبداع الإسلامي تحكمه جملة ضوابط لا يمكنه أن ينسلخ منها، فعلى رأس هذه الضوابط: الهدفية والغاية السامية من العلم والإبداع. "من تعلم علماً مما يبتغي به وجه الله عز وجل لا يتعلمه إلا ليصيب عرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة"(1)، فلا يُعدُّ الإبداع المظلم من فن هابط يغرق بالإسفاف الروحي، والصور السلوكية والأخلاقية المنفّرة، ولا أسلحة الدمار الشامل إبداعاً يرقى بالنفس ويخدم الإنسانية، أضف إلى ذلك أنه يكسر حدود الزمان؛ ليعلن مبدأ الوحدة بين الدنيا والآخرة، ويكسر حدود المكان والوطنية والمذهبية؛ لتعم فائدته المعمورة. إضافة إلى أن الإبداع الإسلامي يستقل بارتباط كلٍّ فعل إسلامي بالنية الخالصة لله والتقوى (اتقي ترتقي)، أما الأخيرة فإن استثمار طاقات المبدعين ليست مسؤولية الأفراد وحدهم، بل لابدّ أن تتعاضد الفئات المجتمعية كافة وتتناصر لهذه المسؤولية المشتركة، ومن نافلة القول التأكيد على أخلاقيات "الإبداع الإسلامي" المستقاة من نبع الإسلام الأصيل، ومن
__________
(1) سنن أبي داود، كتاب العلم، باب في طلب العلم لغير الله تعالى، ص 54 (قال الألباني: حديث صحيح).(4/5)
التوظيفات العملية لروادنا المبدعين في الفكرالإسلامي.
وقد اشتملت خطة الدراسة على مبحثين يندرج تحتهما مطالب عدّة: تناول المبحث الأول: إطلالة مختزلة على أهم مرادفات الإبداع في التصور الأرضي، ومن ثم أهم مرادفات الإبداع الإسلامي من السنّة النّبوية المطهرة وأكثرها التصاقاً به.
وتناول المبحث الثاني: أبرز معالم منطلقات ومبادئ بناء الشخصية الإبداعية من السنّة النّبوية، والتي تمثلت في: الحرية، وتنمية الذوق الجمالي، والانتقاء الحضاري، والعصف الذهني والدعوة إلى العلم والتعلم، وعلو الهمة، وسمو الطموح، وفتح باب الاجتهاد، وتنتهي الدراسة بالخاتمة، وعدد من التوصيات.
ومن الله وحده التوفيق وإليه نتوجه بالأعمال والكلمات.
المبحث الأول
مفهوم الإبداع
الإبداع لغة
... أصله من بَدَعَ، - وأبدع الشيء: اخترعه لأعلى مثال، وبَدَعهَ- بَدْعاً: أنشأه على غير مثال سابق فهو بديع (للفاعل والمفعول) والمبَدع. والمبدِع: الذي يأتي أمراً على شبه لم يكن ابتدأه إلا إياه، وفلان بدع في هذا الأمر: أي أول لم يسبقه أحد"(1).
__________
(1) محمد بن أبي بكر الرازي، مختار الصحاح، بيروت، دار الكتاب العربي، 1967م، ص 43-44.(4/6)
... قال تعالى: (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ) البقره،117. أي خالقهما على غير مثال مسبق.
الإبداع في التصور الأرضي
... هناك عددٌ كبيرٌ من التعريفات لهذا المفهوم، ننتقي منها:
طاقة عقلية هائلة فطرية في أساسها، اجتماعية في نمائها، مجتمعية وإنسانية في انتمائها(1).
سمات استعدادية تضم طلاقة التفكير، ومرونته والأصالة، والحساسية للمشكلات، وإعادة تعريف المشكلة وإيضاحها بالتفصيلات(2).
القدرة على تطبيق أفكار أصيلة لحل المشكلات، وعلى تطوير نظريات وأساليب، أو إنتاج أشكال فنية وأدبية وفلسفية وعملية جديدة(3).
__________
(1) طارق السويدان، محمد أكرم العجلوني، مبادئ الإبداع، الكويت، شركة الإبداع الخليجي للاستثمار والتدريب، 2002م، ص 17.
(2) فتحي عبد الرحمن جروان، الموهبة والإبداع والتفوق، الإمارات، دار الكتاب الجامعي، 1999م، ص 85.
(3) جابر عبد الحميد جابر، وعلاء الدين كفافي، معجم علم النفس والطب النفسي، القاهرة، دار النهضة، ج2، ص 799.(4/7)
أي فكرة جديدة أو أسلوب أو مفهوم أو نمط جديد يتم التوصل إليه، ثم استخدامه في الحياة(1).
... ومن المفاهيم الأشد التصاقاً بمفهوم الإبداع "مفهوم العبقرية"، ويعرف بأنه: "قدرة عقلية وابتكارية استثنائية من مستوى رفيع، تترجم عملياً على شكل إنجاز فذٍّ وأصيل، يترك بصمات عميقة الأثر في مجال معين لم يستكشف من قبل، ويُعدُّ إضافة جوهرية ذات قيمة كبيرة لمعرفة الإنسان وحضارته"(2).
الإبداع في التصور الإسلامي
... وبعد عملية استقصائية للوقوف على مفهوم الإبداع وأشد المرادفات التصاقاً به في التصور الإسلامي (السنّة المطهّرة) تحديداً اجتهدنا في حصر عدد من هذه المرادفات والتي تستوعبه وتتجاوزه إلى فضاء أوسع.
__________
(1) إسماعيل عبد الفتاح عبد الكافي، الابتكار وتنميته لدى الأطفال، القاهرة، مكتبة الدار العربية، 2003م، ص 17.
(2) عبد الرحمن سليمان، معجم التفوق العقلي، القاهرة، عالم الكتب، 2004م، ص 121.(4/8)
... ولعل "مفهوم الإبداع الإسلامي لم يستدعي انتباه فقهاء الأمة وعلمائها – ربما – لأن دلالات هذا المفهوم متضمنة في مفاهيم نسقية أخرى، مثل: العبادات والطاعة والإتقان(1) والإحسان والالتزام والعدالة ......"(2).
... وبما أن هذه الدراسة ليست معجمية، وتنصب على التطبيقات الوظيفية لهذا المفهوم، فسنورد إطلالة مختزلة على أهم مرادفاته وبتركيز شديد محاولين أن نؤسس ونوصلها بالإشارات النّبوية العطرة، ومنها:
التجديد
__________
(1) هناك من يضيف "الإتقان" إلى هذه المرادفات، ولكن الذي نميل إليه انه اقرب إلى المهارة البدنية.
(2) عبد القادر رمزي، مفهوم الإبداع في النسقية الإسلامية، ص 11.(4/9)
... فالرسول - صلى الله عليه وسلم - يؤصل للتجديد ويخبر عنه كونه من السنن الربانية العاملة في الحياة الإنسانية، يقول - صلى الله عليه وسلم -:" إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها"(1). "وهذا يعمل على زحزحة العقل المسلم من حالة الاجترار والتكرار والسكون إلى حالات التحدي والابتكار والحركة(2). فالدعوة التجديدية يجب أن تمسَّ عمق الأشياء والظواهر، فعلى المسلم أن يُلَّم بمعرفة كيف يتم إبداع الأشياء"(3).
__________
(1) المستدرك على الصحيحين، كتاب الفتن والملاحم، ج4، ص 567، رقم الحديث (8592)أبوداود،سنن أبي داود :تعليق محمد ناصر الالباني،كتاب الملاحم ،باب مايذكر في قرن المائة، ج4 ، ص639، الرياض – مكتبة المعارف (د- ت1) (حديث صحيح).
(2) سعاد الصالح، الدعاء سبيل الحياة الطيبة، قطر، كتاب الأمة، 2006م، ص 54.
(3) مالك بن نبي، وجهه العالم الإسلامي، ص 55-56.(4/10)
... "فالتجديد(1) ظاهرة تاريخية تبرز كلما اعترى المسلمين ذبول في دوافع الإيمان، وخمول الفكر وجمود الحركة واستفزهم التحدي الخارجي"(2).
... ولا يعني التجديد الانقلاب على الثابت والأصيل من الإسلام، ولا الإتيان بشيء جديد، أو سلوك طريق جديد من غير ثوابته الشرعية، ولكن العودة إلى الإسلام بحالة صفائه للإتيان به جديداً كما كان في عهد النقاء الإسلامي، وكما فهمه الرعيل الأول؛ ليكون المسلم بمستوى عصره لتجاوز طوق المكان (عالمية الإسلام) من جهة، وتجاوز طوق الزمان (امتداد مسائل الحياة وتجددها) من جهة أخرى.
الاجتهاد
__________
(1) لمزيد من التوسع (يُنظر): إبراهيم الكتاني وآخرون، تجديد الفكر الإسلامي، مؤسسة الملك عبد العزيز آل سعود، والمركز الثقافي العربي، 1989م. محمد عمارة، أزمة الفكر إسلامي الحديث، دمشق، دار الفكر المعاصر، 1998م، وقائع مؤتمر التجديد في الفكر الإسلامي، الأردن، منشورات جامعة اليرموك، 2004م.
(2) حسن الترايبي، الصحوة الإسلامية والدولة في الوطن العربي، مجلة حوار، عدد 8، 1987م، ص 9.(4/11)
... "الإبداع صنو الاجتهاد ورديف له ومن الصعب أن ينفكّ أي منهما عن الآخر. وإذا كان الشارع لم يكثر من استعماله إكثاره من استعمال مفهوم الاجتهاد؛ فلأن الاجتهاد أعمُّ من الإبداع، فهو يشمله ويستوعبه ويتجاوزه إلى آفاق أخرى"(1).
... وهذا ما سنأتي – بإذن الله – على توضيح معالمه وتأصيله لاحقاً في هذه الدراسة.
الإحسان
... ما ورد من حديث عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: [السائل هو جبريل - عليه السلام - والمجيب هو النبي - صلى الله عليه وسلم -].
قال: فأخبرني عن الإحسان؟ قال: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك"(2).
__________
(1) طه جابر العلواني (من التقديم) إسلامية المعرفة، 2005م، عدد 41، ص 6.
(2) أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة 2000، حديث رقم (5)، ج1، ص 27.(4/12)
... فالعبادة في الرؤية الإسلامية، مسارٌ مفتوحٌ على كلِّ فعل إسلامي يقوم به المسلم طلباً لمرضاة الله سبحانه وتعالى، وبناءً على هذا الأساس يجب أن يكون كلُّ فعل الإنسان المسلم إسلامياً، وكذلك إيمانه الذي يطلب منه أن يتقن أداءه ويبدع في التزامه، وفي أداء كل عمل يقوم به – لأنه عبادة-"(1).
... وهنا يبرز مفهوم الإبداع الإسلامي، حيث يتفاوت المسلمون في أداء عباداتهم، والفيصل في هذا التفاوت هو "السعي إلى التمييز في النوايا والأفكار والأعمال للارتقاء في درجات الإبداع، حتى بلوغ مراتب الإحسان، ابتغاء السعادة التي هي نوال رضوان الله سبحانه وتعالى"(2).
__________
(1) عبد الحميد أبو سليمان، إسلامية الجامعة وتفعيل التعليم العالي بين النظرية والتطبيق: الجامعة الإسلامية نموذجاً، مجلة إسلامية المعرفة، عدد 26، 2001م، ص 115-150.
(2) عبد القادر رمزي، ص 23.(4/13)
... ويتكامل مع الحديث السابق قوله - صلى الله عليه وسلم -:" إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة ...." (1)، وفي هذا الحديث توسيع فضاء الإحسان بحيث يستوعب كل فعل إسلامي. فهو الثمرة الحقيقية للإيمان إذ يسعى المسلم بعمله لوصول إلى درجة الإحسان للاستمرار في تحسين الأداء"(2).
...
السنّة الحسنة
__________
(1) رواه مسلم، كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان، باب الأمر بإحسان الذبح والقتل وتحديد الشفرة، حديث رقم (1955)، ج3، ص 1485.
(2) هشام الطالب، دليل التدريب القيادي، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، عمان، 1996م، ص 46.(4/14)
... قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من سنَّ في الإسلام سنة حسنة، فعمل بها بعده كتب له مُثل أجر من عمل بها، ولا ينقص من أجورهم شيء، ومن سنَّ في الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده، كُتب عليه مثل وزْر من عمل بها، ولا ينقص من أوزارهم شيء"(1). وفي هذا الحديث دعوة إلى التفكير المبدع الذي يُسن سنة حسنة، أي أن يبتكر شيئاً جديداً فيه نفع وخير للناس(2).
... وفيه إشارة إلى أن الإبداع الإسلامي يترتب عليه فائدة للإنسانية وإذا فُقد هذا الركن دخل في إطار "سنة سيئة"، فلا يعد الإبداع المظلم من فن هابط وأسلحة الدمار المحرمة شرعياً ودولياً إبداعاً، فهو لا يرقى برتبة فكر، ولا يسمو بنفس.
__________
(1) رواه أبو داود، والحاكم والبيهقي في المعرفة عن أبي هريرة، جلال الدين السيوطي، الجامع الصحيح بشرخ فيض القدير للمناوي، بيروت، دار الفكر حديث رقم 1845، ج2، ص 282.
(2) يسرى محمد أرشيد، حقوق الإنسان في ضوء الحديث النبوي، قطر، وزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية، 2006م، ص 71 (كتاب الأمة).(4/15)
... ومما يجدر الإشارة إليه أيضاً: أن هناك مغايرة بينه بين السنّة الحسنة (والبدعة)، فالبدعة: الحدث في الدين بعد الإكمال، أو ما استحدث بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأهواء والأعمال، أو ما أحدث على خلاف المُتلقّى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد استخدم الصحابة اصطلاح البدعة مقابل السنّة، فعدّوا كلّ خروج عن السنّة بدعة(1).
وبعد هذا العرض يجتهد في استخلاص مفهوم للإبداع الإسلامي.
... "بذل أقصى الجهد في استثمار جميع الطاقات والإمكانات المتاحة، من أجل بلوغ أعلى درجات الإحسان لإعمار الآجل والعاجل".
... أو الأداء المتميز لبلوغ أعلى مراتب الإحسان في النوايا والأعمال والأفكار من أجل وصول القمة في الدنيا، والفردوس الأعلى في الآخرة".
أو: "استغلال جميع الطاقات والإمكانات والقدرات المتاحة واستثمارها بأعلى أوتارها للالتحام التام بين الدنيا والآخرة".
المبحث الثاني
أبرز منطلقات ومبادئ بناء الشخصية الإبداعية من السنة النبوية
...
أولاً: الحرية
__________
(1) مروان القيسي، معالم الهدى إلى فهم الإسلام، عمان، المكتبة الإسلامية، (د.ت)، ص 85.(4/16)
... "لقد أثبتت الدراسات أن الحرية قيمة من القيم الأساسية التي تعمل بمثابة إطار مرجعي ينظم سلوك المبدعين ويحركه"(1)، "وإن من أكثر الجوانب المعارضة للإبداع، شيوع قيم لا تتطابق مع حرية البحث والتعبير والإبداع"(2).
... وإن ذروة سنام الحرية هو التوحيد:" فهو عصب التصور الإسلامي للكون والإنسان والوجود، وهو في حالة تألفه وصفائه وحيويته وانطباقه الباهر على المعطى القرآني والنبوي يفعل المعجزات"(3)، وينقل الجبال عن مواضعها"(4)، ومن البديهي أن أي خلل يصيب مفهوم التوحيد، سيؤول إلى هدر حرية المسلم وكرامته، واستلاب روحه وقدراته الفعالة، وطاقاته الإبداعية، فلقد كان للتوحيد أثره الواقعي في حياة المسلمين، وفي صنع الحركتين العلمية والحضارية"(5).
__________
(1) عبد الستار إبراهيم، آفاق جديدة في دراسة الإبداع، الكويت، وكالة المطبوعات، 1978م، ص 208.
(2) مصري عبد الحميد صنورة، الإبداع وتنميته من منظور تكاملي، القاهرة، مكتبة الأنجلو، 2003م،
ص 140.
(3) عماد الدين خليل، مدخل إلى الحضارة الإسلامية، ص 70.
(4) ينظر: رجاء حارودي، وعود الإسلام.
(5) عماد الدين خليل، مدخل إلى الحضارة الإسلامية، ص 75.(4/17)
... إن أي تغيير شامل ناجح في الدنيا والآخرة لن يتحقق إلا من خلال العقيدة الصحيحة، وهذا هو منهج الإسلام وتجربة قدوتنا - صلى الله عليه وسلم -، حيث أمره الله تعالى أن يثبت عقيدة التوحيد في نفوس الرعيل الأول، ويعمل لأجلها كل ما في وسعه، لأنه إذا تقررت العقيدة الصحيحة في النفوس يسهل تحقيق كل شيء، فالتغيير الجذري تظهر حقيقته بعد تحقيق عقيدة التوحيد الفعالة المؤثرة(1).
__________
(1) علي محي الدين القرة داغي، العقيدة الإسلامية: دراسة الأخطاء الواردة في الموسوعة الإسلامية عن دار بريل في لايدن (ايسيسكو)، المنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم، ص 97-98.(4/18)
... فلقد مكث - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة عشر عاماً من دعوته يرسخ مفهوم التوحيد ويجذره في نفوس المسلمين، لذا كان يحرص عليه الصلاة والسلام على أن يكون أول ما يلقن الطفل بعد ولادته (التوحيد) شهادة أنَّ لا إله إلا الله وأنَّ محمداً رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه "أذّن في أذن الحسن بن علي حين ولدتهما فاطمة بالصلاة"(1).
... وحيث أن نشوء الأولوهيات البشرية مستمر(2)، وهي تعمل باستمرار على اختلاس العقول الوثنية التي تلد الأصنام المتعاقبة المتطورة كما تتطور الدودة الصغيرة إلى فراشة طائرة، إذا ما صادفت جواً ملائماً(3).
__________
(1) رواه أبو داود في سننه، كتاب الأدب، باب الصبي يولد فيؤذن في أذنه، حديث رقم (5105)، ج3، ص 333، وصححه الألباني، يُنظر: الألباني، صحيح سنن أبو داود، حديث رقم (4258)، ج3، ص 961، الرياض، مكتب التربية العربي لدول الخليج.
(2) يسرى محمد أرشيد، حقوق الإنسان في ضوء الحديث النبوي، قطر، كتاب الأمة، 2006م، (من تقديم عمر عبيد حسنة)، ص 18.
(3) مالك بن نبي، شروط النهضة، ترجمة عبد الصبور شاهين، وعمر كامل مسقاوي، دمشق، دار الفكر، 1981م.(4/19)
... فالعبودية تأخذ أشكالاً وصوراً متعددة فلم يكن هذا البعد غائباً في الإشارات النّبوية فالرسول - صلى الله عليه وسلم - يعلن الرفض لكّل أنواع العبودية لغير الله ابتداءً من الأوثان البشرية ومروراً بالمعشوقات الحجرية، وانتهاءً بالمعشوقات الخفية كعشق الهوى والمال والمرأة.
... يقول - صلى الله عليه وسلم -: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه لما جئت به"(1)، ويقول - صلى الله عليه وسلم -: "تعس عبد الدينار، وعبد الدرهم، وعبد القطيفة، وعبد الخميصة"، إن أعطي رضي، وإن لم يعطى لم يفي(2)، فالعبودية للسالف ذكره استلاب لحرية العقل ودفن لطاقاته الإبداعية، يقع المرء من خلاله تحت سطوة اللذة العاجلة واللحظة الراهنة، بيد أن التحرر من العبودية لغير الله دعوة مفتوحة لالتحام بالكتلة العمرانية لنعيد للأمة تميزها ودورها
__________
(1) مشكاة المصابيح، بيروت- المكتب الإسلامي، ط3، 1985م، تحقيق الألباني، وقال: "سنده ضعيف"، وقال النووي، هذا حديث صحيح رويناه في كتاب الحجة بإسناد صحيح، وقد أورده في الأربعين النووية.
(2) سنن ابن ماجة، ج2، ص 1385، حديث رقم (4135) بيروت- دار الفكر، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، قال الألباني (حديث صحيح).(4/20)
الفاعل، وما التحول المذهل في العقل الجاهلي وإعادة تشكيله إلا من صناعة التوحيد.
ثانياً: تنمية الذوق الجمالي
... إن الرؤية الإسلامية مسارٌ مفتوحٌ لاستشعار الجمال، واستنطاقه واستيطانه واستلهامه والبحث عنه وتنميته بأبعاده المختلفة ومستوياته المتباينة ومجالاته المتنوعة (الروحية والمادية...) حتماً ضمن الرؤية النابعة من قلب الإسلام والمنضبطة وفق تصوره.
... وهناك جملة من الدرر النّبوية تدعو إلى الآنف ذكره ونتوج ذلك كله بقوله - صلى الله عليه وسلم -:" إنّ الله جميل يحب الجمال"(1)، إن من أبرز خصائص العقل الإبداعي، الإدراك الجمالي، واكتساب القيم الجمالية. فالتربية الجمالية درجة ارتقاء للعقل في معراج الفكر وتحليق للروح في فضاء الإيمان الوضيء، فهي توسّع الفضاءَ المعرفي والوجداني، وتجعل مدرِك الجمال أقرب إلى مبدِع وخالق الجمال.
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي المسمى المنهاج، ج2، باب تحريم الكبر وبيانه، حديث رقم (271)،
ص 274.(4/21)
... فكيف لمن يكسر طوق الأَلف والتكرار والروتين أن لا يأخذ دربة عقلية في الخروج من هذه الدائرة إلى دائرة الإبداع، فهو يرى المألوف غير مألوف، ويرى الكون ابتداءً من الإبداع في أسرار خلقه ومحيطه وعالمه الرحب (محراب جميل يسبح بحمد الله)، فهو ينظر بعين البصيرة من الأبواب الخلفية، مما يرقى برتبة إيمانه، ويرفعه إلى مصاف المتقين (اتقي ترتقي)، فالتقوى سر مكنون وطاقة خفية ترفد الإبداع.
قال تعالى: ( } - قرآن كريم ( { } - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - { - - - } ( المحتويات ( تمهيد ( - ( - - - رضي الله عنهم -(( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - - - - ( - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - (- صلى الله عليه وسلم - - ( تمهيد ( - - ((( - ( ( بسم الله الرحمن الرحيم - ( - - رضي الله عنه -() [البقرة:282].(4/22)
... فالإبداع والتقوى صنوان لا ينفك أحدهما عن الآخر، وإذا أضفنا إلى ذلك أن مدرِك الجمال يمتلك وجداناً حياً يقظاً، "فقد نجد المبدع شخصاً ذا حساسية مرهفة وقدرة على الإدراك الدقيق للثغرات والإحساس بالمشكلات، فمنظر غروب الشمس قد لا يثير عند الشخص العادي سوى ترقب قدوم الليل، أما بالنسبة لشاعر مبدع، قد يكون بؤرة لكثير من المشاعر بمقياس الحساسية المرهفة والوجدان اليقظ"(1).
... وحسبنا أن السيرة الحية للنبي - صلى الله عليه وسلم - تؤكد بأنه يملك وجداناً يقظاً وقلباً فياضاً.
__________
(1) عبد الستار إبراهيم، آفاق جديدة في دراسة الإبداع، الكويت، وكالة المطبوعات، 16978م، ص 17.(4/23)
... قال تعالى: (وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ) (آل عمران: 159)، وهنا بعد غائب عن ساحة الإبداع المعاصر من الضرورة استدعائه، حيث يغلب – أحياناً – على بعض المبدعين (من التخصصات التي تعنى بالعلوم التطبيقية) الآلية في الطبع، وصلادة الإحساس أمام ضغط المادة "فلا بد من تنمية الذوق الجمالي؛ لنرقى بذوق المسلم وعواطفه وإحساسه ومشاعره"(1)، لنسهم في تطوير (الموقف الجمالي، والإحساس الجمالي، ليعمل على صقل الذوق والتذوق لتحقيق الإبداع المنشود"(2).
__________
(1) حنان عطية الجهني، تنمية القيم الجمالية لدى تلميذات المرحلة الابتدائية، رسالة دكتوراه، الرياض، كلية البنات، 2003م، على شبكة الانترنت، 23/7/2005م.
(2) وائل يوسف خطّار، التربية الجمالية في تنمية التذوق الجمالي: دراسة ميدانية على طلبة كليتي التربية والفنون الجميلة، رسالة ماجستير، سوريا، جامعة دمشق، 2001م.(4/24)
... وحيث أن الأدب الملتزم بمختلف صنوفه صورة نابضة ناطقة للإبداع عبر مسيرة التاريخ الإنساني الحضاري، ونجد التأكيد النبوي والدعوة إليه، يقول - صلى الله عليه وسلم -: "إن من الشعر لحكمة"(1)، وهنا نرى الجمع بين الذوق الوجداني والذوق العقلي، فالشعر الذي يدعو إليه - صلى الله عليه وسلم - هو الذي يصقل الإحساس ولا يغفل أعمال العقل بل فيه الحكمة.
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب ما يجوز من الشعر والزجر والحداء وما يكره منه، حديث رقم (6145)، ص 1146.(4/25)
... ونضيف أن تنمية الحس الجمالي تضفي على الإنسان السعادة ليعيش في إطار متوازن، فلا يقع تحت سطوة الألم وكبد الحياة، هذا الإطار المتوازن الذي يُعدُّ من الأبجديات الأولى لبناء الشخصية المبدعة. "فكلما كان المرء أكثر قدرة على الإحساس بالجمال، وعلى الحفاظ على كلِّ ما هو جميل، والتأكيد عليه والمساهمة في زيادة رقعته، وسبر أغواره، فإنه يكون بالتالي أكثر قدرة على نشر ألوية السعادة(1)، بل إن الإطار الحضاري بكل محتوياته متصل بذوق الجمال الذي تتكون فيه أي حضارة، فينبغي أن نلاحظه في نفوسنا فهو وجه الوطن في العالم(2).
__________
(1) مخائيل يوسف أسعد، تذوق الجمال لتعيش سعيداً، القاهرة، دار غريب للطباعة، 1997م، ص 7.
(2) مالك بن نبي، شروط النهضة، ترجمة عمر كامل مسقاوي، عبد الصبور شاهين، دمشق، دار الفكر، 1986م، ص 92,(4/26)
... ولربما شغل تنمية الذوق الجمالي حيزاً من هذه الدراسة، وقد نعذر في ذلك أمام السيل العارم من معركة المصطلحات لاختراقها وتشويهها، إما من حيث المفهوم، أو من حيث التوظيف العملي لها. ومن أبرز هذه المفاهيم (الجمال، والحب)، رغم أصالتهما وتجذرهما وحضورهما في عمق الحضارة الإسلامية، إلا أن أصحاب الإرادات المشوهة والنوايا العابثة فعلت فيهما الأفاعيل على أرض الواقع المعيش، مما يحّمل أصحاب الإرادات الجادة والهمم العالية والأقلام الملتزمة مسؤولية كشف الستار عن العبثية التي ألمت بهما بدلاً من الانسحاب أو الانكسار أو الاعتزال غير المبرر.
ثالثاً: الانتقاء الحضاري
... إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - دعا إلى الانفتاح على خبرات الآخرين والاستفادة من معطياتهم أو ما يمكن تسميته (الانتقاء الحضاري) (1).
__________
(1) ويقصد به: القدرة على الانتقاء الواعي المنضبط للداخل والخارج إلينا من الآخر، لمزيد من التوسع ينظر: عماد الدين خليل، حول إعادة تشكيل العقل المسلم، كتاب الأمة، 1988م.(4/27)
... "فلم توجد حضارة أبدعت ولم تنقل، فالنقل ليس وباءً وعاراً، إنما هو غذاء، والعزلة الحضارية والجهل صنوان وكلاهما تخلف، والأمة الإسلامية وهي تتطلع إلى مستقبل مشرق لابد أن تخوض معركة الذات وتجديدها، وتستفيد من آليات الفكر الغربي، ومنجزاته العلمية المعاصرة طبق ضوابط"(1)، ومن هنا جاء حرص الرسول - صلى الله عليه وسلم - على تحقيق الأداة والوسيلة الحتمية لمعرفة ما لديهم من معطيات يمكن أن يرفد النهضة العمرانية، وتدفع بعجلة الفعل الحضاري، وذلك من خلال تعلّم لغتهم، قال زيد رضي الله عنه: أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فتعلمت له كتاب يهود بالسريانية، وقال:" إني والله ما آمن يهود على كتابي، فما مرّ لي نصف شهر حتى تعلمته وحذفته، فكنت اكتب له إليهم، وأقرأ له كتبهم"(2).
__________
(1) محمد أبو يحيى وآخرون، الثقافة الإسلامية ثقافة المسلم وتحديات العصر، عمان، دار المناهج، 2003م، ص 205.
(2) رواه البخاري، وأبو داود والترمذي، انظر: جمع الفوائد وأعذب الموارد، ج1، حديث رقم (319)، طبعة المدينة المنورة.(4/28)
... ومن هنا حرص المسلمين على معرفة اللغات فترجموا منها واليها(1)، ولما يترتب على ذلك من جملة منطلقات تسهم في بناء الشخصية الإبداعية، من أبرزها: الخروج من زنزانة التخصص(2)، ولغربلة ما يدخل إلينا من الآخر، وللاستزادة من المجالات العلمية التي كان للأخر السبق إليها، ولنقل الصورة المشرقة لعظمة ديننا.
__________
(1) يوسف القرضاوي، الرسول والعلم، بيروت، مكتبة الرسالة، 1984م، ص 42.
(2) زنزانة التخصص: ويقصد به التركيز أولاً وآخراً على التخصص الأكاديمي، وعدم توسيع دائرة الثقافة في المجالات الأخرى، فيقع الأكاديمي تحت سطوة أحادية التفكير فلا ينظر إلا من زاوية تخصصه.(4/29)
... بيد أن هنا بوناً شاسعاً بين الانفتاح الواعي الذي يحفظ للأمة هويتها المستقلة المتميزة، وبين الذوبان والانصهار والتفتت أمام التحديات الداخلية والخارجية وإدمان التقليد، والانجراف خلف كل مستوردٍ للارتماء في أحضان الآخر، يقول - صلى الله عليه وسلم -:" لتبتعن سنن الذين من قبلكم شبراً شبراً، وذرعاً بذراع، حتى لو دخلوا حجر ضب تبعتموهم، قلنا يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن." (1).
... وبلا ريب يحتاج هذا الانفتاح إلى النظر الأصيل في معطيات الآخر لمحاولة فهمه، ونقده، وتصويبه، لتوظيف ما فيه من ايجابيات لتطوير الحاضر والمستقبل، فلا بد من التخيّر والانتفاع الواعي والوضوح العقدي، والنصاعة الفكرية، وجعل المقياس في القبول والرد هو الفهم الثاقب لشرع الله عز وجل، قال تعالى: (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [الزخرف: 43].
رابعاً: العصف الذهني
__________
(1) أخرجه البخاري، الجامع الصحيح في المسند المختصر، رقم (7320)، ص 1006.(4/30)
... إن العصف الذهني(1) عبارة عن "مؤتمر ابتكاري ذي طبيعة خاصة من أجل إنتاج قائمة من الأفكار يمكن أن تستخدم كمفاتيح تقود إلى بلورة المشكلة، وتؤدي بالتالي إلى تكوين حلٍّ لتلك المشكلة، يعتمد على أفكار جماعية متحررة من القيود منفتحة على الواقع، لا يكفها الحرج ولا يكبلها التصلب والجمود"(2). ويسهم بشكل مباشر في تنمية التفكير الابتكاري لدى المشاركين(3)، ويسمى أيضاً "بالتحريك الحرِّ للأفكار، أو حلِّ المشكلات الإبداعي، وتقوم هذه الطريقة على تقديم سؤال أو مشكلة عن كيفية التصرف إزاء موقف معين إلى مجموعة من الأفراد،
__________
(1) العصف الذهني ونقل الباحثون العرب مصطلح (Brainstorming) إلى عدة مرادفات منها: العصف الذهني، المفاكرة، تدفق الأفكار، أمطار الدماغ، توليد الأفكار، إلا أننا سوف نتبنى مرادف (العصف الذهني) لشيوعه أولاً، ولأن العقل يعصف بالمشكلة ويفحصها ويمحصها بهدف التوصل إلى الحلول الابتكارية المناسبة لهذه المشكلة.
(2) احمد عبادة، الحلول الابتكارية للمشكلات النظرية والتطبيق، القاهرة، مركز الكتاب للنشر، ص 38.
(3) فؤاد أبو حطب، آمال صادق، التقويم النفسي، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، 1980م، ص 74.(4/31)
ثم يطلب منهم توليد أكبر عدد ممكن من الأفكار، أو الحلول التي يمكن أن تطرح لحلِّ المشكلة، وفي هذه الطريقة تعطي كمية الأفكار المتولدة أسبقية على نوعيتها(1).
... وأغلب الظنِّ – والله أعلم – أن المبادئ النّبوية التربوية التي تستوعب العصف الذهني وتتجاوزه إلى فضاء أوسع بكثير تتمثل في شقين:
... الشق الأول: الشورى، هذا المبدأ الذي يأتي وحي السماء ليؤكده، على نبي الرحمة - صلى الله عليه وسلم - قال تعالى: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) [آل عمران: 159] ويجسدها - صلى الله عليه وسلم - في سيرته الحية ويوظفها عملياً في مواطن كثيرة، منها:" مشورة الخباب بن المنذر لرسول الله أرأيت هذا المنزل أمنزلاً أنزله الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب، والمكيدة؟ قال: "بل هو الرأي والحرب والمكيدة" قال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزلٍ، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماءٍ من القوم فننزله، ثم نعوَّز(2) ما وراءه من القُلُب(3)
__________
(1) كمال عبد الحميد زيتون، التدريس نماذجه ومهاراته، ص 323-324.
(2) نعور: من عار عوراً، اتلف الشيء.
(3) القليب: البئر جمعها قلب. أنيس وآخرون، المعجم الوسيط، ج1، ص 635.(4/32)
، ثم نبني عليه حوضاً فنملؤه ماءً، ثم نقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون، فقال رسول الله:" لقد أشرت بالرأي": فنهض رسول الله ومن معه من الناس فسار حتى إذا أتى أدنى ماءٍ من القوم نزل عليه، ثم أمر بالقُلُب فعوّرت، وبنى حوضاً، على القليب الذي نزل عليه فملئ ماءً، ثم قذفوا فيه الآنية"(1).
... أما من أقواله - صلى الله عليه وسلم -:" إذا استشار أحدكم أخاه فليشر عليه"(2).
__________
(1) ابن هشام، أبو محمد عبد الملك، السيرة النبوية، تحقيق: عادل احمد عبد الموجود وعلي محمد معوض، الرياض، مكتبة العبيكان، 1998م، ج2، ص 210.
(2) أورده ابن ماجه في سننه، كتاب الأدب، باب: المستشار مؤتمن، حديث رقم (3747)، ص 224.(4/33)
... أما الشق الثاني: فإثارة السؤال الذي يستحث العقل وينمي الفكر؛ وصولاً إلى الأصوب، فهناك إشارات وشواهد نبوية متوالية دالة على ذلك نستعرض واحد منها: روي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:" أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ذكرك أخاك بما يكره، قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول، قال: إن كان فيه ما يقول فقد أغنيته، وإن لم يكن فيه فقد بهتّه"(1).
... فهذان الشقان إذا التحما فوظّفا كلاهما أو أحدهما على يد (مربٍ متمكن) يجيد فن التعامل مع صناعة الإبداع والكشف عن المبدعين - لأن تفعيلهما مرهون بنمط الطرح الذي يقدمه المربي- سيكون من ثمرته إضاءات تربوية شتى تشكل في مجملها انطلاقة للكشف عن القدرات الإبداعية. فمن أبرز هذه الاضاءات التربوية:
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي، ج16، حديث رقم (6536)، ص 358، سنن الترمذي، ج4، رقم الحديث (1934)، ص 290.(4/34)
- ... اكتساب القدر الأكبر من التعلّم، فقد أثبتت دراسة أجريت في أمريكا أن ما يكتسبه المتعلم بأسلوب الحوار والمناقشة يفوق 60% بيد أن ما يكتسبه المتعلم بالطريقة التلقينية (المحاضرة) قد لا يفوق 10%، وهذا ما أكدّه ابن خلدون في مقدمته وكان له السبق في الإشارة إليه(1).
- ... إكساب المشارك عادات التفكير الابتكارية وتنمية مهاراته العقلية.
- ... منح المشارك أكبر قدر من الحرية، بحيث يمتلك زمام الطلاقة الفكرية(2)، والطلاقة التعبيرية(3)، والتي تعد من أبرز سمات التفكير الإبداعي.
__________
(1) ينظر: لمزيد من التوسع ابن خلدون المقدمة.
(2) الطلاقة التعبيرية: وهي القدرة على صياغة الأفكار في عبارات مفيدة، والقدرة على التفكير السريع في الكلمات المتسلسلة والمتلائمة للموقف في موضوع معين (ينظر): ناديا هايل السرور، مقدمة في الإبداع، عمان، دار وائل للنشر، 2002م، ص 118.
(3) الطلاقة الفكرية: وهي القدرة على ذكر اكبر عدد ممكن من الأفكار في فترة زمنية محددة (ينظر): خليل ميخائيل معوض، قدرات وسمات الموهوبين، الإسكندرية، دار الفكر الجامعي، 1984م، ص 52.(4/35)
- ... منح المشارك الثقة بالنفس والتخلص من عيوب اللسان وأخذ دربه في الطلاقة التعبيرية الشفوية، وهناك كثير من العلوم الإنسانية تحتاج إلى طلاقة اللسان وقوة البيان سيما في الإبداع الدعوي.
- ... إن الكمّ يولّد الكيف، فكثرة طرحنا للأفكار توصلنا من خلالها إلى القرار الإبداعي الناجع، وتفتح آفاق عقلية أخرى، سيما أن هناك تفاوت في الأذهان والأفهام.
- ... بوابة خير يتم من خلالها اقتناص المبدع وتنمية قدراته.
- ... إن هذا المؤتمر الابتكاري إضافة إلى أنّه يُشعر المشارك بأنه جزءًٌ من قرار أسهم فيه، فإنه أيضاً يعمل على توثيق اللحمة الاجتماعية، سيما إذا ملك زمامه مرب متمكن، يعمل على رفد النبض الروحي مع عدم إغفال الدقة في النبض العلمي للحوار، فبقدر ما ينسلخ من جاذبية الأرض ودونيتها، وينفلت من سرطان الأنا، ودخان الهوى بقدر ما يستثمر قدرات المبدعين وطاقاتهم، فثمرة الإبداع هي امتداد لكافة الأطراف المشاركة، وينسحب ذلك على الفئات المجتمعية الأخرى.
- ... قبول الطرف المخالف والرأي المخالف بحكمة بالغة ورحابة صدر بل إن الخلاف ظاهرة صحية تعمل على تنويع الرواء، وتفتيت آفة التصلب (بلا حق ألا أنا).(4/36)
خامساً: الدعوة إلى العلم والتعلم
... إن الإبداعات والامتدادات العلمية إنما جاءت ثمرة للمنهجية النبوية في العلم والتعلم، وإن مزيداً من العلم – إن كان على هدى- هو مزيدٌ من شحنة الإيمان "ويجب أن نعلم أنّ العلم سوف يخدم القضية الإيمانية أكثر من حماسنا، كما يجب أن نعلم أن المفاهيم التي تفقد الأرضية العلمية سوف تنطفئ مهما نفتح فيها من نار الحماس"(1)، ولكن انسحابنا وتخاذلنا نتج عنه الاكتفاء بالجانب النظري والمباهاة بإبداع الإسلام وليس بإبداع المسلمين، فلم توظّف عملياً التأكيداتُ النبوية في الحث على العلم والتعلم.
... حيث إن هناك جملة من الإرشادات النبوية تؤكّد على البناء العلمي المحكم للشخصية الإبداعية، منها:
1. ... إيثار العلم على العبادة، فالإسلام يفضّل الاشتغال بالعلم وطلبه والتبحر فيه عن التطوع بالشعائر المعروفة من صيام وصلاة وغيرها(2).
__________
(1) ... خالص الحلبي، الطب محراب الإيمان، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1982، ص 8.
(2) ... يوسف القرضاوي، الرسول والعلم، ص 25.(4/37)
... يقول النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - "فضل العلم خير من فضل العبادة"(1).
2. ... الدعوة إلى البحث العلمي وفتح نوافذ الأمل والابتكار، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "نعم يا عباد الله تداووا فإن الله لم يضع داءً إلا وضع له شفاء إلا داءً واحداً، فقالوا: يا رسول الله ما هو؟ قال: الهرم(2).
3. ... رفع رتبة العلماء وإعلان مبدأ الوحدة بين الدنيا والآخرة، فالعلم المثمر المنتج في الدنيا هو طريق إلى الخلود في الآخرة في الفردوس. "من سلك طريقاً يتلمس فيه علماً، سهّل الله له به طريقاً إلى الجنة"(3).
__________
(1) ... رواه الطبري في الأوسط، وقال في مجمع الزوائد، ج، ص 120.
(2) ... الترمذي، سنن الترمذي (باب ما جاء في الدواء والحث عليه)، رقم الحديث (2038)، ج4، ص 383، وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، بيروت، دار إحياء التراث العربي، د.ت.
(3) ... رواه الترمذي في سننه، الجامع الصحيح، كتاب العلم، باب فضل طلب العلم، حديث رقم (2784)، ج4، ص 137، صحيح مسلم بشرح النووي، كتاب الذكر، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر، ج17، ص 21.(4/38)
4. ... الدعوة إلى التفكير الناقد(1)، وتأكيد الذات والاستقلال في الفهم والرأي وإقصاء للشخصيات الأمّعية التي يأسرها التقليد الأعمى، والتبعية المطلقة من غير دليل ساطع وحجة دامغة، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تكونوا إمّعة تقولون إن أحسن الناس أحسّنا، وإن ظلموا ظلمنا ولكن وطّنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا فلا تظلموا"(2).
__________
(1) ... التفكير الناقد: التوقف عن الأحكام المسبقة، أو الشك الصحي، ينظُر: شيت مايرز، تعليم الطلاب التفكير الناقد، ترجمة: عزمي جرار، عمان، المركز الوطني للبحث والتطوير التربوي، 1993، ص 8.
(2) ... أخرجه الترمذي، الجامع الصحيح، حققه وصححه عبد الرحمن محمد عثمان، بيروت- دار الفكر، 1983، باب البر والصلة، باب ما جاء في الإحسان، حديث رقم (2075)، ج3، ص 246، وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.(4/39)
... إن مهارة النقد تساعد المتعلم على الدراسة الواعية، وتمحيص الحقائق، والاهتداء بنور الحق المستمد من الكتاب والسنة، وقراءة الحياة في ضوء السنن الربانية التي لا تتخلف ولا تتبدل(1)، فضلاً عن كونها تعمل على مساعدة المتعلم على الوعي الفكري بكل ما يعمل، أو يقول أو يكتب(2).
... فالتفكير الناقد والتفكير الإبداعي صنوان لا ينفك أحدهما عن الآخر فضلاً عن أنهما يخرجا الفرد من دائرة السلبية والانكسار إلى الإيجابية والفاعلية، فيرى بعين الناقد لا بعين الناقل، وصولاً إلى الأعدل والأصوب.
__________
(1) ... محمد قطب، منهج التربية الإسلامية، بيروت، دار الشروق، 1982، ج2، ص 300.
(2) ... عبد الرحمن النحلاوي، أصول التربية الإسلامية وأساليبها، في البيت والمدرسة والمجتمع، بيروت، دار الفكر المعاصر، 1979، ص 60.(4/40)
5. ... الدعوة إلى استغلال الطاقات والتأمل والتفكير والتدبّر العميق في كتاب الله المنظور والمسطور، فينظر في كلّ ما حوله من إبداع ليقوده إلى معرفة بديع السموات والأرض، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - "تفكروا في كل شيء، ولا تفكروا في ذات الله"(1). فهذا المنطوق النبوي يدعونا للتفكير في الخلق الذي يقود للعلم والتكنولوجيا، بموازاة إبداعية الله في العالم، ويحذرنا من التفكير في الذات الإلهية التي تعلو على الأفهام، وتستعصي على القدرات البشرية، وهو التفكير الذي يقود إلى ما الماورائيات، وما يتمخص عن هذا كله من هدر للطاقة العقلية فإنه يريدنا أن نتعامل مع الكتلة العمرانية، وأن نكشف عن قوانينها لتنمية الحياة التي سُخرت إمكانياتها للإنسان(2).
__________
(1) ... فتح الباري، ج13، ص383، موقوف وسنده جيد . أورده العجلوني، إسماعيل بن محمد، كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1985، رقم 1005، ج1، ص 371وفي رواية :"تفكرو في خلق الله ، ولاتفكرو في الله".
(2) ... عماد الدين خليل، مدخل إلى الحضارة الإسلامية، ص 73.(4/41)
... ولعلَّ هذه العناصر مجتمعة تشكّل أبرز معالم المنهج النبوي في صناعة الشخصيات الإبداعية، لكي تحرز مرتبة الإحسان والإبداع والتفوق النوعي لتجاوز واقع الشلل والعجز ليقوم العلم بوظيفته المزدوجة. استجابة للقاعدة الفقهية (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب)، فالوظيفة الأولى للعمل وفقاً لهذه القاعدة الآنفة ذكرها، هي: فريضة تبليغ الدعوة الإسلامية إلى المعمورة كافة قاصيها ودانيها، حتماً حسب القدرات والإمكانات المتاحة، والعلم هو الأداة الحتمية لتحقيق هذه الفريضة في عصر المعرفة والعلم، وليس أدلُّ على ذلك من الأفواج التي تدخل في دين الله من خلال مؤتمرات الإعجاز العلمي للقرآن والنتائج العلمية المذهلة التي يؤكدها ديننا، واتباع الأساليب البصيرة المستندة إلى العلم.(4/42)
... أمَّا الوظيفة الثانية: فهي الخروج من هذا الكسل والترهل الحضاري واستعادة الأمة لدورتها الحضارية تارة أخرى واجب وفرض، والذي يقع جلّ مسؤوليته على عاتق المبدعين، وإن الذي يكشف النقاب عن طاقاتهم المدفونة ويفتح آفاقها هو العلم والمعرفة، لتقوم الأمة بوظيفتها ودورها المرتقب، وحيث إن كلّ علم ينهض برتبة عمل الأمة لإعمار الآجل والعاجل هو فرض كفاية، ولكن إذا لم يتحقق هذا المنال بات هذا العلم فرض عين وأثمت الأمة. ومما يعين على تحقيق هذا الهدف المنشود العمل على إنشاء مجامع فقهية لا تتوقف على تخصص واحد بل تعنى بجميع التخصصات التي تحتاج إليها الأمة، يتولى زمامها الرواد من هذه التخصصات، وما يوازيها من الطليعة المبدعة من التخصصات الشرعية. أيضاً لتصدر كلّ جديد ومفيد وتجد في المؤسسات الرسمية والتطوعية نصيراً مخلصاً لها.
سادساً: علو الهمة وسمو الطموح(4/43)
... إن علو الهمة وسمو الطموح ورفعة الهدف يجعل الإنسان ينسلخ من أغلال العجز والكسل لينطلق في الحياة فاعلاً إيجابياً (ورب همة أحيت أمة)، فقد حث الرسول - صلى الله عليه وسلم - على علو الهمة وتألق الطموح، لنيل المرتبة في أعلى مراتب الجنة تلك التي يسعى إليها كل منتم لهذا الدين، المقترنة بالعبادة الفاعلة (الفعل المتقن) المجتشة من حبائل الرياء، ومحبطات العمل ومثبطاته.
... يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الجنة مائة درجة كلُّ درجة منها بين السماء والأرض، وإن أعلاها الفردوس، وإن العرش على الفردوس منها تفجّر أنهار الجنة، فإذا ما سألتم الله فسلوه الفردوس"(1).
__________
(1) ... سنن ابن ماجة، ج2، حديث رقم (4331)، ص 1448، وفي رواية البخاري، ورد النص للمجاهدين في سبيل الله، ج4، حديث رقم 8، ص 69.(4/44)
... بل إن سيرته العملية ونشأته تؤكَد ذلك فلقد: "ولدت همّته عليه الصلاة والسلام معه يوم ولد، فمنذ طفولته ونفسه مهاجرة إلى معالي الأمور ومكارم الخلق، ولا يرضى بالدون بل هو الطموح السبّاق المقدام المتفرد والمبرز المحظوظ، وكان فيه قبل النبوة من سمات الريادة والزعامة والقيادة ما جعل قريش يسمونه الصادق الأمين، ويرضون حكمه ويعودون إليه في أمورهم"(1).
... فلمّا منَّ الله عليه ببعثه تاقت نفسه إلى الوسيلة، وهي أعلى درجة في الجنة، فسأل الله إياها، وعلّمنا أن نسألها له من ربه، وحاز بالكمال البشري المطلق، والفضيلة الإنسانية، ومن علو همته، ورفضه للدنيا وعدم الوقوف مع مطالبها الزهيدة لولاياتها ومناصبها وقصورها ودورها(2).
... ويبدو جلياً أن المعطيات النبوية تؤكد وبصورة متوالية على رفع الهمم، والرقي برتبة الطموح، والانفلات من التواكل والكسل والرضا بالواقع الأدنى، ورفض الوقوع تحت سطوة إحالة العجز والانكسار على الأقدار مع القدرة على امتلاك زمام الفعل والبناء والإبداع والتغير للدخول في السباق الحضاري.
__________
(1) ... عائض القرني، كأنك تراه، لبنان- دار ابن حزم، 2002، ص 58.
(2) ... المرجع السابق، ص 58.(4/45)
سابعاً: فتح باب الاجتهاد
... إن الاجتهاد والإبداع يتعاضدان لتجنيد جميع الطاقات العقلية والنفسية والإنسانية، لبناء تصورات تمكّن الإنسان من أداء دوره المرسوم في هذه الحياة، وتساعده على تحقيق غاية الحق من خلقه(1)، والرسول - صلى الله عليه وسلم - يفتح بوابة الإنطلاقة الاجتهادية يقول - صلى الله عليه وسلم -: "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجرٌ"(2).
__________
(1) ... طه جابر العلواني من التقديم، إسلامية المعرفة، ص 7.
(2) ... أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الاعتصام، بالكتاب والسنة، باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، حديث رقم (7352)، ص 1354.(4/46)
... والاجتهاد سبب من أسباب التجديد في الإسلام، وشاهداً على حضور العقل الإبداعي، المتوقد الفعّال" ومن دلائل صلاحية الشرعية للتطبيق واحترامها للعقل، وحضّها على التفكير والنظر، ودفعها نحو العمل الدؤوب، والفهم، واليقظة المتحررة، والعطاء المتجدد، وذلك شأن الوحي القرآني كلّه يعتمد في الفهم والتطبيق أو الوعي والامتثال على عقول المفكرين وإبداع المتجهدين، ونظريات العلماء وسواء في مجال تكوين أصول عقيدة المسلم أو غرسها، أم في نطاق استنباط الأحكام الشرعية، أم في محور النظريات الكونية واستثمار منافع الكون والانتفاع بخبراته التي أودعها الله سبحانه خدمة لبني الإنسان"(1).
__________
(1) ... وهبة الزحيلي، الاجتهاد في الشريعة الإسلامية، مؤتمر الفقه الإسلامي، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض، 1396هـ، نشر إدارة الثقافة، جامعة مجمد بن سعود في الرياض، السعودية، 1400هـ- 1981م، ص 165-166.(4/47)
... وخلاصة القول، إذا أردنا أن نكثّف عن معطياتنا الحضارية لنخرج من الترهل فما علينا إلا أن نعيد فاعلية الاجتهاد المؤسسي لتملك زمامة طلائع من الفئة المبدعة التي تجمع مقومات الشخصية الإسلامية بإطارها المتوازن: الإخلاص والنبض الإيماني المتدفق والكفاءة العلمية كل ضمن تخصصه، لأن ذلك يحتم علينا الانفتاح على المعارف الإنسانية، وكلّ علم تحتاج له الأمة لدفع عجلة الحياة الإسلامية نحو "المشروع الحضاري الإسلامي العالمي"، ويستدعي ذلك وقفةٌ متأنيةٌ لجغرافيا الفكر الإسلامي لحصر طاقاته، لنخرج من قوقعة الانتظار إلى آفاق الفعل والبناء ونتجاوز محنة فن الإبداع في دفن وإقصاء الطاقات الإبداعية تارة أو محنة (الأدمغة المهاجرة) أطواراً أخرى.
... فهذه العناصر السالف ذكرها هي أبرز معالم منطلقات ومبادئ بناء الشخصية الإبداعية من السنة النبوية، وإن كان هناك عناصر أخرى لا ينتقص من أهميتها، ولكن مساحة الدراسة لا تسمح بتناولها.(4/48)
... وفي نهاية المطاف فإن أي منهج في عالم الأفكار سيبقى حبيس الصدور وأسير السطورة مالم يترجم إلى نموذج عملي على أرض الواقع لتدبّ به الحياة وينسلخ عن عالم المثال والتنظير، فالتجربة العملية هي التي تشهد لهذا المنهج أو عليه ونكشف اللثام عن ثغراته وأضاءاته.
... فمن مخادعة الذات أن نسير خلف فتات النظريات التربوية الغريبة والتسليم المطلق بها -في أغلب الأحيان ينسق بعضها بعضاً- ونغفل تجربة النموذج الأمثل لبناء الشخصيات الإبداعية بالمنهجية النبوية المؤيدة من السماء، فلابدّ من استدعاء المنهج النبوي التربوي واستبطانه وفهمه الدقيق لتوظيفه عملياً، لا لنعتز به ونحتمي به من هذا الوهن والإنهاك الحضاري، ولا لندلل على عظمة الإسلام وإبداعه بالشواهد العلمية فحسب، وإن كان لابد من ذلك؛ ولكن لنضع (إبداع مسلمين) لتقود الأمة دورها المنوط بها في قلب العصر (المشروع الحضاري الإسلامي العالمي) المرتقب.(4/49)
... إن ترك ما نملكه والتطلّع إلى ما يملكنا ، وتجاهل الاستطاعة المتاحة والظروف المحيطة يؤدي إلى خلل في أدوات البحث والمعالجة نفسها، فيقود إلى سوء التقدير فتحدث الفوضى والإرباك(1).
... فقد شهد لعظمة رائد هذا المنهج النبوي وقائده ونموذجه الحي، القاصي والداني، والمسلم وغير المسلم، فقد اختار (مايكل هارت) اسم محمد - صلى الله عليه وسلم - أعظم العظماء في تاريخ البشرية، وقد دلَّ هذا على دقة تحليل الباحث إلى درجة تثير التعجب والإعجاب، حيث وقع مقياسه للعظمة درجة التأثر الذي أحدثه في العالم(2).
__________
(1) ... نعمان عبد الرزاق، السامرائي، نحن والحضارة والشهود، قطر، كتاب الأمة، 2001، من تقديم عمر عبيد، ص 17.
(2) ... مصطفى الزرقاء، عظمة محمد حاتم، رسل الله، مجمع عظمات البشرية، دمشق، دار القلم، ص 38.(4/50)
... "وحسبنا من عبقرية محمد - صلى الله عليه وسلم - أن نقيم البرهان على أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - عظيم في كلِّ ميزان، عظيم في ميزان الدين، وعظيم في ميزان العلم، وعظيم في ميزان الشعور، وعظيم عند من يختلفون في العقائد، ولا يسعهم أن يتخلفوا في الطبائع الآدمية(1).
... إنه نقل قومه من الإيمان بالأضام التي تفسد الأذواق والعقول وتسلب الذوق والجمال إلى الإيمان بالله، ونقل العالم كله من ركود إلى حركة، ومن فوضى إلى نظام، ومن مهانة حيوانية إلى كرامة إنسانية، ولم ينقله هذه النقلة قبله ولا بعده أحد من أصحاب الدعوات(2).
... وتنتهي الدراسة بالتوصيات التالية:
النظر بعين العصر (للمنهج التربوي النبوي) لاستبطان شحناته التربوية والحضارية القادرة على بناء الشخصيات الإبداعية بناءً محكماً وتوظيفها عملياً.
على الأمة أن تتآزر وتتعاضد بكافة فئاتها المجتمعية المتباينة -كلا حسب قدراته وإمكاناته- لنصرة الطليعة المبدعة التي تشكّل عصب المشروع الإبداعي الحضاري الإسلامي وبوايته الشرعية، ومحضنه الصحي.
__________
(1) ... عباس محمود العقاد، عبقرية محمد، مصر، نهضة مصر للطباعة، د.ت، ص 84.
(2) ... المرجع السابق، ص 12-13.(4/51)
عقد مؤتمرات وندوات تُعني "بالإبداع الإسلامي" لجعل هذا المفهوم متداولاً في الأوساط الفكرية الإسلامية، وللعمل على الآتي:
تطوير سياسات تربوية وتعليمية يتم من خلالها تخصيص مساقات دراسية في المستويات التعليمية المختلفة، تهدف اقتناص المبدعين وتنمية قدراتهم.
تشجيع البحث العلمي مادياً ومعنوياً.
فتح آفاق دراسات في التربية الإبداعية من المنهج النبوي، مثل: تنمية الذوق الجمالي، والانفتاح الحضاري، والحرية وغيرها، وفاعلية التوحيد بعيداً عن الاجترار والتكرار الذي لا يضيف إلى المعرفة الإسلامية جديداً.
- السعي الدؤوب لعمل (مجامع فقهية)، تعني بالاجتهاد الجماعي المؤسسي تختزل الزمان والمكان من خلال تقنيات العصر، وتفتح أبوابها لجميع تخصصات العصر التي تحتاج لها الأمة في الأوقات الراهنة، ليتولي زمامها السقف الأعلى من النخبة المبدعة من كافة التخصصات لتعمل مجتمعة صوب الهدف المنشود.
وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين
أنصاف أيوب المومني
e.ensaf73@yahoo.com
هاتف (0777794711)(4/52)
جامعة اليرموك
كلية الشريعة
المنهج النبوي
في
قيادة التغيير
اّذار 2007
الفهرس
البيان ... رقم الصفحة
* ... المقدمة
الفصل الأول: مفهوم القيادة و مفهوم التغيير:
المبحث الأول: مفهوم القيادة و أهميتها.
المبحث الثاني: مفهوم التغيير و أهميته. ... 1
4 – 2
5
* ... الفصل الثاني: عناصر القيادة في شخصية الرسول (ص):
المبحث الأول: القدرات العقلية.
المبحث الثاني: المقوّمات الشخصية.
المبحث الثالث: الصفات الأخلاقية. ... 9 - 6
15 – 10
18 - 16
* ... الخاتمة ... 19
* ... مراجع البحث ... 20
مقدمة
... يحصُر عُلماء الإدارة القدامى منهم والمحدثون صفات وخصائص القيادة في ثمانية وخمسين صفة، فإنَّنا نجد أنَّ هذه الصفات لم تكتمل – ولا حتَّى رُبعها - في أي قائد عبر التاريخ إلاَّ عند رسولنا (ص). وبقدرٍ من الله وفضلٍ منه، واستناداً إلى هذه الصِّفات العظيمة استطاع (ص) أن يقود أعظم عمليَّة تغيير في تاريخ الإنسانيَّة، وأسَّس لبناء حضارة لم تشهد البشريَّة لها مثيلاً ، لأنَّها قامت على العدل والإحسان حتَّى مع من لا يدينون بِدين الإسلام.(5/1)
... وعندما حدث التغيير السَّلبي بتخلِّي المسلمين عن مبادئ دينهم وقِيَمه في الحُكم والتشريع، وآلت قيادة التغيير إلى فئة من المجرمين والمنحرفين، عانت البشريَّة ما عانت من ويلات الحروب والظلم والتدمير، واستعباد الإنسان لأخيه الإنسان، كما رأينا في "حضارة" روما البائدة و"حضارة" أوروبا وأمريكا التي حتماً ستبيد.
... ولأنَّ الله لا يُغيِّر ما بقوم حتَّى يغيِّروا ما بأنفسهم، ولأنَّ التغيير على الأصعدة كافَّةً بات ضرورة قصوى في حياة المسلمين، على صعيد الفرد وعلى صعيد المجتمع، في الحُكم والتشريع وفي السياسة والاقتصاد وفي التربية والتعليم، فإنَّ العودة للمنهج القويم هو السَّبيل الوحيد لفرز قيادة واعية تنهض بأعباء التغيير المنشود ونقل الأمَّة من وهاد التخلُّف والتبعيَّة والضياع إلى قمَّة التقدُّم والريادة والهدى ليتحقَِّق فيها وصف الله لهذه الأمَّة بقوله تعالى:
"كنتم خير أمَّة أُخرجت للناس، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله..." (1)
نسأل الله أن يجعل هذا العمل تعبيراً حياً عن حبنا و تقديرنا لهادينا و قائدنا و قدوتنا محمّد (ص).
* ... ... * ... ... *(5/2)
__________________________________________________________
(1) من الآية (110) من سورة آل عمران
-1-
الفصل الأول
مفهوم القيادة و مفهوم التغيير
المبحث الأوَّل: ... مفهوم القيادة و أهميتها:
مُصطلح القيادة (Leadership) في عِلم الإدارة يُقابل مصطلح الإمارة في التراث الإسلامي، التي أولاها القرآن الكريم والسُّنَّة المطهَّرة والسيرة العطرة كل اهتمام.
... تحتل وظيفة القيادة قمَّة هرم الوظائف الإداريَّة من تخطيط وتنظيم وتوجيه وتنسيق وإشراف ورقابة، وقد تصدَّى لتعريف هذه الوظيفة علماء الإدارة القدامى والمحدثون، نختار منها:
* ... القيادة هي معرفة كيفيَّة تحريك الناس نحو الهدف، وهذا يتطلَّب معرفة الهدف (أي تحديده مسبقاً).(1)
* ... القيادة هي القدرة على توجيه الآخرين نحو الهدف المحدَّد وإقناع الآخرين بالعمل في حماس ومثابرة لتحقيق الأهداف المنشودة.(2)
* ... القيادة هي التأثير والتفاعل الذي يؤدِّي إلى تحريك الجماعة لتحقيق أهداف محدَّدة يمارسه شخص يتمتَّع بمواصفات وقدرات تعترف بها الجماعة.(3)(5/3)
* ... و يرى الباحث أن القيادة هي القدرة على توجيه الموارد البشريَّة والموارد الماديَّة نحو الهدف المنشود بعد رصد متغيِّرات ظروف الزَّمان والمكان والأحداث.
والقيادة تختلف عن الرئاسة التي هي:
... سُلطة ومشروعيَّة تظهر نتيجة لنظام أو قرار أو قانون، وليس لاعتراف تلقائي من الجماعة، يُمارس خلالها الرئيس تأثيره لتحقيق أهداف الجماعة.
_________________________________________________________________
د/طارق السويدان: الرسول القائد
د/عبدالمعطي عسَّاف: محاضرة عامة
الأستاذ/عماد ملكاوي: تحديات القيادة و عدة القائد
-2-
وعلى هذا يكون القائد هو: ... شخص يمتلك سُلطة ومشروعيَّة تمنحها له الجماعة عن قناعة ينتج عنها مظاهر الطاعة والتَّبعيَّة.
... أي هو الشخص الذي يؤثِّر في اهتمامات وطاقات الآخرين ويجعلهم يتعاونون لتحقيق الهدف المنشود.
وهو يختلف عن المدير الذي هو:
شخص يُشرف على الأفراد ويراقبهم ويتابعهم للتحقُّق من قيامهم بالعمل على أتم وجه.
... والقيادة تختلف عن الإدارة؛ إذ تركُّز الثانية على الحاضر وعلى الإنجاز، بينما تركِّز الأولى على المستقبل وعلى الإنسان.(5/4)
إنَّ من سُنن الله الثابتة أنَّ الانتصار لا يتأتَّى إلاَّ بجهد بشري، وهو ما يُطلق عليه في الأصول الشَّرعيَّة – الأخذ بالأسباب، وهذه السُّنَّة لا تتخلَّف حتَّى مع رسول الله (ص) في مكَّة قبل الهجرة، وفي غزوة أُحد في السَّنة الثالثة للهجرة.
... وإنِّي على يقين أنَّ الباحث الحصيف يستطيع أنَّ يشخِّص الخلل الذي أصاب الأمة بأنَّه انحراف عن أصالة العقيدة مضافاً إليه التخلًُّف عن ركب العِلم، أي أنَّه جزء يتعلَّق بالدِّين، وآخر يتعلَّق بالدنيا.
وفي هذا يقول الإمام أبو الأعلى المودودي:
... "إنَّ الأمُم تنتصر بالإيمان، فإذا تخلَّت عن الإيمان انتصرت بقوَّتها" أي بامتلاكها ناصية العِلم والتكنولوجيا.
وهذا لا يعني التوكُّل على الأسباب، وإنَّما هو التوكًُّل على الله بالمفهوم الأكثر شمولاً:
تأمَّل الآيات الكريمة:
"...وأعدُّوا لهم ما استطعتم من قوَّة ومن رباط الخيل..." (1)
"وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون..." (2)
"فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر..." (3)
"وهُزِّي إليك بجذع النخلة..." (4)
وتأمَّل الحديث الشريف:
"إعقل وتوكَّل"
(1) من الآية (60) من سورة الأنفال(5/5)
(2) من الآية (105) من سورة التوبة
(3) من الآية (63) من سورة الشعراء
(4) من الآية (25) من سورة مريم
... -3-
وهناك قاعدة شرعيَّة تقرِّر أنَّ:
"ترك الأسباب معصية، والتوكُّل على الأسباب شرك"
... ولأنَّ القيادة هي أعظم جهد بشري يتعلَّق بالانتصار، فقد أخذت القيادة الموقع الأبرز من هذا الجهد البشري، وقد تتبَّع العلماء أسباب الانتصار في الحروب فقرَّروا أنَّ ثمانين إلى تسعين بالمئة من هذه الأسباب تعود إلى القيادة واستغلال المعلومات، وأنَّ القوَّة العسكريَّة تأتي في المقام اللاَّحق.
... وهكذا يَرْبِط المفهومُ الإسلامي القيادة بالعقيدة، والهدف إرضاء الله سبحانه وتعالى.
* ... ... * ... ... *
-4-
المبحث الثاني: ... مفهوم التغيير(Change) و أهميَّته:
... التغيير هو إحداث انقلاب شامل في المفاهيم والأساليب والسُّلوك لتحقيق نتائج مغايرة(1). والتغيير الذي نقصد هنا هو التغيير الإيجابي، أي ذلك التحوُّل من مجمل أوضاع سيِّئة إلى أوضاع حميدة، سواء كانت الأوضاع فكريَّة أو سياسيَّة أو اقتصاديَّة أو اجتماعيَّة أو ثقافيَّة أو إداريَّة.(5/6)
... وبمعنى آخر هو التغيير البنَّاء الذي يقوم على هدم الأوضاع السيِّئة تمهيداً لوضع الأسس اللاَّزمة لبناء سليم يحقِّق طموحات الفرد والمجتمع.
... أمَّا التغيير السَّلبي فهو ردَّة (طوعيَّة أو قسريَّة، سريعة أو متدرِّجة) من أوضاع حسنة مقبولة إلى أوضاع فاسدة رديئة، وأوضح مثال على التغير السلبي هو ابتعاد الأمَّة الإسلاميَّة عن عقيدتها.
... وتتجلَّى أهميَّة التغيير أنَّه يُصبح ضرورة قصوى لا غنى عنها عندما تجد الدولة أو المؤسَّسة أنَّها أمام خيارين اثنين لا ثالث لهما:
فإمَّا التغيير والإصلاح، وإمَّا الانحسار والاندثار
ذلك أنَّ السلوك الإنساني والنُّظم والأدوات (أو الوسائل) والخطط تكون فعَّالة وعصريَّة في وقت من الأوقات، ثمَّ أنَّها تفقد فعاليَّتها بمرور الزَّمن، ولا بدَّ لها من التطوير بل ربَّما التغيير.
* ... ... * ... ... *
_____________________________________________________________
Dr. Khalid Malik: Managing Strategic Change & Knowledge based Organization
-5-
الفصل الثاني
عناصرالقيادة في شخصية الرسول(ص)(5/7)
لقيادة التفكير عناصر- أو مواصفات أو متطلَّبات – ينبغي توافرها في القائد ليتمكَّن من التأثير في الجماعة، ويجعلها تسير خلفه طواعية لتحقيق الأهداف المرجوَّة.
... وهذه العناصر إمَّا قدرات عقليَّة أو مواصفات شخصيَّة أو سمات أخلاقيَّة.
و لننظر مدى توافر هذه العناصر في شخصية الرسول (ص).
المبحث الأوَّل: ... القدرات العقليَّة:
... هي مجموعة من الملكات والقدرات والمواهب المُتَّصلة بإعمال الفكر، ثمَّ القدرة على اتِّخاذ القرارات الصَّحيحة وفي المواقف والأوقات المناسبة، وأهمُّها:
أولا: ... الذَّكاء:
...
الذَّكاء هو القدرة على التفكير والرَّبط (ربط الأسباب بالمسبِّبات)، والتحليل والتذكُّر، والتخيُّل والتصوُّر والاستنتاج وسُرعة البديهة.
... والذَّكاء إمَّا فطري موروث، وإمَّا مكتسب، ولذلك فهو قابل للنُّمو بالتعلُّم والتجارب، وهو قابل أيضاً للنقصان بالإهمال وإضاعة الفرص وسيادة الظُّروف المحبطة، خاصَّة مع نفاد الصَّبر.(5/8)
... لا يكاد موقف أو حادثة جرت في حياة الرسول (ص) الا و تفصح عن شدة ذكائه و سرعة بديهته (ص). و لنكتف بموقف واحد هو قوله للرجل الذي التقاه وأحد أصحابه قٌبيل غزوة بدر و سألاه عن أخبار قريش والقافلة, ثم سألهم عن هويتهم, فأجاب (ص): نحن من ماء. أجاب اجابة صادقة دون أن يفصح عن هويته وصاحبه.
ثانيا: ... وضوح الرؤية والهدف:
...
وضوح الرؤية والإيمان بالرسالة ومعرفة الهدف من أهم مقوِّمات القيادة، لأنَّها تعني النَّظر إلى المستقبل دون إهمال لما يمكن استفادته من الماضي، ودون إغفال لما هو عليه الواقع الحالي.
-6-
... أُنظروا إلى القائد الأوَّل كيف كانت رؤيته واضحة، وهو في أشد لحظات الضَّعف. مطارد مطلوب حيَّاً أو ميِّتاً، يقول لسراقة بن مالك وبكل ثقة:
"كيف أنت يا سراقة وفي يديك سواري كسرى؟؟"
... وفي أشد لحظات الخطر والحصار أثناء غزوة الخندق وهو يكسِّر الصخور ويُبشِّر أصحابه: ...
"الله أكبر، فتحت الروم... الله أكبر، فُتحَت فارس.. الله أكبر، فُتحت بصرى".
ثالثاً: ... إدراك المتغيِّرات:
...(5/9)
على القائد الفعَّال أن يفكِّر في النتائج، وأن يفكِّر في البدائل وفي معالجة الأمور عند ظهور تغيُّرات في المواقف من تحالفات ومهادنات، وتغييرات في التكتيك وأساليب الحرب والتطوُّر التكنولوجي، والظروف الدوليَّة والإقليميَّة السياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة.
عند ظهور نتائج عكسيَّة لتوقُّعاته، على القائد أن يكون قادراً على التكيُّف مع المتغيِّرات وتعديل الخطط (أو إيجاد خُطط بديلة) وِفقاً لمقتضيات الظُّروف.
... ومثال ذلك من حياة الرسول (ص) هو الأمر بحفر الخندق في غزوة الأحزاب، والتثبُّت من موقف بني قريظة في التحالف، إذ سرعان ما استغلَّ قدرات نعيم بن مسعود (رض) في تخذيل تحالف الأحزاب مع اليهود في قصَّة طويلة ترويها كتب السيرة.
رابعاً: ... التسلُّح بالمعلومات:
...
وهو التزوُّد بالعِلم النَّظري والتطبيقات العمليَّة، وبشتَّى الأساليب العلنيَّة منها والسريَّة حول قدرات العدو وقدرات الأتباع، وحول ظروف المعركة أو المشكلة. وكان رسول الله (ص) يُرسل العيون لرصد أعدائه ومعرفة عددهم وعدَّتهم، ومكان وجودهم والطُّرق الممكن أن يُسلكوها.(5/10)
... ثمَّ التدقيق في مدى صحَّة المعلومة واقترابها من المَنطِق، لأنَّ القرارات ستُبنَى على هذه المعلومات، وبالتالي فإنَّ سلامة القرارات تتوقَّف على مدى صحَّة المعلومات.
ومثال ذلك ما فعله (ص) في غزوة بدر، إذا أخبره العين أنَّ القوم حوالي المئة. وعندما سأل عن عدد ذبائحهم أُبلغ بأنَّها يوم تسع ويوم عشرة، فقال إنَّ القوم بين تسعمائة وألف، وهكذا كان.
-7-
خامساً: القدرة على التحليل واستشراف المستقبل:
...
من مواصفات القائد الفذ التمكُّن من تحليل الواقع، والاستفادة من دروس الماضي، ومن ثمَّ استشراف المستقبل. وهذا ما أكَّدته التجارب الإنسانيَّة، وما يؤكِّده علم الإدارة الحديثة.
... والقدرة على التحليل تتضمَّن أيضاً المقدرة على معرفة الرجال (الأتباع والأعداء) ومعرفة المواقف. أُنظروا إلى معرفة الرسول (ص) بأعدائه إذ أمر بِسَوْقِ الهدي، عندما أَرسَلَت له قريش زعيم الأحابيش الذين اشتهر عنهم تعظيم هدي الكعبة.
ثمَّ عندما أوفدت له سُهيل بن عمرو للتفاوض، إذ قال الرسول (ص) لأصحابه: "سهَّل الله طريقكم"، أو قال "أمركم".(5/11)
... وانظروا إلى معرفته (ص) بقدرات ومواهب أتباعه والاستفادة القصوى من هذه المواهب بتحفيزها لتحقيق الأهداف المرسومة.
... أدرك (ص) التناقض بين شخصيَّة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ولذلك كان يقول لهما: "لو اجتمعتما على رأي لا أُخالفكما"، لأنَّه يعرف أنَّ اتِّفاقهما على أمر لابدَّ أن يكون صائباً.
هذا على الصعيد السياسي، أمَّا على الصعيد العسكري فقد تجلًت معرفته في كلٍ من خالد بن الوليد وعمرو بن العاص رضي الله عنهما، وعلى صعيد القضاء ففي علي بني أبي طالب كرَّم الله وجهه.
... وكان من معرفته بالقدرات أنَّه كان يستخدم "الألقاب" أو "الصِّفات" في التحفيز الفعَّال
الدائم (1)
... فأبو عبيدة عامر بن الجرَّاح ... : ... أمين الأمَّة.
... والزُّبير بن العوَّام ... ... : ... حواري الرسول (ص).
... وأبو قتادة ... ... ... : ... خير فرساننا.
... وسلمة بن الأكوع ... ... : ... خير رجالاتنا في القتال.
ويقول (ص) عن أبي ذَر:(5/12)
... "ما أقلت الغبراء وما أظلَّت السماء أصدق ذي لهجة من أبي ذَر"، ولأنَّه يعرفه جيِّداًً قال عنه أيضاً: "ولكنَّك يا أبا ذَر لا تُولَّينَّ على اثنين، ولا تُحكَّمنَّ في مال يتيم"، لأنَّ الزُّهد والورع لا ينفع للقيادة ولا لإدارة أموال الأيتام.
(1) الرسول القائد - د . طارق السويدان
...
-8-
سادساً: القدرة على فهم رَد الفعل عند الجماهير:
و يشمل هذا القدرة على فهم النُّفوس وتحويل نقاط الضَّعف إلى نقاط قوَّة وانطلاق، وإدراك أنَّ هرم الأولويَّات يختلف من شخص لآخر، فقد يكون جمع المال عند زيد في قمَّة اهتماماته، ولكن تحقيق الذَّات والشُّهرة عند عمرو هو أُولى أُمنياته... وهكذا.
... عندما عَلِمَ النَّبي (ص) باعتراض الأنصار على قسمة الغنائم يوم حُنين (وكان (ص) قد أغدق على المؤلَّفة قلوبهم) ردَّ على الأنصار بالعاطفة (1)(5/13)
... "ألم آتكم أعداءً فألَّف الله بين قلوبكم بي؟ ألم آتكم ضُلاَّلاً فهداكم الله بي"؟ قالوا: "بلى يا رسول الله"، قال: "وإن شئتم لقلتم ولصدقتم، جئتنا خائفاً فأمناك، وجئتنا طريداً فآويناك، وجئتنا مخذولاً فنصرناك. يا معشر الأنصار ألا ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير وتذهبون أنتم برسول الله؟ والله لولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار، والله لو سَلَكَ الناس شعباً (وادياً) وسَلَكَ الأنصار شعباً لسلكتُ شعب الأنصار (ثمَّ دعا للأنصار).
... فأيُّ قدرةٍ هذه على تحريك النُّفوس وتأليف القلوب!!!.
سابعاً: ... بُعد النَّظر:
... القائد الفعَّال هو الذي يعمل لكل شيء حساباً ويكون ذا أُفق واسع، وقد كان رسول الله (ص) من أكثر القادة بُعداً للنَّظر وسعة للأُفق... ومن أمثلة ذلك أنَّه لم يركن إلى اتِّفاقه مع أبي سفيان يوم فتح مكَّة، ودخل مكَّة من جهاتها الأربعة مستعدِّاً لكل احتمال.
... و عندما علم بخيانة بني قريظة له في غزوة الأحزاب, حاول (ص) تجنيد قبائل غطفان باعطائهم نصف ثمار المدينة!! و لكنه أمام عدم رغبة الأنصار في ذلك و اصرارهم على الصمود تراجع عن عرضه.(5/14)
ثامناً: ... القدرة على التمييز بين المصالح والمفاسد:
...
إنَّ القدرة على التمييز بين الحَسَن والسيِّء والمصلحة والمفسدة هو الطريق إلى اتِّخاذ القرارات السليمة. وهذه القدرة تتطلَّب من القائد أن يحرِّك في ذهنه شتَّى الاحتمالات، وأن يفكِّر في احتمالات تفكير عدوِّه، بل وفي احتمالات رَدَّة الفعل عند عدوِّه، وأن يخطِّط للتصرُّف المناسب لكل احتمال؛ لأنَّ القائد الذي تكثر أخطاؤه لا يتحمَّله الناس، إلاَّ إذا حَكَم بالحديد والنار، أي حَكَم بمبدأ "الحُكم بالقمع".
(1) المرجع السابق
-9-
المبحث الثاني: ... المقوِّمات الشَّخصيَّة:
أولاً: ... الحزم مع الحكمة:
...
لا خير في حزم وتصميم ما لم يكن وراءهما حكمة، والحكمة هي وضع الشيء في موضعه الصحيح، والحزم هو الإصرار على تنفيذ القرار السليم في الزَّمان والمكان المناسبين. وهو عكس التردُّد الذي يضيع الهيبة ويهدر الوقت ويفوِّت الفرص، ويكون مصدراً لإثارة النزاع داخل الجماعة وشق صفوفها.(5/15)
... وخير مثال على الحزم مع الحكمة هو قصَّة رسول الله (ص) مع رأس المنافقين أُبَي بن خلف بعد غزوة بني المصطلق، حيث قال المنافق - أثر نزاع نشب بين مهاجر وأنصاري -: "سمِّن كلبك يأكلك، والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل". وفي القصَّة أكثر من موقف حازم وأكثر من حكمة:
... الحزم ... ... : ... رفض الرسول (ص) اقتراح عمر (رض) بقتل المنافق.
الحكمة : ... حتَّى لا تتعمَّق الفتنة، ويتكرَّس الخلاف ويُشاع بين العرب أنَّ محمداً (ص) يقتل أصحابه، فينفض الناس من حوله، وينفرون من دخول الإسلام.
... الحزم ... ... : ... إصدار الرسول (ص) أوامره بالتحرُّك إلى المدينة ودون توقُّف.
... الحكمة ... ... : ... لينشغل الناس عن التحدُّث بالفتنة بين المهاجرين والأنصار.
الحزم : ... إبلاغ سيِّد الأنصار (سعد بن معاذ) بمقالة زعيم المنافقين وعدم إهمال دعوة المنافقين للفتنة.
الحكمة : ... إستشارة الخاصَّة من الأنصار، وتَرْكُ ردَّة الفعل والتصرُّف لزعيم الأنصار وللصحابي الجليل عبدالله بن عبدالله بن أُبي (رض). ...(5/16)
وكانت النتيجة أنَّ الشاب بصدق إيمانه بعقيدة الولاء والبراء قطع الطريق على أبيه شاهراً سيفه ومخاطباً أباه: "أنتَ الأذل ورسول الله (ص) هو الأعز، والله لا تدخل المدينة حتَّى يأذن لك رسول الله".
وكانت النتيجة أنَّ جمهور الأنصار أسكتوا زعيم المنافقين في أوَّل يوم جمعة عندما حاول أن ينافق لرسول الله (ص). وهنا همس رسول الله (ص) لعمر (رض) "يا عمر لو قتلناه يومئذٍ لأرعدت له أنوف لو أمرناها بقتله اليوم لقتلته".
...
وهكذا بالحكمة والحزم تمَّ إتِّقاء الفتنة، وقتلها في مهدها وزيادة ثقة الأتباع بالقائد.
-10-
ثانياً: ... الشجاعة:
...
تتمثَّل الشجاعة في القوَّة النَّفسيَّة والقدرة على مواجهة المشكلات وتحدِّي الصعاب برويَّة وتفكير ودون تردُّد، لأنَّ التردُّد مضيَعَة للفرص، مثاراًً للخلاف.(5/17)
تقتضي الشجاعة في اتِّخاذ القرار أن يفكِّر القائد ثمَّ يستشر ثمَّ يُفكِّر ثمَّ يقرِّر، وإذا اتَّخذ قراره لا يعود عنه، بل يعزم ويقوم على تنفيذه. إنَّ تقليب الأفكار وإبداء الآراء وتداول المشورة يكون قبل القرار، أمَّا بعد اتِّخاذ القرار فلا يكون إلاَّ الحسم حتَّى لا يُحدِث التردُّد إضطراباً أو تراخياً في صفوف التابعين، وحتَّى يتمكَّن القائد من قيادتهم بحزم وعزم.
... وتتجلَّى الشجاعة كذلك في تحلِّي القائد بإرادة قويَّة ثابتة لا تهزُّها العقبات ولا تثنيها العوائق.
وقد تجلَّت هذه المعاني في الشجاعة في موقف النبي (ص) يوم أُحد، إذ نزل على رأي الأغلبيَّة من أصحابه في لقاء العدو خارج المدينة، (وكان رأيُه إنتظار الأعداء في المدينة لأنَّ الحرب في المدن أصعب على المهاجمين) (1) وبعد أن دخل بيته ولبس عدَّة الحرب، وَجَدَ الصحابة قد ندموا على رأيهم ليوافقوا رأي قائدهم الذي فاجأهم برفض التردُّد قائلاً كلمته القاطعة:
"لا ينبغي لنبي أن ينزع لأمة الحرب حتَّى يفصل الله بينه وبين أعدائه"
يقول سيِّدنا علي كرَّم الله وجه (وهو من أشجع الناس):
"كنَّا إذا حمي الوطيس، احتمينا برسول الله (ص)"
...(5/18)
لم يشهد التاريخ الإنساني كلُّه شجاعة لقائد كشجاعة النَّبي(ص)، شجاعته في مرحلة الاستضعاف في مكَّة وهو يطوف حول الكعبة وسط عتاة الكفَّار المهدِّدين المستهزئين فيقول "شاهت الوجوه، إنَّما جئتكم بالذَّبح"، فيقذف الرُّعب في قلوبهم. وشجاعته أثناء غزوة أُحد، وبعد هزيمة المسلمين، إذ نراه ينهض - رغم جراحه وجراح أصحابه - لملاحقة جيش العدو المنتصر الذي يمتلأ ذعراً، فيؤثِّر الانسحاب على المواجهة، وقد اعتبر كتَّاب السيرة هذه الملاَّحقة غزوة أطَّلقوا عليها" غزوة حمراء الأسد"، ولعلَّ رسول الله (ص) أراد بهذا ليس رد الاعتبار للمسلمين فحسب، وإنَّما شَهْرَ حربٍ وقائيَّة (2) لتخويف القبائل التي كانت تتربَّص بالدعوة وبخيرات المدينة. وشجاعته يوم حُنين عندما هُزم المسلمون بعد أن ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، فإذا به (ص) يهجم على الجيش العرمرم المنتصر بمئة مقاتل من أصحابه، ويحوَّل الهزيمة المحقَّقة إلى نصر باهر.
المرجع السابق
المرجع السابق
-11-
ثالثاً: ... التحلِّي بروح المسؤوليَّة:(5/19)
بالمسؤوليَّة هو حق للمجتمع على كل فرد فيه، وهو واجب الأفراد نحو مجتمعهم. ويزداد الإحساس بالمسؤوليَّة وواجب التحلِّي بها بازدياد أهميَّة الشَّخص في مجتمعه، ويكون هذا في ذروة تجلِّيه عند القائد.
... القائد الناجح يتصدَّر تحمُّل المسؤوليَّة عندما تستدعي الظروف، خاصَّة عند الشَّدائد، والقائد الناجح لا يتهرَّب من المسؤوليَّة ويعمد إلى إلقاء تبعة الإخفاق في تحقيق الأهداف إلى من هم دونه، بل يتحمَّل المسؤوليَّة بشجاعة، ويضيف إلى ذلك تحمُّل مسؤوليَّة البحث عن عوامل النجاح ومعالجة الموقف (1)
تقوم الحكومات والمؤسَّسات في الدول المتقدِّمة برصد ميزانيَّات ضخمة لأصحاب الآراء والأفكار الكفيلة بتطوير الإنتاج، بينما يُمارَس القمع في الدول المتخلِّفة – حكومات ومؤسَّسات – ضد من يأتي بفكرة جديدة، أو ربَّما باقتراحٍ لتطوير إذا كانت هذه الأفكار والاقتراحات تتعارض مع قناعات الحاكم أو المدير، وذلك امتثالاً لمبدأ فرعوني عتيد مفاده:
"ما أريكم إلاَّ ما أرى وما أهديكم إلاَّ سبيل الرَّشاد" (2)(5/20)
وتكون النتيجة امتناع أصحاب الأفكار والآراء عن تقديم أفكارهم واقتراحاتهم خشية البطش بهم، بل وتمادي آخرين في استصواب واستحسان رأي القائد الملهم (!) أو المدير الفذ (!)، فيزداد إمعاناً في ظلمه وظلامه، ممَّا يحرم الأمَّة حتَّى من بصيص الأمل من أي تطوير أو تغيير إيجابي.
عندما هُزِم المسلمون في غزوة أُحد، لم يعمد النبي (ص) إلى تحميل المسؤوليَّة لأصحابه – خاصَّة فئة الشَّباب منهم – الذين تحمَّسوا لِلَقاء العدو خارج المدينة، وإنَّما تحمَّل هو المسؤوليَّة، وعالج الموقف بأن قاد جيشه لمطاردة العدو المنتصر.
... وحتَّى نضع أيدينا على الخلل الذي أصاب الأمَّة، لابدَّ لنا من تأمُّل مدى هروب حكَّام العرب والمسلمين من تحمُّل مسؤوليَّة أخطائهم، بل خطيئاتهم العسكريَّة والسياسيَّة والاقتصاديَّة، وإلقاء التبعات على بعضهم البعض، أو على الحلقات الضعيفة في سلسلة النظام، أو حتَّى على شعوبهم!! بينما نرى ونسمع كل يوم كيف يتحمَّل حكَّام العلوج مسؤوليَّة أخطاء من هم دونهم، فهذا رئيس وزراء يقدِّم استقالته لأنَّ أحد وزرائه كان فاسداً، وهذا محافظ مدينة يستقيل لانقطاع التيَّار الكهربائي عن مدينته... وهذا وهذا..(5/21)
(1) السلوك الوظيفي في المنهج الإسلامي – بكر الريحان
(2) من الآية 29 من سورة غافر
-12-
رابعاً: الشورى:
الشورى من القواعد الأصيلة في المنهج الإسلامي، وهي مُلزِمة للقائد امتثالاً لأمر الله تعالى:
"...وشاورهم في الأمر..." (1)
... إنَّ حقيقة تسلُّح الرسول (ص) بالوحي، وتمتُّعه بقدرات عظيمة في القيادة والذَّكاء والشجاعة
... وقبل أن نُنهي الحديث عن هذه الصِّفة العظيمة والقيمة العالية (قيمة الشورى)، لابدَّ أن نُنبِّه إلى خطورة مقولتين تتردَّدان على لسان العامَّة، بل والخاصَّة أحياناً:
الأولى: ... (شاوروهن وخالفوهن) بمعنى إذا شاورتم النساء، فلا تأخذوا بما يشُرن عليكم، وهذا خطأ فادح ومخالفة شرعيَّة؛ خطأ فادح لأنَّ آراء بعض النساء أكثر صواباً من الرجال، ومخالفة شرعيَّة لأنَّ الرسول (ص) كان يستشير نساءه ويأخذ بمشورتهنَّ غالباً ودليلنا هو استشارته (ص) لأم سلمة يوم الحديبية التي أشارت عليه برأي سديد.
الثانية: ... ... "نفِّذ ثمَّ ناقش" بمعنى أنَّ المدير أو المسؤول لا يريد أن يسمع رأيك إلاَّ بعد انفاذ الأمر. وهذا خطأ أفدح، إذ أي فائدة تُرجى من الشورى بعد فوات الأوان؟؟!!.(2)(5/22)
الأخلاق لم تمنعه من الاستشارة… فقد استمع إلى رأي الصحابي الجليل الحباب بن المنذر في تغيير موقع غزوة بدر الكبرى، وأخذ بمشورة سلمان الفارسي بحفر الخندق، وأخذ برأي أم المؤمنين (أم سلمة) في الحديبية، واقتدى المسلمون في تاريخهم الأغر بهذه الفضيلة، فضيلة الاستماع لرأي الآخرين. ...
خامساً: القدرة على التغيير:
ولا نقصد بهذا قدرة القائد على تغيير الآخرين فحسب، وإنَّما قدرته على تغيير نفسه نحو الأفضل أوَّلاً...، وبث روح الولاء والانتماء لدى الأتباع، وتنمية مهارات واحترام عمل الفريق والعمل الجماعي، والحرص على "نحن" وعدم التقوقع في "أنا".
كان أحد القادة الفاشلين المقتدين بفرعون والذين قادوا أمَّتهم نحو الضياع، كثيراً ما يردِّد:
... "رجالتي قالوا لي...".
"أنا مستعد أَعطي مسزمائير عشرة كيلو متر من عندي".
من الآية ( 159) من سورة آل عمران
التفكير - د . ناصر العمر
-13-
... وتتطلَّب القدرة على التغيير أن يَحذَرَ القائد من الطَّلب من أتباعه تنفيذ ما لا يستطيعون، فإنَّ هذا يؤدِّي أمَّا إلى الفشل في أداء المهمَّة، أو إلى العصيان والفوضى، أو إلى كليهما معاً.(5/23)
تأملو قدرة الرسول (ص) على احداث التغيير الفكري والعقيدي والسياسي والاقتصادي و الاجتماعي والسلوكي والأخلاقي في مجتمع المسلمين من بداية الرسالة و الى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
سادساً: القدرة على تهيئة القادة:
لا يكفي أن يتمتَّع القائد بالمقوِّمات والصفات العقليَّة والشَّخصيَّة والأخلاقيَّة، وإنَّما ينبغي أن يكون قادراً على إيجاد القادَّة المؤهَّلين لخلافته، والسير على منواله لمواصلة قيادة أمَّته أو مؤسَّسته، حتَّى لا تتعرَّض الأمَّة أو المؤسَّسة لانتكاسة شديدة في حال تعرُّض القائد أو المدير للعزل أو المرض أو الموت.
... ... ونجد هذا واضحاً في المؤسَّسات الرائدة التي لا تتأثَّر بغياب مؤسِّسيها أو مديريها الأفذاذ الذين لا يغيبون إلاَّ وقد تركوا خلفهم من النُّظم والتعليمات والقادة ممَّن ينهض بالمسؤوليَّة ويدير المؤسَّسة بكل قوَّة واقتدار، بل ويعمل على تطوير المؤسَّسة لتحقيق أهداف أكبر.(1)(5/24)
... ويروي لنا التاريخ عن قادة عِظام سياسيين وعسكريين استطاعوا تحقيق النَّصر والرفعة لأمَّتهم في حياتهم، ولكن هذا المجد لم يستمر بعد وفاتهم، فهذا صلاح الدين يرحمه الله تنازع أبناؤه وأحفاده على المُلك من بعده، بل إنَّ بعضهم تحالف مع الصليبين ضد إخوته وأبناء عمِّه، ممَّا أدَّى إلى إضعافهم جميعاً، ولولا السُّلطان بيبرس وقلاوون لعاد الصليبيُّون ليحتلُّوا أرض العرب والمسلمين.
... ويسري هذا القول على كثير من زعماء العالم في العصر الحديث، مثل جمال عبد الناصر وتيتو وهواري بومدين وغيرهم، إذ انتهت بوفاتهم المبادئ التي ناضلوا في سبيلها، وأصبحت بلدانهم من بعدهم لعبة في يد الصهيونيَّة والاستعمار.
أما رسول الله (ص) فلم يَحُلْ موته دون انطلاقة الأمَّة، ورفع الراية من بعده بقيادة أصحابه الذين علَّمهم وأهَّلهم لمواصلة نشر الرسالة وقيادة البشريَّة على نحو لم يشهد له التاريخ مثيلاً.
(1) Managing Strategic Change – Dr. Khalid Malik
-14-
سابعاً: القدرة على إعداد جيل صالح من الأتباع:(5/25)
... ... يهتم علم الإدارة الحديثة في إيجاد ما يسمُّونه بالمؤسَّسات المرتكزة إلى المعرفة (Knowledge Based Organizations) أو المؤسَّسات المتعلِّمة (Learning Institutions)، وذلك لا لضمان بقاء المؤسَّسة صامدة أمام المؤسَّسات المنافسة، وإنَّما لضمان تطوُّرها وتفوُّقها وتحسين أدائها المستمر.
إنَّ القائد الفعَّال ينبغي أن يمتدَّ أثر قيادته إلى جيل كامل من الأتباع المؤمنين بأفكاره ومبادئه. وهنا أيضاً لنا في رسول الله (ص) أسوة حسنة في إعداد جيل كامل وليس قيادة بديلة فحسب. هذا الجيل كلُّه مستعد للموت في سبيل نشر الدَّعوة ونُصرة الدِّين.
... فأين نحن من هذا؟؟
* ... ... * ... ... *
-15-
المبحث الثالث: ... الصِّفات الأخلاقيَّة:
... إنَّ القدرات العقليَّة والمقوِّمات الشَّخصيَّة العالية، لا تكفي وحدها للنجاح في قيادة الأتباع لتحقيق الأهداف، ولابدَّ أن تصحبها صفات أخلاقيَّة سامية، نورد أهمُّها فيما يلي:
أولا: ... الاستقامة:(5/26)
من مواصفات القائد في المنهج الإسلامي أن يكون صالحاً في ذاته، لا يعرف الغِش ولا الكذب ولا الرياء والنفاق وأن يكون قادراً على قول "لا" حيث يجب أن تقال، وأن يكون عفيف اليد واللِّسان، فلا تمتد يده إلى سوء يلحق أتباعه أو أموال مجتمعه أو مؤسَّسته، وأن لا يمتد لسانه لإيذاء الناس عند أقل هفوة.
القائد في المنهج الإسلامي يُحافظ على شرفه وعفَّته، ولا يرتكب الفواحش كبيرها وصغيرها لا في العَلَن ولا في السِّر، لأنَّه بذلك يُحافظ على متطلَّبات القيادة ويكون بمثابة قدوة لمن يقود.(1)
وقد كان رسول الله (ص) وصحابته الكرام مثال الناس في هذا كلِّه، إسألوا التاريخ عن استقامة عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهما، وعن أمثالهم ممَّن اقتدى بهم عبر الزَّمان.
ثانيا: ... التواضع:
صفة إنسانيَّة سامية تتجلَّى عظمتها عندما تكون في عِلية القوم من أصحاب النفوذ والثروة والعِلم.
يقول النَّبي (ص) في الحديث القدسي الذي يرويه عن ربَّه: "الكبرياء ردائي والعظمة إزاري، فمن نازعني في شيءٍ منهما عذَّبته".
... ... ويقول (ص) : "من تواضع لله رفعه الله".(5/27)
لقد ضرب رسول الله (ص) والخلفاء الراشدون ومن سار على هديِهم أعظم الأمثلة في التواضع وخفض الجناح للأتباع عامَّة، وللضعفاء منهم خاصَّة.
فهذا رسول الله (ص) تستوقفه، امرأة فيترك شرفاء القوم ليسمع شكواها، وعندما دخل مكَّة فاتحاً دخلها خافض الرأس متواضعاً، ولم يدخلها جبَّاراً متكبِّراً.
(1) السلوك الوظيفي في المنهج الإسلامي – بكر الريحان
-16-
ثالثا: ... العدل:
العدل من الصفات الإلهيَّة، وهو من أهم صفات القائد الفعَّال، وهو مدعاة لاستمرار المُلك والقيادة، وينبغي مراعاة العدل في جميع أبعاده، العدل مع النَّفس وذي القربى والعدل في السرَّاء والضرَّاء، والعدل في منح المزايا وإنزال العقوبات أو التكليف بالأعمال، والعدل حتَّى مع الأعداء.
... يقول تعالى:
"...ولا يجرمنَّكم شنآن قومٍ على ألاَّ تعدلوا، إعدلوا هو أقرب للتقوى..."(1)
و لنا في حادثة المرأة المخزومية التي سرقت مثال صارخ عن نظرته (ص) الى العدل.
حكم القاضي المسلم بالدِّرع لليهودي ضد أمير المؤمنين علي كرَّم الله وجهه، وهو يعلم علم اليقين أنَّ عليَّا لا يكذب، ولكنَّه لم يستطع إقامة الدليل على سرقة اليهودي للدرع.(5/28)
تأمَّلوا قصَّة عمر (رض) مع قاتل أخيه زيد، قبل أن يُسلم، إذ قال له أُغرب عن وجهي فإنَّي لا أُريد أن أراك، فقال الرجل: أيمنعني ذلك حقَّاً من حقوقي؟ فأجاب عمر (رض) "لا"، فقال الرجل: إنَّما تبكي على الحب النساء!! أي لا يهمُّني أحببتني أم لم تحببني.
تأمَّلوا العدل، وتأمَّلوا جُرأة الرعيَّة على طلب حقوقها عندما تتيقَّن من عدل راعيها.
هل نسمِّي هذا... الإدارة بالعدل؟ (2)
رابعا: حُسن الإصغاء:
القائد الناجح هو الذي يُتقن فن الإصغاء، ولا يُمضي الوقت في تبكيت الأتباع والتنظير عليهم، والذي يُتقن فن الإصغاء يفهم، والذي يفهم يستطيع اتِّخاذ القرار السَّليم فتتحقَّق الأهداف، فيُحبُّه أتباعه ويطيعونه.
... كان رسول الله (ص) إذا استمع إلى أحد يلتفت إليه بكلِّيته، يسمع ولا يقاطع، وينتظر حتَّى يُتمَّ المتحدِّث حديثه. لمَّا جاء عُتبة بن ربيعة يطلب إليه ترك دعوته استمع إليه للنهاية، وعقبة يقول: "إن كنت تريد مُلكاً ملكنَّاك علينا، وإن تريد مالاً أعطيناك... وإن تريد..."، لم يقاطعه الرسول (ص) حتَّى انتهى. بعدها أجاب الرسول بكل هدوء وبالرَّد المشهور:(5/29)
"والله ياعمُّ، لو وضعوا الشَّمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته أو أهلك دونه".
تأمَّل أحوالنا في هذا العصر، عندما تدخل على القائد أو المدير تريد أن تشرح له وجهة نظر، أو تقدِّم له اقتراحاً، يصفعك بقوله: "تكلَّم وأوجز"، وإذا حاولت التكلُّم لم يدعك تُكمل جملة مفيدة، فليس لديه الوقت للاستماع، لأنَّه يعلم ما لا تعلم!!(3)
(1)من الآية (8) من سورة المائدة
(2) المرجع السابق
(3) المرجع السابق
-17-
أو لأنَّه يصدر أوامره ويجري اتِّصالاته هنا وهناك حتى يُرعبك، أو حتَّى يُثبت لك أهميَّته!!، أو لأنَّه يُفكِّر أثناء حديثك بألف موضوع ليس من بينها الموضوع الذي جئت من أجله!!، وهذا هو الفرق بين قيادات السلف وقياداتنا المعاصرة، ولا عجب بالتالي أن تكون النتائج على النحو الذي نراه!!.
خامساً: الصبر و التسامح:
القدرة على تحمل الصّعاب و مواجهة المعوقات, و الصبر على هفوات الأتباع و أخطائهم و الحِلم و التروٍي قبل اتخاذ القرارات و اصدار الأحكام. و قد علّمنا رسول اللّه (ص) أن الحِلم ما وُضِع في شيىء الا زانه و ما نزع من شيىء الا شانه".(5/30)
والحِلم أو التسامح عندما يكون من القائد يفضي إلى فضيلتين؛ تتمثَّل الأولى في معالجة المشكلات دون تضحية بالأتباع، وتتمثَّل الثانية في حُب الأتباع للقائد وتفانيهم في تحقيق الأهداف.(1)
... كيف تجدون عفو رسول الله (ص) عن مجرمي مكَّة "إذهبوا فأنتم الطلقاء"؟ هل قالها فاتح في تاريخ البشريَّة لأعدائه؟، وكيف تجدون عفو صلاح الدين عند استرداده للقدس ومعظم بلاد الشام من مجرمي الصليبين؟.
إنَّ كثيراً من القادة والمديرين اليوم ينتظرون بفارغ الصَّبر وقوع أعدائهم تحت سُلطتهم حتَّى يرووا بهم غريزة الانتقام، والتي قد تكون أصلاًَ ظُلماً في ظُلم!!.
سادساً: الكرم والزُّهد:
إنَّ من طبيعة البشر أن يكرهوا البخيل، أو من يطمع بما في أيدي الناس. والقائد أو المدير المحبوب هو الذي يزهد بكثير من المزايا لأتباعه ولا يحتكرها لنفسه، بل ويمنحهم ممَّا لديه من مال أو متاع لتأليف قلوبهم، وليكون قُدوة لهم في الزُّهد وسموِّ النَّفس والترفُّع عن حُطام الدنيا والتطلُّع إلى ما عند الله.(5/31)
تعلمون أنَّ رسول الله (ص) مات ودرعه مرهون عند يهودي، وقرأتم سِيَر الخلفاء والصحابة في الزُّهد والورع. بل وفي العصر الحالي – رغم مرارته – سمعنا أنَّ زعيماً عربيَّاً كان ملأ السَّمع والبصر مات ولم يترك سوى 200 جنيه!! وأنَّ رئيساً عربيَّاً شريفاً آخر جُمعت له التبرُّعات لعلاج زوجته!!
و لكن كيف ترون معظم المتنفِّذين اليوم لا من حكَّام ووزراء فحسب، بل وأتباعهم، وربَّما أتباع أتباعهم... هل من قائل لهم: "من أين لك هذا"؟؟
(1) الرسول القائد - د.طارق السويدان
* ... ... * ... ... *
-18-
الخاتمة(5/32)
... ... ان للقيادة متطلبات أو مؤهلات لابد من توافرها لنجاح القائد في تحقيق أهدافه الداعية الى التغيير الايجابي, منها قدرات عقلية فطرية موروثة, أو ارادية مكتسبة, تولًد لدى القائد قدرة فائقة على التمييز بين المصالح و المفاسد و بالتالي تمكنه من اتخاذ القرارات الصحيحة في الظروف المناسبة. و منها ما هو سمات شخصية تحافظ على توازن القائد فيكون مثالاً و قدوة لمتبوعيه في الشجاعة و الثبات و قوة الارادة. و منها ما يكون صفات أخلاقية تجعل القائد موضع اجلال و اكبار التابعين فيتجهون اليه بكل ولاء و انتماء و بذلك تتكلل عملية التغيير بالنجاح.
لم يحُز أحد في العالمين من هذه الصفات ما حازه رسول الله(ص) في فكره و خلقه و سلوكه, مما يؤهله ليكون قدوة حسنةفي كل زمان و مكان لمن أراد أن يقود شعبه أو أمته الى التغيير الايجابي. و بغير هذه الصفات مجتمعة فان قيادة التغيير قد تودي بالقائد و شعبه الا الهلاك. و لا أظننا بحاجة الى أمثلة من التاريخ القديم أو المعاصر.
* ... ... * ... ... *
هذا خلق الله، فأروني ماذا خلق الذين من دونه، بل الظالمون في ضلال مبين"(1)(5/33)
_____________________________________________________________________________
(1) الايه (11) من سورة لقمان
ب.ر/د.د
-19-
مراجع البحث
* ... الرَّسول القائد. ... د.طارق السويدان
* ... التفكير. ... د.ناصر العمر
* ... التفكير الإيجابي. ... الأستاذ/مريد الكلاَّب
* ... تحدِّيات القيادة وعدَّة القائد. ... د.عماد ملكاوي
* ... Managing Strategic Change & Knowledge based Organizations ... Prof.M.Khalid Iqbal
* ... معرفة السُّنن الكونيَّة. ... الأستاذ/صلاح الرَّاشد
* ... رسائل إلى ولدي. ... بكر الريحان
* ... السُّلوك الوظيفي السَّليم في المنهج الإسلامي. ... بكر الريحان(5/34)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحرف والصناعات الخفيفة في الحديث الشريف
ورقة عمل مقدمة لمؤتمر الحديث الشريف
المنعقد في كلية الشريعة بجامعة اليرموك
إعداد:
د. جميل الخطاطبة
المحتويات:
المقدمة.
فضائل العمل الحرفي.
الفوائد المستخرجة من الأحاديث النبوية التي تحث على الحرفة.
الأساليب النبوية في التعامل مع أصحاب الحرف.
قائمة المراجع.
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين، خلق الخلق، وبسط الرزق، وبعث سيدنا محمداً –صلى الله عليه وسلم- بشيراً ونذيراً، فأرشد ونصح، وسلك بأمته سبيل الرشاد، فكانت خير أمة أخرجت للناس، وبعد:
فإن الحديث الشريف يمثل المصدر الثاني من مصادر التشريع، الذي تستند إليه الأبحاث والدراسات الاقتصادية الإسلامية، ومنه تستمد شرعيتها؛ لذا كان الحديث عن الحرف والصناعات الخفيفة في الحديث الشريف موضوع في غاية الأهمية لتحقيق عدة مقاصد:
أولاً: التعرف على الأحاديث الصحيحة التي تتناول موضوع الحرف والصناعات التي كانت في العهد النبوي، والاطلاع على عناوين أبوابها في كتب الحديث.
ثانيا: بيان فضل الحرف والمكاسب من الناحية الشرعية، لتصحيح نية العمل، والتقليل من العزوف عنها.(6/1)
ثالثاً: الاطلاع على الأساليب والتطبيقات النبوية التي تبين كيفية التعامل مع هذه الفئة، وما حظيت به من العناية في توجيه الطاقات للعمل النافع في مجتمع المدينة المنورة.
رابعاً: دراسة الأحاديث الشريفة التي تتناول فترة تأسيس اقتصاد الأمة، والتحول من اقتصاد الجاهلية البدائي إلى اقتصاد التمدن والاستقرار؛ باعتبارها النموذج الأمثل للانطلاق إلى مستقبل العمل والإنتاج إذا أردنا لانطلاقتنا أصالة ولسيرنا قاعدة واضحة.
خامساً: التنبيه على أخلاقيات العمل الحرفي، والتحذير مما يشوبه من صفات الجهل، وضعف الإيمان، وإخلاف الوعد، والغش في الأداء، والمماطلة في التنفيذ.
إن الحرف والصناعات الخفيفة أعمال سنية، وفروض كفاية مرعية، فأردت أن أستعرض من كتب الحديث الشريف ما يبين فضل هذه الحرف وثواب أهلها، وحث الرسول –صلى الله عليه وسلم- وثناؤه عليها وعلى أهلها، وليعلم أصحاب الحرف والصنائع أن أعمالهم كريمة تولاها قبله الصحابة الكرام، فهذا أحرى ليحسن أصحاب الحرف العمل والمقصد، ويجتهدوا في الإتقان بما يوجبه الشرع ويقتضيه، فيكونوا قد أحيوا سنة، وأحرزوا حسنة، ونفعوا أنفسهم، وأرضوا ربهم، وساهموا في تقوية أمتهم.(6/2)
فضائل العمل الحرفي:
... يعتبر العمل في الإسلام العنصر الفعال في كل طرق الكسب، وهو يمثل النشاط الدائب والحركة المستمرة في سبيل رفع مستوى المعيشة، ونظراً لأهمية العمل، ودوره في عملية الإنتاج وتسيير دفة الحياة؛ فقد أولاه الإسلام عناية فائقة، وحفز الناس إليه، وأثنى على الماهرين وندب إلى اختيار المتقنين، وحذر القادرين على ألا يركنوا إلى الكسل والبطالة، والأحاديث في الحث على كسب اليد كثيرة ومتعددة، وقد زادت في عددها على سبعة وستين حديثاً في الكتب التسعة(1) منها:
عن المقدام -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده وإن نبي الله داود -عليه السلام- كان يأكل من عمل يده)(2).
قال ابن حجر العسقلاني:
- والمراد بالخيرية ما يستلزم العمل باليد من الغنى عن الناس.
- ولابن ماجه من طريق عمر بن سعد عن خالد بن معدان عنه "ما كسب الرجل أطيب من عمل يديه".
__________
(1) الكتب التسعة: هي البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وأبو داود وابن ماجه وأحمد ومالك والدارمي.
(2) صحيح البخاري/ كتاب البيوع/ باب كسب الرجل وعمله بيده 2/730.(6/3)
- ولابن المنذر من هذا الوجه "ما أكل رجل طعاما قط أحل من عمل يديه".
- وفي فوائد هشام بن عمار عن بقية حدثني عمر بن سعد بهذا الإسناد مثل حديث الباب وزاد "من بات كالا من عمله بات مغفورا له".
- وللنسائي من حديث عائشة "إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه"(1).
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: (إن أطيب ما أكلتم من كسبكم وان أولادكم من كسبكم)(2).
قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح".
قال المباركفوري:
- "قوله: ( إن أطيب ما أكلتم ) أي أحله وأهنأه ( من كسبكم ) أي مما كسبتموه من غير واسطة لقربه للتوكل وكذا بواسطة أولادكم كما بينه ب قوله: ( وإن أولادكم من كسبكم ) لأن ولد الرجل بعضه وحكم بعضه حكم نفسه, وسمي الولد كسبا مجازا. قاله المناوي.
- وفي رواية عند أحمد: "إن ولد الرجل من أطيب كسبه فكلوا من أموالهم هنيئا"(3).
__________
(1) فتح الباري لابن حجر 4/306.
(2) سنن ابن ماجه/ كتاب التجارات/ باب ما للرجل من مال ولده 2/768، سنن الترمذي/كتاب الأحكام عن رسول الله/ باب ما جاء أن الوالد يأخذ من مال ولده 3/639، مسند أحمد بن حنبل 2/179.
(3) تحفة الأحوذي بشرح سنن الترمذي للمباركفوري 4/494.(6/4)
سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أي الكسب أطيب؟ قال: (عمل الرجل بيده وكل كسب مبرور) وفي رواية (عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور)(1).
قال شعيب الأرناؤوط في تعليقه على مسند أحمد: "حسن لغيره".
قال -صلى الله عليه وسلم-: (ما كسب الرجل كسباً أطيب من عمل يده، وما أنفق الرجل على نفسه وأهله وولده وخادمه فهو صدقة)(2).
قال الكناني: "هذا إسناد حسن"(3).
قال السندي: "قوله (فهو صدقة) أي إذا كان بنية خير، وفي الزوائد: في إسناده إسماعيل بن عياش، ورواه أبو داود والترمذي والنسائي"(4).
__________
(1) مسند أحمد/ حديث رقم 16628.
(2) سنن ابن ماجه/ كتاب التجارات/ باب الحث على المكاسب/ حديث 2129.
(3) مصباح الزجاجة 3/5.
(4) حاشية السندي على ابن ماجه 4/367.(6/5)
روى أنس بن مالك –رضي الله عنه- أن رجلاً من الأنصار رأى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فسأله النبي فقال: (أما في بيتك شيء؟) قال: بلى، حلس نلبس بعضه ونبسط بعضه، وقعب نشرب فيه من الماء، قال: (ائتني بهما) قال فأتاه بهما، فأخذهما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيده وقال: (من يشتري هذين؟) قال رجل: أنا آخذهما بدرهم، قال: (من يزيد على درهم؟) -مرتين أو ثلاثا- قال رجل: أنا آخذهما بدرهمين، فأعطاهما إياه، وأخذ الدرهمين وأعطاهما الأنصاري، وقال: (اشتر بأحدهما طعاما فانبذه إلى أهلك واشتر بالآخر قدوما فأتني به) فأتاه به، فشد فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عودا بيده ثم قال له: (اذهب فاحتطب وبع ولا أرينك خمسة عشر يوما) فذهب الرجل يحتطب ويبيع، فجاء وقد أصاب عشرة دراهم، فاشترى ببعضها ثوبا وببعضها طعاما، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة، إن المسألة لا تصلح إلا لثلاثة: لذي فقر مدقع، أو لذي غرم مفظع، أو لذي دم موجع)(1).
__________
(1) سنن أبي داود/ كتاب الزكاة/ باب ما تجوز فيه المسألة/ حديث 1398.
مسند أحمد بن حنبل/ حديث رقم (11830).(6/6)
قال شعيب الأرناؤوط: "حسن لغيره".
عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (والذي نفسي بيده لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره خير له من أن يأتي رجلا أعطاه الله من فضله فيسأله أعطاه أو منعه)(1).
قال ابن حجر العسقلاني:
- " في رواية الزبير زيادة " فيبيعها فيكف الله بها وجهه " وذلك مراد في حديث أبي هريرة وحذف لدلالة السياق عليه.
- وفي رواية أبي هريرة " يأتي رجلا "وفي حديث الزبير " يسأل الناس " والمعنى واحد.
- وزاد في أول حديث أبي هريرة قوله " والذي نفسي بيده " ففيه القسم على الشيء المقطوع بصدقه لتأكيده في نفس السامع, وفيه الحض على التعفف عن المسألة والتنزه عنها ولو امتهن المرء نفسه في طلب الرزق وارتكب المشقة في ذلك, ولولا قبح المسألة في نظر الشرع لم يفضل ذلك عليها وذلك لما يدخل على السائل من ذل السؤال ومن ذل الرد إذا لم يعط ولما يدخل على المسئول من الضيق في ماله إن أعطى كل سائل.
__________
(1) صحيح البخاري/ كتاب الزكاة/ باب الاستعفاف عن المسألة 2/535.(6/7)
- وأما قوله " خير له " فليست بمعنى أفعل التفضيل إذ لا خير في السؤال مع القدرة على الاكتساب, والأصح عند الشافعية أن سؤال من هذا حاله حرام, ويحتمل أن يكون المراد بالخير فيه بحسب اعتقاد السائل وتسميته الذي يعطاه خيرا وهو في الحقيقة شر, والله أعلم"(1).
وفي السنة الفعلية أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رعى الغنم لأهل مكة وتاجر بمال خديجة –رضي الله عنها-.
الفوائد المستخرجة من الأحاديث النبوية في الحث على الحرف والصناعات اليدوية:
* أولاً: تقديمه –صلى الله عليه وسلم- الأسوة والقدوة في الاهتمام بالحرف وتنميتها، قال الحافظ ابن القيم: "إن النبي –صلى الله عليه وسلم-:
باع واشترى، وشراؤه أكثر.
وآجر وستأجر، وإيجاره أكثر.
وضارب وشارك وتوكل، وتوكيله أكثر.
وأهدى وأهدي إليه، ووهب واستوهب.
واستدان واستعار، وضمن عاماً وخاصاً.
ووقف وشفع، فقبل تارة ورد أخرى، ولم يعتب ولم يغضب.
وحلف واستحلف، ومضى في يمينه وكفر أخرى.
ومازح وروى ولم يقل إلا حقاً، وهو –صلى الله عليه وسلم- الأسوة والقدوة"(2).
__________
(1) فتح الباري لابن حجر 3/336.
(2) زاد المعاد في هدي خير العباد لابن قيم الجوزية 1/154.(6/8)
* ثانياً: إبراز الحكم الشرعي لطلب التكسب، وأنه من الفرائض، وهو على درجتين:
فرض عين: وهو الكسب بقدر الكفاية للقادر عليه؛ لنفع نفسه وعياله وقضاء دينه.
فرض كفاية: وهو الكسب الذي يطلب صاحبه به الزيادة على أدنى الكفاية؛ ليواسي فقيراً أو يجازي قريباً.
* ثالثاً: استحباب النية لأصحاب الحرف، فإن نوى الاستعفاف عن المسألة فهو المقتصد الذي يحصل على أولى درجات الثواب؛ لأنه طلب الكسب للدنيا من وجه حلال، وإن قصد بالعمل الإحسان إلى المحتاجين ومساعدتهم أو قصد العمل لمجرد أن العمل عبادة فهو السابق بالخيرات، وأما من اشتغل بلا نية فقد فاته الأجر بترك النية –وإن كان لا إثم عليه.
* رابعاً: عرض أقوال العلماء في أفضل أنواع المكاسب من الحرف:
إن الناظر إلى الروايات الواردة والقرائن الشاهدة في الأحاديث النبوية، يجد عدة أقوال في هذه المسألة، لخصها الحافظ ابن حجر عند قول الإمام البخاري: باب كسب الرجل وعمله بيده، فقال:
قال الماوردي: أصول المكاسب الزراعة والتجارة والصنعة.
وذهب الشافعي إلى أن أطيبها التجارة والزراعة، ثم رجح أن أطيبها الزراعة لأنها أقرب إلى التوكل.(6/9)
قال النووي: أطيب الكسب ما كان بعمل اليد؛ لما فيه من النفع العام للآدمي وللدواب، ومن لم يعمل بيده فالزراعة في حقه أفضل.
وذهب الحافظ ابن حجر إلى الجمع بين الأقوال السابقة فقال: والصواب أن ذلك يختلف باختلاف الأوقات والأشخاص، فإن كانت الحاجة إلى الأقوات فالزراعة أفضل، وإن كانت إلى التجارة فتكون أفضل، وإن كانت الحاجة إلى الصنعة تكون أفضل، وإلا فكلها فروض كفاية" (1).
* خامساً: التوفيق بين الأحاديث الواردة في مدح الزراعة وذمها:
على الرغم من وضوح الفضل الوارد بحق الزراعة، إلا أن بعض الروايات أشارت إلى ذمها، ومن ذلك:
1- الأحاديث الواردة في ذم الزراعة:
عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم)(2).
__________
(1) فتح الباري شرح صحيح البخاري 4/304.
(2) سنن أبي داود/ كتاب البيوع/ باب في النهي عن العينة/ حديث 3003.(6/10)
عن أبي أمامة الباهلي قال -ورأى سكة وشيئا من آلة الحرث- فقال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: (لا يدخل هذا بيت قوم إلا أدخله الله الذل)(1).
عن محمد بن كعب قال: قيل لعلى بن أبى طالب -رضى الله عنه- في قوله تعالى: {إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين} أهو التعرب؟ قال: "لا، ولكنه الزرع"(2).
2- الأحاديث الواردة في فضل الزراعة:
جاء في صحيح مسلم: أن النبي –صلى الله عليه وسلم- دخل... فقال: (لا يغرس مسلم غرساً ولا يزرع زرعاً فيأكل منه إنسان أو دابة أو طير أو سبع إلا كانت له صدقة)(3).
عن جابر -رضي الله عنه- قال: كانوا يزرعونها بالثلث والربع والنصف، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها فإن لم يفعل فليمسك أرضه)(4).
عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليفعل)(5).
__________
(1) صحيح البخاري/ كتاب المزارعة/ باب التحذير من الاشتغال بآلة الزرع أو مجاوزة الحد الذي أمر به.
(2) السير الكبير لمحمد بن الحسن الشيباني 1/19.
(3) متفق عليه.
(4) متفق عليه.
(5) مسند أحمد/ حديث 12512.(6/11)
عن عائشة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (التمسوا الرزق في خبايا الأرض)(1).
3- الجمع بين أحاديث المدح والذم:
إن الناظر إلى أحاديث فضل الزراعة يدرك بلا أدنى شك فضل هذه الحرفة وعظيم نفعها؛ لأن فيها قوت الناس، ومنها تستخرج صنعتهم، وأما الأحاديث الواردة في ذمها فقد بوب لها الإمام البخاري باباً بعنوان "باب التحذير من الاشتغال بآلة الزرع أو مجاوزة الحد الذي أمر به". فيحمل النهي على أحوال خاصة، أرجعها الإمام البخاري إلى سببين اثنين، هما:
إذا اشتغل المسلمون بالزراعة وتقاعسوا عن الجهاد وأداء الرسالة المنوطة بهم.
إذا لم يتقاعسوا عن أداء الرسالة، إلا أنهم جاوزوا الحد في الاشتغال بالزراعة بحيث طغت على غيرها فاقتصاد القوة يأخذ بكل الحرف ولا يقتصر على واحدة منها.
* سادساً: التوفيق بين الأحاديث الواردة في مدح التجارة وذمها:
لا يخفى وضوح الفضل الوارد بحق التجارة، فقد سماها الله تعالى بأنها ابتغاء من فضله، إلا أن بعض الروايات أشارت إلى ذمها، ومن ذلك:
1- الأحاديث الواردة في ذم التجارة:
__________
(1) شعب الإيمان للبيهقي 2/87.(6/12)
روى الترمذي عن إسماعيل بن عبيد بن رفاعة عن أبيه عن جده أنه خرج مع النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المصلى، فرأى الناس يتبايعون، فقال: (يا معشر التجار) فاستجابوا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورفعوا أعناقهم وأبصارهم إليه، فقال: (إن التجار يبعثون يوم القيامة فجارا إلا من اتقى الله وبر وصدق)(1).
عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم)(2).
2- الأحاديث الواردة في فضل التجارة:
عن أبي سعيد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء)(3).
__________
(1) رواه الترمذي/ كتاب البيوع عن رسول الله/ باب ما جاء في التجار وتسمية النبي إياهم/ حديث 1131.
(2) سنن أبي داود/ كتاب البيوع/ باب في النهي عن العينة/ حديث 3003.
(3) سنن الترمذي/ كتاب البيوع عن رسول الله/ باب ما جاء في التجار وتسمية النبي إياهم/ حديث 1130.(6/13)
عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إن أطيب الكسب كسب التجار الذي إذا حدثوا لم يكذبوا و إذا ائتمنوا لم يخونوا و إذا وعدوا لم يخلفوا و إذا اشتروا لم يذموا و إذا باعوا لم يطروا و إذا كان عليهم لم يمطلوا و إذا كان لهم لم يعسروا)(1).
عن رافع بن خديج قال: قيل: يا رسول الله أي الكسب أطيب؟ قال: (عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور)(2).
عن حكيم بن حزام -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا أو قال حتى يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما)(3).
3- الجمع بين الأحاديث الواردة في ذم التجارة والثناء عليها:
إذا نظرنا إلى الروايات الواردة في مدح التجارة نجدها الأبعد مساحة والأكثر عمقاً، فقد أثنى الله عز وجل على التجارة، واعتبرها ابتغاء من فضل الله، وبها اشتغل النبي –صلى الله عليه وسلم- في أول عمره، كما اشتغل بها خيرة أصحابه من حوله، كأبي بكر وعمر وعثمان-رضي الله عنهم جميعاً-.
__________
(1) شعب الإيمان للبيهقي/ باب حفظ اللسان 4/221.
(2) مسند أحمد/ حديث 16628.
(3) متفق عليه.(6/14)
أما الأحاديث الواردة في الذم فتحمل على التجارة التي تشغل صاحبها عن أمور الدين، وتصرفه عن أمور الآخرة، وتحمله على الانهماك في الدنيا.
وأما وصف التجار بالفجار فمحمول على ما يظهر في التجارة من اللغو والحلف الكاذب والغش والخداع وإخفاء العيوب والطمع فيما في يد الغير بغير حق.
ولا يقتصر الذم على التجارة التي تشغل المؤمن عن دينه وتبعده عن الجهاد في سبيله، بل تشمل جميع الحرف التي تبعد عن الجهاد والعمل الصالح، فإن هذا خطر يوقع الأمة في الضعف، أما إذا جمع المكلف بين الحرفة والطاعة لربه والاهتمام بقوة أمته والدعوة للدين، فعندها يستحق الثناء الوارد في الأحاديث والآيات الكريمات.
* سابعاً: الاطلاع على المكاسب المحرمة:
ذكر ابن عبد البر المكاسب المجمع على تحريمها وورد النص عليها في الأحاديث الشريفة، وهي:
الربا، ومهر البغي، والسحت، والرشوة، وحلوان الكاهن، وثمن الكلب، وأجرة النياحة، والزمر، واللعب الباطل وهو القمار.
الأساليب النبوية في التعامل مع أصحاب الحرف:(6/15)
لقد حظيت الحرف وأصحابها بعناية الرسول –صلى الله عليه وسلم-، فقد فصل في فضائلها، والتقى بأربابها، فدعا لهم وأرشدهم، وكان يستشهد بهم في حديثه، فيشبه بعض الأعمال الصالحات وأضدادها من الأعمال السيئة بحرف معروفة، كحامل المسك ونافخ الكير، وكان يتكلم مع كل صاحب حرفة بما يتعلق بحرفته، ويقول له ما يزيده بها اغتباطاً، وبآدابها وأحكامها ارتباطاً، وإليك جملة من الأساليب النبوية في العناية بالحرف وأصحابها:
ذكر فضل الحرفة والحث عليها، ومن ذلك:
جاء في صحيح مسلم: أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: (لا يغرس مسلم غرساً ولا يزرع زرعاً فيأكل منه إنسان أو دابة أو طير أو سبع إلا كانت له صدقة)(1).
عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم- (سبع يجري أجرهن للعبد وهو في قبره، من علم علماً، أو أجرى نهراً، أو حفر بئراً، أو غرس نخلاً، أو بنى مسجداً، أو ورث مصحفاً، أو ترك ولداً يستغفر له بعد موته)(2).
__________
(1) متفق عليه.
(2) شعب الإيمان للبيه قي 3/248.(6/16)
أخرج أحمد من طريق مسلم بن بديل عن إياس بن زهير عن سويد بن هبيرة قال: سمعت النبي –صلى الله عليه وسلم- يقول: (خير المال مهرة مأمورة أو سكة مأبورة)(1).
وفي الصحيح عن أبي هريرة أن النبي –صلى الله عليه وسلم- كان يحدث وعنده رجل من أهل البادية: (أن رجلاً من أهل الجنة استأذن ربه في الزرع، فقال الله تعالى: ألست فيما شئت، قال: بلى، ولكن أحب أن أزرع)(2).
أخرج الديلمي عن ابن مسعود –رضي الله عنه- رفعه: "لما خلق الله المعيشة جعل البركات في الحرث والغنم"(3).
وفي الصحيح عن ابن عمر: "أن النبي –صلى الله عليه وسلم- عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من زرع أو ثمر"(4)، وبوب البخاري عليه: باب المزارعة مع اليهود.
استعمال النبي –صلى الله عليه وسلم- اسم بعض الحرف للتشبيه في وصف الرجل الصالح بالحرفة ذات الأثر الطيب، والرجل الطالح بالحرفة ذات الأثر المنتن.
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل/ حديث 15284.
(2) صحيح البخاري/ كتاب التوحيد/ باب كلام الرب مع أهل الجنة/ حديث 6965.
(3) كنز العمال للمتقي الهندي 4/32.
(4) صحيح مسلم/ كتاب المساقاة/ باب المساقاة والمعاملة بجزء من الثمر والزرع/ حديث 2896.(6/17)
ومثاله ما بوب به البخاري في صحيحه: "كتاب البيوع باب العطار وبيع المسك"، ثم خرج فيه عن أبي موسى الأشعري قال: قال –صلى الله عليه وسلم-: (مثل الجليس الصالح والجليس السوء كمثل صاحب المسك وكير الحداد)(1). قال العيني: "العطّار على وزن فعّال: الذي يبيع العطر وهو الطيب"(2). وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في الفتح: "ليس في حديث الباب سوى ذكر المسك، وكأنه ألحق العطار به؛ لاشتراكهما في الرائحة الطيبة"(3).
الحرص على الدقة في ضبط الموازين والمواصفات للحرف والخدمات، فعن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: "كان لأهل السوق وزان يزن، فقال له –عليه السلام-: (زن وأرجح)"(4).
__________
(1) متفق عليه.
(2) عمدة القاري شرح صحيح البخاري للعيني 11/220.
(3) فتح الباري لابن حجر 4/324.
(4) سنن الترمذي/ كتاب البيوع عن رسول الله/ باب ما جاء في الرجحان في الوزن/ حديث 1226.
سنن النسائي/ كتاب البيوع/ باب الرجحان في الوزن/ حديث 4515.
سنن أبي داود/ كتاب البيوع/ باب الرجحان في الوزن والوزن بالأجر/ حديث 2898.
سنن ابن ماجه/ كتاب التجارات/ باب الرجحان في الوزن/ حديث 2211.(6/18)
قال الزبيدي في تاج العروس: "قال الخفاجي في شرح الشفاء: أقول انجبر ضعفه بمتابعته"(1).
ومعنى قوله –صلى الله عليه وسلم- له: (زن) أي: زن التمر وأرجحه، أي زد عليه حتى ترجح الميزان بزيادة الكفة التي فيها الدراهم.
وتمام الحديث عند أبي يعلى أنه –صلى الله عليه وسلم- (اشترى سراويل بأربعة دراهم، وكان للسوق وزان، فقال له: زن وأرجح، وأخذ رسول الله –صلى الله عليه وسلم- السراويل، قال أبو هريرة: فذهبت لأحمل عنه، فقال: صاحب الشيء أحق بحمل شيئه إلا أن يكون ضعيفاً فيعجز عنه فيعينه أخوه المسلم، فقال: يا رسول الله وإنك لتلبس السراويل؟ قال: أجل في السفر والحضر وبالليل والنهار فإني أمرت بالستر فلم أجد شيئا أستر منه)(2).
تطبيق المعايير الشرعية في تبادل المنافع والخدمات.
__________
(1) تاج العروس للزبيدي 1/2014.
(2) مسند أبي يعلى 11/23.(6/19)
وفي الصحيحين عن أبي المنهال قال: "كنت أتجر في الصرف، فسألت زيد بن أرقم والبراء بن عازب –رضي الله عنهما- عن الصرف، فقالا: كنا تاجرين على عهد رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فسألناه عن الصرف، فقال: (إن كان يداً بيد فلا بأس، وإن كان نسيئاً فلا يصلح)(1)، والصرف : بيع الذهب بالفضة، والنسأ: التأخير.
وفي الصحيحين أيضاًَ عن سالم بن عبد الله أن أباه قال: " قد رأيت الناس في عهد رسول الله –صلى الله عليه وسلم- إذا ابتاعوا الطعام جزافاً يضربون أن يبيعوه في مكانهم ذلك حتى يؤووه إلى رحالهم"(2).
وعن أبي هريرة أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: (من اشترى طعاماً فلا يبعه حتى يكتاله)(3).
الإقرار بصحة كثير من الحرف، وذلك من خلال:
استعمال النبي –صلى الله عليه وسلم- لمنتجاتها لنفسه.
ذكر صاحب عون المعبود شرح سنن أبي داود أن الزعفران والعنبر والمسك والعود كانت موجودة في زمنه –صلى الله عليه وسلم- واستعملها الصحابة في حضرته وبعد وفاته(4).
__________
(1) متفق عليه.
(2) متفق عليه.
(3) متفق عليه.
(4) عون المعبود شرح سنن أبي داود للعظيم آبادي 10/108.(6/20)
وأخرج النسائي عن محمد بن علي قال: "سألت عائشة –رضي الله عنها-: أكان النبي –صلى الله عليه وسلم- يتطيب؟ قالت: نعم، بذِكارة الطيب، المسك والعنبر"(1).
وعن أبي سعيد الخدري قال: "ذكروا المسك لرسول الله –صلى الله عليه وسلم- فقال: (أو ليس من أطيب الطيب؟!)(2).
إباحة النبي –صلى الله عليه وسلم- لأهله في استعمالها.
ففي ترجمة أم حبيبة زوج النبي –صلى الله عليه وسلم- أن النجاشي لما زوجها من النبي –صلى الله عليه وسلم- أمر نساءه أن يبعثوا لها بكل ما عندهن من العطر، قالت: "فلما كان من الغد جاءتني بعود وورس وعنبر وزباد كثير، فقدمت بذلك كله على النبي -صلى الله عليه وسلم-، فكان يراه علي وعندي فلا ينكره"(3).
شراء النبي –صلى الله عليه وسلم- من السلع الخاصة بالأطفال لولده إبراهيم –عليه السلام-.
فعن أنس –رضي الله عنه- قال: "كان إبراهيم قد ملأ المهد، ولو بقي لكان نبيا لكن لم يكن ليبقى فإن نبيكم آخر الأنبياء"(4).
__________
(1) سنن النسائي/ كتاب الزينة/ باب العنبر/ حديث 5027.
(2) سنن الترمذي/ كتاب الجنائز عن رسول الله/باب ما جاء عن المسك للميت/ حديث 912.
(3) مستدرك الحاكم 4/22.
(4) الإصابة في تمييز الصحابة 1/174.(6/21)
إشراك أصحاب الحرف في الجهاد وتحمل مسؤوليات الأمة وواجباتها على قدر إمكانياتهم.
جاء في الاستيعاب: "كان نوفل بن الحارث بن عبد المطلب يتجر في الرماح، وبها فدى نفسه لما أسر في غزوة بدر، وكانت ألف رمح"(1).
وفي طبقات ابن سعد: "لما أسر نوفل بن الحارث ببدر قال له النبي –صلى الله عليه وسلم-: (افدِ نفسك برماحك التي بجدة)، فقال: أشهد أنك رسول الله، ففدى نفسه بها وكانت ألف رمح"(2).
وفي الطبقات أيضاً أنه أعان النبي –صلى الله عليه وسلم- يوم حنين بثلاثة آلاف رمح، فقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: (كأني أنظر إلى رماحك يا أبا الحارث تقصف في أصلاب المشركين)(3).
اغتباط النبي –صلى الله عليه وسلم- برؤية بعض المحترفين من الشباب، وفتحه المجال لتوجهاتهم إلى هذا النمط من النشاط.
__________
(1) الاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر 1/477.
(2) الطبقات الكبرى لابن سعد 4/46.
(3) الطبقات الكبرى لابن سعد 4/47.(6/22)
فقد ترجم ابن حجر في الإصابة لعبد الله بن جعفر أن البغوي خرج عن عمرو بن حريث أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- مرّ بعبد الله بن جعفر وهو يبيع مع الصبيان فقال: (اللهم بارك له في بيعه أو صفقته). وترجم فيها أيضاً للَّجْلاج العامري، فذكر أن أبا داود والنسائي في الكبرى خرجا عنه: (كنا غلماناً نعمل في السوق)(1).
التصدي لمشكلات الكساد التي تصيب بعض الحرف؛ لإعادة الحياة والنشاط إليها، التزاماً بهديه –صلى الله عليه وسلم- في إعانة المسلم لأخيه.
ذكر صاحب التراتيب الإدارية عن محمد بن سيرين قال: "جلب رجل من التجار سكراً إلى المدينة فكسد عليه، فبلغ ذلك عبد الله بن جعفر فأمر قهرمانه أن يشتريه وينتهبه الناس".
التعامل بلطف مع الأخطاء التي تصدر عن أصحاب الحرف ومعالجة ذلك بالحكمة.
__________
(1) الإصابة في تمييز الصحابة 4/41.(6/23)
عن ابن عباس في قوله تعالى: ((والذين إذا فعلوا فاحشة)) قال: يريد نبهان التمار، وكنيته أبو مقبل، أتته امرأة حسناء جميلة، تبتاع منه تمرا، فضرب على عجزها، فقالت: والله ما حفظت غيبة أخيك، ولا نلت حاجتك، فأسقط في يده، فذهب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال -رسول الله صلى الله عليه وسلم-: (إياك أن تخون امرأة غاز)، فذهب يبكي، فقام ثلاثة أيام: النهار صائما، والليل قائما حزينا، فلما كان يوم الرابع أنزل الله تعالى فيه: والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم الآية، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره بما نزل فيه، فحمد الله وشكره، وقال: يا رسول الله، هذه توبتي، قبلها الله مني، فكيف لي حتى يقبل شكري ؟ فأنزل الله تعالى: ((وأقم الصلاة طرفي النهار))(1).
السماع لشكوى أصحاب الحرف وحمايتهم وإنصافهم.
__________
(1) معرفة الصحابة لأبي نعيم 19/8.(6/24)
جاء في الإصابة عن سيمويه وفي رواية سيماه قال: رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم-، وسمعت من فيه إلى أذني، وحملت القمح من البلقاء إلى المدينة، فبعنا وأردنا أن نشتري التمر فمنعونا، فأتينا النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: (أما يكفيكم رخص هذا الطعام بغلاء هذا التمر الذي تحمِّلونهم ذروهم يحملون) وكان سيمويه نصرانيا شماسا فأسلم وحسن إسلامه وعاش مائة وعشرين سنة(1).
إرشاد الحرفيين إلى الحد من التنقل بين الحرف، ولزوم حرفة معينة تمكن صاحبها من إتقانها، وتحقق له مردوداً مناسباً.
ترجم ابن عبد البر لسعد بن عائذ المؤذن مولى عمار بن ياسر المعروف بسعد القرظ(2)، وإنما قيل له سعد القرظ؛ لأنه كلما كان اتجر بشيء وضع فيه، فاتجر في القرظ فربح فيه، فلزم التجارة فيه(3).
حث النبي –صلى الله عليه وسلم- من لا عمل لهم على تعلم حرفة تحميهم من الفقر، ولو كان العمل صعباً، ومتابعتهم.
__________
(1) الإصابة في تمييز الصحابة 3/237.
(2) القرظ: شجر يدبغ به.
(3) الاستيعاب لابن عبد البر 1/178.(6/25)
عن أنس بن مالك أن رجلا من الأنصار أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- يسأله فقال: (أما في بيتك شيء؟) قال: بلى، حلس نلبس بعضه ونبسط بعضه وقعب نشرب فيه من الماء، قال: (ائتني بهما) قال: فأتاه بهما، فأخذهما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيده وقال: (من يشتري هذين؟) قال رجل: أنا آخذهما بدرهم، قال: (من يزيد على درهم؟) مرتين أو ثلاثا، قال رجل: أنا آخذهما بدرهمين، فأعطاهما إياه وأخذ الدرهمين وأعطاهما الأنصاري، وقال: (اشتر بأحدهما طعاما فانبذه إلى أهلك واشتر بالآخر قدوما فأتني به) فأتاه به، فشد فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عودا بيده ثم قال له: (اذهب فاحتطب وبع ولا أرينك خمسة عشر يوما)، فذهب الرجل يحتطب ويبيع، فجاء وقد أصاب عشرة دراهم، فاشترى ببعضها ثوبا وببعضها طعاما، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة، إن المسألة لا تصلح إلا لثلاثة: لذي فقر مدقع أو لذي غرم مفظع أو لذي دم موجع)(1).
__________
(1) سنن أبي داود/ كتاب الزكاة/ باب ما تجوز فيه المسألة/ حديث 1398.(6/26)
عن أبي مسعود(1) قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأمرنا بالصدقة، فما يجد أحدنا شيئا يتصدق به حتى ينطلق إلى السوق، فيحمل على ظهره، فيجيء بالمد فيعطيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وإني لأعرف اليوم رجلا له مائة ألف ما كان له يومئذ درهم(2).
تغيير أسماء بعض الحرف إلى أسماء محببة؛ ترغيباً في الإقبال عليها، فعن قيس بن أبي غرزة قال: كنا نسمى السماسرة فأتانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن نبيع فسمانا باسم هو خير من اسمنا، فقال: (يا معشر التجار إن هذا البيع يحضره الحلف والكذب فشوبوا بيعكم بالصدقة)(3).
اشتراطه –عليه السلام- على بعض أصحاب الحرف شروطاً تمنعهم من استغلال الآخرين واحتكار ما في أيديهم.
__________
(1) أبو مسعود: عقبة بن عمرو بن ثعلبة، صحابي أنصاري بدري، سكن الكوفة وتوفي سنة 40هـ.
(2) سنن النسائي/ كتاب الزكاة/ باب جهد المقل/ حديث 2482.
(3) سنن الترمذي/ كتاب البيوع عن رسول الله/ باب ما جاء في التجار وتسمية النبي إياهم.(6/27)
ففي الصحيحين عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يُتلقى الركبان، ولا يبيع حاضر لباد. قلت: يا ابن عباس ما قوله (لا يبيع حاضر لباد) قال: يكون له سمسارا(1).
رفع المكانة الاجتماعية للمحترفين، وإبعادهم عن الشعور بدناءة الحرفة، وذلك من خلال:
الملاطفة للمهنيين وإرشادهم إلى صلاح حالهم.
فعن أبي عبيدة قال: "طبخت للنبي –صلى الله عليه وسلم- قدرا، وقد كان يعجبه الذراع، فناولته الذراع، ثم قال: (ناولني الذراع) فناولته، ثم قال: (ناولني الذراع) فقلت: يا رسول الله! وكم للشاة من ذراع؟ فقال: (والذي نفسي بيده لو سكتَّ لناولتني الذراع ما دعوت)(2).
تلبية دعوتهم والأكل من طعامهم.
__________
(1) متفق عليه.
(2) الشمائل المحمدية للترمذي 1/141.(6/28)
عن أنس بن مالك قال: "إن خياطا دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لطعام صنعه، قال أنس: فذهبت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى ذلك الطعام، فقرب إليه خبزا من شعير ومرقا فيه دباء، قال أنس: فرأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتتبع الدباء من حول القصعة، فلم أزل أحب الدباء بعد ذلك اليوم"(1).
وعن ابن مسعود –رضي الله عنه- قال: "جاء رجل من الأنصار يكنى أبا شعيب، فقال لغلام له قصاب –لحَّام-: اجعل لي طعاما يكفي خمسة، فإني أريد أن أدعو النبي -صلى الله عليه وسلم- خامس خمسة، فإني قد عرفت في وجهه الجوع، فدعاهم، فجاء معهم رجل، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إن هذا قد تبعنا فإن شئت أن تأذن له فأذن له وإن شئت أن يرجع رجع)، فقال: لا بل قد أذنت له"(2).
مشاركته -صلى الله عليه وسلم- أصحاب الحرفة بالعمل معهم.
__________
(1) صحيح البخاري/ كتاب البيوع/ باب ذكر الخياط حديث (1950)، صحيح مسلم/ كتاب الأشربة/ باب جواز أكل المرق واستحباب أكل اليقطين حديث (3803).
(2) صحيح البخاري/ كتاب البيوع/ باب ما قيل في اللحام والجزار 2/732.(6/29)
عن جابر بن أسامة الجهني قال: لقيت النبي -صلى الله عليه وسلم- في أصحابه بالسوق، فسألت أصحاب رسول الله أين يريد؟ قالوا: يخط لقومك مسجدا، فرجعت فإذا قومي قيام، فقلت ما لكم؟ قالوا: خط لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مسجدا، وغرز في القبلة خشبة أقامها فيها(1).
وقد أمر –صلى الله عليه وسلم- ببناء مسجد قباء أول ما ورد المدينة، ووقف على أساسه، ثم بنى –صلى الله عليه وسلم- مسجده في المدينة المنورة، وبنى مساكنه إلى جنب المسجد باللبن، وسقفها بجذوع النخل والجريد(2).
توجيهه للصحابة الكرام بالعمل في بعض الحرف؛ لتصحيح نظرة الناس إليها.
ذكر ابن دريد في الوشاح أن من الصحابة من كان دباغا، وذكر منهم الحرث بن صبيرة، وقال عنه: أسلم يوم الفتح هو وابنه(3).
وكانت حرفة سلمان الفارسي نسج الخوص(4)، حتى وهو أمير في المدائن، فينسجه ويعيش بثمنه.
__________
(1) المعجم الكبير للطبراني 2/193.
(2) تخريج الدلالات السمعية للخزاعي 1/717.
(3) تخريج الدلالات السمعية 1/723.
(4) الخوص: ورق النخل يصنع منها القفاف ونحوها.(6/30)
وذكر معمر عن رجل من أصحابه قال: دخل قوم على سلمان وهو أمير على المدائن وهو يعمل هذا الخوص، فقيل له: لم تعمل هذا وأنت أمير ويجرى عليك رزق؟ فقال: إني أحب أن آكل من عمل يدي.
إجراء التنافس بين أصحاب الحرفة الواحدة وإشهار عمل الفائز منهم.
عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- أن امرأة من الأنصار قالت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يا رسول الله! ألا أجعل لك شيئا تقعد عليه، فإن لي غلاما نجارا. قال: (إن شئت)، قال: فعملت له المنبر، فلما كان يوم الجمعة قعد النبي -صلى الله عليه وسلم- على المنبر الذي صنع، فصاحت النخلة التي كان يخطب عندها، حتى كادت تنشق، فنزل النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى أخذها فضمها إليه، فجعلت تئن أنين الصبي الذي يسكت حتى استقرت، فقال –صلى الله عليه وسلم-: (بكت على ما كانت تسمع من الذكر)(1).
__________
(1) صحيح البخاري/ كتاب البيوع/ باب النجار/ حديث (1953).(6/31)
واختلف الرواة في من صنع هذا المنبر، فقيل: صنعه غلام امرأة من الأنصار اسمه ميناء، وقيل: صنعه باقول مولى العاص بن أمية، وقيل: صنعه ميمون النجار، وقيل: صنعه صباح غلام العباس بن عبد المطلب(1). ويمكن الجمع بين هذه الروايات والشواهد أنهم جميعاً تنافسوا في صنعه، فنسب لكل واحد منهم.
إباحة التعامل مع أصحاب المهن من غير المسلمين، خاصة إذا كانت مهنته مما يحتاج إليه المسلم.
عن علي –رضي الله عنه- قال: "كانت لي شارف من نصيبي من المغنم، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- أعطاني شارفا [الناقة المسنة] من الخمس، فلما أردت أن أبتني بفاطمة –رضي الله عنها- بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واعدت رجلا صواغا من بني قينقاع أن يرتحل معي فنأتي بإذخر(2) أردت أن أبيعه من الصواغين وأستعين به في وليمة عرسي..."(3).
إصدار التشريعات التي تضمن استمرار وصول المواد الأولية اللازمة للحرف إذا تعرضت للمنع.
__________
(1) تخريج الدلالات السمعية للخزاعي 1/711.
(2) الإذخر: نبات طيب الرائحة.
(3) صحيح البخاري/ كتاب البيوع/ باب ما قيل في الصواغ/ حديث (1947)، صحيح مسلم/ كتاب الأشربة/ باب تحريم الخمر/ حديث (3661).(6/32)
عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (حرم الله مكة فلم تحل لأحد قبلي، ولا لأحد بعدي، أحلت لي ساعة من نهار، لا يختلي خلاها، ولا يعضد شجرها، ولا ينفر صيدها، ولا تلتقط لقطتها إلا لمعرّف)، فقال العباس -رضي الله عنه-: "إلا الإذخر لصاغتنا وقبورنا؟ فقال: (إلا الإذخر)(1).
توجيه المستهلكين إلى شراء بعض السلع، بالنظر إلى ما تتصف به من جودة في الاستعمال.
عن عبد الرحمن بن طرفة أن جده عرفجة بن أسعد قطع أنفه يوم الكُلَاب(2)، فاتخذ أنفا من ورق فأنتن عليه، فأمره النبي -صلى الله عليه وسلم- فاتخذ أنفا من ذهب(3).
النهي عن بعض الحرف لما فيها من مخالفة أمر الشرع، وإرشاد الحرفيين إلى البديل الصحيح.
__________
(1) صحيح البخاري/ كتاب البيع/ باب ما قيل في الصواغ 1/452.
(2) يوم الكلاب: اسم حرب معروفة من حروب العرب.
(3) سنن أبي داود/ كتاب الخاتم/ باب ما جاء في ربط الأسنان بالذهب/ حديث 3696.(6/33)
عن سعيد بن أبي الحسن قال: كنت عند ابن عباس -رضي الله عنهما- إذ أتاه رجل، فقال: يا أبا عباس! إني إنسان إنما معيشتي من صنعة يدي، وإني أصنع هذه التصاوير، فقال ابن عباس: "لا أحدثك إلا ما سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول، سمعته يقول: (من صور صورة فإن الله معذبه حتى ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ فيها أبدا) فربا الرجل ربوة شديدة، واصفر وجهه، فقال: "ويحك إن أبيت إلا أن تصنع فعليك بهذا الشجر، كل شيء ليس فيه روح"(1).
الإشارة حل الانتفاع ببعض المواد الأولية في الحرف بغير صورة البيع المنهي عنها.
__________
(1) صحيح البخاري/ كتاب البيوع/ باب بيع التصاوير التي ليس فيها روح/ حديث 2073.(6/34)
عن جابر بن عبد الله أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول عام الفتح وهو بمكة: (إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام) فقيل: يا رسول الله! أرأيت شحوم الميتة فإنه يطلى بها السفن ويدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس؟ فقال: (لا، هو حرام) ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند ذلك: (قاتل الله اليهود، إن الله عز وجل لما حرم عليهم شحومها أجملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه)(1).
... قال النووي عند شرحه لهذا الحديث: " وأما قوله -صلى الله عليه و سلم-: (لا هو حرام) فمعناه: لا تبيعوها فإن بيعها حرام، والضمير في هو يعود إلى البيع لا إلى الانتفاع، وهذا هو الصحيح عند الشافعي وأصحابه، أنه يجوز الانتفاع بشحم الميتة في طلى السفن والاستصباح بها وغير ذلك مما ليس بأكل ولا في بدن الآدمي"(2).
الإشارة إلى العيوب الغالبة على بعض أصحاب المهن، وبيان إثمهم؛ ليتجنبوها.
__________
(1) صحيح مسلم/ كتاب المساقاة/ باب تحريم بيع الخمر والميتة/ حديث 2960.
(2) شرح صحيح مسلم للنووي 11/6.(6/35)
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أكذب الناس الصباغون والصواغون)(1).
... قال السندي: "قوله (الصباغون) أي الذين يصبغون الثياب، (والصواغون) أي الذين يصيغون الحلي؛ لأن الغالب عليهم الكذب في المواعيد وهذا معلوم بالتجربة"(2).
وعن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (الجالب مرزوق والمحتكر ملعون)(3). لأنه كان في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- من قدم بالحب لا يتلقاه أحد، بل يشتريه الناس من الجلابين، فقال هذا الحديث ليحفظ سعراً معتدلاً للأقوات -صلى الله عليه وسلم-.
قبول عذر صاحب الحرفة إذا اعتذر عن التصدق بلوازم حرفته؛ كونها مصدر رزق له ولعياله.
__________
(1) سنن ابن ماجه/ كتاب التجارات/ باب الصناعات/ حديث 2143.
(2) شرح سنن ابن ماجه للسندي 4/381.
(3) سنن ابن ماجه/ كتاب التجارات/ باب الحكرة والجلب/ حديث 2144.(6/36)
عن بشر بن بشير الأسلمي عن أبيه قال: لما قدم المهاجرون المدينة استنكروا الماء، وكانت لرجل من بني غفار عين يقال لها رومة، كان يبيع القربة منها بالمد، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (بعنيها بعين في الجنة) فقال: يا رسول الله! ليس لي ولا لعيالي غيرها، فبلغ ذلك عثمان فاشتراها بخمسة وثلاثين ألف درهم)(1).
مراقبة أداء أصحاب الحرف، والإشادة بالمبدعين منهم، وتوكيلهم بالأعمال.
عن قيس بن طلق عن أبيه قال: بنيت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مسجد المدينة فكان يقول: (قدموا اليمامي من الطين فإنه من أحسنكم له مسا)(2)، وزاد أحمد: (وأشدكم منكباً)(3).
التحذير من التدرب عند بعض أصحاب الحرف التي يشيع فيها الغش أو تكثر فيها النجاسة، أو تكثر فيها الخطورة.
روى الطبراني في معجمه عن جابر –رضي الله عنه- عن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: (وهبت خالتي فاختة بنت عمرو غلاما، وأمرتها أن لا تجعله جازرا ولا صائغا ولا حجاما)(4).
__________
(1) الإصابة في تمييز الصحابة 2/543.
(2) صحيح ابن حبان 3/404.
(3) مجمع الزوائد للهيثمي 2/113.
(4) المعجم الكبير للطبراني 24/439.(6/37)
وفي رواية أبي داود: (وأنا أرجو أن يبارك لها فيه، فقلت لها: لا تسلميه حجاما ولا صائغا ولا قصابا)(1).
والنهي عن هذه الحرف؛ لأن الجازر والحجام يخامران النجاسة ويباشرانها، والصائغ في صنعته الغش.
ووجه البركة في دعاء النبي –صلى الله عليه وسلم- رجاء حمايته من هؤلاء الذين ساءت أخلاقهم، وزادت خطورة أعمالهم؛ لأن في ذلك حفظاً لخلق المتدرب من فساد الأخلاق في التعامل، وحماية لبدنه من انتقال الأمراض إليه بمخالطة النجاسات.
إرشاد النبي –صلى الله عليه وسلم- للحرفيين أن لا تشغلهم حرفتهم عن طلب العلم، فكان التاجر منهم يتعلم، والمتعلم يتجر.
__________
(1) سنن أبو داود/ حديث رقم (2976).(6/38)
أورد البخاري في صحيحه باب: "التناوب في العلم" ثم ساق الحديث عن عمر –رضي الله عنه- قال: "كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد، وهي من عوالي المدينة، وكنا نتناوب النزول على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ينزل يوما وأنزل يوما، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك، فنزل صاحبي الأنصاري يوم نوبته، فضرب بابي ضربا شديدا، فقال: أثم هو؟ ففزعت فخرجت إليه، فقال: قد حدث أمر عظيم. قال: فدخلت على حفصة، فإذا هي تبكي، فقلت: طلقكن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: لا أدري، ثم دخلت على النبي -صلى الله عليه وسلم- فقلت وأنا قائم: أطلقت نساءك؟ قال (لا)، فقلت: الله أكبر"(1).
جواز احتراف النساء للمهن التي تتناسب وطبيعتهن، ومن هذه الحرف:
حرفة الماشطة:
__________
(1) صحيح البخاري/ حديث 89.(6/39)
قال ابن هشام في السيرة: "وقال ابن إسحاق في السير: لما أعرس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بصفية بنت حيي بن أخطب بخيبر أو ببعض الطريق، كانت التي جملتها لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومشطتها وأصلحت من أمرها أم سليم بنت ملحان، أم أنس بن مالك -رضي الله تعالى عنهم-، فبات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قبة له)(1).
وفي الإصابة في ترجمة الصحابية "رعلة القشيرية": أنها قالت: يا رسول الله! أني امرأة مقينة، أقين النساء وأزينهن لأزواجهن، فهل هو حوب فأثبط عنه؟ فقال لها: (يا أم رعلة! قينيهن وزينيهن إذا كسدن)(2).
وممن كانت تعمل ماشطة آمنة بنت عفان –رضي الله عنها- أخت أمير المؤمنين عثمان بن عفان –رضي الله عنه-(3).
وفي الإصابة أيضاً عن عمرو بن شعيب قال: "كنت عند سعيد بن المسيب، فقال: إن بسرة بنت صفوان، وهي إحدى خالاتي كانت ماشطة تقين النساء بمكة"(4).
__________
(1) سيرة ابن هشام 2/339.
(2) الإصابة في تمييز الصحابة 8/204.
(3) الإصابة في تمييز الصحابة 2/109.
(4) الإصابة في تمييز الصحابة 7/536.(6/40)
وجاء في الإصابة أيضاً في ترجمة أم زفر أنها كانت ماشطة خديجة(1). وذكرها الخطيب البغدادي في المبهمات: أنها المرأة التي أكرمها النبي –صلى الله عليه وسلم- وقال فيها: (إنها كانت تغشانا في زمن خديجة)(2).
حرفة التاجرة:
روى ابن ماجه أن الصحابية قيلة أم بني أنمار قالت: "يا رسول الله! إني امرأة أشتري وأبيع، فإذا أردت أن أبتاع الشيء سمت به أقل مما أريد ثم زدت ثم زدت حتى أبلغ الذي أريد وإذا أردت أن أبيع الشيء سمت به أكثر من الذي أريد، ثم وضعت حتى أبلغ الذي أريد، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لا تفعلي يا قيلة، إذا أردت أن تبتاعي شيئا فاستامي به الذي تريدين، أعطيت أو منعت، وإذا أردت أن تبيعي شيئا فاستامي به الذي تريدين، أعطيت أو منعت)(3).
ج-بيع العطر:
فقد ترجم في الإصابة لأسماء بنت مخربة فذكر أن ابنها عباس بن عبد الله بن ربيعة كان يبعث إليها من اليمن بعطر فكانت تبيعه(4).
__________
(1) الإصابة في تمييز الصحابة 8/211.
(2) الأسماء المبهمة في الأنباء المحكمة للخطيب البغدادي 1/12.
(3) سنن ابن ماجه/ حديث 2195.
(4) الإصابة في تمييز الصحابة 7/492.(6/41)
وترجم في الإصابة أيضاً للحولاء العطارة، فذكر أن أبا موسى أخرج من طريق أبي الشيخ بسنده إلى أنس أنه قال: "كانت بالمدينة امرأة عطارة تسمى حولاء بنت ثويب"(1).
وفي ترجمة مليكة والدة السائب بن الأقرع أنها كانت تبيع العطر(2).
د- دبغ الجلود:
وترجم ابن سعد في الطبقات وابن حجر في الإصابة لزينب بنت جحش أم المؤمنين –رضي الله عنها-، فذكر أنها كانت امرأة صناع اليد، فكانت تدبغ وتخرز وتتصدق به في سبيل الله.
وفي طبقات ابن سعد أيضاً عن أسماء بنت عميس قالت: "أصبحت في اليوم الذي أصيب فيه جعفر وقد هنأت [يعني: دبغت] أربعين إهاباً من أدم وعجنت عجيني، فدخل علي رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بنعي جعفر –رضي الله عنه-".
قائمة المراجع:
القرآن الكريم.
صحيح البخاري.
صحيح مسلم.
سنن أبي داود.
سنن الترمذي.
سنن النسائي.
سنن ابن ماجه.
مسند أحمد بن حنبل.
موطأ مالك.
سنن الدارمي.
المعجم الصغير للطبراني.
المعجم الأوسط للطبراني.
المعجم الكبير للطبراني.
مستدرك الحاكم.
صحيح ابن حبان
شعب الإيمان للبيهقي.
سنن البيهقي الكبرى.
مسند أبي يعلى.
__________
(1) الإصابة في تمييز الصحابة 7/592.
(2) الإصابة في تمييز الصحابة 8/124.(6/42)
كنز العمال للمتقي الهندي.
مجمع الزوائد للهيثمي.
فتح الباري لابن حجر العسقلاني.
عمدة القاري شرح صحيح البخاري لملا علي القاري.
تحفة الأحوذي شرح سسن الترمذي للمباركفوري.
عون المعبود شرح سنن أبي داود للعظيم آبادي.
مصباح الزجاجة للكناني.
حاشية السندي على ابن ماجه للسندي.
تخريج أحاديث الإحياء للعراقي.
زاد المعاد في هدي خير العباد لابن القيم.
الشمائل المحمدية للترمذي.
سيرة ابن هشام.
السيرة النبوية لابن إسحاق.
السير الكبير لمحمد بن الحسن الشيباني.
الطبقات الكبرى لابن سعد.
الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر العسقلاني.
الاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر.
معرفة الصحابة لأبي نعيم.
الأسماء المبهمة في الأنباء المحكمة للخطيب البغدادي.
تاج العروس للزبيدي.
تخريج الدلالات السمعية للخزاعي.
التراتيب الإدارية للكتاني.(6/43)
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
... الحمد لله رب العالمين الذي له ما في السماوات والأرض وهو على كل شيء قدير، والصلاة والسلام على خير مرب عرفته البشرية حتى اليوم محمد بن عبد الله الذي أرسله الله عز وجل ليبلغ الناس ما نزل عليه من السماء، فيتلو عليهم آياته ويعلمهم الكتاب وما أنعم الله عليه من الحكمة والهدى والتربية القويمة القيمة، قال الله تعالى: { هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته، ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين، وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم } "الجمعة: 2-4".
... جاءت السنة النبوية، توضح وتبين ما جاء في القرآن الكريم لقوله تبارك وتعالى: { وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم } "النحل: 44".
... وفيها بيان تشريعات وآداب أخرى سواء كانت مستنبطة من القرآن الكريم، أو بما يراه من المعاملات والأخلاق التي تستقيم عليها حياة الناس، فكان عليه الصلاة والسلام مربيا عظيما فذا.(7/1)
... ووضع النبي - صلى الله عليه وسلم - أركان التربية النبوية شاملة لكل حياة الإنسان، وكل أسباب هذه الحياة "وأقام حياة الإنسان على محور توازني ... على أن الإنسان كل يتألف من أجزاء لابد أن تأخذ قسطا من العناية وأن تتوازى فالروح والجسد والعقل والنفس ... الخ، كل هذا له قيمتة في الإسلام، وكل جزء له وظيفته التي يقوم بها، لا يجوز للجزء الآخر أن يطغى عليها"(1).
... وكان عليه الصلاة والسلام يراعي حاجات الطفولة، وطبيعتها، مهتما بالفروق الفردية فيما بين الأطفال مع الاستفادة من مواهبهم واستعداداتهم وطبائعهم.
... وفي الوقت نفسه انصب اهتمامه على ما عند الشباب من غرائز وميول ليقيمها على الواقعية والمثالية خشية الانحراف والضلال، كما أنه اهتم ببقية عناصر المجتمع المرأة والرجل على حد سواء، وعلاقة كل منهم بالله والإسلام والنفس والحياة والكون.
__________
(1) - المولوي، ( محمد سعيد ) : المربي محمد - صلى الله عليه وسلم - . الكويت: مكتبة العروبة للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية. 1409ه – 1988م. ص: 39.(7/2)
... وبذلك جعلت السنة النبوية الإنسان مدار العملية التربوية من المهد إلى اللحد. مقدمة المنهج التربوي المتسم بالتكامل والشمولية والواقعية والمثالية: من أجل تنقية الروح والنفس، والجسد وما ينجم عن ذلك من علاقات اجتماعية وإنسانية، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو الناس إلى الإيمان ويحثهم على تطبيق شريعة الله عز وجل، "لتكميل فطرتهم، وتهذيب نفوسهم شيئا فشيئا، وتوحيد نوازعهم وقلوبهم، وتوجيه طاقاتهم وحسن استغلالها للخير والسمو: طاقات العقل، وطاقات الجسم، وطاقات الروح، لتعمل معا وتتجاوب للهدف الأسمى، وبذلك يسمو الفرد وينهض المجتمع"(1).
... أجل: إنها السنة النبوية التي فيها الهدى والخير، والرأفة والرحمة، والحفظ والرعاية، وتسخير الفطرة وتسييرها إلى الهدف النبيل والمقصد السامي القويم. فكان منها جيل قوي بالإيمان والعمل الصالح، والعبادة والطاعة، والبناء والتشييد، على هدى من الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) - النحلاوي، ( عبد الرحمان ): أصول التربية الإسلامية وأساليبها..........دمشق، دار الفكر. الطبعة الثانية: 1403ه –1983م. ص:26.(7/3)
... وقد أمر الله تعالى بطاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - واتباع سنته، فقال تعالى: { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } "الحشر:7" حتى أن طاعة الرسول مقرونة بطاعة الله عز وجل: { وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون } "آل عمران: 132" وحث على الاستجابة لما يدعو، فقال سبحانه: { يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم } "الأنفال: 34". وفي الوقت نفسه حذر من مخالفة أمره فقال عز وجل: { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا } "الأحزاب: 36".(7/4)
... من هذا كله لابد لكل واحد من المسلمين من الرجوع إلى سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - في أمور الإيمان والإسلام والمعاملات والأخلاق، وأخذ ما الناس بحاجة إليه من أمور التربية والتعليم، وتوجيه العلوم التربوية والاجتماعية والإنسانية وهذا ما حث عليه في قوله: "تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنتي"(1). وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى" قالوا: يا رسول الله ومن يأبى؟ قال: "من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى"(2).
__________
(1) - رواه الحاكم وابن عبد البر عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده. انظر: جامع بيان العلم: 2/24.
(2) - أخرجه البخاري والحاكم عن أبي هريرة.(7/5)
... واستجاب الصحابة والتابعون ومن تبعهم بإحسان، إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبلغوا العلم عنه إلى من بعدهم، فكانوا روادا في العلم والحضارة الإنسانية، حيث إنهم أبدعوا في مجال التربية الروحية إيمانا ويقينا، وفي مجال التربية العلمية في علوم الطب والكيمياء والجبر والصيدلة والزراعة والطبيعة، والتشريح والضوء، والجغرافيا وغيرها ... حين كان الغرب يعيش ظلام القرون الوسطى.(1)
__________
(1) - - جلو ( الحسين جرنو محمود ): أساليب التشويق والتعزيز في القرآن الكريم. بيروت: مؤسسة الرسالة، دمشق: دار العلوم الإنسانية، الطبعة الأولى 1414ه – 1994م. ص: 16 عن: الهاشمي ( عبد الحميد): الرسول العربي المربي- دراسات نغمية وتربوية. دمشق: دار الثقافة للمجتمع، ط: 1، 1401هـ/ 1981م ص: 12.(7/6)
... إلا أنه جاءت حقبة من الزمن ابتعد فيها المسلمون عن القرآن والسنة واتبعوا المبادئ والنظريات والمناهج الغربية التي أخذ أهلها بتثبيتها في الحياة، وإقصاء وجهة النظر الإسلامية وتشويهها وإثارة الشكوك فيها وكان من نتيجة هذه السياسة "أن وجدت في العالم الإسلامي الشخصية المتناقضة في الفكر والسلوك حتى أصبح الجيل المسلم ركاما من التناقضات، ونهيا للعديد من الأفكار، واصبح غارقا في محيط النظريات والآراء، وأضحى لا لون له ولا ميزة"(1).
... وجاءت التربية الحديثة التي هي ثمرة من نظريات التعلم والتعليم الغربية، ومن الفكر الغربي الداعي للمدنية الغربية التي تقوم على أساس فصل الدين عن الحياة، وهذا يدل دلالة واضحة أن هذه النظريات والمبادئ والأفكار لا تمت إلى الإسلام بصلة مطلقا، كما أنها تتنافى مع العقيدة الإسلامية وما يتصل بها من معارف، وما ينبثق عنها من تعاليم وقيم.
__________
(1) - التميمي (عز الدين) وسمرين بدر إسماعيل: نظرات في التربية الإسلامية، عمان، دار البشير. الطبعة الأولى:1405هـ- 1985م. ص:5.(7/7)
... يقول أستاذنا "مصطفى السباعي" –رحمه الله تعالى- "فنحن في عصر اضطربت فيه النظم العالمية المتعددة، وعجزت عن إيجاد السلام والرخاء لشعوب العالم، ومهما يكن في قادة الأمم المسيطرة من عيوب أدت إلى هذا الاضطراب، فإن الذي لا ريب فيه عندنا أن الأسباب المباشرة لشقاء العالم هي تلك النظم التي لم تثبت حتى الآن صلاحها لحل مشاكل الإنسانية على وجه يريحها من الحروب والمنازعات، ويبعدها عن جو القلق الذي نعيش به في أعقاب الحروب العالمية الدامية، بعد أن كانت تعيش خلال الحروب في جو قاتم من الدماء والدمار والخراب"(1).
__________
(1) - السباعي، ( مصطفى): السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، دمشق، دار الوراق، الطبعة الثانية: 1423هـ-2003م. ص: 11.(7/8)
... إذن: فالأمة خاصة، والعالم الإسلامي عامة بحاجة إلى البحث عن السبيل والوسائل والطرائق لضبط السلوك، وتوجيه العلوم نحو العلم والمعرفة والتربية الهادفة الرشيدة، وسبيل ذلك مصادر التشريع الإسلامي التي فتحت أمام العالم آفاقا ومجالات للعلم والمعرفة التي كان لها الفضل في بناء الحضارة الإنسانية المتكاملة التي ما تزال معالمها بارزة في كل ميدان من ميادين العلوم التربوية والتطبيقية والاجتماعية والإنسانية، فإن وفقنا في حمل مشعلها الوضاء أعدنا للحياة السعيدة مكانها بين المسلمين وغيرهم.(7/9)
... "ومصادر التشريع الإسلامي معروفة لدى المسلمين موثوقة محفوظة، ولا شك في أن السنة المطهرة، وهي ثانية هذه المصادر، أوسعها فروعا، وأحفلها نظما، وأرحبها صدرا، إذ كان كتاب الله الكريم متضمنا للقواعد العامة في التشريع وللأحكام الكلية في الغالب، مما جعله خالدا خلود الحق، بيد أن السنة الكريمة عنيت بشرح هذه القواعد، وتثبيت تلك النظم، وتفريع الجزئيات على الكليات، مما يعرفه كل من درس السنة دراسة وافية، ومن ثم لم يكن للمشرعين من علماء الإسلام مندوحة من الاعتماد على السنة، واللجوء إليها والعناية بها والاسترشاد بأحكامها المنصوصة على أحكام الحوادث الطارئة".(1)
... من أجل ذلك جاء هذا البحث ليبين دور التربية النبوية وآثارها في توجيه العلوم من خلال ما تهدف إليه إلى تنشئة الأجيال الحاضرة والقادمة على قيم الإسلام وتعاليمه التي لم تكتف بالنظر إلى ضبط السلوك الإنساني وتوجيهه كما جاء في نظريات التعلم الغربية.
وسيقتصر البحث على ما في السنة النبوية من مبادئ وأهداف، وطرائق وغايات تدعم بعضها البعض في تشكيل السلوك وتوجيهه وضبطه، فجاء في ثلاثة مطالب هي:
__________
(1) - المرجع نفسه، ص: 12.(7/10)
المطلب الأول: ضبط السلوك وتوجيهه بين نظريات التعلم والسنة النبوية.
المطلب الثاني: خصائص التربية الإسلامية (النبوية) وأهدافها.
المطلب الثالث: ميادين التربية النبوية وطرائقها.
... المطلب الأول: ضبط السلوك وتوجيهه بين نظريات التعلم والسنة النبوية
... تحتاج دراسة الأسس والوسائل التي يتوصل بها الإنسان إلى عملية التعلم من معرفة المصطلحات الآتية:
... أولا/ العلم(1): هو جمع المعرفة والمعلومات حول ظاهرة ما بطرق موضوعية تقوم على الملاحظة العلمية والتجريب، بهدف تفسيرها والتنبؤ بها وضبطها. فالعلم هو بمثابة مجموعة من المعارف تعتمد في تحصيلها على منهج علمي موضوعي ويهدف إلى تحقيق ثلاثة أهداف هي:
الفهم: ويتمثل في محاولة تفسير الظواهر وتحديد أسبابها الحقيقية والعوامل المؤثرة فيها.
التنبؤ: ويعني توقع حدوث الظاهرة في ضوء بروز بعض المؤشرات الدالة عليها مثل أسبابها أو عواملها.
الضبط: ويشير إلى إمكانية التحكم بالظاهرة وتوجيهها من خلال التحكم بأسبابها وعواملها.
__________
(1) - الزغول ( عماد) : نظريات التعلم، عمان، الأردن: دار الشروق. الطبعة العربية الأولى: 2003م. ص: 17.(7/11)
ثانيا/ التعلم، مفهومه وخصائصه وأهميته(1): التعلم سمة وقدرة يتميز بها الكائن البشري عن كافة المخلوقات الأخرى، فهو يشتمل على الأنماط السلوكية البسيطة والمعقدة منها، ويتجلى في مظاهر سلوكية متعددة عقلية واجتماعية وانفعالية ولغوية وحركية، تتمثل في التغير في الأنماط السلوكية وفي الخبرات، ويستدل عليها من خلال السلوك الخارجي القابل للملاحظة والقياس.
... إذن:
عرف علماء النفس التعلم بدلالة السلوك الخارجي نتيجة:
الخبرة (كرونباخ: 1977).
النشاط أو التدريب أو الملاحظة (كلوزماير).
الخبرة الناجحة (كلين: 1978).
وعرفه آخرون بدلالة القدرات أو العمليات المعرفية (بياجيه) أو تغير في قابليات الأفراد التي تمكنهم من القيام بأداء معين (جانية) أو التغير في التبصر والسلوك والأداء والدافعية أو مجموعة منها (بيجي).
فالتعليم هو: "العملية الحيوية الديناميكية التي تتجلى في جميع التغيرات الثابتة نسبيا في الأنماط السلوكية والعمليات المعرفية التي تحدث لدى الأفراد نتيجة لتفاعلهم مع البيئة المادية والاجتماعية".
__________
(1) - المرجع نفسه. ص: 28 وما بعدها.(7/12)
ونظرا لأهميته في حياة الأفراد والمجتمعات، فقد نال اهتماما من العديد من الفلاسفة والمفكرين منذ القدم حيث قدموا لذلك تفسيرات مختلفة لهذه العملية فمنهم من اعتبره بمنشأ فطري (أفلاطون) وآخرون بمنشأ بيئي (أرسطو).
إلا أن ما جاء به أولئك الفلاسفة وعلماء النفس لم يكونوا السابقين المبدعين بل سبقتهم السنة النبوية إلى ذلك، بدليل قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه"(1). فهذا الحديث يشتمل على المنشأ الفطري، فالولد منذ خلقته مفطور على التوحيد الخالص، والدين القيم والإيمان بالله تعالى. قال تعالى: { فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله، ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون } .
كما يشمل على المنشأ البيئي حيث يبدأ التعلم بمسؤولية الوالدين على تنشئة الأولاد على عقيدة الإيمان والإسلام، فهذه هي التربية المنزلية.
__________
(1) - رواه البخاري.(7/13)
وقال عليه الصلاة والسلام: "مثل الجليس الصالح والجليس السوء كمثل حامل المسك، ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك (يعطيك) أو تشتري منه، أو تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، أو تجد منه ريحا منتنة"(1) كما حذر من قرين السوء فعنه - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه ابن عساكر: "إياك وقرين السوء فإنك به تعرف"، وفي ذلك صورة أخرى من السنة النبوية المؤكدة على أثر المنشأ البيئي في التربية والتعلم.
ومن الجدير بالذكر أن الاهتمام بموضوع التعلم لا يقتصر على المجالات التربوية فحسب، بل يتعدى ذلك ليشمل كافة المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
ومن خصائص التعلم:
هو عملية تنطوي على اكتساب سلوك أو خبرة أو التخلي عنها أو تعديلها.
وهو عملية تحدث نتيجة لتفاعل الفرد مع البيئة ماديا واجتماعيا.
وهو عملية لا ترتبط بزمان أو مكان محدد، فهي تبدأ منذ الولادة وتستمر طيلة حياة الإنسان غير مرتبطة بوقت من الأوقات، ولا بمكان محدد كمؤسسة تربوية معينة، فالبيئات التعليمية متعددة ومتنوعة.
وهو عملية تراكمية تدريجية من جراء تفاعل الفرد مع المثيرات والمواقف المتعددة.
__________
(1) - رواه البخاري ومسلم.(7/14)
وهو عملية شاملة لكافة السلوكات والخبرات المرغوبة وغير المرغوبة.
وهو عملية قد تكون مقصودة أو غير مقصودة فتحدث على نحو تلقائي.
وهو عملية مرتبطة بجميع المتغيرات الثابتة نسبيا بفعل عوامل الخبرة والتدريب.
وهو عملية متعددة المظاهر لأنها تتضمن كافة التغيرات السلوكية في المظاهر العقلية والانفعالية والاجتماعية والحركية واللغوية والأخلاقية.
وبهذا يكتسب الفرد العادات والقيم وقواعد السلوك العام، وفي الوقت نفسه يطور ما لديه من وسائل وأساليب(1).
ولهذا قام العلماء والدارسون ببيان طبيعة التعلم ومعرفة آلياته والوقوف على الشروط المؤثرة فيه إيجابا وسلبا وراء الوصول إلى قوانينه الخاصة. وقد انقسموا حيال دراسة مظاهره إلى اتجاهات وتيارات تبلورت على شكل ما يعرف باسم نظريات التعلم.
وفيما يلي تعريف بالنظرية:
مفهوم النظرية(2):
__________
(1) - امزيد من الإطلاع انظر، محمود ( إبراهيم وجيه): التعلم أسسه ونظرياته وتطبيقاته الإسكندرية، دار المعرفة الجامعية.1224هـ - 2002م. ص: 11 وما بعدها.
(2) - الزغول: المرجع السابق. ص: 19.(7/15)
نظرا لفروع العلوم المختلفة فقد تنوعت النظريات التي تقدم تفسيرات وتوضيحات للظواهر والأحداث التي تتناولها، وتتباين النظريات باختلاف الهدف منها كالنظريات الوصفية أو التحليلية، أو المعيارية أو العلمية ...
والنظرية بالمفهوم العام: "هي مجموعة من القواعد والقوانين التي ترتبط بظاهرة ما بحيث ينتج عن هذه القوانين مجموعة من المفاهيم والافتراضات والعمليات التي يتصل بعضها ببعض لتؤلف نظرة منظمة ومتكاملة حول تلك الظاهرة، ويمكن أن تستخدم في تفسيرها والتنبؤ بها في المواقف المختلفة"(1).وللنظرية عدد من الخصائص هي:
هي وسيلة وغاية في الوقت نفسه.
هي مسألة نسبية حيث لا توجد نظرية مطلقة.
تحدد قيمتها من خلال الاختبار العملي لا البرهان الجدلي وذلك من حيث: الأهمية والدقة والوضوح والبساطة والنفعية والصدق التجريبي.
يبدو الهدف الأساسي للنظرية في توليد المعرفة ممثلا في صياغة القوانين والمبادئ العلمية الثابتة القابلة للتطبيق العلمي.
نظريات التعلم:
__________
(1) - المرجع نفسه. ص20. ولها تعاريف أخرى لعدد من العلماء.(7/16)
... عكف العلماء على دراسة نظريات التعلم فظهرت عديدة ومختلفة من حيث نظرتها لجوهره والشروط الخاصة به، فقسموها إلى زمرتين رئيستين هما:
... الترابطية والمعرفية:
... أولا- الربطية القديمة: لدراسة التعلم تاريخ طويل ابتداء من تصور (أرسطو) للتعلم، بأنه عملية ربط أو اقتران، والفكرة الرئيسية عنده هي أن المعرفة والعقل يتكونان من احساسات إنسانية تتشابك معا عن طريق الترابط، ولا تتوافر لدى الكائنات أي معرفة فطرية فهي تولد وعقولها صفحة بيضاء تخط عليها البيئة ما تشاء، ويتم وفقا لقوانين الربط أو الاقتران أو التجاور الزماني أو المكاني.
... ثانيا- الربطية الجديدة: المثير والاستجابة: ترى نظرية المثير والاستجابة أن السلوك يتكون أساسا من المثيرات والاستجابات، وأن التعلم هو عملية الربط بين المثيرات والاستجابات، بحيث إذا ظهر المثير الذي ارتبط باستجابة معينة مرة أخرى فإن الاستجابة التي ارتبطت به سوف تظهر هي الأخرى، كتعلم الطفل اللغة عن طريق تكوين ارتباطات بين الألفاظ والأشياء التي ترمز لها هذه الألفاظ.(7/17)
... وترى هذه النظرية أن الارتباطات هي الوحدات الأساسية والأولية للسلوك وأن السلوك المتعلم ما هو إلا مجموعة أو تنظيم معين من الارتباطات.
... ولهذه النظرية بضعة اتجاهات تتعاون من حيث القيمة التي تطرح للعوامل المسؤولة عن أحداث عملية الربط، وهذه الاتجاهات تتمثل في نظرية بافلوف عن الفعل المنعكس الشرطي، والنظرية السلوكية القديمة والجديدة.
... ثالثا- المعرفية: وهي التي تهتم بالعمليات التي تحدث داخل الفرد مثل: التفكير والتخطيط واتخاذ القرارات والتوقعات اكثر من الاهتمام بالمظاهر الخارجية للسلوك، وتضم الجشطلتيه (التعلم بالاستبصاء) ونظرية النمو المعرفي "سياجيه" التي يطلق عليها اسم "النظرية البنائية" التي انصب اهتمام منظرها على مسألتين هما:
كيف يدرك الطفل هذا العالم والطريقة التي يفكر من خلالها بهذا العالم؟
كيف يتغير إدراك الطفل وتفكيره بهذا العالم من مرحلة عمرية إلى مرحلة أخرى وكل ذلك يرتبط بعدد من العوامل هي: (النضج، التفاعل مع العالم المادي، التفاعل مع العالم الاجتماعي، عملية التوازن التي تأخذ دورا هاما في النمو العقلي).(7/18)
ولدى مقارنة النظريتين (البنائية والسلوكية) يتبين أن كليهما يتمتع بتطبيقات جيدة في التربية، مما دفع السيكولوجيين والتربويين في تطوير وتحسين التعلم، ولسوف يقتصر هذا البحث في الاطلاع على أهم مبادئ النظرية السلوكية الإجرائية (لسكنر) لما لها من تأثير كبير في النظرية السلوكية للتدريس من حيث النظر إلى أهداف التعليم والخبرات وطرائق التدريس من نواح مختلفة، وهذه النظرية تهتم بالسلوك الظاهر للمتعلم، وبذلك يتجلى دور المعلم في تهيئة بيئة التعلم لتشجيع الطلاب لتعلم السلوك المرغوب.
... وسنرى عند دراسة التربية النبوية أنها تأخذ بما جاءت به هذه النظرية فيما يتعلق بالسلوك إلى جانب ما نظرت إليه النظرية البنائية حيث تهيئ بيئة التعلم لتجعل الطالب يبني معرفته(1).
المبادئ الأساسية لنظرية سنكر( التعلم الشرطي الإجرائي )
... اهتم سكنر بدراسة الظاهرة السلوكية من خلال دراسة السلوك نفسه ووجَّه عنايته للعلاقة بين المثيرات والاستجابات، وهو ينتمي إلى مدرسةّ ثور نديك فهو ربطي مثله، ويهتم بالتعزيز كعامل أساسي في عملية التعلم.
__________
(1) - انظر المقبل ( عبد الله بن صالح ): النظرية البنائية والنظرية السلوكية وموقع الانترنيت.(7/19)
... " ولذلك تحددت مفاهيم سكنر بحدود الملاحظات المباشرة بحيث تعطي وصفا للوقائع كما تحدث، وللملاحظات المشاهدة، ولا تستمد معناها من مجالات أخرى لا ترتبط بها، فالعلم عنده من هذه الملاحظات، ويهدف إلى الكشف عن العلافات التي ترتبط بين الوقائع المشاهدة ليخرج منها بوصف بسيط مناسب أو بقاعدة أو قانون يفسر الوقائع أو الظاهرة موضوع الدراسة.
... وهو عن هذا الطريق ينهج المنهج العلمي الوصفي الذي تسير وفقا له العلوم الطبيعية والتي حققت معظم نتائجها وقوانينها من خلاله(1)".
... ويرى أن تشكيل سلوك المتعلم يتم وفق خطوات ثلاث(2) هي:
أ- تحديد العناصر السلوكية السليمة وغير السليمة بوضوح وبطريقة إجرائية خاضعة للملاحظة والقياس.
ب-تحديد المعززات الفعالة في معالجة مواقف التعلم المشابهة أو مواقف تعديل التعلم.
جـ- توظيف الأساليب والقواعد التي تضمن لكل تلميذ أن يحصل على التعزيز المناسب حين يظهر تقدما في أداء السلوك المراد تشكيله أو تعديله.
__________
(1) - محمود ( إبراهيم وجيه ): التعلم المرجع السابق ص183.
(2) - مركز النجبلي وخليل ( ناجي ): نظريات التعلم بتعازي، جامعة خان يونس. الطبعة الثانية 1996.ص145.(7/20)
... ويبين أن التعزيز نوعان: تعزيز إيجابي وتعزيز سلبي، وهو ما أطلق عليه بـ"المثيرات البعدية التعزيزية والمثيرات البعدية العقابية".
... فالتعزيز الإيجابي: يقوّي ويثبت سلوك المتعلم، ويكون في عدة أنواع:
مادية: تتمثل بالطعام والحلوى والمكافآت النقدية.
اجتماعية: وتتمثل في المديح والإطراء والثناء والابتسامة..........
رمزية: وتتمثل في العلاقات والرموز والصور والقصص وشهادات التقدير.
... والتعزيز السلبي: وهو ما يؤدي إلى الكف عن السلوك غير المرغوب فيه ويتمثل عادة في العقاب كالزجر أو التوبيخ، حيث تكون مادية واجتماعية ورمزية وهناك بدائل عن العقاب يرى بعضهم أنها تغني عن العقاب، وقد تغني عن الثواب ويرى البعض الآخر أنها لا تغني عن العقاب، ولكنها تخفف من استخدامه أو وقوعه، وذلك عن طريق منعها أو تقليلها لدواعيه، وهي تضم الأساليب التالية:
- التساهل أو طريقة الحرية، فهي توفر الجهد المبذول في الإشراف والمراقبة وتطبيق القوانين.
- القبالة وهي إحدى طرق تعديل السلوك دون الظهور بمظهر من يمارس التحكم.
- الإرشاد بمعنى البستنة أي توجيه سلوك الطفل كالعناية بالنبتة الصغيرة.(7/21)
- الاعتماد عن الأشياء، فيمكن للطفل أن يتعلم عن الأشياء، من الأشياء نفسها.
الاعتراف بالمسؤولية الاجتماعية شرطا ضروريا للتحسن في التربية الأخلاقية لأنها نتيجة تفاعل الفرد مع بيئته الاجتماعية.
وذكر طائفة أخرى من البدائل أهمها مراعاة الفروق الفردية، واغتنام الفرص، والترويح، والتدرج في التوجيه. وهذه الطائفة هي التي اهتمت بها التربية النبوية.
وهذه التقنية في تعديل السلوك يمكن تطبيقها على كل من المعلم والمتعلم على حد سواء، لكل مشكلات التعلم في الفصل الدراسي. حيث تكلم فيما بعد عن التعليم الذاتي المفيد في تحسين العملية التعليمية وتقدمها.
ويؤكد الباحث في هذا المقام على مكانة السنة النبوية ( التربية النبوية ) وأهميتها في ضبط السلوك وتوجيهه.
الثواب والعقاب في التربية النبوية:
"فطر الله عز وجل الإنسان على الرغبة في اللَذة والنعيم والرفاهية وحسن البقاء، والرهبة من الألم والشقاء وسوء المصير، والكائنات الحية – تقريبا- تبتعد عما يؤذيها حال شعورها به، وتقبل على ما يلدها ويحقق استمرار الحياة لها أو لجنسها.(7/22)
... وميز الله تعالى الإنسان بالقدرة على التعلم والاعتبار والتفكير لما بعد الفترة التي يعيشها، والعمل والتحضير للمستقبل، والتمييز من الضار والنافع والاختيار بينهما، آجلا حينا آخر"(1). مثال ذلك الرغبة في الزواج منذ البلوغ، فالمجتمع كالوالدين والأصدقاء والأقارب يرغبون الشاب بزواج هانئ مستقر إن هو صبر ونال الشهادات والقدرة على الكسب، كما يرهبونه من النتائج الوخيمة إن هو اقترف لذة غير مشروعة أو تسرع في زواج غير مناسب ولا ملائم. وينطبق على هذا المثل ربط الأفعال الأخرى كالطعام والأمر بالمعروف...الخ بالثواب والعقاب.
... إذن: كل عمل ليكون ناجحا ينبغي ارتباطه بفكرة الثواب والعقاب والمنفعة والفائدة. وما قامت الشرائع والقوانين والأنظمة السماوية منها والوضعية إلا وكانت فكرة الثواب والعقاب عمادا أساسيا لها"(2).وذلك من اجل ضبط السلوك والترغيب في المتابعة.
__________
(1) - النحلاوي: المرجع السابق. ص286 بتصرف.
(2) - المولوي: المرجع السابق.ص: 46.(7/23)
... "والإنسان ما يزال يحتاج إلى ما يشوقه ( تعزيز إيجابي ) للقيام بما يطلب منه سواء أكان ذلك مما يعود عليه هو بالنفع مباشرة أم لا، كما أنه بحاجة إلى ما يعزز سلوكه واستجاباته، بغض النظر عن كون هذا المعزز أو ذلك الشوق ذاتيا أو خارجيا.
... ثم إن المجتمع ما يزال بحاجة إلى ما يكف اليد التي تتعرض لمصالحه، والى ما يضمن له الأمن والاستقرار، الأمر الذي يوحي بأن الصواب قد يكمن في التوفيق بين الحوافز الذاتية والخارجية بحيث يدعم بعضهما بعضا في ضبط السلوك، ثم في التوفيق قدر الإمكان بين مصلحة الفرد ومصلحة المجتمع بحيث يخدم بعضهما بعضا عدلا وإحسانا(1)". فالفرد يثاب إذا أطاع وعمل صالحا، ويعاقب إذا اعتدى وظلم.
وإذا كان سنكر بين خطوات تشكيل السلوك – كما ذكرنا سابقا، فإننا نجد أن سلوك الإنسان الاجتماعي في الإسلام مراقب من عدة نواح، أهمها:
- سلوكه بحد ذاته: مرغوب فيه أم لا؟
- طريقة سعيه لمصلحته: إيجابية أم سلبية؟
... - نتيجة سلوكه: نجاح أم فشل؟
__________
(1) - جلو: المرجع السابق.ص14.(7/24)
وبالتالي، فلفكرة الثواب والعقاب أهمية كبيرة في ضبط السلوك وتوجيهه لما في الثواب من أثر في الاستجابة المثابة سريانا إيجابيا، ولما في العقاب من جدوى في تعديل السلوك، إلا أنه لا بد من أن يكون العقاب معتدلا معقولا خشية الوقوع في أخطاء. فأسلوب الترغيب والترهيب لا يمكن الاستغناء عنه في كل زمان ومكان. وهذا ما اتجه إليه المسلمون في التربية الإسلامية التي تلقوها عن الكتاب والسنة النبوية.
... وللترغيب والترهيب مميزات في السنة النبوية أهمها:
1- الإقناع والبرهان: وعلى الأخص في تربية الإيمان وغرس العقيدة الصحيحة في نفوس الأطفال، فيرغبون بالجنة ويرهبون من عذاب الله تعالى، فيعطيهم ثمرة سلوكية في الحياة.
2- التصوير الفني الرائع لنعيم الجنة أو لعذاب جهنم بأسلوب واضح يفهمه الجميع: مثال ذلك قصة الشفاعة يوم القيامة وغيرها من القصص النبوية عن مواقف القيامة.(7/25)
3- الاهتمام بتربية العواطف الربانية: كعاطفة الخوف من الله تعالى التي لها أثر كبير بالسلوك الإيجابي، في العبادات والمعاملات والأخلاق، وكذا عاطفة الرهبة والخشية والخشوع. لأن في العواطف قوى دافعة للسلوك، مغذية للطاقات البشرية بحيث تهيمن وتنظم وتسمو بالدوافع الغريزية عند المؤمن
وبالإضافة إلى ذلك الميل إلى الجنة، والأمل والرجاء في رحمة الله تعالى وثوابه وهذا ما أخذ بين المؤمنين إلى المضي قدما في سبيل الله تعالى، كما فعل ذلك الصحابي الذي ألقى بالتمرات التي بين يديه وقال: بخ بخ، هل بيني وبين الجنة إلا أن أقاتل في سبيل الله؟ ومضى مجاهدا الأعداء حتى استشهد.(7/26)
4- الموازنة بين ضبط الانفعالات والعواطف: حتى لا يطغى الخوف على الرجاء فيقنط المذنب من عفو الله تعالى، مع أن النهي عن اليأس والقنوط واضح في الشريعة الإسلامية، وحتى لا يطفى الفرح بزوال الشدة فينسى الإنسان عقاب الله تعالى وقدرته، فلهذا يتطلب الأمر الموازنة بينهما. فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: { لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنته أحد، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من جنته أحد } (1) ونستعرض فيما يأتي أهم بدائل العقاب في التربية النبوية:
أولا: مراعاة الفروق الفردية:
__________
(1) - رواه مسلم ( 2755) وأخرجه أحمد:2/334 عن رياض الصالحين بيروت. مؤسسة الرسالة. الطبعة الثالثة 1420ه – 1999م. ص: 168(7/27)
الناس على درجات في الفهم والوعي وحسن الإدراك ومعرفة المقصود من الكلام، فكل فرد من الأفراد يتميز عن غيره بصفات خلقية و خلقية ومدارك عقلية، وميول مزاجية، ولذا بات من الواجب على المربي والداعية مراعاة كل فرد وفق ما يملك من صفات ليستفيد الجميع، دون أن يفسح المجال لوجود الطبقات في المجلس الواحد الذي يؤدي إلى الفشل تارة، وفقد الثقة، وضياع الدرس، وهذا يتطلب الأسلوب الصالح لجميع الأفراد، والتنوع في أساليب العرض(1)، كالطبيب بالنسبة للمرضى فانه يعطي لكل واحد منهم العلاج المناسب لمرضه، ولا يعطي علاجا واحدا للجميع، فانه فعل ذلك سبب لهم الأضرار فكذلك الشيخ لو أشار على المريدين ( التلاميذ) بنمط واحد من الرياضة (أو التعلم) أهلكهم وأمات قلوبهم، بل ينبغي أن ينظر في مرض المريد وفي حاله وسنه ومزاجه وما تحتمله بنيته من الرياضة، ويبني على ذلك رياضته أو تعليمه وتوجيهه(2).
__________
(1) -انظر، الزحيلي ( محمد مصطفى ) طرق تدريس التربية الاسلامية، دمشق، دار المعارف للطباعة، الطبعة الخامسة، 1411ه- 1991م. ص: 268، 269
(2) - جلو: المرجع السابق.ص: 105 عن إحياء علوم الدين للغزالي، 3/61 و72، 74.(7/28)
... وقد وضع النبي- صلى الله عليه وسلم - أصول هذا الاتجاه، فكان عليه الصلاة والسلام يخاطب الناس على قدر عقولهم، ويرعى الناس حسب قوة إدراكهم، ويرفق بالضعيف والجاهل والأعرابي، ويعطي كل فرد ما يناسبه من الأحكام والمواعظ والسيرة العطرة مملوءة بالأمثلة، حيث قال: نحن معشر الأنبياء أمرنا أن نحدث الناس على قدر عقولهم(1).
__________
(1) -انظر العجلوني: كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس، والحديث روي مرسلا عن سعيد بن المسيب، كما روى بعده طرق وبألفاظ مختلفة معظمها ضعيف، ألا أنه له ما يؤديه في الصحيحين، فقد رواه البخاري موقوفا عن علي كرم الله وجهه بلفظ: ( حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله ).(7/29)
وكان "علي" كرم الله وجهه يوصي العلماء بقوله: "حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟" وقد علق البخاري على ذلك بقوله أن في ذلك دعوة لمراعاة مستوى فهم المتعلم فلا يعطى ما يصعب عليه استيعابه(1) ويروى عن ابن مسعود قوله: "ما حدثت قوما حديثا قط لم تبلغه عقولهم إلا كان فتنة على بعضهم". وفي هذا تأكيد على ألا يلقى على المتعلم إلا ما يتأهل له، لأن ذلك يبدد ذهنه ويغرق فهمه.
... ثانيا- التدرج والتنويع في التعليم:
__________
(1) - الكيلاني: (ماجد عرسان): تطور مفهوم النظرية التربوية الإسلامية، دمشق: دار ابن كثير، المدينة المنورة، مكتبة دار التراث الطبعة الثالثة: 1407هـ/ 1987م. ص: 78.(7/30)
أ- للتدرج صلة وثيقة بمراعاة الفروق الفردية، بدليل أن القرآن الكريم نزل منجما، وكانت أحكام الشريعة تنزل على المسلمين بالتدريج، فكانت الفرائض تأتي متدرجة، والمحرمات تأتي درجة درجة، مثل تحريم الخمر، وعقوبة الزنى، وفرض الصلاة و... قال تعالى: { وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا } "الإسراء: 106" وقال سبحانه: { وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة، كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا } "الفرقان: 32".
وأكد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا المبدأ التربوي في التعليم عندما بعث معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه إلى اليمن، وقال له: "أخبرهم أن الله فرض عليهم في اليوم والليلة خمس صلوات، فإن فعلوها، فأخبرهم بالصوم ... فإن فعلوه فأخبرهم بالزكاة ... فإن فعلوها ... فأخبرهم بالحج"، وأشارت السيدة "عائشة" رضي الله تعالى عنها إلى مبدأ التدرج في الأحكام، فقالت:" إنما نزل أول ما نزل منه (القرآن) سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا لا ندع الخمر أبدا ..."(7/31)
وظل الرسول - صلى الله عليه وسلم - محافظا على هذه الفكرة حتى انتقل إلى الرفيق الأعلى.
وعملا بسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - طبق علماء التربية المسلمون هذا المبدأ "التدرج في التعليم ومراعاة عقل الطفل أو المتعلم وقدرته على الفهم" كما فعل الغزالي في فلسفته التربوية.
وهذا المبدأ التربوي الذي جاء به الإسلام، سار عليه علماء التربية الحديثة في العالم.
ب- وللتنويع والتغيير في العلوم والمعلومات، والانتقال من فرع إلى فرع، له أثره الكبير في التربية، لأن النفوس تسأم التكرار وتحب التغيير والتنويع، ويتسرب إليها الملل في الأسلوب الواحد.
روى عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتخولنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا"(1).
ثالثا- اغتنام الفرص والمناسبات:
__________
(1) - رواه البخاري في صحيحه، ومسلم والترمذي(7/32)
لاغتنام الفرص اثر إيجابي في تحقيق الأهداف التربوية، وربط التعليم النظري بالواقع والحياة، وهو نوع من وسائل التنويع الذي يبعد السآمة والملل، أو يخفف منهما، إذ أن "من العوامل المساعدة على التعلم اختيار الوقت وتحين الساعات الملائمة"(1)، لمعالجة المشكلات التي يعاني منها الناس "وإن المناسبات والأحداث تكون عند السامع انتباها خاصا، واستعدادا ذاتيا، وتلهفا وحب استطلاع للنتيجة أو لنصيحة أو لمعرفة الخطأ والاستدلال للصواب، والحادثة أو المناسبة توفر الجو الكامل للموضوع، وتصبح التربة خصبة للزرع والحرث، سواء أكانت الحادثة مسرة أو مؤلمة، وسواء أكانت المشكلة تريد الحل أم تصحيح المفهوم والطريقة، أم كانت جريمة في مجتمع أم مصيبة في عائلة أو فرد، فتختلج النفس بالعذاب أو الندم أو الاضطراب، وتتفتح لقبول التوجيه والوعظ والتعليم والتربية"(2).
__________
(1) - جلو: المرجع السابق، ص: 107 عن آداب المتعلمين، المحقق عطار، ص: 25.
(2) - الزحيلي: المرجع السابق: ص: 252، 253.(7/33)
وهذا المبدأ قوي ظاهر في القرآن والسنة إذ به تكون الأحكام أقرب إلى الفهم وأدعى إلى التطبيق والالتزام والتنفيذ، ونستدل على ذلك مما في السنة قول النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كره السؤال بدون مناسبة، فقال: "إن الله كره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال"(1).
وكانت لهذه التربية النبوية أكبر الأثر في حياة الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء التربية المسلمين وغيرهم في التربية الحديثة اليوم.
رابعا- الترويح واللعب
__________
(1) - رواه البخاري ومسلم عن المغيرة بن شعبة.(7/34)
تتجمع الشحنات المختلفة في النفس والجسم، وعندها ينبغي تفريغها في عمل إيجابي لتعمل وتبني لا لتهدم، فإن اختزانها لمدة طويلة بلا غاية عملية مضرة بكيان الإنسان، وقد تسبب له أمراضا نفسية، فلتصرف بشكل طبيعي موجه بالسبل المأذون بها شرعا، وهذا ما أشارت إليه السنة النبوية ومن ذلك الترويح عن النفس باللعب ... ولا ريب فإن الترويح عن النفس إنما هو راحة للجسم، والراحة حاجة من حاجاته يحتاج إليها، وفطرة فطر الله الناس عليها. والتربية النبوية جاءت مؤيدة لهذا الحق داعية إلى هذه الفطرة طالبة من الإنسان أن يرتاح ولو كان في هذا ترك لعبادة يتنفل بها الإنسان:
ففي الحديث المتفق عليه، عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: دخل النبي- صلى الله عليه وسلم - المسجد، فإذا حبل ممدود بين الساريتين فقال: "ما هذا الحبل؟ قالوا: هذا حبل لزينب فإذا فترت تعلقت به، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: حلوه، ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليرقد".
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا نعس أحدكم وهو يصلي فليرقد حتى يذهب عنه النوم فإذا صلى وهو ناعس لا يدري لعله يذهب يستغفر فيسب نفسه" "متفق عليه"(7/35)
ويرى الغزالي: "أنه ينبغي أن يؤذن له (الصبي) بعد الانصراف من الكتاب أن يلعب لعبا جميلا، ليستريح إليه من تعب المكتب، بحيث لا يتعب في اللعب، فإن منع الصبي من اللعب وإرهاقه بالتعليم دائما يميت قلبه ويبطل ذكاءه، وينغص عليه العيش حتى يطلب الحيلة من الخلاص منه رأسا"(1). فالغاية من اللعب عند الغزالي هي الترويح عن الطفل بعد عناء الدرس. وقد اشترط له شروطا ينبغي مراعاتها عندئذ.
خامسا- الزجر بالتعريض، والتنبيه بلطف:
عند مخاطبة الفرد، فإن الخطاب موجه إلى النفس الإنسانية، التي تختلف طبائعها بين فرد وآخر، ولذلك عندما يقترف طفل ذنبا أو يرتكب خطيئة، عندئذ يتم توجيه العقاب بأسلوب وقائي سمته اللطف والحذر بآن واحدا معا عن طريق التعريض ما أمكن لا التصريح الفاضح أمام الآخرين لأن التصريح في هذه الحالة يهتك حجاب الهيبة، ولربما يؤدي إلى رد الفعل الضار، ويدخل في هذا المبدأ "خاطبوا الناس على قدر عقولهم"، وهو من المبادئ السامية التي ذكرت في التربية النبوية.
__________
(1) - جلو: المرجع السابق، ص: 108 عن الغزالي: إحياء علوم الدين طبعة بيروت، دار المعرفة 3/62.(7/36)
فهذه البدائل تساعد إلى حد كبير في منع وقوع العقاب، وتقليل الحاجة إلى الحوافز المالية أو الجوائز والمكافآت المادية، فإذا لم تصلح المخطئ أو المخالف أو الخارج عن السلوك القويم هذه المبادئ البديلة عن العقاب، عندها لابد من العقاب، فإن من لم تصلحه الكرامة أصلحه الهوان، وعندها ينبغي التدرج فيه.
والعقاب يبدأ من النظرة العامة ثم الإشارة ثم التوجيه والتنبيه ثم الإعراض عنه، ثم التوبيخ والطرد والضرب والفصل من الصف والمدرسة.
وبالرجوع إلى القرآن الكريم والسنة النبوية نجد ملامح التوجيه للعلوم التربوية من خلال خصائص السنة النبوية التي تتجلى في التربية النبوية في المطلب الآتي:
المطلب الثاني- خصائص التربية النبوية وأهدافها:
يعني مفهوم التربية في الإسلام، إعداد الإنسان الصالح في الحياة، وهذه التربية مستمرة من الولادة حتى الوفاة على الامتداد الأفقي، وهي تربية كاملة متوازنة، نفسية بالإيمان، وعقلية بالمعرفة، وجسمانية بالرياضة، وهي جامعة من حيث أنها تغرس القيم الخلقية والاجتماعية التي تحمي الإنسان من أخطار الاضطراب والتمزق، وتربي في الإنسان الإرادة الحقه حبا للناس وإيثارا وبعدا عن الأنانية وتجنبا للرذائل.(7/37)
وهي تربية إيجابية جمعت بين النظر والتطبيق مع توفير أساليب تربوية حديثة تجذب الانتباه، وتحث على المتابعة، كما أنها تجمع بين الترفيه وتحقيق الأهداف التربوية سواء كان ذلك في ميدان التربية النظامية أو غير النظامية.
"هذا والجمع بين التربية العلمية والتطبيق العلمي سمة من سمات تربية الرسول - صلى الله عليه وسلم -: فإن تربيته بمناهجها وأساليبها وطرائقها استطاعت أن تقرن القول بالعمل والإيمان بالسلوك... حتى استطاع ... أن ينشئ الأمة إنشاء ساميا دفع بها إلى الأعالي، وحلق بها في الآفاق الواسعة، فملأ سرائرها يقينا، ونفوسها حزما، وأبصارها نظرا، وعقولها حكمة... إنها التربية المتسمة بالشمول لمختلف جوانب الحياة الإنسانية، وهذا الشمول ضروري لتحقيق التكامل بين الروح والجسد"(1) الذي يظهر في المواطن الآتية:
أولا- تربية الإنسان كاملا:
__________
(1) - جلو: المرجع نفسه، ص 13(7/38)
توجهت التربية النبوية نحو الإنسان كلية الطفل في مهده، والمرأة في بيتها وخدرها، والرجل في عمله وبيته، وقد شملت من الرجل والمرأة والطفل روحه وجسده وعقله وفكره وخلقه، ولذا حض النبي - صلى الله عليه وسلم - على العبادة الخالصة لله تعالى، لتقوية الصلة بين العبد وربه، ابتداء من الإيمان، وانتهاء بالسلوك المستقيم، بالاعتماد على العلم والمعرفة والبراهين العقلية حتى يعم هذا السلوك حياة الناس جميعاً.
وفي السنة النبوية أحاديث كثيرة تدل على هذه التربية:
- عن أبي حفص عمر بن أبي سلمة عن عبد الله بن عبيد الأسد ربيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "كنت غلاما في حجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا غلام سم الله تعالى، وكل بيمينك، وكل مما يليك، فمازالت تلك طعمتي بعد" "رواه الشيخان".(7/39)
خص النبي - صلى الله عليه وسلم - المرأة بالتعليم، وجعل لها يوما ليعلمها فيه... فعن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: "جاءت امرأة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله، ذهب الرجال بحديثك، فاجعل لنا من نفسك يوما نأتيك فيه تعلمنا مما علمك الله، قال: اجتمعن يوم كذا وكذا، فاجتمعن، فأتاهن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلمهن مما علمه الله ثم قال: ما منكن من امرأة تقدم ثلاثة من الولد إلا كانوا لها حجابا من النار، فقالت امرأة: واثنين، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: واثنين" "رواه الشيخان".
- عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا وخياركم خياركم لنسائهم".
وعنه أيضا قال: "سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن اكثر ما يدخل الناس الجنة، قال: تقوى الله وحسن الخلق، وسئل عن أكثر ما يدخل النار، فقال: الفم والفرج" "رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح".
كل ذلك لأن الإنسان هو مدار التربية ومناط جهدها
ثانيا- تربية مثالية عملية:(7/40)
التربية النبوية ليست مثالية نظرية، وإنما هي واقعية عملية تشمل جميع أفراد الجنس البشري ليكون كل واحد من الأفراد يوافق عمله قوله، فلا رياء ولا نفاق ولا كذب ولا خيانة، بل إخلاص وصدق، وصراحة ووفاء، وأمانة وشرف.
وقد طبق النبي - صلى الله عليه وسلم - كل هذه الفضائل والقيم الأخلاقية السامية على نفسه فكان القدوة المثلى للناس جميعا، فاقتدى به الصحابة والتابعون وكانوا فيما بعد الجيل المثالي الرائد في الأرض.
واتخذ لذلك سبلا واقعية هادفة: وبدأ في التربية منذ أن كان الولد جنينا بل قبل ذلك حيث أوصى النبي - صلى الله عليه وسلم - كلا من الرجال والنساء باختيار الزوج الصالح اللذين يتصفان بصلاح الدين وحسن الخلق، "تخير والنطقكم" باختيار المرأة السليمة من الأمراض بكل ما في الكلمة من معنى.
وطلب من أولياء الأمور تربية الولد على التوحيد، والسنة النبوية تذخر بالأحاديث التي تأمر وترغب بذلك.(7/41)
ثم التربية على العبادة التي عالج بها قضايا الروح والنفس، والجسد وأمورا اجتماعية أخرى كالمحبة والاخوة والطاعة والنظام والبناء الأسري القويم، كما في قوله عليه الصلاة والسلام: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء" "البخاري".
ثم تربية الجسد بدعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - المؤمنين إلى قوة الأبدان ومتانة الأجسام وكل معاني الرجولة الجسدية، لأن الجسم القوي هو الذي يستطيع تحمل أعباء الدعوة والسنة العملية مع الصحابة أكبر دليل على ذلك، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف وفي كل خير" "رواه مسلم".
والأحاديث النبوية التي تعتني بالنواحي الجسدية في الإسلام كثيرة، نذكر منها:
"علموا أولادكم السباحة والرماية وركوب الخيل"
"ليس منا من تعلم الرمي ثم نسيه"
"ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميا" "البخاري"
ثالثا- تربية العقل والفكر:(7/42)
واعتنى النبي - صلى الله عليه وسلم - بتربية العقل والفكر، فحض على تحرير العقل من الخرافات والأوهام ونهى الإنسان عن اعتقاد لا يؤيده برهان عقلي، ونعى على أولئك الذين يتمسكون بالخرافات والشعوذات الباطلة والأساطير الضالة المنحرفة و.... ولفت نظر الناس إلى المعجزات التي لها ارتباط وثيق بالقدرة الإلهية وفي مقدمتها القرآن الكريم الذي يأمر بتحكيم العقل.
ولا ريب في أن غذاء العقل هو العلم النافع، فدعا اليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وحث على طلبه ورغب في تعلمه، وأشاد بفضل العلماء، فقال: "فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم".
وعن انس رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع" "رواه الترمذي وقال: حديث حسن".
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة" "رواه مسلم".(7/43)
هذا وإن كان الحرص على العلم والترغيب فيه، "فإن التربية النبوية حرصت –أيضا- على المشاعر النفسية التي تثور وتنفعل لدى الطفل وهو يلقى العطف ويحويه الحنان ويحس بروح المحبة تحوطه من كل جانب... عندها يأنس بمن يعلمه ويتلقى عنه العلم"(1) فكم كان عليه الصلاة والسلام يشعر الأولاد بالعطف والحنان والطمأنينة والمودة والحب، فتتعلق نفوسهم بهذا المربي العظيم، وتقبيله عليه الصلاة والسلام للحسن والحسين رضي الله عنهما أكبر شاهد على ذلك.
رابعا- تربية الأخلاق:
جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - ليتمم مكارم الأخلاق، وكان عليه الصلاة والسلام صاحب الخلق العظيم { وإنك لعلى خلق عظيم } "القلم: 4"، { ولو كنت فظا غليظ القلب لا نفضوا من حولك } "آل عمران: 159".
وفي السنة النبوية كنز ثمين من الأحاديث التي تتعلق بالخلق وتتحدث عنه، فمن ذلك ما يتحدث عن: الإخلاص، الرأفة والرحمة، الإيثار، الصدق، الصبر، الأمانة، الوفاء، الإحسان...
__________
(1) -المولوي: المرجع السابق، ص: 59.(7/44)
وليس المقصد من هذه التربية، الفرد فقط، وإنما المجتمع المتكون من الأفراد إذا صلحوا صلح المجتمع، وإذا فسدوا فسد المجتمع، ولهذا كان اهتمامه بالتربية الاجتماعية حتى في اهتمامه بالزواج القائم على الدين والخلق الكريم.
فالتربية النبوية شاملة:
للفرد: من حيث هو مجموعة غرائز وميول ومواهب وجسد وروح.
وللمجتمع: من حيث هو مجموعة أفراد.
وللإنسانية: من حيث هي مجموعة مجتمعات.
مما سبق يمكن استخلاص صفات التربية النبوية، ومن أهمها:
1- الارتباط الوثيق بالعقيدة الصحيحة، فهي تربية إلهية ربانية.
2- التوجه نحو القيم الإسلامية، والتأكيد على تطبيقها، وغرس مثل الإسلام ومبادئه في النفوس بكل الطرق التربوية الناجمة.
3- الترابط الوثيق بين منهج الدين وأهدافه في الحياة وميادين التربية النبوية.
4- التطلع إلى إعداد الإنسان الصالح في الحياة، وتنشئة الجيل على قيم الإسلام وتعاليمه التي تستوحيها التربية من القرآن الكريم والسنة المطهرة.
5- الشمولية حيث تتجه إلى الإنسان سواء كان طفلا أم رجلا أو امرأة من جميع النواحي الروحية، والفكرية، والجسدية، والخلقية.(7/45)
6- مراعاة الفروق الفردية "نحن معاشر الأنبياء أمرنا أن ننزل الناس منازلهم ونكلمهم على قدر عقولهم"، وكذا في اختيار الصناعة التي يرومها الصبي.
7- الترغيب بالرفق في المعاملة، وحسن اختيار الصديق (الصالح).
8- العمل على تطبيق شريعة الله تعالى في الأرض، وقيادة المسلمين إلى مراقي التوحيد الخالص لله تعالى، والفضيلة، والخير.
9- الإيجابية بحيث تقوم على الأخلاق وتعمل لسيادتها، وتحارب الأنانية والمحسوبية والطمع والأثرة، وتقف في وجه الفساد والربا والرشوة وفي الوقت نفسه تربي الأفراد على العفة والنزاهة، والمودة والرحمة.
10- الوصول إلى غاية وجود الإنسان في الأرض لعبادة الله تعالى وتحقيق سيادة كلمة الله تعالى وبناء مجتمع الإسلام على السلام والعدل، والألفة والإخاء ومواجهة أعداء الإسلام المتسترين تحت الشعارات البراقة التي تسبب في مآسي وآلام كثير من الأمم في الأرض.
ونذكر فيما يأتي أهداف التربية النبوية وأهمها:
الهدف الأول- التربية الربانية:(7/46)
يعني هذا الهدف الاعتقاد بوحدانية الله تعالى، وأنه سبحانه هو الإله الواحد، والرب الذي لا رب سواه، والمعبود الذي لا يعبد بحق غيره، وهذا يشمل حياة الإنسان كلها من البداية إلى النهاية { وإلهكم اله واحد لا اله إلا هو الرحمن الرحيم } "البقرة: 163"، { الله لا اله إلا هو الحي القيوم } "البقرة: 255".
ومن السنة النبوية ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من خطبة الوداع: "يا أيها الناس إن ربكم واحد، وان أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي فضل على أعجمي إلا بالتقوى ألا هل بلغت".
ويقتضي هذا الاعتقاد أن يكون قد وقر في القلب وصدقه العمل، (الصدق والإخلاص) في السر العلن، فإن الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، لأن الله عز وجل يعلم ما تكنه الأنفس ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور وهو بكل شيء عليم.(7/47)
ويرتبط الإيمان بالله تعالى ببقية أركان الإيمان الأخرى لما لها من آثار إيجابية في حياة الإنسان، وله ارتباط وثيق بفكرة الثواب والعقاب، والجنة والنار، ووضح القرآن الكريم إن من أهداف النبي - صلى الله عليه وسلم - إخراج المسلمين من الظلمات إلى النور، ومن دياجير الشرك إلى ضوء الوحدانية: { الر، كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد } "إبراهيم: 1".
{ قد جاءكم من الله نور، كتاب مبين، يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم } "المائدة: 16".
فكان عليه الصلاة والسلام يشوق المسلمين إلى النعيم المقيم في جنات الخلد يوم القيامة، ويرهبهم من عذاب النار الأليم، ولهذا أقدموا على الإيمان الصادق والإخلاص لله تعالى في القول والسلوك والعمل، نذكر من ذلك ما يلي:
- عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال الله عز وجل: { أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر اقرؤوا إن شئتم } "فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين" " رواه الشيخان وهو متفق عليه".(7/48)
- وعنه رضي الله تعالى عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن أدنى مقعد أحدكم من الجنة أن يقول له تمنى فيتمنى ويتمنى، فيقول له: هل تمنيت؟ فيقول نعم فيقول له: فإن لك ما تمنيت ومثله معه" "رواه مسلم".
ويتعلق بفكرة الثواب والعقاب مسألة إحياء المراقبة والمحاسبة الذاتية فكرا وجسدا وروحا، وذلك بتربية الوازع الديني المرتبط بالإيمان بالله تعالى المتصف بكل صفات الكمال، المنزه عن صفات النقص، وأنه سبحانه الذي يحاسب على كل صغيرة وكبيرة وعندئذ يحيى الضمير الذاتي، والوازع الداخلي فيغدو حارسا على تصرفات الإنسان والرقيب على أعماله في السر والعلن، فهو السلطة العليا التي تحفز الفرد على الخيرات وتوصله إلى مرتبة الإحسان "أن تعبد الله كأنت تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك " "رواه مسلم" فما أحوجنا اليوم إلى تحقيق هذا الهدف في علومنا التربوية والاجتماعية والإنسانية.
الهدف الثاني – الإنسانية:
ويتضمن هذا الهدف أمورا كثيرة غايتها إعداد الإنسان الصالح ومنها:(7/49)
1- صفاء الفطرة ونقاؤها وتبرئتها من الذنوب والخطايا، "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه" فالسنة ترد الفرد إلى الفطرة السليمة.
2- تحرير العقول ، من التصورات الباطلة، وبناء تصورات صحيحة بدلا عنها تستقيم مع الفطرة السليمة والعقل الصحيح، لبناء حياة صحيحة وفق القواعد المنطقية والأسس العقلية التي ترفض الموروثات الجاهلية والعادات البالية، والتعصب الأعمى لتراث الأباء والأجداد. فعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا عدوى ولا طيرة ويعجبني الفأل، قالوا: وما الفأل؟ قال: كلمة طيبة" "البخاري"، وخير مثال نذكره هنا، عندما ذكر عمر بن الخطاب بشأن تقبيل الحجر "أما والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع (وهذا مدلول عقلي) ولولا إني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبلك ما قبلتك" (وتقبيله للحجر من قبيل العبادة والاقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم -) (إنه حجر أنزل من الجنة).(7/50)
3- تحرير النفوس والوجدان من كل ما علق بها من المعتقدات الضالة التي لا تضر ولا تنفع، وقد دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى عبادة الله الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي بيده كل شيء فعن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كنت خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - يوما فقال: "يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، وأعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وان اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف" "الترمذي، حيث حسن صحيح".
وبين عليه الصلاة والسلام إن الأنبياء والمرسلين بشر لا يعبدون بأي وجه كان "إنما أنا بشر" وفي حديث رواه عمر بن الخطاب: "... فإنما أنا عبده فقولوا: عبد الله ورسوله" "البخاري". فهو عليه الصلاة والسلام يحرر النفوس من عبودية البشر وسيطرتهم ومن الانحراف والمبالغة والتطرف والوسواس والتشدد "إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق"، ومن طاعة الهوى والنفس الأمارة بالسوء.(7/51)
4- تحرير الأخلاق من العادات البالية والرواسب الجاهلية الموروثة والمفاسد الاجتماعية، فرغب بالأخلاق الحميدة الكريمة وربطها بالإيمان "والحياء شعبة من الإيمان"، ونهى عن الأخلاق المعوجة، وأرسى الكثير من المكارم الخلقية "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".
والأخلاق في السنة النبوية هي:
- مبادئ وقواعد منظمة للسلوك الإنساني، لتنظيم حياة الإنسان.
- نظام من العمل من اجل الحياة الخيرة، وطريقة قويمة في التعامل الإنساني.
نهوض بالقيم والمبادئ إلى مرتبة الكمال الإنساني لتحقيق نهوض حضاري واجتماعي.
أدب واحترام وتوقير وإيثار ومحبة وألفة ... ومثل تقرب إلى الله تعالى.
صلاح ونجاح غير مقيدة بحدود الزمان والمكان من أجل الإنسان لأن مجالها الحياة.
ثبات وعدم تحول أو تبدل لأنها إلهية مستمرة، فيها صلاح العباد(1).
سبيل إلى دخول الجنة، وقد سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أكثر ما يدخل الجنة فقال: "تقوى الله وحسن الخلق" "الترمذي".
__________
(1) -أنظر محجوب: أصول الفكر التربوي في الإسلام، عجمان: مؤسسة علوم القرآن، دمشق: دار ابن الكثير، الطبعة الأولى: 1408 هـ 1987م، ص: 158 وما بعدها.(7/52)
5- تحرير الجسد، من الضعف والوهن والخمول والكسل: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف" ولذا حث النبي - صلى الله عليه وسلم - على:
تصحيح الأجسام وتقويتها بالسباحة والرماية وركوب الخيل ...
تدريب الجسم على اللياقة والنشاط والفعالية وتحمل المشاق، وهدوء الأعصاب ...
وما ذلك إلا لبناء الإنسان الكامل المتحرر عقلا ونفسا ووجدانا ليؤدي مهمة الاستخلاف في الأرض، وحمل عبء الدعوة الإسلامية لهداية الناس إلى دين الإسلام.
... الهدف الثالث- تربية روح المسؤولية:
... وتعني المسؤولية، المشاركة في شؤون الأمة من اجل المصلحة العامة، وأساسها الوازع الديني ومراقبة الله تعالى، فهي مسؤولية أمام الله تعالى أولا ثم ولي الأمر ثانيا، مع الاهتمام برأي الآخرين ووجهة نظرهم لسيادة روح الشورى ولتسود العلاقات الاجتماعية جو الاحترام المتبادل والتعاون على البر والتقوى والإخاء.(7/53)
... عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته، الإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته" "البخاري".
... ونجد في السنة النبوية دروسا عملية في غرس الشعور بالمسؤولية والضبط الأخلاقي والاجتماعي، فاستجاب المسلمون إلى ذلك في أداء العبادات والمعاملات والأخلاق.
... وهذه المسؤولية، حركت المشاعر الداخلية عند المسلمين تجاه الله تعالى ثم تجاه النفس، كما أيقظت في الفرد حس الضمير والمحاسبة الذاتية.
... الهدف الرابع- تربية اجتماعية:
... اهتمت التربية النبوية ببناء الإنسان الصالح بحيث تبدأ بالفرد وتنتهي بالمجتمع الإنساني عامة، فإذا كان الفرد مسؤولا عن عمله، فهو مسؤول عمن حوله من الناس انطلاقا من الأسرة، قال تعالى: { ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة } "الحشر:9" ورباط هذه المسؤولية الجماعية هو الحب الأخوي الصادق الذي يجعل البناء الاجتماعي قويا مرصوصا يشد بعضه إلى بعض.(7/54)
... "وبهذا الحب الذي يبثه الإسلام ويغذيه قام المجتمع الإسلامي الأول الفريد في كل التاريخ، مجتمع لا من الأصفار المتذاوبي الكيان ... مجتمع كل فرد فيه أمة! وهو على ضخامة شخصياته وإيجابياتها العجيبة الفذة، متحاب مترابط، لا تكاد تحس أين يبتدئ كيان كل واحد منهم وأين ينتهي الآخر ... لان الحب قد أزال الحدود"(1).
... واتصفت هذه التربية الاجتماعية بالشمول بشكل واسع، لتضم أفراد الأسرة وكل من يربط الفرد برباط النسب والقرابة (صلة الرحم) ومن ثم لتمتد إلى الجار حيث أولته من الرعاية ما يوفر مجتمعا متحابا متعاونا، فيغدو الجيران كأسرة واحدة متماسكة "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه" وحذر عليه الصلاة والسلام من الإيذاء بالجار: "والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن" قيل من يا رسول الله؟ قال: "الذي لا يأمن جاره بوائقه".
__________
(1) - قطب (محمد) منهج التربية الإسلامية، بيروت، القاهرة، دار الشروق، الطبعة السابعة 1403 هـ 1983م، 1/167(7/55)
... واتسعت ميادين هذه التربية لتشمل كل من يجمع الواحد مع غيره تحت شعار أخوة الإسلام لتجعل أفراد هذا المجتمع أخوة متحابين "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يسلمه"، وخير مثال على ذلك أخوة المهاجرين والأنصار يوم الهجرة.
... وبهذه الأخوة يسود العدل، وتنتشر المحبة، ويفشو الوداد، وتسيطر الرحمة، وتنتعش القلوب، وتطمئن النفوس، وتؤدى الحقوق، وتتمتن الأواصر والوشائج، ويعم الأمن والسلام "كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه" ولقوله عليه الصلاة والسلام: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر".
... الهدف الخامس- عمارة الأرض:
... مهمة الإنسان في الحياة عمارة الأرض وإقامة الحضارة فيها بالاعتماد على المقومات الأساسية التي وجه إليها الإسلام في القرآن الكريم والسنة النبوية، حيث نظم شؤون الأمة بما يضمن مصالحها وحاجاتها لتكون خير أمة أخرجت للناس، ولا يتحقق ذلك إلا بالمقومات الآتية:(7/56)
... أولا (1) - تعريف الإنسان بخالقه وبناء العلاقة بينهما على أساس من ربانية الخالق وعبودية المخلوق، ولذلك انصب الهدف نحو الإيمان بالله تعالى والتوجه إليه في النية والقول والعبادة والمعاملة والسلوك "إنما الأعمال بالنيات" "البخاري".
... ثانيا- توجيه السلوك الإنساني نحو الاتجاهات والمبادئ والأسس الإسلامية لأنه لابد من الربط بين الهدف والسلوك، وبين النظرية والتطبيق، ذكر ابن مسعود فقال: "كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن" وقد أثر عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم انهم تعلموا القرآن الكريم والعمل به.
... ثالثا- نمو الإنسان من جميع النواحي العقلية والجسمية والروحية والاجتماعية: أي تطوير سلوكه بما عنده (الفطرة والمواهب) وبما يكتسبه من المحيط من خبرات.
__________
(1) - الكيلاني: المرجع السابق، ص: 34(7/57)
... أ- النمو العقلي(1): ويتجلى ذلك بحض الإسلام على التدبر في الكون ولفت النظر إلى ما فيه، والتفكر في خلق السماوات والأرض والكائنات الحية، والتفهم لما يجري في الكون من السنن، وما يقتضيه ذلك النمو العقلي من العلوم والمعارف من اجل استخدام ما سخره الله تعالى للإنسان (عنصر التسخير) والأمانة العلمية كل ذلك من غير أن يصاب الإنسان بالتكبر والغرور عن قول الحق، والتعصب والتحجر في الأهواء والباطل.
... ب- النمو الجسمي: سبق أن ذكرنا ضرورة تحرير الجسد من الضعف والوهن ليكون مؤمنا قويا قادرا على تحمل عبء الرسالة، ومشقة الدعوة إلى الله تعالى، فرغب في الرياضة والسباحة والرمي وركوب الخيل والمصارعة والمباراة على رمي النبال وسباق الخيل (تنمية الجسم وتربية الجوارح) كل ذلك من أجل خير الأمة وعزتها وكرامتها وريادتها.
__________
(1) - انظر النحلاوي: المرجع السابق ص 118 وما بعدها.(7/58)
... جـ- النمو الاجتماعي: ويبدأ بتربية المشاعر الاجتماعية كالشعور بالانتماء للأمة (المواطنة الصالحة) والمعايشة القويمة مع المجتمع، والاتجاه نحو السلوك الاجتماعي في التعاون على البر والتقوى، وعلى التكافل، والمسؤولية التضامنية، وهذا ما يعني بـ"تنمية المشاعر الاجتماعية" و"ربط القلوب والعواطف برباط الاخوة".
ويتطلب هذا النوع من النمو "تدريب الفرد على مواجهة متطلبات الحياة بالعمل وكسب الرزق، والحث عليه "لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه" "وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده" واعتبار العمل عبادة، فليتقن أحدكم عمله في كل مجالات العمل (زراعة، صناعة، تجارة، حرفة).
د- النمو الروحي: حيث لم تقتصر السنة في ميادين النمو على ما ذكرنا (المادية) وإنما حرصت على التنمية الروحية عند الفرد والمجتمع على حد سواء حتى تحدث التوازن بين هاتين الناحيتين (المادية والروحية)، بحيث لا يطغى جانب على آخر.
ويتحقق النمو الروحي بتوجيه الإنسان إلى الفطرة السليمة وعبادة الله تعالى وإخلاص العبادة له وحده سبحانه، ومراقبته وتربية روح المسؤولية والتقوى.(7/59)
ورأينا –فيما سبق- أن السنة النبوية ربت المسلم على الربط بين ذكر الله تعالى وعبادته والعمل الصالح في الحياة، بغية تزكية النفس { قد أفح من زكاها } وهذا ما يبدو في نزعة التدين وصفاء الروح والتسامي في الحق، وحب المعرفة، وإدراك جوانب الخير والعمل بها، وإدراك جوانب الشر ودفعها واجتنابها، كل ذلك حتى يتغلب الخير على الشر، والمصالح على المفاسد.
ويرتبط بهذا النوع من التنمية، الأخلاق الكريمة، والصفات السامية النبيلة، في الإيمان والتقوى، والعمل وأداء الأمانة، والعلم وحب المعرفة، وتحمل المسؤولية والوفاء بالوعد والعهد، وغير ذلك مما يدخل في إطار التشريع والنظام كي يكون إسلاميا.
ومن هذا نأتي إلى المطلب الثالث وهو:
المطلب الثالث: ميادين التربية النبوية وطرائقها
أولا- ميادين التربية النبوية
تتلخص مبادئها أساسيا في قوله تعالى: { هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة وان كانوا من قبل لفي ضلال مبين } "الجمعة: 2".
الميدان الأول: (يتلو عليهم آياته):
الآيات: جمع آية، وهي بمعنى:(7/60)
- المعجزة: بدليل ما روي عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه "أن أهل مكة سألوا رسول الله أن يريهم آية، فأراهم انشقاق القمر" "البخاري".
- العلامة: كما في الحديث: "آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار" "البخاري".
- البرهان أو الدليل على قدرة الله تعالى: كما في الحديث: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته" "ابن ماجة".
- العبرة: كما في قوله تعالى: { قد كان لكم آية في فئتين اتقيتا فئة تقاتل في سبيل الله، وأخرى كافرة } "آل عمران: 13"
- الآيات القرآنية: كما في الحديث: "قد أنزل الله علي آيات لم ير مثلهن: قل أعو برب الناس، ملك الناس، اله الناس، إلى آخر السورة" "الترمذي".
مما سبق يتبين أن منهاج هذا الميدان يتخذ مادته من مصادر ثلاثة(1):
المصدر الأول: ظواهر الغيب كالحياة والموت.
المصدر الثاني: ظواهر الاجتماع البشرى، وما يمرون به من خبرات ضارة أو نافعة.
المصدر الثالث: هو ما يتوصلون إليه من مكتشفات للقوانين التي تنظم الكون القائم وما ينتج عن ذلك الاكتشاف من علوم وتطبيقات.
وذلك لـ:
__________
(1) - الكيلاني: المرجع السابق ص: 40.(7/61)
1- توجيه العقل البشري نحو الميادين والآفاق لتفسير الظواهر الكونية.
2- تكوين إيديولوجية عقائدية هدفها عقيدة التوحيد والولاء للإسلام والمسلمين.
الميدان الثاني: (ويزكيهم):
وهذا ميدان تعديل السلوك، بتطهير النفوس من الشرك بالله وعبادة الأوثان، وتنميتها بطاعة الله تعالى: "فالتزكية انتزاع ما هو غير مرغوب فيه، وتعزيز ما هو مرغوب به، فهي إذن تعديل للسلوك بلغة التربية الحديثة"(1).
وتقترن التزكية بالتعليم –في هذه الآية- لتسهل عملية التعليم بالتعزيز، وتوجه سلوك المتعلم نحو الأفضل لتحقيق الأفضل وتبدو مهمة النبي - صلى الله عليه وسلم - مركبة، حيث يهدف إلى:
1- تعليم الناس العلم الصحيح، ووضع الأمور في مواضعها التي تعد لها.
2- تربية الناس تربية صحيحة قائمة على:
أ- تطهير ماهية الإنسان من الرذائل والأخطاء والآثام، لتوجه نحو الخير والهدى والصواب.
ب- تنمية الإنسان تنمية كاملة متكاملة من جميع النواحي النفسية والجسمية والعقلية.
__________
(1) - الكيلاني: المرجع نفسه، ص: 41.(7/62)
فكلمة التزكية مرادفة لكلمة التربية، وبذلك يجمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بين التربية والتعليم وهذا ما أدركه الصحابة رضي الله عنهم، كما في قول عمر بن عبد العزيز: "إن الله لم يرسل محمدا جابيا وإنما أرسله هاديا"، وقد وضع لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - مثلا عليا اقتدوا بها.
... وتتلخص مواضع التزكية في:
عزل الفرد عن البيئات المخالفة لشريعة الإسلام.
اطلاع الفرد على ما عند الآخر من معتقدات وتصورات باطلة ليتجنبها.
تعديل السلوك غير المرغوب به، وتعزيز ما هو مرغوب به (إيمان، إسلام، إحسان).
الميدان الثالث: (ويعلمهم الكتاب): أي "القرآن":
... ولهذا الميدان علاقة وطيدة بالتزكية، من أجل تغذية العقول وشحنها بالأحكام والعلوم والمعارف التي جاءت في القرآن الكريم.
... ومن هذه الأحكام يستنبط الإنسان ما يحتاج إليه في العقائد والعبادات والمعاملات والأخلاق، لأن القرآن الكريم معجز في كل ما جاء به من الآيات الداعية إلى التفكير العلمي السليم وأساليب الفهم الصحيحة، حيث تصلح لكل زمان ومكان وحال.
... الميدان الرابع: (والحكمة)
... وللحكمة معادن كثيرة من أهمها:(7/63)
... (العبرة، الإتقان، الحلول الملائمة، القدرة على التمييز بين النافع والضار، الفهم والمعرفة، صواب الرأي وحسن النظر في الأمور،حسن التقدير والإدارة والتصرف) ولكل معنى من هذه المعاني أدلته الشرعية، حيث درس العلماء الحكمة وبينوا أقسامها ومدلولها، وأنها مفسرة بالعلوم النظرية وتطبيقاتها العملية، لذا يمكن القول بأنها معرفة افضل الأشياء بأفضل العلوم(1) وتأدية دور كل فرد في الأمة بإتقان طبقا لمقاييس القرآن الكريم والسنة النبوية.
ثانيا- طرائق التربية النبوية:
لكي يصل المربي إلى تحقيق أهدافه التعليمية والتربوية، عليه أن يتعرف على حالة سامعية، ومستوى إدراكهم العقلي، وعندئذ يتمكن من اختيار الطرائق الملائمة لطبيعة المتلقين، ولذلك تختلف الطرائق والوسائل التي تتحدد في الغاية الواحدة.
__________
(1) - انظر ابن منظور، لسان العرب، بيروت، دار صادر 1388هـ 1968م مجلد: 14/358.(7/64)
وقد عرف النبي - صلى الله عليه وسلم - كل ذلك، وأدرك هذا الأمر "أمرت أن أخاطب الناس على قدر عقولهم"، وليس بالإمكان في هذا البحث حصر جميع الطرائق التي اتبعها النبي - صلى الله عليه وسلم -، إلا إن ذكر البعض يغني عن الكل كمعالم في طريق العلوم التربوية والاجتماعية، إذ بها نكشف عن عظمة رسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم -.
واعتمدت التربية النبوية في طرائقها على ثلاثة أسس هي:
الأول- المحاكمة العقلية: في تعريف الإنسان بذاته، واختيار الأسلوب الصالح لجميع مدارك الناس، والاعتماد على المناقشة والحوار.
الثاني- القصص والعبر التاريخية: لما في القصة من تأثير كبير في إيصال المعارف والعبر منها، والاستفادة من ذلك في المستقبل المصيري لما بعد الموت عن الجنة والنار.
الثالث- الإثارة الوجدانية: وذلك بإثارة العاطفة الدينية، واغتنام الفرص والمناسبات، والترغيب والترهيب، والتصوير والتخيل.
ومن هذه الأسس تتجلى أهم الطرائق التربوية في السنة النبوية:(7/65)
الطريقة التقريرية: وتعتمد على طرح الحقائق والمعلومات، وتأكيدها بصورة مباشرة على السامع، وقد اعتمدها النبي - صلى الله عليه وسلم - في المواقف العامة لجموع المسلمين كخطبة الجمعة وخطبة العيد والحج ... وقد كانت ه الطريقة السائدة لما لها من تأثير في تثبيت الأحكام.
الطريقة الاستنتاجية: وتعني هذه الطريقة بذكر حقيقة عامة ينطوي تحتها كثير من الحقائق الجزئية، حيث تتهيأ العقول لاستنباط هذه المعارف الجزئية، وقد أدت هذه الطريقة إلى الاجتهاد والفقه "قضاء معاذ بن جبل في اليمن".
وهذه الطريقة إحدى الطرائق التربوية التي طبقها النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أصحابه حيث ترك لهم الفرصة سانحة للعمل بهذه الطريقة "ما استنتجه الصحابة من خطبة الوداع".
الطريقة الاستقرائية: وفيها ينتقل المربي من الجزئيات إلى الكليات ومن الخاص إلى العام، ومن المعلوم إلى المجهول، وبذلك تعطي قواعد أصولية عامة تمكن المتلقي من قلب الأمور مرة أخرى، (قضية النكاح والزنا وعلاقة كل منهما بالحلال والحرام) للوصول إلى قاعدة = "كل عمل مسلم صدقه".
ويعتمد المربي إلى جانب ذلك على:
القصة: كوسيلة من الوسائل المحببة إلى النفس لاستخلاص العبر.(7/66)
- وسائل الإيضاح: لما لها من اثر كبير في تقريب المعلومات "إن مثل ما بعثني الله من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا..." إلى غير ذلك من الأحاديث "مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهوا على سفينة ..." "البخاري"، فهي تعتمد على الحس المشاهد، والمعرفة المباشرة، والمقارنة الحاضرة.
- الحوار والمناقشة: وطرح الأسئلة، وإصلاح المفاهيم الخاطئة السائدة بين الناس، وتسييرها في طريق صحيحة "أتدرون من المفلس؟" و"انصر أخاك ظالما أو مظلوما" و"ليس المسكين بهذا الطواف الذي يطوف على الناس...".
- الترغيب والترهيب: كما ذكرنا فيما سبق فهو يوقظ الرغبة الجامحة في الإنسان لما يحبه ويطلبه (ضمن حدود الشرع) وهو يعتمد على الإقناع والبرهان وإثارة الانفعالات وتربية العواطف الربانية (التربية الوجدانية) كمقصد من مقاصد التربية النبوية.
- القدوة المثلى: كان عليه الصلاة والسلام، القدوة الحسنة والمثل الأعلى في كل شيء حيث إنه - صلى الله عليه وسلم - يتبع القول العمل، والنظرية والتطبيق بنفسه، فكانت حياته ترجمة عملية بشرية حية لحقائق القرآن وتعاليمه وآدابه وتشريعاته وأساليبه التربوية.
والخاتمة:(7/67)
إن علماء التربية، والعاملين في ميدان التربية والتعليم، إذا أرادوا توجيه العلوم التربوية والاجتماعية والإنسانية، ليخرجوا أجيالا قادرة على حمل الرسالة الإسلامية، ونشرها، فليقتدوا بالسنة النبوية، وعندئذ هم بحاجة إلى إعادة النظر في المناهج والأساليب والطرائق، وعدم الانبهار بفلسفات الآخرين ونظرياتهم. والتربية النبوية تكفل لكل فرد حقه في التعلم وتنمية المواهب والاستعدادات والمبادئ الخلقية، وما دعوات المصلحين في هذه الأيام إلا رجوع إلى المنهج الإسلامي الأصيل في التربية والتعليم والله ولي التوفيق.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... أ.د/ حسن رمضان فحلة
الهوامش:(7/68)
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً .
أما بعد :
فإن الدين الإسلامي دين الألفة والتآلف ، والرحمة والتراحم بين الله ذلك في ثنايا الكتاب الكريم ودعانا إليه قال تعالى : { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا ولا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا } سورة آل عمران آية (103) ، وامتثله الرسول الرحيم صلى الله عليه وسلم ودلنا عليه حين قال : " إني أعطي قريشاً أتألفهم لأنهم حديث عهد بجاهلية "(1)(8/1)
إلا أنه قد شاع في هذه الأزمنة انفصام أواصر الألفة ، وانقطاع وشائج المحبة الأمر الذي جعل القلوب متنافرة ، والأسر متهاجرة ووصل الأمر إلى أن الناظر بعين البصيرة لاشك واجد صورة واضحة في البيت الواحد تنم عن قلى ، وتدل على جفى ، ومن ثم كان التراخي في الأخذ بأسباب الألفة والتهاون في الحرص عليها .
وقد وجدت أن السنة النبوية مليئة بهذه الأحاديث التي تبني كيان الأمة الإسلامية بدء من الفرد ، فالأسرة الصغيرة ، فالأسرة الكبيرة ، فالمجتمع الإسلامي ، فالأمة الإسلامية كلها .
لذا عزمت الكتابة في هذا الموضوع الذي أرى ـ مع قصور علمي وقلة اطلاعي ـ الحاجة الماسة إليه ، إلا أني أحببتُ الاقتصار على ما في الصحيحين خشية الإطالة التي قد تؤدي إلى الإخلال ، وتُشعر بالملال .(8/2)
فقمت ـ بعون الله تعالى ـ بجمع الأحاديث التي تحث على الألفة والمحبة منهما فتجاوزت الثمانين حديثاً ، وبعد إمعان النظر فيها وجدت أن منها ما هو متعلق بأعمال القلب ، ومنها ما هو متعلق بأعمال اللسان ، ومنها ما هو متعلق بأعمال البدن ، فأتممت البحث على هذا التقسيم فتجاوزتْ صفحاتُه السبعين صفحة ، ولأن مثل هذا الحجم لا تقبله المجلات العلمية المحكمة رأيتُ حينها تقسيمه إلى بحثين منفصلين : الأول بعنوان: " العوامل القلبية واللسانية في تكوين الألفة بين المسلمين في السنة النبوية من خلال الصحيحين ".
ــــــــــــــــ
1) البخاري في كتاب الجهاد ، باب " ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يُعطي المؤلفة قلوبهم ... " ( 3/1147 رقم 2977 ) من حديث أنس رضي الله عنه
والآخر ـ وهو البحث الذي بين أيديكم ـ بعنوان: " العوامل البدنية في تكوين الألفة بين المسلمين في السنة النبوية من خلال الصحيحين ".
خطة البحث :
تشتمل خطة البحث على مقدمة وتمهيد وثلاثة مباحث وخاتمة .
منهج البحث :
وقد كان منهج البحث على النحو الآتي :
1) استخراج الأحاديث ـ الدالة على الألفة بين المسلمين ـ من صحيحي البخاري ومسلم .(8/3)
2) توخياً للدقة في جمع هذا النوع من الأحاديث تم الرجوع للكتب الآتية:
أ) الأدب المفرد للبخاري
ب) الآداب للبيهقي
ج) رياض الصالحين للنووي
3) بعد استخراج الأحاديث وجمعها تم توزيعها وعنونتها حسب موضوعاتها الدالة عليها .
4) لم أعتمد في عنونة العوامل العناوين الموجودة في الصحيحين ، أو في الكتب المساندة التي تم الرجوع إليها .
5) كثيراً ما أجمع في العنوان الواحد أكثر من عنوان إذا كانت أحديثه متقاربة في الموضوع أو المضمون ، أو كان فيها حث على أمر ونهي عن نقيضه .
6) أدرجتُ كل موضوع من الموضوعات تحت مسمى عامل .
7) رقمتُ الأحاديث ترقيماً تسلسلياً عاماً .
8) إذا كان في العامل الواحد أكثر من حديث فأُرقمها ترقيماً داخلياً .
9) تكلمتُ على كل عامل من العوامل بما يؤيد المعنى الذي وُضع البحث من أجله .
وقد كان منهجي فيه على النحو الأتي:
أ) إيراد الأحاديث الدالة على موضوعه .
ب) ذكر أقوال العلماء من أمهات شروح الأحاديث
ج) بيان ما تدل عليه الأحاديث وما يستفاد منها .(8/4)
10) ضمنتُ كل عامل من العوامل حديثين فأكثر ، حسب ما أراه مناسباً ، فإن لم أجد إلا حديثاً واحداً أكتفي بذكره ، وربما أجد أكثر من حديث لكن في مضامينها بُعْدٌ عما نحنن بصدده.
11) أختار من أقوال العلماء على الأحاديث ما يشير إلى الألفة تصريحاً أو تلميحاً وأتجاوز عما سوى ذلك لأن المقام ليس مقامه .
12) إذا لم أجد في أقوالهم ما يفيد هذا المعنى فأختار منها ما لا تُعدم الفائدة من ذكره .
13) رتبتُ أقوال العلماء على الترتيب الزمني لقائليها حسب وَفَياتِهم الأقدم فالذي بعده وهكذا .
التمهيد
المطلب الأول : حِرْص الإسلام على التأليف ين الأمم .(8/5)
كان العرب جميعاً قبل الإسلام في عداوة وحروب وغارات ، فالأوس والخزرج كانت بينهم حروب دامت مائة وعشرين سنة قبل الهجرة ، كان منها يوم بعاث ، وكذا جميع الأمم التي دعاها الإسلام كانوا في تفرق وتخاذل ، ولقد حاول حكماؤهم ، وأولو الرأي منهم التأليف بينهم ، وإصلاح ذات بينهم ، بأفانين الدعاية من خطابة ، وجاه وشعر ، فلم يصلوا إلى ما ابتغوا حتى ألف الله بين قلوبهم بالإسلام فصار الذين دخلوا في الإسلام ، أولياء بعضهم لبعض ، لا يصدهم عن ذلك اختلاف أنساب ، ولا تباعد مواطن ، وصاروا بذلك التأليف بمنزلة الإخوان.(8/6)
وقد امتن الله عليهم بتغيير أحوالهم من أشنع حالة إلى أحسنها: فحالة كانوا عليها هي حالة العداوة والتفاني والتقاتل. وحالة أصبحوا عليها وهي حالة الأخوة ولا يدرك الفرق بين الحالتين إلا من كانوا في السوأى فأصبحوا في الحسنى، والناس إذا كانوا في حالة بؤس وضنك واعتادوها صار الشقاء دأبهم ، وذلت له نفوسهم ، فلم يشعروا بما هم فيه ، ولم يتفطنوا لوخيم عواقبه ، حتى إذا هيئ لهم الصلاح ، وأخذ يتطرق إليهم استفاقوا من شقوتهم . وعلموا حالتهم ولأجل هذا المعنى جمعت الآية ذكر الحالتين وما بينهما فقالت: { إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً } سورة آل عمران آية (103) " (2)
ـــــــــــــــ
2) التحرير والتنوير لابن عاشور (4/33ـ34) بتصرف يسير
المطلب الثاني : تعريف الألفة في اللغة والاصطلاح .
أولاً : تعريف الألفة في اللغة .(8/7)
قال الخليل بن أحمد:(3) الأُلْفَةُ مصدر الائتلاف ، وإلفُكَ وأِليفُك: الذي يألفُك ، وأوالِفُ الطير: التي قد ألِفَتْ مكة ، وتقول: قد آلفَتْ هذه الطير موضع كذا وهنّ مُؤلِفَاتٌ أي: لا تبرح . والأَلِفُ والأَلِيفُ كلاهما حرف. وقول الله عز وجل: { لإِيلاَفِ قُرَيشٍ } سورة الفيل آية (1) إنما جاءت هذه اللام والله أعلم في { لإِيلاَفِ قُرَيشٍ } على معنى سورة الفيل إنما أهلك الله الفيل كي تسلم قريش من شرهم فيسلموا في بلدهم لِيؤلّفَهم الله فهذه اللام تلك ، وكل شيء ضَمَمْتَ بعضه إلى بعض فقد ألّفْتَه تأليفاً .(8/8)
وقال الراغب الأصفهاني:(4) يقال للمأْلُوف: إلْفٌ وآلِفٌ ، قال تعالى: { إِذْ كُنتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ } سورة آل عمران آية (103) وقال تعالى: { لوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ } سورة الأنفال آية (63) ، والمُؤلّفُ: ما جُمع من أجزاء مختلفة ورُتّبَ ترتيباً قُدّمَ فيه ما حقه أن يُقدم، وأخر فيه ما حقه أن يُؤخر، وقول الله تعالى: { لإِيلاَفِ قُرَيشٍ } سورة الفيل آية (1) مصدرُ من ألّفَ، والمُؤلّفَةُ قلوبهم هم الذين يتحرى فيهم بتفقدهم أن يصيروا من جملة من وصفهم الله بقوله: { لوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ } سورة الأنفال آية (63) وأوالفُ الطير: ما ألِفَتْ الدار، والأَلْفُ: العدد المخصوص، وسُمي بذلك لكون الأعداد فيه مُؤْتَلِفَةٌ.(8/9)
وقال ابن منظور:(5) قال: أَبو عبيد: أَلِفْتُ الشيء وآلَفْتُه بمعنى واحد لزمته، فهو مُؤْلَفٌ ومأْلُوف . وآلَفَتِ الظّباءُ الرَّمْلَ إِذا أَلِفَتْه ... وقال أَبو زيد: أَلِفْتُ الشيءَ وأَلِفْتُ فلاناً إِذا أَنِسْتَ به، وأَلَّفْتُ بينهم تأْلِيفاً إِذا جَمَعْتَ بينهم بعد تَفَرُّقٍ، وأَلَّفْتُ الشيء تَأْلِيفاً إِذا وصلْت بعضه ببعض، ومنه تأْلِيفُ الكتب .
ثانياً : تعريف الألفة في الاصطلاح .
قال الفيومي:(6) هي: الالتئام والاجتماع .
وقال التهانوي:(7) هي: ميلان القلب إلى المألوف .
ــــــــــــــــ
3) العين ( 8/336)
4) المفردات في غريب القرآن (20ـ21)
5) لسان العرب (9/11)
6) المصباح المنير (1/18) 7) كشاف اصطلاحات الفنون (1/114)
المبحث الأول : ما يختص بالأعيان
العامل الأول
إتباع الجنائز
1- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من اتبع جنازة مسلم إيماناً واحتساباً وكان معه حتى يصلي عليها ويفرغ من دفنها فإنه يرجع من الأجر بقيراطين كل قيراط مثل أحد ، ومن صلى عليها ثم رجع قبل أن تدفن فإنه يرجع بقيراط "(8)
تعليقات العلماء على الحديث:(8/10)
قال ابن بطال:(9) " قال أبو الزناد : حَضّ عليه الصلاة والسلام على التواصل في الحياة وبعد الممات ... والذي حض عليه من الصلة بعد الممات هو تشييعه إلى قبره ، والدعاء له ، فهذا حق المؤمن على المؤمن " أهـ
دلالات الحديث وفوائده:
1) الترغيب بتشييع الجنازة من حين خروجها من البيت إلى أن تدفن ، فإن ذلك أعظم للأجر .
2) في تشيع الجنازة تطيب لخاطر أهل الميت.
3) إن تشييع الجنازة ودفن الميت من حقوق المسلمين بعضهم على بعض.
العامل الثاني
إبرار المقسم
2- عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال : " أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع ، ونهانا عن سبع ، أمرنا : بعيادة المريض ، واتباع الجنازة ، وتشميت العاطس ، وإجابة الداعي ، وإفشاء السلام ، ونصر المظلوم ، وإبرار المقسم ، ونهانا عن : خواتيم الذهب ، وعن الشرب في الفضة ، أو قال : آنية الفضة ... "(10)
ـــــــــــــــــــــــــــ
8) البخاري في كتاب الإيمان ، باب " اتباع الجنائز من الإيمان " ( 1/26 رقم 47 ) ، ومسلم في كتاب الجنائز ، باب " فضل الصلاة على الجنازة واتباعها " ( 2/652 رقم 945 )
9) شرح صحيح البخاري ( 1/108 )(8/11)
10) البخاري في كتاب الأشربة ، باب " آنية الفضة " ( 5/2134 رقم 5312 )
تعليقات العلماء على الحديث:
قال ابن بطال:(11) " وإبرار القسم ندبٌ وحضٌ إذا أقسم الرجل على أخيه في شيء لا مكروه فيه ولا يَشُقُ عليه فعليه أن يبرّ قسمه ، وذلك من مكارم الأخلاق " أهـ
وقال العيني:(12) " وهو خاص فيما يحل ، وهو من مكارم الأخلاق ، فإن ترتب على تركه مصلحة فلا " أهـ
دلالات الحديث وفوائده:
1) الترغيب بهذا الأدب الإسلامي لما فيه من تمتين روابط الأخوة بين المسلمين.
2) تحقيق الألفة والمحبة والطمأنينة بين أفراد المجتمع المسلم.
3) عَظَمَة الإسلام في توثيق عرى الأخوة والمحبة بين المسلمين.
العامل الثالث
إجابة الدعوة
3- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " حق المسلم على المسلم ست " قيل : ما هن يا رسول الله ؟ قال : " إذا لقيته فسلم عليه ، وإذا دعاك فأجبه ، وإذا استنصحك فانصح له ، وإذا عطس فحمد الله فشمته ، وإذا مرض فعده ، وإذا مات فاتبعه "(13)
تعليقات العلماء على الحديث:(8/12)
قال النووي:(14) " وأما الأعذار التي يسقط بها وجوب إجابة الدعوة أو ندبها فمنها : أن يكون في الطعام شبهة ، أو يخص بها الأغنياء ، أو يكون هناك من يتأذى بحضوره معه ، أو لا تليق به مجالسته ، أو يدعوه لخوف شره ، أو لطمع في جاهه ، أو ليعاونه على باطل ، وأن لا يكون هناك منكر من خمر، أو لهو ، أو فرش حرير ، أو صور حيوان غير مفروشة ، أو آنية ذهب ، أو فضة ، فكل هذه أعذار في ترك الإجابة " أهـ
ـــــــــــــــــــــــــــ
11) شرح صحيح البخاري ( 3/238 )
12) عمدة القاري ( 8/6 )
13) مسلم في كتاب السلام ، باب " من حق المسلم للمسلم رد السلام " (4/1705 رقم 2162)
14) شرح صحيح مسلم ( 9/195 )
وقال ابن علان الصديقي:(15) " وفي ذلك تحريض على التواضع ، وحث على تعاطي ما يبعث على التآلف ، ويغرس الوداد " أهـ
وقال الكشميري:(16) " والوَجْه في تأكد الإِجابة صيانةُ الطعام عن الإِضاعة ، فإِن المضيف يُكْثر الطعام في الولائم ، ويتكلّف فيه في أيام الضيافة ، فلو تَخلّف الناس عنه لتضرّر به صاحبُهُ " أهـ
دلالات الحديث وفوائده:
1) تنمية روابط الأخوة بين المسلمين.
2) تحقيق الألفة والمحبة والطمأنينة فيما بينهم.(8/13)
3) توثيق عرى الأخوة والمحبة بين أفراد المجتمع المسلم.
4) في إجابة الدعوة تطيب لخاطر الداعي ، ومؤانسة له.
العامل الرابع
عيادة المريض
4- عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أطعموا الجائع ، وعودوا المريض ، وفكوا العاني "(17)
تعليقات العلماء على الحديث:
قال ابن بطال:(18) " يُحتمل أن تكون عيادة المريض من فروض الكفاية كإطعام الجائع ، وفك الأسير ، وهو ظاهر الكلام ، ويحتمل أن يكون معناه الندب والحض على المؤاخاة والألفة " أهـ
وقال ابن عبد البر:(19) " وعيادة المريض سنة مسنونة ، فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بها وندب إليها ، وأخبر عن فضلها بضروب من القول " أهـ
ـــــــــــــــــــــــــــ
15) دليل الفالحين ( 3/60 )
16) فيض الباري شرح صحيح البخاري ( 7/60 )
17) البخاري في كتاب المرضى ، باب " وجوب عيادة المريض " ( 5/2139 رقم 5325 )
18) شرح صحيح البخاري ( 9/375 ) ...
19) التمهيد (19/202 )(8/14)
وقال القاري:(20) " إن عيادة المريض من المسلمين فرض كفاية كشهود جنازتهم وخص هاتين الخصلتين لأنهما ألزم وأولى من سائر الحقوق فإنهما حالتان مفتقرتان إلى الدعاء بالصحة والمغفرة " أهـ
دلالات الحديث وفوائده:
1) زيارة المريض من حقوقه على إخوانه المسلمين لأنها تدخل المسرة والأنس على قلبه.
2) فضل عيادة المريض والحث عليها تحصيلاً لمزيد ثوابها.
3) ينبغي على المسلم إذا علم بمرض أخيه تعاهده وتفقد أحواله وتلطف به.
4) يُستحب اختيار الوقت المناسب في الزيارة حتى لا يرجع على المريض بأذىً نفسي أو حسي.
5) زيارة المريض في العادة سبباً لوجود النشاط عنده وانتعاش قوته ، وإعانة له على الخروج من مرضه.
العامل الخامس
النهي عن مطل الغني
5- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " مطل الغني ظلم ، وإذا أُتبع أحدكم على ملئٍ فليتبع "(21)
تعليقات العلماء على الحديث:
قال الخطابي:(22) " فيه : دلالة على أنه إذا لم يكن غنياً لا يجد ما يقضيه لم يكن ظالماً ، وإذا لم يكن ظالماً لم يجز حبسه لأن الحبس عقوبة ولا عقوبة على غير الظالم " أهـ(8/15)
وقال الحافظ:(23) " فيه : الإرشاد إلى ترك الأسباب القاطعة لاجتماع القلوب لأنه زجر عن المماطلة وهي تؤدي إلى ذلك " أهـ
ـــــــــــــــــــــــــــ
20) مرقاة المفاتيح ( 1/289)
21) البخاري في كتاب الحوالات ، باب " إذا أحال على مليّ فليس له ردٌّ " ( 2/799 رقم 2166 ) ، ومسلم في كتاب المساقاة ، باب " تحريم مطل الغني " ( 3/1197 رقم 1564 )
22) معالم السنن ( 3/56 )
23) فتح الباري ( 5/228 )
دلالات الحديث وفوائده:
1) تحريم تأجيل الغني دفع ما اسْتُحِق عليه من دين ونحوه من غير عذر.
2) أن المؤمن من شأنه أن يحترز عن الظلم فلا يمطل.
3) الحض على حسن التعامل مع الناس.
العامل السادس
النهي عن إقامة الرجل من مجلسه والجلوس فيه
6- عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يقيمُ الرجلُ الرجلَ من مجلسه ثم يجلس فيه "(24)
تعليقات العلماء على الحديث:
قال العيني:(25) " فيه أدب المجالسة وإكرام الجليس " أهـ
دلالات الحديث وفوائده:
1) حرمة إقامة إنسان من مكان مباح سبق إليه ليجلس به غيره ولو كان الداخل أفضل من الجالس بعلم أو سن.(8/16)
2) الالتزام بهذا الأدب الإسلامي ، يجعل قلوب أهل الإسلام متماسكة متحابة غير متنافرة ولا متباغضة.
3) زيادة الألفة بين المسلمين وذلك بعدم التميز بينهم في مجالسهم.
4) تعليم الناس عدم القيام لإجلاس القادم في غير المكان الذي ينتهي فيه المجلس.
5) إذا سبق الإنسان إلى مجلس مباح فهو أحق به.
6) استحباب التوسعة للقادم.
ـــــــــــــــــــــــــــ
24) البخاري في كتاب الاستئذان ، باب " لا يُقيم الرجلُ الرجلَ من مجلسه " ( 5/2313 رقم 5914 ) ، ومسلم في كتاب السلام ، باب " تحريم إقامة الإنسان من موضعه المباح الذي سبق إليه " ( 4/1714 رقم 2177 )
25) عمدة القاري ( 22/268 )
العامل السابع
إكرام الضيف
7- عن أبي شريح العدوي رضي الله عنه قال : سَمِعتْ أُذناي وأبصرت عيناي حين تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته " قالوا وما جائزته يا رسول الله ؟ قال : " يومه وليلته ، والضيافة ثلاثة أيام ، فما كان وراء ذلك فهو صدقة عليه "(26)
تعليقات العلماء على الحديث:(8/17)
قال القاضي عياض:(27) " والضيافة من آداب الإسلام ، وخلق النبيين والصالحين ... وعامة الفقهاء على أنها من مكارم الأخلاق " أهـ
وقال المباركفوري:(28) " قالوا : إكرام الضيف بطلاقة الوجه ، وطيب الكلام ، وإطعام ثلاثة أيام في الأول بمقدوره وميسوره ، والباقي بما حضره من غير تكلف ، ولئلا يثقل عليه وعلى نفسه ، وبعد الثلاثة يُعد من الصدقات إن شاء فعل وإلا فلا " أهـ
دلالات الحديث وفوائده:
1) أن من علامات الإيمان الكامل إكرام الضيف.
2) للضيف حقٌ فينبغي على المسلم تلقيه بطلاقة الوجه وتعجيل القِرى له ، والقيام بخدمته.
3) الضيافة ثلاثة أيام من حقوق الأخوة الإسلامية والزيادة على ذلك صدقة وفضل.
4) على المضيف أن يبالغ في إكرام ضيفه في اليوم الأول وليلته وفي باقي اليومين يأتي بما تيسر.
5) يُكره للمسلم أن يضيف عند أخيه وهو يعلم أنه فقير ليس عنده ما يضيفه حتى لا يوقعه في الإثم بالغيبة له والوقيعة فيه ، أو الاستدانة المفضية إلى الكذب أحياناً .
ـــــــــــــــــــــــــــ(8/18)
26) البخاري في كتاب الأدب، باب "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره "( 5/2240 ـ 2241 رقم 5673 ) ، ومسلم في كتاب اللقطة،باب"الضيافة ونحوها "( 3/1352 ـ 1353رقم 48 )
27) إكمال المعلم ( 1/285 )
28) تحفة الأحوذي ( 6/74 )
العامل الثامن
إطعام الطعام
8- (1) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رجلاً : سأل النبي صلى الله عليه وسلم أي الإسلام خير ؟ قال : " تُطعم الطعام ، وتَقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف "(29)
9- (2) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" أطعموا الجائع ، وعودوا المريض ، وفكوا العاني "(30)
تعليقات العلماء على الأحاديث:
قال ابن بطال:(31) " قال أبو الزناد : في هذا الحديث الحض على المواساة ، واستجلاب قلوب الناس بإطعام الطعام ، وبذل السلام لأنه ليس شيء أجلب للمحبة وأثبت للمودة منهما " أهـ
وقال ابن علان الصديقي:(32) " أي : القيام بسد خلات المحتاج وهو فرض كفاية على مياسير المسلمين ، فإن لم يكن ثمة إلا واحد تعين عليه " أهـ
دلالات الأحاديث وفوائدها:
1) الحث على البذل والعطاء بإطعام الطعام للفقراء والمساكين وابن السبيل والضعيف.(8/19)
2) استحباب الإطعام لأنه يؤلف القلوب ويزيد المحبة ويدل على كرم النفس.
3) في إطعام الطعام سدٌ لحاجة الفقراء والمساكين ، ومنعٌ لهم من النظر إلى ما في أيدي الآخرين.
4) الحث على إطعام الجائع لأنه أحوج للطعام من غيره .
5) من حقوق المسلمين فيما بينهم إطعام جائعهم ، وفقيرهم .
ـــــــــــــــــــــــــــ
29) البخاري في كتاب الإيمان، باب " إطعام الطعام من الإسلام " ( 1/13 رقم 12 )، ومسلم في كتاب الإيمان، باب " بيان تفاضل الإسلام وأي أموره أفضل " ( 1/65 رقم 39 )
30) البخاري في كتاب المرضى ، باب " وجوب عيادة المريض " ( 5/2139 رقم 5325 )
31) شرح صحيح البخاري ( 1/63 ـ 64 )
32) دليل الفالحين ( 3/376 )
العامل التاسع
السعي على الأرملة والمسكين
10- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الساعي على الأرملة ، والمسكين كالمجاهد في سبيل الله " ـ وأحسبه قال ـ : " كالقائم لا يفتر ، وكالصائم
لا يفطر "(33)
تعليقات العلماء على الحديث:(8/20)
قال ابن بطال:(34) " من عجز عن الجهاد في سبيل الله وعن قيام الليل ، وصيام النهار ، فليعمل بهذا الحديث وليسع على الأرملة والمساكين ليحشر يوم القيامة في جملة المجاهدين في سبيل الله دون أن يخطو في ذلك خطوة ، أو يُنفق درهماً ، أو يَلقى عدواً ، أو ليحشر في زمرة الصائمين والقائمين وينال درجتهم وهو طاعمٌ نهاره ، نائمٌ ليله أيام حياته ، فينبغي لكل مؤمن أن يحرص على هذه التجارة التي لا تبور ، ويسعى على أرملة أو مسكين لوجه الله تعالى فيربح في تجارته درجات المجاهدين والصائمين والقائمين من غير تعب ولا نصب ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء " أهـ
دلالات الحديث وفوائده:
1) السعي على الأرملة والمسكين والإنفاق عليهما والقيام على أمورهما جهاد في سبيل الله بالمال والكلمة.
2) الحض على كشف كربة الضعفاء والمحتاجين وسد خلتهم وصون حرمتهم.
3) حِرْص الشريعة الإسلامية على تضامن المسلمين وتكافلهم وتعاونهم حتى يشتد البناء الإسلامي ويشمخ اللواء الرباني.
4) العطاء من أهل الإحسان ينبغي أن يكون بالبحث عن المحتاجين لا لجوء المحتاجين إليهم وهذا يؤكده لفظ الساعي.(8/21)
5) شبه القائم على الأرملة والمسكين بما يصلحهما ويحفظهما بالمجاهد في سبيل الله ، لأن المداومة على ذلك تحتاج إلى صبر ومجاهدة للنفس والشيطان.
ـــــــــــــــــــــــــــ
33) البخاري في كتاب الأدب ، باب " الساعي على الأرملة " ( 5/2237 رقم 5661 ) ، ومسلم في كتاب الزهد والرقائق ، باب " الإحسان إلى الأرملة والمسكين واليتيم " ( 4/2286 ـ 2287 رقم 2982 ) .
34) شرح صحيح البخاري ( 9/218 )
العامل العاشر
كفالة اليتيم
11- عن سهل بن سعد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا " وقال : بإصبعيه السبابة والوسطى(35)
تعليقات العلماء على الحديث:
قال ابن بطال:(36) " حق على كل مؤمن يسمع هذا الحديث أن يرغب في العمل به ليكون في الجنة رفيقاً للنبي صلى الله عليه وسلم ، ولجماعة النبيين والمرسلين صلوات الله عليهم أجمعين ولا منزلة عند الله في الآخرة أفضل من مرافقة الأنبياء " أهـ
وقال النووي:(37) " هذه الفضيلة تحصل لمن كفل اليتيم من مال نفسه ، أو مال اليتيم بولاية شرعية " أهـ
دلالات الحديث وفوائده:
1) الترغيب في رعاية اليتيم والقيام على مصالحه.(8/22)
2) كفالة اليتيم سبب في دخول الجنة ومرافقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولائك رفيقاً.
3) بيان فضل ومنزلة كافل اليتيم في الآخرة.
العامل الحادي عشر
فك العاني
12- عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" أطعموا الجائع ، وعودوا المريض ، وفكوا العاني"(38)
ـــــــــــــــــــــــــــ
35) البخاري في كتاب الأدب ، باب " الساعي على الأرملة " ( 5/2237 رقم 5659 ) ، ومسلم في كتاب الزهد والرقائق ، باب " الإحسان إلى الأرملة والمسكين واليتيم " ( 4/2287 رقم 2983 ) .
36) شرح صحيح البخاري ( 9/217 )
37) شرح صحيح مسلم ( 18/323 )
38) البخاري في كتاب المرضى ، باب " وجوب عيادة المريض " ( 5/2139 رقم 5325 )
تعليقات العلماء على الحديث:
قال الطيبي:(39) " العاني : الأسير ، وكل من ذل ، واستكان ، وخضع فقد عنا ... والمتضررون الذين وجب حقهم على غيرهم من المسلمين منحصرون في هذه الأقسام صريحاً وكناية عند إمعان النظر " أهـ
دلالات الحديث وفوائده:(8/23)
1) الحث على فداء أسارى المسلمين وإطلاقهم من يد العدو مما يجعل الجند يستبسلون عند لقاء الأعداء فيعلمون أنهم إن وقعوا أسرى سعى المسلمون لخلاصهم وإن قُتلوا فهم شهداء عند ربهم.
2) الإسلام دين التعاون ، وهذا الأمر من التعاون على البر والتقوى.
3) أهل الإسلام يشعر بعضهم ببعض ويرعى بعضهم بعضاًَ ولذلك فالمجتمع الإسلامي متماسك كالبنيان المرصوص.
المبحث الثاني: ما يختص بالأتباع
العامل الأول
بر الوالدين
13- (1) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : من أحق الناس بحسن صحابتي ؟ قال : " أمك " قال ثم من ؟ قال " أمك " قال : ثم من ؟ قال : " أمك " قال : ثم من ؟ قال " ثم أبوك "(40)
14- (2) عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال : أقبل رجل إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : أبايعك على الهجرة ، والجهاد أبتغي الأجر من الله . قال : " فهل من والديك أحدٌ حي " ؟ قال : نعم بل كلاهما ! قال : " فتبتغى الأجر من الله " ؟ قال : نعم ، قال : " فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما "(41)
تعليقات العلماء على الأحاديث:(8/24)
قال ابن بطال:(42) " فيه : دليل أن محبة الأم والشفقة عليها ينبغي أن تكون ثلاثة أمثال محبة الأب لأنه صلى الله عليه وسلم كرر ذكر الأم ثلاث مرات ، وذكر الأب في المرة الرابعة فقط " أهـ
وقال النووي:(43) " قال العلماء : وسبب تقديم الأم كثرة تعبها عليه ، وشفقتها ، وخدمتها ومعاناة المشاق في حمله ، ثم وضعه ، ثم إرضاعه ، ثم تربيته ، وخدمته ، وتمريضه وغير ذلك " أهـ
دلالات الأحاديث وفوائدها:
1) عِظَمُ حق الوالدين في الإسلام.
2) أفضل حقوق العباد ـ بعد حق الله تعالى ـ حق الوالدين.
3) بر الوالدين والإحسان إليهما واجب في كل الحالات.
ـــــــــــــــــــــــــــ
39) الكاشف عن حقائق السنن ( 3/297 )
40) البخاري في كتاب الأدب ، باب " من أحق الناس بحسن الصحبة " ( 5/2227 رقم 5626 ) ، ومسلم في كتاب البر والصلة ، باب " بر الوالدين وأنهما أحق به " ( 4/1974 رقم 2548 )
41) البخاري في كتاب الجهاد، باب " الجهاد بإذن الأبوين " ( 3/1094رقم 2842 )، ومسلم في كتاب البر والصلة ، باب " بر الوالدين وأنهما أحق به " ( 4/1975 رقم 2549)
42) شرح صحيح البخاري ( 9/189 )
43) شرح صحيح مسلم ( 16/87 )
العامل الثاني
صلة الرحم(8/25)
15- (1) عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الرحم معلقة بالعرش تقول من وصلني وصله الله ، ومن قطعني قطعه الله "(44)
16- (2) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ليس الواصل بالمكافئ ، ولكن الواصل الذي إذا قُطِعَتْ رحمه وصلها "(45)
17- (3) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال : يا رسول الله إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني ، وأحسن إليهم ويسيئون إلي ، وأحلم عنهم ويجهلون علي ! فقال : " لئن كنتَ كما قلت فكأنما تسفهم المل ، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك "(46)
تعليقات العلماء على الأحاديث:
قال ابن بطال:(47) " ليس الواصل رحمه من وصلهم مكافأة لهم على صلة تقدمت منهم إليه فكافأهم عليها بصلة مثلها " أهـ
وقال القاضي عياض:(48) " ولا خلاف أن صلة الرحم واجبة على الجملة ، وقطعها كبيرة ... ولكن الصلة درجات بعضها فوق بعض ... وهذا بحكم القدرة على الصلة وحاجتها إليها ، فمنها ما يتعين ويلزم ، ومنها ما يستحب ويرغب فيه ، وليس من لم يبلغ أقصى الصلة يسمى قاطعاً ، وليس من قصر عما ينبغي له ويقدر عليه يسمى واصلاً " أهـ(8/26)
ـــــــــــــــــــــــــــ
44) البخاري في كتاب الأدب ، باب " من وصل وصله الله " ( 5/2232 ـ 2233 رقم 5643 ) ، ومسلم في كتاب البر والصلة ، باب " صلة الرحم وتحريم قطيعتها " ( 4/1981 رقم 2555 )
45) البخاري في كتاب الأدب ، باب " ليس الواصل بالمكافئ " ( 5/2233 رقم 5645 )
46) مسلم في كتاب البر والصلة ، باب " صلة الرحم وتحريم قطيعتها " ( 4/1982 رقم 2558 )
47) شرح صحيح البخاري ( 9/208 )
48) إكمال المعلم ( 8/20 )
وقال النووي:(49) " ومعناه : كأنما تطعمهم الرماد الحار وهو تشبيه لما يلحقهم من الألم بما يلحق آكل الرماد الحار من الألم ، ولا شيء على هذا المحسن ، بل ينالهم الإثم العظيم في قطيعته وإدخالهم الأذى عليه ، وقيل معناه : إنك بالإحسان إليهم تخزيهم وتحقرهم في أنفسهم لكثرة إحسانك وقبيح فعلهم من الخزي والحقارة عند أنفسهم كمن يسف المل ، وقيل : ذلك الذي يأكلونه من إحسانك كالمل يحرق أحشاءهم " أهـ
دلالات الأحاديث وفوائدها:
1) الأصل في التعامل بين ذوي الأرحام الإحسان والتواصل والصبر وطلب المعاذير ولا يكون الأمر بالمقابلة ولكن ينبغي تحمل الأذى من أجل وصلها.(8/27)
2) مقابلة الإساءة بالإحسان مظنة رجوع المسيء إلى الحق.
3) على المسلم أن يصل أرحامه ويستمر على ذلك ولو لم يقابلوا صنيعه بالإحسان.
4) تعظيم شأن الرحم ووعد من وصلها بوصل الله له ووعيد من قطعها بقطعه له.
5) صلة الرحم المعتبرة شرعاً هي : أن تصل من قطعك وتعفو عمن ظلمك وتَعطي من حرمك وليس صلة المقابلة والمجازاة.
6) وجوب إخلاص الأعمال لله ولو لم يأت منها خير عاجل في الدنيا فهي خير دائم في الآخرة.
7) وجوب صلة الأرحام والاعتناء بهم ومحاولة إصلاحهم وتوجيههم إلى الخير.
8) قطيعة الرحم نار تؤجج الحسد والحقد والبغضاء في الدنيا ، وعذاب أليم في الآخرة فينبغي أن تُبْلَ بِبِلاها وهو صلتها التي تطفئ الإحن وتذهب المحن.
العامل الثالث
بر الأقارب وأصدقاء الأبوين
18- (1) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ثم أدناك أدناك "(50)
19- (2) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن من أبر البر صلة الرجل أهل ود أبيه "(51)
ـــــــــــــــــــــــــــ
49) شرح صحيح مسلم ( 15/95 )(8/28)
50) مسلم في كتاب البر والصلة ، باب " بر الوالدين وأنهما أحق به " ( 4/1974 رقم 2548)
51) مسلم في كتاب البر والصلة ، باب " فضل صلة أصدقاء الأب والأم ونحوهما " ( 4/1979 رقم 2552 )
تعليقات العلماء على الأحاديث:
قال القرطبي:(52) " الرحم عبارة عن : قرابات الرجل من جهة طرفي آبائه وإن علوا وأبنائه وإن نزلوا ، وما يتصل بالطرفين من الأعمام والعمات ، والأخوال والخالات ، والإخوة والأخوات ، وما يتصل بهم من أولادهم برحم جامعة " أهـ
وقال النووي:(53) " وفي هذا فضل صلة أصدقاء الأب والإحسان إليهم وإكرامهم ، وهو متضمن لبر الأب وإكرامه لكونه بسببه ، وتلتحق به أصدقاء الأم ، والأجداد ، والمشايخ ، والزوج والزوجة " أهـ
دلالات الأحاديث وفوائدها:
1) الحث على صلة سائر الأقارب وأصدقاء الأبوين.
2) من بِرِ الوالدين أن تصل أصدقاءهما وأصحابهما بعد موتهما ولو بالقليل فمن لم يجد فبالزيارة أو الكلمة الطيبة.
3) إكرام ذوي القربى ليس على درجة واحدة.
4) ترتيب الحقوق ووضعها في مواضعها هو الأصل والعدل.
العامل الرابع
حسن الجوار
20- (1) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(8/29)
" ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننتُ أنه سيورثه "(54)
21- (2) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يمنع جارٌ جارَه أن يغرز خشبة في جداره "(55)
ـــــــــــــــــــــــــ
52) المفهم ( 6/524 )
53) شرح صحيح مسلم ( 16/93 )
54) البخاري في كتاب الأدب، باب " الوصاءة بالجار " ( 5/2239 رقم 5669 )، ومسلم في كتاب البر والصلة، باب " الوصاية بالجار والإحسان إليه " ( 4/2025 رقم 2625 )
55) البخاري في كتاب المظالم ، باب " لا يمنع جاره أن يغرز خشبة في جداره " ( 2/862 رقم 2331) ، ومسلم في كتاب المساقاة ، باب " غرز الخشب في جدار الجار " ( 3/1230 رقم 1609 )
22- (3) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره "(56)
23- (4) عن أبي شريح رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " والله لا يؤمن ، والله لا يؤمن ، والله لا يؤمن " قيل : ومن يا رسول الله ؟ قال : " الذي لا يأمن جاره بَوَائِقَه "(57)
تعليقات العلماء على الأحاديث:(8/30)
قال القاضي عياض:(58) " إن من التزم شرائع الإسلام لزمه إكرام جاره وبره ، وكل هذا تعريف بحق الجار وحض على حفظه، وقد أوصى الله تعالى بالإحسان إليه " أهـ
وقال العيني:(59) " وكيفية حفظ حق الجار هي : أن يعاشر مع كل واحد منهم بما يليق بحاله من إرادة الخير ، ودفع المضرة والنصيحة ونحو ذلك " أهـ
دلالات الأحاديث وفوائدها:
1) للجار حق عظيم ينبغي حِفْظُ جواره ومراعاته بإيصال ضروب الإحسان إليه بحسب الطاقة ودفع الضرر عنه.
2) تأكيد حق الجار لقسمه صلى الله عليه وسلم وتكريره اليمين ثلاث مرات.
3) تعاون الجيران والتسامح بينهم من حقوق الجوار ، ومظهر من مظاهر متانة المجتمع الإسلامي.
4) الحض على الإحسان إلى الجيران وكف الأذى عنهم لما يترتب على ذلك من المحبة والألفة ، ولما يحصل به من المنفعة ودفع المفسدة.
5) التأكيد على حق الجار بالوصية يقتضي ضرورة إكرامه والتودد والإحسان إليه ودفع الضرر عنه، وعيادته عند المرض وتهنئته عند المسرة وتعزيته عند المصيبة.
6) التحذير من إيذاء الجيران وأن كَفّ الشر عنهم من كمال الإيمان وكرم الأخلاق.
ـــــــــــــــــــــــــــ(8/31)
56) البخاري في كتاب الأدب ، باب " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره " ( 5/2240 رقم 5672 ) ، ومسلم في كتاب الإيمان ، باب " الحث على إكرام الجار ... " ( 1/68 رقم 47 )
57) البخاري في كتاب الأدب ، باب " إثم من لا يأمن جاره بوائقه " ( 5/2240 رقم 5670 )
58) إكمال المعلم ( 1/284 )
59) عمدة القاري ( 22/108 )
المبحث الثالث : ما يختص بالعامة
العامل الأول
طلاقة الوجه
24- عن أبي ذر رضي الله عنه قال : قال لي النبي صلى الله عليه وسلم : " لا تَحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق "(60)
تعليقات العلماء على الحديث:
قال القاري:(61) " قوله : ( بوجه طلق ) ضد العبوس وهو الذي فيه البشاشة ، والسرور، فإنه يصل إلى قلبه سرور، ولا شك أن إيصال السرور إلى قلب مسلم حسنة " أهـ
وقال ابن علان الصديقي:(62) " معناه : بوجه ضاحك مستبشر وذلك لما فيه من إيناس الأخ المؤمن ، ودفع الإيحاش عنه ، وجبر خاطره ، وبذلك يحصل التأليف المطلوب بين المؤمنين " أهـ
وقال:(63) " أي : متهلل بالبشر ، والابتسام لأن الظاهر عنوان الباطن ، فلقياه بذلك يشعر بمحبتك له ، وفرحك بلقياه ، والمطلوب من المؤمنين التوادّ والتحابّ " .(8/32)
دلالات الحديث وفوائده:
1) استحباب إدخال السرور على المسلمين لما في ذلك من تحقيق الألفة بينهم.
2) عدم الاستهانة بأي عمل ما دام من وجوه الخير.
3) طلاقة الوجه تدل على صفاء النفس ونقاء السريرة.
ـــــــــــــــــــــــــــ
60) مسلم في كتاب البر والصلة ، باب " استحباب طلاقة الوجه عند اللقاء " ( 4/2026 رقم 2626 )
61) مرقاة المفاتيح (4/404)
62) دليل الفالحين ( 1/351 )
63) المرجع السابق ( 3/168 )
العامل الثاني
النصرة والنهي عن الخذلان
25- (1) عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً " فقال رجل يا رسول الله أنصره إذا كان مظلوماً فرأيت إذا كان ظالماً كيف أنصره ؟ قال : " تحجزه أو تمنعه من الظلم فإن ذلك نصره "(64)
26- (2) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " المسلم أخو المسلم ... ولا يخذله "(65)
تعليقات العلماء على الأحاديث:
قال النووي:(66) " قال العلماء : الخذل : ترك الإعانة والنصر، ومعناه إذا استعان به في دفع ظالم ونحوه لزمه إعانته إذا أمكنه ولم يكن له عذر شرعي " أهـ(8/33)
وقال العيني:(67) " قال البيهقي معناه : أن الظالم مظلوم في نفسه فيدخل فيه ردع المرء عن ظلمه لنفسه حساً ومعنىً ، فلو رأى إنساناً يريد أن يَجُبّ نفسه لِظَنْه أن ذلك يزيل مفسدةَ طلبه الزنا مثلاً منعه من ذلك وكان ذلك نصراً له ، واتحد في هذه الصورة الظالم والمظلوم " أهـ
دلالات الأحاديث وفوائدها:
1) وجوب نصرة المظلوم والنهي عن خذلانه.
2) أن الظالم مظلوم في نفسه لأنه ظلم نفسه بعدم ردعها عن الظلم فوجب نصره لذلك.
3) أن المسلم ينصر أخاه المظلوم بأخذ الحق له وردع ظالميه ، ويأخذ على يد الظالم فلا يتركه يأكل أموال العباد وينهش أعراضهم ويسفك دماءهم.
4) عَظَمَةُ الإسلام في توثيق عرى المجتمع ، وأواصر المحبة بين أفراده.
5) ترك نصرة المظلوم سيما مع الاحتياج والاضطرار دليل على خذلانه له وهذا أمر منهي عنه.
ـــــــــــــــــــــــــــ
64) البخاري في كتاب الإكراه ، باب " يمين الرجل لصاحبه أنه أخوه " ( 6/2550 رقم 6552 )
65) مسلم في كتاب البر والصلة ، باب " تحريم ظلم المسلم ... " ( 4/1986 رقم 2564 )
66) شرح صحيح مسلم ( 16/103 )
67) عمدة القاري ( 12/289 )
العامل الثالث
حسن الخلق(8/34)
27- (1) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول :
" إن من خياركم أحسنكم أخلاقاً "(68)
28- (2) عن النواس بن سمعان الأنصاري رضي الله عنه قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البِرّ ، والإثم ؟ فقال : " البِرّ حسن الخلق ، والإثم ما حاك في صدرك وكرهتَ أن يطلع عليه الناس "(69)
تعليقات العلماء على الأحاديث:
قال القاضي عياض:(70) " هو مخالطة الناس بالجميل منها ، والبشر والتودد لهم ، والإشفاق عليهم ، والاحتمال ، والحلم والصبر في المكاره ، وترك الاستطالة والكبر على الناس والمؤاخذة ، واستعمال الغضب والسلاطة والغلظة " أهـ
وقال ابن علان الصديقي:(71) " فيه : دعاءُ حُسْنِ الخلق إلى المحاسن والانكفاف عن المساوئ ، ومن كان كذلك فلا شك في كونه من الخيار والأخيار " أهـ
دلالات الأحاديث وفوائدها:
1) التخلق بآداب الشريعة والتأدب بآداب الله التي أدب بها عباده.
2) الحث على حسن الخلق لمنزلته العظيمة في الإسلام وأنه ينجي من الإثم والمعصية.
3) حسن الخلق ميدان للتنافس بين المؤمنين فمن سبق فيه كان من خيار المؤمنين وأكملهم إيماناً.(8/35)
4) التخلق بالأخلاق الحميدة كبذل الندى والرفق والحلم والأناة والعدل والإنصاف والإحسان.
5) حسن الخلق يقتدر به صاحبه على فعل المحاسن وترك المساوئ.
6) فضيلة حسن الخلق لأنه يُورث محبة الله ومحبة عباده.
ـــــــــــــــــــــــــــ
68) البخاري في كتاب المناقب ، باب "صفة النبي صلى الله عليه وسلم " ( 3/1305 ـ 1306 رقم 3366 ) ، ومسلم في كتاب الفضائل ، باب " كثرة حيائه صلى الله عليه وسلم " ( 4/1810 رقم 2321 )
69) مسلم في كتاب البر والصلة ، باب " تفسير البر والإثم " ( 4/1980 رقم 2553 )
70) إكمال المعلم ( 7/285 )
71) دليل الفالحين ( 3/80 )
العامل الرابع
العفو عن الزلات وستر العورات
29- (1) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً "(72)
30- (2) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
" ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة "(73)
31- (3) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يستر عبدٌ عبداً في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة "(74)
تعليقات العلماء على الأحاديث:(8/36)
قال الباجي:(75) " يريد رفعة في قلوب الناس ، وقوة على الانتصار " أهـ
وقال القاضي عياض:(76) " إن من عُرف بالصفح والعفو ساد ، وعظم في القلوب ، وزاد عزه " أهـ
دلالات الأحاديث وفوائدها:
1) أن من عُرِف بالعفو والصفح ساد وعظم في قلوب الناس.
2) الحث على ستر عورات المسلمين لئلا يتسلط أهل الشر على إيذائهم واستدراجهم إلى مراتع السوء.
3) من ستر عبداً في الدنيا ستره الله يوم القيامة ، إما بغفران ذنوبه فلا يسأله عنها ، أولا يفضحه على رؤوس الأشهاد.
4) من رأى من أخيه ذنباً أو خطأً ينبغي عليه أن يستر عليه أو ينصح له.
ـــــــــــــــــــــــــــ
72) مسلم في كتاب البر والصلة ، باب " استحباب العفو والتواضع " ( 4/2001 رقم 2588 )
73) البخاري في كتاب المظالم ، باب " لا يظلم المسلمُ المسلمَ ولا يُسلمه " ( 2/862 رقم 2310 ) ، ومسلم في كتاب البر والصلة ، باب " تحريم الظلم " (4/1996 رقم 2580 )
74) مسلم في كتاب البر والصلة ، باب " بشارة من ستر الله عيبه في الدنيا بأن يستر عليه في الآخرة " ( 4/2002 رقم 2590 )
75) المنتقى شرح موطأ مالك ( 9/515 )
76) إكمال المعلم ( 8/59 )
العامل الخامس
الشفاعة(8/37)
32- عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جاءه السائل ، أو طُلبت إليه حاجة ؟ قال : " اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء "(77)
تعليقات العلماء على الحديث:
قال القاضي عياض:(78) " إن معونة المسلم في كل حال بفعل أو قول فيها أجر ... وهي جائزة فيما لا حَدّ فيه عند السلطان وغيره " أهـ
وقال القاري:(79) " ولا يأبى كبيرٌ أن يشفع عند صغير فإن شفع عنده ولم يقضها له لا ينبغي له أن يؤذي الشافع ، فقد شفع رسول الله صلى الله عليه وسلم عند بريرة رضي الله تعالى عنها لترد زوجها فأبت " أهـ
وقال ابن علان الصديقي:(80) " فيه الحض على الخير بالفعل والتسبب إليه بكل وجه ، والشفاعة إلى الكبير في كشف كربة ، أو معونة ضعيف ، إذ ليس كل أحد يقدر على الوصول للرئيس والتمكن منه ليوضح له مراده ليعرف حاله على وجهه ، ويُستثنى ما لا تجوز الشفاعة فيه وذلك الحدود التي لله " أهـ
دلالات الحديث وفوائده:
1) الحض على الخير والتسبب إليه بكل وجه ، ومن ذلك الشفاعة إلى الكبير ومعونة الضعيف إذ ليس كل أحد يقدر على تبيين حاله للمسئول.
2) أن الثواب حاصل بالشفاعة سواء حصل المشفوع به أم لا.(8/38)
3) أن الشفاعة لا تجوز في الحدود أو في أمر فيه ضرر على أحد من المسلمين .
ـــــــــــــــــــــــــــ
77) البخاري في كتاب الزكاة ، باب " التحريض على الصدقة والشفاعة فيها " ( 2/520 رقم 1365 ) ، ومسلم في كتاب البر والصلة ، باب " استحباب الشفاعة فيما ليس بحرام " ( 4/2026 رقم 2627 )
78) إكمال المعلم ( 8/107 )
79) مرقاة المفاتيح ( 8/298)
80) دليل الفالحين ( 2/39 )
العامل السادس
الإصلاح بين الناس
33- (1) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" كل سلامي من الناس عليه صدقة : كل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين الاثنين صدقة "(81)
34- (2) عن أم كلثوم بنت عقبة رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فَيَنْمي خيراً ، أو يقول خيراً "(82)
تعليقات العلماء على الأحاديث:
قال السندي:(83) " ليس من يصلح بين الناس كاذباً فهو من القلب ، وليس المراد نفي ذات الكذب بل نفي إثمه ، وقد يرخص في بعض الأوقات في الفساد القليل الذي يؤمل فيه الصلاح الكثير" أهـ
دلالات الأحاديث وفوائدها:(8/39)
1) ينبغي على المسلمين أن يصلحوا بين إخوانهم في الدين إذا ما حصل بينهم خصام أو خلاف لأنهم جميعاً إخوة.
2) الإصلاح بين الناس يكون بالعدل لأن إقامة العدل في الأرض سمة من سمات أهل الإسلام.
3) السعي للإصلاح بين الخصوم ، قربة إلى الله عز وجل.
4) الإصلاح بين المتخاصمين يكون به قطعاً للشر وحسماً للقطيعة بينهم.
5) الكذب حرام ومن كبائر الذنوب لما يترتب عليه من الضرر والفساد ولكن أُبيح في الإصلاح بين المسلمين المتخاصمين لما يترتب عليه من المصالح.
ـــــــــــــــــــــــــــ
81) البخاري في كتاب الجهاد ، باب " من أخذ بالركاب ونحوه " ( 3/1090 رقم 2827) ، ومسلم في كتاب الزكاة ، باب " بيان أن اسم الصدقة قد يقع على كل نوع من المعروف " ( 2/699 رقم 1009)
82) البخاري في كتاب الصلح ، باب " ليس الكاذب الذي يُصلح بين الناس " ( 2/958 رقم 2546) ، ومسلم في كتاب البر والصلة ، باب " بيان تحريم الكذب وبيان المباح منه " ( 4/2011 رقم 2605 )
83) حاشية صحيح البخاري ( 2/210 )
العامل السابع
التيسير والإعانة وتفريج الكربات وقضاء الحاجات(8/40)
35- (1) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة...والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه "(84)
36- (2) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كل سلامي من الناس عليه صدقة:... وتعين الرجل على دابته فتحمله عليها ، أو ترفع عليها متاعه صدقة "(85)
37- (3) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة "(86)
تعليقات العلماء على الأحاديث:
قال النووي:(87) " في هذا فضل إعانة المسلم وتفريج الكرب عنه ، ويدخل في كشف الكربة وتفريجها من أزالها بماله ، أو جاهه ، أو مساعدته ، والظاهر أنه يدخل فيه من أزالها بإشارته ، ورأيه ، ودلالته " أهـ
وقال الحافظ:(88) " فيه : حض على التعاون ، وحسن التعاشر والألفة " أهـ
دلالات الأحاديث وفوائدها:
1) فضل التيسير على المعسر والقرض الحسن بين المسلمين.
2) إعانة العبد لأخيه المسلم سبب لعون الله للعبد.(8/41)
3) إعانة الملهوف والتفريج عن المكروب سبب في رحمة الله عز وجل لعبده يوم القيامة.
4) السعي لقضاء حاجات المسلمين وتفريج همومهم قربة إلى الله عز وجل.
ـــــــــــــــــــــــــــ
84) مسلم في كتاب الذكر والدعاء ، باب " فضل الاجتماع على تلاوة القران وعلى الذكر " ( 4/2074 رقم 2699 )
85) البخاري في كتاب الجهاد ، باب " من أخذ بالركاب ونحوه " ( 3/1090 رقم 2827) ، ومسلم في كتاب الزكاة ، باب " بيان أن اسم الصدقة قد يقع على كل نوع من المعروف " ( 2/699 رقم 1009)
86) البخاري في كتاب المظالم ، باب " لا يظلم المسلمُ المسلمَ ولا يسلمه " ( 2/862 ـ 863 رقم 2310 ) ، ومسلم في كتاب البر والصلة ، باب " تحريم الظلم " ( 4/1996 رقم 2580 )
87) شرح صحيح مسلم ( 16/112 ) 88) فتح الباري ( 5/385 )
العامل الثامن
تعظيم حرمات المسلمين ( الدماء والأموال والأعراض )
38- (1) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه : " كل المسلم على المسلم حرام ، دمه ، وماله ، وعرضه "(89)
39- (2) عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه قال : " فإن دماءكم ، وأموالكم ، وأعراضكم عليكم حرام "(90)(8/42)
تعليقات العلماء على الأحاديث:
قال النووي:(91) " المراد بهذا كله بيان توكيد غلظ تحريم الأموال ، والدماء ، والأعراض والتحذير من ذلك " أهـ
وقال ابن علان الصديقي:(92) " بدأ بالدماء مع أن الأعراض أخطر ! لأن الابتلاء بها أكثر وخطرها أكبر، ومن ثم كان أكبر الكبائر بعد الشرك القتل على الأصح ، وقدم الأموال على الأعراض لأن ابتلاء الناس بالجناية فيها أكثر " أهـ
وقال:(93) " قال ـ في فتح الإله ـ : المراد منه تحريم التعرض للإنسان بما يعير أو ينقص به في نفسه أو أحد من أقاربه ، بل يلحق به كل من له به علاقة بحيث يئول تنقيصه أو تعييره إليه " أهـ
دلالات الأحاديث وفوائدها:
1) تحريم دم المسلم وماله وعرضه دون سبب شرعي.
2) من حق المسلم على المسلم حفظ دمه وماله وعرضه.
3) تعظيم حرمات المسلمين وأنها عند الله بمكان.
4) الدماء والأموال والأعراض من الضرورات الخمس التي أمر الله بالمحافظة عليها.
ـــــــــــــــــــــــــــ
89) مسلم في كتاب البر والصلة ، باب " تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه وعرضه وماله " ( 4/1986 رقم 2564)(8/43)
90) البخاري في كتاب الحج ، باب " الخُطبة أيام منىً " ( 2/619 ـ 620 رقم 1652 ) ، ومسلم في كتاب القسامة ، باب " تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال " ( 3/1305 ـ 1306 رقم 1679 )
91) شرح صحيح مسلم ( 11/ 140 )
92) دليل الفالحين ( 1/532 )
93) الموضع السابق
العامل التاسع
النهي عن تلقي الركبان وبيع حاضر لباد وبيع الرجل على بيع أخيه
وعن النجش والتصرية والسوم
40- (1) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ُيتلقى الركبان ، ولا يبيع حاضر لباد "(94)
41- (2) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تلقوا الركبان ، ولا يبع بعضكم على بيع بعض "(95)
42- (3) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نهى عن النجش ، والتصرية ، وأن يستام الرجل على سوم أخيه "(96)
تعليقات العلماء على الأحاديث:
قال الباجي:(97) " ووجه ذلك أن هذا فيه مضرة عامة على الناس لأن من تلقاها أو اشتراها غلاها على الناس وانفرد ببيعها ، فمُنع من ذلك ليصل بائعوها بها إلى البلد فيبيعونها في أسواقها فيصل كل أحد إلى شرائها والنيل من رخصها ".(8/44)
وقال النووي:(98) " قال العلماء : وسبب التحريم إزالة الضرر عن الجالب وصيانته ممن يخدعه... فالشرع ينظر في مثل هذه المسائل إلى مصلحة الناس ، والمصلحة تقتضي أن ينظر للجماعة على الواحد لا للواحد على الواحد ، فلما كان البادي إذا باع بنفسه انتفع جميع أهل السوق واشتروا رخيصاً فانتفع به جميع سكان البلد نظر الشرع لأهل البلد على البادي ، ولما كان في التلقي إنما ينتفع المتلقي خاصة وهو واحد في قبالة واحد لم يكن في إباحة التلقي مصلحة لا سيما وينضاف إلى ذلك علة ثانية وهي لحوق الضرر بأهل السوق في انفراد المتلقي عنهم بالرخص وقطع المواد عنهم وهم أكثر من المتلقي ، فنظر الشرع لهم عليه " أهـ
ـــــــــــــــــــــــــــ
94) البخاري في كتاب الإجارة ، باب " أجر السمسرة " ( 2/795 رقم 2154) ، ومسلم في كتاب البيوع ، باب " تحريم الحاضر للبادي " ( 3/1157 رقم 1521)
95) البخاري في كتاب البيوع ، باب " النهي للبائع أن لا يُحفّل الإبل ... " ( 2/755 رقم 2043 ) ، ومسلم في كتاب البيوع ، باب " تحريم بيع الرجل على بيع أخيه " ( 3/1155 رقم 1515)(8/45)
96) البخاري في كتاب البيوع ، باب " الشروط في الطلاق ... " ( 2/971 رقم 2077) ، ومسلم في كتاب البيوع ، باب " تحريم بيع الرجل على بيع أخيه " ( 3/1155 رقم 1515)
97) المنتقى شرح موطأ مالك ( 6/526 )
98) شرح صحيح مسلم ( 10/132 )
دلالات الأحاديث وفوائدها:
1) تحريم تلقي الركبان القادمين بالسلع قبل أن يحلوا في الأسواق.
2) تحريم بيع السلعة المجلوبة حتى تصل إلى السوق ويَعرف صاحبها ثمنها فيبيعها على بينة دون غرر أو ضرر.
3) تحريم الغرر والضرر بكل أشكاله وأنواعه.
4) تحريم بيع الحاضر للباد وهو : أن يجئ البلد غريبٌ بسلعة يريد بيعها بسعر الحال فيأتيه بلدي حاضر فيقول له : ضعه عندي لأبيعه لك بالتدريج بأغلى من هذا السعر.
5) تحريم النجش في البيع وهو : زيادة في ثمن سلعة لا رغبة له في شرائها بل ليخدع غيره.
6) تحريم التصرية وهي : جمع اللبن في ضرع الناقة أو الشاة عند إرادة بيعها حتى يعظم ضرعها غِشاً وخديعة فيظن المشتري أن كثرة لبنها عادة لها مستمرة.
7) تحريم السوم على سوم المسلم بعد استقرار الثمن وهو : أن يكون مالك السلعة والراغب فيها قد اتفقا على البيع ولم يعقداه فيقول آخر للبائع : أنا أشتريها منك.(8/46)
8) تحريم بيع الرجل على بيع أخيه وهو : أن يقول للمشتري بعد عقد البيع وهو في المجلس أو بشرط الخيار : افسخ العقد وأبيعك مثله بأقل من ثمنه ، أو أحسن منه بثمنه ، وكذا الشراء بأن يقول للبائع : افسخ العقد لآخذه منك بأكثر.
9) تحريم كل ما فيه تضييق على الناس وإضرار بهم.
10) الإسلام ضمن للجاهل حقه أثناء البيع والشراء.
11) الابتعاد عن كل ما يُحدِث الفرقة والشقاق ويوغر الصدور بالحقد والكراهية بين الناس.
12) حِرْص الإسلام على تآلف المسلمين وعدم تفرقتهم والمحافظة على كرامتهم.
العامل العاشر
النهي عن خطبة الرجل على خطبة أخيه حتى يأذن أو يترك
43- عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يَخْطِبُ الرجلُ على خِطْبةِ أخيه حتى يترك الخاطب قبله ، أو يأذن له الخاطب "(99)
تعليقات العلماء على الحديث:
قال الزرقاني:(100) " والمعنى في ذلك : ما فيه من الإيذاء والتقاطع " أهـ
وقال أبو الطيب:(101) " وذلك للتحريض على كمال التودد وقطع صور المنافرة ، أو لأن كل المسلمين إخوة إسلاماً " أهـ
دلالات الحديث وفوائده:
1) تحريم الخِطْبةَ على الخِطْبَةِ وصورتها أن يطلب فسخ الخطبة الأولى ليخطبها هو.(8/47)
2) تجوز خِطْبة الرجل على خِطْبة أخيه في حالتين :
أ- أن يأذن الخاطب الأول في ذلك .
ب- أن يترك الخاطب الأول خطبتها.
3) الإسلام جمع المؤمنين تحت ظله وآخى بينهم على منهج الله ولذلك ينبغي الحرص كل الحرص على توثيق عرى الأخوة الإيمانية.
ـــــــــــــــــــــــــــ
99) البخاري في كتاب النكاح ، باب " لا يخطب على خطبة أخيه حتى ينكح أو يدع " ( 5/1975 رقم 4848 ) ، ومسلم في كتاب النكاح ، باب " تحريم الخطبة على خطبة أخيه حتى يأذن أو يترك " ( 2/1032 رقم 1412 )
100) شرح موطأ مالك ( 3/124 )
101) عون المعبود ( 6/93 )
العامل الحادي عشر
النهي عن الغش والخداع
44- (1) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من غشنا فليس منا "(102)
45- (2) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رجلاً ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم أنه يُخْدَعُ في البيوع ، فقال : " إذا بايعت فقل لا خَلابة "(103)
تعليقات العلماء على الأحاديث:
قال ابن عبد البر:(104) " وأما الخديعة والخلابة التي فيها الغش وستر العيوب ، فمحظورة على الناس كلهم " أهـ(8/48)
وقال الحافظ :(105) " قال المهلب : ولا يدخل في الخداع المحرم الثناء على السلعة والإطناب في مدحها فإنه متجاوز عنه ولا ينتقض به البيع " أهـ
وقال الزرقاني:(106) " قال التوربشتي : كان الناس في ذلك الزمان إخواناً لا يَغبِنون أخاهم المسلم وينظرون له أكثر ما ينظرون لأنفسهم " أهـ
دلالات الأحاديث وفوائدها:
1) النهي عن الغش والخداع في التعامل بين الناس.
2) تعمد الغش والخداع يلحق الضرر بالمسلمين.
3) ثبوت الخيار للمشتري وحقه في رد السلعة إذا خُدع فيها واشترط ذلك.
4) الغش والخداع ليس من هدي النبي صلى الله عليه وسلم ولا من سنته.
ـــــــــــــــــــــــــــ
102) مسلم في كتاب الإيمان ، باب " قول النبي صلى الله عليه وسلم من غشنا فليس منا " ( 1/99 رقم 101 )
103) البخاري في كتاب البيوع ، باب " ما يُكره من الخداع في البيع " ( 2/745 رقم 2011 ) ، ومسلم في كتاب البيوع ، باب " من يُخدع في البيع " ( 3/1165 رقم 1533 )
104) التمهيد ( 17/7 )
105) فتح الباري ( 14/353 )
106) شرح موطأ مالك ( 3/341 )
العامل الثاني عشر
النهي عن حمل السلاح على المسلمين أو الإشارة به إلى أحدهم(8/49)
46- (1) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من حمل علينا السلاح فليس منا "(107)
47- (2) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يُشِيرُ أحدُكم على أخيه بالسلاح فإنه لا يدري لعل الشيطان يَنْزِغُ في يده فيقع في حفرة من النار"(108)
تعليقات العلماء على الأحاديث:
قال ابن بطال:(109) " لأن من حق المسلم على المسلم أن يَنْصُرَه ولا يَخْذِلَه ولا يُسْلِمَه ، وأن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً ، فمن خرج عليهم بالسيف بتأويل فاسد رآه فقد خالف ما سنّه النبي صلى الله عليه وسلم من نصرة المؤمنين ، وتعاون بعضهم لبعض " أهـ
وقال الحافظ:(110) " ومعنى الحديث : حمل السلاح على المسلمين لقتالهم به بغير حق لما في ذلك من تخويفهم وإدخال الرعب عليهم " أهـ
وقال القاري:(111) " قال في الأزهار : لأنه سبب الإيذاء ، والإيذاء حرام وتهييج للفتنة والعداوة " أهـ
دلالات الأحاديث وفوائدها:
1) أن حمل السلاح على المسلمين ليس من الدين في شيء.
2) تحريم قتال المسلم أو قتله وتغليظ الأمر فيه.
3) تحريم الإشارة إلى المسلم بالسلاح وإن كان مازحاً أو لاعباً.(8/50)
4) إشارة السلاح إلى المسلم ترويع له ، وترويعه محرم شرعاً.
ـــــــــــــــــــــــــــ
107) مسلم في كتاب الإيمان ، باب " قول النبي صلى الله عليه وسلم من غشنا فليس منا " ( 1/99 رقم 101 )
108) أخرجه البخاري في كتاب الفتن ، باب " قول النبي صلى الله عليه وسلم من حمل علينا السلاح فليس منا " ( 6/2592 رقم 6661 ) ، ومسلم في كتاب البر والصلة ، باب " النهي عن الإشارة بالسلاح إلى مسلم " ( 4/2020 رقم 2617 )
109) شرح صحيح البخاري ( 10/16 )
110) فتح الباري ( 14/517 )
111) مرقاة المفاتيح ( 1/468 )
الخاتمة
في نهاية المطاف لابد أن أذكر القارئ الكريم بأن أي باحث لابد ـ ومن خلال بحثه ـ أن يجتني فوائد تكون عظيمة الأثر، وأن يتوصل إلي نتائج تكون كبيرة القدر وها أنا ذا أجمل أهم الفوائد والنتائج التي استخلصتها من خلال بحثي هذا :
1) حرص الإسلام على اجتماع المسلمين وقوتهم ، وأن يكون هذا الاجتماع وهذه القوة على الخير
2) أن الألفة بين المسلمين دليل على البراءة من النفاق العملي .
3) أنها دليل على وجود الخير فيمن يألف ويُؤلف .
4) أنها تدعو إلى التناصح والتناصر والمحبة بين أفراد المجتمع المسلم .(8/51)
5) أنها تُحقق التماسك الاجتماعي ، وتُشيع روح المودة بين المسلمين .
6) داعية إلى التوحد الاجتماعي ، ونبذ أسباب الفرقة والمعاداة .
7) تُشيع التعاون بين المسلمين .
8) تُوفر جواً اجتماعياً سليماً لنمو الإنسان المسلم نمواً في إطار مبادئ الإسلام.
إلى غير ذلك من الفوائد المتفرقة في طيات البحث ، وأتوخى هنا الاختصار لا الإطالة ، والله ولي التوفيق .
اللهم هذا الجهد وعليك التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله وصل اللهم على محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
المراجع
1) الآداب : لأبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي (ت 458) ، تحقيق: عبد القدوس نذير ، مكتبة الرياض الحديثة ، السعودية ط 1/ 1407هـ – 1987م .
2) أبهج المسالك بشرح موطأ الإمام مالك: لأبي عبدالله محمد بن عبد الباقي الزرقاني (ت1122) ، دار الفكر ، بيروت ، لبنان ، بدون تاريخ .
3) الأدب المفرد : للإمام أبي عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري (ت 256) ترتيب كمال يوسف الحوت ، عالم الكتب ، بيروت ، لبنان ط 2 / 1405هـ1985م .(8/52)
4) إكمال المعلم بفوائد مسلم : للقاضي عياض بن موسى بن عياض (ت 544) ، تحقيق: د.يحيى إسماعيل ، دار الوفاء ، المنصورة ، مصر ط1 / 1419هـ – 1998م .
5) بهجة الناظرين شرح رياض الصالحين: لأبي أسامة سليم بن عيد الهلالي ، دار ابن الجوزي ، الدمام ، السعودية ط5/1421هـ
6) التحرير والتنوير: لمحمد الطاهر ابن عاشور ، الدار التونسية للنشر والتوزيع ، تونس 1984م
7) تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي : للمباركفوري محمد بن عبد الرحمن (ت 1353هـ) ، دار الفكر ، بيروت ، لبنان ، بدون تاريخ .
8) تطريز رياض الصالحين: للشيخ/فيصل بن عبدالعزيز آل مبارك (ت1376) ، تحقيق: د. عبدالعزيز بن عبدالله آل حمد ، دار العاصمة ، الرياض ، السعودية ط1/1423هـ2002م
9) التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد : للحافظ أبي عمر بن عبد البر القرطبي (ت 463) ، تحقيق: سعيد أعراب ، طبعة وزارة الأوقاف المغربية .
10) دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين: للشيخ/ محمد بن علان الصديقي الشافعي (ت1057) ، دار الريان للتراث ، القاهرة ، مصر ط1/ 1407هـ1987م(8/53)
11) رياض الصالحين: لأبي زكريا محي الدين يحي بن شرف النووي (ت676) ، تحقيق: محمد بن ناصر الدين الألباني ، المكتب الإسلامي ، بيروت ، لبنان ط3/1406هـ1986م
12) شرح صحيح البخاري: لأبي الحسن علي بن خلف ابن بطال (ت449) ، تحقيق: أبوتميم ياسر بن إبراهيم ، مكتبة الرشد ، الرياض ، السعودية ط3/1425هـ2004م
13) شرح صحيح مسلم : لأبي زكريا محي الدين يحي بن شرف النووي (ت676) ، دار الفكر ، بيروت ، لبنان ، بدون تاريخ .
14) صحيح البخاري : للإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري (ت 256) ، ضبطه ورقمه : د. مصطفى ديب البغا ، دار ابن كثير ، دمشق ، سوريا ط3 / 1407هـ 1987م .
15) صحيح البخاري بحاشية السندي: لأبي الحسن محمد بن عبدالهادي السندي (ت1138) ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، لبنان ط1/1419هـ 1998م
16) صحيح مسلم : للإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري (ت 261) ، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي ، المكتبة الإسلامية ، استنابول ط1 / 1374هـ – 1955م
17) عمدة القاري شرح صحيح البخاري: لأبي محمد بدر الدين محمود بن أحمد العيني (ت855) ، دار الفكر ، بيروت ، لبنان ، بدون تاريخ .(8/54)
18) عون المعبود شرح سنن أبي داود : لأبي الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي ، دار الفكر ، بيروت ، لبنان ، بدون تاريخ .
19) العين : لأبي عبد الرحمن الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت 175) ، تحقيق : د.مهدي المخزومي ، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات ، بيروت ، لبنان ، ط1 / 1408هـ – 1988م .
20) فتح الباري : للحافظ علي بن حجر العسقلاني (ت 852) ، دار الفكر ، بيروت ، لبنان ، بدون تاريخ .
21) فيض الباري شرح صحيح البخاري: للإمام محمد أنور الكشميري (ت1352) ، تحقيق: أحمد عزو عنابة ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت ، لبنان ط1/1426هـ2005م
22) الكاشف عن حقائق السنن: للإمام شرف الدين الحسين بن محمد الطيبي (ت743) ، تحقيق: أبو عبدالله محمد بن علي سمك ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، لبنان ط1/1422هـ2001م
23) كشاف اصطلاحات الفنون: للقاضي العلامة محمد بن علي الفاروقي التهانوي (ت1191) ، سهيل أكيدمي ، لاهور ، باكستان ط11413هـ1993م
24) لسان العرب : لابن منظور : محمد بن مكرم الأفريقي (ت 711) ، دار صادر ، بيروت ، ط1 / 1410هـ – 1990م .(8/55)
25) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح: لأبي الحسن علي بن سلطان القاري (ت1014) ، دار الفكر ، بيروت ، لبنان ، بدون تاريخ .
26) المصباح المنير في غريب الشرح الكبير: للإمام أحمد بن محمد الفيومي (ت770) ، دار الفكر ، بيروت ، لبنان ، بدون تاريخ .
27) معالم السنن شرح سنن أبي داود: لأبي سليمان حمد بن محمد الخطابي (ت388) ، تحقيق: عبدالسلام بن عبدالشافي محمد ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، لبنان ط1/1411هـ1991م
28) المفردات في غريب القرآن : لأبي القاسم الراغب الأصفهاني : الحسين بن محمد (ت502) ، تحقيق: محمد كيلاني ، دار المعرفة ، بيروت ، لبنان.
29) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم: لأبي العباس أحمد بن عمر القرطبي (ت 656) ، تحقيق: محي الدين مستو ، وجماعة من المحققين ، دار ابن كثير ، دمشق ، سوريا ط2/1420هـ 1999م
30) المنتقى شرح موطأ مالك: لأبي الوليد سليمان خلف الباجي (ت494) ، تحقيق: محمد بن عبدالقادر عطا ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، لبنان ط1/1420هـ1999م
31) نزهة المتقين شرح رياض الصالحين: للدكتور/ مصطفى بن سعيد الخِن ، ومجموعة من المحققين ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، لبنان ط14/1407هـ1987م(8/56)
بسم الله الرحمن الرحيم
"أثر السُّنّة في التقعيد الفقهي"(1)
مقدّمة
في الوقت الذي يتعرّض فيه الإسلام عامة وشخصية النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - خاصةً للازدراء والسخرية في شوكة الإعلام اليوم، يأتي هذا البحث للرد على هذه المزاعم الباطلة تحت عنوان: "أثر السنة في التقعيد الفقهي" وذلك لأهداف أهمها: 1- إظهار أصالة السُّنّة وصلاحيتها للتطبيق،2- إبراز أهمية القواعد الفقهية في دراسة النوازل المعاصرة، 3- إظهار مكانة السّنّة كمصدر أصلي من مصادر التشريع، 4- تبيان عظمة صرح الفقه الإسلامي عبر قواعده من خلال السُّنّة.
وتأتي أهمية البحث في أنه يؤصّل القواعد الفقهية، ويبيّن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أُوتي جوامع الكَلِم كما أنه يُرغّب العلماء بالتبحُّر في السُّنّة واكتشاف كنوز شخصية هذا النبي الكريم.
__________
(1) بقلم الدكتور محمد عبد الرحمن المرعشلي، دكتوراه في أصول الفقه الإسلامي، أستاذ محاضر في كلية الإمام الأوزاعي- بيروت.(9/1)
لكن ما هي السّنّة؟ وماذا نعني بالقواعد الفقهية؟ ولماذا القواعد وما هو دورها في الفقه الإسلامي؟ كيف يكون لها فروعاً مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بحياة الناس المعاصرة؟ وهل للقواعد مستثنيات؟ وماذا نعني بالتقعيد الفقهي؟ وما هو دور الفقهاء والأصوليين في بناء وتأسيس هذه القواعد؟ وكيف فعلوا ذلك وسطّروه في كتبهم الفقهية من زمن الرسول الكريم- صلى الله عليه وسلم - حتى اليوم ولماذا؟
هذا ما يُحاول البحث الإجابة عليه، إذ المقصود تبيان أثر السّنّة ونتائجها باعتبارها مصدراً من أهم مصادر القواعد الفقهية.
خطة البحث: قسّم البحث إلى مقدمة وتمهيد ومبحثين وخاتمة كالتالي:
التمهيد: وفيه التعريف بالمصطلحات.
المبحث الأول: ألفاظ السنة قواعد (وهو ما يُسمّى بالتقعيد اللفظي).
المبحث الثاني: السّنّة والقواعد (وهو ما يعرف بالتقعيد التعليلي).
الخاتمة وفيها خلاصة البحث وأهم النتائج التي توصّل إليها.(9/2)
حدوده: لم يتعرّض البحث للقواعد المذهبية، وهي التي تختلف باختلاف المذاهب، وتنتهي نصوصها بعلامات الاستفهام عامةً، وكل ما ذكر فيه هو قواعد الاتفاق، كما أنه لم يشرح جميع المفردات والألفاظ المتعلقة بالقواعد الفقهية (كالفرق بين القاعدة والضابط والحُكم، والفرق بين القاعدة الفقهية والقاعدة الأصولية، وتعريف الأشباه والنظائر والنظريات الفقهية) كما لم يذكر تاريخ
هذه القواعد ونشأتها وأشهر مصادرها في المذاهب الفقهية المختلفة إلا لماماً بما تقتضيه الضرورة، فهذه مباحث أصولية وفقهية خارجة عن نطاق موضوع بحثنا، إذ المقصود تبيان أثر السنة في التقعيد الفقهي.
وأسأل الله التّوفيق في عرض وشرح وإبراز مضامين هذا البحث، لتبيان مكانة الرسول الكريم وشخصيّته العظيمة التي هي عنوان هذا المؤتمر الجليل كما قال تعالى { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا } (الأحزاب: 45-46)، والحمد لله رب العالمين.
تمهيد: التعريف بالمصطلحات(9/3)
تعريف الأثر: هو بقيّة الشيء، والتأثير: إبقاء الأثر في الشيء، وأثّر في الشيء: ترك فيه أثراً(1). وقال الجرجاني(2) في "التعريفات(3)": للأثر ثلاثة معانٍ: الأول بمعنى النتيجة، وهو الحاصل من الشيء، وهو الذي نختاره، والمقصود ما ينتج عن الأحاديث النبويّة في تأسيس وبناء القواعد الفقهية.
تعريف السُّنّة: وهي "ما صدر عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - من قولٍ وفعلٍ وتقرير" كما عرّفها الأصوليون(4)، وقال السّرخسيُّ في "أصوله(5): "والمرادُ به شرعاً ما سنّه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -..."
__________
(1) ابن منظور "اللسان" والفيروز آبادي "القاموس" مادة (أ ث ر).
(2) الجرجاني: هو علي بن محمد، الشريف الحسينيّ الحنفي، من كبار العلماء بالعربيّة (ت 816هـ) صاحب، شرح السراجية في علم المواريث"، و "رسالة في علم أصول الحديث" وترجمته في "الفوائد البهية" للكنوي (125)، و "الضوء اللامع" للسخاوي (5/328).
(3) الجرجاني "التعريفات" مادة (أ ث ر) قال: والثاني: العلامة، والثالث: الجزء.
(4) الأنصاري "فواتح الرحموت" (2/96-97).
(5) أصول "السرخسي" (1/113).(9/4)
أهميّتها: والسُّنّة هي المُبيّنة للقرآن الكريم، المُفسّرة لحلاله وحرامه، قال الله تعالى { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } (1) وهي المصدر التشريعي الثاني من مصادر الأحكام التشريعية المتفق عليها بين جمهور علماء المسلمين. قال - صلى الله عليه وسلم -: "ألا إني أُوتيت القرآن ومثله معه (يعني السنة)..." الحديث(2)، وقد استدل الإمام الشافعي في كتابه "الرسالة"(3) وغيره من الأئمة على بيان أهميّة السنّة بأدلة كثيرة، ليس هذا موضعها(4).
__________
(1) النحل/44.
(2) رواه أحمد في "المسند" ضمن حديث طويل، والمروزي في "السنّة" الصفحة (71)، والطبراني في "مسند الشاميين" (2/137) الحديث رقم (1061)، وابن حجر في مقدمة "لسان الميزان" (1/8). وقال: حسّنهُ الترمذي، وصححه الحاكم في "المستدرك" (1/109) والبيهقي في "السنن الكبرى" (7/76) في كتاب النكاح.
(3) الشافعي "الرسالة" الصفحة (73) فيما بعد، طـ شاكر.
(4) انظر ابن كثير "تفسير القرآن العظيم" (1/4). طـ دار الفكر- بيروت.(9/5)
أما التقعيد على وزن (تفعيل) فهو بناء القواعد، واستخراجها من النصوص على أيدي الفقهاء والأصوليين، وهذا اختصاص دقيقٌ جدّاً لم يتهيّأ إلا لفئة معيّنة من علماء الفقه والأصول البارعين، الذين استكملوا أوصافاً معيّنة تؤهلّهم للتقعيد، وتقتضيهم بذل أقصى الجهود العلمية في معرفة الجزئيات والفروع الفقهية ومسائلها مع ربطها بعضها ببعض.
تعريف الفقه والقواعد الفقهية في اللغة والاصطلاح:
تعريف الفقه: أحسن ما قيل فيه هو تعريف الإمام البيضاوي(1) حيث قال: "الفقهُ العلمُ بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية"(2)، لسلامته من الاعتراضات الواردة عليه.
__________
(1) البيضاوي: هو القاضي الشافعي المفسّر، ناصر الدين، أبو سعيد، عبد الله بن عمر (ت 685هـ) صاحب التفسير المسمى "أنوار التنزيل"، وكتاب "منهاج الوصول إلى علم الأصول" وترجمته في "طبقات الشافعية" للسبكي (5/59)، و "بغية الوعاة" للسيوطي (286).
(2) السبكي "الإبهاج" (1/15)، "شرح البدخشي والأسنوي على المنهاج" (1/19) محمد أبو النور "أصول الفقه" (1/7).(9/6)
أما تعريف الإضافة في اصطلاح النّحّاة: فهي نسبة تقييدية بين اسمين تُوجب لثانيهما الجرّ، والمراد بها هنا اختصاص المضاف بالمضاف إليه (باعتبار مفهوم المضاف إليه) فقواعد الفقه تختصّ بالفقه باعتبار أنّ فروعه مبنيّة على تلك القواعد(1).
والقاعدة لغة: الأساس، ومنه قوله تعالى: { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ } (2). والقاعدة اصطلاحاً: هي كما قال الجرجاني: "قضيّة كليّة مُنطبقة على جميع جزئياتها"(3).
__________
(1) السيوطي "جمع الهوامع شرح جمع الجوامع" (2/46).
(2) البقرة/ 127.
(3) الجرجاني "التعريفات" الصفحة (251)، وانظر الكفوي "الكليات" القسم الرابع، الصفحة (48).(9/7)
وهكذا يمكننا القول بأن قواعد الفقه هي: (نصوص موجزة تتضمّن أحكاماً تشريعية عامة في الحوادث التي تدخل تحت موضوعها وتتجدد بتجدد الزمن، فتشمل ما كان وما سيكون من وقائع وحوادث). فميزتها إيجاز الصياغة مع عموم المعنى، والاستيعاب للفروع الجزئية، وأحكامها أغلبية غير مطردة -فلها مستثنيات كما سنرى لذا لا تجوز الفتوى عن طريقها- وذلك لأنها كمنهج قياس، لو تخلّف عنها بعض الجزئيات، فإن ذلك لا يقدح في عمومها، وهذا ما أشار إليه الشاطبي في "الموافقات"(1).
وتنقسم هذه القواعد إلى قواعد كبرى وهي التي تضم ما لا حصر له من الفروع كالقواعد الكلية الخمس المعمول بها في كل المذاهب(2)، وقواعد صغرى أقل شمولاً يندرج تحتها عدد أقل من الفروع (10) أو (20) أو مسألة أو مسألتان، وإلى قواعد مذهبية: تختلف باختلاف المذاهب وهي خارج موضوع بحثنا.
__________
(1) الشاطبي "الموافقات" (3/169-170)، وانظر الزركشي "المنثور في القواعد" (1/16)، والزرقا "المدخل الفقهي العام" (2/941).
(2) وهي قاعدة: "اليقين لا يزول بالشك"، وقاعدة: "المشقة تجلب التيسير"، وقاعدة: "الضرر يزال"، وقاعدة: "العادة محكمة"، وقاعدة: "الأمور بمقاصدها".(9/8)
وقد مرت هذه القواعد عبر تاريخ الفقه الإسلامي بثلاثة مراحل، أُولاها: طور النشوء والتكوين، وذلك في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة والتابعين رضي الله عنهم حتى عصر الفقهاء المجتهدين (نحو القرن 5هـ)، وثانيها: طور النُموّ والتدوين الممتد حتى القرن (9هـ)، وثالثها طور الرسوخ والتنسيق الذي تمثله خير تمثيل "المجلة العدلية"(1) التي وضعت في أواخر القرن (13هـ) في عصر الدولة العثمانية.
__________
(1) انظر تفاصيل ذلك كله عند علي الندوي في كتابه "القواعد الفقهية" الصفحات (90-158).(9/9)
أما مصادر القواعد الفقهية فالقرآن أولاً، والسنة موضوع بحثنا فقط، أو هما معاً، ثم أفعال وأقوال الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين، وأخيراً العقل(1). وأما كتب القواعد الفقهية فدوّنها الفقهاء(2).
المبحث الأوّل: ألفاظ السُّنّة قواعد
__________
(1) الندوي "القواعد الفقهية" الصفحة (159)، الباحسين "القواعد الفقهية" الصفحة (112) ط مكتبة الرشد- الرياض- الأولى 1998م.
(2) على المذاهب الأربعة في كتاب "الأشباه والنظائر" كما فعل السيوطي على المذهب الشافعي وابن نجيم في كتابه "الأشباه" على المذهب الحنفي وشرحه الحموي في كتابه "غمز عيون البصائر" وغيرهم، انظر تفاصيل ذلك عند الندوي "القواعد الفقهية" الصفحة (162).(9/10)
والمقصود القواعد الفقهية التي بِنْيَتُها لفظ الأحاديث النبوية نفسها، وقد أُوتي - صلى الله عليه وسلم - جوامع الكَلِم، وسطّرها الفقهاء في بناء القواعد اللفظية وهي البذور الأولى للتقعيد الفقهي، وتمثل طور النشوء والتكوين من تاريخ القواعد، ويفوق عددها المئات لو أردنا إحصاءها، بما لا يستطيع حصره بحث، فاكتفينا في هذا المبحث بتمثيل تسع قواعد منها فقط، واحدة كُبرى هي قاعدة "لا ضَرَر ولا ضِرار" لأنّها تتضمن نصف الفقه الإسلامي، والقواعد الباقية هي أصول وأسس لمبادئ عامة شرحناها. وبيّنا في كل قاعدة ألفاظها، والقواعد الصغرى المندرجة تحتها، ومكان ورودها في "المجلة العدلية" ومن ذكرها من الفقهاء والأصوليين في كتب "الأشباه والنظائر"، و"القواعد" بألفاظها المتعددة في بطون كتب الفقه على مذاهبه المتعددة، كل ذلك مع تخريج أحاديثها وتبيان درجة صحتها في ميزان النقد الحديثي، وشرح غريب ألفاظها ومعانيها، وإبراز أهميتها كمبادئ وأصول شملت مختلف الفروع، مع إعطاء أمثلة على فروعها، اثنان أو ثلاثة، حاولنا أن تستوعب ”فقه النوازل" والأُمور المعاصرة والمستجدّات الاقتصادية والمالية، والقضائية، والجنائية، والطبيّة،(9/11)
والاجتماعية، والتعبّدية وغيرها.
وربما كان للقاعدة مستثنيات (لأن حكمها أكثري لا كلي) فإن كان: مَثَّّلنا لذلك بِمَثلٍ أو مثلَيْن حتى يتّضح في الذهن فهمها ومقاصدها، وسيتكرر هذا المنهج العلمي بشكل مطرد في كل مرة ننتقل فيها من قاعدة إلى قاعدة أخرى، كل ذلك في سبيل إبراز مكانة السنة النبوية في التقعيد اللفظي وبيان أثر ذلك في حياة الأفراد والمجتمعات.
المثال الأول: قاعدة: "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام"(1)
__________
(1) السرخسي: "المبسوط" (16/8)، وقد رُوي متن الحديث عن عددٍ من الصحابة. من طرقٍ معلولة، وأهل الحديث من المتأخرين إنما = =يصححونه لكثرة هذه الطرق، ويُقويّه استشهاد مالك به في أكثر من موقع، فالحديث صحيح بمجموع طُرُقه. ولعل أجود طرقه، ما رواه الحاكم في "المستدرك" (2/57، 58) كتاب البيوع ووافقه الذهبي في "التلخيص" عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا ضرر ولا ضِرار، منْ ضارّ ضارَّه الله، ومن شاقّ: شاق اللهُ عليه"، وقد ورد الشطر الآخر من الحديث في "صحيح البخاري" (13/161)، (93)- كتاب الأحكام، (1)- باب من شاق شق الله عليه الحديث رقم (7152)، بلفظ: "مَنْ شاقَّ شقّق الله عليه يوم القيامة"، وأخرجه مالك في "الموطأ" مرسلاً (2/290)، كتاب الأقضية، (16)- باب القضاء في المرفق، الحديث (2171)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (6/69) باب لا ضرر ولا ضرار، والدارقطني في السنن (3/77) الحديث رقم (288) من حديث أبي سعيد الخدري، وابن ماجه في "السنن" (2/784)، (13)- كتاب الأحكام، (2)- باب من بنى في حقه ما يضرّ بجاره، الحديثان (2341) من حديث ابن عباس وفي إسناده جابر الجعفي متهم، والحديث (2340) من حديث عُبادة بن الصامت، وفي "الزوائد": رجاله ثقات إلا أنه منقطع.(9/12)
م/19، 76، 85
أصل هذه القاعدة حديثه - صلى الله عليه وسلم - وهو من جوامع الكلم، بالنص.
ومن ألفاظها 1- القاعدة الكلية الكبرى: "الضرر يُزال"(1)
ومن القواعد الصغرى التي تندرج تحتها: 2- قاعدة: "الضرر لا يُزال بالضَّرر"(2).
وقاعدة: "ما ثَبَتَ (جاز) بعُذر بطل بزواله"(3).
ويتعلق بها قاعدة: "الضروريات (الضرورات) تبيح المحظورات"(4) بشرط عدم نقصانها.
وقاعدة "ما أبيح للضرورة يقدّر بقدرها"(5).
شرحها: الضّررُ: هو التقدم بالمساءة والإيذاء للغير، وإلحاق مفسدةٍ بالغير مطلقاً،
__________
(1) السيوطي "الأشباه والنظائر" الصفحة (83)، ابن نجيم "الأشباه والنظائر" الصفحة (85).
(2) الزركشي "المنثور في القواعد"، (2/321)، ابن نجيم "الأشباه" الصفحة (87)، السيوطي "الأشباه" الصفحة (86).
(3) ابن نجيم "الأشباه والنظائر" الصفحة (86)، السيوطي "الأشباه" الصفحة (85).
(4) الزركشي المنثور في القواعد" (2/317)، السيوطي "الأشباه" الصفحة (84).
(5) الزركشي "المنثور في القواعد" (2/320)، ابن نجيم "الأشباه" الصفحة (86)، السيوطي "الأشباه" الصفحة (84).(9/13)
والضرار: مُقابلة الضرر بالضرر، أو إلحاق مفسدة بالغير لا على وجه الجزاء المشروع(1)
__________
(1) أورد حافظ المغرب ابن عبد البر في "التمهيد" (20/158) أقوالاً ووجوهاً متعدّدة تحدّد مدلول الكلمتين عند شرح هذا الحديث، نذكر منها ما يلي:
- وقال الخشني: الضرر: الذي لك فيه منفعة، وعلى جارك فيه مضرة، والضرار: الذي ليس فيه منفعة وعلى جارك فيه المضرة. وقال غيره: الضرر والضرار مثل القتل والقتال، فالضرر أن تضرّ بمن لا يضرّك، والضرار أن تضرّ بمن قد أضر بك من غير جهة الاعتداء بالمثل والانتصار بالحقّ".
وقال ابن الأثير في "النهاية" مادة (ض رر)" "لا ضرر: أي لا يضر الرجل أخاه فينقِصُهُ شيئاً من حقّه، والضّرارُ: فِعال من الضُرّ: أي لا يُجازيه على إضراره بإدخال الضرر عليه.(9/14)
. ومفاد الحديث: أنه يحرمُ على المُسلم أن يضُرّ أخاه لا ابتداءً ولا جزاءً، فالضررُ محرّم بالنص، لأن (لا) النافية الاستغراقية تفيد المنع من كل أنواع الضرر في الشرع. وهذه القاعدة هي من القواعد الشائعة المتداولة عن طريق "مجلة الأحكام العدلية" تناولها الفقهاء باعتبار أنها قاعدة جامعة لكثير من الأحكام الشرعية العملية ولها تطبيقات واسعة في الفقه الإسلامي لعلها تتضمن نصف الفقه، وهي من أهم القواعد وأشملها فروعاً، وأساس منع الفعل الضارّ، وميزان القاضي في تقرير القضايا والحكم عليها بالعدل والإنصاف.
من تطبيقاتها: 1- إذا أحدث المالكُ في مُلكه ما يضرُّ جاره مثل رفْع صوت المذِياع وسط الليل، أو هزٍّ، أو دقٍّ، أو رائحةٍ كريهةٍ ضارّة، فإنه يُمنع من ذلك.
النهي عن "إمساك المرأة" قصد الإضرار بها.
النهي عن الضرر في الوصيّة.
المثال الثاني: قاعدة "الخَراجُ بالضّمان"(1) م/85
__________
(1) الزركشي "المنثور في القواعد" (2/119)، السيوطي "الأشباه والنظائر" الصفحة (135)، ابن نجيم "الأشباه والنظائر" الصفحة (151)، "المجلة" المادة (85)، الزرقا "المدخل الفقهي العام" الفقرة (649).(9/15)
من ألفاظها: 1- قاعدة: "الأصل أن وجوب الخَراج باعتبار التمكّن من الانتفاع"(1)
2-قاعدة: "الغُرْم بالغُنْمِ"(2) م/87، وفي لفظ: "المغرم مقابل بالمغنم"(3) وفي لفظ:
"النعمة بقدر النقمة، والنقمة بقدر النعمة"(4).
__________
(1) السرخسي "المبسوط" (3/48، 345)، ابن قدامة "المقنع" (1/513).
(2) المجلة المادة (87)، الزرقا "المدخل الفقهي" فقرة (650)، الزرقا "شرح القواعد" الصفحة (369)، ومعنى الغرم: الخسارة وهو الضمان، ومعنى الغُنم: الربح وهو الخراج. فمفاد القاعدة: أن من عليه الخسارة فله الربح، ومن أمثلة هذه القاعدة: إذا أوقف داراً على سكنى ولده أو قريبه أو الفقير، فإن العمارة والإصلاح على من له السكنى. ومنها: نفقة اللقيط هي من بيت المال، وكذا جنايته، لأن إرثه لبيت المال عند عدم وجود الوارث، لأن بيت المال وارث من لا وارث له.
(3) السرخسي "المبسوط" (22/67).
(4) علي حيدر "درر الحكام" (1/87- 89).(9/16)
أصلها: اللفظ النبوي الشريف: "وهو أن رجُلاً ابتاع عبْداً، فأقام عنده ما يشاء أن يُقيم، ثم وجد به عيباً، فخاصمه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فردّه عليه، فقال الرجل: يا رسول الله! قد استعمل غلامي، فقال عليه الصلاة والسلام: الخَراجُ بالضمان"(1)
__________
(1) حديث حسن لغيره. أخرجه ابن حبان في "الصحيح" (11/298- 299)، (24)- كتاب البيوع، (2)- باب خيار العيب، ذكر البيان بأن مشتري الدابة إذا وجد بها عيباً بعد أن نتجت عنده كان له ردّ الدابّة على البائع بالعيب دون النتاج، الحديثان رقم (4927) و (4928) ذكر البيان بأن الغلام المبيع إذا وجد به العيب يجب أن يردّه إلى بائعه، دون ما استغلّ منه بعد شرائه إياه. وأخرجه ابن ماجه في "السنن" (2/754)، (12) كتاب التجارات، (43)- باب الخراج بالضمان الحديث رقم (2243)، وأحمد في "المسند" (6/80، 116)، وأبو داود في "السنن" (3/500)، (17)- كتاب البيوع، (73)- باب فيمن اشترى عبداً فاستعمله ثم وجد به عيباً الحديث (3510)، وقال: إسناده ليس بذاك، والترمذي تعليقاً في "السنن" بإثر حديث (1285) وقال: هذا حديث =حسن صحيح، والدارقطني في "السنن" (3/53)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (4/21-22)، والحاكم في "المستدرك" (2/14-15)، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي في "التلخيص" والبغوي في "شرح السنة" (2118).(9/17)
(أي ما يخرج من المبيع يضمنه البائع).
شرحها: الخَراج في اللغة: ما خرج من الشيء، فمن الشجرة ثمرتها، ومن الحيوان درّه ونسله، وخراج العبد: غلّته(1)، والضمان في اللغة: هو الكفالة والالتزام، والمقصود به هنا: المؤونة كالإنفاق والمصاريف وتحمل التلف والخسارة والنقص(2) (على البائع إذا خرج من البيع عيباً)، فمفاد القاعدة: أن من يضمن شيئاً(وهو المبيع الذي
__________
(1) قال أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه "الأموال": والخراج في هذا الحديث هو غلة العبد الذي يشتريه الرجل فيستغله زماناً، ثم يعثر منه على عيبٍ دلّسهُ البائع، فيردّه، ويأخذ جميع الثمن (يستردّ ما دفعه)، ويفوز بغلته كلها لأنه كان في ضمانه (أي ضمان البائع) لو هلك هلك من ماله" انتهى.
(2) قال الزركشي في "المنثور" (2/119) معناه: "ما خرج من الشيء من عين ومنفعة وغلّة، فهو للمشتري (عوض ما كان عليه من ضمان الملك) فإنه لو تلف المبيع كان من ضمانه، فالعلة له ليكون الغُنم في مُقابلة الغُرم".وقال شارح المجلة الشيخ محمد طاهر الأتاسي في "شرح المجلة"(1/241): "إن الشيء الذي مؤنته على إنسان، وإذا تلف يكون تلفه عائداً عليه، سواء انتفع بها بنفسه أو تناول غلّتها".(9/18)
يضمنه البائع هنا) إذا تلف (أي المبيع) يكون نفع ذلك الشيء له (أي للبائع) في مقابلة ضمانه حال التّلف، والغُرْم بالغُنم.
أهميتها: جرى هذا الحديث مجرى المثل لاشتماله على معانٍ كثيرة.
من تطبيقاتها: ما قاله البغوي في "شرح السنة" (8/163-164): بعد تعريف المراد بالخَراج، وهو الدخل والمنفعة: اشترى شيئاً(1) فاستغله بأن كان عبداً فأخذ كسبه، أو داراً فسكنها، أو أجّرها، فأخذ غلتها، أو دابة فركبها، أو أكراها، فأخذ الكراء، ثم وجد بها عيباً قديماً، فله أن يرُدّها إلى بائعها، وتكون الغلة للمشتري، لأن المبيع كان مضموناً عليه، فقوله: "الخراج بالضمان" أي: ملك الخراج بضمان الأصل. وكذا في "المجلة" "ودرر الحكام شرح مجلة الأحكام"(2). وقال مؤلفها علي حيدر: وقد حكم عمر بن عبد العزيز في هذه المسألة بالأجرة للبائع، ولكنه لما اطلع بعد ذلك على الحديث الشريف "الخراج بالضمان" نقض ذلك الحكم.
__________
(1) كبيت أو سيارة أو أدوات منزلية- كهربائية وغيره.
(2) "المجلة" (م /85)، علي حيدر "درر الحكام شرح مجلة الأحكام" (1/78).(9/19)
من مستثنياتها: 1- لو أعتقت المرأة عبداً، فإن ولاءه يكون لابنها، ولو جنى جنايةً خطأ (كأن قتل شخصاً)، فالعَقل (أي الدّية) على عصبتها، دونه، فعصبة المرأة هنا عليهم العَقل ولا ميراث لهم بوجود الابن.
المثال الثالث: قاعدة: "لا تَبِعْ ما ليس عندك"(1)
أصلها: 1- حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - عن حكيم بن حزام قال: "أتيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلتُ: يأتيني الرّجُلُ يسألني
من البيع ما ليس عندي، أبتاعُ له من السوق ثم أبيعُه؟ قال: لا تبعْ ما ليس عندكَ"(2).
2- وفي لفظ: "نهاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أبيع ما ليس عندي"(3).
__________
(1) الحصني "القواعد" (4/146).
(3) و (2) حديث حسن صحيح رواه الترمذي في السنن (2/541)- أبواب البيوع، (19)- باب ما جاء في كراهية بيع ما ليس عندك الحديث (1232): ورواه أحمد في "المسند" (3/402، 434)، وأبو داود في "السنن" (3503)، وابن ماجه في "السنن" (2187)، والنسائي في "السنن" (7/289)، والطبراني في "الكبير" (3097 -3105)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (5/267).(9/20)
شرحها: نهى الرسول - صلى الله عليه وسلم - البائع أن يبيع ما لا يملك (لأنه ليس على ثقة من حصوله)، أو غير المقدور على تسليمه، أو بيع المجاهيل، أو بيع الغرر، أو ما هو في ملك غيره، لما يترتب على ذلك من مُنازعة تعصفُ بين المشتري والبائع، وتقطع أوصال المجتمع الإسلامي بالتشاحن والتباغض والتدابر والدعاوى والقضاء.
أهميتها: وهذه القاعدة أصل عظيمٌ من أُصول كتاب البيوع والمعاملات في الأسواق، سدّاً لذريعة المنازعات بين الزبائن والتجار، وحمايةً للدول من بعض الهيمنات الاقتصادية العالمية.
من تطبيقاتها:(9/21)
النهي عن بيع غير المقدور على تسليمه. ومن النهي: بيع حَبَل الحَبَلَة، ففي الحديث: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع حبل الحبلة"، متفق عليه(1)، لأنه معدوم ومجهول وغير مقدور على تسليمه، ومثله النهي عن بيع الغرر(2)، وهو الذي فيه خطر الانفساخ وقد يكون لجهالةٍ في المبيع، أو لجهالة في الثمن أو لعدم القدرة على التسليم كبيع الآبق، وبيع المجهول، وبيع السمك في الماء الكثير، والعصافير في الشجر، واللبن في الضرع، وبيع الحمل في البطن، ومعنى الغرر: الخطر والغرور والخداع وكلها بيوع منهي عنها في الإسلام
__________
(1) متفق عليه. أخرجه البخاري في "الصحيح" (4/356)، (34)- كتاب البيوع، (61)- باب بيع الغرر وحبل الحبلة، الحديث رقم (2143)، ومسلم في "الصحيح" (3/1153)، (21)- كتاب البيوع، (3)- باب تحريم بيع حبل الحبلة، الحديث (1514).
(2) فعند مسلم في "الصحيح" (3/1153)، (21)- كتاب البيوع، (2)- باب بطلان بيع الحصاة، والبيع الذي فيه غرر: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر" الحديث رقم (1513)، وبيع الحصاة فيه تأويلات منها أن يقول: بعتك من هذه الأثواب ما وقعت عليه الحصاة التي أرميها.(9/22)
تحت هذه القاعدة منعاً لبذور المنازعة.
النهي عن بيع غير المملوك (مثل البورصة، الأسهم، الذهب)(1) أو سيارة من المعارض غير موجودة عند العقد، ولو تم الاتفاق على أوصافها وسعرها فهذه مواعدة، وليست عقداً.
النهي عن بيع ملك الغير، فلا يصح للإنسان بيع ما لا يملك ويملكه غيره، بدون إذنه أو بدون تفويض من المالك (والفضولي ضامن).
النهي عن بيع الثمرة قبل بُدُوِّ صلاحها(2)، وعن بيع النّخل حتى يزهُوَ(3) (أي تظهر ثمرته).
__________
(1) إلاّ ما صحّ فيه التوصيف بالذمّة مع مراعاة كل ما اشترطته المجامع الفقهية من ضوابط في المعاملات المستحدثة في الأسواق المالية.
(2) كما في "صحيح مسلم" (3/1165)،(21)- كتاب البيوع، (13)-باب النهي عن بيع الثمار قبل بدوّ صلاحها بغير شرط القطع،الحديث (1534).
(3) أخرجه مسلم في "الصحيح" (3/1165)، (21)- كتاب البيوع، (13)- باب النهي عن بيع الثمار قبل بدوّ صلاحها بغير شرط القطع، الحديث (1535).(9/23)
مستثنياتها: 1- جواز بيع السَّلَم(1)، وقد سمّاه الفقهاء بيع المحاويج، لأنه بيع موصوف، وهو كالسلف وزناً ومعنى، وهو بيع مؤجل بمؤجل، وقد رخّص النبي - صلى الله عليه وسلم - جوازه مع انعدام المعقود عليه، لتعارف العرب عليه في الجاهلية، وعملاً بالعُرف حتى لا يهُزّ الكيان الاقتصادي لمجتمعهم الزراعي.
2- يجوز للوارث بيْع ما يرثه قبل القسمة وقبل قبض نصيبه من الميراث.
المثال الرابع: قاعدة: "لا طاعة لمخلوق في معصية الله (الخالق)"(2)
من ألفاظها: ... 1- قاعدة: "لا طاعة للسلطان في المعصية، وإنما الطاعة في المعروف"(3).
2- قاعدة: "لا طاعة في معصية الله".
... ... 3- قاعدة: "لا ينفذ أمر القاضي إلا إذا وافق الشرع"(4)، وفي لفظ:"لا ينفذ
القضاء إذا ما قُضي بشيءٍ مخالف للإجماع"(5).
__________
(1) "المجلة" (م /123)، والجرجاني "التعريفات" مادة (س ل م).
(2) السرخسي "شرح السير" الصفحة (166، 1503).
(3) أغاجي "شرح الخاتمة" (الصفحة (74).
(4) أغاجي "شرح الخاتمة" الصفحة (74)، عن "أشباه" ابن نجيم الصفحة (125).
(5) ابن نجيم "الأشباه والنظائر" الصفحة (315).(9/24)
شرحها: إذا كانت طاعة السلطان وولي الأمر واجبة بالنص لقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ } (1) فطاعة أولي الأمر ليست مطلقة بل مقيدة، وإنما تجب فيما شرعه الله تعالى وأمر به من مباح ومندوب ومستحب وواجب، وأما المعصية وما يخالف الشرع فلا طاعة، ولو كان سلطاناً قاهراً، أو أباً أو أماً أو زوجاً.
أهميتها: هذه قاعدة جليلة تبين سقوط الحقوق كلها إذا جاء حق الله تعالى، فهو المعبود المقصود، ولا تختص هذه القاعدة بالحاكم والقاضي فقط بل يعمّ حكمها كل من تولّى أمراً من أمور المسلمين، لإقامة العدل وحفظ حدود الشرع.
__________
(1) النساء/ 59.(9/25)
أصلها: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا طاعة لمخلوق في معصية الله"(1)، وفي لفظ: "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق"(2)
__________
(1) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (2/383)، الحديث رقم (3788) عن ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: كيف بك يا أبا عبد الرحمن إذا كان عليك أمراء يطفون السنة ويؤخرون الصلاة عن ميقاتها؟ قال: فكيف تأمرني يا رسول الله؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تسألني ابن أم عبد كيف تفعل! لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق"، وابن عبد البر في "التمهيد" (8/58)، ورواه الطبراني في "المعجم الأوسط" الحديث (4322) ط القاهرة، وفي "المعجم الكبير" (18/177) الحديث (407)، وفي (18/185) الحديث (437)، وفي (18/229) الحديث (571)، وأحمد في "المسند" (1/131، 409) (5/66).
(2) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (6/545) الحديث رقم (33717)، والطبراني في "المعجم الأوسط" الحديث (3917) ط القاهرة، وفي "المعجم الكبير" (18/170) الحديث رقم (381)، وأخرج الترمذي في "سننه" (3/325)، أبواب الجهاد عن رسول= الله - صلى الله عليه وسلم -، (55)- باب ما جاء لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، الحديث رقم (1707) قال: "السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحبّ وكره ما لم يُؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع عليه ولا طاعة" قال الترمذي: وهذا حديث حسن صحيح. وانظر أبا داود في "السنن" الحديث (2626)، وابن ماجه في "السنن" الحديث رقم (2864)، والنسائي في "السنن الكبرى" (8720)، وابن الجارود في "المسند" الحديث رقم (1041).(9/26)
.
من تطبيقاتها: ... 1- إذا أمر سلطان أو حاكم أحداً من مرؤوسيه بأمرٍ فيه إثم كقتل نفسٍ بغير حقّ (اغتيال) أو أكل أموال الناس العامة بالباطل (بالنصب والسرقة والاحتيال) وبغير رضا أصحابها، فلا تجوز الطاعة في ذلك، ومثله لو أمر الحاكم بالتعامل مع العدو الحربي (التجسس) فإن أطاع، فالحاكم والمرؤوس شريكان في الإثم والمعصية.
2- إذا أمر الزوج زوجته بالسفور، وبمخالطة الرجال أو شرب المسكرات، فلا يجوز لها أن تطيعه، لأن السفور والاختلاط معصية.
3- إذا نهى حاكم علماني نساء المسلمين عن الحجاب ومنعهم من دخول المدارس والجامعات إلا بالسفور، فلا طاعة له في ذلك.
4- لا يجوز للقاضي ولا للحاكم تزويج الصغيرة من غير كفء، ولا تأجيله عند وجود الكفء.
المثال الخامس: قاعدة: "الحدود تُدرأ (أو تسقط) بالشُّبهات(1) بخلاف الحقوق"(2) :
من ألفاظها: ... 1- ومنها لفظ قاعدة: "تسقط أو تندرئ بالشّبهات"(3).
__________
(1) السيوطي "الأشباه والنظائر" الصفحة (122)، ابن نجيم "الأشباه والنظائر" الصفحة (127، 291).
(2) الجويني "الجمع والفرق" الصفحة (1204).
(3) السرخسي "المبسوط" (24/13)، ابن قدامة "المغني" (3/577)، (4/277).(9/27)
وفي لفظ قاعدة: "الحدود مبناها على الإسقاط والدّرْء بالشُّبهات(1).
أهميتها: هذه قاعدة جليلة في القضاء يتجلى فيها الاحتياط والتدقيق في تنفيذ الحدود والقضاء.
أصلها: ... 1- نصُّ الحديث النبوي الشريف: "ادرؤا الحدود بالشُّبهات"(2).
2- وفي لفظ عند ابن ماجه عن أبي هريرة قال - صلى الله عليه وسلم -: "ادفعوا الحدود ما وجدتم له مدفعاً"(3).
__________
(1) ابن قدامة "المغني" (3/177)، (4/277، 616).
(2) أخرجه ابن عدي في جزء له من حديث ابن عباس كما ذكر السيوطي في "الأشباه" (122).
(3) رواه ابن ماجه في "السنن" (2/850)، (20)- كتاب الحدود، (5) – باب الستر على المؤمن ودفع الحدود بالشبهات، الحديث رقم (2545) وقال في "الزوائد": في إسناده إبراهيم بن الفضل المخزومي، ضعَّفَهُ أحمد وابن معين والبخاري، وغيرهم.(9/28)
3- وفي لفظ قال - صلى الله عليه وسلم -: "ادرؤا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلّوا سبيله، فإنّ الإمام أن يخطئ في العفو، خيرٌ له من أن يخطئ في العقوبة"(1).
شرحها: معنى تُدرأ: أي تُدفع، والشبهة: الالتباس، والمشتبهات من الأمور: المشكلات، واشتبهت الأمور: التبست فلم تتميّز(2). فمفاد القاعدة: أن الحدود أو العقوبات المقدّرة شرعاً تسقط ولا تُقام عند وجود شبهة التباس بالفعل أو المحلّ، ولكن شرط في الشبهة أن تكون قويّة.
__________
(1) أخرجه الترمذي في "السنن" (3/94-95)، أبواب الحدود، (2)- باب ما جاء في درء الحدود، الحديث (1424)، والحاكم في "المستدرك" (4/384) وفيه متروك كما قال الذهبي في "التلخيص"، والبيهقي في "السنن الكبرى" (8/238)، والدارقطني في "السنن"(3/48) حديث (8)، وعبد الرزاق في "المصنف" موقوفاً على ابن مسعود (7/402) الحديث (13640)، وفي (10/166)، والخطيب في "تاريخه" (5/331)، وانظر ابن حجر "تلخيص الحبير" الحديث (1755) وقد استوعب طرق الحديث رفعاً ووقفاً.
(2) الفيومي "المصباح" مادة (ش ب هـ).(9/29)
وقد قال- صلى الله عليه وسلم - لماعز بن مالك بعد إقراره بالزنا ما يقطع في المسألة، قال - صلى الله عليه وسلم - وهو يلتمس لماعز شبهة: "لعلّك قبّلْتَ، لعلك لمسْتَ، لعلّك غمزت"...(1). قال الكمال بن الهمام في "فتح القدير"(2): "وليس لذلك فائدة إلا كونه إذا قالها (أي بتلقينه - صلى الله عليه وسلم - لماعز أن يقول "نعم") تُرك، وإلا فلا فائدة... ولم يقل لمن اعترف عنده بدين: لعلّه كان وديعةً عندك فضاعت ونحوه... والحاصل من هذا كله كون الحدّ يُحتال في درْئه بلا شك... فكان هذا المعنى مقطوعاً بثبوته من جهة الشرع".
من تطبيقاتها:
__________
(1) أخرجه البخاري في "الصحيح" (12/162-163)، (86)- كتاب الحدود، (28)- باب هل يقول الإمام للمُقرّ: لعلّك لمست أو غمزت؟ الحديث رقم (163) وفي آخره "فعند ذلك أمر - صلى الله عليه وسلم - بِرَجْمِهِ".
(2) ابن الهمام "فتح القدير شرح الهداية" (4/139-140)، وانظر محمد عوامة "أثر الحديث الشريف في اختلاف الأئمة الفقهاء" الصفحة (108).(9/30)
إذا ثبت زنا على رجل أو امرأة، ثم ادّعى الرجل أنه كان مُخطئاً ويظنها امرأته أو أنه كان مُكرهاً، أو ادّعت المرأة أنها كانت نائمة فلم تشعر إلا والزاني فوقها، ففي هذه الأحوال يدرأ الحدّ عنهما ووجب عليه مهر المثل.
إذا اتُّهم بسرقة فادّعى أن له حقاً فيها (ما ظنه ملكه أو ملك أبيه أو ابنه) يدرأ الحد للشبهة (لكن يجب عليه ردّ المسروق).
إذا اتُّهم بالسُّكر (شُرب المُسْكِر) فادّعى أنه لم يعلم أن ما شربه خمر.
المثال السادس: قاعدة: "كل مُسكرٍ حرام"(1)
__________
(1) ابن قدامة "المغني" (12/495).(9/31)
أصلها: قوله - صلى الله عليه وسلم - كما عند البخاري: "يا رسول الله، إنا بأرضٍ يصنعُ فيها شرابٌ من العسل يُقال له البِتْعُ، وشراب من الشعير يقال له المِزْرُ، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: كل مسكرٍ حرام"(1). وفي "صحيح مسلم": "كل مسكر خمرٌ، وكلُّ مسكرٍ حرام"(2).
__________
(1) أخرجه البخاري في "الصحيح" (10/642)، (78)- كتاب الأدب، (80)- باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - يسّروا ولا تعسّروا، الحديث (6124).
(2) أخرجه مسلم في "الصحيح" (3/ 1587)، (36)- كتاب الأشربة، (7)- باب بيان أن كل مسكر خمر وأن كل خمر حرام، الحديث رقم (1733)، ورقم (2003).(9/32)
شرحها: كل ما أسكَرَ وغطّى العقل فهو خمر، وليس بخصوص العنب أو التمر، سواء كان من النّبات أم من الجماد، وبيان أن كل ما أسْكَرَ فهو حرام: لا يجوز تناوله، سواءٌ أسكر قليله أم لم يُسْكر إلا كثيره(1)، فمهما اختلفت أسماء المشروبات أو اختلفت ألوانها وطعومها، أو اختلفت أصولها المصنوعة منها، أو طرق صنعها وسواء كانت سائلة أو جامدة أو غازية فهي حرام، ما دامت تغطي عقل شاربها.
__________
(1) ففي الحديث: "ما أسكر كثيره فقليله حرام" رواه ابن حبان في "صحيحه" (12/192) الحديث (5370).(9/33)
أهميتها: هذه القاعدة من جوامع كلمه - صلى الله عليه وسلم -: أي إيجاز اللفظ مع تناوله المعاني الكثيرة جداً، فمقاصد الشريعة الغرّاء تكمن في حفظ العقل وتنميته (وهو من الضروريات الخمس)(1) وكل ما يدعو إلى تنميتها دعت إليه الشريعة، فشُرع العلم لإنماء العقل، وكل ما يدعو إلى هدمها منعتُه الشريعة مثل المسكرات التي تغطي العقل، ومنع من كان وسيلة لإلغائه.
من تطبيقاتها: 1- حرمة تعاطي المخدرات بكل مسمياتها وصنعائها المستحدثة مثل شرب الحشيشة، الهيروين (شمّ البودرة).
2- استنشاق التِّنِرْ، والغاز، وروائح المشتقات النّفطية كالبنزين وغيره.
__________
(1) وتكمن مقاصد الشريعة في حفظ الضروريات كأركان الإسلام والإيمان: إذا فقدت اختلّ نظام الحياة وعمّت فيها الفوضى وهذه الضروريات خمس وهي: الدين، والنَفس، والعقل، والمال، والعرض، وهي أقوى مراتب المصالح، وحفظ التحسينيات وهي الرُّخص، والكماليات وهي الآداب التحسينية، الشاطبي "الموافقات" (2/8).(9/34)
3-حرمة المسكرات المصنوعة من البصل، الشعير، التفاح، العنب، العسل(1).
4-حُرمة التداوي بالمُسكرات في الطب (وهي نظرية أميركا والغرب ذَوَيِ الثقافة الكحولية) لقوله - صلى الله عليه وسلم -، وقد سُئل عن الخمر يُجعلُ في الدواء؟ قال: "إنها داءٌ وليس بدواء"(2).
وقد نهى- صلى الله عليه وسلم -عن التداوي بالخَبَث(3).
__________
(1) وهذه كلها غير النبيذ المذكور في كتب الفقه الذي كان يشربه - صلى الله عليه وسلم -، فعند مسلم في "الصحيح" (3/1589)، (36)- كتاب الأشربة، (9)- باب إباحة النبيذ الذي لم يشتدّ ولم يصر مُسكراً، الحديث رقم (2004): "كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُنتَبَذُ له أول الليل، فيشربُهُ إذا أصبح يومه ذلك، والليلة التي تجيءُ، والغدَ والليلة الأخرى، والغد إلى العصر، فإن بقي شيء سقاه الخادم، أو أمر فصُبَّ".
(2) أخرجه مسلم في "الصحيح" (3/310)، (36)- كتاب الأشربة، (3)- باب تحريم التداوي بالخمر، الحديث رقم (12).
(3) أخرجه ابن ماجه في "السنن" (2/561)، (31)- كتاب الطب، (11)- باب النهي عن الدواء الخبيث، رقم (3459).(9/35)
المثال السابع: قاعدة: البرُّ حُسْنُ الخُلق، والإثمُ ما حاكَ في صدركَ وكرِهْتَ أن يطّلعَ عليه الناس"(1).
شرحها: قال النووي في "المنهاج": "البرُّ يكون بمعنى الصلة، وبمعنى اللطف، والمبرّة، وحُسن الصحبة، والعِشرة، وبمعنى الطاعة، وهذه الأمور هي مجامع حسن الخلق وهي من جوامع الكلم التي أوتيها - صلى الله عليه وسلم -"(2). والإثم: لغة: الذّنب، وقيل هو أن يعمل ما لا يحلُّ له، وشرعاً ما فسّره - صلى الله عليه وسلم -. وحاك: أي تحرّك فيه وتردّد، ولم ينشرح له الصّدر، وحصل في القلب منه الشك، وخوف كونه ذنباً.
أهميتها: هذا الحديث أصل عظيم من أصول الأخلاق وفيه تعريف جامع مانع للبرّ والإثم.
من تطبيقاتها: من تطبيقات البرّ (الشطر الأول من الحديث) نذكر:
__________
(1) الحديث أخرجه مسلم في "الصحيح" (4/1980)، (45)- كتاب البرّ والصلة، (15)- باب تفسير البرّ والإثم، الحديث (2553) وشطره: "سألتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن البرّ والإثم؟ فقال: .... "الحديث.
(2) النووي "المنهاج" (16/111).(9/36)
البرُّ مع الله جلّ وعلا أن نؤمن بوجوده وأنه واحد أحد، لا شريك له في ملكه، فلا نشرك بعبادته، وأن نُطيعه فنُطبّق مأموراته، ونمتنع عما نهى عنه.
ومن البرّ مع الناس:أن لا نسخَرَ منهم، ولا نغتابهم، ولا نكذب عليهم، ولا نحسدهم بل نُحسن الظن بهم، ونسلّم عليهم، وننصحهم، ونُكرمهم، ونتصدق على المحتاجين منهم.
ومن البرّ مع الزوجة: المعاشرة بالمعروف وحسن الصحبة وتأمين السّكنى والنفقة، مع الرحمة والمودّة قال تعالى: { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } (1).
ومن برّ الأولاد: أن نكون لهم القُدْوَة، ونزرَعَ فيهم الأخلاق الحسنة كالصدق وصلة الأرحام وبرّ الوالدين. وأن نُعلَمهم الحلال والحرام، ومعرفة الحقوق والواجبات وأن نعدل بينهم.
ومن برّ الجيران: ألاّ نرمي قمامَتنا عليهم، أو نُسيء إليهم، ونزعجهم بالأصوات العالية وسط الليل أو بالروائح الكريهة، بل نُكرمَهُم بحسن الجِوار والتزوار، وتقديم المساعدة إليهم، والوقوف إلى جانبهم، وبتقديم أطيب الطعام، ونشاركهم في مآسيهم، ونفرح لفرحهم.
__________
(1) سورة البقرة/ 229.(9/37)
ومن تطبيقات الإثم الذي يتردّد في الصدر ونخاف أن يكون ذنباً: الزّنا وسرقة النظر إلى العورات، وقتل النفس التي حرّم الله، وأكل أموال الناس بالباطل، وشرب الخمر، والكذب، والخيانة، والغش، وأخذ الرشوة.
المثال الثامن: قاعدة: "ليس لعرقٍ ظالمٍ حقٌّ"(1)
أصلها: حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي رواه البخاري تعليقاً في "الصحيح".
شرحها: قال ابن منظور في اللسان: العرقُ الظالم هو أن يجيءُ الرجل إلى أرضٍ قد أحياها رجل قبله، ويغرسُ فيها غرساً غصباً، أو يزرع أو يحدث فيها شيئاً ليستوجب الأرض. والمعنى أن يأتي ملك غيره ويحفر فيه، فهذا هو العرق الظالم. والمقصود: من غصب أرضاً فزرع فيها، أو غرس، أو بنى،لا يستحقّ تملُّكها بالقيمة أو البقاء فيها، بأجر المثل، ويقاسُ على الأرض غيرها من المغصوبات.
__________
(1) أخرجه البخاري تعليقاً في "الصحيح" (5/22)، (41)- كتاب الحرث والمزارعة، (15)- باب من أحيا أرضاً مواتاً، وقال عمرُ: من أحيا أرضاً ميتةً فهي له، ويروى عن عمرو بن عوف عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال في غير حقّ المسلم: وليس لعرقٍ ظالمٍ فيه حقّ.(9/38)
أهميتها: هذا الحديث بمثابة قاعدة وأساس في أن العُدوان لا يُكسبُ المعتدي حقاً.
من تطبيقاتها: 1- غصب الأرض الزراعية التي كانت موات وأحياها غيره بأن يزرع فيها أو يبني ليملكها.
2- غصب المال بإجبار المستأجر أو المالك على بيع بيته أو دكانه أو أرضه وممتلكاته بثمنٍ أقل من ثمن المِثْل، وإذا اشتكى مستنكراً (وربّما عن طريق القضاء) ينقص الثمن بسبب وضع تشريعات جائرة.
3- ابن الزنا لا يرثُ أباه وإن كان يُنسب إلى أبيه.
المثال التاسع: قاعدة: "ليس الخبرُ كالمعاينة"(1).
__________
(1) السرخسي "المبسوط" (1/162).(9/39)
أصلها: نصّ حديث نبوي شريف وتتمته: "قال الله لموسى: إنّ قومك صَنَعُوا كذا وكذا، فلمّا يُبالِ، فلما عاين، ألقى الألواح"(1).
__________
(1) الحديث صحيح أخرجه أحمد في "المسند" (1/215- 271)، والحاكم في "المستدرك" (2/321، 380)، وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، وابن عبد البرّ في "التمهيد" (4/334)، (8/19)، وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" عن ابن عباس رضي الله عنهما (1/158) باب في الخبر والمعاينة، وقال: رواه أحمد والبزّار (200)، والطبراني في "المعجم الكبير" الحديث رقم (12451)، و"الأوسط" الحديث رقم (25)، وله شاهد برقم (6943)، ورجاله رجال الصحيح، ورواه الخطيب في "تاريخ بغداد" (3/360)، (6/56)، وله شاهد في (8/28) وصححه ابن حبان (14/96) الحديث (6213) والحديث (6214)، ورواه ابن عدي في "الكامل" (1/200) في ترجمة أحمد بن محمد بن حرب أبي الحسن المُلحمي رقم (46/46)، وفي (4/269) في ترجمة عبد الله بن يحيى ابن موسى، أبي محمد السرخسي رقم (137/1104)، وذكره الذهبي في "الميزان" (1/134) ترجمة رقم (539)، وابن حجر في "اللسان" ترجمة أحمد بن محمد بن حرب رقم (741)، وترجمة مقاتل بن محمد رقم (7897).(9/40)
شرحها: الخبر: هو القول المحتمل للصدق والكذب، والمعاينة مأخوذة من العين، والمراد بها الرؤية المتحقّقة التي لا تقبل التكذيب، وإن قول المخبر بجانب المُعاينة ضعيف، فلا يقوى على إبطال الحكم الثابت بها، وأثر المعاينة على النفس كبير بخلاف أثر الخبر كما في قصة موسى عليه السلام.
من تطبيقاتها: 1- ادّعى داراً على آخر، وهي في يد المدّعى عليه، فقدّم أحدهما- غير ذي اليد أي الخارج- تاريخاً للشراء، لا يدلّ على سبق عقده على الدار، فالدار لصاحب اليد لأنه مُتمكن من القبض وذلك دليل سبق عقده، وهذا دليل مُعاينة، بخلاف الآخر، فدليله مُخبر.
2- إذا أُخبر إنسان أن الأمير أو الإمام كان في البلدة الفُلانيّة يوم كذا- لتاريخٍ حدّده، وقال آخر: إنه رآه في بلدة غيرها في نفس اليوم، فإن السامع إنما يُصدّق مُدّعي الرؤية لأنه يُخبر عن معاينة، بخلاف الأول المُخبر عن خبر وسماع.
المبحث الثاني: السُّنّة والقواعد(9/41)
ونعني في هذا المبحث القواعد التعليلية التي بناها الفقهاء واستنبطوها من خلال السُّنة وأحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - والتي تغطي مساحة كبيرة من الأحكام يُفصّلها هذا المبحث في شتى المجالات، وسنمثّل لها بثلاث قواعد كلية كبرى هي قاعدة: "الأمور بمقاصدها"، وقاعدة: "اليقين لا يزال بالشك"، وقاعدة: "المشقة تجلب التيسير" وبستّ قواعد فقهية أخرى، تُلقي الضوء بمجموعها على أهمية السنة في التقعيد التعليلي.
ومنهجنا في كل مرة نعرض فيها القاعدة: أن نستوعب ألفاظها أو القواعد الصغرى المندرجة تحتها، ونشرح هذه الألفاظ، مبرزين أهميتها في الفقه الإسلامي، مسلّطين الضوء على مصدرها من السُّنة موضوع بحثنا (من خلال حديث أو حديثين) نخرجهما من المصادر الحديثية ونبيّن درجتهما، دون إبراز مصدرها من القرآن الكريم وغيره، مع إعطاء بعض الأمثلة التطبيقية لها في الفقه الإسلامي (الفروع) بما لا يتجاوز ثلاثة أمثلة، حتى تتوضح القاعدة في الذهن.
فإن كان للقاعدة مستثنيات، أشرنا إلى مستثنياتها بِمَثلٍ أو مَثَلَيْن، لأن أحكام القواعد أكثرية لا كلية، وهذا المنهج سيتكرر بشكل علميّ عند الانتقال من قاعدة فقهية إلى قاعدة أخرى.(9/42)
المثال الأول: القاعدة الكلية الكبرى: "الأُمور بمقاصدها"(1)
من القواعد الصغرى المندرجة تحتها:
1- قاعدة: "العبرة في العقود بالمقاصد(2) والنيات".
من ألفاظها: ... 2- قاعدة: "الأعمال بالنيات".
... ... 3- قاعدة: "لا ثواب إلا بنيّة"(3)
__________
(1) السيوطي "الأشباه والنظائر" الصفحة (8)، ابن نجيم "الأشباه" الصفحة (19)، السبكي "الأشباه والنظائر" (1/54).
(2) السبكي، الأشباه والنظائر" (1/374)، الزركشي: "المنثور في القواعد" (2/371)، الحصني "القواعد" (1/369، 387)، السيوطي "الأشباه والنظائر" الصفحة (166)، ابن نجيم "الأشباه والنظائر" الصفحة (207)، المجلة المادة (3)، الزرقا "المدخل الفقهي" الفقرة (573)، الزرقا "شرح القواعد" الصفحات (13-40).
(3) ابن نجيم "الأشباه" الصفحة (19).(9/43)
شرحها: لا ثواب للأعمال ولا أجر ولا دخول للجنّة إلا بالنية الصادقة ابتغاء وجه الله الكريم وطلب رضاه، فإذا كان العمل رياءً وسمعة وشهرة وربّما حميّة الجاهلية أو نفاقاً أو غضباً أو شهوة أو هوىً فلا قيمة له عند ربّ العالمين، بل يؤول إلى النار يوم القيامة، وحديث "إنما الأعمال بالنيات" هو من باب المقتضى، فقدّروا مضافاً، أي (حكم) الأعمال(1).
أهميتها: من أهم القواعد وأعمقها جذوراً في الفقه الإسلامي، وقد أولاها الفقهاء عنايةً بالغة، فأفاضوا في شرحها والتفريع عليها، لأن قسماً كبيراً من الأحكام الشرعية يدور حولها.
__________
(1) ابن نجيم "الأشباه" الصفحة (19).(9/44)
قال السيوطي في "الأشباه": "واتفق الإمام الشافعي وأحمد بن حنبل، وابن مهدي، وابن المديني، وأبو داود والدارقطني وغيرهم على أنه – أي هذا الحديث- ثلث العلم". قال أحمد: أصول الإسلام على ثلاثة أحاديث: حديث "الأعمال بالنية" وحديث: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ"، وحديث: "الحلال بيّن"، وقال ابن مهديّ: حديث النية يدخل في ثلاثين باباً من العلم، وقال الشافعي: يدخل في سبعين باباً ثم عددها، ومن ذلك ربع العبادات بكماله كالوضوء والغسل ومسح الخفّ، والصلاة بأنواعها، وأداء الزكاة، والصوم فرضاً ونفلاً، والحجّ والعمرة، والنذور، والكفارات، والجهاد، والعتق، والوصية، والنكاح، والوقف، والعقود والقصاص". انتهى كلام السيوطي(1).
مصدرها: هناك أحاديث كثيرة يتعذّر حصرها في هذا الباب، نذكر منها:
__________
(1) السيوطي "الأشباه والنظائر" الصفحتان (9-10).(9/45)
حديث: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأةٍ ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه(1)، أخرجه السّتّة.
حديث: "إنك لن تُنفق نفقةً تبتغي بها وجه الله إلاّ أُجِرتَ فيها حتى ما تجعل في في امرأتك"(2).
__________
(1) أخرجه البخاري في الصحيح (1/11)، (1)- كتاب بدء الوحي، (1)- باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، الحديث رقم (1) وأطرافه كثيرة منها الحديث رقم (54، 2529، 3898).
(2) متفق عليه. أخرجه البخاري (5/456-457)، (55) - كتاب الوصايا، (2)- باب أن يترك ورثته أغنياء خير من أن يتكففوا الناس، الحديث (2742)، وأخرجه مسلم في "الصحيح" (3/1250-1251)، (25)- كتاب الوصية، (1)- باب الوصية بالثلث، الحديث رقم (1628)، ضمن حديث وصية سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.(9/46)
حديث خَسْف الجيش الذي يؤم البيت وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "يبعثهم إلى الله على نيّاتهم"(1).
من تطبيقاتها: 1- حديث: "أول الناس يدخل النار يوم القيامة: ثلاثة نفر: يؤتى بالرجل أو قال بأحدهم، فيقول: ربّ علمتني الكتاب فقرأته آناء الليل والنهار رجاء ثوابك، فيقال: كذبت، إنما كنت تُصلّي ليُقال إنك قارئ مُصلٍّ، وقد قيل، اذهبوا به إلى النار. ثم يؤتى بآخر فيقول: رب رزقتني مالاً فوصلتُ به الرحم، وتصدقت به على المساكين وحملتُ ابن السّبيل رجاء ثوابك وجنتك، فيقال: كذبت، إنما كنت تتصدق وتصل ليُقالُ إنك سمح جواد، وقد قيل، اذهبوا به إلى النار. ثم يُجاء بالثالث فيقول: ربّ خرجت في سبيلك فقاتلت حتى قُتلتُ مقبلاً غير مدبرٍ رجاء ثوابك وجنتك فيُقالُ: كذبتَ، إنما كنت تُقاتلُ ليُقال إنك جريءٌ شجاع، وقد قيل، اذهبوا به إلى النار"(2)
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري في "الصحيح" (4/425)، كتاب البيوع، (49)- باب ما ذكر في الأسواق، الحديث (2118)، وأخرجه مسلم في "الصحيح" (4/2210)، (52)- كتاب الفتن وأشراط الساعة، (2)- باب الخسف بالجيش الذي يؤم البيت، الحديث رقم (2884).
(2) رواه الحاكم في "المستدرك" (1/111-112)، وقال الذهبي في "التلخيص": صحيح، ورواه الأنصاري في "طبقات المحدثين" (4/26-27).(9/47)
.
2- حديث: "جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله: ما القتال في سبيل الله؟ فإن أحدَنا يُقاتل غضباً ويُقاتل حميّةً، فرفع إليه رأسهُ- قال: وما رفع إليه رأساً إلا أنه كان قائماً- فقال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العُليا، فهو في سبيل الله"(1).
مستثنياتها: 1- لو نوى رفع حدث النوم مثلاً، وكان حَدَثُه غيره، أو رفع جنابة الجِماع وجنابته احتلام، أو عكسه، أو رفع حدث الحيض وحدثها الجنابة، أو عكسه، خطأ لم يضّر، وصح الوضوء والغُسْل في الأصح.
2- ينوي الاقتداء بالحاضر مع اعتقاد أنه زيد، وهو عمرو، فإنه يصح قطعاً.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري في "الصحيح" (6/278)، (57) كتاب فرض الخمس، (10)- باب من قاتل للمغنم هل ينقص أجره؟ الحديث (3126)، وأخرجه مسلم في "الصحيح" (3/1513)، (33)- كتاب الإمارة، (42)- باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله، الحديث (1904).(9/48)
المثال الثاني: القاعدة الكلية الكبرى: "اليقين لا يُزال بالشك(1) (أو لا يزول(2) ) أو (لا يُرْفع)(3)"
- من القواعد الصغرى المندرجة تحتها: 1- قاعدة "الأصل بقاء ما كان على ما كان"(4) م/5.
2- قاعدة: "الأصل براءة الذّمة"(5) م/8.
3- قاعدة: "الأصل في الصفات العارضة العدم(6)م/9.
4- قاعدة: "القديم يُترك على قِدَمه"(7) م/6.
5- قاعدة: "الشك لا يزحم اليقين"(8)والشك لا يعارض اليقين"(9) م/4.
__________
(1) السرخسي "المبسوط" (1/86،59،50)، السيوطي "الأشباه والنظائر" الصفحة (50)، ابن نجيم "الأشباه والنظائر" الصفحة (55)، الزركشي "المنثور في القواعد" (2/255).
(2) السرخسي "المبسوط" (1/121، 143).
(3) السرخسي "المبسوط" (1/48، 86)، الونشريسي "إيضاح المسالك" القاعدة (26)، "مجلة الأحكام العدلية" المادة (4)، الزرقا المدخل الفقهي الفقرة (574).
(4) السيوطي "الأشباه" الصفحة (51)، و"المجلة" المادة الخامسة.
(5) المجلة المادة (8).
(6) المجلة المادة (9).
(7) المجلة المادة (6).
(8) الخطابي "معالم السنن" (1/129)، (3/150).
(9) السرخسي "المبسوط" (1/48، 46)، الونشريسي "إيضاح المسالك" القاعدة (26)، "المجلة" المادة (4).(9/49)
شرحها: اليقين في اللغة: العلمُ، وإزاحةُ الشك، وتحقيق الأمر، واليقين هو طمأنينة القلب على حقيقة الشيء، ومن معانيه القطع. والشك في اللغة: مطلق التردّد. وعند الأصوليين معناه التردُّد بين الأمرين المتساويين والنقيضين دون ترجيحٍ لأحدهما، فإن رجَّح أحدهما كان ظناً والمرجوح وهماً. ومعنى القاعدة أن الأمر الثابت بالدليل القطعي لا يرتفع ولا يزول بمجرد الشك، لأن الضعيف لا يعارض القوي.
أهميتها: قال الإمام السيوطي: هذه القاعدة تدخل في جميع أبواب الفقه، والمسائل المخرجة عليها تبلغ ثلاثة أرباع الفقه وأكثر" انتهى كلام السيوطي. وهي قاعدة مهمة في سدّ باب الوسوسة والأوهام التي تشغل بال الإنسان وتسبب له التردّد والقلق والخوف من أن لا تُقْبل عبادته وأعماله، خصوصاً مع كثرة المشاغل وضعف تركيز الإنسان في أفعاله عند التعب.(9/50)
مصدرها: 1- حديث عباد بن تميم عن عمه: "شُكي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الرجلُ يجد الشيء في الصلاة حتى يخيّل إليه، فقال: لا ينفتلُ(1)- أو لا ينصرف- حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً"(2).
قال النووي: هذا الحديث أصلٌ في حكم بقاء الأشياء على أصولها حتى يتيقَّن خلاف ذلك،ولا يضر الشك الطارئ عليها"(3)، وفي لفظ:"إن الشيطان ليأتي أحدَكُم وهو في صلاته، فيقول له: أحْدَثْتَ! فلا ينصرفُ، حتى يسمعَ صوتاً أو يجد ريحاً"(4).
__________
(1) لا ينفتل: أي لا ينصرف عن صلاته. "اللسان".
(2) متفق عليه أخرجه البخاري (1/315)، (4)- كتاب الوضوء، (4)- باب لا يتوضأ من الشك حتى يستيقن الحديث رقم(137)، وأخرجه مسلم في "الصحيح" (1/276)، (3)- كتاب الحيض، (26)- باب الدليل على أن من تيقَّن من الطهارة...، رقم (361).
(3) النووي "المنهاج" (4/49)، ابن حجر "فتح الباري" (1/316).
(4) ابن أبي شيبة "المصنف" (2/190) الأحاديث رقم (7999، 8000، 8001، 8002، 8003، 8004، 8005، 8006).(9/51)
2- حديث: "إذا شك أحدكم في صلاته، فلم يدرِ كم صلىّ أثلاثاً أم أربعاً؟ فليطرح الشك ولْيَبْنِ على ما استيقن..." (1).
3- حديث: "إذا وجد أحدُكم في بطنه شيئاً فأشكل عليه، أَخرَجَ منه شيء أو لا، فلا يخرجن من المسجد حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً"(2).
من تطبيقاتها (من فروعها):
من تيقّن الطّهارة وشكّ في الحدث فهو مُتطهّر (والعكس).
إذا ثبت نكاح امرأةٍ بعقدٍ صحيح، ثم وقع الشك في الطلاق، فالنكاح باقٍ لأنه الأصل المتيقن.
إذا ثبت دينٌ على شخص، وشككنا في أدائه، فهو باقٍ، لأنّ اليقين هو انشغال ذمّة المدين بالدّين.
__________
(1) أخرجه مسلم في "الصحيح" (1/400)، (5)- كتاب المساجد ومواضع الصلاة، (19)- باب السهو في الصلاة والسجود له، الحديث رقم (571). وانظر النووي "المنهاج" (5/63،58)، ط. القاهرة.
(2) أخرجه مسلم في "الصحيح" (1/276)، (3)- كتاب الحيض، (26)- باب الدليل على أن من يتّقن الطهارة ثم شك في الحدث فله أن يصلّي بطهارته تلك، الحديث رقم (362).(9/52)
المثال الثالث: القاعدة الكلية الكبرى: "المشقّة تجلب التيسير"(1)
القواعد الصغرى التي تندرج تحتها:
قاعدة: "الضرورات تبيح المحظورات"(2).
القاعدة المكملة: "ما جاز (أبيح) للضرورة يتقدّر بقدرها(3)" أو "الضرورات تقدّر بقدرها"(4).
__________
(1) ابن السبكي "الأشباه والنظائر" (1/48-49)، الزركشي "المنثور في القواعد" (3/169)، الحصني "القواعد" (1/165، 272)، السيوطي "الأشباه والنظائر" الصفحة (76)، ابن نجيم "الأشباه والنظائر" الصفحة (75)، المجلة المادة (17)، الزرقا "شرح القواعد" الصفحة (105)، الحصيري "القواعد والضوابط" (117، 135).
(2) السيوطي "الأشباه والنظائر" الصفحة (84)، ابن نجيم "الأشباه والنظائر" الصفحة (85)، الونشريسي "إيضاح المسالك" الصفحة (97)، الزرقا "المدخل الفقهي" (الفقرة (600).
(3) السيوطي "الأشباه" الصفحة (84)، ابن نجيم " الأشباه" الصفحة (86).
(4) السيوطي "الأشباه" الصفحة (84)، ابن نجيم "الأشباه" الصفحة (86)، الزرقا "شرح القواعد الفقهية" الصفحة (133)، الزرقا "المدخل الفقهي" الفقرة (601)، "المجلة" المادة (22).(9/53)
قاعدة: "إذا ضاق الأمر اتّسع"(1).
شرحها: هي تفسير للأحكام التي رُوعي فيها التيسير والمرونة، وأن الشريعة لم تكلّف الناس بما لا يستطيعون أو بما يوقعهم في الحرج وما يتفق مع غرائزهم وطبعائهم، فإذا نشأ عن تطبيق الحكم مشقة فالشريعة تخفّف بما يقع تحت قدرة المُكلّف.
أهميتها: هذه القاعدة هي إحدى القواعد الخمس الكلية الكبرى، وأصلٌ عظيم من أصول الشرع، ومعظم الرُّخص منبثقة عنه، بل إنه من الدعائم والأسس التي يقوم عليها صرح الفقه الإسلاميّ، فهي قاعدة فقهية وأصولية عامّة، وصارت أصلاً مقطوعاً به لتوافر الأدلة عليها. قال الإمام الشاطبي(2): "إن الأدلة على رفعِ الحَرَج في هذه الأمة بلغت مبلغ القطع".
__________
(1) وهذه القاعدة من عبارات الإمام الشافعي، رحمه الله ذكرها السبكي في "الأشباه والنظائر" (1/48)، والزركشي في "المنثور" (1/120-123)، السيوطي في "الأشباه" الصفحة (83)، ابن نجيم "الأشباه" الصفحة (84)،" المجلة" المادة (18) القاعدة الأولى فقط، الزرقا "المدخل الفقهي العام" الفقرة (599).
(2) الشاطبي "الموافقات" (1/231).(9/54)
مصدرها: حديث 1- سُئل النبي - صلى الله عليه وسلم -: أي الدين أفضل؟ قال: الحنيفية(1) السَّمِحة(2).
... حديث 2- "يسّروا ولا تُعسّروا، وبشّروا ولا تُنفروا"(3).
... حديث 3- "عليكم بما تطيقون، فوالله لا يملّ الله حتى تملوا"(4).
__________
(1) الحنيفية: ملة إبراهيم.
(3) السمحة: السَّهلة، والحديث رواه عبد الرزاق في المصنف (11/292) رقم (20574)، والبخاري في "الأدب المفرد" الحديث (290).
(4) أخرجه البخاري في "الصحيح" (1/216)، (3)- كتاب العلم، (11)- باب ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتخولهم بالموعظة، الحديث رقم (69)، وطرفه في (6125)، والشطر الأول أخرجه مسلم في "الصحيح" (3/1359)، (32)- كتاب الجهاد والسير، (3)- باب في الأمر بالتيسير، رقم (1734).
(4) أخرجه البخاري في "الصحيح" (1/136)، (1)- كتاب الإيمان، (32)- باب أحب الدين إلى الله أدْومه، الحديث (43) وطرفه في (1151).(9/55)
... حديث 4- "إن الدين يُسر، ولن يُشادّ الدين أحدّ إلا غلبه، فَسدِّدُوا وقاربوا..." (1)
من تطبيقاتها (من فروعها)
قَصْرُ الصلاة في الطائرة والصلاة مع تعذّر تحديد القبلة.
جواز الفطر للمسافر والتيمُّم لمن لم يجد الماء، وجواز التأمين والعمليات الجراحية.
أكل الميتة وشرب الخمر للاضطرار أو الإكراه.
4- "بطاقات "فيزا" كارت الدولية لتسهيل المعاملات الصرفية عند التنقل في العالم Travel Cheque، البيوع والشراء بالإنترنت، بشروط، بطاقات الائتمان.
المثال الرابع: "قاعدة التصرّف على الرّعية منوط بالمصلحة"(2) م/58.
__________
(1) أخرجه البخاري في "الصحيح" (1/126)، (2)- كتاب الإيمان، (29)- باب الدين يُسر وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - "أحبُّ الدين إلى الله الحنيفية السمحة"، الحديث (39) وأطرافه في (5673، 6463، 7235).
(2) الزركشي "المنثور في القواعد" (1/309)، السيوطي "الأشباه والنظائر" الصفحة (121)، ابن نجيم "الأشباه والنظائر" الصفحة (124)، "المجلة" المادة (58)، الزرقا "المدخل الفقهي" الفقرة (662).(9/56)
من ألفاظها: 1- قاعدة: "كل متصرّف عن الغير فعليه أن يتصرّف بالمصلحة"(1).
... ... 2- ونصّ عليها الإمام الشافعي بلفظ: "منزلة الإمام من الرعيّة بمنزلة الوليّ
من اليتيم"(2).
شرحها: المراد بـ (الرّعيّة) هنا: عموم الناس الذين تحت ولاية الوالي أو الإمام، و(منوط) من (نيط به) أي عُلّق وربط. والمعنى: كل من يتولى أمر المسلمين من حُكّام وإداريين وسلاطين وملوك وموظفين وأولياء فعليه أن يتصرف حسب مصلحتهم بجلب المصالح ودرء المفاسد عنهم وبالأمانة والنُصْح.
أهميتها: هذه قاعدة مهمّة ذات مساس بالسياسة الشرعية وتنظيم الدولة الإسلامية، وإدارتها في الشؤون السياسية والدينية والإدارية، تضع حداً ووازعاً للحاكم في كافة تصرفاته، ولكل من يتولى أمراً من أمور المسلمين بأن يكون ناصحاً لهم، يعمل ما فيه مصلحتهم وعكسها هوى الوالي والتّشهّي والفساد الإداري.
مصدرها من السّنة:
__________
(1) كما وردت عند التاج السبكي في كتابه "الأشباه والنظائر"، (1/310).
(2) السيوطي "الأشباه والنظائر" الصفحة (121).(9/57)
حديث: "ما من عبدٍ يَسْتَرْعِيه الله رعيّة، فلم يُحطها بنُصحه، لم يجد رائحة الجنة"(1).
حديث: "ما من والٍ يلي رعيّة المسلمين فيموت وهو غاشّ لهم إلا حرّم الله عليه الجنة"(2).
من تطبيقاتها (من فروعها):
لا يجوز لأحدٍ من وُلاة الأمور أن ينصّب إماماً للصلوات فاسقاً، وإن صححنا الصلاة خلفه، لأنها مكروهة، ووليُّ الأمر مأمور بمراعاة المصلحة عند التعيينات (مثل تعيين القُضاة) ولا مصلحة في حمل الناس على مكروه.
إذا تخيّر في الأسرى: بين القتل، والرّقّ، والمنّ والفداء، لم يكنْ له ذلك بالتّشهّي بل بالمصلحة.
لا يجوز له أن يقدّم في مال بيت المال غير الأحوج على الأحوج، فتوزيع الصدقات مبني على العدْل، وتقديم الأحوج، والتسوية بين مُتساوي الحاجات.
__________
(1) أخرجه البخاري في "الصحيح" (13/158)، (93)-كتاب الأحكام، (8)- باب من استرعى رعية فلم ينصح، الحديثان (7150-7151).
(2) أخرجه مسلم في "الصحيح" (1/125)، (1)- كتاب الإيمان، (63)- باب استحقاق الوالي الغاش لرعيته النار، الحديث رقم (142)، وأخرجه في (3/1460)، (33)- كتاب الإمارة، (5)- باب فضيلة الإمام العادل، الحديث رقم (142).(9/58)
المثال الخامس: قاعدة: "إذا تعارض مفسدتان رُوعي أعظمهما ضرراً بارتكاب أخفّهما"(1) م/28
من ألفاظها: 1- قاعدة: "الضرر الأشدّ يُزال بالضرر الأخفّ" م/27(2).
2- قاعدة: "يُختار أهون الشّرّين" م/29(3).
... 3- قاعدة: "احتمال أخفّ المفسدتين لدفع أعظمهما"(4).
شرحها: تدل على أنه إذا ابتلي الإنسان ببليتين، ولا بدّ من ارتكاب أحدهما فيرتكب الأخف، لأن ارتكاب المحرّم والإقدام على المفاسد لا يجوز إلا لضرورة شديدة، وإذا أمكن دفع الضرورة بالأخف فلا يجوز الإقدام على الأشدّ.
__________
(1) السيوطي "الأشباه والنظائر" الصفحة (87)، ابن نجيم "الأشباه والنظائر" الصفحة (89)، "المجلة" المادة (28).
(2) ابن نجيم "الأشباه" الصفحة (88)، "المجلة" المادة (27)، الزرقا "المدخل الفقهي" (590).
(3) "المجلة" المادة (29).
(4) ابن الوكيل "الأشباه والنظائر" (2/190)، ابن السبكي "الأشباه والنظائر" (1/41).(9/59)
أهميتها: استفاض بذكرها العز بن عبد السلام في كتابه "قواعد الأحكام"(1)، وهي منبثقة من القاعدة الشرعية الفقهية المشهورة: "درء المفاسد أولى من جلب المصالح"، ومندرجة تحت قاعدة: "لا ضرر ولا ضرار"، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن الشريعة المطّهرة هي الميزان في تقدير المصالح والمفاسد، فإذا تعارضت المصالح والمفاسد، والحسنات والسيئات أو تزاحمت، فإنه يجب ترجيح الراجح منها(2).
__________
(1) العز بن عبد السلام "قواعد الأحكام" (1/81، 114، 115).
(2) ابن تيمية "مجموع الفتاوى" (28/129).(9/60)
مصدرها: روى مسلم قصة الأعرابي الذي بال في المسجد قال: "إن أعرابياً قام إلى ناحيةٍ في المسجد، فبال فيها، فصاح به الناسُ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: دعُوهُ، فلما فرغَ، أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذَنوب (دلْو) فصُبّت على بوله". وفي لفظ: "دعوه ولا تُزرموه" (أي لا تقطعوا) قال: فلما فرغ دعا بِدَلْوٍ من ماء، فصبَّه عليه"(1). قال الإمام النووي في "المنهاج"(2) شارحاً: وفيه الرّفق بالجاهل، وتعليمه ما يلزمه من غير تعنيفٍ ولا إيذاء، إذا لم يأتِ بالمخالفة استخفافاً أو عناداً، وفيه دفع أعظم الضررين باحتمال أخفّهما لقوله - صلى الله عليه وسلم - "دعُوه" لمصلحتين:
إحداهما: أنه لو قطع عليه بوله لتضّرر: وأصل التنجيس قد حصل، فكان احتمال زيادته أولى من إيقاع الضرر به.
__________
(1) أخرجه مسلم في "الصحيح" (1/236)، (2)- كتاب الطهارة، (30)- باب وجوب غسل البول وغيره من النجاسات إذا حصلت في المسجد الحديث (248).
(2) النووي "المنهاج" (3/191) ط القاهرة المصورة بدار إحياء التراث العربي- بيروت.(9/61)
والثانية: أن التنجيس قد حصل في جزءٍ يسير من المسجد، فلو أقاموه في أثناء بوله لتنجّست ثيابه، وبدنه، ومواضع كثيرة من المسجد.
من تطبيقاتها (من فروعها):
جواز شقّ بطن المرأة الميتة عند الولادة في المستشفى لإخراج المولود إذا كانت تُرجى حياته.
جواز الصلاة قاعداً وبالإيماء، إذا كان برجلٍ جرْح بحيث لو سجد سال دمُه (بسبب سيلان الدّم).
جواز رمْي ما ثَقُلَ من متاع الطائرة إذا خُشي سقوطها بسبب الوزن لحفظ حياة الرّكاب ويُغرّم رُكّابها ما رموا به.
المثال السادس: قاعدة: "إذا اجتمع الحلال والحرام غَلَبَ الحرامُ الحلالَ"(1)
__________
(1) هذه العبارة في معنى الحديث الضعيف الذي أورده جماعة بلفظ: "ما اجتمع الحلال والحرام إلا غلب الحرام والحلال". قال الحافظ العراقي: لا أصل له، وقال التاج السبكي في "الأشباه والنظائر" نقلاً عن البيهقي: هو حديث رواه جابر الجعفي- رجلٌ ضعيف- عن الشعبي، عن ابن مسعود، وهو منقطع. ثم قال ابن السبكي: غير أن القاعدة في نفسها صحيحة. قال الجويني في "السلسلة": لم يخرج عنها إلا ما ندر. راجع السيوطي "الأشباه والنظائر" الصفحتان (105-106).(9/62)
من ألفاظها: ... 1- قاعدة: "ما اجتمع مُحرِّمٌ ومبيحٌ إلا غُلّب المُحرِّم"(1).
... ... 2- قاعدة: "ما اجتمع الحلال والحرام (في شيء) إلا وقد غَلَب الحرام
الحلالَ"(2).
شرحها: إذا اجتمع حلال وحرام في موضعٍ واحدٍ واشتبها بحيث لا يمكن التفريق بينهما، فإنه يُغلّب جانب التحريم احتياطاً.
مصدرها:
1- حديث: "الحلال بَيّن، والحرام بيّن، وبينهما مشتبهات- أو مُشبّهات- لا يعلمها كثيرٌ من الناس، فمن اتَقى الشبهات، فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات، وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحِمَى، يوشكُ أن يقع فيه، ألا وإن لكلّ ملكٍ حمى، ألا وإن حمى الله محارمُهُ"(3).
__________
(1) ابن نجيم "الأشباه والنظائر" الصفحة (109).
(2) ابن السبكي الأشباه والنظائر (1/117، 308)، الزركشي "المنثور" (1/125)، الحصني "القواعد" (3/204).
(3) أخرجه مسلم في "الصحيح" (2/1219)، (22)- كتاب المساقات، (20)- باب أخذ الحلال وترك الشبهات، الحديث رقم (1599). ورواه الدرامي في السنن (2/319) من كتاب البيوع، الحديث (2531)، وأبو داود في "السنن" الحديث (3329). والمشبهات: جمع مشبه، وهو كل ما ليس بواضح الحل والحرمة مما تنازعته الأدلة.(9/63)
2- حديث: "لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذراً مما به البأس"(1).
3- حديث: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك"(2).
أهميتها: هذه القاعدة من القواعد المهمة المتصلة بمبحث التعارض والترجيح، يتمثل فيها جانب الاحتياط في الدين والورع، وينبغي التمسّك بها في كثير من الأحكام، وقد أجمع العلماء على عظيم موقع الحديث الأول وكثرة فوائده، إذ منها الحثّ على فعل الحلال واجتناب الحرام، والإمساك عن الشبهات، والاحتياط للدين والِعرض، وعدم تعاطي ما يسيء الظن أو يوقع في محذور.
من تطبيقاتها (أو فروعها):
__________
(1) رواه ابن ماجه في "السنن" (2/1409)، (37)- كتاب الزهد، (24) باب الورع والتقوى، الحديث رقم (4215) وذكر المناوي في "الفيض" (12/6509) الحديث رقم (9942) وقال: أخرجه الترمذي في "السنن" الحديث (2451)، والحاكم في "المستدرك"... وقال الترمذي: حسن غريب، ورمز السيوطي إلى صحته.
(2) رواه الترمذي في "السنن" (4/285)، أبواب صفة القيامة والرقائق والورع، (60)_ باب، الحديث، (2518)، وقال: هذا حديثٌ حسن صحيح.(9/64)
إذا تعارض دليلان: أحدهما يقتضي التحريم والآخر الإباحة، قُدّم التحريم في الأصح. ومن هذا القبيل قول عثمان بن عفان - رضي الله عنه - لمّا سُئل عن جمع الأختين بِمِلْكِ اليمين فقال: أحلّتهما آية { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي اليَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } : (النساء/3). فإن قوله { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } يتناول الأختين، فإن هذه الآية تدل على حِلّ كل أمة مملوكة، سواء كانت مجتمعة مع أختها في الوطء أو لا، نظراً إلى عموم كلمة (ما)، وحرّمتهما آية { وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ } (النساء/23) وهذه الآية تدلّ على حرمة الجمع بينهما، سواء كان الجمع بطريق النكاح أو بطريق الوطء بملك اليمين والتحريم أحبّ إلينا. ومثله تعارض حديث: "لك من الحائض ما فوق الإزار" وحديث: "اصنعوا كل شيء إلا النكاح"، فإن الأول يقتضي تحريم ما بين السرّة والركبة، والثاني يقتضي إباحة ما عدا الوطء، فيُرجّح التحريم احتياطاً.(9/65)
لو كان بعض الشجرة في الحل، وبعضها في الحرم: حرُم قطعها.
إذا أكل الكَلْب المعلَّم من الصيد في موضعه: فالصحيح تحريمه.
من مستثنياتها (وغُلّب فيه الحلال): 1- إذا رمى سهماً إلى طائر أو حيوانٍ فجرحه ثم وجده ميتاً وليس فيه إلا أثر سهمه، فإنه يحلّ كما رجّحه النووي رحمه الله.
المثال السابع: قاعدة "الميسُور لا يسقط بالمعسُور"(1)
من ألفاظها: ... 1- قاعدة: "من قدر على بعض الشيء لزمَه"(2).
... ... 2- قاعدة: "لا يترك القليل من السّنّة للعجز عن كثيرها"(3).
3- قاعدة: "لا يسقط المقدور عليه بالمعجوز عنه"(4).
مصدرها: 1- الشطر الثاني من حديث البخاري ولفظه: "ما أمرتكم به فأتوا منه ما
__________
(1) ابن السبكي "الأشباه" (1/155،159)، السيوطي "الأشباه" الصفحة (159)، الحصني "القواعد" (2/48).
(2) ابن السبكي، "الأشباه" (1/155)، "قواعد ابن رجب" القاعدة (8)، الزركشي "المنثور" (3/198)، الحصني "القواعد" (2/48)، السيوطي "الأشباه والنظائر" الصفحة (159).
(3) ابن قدامة "المغني" (1/96، 238)، (2/145)، (3/75).
(4) الزركشي: "المنثور في القواعد" (1/232).(9/66)
استطعتم"(1).
2- حديث: "كانت بي بواسير، فسألتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة، فقال: صلّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب"(2).
شرحها: إذا لم يقدر المكلّف عن أداء حكم من الأحكام كاملاً وكان يقدر على بعضه أو جزء منه، يجب أداء المقدور قطعاً. إذ الميسور (من اليسر) ما يتيسّر للإنسان فعله لا يلغى بما تعسر مثل المرض أو ما يوجبه النقصان وغيره، فإن عجز عن فعل الأعلى أتى بالأدنى، وهذا جانب من جوانب التيسير والتخفيف.
__________
(1) متفق عليه أخرجه البخاري في "الصحيح" (13/312)، (96)- كتاب الاعتصام بالكتاب والسّنة، (2)- باب الاقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم -الحديث رقم (7288). وأخرجه مسلم في "الصحيح" (4/1830)، (43)- كتاب الفضائل، (37)، باب توقيره - صلى الله عليه وسلم - وترك إكثار سؤاله، الحديث (1337).
(2) أخرجه البخاري في "الصحيح" (2/747)، (18)-كتاب تقصير الصلاة، (19)- باب إذا لم يطق قاعداً صلّى على جنب، الحديث (1117)، ورواه الترمذي في "السنن" أبواب الصلاة، (157)- باب ما جاء أن صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم، الحديث (372).(9/67)
أهميتها: هذه القاعدة من الأصول الشائعة التي لا تكاد تُنسى ما أقيمت أصول الشريعة.
من تطبيقاتها (فروعها):
لا تسقط الصلاة (المكلف بها المسلم) بشدة المرض، كما لا يسقط الركوع والسجود بالعجز عن القيام، ولو عجز عن الركوع والسجود دون القيام لزمهُ.
إذا كان مقطوع بعض الأطراف يجب غسل الباقي حتماً.
واجد ما يستر به بعض العَوْرَة يلزمه قطعاً.
مستثنياتها: 1- واجد بعض الرقبة في الكفّارة، لا يعتقها بل ينتقل إلى البدل بلا خلاف.
... 2- القادر على صوم بعض يوم دون كله، لا يلزمه إمساكه (فيُفطر).
المثال الثامن: قاعدة: "ما كان أكثر ِفعْلاً كان أكثر فَضْلاً"(1).
من ألفاظها: "إذا تقابل عملان أحدهما ذو شرف في نفسه ورفعة وهو واحد، والآخر ذو تعدد في نفسه وكثرة، فأيهما أرجح"؟ ظاهر كلام أحمد الكثرة(2).
شرحها: الثواب على قدر المشقّة، فالعمل العبادي إذا كان أكثر فعلاً من غيره من جنسه، كان أكثر فضلاً وأعظم ثواباً.
__________
(1) وهذا لفظ الشافعية والقاعدة ذكرها الإمام السيوطي في "الأشباه والنظائر" الصفحة (143).
(2) الزركشي "المنثور في القواعد" (2/413) فما بعدها.(9/68)
مصدرها: 1- قوله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة رضي الله عنها في الحجّ: "أجْرُكِ على قدْرِ نَصَبكِ"(1).
من تطبيقاتها (فروعها):
فصلُ صلاة الوتر أفضل من وصله لزيادة النيّة، والتكبير، والسلام.
صلاة النفل قاعداً من غير عذر على النصف من صلاة القائم، ومضطجعاً على النصف من القاعد، لما في القيام من زيادة في الفعل والأجر.
إفرادُ النُسُكيْن: الحج والعمرة أفضل من القران في موسم الحج.
__________
(1) أخرجه مسلم في "الصحيح" (2/876)، (15)- كتاب الحج، (17)- باب بيان وجوه الإحرام، وأنه يجوز إفراد الحج والتمتع والقران، وجواز إدخال الحج على العمرة، ومتى يحل القارن من نسكه، الحديث رقم (1211) ولفظه عن عائشة رضي الله عنها قالت: "قلت يا رسول! يصدرُ الناسُ بنُسُكَيْن (أي يرجعون إلى بلادهم بنسكين وهما عمرة وحجة) وأصدر بنسك واحد (وهو الحجّ) وقال: انتظري: فإذا طهرتِ فاخرجي إلى التنعيم، فأهلّي منه، ثم الْقيْنا عند كذا وكذا (قال أظنه قال غداً) ولكنها على قدر نَصَبَك (أي تعبك) أو قال نفقتك".(9/69)
من مُستثنياتها: يظهر عند التحقيق أن هذه القاعدة ليست على إطلاقها بل هي خاصة بالعملَيْن المتشابهَيْن، وأحدهما أكثر فعلاً من الآخر، وأيسر عملاً، وثوابه أعظم مما كان أكثر فعلاً.
قال تعالى: { إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ } (1)، فالذكر على يسره وخفته أكبر من الصلاة وأعظم أجراً.
ومن المستثنيات:
1- الصلاة في الجماعة أفضل من فِعْلها وحده خمساً وعشرين مرّة.
2- القَصْرُ أفضل من الإتمام بشرطه (أي قصر الصلاة في السفر).
3- صلاة الضحى أفضلها ثمان، وأكثرها: اثنتا عشرة، والأول أفضل تأسياً بفعله - صلى الله عليه وسلم -.
4- صلاة الصبح (مع أنها أقصر من غيرها) أفضل من سائر الصلوات.
المثال التاسع: قاعدة: "الفرضُ أفضل من النفل"(2)
شرحها: يزيد الفرض على النفل سبعين درجة، والفرض أحبّ إلى الله من النفل وأكثر أجراً. وقالوا:
الفرضُ أفضل من تطوّع عابد ... ... ... حتى ولو قد جاء منه بأكثر
__________
(1) العنكبوت/ 45.
(2) ابن السبكي "الأشباه والنظائر" (1/185) فما بعدها، ابن نجيم "الأشباه والنظائر" الصفحة (157)، السيوطي "الأشباه والنظائر" الصفحة (145).(9/70)
إلا التطهُّر قبل وقتٍ وابتدا ... ... للسلام كذاك إبراءُ معسر
أهميتها: قال ابن السبكي في "الأشباه": وهذا أصل مطرد لا سبيل إلى نقضه بشيء من الصور(1).
مصدرها:
الحديث القدسي فيما يحكيه - صلى الله عليه وسلم -عن ربّه: "وما تقرّب إليّ المتقربون بمثل ما افترضته عليهم" رواه البخاري(2).
__________
(1) ابن السبكي "الأشباه والنظائر" (1/186).
(2) أخرجه البخاري في "الصحيح" (11/414)، (81)- كتاب الرقاق، (38)- باب التواضع، الحديث رقم (6502).(9/71)
ما رواه سلمان الفارسي - رضي الله عنه -: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في شهر رمضان: "من تقرّب فيه بخصلة من خصال الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدّى فريضة فيه كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه"(1). فقابل النفل في رمضان بالفرض في غيره، وقابل الفرضَ فيه بسبعين فرضاً في غيره (أي غير رمضان) فأشعر هذا بطريق الفحوى: أن الفرض يزيد على النفل سبعين درجة.
__________
(1) حديث ضعيف، رواه ابن خزيمة في "الصحيح" (3/191) جماع في أبواب فضائل شهر رمضان وصيامه، 8- باب فضائل شهر رمضان، إن صح الخبر، الحديث رقم (1887) وأخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" (3/305) في كتاب فضائل شهر رمضان الحديث رقم (3608)، وقال الحافظ ابن حجر: مداره على (علي بن زيد بن جدعان) وهو ضعيف انظر ابن حجر "تلخيص الحبير" (3/118) الحديث رقم (1437) وقال: قال النووي في "زيادات الروضة" عن إمام الحرمين، عن بعض العلماء، إن ثواب الفريضة يزيد على ثواب النافلة بسبعين درجة، قال النووي: واستأنسوا فيه.(9/72)
مستثنياتها: 1- ابتداء السلام سُنّة والرد عليه واجب، والابتداء بالسلام أفضل لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وخيرهما الذي يبدأ صاحبه بالسلام"(1).
2- إبراءُ المعسر أفضل من إنظاره، وإنظاره واجب، وإبراؤه مستحبّ.
3- الوضوء قبل الوقت سُنّة، وهو أفضل منه في الوقت.
خاتمة وفيها نتائج البحث
ذكرت في هذا البحث نحو ثمانٍ وأربعين قاعدة فقهية بألفاظٍ مُختلفة، بناها الفقهاء والأصوليون من السُّنة النبوية، منها أربعة قواعد كليّة كُبرى، وأخرى صغرى، ذكرت "المجلة العدلية" بشروحاتها الثمانية أغلبها، وحوتها كتب "الأشباه والنظائر"، و"القواعد"، دلّت بمجموعها على أمورٍ كثيرة نذكر منها:
أولاً: السنة ركيزة التقعيد الفقهي:
__________
(1) متفق عليه. أخرجه البخاري في "الصحيح" (10/603)، (78)- كتاب الأدب، (62)- باب الهجرة، الحديث رقم (6077)، وأخرجه مسلم في "الصحيح" (4/1984)، (45)—كتاب البر والصلة، (8)- باب تحريم الهجر فوق ثلاث الحديث (2560) ولفظه: "لا يحلُ لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليالٍ، يلتقيان، فيعرض هذا، ويعرض هذا. وخيرهما الذي يبدأ بالسلام".(9/73)
إذ تُمثّل السُّنة بشقّيها اللفظي والتعليلي أكثر من خمسين بالمائة من مادة القواعد الفقهية التي بلغ عددها الآلاف مبثوثة في بطون كتب الفقه(1) على مذاهبه المتعددة.
ثانياً: حيث لا يصح للفقيه، والمفتي، والأصولي، والمجتهد، والقاضي إغفالها:
فإنه وإن كان لا يُبنى من خلال هذه القواعد أحكاماً فقهية، إلا أن الاستئناس بها والاطلاع عليها يُمثّل جانباً مهماً من جوانب تحصيل الملكة الفقهية المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بتجديد الفقه الإسلامي المعاصر، خصوصاً القواعد الكليّة الخمس الكبرى المعمول بها في كل المذاهب والتي هي بمثابة أركان الفقه الإسلامي.
ثالثاً: تقسيم هذه القواعد أقساماً باعتبار ما يدخل تحتها من فروع:
__________
(1) وقد بلغ عددها في "موسوعة القواعد الفقهية" للبورنو نحو (4192) قاعدة، منها ما هو مصدره القرآن الكريم، ومنها مصدره السُّنّة، ومنها ما هو مصدره الاثنان معاً، ومنها مصدره أقوال الصحابة والتابعين رضي الله عنهم وأفعالهم، ومنها ما هو مصدره العقل، ومنها قواعد لغوية، ومنها قواعد أصولية، ومنها ما هو مشترك بين الفقه والأصول.(9/74)
فمنها قسم العبادات مثل قاعدة: "أحكام العبادات توقيفيّة"، وقسم المعاملات مثل قاعدة: "الخَراج بالضمان"، وقسم الآداب الشرعية مثل قاعدة: "لا ثواب إلاّ بنيّة"، وقسم الجنايات مثل قاعدة: "جناية العجْماء جُبار"، وقسم الأسرة مثل قاعدة: "اختلاف الدين يقطع التوارث ويقطع كذلك ولاية التزويج"، وقسم السياسة الشرعية مثل قاعدة: "تصرّف الإمام على الرّعيّة منوط بالمصلحة".
كما قُسّمت باعتبار تنوع موضوع القاعدة أقساماً أخرى، فمنها قسم الحُكم مثل قاعدة: "البيّنة وإلا حدٌّ في ظهرك"، وقسم المالية العامة والاقتصاد مثل قاعدة: "من قاسم الربح فلا ضمان عليه"، ومن أمثلة قواعد القضاء قاعدة: "التهمة تقدح في التصرّفات إجماعاً"، ومن أمثلة قواعد الإفتاء قاعدة: "الدوام على الفعل بمنزلة الإنشاء".
رابعاً: غنى السُّنّة النبويّة بالأحكام الفقهية:(9/75)
التي توزّعت فروعاً متعددة وغطّت مساحات كبرى من حياة المسلم المعاصر مثل العبادات (كالوضوء، والصلاة، والزكاة، والصوم، والحجّ)، والمعاملات (كالبيوع، والتجارات في الأسهم والبورصات وتجارة الذهب، والمعاملات المصرفيّة، وبطاقات الائتمان، والقروض، والكفالات)، والحدود (كالجنايات)، والكفّارات، والأحوال الشخصية (كالوصيّة، والميراث، والنّسب، والنكاح، والطلاق)، والأخلاق (كالإخلاص، والصّدق، ومنع الغّش، والغيبة والنَّميمة، وآفات اللسان، وحُسن المعاشرة والجوار، وصلة الأرحام)، والسياسة الشرعية والإدارية لحفظ الشريعة وإقامة العدل، والتداوي بالحلال في مجال الطب وحفظ الصحة.
خامساً: ثبات أصول هذه الأحكام:
إذ بُنيت هذه القواعد على أحاديث صحيحة- لا مكان فيها للأحاديث الموضوعة ولا الضعيفة- مؤكّدة بآيات القرآن الكريم، وبأقوال وأفعال الصحابة والتابعين رضي الله عنهم، وبما يُوافق العقل والفطرة السليمة.
سادساً: مُرونة تطبيق فروعها على أساس العدل وحفظ الحقوق:(9/76)
فقلّما نجد قاعدة فقهية خالية من "فقه النوازل" مما يدلُّ على مُعاصرتها ومسايرتها لتطور الحياة ومتغيراتها المدنيّة، مواكبةً لمسيرة الحضارة الإنسانية بأحدث تقنياتها واكتشافاتها على أساس العدل وحفظ الحقوق، وهذا يدل على قابلية هذه القواعد للتطبيق عند تغيّر الزمان والمكان، وبما يمس حياة الناس اليومية ومصالحهم وأهدافهم، مما يؤكّد عالمية الفقه الإسلامي وجدارته من خلال السّنة ليصبح مصدراً من مصادر القوانين الدولية، ولرفع راية هذه الشريعة في دنيا الفقه والقانون، تأكيداً لقوله تعالى { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ } (الإسراء/70).
سابعاً: تأصيل السُّنّة للأحكام الفقهية:(9/77)
حيث ساهمت من خلال بناء القواعد الفقهية في ربط جزئيات الفقه، وجمع ما تفرّق منه في سلكٍ بديع عبر التقعيد الفقهي الذي ضبط الفقه الإسلامي، وساهم في تقنينه، وتعليله، وترجيح رأيٍ من آرائه، فمنعه من الفوضى في التصدي لمعرفة الأحكام، ومن الضياع، والتّشتّت، والظلم، مما سهّل حفظ الفروع، وساعد على فهم مناهج الفتوى، مع الاطلاع على حقائق الفقه ومآخذه، وعلى إدراك مقاصد الشريعة، كما سهّل إجراء الدراسات المقارنة بين مذاهب الفقه المتعددة، وبين الشريعة والقانون، وهذا من أجلّ أعمال الإنسانية لترشيد الفكر، وتقويم السلوك، وتصحيح الوجهة، وإقامة العدل في الأرض.
ثامناً: جمعها (أي السّنّة) المعاني الكثيرة في الألفاظ القليلة:
فلو تأملنا قوله - صلى الله عليه وسلم - في قاعدة: "كل مسكر خمر" لأدركنا جوامع كلمه - صلى الله عليه وسلم -، إذ يشمل المسْكِر جميع أسماء المُسْكرات مهما اختلفت ألوانها وطعومها، وطرق صنعها، وسواء كانت المسكرات نباتية، جامدة، أو غازية أو سائلة، مصنوعة من النّبات أم الجماد.
تاسعاً: سهولة عباراتها (أي السُّنّة):(9/78)
فألفاظ السّنّة خالية من التعقيدات اللفظية وبعيدة عن الحشو والإطالة، والتكرار، والغرابة، حتى ليفهمها البُسطاء من الناس مثل قوله- صلى الله عليه وسلم - في قاعدة: "البِرُّ حُسْنُ الخلق"، وقوله- صلى الله عليه وسلم - في قاعدة: "ليس الخبر كالمُعاينة".
ثبت المصادر والمراجع
أولاً- الكتب
* القرآن الكريم
حرف الألف
1- ... الإبهاج للسبكي، تاج الدين، أبي نصر، عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي (ت 771هـ)، مطبعة التوفيق الأدبية.
2- ... أثر الحديث الشريف في اختلاف الأئمة الفقهاء رضي الله عنهم لمحمد عوامة ج1، مج1، دار السلام- بيروت،الطبعة الأولى،عام 1407هـ/1987م.
3- ... الأدب المفرد للإمام البخاري محمد بن إسماعيل (ت 256هـ) ج1، مج1، تحقيق خالد عبد الرحمن العك، دار المعرفة، بيروت، الطبعة الأولى، عام 1416هـ/1996م.
4- ... الأشباه والنظائر لابن نجيم، زين الدين بن إبراهيم المصري (ت 970هـ) ج1، مج1، طبعة القاهرة، دار الكتب العلمية- بيروت، تصوير عام 1399هـ/1980.(9/79)
5- ... الأشباه والنظائر في فقه الشافعية لابن الوكيل، أبي عبد الله، محمد بن عمر بن مكي بن عبد الصمد، صدر الدين، (ت 716هـ)، تحقيق د/أحمد بن محمد العنقري، وعادل بن عبد الله الشويخ، رسالة ماجستير من كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض عام 1404هـ/1405هـ، وج1، مج1، تحقيق محمد حسن محمد حسن إسماعيل، الطبعة الأولى، دار الكتب العلمية، بيروت عام 1423هـ/2002م.
6- ... الأشباه والنظائر في قواعد وفروع الشافعية للسيوطي، جلال الدين، عبد الرحمن بن أبي بكر، محمد (ت 911هـ) ج1، مج1، القاهرة، عيسى البابي الحلبي، والطبعة الأولى تصوير دار الكتب العلمية- بيروت، عام 1399هـ/1979م.
7- ... الأشباه والنظائر للسبكي، تاج الدين، عبد الوهاب بن علي (ت 771هـ) ج2، مج2، تحقيق عادل أحمد عبد الموجود وعلي محمد معوض، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، عام 1422هـ/2001م.
8- ... أصول السرخسي للإمام أبي بكر، محمد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي (ت 490هـ) ج2، مج2، تحقيق أبو الوفا الأفغاني، ط1، دار الكتب العلمية- بيروت، عام 1414هـ/1993م.
9- ... أصول الفقه لمحمد أبو النور ج1، مج1، طبعة القاهرة.(9/80)
10- ... الأموال لأبي عبيد، القاسم بن سلام الهروي، (ت224هـ) تحقيق وتعليق الشيخ خليل محمد هرّاس مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، عام 1389هـ/1969م.
11- ... إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك للونشريسي أحمد بن يحيى التلمساني (ت 914هـ) ج1، مج1، تحقيق أحمد بو طاهر الخطابي، طبع اللجنة المشتركة بين دولتي المغرب والإمارات الرباط عام 1400هـ/1979م.
حرف الباء
حرف التاء
حرف الجيم
حرف الدال
حرف الراء
حرف الزاي
* زوائد ابن ماجه للبوصيري= انظر مصباح الزجاجة.
حرف السين
حرف الشين
حرف الصاد
حرف الضاد
حرف الطاء
حرف الغين
حرف الفاء
حرف القاف
حرف الكاف
حرف اللام
حرف الميم
حرف النون
ثانياً- المجلات
ثالثاً- دوائر الموسوعات(9/81)
بسم الله الرحمن الرحيم
بحث بعنوان
البيان الحديثي بين كتابات المالكية والظاهرية
إعداد الأستاذ الدكتور: سعيد بنكروم
كلية الآداب والعلوم الإنسانية
جامعة الحسن الثاني
المحمدية / المغرب
2007
مقدمة:
يعد القرن الخامس في الأندلس من الناحية التاريخية متميزا عن غيره من القرون السابقة، فلقد نشأت في ظل ظروفه الثقافية روح معرفية جديدة، كان من أهم سماتها الثورة على التقليد والدعوة إلى الاجتهاد.
وإذا كانت الفترة التاريخية السابقة قد شهدت صراعاً داخل المذهب المالكي نفسه بين أنصار مدرسة الحديث، وفقهاء وشيوخ المالكية المتعلقين بفروع المذهب ومسائله، فإن القرن الخامس قد شهد صراعاً من نوع آخر يتعلق بعلاقة المذهب المالكي بالمذاهب الأخرى، ومن أهمها صراع المالكية مع المذهب الظاهري.(10/1)
ولقد أدى هذا الصراع إلى بروز ظواهر ثقافية جديدة لم تكن معهودة سابقاً في الأندلس، كان من أهمها تحويل اهتمام العلماء من التعمق في مسائل المذهب وأصوله إلى الاشتغال بمستجدات الساحة منهجياً، فظهرت المناظرات، وانتشرت مجالس الجدل، واتخذت المؤلفات في المذهب طريقة جديدة في التأليف والكتابة، قائمة على المنهج الجدلي والحواري، والبحث عن الدليل والبرهان، وعلى رأسها كتاب "الإحكام في أصول الأحكام" على الطريقة الظاهرية وكتاب " إحكام الفصول في أحكام الأصول" على الطريقة المالكية.
ويمكن أن نضيف إليها كتاب " المقاصد للشاطبي " رغم أنه متأخر عنهما إلا أنه متأثر بهما وبطريقتهما سواء في الكتابة أو المنهج وخصوصاً الجمع بين المذاهب.
وتكمن أهمية المذهب الظاهري في هذا المجال بأنه استطاع خلق جو ثقافي جديد على المستوى المنهجي – إذ أسس لمبادئ محاربة الجمود والتقليد، ومحاولته القضاء على عناصر الفوضى والاختلاف، فظهرت المناقشات حول مشروعية الأصول، والمبادئ التي يقوم عليها المذهب بل ومحاسبتها.
يقول ابن حزم في هذا الصدد:(10/2)
" إن الناس ألفّوا، فألف أصحاب الحديث تواليف جمة، وألف الحنفيون تواليف جمة، وألف المالكيون تواليف --- فلم يكن عندنا تأليف غيرها، بل جمعناها ولله الحمد وعرضناها على القرآن وما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلأي الأقوال شهد القرآن والسنة أخذنا به وتركنا ما عداه" (1)
إن هذا النص دعوة صريحة لوضع أصول المذهب أمام المحك، ومحاولة القضاء على الفوضى الفكرية التي شهدتها الأندلس آنذاك، وإذا كان من مهمة هذا البحث الكشف عن الطرق المنهجية التي تتميز بها المذاهب، فإن مدار ذلك كله يتمحور حول بيان الهدف التاريخي الذي على أساسه قام الجدل والحوار والمناظرة، والقائم على تفسير طبيعة الفوضى التي عرفتها الأندلس وخصوصاً في القرن الخامس لاسيما على المستوى السياسي الذي لا يمكن أن نجد تفسيراً له بعيدا عن التحليل المعرفي.
ويفيد التراث المعرفي الذي تركه صراع المنهج والمذهب بين المالكية والظاهرية أن قضايا الحديث كانت من أهم القضايا التي ثار الجدل والنقاش حولها، وإن كثيراً من عناصرها كانت مثار مناظرات حادة بينهما.
أولا: قيمة البيان الحديثي وأهميته:
__________
(1) ابن حزم / الإحكام في أصول الأحكام / ج 1، ص 135 )(10/3)
جانب البحث:
تناول العلماء المسلمون السنة بالبحث والفهم من زوايا مختلفة ومتميزة حسب التوظيف المنهجي وحسب الغرض والاختصاص.
فأما المحدثون فتناولوا السنة انطلاقا مما يتصل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - من خلق، وشمائل، وسيرة، وأخبار، وأقوال، وأفعال، سواء أثبت ذلك حكماً شرعياً أو لم يثبته (1) وبهذا المعنى تصبح السنة مرادفة للحديث، بل إن إطلاق لفظ الحديث إنما جاء من هذا الوجه.
أما علماء الأصول فبحثوا في السنة من حيث إنها مشرعة، ومبينة لقواعد الاجتهاد من قول، أو تقرير، أو فعل، مما يصلح أن يكون دليلاً لحكم شرعي (2) وأضاف ابن حزم الإشارة (3) وزاد الشافعية قسما سمي بالهم. (4)
إلا أن اختلافهم هذا إنما هو اختلاف عبارات، ولذلك؛ فهو ليس من قبيل الاختلاف الحقيقي.
__________
(1) السيوطي / تدريب الراوي / ص 42 )
(2) ابن الحاجب / منتهى الوصول / ص 148 ) ( أبو زهره / أصول الفقه / ص 105 )
(3) ابن حزم / الإحكام في أصول الأحكام / ج 1، ص 90 )
(4) تدريب الراوي / ص 62- 63 )(10/4)
أما علماء الفقه فتناولوا السنة بالبحث للدلالة على الحكم الشرعي؛ واجباً كان أم حراماً، مباحاً أو مندوباً أم مكروهاً. (1)
ومن تعريفاتهم الدالة أيضا؛ إطلاق لفظ السنة في مقابل البدعة كقولهم طلاق السنة، وطلاق البدعة. (2)
و واضح مما سبق أن لا خلاف يعتبر من هذه التعريفات.
جانب البيان:
... لا يختلف العلماء المسلمون في أن القيمة الحقيقية للحديث هي في البيان، لقوله تعالى { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } (3)
... وان كانوا قد اختلفوا في التقديم والتأخير، فالإمام الباجي ذهب إلى تقديم القول، ولم يقبل بذلك الشاطبي، إذ لا يصح عنده إطلاق القول بالترجيح بينهما، فلا يقال أيهما أبلغ في البيان، فإذا حصل بأحدهما البيان فهو بيان أيضا، إلا أن كل واحد على انفراده قاصر عن غاية البيان من وجه، و بالغ أقصى الغاية من وجه آخر. (4)
__________
(1) الشاطبي / الموافقات / ج 4، ص 2 )
(2) المصدر السابق )
(3) سورة النحل / الآية رقم 44 )
(4) الشاطبي / الموافقات / ج 3، ص 177 )(10/5)
... وتوسيعا لمعنى البيان عند المالكية قسم الباجي الأفعال إلى قسمين: أحدهما: ما يفعله بياناً لمجمل الوجوب في الكتاب أو السنة، والثاني: ما يفعله ابتداءً وهو على ضربين: الأول: ما لا مرية فيه؛ نحو الأكل والشرب، فهذا على الإباحة، والثاني: ما فيه قربة وعبادة. (1)
... إلا أن الذي ذكره الباجي لا يجد إقرارا كاملا من علماء المالكية وخصوصاً الضرب الثاني، فهل يحمل على الوجوب أم الندب أم الوقف، والذي عليه أكثرهم حمل ذلك على الوجوب إتباعا لرأي الإمام مالك" (2)
... لقوله تعالى { وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } (3) والإتباع له يكون في أقواله وأفعاله.
...
والملاحظ أن المالكية وسعوا من معنى بيان السنة ليشمل الصحابة والعلماء معا، فأما الصحابة فلأنهم باشروا الوقائع والنوازل، ونزول الوحي ولمعرفتهم باللسان العربي، فإذا جاء عنهم قول أو عمل واقع موقع البيان صح اعتماده من هذه الجهة (4)
__________
(1) أبو الوليد الباجي / إحكام الفصول في أحكام الأصول / ص 309 )
(2) المصدر السابق / ص 310 )
(3) سورة الأعراف / الآية رقم 158 )
(4) الموافقات / ج 3، ص 195 )(10/6)
... أما العلماء فيقع منهم البيان لأنهم ورثة الأنبياء لما دلت عليه الأدلة كما في قوله تعالى { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى } (1)
... أما ابن حزم فيقوم تصوره للبيان على مبدأ تشريعي وعقدي، إذ لا يجب التفريق عنده بين القرآن والسنة من حيث المرجع والمصدر، فهما يعودان معا إلى منبع واحد هو الوحي، يقول ابن حزم رحمه الله " القرآن والخبر الصحيح بعضهما مضاف إلى بعض، وهما شيء واحد في أنهما من عند الله " (2)
ولما كانت السنة كذلك كان كلام نبيه - صلى الله عليه وسلم - كله وحي، والوحي بلا خلاف ذَِكر، وجب أن يكون الحديث نفسه محفوظا إذ أن " الذِكرُ اسم واقع على كل ما انزل الله على نبيه - صلى الله عليه وسلم - من قرآن أو سنة " (3)
...
... ولما كانت السنة من الوحي وكان الوحي محفوظا؛ فإنها تسلم كما يسلم القرآن من الاختلاط والاختلاف، وفي ذلك يقول الله تعالى:
__________
(1) سورة البقرة / الآية رقم 159 )
(2) ابن حزم / الإحكام / ج 1، ص 109 )
(3) المصدر السابق / ج 1، ص 136 )(10/7)
{ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً } (1)
وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على أن ابن حزم يريد للشريعة أن تتأسس على مبادئ قطعية ويقينية لا يتسرب إليها الظن والهوى، ومن ثم تفردها عن الشرائع الأخرى التي أصابها التحريف والتبديل، والتي لم يكن طريق نقلها والحفاظ عليها الخبر الصحيح والنقل السليم.
... وبيان هذا أن نقل المسلمين لدينهم وشريعتهم ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: شيء نقله أهل المغرب والمشرق عن أمثالهم جيلا بعد جيل، لا يختلف فيه مؤمن، وهو القرآن الكريم المكتوب في المصاحف، وكذلك الإيمان والصلوات.
الثاني: شيء نقله الكافة عن مثلها، حتى يبلغ المرء كذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وذلك ككثير من معجزاته وكثير من مناسك الحج.
الثالث: شيء نقله الثقة حتى يبلغ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من طريق جماعة من الصحابة، إما إلى الصاحب وإما التابعي.
فأما هذه الأقسام الثلاثة فهي بحق طرق النقل الصحيح، ومنها يأخذ المسلمون دينهم، يقول ابن حزم:
__________
(1) سورة النساء / الآية رقم 82 )(10/8)
" دين الإسلام اللازم لكل أحد، لا يؤخذ إلا من القرآن أو مما يصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إما برواية جميع علماء الأمة عنه عليه الصلاة والسلام، وهو الإجماع، وإما بنقل جماعة عنه عليه الصلاة والسلام، وهو نقل الكافة، وإما برواية الثقات واحدا عن واحد حتى يبلغ إليه عليه السلام ولا مزيد. (1)
أما الأقسام المتبقية فلا يصح بها نقل صحيح، إذ نجدها في كثير من نقل اليهود والنصارى، وذلك فيما أضافوه إلى أنبيائهم من الشرائع التي هم عليها مما ليس في كتبهم والتي دخلها التغيير والتحريف والتبديل، وانقطاع حكمها ونقلها، إذ يظهر من أناجيلهم أنها متضادة ظاهرة الكذب، لذلك بطل عند ابن حزم الثقة بنقلهم.
وانطلاقا من هذا التصور المنهجي لطبيعة السنة؛ رفض ابن حزم القول بظنيتها كما جاء عن بعض العلماء، وفي ذلك قول الشاطبي:
" رتبة السنة التأخر عن الكتاب في الاعتبار --- إن الكتاب مقطوع به والسنة مظنونة --- والمقطوع مقدم على المظنون " (2)
__________
(1) ابن حزم / مسائل في الأصول / ص 77 )
(2) الموافقات / ج 4، ص 3 )(10/9)
وفي هذا مخالفة لما عليه الرأي في المذهب الظاهري الذي يتوخى الوضوح، ويدفع كل ما من شأنه أن يثير اللبس والغموض أو يفضي إلى الاختلاط والتحريف حفاظاً على وحدة الشريعة وشموليتها وانسجامها.
ثانيا: التعارض:
... تعتبر هذه القضية من أكثر القضايا الخلافية بين الظاهرية والمالكية، إذ لاقت جدالاً عريضاً، ونقاشاً مستفيضاً.
... والقضية في صورتها عند متأخري المالكية وخصوصاً عند الباجي تنحصر في الرأي القائل: إنه إذا تعارض فعلان فعلى أوجه أربعة:
... الأول: استعمالها على وجه يصح لذلك، ولم يسقط أحدهما بالآخر، ومثل ذلك ما روي في سجود السهو. (1)
... الثاني: إذا تعارض على وجه يتعذر الجمع بينهما، فإنه يرجع حينئذ إلى التاريخ، ويؤخذ بالأحدث، لما روي عن ابن عباس - رضي الله عنهم - أنه قال:
" كنا نأخذ بالأحدث من فعله - صلى الله عليه وسلم - " (2)
... الثالث: إذا جهل ذلك التاريخ فعندئذ يترك الخبران، ويعدل إلى سائر الأدلة.
__________
(1) إحكام الفصول / ص 315 )
(2) المصدر السابق )(10/10)
... الرابع: إذا تعارض القول والفعل، فحكمهما حكم تعارض الفعلان، فكل واحد منهما ورد من جهة صاحب الشرع واقتضى الوجوب، فلم نقدم أحدهما على الآخر. (1)
... والجدير بالذكر؛ أنه على الرغم من هذا التفصيل فإن المالكية لا يتفقون على مجمل هذه الآراء، إذ يرى محمد بن منداد؛ أنه في حالة التعارض يقدم الفعل على القول (2) في حين يرى أبو الفرج المالكي أن الأمر يحمل على الإباحة. (3)
...
في مقابل هذه الآراء أبدت الظاهرية مواقف واعتراضات شديدة على مجموع الآراء الواردة عند المالكية، فقد رد قول بعض المالكية القائلين؛ إنه عند التعارض يؤخذ بأشبه الخبرين بالكتاب والسنة. (4)
... ويلاحظ بأن رأيهم هذا قائم على استنتاجات قياسية، ولا يصح القياس في المذهب الظاهري طريقاً للمعرفة، فالأحاديث عند ابن حزم كلها قائمة على الاتفاق، ومن ثم فالنصوص سواء في وجوب الأخذ بها، والطاعة لها، دون جعل بعضها مردوداً وبعضها مردوداً إليه، وبعضها أصلا وبعضها فرعا. (5)
__________
(1) المصدر السابق )
(2) المصدر السابق )
(3) المصدر السابق )
(4) ابن حزم / الإحكام / ج 1، ص 210 )
(5) المصدر السابق )(10/11)
... إن استيعاب هذا الرأي الظاهري لا يتم إلا من خلال فهم رؤية ابن حزم لطبيعة الشريعة الإسلامية، فهو يعتبرها كلاً لا يتجزأ إلى أصول وفروع، بل تعود إلى أصل واحد، وهو الوحي، ومن ثم لا يصح الاحتجاج بالقياس ولا بغيره من الأدوات الإستخراجية في أمور الشريعة، بل إنه يرفض الاحتجاج حتى بعمل أهل المدينة.
... فالأحاديث عنده كلها قائمة على مبادئ أساسية هي؛ الوحي، والتوقيف، والطاعة، وعدم التناقض، ولذلك كان يدعو عند التعارض إلى الأخذ بهما جميعاً، فكلها سواء في باب وجوب الطاعة والاستعمال ولا فرق. (1)
... بناء على ما سبق فإن التصور المقدم من طرف ابن حزم بخصوص تعارض النصوص والأخبار، يدل على رفضه للأدوات المنهجية المتبعة عند المالكية في بيان ذلك التعارض، فالذي يوهم التعارض ليس النصوص ولكنها الأدوات التي يستعملها الفقيه في فهم الأحاديث.
... إن هذا يفيد في المذهب الظاهري، من حيث أنه لا يمكن للشريعة أن يتسرب إليها ما هو ذاتي أو شخصي، لأن طابعها الأساسي توقيفي، وعليه فإن مصدر الخطأ في فهم الشريعة، وبيان وجوهها يعود إلى ذواتنا وأشخاصنا، وليس إلى الشريعة ذاتها.
__________
(1) ابن حزم/ الإحكام / ج 1، ص 189 )(10/12)
... أما ما يخفى على البعض من علوم الشريعة فذلك لوجوه:
الإعراض عن الشريعة وترك النظر فيها.
الدراسة والإقبال على الشريعة بوجوه باطلة.
النظر إلى الشريعة بفهم قليل إما لشغل بال، أو مرض، أو غفلة. (1)
ثالثا: الطريق إلى الخبر وشروط صحته:
... يجمع العلماء على تقسيم الخبر إلى قسمين رئيسين: هما خبر التواتر وخبر الآحاد، وعلى الرغم مما ورد بخلاف ذلك عند بعضهم، فقد نسبت إلى الغزالي رحمه الله قوله:
" إن الخبر ينقسم إلى ثلاثة أقسام وأضاف على القسمين السابقين الخبر المشهور" (2)
خبر التواتر:
وتعريفه العام هو كل خبر وقع العلم بمخبره ضرورة من الإخبار به (3)
... أما من حيث التعريف الشرعي فذكر العلماء أقولاً كثيرة منها:
" ما نقله كافة بعد كافة حتى بلغ به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - " (4) ومنها أيضا:
" ما يرويه جمع من العدول الثقات عن جمع العدول الثقات، وهكذا حتى النبي - صلى الله عليه وسلم - " (5)
__________
(1) المصدر السابق / ج 2، ص 1269 )
(2) الشوكاني / إرشاد الفحول / ص 46 )
(3) الرازي / المحصول في علم الأصول / ج 2 / ص 108 )
(4) ابن حزم / الإحكام / ج 1، ص 116 )
(5) السنة و مكانتها / ص 176 )(10/13)
... ويتفق المالكية والظاهرية على القول أن المتواتر يفيد العلم بخلاف البراهمة القائلين؛ إنه لا يفيد العلم وإن العلم لا يقع إلا من الحواس (1)
... ولقد رد عليهم ابن حزم بقوله:
" من أنكر ذلك كان بمنزلة من أنكر من يدرك بالحواس الأول ولا فرق، ولزمه أن يصدق بأنه لا كان قبله زمان، ولا أن أباه وأمه كانا قبله، ولا أنه مولود من امرأة " (2)
ويرفض المذهب المالكي والظاهري القول بأن العلم به يكتسب؛ لأن الاكتساب يفضي إلى التناقض، والاختلاط، وتعدد الآراء، وخبر التواتر إنما يقوم على الاستقراء ويجري مجرى العادة. (3)
ولأجل ذلك وضع العلماء شروطا بها يكتمل العلم الضروري بخبر التواتر، على الرغم من عدم اتفاقهم على عدد هذه الشروط، فأما الباجي فحصرها في ثلاثة: العقل، وان يضطروا إلى علم ما اخبروا عنه، والثالثة: أن يبلغوا عددا كل من بلغه ووجد فيه الوصفان المتقدمان وقع العلم بخبره. (4) ...
__________
(1) أحكام الفصول / ص 319 )
(2) ابن حزم / الإحكام / ج 1، ص 177 )
(3) أحكام الفصول / ص 322 )
(4) إحكام الفصول / ص322 )(10/14)
... وهذه شروط كلها تتمتع بالعمومية والشمولية؛ إذ تواطؤ الجماعات على الكذب مستحيل، والعادة تحيل ذلك في الكفار والمسلمين وليس صدق خبرهم من حيث إن المخبرين به عدول مسلمون.
... وإذا كان الاتفاق حاصل في العقل والاضطرار، فإن الخلاف في العدد لم يتم الاتفاق عليه بين المالكية والظاهرية، إذ لم يتفقا على العدد الذي يصح به العلم بخبر التواتر.
... ومن هذه الاختلافات ما أجمله ابن حزم بقوله:
" فطائفة قالت: لا يقبل الخبر إلا من جميع أهل المشرق والمغرب، وقالت طائفة: لا يقبل أقل من ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً، عدد أهل بدر، وقالت طائفة: لا يقبل إلا من سبعين، وقالت طائفة: لا يقبل إلا من خمسة، وقالت طائفة: لا يقبل إلا من أربعة، وقالت طائفة: لا يقبل إلا من ثلاثة --- وقالت طائفة: لا يقبل إلا من اثنين " (1)
... وتنحصر آراء المالكية في جملة ما عده ابن حزم هنا، إذ ذهب الباجي إلى القول أنه لابد أن يزيد العدد على أربعة (2)
وخالفه ابن الحاجب من المالكية في ذلك قائلا:
... " وقيل غير منحصر في عدد مخصوص وهو الصحيح " (3)
__________
(1) ابن حزم / الإحكام /ج 1، ص 117 )
(2) إحكام الفصول / ص 323 )
(3) منتهى الوصول / ص 70 )(10/15)
... ويقوم رأي الباجي على أسس تستمد صلاحيتها من أصول المذهب المالكي، انطلاقا من القول المشهور عن الإمام مالك في أخبار الآحاد: إنها توجب العمل دون العلم، يقول الباجي:
" علمنا أن الواحد والاثنين يخبروننا كما شاهدوه واضطروا إليه، فلا يقع لنا العلم بصدقهم، ولذلك لا يقع للحاكم العلم بخبر أحد المتداعين، ولا بد أن احدهم صادق، ولو كان العلم يقع بخبر الواحد لوجب أن يضطروا إلى صدق الصادق منهم وكذب الكاذب " (1)
... إلا أن هذا الرأي لاقى اعتراضات شديدة من طرف ابن حزم لاعتبارات شرعية ومنهجية، فأما الشرعية فإن الحصر عنده لا يستند على أمر شرعي من نص أو إجماع، وقد ذكر تعالى في القرآن أعداداً غير هذه، فذكر تعالى الواحد، والاثنين، والثلاثة، والأربعة، والمائة ألف، وغير ذلك، ولا فرق بين ما تعلق بعدد منها ولم يأت من هذه الأعداد في القرآن شيء في باب قبول الأخبار ولا في قيام حجة بهم " (2)
... أما المنهجي فيقوم على مبدأ الضرورة والمقصود بها كما شرحها ابن حزم حيث قال:
__________
(1) إحكام الفصول / ص 324 )
(2) ابن حزم / الإحكام / ج 1، ص 118 )(10/16)
" إذا جاء اثنان فأكثر من ذلك وقد تيقنا أنهما لم يلتقيا ولا دسسا ---، وذكر كل واحد منهم مشاهدة أو لقاء لجماعة شاهدت أو أخبرت عن مثلها بأنها شاهدت، فهو خبر صدق يضطر بلا شك من سمعه إلى تصديقه، ويقطع على غيره " (1)
... والمراد هنا إذا كانت الضرورة تفرض قبول الخمسة والأربعة، فإنها تفرض أيضا قبول ما دونها أو أكثر من ذلك، فخبر التواتر كما يقع بالعدد الكثير يقع بالعدد القليل، ولا فرق كما يقع بالواحد أيضا من غير عدد ولا حصر.
... ويبدو أن الخلاف بين الظاهرية والمالكية منحصر وبشكل أساسي في طريقة توظيف الخبر، ونقصد بذلك خبر الآحاد من حيث إفادته للعلم أو عدمه، وهو موضوع العنصر التالي.
...
خبر الآحاد:
يظهر النقاش بين المالكية والظاهرية حول خبر الآحاد نوع الفوارق المنهجية التي تفصل المذهبين، ونوع الخصوصية التي يتمتع بها كل منهما.
... وإذا كان المذهبان يتفقان على اعتبار خبر الآحاد حجة مقطوع بها، فإنهما لا يتفقان فيما يخص علاقة خبر الآحاد بالعلم، الأمر الذي لا يمكن فهمه إلا من خلال المنطلقات المنهجية لكل مذهب وانقسموا لذلك قسمين:
__________
(1) المصدر السابق / ج 1، ص 120 )(10/17)
... قسم رأى أن خبر الأحاديث يوجب العلم والعمل معا وهو رأي الظاهرية على الخصوص " إن خبر الواحد العدل عن مثله إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوجب العلم والعمل معا وبهذا نقول " (1)
... وقسم رأى بأنه يوجب العمل دون العلم، ومنهم الحنفية، والشافعية، والمالكية، إذ هو الرأي الذي عليه الإمام مالك " فإن مذهب الإمام مالك في أخبار الآحاد أنها توجب العمل دون العلم" (2)
... إلا أنه بالرغم من هذه الأهمية التي يوليها المالكية لخبر الآحاد، فهو لا يتبوأ مكانة مرموقة بين أصولهم، ومحل هذا الكلام أن أصولي المذهب المالكي حرصوا على تقديم عمل أهل المدينة على خبر الآحاد، وذلك من باب تقديم المتواتر، وسواء كان خبر أهل المدينة قائما على اجتهاد أو على غيره رغم الاختلاف الحاصل بينهم حول هذا الأمر، ذلك آن أكثر البغداديين قالوا: بأنه ليس بحجة فيقدم عليه خبر الواحد، وذهب آخرون عكس ذلك. (3)
__________
(1) ابن حزم / الإحكام / ج 1، ص 132 )
(2) منتهى الوصول / ص 71 )
(3) مذكرة في أصول الفقه / ص 117 )(10/18)
... إن الذي يمكن أن ننبه عليه هنا أن هذا الموقف المحدد سلفا من خبر الآحاد سواء عند المالكية أو الظاهرية، لا يمكن عده موقفاً جامداً ونهائياً يقف عند الحدود الأصولية التي تميز المذهبين، بل يتجاوز ذلك إلى ما يمكن أن نصفه بالتحولات النوعية على الصعيد المعرفي.
... ذلك أن موقف الظاهرية من الموضوع يستمد قوته من معالم وأدوات المنهج الظاهري في البحث، فالمنهجية الظاهرية ترفض كل ما من شأنه أن يشكل خرقاً لمنظومتها، فإذا اتصل برواية العدول عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجب العمل والعلم به.
وقد رد ابن حزم في هذا الصدد على حجج المالكية وخصوصاً تلك التي نجدها عند الباجي والقائمة على مبدأ العدد والقائلة " لا يمتنع أن يجب العمل بما لم يقع به العلم؛ كشهادة الشهود، وقول المفتي، فإنه يجب العمل بذلك كله وإن لم يقع به العلم "(1)
__________
(1) إحكام الفصول / ص325 )(10/19)
... فابن حزم رأى أن لا دخل للعدد في حجية العلم والعمل بخبر الآحاد، إذ لا أساس عنده لدعوة الباجي القائمة على أن تسرب الظن إلى خبر الواحد كتسرب الكذب إلى خبر الشاهد، إذ عناصر الموضوع عند الباجي قائمة على الخلط والمزج – فبين خبر الآحاد وخبر الشاهد فروق واضحة يخضع فيها خبر الآحاد للموضوعية، بينما يخضع الثاني للذاتية، ومن هذه الفروق:
1 – إن الله تعالى تكفل بحفظ الدين وإكماله، وتبيينه، ولم يتكفل تعالى بحفظ دمائنا وفروجنا وأموالنا بل قدر تعالى أن كثيراً من ذلك يؤخذ بغير حق.
2- إن الحكم بشهادة الشاهد وبيمين الحالف ليس حكماً بالظن عند ابن حزم حيث يقول:
" نحن نقطع بأن الله عز وجل افترض علينا الحكم بيمين الطالب مع شهادة العدل --- وشهادة العدل والعدول عندنا، وإن كانوا في باطن أمرهم كذابين أو واهمين، والحكم على ذلك حق عند الله تعالى، وعندنا مقطوع على غيبه " (1)
__________
(1) ابن حزم / الإحكام / ج 1، ص 148-149 )(10/20)
3- إن الله تعالى افترض علينا أن نقول في جميع الشريعة ما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وما أمرنا الله به، ولم يأمرنا أن نقول شهد هذا بحق، ولا حلف هذا الحالف بحق مقطوع به.(1)
... وتدل هذه الأقسام الثلاثة على أن الخطأ الذي يمكن أن يتسرب إلى الخبر لا يكون إلا ذاتيا، أي لا يعود إلى الشريعة، وإنما يرجع إلى الذات العالمة إذ " لا يصح الخطأ في خبر الثقة إلا بأخذ ثلاثة أوجه: إما تثبت الراوي واعترافه بأنه اخطأ فيه، وإما شهادة عدل على أنه سمع الخبر مع راويه فوهم فيه فلان، وإما بأن توجب المشاهدة بأنه اخطأ. (2)
... يستفاد مما سبق أن هذه المواقف المختلفة على ما يبدو عليها من تباعد لا تشكل في الحقيقة عناصر متضادة كما قد يتبادر إلى الذهن، ذلك أن البحث عن اليقين في الشريعة في المذهبين دفعهما إلى محاولة البحث في شروط الوحدة والانسجام، فالشروط التي تحقق طبيعة الصدق في خبر الواحد تسعى إلى تعليق الاختلاف وتوحيد الاتجاه من اجل ذلك بحثو في شروط نقل الخبر وصحته .
...
... ج – شروط نقل الخبر وصحته:
__________
(1) ابن حزم / الإحكام / ج 1، ص 149 )
(2) المصدر السابق / ج 1، ص 153 )(10/21)
... قسم علماء الإسلام الشروط المعتبرة في أخبار الآحاد أقساماً عديدة، منهم من قسمها تبعاً لشروط الناقل أولاً، ثم شروط في المنقول ثانياً، ومنهم من قسمها من حيث الشروط المعتبرة والشروط المختلف فيها.
... وهي تقسيمات تدخل في باب التبسيط النظري، إذ كلها شروط مختلفة يصعب في أحيان كثيرة فصل بعضها عن بعض أو التمييز بينها.
... وقد حاول ابن حزم إجمال هذه الشروط في النص التالي:
" إذا كان الراوي عدلاً حافظاً لما يتفقه فيه، أو ضابطاً له بكتابه، وإذا لم يتفقه فليس ممن أمرنا بقبول ندارته، ومن جهلنا حاله فلم ندر أفاسق هو أم عدل، و أغافل هو أم حافظ، أو ضابط، ففرض علينا التوقف عن قبول خبره حتى يصح عندنا فقهه وعدالته --- فيلزمنا حينئذ قبول ندارته، أو تثبت حرمته، أو قلة حفظه وضبطه فيلزمنا إطراح خبره " (1)
ويظهر إن هذا النص يحمل كثيراً من صفات نقل الخبر وشروطه، من أهمها:
الشرط الأول : التفقه
__________
(1) ابن حزم / الإحكام / ج 1، ص 155 )(10/22)
وهذا شرط غير متفق عليه بين المالكية والظاهرية؛ فأما المالكية فذكروا أن هذا من الشروط التي لا تعتبر من صفات المخبر، إذ من شرطه أن يضبط ويعي ما سمع (1) استناداً لقوله - صلى الله عليه وسلم - نصر الله امرؤ سمع مقالتي فوعاها "(2)
ويدل هذا عند الباجي (3) إنه ليس من شرطه أن يعرف بمجالسة العلماء ومكاثرتهم، ولا أن يكون مكثراً من الحديث، بل إذا روى حديثاً واحداً وكان عدلاً وجب العمل به.
إلا أن هذا الفهم لا يصح عند ابن حزم، فالحديث السابق لا يفيد معنى كلياً، فهو يشير إلى فئة معينة ومرتبة محدودة، وذلك لورود أحاديث أعم منه وأشمل، منها ما روي عن طريق أبي موسى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
__________
(1) إحكام الفصول / ص 366 )
(2) الترمذي/ السنن/ أبواب العلم/ باب الحث على تبليغ السماع ) ( احمد/ المسند / ج 4 / ص 80 – 82 )
(3) إحكام الفصول / 366 )(10/23)
" إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم، كمثل غيث أصاب أرضاً فكانت منها طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ، والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس فشربوا، وسقوا، ورعوا، وأصاب منها طائفة أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك الماء، ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه الله بما بعثني الله به، فعلم وعلم من لم يرفع بذلك رأساً " (1)
...
... وإن دل هذا الحديث على شيء، فإنما يدل على أن للعلماء مراتب، وهي لا تعدو مرتبتان، فأما الأرض الطيبة النقية فهمي كمثل الفقيه الضابط لما يروي – الفهم للمعاني التي يقتضيها لفظ النص- وأما الأجادب الممسكة للماء، والتي تسقي الناس فهي مثل طائفة حفظت ما سمعته وضبطته كتابة، فأدته إلى غيرها من دون تغيير إذا اكتفت بالتغيير. (2)
... انطلاقا من هذا الفهم يمكن أن نصنف رأي المالكية القاضي بعدم اشتراط التفقه في الحال الثانية، لافتقار أفرادها لمغزى الألفاظ، وما روته من معاني.
__________
(1) البخاري/الصحيح/ كتاب العلم/ باب فضل من علم وعلم) (مسلم/ الصحيح/ كتاب الفضائل/ باب بيان مثل)
(2) ابن حزم / الإحكام / ج 1، ص 156 )(10/24)
... ولذلك يفسر ابن حزم قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - "فرب حامل فقه ليس بفقيه" (1)
من باب من لم يحفظ ما سمع، فهو بمنزلة القيعان التي لا تنبت الكلأ ولا تمسك الماء. (2)
ويتضح من خلال هذا النقاش أن التفاسير المعطاة لمبدأ التفقه عند المالكية أو الظاهرية ليست تفسيرات مختلفة أو متضاربة كما قد يبدو، فلقد قال الباجي : من شروط التفقه أن يضبط ويعي ما سمع، وهذا تعبير لا يخالف مفهوم التفقه عند ابن حزم .
الشرط الثاني : العدالة
وهذا شرط يدخل في باب التعديل والتجريح، والتجريح طريق إلى رفض رواية المخبر، إلا أن ابن حزم اختلف مع المالكية وخصوصاً الباجي عند الحديث عن سبب التجريح، ففي الوقت الذي يدعو فيه ابن حزم إلى أنه لا يقبل في التجريح قول احد إلا من يبين وجه تجريحه، لا يرى الباجي ذلك ضرورياً إذ لا يحتاج إلى أن يبين المعنى الذي جرحه به إذا كان عدلاً عارفاً بما يقع التجريح به.
ويقوم هذا الاختلاف على القيمة المعطاة لكل من الجرح والتعديل ذلك أن الباجي ساوى بينهما حيث يقول:
__________
(1) الترمذي / السنن / أبواب العلم / باب الحث )
(2) ابن حزم / الإحكام / ج 1، ص 156 )(10/25)
" فإن التعديل لا يصح أيضا إلا بأن يعلم منه ظاهر الحال ما يصح تعديله به --- فلو وجب استفساره عن الترجيح لوجب استفساره عن التعديل " (1)
وهذه حال عند ابن حزم لا تستقيم منهجياً إذ لو أخذ بالتعديل واسقط التجريح لكان ذلك كذباً للمجرح، قال ابن حزم:
" التجريح يغلب التعديل؛ لأنه علم زائد عند المجرح لم يكن عند المعدل، وليس هذا تكذيب للذي عدل بل هو تصديق لهما معا "(2)
وما عدا هذا الاختلاف فإن ابن حزم والباجي يتفقان على تحديد شروط التجريح أجملها التاجي في الكفر، والفسق، والعمد. (3)
وقد فصلها ابن حزم وقسمها إلى أربعة:
الإقدام على كبيرة قد صح عند المقدم عليها بالنص إثبات أنها كبيرة
الإقدام على ما يعتقد المرء حراماً وإن كان مخطئاً فيه قبل أن تقوم الحجة عليه بأنه مخطئ.
المجاهرة بالصغائر صح عند المجاهر بها بالنص أنها حرام.
أن لا يكون المحدث إلا فقهياً فيما روى- أي حافظ. (4)
ولا شك أن هذه الاختلافات جزئية لا تفضي إلى التناقض والتنافر.
__________
(1) إحكام الفصول / ص 176 )
(2) ابن حزم / الإحكام / ج 1، ص 162 )
(3) إحكام الفصول / ص 377 )
(4) ابن حزم / الإحكام / ج1، 163-164-165)(10/26)
رابعا: الحديث المرسل بين القبول والرفض:
من النقاشات التي أثارها البحث في الجرح والتعديل التحقيق في طبيعة المرسل، وهل يوجب العلم وحده أم العمل والعلم معا.
فأما المالكية فعلى قبوله وأنه موجب للعمل دون العلم إذ " لا خلاف أنه لا يجوز العمل بمقتضاه إذا كان المرسل له غير متحرز --- فأما إذا علم من حاله أنه لا يرسل إلا عن الثقات، فإن جمهور الفقهاء على العمل بموجبه. (1)
وأما الظاهرية فعلى رفض المرسل في العمل والعلم معا، إذ هو غير مقبول ولا تثبت به حجة؛ لأنه عن مجهول. (2)
... والمجهول حاله عند ابن حزم التوقف عن قبول روايته وشهادته حتى يعلم حاله " وسواء قال الراوي حدثنا الثقة أو لم يقل، لا يجب أن يلتفت إلى ذلك" (3)
...
... ويعود محل الخلاف بين المالكية والظاهرية إلى مواقفهم من الجرح والتعديل وذلك من حيث الأسبقية.
__________
(1) إحكام الفصول / ص 349 )
(2) ابن حزم / الإحكام / ج 1، ص 169)
(3) المصدر السابق )(10/27)
... فأما المالكية فعلى أسبقية التعديل، ولذلك يقبلون المرسل " فأن التعديل يقع بخبر الواحد، من عدله إمام من الأئمة فهو عدل، ولا يحتاج المعدل إلى كشف معنى العدالة، فإذا علم من حاله أنه لا يحدث إلا عن ثقة، ولا يرسل إلا عن عدل --- فلا خلاف أنه لو قال ذلك كان تعديلاً للراوي " (1)
... وأما الظاهرية فالتجريح عندهم أولى " إذ قد يكون عنده ثقة من لا يعلم من جرحته ما يعلم من غيره " (2)
...
... لذلك اختلف المالكية والظاهرية في تعديل وتجريح كثير من الرجال، من ذلك توثيق سفيان الثوري لجابر الجحفي، وجابر هذا عند ابن حزم من الكذب، والفسق، والشر، والخروج عن الإسلام قد عرف، ولكن خفي أمره على سفيان فحكم حينئذ بما ظهر له. (3)
... وهذا رأي لا توافق عليه المالكية إذ يصعب تجريح رجال معروفين بعدالتهم " إذا كان المعروف من حاله أن لا يرسل إلا عن الأئمة؛ كمالك، والثوري، وشعبه، وجب قبول خبره لأنه لا سبيل إلى تعديل هؤلاء ولا إلى تجريحهم" (4)
__________
(1) إحكام الفصول / ص 353 )
(2) ابن حزم / الإحكام / ج 1، ص 169)
(3) المصدر السابق )
(4) إحكام الفصول / ص 354 )(10/28)
... وواضح أن هذا الرأي لا يلقى قبولا عند ابن حزم انطلاقاً من موقفه من المجهول، ومن ثم رفضه لجميع المراسيل " ومرسل سعيد بن المسيب، ومرسل الحسن البصري، لا يؤخذ منه بشيء " (1)
... ويظهر أن ابن حزم بخصوص هذا الأمر، يأخذ على المالكية عدم الاحتجاج بالمرسل بصورة منهجية، إذ يعيب عليهم تناقضهم من حيث أنهم يتركون المرسل إذا خالف مذهب مالك ورأيه. (2)
... لهذا السبب يرى ابن حزم أن منطلقات أصول المنهج عند المالكية لا تستند على ثوابت منتظمة وواضحة، فهي تتأسس على عناصر تتوخى الدفاع عن آراء المذهب ونصرة أصوله، لا يهمهم في ذلك هل خالفوا حديثاً أم وافقوه " وإنما غرض القوم نصر المسألة الحاضرة بما أمكن من باطل أو حق، ولا يبالون بأن يهدموا بذلك ألف مسألة لهم، ثم لا يبالون بعد ذلك بإبطال ما صححوه في هذه المسألة إذا أخذوا في الكلام في أخرى " (3)
__________
(1) الإحكام / ابن حزم / ج 1، ص 169 )
(2) المصدر السابق / ج 1، ص 171 )
(3) المصدر السابق / ج 1، ص 172 )(10/29)
... وهذا النص يشير بلا شك إلى نتائج المناظرات والمجالس التي كانت تتم بين الظاهرية والمالكية، وخصوصاً في القرن الخامس، فخلاصات ابن حزم المعرفية وتوجهاته الفكرية، تشكل في الحقيقة تلك اللحظات التاريخية الحاسمة التي كان يمر فيها المجتمع الأندلسي آنذاك، وهي لحظات الاختلاف والتناقض، لذلك يرى ابن حزم أن من بين المسائل التي تفضي إلى الاختلاف والنزاع؛ اللجوء إلى أدوات منهجية غير واضحة، والعمل بوسائل مبهمة، ومن بينها العمل بالمرسل، بينما يدعو المذهب الظاهري للعمل بأدوات لا تتصف باللبس والغموض.
الخلاصة:
...
... نستنتج من خلال هذا العرض للمواقف أن تحليل وتفسير وفهم الاختلاف الحاصل بين المالكية والظاهرية؛ لا يتم إلا إذا وضعنا في الحساب الإطار التاريخي عبر تحولاته المتعددة.
... ولعل هذا هو ما دفع بالمذهبين معا إلى الكشف والبحث عن الطبيعة المنهجية القادرة على مواكبة الأحداث والوقائع، فرفض أصول المذهب وقبولها لا يعني المساس بأصول الشريعة، وإنما يعني مدى قدرة المذهب على مواكبة التحولات التاريخية.
...(10/30)
... إن النتيجة التي يمكن أن ننتهي إليها؛ ترتبط بالمطالب الحقيقية للمذهبين معا، فالاختلافات النظرية التي وقعت بينهما لا تستوعب من جهة التضاد ولكن من جهة التنوع فقط.
والحمد لله رب العالمين
الفهرس :
الموضوع الصفحة
----------------------------------------------
1- المقدمة 1
2- قيمة البيان الحديثي وأهميته 4
3- التعارض 10
4- الطريق إلى الخبر وشروط صحته 13
5- خبر التواتر 13
6- خبر الآحاد 17
7- شروط نقل الخبر وصحته 21
8- التفقه 22
9- العدالة 24
10- الحديث المرسل 25
11- الخلاصة 29
12- الفهرس 30
13- المراجع 31
قائمة المصادر و المراجع :
ابن حزم / الإحكام في أصول الأحكام / دار الفكر / بيروت / تحقيق محمد عبدالعزيز .
السيوطي / تدريب الراوي في شرح تقريب النووي / دار الفكر / بيروت/ تحقيق عبدالوهاب عبداللطيف .
ابن الحاجب / منتهى الوصول والأمل / دار الكتب العلمية / بيروت / ط 1 .
أبو زهره / أصول الفقه / دار الفكر العربي / القاهرة .
مصطفى السباعي / السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي / المكتب الإسلامي / بيروت / ط 4(10/31)
أبو الوليد الباجي / إحكام الفصول في أحكام الأصول / دار الغرب الإسلامي / تحقيق عبدالمجيد التركي / ط 1 .
الشوكاني / إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول / مطبعة الحلبي / القاهرة / ط 1 .
الشنقيطي / مذكرة في أصول الفقه / مكتبة ابن تيمية / القاهرة/ ط 1.
ابن قدامة / روضة الناظر وجنة المناظر/ دار الكتاب العربي / بيروت / ط 1 .(10/32)
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيآت أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.
... ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله خير نبي أرسله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي قعَّد بإذن ربه قواعد الشرع النيرات، وضبط حدوده بضوابط وحكم باهرات، وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته واهتدى بهديه إلى يوم الدين.
... وبعد:
... فإن أعظم نعمة أنعم الله تعالى بها على البشرية هي نعمة الإسلام، أنعم بها علينا فأعزنا بعد ذل، وآمنتا بعد خوف، وحوَّل أمتنا من رعاة الغنم إلى ساسة الأمم، وهدانا إلى الصراط المستقيم، وجعلنا خير أمة أخرجت للناس.(11/1)
... ومن نعمه – سبحانه وتعالى- على الأمة ما جاء به النبي المصطفى- صلى الله عليه وسلم - من الأقوال والأعمال والسنن التي عكف عليها الفقهاء والعلماء فاستنبطوا منها الأحكام وقعَّدوا قواعدها التي تعتبر صيغا إجمالية من قانون الشريعة الإسلامية، (ومن جوامع الكلم المعبِّر عن الفكر الفقهي، استخرجها الفقهاء في مدى متطاول، من دلائل النصوص الشرعية، وصاغوها بعبارات موجزة جزلة، وجرت مجرى الأمثال في شهرتها ودلالتها في عالم الفقه الإسلامي، بل في عالم القانون الوضعي أيضا(1).
__________
(1) - الزرقا (مصطفى أحمد): شرح القواعد الفقهية، بيروت، دار الغرب الإسلامي، الطبعة الأولى 1403 هـ 1983م، ص: 5(11/2)
... ولقد بين الفقهاء أهمية هذه القواعد والضوابط في بيان الأحكام الشرعية، فقال الإمام ابن السبكي: (حق على طالب التحقيق ومن يتشوق إلى المقام الأعلى في التصور والتدقيق، أن يحكم قواعد الأحكام، ليرجع إليها عند الغموض، وينهض بعبء الاجتهاد أتم نهوض، ثم يؤكدها بالاستكثار من حفظ الفروع، لترسخ في الذهن مثمرة عليه بفوائد غير مقطوع فضلها ولا ممنوع، أما استخراج القوى وبذل المجهود في الاقتصار على حفظ الفروع، من غير معرفة أصولها، ونظم الجزئيات بدون فهم مآخذها: فلا يرضاه لنفسه ذو نفس أبيه، ولا حامله من أهل العلم بالكلية(1)
... ونظرا لأهمية الموضوع حيث يعد من الأمور الهامة في مجال الفقه الإسلامي واستجابة للمشاركة في مؤتمر السنة النبوية في الدراسات المعاصرة، عزمت بعد الاتكال على الله أن أعدَّ بحثا في ميدان القواعد الفقهية تحت عنوان
أثر السنة النبوية في التقعيد الفقهي
... وفي هذه الدراسة سأتناول بيان عناصر الموضوع وهي:
__________
(1) - الندوي (علي أحمد): موسوعة القواعد والضوابط الفقهية، السعودية، توزيع دار عالم المعرفة، 1419 هـ 1999م ، مجلد 1/8 عن الأشباه والنظائر لابن السبكي (1/10، 11).(11/3)
أولا-حقيقة السنة عند الفقهاء.
ثانيا-حقيقة القواعد الفقهية ، تعريفها ومكانتها الفقهية وفوائدها.
ثالثا-مقومات القواعد الفقهية.
رابعا-نشوء القواعد الفقهية ومدى تطورها.
خامسا-مصادر القواعد الكلية.
سادسا-منهج العلماء في التقعيد.
سابعا-الخاتمة.
... أولا-حقيقة السنة النبوية:
... ختم الله عز وجل الرسالات السماوية برسالة محمد- صلى الله عليه وسلم - ، واقتضى أن تكون صالحة لكل زمان ومكان وحال، باقية خالدة بأعدل حكم وأتم تشريع، فلا تجد حادثة من الحوادث، أو نازلة من النوازل على مدى الأزمان والليالي والأيام إلا ولها حكم في الشريعة الإسلامية على غاية الإتقان والإحكام والعدل.
... فالسنة النبوية هي المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي الأساسي وهذا ما يدعو إلى تعريفها وبيان معناها:
... 1-السنة في اللغة: الطريقة محمودة كانت أو مذمومة، ومنه قول النبي- صلى الله عليه وسلم - : "من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة(1)".
__________
(1) - أخرجه مسلم عن جرير بن عبد الله البجلي.(11/4)
ومن حديث: "لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشير وذراعا بذراع(1)".
... 2-السنة في الاصطلاح:
... للسنة تعاريف عديدة، منها ما جاء في اصطلاح الأصوليين، وفي اصطلاح المحدِّثين، وفي اصطلاح الفقهاء، وهذا ما يتطلب البحث.
... السنة في اصطلاح الفقهاء: ما ثبت عن النبي- صلى الله عليه وسلم - من غير افتراض ولا وجوب، وتقابل الواجب وغيره من الأحكام الخمسة(2)، وقد تطلق عندهم على ما يقابل البدعة، ومنه قولهم: طلاق السنة كذا، وطلاق البدعة كذا(3).
... فعلماء الفقه بحثوا عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - الذي لا تخرج أفعاله عن الدلالة على حكم شرعي، وهم يبحثون عن حكم الشرع على أفعال العباد وجوبا أو حرمة أو إباحة أو غير ذلك(4).
... 3-أهمية السنة ومكانتها:
__________
(1) - أخرجه البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخذري
(2) - الأحكام الخمسة هي: الواجب والحرام والسنة والمكروه والمباح.
(3) - الشوكاني (محمد بن علي): إرشاد الفحول، طبعة البابي الحلبي عام 1356 هـ.
(4) - السباعي (مصطفى): السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، دمشق، دار الوراق، الطبعة الثالثة 1423 هـ -2003م، صفحة: 67(11/5)
... السنة هي المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي، وتلي مرتبتها كتاب الله تعالى، فقد أخبر الله سبحانه وتعالى عن نبيه بقوله: { وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى } (النجم:3، 4)
... وأمر باتباعه وطاعته بدليل قوله تعالى: { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } (الحشر: 7)
... وحذرنا من مخالفته لقوله جل وعلا: { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم } (النور: 63)
... ولم يجعل لنا الخيرة أمام حكمه: لقوله سبحانه وتعالى: { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم } (الأحزاب: 36)
... وجعل ذلك من أصول الإيمان: { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما } (النساء: 65)
... وفرض على المؤمنين إطاعته لأنها من طاعة الله، فال الله عز وجل: { من يطع الرسول فقد أطاع الله } (النساء: 88).(11/6)
... وبناء على ذلك أخذ المسلمون أدلة الأحكام من السنة النبوية، واعتبروها في المقام الثاني بعد القرآن، واعتنوا بها عناية فائقة، فحفظوها وكتبوها ورووها كل واحد منهم عن الآخر، حتى جاء بعضها متواترا باللفظ والمعنى، أو بالمعنى فقط، متصلا ذلك برسول الله- صلى الله عليه وسلم -، وهذا من خصائص الأمة المسلمة وحدها(1).
... 4-وظائف السنة:
... يحدِّد علماء أصول الفقه وظائف السنة فيما يلي:
أ- تأكيد ما جاء في القرآن الكريم.
ب- بيان وتوضيح ما جاء في القرآن الكريم من أحكام ومبادئ وحقائق ومعلومات ذات صلة وثيقة بالشريعة الإسلامية.
جـ- تشريع قضايا جديدة لها أصل في القرآن الكريم.
د- تشريع قضايا جديدة لا أصل لها في القرآن الكريم، قال تعالى: { وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة } (النساء: 113) فالحكمة شيء آخر خلاف القرآن وليس هو إلا السنة.
من ذلك تتبين نسبة السنة إلى القرآن من جهة ما ورد فيها من الأحكام فيما يلي:
__________
(1) - أنظر، القطان (مناع) تاريخ التشريع الإسلامي، بيروت، مؤسسة الرسالة، الطبعة الحادية عشر 1414هـ 1993م، ص: 88، 89.(11/7)
- سنة مقررة ومؤكدة حكما جاء في القرآن الكريم، فيكون الحكم له مصدران وعليه دليلان، دليل مثبت من أي قرآن، ودليل مؤيد من سنة الرسول- صلى الله عليه وسلم - ومن هذه الأحكام: الأمر بإقامة الصلاة ... والنهي عن شهادة الزور...
- سنة مفصِّلة ومفسِّرة ما جاء في القرآن مجملا، أو مقيِّدة ما جاء فيه مطلقا، أو مخصِّصة ما جاء فيه عاما. وبذلك ما وردت به السنة إنما هو تبيان للمراد من الذي جاء به القرآن الكريم، قال تعالى: { وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم } (النحل: 44).
- سنَّة مثبتة ومنشئة حكما سكت عنه القرآن الكريم، فيكون هذا الحكم ثابتا بالسنة، ولا يدل عليه نص في القرآن، ومن هذا تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها.... ومصدر الأحاديث التي في الباب إلهام الله تعالى لرسوله واجتهاد الرسول نفسه.
فالأحكام التي وردت في السنة إما مقرِّرة لأحكام القرآن، أو مبينة لها، أو أحكام سكت عنها القرآن مستمدة بالقياس على ما جاء فيه، أو بتطبيق أصوله ومبادئه العامة، فلا تخالف ولا تعارض بين أحكام القرآن والسنة.
... وبعد هذه الإطلالة السريعة الوجيزة في بيان حقيقة السنة، ننتقل إلى بيان حقيقة القواعد الفقهية :(11/8)
ثانيا- حقيقة القواعد الفقهية:
جرت عادة العلماء في كل موضوع من الموضوعات العلمية أن يضعوا لقواعد الموضوع معان يصطلحون عليها، ومن ذلك التعريف اللغوي والاصطلاحي ومن ثم بيان أهمية ذلك الموضوع، ليكون الباحث على بصيرة من أمره قبل الشروع في دراسة ذلك البحث الذي يرغب فيه، وهنا لبيان المفهوم الصحيح للقواعد الفقهية.
ويجدر بنا بيان ما سبق ذكره فيما يلي:
1-تعريف القواعد الفقهية:
أ-في اللغة:
القواعد: جمع قاعدة، من: قعد بمعنى الاستقرار والثبات، وقد ذكرت المعاجم اللغوية في هذه المادة (قعد) كلمات متعددة يبدو من ظاهرها الخلاف، ولكنها عند تأملها، نجدها تعود إلى المعنى الذي ذكرناه، ولو بضرب من التأويل، كقعيدة الرجل أي امرأته، وامرأة قاعد عن الحيض والأزواج، والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا، مُلتَفَتًا في ذلك إلى قعودهن واستقرارهن في بيوت آبائهن أو أوليائهن، كما أن امرأة الرجل تسمى قعيدة لثبوتها واستقرارها في بيت زوجها.(11/9)
... ومعنى القاعدة: أصل الأُس، وأساس البناء والقواعد الإساس، وقواعد البيت إسَاسُه، ومنه قوله تعالى: { إذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا } (البقرة: 127) ومنه قوله تعالى: { فأتى الله بنيانهم من القواعد } (النحل: 26).
... قال الزجاج: القواعد أساطين البناء التي تعمده، وقواعد الهودج خشبات أربع معترضة في أسفله تركب عيدان الهودج فيها(1).
... ومن معاني القاعدة في اللغة، الضابط وهو: الأمر الكلي ينطبق على جزئيات، مثل قولهم: كل أذون ولود وكل صموغ بيوض(2). أي إن ما كان له أذن خارجية فهو يتكاثر عن طريق الولادة، وما كان له صراخ - أذن وسطى فقط – فهو يتكاثر عن طريق البيض.
... وبوجه عام فإن المعنى اللغوي لهذه المادة هو الاستقرار والثبات، وأقرب المعاني إلى المراد في معاني القاعدة هو الأساس، نظرا لا بتناء الأحكام عليها، كابتناء الجدران على الأساس.
ب- في الاصطلاح:
__________
(1) - البورنو (محمد صدقي): الوجيز في إيضاح قواعد الفقه الكلية، بيروت، مؤسسة الرسالة، الطبعة الخامسة 1419هـ - 1998م، صفحة: 13.
(2) - المعجم الوسيط: 2/555.(11/10)
... وأما معنى القاعدة في الاصطلاح الفقهي، فقد اختلف الفقهاء في تعريفها بناء على اختلافهم في مفهومها، هل هي قضية كلية أو قضية كلية أو قضية أغلبية؟ فالكلية: يراد بها القضية المحكوم على جميع أفرادها، قال التفتازاني: "القواعد التي يتوصل بها إلى الفقه هي القضايا الكلية التي تقع كبرى لصغرى سهلة الحصول"(1) والأغلبية أو الأكثرية: بمعنى أنها مبنية على الأكثر، لاعتبار أن لكل قاعدة مثتثنيات ربما تكون كثيرة نسبيا وليست نادرة.
فمن نظر إلى أن القاعدة هي قضية كلية عرَّفها بما يدلُّ على ذلك، نذكر منها:
هي قضية كلية منطبقة على جميع جزئياتها.(2)
قضية كلية يتعرف منها أحكام جزئياتها.
حكم كلي ينطبق على جميع جزئياته ليتعرف أحكامها منه.
__________
(1) - الباحسين (يعقوب): القواعد الفقهية، الرياض، مكتبة الرشيد وشركة الرياض، الطبعة الأولى: 1418هـ -1998م عن سعد الدين القنتازاني: التلويح: 1/21
(2) - الجرجاني (علي بن محمد): كتاب التعريفات، بيروت، دار الكتب العلمية طبعة أولى: 1403هـ 1983، صفحة: 171.(11/11)
قضية كلية يتعرف منها أحكام الجزئيات المندرجة تحت موضوعها(1).
أصول ومبادئ كلية تصاغ في نصوص موجزة تتضمن أحكاما تشريعية عامة في الحوادث التي تدخل تحت موضوعها(2).
ومن نظر إلى أن القاعدة الفقهية قضية أغلبية نظرا لما يستثنى منها عرَّفها بأنها: "حكم أكثري لا كليِّ، ينطبق على اكثر جزئياته لتعرف أحكامها منه"(3).
__________
(1) - هذه التعريفات مأخوذة من: الندوي (علي أحمد) القواعد الفقهية، دمشق: دار القلم، (الطبعة الخامسة: 1420هـ، 2000م) ص 40 وأنظر، البورنو: المرجع السابق، ص: 14، 15.
(2) - شلبي (محمد مصطفى): المدخل في التعريف بالفقه الإسلامي، بيروت، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، 1401هـ صفحة: 324.
(3) - الحموي (أحمد بن محمد): غمز عيون البصائر شرح الأشباه والنظائر، بيروت، دار الكتب العلمية الطبعة الأولى 1405هـ صفحة 1/51.(11/12)
... وقال في تهذيب الفروق: ومن المعلوم أن أكثر قواعد الفقه أغلبية(1). والقول أن أكثر قواعد الفقه أغلبية مبني على وجود مسائل مستثناة من تلك القواعد تخالف أحكامها حكم القاعدة، مثال الاستثناء بالأثر جواز السلم والإجارة، ومثال الاستثناء بالإجماع عقد الاستصناع ومثال الاستثناء بالضرورة طهارة الحياض والآبار في الفلوات مع ما تلقيه الريح فيها من البعر والروث وغيره(2) ولكن العلماء قالوا: إن هذا –الاستثناء- لا ينقص كلية تلك القواعد ولا يقدح في عمومها، والكليات الاستقرائية صحيحة وان تخلف عن مقتضاها بعض الجزئيات(3).
__________
(1) - المالكي (محمد علي بن حسين): تهذيب الفروق والقواعد السنية في الأسرار الفقهية، حاشية الفروق، بيروت، دائرة المعارف 1347هـ، ج: 1/36.
(2) - البورنو: المرجع السابق، ص: 16.
(3) - الشاطبي (ابو اسحق ابراهيم): الموافقات، بيروت، دار المعرفة، الطبعة الثانية، ج: 2/52،53).(11/13)
... وعرفها بعض المعاصرين كالأستاذ مصطفى احمد الزرقا، فقال: "القواعد الفقهية أصول فقهية كلِّية في نصوص موجزة دستورية تتضمن أحكاما تشريعية عامة في الحوادث التي تدخل تحت موضوعها"(1) وقال شارحا ومبينا: "فهي تمتاز بمزيد من الإيجاز في صياغتها على عموم معناها وسعة استيعابها للفروع الجزئية، فتصاغ القاعدة بكلمتين، أو ببضع كلمات محكمة من ألفاظ العموم"(2).
... والتعريف المختار للقاعدة الفقهية بأنها: "قضية كلية شرعية عملية جزئياتها قضايا كلية شرعية عملية أو: قضية فقهية كلية، جزئياتها قضايا فقهية كلية".(3)
... ومن هذه التعارف تتجلى مكانتها وعلى أنها علم القواعد الفقهية وهذا ما نستعرضه فيما يلي:
2- مكانتها الفقهية وفوائدها:
__________
(1) - الزرقا (مصطفى): المدخل الفقهي العام، دمشق، دار القلم، الطبعة الأولى: 1418هـ 1988م، الجزء الثاني، صفحة: 965، 966.
(2) - الزرقا (مصطفى): المرجع نفسه.
(3) - الباحسين: المرجع السابق، ص: 54.(11/14)
إذا كان موضوع علم القواعد الفقهية هو القضايا الفقهية الكلية، من حيث دلالتها على حكم الفروع الفقهية المتشابهة المنضبطة بها، والفروع الداخلة في تلك القضايا وما استثني منها لأسباب خاصة، فإن مسائل هذا العلم هي الأحوال العارضة لموضوعه، وهذا العلم يبحث في الأحوال العارضة للقواعد، من حيث ضبطها للفروع الفقهية، وللفروع الفقهية من حيث دخولها تحت نطاق القاعدة، أو خروجها منها.
... والاستفادة منها في التعرف على أحكام الفروع مجهولة الحكم، عند من يرى صلاحيتها دليلا للاستنباط(1).
... ولذا "فإن في هذه القواعد تصويرا بارعا، وتنويرا رائعا للمبادئ والمقررات الفقهية العامة، وكشفا لآفاقها ومسالكها النظرية، وضبطا لفروع الأحكام العملية بضوابط تبين في كل زمرة من هذه الفروع وحدة المناط، ووجهة الارتباط برابطة تجمعها وإن اختلفت موضوعاتها وأبوابها.
... ولولا هذه القواعد لبقيت الأحكام الفقهية فروعا مشتَّتة قد تتعارض ظواهرها دون أصول تمسك بها في الأفكار، وتبرز فيها العلل الجامعة، وتعين اتجاهاتها التشريعية، وتمهد بينها طريق المقايسة والمجانسة"(2).
__________
(1) - المرجع نفسه، ص: 111.
(2) - الزرقا: المرجع السابق: 2/967.(11/15)
... فهي مهمَّة في الفقه عظيمة النفع، فإن الفقيه إذا أحاط بها يعظم قدره، وتتَّضح له مناهج الفتوى، وتمكن من حفظ أكثر الجزئيات لا ندرجها في الكليات، وتناسب عنده ما تضارب عند غيره، وهذا ما نلخصه في الفوائد الآتية:
الفائدة الأولى: ضبط الأمور المنتشرة المتعددة ونظمتها في سلك واحد بحيث يمكن إدراك الروابط بين الجزئيات المتفرقة، فيسهل على الطالب أخذها.
... الفائدة الثانية: سهَّلت حفظ الفروع، وأغنت العالم بالضوابط عن حفظ أكثر الجزئيات أي (لمّ شمل المتفرق وتسهيل حفظ أحكام الفروع).
... الفائدة الثالثة: ساعدت الفقيه في حفظه لها على فهم مناهج الفتوى، والاطلاع على حقائق الفقه ومآخذه، وتخريج الفروع بطريقة سليمة واستنباط الفروع للوقائع المتجددة.
... الفائدة الرابعة: تُجنِّب الفقيه من التناقض عند تخريج الفروع، فإن تخريج الفروع على المناسبات الجزئية دون القواعد الكلية سيؤدي إلى أن تتناقض أحكام الفروع وتختلف.(11/16)
... الفائدة الخامسة: تساعد الفقيه على إدراك مقاصد الشريعة لأنها مشتقَّة من الفروع والجزئيات المتعدِّدة، بمعرفة الرابط بينها، ومعرفة المقاصد الشرعية التي دعت إليها.(1)
... الفائدة السادسة: تمكِّن غير المتخصِّصين في علوم الشريعة كرجال القانون من الاطلاع على الفقه بروحه ومضمونه وأسسه وأهدافه، وتقدم العون لهم باستمداد الأحكام منه، ومراعاة الحقوق والواجبات فيه.(2)
... ولأهميتها الآنفة الذكر يتطلب البحث معرفة مقوماتها.
... ثالثا- مقومات القواعد الفقهية:
... لكل قاعدة من القواعد مقومات لا تتحقَّق إلا بها كالأركان والشروط، أما الأركان في اللغة: مفردها ركن وهو الجانب القوي من الشيء.
... وفي الاصطلاح: هو مالا وجود للشيء إلا به أو: "أن ركن شيء ما يتم به، وهو داخل فيه"(3).
__________
(1) - ابن عاشور (محمد الطاهر): مقاصد الشريعة الإسلامية، تونس: الشركة التونسية للتوزيع 1978م صفحة: 6.
(2) - الصابوني (عبد الرحمن): المدخل لدراسة التشريع الإسلامي، دمشق، المطبعة التعاونية، 1394هـ -1974م، الجزء: 1/296، وشلبي (محمد مصطفى): مصر، مطبعة دار التأليف 1397هـ 1959م، ص: 203.
(3) - الجرجاني: المرجع السابق، ص: 99(11/17)
وأما الشروط: في اللغة مفردها شرط، وهو: العلامة.
... وفي الاصطلاح: هو الوصف الظاهر المنضبط الذي جعله الشارع مكمل لأمر شرعي، واستلزم من عدمه العدم، ولم يستلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته، فهو ما يتوقف عليه وجود الشيء، ويكون خارجا عن ماهيته، ولا يكون مؤثرا في وجوده.(1)
1- أركان القاعدة: للقاعدة ركنان هما:
الأول: الموضوع أو المحكوم عليه، وهو الذي يحمل عليه الحكم، وقيل إنه سمي موضوعا، لأنه وضع ليحمل عليه الثاني، أو ليحكم عليه بشيء، كاليقين في قاعدة: (اليقين لا يزول بالشك).
... الثاني: الحكم، وهو المعبر عنه بالمحمول، أو المحكوم به، وهو ما حمل على الموضوع، أو أخبر به عنه، أو نسب، أو أسند إليه، وبوساطته تثبت أو تنفي وصفا أو صفات عن الموضوع. ولا بُدَّ أن يكون ذلك الوصف بيانا لحكم شرعي، أو لما له صلة بالحكم الشرعي، كإثبات التيسير للمشقة، والإزالة للضرر.
__________
(1) - محدة (محمد): مختصر علم اصول الفقه الإسلامي، الجزائر، باتنة، دار الشهاب د.ط.د.ت، ص: 350، والأشقر (محمد سليمان): الواضح في أصول الفقه، الأردن، مكتبة الدرر، ودار النفائس، الطبعة الخامسة 1417 هـ - 1997 صفحة: 46.(11/18)
... وقد يقع المحمول اسما، كقولهم: (العادة محكمة).
... وقد يقع فعلا، كقولهم: (الضرر يزال)(1).
... 2- شروط القاعدة: تتعلق شروط القاعدة بركنيها فيكون لها:
شروط الموضوع وهي:
- التجريد: ويقصد به ربط الأحكام بالأشخاص والوقائع، أو النوازل، ذوات الصفات المعينة، لا لذواتها وأشخاصها، بل للمعنى القائم بها، مهما اختلفت، زمانا أو مكانا، كقاعدة: (الضرر يزال).
- العموم: أي الشمول، والمقصود من ذلك أن موضوع القضية لا بد من أن يتناول جميع أفراده الذين ينطبق عليهم معناه، وهذا أمر يفهم من كون القاعدة كلية.....وعموم الموضوع مترتب على تجريد القاعدة، أو تجريد موضوعها، لأن التجريد يعني العموم والإطراد.
فالقواعد تنطبق على الأشخاص الذين تثبت لهم الصفات المقررة، وتتناول جميع الوقائع التي تتوفر فيها الشروط(2).
ب- شروط المحمول، أو الحكم، ومنها:
- أن يكون حكما شرعيا: وهذا الشرط نابع من طبيعة القاعدة الفقهية، وذلك لأنها قضية شرعية عملية، فلا بد أن يكون الحكم فيها شرعيا، أو مما تنبني عليه الأحكام الشرعية العملية.
__________
(1) -. الباحسين: المرجع السابق، ص: 168، 169، 170، 174
(2) - الباحسين: المرجع نفسه.(11/19)
... - أن يكون حكما باتا غير متردد فيه: لان التردد يفقد القاعدة قيمتها، ويزيل عنها هيبة الامتثال، ويجرِّدها عن طبيعة أنها حكم.
... ولتطبيق القاعدة الفقهية كقاعدة كلية ينبغي توفّر الشروط الأتية:
- أن تتوفر في الوقائع الشروط الخاصة التي لا بد منها لا نطباق القاعدة عليها.
- أن لا يعارضها ما هو أقوى منها، أو مثلها، سواء كان دليلا فرعيا خاصا معتدا به، أو قاعدة فقهية أخرى متفقا عليها.
- أن تكون الواقعة المطلوب تطبيق القاعدة عليها خالية من الحكم الشرعي الثابت بالنص أو الإجماع، وفي هذه الحالة، ينظر للحكم المستفاد من تطبيق القاعدة.
فإن كان موافقا للحكم المستفاد من النص أو الإجماع جاز تطبيق القاعدة عليه.
وان كان مخالفا له فلا يجوز ذلك، لكون الحكم المستفاد من تطبيق القاعدة اضعف من الحكم الثابت بالنص أو الإجماع.
إذن: بعد استعراض المقومات يتطلب البحث إلقاء الضوء على النشوء ومدى التطور الذي ارتبط بها.
... رابعا- نشوء القواعد ومدى تطورها:
... لم تُقنن القواعد الفقهية في يوم واحد، كما أنها لم توضع من طرف فقيه واحد، فمن الصعوبة بمكان تحديد تاريخ ظهورها بدقة.(11/20)
... وإن الناظر إلى الأطوار التي تعاقبت على هذه القواعد يجدها تتطور مع تطوُّر الفقه، ومن ثم فهي مرت بمراحل عدة، كانت في بادئ أمرها مفاهيم، ثم نسقت، ثم أصلت، ثم صيغت إلى أن وصلت إلينا قواعد موجزة كما هي عليه الآن، وفي ذلك يقول الأستاذ: "مصطفى الزرقا": "بل تكونت مفاهيمها وصيغت نصوصها بالتدرج في عصور ازدهار الفقه ونهضته على أيدي كبار فقهاء المذاهب من أهل التخريج والترجيح، واستنباطا من دلالات النصوص التشريعية العامة، ومبادئ أصول الفقه، وعلل الأحكام، والمقررات العقلية"(1).
... مما سبق يتبين أن القواعد الفقهية مرت في تطورها في ثلاثة أطوار أو مراحل:
طور النشوء والتكوين.
طور النمو والتدوين.
طور الرسوخ والتنسيق.
1- طور النشوء والتكوين:
والمقصود بهذا الطور، عصر الرسالة أو عصر التشريع الذي كانت فيه البذرة الأولى للقواعد الفقهية، فنشأت بنشأة التشريع الإسلامي، فقد نزل القرآن الكريم يتضمن الكثير والكثير من هذه القواعد التي ما زاد الفقهاء عليها إلا بالقدر الذي يُوضِّح معناها، ويكشف عن كيفية استعمالها في استخراج الفروع الفقهية منها، ومن ذلك:
__________
(1) - الزرقا: المرجع السابق: 2/969.(11/21)
قوله تعالى: { ولا تزر وازرة وزر أخرى } "الأنعام: 164".
{ ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون } " يس: 54 ".
{ وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } "النجم: 39 ".
{ لا تكلف نفس إلا وسعها } "البقرة: 233 ".
فعلى هذه الآيات وما شابهها ينبني الكثير من الفروع الفقهية.
وقد أوتِيَ النبي - صلى الله عليه وسلم - جوامع الكلم، فكانت أحاديثه الشريفة في كثير من الأحيان بمثابة القواعد العامة التي تنطوي تحتها فروع فقهية كثيرة. أخذها الفقهاء كما هي، وما زادوا عليها إلا بالمقدار الذي يزيدها إيضاحا، أو يكشف عما فيها من اللطائف التي لا يعقلها إلا العالمون.
... ومن هذا القبيل قول النبي - صلى الله عليه وسلم -:
"المؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم"(1).
"المنيحة (العطية) مردودة، والعارية مؤدَّاة، والدَّين مقضيٌّ والزعيم غارم"(2).
__________
(1) - سنن أبي داود: كتاب الديات: 18/51 وسنن النسائي، كتاب القسامة، 8/18.
(2) - أخرجه الترمذي وقال: هذا حديث حسن، الوصايا: 6/311 – 312.(11/22)
"العجماء جبار"(1) و"لا ضرر ولا ضرار"(2) و"إنما الولاء لمن أعتق"(3) و"إن لصاحب الحق مقالا"(4).
وقد تعلَّم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - من نبييهم الإيجار البليغ في تقعيد القواعد وتأصيل الأصول، ولا سيما الخلفاء الراشدون وأصحابه المقربون، كعبد الله بن عباس، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمر، وأبي بن كعب وغيرهم، فقد كانوا ينطقون بالحكمة، فينقل عنهم من الكلام ما يكون قواعد فقهية يقاس عليها أو يستأنس بها في التصحيح والترجيح.
ومن هذا القبيل: (على سبيل التمثيل لا الحصر)
- ما نُقل عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "أيما رجل من المسلمين أشار إلى رجل من العدو، لئن نزلت لأقلنك فنزل، وهو يرى أنه في أمان فقد أمنه"(5).
__________
(1) - حديث صحيح رواه مالك وأحمد في مسنده، والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة عن أبي هريرة.
(2) - رواه ابن ماجة والدار قطني وغيرهما مسندا عن أبي سعيد الخدري، ورواه مالك.
(3) - متفق عليه عن ابن عمر وعائشة، في قصة بريرة.
(4) - صحيح البخاري: 3/62
(5) - أبو يوسف (يعقوب بن ابراهيم): الخراج، ص: 173(11/23)
ومن كتاب الخراج، عن عمر رضي الله عنه: "من عطل أرضا ثلاث سنين لم يعمِّرها: فجاء غيره فعمَّرها فهي له".
ومما نقل عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه : » ليس على صاحب العارية ضمان"
و"من أجر أجيرا فهو ضامن" و"من استعمل مملوك قوم صغيرا أو كبيرا فهو ضامن" ومما نقل عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه: "كل شيء أجازه المال فليس بطلاق، يعني الخلع" و"ليس للعبد في المغنم نصيب" و"لا إيلاء إلا بحلف".(1)
وقد اعتنى التابعون باستنباط القواعد الفقهية من القرآن الكريم والسنة النبوية وأقول الصحابة، فقاموا باستنباطها وجمعها وتدوينها في كتب بعضها وصل إلينا وبعضها لم يصل إلينا.
ومن هذا القبيل: (على سبيل التمثيل لا الحصر)
مما ورد على لسان شريح القاضي (ت78 هـ): " ليس على المستعير، ولا على المستودع غير المغل ضمان" وهو مستقى من الحديث الشريف.
... ومما ورد لسان إبراهيم النخعي (ت 96هـ): " كل قرض جر منفعة فلا خير فيه" وفي لفظ: " كل قرض جر منفعة فهو ربا".
__________
(1) - المرويات المنقولة عن الصحابة من الباحسين: المرجع السابق، ص: 290-293(11/24)
... ومما روى عن الشعبي (ت106 هـ): "المعتدي في الصدقة كَّمانِعِها" و"كل خلع عليه فداء فهو طلاق، وهو تطليقة بائنة".
... ومما روى عن الحسن بن يسار (ت 110): "إذا شككت في الوضوء قبل الصلاة، فتوضأ، وإذا شككت وأنت في الصلاة، فلا تعد الصلاة".
... " وعلى أقل تقدير يمكن القول: أنه قامت اللبنة الأولى للقواعد في غضون القرون الثلاثة الأولى، بحيث شاع فيها استعمال تلك القواعد، وتبلورت فكرتها في أذهانهم، وإن لم يتسع نطاقها، لعدم الحاجة إليها كثيرا في تلك العصور. وهو الطور الأول المسمى بـ "طور النشوء والتكوين للقواعد الفقهية"(1).
... وبعد هذا نوضح الطور الثاني وهو طور النمو والتدوين.
... 2- طور النمو والتدوين:
يعتبر عصر الفقهاء في إبان القرن الرابع الهجري، بداية القواعد الفقهية باعتبارها فنا مستقلا، وذلك عندما اضمحلَّ الاجتهاد وتقاصرت الهمم في ذلك العصر مع وجود ثروة فقهية عظيمة نشأت من تدوين الفقه مع ذكر الأدلة والترجيح والعلل، فجاء مَنْ بعدهم وخرجوا من ققه المذاهب أحكاما للأحداث الجديدة.
__________
(1) - البورنو: المرجع السابق، ص: 58(11/25)
وعن طريق هذا التخريج للمسائل على أصول المجتهدين نما الفقه، واتسع نطاقه، وتمت مسائله، وبدأ الفقهاء يضعون أساليب جديدة للفقه سميت مرة بعنوان القواعد والضوابط، وتارة بعنوان الفروق وغير ذلك من الفنون الأخرى للفقه، وتوسعوا في بيان بعضها منها: الفروق والقواعد والضوابط ومما يشهد له التاريخ، ويظهر ذلك بالتتبع والنظر، أن فقهاء المذهب الحنفي كانوا أسببق من غيرهم في هذا المضمار، وذلك للتوسع عندهم في الفروع، وأخذ بعض الأصول عن فروع أئمة مذهبهم وهذا ما فعله الإمام محمد –رحمه الله تعالى- في كتاب الأصل يذكر مسألة فيفرِّع عليها فروعا قد يعجز الإنسان عن وعيها والإحاطة بها(1).
... "والظاهر أن المذهب الحنفي، وهو أقدم المذاهب الأربعة الكبرى، قد كانت الطبقات العليا من فقهائه أسبق إلى صياغة تلك المبادئ الفقهية الكلية في صيغ قواعد، والاحتجاج بها، وعنهم نقل رجال المذاهب الأخرى ما شاؤوا منها"(2).
__________
(1) - البورنو: المرجع نفسه، صفحة: 61، والندوي: المرجع السابق، ص: 135.
(2) - الزرقا: المرجع السابق، 2/970.(11/26)
... ولعل أول محاولة لتدوين هذه القواعد هو ما قام به "أبو الطاهر الدباس" أحد أئمة الحنفية – عاش في القرنين الثالث والرابع الهجري – حيث قام الإمام بجمع قواعد المذهب في سبع عشرة قاعدة كلية: وكان أبو طاهر ضريرا يكرر كل ليلة تلك القواعد بمسجده بعد خروج الناس منه، وذكر ابن نجيم أن أبا سعيد الهروي الشافعي قد رحل إلى أبي طاهر ونقل عنه بعض هذه القواعد ومن جملتها القواعد الخمس التي تعتبر أمهات القواعد ومباني الأحكام الشرعية من نصَّيِّة واجتهادية وهي:
الأمور بمقاصدها
الضرر يزال
العادة محكَّمة
اليقين لا يزال بالشك
المشقة تجلب التيسير.
وأهم مجموعة من هذه القواعد هي قواعد الإمام "أبي الحسن الكرخي" حيث أوصلها إلى 37 قاعدة. ثم جاء "عبد الله بن عمر الدبوسي" فألف كتابا سماه "تأسيس النظر" ثم جاء "ابن نجيم" فألف كتابا سماه "الأشباه والنظائر".
ثم جاء "محمد أبو سعيد الخدمي" فألف كتابا في الفقه سماه "مجامع الحقائق" ختمه بذكر مجموعة من القواعد بلغت 154 قاعدة.(11/27)
ثم جاءت مجلة الأحكام العدلية "تحمل في صدرها مجموعة كبيرة من القواعد، مختارة من أهم ما جمعه " ابن نجيم والخادمي" مضافا إليه بعض قواعد أخرى فبلغت 99 قاعدة في 99مادة
وعنى بها شراح كثيرون – بعد ذلك- من بينهم "أحمد الزرقاء – في كتابه "شرح القواعد الفقهية".
بعد هذا الاستعراض الوجيز لما تم في المرحلة الثانية، نبحث في الطور الثالث.
طور الرسوخ والتنسيق:
ظهرت جهود الفقهاء بوضوح في الطورين السابقين إلى أن جرى تدوين القواعد، واتضحت معالمها ولكنها ظلت متفرقة ومبددة في مدونات مختلفة تضمَّنت –كذلك– بعض الفنون الأخرى مثل: "الفروق والألغاز" وأحيانا تطرَّقت إلى بعض القواعد الأصولية، ولم يستقر أمرها إلى أن وُضعت مجلة الحكام العدلية في أواخر القرن الثالث عشر الهجري، وعمل بما فيها في المحاكم.
وعن طريق المجلة اشتهر ذكر القواعد، وشاع أمرها، وارتفعت مكانتها وشُرحت، وصار لها صدى في كافة المجالات الفقهية والقانونية.
ومن أشهر المؤلفات في القواعد من غير المذهب الحنفي ثلاثة هي:
كتاب " قواعد الأحكام في مصالح الأنام" للفقيه الشافعي"عز الدين بن عبد السلام" المتوفى سنة 660هـ.(11/28)
وكتاب " الفروق" للفقيه المالكي" شهاب الدين أحمد بن ادريس" الشهير " بالقرافي" المتوفى سنة 684هـ تلميذ" العز بن عبد السلام " الشافعي.
وكتاب " القواعد" للفقيه الحنبلي" عبد الرحمن بن رجب " المتوفى سنة 795هـ.
وهذه الكتب لا تتضمن القواعد بالمعنى المحدَّد لكلمة القاعدة، وإنما تتضمن تقسيمات وضوابط أساسية وضوابط أساسية في موضوعات فقهية كبرى.
ومن هنا نستعرض الفقرات الأخرى ونبدؤها بـ " مصادر القواعد الكلية " فيما يلي:
خامسا- مصادر القواعد الكلية:
القواعد الفقهية من وضع وصياغة وترتيب جهابذة من أساطين الفقه ولكنها لها أصل ونشأة تُسقى من ثلاثة مصادر هي:
المصدر الأول- القرآن الكريم:
جاء القرآن الكريم بمبادئ عامة، وقواعد كلية، وضوابط شرعية لتكون منارا وهداية لعلماء الأمة في وضع التفاصيل التي تحقق أهداف الشريعة وأغراضها العامة ، وتتفق مع مصالح الناس، وتطور الأزمان واختلاف البيئات.(11/29)
وذلك لتحقيق هدفين أساسيين: (أولهما) تأكيد الكمال في دين الله عز وجل: { اليوم أكملت لكم دينكم } "المائدة:8" (والثاني): بيان مرونة الشريعة الإسلامية بحيث تبقى صالحة لكل زمان ومكان وحال.(1)
وهذه المبادئ العامة كانت مصدرا للفقهاء في صياغة القواعد الكلية في الفقه الإسلامي، والاستعانة بها لتشمل جميع الفروع التي تدخل تحتها.
بعض الآيات التي جرت مجرى القواعد: (على سبيل المثال لا الحصر)
1- قوله تعالى: { وأحل الله البيع وحرم الربا } "البقرة: 275" فقد جمعت هذه الآية على وجازة لفظها أنواع البيوع ما أحل منها وما حرم عدا ما استثني.
2- ومنها قوله تعالى: { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } "البقرة: 188" فقد بيَّنت هذه الآية بقاعدتها الشاملة، كمل تعامل وتصرف يؤدي إلى أكل أموال الناس وإتلافها بالباطل من غير وجه مشروع أحله الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) - الزحيلي (محمد): النظريات الفقهية، دمشق، دار العلم، بيروت، الدار الشامية،الطبعة الأولى: 1414 هـ -1993م، صفحة: 205.(11/30)
3- ومنها قوله تعالى { خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين } "الأعراف 199" فهذه الآية تضمَّنت ثلاث قواعد شرعية في المأمورات والمنهيات.
أ- العفو عن المذنبين (خذ العفو)
ب- صلة الأرحام وتقوى الله في الحلال والحرام وغض الأبصار (وأمر بالعرف)
جـ- الحض على التعلق بالعلم والإعراض عن أهل الظلم، والتنزه عن السفهاء والجهال الأغبياء (وأعرض عن الجاهلين).
4- ومنها قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود } "المائدة :1".
الأمر هنا يقتضي الوفاء بكل عقد مشروع، واحترام ما يلتزم به الإنسان مع غيره.
المصدر الثاني : السنة النبوية
أُعطي النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - جوامع الكلم، واختُصر له الكلام اختصارا فكان ينطق بالحكمة القصيرة التي تخرج مخرج المثل، وتكون قاعدة كلية، ومبدأ عاما ينطوي عليه الأحكام الكثيرة، والمسائل المتعددة والفروع المتكررة .
... فمن الأحاديث الشريفة الجامعة ما جرت مجرى القواعد إلى جانب مهمتها التشريعية، ومن ذلك على سبيل التوضيح والبيان لا الحصر ما يلي:(11/31)
1- "البيِّنة على المُدَّعي واليمين على من أنكر" أصل هذه القاعدة حديث شريف، قال النووي ( ت 676هـ ) في أربعينة، حديث حسن رواه البيهقي.
2- "الخراج بالضمان" أصل هذه القاعدة حديث شريف، وهي جزء من حديث صحيح أخرجه عدد من العلماء ( رواه الشافعي، وأحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم )
3- "ليس لعرق ظالم حقّ" هذه القاعدة جزء من حديث صحيح هو: "من أحيا أرضا ميتة فهي له، وليس لعرق ظالم حق" رواه أحمد في مسنده وأبو داود والترمذي .
4- "المسلمون عند شروطهم" هذه القاعدة من حديث حسن رواه أبو داود والحاكم في المستدرك وأحمد في البيع، وفيه، احترام كل ما رضيه المتعاقدان من الشروط إلا الشروط التي تُحِلُّ الحرام أو تُحرِّم الحلال (كما ورد في رواية).
5- "إنما الأعمال بالنيات" هذه الصيغة جزء من حديث صحيح مشهور أخرجه الأئمة الستة وغيرهم من حديث "عمر بن الخطاب" (ت 23هـ) رضي الله عنه وقد جعله العلماء أصلا لقاعدة "الأمور بمقاصدها".
... وفي السنة النبوية أحاديث كثيرة أدرجها العلماء في كتبهم، وهي نزر يسير في هذا المجال، نذكر منها:
- "من وقع في الشبهات وقع في الحرام" جزء من حديث صحيح عن النعمان بن بشير.(11/32)
- "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" رواه الترمذي وابن ماجة عن أبي هريرة.
- "كل معروف صدقة" رواه البخاري عن جابر، ومسلم عن أبي حذيفة مرفوعا.
- "على اليد ما أخذت حتى تؤديه" رواه أحمد، والأربعة وحسَّنه الترمذي، وصحَّحه الحاكم.
- "لا طلاق في إغلاق" أي في إكراه، رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة والحاكم عن عائشة.
- "البيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا" متفق عليه عن عبد الله بن عمر.
المصدر الثالث : الاجتهاد
والمقصود بذلك القواعد الفقهية التي استخرجها الفقهاء عن طريق الاجتهاد في النصوص الشرعية، والبحث فيما تضمنته من المعاني والعلل، "فالعالم يرجع إلى هذه المصادر، ويبذل جهده فيها ويجمع بين الأحكام المتشابهة، والمسائل المتناظرة، ويستخرج قاعدة كلية منها تشمل كل ما يدخل تحتها أو اغلبه، كما فعل علماء الأصول في وضع القواعد الأصولية، وكذلك سار الفقهاء في القواعد الفقهية"(1)
وذكر فقهاء بأن ما اتبعه العلماء في تكوين القواعد وإنشائها من النصوص الشرعية بطريق الاجتهاد، اتخذ طريقين:(2)
__________
(1) - الزحيلي: المرجع نفسه، ص: 206.
(2) - الباحسين: المرجع السابق، ص: 201.(11/33)
أولهما: الاستنباط عن طريق التعليل والقياس والاستدلال بطرقه المتنوعة.
والثاني: استقراء النصوص الشرعية، وإدراك المعاني المشتركة، بين طائفة منها، في مسألة عامة أو خاصة.
الطريق الأول – النصوص الدالة على القواعد بطريق الاستنباط والتعليل:
والنصوص في هذا الباب كثيرة لم يستوعبها الفقهاء كلهم، وسنذكر فيما يأتي بعض القواعد التي ردها الفقهاء إلى النصوص الشرعية على سبيل التوضيح لا الحصر.
القاعدة ... الدليل والأصل
اليقين لا يزول بالشك ... الآية: { وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا } يونس 36.
الحديث: "إذا وجد أحدكم في بطنه شيئا فأشكل عليه أخرج منه شيء أم لا ؟ فلا يخرجن من المسجد حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا" (مسلم عن أبي هريرة)
فالأشياء يحكم ببقائها على أصولها حتى يتيقن خلاف ذلك ولا يضر الشك الطارىء عليها.
الأمور بمقاصدها ... الحديث: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى ..." "الشيخان، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه" ومن هذا الحديث أخذت قاعدة أخرى هي:"لا ثواب إلا بنية".(11/34)
الحدود تسقط بالشبهات ... الحديث:» ادرؤوا الحدود بالشبهات« "جزء من حديث أخرجه ابن عدي من حديث ابن عباس أخدت منه قاعدة أخرى هي: »لا ثواب إلا بنية«
الشروع في العبادات يوجب إتمامها ... الآية: { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم } "محمد33"
إذن: عدم إتمام العبادة يعد إبطالا لها, وإلغاء لما شرع فيه, وهو منهي عنه بالنص, لذا فإن الإتمام واجب للخروج من ذلك.
الفرض أفضل من النفل ... أحاديث كثيرة منها: الحديث القدسي: "وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضت عليه" "جزء حديث صحيح رواه البخاري عن أبي هريرة"
قول الشافعي: إن ثواب الفرائض يزيد على ثواب المتدوبات.
الميسور لا يسقط بالمعسور. ... الآية: { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } "البقرة 286"
الحديث: »إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم« "جزء من حديث رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة".
الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد ... الحديث: »إذا حكم حاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد, فأخطأ فله أجر« "مسلم عن عمرو بن العاص"(11/35)
إجماع الصحابة :يقضي أحدهم ويخالفه من بعده ولكنه لا ينقض قضاءه , لأن النقض يؤدي إلى عدم الاستقرار ولربما كان المنقوض أقوى من الناقد.
لا يجمع بين معاوضة و تبرع ... الحديث: »لا يحل سلف وبيع ،و لا شرطان في بيع, ولا ربح ما لم يضمن ,ولا بيع ما لبس عندك« "أخرجه الخمسة: أحمد, أبوداود, النسائي, الترمذي, ابن ماجه"
الطريق الثاني- النصوص الدالة على القواعد بطريق الاستقراء:
إن التتبع لأكثر الجزئيات المتشابهة ,لإدراك ما بينها من علاقة, من اهم الأسس في تكوين القواعد الفقهية خاصة ,والقواعد عامة )الاستقراء الناقص( أي: هو التوصل إلى قضية كلية من وقائع جزئية, وتلك القضية الكلية هي القاعدة أو القانون ,وهذا منهج علمي يتبعه كثير من العلماء في الوصول إلى نتائجهم.
وقد اتبعه الفقهاء المسلمون في استخراج قواعد العلوم, ومنها القواعد الفقهية وفي ضبط وتحديد الكثير من الأحكام الشرعية .
وفيما يلي بعض القواعد التي يدل عليها استقراء النصوص الشرعية:
القاعدة ... أساس اعتبارها من النصوص
المشقة تجلب التيسير ... النصوص الكثيرة الدالة على رفع الحرج وإرادة اليسر(11/36)
-إفطار الصائم في رمضان مع صوم عدة أيام أخرى ,في حالة السفر والمرض.
-قصر الصلاة وجمعها في السفر.
-إباحة الميتة للمضطر.
التغاضي عما يصعب الاحتراز عنه من النجاسات.
الضرر يزال ... آيات كثيرة تنهي عن الضرر ,ورفع ما يترتب عليه:
قوله تعالى: { ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا } "البقرة 231"
و: { ولا تضاروهن لتضيِّقوا عليهن } "الطلاق6"
و: { فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه } "البقرة 173"
و: { من بعد وصية يوصي بها أو دين غير مضار } "النساء2 1"
والحديث: »لا ضرر ولا ضرار« "رواه ابن ماجه والدار قطني مسندا عن أبي هريرة".
الضرورات تبيح المحظورات ... قوله تعالى: { فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم } "النحل 115"
و: { فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه } "البقرة 173"
و: { وقد فصَّل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه } "الأنعام 119"
والحديث: »لا ضرر ولا ضرار«
والعلماء قالوا: متفرعة عن قاعدة » الضرر يزال«.
وبالإضافة إلى ما سبق فقد أستنبط الفقهاء قواعد فقهية من: الإجماع ومعقول النص، والعلة، والسبب، ومسلمات المنطق ومبادئ اللغة العربية و....
الأمثلة:
القاعدة ... المرجع في الإستنباط(11/37)
إنما يثبت الحكم بثبوت السبب
إذا اجتمعت الإشارة والعبارة واختلف موجبهما غلبت الإشارة
لا يكلف الله نفسا إلا وسعها
المرء مؤاخذ بإقراره
السؤال معاد في الجواب
إذا تعذر إعمال الكلام يهمل ... الإجماع ومعقول النصوص
المعقول والعرف.
معقول نصوص الرافعة للحرج الآية: { وليملل الذي عليه الحق }
مبادئ اللغة العربية
لوازم التفكير ومبادئ العقل
كما توجد بعض النصوص جاءت على صيغة القواعد لعدد من الفقهاء الذين جاؤوا بعد عصر التابعين، فنذكر على سبيل المثال:
"الإمام مالك (ت 179هـ)".
كل ما لا يفسد الثوب فلا يفسد الماء.
لا يرث أحد أحدا بالشك.
"محمد بن الحسن الشيباني (ت 189هـ) "
كل ما كان الأكل فيه فرضا عليه، فإنه يكون مثابا على الأكل، لأنه يمتثل به الأمر، فيتوصل به إلى أداء الفرائض.
لا يجوز الاستثناء من غير الجنس
"الشافعي (ت 204هـ)"
لا ينسب إلى ساكت قول.
إذا ضاق الأمر اتسع.
الأرض على الطهارة حتى يستيقن النجاسة.
الأشياء كلها مردودة إلى أصولها، والرخص لا يتعدى بها مواضعها.
"الإمام أحمد بن حنبل (ت 241) "
كل ما جاز فيه البيع تجوز فيه الهبة والصدقة والرهن.
"الكرخي (ت 340 هـ)"(11/38)
الأصل أن للحالة من الدلالة ، كما للمقالة .
الأصل أنه إذا مضى بالاجتهاد لا يفسخ باجتهاد مثله ويفسخ بالنص.
الأصل أن ما ثبت باليقين لا يزول بالشك.
إذن: اجتهد العلماء في تقعيد القواعد وذلك باتباع منهجية علمية كالتي اعتمد عليها علماء مناهج البحث العلمي في العصور المتأخرة، وسنوجز فيما يلي تلك المنهجية .
سادسا – منهجية الفقهاء في تقعيد القواعد:
مع ظهور الحركة الفقهية في عصر الصحابة والتابعين ومن بعدهم من العلماء العاملين والفقهاء المجتهدين قاموا باستنباط الأحكام الشرعية من مصادرها التفصيلية، من القرآن الكريم والسنة النبوية باتباعهم التدرج في الأخذ من المصادر(1).
- فإذا طرأت حادثة أو أثيرت قضية أو استجد بحث، نظروا في كتاب الله تعالى فإن وجدوا نصًّا صريحا بينَّوه للناس.
- فان لم يجدوا رجعوا إلى السنة النبوية دراسة وبحثا وسؤالا، فإن وجدوا ضالتهم المنشودة أعلنوها.
__________
(1) - الزحيلي: المرجع السابق، ص: 195 وما بعدها بتصرف.(11/39)
- وإن لم يجدوا نصا في كتاب الله تعالى أو سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - شرعوا بالاجتهاد وبذل الجهد والنظر في الكتاب والسنة وما يتضمنان من قواعد مجملة ومبادئ عامة وإحالة صريحة أو ضمنية إلى المصادر الشرعية الأخرى: ويعملون عقولهم في تحقيق مقاصد الشريعة، وأهدافها العامة ليصلوا إلى استنباط الأحكام الفقهية.
فقد بدأوا بالفروع والجزئيات ثم تطورت الطرق العلمية عندهم للأخذ من المصادر التشريعية الفرعية فكان في عصر الأئمة المذاهب الذين دونوا الأحكام قواعدهم وأصولهم في الاستنباط والاجتهاد ، معتمدين على القواعد والأصول التي يسيرون عليها وبذلك بدأت صياغة القواعد الفقهية متَّسمة بطابع المذاهب الفقهية إلا أنها كانت عامة وواحدة ومشتركة بين المذاهب وتختلف الفروع التي تدخل تحتها.
والطريقة المتَّبعة في الأخذ من النصوص الشرعية هي كما يلي:
أ- من النصوص ما كانت على شكل قواعد كلية مباشرة بصيغتها نفسها؛ وهذه النصوص تؤخذ دون تغيير أو بتغيير يسير، لا يشعر معه بتبدل صيغة النص الشرعي مثاله: قاعدة: الضرر يزال أساس اعتبارها آيات قرآنية كثيرة وحديث شريف لا ضرر ولا ضرار.(11/40)
وقاعدة: الخراج بالضَّمان: أساسها الحديث: "الخراج بالضَّمان".
وقاعدة: الأمور بمقاصدها: أساسها الحديث: "إنما الأعمال بالنيات".
ب- ومن النصوص ما دلت على قواعد فقهية بطريق غير مباشر أي عن طريق الاجتهاد والنظر أي عن طريق التعليل والتوجيه والتفسير، فإما أن يكون بطريق الاستنباط كقاعدة: الحريم له حكم ما هو حريم له، والمراد من الحريم، هنا المحيط بالحرام الفخذين فانهما حريم العورة الكبرى، أساس القاعدة: "إن الحلال بيِّن وان الحرام بيِّن، وبينهما أمور مشتبهات...." "متفق عليه".
وإما أن يكون بطريق الاستقراء وإدراك المعاني المشتركة بين طائفة منها، كقاعدة: الضرر يزال فهي تستند إلى طائفة من النصوص الشرعية في القرآن والسنة.(11/41)
جـ- ومنها نصوص العلماء التي ما كان منها على هيئة قواعد أو ضوابط أو أصول، ومنها ما جرى تحسين و تشذيب عبارته متدرجا على مر العصور حتى أخذ مكانته في القواعد الفقهية، مثاله: ما ذكره فقهاء المذاهب الأربعة في كتبهم التي ألَّفوها لهذا الغرض(1) كما في كتاب إبراهيم بن نجيم المصري "ت 970هـ" الحنفي في كتابه "الأشباه والنظائر"، وكما في كتابه جلال الدين عبد الرحمن السيوطي "ت 911هـ" الشافعي في كتابه الأشباه والنظائر وكما في كتاب "ابن تيمية" "ت 728هـ" الحنبلي في كتابه: "القواعد النورانية الفقهية" وكما في كتاب ابن جزيء الكلبي "ت741هـ" المالكي في كتابه "القوانين الفقهية".
د- تخريج القواعد الفقهية من خلال النظر في الجزئيات المنقولة عن الأئمة والفقهاء بالطرق المعهودة لدى أهل التخريج، وفيما يلي: توضيح هذه الطرق والقواعد المستخرجة.
التخريج عن طريق الاستقراء:
- الأصل عند الحنفية: ما غيَّر الفرض في أوله غيَّره في آخره – خرج من قاعدة أبي حنيفة التي حكمها في الفروع الإثني عشر.
__________
(1) - ذكرت بعضا من كتب علماء المذاهب على سبيل الاستشهاد بها فقط.(11/42)
- الأصل عند الشافعية: أنَّ كل ما كان طاهرا جاز بيعه، وما لم يكن طاهرا لم يجز بيعه(1). وقد استنبط هذا الأصل من استقراء طائفة من الجزئيات، كعدم بيع كلب الصيد والخمر....
2-التخريج عن طريق القياس: (أي عند إدراك التشابه والتسوية في الأحكام )
فمن ذلك: قياس الطرد: (أو العلة) مثال ذلك:
- المعدوم شرعا كالمعدوم حسا. ... - الموجود شرعا كالموجود حقيقة.
- كل ما يفسد العبادة عمدا يفسدها سهوا. - الممتنع عادة كالممتنع حقيقة.
- المعروف عرفا كالمشروط شرطا. ... - حكم المشبه كحكم المشبه به.
ومنه: القياس الأولى: (وهو من أنواع قياس الطرد، ولكن المعنى الذي كان الحكم لأجله في الأصل، هو أكثر تحققا في الفرع منه في الأصل). مثاله:
- كل عضو حرم النظر إليه حرم مسه بطريق أولى.
- من ملك التنجيز ملك التعليق، ومن لا فلا. ... ... الكلام هنا في العقود ... ... ... - ما ضمن صحيحه ضمن فاسده، وما لا فلا .
- كل ما حرم ملابسته كالنجاسات، حرم أكله وليس كل ما حرم أكله حرمت ملابسته كالسموم.
__________
(1) - أي كل ما كان مضمونا بالإتلاف جاز بيعه، وما لا يضمن بالإتلاف لا يجوز بيعه.(11/43)
3- التخريج عن طريق الاستصحاب: (وهو إبقاء ما كان على ما كان عليه، لانعدام المغيِّر)(1).
مثاله: - الأصل بقاء ما كان على ما كان. – القديم يترك على قدمه.
-الضرر لا يكون قديما. -الأصل إضافة الحادث إلى أقرب أوقاته.
4- التخريج عن طريق الاستدلال العقلي: (وله جانبان):
الجانب الأول: التخريج من امتناع الجمع بين المتنافسين مثل: لا حجة مع التناقض، ولكن لا يختل معه حكم حاكم، و– كل ما له ضد فانه يرتفع بطروئه عليه.
و- الأجر والضمان لا يجتمعان، و– الساقط لا يعود، وألا يقوم البدل حتى يتعذر المبدل منه.
الجانب الثاني: التخريج عن طريق التلازم مثل: - إذا سقط الأصل سقط الفرع، و– إذا بطل الشيء بطل ما في ضمنه، و– من ملك الكل ملك البعض، و– ما جاز لعذر بطل بزواله.
وهناك تخريج عن طريق استدلالات عقلية متنوعة منها: -لا يثبت حكم الشيء قبل وجوده، و– المشغول لا يشغل ،الاشتغال بغير المقصود إعراض عن المقصود، و– شغل المشغول لا يجوز، و– فرض المحل مستلزم فرض الحال.
5- التخريج عن طريق الاجتهاد في تحقيق المناط:
__________
(1) - التقعيد وفق هذا الطريق اعتمد على الاستقراء، وتطبيقات الأحكام الجزئية.(11/44)
المراد من تحقيق المناط: (المناط هو علة الحكم، وتحقيقه هو الاجتهاد في معرفة وجوده في آحاد الصور. وأما تنقيحه فهو تهذيبه بإبعاد ما لا مدخل له في مناط الحكم)، مثاله:
- التحريم المتوقع لا يؤثر في الحال عدم الحل.
- الشك المجرد لا يرفع به أصل محقق.
- غير الثابت لا يثبت بالشك.
- لا ينكر تغيير الأحكام بتغيير الأزمان.
- الحقيقة تترك بدلالة العادة.
التخريج عن طريق الترجيح بين الجزئيات المتعارضة: فمن ذلك:
إذا تعارض المانع والمقتضي يُقدَّم المانع "لو مات الجنب شهيدا فالأصح أنه لا يغسل".
لو تعارض الحظر والإباحة يُقدم الحظر، "إذ ذبح المُحْرِم حيوانا وجب الجزاء".
لو تعارض الواجب والمحظور يُقدم الواجب، "كما لو اختلط موتى المسلمين بموتى الكفار وجب غسل الجميع والصلاة عليهم".
لو تعارض الواجب والمسنون، وضاق الوقت عن المسنون قُدِّم الواجب.
"ومما يدخل في ذلك ما إذا ضاق الوقت عن تكرار الأعضاء في الطهارة، أو كان لديه ماء لم يكفه لغسل الأعضاء ثلاثا غسل مرة"(1).
__________
(1) - الباحسين: المرجع السابق، ص: 260.(11/45)
... وبهذه الطرق المنهجية استطاع العلماء فيما بعد (في هذه العصور) القيام بدراسات علمية مدققة موضوعية محكمة سواء في رصد القواعد الفقهية وإحصائها، وتبويبها، أو في الاعتماد عليها وتطبيقها في الإطار التشريعي والقضائي، وتخصيص قواعد معينة بالدراسة، دراسة علم القواعد الفقهية، دراسة نظرية وتاريخية مع بعض التطبيقات في بعض الأحيان في الدراسات العليا بالجامعات الإسلامية فإن من الدارسين مَنْ تَخصَّص في دراسة بعض القواعد كالدراسات المتعلقة بقاعدة الأمور بمقاصدها وبقاعدة المشقة تجلب التيسير وما يسمى بنظرية الضرورة الشرعية، وقاعدة العادة محكمة، ودراسة العديد من القواعد المتفرقة على شكل بحوث علمية ورسائل وأطروحات جامعية.
سابعا/ الخاتمة:(11/46)
استجاب العلماء والفقهاء والأصوليون والباحثون في الدراسات الشرعية إلى ما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - في طلب العلم والتَّخصُّص في فروعه وميادينه، فكان منهم مَنْ برع في العلم فكان كالأرض الطيبة التي أصابها الماء والغيث فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وفي الوقت نفسه حفظت قسما من الماء للري والشرب، فكان منها الخير الكثير، وهؤلاء العلماء استفادوا وأفادوا ونفعوا الأمة بالعلم والمعرفة.
أما في مجال دراسة القواعد الفقهية، فإنهم وإن ولجوا أبوابا متعددة في الدراسة وسلكوا المناهج العلمية في البحث، إلا أن الأمر يدعو إلى مزيد البحث والدراسة كي يقوم الباحثون اليوم في تحريك عجلة القواعد، ودفعها إلى الأمام، حتى يستفيد منها الناس جميعا في شتى المجالات المختلفة.
وإنني في هذا المقام لا يسعني إلا أن اشكر القائمين على هذا المؤتمر في جامعة اليرموك الذين أولوا اهتماما كبير للسنة النبوية في الدراسات المعاصرة ولا ريب فإن في دراستنا هذه إسهاما في إلقاء دلونا بين الدَّلاء، مع الأمل أن يحقق فائدة وخيرا إن شاء الله تعالى، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(11/47)
... ... ... ... ... ... ... ... ... الأستاذ الدكتور: سعيد فكرة
الهوامش:(11/48)
أهمية السنة النبوية وضرورة تطويرها
ورقة علمية مقدمة للمؤتمر العلمي الأول
" السنة النبوية في الدراسات المعاصرة "
والذي ينظمه كلية الشريعة والدراسات الإسلامية
خلال الفترة الواقعة ما بين 17ـ 18 نيسان 2007م
في رحاب جامعة اليرموك بإربد
إعداد
د.عبد الله بن محمد بن أحمد السماعيل
الأستاذ المساعد بقسم الدراسات الإسلامية
كلية التربية ـ جامعة الملك فيصل
المملكة العربية السعودية
ملخص الورقة العلمية
إن المناهج والمقررات الدراسية لها الدور الأكبر في صياغة ذهن الطالب، وتعمل بدرجة كبيرة في تحديد كيفية تعامله مع مجتمعه، ونوعية تعاطيه مع المستجدات العالمية من حوله، وذلك وفق التصورات والصور التي غرست في عقله ونفسه في مراحله الدراسية والجامعية المختلفة؛ ولأهمية هذه المناهج دأب مؤلفو المقررات الدراسية في كافة دول العالم على أن تتضمن مفاهيم معينة يريدون من التلاميذ اعتناقها، ولاختلاف المفاهيم والمبادئ التي يعتنقها الشعوب والدول فإن المقررات الدراسية تأتي تبعاً لذلك مختلفة ومتنوعة من ناحية مضمونها وتصورها، ومن خلال هذا البحث سأتحدث عن "أهمية السنة النبوية وضرورة تطويرها" ، وعن مدى تأثيرها في التفاعل مع(12/1)
المجتمع.
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإن العالم الإسلامي يعيش أزمة تردد ونقل وتقليد وفقدان للهوية، أزمة فكرٍ بكلِّ ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، والدليل على أن المشكلة تراوح مكانها حول الفكر هو نظرة الانزواء والاضمحلال لواقع المسلمين ما جاء إلا نتيجة غياب الفكر الإسلامي من حياتهم، وغياب التعليم الفعال عن أنظمة تعليمهم. والفكر - ومنه التعلم - موجود في المجتمعات الإسلامية بشكل أو بآخر، إلا أن إخفاقه في إنهاض الأمة دليل على عدم فعاليته بالصفة التي هو عليها. لذا كان علينا تقرير مدى أهمية العقل - ومنه الفكر - وماهيته، والاستدلال الصحيح المفضي إلى تعلمٍ مجدٍ وفعال.
وتأتي هذه الورقة العلمية مساهمة متواضعة في هذا المجال، جعلتها بعنوان: "أهمية السنة النبوية وضرورة تطويرها" ، قصدت بذلك التأكيد على أهمية التعلم الفعال الذي يحقق للأمة نهضتها، وللطالب الرضا والقناعة بما يتعلم، وقد انتظمت هذه الورقة بعد المقدمة في أربعة مباحث وخاتمة، على النحو التالي:
المبحث الأول: في ماهية العقل وأهميته.(12/2)
المبحث الثاني: مشكلة مقررات السنة النبوية .
المبحث الثالث: من خصائص مقررات السنة النبوية .
المبحث الرابع: علاقة مقررات السنة النبوية بالمقررات الأخرى.
الخاتمة: وفيها عرض التوصيات التي أسفرت عنها هذه الورقة.
وبعد فلعلَّ هذا المؤتمر يكون فاتحة خير ومنطلقاً للعناية والاهتمام بعرض هذه المقررات بحيث تكون ملائمة مع المتغيرات العالمية والداخلية ، ثم إني أتوجه بالشكر الجزيل للقائمين على هذا المؤتمر على إتاحة الفرصة للمشاركة، سائلاً الله تعالى أن يجزيهم على ذلك خير الجزاء، وأن يبارك في الجهود إنه سميع مجيب.
المبحث الأول : في ماهية العقل وأهميته:
أولاً : ماهية العقل: يعرف العقل في معاجم اللغة بتعريفات مختلفة، فيعرف بأنه الحِجْر والنُهى، والإمساك والتحكم والضبط والعلم بصفات الأشياء، ويوصف كذلك بأنه مكان الوعي، والفكر، والشعور، والإرادة، والقلب، . . . . والعقل: مأخوذ من عقلت البعير إذا جمعت قوائمه، وقيل : "العاقل" الذي يحبس نفسه ويردها عن هواها، وسُمي العقل عقلاً؛ لأنه يعقل صاحبه عن التورط في المهالك(1).
ثانياً : أهمية العقل:
__________
(1) انظر: لسان العرب مادة عقل 11/458 .(12/3)
ترجع أهمية العقل إلى أمور منها:
بالعقل ميز الله الإنسان؛ لأنه منشأ الفكر الذي جعله مبدأ كمال الإنسان ونهاية شرفه وفضله على الكائنات، وميزه بالإرادة وقدرة التصرف والتسخير للكون والحياة، بما وهبه من العقل وما أودعه فيه من الفطرة قال تعالى { أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي ا؟لسَّمَـ!ــوَ !تِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُو ظَـ!ـــهِرَةً وَبَاطِنَةً } (1) .
__________
(1) سورة لقمان ، آية رقم ( 20 ) .(12/4)
وبالعقل يستطيع الإنسان التمييز والتمحيص وفهم نصوص الشريعة وتنزيلها على الواقع فإن العقل بما يملك من طاقات إدراكية أودعها الله فيه ذات دور مهم في الاجتهاد والتجديد إلى يوم القيامة؛ وذلك بالنظر إلى انقطاع الوحي، فالعقل له دور في استقراء الجزئيات والأدلة التفصيلية التي يجمعها مفهوم معنوي عام، باعتباره مبنى من مباني العدل، وهى الأصول الكلية، والقواعد العامة التي تستشرف مقاصد ومصالح إنسانية مادية ومعنوية يعبر عنها بالحاجات والمطالب، والعقل يرد الفروع والجزئيات التي تنزل في الواقع، وليس لها نص إلى الأصول والكليات المنصوصة من خلال ما عُرف بالقياس وغيره. وبدونه لا يمكن ربط الدين بالواقع .
العقل مناط التكليف بخطاب الشارع طلباً أو كفًّا أو تخييراً أو وضعاً؛ لأن التكليف خطاب، وخطاب من لا عقل له ولا فهم محال، فالمجنون، والصبي الذي لا يميز، يتعذر تكليفه؛ لأن التكليف خطاب من الله ولا يَتلقى ذلك الخطاب إلا من يعقل ويدرك معناه.(12/5)
وهكذا تبدو ضرورة العقل وأهميته بوصفه أصلاً من أصول المصالح التي بدونها لا مجال للتلقي عن رسالة الوحي بوصفها مصدراً للمعرفة والعلم والتوجيه، ولا مجال لمسئولية الخلافة الإنسانية وإعمار الكون دون وجود العقل وإعمال دوره ووظيفته في الفهم والإدراك والتمييز بين المصالح والمفاسد، ومن هنا كفلت الشريعة أحكام حفظه باعتباره كياناً وجودياًً في الإنسان، وضابطاً لدوره ووظيفته في الكون.
ومن هذا المنطلق يأتي منظور الشريعة في حفظ العقل، سواء من ناحية الوجود ابتداء بتحصيل منفعته أو من ناحية درء المفاسد عنه أو المضار اللاحقة به.
فأحكام حفظ العقل من ناحية الوجود، هي الأحكام التي تقيم أركانه وتثبت قواعده بحيث تثمر منفعته فكراً مستقيماً ، وعلوماً نافعة ، ومعارف صالحة ، فقد جاءت نصوص الشريعة تحث على العلم والنظر في آيات الله في الكون، والتفكر فيها بما يعمق الإيمان بالله تعالى وهي أكثر من أن يتسع لها السياق هنا. قال الله تعالى: { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ(12/6)
} (1)، { أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا ا؟لْقَوْلَ } (2)، { أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } (3)، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على هذا المعنى.
إن الإنسان يزداد عقلاً وتهذيباً وصقلاً بازدياد المعارف والعلوم. فإن مفهوم العلم
- في الرؤية الإسلامية - الذي يفيد زيادة عقل، مفهوم شامل يؤدي إلى معرفة الله تعالى والتقرب إليه، بما يحقق مهمة الخلافة في الأرض، وعمارة الكون والحياة.
أما تدابير حفظ عقول الأمة من ناحية ما يدرأ عنها الخلل الواقع أو المتوقع فيتمثل في موقف الإسلام من صور الغلو والانحراف الفكري.
والفكر قد يكون مجرد رأي وصل إليه العقل بطريقة أو بأخرى، وقد يكون عقيدة عند الاقتناع به وتحرك الوجدان نحوه، وانفعال النفس به انفعالاً يظهر أثره في القلب والسلوك، ومن الانحراف في الرأي التعصب لحكم اجتهادي ليس له دليل قاطع في ثبوته أو دلالته. ومن الانحراف في العقيدة إنكار وجود الإله الخالق، وكذلك الغلو في الإيمان بوجوده، غلواً يتنافى مع ما يجب له من الجلال والجمال.
__________
(1) سورة آل عمران ، آية رقم ( 65 ) .
(2) سورة المؤمنون ، آية رقم ( 68 ) .
(3) سورة الذاريات ، آية رقم ( 21 ) .(12/7)
فأخطر أنواع الانحراف هو انحراف الفكر والبعد به عن القصد إفراطاً أو تفريطاً، ذلك أن السلوك نابع منه ومتأثر به، ولهذا كانت العناية بتقويم الفكر وتصحيح الاعتقاد هي أول نقطة في أي برنامج من برامج الإصلاح التي جاء بها الأنبياء، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب" ( متفق عليه ). والقلب أحد معاني العقل كما سبق(1).
والانحراف الفكري ينتج عن خلل في البناء الفكري، وهذا الخلل قد يعود إلى الأمور التالية أو إلى أحدها:
الجهل بأصول التشريع: الكتاب، السنة، الإجماع، القياس، أو الإعراض عن الأخذ بهذه الأصول أو إحداها، مثل من ينكر حجية السنة مثلاً.
الجهل بمناهج التعامل مع هذه الأصول، كالجهل بمآخذ الأدلة وأدوات الاستنباط أو الجهل باللغة العربية - لغة الوحي - وأساليبها، وإجمالاً بمنهج تحليل نصوص الوحي واستنباط الحكم منها.
وجماع الأمرين السابقين صدور الاجتهاد من غير أهله مع الجهل بمقاصد الشريعة والمصالح المعتبرة شرعاً.
__________
(1) في ص 3 .(12/8)
إن ظاهرة الانحراف والغلو الفكري تعود في بعض أسبابها إلى الخلل في البناء الفكري والمنهجي، الذي أدى إلى كثير من السلبيات والمواقف التي تتناقض مع المقاصد والمصالح الشرعية العامة للأمة.
ولما كانت المناهج والمقررات الدراسية تلعب الدور الأكبر في صياغة ذهن الطالب وفكره ، وتعمل بدرجة كبيرة في تحديد كيفية تعامله مع مجتمعه ونوعية تعاطيه مع المستجدات العالمية ؛ كان لزاماً على علماء الشريعة والمربين والمتخصصين النظر في مشكلة مناهج التعليم ـ ومنها مقررات السنة النبوية ـ والوقوف عليها، ووضع المناهج المناسبة للقضاء على ظاهرة الانحراف والغلو الفكري .
المبحث الثاني: مشكلة مقررات السنة النبوية:
إن المتتبع لسير العملية التعليمية، والناظر في معطيات العصر وعلومه، يلحظ انحسار الاهتمام بالعلوم الإسلامية عموماً ، ومقررات السنة النبوية خصوصاً ، كما يلحظ قلة العناية بها، على مستوى الدول والشعوب والأفراد، يقابل ذلك الاهتمام المتصاعد بالعلوم التطبيقية، إعلامياً وثقافياً وتعليمياً وأسرياً ووظيفياً، لقد أدرك الباحثون أن مناهج ومقررات السنة النبوية تواجه أزمة حادة وتعتريها مشكلة قائمة، تتمثل في أمرين:(12/9)
الأمر الأول: تأخر هذه المقررات وعدم مواكبتها للتطور، ومسايرتها للحضارة والتقدم العلمي.
إن الناظر في مناهج مقررات السنة النبوية وأبحاثها يلحظ غلبة الرتابة والجفاف
عليها (1)، وافتقارها أحياناً إلى إعطاء تصور واضح عن أهدافها ومناهجها المشتركة، والعلاقات بينها (2)، وذلك بخلاف العلوم الطبيعية والتطبيقية التي لها خاصية المرونة والحيوية، وتميزها بتقديم النفع المباشر للإنسان، وهذا بلا شك يعطيها حضوراً وقبولاً على حساب مناهج السنة النبوية (3) .
__________
(1) انظر: الموضوعية في العلوم الإنسانية للدكتور صلاح قنصوه ص ( 408 ) .
(2) انظر: مشكلة العلوم الإنسانية ص ( 52 ) .
(3) انظر: المرجع السابق ص ( 16 ) .(12/10)
ومن هنا نادى المخلصون بضرورة التجديد في هذه المناهج لتخرج من الدائرة المغلقة التي تدور فيها، وتستطيع بذلك مواكبة العصر، لكن لا يعني ذلك أن نخضع مناهجنا الدينية لمناهج العلوم التطبيقية كما ذهب إلى ذلك البعض وعمد إلى إخضاع المناهج الدينية للمنهج التجريبي (1)، فإن هذا يُعَدُّ جناية في حقِّ العلوم الدينية وسلباً لأصولها وخصائصها، التي تنفرد بها عن غيرها، ولكن التجديد الذي ننشده يتمثل في إحياء هذه العلوم وتغيير النمط الذي تسير عليه في الأبحاث وطرائق العرض، ليكون لها حضور حافل، وتسهم في تقديم النفع للبشرية، كما هو مؤمل منها.
الأمر الثاني : تقدم العلوم الطبيعية والتطبيقية بشكل مذهل.
لم يعد خافياً على أحد هذا التقدم المبهر الذي حققته العلوم الطبيعية والتطبيقية، ولعلَّ من نتائج ذلك هذه الابتكارات والإنجازات الحديثة، فلا يكاد يمر يوم إلا ونسمع عن جملة من الابتكارات والصناعات وتطوير الأبحاث وتحسين المنتجات، حتى قيل: إن أكثر من ثلاثة أرباع علم الفيزياء قد أنتجه هذا القرن.
__________
(1) انظر: بحث للدكتورة يمنى الخولي في: مجلة التربية، الدوحة قطر: عدد: ( 6 ) ، سنة 1983م .(12/11)
لقد احتلت هذه العلوم مكانة مرموقة في هذا العصر، وغدت لها قدسية عند الناس، فهذا مصطلح العلم يكاد ينحصر في الوقت الراهن على العلوم الطبيعية والتطبيقية دون غيرها (1)، ولهذا السبب تم تنحيت العلوم الإنسانية - ومنها علوم السنة النبوية - عن مسمى العلم، ولعلَّ هذا هو السرّ في نشوء التقسيم في بعض مراحل الدراسة وفي الكليات على أساس أن هناك أقساماً وتخصصات علمية وأخرى أدبية، ويقصد بالأقسام العلمية تلك التي يدرس فيها العلوم التطبيقية والطبيعية، والأقسام الأدبية هي التي يدرس فيها العلوم الشرعية واللغوية والاجتماعية ونحوها، ولعلنا لا نجانب الحقيقة إذا قلنا إن للتخصص دوراً أساساً في تعميق هذه المشكلة وتوسيع نطاقها.
المبحث الثالث : من خصائص مقررات السنة النبوية:
تنفرد المناهج الدينية عموماً ـ ومنها مقررات السنة النبوية ـ بسمات وخصائص لا يشاركها في هذا بقية العلوم والفنون والمعارف الأخرى، نعرض لاثنتين منها فقط على اعتبار أن لهما تعلقاً بموضوعنا:
أولاً: العلوم الشرعية هي الأصل:
__________
(1) انظر: مشكلة العلوم الإنسانية للدكتورة يمنى الخولي ص ( 5 ) .(12/12)
العلوم الشرعية هي الأصل في العلوم كلها، وغيرها تابع لها؛ وذلك لأنها إما علوم مكتسبة، يمكن أن يقف عليها الإنسان بطبيعة فكره، ويهتدي إليها بمداركه البشرية، وإما علوم نقلية وضعية مستندة إلى الخبر عن الواضع الشرعي (1).
وهذه الخاصية يترتب عليها عدة أمور منها:
أن هذا العلم منه ما هو واجب تعلمه (2)، سواء كان واجباً عينياً أو كفائياً؛ لأن صحة العبادة وضوابها، وموافقة العقود والمعاملات لأحكام الشريعة مرتبط بتعلم العلم الشرعي، بل حتى ممارسة بعض الصناعات، ومزاولة بعض المهن، وانخراط المسلم بعمل من الأعمال المباحة، يوجب عليه أخذ قسط من العلم الشرعي المتعلق بعمله.
يقول النووي رحمه الله تعالى (3):
من أراد التجارة لزمه أن يتعلم أحكامها فيتعلم شروطها وصحيح العقود من فاسدها وسائر أحكامها.اهـ
تميز هذا العلم بكثرة فنونه وعلومه وتشعبها وتعددها، لا تدانيه في ذلك العلوم الأخرى ولا تلحقه، وعلى سبيل المثال فعلم الشريعة تحته عدة علوم، وتحت كل علم جملة وافرة من العلوم، وعلم القرآن الكريم تحته حوالي ثمانون
__________
(1) انظر: أبجد العلوم للقنوجي ص ( 127 ) .
(2) مجموع فتاوى ابن تيمية ( 28/80 ) .
(3) المجموع ( 9/110 ) .(12/13)
علماً (1)، والحديث ستون علماً، ونجد هذا في علوم السنة النبوية، وعلوم اللغة أيضاً وفي غيرها.
ثانياً: أن العلوم الشرعية حاكمة على غيرها من العلوم:
إن العلوم الطبيعية والتطبيقية محكومة من قبل العلوم الشرعية، تحدد مسارها وتضع لها الأطر والضوابط التي تسير وفقها، ولو قدر لهذه العلوم أن تنفلت من حاكمية العلوم الشرعية لخرجت عن مسارها الصحيح، وكانت الآثار والنتائج ضارة سيئة على المجتمع، فعلم الفقه وعلم القانون وعلم الأخلاق كمثال؛ من سمات هذه العلوم أنها حاكمة على غيرها من العلوم، حيث تتمثل في قواعد عامة تتضمن تكليفاً موجهاً لأفراد المجتمع، تعتبر ملزمة للكافة، ويتعرض المخالف للجزاء والعقوبة (2) .
__________
(1) انظر: الإتقان في علوم القرآن للسيوطي ( 1/20 ) .
(2) علم القانون والفقه الإسلامي للدكتور سمير عالية ص ( 104 ) .(12/14)
وعلم الأخلاق ـ الذي تدعو إليه مقررات السنة النبويةـ فإنه يمنع العالِم من العبث في العلوم وتسخيرها للإضرار بالبشرية، ولذلك حين قدر للعلوم التطبيقية الانفلات من حاكمية العلوم الشرعية؛ رأينا التجارب والمخترعات التي أضرت بالعالم، حيث انطلق العلماء في إجراء التجارب وعمل البحوث والوصول إلى مخترعات كان ضررها بالغاً، لم تراع فيها أخلاق المهنة، وآداب العلم، ولم يلتزم بقواعد القانون العامة، ولعلَّ من آخر ذلك التجارب المتعلقة بالاستنساخ الحيواني والإنساني، والتلاعب بالجينات.
إنه لو قدر للعلوم الشرعية أن تقوم بدورها في هذا الشأن، لما وصل الحال في هذا العصر إلى هذا المستوى، فهذه المنتجات الخطرة والأسلحة الفتاكة التي تقضي على الأخضر واليابس، حين كانت بمعزل عن حاكمية القانون والأخلاق أصبحت خطراً يهدد البشرية أجمع.
المبحث الرابع: علاقة مقررات السنة النبوية بالمقررات الأخرى:
من خلال النظر في السمتين التي سبق ذكرهما، فإن المقررات السنة النبوية ليست بمعزل عن العلوم التطبيقية والطبيعية، بل يتبادلان التأثير، ويستفيد كلٌّ منهم من الآخر فيما من شأنه التطوير والوصول إلى الصواب والحق والعدل، وإسعاد البشرية.(12/15)
وإذا أخذنا مقرر النظام السياسي في الإسلام كمثال؛ـ وقد جاء الحديث عنه كثيراً في مقررات السنة النبوية ـ ، فإن العلوم الطبيعية والتطبيقية تخدمه في كثير من مباحثه ومسائله.
فعلم السياسة الشرعية ـ الذي هو جزء من مقرر النظام السياسي ـ ؛ علم يبحث عن الأحكام والنظم التي تدبر بها شئون الدولة، بما يتفق مع أحكام الشريعة الإسلامية(1).
وبناء على هذا؛ فإن موضوعات علم السياسة الشرعية تتصل بالتالي(2):
السياسة الدستورية، وهو نظام الحكم.
السياسة الدولية وعلاقة الدولة الإسلامية بغيرها.
السياسة المالية.
السياسة الاقتصادية.
السياسة القضائية.
لقد استفاد علماؤنا من العلوم التطبيقية في مباحث وموضوعات السياسة الشرعية للوصول إلى الحق والصواب ومن الأمثلة على ذلك:
__________
(1) انظر: المدخل إلى السياسة الشرعية لعبد العال عطوة ص ( 57 ) .
(2) انظر: المرجع السابق ص ( 59 ) وما بعدها؛ نظرية السياسة الشرعية للدكتور عبد السلام العالم ص
( 81 ) وما بعدها.(12/16)
علم القيافة؛ وهو: إلحاق الولد بأصوله لوجود الشبه بينه وبينهم. وقد اعتمد جمهور الفقهاء على القيافة في ثبوت النسب والاستلحاق؛ بناء على العلامات والأمارات الظاهرة التي يعرفها القائف(1). وعلم القيافة من علوم الطبيعة (2).
علم الفراسة؛ وهو: الاستدلال بالأمر الظاهر على الأمور الخفية. والعمل بالفراسة يمثل جانباً من جوانب العمل القضائي، وقد سلك كثير من القضاة هذه الطريق واستخدموا الفراسة في القضاء، ووصلوا إلى نتائج باهرة(3)، وعلم الفراسة من علوم الطبيعة(4).
__________
(1) وسائل الإثبات للدكتور محمد الزحيلي ص ( 542 ) ؛ الطرق الحكمية لابن القيم ص ( 225 ) .
(2) أبجد العلوم للقنوجي ص ( 243 ) .
(3) وسائل الإثبات للدكتور محمد الزحيلي ص ( 553 ) وما بعدها؛ الطرق الحكمية لابن القيم ص ( 27 ).
(4) أبجد العلوم للقنوجي ص ( 243 ) .(12/17)
علم الطب، واعتماد السياسة الشرعية على هذا العلم كثير جداً، خاصة في هذا العصر الذي تقدم فيه علم الطب، ووصل إلى مستوى من الجودة والإتقان(1)؛ ومن المسائل: الحكم بموت الإنسان، والتعرف على الأجنة، وإمكانية إقامة القصاص على الجاني في الأطراف والجراحات بتوفر شروطه، وإثبات بعض الجرائم والحدود.
علم التصوير، وقد كان اعتماد السياسة الشرعية على هذا العلم في حفظ الأمن ومحاربة المجرمين، والتعرف عليهم، والكشف عن جرائمهم، ومراقبة السير والحوادث المرورية وغير ذلك(2).
علم الفلك؛ وذلك قيما يتعلق بإثبات الرؤية، وتحديد الشهور القمرية، ومعرفة القبلة، وأوقات الصلاة.
علم الرياضيات؛ وهذا العلم يستفاد منه في جملة من العلوم الشرعية حتى قال ابن عبد البر /(3):
علم الحساب لا يكاد يستغني عنه ذو علم من العلوم اهـ .
وهكذا لو تتبعنا المسائل والصور لوجدنا أمامنا قائمة كبيرة من الأمثلة التي تؤكد ما قلناه سابقاً.
__________
(1) انظر في ذلك: المسائل الطبية المستجدة للدكتور محمد النتشة.
(2) انظر في ذلك: أحكام التصوير في الفقه الإسلامي لمحمد واصل.
(3) جامع بيان العلم وفضله ( 2/47 ) .(12/18)
يقول بعض الباحثين وهو يبين العلاقة المتينة بين هذه العلوم(1):
إن المنهج الاجتهادي يجمع بين العمل لتثبيت الإسلام رسالة وكياناً وشريعة ونظاماً، والعمل لترقية المجتمع الإسلامي علمياً وحضارياً، وهذا المنهج لا يتحقق إلا بالصلة العلمية المتينة بين الخبرة الفقهية، والخبرة العملية والتقنية الحديثة، فالمدنية المعاصرة تتميز بتقدم هائل في العلوم التقنية لم تكن تخطر ببال المجتهدين القدماء، بينما تفتح للمجتهدين المعاصرين آفاقاً واسعة تتطلب منهم خبرة غزيرة بأصول الدين والشريعة، وخبرة واسعة بالتطورات التي حصلت في ميادين المعرفة النظرية والتطبيقية، هاتان الخبرتان المتكاملتان اللتان لا تنفصلان في منهجية الاجتهاد في عصرنا هذا، وبذلك تبرز حتمية ذلك الترابط المنهجي عن طريق الإرشاد والاسترشاد بين الاختصاص الفقهي والاختصاص العلمي التجريبي.
الخاتمة
بعد هذا العرض الموجز السابق أعرض في الخاتمة لقضيتين:
القضية الأولى: أرى أن الأسباب الجوهرية التي أسهمت في وجود مشكلة مقررات السنة النبوية تتمثل في سببين:
__________
(1) الدكتور محمد النتشة في كتابه: المسائل الطبية المستجدة ( 1/9 ) .(12/19)
السبب الأول: فصل العلوم الشرعية عن العلوم الطبيعية والتطبيقية، وهما في تكامل وانسجام، كل منهما يؤدي دوره المكمل للآخر، فلا يصح أن يفصل هذان عن بعض.
السبب الثاني: الجمود والرتابة في طريقة عرض مقررات السنة النبوية مما أبعدها عن مسارها وأقعدها عن أداء مهمتها، وأوجد الوحشة بينها وبين العلوم الأخرى.
القضية الثانية: وهي عرض لبعض التوصيات التي أتمنى أن تسهم في إحياء العلوم الشرعية وبعثها من رقدتها، وردم الهوة بينها وبين العلوم الأخرى؛ وهي:
العمل على تفعيل دور العلوم الشرعية وربطها بواقع الحياة الإنسانية ومتطلباتها وأهدافها، والتأكيد على أصالة هذه العلوم ، ومنزلتها بين العلوم الأخرى.
الاهتمام بتدريس العلوم الشرعية، ورصد الميزانيات لهذا الغرض، وإلا فإن تخصصات العلوم الشرعية في الجامعات تواجه خطراً محدقاً؛ نظراً لشح الموارد والأطر التعليمية.(12/20)
الاعتناء بالتخصص؛ فقد مضى الوقت الذي يمكن أن تجد فيه من يعرف كلَّ شيء ويتحدث في كل فن، وحتى العلوم الشرعية لم تعد فرعاً واحداً يدركه المتخصص, وإنما اتسعت لتشمل فروعاً عدة في التخصص الواحد . إن النابغين والمتفوقين يوجهون في الأغلب إلى التخصصات العلمية التطبيقية (الطب، الحاسب، الهندسة . . . ), فهل يليق أن يوجه إلى التخصصات الشرعية أولئك الذين لم تسعفهم معدلاتهم؟! .
الارتقاء بالتعليم الشرعي؛ فرغم انتشار مدارس التعليم الشرعي ومعاهده في العالم الإسلامي، ورغم آثاره الحميدة في نشر العلم الشرعي والحفاظ عليه، إلا أنه يعاني من ضعف وقصور، ويتسم بالنمطية والتقليدية، ويدار بطريقة بدائية. ومخرجات التعليم الشرعي اليوم دون تحديات الواقع ومتطلباته.
ومعلمو العلوم الشرعية بحاجة إلى نقلة في طريقة أدائهم وتفكيرهم. وكثير من مطالب التغيير في التعليم الشرعي التي يثيرها الآخر منطلقها - المعلن على الأقل - الواقع الفعلي لهذا التعليم وحاجته إلى التطوير. وما لم يتم التطوير من الداخل، وما لم تكن الأصوات المطالبة به صادرة من العاملين فيه الغيورين عليه فلن يكون التطوير في مصلحة التعليم الشرعي.(12/21)
وتشمل متطلبات التطوير بوجه أخص:
تطوير أداء المعلمين؛ فنحن بحاجة ماسة إلى الارتقاء بكفايات وقدرات معلمي العلوم الشرعية في مجتمعاتنا، حتى يسهموا في تضييق الفجوة بين إمكانيات التعليم ومخرجاته.
تطوير المناهج والأخذ بالمفهوم الحديث للمنهج؛ ومن ثم فالتطوير يجب أن يشمل كافة عناصر المنهج من أهداف وطرق تدريس ووسائل وتقنيات وأنشطة وكتاب مدرسي.
تطوير الأداء الإداري والبيئة المدرسية للمعاهد والمدارس الشرعية.
ضرورة إعمال العقل في التعليم وعدم إهماله وذلك بتعليم الطلاب كيف يفكرون، وبتدريسهم طرائق التفكير .
وختاماً: أحمد الله وأشكره على التسهيل والتيسير ، وأسأله أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
أهم المراجع
أبجد العلوم لصديق حسن القنوجي. دار ابن حزم. بيروت. ط1 1423هـ .
الإتقان في علوم القرآن لجلال الدين السيوطي. دار ابن كثير. دمشق. ط3 1416هـ .
أحكام التصوير في الفقه الإسلامي لمحمد بن أحمد واصل. دار طيبة. الرياض. ط2 1420هـ
جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر القرطبي. مطبعة العاصمة. القاهرة. ط2 1388هـ .(12/22)
الطرق الحكمية لابن قيم الجوزية. مطبعة المدني. مصر.
علم القانون والفقه الإسلامي للدكتور سمير عالية. المؤسسة الجامعية للدراسات. بيروت. ط1 1412هـ .
لسان العرب لابن منظور ، دار الفكر ، بيروت.
مجموع فتاوى ابن تيمية. جمع ابن قاسم. مجمع الملك فهد. المدينة المنورة. 1416هـ .
المجموع شرح المهذب لمحيي الدين النووي. دار الكتب. الرياض. 1423هـ .
المدخل إلى السياسة الشرعية لعبد العال عطوة. مطبوعات جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. الرياض 1414هـ .
المسائل الطبية المستجدة للدكتور محمد النتشة. سلسلة إصدارات الحكمة. بريطانيا. ط1 1422هـ .
مشكلة العلوم الإنسانية تقنينها وإمكانية حلها للدكتورة يمنى طريف الخولي. دار الثقافة. القاهرة. ط2 1996م .
الموضوعية في العلوم الإنسانية عرض نقدي لمناهج البحث للدكتور صلاح قنصوه. دار الثقافة. القاهرة. 1980م .
نظرية السياسة الشرعية الضوابط والتطبيقات للدكتور: عبد السلام العالم. منشورات جامعة قازيونس. ليبيا. ط1 1996م .
وسائل الإثبات في الشريعة الإسلامية للدكتور محمد الزحيلي. دار البيان. دمشق. ط1 1402هـ .(12/23)
بسم الله الرحمن الرحيم
البناء النفسي للمسلم في ضوء السنة النبوية
وأبعاده الحضارية
د. عبد الله محمد الجيوسي
جامعة اليرموك - الأردن
بسم الله الرحمن الرحيم
ملخص البحث
تهدف هذه الورقة إلى جمع النصوص الواردة في السنة النبوية والتي ظهر فيها أسس بناء المسلم من الناحية النفسية، وقيمها الحضارية، وتحرص على إبراز الجانب النفسي ومكانته في توجيهات الرسول – صلى الله عليه وسلم- حيث يجد الناظر في السنة النبوية نصوصا هائلة تركز على بناء الشخصية الإسلامية والاهتمام بها من الناحية النفسية، والمعلوم أن توزيع هذه النصوص جاء ليشمل نواحي النفس الإنسانية على اختلاف أحوالها، كما يشمل تنوع المراكز الاجتماعية التي تشغلها النفس الإنسانية، فضلا عن كونها تستوعب استعدادات النفس الإنسانية في جميع أحوالها، وقد أذهلتني كثرة النصوص وتنوعها في هذا الباب مما زاد في صعوبة تقسيمات البحث، لكن لما كان الغرض من الدراسة التركيز على جانب تنمية الجانب النفسي، فإن الدراسة اقتضت أن يكون التقسيم على النحو التالي:تمهيد وخمسة مباحث:(13/1)
المبحث الأول: نصوص تنطلق من واقع الاعتراف بالاستعدادات النفسية وميولها، حيث يركز هذا المبحث على فكرة انطلاق النصوص النبوية من الاعتراف بالاستعدادات النفسية وميولها، ويبحث في دور هذا الأمر في التعامل مع نفسيات الآخرين، ويتضح ذلك من خلال النماذج التي تقدم اعترافا بـ(ميول الإنسان واستعداداته وعواطفه ومشاعره وأحاسيسه، واحتياجاته وغرائزه ودوافعه وما يدخل في تشكيل سلوكه).
المبحث الثاني:التوجيهات النبوية في تعديل السلوك الإنساني والتحكم فيها، حيث يهدف المبحث إلى إبراز الهدف الأساسي من النصوص التوجيهية للمسلم والتي ترشده إلى كيفية التصرف لدى بعض السلوكيات، كما تركز على أثر اتباع هذه التوجيهات في تعديل السلوك وضبطه، في أحوال النفس المتنوعة( كالتصرف حال الغضب أو حال غلبة الشهوة أو حال وسوسة الشيطان وغيرها).(13/2)
المبحث الثالث: سبل الارتقاء بالسلوك والانتقال به إلى حال الإدراك والتحكم فيه، ويهدف هذا المبحث إلى إبراز النصوص النبوية أو المواقف التوجيهية التي ركزت على ضرورة الارتقاء بالسلوك وما يستتبعه بحيث يصبح ضمن إرادة التحكم، وما يتضمنه الهدي النبوي من علاج يفيد في هذه التنمية، ومن ذلك: الصوم للشاب، وحديث:".. وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ"، وغيره.
المبحث الرابع: جوانب تنمية النفس الإنسانية كما نجدها في التوجيهات النبوية، حيث يهدف المبحث إلى إبراز هذه الجوانب وتنوعها ومدى الإفادة منها في التعامل مع الآخرين، وتسلط الضوء على الجانب التربوي مع النفس في مختلف ميادينها، سياسيا وفكريا وثقافيا وغيرها.(13/3)
المبحث الخامس والأخير: من البناء النفسي إلى البناء الاجتماعي: حيث يهدف الفصل إلى إبراز هذه التنمية والارتقاء بها لتكون عضوا إيجابيا في مجتمع تسوده كثير من المعاني الإنسانية والنفسية، وتركز على كون الإنسان لا يكتمل له البناء النفسي إلا بوجوده بين الآخرين، وكون البناء النفسي للفرد جزء من البناء النفسي للمجتمع، وبهذه العلاقة نستطيع إدراك البعد الحضاري وقيمه في هذا البناء النفسي.
تمهيد
... يقيم الإسلام لمشاعر الإنسان وأحاسيسه وزنا كبيرا، ويهدف من ذلك كله إلى تشكيل شخصية متكاملة البناء، فالمتأمل في طبيعة النصوص الشرعية يجد أن كثيرا منها لم يكن القصد من قولها ولا من التشريعات التي تضمنتها إلا مراعاة مشاعر الإنسان وأحاسيسه، والعمل على تهدئة نفسيته والمطالبة بحفظها حتى لا يتعرض لها أو تجرح بشي، ... والناظر في سيرة المصطفى –صلى الله عليه وسلم- يلمس كثرة الأحداث التي تجسد حقيقة التصور الإسلامي للإنسان بعامة، وللمسلم بخاصة، فالأحداث كما النصوص قبل تنطلق من واقع التعامل مع الإنسان كيانا قائما ذا أحاسيس ومشاعر، ذا استعدادات ودوافع، ذا طموح وميل.(13/4)
... ولم نجد في لحظة أن نصوص السنة كانت قد تجاهلت أيا من هذه الاستعدادات، بل لمسنا منهجية واضحة تتمثل في التدرج التربوي، والترقي السلوكي لبني الإنسان، تهدف إلى بناء منظومة أوسع في هذا الكون، فهو ركن ركين من أركان المجتمع.
المبحث الأول: نصوص تنطلق من واقع الاعتراف بالاستعدادات النفسية وميولها
... يحاول هذا المبحث أن يسلط الضوء على بعض النصوص التي يبرز فيها وضوح المنهج النبوي في التعامل مع الآخرين، فواقع التربية يشير إلى أن التربية لا تكتمل إلا بمرب يملك مؤهلات التربية، ومن أهمها الوعي والإدراك للوسائل التربوية، ومن ثم التطبيق العملي لهذه الأسس التربوية، وعلى هذا الأساس كان التقسيم ضمن المطالب التالية:
المطلب الأول: النبي المربي، وفيه نتحدث عن النصوص التي تحدثت عن وصف النبي بوظائفه المتعددة، والتي منها أخلاقه في التعامل مع الآخرين.
... وردت نصوص كثيرة تشير إلى صفات النبي الكريم ووظائفه الدعوية وكثيرا ما كانت تمزج بين صفاته ووظائفه مما يشير إلى سمو أخلاقه، وتفانيه في مهامه المنوطة به، بحيث يصعب على قارئ النصوص إدراك ما ترمي إليه النصوص: هل تعدد صفاته؟ أم تذكره بوظائفه؟(13/5)
... ولعل الملفت في النصوص كلها أنها جاءت بالجمل الخبرية لا الإنشائية، وهذه بعض النصوص: (لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) 128 التوبة، وقوله: (لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ)164 آل عمران(13/6)
وفي النصين ما يشير إلى كون النبي جزءا منهم، فهو إذن يسهم في بنائهم، وفي النص الثاني ما يؤكد على الوظيفة التربوية:( ويزكيهم) وهي التي وردت في نصوص أخرى مفصلة، كما في قوله تعالى: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) 157 الأعراف. ويلاحظ التعبير بالجملة الخبرية وما يحمله من معان تربوية.
ولعلي أجمل بعض الصفات الواردة في النصوص، وبخاصة ما يشير إلى الوظيفة النبوية المرتبطة بالبناء النفسي:
التزكية، فهو حريص على التدرج في تربيتهم وتهذيبهم، فالتزكية مطلب فوق التربية.
يشق عليه تكليفهم بما لا يطيقون فهو مدرك لاستعداداتهم وطاقاتهم وهو المؤهل للقيام بالوظيفة التربوية :(عزيز عليه ما عنتم).(13/7)
حرص مصحوب بالرحمة:( حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ)، وكذا التربية الحقة، فهو بمقام الأب الحريص على أبنائه، رحيم بهم
كونه قدوة لهم:( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) 21 الأحزاب، فهو لا يكون كذلك إلا إذا قدم نموذجا حقيقيا، وكيف وقد أثنى عليه المولى –سبحانه- بقوله: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) 4 القلم!، وهو صريح في كون الخلق الذي أثنى عليه الله مرتبطا بسلوكه مع الآخرين، فقد كان سراجا منيرا، ولم يكن سلوكه هذا مع المؤمنين فحسب؛ بل مع الخصوم، وقد سجلت بعض النصوص ما كان يدور في نفسه تجاه الخصوم، من حرص على هدايتهم، وطول تفكير في شأنهم، قال تعالى: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا)6 الكهف، وقال –سبحانه-: (فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ) 8 فاطر، وما عتاب الله لنبيه في سورة عبس إلا من حرصه على ما يدخل ضمن هذا الباب.(13/8)
ولا تقوم التربية الحقة إلا بالأسس المتقدمة:إرادة التزكية وتقويم السلوك، إدراك المربي لاستعدادات النفوس وطاقاتها وحرص المربي على التربية وإلمام تام بما يناسب المواقف التربوية من رحمة،وتشكيل مواقف القدوة.
المطلب الثاني: النبي المدرك لتفاوت استعدادات النفوس وميولها:
... وفيه نشير إلى بعض النصوص التي توضح كون الرسول –صلى الله عليه وسلم- كان يدرك متطلبات النفس وحظوظها ويأمر بمراعاتها، وقد تعددت النصوص التي توضح ذلك، فالخطوة الأولى في البناء النفسي:
... معرفة متطلبات النفس والإحاطة بما تنطوي عليه كل نفس بمعنى اختلاف الاستعدادات والميول من شخص لآخر، والنبي الكريم كان معلما في هذا الجانب، فهو:(13/9)
أولا: يعرف أن النفوس متفاوتة والطاقات متفاوتة، وكذا الاستعدادات، وفي ضوء ذلك كان يتصرف مع أصحابه، حتى إن نصوص السنة تدل على أنه كان يعرف الفروقات الفردية بين الصحابة، وما أكثر ما يدل على أنه –صلى الله عليه وسلم- كان يخبر كل فرد بما يهتم به، فهو كان يعطي من الأحاديث بحسب من يتحدث إليه، فقد كان يعلم في أبي عبيدة التروي، ولهذا كان اختياره له كي يكون أمين هذه الأمة، ويعرف في خالد الشجاعة والبطش ولهذا سماه: سيف الله المسلول، ويعرف في أبي بكر الصدق والتصديق فسماه الصديق، ويعرف في عمر نصرة الحق فسماه الفاروق، ويعرف في حذيفة القدرة على حفظ الأسرار، وقد كان أمين سر الرسول، ويعرف في معاذ اهتمامه بمسائل الحلال والحرام، فلقبه ب(أعلم أمتي بالحلال والحرام) ويعرف في أبي ذر زهده في الدنيا وحرصه على فضائل الأعمال فكان يذكر له من الأحاديث ما يدخل في الباب، فخلاصة الأمر أن الرسول –صلى الله عليه وسلم – كان يختار لكل صحابي من الأحاديث بحسب رغباته وميوله في طلب العلم بمعنى ( مراعاة التخصص)، ومن ذلك قوله لابن عمرو:( يا عبد الله لا تكن بمثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل"(1)
__________
(1) رواه مسلم، الصحيح، كتاب الصيام، ح 2577).(13/10)
، وقوله: "يا ابا عمير ما فعل النغير"(1)
2-مراعاة حال السائلين، ولنأخذ هذا المثال: " سأل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلا: « يا رسول الله! أي العمل أفضل؟ قال: "الصلاة على ميقاتها"، قلت: ثم أي؟ قال: "بر الوالدين"، قلت: ثم أي؟ قال: "الجهاد في سبيل الله"، فسكت عن رسول الله، ولو استزدته لزادني »(2)، وعن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: « يا رسول الله! نرى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد ؟ قال: لكن أفضل الجهاد حج مبرور »(3)، وعن عبد الله بن بسر رضي الله عنه " أن رجلا قال: « يا رسول الله! إن شرائع الإسلام قد كثرت علي فأخبرني بشيء أتشبث به، قال: "لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله »(4) ، إلى غير ذلك من الأحاديث التي سأل أصحابها عن أفضل العمل، فاختلفت إجابة رسول
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب الأدب، ح (4999).
(2) صحيح البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب فضل الصلاة لوقتها، ح(513).
(3) صحيح البخاري، كتاب الحج، باب الحج المبرور، ح(1460).
(4) رواه الترمذي، الجامع الصحيح، كتاب الذبائح، أبواب الدعوات عن رسول الله، باب ما جاء في فضل الذكر، ح (3449). وابن ماجة وأحمد وابن حبان والحاكم وغيرهم.(13/11)
الله صلى الله عليه وسلم مراعاة لحال السائلين، وإدراكا منه صلى الله عليه وسلم أن ما يستطيعه هذا قد لا يستطيعه ذاك، إلى غير ذلك من الأسباب التي يراعى فيها حال الفرد وحاجة الأمة وقواعد الشرع.
المطلب الثالث: النبي المطبق لمراعاة متطلبات النفس واستعداداتها.
... تظافرت المواقف التي حدثت مع النبي الكريم وبرز فيها حرصه على مراعاة شعور الآخرين والحفاظ على كيانها، فالمتتبع للنصوص يلمس أن النبي الكريم – صلوات الله وسلامه عليه- يتدرج في تربية كل فرد من أفراد المجتمع ويحرص على البناء النفسي لكل فرد، بل المتأمل يجد تخطيطا واعيا شاملا لجوانب الشخصية (عقديا وفكريا (عقليا) وعاطفيا(نفسيا) وجسميا( صحيا) وسلوكيا(تربويا) واجتماعيا.(13/12)
... على اختلاف الموقع الاجتماعي للفرد، طفلا كان أم فتى أم رجلا، زوجا أم أبا أم جدا، أم غير ذلك من المناصب الاجتماعية، ولعل من الصعب الإلمام بكل هذه النماذج مع وفرة الأمثلة لكل ما ذكر، لكن يمكن ضرب مثال على أحد هذه النماذج والإشارة إلى وفرة النماذج التي تدل على تكامل النظرة النبوية في هذا البناء، وهو ما يتعلق بالطفولة: فعلى مستوى الطفولة نجده المربي الواعي لحاجاتها، فالرسول –صلى الله عليه وسلم - كان يضرب أروع الأمثلة التطبيقية في التعامل مع نفسية الأطفال، من ذلك:
طرح السلام على الأطفال: فقد كان حين يمر بهم يسلم عليهم، وهذا له ما له من الأثر الإيجابي على نفسية الطفل.
مداعبتهم وتقبيلهم فقد كان يداعبهم ويقبلهم، ويوما جاء أعربي إلى الرسول – صلى الله عليه وسلم – يسأله: أتقبلون صبيانكم؟ فما نقبلهم، فقال: أو أملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة" وحديث آخر عن الأقرع بن حابس وقد كان جالسا، فقال: إن لي عشرة من الولد، ما قبلت أحدا منهم، فنظر إليه الرسول ثم قال: من لا يرحم لا يرحم" ولا يخفى ما يتركه التقبيل من أثر في نفسية الطفل، وكذا مداعبتهم.(13/13)
مخاطبتهم بما يثير اهتمامهم، ومن ذلك قوله: "يا أبا عمير، ما فعل النغير( يعني العصفور الصغير)
ترك الأطفال يمرحون وتهيئة الجو المناسب لطفولتهم: فمرة سابق عائشة في السفر، قال للصحابة: تقدموا، حتى لا يراهم أحد، فسابق عائشة. وعن عائشة رضي الله عنها: ( أنها كانت تلعب بالبنات عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -كانت عندها دمى تلعب بها- قالت: وكانت تأتيني صواحبي، فكنَّ ينقمعن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -أي: يحدث نوع من الخجل من رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قالت: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسربهن إليّ ) يدخلهنَّ على عائشة يلعبن معها.
ولم يقتصر التوجيه النبوي على مراعاة شعور الطفولة بل كثيرا ما كان يقوم السلوك ويوجه الطفولة إلى ما ينبغي، سواء في جانب الآداب، من احترام الكبير وتقديمه للكلام، ام في جانب تلقي التعليم، أم في جانب الاشتراك في ميادين القتال، أم في التوجيه السلوكي، كما في الحديث: " مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين واضربوهم عليها وهم أبناء عشر وفرقوا بينهم في المضاجع "(13/14)
... وفي كل ذلك من الأمثلة والنماذج ما يصعب حصره في بحث كهذا، وخلاصة القول أن مجموع النصوص في شأن الطفولة يوكد هذا البناء النفسي المتكامل(1).
ولعل الحديث عن الجوانب المختلفة يستكمل في المبحث الرابع من هذه الورقة.
المبحث الثاني:التوجيهات النبوية في تعديل السلوك الإنساني والتحكم فيه
... يهدف المبحث إلى إبراز الهدف الأساسي من النصوص التوجيهية للمسلم، فالناظر في نصوص السنة النبوية، والمطلع على أحداث السيرة النبوية يجد الكثير من الأحداث والنصوص التي ترشد المرء إلى كيفية التصرف لدى بعض السلوكيات، فالتوجيهات النبوية المتنوعة تهدف إلى:
__________
(1) للمزيد حول تربية الطفولة انظر: الرسول العربي المربي ، الهاشمي، د. عبد الحميد، ص 109-129، وانظر: السيرة النبوية، الندوي، أبو الحسن، ص 192 وما بعدها.(13/15)
أولا: تبصير الفرد بحقيقة ما عليه سلوكه، وهذه هي الخطوة الأولى في معالجة أي خلل في السلوك، حيث إن أول طرق العلاج لأي مسلك: أن يعلم الفرد أن سلوكه خاطئ، أما إذا كان لا يعلم أنه مخطئ، أو لا يحكم على تصرفاته بأنها غير صائبة؛ فإنه من الصعب توجيهها إلى تغيير السلوك، وهذه الخطوة هي ما تعرف عند علماء النفس بعملية ضبط السلوك.
ثانيا: تبصير الفرد بخطر السلوك الذي هو عليه وآثاره السلبية، بحيث يشعر الفرد بمساس الحاجة إلى التغيير، وهذه الخطوة تقابل ما يعرف عند علماء النفس بتوجيه السلوك
ثالثا: التوجيه العملي الذي تتطلبه عملية تعديل السلوك .
وفي الآتي بيان تفصيلي لخطوات البناء السلوكي للفرد التي تتلخص في كلمات ثلاث، هي: ضبط وتوجيه وتعديل.
المطلب الأول: ضبط السلوك:
... في السنة نصوص كثيرة تحمل في ثناياها توجيهات للأفراد تنبههم على خطأ ما:(13/16)
من ذلك ما يوضحه الحديث التالي: جاء معاوية بن الحكم السلمي - رضي الله عنه- إلى المدينة ولم يكن يعلم أن الكلام في الصلاة قد حرم، فعطس رجل من الناس، فقال له معاوية بن الحكم : يرحمك الله، فضرب الصحابة على أفخاذهم فقال: ما فعلت؟! وهو في الصلاة ولا يدري أن الكلام في الصلاة قد حرِّم، لأنه في أول الأمر كان الكلام في الصلاة مباحا، كان الواحد يسأل الآخر ويقول: متى نزلت هذه الآية التي نسمعها الآن من الرسول صلى الله عليه وسلم؟ ثم نزل قول الله عز وجل: وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238] ومُنع الكلام. فلما سلموا من الصلاة وإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم يرفق بهذا الرجل ويقول: ( إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هي كذا وكذا )(1).
__________
(1) رواه مسلم، كتال المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحة، ح( 537)، ج1/381.(13/17)
ومنه الحديث التالي: عَنْ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ اللَّيْثِيِّ: أَنَّهُ أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِمَارًا وَحْشِيًّا وَهُوَ بِالْأَبْوَاءِ أَوْ بِوَدَّانَ فَرَدَّهُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَى مَا فِي وَجْهِهِ قَالَ: إِنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إِلَّا أَنَّا حُرُمٌ(1)"، فالرسول –صلى الله عليه وسلم- بين له سبب رد الهدية لما في رد الهدية من أثر في نفسية المهدي، فكان بيانا وتوجيها يسهم في البناء النفسي.
المطلب الثاني: تبصير الفرد بمخاطر السلوك والكشف عن آثاره السلبية
... عندما ينمو شعور الفرد، ويبصر بمخاطر السلوك الذي هو عليه ويحس بضرورة تغييره، حينها تكون إحدى الخطوات نحو التغيير، وهو ما يعرف بحركة التغيير الداخلي، بمعنى تحريك الدافع الذي يدعو إلى ضرورة التغيير، وهذا النهج كثيرا ما كان يحرص عليه النبي الكريم، ويظهر ذلك من خلال مجموعة من المواقف التربوية التي حدثت مع النبي الكريم – صلى الله عليه وسلم-، منها:
__________
(1) متفق عليه، انظر صحيح البخاري، ح( 1696)، ج2/649.(13/18)
عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: « إن فتى شابا أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " يا رسول الله ائذن لي بالزنا، فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا: مه مه، فقال: ادنه، فدنا منه قريبا، قال: فجلس، قال: أتحبه لأمك ؟ قال: لا والله!! -جعلني الله فداك- قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم، قال: أفتحبه لابنتك ؟ قال: لا والله!! يا رسول الله -جعلني الله فداك- قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم، قال: أفتحبه لأختك؟ قال: لا والله!! -جعلني الله فداك- قال: ولا الناس يحبونه لأخواتهم، قال: أفتحبه لعمتك؟ قال: لا والله!! -جعلني الله فداك- قال: ولا الناس يحبونه لعماتهم، قال: أفتحبه لخالتك؟ قال: لا والله!! -جعلني الله فداك-، قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم. قال: فوضع يده عليه، وقال: اللهم اغفر ذنبه وطهر قلبه، وحصن فرجه. فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء »(1)، فانظر إلى هذا الأسلوب النبوي الذي اتبعه في تعديل السلوك، جاء الشاب وقد هاجت شهوته، ورغب في الحرام، وعاد عفيفا محصنا بعيدا عن الشهوة والشبهة، وما ذلك إلا لأن
__________
(1) رواه أحمد، انظر المسند: ح(22265)، ج5/256، وذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، 1/712.(13/19)
النبي الكريم كان قد حرك فيه الدافع للتغيير، وأشعره بضرورة التغيير،
وفي السنة أمثلة كثيرة تدخل ضمن هذا المطلب، لكن هاهنا مسألة نود التنويه عليها وهي أن حديثنا عن المتقدم بالنظر إلى جهة الموجه والمربي؛ فالمعروف أن هذا التغيير لا يتم إلا بالنظر إلى طرفيه، طرف المربي والموجه، وطرف الفرد المعني أو المتربي، فما تقدم من الأمثلة كان ذكرها بالنظر إلى الطرف الأول من التغيير، أما فيما يتعلق بالطرف الثاني فهو ما سنتناوله بالحديث في المبحث التالي.
المطلب الثالث: التوجيه العملي نحو تعديل السلوك
... في هذا المطلب نشير إلى بعض التوجيهات النبوية التي ترشد إلى تعديل السلوك المنحرف، فالملاحظ أن الرسول –صلى الله عليه وسلم- يهدف إلى تقويم السلوك وتعديله، وهذا واضح في توجيهاته على المستويات جميعها، على مستوى تصحيح المفاهيم، وعلى مستوى تصويب الألفاظ، وعلى مستوى تغيير التفكير، وعلى مستوى تغيير العادات التي اعتادت عليها النفوس، وقد تعددت الطرق التي كان يسلكها الرسول – صلى الله عليه وسلم – في هذا التغيير، فمن ذلك:(13/20)
التغيير المباشر: إفعل كذا، ولا تفعل كذا، ومن ذلك قوله لمن كثرت حركات جوارحه، قم وصلّ فإنك لم تصلّ، فهو توجيه مباشر، ومنه قوله للغلام:" يا غلام: سمّ الله وكل بيمينك وكل مما يليك"(1)، ومنه
التوجيه غير المباشر ، فمن هديه- صلى الله عليه وسلم- في النصيحة أنه كثيرا ما كان يتجنب انتقاد أحد بعينه، كما هو واضح من قوله - صلى الله عليه وسلم- : « ما بال أحدكم يقوم مستقبل ربه، فيتنخع أمامه؟ أيحب أحدكم أن يستقبل فيتنخع في وجهه؟ فإذا تنخع أحدكم فليتنخع عن يساره تحت قدمه، فإن لم يجد فليفعل هكذا »(2)
__________
(1) رواه البخاري، الجامغ الصحيح، كتاب الأطعمة، باب التسمية على الطعام والأكل باليمين، ح ( 5061) ، ج5/2056.
(2) رواه مسلم: الصحيح، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن البصاق فيء المسجد في الصلاة وغيرها، ح(550)، ج1/389.(13/21)
، ووصف القاسم فتفل في ثوبه، ثم مسح بعضه على بعض ، ومنه ما ورد عن ابن مسعود الأنصاري، قال:" جاء رجل إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: يا رسول الله: إني والله لأتأخر عن صلاة الغداة، من أجل فلان مما يطيل بنا فيها، قال: فما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم – قط أشد غضبا في موعظة منه يومئذ، ثم قال: "أيها الناس، إن منكم منفرين، فأيكم ما صلى بالناس فليوجز، فإن فيهم الكبير والضعيف وذا الحاجة"(1)
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب الأحكام، باب: هل يقضي الحاكم أو يفتي وهو غضبان، ح ( 6740)، ج6/2617. ومسلم:صحيح مسلم، كتاب الصلاة، باب أمر الأئمة بتخفيف الصلاة، ح ( 466).(13/22)
ولعل منه ما ورد في مناسبة قوله: "من أكل لحم جزور فلتوضأ"(1) ،
... كما نجده – صلى الله عليه وسلم – في هذا التوجيه تارة يوضحه عن طريق مثال، وأخرى عن طريق قصة.
إرشاد الفرد إلى ما ينبغي فعله:
__________
(1) روى ابن حبان في صحيحه عن جابر بن سمرة ، أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : يا رسول الله ، أنتوضأ من لحوم الغنم ؟ ، قال : « إن شئت فتوضأ ، وإن شئت فلا تتوضأ » ، قال : أنتوضأ من لحوم الإبل ؟ ، قال « نعم » ، قال : أصلي في مبارك (1) الإبل ؟ ، قال : « لا » . قال الألباني عن الحديث صح الحديث بالأمر بالوضوء منه " . ثم ذكره من حديث جابر بن سمرة والبراء بن عازب ثم قال : " وقال ابن خزيمة : لم أر خلافا بين علماء الحديث أن هذا الخبر صحيح من جهة النقل لعدالة ناقليه انظر تمام المنة، ص 105.(13/23)
... من ذلك إرشاده للمرء إذا غضب أن يتوضأ، أو أن يسكت أو أن يجلس إن كان قائما، ويضطجع إن كان جالسا(1)
__________
(1) عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال علموا ويسروا ولا تعسروا وإذا غضب أحدكم فليسكت وإذا غضب احدكم فيسكت. رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد ثقات لأن ليثاً صرح بالسماع من طاووس. وعن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو يقول أحدكم إذا غضب أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ذهب عنه غضبه. رواه الطبراني في الصغير والأوسط ورجاله ثقات وفي بعضهم خلاف. وعن أبي الأسود عن أبي ذر قال كان يستسقي على حوض فجاء قوم فقال أيكم يورد على أبي ذر ويحتسب شعيرات من رأسه فقال رجل أنا فجاء الرجل فأورد عليه الحوض فدقه وكان أبو ذر قائماً فجلس ثم اضطجع فقيل له لم جلست ثم اضطجعت قال فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس فان ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع قال الهيثمي: رواه أبو داود باختصار القصة ودون ذكر أبي الاسود ورواه أحمد ورجاله رجال الصحيح، انظر: الهيثمي: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، باب النهي عن السب واللعن.
وأما حديث الأمر بالوضوء فقد رواه أبو داود، لكن حكم عليه الألباني بالضعف: انظر ضعيف الجامع ح (1510).(13/24)
، ومن ذلك إرشاده لمن جاءه الشيطان يلبس عليه أمور دينه أن يطرده بقوله: آمنت بالله ورسوله(1)، ومن ذلك ما في الحديث: عن جابر أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى امْرَأَةً فَدَخَلَ عَلَى زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ فَقَضَى حَاجَتَهُ مِنْهَا ثُمَّ خَرَجَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ لَهُمْ إِنَّ الْمَرْأَةَ تُقْبِلُ فِي صُورَةِ شَيْطَانٍ فَمَنْ وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَلْيَأْتِ أَهْلَهُ فَإِنَّهُ يُضْمِرُ مَا فِي نَفْسِهِ"(2)، ومن ذلك: عن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن للشيطان لمة وللملك لمة فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق وأما لمة الملك
__________
(1) عن عائشة قال رسول الله: إن أحدكم يأتيه الشيطان فيقول: من خلقك؟ فيقول: الله. فيقول: فمن خلق الله؟ فإذا وجد ذلك أحدكم فليقل: آمنت بالله ورسوله، فإن ذلك يذهب عنه" الحديث ذكره السيوطي في الجامع الصغير، وقال عنه الألباني: صحيح، انظر صحيح الجامع ح(1542).
(2) رواه أبو داود في السنن، باب ما يؤمر به من غض البصر ح ( 1839)، وانظر: السنن الكبرى للبيهقي، كتاب النكاح، باب ما يفعل إذا رأى من أجنبية ما يعجبه، ح( 13294) ج7/90.(13/25)
فإيعاد بالخير وتصديق بالحق فمن وجد من ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله ومن وجد من الآخر فليتعوذ من الشيطان ثم قرأ (الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا)(1)" (2)
... ففي النصوص المتقدمة ما يشير إلى كونه –صلى الله عليه وسلم- يرشد إلى طرق المعالجة، وهي طرق مباشرة، والمتأمل فيها يدرك مدى إدراكه لما تحتاجه النفس، ومدى توافق ما قدمه من علاج لهذه الحالات النفسية التي تمر بالإنسان مع ما تأمر به التربية الحديثة، وهكذا نلمس بوضوح تدرج المنهج النبوي في البناء النفسي، ولعل هذا التنوع في طرق المعالجة يكشف عن دقة المنهجية النبوية في توجيه السلوك وتقويمه بما ينبغي.
... والسنة النبوية تحوي الكثير من الوسائل التربوية التي تكشف عن عمق الفهم النبوي لما تحتاجه النفس، وأسلم الطرق في معالجة ما يقع من تصرفات غير مرضي عنها.
__________
(1) رواه النسائي في السنن الكبرى ح( 11051).
(2) رواه الترمذي، الجامع، كتاب تفسير القرآن، باب: ومن سورة البقرة ح(2988)، وقال: قال أبو عيسى حديث غريب وهو حديث(13/26)
... ومما يدخل تحت هذا الباب حديث الأعرابي الذي بال في المسجد، حيث رفق به الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال : لا تزرموه"(1)، وهذه الكلمة تدل على مدى المراعاة النفسية لشعور الفاعل، إذ إصل معنى الزرم، كما معاجم اللغة(2): قطعه، والمقصود قطع بوله عليه ، فهو فيه معنى الحبس مع شدة الحاجة، وهنا ندرك مقدار العلاج النفسي الذي هدف إليه النبي الكريم، من خلال هذا النهي.
__________
(1) متفق عليه: صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب الرفعة في الأمر كله، ح (5679)، ج5/ 2242. وانظر ، صحيح مسلم، كتاب الطهارة، باب وجوب غسل البول وغيره من النجاسات، ح(100)
(2) انظر: النهاية في غريب الحديث، ابن الأثير، ، مادة زرم، ولسان العرب لابن منظور، ، مادة زرم والقاموس المحيط، للفيروز أبادي، المجد، ، مادة زرم.(13/27)
كما نجد النبي الكريم تارة يقدم العلاج النفسي لبعض القضايا التي يشق على النفس استيعابها أو الموافقة عليها، وكثيرا ما تمر بالإنسان مواقف، يجد أن ميله النفسي نحو أمر ما لكن واقعه الاجتماعي يدفعه إلى غير ما ترغب به نفسه، فكيف هي الوسيلة حينئذ؟ الجواب ما نلمسه في الحديث الآتي من قصة صلح الحديبية:«... فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الكاتب فقال النبي صلى الله عليه وسلم اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم فقال سهيل : أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو، ولكن اكتب: باسمك اللهم، فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: اكتب: باسمك اللهم. ثم قال: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله، فقال سهيل : والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت، ولا قاتلناك، ولكن اكتب: محمد بن عبد الله، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: والله إني لرسول الله، وإن كذبتموني، اكتب: محمد بن عبد الله ... » الحديث(1) ، فالتأمل في هذه الحادثة العظيمة، يبين لنا مقدار حكمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدم
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب الصلح، باب كيف يكتب هذا ما صالح فلان بن فلان، ج ( 2552).(13/28)
استجابته للاستفزاز، فهو وقوف عند أمر فيه سعة مع أنه يحقق للمسلمين مكاسب كثيرة، وهذا من باب النظر في المصلحتين والسعي لتحصيل أعلاهما، ولذلك جاءت النتيجة بتسمية الله لهذا الصلح فتحا، ( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ) الفتح: 1، ولعل في القصة التالية ما يؤكد بوضوح إلمامه -صلى الله عليه وسلم - بما تنطوي عليه النفوس، والمواقف المناسبة لاتخاذ القرارات المناسبة،
... ... من ذلك: عندما جاء وفد ثقيف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الإسلام، اشترطوا أن يدع لهم اللات ثلاث سنين -لا يهدمها- فأبى رسول الله -صلى اله عليه وسلم- ذلك(1)، حتى إنهم تنازلوا شيئا فشيئا إلى أن طلبوا إمهال هدمها شهرا واحدا، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنهم عندما طلبوا ألا يكسروا أوثانهم بأيديهم، وافقهم على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم للفرق بين الطلبين، وهنا يتميز الحكيم عن غيره، وهو الذي يتنازل عن الكل أو يرفض الكل مع الفرق بينهما(2) .
المبحث الثالث: سبل التوجيهات النبوية للارتقاء بالسلوك والتحكم فيه
__________
(1) انظر: سيرة ابن هشام، ابن هشام، ، ج2/327.
(2) انظر: الحكمة: العمر، الشيخ سليمان بن ناصر، ص31.(13/29)
... يركز هذا المبحث على النصوص التي توجه الفرد إلى كيفية التصرف والتحكم في السلوك، فكثيرا ما يقع المرء أسير سلوك ما أو عادة ما، فكيف يتصرف المرء ليقوِّم سلوكه؟، وما هي السبل التي تعينه على التحكم في سلوكه؟
لكن يختلف هذا المبحث عن سابقه في أنه يأخذ بعين الاعتبار طرف المتربي، فعملية التغيير تتم لكن بإشراك المتربي في عملية التغيير والتعديل هذه.
المطلب الأول: تقويم السلوك
... لا شك في أن الخطوة الأولى في التقويم تكمن في أن يعرف المرء من نفسه أن سلوكه غير صحيح وأنه يحتاج إلى تقويم، فالغفلة عن هذه الخطوة هي التي تنمي في المرء العناد على السلوك غير السوي أو الإبقاء عليه، لكن حينما يدرك أن سلوكه محط نقد الآخرين، تصبح لديه الرغبة في تغييره، بل يقوى دافع التغيير لديه، وهذه الخطوة كما لها الأولوية في هذا الباب؛ فهي كذلك في جانب التداوي والعلاج لأسقام الجسم، فالعلماء متفقون على أن أول خطوة في العلاج تكمن في قناعة المريض بحقيقة مرضه، وتبصيره بمضاعفات مرضه، ثم في قناعة بمناسبة العلاج لحالته، وإلا فلو أعطي العقاقير جميعها وكان المرء يفتقد إلى عنصر القناعة أو التهيئة النفسية فإن الفائدة حينئذ تكون(13/30)
محدودة جدا، ولعل من المناسب في هذا المقام أن نستذكر حديث العسل، ففي الحديث
... ولعل ما يجده المرء من نفسه يؤكد هذه الحقيقة، فمثلا حينما يوجه شخص ما نقدا تجاه آخر في بنية جسمه- مثلا- ويقول: بأن حجمك ضخم وتحتاج إلى تخفيف وزنك، فإن المرء تقوى فيه رغبة التغيير في نمط الأكل الذي يأكله، ويتبع نظام الحمية عن بعض الأطعمة؛ لأنه يرى ضرورة التغيير ، فعلى الرغم من مشقة ذلك على النفس، وحاجة الأمر إلى الحرمان إلا أن الإنسان يسير وفق خطة مدروسة.
... هذا هو الأسلوب الذي كنا نجده في كثير من نصوص السنة بفضل التوجيهات النبوية التي تهدف إلى تقوية الدافع لدى النفس، فما من شك في أن كل نفس تحمل من الدوافع الكامنة فيها ما يكفل القيام بكثير من الأمور، لكن ضعف الإرادة – أحيانا- هو الذي يقف دون التنفيذ، وما أكثر النصوص التي تكشف عن كون الإرادة إذا اجتمعت إلى الدافع ظهرت نتائج التغيير، وما قصة إسلام عمر بن الخطاب إلا تجسيدا لهذه الحقيقة.(13/31)
... ومما يدخل تحت هذا الباب: ما ورد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ أَعْرَابِيًّا ، جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَعِينُهُ فِي شَيْءٍ ، فَأَعْطَاهُ شَيْئًا ، ثُمَّ قَالَ : أَحْسَنْتُ إِلَيْكَ ؟ فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ : لَا ، وَلَا أَجْمَلْتَ قَالَ : فَغَضِبَ الْمُسْلِمُونَ ، وَقَامُوا إِلَيْهِ ، فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ أَنْ كُفُّوا . قَالَ عِكْرِمَةُ : قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : ثُمَّ قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى الْأَعْرَابِيِّ ، فَدَعَاهُ إِلَى الْبَيْتِ ، فَقَالَ : إِنَّكَ جِئْتَنَا فَسَأَلْتَنَا ، فَأَعْطَيْنَاكَ ، فَقُلْتَ : مَا قُلْتَهُ ، فَزَادَهُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا ، ثُمَّ قَالَ : أَحْسَنْتُ إِلَيْكَ ؟ قَالَ الْأَعْرَابِيُّ : نَعَمْ ، فَجَزَاكَ اللَّهُ مِنْ أَهْلٍ وَعَشِيرَةٍ خَيْرًا ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّكَ كُنْتَ جِئْتَنَا فَسَأَلْتَنَا ، فَأَعْطَيْنَاكَ ، وَقُلْتَ مَا قُلْتَ ، وَفَى أَنْفُسِ(13/32)
أَصْحَابِي شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ، فَإِنْ أَحْبَبْتَ فَقُلْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مَا قُلْتَ بَيْنَ يَدَيَّ ، حَتَّى تُذْهِبَ مِنْ صُدُورِهِمْ مَا فِيهَا عَلَيْكَ . قَالَ : نَعَمْ . قَالَ عِكْرِمَةُ : قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ أَوْ الْعَشِيُّ ، جَاءَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ صَاحِبَكُمْ هَذَا كَانَ جَاءَ فَسَأَلَنَا ، فَأَعْطَيْنَاهُ ، وَقَالَ مَا قَالَ ، وَإِنَّا دَعَوْنَاهُ إِلَى الْبَيْتِ فَأَعْطَيْنَاهُ فَزَعَمَ أَنَّهُ قَدْ رَضِيَ ، أَكَذَلِكَ ؟ قَالَ الْأَعْرَابِيُّ : نَعَمْ ، فَجَزَاكَ اللَّهُ مِنْ أَهْلٍ وَعَشِيرَةٍ خَيْرًا . قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَلَا إِنَّ مَثَلِي وَمَثَلَ هَذَا الْأَعْرَابِيِّ كَمَثَلِ رَجُلٍ كَانَتْ لَهُ نَاقَةٌ فَشَرَدَتْ عَلَيْهِ ، فَاتَّبَعَهَا النَّاسُ ، فَلَمْ يَزِيدُوهَا إِلَّا نُفُورًا ، فَنَادَاهُمْ صَاحِبُ النَّاقَةِ : خَلُّوا بَيْنِي وَبَيْنَ نَاقَتِي ، فَأَنَا أَرْفَقُ بِهَا وَأَعْلَمُ ، فَتَوَجَّهَ لَهَا صَاحِبُ النَّاقَةِ بَيْنَ(13/33)
يَدَيْهَا وَأَخَذَ لَهَا مِنْ قُمَامِ الْأَرْضِ ، فَرَدَّهَا هَوْنًا هَوْنًا هَوْنًا حَتَّى جَاءَتْ وَاسْتَنَاخَتْ وَشَدَّ عَلَيْهَا ، وَإِنِّي لَوْ تَرَكْتُكُمْ حَيْثُ قَالَ الرَّجُلُ مَا قَالَ ، فَقَتَلْتُمُوهُ ، دَخَلَ النَّارَ (1). فانظر في هذه الحادثة تجد أن النبي –صلى الله عليه وسلم- يعامل المرء بما ينبغي أن يكون هو عليه، فكأنه يخبره بأن تصرفه هذا غير مقبول وعليه أن يعرف من نفسه هذا.
... وأحيانا نجد المرء يدرك أنه مخطئ من خلال مقابلة سلوكه بسلوك الآخرين، على قاعدة: "وبضدها تتميز الأشياء"، ولعل من ذلك ما ورد من حديث أبي هريرة في قصة ثمامة بن أثال
__________
(1) أخلاق النبي ، لأبي الشيخ الأصفهاني، ح 170، و انظر كتاب تخريج أحاديث الإحياء، للعراقي، بيان إغضائه – صلى الله عليه وسلم عما يكرهه، قال البزار، وأخرجه أبو الشيخ من حديث أبي هريرة بسند ضعيف.(13/34)
" قَالَ لَهُ مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ قَالَ مَا قُلْتُ لَكَ إِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ فَتَرَكَهُ حَتَّى كَانَ بَعْدَ الْغَدِ فَقَالَ مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ فَقَالَ عِنْدِي مَا قُلْتُ لَكَ فَقَالَ أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ فَانْطَلَقَ إِلَى نَجْلٍ قَرِيبٍ مِنْ الْمَسْجِدِ فَاغْتَسَلَ ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَقَالَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ يَا مُحَمَّدُ وَاللَّهِ مَا كَانَ عَلَى الْأَرْضِ وَجْهٌ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ وَجْهِكَ فَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الْوُجُوهِ إِلَيَّ وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ دِينٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ دِينِكَ فَأَصْبَحَ دِينُكَ أَحَبَّ الدِّينِ إِلَيَّ وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ بَلَدٍ أَبْغَضُ إِلَيَّ مِنْ بَلَدِكَ فَأَصْبَحَ بَلَدُكَ أَحَبَّ الْبِلَادِ إِلَيَّ وَإِنَّ خَيْلَكَ أَخَذَتْنِي وَأَنَا أُرِيدُ الْعُمْرَةَ فَمَاذَا تَرَى فَبَشَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْتَمِرَ فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ قَالَ لَهُ قَائِلٌ صَبَوْتَ قَالَ لَا(13/35)
وَلَكِنْ أَسْلَمْتُ مَعَ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا وَاللَّهِ لَا يَأْتِيكُمْ مِنْ الْيَمَامَةِ حَبَّةُ حِنْطَةٍ حَتَّى يَأْذَنَ فِيهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"(1)
المطلب الثاني: مجاهدة النفس لتغيير السلوك
__________
(1) متفق عليه، انظر صحيح البخاري، باب وفد بني حنيفة وحديث ثمامة بن أثال. ومسلم، باب ربط الأسير وجواز المن عليه، ح(4114)، ج43/ 1589. وانظر مسلم، الصحيح، كتاب الجهاد والسير، باب ربط الأسير وحبسه وجواز المن عليه، ح (1764)، ج3/ 1386.(13/36)
... ومن الخطوات التي تحمل المرء إلى التغيير: تعويد النفس على الشيء وتصبيرها عليه، فالمعروف أن تغيير عادة ما عند الإنسان يحتاج إلى مجاهدة ومشقة، فإذا امتلك المرء الخطوة الأولى وهي خطوة الدافع المصحوب بالرغبة، كانت الخطوة الثانية وهي: خطوة المجاهدة، بمعنى تبصير الفرد بما سيواجهه من صعوبة تجاه عملية التغيير هذه، ولا شك أن هذه الخطوة تسهم إيجابيا في عملية التغيير، فحين يعلم المرء أنه يحتاج إلى كذا وكذا يوطن نفسه لهذه التهيئة، ويكون أوفق في الحصول على نتائج تناسب الطموح، وهذه الخطوة – كذلك مطابقة لخطوات العلاج التي يتبعها أطباء الأجسام فبعد الخطوة الأولى تأتي خطوة مواجهة المريض بحقائق ما سيواجهه، ونجد أن المريض –حقا – يستقبل ذلك رغم مشقته، لأن التهيئة النفسية كان لها من الدور ما يكفل سلامة السير في هذه الخطوة، فمثلا قد يخبر المريض بأنه سيشعر عقب تناول الدواء بشئ من الدوخة أو آلام الرأس أو الرغبة في التقيؤ أو غير ذلك، نجده يستقبل هذه النتائج بكل يسر.(13/37)
ومما يقابل ذلك في منهج التوجيهات النبوية نجد الحديث: "وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ..." (1)
__________
(1) الحديث بتمامه: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ نَاسًا مِنْ الْأَنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَاهُمْ ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَهُ ثُمَّ قَالَ مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً هُوَ خَيْرٌ وَأَوْسَعُ مِنْ الصَّبْرِ" رواه البخاري، صحيح البخاري، كتاب الزكاة، باب الاستعفاف عن المسألة ح (1400).(13/38)
وحديث : الصوم للشاب(1).
المطلب الثالث: تغيير الاتجاه
... كثيرا ما كان لأسلوب الدعوة الذي كان ينتهجه الرسول الكريم مع المرء من الآثار الإيجابية التي تغير من اتجاه النفسية التي جاء بها، فقد كان يأتي المرء وفي نيته قتل النبي الكريم، فيعود وليس على وجه الأرض أحب إليه منه، وقد كان يأتي أحدهم وليس على وجه الأرض من هو أبغض من النبي الكريم ويعود وليس على وجه الأرض من هو أحب إليه منه كما في صريح قول ثمامة في الحديث المتقدم.
__________
(1) الحديث عنْ عَلْقَمَةَ قَالَ بَيْنَا أَنَا أَمْشِي مَعَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَنْ اسْتَطَاعَ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ" صحيح البخاري، كتاب الصوم، باب الصوم لمن خاف على نفسه العزبة.(13/39)
... ولعل في الأثر التالي ما يجسد هذا المفهوم، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نجد ، فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم قفل معه فأدركتهم القائلة في واد كثير العضاه فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرق الناس في العضاه يستظلون بالشجر ، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت سمرة ، فعلق بها سيفه ، قال جابر : فنمنا نومة فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا فجئناه ، فإذا عنده أعرابي جالس ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم ، فاستيقظت وهو في يده صلتًا ، فقال لي : من يمنعك مني ؟ قلت : الله ، فها هو ذا جالس ، ثم لم يعاقبه رسول الله صلى الله عليه وسلم »(1) . يقول ابن حجر: ففي هذا العفو والمن دليل على شدة رغبته صلى الله عليه وسلم في تأليف الكفّار ليدخلوا في الإسلام(2)، وقد كانت النتيجة التي رغب صلى الله عليه وسلم ، حيث أسلم الرجل ورجع إلى قومه واهتدى به خلق كثير(3)
__________
(1) رواه البخاري ، صحيح البخاري ، كتاب المغازي ، باب غزوة ذات الرقاع (ك 67 ح 3905) 4 / 1515 .
(2) فتح الباري، ابن حجر ، 8 / 193 .
(3) للمزيد حول هذا الباب انظر: الحكمة في الدعوة إلى الله تعالى: سعيد بن علي بن وهف القحطاني، ط1، وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد - المملكة العربية السعودية 1423هـ، ص246، الطبعة الإليكترونية الموجودة على الموسوعة الشاملة.(13/40)
.
وقد كان من هديه في الدعوة تهيئة النفوس لسماع الكلام :
... فقد كان يهيئ نفوس المشركين للسماع، فحينما جاءه عتبة بن ربيعة لمفاوضته صلى الله عليه وسلم هيأ نفسه للسماع أولا بقوله : « قد فرغت يا أبا الوليد . . " قال: نعم، فقال : " يابن أخي فاسمع » وفي هذا الكلام ما فيه من تهيئة النفس للسماع ، وحين اتكأ عتبة على يديه وقال: أسمع ، أسمعه صلى الله عليه وسلم مطلع سورة فصلت.
... ومما يدل على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم- يهيئ نفوس أصحابه للسماع ما رواه البخاري عن جرير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له في حجة الوداع : « استنصت الناس " فقال : " لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض »(1)
__________
(1) رواه البخاري ، صحيح البخاري ، كتاب العلم ، باب الإنصات للعلماء (ك 3 / ح 121) 1 / 56 .(13/41)
فدل الحديث على أنه صلى الله عليه وسلم استنصت أصحابه قبل أن يعظهم ليهيئ نفوسهم لسماع كلامه ، ثم حفظه ثم العمل به ، ونشره ، وقد ذكر ابن حجر حكمة عظيمة بين فيها التدرج في تلقي العلم ، وأن أوله الاستماع فقال : " قال سفيان الثوري وغيره : أول العلم الاستماع ، ثم الإنصات ، ثم الحفظ ، ثم العمل ، ثم النشر " (1) .
... ويدل لذلك قول أنس - رضي الله عنه - : « إن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا ، فما يسلم حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها »(2)
المبحث الرابع: جوانب تنمية النفس الإنسانية
__________
(1) فتح الباري، ابن حجر ، 1 / 294 .
(2) صحيح مسلم ، (ك 43 ح 2412) 4 / 1806 .(13/42)
... البناء النفسي للإنسان يشترك فيه جوانب عدة، وفي هذا المبحث سنتحدث عن أبرز هذه الجوانب مشيرين إلى الهدي النبوي في الإسهام في هذا البناء النفسي، نذكر هذه الجوانب أجمالا، ثم نتكلم على أبرزها ضمن مطالب المبحث، فالبناء النفسي يضم مختلف الجوانب التي تكمن في الإنسان كالجانب الفطري والجانب العقلي والجانب الروحي والجانب الجسمي، وقد شمل الهدي النبوي كل هذه الجوانب، كما يضم جوانب تحيط بالإنسان، كالجانب الفكري، والجانب الجسمي، والجانب الاجتماعي، والجانب العقدي، والجانب الأخلاقي، وحتى يتم التوزيع على المباحث وفق المنهج العلمي فسأكتفي بالحديث عن جانبين من هذه الجوانب ضمن مطلبين:
الأول: الجانب الفكري، والثاني: الجانب الجسمي، وأحيل فيما يخص الجانب العقدي والجانب الاجتماعي والجانب الأخلاقي إلى ما كتب في المبحث الأخير من هذه الدراسة، حيث الأمل أن تفي بالفكرة التي نسعى إليها.
المطلب الأول: البناء الفكري(13/43)
... حيث يضم تنمية الفرد من الناحية العقلية ، وذلك عن طريق حسن التربية، ويشهد لذلك ما كان يحرص عليه الرسول – صلى الله عليه وسلم- عند تعليم الصحابة، تنوع الأساليب لتتناسب وميول الإنسان، فليس جانب التلقي التعليمي للفرد واحدا في الأحوال جميعها، ولا الناس كلهم يناسبهم الواحد، لهذا نجد الأسلوب التربوي يراعي أحوال النفس، لأنها تمل الرتابة في الأسلوب ، كما تمل الحديث الطويل، ولعل هديه في الحديث خير ترجمة لهذه المراعاة، حيث إن السمة الغالبة على أحاديثه الوجازة والاختصار، وقل أن نجد بين الأحاديث حديثا طويلا؛ بل إن تصريحه بهذا يؤكد الهدف النفسي لتقي المتعلم، فقد ورد نْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَخَوَّلُنَا بِالْمَوْعِظَةِ فِي الْأَيَّامِ كَرَاهَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا (1).
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب العلم، باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولهم بالموعظة والعلم كي لا ينفروا ح ( 68) ومسلم في كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب الاقتصاد في الموعظة ح ( 2821).(13/44)
... والمواقف التعليمية تؤكد التنوع في الأساليب، فتارة التعليم عن طريق السؤال، كما في الحديث المروي عن عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ مِنْ الشَّجَرِ شَجَرَةً لَا يَسْقُطُ وَرَقُهَا وَإِنَّهَا مَثَلُ الْمُسْلِمِ فَحَدِّثُونِي مَا هِيَ فَوَقَعَ النَّاسُ فِي شَجَرِ الْبَوَادِي قَالَ عَبْدُ اللَّهِ وَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ فَاسْتَحْيَيْتُ ثُمَّ قَالُوا حَدِّثْنَا مَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ هِيَ النَّخْلَةُ "(1) ، وتارة عن طريق الرسم والتوضيح كما في حديث الإنسان والأجل والأمل(2)
__________
(1) اخرجه البخاري: كتاب العلم، باب طرح الإمام المسألة على أصحابه ليختبر ما عندهم من العلم.
(2) الحديث: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: خَطَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطًّا مُرَبَّعًا وَخَطَّ خَطًّا فِي الْوَسَطِ خَارِجًا مِنْهُ وَخَطَّ خُطَطًا صِغَارًا إِلَى هَذَا الَّذِي فِي الْوَسَطِ مِنْ جَانِبِهِ الَّذِي فِي الْوَسَطِ وَقَالَ هَذَا الْإِنْسَانُ وَهَذَا أَجَلُهُ مُحِيطٌ بِهِ أَوْ قَدْ أَحَاطَ بِهِ وَهَذَا الَّذِي هُوَ خَارِجٌ أَمَلُهُ وَهَذِهِ الْخُطَطُ الصِّغَارُ الْأَعْرَاضُ فَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا وَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا" أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب في الأمل وطوله.(13/45)
، وتارة عن طريق القصة ،كما في حديث الأقرع والأبرص والأعمى(1)، وتارة عن طريق المثل: كما في حديث النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنْ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ فَقَالُوا لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا (2)، وتارة عن طريق التشويق، كما في حديث: لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله(3)
__________
(1) الحديث الطويل المعروف، أخرجه البخاري: كتاب الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل، ح ( 3277)، ومسلم في كتاب الزهد والرقائق ح( 2964).
(2) رواه البخاري، كتاب الشركة، باب هل يقرع في القسمة والإسهام فيه:ح(2361).
(3) الحديث مروي عن سهل بن سعد: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ خَيْبَرَ لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يُفْتَحُ عَلَى يَدَيْهِ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَبَاتَ النَّاسُ لَيْلَتَهُمْ أَيُّهُمْ يُعْطَى فَغَدَوْا كُلُّهُمْ يَرْجُوهُ فَقَالَ أَيْنَ عَلِيٌّ فَقِيلَ يَشْتَكِي عَيْنَيْهِ فَبَصَقَ فِي عَيْنَيْهِ وَدَعَا لَهُ فَبَرَأَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ وَجَعٌ فَأَعْطَاهُ فَقَالَ أُقَاتِلُهُمْ حَتَّى يَكُونُوا مِثْلَنَا فَقَالَ انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ" راوه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب فضل من أسلم على يديه رجل، ح ( 2847).(13/46)
..، وحديث، لأرسلن إليهم رجلا أمينا- يعني أبا عبيدة-(1).
... وفي مجال تصحيح المفاهيم الخاطئة نجد الأسلوب التربوي لتقويم الموازين عند الناس، كما في حديث ميزان الكرامة الذي يرويه سهل ابن سعد الساعدي قال: مر على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجل فقال النبي: - صلى الله عليه وسلم- ما تقولون في هذا الرجل؟ قالوا: رأيك في هذا نقول. هذا من أشرف الناس، هذا حري إن خطب أن يخطب، وإن شفع أن يشفع، وإن قال أن يسمع لقوله، فسكت النبي -صلى الله عليه وسلم- ومر رجل آخر فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: ما تقولون في هذا؟ قالوا : نقول - والله يا رسول الله- هذا من فقراء المسلمين . هذا حري إن خطب لم ينكح، وإن شفع لا يشفع، وإن قال لا يسمع لقوله، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: لهذا خير من ملء الأرض مثل هذا" (2)، فواضح منهج التوجيه النبوي في تصحيح المفاهيم تصحيحا عمليا، ولو تأملنا في الحديث لوجدنا أن التوجيه النبوي يلقي اعتبارا كبيرا للقضايا
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب قصة أهل نجران ح (4119).
(2) رواه ابن ماجة، سنن ابن ماجة، باب فضل الفقراء، ح(4120)، وقال عنه الألباني: صحيح، انظر صحيح وضعيف ابن ماجة.(13/47)
النفسية والخلقية، حيث لا يستقيم الميزان الذي يلتفت إلى المظاهر المادية مجردة عن القضايا الخلقية والنفسية.
المطلب الثاني:البناء الجسمي
... حيث يضم الصحة البدنية والصحة النفسية، لعل المتأمل في نصوص السنة يجد الكثير من الأسس التي تدخل ضمن هذا المجال، على التفصيل الآتي:
أولا: الصحة البدنية
... فيما يتصل بالحديث عن الصحة البدنية نجد أن للجسم حاجات، وأن النبي الكريم كان مدركا لهذه الحاجات.
... مما يؤكد أن النبي الكريم كان يراعي هذه الحاجيات وما تتطلبه النفس أنه حينما جاءه ثلاثة نفر من أصحاب الرسول – صلى الله عليه وسلم- يسألون عن عباداته ويتقالونها قال الرسول –صلى الله عليه وسلم-: أما أنا فأصوم وأفطر، وأقوم وأنام ، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني(1)
__________
(1) متفق عليه، والحديث كما في صحيح البخاري: عن "أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا فَقَالُوا وَأَيْنَ نَحْنُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ قَالَ أَحَدُهُمْ أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا وَقَالَ آخَرُ أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلَا أُفْطِرُ وَقَالَ آخَرُ أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ أَنْتُمْ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي" باب الترغيب في النكاح، ح( 4645)(13/48)
، وهو يدرك حاجات النفس المختلفة، ولهذا كانت التشريعات الواردة في سنته تحرص على الوفاء بحاجات الإنسان ومتطلباته، فما من تشريع إلا ويراعي هذا الجانب في الإنسان.
... كم في النصوص من توجيه نحو التربية البدنية!!، ومن ذلك تشجيعه تعلم الرماية، فعن عقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ
{ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ }أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ"(1) ومنه حديث ابن شماسة أن الرسول –صلى الله عليه وسلم قال: " مَنْ عَلِمَ الرَّمْيَ ثُمَّ تَرَكَهُ فَلَيْسَ مِنَّا أَوْ قَدْ عَصَى"(2)
__________
(1) صحيح مسلم، ، فضل الرمي والحث عليه، ج10/32. ورواه الترمذي وابو داود وابن ماجة وأحمد
(2) صحيح مسلم، ، فضل الرمي والحث عليه، ج10/32.(13/49)
... وكم في نصوص السنة من توجيهات تهدف إلى الصحة البدنية!! كالأكل والشرب، وبعضها في مجالات الوقاية، ولعل من أشهرها، حديث تقسيم الطعام إلى أثلاث، عَنْ مِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أُكُلَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ فَإِنْ كَانَ لَا مَحَالَةَ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ"(1)
__________
(1) رواه الترمذي، الجامع، باب ما جاء في كراهية الإكثار من الأكل، وقال أبو عيسى الترمذي : حسن صحيح، وانظر النسائي في السنن الكبرى، ح( 6770) ج4/ 4، وسنن ابن ماجة باب الاقتصاد في الأكل وكراهة الشبع، وذكره الألباني في السلسلة الصحيحة، رقم (2265).(13/50)
... ومن ذلك: النهي عن الشرب في حالات معينة، كالنهي عن الشرب قائما، كما في الحديث المروي عَنْ أَنَسٍ: "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَجَرَ عَنْ الشُّرْبِ قَائِمًا"(1)، وفي هيئات معينة كالشرب من فم السقاء، كما في حديث أبي هريرة: " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الشُّرْبِ مِنْ فَمِ الْقِرْبَةِ أَوْ السِّقَاءِ وَأَنْ يَمْنَعَ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَهُ فِي دَارِهِ"(2)
__________
(1) رواه مسلم، الصحيح، باب كراهية الشرب قائما. ح(3886).
(2) صحيح البخاري، باب الشرب من فم السقاء، ح(5328).(13/51)
... وما أكثر التوجيهات التي تدخل ضمن هذا الباب!!، بعضها عند النوم، كالنهي عن النوم على سطح غير مسور بحجارة حتى لا يسقط عنه، كما في الحديث الذي يرويه عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَلِيٍّ يَعْنِي ابْنَ شَيْبَانَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَنْ بَاتَ عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ لَيْسَ لَهُ حِجَارٌ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ"(1)، وبعضها فيما يخص الأطعمة كتغطية الإناء الذي فيه الثريد رجاء البركة، كما في الحديث المروي عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ: أَنَّهَا كَانَتْ إِذَا ثَرَدَتْ شَيْئًا غَطَّتْهُ حَتَّى يَذْهَبَ فَوْرُهُ ثُمَّ تَقُولُ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنَّهُ أَعْظَمُ لِلْبَرَكَةِ(2)
__________
(1) رواه أبو داود في السنن، باب في النوم على سطح غير محجر، قال عنه الألباني في مشكاة المصابيح، حديث صحيح، ح (4720) وفي " معالم السنن " للخطابي " حجى "، وذكره في الصحيحة ح(828) وفي صحيح الجامع رقم ح(6113).
(2) رواه أحمد والدارمي 2/100، وابن حبان(1344)، والحاكم و قال: صحيح على شرط مسلم في الشواهد " ووافقه الذهبي، وذكره البيهقي في السنن وشعب الإيمان والطبراني في المعجم الكبير، وذكره الألباني في السلسلة الصحيحة ح (392)، 1/676.(13/52)
، ولعل أعظم ما في الباب ما ورد في الحديث المروي عن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا حين قال:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَانَ جُنْحُ اللَّيْلِ أَوْ أَمْسَيْتُمْ فَكُفُّوا صِبْيَانَكُمْ فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ تَنْتَشِرُ حِينَئِذٍ فَإِذَا ذَهَبَ سَاعَةٌ مِنْ اللَّيْلِ فَحُلُّوهُمْ فَأَغْلِقُوا الْأَبْوَابَ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَفْتَحُ بَابًا مُغْلَقًا وَأَوْكُوا قِرَبَكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ وَخَمِّرُوا آنِيَتَكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ وَلَوْ أَنْ تَعْرُضُوا عَلَيْهَا شَيْئًا وَأَطْفِئُوا مَصَابِيحَكُمْ"(1)
ثانيا: الصحة النفسية:
... نلمس شمولية التنمية النفسية لأحوال الإنسان المختلفة طفلا وشابا وكبيرا في السن، وحتى على الوضع الاجتماعي للفرد، وموقعه منه: ابنا واخا وزوجا وأبا وعما وخالا وجدا، وكذا المرأة: بنتا وأختا وزوجة وأما وعمة وخالة وجدة.
ولعل ما يوضح تنوع أشكال التنمية هذه ما نلمسه من توجيهات نبوية نحو:
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب الأشربة، باب تغطية الإناء ح (5324).(13/53)
تنمية احتياجات النفس من ( الطعام والشراب والكساء والمال والوظيفة..) وهو ما تقدم الحديث عنه
تنمية الميول والعواطف من( حب النفس لـ: المال ، المدح، الظهور والمدح..)، وما أكثر النصوص التي تترجم هذه المعاني الشمولية.
... ولعلنا نكتفي بإيراد مثال على تجسيد التربية النبوية لما يشبع حاجة الفرد في المسألة المالية، من ذلك: أنه صلى الله عليه وسلم أعطى أناسا ما زالوا على شركهم، مثل صفوان بن أمية إذ أعطاه -صلى الله عليه وسلم- عطاء عظيما ، فقد روى مسلم عن ابن شهاب قال : « غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بحنين فنصر الله دينه والمسلمين ، وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ صفوان بن أمية مائة من النعم ثم مائة ثم مائة »(1) يؤكد الأثر النفسي لهذا العطاء ما قاله صفوان عن نفسه: « والله لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطاني وإنه لأبغض الناس إليّ ، فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلي »(2)
__________
(1) رواه مسلم ، الصحيح ، كتاب الفضائل ، باب ما سئل النبي صلى الله عليه وسلم قط فقال لا ، وكثرة عطائه (ك 43 ح 2311) 4 / 1806 .
(2) صحيح مسلم ، كتاب الفضائل ، باب ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا قط فقال لا ، وكثرة عطائه (ك5 ح537) 1 / 381 .(13/54)
، وهذا هو السر في ترغيبه صلى الله عليه وسلم بعض الكفار بالمال لاعتناق الإسلام(1).
تنمية الغرائز: فقد كان رسول الله –صلى الله عليه وسلم – حريصا على تنمية غرائز الإنسان وتوجيهها توجيها سليما، فمن ذلك مثلا رغبة المرء في المدح والثناء، فقد جبلت النفس على ذلك، ومنه حب الظهور، ولعل فيما قاله الرسول الكريم يوم الفتح: ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن"(2) من هذا القبيل، إذ لا يخفى على أحد ما تركته هذه العبارة من أثر إيجابي في نفس أبي سفيان، فقد أشبعت نفسه مع أنها جاءت بعد قوله ومن دخل بيته فهو آمن، فلا حاجة لمن يجد الأمن في بيته أن يدخل بيت أبي سفيان.
تنمية الدوافع، وقد مر في البحث ما يصلح مثالا لهذا اللون بما يغني عن الإعادة.
المبحث الخامس: من البناء النفسي إلى البناء الاجتماعي
__________
(1) الفتح الرباني في ترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني ، أحمد بن عبد الرحمن البنا، دار إحياء التراث العربي ، بيروت ، بدون تاريخ . 9 / 60
(2) انظر صحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب فتح مكة، ح (3434).(13/55)
... من أجل أن تكون الدراسات الإنسانية أكثر شمولا وأعمق غرضا لتحقيق المزيد من فهم الإنسان من الناحية النفسية لا بد من الربط بين الحقائق الاجتماعية والحقائق النفسية، فاستثمار الحقائق الناتجة عن الدراسات النفسية في القضايا الاجتماعية كثيرا ما يسهم في تحقيق الرؤية الشاملة والمتكاملة للحقائق الإنسانية.
... والمطلع على نشأة العلوم النفسية والاجتماعية في البيئة الغربية يلمس المعاناة المنفصلة التي كان يواجهها كل فريق من الفريقين ( علماء النفس وعلماء الاجتماع)، فالانفصام الذي طال مدة من الزمن لم يكن له ما يبرره، حتى أدرك كل فريق ضرورة أن يستفيد كل من الآخر، ولعل هذه المعاناة ما كانت لتوجد لو أن أهلها نظروا في منهج التربية الإسلامية، واستفادوا من تجربتها في الجمع بين الحقائق النفسية والحقائق الاجتماعية، والأمل في هذا المبحث أن يزودنا بشيء من التكامل الذي يفضي إلى اكتمال البناء الاجتماعي بعد البناء النفسي.(13/56)
... يتحدث علماء الاجتماع عن البناء الاجتماعي ويشيرون إلى أنه مكون من مجموعة من الأنساق، على النحو الآتي: (نسق الأسرة، نسق الدين، نسق الاقتصاد، نسق السياسة، نسق التعليم)(1).
... لعل أول ما يلمسه المسلم في منظومة البناء النفسي للمسلم إحساسه بأنه جزء لا يتجزأ من مجتمع ينتسب إليه، ويحرص على السعي في سبيل رقيه، ولهذا فإن تقسيمات المبحث تتطلب الحديث أولا عن أهمية الحياة الاجتماعية بالنسبة للفرد، ثم عن خطوات الارتقاء بالفرد للوصول إلى هذا البناء.
المطلب الأول: أهمية الحياة الاجتماعية للفرد:
... يميل الفرد بطبعه إلى الحياة الاجتماعية – ولا غرو- فهي جزء من بنائه النفسي، ولعلنا نجمل هذه الأهمية في الآتي(2):
الطمأنينة والأمن والاستقرار مطالب أساسية لكل فرد ولا يكتمل الإحساس بها إلا بالعيش ضمن مجتمع آمن.
__________
(1) البناء الاجتماعي والشخصية، فرح، محمد سعيد: دار المعرفة الجامعية – الاسكندرية، 1989م، المقدمة.
(2) للمزيد حول هذا المعنى انظر: الرسول العربي المربي، ص 305 وما بعدها.(13/57)
كثير من الأخلاق التي تشكل شخصية الفرد وتعد جزءا من بنائه النفسي لا تظهر إلا بوجود طرف آخر، مما يعني أن الفرد يعيش ضمن مجموعة تظهر أخلاقه، فالتعاون لا يظهر إلا بين مجموعة وكذا الشورى، وكذا الوفاء بالعهود، وغير ذلك من الأخلاق التي تؤكد أن الإنسان لا يزاولها إلا ضمن أفراد آخرين،
وما أكثر الآداب التي جاءت بها السنة النبوية!! وما أسمى الأهداف التي كانت ترمي إليها التشريعات النبوية، فقد كانت متجهة نحو التنشئة الاجتماعية، وقد كانت التوجيهات النبوية للفرد مراعية هذا الجانب، بل هادفة إلى إيجاد فرد اجتماعي، يحس بمتطلبات المجتمع، يدرك حاجة الكبير إلى التوقير وحاجة الصغير إلى الرفق، ولهذا كان منه التوجيه المباشر: " ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا.."(1) بل أبعد من هذا، كان يوجه مباشرة إلى التطبيق العلمي لهذا المبدأ الاجتماعي، فقد روي عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ قَالَ: انْطَلَقَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةُ بْنُ مَسْعُودِ بْنِ زَيْدٍ
__________
(1) رواه أبو داود والترمذي وأحمد والحاكم والبيهقي، انظر جامع الترمذي باب ما جاء في رحمة الصبيان ج7/ 157، وذكره الألباني في الصحيحة ، ح( 2196)(13/58)
إِلَى خَيْبَرَ وَهِيَ يَوْمَئِذٍ صُلْحٌ فَتَفَرَّقَا فَأَتَى مُحَيِّصَةُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلٍ وَهُوَ يَتَشَمَّطُ فِي دَمِهِ قَتِيلًا فَدَفَنَهُ ثُمَّ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَانْطَلَقَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةُ وَحُوَيِّصَةُ ابْنَا مَسْعُودٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَهَبَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَتَكَلَّمُ فَقَالَ كَبِّرْ كَبِّرْ وَهُوَ أَحْدَثُ الْقَوْمِ فَسَكَتَ فَتَكَلَّمَا فَقَالَ تَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ قَاتِلَكُمْ أَوْ صَاحِبَكُمْ قَالُوا وَكَيْفَ نَحْلِفُ وَلَمْ نَشْهَدْ وَلَمْ نَرَ قَالَ فَتُبْرِيكُمْ يَهُودُ بِخَمْسِينَ فَقَالُوا كَيْفَ نَأْخُذُ أَيْمَانَ قَوْمٍ كُفَّارٍ فَعَقَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عِنْدِهِ"(1)
الإنسان بحاجة إلى العيش ضمن مجموعة من الناس حتى يكتمل لديه تحقيق مطالبه وحاجياته من غذاء وكساء ومسكن وغيره.
__________
(1) رواه البخاري، كتاب الجزية، باب الموادعة والمصالحة مع المشركين على المال وغيره، ح (3028).(13/59)
كثير من المشاعر والأحاسيس التي هي جزء من بنائه النفسي لا يمكن تصورها إلا إذا كان الفرد بين جماعة ينتسب إليها، ومن ذلك: إحساسه بالسعادة والتعبير عنها لا يكون إلا في جو جماعي يمكنه من نقل الشعور إلى الآخرين، من ذلك ما حصل بين طلحة وكعب
الحوار معبر أساسي يتم من خلاله نقل أفكار الإنسان وآرائه إلى الآخرين، وهذا يتم عن طريق التحادث ولا يتصور إلا بعيش الإنسان ضمن جماعة
رصيد التجربة مطلب أساسي لاكتمال بنائه النفسي، إذ الفرد معني- كما أسلفنا- بتقويم سلوكه، ولا يظهر ذلك إلا بوجوده بين مجموعة تظهر حقيقة سلوكه، وهو – كذلك- معني بالإفادة من سلوك الآخرين، مستفيد من أخطائهم، حريص على الاقتداء ببعضهم.
فيما يخص المسلم نجد أن العبادات لا يمكن تصورها إلا بالمعنى الجمعي، حتى الصلاة التي توثق صلة العبد بخالقه ، ويناجي بها المسلم ربه فيها المعنى الجمعي، ولعل في قوله تعالى: ( واركعوا مع الراكعين)(1) ما يؤكد الحاجة الجماعية، وكذا الزكاة، فهي حركة في المجتمع، والصوم شعور نفسي مشترك، والحج خلطة جماعية منظمة تؤدى فيها شعائر موحدة.
__________
(1) البقرة: 43.(13/60)
اعتبار بعد الإنسان عن الجماعة أحد أشكال العقوبات المتفق عليها لدى الناس جميعهم، فما السجن ولا النفي إلا شكل من أشكال الحرمان الاجتماعي، ولعل في سيرة النبي الكريم ما يجسد هذه الحقيقة، حيث استخدم سلاح المقاطعة الاجتماعية لدى بعض الأفراد – كما هو الشأن مع الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك- وقد كانت من أقسى أشكال العقاب، كما عبر عنها القرآن الكريم بقوله: ( حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم..)(1) فالتعبير القرآني يبين الأثر النفسي لهذا النوع من العقوبات.
المطلب الثاني: آفاق البناء النفسي والاجتماعي
__________
(1) التوبة 119.(13/61)
... خطا الإسلام بالمسلم خطوات واسعة، فقد استطاع أن ينقل المسلم هما وتفكيرا وحسا وشعورا إلى أضعاف ما تنادي به النظريات المثالية اليوم، فقد تمكن الإسلام من زرع بذور الشخصية الإسلامية المستقلة بشعورها وأحاسيسها وهمومها، وتمكن من نقلها من مجتمع إقليمي، إلى عالمية مفتوحة، كل ذلك في زمن لا يتجاوز ربع قرن، كوّن مجتمعا جديدا محوره الرسول – صلى الله عليه وسلم – وقد كان للرسول من الأثر النفسي ما يضمن تكامل هذا البناء للشخصية الجديدة، حيث كان هم التغيير هو الأفق النفسي الأبرز في حياة المسلمين الأولى، كيف يغيروا معالم المجتمع الجاهلي وينقلونه إلى المجتمع المثالي الذي أتت به الرسالة الجديدة، ولعل سر النجاح كان يكمن في قوة الإرادة، وقد ترجم رسل رسول الله – صلى الله عليه وسلم هذا الفهم، كما هو متجسد في مقولة الصحابي الجليل: ربعي بن عامر – رضي الله عنه – حينما قال مخاطبا رستم: " "الله ابتعثنا والله جاء بنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ومن جور الاديان إلى عدل الاسلام فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه فمن قبل منا ذلك قبلنا ذلك منه ورجعنا عنه وتركناه وأرضه(13/62)
يليها دوننا ومن أبى قاتلناه أبدا حتى نقضى إلى موعود الله"(1)،
... ولقد واجهت النبوة الكريمة مشكلات اجتماعية استطاع أن يقدم خير نموذج لعنوان التغلب عليها والخروج منها بأفق يليق بالدين الحق، والملفت للنظر أن السيرة تبرز سرعة الاستجابة للتوجيهات النبوية، ولعل منها مشكلة التفاوت الاقتصادي التي ظهرت بعيد الهجرة، فقد استطاع التغلب عليها بعميلة المؤاخاة التي كان لسرعة الاستجابة أبرز الدور في تلاشيها، ومنها مشكلة العادات الجاهلية المتأصلة، كعادة شرب الخمر، وقد استطاع أن ينتزع حبها من نفوسهم حتى تمثلت الاستجابة الجماعية في أن تسيل الخمور في شوارع المدينة قائلين: انتهينا يا رب"(2)
__________
(1) انظر تاريخ الأمم والملوك، الطبري، باب ذكر ابتداء أمر القادسية، ج2/295، وذكره ابن الأثير في كتابه: الكامل في التاريخ، وانظر البداية والنهاية، ابن كثير، ج7/ 47.
(2) روي البخاري عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: كُنْتُ سَاقِيَ الْقَوْمِ فِي مَنْزِلِ أَبِي طَلْحَةَ وَكَانَ خَمْرُهُمْ يَوْمَئِذٍ الْفَضِيخَ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَادِيًا يُنَادِي أَلَا إِنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ قَالَ فَقَالَ لِي أَبُو طَلْحَةَ اخْرُجْ فَأَهْرِقْهَا فَخَرَجْتُ فَهَرَقْتُهَا فَجَرَتْ فِي سِكَكِ الْمَدِينَةِ..." كتاب التفسير، باب صب الخمر في الطريق ج9/ 348 ومسلم في باب: تحريم الخمر وبيان أنها تكون من العصير، بشرح النووي ج 13/ 349.(13/63)
.
... والمتأمل في نوعية البناء النفسي الذي كان قد أسهم النبي الكريم في بنائه يدرك أنه من السمو بحيث لا يخفى على ذي لب مكانته، فقد صنع رجالا، وكون نفوسا تعيش لحظات من التفكير لا تتسع له آفاق الدنيا بما رحبت، ولا تستوعب كل مقوماتها احتواء التفكير الذي تنتجه تلك النفوس، فقد أصبحوا ينظرون إلى الجنة من نافذة الدنيا، ويقسمون أنهم يشمون رائحتها، ولقد أصبح السمو في التفكير يساور بعضهم ليحدث نفسه بالخوف من افتقاد لحظات السعادة التي يعيشها مع النبي الكريم ، ويفصح عن ذلك للنبي الكريم: "
أي سمو في التفكير !!
وأي أفق نفسي كان يساور تلك النفوس!!(13/64)
... لقد كان للعقيدة التي جاءت بها الرسالة الإسلامية وظل الرسول – صلى الله عليه وسلم - يغرسها في نفوس أصحابه أبرز الأثر في تكوين هذا الأفق النفسي الذي أضاف إلى نظرة الفرد حياة جديدة بمعان وموازين وأسس تختلف عن موازين هذه الحياة، حتى أصبحت النفوس ترنو إليها، وتحس أن أنفاس هذه الحياة قد تكون عائقا أمام طموحاتها النفسية، كما عبر عنها عمير بن الحمام يوم بدر: " لئن حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها حياة طويلة "(1)
__________
(1) من الحديث الطويل المروي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُسَيْسَةَ عَيْنًا يَنْظُرُ مَا صَنَعَتْ عِيرُ أَبِي سُفْيَانَ فَجَاءَ وَمَا فِي الْبَيْتِ أَحَدٌ غَيْرِي وَغَيْرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا أَدْرِي مَا اسْتَثْنَى بَعْضَ نِسَائِهِ قَالَ فَحَدَّثَهُ الْحَدِيثَ قَالَ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَكَلَّمَ فَقَالَ إِنَّ لَنَا طَلِبَةً فَمَنْ كَانَ ظَهْرُهُ حَاضِرًا فَلْيَرْكَبْ مَعَنَا فَجَعَلَ رِجَالٌ يَسْتَأْذِنُونَهُ فِي ظُهْرَانِهِمْ فِي عُلْوِ الْمَدِينَةِ فَقَالَ لَا إِلَّا مَنْ كَانَ ظَهْرُهُ حَاضِرًا فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ حَتَّى سَبَقُوا الْمُشْرِكِينَ إِلَى بَدْرٍ وَجَاءَ الْمُشْرِكُونَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُقَدِّمَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إِلَى شَيْءٍ حَتَّى أَكُونَ أَنَا دُونَهُ فَدَنَا الْمُشْرِكُونَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ قَالَ يَقُولُ عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ الْأَنْصَارِيُّ يَا رَسُولَ اللَّهِ جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ قَالَ نَعَمْ قَالَ بَخٍ بَخٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ بَخٍ بَخٍ قَالَ لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلَّا رَجَاءَةَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا قَالَ فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرَنِهِ فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنَّ ثُمَّ قَالَ لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي هَذِهِ إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ قَالَ فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ التَّمْرِ ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ" رواه مسلم في صحيحه، باب ثبوت الجنة للشهيد.(13/65)
، ولعل ما كانت تتمتع به نفسية صاحب الرسالة تكشف عن هذا السمو النفسي، فقد كان يعيش أوسع لحظات الأمل في أحلك ظروف القسوة والمعاناة، وأحلى لحظات الأمن وقت أشدها أفتقارا إلى الأمن، فما أثر عنه حين كان يحفر الخندق(1) : ".. وليهلكن الله كسرى وقيصر ، ولتنفقن كنوزهما في سبيل الله عز وجل.."
__________
(1) جاء في دلائل النبوة : للبيهقي، باب لا يغضب اليوم أحد من شيء ارتجز به إلا..، " فلما اشتد البلاء على النبي وأصحابه نافق ناس كثير وتكلموا بكلام قبيح ، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فيه الناس من البلاء والكرب ، جعل يبشرهم ويقول : « والذي نفسي بيده ، ليفرجن عنكم ما ترون من الشدة ، وإني لأرجو أن أطوف بالبيت العتيق آمنا ، وأن يدفع الله عز وجل إلي مفاتيح الكعبة ، وليهلكن الله كسرى وقيصر ، ولتنفقن كنوزهما في سبيل الله عز وجل » . وقال رجل ممن معه لأصحابه : ألا تعجبون من محمد ؟ يعدنا أن نطوف بالبيت العتيق ، وأن نقسم كنوز فارس والروم ، ونحن هاهنا لا يأمن أحدنا أن يذهب الغائط"(13/66)
... ولعل من آفاق هذه النفس ما يتعلق بسمو نظرة المؤمن إلى ما يصيبة فقد أستطاعت التوجيهات النبوية أن تصنع من نفسية المسلم ما تجعله يستعذب الآلام والمصائب، ويحس بأنها مستقدمات أجر وثواب، يحمد الله عليها، ويحمده على أنها لم تكن مصائب في دينه، فقد كان يستهان كل مصيبة ما لم تكن في دينه، وهكذا كان التغلب على الحزن الذي يلم بالمسلم، وقد كان لتوجيهات بعض نصوص القرآن(1) ما يطمئن النفوس ويمكنها من التغلب على حالات الحزن التي هي طريق من طرق اليأس، وتوجد منها نفسا راغبة في المضي قدما.
__________
(1) كما في قوله تعالى: " ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين" آل عمران:139 ، وقوله " فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم" محمد 35.(13/67)
... العقيدة التي آمن بها المسلم هي التي استطاعت أن تسمو بآفاقه إلى هذا الحد، وهي نفسها التي استطاعت أن توجد نفوسا أشد طمأنينة وقت الشدة، فقد كانوا يقاتلون والأمن يغمرهم، يغالبهم النعاس(1) وهم في أخطر المواقف وأشدها هولا، وهم في مواجهة عدو شرس، وما ذلك إلا عنوانا على الطمأنينة النفسية .
المطلب الثالث: الأبعاد الحضارية في البناء النفسي كما نلمحها في نصوص السنة:
... في هذا المطلب نتناول بعض معالم البناء الحضاري للنفس كما تظهرها السنة النبوية، حيث تبرز من خلال بناء الشخصية المتكاملة بناءا يمكنها من العيش في ظل حضارات متباعدة الأطراف مختلفة الغايات، والحديث عن البعد الحضاري لهذا البناء المتكامل سوف يكون ضمن الفروع الآتية:
أولا: بناء الشخصية الإيجابية
__________
(1) كما يسجل القرآن عليهم في الآية من سورة الأنفال:" إذ يغشيكم النعاس أمنة منه..) الأنفال 11.(13/68)
... نصوص السنة النبوية ترمي إلى بناء فرد إيجابي في المجتمع يحس بأن كل حركة يتحركها في المجتمع نحو البناء إنما هي جزء من عقيدته، وتظل ترتقي به النصوص حتى تدخل القضايا الاجتماعية في صميم عقيدته، وتتوزع التوجيهات بشكل منتظم لتضم الأحكام التشريعية كلها، فتارة تكون مندوبة: مثل إماطة الأذى عن الطريق، وتارة تكون واجبة مرهونة بإيمانه: كما في الحديث: والله لا يؤمن والله لا يؤمن، قيل من يا رسول الله: قال: من لا يؤمن جاره بوائقه"(1)، وكثيرا ما تربط النصوص بين حركة الفرد في العبادات وحركته في المجتمع، بل إن التأمل في مجموع النصوص يوصل بنا إلى حقيقة الربط بين القضايا الاجتماعية وقضايا العبادات، وما الكفارات - التي في جلها منافع اجتماعية - إلا نوع من التجسيد لهذه الحقيقة.
__________
(1) في مسند الإمام أحمد، وورد عند مسلم رواية في الباب باللفظ التالي: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ، رواه مسلم، باب تحريم إيذاء الجار(13/69)
... ومن مظاهر الإيجابية الموصلة إلى البناء الاجتماعي للفرد، بناء علاقة بين الفرد وبين سائر المخلوقات في هذا الكون، بحيث يشعر الفرد بأنه ينتسب إلى جزء كبير من هذا الوجود، بل هو حلقة من حلقات هذا الكون، كل عنصر من عناصره يسير إلى غاية ويحمل هدفا.
... وتبعد النصوص بالفرد إلى ما هو أكثر من هذا؛ فالفرد - أيا كان مركزه الاجتماعي ومهما كانت وظيفته الاجتماعية - يخضع للمسؤولية الاجتماعية المنوطة به ، والمجتمع لا يعفيه من مهامه، ولا من واجباته تجاه المجتمع، ولعل في قول النبي الكريم – صلى الله عليه وسلم –:" كُلُّكُمْ رَاعٍ ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، وَالمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا ، وَالخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ " قَالَ : - وَحَسِبْتُ أَنْ قَدْ قَالَ - " وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي مَالِ أَبِيهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ "(1)
__________
(1) الحديث عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ ، رواه البخاري، في كتاب الجمعة، باب الجمعة في القرى والمدائن، ح( 853):(13/70)
." الحديث ما يجسد هذا الواجب الاجتماعي.
... كما نلمس في توجيهات السنة النبوية ما يجعل ممن يتخذ سبيل العزلة للمجتمع نمط حياة محل نقد ولوم، ففي الحديث: " المسلم الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المسلم الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم"(1).
والمسلم مهما كان مركزه الاجتماعي مطالب بحركة تلي حركة البناء المتعلق بشخصية وهي الحركة التي لها صلة بالمجتمع.
__________
(1) اخرجه البخاري في الأدب المفرد، ح (388)، باب الذي يصبر على أذى الناس، وقال الألباني: صحيح، انظر صحيح الجامع، ح ( 6651).(13/71)
... ولعلنا بمنظومة الحقوق والواجبات ندرك ان الفرد تربطه بمجتمعه منظومة من الواجبات التي لا تنفك عنه في أي من مراحله الاجتماعية؛ بل في أي من الأدوار الاجتماعية التي يلعبها في وقت ما فهو: في مرحلة الطفولة -إن كان ابنا- مطالب ببعض الواجبات تجاه والديه وتجاه من يكبره سنا، وهو -إن كان أخا- عليه من الواجبات التي تسهم في تكامل الأسرة، وهو -إن كان زوجا- عليه من الواجبات التي تسهم في تكوين الأسرة الإيجابية في المجتمع، وهو إن كان أبا عليه من الواجبات التي تلزمه تجاه زوجه من جهة، ثم تجاه أبنائه من جهة أخرى، وهكذا لا تنفك عنه الواجبات الاجتماعية التي بدورها تسهم في إبراز البعد الحضاري في منظومة البناء، بناءا متدرجا يرتقي بالنفوس إلى سلم الرقي والرفعة، وهذا ما تفتقده الحضارات المادية، حيث لا تتجاوز نظرتها المصلحة الفردية أو ما يصب في مصافها.
ثانيا: بناء الشخصية الإنسانية(13/72)
... بمقارنة الحياة الاجتماعية -التي تهدف التربية الإسلامية إلى بنائها- مع غيرها من أنماط التربية السائدة، ندرك أن التربية الإسلامية تهدف إلى بناء شخصية لا تحصرها حدود المكان، فكل قطر من أقطار الإسلام يعد قطرا للمسلم ويعتز بالانتساب إليه، بل وكل زمان من الأزمان يحس برحم تصله، فهو ينتسب إلى المؤمنين على اختلاف ازمانهم، ويحس أنه فرد من أفرادهم وأنه تربطه بهم صلة وثيقة تتطلب منه أن يقدم لهم واجبا ، حتى ولو لم يرهم، ولعل قوله تعالى: ( والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ربنا إنك رءوف رحيم) (1) يجسد هذا المعنى، وهو تربطه رحم بكل مؤمن حتى قبل النبي الكريم محمد – صلى الله عليه وسلم- فالانبياء كلهم أصول لشجرة العائلة الكبيرة التي ينتسب إليها، وأتباعهم فروع لهذه الشجرة الكبيرة التي ينتسب إليها، وكذا يحس بأن أناسا تربطهم بها صلة لما يأتوا ، وهو من يأتي بعد، كل هذا يجسد المعنى الشمولي لهذه النسبة، والسمو الاجتماعي الذي تنشده الرسالة الإسلامية بخلاف التربيات السائدة؛ إذ غاية ما ينشدون أن يكون منتسبا إلى تربية بنمط معين ضمن إقليم معين،
__________
(1) سورة الحشر/ الآية 10.(13/73)
حيث لا تتجاوز طموحاتها المراحل التالية: (الأسرة فالعشيرة فالقبيلة فالعنصرية)، ومنذ عهد قريب بدأنا نسمع أصواتا تنادي بما هو أبعد، بالتربية الإنسانية، ولم يكن ذلك إلا بعد الوقوع في دعوات مذمومة إقليمية، فكانت الحاجة إلى الدعوات الإنسانية، وهي ما فتئت التربية الإسلامية تنمي أبناءها في ضوئها من أول لحظة ظهور، لكن شتان بين هذه الدعوات التي تنادي بها أنماط التربية الوضعية وبين ما تنادي به التربية الإسلامية فالتطبيق الواقعي يكشف عن زيف هذه الدعوات وافتقارها إلى عملية التطبيق، هذا فضلا عن تغير الموازين التي تحتكم إليها، وازدواجية النظرة إلى الإنسانية كما نلمسه على أرض الواقع، فالمناداة الإنسانية لحقوق تخص المجتمعات الغربية تختلف في موازينها وضوابطها عما يتعلق بأفراد الأمة الإسلامية، وما نشهده في واقع التطبيق اليوم أكبر دليل على هذه الازدواجية، وما القرارات والقوانين الدولية التي تصدر إلا ترجمة واضحة لهذا الزيف.(13/74)
... أما البناء الإسلامي فهو البناء المتكامل البعيد عن كل عنصرية وهوى وإقليمية، ولعل الخطاب القرآني الشامل يجسد هذا البعد الإنساني، كما في قوله تعالى: ( يا أيها الناس..)، أما واقع السنة ونصوصها فما هي إلا تطبيق عملي لهذه النظرة، فلو تأملنا في الثلة التي حملت لواء الرسالة لوجدنا هذا البعد الإنساني: فسلمان فارسي، وبلال حبشي، وصهيب رومي، وعلي قرشي…) ومن النساء جعل من مارية المسيحية الأصل، وصفية يهودية الأصل، وسودة القرشية أخوات،؛بل أمهات للمؤمنين هكذا إذن تشكل البناء الإنساني، وتجسد في أول أسرة إيمانية تحمل هما واحدا، وهذا هو البعد الحضاري الذي نعده ثمرة من ثمرات البناء النفسي في السنة النبوية.(13/75)
وأفق أخر من آفاق الشخصية الإنسانية نلمسه، وهو أفق التسامح، أفق النفس التي تتسع للتعامل مع المخطئ والعاصي، فحديث أنس عن الرسول – صلى الله عليه وسلم – يقول: «كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون»(1). فالحديث يعد مفتاحا للتعامل مع الآخر وأول سلوك نلجأ إليه هو التصالح مع النفس قبل أن نتصالح مع الآخر، وإذا ما تم التصالح مع النفس ومع الآخر، تحققت الغاية الإلهية لخليفة الله في الأرض( الإنسان)، هي أن يحيا حياة كريمة وسعيدة وهانئة، ولا يتصور ذلك إلا باستيعاب الآخر.
ثالثا: بناء الشخصية المتزنة المرنة:
__________
(1) رواه الترمذي وابن ماجة، وقال قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ مَسْعَدَةَ عَنْ قَتَادَةَ، ورواه الدارمي والحاكم والبيهقي، قال عنه الألباني في المشكاة: حسن. باب الاستغفار والتوبة.(13/76)
... البناء النفسي الذي تقدمه السنة النبوية فوق ما تقدم بناء متزن لا يركز على جانب دون جانب، فلا الجانب العبادي يطغى على الجانب المعيشي –كما تقدم- ، ولا على فئة دون فئة، فلا التركيز على مرحلة الشباب وإهمال الطفولة ولا على مرحلة الشيخوخة ونسيان الكهولة، ولا على الذكور دون الإناث، جميع أفراد المجتمع معنيون بهذا البناء.
... هذا البناء المتوازن له دور كبير في حفظ الشخصية من الضياع والاختلال أوالميل نحو الانحراف، وهو ما تحتاج إليه الحضارات في هذا الزمان: خوف من التطرف، وقلق من ازدياد الجرائم والاعتداءات بأشكالها المختلفة، وقلق على أمن البشرية، ولو تأمل أصحاب القرارات في أسباب ما آلت إليه الحياة في هذا الزمان لأدركوا أن سببه افتقار الشخصية إلى هذا البعد.
... ولعل ما يوضح القيمة الحضارية لهذا البعد ما قدمته الأمة من نماذج برزت فيها كل معاني التوازن والاعتدال، فقد كان المسلمون يوازنون بين حاجات الأمة الرسالية: من دعوة وجهاد.. وبين حاجاتها التعليمية في الميادين المختلفة، وهو الذي يفسر لنا سر تقدم المسلمين في مختلف الميادين العلمية.(13/77)
... ونحن نتحدث عن البعد المتوازن لا بد من تقديم بعض نصوص السنة التي تدعو إلى هذا التوازن: منها قوله – صلى الله عليه وسلم -:"يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا" وفي رواية : وسكنوا ولا تنفروا"(1)
... الحديث المروي عن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حيث قال: "جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا فَقَالُوا وَأَيْنَ نَحْنُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ قَالَ أَحَدُهُمْ أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا وَقَالَ آخَرُ أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلَا أُفْطِرُ وَقَالَ آخَرُ أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ أَنْتُمْ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب قول الرسول يسروا ولا تعسروا، ح ( 5660)، و ح(67).(13/78)
وَكَذَا أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي"(1)
وأما جانب المرونة – فلا شك- أنه أحد أبرز ما تحتاجه الحضارات اليوم، وقد قدمت لنا نصوص السنة نماذج رائعة من هذه المرونة، ولعل أبرزها فيما يخص علاقة المسلمين بغيرهم، وما الحوار إلا صورة من صور هذه المرونة، وقد قدم لنا النبي الكريم كثيرا من النصوص التي تدعو إلى المرونة واستيعاب الطرف الآخر، وما هدي النبي الكريم فيما يخص معالجة فئة المنافقين إلا نموذجا بارزا لهذه المرونة، وقد جاء صريحا في بعض النصوص، فقصة عبد الله بن أبي بن سلول التي سجلتها آيات القرآن تجسد هذه المرونة، عندما أراد عمر أن يضرب عنقه: فأبي النبي الكريم(2)
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح، ح (4793).
(2) القصة بتمامها كما عند البخاري: عن جَابِرًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: "غَزَوْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ ثَابَ مَعَهُ نَاسٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ حَتَّى كَثُرُوا وَكَانَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلٌ لَعَّابٌ فَكَسَعَ أَنْصَارِيًّا فَغَضِبَ الْأَنْصَارِيُّ غَضَبًا شَدِيدًا حَتَّى تَدَاعَوْا وَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ يَا لَلْأَنْصَارِ وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ يَا لَلْمُهَاجِرِينَ فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَا بَالُ دَعْوَى أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ ثُمَّ قَالَ مَا شَأْنُهُمْ فَأُخْبِرَ بِكَسْعَةِ الْمُهَاجِرِيِّ الْأَنْصَارِيَّ قَالَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعُوهَا فَإِنَّهَا خَبِيثَةٌ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ أَقَدْ تَدَاعَوْا عَلَيْنَا لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ فَقَالَ عُمَرُ أَلَا نَقْتُلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْخَبِيثَ لِعَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّهُ كَانَ يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ" باب ما ينهى من دعوى الجاهلية، ح( 3257).(13/79)
، وقصة حاطب بن أبي بلتعة أحد هذه النماذج تجسد المرونة التي كان يسلكها النبي الكريم.
... ولعل هذه المرونة تتجسد في خطوات العلاج التي اتبعها النبي الكريم في الحد من مخاطر حركة النفاق بالرغم من أن القرآن الكريم قال فيهم قولته الفصل، وأنهم أشد خطرا؛ لذا فهم في الدرك الأسفل من النار، وبالرغم من تكرار اعتداءاتهم التي تنوعت ووصلت إلى بيت النبوة وعرضه، إلا أن النبي الكريم يجسد لنا موقف المرونة، فقد استمروا طيلة الفترة المدنية، ولو تتبعنا العلاج الذي كان ينهجه النبي الكريم لوجدنا أنه كان يهدف إلى الإصلاح النفسي فقد كان يعاملهم بظواهرهم، رغم طول المدة التي أجلت أمرهم، وكثرة الآيات النازلة في بيان شأنهم وقد لمسنا العلاج الرباني أولا متجه إلى الإصلاح النفسي، حيث لم يرد اسم منافق بعينه في القرآن.(13/80)
... وخلاصة الأمر أن هذا النهج الذي سلكه النبي الكريم كان قد حقق آثارا إيجابية ضخمة، فقد كان كفيلا بالقضاء على هذه الحركة مع تجاوز كثير من السلبيات التي كانت متوقعة، وفي هذا الإطار نستطيع فهم قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- لعمر - الذي طالما طالب بقتل المنافقين حمية لدين الله - أخيرا: « أين عمر ؟ لو قتلنا هؤلاء يوم طلب عمر لأرعدت لهم أنوف تريد اليوم قتلهم » (1). ولعل هذا المنهج هو الذي أدى إلى قتلهم معنويا، من غير حاجة إلى قتل أي فرد منهم حسيا(2).
وختاما يمكن القول بأن البناء الذي أراده الرسول لأبنائه هو بناء محكم متكامل متوازن متدرج في الرقي والسمو، يهدف إلى بناء جيل حضاري قادر على قيادة البشرية وتسلم الأمانة التي شقت على السموات والأرض والجبال، إنها أمانة الخلافة والتمكين، نسأل الله تعالى أن يمكن لهذه الأمة وأن يهيئ لها من يسلمها دور القيادة والريادة، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الخاتمة وتوصيات الدراسة
__________
(1) انظر سيرة ابن هشام، ج4/256.
(2) للمزيد حول نهج النبي الكريم في معالجة حركة النفاق انظر كتاب الحكمة: 1/34(13/81)
بعد هذه الدراسة التي تكونت من خمسة مباحث تم فيها تتبع المنهج النبوي الكريم في بناء النفس، كما تم ذكر بعض النصوص التي برزت فيها هذه المعاني، يحسن أن نخلص من البحث بالنتائج الآتية:
يقيم الإسلام لمشاعر الإنسان وأحاسيسه وزنا كبيرا، ويهدف من ذلك كله إلى تشكيل شخصية متكاملة البناء.
وجود منهجية واضحة تتمثل في التدرج التربوي النبوي، والترقي السلوكي لبني الإنسان، تهدف إلى بناء منظومة أوسع في هذا الكون.
تظافرت المواقف التي حدثت مع النبي الكريم وبرز فيها حرصه على مراعاة شعور الآخرين والحفاظ على كيانها.
في السنة نصوص كثيرة ترشد إلى تعديل السلوك وتقويمه والسبل التي ينبغي أن تتخذ لهذا المسلك.
تكشف النصوص عن كون الإرادة إذا اجتمعت إلى الدافع ظهرت نتائج التغيير.
كان لأسلوب الدعوة الذي كان ينتهجه الرسول الكريم مع المرء من الآثار الإيجابية التي تغير من اتجاه النفسية التي جاء بها.
استخدم النبي الكريم شتى وسائل التعليم في سبيل بناء النفسية من الناحية الفكرية، وهو ما ظهرت نتائجه في نبوغ أتباعه في شتى الميادين.(13/82)
لا يقيم الإسلام للمرء وزنا كبيرا بالنظر إلى المظاهر دون حقائق النفوس، ويقيس الآخرين بموازين مختلفة عن الموازين التي يستخدمها عوام الناس.
نلمس شمولية التنمية النفسية في توجيهات السنة بحيث تشمل أحوال الإنسان المختلفة ومتطلباته في شتى ميادين الحياة.
المطلع على نشأة العلوم النفسية والاجتماعية في البيئة الغربية يلمس المعاناة المنفصلة التي كان يواجهها كل فريق من الفريقين بخلاف ما هو موجود في منهج التربية الإسلامية التي كانت تسير بهما معا من أول لحظة.
الأهداف التي كانت ترمي إليها التشريعات النبوية كانت متجهة نحو التنشئة الاجتماعية للفرد.
خطا الإسلام بالمسلم خطوات واسعة، فقد استطاع أن ينقل المسلم هما وتفكيرا وحسا وشعورا إلى أضعاف ما تنادي به النظريات المثالية اليوم، فقد تمكن الإسلام من زرع بذور الشخصية الإسلامية المستقلة بشعورها وأحاسيسها وهمومها، وتمكن من نقلها من مجتمع إقليمي، إلى عالمية مفتوحة.(13/83)
كان للعقيدة التي جاءت بها الرسالة الإسلامية وظل الرسول – صلى الله عليه وسلم - يغرسها في نفوس أصحابه أبرز الأثر في تكوين هذا الأفق النفسي الذي أضاف إلى نظرة الفرد حياة جديدة بمعان وموازين وأسس تختلف عن موازين هذه الحياة
استطاعت السيرة النبوية أن تقدم للبشرية خير مثال في التغلب على أبرز المشكلات الاجتماعية التي تواجه الناس.
نصوص السنة النبوية كانت ترمي إلى بناء فرد إيجابي في المجتمع يحس بأن كل حركة يتحركها في المجتمع نحو البناء إنما هي جزء من عقيدته، وظلت ترتقي به حتى أدخلت القضايا الاجتماعية في صميم عقيدته.
التربية الإسلامية الناشئة من مجموع النصوص تهدف إلى بناء شخصية لا تحصرها حدود المكان والزمان، فكل قطر من أقطار الإسلام يعد قطرا للمسلم ويعتز بالانتساب إليه.
كان للبناء المتوازن الذي تكفلت به النصوص الشرعية أثر كبير في حفظ الشخصية من الضياع والاختلال أو الميل نحو الانحراف، وهو ما تحتاج إليه الحضارات في هذا الزمان
التوصيات
يوصي الباحث بأن تقوم دراسة أكاديمية متكاملة تبحث عن منهج السنة النبوية في تكوين النفس وبنائها بناءا متكاملا.
مراجع الدراسة(13/84)
الأدب المفرد، البخاري، أبو عبد الله محمد بن إسماعيل، دار البشائر الإسلامية، بيروت، ط3، 1989م، تح : محمد فؤاد عبد الباقي.
أخلاق النبي وآدابه، دار المسلم – الرياض- 1998م ، أبو الشيخ الأصفهاني، د.ت.
البناء الاجتماعي والشخصية، فرح، محمد سعيد: دار المعرفة الجامعية – الاسكندرية، 1989م.
البداية والنهاية، ابن كثير، أبو الفداء اسماعيل القرشي، مكتبة المعارف، بيروت.
تاريخ الأمم والملوك، الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير، دار الكتب العلمية- بيروت، ط 1، 1407هـ.
التعبير القرآني والدلالة النفسية، الجيوسي، د. عبدالله محمد، دار الغوثاني،- دمشق، 2005، ط1.
الجامع الصحيح (سنن الترمذي)، الترمذي، أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي السلمي، دار إحياء التراث العربي - بيروت، تح: أحمد محمد شاكر وآخرون.
الحكمة في الدعوة إلى الله تعالى: سعيد بن علي بن وهف القحطاني، ط1، وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد - المملكة العربية السعودية 1423هـ، الطبعة الإليكترونية الموجودة على الموسوعة الشاملة.
دلائل النبوة، أحمد بن الحسين بن علي بن موسى أبو بكر البيهقي، المكتبة السلفية- المديبة المنورة، 1969م.(13/85)
الرسول العربي المربي ، الهاشمي، د. عبد الحميد، دار الثقافة للجميع- دمشق، ط 1، 1981م.
السلسلة الصحيحة، الألباني، محمد ناصر الدين، مكتبة المعارف الرياض، د.ت.
سنن ابن ماجة، القزويني، أبو عبد الله محمد بن يزيد، المكتبة العلمية – بيروت، تح: محمد فؤاد عبد الباقي، د.ت.
سنن أبي داود، سليمان بن الأشعث، دار الفكر –بيروت، تح محمد محيي الدين عبد الحميد.
سنن البيهقي الكبرى،أحمد بن الحسين بن علي بن موسى أبو بكر البيهقي، مكتبة دار الباز – مكة، 1414هـ، تح: محمد عبد القادر عطا.
السنن الكبرى، النسائي، عبد الرحمن أحمد بن شعيب، دار الكتب العلمية –بيروت، 1991م.
السيرة النبوية، ابن هشام، عبد الملك بن هشام بن أيوب المعافري، دار الجيل- بيروت، 1411، ط 1.
السيرة النبوية، الندوي، أبو الحسن، دار الشروق – بيروت، 1987م.
صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان، محمد بن حبان بن أحمد أبو حاتم التميمي البستي- مؤسسة الرسالة- بيروت- ط2، 1414هـ، تح: شعيب الأرناؤوط.
صحيح البخاري، البخاري، محمد بن إسماعيل أبو عبد الله، دار ابن كثير – اليمامة، ط 3، 1987م.(13/86)
صحيح مسلم بشرح النووي، النووي، محيي الدين أبو زكريا يحيى بن شرف، دار الفكر – بيروت، د.ت.
صحيح مسلم، مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري، دار إحياء التراث العربي- بيروت.
صحيح وضعيف الجامع الصغير وزياداته، محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي.
فتح الباري بشرح صحيح البخاري، العسقلاني، الحافظ أحمد بن علي بن حجر، دار المعرفة – بيروت، د.ت .
الفتح الرباني في ترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني ، أحمد بن عبد الرحمن البنا، دار إحياء التراث العربي ، بيروت ، بدون تاريخ.
القاموس المحيط، للفيروز أبادي، مجد الدين ربن يعقوب الشيرازي، المطبعة الميرية، بولاق، 1981م.
لسان العرب، ابن منظور، أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم، دار صادر – بيروت، د.ت.
مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، الهيثمي، نور الدين أبو حسن علي بن أبي بكر، مؤسسة المعارف- بيروت، 1989م.
مسند الإمام أحمد، الشيباني، أبو عبد الله أحمد بن حنبل، مؤسسة قرطبة - القاهرة.
مشكاة المصابيح، التبريزي، محمد بن عبد الله الخطيب، المكتب الإسلامي- بيروت، 1405هـ، تح: محمد ناصر الدين الألباني.(13/87)
المغني عن حمل الأسفار في الأسفار في تخريج ما في الإحياء من الأسفار، العراقي، زين الدين أبي الفضل عبد الرحيم بن الحسين، بحاشية إحياء علوم الدين، دار المعرفة – بيروت، د.ت.
النهاية في غريب الحديث والأثر، ابن الأثير، مجد الدين أبو السعادات المبارك ببن محمد الجزري، المكتبة العلمية –بيروت، د.ت، تح طاهر أحمد الزهاوي ومحمود محمد الطناحي.
مصادر أخرى
المكتبة الشاملة، الإصدار الثاني، الموجودة على الموقع الإليكتروني التالي:www.shamelah.ws.
مكتبة الألباني، الإصدار الأول، على قرص مرن.(13/88)
بسم الله الرحمن الرحيم
بحث علمي بعنوان
"المنفعة المترتبة على السّلوك الإنسانيّ في السنّة النبويّة
إعداد
الدكتور عدنان مصطفى خطاطبة
(قسم الدراسات الإسلامية)
مقدم الى
"مؤتمر السنّة النبوية في الدراسات المعاصرة"
محور: أثر السنّة في توجيه العلوم التربوية
كلية الشريعة/جامعة اليرموك /1428هـ-2007 م
المحتوى
الموضوع?
الصفحة??
?المحتوى
الملخص
المقدمة
مشكلة الدراسة وأهدافها وأهميتها والدراسات السابقة ومنهج الدراسة ومحدداتها وخطتها
المبحث الأول: مدخل مفاهيمي: مفهوم "المنفعة" و"السّلوك" و"السّنة"
المبحث الثاني: أطُر المنفعة ومقرراتها في السنة النبوية
المبحث الثالث: محدّدات المنفعة
المبحث الرابع: العلاقة بين المنفعة والسّلوك في السنّة النبويّة.
الخاتمة(النتائج والتوصيات)
المراجع
?
5
7
13
19
26
35
36
??
??
الملخّص
خطاطبة، عدنان مصطفى، المنفعة المترتبة على السّلوك الإنساني في السنّة النبويّة ومضامينها التربويّة ، بحث علمي .(14/1)
... هدفت الدراسة إلى بحث موقف السنّة النبوية من المنفعة المترتبة على السّلوك الإنساني، وذلك من خلالها مباحثها الأربعة.حيث درس المبحث الأول منها الجانب المفاهيمي وتوصّل إلى شمولية مفهوم المنفعة في السنّة للمصالح والملذّات الظاهرة والباطنة والعاجلة والآجلة، ومقابَلة مفهوم السّلوك للعمل وشموليته للاستجابات الظاهر والباطنة، ودرس المبحث الثاني أطر المنفعة ومقرراتها، وتوصّل إلى عمق التأصيل الشرعيّ لمطلب المنفعة وارتباطه القيمي، وتنوعِ مصادره وتقسيماته وصيغه، ودرس المبحث الثالث محددات المنفعة، وتوصّل إلى تأثرها بالمعتقد والبيئة والفروق الفردية وبسواء السلوك وإتقانه وبالفضل الرباني، وفي سبيل التحقيق في طبيعة العلاقة بين المنفعة والسلوك وإمكان تطبيقاتها الميدانية، جاء المبحث الرابع ليدرسها دراسة تحليلية شملت جوانب المنفعة والأداء السلوكي والعلاقة النوْعيّة والكَمّية بينهما والأثرَ في تعديل السّلوك، . ثم ختمت الدراسة بأهم النتائج والتوصيات.
... الكلمات المفتاحية: التربية الإسلامية، السنة النبوية، المنفعة، السّلوك، كلية الشريعة، جامعة اليرموك.
...
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة:(14/2)
... الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه، وبعد:
فقد تنوعت القراءات العلمية للسنّة النبوية طِوال مسيرة الفكر الإسلامي وحضارة المسلمين، تنوعاً ذا ارتباطات ثقافية وميدانية، صدرت عن رؤى واعية، واتصال وثيق بالحياة، ومعالجة شمولية واقعية، تصدّى لها حِليةُ هذه الأمة من أهل العلم والمصلحين وروّاد المعرفة، فجاءت تلك القراءات النظرية والتطبيقية، لتستغرق ميادين العقيدة والفقه والحديث، والتفسير والتربية والفكر والسياسية والاجتماع والتاريخ وغيرها، في مناسيب مختلفة حكمتها عوامل عدّة، فواتت بينها بِقدرٍ تنظيراً وبقدرٍ أكبر تطبيقاً.(14/3)
ومن بين تلك الميادين النظرية التطبيقية التي شملتها تلك القراءة للسنة النبوية، ميدان التربية وعلومه، والذي حظي تطبيقاً بارتضاء أكثر منه تنظيراً، ولكن مسيرته وإن لم تتوقف كلياً إلا إنّها أيضاً لم تكن فاعلة بالمستوى المطلوب الذي حظيته ميادين المعرفة والحضارة الأخرى، واشتدّت فاعليته جموداً في القرون المتأخر والمعاصرة من حضارتنا الإسلامية لعوامل داخلية وخارجية شتىّ، الأمر الذي يتطلّب مزيداً من الوعي بأهمية قراءة هذه الميدان نظرياًّ وبمدى حاجة الأمة إليه اجتماعيا وحضاريا، والانكباب على المعالجات الميدانية والخطوات التنفيذية المتعلقة بهذا المطلب الإسلامي، باعتباره من القوى الأصيلة الدافعة باتجاه خط الصعود لهذه الأمة ونهوضها وترشيد مسيرتها وإعادة حضورها " الرسالي الهدائي" بكل آلياته ومعطياته وتأثيرها في الساحة الذاتية وفي الساحة العالمية على حَدٍّ سواء.(14/4)
وفي ظل هذا المناخ الممتدّ الذي تفرضه طبيعة الرسالة الإسلامية، جاءت هذه المحاولة، في قراءة علمية لذخائر السنة وكنوزها، في سبيل تقديم رؤية إسلامية أصيلة في ترسيم العلاقة الطبيعية بين السلوك الإنساني وما يترتب عليه من منافع وذلك وفقا لمنظور السنة النبوية.
مشكلة الدراسة:
تعالج هذه الدراسة طبيعة العلاقة بين المنفعة والسلوك الإنساني في السنة النبوية، وذلك من خلال سؤالها الأساسي : ما المنافع المترتبة على السلوك الإنساني في السنة
النبوية ؟ والذي تطلبت الإجابة عليه، تفريعه إلى الأسئلة الآتية:
ما مفهوم المنفعة والسلوك ؟
ما أطر المنفعة في السنة النبوية ؟
ما محددات المنفعة في السنة النبوية ؟
ما العلاقة بين المنفعة والسلوك في السنة النبوية ؟
أهمية الدراسة:
تظهر أهمية الدراسة من كونها تقدّم معالجة إسلامية أصيلة تتصل بالسلوك(14/5)
الإنساني، من حيث ما يترتب عليه من منافع في منظور السنة النبوية والذي يعدّ موضوعها (السلوك، والمنفعة) من الأركان الأساسية في مفاهيم نظريات التربية وعلم النفس واهتماماتها، لتغطي بذلك مساحة مهمة من حاجات الدراسات التربوية الإسلامية الكثيرة، وذلك بتقديمها رؤية "تربوية إسلامية يمكن الإفادة منها في التطبيقات التربوية المختلفة حينما يتمّ توظيف مخرجاتها من قبل المتخصصين في الميدان التربوي والتعليمي ومتابعة تفريد أفكارها العلمية ومضامينها التربوية التي قدمتها هذه الدراسة.
أهداف الدراسة:
الهدف المحوري للدراسة يتمثل في تقديم معالجة علمية للمنفعة المترتبة على السلوك الإنساني في السنة النبوية وإمكان الإفادة منها تربوياً وتعليمياً، والذي يمكن الوصول إليه من خلال تحقيق الأهداف الآتية:
معرفة مفهوم كل من المنفعة والسلوك.
بيان أطر المنفعة ومقرراتها في السنة النبوية.
الوقوف على محددات المنفعة في السنة النبوية.
تحليل طبيعة العلاقة بين المنفعة والسلوك في السنة النبوية.
الدراسات السابقة:(14/6)
بعد الرجوع إلى المظان العلمية التي قد تكشف عن الدراسات البحثية ذات الصلة بموضوع الدراسة، لم يقف الباحث على دراسة علمية تعالج موضوع دراسته وأهدافها.
منهج الدراسة:
في سبيل معالجة مشكلة الدراسة وأهدافها بما يتناسب مع طبيعتها، فإن الباحث سيعمل على تطبيق منهجية البحث العلمي المتعلقة بالاستقراء والتحليل، وذلك من خلال عملية استقراء موسعة لنصوص السنة النبوية ( الصحيحة)، والوقوف على المظانّ المتصلة بموضوع الدراسة ثم تقديم قراءة تحليلية استنباطية لمفرداتها وسياقاتها بما يخدم غرض الدراسة.
محددات الدراسة:
تعالج الدراسة "المنفعة" المترتبة على "السلوك الإنساني"، ضمن نطاق السنة النبوية، حيث تركز على أهم مصدرْين فيها وهما الصحيحان، لقناعة الباحث بأنهما يشتملان على النصوص اللازمة لتغطية الرؤية الأساسية الشمولية لعلاقة المنفعة بالسلوك إضافة لاستقرار الدراسة على الصحة العلمية من حيث الأحاديث المستشهد بها.
خطة الدراسة:
تشتمل خطة الدراسة على مقدمة تتضمن التعريف بأطر الدراسة، ومباحث أربعة، تعالج مفهومي المنفعة والسلوك، وأطر المنفعة ومقرراتها ومحدداتها وطبيعة العلاقة بين المنفعة والسلوك، وخاتمة الدراسة.(14/7)
المبحث الأول: مدخل مفاهيمي: مفهوم "المنفعة" و"السّلوك" و"السّنة"
يتكون عنوان الدراسة من مجموعٍ مركبٍ من الألفاظ، وتقتضي المنهجية العلمية في تعريف مثل هذه الصيغة تعريف مفرداتها، ولذلك سيتم في هذا الجزء من الدراسة تقديم تعريفات علمية بكل مفردة من مفردات هذه الدراسة بما تقتضيه طبيعة الدراسة وموقعها فيها.
أولاً: تعريف المنفعة:
المنفعة لغةً: نفع: النون والفاء والعين كلمة تدلّ على خلاف الضّر(1)، ونفعه نفعاً
ومنفعة: أفاده وأوصل إليه خيرا(2). والمنفعة: كل ما ينتفع به(3)، والجمع:
منافع(4). والنّفع: الخير وما يتوصل به الإنسان إلى مطلوبه(5).
المنفعة اصطلاحاً: التعْريفات العلمية التي تعنى بمصطلح "المنفعة"، تكاد تكون محددةً جداً، وخاصة عند الباحثين في مجال التربية والسلوك، وبعد قراءة موسعة، وقف الباحث على تعريف للمنفعة من ميدان البحث الفلسفي الأخلاقي، ينص على أن المنفعة هي: " الحصول على اللّذات والابتعاد عن الآلام" (6).(14/8)
وبالنسبة لاستخدام كلمة " المنفعة" في النصوص الشرعية، فقد ورد أصل الكلمة ومشتقاتها في القرآن الكريم خمسين مرّة(7)، أقربها صيغة "منافع" والتي هي جمع منفعة، وأمّا في السنة النبوية فقد وردت باشتقاتها المختلفة في العشرات من الأحاديث، وبصيغتها المعنية: "المنفعة" في عدد محدود جداً. ومن أجل الوقوف على معناها كما يظهر من السياق، لا بد من تقديم نماذج من تلك الآيات والأحاديث، ومنها:
ــــــــــــــــــــــ
(1) ابن فارس، أحمد، معجم المقاييس اللّغوية، تحقيق: شهاب الدين أبو عَمْرو، دار الفكر، بيروت،
ط1418هـ- 1998م، ص1042.
(2) ابن منظور، محمد، لسان العرب، تحقيق: عامر أحمد، دار الكتب العلمية، بيروت(د.ط)، جـ5،ص327.
(3) المصدر السابق نفسه.
(4) مجمع اللغة العربية، المعجم الوسيط، دار الدعوة، استانبول(د.ط)، جـ2،ص942.
(5) المرجع السابق نفسه.
(6) السيد، عزمي طه، الفلسفة: مدخل حديث، دار المناهج، عمّان، طـ1، 1423هـ-2003م، ص224.
(7) عبد الباقي،محمد فؤاد،المعجم المفهرس لألفاظ القرآن،دار الحديث، القاهرة،1422هـ-2001م،ص807.(14/9)
- قوله تعالى قال الله تعالى: ? يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ?[البقرة: 219]. يقول ابن كثير: " أما إثمهما فهو في الدين، وأما المنافع فدنيوية"(1)، ويقول ابن عاشور: والمنافع: جمع منفعة، وهي اسم على وزن مفعلة، وأصله يحتمل أن يكون مصدراً ميميا قصد منه قوة النفع... . ويحتمل أن يكون أسم مكان دالاً على كثرة ما فيه... ، أي: يكثر فيهما النفع... . فالمنفعة أبلغ من النفع" (2).
- وفي قوله تعالى – آيات الحج- ? لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ?[الحج: 28]، يقول ابن عاشور: " وتنكير منافع للتعظيم المراد منه الكثرة، وهي: المصالح الدينية والدنيوية؛ لأن في مجمع الحج فوائد جمّة للناس: لأفْرَادهم من الثواب والمغفرة لكل حاج، ولمجتمعهم لأن في الاجتماع صلاحاً في الدنيا بالتعارف والتعامل"(3). وقال القرطبي
? لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ ?: " أي ليحضروا منافع لهم، أي: ما يرضي الله تعالى من أمر الدنيا والآخرة " (4).(14/10)
- قوله تعالى: ? وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ?[الذاريات: 55]، يقول ابن عاشور: " والنفع الحاصل من الذكرى هو رسوخ العلم بإعادة التذكير لما سمعوه، واستفادة علم جديد فيما لم يسمعوه أو غفلوا عنه" (5).
وقال الراغب: " النَّفع: ما يُستعان به في الوصول إلى الخيرات، وما يتوصل به إلى الخير فهو خير، فالنفع: خير، وضدّه: الضر، قال تعالى ? وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرّاً وَلَا نَفْعاً ?[الفرقان:3]، وقال تعالى ? لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ ?[الممتحنة:3] (6).
ــــــــــــــــــــــ
(1) ابن كثير، إسماعيل، تفسير القرآن العظيم، دار الخير، بيروت، ط1، 1410هـ-1990م ،جـ1،
ص274.
(2) ابن عاشور، محمد الطاهر، التحرير والتنوير ، دار سحْنون، تونس(د.ط)، جـ1، ص344 .
(3) المرجع السابق، جـ7، ص246.
(4) القرطبي، محمد، الجامع لأحكام القرآن، دار الكتب العلمية، بيروت، ط2، 1424هـ-2004م، ج6،
ص28-29.
(5) ابن عاشور، التحرير والتنوير، جـ11، ص24.
(6) الراغب الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، تحقيق: صفوان عدنان، دار القلم، دمشق، ط3،1423هـ-
2002م، ص819.
.
.(14/11)
- ومن السنة النبوية، قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لبلال رضي الله عنه: (يا بلال حدّثني بأرجي عمل عملته، عندك، في الإسلام منفعة...، قال: ما عملت عملا في الإسلام أرجي عندي منفعة من أني لا أتطهر طُهُوراً تاماً في ساعة من ليل ولا نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصليّ (1)، وقوله - صلى الله عليه وسلم - :( إنّ ناركم هذه جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم، وضربت في البحر مرتين ولولا ذلك ما جعل الله فيها منفعة لأحد" (2)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -:( .. فمن ولي منكم أمراً يضّر فيه أحداً أو ينفعه فليقبل من محسنهم ويتجاوز من مسيئهم ) (3) ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - لمّا ذكر عنده عمّة أبو طالب، قال: (لعلّه تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضَحْضاح
من النار...) (4)،(14/12)
ومن مجموع ما تقدم يقترح الباحث التعريف الآتي، المنفعة: هي الفوائد الإيجابية والسلبية؛ أي جميع المصالح واللّذات المادية والمعنوية التي يسعى كل من الفرد أو الجماعة إلى تحصيلها عاجلاً أم آجلاً. فالمنفعة قد تكون تحصيل فائدة إيجابية، أي: "مرغوب فيه" من مصالح ولذات كالمنافع في آية الحج، وحديث بلال رضي الله عنه المتقدم ، وقد تكون فائدة سلبية، أي: دفع "غير مرغوب به" أو إزالته أو الوقاية منه، من مضار وآلام، كالتخفيف عن أبي طالب في حديث الشّفاعة المتقدم.
ثانياًً: تعريف السلوك
السلوك لغةً:
سلك: السين واللام والكاف، أصل يدلّ على نفوذ شيء. يقال : سلكت الطريق أسلكه وسلكت الشيء في الشيء، أنفذته(5)، والسلوك مصدر سلك، والمسلك: الطريق(6). وقال الراغب: " السلوك: النفاذ في الطريق، يقال سلكت الطريق، قال تعالى: ? لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً?[نوح:20] (7).
ــــــــــــــــــــــ
(1) مسلم، الصحيح، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل بلال، ح رقم (4497).
(2) أحمد، المسند ،ح رقم (7025).
(3) البخاري، الصحيح، كتاب المناقب، باب قول النبي اقبلوا من محسنهم، ح رقم (3516).(14/13)
(4) المصدر السابق، كتاب المناقب، باب قصة أبي طالب، ح رقم (3596).
(5) ابن فارس ، معجم المقاييس اللغوية، ص490.
(6) ابن منظور لسان العرب، جـ6،ص53.
(7) الراغب، مفردات ألفاظ القرآن، ص421.
السّلوك اصطلاحاً:
... هناك تباين واضح بين النظريات النفسية والسلوكية في تعريف السلوك، ترجع لعوامل مختلفة من أهمها: الرؤية الفلسفية للطبيعة الإنْسانية، والرؤية التقويمية لإمكان قياس السلوك الإنساني وتعديله وعلاجه.
... وما يعني هذه الدراسة الأخذ بالتعريفات الأكثر شمولية واتفاقاً مع التوجه الإسلامي لفهم الإنسان وطبيعته وسلوكه. ومن بين هذه التعريفات الآتي:
السّلوك: " كل الأفعال والتصرفات التي تصدر عن الفَرْد في مواقف الحياة المختلفة"(1).
السلوك: " كل الأفعال والنشاطات التي تصدر عن الفرد ظاهرة كانت
أم غير ظاهرة "(2).
السّلوك: " الأنشطة والتفاعلات التي يقوم بها الفرد لتحقيق غايات معينة" (3).
السّلوك: " الاستجابة الكلية التي يبديها الكائن الحي إزاء أي موقف يواجهه" (4).
وكما يلحظ فإن هذه التعريفات تركز في فَهْمها للسلوك على صورة الاستجابة الكلية التي تصدر عن الإنسان إزاء مواقف حياتية مختلفة.(14/14)
نظرة السنة النبوية إلى "السلوك الإنساني"
بما أن هذه الدراسة تُعنى ببحث المنفعة المترتبة على السلوك الإنساني في السنة النبوية، وبما أن " السلوك" جزء أساس فيها، فلا بد من الوقوف على حيثياته في ميدان البحث المخصص- السنة- ليقع التوافق والتوّحّد في المعالجة البحثية المعنية بتحليل موقف السنة من المنفعة المترتبة عليه.
ــــــــــــــــــــــ
(1) علي، علي أحمد، أساسيان سلوك الإنسان، مكتبة عين شمس، القاهرة(د.ط)،ص26.
(2) الخطيب، جمال، تعديل السلوك الإنساني، مكتبة الفلاح، الكويتـ ط1 ،1423هـ-2003م ، ص17.
(3) سليمان، حسين حسن، السلوك الإنساني والبيئة الاجتماعية، المؤسسة الجامعية للدراسات، بيروت، ط1،
1425هـ- 2005م، ص47.
(4) العطاس، عبد الله بن أحمد، مفهوم السلوك الخُلقي، جامعة أم القرى، معهد البحوث العلمية، مكة، طـ1،
1425هـ- 2005م، ص29.
لا يجد الباحث في نصوص السنة النبوية – ولا كذلك القرآن الكريم(1)- ورود كلمة " السلوك"، لا بلفظها المحدد ولا بمعناها الاصطلاحي المعين، ولكن يجد لها اشتقاقات يكاد أكثرها يتكرر في لفظة "سلك"، وبمفهوم لا يقترب من المفاهيم الحديثة المستعملة للسلوك.(14/15)
ومن أشهر هذه النُصوص التي حملت لفظة "سلك"، قوله - صلى الله عليه وسلم -" ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهّل الله له به طريقا إلى الجنة"(2)، وقوله - صلى الله عليه وسلم - لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: " والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان قط سالكاً فجّا إلا سَلَك فجّا غير فجّك"(3)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " ولو سَلَكَ الناس وادياً أو شعباً لسلكت وادي الأنْصار"(4). وكما هو ملاحظ فإن معنى "سَلَك" كما في السياق، تشير إلى:المشي في الطريق(5)، فهو يتعلق بوصف النشاط الحركي للإنسان تحديداً.
أما السلوك بمعناه الاصطلاحي العام، فيعبّر عنه في السنّة النبوية – كذلك في القرآن الكريم- "بمصطلح "العمل"، ويقصد به جميع الأفعال أو الاستجابات أو ردود الفعل التي تصدر عن الإنسان، سواءً كانت ظاهرية أم باطنية، وسواء كانت الأعمال صالحة أو غير صالحة"(6). قال الراغب: " العمل: كل فعل يكون بقصد...، والعمل يُسْتعمل في الأعمال الصالحة والسيئة، قال تعالى: ?وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ?[النساء:124]، وقال تعالى: ? مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِه ِ?[النساء:123] "(7) .(14/16)
وفي السنة، قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إنما الأعمال بالنيات) (8)، وقال البخاري مُبَوِباً: " باب ما جاء إن الأعمال بالنية والحِسبةِ...، فدخل الإيمان والوضوء والصلاة والزكاة والصوم والأحكام
ــــــــــــــــــــــ
(1) ورد في القرآن لفظ(سلك) ومشتقاته-دون لفظ السلوك- اثنتي عشرة مرة، منها: سلك، لتسلكو،
فاسلكي...، وأغلبها بمعنى: النفاذ في الطريق. عبد الباقي، المعجم المفهرس لألفاظ القرآن،
ص436، والراغب، مفردات ألفاظ القرآن، ص421.
(2) مسلم، الصحيح، كتاب الذكر، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن، ح رقم (4867).
(3) البخاري، الصحيح، كتاب الأدب، باب التبسم والضحك، ح رقم (5621).
(4) المصدر السابق، كتاب التمنّي، باب ما يجوز من اللو، ح رقم (6704).
(5) النووي، شرح صحيح مسلم، تحقيق: خليل مأمون، دار المعرفة، بيروت، ط1، 1425هـ-2004
جـ17، ص21.
(6) التل، شادية، علم النفس التربوي في الإسلام، دار النفائس، عمان، ط1، 1425هـ-2005م، ص58.
(7) الراغب، مفردات ألفاظ القرآن، ص587.
(8) البخاري، الصحيح، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي، ح رقم (1).
.(14/17)
(المعاملات)" (1). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (خذوا من العمل مال تطيقون) (2). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الرجل ليعمل بعمل أهل النار.. . وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة...) (3). ومن الأحاديث التي تتضمن وصفاً لمساحة السلوك الإنساني وحقيقته المركبة، قوله - صلى الله عليه وسلم -: ( الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان) (4)، وهذه الشعب (الأعمال أو السلوكات)، منها الفعلي والقولي، ومنها الباطني والظاهري .
...
وبذلك، يظهر معنى "السلوك" في السنة، بأنه: كل ما يصدر عن الإنسان من أعمال وأقوال ، ظاهرة وباطنة. وعليه فالسلوك في السنة، قسمان: السلوك الظاهري، ويشمل كل الأعمال والأقوال الظاهرة التي تصدر عن جوارح الإنسان، وإما السلوك الباطني، فيشمل كل العمليات والاعتقادات والانفعالات التي تصدر عن قلب الإنسان وباطنه.(14/18)
... ويتلازم في السنة السلوك الظاهري والسلوك الباطني، ويمتزجان امتزاج الروح بالجسد، ويتأثر كل منهما بالآخر، كما يلحظ ذلك من قوله- صلى الله عليه وسلم -: ( ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كلّه، وإذا فسدت فسد الجسد كلّه، ألا وهي القلب) (5)، " فلا يتحقق القلب بالإيمان إلا وتنبعث الجوارح في أعمال الإسلام" (6).
... وهذه المقدّمة في فهم السلوك، مهمة بالنسبة لهذه الدراسة من جهتيْن: الجهة الأولى: إنه بها تتوجه عملية استقراء جوانب المنفعة وعلاقاتها بالسلوك، الوجهة الصحيحة الشمولية، التي لا تقتصر على مظهر واحد من مظاهر السلوك مثلاً دون غيره.
...
والثانية: إنها تظهر جانبا مهما تعنى به هذه الدراسة، وهو جانب المقارنة بالفكر الغربي، حيث يؤكد هذا المفهوم الشمولي للسلوك الإنساني في السنة النبوية، تمايزه عن نظريات علم النفس في نظرتها وتعريفها للسلوك واختلافاتها الكبيرة، " فبعض نظريات علم
ــــــــــــــــــــــ
(1) المصدر السابق، كتاب الإيمان، باب ما جاء إن الأعمال بالنيات.
(2) المصدر السابق، كتاب الصوم، باب صوم شعبان، ح رقم (1834).(14/19)
(3) المصدر السابق، كتاب أحاديث الأنبياء، باب خلق آدم وذريّته، ح رقم (3085).
(4) مسلم، الصحيح، كتاب الإيمان، باب بيان عدد شعب الإيمان، ح رقم (51).
(5) البخاري، الصحيح، كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه، ح رقم (50).
(6) ابن رجب، عبد الرحمن، جامع العلوم والحكم، دار الفكر، بيروت، 1409هـ- 1988م (د.ط)، ص28.
النفس التقليدية ( كنظرية التحليل النفسي لفرويد) (1) لا تولي اهتماماً كافياً بالسلوك الظاهر؛ لأنها تنظر إليه بوصفه مجرّد عرض لصراعات أو اضطرابات نفسية داخلية، بينما ينادي
تعديل السلوك (2)بدراسة السلوك الظاهر بوصفه ظاهرة قائمة بحدِّ ذاتها" (3)، يمكن ملاحظتها وقياسها.
ثالثاًً: تعريف السنة
... السنة النبوية الشريفة، هي المصدر الثاني – مع القرآن الكريم- من مصادر التشريع الإسلامي، وهي في حقيقتها وحي من جنس وحي الله تعالى إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ويفهمها العلماء اصطلاحاً على أنها ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قول أو فعل أو تقرير .(14/20)
... وبناء على ما تقدّم، فإن خلاصة هذا المدخل المفاهيمي، أنه يضع هذه الدراسة في إطار بحث " المنفعة" – بحسب التعريف الذي تمّ تحديده- التي تقررها السنة النبوية في سياقاتها المختلفة، إزاء سلوكٍ معين معتبرٍ لديْها.
المبحث الثاني: أطُر المنفعة ومقرراتها في السنّة النبويّة
يجد الباحث في السنة النبوية مجموعة من الأطر والمقررات التي تكشف عن جوانب مهمة في مفهوم المنفعة وموقعها وطبيعتها، والتي يمكن رصدها من خلال عرض الأمور الآتية:
أولاً: التأصيل الشّرعي لمطلب المنفعة
تنظر السنة النبوية إلى "مبدأ تحصيل المنفعة " على أنه مقصد شرعي معتبر، ومطلب إنساني مراد، لا يمكن بحال أن تنفك عنه النفس الإنسانية لما جبلت عليه من حب تحصيل ما ينفعها ودفع ما يضرّها.
ــــــــــــــــــــــ
(1) للوقوف على دراسة تحليلية نقدية لنظرية فرويد، ينظر: بيلي، برسيفال، نقد نظرية التحليل النفسي،
ترجمة: محمد هلال، دار المناهج، عمان، ط1،1420هـ-1999م، وخوجلي، هشام عثمان، نظريات
النمو الإنساني: دراسة نقدية من منظو إسلامي، الدار السعودية، جدّة،ط1، 1422هـ-2001م
ص39-59.(14/21)
(2) للتوسع في النظرة النقدية للمدرسة السلوكية، ينظر: صالح، قاسم حسين، نظريات معاصرة في علم
النفس، مكتبة الجيل الجديد، صنعاء، ط1، 1419هـ-1998م، ص145-174.
(3) الخطيب، جمال، تعديل السلوك الإنساني، ص17. ... ... ... ... ... ...
وقد جاء ذلك مقرراً في أحاديث نبوية عديدة، منها قول النبي - صلى الله عليه وسلم - مخاطباً الشخصية المسلمة: (احرص على ما ينفعك) (1)، وقوله - صلى الله عليه وسلم - (ولكل أمريء ما نوى) (2)، حيث قررت هذه الجملة " أن العامل لا يحصل له إِلا ما نواه"(3)، وقوله - صلى الله عليه وسلم - مخاطباً سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه- وهو خطاب لكل مؤمن عامل- : (إنّك لن تُخَلَّفَ فتعملَ عملاً صالحاً الا ازددت به درجةً ورفعة) (4)، وقوله - صلى الله عليه وسلم - ( وإن همّ بها (فعل الحسنة) فعملها كتبها الله عز وجل عنده عَشرَ حسنات إلى سبعمائة ضعف..) (5).(14/22)
وكما يلاحظ، فإن جملة هذه الأحاديث تؤكد أن السنة النبوية تدفع باتجاه تحصيل المنفعة وملاحقة مظانها، وضبط العوامل الموجهة لها وفعل كل ما من شأنه أن يؤدي إلى الظفر بها – مما هو معتبر شرعاً. بل وأكثر من ذلك تقدم السنة أصولاً تقرر من خلالها أن المنفعة شأن من شؤون العناية الربانية، حيث كشفت عن تفصيل الموقف الإلهي الإيجابي المحفز باتجاه اكتناز الإنسان لما أمكنه من المنافع الحسنة.
ثانياًً: تعْبيرات المنفعة وصِيَغها
يتعلق هذا الأمر بمحاولة تحديد الأنماط اللفظية التي استخدمتها السنة في التعبير عن المنفعة، وشكل الصيغة التي وردت بها.
فبالنسْبة للتعبيرات ، يمكن بالنظر لما جاء في الأحاديث النبوية أن تقسم إلى قسْمين ، الأول: التعبيرات الأساسية، ويقصد بها استخدام لفظ المنفعة ومشتقاته، والثاني:التعْبيرات الثانوية،ويراد بها الألفاظ ذات الدلالة المشتركة أو المساوية لدلالة لفظ المنفعة والمعبّرة عنها.(14/23)
ومن أمثلة التعبيرات الأساسية، قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث بلال رضي الله عنه " حدثني بأرجى عملٍ عملته، عندك، في الإسلام منفعةً) (6)، وقوله في سؤال عائشة رضي الله عنها عن ابن جُدْعان أنه" كان في الجاهلية يصل الرحم ، ويطعم المسكين، فهل ذاك نافعه؟ قال :
ــــــــــــــــــــــ
(1) مسلم، الصحيح، كتاب القدر، باب الأمر بالقوة، ح رقم (4816).
(2) البخاري، الصحيح، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي، ح رقم (1).
(3) ابن حجر لعسقلاني، أحمد، فتح الباري بشرح صحيح البخاري، تحقيق ابن باز، دار الفكر، بيروت، ط1،
1414هـ-19935م، جـ1، ص21.
(4) البخاري، الصحيح، كتاب الجنائز، باب رثاء النبي سعد بن خوله، ح رقم (1213) .
(5) المصدر السابق، كتاب الرقاق ، باب من هَمَّ بحسنة، ح رقم (6010)
(6) مسلم، الصحيح، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل بلال، ح رقم (4497).
" لا ينفعه"(1)، وحديث أبي برزة رضي الله عنه قال، قلت: يا رسول الله: دلّني على عمل
أنتفع به، قال: (نحِّ الأذى عن طريق المسلمين ) (2). وكما يلحظ فهذه التعبيرات تضمنت لفظ " المنفعة" تحديداً وبعض مشتقاته (ينفع، أنتفع).(14/24)
... ومن أمثلة التعبيرات الثانوية: لفظ " أجر" ، و "صدقة" ، و "حسنة، و "مغنم"
و "الخيْر" وغيرها، كما في قوله- صلى الله عليه وسلم - : ( الخيل معقود في نواصيها الخير الأجر والمغنم إلى يوم القيامة) (3)، وقوله - صلى الله عليه وسلم - (وأمر بمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة...) (4)، وقوله - صلى الله عليه وسلم - (أن الله كتب الحسنات) (5).
... أما بالنسْبة للصيغ التي وردت بها المنفعة وتعبيراتها المختلفة، فيمكن تصنيفها إلى قوائم متقابلة، بحيث تشمل الآتي:
- صيغ مفردة ومركبّة، فبعض المنافع وردت في السنة مفردة، وبعضها وردت مركبة من عدد من المنافع، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -– في المفردة- (الصلاة نور) (6)، وقوله - صلى الله عليه وسلم - ( وكل تكبيرة صدقة) (7). وفي المركبّة، قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مره كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يُمسي، ولم يأتِ أحدٌ بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر منه) (8).(14/25)
- وصيغ محددة مقابل صيغ جامعة، فالمحددة كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: (من قال سبحان الله العظيم وبحمده، غرست له نخلة في الجنة) (9)، والجامعة كما في قوله- صلى الله عليه وسلم -: (من صلى البَرْدَين (العصر والفجر) دخل الجنة) (10).
- وصيغ قاصرة (غير متعدية) مقابل صيغ متعدّية، فالقاصر، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( من بنى
ــــــــــــــــــــــ
(1) المصدر السابق، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على الكفر لا ينفعه عمل، ح رقم (315).
(2) أحمد، المسند، ح رقم (18955).
(3) البخاري، الصحيح، كتاب الجهاد، باب الخيل معقود في نواصيها الخير، ح رقم (2638).
(4) مسلم، الصحيح، كتاب صلاة المسافرين، باب استحباب صلاة الضحى، ح رقم (1181).
(5) المصدر السابق، كتاب الرقاق، باب من هَمَّ بحسنة ، ح رقم (6010).
(6) المصدر السابق، كتاب الطهارة، باب فضل الوضوء، ح رقم (328).
(7) المصدر السابق، كتاب صلاة المسافرين، باب استحباب صلاة الضحى، ح رقم (1181).
(8) البخاري، الصحيح، كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس، ح رقم (3050).
(9) الترمذي، السنن، كتاب الدعوات باب ما جاء في فضل التسبيح، ح رقم (3386).(14/26)
(10) البخاري، الصحيح، كتاب مواقيت الصلاة، باب فضل صلاة الفجر، ح رقم (540).
مسجداً لله بنى الله له في الجنة مثله) (1)، والمتعدية ، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - ( ما من ميت تصلي عليه أمّة من المسلمين يبلغون مائه – كلهم يشفعون له- إلا شفعوا فيه) (2).
ثالثاًً: تقسيمات المنفعة
بالنظر لما ورد في السنة النبوية من أحاديث تتعلق بالمنفعة، فإنه يمكن تقسيمها إلى عدة تقسيمات وذلك باعتبارات مختلفة لتشمل المجموعات الآتية:
التقسيم الأول: المنفعة العاجلة والمنفعة الآجلة؛ ويقصد بالمنفعة العاجلة التي تقع –زماناً- في حدود الدنيا، ومن أمثلتها، قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( يعمل(المسلم) بيده فينفع نفسه) (3). وقوله - صلى الله عليه وسلم - : (اللهم أعطِ منفقاً خلفاً) (4)، وأما المنفعة الآجلة التي تقع خارج حدود الزمان الدنيوي، أي في الحياة الآخرى، كما في قوله- صلى الله عليه وسلم - :( من جهّز جيش العُسْرة فله(14/27)
الجنّة) (5)، ويشمل ذلك كل الأحاديث التي تتضمن منفعة " كتابة الحسنات". ومن الأمثلة الجامعة للمنفعتين (العاملة والآجلة)، قوله - صلى الله عليه وسلم - في المجاهد: (أو يرجعه سالما مع أجْرٍ أ و غنيمةٍ) (6).
- التقسيم الثاني : المنفعة الظاهرة (المادية) والمنفعة الباطنة (المعنوية)،ومثال الظاهرة (المادية)، قوله - صلى الله عليه وسلم -، حينما وجد شاةً ميتة: (هلاّ انتفعتم بجلدها) (7)، وقول - صلى الله عليه وسلم - حينما سأله أصحابه عن رَعْيه الأغنام، قال: (نعم كنت أرعاها على قراريط (قليل من المال)
لأهل مكة) (8)، ومثال الباطنة (المعنوية)، قوله - صلى الله عليه وسلم - : (ذاق طعم الإيمان: من رضي بالله ربّاً، وبالإسلام ديناً، وبمحمدّ رسولاً) (9)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (للصائم فرحتان يفرحهما؛ إذا أفطر فرح، وإذا لقي ربّه فرح بصومه) (10).
ــــــــــــــــــــــ
(1) مسلم، الصحيح، كتاب المساجد، باب فضل بناء المساجد، ح رقم (728).
(2) المصدر السابق، كتاب الجنائز، باب من صلىّ عليه مائه، ح رقم (1576).
(3) البخاري، الصحيح، كتاب الزكاة، باب على كل مسلم صدقة، ح رقم (1353).(14/28)
(4) المصدر السابق، كتاب الزكاة، باب قول الله فأما من أعطى واتقى، ح رقم (1351).
(5) المصدر السابق ، كتاب الوصايا، باب إذا وقف أرضا أو بئرا.
(6) المصدر السابق، كتاب الإيمان، باب الجهاد من الإيمان، ح رقم (35).
(7) المصدر السابق، كتاب الزكاة، باب للصدقة على موالي أزواج النبي، ح رقم (1397).
(8) المصدر السابق، كتاب الإجارة، باب رعي الغنم على قراريط، ح رقم (2102).
(9) مسلم ، الصحيح، كتاب الإيمان، باب الدليل على أنّ مَنْ رضي بالله ربَّا ...، ح رقم (49)
(10) البخاري، الصحيح، كتاب الصوم، باب هل يقول إني صائم ، ح رقم (1771).
ومن الأمثلة الجامعة للمنفعتين معاً، قوله ( إذا أحبّ أحدكم أخاه في الله، فليبين له، فإنه خير في الإلفة، وأبقى في المودّة ) (1).(14/29)
التقسيم الثالث : المنفعة الإيجابية (تحصيل مرغوب به) والمنفعة السلبية (إزالة غير مرغوب به)، فالمنفعة الإيجابية تشمل تحصيل كل مرغوب ومحبوب ومطلوب للنفس كما في أمثلة التقسيمين المتقدمين، كدخول الجنة، والمال، وحلاوة الإيمان وغيرها كثير، وأما المنفعة السلبية، فيقصد بها إزالة الأذى ودفع الضر وكل ما هو غير مرغوب عند النفس الإنسانية، وهذا القسم من المنفعة معتبر شرعاً، وقد جاءت به السنة في مواضع كثيرة، كتلك الأحاديث التي تضمنت مغفرة الذنوب ( فالذنوب أذى، والنفس تطلب إزالته)، كما في قول - صلى الله عليه وسلم - ( من قال سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة، حطّت عنه خطاياه، وإن كانت مثل زبد البحر) (2).
ومن الأمثلة الجامعة للمنفعتيْن ( تحصيل مرغوب ودفع غير مرغوب) ، قوله - صلى الله عليه وسلم - : (ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات، ...، قال : إسباغ الوضوء على المكارة...) (3).(14/30)
... ويمكن أن نجد في حديث الاستخارة (سلوك استخارة العبد لربه تعالى في أمر ما)، إشارة إلى ما ينتظم المنافع المذكورة في التقسيمات المتقدمة، وذلك في قوله - صلى الله عليه وسلم - في دعاء المستخير : (اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة
أمرى...) (4). فهي منافع جامعة وممكنة متوزعة على كل التقسيمات السابقة .
رابعاًً: مصادر المنفعة
... بحسب التصوّر الذي تقدّمه السنة النبوية، فإنه يمكن تقسيم المصادر المقررة للمنافع والمزودة بها إلى مصدرين رئيسيين، هما:
الأول: المصدر الرباني، فالله تعالى هو الربّ المالك لكل شيء، وهو المصدر لكل منفعة تصل إلى الخلق، سواء بطريق مباشر أم بطريق غير مباشر، وعليه فالمصدر الثاني يعدّ تبعاً للمصدر الأول. قال تعالى ? وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ?[النحل: 53].
ــــــــــــــــــــــ
(1) الألباني، السلسلة الصحيحة، ح رقم (16).
(2) البخاري، الصحيح، كتاب الدعوات، باب فضل التسْبيح، ح رقم (5926).
(3) مسلم، الصحيح، كتاب الطهارة، باب فضل إسباغ الوضوء، ح رقم (369).
(4) البخاري، الصحيح، كتاب الدعوات، باب الدعاء عند الاستخارة، ح رقم (5903).(14/31)
وقد أشارت السنة النبوية إلى المصدر الرباني للمنفعة، وخاصة فيما يتعلق بالمنافع الأخروية، كما في قوله- صلى الله عليه وسلم - ( انتدب(تكفّل) الله عز وجل لمن خرج في سبيله أن أرجعه بما نال من أجرٍ أو غنيمةٍ أو أدخلَه الجنّة) (1). وقوله - صلى الله عليه وسلم - مقارناً عملنا وأجرنا بعمل أهل الكتاب: (ثمّ أوتينا القرآن فعملنا إلى غروب الشمس فأعطينا قيراطين قيراطين، فقال أهل الكتابيْن: أي ربنا أعطيت هؤلاء قيراطين قيراطين، وأعطيتنا قيراطا قيراطا...، قال: فهو فضلي أوتيه من أشاء) (2).
الثاني: المصدر البشري والكوني، وهو يتعلق بكل ما يمكن أن يقدّمه الإنسان أو الكون بمختلف مرافقه، وهو مصدر يرجع في أصله إلى المصدر الأول.
ومن أمثلة ذلك، ما جاء في السنة من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجم وأعطى الحجّام أجره(3)، فهذا مصدر بشري. وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( المسلمون شركاء في ثلاث : الماء والكلا والنار...) (4)، فهذا مصدر طبيعي.
خامساًً: قِيَمِيّة المنفعة(14/32)
... تنظر السنة النبوية إلى المنفعة على أنها قيمة من قيم الإسلام والحياة، لا بدّ أن تُصان وأن تحترم، وأنْ توضع في مكانها الصحيح في سلّم القيم، خاصّة إذا ما وقع تعارض أو تنافس بين أشكال المنفعة بحيث يطبق عليها المنظور الإيماني الشمولي.
ويمكن أن تظهر قِيَمية المنفعة ومراعاتها في السنة النبوية من خلال الجوانب الآتية:
- الوعد بإنجاز المنفعة، فقد أكدت السنة أن المنفعة التي وعد عليها الشارع إزاء سلوك معين، لا بد من إنجازها وحصول من يُحقق مطالبها عليها، وذلك كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - : (مَنْ وعده الله على عملٍ ثواباً، فهو منجزه له) (5)، وكما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: ( وتوكّل الله للمجاهد في سبيله بإن يتوّفاه أن يدخله الجنة، أو يرجعه سالماً مع أجرٍ أو غنيمةٍ) (6)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (أعطوا الأجير أجره) (7). فهى دعوة أيضاً لوجوب الوفاء بالمنفعة المادية وإنجازها.
ــــــــــــــــــــــ
(1) المصدر السابق، كتاب الإيمان، باب الجهاد ومن الإيمان، ح رقم (35).
(2) المصدر السابق، كتاب الإجارة، باب الإجارة إلى نصف النهار، ح رقم (2107) .(14/33)
(3) المصدر السابق، كتاب الإجارة ، باب خراج الحجّام، ح رقم (2117).
(4) أحمد، المسند ، ح رقم (22004).
(5) الألباني، السلسلة الصحيحة، ح رقم (1409).
(6) البخاري، الصحيح، كتاب التوحيد، باب قوله تعالى ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين، ح رقم (6903).
(7) ابن ماجه، السنن، كتاب الأحكام، باب أجر الأجراء، ح رقم (2434).
- حماية المنفعة، حيث دعت السنة النبوية إلى ضرورة حماية المنافع –خاصة المادية- التي يستحقها الناس وصيانتها واعتبارها بمثابة الأمانة والوديعة التي يُسْأل عنها صاحبها. ونلمس هذا التوجه القِيمي الوقائي، في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ( ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة... ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره) (1). وهو نصٌ يحمل في طياته أقصى درجات الضمان لأن تصل المنفعة إلى مستحقيها.(14/34)
- المنفعة الإيمانية مقدمة على المنفعة المادية، وهذا التقديم هو الأصل في حال تعارضهما، وإلا فإن السنة النبوية تقرّ المنفعتين وتدعو للأخذ بهما، لكن هذا استثناء يشير إلى قيمية المنفعة من المنظور النبوي، وأنه لا يجوز أن يضحى بالمنافع العليا على حساب المنافع الدنيا. ويظهر هذا جلياً كما في قول أحد الصحابة: (نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أمرٍ كان لنا نافعاً، وطواعية الله ورسوله أنفع لنا، نهانا أن نحاقل(2) بالأرض فنكريها على الثلث والربع والطعام المسمّى، وأمر ربّ الأرض أن يزرعها) (3)، وعن ابن عبّاس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: لم ينه عن الكِراءَ(4) ولكن قال :( أن يمنح أحدكم أخاه خير له من أن يأخذ عليه خرْجاً معلوما) (5).
المبحث الثالث: محدّدات المنفعة
تنطوي السنّة النبوية على رؤية واقعية، ومتماسكة الجوانب، فيما يتعلق بموضوع المنفعة، ومن مرتكزات هذه الرؤية الدليل إلى " محددات المنفعة".
والمقصود بمحددات المنفعة: العوامل المعتبرة -من وجهة نظر السنة- ذات الأثر في المنفعة، من حيث تحديد جنسها أو مستواها أو مداها أو قَدْرها أو غير ذلك من متعلقات أوصافها.(14/35)
وبعد النظر والتأمل في السنة النبوية، يمكن تعيين "محددات المنفعة" وتصنيفها لتنتظم الآتي:
ــــــــــــــــــــــ
(1) البخاري، الصحيح، كتاب البيوع، باب إثم من باع حرّاً، ح رقم (2434).
(2) المحاقلة: بيع الطعام في سنبله بالقمح.
(3) مسلم، الصحيح، كتاب البيوع، باب كراء الأرض، ح رقم (2885).
(4) الكراء: التأجير.
(5) البخاري، الصحيح، كتاب المزارعة، باب إذا لم يشترط في المزارعة، ح رقم (2162).
أولاً: صِحّة المعتقد، وهذا محدد أساسي وأوَّلي بالنسْبة للمنفعة. فمن وجهة نظر السنّة النبوية لا يستقيم اجتماع المنفعة – وتعييناً المنفعة الأخروية- وانحراف المعتقد، إذ لا بد للسالك(الشخص) حتى يحصّل المنفعة مقابل ما يقدمه من سلوك أن يَكون معتقده معتقداً إسلامياً سليماً.(14/36)
... وقد جاءت أسس هذا المحدد للمنفعة واضحة في السنّة النبوية، كما في حديث البراء رضي الله عنه قال: أتى النبيَّ رجلٌ مُقَنَّعٌ بالحديد، فقال: يا رسول الله أُقاتِل وأسْلمُ، قال أسِلم ثمّ قاتِل، فأسلم ثم قاتل فقتل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: عَمِلَ قليلاً وأُجِرَ كثيراً" (1). فهذا نص واضح في اشتراط صحة المعتقد أولاً وقبل السلوك المرجو نفعه وثوابه، وقد ظفر " صاحب السلوك" فعلاً بذلك، في حين أن هناك نصاَ آخر يقدّم الوجه الآخر، حيث فلتت فيه المنفعة من بين يدي صاحب السلوك لتخلف شرط العقيدة، فعن عبد الله بن عمرو، قال: إن العاص بن وائل نذر في الجاهلية أن ينحر مئة بدنة وإن هشام بن العاص نحر حصته خمسين بدنة، وإن عَمْراً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك؟ فقال: "أمّا أبوك، فلو كان أقَرّ بالتوحيد، فصمت وتصدّقت عنه؛ نَفَعَهُ ذلك" (2). وعن عائشة رضي الله عنها: قالت قلت يا رسول الله، ابنُ جُدعان، كان في الجاهلية يصل الرحم، ويطعم المسكين، فهل ذاك نافعه، قال: (لا ينفعه، إنه لم يقل يوما: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين) (3).(14/37)
... وقد نبّهت السنّة جميع السالكين إلى ضرورة استكمال شرط صحّة المعتقد لأجل وقوع المنفعة، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - (خمس من جاء بهنّ مع إيمان دخل الجنة: من حافظ على الصلوات الخمس...) (4). كما جاءت مراعاتها لهذه الشرط وتطبيقاته في عديد من الأحاديث النبوية التي تتضمن سلوكاتٍ مختلفة دعا إليها الشارع ورتّب عليها المنافع، من ذلك: قوله - صلى الله عليه وسلم -: ( انتدب الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا إيمانٌ بي وتصديق برسلي أن أرجعه بما نال من أجر أو غنيمة أو أدخله الجنة) (5)، وقوله : ( من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) (6).
ــــــــــــــــــــــ
(1) البخاري، الصحيح، كتاب الجهاد، باب عمل صالح قبل القتال، ح رقم (2597).
(2) أحمد، المسند، ح رقم (6417). وصححه الألباني في السلسلة ح رقم (694).
(3) مسلم ، الصحيح، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن مَنْ مات على الكفر لا ينفعه عمل، ح رقم (315).
(4) أبو داود، السنن، كتاب الصلاة، باب في المحافظة على وقت الصلوات ، ح رقم (365)، وصححه
الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، جـ1، ح رقم (362).(14/38)
(5) البخاري، الصحيح، كتاب الإيمان، باب الجهاد من الإيمان، ح رقم (35).
(6) المصدر السابق، كتاب صلاة التراويح، باب فضل من قام رمضان، ح رقم (1870).
... وممّا يتضمنّه صحة المعتقد ،باعتباره محدداً من محددات المنفعة، التصديق بموعود المنفعة المترتبة على السلوك، فلا بد من أن يصدق ويوقن صاحب السلوك بأن ما وعَدَه الله تعالى عليه من منافع معينة جرّاء قيامه بسلوكات معينة كذلك، هو أمر متحقق ونافذ بإذن الله تعالى. وهذا فيه مراعاة للجانب النفسي للشخصية التي ينبعث منها السلوك. وقد جاء هذا التحديد في السنة النبوية في أحاديث عديدة، منها: قوله - صلى الله عليه وسلم -: ( أربعون خَصْلَةً أعلاهُنَّ مَنيحَةٌ العنز، ما من عامل يعمل بخَصْلةٍ منها رجاءَ ثوابها وتصديق موعودها إلا أدخله الله بها
الجنة) (1).
ثانياً: السّلوك السّوي المقبول (إخلاص القصد وموافقة الشرع)(14/39)
من محددات المنفعة التي أَكَّدتها السنة النبوية، إخلاص القصد ؛ بمعنى: حتى ينال صاحبُ السلوك المنفعة المترتبة (تحديداً الأُخْروية) على قيامه بالسلوك لا بد من أن يخلص نيته لله تعالى، فيقصد مرضاته سبحانه ورجاء ثوابه وإلا فَقدَ السلوك تلك المنفعة المقررة له .
والأصل العام المقرر لهذا المحدد، قوله - صلى الله عليه وسلم -:( أنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىءٍ ما نوى) (2)، فقوله (وإنما لكل امرىءٍ ما نوى) "فيه تحقيق لاشتراط النية والإخلاص في الأعمال" (3)،كما أفاد مقتضاه " أن من نوى شيئاً يحصل له ...، وكل ما لم ينوه لم يحصل
له"(4) .
وقد جاء مطلب هذا المحدد في مواطن عديدة تضمنت تقديم منافع مشروطة بإخلاص القصد في أداء السلوك، كما في قوله- صلى الله عليه وسلم - : ( إذا أنفق الرجلُ على أهِلِه نفقةً يحتسبها فهو له صدقه) (5)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (من بنة مسجداً يبتغي بِهِ وَجْهَ الله بنى الله له مِثْلَهُ في الجنّة) (6).(14/40)
ويظهر تطبيق هذا الشرط في السنة النبوية في مواضع منها، أشارت إلى إثبات المنافع أو نفيها أو اختلافها مقابل أداء السلوك ذاته من فئة إلى أخرى، تبعاً لاختلاف القصد عند تلك الفئات التي قامت بأداء السلوك الموّحد. وذلك كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( فمن كانت هجرته
ــــــــــــــــــــــ
(1) المصدر السابق، كتاب الهبة، باب فضل المنيحة ، ح رقم (2438).
(2) المصدر السابق، كتاب بدء الوحي، ح رقم (1).
(3) ابن حجر، فتح الباري، حـ1، ص21.
(4) المصدر السابق نفسه.
(5) البخاري، الصحيح، كتاب الإيمان، باب ما جاء إن الأعمال بالنية ، ح رقم (53).
(6) المصدر السابق، كتاب الصلاة، باب من بنى مسجداً، ح رقم (431).
إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يُصيبها أو امرأةٍ يَنْكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه) (1)، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : (الخَيْل لرجل أجْرٌ...، وعلى رجل وِزْرٌ، فأمّا الذي له أجْرُ: فرجل ربطها في سبيل الله...، ورجل ربطها فخراً ورياءً ونِواءً لأهل الإسلام فهي على ذلك وِزْرٌ) (2).(14/41)
هذا فيما يتعلق بإِخْلاص القصد، وأمّا الجزْء الذي يتكامل معه، فهو موافقة الشرع (السلوك السوي)، فالسنة تشترط لحصول المنفعة الأخروية أو لإقرار شرعية المنفعة الدنيوية أن يكون السلوك المقابل لها موافقاً للشريعة؛ لا يتعارض مع أصولها ولا مع مقاصدها. ويظهر ذلك جليَّا في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - :( من تصدّق بِعَدْلِ تمْرَةٍ من كسْبٍ طيّب، ولا يقبل الله إلا الطيب، فإن الله يتقبلها بيمينه، ثمّ يربِّيها لصاحبها كما يربي أحدُكم فَلُّوَهُ (3)، حتى تكون مثل الجبل) (4)، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : (وفي بضع أحدكم صدقةٌ. قالوا: أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجٌر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام، أكان عليه فيها وزرٌ؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال ؛ كان له أجر) (5).
... وبذلك تظهر العلاقة الارتباطية (الشرطية) في السنة النبوية بين المنفعة من جهة و السلوك السوي المقبول من جهة أخرى.
ثالثاً: إتقان السّلوك
من محددات المنفعة ذات العلاقة الأدائية (الهندسية) بالسلوك في السنّة، ضرورة القيام بأداء السلوك ضمن المواصفات والقياسات المبيّنة له في السياقات التي تعرض إلى معادلة المنفعة في مقابل السلوك.(14/42)
وهذا جانب مهم، يبين نظرة السنة الجمالية المبنية على تحرّي الدّقة، وبذل أقصى الجهد، والإنتاج السليم، ومراعاة الحقوق، والضبط التطبيقي، تحقيقاً لمفهومي الإتقان والإحْسان،اللّذيْن يفرضان حسن الأداء والارتقاء في الفعل المادي الدنيوي وفي الفعل الشرعي الأخروي على حدٍّ سواء، كما ننظُر ذلك بجلاء في قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله يحب أحدكم إذا عمل
ــــــــــــــــــــــ
(1) المصدر السابق، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي، ، ح رقم (1).
(2) المصدر السابق، كتاب المساقاة، باب شرب الناس والدواب من الأنهار، ح رقم (2198).
(3) الفُلو: المهْر
(4) البخاري، الصحيح، كتاب الزكاة، باب الصدقة من كسب طيب ، ح رقم (1321)
(5) مسلم، الصحيح، كتاب الزكاة، باب بيان أن أسم الصدقة ...، ح رقم (1674).
عملاً أن يتقنه) (1)، وفي قوله - صلى الله عليه وسلم - في مراتب الإسلام والإيمان والإحسان:(الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) (2)،وفي قوله - صلى الله عليه وسلم - لأصاحبه: (بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا...، فمن وفّى منكم فأجره على الله) (3).(14/43)
... وبتتبع علاقة المنفعة بالإتقان باعتباره محدداً لها في السنة النبوية، يظهر ذلك مطلباً جليا في تطبيقات عدّة تضمنتها الأحاديث النبوية، كما في قوله- صلى الله عليه وسلم -: (لا يتوضَّأ رجل فيحسن وُضُوءه ويصلِّي الصلاة إلا غفر له ما بينه وبيْن الصلاة حتى يصلِّيها) (4)، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : (خمس صلوات افترضهن الله، من أحسن وضوءهنّ وصلاتهن لِوقتهن وأتمَّ ركوعهنّ، وسجودهنّ وخشوعهنّ، كان له على الله عهدٌ أن يغفر له) (5).
... وهذا المحدد من شأنه أن يصحح النظرة إلى المنفعة المترتبة على السلوك، وأنها لا تتعلق بمجرّد الأداء، ولو كان الفعل تعبديا، بل لا بد من القيام بمطالب المنفعة وشروطها والتي منها تحقيق مواصفات السلوك. وهو جانب يُعني بالأبعاد والأهداف المهارية التي تراعيها التربية الإسلامية.
رابعاً: الفروق الفردية(14/44)
منظور السنة النبوية للسلوك والمنفعة المترتبة عليه، منظورٌ إنساني؛ يتعامل مع الطبيعة الإنسانية بكل مكوناتها وجدلياتها وسماتها وتغيراتها، ولذلك يراعي جميع العوامل الفطرية والمكتسبة التي تؤثر في طبيعة الأداء والفعل الإنساني ومستوياته. وهذا يدل على مراعاة السنة النبوية لمبدأ الفروق الفَرْدية واعتبارها له في الميدانيْن النظري والتطبيقي.
وفي ميدان المنفعة والسلوك في السنة النبوية، تعمل الفروق الفردية كعامل بارز في تحديد مقدار المنفعة ومستواها ونوعها، مراعية بذلك جميع أشكال الفروق الفردية ذات الأثر في الأداء الإنْساني ومعطياته.
ــــــــــــــــــــــ
(1) الألباني، السلسلة الصحيحة، ح رقم (103)، وفي صحيح الجامع ح رقم (1880)
(2) البخاري، الصحيح، كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل، ح رقم (48).
(3) المصدر السابق، كتاب الإيمان، باب علاقة الإيمان، ح رقم (17).
(4) مسلم، الصحيح، كتاب الطهارة، باب فضل الوضوء، ح رقم (334).
(5) الألباني، صحيح الترغيب والترهيب، ح رقم (363).(14/45)
فيظهر في السنة أثر الفروق الفردية السّلوكية (مرحلة الأداء السلوكي) في المنفعة كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - : (من اتّبع جنازة مسلم إيماناً واحتساباً وكان معه حتى يُصَلِّيَ عليها ويفرغ من دفنها فإنه يرجع من الأجر بقيراطين كلُّ قيراط مِثلُ أحد، ومن صَلّى عليها ثمَّ رجع قبل أن تدفن فإنه يرجع بقيراط) (1)، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : (من اغْتسل يوم الجمعة غُسْلَ ثمّ راح فكأنّما قرّب بَدَنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنّما قرّب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنّما قرّب كبْشاً أقْرَن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنّما قرّب دجاجة) (2). فكما يلحظ اختلفت المنفعة وتفاوت مقدارها ونوعها باختلاف مرحلة الأداء السلوكي؛ أي الفروق الفردية في مستويات أداء السلوك الواحد.(14/46)
... كما يظهر في السنة أثر الفروق الفردية الدينية في المنفعة كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: (ثلاثة لهم أجران: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيِّهِ وآمن بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، والعبد المملوك إذا أدّى حقّ الله تعالى وحقّ مواليه، ورجل كانت عنده أمةٌ يطؤُها فأدبّها فأحسن تأديبها وعلمها فأحسن تعليمها ثم أعتقها فتزوجّها فله أجْران) (3)، وأثر الفروق الفردية الاقتصادية والاجتماعية، كما في قوله- صلى الله عليه وسلم - : (أفضل الصدقة- أو خير الصدقة- عن ظهر غنِىً) (4)، وأثر الفروق الفردية العلمية (نوع السلوك)، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - حينما ذُكِر له رجلان: أحدهما عابد، والآخر عالم، فقال: (فضلُ العالم على العابد، كفضلي على أدناكم) (5)، وأثر الفروق الفردية المهارية، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - (الماهر بالقرآن مع السَّفَرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه، وهو عليه شاق، له أجران) (6)، وأثر الفروق الفردية العقلية، كما في قوله- صلى الله عليه وسلم - :( إذا حكم الحاكم فاجتهد ثمّ أصاب فله أجْران، وإذا حكم فاجتهد ثمّ أخْطأ فله أجر) (7).(14/47)
فهذه الجملة من الأحاديث تؤكّد واقعيّة السنة النبوية وإنسانيتها في تقدير المنفعة، وتظهر عمل الفروق الفردية كمحدد واضح ومعتبر في تفاوت مستويات المنفعة تبعا لاختلاف تلك الفروق الفردية بأشكالها المتنوعة
ــــــــــــــــــــــ
(1) البخاري، الصحيح، كتاب الإيمان، باب اتباع الجنائز، ح رقم (45).
(2) المصدر السابق، كتاب الجمعة، باب فضل الجمعة، ح رقم (832).
(3) المصدر السابق، كتاب العلم، باب تعليم الرجل أمَتَه، ح رقم (95).
(4) مسلم، الصحيح، كتاب الزكاة، باب بيان أن اليد العليا خير، ح رقم (1716).
(5) الترمذي، السنن، كتاب العلم، باب ما جاء في فضل الفقه، ح رقم (2609)، وصححه الألباني في صحيح
الترغيب والترهيب، جـ1، ح رقم (77).
(6) مسلم ، الصحيح، كتاب صلاة المسافرين، باب فضل الماهر في القرآن، ح رقم (1329).
(7) المصدر السابق، كتاب الأقضية، باب بيان أجر الحاكم، ح رقم (3240).
خامساً: البيئة
يقصد بالبيئة في هذا الموضع، جميع الظروف الزمانية والمكانية والاجتماعية والشخصية التي يمكن أن يكون لها أثر في تقدير المنفعة.(14/48)
وبعد تتبع ونظر في السنة النبوية، تبين أنها تراعي عامل البيئة – كما راعت العوامل السابقة- باعتباره محدداً للمنفعة المترتبة على السلوك.
وقد يكون محدد البيئة مكانياً اجتماعيا، كما في ظروف أداء الصلاة وبيئتها، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذّ بسبعٍ وعشرين درجة) (1).
وقد يكون اجتماعياً، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - حينما سألته امرأة: أيجزئ عَنيِّ أن أنفق على زوجي وأيتام لي في حَجْري، فقال: (نعم لها أجران: أجْر القرابة وأجر الصدقة) (2)، وقد يكون (محدِّد البيئة) اجتماعياً نفسياً، كما في قوله: (إني أعطي قريشا أتألّفهم) (3)، وقد يكون عسكرياً نفسياً، كما في قول لأصاحبه في ليلة الأحزاب وظرفها القاسي: (ألا رجلٌ يأتيني بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة) (4)، وقد يكون محدد البيئة زمانياً، كما في قوله لامرأة من الأنصار:( فإذا جاء رمضان فاعتمري، فإن عمرةً فيه تَعدِل حجّة) (5).
وبذلك يظهر كيف يُؤثر مناخ السلوك وظروف أدائه في تقرير مستوى المنفعة ونوعها، ومراعاة المنظور النبوي لذلك، بما يؤكّد موقع البيئة كمحدد للمنفعة المترتبة على السلوك.(14/49)
سادساً: الفَضْل الربّاني(6):
... في البحث المعمّق لمحددات المنفعة المترتبة على السلوك في السنة النبوية، يمكن استظهار محدد " متميز" له أثره الواضح في تقرير نوع المنفعة ومقدارها، والذي بالاستطاعة
ــــــــــــــــــــــ
(1) البخاري، الصحيح، كتاب الأذان، باب فضل صلاة الجماعة، ح رقم (609).
(2) المصدر السابق، كتاب الزكاة، باب الزكاة على الزوج، ح رقم (1373).
(3) المصدر السابق، كتاب فرض الخمس، باب ما كان النبي يعطي المؤلفة قلوبهم، ح رقم (2913).
(4) مسلم، الصحيح، كتاب الجهاد، باب غزوة الأحزاب، ح رقم (3343).
(5) المصدر السابق، كتاب الحج، باب فضل العمرة، ح رقم (2201).
(6) هذا المحدد وإن كان يستحق الأولوية والتقديم، إلا أن الباحث اختاره هنا لسببين الأول: لتقرير حقيقة أن
المنظور الإسلامي –ومنه السنة- للمنفعة أنها لا بد أن تكون مقابل جهد وعمل وعطاء، وفقاً لدعاوى
الاسترخاء...، والثاني: لجعله محدداً خاتماً يحيط بكل المحددات السابقة، ويذكّر بأنها جزء من حقيقته،
وهو يقوم على حقيقة أن المنعم الحقيقي على العباد هو الله تعالى.
تسْميته بـ "فضل الله تعالى أو " الفضل الربّاني"(14/50)
... وهذا المحدد لا ينفي النظرة الإسلامية عن كون كل محددات المنفعة التي تؤثر في حصولها إيجابيا هي في الحقيقة من فضل الله تعالى، ولكن بالإمكان تخصيصه باعتبار أنه عامل مؤثرة في زيادة قيمة المنفعة رغم ثبات مستوى السلوك وتعادله الأدائي، ويظهر ذلك جليّا في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إنما أجَلكم في أجَل من خلا من الأمم، كما بين صلاة العصر ومغرب الشمس، ومثلكم ومثل اليهود والنصارى، كمثل رجل استعمل عمالاً، فقال: من يعمل لي إلى نصف النهار على قيراط قيراط؟ فعملت اليهود، فقال : من يعمل لي من نصف النهار إلى العصر؟ فعملت النصارى. ثم أنتم تعلمون من العصر إلى المغرب بقيراطين قيراطين، قالوا: نحن أكثر عملاً وأقلّ عطاء، قال: هل ظلمتكم من حقكم؟ فقالوا: لا، قال: فذاك فضلي أوتِيه من شئت) (1).
... ويعلق ابن حجر على قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الرجل الذي أسلم فقاتل فقتل: (عَملَ قليلاً وأُجِرَ كثيراً)، بقوله : " وفي هذا الحديث أن الأجر الكثير قد يحصل بالعمل اليسير فضلاً من الله وإحسانا" (2).
المبحث الرابع: العلاقة بين المنفعة والسّلوك في السنّة النبويّة.(14/51)
في هذا الجزء من الدراسة يتم تتبع رؤية السنة النبوية لطبيعة العلاقة بين المنفعة والسلوك وجوانبها المختلفة، وذلك من خلال القراءة المعمّقة للنصوص المتضمنة للتأشيرات والتقديمات الكاشفة عن تلك العلاقة، والتي تمكّن الباحث من تحديدها ضمن المحاور الآتية:
أولاً: المنفعة والأداء السلوكي ومستوياته:
من أصول العلاقة التي ترسيها السنة النبوية بين المنفعة والسلوك: أن المنفعة مقابل المجهود السلوكي؛ أي: الأصل أنَّ المنفعة لا تحصل إلا بأنْ يُبذَل مقابلها جهد معين يتمثل بأداء السلوك المتطلب إزاءها. فلا تحصل المنفعة بالمجّان أو بالأماني أو بالتكاسل والدعاوى، بل لا بد من خطوات إلى الإمام، وعطاء على أرض الواقع.
.
ــــــــــــــــــــــ
(1) البخاري، الصحيح، كتاب فضائل القرآن، باب فضل القرآن على سائر الكلام، ح رقم (5021).
(2) ابن حجر، فتح الباري، حـ6، ص 105.
وهذا الأصل في منظور السنّة النبوية إلى العلاقة بين المنفعة والسلوك، إنما يُعبّر عن واقعية السنّة وتعاملها الإيجابي مع الطبيعة الإنسانية من جهة، وطبيعة الحياة الدنيا والأخرى من جهة.(14/52)
ويظهر تقرير هذا الأصل في حديث ربيعة بن كعب الأَسْلَمي – رضي الله عنه- الذي يقول فيه: كنت أبيت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأتيته بوضوئه وحاجته، فقال لي )سَل)، فقلتُ: أسألك مرافقتك في الجنّة. قال: (أو غير ذلك؟)، قلت: هو ذاك. قال: (فأعنّي على نفسك بِكثرة السجود ) (2). فهذا الحديث يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طلب من ربيعة مقابل تحصيله تلك المنفعة التي سألها أن يبذل جهداً وأن يقدّم عملاً، ليقرر بذلك الأصل السلوكي مقابل الأصل المنفعي، وليرتقي بالمسلم من مرحلة التواكل أو التكاسل إلى مرحلة الجدّ والاجتهاد، ومن نظرة التراخي إلى نظرة الحزم والعمل.
وجانب آخر من هذه العلاقة تقرره السنة النبوية، يتمثل في أن السنة رغم إقرارها لأصل المنفعة مقابل السلوك، إلا إنها تقيّده أيضا بقيد أصيل يتمثل في أن المنفعة تكون مقابل السلوك السّوي(2).(14/53)
فالأصل في حصول المنفعة تقديم جهد (سلوك)، لكن ليس أيّ سلوك، بل يشترط فيه أيضا أن يكون سلوكاً سويّاً ( موافق لقواعد الشريعة)، ويظهر تقرير ذلك في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إنك لن تخلَّف فتعمل عملا صالحا إلا ازددت به درجةً ورفعة) (3)، فاشترط الصلاح (السّواء) في العمل (السلوك) ليحصل على المنفعة المقررة. ولذلك أسقطت السنة مشروعية تلك المنافع التي يتخلف فيها شرط السّواء في السلوك رغم بذل صاحبه للجهد وقيامه بالسلوك، كما في قول - صلى الله عليه وسلم -: (مهر البغيّ خبيث) (4).
ورغم إقْرار هذا الأصل في السنة النبوية؛ من أن تحصيل المنفعة لا بد أن يقابله بذل جهد وعطاء، إلا إنّ واقعيتها وأصولها الربانية، تفرض تحديدات استثنائية لهذا الأصل، تكشف عن جوانب مهمة في العلاقة بين المنفعة والسلوك - ترجع إلى فضل الله تعالى وإحسانه إلى عباده الصالحين ومراعاة مقاصدهم وإمكاناتهم الإنسانية المحدودة وما قد يصبهم من أقدار الله الكونية- والتي تتمثل فيما يمكن أن يوصف بالعلاقة بين المنفعة ومستويات السلوك، والتي
ــــــــــــــــــــــ
(1) مسلم، الصحيح، كتاب الصلاة، باب فضل السجود، ح رقم (754).(14/54)
(2) يمكن مراجعة محددات المنفعة.
(3) البخاري، الصحيح، كتاب المغازي، باب حجة الوداع، ح رقم (4057).
(4) مسلم، الصحيح، كتاب المساقاة ، باب تحريم ثمن الكلب، ح رقم (2932).
يمكن رصدها وتصنيفها ضمن القائمة الآتية:
- العزم على السلوك (دون فعله).
- القدرة على السلوك (فعله) .
- الكفّ عن السلوك (مع القدرة).
- العجز عن السلوك (عدم القدرة).
... ... - التوقف عن السلوك(انقطاع مصدره).
... ... - السلوك غير المقصود.
وأمام هذه المكونات السلوكية المختلفة، يلحظ موقف السنة المتميز في تقديم المنفعة إزاء جميع مستوياتها للأسس المتقدمة الذكر ولكن ضمن شروط وحيثيات معينة تحيط بكل موقف تطبيقي على حِده، لكن الأصل هو اعتبار هذا المستوى من العلاقة في منظور السنة النبوية.(14/55)
... وقد تضمنت السنة النبوية، جملة من الأحاديث التي أشارت إلى تطبيقات هذا الجانب من العلاقة بين المنفعة ومستويات السلوك، وأقرّت حصول المنفعة فيْها؛ ففي مستوى العَزْم على السلوك، ورد قوله- صلى الله عليه وسلم - : (فمن هَمَّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة) (1)، وفي مستوى القدْرة على السلوك وفعله، ورد قوله - صلى الله عليه وسلم -: (وإن هَمّ بها (الحسنة: السلوك الحسن) فعملها كتبها الله عز وجل عنده عشر حسنات (2)، وفي مستوى الكفّ عن السلوك (غير السّوي)، ورد قوله - صلى الله عليه وسلم - : (وأن هَمَّ بسيئة (السلوك غير السوي) فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة) (3)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (وليمسك عن الشر فإنها صدقه) (4)، وفي مستوى العجز عن السلوك لعدم القدرة عليه، ورد قوله - صلى الله عليه وسلم - : (إذا مرض العبد كُتب له مثل ما كان يعمل مقيماً(14/56)
صحيحاً) (5)، وقوله - صلى الله عليه وسلم - في إحدى غزواته: (إنّ أقواماً بالمدينة خلفنا ما سلكنا شِعْباً ولا وادِياً إلا وَهُم معنا فيه(6) حبسهم العذر) (7)، وفي مستوى التوقف عن السلوك، أي: توقف صاحب السلوك عن الاستمرار في أداء السلوك ذاته، مع استمرار آثار السلوك وأصله ونوعه بسببه، ورد قوله - صلى الله عليه وسلم - : (إنّ مما يلحق المؤمن من عملِه وحسناته بعد موتِه علماً عَلَّمَه ونَشره...، أو ــــــــــــــــــــــ
(1) البخاري، الصحيح، كتاب الرقاق، من هَمَّ بحسنة، ح رقم (6010).
(2) المصدر السابق نفسه.
(3) المصدر السابق نفسه.
(4) المصدر السابق، كتاب الزكاة، باب على كل مسلك صدقه، ح رقم (1353).
(5) المصدر السابق، كتاب الجهاد، باب يكتب للمسافر، ح رقم (2774).
(6) أي: معهم في النية، ويشاركونهم في الأجر والثواب لصدق نيتهم في الخروج للجهاد لو استطاعوا.
(7) البخاري، الصحيح، كتاب الجهاد، باب من حبسه العذر، ح رقم (2627).(14/57)
مسجداً بناه ...، أو صدقة أخرجها من مالِه في صحته وحياته، تلحقه بعد موته) (1)، وفي مستوى السلوك غير المقصود واللاّإرادي، ورد قوله- صلى الله عليه وسلم - : (ما يُصيب المسلم من نصب...، ولا هم ولا حزن، ولا غَمّ ...، إلا كفّر الله بها من خطاياه) (2).
... فكما يلحظ من النصوص المتقدمة التي تحمل طرفي المعادلة: المنفعة والسلوك، فإنها قد تضمن دلالات على اعتبار المنفعة في حالات استثنائية من المستوى الأصل (أداء السلوك)، تصبّ في قناة " السلوك المتوقف"، ولكن ليس ذلك على إطلاقه ولا تعارضاً مع الأصل المقرر في ضرورة بذل الجهد لحصول النفع، بل يكون ابتداءً فضلاً من الله تعالى، ووفقاً لاعتبارات وشروط شرعية لا بدّ من توافرها كالنيّة، والسببيّة.
ثانياً: العلاقة "النوعية" و"الكمّية" بين المنفعة والسلوك(14/58)
بتتبع جوانب العلاقة بين المنفعة والسلوك في السنة النبوية، يلاحظ في جانب منها، أنّ المنفعة من جنس السلوك(نوعه)؛ وهذا ليس على إطلاقه ولكنه أمر ملاحظ وظاهر وجدير بالاهتمام، وهو يقع غالبا فيما يتعلق بالمنفعة الأخروية أو المعنوية المترتبة على السلوكات ذات الاتجاه الديني أو الدنيوي عموماً، أما فيما يتعلق بالمنافع المادية ذات المصادر البشرية فأمرها فيه سعة.
وبروز هذا الجانب من العلاقة بين المنفعة والسلوك ، والذي يتمثل في كون المنفعة من جنس السلوك أو من نوعه، يلاحظ في مواقع عديدة في السنة النبوية، منها، قوله - صلى الله عليه وسلم - :
( من بنى مسجداً يبتغي به وجه الله بنى الله له مثله في الجنة) (3)، وقوله - صلى الله عليه وسلم - :( ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرّج عن مسلم كُرْبةً فرّج الله عنه كُرْبةً من كُرَب يوم القيامة، ومن ستر مسلماَ سترَه الله يوم القيامة) (4)، وقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث القدسي، قال الله
عز وجل: (أَنْفِق أُنْفِق عليك) (5) ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : إن الرحم شجْنَهٌ من الرحمن، فقال الله:(14/59)
من وصَلَكِ وصَلْتُه) (6)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -:( من صَلَّىّ عَلَيِّ صلاةً صَلَىّ الله عليه ــــــــــــــــــــــ
(1) ابن ماجه، السنن، باب ثواب معلم الناس، ح رقم (238)، والألباني، صحيح الترغيب والترهيب، ح رقم
(73).
(2) البخاري، الصحيح، كتاب المرضى، باب ما جاء في كفارة المرضى، ح رقم (5210).
(3) المصدرالسابق، كتاب الصلاة، باب من بنى مسجداً، ح رقم (43).
(4) المصدر السابق، كتاب المظالم، باب لا يظلم المسلم المسلم، ح رقم (2212).
(5) المصدر السابق، كتاب التفسير، باب قوله تعالى وكان عرشه على الماء، ح رقم (4316).
(6) المصدر السابق، كتاب الأدب، باب من وصل وصله الله، ح رقم (5529).
بها عشرا) (1)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (ارحموا مَنْ في الأرض يرحمكم من في السماء) (2)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -:(خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره) (3).(14/60)
... فهذه جملة من الأحاديث تؤكد المقولة السابقة في توصيف جانب من العلاقة بين المنفعة والسلوك، والتي تشير إلى أن المنفعة تكون من جنس السلوك، وهذه فيه مزيد تكريم لصاحب السلوك وعناية بمواقفه الحسنة حيث جوزي بمنافع من جنس تلك التي قدّمها لغيره، ولكنها تكون أعلى مقاما وأجل عطاء وأسمى مصدراً .
وفيما يتعلق بالجانب الآخر من جوانب العلاقة بين المنفعة والسلوك، وتحديداً جانب العلاقة الكمّية بينهما، فما يظهر في السنة النبوية، أن طبيعة العلاقة الكمّية بين المنفعة الأخروية –تحديداً- والسلوك المادي أو الديني في الدنيا، تقوم على مبدأ المضاعفة لا المشاحّة الذي تقوم عليه العلاقة بين المنافع المادية البشرية والسلوك الإنساني المادي الدنيوي.
ويرجع مبدأ المضاعفة في العلاقة الكمية بين المنفعة والسلوك في السنة إلى فضل الله تعالى وإحسانه إلى عباده، وهو أصل ظاهر ومقرر في أحاديث كثيرة، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -:(وإن همّ بها (الحسَنة) فعملها كتبها الله عز وجل عنده عشرَ حسنات إلى سبعمائة ضِعْف إلى أضعافٍ كثيرة) (4)، وقوله- صلى الله عليه وسلم - في الرجل الذي أسلم ثمّ قاتل فقتل: ( عَمِلَ قليلاً وأُجِر(14/61)
كثيراً) (5)، وقوله - صلى الله عليه وسلم - للرجل الذي تصدّق بناقة مخطومة في سبيل الله: (لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة كلها مخطومة) (6)، وهذا حديث يعبر عن العلاقتين: علاقة المنفعة بجنس السلوك، والعلاقة الكمية بين المنفعة والسلوك، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (من قال سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، غرسَ الله بكل واحدة منهنّ شجرة في الجنة) (7)، ولهذه منافع كبيرة مقابل سلوك قولي يسير.
.
ــــــــــــــــــــــ
(1) مسلم، الصحيح، كتاب الصلاة، باب الصلاة على النبي، ح رقم (616).
(2) الترمذي، السنن، كتاب البر، باب ما جاء في رحمة الناس، ح رقم (1847)، والألباني، السلسلة
الصحيحة، ح رقم (117).
(3) المصدر السابق، باب ماجاء في حق الجوار، ح رقم (1867)، والألباني، السلسلة، ح رقم (333).
(4) مسلم، الصحيح ، كتاب الإيمان، باب إذا هَمَّ العبد بحسنة، ح رقم (187).
(5) البخاري، الصحيح، كتاب الجهاد، باب عمل صالح قبل القتال، ح رقم (2597).
(6) مسلم ، الصحيح، كتاب الإمارة ، باب فضل الصدقة، ح رقم (3508).
(7) والألباني، السلسلة الصحيحة، ح رقم (2971).(14/62)
ثالثاً: أثر المنفعة في تعديل السّلوك وإشاعته
جبلت النفس الإنسانية على حب الملذّات والمسرّات، وهو أمر يدفعها دائماً إلى الحرص على تحصيل كل الأسباب التي من شأنها توفير الملذات النفسية، وبذل كل جهد من شأنه أن يحقق متطلبات سعادتها النفسية.
وتؤكد " نظريات التعلّم إمكانية التحكم في عملية تطور الشخصية من خلال التحكم في الظروف والمؤثرات البيئية التي يتفاعل معها الفرد والتحكم بنواتج السلوك التعزيزية والعقابية"(1). وترى كذلك "أنه من الممكن تشكيل سلوك أيّ فرد وبالتالي التحكم في شخصيته من خلال المكافآت والنواتج العقابية"(2).
وتشكل المنفعة المترتبة على السلوك الإنساني أحد الأذرع الأساسية المتحكمة في عملية تعديل السلوك وإشاعته، وبالتالي تطوير الشخصية وتحسين أدائها وإشاعة كل أشكال السلوك السوي في المجتمعات والزيادة في مستواها وحضورها وآثارها.(14/63)
ويقصد بتعديل السلوك: "التغير المقصود والمرغوب فيه، المراد إحداثه في سلوك الفرد" (3) ويختلف هذا " التغير باختلاف الهدف من برنامج التعديل الذي يتم توظيفه؛ فقد يكون الهدف منه تشكيل سلوك أو عادة جديدة لدى الأفراد، أو أحداث محو في سلوك واستبداله بسلوك جديد، أو تطوير في سلوك معين وتحسينه" (4).
ومن منظور التربية الإسلامية، فإن تعديل السلوك " عملية واعية تؤدي إلى إحداث تغيرات في السلوك الإنساني، وتنمّي مظاهر السلوك الإيجابي، وتقتضي على مظاهر السلوك السَلْبي بما يتفق مع أسس ومبادئ العقيدة الإسلامية، وحاجات النفس البشرية" (5).
ــــــــــــــــــــــ
(1) الهنداوي، علي فالح، والزغول، عماد، مبادئ في علم النفس، مكتبة الفلاح، الكويت، ط1، 1423-
2002م، ص271.
(2) المرجع السابق نفسه.
(3) الزغول، عماد، نظريات التعلّم، دار الشروق، عمّان، ط1، 1423هـ-2003م، ص98.
(4) المرجع السابق نفسه.
(5) الشريفين، عماد، تعديل السلوك الإنساني في التربية الإسلامية، رسالة ماجستير، جامعة اليرموك، اربد،
14221هـ-2002م، ص75 .
ويعد مفهوم المنفعة جزءاً من مفهوم الدافعية(1)، فالمنفعة المترتبة على السلوك تمثل(14/64)
أحد المؤثرات الأساسية في الدافعية لأدائه وتعديله.
وفي منظور السنة النبوية، فإن للمنفعة دورها الواضح في تعديل السلوك الإنساني بمختلف صيغه؛ حيث بيّنت السنة أثر المنفعة في تشكيل السلوك السوي ابتداءً، كما في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه محرّضاً لهم في غزوة بدر: ( والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فَيُقتل صابراً محتسباً، مقبلاً غير مدبر، إلا أدخله الله الجنة)، فقال عمير بن الحمام – رضي الله عنه- وفي يده تمرات يأكلهن: بخٍ بخٍ !! فما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني(14/65)
هؤلاء ؟! فقذف من يده ما بقي من تمرات وأخذ السيف، فقاتل القوم حتى قتل (2). كما بيّنت السنة أثر المنفعة في تطوير السلوك وتحسينه، وهذا في قوله - صلى الله عليه وسلم -: ( أنا زعيمُ ... بيتٍ في أعلى الجنة لمن حَسُنَ خُلُقه) (3) ، كما بينت السنة كذلك أثر المنفعة في إحداث مَحْو في السلوك أو كفٍّ عن السلوك غير المرغوب فيه، وهذا قول - صلى الله عليه وسلم -: (أنا زعيم بيتٍ في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً، وبيتٍ في وسط الجنة لمن ترك الكذب) (4)، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : (تكفّ شرَّك عن الناس، فإنها صدقة منك على نفسك) (5). وتضمنت السنة كذلك الإشارة إلى أثر المنفعة في الحفاظ على السلوك السوي والدفع باتجاه استمراره وبقاء فاعليته، وذلك كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - : (وما يزال عبدي يتقرب إلىّ بالنوافل حتى أحبّه) (6)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -:( مَنْ غدا إلى المسجد أو راح أعدّ الله له نُزلَه من الجنّة كلما غدا أو راح) (7)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -:( إن للّه أقواماً يختصهم بالنّعم لمنافع العباد، ويقرّهم فيها ما بذلوها) (8).
ــــــــــــــــــــــ(14/66)
(1) الدافع، بمعناه الشامل، ويقصد به: "مجموعة القوى الداخلية والخارجية النشيطة المحّركة للسلوك" ، فهو
يجمع، "كافة العناصر والقوى الفطرية والمكتسبة المحركة للسلوك؛ من حاجات، ورغبات، وميول،
واتجاهات، وانفعالات، وعواطف، وقيم، وعادات، وحوافز، وبواعث، وأغراض، وأهداف". الشيباني،
عمر التومي، علم النفس التربوي، جامعة الفاتح، ليبيا، ط1، 1421هـ-2001م، ص98.
(2) مسلم، الصحيح، كتاب الإمارة، باب ثبوت الجنة للشهيد، ح رقم (3520).
(3) الترمذي، السنن، كتاب البر، باب ما جاء في المراء، ح رقم (1916)، والألباني، السلسلة الصحيحة، ح
رقم (302).
(4) المصدر السابق نفسه، والألباني، السلسة الصحيحة، ح رقم (302).
(5) البخاري، الصحيح، كتاب الإيمان، باب كون الإيمان أفضل الأعمال، ح رقم (119).
(6) المصدر السابق، كتاب الرقاق، باب التواضع، ح رقم (6021).
(7) المصدر السابق، كتاب الأذان، باب فضل من إذا إلى المسجد، ح رقم (622).
(8) الألباني، السلسلة الصحيحة ، ح رقم (1342).(14/67)
وإضافة إلى أثر المنفعة في تعديل السلوك بصيغه المختلفة، فإن لها أثراً كذلك في إشاعة السّلوك السّوي على المستوى الفرْدي وعلى المستوى الاجتماعي، وهذا مقصد أساسي من مقاصد السنة النبوية.
ومن مواقع إشاعة السلوك إثْرَ المنفعة المترتبة عليه في السنة النبوية، قوله - صلى الله عليه وسلم - حينما دخل المدينة المنورة مخاطباً المجتمع:( يا أيها الناس، أفشو السلام، وأطعموا الطعام، وصِلُوا الأرحام، وصلّوا بالليل والناس ينام، تدخلوا الجنة بالسلام) (1)، فهذا نص واضح تضمن عدداً من السلوكات السوية المجتمعية، ورتب على القيام بها الحصول على منفعة عظمى وهي الجنة، ولا شك أن في هذا إشاعة للسلوك السوي ودعوى إلى إحيائه وتعاطيه على أوسع مدى في المجتمع المسلم، وقوله - صلى الله عليه وسلم -:( لو يعلم الناس ما في النّداء والصف الأول ثمّ لم يجدوا إلا أن يسْتهِموا(2) عليه لاسْتهموا) (3)، وفي هذا النص إشاعة للسلوك السوي(التعبّدي)، بإثارة التنافس عليه.(14/68)
ويلحظ المتأمّل في السنة كذلك توجها واضحاً إلى نشر السلوك الإنساني بترتيب المنفعة عليه، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - :( كافل اليتيم له أو لغيره أنا وهو كهاتيْن في الجنة) وأشار مالك بالسبّابة والوسطى(4)، ونشر السلوك البيئي (الزراعي)، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -:( لا يغرس مسلم غرساً ولا يزرع زرْعاً فيأكل منه إنسانٌ ولا دابّة ولا شيء إلا كانت له صدقة) (5)، وإشاعة السلوك التعليمي التعلمّي، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -:( من عَلّمَ علماً فله أجر من عمل به، لا ينقص من أجر العامل شيء) (6)، وقوله - صلى الله عليه وسلم - (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة) (7).
ويمكن ختم هذه المعالجة البحثية، بالإشارة إلى المنظور الشمولي للسنة النبوية في طرفي الموضوع: تعديل السلوك وإشاعته بترتب المنفعة عليهما، والذي يتمثل فيما يتعلق بالطرف الأول ( تعديل السلوك)، بتقرير السنة، بأن من المنافع التي تقرّرها حيال من يسلك اتجاه تعديل السلوك، هي منفعة القوّة والعَوْن على تعديل السلوك، وذلك كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - :
ــــــــــــــــــــــ(14/69)
(1) الترمذي، السنن، كتاب صفة القيامة، ح رقم(2409)، والألباني، السلسلة الصحيحة، ح رقم (461).
(2) يَسْتهموا : أي : يقترعوا.
(3) البخاري، الصحيح، كتاب الأذان، باب الاستهام في الأذان، ح رقم (580).
(4) مسلم، الصحيح، كتاب الزهد، باب الإحسان إلى الأرملة ، ح رقم (5296).
(5) المصدر السابق، كتاب المساقاة، باب فضل الغرس، ح رقم (2902).
(6) ابن ماجه، السنن، باب ثواب معلم الناس الخير، والألباني، صحيح الترغيب والترهيب، ح رقم (67).
(7) مسلم، الصحيح، كتاب الذكر، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن ، ح رقم (4867).(14/70)
(ومَنْ يسْتعفف يُعفَّهُ اللَّهُ، ومن يسْتغنِ يُغْنِه الله، ومن يتصبّرْ يُصبِّره الله) (1)، وأما الطرف الثاني (إشاعة السلوك السوي والتشجيع عليه)، فبتقرير أصل المنفعة وتضعيفها، حيال كل سلوك سوي يتسبب المسلم به، ويمتد فعله عبر الأزمنة والأمكنة والأشخاص، بحيث يحصل على أصل المنفعة المقررة لهذا السلوك كلما تجدد فعله عبر هذه الامتدادات وذلك مقرر في قوله - صلى الله عليه وسلم - : (من سنّ في الإسلام سنة حسنةً فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء) (2). وهذا شأنه أن يدفع الذات بقوة نحو تحقيق مناط هذه المنفعة المتوالدة المتكاثرة.
ــــــــــــــــــــــ
(1) البخاري، الصحيح، كتاب الزكاة، باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى، ح رقم (1338).
(2) مسلم، الصحيح، كتاب العلم باب من سنّ سنة حسنة، ح رقم (4830).
الخاتمة(النتائج والتوصيات)
وفي خاتمة الدراسة، يشير الباحث إلى أهم النتائج والتوصيات :
أولاً: النتائج: خرجت هذه الدراسة بأهم النتائج الآتية:
ورد لفظ "المنفعة" وباشتقاقاته المختلفة في السنة النبوية بدلالة شمولية على جميع المصالح واللّذات المادية والمعنوية والعاجلة والآجلة.(14/71)
جاء لفظ السلوك اصطلاحاً، مقابلاً للفظ "العمل" في السنة وبدلالة شمولية على جميع الاستجابات الظاهرة والباطنة التي تصدر عن الإنسان.
اشتملت السنة النبوية على أطر المنفعة ومقرراتها، من حيث التأصيل الشرعي لمطلب المنفعة، والتنوع في استخدام الصيغ التعبيرية عنها وتحديد أوجه تقسيماتها إلى منفعة عاجلة وآجلة وظاهرة وباطنة وايجابية وسلبية.
حددت السنة مصادر المنفعة بالمصدر الرباني وبالمصدر البشري والكوني، وأكدت ارتباط المنفعة الوثيق بالقيم الإسلامية.
تضمنت السنة محددات المنفعة والتي شملت: صحّة المعتقد والسّلوك السّوي المقبول واتقان السلوك والفروق الفردية والبيئة والفضل الرباني.
أكدّت السنة على العلاقة الواضحة بين المنفعة والسلوك والتي ظهرت جوانبها في تأثر المنفعة بالأداء السلوكي ومستوياته ونوعه وكمّه.
بينت السنة أثر المنفعة في تعديل السلوك الإنساني وإشاعته.
ثانياً: التوصيات: خرجت الدراسة بأهم التوصيات الآتية:(14/72)
الحاجة إلى القراءات المعمقة لنصوص السنة النبوية المتصلة بالعلوم التربوية في سبيل تقديم معالجات علمية للمفاهيم الأساسية التي تقود إلى رؤية واضحة للنظرية التربوية وإمكاناتها التطبيقية، وعليه يرجو الباحث من المختصين في مجال العلوم الشرعية والتربوية بذل مزيد من الجهد البحثي في سبيل الإرتقاء بالتربية الإسلامية وعلومها وتطبيقاتها.
الدعوة إلى إجراء عدد من الدراسات الميدانية ذات الصلة بموضوع "المنفعة والسلوك"، ويقترح الباحث منها، الآتي:
- مدى استخدام معلمي المدارس للمنافع الإيمانية والمعنوية في تعزيزالعملية التدريسية
- موقف المناهج التعليمية من مراعات محدّدات المنفعة الواردة في السنة.
- أثر التعزيز بالمنافع الآجلة (الأخروية) في تعديل السلوك الطلابي في الجامعات .
- موقف التربية الإسلامية من تعارض المنافع المادية والإيمانية وآثارها التربوية.
المراجع
- ابن جماعة ، أبو إسحاق إبراهيم ، تذكرة السامع ، مكتبة رمادي ، السعودية (د.ط) .
- ابن حجر العسقلاني، أحمد، فتح الباري بشرح صحيح البخاري، تحقيق ابن باز، دار الفكر، بيروت، ط1،
1414هـ-19935م.(14/73)
- ابن رجب، عبد الرحمن، جامع العلوم والحكم، دار الفكر، بيروت، 1409هـ- 1988م (د.ط).
- ابن عاشور، محمد الطاهر، التحرير والتنوير ، دار سحْنون، تونس (د.ط).
- ابن فارس، أحمد، معجم المقاييس اللّغوية، تحقيق: شهاب الدين أبو عَمْرو، دار الفكر، بيروت،
ط1418هـ- 1998م.
- ابن كثير، إسماعيل، تفسير القرآن العظيم، دار الخير، بيروت، ط1، 1410هـ-1990م.
- ابن منظور، محمد، لسان العرب، تحقيق: عامر أحمد، دار الكتب العلمية، بيروت(د.ط).
- أبو جادو، صالح محمد، علم النفس التربوي، دار المسيرة، عمّان، ط2، 1421هـ-2000م.
- أبو داود، سليمان ، السنن ، دار الفكر (دط)
- أبو العينين، علي خليل وآخرون، الأصول الفلسفية للتربية، دار الفكر، عمّان، ط1،1417هـ-2003م.
- أحمد، المسند ، دار الحديث ،القاهرة ، ط 1، 1416ه - 1995م.
- الألباني، محمد ناصر الدين، السلسلة الصحيحة، ترتيب:مشهور حسن،مكتبة المعارف،الرياض،ط1 ،1425ه -2004م.
- الألباني ، محمد ناصر الدين، صحيح الترغيب والترهيب، مكتبة المعارف،الرياض،ط3 ،1409ه-1988م.
- البخاري، محمد بن إسماعيل، الصحيح، دار ابن كثير،بيروت،ط3 ، 1407ه-1987م.(14/74)
- الترمذي، محمد بن عيسى ، السنن،دار إحياء التراث العربي،بيروت(دط)
- التل، شادية، علم النفس التربوي في الإسلام، دار النفائس، عمان، ط1، 1425هـ-2005م .
- حيدر، فؤاد، الشخصية في الإسلام والفكر الغربي، دار الفكر الغربي، بيروت، ط1،1410هـ-1997م.
- الخطيب، جمال، تعديل السلوك الإنساني، مكتبة الفلاح، الكويتـ ط1 ،1423هـ-2003م.
- خياط، محمد جميل، النظرية التربوية في الإسلام: دراسة تحليلية، 1424هـ-2003م (د.ط).
- الراغب الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، تحقيق: صفوان عدنان، دار القلم، دمشق، ط 3، 1423ه ـ
2002م.
- زيدان، إبراهيم عبد الرحمن، الإسلام والرأسمالية وصراع الحضارات، دار الفرقان، عمان، 1424هـ-
2004م.
- الزغول، عماد، نظريات التعلّم، دار الشروق، عمّان، ط1، 1423هـ-2003م?.
- سليمان، حسين حسن، السلوك الإنساني والبيئة الاجتماعية، المؤسسة الجامعية للدراسات، بيروت، ط1،
1425هـ- 2005م.
- السيد، عزمي طه، الفلسفة: مدخل حديث، دار المناهج، عمّان، طـ1، 1423هـ-2003م.
- الشيباني، عمر التومي، علم النفس التربوي، جامعة الفاتح، ليبيا، ط1، 1421هـ-2001م .(14/75)
- الشيباني، عمر التومي، تطوّر النظريات والأفكار التربوية، دار الثقافة ، بيروت، ط2، 1975م.
- صالح، قاسم حسين، نظريات معاصرة في علم النفس، مكتبة الجيل الجديد، صنعاء، ط1، 1419ه-1998م.
- الصنعاني ، محمد ، سبل السلام ، دار الفكر، ، (دط)
- عبد الباقي،محمد فؤاد،المعجم المفهرس لألفاظ القرآن،دار الحديث، القاهرة،1422هـ-2001م.
- عبد الله، عبد الرحمن صالح، الأهداف السلوكية في التربية الإسلامية، دار الفكر العربي، القاهرة، ط1،
1424هـ-2003م.
- عبد الله ، عبد الرحمن صالح، المنهاج الدراسي: رؤية إسلامية، دار الياقوت، عمّان، ط2، 1421هـ-
2000م.
- عبد الله، عبد الرحمن صالح، دراسات في الفكر التربوي الإسلامي، دار البشير، عمّان، ط1،
1417هـ-1996.
- علي، علي أحمد، أساسيات سلوك الإنسان، مكتبة عين شمس، القاهرة (د.ط) .
- القرطبي، محمد، الجامع لأحكام القرآن، دار الكتب العلمية، بيروت، ط2، 1424هـ-2004م.
- المارودي، علي، أدب الدنيا والدين، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، ط1، 1425هـ-2004م.
- مجمع اللغة العربية، المعجم الوسيط، دار الدعوة، استانبول(د.ط).
- مسلم بن الحجاج، الصحيح، دار إحياء التراث العربي(دط) .(14/76)
- ناصر، إبراهيم، مقدمة في التربية، دار عمّار، ط12، 1422هـ- 2002م.
- النووي، شرح صحيح مسلم، تحقيق: خليل مأمون، دار المعرفة، بيروت، ط1، 1425هـ-2004م.
- الهنداوي، علي فالح، والزغول، عماد، مبادئ في علم النفس، مكتبة الفلاح، الكويت، ط1، 1423-
2002م .
الرسائل العلميّة
- الشريفين، عماد، تعديل السلوك الإنساني في التربية الإسلامية، رسالة ماجستير، جامعة اليرموك، اربد،
14221هـ-2002م .
المجلاّت
- جان، محمد صالح، الثواب والعقاب في التربية والتعليم بين الأصالة والمعاصرة ،جامعة أم القرى، معهد البحوث العلمية، 1424هـ-2003م .
- العطاس، عبد الله بن أحمد، مفهوم السلوك الخُلقي، جامعة أم القرى، معهد البحوث العلمية، مكة، طـ1،
1425هـ- 2005م .(14/77)
رعاية الموهوبين في السنة النبوية
ابن عباس - رضي الله عنهما- نموذجا
إعداد:
د. علي إبراهيم سعود عجين
جامعة آل البيت
المملكة الأردنية الهاشمية
1427ه/ 2007م
مخطط البحث
العنوان ... الصفحة
المقدمة ... 3
مشكلة الدراسة ... 3
أهداف الدراسة ... 4
الدراسات السابقة ... 4
منهج الدراسة ... 4
ملخص البحث ... 5
المبحث الأول: مفهوم الموهوب وخصائص الموهوبين ... 5
المطلب الأول: مفهوم الموهوب ... 5
الفرع الأول: الموهوب في اللغة ... 5
الفرع الثاني: الموهوب عند علماء التربية ... 6
المطلب الثاني: خصائص الموهوبين ... 6
المبحث الثاني: الرعاية النبوية لموهبة ابن عباس – رضي الله عنهما- ... 8
المطلب الأول: الدلائل العامة لموهبة ابن عباس ... 8
المطلب الثاني: وسائل الكشف عن موهبة ابن عباس ... 9
المطلب الثالث: طرق الرعاية النبوية لموهبة ابن عباس ... 12
المطلب الرابع: صفات وعلم الموهوبين من خلال رعاية النبي - صلى الله عليه وسلم - لموهبة ابن عباس ... 16
المطلب الخامس: خصائص الرعاية النبوية لموهبة ابن عباس ... 17
المبحث الثالث: سمات وآثار موهبة ابن عباس، والعوامل المساهمة بها ... 18(15/1)
المطلب الأول: السمات المميزة لموهبة ابن عباس ... 18
المطلب الثاني: آثار ونتائج موهبة ابن عباس ... 23
المطلب الثالث: العوامل المساهمة في موهبة ابن عباس ... 24
الخاتمة والنتائج ... 26
الهوامش ... 27
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،
وبعد،
السنة النبوية منهج حياة، عقيدة ما زلت أؤمن بها وأدعو إليها وذلك أن السنة وحي إلهي جاء لبيان القرآن، والقرآن دستور الأمة ونبراس هدايتها، فالسنة فيها تفاصيل هذه الهداية فهي منهج حياة الأمة، في التشريع والسياسة والاقتصاد والتربية والأخلاق.
إلا أن هذا المنهج يحتاج منا إلى جهد كبير لإخراجه للناس من خلال دراسة نصوص السنة وبيان انسجامها مع العلوم العصرية بشرطين اثنين: أولهما عدم التكلف في بيان هذا الانسجام من خلال لي أعناق النصوص النبوية لتحقيق هذا الانسجام. وهذا يتطلب فهم دقيق لنصوص السنة ولعلوم العصر. والثاني: عدم التنازل عن ثوابت الدين رغبة في تحقيق هذه الملائمة.
وكل من تعثر في هذا المجال إنما أُتي بإخلاله بأحد الشرطين؛ إما بتكلف مخل أو بتنازل هزيل.(15/2)
وحقيقة الأمر أن التوافق بين العلم والوحي توافق فطري عقلي، سهل المنال إذا اتبع في دراسته المنهج العلمي الصحيح.
ومن خلال نظرية "السنة منهج حياة" يأتي هذا البحث "رعاية الموهوبين في السنة النبوية" ابن عباس – رضي الله عنهما – نموذجاً، للتأكيد على هذه الرابطة بين العلوم الإنسانية والوحي الإلهي، ثم لأهمية موضوع رعاية الموهوبين لأنهم رصيد الأمم الحقيقي. حيث قام الباحث بدراسة الأحاديث والمواقف النبوية مع ابن عباس – الذي اتفقت الأمة على تفوقه وموهبته – ثم دراستها دراسة تربوية من خلال الرجوع إلى أهل الاختصاص من الباحثين في التربية الخاصة – (رعاية الموهوبين)-.
وبيّن فيها الباحث مفهوم الموهوب وخصائصه وطرق الكشف عن الموهبة ووسائل الرعاية النبوية لموهبة ابن عباس، وصفات معلم الموهوبين وخصائص الرعاية النبوية للموهوبين وآثار ونتائج موهبة ابن عباس، ثم ذكر الباحث أهم النتائج والتوصيات.
مشكلة الدراسة:(15/3)
إن المتتبع للدراسات التربوية المعاصرة يشعر بوجود فجوة بين علم التربية المعاصر وعلوم الوحي (القرآن والسنة) لأسباب عدة، ومن هنا تحاول هذه الدراسة أن تجيب عن تساؤل كبير مدى الانسجام والتوافق بين علم التربية وعلوم الوحي؟!
كما أن الدراسة تحاول الإجابة على أسئلة خاصة بالدراسة، وهي: هل اهتم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالموهوبين؟ وما هي الوسائل المتبعة لذلك؟ وما هي خصائص الرعاية النبوية للموهوبين والآثار المترتبة عليها؟!
أهداف الدراسة:
أ) الهدف العام:
1- بيان أن الوحي (القرآن والسنة) مصدر أساسي في العلوم التربوية لأنه من عند الله، والله هو خالق هذا الإنسان وأعلم بما يصلحه.
2- إظهار الانسجام بين كثير مما يطرح في علم التربية المعاصر وبين السنة النبوية من غير تكلف أو تنازل عن ثوابت الدين.
ب) الهدف الخاص: إظهار اهتمام السنة النبوية بفئة الموهوبين، ودورها في توجيههم وتنمية مواهبهم.
الدراسات السابقة:(15/4)
وقف الباحث على دراسة للأستاذ رأفت محمد علي الجديبي، بعنوان: "رعاية الموهوبين في ظل منهج التربية الإسلامية"، وهي رسالة ماجستير في قسم التربية الإسلامية بكلية التربية بجامعة أم القرى في مكة المكرمة، وهي مطبوعة في سنة 1425ه/ 2004م.
ولقد تناول الباحث في جزء منها تحت عنوان "الرعاية المبكرة للطاقات العقلية الموهوبة" رعاية النبي - صلى الله عليه وسلم - لموهبة ابن عباس – رضي الله عنهما- في أربع صفحات.
وهذه الدراسة على أهميتها كونها من أوائل ما كتب في هذا المجال، إلا أنها لم تستوعب الرعاية النبوية لموهبة ابن عباس، لأنه المؤلف إنما ذكرها في معرض حديثه عن منهج التربية الإسلامية في رعاية الموهوبين، فلذلك لم يتطرق الباحث لكثير من المواقف النبوية مع موهبة ابن عباس.
منهج الدراسة:
اتبع الباحث المنهج الاستقرائي لتتبع الأحاديث والمواقف النبوية مع ابن عباس من خلال كتب الحديث الشريف، ثم قام بتحليل ودراسة هذه المواقف وتصنيفها على مباحث ومطالب بعد الرجوع إلى كتب أهل الاختصاص من الباحثين التربويين في مجال التربية الخاصة.(15/5)
كما اتبع الباحث المنهج النقدي للموازنة بين مناهج التربية المعاصرة ومنهج النبي - صلى الله عليه وسلم - في رعاية الموهوبين وبيان مدى التوافق والاختلاف بينهما.
ملخص البحث
رعاية الموهوبين في السنة النبوية – ابن عباس نموذجاً-.
يعد موضوع رعاية الموهوبين من المواضيع الملحة في العلوم التربوية وذلك لأنه يتعلق بفئة لها دور أساسي في تكوين شخصية الأمم وبناء حضارتها، وهم الرصيد الحقيقي للأمم.
ولقد اهتمت السنة النبوية بالموهوبين وطرق رعايتهم ووسائل توجيههم لتسخير طاقاتهم وقدراتهم في تحقيق ذاتهم أولاً ثم لخدمة أمتهم ودينهم ثانياً.
ومن أبرز الموهوبين في تاريخ الأمة ابن عباس – رضي الله عنهما- ولذلك لقب بترجمان القرآن وحبر الأمة.
وكان للرعاية النبوية لابن عباس دوراً أساسياً في الكشف عن موهبته وتنميتها وتطويرها.(15/6)
وقد قسم الباحث بحثه إلى مقدمة وثلاثة مباحث، الأول: مفهوم الموهوب وخصائص الموهوبين، الثاني: الرعاية النبوية لموهبة ابن عباس، المبحث الثالث: سمات وآثار موهبة ابن عباس والعوامل المساهمة بها، ثم الخاتمة والنتائج التي توصل إليها الباحث ومنها أن السنة النبوية أولت الموهوبين رعاية خاصة وفق منهج واضح ومتميز.
المبحث الأول: مفهوم الموهوب وخصائص الموهوبين
المطلب الأول: مفهوم الموهوب.
الفرع الأول: الموهوب في اللغة.(15/7)
الموهوب: كل ما وهب لك فهو موهوب، والموهبة: الهبة وجمعها مواهب(1)، ووهب له شيئاً وهباً أعطاه إياه بلا عوض(2)، وجاء في التهنئة في المولود قول الحسن البصري – رحمه الله –: "بورك لك في الموهوب، وشكرت الواهب، وبلغ أشده ورزقت بره"(3)، فالواهب هو الله تعالى، والموهوب هو الولد، وفي المعجم الوسيط: "الموهبة الاستعداد الفطري لدى المرء للبراعة في فن أو نحوه"(4). فيقال لمن امتلك موهبة ما: موهوب.
__________
(1) ابن منظور، محمد بن مكرم (711ه)، لسان العرب، ط1، دار صادر، بيروت.
(2) إبراهيم أنيس وآخرون، المعجم الوسيط، ط2، د.ن، ص102.
(3) نقله ابن القيم: محمد بن أبي بكر (691-751ه)، تحفة المودود في أحكام المولود، عمان، دار الإسراء للنشر والتوزيع، ط1، 2005م، ص18.
(4) المعجم الوسيط، ص 1102.(15/8)
وورد في الحديث الشريف استعمال كلمة (عبقري) في الدلالة على التفوق والبروز، وذلك في ذكر الرؤيا التي رآها النبي - صلى الله عليه وسلم - في أبي بكر وعمر – رضي الله عنهما – ونزعهما الماء من بئر، وفيه وصف نزع عمر - رضي الله عنه -: "فلم أر عبقرياً من الناس يفري فريه"(1)، ونقل الحافظ ابن حجر عن الفارابي قوله: "العبقري من الرجال الذي ليس فوقه شيء"، وعبقر
موضع كان ينسج فيه البسط الموشية فاستعمل في كل شيء جيد أو في كل شيء فائق(2).
الفرع الثاني: الموهوب عند علماء التربية.
يتداخل مفهوم الموهبة (Gifttedness) مع عدد من المفاهيم المقاربة كالعبقرية والتميز والتفوق والإبداع والابتكار، وجميعها تشير إلى أن هناك بين الناس من يستطيع أن يصل إلى مستوى متميز يفوق المستويات التي وصل إليها الآخرون(3).
__________
(1) البخاري، صحيح البخاري، كتاب التعبير، باب نزع الماء من البئر، رقم (7019).
(2) ابن حجر، أحمد بن علي العسقلاني (ت 852ه)، فتح الباري بشرح صحيح البخاري، دار المعرفة، بيروت، د.ت، ج12، ص 413.
(3) انظر: د. زينب محمود شقير، رعاية المتفوقين والموهوبين والمبدعين، مكتبة النهضة، القاهرة، ط 3، 2002م.(15/9)
ويعد تيرمان (1925م) أول من استخدم مصطلح الموهبة، حيث قام بدراسته المشهورة عن الموهوبين، ثم تلته الباحثة لينا هولنجورت (1931م)، والتي عرفت الطفل الموهوب بأنه ذلك الطفل الذي يتعلم بقدرة وسرعة تفوق بقية الأطفال في كافة المجالات، فالموهبة استخدمت لتدل على مستوى عال من القدرة على التفكير والأداء(1).
ولقد اختلف الباحثون في تعريفهم للموهبة اختلافاً واضحاً، ويعود ذلك لاختلافهم في الاتجاهات النظرية والخبرات العملية التي ينطلقون منها في تحديد مجالات التفوق التي يعدونها أكثر أهمية في تحديد الموهبة، فبعض الباحثين يركز على التفوق في القدرة العقلية (الذكاء)، وبعضهم الآخر يركز على القدرات الخاصة أو التحصيل الأكاديمي أو الإبداع أو على بعض سمات الشخصية(2).
__________
(1) انظر: خليل المعايطة ومحمد البواليز، الموهبة والتفوق، دار الفكر، عمان، ط2، 2004م.
(2) انظر: د. أحمد محمد الزعبي، التربية الخاصة للموهوبين والمعاقين، دار زهران، عمّان، 2003م، ص45.(15/10)
ويعد تعريف جوزيف رينزولي (1978م) من التعريفات الهامة للموهبة حين قدم مفهوم الحلقات الثلاث، والذي يشير إلى أن الموهبة عبارة عن تفاعل بين حلقات ثلاث هي: القدرة العامة فوق المتوسط، والمثابرة، والإبداع(1).
والطفل الموهوب: "هو الذي يزيد استعداده العقلي وأداؤه عن معايير عمره"(2).
ولقد قدم بول تورانس تعريفاً آخر بقوله: "هو الطفل الذي يظهر أداء ممتازاً في أي مجال من مجالات السلوك الإنساني مهم للمجتمع"(3).
المطلب الثاني: خصائص الموهوبين.
__________
(1) انظر: حسين محمد أبو فراش، دليل الأسرة والمعلم لتربية الموهوبين، جهينة للنشر والتوزيع، عمان، الطبعة الأولى، 2006م.
(2) نقل هذا التعريف د. عبد الرحمن سليمان، ود. صفاء غازي، المتفوقون عقلياً، مكتبة زهراء الشرق، القاهرة، 2001م، ص 17.
(3) المصدر السابق.(15/11)
يمتاز الموهوبون بخصائص تميزهم عن غيرهم، ولقد تركت الدراسات والبحوث التي أجريت على الموهوبين منذ العشرينات إلى الثمانينات رصيداً هائلاً من المعلومات عن الخصائص التي تميزهم، ويمكن عرض أبرز الخصائص العامة للموهوبين في الجوانب التالية: الخصائص العقلية – الخصائص الجسمية – الخصائص الاجتماعية – الخصائص الوجدانية(1).
1) الخصائص العقلية:
تعد الصفات العقلية من أهم الصفات التي تميز المتفوق عن غيره من العاديين، وهذا
يظهر في ارتفاع معدل النمو العقلي لديه عن معدل النمو العقلي للطفل العادي، ويصل الموهوب إلى مستوى عقلي أعلى من المستوى الذي يصل إليه قرينه.
__________
(1) انظر: الجديبي، رأفت محمد علي، رعاية الموهوبين في ظل منهج التربية الإسلامية، شمس للطباعة، جدة، 2004م، الطبعة الأولى، ص 29-30.(15/12)
ويتصف بقدرة على التركيز، كما يفوق أقرانه في قدرته على إدراك العلاقات المتعددة الموجودة بين عناصر المواقف المختلفة، وهو أقدر من غيره على تنظيم هذه العلاقات(1)، كما يمتاز الموهوب بقدرة عالية على التفكير والاستدلال المنطقي، ولديه قدرات ابتكارية عالية، بجانب الأداءات العملية ذات المستوى الرفيع، مع قدرة عالية على حل المشكلات بطرق إبداعية غير مألوفة، ويمتلك دقة الملاحظة وعمق الفهم وحب الاكتشاف البحث عن الجديد، وغيرها من القدرات العقلية المتقدمة(2).
2) الخصائص الجسمية:
__________
(1) انظر: المعايطة والبواليز، الموهبة والتفوق، ص 57، مصدر سابق.
(2) انظر: د. زينب شقير، رعاية المتفوقين والموهوبين، ص 45-46، مصدر سابق.(15/13)
أشارت الدراسات المختلفة أن التكوين الجسماني للمتفوقين بصفة عامة أفضل قليلاً من التكوين الجسماني للعاديين(1). وأن النمو الجسمي والحركي لهذه الفئة يسير بمعدل أكبر قليلاً – بصفة عامة – عن معدل النمو بين العاديين(2)، ويقل لديهم عيوب السمع والبصر ويتمتعون بعادات صحية سليمة(3). ولكن التفوق في الخصائص الجسمية للموهوبين لا ينطبق على كل الموهوبين، بل قد يكون بعض الموهوبين ذوي بنية جسمية ضعيفة، مما يشير إلى أن الخصائص الجسمية التي يتميزون بها ليست دليلاً على الموهبة وإنما مصاحبة لها(4).
3) الخصائص الاجتماعية:
__________
(1) انظر: الجديبي، رعاية الموهوبين في ظل التربية الإسلامية، ص33، مصدر سابق.
(2) انظر: المعايطة والبواليز، الموهبة والتفوق، ص55، مصدر سابق.
(3) انظر: د. زينب شقير، رعاية المتفوقين، ص 53، مصدر سابق.
(4) انظر: الزعبي، التربية الخاصة للموهوبين، ص 58، مصدر سابق.(15/14)
أظهرت الدراسات عدة خصائص اجتماعية للموهوب منها: أن لديه توافق اجتماعي مرتفع، وعلاقات اجتماعية ناجحة مع الطلاب والوالدين، وهو جدير بالثقة، شديد التأثير في المقربين منه، لديه قدرة عالية على القيادة، مع القدرة على حل المشكلات وإدارة الحوار والنقاش، ولديه إحساس بالمسؤولية(1).
4) الخصائص الوجدانية:
يمكن تلخيص أهم الخصائص الوجدانية للموهوب فيما يأتي:
أنه يتمتع بمستوى من التكيف والصحة النفسية بدرجة تفوق أقرانه.
يتوافق بسرعة مع التغيرات المختلفة والمواقف الجديدة.
يعاني من بعض أشكال سوء التكيف والإحباط أحياناً نتيجة نقص الفرص المتاحة.
يتحلى بدرجة عالية من الاتزان الانفعالي ولا يضطرب أمام المشكلات إلى غيرها من الخصائص الوجدانية الانفعالية، ويذكر البعث أن تلك الصفات قد يوجد بعضها عند الموهوب ولا يشترط اجتماعها في شخصية واحدة، وليس من الضروري أن يكون كل من يتصف بهذه الصفات طفلاً موهوباً، إلا أن الأطفال الموهوبين يميلون كمجموعة للاتصاف بهذه الخصائص(2).
__________
(1) انظر: د. زينب شقير، رعاية المتفوقين، ص54 مصدر سابق.
(2) انظر: الجديبي، رعاية الموهوبين في ظل التربية الإسلامية، ص37-38، مصدر سابق.(15/15)
المبحث الثاني: الرعاية النبوية لموهبة ابن عباس.
المطلب الأول: الدلائل العامة لموهبة ابن عباس – رضي الله عنهما-.
قبل الخوض في رعاية النبي - صلى الله عليه وسلم - لموهبة ابن عباس رضي الله عنهما أردت أن أذكر الدلائل العامة على موهبة ابن عباس – رضي الله عنهما – لإثبات تفوقه وبروزه، ولقد تبين لنا أن الموهوب هو الذي يزيد استعداده العقلي وأداؤه عن معايير عمره، وأنه يفوق أقرانه في قدراته العقلية، والمتأمل لسيرة ابن عباس يجد أنه قد فاق الأكابر قبل الأصاغر ولاسيما في قدراته العلمية وفي تفسير القرآن على وجه الخصوص وإذا علمنا أن ابن عباس - رضي الله عنه - كان عمره ثلاث عشرة سنة(1) عند وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، تبين لنا مدى تفوقه على الآخرين، ولا أدل على ذلك ما أخرجه البخاري(2) عن ابن عباس قال: "كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر، فكأن بعضهم وجد في نفسه، فقال: لم تدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله؟ فقال عمر: أنه من حيث علمتم، فدعا
__________
(1) انظر: ابن حجر، فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ج11، ص90.
(2) البخاري، كتاب التفسير، باب قوله: { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ.... } [النصر: 3] رقم (4970).(15/16)
ذات يوم فأدخله معهم، فما رأيت أنه دعاني يومئذ إلا ليريهم، قال: ما تقولون في قول الله تعالى: { إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ } [النصر:1]، فقال بعضهم: أمرنا نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وسكت بعضهم فلم يقل شيئاً، فقال لي: أكذاك تقول يا ابن عباس؟ فقلت: لا، قال: فما تقول؟ قلت: هو أجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلمه له، قال: { إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ } [النصر:1]، وذلك علامة أجلك. { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً }[النصر:3] فقال عمر: ما أعلم منها إلا ما تقول".(15/17)
وأنت ترى أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كان يدرك معالم موهبة ابن عباس العلمية فلذلك كان يدخله مع أكابر القوم (أشياخ بدر)، فلما احتجوا عليه بإدخال ابن عباس إلى مجالس الكبار دون أبنائهم، أجابهم (أنه من حيث علمتم)، أي أنه قد فاق أبناءكم علماً وحكمة، ثم أثبت لهم بالدليل العملي موهبة ابن عباس عندما طلب منهم تفسير آية من كتاب الله، فلما فسر بعضهم الآية على ظاهرها وسكت الآخرون، برز ذاك الغلام الموهوب ففسرها تفسيراً رائعاً، بربطه بين الفتح ودنو أجل النبي - صلى الله عليه وسلم -، علموا حين ذلك بروزه وأيقنوا موهبته، وأنه قد فاق الأكابر قبل الأصاغر، فلذلك ورد عن عمر أنه كان يقول فيه: "ذاكم فتى الكهول له لسان سؤول وقلب عقول"(1).
__________
(1) رواه الحاكم في المستدرك، ج3، ص 539، مرسلاً عن الزهري.(15/18)
ومن دلائل موهبة ابن عباس - رضي الله عنه - قول عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: "لو أدرك ابن عباس أسناننا ما عشره منا أحد"، "ولنعم ترجمان القرآن ابن عباس"(1)، وهذه شهادة من صحابي من أعلم صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومع ذلك يذكر لو أن ابن عباس لو أدرك ما أدركوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لكبر أسنانهم، لم يبلغوا علمه.
المطلب الثاني: وسائل الكشف عن موهبة ابن عباس.
إن اكتشاف الطفل الموهوب أمر غير يسير، لذا اختلف الباحثون في نظرتهم لمعنى التفوق العقلي وفي تحديده، وكذلك اختلفوا في الوسائل والطرق في تشخيصه والتعرف عليه(2).
إلا أن التربويين يجمعون على أهمية الكشف المبكر عن الموهوبين للتعرف على ما يمتلكونه من قدرات عقلية عامة وخاصة، مما يتيح للمعنيين مواجهة احتياجاتهم والاستفادة من إمكاناتهم واستعداداتهم وقدراتهم(3).
__________
(1) رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى، ط1، تحقيق: محمد عطا، بيروت، دار المعرفة، 1990م، ج2، ص 279 وإسناده صحيح.
(2) انظر: المعايطة والبواليز، الموهبة والتفوق، مصدر سابق، ص 204.
(3) انظر: د. أحمد الزعبي، التربية الخاصة للموهوبين، مصدر سابق، ص 59.(15/19)
وهناك عدة أساليب تربوية للكشف عن الموهوب سواءً عن طريق الملاحظة أو اختبارات الذكاء أو قياس القدرات والسمات الشخصية أو الترشيح ونحوها.
وعبد الله بن عباس – رضي الله عنهما – عاش مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يقارب من سنتين وذلك لأنه انتقل مع أبويه إلى دار الهجرة سنة الفتح(1). وفي هذه الفترة الزمنية القصيرة نسبياً أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - ملامح الموهبة في هذا الطفل من خلال عدة وسائل نجملها فيما يأتي:
1) الملاحظة:
تعتبر الملاحظة مورداً خصباً للحصول على معلومات وبيانات تساهم إلى حد كبير في تشخيص الموهبة، وحسب هذا الأسلوب يهتم الباحث بدراسة الوضع الحالي لظاهرة الموهبة، ويتضمن هذا الأسلوب ملاحظة الأفراد والجماعات في المواقف الاجتماعية(2).
__________
(1) الذهبي، محمد بن أحمد بن عثمان (ت748ه) سير أعلام النبلاء، تحقيق: شعيب الأرناؤوط وآخرون، بيروت، دار الرسالة، الطبعة الثامنة، 1992م، ج3، ص 333.
(2) المعايطة والبواليز، الموهبة والتفوق، مصدر سابق، ص 213.(15/20)
وملاحظة المعلمين وأحكامهم وسيلة مهمة لتشخيص الموهوبين وتميزهم عن غيرهم من التلاميذ العاديين(1).
وهنا نذكر موقفين لاحظ فيهما النبي - صلى الله عليه وسلم - بوادر الموهبة عند ابن عباس من خلال الاستجابة الفاعلة وسرعة البديهة والفهم العميق، يندر أن يوجد من هو في مثل سنه.
أ- ما رواه الإمام أحمد(2) عن ابن عباس قال: "أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من آخر الليل فصليت خلفه، فأخذ بيدي فجرني فجعلني حذاءه، فلما أقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على صلاته خنست، فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما انصرف قال لي: ما شأني أجعلك حذائي فتخنس؟ فقلت: يا رسول الله، أو ينبغي لأحد أن يصلي حذاءك وأنت رسول الله، الذي أعطاك الله!! قال: "فأعجبته فدعا الله أن يزيدني علماً وفهماً".
__________
(1) د. الزعبي، التربية الخاصة للموهوبين، مصدر سابق، ص 65.
(2) ابن حنبل، أحمد بن حنبل (ت 241ه)، المسند، تحقيق: حسان عبد المنان، عمان، بيت الأفكار الدولية، 1998م، ص272، حديث رقم (3061)، وإسناد صحيح.(15/21)
من خلال هذا الحوار لمس النبي - صلى الله عليه وسلم - الاستعدادات والقدرات العقلية لابن عباس، وذلك أن ابن عباس برر شعوره باستصغار الذات في حضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قال (خنست)، أنه كيف لغلام مثلي يقف بمحاذاة من اصطفاه الله لرسالته. وعادة أن استصغار الذات لمن هو في سنة قد يكون خوفاً أو استوحاشاً وخاصة أنه في آخر الليل، فلما تبين أنه إنما فعل ذلك من فقهه واحترامه لمقام النبوة أعجب النبي - صلى الله عليه وسلم - بحسن إجابته، ودعا له بزيادة فقهه وعلمه، وكأن ذلك منه علماً وفقهاً.
إن الموهبة في هذا الموقف إدراك طفل بمثل سنه لمقام النبوة لدرجة أنه استصغر نفسه أن يقف بجوار صاحب هذا المقام، إلا أن رحمة النبوة استوعبت ذلك الموقف فكان التعزيز النبوي بوسيلة الدعاء بزيادة الفهم والعلم.
ب) روى الإمام البخاري(1) عن ابن عباس: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل الخلاء، فوضعت له وضوءاً قال: "من وضع هذا؟" فأُخبر، فقال: "اللهم فَقّهُه في الدين".
__________
(1) رواه البخاري، الوضوء، باب وضع الماء عند الخلاء، رقم (143).(15/22)
إن مبادرة الغلام لوضع الوضوء للنبي - صلى الله عليه وسلم - دون أن يطلب منه ذلك علامة على فقهه، ودقة ملاحظته وقوة تركيزه فيما يحتاجه النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولذلك سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - من وضع هذا؟! والعادة أن يصنع ذلك أحد الكبار من أهل أو أصحاب، أما أن يبادر غلام صغير لمثل هذا التصرف، فهذه علامة نبوغه، فبادره النبي - صلى الله عليه وسلم - بالدعاء له في الفقه في الدين، لما رأى من استعداد ذاتي للعلم والفقه في شخصية ابن عباس.
2) قياس القدرات الإبداعية:
يمكن أن نفسر العملية الإبداعية بأنها سلسلة من الخطوات والمراحل التي يقوم بها الشخص المبدع بعملها، وذلك عند توضيحه للمشكلة وتحديدها والعمل عليها، ومن ثم الوصول إلى نتيجة للعمل على حل المشكلة، كذلك أيضاً يمكن أن توضح العملية الإبداعية بأنها تغير إدراكي سريع نسبياً(1).
__________
(1) سرور: د. ناديا هايل سرور، مقدمة في الإبداع، عمّان، ديبونو للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 2006م.(15/23)
وتعد مقاييس الإبداع أو التفكير الابتكاري أو المواهب الخاصة من المقاييس المناسبة في تحديد القدرة الإبداعية لدى المفحوص، فالقدرة الإبداعية تعد إحدى الأبعاد الأساسية المكونة للموهبة والتفوق، كما يعد الفرد موهوباً إذا تميز عن أقرانه المناظرين له في العمر الزمني في قدرته الإبداعية، كما أن القدرة على التفكير الإبداعي تعد مؤشراً أساسياً يدل على الموهبة(1).
وفي حادثة طلب النبي - صلى الله عليه وسلم - من ابن عباس التقاط حصى الجمار ما يدل على ظهور القدرة الإبداعية لابن عباس، ولا نعني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يقيس هذه القدرات الإبداعية، ولكن ظهور إبداع ابن عباس وإقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - لذلك، يدل على أن هناك موهبة وراء ذلك التصرف.
__________
(1) د. الزعبي، التربية الخاصة للموهوبين، مصدر سابق، ص 62-63.(15/24)
فعن ابن عباس – رضي الله عنهما- قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غداة جمع (يعني مزدلفة): "هلم ألقط لي"، فلقطت له حصيات هن حصى الخذف(1)، فلما وضعهن في يده قل: "نعم، بأمثال هؤلاء، وإياكم والغلو في الدين فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين"(2).
__________
(1) الخذف: هو رميك حصاةً أو نواة تأخذها بين سبابتيك وترمي بها. ابن الأثير، المبارك بن محمد الجزري (ت 544-606هـ)، النهاية في غريب الحديث والأثر، تحقيق: خليل مأمون شيحا، بيروت، دار المعرفة، ط1، 2001م، ج1، ص476.
(2) رواه أحمد، ص 188، رقم (1851)، وإسناده صحيح وأخرجه غيره من طرق متعددة.(15/25)
إن إقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - لاختيار ابن عباس لحجم الحصى التي تستعمل لرمي الجمار، بل وفي استشهاده - صلى الله عليه وسلم - لهذا الاختيار على قضية خطيرة في الدين ألا وهي التطرف والغلو، لدليل على نجاح ابن عباس فيما وكل به، ولا سيما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يبين له حجم الحصيات، وإبداع ابن عباس في اختيار الحصى أن غيره من أقرانه بل ومن هو أكبر منه سيختار الحصى الأكبر حجماً، وهو حل تقليدي، إلا أن فقه الغلام أدى به إلى أن يختار ما تقوم به الحاجة لأداء منسك من مناسك الحج، وأبعد من ذلك أنه أدرك قضية قد لا تخطر على بال، وهي أن في تكبير الحصى غلو وتشدد – لم يطلبه الشارع الكريم-، ولو في مثل هذه القضية اليسيرة، لأن بذرة الغلو تبدأ بسلوك يسير ثم ما تلبث أن تصبح ثقافة وديناً. فجاء الإقرار النبوي على اختيار الحصى، ولسان حاله - صلى الله عليه وسلم - يقول أحسنت الاختيار، ولسان المقال: "إياكم والغلو فإنما أهلك من كان قبلكم باللغو في الدين"، فكان اختيارك وسطياً معتدلاًً، وما ذلك إلا لفقهك يا ابن عباس.
3) الترشيح (ترشيح المعلم):(15/26)
يعد المعلم من أكثر الأشخاص التصاقاً ومعرفة بالطلبة، ولذلك يعد حكم المعلم من المحكات التي تستخدم بكثرة في انتقاء الموهوبين(1).
ولقد تكرر دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس بزيادة العلم والفقه وتحصيل الحكمة، كما مرّ معنا، ومن المعلوم أن دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - دعاء مستجاب، ثم أن دعاءه لابن عباس لم يأت من فراغ وإنما كان من خلال ما أظهره الغلام من استعدادات عقلية واضحة، فدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - شهادة له على البروز والتفوق.
ويمكن أن نضيف في هذا المجال ترشيح الصحابة له، فقد شهد لابن عباس عدد من أكابر الصحابة ممن تميزوا بالعلم ومن ذلك قول ابن مسعود - رضي الله عنه -: "نعم ترجمان القرآن ابن عباس"(2)، وهو ما يطلق عليه "ترشيح الزملاء" أو "تقدير الأقران"(3).
المطلب الثالث: طرق الرعاية النبوية لموهبة ابن عباس
__________
(1) حسين أبو فراش، دليل الأسرة والمعلم لتربية الموهوبين، مصدر سابق، ص 24.
(2) سبق تخريجه، ص9.
(3) انظر: د. عبد الرحمن بن سليمان ود. صفاء غازي، المتفوقون عقلياً، مصدر سابق، ص 125. وحسين أبو فراش، دليل الأسرة والمعلم لتربية الموهوبين، مصدر سابق، ص 24.(15/27)
لقد عاش ابن عباس - رضي الله عنه - في بيئة تقدر العلم وتحفز التفكير، بيئة الدين الجديد الذي يرفض التفكير التقليدي الموروث عن الآباء، الدين الذي حمل لواء العلم بقوله تعالى: { اقْرَأْ } [العلق: 1]، وقوله تعالى: { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء } [فاطر: 28]، وجعل نبيه - صلى الله عليه وسلم - الخيرية في أتباع هذا الدين مقرونة بالعلم والفقه فقال: "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين"(1).
وترى د. ناديا سرور أن للبيئة دور رئيس في تطور البعد النفسي والاجتماعي للمتميز، حيث يتفاعل معها الطفل الذكي ويتمكن من التعلم والنمو بشكل مناسب، وأن الاهتمام بتفاعل الطفل النفسي والاجتماعي لا يمكن أن يؤخذ بعين الاعتبار دون الاهتمام بالدرجة الأولى في البيئة الثقافية للتميز(2).
__________
(1) رواه البخاري، العلم، من يرد الله به خيراً، رقم (71).
(2) د. ناديا سرور، تربية المتميزين، مصدر سابق، ص 301.(15/28)
ولقد كان لبيئة المدينة العلمية التي يقودها النبي - صلى الله عليه وسلم - الأثر الواضح في تهيئة الاستعداد العقلي وتحقيق التفاعل النفسي الاجتماعي لابن عباس ومن ثم ظهور مواهبه وبروز إبداعه، من خلال رعاية تربوية نبوية للجوانب العقلية والاجتماعية والوجدانية بأساليب متعددة، ولا شك أن هذه الأساليب لن تكون مطابقة تماماً للأساليب المعاصرة لرعاية الموهوبين، إلا أنها من الناحية الجوهرية تماثل الأساليب المعاصرة ولكن بشكلها المناسب في ذلك الزمان.
أ) وسائل الرعاية النبوية للجوانب العقلية لموهبة ابن عباس:
1- إتاحة الفرص لابن عباس بإظهار موهبته.
لعل الخطوة الأولى والأهم في رعاية الموهوب تكون بإعطائه الفرصة لإظهار موهبته، وترى د. زينب شقير أن عدم اكتراث الوالدين لمواهب الأبناء وعدم وجود ما يزكيها في البيت مع عدم تقبل الوالدين أو المجتمع للأفكار الغريبة غير التقليدية لدى المتفوق، علامة على النظرة السلبية للمتفوق تشكل مشكلة أساسية في طريق الموهوب، قد تكون عائقاً لإبراز موهبته فيما بعد(1).
__________
(1) د. زينب شقير، رعاية المتفوقين، مصدر سابق، ص 57.(15/29)
وقد مرّ معنا من خلال حديث ابن عباس- قال: "أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - من آخر الليل فصليت خلفه، فأخذ بيدي فجرني فجعلني حذاءه، فلما أقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على صلاته خنست، فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما انصرف قال لي ما شأني أجعلك حذائي فتخنس؟ فقلت: يا رسول الله، أوينبغي لأحد أن يصلي حذاءك، وأنت رسول الله الذي أعطاك الله!! قال: "فأعجبته فدعا الله أن يزيدني علماً وفهماً".
فأنت ترى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - - أطلق العنان للغلام في التعبير عن ذاته، ولم يكبت جوابه بل وكافأه بالدعاء له.(15/30)
حديث آخر عن ابن عباس قال: "دخلت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنا وخالد بن الوليد على ميمونة فجاءتنا بإناء فيه لبن فشرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا على يمينه وخالد على شماله، فقال لي: الشربة لك، فإن شئت آثرت بها خالداً، فقلت: "ما كنت أوثر على سؤرك أحداً..." (1).
فالنبي - صلى الله عليه وسلم - يستأذن الغلام لأنه كان على يمينه بالسماح لخالد بن الوليد بالشرب لأنه أكبر منه سناً، إلا أن الغلام يجيب إجابة تدل على موهبته، وهو أنه لا يتنازل عن بركة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالشرب من سؤره - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) رواه الترمذي، الدعوات ما يقول إذا أكل طعاماً، رقم (3455)، ج5، ص 472، وقال حديث حسن. وأحمد في المسند، ص 192، رقم (904)، وفي إسناده علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف، إلا أن ابن ماجة رواه بإسناد آخر جيد في الأشربة. إذا شرب أعطى الأيمن، رقم (3426)، ج2، ص 1133، من طريق ابن جريج عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس به.(15/31)
وفي المقابل لم يقمع النبي - صلى الله عليه وسلم - الغلام في جوابه ولم يعنفه عليه، بل أقره على جوابه ولنا أن نلحظ الفرق بين سلوك النبي - صلى الله عليه وسلم - مع الغلام في هذا الموقف وسلوك عدد من الآباء في مثل هذا بدعوى أن هذا التصرف مخالف للآداب أو التقاليد، وعن موضوع ضرورة إتاحة الفرصة للمبدع لإظهار إبداعه يقول آرثر كروبلي: " إن الفشل في اكتشاف الطاقات الإبداعية الكامنة في نفوس الأفراد قد يكون ناشئاً عن عدم تعرضهم للبيئة المناسبة لشخصياتهم أو عدم إتاحة الفرصة لهم لإظهار قدراتهم"(1).
2- تنمية الميول الإبداعية لابن عباس:
__________
(1) آرثر كروبلي، الإبداع في التربية والتعليم ترجمة إبراهيم الحارثي ومحمد مقبل، الرياض، مكتبة الشقري، الطبعة الأولى، 2002م، ص 16.(15/32)
إن إدراك اهتمامات الموهوب وميوله خطوة مهمة نحو رعايته والاهتمام به، وذلك أن الموهوب له اهتمامات خاصة بنوع من أنواع المعرفة أو بفن من الفنون، وإهمال ميول المبدع أو محاولة التأثير عليها قد يقتل موهبته، لأن الموهبة في أساسها هي إشباع لرغبة ذاتية عند الموهوب. ولأهمية اهتمامات الموهوب تم إعداد ما يعرف "نموذج الاهتمامات" الذي يستخدم قبل عملية بناء المنهاج للكشف عن اهتمامات وميول الطلبة الذي أعده العالم (رنوزلي) (1).
وفي أكثر من حادثة أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - اهتمامات ابن عباس العلمية والفقهية فتراه يدعو له بزيادة الفقه والعلم وتحصيل الحكمة، قال ابن عباس: "ضمني النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى صدره وقال: "اللهم علمه الحكمة"، وقال:" اللهم علمه الكتاب"(2). وقد سبق دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم فقهه في الدين" بعد وضعه للوضوء للنبي - صلى الله عليه وسلم -.
3- تكليفه بحل المشكلات:
__________
(1) انظر: د. ناديا سرور، تربية المتميزين، مصدر سابق، ص 138.
(2) رواه البخاري، فضائل الصحابة، ذكر ابن عباس، رقم (3756).(15/33)
من طرق التدريب على الإبداع تعلم حل المشكلات، ويتم ذلك من خلال تدريب الأفراد على خطوات حل المشكلات، والمتمثلة في الحساسية العالية للمشكلة وتعريفها وفهمها وجمع المعلومات وطرح الأفكار للحل ووضع المعايير لتقييم وبلورة الفكرة الأفضل وتنفيذ الحل الأمثل(1).
ولقد كلف النبي - صلى الله عليه وسلم - حل مشكلة التقاط الحصى في الحج، عندما طلب منه أن يلقط له الحصى(2)، ولنا أن نتصور موقف ابن عباس حين كلف بذلك والتساؤلات التي دارت في خلده لماذا يريد الحصى؟ كم عدد الحصى؟ ما هو حجم الحصى؟ أيهما أنسب الكبيرة أم الصغيرة؟ ثم وصل على الحل: "إنها حصى الخذف" فهي المناسبة لأداء هذا المنسك!! وعندما جاء بها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "نعم، بأمثال هؤلاء... الحديث".
4- الإثراء (Enrichment):
يهدف هذا الأسلوب إلى تزويد التلاميذ الموهوبين بخبرات تعليمية متنوعة وجديدة ومعمقة في موضوعات ونشاطات تفوق ما يقدم للتلاميذ العاديين من مناهج تعليمية في الصفوف العادية(3).
__________
(1) انظر: د. ناديا سرور، مقدمة في الإبداع، مصدر سابق، ص 288.
(2) سبق تخريجه.
(3) انظر: د. الزعبي، التربية الخاصة للموهوبين، مصدر سابق، ص 68.(15/34)
وعلى هذا فحقيقة برامج الإثراء: أن يقدم للطفل الموهوب ما يناسب استعداده العقلي الذي يفوق أقرانه حتى يحقق ذاته.
وفي وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس – رضي الله عنهما- تجده أن يخاطبه بأسلوب راق عن قضايا وجودية كبرى كالإيمان بالله ومستلزماته كالدعاء والسؤال، والإيمان بالقدر.
ومن يسمع هذه الوصية يتساءل كيف يخاطب النبي - صلى الله عليه وسلم - غلاماً بمثل هذه الموضوعات!! إلا إن إدراك النبي - صلى الله عليه وسلم - لاستعداد ابن عباس العقلي لقبول مثل هذه الوصية، جعله يخصه – دون غيره – من الغلمان بهذه الوصية.
قال ابن عباس – رضي الله عنهما- أنه ركب خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا غلام إني معلمك كلمات : احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، وإذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف"(1).
__________
(1) رواه الترمذي، كتاب صفة القيامة، باب .... رقم (2516) ج4، ص 575. وقال: حسن صحيح، ورواه أحمد، ص 245، رقم (2669).(15/35)
ونحوه برنامج التسريع (التكبير) (Acceleration).
ويهدف إلى اختصار سنوات الدراسة للأطفال الموهوبين في المجال الأكاديمي، بحيث يتمكن الطفل الموهوب من إنهاء المرحلة التعليمية في فترة زمنية أقل من الفترة التي يستغرقها الطفل العادي(1).
وفي قصة إدخال عمر بن الخطاب ابن عباس إلى مجالس الكبار، واعتراض الكبار على ذلك بقولهم: "لم تدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله..." (2) ما يشير إلى تطبيق جوهر هذه الفكرة لأن عمر أراد أن يلحق ابن عباس بمجالس علم الكبار، والله أعلم.
ب) وسائل الرعاية النبوية للجوانب الاجتماعية لابن عباس.
إن للأطفال الموهوبين القدرة على التكيف الاجتماعي السليم إن أعطيت لهم هذه الفرصة، بمعنى أن لديهم القدرة على التكيف السليم إذا عوملوا معاملة مناسبة(3).
__________
(1) انظر: د. عبد الرحمن سيد سليمان ود. صفاء غازي، المتفوقون عقلياً، مصدر سابق، ص 191.
(2) سبق تخريجه.
(3) انظر: المعايطة والبواليز، التفوق والموهبة، مصدر سابق، ص 62.(15/36)
ولقد أظهر النبي - صلى الله عليه وسلم - اهتماماً خاصاً بابن عباس في الجوانب الاجتماعية فهو يشركه في عدد من زياراته ويحسن معاشرته ويرافقه في تنقلاته، بل ويأذن له في المبيت في بيته.
ونلمح عدة وسائل نبوية تحقق التكيف الاجتماعي لابن عباس:
1- المخالطة وحسن العشرة: إن المتتبع لحياة ابن عباس مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يدرك أنها علاقة الوالد بابنه، فلذلك كان يرافقه في المجالس والمحافل، فقد سئل ابن عباس أشهدت العيد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم، ولولا مكاني منه ما شهدته لصغري... الحديث"(1).
فرغم صغر سنه إلا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اصطحبه إلى صلاة العيد، وقد أحسن ابن عباس بهذه الخصوصية فلذلك قال: "لولا مكاني منه".
ومما سبق حديث ابن عباس في قصة شرب اللبن مع خالد بن الوليد، مما يدل على مرافقته النبي - صلى الله عليه وسلم - في حضور المجالس(2).
2- مشاركته للنبي- صلى الله عليه وسلم - في تنقله: كما حدث ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يردفه على دابته(3).
__________
(1) رواه أحمد، ص 201، رقم (2062)، وإسناده صحيح.
(2) سبق تخريجه، ص11.
(3) سبق تخريجه، ص14.(15/37)
3- المبيت في بيت النبي - صلى الله عليه وسلم -: ومن حسن رعاية النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس أنه أذن له في المبيت في بيته، فعن كريب أن ابن عباس أخبره أنه بات عند ميمونه وهي – خالته- فاضطجعت في عرض الوسادة، واضطجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأهله في طولها... الحديث(1)، وذكر ابن حجر رواية أخرى وفيها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طلب منه المبيت، فقال: "يا بني بت الليلة عندنا...." (2).
ج) وسائل الرعاية النبوية للجوانب الوجدانية:
إن تهيئة المناخ النفسي المناسب للموهوبين يشعرهم بالأمن والاستقرار واحترام الذات ليتمكنوا من تدعيم إنجازاتهم وتحقيق طموحاتهم(3).
ولقد سلك النبي - صلى الله عليه وسلم - عدة طرق لتهيئة المناخ النفسي الوجداني لابن عباس على النحو الآتي:
1- تنمية الدافعية:
__________
(1) رواه البخاري، الوتر، ما جاء في الوتر، رقم (992).
(2) ابن حجر، فتح الباري بشرح صحيح البخاري، مصدر سابق، ج2، ص 482.
(3) انظر: د. الزعبي، التربية الخاصة للموهوبين، مصدر سابق، ص 79.(15/38)
سبق أن ذكرنا أن نظرية (رينوزلي ) في الموهبة حيث جعل المثابرة والدافعية مكوناً أساسياً لها، وفي هذا المجال نجد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ينمي دافعية ابن عباس من خلال أسلوب الدعاء في أكثر من موضع "اللهم فقهه في الدين" "اللهم علمه الحكمة" "اللهم علمه الكتاب".
كما أظهر النبي - صلى الله عليه وسلم - إعجابه بموهبة ابن عباس، كما يقول: "فأعجبته فدعا الله أن يزيدني علماً وفهماً"(1).
2- تحقيق الذات:
يعد "تحقيق الذات" أساساً في وجدان الموهوب فهو يسعى لتأكيد ذاته وإثبات قدراته، وفي أكثر من حادثة يظهر إشباع النبي - صلى الله عليه وسلم - لحاجة ابن عباس في تحقيق ذاته، فتأمل استئذان النبي - صلى الله عليه وسلم - ابن عباس في قصة شرب اللبن عندما كان هو عن يمينه وخالد بن الوليد عن يساره، ثم قبول النبي - صلى الله عليه وسلم - جواب ابن عباس: "لا أؤثر بسؤرك أحد".
وانظر كيف أدرك ابن عباس هذه الخصوصية في إشباع ذاته في قوله عندما سئل أشهدت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - العيد؟ قال: "نعم ولولا مكاني منه ما شهدته...".
3- العطف والحنان:
__________
(1) سبق تخريجه، ص9.(15/39)
لقد عامل النبي - صلى الله عليه وسلم - ابن عباس برحمة بالغة، فهو يضمه إلى صدره ويقول: "اللهم علمه الكتاب"، وهو يخاطبه بعبارة التودد: "يا غلام" وهو ينام على وسادة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى غير ذلك من مواقف الحنو التي أثرت تأثيراً إيجابياً في شخصية ابن عباس.
وخلاصة القول أن التوجيه المبكر والرعاية الأولية التي أولاها النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس أثناء طفولته فضل عظيم في نضوج مواهبه(1).
المطلب الرابع: صفات معلم الموهوبين من خلال رعاية النبي - صلى الله عليه وسلم - لموهبة ابن عباس.
يعد معلم الموهوبين ركناً أساسياً في عملية رعاية الموهوبين ولذلك لا بد أن يتصف بصفات عامة لإنجاح العملية التربوية الخاصة بالموهوبين(2)، ومن خلال الرعاية النبوية تظهر عدة صفات للنبي - صلى الله عليه وسلم - كمعلم للموهوبين، يمكن إجمالها على النحو الآتي:
__________
(1) انظر: الجديبي، رعاية الموهوبين في ظل منهج التربية الإسلامية، مصدر سابق، ص 177.
(2) انظر: د. عبد الرحمن سيد ود. صفاء غازي، المتفوقون عقلياً، مصدر سابق، ص 161.(15/40)
1- العلم: فالنبي - صلى الله عليه وسلم - أدرك موهبة ابن عباس وفهم ميوله، وعلم كيفية تنمية مواهبه، فتراه يعزز موهبته وينمي دافعيته، ويمنحه الفرصة الكاملة لإظهار قدراته.
2- الصبر وسعة الصدر: فمن خلال ما ذكرنا من طرق الرعاية النبوية لموهبة ابن عباس نجد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يضجر من سلوك ابن عباس، فلذلك لم يعنفه أو يكبت موهبته، تأمل موقف النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما استأذن ابن عباس بالسماح لخالد بن الوليد بشرب اللبن قبله، فرغم عدم قبول ابن عباس لذلك بقوله: "لا أوثر بسؤرك أحداً"، فقد تقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك برحابة صدر.
3- الاحترام والتقدير: فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن واسع الصدر في تعامله مع ابن عباس فحسب، بل قدّر واحترم قدرات ابن عباس، ولا أدل على ذلك من دعائه له في أكثر من مناسبة: "اللهم علمه الحكمة وتأويل القرآن"، "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل"، "اللهم زده علماً وفقهاً"(1).
__________
(1) قال ابن عبد البر، يوسف بن عبد الله القرطبي (463ه)، الاستيعاب في معرفة الأصحاب، تحقيق: عادل مرشد، الرياض، دار الإعلام، ط1، 1423/2002م، قال: (وهي كلها أحاديث صحاح).(15/41)
4- المرونة: وهذا من خلال تعدد طرق الرعاية النبوية لابن عباس، ومن خلال الخروج عن المألوف والتجديد في هذه الطرق.
5- بعد النظر (النظرة المستقبلية): فالنبي - صلى الله عليه وسلم - استشرف المستقبل لموهبة ابن عباس من خلال الدعاء له بالفقه والعلم والتأويل، وكأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلم حاجة الأمة لأمثال ابن عباس لفقه القرآن وتفسيره وهذا ما تحقق في مستقبل الأيام عندما أصبح ابن عباس حبر الأمة وترجمان كتابها.
6- القدوة الحسنة: لقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - المثل الأعلى لابن عباس في علمه وخلقه ودينه، ولذلك رأينا المراقبة الدقيقة لابن عباس لما يفعله النبي - صلى الله عليه وسلم - وتأمل مراقبة ابن عباس للنبي - صلى الله عليه وسلم - في قيامه بالليل كيف يصفه وصفاً دقيقاً من شدة تعلقه وتأسيه بالنبي - صلى الله عليه وسلم -(1).
المطلب الخامس: خصائص الرعاية النبوية لموهبة ابن عباس.
__________
(1) انظر في صفات معلم الموهوبين، د. عبد الرحمن سيد ود. صفاء غازي، المتفوقون عقلياً، ص 165-166. مصدر سابق.(15/42)
امتازت رعاية النبي - صلى الله عليه وسلم - لموهبة ابن عباس بخصائص عدة تميزها عن غيرها من المناهج في رعاية الموهوبين، ولعل من أهمها أنها "ربّانية" ونعني بذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وجه موهبة ابن عباس لخدمة دين الله، وأوصى ابن عباس أن يسخر موهبته في سبيل الله، فدعاؤه - صلى الله عليه وسلم - "اللهم فقهه في الدين"، "اللهم علمه الحكمة"، "اللهم زده علماً..."، كل ذلك توجيه لابن عباس أن يجعل موهبته لله تعالى علماً وسلوكاً وإرشاداً.
وهذا ما ينبغي التنبه له عند وضع برامج رعاية الموهوبين، بأن ننقل الموهوب من مجرد تحقيق الذات إلى ما هو أبعد من ذلك، وهو خدمة الأمة وتحقيق مصالحها فهذه ربانية الغاية والهدف.
كما أن في دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "اللهم" بيان لمصدر الموهبة، فالموهبة منحة إلهية، وهي فضل من الله على العبد، وهذه ربانية المصدر، فالموهبة من الله ولله تعالى.
ولا نعني أن الموهبة من الله إلغاء دور الإنسان في تنميتها وتطويرها، فالإنسان له دور فاعل في تحصيل الموهبة والكشف عنها وزيادتها وتوجيهها.(15/43)
وبما أن الموهبة ربانية، فعلى الإنسان أن يوجه هذه الموهبة بما يوافق شرع الله وبما يتناسب مع أحكام الدين ومقاصده، والناظر في أحوال رعاية الموهوبين ولا سيما في الغرب يدرك مدى إغفال الجانب الديني والأخلاقي في توجيه الموهوبين حتى يصل إلى درجة استغلال المواهب لأسوأ المقاصد؛ كالإفساد والتدمير والسيطرة على الآخرين.
والخاصية الثانية: "الشمول والتوازن" فالنبي - صلى الله عليه وسلم - في رعايته لموهبة ابن عباس لبى جميع احتياجات الموهوب العقلية والوجدانية والاجتماعية، من غير أن يطغى جانب على آخر.
كما امتازت الرعاية النبوية لموهبة ابن عباس "بالإيجابية" ونعني بها أنها كانت تسير نحو تحقيق هدفها، ابتداءً من الكشف عن موهبة ابن عباس وتنميتها وتنوع أساليب رعايتها وإتاحة الفرصة لإظهارها وتعزيز دافعية ابن عباس لها، انتهاءً بتوجيهها وإرشادها وإثرائها.
المبحث الثالث: سمات وآثار موهبة ابن عباس والعوامل المساهمة بها.
المطلب الأول: السمات المميزة لموهبة ابن عباس.(15/44)
تبين معنا أن الموهوب يمتاز بخصائص تميزه عن الآخرين سواء في الجوانب العقلية أو الاجتماعية أو الوجدانية، وفي هذا المطلب نعرض لأهم السمات الشخصية لموهبة ابن عباس.
أ- السمات العقلية:
1- المراقبة الدقيقة وقوة الملاحظة:
فانظر إليه كيف يراقب النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الليل، حيث يقول: "بت في بيت خالتي ميمونة، فرقبت كيف يصلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: فقام فبال ثم غسل وجهه وكفيه، ثم نام، ثم قام إلى القربة فأطلق شناقها ثم صب في الجفنة أو القصعة فأكبه بيده عليها، ثم توضأ وضوءاً حسناً بين الوضوءين ثم قام يصلي... الحديث(1).
فوصف صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - في جميع مراحلها عند القيام من النوم والوضوء بتفاصيله ثم الصلاة والدعاء.
__________
(1) رواه مسلم، صلاة المسافرين، الدعاء في صلاة الليل، رقم (763).(15/45)
ومن دقة ملاحظته وصفه الدقيق لطريقة تحريك النبي - صلى الله عليه وسلم - لشفتيه في القرآن، فيقول: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعالج من التنزيل شدة وكان مما يحرك شفتيه". فقال ابن عباس: فأنا أحركهما لكم كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحركهما... الحديث"(1).
2- حب الاستطلاع وكثرة السؤال:
وهذا يتضح من خلال فضوله في مراقبة النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث بيت النية لتحقيق هذا الفضول، حيث يقول: "بت ليلة عند خالتي ميمونة بنت الحارث فقلت لها: إذا قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأيقظيني..." وفي رواية أخرى يقول: "رقدت في بيت ميمونة ليلة كان النبي - صلى الله عليه وسلم - عندها لأنظر كيف صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالليل... الحديث"(2).
قال ابن حجر: "وكان عزم على نفسه على السهر ليطلع على الكيفية التي أرادها، ثم خشيء أن يغلبه النوم فوصى ميمونة أن توقظه"(3).
__________
(1) رواه البخاري، بدء الوحي، باب .... رقم (5).
(2) رواه مسلم، صلاة المسافرين، الدعاء في صلاة الليل، رقم (763).
(3) انظر: ابن حجر، فتح الباري بشرح صحيح البخاري، مصدر سابق، ج2، ص 482.(15/46)
ويقول ابن عباس: "إن كنت لأسأل عن الأمر الواحد ثلاثين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -"(1). وقد سبق وصف عمر - رضي الله عنه - لابن عباس بقوله: "له لسان سؤول".
3- تميزه بقدرات الحفظ والتذكر:
قال ابن عباس: "سلوني عن التفسير فإني حفظت القرآن وأنا صغير"(2).
4- إدراك الروابط بين الأشياء المتباعدة، وانتباهه إلى أمور لا ينتبه إليها الآخرون، فانظر إليه كيف فسر سورة النصر، بربطه بين الفتح والأمر بالتسبيح والاستغفار، بدنو أجل النبي- صلى الله عليه وسلم -، لأنه أدى الأمانة التي وكل بها.
ثم كيف انتبه إلى هذا الرابط بينما لم ينتبه إليه الآخرون من الكبار، ففسروا الآية على ظاهرها.
5- الخروج عن النمط السائد في التفكير:
__________
(1) أورده الذهبي، سير أعلام النبلاء، مصدر سابق، ج3، ص 344، وقال إسناده صحيح.
(2) أورده ابن حجر، فتح الباري في شرح صحيح البخاري عند شرحه لترجمة البخاري، باب تعليم الصبيان القرآن في كتاب فضائل القرآن، ج9، ص 84. وقال: أخرجه ابن سعيد وغيره بإسناد صحيح.(15/47)
وهذا جليٌّ في طريقة تفسيره لسورة النصر، وكذلك في قصة شرب اللبن مع النبي - صلى الله عليه وسلم - واستئذان النبي - صلى الله عليه وسلم - منه لتشريب خالد بن الوليد - رضي الله عنه - قبله لأنه أكبر سناً، فالنمط السائد أن الصغير يتنازل عن حقه، إلا أنه خرج عن هذا النمط فأجاب جواباً إبداعياً: "لا أوثر بسؤرك أحداً" ولم يتنازل عن حقه في تحصيل بركة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
6- القدرة على حل المشكلات:
فكان عمر - رضي الله عنه - إذا جاءته الأقضية المعضلة قال لابن عباس : إنها قد طرت لنا أقضية وعُضل، فإنك لها ولأمثالها ثم يأخذ بقوله، وما كان يدعو لذلك أحد سواه(1).
__________
(1) أورده الجزري: علي بن محمد الجزري (555ه/ 630ه) أسد الغابة في معرفة الصحابة، تحقيق: خليل شيحا، بيروت، دار المعرفة، الطبعة الأولى، 1997م.(15/48)
وفي حله لمشكلة الخوارج الذين خرجوا على أمير المؤمنين – علي بن أبي طالب – - رضي الله عنه - دليل آخر على قدراته في حل المشكلات، فعن ابن عباس قال: لما اعتزلت الحرورية – الخوارج- وكانوا على حدتهم قلت لعلي: يا أمير المؤمنين ابدد عن الصلاة لعلي آتي القوم فأكلمهم قال: أني أتخوفهم عليك، قلت كلا إن شاء الله ... الحديث". وفيه مناظرة ابن عباس لهم وإقامة الحجة عليهم وإزالة شبههم، وفيه "فرجع منهم عشرون ألفاً وبقي منهم أربعة آلاف فقتلوا"(1).
7- الاستعداد الذهني وسرعة البديهة:
__________
(1) رواه الطبراني: أحمد بن سليمان (ت 360ه)، المعجم الكبير، تحقيق: مجدي السلفي، بغداد، وزارة الثقافة، ج10، ص 314 رقم (10598)، وإسناده صحيح، وقال الهيثمي، علي بن أبي بكر (807ه) مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، القاهرة، دار الريان، د. ط، ج6، ص 240، ورجاله رجال الصحيح.(15/49)
فعن ربعي بن خراش قال: "سأل معاوية - رضي الله عنه - ابن عباس عن مسائل فأجابه، فقال معاوية: صدقت يا ابن عباس: أشهد إنك لسان أهل بيتك ثم قال لمن عنده: ما كلمته قط إلا وجدته مستعداً"(1).
8- الطلاقة اللغوية:
فقد كان ابن عباس خطيباً مؤثراً، قال أبو وائل: خطبنا ابن عباس وهو أمير على الموسم – أي موسم الحج- فافتتح سورة النور فجعل يقرأ ويفسر، فجعلت أقول: ما رأيت ولا سمعت كلام رجل مثل هذا، ولو سمعته فارس والروم والترك لأسلمت(2).
ب- السمات الوجدانية:
1- قوة الدافعية:
امتازت شخصية ابن عباس منذ الصغر بالمثابرة وعلو الهمة، قال ابن عباس: لما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلت لرجل من الأنصار: يا فلان، هلمّ فلنسأل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنهم اليوم كثير.
__________
(1) روه أبو نعيم الأصبهاني: أحمد بن عبد الله بن أحمد (ت 430ه) معرفة الصحابة، تحقيق: محمد حسن ومسعد السعدني، بيروت، دار الكتب العلمية، ط1، 2002م، ج3، ص 181.
(2) رواه الحاكم، المستدرك على الصحيحين، بيروت، دار المعرفة، د.ط، ج3، ص 537، وأورده الذهبي، سير أعلام النبلاء، ج3، ص 351.(15/50)
فقال: واعجبا لك يا ابن عباس أترى الناس يحتاجون إليك وفي الناس من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - من ترى؟ فترك ذلك، وأقبلت على المسألة فإن كان ليبلغني الحديث عن الرجل فآتيه وهو قائل، فأتوسد ردائي على بابه، فتسفي الريح على وجهي التراب فيخرج فيراني: يا ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - ما جاء بك؟ ألا أرسلت إليّ فآتيك؟ فأقول: أنا أحق أن آتيك، فأسأله عن الحديث.
قال: وعاش ذلك الرجل الأنصاري حتى رآني، وقد اجتمع الناس حولي ليسألوني، فيقول: هذا الفتى أعقل مني(1).
2- الثقة بالنفس وتحقيق الذات:
__________
(1) رواه ابن سعد، الطبقات، ج2، ص 281. والدارمي، عبد الله بن عبد الرحمن (181-255ه) السنن، تحقيق: فواز زمرلي وخالد السبع العلمي، بيروت، دار الكتاب العربي، ط1، 1407ه/ 1987م، ج1، ص 150، رقم (570)، وصححه الحاكم في المستدرك، ج3، ص 538، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد، ج9، ص 277: "رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح"، وأورده الذهبي في سير أعلام النبلاء، ج3، ص 343.(15/51)
ففي قصة تفسيره لسورة النصر قال ابن عباس: "كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر، فقال بعضهم لم تدخل هذا الفتى معنى ولنا أبناء مثله؟ فقال: إننه ممن علمتم، قال: فدعاهم ذات يوم ودعاني معهم قال: "وما رأيته دعاني يومئذ إلا ليريهم مني" فتأمل رغبته في إثبات الذات وقوة الثقة بالنفس كيف يقول الغلام "إلا ليريهم مني" أي يريهم موهبتي.
3- قبول التحدي:
وفي القصة السابقة نلمح سمة أخرى في شخصية ابن عباس وهي قبول التحدي وحب المغامرة المدروسة، فإن في الدخول في مجلس "أشياخ بدر" تحد في حد ذاته، فما بالك بالتحدي الأكبر أن يسألهم عمر عن تفسير آية فلا يعجبه قولهم، ثم يطلب من الغلام أن يفسرها فيعجب بتفسيره، ولسان حال يقول: "لقد نجح في المغامرة واجتاز التحدي بكل ثقة".
ولعل التحدي الأكبر الذي كان يواجه ابن عباس - رضي الله عنه - ترشيح النبي - صلى الله عليه وسلم - من خلال الدعاء له "اللهم علمه التأويل"، وكأنني بابن عباس وهذا الدعاء يذكره بعظم المسؤولية التي أوكلت إليه ليفسر كتاب الله تعالى، وهذا التحدي العظيم، ولكن ابن عباس كان على قدر التحدي.
4- الطموح:(15/52)
ففي قصة ابن عباس مع الأنصاري عندما دعاه ابن عباس إلى طلب العلم، قال الأنصاري وهو يرى ابن عباس يتوقد طموحاً: "واعجبا لك يا ابن العباس أترى الناس يحتاجون إليك...". وما هي إلا سنوات حيث حقق ابن عباس طموحه، فيقول الأنصاري حين رأى الناس يجتمعون على ابن عباس: "هذا الفتى أعقل مني".
وفي الدعاء النبوي لابن عباس: "اللهم فقهه في الدين" و"علمه التأويل" بعث هذا الطموح في نفس ابن عباس، لأنه يعلم أن دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لا بد أن يتحقق إلا أنه مع ذلك لم يتكل على الدعاء بل كان يجمع بين بركة الدعاء ودافع الطموح وعلو الهمة.
ج) السمات الاجتماعية:
1- القدرة على النقاش والحوار والإقناع:(15/53)
ففي قصة مناظرته للخوارج ما يدل على قدرات ابن عباس الحوارية والإقناعية، قال ابن عباس: فدخلت فقالوا مرحباً يا ابن عباس، لا تحدثوه وقال بعضهم لنحدثنه، قال: قلت أخبروني ما تنقمون على ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وختنه وأول من آمن به، وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معه، قالوا: ننقم عليه ثلاثاً، قلت: ما هن؟! قالوا أولهن أنه حكم الرجال في دين الله وقد قال الله تعالى: { ِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ } [يوسف: 40]، قلت وماذا؟ قالوا: قاتل ولم يسب ولم يغنم، لئن كانوا كفاراً لقد حلت أموالهم وإن كانوا مؤمنين لقد حرمت عليه دماؤهم، قال: قلت وماذا؟ قالوا: محى نفسه من أمير المؤمنين. قال قلت: أرأيت إن قرأت عليكم من كتاب الله المحكم وحدثتكم من سنة نبيكم - صلى الله عليه وسلم - ما لا تنكرون أترجعون؟ قالوا: نعم.(15/54)
قال: أما قولكم إنه حكم الرجال في دين الله فإنه تعالى يقول: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ } إلى قوله { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ } [المائدة: 95]، وقال في المرأة وزوجها: { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا } [النساء: 35]، أنشدكم الله أفحكم الرجال في دمائهم وأنفسهم وصلاح ذات بينهم أحق أم في أرنب ثمنها ربع درهم؟! قالوا: اللهم في حقن دمائهم وأنفسهم وصلاح ذات بينهم. قال: أخرجت من هذه؟ قالوا: نعم.
وأما قولكم أنه قتل ولم يسب ولم يغنم- أي في معركة الجمل- أتسبون أمكم – يعني عائشة أم المؤمنين- أم تستحلون منها ما تستحلون من غيرها فقد كفرتم وإن زعمتم أنها ليست بأمكم فقد كفرتم وخرجتم من الإسلام، إن الله تبارك وتعالى يقول: { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } [الأحزاب: 6]، وأنتم تترددون بين ضلالتين فاختاروا أيهما شئتم، أخرجت من هذه. قالوا: اللهم نعم.(15/55)
وأما قولكم محا نفسه من أمير المؤمنين فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - دعا قريشاً يوم الحديبية أن يكتب بينه وبينهم كتاباً. فقال: اكتب هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب محمد بن عبد الله، فقال: والله إني لرسول الله وإن كذبتموني. اكتب يا علي محمد بن عبد الله، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان أفضل من علي، أخرجت من هذه؟! قالوا: اللهم نعم.
فرجع منهم عشرون ألفاً وبقي منهم أربعة آلاف فقتلوا"(1).
فانظر إلى قدرته على الإقناع وإدارة الحوار!! حيث استمع إليهم وأنصت ثم بدأ بالرد على شبههم سائلاً إياهم أخرجت من هذه فإن أقروا انتقل إلى شبه أخرى وهكذا حتى أقنعهم.
2- التوافق الاجتماعي مع الكبار:
تميز ابن عباس بقدرته على التوافق الاجتماعي مع الكبار فكان يجالسهم ويحاورهم وهو صغير السن، ولقد ذكرنا ذلك في أكثر من حادثة في قصة تفسيره سورة النصر واعتراض القوم على عمر لكثرة ما كان يدخله مجلس الكبار، وكذا في قصته مع خالد - رضي الله عنه - في مجلس النبي - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) سبق تخريجه، ص19.(15/56)
ونعني بالتوافق الاجتماعي هنا أنه كان قد تمرس على مجالس الكبار فلا يهاب الحديث والحوار والنقاش بل والتحدي أحياناً كما في قصة تفسير سورة النصر.
3- تحمل المسؤولية:
لقد شعر ابن عباس بالمسؤولية منذ صغره، وما أوردناه في قصته مع الأنصاري في طلب العلم يدل على ذلك، حيث يقول للأنصاري: "يا فلان هلمّ نسأل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنهم اليوم كثير.." الحديث، وفي قصة مناظرته مع الخوارج ما يدل على أنه أدرك عظم المسؤولية فهو الذي يشير على علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أن يذهب لمناظرتهم مع علمه بجدتهم وشدتهم فيقول: "لما اعتزلت الحرورية وكانوا على حدتهم قلت لعلي: يا أمير المؤمنين ابدد عن الصلاة لعلّي آتي هؤلاء القوم فأكلمهم. قال: إني أتخوف عليك. قلت: كلا إن شاء الله .... الحديث".
هذه السمات التي تميز بها ابن عباس - رضي الله عنه - في الجوانب العقلية والوجدانية والاجتماعية.(15/57)
ذكر التربويون كثيراً منها كخصائص للموهوبين، ومن ذلك قول بارون : "أنهم يمتازون بقوة الملاحظة، يصفون بدقة ما حدث، يرون الأشياء كما يراها الآخرون، ويرون أبعاداً أخرى لا يراها الآخرون، مستقلين في حصولهم على المعرفة لديهم دافعية كبيرة لإنجاز تمارين معينة، ولدوا بعقلية متفتحة وذات سعة كبيرة للتفكير بعدة أفكار في وقت واحد..."(1).
المطلب الثاني: آثار ونتائج موهبة ابن عباس – رضي الله عنهما-.
كان لموهبة ابن عباس – رضي الله عنهما- آثاراً عديدة سواء على المستوى الشخصي أو على مستوى الأمة بأكملها.
أما على المستوى الشخصي فظهرت في أكثر من مجال، في المجال العلمي والإداري والاجتماعي.
__________
(1) نقلته د. ناديا سرور، مقدمة في الإبداع، ص 102، مصدر سابق.(15/58)
أما في المجال العلمي فقد عدّ ابن عباس ترجمان القرآن وإمام الفقه، بل كان موسوعة علمية، فقد قال عنه ابن مسعود - رضي الله عنه -: "نعم ترجمان القرآن ابن عباس"(1). وقال مجاهد: "كان ابن عباس يقال له البحر من كثرة علمه"(2).
وقال طاووس: "ما رأيت رجلاً أعلم من ابن عباس"(3).
وقال عطاء: "كان ناس يأتون ابن عباس للشعر وناس للأنساب وناس لأيام العرب ووقائعها، فما منهم من صنف إلا يقبل عليه بما شاء"(4).
أما في المجال الإداري، فقد كان عمر - رضي الله عنه - يستشيره ويقربه، فعن يعقوب بن زيد قال: "كان عمر يستشير ابن عباس في الأمر إذا أهمه"(5).
__________
(1) سبق تخريجه وإسناده صحيح.
(2) رواه ابن سعد في الطبقات، ج2، ص 280، وإسناده صحيح، والحاكم في المستدرك، ج3، ص 535. وأورده الذهبي في السير، ج3، ص 350.
(3) رواه ابن سعد في الطبقات، ج2، ص 280 وإسناده صحيح.
(4) رواه ابن سعد في الطبقات، ج2ن ص 280 وإسناده صحيح.
(5) نقله الذهبي: سير أعلام النبلاء، ج3، ص 346.(15/59)
وعن عبد الله بن عبد الله بن عتبة قال: "إن عمر كان إذا جاءته الأقضية المعضلة قال لابن عباس إنها قد طرت لنا أقضية وعضل فإنك لها ولأمثالها، ثم يأخذ بقوله، وما كان يدعو لذلك أحد سواه"(1).
وكان علي - رضي الله عنه - يستشيره في أمور الدولة وولاه ولاية البصرة، وكان قائد الميسرة في جيش علي يوم صفين(2).
وأما في المجال الاجتماعي فقد كانت لابن عباس - رضي الله عنه - مكانة عالية في المجتمع، يقول أبو صالح: "لقد رأيت من ابن عباس مجلساً لو أن جميع قريش فخرت به لكان فخراً، لقد رأيت الناس اجتمعوا حتى ضاق بهم الطريق، فما كان أحد يقدر على أن يجيء ويذهب..."(3).
__________
(1) رواه ابن الجزري: أسد الغابة، ج3، ص 8. مصدر سابق، وفي إسناده انقطاع بين عبد الله بن عبد الله بن عيينة وعمر بن الخطاب.
(2) انظر: الذهبي، سير أعلام النبلاء، ج3، ص 353.
(3) رواه أبو نعيم الأصفهاني، أحمد بن عبد الله بن أحمد (430ه)، حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، تحقيق: مصطفى عطا، بيروت، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، ن1418ه/ 1997م، ج3، ص 396.(15/60)
أما على مستوى الأمة فقد كانت إمامة ابن عباس في علم التفسير لها أثر واضح على هذا العلم، فهو صاحب مدرسة مكة التفسيرية وهي من أشهر مدارس التفسير في زمن الصحابة، يقول ابن تيمية: "وأما التفسير فإن أعلم الناس به أهل مكة لأنهم أصحاب ابن عباس"(1).
ولقد ساهم - رضي الله عنه - في وضع منهج التفسير الأمثل للقرآن الذي يعتمد على النص والاجتهاد واللغة، فعن عبيد الله بن أبي يزيد قال: "كان ابن عباس إذا سئل عن الأمر فإن كان في القرآن أخبر به، وإن لم يكن في القرآن وكان عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبر به، فإن لم يكن في القرآن ولا عن رسول الله وكان عن أبي بكر وعمر أخبر به، فإن لم يكن في شيء من ذلك اجتهد رأيه"(2).
__________
(1) ابن تيمية، أحمد بن عبد الحليم (ت 872ه)، مقدمة في أصول التفسير، تحقيق: محمود نصار، القاهرة، دار التربية للطباعة والنشر، د.ط، ص 71.
(2) رواه ابن سعد، الطبقات، ج2، ص 280، وإسناده حسن.(15/61)
وعن سعيد بن جبير ويوسف بن مهران: "أن ابن عباس كان يسأل عن القرآن كثيراً فيقول هو كذا وكذا: أما سمعتم الشاعر يقول كذا وكذا"(1).
كما كان - رضي الله عنه - يحذر من الإسرائيليات في التفسير وغيره، روى البخاري عن ابن عباس قال: "كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء، وكتابكم الذي أنزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحدث تقرؤونه محضاً لم يشب، وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدلوا كتاب الله وغيروه، وكتبوا بأيديهم الكتاب وقالوا هو من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً، لا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم، لا والله ما رأينا منهم رجلاً يسألكم عن الذي أنزل عليكم"(2)، كما يعد ابن عباس – رضي الله عنهما – مؤسس "التفسير الإشاري"، حيث يتم تفسير النص على غير ظاهره وفق ضوابط الشرع واللغة، وذلك عندما فسر سورة النصر بنعي النبي - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) رواه ابن سعد، الطبقات، ج2، ص 280، وفي إسناده علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف.
(2) رواه البخاري، الاعتصام، "لا تسألوا أهل الكتاب"، رقم (7363).(15/62)
ولا أدل على أثر موهبة ابن عباس – رضي الله عنهما- في التفسير اعتماد المفسرين من بعده على تفسيره فقلما تجد كتاباً في التفسير لا يحتج بتفسير ابن عباس.
المطلب الثالث : العوامل المساهمة في موهبة ابن عباس – رضي الله عنهما-
اشتركت عدة عوامل في تكوين موهبة ابن عباس – رضي الله عنهما- أولها: أنها هبة الله يمنحها لمن أراد من خلقه، وهذا هو العامل الأساسي لكل موهبة، يتمتع بها الموهوب، فالله هو خالق الموهوب وخالق موهبته، ثم إن الله هو الذي أودع قدرات الموهبة في الإنسان، وهذا للأسف قد تغفله كتب التربية الغربية وسار على طريقتهم بعض الباحثين التربويين من المسلمين، وأحياناً يطلقون عليه الاستعداد الفطري للموهوب، ولكن حقيقة الاستعداد الفطري أنه منحة إلهية لهذا الموهوب.(15/63)
العامل الثاني: بركة الدعاء النبوي لابن عباس، وهذا العامل مرتبط بالعامل الأول بشكل كبير، فإن دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - مستجاب وقد دعا لابن عباس في أكثر من مناسبة بالحكمة والعلم، بل وعند ولادته أتت به أمه للنبي - صلى الله عليه وسلم - فسماه عبد الله ووضع في فيه من ريقه الشريف ثم قال لها: "اذهبي فلتجدنه كيساً... الحديث"(1). وفي دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس تعليم للأمة بالدعاء لأبنائها بتحصيل الموهبة فقد توافق ساعة إجابة فيستجيب الله هذا الدعاء.
العامل الثالث: الرعاية النبوية، لقد كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - فضل عظيم في تنمية موهبة ابن عباس، من خلال حسن الرعاية والاهتمام والإثراء وإتاحة الفرصة له في إظهار موهبته، وهذا ما بينته في مباحث سابقة.
ولقد سار عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - على نهج النبي - صلى الله عليه وسلم - في رعاية موهبة ابن عباس.
__________
(1) رواه الطبراني في الكبير، ج10، ص 289، رقم (10580)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد، ج9، ص 276: "إسناده حسن".(15/64)
العامل الرابع: البيئة التي عاش فيها ابن عباس – رضي الله عنهما- : فقد عاش ابن عباس في بيئة علمية تقدر العلم والعلماء وترفع من شأنهما، وهذا كان له دور في ظهور موهبة ابن عباس.
العامل الخامس: السمات الشخصية لابن عباس: بالإضافة لما سبق من العوامل الخارجية، إلا أن ما تمتع به ابن عباس من صفات شخصية أهلته للموهبة والتفوق كقوة الدافعية والثقة بالنفس وقبول التحدي وحب الاستطلاع ودقة الملاحظة وكثرة السؤال ونحوها من السمات التي تميز بها ابن عباس - رضي الله عنه -.
الخاتمة والنتائج:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد،
بعد دراسة الباحث للرعاية النبوية لموهبة ابن عباس توصل إلى عدة نتائج من أهمها:
استطاع النبي - صلى الله عليه وسلم - الكشف عن موهبة ابن عباس - رضي الله عنه - عن طريق الملاحظة وقياس القدرات والترشيح، ومن ثمّ قام برعايته رعاية خاصة بعدة وسائل تربوية من خلال إتاحة الفرصة لابن عباس لإظهار موهبته وتنمية مواهبه وتكليفه بحل المشكلات والإثراء ونحوها، ملبياً بذلك حاجات الموهوب العقلية والاجتماعية والوجدانية.(15/65)
امتاز النبي - صلى الله عليه وسلم - بصفات معلم الموهوبين الناجح كالعلم والصبر والمرونة وغيرها، كما امتازت الرعاية النبوية للموهوبين بأنها رعاية ربانية من حيث المصدر والهدف، فالله واهب الموهبة للموهوب، ولله تسخر الموهبة في خدمة الدين ونفع الآخرين.
اتصفت شخصية ابن عباس بسمات متميزة عن غيرها في الجوانب العقلية كحب الاستطلاع وقوة الملاحظة والمراقبة الدقيقة والخروج عن المألوف في التفكير ونحوها، كما امتاز في الجوانب الاجتماعية والوجدانية. وقد نتج عن موهبة ابن عباس آثاراً عدة على المستوى الشخصي وعلى مستوى الأمة، فهو ترجمان القرآن وحبر الأمة.
ساهمت عدة عوامل يفي تكوين شخصية ابن عباس الموهوبة، ابتداءً من المنحة الإلهية ودعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم رعاية النبي - صلى الله عليه وسلم - له والبيئة العلمية التي عاشها والسمات الشخصية التي تمتع بها.(15/66)
يلاحظ على عدد من الكتب التي تناولت موضوع رعاية الموهوبين إغفال الفترة الإسلامية ودور المسلمين التربوي، ولاسيما عصر النبوة، وما ذلك إلا تقليداً للكتاب الغربيين، ومن هنا يوصي الباحث المهتمين بالتربية الخاصة ضرورة الاهتمام بالتراث الإسلامي كمصدر للدراسات التربوية.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الهوامش:(15/67)
الحديث الشريف مصدراً للقواعد الفقهيّة
(القواعد المتّفقة مع نصوص الأحاديث نموذجاً)
بحث أُعدّ للمؤتمر العلمي الأوّل للسنّة النبويّة
السنّة النبويّة في الدّراسات المعاصرة
جامعة اليرموك: إربد
16-17 شوال 1427هـ = 8-9/11/2006م
إعداد:
د. علي نايف بقاعي
كليّة الإمام الأوزاعي
بيروت
المقدّمة
الحمد لله الذي بُني دينُه العظيم على قواعد، وبُني بيتُه الحرام على قواعد، وقال في محكم كتابه العزيز: { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ } . وصلى الله تعالى على نبيه الكريم، الذي بيّن قواعد الدين فقال: "بني الإسلام على خمس"، والذي أوتي جوامع الكلم فصيغ منها أعظم القواعد. ورضي الله تعالى عن الصحابة أجمعين، والتابعين بإحسان إلى يوم الدين.(16/1)
أمّا بعد، فهذا بحث يدرس الحديث الشريف مصدراً للقواعد الفقهيّة، ويركّز على القواعد المتّفقة مع نصوص الأحاديث الشريفة. ولئن كانت دعوتي للمشاركة في المؤتمر العلمي الأوّل للسنّة النبويّة في جامعة اليرموك سبباً في إنجاز هذا البحث، إلاّ إنّها لم تكن السبب في التفكير فيه والتقميش له، إذ كنت قد أدرجتُ موضوع هذا البحث في قائمة مشاريعي الكتابية قبل عدة سنين، لما رأيت من عظيم فائدته في بيان إمداد الحديث الشريف للقواعد الفقهيّة، وبيان عظم تولّج الحديث في العلوم الشرعيّة عموماً، وفي الفقه على وجه الخصوص، ولأني لم أرّ أحداً أفرد هذا الموضوع بالكتابة. وقسمت البحث- بعد المقدّمة- إلى بابين وخاتمة، ألحقت بهما الفهارس اللازمة.
الباب الأوّل: دراسة تأصيلية تشمل الحديث والألفاظ ذوات الصلة به، كالسنّة والأثر، كما تشمل القاعدة الفقهيّة والألفاظ ذوات الصلة بهما، كالأشباه والنظائر، والنظريات الفقهيّة، والضوابط الفقهيّة. ويبحث هذا الباب في مراتب القواعد الفقهيّة من حيث شمولها، ثمّ من حيث الاتفاق على مضمونها أو الاختلاف فيه. كما يبحث في مدى مشروعية الاستدلال بها. ثمّ في منشئها واستمدادها.(16/2)
الباب الثاني: بعد تمهيدٍ يبيّن تولّج علم الحديث الشريف في العلوم الأخرى، وتولّج القواعد في شتّى العلوم أيضاً، يدرس هذا الباب عشرين حديثاً قال العلماء في كلّ حديث منها: إنّه نص قاعدة فقهيّة، فيخرِّجها من مصادرها الأصلية، ويبيّن حكمها، ومن نصّ على اعتبارها قواعد، ومواضع النص على ذلك. كما يبيّن هذا الباب معنى كلّ قاعدة من هذه القواعد، ويوضحها بأمثلة كافية عند الحاجة إلى التمثيل لها، بحيث تصبح لا لَبس فيها ولا غموض، مع بيان استثناءاتها إن وجدت.
الخاتمة: فيها تلخيص البحث ونتائجه.
الفهارس: تشمل فهارس الآيات والأحاديث والمصادر والمراجع والموضوعات.
الباب الأوّل
الحديث والقواعد والألفاظ ذوات الصلة
الفصل الأوّل: الحديث والألفاظ ذوات الصلة
المبحث الأوّل: الحديث لغة واصطلاحاً
الحديث لغة:(16/3)
"الخبر، يأتي على القليل والكثير، والجمع أحاديث، كقطع وأقاطيع، وهو شاذ على غير قياس. والحديث ما يُحدّث به المحدّث تحديثاً. ومصدر حدَّث إنّما هو التحديث، فأمّا الحديث فليس بمصدر"(1). ومعنى "الإخبار" في وصف الحديث كان معروفاً للعرب في الجاهلية منذ كانوا يطلقون على "أيامّهم المشهورة" اسم الأحاديث(2). وورد لفظ الحديث في القرآن الكريم بمعنى الخبر في أكثر من موضع. منها قوله تعالى: { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الجُنُودِ } (3).
الحديث اصطلاحاً:
__________
(1) ابن منظور، لسان العرب (حدث)، 2/133.
(2) البلاذري، فتوح البلدان، ص 39. (عن صبحي الصالح، علوم الحديث ومصطلحه، ص 4).
(3) الآية (17) من سورة البروج.(16/4)
يختلف تعريف الحديث في اصطلاح المحدِّثين عن تعريفه في اصطلاح الأصوليين، لأنّ الأصوليين يسيرون في مجال الحديث على القواعد التي وضعها علماء الأصول، ولا يقلّدون فيها المحدثين. أمّا الأصوليون، فالمشهور عندهم إطلاق لفظ الحديث على "ما صدر عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - غير القرآن من قول"(1). وأمّا المحدثون، فالحديث عند جمهورهم هو "ما نسب إلى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أو الصحابي أو التابعي"(2). ولم يُدخل الكرماني والطِّيبي ومن وافقهما في التعريف ما أَضيف إلى الصحابي أو التابعي(3).
المبحث الثاني: تسمية الحديث بحسب مَن يُنسب إليه
إنّ متن الحديث قد يُنسب إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وقد يُنسب إلى الصحابي، أو التابعيّ، ولا يخرج في كلّ حالاته هذه عن أن يُسمَّى حديثاً، إلاّ أنّ هذه الأحاديث في أحوالها المختلفة تتميز بأسماء خاصّة، نذكرها فيما يأتي:
__________
(1) محمّد محيي الدين عبد الحميد، السنّة الحديث السيرة، مجلّة منبر الإسلام، عدد 3، يوليو 1964، ص 34.
(2) علي بقاعي، المنهج الحديث في تسهيل علوم الحديث، ص 15.
(3) نور الدين عتر، منهج النقد في علوم الحديث، ص 27.(16/5)
الحديث المرفوع: هو ما نُسب إلى النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، قولاً، أو فعلاً، أو تقريراً أو وصفاً.
الحديث الموقوف: هو ما نسب إلى صحابي - رضي الله عنهم -، قولاً، أو فعلاً، أو تقريراً.
الحديث المقطوع: هو ما نسب إلى تابعيّ من قولٍ أو فعلٍ.
المبحث الثالث: الألفاظ ذوات الصلة بالحديث
السُّنّة والأثر لفظان لهما صلة بالحديث، ونبيّن هذه الصلة فيما يأتي:
(أ) السُّنّة:
السُّنّة لغةً:
قال ابن منظور(1): "السُّنّة: السيرة حسنة كانت أو قبيحة". وقال: "والسيرة: الطريقة"(2).
وورد لفظ السنّة في القرآن الكريم بمعنى الطريقة في أكثر من موضع، منها قوله تعالى: { يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } (3).
السُّنّة اصطلاحاً:
يختلف معنى السُّنّة في اصطلاح الفقهاء عنه في اصطلاح المحدّثين واصطلاح الأصوليين.
__________
(1) لسان العرب: (سنن)، 133/225.
(2) المرجع نفسه (سير)، 6/56.
(3) الآية (26) من سورة النساء.(16/6)
فأمّا الفقهاء، فيذكرون السُّنّة في أبواب العبادات مثلاً في مقابلة الفرض، فغسل الوجه في الوضوء فرض، بينما تثليث الغسل سُنّة. فهي تُطلق عند الفقهاء على "ما يُثاب فاعله ولا يُعاقب تاركه". وأمّا الأصوليون، فيذكرون السُّنّة دليلاً من أدلّة الفقه في مقابلة الكتاب والإجماع والقياس. ويعرّفونها من بين هذه الأدلّة بإنّها "ما ثبت عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - من قول أو فعل أو تقرير"(1). وأمّا المحدّثون، فيعرّفون السُّنّة بإنّها "ما أضيف إلى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - من قول أو فعل، أو تقرير، أو وصف أو سيرة"(2). هذا عند بعضهم. وعند الأكثر إنّها تشمل ما أضيف إلى الصحابيّ أو التابعي"(3).
(ب) الأثر:
الأثر لغة:
__________
(1) مصطفى السباعي، السنّة ومكانتها في التشريع الإسلامي، ص 47، بتصرّف.
(2) انظر، محمّد محيي الدين عبد الحميد، "السنّة الحديث السيرة" مجلّة منبر الإسلام، عدد 3، يوليو 1964، ص 33. ومصطفى السباعي، السنّة ومكإنّها في التشريع الإسلامي، ص 47. وعبد الفتّاح أبو غدّة، السنّة النبويّة وبيان مدلولها الشرعي، ص 7 و 8.
(3) نور الدين عتر، منهج النقد في علوم الحديث، ص 28.(16/7)
قال ابن منظور(1): "الأثر الخبر، والجمع آثار.. وفي حديث عليّ في دعائه على الخوارج: "ولا بقي منكم آثِر، أي مخبر، أي يروي الحديث.. وقوله عزّ وجلّ: { وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ } (2)، أي نكتب ما أسلفوا من أعمالهم، ونكتب آثارهم،أي من سنَّ سنّةً حسنةً كتب له ثوابها، ومن سنّ سنّة سيئّة كُتب عليه عقابها. وسُنن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - آثاره". وورد في الحديث لفظ "يأثر" بمعنى يُخبر في قول أبي سفيان: "والله لولا الحياء يومئذٍ من أن يأثر أصحابي عنيّ الكذب لكذبتُه حين سألني عنه، ولكني استحييتُ أن يأثروا الكذب عني فصدقتُه"(3)
__________
(1) لسان العرب: (أثر)، 4/6.
(2) الآية (12) من سورة يس.
(3) البخاري، الصحيح: كتاب الجهاد والسير، باب دعاء النبيّ - صلى الله عليه وسلم - إلى الإسلام، ح (151)، 4/120. وكتاب بدء الوحي، باب 6،ح(7)، 1/8. وكتاب تفسير القرآن، تفسير سورة آل عمران، باب { قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُم...ْ } ، ح(74)، 6/73. ومسلم الصحيح: كتاب الجهاد والسير، باب كتاب النبيّ - صلى الله عليه وسلم - إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام، ح (74/1773)، 3/1394.(16/8)
.
الأثر اصطلاحاً:
اختلف تعريف الأثر في اصطلاح فريقين من العلماء: المحدِّثين، وفقهاء خراسان. أمّا المحدِّثون، فالأثر عندهم هو الخبر، وهو الحديث، مرفوعاً كان أو موقوفاً أو مقطوعاً. وهو مأخوذٌ من أثَرْتُ الحديث، أي رويته(1). أمّا فقهاء خراسان، فيُسمّون الحديث الموقوف أثراً، والمرفوع خبراً(2). قال أبو القاسم الفوراني منهم: الفقهاء يقولون: الخبر ما يرُوى عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، والأثر ما يُروى عن الصحابة(3).
الفصل الثاني: القاعدة الفقهيّة والألفاظ ذوات الصلة:
المبحث الأوّل: القاعدة الفقهيّة لغةً واصطلاحاً:
القاعة لغةً:
__________
(1) انظر: السيوطي، تدريب الراوي، 1/184، 185.
(2) انظر: القاسمي، قواعد التحديث، ص 61.
(3) السيوطي، تدريب الراوي: 1/184.(16/9)
قال ابن منظور(1): "القاعدة: أصل الأسُّ. والقواعد: الأساس، وقواعد البيت: أساسه. وفي التنزيل: { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ } (2)، وفيه: { فَأَتَى اللهُ بُنْيَإنّهمْ مِنَ القَوَاعِدِ } (3)، قال الزجّاج: القواعد أساطين البناء التي تعْمِدُه".
القاعدة اصطلاحاً:
قال التهانوي(4):"في اصطلاح العلماء يُطلق على معان: مرادف الأصل، والقانون، والمسألة، والضابطة، والمقصد. وعرّف بإنّها: أمرٌ كليّ منطبق على جميع جزئيّاته عند تعرّف أحكامها منه".
القاعدة الفقهيّة اصطلاحاً:
إنّ عبارة: "القاعدة الفقهيّة" مُركّبٌ وصفيٌّ، فيه وصفٌ للقاعدة التي عُرّفت آنفاً بإنّها فقهيّة.
__________
(1) لسان العرب: (قعد)، 3/361.
(2) الآية (127) من سورة
(3) الآية (26) من سورة
(4) موسوعة كشّاف اصطلاحات الفنون والعلوم، حرف القاف، 2/1295.(16/10)
والفقه لغةً كما قال الفيروز ابادي(1): "العلم بالشيء والفهم له". وفي اصطلاح الأصوليين: "الفقه هو العلم بالأحكام الشرعيّة الفرعيّة العمليّة المستمدّ من الأدلة التفصيلية"(2). فالقاعدة الفقهيّة اصطلاحاً يمكن تعريفها بإنّها: حكمٌ فقهيٌّ كليّ ينطبق على فروعٍ من أبواب شتّى. وهذا تعريف الأكثرين(3) الذين نظروا إلى أنّ القاعدة كليّة في الأصل، وأنّ ما يُستثنى منها من فروع لا يؤثّر في كونها كليّة. ومن أدخل تأثير المستثنيات عرّفها بإنّها: حكمٌ أكثريّ – لا كليّ- ينطبق على أكثر جزئياته.
المبحث الثاني: الألفاظ ذوات الصلة بالقواعد الفقهيّة
__________
(1) القاموس المحيط: (فقه)، ص 1614.
(2) انظر: عبد العليّ الأنصّاري، فواتح الرحموت بشرح مسلّم الثبوت: 1/10، 11. وانظر أيضاً الزركشي، البحر المحيط في أصول الفقه: 1/21.
(3) 10) انظر: الجرجاني، التعريفات: ص 219. والفيوميّ، المصباح المنير: (قعد)، 2/510. وأبا البقاء الكفوي، الكليّات: 728. والتهانوي، المصدر السابق: 2/1295. والتفتازاني، شرح التلويح على التوضيح: 1/20. وتاج الدين السبكي، الأشباه والنظائر: 1/11.(16/11)
نذكر من هذه الألفاظ: الأشباه والنظائر، والنظريات الفقهيّة، والضوابط، ونبيّنها فيما يأتي:
(أ) الأشباه والنظائر:
ليس من قبيل المصادفة أن تُسمّى بعض كتب القواعد الفقهيّة بالأشباه والنظائر، كالأشباه والنظائر لابن الوكيل، ولتاج الدين السبكي، وللسيوطي، ولابن نُجيم، ولكن لما بينهما من صلة، وإن كان ليس كلّ ما أُدرج في كتب الأشباه والنظائر من قبيل القواعد الفقهيّة. فكتب الأشباه والنظائر أعمّ من كتب القواعد الفقهيّة، وكتب القواعد الفقهيّة أخصّ من الأخرى. يقول الندوي(1):"إذا دققنا النظر في المؤلَّفات بعنوان "الأشباه والنظائر في الفقه" منذ كتاب العلاّمة ابن الوكيل الشافعي (716هـ) إلى كتاب العلاّمة ابن نُجيم الحنفي (970هـ) وجدنا بعض تلك المؤلّفات تتناول مسائل الفقه وأصول الفقه وأحياناً بعض مسائل علم الكلام، التي لها صلة بالموضوع اعتباراً بالفروع المتشابهة المتناظرة، ولو كان الشبه ضعيفاً كما في الفروق. وفي ذلك إشارة واضحة إلى أنّ الأشباه والنظائر ليس معناها القواعد الفقهيّة فحسب، بل هي شاملة لمختلف الفنون، ويمكن إجراؤها في سائر العلوم إذا توافرت الشروط واتّضحت
__________
(1) القواعد الفقهيّة: ص 70.(16/12)
المعالم".
(ب) النظريات الفقهيّة:
مصطلح "النظرية الفقهيّة" مصطلحٌ معاصرٌ بمعنى: "موضوعات فقهيّة، أو موضوع يشتمل على مسائل فقهيّة أو قضايا فقهيّة. حقيقتها: أركان وشروط وأحكام، تقوم بين كل منها صلة فقهية، تجمعها وحدةٌ موضوعيّة تحكم هذه العناصر جميعاً. وذلك كنظرية الملكية، ونظرية العقد، ونظرية الإثبات في الفقه الجنائي الإسلامي"(1).
من خلال هذا التعريف نجد الصلة قائمةً بين النظريات الفقهيّة والقواعد الفقهيّة، وهذه الصلة هي صلة المشابهة بينهما من حيث الوحدة الموضوعية. أمّا الاختلاف بين النظرية الفقهيّة والقاعدة الفقهيّة فهو أنّ القاعدة الفقهيّة تتضمّن حكماً فقهياً في ذاتها، ولا تشتمل على أركان وشروط. بينما النظرية الفقهيّة تشتمل على أركان وشروط، ولا تتضمّن حكماً فقهيّاً في ذاتها.
(ج) الضوابط الفقهيّة:
__________
(1) المرجع نفسه: ص 54.(16/13)
إطلاق لفظ "قاعدة" على ما سيأتي تعريفه بإنّه ضابطٌ شائعٌ في كتب القواعد الفقهيّة، ونظرة عُجْلى في بعض هذه الكتب تُبيّن ذلك بوضوح. وفي حين لم يفرّق بعضُ العُلماء بين الضوابط والقواعد، فإن آخرين فرقوا بينهما. وهذا ما عليه الأكثرون عند التحقيق. قال التهانوي(1) في تعريف الضابط: "حكمٌ كليّ ينطبق على جزئيّات". والفرق بين القاعدة والضابط هو "أنّ القاعدة تجمع فروعاً من أبوابٍ شتّى، والضابط يجمعها من باب واحد"(2). ويقول الندوي(3): "إنّ القواعد هي أعمّ وأشمل من الضوابط من حيث جمع الفروع وشمول المعاني.. وإنّ القواعد أكثر شذوذاً من الضوابط، لأنّ الضوابط تضبط موضوعاً واحداً، فلا يُتسامح فيها بشذوذ كثير".
الفصل الثالث: مراتب القواعد الفقهيّة
__________
(1) موسوعة كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم: حرف الضاد، ص 1110.
(2) ابن نُجيم، الأشباه والنظائر: ص 82. وانظر أيضاً: تاج الدين السبكي، الأشباه والنظائر: 1/11. والتهانوي، موسوعة كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم: ص 1110.
(3) القواعد الفقهيّة: ص 51، 52.(16/14)
يمكننا تقسيم القواعد الفقهيّة إلى مراتب باعتبارين: الاعتبار الأوّل: مراتبها من حيث شمولها. والاعتبار الثاني: مراتبها من حيث الاتِّفاق على مضمونها أو الاختلاف فيه. وأذكر هذين في مبحثين:
المبحث الأوّل: مراتب القواعد الفقهيّة من حيث شمولُها:
تنقسم القواعد الفقهيّة من حيث شمولها إلى ثلاث مراتب هي:
(أ) المرتبة الأوّلى: القواعد الكبرى الشاملة:
وهي القواعد الخمس التي ترجع جميع مسائل الفقه إليها كما قال السيوطي(1). وهي:
قاعدة: "اليقين لا يُزال بالشّك".
قاعدة: "المشقّة تجلب التيسير".
قاعدة: "الضرر يُزال".
قاعدة: "العادة مُحكّمة".
قاعدة: "الأمور بمقاصدها". وضمّ الدكتور البورنو(2) إلى هذه القواعد قاعدةً سادسة كان قد أفردها الدكتور محمود عبّود هرموش برسالة مستقلّة نال بها درجة الماجستير وهي:
6- قاعدة: "إعمال الكلام أولى من إهماله".
(ب) المرتبة الثانية: القواعد متوسطة الشمول:
__________
(1) الأشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشافعيّة: ص 7.
(2) موسوعة القواعد الفقهيّة: 1/32.(16/15)
وهي قواعد كليّة يتخرّج عليها ما لا ينحصر من الصور الجزئيّة، إلاّ أنّها دون القواعد الكبرى من حيث الشمول. ذكر منها السيوطي(1) أربعين قاعدة، وذكر منها ابن نُجيم(2) تسع عشرة قاعدة فقط، وهي:
قاعدة: "الاجتهاد لا يُنقض بالاجتهاد".
قاعدة: "إذا اجتمع الحلال والحرام غُلّب الحرام".
قاعد: "الإيثار في القُرَب مكروه وفي غيرها محبوب".
قاعدة: "التابع تابع".
قاعدة: "تصرّف الإمام على الرعيّة منوطٌ بالمصلحة".
قاعدة: "إذا اجتمع أمران من جنس واحد، ولم يختلف مقصودهما دخل أحدهما في الآخر غالباً".
قاعدة: "الحرّ لا يدخل تحت اليد".
قاعدة: "إعمال الكلام أولى من إهماله". وهي القاعدة التي ضمّها الدكتور البورنو إلى المرتبة الأوّلى.
قاعدة: "الخَراج بالضمان".
10- قاعدة "السؤال معادٌ في الجواب".
11- قاعدة: "لا يُنسب للساكت قول".
12- قاعدة: "ما حرم أخذه حرم إعطاؤه".
13- قاعدة: "من استعجل شيئاً قبل أوإنّه عوقب بحرمإنّه".
14- قاعدة: الحدود تُدرأ بالشبهات".
15- قاعدة: "الولاية الخاصّة أقوى من الولاية العامّة".
16- قاعدة: "لا عبرة بالظنّ البيِّن خطؤه".
__________
(1) المصدر السابق: ص 101-162.
(2) الأشباه والنظائر: ص 53-82.(16/16)
17- قاعدة: "ذكر بعض ما لا يتجزأ كذكر كلّه".
18- قاعدة: "إذا اجتمع المباشر والمتسبّب أضيف الحكم إلى المباشِر".
(ج) المرتبة الثالثة: القواعد التي تختصّ بباب واحد:
نذكر من هذه القواعد بعض ما ذكره تاج الدين السبكي(1)، وهي:
قاعدة: "كلّ ميتة نجسة إلاّ السمك والجراد".
قاعدة: "تكره الصلاة في قارعة الطريق إلاّ في البراري، فالأصحّ- في تحقيق المذهب- استثناؤها لفقد غَلبَة النجاسة".
قاعدة: "الجمادات طاهرة إلا المستحيل إلى نتن أو إسكار".
ضابط: "كل ما حرم في الإحرام ففيه الكفّارة، إلاّ في عقد النكاح وشراء الصيد، واتّهابه، لا يصح ولا يجب فيه شيء ووضع اليد عليه ما دام حيّاً وتنفيره ما لم يمت فيه، وأكله، والصياح عليه- على أحد الوجهين- والاستمناء في وجه".
المبحث الثاني- مراتب القواعد الفقهيّة من حيث الاتّفاق على مضمونها أو الاختلاف فيه:
تنقسم القواعد الفقهيّة بهذا الاعتبار إلى مرتبتين هما:
(أ) المرتبة الأوّلى: القواعد المتّفق عليها بين المذاهب:
__________
(1) الأشباه والنظائر: 1/200-218.(16/17)
وهي القواعد الكبرى الشاملة التي ترجع جميع مسائل الفقه إليها، فهذه القواعد متّفق عليها لا خلاف فيها بين المذاهب كلها، والقواعد التسع عشرة التي وافق ابنُ نُجيم السّيوطيَّ عليها فاشتركا في ذكرها في كتابيهما الأشباه والنظائر، فهذه القواعد متّفق عليها بين معظم المذاهب الفقهيّة.
(ب) المرتبة الثانية: القواعد المختلف فيها بين المذاهب:
وهي باقي القواعد الأربعين متوسطة الشمول التي ذكرها السيوطي، بعد استثناء القواعد التسع عشرة التي وافقه عليها ابن نُجيم منها. فهذه القواعد الإحدى وعشرين متّفق عليها بين الشافعيّة، مختلف فيها بينهم وبين غيرهم. وهناك قواعد مختلف فيها حتّى في المذهب الواحد. ذكر منها السيوطي(1) عشرين قاعدة تحت عنوان: القواعد المختلف فيها ولا يُطلق الترجيح لاختلافه في الفروع. اذكر منها اثنتين فقط:
القاعدة الثامنة: الإبراء هل هو إسقاط أو تمليك؟ قولان. والترجيح مختلف في الفروع.
القاعدة التاسعة: الإقالة هل هي فسخ أو بيع؟ قولان. والترجيح مختلف في الفروع.
الفصل الرابع: الاستدلال بالقواعد الفقهيّة
__________
(1) الأشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشافعيّة: ص 162-187.(16/18)
لم يذكر علماء أصول الفقه القواعدَ الفقهيّة بين مصادر الأدلّة المتّفق عليها، ولا بين مصادر الأدلة المختلف فيها. وهذا وحده كافٍ للدلالة على إنّهم لم يجعلوها مصدراً من مصادر أدلة الأحكام. ولم يُفْرِدْ أحد من العلماء غير المعاصرين هذه المسألة بمبحث مستقلّ حتى ولو كان صغيراً. إلا أنّ المعاصرين بدأوا يفردونها بمباحث مستقلّة(1). بيد أن كتب العلماء السابقين لم تخل من إشارات وعبارات قليلة تخصّ هذا الموضوع. قال إمام الحرمين الجويني(2): "أضرب من قاعدة الشرع مثلين.. ولست أقصد الاستدلال بهما، فإنّ الزمان إذا فُرِضَ خالياً عن التفاريع والتفاصيل لم يستند أهل الزمان إلا إلى مقطوع به". وقال الحموي(3)
__________
(1) انظر: الندوي، القواعد الفقهيّة: ص 293: المبحث الثاني: هل يجوز أن نجعل القاعدة الفقهيّة دليلاً يُستنبط منه الحكم. والبورنو، موسوعة القواعد الفقهيّة: 1/44: المقدمة السادسة: حكم الاستدلال بالقواعد الفقهيّة على الأحكام. والباحُسين، القواعد الفقهيّة: ص 273، الفصل السادس: دليليّة القواعد الفقهيّة. والميمان، علم الكليّات الفقهيّة: ص 65: المبحث الثاني: حجيّة الكليّات الفقهيّة.
(2) الغياثي: 2/499.
(3) غمز عيون البصائر شرح الأشباه والنظائر: 1/17.(16/19)
نقلاً عن ابن نُجيم: "لا يجوز الفتوى بما تقتضيه الضوابط، لإنّها ليست كليّة، بل أغلبيّة". وقال العلامة علي حيدر (التركي)(1): "فحكّام الشرع ما لم يقفوا على نقلٍ صريح لا يحكمون بمجرّد الاستناد إلى واحدة من هذه القواعد". وقال الشيخ مصطفى الزرقا(2): "القواعد الفقهيّة قلّما تخلو إحداها من مستثنيات في فروع الأحكام التطبيقيّة خارجةً عنها ومن ثمّ لم تُسوغ المجلّة أن يقتصر القضاة في أحكامهم على الاستناد إلى شيء من هذه القواعد الكليّة فقط دون نصٍّ آخر خاصّ أو عامّ يشمل بعمومه الحادثة المقضيّ فيها". وهذه النصوص تؤكِّد أنَّ القواعد الفقهيّة لا يُستدلّ بها على الأحكام الشرعية. وكيف يستدل بالقواعد الفقهيّة على الأحكام وكثيرٌ منها مختلف فيه غير متّفق عليه بين المذاهب، ناهيك عن وجود استثناءات في فروع الأحكام التطبيقية خارجة عن هذه القواعد! أو كيف يُستدلّ بهذه القواعد وهي ثمّرةٌ للفروع المختلفة رابطةٌ لها! ومتى كانت ثمّرة الفروع أصلاً
__________
(1) دُرر الحكّام شرح مجلة الأحكام: 1/10.
(2) شرح القواعد الفقهيّة للشيخ: أحمد الزرقا: ص 34-35، تحت عنوان لمحة تاريخية عن القواعد الفقهيّة الكليّة بقلم مصطفى الزرقا.(16/20)
لها؟ هذا صحيحٌ وبدهيٌّ في القواعد الفقهيّة الرابطة للفروع المختلفة التي لا تخلو من وجود استثناءات في فروع الأحكام تخرج عن هذه القواعد. بل يكاد هذا أن يكون مسلَّماً عند من أفرد هذه المسألة ببحث مستقل.
بيد أنَّ القواعد الفقهيّة ليست مطّردةً في كونها ثمّرةً للفروع الفقهيّة، بل إنّ بعضها أصولٌ، وهي نصوص أحاديث صحيحة، أو هي نصوصٌ منتَزَعَةٌ من آياتٍ في كتاب الله تعالى. وبعض القواعد مبنيٌ على أدلّة من الكتاب والسّنة واضحٌ الأخذ منها، كالقواعد الكبرى الشاملة، وبعض القواعد متوسّطة الشمول. وهذه القواعد وصفها البنّاني بأنّها "تُشبه الأدلّة"(1). ونخلص- بناء على وجود قواعد رابطة للفروع لا تخلو من استثناءات، ووجود قواعد أصول، إلى أنّ القواعد الفقهيّة باعتبارها قواعد لا تصلح للاستدلال بها على الأحكام، اللهم إلاّ إذا اتصفت بصفة أخرى ككونها نصّ حديث، أو منتزعةً من آية أو حديث، أو مبنيّة على أدلّة من الكتاب والسُّنّة واضحة المأخذ كقاعدة "اليقين لا يُزال بالشكّ"، وقاعدة "المشقّة تجلب التيسير"، وقاعدة "الضرر
__________
(1) حاشية البناني على جمع الجوامع: 2/356 حيث قال: "(قوله: خاتمة) أي في قواعد تشبه الأدلة".(16/21)
يزال"، وغيرها. وقول الندوي(1): "إنّ عدم جواز استناد القاضي أو المفتي إلى إحدى القواعد الفقهيّة وحدها إنّما محلّه فيما يوجد فيه نصٌّ فقهيٌّ يمكن الاستناد إليه، فأمّا إذا كانت الحادثة لا يوجد فيها نصٌّ فقهيٌّ أصلاً لعدم تعرّض الفقهاء لها، ووجدت القاعدة التي تشملها، فيمكن عندئذٍ استناد الفتوى والقضاء إليها، اللهمّ إلاّ إذا قُطع أو ظُنَّ فرقٌ بين ما اشتملت عليه القاعدة وهذه المسألة الجديدة".
الفصل الخامس: منشأ القواعد الفقهيّة واستمدادها
__________
(1) القواعد الفقهيّة: ص 295. وانظر أيضاً: البورنو، موسوعة القواعد الفقهيّة: 1/48.(16/22)
عرّفنا القاعدة الفقهيّة فيما سبق(1) بأنّها "حكمٌ فقهيٌ كليّ ينطبق على فروع من أبواب شتّى". وتعريف القاعدة بالحكم الكليّ المنطبق على فروع شتّى يستدعي إلى أذهاننا ما يُسمّى بجوامع الكَلِم، وهي الكلمات القليلة التي تجمع المعاني الكثيرة. فحيثمّا وجدت جوامع الكلم فثمّ القواعد. فإذا تعلقت جوامع الكلم بالأخلاق فثمّ القواعد الأخلاقية، وإذا تعلّقت باللغة فثمّ القواعد اللغوية وإذا تعلقت بالفقه فثمّ القواعد الفقهيّة. وذِكْرُنا لجوامع الكلم يستدعي إلى أذهاننا أوَّل ما يستدعي الكتاب والسّنة، لما ورد في الصحيحين(2)
__________
(1) ص: 4.
(2) البخاري، الصحيح: كتاب الجهاد والسير، باب قول النبيّ- صلى الله عليه وسلم -: نصّرت بالرعب مسيرة شهر، ح (181)، 4/134. وكتاب التعبير: باب المفاتيح في اليد، ح (31)، 9/66. وكتاب الاعتصام، باب قول النبيّ- صلى الله عليه وسلم -: بعثت بجوامع الكلم، ح (46)، 9/165.
ومسلم، الصحيح: كتاب المساجد ومواضع الصلاة، ح (6/523)، 1/371.(16/23)
عن أبي هريرة - رضي الله عنهم - عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - إنّه قال: "بُعثتُ بجوامع الكَلِم". وجوامع الكلم التي خُصّ بها النبيّ - صلى الله عليه وسلم -- كما قال ابن رجب الحنبلي(1) نوعان: أحدهما: ما هو في القرآن، كقوله عزّ وجل: { إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ وَالبَغْيِ } (2). قال الحسن: لم تترك هذه الآية خيراً إلاّ أمرت به، ولا شرًّا إلاّ نهت عنه. والثاني: ما هو في كلامه - صلى الله عليه وسلم -. وهو منتشر موجودٌ في السنن المأثورة عنه- صلى الله عليه وسلم -. وقد جمع العلماء جموعاً من كلماته - صلى الله عليه وسلم - الجامعة". ولمّا كان الكتاب والسّنة قد اشتملا على أمور فقهيّة كان من البدهي استمداد القواعد الفقهيّة منهما.
__________
(1) جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم: 1/55، 56.
(2) الآية (90)، من سورة النحل.(16/24)
يقول محمّد الروكي(1): "في القرآن الكريم والسنّة النبويّة نصوصٌ بعضها يمثّل بذاته وألفاظه قواعد تشريعية جاهزة، وبعضها يقدّم للفقيه مادّة خصبة يستطيع أن يصوغ منها قدراً وافراً من هذه القواعد. ومن أمثلة ذلك في القرآن الكريم ما يأتي: قوله تعالى: { يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ } (2)، ومن هذه الآية الكريمة أخذ الفقهاء القاعدة الفقهيّة الكبرى: "المشقّة تجلب التيسير"... { فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثمّ عَلَيْهِ } (3)، ومنها أخذ الفقهاء قاعدة: "الضرورات تبيح المحظورات". ثمّ يتابع الروكي فيقول(4): "ومن أمثلة ذلك في السّنة ما يأتي:
__________
(1) قواعد الفقه الإسلامي من خلال الإشراف على مسائل الخلاف: 128-129.
(2) الآية (184) من سورة البقرة.
(3) الآية (172) من سورة البقرة.
(4) المرجع نفسه: 130-132.(16/25)
قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنّما الأعمال بالنّيات"(1)، فهذا الحديث يُعتبر قاعدة كليّة جاهزة مصوغة، وعلى هذا الحديث اعتمد الفقهاء في صياغة قواعد النية، وأهمّها: "الأمور بمقاصدها"... "لا ضرر ولا ضرار"(2)، وهذا الحديث من الأصول الكبرى للشريعة الإسلامية، اعتمد عليه الفقهاء في صياغة كثير من القواعد الفقهيّة، مثل قاعدة: "الضرر يزال" وغيرها... إلى غير ذلك من الأحاديث النبويّة التي هي في ذاتها قواعد كليّة جاهزة أو قابلة لأن تصاغ منها القواعد والأصول الفقهيّة. ولا يقتصر وجود القواعد الفقهيّة في السّنة على الأحاديث المرفوعة فحسب، وإنّما يوجد منها في الأحاديث الموقوفة والمقطوعة أيضاً. من
__________
(1) أخرجه: البخاري، الصحيح: كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ح(1)،1/2. ومسلم، الصحيح: كتاب الإمارة، باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنّما الأعمال بالنّية"، ح(155/1907)، 3/1515.
(2) أخرجه من حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنهم -: ابن ماجه، السنن: كتاب الأحكام، باب من بنى في حقه ما يضرّ بجاره، ح(2340)، 2/784. وللحديث شواهد خرّجتها في كتابي: المنهج الحديث في تسهيل علوم الحديث: ص 128.(16/26)
ذلك بعض القواعد الموجودة في رسالة عمر بن الخطّاب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما، التي وصفها السيوطي(1) بقوله: "وهي صريحةٌ في الأمر بتتبّع النظائر وحفظها، ليقاس عليها ما ليس بمنقول. وفي قوله: "فاعمد إلى أحبّها إلى الله وأشبهها بالحقّ" إشارة إلى أنّ من النظائر ما يخالف نظائره في الحكم لمدرك خاصّ به". ومن كلام التابعين الذي يجري مجرى القواعد الفقهيّة قول ابن سيرين وقتادة: "كلّ قرضٍ جر منفعة فهو مكروه"(2). ونظرة عُجلى في مصنَّف عبد الرزاق أو مصنَّف ابن أبي شيبة ترينا وجود قواعد وضوابط كثيرة من كلام الصحابة رضي الله تعالى عنهم والتابعين. وإذا انتقلنا من القواعد المنصوصة في الكتاب والسَنة إلى القواعد الفقهيّة التي صيغت على أيدي الفقهاء، فإننا نجد أنّ من القواعد ما كان مستمّداً من القياس وغيره من أنواع الاستدلال. يقول الشيخ مصطفى الزرقا(3)
__________
(1) الأشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشافعيّة: ص 7.
(2) أخرجه عبد الرزاق، المصنّف: كتاب البيوع، باب قرض جرّ منفعة، ح( 14657)، 8/145.
(3) شرح القواعد الفقهيّة للشيخ أحمد الزرقا، ص: 36، 37، تحت عنوان لمحة تاريخيّة عن القواعد الكليّة بقلم مصطفى الزرقا.(16/27)
"أمّا معظم تلك القواعد فقد اكتسبت صياغتها الأخيرة المأثورة عن طريق التداول والصقل والتحوير على أيدي كبار فقهاء المذاهب في مجال التعليل والاستدلال، فقد كانت تعليلات الأحكام الفقهيّة الاجتهادية، ومسالك الاستدلال القياسي عليها أعظمَ مصدرٍ لتقعيد هذه القواعد وإحكام صيغها بعد استقرار المذاهب الفقهيّة الكبرى، وانصراف كبار أتباعها إلى تحريرها وترتيب أصولها وأدلّتها". ومن أمثلة ما قُعّد بالقياس قاعدة: "ما ثبت على خلاف القياس فغيره لا يقاس عليه"(1).
وأختم هذا الفصل بثلاثة أمثلة لما قُعّد باستدلال، وهي: قاعدة: "لا ينسب إلى ساكت قول"(2). وقاعدة: "يُدفع الضرر العامّ بالضرر الخاصّ"(3)
__________
(1) أحمد الزرقا، شرح القواعد الفقهيّة: ص 151.
(2) انظر: السيوطي، الأشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشافعيّة: ص 142. وابن نُجيم، الأشباه والنظائر: ص 78. وأحمد الزرقا، شرح القواعد الفقهيّة: ص 337. ومحمّد الروكي، نظرية التقعيد الفقهي وأثرها في اختلاف الفقهاء: ص 499.
(3) انظر: محمّد الروكي، نظرية التقعيد الفقهي وأثرها في اختلاف الفقهاء: ص 506.
والسيوطي، الأشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشافعيّة: ص 87. وابن نُجيم، الأشباه والنظائر: ص 43. وأحمد الزرقا، شرح القواعد الفقهيّة: ص 197.(16/28)
. وقاعدة: "الأصل والبدل لا يجتمعان"(1). مكتفياً بهذا في الباب الأوّل، لأنتقل إلى الباب الثاني.
الباب الثاني
القواعد والأحاديث
تمهيد: تولُّج علم الحديث في العلوم الأخرى، وتولّج القواعد في شتّى العلوم:
قال النووي(2): اعلم أنّ علم الحديث من أفضل العلوم، وأولاها بالاعتناء، وأحقّ ما شمّر فيه المبرّزون ومحقِّقو العلماء، إذ هو (من) أكثر العلوم تولُّجاً في فنونها، لا سيّما الفقه، الذي هو إنسان عيونها، ولذلك كثر غلط العاطلين منه من مصنِّفي الفقهاء، وظهر (الخلل) في كلام المخلّين به من العلماء". وقال النوويّ عند كلامه في مختلف الحديث(3): "هذا من أهمّ الأنواع، والعلماء بالحديث والفقه والأصول وغيرها وغيرهم مضطرّون إلى معرفته. وإنّما يكمل للقيام به الأئمّة الجامعون بين الحديث والفقه والأصول، الغوّاصون على المعاني الدقيقة". والناظر في كتب المفسّرين يرى مدى تولّج علم الحديث في فنّ التفسير، خاصّة التفسير بالمأثور منه، وأوجه بيان السّنة للقرآن أيضاً. أما علوم
__________
(1) محمّد الروكي، المرجع نفسه: ص 512.
(2) إرشاد طلاب الحقائق إلى معرفة سنن خير الخلائق صلى الله عليه وسلم، ص 54.
(3) المرجع نفسه: ص 189.(16/29)
اللغة العربية فتولّج علم الحديث فيها واضح كالشمس، خاصّة في موضوع الاحتجاج اللغوي بالحديث، وفي أثر العربيّة في استنباط الأحكام الفقهيّة من الحديث الشريف. وأما إمداد الحديث لعلم الكلام بالأدلة فأوضح من أنّ يخفى، وكذلك إمداده لعلم الأخلاق والتزكية. وهكذا بتدقيق النظر في اتّصال العلوم ببعضها نجد أن الحديث الشريف يكاد يلج في العلوم جميعها الدينية منها والدنيوية. ومن جهة ثانية فإنّ القواعد توجد في شتى العلوم أيضاً، كالفقه، والأصول، والنحو، والصرف، والتفسير، والحديث، والتصوّف. وموضوعنا يبحث في إمداد الحديث الشريف لعلم القواعد الفقهيّة لا غير، أو يبحث في الحديث الشريف مصدراً للقواعد الفقهيّة. ولكونه بحثاً صغيراً نكتفي بذكر بعض القواعد المتّفقة مع نصوص الأحاديث نموذجاً.
القاعدة الأوّلى- "إنّما الأعمال بالنّيات"(1):
__________
(1) هذه القاعدة نصّ حديث شريف أخرجه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرفوعاً:
البخاري، الصحيح: كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ح (1)، 1/2. ومسلم، الصحيح: كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم: "إنّما الأعمال بالنية"، ح(155/197)، 3/1515.(16/30)
نصّ عليها بهذا اللفظ البركتي(1)، والبورنو(2). والسرخسي(3) بلفظ "الأعمال بالنّيّات". ونصّ عليها بلفظ "الأمور بمقاصدها" تاج الدين السبكي(4)،
وتقي الدين الحصني(5)، والسيوطي(6)، وابن نُجيم(7) وغيرهم. إلا أن تاج الدين السبكي قال: "وأرشق وأحسن من هذه العبارة قول من أوتي جوامع الكلم صلى الله عليه وسلم: "إنّما الأعمال بالنّيّات".
__________
(1) قواعد الفقه: ص 52.
(2) موسوعة القواعد الفقهيّة: 1/120.
(3) المبسوط: 6/59.
(4) 10) الأشباه والنظائر: 1/54.
(5) كتاب القواعد: 1/208.
(6) الأشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشافعيّة: ص 8.
(7) الأشباه والنظائر: ص 12.(16/31)
معنى هذه القاعدة: أنّ أحكام أعمال المكلّف تترتَّب على مقصوده بهذه الأعمال. ويدلّ لهذه القاعدة من القرآن الكريم آياتٌ منها قوله تعالى: { وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثمّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا } "(1). وقوله تعالى: { وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا } (2). قال عبد الرحمن بن مهدي: "لو صنّفتُ الأبواب لجعلتُ حديث عمر في الأعمال بالنيّة في كلّ باب"(3). وروي عن الشافعيّ إنّه قال: "هذا الحديث ثلث العلم، ويدخل في سبعين باباً من الفقه"(4). قال السيوطي(5): "من ذلك ربع العبادات بكماله.. بل يسري ذلك إلى سائر المباحات إذا قصد بها التقوّي على العبادة أو التوصّل إليها.. وممّا تدخل فيه من العقود ونحوها كنايات البيع والهبة والوقف... وفي القصاص مسائل كثيرة
__________
(1) الآية (100) من سورة النساء.
(2) الآية (114) من سورة النساء.
(3) ابن رجب الحنبلي، جامع العلوم والحكم: ص 61.
(4) المرجع نفسه، ص 61.
(5) الأشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشافعيّة: ص 9-11.(16/32)
منها تمييز العمد وشبهه من الخطأ... وفيما لو وطئ أمةً بشبهةٍ وهو يظنّها زوجته الحرّة فإنّ الولد ينعقد حُرّاً.. وتدخل أيضاً في نية قطع السفر وقطع القراءة في الصلاة، وقراءة القرآن جُنُباً بقصده أو بقصد الذكر... فهذه سبعون باباً أو أكثر دخلت فيها النية كما ترى. فعُلم من ذلك فساد قول من قال: إنّ مراد الشافعيّ بقوله: "تدخل في سبعين باباً من أبواب العلم" المبالغة. وإذا عددت مسائل هذه الأبواب التي للنيّة فيها مدخل لم تقصر عن أن تكون ثلث الفقه أو ربعه".
ما يستثنى من هذه القاعدة:(16/33)
قال الشيخ أحمد الزرقا(1): "إنّ هذه القاعدة لا تجري بين أمرين مباحين لا تختلف بالقصد صفتهما، كما لو وقع الخلاف في كون البيع صدر هزلاً أو مواضعةً مثلاً، لأنّ اختلاف القصد بين الهزل والمواضعة لا يترتّب عليه ثمّرة، إذ كلٌّ منهما لا يفيد تمليكاً ولا تملكاً. بل تجري بين مباحين تختلف صفتهما بالقصد، كما لو دار الأمر بين البيع المراد حكمه وبين بيع المواضعة ونحوه كما تقدّم. وتجري بين مباح ومحظور كما في فرع اللّقطة المتقدّم، فإنّ التقاطها بنيّة حفظها لمالكها مباح، وبنيّة أخذها لنفسه محظور، كما في مسألة المودَع إذا لبس ثوب الوديعة ثمّ نزعه، فإنّ عدم العود إلى لُبسه مطلوب، والعود إليه محظور".
القاعدة الثانية- "لا ضرر ولا ضرار"(2):
نصّ عليها بهذا اللفظ البركتي(3)، والزرقا(4)،
__________
(1) شرح القواعد الفقهيّة: ص 53
(2) 10) هذه القاعدة نصّ حديث شريف تقدم تخريجه ص 13.
(3) 11) قواعد الفقه: ص 106.
(4) 12) شرح القواعد الفقهيّة: ص 165. القاعدة الثامنة عشرة (المادة 19) من مجلة الأحكام العدلية.(16/34)
والباحسين(1)، والروكي(2). ونصّ عليها بلفظ "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام" البورنو(3). معنى هذه القاعدة أنّه لا يجوز لأحدٍ أن يُلحق بمخلوق ضرراً ولا ضِراراً. قيل: الضرر والضرار بمعنى واحد، وذكر الأخير توكيداً. والمشهور أن بينهما فرقاً. قال ابن رجب الحنبلي(4):
"قيل: الضرر أن يُدخل على غيره ضرراً بما ينتفع هو به، والضرار أن يُدخل على غيره ضرراً بما لا منفعة له به، كمن منع مالا يضرّه ويتضرّر به الممنوع. ورجّح هذا القول طائفة منهم ابن عبد البرّ وابن الصلاح. وقيل: الضرر أن يضرّ بمن لا يضرُّه، والضّرار أن يضرَّ بمن قد أضرَّ به على وجه غير جائز. وبكل حال فالنبيّ - صلى الله عليه وسلم - إنّما نفى الضرر والضِّرار بغير حقّ". ويتفرّع على هذه القاعدة كثيرٌ من أبواب الفقه ممّا كانت مشروعيّته توقيّاً من وقوع الضرر. من ذلك ما ذكره الشيخ أحمد الزرقا في شرح هذه القاعدة(5):
__________
(1) القواعد الفقهيّة: ص 198.
(2) نظرية التقعيد الفقهي: ص 93.
(3) موسوعة القواعد الفقهيّة: 8/873.
(4) جامع العلوم والحكم: 2/212.
(5) شرح القواعد الفقهيّة: ص 166-176.(16/35)
أنواع الحجر، فإنّها شرعت توقيّاً من وقوع الضرر العائد تارةً لذات المحجور، وتارةً لغيره، فإنَّ من وَجب حجره إذا تُرك بدون حجر قد يضرّ بنفسه، وقد يضرّ بغيره كما هو ظاهر.
ومنها: ما لو باع لآخرّ ما يتسارع إليه الفساد وغاب المشتري قبل قبضه وقبل نقد الثمّن فأبطأ، فللبائع بيعه لغيره توقيّاً من تضرّره بفساده. ولا يرجع على المشتري بشيء لو نقص الثمّن الثاني عن الأوّل.
ومنها: أنّ الوكيل بشراء شيء معيّن لا يملك أن يشتريه لنفسه من غير أن يُعلم الموكل بإنّه يريد أن يشتريه لنفسه، كما ذكروه في الوكالة، فمنعهم له عن شرائه لنفسه إنّما كان دفعاً للضرر عن الموكل، إذ عساه أن يتضرَّر من عدم الحصول على مقصوده ليسدّ حاجته. واستقصاء ما يمكن تفريعه على هذه القاعدة من المسائل تنقطع الآمال دون الوصول إليه، وفيما ذكرناه من التفاريع مستوضح لذي لُبّ.
القاعدة الثالثة- "الخراج بالضمان"(1)
__________
(1) هذه القاعدة نصّ حديث شريف أخرجه عن عائشة رضي الله عنها مرفوعاً:
أبو داود، السنن، كتاب البيوع والإجارات، باب فيمن اشترى عبداً فاستعمله ثمّ وجد به عيباً، ح(3508)، 3/777-779. والترمذي، الجامع: كتاب البيوع، باب ما جاء فيمن يشتري العبد ويستغلّه ثمّ يجد به عيباً، ح(1285)، 3/581-582. وقال: حديث حسن صحيح. والنسائي، السنن: كتاب البيوع، باب الخراج بالضمان، 7/254،255. وابن ماجه، السنن: كتاب التجارات، باب الخراج بالضمان، ح(2243)، 2/754.(16/36)
:
نصّ عليها بهذا اللفظ البركتي(1) والباحسين(2) والروكي(3) والبورن(4) والزرقا(5) والسيوطي(6) وابن نُجيم(7).
__________
(1) قواعد الفقه: ص 80.
(2) القواعد الفقهيّة: ص 196.
(3) نظرية التقعيد الفقهي: ص 95.
(4) 10) موسوعة القواعد الفقهيّة: 5/274.
(5) 11) شرح القواعد الفقهيّة: ص 429. القاعدة الرابعة والثمّانون (المادة 85) من مجلة الأحكام العدلية.
(6) 12) الأشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشافعيّة: ص 135.
(7) 13) الأشباه والنظائر: ص 77.(16/37)
معنى هذه القاعدة: أنّ الذي عليه ضمان شيء إذا تلف، له الانتفاع بما يخرجه هذا الشيء بمقابل ضمإنّه حال تلفه. قال السيوطي(1): "هو حديث صحيح... وفي بعض طرقه ذكر السبب، وهو "أن رجلاً ابتاع عبداً، فأقام عنده ما شاء الله أن يقيّم، ثمّ وجد به عيباً، فخاصّمه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فردّه عليه، فقال الرجل: يا رسول الله، قد استعمل غلامي، فقال: "الخراج بالضمان". قال أبو عبيد: الخراج في هذا الحديث غلّة العبد يشتريه الرجل فيستغلّه زماناً، ثمّ يعثر منه على عيبٍ دلسه البائع، فيردّه ويأخذ جميع الثمّن، ويفوز بغلّته كلّها، لإنّه كان في ضمإنّه ولو هلك هلك من ماله". قال الشيخ أحمد الزرقا في شرحه للقاعدة: "خراج الشيء، ما حصل منه. والذي يكون منه بمقابلة الضمان ما كان منفصلاً غير متولّد كالكسب، والأجرة، والهبة، والصدقة، فإنّه يطيب لمن كان عليه الضمان. فلو ردّ المشتري المبيع بعد قبضه بخيار العيب وكان قد استعمله مدة لا يلزمه أجرته، لإنّه لو كان قد تلف في يده قبل الردّ لكان يتلف من ماله. وكذلك لو كان آجره فإنّ الأجرة تطيب له... مما يتفرع على
__________
(1) الأشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشافعيّة: ص 135، 136.(16/38)
هذه القاعدة المذكورة: ما لو شرطا في شركة الوجوه مناصفة المشتري أو مثالثته وشرطا الربح على خلاف ذلك، فالشرط باطل. ومنه: ما لو استأجر داراً مثلاً ببدل، ثمّ آجرها بأكثر منه من جنس ذلك البدل، فإن الزيادة لا تطيب له إلا إذا أصلحها بإحداث ما تشاهد عينُه فيها كبناء وتجصيص"(1). يستثنى من هذه القاعدة ما ذكره السيوطي(2) بقوله: "خرج عن هذه المسألة، وهي ما لو أعتقت المرأة عبداً فإنّ ولاءه يكون لابنها. ولو جنى جناية خطأ فالعقل على عصبتها دونه. وقد يجيء مثله في بعض العصبات يعقل ولا يرث".
القاعدة الرابعة- "كلّ مسكر حرام"(3)
__________
(1) شرح القواعد الفقهيّة: ص 429، 430.
(2) الأشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشافعيّة: ص 136.
(3) هذه القاعدة نصّ حديث شريف أخرجه من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه مرفوعاً.
البخاري، الصحيح: كتاب المغازي، باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن قبل حجة الوداع، ح (342) و (343)، 5/323. وكتاب الأدب، باب قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: يسروا ولا تعسروا، ح(148)، 8/55. وكتاب الأحكام، باب أمر الوالي إذا وجه أميرين إلى موضع أن يتطاوعا ولا يتعاصيا، ح(34)، 9/127، ومسلم، الصحيح: كتاب الأشربة، باب بيان أن كل مسكر خمر وأن كل خمر حرام، ح(70/1733)، (3/1586- وأخرجه من حديث جابر رضي الله عنه مرفوعاً: مسلم، الموضع نفسه، ح(72/2002)، 3/1587. ومن حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً: مسلم، الموضع نفسه، ح(73و74/2003)، 3/1587.(16/39)
:
نصّ عليها بهذا اللفظ: الندوي(1)، والروكي(2)، والبورنو(3)، وابن قيّم الجوزيّة(4)، وابن رجب الحنبلي(5) الذي قال: "هذا الحديث أصلٌ (أي قاعدة) في تحريم تناول جميع المسكرات المغطّية للعقل... وقد كانت الصحابة تحتجّ بقول النبيّ - صلى الله عليه وسلم - "كلّ مسكرٍ حرام" على تحريم جميع أنواع المسكرات، ما كان موجوداً منها على عهد النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وما حدث بعده".
__________
(1) القواعد الفقهيّة: ص 237.
(2) نظرية التقعيد الفقهي: ص 95.
(3) موسوعة القواعد الفقهيّة: 8/602.
(4) أعلام الموقّعين: 1/333.
(5) جامع العلوم والحكم: 2/456-463.(16/40)
معنى هذه القاعدة إنّه لا يجوز تناول أيّ شيء من أنواع المسكرات سواء كانت سائلة أم جامدة أم غازيّة، كثيراً كان المتناول أم قليلاً. من أمثلة هذه القاعدة ومسائلها ما ذكره الدكتور محمّد صدقي البورنو بقوله(1): "مهما اختلفت أسماء المشروبات، أو اختلفت ألوإنّها وطعومها، أو اختلفت أصولها المصنوعة منها، أو طرق صنعها، أو كانت سائلة أو جامدة أو غازيّة، ما دامت تُسكر وتغطّي عقل شاربها ومتناولها فهي حرام كلّها، ومتناولها يجب إقامة حدّ الشرب عليه. ومنها: ماء الشعير الذي يسمّونه بيرة إذا اختلط مع الغول- أي ما يسمّى بالكحول- فهو حرام، لإنّه مسكر. ومنها: ما يسمّونه عرق أو نبيذ هو حرام، لإنّهما مشروبان مسكران- وما يُطلق عليه نبيذ هو عصير العنب إذا تزبّب- أي أصبح العنب زبيباً. وهو غير النبيّذ المذكور في كتب الفقه".
القاعدة الخامسة: "الإسلام يَعلو ولا يُعلى"(2)
__________
(1) 10) موسوعة القواعد الفقهيّة: 8/603.
(2) هذه القاعدة نصّ حديث شريف أخرجه من حديث عائذ بن عمرو المزني رضي الله عنه مرفوعاً:
الدارقطني، السنن: كتاب النكاح، باب المهر، ح(30)، 3/252. وحسّن ابنُ حجر سنده في فتح الباري: 3/220. وذكره من قول ابن عبّاس رضي الله عنهما تعليقاً: البخاريّ، الصحيح: كتاب الجنائز، باب إذا أسلم الصّبي فمات هل يصلّى عليه، 2/196.(16/41)
:
نصّ عليها بهذا اللفظ: البركتي(1) والبورنو(2) والسرخسي(3).
معنى هذه القاعدة أنّ الإسلام يكون متبوعاً ولا يكون تابعاً لغيره من الأديان، وأنّ المسلم يقدم على غير المسلم في المكانة والذكر أيضاً. قال ابن حجر العسقلاني(4): "ورويناه في فوائد أبي يعلى الخليلي من هذا الوجه، وزاد في أوّله قصّة، وهي أنّ عائذ بن عمرو جاء يوم الفتح مع أبي سفيان بن حرب، فقال الصحابة: هذا أبو سفيان وعائذ بن عمرو، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا عائذ بن عمرو وأبو سفيان، الإسلام أعزّ من ذلك، الإسلام يعلو ولا يُعلى. وفي هذه القصّة أن للمبدأ به في الذكر تأثيراً في الفضل، لما يفيده من الاهتمام". من مسائل هذه القاعدة: "إذا أسلم عبد الكافر لم يترك يسترقّه، ويجبر على بيعه. وعلى هذا إذا أسلم أحد الزوجين يتبع الولد مَن أسلم ويُعَدُّ مسلماً"(5). ومنها "إذا ورد ذكر رجلين أحدهما مسلم والآخر كافر فيقدّم ذكر المسلم على ذكر الكافر. كذلك إذا أسلمت المرأة ولم
__________
(1) قواعد الفقه: 58.
(2) موسوعة القواعد الفقهيّة، بزيادة "عليه" آخر القاعدة: 1/397.
(3) المبسوط: 5/40.
(4) فتح الباري: 38/220.
(5) البركتي، قواعد الفقه: ص 58.(16/42)
يُسلم زوجها يفرّق بينهما"(1).
القاعدة السادسة- "المسلمون عند شروطهم"(2)
__________
(1) البورنو، موسوعة القواعد الفقهيّة: 1/397. وانظر أيضاً ابن حزم، المحلّى: 7/314.
(2) هذه القاعدة نصّ حديث شريف أخرجه من حديث عمرو بن عوف المزنيّ مرفوعاً: الدارقطني، السنن: كتاب البيوع، ح(98)، 3/27. وعنه بلفظ "المسلمون على شروطهم" الترمذي: الجامع: كتاب الأحكام، باب ما ذكر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصلح بين الناس، ح(1352)، 3/635 وقال: حديث حسن صحيح. وذكره البخاريّ معلّقاً بالجزم بدون ذكر الصحابي، الصحيح: كتاب الإجارة، باب أجر السمسرة، 3/187.
وأخرجه من حديث عائشة رضي الله عنها بلفظ القاعدة أيضاً الدارقطني، السنن: كتاب البيوع، ح(99)، 3/27. والحاكم، المستدرك: كتاب البيوع، 2/49.
وأخرجه من حديث أنس رضي الله عنه بلفظ القاعدة أيضاً الحاكم، المستدرك: كتاب البيوع، 2/50 وعنه بلفظ "المسلمون على شروطهم" الدارقطني، السنن: كتاب البيوع، ح(100)، 3/28.
وأخرجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ "المسلمون على شروطهم" أبو داود، السنن: كتاب الأقضية، باب في الصلح، ح (3594)، 4/20. والدارقطني، السنن: كتاب البيوع، ح(97)، 3/27. والحاكم: المستدرك: كتاب البيوع: 2/49.(16/43)
:
نصّ عليها بهذا اللفظ: البركتي(1) والروكي(2) والبورنو(3). معنى القاعدة: أنّ المسلم يجب أن يفي بما اشترطه والتزمه ويقف عنده ولا يتعدّاه. وأنّ تعلق أسباب التحريم بالشرط صحيحٌ كالطلاق والعتاق. ومن أمثلة هذه القاعدة ومسائلها ما ذكره الدكتور محمّد صدقي البورنو(4). "إذا اشترى سلعة وشرط البائع الثمّن حالاً فعلى المشتري الأداء عند استلام السلعة، وإن اشترط المشتري التأجيل إلى امدٍ محدّد ورضي البائع فهو على ما اشترطا، وليس للبائع المطالبة بالأداء قبل الوقت المحدّد. ومنها إذا باع بعيراً وشرط على المشتري رأسه، فإذا لم يذبحه المشتري فللبائع شروى رأسه. ومنها: إذا استعار أرضاً ليزرعها وشرط عليه المعير قلع الشجر عند ردّها فيلزمه ذلك، وعليه قلع الشجر والزرع عند ردّها للمعير ويسلّمها خاليةً إلاّ أن يرضى المعير".
القاعدة السابعة- "البيّنة على المدّعي واليمين على مَن أنكر"(5)
__________
(1) قواعد الفقه: ص 121.
(2) 10) نظرية التقعيد الفقهي: ص 94.
(3) 11) موسوعة القواعد الفقهيّة: 10/610.
(4) 12) المرجع نفسه: 10/611.
(5) هذه القاعدة نصّ حديث شريف أخرجه من حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما مرفوعاً.
البيهقي، السنن الكبرى: كتاب الدعوى والبيّنات، باب البيّنة على المدّعي، 10/252.
وأخرجه بلفظ: "اليمين على المدّعى عليه" البخاري، الصحيح: كتاب التفسير، باب تفسير سورة (3)، ح(73)، 6/73. ومسلم، الصحيح: كتاب الأقضية، باب اليمين على المدّعى عليه، ح(1/1711)، 3/1336. والترمذي، الجامع: كتاب الأحكام، باب ما جاء في أن البيّنة على المدّعي واليمين على المدّعى عليه ح(1342)، 3/626،627. وقال: "حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم وغيرهم أن البيّنة على المدّعي واليمين على المدّعى عليه".
قال الغماري: "وفي الباب عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وأبي هريرة، وعمر بن الخطاب، وابنه عبد الله بن عمر، وعمران بن حصين، وزيد بن ثابت، وبرّة بنت أبي تجراة". الهداية في تخريج أحاديث البداية: 8/650.(16/44)
:
نصّ عليها بهذا اللفظ السيوطي(1)، والزرقا(2)، والباحسين(3)، والبورنو(4). وبلفظ "للمدّعي" البركيز(5). وبلفظ "على المدّعى عليه" الروكي(6).
__________
(1) الأشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشافعيّة: ص 508.
(2) شرح القواعد الفقهيّة: ص 369. القاعدة الخامسة والسبعون (المادة 76) من مجلة الأحكام العدلية.
(3) القواعد الفقهيّة: 197.
(4) موسوعة القواعد الفقهيّة: 3/133.
(5) قواعد الفقه: ص 66.
(6) نظرية التقعيد الفقهي: ص 94.(16/45)
معنى هذه القاعدة أنّ من ادّعى على آخر شيئاً لا يثبت له ما ادّعاه حتّى يأتي على ذلك ببيّنه من شهود عدول أو غير ذلك، فإن عجز عن إقامة البيّنة طولب المدّعى عليه بيمين أنّ ما ادُّعي عليه به غير صحيح. والحكمة في ذلك "أنّ جانب المدّعي ضعيف، لإنّه يدّعي خلاف الظاهر، فكانت الحجّة القوية واجبة عليه ليتقوى بها جانبه الضعيف- والحجّة القويّة هي البيّنة-. وجانب المدّعى عليه قويّ، لأنّ الأصل عدم المدّعي به، فاكتفي منه بالحجّة الضعيفة وهي اليمين"(1). و"يشترط في اليمين أن تكون بحيث يتوقّف عليها قطع النزاع، فلو كان النزاع ينقطع بدونها لا يصار إليها... فلو اختلف- في مدّة الخيار- مع البائع في كون المبيع معيباً أو فاقداً وصفاً مرغوباً فيه مثلاً شرط في العقد لا يحلف واحدٌ منهما، لكون المشتري يمكنه الفسخ بحكم خيار الشرط، فينقطع النزاع بدون أن يصار إلى اليمين، ليفسخ بحكم العيب لا خيار فوات الوصف المرغوب فيه"(2). و"كما لا يُصار إلى اليمين إلاّ إذا توقّف قطع النزاع عليها لا يُصار إليها
__________
(1) الزرقا، شرح القواعد الفقهيّة: ص 369، وانظر أيضاً الحصني، كتاب القواعد: 4/244.
(2) الزرقا، شرح القواعد الفقهيّة: ص 376.(16/46)
إلاّ إذا كان المستحلَّف لو أقرّ بما يُستحلف عليه نفذ إقراره، فلو كان لو أقرّ لا ينفذ إقراره لا يُستحلف.. ادّعى وصيّ الميت ديناً على آخر، فادّعي الإيفاء حال حياته، وأنكر وصيّه، لا يحلف، لما مرّ من عدم الفائدة، ويدفع الدين إلى الوصي"(1).
القاعدة الثامنة- "الحرب خدعة"(2):
نصّ عليها بهذا اللفظ: البركتي(3) والبورنو(4).
__________
(1) 10) الزرقا، المرجع نفسه، ص 377.
(2) هذه القاعدة نصّ حديث شريف أخرجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً:
البخاري، الصحيح: كتاب الجهاد والسير، باب الحرب خدعة، ح (229)، 4/151. ومسلم، الصحيح: كتاب الجهاد والسير، باب جواز الخداع في الحرب، ح (18/1740)، 3/1362.
وأخرجه من حديث جابر رضي الله عنه مرفوعاً أيضاً: البخاري، المصدر نفسه، ح (230)، 4/151.
ومسلم، المصدر نفسه، ح (17/1739)، 3/1361.
(3) قواعد الفقه: ص 76.
(4) موسوعة القواعد الفقهيّة: 5/105.(16/47)
معنى هذه القاعدة أنّ معظم الحرب وأهمّ ما تقوم عليه خداع العدوّ، ويحتاج إليه أكثر من الشجاعة والقوّة. قال النووي(1): "اتّفق العلماء على جواز خداع الكفّار في الحرب وكيف أمكن الخداع إلاّ أن يكون فيه نقض عهدٍ أو أمان فلا يحلّ. وقد صحّ في الحديث جواز الكذب في ثلاثة أشياء أحدها في الحرب". قال ابن حجر العسقلاني(2): "قال الخطّابي: معناه إنّها مرة واحدة، أي إذا خُدع مرّة واحدةً لم تُقَل عثرته. وقيل: الحكمة في الإتيان بالتاء للدلالة على الوحدة، فإنّ الخداع إذا كان من المسلمين فكإنّه حضّهم على ذلك ولو مرّة واحدة، وإن كان من الكفّار فكإنّه حذَرهم من مكرهم ولو وقع مرّة واحدة، فلا ينبغي التعاون بهم لما ينشأ عنهم من المفسد ولو قلّ... وأصل الخدع إظهار أمر وإضمار خلافه. وفيه التحريض على أخذ الحذر في الحرب، والندب إلى خداع الكفّار، وإن لم يتيقّظ لذلك لم يأمن أن ينعكس الأمر عليه... وفي الحديث الإشارة إلى استعمال الرأي في الحرب، بل الاحتياج إليه أكد من الشجاعة، ولهذا وقع الاقتصار على ما يشير إليه بهذا الحديث، وهو كقوله "الحجّ عرفة". قال ابن المنيّر:
__________
(1) شرح صحيح مسلم: 12/45.
(2) فتح الباري: 6/158.(16/48)
معنى الحرب خدعة: أي الحرب الجيّدة لصاحبها الكاملة في مقصودها إنّما هي المخادعة لا المواجهة، وذلك لخطر المواجهة وحصول الظفر مع المخادعة بغير خطر". من أمثلة هذه القاعدة إنّه "إذا أراد الإمام حرب قوم- ليس بينه وبينهم عهد ولا ميثاق- فعليه أن يورّي حين خروجه، بأن يذكر إنّه يريد حرباً في جهة الشمال مثلاً وهو يريد قوماً في جهة الجنوب أو الغرب، حتى لا ينذروا به فيستعدّوا، لكي يأخذهم على غرة وغفلة"(1).
القاعدة التاسعة- "خير الأمور أوساطها"(2)
__________
(1) البورنو، موسوعة القواعد الفقهيّة: 5/106.
(2) هذه القاعدة نصّ حديث شريف أخرجه من حديث عليّ رضي الله تعالى عنه مرفوعاً:
ابن السمعاني في ذيل تاريخ بغداد كما ذكر السخاوي وقال:
"يشهد لهذا قوله تعالى: { وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ البَسْطِ } ، وقوله: { لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا } ، وقوله: { وَلا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا } ، وقوله: { إنّها بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ } ، وهي الشابّة { عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ } " (المقاصد الحسنة: ح(455)، ص 332).
وأخرجه من حديث عمرو بن الحارث مرفوعاً معضلاً البيهقي، السنن الكبرى: كتاب صلاة الخوف، باب ما ورد من التشديد في لبس الخزّ، 3/273.(16/49)
:
نصّ عليها بهذا اللفظ: البركتي(1)، والبورنو(2).
معنى هذه القاعدة إنّه إذا اختلف في أمور بأيّها يؤخذ، فإنّه يؤخذ بالأوسط منها. قال البركتي: "فإذا اختلف الوارث والوصيّ يؤخذ بأوسط الأعداد"(3).
وقال البورنو: "إذا وجبت قيّمةٌ على إنسان واختلف المقوّمون، فإنّه يُقضى بالوسط(4).
القاعدة العاشرة- "الزعيم غارم"(5):
نص عليها بهذا اللفظ: الروكي(6) والباحسين(7) والبورنو(8) والسرخسي(9).
__________
(1) قواعد الفقه: ص 80.
(2) موسوعة القواعد الفقهيّة: 5/302، 303.
(3) 10) قواعد الفقه: ص 80.
(4) موسوعة القواعد الفقهيّة: 5/303.
(5) هذه القاعدة نصّ حديث شريف أخرجه من حديث أبي أمامة رضي الله عنه مرفوعاً:
أبو داود، السنن: كتاب البيوع والإجارات، ح (3565)، 3/825. والترمذي، الجامع: كتاب البيوع، باب ما جاء في أن العارية مؤدّاة، ح (1265)، 3/565. وقال: حديث حسن غريب. وأحمد، المسند: 5/267.
(6) نظرية التقعيد الفقهي: ص 95.
(7) القواعد الفقهيّة: ص 202.
(8) موسوعة القواعد الفقهيّة: 5/427.
(9) المبسوط: 20/149.(16/50)
معنى القاعدة: أنّ من تحمّل عن غيره شيئاً وجب عليه أداؤه. من أمثلة هذه القاعدة ما ذكره البورنو(1): "من كفل إنساناً بدين فلم يؤدّ الأصيل- المكفول- الدين في موعده، فيجب على الكفيل الأداء وقضاء الدين. ومنها: إذا تصالح اثنان على مال محدّد، وكفل بمال الصلح أجنبيٌّ عنهما جازت الكفالة، ويدفع الأجنبيّ المال للمصالح، فإذا تبيّن أنّ المال مستحقّ أو زيوف فيرجع المصالح على الأجنبيّ الذي دفع المال لا على صاحبه الذي صالحه، لأنّ الأجنبيّ قد التزم بالضمان، وبظهور الدراهم مستحقّة أو زائفة انتقض القبض لا أصل العقد، فعلى الأجنبيّ الوفاء، وإن أبى أن يدفع انتقض الصلح وعادت الدعوى".
القاعدة الحادية عشرة- "كلّ شرط ليس في كتاب الله فهو باطل"(2)
__________
(1) موسوعة القواعد الفقهيّة: 5/427، 428.
(2) هذه القاعدة نصّ حديث شريف أخرجه من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها مرفوعاً:
النسائي، السنن: كتاب الطلاق، باب خيار الأمة تعتق وزوجها مملوك، 6/165.
وابن ماجه، السنن: كتاب العتق، باب المكاتب، ح(2521)، 2/843. وأحمد، المسند: 6/213.
وأخرجه بلفظ: "من اشترط شرطاً ليس في كتاب الله فهو باطل" البخاري، الصحيح: كاب البيوع، باب البيع والشراء مع النساء، ح (104)، 3/148. وكتاب المكاتب، باب إثمّ من قذف مملوكه المكاتب، ح (42)، 3/302. وبلفظ "ما كان من شرط ليس في كتاب الله عز وجل فهو باطل" مسلم، الصحيح: كتاب العتق، باب إنّما الولاء لمن أعتق، ح(8)، 2/1143.(16/51)
:
نصّ عليها بهذا اللفظ: الندوي(1)، والروكي(2)، والبورنو(3)، وابن قيّم الجوزيّة(4).
معنى هذه القاعدة أنّ كلّ شرط يخالف مقاصد الشريعة يكون لاغياً. من أمثلة هذه القاعدة ما ذكره الدكتور محمّد صدقي البورنو(5): "إذا شرط الضمان في الوديعة فهو شرط باطل، لأنّ الأمانات غير مضمونة بدون تعدّ أو تقصير، ولأنّ الأمين إنّما هو عاملٌ لمنفعة صاحب الوديعة وليس لنفسه. ومنها: الشرط الذي يضادّ مقصود العقد فهو باطل، لمخالفته الحكمة من مشروعية العقد، كمن يشترط في المنكوحة أن لا يطأها زوجها. ومنها: إذا التزم المرتّد قصاصاً أو حدّ قذف -قبل ارتداده ولحوقه بدار الحرب- ثمّ قال للمسلمين: أصالحكم على أن تؤمّنوني على ما أصبت، فلا يجوز أمانه على ذلك، لأنّ القصاص وحدّ القذف حق للعباد، فليس لأحد غير صاحب الحق إسقاطه".
يستثنى من هذه القاعدة:
"الوديعة إذا كانت بأجر فهي مضمونة، ويجوز أخذ الرهن بها، لأن الأمين يعمل لنفسه ومنفعته"(6).
__________
(1) القواعد الفقهيّة: ص 237.
(2) 10) نظرية التقعيد الفقهي: ص 94.
(3) 11) موسوعة القواعد الفقهيّة: 7/419.
(4) 12) أعلام الموقّعين: 1/333.
(5) 13) المرجع السابق: 7/417.
(6) المرجع نفسه، 4/417.(16/52)
القاعدة الثانية عشرة- "لا طاعة للمخلوق في معصية الخالق(1)":
__________
(1) هذه القاعدة نصّ حديث شريف أخرجه من حديث النوّاس بن سمعان رضي الله تعالى عنه مرفوعاً بلفظ: "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق" البغوي، شرح السنّة: كتاب الإمارة والقضاء، باب الطاعة في المعروف، ح (2455)، 10/44.
وأخرجه بلفظ: "لا طاعة لمخلوق في معصية الله عزّ وجل" من حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه مرفوعاً: أحمد، المسند: 1/409، وعبد الرزاق الصنعاني، المصنّف: كتاب الصلاة، باب الأمراء يؤخّرون الصلاة، ح (3788)، 2/383. ومن حديث عليّ رضي الله عنه مرفوعاً: أحمد، المسند: 1/131.
ومن حديث عمران بن الحصين والحكم بن عمرو الغفاري مرفوعاً: أحمد، المسند: 5/66.
وأخرجه من حديث علي رضي الله تعالى عنه مرفوعاً بلفظ: "لا طاعة في معصية الله، إنّما الطاعة في المعروف". مسلم، الصحيح: كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، ح (39/1840)، 3/1469.
وبلفظ: "لا طاعة في معصية، إنّما الطاعة في المعروف" البخاري، الصحيح: كتاب أخبار الآحاد، باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق، ح (32)، 9/159.(16/53)
نصّ عليها بهذا اللفظ: البركتي(1)، والبورنو(2).
معنى هذه القاعدة أنّ طاعة أولياء الأمور ليست مطلقةً، وإنّما هي مقيّدة في طاعة الله تعالى، فإن آمروا بمعصيةٍ فلا تجب طاعتهم في ذلك. ومناسبة حديث علي رضي الله تعالى عنه واضحة في ذلك، فقد أخرج البخاري ومسلم- واللفظ لمسلم- من حديث علي رضي الله تعالى عنه "أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث جيشاً وأمَّر عليهم رجلاً، فأوقد ناراً وقال: ادخلوها. فأراد ناسٌ أن يدخلوها، وقال الآخرون: إنا قد فررنا منها. فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال للذين أرادوا أن يدخلوها: "لو دخلتموها لم تزالوا فيها إلى يوم القيامة"، وقال للآخرين قولاً حسناً، وقال: "لا طاعة في معصية الله، إنّما الطاعة في المعروف". (البخاري ومسلم، المصدرين الأخيرين). قال البغوي(3): "روي عن أبي برزة أنّه مرّ على أبي بكر وهو يتغيّظ على رجلٍ من أصحابه- وقيل: إنّ الرجل كان يسبُّ أبا بكر، فقال أبو برزة: قلت يا خليفة رسول الله من هذا الذي تتغيّظ عليه؟ قال: فلمَ تسأل عنه؟ قلت: لأضرب عنقه- وفي رواية: قال
__________
(1) قواعد الفقه: ص 106.
(2) موسوعة القواعد الفقهيّة: 8/878.
(3) شرح السُّنّة: 10/45.(16/54)
أبو بكر لأبي برزة: لو قلت لك ذلك أكنت تفعله؟ قال: نعم- فقال: ما كان ذلك لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهذا يؤيد ما قلنا، وهو أنّ أحداً لا يجب طاعته في قتل مسلم إلاّ بعد أن يعلم أنّه حقّ، إلاّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنّه لا يأمر إلاّ بحقّ، ولا يحكم إلاّ بعدل".
ومن أمثلة هذه القاعدة ما ذكره الدكتور محمّد صدقي البورنو(1): "إذا أمر سلطانٌ أو حاكم أحداً من مرؤوسيه بأمرٍ فيه إثمّ، كقتلٍ بغير حقّ، أو أخذ مالٍ بغير رضا صاحبه، فلا تجوز الطاعة في ذلك، فإن أطاع فهو آثمّ، وهو والسلطان الآمر شريكان في الإثمّ والمعصية. ومنها إذا أمر الأب ابنه بإتلاف مالٍ لآخر أو سلبه- والابن بالغ عاقل- فلا يجوز لابنه طاعته في هذه الحال. ومنها إذا أمر الزوج زوجته بالسفور أو مخالطة الرجال فلا يجوز لها أن تطيعه، لأنّ السفور والاختلاط معصية".
__________
(1) المرجع السابق: 8/877.(16/55)
القاعدة الثالثة عشرة- "ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن"(1):
نصّ عليها بهذا اللفظ البركتي(2)، والبورنو(3).
__________
(1) هذه القاعدة نصّ حديث شريف موقوف على عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وله حكم الرفع، لأنّه لا يقال من قُبيل الرأي. وعزاه الهيثمّي في مجمع الزوائد (1/178) إلى أحمد والبزّار والطبراني في الكبير وقال: رجاله موثقون.
وأخرجه بلفظ: "ما رأى المسلمون حسناً فهو عند الله حسن" أحمد، المسند: 1/379.
وبلفظ: "ما رآه المؤمنون حسناً فهو عند الله حسن" الطبراني، المعجم الكبير: 9/113.
قال السخاوي في المقاصد الحسنة ]ح (959)، ص 581[ وهو موقوفٌ حسن.
(2) قواعد الفقه: ص 115.
(3) موسوعة القواعد الفقهيّة: 9/128.(16/56)
معنى القاعدة: أنّ ما أجمع عليه علماء المسلمين يعتبر حكماً صحيحاً. قال البركتي(1): "لا بأس بأن يقلّد الخيل في أعناقها في الحرب وغير الحرب، لأن ذلك من صنع المبارزين وغيرهم ممّن يركب الخيل، وما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن". ومن أمثلة هذه القاعدة ما ذكره الدكتور محمّد صدقي البورنو(2): "إنّ على أهل المزارع والبساتين حفظها في النّهار، وعلى أهل المواشي حفظها باللّيل. ومنها اعتبار أقلّ سنّ تحيض فيه المرأة، وفي قدر أقلّه وأكثره وأغلبه. ومنها اعتبار وقت إمكان البلوغ. ومنها اعتبار قدر الطهر الفاصل بين الحيضتين، وقدر أقلّ النفاس وأكثره وأغلبه".
القاعدة الرابعة عشرة- "ليس لعرق ظالم حقّ"(3)
__________
(1) المرجع السابق، ص 116.
(2) المرجع السابق، ص 9/130.
(3) هذه القاعدة نصّ حديث شريف أخرجه من حديث سعيد بن زيد رضي الله تعالى عنه مرفوعاً:
أبو داود، السنن: كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب في إحياء الموات، ح (3073)، 3/454.
والترمذي، الجامع: كتاب الأحكام، باب ما ذكر في إحياء أرض الموات، ح (1378)، 3/662، 663.
وقال: حديث حسن غريب.
وذكره البخاريّ معلّقاً بلفظ: "ليس لعرقٍ ظالمٍ فيه حقّ"، الصحيح: كتاب المزارعة، باب من أحيا أرضاً مواتاً، 3/214.(16/57)
:
نصّ عليها بهذا اللفظ الندوي(1)، والروكي(2)، والباحسين(3).
معنى هذه القاعدة أنّ وضع اليد على أموال الغير ظلماً لا يثبت به حقٌّ للظالم. قال ابن الأثير(4): "هو أن يجيء الرجل إلى أرضٍ قد أحياها رجلٌ قَبله فيغرس فيها غرساً غصباً ليستوجب به الأرض". قال الروكي(5): "الحديث يتضمن كليّة تشريعية يحرم بمقتضاها كل ملك فيه ظلم وعدوان، فهو على غرار قوله تعالى: { لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالبَاطِلِ } (6). وقال الباحسين(7): "لم تذكر كتب القواعد الفقهيّة هذه القاعدة، لكنّها وردت في كتابات المعاصرين، وربّما كان الأستاذ مصطفى الزرقا أوّل من ذكر هذا الحديث على أنّه قاعدة. قال، بعد ذكره الصيغة الواردة هنا، والتي جعلها من جملة القواعد التي أضافها إلى قواعد المجلّة: "وهذا الحديث أساس في أنّ العدوان لا يُكسب المعتدي حقّاً. فمن غصب أرضاً فزرع فيها، أو
__________
(1) القواعد الفقهيّة: ص 244.
(2) نظرية التقعيد الفقهي: ص 94.
(3) القواعد الفقهيّة: ص 199.
(4) 10) النهاية في غريب الحديث والأثر: (عرق)، 3/219.
(5) 11) نظرية التقعيد الفقهي: ص 94.
(6) 12) الآية (29)، من سورة النساء.
(7) 13) القواعد الفقهيّة، ص 199.(16/58)
غرس، أو بنى، لا يستحقّ تملّكها بالقيّمة، أو البقاء فيها بأجر المثل. ويقاس على الأرض غيرها من المغصوبات".
القاعدة الخامسة عشرة- "على اليد ما أخذت حتى تؤدّيه"(1):
نصّ عليها بهذا اللفظ: الروكي(2)، والباحسين(3)، وبلفظ: "تردّ" البورنو(4)، والسرخسي(5).
__________
(1) هذه القاعدة نصّ حديث شريف أخرجه من حديث سمرة بن جندب رضي الله تعالى عنه مرفوعاً: أحمد، المسند: 5/13،8 ابن ماجه، السنن: كتاب الصدقات، باب العاريّة، ح (2400)، 2/802. وأخرجه بلفظ "على اليد ما أخذت حتى تؤدّي" أحمد، المسند: 5/12. وأبو داود، السنن: كتاب البيوع، باب في تضمين العاريّة، ح(3561)، 3/822 والترمذي، الجامع: كتاب البيوع، باب ما جاء في أن العاريّة مؤدّاة، ح (1266)، 3/566. وقال: حديث حسن صحيح.
(2) نظرية التقعيد الفقهي: 94.
(3) القواعد الفقهيّة: ص 202.
(4) موسوعة القواعد الفقهيّة: 6/452.
(5) المبسوط: 18/109.(16/59)
معنى هذه القاعدة أنّ من أخذ شيئاً لغيره وجب عليه ردّه، أو ضمإنّه إن تلف. قال الروكي(1): "هو جامعٌ في ضمان المتلفات". من أمثلة هذه القاعدة ما ذكره الدكتور محمّد صدقي البورنو(2):
"وجوب ضمان المسروق على السارق، سواء بقي المسروق أو تلف، فعلى السارق ضمان قيّمته إن كان تالفاً. ومنها: من غصب شيئاً فيجب عليه ردّ العين المغصوبة على المالك أو ضمإنّها. ومنها: من استعار شيئاً- سيّارة أو دابة أو كتاباً أو غير ذلك- فعليه ردّه إلى صاحبه الذي استعاره منه ولا تبرأ ذمّته إلاّ بردّه. ومنها: من وَجَد لقطةً فأخذها لنفسه- لا ليعرّفها- فهو ضامنٌ لها، لأنّه ممنوعٌ من أخذها- لغير تعريفها- فهو متعدٍّ في هذا الأخذ كالغاصب، فيكون ضامناً وعليه ردّها لصاحبها أو ضمان قيّمتها".
__________
(1) المرجع نفسه، ص 94.
(2) المرجع نفسه: 6/452، 453.(16/60)
القاعدة السادسة عشرة- "ما أسكر كثيره فقليله حرام"(1):
نصّ عليها بهذا اللفظ: الروكي(2).
__________
(1) هذه القاعدة نصّ حديث شريف أخرجه من حديث جابر رضي الله تعالى عنه مرفوعاً: أبو داود، السنن: كتاب الأشربة، باب النهي عن المسكر، ح (3681)، 4/87. والترمذي، الجامع: كتاب الأشربة، باب ما جاء ما أسكر كثيره فقليله حرام، ح (1865)، 4/292. وقال: حديث حسن غريب من حديث جابر... وفي الباب عن سعد وعائشة وعبد الله بن عمرو وابن عُمَر وخوّات بن جبير. وابن ماجه، السنن: كتاب الأشربة، باب ما أسكر كثيره فقليله حرام، 2/1125.
وأخرجه من حديث عبد الله بن عَمرو بن العاص رضي الله عنهما مرفوعاً: النسائي، السنن: كتاب الأشربة، باب تحريم كلّ شراب أسكر كثيره، 8/300-301، وابن ماجه، السنن: كتاب الأشربة، ح (3394)، 2/1125. ومن حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً. ابن ماجه، المصدر نفسه، ح (3392)، 2/1124.
(2) نظرية التقعيد الفقهي، ص 95.(16/61)
معنى هذه القاعدة أن الحرمة شاملة لأجزاء المسكر جميعها، أنّ قليله ككثيره في الحرمة. قال الخطّابي(1): "الإسكار في هذا الحديث- وإن كان مضافاً إلى كثيره- فإن قليله مسكر على سبيل التعاون، كالزعفران يطرح اليسير منه في الماء فلا يصبغه، حتى إذا مُدَّ بجزء بعد جزء منه فإذا كثر ظهر لونه، وكان الصِّبغ والتلوين مضافاً إلى جميع أجزائه على سبيل التعاون".
القاعدة السابعة عشرة- "مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ"(2):
نص عليها بهذا اللفظ: الروكي(3)، والندوي(4).
__________
(1) 10) معالم السنن: 5/266.
(2) 11) هذه القاعدة نصّ حديث شريف أخرجه من حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعاً:
البخاري، الصحيح: كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود، ح(7)، 3/21.
ومسلم، الصحيح: كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة وردّ محدثات الأمور، ح (17/1718)، 3/1343.
(3) 12) نظرية التقعيد الفقهي: ص 93.
(4) 13) القواعد الفقهيّة: ص 244.(16/62)
معنى هذه القاعدة أنّ كلّ عمل لا يكون عليه أمر الله ورسوله فهو مردودٌ على عامله، وكلّ من أحدث في الدين ما لم يأذن به الله ورسوله، فليس من الدين في شيء. قال ابن رجب الحنبلي(1): "هذا الحديث أصلٌ عظيمٌ من أصول الإسلام، وهو كالميزان للأعمال في ظاهرها، كما أنّ حديث "الأعمال بالنّيات" ميزان للأعمال في باطنها.. الحديث يدلّ بمنطوقه على أنّ كلّ عملٍ ليس عليه أمر الشارع فهو مردود، ويدلّ بمفهومه على أنّ كل عملٍ عليه أمره فهو غير مرود. والمراد بأمره ها هنا دينه وشرعه.. فالمعنى إذاً أنّ كل من كان عمله خارجاً عن الشرع ليس متقيداً بالشرع فهو مردود".
القاعدة الثامنة عشرة- "البيّعان بالخيار ما لم يتفرّقا"(2)
__________
(1) جامع العلوم والحكم: 1/176.
(2) هذه القاعدة نصّ حديث شريف أخرجه من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما مرفوعاً:
البخاري، الصحيح: كتاب البيوع، باب إذا لم يوقّت في الخيار هل يجوز البيع، ح (61)، 3/134.
مسلم، الصحيح: كتاب البيوع، باب ثبوت خيار المجلس للمتبايعين، ح (43/1531)، 3/1163.
ساقه أولاً من حديث مالك عن نافع عن ابن عمر بلفظٍ أطول ثمّ ساق سنداً آخر من طريق أيوب عن نافع عن ابن عمر كالسند الذي أخرج به البخاري الحديث بلفظ القاعدة، ثمّ قال مسلم: نحو حديث مالك عن نافع ولم يذكر اللفظ. وأخرجه من حديث حكيم بن حزام رضي الله تعالى عنه مرفوعاً أيضاً: البخاري، الصحيح: كتاب البيوع، باب إذا بيّن البيعان ولم يكتما ونصحا، ح(31)، 3/123. وباب ما يمحق الكذب والكتمان في البيع، ح (34)، 3/124. وباب كم يجوز الخيار، ح (60)، 3/134. وباب البيّعان بالخيار ما لم يتفرّقا، ح (62) 3/135. وباب إذا كان البائع بالخيار هل يجوز البيع، ح(66)، 3/136.(16/63)
:
نصّ عليها بهذا اللفظ: الروكي(1)، والباحسين(2).
معنى هذه القاعدة ثبوت خيار المجلس للمتبايعين ما داما في مجلس البيع لم يفترقا قال البخاري في باب "البيّعان بالخيار ما لم يتفرّقا" من كتاب البيوع في صحيحه: "وبه قال ابن عمر وشُريح والشعبيّ وطاوس وعطاء وابن أبي مُليكة". قال ابن حجر في شرحه على صحيح البخاري(3): "قوله (وشريح والشعبيّ) أي قالا بخيار المجلس، وهذا وصله سعيد ابن منصور عن هُشيم عن محمّد بن عليّ: سمعت أبا الضحى يحدث إنّه شهد شُريحاً واختصم إليه رجلان اشترى أحدهما من الآخر داراً بأربعة آلاف فأوجبها له، ثمّ بدا له في بيعها قبل أن يفارق صاحبها فقال لي: لا حاجة لي فيها، فقال البائع: قد بعتك فأوجبت لك، فاختصما إلى شريح فقال: هو بالخيار ما لم يتفرّقا. قال محمّد: وشهدتُ الشعبيّ قضى بذلك. وعن جرير عن مغيرة عن وكيع عن الشعبيّ أنّه أُتي في رجلٍ اشترى من رجل بِرْذَوْناً فأراد أن يردّه قبل أن يتفرّقا فقضى الشعبيّ إنّه قد وجب البيع، فشهد عنده أبو الضحى أنّ شُريحاً أُتي مثل ذلك فردّه على البائع، فرجع الشعبيّ
__________
(1) نظرية التقعيد الفقهي: ص 96.
(2) القواعد الفقهيّة: ص 202.
(3) فتح الباري: 4/329.(16/64)
إلى قول شُريح... وقد اختلف القائلون بأنّ المراد أّ يتفرّقا بالأبدان هل للتفرّق المذكور حدٌ ينتهي إليه؟ والمشهور الراجح من مذهب العلماء في ذلك أنّه موكولٌ إلى العرف، فكلّ ما عُدّ في العرف تفرّقاً حُكم به وما لا فلا. والله أعلم".
القاعدة التاسعة عشرة- "كلّ قرضٍ جرّ نفعاً فهو ربا"(1):
نصّ عليها بهذا اللفظ: "البركتي(2)،
والندوي(3)، وابن قيّم الجوزيّة(4).
__________
(1) هذه القاعدة نصّ حديث شريف أخرجه من حديث علي رضي الله تعالى عنه مرفوعاً الحارث بن أبي أسامة في مسنده. انظر: ابن حجر العسقلاني، المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمّانية: كتاب البيوع، باب الزجر عن القرض إذا جر منفعة، ح (1373)، 1/411.
وأخرجه بلفظ "كل قرض جرّ منفعة فهو وجه من وجوه الربا" عن فضالة بن عُبيد رضي الله تعالى عنه موقوفاً: البيهقي، السنن الكبرى: كتاب البيوع، باب كل قرض جرّ منفعة فهو ربا، 5/350. وانظر ما تقدم (ص 13) من قول ابن سيرين وقتادة أيضاً.
(2) قواعد الفقه، ص 102.
(3) القواعد الفقهيّة: ص 237.
(4) أعلام الموقّعين: 1/333.(16/65)
معنى هذه القاعدة أنّ المقرض لا يستردّ إلاّ ما أقرضه، ولا يجوز له الانتفاع من المستقرض بشيء زائدٍ على قرضه، فإن فعل كان حراماً. قال البركتي(1): "على هذا لا يجوز الانتفاع بالمرهون". وقال المناوي(2) شارحاً معنى "فهو ربا" "أي في حكم الربا، فيكون عقد القرض باطلاً، فإذا شرط في عقده ما يجلب نفعاً إلى المقرض من نحو زيادة قدر أو صفة بطل".
القاعدة العشرون: "كل المسلم على المسلم حرام"(3):
نصّ عليها بهذا اللفظ: الروكي(4)، والندوي(5)، وابن قيّم الجوزيّة.
معنى هذه القاعدة أنّه يحرم التعدّي على المسلم في دمه وعرضه وماله ونفسه وحسبه وفي كل شيء بما لم يأذن الشرع فيه، من نحو قِصاص أو تعزيرٍ أو قضاء ما امتنع من أدائه ممّا هو واجب عليه(6).
الخاتمة
__________
(1) قواعد الفقه: ص 102.
(2) فيض القدير شرح الجامع الصغير: 5/36.
(3) هذه القاعدة نصّ حديث شريف أخرجه من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه:
مسلم، الصحيح: كتاب البرّ والصلة والآداب، باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه وعرضه وماله، ح (32/2564)، 4/1986.
(4) نظرية التقعيد الفقهي: ص 94.
(5) القواعد الفقهيّة: ص 237.
(6) أعلام الموقّعين: 1/333(16/66)
الحمد لله الذي ختم الأنبياء بأفضلهم سيدنا محمّد صلى الله عليه وسلم خير الأنام. وعلى من قال "إنّما الأعمال بالخواتيم" أكمل صلاة وأزكى سلام. وبعد، فهذا ما يسرّ الله تعالى انتقاءه من الأحاديث القواعد في الباب الثاني، من دراسة تأصيلية لهذا الموضوع في الباب الأوّل شملت الحديث والألفاظ ذوات الصلة به، والقاعدة الفقهيّة والألفاظ ذوات الصلة بها، ومراتب هذه القواعد، ومشروعية الاستدلال بها، ثمّ منشأها واستمدادها. وأذكّر القارئ الكريم بأنّ ما يراه في الباب الثاني من سَرْدٍ لعشرين قاعدة اتّفقت ألفاظها مع نصوص الأحاديث لم يكن جمعه سهلاً، وإن بدا كذلك للوهلة الأوّلى. بل احتاج إلى استقراءٍ كبيرٍ، وانتقاءٍ دقيق، ومجهود مرهق،لا يعرف مقداره إلاّ مَن حاول شيئاً من هذا الاستقراء والانتقاء. وأنوّه بأنّ هذه القواعد الفقهيّة العشرين ليست هي كل ما يوجد من قواعد فقهيّة تتفق ألفاظها مع نصوص الأحاديث، فلقد عثرت على أكثر مِن ضعف هذا العدد، وإنّما اقتصرت على ذكر العشرين طلباً للاختصار اللائق بهذا المقام. وأذكر مما عثرت عليه غير العشرين على سبيل المثال لا الحصر الأحاديث القواعد الآتية: "لا تبع ما ليس عندك". و(16/67)
"المسلمون تتكافأ دماؤهم، وهم يدٌ على مَن سواهم". و "اليمين الفاجرة أحقّ أن تردّ من البيّنة العادلة". و "الحرام لا يحرّم الحلال". و "مَن ابتاع طعاماً فلا يبعه حتَّى يقبضه". و "مَن استأجر أجيراً فليُعلمُه أجره". و "لا وصيّة لوارث". و "لا طلاق في إغلاق".
ولو ذهبنا إلى فهارس كتب الأحاديث المرتّبة ألفبائياً واستقرأنا الأحاديث المبدوءة بلفظ "من"، و "ما"، و "لا"، و "كلّ" وبعض الألفاظ الأخرى الدّالة على العموم، لعثرنا على الكثير من الأحاديث التي تصلح أن تكون قواعد فقهية.
وهذا كلّه بدون التعرض إلى القواعد المنتزعة من الأحاديث التي تتّفق معانيها مع الأحاديث دون اتّفاق ألفاظها. ولو حرنا نستقرأ هذا النوع من القواعد، لكانت النتيجة الحصول على مئات القواعد التي تحتاج دراستها إلى مجلّد ضخم.
وإذا أترك القلم يقف عند هذا الحد لأجل الاختصار الذي يتطلّبه المقام، فإنّي أدعو الله تعالى أن ييسّر لي أو لغيري التوسّع في هذا الموضوع في وقت قادم.
سائلاً إيّاه أن أكون قد وفّقت فيما أردت عرضه في هذا البحث، إنّه أكرم مسؤول.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين. وصلّى الله على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين.(16/68)
فهرس الآيات
- ?
{ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ وَالبَغْي? }
?-?
{ إنّهَا بَقَرَةً لاَ فَارِضَ وَلاَ بَكَرْ } .??
?-?
{ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ?. }
?-?
{ فَأَتَى اللهُ بُنْيَانهمْ مِنَ القَوَاعِد } .??
?-?
{ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثمّ عَلَيْه } .??
?-?
{ لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا } .??
?-?
{ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الجُنُودِ } .??
?-?
{ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ? }
?-?
{ وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثمّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا } .??
?-?
{ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا } .??
?-?
{ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُم } .??
?-?
{ وَلاَ تَجْعَل يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنْقِكَ } .??
?- ?(16/69)
{ وَلا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا } .??
?-?
{ لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالبَاطِلِ } .??
?-?
{ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ } .??
?-?
{ يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيم? } .
فهرس الأحاديث
?
الإسلام أعزّ من ذلك.??
??
الإسلام يعلو ولا يُعلى.??
??
أنّ رجلاً ابتاع عبداً.??
??
أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث جيشاً.??
??
إنّما الأعمال بالنيات.??
??
إنّما الطاعة في المعروف.??
??
إنّه مرّ على أبي بكر وهو يتغيّظ.??
??
بعثت بجوامع الكلم.??
??
البيّعان بالخيار ما لم يتفرّقا.??
??
البيّنة على المدّعي واليمين على مَن أنكر.??
??
الحرب خدعة.??
??
الخراج بالضَّمان.??
??
خير الأمور أوساطها.??
??
الزعيم غارم.??
??
على اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه.??
??
كلّ شرطٍ ليس في كتاب الله فهو باطل.??
??
كلّ قرضٍ جرّ منفعةً فهو مكروه.??
??
كلّ قرضٍ جرّ منفعةً فهو وجه من وجوه الربا.??
??
كلّ قرضٍ جرّ نفعاً فهو ربا.??
??(16/70)
كلّ مسكر حرام.??
??
كل المسلم على المسلم حرام.??
??
لو دخلتموها لم تزالوا فيها إلى يوم القيامة.??
??
ليس لعرقٍ ظالمٍ حقّ.??
??
ما أسكر كثيره فقليله حرام.??
??
ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن.??
??
ما رأى المسلمون حسناً فهو عند الله حسن.??
??
ما كان ذلك لأحدٍ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.??
??
المسلمون على شروطهم.??
??
المسلمون عند شروطهم.??
??
من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ.??
??
هذا أبو سفيان وعائذ بن عمرو.??
??
هذا عائذ بن عمرو وأبو سفيان.??
??
والله لولا الحياء يومئذٍ.??
??
ولا بقي منكم آثر.??
??
لا ضرر ولا ضرار.??
??
لا طاعة في معصية.??
??
لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.??
??
لا طاعة لمخلوق في معصية الله عزّ وجلّ.??
??
اليمين على المدّعى عليه.
فهرس المصادر والمراجع
-?
إرشاد طلاب الحقائق إلى معرفة سنن خير الخلائق صلى الله عليه وسلم: النووي، بيروت: دار البشائر الإسلامية، 1411هـ-1991م.??
?-?
الأشباه والنظائر: ابن نُجيم، القاهرة: مطبعة وادي النيل، 1298هـ.??
?-?
الأشباه والنظائر:تاج الدين السبكي، بيروت: دار الكتب العلمية، 1411هـ-1911م.??
?-?(16/71)
الأشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشافعيّة: السيوطي، بيروت: دار الكتب العلمية، 1983هـ.??
?-?
أعلام الموقّعين عن ربّ العالمين: ابن قيّم الجوزيّة، بيروت: دار الجيل، 1973م.??
?-?
البحر المحيط في أصول الفقه: الزركشي، القاهرة: دار الصفوة، 1413هـ-1992م.??
?-?
تدريب الراوي: السيوطي، بيروت: دار الفكر، د.ت.??
?-?
التعريفات: الجرجاني، بيروت: عالم الكتب، 1407هـ-1987م.??
?-?
جامع الترمذي: الترمذي، بيروت: دار إحياء التراث العربي.??
?-?
جامع العلوم والحكم: ابن رجب الحنبلي، بيروت: مؤسسة الرسالة، 1415هـ-1995م.??
?-?
حاشية البنّاني على جمع الجوامع: البنّاني، مصر: مصطفى البابي الحبلي، 1356هـ-1937م.??
?-?
درر الحكّام شرح مجلّة الأحكام: علي حيدر التركي، حيفا: المطبعة العبّاسية، 1343ـ-1925م.??
?-?
سنن ابن ماجه: ابن ماجه، بيروت: المكتبة العلمية، د.ت.??
?-?
سنن أبي داود: أبو داود السجستاني، حمص: دار الحديث، 1388هـ-1969م.??
?-?
سنن الدارقطني: الدارقطني، بيروت: تصوير عالم الكتب، 1403هـ-1983م.??
?-?
السنن الكبرى: البيهقي، بيروت: تصوير دار المعرفة.??
?-?(16/72)
سنن النسائي: النسائي، بيروت: تصوير دار الكتب العربي.??
?-?
السنة، الحديث، السيرة: محمّد محيي الدين عبد الحميد، مجلّة منبر الإسلام، عدد (3)، يوليو 1964م.??
?-?
السنة النبويّة وبيان مدلولها الشرعي: عبد الفتّاح أبو غدّة، حلب: مكتب المطبوعات الإسلامية، 1412هـ-1992م.??
?-?
السنّة ومكانتها في التشريع الإسلامي: مصطفى السباعي، بيروت: المكتب الإسلامي، 1396هـ-1976م.??
?-?
صحيح البخاري: البخاري، بيروت: عالم الكتب، 1402هـ-1982م.??
?-?
صحيح مسلم: مسلم، بيروت: دار إحياء التراث العربي.??
?-?
شرح التلويح على التوضيح: التفتازاني، بيروت، تصوير دار الكتب العلمية.??
?-?
شرح السنّة: البغوي، بيروت: المكتب الإسلامي، 1403هـ-1983م.??
?-?
شرح القواعد الفقهيّة، أحمد بن محمّد الزرقا، دمشق: دار القلم، 1409هـ-1989م.??
?-?
علوم الحديث ومصطلحه، صبحي الصالح، بيروت: دار العلم للملايين.??
?-?
غمز عيون البصائر شرح الأشباه والنظائر: الحموي، استانبول: دار الطباعة العامرة، 1257هـ.??
?-?
الغياثي، غياث الأمم في التياث الظلم: إمام الحرمين الجويني، قطر: الشؤون الدينية، 1400هـ.??
?-?(16/73)
فتح الباري شرح صحيح البخاري: ابن حجر العسقلاني، بيروت: دار الفكر.??
?-?
فواتح الرحموت بشرح مسلّم الثبوت: عبد العلّي الأنصاري، بيروت: تصوير دار صادر.??
?-?
فيض القدير شرح الجامع الصغير: المناوي، بيروت: دار الكتب العلمية، 1415هـ-1994م.??
?-?
القاموس المحيط: الفيروزابادي، بيروت: مؤسسة الرسالة، 1406هـ-1986م.??
?-?
قواعد التحديث: القاسمي، بيروت: دار الكتب العلمية، 1399هـ-1979م.??
?-?
قواعد الفقه: محمّد عميم الإحسان المجدّدي البركتي، كراتشي: الصدف ببلشر، 1407هـ-1986م.??
?-?
قواعد الفقه الإسلامي من خلال كتاب الإشراف على مسائل الخلاف: محمّد الروكي، دمشق: دار القلم، 1419هـ-1998م.??
?-?
القواعد الفقهيّة: علي أحمد الندوي، دمشق: دار القلم، 1406هـ-1986م.??
?-?
القواعد الفقهيّة: يعقوب بن عبد الوهّاب الباحسين، الرياض: مكتبة الرشد، 1420هـ-1999م.??
?-?
كتاب القواعد: تقي الدين الحصني، الرياض: مكتبة الرشد، 1418هـ-1997م.??
?-?
الكليّات: أبو البقاء الكفوي، بيروت: مؤسسة الرسالة، 1413هـ-1993م.??
?-?(16/74)
الكليّات الفقهيّة: دراسة نظرية تأصيلية، ناصر بن عبد لله الميمان، الرياض: مجلة العدل، عدد (30)، ربيع الآخر 1427هـ.??
?-?
لسان العرب: ابن منظور، بيروت، دار صادر، د.ت.??
?-?
المبسوط: السرخسي، بيروت: دار المعرفة.??
?-?
مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: الهيثمّي، بيروت: تصوير دار الكتاب العربي، 1402هـ-1982م.??
?-?
المحلّى: ابن حزم، القاهرة: إدارة الطباعة المنيرية، 1349هـ.??
?-?
المستدرك على الصحيحين: الحاكم النيسابوري، بيروت: تصوير دار الكتاب العربي.??
?-?
المسند: أحمد بن حنبل، بيروت تصوير المكتب الإسلامي، 1403هـ-1983م.??
?-?
المصباح المنير: الفيّومي، بيروت: المكتبة العلمية، د.ت.??
?-?
المصنّف: عبد الرزاق الصنعاني، بيروت: المكتب الإسلامي، 1403هـ-1983م.??
?-?
المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمّانية: ابن حجر العسقلاني، بيروت: دار المعرفة، 1414هـ-1993م.??
?-?
معالم السنن: الخطّابي، بيروت: تصوير دار المعرفة.??
?-?
المقاصد الحسنة: السخاوي، بيروت: دار الكتاب العربي، 1405هـ-1985م.??
?-?
المنهج الحديث في تسهيل علوم الحديث: علي نايف بقاعي، بيروت، دار البشائر الإسلامية 1427هـ-2006م.??
?-?(16/75)
منهج النقد في علوم الحديث: نور الدين عتر، دمشق: دار الفكر تصوير، 1406هـ-1985.??
?-?
موسوعة القواعد الفقهيّة: محمّد صدقي البورنو، بيروت: مؤسسة الرسالة، 1424هـ-2003م.??
?-?
موسوعة كشّاف اصطلاحات الفنون والعلوم: التهانوي: بيروت: مكتبة لبنان ناشرون، 1996م.??
?-?
نظرية التقعيد الفقهي وأثرها في اختلاف الفقهاء: محمّد الروكي، الرباط: كليّة الآداب والعلوم الإنسانية، 1414هـ-1994م.??
?-?
النهاية في غريب الحديث والأثر: ابن الأثير الجزري، بيروت: دار الفكر، د.ت.??
?-?
الهداية تخريج أحاديث البداية: أحمد الغماري، بيروت: عالم الكتب، 1407هـ-1987م.
فهرس الموضوعات
المقدّمة
الباب الأوّل: الحديث والقواعد ذوات الصلة
الفصل الأوّل: الحديث والألفاظ ذوات الصلة
المبحث الأوّل: الحديث لغةً واصطلاحاً
المبحث الثاني: تسمية الحديث بحسب مَن يُنسب إليه
المبحث الثالث: الألفاظ ذوات الصلة بالحديث
(أ) السنّة
(ب) الأثر
الفصل الثاني: القاعدة الفقهيّة والألفاظ ذوات الصلة
المبحث الأوّل: القاعدة الفقهيّة لغةً واصطلاحاً
المبحث الثاني: الألفاظ ذوات الصلة بالقواعد الفقهيّة
(أ) الأشباه والنظائر
(ب) النظريات الفقهيّة(16/76)
(ج) الضوابط الفقهيّة
الفصل الثالث: مراتب القواعد الفقهيّة
المبحث الأوّل: مراتب القواعد الفقهيّة من حيث شمولها
(أ) المرتبة الأوّلى: القواعد الكبرى الشاملة
(ب) المرتبة الثانية: القواعد متوسطة الشمول
(ج) المرتبة الثالثة: القواعد التي تختصّ بباب واحد
المبحث الثاني: مراتب القواعد الفقهيّة من حيث الاتّفاق على مضمونها أو الاختلاف فيه
(أ) المرتبة الأوّلى: القواعد المتّفق عليها بين المذاهب
(ب) المرتبة الثانية: القواعد المختلف فيها بين المذاهب
الفصل الرابع: الاستدلال بالقواعد الفقهيّة
الفصل الخامس: مَنشأ القواعد الفقهيّة واستمدادها
الباب الثاني: القواعد الأحاديث
تمهيد: تولّج علم الحديث في العلوم الأخرى، وتولّج القواعد في شتّى العلوم.
القاعدة الأوّلى: إنّما الأعمال بالنيّات.
القاعدة الثانية: لا ضرر ولا ضرار.
القاعدة الثالثة: الخراج بالضمان.
القاعدة الرابعة: كلّ مسكر حرام.
القاعدة الخامسة: الإسلام يعلو ولا يُعلى.
القاعدة السادسة: المسلمون عند شروطهم.
القاعدة السابعة: البيّنة على المدّعي واليمين على مَن أنكر.
القاعدة الثامنة: الحرب خدعة.
القاعدة التاسعة: خير الأمور أوساطها.(16/77)
القاعدة العاشرة: الزعيم غارم.
القاعدة الحادية عشرة: كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل.
القاعدة الثانية عشرة: لا طاعة للمخلوق في معصية الخالق.
القاعدة الثالثة عشرة: ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن.
القاعدة الرابعة عشرة: ليس لعرقٍ ظالمٍ حقّ.
القاعدة الخامسة عشرة: على اليد ما أخذت حتى تؤدّيه.
القاعدة السادسة عشرة: ما أسكر كثيره فقليله حرام.
القاعدة السابعة عشرة: مّن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ.
القاعدة الثامنة عشرة: البيّعان بالخيار ما لم يتفرّقا.
القاعدة التاسعة عشرة: كلّ قرضٍ جرّ نفعاً فهو ربا.
القاعدة العشرون: كلّ المسلم على المسلم حرام.
الخاتمة
فهرس الآيات
فهرس الأحاديث
فهرس المصادر والمراجع
فهرس الموضوعات(16/78)
بسم الله الرحمن الرحيم
"الشخصية الإسلامية
رؤية من خلال السنة النبوية"
إعداد :
الدكتور: فايز عبدالفتاح أبو عمير
كلية الشريعة
جامعة جرش الأهلية
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على سيدنا محمد و على آله و صحبه أجمعين و من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين و بعد :
فإن الله تعالى خلق الإنسان و استخلفه في الأرض و سخرها له ليقوم بأعباء الخلافة على النحو الذي أراده الله تعالى، و ما كان لآدم و ذريته أن يقوموا بأعباء الخلافة لولا أن الله تعالى علم آدم الأسماء كلها.
و لقد كان الإنسان موضوع الرسالات التي بعثها الله تعالى للبشرية جمعاء، تبين الصراط المستقيم وسبل الغواية و الضلال، فقد خلق الله تعالى الإنسان و لديه الاستعداد للخير والاستعداد للشر.
إن موضوع الشخصية و بنائها و علاج انحرافاتها أخذ ويأخذ حيزا مهما و كبيرا من فكر الدعاة والمصلحين والمفكرين، باعتبارها الدعامة الأساسية للبناء المجتمعي المتكامل.(17/1)
و لقد كان التركيز على هذا البناء من خلال نصوص الكتاب و السنة حافلا بكل الجوانب التي من شأنها العمل على تكامل الشخصية بكل جوانبها، وعلاج ما قد يحدث فيها من خلل، فالإسلام يسعى لإيجاد الشخصية التي يتمثل فيها المنهج الإسلامي لتكون لبنة صالحة ضمن البناء الكامل للأمة الإسلامية، و تضمن سيرا طبيعيا للمجتمع على المنهج الرباني في الدنيا و الآخرة.
مشكلة الدراسة:
تحاول هذه الدراسة الإجابة على الأسئلة الآتية:
ما هي الشخصية الإسلامية و ما أركانها و أهم ملامحها من خلال السنة النبوية.
هل في الإسلام تنوع للشخصيات الإسلامية .
ما الذي يؤثر في بناء الشخصية الإسلامية و يخرجها من مسمى الشخصية الإسلامية .
و بناء على هذه التساؤلات جاءت هذه الورقات تجيب عليها في المباحث الآتية :
المبحث الأول : تعريف الشخصية في اللغة و الاصطلاح .
المبحث الثاني : بناء الشخصية من خلال السنة النبوية .
المبحث الثالث : أنواع الشخصيات الإسلامية .
المبحث الرابع : المؤثرات في الشخصية الإسلامية وعلاجها.
و الله أسأل التوفيق و السداد إنه نعم المولى و نعم النصير .
المبحث الأول:
تعريف الشخصية في اللغة والاصطلاح:(17/2)
أولا: تعريف الشخصية في اللغة:
... من خلال الرجوع إلى المعاجم اللغوية لم أجد معنى الشخصية بمفهومها الحديث، وإنما الذي عرفه العلماء هو الشخص، باعتبار أن مصطلح الشخصية هو من المصطلحات الحديثة.
... قال ابن منظور: "الشَّخْصُ: جماعةُ شَخْصِ الإِنسان وغيره مذكر، والجمع: أَشْخاصٌ وشُخُوصٌ وشِخاص....، والشَّخْصُ: سوادُ الإِنسان وغيره تراه من بعيد، وكلّ شيء رأَيت جُسْمانَه فقد رأَيتَ شَخْصَه..، والشَّخْص كلُّ جسم له ارتفاع وظهور..، وشخَصَ الجُرْحُ وَرِمَ والشُّخُوصُ ضِدُّ الهُبوطِ ..، يقال للرجل إِذا أَتاه ما يُقْلِقُه قد شُخِصَ به كأَنه رُفِعَ من الأَرض لقَلَقِه وانْزِعاجِه، ومنه شُخُوصُ المسافِرِ خُروجُه عن مَنْزلهِ، وشَخَصَت الكلمة في الفَمِ تَشْخَصُ إِذا لم يَقْدِرْ على خَفْضِ صوته بها..."(1).
__________
(1) لسان العرب (ج7/ص45).(17/3)
... وقال الزبيدي: " يُقَال : شَخَصَ " بَصَرُهُ " فهو شاخِصٌ إِذا " فَتَحَ عَيْنَيْه وجَعَلَ لا يَطْرِفُ " قال اللهُ تَعَالَى : " فَإِذَا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا " شَخَص المَيِّتُ " بَصَرَهُ : رَفَعَهُ " إِلى السماءِ فلَمْ يَطْرِفْ. ...، وشَخَصَ " النَّجْمُ : طَلَعَ "(1).
... وكما هو معلوم فإن الألفاظ العربية هي في الغالب معان لأشياء حسية ملموسة عبر عنها العرب بألفاظ معينة، ثم أخذ من الألفاظ كثير من الاشتقاقات، وبني عليها كثير من المصطلحات، واللغات الحية هي التي تستطيع أن تتواءم مع كل جديد، ويولد منها ما يحتاجه الإنسان للتعبير عن كل مستجد.
__________
(1) تاج العروس (ج1/ص4462) وانظر النهاية في غريب الأثر (ج2/ص1116)(17/4)
... ولاشك أن ما عبر عنه من مصطلح الشخصية لا يبعد كثيرا عن المعنى اللغوي، فقد ذكر من معانيها الظهور والبروز والارتفاع، ولاشك أن الشخصية عندما تتمحور حول قيم ومنهج فإنها تبرز وتظهر، والإسلام في بنائه للشخصية المسلمة يريد منها العلو عن درك الشرك وأدران الكفر والضلال، ويريد لها العلو في الدنيا والآخرة، يريد الإسلام أن يبرز شخصيات لا لذات البروز والظهور، وإنما للقيام بالواجب المناط بها والنجاة يوم القيامة.
أما في اللغتين الإنكليزية والفرنسية، فكلمة الشخصية(personality) (person alite) مشتقة من الأصل اللاتيني (persona)، وتعني هذه الكلمة القناع الذي كان يلبسه الممثل في العصور القديمة حين كان يقوم بتمثيل دور، أو حين كان يريد الظهور بمظهر معين أمام الناس فيما يتعلق بما يريد أن يقوله أو يفعله(1).
ثانيا: تعريف الشخصية في الاصطلاح:
__________
(1) انظر www.annabaa.org/nba/shakhsia.htm(17/5)
لقد تعددت تعريفات الشخصية بتعدد المدارس التي اهتمت بتعريف الشخصية وتحديد أهم معالمها، فهناك تعريفات بيولوجية، وتعريفات اجتماعية، وثالثة نفسية ، وهناك تعريفات أخرى، وهذا الاختلاف في التعريف يعود إلى اختلاف الفرضيات التي انطلقت منها النظريات المتعددة، وقد صعب على العلماء إعطاء تعريف واحد للشخصية لاشتماله على عناصر متعددة قد يعتبرها البعض ولا يعتبرها آخرون، وقد يحصرها البعض وقد لا يحصرها آخرون، وقد يضيف البعض ويحذف منها آخرون، فقد تشمل المظاهر الجسمية الخارجية كالطول والقصر واللون واللباس، والمشية والوقوف والتكلم والصمت...، وقد يشمل الجوانب الاجتماعية عند الفرد وما يعكس ما لديه من خبرات سابقة وطرق اتصاله بالآخرين وطرق المواجهة، كما أن هناك جوانب أخرى للشخصية غير منظورة يدرك آثارها من خلال الانفعالات والتصرفات التي يقوم بها الفرد.(17/6)
لكن من خلال التتبع الدقيق لآيات القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة نجد أن التركيز في الخطاب يتمحور حول العقل والقلب والنفس، باعتبارها المكونات الأساسية لأي شخصية، وهي داخلية غير مرئية ولم يعر الإسلام مسألة المظهر الخارجي أي اهتمام كمكون أساسي للشخصية، بل من السذاجة بمكان أن يظن أن هندام الشخص وشكله ولونه هي من مكونات شخصيته، انظر لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم. وأشار بأصابعه إلى صدره"(1).
إن الإنسان كائن حي مفكر مكلف مسؤول عن تصرفاته وأفعاله، من هنا جاء هذا التكريم الذي ميزه الله تعالى على الخلائق بقوله سبحانه: " وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ "[الإسراء70]، فالإنسان يفكر ويحلل ويحكم على الأشياء من خلال قاعدة فكرية ينطلق منها، وهناك سلوك يظهر عليه، وهو الأعمال التي يقوم بها لإشباع غرائزه وحاجاته العضوية أو ما يعبر عنها بالدوافع، وعلى ذلك تكون مفاهيمه وميوله هي قوام شخصيته.
__________
(1) أخرجه مسلم (4/1986) وأحمد (2/284).(17/7)
ويمكن أن تعرف الشخصية بخصوص الإنسان بقولنا : هي الشخصية التي ينضبط تفكيرها وميولها بقاعدة فكرية (أي بعقيدة).
فقولنا: بخصوص الإنسان يصدق على أي شخصية مهما كان لونها أو لغتها أو الفكر الذي ترتكز إليه في الحكم على الأشياء، أما التفكير فهو الكيفية التي يجري عليها عقلُ الأشياء أي إدراكها، وهي الكيفية التي يُربط فيها الواقع بالمعلومات، أو المعلومات بالواقع بقياسها إلى قاعدة واحدة أو قواعد معينة، وهي ما يطلق عليها (العقلية)، فإذا لم يتم الربط لأي سبب يتوقف العقل عن الإدراك، إما لغياب المعلومات السابقة أو أن العقل غُيِّب عن إدراك الواقع إما بفعل الإنسان كشرب الخمر، أو لطارئ كالنوم والنسيان أو الإكراه، أو أن الإنسان حرم نعمة العقل، ومن ثم رفع القلم عنه، وهذا مصداق حديث رسول - صلى الله عليه وسلم - قال " رفع القلم عن ثلاثة عن النائم حتى يستيقظ وعن المبتلى حتى يبرأ وعن الصبي حتى يكبر "(1).
__________
(1) أخرجه أبو داود رقم (4398). وأحمد (1/158، 6/100)، وسنده صحيح.(17/8)
وحديثه - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه"(1).
وأما الميول فهي الدوافع مربوطة بالمفاهيم عن الحياة، وهي التي تكوّن نفسية الإنسان، فالنفسية هي الكيفية التي يجري عليها إشباع الغرائز والحاجات العضوية، وهي الكيفية التي تُربط فيها دوافع الإشباع بالمفاهيم، وهنا يحدث امتزاج حتمي وطبيعي في داخل الإنسان بين دوافعه والمفاهيم الموجودة لديه عن الأشياء مربوطة بمفاهيمه عن الحياة.
__________
(1) أخرجه ابن ماجه رقم (2045)، وصححه الألباني، وفيه نكارة إلا أنه يشهد له قوله تعالى "ربنا لا ئؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا"، وقوله تعالى "إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان".(17/9)
وقولنا : قاعدة فكرية أي يستند في تفكيره وضبط ميوله إلى مجموعة من المفاهيم عن الحياة تشكل لديه قاعدة ثابتة في الحكم على الأشياء وبيان موقفه منها بناء على تلك القاعدة، تكون هذه القاعدة قد وقرت في القلب وصارت الحَكَم في كل تصرفات المرء، وجاء التعبير النبوي عنها بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب"(1)، وتختلف هذه القواعد باختلاف المناهج التي بنيت عليها، فمنها الإسلامي، ومنها الرأسمالي، ومنها الشيوعي، ومنها اليهودي...، ومن هنا يأتي اختلاف الشخصيات كالشخصية الإسلامية، والشخصية الشيوعية، والشخصية الرأسمالية....
__________
(1) أخرجه البخاري رقم(52)، ومسلم (ج3ص1219).(17/10)
... فإذا كانت هذه القاعدة التي تكون العقلية هي نفس القاعدة التي تكون النفسية، صار المرء ذا شخصية متميزة، أما إن كانت القاعدة التي تكون العقلية غير القاعدة التي تكون النفسية صار هناك انفصام بين عقلية الإنسان ونفسيته، لأن قيام الميول هنا تم بناء على قاعدة موجودة في الأعماق تجذب المرء إليها كلما غفل أو سيطرت عليه شهوته، فيحدث ربط الدوافع بمفاهيم أخرى غير المفاهيم التي بنيت عليها عقليته، فيصبح شخصية متخبطة لا تستطيع أن تحدث توافقا بين الفكر والميول، وهذا مصداق حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به"(1)، وأخيرا وبناء على ما تقدم فيمكن أن تعرف الشخصية الإسلامية بقولنا: هو المسلم الذي ينضبط تفكيره وميوله بالعقيدة الإسلامية.
المبحث الثاني :
بناء الشخصية الإسلامية في ضوء التوجيهات النبوية
__________
(1) أخرجه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد(ج4ص369)، والبغوي في شرح السنة رقم(104)، وفيه ضعف، لكن يشهد له قوله تعالى: "وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون له الخيرة من أمرهم".(17/11)
من خلال ما سبق عرضه في المبحث السابق يتبين لنا أن مكونات الشخصية تتمثل في العقلية والنفسية وبناء القاعدة الفكرية في منظومة متكاملة متناغمة، فعملية البناء تتم من خلال الاهتمام بهذه المكونات الثلاثة، ولقد كان عمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بداية الدعوة إلى أن التحق بالرفيق الأعلى هو الاهتمام ببناء الشخصية الإسلامية المتميزة والتي أفرزت نماذج عز في التاريخ لها نظير، ولقد كانت طريقته في تربية هذه النماذج تتمثل في الخطوات الآتية:
إيجاد العقيدة الإسلامية: وكان منهجه - صلى الله عليه وسلم - في إيجاد العقيدة يتمثل في الخطوات الآتية:(17/12)
أولا: قبل إيمان الشخص بالفكرة لابد من دراسة هذه الفكرة دراسة واعية متعمقة، من خلال إقامة الأدلة والبراهين على صدق ما جاء به، ومثاله ما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي الحصين كم إلها تعبد اليوم؟ قال: سبعة؛ ستة في الأرض، وواحد في السماء. قال: فأيهم تعد لرهبتك ورغبتك؟ قال: الذي في السماء. قال: أما إنك لو أسلمت علمتك كلمات ينفعنك، فلما أسلم تقاضاها النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: قل: اللهم ألهمني رشدي وأعذني من شر نفسي"(1)،وفي رواية ابن خزيمة "يستجيب لك وحده وتشركهم معه؟"(2) وساعتئذ فإن المرء لا يملك سوى الاستسلام أمام هذه البراهين، فتحدث صراعا لدى الشخص بين الموروث القديم والحادث الجديد، فإما يصل إلى الخطوة التالية وإما أن يبقى متخبطا تائها، مدركا تمام الإدراك أنه على باطل لكنه الكفر والعناد، وهذه الخطوة ضرورية لأن العقل لابد له أن يدرك تمام الإدراك ما هو مقبل عليه، قال تعالى حكاية عما يجول في خلجات نفوس الكفار: " قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ
__________
(1) أخرجه اللالكائي في اعتقاد أهل السنة (ج4ص652).
(2) في كتاب التوحيد (ج1ص278).(17/13)
وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ"[الأنعام33].
وهذا ما تلفظ به حيي بن أخطب عندما أيقن أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - هو رسول الله حقا قال: "عداوته والله ما بقيت"(1).
ثانيا: بعد عرض الأدلة والبراهين يصل المرء إلى درجة التصديق الجازم القائم على الدليل، وهو ما يطلق عليه الإيمان، أي وقر في قلبه لا يزعزعه شيء.قال تعالى: " إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا.."[الحجرات15].
__________
(1) سيرة ابن هشام (ج3ص52)(17/14)
وعن عامر بن سعد عن أبيه قال : أعطى رسول الله- صلى الله عليه وسلم - رهطا وأنا جالس فيهم قال: فترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهم رجلا لم يعطه وهو أعجبهم إلي. فقمت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فساررته، فقلت: مالك عن فلان والله إني لأراه مؤمنا؟ قال: أو مسلما!.قال: فسكت قليلا ثم غلبني ما أعلم فيه، فقلت: يا رسول الله! مالك عن فلان والله إني لأراه مؤمنا؟ قال: أو مسلما!. قال: فسكت قليلا ثم غلبني ما أعلم فيه، فقلت: يا رسول الله! مالك عن فلان والله إني لأراه مؤمنا؟ قال: أو مسلما!. فقال: إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه خشية أن يكب في النار على وجهه"(1).
__________
(1) أخرجه البخاري رقم(1408)، ومسلم (ج1ص132).(17/15)
ثالثا: والدافع الإيماني يحدث عند المؤمن انطلاقة جديدة في تطبيق ما آمن به، دون الحاجة إلى إقامة الأدلة والبراهين على كل حكم جديد أو حادث." وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا "[النساء66]، لأن صدق المصدر أغنى في كل مرة عن طلب الدليل والبرهان، وما كان لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين تعلقت نفوسهم بالخمر أن يقوموا بسكبها على نحو ما ورد لولا أن النفوس قد هذبت للاستجابة للدافع الإيماني، فعن أنس رضي الله عنه قال: كنت ساقي القوم في منزل أبي طلحة، فنزل تحريم الخمر فأمر مناديا فنادى، فقال أبو طلحة: اخرج فانظر ما هذا الصوت ؟ قال: فخرجت. فقلت: هذا مناد ينادي؛ ألا إن الخمر قد حرمت. فقال لي: اذهب فأهرقها. قال: فجرت في سكك المدينة(1).
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (4344) ومسلم (ج3ص1570).(17/16)
رابعا: يجب على المؤمن أن لا يدرس ثقافة الغير حتى تترسخ لديه العقيدة الإسلامية وتثبت في قلبه، لأن المرحلية البنائية للعقيدة الإسلامية تتم على جرعات وتبنى كل لبنة على أختها حتى يكتمل البناء، وأي تشويش على الفكرة يحدث خللا في البناء الهرمي للعقيدة الإسلامية، وقد يحدث انتكاسة أشد من سابقتها وأعمق، وهذا ما يفسر ارتداد البعض بعد إعلان إسلامه
عن جابر بن عبد الله: أن عمر بن الخطاب أتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتب فقرأه النبي صلى الله عليه وسلم فغضب، فقال: أمتهوكون فيها يا بن الخطاب؟! والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى صلى الله عليه وسلم كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني"(1).
__________
(1) أخرجه أحمد(ج3ص387)، وابن أبي شيبة في المصنف (ج5ص312)، وفيه مجالد بن سعيد وهو ضعيف.(17/17)
2- بناء التفكير والميول على هذه العقيدة: أي تصبح العقيدة الإسلامية هي القاعدة التي ينطلق منها في الحكم على الأشياء(التفكير)، أنظر إلى حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في البناء الرائع للفكر الإسلامي، فعن المغيرة بن شعبة قال: كسفت الشمس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم مات إبراهيم، فقال الناس: كسفت الشمس لموت إبراهيم. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت إحد ولا لحياته فإذا رأيتم فصلوا وادعوا الله"(1). وهي نفس القاعدة التي ينطلق منها في فعل الأشياء (السلوك والميول)، فالتغيير الحقيقي للسلوك يتم بعد التغيير للمفاهيم والأفكار.
أما أهم القضايا التي يجب أن يبنى عليها التفكير فيمكن أن نجملها في أربع قضايا رئيسة تنم عن مدى الاستجابة التي حدثت في التفكير وإلى أي مدى ستثبت في القلب، وهي:
وضوح الغاية والمقصد.
الولاء لمن.
مفهوم السعادة.
د- مقياس الأعمال ؛ الحلال والحرام.
وهنا أمثل بحديث واحد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبين هذه المسألة بشكل جلي وواضح:
__________
(1) أخرجه البخاري (996)، ومسلم (ج2 ص630)(17/18)
عن ابن عباس قال: كنت خلف رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يوما فقال: "يَا غُلَامُ! إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ؛ احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ"(1)، وفي رواية أخرى عن ابن عباس أنه قال: كنت رديف النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا غلام! أو يا غليم! ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن؟ فقلت: بلى. فقال: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تعرف إليه في الرخاء يعرفك في الشدة، وإذا سألت فسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، قد جف القلم بما هو كائن، فلو أن الخلق كلهم جميعا أرادوا أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله عليك، لم يقدروا
__________
(1) أخرجه الترمذي، كتاب صفة القيامة (2516) وقال: هذا حديث حسن صحيح.(17/19)
عليه، وإن أرادوا أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يقدروا عليه، واعلم أن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا، وأن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وان مع العسر يسرا"(1).
قال ابن رجب الحنبلي: "وهذا الحديث يتضمن وصايا عظيمة وقواعد كلية من أهم أمور الدين، حتى قال بعض العلماء: تدبرت هذا الحديث فأدهشني، وكدت أطيش، فوا أسفى من الجهل بهذا الحديث، وقلة التفهم لمعناه"(2).
ويمكن أن نمثل المفاهيم الأساسية الواردة في هذا الحديث على النحو الآتي:
... ... ... ... نصح ... ... دعوة
... ... ... ... بيان ... ... للعاقبة
__________
(1) أخرجه أحمد، المسند(1/307).
(2) ابن رجب الحنبلي، جامع العلوم والحكم، ص (1/462).(17/20)
... نجد في هذا الحديث منظومة محكمة الربط، وغاية في السبك، ففي قوله - صلى الله عليه وسلم - (احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ) بيان لمن هو حقيق بالولاء، وغاية العبد، ومنتهى سعادته، وهي التي تمثل الميزان القويم للحكم على أفعال العبد، قال ابن رجب: "احفظ الله يعني: احفظ حدوده، وحقوقه، وأوامره، ونواهيه، وحفظ ذلك هو: الوقوف عند أوامره بالامتثال، وعند نواهيه بالاجتناب، وعند حدوده فلا يتجاوز ما أمر به، وأذن فيه إلى ما نهى عنه، فمن فعل ذلك فهو من الحافظين لحدود الله"(1)، وحفظ أوامر الله ونواهيه تحقق للعبد الحفظ في الدنيا والآخرة، وتحقق مطلبا آخر فضلا من الله يتمثل في معية الله لعبده.
وعندما يستشعر العبد حفظ الله تعالى له ومعيته يزداد في التمسك بحفظ حدود الله تعالى وأوامره ونواهيه فمن كانت هذه حاله فأي سعادة يشعر بها تغمر قلبه، وتعمر حياته، وتنير دربه؟.
__________
(1) ابن رجب الحنبلي، جامع العلوم والحكم (1/462).(17/21)
أما الولاية لله فهي أساس الفكرة وعماد الاعتقاد، ونجدها قد أخذت مساحة واسعة من هذا الحديث، فحفظ حدود الله هو إقرار بالولاية، وسؤال الله تعالى هو إقرار بالولاية، والاستعانة بالله هو إقرار بالولاية، أن الضر والنفع بيد الله تعالى هو إقرار بالولاية، وفي غمرة الإقرار بولاية الخالق على خلقه تبرز الغاية والقصد في مشهد رائع لمنتهى العبودية لصاحب الولاية، حيث نرى العبد وقد حفظ حدود الله تعالى، وتوجه إليه في المسألة، واستعان به، وتوكل عليه، وعلم أن النفع والضر بيده، فقد وضحت الغاية لديه وعرف المقصد فلزم، ويا سعادة العبد حينما يستشعر حفظ الله تعالى له في ماله وبدنه وأهله في الدنيا والآخرة، وحينما يستشعر معية الله تعالى له في كل خطوة يخطوها، وأي طمأنينة للنفس حينما يدرك أن ما فاته من خير هو من قدر الله وعلمه، وأن ما أصابه من شر هو من تدبير مولاه، وهو سبحانه أعلم بحاله ومآله، إن شكر على النعماء أجر، وإن صبر على الضراء أجر، وفي كلا الحالين أمره له خير، يقول رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا(17/22)
لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ"(1)، وما كان لأي إنسان على وجه الأرض أن ينفذ أوامر أو يترك منهيات من غير بينة ولا دليل، ولا مقياس يقيس به الأفعال والأشياء حيث يضعها في نصابها الحقيقي، يقول الله تعالى" لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ"[الحديد:]، إذن أنزل الله تعالى الميزان والمقياس حتى تستقيم حياة الناس في الدنيا والآخرة، ومن غير هذا الميزان لا تستقيم حياة البشرية كلها حيث كان الخطاب للناس كل الناس، من هنا ندرك أهمية هذا المقياس في حياة الإنسان والذي جاء التأكيد على أهميته في مقدمة الحديث، "احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ"، ثم كرره مرة أخرى مؤكدا مدى أهميته "احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ"، فحفظ حدود الله تعالى وأوامره ونواهيه تشكل لدى المسلم المقياس لما يفعل ولما يترك، وتبين هنا مقدرة الشخص على الالتزام في حدوث الأزمات في حياته فإلى من يتوجه ويستعين، فمعرفته بقدرة
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الزهد والرقائق(2999).(17/23)
خالقه ومولاه ومن يتوجه إليه في عبادته وتطمئن نفسه بذكره لا يجد سبيلا إلا سبيلا واحدا يبث إليه شكواه ويستعين به ويسأله أن يقضي له حوائجه مهما دقت أو عظمت لجلب خير أو دفع شر، فإذا غاب المقياس هنا طاش العقل وسيطرت النفس على الجسد تدفعه للحيد عن الطريق المستقيم، كان لابد من انتباهة ترده إلى رشده، وما كان الله ليقبل سؤال عبد وهو مصر على ارتكاب الذنوب والإصرار عليها، وعدم قدرته على دفع النفس إلى المعالي، وجبرها على السير على الطريق المستقيم، فقد ذكر رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ! يَا رَبِّ! وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ"(1)، ولله المثل الأعلى لا نتصور نحن البشر أن يستجاب لطلب شخص أيا كان هذا الطلب وهو مصر على مخالفة الأوامر ويضرب بها عرض الحائط، غير مكترث لنظام، ولا يتخذ لنفسه مقياسا أو ميزانا يوزن به أعماله، فهل يتصور أن يستجيب مدير ما لطلب موظف على هذه الشاكلة...؟
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الزكاة(1015).(17/24)
وليعلم العبد مع كل ما ذكر أن التعرف على الله في أوقات الرخاء -أي الاعتراف بولايته وأنه سبحانه الغاية والمقصود ومن ثم يسير على خطى المنهج الذي أراده سبحانه- يفضي إلى استجابة الله تعالى لعبده، ومن ثم يقضي حوائجه، أو يفعل الله ما يريد، فإن النفس البشرية مطمئنة الآن أنها بحفظ الله تعالى ومعيته.
3- بذل الجهد في القيام بالطاعات.
في حال رسوخ ما سبق في كيان المسلم لابد أن يحافظ على هذا المستوى من الإيمان، ثم يبدأ بالارتقاء والزيادة في الأعمال التي من شأنها أن تبقي على حالة التذكر للصلة بالله تعالى في السر والعلن وفي الأقوال والأفعال بل والسكنات وما يختلج في داخل الإنسان.(17/25)
تكاد تجد الاتفاق بين المسلمين على أن الإيمان يتركز ويتقوى بالطاعة ويضعف بالمعصية، ويقصد به هنا أن حالة التذكر للصلة بالله والمراقبة للأعمال تدفع المسلم للقيام بالعمل خشية من الله تعالى، والقيام بالعمل على الوجه المراد يرفع من حالة التذكر لهذه الصلة، فهي منظومة متكاملة تؤثر وتتأثر، لذا نبه النبي - صلى الله عليه وسلم - في كثير من المناسبات على هذه الصلة العضوية بين الأعمال وزيادة الإيمان، وأن زيادة الإيمان تدفع إلى مزيد من العمل، منها قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت"(1)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -:"من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه"(2).
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (5672) ومسلم (ج1ص68).
(2) أخرجه البخاري رقم (1804)، وأحمد (ج2ص452).(17/26)
في المقابل كان تحذير النبي - صلى الله عليه وسلم - للمسلم شديدا في حال الغفلة في أن يقع في حدود الله كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -:"كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه"(1)، فتحدث حالة من الصراع الداخلي للوقوع أو عدم الوقوع في المعصية، فإذا وقع فيها غاب الإيمان الباعث على عدم الولوج إلى عالم المعصية، قال - صلى الله عليه وسلم -:"لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن..."(2).
__________
(1) أخرجه مسلم (ج3ص1219)، وأحمد (ج4ص270).
(2) أخرجه البخاري رقم (2343) ومسلم (ج1ص76).(17/27)
إن الله تعالى أوجد في الإنسان حاجات عضوية وغرائز فطره عليها، وتبقى هذه الحاجات والغرائز تشده للإشباع، لكنها لا تشبع! لقد جاء الإسلام في معالجاته من خلال الأحكام الشرعية المنبثقة عن هذه العقيدة الإسلامية ينظم هذه الغرائز ولكن من غير كبت، وينسقها من غير إطلاق، تعطي في الصورة النهائية إشباعا لجميع جوعات الإنسان إشباعاً متناسقاً يؤدي إلى الطمأنينة والاستقرار، ويبعده عن التغول والوقوع فيها بنهم لا يدرك عاقبته في الدنيا والآخرة، ولا يمكن أن يتم هذا الإشباع إلا من خلال الأحكام التي أنزلها الله على سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم - ، فغريزة النوع والتدين وحب البقاء...، وحاجات الإنسان مثل الطعام والشراب..، غرائز وحاجات إذا أطلقت ضل الإنسان، وإذا كبتت شقي، فالحل يكمن في تنظيم هذه الغرائز والحاجات في جعل نسق بينها من شأنه أن يحرر الإنسان من ضغط هذه الشهوات ويقضيها على الوجه المراد.
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كلوا وتصدقوا والبسوا في غير إسراف ولا مخيلة"(1)
__________
(1) أخرجه النسائي رقم (2559).(17/28)
وعن عبد الله بن عمرو قال: أنكحني أبي امرأة ذات حسب، فكان يتعاهد كنته فيسألها عن بعلها، فتقول: نعم الرجل من رجل لم يطأ لنا فراشا، ولم يفتش لنا كنفا مذ أتيناه، فلما طال ذلك عليه ذكر للنبي - صلى الله عليه وسلم -،فقال: القني به. فلقيته بعد، فقال: كيف تصوم؟. قلت: كل يوم. قال: وكيف تختم؟. قلت: كل ليلة. قال: صم في كل شهر ثلاثة واقرأ القرآن في كل شهر. قال: قلت: أطيق أكثر من ذلك. قال: صم ثلاثة أيام في الجمعة. قلت: أطيق أكثر من ذلك. قال: أفطر يومين وصم يوما. قال قلت: أطيق أكثرمن ذلك. قال: صم أفضل الصوم صوم داود؛ صيام يوم وإفطار يوم، واقرأ في كل سبع ليال مرة"(1).
المبحث الثالث
تنوع الشخصيات الإسلامية
يقول - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه.."(2)
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (4765)، ومسلم (ج2ص812)
(2) أخرجه البخاري رقم(6137)(17/29)
وعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -قال: "إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري الغابر من الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم. قالوا:يا رسول الله! تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم؟ قال: بلى، والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين"(1).
ليتوقف المرء أمام هذا الحديث ويفكر في هذا الأفق الواسع المفتوح أمام المسلم ليختار مكانه، وفي أي منزلة يكون!.
نقل ابن حجر عن القرطبي قوله: "كل من أمن بالنبي - صلى الله عليه وسلم - إيمانا صحيحا لا يخلو عن وجدان شيء من تلك المحبة-أي محبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -- الراجحة، غير إنهم متفاوتون، فمنهم من أخذ من تلك المرتبة بالحظ الأوفى، ومنهم من أخذ منها بالحظ الأدنى، كمن كان مستغرقا في الشهوات محجوبا في الغفلات في أكثر الأوقات، لكن الكثير منهم إذا ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - أشتاق إلى رؤيته بحيث يؤثرها على أهله، وولده، وماله، ووالده، ويبذل نفسه في الأمور الخطيرة، ويجد مخبر ذلك من نفسه وجدانا لا تردد فيه"(2).
__________
(1) أخرجه مسلم (ج4ص2177) واللفظ له والبخاري رقم (3083).
(2) فتح الباري (ج1ص60).(17/30)
ولنتوقف مرة أخرى أمام قوله تعالى :" لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآَمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ"[المائدة93].
هنا ذكر ثلاث أنواع من الشخصيات
- اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات، هذه الدرجة الدنيا...
- ثم اتقوا وآمنوا، وهذه أوسطها...
- ثم اتقوا وأحسنوا، وهذه أعلاها...
والقاسم المشترك لتنوع الشخصيات بعد حصول الحد الأدنى هو العمل، فكلما ازداد العمل الصالح كلما ارتقت الشخصية في معارج العلى أكثر، وهنا نجد كماً هائلا من الشخصيات الإسلامية، حصرت في الآية القرآنية الأخرى بين "أصحاب اليمين" و"السابقون السابقون".
ولنضرب مثلا على ذلك الأخوة في الإسلام ، فيمكن أن تكون على أربعة درجات:(17/31)
الأولى : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، ولا تباغضوا، وكونوا عباد الله إخوانا"(1)، إن سلامة الصدر على المسلمين هي الدرجة الدنيا، ولا يقبل من المسلم أن يكون في صدره غلا أو حسدا أو حقدا على أخيه المسلم، ومن تلبس بهذه المرتبة فقد رضي بأقل القليل من درجة الأخوة في المجتمع المسلم، لكنها درجة كفيلة بإيجاد الحد الأدنى لقيام مجتمع متراحم، ومن أنقص عن ذلك فقد أثم.
الثانية: أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"(2).
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (5717)، وسلم (ج
(2) أخرجه البخاري (13) ومسلم (ج ص) رقم (45) وأحمد (3/176).(17/32)
فقد يقول قائل لا أستطيع أن أحب لفلان ما أحب لنفسي، نقول : لا عليك إن تلبست بالدرجة الأولى، وهي القدر الكافي للنجاة، لكن إن أردت كمال الأمر وزيادة في الدرجات والارتقاء إلى المعالي لابد أن تحمل النفس على حب الخير لأخيك كما تحبه لنفسك، فقد أخرج الإمام أحمد وصححه الحاكم من حديث ابن مسعود قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وعنده مالك بن مرارة الرَّهَاوِيُّ فأدركته وهو يقول: يا رسول الله! قد قسم لي من الجمال ما ترى، فما أحب أحداً من الناس فضلني بشراكين فما فوقهما، أليس ذلك من البغي؟ فقال: لا، ليس ذلك بالبغي، ولكن البغي من بَطِر أو قال: سفه الحق، وغَمَصَ الناس"(1).
__________
(1) أخرجه أحمد(1/385، والحاكم في المستدرك (4/182).(17/33)
الثالثة: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة"(1)، وهذه مرتبة جليلة لا يقدر عليها إلا من هذب النفس وأراد بصالح الأعمال النجاة يوم القيامة لا بل الارتقاء والارتفاع بإذن الله تعالى، إنها التفريج عن المسلمين وقضاء حوائجهم.
__________
(1) أخرجه البخاري رقم(2310)، ومسلم (ج4ص1996).(17/34)
الرابعة: الإيثار؛ وهي مرتبة ما بعدها مرتبة، ولا ترقى إليها إلا النفوس عمرت بالإيمان وارتقت إلى عالم الصديقين، مرتبة لمن أراد أن يكون من السابقين، مرتبة ليست بالمثالية وإنما صورة واقعية حدثت وتحدث وستحدث مادام الإسلام على وجه الأرض، صورة عز أن تكون في أمة من أمم الأرض، صورة سجلت قرآنا يتلى إلى يوم الدين "وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ"[الحشر9].(17/35)
عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رجلا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فبعث إلى نسائه، فقلن: ما معنا إلا الماء. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من يضم أو يضيف هذا؟. فقال رجل من الأنصار: أنا. فانطلق به إلى امرأته. فقال: أكرمي ضيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.فقالت: ما عندنا إلا قوت صبياني. فقال: هيئي طعامك، وأصبحي سراجك، ونومي صبيانك إذا أرادوا عشاء. فهيأت طعامها وأصبحت سراجها ونومت صبيانها، ثم قامت كأنها تصلح سراجها فأطفأته، فجعلا يريانه أنهما يأكلان، فباتا طاويين. فلما أصبح غدا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال:ضحك الله الليلة أو عجب من فعالكما. فأنزل الله "ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون"(1).
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (3587)، ومسلم (ج3ص1624).(17/36)
هذا مثال واحد في المجال الفسيح الذي أعطي للمسلم أن ينطلق فيه ويتنافس، والإسلام كله هكذا جاء يتناسب مع كل القدرات والطاقات، يفتح الآفاق أمام النفس البشرية ولا يغلقها لكن ضمن الضوابط الشرعية، ويحفزها إلى الارتقاء، ويكره إليها الدون والرضا بالقليل، يقول - صلى الله عليه وسلم -: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان"(1).
__________
(1) أخرجه مسلم (ج4ص2052) وأحمد (ج2ص366).(17/37)
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: " والمراد بالقوة هنا؛ عزيمة النفس والقريحة في أمور الآخرة، فيكون صاحب هذا الوصف أكثر إقداما على العدو في الجهاد، وأسرع خروجا إليه، وذهابا في طلبه، وأشد عزيمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر على الأذى في كل ذلك ، واحتمال المشاق في ذات الله تعالى، وأرغب في الصلاة والصوم والأذكار وسائر العبادات، وأنشط طلبا لها ومحافظة عليها، ونحو ذلك، وأما قوله- صلى الله عليه وسلم -: "وفي كل خير" فمعناه: في كل من القوي والضعيف خير لاشتراكهما في الإيمان مع ما يأتي به الضعيف من العبادات"(1).
المبحث الرابع :
المؤثرات في الشخصية الإسلامية وعلاجها .
__________
(1) شرح النووي على صحيح مسلم (ج16ص215).(17/38)
لاشك أن المسلم ينتابه بين الفينة والأخرى نوع من الفتور، أو الخلل في شخصيته، فإن النفس تحب الدعة وتميل إلى الشهوات بطبعها، وهي صعبة المراس، وإن انقادت حاولت التفلت، فقد خلقها ضعيفة، وسرعان ما تستجيب للشهوة، فقد قال الله تعالى " وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا* يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا"[النساء27-28].
وعن أنس رضي الله عنه قال:إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لما صور الله آدم في الجنة تركه ما شاء الله أن يتركه، فجعل إبليس يطيف به ينظر ما هو، فلما رآه أجوف عرف أنه خلق خلقا لا يتمالك"(1).
__________
(1) أخرجه مسلم (ج4ص216) وأحمد (ج3ص152).(17/39)
لكن هنا تظهر قوة الشكيمة، وهنا تظهر الشخصيات التي انضبطت بالإيمان فعمر القلب وملك النفس، وقد بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أن كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون"(1)، فالخطأ ملازم للنفس البشرية، وهو واقع منها لا محالة، فإن العصمة من الخطأ لا تكون إلا لمن عصم الله تعالى من أنبيائه.
لكن السؤال هنا هل المعصية تخرج المسلم عن كونه شخصية إسلامية؟ أو السؤال بوجه آخر متى يخرج المسلم عن مسمى الشخصية الإسلامية؟
__________
(1) أخرجه الترمذي رقم (2499) وحسنه الألباني.(17/40)
جاء الشرع وحدد أن المسلم عندما يقع في المعاصي والمنكرات التي لا يكفر بها فإنه يبقى شخصية إسلامية لكنه عاص أو فاسق، فقد وقع من بعض صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعض المنكرات والمعاصي والآثام، ومع ذلك فقد بقي مسمى الشخصية الإسلامية ملاصقا لهم، فقد بعث حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة يخبرهم بمجيء النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم، وهذا ما يعبر عنه في الوقت الحاضر بالخيانة العظمى، ومع ذلك فقد صفح عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال كلمته المشهورة: "إنه قد شهد بدرا، وما يدريك لعل الله أن يكون قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم"(1)، وزنى ماعز الأسلمي(2)، وفر كبار من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين، ووجد الأنصار في أنفسهم حين قسم غنائم حنين، فعن عبدالله بن زيد بن عاصم قال: لما أفاء الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين قسم في الناس في المؤلفة قلوبهم ولم يعط الأنصار شيئا، فكأنهم وجدوا إذ لم يصبهم ما أصاب الناس، فخطبهم فقال: يا معشر الأنصار ألم أجدكم
__________
(1) أخرجه البخاري رقم(2845)، ومسلم (ج4ص1941).
(2) أخرجه البخاري رقم(6438)، ومسلم (ج3ص1320).(17/41)
ضلالا فهداكم الله بي؟ وكنتم متفرقين فألفكم الله بي؟ وكنتم عالة فأغناكم الله بي؟ فكلما قال شيئا قالوا: الله ورسوله أمن. قال: ما يمنعكم أن تجيبوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟. قال: كلما قال شيئا قالوا: الله ورسوله أمن. قال:لو شئتم قلتم: جئتنا كذا وكذا. أترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير وتذهبون بالنبي - صلى الله عليه وسلم - إلى رحالكم؟ لولا الهجرة لكنت امرءا من الأنصار، ولو سلك الناس واديا وشعبا لسلكت وادي الأنصار وشعبها، الأنصار شعار والناس دثار...."(1).
ومع هذا كله فإن الإنسان بطبعه بشر ليس من الملائكة، فإذا زل أو أخطأ فيجب أن يعامل بما تقتضيه الأحكام الشرعية في حقه، ولا يجوز أن يوصف بأي وصف لم يأت به الشرع.
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (4075)، ومسلم (ج2ص738)،(17/42)
إن عماد بناء الشخصية الإسلامية -كما تقرر سابقا- هو العقيدة الإسلامية التي تشكل القاعدة التي ينطلق منها المسلم في تفكيره وميوله، أما إن جافى العقيدة الإسلامية في (تفكيره) أو(ميوله) فإنه يخرج عن مسمى الشخصية الإسلامية، فالأول؛ كفر ويلحق به استحلال الحرام، وكلاهما مهلك للنفس مخلد في نار جهنم، مخرج من الشخصية الإسلامية، وإن قام ببعض الأعمال التي ظاهرها الصلاح فالله تعالى لا يقبلها لأنها لم تُبْنَ على الإيمان، وإنما بنيت على غيره كالرياء والسمعة والمصلحة....،
ومثاله:أن يعتقد كفرا، أو يتلفظ بالكفر معتقدا ما يقوله، أو ينكر معلوما من الدين بالضرورة، أو آية من كتاب الله تعالى، أو يفعل فعلا لا يفسر إلا بالكفر، أو اتهام الدين بالنقص وأن عنده ما يكمله، أو ادعاء أدعياء الحضارة الغربية أن الإسلام لا يصلح اليوم لقيادة البشرية وقد عفى عليه الزمن، أو كافتراءات الذين يسمون بالقرآنيين أن السنة النبوية هي من اختراع المحدثين،...(17/43)
ومن استحلال الحرام مثاله: ما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس منا من حمل علينا السلاح"(1)، قال ابن حجر: "فليس منا أي ليس على طريقتنا، أو ليس متبعا لطريقتنا، لأن من حق المسلم على المسلم أن ينصره، ويقاتل دونه، لا أن يرعبه بحمل السلاح عليه لإرادة قتاله، أو قتله، ونظيره: "من غشنا فليس منا"، و "ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب"، وهذا في حق من لا يستحل ذلك، فأما من يستحله فإنه يكفر باستحلال المحرم بشرطه لا مجرد حمل السلاح"(2).
أما الثاني (الميول): فهي التي ينشئها الإنسان على غير الأسس الشرعية في التقيد بالحلال والحرام فذلك ينقص من كمال الشخصية الإسلامية ولا يخرجه عن كونه شخصية إسلامية، وإن كان لا يوصف بإنه شخصية إسلامية راقية أو سوية، فهو فاسق، أو عاص، أو ظالم لنفسه...، يقول سبحانه: " ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ"[فاطر32].
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (6480)، ومسلم(ج1ص12).
(2) فتح الباري (ج13ص24).(17/44)
الخاتمة وأهم النتائج:
بعد هذا العرض الموجز عن الشخصية الإسلامية من خلال السنة النبوية أخلص إلى أهم النتائج الآتية:
مكونات أي شخصية تتمثل في الفكر والسلوك المبني على قاعدة فكرية.
الشخصية الإسلامية هي التي انسجم فكرها مع سلوكها بناء على العقيدة الإسلامية، وهناك تفصيل دقيق في السنة النبوية لعرض هذه الشخصية.
حتى نحدث تغيرا في السلوك لابد أن يحدث تغيير في المفاهيم والأفكار.
الشخصية الإسلامية شخصية واقعية، مؤثرة ومتأثرة بمحيطها، فهي ليست ملائكية، إنما هي بشرية تقع في الفواحش والمنكرات لكن سرعان ما تعود إلى الحق وتذعن إليه.
يتم بناء الشخصية الإسلامية على أساس العقيدة الإسلامية وإيجاد انسجام بين حركة الفكر والشعور لاستقامة السلوك والدفع باتجاه الطاعة لإدامة التذكر للصلة بالخالق سبحانه عن طريق تعميق الولاء وجعله مرتفعا فوق كل ولاءات الإنسان..
لا يخرج المسلم من مسمى الشخصية الإسلامية إن عصى ربه، وإنما يخرج إذا جافى العقيدة الإسلامية في تفكيره أو ميوله، لكن لا يوصف بإنه شخصية راقية أو سوية.(17/45)
المملكة الأردنية الهاشمية
جامعة اليرموك
كلية الشريعة
المؤتمر العلمي الأول للسنة النبوية
أدب التخاطب في السنة النبوية
قيمةٌ حضارية
وبناءٌ للشخصية الإنسانية
بحث مقدم للإسهام في مؤتمر السنة النبوية في الدراسات المعاصر ة
المحور الثالث: توظيف السنة النبوية في بناء الشخصية
بقلم/ د. كلثم الشيخ عمر الماجد
الفهرس
العنوان ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الصفحة
المقدمة.............................................................................( 3 )
المبحث الأول: مفهوم مصطلح الأدب وصلته بالمنظومة القيمية الحضارية.................( 4 )
المبحث الثاني: أدب التخاطب في السنة النبوية دوحة من دوحات مكارم الأخلاق........( 6 )
المبحث الثالث: مجالات توجيهات السنة النبوية في أدب التخاطب.......................( 7 )
... المطلب الأول: آداب التخاطب في مجال العقيدة..........................................( 7 )
O أدب التخاطب مع المولى – جل وعلا-......................................( 7 )
O أدب التخاطب مع الرسول – صلى الله عليه وسلم -.......................( 12 )(18/1)
... المطلب الثاني: آداب التخاطب في المجال الاجتماعي......................................( 17 )
O المجتمع......................................................................( 17 )
O الوالدين...................................................................( 22 )
... ... O تخاطب الزوجين.............................................................( 24 )
... ... O الصغير.....................................................................( 27 )
... ... O الجاهل.....................................................................( 28 )
المطلب الثالث: آداب التخاطب في المجال السياسي/ قادة الدول.........................( 31 )
المبحث الرابع: معالم حضارية في ظل أدب التخاطب...................................( 32 )
المطلب الأول: ترقية أساليب التخاطب، وتنقيتها من الشوائب...........................( 32 )
المطلب الثاني: سمات الذوق والرقي في التخاطب.........................................( 35 )
الخاتمة والنتائج والتوصيات...........................................................( 39 )(18/2)
ثبت المصادر والمراجع..............................................................( 40 )
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد بن عبد الله، خاتم الأنبياء والمرسلين، رسول الرحمة وقائد الغر المحجلين وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد،،،
فإن توجيهات السنة النبوية في أدب التخاطب تمثل إحدى مكونات المنظومة القيمية الحضارية، بل وتمثل ركناً مهماً من أركانها، ذلك لأن أدب التخاطب وما يحتويه من ألفاظ ومصطلحات يُمثِّلُ نوعاً من التكوّن الحضاري، وجانباً مؤشراً لمعرفة دقائق المعاني.(1) مما يجعله قاعدة ذات آثار فاعلة في المهارات الكلامية التي يعود أثرها على السلوك البشري، وعلى العلاقات الإنسانية، ومن ثَمّ على البناء الحضاري.
__________
(1) المعجم المفصل في الأدب، د. محمد التونجي: (5). بتصرف يسير.(18/3)
ولقد كان رسول الله صلى الله عليه، خير قدوة للمسلمين في أدب التخاطب؛ فكان أفصح خلق الله وأعذبهم كلاماً، وأقدرهم على إبلاغ السامع وتعليمه؛ قالت السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها: "ما كان رسول الله يسرُدُ سَرْدَكُم هذا، ولكن كان يتكلم بكلام بَيْنَهُ فَصْلٌ، يحفظُهُ من جلس إليه"(1)
وقد جاء هذا البحث ليخدم هديَ نبي الله صلى الله عليه وسلم، في أدب التخاطب، وليُبرزَ ضرورة ذلك الهدي في حياة المسلمين، وأثره في بناء شخصية المسلم، ومن ثم في مجالات التقدِّم والتحضِّر التي تتطلع إليها الأمم دائماً.
__________
(1) جامع الترمذي، كتاب المناقب، باب: (9) في كلام النبي صلى الله عليه وسلم، الحديث رقم: (3639). قال أبو عيسى: هذا حديث حسن {صحيح} لا نعرفُه إلا من حديث الزهري، وقد رواه يونس بن يزيد عن الزهري. ص: (571).(18/4)
فَتَمّ دراسة هذا الموضوع من خلال أربعة مباحث: تضمّن المبحث الأول: حديثاً عن صلة مفهوم الأدب بالمنظومة القيمية الحضارية. وتضمّن المبحث الثاني: حديثاً موجزاً عن الأخلاق بصفتها الإطار العام لأدب التخاطب في الإسلام. ثم تضمن المبحث الثالث: مجالات توجيهات السنة في أدب التخاطب. وجاء المبحث الرابع متضمِّناً الحديث عن معلمين من المعالم الحضارية في ظل أدب التخاطب في السنة النبوية المطهّرة.
ولا شك أن سنّة النبي صلى الله عليه وسلم، تستحق أن نبذل لخدمتها جهوداً جبارة للكشف عن مضامينها الإنسانية العظيمة، وللكشف عن آثارها البارزة في نهضة الأمم والحضارات.
وهذا البحث ليس إلا جهد المقل، واللهَ العظيم أسألُ أن يجعله لبِنةً فاعلة في خدمة سنّة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأسأله سبحانه أن يجزي عنا نبيّنا محمداً صلى الله عليه وسلم ما هو أهله. ويجزي القائمين على مؤتمر "السنة النبوية في الدراسات المعاصرة" جزاءً مباركاً، ويبارك لهم مساعيهم، ويُسدِّد خطاهم. آمين.
المبحث الأول: مفهوم مصطلح الأدب وصِلته بالمنظومة القيمية الحضارية.
...(18/5)
إن مفهوم مصطلح الأدب في المنظومة القيمية الحضارية نابعٌ عن ماهِيَّتِهِ؛ فهو مصطلح يُرادُ به: (ترويض النفس على محاسن الأخلاق وفضائل الأقوال والأفعال التي استحسنها الشرع وأيدها العقل، واستعمال ما يُحمد قولاً وفعلاً. وهو مأخوذ من المأدُبة؛ وهو طعام يُصنع، ثم يُدعى الناس إليه، سُمِّيَ بذلك لأنه مما يُدعى كل أحد إليه....).(1)
__________
(1) جاء هذا التعريف في برنامج المكتبة الشاملة على جهاز الحاسوب، في الحديث عن كتاب الأدب في صحيح البخاري، ولم يتم تحديد مصدره سوى التحديد الوارد لكتاب الأدب في الصحيح. وجاء في فتح الباري: (10/513) جزء من الكلام الوراد في التعريف أعلاه. انظر فتح الباري. مكتبة الرشد. الطبعة الأولى: 1425هـ، 2004م.(18/6)
وقد تعدّدت مفاهيم الأدب ومجالاته؛ لتشمل أدب الخطاب وأدب التعامل وأدب الدرس، وأدب القاضي، وآداب البحث.....وغير ذلك من الآداب العامة التي تطلق (على آداب أمة معيّنة في جيلٍ معين، وهي مجمل العادات والقواعد التي توارثوها وأُلزموا على اتِّباعها طبقاً لأعرافهم الاجتماعية، وهي أساسية في آدابهم، حتى إنها لتُراعى قانوناً، ويعتبرها القاضي في أحكامه).(1) وبذلك يصبح مفهوم لفظ الأدب: أمراً قد أُجمِع عليه وعلى استحسانه.(2)
... ومن هنا تنبع أهميته في المنظومة القيمية الحضارية؛ حيث تبرز قيمة هذا المفهوم كمكوّن أساسي من مكوّناتها، بل ركناً من أركانها –كما سيأتي-.
__________
(1) المعجم المفصل في الأدب، د. محمد التونجي: (10).
(2) كتاب مجمل اللغة، للشيخ أبي الحسن أحمد بن فارس بن زكريا الرازي. ص: (48).(18/7)
وتَستمِدُّ الآداب مادتَها الأساس من الدين الذي يُشكِّل المصدر الأول للأعراف العامة. وقد تشبّع مفهوم هذا اللفظ بقيمة عظيمة بالغة النفع في دين الإسلام الذي أمدّ الآداب العامة بذخائر نفيسة عمِلتْ على إرساء قواعد الحضارة الإسلامية وتمكينها في الأرض، وعمِلتْ في الوقت نفسه على توطيد آداب صالحة للبشرية على مرِّ العصور والأزمان، وعلى مختلف الشعوب والأجناس.
... يقول د. جبور عبد النور: (.... والبارز من المتون القديمة أن هذه الكلمة، في نموّها الزمني وثرائها الدلالي، تضمنّت معاني لصيقة بالشمائل النفسيّة والتّربية الرّفيعة، والأنس بالآخرين، معبّرة عن التّهذيب البدوي الأصيل المتصدّي للمفاهيم الجديدة المتسرِّبة إلى البيئة العربية في صدر الإسلام والعصر الأموي، حتّى كادت تكون آنذاك مرادفة للفظة ظرْف أو كِياسة، وما يندرج في بابهما، وقد ظلَّ هذا المعنى الخلقيّ ملتصقاً بها خلال مرحلة زمنية طويلة، فقيل: أدب النديم، وأدب الحديث، وأدب الدّرس، وأدب العالم والمتعلم...الخ. ومع ذلك فإن دائرة شمولها اتَّسعت ابتداء من القرن الأول للهجرة، فتضمنت، فضلا عن فحواها التقليدي، معنى ثقافياً خاصّاً ما عتّمَ، مع مرور(18/8)
الزمن، أن اشتدّ بروزاً، وأصبح هو الأصل، وغدا سواه ظلا من ظلاله، ودلّ على مجموع المعارف التي تجعل من المرء إنساناً ظريفاً مُشاركاً في شؤون عصره، مُطّلعاً على فنون الشعر، والخطابة، والسِّير، وتاريخ القبائل، وأيام العرب، متمكِّناً من أسرار اللغة، والقواعد، والبلاغة، ومحصِّلاً من العلوم الدخيلة زُبدةَ ما توصّل إليه العلماء في مختلف المدارس الفكرية).(1)
... ولما كان مفهوم الآداب متضمن تلك المعاني النبيلة، والمهمات الراقية، أصبح ركنا من أركان المنظومة القيمية الحضارية التي لا تخلو في أي حال من أحوالها عن هذا المفهوم بشتى معانيه وتوجهاته.
__________
(1) المعجم الأدبي، جبّور عبد النور، ص: (315-316).(18/9)
... ولقد كان أدب التخاطب منبعاً من منابع المعارف التي استوت على سوقها في القرن الأول للهجرة، فغدت مادّتُهُ قادرة على تزويد المتكلم بقدرات الإفصاح، والبيان، وتوقير السامع، وتهذيبه لفظاً وسلوكاً تجاه الخطاب الموجّه له، وتجاه مقصود الله تعالى في الأرض. فقد أصبح المخاطب في ظل الإسلام واعياً لحقائق الأمور، مقدراً لها حقّ قدرها، وإن تجاوزت مضامينُها حدود قدرات عقله وتصوراته؛ ذلك لأنه وفِق أدب الخطاب الإسلامي أصبح قادراً على تلقّي الحقائق الإيمانية بيقين، وأصبح قادراً على تمييز الحق من الباطل، والجدّ من الهزل، وقادراً على ضبط موازين الأمور سواء فيما يتعلق بالأفعال أم الأقوال.(18/10)
وفي قول المولى جل وعلا ما يوضح ذلك؛ يقول سبحانه وتعالى: (لا إِكْرَاهَ فِيِ الدِّيِنِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ اْلغَيِّ).(1) فهذه الكلمات العطرة وإن كانت تتحدث عن إمكانات الفرد وقدراته – بما تبيّن له من الحق على يدِ البشير النذير أولا، وبطبيعة خلقه ثانياً- على التمييز بين الحق والباطل، إلا أنها تفيد في الوقت نفسه أن هذا المخلوق القادر على التمييز والاختيار والموازنة في أمر الدين، قادر أيضا على التمييز والموازنة في كثير من شئون حياته.
__________
(1) سورة البقرة، جزء من الآية: (256).(18/11)
ولا شك أن التوجيه السديد في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالا يرفع الله بها درجات، وإن العبد ليتكم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا، يهوي بها في جهنم).(1) هذا التوجيه يضع لأدب التخاطب قاعدة متينة تسير به على هدى ونور، ويوجّه المتكلم إلى مراعاة الاتزان في كل كلمة ينطق بها سواء تجاه نفسه أم تجاه الآخرين. مما يجعل التميّز بأدب التخاطب في الإسلام متّسماً بقيمةٍ رفيعةِ المستوى بين القيم الحضارية البنّاءة.
...
المبحث الثاني: أدب التخاطب في السنة النبوية دوحة من دوحات مكارم الأخلاق:
...
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب (23): حفظ اللسان، الحديث رقم: (6478) ص: (897). وصحيح مسلم: كتاب الزهد والرقائق، باب: (6): التكلم بالكلمة يهوي بها في النار، الحديث رقم: (2988). ص: (754).(18/12)
لا شك أن أدب التخاطب في السنة النبوية يُشكل دوحة من دوحات مكارم الأخلاق التي عمل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، على غرسها وتحلية خلق المسلمين بها؛ كيف لا!! وقد كان صلى الله عليه وسلم قدوة المسلمين في ذلك؛ قال مسروق رضي الله تعالى عنه: كنّا جلوساً مع عبد الله بن عمرو، يحدِّثنا، إذ قال: (لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشاً ولا متفحِّشاً، وإنه كان يقول: إن خياركم أحاسنكم أخلاقاً).(1)
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب ((39): حسن الخلق والسخاء، وما يكره من البخل. الحديث رقم: (6035). ص: (842).(18/13)
وهو صلى الله عليه وسلم القائل: ( بُعثت لأتمم صالح الأخلاق)(1)، وهو القائل أيضاً: (إن من أحبكم إليّ وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً وإن أبغضكم إليّ وأبعدكم مني مجلساً يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون(2) والمتفيهقون، قالوا يا رسول الله، قد علمنا الثرثارون والمتشدقون، فما المتفيهقون؟ قال: المتكبرون).(3)
__________
(1) رواه الحاكم في المستدرك عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: (2/613). وقال: حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يُخرّجاه. وسكت عنه الذهبي.
(2) الثرثار: كثير الكلام. قال ابن منظور: (الثرثرة في الكلام: الكثرة والترديد، وفي الأكل: الإكثار في تخليط). انظر لسان العرب: (4/102) مادة: (ثرر). والمتشدِّق: الشدق: جانب الفم من باطن الخدين. والمتشدق: الذي يلوي شدقه للتَّفصُّح. ورجل أشدق، إذا كان متفوّهاً ذا بيان، يريد المتوسِّعين في الكلام من غير احتياط واحتراز. وقيل هم المستهزئون بالناس. انظر: المعجم المفصل في تفسير غريب الحديث. د. محمد التونجي: (187).
(3) جامع الترمذي، كتاب البر والصلة، باب: (71): ما جاء في معالي الأخلاق، رقم الحديث: (2018). ص: (335). قال أبو عيسى: وهذا حديث حسن غريب من هذا الوجه. وروى بعضهم هذا الحديث عن المبارك بن فضالة عن محمد بن المنكدر عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر فيه عن عبد ربه بن سعيد وهذا أصح.(18/14)
ولمّا نالت مكارم الأخلاق هذه العناية البالغة في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي سيرته وتربيته لأمته، كان ذلك كله واضح الدلالة على تكامل العطاء الأخلاقي من منابع مَعِيِنِه صلى الله عليه وسلم، فَتَكَامَلَ بها خُلق الأقوال والأفعال والسلوك، وخُلق التديُّن، وخلق العلم والمعرفة والتعلم، وخُلق الإعمار والإبداع والبناء، وخُلق التواصل الإنساني الرفيع، والخُلق التنموي والسياسي.... وغير ذلك من الأخلاق السامية التي تمتّعَتْ بها مضامين شرائع الإسلام خاصة، لتكون ميزة لأمة الإسلام، فتتأهل بها لقيادة البشرية، كما أراد المولى جل وعلا واختار؛ ولا ريب في هذه الحقيقة، وقد أثبت المولى جل وعلا ذلك في محكم كتابه العزيز؛ فقال سبحانه: (كُنْتُمْ خَيْرَ ُأمَّةٍ ُأخْرِجَتْ ِللنَّاسِ َتأمُرونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ)(1). وقال: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطَاً لِتَكُونُواْ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُوُنَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيِداً)(2).
__________
(1) سورة: آل عمران. آية: (110).
(2) سورة: البقرة. آية: (143).(18/15)
و لا شك أن الوسطية التي تؤهل أمة الإسلام لتكون شاهدة على الأمم الأخرى، تقتضي أن يتم بناء هذه الأمة بناء محكماً شاملاً جميع المعطيات الحضارية، وجميع الجوانب التي تخدم توجّهات السُّمو الإنساني. ويُشكل أدب التخاطب جانباً مُهِمّاً من تلك الجوانب؛ لما له من تأثير على قضايا المفاهيم اللغوية، والعلاقات الكلامية والاجتماعية، بما يجعل تلك المفاهيم والعلاقات تدخل في إطار الأخلاق الإسلامية الحضارية.
وقد جاء هذا البحث للكشف عن تلك الحقيقة، ومناقشة قضاياها بشيء من التفصيل.
...
المبحث الثالث: مجالات توجيهات السنة النبوية في أدب التخاطب:
المطلب الأول: آداب التخاطب في مجال العقيدة:
إن أدب التخاطب في مجال العقيدة، ذو طابع متميز عن غيره من آداب التخاطب؛ ولمّا كان هذا الجانب متضمناً أدب الخطاب مع الخالق جل شأنه، ومع النبي صلى الله عليه وسلم؛ كان لكلِّ أدب منهما طبيعة تختلف باختلاف المخاطب؛ وفيما يأتي سنلقي الضوء على تلك الطبيعة وأدب الخطاب المتعلق بها.
O أدب التخاطب مع المولى _ جل وعلا _:(18/16)
لا شك أن أدب الخطاب مع المولى جل وعلا، تحكمُهُ علاقة الإنسان بخالقه؛ فهو سبحانه وتعالى الخالق المدبر للإنسان ولجميع شئونه، والمتصرف في أقداره والمهيمن على جميع أحواله؛ وذلك كله يعني أن الإنسان مُفتقر إلى العبودية لله تعالى، ومحتاج إليه ولرعايته في كل حال من أحواله.
ولمّا كان الأمر كذلك أصبحت هذه العلاقة تحكم طبيعة خطابه مع معبوده، وتضبط توجّهاتها. ولقد حفِلَ القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة بالكثير من تلك الضوابط؛ فالإنسان في ظل عبوديته لله تعالى، يتسم خطابه لمعبوده بالسمات التي تُمليها تلك العبودية وتقتضيها، وإنّ أبرز جوانب الخطاب مع الله تعالى يتجلى في: التلاوة، والذكر، والدعاء.
ولقد حظيت هذه الجوانب جميعها بتوجيهات الرسول الكريم، صلوات ربي وسلامه عليه، إضافة لما حظيت به من كمٍّ زاخر من التوجيهات القرآنية العظيمة. ولما كان هذا البحث حول توجيهات السنة النبوية لأدب التخاطب، اقتصر الحديث عليها.(18/17)
إن تلاوة القرآن الكريم، أعظم تخاطب بين العبد وربّه؛ فالعبد حين يتلو القرآن الكريم يخاطب ربه بما تعبّده به، ولا شك أن هذا الخطاب – بالذات- تحتويه آداب عظيمة، تخصُّهُ بما ينبغي له من قدْر ورعاية.
ومن التوجيهات النبوية المتعلقة بتلك الآداب، حثُّهُ صلى الله عليه وسلم، على ابتغاء وجه الله تعالى بتلاوته، وما يترتب على ذلك من رعاية الآيات الكريمة من حيث النية، والتلاوة، والتجويد، وتحسين الصوت بهما، والتعظيم، والتخلّق بأخلاق القرآن الكريم، وعدم التعجّل في تلاوته بقصد الانتهاء منه بسرعة؛ فكل ذلك أدب، ينبغي أن يقترن بحال قارئ القرآن .... (دخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد، فإذا فيه قوم يقرءون القرآن، قال: (اقرؤوا القرآن، وابتغوا به الله عز وجل من قبل أن يأتي قوم يقيمونه إقامة القدح،(1) يتعجّلونه ولا يتأجلونه).(2) وقال صلى الله عليه وسلم: (اقرؤوا القرآن ولا تغلوا فيه، ولا تجفوا عنه، ولا تأكلوا به، ولا تستكثروا
__________
(1) القَدَحُ: من الآنية، بالتحريك... التي للشرب. انظر: لسان العرب: (2/554) مادة: (قدح).
(2) صحيح الجامع الصغير وزيادته، (الفتح الكبير). محمد ناصر الألباني: (1/258). وقال: (حسن).(18/18)
به)(1).
... ولا شك أن التخاطب العظيم المتبادل بين العبد وربه، مما أثر عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي، يؤكد حقيقة أن التلاوة خطاب رفيع يُضفي على العبد قمّة التأدب والتَّخلَّق بالخلق الحسن في خطابه لمولاه وبارئه.
__________
(1) مسند أحمد: (24/288). الحديث رقم: (15529). قال الشيخ شعيب الأرناؤوط: حديث صحيح، وهذا إسناد قوي، رجاله ثقات رجال الشيخين، غير أبي راشد الحبراني، فقد روى له البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود والترمذي وابن ماجة، وروى له جمع، ووثقه العجلي. وابن حبان والحافظ ابن حجر في "التقريب". انظر المرجع المذكور.(18/19)
... عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: (قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل؛ فإذا قال العبد: (الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ اْلَعالَمِينَ)، قال الله تعالى: حمدَني عبدي. وإذا قال: (الرَّحْمَنِ الرَّحِيِمِ). قال الله تعالى: أثنى عليّ عبدي. وإذا قال: (مَاِلكِ يَوْمِ الدِّيِنِ)، قال: مجّدني عبدي. (وقال مرة: فَوّض إليّ عبدي) فإذا قال: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِيِنُ)، قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل. فإذا قال: (اهْدِنا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيِمَ، صِرَاطَ اّلذِيِنَ أَنعَمْتَ عَلَيْهِمْ، غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِينَ)، قال: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل.).(1)
__________
(1) صحيح مسلم؛ كتاب الصلاة، باب: (11): وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة وإنه إذا لم يحسن الفاتحة ولا أمكنه تعلمها قرأ ما تيسر له من غيرها. الحديث رقم: (395). ص: (100).(18/20)
... أما ذِكْرُ الله تعالى فيما سوى التلاوة؛ فقد أُثر عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، توجيهات كثيرة، تضمنت سبُل الارتقاء بمنزلة الذكر إلى المقام الأعظم عند الله تعالى، وسبل حسن التأدب فيه تجاه المولى جل وعلا. ومن ذلك ما جاء عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: (يا رسول الله، من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ فقال: "لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحدٌ أوّلَ منك، لما رأيت من حرصك على الحديث. أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قِبَلِ نفسه").(1) ولا شك أن الإخلاص المقترن بالنطق بكلمة التوحيد، متضمن استشعار العبد لعظمة ربه، وحقيقة وحدانيته، وهذا الاستشعار يأخذ بيده إلى الانطلاق نحو العرفان بالوحدانية بكل صدق وثقة، وكأن العبد واقف أمام ربه يخاطبه، ويعترف له بما في قلبه من صدق التوحيد.
وكذلك الأمر بالنسبة لكثير من الأذكار التي تغرس ذلك الشعور في نفس المسلم، حينما يُخلص فيها، ويلهج بها لسانه وقلبه في الوقت نفسه.
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب: (51): صفة الجنة والنار، الحديث رقم: (6570). ص: (908).(18/21)
ويشمل التخاطب مع الله تعالى، التوجّه له بالشكر، والعرفان له بالإنعام والفضل؛ فهو أدب يحبه الله تعالى، ويشكر عليه، ويبادل العبد بالخطاب الملائم لما توجّه به من خطاب لمولاه؛ وفي الوقت نفسه، يبغض المولى جل وعلا- الجاحدين لنعَمِهِ، المدبرين عنه.
ورد عن خالد الجهني رضي الله تعالى عنه، أنه قال: (صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، صلاة الصبح بالحديبية، على أثر سماء كانت من الليلة، فلما انصرف أقبل على الناس، فقال: "هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر: فأما من قال: مُطِرْنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي وكافر بالكوكب، وأما من قال: بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي ومؤمن بالكوكب).(1) فمثل هذا الخطاب متسم بالرفعة والذوق العالي، لأن المتفضل والمنعم يستحق الشكر على الإنعام، فمن أعرض عن ذلك جحد النعمة، وانحدر في مزالق الكفر، وجانب الذوق السليم.
__________
(1) المرجع السابق؛ كتاب الأذان، باب (156) يستقبل الإمام الناس إذا سلّم، الحديث رقم: (846). ص: (117). وصحيح مسلم؛ كتاب الإيمان، باب: (32): بيان كفر من قال مُطرْنا بالنّوْء. الحديث رقم: (71). ص: (30).(18/22)
... ومن وجوه حسن التأدب في التخاطب معه سبحانه وتعالى في العبادات، إتقان الصلاة، وتجنّب كل ما يصرف عنها من الشواغل، لأن المسلم في صلاته، يقفُ بين يدي الله تعالى، يخاطبه بما تعبّده به؛ وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في حال النعاس، فقال: (إذا نعَسَ أحدكم وهو يصلي، فليرقُدْ حتى يذهب عنه النوم، فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعسٌ لا يدري لعله يستغفر فيسُبُّ نفسه).(1) فلمّا كانت العبادة متضمِّنة خطاباً تعبدياً لله تعالى؛ وَرَدَ (الحثّ على الخشوع وحضور القلب للعبادة واجتناب المكروهات).(2) وفي الصلاة أيضاً نهى النبي صلى الله عليه وسلم، عن التّلفُّظ بالسلام على الله تعالى؛ لأنه هو سبحانه وتعالى السلام، ومنه السلام.
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب الوضوء، باب: (53): الوضوء من النوم، ومن لم يرَ من النعسة والنعستين، أو الخفقة وضوء. الحديث رقم: (212). ص: (38). وصحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها؛ باب: (31): أمر من نعس في صلاته، أو استعجم عليه القرآن أو الذكر بأن يرقد أو يقعد حتى يذهب عنه ذلك. الحديث رقم: (786). ص: (188).
(2) فتح الباري شرح صحيح البخاري: (1/420).(18/23)
عن الأعمش، قال: حدثني شقيق، عن عبد الله، قال: : (كنا إذا صليّنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، قلنا: السلام على الله قبل عباده، السلام على جبريل، السلام على ميكائيل، السلام على فلان. فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم أقبل علينا بوجهه فقال:: "إن الله هو السلام، فإذا جلس أحدكم في الصلاة فليقل: التحيات لله والصلوات والطيبات...).(1)
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب الاستئذان، باب: (3): السلام اسم من أسماء الله الحسنى، الحديث رقم: (6230). ص: (866).(18/24)
... ومن أدب التخاطب مع المولى – عز وجل – في الذكر والدعاء، التواضع في درجة الصوت، وذلك ما وجّه إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، الصحابة رضوان الله تعالى عنهم؛ ورد عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه قال: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكنا إذا أشرفنا على وادٍ هلّلنا وكبّرنا، ارتفعت أصواتنا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس؛ أربِعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصمّ ولا غائباً، إنه معكم، إنه سميع قريب، تبارك اسمه، وتعالى جدّه").(1) فدعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفق بأنفسهم، واستشعار عظمة من يذكرونه بتكبيرهم وتهليلهم. قال الحافظ ابن حجر: (قال الطبري - رحمه الله تعالى- : "فيه كراهية رفع الصوت بالدعاء والذكر، وبه قال عامة السلف من الصحابة والتابعين").(2)
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب: (131) باب ما يكره من رفع الصوت في التكبير، الحديث رقم: (2992). ص: (403). صحيح مسلم؛ كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: (13): استحباب خفض الصوت بالذكر. الحديث رقم: (2704). ص: (685).
(2) فتح الباري: (6/240).(18/25)
... وهناك آداب أخرى تخصّ التخاطب مع المولى – جل وعلا- في حالة الدعاء أيضاً. والتأدب فيها يكون من خلال ضبط ألفاظ الدعاء؛ ليتحقق الجدِّ في الطلب، والجزم بوقوع المطلوب، وإحسان الظن بالله تعالى في الإجابة.(1)
عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (لا يقولنَّ أحدكم: اللهم اغفر لي، اللهم ارحمني إن شئت، ليعزم المسألة فإنه لا مُكْرِهَ له).(2) وعِلّةُ التوجيه في هذا الحديث الشريف تتضح فيما جاء في شرح عبارة (فإنه لا مُكره له): قال الحافظ ابن حجر: (... والمراد أن الذي يحتاج إلى التعليق بالمشيئة، ما إذا كان المطلوب منه يتأتى إكراهه على الشيء، فيخفف الأمر عليه ويعلم بأنه لا يطلب منه ذلك الشيء إلا برضاه، وأما الله سبحانه، فهو منزّهٌ عن ذلك، فليس للتعليق فائدة).(3)
__________
(1) المرجع السابق: (12/426). بتصرف.
(2) صحيح البخاري: كتاب الدعوات، باب: (21) ليعزم المسألة، فإنه لا مُكره له. الحديث رقم: (6339). ص: (881). وصحيح مسلم؛ كتاب االذكر والدعاء والتوبة والاستغفار. باب: (3): العزم بالدعاء، ولا يقل: إن شئت. الحديث رقم: (2679)، ص: (681).
(3) فتح الباري: (12/426-427).(18/26)
وفي خاتمة هذه الآداب، لابد من الإشارة إلى أدب التخاطب مع الله سبحانه وتعالى من خلال أحب ألفاظ الخطاب إليه سبحانه وتعالى؛ ومما جاء من توجيهات سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حول هذا، قوله صلى الله عليه وسلم: (.... ولا أحدٌ أحبُّ إليه المِدْحَةُ من الله، فلذلك مدح نفسه).(1) ولذا كان مدحه سبحانه وتعالى، من الآداب المستحبة في الذكر، والدعاء والمناجاة.
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب التفسير، باب: (1). (إنما حرّم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن). رقم: (4637). ص: (637).(18/27)
ولقد وردَ عن ابن الزبير رضي الله تعالى عنه، أنه كان يقول في دبر كل صلاة حين يُسلّمْ: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا حول ولا قوّة إلا بالله، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة، وله الفضل، وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين، ولو كره الكافرون، وقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يُهلِّلُ بهن دبر كل صلاة).(1) وهو –كما هو واضح- تهليل متضمِّنٌ مدحاً وثناء على الله تعالى.
O أدب التخاطب مع الرسول _ صلى الله عليه وسلم _:
...
__________
(1) صحيح مسلم؛ كتاب المساجد ومواضع الصلاة. باب: (26): استحباب الذكر بعد الصلاة، وبيان صفته. الحديث رقم: (594). ص: (143).(18/28)
إن اقتضاءَ أدب التخاطب مع الرسول صلى الله عليه وسلم، ليس نابعاً عن كونه الإنسان الذي اصطفاه الخالق - جل وعلا- لهداية الخلق، فحسب، أو لأنه هو الإنسان العظيم الذي أخذ بيد البشرية نحو النجاة والسعادة، فحسب، ولكنه أيضاً، أدبٌ تابع لعبودية الإنسان لله تعالى؛ بمعنى أن المسلم مطالب بالتأدب في مخاطبته الرسولَ صلى الله عليه وسلم؛ مطالبةً تعبديةً، ينال عليها الأجر والثواب من الله تعالى، في الحين الذي قد تحبط فيه أعماله إن خالف الأدب في ذلك. قال المولى - جل وعلا-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ واتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيِعٌ عَلِيِمٌ، يَا أَيُّهَا الَّذِيِنَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ، وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُوُنَ).(1)
__________
(1) سورة الحجرات، الآيتان: (1 ، 2 ).(18/29)
و (رسول الله – صلى الله عليه وسلم- أعظم مَنْ تجب مِنْ بين الخلق حرمته وتبجيله وتوقيره؛ لأنه صلى الله عليه وسلم، هو السبب في هداية الخلق وإرشادهم إلى سعادتهم الدنيوية والأخروية، وإخراجهم من ظلمة الكفر والشقاوة إلى نور الإيمان والسعادة، مع مُقاساتِه المشقّات والمتاعب في ذلك، وليس من العدل والمروءة أن يجازى صلى الله عليه وسلم، على ذلك بغير كمال التبجيل، وتمام الاحترام والتعظيم والأدب معه بكل وسائله، سواء أكان بالفعل أم بالقول).(1)
ولقد عرف الصحابة – رضوان الله تعالى عنهم- أهمية أدب التخاطب مع الرسول – صلى الله عليه وسلم-، ووَعَوْهُ، فكانت سيرتهم العطرة حافلة بالأدب الرفيع، والذوق الراقي في أقوالهم وأفعالهم تجاه الرسول الكريم، صلوات الله تعالى وسلامه عليه.
وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم، خُلُقُه القرآن، فلم يكن يعاتب الجاهل على جفوته في الخطاب، أو في إساءته إليه باستخدام الكلمات أو العبارات الغير لائقة بشخصه، صلى الله عليه وسلم، فكانت تربيته لمثل هؤلاء هي الحلم والصبر والتوجيه السديد الذي يراعي فيه قدراتهم وجهلهم ودوافع إساءاتهم.
__________
(1) الخلق الكامل؛ محمد أحمد جاد المولى: (4/101)(18/30)
وهذه التربية العظيمة كانت منبعاً من المنابع التي حملتهم على التحلي بأدب الخطاب، تجاهه صلى الله عليه وسلم.
إضافة إلى التربية القرآنية التي كَفَت الرسول صلى الله عليه وسلم، كثيراً من التوجيهات المتعلقة بأدب التخاطب معه صلى الله عليه وسلم، وذلك أمر منطقي؛ فهي مُهمّة تقتضي أن يُكفى مؤنتها، لأن التوجيه الذي يُهذِّبُ المواقف الكلامية تجاهه صلى الله عليه وسلم، قد لا يتفق مع الواقع الدعوي الذي كان يعيشه صلى الله عليه وسلم، ويجهد فيه بكل طاقاته وقدراته، وبكل إمكانات التخلُّق بالخلق الفاعل في غرس الحق في نفوس المسلمين؛ فلم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم، يهتم بمدى رعاية شخصه من قِبَل الآخرين، بقدر اهتمامه بدعوتهم للحق، والعمل على زيادة تمسكهم به.(18/31)
ولذا وجدنا آيات القرآن الكريم تحث المسلمين على التأدب معه قولاً وفعلاً، وتعاتب المقصِّرين في ذلك، وتمتدح الذين أوفوا الرسول صلى الله عليه وسلم، حقه في هذا الجانب. وقد تضمنت سورة الحجرات عدداً من الآيات التي اشتملت على ذلك المعنى. إلى جانب غيرها من آيات القرآن الكريم. كقوله تعالى: (لا تَجْعَلُواْ دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً).(1) وقوله: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيِبَهُمْ فِتْنَةٌ أوْ يُصِيِبَهُمْ عَذابٌ ألِيِمٌ).(2) وقوله جل شأنه: (يَا أَيُّهَا الَّذِيِنَ آمَنُواْ لا تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُواْ وَلِلْكَافِرِيِنَ عَذَابٌ أليمٌ).(3)
ولما كان الأمر كذلك وجدنا في سيرة الصحابة رضوان الله تعالى عنهم الامتثال اللائق بتلك التوجيهات، واللائق – في الوقت نفسه- بسمة الأدب الخطابي الذي اتَّسَم به الرسول صلى الله عليه وسلم، في تخاطبه وإياهم.
والشواهد الآتية تعرض هذا الأمر بوضوح.
__________
(1) سورة النور، آية: 63.
(2) سورة النور، آية: (63).
(3) سورة البقرة، آية: (104).(18/32)
فمن الشواهد التي تَعرِضُ أدب خطابه صلى الله عليه وسلم، لأمتّه، الذي شكّل قدوة احتذى بها المسلمون في خطابهم تجاهه وتجاه المسلمين عامة، حرصه صلى الله عليه وسلم، على الإفهام حين يتكلم. ومن ذلك ما جاء: (عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثاً حتى تُفهم عنه، وإذا أتى على قوم فسلّم عليهم سلّم عليهم ثلاثاً).(1)
وكذلك حرصه على الإنصات التام لمن يحدِّثُه، وعدم مقاطعته؛ قال أنس رضي الله عنه: (ما رأيت رجلاً التقم أُذُنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيُنحّي رأسه، حتى يكون الرجل هو الذي ينحّي رأسه....).(2)
وكان صلى الله عليه وسلم: (يبسط لجلسائه بساط الانطلاق الشرعي المباح: القال والحال، دون أن يقبضهم بحاله أو يكبتهم بقاله، فإذا تحدّثوا بأمر شاركهم ما لم يكن إثماً).(3)
__________
(1) صحيح البخاري: كتاب العلم، باب: (30) من أعاد الحديث ثلاثاً ليفهم عنه. الحديث رقم: (95). ص: (22).
(2) رواه أبو داوود، كتاب الأدب، باب: (6/5). الحديث رقم: (4794). ص: (521).
(3) محمد صلى الله عليه وسلم، الإنسان الكامل، تأليف: محمد بن علوي المالكي الحسني: (253).(18/33)
أما الصحابة رضوان الله تعالى عنهم، فقد استخدموا ، ألفاظاً اتَّسمت بالرفعة والذوق البالغ، في خطابهم له صلى الله عليه وسلم. وجاء في الصحيحين مواقف لعدد من الصحابة، تذكر حسن استجابتهم للرسول صلى الله عليه وسلم، وحسن تلطُّفُهم في محاورته.
ولْنُعِيرَ أسماعنا ذلك الحوار المتبادل بين الرسول صلى الله عليه وسلم، وبين أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، حول الهجرة.
عن عائشة رضي الله تعالى عنها، قالت: (هاجر إلى الحبشة رجال من المسلمين، وتجهّز أبو بكر مهاجراً، فقال النبي الله صلى الله عليه وسلم: "على رِسْلِكَ فإني أرجو أن يؤذن لي" فقال أبو بكر: أو ترجوه بأبي أنت؟ قال: "نعم" فحبسَ أبو بكر نفسه على النبي صلى الله عليه وسلم، لصُحبتهِ، وعَلَفَ راحلتين كانتا عنده، ورَقَ السَّمُر أربعة أشهُرٍ، قال عروة: قالت عائشة: فبينما نحن يوماً جلوس في بيتنا في نحر الظّهيرة، فقال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، مُتَقنِّعاً في ساعة لم يكن يأتينا فيها، فقال أبو بكر: فداً له بأبي وأمي، والله إن جاء به في هذه الساعة إلا لأمر، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم، فاستأذَنَ، فأُذِنَ له، فدخل، فقال حين دخل لأبي(18/34)
بكر: "أخرج من عندك" قال: إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله، قال: "فإني قد أُذِنَ لي في الخروج" قال: فالصُّحْبة بأبي أنت يا رسول الله؟ قال: "نعم"، قال: فخذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتيّ هاتين، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "بالثمن" قالت: فجهّزناهما أحثَّ الجهازِ، ووضعنا لهما سُفرةً في جرابٍ......).(1)
ومعاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه، يناديه الرسول صلى الله عليه وسلم، بنداء لطيف، مُشْعِرٍ بالرعاية البالغة التي كان يوليها صلوات الله تعالى وسلامه عليه لصحابته الكرام، فيجيب رضوان الله تعالى عنه، بالأسلوب الذي يُعظِّمُ به هذا الإنسان العظيم، والذي تَصْدُرُ به الإيجابية الملائمة لذلك الحوار.
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب اللباس، باب: (16) التَّقنُّع. رقم: (5807). ص: (819).(18/35)
عن معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه قال: (بينما أنا رديف النبي صلى الله عليه وسلم، ليس بيني وبينه إلا آخِرَةُ الرَّحْل، فقال: "يا معاذ"، قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك، ثم سار ساعة، ثم قال: "يا مُعاذ"، قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك، ثم سار ساعة، ثم قال: "يا معاذ بن جبل"، قلت: لبيك رسول الله وسعديك، قال: "هل تدري ما حق الله على عباده؟" قلت: الله ورسوله أعلم، قال: "حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يُشركوا به شيئاً"، ثم سار ساعة، ثم قال: "يا معاذ بن جبل" قلت: لبيك رسول الله وسعديك، قال: "هل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوه؟" قلت: الله ورسوله أعلم، قال: "حق العباد على الله أن لا يُعذّبهم".(1)
__________
(1) المرجع السابق، كتاب الرقاق، باب: (37). من جاهد نفسه في طاعة الله، رقم: (6500). ص: (900).(18/36)
وفي موقف شبيه بهذا الموقف ينادي الرسول صلى الله عليه وسلم، معاذاً، فيجيبه: (لبيك يا رسول الله وسعديك، "ثلاثاً")(1)؛ وليس التكرار ثلاث مرات في الإجابة بعبث، ولكنه أدب، يقتضيه حسن الإنصات، وحسن التلبية، وتوقير المنادي وإشعاره بالمثول لما يريد. وسبق ذكرُ حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على تكرار الحديث ليُفهم منه. ولذا فإن حال معاذ رضي الله تعالى عنه، في تكراره التلبية، يُبرز أثرَ هدي الرسول صلى الله عليه وسلم، في شخصه.
والأدب المذكور لم يكن مقتصرٌ على مَنْ ذُكِرَ فحسب، فقد ورد في صحيحي البخاري ومسلم، رحمهما الله تعالى ورضي عنهما، وفي غيرهما من كتب الحديث، أحاديث تضمنت أساليباً شبيهة لصحابة آخرين؛ مثل: أبا ذرٍّ، وأبا موسى الأشعري، وغيرهم كثير. رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
وشمِلَ أدب التخاطب معه، صلى الله عليه وسلم، أيضاً، الحرصَ على ضبط درجة الصوت أثناء الحديث معه.
__________
(1) المرجع السابق، كتاب العلم، باب: (49). من خصّ بالعلم قوما دون قوم كراهية أن لا يفهموا. رقم: (128). ص: (27). وصحيح مسلم؛ كتاب الإيمان، باب: (10): الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعاً. الحديث رقم: (32). ص: (23).(18/37)
وصفَ عبد الله بن الزبير، عمرَ بن الخطاب، رضي الله تعالى عنهما، بقوله: (...فكان عمر بعدُ... إذا حدّث النبي صلى الله عليه وسلم، بحديث حدّثه كأخي السِّرار، لم يُسمِعه حتى يستفهِمَهُ).(1) وذلك بعد نزول قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِيِنَ آمَنُواْ لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ).(2) كما جاء في الرواية.
وهذه الآية الكريمة جعلت ثابت بن قيس رضي الله تعالى عنه، يلزم بيته؛ ندماً ووجلاً، لأنه اتّهمَ نفسه بالإساءة والتعدي، برفع الصوت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب: (5): ما يكره من التعمّق والتنازع في العلم والغلو في الدين والبدع، الحديث رقم: (7302). ص: (1003).
(2) سورة الحجرات، آية: (2).(18/38)
(عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، افتقد ثابت بن قيس، فقال رجل: يا رسول الله، أنا أعلم لك علمه، فأتاه فوجده جالساً في بيته منكِّساً رأسه، فقال له: ما شأنك؟ فقالك شرٌّ، كان يرفع صوته فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم، فقد حبِطَ عمله، وهو من أهل النار، فأتى الرجل النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره أنه قال كذا وكذا،... فرجع إليه المرَّةَ الآخرة ببشارةٍ عظيمة، فقال: "اذهب إليه، فقل له إنك لست من أهل النار، ولكنك من أهل الجنة").(1)
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب التفسير، باب: (1) لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي. رقم: (4846). ص: (686).(18/39)
ويتجلى الأدب الجمُّ في سيرة الصحابة رضوان الله تعالى عنهم، في غزوة بدر، من خلال ذلك الجواب العظيم الذي نطق به المقداد، رضي الله تعالى عنه وأرضاه؛ قال: (يا رسول الله، إنا لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: "فاذهب أنت وربُّك فقاتلا، إنَّا ههنا قاعدون"، ولكن امضِ ونحن معك....).(1) وفي تمام الرواية: أنه صلى الله عليه وسلم: سُرِّي عنه، وذلك هدف عظيم، وفوز كبير تحقق للصحابة بما تحلَّوا به من أدب الخطاب تجاهه، صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) المرجع السابق، كتاب التفسير، باب: (4) (فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون). رقم: (4609). ص: (632).(18/40)
وختاماً لا يفوتنا أن نشير إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم، قد أحكم تأديب الخطاب باختيار الألفاظ الصائبة التي ربّى بها أمته على النهج القويم. ومن ذلك ماجاء عن الرّبيع بنت معوذ رضي الله تعالى عنها قالت: دخل عليّ النبي صلى الله عليه وسلم، غداة بُنِيَ عليّ، فجلس على فراشي كمجلسك مني، وجويريات يضرِبْنَ بالدفِّ يندبْنَ من قُتل من آبائهن يوم بدر، حتى قالت جارية: وفينا نبي يعلم ما في غدِ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقولي هكذا، وقولي ما كنت تقولين).(1)
المطلب الثاني: آداب التخاطب في المجال الاجتماعي:
... ...
O المجتمع:
بُعث الرسول صلى الله عليه وسلم، رحمة للعالمين؛ فحمل على عاتقه مسئولية الدعوة والتربية والتعليم، وعَمِلَ على توعية الأمة، والارتقاء بها إلى الخيرية المُقرّرة في قوله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ).(2)
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب: (11): شهود الملائكة بدراً، الحديث رقم: (4001)، ص: (544).
(2) سورة آل عمران: آية: (110).(18/41)
وكما حظي الفرد بالعناية البالغة في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، حظي كذلك المجتمع والأمة بمثل تلك العناية؛ فلم تقتصر تربيته صلى الله عليه وسلم، وتوجيهاته، على الحالات الفردية، وإن كانت التربية والتوجيه المجتمعي في كثير من حالاته، سببه فرد من أفراد المجتمع؛ فكان الاهتمام بتربية المجتمع نُصْبَ عينيه صلى الله عليه وسلم، يوجِّهه من خلال مجالس العلم والذكر، ومن خلال الخطب والمواعظ، ومن خلال لفت الأنظار الجماعية نحو حالات فردية وفئات جماعية، تقتضي العلاج والتوعية، فيعي المجتمع من خلالها، وجوه الخلل التي قد تعتريه عن طريقها، فيتوجّهُ من تلقاء نفسه نحو رفض ذلك الخلل، والعمل على مناهضته على المستوى الخاص والعام سواء.(18/42)
... ولقدْ علّم الرسول صلى الله عليه وسلم، أمَّتَهُ أدب التخاطب مع المجتمع من خلال تربيته له؛ حيث اتّسمت تلك التربية برُقيٍّ بالغ في الأسلوب، وفي الألفاظ المستخدمة، ومن خلال مراعاة التوجيه العام القائم على الاستفادة من إشكالات الحالات الفردية الخاصة. وذلك لا شك أسلوب رفيع، وعميق في الوقت نفسه، لأنه لا يقتصر على توجيه المخطئ وتوعيته، فضلاً عمّا قد ينتابه من حرج إذا كان التوجيه متعلقاً بحالته هو فقط، وإنما يتعدى التوجيه ذلك إلى فئات أخرى، يتشكل منها المجتمع، فيتعلم المجتمع من خلال ذلك وجوه الصواب المرغوبة في الشريعة، ووجوه الخطأ المرفوضة فيها.
... ولذا كانت الألفاظ المستخدمة في خطابه صلى الله عليه وسلم للمجتمع هي: (ما بال أقوام، يا أيها الناس، يا معشر المسلمين، ما بال العامل، إن منكم منفرين...) وغير ذلك.
وفيما يأتي عددٌ من الأحاديث التي اشتملت على مثل ذلك الخطاب:(18/43)
... عن عائشة رضي الله تعالى عنها: (أن قريشاً أهمّتهُم المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: من يُكلِّم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن يجْتَرئُ عليه إلا أسامة، حِبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلّم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (أتشفع في حدٍ من حدود الله؟ ثم قام فخطب، قال: "يا أيها الناس، إنما ضلَّ مَنْ قَبْلَكم أنهم كانوا إذا سرق الشريفُ تركوه، وإذا سرقَ الضعيفُ فيهم أقاموا عليه الحدّ، وأيم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمّدٌ يدها".(1) فهذا الحديث الشريف متضمِّنٌ قوله (يا أيها الناس) وفي هذا النداء أدبٌ جمٌّ، عالج من خلاله نفوساً تراعي جانب الشرف والفضل في النّسب، مراعاةً تفوق مراعاة الحق؛ فكانت التوعية نحو هذا الخلل عامة لترتقي بالمجتمع ارتقاء جماعياً، وهي – في الوقت نفسه- توعية تضمّنت أسلوب خطاب فاعل في التوجيه الجماعي.
__________
(1) صحيح البخاري؛ كتاب الحدود وما يحذر منها، باب: (12): كراهية الشفاعة في الحدّ إذا رُفع إلى السلطان. الحديث رقم: (6788). ص: (935).(18/44)
... وفي تعميم إرشاد المجتمع إلى حُسْنِ الاتِّباعِ والاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم، يُوجِّهُ الرسول عليه الصلاة والسلام، خطاباً يُعاتِبُ به الذين يظنون أنهم أحسنوا الفعل فيما اختاروا، ويُوجّه المجتمع من خلال فعلهم بقوله: (ما بال أقوام).
... قالت السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها: (صنعَ النبي صلى الله عليه وسلم، شيئاً ترخَّصَ، وتَنَزَّهَ عنه قومٌ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فحمَدَ الله، ثم قال: "ما بالُ أقوامٍ يتنزّهونَ عن الشيءِ أصنَعُهُ، فوالله إني لأعلمهُم بالله وأشدّهم له خشية").(1)
__________
(1) المرجع السابق؛ كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب: (5): ما يُكره من التّعمّق والتنازع في العلم والغلو في الدين والبدع، الحديث رقم: (7301). ص: (1003).(18/45)
وقد يتطلب أدب التخاطب مع المجتمع، تعميم الخطاب، ثم تخصيص السبب، ليؤدي وظيفتان: أولهما: بيان المرغوب بيانه من الإرشاد، ثم بيان الخطأ في حدِّ ذاته، ليعيَ المخاطَب من بين أفراد المجتمع، أن توجيه المجتمع كان بسبب فعله، فيبادر إلى إصلاحه، كي لا يُحْوِج الموجِّه إلى توجيه الإرشاد إليه هو خاصة. ولِيَعيَ المجتمع في الوقت نفسه وجه الخطأ في بعض السلوكيات التي تصدر عن بعضهم؛ فيرتقي بسلوكه. وفي الحديث الشريف الآتي ما يوضح ذلك:(18/46)
ورد عن السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها، قالت: (جاءت بريرة فقالت: إني كاتبت أهلي على تسعِ أواقٍ، في كل عام وَقِيَّةٌ، فأعينيني، فقالت عائشة: إنْ أحبَّ أهلُكِ أن أعُدَّها لهم عَدَّةً واحدةً وأُعْتِقَكِ فعلتُ، ويكونَ ولاءُكِ لي، فذهبَتْ إلى أهلها فأبوا ذلك عليها، فقالت: إني قد عرضتُ ذلك عليهم، فأبوا إلا أن يكون الولاءُ لهم، فسمعَ بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألني فأخبرتُهُ، فقال: "خذيها فأعتقيها، واشترطي لهم الولاء، فإنما الولاء لمن أعتق" قالت عائشة: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، في الناس، فحَمِدَ الله وأثنى عليه، ثم قال: "أمّا بعدُ، فما بال رجال منكم يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله، فأيُّما شرطٍ ليس في كتاب الله فهو باطل، وإنْ كان مئةَ شرطٍ، فقضاء اللهِ أحقُّ وشرطُ الله أوْثَقُ، ما بال رجال منكم يقول أحدهم: أعتق يا فلان، وليّ الولاء، إنّما الولاءُ لمن أعتق").(1)
__________
(1) صحيح البخاري؛ كتاب المكاتب، باب: (3): استعانة المكاتب وسؤاله الناس. الحديث رقم: (2563). ص: (339).(18/47)
وكذلك الأمر بالنسبة لأسلوب تهذيب النفوس، والتعالي بها على متاع الدنيا؛ يقتضي اختيار الألفاظ المثلى التي تأخذ بيد السامع نحو التَّرَقي في مشاعره، وفي رغباته؛ وإذا كان تحقيق ذلك الهدف مطلوباً على المستوى الجماعي؛ فلابد من مراعاة أمور أخرى، يُراعى فيها مدى تجاوب أفراد المجتمع، ومدى إقباله على ذلك الهدف. ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خير موجّه لأمته، يراعي أحوالها، وأحوال أفرادها، وما تقتضيه حوائجهم، فلا يُلزمهم بما لا يرغبون فيه إذا كان لهم وجه حق فيه. بل كان يأخذ بأيديهم بما يُطيِّبُ به نفوسهم، ويحول دون إحراجهم، ويوجِّههم بالخطاب الذي يتلاءم واتِّزان عقولهم، فتنطلق إرادتُهم فيما يحبه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم:(18/48)
عن عروة أن مروان بن الحكم والمِسْور بن مخرمة أخبراه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم، قام حين جاءه وفد هوازن، فسألوه أن يردّ إليهم أموالهم وسبيهم، فقال لهم: "إن معيَ من ترون، وأحبّ الحديث إليّ أصدقه، فاختاروا إحدى الطائفتين: إما المال، وإما السبي وقد كنتُ استأنَيْتُ بهم" وكان النبي صلى الله عليه وسلم، انتظرهم بضع عشرة ليلة حين قفل من الطائف، فلمّا تبيّن لهم أن النبي صلى الله عليه وسلم، غيرُ رادٍّ إليهم إلا إحدى الطائفتين، قالوا: فإنا نختار سَبْيَنا، فقام النبي صلى الله عليه وسلم، في الناس، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: "أما بعد؛ فإن إخوانكم جاؤونا تائبين، وإني رأيت أن أرُدَّ إليهم سَبْيهم، فمن أحبَّ منكم أن يُطيِّبَ ذلك؛ فليفعل، ومن أحبّ أن يكون على حظِّهِ حتى نُعطيَهُ إياه من أوّلِ ما يُفيءُ الله علينا فليفعل". قالوا: طيَّبنا ذلك، قال: "إنّا لا ندري من أذِنَ منكم مِمّن لم يأذن، فارجعوا حتى يرفعُ إلينا عُرَفاؤكم أمْرَكُمْ"، فرجع الناس، فكلّمهم عُرفاؤهم، ثم رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبروه: أنهم طيّبوا وأذِنوا....").(1)
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب: العتق، باب: (13): من ملك من العرب رقيقاً، فوهب وباع وجامع وفدى وسبى الذريّة. الحديث رقم: (2539، 2540). ص: (336، 337).(18/49)
وقد يقتضي التخاطب مع المجتمع تخصيص أحد أفراده، لا للإنتقاص منه، ولكن لتخصيص النهوض بشخصه إلى جانب هدف النهوض بمجتمعه، وذلك إذا كان سياق الحال يقتضي ذلك. عن جرير بن حازم قال: (سمعت الحسن يقول: حدّثنا عمرو بن تغلب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أُتِيَ بمالٍ، - أو سبيٍ- فقسَمَهُ، فأعطى رجالاً، وتركَ رجالاً. فبلغه أن الذين تركَ عَتَبوا، فحمدَ الله ثم أثنى عليه، ثم قال: "أما بعد، فوالله إني لأعطي الرجلَ وأدعُ الرجل، والذي أدَعُ أحبُّ إليّ من الذي أُعطي، ولكن أعطي أقواماً، لما أرى في قلوبهم من الجزع والهلع، وأَكِلُ أقواماً إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير؛ فيهم: عمرو بن تغلب" فوالله ما أُحِبُّ أنّ لي بكلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حُمْرَ النَّعم).(1)
__________
(1) المرجع السابق، كتاب الجمعة، باب: (29): من قال في الخطبة بعد الثناء: أما بعد، الحديث رقم: (923). ص: (126).(18/50)
ويشْملُ أدب التخاطب مع المجتمع أيضاً، إمكانات النهوض بالفئات التي تخدم المجتمع، لتنقيتها من جميع الشوائب التي قد تعتريها، فتؤثر بذلك على كيان المجتمع؛ ومن ذلك ما جاء عن أبي حميد الساعدي رضي الله تعالى عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم، استعمل عاملاً، فجاءه العامل حين فرغ من عمله، فقال: يا رسول الله، هذا لكم وهذا أُهْدِيَ لي. فقال له: "أفلا قعدت في بيت أبيك وأمك فنظرت أيُهدى لك أم لا" ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، عشيّةً بعد الصلاة، فتشهد وأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: "أما بعد، فما بال العامل نستعملُهُ، فيأتينا فيقول: هذا من عملِكُمْ وهذا أُهديَ إليّ، أفلا قَعَدَ في بيت أبيه وأمّه، فنظر: هل يُهدى له أم لا؟ فوالذي نفس محمد بيده، لا يَغُلُّ أحدكم منها شيئاً إلا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه......".(1)
__________
(1) المرجع السابق، كتاب الأيمان والنذور، باب: (3): كيف كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم، الحديث رقم: (6636) ص: (916).(18/51)
وقد يقتضي أدب التخاطب مع المجتمع، استخدام ألفاظٍ وَقْعُها شديدٌ على النفس، لتؤثر تأثيراً إيجابيا عاماً تتحقق من خلاله مصالح المسلمين. مثال هذا الأسلوب، ما ورد عن أبي مسعود الأنصاري، قال: (جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إني والله لأتأخّرُ عن صلاة الغداة، من أجل فلان مما يطيل بنا فيها، قال: فما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم، قط أشدُّ غضباً في موعظة منه يومئذٍ، ثم قال: "يا أيها الناس، إن منكم منفّرين، فأيكم ما صلّى بالناس، فليُوجزْ، فإن فيهم الكبير والضعيف، وذا الحاجة").(1)
وهناك أمور تؤخذ بعين الاعتبار في التخاطب مع المجتمع؛ كالحرص على إفهام السامعين لقصد المتكلم، والحرص على إيصال الخطاب لجميع أفراد المجتمع، إذا بلغ الخطاب من الأهمية ما يدعو لذلك.
وقد وجدنا حرص النبي صلى الله عليه وسلم، على كلا الأمرين، ومثالهما الآتي:
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب الأحكام، باب: (13): هل يقضي الحاكم أو يفتي وهو غضبان، الحديث رقم: (7159). ص: (984). وصحيح مسلم؛ كتاب الصلاة، باب: (37): أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام. الحديث رقم: (466). ص: (116).(18/52)
عن رفاعة بن رافع الزُّرَقيِّ، عن أبيه قال: (كنا يوماً نصليَّ وراء النبي صلى الله عليه وسلم، فلمّا رفع رأسه من الركعة قال: "سمع الله لمن حمده" قال رجل وراءَهُ: ربنا ولك الحمد حمداً كثيراً طيِّباً مباركاً فيه، فلما انصرف، قال: "من المتكلّم؟" قال: أنا، قال: "رأيت بضعة وثلاثين ملكاً يبتدرونها، أيُّهم يكتبها أوّلُُ").(1) وقال ابن حجر في الفتح: ("قوله: من المتكلم": زاد رفاعة بن يحيى في الصلاة: "فلم يتكلم أحد، ثم قالها الثانية فلم يتكلم أحد، ثم قالها الثالثة، فقال رفاعة بن رافع: أنا. قال: كيف قلت؟ فذكره فقال: والذي نفسي بيده...الحديث. قال ابن حجر:..... وقد استُشكل تأخير رفاعة إجابة النبي صلى الله عليه وسلم، حين كرر سؤاله ثلاثاً مع أن إجابته واجبة عليه، بل وعلى كل من سمع رفاعة، فإنه لم يسأل المتكلم وحده. وأجيب بأنه لما لم يعين واحداً بعينه لم تتعين المبادرة بالجواب من المتكلم، ولا من واحد بعينه، فكأنهم انتظروا بعضهم ليجيب، وحملهم على ذلك خشية أن يبدو في حقه شيء، ظنا منهم أنه خطأ فيما فعل، ورجوا أن يقع العفو منه، وكأنه
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب الأذان، باب: (126)، الحديث رقم: (799)، ص: (111).(18/53)
صلى الله عليه وسلم، لما رأى سكوتهم فَهِمَ ذلك، فعَرَّفَهُم: أنه لم يقُل بأساً، ويدلُّ على ذلك أن في رواية سعيد بن عبد الجبار عن رفاعة بن يحيى عند ابن قانع؛ قال رفاعة: فوددت أني خرجت من مالي وأني لم أشهد مع النبي صلى الله عليه وسلم، تلك الصلاة. ولأبي داود من حديث عامر بن ربيعة قال: "من قائل الكلمة؟ فإنه لم يقل بأساً".... وللطبراني من حديث أبي أيوب...."فإنه لم يقل إلا صواباً").(1)
هذه الروايات إذا صحّت فإنها تدل على حرصه صلى الله عليه وسلم، على الإفهام، ليُبيِّنَ للمخاطبين فضيلة ما قاله رافع رضي الله تعالى عنه، ويُقِرُّهُ، فيعُمُّ خيره.
__________
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري: (2/543 - 544).(18/54)
أما حرصه صلى الله عليه وسلم، على إيصال البلاغ لجميع أفراد الأمة، فجاء في ذلك عن أبي بكرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السماوات والأرض، السَّنة اثنا عشر شهراً، منها أربعة حُرُمٌ: ثلاثة متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمُحرّم، ورجب مضر، الذي بين جمادى وشعبان. أيّ شهرٍ هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننّا أنه سيُسمِّيه بغير اسمه، قال: "أليس ذو الحجة؟" قلنا: بلى. قال: "فأي بلد هذا؟" قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننّا أنه سيسمّيه بغير اسمه، قال: "أليس البلدة؟" قلنا: بلى. قال: "فأي يوم هذا؟" قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسمّيه بغير اسمه، قال: "أليس يوم النحر؟ قلنا: بلى، قال: "فإن دماءكم وأموالكم – قال محمد: وأحسبُه قال- وأعراضكم عليكم حرام، كحُرْمةِ يومكم هذا، في بلدِكم هذا، في شهرِكُم هذا، وستلقونَ ربّكم، فسيسألكم عن أعمالكم، ألا فلا ترجِعوا بعدي ضُلاّلاً يضربُ بعضُكم رقاب بعضٍ، ألا ليُبلِّغ الشاهد منكم الغائب، فلعل بعضَ من يبَلَّغُهُ أن يكون أوعى له من بعض مَنْ سمِعه". فكان محمد إذا ذكره، يقول: "صدق(18/55)
محمد صلى الله عليه وسلم، ثم قال: ألا هل بلّغت" مرتين).(1)
O الوالدين:
... حظي الوالدان بمنزلة عظيمة في دين الإسلام، وبلغت تلك المنزلة أن جعلها الله تعالى في الحث بعد النهي عن الشرك بالله؛ قال المولى - جل وعلا-: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً، إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا، وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيِمَاً، وَاْخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ اْرْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِيِ صَغِيراً..).(2)
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب: (77) حجة الوداع. الحديث رقم: (4406). ص: (599). وصحيح مسلم، كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب: (9): تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال. الحديث رقم: (1679). ص: (436).
(2) سورة الإسراء، الآيتان: (23، 24).(18/56)
... ولقد عُني الرسول صلى الله عليه وسلم، ببيان تلك المنزلة، والحث على تحري عظمتها، واتباع ما تقتضيه مكانتها، فنال أدب التخاطب مع الوالدين نصيبه من تلك العناية، لدرجة الحرص على الوقاية مما يترتب على بعض الأمور من السلبيات التي يعود أثرها على الوالدين؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ("إنّ من أكبر الكبائر أن يلْعَنَ الرجل والديه". قيل: يا رسول الله، وكيف يلعن الرجلُ والديه؟ قال: "يَسُبُّ الرجل أبا الرجل، فيسُبُّ أباه، ويسُبُّ أمَّه").(1)
... وإذا كانت هذه الكبيرة لا تقع ممن حماه الله تعالى، ورعاه، إلا أنها قد تتأتى عن غيره بسببه. وهو أمرٌ عَدّه الرسول صلى الله عليه وسلم، من أكبر الكبائر، وعَدّهُ قولاً وارداً على لسان المتسبِّبْ، لأنه هو الداعي إليه. فإذا كان حسن الأدب في التخاطب تجاه الوالدين مطلوباً شرعاً فكيف بمثل هذا الخطاب البالغ في الإجرام والمعصية.
__________
(1) صحيح البخاري؛ كتاب الأدب، بابا: (4): لا يسبُّ الرجل والديه. الحديث رقم: (5973). ص: (835). وصحيح مسلم؛ كتاب الإيمان، باب: (38): بيان الكبائر وأكبرها. الحديث رقم: (90). ص: (33).(18/57)
... وقد تضمّن توجيه النبي صلى الله عليه وسلم، للصحابي الذي سأله: (من أحق الناس بحسن صحابتي).(1) إفادة بأن حُسْنَ الصحبة لا تقتصر على البرّ الفعلي فحسب، ولكن البرّ القولي أيضاً مطلوب شرعاً، وهو مُكمِّلٌ للأول. وقيل إن المراد بـ: (أحق الناس بحسن صحابتي): (أولى الناس بمعروفي وبري ومصاحبتي المقرونة بلين الجانب وطيب الخلق وحسن المعاشرة).(2) ولا شك أن هذا المعنى شامل لجميع جوانب البر؛ سواء في ذلك البر العملي، أم البر القولي..
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب: (2): من أحق الناس بحسن الصحبة، الحديث رقم: 5971، ص: (835). وصحيح مسلم؛ كتاب البر والصلة والآداب، باب: (1): بر الوالدين، وأنهما أحق به. الحديث رقم: (2548). ص: (651).
(2) إيضاح ورد في صفحة تخريج الأحاديث على برنامج المكتبة الشاملة في جهاز الحاسوب. ولم يذكر مصدره. جاء ذلك بعد إيراد الحديث الشريف المذكور.(18/58)
... وما تضمّنه لفظ "الصحبة" في الحديث السابق من معانٍ، تضمّنه منافاة لفظ "العقوق" في الحديث الآتي، فمفهوم العقوق ينافي ذلك منافاة تامّة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرّم عليكم عقوق الأمهات، ومنْعَ وهات، ووأد البنات، وكرِهَ لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال).(1) فعقوق الوالدين، مشتمل على التقصير في حقّهما والإساءة إليهما في العِشرة؛ سواء في ذلك: الفعل والقول.
... ولمْ ينْهَ النبي صلى الله عليه وسلم، عن بر الوالدين، وإن كانا مشركين، ومُعرِضَيْنِ عن الحق؛ ولكنه أمر بحسن الصلة، وحسن الخطاب؛ قالت أسماء رضي الله تعالى عنها: (قدِمَتْ أمي وهي مُشركة، في عهد قريش ومُدَّتِهِم إذ عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم، مع أبيها، فاستفتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم، فقلتُ: إن أمي قدِمَتْ وهي راغبة؟ قال: "نعم صِليِ أمَّكِ").(2)
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب: (6): عقوق الوالدين من الكبائر، الحديث رقم: (5975) ص: (836).
(2) صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب: (8): صلة المرأة أمها ولها زوج. الحديث رقم: (5979) ص: (836).(18/59)
... وفي حديثه صلى الله عليه وسلم، عن جريج، موعظة بالغة في الحث على التجاوب مع الوالدين، وإكرامهما بتلبية ندائهما تلبية مباشرة، وعدم التباطؤ في الاستجابة لهما؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ".... وكان في بني إسرائيل رجُلٌ يُقال له: جريج، كان يصلي، جاءتْه أمُّه فَدَعَتْهُ، فقال أُجيبها أو أصلي، فقالت: اللهم لا تُمِتْهُ حتى تُريَهُ وجوهَ المومسات، وكان جريج في صومعته، فتعرَّضت له امرأةٌ وكلّمتْهُ فأبى، فأتت راعياً فأمكَنَتْه من نفسها، فولدت غلاماً، فقالت من جريح، فأتوهُ فكسروا صومعتَهُ وأنزلوه وسبُّوهُ؛ فتوضأ وصلى، ثم أتى الغلام، فقال: من أبوك يا غلام؟ قال: الراعي...........الحديث).(1)
...
O تخاطب الزوجين:
__________
(1) المرجع السابق، كتاب أحاديث الأنبياء، باب: (48): واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها. الحديث رقم: (3436)، ص: (470). وصحيح مسلم؛ كتاب: البر والصلة والآداب. باب: (2): تقديم بر الوالدين على التطوّع بالصلاة وغيرها. الحديث رقم: (2550). ص: (652).(18/60)
... حظيت العلاقة الزوجية في الإسلام برعاية خاصة، وتوجيهات قيِّمةٍ، فنُظِّمتْ كافة شئونها بما يحقق الاستقرار والسعادة لأفراد الأسرة جميعاً، وبما يهبها قدرات الثبات والاستمرارية، والحفاظ على بيت الزوجيّة.
... وقد شملت عناية الإسلام بالأسرة، كافة الجوانب المتعلقة بها؛ فتضمنت مبادئ اختيار الزوجين، وآداب العشرة، وحقوق كلٍّ منها. وشملت كذلك البدائل المثلى في حالة وقوع المشكلات والمصاعب الناتجة عن اختلاف الطبائع، أو اختلاف التوجّهات. أو المشكلات الناتجة عن أسباب أخرى.(18/61)
... وقد كان أدب التخاطب بين الزوجين أحد عناصر النظام الإسلامي في بيت الزوجية؛ وكان النبي صلى الله عليه وسلم، خير قدوة للمسلمين، وخير موَجِّه لذلك الأدب؛ ولذا وجدنا في سيرته العطرة صلى الله عليه وسلم، ما يؤكد هذا الأمر ويوضحه. ومن الأمثلة على ذلك ما كان بينه صلى الله عليه وسلم، وبين السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها، من حوار أبرز جوانب العناية واللطف في التوجيه وفي تأييد مظاهر الأدب التي تحلّت بها رضوان الله تعالى عنها، قالت: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لأعلم إذا كنتِ عني راضيةً، وإذا كنتِ عليّ غضبى"، قالت: فقلت: من أين تعرفُ ذلك؟ فقال: "أمّا إذا كنتِ عني راضية فإنك تقولين: لا وربّ محمد، وإذا كنتِ غضبى، قلتِ لا وربّ إبراهيم"، قالت: قلت أجل والله يا رسول الله، ما أهجر إلا اسمك).(1) فهذا أدب جمٌّ في اختيار الألفاظ التي تساعد على حفظ المودّة بين الزوجين، وإن وقع
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب النكاح، باب: (108) غيرة النساء ووجدهن. الحديث رقم: 5228، ص: (747). وصحيح مسلم؛ كتاب فضائل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، باب: (13): في فضل عائشة رضي الله عنها، الحديث رقم: (2439). ص: (625).(18/62)
الخلاف بينهما، أو طغت عليهما انفعالات الغضب أو الحزن أو ما شابه ذلك.
... وكان صلى الله عليه وسلم، يتلطّف في ندائها؛ فيقول: "يا عائش". وذلك يعني أن تغيير الإسم لما ليس فيه بأس، من أجل التلطّف وحسن الخطاب أدب آخر، ذو أثر طيب، وفاعلية حسنة في علاقة الزوجين؛ جاء ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: ("يا عائش، هذا جبريل يُقرئُكِ السلام". قالت: فقلت: وعليه السلام ورحمة الله وبركاته...الحديث).(1)
... ولم تكن القدوة في أدب التخاطب في بيت النبوّة تجاه السيدة عائشة فحسب؛ ولكنها شملت جميع زوجاته صلى الله عليه وسلم، فقد كان يرعاهن أحسن الرعاية وأتمّها، ويرعى لهن حقوقهن؛ تجلى ذلك في مواقفه صلى الله عليه وسلم تجاههن، ومن ذلك: حرصُهُ على العدل بينهن والسؤال عنهن، والسلام عليهن، والدعاء لهن.
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب: (30): فضل عائشة، الحديث رقم: (3768). ص: (511).(18/63)
عن أنس رضي الله تعالى عنه، قال: (أوْلَمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين بَنَى بزينب ابنة جحش فأشبع الناس خُبزاً ولحْماً، ثم خرجَ إلى حُجرِ أمهات المؤمنين، كما كان يصنعُ صبيحة بنائِهِ، فيُسلّمُ عليهن ويدعو لهنّ، ويُسلِّمْن عليه، ويدعون له...الحديث).(1) فهذا موقف عظيم، يُبرز أثر القدوة العظيمة؛ فلا يخفى على أحد ما جُبلَتْ عليه المرأة من غَيْرَةٍ، ورُغم ذلك يُبادِلنَهُ رضوان الله تعالى عنهن، أدَبَهُ في الخطاب، وفي حسن معاملته لهنّ.
__________
(1) المرجع السابق، كتاب التفسير، باب: (8) قوله: (لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم...) الحديث رقم: (4794) ص: (675).(18/64)
وشملَ أدب خطاب الرسول الله صلى الله عليه وسلم لأزواجه، ما كانت تتطلّبُهُ المواقف من صبر، وتدرّج في التعليم، وما يقتضيه ذلك من حوار وتبادل في الحديث، للوصول إلى المعرفة؛ ومن ذلك حواره صلى الله عليه وسلم، مع السيدة أم حبيبة بنت أبي سفيان رضي الله تعالى عنها، أنها قالت: (يا رسول الله، انكِحْ أختي بنتَ أبي سفيان، فقال: "أو تحبين ذلك؟" فقلت: نعم، لستُ لك بمُخْلِيَةٍ، وأحَبُّ من شاركني في خير أختي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن ذلك لا يحلُّ لي" قلتُ: فإنّا نُحدَّثُ أنّك تريد أن تنكحَ بنتَ أبي سلمةَ. قال: "بنتَ أبي سلمة؟" قلت: نعم. فقال: "لو أنها لم تكن ربيبتي في حجري ما حلّتْ لي. إنها لابنة أخي من الرّضاعة، أرضعتني وأبا سلمة ثويبة، فلا تعرِضْنَ عليّ بناتِكُنّ ولا أخواتِكُنّ").(1)
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب النكاح، باب: (20) وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم) الحديث رقم: (5101) ص: (729).(18/65)
وقد يحتاج الزوجان إلى تكنية الخطاب ليُبلّغ أحدُهما الآخر مرادَهُ بأسلوب رفيع يُنبئُ عما يمتلكه من أدب الحديث ومن ذوقٍ في التعامل مع المشاعر، ولا شك أن مثل هذه الأساليب لها أثر في تربية المخاطب وتوجيهه نحو السلوك الأمثل، وفيها أيضاً ترقية لأحاسيسه وتوجّهاته.
وذلك مما علّمنا الرسول صلى الله عليه وسلم، في موقفه تجاه أزواجه رضوان الله تعالى عنهن، قبيل وفاته؛ ورد عن السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يسأل في مرضِهِ الذي مات فيه: "أين أنا غداً، أين أنا غداً؟"، يريد يوم عائشة، فأذِنَ لهُ أزواجُهُ يكونُ حيث شاءَ، فكان في بيت عائشة حتى مات عندها، قالت عائشة: فمات في اليوم الذي كان يدور عليّ فيه، في بيتي، فقبضه الله وإنّ رأسَهُ لبينَ نحْري وسَحْري، وخالطَ ريقُهُ ريقي).(1)
__________
(1) المرجع السابق؛ كتاب النكاح، باب: (104) إذا استأذن الرجل نساءه في أن يمرّض في بيت بعضهن فأذِنّ له. الحديث رقم: (5217). ص: (746) وصحيح مسلم؛ كتاب فضائل الصحابة، باب: (13): في فضل عائشة رضي الله عنها. الحديث رقم: (2443). ص: (625).(18/66)
وإذا كان أدب التخاطب بين الزوجين من مستلزمات الحياة الزوجية المطمئنة؛ فإن الإخلال بذلك تتأتى عنه نتائج سلبية، لا يرتضيها الإسلام، ولا تليق بالحياة الزوجية الكريمة؛ ولذا حذّر الرسول صلى الله عليه وسلم، من ذلك، وتوعّد بالعاقبة الوخيمة.
قال رسول الله صل الله عليه وسلم: ("أُريِتُ النارَ، فإذا أكثر أهلِها النساءُ يكفُرْنَ". قيل: أيكفُرْنَ بالله؟ قال: "يكفُرْنَ العشير، ويكفُرنَ الإحسان، لو أحسنتَ إلى إحداهُنّ الدّهرَ ثمّ رأتْ منك شيئاً، قالت: ما رأيتُ منك خيراً قط").(1)
ولا شك أن عبارة: "ما رأيت منك خيراً قط" تخالف أدب التخاطب، ولا تليق بمن أدّبه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولذا فإن الحديث الشريف يُحذّر كلّ الحذر من التساهل في التّلفظ بهذه الألفاظ، أو بمثلها.
O الصغير:
... عُني الإسلام بتربية الأطفال ورعايتهم، وقدّم لذلك توجيهات وافية شملتْ المراحل المتعددة التي يمر بها الطفل؛ منذ ولادته وإلى مرحلة البلوغ.
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب: (21): كفران العشير، وكفر دون كفر. الحديث رقم: (29). ص: 11).(18/67)
... ونالَ الطفلُ – في ظل الإسلام- نصيبَه من أدب التخاطب، وهو أدبٌ اتّسمَ به النبي صلى الله عليه وسلم، - الذي كان خُلُقُه القرآن-، تجاه أمته؛ كباراً وصغاراً، رجالاً، ونساءً. فكانت مبادئ أدب التخاطب هي الموجّه والحاكم على كل لفظ ينطق به صلى الله عليه وسلم، وذلك يشير إلى الحِكَمِ المُتَضَمّنة في خطابه، وإن كان تجاه الصِّغار.
... عن سهلِ بن سعد رضي الله عنه قال: ("أُتِيَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، بقَدَحٍ، فشرِبَ منه، وعن يمينه غلامٌ أصغرُ القومِ. والأشياخُ عن يسارهِ، فقال: "يا غلامُ؛ أتأذَنُ لي أن أُعطِيَهُ الأشياخَ؟" قال: ما كنتُ لأوثِرَ بفضلي منكَ أحداً يا رسول الله، فأعطاه إياه").(1) والاستئذان في هذا الموضع منه صلى الله عليه وسلم، تجاه أصغر القوم، متضمِّنٌ تربيةً مُثلى تأخذ بيد الصغير، فتُعرِّفُه آداب التعامل، وحُسْنَ
__________
(1) صحيح البخاري؛ كتاب المساقاة، باب: (1): في الشرب ومن رأى صدقة الماء وهبته ووصيته جائزة، مقسوماً كان أو غير مقسوم. الحديث رقم: (2351). ص: (311). وصحيح مسلم؛ كتاب الأشربة، باب: (17): استحباب إدارة الماء واللبن ونحوهما عن يمين المبتدئ. الحديث رقم: (2030). ص: (530)(18/68)
الخطاب بالاستئذان. لأنه يرى التفعيل الحيِّ للآداب، في شخص القدوة صلى الله عليه وسلم. وهكذا تُوجّه أساليب العملية التربوية في كثير من حالاتها.
... وليس ذلك فحسب؛ فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم، يُعلِّم الناشئة الآداب العامة، التي تتأتى بحسن التخاطب، وحسنِ الأخوّة في الله تعالى.
... عن ثابت البُنانيُّ عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه مرّ على صبيانٍ فسلّمَ عليهم، وقال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعَلُهُ". وعند مسلم: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مرّ على غلمان فسلّم عليهم".(1)
__________
(1) صحيح البخاري؛ كتاب الاستئذان، باب: (15): التسليم على الصبيان. الحديث رقم: (6247) ص: (868). وصحيح مسلم؛ كتاب السلام، باب: (5): استحباب السلام على الصبيان، الحديث رقم: (2168). ص: (564).(18/69)
... ولا يخفى ما لإلقاء السلام من آثار في الروابط الاجتماعية؛ فإذا رُبِّي الطفل على إلقاء السلام؛ فذلك يعني بناء علاقات اجتماعية طيبة؛ لأن إلقاء السلام أدب من آداب التخاطب تُشاع به المحبة بين أفراد المجتمع، ولا ريب؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم، يقول: (أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم: أفشوا السلام بينكم).(1)
__________
(1) صحيح مسلم؛ كتاب الإيمان؛ باب: (22): بيان أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون وأن محبة المؤمنين من الإيمان، وأن إفشاء السلام سبب لحصولها. الحديث رقم: (54). ص: (27).(18/70)
... ويقتضي أدب التخاطب أيضاً، في الخطاب التربوي مراعاة طبائع الصِّغار في المسئوليات التي تُلقى على عواتقهم؛ فلا يُشدد عليهم فيما يخطئون فيه من أعباء، لأنهم قد لا يَعُوُن المراد بالأمر، أو قد لا ينتبهون لبعض مفردات الأمر. ومن جوانب مراعاة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لهذا الجانب، مواقفه تجاه خادمه أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه. قال: (خدمت النبي صلى الله عليه وسلم، عشر سنين، فما قال لي أفٍّ، ولا لِمَ صنعتَ؟ ولا: ألا صنعتَ).(1) وعند مسلم: (... والله ما قال لي: أفّاً قط. ولا قال لي لشيءٍ: لمَ فعلتَ كذا؟ وهلا فعلت كذا؟).(2)
O الجاهل:
__________
(1) صحيح البخاري؛ كتاب الأدب، باب: (39): حُسن الخلق والسخاء وما يُكره من البخل. الحديث رقم: (6038). ص: (843).
(2) صحيح مسلم؛ كتاب الفضائل، باب: (13). كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، أحسن الناس خلقاً. الحديث رقم: (2309) ص: (596).(18/71)
... إن التخاطب مع الجاهل يقتضي أمرين: أولهما: فهم مُراده، والتّعرف إلى دوافع سلوكياته. والثاني: اختيار الألفاظ التي تناسب عقله، وتلائم قدرات الفهم عنده. ليتمكن المخاطب من توجيه الخطاب الذي يُحقق الرضا والقبول لدى الجاهل، ويحقق – في الوقت نفسه- عملية التوعية. وفي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان لبعض الأعراب الجفاة مواقف، اقتضت التوجيه والإرشاد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يُقدِّر هذه الحاجة، ويعلم ما هي الأساليب المثلى في تربيتهم، وما هو التخاطب الأنسب الذي يحقق ذلك.
... ومن الأمثلة التي تضمّنت توجيهاته صلوات ربي وسلامه عليه، في هذا الجانب، موقفه تجاه الأعرابي الذي قاطع حديثه، وناداه وهو يتكلم مع غيره؛ فكان موقفه صلى الله عليه وسلم، السكوت عنه، وعدم التجاوب لِخَطئِه؛ وكان اتِّخاذ هذا الموقف هو الخطوة الأولى في علاجه، أما الخطوة الثانية فهي تأجيل الردُّ عليه إلى بعد الانتهاء من الحديث؛ وهذا السلوك اقتضاه أدب التخاطب، لإصابة غاية تعليمه وتوعيته.(18/72)
عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم، في مجلس يُحدِّثُ القومَ جاءَه أعرابي فقال: متى الساعة فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يُحدِّثُ، فقال: بعضُ القوم: سمِعَ ما قال فكرِهَ ما قال، وقال بعضهم: بل لم يسمع. حتى إذا قضى حديثَهُ قال: "أين أُراهُ السائل عن الساعة؟". قال: ها أنا يا رسول الله، قال: "فإذا ضُيِّعتِ الأمانة فانتظر الساعة". قال: كيف إضاعتها؟ قال: "إذا وُسِّدَ الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة").(1) قال الحافظ ابن حجر في الباب الذي تضمن هذا الحديث: (قوله: "باب من سئل علماً وهو مشتغل" مُحصِّلُه التنبيه على أدب العالم والمتعلم، أما العالم فلما تضمّنه من ترك زجر السائل، بل أدّبه بالإعراض عنه أولاً حتى استوفى ما كان فيه، ثم رجع إلى جوابه فرفق به، لأنه من الأعراب، وهم جفاة. وفيه العناية بجواب سؤال السائل، ولو لم يكن السؤال متعيّناً ولا الجواب، وأما المتعلم فلما تضمّنه من أدب السائل أن لا يسأل العالم وهو مشتغل بغيره، لأنّ حقّ الأول
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب العلم، ، باب: (2) من سئل علماً وهو مشتغل في حديثه فأتم الحديث ثم أجاب السائل. الحديث رقم: (59). ص: (16).(18/73)
مُقدّم..).(1)
... وكذلك وجّه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أعرابيّاً، تأثّرَ بحسن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن ذلك التأثر أبانَ عن جَهْلٍ لديه في جانب سَعَةِ رحمه الله تعالى. فأرشده الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الفهم الصحيح، وذلك باستخدام الألفاظ الملائمة. قال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: (قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، في صلاة وقمنا معه، فقال أعرابي وهو في الصلاة: اللهم ارحمْني ومحمداً، ولا ترحمْ معنا أحداً، فلما سلّم النبي صلى الله عليه وسلم، قال للأعرابي: "لقد حجّرتَ واسعاً" يريد رحمة الله).(2) وكان هذا الأعرابي قد تبوّل في المسجد فتناوله الناس بألسنتهم، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم، عن ذلك، وأمرهم أن يهريقوا على بوله ماءً، فكان لهذا السلوك أثر في نفسه، فدعا بذلك الدعاء، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يتركه على جهالته، فأبان له أن رحمة الله تعالى واسعة، وقد استخدم الرسول صلى الله عليه وسلم، لفظ التحجير، ولفظ السعة. وهما لفظان متضمِّنان
__________
(1) فتح الباري: (1/193).
(2) صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب: (27) رحمة الناس والبهائم. الحديث رقم: (6010)، ص: (840).(18/74)
تمثيلاً حيّاً للتصور الناقص لذلك الأعرابي. وهما – في الوقت نفسه- من الألفاظ القريبة لفهمه وقدراته المعرفية.
... ولقد وردت روايات أخرى تشير إلى المستوى اللفظي الذي كان يختاره رسول الله صلى الله عليه وسلم، في خطابه للأعراب، ليتفق وقدرات فهمهم؛ ومن ذلك ما جاء عن السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها، قالت: (كان رجالٌ من الأعراب جفاةٌ يأتون النبي صلى الله عليه وسلم، فيسألونه: متى السّاعة؟ فكان ينظر إلى أصغرهم فيقول: إن يعِشْ هذا لا يُدركْهُ الهرمُ حتى تقومَ عليكم ساعتُكُمْ").. قال هشام: يعني موتهم).(1) ففي هذا الحديث جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، قيام الساعة مرتبط بموتهم، ولم يُردْ بذلك يوم القيامة، ولكن نسبَ قيام الساعة إليهم، فقال: (ساعتكم) أي أن قيامة كل فرد منكم ستقوم عليه بموته، وبهذا الجواب صرف همّهم عما لا ينبغي لهم السؤال عنه، فربط الجواب بالموت الذي هو الأقرب لفهمهم.
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب: (42) سكرات الموت، الحديث رقم: (6511) ص: (901). وصحيح مسلم؛ كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب: (27): قرب الساعة. الحديث رقم: (2952). ص: (747).(18/75)
... وقد يُخطئ بعضهم تجاه الآخرين؛ فيقول ما لا يحق له من القول؛ وللمسلم على المسلم حق النصح. ولقد وجّه رسول الله صلى الله عليه وسلم، المسلمين إلى مثل هذا، فعلّمهم ما ينبغي من الأدب في اللفظ. فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: أُتِيَ النبيُ صلى الله عليه وسلم، برجلٍ قد شرِبَ. قال: "اضربوه" قال أبو هريرة رضي الله عنه: فمِنَّا الضارِبُ بيده، والضارِبُ بنَعْلِهِ، والضاربُ بثوبِهِ، فلمّا انصرَفَ، قال بعضُ القومِ: أخزاك الله. قال: "لا تقولوا هكذا، لا تُعينوا عليه الشيطان").(1) وهذا النهي من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، يُرشد إلى أن المخطئ يُعاقَب بما حدّده الشارعُ من عقاب يُكافئ خطأه، وذلك لا يُعطي المُعاقِبَ حق الشَّتم أو الدعاء على المخطئْ، والحكمة واضحة في جواب الرسول صلى الله عليه وسلم، إضافة إلى ما ينبغي للمسلم من التَّنَزُّهِ عن مثل تلك الألفاظ.
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب الحدود، باب: (3): من أمر بضرب الحدِّ في البيت.(18/76)
... ويقتضي أدب التخاطب مع الجاهل، التدرج في تربيته بما يتفق وحاجته إلى المعرفة؛ عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه: (أن فتى شاباً أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله ائذن لي بالزنا، فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا: مه مه، فقال: "أدنه"، فدنا منه قريباً قال فجلس، قال: "أتحبه لأمك؟" قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم، قال: "أفتحبّه لابنتك؟" قال: لا والله يا رسول الله جعلني الله فداءك، قال: "ولا الناس يحبونه لبناتهم" قال: "أفتحبُّه لأختك؟" قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: "ولا الناس يحبونه لأخواتهم" قال: "أفتحبّه لعمتك؟" قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال:"ولا الناس يحبونه لعماتهم" قال: "أفتحبّه لخالتك؟" قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: "ولا الناس يحبونه لخالاتهم" قال: فوضع يده عليه وقال: "اللهم اغفر ذنبه وطهِّر قلبه، وحصِّنْ فرجه، فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء).(1)
__________
(1) رواه أحمد في مسنده: 5/256. (ط: دار الفكر). والطبراني في الكبير: (8/162). والهيثمي في مجمع الزوائد: (1/129). وقال: رواه أحمد والطبراني في الكبير، ورجاله رجال الصحيح.(18/77)
المطلب الثالث: آداب التخاطب في المجال السياسي/ قادة الدول.
... برزت توجيهات السنة النبوية في أدب التخاطب تجاه القادة والملوك، في كتب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، التي أرسلها إليهم آنذاك لدعوتهم إلى الإسلام؛ وفي هديه صلى الله عليه وسلم، الذي نهل منه رُسُلُه في تحاورهم مع الملوك الذين أُرسلوا إليهم.
... فقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، كتباً إلى ملوك الأرض، وأرسل إليهم رسله؛ فبعث إلى هرقل عظيم الروم، وإلى النجاشي ملك الحبشة، وإلى المقوقس ملك مصر والاسكندرية، وإلى المنذر بن ساوى ملك البحرين، وإلى ملك عمان: جيفر وعبد ابنا الجلندي، وإلى هوذة بن علي صاحب اليمامة، والحرث بن شمر الغساني بدمشق.(1)
__________
(1) زاد المعاد؛ ص: (60-63). بتصرف.(18/78)
ولقد تضمنت كتُبُه صلى الله عليه وسلم، أساليب التخاطب الدعوي الفاعل، فَحَوَت المفردات الملائمة للدعوة ولمنزلة المخاطَب، وللصيغة التي تتفق وقدرة غير المسلم على فهم الخطاب الدعوي الإسلامي، وغير ذلك من الأمور التي تشير إلى أن أساليبه صلى الله عليه وسلم، تضمنت ما يقتضيه أدب التخاطب من ألفاظ ملائمة لشخصيّة المخاطَب. وإضافة لذلك عني رُسُلُ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بإيصال الخطاب الدعوي للملوك، وخاطبوهم ببيان ما أُرسلوا به، وتحملوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، آداب التخاطب في طرح ذلك البيان وتفصيل أمر الإسلام، بما كان له أثر في قبول بعضهم للدعوة ودخوله في دين الله تعالى.
ولئلا تتم الإطالة في هذا المطلب بذكر ما حَوَتْهُ كتب النبي صلى الله عليه وسلم، تجاه القادة، تمَّ التّمثيل لهذا الأمر بنموذج واحد، هو كتاب النبي صلى الله عليه وسلم، إلى هرقل ملك الروم.(18/79)
... ففي كتابه صلى الله عليه وسلم إلى هرقل، قال: (من محمد بن عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتّبعَ الهدى، أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين....الخ).(1)
... قال الحافظ ابن حجر: (قوله: من محمد: فيه أن السنة أن يبدأ الكتاب بنفسه، وهو قول الجمهور).(2) وبالتأمل في ميزة البدء بذكر المرسلُ اسمَه أولاً، نلحظ أهمية ذلك في التعريف بالنفس قبل البدء في طرح الموضوع المراد، وهو ذوق خطابي يتم من خلاله تقدير المخاطَب؛ فالنفس الإنسانية تحتاج إلى أن تألفَ الآخر لتُنصِت إلى مقاله، والتعريف بالنفس يؤدي ذلك الغرض.
... ثم جاءت المفردات التالية في كتابه صلى الله عليه وسلم، تُكمّل ذلك المعنى؛ فقوله عليه الصلاة والسلام: (إلى هرقل عظيم الروم) متضمِّنٌ (إكراماً لمصلحة التّألف)،(3) وكذلك قوله: (سلام على من اتبع الهدى) أفاد أن السلام من الله تعالى، هو من نصيب الذين يتبعون الهدى. وفيه ترغيب لطلب الهداية واتباع الحق.
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب بدء الوحي، باب: (6) الحديث رقم: (7). ص: (7، 8).
(2) فتح الباري: (1/55).
(3) المرجع السابق.(18/80)
فهذه أساليب ثلاثة: التقدير والاحترام من خلال التعريف بالنفس، والتقدير بنسبة اللقب المناسب، والدعوة للحق بإظهار منزلة الحق ورتبته.
المبحث الرابع:معالم حضارية في ظل أدب التخاطب:
... إن أدب التخاطب في السنة النبوية، قيمة حضارية ذات مدلول واضح على خيريّة أمة الإسلام ووسطيتها، لما حظيت به آداب التخاطب من رعاية ظهرت في الأسلوب التربوي للرسول صلى الله عليه وسلم، في ترقيته لها، وتنقيتها مما يشوبها من الشوائب الكلامية والسلوكية، وفيما تأكد بصورة جلية في سُنّتِهِ المطهّرة من سمات الذوق والرقي في التخاطب الإنساني. وتمثل هاتان الحقيقتان صدق التربية الإسلامية وفاعليتها في هذا الجانب، وفي الوقت نفسه، تُبيّنُ عظمة التربية النبوية مما أسهم به الرسول صلى الله عليه وسلم بتربيته لأمته.
وفيما يأتي تمت مناقشة هذا الأمر بشيء من التفصيل:
...
المطلب الأول: ترقية أساليب التخاطب، وتنقيتها من الشوائب:(18/81)
... إن ترقية الأساليب الكلامية، وآداب التخاطب، وتنقيتها من كل ما يشوبها، يُعدّ جزءاً من التزكية التي بُعث بها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقوله تعالى: (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيِهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيِهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِيِ ضَلالٍ مُبِينٍ).(1)
... ولقد حظي أدب التخاطب بنصيب وافرٍ من التزكية والتّرقية؛ ومن ذلك ما شمِلَتْه السنة النبوية من إرشادات قيّمة حول الآداب الكلامية، والمبادئ الخطابية؛ مثل: حفظ اللسان، والحث على الصدق، والتنفير من الكذب، وتهذيب إجابة المسيء بكلامه، وغير ذلك مما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
__________
(1) سورة آل عمران؛ آية: 164.(18/82)
... وردت توجيهات نبوية تحثُّ على حفظ اللسان من التعدي على الآخرين، وشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لمن يحفظ لسانه ويده عن إيذاء الآخرين بالإسلام؛ فقال: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه).(1)
... ولذا اتّصفَ الذي يَسُبُّ الآخرين بالفسق، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر).(2) فالسِّباب من الشوائب القولية، التي حذَّر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) صحيح البخاري؛ كتاب الإيمان، باب: (4): المسلم من سلِم المسلمون من لسانه ويده، الحديث رقم: (10). ص: (8). وصحيح مسلم؛ كتاب الإيمان، باب: (14): بيان تفاضل الإسلام وأي أموره أفضل، الحديث رقم: (41). ص: (24).
(2) صحيح البخاري؛ كتاب الأدب، باب: (4): ما ينهى من السباب واللعن، الحديث رقم: (6044). ص: (843).(18/83)
ونفّرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكذب، وعدّه علامة من علامات النفاق؛ فقال: (أربعٌ من كُنَّ فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعَها: إذا اؤتمِن خان، وإذا حدّثَ كذبَ وإذا عاهد غدرَ، وإذا خاصمَ فجر).(1)
وحثّ على الصِّدق، وبيّن عاقبة الصادقين؛ فقال (إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يُكتبَ صدّيقاً...).(2)
__________
(1) المرجع السابق؛ كتاب الإيمان، باب: (24) علامة المنافق، الحديث رقم: (34) ص: (11). وصحيح مسلم؛ كتاب الإيمان، باب: (25) بيان خصال المنافق، الحديث رقم: (58) ص: (28).
(2) صحيح مسلم، كتاب البر والصلة، باب: (29) قبح الكذب وحسن الصدق، رقم: (2607) ص: (664). وصحيح البخاري؛ كتاب الأدب، باب: (69) قول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين). الحديث رقم: (6094). ص: (849).(18/84)
وهذّب اللسان عن القيل والقال؛ فجاء هذا التهذيب في قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرّم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنعَ وهات. وكرِهَ لكم قيل وقال، وكثرة السؤال وإضاعة المال).(1)
__________
(1) صحيح البخاري؛ كتاب الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس، باب: (19): ما يُنهى عن إضاعة المال. الحديث رقم: (2408). ص: (318). وصحيح مسلم؛ كتاب: الأقضية، باب: (5) النهي عن كثرة المسائل من غير حاجة. الحديث رقم: (593). ص: (447).(18/85)
وكرِهَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، التقصير في الجواب، بما لا يفي به وبحاجة السائل؛ ومن ذلك ما جاء عن محمد بن المنكدر، قال سمعت جابراً، رضي الله عنه يقول: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، في دَيْنٍ كان على أبي فَدَقَقْتُ الباب، فقال: "من ذا؟" فقلت: "أنا" فقال: "أنا، أنا" كأنَّهُ كرِهَها).(1) قال الحافظ ابن حجر: (قال الداودي: إنما كرِهه لأنه أجابه بغير ما سأله عنه، لأنه لما ضرب الباب عرف أن ثَمَّ ضارِباً، فلما قال أنا كأنه أعلمه أن ثَمَّ ضارباً، فلم يزِدْه على ما عرف من ضرب الباب.... وقال الخطابي: قوله: "أنا" لا يتضمّن الجواب ولا يفيد العلم بما استعمله وكان حق الجواب أن يقول: أنا جابر ليقع تعريف الاسم الذي وقعت المسألة عنه).(2)
__________
(1) صحيح البخاري؛ كتاب الاستئذان، باب: (17): إذا قال: من ذا؟ فقال: أنا. الحديث رقم: (6250). ص: (869). وصحيح مسلم؛ كتاب الآداب، باب: (8): كراهة قول المستأذن أنا، إذا قيل: من هذا. الحديث رقم: (2155). ص: (562).
(2) فتح الباري: (12/301).(18/86)
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، قدوةً للمسلمين في اللفظ المهذّب، والكَلِمِ الطيّب. اتضح ذلك في عدد من المواقف النبيلة التي كان ينهجها ويُرشد إليها. ومنها ما جاء عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: (جاء الطُّفيلُ بن عمرو إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إن دوساً قد هَلَكَتْ؛ عَصَتْ وأبَتْ، فادْعُ الله عليهم، فقال: "اللهمّ اهْدِ دَوْساً وائْتِ بِهِمْ").(1) وواضح ما في هذا الحديث الشريف من الرحمة والرأفة والأدب اللفظي والمعنوي مما لا حاجة للتعقيب عليه.
أما موقفه صلى الله عليه وسلم، تجاه يهود، الذين كانوا يُلبِّسون عليه القول، لإيذائه؛ فلم يكن يجيب جهالتهم بجهالة مثلها، فهو أعظم من ذلك وأعقلْ؛ فكان جوابه عليه الصلاة والسلام، ذا أدب وحكمة، حفظ به لسانه من الامتهان وسوء التّوجُّه في المقال.
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب: (75): قصة دوْس والطفيل بن عمرو الدوسي، الحديث رقم: (4392). ص: (597).(18/87)
جاء عن عائشة رضي الله عنها: أن اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: السّامُ عليكم، قال: "وعليكم". فقالت عائشة: السّام عليكم ولعنكم الله وغضب عليكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مهلاً يا عائشة، عليكِ بالرِّفق وإياك والعُنْف أو الفحشَ" قالت: أولمْ تسمع ما قالوا؟ قال: "أولمْ تسمعي ما قلت؟ ردَدْتُ عليهم فيُستجاب لي فيهم، ولا يُستجابُ لهمْ فيَّ").(1)
__________
(1) المرجع السابق؛ كتاب الدعوات، باب: (62): قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يستجاب لنا في اليهود، ولا يُستجاب لهم فينا" ، الحديث رقم: (6401). ص: (888).(18/88)
أمّا صفته الخطابية صلى الله عليه وسلم، عند المعتبة فتتجلى فيها سمات الرّقي التي ينبغي أن تُحتذى، بل ويُعَضُّ عليها بالنواجذ. قال أنس رضي الله تعالى عنه: (لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاحشاً ولا لعّاناً، ولا سبّاباً، كان يقول عند المَعْتَبَةِ: "ما لَهُ تَرِبَ جَبينُهُ").(1) فهي عبارة رفيعة المعنى، وإن كان مفهوم ظاهرها هو التصاق التراب بالجبين، إلا أنها في الوقت نفسه شبيهة بما يحدث للساجد حين سجوده لله تعالى على الأرض الترابية، وذلك تشريف له وليس امتهان.
وجميع ما ذُكرَ أعلاه غيضٌ من فيض، فهو باب واسع، زخرت به السيرة العطرة لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحفِلتْ به حياته الكريمة في مواقف كثيرة. أما ما تمّ الاقتصار على ذكره، فليس إلا للتدليل على صدق ذلك وثبوته في سنّته المطهّرة. ... ...
المطلب الثاني: سمات الذوق والرقي في التخاطب:
__________
(1) صحيح البخاري؛ كتاب الأدب، باب: (44) ما يُنهى عن السباب واللعن. الحديث رقم: (6046). ص: (844).(18/89)
... تضمّنت السنة النبوية المطهّرة توجيهات قيّمة اتّضح فيها سماتٌ للتخاطب، رفيعة المستوى، أرشدت إلى أن نهج التخاطب في الإسلام قائمٌ على أسس واضحة ترفع قدره، وتُعلي شأنه؛ مما يُشير إلى أن هذا النهج هو نهج حضاري متقدِّم.
... ففي سنّة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، توجيهات ومواقف حافِلةٌ بتقنين سمات رفيعة لأدب التخاطب، وحُسْن الحديث؛ منها ما كان في أسلوبه الخاص، ومنها ما كان توجيهاً وبياناً، ومنها ما كان وصفاً أو إقراراً.
... أما ما كان في أسلوبه الخاص؛ فمنها حرصُه صلى الله عليه وسلم، على الإفهام بإعادة الحديث ثلاث مرات. وهو فعلٌ يُعبِّرُ عن سمة خطابية تربوية؛ يمكن تسميتها: (التكرار للإفهام). وهو أسلوبٌ له أهميته في نظريات التربية.(18/90)
... فعن أنس رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه كان إذا تكلّم بكلمة أعادها ثلاثاً حتى تُفهَمَ عنه، وإذا أتى على قومٍ فسلّمَ عليهم سلّم عليهم ثلاثاً).(1) قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: ("قوله: عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان": أي من عادة النبي صلى الله عليه وسلم؛ والمراد أن أنساً مخبِّر عما عرفَهُ من شأن النبي صلى الله عليه وسلم، وشاهده، لا أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرَهُ بذلك..... قوله: "إذا تكلّم": قال الكرماني: مثل هذا التركيب يُشعر بالاستمرار عند الأصوليين").(2) وإيضاحه هذا يؤكد حقيقة كون هذا الفعل سِمَة خطابية قيِّمة واظب عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم. والمواظبة على الشيء في سنته المطهرة دليل على أهمية ما واظب عليه.
__________
(1) المرجع السابق؛ كتاب العلم، باب: (30): من أعاد الحديث ثلاثاً ليُفهم عنه. الحديث رقم: (95). ص: (22).
(2) فتح الباري: (1/255).(18/91)
... وذلك بالإضافة إلى القاعدة الثابتة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، التي أبانها بقوله: (أحب الحديث إليّ)، ألا وهي (أصدق الحديث)؛ جاء ذلك فيما ذكره عروة رضي الله تعالى عنه، أن مروان والمسوَر بن مخرمة رضي الله عنهما، أخبراه: أن النبي صلى الله عليه وسلم، قام حينَ جاءه وفدُ هوازن، فسألوه أن يردَّ إليهم أموالهم وسبْيَهُمْ، فقال: "إن معيَ مَنْ تَرَوْنَ، وأحبُّ الحديثِ إليَّ أصدقَهُ.... الحديث).(1) وهذه سمة أخرى من سمات الذوق والرقي في التخاطب.
__________
(1) صحيح البخاري؛ كتاب العتق، باب: (13): من ملك من العرب رقيقاً فوهب وباع وجامع وفدى وسبى الذرية. الحديث رقم: (2539). ص: (336).(18/92)
... وأما ما كان توجيهاً وإرشاداً؛ فجاء في بيان السمات التي ينبغي أن يتحلى المسلم بها أو أن يتخلى عنها، أحاديث عدّة؛ أذكر منها قوله صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر؛ فليقل خيراً أو ليصمُتْ... الحديث).(1) لأن الصمّت عن اللغوِ وعن فضول الكلام فضيلة. وفضيلة الصمت المقصودة في الحديث الشريف تمثل سمة من سمات الرقي، لأن الصمت في هذا الحال قد يعبِّر عمّا لا يفي به كثير من الكلام أحياناًً؛ كأن يُضفي على هيئة المُعرض عن اللغو صفة الاتزان والعقلانية، وغير ذلك من المعاني.
... ومن ذلك أيضاً شُكر صانع المعروف بالثناء الحسن؛ وهو أمرٌ دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورغّبَ فيه.
فعن أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صنِعَ إليه معروفٌ فقال لفاعله: جزاك الله خيراً فقد أبلغَ في الثناء).(2)
__________
(1) المرجع السابق؛ كتاب الرقاق، باب: (23): حفظ اللسان. الحديث رقم: 6457. ص: (897).
(2) جامع الترمذي؛ كتاب البر والصلة، باب: (88): ما جاء في الثناء بالمعروف. الحديث رقم: (2035). ص: (338).(18/93)
... وتتجلى سمةُ الذوق في التخاطب الجماعي من خلال مراعاة أفراد الجماعة فيما يتم الحديث فيه؛ وهو ما وجّهَ إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، بقوله: (إذا كانوا ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث).(1) وقد أورده الإمام مسلم رحمه الله تعالى في باب تحريم مناجاة الاثنين دون الثالث، وذلك يفيد بأن هذا الأدب ليس من اليُسر بحيث يُقتصر على تسميته (سِمَةً) ولكنه بلغ أكثر من هذا المبلغ.
...
... وأما ما كان وصفاً أو إقراراً لسمات الرقي في التخاطب؛ فجاء في عدد من المواضع في السنة النبوية المطهرة؛ ويُمثِّلُ ذلك مثالان: أحدهما متضمِّنٌ وصف المؤمن بخلاف الصفات الذميمة، والآخر متضمِّنٌ إقرار مقال صاحب الحق:
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب الاستئذان، باب: (45): لا يتناجى اثنان دون الثالث. الحديث رقم: (6288). ص: (874). وصحيح مسلم: كتاب السلام، باب: (15): تحريم مناجاة الإثنين دون الثالث بغير رضاه. الحديث رقم: (2183). ص: (567).(18/94)
فمن صفات المؤمن أنه يَنْفُر من النطق بطعن الآخرين أو لعنهم، وينفر من القول الفاحش أو البذيء؛ وهذه سمة أخلاقية رفيعة تشير إلى نقاء لسان المؤمن وجنانِه. أكَّدَ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (ليس المؤمن بالطعان، ولا اللعان، ولا الفاحش ولا البذيء).(1) وهذه من سمات الذوق والرقي في الشخصية المسلمة.
__________
(1) جامع الترمذي، كتاب البر والصلة، باب: (48): ما جاء في اللعنة. الحديث رقم: (1977). ص: (331). قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب وقد روي عن عبد الله من غير هذا الوجه.(18/95)
ومنها، ما يهبه الإسلام لصاحب الحق من حرية المطالبة بالحق، وعدم الحيلولة بينه وبين ذلك، على أن تكون المطالبة محكومة بالأدب الخطابي. فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن رجلاً تقاضى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأغلظ له، فهمّ به أصحابُه، فقال: "دعوه، فإن لصاحب الحق مقالاً" واشتروا له بعيراً فأعطوه إياه، وقالوا: لا نجد إلا أفضل من سنِّهِ، قال: "اشتروه فأعطوه إياه، فإن خيركم أحسنُكم قضاء").(1) قال الحافظ ابن حجر في قوله صلى الله عليه وسلم: (فإن لصاحب الحق مقالاً): (أي صولةُ الطّلبِ، وقوّة الحجّة، لكن مع مراعاة الأدب المشروع).(2)
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس، باب: (4): استقراض الإبل. الحديث رقم: (2390). ص: (315).
(2) فتح الباري: (5/336).(18/96)
وختاماً؛ هذه جملة من الأحاديث النبوية المطهرة التي تضمّنت آداباً للتخاطب؛ في صورٍ متعددة؛ منها ما كان في مجال العقيدة، ومنها ما كان في المجالات الاجتماعية، ومنها ما كان في مجالات الذوق العام. وجميعها أسهمت في بيان وإبراز القيم الخطابية في الإسلام، وإبراز عناية النبي صلى الله عليه وسلم، بهذا الجانب؛ فتزكية الخطاب الإنساني نموذج من نماذج التزكية النبوية المطهرة العامة لأمة الإسلام. وهو أمر يقدِّم صورة مُشرِقةً لحقيقة عظمة الإسلام، وحقيقة عظمة النبي الإنسان، صلى الله عليه وسلم.
...
الخاتمة:
الحمد لله الذي بفضله تتم الصالحات، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، وبعد،،،
فهذه جولة مباركة في السيرة الخَطابية العطرة لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، تم فيها إلقاء الضوء على بعض القضايا التي أبرزت جانباً من جوانب القيم الحضارية في السنة النبوية، وعرضت الكيفيات التي عالج الرسول صلى الله عليه وسلم، من خلالها جانب التخاطب الحضاري؛ بالإرشاد والتوجيه اللفظي والسلوكي، وبالقدوة.(18/97)
وهو جانب عظيم من جوانب العطاء النبوي، ولذا استحق التركيز على مهماته وكيفياته وآثاره الآنية والمستقبلة. ولما كانت دراسة هذا الجانب موجزة، فتم الاقتصار على التوجيه الوجير والإشارات السريعة التي تُحقق الهدف الأساس لهذا البحث.
والله سبحانه وتعالى الموفّق، وله الحمد والفضل والمِنّة. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
النتائج: والتوصيات:
اتّسمَ أدب التخاطب في السنة النبوية المطهرة بالشمولية؛ لما تضمّنه من توجيهات التخاطب في عدد من المجالات بحسب علاقات الإنسان. وفي المجال الاجتماعي لم يقتصر أدب التخاطب على الفئات المذكورة في هذا البحث، بل شمل كل فئات المجتمع؛ مثل الخادم والمملوك والفقير، والكبير، وغيرهم.
تضمنت توجيهات السنة النبوية في أدب التخاطب عدداً من الأساليب والوسائل النبوية؛ مثل التوجيه اللفظي، والقدوة الحسنة، وإبراز المشكلات وسُبل علاجها، ونحو ذلك.
ارتبطت توجيهات السنة النبوية بالأحداث، والظروف الحاجية التي تُهيئ التلقّي وتقبّل التوجيه.
ارتبطت توجيهات الذوق العام في التخاطب بالشمولية التوجيهية للسنة النبوية المطهرة.(18/98)
تقتضي توجيهات السنة النبوية المطهرة تربية الأمة تربية منهجية مُقنّنة تُهذِّبُ الأفراد والجماعات، وتغرس حسن الاقتداء بمنهج الرسول صلى الله عليه وسلم.
إن موجّهات الحضارة الإسلامية التي بذلَ الرسول صلى الله عليه وسلم، جهده في بنائها وترسيخها، تقتضي بذل جهود مكثّفة واعية فاعلة، تفي وتُبرز العرفان لسنّته المطهّرة.
إن العداء المتوالي لغير المسملين تجاه شخص الرسول صلى الله عليه وسلم، يؤكد حقيقة ضعف المسلمين، وتراجعهم عن منصب القيادة الذي أنيط بهم. ويدعوهم لإعادة النظر في يقين معتقدهم وصدق التزامهم.
ثبت المصادر والمراجع:
جامع الترمذي؛ الجامع المختصر من السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم، تصنيف أبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي، اعتنى به فريق: بيت الأفكار الدولية، الطبعة الأولى: 2004م.
الجامع الصغير وزيادته، (الفتح الكبير). تأليف محمد ناصر الألباني. المكتب الإسلامي، الطبعة الثانية، 1406هـ، 1986م.
الخلق الكامل؛ تأليف: محمد أحمد جاد المولى، مؤسسة الرسالة، دار قتيبة. دمشق. دط. دت.(18/99)
زاد المعاد في هدي خير العباد، محمد صلى الله عليه وسلم، خاتم النبيين وإمام المرسلين. للإمام ابن قيم الجوزية. المؤسسة العربية للطباعة والنشر، بيروت. دط. دت.
سنن أبي داوود، للإمام أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني، المتوفى: 275هـ. مكتبة الرشد، الرياض، الطبعة الأولى: 1424هـ، 2003م.
صحيح البخاري، المسمى: الجامع الصحيح، المسند من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسننه وأيامه؛ للإمام الحافظ أبي عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة الجعفي البخاري. اعتنى به: أبو عبد الله عبد السلام بن محمد بن عمر علّوش. مكتبة الرشد، السعودية، الرياض. الطبعة الأولى: 1425هـ، 2004م.
صحيح مسلم، للإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري، 206-261هـ. مكتبة الرشد/ الرياض. دط. 1422هـ، 2001م.
فتح الباري، بشرح صحيح البخاري؛ للحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، (773هـ - 852 هـ). طبعة مصححة على عدة نسخ، وعن النسخة التي حقق أصولها وأجازها الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز. دار الفكر، بيروت. دط. 1416هـ، 1996م.(18/100)
كتاب مجمل اللغة، للشيخ أبي الحسن أحمد بن فارس بن زكريا الرازي، المتوفى سنة 395هـ. حققه: الشيخ شهاب الدين أبو عمرو، إشراف مكتب البحوث والدراسات، دار الفكر للطباعة، بيروت. دط. 1414هـ، 1994م.
لسان العرب؛ للإمام العلامة أبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم ابن منظور الإفريقي المصري. دار صادر. دط. دت.
مجمع الزوائد ومنبع الفوائد؛ للحافظ نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي، المتوفى سنة 807. دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان. الطبعة الثالثة: 1402هـ، 1982م.
محمد صلى الله عليه وسلم، الإنسان الكامل. تأليف: محمد بن علوي المالكي الحسني. دار الشروق. جدّة. الطبعة الرابعة: 1408هـ، 1987م.
المستدرك على الصحيحين، للإمام الحافظ أبي عبد الله الحاكم النيسابوري، وبذيله: التلخيص للحافظ الذهبي، رحمهما الله. مكتب المطبوعات الإسلامية. حلب. دط. دت.
مسند الإمام أحمد بن حنبل، أشرف على تحقيقه: الشيخ شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى: 1419هـ، 1998م.
المعجم الأدبي، جبّور عبد النور، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الأولى. 1979م.(18/101)
المعجم الكبير للطبراني: سليمان بن أحمد، المتوفى: 360هـ، دار إحياء التراث، بيروت، الطبعة الثانية، 1985م.
المعجم المفصل في الأدب، الدكتور: محمد التونجي. دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى: 1413هـ، 1993م.
المعجم المفصّل في تفسير غريب الحديث. إعدد الدكتور محمد التونجي. دار الكتب العلمية. الطبعة الأولى: 1424هـ، 2003م.
هدي الرسول صلى الله عليه وسلم، مختصر من زاد المعاد، اختصره وعلّق عليه: محمد أبو زيد. سعد الدين للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، الطبعة الأولى: 1405هـ، 1985م.(18/102)
بسم الله الرحمن الرحيم
التعاليم الاقتصادية في السنة النبوية
أ.د/ كمال توفيق حطاب
أستاذ ورئيس قسم الاقتصاد والمصارف الإسلامية
كلية الشريعة والدراسات الإسلامية
جامعة اليرموك
2007
مقدمة:
تعتبر السنة النبوية هي المصدر الثاني للتشريع بعد القرآن الكريم ،ومع ذلك تعتبر هي المصدر الأول لشرح وتفسير واستنباط الأحكام والتشريعات من القرآن الكريم في كافة المجالات ،فالسنة مبينة مفسرة شارحة للقرآن ،كما أنها في بعض الأحيان مفصلة متممة لبعض الأحكام في القرآن الكريم.(19/1)
ونظرا للأهمية الكبرى للاقتصاد في عصرنا الحاضر ،ولخطورة المشكلات الاقتصادية المستعصية التي تعاني منها مختلف دول العالم ،فقد كان لا بد من الرجوع إلى هديه صلى الله عليه وسلم في الجانب الاقتصادي ،للتعرف على أهم المعالم والمبادئ التي استطاع من خلالها صلى الله عليه وسلم حل أعقد المشكلات التي كانت في عصره،ففي فترة قياسية وجيزة في عمر التاريخ استطاع الرسول صلى الله عليه وسلم بناء جيل قرآني فريد ،لديه كافة الإمكانات للبناء والنهضة والتقدم ،كما استطاع تكوين دولة مؤسسات شورية ،ذات أنظمة قرآنية مستقرة،وبناء نظام اقتصادي واضح المعالم يقوم على أساس العدل والإحسان ورفض الظلم والبغي والعدوان.
كيف فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك؟ وهل كانت له منهجية محددة في تحقيق أهدافه؟ كيف كان سلوكه الاقتصادي صلى الله عليه وسلم كفرد وكراع للمسلمين؟ ما هي أهم الإصلاحات الاقتصادية التي قام بها صلى الله عليه وسلم؟
حول هذه الأسئلة والمحاور يدور هذا البحث ،ويحاول أن يجد إجابات مباشرة وغير مباشرة لهذه الأسئلة ،وذلك في المبحثين الآتيين :
المبحث الأول: منهجية العمل بالسنة في المجال الاقتصادي(19/2)
المبحث الثاني: السلوك الاقتصادي للنبي صلى الله عليه وسلم:
المبحث الأول: منهجية العمل بالسنة في المجال الاقتصادي
إن النجاح الباهر الذي حققه النبي صلى الله عليه وسلم خلال ثلاث وعشرين سنة في كافة المجالات،لم يكن نتيجة عمل عشوائي أو اتكالي ،وإنما كان نتيجة تخطيط مدروس ومنهجية واضحة ،أحاطها الوحي بالعناية والرعاية والحماية ،واستخدم النبي صلى الله عليه وسلم كافة طاقاته وإمكاناته البشرية لتحقيق هذا النجاح في كافة المجالات.
وقد كان ذلك من خلال سلوكه الاقتصادي الإيثاري وتطبيقاته للتعاليم الربانية التي كانت تتنزل عليه ،فهل يمكن لأحاديثه وتطبيقاته وسيرته صلى الله عليه وسلم أن تحقق ما حققه في العصر الأول؟ وكيف يمكن العمل بالسنة في هذا العصر الذي نعيش فيه؟ وقبل ذلك ما هي السنة؟ وما هي أهم مصادرها؟ ما الفرق بين السنة والعادة؟ وما الفرق بين الأحكام الثابتة والمتغيرة المستنبطة من السنة؟ هذه هي أبرز الأسئلة التي يتناولها هذا المبحث ،وسوف يكون ذلك في المطالب التالية:
المطلب الأول: السنة ومصادرها
المطلب الثاني: علاقة السنة بالقرآن
المطلب الثالث: الثبات والتغير في الأحكام المبنية على السنة(19/3)
المطلب الرابع: المنهجية المقترحة لتفعيل تطبيق السنة في المجال الاقتصادي
المطلب الخامس: السنة والأعمال الدنيوية
المطلب الأول: السنة ومصادرها:
السنة في اللغة:الطريقة المعتادة التي يتكرر العمل بمقتضاها(1)،جاء في مختار الصحاح السنن الطريقة والسنة السيرة (2). قال تعالى"سنة الله في الذين خلو من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا"(الأحزاب ،62).
السنة في الاصطلاح: ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم غير القرآن من قول أو فعل أو تقرير (3).
__________
(1) زيدان ،عبد الكريم: المدخل لدراسة الشريعة الإسلامية ،مؤسسة الرسالة ،بيروت ،1989 ،ط11 ص160
(2) الرازي ،محمد: مختار الصحاح ،دار القبلة للثقافة الإسلامية ،جدة ،1986،ص 317
(3) زيدان ،المرجع السابق ،ص 160ويضيف علماء الحديث إلى التعريف كل ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خلقية أو خلقية أو سيرة سواء أكان ذلك قبل البعثة أم بعدها. انظر: الخطيب ،محمد عجاج: السنة قبل التدوين ،دار الفكر ،بيروت ،1971 ،ط2 ،ص 16(19/4)
أما القول فهو حديثه صلى الله عليه وسلم مثل قوله "كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه"(1) وأما الفعل فأفعاله صلى الله عليه وسلم التي نقلت إلينا عن طريق الصحابة مثل أدائه الصلوات والحج وغيرها من الأفعال.. وأما التقرير فإقراره صلى الله عليه وسلم كثيرا من عادات وسلوكيات العرب الحميدة قبل الإسلام ،وسكوته صلى الله عليه وسلم عن إنكار أي قول أو فعل.
مصادر السنة:
تناقلت الأجيال سنة النبي صلى الله عليه وسلم عن طريق الحفظ ،وفي القرن الثاني الهجري قامت حركة علمية هائلة لتدوين سنة النبي صلى الله عليه وسلم.. وتم تدوين السنة في كتب اقتصر بعضها على الصحيح كالبخاري 256هـ ومسلم 361هـ ،وبعضها غلب عليه الصحيح كالسنن الأربعة لأبي داود 275هـ والترمذي 279هـ وابن ماجة 273هـ والنسائي 330 ومسند أحمد وموطأ مالك..
وبعضها اختلط فيه الصحيح بالضعيف وتولى العلماء بيان ما فيها من صحيح أو ضعيف كمعاجم الطبراني الصغير والكبير والأوسط ،ولا يزال العلماء حتى يومنا هذا يعملون في بيان صحيح الأحاديث من ضعيفها.
__________
(1) مسلم ، مسلم بن الحجاج النيسابوري: صحيح مسلم،دار إحياء التراث،بيروت ،د ت ،تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي،4/1986(19/5)
ولم يقتصر العلماء على تصنيف كتب السنة وإنما صنفوا في شرح كتب السنة مثل شروح البخاري وأشهرها فتح الباري ،وشرح النووي على صحيح مسلم ،كما وجدت مصنفات كثيرة في أحاديث الأحكام مثل عمدة الأحكام وبلوغ المرام وسبل السلام ونيل الأوطار.. الخ
كما ألف بعض العلماء كتبا في الأحاديث الضعيفة والموضوعة ،وفي الترغيب والترهيب وفي علوم الحديث وقواعد التحديث.(1)
المطلب الثاني: علاقة السنة بالقرآن
__________
(1) الأشقر: عمر سليمان: نحو ثقافة إسلامية أصيلة ،دار النفائس ،عمان ،2002 ،ص53-54(19/6)
لا خلاف في أن السنة مصدر للتشريع ،ولكن مرتبتها مرتبة تالية للقرآن بمعنى أن الاحتجاج بالقرآن مقدم على الاحتجاج بالسنة ،وأن المجتهد يبحث عن الحكم في القرآن أولا ثم في السنة ،والدليل على ذلك ما ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن"كيف تقضي إذا عرض لك قضاء قال أقضي بكتاب الله قال فإن لم تجد في كتاب الله قال فبسنة رسول الله ،قال فإن لم تجد قال أجتهد رأيي ولا آلو ،فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره وقال الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله(1)..
وقد دل على حجية العمل بالسنة أدلة كثيرة منها (2):
التصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى في قوله تعالى"وما ينطق عن الهوى ،إن هو إلا وحي يوحى"(النجم ،3-4).
الأمر بطاعة الرسول ،وجعل طاعته طاعة لله ،قال تعالى "قل أطيعوا الله والرسول"(آل عمران ،32) ،وفي آية أخرى"من يطع الرسول فقد أطاع الله "(النساء ،80).
__________
(1) أبو داود ،سليمان بن الأشعث السجستاني: سنن أبي داود ،دار الفكر ،د.ت 3/303
(2) زيدان ،المرجع السابق ،ص 164(19/7)
الأمر باتباع ما يأتينا به الرسول"وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا"(الحشر ،7).
وجوب تحكيم الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يحصل من خلاف"فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما"(النساء ،65).
ومن جهة أخرى فإن نصوص القرآن قطعية الثبوت في حين أن نصوص السنة ظنية الثبوت في الجملة ،ولذلك تأتي في المقام الثاني بعد القرآن كما سبق ،وقد اختلف العلماء حول أقسام السنة من حيث الثبوت والحجية والصحة إلى ثلاثة أقسام: المتواتر،والمشهور،والآحاد،على الترتيب ،واختلفوا في الحديث الصحيح هل يوجب العلم القطعي اليقيني أو الظني؟ ثم فصلوا في الإجابة بأن الحديث المتواتر لفظا أو معنى هو قطعي الثبوت بلا خلاف أما غيره من الصحيح فذهب بعضهم إلى أنه ظني الثبوت،وذهب آخرون إلى أنه يفيد العلم اليقيني وهو مذهب الظاهرية.. واختار ابن الصلاح وعدد كبير من العلماء أن ما ورد في الصحيحين مقطوع بصحته ،والعلم اليقيني النظري واقع به،باستثناء أحاديث قليلة نبه إليها العلماء(1)
__________
(1) ابن كثير: الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث ،تحقيق أحمد شاكر ،دار الكتب العلمية ،بيروت ،1951 ،ط2 ص35-36.(19/8)
.
ومع ذلك فلا يزال علماء الحديث حتى وقتنا الحاضر يعملون في تصحيح الأحاديث سندا ومتنا ،ويأخذون بعلمي الرواية والدراية وما يتفرع عنهما من علوم في طلب الإسناد وسماع الحديث وأخذه وتبليغه وروايته ونقد سنده ومتنه وضبط رواته ،وإن كانت العناية منصبة بشكل كبير إلى عمليات نقد المتن ومدى موافقته لما في القرآن والمعقول،فمن شروط صحة الحديث عدم مخالفته لما جاء في القرآن الكريم ،ولذلك فقد ردّت عائشة رضي الله عنها حديث تعذيب الميت ببكاء أهله بقوله تعالى"ألا تزر وازرة وزر أخرى"(النجم ،38) وردّت حديث سماع موتى بدر من المشركين لكلام الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى"وما أنت بمسمع من في القبور"(فاطر ،22) (1)
المطلب الثالث:الثبات والتغير في الأحكام الشرعية الاقتصادية المبنية على السنة:
__________
(1) عويضة ،محمد:"المنهجية العلمية عند المحدثين"مجلة أبحاث اليرموك ،جامعة اليرموك ،مجلد 18 ،عدد4 ب ،2002 ،ص 1225،ولا يعني ذلك عدم ورود أحكام جديدة في السنة لم تكن قد جاءت في القرآن ،وإنما يعني أن لا يخالف الحديث الأصول العامة في القرآن الكريم.(19/9)
إن قضية الثبات والتغير في الأحكام الشرعية من القضايا الدقيقة والتي تحتاج إلى نظر فقهي عميق وتمحيص دقيق ،ولا شك أن هذه المسألة ترتبط ارتباط وثيقا بمسألة القطعي والظني،والعام والخاص،وكذلك بتغير الأعراف والظروف والأزمان.
وقد حاول العلماء وضع ضوابط محددة لهذه المسألة من أبرزها (1):
ضرورة التحقق من قطعية ورود النص ،ومناسبته ،ومعرفة العام والخاص والمطلق والمقيد.. الخ: فالنص القطعي الثبوت هو النص القرآني كما تقدم ،وقد يكون في مناسبة معينة إلا أن العبرة غالبا لعموم المناسبة لا لخصوص السبب.
تحديد ما يعد تشريعا وما لا يعد تشريعا من أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله ،وتنقسم السنة باعتبارها تشريعا وغير تشريع إلى قسمين:
الأول: ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم باعتباره نبيا مبلغا عن الله فهذا يعتبر تشريعا للأمة بلا خلاف.
__________
(1) عمارة ،محمد: معالم المنهج الإسلامي ،الأزهر الشريف والمعهد العالمي للفكر الإسلامي ،دار الشروق ،1981،ص124،أبو المجد ،أحمد كمال: التجديد في الإسلام ،مجلة العربي ،الكويت ،أغسطس 1977،ص11(19/10)
الثاني: ما صدر عنه صلى الله عليه وسلم من أقوال وأفعال لا باعتباره نبيا مبلغا عن الله ولكن باعتباره إنسانا أو بمقتضى طبيعته البشرية كالأكل والشرب أو بمقتضى خبرته في الشئون الدنيوية ،فهذا النوع لا يعتبر تشريعا للأمة ،ويلحق به ما كان خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم مثل وصاله في الصيام وزواجه بأكثر من أربع (1).
تحديد ضوابط المصلحة ومدى اعتبارها دليلا شرعيا: وذلك بأن تكون مصلحة عامة لا خاصة ،حقيقية وليست وهمية ،ويقررها أهل الحل والعقد ولا يقررها أهل الهوى والمصالح الشخصية.
__________
(1) زيدان ،المرجع السابق ،162-163(19/11)
تحديد ما يمكن أن يتغير من الأحكام بتغير الزمان: وهذا أدق أبواب الاجتهاد وأصعبها،فقبل الحكم بتغير الحكم الشرعي لا بد من مراعاة هذه الضوابط ،"فمن الأحكام الاجتهادية ما مأخذه ومستنده مصلحة زمنية ،تتغير بتغير العصر وتبدل الأحوال،فينبغي أن يتغير الحكم تبعا لها.. ومن الأحكام ما يستند إلى عرف أو وضع كان قائما في زمن الأئمة المجتهدين ،أو في زمن مقلديهم من المتأخرين ،ثم تغير هذا العرف أو الوضع في زمننا"(1).
__________
(1) القرضاوي ،يوسف: السياسة الشرعية في ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها ،مكتبة وهبة ،القاهرة ،1998. 290(19/12)
وقد حاول بعض العلماء تصنيف الأحكام الثابتة والقابلة للتغير ،فقال بأن الأحكام الثابتة هي الأحكام التي تمثل أصول الشريعة وأسسها ومبادئها العامة كالأحكام التي قررها النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع ،والأحكام التي تتعلق بمقاصد الشريعة كتحقيق العدل ومنع الظلم وحفظ الضروريات ،أما الأحكام التي تتعلق بالوسائل أو التي ثبتت باجتهاد كشكل النقود وهل هي ذهبية أو ورقية فإنها قابلة للتغير ،وكذلك الأحكام التي تستند على أدلة ظنية فإنها قابلة للتغير.(1)
ويقول الأستاذ محمد قطب"إن في الإسلام ثوابت ومتغيرات ،فمن الثوابت أمور العقيدة،شهادة أن لا إله إلا الله ،والعبادات بجملتها وتفصيلاتها ،والحدود ،وغير ذلك مما فصله الفقهاء ،وهناك أمور متغيرة أذن الشارع بالاجتهاد فيها ،ولكنه قيدها – في تغيرها الدائم بمحاور ثابتة أو أصول ثابتة ،لا يجوز أن تحيد عنها في أثناء تغيرها ونموها ،بما يلائم ما يجد من أمور في حياة الناس"(2).
__________
(1) شبير ،محمد عثمان: المعاملات المالية المعاصرة في الفقه الإسلامي ،دار النفائس ،عمان ،1996 ،24
(2) قطب ،محمد: واقعنا المعاصر ،مؤسسة المدينة ،جدة ،1988،ص 469(19/13)
ومع ذلك فهناك اتفاق لدى الفقهاء القدامى والمعاصرين على وجود الأحكام الثابتة والمتغيرة أو القابلة للتغير ،فمن الأحكام الثابتة في المجال الاقتصادي – على سبيل المثال - تحريم الربا،وجوب الزكاة ،وجوب الوفاء بالعقود ،تحريم أكل المال بالباطل ،.. ومن الأحكام القابلة للتغير بتغير الظروف ،أحكام التسعير والاحتكار والاكتناز ،.. الخ.
المطلب الرابع: المنهجية المقترحة لتفعيل تطبيق السنة في المجال الاقتصادي
بناء على ما سبق ،وفي ضوء ما بحثه العلماء في مسألة الثابت والمتغير والقطعي والظني،أعرض منهجية مقترحة لتفعيل تطبيق أحاديثه صلى الله عليه وسلم في المجالات الاقتصادية بالشكل العلمي السلمي والمواكب للظروف والمستجدات العصرية ،وذلك دفعا للاتجاهات التي حاولت وما زالت تحاول تعطيل السنة وهدمها ،وكذلك الاتجاهات التي حاولت الجمود عند ظاهر النصوص.
وتتلخص ملامح هذه المنهجية في النقاط التالية:
النظر في المقاصد الشرعية في موضوع الحديث.
النظر في درجة الحديث من حيث الصحة.
النظر في المناسبة وعمومها.
الآثار والأبعاد الاقتصادية المحيطة بموضوع الحديث
أقوال العلماء وشراح الحديث
الترجيح(19/14)
ولا تعني هذه المنهجية إلغاء منهج الفقهاء في البحث الفقهي ،والذي يبدأ بتحرير محل النزاع ثم عرض الأدلة وتمحيصها وإظهار القوي منها من الضعيف ،ومدى انطباق دلالة النص على الواقعة ،ومحاولة الجمع بين النصوص إذا كان ممكنا..الخ ،وإنما هي محاولة اجتهادية تضيف إلى منهجية البحث الفقهي العوامل الاقتصادية بحيث تزيد من تجلية الحكم الشرعي ومطابقته للواقع الاقتصادي بالشكل الأمثل (1).
المطلب الخامس: السنة والأعمال الدنيوية:
__________
(1) للمزيد من التفصيل حول تطبيق المنهجية المقترحة. انظر: حطاب ،كمال:"منهجية البحث في الاقتصاد الإسلامي وعلاقاته بالنصوص الشرعية"مجلة جامعة الملك عبد العزيز ،جدة ،2003 ،مجلد 16 ،عدد2 ،ص 22-36(19/15)
تبين فيما سبق أن عادات النبي صلى الله عليه وسلم،وما كان يقوم به بمقتضى طبيعته البشرية كقيامه وقعوده وطعامه وشرابه ليست تشريعا ،وكذلك ما كان يكتسبه بمقتضى خبرته العملية الدنيوية ،والدليل موقفه يوم بدر عندما غير مكان المعركة بعد استشارة أحد الصحابة،وكذلك مسألة تأبير النخل ،فقد ورد"أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقوم يلقحون،فقال لو لم تفعلوا لصلح قال فخرج شيصا،فمر بهم فقال ما لنخلكم؟ قالوا: قلت كذا وكذا. قال أنتم أعلم بأمر دنياكم"(1) وفي رواية أخرى"وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر"قال النووي في شرحه على صحيح مسلم: قال العلماء ( من رأيي ) أي في أمر الدنيا ومعايشها على التشريع ،فأما ما قاله باجتهاده صلى الله عليه وسلم ورآه شرعا يجب العمل به،وليس أبار النخل من هذا النوع بل من النوع المذكور قبله(2).
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الفضائل باب وجوب امتثال ما قاله شرعا دون ما ذكره صلى الله عليه وسلم. انظر صحيح مسلم بشرح النووي ،مرجع سابق ،15/116-118
(2) نفس المصدر السابق.(19/16)
وفي ظلال قوله صلى الله عليه وسلم"أنتم أعلم بأمر دنياكم"يمكن للمسلمين في كل عصر أن يختاروا أحدث وأكفأ الوسائل العلمية والتكنولوجية ويتبعوا أفضل السياسات الاقتصادية المؤدية إلى زيادة الإنتاج والنمو الاقتصادي ،كما يمكنهم أن يختاروا الطريقة المثلى والأسلوب العلمي الأفضل في تحقيق التقدم والرفاهية في كافة المجالات ،ما دامت هذه الوسائل والطرق والأساليب والسياسات لا تحل حراما أو تحرم حلالا..
المبحث الثاني: السلوك الاقتصادي للنبي صلى الله عليه وسلم:(19/17)
مارس النبي صلى الله عليه وسلم في حياته كافة الشئون الاقتصادية الخاصة والعامة ،فقد اختار صلى الله عليه وسلم أن يجوع يوما ويشبع يوما ،وبالتالي كان يشعر بإلحاح وألم الجوع،بل إنه كان يتلوى من شدة الجوع.. أخرج الإمام أحمد في مسنده قال: ذكر عمر ما أصاب الناس من الدنيا فقال: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يظل اليوم يلتوي ما يجد من الدقل ما يملأ بطنه (1) ،والدقل: الردئ من التمر. وأخرج مسلم عن أنس بن مالك قال: رأى أبو طلحة رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطجعا في المسجد يتقلب ظهرا لبطن.."(2)
وإن هذا الشعور المؤلم لا شك يدفعه صلى الله عليه وسلم إلى التصرف أو السلوك الاقتصادي الرشيد.. فكيف كان سلوكه الاقتصادي صلى الله عليه وسلم كفرد؟ وكيف كان سلوكه الاقتصادي كحاكم وراع لهذه الأمة؟ ثم ما هي أبرز الإصلاحات الاقتصادية التي قام بها؟ هذا ما سوف تتم الإجابة عليه في المطالب التالية:
__________
(1) الساعاتي ،أحمد عبد الرحمن البنا: الفتح الرباني بترتيب مسند الإمام أحمد ،دار الشهاب ،القاهرة ،د ت ،22/76.
(2) النووي ،يحيى بن شرف: صحيح مسلم بشرح النووي ،المصرية بالأزهر ،القاهرة ،1349هـ ،6/116(19/18)
المطلب الأول: السلوك الاقتصادي الفردي للنبي صلى الله عليه وسلم
المطلب الثاني: السلوك الاقتصادي العام للنبي صلى الله عليه وسلم.
المطلب الثالث: أهم الإصلاحات الاقتصادية التي قام بها النبي صلى الله عليه وسلم
المطلب الأول: السلوك الاقتصادي الفردي للنبي صلى الله عليه وسلم
مارس النبي صلى الله عليه وسلم كافة أشكال العمل الاقتصادي ،بدءا من رعي الغنم وانتهاء بكافة أشكال التجارة.. كما مارس الأعمال اليدوية الذاتية البيتية ،وكان سلوكه وفعله صلى الله عليه وسلم يدعم أقواله وأوامره ونواهيه ،وهذا ما سوف نلاحظه في الفقرات التالية:
ففي مجال رعي الغنم:
كان النبي صلى الله عليه وسلم يفاخر بذلك ويقول"ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم فقال أصحابه وأنت فقال نعم كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة"(1).
__________
(1) البخاري ،محمد بن اسماعيل: صحيح البخاري ،دار ابن كثير،بيروت ،1987 ،ط3 تحقيق مصطفى البغا ،2/789(19/19)
ومن المعلوم ما تتطلبه هذه الوظيفة من مشقة وتعب ،ولكن منهجه صلى الله عليه وسلم كان الاعتماد على النفس وأن يأكل من عمل يده ،حيث قال"ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده"(1).
وكان صلى الله عليه وسلم يسعى لكي يحقق لنفسه دخلا يغنيه عن أن يمد يده لأعمامه أو غيرهم.. بل إنه كان يشعر بضيق الحال لدى عمه أبي طالب،كثير العيال فربما كان عمله صلى الله عليه وسلم لمساعدة عمه الذي آواه وكفله بعد وفاة جده.. وقد قام صلى الله عليه وسلم بكفالة ابن عمه علي بن أبي طالب لاحقا.
في مجال التجارة:
__________
(1) نفس المصدر ،2/730(19/20)
تعلم النبي صلى الله عليه وسلم فنون التجارة في صغره ،فقد نشأ في مجتمع تجاري ،حيث كانت مكة ملتقى القوافل التجارية ،وكان أهل مكة أكثر أهل الجزيرة تجارة وغنى ،وقد كانت رحلته إلى الشام ومقابلة الراهب بحيرا وهو فتى لم يتجاوز الثانية عشرة.. ثم توالت هذه الرحلات ،ويبدو أن النبي صلى الله عليه وسلم حقق نجاحات تجارية كبيرة.. وذلك لصدقه وأمانته وأخلاقه العالية.. مما ذاع صيته.. ودفع خديجة رضي الله عنها إلى البحث عنه واستخدامه في تجارتها..ونظرا لنجاحاته المتتالية ،وأخلاقياته الرفيعة،فقد حرصت خديجة رضي الله عنها على الزواج به صلى الله عليه وسلم (1)..
في البيت:
كان النبي صلى الله عليه وسلم ينظف بيته ويخصف نعله ويخيط ثيابه ،وما رؤي فارغا في بيته ،بل كان دائما في حاجة أهله. روى هشام بن عروة عن أبيه قلت لعائشة ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته قالت يخيط ثوبه ويخصف نعله ويعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم"(2).
__________
(1) هارون ،عبد السلام : تهذيب سيرة ابن هشام ،دار الفكر ،بيروت ،د ت ،39-43
(2) ابن حجر ،العسقلاني: فتح الباري: 10/461(19/21)
وبالإضافة إلى ما تقدم فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قدوة عليا ونموذجا بشريا فريدا في كل شيء ،وفي المجال الاقتصادي بشكل خاص وفيما يتعلق بكسب المال وإنفاقه ،قام النبي صلى الله عليه وسلم بما يلي:
جعل من ماله ومال زوجته خديجة أول بيت مال للمسلمين ،حيث كان يقوم بالإنفاق على المسلمين الأوائل ،وكان ينفق منه على كافة شئون تبليغ الدعوة.. ثم توسع الأمر فدخلت أموال أبي بكر رضي الله عنه للإنفاق على تحرير العبيد الذين دخلوا في الإسلام ،ويبدو أنه صلى الله عليه وسلم استمر في المرحلة المكية في ممارسة التجارة أو الإشراف عليها عن بعد ،خاصة وأن زوجته خديجة كانت سيدة نساء قريش وصاحبة الأعمال والتجارة.
كما جعل النبي صلى الله عليه وسلم من بيته مصرفا لحفظ الودائع وردها عند الطلب،ولم تذكر المصادر هل كانت هذه العملية بأجر أو بدون أجر.. ويبدو أنها لم تكن بأجر.. فالوديعة والكفالة والوكالة في الأصل عقود تبرعات لا معاوضات.. وحتى في الأوقات العصيبة التي اراد المشركون فيها قتل النبي صلى الله عليه وسلم.. فقد كان يحفظ لهم ودائعهم.. والدليل إبقائه عليا رضي الله عنه لرد تلك الودائع إلى أصحابها.(19/22)
المطلب الثاني: السلوك الاقتصادي العام للنبي صلى الله عليه وسلم.
يمكن القول أن السلوك الاقتصادي العام للنبي صلى الله عليه وسلم قد تبلور بشكل قوي مع بداية تأسيس الدولة في المدينة:
ففور وصوله المدينة ،بدأ ببناء المسجد الجامع للناس.. ثم المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار الأغنياء والفقراء.. وما ترتب على ذلك من تقاسم الثروات.. ثم إقامة سوق للمسلمين.. ثم تحديد حدود الدولة وعلاقاتها مع الآخرين بعقد المعاهدات مع المتواجدين في المدينة من يهود وغيرهم.
وبالإضافة إلى ذلك وضع النبي صلى الله عليه وسلم ضوابط وقواعد اقتصادية عامة ،تضبط التعامل الاقتصادي في المجتمع ،وتصلح للتطبيق في كل زمان ومكان مع عدم تحديد الكيفيات والأساليب وذلك تمكينا للمسلمين من الاجتهاد بما يتناسب مع ظروف العصر الذي يعيشون فيه،ومن أمثلة هذه القواعد والمبادئ العامة:(19/23)
أولا: لا ضرر ولا ضرار: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم"لا ضرر ولا ضرار من ضار ضاره الله ومن شاق شاق الله عليه هذا. (1)
فهذا الحديث يشكل قاعدة شرعية اقتصادية يمكن أن يندرج تحتها كل سلوك اقتصادي أو صيغة مستحدثة تؤدي إلى الإضرار بالمجتمع ،وبالتالي فالعلماء المجتهدون في كل زمان أولى بتقدير هذه الصيغ أو الأدوات أو الأساليب أو الأنشطة أو المشروعات التي يمكن أن تلحق الضرر بالمجتمع ،وحتى لو اشتملت على بعض النفع ،فدرء المفاسد أولى من جلب المنافع.
ثانيا:"كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه"عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم"لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بيع بعض وكونوا عباد الله إخوانا المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره التقوى ههنا ويشير إلى صدره ثلاث مرات بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه (2).
__________
(1) حديث صحيح الإسناد على شرط مسلم ولم يخرجاه ،النيسابوري ،محمد بن عبد الله: المستدرك على الصحيحين ،دار الكتب العلمية ،بيروت ،1990 ،ط1 ، رقم الحديث 2345.
(2) مسلم ،سبق تخريجه ،4/1986.(19/24)
فهذا الحديث يشتمل على تحريم كل أشكال أكل المال بالباطل ،لأن الأصل حرمة مال المسلم،فأية طريقة أو أسلوب أو صيغة يتم من خلالها الاعتداء على مال المسلم تعتبر طريقة محرمة يجب منعها.
ثالثا:"كلكم راع ومسئول عن رعيته"عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ثم كلكم راع ومسؤول عن رعيته فالإمام راع وهو مسؤول عن رعيته والرجل في أهله راع وهو مسؤول عن رعيته والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسؤولة عن رعيتها والخادم في مال سيده راع وهو مسؤول عن رعيته قال فسمعت هؤلاء من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحسب النبي صلى الله عليه وسلم قال والرجل في مال أبيه راع وهو مسؤول عن رعيته فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته (1).
رابعا : قوله - صلى الله عليه وسلم"إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه"(2)
فقد حث الرسول صلى الله عليه وسلم على الإتقان الذي يؤدي إلى تحقيق وفر في الجهد والوقت والتكاليف مع مراعاة الجودة النوعية والكمية.
__________
(1) صحيح البخاري: 2/848 ،صحيح مسلم: 3/1459
(2) مجمع الزوائد ،4/98. الهيثمي ،علي بن أبي بكر: مجمع الزوائد ،دار الريان للتراث ،القاهرة ،1407.(19/25)
ومن مستلزمات الإتقان الإخلاص والتفاني في العمل وعدم التأخر أو التغيب عن العمل ووضع الشخص المناسب في المكان المناسب وعدم إنتاج السلع الضارة.
خامسا: قوله - صلى الله عليه وسلم -"من احتكر فهو خاطيء"(1) والاحتكار حبس السلع الأساسية من أجل رفع الأسعار بما يؤدي الى الاضرار بالناس ،ويخرج من هذا التعريف كافة السلع والخدمات غير الأساسية ،الحاجية والتحسينية ،إلا إذا ترتب على حبسها ضرر حقيقي.
ولا يكون تخزين السلعة حبسا أو احتكارا في حالة وجودها في الأسواق بكثرة ،وانما في حالة اختفائها مع حاجة الناس اليها.
ومن جهة أخرى فان الاحتكار يختلف باختلاف المجتمعات ،ومدى تقدمها ورفاهيتها أو تخلفها وفقرها ،فيكون ضرره قليلا في الحالة الأولى وقد يكون معدوما ،أما الحالة الثانية فان ضرر الاحتكار يكون خطيرا مما يستوجب منعه ومقاومته.
إن هذه الضوابط المتقدمة ليست على سبيل الحصر ،كما أن ترتيبها ليس بالضرورة أن يكون وفقا لأهميتها.. وإنما حاولنا التركيز على أهم الضوابط العامة التي حرص عليها النبي صلى الله عليه وسلم في حياته ومع صحابته ،وحرص على أن تتمثلها أمته صلى الله عليه وسلم في كل زمان ومكان.
__________
(1) صحيح مسلم ،3/1227.(19/26)
المطلب الثالث: أهم الإصلاحات الاقتصادية التي قام بها النبي صلى الله عليه وسلم:
بعث النبي صلى الله عليه وسلم والناس في جاهلية وفوضى في كل شيء ،فعمل صلى الله عليه وسلم جاهدا على سد المنافذ على الفساد في المعاملات الاقتصادية والاجتماعية وغيرها،وقد وجد بعض الفقهاء ومن خلال استقراء النصوص الشرعية،أن أسباب الفساد عامة،وفي المعاملات بشكل خاص،تنحصر في أربعة أمور (1) هي الربا والغرر والشروط الفاسدة التي ترجع إليهما والسلع والأنشطة المحرمة،وقد تشدد النبي صلى الله عليه وسلم في تطبيق إصلاحاته الاقتصادية بمنع واجتثاث هذه الأمور الأربعة ،من خلال النهي والوعيد والترغيب والترهيب واتباع كافة الأساليب التي تراعي خصائص النفس الإنسانية،ويمكن بيان ذلك كما يلي:
أولا: تحريم الربا:
وردت في السنة النبوية أحاديث كثيرة تنهى عن الربا ،وتنذر باللعن والطرد من رحمة الله لآكلي الربا ،ومن هذه الأحاديث:
عن جابر قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال هم سواء. (2).
__________
(1) ابن رشد ،أبو الوليد: بداية المجتهد ونهاية المقتصد ،دار الفكر ،بيروت ،د ت ،2/94
(2) صحيح مسلم: 3/1219.(19/27)
بل إن بعض الأحاديث جعلت مقترف الربا كمن يقترف الفاحشة بأمه.
جاء في مصنف ابن أبي شيبة"عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الربا سبعون حوبا أيسرها نكاح الرجل أمه وأربى الربا استطالة الرجل في عرض أخيه "(1).
هذا هو مصير المرابين في الدنيا،ذل وخزي وعار أبد الدهر،أما مصيرهم يوم القيامة:
فقد رآه النبي – صلى الله عليه وسلم – ليلة أسري به،حيث رأى رجلا يسبح في بركة من دم وكلما أراد الخروج من البركة ألقم بالحجارة ،فسأل النبي من هذا ياأخي يا جبريل ،قال آكل الربا.
جاء في فتح الباري لابن حجر العسقلاني: قال ابن هبيرة: إنما عوقب آكل الربا بسباحته في النهر الأحمر وإلقامه الحجارة لأن أصل الربا يجري في الذهب والذهب أحمر وأما إلقام الملك له الحجر فإنه إشارة الى انه لا يغني عنه شيئا وكذلك الربا فإن صاحبه يتخيل أن ماله يزداد والله من وراءه يمحقه (2).
__________
(1) مصنف ابن أبي شيبة: 4/448
(2) فتح الباري ،12/445.(19/28)
إن الجزاء في الآخرة يكون من جنس العمل في الدنيا ،فهؤلاء المرابون هم أشبه بمصاصي الدماء ،يمتصون جهود الناس وعرقهم ودماءهم ،ويستغلون ضعفهم ،ويعملون على مضاعفة الأسعار باستمرار ،وبالتالي فإن الجزاء المناسب لأكلة الربا ،هو أن يكونوا في برك من دماء ضحاياهم لا يستطيعون الخروج منها ،كما كانوا يحيطون بضحاياهم في الدنيا ،ولا يسمحون لهم بالخلاص.
إن الدماء مكانها الطبيعي داخل الجسم ،تجري في الشرايين والأوردة لتنقل الأكسجين والمواد المغذية لكافة أعضاء الجسم ،أما إذا كانت الدماء خارج الجسم فإنها دماء نجسة ملوثة فاسدة لا يصح الاقتراب منها ،وبالتالي كانت هي الموضع المناسب لأكلة الربا لأنها تتناسب مع نجاسة عقولهم التي تربت على الجشع والاستغلال والبشاعة.
ونظرا لهذه الخطورة البالغة ،وتأكيدا وحرصا على سلامة التطبيق كان تأكيده صلى الله عليه وسلم على وضع ربا الجاهلية كله ،وبدأ بأقرب الناس إليه وهو عمه العباس فقال صلى الله عليه وسلم "..وربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضع ربانا ربا عباس بن عبد المطلب (1)
ثانيا:تحريم الغرر:
__________
(1) صحيح مسلم: 2/889.(19/29)
الغرر في اللغة من الخطر(1) ويأتي بمعنى الشك أو الخداع أو الجهالة ،وهو في اصطلاح الفقهاء مستمد من الأصل اللغوي ،ويعرفونه تارة بأنه ما كان مستور العاقبة ،مثل بيع السمك في الماء أو الطائر في الهواء ،وتارة أخرى بأنه ما كان ظاهره يغري المشتري وباطنه مجهول ،وفي تعريف ثالث هو ما تردد بين شيئين.
ولعل تعريف السرخسي في المبسوط للغرر بأنه ما يكون مستور العاقبة (2)،يجمع بين التعريفات السابقة.
وقد ورد عن عدد من الصحابة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -"نهى عن بيع الغرر". رواه مسلم في صحيحه (3).
ويستفاد من الحديث تحريم بيع الغرر ،وفساد عقد بيع الغرر ،بمعنى عدم ترتب أي أثر عليه على رأي جماهير العلماء. (4)
__________
(1) الجوهري: اسماعيل: الصحاح (طبعة حسن شربتلي ،مكة ،د ت ) 2/768
(2) السرخسي ،المبسوط ( دار المعرفة ،بيروت ،1406) 13/68
(3) النووي ،يحيى بن شرف: صحيح مسلم بشرح النووي ،القاهرة ،مكتبة الأزهر ،1349هـ ،3/156.
(4) الضرير ،الصديق محمد الأمين: الغرر وأثره في العقود في الفقه الإسلامي،المعهد الإسلامي للتدريب والبحوث ،جدة ،1993،10(19/30)
وليس هناك من شك في أن الغرر الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم كان واضحا جليا في مجتمع الرسالة ،وقد مثل الفقهاء له بأمثلة عديدة بعضها كان منتشرا لدى العرب في الجاهلية ،وبعضها ربما كان وليد عصور لاحقة.. وقد بالغ بعض الفقهاء في إدخال صور عديدة من البيوع ضمن بيوع الغرر،ورعا منهم وحرصا على تجنب الحرام ،ونعرض فيما يلي لأشهر الأمثلة القديمة التي ذكرها الفقهاء ضمن بيوع الغرر المحرمة (1):-
- بيع الحصاة: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الحصاة (2) ،ويكون بقذف الحصاة فما وصلت إليه من مسافة كان منتهى مساحة الأرض المباعة أو ما وقعت عليه من سلع كان هو المبيع.
- بيع المنابذة: أن ينبذ الرجل إلى الآخر الثوب دون نظر أو تأمل،ويجب على المشتري قبوله."عن أبي هريرة –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- نهى عن الملامسة والمنابذة"(3).
- بيع الملامسة: بأن يتساوم الرجلان في سلعة ،فإذا لمسها المشتري لزم البيع.
__________
(1) شبير ،مرجع سابق ،1996 ،الضرير ،الصديق محمد الأمين: الغرر وأثره في العقود في الفقه الإسلامي ،مجموعة دلة البركة ،جدة ،1995.
(2) الترمذي ،3/532.
(3) صحيح البخاري ،2/754.(19/31)
- بيع النتاج: وهو العقد على نتاج الماشية ،ومنه بيع ما في ضروعها من لبن دون أن تعرف كميته أو بيع ما في بطونها من أجنة أو ما في أصلاب الفحول.
- بيع حبل الحبلة:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع حبل الحبلة"(1) ،وهو بيع نتاج النتاج ،بأن تلد الناقة ما في بطنها ثم تحمل الوليدة.
- المحاقلة:"نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المخابرة ،والمحاقلة ،وعن المزابنة"(2) وهو بيع البر في سنابله أو بيع الزرع بحب من جنسه.
- المزابنة: بيع الثمر بالتمر ،والكرم بالزبيب والزرع بالطعام كيلا.
__________
(1) صحيح البخاري ،2/753.
(2) صحيح البخاري ،2/839.(19/32)
- بيعتان في بيعة:"نهى النبي –صلى الله عليه وسلم- عن بيعتين في بيعة"(1) ،وذلك بأن يبيع السلعة بمئة نقدا وبمئة وعشرة إلى أجل ويقبل المشتري دون أن يحدد أحدهما أو أن يبيعه دارا على أن يشتري منه بستانا ،وعند ابن القيم أن النهي عن بيعتين في بيعة مماثل لنهيه -صلى الله عليه وسلم - عن بيع العينة ،فهو أن يبيعه السلعة بمئة إلى أجل ثم يشتريها منه بثمانين حالة ،قال ابن القيم وهذا هو المعنى الذي لا يصح سواه (2)
ويدخل الغرر في وقتنا الحاضر في الكثير من الصيغ والعقود الحديثة كعقد التأمين التجاري والعقود الآجلة والمستقبليات والخيارات.. الخ،على خلاف بين العلماء المعاصرين.
ثالثا: الشروط الفاسدة:
__________
(1) النسائي ،7/295 ،والترمذي ،3/533.
(2) القرضاوي ،بيع المرابحة للآمر بالشراء كما تجريه البنوك الإسلامية ،مكتبة وهبة ،القاهرة ،1987،ط2 ،73(19/33)
وترجع هذه الشروط في الجملة إلى الربا والغرر وما ينجم عنهما من ظلم وفساد واستغلال وما يترتب عليها من خصومة ونزاع ثم تفكك وانقسام يقود إلى ضعف وهوان ،ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا على استئصال الربا والغرر وكل ما يمكن أن يؤدي إليهما من شروط،قال صلى الله عليه وسلم"الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما ،والمسلمون على شروطهم إلا شرطا حرم حلالا أو أحل حراما"(1).
فهذا الحديث يشير بوضوح إلى أن الأصل في العقود والشروط الصحة والمشروعية ،إلا ما كان منها يحل حراما أو يحرم حلالا ،ويفهم منه أن النظام الاقتصادي الإسلامي لديه القابلية لمواكبة كافة التطورات والمستجدات العصرية في العقود والصيغ والمعاملات ،ما دامت لا تحل حراما أو تحرم حلالا.
رابعا: إهدار قيم السلع والأنشطة المحرمة:
إن المحرمات والخبائث لا اعتبار لها شرعا في الإسلام ،ويطلق عليها الأموال غير المتقومة ،لأن قيمتها مهدرة شرعا.
__________
(1) سنن أبي داود ،كتاب الأقضية ،باب في الصلح ،830.(19/34)
وبناء على ذلك فإن الناتج القومي الإجمالي من منظور إسلامي سوف يختلف عنه من منظور الاقتصاد الوضعي ،حيث يتم حذف كل السلع والخدمات والأنشطة المحرمة في الناتج القومي الإجمالي الإسلامي.
ومن هنا فإن هدر المحرمات من خمر وخنزير وميتة ودم ونجاسات وأنشطة وخدمات محرمة،وإن كان قد يلحق الضرر المادي بالبعض فإنه سوف يكسب المجتمع وفرا كبيرا.. فالميتة من الضأن والإبل على سبيل المثال قد يخسرها صاحبها ،ولكن في هدرها نجاة للمجتمع من الأمراض والأوبئة التي قد تنجم عن طبخها وتناولها.. وكذلك الدم والخنزير والخمر وسائر النجاسات والمحرمات..
ومن جهة أخرى فإن استبعاد هذه المحرمات المستقذرات من المجتمع سوف يكسب المجتمع صحة وعافية ونشاطا وقوة ويزيد في إنتاجيته وعطائه وتقدمه ماديا ومعنويا.
خامسا: تحديد الأوزان والمكاييل:(19/35)
أقر النبي – صلى الله عليه وسلم – النقود الرومية والفارسية التي كانت مستخدمة عند العرب،وتعامل بها بالرغم مما وجد عليها من صور ونقوش تخالف عقيدة التوحيد ،ولا يعني ذلك اقرارا لما جاء عليها من مخالفات(1) ،وإنما كان التعامل بها اضطرارا ،ونظرا لأن النقود السائدة كانت مضطربة الأوزان والأشكال والمقادير فقد حدد النبي –صلى الله عليه وسلم- وزنا واحدا لكي يتعامل به الناس ،وشكلا واحدا ،وهو وزن أهل مكة ،وذلك في قوله –صلى الله عليه وسلم-: الوزن وزن أهل مكة والمكيال مكيال أهل المدينة (2). وتعتبر هذه الخطوة من جانب الرسول – صلى الله عليه وسلم- أول محاولة للتوحيد النقدي ،وذلك من خلال توحيد أوزانها،فهذه الخطوة أشبه بإيجاد عملة حسابية ،وبذلك استقر الأمر في الإسلام على أوزان شرعية محددة ،وأجمع المسلمون على ثبوت هذه الأوزان وتحديد الفروض الشرعية من خلال هذه الأوزان ،وكذلك الأمر بالنسبة للمكاييل التي كانت سائدة
__________
(1) لم يشأ الرسول –صلى الله عليه وسلم- أن يجابه دولتي الفرس والروم والمسلمون ما يزالوا في بداية تكوينهم.كما أن اقتصاديات المجتمع كانت بسيطة جدا بحيث لا تحتمل اصدار نقود جديدة.
(2) سنن أبي داود ،3/246.(19/36)
،فقد ألغيت جميعها باستثناء مكيال أهل المدينة.
المراجع :-
أبو المجد، أحمد كمال: التجديد في الإسلام، مجلة العربي، الكويت، 1977.
أبو داود، سليمان بن الأشعث السجستاني: سنن أبي داود، دار الفكر، د.ت.
أحمد، الإمام أحمد بن حنبل: مسند أحمد، المكتب الإسلامي، بيروت، ط 2، 1978.
الأشقر: عمر سليمان: نحو ثقافة إسلامية أصيلة، دار النفائس، عمان،2002.
البخاري، محمد بن اسماعيل: صحيح البخاري، دار ابن كثير،بيروت، 1987، ط3 تحقيق مصطفى البغا.
الترمذي، محمد بن عيسى: الجامع الصحيح للترمذي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، د.ت.
حطاب، كمال: "منهجية البحث في الاقتصاد الإسلامي وعلاقاته بالنصوص الشرعية " مجلة جامعة الملك عبد العزيز، جدة، السعودية، المجلد 16، عدد 2، 2003.
الخطيب، محمد عجاج: السنة قبل التدوين، دار الفكر، بيروت، 1971، ط2.
الرازي، محمد: مختار الصحاح، دار القبلة للثقافة الإسلامية،جدة، 1986.
زيدان، عبد الكريم: المدخل لدراسة الشريعة الإسلامية، مؤسسة الرسالة،بيروت ،1989 ،ط11
الساعاتي، أحمد عبد الرحمن البنا: الفتح الرباني بترتيب مسند الإمام أحمد، دار الشهاب، القاهرة، د ت.(19/37)
شبير، محمد عثمان: المعاملات المالية المعاصرة في الفقه الإسلامي، دار النفائس عمان، 1996.
عمارة، محمد: معالم المنهج الإسلامي، الأزهر الشريف والمعهد العالمي للفكر الإسلامي، دار الشروق، 1981.
القرضاوي،بيع المرابحة للآمر بالشراء كما تجريه البنوك الإسلامية،مكتبة وهبة، القاهرة، 1987، ط2.
القرضاوي، يوسف: السياسة الشرعية في ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها،مكتبة وهبة، القاهرة، 1998.
قطب، محمد: واقعنا المعاصر، مؤسسة المدينة ،جدة ،1988.
الكوفي، عبد الله بن محمد بن أبي شيبة: مصنف ابن أبي شيبة، مكتبة الرشد، الرياض، 1409 هـ، ط1.
النسائي، أحمد بن شعيب: سنن النسائي، مكتب المطبوعات الإسلامية، حلب، 1986، ط2.
النووي، يحيى بن شرف: صحيح مسلم بشرح النووي، القاهرة، مكتبة الأزهر، 1349هـ.
النيسابوري، محمد بن عبد الله: المستدرك على الصحيحين، دار الكتب العلمية، بيروت، 1990، ط1.
هارون، عبد السلام: تهذيب سيرة ابن هشام، دار الفكر، بيروت، د.ت.
الهيثمي، علي بن أبي بكر: مجمع الزوائد، دار الريان للتراث، القاهرة، 1407هـ.(19/38)
أثر السنة النبوية
في الطب الوقائي والعلاجي المعاصر
بحث مقدم إلى مؤتمر السنة النبوية في الدراسات المعاصرة بجامعة اليرموك بإربد
بالمملكة الأردنية الهاشمية
إعداد
الدكتور محمد عبد الرزاق أسود
دكتوراه في الحديث النبوي الشريف وعلومه
من كلية دار العلوم بجامعة القاهرة
( 1428هـ ، 2007م )
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه أجمعين، ورضي الله عن العلماء المخلصين إلى يوم الدين، أما بعد:
فإنه مهما توصلت البشرية إلى معارف واكتشافات؛ تظن أنها وصلت النهاية يبقى الوحي (القرآن والسنة) كامناً، حاوياً لغير ما اكتشفه البشر، وكلما تطور العلم البشري، واكتشف علوماً ومعارف جديدة، يجد في نصوص الوحي ما ينص عليه أو يشير إليه، كما فيه ما لم يكتشفه بعد؛ لأن الوحي مطلق، ومتعلق بما مضى وما حضر وما غاب؛ في الماضي والحاضر والمستقبل، أما علم الإنسان فهو كاشف ومحدود؛ ومقيد بالنواميس التي وضعها الخالق المدبر، وهذا باب واسع، لا يمكن الوصول إلى ساحله؛ فضلاً عن الغوص في أعماقه.(20/1)
وفي أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله وتقريراته حقائق ومعجزات، وكثير من أمور الغيب أخبر عنها، لم تكن معهودة في زمنه عليه الصلاة والسلام، ثم تطابقت معها علوم عصرنا المتقدمة، وتوافقت معها الكشوف العلمية والدراسات المخبرية، وغدت وسائل البحث العلمي الحديثة مؤكدة صدق ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - .
ومع ذلك فإنه لم يحظ الطب الوقائي والعلاجي بالاهتمام الكافي عبر العصور حتى مجئ الإسلام، ولم تكن النظرة لذلك والتي ظهرت مع الإسلام نتيجة لفهم واضح لحقيقة المرض، ولكن كانت نتيجة اتباع تعاليم دينية، والمتأمل في الطب الوقائي والعلاجي في السنة النبوية يجد نفسه أمام منهج علمي متكامل لا يختلف كثيراً عن أحدث المدارس الطبية والمعمول بها حالياً.
وقد عالجت في هذا البحث:
تفاصيل الطب الوقائي والطب العلاجي، وحاولت ربطها بالأحاديث النبوية الشريفة؛ من خلال استقصاء لكل ما كتب في هذا المجال؛ وتقديمه مبوباً مختصراً كنسيج واحد، فقد جمعت الأحاديث النبوية؛ وفرزتها إلى طب وقائي أو علاجي؛ وسقت أبرز حديث يدل على تلك القضية كنموذج لها، ثم ذكرت أبرز الفوائد العلمية الطبية لهذه الوصية النبوية.(20/2)
وقد جاء البحث في فصلين اثنين، وهما:
الفص الأول : السنة النبوية وأثرها في الطب الوقائي المعاصر.
الفصل الثاني : السنة النبوية وأثرها في الطب العلاجي المعاصر.
وقد يلاحظ القارئ أن هناك تداخلاً بين الوصايا النبوية الوقائية والعلاجية؛ فقد حاولت الفصل بينهما قدر الإمكان؛ لكن بعض الوصايا كانت وقائية وعلاجية؛ فمثلاً الوضوء يعتبر وقاية من الأمراض وعلاجاً للغضب، وكذلك التوبة والذكر والدعاء يعتبروا من الوقاية والعلاج؛ لكنني اجتهدت في إلحاق كل وصية بحسب السمة الغالبة عليها إلى وقائية أو علاجية، كما أنني عندما أتحدث عن وصية نبوية وقائية، فقد أذكر فوائدها العلاجية تتميماً للفائدة، والله المستعان .
ختاماً أقول: اللهم لا تعذب لساناً يخبر عنك، ولا عيناً تنظر إلى علوم تدل عليك، ولا يداً تكتب حديث رسولك، ولا قدماً تمشي إلى خدمة دينك.
اللهم ارزقنا الإخلاص في القول والعمل، واهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم، سبحان ربك ربّ العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله ربّ العالمين.
حلب الشهباء : 21 / صفر/ 1428هـ
10 / آذار /2007م ... وكتبه
الدكتور محمد بن عبد الرزاق أسود(20/3)
الفصل الأول : السنة النبوية وأثرها في الطب الوقائي المعاصر
المبحث الأول : تعريف الطب الوقائي في السنة النبوية :
للطب الوقائي تعريفات كثيرة نختار منها ما يلي:
1ـ (هو العلم المتعلق بمنع انتشار الأمراض وتعزيز الصحة النفسية والجسمية عند الأفراد والجماعات) (1).
2ـ (هو علم المحافظة على الفرد والمجتمع في أحسن حالاته الصحية) (2).
3ـ (هو الفرع من الطب الذي يركز على المحافظة على صحة الإنسان، بهدف منع إصابته بالأمراض) (3).
المبحث الثاني : خصائص الطب الوقائي في السنة النبوية :
إن المتتبع لنظرية الطب الوقائي في السنة يستطيع إدراك الخصائص التالية فيها:
1ـ السبق المبكر: حيث أرست قواعدها قبل أكثر من أربعة عشر قرناً من الزمن يوم كان العالم يغط في سبات عميق من الجهل وقلة المعرفة.
__________
(1) تفوق الطب الوقائي في الإسلام: د.عبد الحميد القضاة: 13- 14.
(2) التغذية والطب الوقائي: دراسة في الأحاديث الشريفة: د.محمد عيد محمود الصاحب: 6.
(3) أصول الطب الوقائي في الحديث النبوي: د.أيمن محمود السعيد: 35.(20/4)
2ـ المصداقية: حيث أصبحت بديهيات هذا الطب أملاً وغاية يسعى العلم الحديث للوصول إليها وتحقيقها، وهكذا يزداد اليقين بهذا الدين رسوخاً على مدى الأيام.
3ـ البساطة واليسر: البساطة في التكليف واليسر في التنفيذ؛ بحيث لا يستلزم كلفة مادية ولا جهداً مرهقاً يقعد الهمم.
4ـ لا تستلزم المؤهلات الصحية: فتطبيقها بالنسبة للمسلم لا يحتاج إلى إجراءات معقدة تستلزم قدراً هائلاً من المعرفة، أو حداً متميزاً من الذكاء، أو مؤهلاً علمياً معيناً، فكل فرد من المسلمين مؤهل لذلك.
5ـ الذاتية في التنفيذ: أي أن المسلم يقوم بالتطبيق تعبداً لله تعالى؛ فهو لا يحتاج إلى مدير يراقبه، أو شرطي يحاسبه؛ لأن الرقيب هو الله تعالى، وواعظ المؤمن ينبع من أعماق نفسه، لذا فالمجتمع الإسلامي في غنى عن الرقابة الحكومية في تنفيذ هذه القواعد الصحية.
6ـ الشمولية: ونعني بها أن قواعد الطب الوقائي في السنة جزء من كل، فهي من حيث قوة الإلزام ووجوب النفاذ تتميز عن نظرية الطب الوقائي المعاصر، إذ أنها تتعامل مع الإنسان على أنه مادة وروح؛ وفق المنهج الإسلامي الشامل.(20/5)
7ـ الحماية من الأمراض الجنسية: نظم الإسلام النشاط الجنسي تنظيماً متوازناً، فلم يكبت الغريزة، ولم يطلق جماحها، ولكن اعترف بها وأشبعها في إطار ضوابط شرعية محكمة، فسدَّت بذلك منابع الأمراض الجنسية والاجتماعية، التي تعاني منها المجتمعات الأخرى.
8ـ التركيز على الوقاية: تركز السنة على وقاية المسلم من الأمراض، ولا تدعه حتى يقع فيها لتعالجه؛ حيث إنها تغلق منافذ المرض كلها، وتبشر من يحمي مجتمعه من الأوبئة بالثواب والأجر العظيم.
9ـ الديمومة: الالتزام بالأوامر الإسلامية الصحية ليس مرهوناً بمدة، أو بسن معينة، بل تبقى وتطبق ما دام الإنسان قادراً على العبادة.
10ـ قوانين الطب الوقائي في السنة: تعنى بالإنسان في جانبيه: المادي والروحي، وبالتالي فهي تحميه من أمراض كثيرة في القلوب والنفوس، وتُبعده عن كل ما يعرضه للأمراض(1).
المبحث الثالث : أقسام الطب الوقائي في السنة النبوية :
تتركز أقسام هذا النوع من الطب في الطهارة والنظافة، والعبادات، والطعام والشراب، والبيئة، والصحة العامة، والصحة النفسية.
أولاً : الطب الوقائي في الطهارة والنظافة :
__________
(1) تفوق الطب الوقائي في الإسلام: د.عبد الحميد القضاة: 26- 28.(20/6)
لهذا القسم من الطب الوقائي أنواع كثيرة؛ سوق أقوم بتبويبها حتى يسهل فهمها كما يلي : سنن الفطرة (النظافة الشخصية)، نظافة الجلد والشعر، نظافة الفم والأسنان، نظافة اليدين، السبيلين، الاهتمام بمادة النظافة، وتفصيل ذلك ما يلي:
1ـ سنن الفطرة (النظافة الشخصية):
قوله - صلى الله عليه وسلم - :" الفطرة خمس: الختان، والاستحداد، وقص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الآباط"(1).
وقد كشفت لنا البحوث الطبية الأهمية الصحية البالغة لتطبيق هذه الخصال وما يترتب على إهمالها من أضرار(2).
أ ـ الختان: هناك ثمانية عشر حديثاً في الأمر بالختان(3)؛ وللختان فوائد وقائية لصحة الجسم؛ وهذا ما أكدته البحوث العلمية الطبية المعاصرة:
__________
(1) رواه البخاري في كتاب:اللباس،باب:تقليم الأظفار،(الحديث: 5441)،واللفظ له،ورواه مسلم في كتاب:الطهارة،باب:خصال الفطرة،(الحديث:377).
(2) انظر في المقارنة بين النظافة في الإسلام وغيره من الشرائع: الاستشفاء بالصلاة: د.زهير رابح القرامي: 27 -28.
(3) انظر للتوسع: الختان: د.محمد علي البار: 49- 59، أحاديث الختان حجيتها وفقهها: د.سعد المرصفي: 10- 16.(20/7)
1ـ الوقاية من الالتهابات الموضعية في القضيب الناتجة عن وجود القُلْفة. 2ـ الوقاية من التهابات المجاري البولية.
3ـ الوقاية من سرطان القضيب. 4ـ الوقاية من الكثير من الأمراض الجنسية. 5ـ وقاية الزوجة من سرطان عنق الرحم.
6ـ الوقاية من مرض الصداف الجلدي(1).
ب ـ الاستحداد: وهو حلق شعر العانة، وللاستحداد فوائد وقائية لصحة الجسم؛ وهذا ما أكدته البحوث العلمية الطبية المعاصرة:
1ـ الوقاية من مرض قمل العانة. 2ـ الوقاية من التهاب منطقة العانة. 3ـ الوقاية من تقشر جلد منطقة العانة.
__________
(1) انظر للتوسع: الختان: د.محمد علي البار: 76- 102، الإعجاز الطبي للسنة النبوية من خلال صحيح البخاري ومسلم: د.أحمد وصفي محمد أحمد العزب:89- 96، الأربعون العلمية صور الإعجاز العلمي في السنة النبوية: عبد الحميد محمود طهماز: 91- 93، الطب الوقائي النبوي: د.محمود الحاج قاسم محمد: 54، أحاديث الختان حجيتها وفقهها: د.سعد المرصفي: 18، الحكمة من الختان: محمد أمين شيخو:131.(20/8)
4ـ الوقاية من أمراض الجهازين البولي والتناسلي(1).
ج ـ قص الشارب: فيه فوائد صحية للإنسان؛ وذلك من خلال الوقاية من الغبار التي تحمل الجراثيم وتلامس الطعام فتلوثه في كل مرة(2).
__________
(1) الإعجاز الطبي للسنة النبوية من خلال صحيح البخاري ومسلم: د.أحمد وصفي محمد أحمد العزب: 97- 99، الإعجاز العلمي في السنة النبوية: د.زغلول النجار: 2/116- 117، تفوق الطب الوقائي في الإسلام: د.عبد الحميد القضاة: 19، الطب الوقائي النبوي: د.محمود الحاج قاسم محمد: 36، من إعجاز السنة المشرفة: د.محمد فؤاد شاكر:37.
(2) في رحاب الطب النبوي والعلم الحديث: د.محمود طلوزي:34، الإعجاز الطبي للسنة النبوية من خلال صحيح البخاري ومسلم: د.أحمد وصفي محمد أحمد العزب:100- 101، الإعجاز العلمي في السنة النبوية: د.صالح بن أحمد رضا: 1/120- 123.(20/9)
د ـ تقليم الأظافر: إن ترك الأظفار مجلبة للكثير من الأمراض كما أكدته البحوث العلمية الطبية المعاصرة، حيث تتجمع تحتها ملايين الخلايا الجرثومية التي تؤدي دوراً مهماً في نقل الأمراض للعين والمعدة والجلد للشخص نفسه، أو نقلها بالعدوى للآخرين عن طريق تلوث الطعام والشراب بإخراجات المشتغلين بالأغذية (1).
هـ ـ نتف الإبط: ولهذه السنة النبوية فوائد طبية جمة نذكر أهمها:
1ـ الوقاية من الحكة بسبب الجرب. 2ـ الوقاية من الالتهابات الموضعية للإبط. 3ـ الوقاية من الدمامل التي تصيب منطقة الإبط. 4ـ الوقاية من تقشر جلد منطقة الإبط. 5ـ الوقاية من افتطار شعر الإبط(2).
__________
(1) انظر للتوسع: تقليم الأظفار في ضوء السنة النبوية والعلوم الطبية: د.أبو الوفا عبد الآخر، د.يحيى ناصر: 20- 36، الإعجاز الطبي للسنة النبوية من خلال صحيح البخاري ومسلم:د.أحمد وصفي محمد أحمد العزب:85، 102- 107،الطب الوقائي من القرآن والسنة:د.عبد الباسط محمد السيد: 88.
(2) انظر للتوسع: الإعجاز الطبي للسنة النبوية من خلال صحيح البخاري ومسلم: د.أحمد وصفي محمد أحمد العزب:108- 112، أصول الطب الوقائي في الحديث النبوي: د.أيمن محمود السعيد: 47.(20/10)
2ـ نظافة الجلد والشعر:
قوله - صلى الله عليه وسلم - :" حق على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام يوماً يغسل فيه رأسه وجسده"(1).
وهناك أحاديث كثيرة فيما يتصل بالاغتسال الفرض؛ والاغتسال المسنون، وقد شرع لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قريب من إحدى وعشرين غسلاً؛ وهم: غسل الجنابة، والحيض، والنفاس، والولادة، والجمعة، والعيدين، والاستسقاء، والخسوف، والكسوف، والغسل من غسل الميت، والكافر إذا أسلم، والمجنون والمغمى عليه إذا أفاقا، وعند الإحرام بالحج، ولدخول مكة المكرمة، ولدخول المدينة المنورة، وللوقوف بعرفة، وللمبيت بمزدلفة، ولرمي الجمار الثلاث، وللطواف.
__________
(1) رواه البخاري في كتاب: الجمعة، باب: هل على من يشهد الجمعة غسل من النساء والصبيان؟، (الحديث: 847)، واللفظ له، ورواه مسلم في كتاب: الجمعة، باب: الطيب والسواك يوم الجمعة، (الحديث: 1402).(20/11)
للجلد أثر عظيم في وقاية البدن وصحته، وتنظيف الجلد فيه وقاية له من الحكة والالتهاب والفطريات وانتشار الروائح الكريهة لاختمارها بتأثير بعض جراثيم الجلد الكثيرة، والتي يفوق عددها على عدد سكان الأرض قاطبة، وأن الاستحمام الواحد يزيل عن جلد الإنسان أكثر من مائتي مليون جرثومة(1).
3ـ نظافة الفم والأسنان:
قوله - صلى الله عليه وسلم - :" السواك مطهرة للفم مرضاة للرب"(2)، وهناك أكثر من مائة حديث في السواك وفضله وأوقات استحبابه وأحكامه(3).
وللسواك فوائد وقائية لصحة الفم والأسنان واللثة واللسان؛ كما أثبته الطب المعاصر، وتظهر بما يلي:
__________
(1) الطب النبوي والعلم الحديث: د.محمود ناظم النسيمي: 1/163- 166، 179، تفوق الطب الوقائي في الإسلام: د.عبد الحميد القضاة: 16- 17، موسوعة الإعجاز العلمي في الحديث النبوي الشريف: عبد الرحيم مارديني: 93- 96، إعجاز الطب النبوي: د.السيد عبد الحكيم عبد الله: 12- 13، الإعجاز العلمي في السنة النبوية: د.صالح بن أحمد رضا: 1/488.
(2) رواه البخاري في كتاب: الصوم، باب: سواك الرطب واليابس للصائم.
(3) انظر للتوسع: السواك: د.محمد علي البار: 23- 37.(20/12)
1ـ الوقاية من التهابات وتقرحات الفم. 2ـ الوقاية من سرطان الفم. 3ـ الوقاية من تقرحات اللثة والتهاباتها.
4ـ الوقاية من التهابات وتقرحات واسوداد اللسان. 5ـ منع تسوس ونخر وتلوث الأسنان. 6ـ تبييض الأسنان ومنع صفرتها.
7ـ إزالة الروائح الكريهة من الفم. 8ـ حماية المعدة من بعض الأمراض التي تصيبها من جراء إصابة الفم والأسنان.
ولابد من تكرار السواك عدة مرات في اليوم لإزالة الجراثيم المسببة لتلك الأمراض؛ وهذا ما حثت به السنة النبوية عندما
أمرت أتباعها بالسواك عند كل وضوء، وعند كل صلاة، والقيام من النوم، وعند إرادة النوم، ودخول البيت(1).
4ـ نظافة اليدين:
__________
(1) انظر للتوسع: السواك: د.محمد علي البار: 41- 50، 159، الإعجاز الطبي للسنة النبوية من خلال صحيح البخاري ومسلم: د.أحمد وصفي محمد أحمد العزب: 120- 144، في رحاب الطب النبوي والعلم الحديث: د.محمود طلوزي: 37- 40، تفوق الطب الوقائي في الإسلام: د.عبد الحميد القضاة: 17- 18، الإعجاز العلمي في السنة النبوية: د.صالح بن أحمد رضا: 1/507- 517، الإعجاز العلمي في السنة النبوية: د.زغلول النجار: 1/112- 116.(20/13)
لا يخفى أن اليدين هما أكثر أعضاء البدن الظاهرة تعرضاً للتلوث والتقذر، وأن إهمال نظافتهما وطهارتهما يسبب سريان الأمراض والجراثيم منهما إلى أماكن أخرى من الجسم، وفي تنظيفهما وقاية للجسم من تلك الأمراض الفتاكة، وقد حثت السنة على تنظيف اليدين في مواضع كثيرة، أهمها: عند الاستيقاظ من النوم: لقوله - صلى الله عليه وسلم - :" إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلهما ثلاثاً فإنه لا يدري أين باتت يده"(1)، وهذا الحديث فيه الوقاية الصحية الكبيرة، وغير ذلك من الأحاديث التي أمرت بغسل اليدين قبل الطعام وبعده، التي تظهر بما يلي:
1ـ الوقاية من كثير من الأمراض التي تصيب الجهاز الهضمي من جراء التسمم الغذائي. 2ـ الوقاية من الحكة الجلدية.
3ـ الوقاية من كثير من الأمراض التي تصيب الأنف أو العين.
__________
(1) رواه البخاري في كتاب: الوضوء، (الحديث: 157)، واللفظ له، ورواه مسلم في كتاب: الطهارة، باب: كراهة غمس المتوضئ وغيره يده المشكوك .. (الحديث: 416).(20/14)
4ـ الوقاية من انتقال عدوى بعض الأمراض للآخرين كالتيفوئيد والهيضة (الكوليرا) والزحار(1).
5ـ نظافة السبيلين:
هناك آداباً كثيرة لطهارة السبيلين، أهمها ما يلي:
أ ـ النهي عن الاستنجاء باليد اليمنى: لقوله - صلى الله عليه وسلم - :" إذا بال أحدكم فلا يأخذن ذكره بيمينه، ولا يستنجي بيمينه""(2)، وهذا الحديث فيه الوقاية الصحية للإنسان بشكل واضح، وذلك من خلال الأمر التالية:
__________
(1) انظر للتوسع: الإعجاز الطبي للسنة النبوية من خلال صحيح البخاري ومسلم: د.أحمد وصفي محمد أحمد العزب: 81- 84، الطب النبوي والعلم الحديث: د.محمود ناظم النسيمي: 1/175- 177، الطب الوقائي النبوي: د.محمود الحاج قاسم محمد: 31، في رحاب الطب النبوي والعلم الحديث: د.محمود طلوزي: 33، موسوعة الإعجاز العلمي في الحديث النبوي الشريف: عبد الرحيم مارديني: 84، من إعجاز السنة المشرفة: د.محمد فؤاد شاكر:34.
(2) رواه البخاري في كتاب: الوضوء، باب: لا يمسك ذكره بيمينه إذا بال، (الحديث: 150)، واللفظ له، ورواه مسلم في كتاب: الطهارة، باب: النهي عن الاستنجاء باليمين، (الحديث: 392).(20/15)
1ـ الوقاية من الأمراض المنقولة بواسطة البول كالحمى التيفية والتهاب المسالك البولية.
2ـ الوقاية من الأمراض المنقولة بواسطة البراز كالتيفوئيد والهيضة (الكوليرا) والزحار والتهاب الأمعاء(1).
ب ـ البول قاعداً: وهو ما روته عائشة رضي الله عنها أنها قالت:" من حدّثكم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يبول قائماً فلا تصدقوه، ما كان يبول إلا قاعداً"(2)، وللبول قاعداً وقاية طبية كما يلي:
1ـ التخلص من الإمساك. 2ـ الوقاية من حدوث مرض غشي التبول الذي يؤدي إلى الإغماء(3).
__________
(1) انظر للتوسع: الإعجاز الطبي للسنة النبوية من خلال صحيح البخاري ومسلم: د.أحمد وصفي محمد أحمد العزب: 51- 58، الطب الوقائي النبوي: د.محمود الحاج قاسم محمد: 53.
(2) رواه الترمذي في كتاب: الطهارة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب: ما جاء في النهي عن البول قائماً، (الحديث: 12)، واللفظ له، ورواه النسائي في كتاب: الطهارة، باب: البول في البيت جالساً، (الحديث: 29)، ورواه ابن ماجه في كتاب: الطهارة وسننها، باب: في البول قاعداً، (الحديث: 303).
(3) الإعجاز العلمي في السنة النبوية: د.صالح بن أحمد رضا: 1/478.(20/16)
ج ـ أن يكون الاستنجاء بالماء أو الاستجمار بالحجارة ثلاثاً: وهو ما رواه عبد الله بن مسعود رض الله عنه أنه قال:" أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - الغائط فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار فوجدت حجرين والتمست الثالث فلم أجده؛ فأخذت روثة فأتيته بها فأخذ الحجرين وألقى الروثة وقال هذا ركس"(1)، وهذا العمل فيه فائدة عظيمة كما أثبت الطب الوقائي، وذلك بما يلي:
1ـ وقاية الجهاز البولي من القيح الالتهابات. 2ـ وقاية الشرج من الاحتقان أو الالتهاب(2).
6ـ الاهتمام بمادة النظافة:
__________
(1) رواه البخاري في كتاب: الوضوء، باب: لا يستنجى بروث، (الحديث: 152)، واللفظ له، ورواه مسلم في كتاب: الطهارة، باب: الاستطابة، (الحديث: 385).
(2) انظر للتوسع: الإعجاز الطبي للسنة النبوية من خلال صحيح البخاري ومسلم: د.أحمد وصفي محمد أحمد العزب: 78- 80، الإعجاز العلمي في السنة النبوية: د.صالح بن أحمد رضا: 1/480، الطب الوقائي النبوي: د.محمود الحاج قاسم محمد: 53، الطب النبوي والعلم الحديث: د.محمود ناظم النسيمي: 1/180- 182.(20/17)
اهتم النبي - صلى الله عليه وسلم - بمادة التنظيف المعروفة في عصره وهي نبات السدر، فالأحاديث كثيرة في أمره - صلى الله عليه وسلم - بالاغتسال بالماء والسدر، وذلك عند غسل الميت، والاغتسال من الحيض، وغسل دم الحيض الذي يصيب الثوب، وغسل الكافر إذا أسلم، ولنبات السدر فوائد كثيرة من الشفاء والوقاية من أمراض كثيرة كالإسهال والحمى والحصبة، والمسالك البولية، وأمراض الصدر والتنفس، والشرج، وقرحة الرئة، والأورام، والروماتيزم، وأوجاع الرأس(1).
ثانياً : الطب الوقائي في العبادات :
العبادات جميعاً شفاء نفسي عظيم، وعلاج وقائي لكل ما يصيب النفس الإنسانية من أمراض واضطرابات؛ وتتجلى مظاهر هذا النوع من الطب بالوضوء والصلاة والصيام والزكاة والحج:
1ـ الوضوء:
الوضوء علاج خفي لسائر الأعضاء؛ وأجمل فوائده فيما يلي :
__________
(1) انظر للتوسع: تحبير السِفر بذكر فوائد شجر السدر: أبو عمر نادر بن وهبي الناطور: 15- 18، 20- 23، روائع الطب الإسلامي: القسم العلاجي: د.محمد نزار الدقر: 1/160.(20/18)
1- يعيد توازن الطاقة التي تسري في مسارات جسم الإنسان. 2- يصلح ما بها من خلل بعد تنقية المرء من ذنوبه؛ التي تحدث خللاً واختلافات واضحة في مسارات الطاقة والمجال الحيوي المحيط به؛ مما يؤثر فيما بعد على صحته. 3- كما يحمي الوضوء المؤمن من الآثار السلبية للتكنولوجيا الحديثة وتلوث البيئة ونحوها من المؤثرات على طاقة الإنسان الحيوية.
4- الوضوء يعتبر تدليكاً ينشط الجهاز الدوري والليمفاوي وينظم الجهاز العصبي، وهو أفضل وسيلة للتخلص من التوتر اليومي، ويجدد النشاط؛ خاصة عند اتباع سنة تخليل الأصابع. 5- أما المضمضة فهي من جملة التمارين التي تقي الوجه من التجاعيد(1).6- ثبت أن الوضوء يعالج الصداع وشلل الوجه النصفي والجيوب الأنفية(2). 7- يحمي الجسم من الجراثيم الخارجية. 8- يضبط حرارة الجسم ويحميها من تقلبات
__________
(1) الجوارح وأسرار الوضوء: د. ماجدة عامر : 12، 13، 19، 23، 24، 33، 36.
(2) الجوارح وأسرار الوضوء: د. ماجدة عامر: 44 ، وانظر للتوسع: الإعجاز الطبي للسنة النبوية من خلال صحيح البخاري ومسلم: د.أحمد وصفي محمد أحمد العزب: 67-77، الإعجاز العلمي في الإسلام: السنة النبوية : محمد كامل عبد الصمد: 66-68.(20/19)
الحرارة الخارجية. 9- يمنع نفاذ الماء إلى داخل الجسم والعكس.
10- الوقاية من سرطان الجلد. 11- غسل القدم يعتبر رياضة لعضلات الجسم والأطراف والحوض. 12- يخفف دور الكلية في طرد السموم. 12- الوضوء بالماء البارد يؤدي إلى خروج المواد السامة من الدم إلى خارج الجسم، وكذلك فإن الوضوء بالماء البارد يعالج الحمى الناتجة عن الأمراض الجرثومية، ويبرد الدم الذي يسخن في الأوردة الدماغية نتيجة التركيز والتفكير، ويجعل الحواس نشطة. 13- يساعد الوضوء على النوم الهادئ وعدم الأرق.
14- يقي الوضوء من الأمراض الرئوية (1).
__________
(1) الموسوعة العلمية الشاملة في الإعجاز النبوي: د.سمير عبد الحليم: 3/17 وما بعدها، وانظر للتوسع: العلاج بالطاقة الحيوية: د.عواد أبو زينة: 57، الاستشفاء بالصلاة: د.زهير رابح القرامي: 24.(20/20)
ويكفي أن نذكر أن الوضوء وقاية من أكثر من سبعة عشر مرضاً؛ أهمها: الرمد الجيبي والأنفلونزا والسعال الديكي والتهاب اللوزتين وأمراض الأذن والأمراض الجلدية وغيرها(1)، وأنه طارد للشياطين ذات الطيف الناري ويحضر الملائكة ذات الطيف النوراني والتردد العالي الذي يحيط المؤمن بهالة من السكينة(2) .
2ـ الصلاة:
يجني المصلي إلى جانب العبادة الروحية فوائد اجتماعية وصحية؛ ومن أبرز الفوائد الصحية ما يلي :
__________
(1) انظر للتوسع: الطب الوقائي من القرآن والسنة: د.عبد الباسط محمد السيد: 78 وما بعدها .
(2) العلاج بالطاقة وأصوله في القرآن والسنة: عبد التواب عبد الله حسين: 8/276 وما بعدها.(20/21)
1- الصلاة تجعل المؤمن في حالة روحية مطمئنة؛ تمكنه من التخفيف من حدة الانفعالات؛ وفي هذا وقاية له من الأمراض النفسية والجسدية. 2- الصلاة من كونها تركز الانتباه عملية التصور تعتبر علاجاً نفسياً(1). 3- والصلاة تقي من أمراض الدوالي، وتقوي العظام والمفاصل والعضلات. 4- تحمي الصلاة من الانزلاق الغضروفي. 5- تعتبر الصلاة رياضة وتسهم في تخفيف الوزن . 6- تقوي الصلاة المناعة. 7- تنظم الصلاة الإيقاع البيولوجي للجسم. 6- تقي الصلاة الوسطى (العصر) من ارتفاع ضغط الدم، وهي ضمان لسلامة القلب(2). 7- الصلاة على وقتها (وهي متناسبة مع نشاط الإنسان) تؤدي إلى أعلى كفاءة لوظائف أجهزة الجسم. 8-
__________
(1) الاستشفاء بالصلاة: د.زهير رابح القرامي: 49-51.
(2) الاستشفاء بالصلاة: د.زهير رابح القرامي: 69 وما بعدها، وانظر للتوسع: الطب النبوي والعلم الحديث: د.محمود ناظم النسيمي: 1/232 وما بعدها، معجزة الصلاة في الوقاية من مرض دوالي الساقين: د.توفيق علوان: 87-141، ما هو بقول بشر: د.نبيل عبد السلام هارون: 52، الأسرار الطبية لصلاة الليل: د.مصطفى سلمان محمد الخلف:29 وما بعدها، إعجاز الطب النبوي: د.السيد عبد الحكيم عبد الله: 88.(20/22)
السجود يقلل من مجهود ضخ الدم إلى الدماغ. 9- تقي الصلاة من أمراض الرئة بسبب وضعيات الركوع والسجود والقيام. 10-والصلاة وقاية وتنشيط العضلات والمفاصل وهضم الحوامل؛ وخاصة في وضعية السجود التي ينصح بها الحامل. 11- إن الصلاة مفيدة للأطفال تقيهم من انسداد الأوعية وتقي ظهورهم من الأمراض لاحقاً. 12- تقي الصلاة من الأمراض الدماغية والجلطات. 13- تقوي الصلاة العظام. 14- إن تسوية الصفوف بالتصاق القدم بالقدم يؤدي إلى اتساع المسافة بين القدمين مما يؤدي إلى أعلى درجات التوازن لجسم المصلي، وتعالج التشوهات في القدم وعظام الحوض وتسهل عملية السجود. 15- يفيد الركوع في استطالة عضلات الرجلين الخلفية، ويساعد على امتلاء الأوعية الدموية في عضلات الرجلين، ويقوي عضلات الظهر والبطن والذراعين، ويزيد من سعة الرئتين، ويزيد كمية الدم في الرأس، ويخفف الصداع ويقوي البصر(1). 16- تعتبر الصلاة من أساليب
__________
(1) الموسوعة العلمية الشاملة في الإعجاز النبوي: د.سمير عبد الحليم: 4/10 وما بعدها، وانظر للتوسع: الخشوع في الصلاة: محمد نجدات المحمد: 63 وما بعدها، وانظر للتوسع: من الإعجاز الحركي في الصلاة: جلال الشافعي: 56 وما بعدها.(20/23)
العلاج بالاسترخاء النفسي والعضلي وما يسمى بتقليل الحساسية الانفعالية(1). 17- أما صلاة قيام الليل ففيها خصوصية رفع الهموم والأحزان وخاصة قبيل أذان الفجر؛ وتزيد من إفراز الميلاتونين في الوقاية من كثير من الأمراض كالسرطان والربو وشرايين القلب والماء الأبيض والقرحة والخرف المبكر، وتقوي المناعة(2).
3ـ الصيام:
ذكر العلماء فوائد كثيرة وقائية للصيام؛ أهمها ما يلي:
1- في الصيام تتحول كميات هائلة من الشحوم المختزنة إلى الكبد؛ فينتفع بها وتُستخرج منها السموم الذائبة وتزال سميتها وتطرحها. 2- في الصيام تُبنى خلايا جديدة وتنشط خلايا وترمم وتقوم بوظائفها بأعلى مستوى، وتقوم بالتهام البكتريا.
__________
(1) المعارف الطبية في ضوء القرآن والسنة: د.أحمد شوقي إبراهيم: 3/234.
(2) الأسرار الطبية لصلاة الليل: د.مصطفى سلمان محمد الخلف: 114-115.(20/24)
3- يعتبر الصيام الإسلامي النموذج الفريد للوقاية والعلاج من السمنة في وقت واحد. 4- الصيام يحسّن القدرة على التعلم وتقوية الذاكرة. 5- الصيام ينشط الآليات لسلامة وظائف الكلى. 6- ينشط الصيام كريات الدم الحمراء. 7- يثبّط تكّون القرحة المعدية. 7- ينظم دورة الحيض عند المرأة ويعالج العقم ويحسن الخصوبة عند الرجل والمرأة. 8- يقوي الصيام جهاز المناعة. 9- يحسن الصيام من حالة التهاب المفاصل. 10- يقي الصيام من تكون حصيات الكلى. 11- يعالج الصوم تصلّب الشرايين وأمراض الدورة الدموية الطرفية(1).
4ـ الزكاة:
__________
(1) الصيام معجزة علمية: د. عبد الجواد الصاوي: 105 وما بعدها بتصرف، وانظر للتوسع: التداوي بالصيام: محمد إبراهيم سليم: 39 وما بعدها، المعارف الطبية في ضوء القرآن والسنة: د.أحمد شوقي إبراهيم : 3/235 ، الصوم وأمراض السمنة: د.محمد علي البار: 13 وما بعدها ، أصول الطب الوقائي في الحديث النبوي: د.أيمن محمود السعيد: 78 وما بعدها، البطنة تذهب الفطنة: د.سمير إسماعيل الحلو: 39، 43.(20/25)
يرى العلماء أن أساس الصحية العقلية في شعور الفرد بأنه يؤدي خدمة للمجتمع؛ وليس كالزكاة وسيلة يشعر المرء بأن ما تعب في جمعه يبني به مجتمعاً مترابطاً، والزكاة أيضاً تجعل الإنسان يتحرر من عبادة المال الذي يؤدي به إلى القلق والمرض وإلى الانتحار أحياناً(1)، وبهذا الدعم الإيجابي للنفس تتوازن الصحة النفسية؛ وتتكون لديه مناعة من الوقوع في الضيق والإحباط(2)، وكذلك الصدقة لها تأثير قوي بمداواة المرضى والأمراض(3).
5ـ الحج:
__________
(1) الطب الوقائي النبوي: د.محمود الحاج قاسم محمد: 116.
(2) المعارف الطبية في ضوء القرآن والسنة: د.أحمد شوقي إبراهيم: 3/236.
(3) روائع الطب الإسلامي: القسم العلاجي: د.محمد نزار الدقر: 1/306، الإعجاز العلمي في السنة النبوية: د.صالح بن أحمد رضا: 2/ 819- 821، إعجاز الطب النبوي: د.السيد عبد الحكيم عبد الله: 95- 97.(20/26)
بيت الله الحرام أكبر مستشفى للعلاج الروحي أو النفسي، والكعبة جهاز للعلاج الروحي كأجهزة العلاج بالأشعة، وإن الطواف حول الكعبة يشبه حركة الألكترون الدائرية – وبنفس الاتجاه عكس عقارب الساعة كحركة الكون -، وحركة السعي بين الصفا والمروة تشبه حركة الألكترون المستقيمة؛ والتي ينشأ عنها مغناطيس قطباه عند نهايتي الحركة، فطواف الناس حول الكعبة ينشأ عنه مجال روحي أقوى ما يكون في مركز الدوران، وهذا المجال الروحي ينتشر حول الكعبة ويقل كلما ابتعدنا عنها؛ وتزداد شدة المجال الروحي كلما كان عدد الطائفين أكثر، ويزداد هذا المجال في حجر إسماعيل – باعتباره داخل الكعبة– وعند الحجر الأسود، ولذا فإن الطائف يستلم الحجر الأسود فتغمره الأنوار؛ وإن لم يستطع فإن رفع يمينه والإشارة إلى الحجر تؤدي عمل الهوائي الذي يتلقى الموجات وتوصلها إلى جسم الطائف؛ ولذا فإن الصلاة بالبيت الحرام بمئة ألف صلاة؛ لأن المسلم أقرب إلى ربه؛ لأن المجال الروحي النوراني في الكعبة وما حولها أقوى ما يكون(1)، والحاج يتحمل
__________
(1) الكعبة والعلم الحديث: د.علي محمد مطاوع: 51-62-65-67، وانظر للتوسع: هل هناك طب نبوي: د.محمد علي البار: 170-171.(20/27)
المشاق ويضبط شهواته ومع ذلك يشعر بسعادة غامرة؛ فتسمو نفسه فوق هموم الحياة وما تؤدي إليه من قلق وانفعال(1)، أما زي الإحرام البسيط فهو ضرورة حتمية لمنع انتشار الأمراض في الزحام(2).
ثالثاً : الطب الوقائي في الطعام والشراب :
يظهر هذا النوع من الوقاية من خلال المظاهر التالية: تحريم أكل بعض الحيوانات وشرب ألبانها، وأسلوب ذبح الحيوانات الجائز أكلها، ونظافة الطعام والشراب، وآداب الطعام والشراب، والحض على تناول بعض أنواع من الطعام والشراب.
1ـ تحريم أكل بعض الحيوانات وشرب ألبانها:
__________
(1) المعارف الطبية في ضوء القرآن والسنة: د.أحمد شوقي إبراهيم: 3/236.
(2) ما هو بقول بشر: د. نبيل عبد السلام هارون: 52، وانظر حول اختصاص مكة ببعض الخصائص العلمية: الموسوعة العلمية الشاملة في الإعجاز النبوي: د.سمير عبد الحليم: 4/ 81-111.(20/28)
لقد حرّم النبي - صلى الله عليه وسلم - تناول لحوم وألبان بعض أنواع معينة من الحيوانات وقاية له من الأمراض؛ وحفظاً على صحته، وقد اخترت التحدث عن الإعجاز العلمي في تحريم أكل الجلالة وذي الناب والمخلب؛ وذلك لأن السنة النبوية اختصت بذكر تحريمها دون القرآن الكريم ولنضرب الأمثلة على ذلك حتى يتضح هذا الإعجاز.
أ ـ تحريم أكل الجلالة وألبانها من الحيوانات: للحديث الذي رواه ابن عمر رضي الله عنهما قال:" نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أكل الجلالة وألبانها"(1)، وتحريم أكل الحيوان الذي يأكل النجاسات والمستقذرات فيه فائدة عظيمة كما أثبت الطب
__________
(1) رواه أبو داود في كتاب: الأطعمة، باب: النهي عن أكل الجلالة وألبانها، (الحديث: 3291)، واللفظ له، ورواه الترمذي في كتاب: الأطعمة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب: ما جاء في أكل لحوم الجلالة وألبانها، (الحديث: 1747)، ورواه النسائي في كتاب: الضحايا، باب: النهي عن لحوم الجلالة، (الحديث: 4371)، ورواه ابن ماجه في كتاب: الذبائح، باب: النهي عن لحوم الجلالة، (الحديث: 3180)، ورواه أحمد في مسند عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه، (الحديث: 6742).(20/29)