هذا ، وقد اشتهرت لفظة القراء قديماً ، (قال ابن خلدون (ت 808هـ) في الفصل الثالث عشر من الباب السادس في (المقدمة) (ص411 طبعة كتاب الشعب) تحت فصل (علم الفقه وما يتبعه من فرائض) : (ثم إن الصحابة كلهم لم يكونوا أهل فُتيا ، ولا كان الدين يؤخذ عن جميعهم؛ وإنما كان ذلك مختصاً بالحاملين للقرآن العارفين بناسخه ومنسوخه ومتشابهه ومحكمه وسائر دلالته ، بما تلقوه من النبي صلى الله عليه وسلم أو ممن سمعه منهم(1)، من عِلْيَتِهم؛ وكانوا يُسَمَّون لذلك "القراءَ" ، أي الذين يقرأون الكتاب ، لأن العرب كانوا أمة أمية؛ فاختص من كان منهم قارئاً للكتاب بهذا الاسم لغرابته يومئذ؛ وبقي الأمر كذلك صدْرَ الملة، ثم عظمت أمصارُ الإسلام وذهبت الأمية من العرب بممارسة الكتاب وتمكن الاستنباط ، وكمل الفقه وأصبح صناعةً وعلماً ، فبُدِّلوا باسم الفقهاء والعلماء من القراء).
قال العلامة بكر أبو زيد في (المدخل المفصل) (1/42-43) عقب نقله كلمة ابن خلدون هذه سوى الجملة الأخيرة منها ، وذلك في معرض شرحه معنى لقب القراء :
(فهذا من ابن خلدون يفيد تلقيب العلماء بالقراء ؛ وواضح من سياقه أمران :
الأول : أنه يطلق على الذين يقرؤون القرآن ويفقهون معانيه ويعلمون أحكامه ودلالاته حتى تأهلوا للفتيا .
الثاني : أنه لقب شريف يُطلق عليهم ، لا أنهم لا يُعرَفون إلا بهذا اللقب .
لم يكن من القريتين عظيم :
عبارة تجريح ؛ ففي (سؤالات أبي عبيد الآجري) (ص299) (رقم 436) : (حدثنا أبو داود قال : ثنا أبو طليق ثنا أبو سلمة [هو التبوذكي] ثنا عبد الله المثنى ولم يكن من القريتين عظيم).
وعبد الله بن المثنى ضعفه جماعة من العلماء.
لم يكن من النقد الجيد :
عبارة تضعيف أو تليين ؛ وممن استعملها الإمام أحمد ، وذلك في حق قابوس بن أبي ظبيان الجنيبي الكوفي ؛ رواها عنه تلميذه أبو داود رحمه الله(2) .
__________
(1) لعلها (منه).
(2) كما في (تهذيب الكمال) (23/328) .(4/346)
جاء في (المعجم الوسيط) تحت مادة (ن ق د) : (ويقال درهم نقد جيد : لا زيف فيه) .
لم يوّثَّق توثيقاً يعتد به :
يطلقها جماعة من المعاصرين وربما سبقهم إليها بعض المتأخرين ، والمراد بها أن من قيلت فيه لم يوثقه إلا بعض المتساهلين في التوثيق كابن حبان والعجلي فإن تساهلهما في توثيق المجاهيل من القدماء معروف مشتهر .
له أحاديث صالحة :
انظر (صويلح).
له إدراك :
إذا قيل لرجل : (له إدراك) ، فمعنى ذلك أنه أدرك شيئاً من حياة النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا أراهم يشترطون في ذلك التمييز .
والاقتصار على هذه العبارة (له إدراك) فيه إشارة إلى انتفاء اللقاء والصحبة ، أو - في الأقل - إلى عدم ثبوتهما.
وقد تأتي هذه الكلمة في تعبيرهم مقرونة بالتصريح بنفي الصحبة ، أو التردد في إثباتها.
ولقد تكررت هذه الكلمة (له إدراك) كثيراً في (الإصابة) لابن حجر؛ ووردت في غيره من كتبه وغيرها، أيضاً.
قال المزي في (تهذيب الكمال) (5/183-185) : (حابس بن سعد - ويقال : حابس بن ربيعة - ابن المنذر بن سعد بن يَثْربي بن عبد قصي ---- الطائي اليماني ، يقال : إن له صحبة .
روى عن أبي بكر وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم .
روى عنه جبير بن نفير ، والحارث بن يزيد ، وسعد بن إبراهيم ، ولم يدركه ---- .
قال محمد بن سعد في تسمية من نزل الشام من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : حابس بن سعد الطائي .
وقال أبو زرعة الدمشقي في تسمية من نزل الشام من الصحابة من الأنصار وقبائل اليمن : حابس بن سعد اليماني .
وذكره أبو الحسن بن سُمَيْع في الطبقة الأولى من الصحابة .
وقال البخاري وأبو حاتم : حابس بن سعد الطائي أدرك النبيَّ صلى الله عليه وسلم .
وقال أحمد بن محمد بن عيسى البغدادي في (تاريخ(4/347)
الحمصيين) في الطبقة العليا التي تلي أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم : حابس بن سعد الطائي اليماني أدرك النبيَّ صلى الله عليه وسلم ، وصحب أبا بكر ، وحدث عنه ، وأسند ، وقُتل بصفين مع معاوية ، وقَضى في خلافة عمر بن الخطاب .
وقال خليفة بن خياط : قال أبو عبيدة : وكان على رجالة الميمنة كلهم حابس بن سعد الطائي مع معاوية ، وذلك في المحرم سنة سبع وثلاثين .
وقال يعقوب بن سفيان : كانت صفين في شهر ربيع الأول سنة سبع وثلاثين ----.
قال أبو بكر البَرْقاني : قلت للدارقطني : حابس اليماني عن أبي بكر الصديق ؟ فقال : مجهول متروك ) .
زاد ابن حجر في (تهذيبه) : ( قلت : ذكره الذهبي في (الميزان) ومن شرطه أن لا يذكر فيه أحداً من الصحابة ، لكن قال : يقال له صحبة، وجزم في (الكاشف) بأن له صحبة، ولم يحمِّر اسمه في (تجريد الصحابة)، وشرطه أن من كان تابعياً حمَّره ، فتناقض فيه .
ويغلب على الظن أن ليس له صحبة، وإنما ذكروه في الصحابة على قاعدتهم فيمن له إدراك ؛ والله الموفق.
وفرق ابن حبان في الصحابة بين حابس بن ربيعة وبين حابس بن سعد الطائي) .
وقال في (تهذيب التهذيب) أيضاً (6/325) : (عبد العزيز أخو حذيفة ، ويقال ابن أخي حذيفة؛ روى عن حذيفة ---- ) .
ثم ذكر ابن حجر بعض من ذكره في الصحابة من أصحاب كتب الصحابة ، ثم قال : (وذلك مَصِيرٌ منهم إلى أنه أخو حذيفة فيكون له إدراك أو رؤية ، لأن أبا حذيفة قتل يوم أحد مع النبي صلى الله عليه وسلم).
وانظر (مخضرم) و(أدركه بالسن ولم يلقه).
له أصل :
أي أصل ذلك الحديث ثابت في الجملة ؛ وانظر (لا أصل له) .
له أوهام :
هي بمعنى (صدوق له أوهام) ، وقد تكون هذه أي (له أوهام) أدنى مرتبةً من تلك.
له بلايا :
البلايا جمع بلية وهي المصيبة ، والأصل في استعمال هذه الكلمة أنها كناية عن الوضع ، فهو الأصل في معناها إلا إذا قامت قرينة على أن المراد النكارة فيصار إلى ذلك .(4/348)
قال برهان الدين الحلبي في (الكشف الحثيث) (184) : (الجارود بن يزيد أبو علي النيسابوري ، وقيل كنيته أبو الضحاك : متروك ؛ وقال أبو حاتم : كذاب ؛ وفيه كلام غير ذلك ؛ وقد ذكر الذهبي في ترجمته ما لفظه : "ومن بلاياه " فذكر حديثاً؛ وهذا الكلام كناية عن الوضع فيما أحسب لأن البلية المصيبة ؛ ولم أر فيه غير هذا الكلام ؛ وهذا اغلظ ما رأيت فيه والله أعلم) ؛ وانظر ترجمة صالح بن محمد الترمذي من (الكشف الحثيث) ؛ وانظر (البلاء فيه من فلان).
له صحبة :
انظر (صحابي) .
له طامات :
يقال في معناها ما قيل في معنى (له بلايا)(1) .
__________
(1) قال ابن عراق في (تنزيه الشريعة المرفوعة) (1/19) : (أبان بن سفيان المقدسي ، ويقال : أبين ، عن الفضيل بن عياض ، قال ابن حبان : روى أشياء موضوعة ، وقيل : أبين غير أبان ؛ قال الذهبي في (المغني) : وهو الصحيح ، وكلاهما له بلايا .
قلت : قولهم : (فلان له بلايا) ، أو (هذا الحديث من بلايا فلان) قال الحافظ برهان الدين الحلبي : هو كناية عن الوضع فيما أحسب ، لأن البلية المصيبة . انتهى [أي قول البرهان الحلبي].
وأما قولهم : له طامات وأوابد ، ويأتي بالعجائب ، فلا أدري هل يقتضي اتهام المقول فيه ذلك بالكذب أم لا يفيد غير وصف حديثه بالنكارة ؟ وقد سألت بعض أشياخي عن ذلك فلم يفدني فيه شيئاً ، نعم رأيت الحافظ ابن حجر قال في بعض من قيل فيه ذلك : إنه لم يتهم بكذب ، والله أعلم) . انتهى كلام ابن عراق.
وقال برهان الدين الحلبي في (الكشف الحثيث) (ص382-383) : (محمد بن عبد الله الأنصاري أبو سلمة ، شيخ بصري ، عن مالك بن دينار وغيره ، قال ابن طاهر : كذاب وله طامات منها ؛ فذكر حديثاً . انتهى .
فقوله : (وله طامات) كناية عن الموضوعات ، فالظاهر أنه يضع لأنه كذاب) .انتهى كلام البرهان الحلبي ؛ وانظر (صاحب أوابد) .(4/349)
له مناكير :
أي روى - في جملة ما رواه - أحاديثَ منكرةً، ويظهر ابتداءً أن الحمل فيها عليه ؛ وقارن بكلمة (روى مناكير) أو (روى أحاديث منكرة) و(ذو مناكير) و(صاحب مناكير) .
لو كان هذا الحديث عند زيد من هذا الوجه لم يحدث به من ذلك الوجه الآخر :
يستدل علماء العلل على علة الحديث بأن تأتي رواية أخرى عن أحد رواة الرواية الأولى ولكنها أنقص منها أو أدون ، مثل أن تكون - أعني الثانية - موقوفة ، أو مرسلة ، أو فيها راو ضعيف أو مجهول ، أو مبهم ، أو نازلة ، أو عن شيخ آخر غير من يلازمه من الثقات ولا سيما إن كان ذلك الشيخ من أقاربه أو جيرانه أو أهل بلده ، بخلاف الأولى السالمة من تلك العلة أو ذلك النقص .
وهذه الطريقة في التعليل إنما تليق أكثر بالمتقدمين من الرواة من الصحابة وتابعيهم وأتباع التابعين ، وبغيرهم من علماء المحدثين ومن كبار ثقات الرواة ؛ وذلك بخلاف حال المتأخرين فإنهم يروون أحياناً للإغراب وإبراز الفوائد ، وأحياناً لاستيفاء رواية ما عندهم من مسموعاتهم ، وأحياناً أخرى لغير ذلك ؛ وأما المتقدمون فلم يكن عندهم فاصل واسع بين الحديث والفقه ، ولا بين العلم والعمل ، فما كان أحدهم ليترك - مثلاً - حديثاً مرفوعاً صحيحاً عنده ، ويشتغل برواية حديث موقوف ؛ وهذه أمثلة لما تقدمت الإشارة إليه :
قال ابن أبي حاتم في (العلل) (223) : (وسألتُ أبِي ، وأبا زُرعة ، عَن حدِيثٍ رواهُ زُهيرُ بنُ عبّادٍ عن حفصِ بنِ ميسرة عنِ ابنِ عَجْلان عن أبِيهِ عن أبِي هُريرة عنِ النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : "إِنَّ الّذِي يرفعُ رأسهُ ويخفِضُهُ قبل الإِمامِ كأنّما ناصِيتُهُ بِيدِ شيطانٍ".
قال أبِي : هذا خطأٌ ، كُنّا نظُنُّ أنّهُ غرِيبٌ ، ثُمّ تبيّن لنا عِلّتُهُ.
قُلتُ : وما عِلّتُهُ؟(4/350)
قال : حدّثنا العبّاسُ بنُ يزِيد العبدِيُّ وإِيّاك عنِ ابنِ عُيينة ، عنِ ابنِ عَجْلان ، قال : حدّثنا مُحمّدُ بنُ عَمرٍو ، عن ملِيحِ بنِ عَبدِ اللهِ ، عن أبِي هُريرة موقُوفا.
قال ابنُ عُيينة : فقدِم علينا مُحمّدُ بنُ عَمرٍو ، فأتيتُهُ فسألتُهُ فحدّثنِي عن ملِيحِ بنِ عَبدِ اللهِ ، عن أبِي هُريرة موقوفاً.
وقال أبُو زُرعة : هذا خطأٌ ، إنما هو عنِ ابنِ عَجْلان عن مُحمّدِ بنِ عَمرٍو عن ملِيحٍ عن أبِي هُريرة ، موقُوفاً.
قال أبِي : فلو كان عِند ابنِ عَجْلان عن أبِيهِ عن أبِي هُريرة لم يُحدِّث عن مُحمّدِ بنِ عَمرٍو ، عن ملِيحٍ ، عن أبِي هُريرة).
وقال ابن أبي حاتم في (العلل) (1222) : (وسألتُ أبِي عَن حدِيثٍ رواهُ صدقةُ بنُ عَبدِ اللهِ السّمِينُ أبُو مُعاوِية عن مُحمّدِ بنِ المُنكدِرِ ، قال : قُلتُ : أنت أحللت لِلولِيدِ بنِ يزِيد امرأتهُ أُمّ سلمة ؟ قُلتُ : أنا ، لكِن حدّثنِي جابِرُ بنُ عَبدِ اللهِ ، عنِ النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، قال : لا طلاق قبل نِكاحٍ.
قال أبِي : هذا خطأٌ ، والصّحِيحُ ما رواهُ الثّورِيُّ ، عن مُحمّدِ بنِ المُنكدِرِ ، قال : حدّثنِي من سمِع طاوُساً.
قال أبِي : فلو كان سمِع مِن جابِرٍ لم يُحدِّث عن رجُلٍ ، عن طاوُسٍ مُرسلاً).
وقال ابن أبي حاتم في (العلل) (376) : (وسألتُ أبِي عَن حدِيثٍ رواهُ إِسحاقُ الأزرقِ عن شرِيكٍ عن بيانٍ عن قيسٍ عنِ المُغِيرةِ بنِ شُعبة عنِ النّبِيِّ [صلى الله عليه وسلم ]، أنّهُ قال : أبرِدُوا بِالظُّهرِ.
قال أبُو مُحمّدٍ : ورواهُ أبو عوانة عن طارِقٍ عن قيسٍ قال : سمِعتُ عُمر بن الخطّابِ ، قولهُ : أبرِدُوا بالصلاة.
قال أبِي : أخافُ أن يكُون هذا الحديث يدفعُ ذاك الحديث.
قُلتُ : فأيُّهُما أشبهُ ؟ قال : كأنّهُ هذا ، يعنِي حديث عُمر.(4/351)
قال أبي في موضِعٍ آخر : لو كان عِند قيسٍ : عنِ المُغِيرة عنِ النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، لم يحتج أن يفتقِر إِلى أن يُحدِّث عن عُمر موقُوفاً) .
وقال ابن أبي حاتم في (العلل) (642) : (وسألتُ أبِي وأبا زُرعة عَن حدِيثٍ رواهُ عبدُ الرّزّاقِ عن مَعْمَرٍ عن زيدِ بنِ أسلم عن عطاءِ بنِ يسارٍ عن أبِي سعِيدٍ عنِ النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، قال : " لا تحِلُّ الصّدقةُ إِلاَّ لِخمسةٍ : رجُلٍ اشتراها بِمالِهِ ، أو رجُلٍ عامِلٍ عليها ، أو غارِمٍ ، أو غازٍ فِي سبِيلِ اللهِ تعالى ، أو رجُلٍ لهُ جارٌ فيتصدّقُ عليهِ فيُهدِي لهُ ".
فقالا : هذا خطأٌ ، رواهُ الثّورِيُّ عن زيدِ بنِ أسلم قال : حدّثنِي الثّبتُ ، قال : قال رسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ؛ وهُو أشبهُ.
وقال أبِي : فإِن قال قائِلٌ : الثّبتُ من هُو ؟ أليس هُو عطاءُ بنُ يسارٍ ؟ قِيل لهُ : لو كان عطاء بن يسارٍ لِم يُكنِّ عنهُ.
قُلتُ لأبِي زُرعة : أليس الثّبتُ هُو عطاء ؟ قال : لا ، لو كان عطاءً ما كان يُكنِّي عنهُ ، وقد رواهُ ابنُ عُيينة عن زيدٍ عن عطاءٍ عنِ النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، مُرسلا.
قال أبِي : والثّورِيُّ أحفظُ ) .
وقال ابن أبي حاتم في (العلل) (945) : (وسألتُ أبِي عَن حدِيثٍ رواهُ عطاءُ بنُ السّائِبِ عن مُحارِبِ بنِ دِثارٍ عنِ ابنِ عُمر عنِ النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : إِيّاكُم والظُّلم ، فإِنّها ظُلُماتٌ يوم القِيامةِ.
قال أبِي : رواهُ جرِيرٌ ، عن أبِي إِسحاق الشّيبانِيِّ عن مُحارِبٍ عن أبِي الصِّدِّيقِ النّاجِيِّ ، قال : قال رسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ... مُرسلاً .
قال أبِي : هذا بيَّنَ عوارَ حدِيثِ عطاءٍ ، وهذا أشبهُ ، لو كان عنِ ابنِ عُمر كان أسهلَ عليهِ(1) حِفظاً مِن أبِي الصِّدِّيقِ ، وكان عطاءُ بنُ السّائِبِ ساء حِفظُهُ).
__________
(1) يعني محارباً بن دثار .(4/352)
وقال ابن أبي حاتم في (العلل) (1065) : (وسألتُ أبي عَن حديثٍ رواهُ عُثمانُ بنُ حكِيمٍ عن خارِجة بنِ زيدٍ عن عمِّهِ يزِيد بنِ ثابِتٍ عنِ النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الصّلاةِ على القُبُورِ .
رواهُ مخرمةُ عن أبِيهِ عن عُبيدِ اللهِ بنِ مِقسمٍ عن خارِجة بنِ زيدٍ عن أبِيهِ زيدِ بنِ ثابِتٍ عنِ النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم .
قال أبِي : حدِيثُ عُثمان بنِ حكِيمٍ أشبهُ ، لأنّ حِفظ "زيدِ بنِ ثابِتٍ" أسهلُ مِن "يزِيد بنِ ثابِتٍ" ، لو كان كذلِك ؛ وهذا يزِيدُ بنُ ثابِتٍ أخُو زيدِ بنِ ثابِتٍ ) .
وقال ابن أبي حاتم في (العلل) (2580) : (وَسَأَلْتُ أَبِي عَنْ حَدِيثٍ رَوَاهُ رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانٍ ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عَائِشَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم "مَا ضَرَّ امْرَأَةً نَزَلَتْ بَيْنَ بَيْتَيْنِ مِنَ الأَنْصَارِ أَلا تَكُونَ نَزَلَتْ بَيْنَ أَبَوَيْهَا " .
ورواه يحيى بن معين عن السكن بن إِسماعيل الأصم عن هشام بن حسان عن هشام بن عُروة ، عَن يحيى بن سعيد عن عائشة قالت : ما ضر امرأة كانت بين حيين من الأنصار أن لا تكون بين أَبَوَيْهَا.
قال أبي : هذا الحديث أفسد حديثَ روح بن عبادة وبيَّن علته ، وهذا الصحيح ، ولا يحتمل أن يكون "عن أَبيه عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم" ، فيُروى عن يحيى بن سعيد عن عائشة ، أشبه ؛ ولو كان عن أَبيه كان أسهل عليه حفظاً) .
وقال ابن أبي حاتم في (العلل) (74) : (وسألتُ أبي عَن حدِيثٍ رواهُ حسنٌ الحُلوانِيُّ عن عَبدِ الصّمدِ بنِ عَبدِ الوارِثِ عن أبِيهِ عن حُسينٍ المُعلِّمِ عن يحيى بنِ أبِي كثِيرٍ عنِ المُهاجِرِ بنِ عِكرِمة عنِ الزُّهرِيِّ عن عُروة عن عائِشة عنِ النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، قال : "من مسّ ذكرهُ فليتوضّأ ".(4/353)
ورواهُ شُعيبُ بنُ إِسحاق ، عن هِشامٍ ، عن يحيى ، عن عُروة ، عن عائِشة ، عنِ النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : "من مسّ ذكرهُ فِي الصّلاةِ فليتوضّأ ".
قال أبِي : هذا حديثٌ ضعيفٌ ، لم يسمعهُ يحيى مِن الزُّهرِيِّ ، وأدخل بينهُم رجُلاً ليس بِالمشهُورِ ، ولا أعلمُ أحدًا روى عنهُ إِلاَّ يحيى ، وإِنّما يروِيهِ الزُّهرِيُّ ، عن عَبدِ اللهِ بنِ أبِي بكرٍ ، عن عُروة ، عن مروان ، عن بُسرة ، عنِ النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ؛ ولو أنَّ عُروة سمِع مِن عائِشة لم يُدخل بينهُم أحداً ؛ وهذا يدُلُّ على وهنِ الحدِيثِ).
وقال ابن أبي حاتم في (العلل) (488) : (وسألتُ أبي عَن حديثٍ ؛ رواهُ النُّعمانُ بنُ المُنذِرِ ، عن مكحُولٍ ، عن عنبسة ، عن أُمِّ حبِيبة ، عنِ النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، قال : "من حافظ على ثِنتي عشرة ركعةً فِي يومٍ وليلةٍ بُنِي لهُ بيتٌ فِي الجنّةِ ".
فقال أبِي : لِهذا الحدِيثِ عِلّةٌ : روى ابنُ لهِيعة ، عن سُليمان بنِ مُوسى ، عن مكحُولٍ ، عن مولى لِعنبسة بنِ أبِي سُفيان ، عن عنبسة ، عن أُمِّ حبِيبة ، عنِ النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
قال أبِي : هذا دلِيلٌ أنَّ مكحُولاً لم يلق عنبسة ، وقد أفسدهُ رِوايةُ ابنِ لهِيعة.
قُلتُ لأبِي : لِم حكمتَ بِرِوايةِ ابنِ لهِيعة وقد عرفت ابن لهيعة وكثرة أوهامه.
قال أبي : فِي رِوايةِ ابنِ لهِيعة زِيادةُ رجُلٍ ، ولو كان نُقصانُ رجُلٍ كان أسهل على ابنِ لهِيعة حِفظُهُ) .
وقال ابن أبي حاتم في (العلل) (573) : (وسألتُ أبِي عَن حدِيثٍ ؛ رواهُ سُليمانُ بنُ كثير ، عنِ الزُّهرِيِّ ، عن سعِيدِ بنِ المُسيِّبِ ، عن جابِرٍ ، عنِ النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : أنّهُ كان يخطب إِلى جذع ، فلما وضع المنبر وصعد عليهِ حنّ الجذع.
ورواهُ أيضاً سُليمان بن كثير ، عن يحيى بنِ سعِيد الأنصارِيّ ، عن سعِيدِ بنِ المُسيِّبِ ، عن جابِرٍ ، عنِ النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.(4/354)
قال أبِي : جميعاً عِندِي خطأ ، أما حدِيث الزُّهرِيّ ، فإنه يُروى عنِ الزُّهرِيِّ ، عمن سمِع جابِراً ، عنِ النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، ولا يُسمّي أحدًا ، ولو كان سمِع من سعِيد لبادر إِلى تسميته ولم يُكنِّ عنهُ).
وقال ابن أبي حاتم في (العلل) (1247) : (وسألتُ أبِي عَن حدِيثٍ رواهُ بقِيّةُ ، عن هِشامِ بنِ حسّانٍ ، عنِ الحسنِ ، عن أنسٍ ، قال : خرج علينا رسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، ونحنُ شبابٌ كُلُّنا ، فقال : عليكُم بِالباءةِ ، فإِنّهُ أغضُّ لِلبصرِ ، وأحصنُ لِلفرجِ ، ومن لم يستطِع مِنكُم ، فعليهِ بِالصّومِ ، فإِنّهُ لهُ وِجاءٌ .
قال أبِي : روى هذا الحدِيث يزِيدُ بنُ هارُون ، عن هِشامٍ ، عن رجُلٍ مِن أصحابِ النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، قال : خرج علينا رسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
قال أبِي : ولو كان أنسٌ لم يكُنِّ عنهُ) .
وقال عبدالله بن الإمام أحمد في (العلل) (720-721) :
(حدثني أبي قال : حدثنا يحيى بن سعيد عن سفيان عن طارق قال : سألت الشعبي عن امرأة خرجت عاصية لزوجها ؟ قال : لو مكثت عشرين سنة لم تكن لها نفقة .
حدثني أبي قال : حدثنا وكيع عن سفيان عن موسى الجهني عن الشعبي نحوه .
قال أبي : قيل ليحيى : إن الناس يروونه عن موسى الجهني ؛ فقال : لو كان عن موسى كان أحب إليَّ ، أنا كيف أقع على طارق ؟! وكان موسى أعجب إلى يحيى من طارق ، طارق في حديثه بعض الضعف .
قلت لأبي : فإن أبا خيثمة حدثناه ، سمعه من الأشجعي عن سفيان عن طارق وموسى الجهني عن الشعبي ؛ قال : أصاب يحيى ، وأصاب وكيع)(1).
وقال ابن أبي حاتم في (المراسيل) (ص3) : (حدثنا أحمد بن سنان قال : كان يحيى بن سعيد القطان لا يرى إرسال الزهري وقتادة شيئاً ، ويقول : هو بمنزلة الريح ، ويقول : هؤلاء قوم حفاظ كانوا إذا سمعوا الشيء علقوه).
__________
(1) وراجع (العلل ومعرفة الرجال) (2239) .(4/355)
وقال الذهبي في (السير) (5/338) : (قال يحيى بن سعيد القطان : مرسل الزهري شر من مرسل غيره ، لأنه حافظ وكل ما قدر أن يسمي سمى ؛ وإنما يترك من لا يحب(1) أن يسميه ).
وقال ابن أبي حاتم في (المراسيل) (ص5) (7) : (حدثنا صالح بن أحمد نا علي يعني ابن المديني يقول : سمعت يحيى يقول : سفيان عن إبراهيم شبه لا شيء ، لأنه لو كان فيه إسناد صاح به).
وجاء في ترجمة سفيان الثوري من (تهذيب التهذيب) (4/101) : (وقال ابن معين : مرسلاته شبه الريح ؛ وكذا قال أبو داود ؛ قال : ولو كان عنده شيء(2) لصاح به).
وقال بعض الفضلاء المعاصرين في ثنايا ذكره قرائن دالة على نكارة بعض الروايات :
(القرينة الثانية : أن الحديث مشهور من رواية أبي عبيد مولى ابن أزهر عن عمر أخرجه الأئمة من طريقه، ولو كان الحديث عند ابن عباس عن عمر لما تخلف أحد عن إخراجه لجلالة ابن عباس)(3).
ليس :
قال البرذعي في (أسئلته لأبي زرعة الرازي) (2/490) : (قلت لأبي زرعة : محمد بن سعيد الأثرم ؟ قال : ليس ، كأنه يقول : ليس بشيء) .
ليس بالثقة :
عبارة عن كون الراوي متروكاً ، إذ الظاهر أنها مثل (ليس بثقة).
ليس بالحافظ :
يستعمل البزار في نقد الرواة كلمة (ليس بالحافظ) أو (لم يكن بالحافظ) يريد بهما ضعف الراوي وأحياناً الضعف الشديد؛ وأما عند الجمهور فتستعملان غالباً لتليين الراوي .
قال ابن القطان الفاسيُّ في (بيان الوهم والإيهام) (4/336) في تفسير هذه العبارة : (هذا قد يقال لمن غيرُه أحفظ منه).
قال عبد الله بن يوسف الجديع في (التحرير) (1/589-590) :
__________
(1) وقع في (جامع التحصيل) (ص79) و (ص90) : (يستجيز) بدل (يحب) .
(2) أي سندٌ متصل بالثقات .
(3) انظر هذا الكلام وما يتعلق به تحت (لا أعلمه يُروى إلا من هذا الوجه) .(4/356)
(قلت : وذلك كما قال يحيى بن سعيد القطان في عاصم بن سليمان الأحول : " لم يكن بالحافظ "(1) ، فإن عاصماً كان من الثقات المتقنين ، ولكن جفَّتْ فيه عبارةُ يحيى ، وغاية القول : أراد بالنظر إلى أقرانه من البصريين.
ومما يبينه أيضاً أن ابن أبي حاتم سأل أباه عن حديث يرويه حُميد بن قيس الأعرج وقد اختُلف عليه فيه ؟ فقال : " إن كان شيء فمن حميد ؛ لأن حميداً ليس بالحافظ "(2) .
قلت : وحميد هذا من الثقات ، وإنما فيه لِين يسير .
وسأل البرذعي أبا زرعة الرازي عن رواية يونس بن يزيد الأيلي عن غير الزهري ؟ فقال : " ليس بالحافظ "(3) .
قلت : أراد ليس بالمتقنٍ لما رواه عن غير الزهري إتقانَه عن الزهري ، ولهذا نقل ابن أبي حاتم عن أبي زرعة إطلاقه القول في يونس هذا : " لا بأس به "(4).
وقال أبو حاتم الرازي في عبد الله بن نافع الصائغ : " ليس بالحافظ ، هو لين ، تعرف حفظه وتنكر ، وكتابه أصح"(5) .
قلت : وهو عندهم جيد الحديث ، وهذا لا تخْرج عنه عبارة أبي حاتم هذه .
وقال ابن عدي في الهيثم بن جميل الأنطاكي : " ليس بالحافظ ، يغلط على الثقات "(6).
قلت : وهو موصوف عند عامتهم سوى ابن عدي بالحفظ والإتقان والثقة ، وكأنه لينه لوهم يسير وقف عليه منه ، والثقة قد يخطئ .
وممن يكثُر استعمالُه لها : أبو أحمد الحاكم ، ولفظُه بها : "ليس بالحافظ عندهم" ، فهو يلخص بذلك عبارة من تقدمه من نقاد المحدثين ، وقد يعني بها ما ذكرتُ من دلالتها على المنزلة المتوسطة للراوي ، وربما عنى الضعفَ الذي لحق الراوي بسبب سوء الحفظ والوهم والخطأ ، وقد يكون أثر ذلك في حديثه قليلاً ، وقد يكون كثيراً .
__________
(1) أخرجه ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل) (3/1/343) .
(2) علل الحديث (1419).
(3) سؤالات البرذعي (2/684).
(4) الجرح والتعديل (4/2/249).
(5) الجرح والتعديل (2/2/184).
(6) الكامل (8/399).(4/357)
لذا ، يجب تمييز قدر الضعف فيها بالنظر في عبارات من تقدم أبا أحمد من النقاد .
وتُقايَس بها عبارات هي في معناها ، كقولهم : "ليس بالمتقن") ؛ انتهى كلامه .
وأما قولهم (كان لا يحفظ) وقولهم (غير حافظ) فعبارتان دالتان على ضعف الراوي من جهة عدم ضبطه ، بل وربما استعملت مقرونة بكلمات الترك ؛ قال ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل) (2/272) (980) : (أشعث بن سعيد أبو الربيع السمان : (نا محمد بن إبراهيم ثنا عمرو بن علي الصيرفي أنه قال : أبو الربيع السمان متروك الحديث وكان لا يحفظ ).
ليس بالقوي :
لفظة (ليس بقوي) تساوي لفظة (ليس بذاك) وهما أخف من لفظة ضعيف ، ودون لفظة صدوق ؛ ويظهر أنَّ هذا هو معنى هذه الكلمة عند عامة النقاد .
قال عبد الله بن أحمد في (العلل ومعرفة الرجال) (1/123) : (سألت أبي عن فرقد السبخي فقال : ليس هو بقوي في الحديث ، قلت : هو ضعيف ؟ قال : ليس هو بذاك ؛ وسألته عن هشام بن حجير ؟ فقال : ليس هو بالقوي ؛ قلت : هو ضعيف ؟ قال : ليس هو بذاك) .
وقال علي بن المديني في الفرج بن فضالة : (هو وسط ، وليس بالقوي)(1) ؛ وقال في سليمان بن قَرْمٍ : (لم يكن بالقوي ، وهو صالح)(2) ؛ وقال نحو ذلك في كثير بن زيد(3) ، وهشام بن سعد(4) ومنكدر بن محمد بن المنكدر(5) ؛ وقال في محمد بن عبد الله بن مسلم ابن أخي الزُّهريِّ : (ضعيفٌ ، ليس بالقوي ، ونحن نكتب حديثه)(6) ؛ وقال في أبي خلف موسى بن خلف : (ليس بالقوي ، يعتبر به)(7) .
__________
(1) سؤالات ابن أبي شيبة (234) .
(2) سؤالات ابن أبي شيبة (247) .
(3) سؤالات ابن أبي شيبة (97) .
(4) سؤالات ابن أبي شيبة (109) .
(5) سؤالات ابن أبي شيبة (178) .
(6) سؤالات ابن أبي شيبة (150) .
(7) سؤالات ابن أبي شيبة (501) .(4/358)
وقال ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل) (5/315-316) في ترجمة عبيد الله بن أبي زياد القداح المكي : (نا صالح بن أحمد بن محمد بن حنبل نا علي ، يعني ابن المديني ، قال : سألت يحيى بن سعيد القطان عن عبيد الله بن أبي زياد ، فقال : كان وسطاً، لم يكن بذاك ؛ ثم قال : ليس هو مثل عثمان بن الأسود ولا سيف بن أبي سليمان ؛ قال يحيى : ومحمد بن عمرو أحب إليَّ منه .
أنا عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل فيما كتب إليَّ قال : سألت أبي عن عبيد الله بن أبي زياد القداح ، فقال : صالح ، فقلت له : تراه مثل عثمان بن الأسود؟ فقال : لا ، عثمان أعلى .
قرئ على العباس بن محمد الدوري عن يحيى بن معين أنه قال : عبيد الله بن أبي زياد القداح ضعيف ليس بينه وبين سعيد القداح نسب.
سألت أبي عن عبيد الله بن أبي زياد القداح فقال : ليس بالقوي ولا بالمتين، وهو صالح الحديث ، يكتب حديثه، ومحمد بن عمرو بن علقمة أحب إليَّ منه ، يحول اسمه من كتاب "الضعفاء" الذي صنفه البخاري) ؛ انتهى كلام ابن أبي حاتم .
وقال ابن القطان في (بيان الوهم والإيهام) (3/462) (1221) في بكر بن بكار البصري : (قال ابن معين : ليس بالقوي ، وكذا قال أبو حاتم ، وهو إلى التقوية أقرب ، فإنهما إنما يعنيان بذلك أنه ليس بأقوى ما يكون) .
وقال الدارقطني في شبل بن العلاء بن عبد الرحمن : (ليس بالقوي ، ويُخرَّج حديثه)(1) ؛ وقال في سعيد بن يحيى الحميري : (متوسط الحال ، ليس بالقوي)(2) .
__________
(1) سؤالات البرقاني (223) .
(2) سؤالات الحاكم للدارقطني (337) و(فتح المغيث) للسخاوي (1/372).(4/359)
وقال الذهبي في ( الموقظة ) (ص82-83) : (وقد قيل في جماعات : ليس بالقوي، واحتُجَّ بهـ[ـم] ؛ وهذا النسائي قد قال في عدة : ليس بالقوي ، ويخرج لهم في كتابه ، قال : قولنا "ليس بالقوي" ليس بجرح مفسد ---- ؛ وبالاستقراء إذا قال أبو حاتم : "ليس بالقوي" يريد بها أن هذا الشيخ لم يبلغ درجة القوي الثبْت(1) ؛ والبخاري قد يطلق على الشيخ "ليس بالقوي" ويريد أنه ضعيف ؛ ومن ثَمَّ قيل : تجب حكايةُ الجرح والتعديل(2) .
وقال الشيخ عبد الله السعد(3) (من قال فيه أبو حاتم : "ليس بالقوي" الأصل فيها أنّها على بابها، أنّ الراوي لا يحتجّ به).
ويظهر أيضاً أن من العلماء من كان يفرّق في عباراته في النقد بين قوله (ليس بقوي) وقوله (ليس بالقوي) مراعياً في ذلك الفرق اللغوي بين العبارتين .
فالأولى عند هؤلاء المفرقين تنفي القوة مطلقاً وإن لم تُثبت الضعف مطلقاً .
والثانية عندهم إنما تنفي الدرجة الكاملة من القوة ، فهي عبارة تليين .
__________
(1) ذكر الشيخ عبد الله السعد في (شرح الموقظة) أن الأصل في قول أبي حاتم في الراوي (ليس بالقوي) أنّها على بابها ، أنّ الراوي لا يحتجّ به .
(2) يعني يجب أن ينقل كلام الناقد بنصه، لأن من ينقله بمعناه ربما لا يُحسن نقلَه.
(3) أشرطة شرح الموقظة (الشريط العاشر، الجزء الثاني، الدقيقة 4 فما بعدها).(4/360)
وقد صرح العلامة المعلمي بالفرق بين العبارتين ؛ قال الكوثري في بعضهم : (ليس بقوي عند النسائي) فاستدرك عليه المعلمي في (التنكيل) (ص442) بقوله : (أقول : عبارة النسائي "ليس بالقوي" ، وبين العبارتين فرق لا أراه يخفى على الأستاذ ، ولا على عارف بالعربية ، فكلمة "ليس بقوي" تنفي القوة مطلقاً وإن لم تثبت الضعف مطلقاً ؛ وكلمة "ليس بالقوي" إنما تنفي الدرجة الكاملة من القوة ؛ والنَّسائي يراعي هذا الفرق ، فقد قال هذه الكلمة في جماعة أقوياء منهم عبد ربه بن نافع وعبد الرحمن بن سليمان بن الغسيل ، فبين ابن حجر في ترجمتيهما من (مقدمة الفتح) أن المقصود بذلك أنهما ليسا في درجة الأكابر من أقرانهما ؛ وقال في ترجمة الحسن بن الصباح : "وثقه أحمد وأبو حاتم ، وقال النسائي : صالح ، وقال في "الكنى" : ليس بالقوي ؛ قلت(1) : هذا تليين هين ، وقد روى عنه البخاري وأصحاب السنن إلا ابن ماجه ، ولم يكثر عنه البخاري") . انتهى كلام المعلمي .
وقال المعلمي أيضاً في (التنكيل) (ص708) في راو قال فيه الدارقطني (ليس بالقوي) : (أقول : كلمة الدارقطني تعطي أنه قوي في الجملة ، كما مر في ترجمة الحسن بن الصباح ، وأما الحفظ فليس بشرط ، كان علم الرجل في كتبه ومنها يروي وذلك أثبت من الحفظ) .
__________
(1) الضمير لابن حجر .(4/361)
وقال الدكتور قاسم علي سعد في (مباحث في علم الجرح والتعديل) (ص71) : (والنسائي قد قال في جماعة : "ليس بالقوي" ، وقال فيهم في موضع آخر : "ليس به بأس" أو : "ثقة " ؛ مما يدل على اختلاف مذهبه فيها عن مذهب الجمهور) . ثم ذكر بعض الأمثلة ؛ ثم قال (ص72) : (ولم ينفرد النسائي وأبو حاتم بالأمر المذكور(1) ، بل شاركهما غيرهما من الأئمة فيه) ، ثم نقل من (بيان الوهم والإيهام) ما تقدم نقله من كلام مؤلفه ابن القطان .
هذا وقد نفى التفريقَ بين عبارتَي (ليس بقوي) و(ليس بالقوي) بعضُ العلماء المعاصرين ؛ وأنا أرى أن الصواب التفريق ، كما تقدم شرحه .
ليس بالمتقن :
تحتمل أن يكون الراوي الموصوف بها صدوقاً له أوهام ، أو يكون لين الحديث ، وربما قيلت فيمن هو ضعيف ؛ فلا استغناء عن ملاحظة قرائن الكلام .
ليس بالمتقن وله مناكير :
هي بمعنى (له مناكير) ، مع أن الظاهر أن الحمل في تلك المناكير عليه.
ليس بالمتين :
هذه العبارة معناها كمعنى (ليس بالقوي) ، وقد تقدم بيانه قريباً.
ليس بالمشهور :
تقال هذه الكلمة في الراوي الذي لا يكثر حديثه أو لا يكثر الرواة عنه ، فيبقى مجهول الحال ؛ وقد يراد بها أنه ليس بمعروف أي مجهول العين ؛ انظر (مجهول).
ليس بثقة :
هذه الكلمة دالة عند عامة النقاد على هلاك الراوي وشدة ضعفه وسقوطه ، هذا هو الأصل في استعمالهم لها ، ولكنها تستعمل أحياناً لنفي المعنى الاصطلاحي لكلمة ثقة عن الراوي ؛ فإن كلمة (ليس بثقة) حقيقتها اللغوية نفي أن يكون الراوي أهلاً لأن يقال له (ثقة) ولا مانع من استعمالها بهذا المعنى.
__________
(1) يشير في حق أبي حاتم إلى قول الذهبي المتقدم نقلُه : (وبالاستقراء إذا قال أبو حاتم : "ليس بالقوي" يريد بها أن هذا الشيخ لم يبلغ درجة القوي الثبْت) .(4/362)
والحاصل أنه إذا قيل في الراوي : (ليس بثقة) فالمتبادر جرح شديد ؛ ولكن إذا كان هناك ما يشعر بأنها استعملت في المعنى الآخر - أي نفي المعنى الاصطلاحي - حملت عليه ، وهنا تكون هذه الكلمة محتملة لمعاني عديدة، وبعبارة أخرى فإنها تتسع لتشمل كل من هو دون الثقة توثيقاً تاماً أو شبه تام.
وإما إذا قيل : (ليس بثقة ولا مأمون) ، أو (ليس بثقة ولا يكتب حديثه) ونحو ذلك ففي مثل هذه الحال يتعين الجرح الشديد(1).
وقال عبد الله بن يوسف الجديع في (تحرير علوم الحديث) (1/623-625) في بيان معنى قول المحدثين (ليس بثقة) :
(هي عبارة جرح ، قلَّ أن تجدها مقولة في راوٍ إلا وهو شديد الضعف : متروكُ الحديث ، أو متهم بالكذب ، أو كذَّاب معروف ، خصوصاً في كلام يحيى بن معين والنسائي ، وقد أكثرا منها.
لكن ليس ذلك بإطلاق ، فقد وقعت منهم في جماعات من الرواة الضعفاء ، أو ممن في حفظهم بعضُ اللِّين ، وإنما تبيَّن ذلك بدراسة أحوال أولئك الرواة ممن قيلت فيهم هذه الكلمة .
مثلُ ما قال بشر بن عمر : سألت مالك بن أنس عن محمد بن عبد الرحمن الذي يروي عن سعيد بن المسيب ؟ فقال : " ليس بثقة " ، وسألته عن صالح مولى التوأمة ؟ فقال : " ليس بثقة " ، وسألته عن أبي الحويرث ؟ فقال : " ليس بثقة " ، وسألته عن شعبة الذي روى عنه ابن أبي ذئب ؟ فقال : " ليس بثقة " ، وسألته عن حرام بن عثمان ؟ فقال : " ليس بثقة " ، وسألت(2) مالكاً عن هؤلاء الخمسة ؟ فقال : " ليسوا بثقة في حديثهم "(3) .
__________
(1) انظر (التنكيل) (1/72-73 طبعة دار الكتب السلفية القاهرة).
(2) لولا أن هذا النص مثبت في كتاب مسلم لغلب على ظني أن الواو هنا زيدت خطأ من بعض النساخ .
(3) تتمة كلامه : (وسألته عن رجل آخر نسيت اسمه فقال : هل رأيته في كتبي؟ قلت : لا ، قال : لو كان ثقة لرأيته في كتبي). وهذا الأثر أخرجه مسلم في (مقدمة صحيحه) (ص26) في (باب بيان أن الإسناد من الدين----) ، وإسناده صحيح.
ومحمد بن عبد الرحمن هو ابن لَبيبة ، وأبو الحويرث اسمه عبد الرحمن بن معاوية ، وشعبة هو ابن دينار مولى ابن عباس .(4/363)
قلت : وليس في هؤلاء من يبلغ الترك سوى حرام بن عثمان ، بل هم بين صدوق ، أو(1) صالح يعتبر به). انتهى.
قلت : في هذا التمثيل نظر ، لأنه لم يقم دليل على أن هؤلاء غير متروكين عند مالك ، بل يظهر أنهم متروكون عنده ، ويظهر أنه إنما تركهم لأنه لا يثق بهم ، ومن ثَمَّ عبر عن ذلك في حق كل واحد منهم بقوله (ليس بثقة) ؛ فالترك عند مالك قد يكون له معنى آخر ، غير معنى الترك عند غيره من الجمهور ؛ فمالك لا يروي إلا عن ثقة عنده ، وهو يترك كل من لا يثق به ثقة كافية ، وهو يحرص على أن يروي عن الثقات عنده من أهل بلده ، يؤيد ذلك قوله في آخر الأثر المذكور (لو كان ثقة لرأيته في كتبي).
والحاصل أنه يظهر أن كلُّ متروكٍ عمداً عند مالك فهو غير واثق به في الرواية ، ومن ثمَّ فهو يطلق على هذا الصنف من الرواة كلمة (ليس بثقة)، ولذلك فإن هذه الكلمة إذا وردت في كلام مالك فممكن أن تحمل على نفي الوثاقة المحتج بصاحبها عند الجمهور، وممكن أيضاً أن تحمل على المتروكين عند مالك، ولو كان فيهم من هو ثقة عند جمهور النقدة، وهنا يجب مراعاة القرائن ليستبين المراد.
وتعقب ابن القطان الفاسي قول مالك ذلك في شعبة مولى ابن عباس فقال : " إن مالكاً لم يضعفه ، وإنما شحَّ عليه بلفظة : ثقة ، وقد كانوا لا يطلقونها إلا على العدل الضابط ---- وربما قالوا : (ليس بثقة) للضعيف أو المتروك ، فإذاً هو لفظ يتفسَّر مرادُ مطلِقِه بحسب حال من قيل فيه ذلك "(2).
__________
(1) لعلها واو.
(2) بيان الوهم والإيهام (5/325).(4/364)
وقال الخطيب بعد أن ذكر نماذج من ألفاظ بعض النقاد في الجرح بفعل بعض المباحات أو مواقعة بعض المكروهات ، أو فعل ما يختلف في تحريمه ، قال : " وكذلك قول الجارح : (إن فلاناً ليس بثقة) ، يَحتمل أن يكون لمثل هذا المعنى ، فيجب أن يفسَّر سببه "(1).
قلت : ويُصَدِّق هذا أن يحيى بن معين سُئل عن يونس بن خباب ؟ فقال : " ليس بثقة ، كان يشتم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن شتم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فليس بثقة "(2).
قلت : فأعاد ابن معين هذه اللفظة حين فسرها هنا إلى معنى غير الحديث .
فحيث(3)
__________
(1) قلت : هذا الإيجاب لا وجه له إلا إذا قوي احتمال أن يكون المراد جرحاً غير معتبر أو غير مؤثر ؛ وأما ابتداءً فقد عُرف الأصل في إطلاق هذه اللفظة ، وهو ما تقدم بيانه.
(2) سؤالات ابن الجنيد (559).
(3) إذا كان معنى (حيث) هنا هو الشرط والتقييد ، فالكلام صحيح مقبول في جملته، ولكن إذا كان معناها التعميم ، والتفريع على ما تقدم ، وكأن معنى (فحيث) هنا هو (فلما)، فحينئذ يكون هذا الاستنتاج غير مقبول.
وبعبارة أخرى : إن كان يريد أن يقول : لقد قام البرهان على أن دلالتها محتملة لأكثر من معنى ، فقد يراد بها الضعف المسقط أو غير المسقط ، بل الجرح المعتبر أو غير المعتبر ، ولذلك لا يصح عدُّها من قبيل الجرح الشديد بمجرد إطلاقها ، بل هي معدودةٌ في جملة ألفاظ الجرح المجملة ، لا يُعتد بها مجردةً حتى تفسَّر؛ أقول : إن كان يريد ذلك فكلامه مردود.
ويقوي كونَ هذا هو المراد قوله فيما يأتي (وعليه فهي لاحقة----) ، وهو كلام غير مقبول أيضاً .
ثم إن احتمال كونها جرحاً غير معتبر فهو احتمال غير معتبر ولا ملتفَتٌ إليه.
والتحقيق أن هذه اللفظة الأصل فيها أنها جرح شديد ، وهذا هو المتبادر.
وقد تقوم القرينة على أنها جرح معتبر ولكنه غير شديد فهو يُسقط صاحبه عن منزلة الاحتجاج ولا يُسقطه عن منزلة الاعتبار والاستشهاد، فهذا الاحتمال يُصار إليه بالقرائن الكافية.
ويندر بل يبعد أن يكون المراد جرحاً غير معتبر؛ ومعلوم أنه لا عبرة بالنادر من الاحتمالات ، ولا التفات إلى البعيد منها.(4/365)
قام الاحتمال في دلالتها على الضعف المسقط أو غير المسقط ، بل الجرح المعتبر أو غير المعتبر ، فإنه لا يصح عدها من قبيل الجرح الشديد بمجرد إطلاقها.
وعليه : فهي لاحقة بألفاظ الجرح المجملة ، لا يعتد بها مجردة حتى تفسَّر.
نعم ، رد ابن حجر تأويل ابن القطان المتقدم بقوله : " هذا التأويل غير شائع ، بل لفظة (ليس بثقة) في الاصطلاح يوجب الضعف الشديد"(1).
قلت : وابن حجر مسبوق إلى اعتبار هذا المعنى ، فحين قال الجوزجاني في سعيد بن كَثير بن عُفير : " فيه غير لون من البدع ، وكان مخلطاً غير ثقة "(2) ، تعقبه ابن عدي بقوله : " هذا الذي قال : فيه غير لون من البدع ، فلم يُنسَب ابن عفير المصري إلى بدعٍ ، والذي ذكر أنه غير ثقة ، فلم ينسبه أحد إلى الكذب "(3).
قلت : فدل هذا على أن ابن عدي مِن قَبْلُ كان يحملها عنهم على الضعف الشديد الذي يبلغ بالراوي حد الكذب ، وذلك فيما يبدو من خلال ما وجده عنهم في أكثر استعمالهم كما ذكرتُ أولاً) . انتهى كلام الجديع.
وانظر (ثقة) .
ليس بثقة زوَّر طبقة :
انظر (ليس بثقة) و(زوَّر طبقة) .
ليس بثقة ولا مأمون :
انظر (ليس بثقة) ، فهذه مشروحة تحت تلك .
ليس بحجة :
تطلق هذه العبارة على كل من لا يحتج به من الرواة، سواء كان صالحاً للاستشهاد أو غير صالح له.
وذكر عبدالله الجديع في (التحرير) (1/595) أنها في معنى قولهم (لا يحتج به) ، قلت : ولكني أرى أن استعمالهم لفظة (ليس بحجة) في الطعن الشديد أكثر من استعمالهم (لا يحتج به) فيه، أعني في الطعن الشديد؛ والله أعلم.
ليس بحجة ، له أوهام :
هي على ما يظهر بمعنى كلمة (صدوق يهم)؛ وقارن - بتأمل - بينها وبين (ليس بحجة) ، فهنا الغمز مفسَّر ، وأما الكلام هناك أي في قولهم (ليس بحجة) فيحتمل نفي الاحتجاج بالراوي معان كثيرة كما تقدم بيانه .
__________
(1) تهذيب التهذيب (2/170-171).
(2) أحوال الرجال (277) .
(3) الكامل (4/471).(4/366)
ليس بحجة يُكتب حديثه اعتباراً :
هي بمعنى (يعتبر بحديثه)، فانظرها.
ليس بذاك :
قال عبد الله بن يوسف الجديع في (تحرير علوم الحديث) (1/595-598) في بيان معنى هذه اللفظة عند النقاد :
(وقعت في كلامهم بكثرة ، وهي صيغة جرح ، تتبعتُها فوجدتها قد اطَّردتْ في تليين الراوي الموصوف بها ، لكنها درجات متفاوتة في التليين :
فأُطلقتْ على من دون الثقة .
وأُطلقتْ على الصدوق الذي يُعدُّ حديثُه المحفوظ من قبيل الحديث الحسن ----.
ولا تعني السقوط بأي اعتبار ، فإن وجدتَها وُصف بها مَن هو متروك أو متهم ، فذلك ممن قالها لعدم اطلاعه على سبب شدة الجرح في ذلك الراوي .
وحيث وقع استعمالها فيما يتردد في الدرجات المتفاوتة احتجاجاً واعتباراً ، فلا يصح عدُّها سبباً لرد حديث الموصوف بها ، حتى يحدد معناها بغيرها ؛ بل الحقُّ أن ما يتفرد به الراوي الموصوف بها بحق : يكون ضعيفاً مردوداً.
وتجد في كلامهم يذكرون تلك العبارة مضافة إلى لفظة مفسِّرة ، وهي عندئذ بحسبها ، فيقولون : (ليس بذاك الثقة) ، و (ليس بذاك المعروف) ، و (ليس بذاك المشهور) , و (ليس بذاك القوي) ، وهذه عبارات متكررة في كلامهم ، سوى الأولى منها فهي نادرة) . انتهى كلامه.
وانظر (ليس بقوي).
ليس بذاك القوي :
هي بمعنى (ليس بالقوي ) أو (ليس بذاك) ، فانظرهما.
ليس بشيء :
معنى كلمة (الشيء) في العرف واللغة معروفٌ، فهو الاسم الذي يصح أن يطلق على كل موجود ؛ وأما قول أهل الحديث في الراوي (ليس بشيء) فهو على طريق المبالغة في الذم ، فلذلك وُصف بصفة المعدوم ، وكأنه وصف بذلك لأنه لا يُنتفع بمروياته؛ قال ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل) في ترجمة خالد بن أيوب البصري (3/321) : (ذكره أبي عن إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين أنه قال : خالد بن أيوب لا شيء ، يعني ليس بثقة ؛ وسمعت أبي يقول : هو مجهول منكر الحدبث ) .(4/367)
وقال المنذري في (جزئه الذي أجاب فيه على مسائل في الجرح والتعديل) (ص55) : (وأما قولهم : فلان ليس بشيء ، ويقولون مرة : ليس حديثه بشيء ؛ فهذا يُنظر فيه ، فإن كان الذي قيل فيه هذا قد وثقه غيرُ هذا القائل واحتج به ، فيحتمل أن يكون قوله محمولاً على أنه ليس حديثه بشيء يُحتج به ، بل يكون حديثه عنده يكتب للاعتبار والاستشهاد وغير ذلك .
وإن كان الذي قيل فيه ذلك مشهوراً بالضعف ولم يوجد من الأئمة من يحسِّن أمرَه فيكون محمولاً على أن حديثه ليس بشيء يحتج [به] ولا يعتبر به ولا يستشهد به ؛ ويلتحق هذا بالمتروك ؛ والله عز وجل أعلم) . انتهى كلام المنذري .
تنبيه : قول من قال إن ابن معين كان أحياناً يريد بقوله في الراوي (ليس بشيء) تقليل حديثه لا تضعيفه دعوى لا تصح ، وإليك أدلة رد تلك الدعوى .(4/368)
قال الحاكم أبو عبد الله في كثير بن شنظير - على ما في ترجمته من (تهذيب التهذيب) : (قول ابن معين فيه (ليس بشيء) ، هذا يقوله ابن معين إذا ذُكر له الشيخ من الرواة يقلُّ حديثُه ، ربما قال فيه : ليس بشيء ، يعني لم يُسند من الحديث ما يشتغل به)(1) .
وقال الحاكم في سلم بن زرير كما في (تهذيب التهذيب) (4/130) : (أخرجه محمد [يعني البخاري] في الأصول ، ومسلم في الشواهد، وضعفه يحيى بن معين ، لقلة اشتغاله بالحديث ، وقد حدث بأحاديث مستقيمة )(2) .
__________
(1) أقول : هذا خلاف الظاهر فلا يقبل إلا بدليل ، ولا دليل ، ومن المعروف أن الرواة المقلين أكثر بكثير جداً من المكثرين ، وكلمة الحاكم هذه إما أن يكون ذكرها في ترجمة كثير هذا فتبعه في ذلك ابن حجر أو يكون قد ذكرها في ترجمة غيره وابن حجر هو الذي ذكرها في ترجمة كثير . وعلى فرض صحة هذه الدعوى التي قالها الحاكم فالحاكم ملوم في أحد الاحتمالين اللذين ذكرتهما دون الآخر ، وابن حجر ملوم على كلا الاحتمالين ، أما الحاكم فيلام إن كان ذكرها في ترجمة كثير ، لا إن كان ذكرها في ترجمة من لم يرو عنه الا نحو ثلاثة من الرواة نحو ثلاثة من الأحاديث ، وأما ابن حجر فإن كان قد سبقه الحاكم الى ذكرها في ترجمة كثير فهو ملوم لعدم التعقب ، وإلا فأولى كما هو واضح ، فلا وجه لذكرها في ترجمة كثير هذا لأنه ليس من المقلين الذين يتبادر الى الذهن عند سماع مثل كلمة ابن معين - على افتراض أن ما قاله الحاكم صحيح - انها قيلت فيهم بسبب اقلالهم . ومن روى عنه كل هؤلاء الذين ذكرهم المزي ويحتمل أن يوجد معهم غيرهم ففي وصفه بالاقلال نظر ، وكثرة كلام العلماء فيه تقوية وتضعيفاً ان لم تدل على اكثاره فهي دالة قطعاً على عدم اقلاله .
(2) وأما كلمة الحاكم في سلم بن زرير فلا دخل لها بما نحن فيه ، وإنما ذكرتها لأذكر وجهها بحسب ما ظهر لي ولأدفع ما قد يُظن من أنها مؤيدةٌ لمذهب الحاكم وابن القطان في هذه المسألة.
لم يقل الحاكم في سلم أن ابن معين قال فيه (ضعيف) وأنه يريد بذلك قلة اشتغاله بالحديث ، وإنما قال ان ابن معين ضعفه لقلة اشتغاله بالحديث ، ويظهرُ - بقليل من التأمل - أن ذلك ليس مما نحن بصدد الكلام فيه ، لأن موضوعنا هو معنى قول ابن معين (ليس بشيء) ، ليس موضوعنا قاعدة ابن معين في نقد المقلين.
إذا عُلم هذا فإنه يبقى أمر آخر ، وهو أن عبارة الحاكم هذه لا بد من توجيهها التوجيه اللائق بها ، فإنه لمن البعيد المستغرب أن يضعف إمامُ الجرح والتعديل أحداً من الرواة لمجرد قلة روايته ، ومتى كانت قلةُ الحديث عند العلماء سبباً للطعن في المقلين ؟ ولقد وثق ابن معين وأقرانه وتلامذته وغيرهم من الأئمة مئاتٍ من المقلين .
فلعل الحاكم أراد بقوله هذا أن سلماً ليس من أهل الرواية الذين يعنون بها ويضبطونها وإنما هو مقل صاحب أوهام وليس بصاحب حديث ولا الحديث من صنعته ، فيضعف لأوهامه فيه لا لمجرد قلة اشتغاله به ؛ ومن المقرر في أصول النقد أن أخطاء المقل تؤثر في حاله ملا يؤثر قدرُها في حال المكثر ، فالمكثر يُحتمل له من الخطأ ما لا يحتمل للمقل.
وبعد هذا بقي أن يقال : إن كان ما ذكره الحاكم في تعليل تضعيف ابن معين لسلم بن زرير قاله من عند نفسه من غير أن يأثرَه عن ابن معين نفسه فإنه يكون حينئذ اجتهاداً من الحاكم أو استنباطاً منه ، فليس بلازم أن يكون مصيباً فيه ، لاحتمال أن يكون قد بناه على استقراء ناقص ، واحتمال أنه كان مخطئاً في طريقة الاستنباط والاستدلال.(4/369)
وقال ابن القطان في (بيان الوهم والإيهام) (5/565) : ((وقول ابن معين فيه [يريد صالح بن رستم البصري] " لا شيء " معناه(1) فيه أنه ليس كغيره ، فإنه قد عُهد يقول ذلك فيمن يقل حديثه فاعلم ذلك ) .
وقال في موضع آخر من (بيان الوهم والإيهام) : (وما روى ابن أبي خيثمة عن ابن معين من قوله فيه [أي في بكار بن عبد العزيز الثقفي] " ليس بشيء " ، إنما يعني بذلك قلة حديثه ، وقد عُهد يقول ذلك في المقلين ، وفسر قوله فيهم ذلك بما قلناه ) .
ونقل عنه ابن حجر في (هدي الساري) (ص 421) أنه قال : (ليس بشيء عند ابن معين يعني أحاديثه قليلة) .
ويظهر أن هذا نقلٌ بالمعنى للعبارة السابقة.
وقال ابن حجر في ترجمة عبد العزيز بن المختار البصري من (هدي الساري) (ص590) : (وثقه ابن معين في رواية ابن الجنيد وغيره ، وقال في رواية ابن أبي خيثمة عنه : ليس بشيء) إلى أن قال :
(قلت : احتج به الجماعة ، وذكر ابن القطان الفاسي أن مراد ابن معين بقوله في بعض الروايات (ليس بشيء) يعني أن أحاديثه قليلة جداً ).
__________
(1) أي مراد ابن معين .(4/370)
وقال المعلمي في (طليعة التنكيل) (ص49) : (فابن معين مما يطلق : ليس بشيء ، لا يريد بها الجرح ، وإنما يريد أن الرجل قليل الحديث ---- ويأتي تحقيق ذلك في ترجمة ثعلبة من (التنكيل) ؛ وحاصله أن ابن معين قد يقول : (ليس بشيء) على معنى قلة الحديث ، فلا تكون جرحاً، وقد يقولها على وجه الجرح كما يقولها غيره ، فتكون جرحاً، فإذا وجدنا الراوي الذي قال فيه ابن معين (ليس بشيء) قليل الحديث وقد وُثق وجب حمل كلمة ابن معين على قلة الحديث لا الجرح ، وإلا فالظاهر أنها جرح )(1).
وذكر الدكتور أحمد محمد نور سيف في مقدمته لـ(تاريخ الدوري عن ابن معين) أن لفظة (ليس بشيء) و (ليس بثقة) و (ضعيف) تعني عند ابن معين غالباً الضعف الشديد ، وذكر أيضاً أنه قد يطلق (ليس بشيء) ويريد بها التجهيل ، وأحياناً يريد بإطلاقها حالة دون أخرى ، فيرى الراوي مقبولاً في حالة غير مقبول في غيرها ؛ وذكر حالات أخرى لذلك ، ثم نبه على ضرورة استقراء ودراسة هذا المصطلح من ابن معين ؛ وانظر المقدمة المذكورة (1/115-119 و 204-209) .
وقال الدكتور قاسم علي سعد في (مباحث في علم الجرح والتعديل) (ص60) بعد أن نقل طائفة من أقوال من قالوا أن مراد ابن معين بلفظة (ليس بشيء) قلة الحديث :
(وكأن الذهبي لم يتنبه لهذا التنوع عند ابن معين في هذه اللفظة ، فقال في (الميزان) في ترجمة عبد العزيز بن المختار البصري الدباغ (2/643) : (ثقة حجة ، وما عرفت سببَ قول ابن معين فيما سمعه يقول أحمد بن زهير : ليس بشيء ) .
__________
(1) أقول : القلة والتوثيق لا تكفيان، لا بد من شيء آخر ، وهو قرينة السياق ، مثل أن يقارِن ابن معين بين قرينين فيقول : فلان مكثر ، وفلان ليس بشيء ؛ أو يُسأل عن راو مقل قليل العناية بالرواية مقروناً ببعض أقرانه من الحفاظ المكثرين ، فيجيب بقوله (ليس بشيء) أي لا يحسن أن يقارن بهؤلاء الحفاظ الأثبات المكثرين.(4/371)
ولا يحتمل هنا إلا أنه قصد أن أحاديثه قليلة ، وذلك لأن ابن معين وثق عبد العزيز كما في تاريخ الدوري .
وقال الذهبي في (الميزان) أيضاً في ترجمة ثعلبة بن سهيل الطُّهَوي (1/371) : (قال أبو الفتح الأزدي : قال ابن معين : ثعلبة بن سهيل ليس بشيء . قلت : هذه رواية منقطعة ، والصحيح ما روى إسحاق الكوسج عن ابن معين : ثقة ، أو لعل ليحيى فيه قولان [كذا] . والله أعلم .
ولو تبين له مقصد الإمام ابن معين في لفظة (ليس بشيء) في بعض الروايات لما شكك في أحد قوليه(1) . والله أعلم ) . انتهى كلام الدكتور قاسم .
وقال مؤلفا (تحرير التقريب) الدكتور بشار والشيخ شعيب (1/41) :
(وقول ابن معين في الراوي ليس بشيء ، يعني أن أحاديثه قليلةٌ ، أحياناً ؛ ويعني تضعيف الراوى وسقوطه أحياناً ) .
وقال الشيخ عبد الله السعد : ( "ليس بشيءٍ" عند ابن معين ، تعني أنّ الراوي ضعيف جداً، ولكن أحياناً تعني أنّ أحاديثه قليلة).
وقال عبد الفتاح أبو غدة في تعليقه على (الرفع والتكميل) (ص382-389) بعد أشياء ذكرها :
(فهذه ثلاثون شاهداً وقفت عليها مصادفةً خلال اشتغالي ومراجعاتي - والتتبع ينفي الحصر - تدل أوضح دلالة على أن ابن معين يريد فيها من قوله في الراوي (ليس بشيء) ضعْفَه لا قلةَ أحاديثِه).
__________
(1) وفي هذا الجزم نظر ، وما يبعد أن الذهبي وقف على كلام ابن القطان المتقدم أو كلام الحاكم ثم لم يرتضه ، ثم هل ثبت أن هذين كانا مقلين جداً ؟
ثم إن رد الرواية المنقطعة بل التي يرويها مع ذلك الأزدي أولى بكثير من حمل كلمة ابن معين على هذا المعنى الذي لم يثبت بدليل معتبر ، والذي يخالف قول الجمهور ، ويخالف أيضاً مذهب أبي حاتم أو ابنه ، بحسب ما يدل عليه ظاهر عبارته المذكورة في أول هذا الفصل.(4/372)
ثم قال : (إن معنى التضعيف من هذه الجملة "ليس بشيء" هو المعنى الحقيقي لها ، والمستعملة فيه ، فلا يُعدل عنه إلا بقرينة صارفة تدل على أنه يريد من هذه الكلمة قلةَ أحاديث الراوي لا تضعيفه) .
وانظر أيضاً تعليق عبد الفتاح أبو غدة على (الرفع والتكميل) (ص153-155) ، وعلى (قواعد في علوم الحديث ) للتهانوي (ص263) ، وعلى (المنار المنيف) للإمام ابن القيم (ص43) ، ومقدمة محمد عوامة لكتاب (الكاشف) للذهبي (1/67-68) - وفي كلامه بعض الفوائد - ، وترجمة جراح بن منهال من (التنكيل) (ص422) .
ثم وجدت صاحب (تحرير علوم الحديث) قد قال (1/619-621) : (ولم يبدُ لي صحةُ ما قاله الحاكم في أكثر من أطلق عليهم ابنُ معين هذه العبارة ، وهو قد أطلقها على عدد كثير من الراوة ، وجدت أكثرهم من المعروفين بالرواية ، لكنهم من الضعفاء والمتروكين والمتهمين ، ومثاله منتشر جداً في الروايات عن ابن معين.
نعم ، يوجد في بعضهم من يُمْكن وصفُه بقلة الرواية ، على ضعفه ، لكن لا يصِحُّ أن يُحمل عليه مراد يحيى ؛ لأنه الأقلُّ، مقارنةً بالصنف الآخر .
والصواب أن عبارة يحيى هذه : عبارة جرح مجملة في تحديد قدر الجرح وسببه----.
نعم ، ربما دل على شدة ضعف الموصوف بها أيضاً عند الناقد اقترانُها بما يدل على ذلك ، مثل قول علي بن المديني في أبي بكر الدَّاهريِّ : " ليس بشيء ، لا يكتب حديثه " فعبارة "لا يكتب حديثهُ " لا تقال إلا في شديد الضعف ، ومن يعود ضعفه في الأصل إلى روايته .
وقال يحيى بن معين في عمر بن موسى الوجيهيِّ : " ليس بشيء " ، وفي موضع آخر : " كذَّابٌ ، ليس بشيء " ----.(4/373)
وقال يحيى بن معين في معلى بن زياد القُردوسيِّ : " ليس بشيء ، ولا يكتب حديثه " ، فتعقبه ابنُ عدي بقوله : " لا أرى بروايته بأساً ، ولا أدري من أين قال ابن معين : لا يكتب حديثه ، وهو عندي لا بأس به "(1).
فتأمَّل استدراك ابن عدي ، فلم يتعقب يحيى في قوله ( ليس بشيء ) ، إنما في قوله : ( لا يكتب حديثه ) ، فدل على أن ( ليس بشيء ) وحدها عندهم لم تكن تدل على تفسير قدر الجرح لذاتها ، ويمكن حملُها على أدنى الجرح عندما يتبين من حال الراوي أنه لا يتجاوز ذلك .
ويلتحق بها قولهم : ( لا يساوي شيئاً ) ، وإن كانت قليلة الاستعمال ، فقد تتبعها فوجدتها كذلك) .
قلت : ومن أقدم تفسيرٍ لقول ابن معين (لا شيء) ما حكاه ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل) (2/1/321) في ترجمة خالد بن أيوب البصري إذ قال : (ذكر أبي عن إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين أنه قال : خالد بن أيوب لا شيء ، يعني ليس بثقة ) ؛ قلت : والظاهر أن ابن معين لم يكن عنده فرق بين قوليه في الرواة (ليس بشيء) و(لا شيء) ؛ والله أعلم.
مناقشة التفسير الذي ادعاه الحاكم ومن تبعه أو وافقه
__________
(1) علق الجديع على هذا الموضع بقوله (الكامل ( 8 / 98 ) وفيه ( 8 / 97 ) نقل قوْل ابنِ معين من رواية ابن أبي مَريم عنهُ بإسناد صحيح . وهذا الرجل يَبدو أن الرواية فيه عن ابن مَعين قد تناقضت ، فقد روى عنه إسحاق بنُ منصور قوله فيه : " ثقة " ( الجرح والتعديل 4 / 1 / 331 ) ، وهوَ الصواب فيه ، وقد وثَّقه كذلك أبو حاتم الرازي وغيره . ورُبما قالَ يحيى تلك العبارة في رواية ابن أبي مريم في ( مُعلَّى ) آخر ، والله أعلم).(4/374)
أقول : لا أعلم أحداً ذكر هذه المسألة قبل الحاكم ، ولا أعلم أحداً قبل ابن القطان تابعه عليها ، وابن حجر على سعة اطلاعه لم ينقلها عن غير ابن القطان ؛ وابن القطان ناقد محقق مجتهد ثاقب الفطنة وقاد الذهن(1) ولكن ما قاله دعوى عارية عن الدليل مخالفة للظاهر المعروف المشهور فلا تقبل منه .
وكذلك لا أعلم أحداً ممن تابعهما على هذه الدعوى ، ممن تقدم ذكرهم أو من غيرهم ، ذكر أنه استقرأ هذه القضية استقراء تاماً.
وإذا تبينَ هذا تبينَ أننا إذ أردنا ردّ هذه الدعوى فإننا لن نحتاج لردها - بعد ما تقدم - إلا إلى شيء واحد ، وهو توهين قول أول من ادعاها ، وهو أبو عبد الله الحاكم ؛ فإليك ذلك.
تفسير الحاكم لمصطلح ابن معين هذا أورده ابن حجر في ترجمة كثير بن شنظير من (تهذيب التهذيب) ؛ فإليك ترجمته لتكون أساساً لرد دعوى الحاكم وتوهينها وتوهيتها :
قال ابن حجر : (كَثِيْرُ بنُ شنْظِير المَازِنِيّ ، ويقال : الأَزْدِيّ ، أبو قُرّة البَصْرِيّ؛ روى عن : عطاء ، ومجاهد ، والحسن ، ومحمد وأنس ابني سيرين ، ويوسف بن أبي الحكم ، وغيرهم.
وعنه : سعيد بن أبي عروبة ، وحماد بن زيد ، وعبد الوارث بن سعيد ، وأبان بن يزيد العطار ، وحفص بن سليمان الغاضري ، وأبو عامر الخزاز ، وعباد بن عباد ، وبشر بن المفضل ، وجماعة.
قال عبد اللّه بن أحمد : سألت أبي عنه ، فقال : صالح ، ثم قال : قد روى عنه الناس(2)
__________
(1) وإن كان كثير المخالفة لأئمة الحديث في أصولهم ومنهجهم .
(2) هذه العبارة تدل على كثرة مروياته ، وهو ما يشعر به سياق ابن حجر فإنه ذكر في الرواة عنه ثمانية من كبار المحدثين ثم عطف عليهم جماعة .
بل قال المزي :
"روى عنه : أبان بن طارق, وأَبان بن يزيد العَطّار, والأسود بن شَيْبان, وبِشْر بن جَبَلة القُرَشيّ, وبِشْر بن المُفَضّل, والحارث بن نَبْهان, وحفص بن سُليمان الأسَديّ الغاضِريّ (ق), وحفص بن عمر البَزّاز, وحماد بن زيد, (خ م د ت), وحماد بن يحيى الأبَح, وسعيد بن أبي عَروبة, وصالح بن رُستم أبو عامر الخَزّاز, وعَبّاد بن عَبّاد المُهَلّبيّ, وعبد الوارث بن سعيد (خ م), وهشام بن حَسّان".(4/375)
واحتملوه ، وقال مرة : صالح الحديث.
وقال إسحاق بن منصور عن ابن معين : صالح.
وقال الدوري عن ابن معين : ليس بشيء.
وقال عمرو بن علي : كان يحيى بن سعيد لا يحدث عنه ، وكان ابن مهدي يحدث عنه.
وقال أبو زرعة : لين.
وقال النسائي : ليس بالقوي.
وقال ابن عدي : أرجو أن تكون أحاديثه مستقيمة.
له في البخاري حديثان فقط ، أخرج مسلم أحدهما ، هو حديث جابر في السلام على المصلي ، وأبو داود ، والترمذي ، والاَخر وهو حديث جابر : (خمروا الآنية) ، وابن ماجه حديثان حديث أنس طلب العلم فريضة.
قلت(1) :
وقال ابن سعد : كان ثقة إن شاء الله.
وقال ابن عدي : ليس في حديثه شيء من المنكر .
وقال الأثرم : سئل أبو عبد اللّه عن كثير بن شنظير هو صحيح الحديث ، أو قيل : ثبت الحديث ، قال : لا ، ثم قال كلاماً معناه يكتب حديثه.
وقال الساجي : صدوق ، وفيه بعض الضعف ليس بذاك ، ويحتمل لصدقه .
وقال الحاكم : قول ابن معين فيه ليس بشيء هذا يقوله ابن معين إذا ذكر له الشيخ من الرواة يقل حديثُه ، ربما قال فيه : ليس بشيء ، يعني لم يسند من الحديث ما يشتغل به.
وقال البزار : ليس به بأس.
وقال ابن حزم : ضعيف جداً).
انتهت الترجمة ، فإليك مناقشة دعوى الحاكم :
الرد على دعوى الحاكم من وجوه :
الوجه الأول : إن هذه الدعوى خلاف الظاهر ، لأنها خلاف الأصل ، وهو ما اشتهر من معنى هذه الكلمة في قول وعمل عامة المحدثين ، ومنهم ابن معين(2)
__________
(1) هذا رمز الحافظ ابن حجر إلى انتهاء كلام المزي.
(2) قال المنذري رحمه الله في (جزئه) الذي أجاب فيه على مسائل في الجرح والتعديل (ص55) :
(وأما قولهم (فلان ليس بشيء) ، ويقولون مرة : (ليس حديثه بشيء) ؛ فهذا ينظر فيه :
فإن كان الذي قيل فيه هذا قد وثقه غيرُ هذا القائل واحتج به ، فيحتمل أن يكون قولُه محمولاً على أنه ليس حديثُه بشيء يحتج به ، بل يكون حديثه عنده يكتب للاعتبار والاستشهاد وغير ذلك .
وإن كان الذي قيل فيه ذلك مشهوراً بالضعف ولم يوجد من الأئمة من يحسن أمره فيكون محمولاً على أنه حديثه ليس بشيء يحتج [به] ولا يعتبر به ولا يستشهد به ؛ ويلتحق هذا بالمتروك والله عز وجل أعلم) .(4/376)
؛ فلا تقبل إلا بدليل متين(1) ؛ ولا سيما إذا كان من ادعاها مثل الحاكم ؛ فإن الحاكم - وإن كان من كبار أهل الحديث - ولكنه لم يكن من أهل الغوص على المعاني الدقيقة المحققين لصغير تفاصيلها وضيِّق فروعها ؛ بل إن له في نقده تسرعاً وأوهاماً غير قليلة وشطحات.
الوجه الثاني : إن هذا الراوي ، أعني كثير بن شنظير - كما ترى - مختلفٌ فيه بين علماء الجرح والتعديل ، فلا يلزمنا القول بأن ابن معين كان له فيه قولٌ واحد ، ولا سيما أن ابن معين له أقوال متعددة في كثير من الرواة ، فليس غريباً منه أن يكون له قولان في هذا الراوي.
فالقول أن ابن معين اختلف فيه كلامه أولى من تأويل بعض كلامه فيه بما هو خارج عن طريقة الاصطلاح ومخالف لأصل المحدثين في الكلام على الرواة ، ولا سيما أن كلمته الأخرى (صالح) ليست ببعيدة عن التجريح ، بل عدها بعض العلماء من ألفاظ التليين عند الأئمة ، وهو الظاهر ، بل عدها بعضهم إذا قالها ابن أبي حاتم أو أبوه تجريحاً .
وهذا مبني على افتراض أن الحاكم ذكر هذا التفسير في ترجمة كثير بن شنظير ، كصنيع ابن حجر .
الوجه الثالث : إن كثيراً هذا ليس مقلاً جداً ، كما مر بك .
وهذا الوجه مبني على ما بنيتُ عليه الوجهَ الثاني(2) .
__________
(1) ولا دليل ؛ فالحاكم لم يذكر مستنده فيما ادعاه ؛ وليس هو من تلامذة ابن معين ، بل بين الرجلين مفاوز.
(2) كلمة الحاكم هذه إما أن يكون ذكرها في ترجمة كثير هذا ، فتبعه في ذلك ابن حجر ، أو يكون قد ذكرها في ترجمة غيره وابن حجر هو الذي ذكرها في ترجمة كثير .
وعلى فرض صحة هذه الدعوى التي قالها الحاكم فالحاكم ملوم في أحد الاحتمالين اللذين ذكرتهما دون الآخر ، وابن حجر ملوم على كلا الاحتمالين .
أما الحاكم فيلام إن كان ذكرها في ترجمة كثير ، لا إن كان ذكرها في ترجمة مقلٍّ، كمن لم يُروَ عنه إلا نحو ثلاثة من الرواة نحو ثلاثة من الأحاديث .
وأما ابن حجر فإن كان قد سبقه الحاكم إلى ذكرها في ترجمة كثير فهو ملوم على إقراره وعدم تعقبه ، وإلا فهو ملوم من باب أولى ، كما هو واضح .
والحاصل أنه لا وجه لذكرها في ترجمة كثير هذا لأنه ليس من المقلين الذين يتبادر إلى الذهن عند سماع مثل كلمة ابن معين - على افتراض أن ما قاله الحاكم صحيح - أنها قيلت فيهم بسبب إقلالهم .
ومن روى عنه كل هؤلاء الذين ذكرهم المزي ويحتمل أن يوجد معهم غيرهم ففي وصفه بالإقلال نظر ؛ ثم إن كثرة كلام العلماء فيه تقوية وتضعيفاً إن لم تدل على إكثاره فهي دالةٌ قطعاً على عدم إقلاله(4/377)
الوجه الرابع : إنه من المعروف أن الرواة المقلين أكثر بكثير جداً من الرواة المكثرين ، فلو كان التفسير الذي ادعاه الحاكم صحيحاً لاشتهر عن ابن معين ، لكثرة كلامه في الرواة ، مَن كان مقلاً منهم ومَن كان مكثراً(1) .
وأخيراً فأنا لا أدعي أن ابن معين لم يقع منه البتةَ أنه قال في راو : (ليس بشيء) قاصداً بذلك قلة حديثه ؛ فربما وقع ذلك ؛ ولكنه على افتراض وقوعه فهو نادر بحيث لم يلتفت إليه المتقدمون سوى الحاكم.
ولذلك - وعلى افتراض التسليم بوقوعه أيضاً - فإنه لا يُقبل تفسير قول ابن معين في أحد من الرواة (ليس بشيء) بمعنى القلة ، إلا بعد قوة القرائن وانتفاء الموانع.
وانظر (لا شيء) و(حديثه ليس بشيء) .
ليس بعمدة :
هذه من الألفاظ الدالة على كون الراوي متروكاً ، فهي مثل (غير معتمد).
ليس بقوي :
انظر (ليس بالقوي) .
ليس بقوي في الحديث :
هي بمعنى التي قبلها كما هو واضح.
ليس بمأمون :
هذه من ألفاظ التجريح الشديد، إذ هي إسقاط لعدالة الراوي واتهام له فيها .
ليس بمتقن :
انظر (ليس بالمتقن).
ليس بمتقن ولا بمعتمد :
أي هو ضعيف لا يحتج به ؛ وانظر (غير معتمد).
__________
(1) وأما ابن حجر فإنه يتراءى لي أنه استأنس بهذه الكلمة استئناساً، ولم يحتج بها احتجاجاً، وأنه تساهل في نقلها ، لحاجته إليها ، ذاك لأن المعروف من عادة ابن حجر أنه إذا نقل شيئاً يرتضيه فإنه يصرح بإقراره وموافقته ، ولا سيما في الفصل التاسع من (مقدمة الفتح) فإنه فيه قائم مقام المدافع عن رجال الإمام البخاري .
وأما كلمة ابن القطان فإن ابن حجر اقتصر على نقلها عنه ونسبتِها إليه ، لم يزد على ذلك شيئاً ؛ ثم إن صنيع ابن حجر في كتبه غير موافق لهذا الأصل الذي نقله عن الحاكم وابن القطان .
وأما من قالها بعد ابن حجر فمستند على تلك الكلمة غير متفرغ لتحقيق الحق في المسألة ، والله أعلم .(4/378)
ليس بمحكم الحديث :
عبارة تضعيفٍ لمن وُصف بها من الرواة ؛ قال أبو داود في (سؤالاته) (ص216) (182) : (قلت لأحمد : سعد ، أعني ابن سعيد ؟ قال : ليس هو مثل هؤلاء ، أعني أخَوَيه ، يحيى وعبد ربه ؛ سعد ليس بمحكم الحديث) .
وقال ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل) (5/336) (1590) في ترجمة عبيد الله بن الوليد الوصافي : (نا محمد بن حمويه بن الحسن قال سمعت أبا طالب قال : قال أحمد بن حنبل : عبيد الله الوصافي ليس بمحكم الحديث ، يكتب حديثه للمعرفة) .
وقال الذهبي في (ميزان الاعتدال) (7/80) (9232) في ترجمة هشام بن سعد المخزومي مولاهم : (قال أحمد : لم يكن بالحافظ ، وكان يحيى القطان لا يحدث عنه ؛ وقال أحمد أيضاً : لم يكن محكم الحديث ؛ وقال ابن معين : ليس بذاك القوي وليس بمتروك ؛ وقال النسائي : ضعيف ، وقال مرةً : ليس بالقوي ؛ وقال ابن عدي : مع ضفعه يكتب حديثه----).
ليس بمَحَِلٍّ للحجة :
أي لا تقوم الحجة بما يتفرد به ، ثم إنه لا يلزم من ذلك أن يكون صالحاً للاستشهاد به ، بل قد يكون متروكاً.
قال المعلمي في (التنكيل) (ص445) في ترجمة ابن المذهب : (وأما الأمر الثالث وهو قول الخطيب : (وليس بمحل للحجة) فحاصله أنه لا تقوم الحجة بما يتفرد به ، وهذا لا يدفع أن يعتمد عليه في الرواية عنه من مصنف معروف كـ(المسند) و(الزهد) ----) .
ليس بمرضي :
هي بمعنى (غير مرضي) ؛ والأقرب أنها من الألفاظ الدالة على كون الراوي متروكاً .
ليس بمشهور :
هذه اللفظة يستعملها أحياناً النسائي وغيره من المتقدمين والذهبي وغيره من المتأخرين يريدون بذلك جهالة العين ؛ واستعملها جماعة بمعنى آخر ، فقد قال علي بن المديني في داود بن عامر بن سعد بن أبي وقاص : (ليس بالمشهور) ، مع أنه روى عنه جماعة ؛ وكذا قال أبو حاتم الرازي في إسحاق بن أسيد الخراساني : (ليس بالمشهور) مع أنه روى عنه جماعة من المصريين لكنه لم يشتهر حديثه بين العلماء .
وانظر (مجهول) .(4/379)
ليس بمعتمد :
انظر (غير معتمد) و(ليس بمتقن ولا معتمد) .
ليس بمقنع :
هذه مثل (ليس بمرضي).
ليس به بأس :
انظر (لا بأس به) ، فهي بمعناها ، وانظر (يكتب حديثه).
ليس به بأسٌ يكتب حديثه :
انظر (يكتب حديثه).
ليس به بأس في حديث الرقاق (أو حديث الرقائق) :
يؤخذ من نحو العبارة ومثيلاتها أن ذلك الراوي لين الحديث فلا يحتج به في العقائد والأحكام العملية ؛ ولكن يروى حديثه في فضائل الأعمال التي ثبت وجوبها واستحبابها ، وفي الترهيب من الأعمال التي ثبتت حرمتها ؛ انظر (ليس من جمال المحامل) ، وانظر (الرقاق).
ليس به بأس ولكنه روى أحاديث مناكير :
هذه العبارة ترد على ألسنة النقاد ، أحياناً ، بلفظها أو بمعناها ؛ وقد قالها ابن معين في عائذ بن نسير فشرحها المعلمي في حاشية (الفوائد المجموعة) (ص110) قال : (وهذا يحتمل وجهين :
الأول : أنه كان صالحاً في نفسه ولكنه مغفل يقع منه الكذب بدون تعمد .
الثاني : أنه كان يدلس ما سمعه من الهلكى ) .
ليس حدُّه التركَ :
أي لا ينزل إلى درجة الترك والسقوط التام ؛ قال ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل) (2/186) (629) : (سمعت أبى يقول : إسماعيل بن عبد الملك بن أبي الصفيراء ليس بقوي الحديث ، وليس حده الترك ؛ قلت : يكون مثل أشعث بن السوار في الضعف؟ فقال : نعم).
ليس حديثه بشيء :
انظر (ليس بشيء) فإن معناهما واحد غالباً لا مطلقاً ؛ فإنه ليس من البعيد أن يكون مراد أحدهم بقوله في الراوي (ليس حديثه بشيء) الطعن في حديث الراوي بسبب تدليسه أو ضعف شيوخه أو ضعف الرواة عنه دون أن يكون مراده تضعيف الراوي نفسه ، ولكن ذلك المعنى لا يُجعل تفسيراً لهذه العبارة إلا بقرينة ، فإنه خلاف الأصل .(4/380)
ليس عليه قياس :
هذه عبارة تجريح قالها الإمام أحمد في يحيى بن عبدالحميد الحماني؛ قال الخطيب في (تاريخ بغداد) (16/259 طبعة د. بشار) في ترجمة الحماني : (أخبرنا إبراهيم بن عمر البرمكي أخبرنا محمد بن عبد الله بن خلف الدقاق حدثنا عمر بن محمد الجوهري حدثنا أبو بكر الأثرم قال : قلت لأبي عبد الله : ما تقول في ابن الحماني؟ فقال : ليس هو واحد ولا اثنين ولا ثلاثة ولا أربعة يحكون عنه ؛ ثم قال : الأمر فيه أعظم من ذاك ؛ وحمل عليه حملاً شديداً في أمر الحديث.
أخبرنا بُشْرَى بنُ عبد الله الرومي أخبرنا أحمد بن جعفر بن حمدان حدثنا محمد بن جعفر الراشدي حدثنا أبو بكر الأثرم قال : قال أبو عبد الله : الحديث الذي كان أبو الهيثم يرويه عن سفيان بن حسين عن يعلى بن مسلم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أُبَيّ ? للذين يؤلون من نسائهم? [البقرة 226] رأيته في كتب عبد الله بن موسى؟ فقلت : لا ؛ فقال : قد رواه يحيى بن إسماعيل ذاك الواسطي عن عباد عن(1) سفيان بن حسين ليس فيه أبي ، أوقفه على ابن عباس ؛ قلت لأبي عبد الله : فإن ابن الحماني يرويه ؛ فنفض يدَه نفضةً شديدة ، ثم قال : ابن الحماني الآن ليس عليه قياس ، أمر ذاك عظيم ، أو كما قال ؛ إلا أنه قال : ابن الحماني الآن ليس عليه قياس ؛ ثم قال : سبحان الذي يستر من يشاء ؛ ورأيتُه شديدَ الغيظ عليه).
ليس في الدنيا مبتدع إلا وهو يبغض أهل الحديث :
كان حب أهل الحديث وبغضهم - وما زالا كذلك - محنة للناس ، يتبين بهما السني من البدعي ؛ فقد أخرج الخطيب في (شرف أصحاب الحديث) (ص73) عن أحمد بن سنان القطان قال : (ليس في الدنيا مبتدع إلا وهو يُبغض أهلَ الحديث ، فإذا ابتدع الرجلُ نُزِعَ حلاوةُ الحديث من قلبه) .
__________
(1) تصحفت في بعض النسخ إلى (وعن) .(4/381)
وأخرج (ص71-72) عن قتيبة بن سعيد قال : (إذا رأيت الرجل يحب أهلَ الحديث مثل يحيى بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، وذكر قوماً آخرين، فإنه على السنة ، ومن خالف هذا فاعلم أنه مبتدع).
وقال الذهبي في ترجمته للحافظ الصوري من (تذكرة الحفاظ) : (وله شعر رائق ومحبة في السنة----أخبرنا أبو الحسين اليونيني أنا جعفر أنا السلفي أنا المبارك بن عبد الجبار أنشدنا محمد بن علي الصوري الحافظ لنفسه :
قل لمن عاند الحديث وأضحى*****عائباً أهله ومن يدعيهِ
أبعلمٍ تقولُ هذا؟ أبِنْ لي****أمْ بجهلٍ؟ فالجهل خلق السفيهِ
أيعاب الذين هم حفظوا الديـ** *ـن من الترهات والتمويهِ
وإلى قولهم وما قد رووه*********راجعٌ كل عالم وفقيهِ
ليس في الرواية ، ولم يذكره أبو القاسم :
هذه من عبارات الحافظ المزي في كتابه (تحفة الأشراف) ، فإنه بناه على كتاب الحافظ ابن عساكر (الإشراف على معرفة الأطراف) الذي جمع فيه أطراف السنن الأربعة .
وقد تعقبه في أشياء رمز لها برمز (كـ) وله اصطلاحات خاصة تحت هذا الرمز .
وهي كالتالي :
1- (ليس في الرواية ، ولم يذكره أبو القاسم) .
ومراده : أن هذا الحديث ليس فيما يرويه أبو القاسم عن شيوخه ؛ ولهذا لم يذكره في كتابه.
2- (هو في الرواية، ولم يذكره أبو القاسم) .
ومراده : أن هذا الحديث موجودٌ فيما يرويه أبو القاسم عن شيوخه ؛ ولكنه أغفل ذكره.
3- (ليس في السماع ، ولم يذكره أبو القاسم).
ومراده : أن هذا الحديث مما لم يقع له سماعه (ولهذا لم يذكره في كتابه).
4- (هو في السماع، ولم يذكره أبو القاسم) .
ومراده : أنه فيما وقع له سماعه بدون نسخة الكتاب ، ولكنه أغفل ذكره.
أفاده الشيخ عبد الصمد شرف الدين المشرف على تحقيق الكتاب ، رحمه الله .
ليس في السماع ، ولم يذكره أبو القاسم :
انظر (ليس في الرواية ----) .
ليس في حديثه أخبار :
انظر (الخبر) .(4/382)
ليس في نفسي منه شيء :
هذه عبارة توثيق للراوي في الجملة ، وإن كانت - بحسب ما يظهر - لا ترتقي إلى رتبة ألفاظ التوثيق الصريح ، مثل كلمة (ثقة) ؛ وانظر (ثم سكت) و (أحلى) .
ليس محله محل المتسعين في الحديث :
انظر (محله محل الاعراب) .
ليس من أهل الحفظ :
قال ابن حجر في (مقدمة الفتح) (ص420) في عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز بن مروان الأموي نزيل المدينة : ( وثقه بن معين وأبو داود والنسائي وأبو زرعة وابن عمار وزاد ليس بين الناس فيه اختلاف وحكى الخطابي عن أحمد أنه قال : ليس هو من أهل الحفظ ؛ يعني بذلك سعة المحفوظ ، وإلا فقد قال يحيى بن معين : هو ثبت روى شيئاً يسيراً؛ وقال أبو حاتم : يكتب حديثه؛ وقال ميمون بن الأصبغ عن أبي مسهر : ضعيف الحديث؛ وقال يعقوب بن سفيان : حدثنا أبو نعيم حدثنا عبد العزيز وهو ثقة----) .
ليس من الجمال التي تحمل المحامل :
انظر (ليس من جمال المحامل).
ليس من جمازات(1) المحامل :
قال ابن حجر في (تهذيب التهذيب) في ترجمة سريج بن يونس : (وذكر الدارقطني في كتاب (التصحيف) أنه حدث بحديث فصحف في اسم منه فذكر ذلك لداود بن رشيد فقال : ليس سريج من جمازات المحامل).
قال الدكتور قاسم علي سعد في (مباحث في علم الجرح والتعديل) (ص77) : (والجمز هو العدو ، والجمازات نوع من الأبعرة القوية ، تسميها العرب بذلك ، فيكون معنى قول داود (ليس من جمازات المحامل) أي ليس من الابعرة التي تعدو والتي تحمل المحامل ، أي ليس بالقوي ) .
__________
(1) الجماز من الدواب السريع العدو الوثاب. كذا في (المعجم الوسيط).(4/383)
ليس من جمال المحامل :
قال العقيلي في (الضعفاء) (680) في ترجمة (سلم بن قتيبة أبو قتيبة الباهلي) : (حدثنا محمد بن أحمد المقري قال حدثنا أبو حفص عمرو بن علي قال حدثنا سلم بن قتيبة قال حدثنا شعبة عن أبي عمران الجوني عن أنس أن النبي (صلى الله عليه وسلم) صلى في نعليه ؛ قال أبو حفص : فقلت لأبي قتيبة : إنما هذا حديث أبي مسلمة ، فقال : حدثناه شعبة عن أبي عمران وعن أبي مسلمة ؛ قال أبو حفص : فأتيت يحيى بن سعيد القطان فقلت له : تحفظ عن شعبة عن أبي عمران عن أنس أن النبي (صلى الله عليه وسلم) صلى في نعليه ؟ قال : حدثناه شعبة عن أبي مسلمة عن أنس ؛ قلت : حُدثنا عن شعبة عن أبي عمران وأبي مسلمة عن أنس! قال : من يقول هذا؟ قلت : أبو قتيبة ؛ قال : ليس أبو قتيبة من الجمال التي تحمل المحامل) ؛ انتهى .
وهو يريد أن ذلك الراوي ليس بالقوي ، فالمحامل جمع محمل ، وهو ما يوضع على ظهر البعير ويكون له شقان كل شق يكون على أحد جنبي البعير ويُحمل فيه العديلان ؛ ولا توضع المحامل إلا على الجمال المتينة القوية؛ فيكون معنى قولهم في الراوي (ليس من جمال المحامل) أي ليس بالقوي في حمل الحديث وإبلاغه ، كالجمل الذي لا يكون قوياً فلا يصلح لما تصلح له الجمال القوية .
وعبارة (ليس من جمال المحامل) نُسبت إلى استعمال الإمامين يحيى بن سعيد وتلميذه يحيى بن معين ؛ قال ابن حجر في (مقدمة فتح الباري) (1/407) : (خ ع - سلم بن قتيبة الشعيري أبو قتيبة : وثقه ابن معين وأبو داود وأبو زرعة والدارقطني وغيرهم ، وقال يحيى بن سعيد : ليس هو من جمال المحامل ؛ وقال أبو حاتم : كان كثير الوهم ؛ قلت : له في البخاري ثلاثة أحاديث أو أربعة ؛ وروى له أصحاب السنن) .
قلت : يظهر أن ابن حجر اختصر عبارة يحيى بن سعيد ، أو ذكرها بمعناها ، وقد تقدمت حكايتها من (الضعفاء) للعقيلي .
وقال العقيلي في (الضعفاء) (509) في ترجمة (رشدين بن سعد) :(4/384)
(حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال سمعت أبي يقول : رشدين بن سعد كذا وكذا .
حدثني محمد بن عبد الرحمن قال : أخبرنا المهري البصري عبد الملك بن عبد الحميد الميموني قال : سمعت أبا عبد الله يقول : رشدين ليس يبالي عمن روى ولكنه رجل صالح ؛ فوثقه(1) هيثم بن خارجة وكان في المجلس ، فتبسم من ذلك أبو عبد الله ، ثم قال أبو عبد الله : رشدين بن سعد ليس به بأس في حديث الرقائق .
حدثنا محمد بن عيسى قال حدثنا عباس قال : سألت يحيى بن معين عن رشدين بن سعد قال : ليس بشيء .
حدثني موسى بن هارون قال حدثني محمد بن أحمد بن الجنيد قال سمعت يحيى بن معين وسئل عن رشدين بن سعد فقال : ليس من جمال المحامل).
وقال الإمام ابن القيم في (حاشيته على سنن أبي داود) (2/301) : (فأما عطاف فلم يرض أصحاب الصحيح إخراج حديثه ولا هو ممن يعارَض به الثقات الأثبات ، قال مالك : ليس هو من جمال المحامل).
وسيأتي أن مالكاً قال في عطاف : (ليس هو من إبل القباب)(2) ، ولا أدري أذكر ابن القيم العبارة من حفظه ، أو أنه رُوي عن مالك أنه قال في عطاف كلا الكلمتين ؛ والأول هو الأرجح.
وقال محمد عوامة في تعليقه على (الكاشف) (1/451) : (ومراد يحيى القطان من قوله "وليس من جمال المحامل" : أنه ليس من الأثبات المتقنين ؛ انظر رسالة الأخ الدكتور سعدي الهاشمي "شرح ألفاظ التجريح النادرة" ص12 ) اهـ .
وانظر (مباحث في علم الجرح والتعديل) للدكتور قاسم علي سعد (ص76) .
__________
(1) تصحفت في مطبوعة دار الصميعي إلى (يوثقه) والتصحيح من (تهذيب الكمال - ترجمة رشدين بن سعد) ، والسياق يقتضيه ؛ وكذلك تحرفت في المطبوعة المذكورة (المصري) في عنوان الترجمة إلى (البصري).
(2) انظر (ليس هو من إبل القباب) .(4/385)
ليس من معادن الصدق :
قال الجوزجاني في (أحوال الرجال) (ص116) (189) : (عبدالواحد بن زيد كان قاصاً بالبصرة سيء المذهب ليس من معادن الصدق) ؛ ولم أر هذه العبارة لغير الجوزجاني ، وأظن أن معناها التضعيف الشديد لعبدالواحد بن زيد ؛ وقد قال فيه ابن عدي في (الكامل) (5/297) : (عبد الواحد بن زيد : بصري ؛ حدثنا محمد بن علي ثنا عثمان بن سعيد : سألت يحيى بن معين عن عبد الواحد بن زيد ، فقال : ليس بشيء ؛ حدثنا ابن حماد ثنا العباس عن يحيى قال : عبد الواحد بن زيد ليس بشيء ؛ سمعت ابن حماد يقول : قال البخاري : عبد الواحد بن زيد صاحب الحسن تركوه----) ؛ ثم ذكر كلمة الجوزجاني المتقدمة .
ليس هو كأقوى ما يكون :
قال ابن حجر في إبراهيم بن يوسف بن إسحاق بن أبي إسحاق السبيعي في (هدي الساري) : (قال أبو حاتم : حسن الحديث، يكتب حديثه ؛ وقال ابن عدي : ليس هو بمنكر الحديث؛ وقال ابن المديني : ليس هو كأقوى ما يكون؛ قلت [القائل ابن حجر] : هذا تضعيف نسبي).
ليس هو من إبل القباب :
كلمة قالها الإمام مالك في عطاف بن خالد ؛ ويريد بها أنه ليس بالقوي .
قال العقيلي في كتابه (1469 - طبعة دار الصميعي) في ترجمة (عَطّاف بن خالد المخزومي أبو صفوان المديني : (حدثنا أحمد بن علي حدثنا محمد بن عبد الرحمن القرمطي حدثني عبد الرحمن بن عبد الملك الحزامي قال : قيل لمالك بن أنس : قد حدث عطاف بن خالد ، قال : قد فعل ، ليس هو من إبل القباب)(1) .
__________
(1) وهذه بقية ترجمة عطاف في (ضعفاء العقيلي) :
(حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا الحسن بن علي حدثنا أحمد بن صالح وحدثنا مطرف بن عبد الله ، قال : قال لي مالك بن أنس : عطاف يحدث ؟ قلت : نعم ، فأعظم ذلك إعظاماً شديداً ، ثم قال : أدركت أناساً ثقات يحدثون ما يؤخذ عنهم ؛ قلت : وكيف وهم ثقات ؟! قال : مخافة الزلل.
حدثنا عبد الله قال : سئل أبي عن عطاف، فقال : حكى أبو سلمة الخزاعي عن عبد الرحمن بن مهدي أنه ذُهب به إليه فلم يرضاه ابن مهدي ، يعني عطاف .
حدثني محمد بن موسى حدثنا عبد الله بن أحمد بن شبويه قال : سمعت مطرف بن عبد الله المزني قال : سمعت مالك بن أنس يقول : ويكتب عن مثل عطاف بن خالد ؟! لقد أدركت في هذا المسجد سبعين شيخاً كلهم خير من عطاف ما كتبت عن أحد منهم ؛ وإنما يكتب العلم عن قوم قد جرى فيهم العلم مثل عبيد الله بن عمر وأشباهه).(4/386)
قال الدكتور قاسم علي سعد في (مباحث في علم الجرح والتعديل ) (ص77) :
(والقباب هنا إما أن تكون الهوادج(1) ، أو كل حمل كبير يوضع على ظهر البعير فيصير كالقبة ؛ ولا يقوى على حمل الهوادج - وهي مَحْمل مقبب أو غير مقبب يوضع على ظهر البعير تحمل فيه النساء أو الأحمال الكبيرة - إلا الإبل القوية ، فيكون مقصد الإمام مالك بلفظته المذكورة : ليس بالقوي ) ؛ انتهى .
وانظر (ليس من جمال المحامل).
ليس هو من أصحاب الحديث :
روى الخطيب في (تاريخ بغداد) (2/183) في ترجمة محمد بن أبي عتاب أبي بكر الأعين عن عبد الخالق بن منصور قال : (وسئل يحيى بن معين عن أبي بكر الأعين فقال : ليس هو من أصحاب الحديث) ؛ ثم قال الخطيب : (عنى بذلك أنه لم يكن من الحفاظ لعلله والنقاد لطرقه مثل علي بن المديني ونحوه ، وأما الصدق والضبط لما سمعه فلم يكن مدفوعاً عنه ) ؛ وانظر (صاحب حديث) .
ليس هو من عيالنا :
قال ابن عدي في (الكامل) (1610) في ترجمة (كوثر بن حكيم) : (ليس بشيء، حدثنا ابن أبي عصمة ثنا أبو طالب سألت أحمد بن حنبل عن كوثر فقال : ليس هو من عيالنا ؛ قال : كان أبو نعيم إذا لم يرو عن إنسان قال : ليس هو من عيالنا ، متروك الحديث(2) ؛ حدثنا أحمد بن الحسن القمي ثنا عبد الله بن أحمد سمعت أبي يقول : كوثر أحاديثه بواطيل ليس بشيء ----) .
واصطلاح أبي نعيم في هذه الكلمة (ليس هو من عيالنا) نُسب خطأً في طبعة (لسان الميزان) القديمة إلى الإمام أحمد بن حنبل .
ليس يعرف :
أي مجهول العين .
__________
(1) الهوادج جمع هودج : أداة ذات قبة توضع على ظهر الجمل لتركب فيها النساء . كذا في (المعجم الوسيط).
(2) كلمة (متروك الحديث) تحتمل أن تكون من كلام أحمد ، ابتداءً ، وتحتمل أن تكون من كلام أبي نعيم ؛ والإمام أحمد قال في كوثر بن حكيم : (متروك الحديث) ، كما في (الجرح والتعديل) (7/176).(4/387)
ليس ينشرح الصدر له :
قال الميموني في (سؤالاته للإمام أحمد) (475) : قلت : إسماعيل بن زكريا كيف هو ؟ قال لي : أما الأحاديث المشهورة التي يرويها , فهو فها مقارب الحديث صالح , ولكنه ليس ينشرح الصدر له , ليس يُعرف , هكذا ، يريد بالطلب)(1) .
ليِّن :
انظر (لين الحديث) ، فمعناهما واحد، وانظر (مقبول).
لين الحديث :
يستعمل العلماء هذه اللفظة في التضعيف الخفيف للراوي ، ومُن تقال فيه هذه الكلمة فهو صالح للاستشهاد ، أي أن حديثه يتقوى إذا تابعه عليه من هو مثله ولم يكن منكراً أو شاذاً ولم تقم قرينة على أن أحدهما - أو كليهما - قد وهم فيه ، فإن توبع على الصورة المذكورة وإلا كان ذلك الحديث مردوداً غير مقبول .
وممن شذَّ عن جمهور النقاد في استعمال هذه الكلمة الحافظ البزار فهو - كما يظهر - يستعملها للتجريح مطلقاً حتى إنه ليصف بها أحياناً بعضَ المتروكين المطَّرحين ، وربما استعملها في بعض الوضاعين ، وهذا شأنه في ألفاظ النقد ، يستعمل في التعبير عن الهلكى والتالفين أخف ألفاظ التجريح أو التليين ؛ قال الدكتور محفوظ الرحمن رحمه الله في مقدمته لـ(مسند البزار) (1/35) في تضاعيف بيانه لمنهج البزار في (مسنده) : (في الحكم على الرواة لا يستعمل البزار الألفاظ الغليظة ، كالكذاب(2) والوضاع ، بل هو لطيف العبارة ، فيقول مثلاً : ليس بالقوي ، أو لين الحديث ، أو منكر الحديث ، أو أجمع أهل العلم بالنقل على ترك حديثه ؛ مع أن العلماء الآخرين كذبوه أو قالوا فيه : متروك)(3) .
__________
(1) وانظر (الضعفاء) للعقيلي (1/78) ، و(تاريخ بغداد) (6/217) ، و (شرح ألفاظ التجريح النادرة) (ص69) .
(2) في الأصل (كالكذب) .
(3) وراجع (تهذيب الكمال) (26/304 و32/200 و32/225 و33/107) ؛ وانظر (مقبول) .
وقال الدكتور وليد العاني في (منهج دراسة الأسانيد) (ص80) : «إن لفظة (لين الحديث) عندما يطلقها أهل النقد من المحدثين في الراوي تفيد ضعفاً يسيراً لا يسقط حديثه بسبب هذا اللين ؛ إلا أن ابن حجر أراد شيئاً آخر بهذا الاصطلاح غير ما أراده سابقوه ---- ؛ هناك من الرواة من لم يصل إلى درجات الثقة أو الصدق فيقبل ما تفرد به، ولم يهبط إلى درجات الضعف فيسقط حديثه ---- ؛ لقد اصطلح ابن حجر في (تقريبه) أن يطلق على من هذا شأنه (لين الحديث)، ولا مشاحة في الاصطلاح» .
قلت : هذا الكلام - مع عدم وضوحه - فيه نظر ؛ فلا يظهر من كلامه اختلاف في مرتبة الراوي اللين بين ابن حجر والجمهور ، فهو عند الطرفين غير هابط إلى دركة السقوط ، وهو عند ابن حجر غير مرتق إلى درجة الاحتجاج ، ويظهر أنه كذلك عند الجمهور.
ثم هل أراد بالسقوط السقوط عن رتبة الحجة أم السقوط عن رتبة الاستشهاد ؟ وفي الحالتين يستدرَك عليها أمورٌ لا داعي للإطالة بها.(4/388)
وأما الإمام الدارقطني ، فقد قال السهمي في (سؤالاته للدارقطني) (ص72) - ورواه عنه الخطيب في (الكفاية) (ص23) - : (سألت أبا الحسن الدارقطني ، قلت له : إذا قلتَ : "فلان لين" أيش تريد به ؟ قال : لا يكون ساقطاً متروك الحديث ، ولكن يكون مجروحاً بشيء لا يُسقط(1) عن العدالة(2) ؛ وسألته عمن يكون كثير الخطأ ؟ قال : إن نبهوه عليه ورجع عنه فلا بسقط ، وإن لم يرجع سقط )(3) .
وهذا التفسير من الإمام الدارقطني لهذه الكلمة يصلح لتفسيرها عند سائر المحدثين ، إلا من يقوم الدليل على أنه كان يستعملها استعمالاً شاذّاً، فيُستثنى ؛ ولكن اللكنوي فهم من هذه العبارة أن معناها عند الدارقطني يختلف عنه عند الجمهور ؛ فلم يُصب في ذلك الفهم ؛ والله أعلم .
تنبيه : لا يحسن وصف الحديث الواحد بأنه لين ، لأن هذه كلمة ترددٍ ، فالأولى أن يوصف بما يكون أصرح في قبوله أو ردِّه ، ولا يُعترَض على هذا المنع أو عدم الاستحسان بأن الراوي يوصف بأنه لين أو لين الأحاديث ، وهل معنى ذلك أن أحاديثه لينة؟! فإن جواب هذا الاعتراض أن وصف أحاديث الراوي إجمالاً يصلح فيه ما لا يصلح في وصف حديث واحد منها معين ؛ فمثلاً : يجوز أن يوصف الراوي بأنه يصيب ويخطئ ولكن لا يجوز وصف أحد أحاديثه بأنه صواب وخطأ ، وأيضاً يقال في الراوي : (تعرف وتنكر) ولكن لا يقال في واحد من أحاديثه : (تعرف وتنكر) ، فكذلك الأمر هنا ، والله وأعلم.
__________
(1) في (لسان الميزان) (1/93) : (لا يسقطه).
(2) قلت : لا يريد بعدم سقوطه عن العدالة أنه صالح للحجة ، ولكنه يريد أنه صالح للاعتبار.
(3) وانظر (قول البزار : لين الحديث).(4/389)
وبهذا يتوجه شيء من النقد لعبارة العلامة ابن حجر العسقلاني رحمه الله إذ قال في مقدمة (تقريب التهذيب) وهو يبين مراتب رجاله واصطلاحاته في كل مرتبة : (السادسة : من ليس له من الحديث إلا القليل ، ولم يثبت فيه ما يُترك حديثُه من أجله ؛ وإليه الإشارة بلفظ (مقبول) ، حيث يتابع ؛ وإلا فلين الحديث) ، فكان الأولى أن يقول : (وإلا فضعيف الحديث).
لين بمرة :
يظهر - والله أعلم - أن هذه العبارة من ألفاظ التضعيف الشديد ؛ وانظر (لين) .(4/390)
لسان المحدثين
(مُعجم يُعنى بشرح مصطلحات المحدثين القديمة والحديثة ورموزهم وإشاراتهم
وشرحِ جملة من مشكل عباراتهم وغريب تراكيبهم ونادر أساليبهم)
تأليف: محمد خلف سلامة
.......................................المجلد الخامس.......................................
(الميم - الياء)
فصل الميم
ما أحسن حديثه :
قال ابن هانئ في (مسائله) (2306): (سمعت أبا عبد الله [يعني أحمد بن حنبل] يقول: عبد الله بن إبراهيم بن عمر بن كيسان، ما أحسن حديثَه من شيخ ) .
وقال الذهبي في (السير) في ترجمة عباس الدوري (12/523) : (قال الأصم : لم أرَ في مشايخي أحسنَ حديثاً منه ؛ قلت : يحتمل أنه أراد بحسنِ الحديث الإتقانَ ، أو أنه يتَّبع المتون المليحة فيرويها ، أو أنه أراد علو الإسناد ، أو نظافة الإسناد وترْكه رواية الشاذ والمنكر والمنسوخ ، ونحو ذلك ؛ فهذه أمور تقتضي للمحدث إذا لازمها أن يقال : ما أحسن حديثه) .
ما أدري :
قال ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل) (1261): (أخبرنا حرب بن إسماعيل فيما كتب إلي قال : قلت لأحمد : أسباط بن نصر الكوفي الذي يروي عن السدي كيف حديثه ؟ قال : ما أدري ، وكأنه ضعفه) .
وقال عبد الله بن أحمد : (سألته - يعني سأل أباه - عن صالح بن موسى الطلحي فقال : ما أدري ، كأنه لم يرضه) .(5/1)
قلت: قول الناقد (ما أدري) جواباً لسائله عن راو لا يدل بذاته على تضعيف ذلك الناقد لذلك الراوي، ولكن يظهر أن حرباً وعبدالله قد قامت عندهما قرائن خاصة دالة على إرادة شيخهما الإمام أحمد بكلمة (ما أدري) تضعيف ذينك الراويين ، كأن تكون تلك القرائن علامات تظهر على وجه الإمام أحمد ، أو حركات بيده أو برأسه ، أو طريقة في الكلام يفهم مغزاها ، كالإسراع في الإجابة مع نوع من العبوسة ، أو علمهما بأن الإمام أحمد كان يعرف حال ذلك الراوي في الجملة أو التفصيل ولكنه لم يُرد الكلام فيه لأن أمره مشتهر بين النقاد يومئذ؛ وأحمد معروف بورعه في كلامه في الرواة، ولا سيما الذين اشتهر ضعفهم ولم يوثقهم أحد من العلماء المعتمدين.
ما أشبه حديثه بثياب سابور :
هذه العبارة قالها الجوزجاني في إسماعيل بن عياش ، فقال في كتابه (أحوال الرجال) (ص173-175) : (سألت أبا مسهر عن إسماعيل بن عياش وبقية فقال : كل كان يأخذ عن غير ثقة ، فإذا أخذتَ حديثهم عن الثقات(1) فهو ثقة ؛ أما إسماعيل بن عياش فقلت لأبي اليمان : ما أشبه حديثه بثياب سابور ، يُرْقَم على الثوب المئة ولعل شراءه دون عشرة ! قال : كان من أروى الناس عن الكذابين ، وهو في حديث الثقات من الشاميين أحمد منه في حديث غيرهم)(2) .
__________
(1) أي من شيوخه .
(2) ونقلها عنه في ترجمة إسماعيل كل من ابن عساكر في (تاريخه) (9/45-46) والمزي وابن حجر في التهذيبين والذهبي في (السير) وغيرهم في غيرها .(5/2)
ويظهر أن مراده بها أن أحاديثه يغلب عليها السقوط والوهاء والضعف لكثرة أخذه عن المجاهيل والهالكين ؛ ولكن تلك الأحاديث يخفى حالها على من لم يكن من النقاد ، لأن اسماعيل كان يسمي شيوخاً مجاهيل لم يعرفوا بضعف ولا غيره ، أو يدلس الهالكين من رجال تلك الأحاديث فيجعلها من رواية المقبولين ؛ وبذلك يتوهم من لا خبرة له أنها مستقيمة الأسانيد أو مقبولة في الجملة ، أضف إلى ذلك العلو والغرابة ، مع أنها في حقيقتها ساقطة المأخذ . والله أعلم .
تنبيه : تحرفت كلمة (سابور) في بعض الكتب المذكورة وغيرها إلى (نيسابور) .
ما أعلم به بأساً :
هذه اللفظة لها في مرتبتها ثلاثة احتمالات:
الاحتمال الأول : أنها تساوي (أرجو أنه لا بأس به) ، وهذه دون قولهم (لا بأس به) ، فإن (لا بأس به) عارية عن التردد.
الاحتمال الثاني : أنها تكون دون ذلك ، أعني أنها تكون نازلة في سلم التعديل عن معنى (أرجو أنه لا بأس به) ؛ والقرينة الدالة على ذلك أن يكون الناقد لم يخبر ذلك الراوي .
الاحتمال الثالث : أن تكون أرفع منها ، فتكون مساوية لقولهم (لا بأس به) وذلك هو الغالب ، فإنَّ الناقدَ الخبير إذا سئل عن راو مشهور أو راو قد عرفه هو معرفة كافية واطلع على حاله اطلاعاً جيداً فقال فيه (لا أعلم به بأساً) كان هذا القول منه أمكن وأرفع في تعديله من قوله فيه (أرجو أنه لا بأس به) إذ الظاهر فيمن يقول فيه هذه العبارة الأخيرة أنه لم يخبره جيداً ؛ وهذا واضح لمن تدبره ؛ وانظر (لا أعلم به بأساً).
ما أعلم والله به بأساً :
هذه اللفظة بمعنى التي قبلها إن لم تكن أرفع منها إذ فيها توكيد نفي العلم بالبأس ، بالقسم عليه.(5/3)
ما بحديثه بأسٌ :
قال ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل) في ترجمة محل بن محرز: (سألت أبي عن محل بن محرز فقال : كان آخر من بقي من ثقات أصحاب إبراهيم، ما بحديثه بأس ، ولا يحتج بحديثه، كان شيخاً مستوراً؛ أدخله البخاري في كتاب (الضعفاء) فسمعت أبي يقول : يحوَّل من هناك).
ما بلغ من اضطرار المسلمين إليه :
قال عبدالله بن أحمد في (العلل) (1539) : سمعتُ أَبي يقول : ذكر لابن المبارك عبدُ السلام بن حرب فقال : ما تحملني رجلي إليه ، وذكر له إسماعيل بن علية فقال ابن المبارك : ما بلغ من اضطرار المسلمين إليه) .
ما به بأسٌ إن شاء الله :
تؤدي معنى (لا بأس به إن شاء الله)، فانظرها.
ما تحت أديم السماء أصح من كتاب مسلم :
قال أبو عبدالله ابن منده في (شروط الأئمة) (ص71) : (سمعت أبا علي الحسين بن علي النيسابوري يقول : ما تحت أديم السماء أصح من كتاب مسلم بن الحجاج) ؛ وهذا الكلام رواه من طريق ابنِ منده الخطيبُ البغدادي في (تاريخ بغداد) (13/101) ، ثم رواه من طريق الخطيب بهِ ابنُ الصلاح في (صيانة صحيح مسلم من الإخلال والغلط وحمايته من الإسقاط والسقط) فقال (ص68-69) : (أخبرني الشيخ المسنِد أبو الحسن المؤيد بن محمد بن علي بن المقرىء بقراءتي عليه بشاذْياخ نيسابور ، عن أبي منصور عبد الرحمن بن محمد الشيباني قال أخبرنا الحافظ أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت قال حدثني أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن علي السوذرجاني بأصبهان قال : سمعت محمد بن منده قال سمعت أبا علي الحسين بن علي النيسابوري يقول : ما تحت أديم السماء أصح من كتاب مسلم بن الحجاج في علم الحديث ) .
ثم قال ابن الصلاح : (ورُوِّيناه من وجه آخر عن ابن منده الحافظ هذا ، وقال فيه : سمعت أبا علي الحسين بن علي النيسابوري وما رأيت أحفظ منه ، هذا مع كثرة من لقيه ابن منده من الحفاظ ).(5/4)
قلت : هذا الوجه الذي أشار إليه ابن الصلاح أخرجه منه الحافظُ رشيدُ الدين العطار في (غرر الفوائد المجموعة) (ص328) فقال : (سمعت شيخنا الإمام الحافظ أبا الحسن علي بن المفضل بن علي المقدسي الفقيه رضي الله عنه يقول : سمعت أبا طاهر السلفي يقول : سمعت أبا سهل غانم بن أحمد بن محمد الحداد الأصبهاني ببغداد يقول : سمعت أبا بكر أحمد بن الفضل بن محمد الباطرقاني الحافظ يقول : سمعت أبا عبد الله محمد بن إسحاق بن منده الحافظ يقول : سمعت أبا علي الحسين بن علي النيسابوري وما رأيت أحفظ منه قال : ما تحت أديم السماء كتاب أصح من كتاب مسلم بن الحجاج)(1).
المعروف عند جمهور المحدثين تفضيل (صحيح البخاري) على (صحيح مسلم)، أعني من حيث صحة الأحاديث التي في الكتابين؛ ولكن بعض المتقدمين عكس ففضل (صحيح مسلم) على (صحيح البخاري)، ومن هؤلاء الحافظ المذكور أبو علي النيسابوري شيخُ أبوي عبد الله : ابنِ منده ، والحاكمِ ، فإنه لما قال كلمته السابقة (ما تحت أديم السماء أصح من كتاب مسلم) ، فالبخاري داخل في هذه المفضولات عنده، وظاهر كلامه مردود غير مقبول؛ وقد رده كثير من العلماء ، قال ابن حجر في (النكت) (1/285) : (أما اعتبار أبي علي بكتاب مسلم فواضح ، لأنه بلديُّه وقد خرّج هو على كتابه ، لكن قوله في وصفه معارض بقول من هو مثله وأعلم ----) ؛ انتهى .
__________
(1) وانظر (علوم الحديث) لابن الصلاح (ص14-15) و(وفيات الأعيان) لابن خلكان (5/194) و (نكت الزركشي على ابن الصلاح) (1/168-169) و(تدريب الراوي) (1/93) و(توجيه النظر) (1/300) .(5/5)
ومن المعلوم أن رد مثل هذا الكلام سهل يسير وذلك لوضوح الأدلة على وهائه وكثرتها وشهرتها؛ ولكن من الغريب أن يقع حافظ ناقد كأبي علي في مثل هذا الوهم؛ ولذلك لا أستبعد أن يكون مراده تفضيل جملة ما في مسلم على جملة ما في البخاري؛ فيكون قد اعتبر في هذه الكلمة - في جملة ما اعتبره - معلقات البخاري، فيكون قد فضل مجموع ما في مسلم من حيث الجملة على مجموع ما في البخاري من حيث الجملة أيضاً، فهو على هذا التوجيه لم يكن مقارناً بين مسنَدات البخاري ومسنَدات مسلم فقط، بل بين كل ما ورد من المتون في الكتابين ؛ قال ابن الصلاح في (صيانة صحيح مسلم) (ص69-70) عقب حكايته قول أبي علي المذكور : (وقول أبي علي هذا إن أراد به أن كتاب مسلم أصح من غيره ، على معنى أنه غير ممزوج بغير الصحيح فإنه جرد الصحيح وسرده على التوالي بأصوله وشواهده ، على خلاف كتاب البخاري فإنه أودع تراجم أبواب كتابه كثيراً من موقوفات الصحابة ومقطوعات التابعين وغير ذلك مما ليس من جنس الصحيح ، فذلك مقبول من أبي علي .
وإن أراد ترجيح كتاب مسلم على كتاب البخاري في نفس الصحيح وفي إتقانه والاضطلاع بشروطه والقضاء به فليس ذلك كذلك كما(1) قدمناه ----) إلى آخر كلام ابن الصلاح .
هذا ما كان ظهر لي أو ترجح عندي ، ثم تأملته بعدُ فبان لي بُعدُه عن الإصابة ، لأن موازنة الحفاظ المتقدمين بين كتابين مسندين شهيرين صحيحين لا بد أن تكون متجهة إلى المسنَدات من أحاديثهما دون سواها .
وقد قيل : إن أبا علي لم يصرح بتفضيل (صحيح مسلم) على غيره وإنما نفى أصحيةَ غيرِه عليه(2)، ولكن هذا الفهم لا يستقيم ، لأنه مخالف للمعنى العرفي لعبارة أبي علي ، وإليك بيان ذلك .
__________
(1) كذا في المطبوعة ولعلها لِما .
(2) وعلى هذا فهو لم ينف التساوي ، فصحيح البخاري عنده - في أحسن أحواله - مساوٍ في الصحة لصحيح مسلم ؛ وهذا غير مسلَّم أيضاً ، بل صحيح البخاري أصح بلا ارتياب .(5/6)
قال ابن حجر في (النكت) (1/284) : (وأما ما قاله أبو علي النيسابوري فلم نجد عنه تصريحاً قط بأن "كتاب مسلم" أصح من "صحيح البخاري" ؛ وإنما قال ما حكاه المؤلف من أنه نفى الأصحية على كتاب مسلم ، ولا يلزم من ذلك أن يكون "كتاب مسلم" أصح من "كتاب البخاري" ، لأن قول القائل "فلان أعلم أهل البلد بفن كذا" ليس كقوله "ما في البلد أعلم من فلان بفن كذا" ، لأنه في الأول أثبت له الأعلمية ، وفي الثاني نفى أن يكونَ في البلد أحدٌ أعلم منه ، فيجوز أن يكون فيها من يساويه فيه .
وإذا كان لفظُ أبي علي محتملاً لكل من الأمرين فلم يُجِدْ من(1) اختصر كلام ابن الصلاح فجزم بأن أبا علي قال : "صحيح مسلم أصح من صحيح البخاري" ، فقد رأيت هذه العبارة في كلام الشيخ محي الدين النووي ، والقاضي بدر الدين بن جماعة ، والشيخ تاج الدين التبريزي ، وتبعهم جماعة ؛ وفي إطلاق ذلك نظر ، لما بيناه ) .
__________
(1) في مطبوعة (النكت) : (نجد ممن) ، وقال محققه : (كذا ولعله يُجِد) ، قلت : وهو كذلك ، قال الصنعاني في (توضيح الأفكار) (1/47-48) وهو ينقل كلام ابن حجر هذا بمعناه : (فإذا كان كلام أبي علي محتملاً لكل من الأمرين ، فجزمُ ابن الصلاح أن أبا علي قال : "صحيح مسلم" أصح من "صحيح البخاري" غير صحيح ) ؛ ولكن وقع هنا سهوٌ من الصنعاني أو خطأ من ناسخ كتابه أو طابعه ، وهو إضافة ذلك الاختصار المخل إلى ابن الصلاح نفسه ، لا إلى بعض من اختصروا كلامه كالمذكورين .(5/7)
قال الصنعاني في (توضيح الأفكار) (1/47-48) متعقباً ابن حجر في كلامه هذا : (قلت : ولا يعزب عنك أن هذا التأويلَ الذي ذكره الحافظ خروج عن محل النزاع ، فإن الدعوى بأن "البخاري" أصح الكتابين ، وهذا التأويل أفاد أنهما مِثلان ، فما أتى التأويل إلا بخلاف المدَّعى ، على أن قول القائل "ما تحت أديم السماء أعلم من فلان" يُفيد عُرفاً أنه أعلمُ الناس مطلقاً وأنه لا يساويه أحد في ذلك ؛ وأما في اللغة فيحتمل توجه النفي إلى الزيادة ، أعني زيادة إنسان عليه في العلم ، لا نفي المساوي له فيه ؛ والحقيقة العرفية مقدمة ، سيما في مقام المدح والمبالغة بقوله "تحت أديم السماء" .
ثم رأيت بعد هذا أنه قال البقاعي(1) : الحق أن هذه الصيغة تارة تستعمل على مقتضى أصل اللغة فتنتفي الزيادة فقط ، وتارة على مقتضى ما شاع من العرف فتنتفي المساواة(2) ، فمثل قوله صلى الله عليه وسلم "ما طلعت شمس ولا غربت(3) على أفضل من أبي بكر" وإن كان ظاهره نفي أفضلية الغير لكنه إنما سيق لإثبات أفضلية المذكور ؛ والسر في ذلك أن الغالب في كل اثنين هو التفاضل دون التساوي ، فإذا نفى أفضلية أحدهما ثبتت أفضلية الآخر(4) ؛ انتهى(5) ) .
وقال الذهبي في (التذكرة) (2/598) : (قلت : ولعل أبا علي ما وصل إليه صحيح البخاري) ؛ ولعل هذا هو اختيار العلائي ، فقد قال ابن حجر في (النكت) (1/285) عقب شيء ذكره : (على أني رأيت في كلام الحافظ أبي سعيد العلائي ما يدل على أن أبا علي النيسابوري ما رأى صحيح البخاري ؛ وفي ذلك بُعدٌ عندي) ؛ وابن حجر رحمه الله مصيب في هذا الاستبعاد .
__________
(1) أي في (النكت الوفية على شرح الألفية) .
(2) أي فضلاً عن الزيادة ؛ والمعنى العرفي في كلام الناس مقدم على المعنى اللغوي .
(3) ورد في بعض الكتب زيادة (بعد النبين) هنا .
(4) ونقل كلام البقاعي هذا أيضاً العلامة علي القاري في (شرح النزهة) (ص62) .
(5) يعني كلام البقاعي .(5/8)
ما تحملني رجلي(1) إليه :
استعمل ابن المبارك هذه العبارة في تجريح عبد السلام بن حرب ، قال عبد الله بن أحمد في (العلل) (1539 و 6077) : سمعتُ أَبي يقول : ذُكر لابن المبارك عبد السلام بن حرب، فقال: ما تحملني رجلي إليه)؛ وقال عبدالله في (العلل) أيضاً (6075) : (حدثني حسن بن عيسى قال: سمعت عبد الله بن المبارك وسألته عن عبد السلام بن حرب فقال : قد عرفتُه، وكان إذا قال: قد عرفته ، فقد أهلكه) ؛ وهذا التفسير يظهر أنه من حسن بن عيسى لا من عبدالله بن أحمد .
ما روى عنه سوى فلان :
هي بمعنى العبارة المتقدمة (روى عنه فلان بس) و(تفرد عنه فلان).
ما كأنه حجة :
هذا القول ترجيح لكون الراوي ضعيفاً ، ولكن المراد بذلك الضعف إنما هو الضعف الذي لا يمنع من صلاحية الراوي للاستشهاد بحديثه في الجملة .
ما هو بعمدة :
انظر (ليس بمعتمد).
ما هو بقوي ولا إسناده بمُضِي :
تضعيف للحديث ووصف لإسناده بأنه مظلم أو فيه نوع ظلمة ونكارة وخفاء ، فهو غير قوي ؛ انظر (مظلم) .
ما يستأهل أن يُحدَّث عنه شيء :
عبارة قالها الإمام أحمد في محمد بن القاسم الأسدي ، وهو يعني أنه يستحق الترك ؛ قال المروذي في (سؤالاته) (230) : (وذكر [يعني أحمد] : محمد بن القاسم الأسدي ، فقال : ما يستأهل أن يحدَّث عنه شيء ، روى أحاديث مناكير) .
مأمون :
أي ثقة .
مبتر :
انظر (أحاديثٌ بُتر) .
مبدل :
قال ابن الجزري في (الهداية) (1/339- 343 من الغاية) :
والخبر المقلوب أن يكونَ عنْ*سالم يأتي نافع ليُرغَبَنْ
وقيلَ : فاعل هذا يسرِقُ*****ثم مركَّبٌ على ذا أطلقوا
قلتُ : وعندي أنه الذي وضَع* إسنادَ ذا لغيره كما وقع
للحافظ البخارِ في بغداد**والمزِّ أيضاً بابن عبدالهادي
منقلب وأصله كما يجب****لسبق لفظ الراو(2) فيه ينقلب
__________
(1) وفي رواية للأثر التالي عند العقيلي (1037) : (ما تنقلني رجلي إليه).
(2) كذا في المطبوعة .(5/9)
قال السخاوي في (الغاية في شرح الهداية) (1/339 وما بعدها) في شرح هذه الأبيات :
(المقلوب وهو من أقسام الضعيف : أن يكون حديثٌ مشهور عن راو كسالم مثلاً فيُجعل مكانه راو آخر في طبقته نحو نافع ليصير لغرابته مرغوباً فيه ؛ فقوله "يأتي نافعٌ" بدل سالم ؛ وممن كان يفعله من الوضاعين إسماعيل بن أبي حية اليسع ، وبهلول بن عبيد الكندي ، وحماد بن عمرو النصبيبي .
وقد ينقلب الحديث على راو بدون قصد .
ويقع القلب في المتن أيضاً ، لكنه قليل بالنسبة إلى السند ؛ وقد أفرده الناظم في نوع سماه "المنقلب" ؛ وخالف شيخُنا حيث جعل ما كان في المتن المقلوب وما كان في الأسماء المبدل ).
ثم قال في شرح البيت الثاني : (أي أنه قد قيل في فاعل هذا : يسرق ، كما وصف بها جماعة ، وعُدَّت في ألفاظ التجريح ؛ وقد أطلق بعضُهم على هذا النوع - وهو ما كان مشهوراً براوٍ فجعل مكانَه راوياً آخر - : المركب ؛ واختار الناظم أنه غيره ، وهو - أي المركب - تاذي وُضع إسنادُه لمتن إسناد آخر ، ومتنه لإسناد متن آخر ، كما وقع للبخاري الحافظ حين قدم بغداد فامتحنه محدثوها ووضعوا له مئة حديث مركبة الأسانيد كل سند لمتن آخر ----.
قال [أي ابن الجزري في بعض تعاليقه] : وعندي أنه بالمركب أشبه ؛ ولا مشاحة في الاصطلاح .
وهذا قد يُقصد به أيضاً الإغراب ، فيكون كالوضع ؛ وقد يُفعل اختباراً لحفظ المحدث ، وهل يُقبل التلقين أم لا ؟ وتوقف العراقي فيه فقال : وفي جوازه نظر ، إلا أنه إذا فعله أهل الحديث لا يستقرّ حديثاً والأعمال بالنيات .
وحذف الناظم ياء النسب من كل من البخاري والمزي لضرورة النظم).
ثم قال السخاوي في الكلام على مصطلح المنقلب : (وهو أن يكون على وجه ، فينقلب بعض لفظه على الراوي فيتغير معناه وربما انعكس ) .
مبهم :
انظر (الإبهام) و (مبهمات البخاري) .(5/10)
مبهمات البخاري :
المبهم في الاصطلاح(1) هو من ذكر بوصفه دون تسميته، كأن يقال (قال رجل من أهل المدينة) أو (حدثنا بعض شيوخنا) أو (سألت بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم)، أو (سأل رجلٌ ابنَ عمر---)، أو (أبلغوا فلاناً) .
وقد ورد في صحيح البخاري طائفة من هؤلاء، وكلهم أو أكثرهم جاء إبهامهم مِن قِبَل رجال الأسانيد، وليس من قبل البخاري ، وهؤلاء الأشخاص المبهمون ، أو التسميات المبهمة ، في صحيح البخاري ، أسماها بعض العلماء مبهمات البخاري .
ومن الكتب المصنفة في مبهمات صحيح البخاري أو في مبهماته ومبهمات غيره ما يلي ذكرُه :
1- المبهمات لأبي طاهر المقدسي.
2- المبهمات للقطب القسطلاني.
جاء ذكرهما في (الجواهر والدرر) (2/680).
3- ترتيب المبهمات على الأبواب، لابن حجر؛ ذكره السخاوي في (الجواهر والدرر) (2/679) ووصفه بأنه (مجلدة ضخمة مسودة).
4- مبهمات البخاري للجلال البلقيني.
قال محدث حلب في عصره أبو ذر ابن البرهان الحلبي فيما نقله عنه السخاوي في (الجواهر والدرر)(1/321): (وسمعت والدي يقول عند نظره لـ(مبهمات البخاري) للشيخ جلال الدين البلقيني: هذه الفوائد التي فيه الظاهر أنها من كلام الشيخ شهاب الدين ابن حجر؛ فلما اجتمع والدي بالشيخ شهاب الدين المشار إليه، قال له: إن الشيخ جلال الدين يفسر مبهمات ويعزوها إلى كتب ما أظنها عنده، وأنا أقول: إن هذا منك، فقال: نعم) ؛ وانظر (الجواهر والدرر) (1/341).
المبيَّضة :
هي نسخة الكتاب التي حصل تبييضُها ؛ وانظر (بيّض الكتاب) و (المسوَّدة) .
المتابعة :
المتابَعة في عُرف المحدثين اسمٌ لحديث الراوي يتابع فيه غيرَه(2) .
ثم المتابعة نوعان :
تامة : وهي أن يوافق الراوي على روايته غيره ابتداءً من شيخه وانتهاءً بنهاية الحديث من دون مخالفة كبيرة مانعة من اطلاق اسم المتابعة.
__________
(1) كما تقدم ذكره في (الإبهام) .
(2) والمتابعة أيضاً مصدر الفعل "تابَعَ" ، كما هو معروف .(5/11)
وقاصرة : وهي كالتامة إلا في ابتداء الموافقة فإنه في القاصرة يكون من بعض من فوق شيخ المتابع .
وفرّق قوم بين المتابعة والشاهد فخصوا المتابعة بما حصل باللفظ ، سواء كان من رواية ذلك الصحابي أم لا ، والشاهد بما حصل بالمعنى كذلك ، وقد تطلق المتابعة على الشاهد وبالعكس ، والأمر فيه سهل ؛ وانظر (الشاهد) .
تنبيه : يكثر في كلام المحدثين تكرر هذه العبارة : (أخرج له فلان متابعة) و (أخرج له فلان استشهاداً) ، وأحياناً يجمعون بين اللفظتين فيقولون: متابعة واستشهاداً ؛ وجمهورهم لا يفرقون بين اللفظتين ، ولكن بعضهم يريد بالمتابعة - أحياناً - ما ذكره صاحب الصحيح مثلاً من روايات للحديث بعد أن ساقه من طريق ثابتة حائزة على شروط الصحة أو أعلاها أي مستغنية في الجملة عن تقوية تلك الطرق المذكورة بعدها لها ولكنه ألحق بها تلك الطرق لبعض ما فيها من الفوائد الواقعة في متونها أو أسانيدها ؛ وأما الاستشهاد فيطلق على من يخرج له صاحب الصحيح حديثاً ويخرج قبله أو بعده حديثاً مساوياً أو مقارباً له من حيث قوته وكل منهما لا يصلح للاحتجاج به على انفراده ، أو لا يكون بذاته على شرط ذلك المصنف .(5/12)
متأخر :
قال الذهبي في (الميزان) (4/389) (5180) : (عبد الكريم الجزري عن هشام بن عروة : متأخر ، ولا يعرف من هو ، وتركه الأزدي) ؛ فتعقبه ابن حجر في (لسان الميزان) (4/53) بقوله (وقول الذهبي "متأخر" مغايرٌ لاصطلاحه الذي أفصح به في هذا الكتاب في مراده بالمتأخر) ؛ والظاهر أن ابن حجر رحمه الله فاته أن يتنبه عن مقصود الذهبي ، فإن الذهبي ما أراد أن يطلق وصف هذا المترجَم بأنه من المتأخرين ؛ وإنما أراد أنه راو آخر غير عبد الكريم بن مالك الجزري ذلك الراوي المشهور الموثَّق ، وأنه متأخر عنه ؛ فهذا تأخر نسبي وليس مطلقاً ؛ فقد قال الذهبي في (الميزان) (4/387) (5174) : (عبد الكريم بن مالك الجزري من العلماء الثقات في زمن التابعين توقف في الإحتجاج به ابن حبان ----) إلى آخر ما ذكره في ترجمته ؛ ثم ذكر بعده بخمسة رواة ترجمة عبدالكريم الجزري الثاني فقال ما تقدمت حكايته ، وكلمة (متأخر) تكررت في (الميزان) و(اللسان) وغيرهما ، ولا سيما في تراجم من تتفق أسماؤهم ، مثاله قول الذهبي في (الميزان) (7/139) (9405) و (9406) : (الوليد بن كثير المخزومي ثقة صدوق حديثه في الصحاح ، سمع سعيد بن أبي هند والكبار---- ؛ فأما الوليد بن كثير المزني المدني فآخر متأخر نزل الكوفة وروى عن ربيعة الرأي وجماعة----).
والظاهر أن سبب وقوع ابن حجر في هذا الذهول هو بُعد ما بين الترجمتين أو أن عبدالكريم بن مالك الجزري ليس من رجال (اللسان) وإن كان من رجال (الميزان) لأنه مترجم في (التهذيب) ، فلم تقع عين ابن حجر على ترجمته ، أي في (اللسان) ، حينما كتب الاستدراك المذكور ؛ وجلَّ من لا ينسى .
وانظر (المتأخرون والمتقدمون) .
المتأخرون :
انظر (المتأخرون والمتقدمون) .(5/13)
المتأخرون والمتقدمون :
يختلف معنى المتقدمين والمتأخرين في عرف المحدثين بحسب الباب والسياق وغيرهما ؛ ولكن في الجملة لا يحسن أن يُعَدَّ من مات قبل انصرام المئة الرابعة متأخراً ، ولا أن يُعَد من مات بعد المئة الخامسة متقدماً .
وكذلك فإن الفصل بين العصرين اصطلاحي تقريبي أكثر من كونه تحديداً دقيقاً ، لأنه لا يُتصور أن يكون هناك يوم بعينه أو عام بعينه يكون وقتاً لانقراض قرون المتقدمين وابتداء قرون المتأخرين ، إذ لا بد من أن يكون التغير متدرجاً وأن يكون العصران متداخلين ، أي أن تكون هناك فترة انتقالية مشتركة ، ولعلها كانت المئة الخامسة الهجرية ، إذا تكلمنا على سبيل التجوز والتقريب .
قال ابن حجر العسقلاني في (النكت) (2/586) وذكرَ المتأخرين : (وهم من بعد الخمسمئة وهلم جراً) ؛ وقال في خطبة (لسان الميزان) وهو ينقل كلام الذهبي : (والحد الفاصل بين المتقدم والمتأخر هو رأس سنة ثلاث مئة) .
قال الشيخ حاتم العوني في بحثه (بَيَانُ الحَدّ الذي يَنْتهِي عِنْدَهُ أَهْلُ الاصطلاحِ والنَّقْد في علوم الحديث) بعد كلام له في هذا الباب(1): (ونعود بعد هذا الاستطراد إلى ما كنّا فيه: من التأريخ النظري لعلوم الحديث، والذي خلصنا منه إلى أن الزمن الذي اكتمل فيه تدوين السنة هو نفسه الذي اكتمل فيه نقد الحديث، وأنه لذلك كان منهجُ النقد الذي ينبغي أن يُرجع إليه هو ذلك المنهجَ الذي نشأ وتطوّر حتى اكتمل .
هذا ما كنّا وصلنا إليه أخيراً .
ولكن هناك بقيّةٌ لذلك العرض التاريخي النظري، لابُدّ أن نعرض له.
__________
(1) وهو من منشورات الندوة الحديثية الدولية الأولى المنعقدة في رحاب كلية الدراسات الإسلامية والعربية بدبي ، في (6 - 8 صفر 1424هـ ) ، بعنوان (علوم الحديث : واقع وآفاق ) .(5/14)
ذلك أن بلوغ منهج النقد درجة الاكتمال في زمنٍ ما، لاشك أنه سيعني أن بداية النقص ستبدأ من حيث اكتمل، اتّباعاً للسنة الكونية في ذلك: " لكل شيءٍ إذا ما تمَّ نقصانُ " ؛ فما بعد بلوغ الغاية إلا النكوص، وما بعد صعود القمة إلا الهبوط.
ولكن هذا النقص لا يصح أن يُتصَوّر أن يبلغ حدَّ الهُوِيّ في القاع، ولا القفزة الواحدة التي تعود بصاحبها إلى حيث بدأ، بل لابُدّ أن يكون نقصاً تدريجيًّا ؛ كما أنّه قد لا يشمل كل علماء ذلك العصر، فقد يبقى بعضهم على إرثه القديم محافظاً عليه.
ولذلك فقد يصح لنا نظريًّا أن نعتبر الزمن الأوّل بعد اكتمال نضج العلم، من أزمان أهل ذلك المنهج الذي يُرجع إليهم ويُحتكم إلى علمهم؛ لأنهم استطاعوا أن يكونوا امتداداً حقيقيًّا للزمن الذي اكتمل فيه المنهج، وأن لا يكونوا مجرّد وعاءٍ لذلك المنهج، بل أن يشاركوا أصحابه في تمام العلم به وكمال الأهليّة فيه.
وقد يشهد لذلك، ولمعرفة حدِّ ذلك الزمن الذي تعتبر علماءَهُ من أهل المنهج: ما لو وجدنا أولئك العلماء قد صنفوا في أصول العلم، وطبّقوا ذلك المنهج الذي ورثوه عمن سبقهم تطبيقاً يشهد لبلوغهم رتبة الاجتهاد المطلق فيه.
وسنستمر على اعتبار الزمن التالي لزمن اكتمال المنهج من عصور من يُحتجّ بمنهجه، إلى أن يبدو لنا أن ذلك النقص التدريجي قد ظهرت آثاره، وقويت ملامحُه واتّضحت؛ إلى حدِّ ظهور النقص في أهليّة علماء ذلك العصر عن رتبة الاجتهاد المطلق فيه، وإلى حدِّ إعلان علمائه أنّهم ليسوا سوى مترجمين لعلوم من سبقهم، وأنهم يتلمّسون آثار خطاهم تلمُّسَ من تخفى عليه بعض مدارجهم.(5/15)
إن هذا التدرّج في مراحل تطوّر العلوم أمرٌ طبيعي، إذ إن انتقال العلم من مرحلةٍ إلى مرحلة لا يتمُّ فجْأة، ولكن يتم بالتدريج. بأن يكون العلم في المرحلة الأولى له خصائصه التي تميّزه، ثم يبتدئ بفقدان شيءٍ من خصائصه لصالح خصائص المرحلة التالية، التي تحلُّ شيئاً فشيئاً محل الخصائص الأولى ؛ حتى يصل هذا التناقصُ التدريجي إلى درجة الانتصاف، فيكون العلم قد بلغ مرحلةً تحمل في طيّاتها نصف خصائص المرحلة الأولى ونصف خصائص المرحلة الثانية ؛ وهذه المرحلة هي المرحلة الانتقالية، التي لا يُمكن معها أن تَفْصِل مرحلةً عن مرحلة(1) ؛ ثم بعد ذلك تبتدئ كفة المرحلة الجديدة بالرجحان، وتتضح خصائصها بصورة أكبر، حتى تصلَ درجةَ الاتّضاح الكامل ؛ والتي بوضوحها هذا تيقّنّا من مرور ذلك العلم بمراحل، وبوضوحها هذا استطعنا أن نعرف خصائص كل مرحلة التي تميّزها عن غيرها، وبوضوحها هذا (أخيراً) استطعنا أن نؤرّخ لذلك العلم(2) .
__________
(1) لقد ابتدع الأدباء لأصحاب هذه المرحلة الانتقالية اسمَ المخضرمين، الذين جمعوا في خصائص شعرهم بين خصائص زمنين، كالشعراء الذين عاصروا الدولتين الأمويّة والعباسيّة.
(2) وهنا أنبّهُ إلى أنه من الخطأ البيِّن أن نجعل من عدم وضوح ملامح المرحلة الانتقاليّة، أو من تَأَرْجُح علمائها بين مرحلتين دليلاً على عدم مرور ذلك العلم بمراحل مختلفة ؛ لأن هذا لا يختص بعلم دون علم، فالمرور بهذه المرحلة لا يخلو منه علم. فلم يكن ذلك بقاضٍ على حقيقة مرور تلك العلوم بمراحل، ولا منع ذلك من وضع حدود زمانيّة لتلك المراحل، ولم يفهم أحدٌ منها أنها حدودٌ فاصلة، وإنما هي حدود تقريبيّة.
فلئن اشتبهَ عندي إلحاقُ بعض أصحاب المرحلة الانتقاليّة بإحدى المرحلتين، وكان لإلحاق هذا البعض أثرٌ وأهميّة (افتراضاً) فلن يشتبه عندي إلحاقُ أقوامٍ آخرين بإحدى المرحلتين، ولا أشك فيهم أدنى شك.
فلمَ الشَّغبُ بالقليل النادر قليلِ الثمرة أو عديمِها، على الأصل الغالِب عظيمِ الثمرةِ واضحِها؟!!!(5/16)
وبعد هذا البيان الطويل، الذي أعتذر من جفافه، أدخل في بيان التحديد الزمني لتلك المراحل، ليكون لذلك العرض الثمرة المنشودة)(1) ؛ انتهى ؛ وانظر (تدوين السنة) فقد أوردت تحته تتمة كلامه هذا بنوع من الاختصار .
متروك :
هذه الكلمة يوصف بها الراوي ، ويوصف بها الحديث أيضاً ؛ قال ابن رجب في (شرح علل الترمذي) (2/560) : (قد تقدم أن رواة الحديث أربعة أقسام : من هو متهم بالكذب . ومن هو صادق لكن يغلب على حديثه الغلط والوهم لسوء حفظه ؛ وهذان القسمان متروكان ----) .
قلت : هذا هو الحق في هذه المسألة بخلاف قول بعض المعاصرين أن الراوي لا يقال عنه : متروك ، إلا إذا كان متهماً بالكذب على النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فهذا غير صحيح بل كل من لا يستشهد به فهو متروك ولو ثبتت عدالته وكان الخلل من جهة الضبط وحدها .
تنبيه : سُمي المتروك بهذا الاسم لأنه لا نفع به ولا حاجة إليه فإنه لا يصلح للاحتجاج به منفرداً ولا مجتمعاً مع غيره ، ولا يمنع من تسمية الراوي الذي هذا وصفه متروكاً أن يَروي عنه بعض المحدثين لأنه ليس المراد بلفظة (متروك) أنهم تركوا الرواية عنه وإن كان حقه ذلك ، وإنما المراد أنه متروك الحديث عند النقاد ، أو أن حقه أن يترك حديثه ولا يُروى .
__________
(1) أرّخ للسنة كثيرٌ من العلماء والباحثين قديماً وحديثاً، ولذلك فسأكتفي هنا بعرض مختصر، محيلاً إلى الدراسات في ذلك الإحالة الإجمالية التالية، إلا ما رأيت ضرورة الاستشهاد له.
فانظر: ذمّ الكلام وأهله للهروي (3/148 - 150)، وجامع الأصول لابن الأثير (1/39 - 43)، وشرح علل الترمذي لابن رجب (1/35 - 43)، وهدي الساري لابن حجر (8 - 9)، والسنة قبل التدوين للدكتور محمد عجاج الخطيب، ودراسات في الحديث النبوي للأعظمي، وغيرها، ومنها كتابي المنهج المقترح (13 - 65).(5/17)
وبعبارة أخرى : كلمة متروك عند المحدثين لها معنى اصطلاحي وهو مقدم في عرفهم على معناها اللغوي ؛ ولذلك فليس معنى متروك الحديث أن أحاديثه قد تُركت بالفعل وهُجرت فلم تُروَ ، ثم ضاعت ، أو بقيت موجودة في كتب المتروكين وحدها ؛ وذلك لأن العلماء النقاد قد حرصوا على رواية كل ما يحتاجون إليه في الدراسة ، إلا من ثبت أنه من الوضاعين ونحوهم فهذا الصنف من الرواة كان جمهور النقاد على ترك مروياتهم بعد معرفة قدر منها كافٍ لمعرفة حقائق أولئك الرواة ؛ وأيضاً رُبَّ راو متروك عند النقاد ولكنه غير متروك عند جماعة من الرواة المتثبتين أو الثقات ، فضلاً عن غيرهم من الرواة الضعفاء أو الذين يروون عن كل أحد من غير تثبت ؛ وانظر (متروك الحديث).
متروك الحديث :
أي أحاديثه لا تستحق أن تروى ، لأنها لا قيمة لها ، وذلك لنزولها عن حد الاستشهاد فضلاً عن حد الاحتجاج ؛ وجاء في (تحرير علوم الحديث) (1/625-626) في إيضاح معنى هذا الاصطلاح ما لفظه : (جَرحٌ بليغ ، مفسَّرٌ في لفظه ، ظاهر في أنه من جهة حديث الراوي وما أتى به من المنكرات التي غلبت عليه ، فاستحق بذلك هذا الوصفَ .
وتقدم في (تفسير الجرح) وفي (المبحث الأول) من هذا الفصل ما بينه ابن أبي حاتم عن أهل الحديث أن من يقولون فيه ذلك ، فهو ساقط الحديث ، لا يعتبر به .
وفي معناها قولهم : (ذاهب الحديث) ، و (ساقط الحديث) ، و (واهي الحديث) .
فإذا لم تُضَف للفظ (الحديث) ، كقولهم : (متروك) و (ذاهبٌ) و (ساقط) و (واه) ، فأغلب ما استعملت له هو ذاتُ المعنى بالإضافة ، لكن قد يراد به غير ذلك ، فتفطن ، وابحث عن وجهه في كلمات سائر النقاد ، فلن تُعدم وجهه إن شاء الله ) ؛ انتهى ؛ وانظر (متروك) و(تركه) .
تنبيه : شذ أحمد بن صالح المصري فقال : (لا يُترك حديثُ رجلٍ حتى يجتمع الجميعُ على ترك حديثه)(1).
__________
(1) المعرفة والتاريخ) ليعقوب بن سفيان (2/191) و (الكفاية) للخطيب (ص18).(5/18)
وانظر (لا يُترك حديثُ رجلٍ حتى يجتمع الجميعُ على ترك حديثه) .
متروك بالإجماع :
معناها ظاهر ، وهي مثل (أجمعوا على تركه) وقد تقدمت ، وانظر (متروك).
متروك بل متهم :
هذه عبارةٌ للذهبي قالها في صباح بن يحيى إذ ترجمه في (ميزان الاعتدال) (3/420) (3855) فقال: (صباح بن يحيى عن الحارث بن حصيرة ، متروك بل متهم ) ، ثم ذكر له حديثاً منكراً.
والظاهر أن معنى هذه العبارة هو تأكيد الاتهام، بالتدرج إليه.
متساهل :
إذا وُصف الناقد بأنه متساهل فمعنى ذلك أن من شأنه أنه يتكرر منه في أحيان غير قليلة رفعُ الراويَ أو الحديثَ الذي يَحكم عليه ، إلى رتبة فوق التي يستحقها ذلك الراوي أو الحديث.
فمن المعلوم أنَّ وصفَهم الناقدُ بأنه متساهل فإنما ذلك بالنظر إلى كثرة تساهله في أحكامه ، وأنَّ ما وقع منه من تساهل فيها ، أكثرُ بكثير مما وقع منه فيها من تشدد ، فلا يلزم مِن وصفه بالتساهل أنه لا يقع منه التشدد أحياناً ، وكذلك لا يلزم منه أن لا يكون الغالبُ على أحكامه هو الاعتدال دون التساهل .
ونظيرُ هذا يقال في معنى كلمة (متشدد) ؛ وانظر (التساهل).
كتبت هذا ثم وقفت بعد ذلك على كلام أطول منه كنت كتبته في غير هذا المعجم فرأيت نقله هنا ، وهذا هو :
تساهل النقاد نوعان:
النوع الأول: تساهل في القواعد؛ وهو تساهل في المعاني والأحكام؛ وحقيقة هذا النوع اختيار قواعد وأصول للنقد مبنية على حسن الظن، فيؤدي التفريع عليها إلى إنشاء أحكام ترفع الراوي أو السند أو الحديث عن الرتبة التي يستحقها بحسب القواعد المعتدلة إلى رتبة تكون أكثر قوة لحاله خلافاً لما يستحق.
والنوع الثاني: تساهل في المصطلحات؛ وهو تساهل في العبارات والألفاظ؛ وحقيقته تجوز وتوسع باستعمال المصطلح بمعنى غير معناه الذي استعمله به الجمهور.(5/19)
وهذا النوع الثاني جائز ولا يشاحّ فاعله إذا بين مراده بذلك المصطلح؛ وكذلك لا يطلق عليه وصف التساهل، ولكنه يسمى متساهلاً مع التقييد، كأن يقال مثلاً: ابن حبان يتساهل في كلمة (صحيح) فيطلقها على الحديث الحسن كما يطلقها على الحديث الصحيح.
وتشدد النقاد نوعان أيضاً، كالتساهل؛ أول النوعين نقل الراوي من رتبة يستحقها في التعديل إلى ما هو دونها أو في التجريح إلى ما هو أسوأ منها وأشد؛ وكذلك التشدد في نقد الأحاديث؛ وثانيهما مثاله أن يتشدد الناقد في إطلاق لفظة (ثقة) على الثقات فيكون شحيحاً بها على أكثرهم، وإنما يستعمل لوصفهم لفظة (صدوق) ونحوها.
ولكن ليعلم أنه إذا رأينا ناقداً من النقاد يستعمل لفظة (صدوق) مثلاً في مرات كثيرة في وصف من هو عند التحقيق ثقة، أو في وصف من هو عند التحقيق لا يرتقي إلى رتبة الصدوق، فإن هذا لا يلزم منه أن يكون بمجرده كافياً لتعيين نوع تساهله أو تشدده؛ بل إنه فوق ذلك(1) يحتمل أن يكون مضطرباً في قواعده في النقد أو في أحواله في التساهل والتشدد والاعتدال، أو أنه متفاوت الأمر في سعة اطلاعه على أحوال الرواة وما قيل فيهم، فيصيب مرة ويجانب الصواب قليلاً أو كثيراً مرة أخرى؛ والتحقيق أنه لا يصح تعيين أحد هذه الاحتمالات المذكورة إلا بقرينة صحيحة كافية.
ومما ينبغي التنبيه له بعد هذا التقسيم أن معنى تساهل النقاد ينصرف عند الإطلاق إلى النوع الأول من التساهل دون النوع الثاني منه؛ وكذلك يقال في حق التشدد .
متشدد :
انظر (التساهل) ؛ وفيما يلي تنبيه يستدرك على ما تقدم .
تنبيه : من المهم ملاحظة مقاصد العلماء بكلمة (متشدد) فبعض النقاد قد يطلق وصف الراوي أو الناقد بالتشدد وهو لا يريد أكثر من نفي التساهل عنه، فليتنبه لهذا الاحتمال.
__________
(1) أعني فوق احتماله أكثر من نوع من التساهل أو التشدد.(5/20)
متصل :
قال ابن الصلاح في الحديث المتصل : (ويقال له : الموصول ) ، قال ابن حجر في (النكت) (1/510) : (قلت : ويقال له : المؤتصل ، بالفك والهمز ؛ وهي عبارة الشافعي في "الأم" في مواضع ؛ وقال ابن الحاجب في "التصريف" له : هي لغة الشافعي ؛ وهي عبارة عن ما سمعه كل راوٍ من شيخه في سياق الإسناد من أوله إلى منتهاه .
فهو أعم من المرفوع ، كما قررناه ، وسيأتي شرح صيغ ذلك إن شاء الله تعالى ) ؛ انتهى .
ويحسن أن يقال في تعريف الحديث المتصل أيضاً : هو الحديث الذي سلمت جميع مواضع إسناده من الانقطاع ، فيذكر كل راو من رواته مَن تحمله هو منه .
والمراد بالتحمل هنا هو التحمل المعدود في نظر النقاد اتصالاً .
تنبيه : أقوال التابعين إذا اتصلت الأسانيد إليهم لا يسميها أهل الحديث متصلةً ، في حالة إطلاق الكلام ، وأما مع التقييد فجائز ، وهو واقع في كلامهم ، كقولهم (هذا متصل إلى سعيد بن المسيب) ، أو إلى الزهري أو إلى مالك ، ونحو ذلك ؛ ولعل النكتة في ذلك أنها تسمى مقاطيع ، فإطلاق المتصل عليها كالوصف لشيء واحد بمتضادَّين لغة ، فكأنه لا يحسن - من جهة للغة - أن يقال : "هذا مقطوع متصل" ؛ أو لعل النكتة في ذلك هي تطلُّبُ الاحتراز عن إيهام الرفع وأنَّ الحديث يتصل سنده بالنبي صلى الله عليه وسلم .
متعنت :
أي متشدد جداً(1)
__________
(1) جاء في (المعجم الوسيط) : (عَنِتَ الشيءُ ]يَعنَتُ] عنَتاً : فسد ، و[عنت] فلانٌ : وقع في مشقة وشدة ----.
أَعْنَتَهُ : أوقعه في مشقة وشدة ، قال تعالى : {ولو شاء الله لأعنتكم}----.
عَنَّتَه : شدَّد عليه وألزمه ما يصعُب عليه أداؤُه.
تعنَّتَه : أدخل عليه الأذى وطلبَ زلَّتَه ومشقته ؛ يقال : جاءني فلانٌ متعنتاً ؛ و[تعنتَ ] الرجلَ و[تعنت] عليه : سأله عن شيء يريد به اللَّبْس عليه والمشقة ).(5/21)
؛ قال الذهبي في أوائل جزئه (ذكر من يعتمد قوله في الجرح والتعديل) : (اعلم - هداك الله - أن الذين قبِلَ الناسُ قولهم في الجرح والتعديل : على ثلاثة أقسام :
قسم تكلموا في أكثر الرواة كابن معين وأبي حاتم الرازي .
وقسم تكلموا في كثير من الرواة ، كمالك وشعبة .
وقسم تكلموا في الرجل بعد الرجل ، كابن عيينة والشافعي .
والكل أيضاً على ثلاثة أقسام: قسم منهم متعنت في التوثيق متثبت في التعديل يغمز الراوي بالغلطتين والثلاث ويليِّنُ بذلك حديثه----).
فتأمل كيف فرَّق في عبارته بين التوثيق والتعديل ، فالتعديل أعم من التوثيق ، فهو يشمل التوثيق الذي هو وصف الراوي بأنه ثقة أو بأنه حجة ، فهذا أعلى درجات التعديل ، وأما التعديل فهو ضد التجريح ، فمعناه تقوية الراوي ووصفه بالسلامة من الجرح ، فيشمل الحجة والثقة والصدوق ومن قاربهم(1) .
__________
(1) تنبيه: وضع الشيخ عبد الفتاح أبو غدة في طبعته لكتاب الذهبي المنقول منه - أعني (ذكر من يعتمد قوله في الجرح والتعديل) - لفظةَ (الجرح) بدل لفظة (التوثيق) ، في عبارة الذهبي المتقدمة، أعني قول الذهبي (قسم منهم متعنت في التوثيق متثبت في التعديل) ، ؛ وهو صنيع غير حسن وتصرف غير جيد، ولا عذر له في دعواه إذ قال:
(وقع في المخطوطة و(فتح المغيث) و(الإعلان بالتوبيخ) جميعاً هكذا: (قسم منهم متعنت في التوثيق، متثبت في التعديل) وهو تحريف [!!!] تطابقت عليه هذه الكتب [!!]، وصوابه كما أثبته [!!]، وقد جاء على الصحة في "الرفع والتكميل في الجرح والتعديل" للإمام اللكنوي "ص181" ، نقلاً عن "فتح المغيث" للسخاوي ، فالظاهر أنه نقل العبارة من نسخة قويمة، أو أصلح العبارة عند إثباتها في كتابه) .
كذا قال وهو اختيار غريب، كيف يقدم عبارة اللكنوي على عبارة الأصل أي مخطوطة كتاب الذهبي وهي عبارة (النكت على ابن الصلاح) للزركشي (3/438) ، و(فتح المغيث) (4/364) - وأظنه قد تطابق عليه ما وُجد من أصوله القلمية - و(الإعلان بالتوبيخ) (ص721-722) ، وهو من أعلم الناس باللكنوي وبطريقته في النقل بالمعنى وكثرة تصرفه في ما ينقله من عبارات أهل العلم، بل إنه كثيراً ما يتصرف في العبارة التي ينقلها تصرفاً مخلاً بمعناها إخلالاً يسيراً أو كثيراً ويغيرها تغييراً غير مرضيٍ عند المحققين؛ ومن تأمل تعليقات أبو غدة نفسِهِ على (الرفع والتكميل) وجد مصداق هذا واضحاً بلا خفاء .
ويؤيد هذا أن اللكنوي نقل العبارة عن السخاوي والذي في كتابي السخاوي خلاف نقله.
ويؤيده أيضاً سياق الكلام، فتأمله تجده كذلك.
ويؤيده أيضاً أنه وجه الكلام، فإن المعروف في عباراتهم أن يقال فلان متعنت في التوثيق أي صعب فيه بطيء عنه كثير الامتناع منه والتوقف فيه وعنه؛ وأما في الجرح فالمعروف أن يقال : فلان شديد في الجرح أو كثير الطعن في الرواة ونحو ذلك؛ ولا يكاد يستقيم قول القائل: (هو متعنت في الجرح) لأن معناه حينئذ أنه غير ميال إلى التجريح ولا يطلقه إلا قليلاً ولا يصير إليه إلا بعد التأني والتثبت؛ ولا شك أن هذا خلاف ما قصده الذهبي بعبارته هذه.
انتهى ما أردت التنبيه عليه هنا وليس من الخطورة في شيء، وإنما أردت التنبيه إلى ضرورة التثبت والتريث قبل الإقدام على التصرف في كتب العلماء؛ والله أعلم.
ثم وجدته في الطبعة الخامسة للكتاب أعني الطبعة التي ضمن (أربع رسائل في علوم الحديث - دار البشائر 1419هـ) عدل عن ذلك الاختيار ورجع إلى الحق - والرجوع إليه فضيلة - فأثبَتَ في المتن (ص171) العبارة موافقة لأصلها أعني (متثبت في التعديل) وقال في التعليق عليها : (هكذا في الأصل و "فتح المغيث" و "الإعلان بالتوبيخ" ؛ ومعنى قوله "متعنت في التوثيق" أي متشدد لا يوثق الراوي إلا إذا أحرز الدرجة العليا من العدالة والضبط ؛ ومعنى قوله "متثبت في التعديل" أي لا يعدِّل الراوي إلا بعد انتفاء أي قادح للعدالة .
وعبارة الذهبي هذه نقلها اللكنوي عنه في "الرفع والتكميل" بطريق السخاوي ، بلفظ (متعنت في الجرح متثبت في التعديل) ، ومعناها أن الناقد يَجرَح الراويَ بأدنى سبب ؛ وهذه العبارة هي المنتشرة في كلامهم ، يقولون : "جرَحه فلان وهو متعنِّت في الجرح" ؛ فالعبارة عند اللكنوي إما وجدها في نسخة من "فتح المغيث" هكذا ، أو جاءت كسائر النسخ ورأى تعديلها كما أثبَتَها [!!] ، فالله أعلم ؛ وفي الطبعة السابقة أثبتُّها كما جاءت عند اللكنوي ، ثم ترجح لي الآن إثباتُها كما جاءت في الأصل ) .(5/22)
متفق عليه :
اشتهرت هذه الكلمة عند المتأخرين في وصف الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم معاً وهو من مسند صحابي واحد ؛ أما إذا كان متن الحديث الواحد عند أحدهما من حديث صحابي غير الصحابي الذي أخرجه عنه الآخر مع اتفاق لفظ المتن أو معناه ، فالمحدثون لا يعدونه من المتفق عليه إلا من شذ عنهم ؛ قال ابن حجر في (النكت) (1/364-365) عقب أمور ذكرها في هذا الباب:
(تنبيه : جميع ما قدمنا الكلام عليه من المتفق هو : ما اتفقا على تخريجه من حديث صحابي واحد .
أما إذا كان المتن الواحد عند أحدهما من حديث صحابي غير الصحابي الذي أخرجه عنه الآخر مع اتفاق لفظ المتن أو معناه ، فهل يقال في هذا أنه من المتفق ؟ فيه نظر على طريقة المحدثين .
والظاهر من تصرفاتهم أنهم لا يعدونه من المتفق(1) ، إلا أن الجوزقي منهم استعمل ذلك في كتاب (المتفق) له ، في عدة أحاديث ، وقد قدمنا حكاية ذلك عنه ؛ وما يتمشى له ذلك إلا على طريقة الفقهاء ؛ ولننظر مأخذ ذلك .
وذلك أن كون ما اتفقا على تخريجه أقوى مما انفرد به واحد منهما له فائدتان :
إحداهما : أن اتفاقهما على التخريج عن راو من الرواة يزيده قوة ، فحينئذ ما يأتي من رواية ذلك الراوي الذي اتفقا على التخريج عنه أقوى مما يأتي من رواية من انفرد به أحدهما(2) .
والثاني : أن الاسناد الذي اتفقا على تخريجه يكون متنه أقوى من الإسناد الذي انفرد به واحد منهما .
ومن هنا يتبين أن فائدة المتفق إنما تظهر فيما إذا أخرجا الحديث من حديث صحابي واحد .
__________
(1) أي عليه .
(2) كأنه يعني أن الغالب فيما يتفقان عليه من رواية صحابي واحد أن يكون عندهما من طريق راو بعينه - أو طريق مشتركة - عن ذلك الصحابي ، بخلاف ما لو رويا الحديث بإسنادين أعني أن يكون عند أحدهما عن صحابي وعند الآخر عن صحابي آخر ، فإن الغالب هنا أن يختلف رجال الإسنادين . ولكن هذا الذي قاله الحافظ ليس مطرداً .(5/23)
نعم ، قد يكون في ذلك الجانب أيضاً قوة من جهة أخرى ، وهو أن المتن الذي تتعدد طرقه أقوى من المتن الذي ليس له إلا طريق واحدة .
فالذي يظهر من هذا أن لا يحكم لأحد الجانبين لحكم كلي ؛ بل قد يكون ما اتفقا عليه من حديث صحابي واحد إذا لم يكن فرداً غريباً : أقوى مما أخرجه أحدهما من حديث صحابي غير الصحابي الذي أخرجه الآخر ، وقد يكون العكس إذا كان ما اتفقا عليه من [حديث] صحابي واحد فرداً غريباً ، فيكون ذلك أقوى منه ، والله أعلم ) . انتهى .
وممن خالف اصطلاح الجمهور في هذه اللفظة أيضاً أبو البركات ابن تيمية الجَدّ ، ومِن قَبله أبو نعيم الأصبهاني.
استعمل أبو البركات في كتابه (منتقى الأخبار) لفظة (متفق عليه) في وصف الحديث الذي اجتمع على روايته الشيخان في (صحيحيهما) والإمامُ أحمد في (مسنده) ؛ وهو اصطلاح مخالف للجمهور ، لأنه اشترط في هذا الوصف - زيادةً على الجمهور - مشاركةَ الإمام أحمد للشيخين في إخراج الحديث ؛ ولكنه قد نَبَّه على اصطلاحه هذا في أول كتابه (المنتقى) فلا محذور فيه ولا مانع منه ، وإن كانت موافقة الجمهور في الاصطلاح المشهور أكمل وأولى .
وأما أبو نعيم الأصبهاني فإن من اصطلاحاته في كتابه (حلية الأولياء) - ويظهر أن ذلك مطرد في سائر كتبه - أنه يطلق لفظة (متفق عليه) على الحديث الذي اجتمعت فيه شروط الصحة عند علماء الحديث ؛ فهو لا يقْصر هذه اللفظة على ما اشترك في إخراجه الشيخان البخاري ومسلم واتفقا عليه .
إذن وصفُ أبي نُعيم لحديث بأنه "متفق عليه" لا يلزم منه أن البخاري ومسلماً أخرجا ذلك الحديث، ولكنه يعني به أن ذلك الحديث اجتمعت فيه شروط الصحة المتفق عليها ؛ ثم لعله يُدخل تحت هذا الاصطلاح كل ما اتفق عليه الشيخان ولو خالفهما فيه بعض النقاد ؛ وإذا صدق هذا الظن يكون اصطلاح أبي نعيم في هذا الباب أعم من اصطلاح الجمهور .(5/24)
وممن نبه على مخالفة أبي نعيم للجمهور في هذا الاصطلاح قديماً الإمام الحافظ شرف الدين أبو الحسن علي بن المفضل بن علي المقدسي ثم الاسكندراني المالكي (ت 611) ، فقد قال في (الأربعين المرتبة على طبقات الحفاظ) (ص 457) عقب حديث أخرجه الإمام مسلم وقال فيه أبو نعيم (متفق عليه) : (لم يَعْنِ أبو نعيم بقوله المشار إليه اتفاقَ البخاري ومسلم رحمة الله عليهما على إخراجه في كتابيهما ، وإنما أراد به سلامة رجاله من الخلل وعدم الطعن فيه بعلة من العلل فيما يظهر لي والله أعلم ، وإلا فهو مما انفرد به البخاري عن مسلم) ؛ انتهى منقولاً بواسطةٍ .
ونبه عليه من المعاصرين الشيخ عبدالله السعد فيما قرأته منقولاً عنه ، والشيخ عبد العزيز الطريفي فقد بيّن في أوائل شرحه لـ(بلوغ المرام) أن أبا نعيم وصف بهذه الكلمة في (حلية الأولياء) جملةً من الأحاديث التي لم يتفق على إخراجها الشيخان ، أو التي لم يخرجها واحد منهما أصلاً ، ثم مثّل الشيخُ الطريفي لذلك بحديثين:
الأول: الحديث الذي أخرجه أبو نعيم في (الحلية) (7/87) من حديث سفيان عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : » الإمام ضامن ، والمؤذن مؤتمن ، اللهم أرشد الأئمة واغفر للمؤذنين « ، وقال أبو نعيم عقبه: (صحيح متفق عليه) ، مع أنَّ هذا الخبر ليس في الصحيحين ولا في أحدهما .
والثاني : الحديث الذي أخرجه أبو نعيم (7/132) فقال: (حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن ثنا بشر بن موسى ثنا أبو نعيم ح وحدثنا أحمد بن القاسم ثنا محمد بن يونس ثنا أبو داود الطيالسي قال ثنا سفيان عن أبي إسحاق عن البراء قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قفل من سفر قال: آيبون تائبون لربنا حامدون " صحيح متفق عليه مشهور من حديث الثوري).(5/25)
قال الشيخ الطريفي: (وهذا ليس في الصحيحين ولا في أحدهما ، وإنما مراد أبي نعيم في أمثال هذه المواضع أن هذه الأحاديث قد توفرت فيها شروط الصحة التي اشترطها أهل العلم ، ومراده أن ذلك أعلى درجات الصحة عنده عليه رحمه الله ).
ولكن قال بعض الفضلاء تعقيباً على ما نُقل عن الشيخ عبدالله السعد ما نصه : (وقول أبي نعيم "متفق عليه" ينبغي أن يُتأنى في بيان مراده منه ، فقد أطلقها في كتابه "الحلية" نحو (170) مرة ، وهي في أغلب تلك المواضع أحاديث أخرجها الشيخان بنص أبي نعيم نفسه ، فلا بد من استقراء هذه المواضع للخروج بقول فصل) .
قلت : تقدم ذكرُ احتمال أن يكون اصطلاح أبي نعيم في كلمة "متفق عليه" أعم من اصطلاح الجمهور ، فيدخل فيه المتفق عليه عند الجمهور ، أي ما أخرجه الشيخان ، وما اجتمعت فيه شروط الصحة المتفق عليها بحسب نقد أبي نعيم ؛ وإذا صح هذا الاحتمال صح أن يكون جواباً عن هذا الإيراد .
فائدة في بيان أصلِ معنى إطلاقهم كلمة (متفق عليه) من غير تقييد بالشيخين :
قال الصنعاني في (توضيح الأفكار لمعاني تنقيح الأنظار) (1/86) : ( "مراتب السند الصحيح عند المحدثين" يحترز من مراتبه عند الفقهاء ، "اعلم أن مراتب الصحيح متفاوتة" ، وإنْ جَمَعها الاتصافُ بالصحة ، "بحسب تمكن الحديث من شروط الصحة وعدم تمكنه ، وقد ذكر أهل علوم الحديث" أي جمهورهم : "أنَّ الصحيح ينقسم" باعتبار ما ذُكر "سبعة أقسام القسم" :
القسم "الأول : أعلاها ، وهو ما اتفق على إخراجه البخاري ومسلم ، وهو الذي يعبِّر عنه أهلُ الحديث" الناقلون من كتابي الشيخين "بقولهم : متفق عليه" ، يُطلقون ذلك ويعنون به اتفاق البخاري ومسلم ، واتفاقُ الأئمة أيضاً حاصل على ذلك ، لما تقدم مِن تلقّيهم لهما بالقبول ؛ كذا قاله البقاعي) .(5/26)
المتفق والمفترق :
اسمٌ لأحد أقسام علم الحديث ، وهو الفن الذي يُعنى بالتفريق بين الرواة المشتركين في اسمهم واسم آبائهم ، أو من يقوم مقام الأب في الانتساب إليه كالجد .
وأحياناً يكون الاتفاق المذكور واقعاً بين أكثر من راويين ، وفي أكثر من اسمين ، كأحمد بن جعفر بن حمدان ، أربعة في طبقة واحدة ، اتفق أربعتهم في الاسم واسم الأب واسم الجد .
ولا شك أن الاشتراك على هذا الوجه قد يوقع أهلَ العلم والبحث في الوهَم ، ولا سيما إذا تقاربت الطبقات أو اتحدت ؛ فكيف إذا حصل مع ذلك اشتراك هؤلاء المتفقين بأسمائهم في شيخ لهم أو في تلميذ يروي عنهم ، فكيف إذا اشتركوا في هذين الاثنين جميعاً ، أي في شيخهم وتلميذهم اللذَين وردت الرواية من طريقهما وبينهما صاحب ذلك الاسم المشترَك فيه؟!
وعكس هذا واقع ، وهو أن طائفة غير قليلة من الرواة يُذكر أحدهم بتسميات متعددة ، كمحمد بن سعيد بن حسان الشامي المصلوب يقال له : محمد بن حسان ، ومحمد بن عبد الرحمن ، ومحمد بن زكريا ، ومحمد بن أبي قيس ، ومحمد بن أبي زينب ، إلى أسماء أخرى كثيرة جداً عُرف بها هذا الراوي الكذاب الذي كان المدلسون يدلسون اسمَه ترويجاً لأحاديثه بين الرواة ، وإخفاءً لأمره على النقاد .
وإذ كان الأمر كذلك فليس غريباً أن يقع من بعض النقاد الخطأُ في هذا الباب ، أحياناً ، فيعد الإثنين فأكثر واحداً لاتفاق الاسم والطبقة ، ويعد الواحد اثنين فأكثر لاختلاف الاسم ، أو يتردد بين الأمرين(1)
__________
(1) وفي ذلك من الخلل ما فيه ، فقد يكون أحد الرجلين موثقاً والآخر مجروحاً ، فمن ظنهما واحداً كان بين أن يرد خبر الثقة أو يقبل خبر المجروح ؛ ومن حسب الواحد اثنين قد يعد أحدهما ثقة والآخر غير ثقة فيكون قد اعتقد في رجل واحد أنه ثقة غير ثقة ، إلى غير ذلك من المفاسد .
لذلك اعتنى المحدثون بهذا الباب فوضعوا لبيانه فنين ، فن (المتفق والمفترق) للأسماء التي اتفق فيها اثنان من الرواة فأكثر ، وكان آباؤهم كذلك ، وفن (من يذكر بأوصاف متعددة) لمن يذكر باسمين فأكثر وهو واحد ، ويستحق أن يدخل فيه من كان له مع اسمه لقبٌ قد يُظنُّ به أنه اسمٌ وليس لقباً .(5/27)
؛ ولكنه - بحمد الله - لا يخفى على أئمتهم إلا في الحالات التي لا ضرر في خفائها ، أو لا حاجة إلى معرفة حقيقة الأمر فيها .
هذا وقد سمي هذا الفن بهذا الاسم (المتفق والمفترق) لأن الرواة الذين يُذكرون فيه هم الذين وقع بين اثنين منهم - أو أكثر - اتفاق في اسمين أو أكثر ، فالواقع هو اتفاق في الأسماء وافتراق في الأشخاص.
وانظر (الأسماء المفردة).
المتقدمون :
انظر (المتأخرون والمتقدمون) .
متقن :
الإتقان هو الضبط الفائق الشديد .
تنبيه : الحفظ والضبط والاتقان إن أريد بها مجرد أهلية الراوي لذلك أي أنه قادر على حفظ أو اتقان أو ضبط ما سمعه ، بقطع النظر عن مروياته فإن هذه الكلمات الثلاث حينئذ لا يلزم منها إثبات العدالة لصاحبها فهي حينئذ دون كلمة (ثقة) .
وأما إن أريد بهذه الكلمات الثلاث صفة الراوي بالنظر إلى مروياته وكيفية أدائه لها حال الأداء لا مجرد حاله في نفسه ، أي أريد أنه أدى ما سمعه محفوظاً مضبوطاً متقناً فهذا المعنى مساوٍ لمعنى لفظة (ثقة) إن لم يكن زائداً عليه ؛ ثم إن سياق الكلام والقرائن تكون كافية غالباً في تعيين المراد بمثل هذه الألفاظ ؛ ولكن لتعلمْ قبل ذلك أن كلمة (الحافظ) ربما أطلقوها على غير الثقة ، أي غير العدل ، وذلك إذا كان واسعاً الحفظ جداً.
ولكن مثل هذا الراوي يبعد أن تطلق عليه كلمة (ضابط) ، وأما الكلمة الثالثة (متقن) فكان الأَولى فيما أرى هو أن لا تُطلق على غير العدل البتة ، فأي إتقان لمن لا يوثق به فيما اؤتمن عليه من علمٍ يؤديه؟! ولكنها وردت في حق بعض المجروحين ، قال الذهبي في (ميزان الاعتدال) (2/422) في ترجمة خالد المدائني: (قال يعقوب بن شيبة : خالد المدائني صاحب حديث ، متقن ، متروك الحديث ، كل أصحابنا مجمِع على تركه سوى ابن المديني فإنه كان حسن الرأي فيه ؛ قلت: نقل البخاري عن علي أنه تركه أيضاً فقال: تركه علي والناس).(5/28)
وقال في (الميزان) (5/159-160) (5855) : (علي بن السراج المصري حافظ متأخر ، متقن ، لكنه كان يشرب المسكر ؛ سمع أبا عمير بن النحاس الرملي ويوسف بن بحر وطبقتهما بمصر والشام والعراق ؛ وسكن بغداد وجمع وصنف ؛ روى عنه أبو بكر الإسماعيلي وأبو عمرو بن حمدان ؛ قال الدارقطني : كان يحفظ الحديث وكان يشرب ويسكر ؛ قلت : مات في سنة ثمان وخمسين وثلاثمئة). انتهى.
فالظاهر أن معنى الإتقان هنا هو كثرة العناية بالحديث طلباً وكتابةً وتحفظاً ، ونحو ذلك .
وعلى كل حال فكلمة (متقن) إذا قُرنت بلفظة توثيق فهي توثيق مؤكَّد ، وإذا جرِّدت ولم تقرنْ بشيء فالظاهر أنها توثيق ، وأما إذا وردت مقرونةً بما يدل على خلاف التوثيق ، فالمراد هنا سعة الحفظ وتمكنه منه وأنه صاحب حديث إلا أن ذلك لا يمنع من تجريحه أو ترك حديثه.
فائدة :
قال العلامة المعلمي رحمه الله في (التنكيل) (ص669-670): (التحقيق أن توثيق ابن حبان على درجات:
الأولى: أن يصرح به ، كأن يقول (كان متقناً) أو (مستقيم الحديث) أو نحو ذلك.
الثانية: أن يكون الرجل من شيوخه الذين جالسهم وخبرهم.
الثالثة: أن يكون من المعروفين بكثرة الحديث، بحيث يعلم أن ابن حبان وقف له على أحاديث كثيرة.
الرابعة: أن يظهر من سياق كلامه أنه قد عرف ذلك الرجل معرفة جيدة.
الخامسة: ما دون ذلك.
فالأولى لا تقل عن توثيق غيره من الأئمة، بل لعلها أثبت من توثيق كثير منهم.
والثانية قريب منها.
والثالثة مقبولة.
والرابعة صالحة.
والخامسة لا يؤمن فيها الخلل، والله أعلم ) .
انتهى تفصيل العلامة المعلمي رحمه الله ، وهو نفيس وأظنه لم يُسبَق إلى مثله ، ولكن قال الشيخ محمد عمرو عبد اللطيف في (أحاديث ومرويات في الميزان) (2/12) في أواخر خطبة الكتاب ما نصه:(5/29)
(تنبيه أخير : كنت قد ذكرت أثناء تلخيص الأمور التي خَلَصتُ إليها من تراجم أهل العلم لـ ( عتبة بن عمرو المُكتِب ) أن ابن حبان ـ رحمه الله ـ في كتابه ( مشاهير علماء الأمصار ) قد نصّ على إتقان جماعة ووثقهم بصيغ رفيعة جداً ، وغيره من النقاد يرون فيهم عكس ذلك ، ولم يكن الكتاب بين يديّ وقتها ، ثم وجدته ونقلت عنه في موضعين .
وأذكر الآن بعض الأمثلة ، للتنبيه بعدها على أمر آخر لعله أعظم خطورة ، لأن أغلب طلبة العلم يعلمون تساهل ابن حبان رحمه الله .
1- قال في ترجمة فليح بن سليمان ( رقم1117 ) : (من متقني أهل المدينة وحفاظهم ).
قارن بترجمته في (هدي الساري) ( ص457 ) .
2 - قال في ترجمة عبدالله بن عياش بن عباس القتباني ( رقم1516 ) : (من ثقات أهل مصر) .
وقد ضعفه أبو داود ، والنسائي ، وقال ابن يونس - وإليه المرجع في المصريين - : (منكر الحديث ) ، وروى له مسلم استشهاداً ، وهو صاحب الحديث الذي فيه (العنوهنَّ ، فإنهن ملعونات) ، والذي تعقب الذهبيُّ فيه الحاكمَ على تصحيحه .
3 - قال في ترجمة سليمان بن حيان أبي خالد الأحمر ( رقم 1361 ) : (من متقني أهل الكوفة ، وكان ثبتاً ).
ومعروف حال أبي خالد - على صدقه - من كثرة أوهامه ومخالفاته للثقات .
انظر ترجمته - مثلاً - في (الكامل) و (التقريب).
4 - قال في ترجمة يحيى بن علي بن يحيى بن خلاد الزُّرَقي (رقم 1101) : (وكان متقناً ).
ويحيى هذا فيه جهالة ، ولا يعرف إلا بحديث واحد . أنظر ترجمته في (الميزان ) و (تهذيب الكمال) - مع الحواشي .
5 - قال في ترجمة عثمان بن أبي العاتكة ( رقم 1449 ) : (من متقني أهلها - يعني الشام - وقدماء مشايخهم ).
والرجل أحسن أحواله أن يكون صدوقاً إذا روى عن غير علي بن يزيد الألهاني - ذاك المتروك - انظر ( تهذيب الكمال ) بحواشيه .(5/30)
وفي المقابل وصف جماعةً من الثقات والصدوقين برداءة الحفظ ، حتى ولو كان يقصد أنهم يعتمدون في الرواية على كتبهم ، لكن ظاهر صنيعه أنهم مجروحون بجرح مفسَّر، وهذا ما يعرفه عامة المبتدئين في الطلب .
فمن هؤلاء :
1 ـ علي بن الحكم البُناني ( رقم 1217 ) .
2 ـ عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر أبو طوالة ( رقم 576 ) .
3 ـ غالب القطان (رقم 1231) . وغالبٌ لم يُصب ابنُ عديّ بإيراده في (الكامل) لأن البلاء من الراوي عنه! .
4 ـ غسان بن مضر الأزدي ( رقم 1261 ) .
5 ـ برد بن سنان ( رقم 1228 ) .
6 ـ حزم بن أبي حزم القُطَعِيُّ ( رقم 1237 ) .
7 ـ بل قال في الثقة الثبت القاسم بن الفضل الحُدّاني ( رقم 1259 ) : ( من المتيقظين في الروايات على سوء حفظه ) .
والحداني وثقه الناس ، وأورده العقيلي في (الضعفاء) (3/477 ، 478 ) متعلقاً بحديث لمَّا علم شعبةُ أن القاسم سمعه من أبي نضرة ولم يأخذه من شهر بن حوشب سكت ، وهو حديث صحيح .
8 ـ وقال في يزيد بن عبدالله بن خصيفة ( رقم 1066 ) : ( وكان يهِمُ كثيراً إذا حدث من حفظه ).
وهذا وصفٌ لم أرَ أحداً سبقه إليه ، ولو كان ابنُ خصيفة كذلك لكان مثل عبدالعزيز بن محمد الدَّراوردي؛ وحاشاه .
نعم ، روى الآجري عن أبي داود أن الإمام أحمد قال : (منكر الحديث) ، والثابت عن الإمام أحمد توثيقه كما رواه عنه الأثرم . وفي القلب من بعض ما يرويه الآجري عن أبي داود . فالله أعلم) .
متقن ربما وهم :
أي ثقة له أوهام يسيرة ؛ قال ابن معين في راو من الرواة: (ثقة) ، وقال فيه مرة: (ليس بذاك القوي) ، فقال المعلمي في (التنكيل) (ص411): «وهذا إنما يعطي أنه ليس غاية في الإتقان، فكأن ابن حبان فسر ذلك إذ قال في الثقات: كان متقناً ربما وهم».
متماسك :
أي غير تالف ولا ساقط ، والمراد أنه غير نازل عن رتبة الاستشهاد ، وإن كان لا يصلح للاحتجاج بما تفرد به.(5/31)
المتن :
المتن في مصطلح المحدثين هو ما يراد الإخبار به من الأقوال أو الأفعال أو الأوصاف أو غير ذلك ؛ فهو الخبر الذي سيق السند من أجله ، وهو لفظ اصطلاحي مأخوذ من بعض المعاني اللغوية لكلمة (متن) ، قال السيوطي في (تدريب الراوي) (1/42) : (وأما المتن فهو ألفاظ الحديث التي تتقوم بها المعاني ، قاله الطيبي ؛ وقال ابن جماعة : هو ما ينتهي إليه غاية السند من الكلام ، من المماتنة ، وهي المباعدة في الغاية ، لأنه غاية السند ، أو من " متنت الكبشَ " إذا شققت جلدة بيضته واستخرجتها ، فكأن المسنِد استخرج المتن بسنده ، أو من المتن وهو ما صلب وارتفع من الأرض ، لأن المسنِد يقويه بالسند ويرفعه إلى قائله ؛ أو من تمتين القوس ، أي شدها بالعصب ، لأن المسنِد يقوي الحديث بسنده) .
وقال د. عبد الله بن عويقل السلمي في (المتون والشروح والحواشي والتقريرات في التأليف النحوي) تحت هذا العنوان (المقصود بالمتن والشرح والحاشية والتقرير) : (المتن : مصطلح يطلق عند أهل العلم على مبادئ فن من فنون جمعت في رسائل صغيرة خالية من الاستطراد والتفصيل والشواهد والأمثلة إلا في حدود الضرورة .
والشرح : عمل يُتوخى فيه توضيح ما غمض من المتون وتفصيل ما أجمل منها , وهو يتراوح بين الطول والقصر والسهولة والعسر , وفيه الوجيز والوسيط والبسيط .
والحاشية : إيضاحات مطولة دعت إليها ظاهرة انتشار المتون والشروح , وقد قُصد منها حل ما يشكل من الشرح , وتيسير ما يصعب فيه , واستدراك ما يفوته , والتنبيه على الخطأ والإضافة النافعة , وزيادة الأمثلة والشواهد .
أما التقرير فهو بمثابة هوامش كان يسجلها العلماء والمصنفون على أطراف نسخهم مما يعن لهم من الخواطر والأفكار على نقطة معينة أو نقاط متعددة , وذلك أثناء قيامهم بالتدريس من الشروح والحواشي).(5/32)
ثم قال : (لعله من البدهي القول بأن المتون سابقة للشروح والحواشي والتقريرات , فهذه كلها آثار للمتون وعمل عليها , وإذا أردنا أن نضع تاريخاً لبداية المتون , لا بد أن ننبه على أنها نوعان : متن منظوم , ومتن منثور ---- ) الخ .
متهم :
أي بالكذب أو بالتزوير أو بالوضع ؛ انظر (الكذب) و(الوضع) و(اتّهمه فلان) .
قال برهان الدين الحلبي في (الكشف الحثيث عمن رُمي بوضع الحديث) (ص201) (329) : (سليمان بن صلاية الملطي متهم كذاب ، قاله الذهبي ، والظاهر أنه أراد بوضع الحديث ؛ كذا رأيته صنع بغير واحد ، ولم يقيده أمر(1) بالكذب ؛ والله أعلم ) .
وقال في خطبة كتابه (ص24-25) : (وقد جمعت في هذا الكتاب من وقعت(2) عليه أنه رمي بوضع الحديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم ---- ؛ ولم أذكر فيه من قيل فيه إنه متهم ، وذلك لأنه يحتمل أن يراد بذلك(3) أنه متهم بالكذب ؛ وهو ظاهرة عبارة أهل هذا الفن ؛ وإنما أذكر فيه من صُرح في ترجمته بالوضع ، أو ظن حافظ من الحفاظ أنه وضع ؛ مع أن غالب من قيل فيه : (إنه متهم) بغير قيد ، رأيته في كلام بعض الأئمة وقد صرَّح فيه بالوضع ؛ فإذا رأيتُه كذلك قد صرح عنه بالوضع ذكرتُه ؛ وربما أذكر مَن قوِيَ في فهمي من كلام بعضهم أنه وضع فأذكره .
ولا أذكرفيه من اقْتُصِرَ فيه على أنه (دجال) ، أو (كذاب) ، ولا (يكذب) ، ولا (متهم بالكذب) ؛ وإنما أذكر منهم من قد وصفته لك قبل ذلك قريباً ) .
متَّهَمٌ بالكذب :
انظر (الاتّهام بالكذب) .
متهم بالوضع :
أي هو متهم باختلاق الأحاديث وافترائها ؛ وانظر (الوضع).
متهم بسرقة الحديث :
انظر (سرقة الحديث) و(متهم) و(الاتهام بالكذب) و(تدليس التسوية) .
__________
(1) كذا ولعل الصواب (ولم يقيده أحد) أو (ولم يقيد أمره) .
(2) لعلها (وقفت).
(3) في مطبوعة الكتاب (به ذلك) بدل (بذلك) .(5/33)
متهم يأتي بأوابد :
قال برهان الدين الحلبي في (الكشف الحثيث) (ص101) : (إسماعيل بن علي الخزاعي شيخ هلال الحفار ، قال الخطيب : ليس بثقة ؛ قال الذهبي : قلت : متَّهم يأتي بأوابد عن عباس الدوري والكديمي ، وهو ابن أخي دِعْبِل الشاعر ، توفي سنة 352 ؛ انتهى ؛ فقوله "متهم" مع قوله "يأتي بأوابد" [مـ]ـما يقتضي أن يكون هو واضعها )؛ وانظر (صاحب أوابد) .
متواتر :
تقسم الأحاديث - بحسب اصطلاح المتأخرين - باعتبار عدد أسانيدها ، سواء كانت مرفوعة أو غير مرفوعة إلى ثلاثة اقسام :
القسم الأول : أحاديث ليس لها إسنادٌ أصلاً ، وهذه لا تصح ، وهي التي يقول لها المتأخرون : (لا أصل لها) ، واما المتقدمون فيطلقون هذا الاسم على هذا النوع من الأحاديث وعلى كل حديث لم يرد إلا بإسناد مختلق أو واه ساقط . انظر (لا أصل له).
القسم الثاني : أحاديث وردت بأسانيد بلغت من الكثرة حداً يجزم عنده الواقف عليها باستحالة وقوع الوهم أو الكذب في متونها ، فيستغني بذلك عن النظر في أحوال رواتها ، وتسمى عندهم الأحاديث المتواترة .
القسم الثالث : ما كان بين هذين القسمين ، ويسمى حديث آحاد ؛ وقد يُخل بعضهم الأحاديث التي لا أصل لها في جملة أحاديث الآحاد ، وليس هذا المسلك ببعيد من الصواب .
تنبيه : التواتر بهذا المعنى أحد الأبواب التي فتحها أهل الرأي في الفقه أو أهل الرأي في الاعتقاد أو كلاهما ، اخترعوا هذا المعنى ليؤيدوا به مذاهبهم ويردوا به على من يخالفهم من أهل الأثر ؛ وأما هؤلاء فلم يكد يكون للتواتر عندهم معنى ، فلم يستغنوا بتواتر حديث عن ذكر إسناده في تصانيفهم ، ولا عن بيان حاله في أحكامهم ، وهم في باب الاحتجاج لا يفرقون بين المتواتر من الصحيح وغيره منه .(5/34)
وثبتَ أن من أوائل من أدخل تقسيم السنة إلى متواتر وآحاد في كتب علوم الحديث وفصَّل فيها في اختلافهما في نوع العلم الذي يفيدانه وبيَّن حكمَ العمل بخبرهما هو الخطيب البغدادي رحمه الله ؛ وقد نص العلماء والباحثون أنه أخذ هذا التقسيم من كتب أصول الفقه ، لا من كتب المحدثين ؛ وأما ما ورد في كلام المحدثين قَبْله - كالبخاري ومسلم والطحاوي والحاكم - مِن ذكرهم لفظة (المتواتر) واشتقاقاتها فذلك إنما كان منهم على سبيل إرادة المعاني اللغوية لتلك الألفاظ لا المعاني الاصطلاحية الواردة في كتب جمهور المتكلمين من الأصوليين أو جمهور المتأخرين من المحدثين .
وانظر (خبر الخاصة) .
متواتر لفظي :
هذا التعبير واحد من اصطلاحات المتأخرين ، وهم يريدون به أن تبلغ عدد طرق الحديث الواحد حد التواتر ، ولا يشترط تساوي ألفاظ متون كل الطرق ، ولكن يشترط أن تتساوى متونها في الجملة وتتقارب بحيث يحكم الناظر فيها بأنها طرقٌ لحديث واحد ، فلا يضر بعد ذلك أن تختلف ألفاظها أحياناً .
متواتر معنوي :
هو المعنى الذي يرد في أحاديث مختلفة الأبواب والأصول ولكنها بالغة من حيث مجموع طرقها حد التواتر ؛ مثاله رفع اليدين في الدعاء ، فقد ورد في أحاديث قولية وفعلية بالغة حد التواتر مع اختلاف مقاصدها الرئيسة وقصصها ومناسباتها .
متوسط صالح الأمر :
هذه الكلمة تعني أن الراوي وسط ، فانظر (وسط) ، وانظر (صالح).
متين :
أي ثقة .(5/35)
مُثَبَّت :
أي ثقة ؛ قال المزي (16/375): (قال فَيّاض بن زُهير، عن يحيىَ بن مَعِين: مَن ثَبّتَ أبو مُسْهِر من الشاميين، فهو مُثَبّتٌ)(1) .
مثلُ فلان :
من طرائق النقاد في بيان أحوال الرواة ، ولا سيما من نزل منهم عن مرتبة الشهرة أو مرتبة الإتقان ، أن يشيروا إلى حاله بتشبيهه بمن هو أشهر أو أظهر حالاً منه ، أو بموازنته به.
فمن أراد تعيين حال ذلك الراوي المقيس على وجه التحديد ، عند ذلك الناقد ، لزمه معرفة رأيه في المقيس عليه ، فإذا لم يجد له فيه نصاً مفسراً ، استعان بكلام من تكلم فيه من النُّقَّاد.
قال عبد الله بن أحمد في (العلل ومعرفة الرجال) (852) : (سألت أبي عن مطر الوراق فقال : كان يحيى بن سعيد يشبه مطر الوراق بابن أبي ليلى ، يعني في سوء الحفظ).
فالذي يبيِّن حال مطر عند الإمام يحيى بن سعيد حالُ ابن أبي ليلى عنده ؛ وكذلك الإمام أحمد يظهر أنه مقرٌّ لشيخه يحيى على هذا التشبيه.
__________
(1) قلت : في هذا بيان لاعتماد ابن معين نقد أبي مسهر للشاميين ، وكذلك احتج بأقواله فيهم الإمام أحمد ؛ قال ابن حبان في (المجروحين) (2/72) في أبي مسهر: (من الحفاظ المتقنين وأهل الورع في الدين، الذي كان يقبل كلامه في التعديل والجرح في أهل بلده كما كان يقبل ذلك من أحمد ويحيى بالعراق، وكان يحيى بن معين يفخم من أمره----) ؛ وقال ابن حبان فيه أيضاً: (كان إمام أهلِ الشام في الحِفْظ والإتقان، ممّن عُنَي بأنسابِ أهل بلده وأنبائِهم، وإليه كان يرجع أهل الشام في الجَرْح والعدالة لشيوخهم). حكاه المزي في ترجمة أبي مسهر من (تهذيب الكمال) ؛ وقال المزي أيضاً: قال أبو الحسن المَيْمونيّ: (وذَكَرَ يوماً ـ يعني أحمد بن حنبل ـ أبا مُسْهِر الشاميّ فقال: كيّسٌ، عالمٌ بالشاميين؛ قلت: وبالنسب؟ قال: نعم، زَعَموا).(5/36)
ولقد جاء في كلام أحمد ما هو أكثر بياناً وتفصيلاً مما تقدم نقلُه عن (العلل ومعرفة الرجال) ؛ قال ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل) (1319) في مطر بن طهمان الوراق : (نا محمد بن حمويه بن الحسن قال سمعت أبا طالب قال : سألت أحمد بن حنبل عن مطر الوراق فقال : كان يحيى بن سعيد القطان يضعف حديث مطر عن عطاء.
انا عبد الله بن أحمد بن حنبل فيما كتب إليَّ قال : سألت أبي عن مطر الوراق فقال : كان يحيى بن سعيد يشبِّه مطر الوراق بابن أبي ليلى في سوء الحفظ ؛ قال عبد الله : فسألت أبي عنه فقال : ما أقربه من ابن أبي ليلى في عطاء خاصة ؛ وقال : مطر في عطاء ضعيف الحديث).
مثلثة :
توصف الكلمة بأنها مثلثة إذا كان أحد حروفها يقبل الحركات الثلاث أو السكون واثنتين منها ، مثل كلمة (الكَُِفْيُ ) ، قالوا في (المعجم الوسيط) (2/799) : (الكَُِفْيُ : ما تكون به الكفاية ، تقول : هذا رجل كفْيُكَ من رجل (يستوي فيه المفرد والمثنى والجمع مذكراً ومؤنثاً ، والكاف مثلثة الحركات) .
وقالوا (2/894) : (الملاوة - مثلثة الميم - : مُدَّة العيش) .
وقالوا (2/866) : ( المرء - مثلثة الميم - : الرجل----) .
ولقد صنف غيرُ واحد من العلماء في الكلمات المثلثة ، وأوسع ما صُنِّف في ذلك (المثلث) لابن السيد البطليوسي ، وقد طُبع محققاً ببغداد ، في سفرين ، سنة 1981-1982م .
وانظر (علامة التثليث اللغوي) .
مثلَ حديث قبْلَه متنُهُ كذا وكذا :
انظر (مثله) .
مثلَه :
إذا روى المحدث حديثاً بإسناده ، ثم أتبعه بإسناد آخر ثم قال عند منتهى الإسناد : (مثله) ، فهو يعني مثل الحديث المتقدم سواء كان مساوياً له في لفظه أو مقارباً له ، وأما إذا قال بدل (مثله) : (نحوه) ، فهذه الكلمة دالة غالباً على اختلاف في اللفظ غير قليل بحيث لا يحسن معه إطلاق المثلية ؛ ولكنَّ كثيراً من المحدثين يتجوزون فيستعملون إحدى هاتين اللفظتين في موضع الأخرى .(5/37)
قال ابن الصلاح في (مقدمته) (ص207-208) : (إذا روى المحدث الحديث بإسنادٍ ، ثم أتبعه بإسناد آخر، وقال عند انتهائه : "مثله ، فأراد الراوي عنه أن يقتصر على الأسناد الثاني، ويسوق لفظ الحديث المذكور عقيب الإسناد الأول : فالأظهر المنع من ذلك .
وروينا عن أبي بكر الخطيب الحافظ رحمه الله قال : كان شعبة لا يجيز ذلك .
وقال بعض أهل العلم : يجوز ذلك إذا عرف أن المحدث ضابط متحفظ ، يذهب إلى تمييز الألفاظ وعدِّ الحروف ؛ فإن لم يعرف ذلك منه لم يجز ذلك .
وكان غير واحد من أهل العلم إذا روى مثل هذا يورد الإسناد ويقول : "مثل حديث قبْلَه متنه كذا وكذا" ، ثم يسوقه .
وكذلك إذا كان المحدث قد قال : "نحوه" ؛ قال : وهذا هو الذي أختاره ) .
ثم روى ابن الصلاح بإسناده إلى أبي القاسم عبد الله بن محمد البغوي: حدثنا عمرو بن محمد الناقد : حدثنا وكيع قال: قال شعبة : "فلان عن فلان مثله" : لا يجزئ ؛ قال وكيع: وقال سفيان الثوري: يجزئ.
وأما إذا قال : "نحوه" فهو في ذلك عند بعضهم كما إذا قال : "مثله" .
نُبئنا بإسناد عن وكيع قال : قال سفيان : إذا قال : "نحوه" فهو حديث ؛ وقال شعبة : "نحوه" شك .
وعن يحيى بن معين : أنه أجاز ما قدمنا ذكره في قوله "مثله" ، ولم يجزه في قوله "نحوه" ؛ قال الخطيب : وهذا القول على مذهب من لم يُجز الرواية على المعنى ؛ فأما على مذهب من أجازها فلا فرق بين "مثله" و "نحوه" ، والله أعلم .
قلت : هذا له تعلق بما رُوِّيناه عن مسعود بن علي السجزي أنه سمع الحاكم أبا عبد الله الحافظ يقول : إن مما يلزم الحديثيَّ من الضبط والإتقان : أن يفرق بين أن يقول : "مثله" ، أو يقول : "نحوه" ؛ فلا يحلُّ له أن يقولَ : "مثله" إلا بعد أن يعلم أنهما على لفظ واحد ؛ ويحلُّ له أن يقول : "نحوه" إذا كان على مثل معانيه ، والله أعلم ) .(5/38)
وقال الصنعاني في (توضيح الأفكار) (1/163) : (والمثل ما يساويه في لفظه أو معناه والنحو ما يقاربه في معناه) .
مثله لا يُسأل عنه :
انظر (لا يُسأل عنه) .
المجلد :
كلمة مجلَّد : اسم مفعول مشتق من الجلد ، الذي هو غشاء جسد الحيوان .
فأصل هذه التسمية آتٍ من كون الكتاب ملفوفاً بالجلد الذي يلتصق به بقوة ، لصيانته والحفاظ عليه ، قال الزمخشري في (أساس البلاغة) تحت مادة (ج ل د) (1/230) : (وجلَّدَ الكتابَ : ألبسه الجلدَ) .
ويقال في هذا النوع من الكتب : "مجلد" و "مجلدةٌ" أيضاً .
قال الدكتور موفق بن عبدالله في (توثيق النصوص) (ص230) : (يُطلق المحدثون لفظ مجلد أحياناً ، ويريدون به إما المعنى اللغوي ، أو أنَّ المصنف الواحد قد قُسِّم إلى عدة مجلدات ) ؛ انتهى .
وليس للمجلد عدد ثابت من الأوراق ، بل المجلدات متفاوتة في ذلك بلا شك .
قال ابن خلكان في (وفيات الأعيان) (6/184) : (وحكي عن أبي حمدون الطيب بن إسماعيل قال : شهدت ابن أبي العتاهية وقد كتب عن أبي محمد اليزيدي قريباً من ألف جلد عن أبي عمرو بن العلاء خاصة ؛ ويكون ذلك عشرة آلاف ورقة لأن تقدير الجلد عشر ورقات) .
قال عبدالسلام هارون في (تحقيق النصوص ونشرها) (ص24-25): (ومما يعنينا تسجيلُه أيضاً ما ذُكر في تقدير المجلد قديماً ) ، ثم نقل هذا الكلام(1) ، ثم قال عقبه : (فكأن المجلد أُطلق قديماً على ما يسمى بالكراسة ، التي هي إلى وقتنا هذا تقدر بعشر ورقات ) .
وقال الدكتور موفق بن عبدالله في (توثيق النصوص) (ص230-231) في بيان عدد أوراق المجلد : (قد يقسّم المحدثون الكتاب الواحد إلى عدة مجلدات حديثية .
فمنهم من جعل المجلدةَ الواحدةَ عشرَ ورقات ؛ ومنهم من جعل المجلدةَ عشرة أجزاء حديثية ، عدد أوراق الجزء منها عشرون ورقة(2) .
__________
(1) ولكن فيه (مجلد) مكان (جلد) في الموضعين .
(2) كما في تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر ، انظر ترجمة عثمان بن عفان ، المقدمة (صفحة ج) .(5/39)
وكتاب "معجم الدمياطي" قسمه المصنف إلى إلى "أربعة وأربعين جزءاً" ، قال الحافظ ابن حجر : "في أربع مجلدات"(1) ؛ وعلى هذا فيكون في كل مجلدة أحد عشر جزءاً ؛ علماً بأنَّ النسخة المحفوظة بدار الكتب الوطنية بتونس برقم (12910) تقع في أربعة وأربعين جزءاً ، وكل جزء يقع في إحدى عشرة ورقة من ضمنها ورقة السماعات ) .
المجلة :
نشرة دورية ، على هيئة كتابٍ ، أسبوعية أو نصف شهرية أو شهرية أو فصلية أو سنوية ، أو نحو ذلك ؛ وقد تكون أدبية أو لغوية ، أو علمية ، أو دعوية ، أو تاريخية ، أو سياسية ، أو منوعة ، أو غير ذلك ؛ والأصل فيها أن يشتركَ فيها جماعةٌ من الكُتّاب ، وتختلف مقالاتها قِصراً وطولاً ، والأصل في المجلات البحثية أن تكون مقالاتُها مطوّلة .
مجلس الإملاء :
انظر (الأمالي) و(الإملاء).
مجلس الحديث :
أي حلقة التحديث؛ والمراد بالمجلس إما موضع جلوس الشيخ وتلامذته الذين يأخذون فيه عنه الأحاديث ، أو زمان ذلك ، أو الأحاديث المسموعة في مجلس واحد ، أو أهل المجلس أنفسهم ، فهذه أربعة معان متقاربة مترابطة.
وهذه بعض الكلمات التي وردت فيها كلمة (مجلس) ببعض المعاني المتقدمة، ولم أر بأساً بالإطالة بإيرادها لأنها لا تخلو من فائدة:
قال المعلمي في (التنكيل) (ص302): (أقول : تاريخ الخطيب قرئ عليه في حياته ورواه جماعة ، ويظهر أنها أخذت منه عدة نسخ في حياة الخطيب على ما جرت به عادة المثرين من طلبة العلم والمجتهدين منهم أن يستنسخ كل منهم الكتاب قبل أن يسمعه على الشيخ ثم يسمع في كتاب نفسه ويصحح نسخته ، وكثير منهم يستنسخ قبل كل مجلس القطعة التي يتوقع أن تقرأ في ذلك المجلس إلى أن يتم الكتاب )(2).
__________
(1) الدرر الكامنة (2/417) .
(2) في هذا بيان لكيفية نشأة نسخ الطلبة التي يسمعونها من شيوخهم ؛ قلت: والنسخ قد يقوم به الطالب نفسه أو يقوم به غيره من الوراقين أو غيرهم.(5/40)
وقال المعلمي في (التنكيل) أيضاً (ص438): (التلقينُ القادحُ في الملقِّن هو أن يُوْقِعَ الشيخَ في الكذب ولا يبين، فإن كان إنما فعل ذلك امتحاناً للشيخ وبين ذلك في المجلس لم يضره؛ وأما الشيخ فإن قبل التلقين وكثر منه ذلك فإنه يسقط ----).
وقال الخطيب في (تاريخ بغداد) (6/313) (3360) : (إسماعيل بن أحمد بن عبد الله أبو عبد الرحمن الضرير الحيري من أهل نيسابور قدم علينا حاجاً في سنة ثلاث وعشرين وأربعمئة وحدث ببغداد----؛ كتبنا عنه ، ونِعم الشيخ كان ، فضلاً وعلماً ومعرفةً وفهماً وأمانةً وصدقاً وديانةً وخلقاً ؛ سئل إسماعيل الحيري عن مولده فقال وأنا أسمع: ولدت في رجب من سنة إحدى وستين وثلاثمئة .
ولما ورد بغداد كان قد اصطحب معه كتبه عازماً على المجاورة بمكة ، وكانت وقر بعير ، وفي جملتها "صحيح البخاري" ، وكان سمعه من أبي الهيثم الكُشْميهني عن الفربري فلم يُقْضَ لقافلة الحجيج النفوذ في تلك السنة لفساد الطريق ، ورجع الناس ، فعاد إسماعيل معهم إلى نيسابور ، ولما كان قبل خروجه بأيام خاطبتُه في قراءة كتاب "الصحيح" فأجابني إلى ذلك ، فقرأت جميعه عليه في ثلاثة مجالس ، اثنان منها في ليلتين كنت ابتدأ بالقراءة وقت صلاة المغرب وأقطعها عند صلاة الفجر، وقبل أن أقرأ المجلس الثالث عبر الشيخ إلى الجانب الشرقي مع القافلة ونزل الجزيرة بسوق يحيى ، فمضيت إليه مع طائفة من أصحابنا كانوا حضروا قراءتي عليه في الليلتين الماضيتين ، وقرأت عليه في الجزيرة من ضحوة النهار إلى المغرب ، ثم من المغرب إلى وقت طلوع الفجر، ففرغت من الكتاب ورحل الشيخ في صبيحة تلك الليلة مع القافلة).(5/41)
وقال الذهبي في (تذكرة الحفاظ) (4/1316-1318) وهو يترجم أبا سعد السمعاني رحمه الله: (وقال ابن طاهر: كنت يوماً أقرأ على أبي إسحاق الحبال جزءاً فجاءني رجل من أهل بلدي وأسر إليَّ كلاماً قال فيه: إن أخاك قد وصل من الشام ، وذلك بعد دخول الترك بيت المقدس وقتل الناس بها ، فأخذت في القراءة فاختلطت علي السطور ولم يمكنني [أن] أقرأ ؛ فقال أبو إسحاق: ما لَكَ؟ قلت: خير، قال: لا بد أن تخبرني، فأخبرته فقال: وكم لك لم تر أخاك؟ قلت: سنين؛ قال: ولمَ لا تذهب إليه؟ قلت: حتى أتم الجزء؛ قال: ما أعظم حرصكم يا أهل الحديث! قد تم المجلس ؛ وصلى الله على محمد؛ وانصرف).
مجلَّسة :
انظر (الصلاة المجلَّسة) .
مجمع على تركه :
أي هو متروك بإجماع علماء الحديث ؛ وانظر (أجمعوا على تركه).
مجمع على ثقته :
أي ثقة لم يخالف في توثيقه أحد من النقاد ؛ والظاهر أن الإجماع على توثيق الراوي يقوم مقام توكيد التوثيق ، ولذلك يُكون معناه كمعنى قولهم في الراوي : (ثقة ثقة) ، إلا إذا دلت القرائن على خلاف ذلك ، أعني على كونه ثقة لم يؤكَّد توثيقه توكيداً لفظياً أو معنوياً.
مجمع على ضعفه :
معناها واضح ؛ ومن أجمعوا على ضعفه يكون في الغالب متروكاً ؛ وانظر (أجمعوا على ضعفه).
مجهول :
هذه الكلمة يراد بها عند جمهور المحدثين في أغلب الأحيان جهالة عين الراوي ، وقد يراد بها أحياناً جهالة حاله ؛ قال الذهبي في (الموقظة) (ص38) : (وقولهم "مجهول" لا يلزمُ منه جهالةُ عينِه(1) ؛ فإن جُهِلَ عينُه وحالُه فأَولَى أن لا يَحتجُّوا به . وإن كان المنفردُ عنه من كبارِ الأثبات فأقوى لحاله ، ويَحتَجُّ بمثلِه جماعةٌ ، كالنَّسائي وابنِ حِباَّن) .
وقد اختلفت شروط العلماء في تجهيل عين الراوي ، قال ابن رجب في (شرح علل الترمذي) (1/376-380) :
__________
(1) وممن يكثر استعمال (مجهول) بمعنى (مجهول الحال) الإمام أبو حاتم الرازي .(5/42)
(ما ذكره الترمذي رحمه الله يتضمن مسائل من علم الحديث :
أحدها : أن رواية الثقة عن رجل لا تدل على توثيقه ، فإن كثيراً من الثقات رووا عن الضعفاء كسفيان الثوري وشعبة وغيرهما . وكان شعبة يقول : لو لم أحدثكم إلا عن الثقات لم أحدثكم إلا عن نفر يسير . قال يحيى القطان : إن لم أرو إلا عمن أرضى ما رويت عن خمسة ، أو نحو ذلك(1)----) إلى أن قال :
(وقال يعقوب بن شيبة : قلت ليحيى بن معين : متى يكون الرجل معروفاً إذا روى عنه كم ؟ قال : إذا روى عن الرجل مثلُ ابن سيرين والشعبي وهؤلاء أهل العلم فهو غير مجهول .
قلت : فإذا روى عن الرجل مثل سماك بن حرب وأبي اسحاق ؟ قال : هؤلاء يروون عن مجهولين . انتهى .
وهذا تفصيل حسن ؛ وهو يخالف إطلاق محمد بن يحيى الذهلي الذي تبعه عليه المتاخرون ، أنه لا يخرج الرجل من الجهالة إلا برواية رجلين فصاعداً عنه .
وابن المديني يشترط أكثر من ذلك ، فإنه يقول فيمن يروي عنه يحيى بن ابي كثير وزيد بن أسلم معاً : (إنه مجهول) ؛ ويقول فيمن يروي عنه شعبة وحده : (إنه مجهول).
وقال فيمن يروي عنه ابن المبارك ووكيع وعاصم : (هو معروف).
وقال فيمن يروي عنه عبد الحميد بن جعفر وابن لهيعة : (ليس بالمشهور) .
وقال فيمن يروي عنه ابن وهب وابن المبارك : (معروف) .
وقال فيمن يروي عنه المقبري وزيد بن أسلم : (معروف) .
وقال في يسيع الحضرمي : (معروف) ؛ وقال مرة أخرى : (مجهول) ، وروى عنه ذر وحده .
وقال فيمن روى عنه مالك وابن عيينة : (معروف) .
وقد قسم المجهولين من شيوخ أبي اسحاق إلى طبقات متعددة .
والظاهر أنه ينظر إلى اشتهار الرجل بين العلماء وكثرة حديثه ونحو ذلك ، لا ينظر إلى مجرد رواية الجماعة عنه .
وقال في داود بن عامر بن سعد بن أبي وقاص : (ليس بالمشهور) ، مع أنه روى عنه جماعة .
__________
(1) وهذا يتعلق بجهالة الحال.(5/43)
وكذا قال أبو حاتم الرازي في إسحاق بن أسيد الخراساني : (ليس بالمشهور) ، مع أنه روى عنه جماعة من المصريين ، لكنه لم يشتهر حديثه بين العلماء .
وكذا قال أحمد في حصين بن عبد الرحمن الحارثي : ليس يعرف ، ما روى عنه غير حجاج بن أرطأة واسماعيل بن أبي خالد ، روى عنه حديثاً واحداً .
وقال في عبد الرحمن بن وعلة : (إنه مجهول) ، مع أنه روى عنه جماعة ؛ لكن مراده أنه لم يشتهر حديثه ولم ينتشر بين العلماء .
وقد صحح حديثَ بعض من روى عنه واحدٌ ولم يجعله مجهولاً ؛ قال في خالد بن شمير : لا أعلم روى عنه أحد سوى الأسود بن شيبان ، ولكنه حسن الحديث ؛ وقال مرة أخرى : حديثه عندي صحيح .
وظاهر هذا أنه لا عبرة بتعدد الرواة ، وإنما العبرة بالشهرة ورواية الحفاظ الثقات .
وذكر ابن عبد البر في (استذكاره) أن من روى عنه ثلاثة فليس بمجهول ؛ قال : وقيل : اثنان----) .
قال الذهبي في الموقظة (ص38) : (وقولهم "مجهول" لا يلزم منه جهالة عينه ، فإن جُهل عينُه وحاله فأولى أن لا يحتجوا به ، وإن كان المنفرد عنه من كبار الأثبات فأقوى لحاله ، ويحتج بمثله جماعة كالنَّسائي وابن حبان) ؛ انتهى .(5/44)
وكان أبو حاتم الرازي رحمه الله تعالى يتسرع أحياناً في تجهيل الرواة وكان في عبارات كثيرة له يريد بتجهيل الراوي حاله لا عينه ، ولهذا وذاك اصطلح الذهبي لنفسه فيما يتعلق بمسألة تجهيل الرواة في كتابه (ميزان الاعتدال) اصطلاحاً خاصاً به فقال في أوائل الكتاب في ترجمة أبان بن حاتم الأُمْلوكي : (ثم اعلم أن كلَّ من أقول فيه : "مجهول" ولا أُسنده إلى قائل، فإن ذلك هو قول أبي حاتم فيه(1) ؛ وسيأتي من ذلك شيءٌ كثيرٌ جداً، فاعلمْه ؛ فإنْ عزوتُه إلى قائله كابن المديني وابن معين فذلك بين ظاهر ؛ وإن قلتُ : فيه جهالة، أو نكرة ، أو يجهل، أو لا يعرف ، وأمثال ذلك ولم أعزه إلى قائل، فهو مِن قِبلي ؛ وكما إذا قلتُ : ثقة وصدوق وصالح ولين ونحو ذلك ولم أُضفْه).
وقال السخاوي في (فتح المغيث) (2/47-49) في تضاعيف ذكره مذاهب العلماء في تجهيل الرواة والأحكام الراجعة إلى ذلك : (وخص بعضهم القبول بمن يزكيه مع رواية الواحد أحدٌ من أئمة الجرح والتعديل ، واختاره ابن القطان في "بيان الوهم والإيهام" ، وصححه شيخنا ، وعليه يتمشى تخريج الشيخين في صحيحهما لجماعة أفردهم المؤلف بالتأليف ؛ فمنهم ممن اتُّفق عليه : حصين بن محمد الأنصاري المدني ، وممن انفرد به البخاري جويرية أو جارية بن قدامة وزيد بن رباح المدني ---- ؛ فإنهم مع ذلك موثقون لم يتعرض أحد من أئمة الجرح والتعديل لأحد منهم بتجهيل .
__________
(1) قال بعض الباحثين الفضلاء : (وأما المجاهيل في (الميزان) عدا مجاهيل أبي حاتم فقد تفنن الذهبي في التعبير عن جهالتهم واجتنب في كل ذلك كلمة مجهول) ؛ قلت : استدرك عبدالفتاح أبو غدة في تعليقه على (لسان الميزان) عدداً من الرواة الذين خرجوا عن شرط الذهبي هذا ، أعني قال فيهم : (مجهول) وهم من مجاهيل أبي حاتم .(5/45)
نعم ، جهَّل أبو حاتم محمد بن الحكم المروزي الأحول أحد شيوخ البخاري في "صحيحه" والمنفرد عنه بالرواية ، لكونه لم يعرفه ؛ ولكن نقول : معرفة البخاري به التي اقتضت له روايته عنه ولو انفرد بهما(1) كافية في توثيقه ، فضلاً عن أنَّ غيرَه قد عرفه ، أيضاً ، ولذا صرح ابن رُشيد - كما سيأتي - بأنه لو عدله المنفرد عنه كفى ؛ وصححه شيخنا أيضاً إذا كان متأهلاً لذلك ؛ ومن هنا ثبتت صحبة الصحابي برواية الواحد المصرِّح بصحبته عنه ؛ على أن قول أبي حاتم في الرجل : إنه مجهول ، لا يريد به أنه لم يرو عنه سوى واحد ، بدليل أنه قال في داود بن يزيد الثقفي : "مجهول" ، مع أنه قد روى عنه جماعة ؛ ولذا قال الذهبي عقبه : هذا القول يوضح لك أنَّ الرجل قد يكون مجهولاً عند أبي حاتم ولو روى عنه جماعة ثقات ، يعني أنه مجهول الحال ، وقد قال في عبد الرحيم بن كردم بعد أن عرّفه برواية جماعة عنه : إنه مجهول(2) ؛ ونحوه قوله في زياد بن جارية التميمي الدمشقي(3) مع أنه قيل في زياد هذا أنه صحابي) .
__________
(1) لعل المراد بضمير التثنية معرفة الرجل والرواية عنه ؛ ويحتمل أن تكون (بهما) محرفة عن (بها).
(2) قال فيه ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل) (5/339) : (عبد الرحيم بن كردم بن أرطبان ، ابن عم عبد الله بن عون ، روى عن الزهري وزيد بن أسلم ، روى عنه أبو عامر العقدي وأبو أسامة ومعلى بن أسد وإبراهيم بن الحجاج السامي ؛ سمعت أبي يقول ذلك ، وسألته عنه فقال : مجهول).
(3) قال فيه ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل) (3/527) : (زياد بن جارية التميمي الدمشقي ، روى عن حبيب بن مسلمة ، روى عنه مكحول وسليمان بن موسى ويونس بن ميسرة بن حلبس ، سمعت أبي يقول ذلك ، وسألته عنه ، فقال : شيخ مجهول) .(5/46)
وقال ابن حجر في (النكت) (1/426) في تعليق له على كلام لأبي حاتم : (قلت : وكلام أبي حاتم هذا محتمل فإنه يطلق المجهول على ما هو أعم من المستور وغيره) ؛ وانظر ترجمة زياد بن جيل في (الجرح والتعديل) (3/527) وترجمة الحسن بن إسحاق حسنويه في (تهذيب التهذيب) (2/255) وترجمة أحمد بن عاصم البلخي وبيان بن عمرو والحسين بن الحسن بن بشار والحكم بن عبد الله وعباس بن الحسين القنطري ومحمد بن الحكم المروزي في الفصل التاسع من (مقدمة الفتح) لابن حجر .
وقال مؤلفا (تحرير التقريب) (1/42) : (وأكثر المحدثين اذا قالوا في الراوي : مجهول ، يريدون غالباً جهالة العين ، وأبو حاتم يريد جهالة الوصف).
أقول : هو يريد ذلك بذلك أحياناً ، لا مطلقا ، فهو يطلق كلمة مجهول يريد بها جهالة الحال أو جهالة العين ، فكأنه لا يرى بينهما فرقاً ، وهو الصواب إلا إذا كان الراوي عن المجهول عيناً مجهولاً أو مدلساً أو كذاباً أو كثير الرواية عن الساقطين والمتهمين ففي هذه الحالة يكون احتمال كون ذلك الشيخ المجهول عيناً كذاباً أو واهياً أقوى وأغلب منه في المجهول حالاً .
تنبيه : قال التهانوي في (قواعد في علوم الحديث) (ص266) : (وكذا جهَّلَ أبو حاتم قوماً من الرواة قد عَرَفهم غيرُه ووثَّقوهم ، فالأمان مرتفع [كذا] مِن جَرْحِه أحداً بالجهل ما لم يوافقه على ذلك غيره من النقاد) .
وقال الشيخ عبد الفتاح أبو غدة في تعليقه على هذا الموضع : (قال الشيخ ابن دقيق العيد : لا يكون تجهيلُ أبي حاتم حجةً ما لم يوافقه غيره ؛ نقله الزيلعي ، كما في (التذنيب) لأمير علي الهندي ، الملحق بآخر (تقريب التهذيب) لابن حجر (ص22) المطبوع في لكنو سنة 1356) .(5/47)
وأقول : هذا خلاف الصواب الذي هو قبول قول أبي حاتم في الراوي (مجهول) واعتماد ذلك الحكم منه وإن تفرد به ولم يوافقه عليه غيرُه ، إلا إذا خولف خلافاً معتبراً ، أعني أن يخالفه في الراوي مَن قولُه في ذلك الراوي أوفى تفسيراً وأقوى دليلاً .
وبعبارة أخرى أقول : الحق أن نتوقف في تجهيل أبي حاتم إذا خالفه غيرُه فوثق ذلك الراوي أو قوّاه ، حتى ننظر في أمره وندرس متعلقاته آخذين بنظر الاعتبار اصطلاح أبي حاتم في هذه المسألة ومنهجه فيها ؛ ولكننا لا نتوقف عن قبول تجهيل أبي حاتم للراوي إذا لم يخالفه فيه أحد من النقاد ولو لم يوافقه عليه منهم أحد .
بيان لحكم حديث المجاهيل :
قال ابن حجر في مقدمة (التقريب) : (التاسعة : من لم يرو عنه غير واحد ولم يوثق ، وإليه الإشارة بلفظ مجهول).
أقول : هل هذه من مراتب الترك أم الاستشهاد عند ابن حجر ؟ هذا ما لم يصرح به ، ووضعه لهذا الصنف من الرواة بين مرتبة الضعيف التي يظهر أنه يُستشهد بها عنده ومرتبة المتروك وهي لا تصلح للشهادة قد يشعر بأنه متردد في حكم هذه المرتبة .
وقال أبو الحسن المأربي حفظه الله في (إتحاف النبيل) (ص39) : (أما مجهول العين فلا يصلح في الشواهد والمتابعات إلا إذا كثرت الطرق كثرة يترجح لدى الباحث صحة الحديث وثبوته----، وإن كان الشيخ الألباني في بعض المواضع يستشهد بهما فلا يسلم له ، مع أنني قد سألته ----عن(1) نفس هذه المسألة فقال : إن المنقطع لا يتقوى بالمنقطع ، ومجهول العين لا يتقوى بمجهول العين إلا إذا كثرت الطرق كثرة تطمئن النفس على ثبوت الحديث بها" ؛ ثم ذكر أبو الحسن في الاستشهاد بالمجاهيل شروطاً وتفاصيل تشبه التحكم لخلوها من الدليل.
__________
(1) في الأصل (على) وأنا جعلتها (عن).(5/48)
وقال د. وليد العاني في (منهج دراسة الأسانيد والحكم عليها) (ص184-185) في رواة هذه المرتبة : (فهؤلاء يمكن أن يعتبر بهم ، وبالتالي يقوى حديثهم بكثرة الطرق فيرتفع إلى الحسن لغيره ، وذلك أن مجهول العين يمكن أن تزول جهالته برواية اثنين عنه ، ومعناه يمكن أن يتقوى حديثه ، ومن كان هذا شأنه فالمتابعة له نافعة). انتهى ؛ وقوله (ومعناه ----) إلى نهايته : كلام سقيم غير مستقيم ؛ والذي يقتضيه النظر والاستقراء والاطلاع على ما في روايات المجاهيل من البلايا والطامات - ولو تتابعوا أحياناً - هو أن مجهول العين من غير الصحابة رضي الله تعالى عنهم والتابعين لا يحتج به ولا يستشهد به ، والله أعلم .
مجهول الحال:
انظر (مجهول) و(جهالة الحال) ، و(حال الراوي).
مجهول العين :
انظر (مجهول) و(جهالة العين) و(عين الراوي).
مجهول حالاً :
هي بمعنى (مجهول الحال) ، كما هو معلوم ، وليس بين العبارتين مِنْ فَرْقٍ سوى الاختلاف في التركيب النحوي ، فالعبارة الأولى مضاف ومضاف إليه ، والثانية كلمةٌ وتميزها.
مجهول عيناً :
انظر (مجهول العين) و(مجهول حالاً).
مجوِّد :
هذه الكلمة تكررت كثيراً في (سير أعلام النبلاء) و(تذكرة الحفاظ) للذهبي ، ووردت في غيرهما من كتب التراجم التي صنفها المتأخرون ؛ والمراد بها الثناء على المحدث المتقن بتجويده صنعته وضبطه لكتبه وأحاديثه ؛ ولذلك فإنك كثيراً ما ترى كلمة (المجوِّد) هذه مقرونة بكلمة (الحافظ) أو (المحدث الثقة) أو (البارع) أو (المتقن) ، أو نحو ذلك من ألفاظ التوثيق والثناء على حال الرجل في روايته ؛ قال الزمخشري في (أساس البلاغة) تحت مادة (ج و د) : (جاد فلان جوداً ، وجادت السماء جوداً ، وجاد المتاع جودةً ، وجاد الفرس جودة ----.
ورجل جواد من قوم أجواد وأجاويد وجود ----.
ومتاع جيد وأمتعة جياد .
واستجدت الشيء وتجودته : تخيرته وطلبت أن يكون جيداً .
وتجود في صنعته : تنوق فيها .(5/49)
وأجاد الشيءَ وجوَّده(1).
وأحسن فيما فعل وأجاد .
وصانع مجيد ومجواد ).
وقال المباركفوري في (تحفة الأحوذي) (7/218) : (المجود : اسم فاعل من التجويد ، وهو التحسين)(2).
وقال الشيخ الفاضل محمد عمرو عبداللطيف في (أحاديث ومرويات في الميزان) (ك2/131) في تضاعيف تخريجه بعض الروايات : (وقال إبراهيم ابن أبي طالب : « عبدالله بن هاشم مُجَوِّدٌ(3) في حديث يحيى وعبدالرحمن » .
ثم عاد إلى هذه الجملة (ص134) فقال :
(ملحوظة : توقفت قليلاً عند قول الحافظ الكبير إبراهيم بن أبي طالب - واسمه ( إبراهيم بن محمد بن نوح ) - وهو ( إمام عصره بنيسابور في معرفة الحديث والرجال ، جمع الشيوخ والعلل ) ، كما قال الحاكم رحمه الله .
__________
(1) فهو مجوِّد ؛ وهذا المعنى هو الذي اعتبره أهل التراجم في استعمالهم كلمة (مجوِّد) في وصف كبار الرواة وغيرهم من العلماء .
(2) وقال المناوي في (فيض القدير) (3/192) في شرح هذه العبارة الحديثية (مسيرة الراكب المجوِّد) : (أي صاحب الجواد ، وهو الفرس الجيد ؛ أو المجوَّد : الذي يكون دوابه جياداً ، وقال الديلمي : المجود : المسرع ، والتجويد : السير بسرعة----).
(3) قال هنا في هامش الكتاب : (كذا في «تاريخ بغداد» و«تاريخ الإسلام» و«تهذيب التهذيب» ، وفي «السير» : « يجود » ، وفي «تهذيب الكمال» - وحده - : « محمود » ، وما أثبتُّه هو الصواب ، إن شاء الله).(5/50)
توقفت أتأمل قوله في (عبدالله بن هاشم الطوسي) : « عبدالله بن هاشم مُجَوِّد في حديث يحيى وعبدالرحمن » ، هل هي على ظاهرها بمعنى أنه يتصف بمزيد تثبت وإتقان فيما يرويه عن يحيى القطان وعبدالرحمن بن مهدي ؟ أم لها معنى آخر من باب قولهم : « جَوَّده فلان » إذا كان الحديث معروفاً بالإرسال - مثلاً - عن شيخ مخصوص ، فأتى أحد الرواة عن هذا الشيخ فوصل الحديث ، أو كان الحديث مروياً بعنعنة تابعي عن صحابي ، فأتى هذا الراوي فرواه بنفس الإسناد مصرحاً بسماع هذا التابعي من الصحابي ، ونحو هذه الصور التي تًظهر إسنادَ الحديث في هيئة جَيِّدة ؟
ثم قوي هذا الظن في نفسي لما وجدت الحافظ الذهبي رحمه الله يحرص في آخر ترجمته من «السير» ( 12 /329 ) على رواية حديث من طريق يحيى بن محمد ( وهو ابن صاعد ) ، حدثنا أبو عبدالرحمن - وهو عبدالله بن هاشم بن حيان - ، حدثنا يحيى بن سعيد القطان ، عن شعبة ، عن قتادة ، عن أنس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ، ولبكيتم كثيراً»(1).
وأفاد محقق «السير» أنه في «الصحيحين» من طرق عن شعبة عن موسى بن أنس عن أنس .
فيكون أتى بالحديث عن شعبة عن قتادة ، لأن قتادة أثبت وأحفظ وأكثر حديثاً من ابن أنس نفسه(2) .
وظللت متحيراً من هذا الأمر(3)، حتى وجدت الحافظ ابن حجر رحمه الله في «النكت الظراف» ( 1/412 حاشية التحفة ) يقول بعد الاعتراض على المزي في أمور : « وقد خالف الجميع يحيى بن سعيد القطان فزاد بين شعبة وموسى بن أنس : « قتادة » ، أخرجه ابن حبان من طريقه » .
__________
(1) ورواه أيضاً ابن المقريء في «معجم شيوخه» ( ح 13 ) من وجه آخر عنه .
(2) كأنه يعني أنَّ فعل عبدالله بن هاشم هذا نوعٌ من أنواع التجويد .
(3) كأنه يعني أنه تحير من عدول الإمامين البخاري ومسلم عن رواية قتادة عن أنس هذه إلى رواية موسى بن أنس عن أبيه ، وقتادة أثبت منه في أنس رضي الله عنه .(5/51)
يعني أن يحيى القطان خالف سليمان بن حرب ، وروح بن عبادة ، والنضر بن شميل وغيرهم في روايته عن شعبة عن موسى بن أنس رأساً ، فأدخل قتادة بين شعبة وموسى بن أنس .
فأفزعني ذلك ، قبل أن أعيد مراجعة إسناد ابن حبان ، فوجدت الحديث في «الإحسان» ( 5792 ) من طريق أبي بكر بن خلاد قال : حدثنا يحيى القطان عن شعبة عن قتادة وموسى بن أنس عن أنس به ، كذا بـ ( واو العطف ) وليس (عن) ؛ فاحتجت إلى مرجِّحٍ ، فوجدت الحديث في «إتحاف المهرة» للحافظ نفسه (1555) هكذا أيضاً : « عن قتادة وموسى بن أنس عن أنس به » .
فظهر بذلك أن للحديث أصلاً عن يحيى بن سعيد القطان عن شعبة عن قتادة .
وأبو بكر بنُ خلاد هو ( محمد بن خلاَّد بن كثير الباهلي البصري ) ، وهو ثقة ، قال الإمام أحمد : « ... وكان ملازماً ليحيى بن سعيد » ، فبرئت بذلك سا…حةُ صاحبِنا ( عبدِالله بن هاشم الطُّوسي ) من الغلط على يحيى بن سعيد القطان ، رحمهما الله .
وللحديث أصل عن قتادة عن أنس ، فقد رواه جماعة عن همام بن يحيى عنه به عندَ أحمدَ ( 3 /193 ، 251 ، 268 ) وابنِ ماجه (4191) وغيرِهما ، وصرح قتادة بالتحديث في جميع طرقه عند أحمد) .
وانظر (التجويد) .
محبرة :
المحبرة : وعاء الحبر ، جمعها محابر ؛ وانظر (الحبر) .(5/52)
محتمَل :
قال الدكتور خالد الدريس في كتابه (الحديث الحسن لذاته ولغيره) : (رأيت البخاري استعمل مصطلح (الاحتمال) الذي ذكره في كلمته السابقة(1) ، فقد قال في (ضعفائه الصغير) في عبد الله بن أبي لبيد المدني : «وهو محتمل»(2) ، وعبد الملك بن أعين : «يحتمل في الحديث»(3) ، وعبد الوهاب بن عطاء الخفاف : «ليس بالقوي عندهم ... وهو محتمل»(4) ، ومُحِل بن محرز الضبي : «قال يحيى القطان : لم يكن بذاك ، قال ابن عيينة : لم يكن بالحافظ ، وهو محتمل»(5) ؛ ووجدته يقول في كتابه (القراءة خلف الإمام) في عبد الرحمن بن إسحاق بن عبد الله المدني : «وليس هو ممن يعتمد على حفظه إذا خالف من ليس بدونه ، وكان عبد الرحمن ممن يحتمل في بعض»(6) ، وقد قال عنه أيضاً [كما] في (العلل الكبير) للترمذي : «هو ثقة»(7) ، وقال في (التاريخ الكبير) : «ربما وهم»(8).
فهذا الاصطلاح يستعمله البخاري ، ولا يعني به التوثيق المطلق كما ظهر لنا من النصوص الخمسة السابقة ، وإنما يقوله في حق الرجل الذي له أوهام ولا يسقط حديثه ويضعف مطلقاً ، وربما كانت قريبة الشبه بمرتبة (صدوق يخطئ) ، والله أعلم). انتهى.
مُحْدَث :
المحدَث ضد القديم ، هذا معنى لغوي للكلمة ، ومن استعمالات المتقدمين لها قولهم (الشعراء المحدَثون) و (الكتّاب المحدَثون) ونحو ذلك .
ولها معنى شرعي هو الأمر المخترع المبتدَع ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ) ؛ رواه البخاري (2550) ، ومسلم في (صحيحه) (كتاب الأقضية) (باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور) (1718) .
__________
(1) انظر (فيه نظر) .
(2) الضعفاء الصغير (ص69).
(3) السابق (ص76).
(4) السابق (ص80).
(5) السابق (ص117).
(6) جزء القراءة (ص38-39) .
(7) العلل الكبير (ص179).
(8) التاريخ الكبير (5/258).(5/53)
ولم أذكر هذه اللفظة على أنها لفظةٌ اصطلاحية ، فإني لا أعلم لها معنى اصطلاحياً ، سوى ما ورد في ما رواه العقيلي في (الضعفاء) في ترجمة (جلد بن أيوب) (1/222) (252) عن أحمد بن شبويه قال : سمعت ابن عيينة يقول : (حديث الجلد بن أيوب في الحيض حديثٌ محدَثٌ لا أصل له) .
وإنما ذكرتُها هنا لأبيِّنَ الوجهَ الصحيحَ في ضبطها ، فإنَّها كثيراً ما ترد في كتب المحدِّثين والمؤرخين والشُّرّاح وغيرِهم ، فأحببت ضبطَها لأني رأيت كثيراً ممن يقرؤها يتلفظ بها هكذا : (المحدِّثين) ، أو هكذا : (المُحْدِثين) ، وذلك بسبب الجهل باللغة ومعانيها .
ثم إن القرائن هي التي تعيِّن ضبْطَ مثلِ هذه الكلمات ، فلا بد من الاستعانة بالقرائن ، فمثلاً إذا قُرِنت بلفظة الفقهاء ، أو عُطفت عليها ، فلا شك أنها تُقرأ حينئذ هكذا (المحدّثين) بتشديد الدال وكسرها ، وأنها إذا قرنت بالقدماء قرئت بتسكين الحاء وفتح الدال ، وأنها إذا أريد بها أهل الابتداع قرئت بتسكين الحاء وكسر الدال .
محدِّث :
المحدث هو الراوي المكثر من الرواية والاعتناء بالمرويات ، ويدخل فيه في اصطلاح كثير من الفقهاء وأهل هذه الأعصر علماءُ الحديث ولو كانوا لا يروون شيئاً من الحديث بإسناده(1)
__________
(1) قال السيوطي في (تدريب الراوي) (1/48) : (وقال الشيخ فتح الدين بن سيد الناس : (وأما المحدث في عصرنا فهو من اشتغل بالحديث رواية ودراية وجمع رواة ، واطلع على كثير من الرواة والروايات في عصره ، وتميز في ذلك حتى عرف فيه خطه ، واشتهر فيه ضبطه ؛ فإن توسع في ذلك حتى عرف شيوخه وشيوخ شيوخه طبقة بعد طبقة ، بحيث يكون ما يعرفه من كل طبقة أكثر مما يجهله منها ، فهذا هو الحافظ ، وأما ما يحكى عن بعض المتقدمين من قولهم "كنا لا نعد صاحب حديث من لم يكتب عشرين ألف حديث في الاملاء" فذلك بحسب أزمنتهم ؛ انتهى ) .
وقال الزركشي في (النكت على مقدمة ابن الصلاح) (1/53) : (وسئل الشيخ أبو الفتح بن سيد الناس عن حد المحدث والحافظ فأجاب بأن المحدث في عصرنا هو من اشتغل بالحديث رواية ودراية وكتابةً ، واطلع على كثير من الرواة والروايات في عصره ، وتبصر بذلك حتى حفظه واشتهر فيه ضبطه ؛ فإن انبسط في ذلك وعرف أحوال من تقدم شيوخه وشيوخ شيوخهم طبقة طبقة بحيث تكون السلامة من الوهم في المشهورين غالبة ويكون ما يعلمه من أحوال الرواة كل طبقة أكثر مما يجهله فهذا حافظ ؛ وأما ما نقل عن المتقدمين في ذلك من سعة الحفظ فيمن يسمى حافظاً والدأب في الطلب الذي لا يستحق الطالب أن يطلق عليه محدث إلا به ، كما قال بعضهم : "كنا لا نعد صاحب حديث من لم يكتب عشرين ألف حديث إملاءً " ، فذلك بحسب أزمنتهم .
قلت : وذكر ابن السمعاني في "تاريخه" عن أبي نصر الحسين بن عبد الواحد الشيرازي قال : العالم الذي يعرف المتن والإسناد جميعاً والفقيه الذي يعرف المتن ولا يعرف الإسناد ، والحافظ الذي يعرف الإسناد ولا يعرف المتن ، والراوي الذي لا يعرف المتن ولا يعرف الإسناد ؛ ولعل هذا اصطلاح خاص ) ؛ انتهى وليحقق النص فإني نقلته من الحاسوب .(5/54)
؛ وربما توسع بعض العلماء أحياناً فأطلق كلمة (المحدث) في بعض سياق الكلام على كل من روى شيئاً من الحديث ، فتكون هنا مرادفة لكلمة (الراوي).
وانظر (صاحب حديث) .
مُحْدَثة :
قالوا في مقدمة (المعجم الوسيط) (1/14) في بيان اصطلاحاتهم فيه: { (محدثة): للفظ الذي استعمله المحْدَثون في العصر الحديث، وشاع في لغة الحياة العامة}.
محفوظ :
هذه اللفظة يطلقها المحدثون على نوعين من الأحاديث :
الأول : الأحاديث الصحيحة ، وذلك هو معنى هذه الكلمة عند الإطلاق.
والثاني : الأحاديث المستقيمة ، أي التي يصيب راويها في روايتها ويأتي بها على وجهها ، سواء صح الإسناد ممن فوقه إلى منتهى الحديث ، أو لم يصح ، وهذا هو معنى هذه الكلمة عند تقييدها أي عند نسبتها إلى رواية أخرى لذلك الحديث وقع فيها شيء من خطأ ، فتراهم يقولون نحو هذه العبارة : (هذا الحديث روي متصلاً ومنقطعاً ورواية الوصل خطأ ، والمحفوظ الانقطاع) ، فهم ينظرون في إطلاق هذه الكلمة إلى الصواب مما اختلف فيه الرواة ، لا إلى ما ظاهره الصحة من الروايات . ففرق بين قولهم (هذا الحديث محفوظ) مع الاطلاق فإنهم يريدون أنه صحيح ، وبين قولهم : (هذه الرواية(1) هي المحفوظة وما عداها من روايات ذلك الحديث فغير محفوظ) ، فإنهم يريدون بذلك أن راويها أداها كما سمعها بخلاف من خالفه ، فهم هنا لا يشترطون في إطلاق هذه اللفظة صحة الحديث .
__________
(1) وقد يعبرون عن الرواية بكلمة (الحديث) أو (السند) أو (الوجه) أو الطريق ، أو نحو ذلك .(5/55)
هذا وقد وقع في كلام المتأخرين أن هذه الكلمة تطلق على ما يقابل الشاذ ، وأشعر كلامهم بأنها مقصورة في الاستعمال على هذا المعنى ، وهذا إيهام غير جيد ؛ نعم المحدثون يندر أو يقل في كلامهم أن يصفوا الحديث الصحيح - إذا تكلموا عليه وحده ابتداءً من غير أن يقع مع كلامهم عليه كلام لهم على ما يخالفه أو يدخل في بابه من الأحاديث - بأنه محفوظ ، أو من غير أن يُسألوا عن كون ذلك الحديث محفوظاً أو غير محفوظ ، أو من غير أن يريدوا التنبيه على وهم من أعله ، وهم أكثر ما يستعملون هذه الكلمة عندما يرد في الباب أحاديث أخرى مخالفة للحديث وتكون مذكورة عند الكلام عليه أو عندما يسألون عن الاختلاف الذي بينه وبينها .
وانظر (مستقيم الحديث).
محله إن شاء الله الصدق :
انظر (محله الصدق) ، مع ملاحظة أن الاستثناء هنا قد يدل على شيء من تردد ، أو يدل على تثبت الناقد ، أو على الأمرين معاً.
محله الصدق :
هذه اللفظة تفيد التعديل النازل ، أي وصف الراوي بأدنى درجات المتانة والقبول ، والأصل في استعمالهم لها أنها دون لفظة (صدوق) بقليل؛ قال السيوطي في (تدريب الراوي) (1/344) : (جعل الذهبي قولهم "محله الصدق" مؤخراً عن قولهم "صدوق" إلى المرتبة التي تليها ، وتبعه العراقي ، لأن "صدوقاً" مبالغة في الصدق ، بخلاف "محله الصدق" ، فإنه دال على أن صاحبها محله ومرتبته مطلق الصدق).
ومن قيلت فيه لا يحتج بحديثه إلا بعد وجود ما يعضده ويدل على حفظه له من المتابعات والشواهد ، بشروطها ، أو مثل طول ملازمته لمن روى عنه(1).
__________
(1) ولكن قد يقال: إن من كان محله الصدق وطالت ملازمته لشيخ له بعينه فإن ذلك قد يرفعه إلى رتبة التوثيق في ذلك الشيخ خاصة ، فهو في ذلك الشيخ ثقة ، وليس يقال فيه - أي فيما يتعلق بمروياته عن ذلك الشيخ - : محله الصدق.(5/56)
وأكثر المتأخرين يحسّنون أفراده وأفراد من يوصف بأنه (صدوق) من غير شرط، ثم يحتجون بذلك الحديث الذي حسنوه؛ وفي ذلك نظر؛ فقد قال أبو حاتم وأبو زرعة في سعيد بن بشير كما في (الجرح والتعديل) (2 / 1 / 7) : (محله الصدق عندنا)، قال ابن أبي حاتم : قلت لهما : يحتج بحديثه ؟ فقالا : (يحتج بحديث ابن أبي عروبة ، والدستوائي ، هذا شيخ يكتب حديثه).
وانظر (صدوق).
محله الصدق والستر :
هي في معناها كالعبارة التي سبقتها.
محله محل الاعراب :
هذه عبارة لأبي حاتم في نقد بعض الرواة ، ويظهر أنها عبارة تجريح ، إذ فيها إشارة إلى وصف الراوي بالبعد عن العلم وأهله وعدم تأهله لضبط الحديث ومعرفة صناعته ؛ وقد حكى ابن حجر في (التهذيب) عبارة أبي حاتم هذه في دهثم بن قران في تضاعيف حكايته لأقوال النقاد فيه ؛ أو هي وصف مجرد عن نقد ، أعني أنها وصفٌ للراوي بأنه من الأعراب ، وحسْب ؛ ويظهر أن الأول أظهر .
قال ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل) (3/443-444) في ترجمة (دهثم بن قران الحنفي) :
(انا عبد الله بن احمد بن حنبل فيما كتب إليَّ قال : سمعت أبي يقول وسئل عن دهثم بن قران قال : ليس بشيء ، حدث عنه أبو بكر بن عياش ، ثم أخرج كتاباً عن يحيى بن أبي كثير ، تُرك حديثُه ، وهو متروك الحديث ، سقط حديثُه .
قرئ على العباس بن محمد الدوري قال : سمعت يحيى بن معين يقول : دهثم بن قران ضعيف ليس بشيء .
سمعت أبي وسئل عن دهثم بن قران فقال : هو من يمامة ، من عكل ، محله محل الاعراب ) .
وقال (8/497) : (نمران بن جارية بن ظفر : روى عن أبيه ؛ روى عنه دهثم بن قران اليمامي العجلي ؛ سمعت أبي يقول ذلك ؛ سألت أبي عنه فقال : محله محل الاعراب) .(5/57)
وأبو حاتم يستعمل التعبير بكلمة (محله محل فلان) أو (محله محل الفلانيين) ونحو ذلك ؛ قال ابنه في (الجرح والتعديل) (2/97-98) : (إبراهيم بن خالد أبو ثور الكلبي : روى عن ابن عيينة وأبي معاوية ووكيع وإسماعيل بن علية ، يعد في البغداديين ، سمعت أبي وأبا زرعة يقولان ذلك ؛ سمعت أبي يقول : أبو ثور رجل يتكلم بالرأي يخطىء ويصيب ، وليس محله محل المتسعين في الحديث ، قد كتبت عنه) .
يعني أن دائرته في الحديث غير متسعة وكذلك علمه فيه وعمله به ؛ وإن كان من أهل الرواية في الجملة ؛ وتعقب الذهبي أبا حاتم في هذا الوصف في (الميزان) ؛ وقد تصحفت كلمة (المتسعين) في بعض الكتب إلى (المستمعين) .
وقال ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل) (7/222) في ترجمة (محمد بن جحادة الأودي الكوفي) : (سألت أبي عن محمد بن جحادة فقال : ثقة صدوق محله محل عمرو بن قيس الملائي وأبي خالد الدالاني وزيد بن أبي أنيسة ) .
وقال (9/85) في الهيثم بن عدي : (سألت أبي عنه فقال : متروك الحديث محله محل الواقدي ) .
محله محل فلان :
انظر (محله محل الاعراب) .
المحو :
قال الصولي في (أدب الكتّاب) (ص126-127) : (يقال: محوت الكتابَ أمحوه محواً ، بالواو ، فإذا أمرت من هذا قلت : اُمحُ ؛ وحُكي محيت أمحي محياً ---- ؛ فإذا أمرت من هذا قلت: اِمحِ(1) ، والواو أفصح ، وبها نزل القرآن : "يمحو الله ما يشاء ويثبت" .
والمحو في اللغة : تعفيه الأثر حتى لا يُرى .
حدثنا محمد بن الحسن البلعي، قال: حدثنا أبو حاتم قال: قيل للأصمعي: لم سمت العرب الشمال محوة? قال: لأنها تمحو السحاب ولا يرى شخصه ) ؛ انتهى .
__________
(1) ورد في المطبوعة بضم الحاء ، وهو خطأ مطبعي .(5/58)
ومحو الخط في عرف الكتّاب والنسّاخ هو مسحه وإزالته بدون سلخ ، حيث أمكن ، وذلك بأن تكون الكتابة في لوح أو رَقٍّ أو ورق صقيل جداً في حال طراوة المكتوب وأمن نفوذ الحبر بحيث يسوّد القرطاس ؛ ومعنى ذلك أن المحو لا يكون ممكناً بعد أن يجف الحبرُ ويمتصه الورقُ .
والكاتب يمحو الخطَّ بإصبعه ، أو برقعة عنده ، أو بكُمّ ثوبه ، أو بغير ذلك ؛ قال الصولي في (أدب الكتّاب) (ص102) : (حدثني يعقوب بن بيان قال: كتب إبراهيم بن العباس يوماً كتاباً فأراد محوَ حرفٍ منه، فلم يجد سبيلاً ، فمحاه بكُمِّه، فقيل له في ذلك، فقال: المال فرعٌ والقلم أصلٌ ، فهو أحق بالصون منه ، وإنما بلغنا هذه الحال واعتقدنا(1) الأموال بهذا القلم والمداد ؛ ثم قال:
إذا ما الفكر أظهر حسن لفظ
وأداه الضمير إلي العيان
رأيت حلى البنان منورات
تضاحك بينها صور المعاني) .
وانظر (الضرب) .
__________
(1) قال العلامة محمد بهجت الأثري رحمه الله : (كذا الأصل ، ولعل الصواب : واستفدنا الخ) ؛ قلت : لعل ما في الأصل محفوظ ، فكلمة العقد تأتي بمعنى الأملاك ونحوها ؛ ففي (الزهد) للإمام أحمد (ص271) عن حوشب قال : (سألت الحسن فقلت: يا أبا سعيد رجل آتاه الله مالاً فهو يحج منه ويصل منه، أله أن يتنعم فيه؟ فقال الحسن: لا، لو كانت الدنيا له ما كان له إلا الكفاف ويقدم فضل ذلك ليوم فقره وفاقته، إنما كان المتمسك من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أخذ عنهم من التابعين كانوا يكرهون أن يتخذوا العقد والأموال في الدنيا ليركنوا إليها ولتشتد ظهورهم ، فكانوا ما آتاهم الله من رزق أخذوا منه الكفاف وقدموا فضل ذلك ليوم فقرهم وفاقتهم، ثم حوائجُهم بَعْدُ في أمر دينهم ودنياهم فيما بينهم وبين الله عز وجل) ؛ وفي (صفة الصفوة) (3/279) : (رأى مالك بن دينار إنساناً يضحك فقال: ما أحب أن قلبي فرغ لمثل هذا وأن لي ما حوت البصرة من الأموال والعقد) .(5/59)
مختصر :
انظر (اختصار الحديث) و (اختصار الكتب) .
المختصرات :
أي الكتب المختصرة ؛ انظر (اختصار الكتب) .
مختلط :
انظر (الاختلاط) و(التغير) .
مختلف الحديث :
هذه الكلمة هي بإجمالٍ اسم للأحاديث المتعارضة ، أو للفن(1) الذي يُعْنَى بدفع ما قد يظهر من اختلاف وتناقض بين الأحاديث .
وقد سوى بعضهم بين موضوعَي (مختلف الحديث) و(مشكل الحديث) ؛ ولعل الأقرب أن الأول بالنسبة إلى الثاني أخص بالنظر إلى نوع الطرفين اللذَين يقع بينهما الاختلاف ، وأعم باعتبار قدر الإشكال الواقع في ذلك الاختلاف.
وإذا كان الأمر كذلك فاسم (مختلف الحديث) يطلق على الأحاديث المختلفة فيما بينها ، سواء كان ذلك الاختلاف شديداً أو غير شديد ، وهو مقصور على ذلك لا يتعداه إلى غيره ، فلا يدخل فيه مثلاً الأحاديث التي تعارض ظواهرها ظواهر بعض الآيات .
ولكن لا يدخل في هذا الفن أحاديث الأحكام التي يجمع بينها الفقهاء بتقييد أو تخصيص أحد الحديثين بالآخر إذا كانت طريقة الجمع قريبة واضحة.
__________
(1) أو الكتب .(5/60)
وأما اسم (مشكل الحديث) فلا يُطلق إلا على ما كان الإشكال فيه كبيراً لا يوفق إلى حله إلا العلماء المحققون ، سواء كان ذلك الإشكال ناشئاً عن مخالفة الحديث لحديثٍ آخرَ صحيح ، أو لآية من آيات الكتاب، أو لتاريخ ثابت ، أو لقاعدة مقررة ، أو لعقل صريح ، أو ناشئاً عن مخالفة بعض ذلك الحديث لبعض آخر منه(1) .
وبعض المصنفين في هذين البابين توسعوا فأدخلوا في موضوع (مختلف الحديث) وموضوع (مشكل الحديث) ما ناسبهما أو قاربهما مما هو خارجٌ عما سبق بيانه .
__________
(1) أوسع الكتب التي صنفت في شرح مشكل الحديث كتاب الحافظ الطحاوي (مشكل الآثار) ، وقد طُبع منذ زمن في أربعة مجلدات ، ولكنها طبعة فيها كثير من النقص والإخلال ؛ ولكنه طُبع - مؤخراً - كاملاً بتحقيق الشيخ شعيب الأرنؤوط ، ؛ وقد قال في مقدمة تحقيقه (صفحة 3م) عقب شيء نقله عنه : (وبيِّنٌ من كلامه هذا أن الأحاديث الصحيحة التي تتضمن معاني مشكلة أو تحتوي على أحكام فيما يبدو للمجتهد متعارضة هي الغرض الرئيس الذي ألف من أجله كتابه هذا ، وصنيعه هذا قريب مما أُطلقَ عليه (علم اختلاف الحديث) وهو علم يبحث فيه عن التوفيق بين الأحاديث المتناقضة ظاهراً إما بتخصيص العام تارة أو بتقييد المطلق أو بالحمل على تعدد الحادثة أو بغير ذلك من وجوه التأويل والترجيح والتوفيق ، إلا أن شرح المشكل أعم من هذا ومن الناسخ والمنسوخ ، لأن الإشكال - وهو الالتباس والخفاء - قد يكون ناشئاً من ورود حديث يناقض حديثاً آخر من حيث الظاهر أو من حيث الحقيقة ونفس الأمر ، وقد ينشأ الاشكال من مخالفة الحديث للقرآن أو اللغة أو العقل أو الحس .
والمؤلف [يعني الطحاوي] يرفع هذا الاشكال إما بالتوفيق بين الحديثين المتعارضين أو ببيان نسخ في أحدهما أو بشرح المعنى بما يتفق مع القرآن أو اللغة أو العقل ، أو بتضعيف الحديث الموجب للإشكال وردِّه أو بغير ذلك) .(5/61)
تنبيه : ظاهر عبارة ابن حجر في (النخبة) أنه يقصر (مختلف الحديث) على الحديث المقبول الذي عارضه مثله معارضة ظاهرية وأمكن الجمع ؛ فقد قال : (ثم المقبولُ إن سلم من المعارضة فهو المحكم ، وإن عورض بمثله فإنْ أمكن الجمعُ فمختلفُ الحديثِ ، أوْ لا(1) وثبتَ التأخر : فهو(2) الناسخ ، والآخر المنسوخ ؛ وإلا فالترجيح ثم التوقف) . انتهى .
وأما ابن الصلاح فذكر في (المقدمة) (ص257-258) النوع السادس والثلاثين من أنواع علوم الحديث وهو (معرفة مختلف الحديث) فأدخل فيه ما أمكن فيه الجمعُ ، وما لم يمكن مما قيل فيه بالنسخ أو بالترجيح ؛ وهذا موافق لصريح مقال وصنيع كل من الإمام الشافعي في كتابه (اختلاف الحديث) وابنِ قتيبة في كتابه (تأويل مختلف الحديث) .
قال ابن الصلاح تحت العنوان المذكور (معرفة مختلف الحديث) : (وإنما يكمل للقيام به الأئمة الجامعون بين صناعتي الحديث والفقه، الغواصون على المعاني الدقيقة) ؛ ثم قال :
(اعلم أن ما يُذكر في هذا الباب ينقسم إلى قسمين:
أحدهما: أن يمكن الجمع بين الحديثين، ولا يتعذر إبداء وجه ينفي تنافيهما ؛ فيتعين حينئذ المصير إلى ذلك والقول بهما معاً ---- .
وقد روينا عن محمد بن أسحق بن خزيمة الإمام أنه قال: "لا أعرف أنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثان بإسنادين صحيحين متضادين، فمن كان عنده فليأتني به لأؤلف بينهما" .
القسم الثاني: أن يتضادا بحديث لا يمكن الجمع بينهما ؛ وذلك على ضربين :
أحدهما: أن يظهر كون أحدهما ناسخاً والآخر منسوخاً، فيعمل بالناسخ ويترك المنسوخ .
والثاني: أن لا تقوم دلالة على أنَّ الناسخ أيهما والمنسوخ أيهما ، فيُفزع حينئذ إلى الترجيح، و يعمل بالأرجح منهما والأثبت ) اهـ .
وتوسط بعض فضلاء عصرنا بين الحافظ ومخالفيه ، فمال إلى أن مختلف الحديث شاملٌ لما أمكن فيه الجمع أو الترجيح دون النسخ .
__________
(1) أي لم يمكن الجمع.
(2) أي المتأخر.(5/62)
إذا عُلم هذا كله تحصّلَ أن الأقوال في معنى مختلف الحديث أربعة:
الأول: أنه بمعنى مشكل الحديث ؛ انظر (مشكل الحديث) .
الثاني : أنه مختص باختلاف الأحاديث فيما بينها ، ومن غير تقييد بأي قيد .
الثالث : أنه مختص باختلاف الأحاديث فيما بينها ، باستثناء الأحاديث الناسخة والمنسوخة ، فإنها لا تدخل فيه.
الرابع : أنه مختص بكل حديثين مختلفين يمكن الجمع بينهما ، دون ما لا يمكن .
ومهما يكن من شيء فالمطلوب معرفة اصطلاح كل عالم ومؤلف ممن شارك في هذا الباب ، ثم للمرء أن يختار من تلك الاصطلاحات لنفسه - إذا كتب في هذه القضية أو تكلم فيه - أقربها وأوضحها ، وأن يبيّنَ اصطلاحَه فيها ، كسائر ما يكتبه في هذا الفن مما يحتاجُ إلى بيان اصطلاحه فيه .
مختلف فيه :
انظر (فيه خُلْفٌ) .
مخضرم :
قال النووي في (التقريب) : (ومن التابعين المخضرَمون ، واحدهم مخضرَم ، بفتح الراء ، وهو الذي أدرك الجاهلية وزمن النبي صلى الله عليه وسلم وأسلم ولم يره ) .
زاد السيوطي في (تدريب الراوي) (2/238-239) : (ولا صحبة له) ؛ ثم قال : (هذا مصطلح أهل الحديث فيه ، لأنه متردد بين طبقتين لا يُدرى مِن أيهما هو ؛ من قولهم : لحم مخضرم ، لا يدرى من ذكر هو أو أنثى ، كما في (المحكم) و(الصحاح) ، وطعام مخضرم : ليس بحلو ولا مر ، حكاه ابن الأعرابي .
وقيل: من الخضرمة بمعنى القطع ، من "خضرموا آذان الإبل" : قطعوها، لأنه انقطع عن الصحابة ، وإن عاصر ، لعدم الرؤية .
أو من قولهم "رجل مخضرم" : ناقص الحسب ، وقيل : ليس بكريم النسب ، وقيل: دعيّ ، وقيل: لا يعرف أبواه ، وقيل: ولدته السراري؛ لكونه ناقص الرتبة عن الصحابة ، لعدم الرؤية مع إمكانه.(5/63)
وسواء أدرك في الجاهلية نصف عمره أم لا ؛ والمراد بإدراكها قال المصنف في (شرح مسلم) ما قبل البعثة ؛ قال العراقي : وفيه نظر ، والظاهر إدراك قومه أو غيرهم على الكفر قبل فتح مكة ، فإن العرب بعده بادروا إلى الإسلام وزال أمر الجاهلية وخطب صلى الله عليه وسلم في الفتح بإبطال أمرها .
وقد ذكر مسلم في المخضرمين بشير بن عمرو وإنما ولد بعد الهجرة .
أما المخضرم في اصطلاح أهل اللغة فهو الذي عاش نصف عمره في الجاهلية ونصفه في الإسلام سواء أدرك الصحابة أم لا ؛ فبين الاصطلاحين عموم وخصوص من وجه ، فحكيم بن حزام مخضرم باصطلاح اللغة .
وحكى بعض أهل اللغة "مخضرِم" ، بالكسر ؛ وحكى ابن خلكان مُحَضْرِم بالحاء المهملة والكسر أيضاً .
وحكى العسكري في (الأوائل) أن المخضرم من المعاني التي حدثت في الإسلام وسميت بأسماء كانت في الجاهلية لمعان أخر ، ثم ذكر أن أصله من : خضرمت الغلامَ ، إذا ختنته ، والأذنَ ، إذا قطعت طرَفَها ، فكأنَّ زمان الجاهلية قطع عليه ؛ أو من الإبل المخضرمة ، وهي التي نُتجت من العراب واليمانية ؛ قال : وهذا أعجب القولين إليَّ ).
مخطوط :
يوصف الكتاب بأنه مخطوط إذا كانت نسخته مكتوبةً باليد ، تمييزاً له عن الكتاب المطبوع أو النسخة المطبوعة ؛ ويقال في وصف النسخة المخطوطة : مخطوط ، ومخطوطة ، وقلمية .
قال بعض الباحثين : في ختام مقالة له في كلمة (مخطوط) ونحوها : (وخلاصة القول فإن مصطلح "مخطوط" حديث في كل اللغات وأن ظهوره أفرزه اكتشاف الطباعة ) ؛ انتهى .
وهل يشتُرط في وصف الكتاب المكتوب باليد بأنه مخطوط شروطٌ أخرى غير هذه الصفة ، أعني غير كونه مكتوباً باليد ؟(5/64)
الجواب : يُرجع في ذلك إلى العُرف ، ويظهر أن كلمة مخطوطة لا بد أن تكون دالة على شيء من قِدم ، ولو يسير ونسبي ، مثل أن يكون كاتبها قد تُوفي ، فليس من المستحسن أن يطلق على ما يكتبه بعض العلماء أو الباحثين الأحياء من الكتب اسم مخطوطة ، وإن كان ذلك غير ممنوع ، ولكن الالتزام بالاصطلاح الصحيح أو العرف المميِّز أولى وأليق .
وكلما كانت المخطوطة أقدم تساهل الناس في إطلاق اسم المخطوطة عليها أكثر ، فيحصل من الناس في حق المخطوطات القديمة كثير من التغاضي عن كونها مسوّدة أو صغيرة جداً ، أو ضعيفة في موضوعها أو محتواها أو خطها .
المداد :
قال القلقشندي في (صبح الأعشى) : (6/500) : (أما المداد فسمي بذلك لأنه يمد القلم ، أي يُعِينه ، وكل شيء مددت به شيئاً فهو مداد ، قال الأخطل :
رأتْ(1) بارقاتٍ بالأكف كأنها***مصابيح سُرْجٍ أُوقدت بمداد
سمى الزيت مداداً لأن السراج يُمدّ به ، فكل شيء أمددت به الليقة مما يكتب به فهو مِداد ، وقال ابن قتيبة في قوله تعالى (قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي)(2) : هو من المداد لا من الإمداد .
ويقال : أمدَّ القلم في الخير ، مثل : (وأمددناهم بفاكهة ولحم)(3) ، ومدَّه في الشر ، مثل (ونمد له من العذاب مداً) .
ويقال فيه أيضاً : نِقْسٌ ونَقْسٌ ، بكسر النون وفتحها ، مع إسكان القاف ومع السين المهملة فيهما ، والكسر أفصح ؛ ويُجمع على أنقاس ) ؛ وانظر (الحبر) .
مداره على فلان :
انظر (دوران الأسانيد) .
مدرَج :
المدرج في اللغة: اسم مفعول من أدرج الشيء في الشيء : أدخله فيه .
والإدراج مصدره ، كما هو معروف .
__________
(1) في اللسان : (رأوا) ، بواو الجماعة .
(2) الكهف (100) .
(3) الطور (22) .(5/65)
وأما معنى الإدراج في اصطلاح أهل علم الحديث فهو أن يزيد بعض الرواة في متن الرواية أو سندها ما ليس منها ، من غير أن يبين بلفظ ولا بقرينة بينة ولا غيرهما قائلَ تلك الزيادة ، أو الراوي لها ؛ سواء كان المدرِجُ متعمداً أو واهماً ؛ فتلك الزيادة تسمى عندهم (مدرجة) .
وقد بالغ ابن حجر في تقسيم الإدراج وتعقيده، فقد ذكر في (النزهة) لمدرج الإسناد أربعة أقسام وحاصلها:
أن يزاد في طبقة من طبقات السند من روى ذلك الحديث من أهل تلك الطبقة ولكنه رواه من غير تلك الطريق، فتجعل المتابعة القاصرة تامة.
أو يزاد في متن رواية من روايات الحديث ما ورد في رواية أخرى له، أو في حديث آخر غيره.
أو أن يسوق المحدث الإسناد دون المتن ثم يعرض له عارض يجعله يتكلم بكلام يقوله من قِبل نفسه وهو مما اقتضاه ذلك العارض، فيسمعه الراوي عنه فيجعله متناً لذلك الإسناد.
وأما مدرج المتن فهو أن يقع في المتن كلام ليس منه ؛ هذا تقسيم المصنف للمدرج؛ والله أعلم.
ثم اعلم أنه ليس لتقسيم المدرج إلى كل هذه الأنواع كبير فائدة؛ فإن بيان الخطأ يحصل بما يعبر عنه ويوضحه.
لقد تكلف الحافظ ابن حجر رحمه الله في تكثير أنواع الإدراج بهذه الطريقة التي لا أعلم له فيها سلفاً ولا مسوِّغاً ؛ حتى بلغ بذلك حد الصعوبة والتعقيد ؛ وهكذا يصنع كثير من المتأخرين في كثير من الاصطلاحات ؛ فَبَيْنَا أوجدها المتقدمون لاختصار التعبير وتقريب المعاني جعلها المتأخرون عبئاً على الطلاب .
وأما سبب الإدراج غير المتعمد - وهو المراد عند الإطلاق - فهو أن يسمع الراوي كلاماً لشيخه أو لبعض مَن فوقه في السند بطريقة توهم أن ذلك الكلام جزءاً من متن الحديث ، وذلك بسبب عدم الفصل بينه وبين المتن لا بتصريح ولا بإشارة ، كوقوف قبله أو بعده ، ونحو ذلك .(5/66)
أما ذلك الكلام فقد يكون تفسيراً للمتن أو لبعضه أو استنباطاً منه ، أو غير ذلك ؛ مثاله : حديث عُقيل عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها في قصة بدء الوحي، وفيه : (وكانَ يخلو بغار حراء فيتحنث فيه، وَهُوَ التعبد----) ؛ رواه البخاري (3) و (6982) ، ومسلم 1/97 (160) (252) و 1/98 (160) (253) .
قوله (وهو التعبد) مدرج من كلام الزهري في الحديث(1) .
ثم إن المحدثين يستعملون كلمة (مدرجة) لمعنى آخر يأتي بيانه ، فانظر (مدرجة) و(النسخة) .
مُدْرَجة :
هذه اللفظة تستعمل في عرف المحدثين بمعنيين :
الأول : الزيادة التي تقحم في الحديث وتُدخل فيه وليست منه ، وهو المعنى الذي تقدم إيضاحه تحت (مدرَج) .
الثاني : وصف النسخة التي ترد كل متونها بإسناد واحد مذكور مرة واحدة في أولها فقط ، أي يذكر سند أول حديث ومتنه ، ثم يذكر من سائر الأحاديث متونها فقط دون أسانيدها ، ولكن مع الإشارة في بداية كل متن إلى أنه مروي بذلك الإسناد المذكور أولاً نفسِهِ ؛ فهذه النسخة توصف بأنها مدرجة ؛ وكأنها سُميت لذلك لأن كل متونها أدرجت على إسناد أول متن منها .
ولا يخفى أن الإدراج بهذا المعنى ليس من علل الحديث بخلاف المعنى الأول وهو المشهور لمصطلح الإدراج ، فإن منه ما يكون علة في الحديث .
وأما كيفية الرواية لأحاديث من هذه النسخ فتختلف عادات المصنفين فيما يروونه من الأحاديث المتوالية عن مثل هذه النسخ ، فمنهم من يسوق الإسناد كاملاً أول كل حديث منها ؛ ومنهم من يكتفي بذكر الإسناد في أول حديث منها ، ويُدْرج الباقي عليه قائلاً في أول كل حديث بعد ذلك الحديث الأول المذكور إسناده: (وبالإسناد) أو (وبه)؛ وهو الأكثر شيوعاً في كتب المحدثين .
__________
(1) انظر : فتح الباري 1/23 ، والديباج ، للسيوطي 1/141 .(5/67)
ويظهر أن رواة تلك النسخ كانوا يحدثون بها على طريقتين أيضاً ، أي أنهم اختلفوا في طريقة روايتهم لها ، كهذا الاختلاف الذي ذكرناه عن المصنفين ؛ انظر (وبه) ، وانظر (النسخة) .
مدلِّس :
انظر (التدليس) .
مدلَّس :
انظر (التدليس) .
المَدّة :
قال عبد السلام هارون (ص54) : (والمدة - وهي السحبة التي في آخرها ارتفاع - قد ترد في الكتابة القديمة فيما لم نألفه ، نحو (مآ) التي نكتبها "ماء" بدون مدة) .
قلت : ولها معنى آخر ، فقد قال الصفدي في (الوافي بالوفيات) (1/41) : (رأيت أشياخ ---- ورأيتُهم لا يجوّزون في السطر الواحد أكثر من ثلاث مدات ، فأما الكلمة نفسها فلا يمدون فيها إلا بعد حرفين ويعدون ذلك كله من لحن الوضع في الكتاب) .
المذاكرة :
انظر (تدليس المذاكرة).
مذاهب النقاد للرجال غامضة دقيقة :(5/68)
قال الخطيب في (الكفاية) (ص109): « ومذاهب النقاد للرجال غامضة دقيقة ، وربما سمع بعضهم في الراوي أدنى مغمز فتوقف عن الاحتجاج بخبره وان لم يكن الذي سمعه موجباً لرد الحديث ولا مسقطاً للعدالة ويرى السامع أن ما فعله هو الأولى رجاء إن كان الراوي حياً أن يحمله ذلك على التحفظ وضبط نفسه عن الغميزة، وإن كان ميتاً أن ينزله من نقل عنه منزلته فلا يُلحقه بطبقة السالمين من ذلك المغمز؛ ومنهم من يرى أن من الاحتياط للدين إشاعة ما سمع من الأمر المكروه الذي لا يوجب إسقاط العدالة بانفراده حتى ينظر هل له من أخوات ونظائر فإن أحوال الناس وطبائعهم جارية على إظهار الجميل وإخفاء ما خالفه فإذا ظهر أمر يُكره مخالف للجميل لم يؤمن أن يكون وراءه شبه له؛ ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الحديث الذي قدمناه في أول باب العدالة: من أظهر لنا خيراً أمناه وقربناه وليس إلينا من سريرته شيء ومن أظهر لنا سوءاً لم نأمنه ولم نصدقه وإن قال: إن سريرتي حسنة». انتهى كلام الخطيب؛ ولقد سبقه إلى قوله (فإذا ظهر أمر يُكره مخالف للجميل----) عروةُ بن الزبير رحمه الله تعالى؛ فقد روى عنه أبو نُعيم في (حلية الأولياء) (2/177) أنه قال: (إذا رأيت الرجل يعمل الحسنة فاعلم أن لها عنده أخوات؛ فإذا رأيته يعمل السيئة فاعلم أن لها عنده أخوات؛ فإن الحسنة تدل على أخواتها؛ وإن السيئة تدل على أخواتها) .
وفي رواية أخرى عنه : (إذا رأيتم خلة شر رائعة من رجُل فاحذروه وإن كان عند الناس رجل صدق فإن لها عنده أخوات؛ وإذا رأيتم خلة خير رائعة من رجل فلا تقطعوا عنه إياسكم وإن كان عند الناس رجل سوء فإن لها عنده أخوات) .(5/69)
وقال الباجي في (التعديل والتجريح) (1/283-288) : « اعلم أنه قد يقول المعدل: (فلان ثقة) ولا يريد به أنه ممن يحتج بحديثه، ويقول: (فلان لا بأس به) ويريد أنه يحتج بحديثه ؛ وإنما ذلك على حسب ما هو [أي الناقد] فيه، ووجه السؤال له؛ فقد يُسأل عن الرجل الفاضل في دينه المتوسط في حديثه فيقرن بالضعفاء فيقال: ما تقول في فلان وفلان؟ فيقول: فلان ثقة، يريد أنه ليس من نمط من قُرن به، وأنه ثقة بالإضافة إلى غيره، وقد يسأل عنه على غير هذا الوجه فيقول: لا بأس به، فإذا قيل: أهو ثقة؟ قال: الثقة غير هذا»(1).
__________
(1) وقال ابن حجر في (لسان الميزان) (1/213 بشائر) : (وينبغي أن يتأمل أيضاً أقوال المزكين ومخارجها فقد يقول العدل [كذا في المطبوع ولعلها المعدِّل]: فلان ثقة ، ولا يريد به أنه ممن يحتج بحديثه ، وإنما ذلك على حسب ما هو فيه ووجهِ السؤال له ؛ فقد يُسأل عن الرجل الفاضل المتوسط في حديثه فيُقرَن بالضعفاء فيقال: ما تقول في فلان وفلان وفلان؟ فيقول: فلان ثقة ، يريد أنه ليس من نمط من قرن به ؛ فإذا سئل عنه بمفرده بيَّن حاله في التوسط .
فمن ذلك أن الدوري قال : سُئل ابن معين عن محمد بن إسحاق وموسى بن عُبيدة الربذي : أيهما أحب إليك؟ فقال: ابنُ إسحاق ثقة ، وسئل عن محمد بن إسحاق بمفرده فقال: صدوق وليس بحجة .
ومِثله أن أبا حاتم قيل له : أيهما أحب إليك يونس أو عُقيل ؟ فقال: عُقيل لا بأس به ، وهو يريد تفضيله على يونس ؛ وسئل عن عقيل وزمعة بن صالح فقال : عقيل ثقة متقن .
وهذا حكم على اختلاف السؤال ؛ وعلى هذا يُحْمَل أكثر ما ورد من اختلاف كلام أئمة أهل الجرح والتعديل ممن وثق رجلاً في وقت وجرحه في وقت آخر .
وقد يحكمون على الرجل الكبير في الجرح بمعنىً لو وُجد فيمن هو دونه لم يجرح به .
فيتعين لهذا حكاية أقوال أهل الجرح والتعديل بنصها ليتبين منها ما لعله يخفى على كثير من الناس إذا عُرض على ما أصلناه ؛ والله الموفق) .(5/70)
ثم أطال الباجي في التمثيل لتلك المعاني والاستدلال لها إلى أن قال :
« فهذا كله يدل على أن ألفاظهم في ذلك تصدر على حسب السؤال، وتختلف بحسب ذلك، وتكون بحسب إضافة المسؤول عنهم بعضهم إلى بعض» وإلى أن قال: « وقد يحكم بالجرحة على الرجل بمعنى [أي بأمر] لو وجد في غيره لم يجرح به لما شهر من فضله وعلمه وأن حاله يحتمل مثل ذلك».
وقال في ختام مبحثه هذا: « فعلى هذا يحمل ألفاظ الجرح والتعديل من فهم أقوالهم وأغراضهم، ولا يكون ذلك إلا لمن كان من أهل الصناعة والعلم بهذا الشأن؛ وأما من لم يعلم ذلك وليس عنده من أحوال المحدثين إلا ما يأخذه من ألفاظ أهل الجرح والتعديل، فإنه لا يمكنه تنزيل الألفاظ هذا التنزيل، ولا اعتبارها بشيء مما ذكرنا، وإنما يتبع في ذلك ظاهر ألفاظهم فيما وقع الاتفاق عليه، ويقف عند اختلافهم واختلاف عباراتهم»(1).
وقال الزركشي في (النكت): (فائدة في الجمع بين أقوال الأئمة المنقول عنهم صيغة التمريض والتقوية وقد جمع بينهما القاضي أبو الوليد الباجي فقال في كتابه (فرق الفقهاء): إن الرجل منهم قد يسأل عن الشيخ الذي ليس بذلك في جملة الضعفاء فيقول: لا بأس به، هو صدوق، هو ثقة يعني أنه ليس من هذه الطبقة؛ ويسأل عنه في مجلس آخر في جملة الأئمة فيقول: ذاك ضعيف لين الحديث عنده مناكير ليس بمعروف؛ على حسب حاله.
__________
(1) قال ابن حجر في (بذل الماعون في فضل الطاعون) وهو يذكر حال بعض الرواة : ( وقد وثقه يحيى بن معين والنسائي ومحمد بن سعد والدارقطني ونقل ابن الجوزي عن ابن معين أنه ضعفه فإن ثبت ذلك فقد يكون سئل عنه وعمن فوقه فضعفه بالنسبة إليه، وهذه قاعدة جليلة فيمن اختلف النقل عن ابن معين فيه؛ نبه عليه أبو الوليد الباجي في كتابه "رجال البخاري" ) ؛ انتهى منقولاً من (الرفع والتكميل) (ص172) .(5/71)
وقد كان يحيى بن معين يسأل عن رجل روى حديثاً فيضعفه، ويسأل عنه في رواية حديث آخر فيوثقه؛ وإنما ذلك بحسب ما يحتمله حاله من الحديث ويقبل فيه على انفراده وروايته؛ فلا يقبل [لعلها فلا يقدر] على هذا ولا يفهمه إلا من عرف الصناعة وعلم أسرارها ومقاصدها وأغراض الأئمة المجرحين والمعدلين؛ وليس كل أحد من الثقات يحتمل تفرده) ؛ انتهى .
وزيادة في الإيضاح أضرب هذا المثال: قد يستعمل الناقد لفظة صدوق بمعنى لفظة ثقة، وإنما يعدل عن ثقة إلى صدوق لأن قرينة في السؤال أو في تصرف السائل أو في المجلس تقتضي منه ذلك العدول لأن كلمة ثقة حينئذ - أي في ذلك المجلس - معناها الثقة الثبت الحجة الحافظ ، وهو قد سُئل عمن هو ثقة غير مؤكَّد التوثيق أو هو ليس من الطبقة الأولى من طبقات الثقات ، فلا بد له حينئذ من استعمال كلمة صدوق أو ما يقوم مقامها؛ وبهذا يتبين أن جعل هذا المعنى الطارئ لكلمة صدوق معنى لازماً لها عند ذلك الإمام الذي استعملها: لا يصح إلا باستقراء كاف أو نص عليه من ذلك الإمام نفسه أو ممن نظن أنه عنه أخذه - أي تلميذه - أو نص من كبار النقاد القدماء العارفين به معرفة كافية فائقة.
وبعض ما يظهر من اختلاف في كلمات الناقد في رجل واحد إنما هو في الحقيقة اختلاف في اللفظ لا في المعنى، أي أن الناقد قد يستعمل اللفظة التي اشتهرت بمعنى معروف عند الجمهور، بمعنى آخر تحتمله، وهذا مما ينبغي التنبه له والتفطن إليه، وهو يقضي بوجوب دراسة مصطلحات العلماء على وجه الاستقراء والتدقيق والتفصيل.(5/72)
مراتب التعديل والتجريح :
أي درجات أو أقسام الرواة من حيث أقوالهم في القوة والضعف ؛ وأصل تقسيم الرواة قديم قدم ظهور علم نقد الأحاديث.
والرواة يقسمون ابتداءً قسمين : عدول أقوياء الأصل في مروياتهم القبول ، ومجروحين الأصل في أحاديثهم الرد ؛ أو يُقسمون ابتداءً أيضاً ثلاثة أقسام : ثقات يحتج بهم ، ومتوسطين يستشهد بهم ، ومتروكين لا يحتج بهم ولا يستشهد بهم .
ولقد فصَّل كثير من العلماء في أقسام الرواة ، وقسموها إلى أكثر مما تقدم(1) ، وهو من باب تقسيم الثقات إلى مراتب متعددة ، وكذلك المستشهد بهم ، وكذلك من دونهم وهم المتروكون.
ولقد اختلف العلماء في تقسيم الرواة إلى مراتب بحسب قوتهم في الرواية وضعفهم فيها ؛ والتقسيم المجرد إنما هو أمر اصطلاحي شكلي لا جوهري ، ولكن أحسنه ما كان أكثر تقريباً للعلم وأحسن تفصيلاً لمقاصده وأنسب لطالبيه وأيسر لفهمه وحفظه ؛ وإنه ليعجبني أن يُجعل الرواة عموماً على سبع مراتب :
الأولى : للثقات الأثبات المتقنين .
والثانية للثقات الذين هم دون هذه المرتبة وإن كانوا يستحقون اسم الثقة .
والثالثة للصدوقين رواة الأحاديث الحسنة ، وأعني بها هنا الأحاديث التي يختلف العلماء في الاحتجاج بها ، ويحتج بها أكثر المتأخرين .
والرابعة والخامسة للذين يستشهد بهم ، ولا يحتج بهم .
والسادسة للمتروكين باستثناء من يُذكر في المرتبة السابعة .
والسابعة للمتهمين والكذابين والوضاعين .
وأذكر في كل مرتبة جملة من الألفاظ الداخلة فيها ، بحسب ما أراه وأطمئن إليه ، علماً أن هذه المراتب تكون أحياناً تقريبية لا قطعية ، وأن الألفاظ التي أسردها تحت كل مرتبة لا يشترط في كل واحدة منها أن تكون مرتبتها موضع اتفاق بين النقاد ، فالاختلاف في الاصطلاحات وارد وهي لا تنضبط انضباطاً تاماً.
ثم إن هذه الألفاظ ترجمت لها في مواضعها من الكتاب ؛ وبعضها علقت عليها ببعض ما يوضحها أو يتعلق بها من المسائل المناسبة ؛ وقد رتبت ألفاظ كل مرتبة على حروف المعجم ، كما يلي :
__________
(1) انظر بعض ذلك في مقدمة (لسان الميزان) وفي (التقدمة) لابن أبي حاتم .(5/73)
جملة من ألفاظ المرتبة الأولى :
أثبت الناس ، أحد الأحدين ، إليه المنتهى في التثبت ، إليه المنتهى في الثقة ، إليه المنتهى في الصدق ، إمام ثبت ، إمام الدنيا ، إمام المحدثين ، إمام المحدثين في زمانه ، أمير المؤمنين في الحديث ، أوثق عندي من نفسي ، أوثق الناس ، بخٍ بخٍ ثقة ، ثبت رضا ، ثقة أجمعت الأمة على الاحتجاج به ، ثقة بإجماع ، ثقة بلا ثُنيا ، ثقة بلا مدافعة ، ثقة بلا نزاع ، ثقة ثبت ، ثقة ثقة ، ثقة ثقة ثقة ، ثقة حافظ(1) ، ثقة مطلقاً(2) ، ثقة وفاقاً ، جهبذ الحديث ، حجة ، ركن من الأركان ، فارس الحديث ، في الثبت كالاسطوانة ، لا أحد أثبت منه ، لا أعرف له نظيراً في الدنيا(3) ، لا يُسأل عنه ، مجمع على ثقته ، مَن مثله ؟ ، من معادن الصدق ، نسيج وحده .
جملة من ألفاظ المرتبة الثانية :
__________
(1) وكذلك كل من وصف بالتوثيق المؤكد بتكرير كلمة التوثيق لفظاً أو معنى .
وأما قولهم في كتب التراجم والسير وغيرها (الحافظ الثقة) فهذا قد لا يكون من أصحاب المرتبة الأولى للتوثيق ، بل الأقرب في هذه العبارة أنه لا يراد بها توكيد توثيق الراوي ، وإنما يكون الوصف بالحفظ دالاً على سعة المحفوظات ويكون الوصف بالثقة دالاً على مطلق التوثيق ، فهو يحتمل أن يكون توثيقاً عالياً أي من المرتبة الأولى ، ويحتمل أن يكون من المرتبة الثانية .
(2) هذه والتي بعدها تحتملان أن تكونا من ألفاظ المرتبة الثانية ؛ ويختلف ذلك بحسب كون الراوي مكثراً أو مقلاً ، وبحسب عدد من تكلم فيه من النقاد ، فمن كان مكثراً ووثقه عدد كبير من النقاد توثيقاً تاماً ولم يخالف في توثيقه أحد منهم فهو من أهل المرتبة الأولى ؛ وأما المقل الذي لم يصرح بتوثيقه إلا قليل من النقاد فقد يكون من الثانية.
(3) إنما تعد هذه العبارة من ألفاظ هذه المرتبة إذا كانت واردة في باب بيان حال الراوي في الرواية ، وأما إذا دلت القرائن على أن المراد غير ذلك فذاك شيء آخر .(5/74)
ثبت ، ثقة ، ثقة صدوق(1) ، صادق أمين ، صحيح الحديث ، عدل حافظ ، عدل ضابط ، يحتج بحديثه .
جملة من ألفاظ المرتبة الثالثة :
ثقة إن شاء الله ، ثقة ربما أخطأ ، ثقة ربما أغرب ، ثقة ربما وهم ، ثقة في حفظه شيء ، ثقة له أوهام ، ثقة يخطئ ، ثقة يغرب ، جيد الحديث ، حسن الحديث ، خيار ، صدوق ، صدوق حسن الحديث ، صدوق ربما يهم ، صدوق لا بأس به ، صدوق ليس بمتقن ، صدوق وسط ، صدوق وقد وُثِّق ، لا بأس به ، ليس به بأس.
جملة من ألفاظ المرتبة الرابعة :
أرجو أنه لا بأس به ، إلى الصدق ما هو ، جيد الأمر صالح ، شيخ وسط ، صالح الأمر ، صالح الأمر إن شاء الله ، صالح الحال إن شاء الله ، صالح الحديث ، صدوق إن شاء الله ، صدوق إن شاء الله وله خطأ وأوهام ، صدوق في الجملة ، صدوق في حفظه شيء ، صدوق له أوهام ، صدوق له ما ينكر ، صدوق يخطئ ، صدوق يهم ، صويلح ، صويلح الحال ، صويلح الحديث ، في حديثه لين ، قوي إن شاء الله ، لا أعلم به بأساً ، لا بأس به إن شاء الله ، ما به بأس إن شاء الله ، متوسط صالح الأمر ، محله الصدق ، محله الصدق والستر ، مقارب الحال ، مقارب الحال إن شاء الله ، مقارب الحديث ، وسط.
جملة من ألفاظ المرتبة الخامسة :
هذه جملة من ألفاظ هذه المرتبة :
__________
(1) ربما أراد بعضهم بكلمة (ثقة صدوق) توكيد توثيق الراوي وإعلاء شأنه في الرواية فتكون حينئذ من ألفاظ المرتبة الأولى ، ولكنني مشيت على ما يظهر لي أنه الأغلب الأعم؛ وانظر (ثقة صدوق).(5/75)
تعرف وتنكر ، تُكلم فيه ولم يترك بالكلية ، تكلموا فيه ، روى عنه الناس ، سيء الحفظ ، صالح الأمر وقد لُيِّن ، صدوق سيء الحفظ ، ضُعِّف ، ضُعف قليلاً ، ضعفه فلان ولم يُهدَر ، ضعفوه ، ضعفوه ولم يترك ، ضعيف يستشهد به ، ضعيف يعتبر به ، في حديثه ضعف ، فيه خُلْف ، فيه شيء ، فيه ضعف ، فيه ضعف ما ، فيه ضعف ولم يترك ، فيه كلام ، فيه لِين ، فيه مقال ، لا يترك ، لا يترك حديثه ، للضعف ما هو ، له أوهام ، ليس بحجة ، ليس بحجة له أوهام ، ليس بحجة يكتب حديثه اعتباراً ، ليس بذاك ، ليس بذاك القوي ، ليس بقوي ، ليس بالمتقن ، ليس بمتقن ولا بمعتمد ، ليس بالمتقن وله مناكير ، ليس بالمتين ، لين ، لين الحديث ، ما كأنه حجة ، ما هو بعمدة ، ما هو بقوي ولا اسناده بمُضِي ، متماسك ، محله إن شاء الله الصدق ، مستور ، مقبول ، يعتبر به ، يستشهد به ، يُكتب حديثُه ، يُكتب حديثه للاعتبار ويُنظر فيه ، يكتب حديثه ولكن لا يحتج به .
جملة من ألفاظ المرتبة السادسة :
هذه جملة من ألفاظ هذه المرتبة :
أتى بمناكير وعجائب ، ارم به ، تالف ، تالف لا تحل الرواية عنه ، تالف ليس بشيء ، تركوه ، ذاهب ، ذاهب الحديث ، ذو مناكير ، رُدَّ حديثُه ، ردوا حديثه ، ساقط ، ساقط الحديث ، ساقط عدَم ، سكتوا عنه ، صاحب مناكير ، ضعفوه بمرة ، ضعيف جداً ، طرحوا حديثه ، غير مرضي ، غير معروف ، لا شيء البتة ، لا يساوي شيئاً ، لا يستشهد به ، لا يعتبر بحديثه ، لا يعتبر به ، لا يعرف ، لا ينبغي أن يروى عنه ، لا يوثق به ، ليس بالثقة ، ليس بثقة ، ليس بشيء ، ليس بعمدة ، ليس بمرضي ، منكر الحديث ، متروك ، متروك الحديث ، متروك بالإجماع ، مجمع على تركه ، مردود الحديث ، مطَّرَح ، مطَّرَح الحديث ، مطروح ، مطروح الحديث ، نكرة ، نكرة لا يعرف ، هالك ، واه ، واه بمرة ، واهي الحديث .
جملة من ألفاظ المرتبة السابعة :
هذه جملة من ألفاظ هذه المرتبة :(5/76)
اتهم بتزوير سماعات ، اتهم في اللقاء ، جراب الكذب ، حيوان كذاب ، حيوان متهم ، حيوان وحشي ، دجال ، رمي بالكذب ، زوّرَ لنفسه أسمعة وأصر عليها ، صاحب أوابد ، كذاب ، كذاب أشر ، كذاب جبل ، كذاب مدبر ، ليس بثقة ، ليس بثقة زوَّر طبقة ، ليس بثقة ولا مأمون ، لا يصدق ، لا ينبغي أن يروى عنه ولا كرامة ، متروك بل متهم ، متهم ، متهم بالكذب ، متهم بالوضع ، متهم بسرقة الحديث ، معدن الكذب ، منبع الكذب ، وضاع ، وضع حديثاً ، يأتي بطامات ، يركب الأسانيد ، يزوِّر الطباق ، يسرق الحديث ، يكذب ، يضع ، يضع الأسانيد ، يضرب المثل بكذبه .
المراجع :
انظر (المصادر) .
مردود الحديث :
هذه بمعنى (رد حديثه) فانظرها.
المرسل :
قال ابن فارس في (مقاييس اللغة) (2/392) : (الراء والسين واللام أصلٌ واحدٌ مطّرد منقاس ، يدل على الانبعاث والامتداد ----) ؛ وقال الراغب الأصبهاني في (المفردات في غريب القرآن)(1) : (أصل الرِّسل : الانبعاث على تؤدة) .
وتفرع عن هذا الأصل معانٍ مشتقة منه ، هي الإطلاق والترك والتخلية وعدم المنع ؛ وكلها ملحوظة في اصطلاح الإرسال .
قال الدكتور حاتم بن عارف العوني في (المنهج المقترح) (ص41-42) : أما المعاني المشتقة من هذا المعنى الأصلي للكلمة ، فقد استوفى الحافظ العلائي منها ما له علاقة بالمعنى الاصطلاحي لكلمة (مرسل) ، وذلك في كتابه (جامع التحصيل)(2) .
وبعد دراسة المعاني الأربعة التي ذكرها العلائي ، يظهر أن (الإرسال) بمعنى : الإطلاق والترك والتخلية وعدم المنع(3) ؛ وهو المعنى الملحوظ في اصطلاح الإرسال .
__________
(1) ص195 .
(2) ص23-24 .
(3) انظر لسان العرب - رسل - (11/284) ، وأساس البلاغة (ص162) .(5/77)
فإذا وازنت بين هذا المعنى اللغوي : الإطلاق والترك والتخلية ، والمعنى الاصطلاحي ، وهو كما قال الخطيب في (الكفاية)(1) : (ما انقطع إسناده ، بأن يكون في رواته من لم يسمعه ممن فوقه ، إلا أن أكثر ما يوصف بالإرسال من حيث الاستعمال : ما رواه التابعي عن النبي صلى الله عليه وسلم )(2) ؛ انتهى .
قلت : أما معنى المرسل في لغة المحدثين فقد وقع فيه شيء من تباين بين المتقدمين والمتأخرين ؛ فهو في اصطلاح المتأخرين : ما أضافه - من غير أن يذكر واسطةً - التابعيُّ إلى النبي صلى الله عليه وسلم مما سمعه من غيره .
وهذا الحد فيه - بذكر التابعي - احترازٌ عما أضافه الصحابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم مما سمعه من غيره ، فإنه لا يطلق عليه اسم الإرسال ، وإذا وصف بذلك فإنما هو مع التقييد ، فيقال : هذا مرسل صحابي ، وهذا التقييد ضروري لأن مرسل الصحابي له حكم المتصل بخلاف مرسل التابعي(3) .
وفيه أيضاً احتراز عما أضافه التابعيُّ إلى النبي صلى الله عليه وسلم ذاكراً فيه الواسطة بينه وبينه صلى الله عليه وسلم .
__________
(1) ص21 .
(2) قلت : سبب ذلك على ما يظهر هو أن هذا المصطلح من مصطلحات التابعين ، ثم سار عليه بعدُ كثيرٌ ممن جاء بعد عصرهم .
(3) تنبيه : من رأى النبي صلى الله عليه وسلم غير مميز فإنه صحابي وحكم روايته حكم المرسل لا الموصول ولا يجيء فيه ما قيل في مراسيل الصحابة لأن أكثر رواية هذا وشبهه عن التابعي بخلاف الصحابي الذي أدرك وسمع فإن احتمال روايته عن التابعي بعيد جداً ؛ قال ابن رشيد في (السنن الأبين) (ص120-121): (احتمال إرسال الصحابي عن تابعي نادر بعيد ؛ فلا عبرة به ؛ وغاية ما قدر عليه الحفاظ المعتنون أن يبرزوا من ذلك أمثلة نزرة تجري مجرى الملح في المذاكرات والنوادر في النوادي).(5/78)
وفيه احتراز عما أضافه التابعيُّ إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو قد سمعه منه في حال كفره ؛ أي ما أضافه إلى النبي صلى الله عليه وسلم من أسلم ولم يره في حال إسلامه مما سمعه منه في حال كفره ، فهذا متصل وليس بمرسل .
هذا معنى المرسل عند جمهور المتأخرين ؛ وأما المتقدمون فقد ذكر الخطيب في (الكفاية) اصطلاحهم في هذه الكلمة كما تقدم نقله عنه .
قال ابن الصلاح في (المقدمة) (ص49) : (إذا قيل في الإسناد : "عن رجل" - أو عن شيخ - عن فلان" ، أو نحو ذلك ، فالذي ذكره الحاكم في "معرفة علوم الحديث" أنه لا يسمى مرسلاً بل منقطعاً(1) ، وهو في بعض المصنفات المعتبرة في أصول الفقه معدود من أنواع المرسل) .
فقال ابن حجر في (النكت) (2/561-562) : (فيه أمران :
أحدهما : أنه لم ينقل كلام الحاكم على وجهه بل أخلّ منه بقيد ، وذلك أن كلام الحاكم يشير إلى تفصيل فيه وهو : إن كان لا يروى إلا من طريق واحدة مبهمة ، فهو يسمى منقطعاً . وإن كان رُوي من طريق مبهمة وطريق مفسرة ، فلا تسمى منقطعة ، لمكان الطريق المفسرة ؛ وذلك لأنه قال في نوع المنقطع : "وقد يروى الحديث وفي إسناده رجل ليس بمسمى فلا يدخل في المنقطع ، مثاله : رواية سفيان الثوري عن داود بن أبي هند قال : حدثنا شيخ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يأتي على الناس زمان يخير الرجل فيه بين العجز والفجور ، فمن أدرك ذلك الزمان فليختر العجز" ؛ قال : ورواه وهب بن خالد وعلي بن عاصم عن داود بن أبي هند قال : حدثني رجل من جديلة ، يقال له أبو عمرو ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، به .
قال الحاكم : "فهذا النوع الوقوف عليه متعذر إلا على الحفاظ المتبحرين" .
__________
(1) انظر (منقطع) .(5/79)
قلت : فتبين بهذه الرواية المفسرة أنه لا انقطاع في رواية سفيان ؛ وأما إذا جاء في رواية واحدة مبهمة فلم يتردد الحاكم في تسميته منقطعاً ، وهو قضية صنيع أبي داود في كتاب "المراسيل"(1) وغيره ) ؛ انتهى .
وقال العراقي في (التقييد والإيضاح)(2) تعليقاً على ما تقدم من كلام ابن الصلاح : (اقتصر المصنف من الخلاف على هذين القولين ، وكل من القولين خلاف ما عليه الأكثرون ؛ فإن الأكثرين ذهبوا إلى أن هذا متصل في إسناده مجهول ؛ وقد حكاه عن الأكثرين الحافظ رشيد الدين العطار في "الغرر المجموعة" ، واختاره شيخنا الحافظ صلاح الدين العلائي في كتاب "جامع التحصيل" ؛ وما ذكره المصنف عن بعض المصنفات المعتبرة ولم يسمه فالظاهر أنه أراد به "البرهان" لإمام الحرمين ، فإنه قال فيه : "وقول الراوى : أخبرنى رجل أو عدل موثوق به ، من المرسل أيضاً ؛ وزاد الإمام فخر الدين في "المحصول" على هذا فقال : إن الراوى إذا سمى الأصل باسم لا يعرف به فهو كالمرسل .
وما ذكره المصنف عن بعض كتب الأصول قد فعله أبو داود في كتاب "المراسيل" فيروي في بعضها ما أبهم فيه الرجل ويجعله مرسلاً .
__________
(1) فإنه يروي فيه ما أُبهم فيه الرجل ، كما سيأتي ذكرُه .
(2) ص57 طبعة الطباخ .(5/80)
بل زاد البيهقي على هذا في "سننه" ، فجعل ما رواه التابعي عن رجل من الصحابة لم يسمَّ مرسلاً ، وليس هذا بجيد منه ، اللهم إلا إن كان يسميه مرسلاً ، ويجعله حجة كمراسل الصحابة فهو قريب) ؛ قال ابن حجر في (النكت) (2/563-564) تعليقاً على هذا الكلام : (قلت : يريد شيخنا أن يجعل الخلاف من البيهقي لفظياً ، وهو توجيه جيد ، وقد صرح البيهقي بذلك في كتاب "المعرفة" في الكلام على القراءة خلف الإمام ، لكنه خالف ذلك في كتاب "السنن" ، فقال في حديث حميد بن عبد الرحمن الحميري حدثني رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن الوضوء بفضل المرأة : "هذا حديث مرسل" ؛ أورد ذلك في معرض رده معتذراً عن الأخذ به ، ولم يعلله إلا بذلك ؛ وهذا مصير منه إلى أن عدم تسمية الصحابي يضر في اتصال الإسناد .
فإن قيل : هذا خاص فكيف يستنبط منه العموم في كل ما هذا سبيله ؟ قلت : لأنه لم يذكر للحديث علة سوى ذلك ، ولو كان له علة غير هذا لبينها ، لأنه في مقام البيان ؛ وقد بالغ صاحب "الجوهر النقي" في الإنكار على البيهقي بسبب ذلك ، وهو إنكار متجه ) .
وانظر (مسنَد) و (مقطوع) .
المرسل الخفي :
قال ابن حجر في (نزهة النظر) : (والفرق بين المدلَّس والمرسل الخفي دقيق ---- ، وهو أن التدليس يختص بمن روى عمن عُرف لقاؤه إياه ، فأما إن عاصره ولم يُعرف أنه لقيه فهو المرسل الخفي).(5/81)
وقال عبد الله بن يوسف الجديع في المرسل الخفي في تعليقه على (المقنع) لابن الملقن (2/487-488) : (ومن الجدير بالتنبيه عليه هنا أنه وقع في كلام كثير من المتقدمين تسمية هذا النوع تدليساً ، وإنما أرادوا به هذا النوع من الارسال ؛ فمن صنف في التدليس من المتأخرين راعى لفظ التدليس ولم يمعن النظر في حقيقة المراد منه ، فجاء مَن جُلُّ بضاعتهم في التحقيق الحديثي دراسة بعض كتب المصطلح من غير خبرة بمناهج أئمة الشأن ، فحملوه على التدليس الاصطلاحي ، فعللوا الكثير من الأحاديث الصحيحة المتصلة اعتماداً على وصف التدليس الذي أطلقه بعض المتقدمين من الأئمة ، وفاتهم معرفة حقيقة المراد من ذلك الوصف في حق كثير من الرواة خاصة من طبقة التابعين ؛ لذا فإني أنصح المشتغل بهذا العلم أن لا يقبل وصف الراوي بالتدليس إلا بعد معرفة المراد منه : هل أريد به التدليس الاصطلاحي أم الإرسال الخفي ؟) .
وانظر (المرسل) .
مرسل الصحابي :
هو ما يرويه الصحابي عن النبي صلى الله عليه وسلم مما لم يسمعه منه ، من غير أن يذكر الواسطة ؛ وهذا معدود في جملة الأحاديث الصحيحة لأنه له حكم الاتصال ؛ فالصحابي إذا سمع الحديث من صحابي آخر ثم حذفه ، فذلك لا يضر الحديث لأن الصحابة كلهم عدول ؛ فإن قيل : ألا يجوز أن يكون الصحابي قد سمع الحديث من تابعي ؟ فجوابه أن رواية الصحابة عن التابعين نادرة ، وإرسالهم عن التابعين أندر ؛ انظر (إرسال الصحابة عن التابعين).
وأما إرسال أصحاب الرؤية فقط فله حكم آخر ، قال ابن حجر في (النكت) (2/540-541): (وقد وجد في منقولات كثيرة أن الصحابة من النساء والرجال كانوا يُحْضِرون أولادهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم يتبركون بذلك ----؛ لكن هل يلزم من ثبوت الرؤية له الموجبة لبلوغه شريف الرتبة بدخوله في حد الصحبة أن يكون ما يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعد مر سلاً ؟(5/82)
هذا محل نظر وتأمل ؛ والحق الذي جزم به أبو حاتم الرازي وغيره من الأئمة أن مرسله كمرسل غيره وأن قولهم {مراسيل الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - مقبولة بالاتفاق إلا عند بعض من شذ}، إنما يعنون بذلك من أمكنه التحمل والسماع؛ أما من لا يمكنه ذلك فحكم حديثه حكم غيره من المخضرمين الذين لم يسمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم ؛ والله أعلم ).
المرسل الخفي :
انظر (المرسل) و(تدليس الإسناد) .
مرّض القول فيه :
هذه من عبارات ابن حبان رحمه الله ، وربما وردت في كلام غيره من النقاد ، وكنت أظن أن ابن حبان يريد بها تساهل الناقد في نقد الراوي وإلانة القول فيه ، ولكن تبين لي بعدُ أنه لا يمكن القطع بصحة هذا التفسير ، بل الأقرب أن يكون مراده هو عدم تحقيق الحكم على الراوي ، ومخالفة القول الأصح فيه ، سواء كان ذلك بتساهل أو اعتدال أو تشدد؛ فمعنى هذه العبارة يقربُ ولو أحياناً من معنى العبارة التالية لها ، وهي (مرَّضَ في أمره)؛ وهذه بعض استعمالات ابن حبان لكلمة (مرَّض القولَ فيه) :
قال في (الثقات) (6/131-132) (7039) في ترجمة (جعفر بن محمد بن علي بن الحسين) : (يروي عن أبيه ، وكان من سادات أهل البيت فقهاً وعلماً وفضلاً ----؛ وإنما مرَّض القولَ فيه من مرَّض من أئمتنا لما رأوا في حديثه من رواية أولاده(1) ؛ وقد اعتبرت حديثه من [حديث] الثقات عنه ---- فرأيت أحاديث مستقيمة ليس فيها شيء يخالف حديث الأثبات ، ورأيت في رواية ولده عنه أشياء ليست من حديثه ولا من حديث أبيه ولا من حديث جده ؛ ومن المحال أن يلزق به ما جنت يدا غيره).
وقال في (المجروحين) (2/57) في عبد الرحمن بن سليمان بن الغسيل : (وكان ممن يخطئ ويَهِمُ كثيراً ، على صِدْقٍ فيه ؛ والذي أميل إليه فيه ترْكُ ما خالف الثقات من الأخبار والاحتجاج بما وافق الثقات من الآثار ؛ وقد مرَّض الشيخان القولَ فيه : أحمد ويحيى .
__________
(1) أي من المناكير .(5/83)
سمعت يعقوب بن إسحاق يقول سمعت الدارمي يقول: سألت يحيى عن عبد الرحمن بن الغسيل ، فقال: هو صويلح .
سمعت محمد بن محمود يقول سمعت علي بن سعيد يقول: سألت أحمد بن حنبل رحمه الله عن ابن الغسيل ، فقال: صالح(1).
وقال في (المجروحين) (2/54-55) (592) : (عبد الرحمن بن إسحاق الواسطي---- ، كان ممن يقلب الأخبار والأسانيد وينفرد بالمناكير عن المشاهير لا يحل الاحتجاج بخبره ؛ مرَّض القولَ فيه يحيى بن معين ؛ سمعت محمد بن محمود بن عدي يقول: سمعت علي بن سعيد بن جرير يقول : سمعت أحمد بن حنبل يقول : عبد الرحمن بن إسحاق الواسطي روى عنه الكوفيون ، ليس في الحديث بذاك).
قلت : إنما قال فيه ابن معين بحسب رواية الدوري : (ضعيف ليس بشيء)؛ وقال فيه ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل) (5/213) (1001) : (نا محمد بن حمويه بن الحسن قال: سمعت أبا طالب قال: سألت أحمد بن حنبل عن أبي شيبة الواسطي عبد الرحمن بن إسحاق فقال: ليس بشيء منكر الحديث .
قرئ على العباس بن محمد الدوري عن يحيى بن معين أنه قال: عبد الرحمن بن إسحاق الكوفي ضعيف ليس بشيء.
سألت أبي عن أبي شيبة عبد الرحمن بن إسحاق فقال: هو ضعيف الحديث منكر الحديث يكتب حديثه ولا يحتج به.
سئل أبو زرعة عن عبد الرحمن بن إسحاق الذي يروى عنه بن أبي زائدة وأبو معاوية فقال: ليس بقوي).
وقال ابن حبان في (المجروحين) (1/103) (12) في (إبراهيم بن علي الرافعي) : (كان يخطىء حتى خرج عن حد من يحتج به إذا انفرد ؛ مرَّض يحيى بن معين القولَ فيه) .
__________
(1) في المطبوعة (صلح) .(5/84)
قال المزي في ترجمة إبراهيم هذا من (تهذيب الكمال) (2/156) : (قال عثمان بن سعيد الدارمي: قلت ليحيى بن معين : إبراهيم بن علي الرافعي من هو ؟ قال : شيخ مات بالقرب ، كان هاهنا ، ليس به بأس ، قلت يقول: حدثني عمي أيوب بن حسن ، كيف هو؟ قال: ليس به بأس؛ وقال البخاري: فيه نظر ؛ وقال الدارقطني : ضعيف ؛ وقال أبو أحمد بن عدي : هو وسط ؛ وقال أبو حاتم بن حبان : كان يخطىء حتى خرج من حد من يُحتج به إذا انفرد ؛ روى له ابن ماجة).
وقال ابن حبان في (المجروحين) أيضاً (1/374) : (صدقة بن عبد الله السمين كنيته أبو معاوية ، القرشي ، من أهل دمشق ، يروي عن ابن المنكدر وأهل بلده ؛ روى عنه الوليد بن مسلم وأهل الشام ؛ كان ممن يروي الموضوعات عن الأثبات ، لا يُشتغل بروايته إلا عند التعجب---- .
سمعت محمد بن محمود يقول سمعت الدارمي يقول : سألت يحيى بن معين عن صدقة بن عبد الله السمين فقال : ضعيف ) .
ثم قال : مرَّض أبو زكريا القول في صدقة حيث لم يسبر مناكير حديثه ، وهو يروي عن محمد بن المنكدر عن جابر بنسخة موضوعة يشهد لها بالوضع من كان مبتدئاً في هذه الصناعة فكيف المتبحر فيها؟!) .
مرَّض عليه :
يقال : مرَّض الكاتب على هذه الكلمة ، أي كتب عليها علامة التمريض ؛ وانظر (التضبيب) .
مرّض في أمره :
يظهر أن معنى (مرَّض في أمره) إما التليين ونحوه من التضعيف غير الشديد ، أو التوقف عن التوثيق؛ قال عبدالله بن أحمد في (العلل ومعرفة الرجال) (4358): (سألت أبي عن ثابت بن عجلان، فقال: كان يكون بالباب والأبواب ، قلت له : هو ثقة ؟ فسكت ، كأنه مرَّض في أمره) .
قالوا في (المعجم الوسيط) : ( أمرض فلانٌ : صار ذا مرض، والقومُ: مرضتْ دوابّهم ، وفلانٌ: قارب الصوابَ في الرأي وإن لم يصب كل الصواب .
و[أمرَضَ] فلاناً : وجده أو جعله مريضاً ----.
مارضت رأيي فيك : خادعت نفسي فيك.(5/85)
مرَّض في الأمر : قصَّر فيه ولم يُحكمه ؛ يقال: مرض في حاجتي : نقصت حركته فيها ، و[مرَّض] في كلامه: ضعَّفه ) .
مرفوع :
قال ابن الصلاح في (المقدمة) (ص41) : (النوع السادس : معرفة المرفوع : وهو ما أضيف إلى رسول الله خاصةً ، ولا يقع مطلقه على غير ذلك ، نحو الموقوف على الصحابة وغيرهم ؛ ويدخل في المرفوع المتصلُ والمنقطعُ والمرسلُ ونحوُها ، فهو والمسند عند قوم سواء ، والانقطاع والاتصال يدخلان عليهما جميعاً ، وعند قوم يفترقان في أن الانقطاع والاتصال يدخلان على المرفوع ، ولا يقع المسند إلا على المتصل المضاف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقال الحافظ أبو بكر بن ثابت : المرفوع ما أخبر فيه الصحابي عن قول الرسول صلى الله عليه وسلم أو فِعله ، فخصصه بالصحابة ، فخرج عنه مرسل التابعي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ) .
ولكن قال السيوطي في (تدريب الراوي) (1/184) : (قال شيخ الإسلام [هو ابن حجر]: الظاهر أن الخطيب لم يشترط ذلك وأن كلامه خرج مخرج الغالب ، لأن غالب ما يضاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم إنما يضيفه الصحابي ) .
وقال ابنُ الصلاح (ص41) : (ومن جعل من أهل الحديث المرفوعَ في مقابلة المرسل فقد عنى بالمرفوع المتصلَ ) .
وانظر (مسنَد) .
مرفوع تصريحاً :
أي يصرح راويه برفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، إما بسوقه الإسناد إليه صلى الله عليه وسلم، أو بسوقه الإسناد إلى الصحابي ، ثم يختمه بكلمة (رفعه) أو (يرفعه) أو (ينميه) أو ما يقوم مقامهما من الكلمات ؛ انظر (يبلغ به).(5/86)
مرفوع حكماً :
الحديث المرفوع حكماً هو الحديث الموقوف على الصحابي ولكن قامت القرائن الداخلة فيه أو الخارجة عنه على أنه لا يمكن أن يخبر به - بحقٍّ - أحدٌ غير النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فيدخل تحت ذلك الأحاديث التي لا مجال للرأي فيها، سواء كان ذلك الرأي قياساً أو استنباطاً أو نحو ذلك، بشرط أن ينتفي احتمال أخذ راويها لها من كتب أهل الكتاب؛ وتلك هي أحاديث الغيب التي لا تُعلم معانيها بقياس ولا غيره من طرق الناس في إدراك الأشياء، وإنما طريقنا إلى معرفة ما نعرفه من الغيب هو إخبار أنبياء الله عليهم السلام عنها.
تنبيه : لا تلازم بين الحكم للحديث الموقوف بالرفع ، وبين تصحيحه ، إذ لا مانع من أن يكون ذلك الحديث مكذوباً عمداً أو خطأ من قِبَل بعض مَن بَعْدَ صحابيِّه .
تنبيه ثانٍ : دعوى كون الحديث الموقوف مرفوعاً حكماً تختلف فيها في كثير من الأحيان وِجهة الأنظار، فليس كل من ادعى في حديث موقوف أنه مرفوع حكماً يكون مصيباً في دعواه؛ أورد الشوكاني في (الفوائد المجموعة) (48) حديث {{أولكم وروداً على الحوض ، أولكم إسلاماً : علي بن أبي طالب}} ، وقال فيما قاله في تخريجه : (وروى أبو بكر بن أبي عاصم من طريق عبد الرزاق متابعاً لهم ، لكن موقوفاً على سلمان ؛ قال [يعني السيوطي] في (اللآلىء) : وهذه متابعة قوية جداً ، ولا يضر إيراده بصيغة الوقف ، لأن له حكم الرفع ).
قال العلامة المعلمي بعد أن بين سقوط هذا الخبر من جميع طرقه : (وفوق هذا فقول السيوطي : إن له حكم الرفع مردود , إذ لا مانع أن يستشعر سلمان أن السبق إلى الاسلام يقتضي السبق في الورود) .
مركَّب :
انظر (تركيب الأسانيد) و (مبدل) .
المروي :
المروي اسم مفعول ، ويطلق في اصطلاح المحدثين على الحديث المنقول بإسناده ؛ انظر (روى) أو (الرواية) .
المرويات التاريخية :
هذا اصطلاح عصري يراد به المنقولات التاريخية ، بالمعنى العرفي العام للتاريخ ؛ انظر (التاريخ) و (الأخباريون) .(5/87)
والذي أريد التنبيه عليه في هذا الموضع هو أنَّ العلماء لا يشددون في نقد المرويات التاريخية غير المنكرة والتي لا خطر لها ، تَشَدُّدَهم في نقد الأحاديث النبوية ، ولا تَشَدُّدَهم في نقد الأحاديث الموقوفة على الصحابة والتابعين إذا كان لتلك الموقوفات مساس بالدين وأحكامه وأهله ، بل هم يتسمَّحون في ذلك بقدر معقول ، قال العلامة المعلمي في (التنكيل) (ص377) : (والتاريخ يحتاج إلى مواد وتسامح في الرواية عن الضعفاء) .
قال الشيخ حاتم الشريف في إجابة لمن سألأه عما هو الأولى والأفضل في دراسة أسانيد القصص والأخبار التاريخية الواردة في كتب الأدب والتاريخ : (لقد كثرت في الدراسات الحديثية في علم السيرة والتاريخ والتراجم المطالبات بتصفيتها وتنقيتها ، وجاءت هذه المطالبات على مناهج شتى وتوجيهات مختلفة ؛ فكانت أصفى تلك المناحي ، وأخلصها نية ، وأصدقها سريرة ، وآمنها على هذه العلوم : المطالبة بتطبيق منهج المحدثين عليها ، بدراسة أسانيدها ، وقبول ما قبلته الصنعة الحديثية ، وردّ ما ردته .
وظهرت ثمرات هذه المطالبة في بحوث ومؤلفات عديدة ، وكانت جهوداً مباركة ، وفيها خير كثير ، صوبت كثيراً من الأخطاء العلمية ، ونقت بعض أهم المصادر مما كنا في حاجة إلى تنقيته فعلاً .
لكن تبقى تلك الجهود جهوداً بشرية ، معرضة للخطأ ؛ والخطأ الجزئي فيها أمره يسير ، وتداركه هين ؛ لكنه إذا كان منهجياً ، فإن أمره سيكون فيه خطورة ، واستدراك نتائجه صعب .(5/88)
وهنا أنبه : أن المحدثين قد دَلّت أقوالهم وتصرفاتهم أنهم كانوا يفرقون بين ما يضاف من الأخبار إلى النبي صلى الله عليه وسلم وما يضاف إلى غيره ، مما له علاقة بالدين وما لا علاقة له بالدين ؛ بل لقد بلغ كمال علمهم إلى درجة التفريق بين ما يضاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعضه عن بعض ، فلأحاديث الأحكام والعقائد منهج فيه اختلاف عن منهج التعامل مع أحاديث الفضائل والرقائق ونحوها ؛ بل أحاديث الأحكام نفسها لهم منهج في التعامل مع الحديث الذي يكون أصلاً في بابه ، والحديث الذي يعتبر من شواهد الباب ؛ ولهم في جميع ذلك إبداعات تخضع لها العقول ، ونفحات إلهام تشهد بأن علمهم علم مؤيد من الباري سبحانه .
فمن عيوب بعض الدراسات التي نَوّهْتُ ببعضها آنفاً أنها كانت بحوثاً من غير المتخصصين في علم الحديث - ولا أقصد بذلك الشهادات والألقاب إنما أقصد الحقائق - فجاءت في بعض الأحيان غير مراعية لتلك الفروق في منهج التعامل التي كان المحدثون يراعونها فخالفوا بذلك منهج الذين أرادوا تطبيق منهجهم ! .
ومن أصرح العبارات التي تدل عل ذلك النهج الحديثي : الباب الذي عقده الخطيب البغدادي في كتابه "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع" (2/316 - 320) ، بعنوان : "ما لا يفتقر كَتْبُه إلى إسناد" ؛ ومما جاء فيه : قولُ الخطيب :
"وأما أخبار الصالحين ، وحكايات الزهاد والمتعبدين ، ومواعظ البلغاء ، وحكم الأدباء : فالأسانيد زينة لها ، وليست شرطاً في تأديتها " ؛ ثم أسند الخطيب إلى يوسف الرازي أنه قال : "إسناد الحكمة وُجودُها " ؛ وأسند عن ابن المبارك أنه سئل : نجد المواعظ في الكتب ، فننظر فيها ؟ قال: لا بأس ، وإن وَجدتَ على الحائط موعظة فانظر فيها تتَّعِظ . قيل له : فالفقه ؟ قال : لا يستقيم إلا بسماع".(5/89)
ثم أسند الخطيب قصة رجل خراساني كان يجلس عند يزيد بن هارون فيكتب الكلام ولا يكتب الإسناد ، فلما لاموه على ذلك قال : "إن كان الذي كتبه الخراساني من أخبار الزهد والرقائق وحكايات الترغيب والمواعظ فلا بأس بما فعل ، وإن كان من أحاديث الأحكام وله تعلق بالحلال والحرام فقد أخطأ في إسقاط إسناده ؛ لأنها هي الطريق إلى تثبته ، فكان يلزمه السؤال عن أمره والبحث عن صحته.
وفي هذا السياق أشير إلى قضية مهمة ، ربما غفل عنها كثيرون وهي أن لعلماء كل علم طريقتهم الخاصة في نقد علمهم ، وفي الفحص عن صحة منقولهم ومعقولهم . ومن الخطأ الفادح أن نخلط بين معايير النقد المختلفة بين كل علم وآخر ؛ لأن ذلك سيؤدي إلى هدم تلك العلوم !!
وأضرب على ذلك مثلا :
لو جئنا إلى الشعر الجاهلي وشعر صدر الإسلام ، بل عموم دواوين الشعراء ، خاصة في عصر الاحتجاج اللغوي ، وأردنا أن نطبق عليها منهج المحدثين في نقد السنة = هل سنزيد إلا أن نهدم لغة العرب ، بأعظم مما أراد أن يهدمها به طه حسين !!!
ذلك أن لأئمة اللغة معاييرهم الصحيحة الكافية لنقد علمهم ، ولهم طرائقهم لفحص المنقول من اللغة . وقد بذلوا في ذلك جهودا عظيمة ، أدوا بها الأمانة العظمى الملقاة على عواتقهم ، خدمة للغة القرآن والسنة.
وفي هذا المجال أُذكِّر بضرورة تعظيم أئمة كل علم في علمهم ، واحترام تخصصات أصحاب التخصصات ، فلا نزاحمهم ما دمنا لسنا من أصحاب ذلك العلم ، خاصة أولئك الأعلام ، من علماء علوم الإسلام على اختلاف فنونها .(5/90)
أقصد من ذلك كله أن أبينَ أنَّ منهجَ المحدثينَ لئن(1) كان هو المنهج الوحيد الذي يصح به نقد المنقول المتعلق بالدين ، فإنه لا يلزم أن يصح في نقد بقية العلوم وإن شابهته من جهة إبراز أسانيد لبعض منقولاتها ؛ فليس كل إسناد نراه يعني أنه وسيلة نقد ذلك المنقول بتطبيق منهج المحدثين الذي ينقلون به أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الإسناد كان سمة من سمات علوم الإسلام كلها ، فإبرازه لم يكن دائماً لأجل الاعتماد الكلي عليه في نقد ذلك المنقول . وبناء على ماسبق ذكره ، من أن المحدثين فرقوا بين منهج نقد السنة ومنهج نقد الأخبار ، فإني أجد هذه مناسبة حسنة للتأكيد على معنى معين ، يعين على معرفة الصواب في هذه المسألة المنهجية ، وهو أن منهج المحدثين في نقد السنة تميز بشدة الاحتياط والمبالغة في التحري والريبة من كل شيء ، ولولا أن عناية الأمة في تلك الحقبة بالسنة من جهة نقلها وتعلمها وتعليمها وحفظها وكتابتها كانت عناية عظيمة تفوق الوصف ، حيث كانت هي همهم الأكبر وشغلهم الشاغل : لكان ذلك المتشدد المبالغ المرتاب سبباً لإخراج شيء من صحيح السنة عنها . لكن تلك العناية البالغة بالنقل ، وفرت للمحدثين فرصة ذلك التشديد في النقد ، دون أن يضيع ذلك شيئا من السنة ... وتلك حكمة بالغة !!
ومن هذا الملحظ تعلم ان هذا المنهج المتشدد على غير السنة فيه جور على ذلك العلم المنتقد به ؛ لإن التثبت من صحة المنقول فيه لايحتاج إلى كل ذلك التشديد في النقد ، ولن نجد من عناية الأمة بمنقول ذلك العلم مايكون رصيدا كبيرا صالحا لذلك التشديد ، دون أن يؤدي ذلك إلى تضييع بعض الثابت من ذلك المنقول.
__________
(1) في الأصل الذي نقلت منه وهو نسخة الكترونية (لئن) وأنا أبدلتها .(5/91)
وأقصد من ذلك كله بيان أن التخفف من نقد المنقولات من غير السنة لا يعني أننا سنثبت بذلك غير الثابت ، ولكن يعني أننا سنضع كل منقول في ميزانه الكافي لتمييز ثابته من غير الثابت منه) ؛ انتهى ؛ وانظر (الترغيب والترهيب) .
المزيد في متصل الأسانيد :
هو الراوي يُذكر في سند حديثٍ ، بين راويين سمع أحدهما من الآخر ، وقد رُوي الحديث مرة أخرى بذلك السند نفسه ، محذوفاً منه ذلك الراوي المزيد.
وتلخيص معنى هذا الباب بعبارة أخرى : هو أن الحديث قد يُروى من طريق ظاهرها الاتصال ، ثم يروى مرة أخرى من تلك الطريق نفسها إلا أن إحداهما فيها زيادة راو على الأخرى ؛ فهذه الطريق المزيدة هي النوع الذي يعرف بهذا الاسم ، أعني (المزيد في متصل الأسانيد) .
وهل تكون هذه الزيادة دليلاً على سقوطها في الرواية الأخرى أو يكون النقص في تلك دليلاً على خطأ الزيادة في هذه ، أو تكون الروايتان محفوظتين ؟ الصحيح أن الزيادة دليل على انقطاع الرواية الأخرى إلا إذا كان من لم يزدها أثبت وأتقن ممن زادها ، ووقع التصريح بالسماع في موضع الزيادة من الرواية الخالية منها .
المساواة :
انظر (العلو) .(5/92)
المستخرَج :
المستخرج هو الكتاب الذي موضوعه أن يأتي مصنفه إلى كتاب معتمد أو شهير ، كـ(صحيح البخاري) ، مثلاً، فيحاول أن يُخرّج أحاديثه بأسانيد لنفسه من غير طريق البخاري ، فيجتمع إسناد المستخرِج في كل حديث يخرجه ، مع إسناد البخاري ، في شيخه ، أو في بعضِ مَن فوقه(1) ؛ وشرط صاحب المستخرج عادةً أن لا يصل إلى شيخ أبعد حتى يفقد سنداً يوصله إلى الأقرب إلا لعذر من علو أو زيادة هامة ؛ وربما أسقط المستخرج أحاديث لم يجد له بها سنداً يرتضيه ، وربما ذكرها من طريق صاحب الكتاب(2) .
ولا يخفى أن صاحب المستخرَج لا يلتزم لفظ الأصل(3) ، بل هو يروي بالألفاظ التي وقعت له عن شيوخه ، ولذلك يكثر أن تكون ألفاظ المستخرج مخالفة لألفاظ الأصل ، وربما وقعت المخالفة أيضاً في المعنى.
وكذلك من عادة أصحاب المستخرجات أن لا يلتزم أحدهم من حيث قوة الأحاديث شروط صاحب الأصل الذي عمل عليه مستخرجه ، ولذلك فقد يكون الإسناد ضعيفاً أو الحديث معللاً ؛ فلهذا السبب والذي قبله ينبغي أن يجتنب عزو ألفاظ متون المستخرج لأصله ، ويشتد المنع إذا كان الأصل هو أحد الصحيحين ؛ وكذلك لا يصحُّ عدُّ جميعِ ما في المستخرج صحيحاً .
__________
(1) وبعبارة أخرى : المستخرَج هو الكتاب الذي يجمع متابعات تامة أو قاصرة لمؤلف الأصل ، أعني مؤلف الكتاب المستخرَج عليه ، في أحاديث ذلك الكتاب .
(2) وبعبارة أخرى وجيزة : استخراج الحديث أو الكتاب : هو محاولة تخريجه بإسناد آخر .
فالمستخرج هو كتابُ روايةٍ اشترط مؤلفه أن تكون متونه هي متون كتاب سابق له على قدر الإمكان .
(3) فهذا معلوم من قواعد النقل .(5/93)
وفوائد المستخرجات هي عين فوائد الطرق والمتابعات ، فمِن فوائدها تعيين محتمل وإكمال مختصر ، وتسمية مهمل أو مبهم وتقوية رواية وتأييدها وتكثير شواهدها ، وكل ما وقع من زيادة في المعنى أو في البيان في المستخرج دون أصله فذلك من فوائده ؛ وبالنظر إلى بعض هذه المعاني كان (صحيح البخاري) أحق بالاستخراج عليه من (صحيح مسلم ) ، وباعتبار غيرها من المعاني يكون العكس صحيحاً .
ولا تختص المستخرجات بالصحيحين فقد استخرج جماعة على (سنن أبي داود) و(سنن الترمذي) و(التوحيد) لابن خزيمة ، و(مستدرك الحاكم) و(معرفة علوم الحديث) له ، وغير ذلك .
ومما يستحق التنبيه عليه هو أن المستخرجات تشبه (كتب الفوائد) إلى حد ما في كثير من معانيها ، لأن أصحاب الأصول المستخرج عليها أئمة جهابذة في الغالب أيضاً .
المستدرَك :
بعضُ المعاصرين جعل هذه الكلمة من مصطلحات المحدثين وراح يعرّفها ويقارنُ بينها وبين كلمة المستخرج ويذكر مسائل أخرى ؛ وهذا صنيع لا يخلو من نظر ؛ فإن هذه الكلمة إنما هي اسم لكتاب أبي عبد الله الحاكم الذي كان من شرطه فيه أن يذكر أحاديث صحيحة لم يذكرها الشيخان ، ولا ذكرها واحد منهما ، وهي - بحسب ما يرى الحاكم - على شرطهما أو شرطِ أحدهما ، أو هي صحيحة وليست على شرط واحد منهما ، فيذكرها مع التنصيص على الشروط التي تطابقها ، فيصف الحديث عقب إخراجه بأنه (على شرط الشيخين) ، أو بأنه (على شرط البخاري) ، أو بأنه (على شرط مسلم) ، أو يقول: (حديث صحيح)، ويسكت.
نعم هناك مستدركات أخرى ، ولعل في وجودها - وإن لم تشتهر - بعض تأييد لمذهب من يعد هذه الكلمة اصطلاحاً حديثياً .
مستقيم :
انظر (مستقيم الحديث) .(5/94)
مستقيم الحديث :
أي ثقة مقبول الحديث في الجملة ، ويؤْثر عدد من العلماء المحققين استعمال هذه الكلمة على كلمة صحيح الحديث ونحوها ، لأن المراد بقولهم (أحاديثه مستقيمة) هو أنه يرويها كما سمعها وإن كان فيها ما لا يثبت مما ليس هو علته ، أي أن الخلل لا يأتي من جهته ، وإنما يأتي من جهة بعضِ مَن هو فوقه أو دونه في الأسانيد.
فإن قيل : أليس كلمة (أحاديثه صحيحة) تؤدي هذا المعنى أيضاً ؟ فجوابُ ذلك أنَّ بينَهما فرقاً ، فـ(أحاديثه صحيحة) قد يُفهم منها أنَّ كلَّ ما يرويه فهو صحيح لا خلل فيه لا من جهته ولا من جهة غيره ، أو أن الغالب على مروياته كذلك؛ ثم إن كلمة (مستقيم الحديث) أوسع وأعم معنى من كلمة (صحيح الحديث) ، فالتعبير بها أسهل على الناقد من التعبير بهذه ، إذ معناها على ما يظهر أنه مقبول الحديث في الجملة، سواء كان ثقةً أو صدوقاً أو قريباً من ذلك .
ويكثر في كلام طائفة من النقاد نحوُ قولهم (فلان إذا روى عنه الثقات فأحاديثه مستقيمة) ، وهو شبيه بقولهم (إذا روى عنه الثقات فهو ثقة) ، وبقولِهم (إذا روى عنه الثقات فأحاديثه صحيحة) ؛ والمراد أنه ثقةٌ ولكن لا تبينُ وثاقته إلا إذا روى عنه الثقات ، وأن ما في أحاديثه من نكارة فذلك مِن قِبَل الرواة الضعفاء عنه، ويكونون في الغالب هم الأكثر في مثل هذه الحال التي قيلت العبارة في وصفها.
تنبيه : عدّ الدكتورُ الفاضل أبو بكر بن الطيب كافي في (منهج الإمام أحمد في التعليل) (ص669) هذه الكلمة في جملة ألفاظ التوثيق النادرة أو قليلة الاستعمال عند الإمام أحمد ، وقال : (تعد هذه العبارة من العبارات القليلة الاستعمال عند نقاد الحديث) ؛ وأنا أرى أن في هذه الدعوى نظراً ؛ فإن هذه العبارة كثيرة الورود على ألسنتهم ، وكذلك مشتقاتها ، مثل (أحاديثه مستقيمة) .(5/95)
مُستلٌّ :
إذا طبع قسم من الكتاب أو فصلٌ من فصوله أو بابٌ من أبوابه مفرداً ، أو جُعل مقالةً منشورة مع مقالات أخرى فإنهم قد اصطلحوا على وصف ذلك القدر الذي طُبع دون أصله بأنه (مستل).
المستملي :
المستملي هو طالب الإملاء من الشيخ ؛ يقال : استملاه الكتاب أي سأله أن يمليه عليه .
قال العلامة المحدث الأديب أحمد محمد شاكر في (شرح ألفية السيوطي) (ص127-128) :
(كان بعض الشيوخ الكبار من المحدثين يقصدهم الطالبون ويحرصون على الرواية عنهم فيعظم الجمع في مجالسهم جداً ، حتى يصعب على الشيخ إسماع كل الحاضرين ، فكان لكل واحد من هؤلاء شخص - أو أكثر - يُسمِع باقي المجلس ، ويسمى هذا مستملياً ).
قلت: وإنما سمي مستملياً ، هكذا بصيغة الطلب، لأنه يسأل الشيخ الإملاء عليه وعلى مَن حضر، فهو يفتتح المجلس بما يناسب ، ثم يقول للشيخ : من ذكرتم؟ أو نحو ذلك من العبارات الدالة على طلب البدء بالإملاء، طلباً يكون غالباً محفوفاً بالأدب الجمِّ وتوقيرِ الشيخ(1) .
ثم قال الشيخ أحمد شاكر : (فإذا كان الراوي لم يسمع لفظ الشيخ وسمعه من المستملي وكان الشيخ يسمع ما يمليه مستمليه - : فلا خلاف في جواز الرواية عن الشيخ ، لأنه يكون من باب الرواية بالقراءة على الشيخ .
وأما إن كان الشيخ لا يسمع ما يقوله المستملي ، فقد اختلف في ذلك : فذهب جماعة من المتقدمين وغيرهم إلى أنه يجوز للراوي أن يرويه عن الشيخ . وقال غيرهم : لا يجوز ذلك ، بل على الراوي أن يبين أنه سمعه من المستملي ؛ وهذا القول رجَّحه ابنُ الصلاح ؛ وقال النووي : إنه الصواب الذي عليه المحققون .
__________
(1) فالمستملي هو مستملٍ بالنسبة للشيخ ، وهو بالنسبة للطلاب ممْلٍ ، لأنه يُملي عليهم ، وغلبت عليه التسمية الأولى ؛ أو يقال : هو عندهم مستملٍ أيضاً لأنه يستملي الشيخَ لهم .(5/96)
والقول الأول - بالجواز - هو الراجح عندي ؛ ونقل الناظم هنا وفي (التدريب) أنه هو الذي عليه العمل ، لأن المستملي يُسمع الحاضرين لفظ الشيخ الذي يقوله ، فيبعد جداً أن يحكي عن شيخه - وهو حاضر في جمع كبير - غيرَ ما حدث به الشيخ ، ولئن فعل ليَرُدَّنَّ عليه كثيرون ممن قَرُبَ مجلسهم من شيخهم وسمعوه وسمعوا المستملي يحكي غير ما قاله ؛ وهذا واضح جداً ) .
مستو :
أي مستقيم ، قال الخطيب في (الكفاية) (باب ما جاء في ترك السماع ممن اختلط وتغير) (ص136) : (أخبرنا الحسن بن أبي بكر قال : انا أحمد بن سلمان النجاد قال ثنا جعفر بن أبي عثمان قال : سمعت يحيى بن معين يقول : قلت لوكيع بن الجراح : تحدث عن سعيد بن أبي عروبة وإنما سمعتَ منه في الاختلاط ! قال : رأيتَني حدثتُ عنه إلا بحديث مستو ) .
مستور :
لقد تعددت الأقوال في تعريف المستور ، حتى قال الصنعاني في (توضيح الأفكار) (1/182) عقب نقله أقوالهم في ذلك : (فهذا اضطراب في تفسير المستور ينبغي تحقيقه )(1) .
قيل في تعريف المستور: هو مجهول الحال ، أي من روى عنه أكثر من واحد ولم يوثَّق ، وهو اصطلاح ابن حجر في (تقريب التهذيب) وغيرِه من كتبه ، فقد قال في مقدمة (التقريب) وهو يذكر مراتب الرواة : (السابعة : من روى عنه أكثر من واحد ولم يوثَّق ، وإليه الإشارة بلفظ مستور أو مجهول الحال)(2).
وقال في (نزهة النظر) (ص53) : « وإن روى عنه [يعني عن الراوي] اثنان فصاعداً ولم يوثَّق فهو مجهول الحال وهو المستور».
__________
(1) وانظر تعليق الدكتور أحمد معبد على (النفح الشذي) (1/228-229) .
(2) وانظر (منهج دراسة الأسانيد والحكم عليها) للدكتور وليد العاني رحمه الله (ص40 وما بعدها) .(5/97)
وسبقه إلى هذا الاصطلاح ابن القطان فقد قال في (بيان الوهم والإيهام) قال (4/13) (ونعني بالحسن ما له من الحديث منزلةٌ بين منزلتي الصحيح والضعيف ، ويكون الحديث حسناً هكذا ، إما بأن يكون أحد رواته مختلفاً فيه ، وثَّقه قوم وضعفه آخرون ، ولا يكون ما ضُعِّف به جرحاً مفسراً ، فإنه إن كان مفسَّراً قُدِّم على توثيق من وثَّقه(1) ، فصار به الحديث ضعيفاً ؛ وإما أن يكون أحد رواته إما مستوراً وإما مجهول الحال ، ولنبين هذين القسمين .
فأما المستور فهو من لم تثبت عدالته لدينا ممن روى عنه اثنان فأكثر ، فإنَّ هذا يَختلف في قبول روايته من لا يَرى رواية الراوي العدل عن الراوي تعديلاً له .
فطائفة منهم يقبلون روايته ، وهؤلاء هم الذين لا يبتغون على الإسلام مزيداً في حق الشاهد والراوي بل يقنعون بمجرد الإسلام مع السلامة عن فسق ظاهر ، ويتحققون إسلامه برواية عدلين عنه ، إذ لم يُعهَد أحد ممن يتدين يَروي الدينَ إلا عن مسلم .
وطائفة يردّون روايتَه ، وهؤلاء هم الذين يبتغون وراء الإسلام مزيداً ، وهو عدالة الشاهد أو الراوي .
وهذا كله بناء على أن رواية الراوي عن الراوي ليست تعديلاً له ، فأما من رآها تعديلاً له فإنه يكون بقبول روايته أحرى وأولى ما لم يثبت جرحه .
والحقّ في هذا أنه لا تُقبل روايته ، ولو روى عنه جماعة ، ما لم تثبت عدالتُه ، ومَن يُذكَرُ في كتب الرجال براية أكثر من واحد عنه مهملاً من الجرح والتعديل ، فهو غير معروف الحال عند ذاكرِه بذلك ، وربما وقع التصريح بذلك في بعضهم ) .
__________
(1) إنما يقدم التجريح على التوثيق إذا كان التوثيق أقل تفسيراً وليس متضمناً لإبطال التجريح أو تهوين أمره وتقليل أثره .(5/98)
وقال في موضع آخر من كتابه في بيان أحكام من سكت عليهم ابن أبي حاتم في كتابه (الجرح والتعديل) : (قسم لم يرو عن أحدهم إلا واحد ، فهذا لا تُقبل روايتُه ، وقسم روى عنهم أكثر من واحد ، فهؤلاء هم المساتير الذين اختُلف في قبول رواياتهم ، فطائفة من المحدثين تقبل رواية أحدهم اعتماداً على ما ثبت من إسلامه برواية عدلين عنه شريعة من الشرائع ، وما عهدناهم يروون الدين والشرع إلا عن مسلم ، وهم لا يبتغون في الشاهد والراوي مزيداً على إسلامه ، بل يقبلون منها ما لم تتبين جرحة فيعمل بحسبها ؛ وطائفة ردت هذا النوع ، وهم الذين يلتمسون في الشاهد والراوي مزيداً على إسلامه وهو العدالة).
وقال في موضع ثالث : (المستورون من روى عن أحدهم اثنان فأكثر ولم تُعلم مع ذلك أحوالهم ) .
وقال الصنعاني في (توضيح الأفكار) (1/162-163) : (فسر الحافظ ابن حجر في "التقريب" المستورَ بقوله "بأنه من روى عنه أكثر من واحد ولم يوثق" ؛ قال : وإليه الإشارة بلفظ مستور أو مجهول الحال .
وفي شرح ملا قاري للنخبة وشرحها لابن حجر : أن المستور الذي لم يتحقق عدالته ولا جرحه ، وقال السخاوي : المستور الذي لم يُنقل فيه جرح ولا تعديل ؛ وكذا إذا نُقلا ولم يترجح أحدهما .
وفي حاشية تلميذه(1) أن الراوي إذا لم يسم - كرجلٍ - سُمِّي مبهماً ، وإن ذُكر مع عدم تمييز فهو المهمل ، وإن لم يتميز ولم يَرو عنه إلا واحد فمجهول ، وإلا فمستور ، انتهى ؛ ويأتي للمصنف كلام في المستور غير هذا ) .
ثم قال (ص181 وبعدها) : (قال المصنف : فأما المستور فإنه مظنون العدالة ، ولو لم يكن كذلك لم يتميز منه المجهول .
قدمنا لك تفسير المستور من كلام ملا علي قاري في "شرح شرح النخبة" .
__________
(1) المراد تلميذ ابن حجر ، وهو ابن قاسم الحنفي .(5/99)
وقال الحافظ ابن حجر في مراتب الرواة في خطبة "التقريب" : السابعة من روى عنه أكثر من واحد ولم يوثق وإليه الإشارة بمستور أو مجهول الحال ، انتهى ، فظاهره أن المستور هو المجهول حاله ، والمصنف قال : هو مظنون العدالة لكنه غير مخبور خبرة توجب سكون النفس الذي يسميه كثير من المحدثين علماً وهو الظن القوي ، وقد ورد تسميته بالعلم كثيراً في مثل قوله تعالى - حكايةً عن إخوة يوسف حيث حكوا لأبيهم أن أخاهم سرق - : (وما شهدنا إلا بما علمنا) ، فإنهم لم يعلموا سرقته لصواع الملك قطعاً ، بل ظنوه لما وُجد في متاعه ، فسموه علماً ، وهذا كلام صحيح لكنه لا يناسبه قول الحافظ ابن حجر إن المستور من لم يوثَّق ، فمن أين حصل لنا ظن عدالته حتى نطلقها عليه ونحصل له ما يطلق عليه لفظ العلم ؟
في كتاب ابن الصلاح قسمة المجهول إلى مجهول العدالة ظاهراً وباطناً ، قال : وروايته غير مقبولة عند الجماهير ؛ ثم قال : الثاني المجهول الذي جُهلت عدالته الباطنة وهو عدل في الظاهر وهو المستور ؛ وقد قال بعض أئمتنا : المستور من يكون عدلاً في الظاهر ولا تعرف عدالة باطنة ، فهذا المجهول يَحتج بروايته بعض من رد رواية الأول ، يريد بالأول المجهول العدالة ظاهراً وباطناً ، وهو قول بعض الشافعية ، وبه قطع الإمام سليمان بن أيوب الرازي ، قال : لأن أمر الأخبار مبني على حسن الظن بالراوي ، إلى آخر كلامه .
وكلام المصنف قاضٍ بأن المستور عدلٌ يحصل بخبره ظن ضعيف ، بخلاف الظن الحاصل عن العدل المحققة عدالته ، فإنه يحصل عن خبره ظن قوي يُطلق عليه العلم ؛ وكلام الحافظ ابن حجر أنه لم يوثق ؛ وكلام ابن الصلاح أنه العدل في الظاهر .
قلت : ولا يخفي أن العدالة إنما تعرف ظاهراً بالمحافظة على خصالها ، وأما الباطن فلا يعلمه إلا الله تعالى ، فهذا اضطراب في تفسير المستور ينبغي تحقيقه ) .(5/100)
قلت : لا يخفى أنه ليس مرادهم بالخبرة الباطنة علم ما في القلب وعلم كل أمور ذلك الراوي على حقائقها المفصلة ، ولكن المراد الخبرة المعمقة الواسعة المفصلة الكافية للاطمئنان إليها والاستناد عليها في الحكم على ذلك الراوي .
ثم قال الصنعاني : (واعلم أن الذي في كتب الأصول رسم العدالة باجتناب كبائر المقبحات وما فيه خسة والإتيان بالواجبات ولم يذكروا باطنه ولا ظاهره .
قالوا : واختُلف في رواية المجهول ، ويطلق عندهم على مجهول العدالة أو الضبط أو النسب أو الاسم ، ونقلوا عن الحنفية وآخرين قبوله ، واستدلوا على أن الأصل في دار الإسلام هو الإسلام والأصل في المسلم هو القيام بالوظائف وهو معنى العدالة ، وهو قياس من الشكل الأول ينتج أن الأصل هو القيام بالوظائف ، وهو معنى العدالة ، وحينئذ فلا مجهول بل كل مسلم عدل ، ورد بمنع الكبرى مسنداً بأن الأصل هو الغالب ، والفسق في المسلمين أغلب من الإيمان ، لقوله تعالى (وقليل ما هم) ، (وقليل من عبادي الشكور) ، (وما أكثر الناس ولو حرصتَ بمؤمنين) ، وغير ذلك ، ولأنه المشاهد في كل عصر ، والفرد المجهول يجب حمله على الأعم الأغلب ، ولهذا يُرَدُّ مَن غلب سهوه على حفظه اتفاقاً ، ورجحوا المجاز على الاشتراك لغلبته ، فغلبة الفسق مظنة للفسق ، وحكم المظنة حكم المئنة ، بل ضبط الشارع الأحكام بالمظنة ، ويأتي بقية الكلام على المسألة في محلها وإنما هذا تنبيه على أن الذي ذكره المصنف من أن المستور هو العدل عدالةً تفيد ظناً قوياً وأن خبره حسن ، وأن العدل في رواة الصحيح يشترط قوة عدالته بحيث يفيد ظناً قوياً يسمى علماً شيء تفرد به لم يذكره أئمة الأصول ، كما انفرد ابن الصلاح بقوله إن عدالة المستور ظاهرة وعدالة غيره ظاهرة وباطنة ، وذكر الرافعي في الصوم أن العدالة الباطنة هي التي يُرجع فيها إلى أقوال المزكين) اهـ .(5/101)
وقال صاحب (تنقيح الأنظار) (1/183 شرح) : (وقد ورد المستور في عبارات أصحابنا والمراد به العدل كما استعمل ذلك أهل الحديث) .
وأما حكم رواية المستور فقد اختلفت أقوالهم فيه أيضاً، وقد تقدم بعضُ تفصيلِ ذلك في كلام ابن القطان ، وعزا ابن حجر في (شرح النخبة) القول بردها إلى الجمهور، ثم قال: « والتحقيق أن رواية المستور ونحوه مما فيه الاحتمال لا يطلق القول بردها ولا بقبولها، بل يقال: هي موقوفة إلى استبانة حاله ، كما جزم به إمام الحرمين ».
قال د. أحمد معبد في حاشية (النفح الشذي) (1/230): « وما حققه الحافظ ابن حجر من التوقف نقلاً عن إمام الحرمين فيه نظر، فإن الذي يُفهم من باقي كلام إمام الحرمين: أن التوقف في رواية المستور يكون في بداية الأمر قبل تمام البحث عن حاله، فإذا انتهى بحثنا إلى اليأس من معرفة حاله رددنا حديثه كما هو رأي الجمهور».
أقول: كأن الخلاف بين ابن حجر والجمهور في هذه القضية لفظي لا معنوي، فإنَّ التوقفَ مؤدّاه الامتناع عن العمل بالرواية، وهو بمعنى ردِّها .
وقال ابن حجر في تعريف الحسن لغيره في (نزهة النظر) (ص71 - شرح القاري) : « وهو الذي يكون حسنه بسبب الاعتضاد نحو حديث المستور إذا تعددت طرقه ».
وقال في (النخبة) : « ومتى توبع السيء الحفظ بمعتبر - وكذا المستور والمرسل والمدلس - صار حديثهم حسناً لا لذاته، بل بالمجموع ».(5/102)
والحاصل أنَّ ابن حجر يقوي حديث المستور أو مجهول الحال بكثرة طرقه غير المتروكة(1) ، ولكن الشيخ أحمد شاكر رحمه الله خالف في هذا الأمر في (الباعث الحثيث) حيث قال (ص106) وهو يتكلم على مراتب (التقريب): « وما بعدها [الضمير عائد للمرتبة الرابعة] فمن المردود، إلا إذا تعددت طرقه مما كان من الدرجة الخامسة والسادسة فيتقوى بذلك ويصير حسناً لغيره، وما كان من السابعة إلى آخرها فضعيف على اختلاف درجات الضعيف من المنكر الى الموضوع » .
ولقد وافقه عبد الفتاح أبو غدة ، وخالفه الشيخ أبو الحسن المأربي في (إتحاف النبيل) فقال فيه (1/66) : « وقد حدث خطأ أو سبق قلم من الشيخ أحمد شاكر - رحمه الله تعالى - حين ذكر أن المجهول والمستور والضعيف لا يستشهد بهم، كما في (الباعث الحثيث) (ص101) ، وهذا خطأ لأن الواضح من صنيع الشيخ رحمه الله أنه يستشهد بهؤلاء، بل وأقل من هؤلاء » .
المسطرة :
انظر (السطر) .
مسطرة الكتاب :
أي عدد سطور الصفحة الواحدة منه، وطول السطر ، والمسافة من أول سطر في الصفحة إلى آخره.
__________
(1) ولكن قال محمد عوامة: « كأن الحافظ يحسن حديث المستور في المجال التطبيقي كما هو الحال عند الحنفية وصار إليه الشافعية أخيراً ». انظر فهرس (الكاشف) (ص555) وتعليقه على الترجمة (5622) من (الكاشف).(5/103)
مسلسل :
الحديث المسلسل هو الحديث الذي يتكرر في سنده معنى واحد ، إما في صيغ الأداء كالمسلسل بالتحديث ، أو في أسماء الرواة كالمسلسل بالمحمدين ، أو في أنسابهم كالمسلسل بالقرشيين أو بالمكيين ، أو في أوصافهم كالمسلسل بالفقهاء ، أو في كيفيات تحملهم الحديث ، كالمسلسل بالأولية(1) ، أو كيفيات أدائهم له ، كالتبسم فيه ، أو مصافحة الشيخ للتلميذ ، أو سائر أحوالهم وأفعالهم حال التحمل أو الأداء(2).
وكتب المسلسلات هي الكتب التي تجمع الأحاديث المسلسلة بأسانيدها .
ذكر الخطيب في (الكفاية) (ص284) بعض صيغ الأداء وذكر لفظة (سمعت) ، ثم قال : (وربما اتصل ذلك بحميع رجال الإسناد في حديث واحد ، فيسميه أصحابُ الحديثِ المسلسلَ ؛ مثاله أني سمعت أبا الحسن علي بن عبد العزيز الطاهري يقول سمعت أبا بكر أحمد بن جعفر بن سلم الختلي يقول سمعت الفضل بن الحباب الجمحي يقول سمعت عبد الرحمن بن بكر بن الربيع بن مسلم يقول سمعت محمد بن زياد يقول سمعت أبا هريرة يقول : سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وآله وسلم يقول : الولد للفراش وللعاهر الحجر) .
المسمِّع :
هو الراوي الذي يَسْمَع الطلاب منه مروياته، ويأخذونها عنه، ويقرّ ما يكتبونه على نسخهم من السماعات.
مُسنِد :
كلمة المُسنِد - بكسر النون - أكثر ما تطلق على الراوي الذي يقتصر على سماع الأحاديث وإسماعها ، من غير معرفة بعلومها أو إتقان لها ، ولذلك قيل: هو دون من يوصف بأنه محدث .
قلت: ولكن لا يشترط في تسمية الشيخ مسنِداً تجردُه من المعرفة المذكورة؛ ومن طريقة أصحاب كتب التراجم أنهم كثيراً ما يعطفون هذه الأوصاف بعضها على بعض، فيقولون مثلاً : المحدث المسند الحافظ الناقد ---- الخ .
__________
(1) أي أن يكون الحديث أول حديث يسمعه الراوي من شيخه.
(2) أو يقال في تعريف الحديث المسلسل : هو الحديث الذي يتكرر في سنده ، عند كل راوٍ من رواته ، حالةٌ واحدة أو معنى واحد أو لفظ واحد ، أو طريقة واحدة.(5/104)
ثم وجدت العلامة خليل بن أيبك الصفدي يقول في خطبة (الوافي بالوفيات) (1/34) في تعريف (المسنِد) : (من عُمِّر وأكثر الرواية) .
مسنَد :
الحديث المسند يراد به الحديثُ المرويُّ بإسنادٍ متصلٍ أو ظاهره الاتصال ، أو يراد به الحديث المرفوع غير المرسل(1) ، أو الحديث المرفوع مطلقاً مرسلاً كان أو مسنداً ؛ والمعنيان الأولان أغلب وأشهر.
قال الخطيب في (الكفاية) (ص21) في باب (معرفة ما يستعمل أصحابُ الحديث من العبارات في صفة الأخبار وأقسام الجرح والتعديل مختصراً ) : (وصفهم للحديث بأنه مسنَد يريدون أن إسناده متصلٌ بين راويه وبين من أسندَ عنه ، إلا أن أكثر استعمالهم هذه العبارة هو فيما أُسند عن النبي صلى الله عليه وسلم خاصّةً .
واتصال الإسناد فيه : أن يكون واحد من رواته سمعه مِمن(2) فوقه حتى ينتهى ذلك الى آخره وإن لم يبين فيه السماع بل اقتصر على العنعنة .
وأما المرسل فهو ما انقطع إسناده ، بأن يكون في رواته مَن لم يسمعه ممن فوقه .
إلا أن أكثر ما يوصف بالإرسال من حيث الاستعمال ما رواه التابعي عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ وأما ما رواه تابع التابعي عن النبي صلى الله عليه وسلم فيسمونه المعضَل ، وهو أخفض مرتبة من المرسل .
والمرفوع ما أخبر فيه الصحابي عن قول الرسول صلى الله عليه وسلم أو فعله .
والموقوف ما أسنده الراوي إلى الصحابي ولم يتجاوزه .
والمنقطع مثل المرسل إلا أن هذه العبارة تستعمل غالباً في رواية من دون التابعي عن الصحابة ، مثل أن يروي مالك بن أنس عن عبد الله بن عمر ، أو سفيان الثوري عن جابر بن عبد الله ، أو شعبة بن الحجاج عن أنس بن مالك ، وما أشبه ذلك .
وقال بعض أهل العلم بالحديث : الحديثُ المنقطع ما روى عن التابعي ومن دونه موقوفاً عليه ، من قوله أو فعله) .
__________
(1) أعني الذي لم يُحذف منه صحابيه.
(2) في المطبوعة (من) .(5/105)
وقال ابن حجر في (النكت) (1/507-508) : (والذي يظهر لي بالاستقراء من كلام أئمة الحديث وتصرفهم أن المسند عندهم : ما أضافه مَن سمع النبيَّ صلى الله عليه وسلم إليه بسند ظاهره الاتصال .
فـ(من سمع) أعم من أن يكون صحابياً أو تحمل [حال] كفره وأسلم بعد النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لكنه يُخرج من لم يسمع ، كالمرسل والمعضل .
و (بسند) يُخرج ما كان بلا سند ، كقول القائل من المصنفين : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فإن هذا من قبيل المعلق .
و (ظهور الاتصال) يُخرج المنقطع ، لكن يدخل منه ما فيه انقطاع خفي كعنعنة المدلس والنوع المسمى بالمرسل الخفي ، فلا يخرج ذلك عن كون الحديث يسمى مسنداً(1) ؛ ومن تأمل مصنفات الأئمة في المسانيد لم يرها تخرج عن إعتبار هذه الأمور .
وقد راجعت كلام الحاكم بعد هذا فوجدت عبارته : (والمسند ما رواه المحدث عن شيخ يَظهر سماعه منه لسن يحتمله ، وكذلك سماع شيخه من شيخه ، متصلاً إلى صحابي [مشهور](2) ، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فلم يَشترط حقيقةَ الاتصال بل اكتفى بظهور ذلك ، كما قلتُه تفقهاً ولله الحمد .
وبهذا يتبين الفرق بين الأنواع وتحصل السلامة من تداخلها واتحادها ، إذ الأصل عدم الترادف والاشتراك ؛ والله أعلم(3).
__________
(1) أي (لا يَخرج الحديثُ بذلك عن كونه يسمى مسنَداً).
(2) هذا النص في (معرفة علوم الحديث ) للحاكم (ص17) ، وفيه هنا زيادة (مشهور) بعد كلمة (صحابي) .
(3) ليس هذا الأصل واضحاً جدّاً بحيث يكفي للترجيح عند الاختلاف في تفسير اصطلاحات المحدثين ، فاصطلاحاتهم يقع بينها كثير من الاختلاف والتداخل والاشتراك والتفاوت ؛ نعم ، قد قد يكون من القريب أن يقال : هذا الأصل يمكن نسبته لكل عالم على حِدة ، أي يقال : إن الأصل في اصطلاحات العالم الواحد عدم الترادف والاشتراكِ .(5/106)
وأمثلة هذا في تصرفهم كثيرة ، من ذلك : قال ابن أبي حاتم : سألت أبي عن خالد بن كثير يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : ليست له صحبة ؛ قال : فقلت : إن أحمد بن سنان أخرج حديثه في المسند ؟! فقال أبي : خالد بن كثير من أتباع التابعين فكيف يخرج حديثه في المسند ؟!
وقال البيهقي عقب حديث رواه من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء عن النبي صلى الله عليه وسلم : هذا حديث غير مسند ). انتهى.
قلت : وأسند الخطيب في (الجامع) (2/284) إلى أبي نعيم أنه قال لمحمد بن يحيى بن كثير : (سلْني ولا تسلني عن الطويل ولا المسنَد ، أما الطويل فكنا لا نحفظه ، وأما المسنَد فكان الرجل إذا والى بين حديثين مسندين رفعنا إليه رؤوسنا استنكاراً لما جاء به )(1) .
__________
(1) ذكر الخطيب قبل هذا كلاماً يتعلق به وهو كالتمهيد أو كالشرح له ، أنقله هنا لأهميته . قال : (من العلماء من يختار تصنيف السنن وتخريجها على الأحكام وطريقة الفقه ، ومنهم من يختار تخريجها على المسند وضمِّ أحاديث كل واحد من الصحابة بعضها إلى بعض .
فينبغي لمن اختار الطريقة الأولى أن يجمع أحاديث كل نوع من السنن على انفراده فيميز ما يدخل في كتاب الجهاد عما يتعلق بالصيام ، وكذلك الحكم في الحج والصلاة والطهارة والزكاة وسائر العبادات وأحكام المعاملات . ويفرد لكل نوع كتاباً ويبوب في تضاعيفه أبواباً يقدم فيها الأحاديث المسندات ، ثم يتبعها بالمراسيل والموقوفات ومذاهب القدماء من مشهوري الفقهاء ، ولا يورد من ذلك إلا ما ثبتت عدالة رجاله واستقامت أحوال رواته .
فإن لم يصح في الباب حديث مسند اقنصر على ايراد الموقوف والمرسل ؛ وهذان النوعان أكثر ما في كتب المتقدمين ، إذ كانوا لكثير من المسندات مستنكرين) .(5/107)
وقال ابن حجر في (النكت) (1/506) بعد كلام له : (وأما ابن عبد البر فلا فرق عنده بين المسند والمرفوع مطلقاً فيلزم على قوله أن يتحد(1) المرسل والمسند ، وهو مخالف للمستفيض من عمل أئمة الحديث في مقابلتهم بين المرسل والمسند ، فيقولون : أسنده فلان وأرسله فلان(2) .
__________
(1) أي أحياناً .
(2) قلت : هذا فيه نظر فابن عبد البر أيضاً يقابل بين المرسل والمسند ، فقد قال في خطبة (التمهيد) (1/292 - موسوعة شروح الموطأ) : (فإني رأيت كل من قصد إلى تخريج ما في (موطأ مالك بن أنس) رحمه الله من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قصد بزعمه إلى المسند ، وأضرب عن المنقطع والمرسل ؛ وتأملت ذلك في كل ما انتهى إليَّ مما جُمع في سائر البلدان وأُلِّف على اختلاف الأزمان فلم أر جامعيه وَقفوا عند ما شرطوه ولا سلم لهم في ذلك ما أمَّلوه ، بل أدخلوا من المنقطع شيئاً في باب المتصل ، وأتوا بالمرسل مع المسنَد) .
ثم قال : (وأصل مذهب مالك رحمه الله والذي عليه جماعة أصحابنا المالكيين أن مرسل الثقة تجب به الحجة ويلزم به العمل كما يجب بالمسند سواء).
ثم قال (1/305) : (والروايات في مرفوعات "الموطأ" متقاربة في النقص والزيادة ؛ وأما اختلاف رواته في الإسناد والإرسال والقطع والاتصال----) إلخ .
ثم قال (1/307) : (باب معرفة المرسل والمسند والمنقطع والمتصل والموقوف ومعنى التدليس : هذه أسماء اصطلاحية وألقاب اتفق الجميع عليها وأنا ذاكر في هذا الباب معانيها إن شاء الله).
ثم قال (1/312) : (فأما المرسل فإن هذا الاسم أوقعوه بإجماع على حديث التابعي الكبير عن النبي صلى الله عليه وسلم----؛ وكذلك من دون هؤلاء مثل سعيد بن المسيب و----، ومن كان مثلهم من سائر التابعين الذين صح لهم لقاء جماعة من الصحابة ومجالستهم ، فهذا هو المرسل عند أهل العلم؛ ومثله أيضاً مما يجرى مجراه عند بعض أهل العلم مرسل مَن دون هؤلاء ، مثل حديث ابن شهاب وقتادة وأبي حازم ويحيى بن سعيد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، يسمونه مرسلاً كمرسل كبار التابعين ؛ وقال آخرون: حديث هؤلاء عن النبي صلى الله عليه وسلم يسمى منقطعاً لأنهم لم يلقوا من الصحابة إلا الواحد والاثنين وأكثر روايتهم عن التابعين ، فما ذكروه عن النبي صلى الله عليه وسلم يسمى منقطعاً ) .
ثم قال : (المنقطع عندي كل ما لا يتصل ، سواء كان يعزى إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى غيره ؛ وأما المسند فهو ما رفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم خاصة ؛ فالمتصل من المسند مثل مالك عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ومالك عن ابن شهاب عن سالم بن عبدالله عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم ----؛ والمنقطع من المسند مثل مالك عن يحيى بن سعيد عن عائشه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وعن عبد الرحمن بن قاسم عن عائشه عن النبي صلى الله عليه وسلم ---- ؛ فهذا وما كان مثلَه مسندٌ ، لأنه أُسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم ورفع إليه ، وهو مع ذلك منقطع ، لأن يحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن القاسم لم يسمعا من عائشة----.
وأما المتصل جملة فمثل : مالك عن نافع وعبدالله بن دينار عن ابن عمر ، مرفوعاً أو موقوفاً).
ثم قال (1/315) : (والانقطاعُ يَدخلُ المرفوعَ وغيرَ المرفوعِ ؛ وقد ذهب قوم إلى أن المرفوع كل ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم متصلاً كان أو مقطوعاً [لاحظْ أنه استعمل المقطوع هنا بمعنى المنقطع] ، وأن المسند لا يقع إلا على ما اتصل مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، ففرقوا بين المرفوع والمسند بأن المسند هو الذي لا يدخله انقطاع ؛ وقال آخرون : المرفوع والمسند سواء وهما شيء واحد والانقطاع يدخل عليهما جميعاً والاتصال).
انتهى ما أردت جكايته من كلامه ؛ وأريد أن أشير هنا إلى مسألتين مما تقدم:
الأولى : يظهر من سياق كلام ابن عبدالبر لتعريف المسند وتعريف المرسل ومن أمثلته للمسند أنه لا يسمي مرسل التابعي مسنداً ، ولكن يسمي ما أرسله بعض صغار التابعين عن بعض الصحابة وهو مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسنداً ، كما يسمي المرفوع المتصل مسنداً.
الثانية : ابن عبد البر قد يسمي المنقطع مقطوعاً.(5/108)
وأما الحاكم وغيره ففرقوا بين المسند والمتصل والمرفوع بأن المرفوع ينظر [فيه] إلى حال المتن مع قطع النظر عن الاسناد ، فحيث صح إضافته إلى النبي صلى الله عليه وسلم كان مرفوعاً سواء اتصل سنده أم لا ؛ ومقابله المتصل فإن ينظر فيه إلى حال الإسناد مع قطع النظر عن المتن سواء كان مرفوعاً أو موقوفاً .
وأما المسند فينظر فيه إلى الحالين معاً ، فيجتمع شرط الاتصال والرفع فيكون بينه وبين كل من الرفع والاتصال عموم وخصوص مطلق ، فكل مسند مرفوع وكل مسند متصل ، ولا عكس فيهما ، على هذا رأي الحاكم ؛ وبه جزم أبو عمرو الداني وأبو الحسن ابن الحصار في (المدارك) له والشيخ تقي الدين في "الاقتراح" ). انتهى.
وبقي للفظة (مسنَد) معنيان آخران عند المحدثين :
أما المعنى الأول : فالمسنَد : هو كتاب الرواية الذي ترتَّب أحاديثه في أبوابٍ، كلُّ باب لصحابي .
أو يقال في تعريفه: هو الكتاب الذي يجمع فيه مصنفُه ما أسنده الصحابةُ ، أي رووه ، بشروط يختارها هو ، فهو اسمُ مفعولٍ ، فمعناه الكتاب المسنَد أي المسندة أحاديثه ؛ ففيه تُذكر أحاديث كل صحابي في موضع واحد من الكتاب(1) ، في مسانيد خاصة أو فصول ترتَّب على أسماء الصحابة ، أو على غير ذلك(2) .
__________
(1) هذا هو الأصل وما خرج عن ذلك فنادر ولعله بسبب عدم اكتمال تبييض الكتاب.
(2) تنبيه : بعض المسانيد كمسند الإمام أحمد فيها يسير من الأحاديث الموقوفة أو المقطوعة ، ويظهر أن ذلك لمقاصد نقدية تعليلية ، فدونك هذا المثال عليها:
ذكر الشوكاني في (الفوائد المجموعة) حديث (الربا سبعون باباً، أصغرها كالذي ينكح أمه)؛ ثم تكلم عليه؛ ومما قاله فيه: (وأخرجه أحمد في "مسنده" من حديث عبد الله بن حنظلة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد من ستة وثلاثين زنية)؛ وفي إسناده حسين بن محمد بن بهرام؛ قال أبو حاتم: رأيته ولم أسمع منه.
وأخرجه من حديث عبد الله بن حنظلة أيضاً الدارقطني، بإسناد فيه ضعف؛ وأخرجه أحمد من قول كعب موقوفاً؛ قال الدارقطني: وهذا أصح من المرفوع. انتهى.
ولم يصب ابن الجوزي بإدخال هذا الحديث في "الموضوعات"؛ فحسين المذكور قد احتج به أهل الصحيح، وقد وثقه جماعة----).
فتعقبه العلامة المعلمي بقوله: (لكنهم حكموا عليه بالغلظ في هذا، أشار إلى ذلك الإمام أحمد، إذ روى الخبر عن حسين ثم عقبة بالرواية التي جعلته من قول كعب، وكذلك أعله أبو حاتم----).(5/109)
وكثير من المسانيد رُتبت فيها مسانيد الصحابة ، أي فصول أحاديثهم بحسب بدايات أسماء الصحابة ، وعلى حروف المعجم ، ومثلُ هذا المسنَد قد يسمى معجماً ، مثل (المعجم الكبير) للطبراني ، فهو معجم للصحابة(1)، وهو أيضاً مسندٌ يجمع كثيراً من أحاديثهم المسندة.
وبعض هذه المعاجيم فيها شيء من التراجم للصحابة(2).
__________
(1) وأدخل فيهم بعض من لا تُعرف له رواية للحديث.
(2) وأما إذا أردنا أن نوازن بين المسانيد ، فأفضل المسانيد التي وصلتنا (مسند الإمام أحمد) ، وقد طبع محققاً أكثر من طبعة ، وأفضل طبعاته القديمة طبعة العالم البارع أحمد محمد شاكر رحمه الله تعالى ، ولكنه توفي قبل إتمام عمله ، فأخرج ستة عشر جزءاً فقط ، وهي تمثل ثلث الكتاب تقريباً ؛ وإخراجه لها عمل أصيل جليل كصاحبه ؛ وقد صار هذا التخريج - في سائر أعمال صاحبه - منهاجاً للعلماء والمحققين والباحثين ، يترسمون مسار قلمه للنسج على منواله في التحقيق والتعليق والتخريج وتوثيق النصوص ، اللهم فأجره أجراً عظيماً .
ثم قامت لجنة بإشراف الشيخ شعيب الأرنؤوط بإعادة تحقيقه وتخريجه ومراجعته على بعض الأصول الخطية ، وطُبع في خمسين مجلداً ؛ وهي طبعة جيدة نافعة في الجملة .
ومن المسانيد العظيمة التي فُقدت قديماً (مسند بقي بن مخلد) ، و(مسند يعقوب بن شيبة) ، وهذا الأخير عُثر منه على قطعة يسيرة فيها مسنَد عمر بن الخطاب رضي الله عنه أو بعضه .(5/110)
وأما المعنى الثاني : فهذه اللفظة تقال أيضاً للكتاب الذي أُلحقت فيه أسانيد أحاديثه بمتونها بعد أن لم تكن الأسانيد مذكورة فيه ، كمسند الشهاب ، ومسند الفردوس ، فإنهما في الأصل متونٌ بلا أسانيد ، ثم أُسندا ، أعني وُضعت لهما الأسانيد ، بل الأصح أنهما خُرِّجت متونُهما بأسانيدها ، وذلك مِن قِبل مؤلف الأصل في الأول ، وغيرِه في الثاني(1) .
__________
(1) قال الكتاني في (الرسالة المستطرفة) (ص75-76) : (وكمسند كتاب الفردوس لأبي منصور شهردار بن شيرويه الديلمي الهمداني المتوفى سنة ثمان وخمسين وخمسمئة ، يتصل نسبة بالضحاك بن فيروز الديلمي الصحابي .
و "كتابُ الفردوس" لوالده المحدث المؤرخ سيد حفاظ زمانه أبي شجاع شيرويه بن شهردار بن شيرويه بن فنّاخُسرُو الديلمي الهمداني مؤرخ همدان المتوفى سنة تسع وخمسمئة ، أورد فيه عشرة آلاف حديث من الأحاديث القصار مرتبة على نحو من عشرين حرفاً من حروف المعجم ، من غير ذكر إسناد ، في مجلد أو مجلدين ، وسماه "فردوس الأخبار بمأثور الخطاب المخرج على كتاب الشهاب" ، أي "شهاب الأخبار" للقضاعي .
وأسند أحاديثه ولده المذكور في أربع مجلدات ، خرج سند كل حديث تحته وسماه (إبانة الشبه في معرفة كيفية الوقوف على ما في كتاب الفردوس من علامة الحروف) ، واختصره الحافظ ابن حجر وسماه "تسديد القوس في مختصر مسند الفردوس" .
وكمسند كتاب الشهاب في المواعظ والآداب وهو عشرة أجزاء في مجلد واحد ، لشهاب الدين أبي عبد الله محمد بن سلامه بن جعفر بن علي القضاعي ، نسبة إلى قضاعة شعب من معد بن عدنان ، ويقال : هو من حمير ، وهو الأكثر والأصح ، قاضي مصر ، الفقيه ، المحدث ، الشافعي ، ذي التصانيف ، المتوفى بمصر سنة أربع وخمسين وأربعمئة ، أسند فيه أحاديث كتاب الشهاب المذكور ، وهو كتاب لطيف ، له ، جمع فيه أحاديث قصيرة من أحاديث الرسول صلى عليه وسلم ، وهي ألف حديث ومئتان ، في الحكم والوصايا ، محذوفة الأسانيد ، مرتبة على الكلمات ، من غير تقيد بحرف ؛ ورتبه على الحروف الشيخ عبد الرؤوف المناوي الشافعي ---- ، وأضاف إلى ذلك بيان المخرجين في مجلد سماه "إسعاف الطلاب بترتيب الشهاب" ، والله أعلم ) اهـ .(5/111)
ويُشبه هذا السببَ في تسميةِ هذين الكتابين سببُ تسميةِ (مستخرجِ أبي عوانة على صحيح مسلم) بـ (مسند أبي عوانة) ، فكأنه لوحظ في ذلك أنه أخذ أحاديث مسلم متوناً من غير أسانيد ، ثم أسندها من غير طريق مسلم ، في الغالب .
قال زكريا الأنصاري في (شرح ألفية العراقي) (1/118) : (المسند بفتح النون : يقال لكتاب جُمع فيه ما أسنده الصحابة أي رووه ، وللإسناد كـ(مسند الشهاب) و(مسند الفردوس) أي إسناد حديثهما ----) الخ.
قلت: وإذا أُطلقت كلمة المسند على كتاب رواية في معرض عزو حديث فالأصل أن يكون المراد هو مسند الإمام المبجل أحمد بن حنبل رحمه الله، فهو أشهر المسانيد ؛ وذلك مثل أن يقول أحدهم : (هذا الحديث ليس في الصحيحين ولكنه مروي في المسند وسنن أبي داود).
هذا وقد يحصل التجوز فيسمى الكتاب المؤلف على طريقة السنن : مسنداً ، كما وقع لكتاب الدارمي ، فإن إسمه الأقدم هو (مسند الدارمي) ، فقد سمي كذلك ، مع أنه يُشبِه في ترتيب أبوابه كتب السنن ، لا كتب المسانيد ، ومع أنه يكثر فيه الآثار غير المرفوعة ، والمسند يُراعَى فيه شرط الرفع ، ولا بد .
المسنَد :
إذا أَطلق هذه الكلمة أحدٌ من المتأخرين اسماً لكتابٍ ، في تضاعيف عزو الحديث وتخريجه فالمراد هو المسند الأشهر ، مسند الإمام أحمد بن محمد بن حنبل ، إلا أن يدل السياق أو غيره من القرائن على خلاف ذلك . وتقدم ذكرُ المعاني الأخرى للمسند في عرف المحدثين .
المسند الحنبلي :
المراد به مسندُ الإمام أحمد بن محمد بن حنبل ، سماه بهذا الإسم الحافظ ابن حجر ، إذ سمى كتابَه الذي أفراده لأطرافه (إِطرافُ المسنِدِ المعتلي بأَطرافِ المسنَدِ الحنبليّ) .(5/112)
المُسْنَد المعلَّل :
المسند المعلل : هو المسند الذي يذكر فيه مؤلفه في مواضع كثيرة منه مسائل في نقد الأحاديث وتخريجها وبيان أحوال رواتها العامة أو الخاصة بذلك الحديث ، وكذلك يصرح أو يشير إلى ما يقع في بعض المرويات من تفرد غير محتمل من صاحبه ، أو نكارة .
ومن أمثلة هذا النوع من المسانيد مسند البزار ، ومسند يعقوب بن شيبة .
المُسَوَّدة :
قال المحقق الفاضل عبد السلام هارون في (تحقيق النصوص ونشرها) (ص32-33) عقب أشياء ذكرها في فصل (أصول النصوص) : (وهنا تعرض مشكلة المُسَوَّدات والمبيَّضات ، وهو اصطلاح قديم جداً ؛ ويراد بالمسوَّدة النسخة الأولى للمؤلف قبل أن يهذّبها ويخرجها سويّةً ؛ أما المبيَّضةُ فهي التي سُوِّيت وارتضاها المؤلف كتاباً يخرج للناس في أحسن تقويم .
ومن اليسير أن يعرف المحقق مسوَّدة المؤلِّف بما يشيع فيها من اضطراب الكتابة ، واختلاط الأسطر ، وترك البياض ، والإلحاق بحواشي الكتاب ، وأثر المحو والتغيير . . إلى أمثال ذلك .
ومسوَّدة المؤلف إن ورد نص تاريخي على أنه لم يُخْرِجْ غيرها كانت هي الأصل ؛ مثال ذلك ما ذكره ابن النديم(1) من أن ابن دريد صنع كتاب "أدب الكاتب" على مثال كتاب ابن قتيبة ، ولم يجرِّده من المسوَّدة.
وكتاب "البارع في اللغة" لأبي علي القالي ، قال الزبيدي : ولا نعلم أحداً من العلماء المتقدمين والمتأخرين ألَّف نظيرَه في الإحاطة والاستيعاب ، وتُوُفِّيَ قبل أن ينقِّحه ، فاستُخرِج بعده من الصكوك) إلى آخر الأمثلة التي ضربها ؛ وانظر (بيّض الكتاب).
المشافهة :
انظر (صيغ الأداء) .
__________
(1) الفهرست (ص92) .(5/113)
مشّاه :
يستعمل بعض النقاد كالذهبي عبارة (مشّى فلانٌ فلاناً) أو (مشّى أحاديثَه) ، بمعنى أنه قَبل ذلك الراوي أو كتب عنه أو عدَّله رغم ما فيه من كلام ، وكذلك قولهم (مشى فلان عنعنة فلان عن فلان) أي قبلها وحكم لها بالاتصال رغم أنه موصوف بالتدليس(1) .
مشبَّه :
تطلق لفظة المشبَّه على الحديث الحسن وما يقاربه ؛ وانظر (جيد الحديث) .
مشتبِه :
يوصف الإسم بأنه مشتيه إذا كانت صورته في الخط محتملة لأكثر من قراءة ؛ وكتب المشتبه هي كتب الأسماء التي يخشى أن يتصحف بعضها إلى بعض ، ومن أمثلتها (الإكمال) لابن ماكولا ، و(المشتبه) للذهبي ، و(توضيح المشتبه) لابن ناصر الدين الدمشقي (842هـ) و(تبصير المنتبه بتحرير المشتبه) لابن حجر (852هـ) .
مشتهر :
يوصف بلفظة (الحديث المشتهر) عند المتأخرين الحديث الذي يكثر دورانه على ألسنة عامة المسلمين أو طلبة العلوم الشرعية منهم، ولقد ألف العلماء في ذلك كتباً أشهرها وأحسنها (المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة) للحافظ السخاوي.
المشْقُ :
قال السخاوي في (فتح المغيث) (3/49-50) في بيان معنى المشق في الكتابة : (وهو خفة اليد وإرسالها مع بعثرة الحروف وعدم إقامة الأسنان ) ؛ وانظر (تعليق الخط) .
وقال أبو بكر الصولي في (أدب الكتّاب) (ص123) : (يقال: مشق في الكتاب يمشق مشقاً، إذا أسرع الكتابة، والمشق في اللغة : تأثير الشيء بسرعة ---- ؛ وكثر ذلك في كلامهم حتى صار كل مستلب شيئاً قد مشقه ---- .
__________
(1) وانظر تراجم إبراهيم بن الحكم بن أبان وإسحاق بن عبد الله بن أبي فروة وإسماعيل بن يعلى أبي أمية الثقفي وبكير بن جعفر الجرجاني وسعيد بن قطن القطعي وصباح بن موسى وعبد الله بن حكيم أبي بكر الداهري وعبد الرحمن بن أبي الزناد ويونس بن سليم في (ميزان الاعتدال) ، وترجمتي بكير بن جعفر الجرجاني ودهثم بن قران في (لسان الميزان) .(5/114)
وتقول: ترك ثوبه مشقاً ومزقاً ، إذا خرقه، وتقول: مشقت الإبل الكلأ إذا أكلت منه بسرعة ) .
ومما جاء في (القاموس المحيط) (3/292) أو شرحِه (تاج العروس) (26/392-397) ما يلي ذكرُه :
(المَشْق: سرعة في الطعن والضرب يقال: مشقَه مشْقاً : إذا طعنه ؛ وهو من حدِّ نصر .
المشْق: جذبُ الشيء ليمتد ويطول ، والسيرُ يُمشق حتى يلين .
المشْق: مد الوتر ليَلين ويُجَوَّفَ ، كما يمشق الخياط خيطه بخُرَيقة.
المشْق: مزْقُ الثوبِ ، وقد مشَقَه مشْقاً .
ويقال : المشْقُ : الأكل الضعيف ؛ يقال : مشَقَ من الطعام مشْقاً : إذا تناول منه شيئاً قليلاً .
المشْق: قلة الحَلَب .
المشْق: الطول مع الرقة وقلة اللحم ؛ وقد مشقت الجارية، كعني: قلَّ لحمها، ورقت أعضاؤها .
وفي قوائمه مشْقةٌ ، بهاء ، وهو أثر الحبل برِجل الدابة .
المشْقة : تفحُّج في قوائم ذوات الحوافر وتشحُّج ، كما في "المحكَم" .
تمشَّق عن فلان ثوبُه : أي تمزَّق .
مشق الثوبُ الجديدُ الساقَ مَشْقاً : أحرقها .
المشق في الكتابة: مدُّ حروفها، مشَقَ يمشِقُ، من حدِّ ضَرَبَ ، فيهما ) ؛ انتهى بانتقاء .
مشكل الحديث :
انظر (مختلف الحديث).
مشهور :
الحديث المشهور هو الحديث المعروف بين جمهور المحدثين لتعدد أسانيده ، أو بين عامة الناس لكثرة تداولهم إياه. وانظر (معروف) و (غريب) .
وأما الراوي المشهور فهو الراوي المعروف . انظر (مجهول) .
مشهور الحديث :
انظر (حديثه مشهور) .
مشهور بالطلب :
أي معروف بكثرة طلبه الأحاديث وحرصه على سماعها .(5/115)
وقد ذهب غير واحد من علماء الحديث إلى أن من قيل فيه : (مشهور بالطلب) فالأصل في حديثه الصحة ؛ وحجتهم في ذلك أن الكلام في الرواة جرحاً أو تعديلاً ناتجٌ عن كون الأئمة تتبعوا الرواة وحكموا عليهم حسب ما بلغهم من العلم بأحوالهم ، والمشهور بالطلب لا بد أن يكون معروف الحال بسبب شهرته ورحلته ، فلما لم يتكلموا فيه بالجرح دل ذلك على توثيقه ؛ ثم إن الاشتهار بالطلب وكثرة الاشتغال بجمع الحديث يؤدي في كثير من الأحيان إلى الضبط والاتقان ، ولكن يظهر أن هذه القاعدة لا حاجة إليها من الناحية العملية في توثيق هذا النوع من الرواة، فيبعد أن يوجد محدث مشهور بالطلب ثم لا يوجد لعلماء الجرح والتعديل فيه كلام يبين حاله ؛ ثم إن قولهم : (فلما لم يتكلموا فيه بالجرح ---- الخ) قد يقال عليه : لماذا لم يوثقوه ؟ ولا سيما أننا قد عرفنا حرص طلاب العلم قديماً على سؤال شيوخهم من أئمة الجرح والتعديل عن أحوال الرواة عامة والمشاهير منهم خاصة ، فانظر إلى صنيع تلامذة شعبة ويحيى بن سعيد القطان وابن مهدي وأحمد وعلي ويحيى بن معين وأبي زرعة وأبي حاتم ثم الدارقطني تجد مصداق ذلك واضحاً ؛ بل انظر إلى حرص البخاري - ومن تبعه كابن أبي حاتم(1) وابن حبان - على جمع كل من عرفوه من الرواة ، ثم إلى حرص ابن أبي حاتم(2) وابن عدي والخطيب البغدادي ثم أصحاب المجاميع في
__________
(1) قال ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل) (1/1/38) : { ---على انا قد ذكرنا اسامي كثيرة مهملة من الجرح والتعديل كتبناها ليشتمل الكتاب على كل من رُوي عنه العلم رجاء وجود الجرح والتعديل فيهم فنحن ملحقوها بهم إن شاء الله تعالى } .
(2) ولكن قال ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل) (1/1/38) : { قصدْنا بحكايتنا الجرح والتعديل إلى العارفين به العالمين له ، متأخراً بعد متقدم ، إلى أن انتهت بنا الحكاية إلى أبي وأبي زرعة رحمهما الله ، ولم نحكِ عن قوم قد تكلموا في ذلك لقلة معرفتهم به } .(5/116)
الجرح والتعديل كالمزي والذهبي وابن حجر على جمع كل ما قيل في الراوي من جرح وتعديل ؛ إنك إذا تأملت ذلك علمت أنه يبعد جداً أن يشتهر رجل بطلب الحديث وكثرة الاشتغال به ثم لا تجد له في هذه الكتب ترجمة مشتملة على تجريح أو تعديل ؛ هذا ما لا يكاد يكون ، وإن وُجد شيء منه فهو من غرائب الأمور وشواذها .
المشيخات :
انظر (المشيخة) .
المَشْيَخَةُ :
المشيخة في اللغة جمع شيخ .
ثم أطلقوها في الاصطلاح على الكراريس التي يجمع فيها الحديثيُّ أسماء شيوخه ، أو بعض شيوخه(1) ، مضيفاً إلى الأسماء تواريخهم أو تراجمهم أو مروياته عنهم أو ذكرَ مروياتهم وإجازاتهم أو بعض ذلك(2).
ولقد اختلفت المشيخات في شروطها في موادها ومحتوياتها ، أي في نوع المادة التي تضمنتها ، فمنها ما يُعنى بذكر تراجم الشيوخ ولا يلتفت إلى المرويات ، ومنها ما هو عكس ذلك ، ومنها ما جمع بين هذا وذاك ، ومنها ما اقتصر على مقصد واحد كذكر تاريخ وفاة الشيخ .
وكذلك اختلفت المشيخات في ترتيب محتوياتها ، وأهم أنواع ترتيبها ترتيب أسماء الشيوخ على حسب الحروف وهي معاجيم الشيوخ(3) .
وكذلك رتبتْ بعض المشيخات على حسب تاريخ وفيات الشيوخ ، فكانت ضرباً من كتب الوفيات ، أو على حسب البلدان التي دخلها صاحب المشيخة ، أو على حسب تاريخ التحمل من الشيخ .
ثم إن الترتيبَ قد يقع فيهِ بعض الاستثناءات كأن يقدَّم مَن اسمُه محمد على غيره في الكتب المرتبة على حروف المعجم ، أو يقدم أجلُّ الشيوخ على بقيتهم في الكتب المرتبة حسب الوفيات ، أو في الكتب المرتبة على تاريخ التحمل ، سواء كان سماعاً أو قراءة أو إجازة .
__________
(1) اقتصر بعض أصحاب المشيخات على نوع واحد من شيوخه ، كأن يذكر شيوخه في الإجازة فقط ، أو شيوخه من بلد واحد دون بقية البلدان .
(2) فالمشيخات إذن نوعٌ من أنواع كتب الحديث .
(3) فمعجم الشيوخ هو المشيخة المرتبة أسماءُ متَرجَميها على حسب حروف أوائلها ترتيباً معجمياً.(5/117)
هذا وكثيراً ما يطلق المتأخرون على المشيخة اسم (المعجم) ، أي معجم الشيوخ مع أن معاجيم الشيوخ قسم من المشيخات ، كما تقدم ؛ وإنما حصل ذلك التجوز لأن أكثر المشيخات المتأخرة صارت تكتب على طريقة المعاجم ، أي تكتب مرتبة ترتيباً معجمياً ؛ وهو من باب تسمية الكل بأهم أو أكثر نوع من أنواعه(1) .
وأهل الأندلس كانوا يسمون الكتاب من هذا النوع (البرنامج) ؛ وأما في القرون الأخيرة فأهل المشرق يسمونه (الثبَت) ، وأهل المغرب يسمونه (الفهرست) .
ثم المشيخة إما أن يخرِّجها صاحب المشيخة لنفسه ، أو يخرجها له شخص آخر يكون في الغالب من المعاصرين له ، أو من تلامذته ، وهو يفعل ذلك بإذن أو طلبٍ منه أعني صاحب المشيخة ؛ فيقوم بانتقائها أو بتأليفها من سماعات الشيخ ومقروءاته ومجازاته فيجمعها في مكان واحد(2) .
وقال الحافظ ابن حجر في (المعجم المفهرس)(3) (ص195) : (فصل في المشيخات ، وهي في معنى المعاجم إلا أن المعاجم يرتب المشايخ فيها على حروف المعجم في أسمائهم ، بخلاف المشيخات).
__________
(1) كما يطلق بعضهم على كل كتب الرجال اسم (كتب الجرح والتعديل) لأن كتب الجرح والتعديل أهم وأكثر كتب الرجال .
(2) وانظر مقدمة الدكتور ناجي معروف وابن أخيه الدكتور بشار عواد معروف في مقدمة تحقيقهما (مشيخة النعال البغدادي) (ص16-22) .
(3) هذا عنوان الكتاب كما هو في المخطوطة التي اعتمدها المحقق. وللكتاب عنوان آخر، ذكره السخاوي في الجواهر والدرر (2/671)، عند تعداده لمصنفات الحافظ ابن حجر، قال: «فهرست نفسه في مجلد ضخم، سمّاه: المقاصد العليات في فهرس المرويات، يعني بالقراءة، أو السماع، أو الإجازة، أو المشافهة، أو المكاتبة.
ووجدت بخطه أيضاً تسميته بالمقاصد العلية في فهرست الكتب والأجزاء المروية, انتفع الناس به».اه(5/118)
وانظر (الفهرست) ، و (البرنامج) ، و (الثبَت) (1) .
المصادر :
جمع مصدر ، وانظر (المصدر) .
المصدر :
المصدر في عرف جمهور المعاصرين هو الكتاب الذي تتخذه أصلاً لتأليفك ، أو تنقل شيئاً منه إلى مقالتك أو بحثك أو كتابك ، أو ترجع إليه في بحثك ، وهو والمرجع سواء ؛ وهذان اصطلاحان محدَثان(2) .
فإذن كلمة (مصادر الكتاب) العصرية هذه قريبة في معناها من معنى (أصول الكتاب) عند القدماء ، أعني أصوله التي نَقَل منها بعضَ ما فيها ، وهو مجموع منها ، لا أعني أصوله التي نُسخ عنها .
هذا تعريف المصدر على قول من يجعل المصدر والمرجع كلمتين مترادفتين .
وأما تعريفه على قول من يفرق بينهما فالمصدر هو الكتاب الذي هو أصل بحث الباحث ، أو الذي يكثر اعتماد الباحث عليه ، ورجوعه إليه ، ونقلُه عنه ، وما سوى ذلك يسمى مرجعاً ؛ وعلى هذا التفصيل فالمصدر ما كانت حاجة الباحث إليه أساسية ورئيسة ، والمرجع تكون الحاجة إليه فرعية أو ثانوية أو تكميلية ؛ المصدر تنقل منه ، والمرجع ترجع إليه في تحقيق نص أو تصحيح خطأ أو كشف ملتبس ، أو تعيين محتملٍ ، أو معرفة ترجمة ، أو تسهيل الوقوف على مسألة يُبحث عنها ، وأكثر ما تكون المراجع من الكتب المصنفة في علم آخر غير العلم الذي يكتب فيه ذلك الباحث الذي يرجع إليها ، أو تكون مؤلفات خدمية تسهيلية كالفهارس ونحوها .
بمثل هذا أو بقريب منه فرَّق جماعة من المعاصرين بين كلمتي (المصادر) و(المراجع) .
__________
(1) أفاض الدكتور حاتم العوني في تحقيقه لكتاب (أحاديث الشيوخ الثقات) لأبي بكر محمد بن عبد الباقي الأنصاري - وهو موضوع دراسته للدكتوراه - في بيان معنى كلمة (المشيخة) والكلمات القريبة منها في الدلالة.
(2) وقد استعملت هذه اللفظة في عرف المتقدمين بالمعنى النحوي المعروف ، وهو اسم الحدث ، أي الاسْمُ الدّالُّ على مجرَّد الحَدَث .(5/119)
قال الدكتور علي جواد الطاهر في (أصول تدريس اللغة العربية) (ص160-162) : (المصدر هو - على العموم - ما - أو من - تأخذ عنه مادة لبحثك : خبراً ، رأياً ، نصاً ... .
وهو - على الخصوص - الكتاب المعاصر لبحثك أو القريب والأقرب إلى المعاصرة ، وقُل الكتاب القديم تأليفاً تُفيد منه في بحث جديد لموضوع قديم .
وسر ذيوع هذه الصفة يرجع إلى أن البحث اقترن بالموضوعات القديمة ، وكأن الباحث هو الذي يبحث في أمور قديمة ... ، فهكذا كانت أكثر البحوث ، وهذا ما كانت الجامعات تشجع عليه ، أو تقتصر عليه ، وقد شرعتْ تُضرب عنه وتولي ((الحديث))(1) المكانة اللازمة .
وجمع المصدر : مصادر .
وإننا لدى الخصوص هذا ، أي لدى اقتران موضوع البحث بالقديم : مُلزمون بالتفريق بين كتاب وكتاب ، بمعنى كتاب قديم سميناه "المصدر" ، وكتاب جديد أُلِّف حديثاً ، أو متأخراً ، في مادة قديمة على وجه من الكلية في عصر من العصور ، أو الجزئية في جانب محدود من عصر أو علمٍ ، نسميه مرجعاً - وجمعه مراجع - ، على أساس أنه أقرب ما يرجع إليه عامة القراء عندما يريدون أن يفيدوا شيئاً معيناً ، وأقرب ما يرجع إليه الباحث قبل مباشرة بحثه ، وأقرب ما يستشيره ويكتفي به في الأمور الجانبية الثانوية من عمله .
هناك في البحث ذي الموضوع القديم الزمن - إذاً - مصادر ومراجع ؛ والمطلوب الأول من الباحث الأخذ عن المصادر وكأن المراجع غير موجودة ، حتى إذا انتهى من بحثه مرَّ عليها ، ليرى مكان الصواب والخطأ منها ، وليشير إلى ذلك حيث تقتضي الحالُ من عمله .
في البحث عن بشّار يُعد ديوانه مصدراً ، وكذلك كتاب "الأغاني" ، و "وفيات الأعيان" ؛ ويُعد "تاريخ آداب اللغة العربية" لجرجي زيدان مرجعاً ، وكذلك "حديث الأربعاء" لطه حسين ، و "في الأدب العباسي" لمحمد مهدي البصير ، وكتاب إبراهيم عبدالقادر المازني ، وكتاب محمد النويهي .
__________
(1) يعني البحوث الحديثة .(5/120)
أما في بحث ذي موضوع حديث فيصعب التمييز بين المصدر والمرجع على أساس الزمن ، ويكاد يكون كل ما كُتب وقيل عن الشاعر أو الكاتب أو النحوي المعاصر ، أو الرأي أو الموضوع : مصدراً ؛ ويكون التفاوت هنا في القيمة وقرب الباحث وبعده عن الموضوع المعاصر .
ذلك أننا نميز - في البحث القديم والجديد - بين مصدر أولي أو قريب من الموضوع ، ومصدر ثانوي بعيد منه ؛ وللقرب والبعد أهمية كبيرة في مكانة المدر من البحث .
وأول شروط المصدر أن يكون محققاً ----) إلى آخر كلامه ، وبعض ما تقدم نقله منه يُعْوِزُه الإيضاح والتحرير ، ولكنني نقلته لأجل ما يفهم من جملة معناه .
وأظهر منه وأبيَن ما قاله الدكتور محمد عجاج الخطيب في (لمحات في المكتبة والبحث والمصادر) ، حيث قال (ص127) : (وقبل أن نشْرع بذكر أهم المصادر والمراجع ، نرى من المناسب أن نعرّف كلاً منهما .
فالمصدر : هو كل كتابٍ تناول موضوعاً وعالجه معالجة شاملة عميقة ؛ أو هو كل كتاب يبحث في علم من العلوم على وجه الشمول والتعمق بحيث يصبح أصلاً لا يمكن لباحث في ذلك العلم الاستغناء عنه .
فـ"الجامع الصحيح" للبخاري ، و "صحيح مسلم" هما أصلان ومصدران في الحديث النبوي ، بينما تُعد كتب الأحاديث المختارة كالأربعين النووية من المراجع في ذلك .
وكتاب "الكامل" للمبرِّد و "صبح الأعشى" للقلقشندي : أصولٌ ومصادر في الأدب ، وغيرُها مما أُخذ عنها مراجع .
ومثل هذا نقول في "تاريخ الطبري" و "سيرة ابن هشام" : كلها أصول ومصادر في بابها ، وما اقتُبس أو استُمدَّ منها مرجع في بابه .
ومن ثَمَّ كان المرجعُ الكتابَ الذي يستقي من غيره ، فيتناول موضوعاً أو جانباً من موضوع فيبحث في دقائق مسائله ومقاصده .(5/121)
وبعض العلماء لا يفرق بين المصدر والمرجع فيجعلهما مترادفَين ، ولا بأس في ذلك ، لأن هذا مجرد اصطلاح ولا مشاحة في الاصطلاحات) ؛ انتهى(1) .
وأحب أن أنبه على أنني إنما ذكرت في الكتاب هذا الاصطلاح وأنحاءَه ، لمن لم يكن عرفها مِن قبلُ ، ولا سيما أنه يقع من كثير من أساتذة الجامعات وغيرها تعظيمٌ لشأن الفرق بين بعض الاصطلاحات المتقاربة ، كهذين الاصطلاحين ، وتشديد مبالَغ فيه في كثير من القضاء الشكلية التي لا تكاد تمس الجوهر ولا تقترب منه .
وبعض مسائل علم المعاصرين غير دقيقة أو غير مهمة ، ولكن مع ذلك لا يحسن الجهل بها ، ولا سيما في مجالس الجهال وأشباههم من المتعالمين ؛ فإني قد سمعت بعض من يقول بتعجب شديد - وهو من صغار الطلبة ومبتدئيهم ولكنه جامعي - : (فلان لا يفرق بين المصادر والمراجع !! ) !! ؛ هذا مَثَلٌ وأمثاله متكاثرة ؛ والله المستعان .
المصافحة :
راجع (العلو) .
المصحف :
جاء في ترجمة الأعمش من ( تهذيب التهذيب ) ( 4/196 ) : (وقال عبد الله بن داود الخريبي : كان شعبة إذا ذكر الأعمش قال : المصحف ، المصحف ؛ وقال عمرو بن علي : كان الأعمش يُسَمَّى المصحف ، لصدقه) .
وجاء في ترجمة مسعر من ( تهذيب التهذيب ) ( 10/103 ) : ( وقال الحربي عن الثوري : كنا إذا اختلفنا في شيء سألنا عنه مسعراً ؛ قال : وقال شعبة : كنا نسمي مسعراً المصحف ؛ وقال إبراهيم بن سعيد الجوهري : كان يسمى الميزان ) .
وكلمة شعبة هذه في الأعمش وفي مسعر كلمة عظيمة دالة على توثيقه لكل منهما توثيقاً تاماً وأنه في وثاقته وضبطه كالكتاب المجلد المصون من كل ما قد يطرأ عليه من خلل أو تغيير .
__________
(1) وكتب الدكتور شوقي ضيف في كتابه (البحث الأدبي) فصلاً نافعاً في الكلام على المصادر وأصول استعمالها ، مع بيان طريقة المتقدمين في الأخذ منها ؛ وذلك هو الفصل الرابع من الكتاب (ص212-269) .(5/122)
ولكن انظر الأصل رقم ( 5 ) من الفصل الثالث من المقدمة التأصيلية ، وهو فصلٌ في (بيان أنه ينبغي التفريق بين اللقب والاصطلاح وبيان عدم صحة إدخال الألقاب في الاصطلاحات إلا على سبيل التجوز ) .
وأما معنى كلمة (مصحف) في العرف القديم ، فقد جاء في (المعجم الوسيط) : (المصحف : مجموع من الصحف(1) ، في مجلد ، وغلب استعماله في القرآن الكريم ) .
وقال الشيخ عبدالله بن يوسف الجديع في (المقدمات الأساسية في علوم القرآن) (ص12) وهو يذكر أسماء القرآن الكريم :
(5- المصحف : وهي تسمية ظهرت بعد أن جُمع القرآن في عهد الصديق ، كما سيأتي شرحه ؛ ولم يثبت حديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قوله في إطلاق هذه التسمية على القرآن المجموع فيما بين الدَّفَّتين ، لأنه لم يكن في عهده بين دفتين على هيئة المُصحف ؛ وتسمية المصحف جاءت من الصُّحف التي جُمع بعضها إلى بعض فأصبحت على هيئة الكتاب ) انتهى .
وفي (حلية الأولياء) (5/237) عن يزيد بن ميسرة أنه قال : (إن حكيماً من الحكماءِ كتبَ ثلاثَمِئَة وستينَ مصحفاً ، حِكَماً ، فبعثها في الناسِ فأوحى الله تعالى إليه : إنكَ ملأتَ الأرضَ بَقاقاً(2)، وإنَّ اللهَ تعالى لم يقبلْ من بَقاقِك شيئاً(3) ) .
__________
(1) والصحف جمع صحيفة ، والصحيفة معناها - كما ورد في (المعجم الوسيط) أيضاً - : ما يُكتب فيه من ورَق ونحوه ؛ ويُطلق على المكتوب فيها أيضاً ).
(2) تصحفت في الحلية إلى (نفاقاً)، وكذلك تصحفت كلمة (بقاقك) الآتية؛ وفي (غريب الحديث) لأبي سليمان الخطابي (3/110) عقب ذكر هذا الأثر بإسناده : (أصل البقاق كثرة الكلام، قال أبو عبيدة: يقالُ: بقَّ عليهم وأبقَّ في الكلامِ إذا أكثر؛ وأبقَّ أكثرُهما). قلت: ما كان هذا الرجل صادقاً في كلامه وفعله فما تقبله الله منه.
(3) إن صحت هذه الحكاية فلا شك أنها في الأمم السابقة لأمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ولا شك أن ذلك الإيحاء كان عن طريق نبي ذلك الزمان.
وقال صاحب (لسان العرب) (10/24): (قال صاحب (العين): بلغنا أَنَّ عالماً من علماء بني إسرائيل وضع للناسِ سبعينَ كتاباً من الأَحكام وصُنوفِ العلم، فأَوحى الله إِلى نبي من أَنبيائهم أَن قلْ لفلانٍ: إِنك قد ملأْت الأَرض بَقاقاً، وأَن الله لم يَقبل من بَقاقِك شيئاً؛ قال الأَزهري: البَقاق كثرة الكلام).(5/123)
وقال ابن عبد البر في (القصد والأمم) : (من جملة ما وجد في الأندلس اثنان وعشرون مصحفاً محلاة، كلها من التوراة، ومصحف آخر محلى بفضة ... وكان في المصاحف مصحف فيه عمل الصنعة وأصباغ اليواقيت) .
وانظر (صحفي) .
المصحِّف :
هو من يقع منه التصحيف ؛ انظر (التصحيف ).
المصطلح :
المصطلح يراد به الكلمة المستعملة بمعنى اصطلاحي ، فكأنَّ قولنا (المصطلح) تقديره (اللفظ المصطلح عليه) أو (اللفظ المصطلح على معناه) ، مثل كلمة (المفعول به) في النحو أصلها (المفعول به الفعلُ) ثم حُذفت كلمة (الفعلُ) وأحياناً يحذفون معها كلمة (به) ؛ فهكذا كلمة المصطلح على ما يظهر لي ، ثم استقرتْ اسماً بمفردها فثُنّيتْ وجُمعت ، كسائر الأسماء ؛ وانظر (الاصطلاح) و (مصطلحات المحدثين) .
هذا وبقي معنى آخر لكلمة (المصطلح) في عرف طلبة العلم المتأخرين والمعاصرين ، وهو علم أصول علم الحديث ، انظر (أصول علم الحديث) .
مصطلحات المحدثين :
هي جميع الكلمات التي استعملها جميع المحدثين أو بعضهم في التعبير عن مقاصدهم في فنهم ، بمعنى يخالف معناها عند أهل اللغة نوعاً من المخالفة ، كالمرفوع والغريب والمتن والسند والعالي والنازل والمصافحة والبدل ، فهذه كلها - وكذلك سائر ما أذكره من مصطلحات حديثية في هذا المعجم - لها في عرف المحدثين معان مخالفة لمعانيها في عرف علماء اللغة وأهلها .
وتنقسم مصطلحات المحدثين إلى ثلاثة اقسام :
الأول : مصطلحات الرواة وما يلتحق بها ، كمصطلحات النسخ والتقييد قديماً ، ومصطلحات الطبع والتحقيق حديثاً .
والثاني : مصطلحات نقد الرجال وما يلتحق بها ، كمصطلحات التاريخ والوفَيات ونحوها .
والثالث : مصطلحات التخريج وما يلتحق بها ، كمصطلحات المحدثين في تسمية كتبهم كالمستخرج والمستدرك والمعجم والمشيخة والمصنَّف والسنن والصحاح .(5/124)
تنبيه : يحسن بمن أراد أن يجمع هذه الأقسام الثلاثة أن يضم إليها ما يقاربها ويلتحق بها من المصطلحات والرموز .
أما القسم الأول فيلتحق به كل ما قد يتعلق به من مصطلحات ورموز النساخ والمؤلفين والمحققين والطابعين والوراقين ونحوهم فإنها عند التأمل أقرب في جنسها إلى مصطلحات الرواة .
وأما القسم الثاني فيلتحق به كل ما قد يتعلق به - أو يدخل فيه - من مصطلحات المؤرخين والنسابين ونحوهم .
وأما القسم الثالث فيلتحق به كل ما قد يتعلق به من مصطلحات الأصوليين والفقهاء ونحوهم(1) .
المصنَّف :
هو اسم سميت به طائفةٌ من كتب الرواية القديمة الحافلة ، وهذه التسمية أصلها من التصنيف؛ فانظر (التصنيف)..
والمصنفات تُشبه في مضمونها وطريقة ترتيبها كتب (السنن) الموصوفة فيما تقدم ، ولكنها تمتاز عنها بالسعة والشمول وكثرة ما فيها من الآثار غير المرفوعة .
واشتهر من المصنفات كتابان حافلان هما مصنف عبد الرزاق بن همام الصنعاني (126 - 211 هـ) ، ومصنف أبي بكر بن أبي شيبة الكوفي (159 - 235هـ) .
وكلٌّ من هذين المصنفين مرتبٌ على الأبواب العلمية أي على موضوعات العلم، ويحتوي على مادة طيبة ، منها كثير من فتاوى الصحابة والتابعين وتابعيهم ، وكثير من آثارهم في الزهد والعبادة والأدب .
وثمَّ كتابٌ ثالثٌ شبيهٌ بهذين الكتابين من حيثُ طريقةُ التصنيف والمحتوى في الجملة ؛ وهو (السنن) لسعيد بن منصور (ت227هـ) ؛ وشَبَهُه بمصنف عبد الرزاق أكثر وأوضح .
__________
(1) ثم إن كل ما قلته هنا في حق مصطلحات المحدثين من جهة تقسيمها ، فهو كذلك في حق قواعدهم ؛ وعليه تكون الأقسام ستة ، ثلاثة للمصطلحات وقد ذكرتها ، ومثلها للقواعد ، ومجموع هذه الأقسام الستة هو المراد بعلم أصول الحديث وهو العلم المعروف عند المتأخرين بعلم المصطلح.(5/125)
وفي كتب الحديث المسندة مروياتٌ كثيرةٌ مخرجةٌ من طريق هذه الكتب الثلاثة ، قال الدكتور سعد آل حميد في مقدمة تحقيقه للقطعة التي حققها من (سنن سعيد بن منصور) : (وهذا يعود لندرة محتواها وعلو أسانيدها وغير ذلك من الاعتبارات) .
ومما يؤسف له أنَّ (سنن سعيد بن منصور) لم يعثر منه إلا على قطعتين ، طبع أولاهما الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي رحمه الله ، وطبع الثانية الدكتور سعد آل حميد حفظه الله ؛ وأما سائر الكتاب فهو مفقود حقيقةً أو حكماً ؛ والله المستعان .
وأما (مصنف عبد الرزاق) فطبع لأول مرة في سنة (1392هـ) ، بتحقيق حبيب الرحمن الأعظمي في أحد عشر مجلداً ، وبلغ عدد مروياته حسب ترقيم المحقق (21033) ، ولكنه يحتوي على أحاديث مكررة كثيرة(1) ؛ ثم إنَّ المجلدَ الحادي عشر منه وبعض العاشر إنما هما كتاب (الجامع) لمعمر من رواية عبد الرزاق عنه .
وقد استخرج بعض الباحثين زوائد (مصنف عبد الزاق) على الكتب الستة ، فبلغ عدد تلك الزوائد : أربعة عشر ألف حديث ؛ ولكن القدر المرفوع من هذه الزوائد بحسب استقراء باحث آخر يقارب خمسها فقط والباقي منها آثار غير مرفوعة(2) .
وقد تعاونَ بعضُ من لا يتقي اللهَ فوضعوا مؤخراً قطعةً ملفقة مركبةً هزيلة منكرة من الأحاديث الدالة على جهل واضعها ، ونسبوها إلى (مصنف عبد الرزاق) على أنها القطعة المفقودة منه ؛ وطبعتْ في دولة الإمارات العربية !! وقد كشف عوارَها جماعةٌ من أهل العلم جزاهم الله أجر المحسنين.
__________
(1) بل إن كتاب أهل الكتاب في المجلد السادس برواية النجار ، تكرر في المجلد العاشر برواية الحذاقي ، مع زيادة ونقص .
(2) ذكر هذا الشيخ أحمد بن عبد الرحمن الصويان رئيس تحرير (مجلة البيان) في بعض أعدادها في بحث له بعنوان (الموسوعات الحديثية : نظرات في جهود العلماء في تدوين السنة النبوية) .(5/126)
وأما مصنّف أبي بكر بن أبي شيبة فكتاب جليل حافل ماتع أثنى عليه العلماء ، وصفه ابن كثير في (البداية والنهاية) (10/315) بقوله : (المصنَّف الذي لم يُصنِّف أحدٌ مثله قط ، لا قبله ولا بعده) ؛ انتهى ، ومِن قبْلُ قد قال الإمامُ أبو عبيد القاسم بن سلام : (ربانيو الحديث أربعة : فأعلمهم بالحلال والحرام : أحمد بن حنبل ؛ وأحسنهم سياقةً للحديث وأداءً : علي بن المديني ؛ وأحسنهم وضعاً لكتاب : أبو بكر بن أبي شيبة ؛ وأعلمهم بصحيح الحديث من سقيمه : يحيى بن معين)(1) ؛ وقال الرامهرمزي في (المحدث الفاصل) (ص 614) : (وتفرد بالكوفة أبو بكر بن أبي شيبة بتكثير الأبواب وجودة الترتيب وحسن التأليف) .
وقد ظهر منه طبعات كثيرة تكلم عليها أو على أكثرها محققا طبعة مكتبة الرشد (1/338-353)، وأيضاً طبع مؤخراً بتحقيق محمد عوامة .
المصنِّف :
ترد هذه الكلمة في عرف أهل العلم على وجهين من الاستعمال :
الوجه الأول : أن يصفوا بهذه الكلمة المكثر من التصانيف والمشهور بتصانيفه ، مثل الخطيب البغدادي والبيهقي وأبي سعد السمعاني وابن الجوزي وابن عساكر ، وهذا كثيراً ما يرد في كتب التراجم ونحوها ، إما للتعريف بالمترجَم وبيان منزلته في العلم ، وإما لتمييزه عن غيره ممن يشاركه في بعض اسمه ، كابن سعد وابن عساكر وابن قدامة ، فهؤلاء من أسُر علمية شهيرة ، فإن قيل في ابن سعد : " المصنفَ " أعان ذلك على تمييزه ؛ وقال ابن الصلاح في (المقدمة) (ص235): (وكنتُ قد قرأت بمرو على شيخنا المكثر أبي المظفر عبد الرحيم بن الحافظ المصنف أبي سعد السمعاني رحمهما الله ----) إلخ .
والمكثر إذا أطلقت في مثل هذا السياق فمعناها المكثر من الطلب والشيوخ وجمع الأصول والقراءة والتصنيف ونحو ذلك .
__________
(1) تاريخ بغداد) (10/69) و (سير أعلام النبلاء) (11/127) .(5/127)
الوجه الثاني : أن يقول شارح بعض الكتب أو المعلق عليه أو محققه ونحو أولئك : (قال المصنف كذا) أو (فعل المصنف كذا) فمراده حينئذ مصنف ذلك الكتاب الذي هو أصلُ عملِه .
المضاف والمضاف إليه :
انظر (الأسماء المعبدة) .
مضطرب :
هذه الكلمة لقبٌ لنوع من الأحاديث الضعيفة ، راجع (الاضطراب) و(مضطرب الحديث) .
مضطرب الحديث :
إذا قال الجارح في راو : هذا مضطرب الحديث ، أو قال : أحاديثه مضطربة، فهو إنما يريد بذلك تضعيفه أو تليينه وأنه لا يثبت على ما يرويه فمرة يرويه على وجه ، ومرة أخرى على وجه آخر مخالف للأول قليلاً أو كثيراً ؛ وهذا دليل سوء حفظه ؛ وانظر (الاضطراب).
ومن عباراتهم التي ترد فيها كلمة الاضطراب : قولهم (شديد الاضطراب) ، وهي عبارة دالة على شدة الضعف ما لم يخفف منها تقييدُها - أو قرْنُها - بما يُفيد التخفيف فيكون الضعف غير شديد.
قال الإمام أحمد في خُصَيفِ بن عبد الرحمن - كما في (العلل) (4926) - : (شديد الاضطراب في المسنَد) ، فهذا التقييد بقوله (في المسند) الظاهر أنه يفيد أن الضعف ليس شديداً ، ولذلك وصفه في موضع آخر من (العلل) (3187) بقوله : (ليس بقوي في الحديث) ، ولم يُطلق ضعفه(1).
وليس في لفظة (مضطرب الحديث) ولا لفظة (شديد الاضطراب فيما يرويه) تهمة للراوي في عدالته ، وإنما هي متعلقة بحفظه وضبطه ، لأن العدالة لا يُقتصر في الطعن فيها على مثل هذه الكلمة ، والاضطراب فرع سوء الحفظ وليس فرعاً لسقوط العدالة.
مطَّرَح :
هذه من الألفاظ الدالة على كون الراوي متروكاً(2)
__________
(1) انظر (شديد الاضطراب في المسند) و(ليس بقوي في الحديث).
(2) قال ابن فارس في (مقاييس اللغة) (طرح) (3/455) : (الطاء والراء والحاء أصلٌ صحيحٌ يدلُّ على نَبْذ الشَّيءِ وإِلقائِهِ ؛ يقال : طَرَحَ الشَّيْءَ يطرحُه طرحا. ومن ذلك الطَّرَح، وهو المكان البعيد ، وطَرَحتِ النَّوَى بفلانٍ كلَّ مَطرَحٍ، إذا نأتْ به ورمت به ) .
وجاء في (المعجم الوسيط) (2/559) : (طرح الشيء و[طرح] به [يطرَح] طرْحاً : ألقاه ) إلى أن قالوا : (الطريح : المطروح والمتروك لا حاجة لأحد فيه لقلة الاعتداد به أو لحقارته) .(5/128)
؛ وهي - كما هو معلوم - اسم مفعول من الفعل (اطَّرح) والذي أصله (اطترح) على وزن (افتعل) ؛ وانظر (مطروح الحديث) .
مطَّرَحُ الحديث :
هذه كالتي قبلها .
مطروح الحديث :
أي متروك ؛ قال ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل) (9/25) : (وهب بن وهب أبو البختري القرشي القاضي ببغداد---- حدثني محمد بن عوف الحمصي قال: سألت أحمد بن حنبل عن أبي البخترى ؟ فقال: مطروح الحديث ؛ نا محمد بن حمويه بن الحسن قال سمعت أبا طالب أحمد بن حميد قال : قلت لأحمد بن حنبل : أحد يضع الحديث ؟ قال : نعم ، أبو البختري الذي كان قاضياً ، كان كذاباً يضع الحديث ، روى أشياء لم يروها أحد ) ؛ فأحمد وصفه مرة بأنه مطروح الحديث ومرة بأنه كذاب يضع الحديث ، ومقتضى ذلك - بمعونة ملاحظة طريقة المحدثين في عباراتهم النقدية - أن يكون معنى مطروح هو متروك ، وليس معناها الضعيف الذي لا يُترك ؛ فالكذاب يقال له : متروك ، ولكن لا يحسن أن يقال فيه : ضعيف ، مع الاقتصار عليها.
وقال ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل) أيضاً (3/317) : (1419) : (حسام بن المصك بن ظالم بن شيطان الأزدي أبو سهل---- : نا محمد بن عوف الحمصي قال: سألت أحمد بن حنبل عن الحسام بن مصك فقال : مطروح الحديث.
قرئ على العباس بن محمد الدوري قال : سئل يحيى بن معين عن حسام بن مصك فقال : ليس حديثه بشيء.
سألت أبي عن حسام بن مصك فقال : ليس بقوي يكتب حديثه.
سئل أبو زرعة عن حسام بن مصك فقال : واهي الحديث منكر الحديث) ؛ وانظر (متروك) و(مطَّرح).
مطعون فيه :
أي ضعيف جرحه بعض العلماء .(5/129)
مطوَّل :
يوصف الحديث بأنه مطول أو بأنه رُوي مطولاً ، على الضد من وصفه بالقصر والاختصار، فيقال مثلاً: رواه البخاري مختصراً، ورواه مسلم مطولاً ؛ ويقال: هذا الحديث هو مطوَّل الحديث الذي تقدم برقم كذا؛ ولا يشترط في المطول أن يكون طويلاً ولكن يشترط أن تكون روايته ، الموصوفة بأنها مطوَّلة ، أطولَ من رواية أخرى له، بقدر معتبر ؛ قال ابن حبان في (المجروحين) (1/55) : (سمعت علي بن أحمد الجرجاني بحلب يقول : سمعت حنبل بن إسحاق بن حنبل يقول : سمعت عمي أحمد بن حنبل - رحمة الله عليه - يقول : أحفظنا للمطولات الشاذكوني ؛ وأعرفنا بالرجال يحيى بن معين ؛ وأعلمنا بالعلل علي بن المديني ؛ وكأنه أومأ إلى نفسه أنه أفقهُهم ) .
وانظر (مكرَّر) و(طوَّله) و(طويل).
تذييل فيه فائدة منقولة :
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في (مجموع الفتاوى) (18/22) : (والمقصود هنا التمثيل بالحديث الذي يروى في الصحيح وينازِع فيه بعض العلماء ، وأنه قد يكون الراجح تارةً ، وتارةً المرجوح .
ومثل هذا من موارد الاجتهاد في تصحيح الحديث كموارد الاجتهاد في الأحكام .(5/130)
وأما ما اتفق العلماء على صحته فهو مثل ما اتفق عليه العلماء في الأحكام ، وهذا لا يكون إلا صدقاً ، وجمهور متون الصحيح من هذا الضرب ، وعامة هذه المتون تكون مروية عن النبي صلى الله عليه وسلم من عدة وجوه ، رواها هذا الصاحب ، وهذا الصاحب ، من غير أن يتواطآ ؛ ومثل هذا يوجب العلم القطعي ؛ فإن المحدث إذا روى حديثاً طويلاً سمِعه ورواه آخر ذكر أنه سمعه وقد عُلم أنهما لم يتواطآ على وضعه عُلم أنه صدقٌ ، لأنه لو لم يكن صدقاً لكان كذباً ، إما عمداً وإما خطأً ؛ فإن المحدث إذا حدث بخلاف الصدق إما أن يكون متعمداً للكذب وإما أن يكون مخطئاً غالطاً ، فإذا قُدِّر أنه لم يتعمد الكذب ولم يغلط لم يكن حديثه إلا صدقاً ، والقصة الطويلة يمتنع في العادة أن يتفق الإثنان على وضعها من غير مواطأة منهما ، وهذا يوجد كثيراً في الحديث ، يرويه أبوهريرة وأبو سعيد ، أو أبو هريرة وعائشة ، أو أبو هريرة وابن عمر ، أو ابن عباس ؛ وقد عُلم أن أحدهما لم يأخذه من الآخر ، مثل حديث التجلي يومَ القيامة ، الطويل ، حدث به أبو هريرة وأبو سعيد ساكت لا يُنكر منه حرفاً ، بل وافق أبا هريرة عليه جميعِه إلا على لفظ واحد في آخره .
وقد يكون النبي صلى الله عليه وسلم حدث به في مجلس وسمعه كل واحد منهما في مجلس فقال هذا ما سمعه منه في مجلس وهذا ما سمعه منه في الآخر ، وجميعه في حديث الزيادة [كذا] ، والله أعلم) .
مظلم :
يوصف الإسناد أو الحديث بأنه مظلم إذا كان فيه أكثر من مجهول ، أو أكثر من علة غامضة ، بحيث يتعذر على الناقد الجهبذ تخمين أولئك المجاهيل ، أو يُظلم عليه طريقُه إلى بيان أوجه الخلل في ذلك الإسناد أو الحديث .(5/131)
هذا - بحسب ما يتراءى لي - هو أصل إطلاقهم هذا الوصف على الروايات ، ولكن مما لا يخفى أن العبارات قد تخرج عن إطار معناها الأول ويُتوسع فيها أو تستعمل لمعانٍ مناظرة لذلك المعنى الأول ، أو ملازمة له ، أو متفرعة عنه ؛ وبناء على هذا أقول : من استقرأ استعمالهم هذه العبارة التي نحن بصدد شرح معناها بان له أنهم قد يستعملونها في وصف الأسانيد المركبة والأحاديث المنكرة ونحو ذلك ، ولا سيما إذا كان بين رواتها من يُجهل .
ثم راجعت (إتحاف النبيل) للشيخ أبي الحسن المأربي فوجدت فيه (1/301) (س151) أنه سئل هذا السؤال : (في بعض التراجم نجد أئمة الجرح والتعديل يقولون : "فلان مظلم" ، أو : "مظلم الأمر" ، فما معنى ذلك؟) ، فأجاب بما نسخته :
(وقفت على وجهين لهذا اللفظ ، فأحياناً يكون بمعنى أن الراوي مجهول ، وأن أمره مظلم لا يُعرف(1).
وفي هذه الحالة ننظر عدد الرواة عنه ، ويحكم عليه بما يستحق من جهالة العين أو الحال ، على تفاصيل في ذلك قد سبق شرحها .
وأحياناً يكون هذا اللفظ بمعنى أن الراوي منكر الحديث(2) ، وأن هذه المناكير أظلمت بحديثه فسلبته النور والضوء الذي يكون على حديث الثقات .
وفي هذه الحالة ينظر إلى بقية كلام الأئمة ، ليُعرف كمُّ ونوع هذه المناكير ، فإن كانت محتملة وخفيفة صلَح في الشواهد والمتابعات ، وإلا تُرك ؛ والله المستعان) .
مظلم الأمر :
انظر (مظلم) .
__________
(1) مثال ذلك ما ذكره ابن عدي في كامله (4/1568) ترجمة عبدالله بن واقد أبي رجاء الخراساني ، قال فيه ابن عدي : ولعبدالله بن واقد هذا غير ما ذكرت ، وليس بالكثير ، وهو مظلم الأمر ، ولم أر للمتقدمين فيه كلاماً فأذكره----).
(2) ومثاله ماجاء في (الكامل) لابن عدي (1/269) - ترجمة إبراهيم بن فهد بن حكيم ؛ قال ابن عدي : وسائر أحاديث إبراهيم بن فهد مناكير ، وهو مظلم الأمر ) اهـ.(5/132)
معاً :
إذا وُضع على الحرف من حروف الكلمة حركتان أو حركة وعلامة تسكين وكتب فوق الحرف ( معاً) فمعنى ذلك جواز الوجهين في شكل ذلك الحرف ؛ مثال ذلك أن الصفدي ذكر في خطبة كتابه (الوافي بالوفيات) (1/9) هذه الكلمة : (ذو الرمة) ، فقال محقق الكتاب معلقاً على كلمة (الرمة) : (المؤلف وضع على الراء ضمة وكسرة وكتب فوقها (معاً) إشارة إلى جواز الحركتين) .
المعارضة :
راجع (المقابلة) .
معاجيم الشيوخ :
انظر (معاجيم الصحابة) و(المشيخة).
معاجيم الصحابة :
المعجم يطلق على صنفين من كتب الحديث :
الصنف الأول : المسند الذي يرتب ذِكر الصحابة فيه على حروف المعجم ، فهذه معاجيم الصحابة ، مثل معجم الصحابة للبغوي ومعجم الصحابة لابن قانع .
وأكبر وأشهر المعاجيم المعروفة (المعجم الكبير) للطبراني طبع سنة 1398هـ في العراق ، في عشرين مجلداً ، وبقي منه خمسة مجلدات لم تطبع ، هي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر والحادي والعشرون .
وعثر محققه على شيء من هذا القدر الباقي ، فحققه ولا أدري أطبع أم لم يطبع .
رتب الطبراني (معجمه الكبير) على مسانيد الصحابة ، وبدأه بأحاديث العشرة المبشرين بالجنة ، ثم رتب بقية الصحابة على حسب حروف المعجم .
وطريقته فيه أن يترجم للصحابي ترجمة موجزة ، ثم يُسند بعض أحاديثه إن كان مكثراً ، وأما إن كان مقلاً فهو يحرص على استيعاب أحاديثه .
وأما الصحابي الذي لا يعرف له رواية فإنه أيضاً يذكره ، ويترجم له باختصار ، أو يقتصر على ذكرِه فقط ، من غير ترجمة .
قال الذهبي في وصف كتاب الطبراني هذا في (سير أعلام النبلاء) (16/122) : (وهو معجم أسماء الصحابة وما رووه ، لكن ليس فيه مسند أبي هريرة ، ولا استوعب حديث الصحابة المكثرين ، في ثمانية مجلدات) .(5/133)
وقال السيوطي في (طبقات الحفاظ) (ص 372) : (لم يسق فيه من مسند المكثرين إلا ابن عباس وابن عمر ؛ فأما أبو هريرة ، وأنس ، وجابر ، وأبو سعيد ، وعائشة ، فلا ، ولا حديث جماعة من المتوسطين ؛ لأنّه أفرد لكلّ مسنداً فاستغنى عن إعادته) .
ويظهر أن مجموع أحاديثه لو تم طبعه يكون نحواً من خمسة وعشرين ألف حديث ؛ وهو موافق لما ذكره حاجي خليفة في (كشف الظنون) (2/1737)(1) ؛ ولقد أبعد الكتاني النجعة إذ ذكر في (الرسالة المستطرفة) (ص 101) أن أحاديثه ستون ألفاً(2) !!.
الصنف الثاني : معاجيم الشيوخ .
والكلام عليها يجرنا إلى الكلام على المشيخات والفهارس والبرامج والأثبات؛ فأقول:
__________
(1) فقد قال وذكر معاجيم الطبراني الثلاثة : (رتب في "الكبير" الصحابة على الحروف ، مشتملاً على نحو خمسة وعشرين ألف الحديث ، ورتب في "الأوسط" و "الصغير" شيوخه على الحروف أيضاً.
ثم رتب "الكبير" الأميرُ علاء الدين على بن بلبان الفارسي ترتيباً حسناً ، وتوفي سنة 731 (إحدى وثلاثين وسبعمئة) ؛ وقد أشار القطب الحلبي إلى ترتيبه ، فرتب جميعه أو أكثره) .
(2) والكتاني رحمه الله كثير الوهم والشذوذ فيما يقوله في (الرسالة المستطرفة في بيان مشهور كتب السنة المشرفة) .(5/134)
ألف كثيرٌ من المحدثين كتباً يذكرون فيها أسماء شيوخِهم ثم يسندون بعضَ مروياتهم عنهم ، وأحياناً يذكرون شيئاً من تراجمهم(1) ؛ وهذه الكتب - وهي نوعٌ من المشيخات - داخلةٌ في جملة كتب الرواية بما فيها من الأحاديث المسندة(2) .
فإذا رتبت أسماء الشيوخ في مثل هذه المشيخات على حروف المعجم سمي الكتاب حينئذ باسم (معجم الشيوخ) .
ولقد توسع بعض المتأخرين ، فألفوا معاجم كأنها معاجم شيوخ ولكنهم يُدخلون فيها مع شيوخهم أقرانَهم - أي أقران مؤلف المعجم - وبعض من أخذوا عنه ، كما صنع الذهبي في كتابه (المعجم المختص بالمحدثين) ، وهو غير (معجم الشيوخ الكبار) له(3) .
__________
(1) قال المؤرخ الأديب صلاح الدين الصفدي في كتابه الحفيل (الوافي بالوفيات) (1/55) : (وأما كتب المحدثين في معرفة الصحابة رضي الله عنهم مثل الاستيعاب لابن عبد البر، وأسد الغابة لابن الأثير، وغيرهما وكتب الجرح والتعديل ، والأنساب ، ومعاجم المحدثين، ومشيخات الحفاظ والرواة، فإنها شيء لا يحصره حدّ، ولا يقصره عدّ، ولا يستقصيه ضبطٌ، ولا يستدنيه ربطٌ، لأنها كاثرت الأمواج أفواجا، وكابرت الأدراج اندراجا).
(2) وتقدم كلامٌ أكثر تفصيلاً على المشيخات في (المشيخة) .
(3) للذهبي من المعاجم : (معجم الشيوخ الكبير) ، و (معجم الشيوخ الأوسط) ، و (المعجم الصغير) أو اللطيف ، و (المعجم المختص بمحدثي العصر) ، وهذا الأخير تحرف في (الإعلان بالتوبيخ) للسخاوي (ص606) و (كشف الظنون) (2/1625) وغيرهما إلى (المعجم المختصر) ؛ راجع (الذهبي ومنهجه في كتابه تاريخ الإسلام) للدكتور بشار (ص185-186) .(5/135)
ومنهم من أفرد معجماً لشيوخ غيره ، أو لتلامذته ، كمعجم شيوخ ابن سكرة أبي علي الصدفي ، للقاضي عياض(1) ، والمعجم في أصحاب أبي علي الصدفي (أيضاً) ، لابن الأبار أبي عبدالله محمد بن عبدالله القضاعي (ت 658هـ) .
وبعض المشيخات ومعاجم الشيوخ لا تستحق أن تعدَّ في كتب الرواية أصالةً ، بسبب قلة ما فيها من المرويات ؛ فشروط وطرائق مؤلفي المشيخات متباينة ؛ فمنهم من يتوسع في تراجم الشيوخ ؛ ومنهم من يتوسع في ذكر مروياته من الكتب وغيرها ، عن الشيخ ، إجمالاً ؛ ومنهم من يشترط أن يُخرج عن كل شيخ حديثاً ؛ إلى غير ذلك من الاتجاهات والشروط التي يتباينون فيها ؛ وانظر (المشيخة) .
المعجم :
للمعجم في عرف المحدثين معنى أو معنيان تقدم بيانهما قريباً في (معاجيم الصحابة)(2).
وللمعجم عند المعاصرين من الحديثيين إطلاقات أخرى ، مثل الكتاب الذي يترجَمُ فيه رجالُ أحد الكتب مرتبين على الحروف، مثل (معجم رجال الحاكم في المستدرك) و (معجم رجال البيهقي) ، وكذلك (معجم المصطلحات) ، و(معجم المطبوعات الحديثية).
وأما المعنى اللغوي لهذه الكلمة وتاريخ استعمالها ، فمعنى (أعجم) هو البيان ورفع الإبهام؛ وإليك بيان ذلك في باب نفيس جاد به قلم عالم العربية ابن جني في (الخصائص) (3/77-78) ، فإليك قسماً مطولاً من ذلك الباب ، فليس يُملّ من العلم ما كان نافعاً ماتعاً ولا يُستطال .
قال ابن جني هناك تحت الباب المشار إليه وقد ترجمه بهذا العنوان (باب في السلب) :
__________
(1) قال القاضي عياض في كتابه المطبوع باسم (الغنية "فهرست شيوخ القاضي عياض" ) (ص194) في ترجمة شيخه هذا : أبي علي الصدفي : (وقد جمت شيوخه في كتاب "المعجم" الذي ضمنته ذكره وأخباره وشيوخه وأخبارهم ، وهم نحو مئتي شيخ) .
(2) وجاء في (المعجم الوسيط ما نصه : { ( المعجم ) ديوان لمفردات اللغة مرتب على حروف المعجم ( ج ) [أي جمعه] معجمات ومعاجم ؛ وحروف المعجم : حروف الهجاء}.(5/136)
(نبهنا أبو علي - رحمه الله - من هذا الموضع على ما أذكره وأبسطه لتتعجب من حسن الصنعة فيه .
اعلم أن كل فعل أو اسم مأخوذٍ من الفعل أو فيه معنى الفعل ، فإنَّ وضع ذلك في كلامهم على إثبات معناه لا سلبهم إياه .
وذلك قولك : قام ، فهذا لإثبات القيام ، وجلس لإثبات الجلوس ، وينطلق لإثبات الانطلاق ، وكذلك الانطلاق ومنطلق : جميع ذلك وما كان مثله إنما هو لإثبات هذه المعاني لا لنفيها .
ألا ترى أنك إذا أردت نفي شيء منها ألحقته حرف النفي فقلت : ما فعل ، ولم يفعل ، ولن يفعل ، ولا تفعل ، ونحو ذلك .
ثم إنهم مع هذا قد استعملوا ألفاظاً من كلامهم من الأفعال ومن الأسماء الضامنة لمعانيها في سلب تلك المعاني لا إثباتها .
ألا ترى أن تصريف (ع ج م) أين وقعت في كلامهم إنما هو للإبهام وضد البيان ؛ من ذلك العَجَمُ ، لأنهم لا يُفْصحون ؛ وعَجَمُ الزبيب(1) ونحوه ، لاستتاره ، في ذي العجم ؛ ومنه عُجْمة الرمل ، لما اسْتَبهم منه على سالكيه فلم يتوجه لهم .
ومنه "عَجَمتُ العودَ" ونحوه ، إذا عضضتَه : لك فيه وجهان : إن شئت قلت : إنما ذلك لإدخالك إياه في فيك وإخفائك له ، وإن شئت قلت : إن ذلك لأنك لمّا عضضته ضغطت بعض ظاهر أجزائه فغارت في المعجوم فخفيت .
ومن ذلك "استعجمتِ الدارُ" إذا لم تُجب سائلها ؛ قال :
صَمَّ صداها وعفا رسمُها**واستعجمتْ عن منطق السائل
[و]منه "جرح العجماء جبار" لأن البهيمة لا تُفصح عما في نفسها .
ومنه قيل لصلاة الظهر والعصر : العجماوان ، لأنه لا يُفصَح فيهما بالقراءة .
وهذا كله على ما تراه من الاستبهام وضد البيان .
ثم إنهم قالوا : أعجمت الكتاب إذا بيَّنته وأوضحته .
فهو إذاً لسلب معنى الاستبهام لا إثباته .
__________
(1) عَجَمُ الزبيب : نواه .(5/137)
ومثله تصريف (ش ك و) ، فأين وقع ذلك فمعناه إثبات الشَّكْو والشكوى والشكاة ، وشكوت واشتكيت ؛ فالباب فيه - كما تراه - لإثبات هذا المعنى ؛ ثم إنهم قالوا : أشكيت الرجل إذا (زلت له عما يشكوه)(1) ، فهو إذاً لسلب معنى الشكوى ، لا لإثباته أنشد أبو زيد :
تمدّ بالأعناق أو تلويها***وتشتكي لو أننا نُشْكيها
مَسَّ حوايا قلما نُجفيها
وفي الحديث : "شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حر الرمضاء فلم يُشْكنا"(2) ؛ أي فلم يفسح لنا في إزالة ما شكوناه من ذلك إليه .
ومنه تصريف (م ر ض) ، إنها لإثبات معنى المرض ، نحو مرض يمرض وهو مريض ، ومارِض ، ومَرضَى ومَرَاضَى .
ثم إنهم قالوا : مرَّضت الرجلَ ، أي داويته من مرضه حتى أزلته عنه ، أو لتزيله عنه .
وكذلك تصريف (ق ذ ى) ، إنها لإثبات معنى القذى ، منه "قَذَتْ عينُه" ، وقذِيَت ، وأقذيتُها ، ثم إنهم مع هذا يقولون : قذَّيت عينَه : إذا أزلت عنها القذى ؛ وهذا لسلب القذى لا لإثباته .
ومنه حكاية الفرّاء عن أبي الجرّاح : بي إِجْلٌ فَأجُلوني ، أي داووني ليزول عني . والإِجْل : وجع في العنق .
ومن ذلك تصريف (أ ث م) ، أين هي وقعت ، لإثبات معنى الإثم ، نحو أَثِم يأثم ، وآثِم ، وأثيم ، وأَثُوم ، والمأثم ؛ وهذا كله لإثباته ؛ ثم إنهم قالوا : تأثَّم أي ترك الإثم ؛ ومثله تحوَّبَ ، أي تركَ الحُوب .
فهذا كله - كما تراه - في الفعل وفي ذي الزيادة لما سنذكره .
وقد وجدته أيضاً في الأسماء غير الجارية على الفعل إلا أن فيها معاني الأفعال ----) ؛ ثم ذكر أمثلة ذلك .
__________
(1) علق محقق الكتاب على هذا الموضع قولَه : (كذا في ش ؛ وفي ط : "أزلت عنه ما يشكوه" ؛ وفي د ، هـ ، ز : "أزلت شكواه" ) ؛ انتهى ؛ والحروف رموز لأصول طبعتِه .
(2) رواه مسلم في أوقات الصلاة .(5/138)
وبناء على هذا فإنه من المحتمل أن المعاجم من الكتب سميت بهذا الإسم لأن ترتيبها على الحروف يُزيل عنها ما يقع فيها من إبهام وخفاء في مواضع مسائلها وفصولها فيما لو كُتبت بلا ترتيب .
وقال صاحب كتاب أو بحث (الراموز على الصحاح - دراسة معجمية)(1): (فالمعجم من الكتب هو الكتاب الذي يزيل الإبهام عن كلمات أو مسائل يذكرها مصنفه، ولكن صار في العرف يطلق على الكتاب الذي ترتب كلماته أو مسائله على حروف المعجم----) إلى آخر كلامه ، والذي جاء في تضاعيفه هذه الفقرة التالية:
(لا نستطيع الجزم متى أطلق المعجم على هذا الاستعمال، ذلك أمر لا يستطاع ، لضياع كثير من كتبنا وآثارنا ؛ وأول ما عرف كان في القرن الثالث على يد رجال الحديث الذين سبقوا اللغويين في استخدام المعجم ؛ وأول كتاب أطلق عليه اسم المعجم هو معجم الصحابة لأبي يعلى أحمد بن المثنى ---- ؛ والمعجم الكبير والمعجم الصغير في أسماء الصحابة لأبي القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي المحدث المعروف بابن منيع ت 315 هـ ؛ ثم أطلقت في القرن الرابع على كثير من الكتب وأشهرها المعجم الكبير والصغير والأوسط في قراءات القرآن وأسمائه لأبي بكر محمد بن الحسن النقاش الموصلي (ت 351 هـ) ومعجم الشيوخ لأبي الحسين عبد الباقي بن قانع بن مرزوق البغدادي (ت351 هـ) والمعجم الكبير والأوسط والصغير لأبي القاسم سليمان بن أحمد الطبراني (ت 360 هـ) ومعجم الشيوخ لعمر بن عثمان البغدادي المعروف بابن شاهين (ت 385 هـ) ومعجم الصحابة لأحمد بن علي الهمداني المعروف بابن لال (ت 398 هـ) ؛ وعنهم أخذه اللغويون) ؛ انتهى .
تنبيه : جمع معجم معجمات ومعاجم ومعاجيم ؛ وقال الدكتور إبراهيم السامرائي في كتابه (في شرف العربية) : (قال أبو ذؤيب :
__________
(1) وهو منشور على الشبكة العالمية ومنها نقلتُ ما نقلته منه .(5/139)
كأنّ مصاعيب(1) زُبَّ الرؤو سِ في دارِ صَرْمٍ تَلاقى مُريحا
قالوا : أراد "مصاعب" فزاد الياء لتأتي له "فعولن".
أقول: وجدت هذا دليلاً على أن حذف الياء هو الفصيح ، وليس العكس ؛ وقد فات الدكتور مصطفى جواد هذا في ذهابه إلى أن جمع معجم هو معاجيم ، كأنه حملها على المسانيد جمع مُسْند والمراسيل جمع مرسل ، من مصطلحات الحديث الشريف)؛ انتهى كلامه .
معدن الكذب :
أي منبعه وموضع تكاثره ؛ وهي مثل عبارة (من معادن الكذب) ، وتأتي .
وفي (المعجم الوسيط) : (المعدن : مكان كل شيء فيه أصله ومركزه وموضع استخراج الجوهر من ذهب ونحوه ، و[المعدن] : الفلز ، في لغة العِلم .
ويقال: فلان معدن الخير والكرم : مجبول عليهما)(2).
معربة :
قالوا في مقدمة (المعجم الوسيط) (1/14) في بيان اصطلاحاتهم فيه :
{ (مع): للمعرب، وهو اللفظ الأجنبي الذي غيّره العرب بالنقص، أو الزيادة ، أو القلب}.
معروف :
قصَر المتأخرون هذه الكلمة من ألقاب الأحاديث على ما يقابل المنكر ، ولكن استعمال القدماء لها أوسع من ذلك ، فهي تطلق عندهم أيضاً على المشهور من الحديث ولو كان ضعيفاً ، ويطلقونها أيضاً على ما يقابل الشاذ والمنكر.
وأما قولهم في الراوي (معروف) فيراد بهذه الكلمة عين الراوي وهو الأغلب ، وقد يراد بها حاله .
__________
(1) "المصاعب" جمع "مُصْعَبْ"، وهو الفحل الذي يودع من الركوب والعمل للفحلة.
(2) وفي (مختار الصحاح) تحت مادة :(ع د ن) : (عدنت بالبلد : توطنته ، وبابه ضرب ، وعدنت الإبلُ بمكان كذا : لزمته فلم تبرح ، ومنه "جنات عدن" ، أي جنات إقامة ، ومنه سمي "المعدِن" ، بكسر الدال ، لأن الناس يقيمون فيه الصيف والشتاء ؛ ومركز كل شيء معدنه ؛ و "عدن" بلد).(5/140)
وقال عبد الله بن يوسف الجديع في تفسير هذه الكلمة في (التحرير) (1/590-591) : (هل تعني التعديل ؟ قال أبو حاتم الرازي في الحجاج بن سليمان ابن القُمْري : "شيخ معروف"(1) ؛ والتحقيق : أنه هو الرُّعَيني ، مصري ، اختلفوا فيه جرحاً وتعديلاً ، وقرينُ أبي حاتم أبو زرعة الرازي قال في الرعيني هذا : " منكر الحديث "(2) ، فكأن أبا حاتم أراد بالمعرفة أنه ليس بمجهول ، فتأمل ! ؛ بينما قال علي بن المديني في حصين بن أبي الحر مالك العنبري : "معروف"(3) ، وهو ثقة .
والتحقيق : أنها عبارة مجملة ، يُبحث في تفسيرها في عبارات سائر النقاد في ذات ذلك الراوي ؛ ومن دليل ذلك قول أحمد بن حنبل في أبي ريحانة عبد الله بن مطر : "هو معروف" ، فسأله ابنه عبد الله : كيف حديثه ؟ قال : "ما أعلم إلا خيراً "(4) ؛ فلو كانت العبارة دالة بمفردها على التعديل لما احتاج عبد الله ليسأل أباه عن حاله في الحديث .
ومثلها أيضاً عبارة "مشهور" ، إذا وُصف بها الراوي مجردةً ، كقول يحيى بن معين في مغيرة بن حَذفٍ العبسي : "مشهور"(5) ).
معْضَل(6) :
يعَرَّف المعضل عند جمهور المحدثين بأنه ما سقط من إسناده اثنان فأكثر ، بشرط التوالي ، أي يكون سقوط الساقطين في موضع واحد.
وأما إذا وقع فيه انقطاعان غير متواليين ، أي بقي بين موضعي السقوط بعضُ مَن يُذكر من الرواة : فهو منقطع من موضعين ، والأَولى عدم تسميته معضلاً.
ويسمى المعضل منقطعاً ، أيضاً ، لأنه من باب تسمية الشيء بالوصف الأعم.
ويسمى أيضاً مرسلاً ، عند الفقهاء وغيرهم .
وخص التبريزي المنقطع والمعضل بما ليس في أول الإسناد ، وأما ما كان في أوله فهو عنده معلَّق .
__________
(1) الجرح والتعديل (1/2/162).
(2) الجرح والتعديل (1/2/162).
(3) الجرح والتعديل (1/2/195).
(4) العلل ومعرفة الرجال (4593).
(5) الجرح والتعديل (4/1/220).
(6) راجع (المرسل الخفي) .(5/141)
هذا بيان معنى المعضل عند المتأخرين ؛ وأما المتقدمون ، فإنهم كانوا قليلاً ما يستعملون لفظة "معضل" بهذا المعنى الاصطلاحي الذي شاع عند المتأخرين ، ولكنها كانت تستعمل عندهم في معان أخرى خارجة عن ذلك ؛ فهي تعني أحياناً : الحديث أو الإسناد المنكر ، أو الشديد الضعف، ، أو الشديد النكارة ، أو الموضوع .
تكررت هذه اللفظة بهذه المعاني - أو ببعضها - في كلام الجوزجاني ، وابن عدي ، وابن حبان(1) ؛ ووردت بِندرة في كلام نقاد أُخَر ، كالبخاري ، وأبي حاتم الرازي، والعقيلي.
قال ابن حجر في (النكت) (2/575-580) تحت هذا العنوان (النوع الحادي عشر : المعضل) ما نصه :
(قوله {ص} : المعضل اصطلاحاً : وهو عبارة عما سقط منه اثنان فصاعداً … إلى آخره .
قلت : وجدت التعبير بالمعضل في كلام الجماعة(2) من أئمة الحديث فيما لم يسقط منه شيء البتة ؛ فمن ذلك : ما قال محمد بن يحيى الذهلي في الزهريات : حدثنا أبو صالح (الحراني) ثنا ابن ليهعة عن يزيد بن أبي حبيب عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قال : (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف فيمر بالمريض فيسلم عليه ولا يقف ) ؛ قال الذهلي : هذا حديث معضل لا وجه له إنما هو فعل عائشة رضي الله تعالى عنها ، ليس للنبي فيه ذكر ، والوهم فيما نرى من ابن ليهعة .
ومن ذلك : قال النسائي في (اليوم والليلة) : ثنا يزيد بن سنان نا مكي بن إبراهيم ، عن مالك ، عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : "متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم … " الحديث .
__________
(1) ولابن حبان في هذا الاستعمال نظائر أخرى معروفة ، منها قوله في (المجروحين) (1 / 340) في سلام بن أبي خُبْزة العطار : (كثير الخطأ ، معضل الأخبار ، يروي عن الثقات المقلوبات ، لا يجوز الاحتجاج به) .
(2) كذا في المطبوعة ، ولعلها تصحيف عن (لجماعة) .(5/142)
قال النسائي : هذا حديث معضل لا أعلم من رواه غير مكي ، لا بأس به ، لا أدري من أنبأني به .
ومن ذلك قال أبو إسحاق : إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني في ترجمة ضبارة بن عبد الله أحد الضعفاء : (روى حديثاً معضلاً) ، وهو متصل الإسناد .
وقال ابن عدي في ترجمة زهير بن مرزوق في (الكامل) : قال ابن معين : لا أعرفه .
قال : وإنما قال ابن معين ذلك لأنه ليس له إلا حديث واحد معضل ، وساقه ، وإسناده متصل .
وقال الحاكم أبو أحمد في ترجمة الوليد بن محمد الموقري : كتبنا له عن المسيب بن واضح أحاديث مستقيمة ، ولكن حاجب بن الوليد وعلي بن حُجْر حدَّثَا عنه بأحاديث معضلة .
وقال ابن عبد البر في حديث رواه عبد الجبار بن أحمد السمرقندي عن محمد بن عبد الله المنقري عن ابن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً : " من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه " : (لا مدخل لسعيد ولا لأبي هريرة رضي الله تعالى عنه في هذا الحديث ، وإنما رواه الزهري عن علي بن الحسين رضي الله عنهما ؛ وهذا مما أخطأ فيه عبد الجبار وأعضله .
[و]قال أبو الفتح الأزدي في ترجمة محمد بن عبد الله بن زياد الأنصاري : (روى عن مالك بن دينار معاضيل) ؛ ونسخة هذا الرجل هي عن مالك بن دينار عن أنس رضي الله تعالى عنه وغيره ، ولا انقطاع فيها .
فإذا تقرر هذا فإما أن يكونوا يطلقون المعضل لمعنيين ، أو يكون المعضل الذي عرَّف به المصنف وهو المتعلق بالإسناد بفتح الضاد ، وهذا الذي نقلناه من كلام هؤلاء الأئمة بكسر الضاد ويعنون به المستغلق الشديد . وفي الجملة فالتنبيه على ذلك كان متعيناً .
فإن قيل : فمن سلف المصنف في نقله أن هذا النوع يختص بما سقط من إسناده اثنان فصاعداً ؟(5/143)
قلنا : سلفه في ذلك علي بن المديني ومن تبعه ؛ وقد حكاه الحاكم في (علوم الحديث) عنهم ؛ فإنهم قالوا : المعضل : أن يسقط بين الرجل وبين النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من رجل ، والفرق بينه وبين المرسل أن المرسل مختص بالتابعين دون غيرهم ؛ والله الموفق ) .
ثم قال ابن حجر (2/580-582) :
(قوله {ص} : "ولا التفات في ذلك إلى معضل بكسر الضاد" .
اعترض عليه مغلطاي بناء على ما فهمه من كلامه أن مراده نفي جواز استعمال معضل بكسر الضاد فقال : ( كأنه يريد أن كسر الضاد ليس عربياً ، وليس كذلك ، فإن صاحب (الموعب) حكاها ؛ وفي (الأفعال) : عضل الشئ عضلاً : إعوجَّ ، يعني فهو معضل ) .
قلت : ولم يرد ابن الصلاح نفيَ ذلك مطلقاً ، وإنما أراد أنه لا يؤخذ منه "معضل" بفتح الضاد ، لأن معضل بكسر الضاد من رباعي قاصر والكلام إنما هو في رباعي متعد ؛ و "عضيل" يدل عليه ، لأن فعيلاً بمعنى مُفْعَل إنما يستعمل في المتعدي ؛ وقد فسر عضيل بمستغلق بفتح اللام ، فتبين أنه رباعي متعد ، وذلك يقتضي صحة قولنا معضل بفتح الضاد ، وهو المقصود .
هكذا قرره شيخنا شيخ الإسلام [يعني البلقيني] ؛ ثم قال : وفي الجملة فالأحسن أن يكون من أعضلته إذا صيرت أمرَه معضلاً ؛ قلت : فكأن المحدث الذي حدث به على ذلك الوجه أعضله فصار معضلاً ، وبهذا التقرير يندفع الإشكال) .
مُعَلّ :
الحديث المعل - أو المعلول ، أو المعلل - يراد به في اصطلاح المتأخرين الحديث الذي فيه في الأصل علة تمنع من تصحيحه من انقطاع أو ضعف في بعض رواته ثم وَهِمَ فيه بعض الثقات من رواته فرواه سالماً من تلك العلة فصار صحيحاً في ظاهره وهو لولا ذلك الوهم لتبين ضعفه لمن ينظر في سنده ومتنه .(5/144)
وأما القدماء فالمعلل عندهم أوسع من هذا المعنى ، والكتب التي جمعوها - أي القدماء - في بيان أحوال الأحاديث أو الأحاديث ورواتها وأسموها (العلل) أو (العلل الواردة في الأحاديث) أو (العلل ومعرفة الرجال) أو نحو ذلك ، لم يكن موضوعها مقصوراً على علم العلل بمعناه الضيق عند المتأخرين ، وإن جعل كثير من المتأخرين تلك الكتب أمثلة لما ألفه العلماء في علم العلل بمعناه الذي اصطلح عليه المتأخرون ، بل يذكر المتقدمون في تلك الكتب أنواعاً من العلل الظاهرة والخفية .
فعلة الحديث اسم يطلق عندهم على كل ما يمنع من صحته ، سواء ظهر ذلك المانع أو خفي(1) ، فهم يذكرون في تلك الكتب الأحاديث الشاذة والمضطربة والمنكرة والباطلة ويذكرون الانقطاع والاتصال والأحاديث التي وَهِمَ فيها الثقات ، بل قد يُسألون في تلك الكتب عن حال بعض الأحاديث ويجيبون بأنها صحيحة(2) .
__________
(1) أي سواء كان ذلك المانع ضعفاً في راو أو انقطاعاً في سند ؛ أو وقوع وهم من ثقة ، أو أي نوعٍ من أنواع النكارة ، فتراهم يقولون مثلاً : هذا الحديث قيه علتان ، فيه فلان لا يعرف حاله وفيه انقطاع بين فلان وفلان ؛ أو يقولون : هذا الحديث لا علة له سوى الانقطاع أو سوى عنعنة فلان وهو مدلس ؛ أو يقولون : هذا حديث ظاهره أنه صحيح ولكن فيه علة ، ثم يذكرون علة خفية ؛ وقد يذكرون علة غير قادحة.
(2) وهل صرح أحد من القدماء بأن موضوع كتابه هو أحاديث الثقات دون غيرها ، أو هل كان معنى العلة أو المعل شائعاً عندهم كما عند المتأخرين ليقال إن أسماء كتبهم تغني عن التصريح بموضوعات تلك الكتب وشروطهم فيها ؟(5/145)
ولكن مما لا شك فيه أن كبار الأئمة وجهابذة هذا الفن كانوا يُعْنَون ببيان ما خفيت علته من الأحاديث أو ما وهم فيه ناقد كبير من الأحكام أو ما هو موهِمٌ من الأسماء ونحوِها أكثرَ من عنايتهم بسواها من المسائل التي يبعد أو يندر خفاؤها على عامة النقاد وكبار الطلبة المحصلين ؛ وكذلك كان يفعل تلامذتهم حينما يسألونهم عن الأحاديث وأحوالها(1) ، حتى كثُر ذلك في كتبهم وصار أهم وأنفع ما فيها ، وحتى تكرر ذلك في كلامهم كثيراً ؛ فلما جاء المتأخرون ضيَّقوا معنى الحديث المعلول وحددوه ، كشأن مصطلحات أخرى كثيرة سلكوا فيها هذا المسلك ، لأنهم كان أكبرُ همِّهم استعمال اصطلاحات محددة تحديداً كاملاً غير متداخلة فيما بينها لا في قليل منها ولا في كثير ، فغيروا معانيَ كثير من المصطلحات ووضعوا فيها من الزيادة والنقصان ما يحقق لهم تلك الغاية المشار إليها، وربما وجدوا من ظواهر كلمات بعض القدماء ما تشبثوا به وجعلوه مستنداً لبعض تلك التصرفات الضارة المردودة ؛ ومن تلك الاصطلاحات كلمة (العلة) و (الحديث المعل) ؛ وانظر (العلة).
معلَّق :
انظر (تعليق) .
المعنى :
إذا قرن المحدث في حديثٍ أخرجه ، بين أكثر من واحد من شيوخه ، وقال عقب ذكرهم : (المعنى) ، فمعنى ذلك أن بينهم اختلافاً في اللفظ والسياق ، ولعل الأصل في هذا الباب أن يكون لفظ الرواية للشيخ المذكور أولاً .
وكذلك إذا أخرج المحدث متابعةً للحديث وقال عقب ذكره لأحد رواة تلك المتابعة : (المعنى) ، فمعنى ذلك أن تلك المتابعة مرويةٌ بمعنى الرواية المذكور متنها ، لا بلفظها .
ونحو ذلك قولهم (المعنى واحد) .
وانظر (حدثنا زيدٌ وعمرو واللفظ لعمرو) و(الرواية بالمعنى) .
المعنى واحد :
انظر (المعنى) و (حدثنا زيدٌ وعمرو واللفظ لعمرو) و(الرواية بالمعنى) .
معناه :
هو بمعنى قولهم (المعنى) ، وقد تقدم قريباً فانظره .
__________
(1) أي ازدادت عنايتهم بما ازدادت به عناية شيوخهم من علماء العلل.(5/146)
معنعن :
الإسناد المعنعن هو قول الراوي (فلان عن فلان) ، أي هو أن تأتي رواية الراوي عمن فوقه بلفظ (عن) ، وليس في هذه الصيغة من صيغ الأداء إذا جُردت عن القرائن بيانٌ لنوع التحمل ، ولا نفيٌ للواسطة بين من عَنعن ومن عُنعن عنه ، وهو الراوي الذي فوقه.
ويندرج تحت مصطلح العنعنة صيغ الأداء التي بمعنى (عن) وهي الصيغ المحتملة ، مثل (قال) المجردة عن كلمة (لي) أو (لنا) عَقِبها ، فيقال في وصفِ إسناد يرويه المدلس عمن فوقه بلفظ (قال) : (هذا إسناد معنعن) ؛ وكذلك يقال : (الأصل أن المدلس إذا صرح بالسماع كان حديثه متصلاً ، وإذا عنعن حُكم على حديثه بالانقطاع) .
مفيد :
انظر (أفادني).
المقابلة :
هي تصحيح الكتاب على أصله أو على فرع مقابل على ذلك الأصل .
قال الصولي في (أدب الكتّاب) (ص120-121) : ( يقال: قابلت الكتابَ بالكتاب أقابله مقابلةً وقبالاً ، المعنى : جعلت ما في واحد من الكتابين مثل [ما] في الآخر مشبهاً له ، من جهة ما كُتب فيه ، لا من كل جهة ، لأن القدود تختلف ، وكذلك الألوان الذي يكتب [كذا] فيه .
وتقابل الموضعان ، إذا كان أحدهما حيال الآخر وقبالته ، وكأنه في الحقيقة أقبل كل واحد منهما على صاحبه وشابهه في التقابل .
وأقبلتُ المرهمَ الجُرحَ ألصقته به ---- .
وعارضت الكتاب بالكتاب إنما هو عرضت ذا على ذا وذا على هذا حتى استويا .
وعارضت داري ببستانه سويت بينهما في القيمة وأخذت هذا بهذا .
وعارضته في قوله : أتيت بمثل ما قال ) .
وقال السخاوي في (فتح المغيث) (3/75) وهو يتكلم على المقابلة : (ويقال لها أيضاً المعارضة ، تقول : قابلت الكتاب بالكتاب قبالاً ومقابلة : أي جعلته قبالته وصيرت في أحدهما كلَّ ما في الآخر ؛ ومنه : منازل القوم تتقابل ، أي يقابل بعضها بعضاً ، وعارضت بالكتاب الكتاب ، أي جعلت ما في أحدهما مثل ما في الآخر ، مأخوذ من عارضت بالثوب إذا أعطيته وأخذت ثوباً غيره ) .(5/147)
قال ابن الصلاح في (علوم الحديث) (ص168 وما بعدها) : (العاشر: على الطالب مقابلة كتابه بأصل سماعه، وكتاب شيخه الذي يرويه عنه ، وإن كان إجازة .
روينا عن عروة بن الزبير رضي الله عنهما أنه قال لابنه هشام: كتبت؟ قال: نعم، قال: عرضت كتابك؟ قال: لا، قال: لم تكتب.
وروينا عن الشافعي الإمام وعن يحيى بن أبي كثير قالا: من كتب ولم يعارض كمن دخل الخلاء ولم يستنج.
وعن الأخفش قال: إذا نُسخ الكتاب ولم يعارَض، ثم نُسخ ولم يعارَض، خرج أعجمياً.
ثم إن أفضل المعارضة: أن يعارض الطالب بنفسه كتابه بكتاب الشيخ مع الشيخ، في حال تحديثه إياه مع كتابه، لِما يجمع ذلك من وجوه الاحتياط والإتقان من الجانبين ؛ وما لم تجتمع فيه هذه الأوصاف نقص من مرتبته بقدر ما فاته منها ؛ وما ذكرناه أولى من إطلاق أبي الفضل الجارودي الحافظ الهروي قوله: "أصدق المعارضة مع نفسك"----) إلى آخر كلام ابن الصلاح في هذه المسألة المهمة فانظره في أصله.
وقال أحمد محمد شاكر رحمه الله في (الباعث الحثيث) (ص136-137) : (بعد إتمام نسخ الكتاب تجب مقابلته على الأصل المنقول منه ، أو على أصل آخر مقابَل ، أو على نسخة منقولة من الأصل مقابلَةٍ ؛ وهذا لتصحيح المنسوخ خشية سقوط شيء منه أو وقوع خطأ في النقل ---- .
ويقابل الكاتب نسخته على الأصل مع شيخه الذي يروي عنه الكتاب ، إن أمكن ، وهو أحسن ، أو مع شخص آخر ، أو يقابل بنفسه وحده كلمة كلمة ، ورجحه أبو الفضل الجارودي فقال : (أصدق المعارضة مع نفسك) ، بل ذهب بعضهم إلى وجوبه ، فقال : (لا تصح مع أحد غير نفسه ؛ ولا يقلد غيره).
وأرى أن هذا يختلف باختلاف الظروف والأشخاص ، وكثير من الناس يتقنون المقابلة وحدهم ، ويطمئنون إليها أكثر من المقابلة مع غيرهم .
وإذا لم يتمكن الكاتب من مقابلة نسخته بالأصل فيكتفي بأن يقابلها غيرُه ممن يثق به .(5/148)
ويستحب لمن يسمع من الشيخ أن يكون بيده نسخة يقابل عليها ، فإن لم يكن فينظر مع أحد الحاضرين في نسخته .
وذهب ابن معين إلى اشتراط ذلك ، فقد سئل عمن لم ينظر إلى الكتاب والمحدثُ يقرأ : هل يجوز أن يحدث بذلك ؟ فقال : أما عندي فلا يجوز ، ولكن عامة الشيوخ هكذا سماعهم) . قال النووي : (والصواب الذي قاله الجمهور أنه لا يشترط) .
أما اذا لم يعارض الراوي كتابه بالأصل : فذهب القاضي عياض وغيره إلى أنه لا يجوز له الرواية منه عند عدم المقابلة ؛ والصواب الجواز ، إذا كان ناقل الكتاب ضابطاً صحيح النقل قليل السقط ؛ وينبغي أن يبين حين الرواية أنه لم يقابل على الأصل المنقول منه ، كما كان يفعل أبو بكر البرقاني ، فإنه روى أحاديث كثيرة قال فيها : "أخبرنا فلان ولم أعارض بالأصل" .
ثم إن الشروط التي سبقت في تصحيح نسخة الراوي ومقابلتها بأصلها إلخ - : تعتبر أيضاً في الأصل المنقول عنه ؛ لئلا يقابل نسخته على أصل غير موثوق به ولا مقابَلٍ على ما نُقل منه ) ؛ انتهى .
مقارب الحال :
هي بمعنى (مقارب الحديث).
مقارب الحال إن شاء الله :
هي بمعنى التي قبلها ، أو أدنى منها بشيءٍ يسير.
مقارب الحديث :
قولهم في الراوي (مقارِب الحديث ) - بكسر راء مقارب - الأصح في معناه أن حديثه يقرب من حديث الثقات ، وأنه لا بأس به ، وهذا تعديل في الجملة .
وللعلماء في قول أهل الحديث في الراوي (مقارب الحديث) مذاهب :
الأول : أن الصواب في ضبط هذه اللفظة من مصطلحات المحدثين كسر رائها لا فتحها ، وأن الفتح خطأ ، وأن معناها - أي حال الكسر - هو ما تقدم بيانه .
الثاني : أنها تستعمل بكسر الراء ، وتستعمل بفتحها ، وأن معناها في الحالتين واحد ، وهو التعديل أيضاً ، كما تقدم .(5/149)
الثالث : أنها تستعمل بالكسر ، وهي حينئذ تفيد التعديل ، كما تقدم ، وتستعمل أيضاً بالفتح ، وهي حينئذ تفيد التجريح(1) .
أما القول الأول فهو أصحها ، كما سبقت الإشارة إليه ، ويدل عليه ما يلي من تعقب القولين الآخرين ونقدهما .
وأما القول الثاني ، ففيه نظر ، وأنا أستبعد بعض الشيء أن يكون المتقدمون من نقاد الحديث استعملوا هذه العبارة بفتح الراء ، على إرادة أن أحاديث الثقات تقارب حديثه ، فهذا غريب ، لأن أحاديث الثقات هي الأصل في النقد والمقياس والميزان ، وهي الشيء المعلوم حكمه ومنزلته ، وحديث ذلك الراوي هو الفرع المقيسُ والشيء الذي يوزن بأحاديث الثقات ويحكم عليه بقربه منها أو بعده عنها ، والأصل أن يقال في وصف شيء قريب من الحق الظاهر المعلوم : (هو قريب من الحق) ، ونحو ذلك ؛ وليس الأصل أن يقال في مثل ذلك : ( الحق قريب منه) ، فيكون من باب إحالة المقيس به على المقيس ، أو إحالة المعلوم على المجهول .
وأما القول الثالث ، فمن قال به فقد وهم وأبعد ، ولقد تعقب العراقي هذا التفصيل في (التقييد والإيضاح) (ص162) فارجعْ إليه ، وقال السخاوي في (فتح المغيث) (2/130) بعد شيء ذكره : (ومِن ذلك مقارب الحديث ، حيث قيل إنه بفتح الراء رديء(2) ، ولكن المعتمد - كما تقدم - أنه لا يختلف أمرها في فتح ولا كسر ) .
__________
(1) قال الدكتور قاسم علي سعد في (مباحث في علم الجرح والتعديل) (ص43) : (كما أن القسطلاني في (مقدمة إرشاد الساري) (1/19) عدَّ هذه اللفظة من ألفاظ التجريح ، وجعلها أدنى من قولهم (ليس بقوي) وأرفع من قولهم (واه بمرة) ، وقد ذكر القسطلاني مراتب ألفاظ الجرح والتعديل لكنه لم يحررها مع أنه من المتأخرين) .
(2) قال السيوطي في (تدريب الراوي) (وممن جزم بأن الفتح تجريحٌ البلقيني في "محاسن الاصطلاح") .(5/150)
هذا وفقد قصَرَ ابنُ الجزري في (منظومته) لفظة (مقارب) على التجريح ، فقصَّر في ذلك ؛ وقال السخاوي في شرحها - وهو (الغاية في شرح الهداية) - (1/202-203) وهو يتكلم على هذه اللفظة حيث أوردها ابن الجزري في (الهداية) : (وإيراد الناظم لها في ألفاظ التجريح شيء قد انفرد به عن ابن الصلاح ومن تبعه ، إذ هي عندهم في المرتبة الأخيرة من ألفاظ التعديل ، وصنيع البخاري - وتبعه الترمذي - يؤيده ) .
أي : (ويشهد له حكايةُ شيخنا عن بعضهم "مقارَب" ، بالفتح ، من قولهم "هذا شيء مقارَب" ، أي رديء ؛ قال شيخنا : وحينئذ يبقى من باب الجرح ؛ انتهى ، ولعل هذا هو سلف الناظم) ؛ انتهى كلام السخاوي .
والظاهر أن الكلمة التي تكلم عليها ابن الجزري هي ذات الراء المفتوحة ، وأما إن كانت بالكسر فهو قول رابع .
وإليك كلام السخاوي على هذه اللفظة بتمامه حيث شرح بيت العراقي :
وصالحُ الحديثِ أو مقارِبُه *** جيّدُه ، حسنُه ، مُقارِبُه
قال السخاوي في (فتح المغيث) (2/114-115) في ضبط هذه اللفظة (مقارب الحديث) وشرحِ معناها ما لفظه :
(مِن القُرْب ، ضد البعد ، وهو بكسر الراء ، كما ضُبط في الأصول الصحيحة من كتاب ابن الصلاح المسموعة عليه ، وكذا ضبطها النووي في مختصريه(1) ، وابن الجوزي ، ومعناه أن حديثه مقارِبٌ لحديث غيره من الثقات .
أو بفتح الراء ، أي حديثه يقاربه حديثُ غيرِه .
فهو - على المعتمد - بالكسر والفتح : وسط ، لا ينتهي إلى درجة السقوط ولا الجلالة ؛ وهو نوع مدح .
وممن ضبطها بالوجهين ابنُ العربي وابن دحية والبطليوسي وابن رُشيد في (رحلته) ؛ قال(2) : ومعناها يقارب الناس في حديثه ويقاربونه ، أي ليس حديثه بشاذٍّ ولا منكر.
__________
(1) يعني (الإرشاد) و(التقريب) .
(2) السياق يدل على أن المراد ابن رشيد .(5/151)
قال : ومما يدلك على أن مرادهم بهذا اللفظ هذا المعنى ما قاله الترمذي في آخر باب من فضائل الجهاد من "جامعه" وقد جرى له ذكر إسماعيل بن رافع فقال : ضعفه بعضُ أهل الحديث ، وسمعت محمداً - يعني البخاري - يقول : هو ثقة مقارب الحديث ؛ وقال في باب ما جاء من أذن فهو يقيم : والأفريقي - يعني عبد الرحمن - ضعيف عند أهل الحديث ، ضعفه يحيى بن سعيد القطان وغيره ، وقال أحمد : لا أكتب عنه ، قال الترمذي : ورأيت البخاري يقوي أمرَه ويقول : هو مقارب الحديث ؛ فانظر إلى قول الترمذي ، ان قوله مقارب الحديث تقوية لأمره ، وتفهمه ؛ فإنه من المهم الخافي الذي أوضحناه ؛ انتهى ) ؛ انتهى كلام السخاوي .
قلت: ومثْلُ ذلك قولُ علي بن المديني في عبد السلام بن حرب: (قد كنت استنكر بعض حديثه حتى نظرت في حديث مَن يُكثر عنه فإذا حديثه مقارب عن مغيرة والناس، وذلك أنه كان عسراً فكانوا يجمعون غرائبه في مكان فكنت أنظر إليها مجموعة فاستنكرتها)؛ نقله الذهبي في (السير) (8/336).
وكذلك قول علي بن المديني في عبد الرحمن بن أبي الزناد : (حديثه بالمدينة مقارب وبالعراق مضطرب) نقله ابن حجر في (فتح الباري) (13/187) في شرحه (باب ترجمة الحكام وهل يجوز ترجمان واحد)(1) .
__________
(1) وهذا كلام ابن حجر في هذا الموضع أنقله بطوله ، لأجل ما فيه من من زيادة في إيضاح مقصودنا ومن فوائد خارجة عنه ولكنها داخلة في جملة مباحث هذا الفن الشريف :
قال رحمه الله : (وقد اعترض بعضهم على ابن الصلاح ومن تبعه في أن الذي يجزم به البخاري يكون على شرط الصحيح وقد جزم بهذا [يعني الحديث المعلق الذي هو قيد الشرح] مع أن عبد الرحمن بن أبي الزناد قد قال فيه ابن معين: ليس ممن يحتج به أصحاب الحديث ، ليس بشيء ، وفي رواية عنه: ضعيف ، وعنه : هو دون الدراوردي ، وقال يعقوب بن شيبة : صدوق وفي حديثه ضعف سمعت علي بن المديني يقول : حديثه بالمدينة مقارب وبالعراق مضطرب ، وقال صالح بن أحمد عن أبيه : مضطرب الحديث ، وقال عمرو بن علي نحو قول علي ، وقالا : كان عبد الرحمن بن مهدي يحط على حديثه ، وقال أبو حاتم والنسائي : لا يحتج بحديثه ؛ ووثقه جماعة غيرهم كالعجلي والترمذي ، فيكون غاية أمره أنه مختلف فيه فلا يتجه الحكم بصحة ما ينفرد به ، بل غايته أن يكون حسناً ؛ وكنت سألت شيخيَّ الإمامين العراقي والبلقيني عن هذا الموضع فكتب لي كل منهما بأنهما لا يعرفان له متابعاً وعوَّلا جميعاً على أنه عند البخاري ثقة فاعتمده ، وزاد شيخنا العراقي أن صحة ما يجزم به البخاري لا يتوقف أن يكون على شرطه ، وهو تنقيب جيد ، ثم ظفرت بعد ذلك بالمتابع الذي ذكرتُه فانتفى الاعتراض من أصله ؛ ولله الحمد).(5/152)
وقال العلامة عبد الحق الإشبيلي في (كتاب التهجد) (ص103 ) (حديث رقم 456 - طبعة دار الكتب العلمية ) : (قال البخاري : أبو ظلال مقارب الحديث ؛ يريد أن حديثه يقرب من حديث الثقات ، أي لا بأس به ) ؛ انتهى كلامه.
وقال عبد الله بن يوسف الجديع في (التحرير) (1/578-579) : (وقع استعمال هذه العبارة في كلام أحمد بن حنبل ، والبخاري ، وهي عبارة تعديل وقبول ، تساوي مرتبة "حسن الحديث" ، على هذا دل استقراء أحوال من قيلت فيه ، على قلة ذلك في كتب الجرح والتعديل ؛ بل وجدت البخاري قال في الوليد بن رباح : "مقارب الحديث" ، وحكم على حديث رواه ، بقوله "حديث صحيح"(1) ؛ والترمذي يبني على من يقول فيه البخاري ذلك أن يحسِّن حديثََه(2) ، نعم ، ربما خالف شيخَه في قوله ذلك ولم يقنع به في رواة شاع لأهل العلم بالحديث فيهم الجرح.
وبمعناه أيضاً عبارة "حديثه مقارب" ، ووقعت في كلام أحمد بن حنبل ، وأبي حاتم الرازي ، وبنَدرة في كلام يحيى بن معين ، وغيرهم) ؛ انتهى .
وقال محمد عوامة في تعليقه على (الكاشف) (2/384) بعد شيء ذكره : (فيستفاد من هذا أن "مقارب الحديث" و "ليس به بأس" و "صدوق" في مرتبة واحدة عند الإمام البخاري رحمه الله تعالى ، وثلاثتها من مراتب التعديل ؛ لا كما استنتجه المعلق على "العلل الكبرى" 2/970) . انتهى .
مقارِبٌ الحق :
استعمل الإمام أحمد كلمةً يظهر أنها مساويةٌ لكلمةِ (مقارِب الحديث) ، أو مقاربةٌ لها في معناها ؛ وهي قوله (حديثه حديث مقارب الحق) ، انظر (الكفاية) للخطيب (ص151) ؛ وانظر (مقارب الحديث).
__________
(1) العلل الكبير للترمذي (2/676-677).
(2) أقول: هذا بناه عبد الله الجديع على أن معنى التحسين عند الترمذي هو التحسين الاحتجاجي، ولقد أظهر التحقيق أن في إطلاق ذلك نظراً.(5/153)
مقبول :
القبول ضد الرد ؛ والمقبول من الأحاديث هو ما يُحتج به منها ، فهو يقابل المردود ، وهو الذي لا يحتج به ؛ ويقال للمقبول أيضاً : الثابت ، وهو يشمل عند المتأخرين قسمي الصحيح والحسن ، فَهُما قسما المقبول أو الثابت أو المحتج به .
وأما المقبول من الرواة فالذي يرشد إليه الأصلان العرفي واللغوي لهذه الكلمة هو أن الراوي المقبول هو من يُحتج بحديثه ، أي هو أحد رواة الأحاديث المقبولة ، سواء كان من رواة الصحيح أو الحسن ؛ فالمتبادر إذن هو أن معنى وصف الراوي بالمقبول هو القبول عند الانفراد فضلاً عنه عند المتابعة ، ولعل هذا كان اصطلاح أكثر من استعمل هذه اللفظة من النقاد ، ولكنه اصطلاح غير شائع ، ولذلك استساغ ابن حجر مخالفته والشذوذ عنه ، فاصطلح على استعمال هذه الكلمة في كتابه (تقريب التهذيب) بمعنى يظهر أنه مبتكر ، وهو أن من قالها فيه يكون مقبولاً عند المتابعة ومردوداً عند الانفراد ؛ فقال في مقدمته عند بيان المراتب التي عليها قسم رجال الكتاب:
(---- الثالثة: من أفرد بصفة، كثقة، أو متقن، أو ثبت، أو عدل.
الرابعة: من قصر عن درجة الثالثة قليلاً، وإليه الإشارة بصدوق أو لا بأس به أو ليس به بأس.
الخامسة: من قصر عن الرابعة قليلاً، وإليه الإشارة بـ(صدوق سيء الحفظ ) أو ( صدوق يهم أو له أوهام أو يخطئ أو تغير بأخرة )، ويلتحق بذلك من رمي بنوع من البدعة كالتشيع والقدر والنصب والارجاء والتجهم مع بيان الداعية من غيره.
السادسة : من ليس له من الحديث إلا القليل ، ولم يثبت فيه ما يُترك حديثه من أجله ؛ وإليه الاشارة بلفظ (مقبول) ، حيث يتابع ؛ وإلا فلين الحديث.
السابعة: من روى عنه أكثر من واحد ولم يوثق، وإليه الإشارة بلفظ مستور أو مجهول الحال ----) ، إلى آخر كلامه في بيان المراتب؛ ودعنا نكتفي منه بهذا القدر، فإننا قد بلغْنا المرادَ شرحُه؛ وهي عبارة ابن حجر في بيان المرتبة السادسة ، وكلامي عليها من وجوه:(5/154)
الوجه الأول: في بيان معنى هذه اللفظة أو المرتبة عند ابن حجر ، وبيان حكم أحاديث أصحاب هذه المرتبة:
استعمل ابن حجر في هذه المرتبة كلمة واحدة هي كلمة (مقبول)، ولكنه استعملها بمعنى خالف فيه الجمهور، فهو يريد بها أن من قالها فيه فحديثه مقبول عند المتابعة ومردود غير مقبول عند الانفراد، وهم يريدون بها - كما هو معلوم ، وكما يشهد له أصل المعنى اللغوي والعرفي لهذه اللفظة - القبول عند الانفراد فضلاً عنه عند المتابعة، ولكن هذا اصطلاح له قد بين مراده به فلا محذور فيه، ولا مشاحة في اصطلاح لا محذور فيه.
وأما حكم أحاديث هذه المرتبة فهو واضح في الجملة، فإنها قطعاً في مرتبة فوق مرتبة المتروك كما صرح به ابن حجر نفسه(1) ، ودون مرتبة الصدوق السيء الحفظ، كما يدل عليه تسلسل المراتب؛ إذ رجال السادسة دون رجال الخامسة في القوة(2).
وقد صرح بذلك الحكم ابن حجر نفسه، وهو القبول، بشرط أن يتابَع الراوي أي مِن قِبل من هو مثله أو فوقه، وإلا فلا(3).
__________
(1) أعني في قوله (ولم يثبت فيه ما يترك حديثه من أجله).
(2) فإن قيل: هل ثبت أن المراتب عند ابن حجر مرتَّبة على سبيل التدني والتناقص ، أي أنه يذكر الأعلى فالأعلى ؟ أجيب عن ذلك بأنه مما لا ينبغي أن يُشك فيه ، فإنه الموافق للأصل ولتسميتها بالمراتب ، ويدل عليه أيضاً جملة من الدلائل والقرائن ، وغيره بعيد جداً.
(3) فمن قال فيه ابن حجر : (مقبول) فهو عنده لين الحديث ، أي يُرَدّ حديثه عند الانفراد به، أو عدم المتابعة المعتبرة ، ويُقبل حديثه عند المتابعة المعتبرة عليه ؛ ومعنى كون الحديث مقبولاً هو أنه حسن في أقل أحواله ، فهذا معنى القبول عند المتأخرين وبعض المتقدمين.(5/155)
وواضح أن معنى القبول هو الاحتجاج، فيكون نفي القبول عن الراوي عند عدم المتابعة معناه نفي الاحتجاج بما تفرد به ، ولذلك كان من الغريب ما زعمه الدكتور وليد العاني رحمه الله من أن ابن حجر يحتج بما انفرد به المقبول دون اشتراط متابعة، فقد قال في كتابه (منهج دراسة الأسانيد) (ص58 وما بعدها): « إن المقبول ليس مرتبة من مراتب الصحة عند ابن حجر، كما أنها ليست من مراتب الضعف، لكنها مرتبة من مراتب الحسن» ؛ ثم استدل بأدلة يعلم من تأملها ضعفها، أو يظهر له خروجها عن محل النزاع(1).
الوجه الثاني(2) : في بيان الفرق عند ابن حجر بين معنى كلمة (مقبول) وسائر مصطلحات مراتب الاستشهاد التي استعملها في (تقريب التهذيب) :
__________
(1) قال الدكتور أحمد معبد في هامش (النفح الشذي) (1/203): « واصطلاحه في هذا الكتاب [يعني ابن حجر في التقريب] لا يفيد أن من قال عنه (مقبول) يكون حديثه حسناً لذاته».
وقال عبد الله بن يوسف الجديع في تعليقه على (المقنع) لابن الملقن (1/285): «هي مرتبة لاحقة بمراتب التعديل، حيث يصلح حديث من هذا وصفه للاعتبار، أما ما ينفرد به فهو لين، وهذا ينقله الى الجرح؛ فإذن (لين الحديث) أخف مراتب الجرح ».
(2) وهو مكمل للوجه الأول ومقارب له في مقصده.(5/156)
أما كلمة (مقبول) فقد تقدم شرطُه فيها كما بينه هو ، وأما كلمة (لين الحديث) فإنه لم يبين شرطه فيها(1) ، مع أنه قالها في جماعة من رجال الكتاب(2) ، وهي لا دخل لها بمتابعة ولا انفراد ، ومعناها يُعلم من استقرائها ومن ملاحظة استعمال بقية النقاد لها ، وهو الضعف الخفيف الذي لا يمنع من الاعتبار بحديث الراوي .
فإن قيل : لماذا فرق ابن حجر بين هذا النوع من الرواة وأما بقية الألفاظ النقدية التي استعملها ابن حجر في (التقريب) في وصف الرواة الذين يستشهد بهم أي تقبل أحاديثهم عند المتابعة وترد عند التفرد؟
فالجواب : أن رواة الاستشهاد ليسوا على مرتبة واحدة ؛ ويظهر أن المقبول أعلى ممن ذُكر بعده من أصحاب المرتبة السابعة والثامنة ؛ وثم فرقٌ آخر وهو أن جهة التليين هنا غير جهة التليين أو التضعيف في المراتب اللاحقة ، ولا شك أن بيان حال الراوي على طريقة التفصيل والتعيين أحسن منه على طريقة الإجمال والمقاربة.
إن الضعيف الذي يعتبر به هو من ثبت لِينُه ، وذلك بأن يخالف الثقات في قدر مما روى ، أو بأن تكثر غرائبه كثرة مؤثرة فيه ، أو بكلام بعض الأئمة فيه ، أو بنحو ذلك ؛ وأما المقبول فهو بحسب اصطلاح ابن حجر : من لم يثبت ضعفه ولا قوته ولكنه ورد فيه ما يُشعر بأنه إلى القوة أقرب ولو قليلاً ؛ وانظر التفريع التالي ففيه زيادة في البيان وتعبير عن المقصود بطريقة ثانية.
__________
(1) ولكنه بين شرطه في نوع واحد من أنواعها ، وهو مابينه بقوله المتقدم (---- وإلا فلين الحديث).
(2) زاد عدد الرواة الذين قال فيهم ابن حجر في (التقريب) : (لين) أو (لين الحديث) أو (فيه لين) على المئة والخمسين ، ومنهم الرواة الذين زاد في وصفهم كلمات نقدية أخرى مع إحدى هذه الكلمات الثلاث ؛ والتي كان أقلها تكرراً كلمة (لين).(5/157)
استفسر محمد عوامة في مقدمته على (التقريب) (ص28) فقال: «متى نقول عن هذا: مقبول، وعن ذاك: لين الحديث؟ إن كان قولنا بناءً على اطلاعنا فما كل من نظر في (التقريب) عنده أهلية الاطلاع على الطرق وتتبعها.
وإن قال قائل: إن المصنف قد كفانا مؤونة ذلك، فحكم على من له متابع بالقبول، وعلى من لا متابع له باللين، قلنا: إن هذا حكم فرضي متعذر، ولا سيما إن لاحظنا أن للراوي أكثر من حديث، واستقراء أحاديث كل راو وتتبعها كلها ثم الفحص التام عن متابع لكل حديث منها، فإنه أمر متعذر جداً؛ ويزداد الأمر تعذراً وإشكالاً حين ملاحظة وجود متابع على بعض الأحاديث، وعدم وجود متابع على بعضها الآخر، فكيف تكون عبارة المصنف حينئذٍ في حق هذا الراوي ؟! » .
وأورد محمد عوامة في مقدمة تحقيق (التقريب) (ص28) على ابن حجر أنه قال في بعض الرواة (لين الحديث)، مع أنه قد توبع على حديثه، وأن شرطه [يعني في وصف الراوي بكلمة لين الحديث] في التقريب عدم المتابع، وأن يكون فيه كلام لكنه لم يثبت فيه!! فلِمَ لمْ يقل عنه: مقبول؟!.(5/158)
أقول: هذا الاستشكال لا وجه له بحال، وإنه لغريب من مثل هذا الباحث المتوسع، فكل ما هنالك هو أن ابن حجر حكم على رواة هذه المرتبة بكلمة (مقبول) التي معناها عنده ثبوت أحاديثهم عند المتابعة وردها عند الانفراد(1)، وأما المشتغلون بالتخريج فمن كان منهم مجتهداً في حال الراوي فهو إنما ينظر فيه من غير اعتمادٍ - أو كبيرِ اعتمادٍ - على ابن حجر ولا على غيره من المتأخرين، ومن كان منهم مقلداً لابن حجر أو متبعاً له أو معتمداً عليه فليس عليه إلا أن يجمع طرق ذلك الحديث الذي رواه المقبول عند ابن حجر، فإن وجد له متابعة تقويه، وإلا فهو مردود، وهذا واضح جداً.
وأما إن وجد المقلد أن ابن حجر قد قال في بعض رواة ذلك الحديث (لين) أو (لين الحديث) فليس عليه إلا أن يكون عارفاً معنى هذا المصطلح عند ابن حجر، والفرق بينه وبين المقبول عنده، أعني عند ابن حجر أيضاً.
فكأن الأستاذ محمد عوامة توهم أن ابن حجر قسم هذه المرتبة السادسة إلى قسمين: أولهما المقبول، وثانيهما لين الحديث؛ وهذا غير واقع، فإنه لم يقله ابن حجر لا تصريحاً ولا تلويحاً، وكيف يقوله أو يذهب إليه مثل الحافظ ابن حجر وهو يعلم - وكذلك يعلم غيره - أن تقسيم مرتبة معينة من هذه المراتب إلى قسمين لهما حكمان مختلفان ينافي كونها مرتبة واحدة، ويقتضي تفريقها إلى مرتبتين، وهو خلاف الواقع في (التقريب)، فإن مرتبة المقبول عند المتابعة المردود عند الانفراد مرتبة واحدة وهي السادسة؛ وهذا ظاهر.
__________
(1) وابن حجر ما حكم على رواة هذه المرتبة بكلمة (مقل) ليطالب الآخرين بالنظر في كل راو منهم عند الكلام عليه أو على شيء من أحاديثه ليعلم أهو مقبول أو لين؛ وكذلك هو لم يقسم رواة هذه المرتبة قسمين الأول منهما مقبول والثاني لين الحديث؛ وإنما هو قسم واحد وصفه بقوله (مقبول)، وقد شرح معنى هذا الحكم.(5/159)
وفرْق بين كلمة (لين الحديث) الواردة في سياق ذكر ابن حجر لهذه المرتبة وبيانه لها، وبين وصفه طائفة من الرواة في (التقريب) بهذه الكلمة أعني (لين الحديث)، أو بكلمة (لين) وحدها، سواء كانت مرادفة في اصطلاحه لكلمة (مقبول) أو مباينة لها(1)؛ فالأُولى(2) وصف لحديث الراوي المَقُول فيه في (تقريب التهذيب) : (مقبول) ، إذا عدمنا المتابعة المعتبرة لذلك الحديث؛ وأما الثانية(3) فهي وصف للراوي ، أي بالنظر إلى مجموع أحاديثه.
__________
(1) ذكر ابن حجر في مواضع من (التقريب) رواة وصفهم بلفظة (لين) أو (لين الحديث)، ولا شأن لهم بالبيان الموجود في هذه المرتبة، فقلب الدكتور وليد رحمه الله المسألة فقال: «حديث لين الحديث عند ابن حجر حسن لذاته، أما إذا اعتضد بالشواهد ارتفع إلى الصحيح لغيره».
وهذا خطأ عجيب لا خفاء به، فكيف يقال في لين الحديث انه حسن الحديث؟!
أي كيف يوصف الحديث اللين بأنه حديث حسن؟!
وهل في المصطلح أو اللغة ما يسوِّغ هذا؟!
فقد علم الناس ما بين كلمتي (حسن) و (لين) من فروق لغة واصطلاحاً.
والذي يظهر أن كلمة (لين) أو (لين الحديث) من حيث حكمها مساوية تماماً أو مقاربة جداً لكلمة (مقبول)، ولعل ابن حجر فرق بين الراويين في التسمية وإن كانا متساويين في الحكم، لأنهما مختلفان في الصفة، فكأن شرطه في إطلاق كلمة مقبول - وقد تقدم بيانه - غير حاصل في أولئك الرواة الذين قال فيهم: (لين) أو (لين الحديث) أو (فيه لين)؛ وهذه اللفظة الأخيرة أخف في التجريح، والله أعلم.
(2) أي المذكورة في سياق قوله (---- وإلا فلين الحديث).
(3) وهي لفظة (لين) أو (لين الحديث).(5/160)
وابن حجر - وهو في هذا كسائر علماء الرجال في أحكامهم المجملة على الرواة - إنما يحكم على الرواة لا على أحاديثهم حديثاً حديثاً، والحكم على الراوي كما هو معروف إنما هو الأصل في الحكم على أحاديثه، أو هو حكم إجمالي أو أغلبي على أحاديثه ؛ وهذا الأصل لا يخرج عنه الناقد المخرِّج لأحاديث الراوي في حديث من أحاديثه إلا إذا وجد ما يقتضي خروجاً عن ذلك ، مثل أن يجد من المتابعات والطرق والقرائن ما يزيد الحديث قوة ترفعه فوق ذلك الحكم الأصلي ، أو تزيده ضعفاً بأن تكون دالة على شذوذه وخطئه.
والحاصل أنه لا إشكال في هذه القضية بحمد الله، وأن الحافظ ابن حجر لم يذكر في هذه المرتبة السادسة رجالاً يقسمهم قسمين، أو يطالب غيره من المعتمدين على كتابه من الحديثيين بتقسيمهم إلى قسمين، وإنما ذكر فيها رجالاً هم رجال رتبة واحدة، ولكنه أرشد إلى تقسيم أحاديثهم بحسب المتابعة المعتبرة وعدمها ، إلى قسمين، مقبول أي يعمل به، ولين أي لا يعمل به، والله أعلم.
الوجه الثالث: في بيان الفرق عند ابن حجر في (تقريب التهذيب) بين كلمة (مقبول) وبقية المصطلحات الدالة على ضعف الراوي مع صلاحيته للاستشهاد به:
بين كلمة (مقبول) وتلك المصطلحات عنده فرق من وجه واتحاد من وجه.
فهما يتحدان في أن كلاً منهما تدل على أن من قيلت فيه، يصلح للاستشهاد، ليس متروكاً البتة، ولا صالحاً للحجة عند انفراده؛ وإن كان حديث المقبول أقرب إلى القوة من الآخر وأولى بالتقوية عند المتابعة من الآخر.
وهما يختلفان من وجه، وهو أن الضعيف الذي يعتبر به هو من ثبت لِينه، أي مخالفاته في قدر مما روى، أو ثبتت كثرة غرائبه المؤثرة فيه، أو قال فيه ناقد معتمد ما يقتضي ذلك الحكم؛ وأما المقبول فقد تقدم تعريف ابن حجر له.
الوجه الرابع: في بيان حد القلة المذكورة في كلام ابن حجر المتقدم:(5/161)
حد القلة الواردة في العبارة لم يبينه ابن حجر ولكن بينه الدكتور وليد العاني فقال في (منهج دراسة الأسانيد) (ص52): «وقد التزم رحمه الله بهذا أيما التزام، ولقد تتبعت كثيراً من هؤلاء المقبولين فرأيت غالبهم ممن له الحديث الواحد أو الحديثان، وقل منهم من يتناول الثلاثة، أما فوقها فنادر، وقد وجدت أكثر راو [يعني من حيث عدد أحاديثه] أدخله ابن حجر في هذه المرتبة راوياً عنده ستة أحاديث».
الوجه الخامس:
قوله: «ولم يثبت فيه ما يترك حديثه من أجله»، ظاهر عبارته أنه لم يحترز فيها إلا عمن ثبت فيه ما يترك حديثه من أجله، وليس ذلك مراداً له، لأنه لو أراده لدخل في هذه المرتبة حينئذ كل مقل غير متروك، سواء كان ضعيفاً يستشهد به أو صدوقاً أو ثقة، لأن كل هؤلاء غير متروكين؛ وهذا باطل قطعاً، لأن هذه الأوصاف الثلاثة لها عند ابن حجر في (التقريب) - كما هو معلوم - مراتب أخرى غير هذه المرتبة؛ نعم هناك تقارب في الحكم أو اشتراك فيه بين مرتبتي المقبول والضعيف أي الذي يستشهد به، وذلك أن كلاً منهما يتقوى حديثه بالطرق والمتابعات.
الوجه السادس:
أكثر ابن حجر من اطلاق كلمة (مقبول) على مجاهيل التابعين الذين لم ير في حديثهم ما يستنكره، وكذلك فعل في حق كثير من شيوخ أصحاب السنن وكثير من المجاهيل الذين انفرد بتوثيقهم ابن حبان أو العجلي.
الوجه السابع :
من عادة ابن حجر أنه إذا ورد في الراوي المقل توثيق من إمام معتدل، ولم يرد ما يعارضه فإنه يوثقه، وأما إذا كان في ذلك الإمام نوع من التساهل في إطلاق كلمة (ثقة) على الصدوق ونحوه كالخطيب ومسلمة بن قاسم الأندلسي وأبي علي الجياني، فإن الغالب على ابن حجر عندئذٍ أن ينزل بذلك الراوي إلى رتبة الصدوق.
الوجه الثامن:
المقل إذا ثبت ضعفه كان أقرب إلى الترك، فإنه تؤثر فيه القوادح ما لا تؤثره في المكثر؛ وقد أشار إلى هذا أو جرى عليه كثير من الأئمة.
الوجه التاسع :(5/162)
الأصح والأحسن في نقد المتون الواردة بأسانيد لينة غريبة عارية عن المتابعات أن توصف بأنها متون ضعيفة، ولا يحسن الاقتصار في وصفها على كلمة (لينة)، فإن في ذلك إيهاماً ومخالفة لاصطلاح جمهور العلماء، ولا سيما المتأخرين منهم، فإنهم قسموا السنن إلى صحيحة وحسنة وضعيفة، وضعيفة جداً وموضوعة(1) .
إذا صح هذا الاعتراض اليسير ، لم تسلم منه عبارة ابن حجر السابقة ، أعني قوله (السادسة : من ليس له من الحديث إلا القليل ، ولم يثبت فيه ما يُترك حديثُه من أجله ؛ وإليه الإشارة بلفظ (مقبول) ، حيث يتابع ؛ وإلا فلين الحديث) ، فكان الأولى أن يقول : (وإلا فضعيف الحديث) ، ولكن قد يُجاب عن هذا بأن ابن حجر لم يصف باللين حديثاً بعينه ، بل وصف الراوي حال تفرده ، فهو كمن وصف راوياً باللين مطلقاً من غير تقييد بتفرد ؛ فيندفع الاعتراض عن ابن حجر من أصله ؛ وانظر (لين الحديث).
الوجه العاشر ، في بيان تقدير عبارة ابن حجر في بيان المرتبة السادسة ، وذكرِ أهم خلاصات هذا البحث ، وهذا الوجه فرع عن الوجوه السابقة:
__________
(1) الذي عنيته بالإيهام هو أن متن الحديث إذا وصف بأنه (لين) فإنها كلمة يُعلم أنها في سلم النقد فوق كلمة (ضعيف)، فلربما ظن بعض من وقف على ذلك الوصف أن الحديث مرتفع عن مرتبة الضعف وأنه يلزم من ذلك - بحسب ظنه - أنه مرتفع عن مراتب الرد كلها وأنه مقبول، لأن مرتبة (ضعيف) في نقد الأحاديث هي أقرب مراتب رد الحديث إلى مراتب قبوله، وهو لا يعلم بحسب ما اشتهر من الاصطلاح عند المتأخرين أو المعاصرين مرتبة رد متوسطة بين مرتبتي الحسن والضعيف، فيرى - وهو واهم - أن مثل هذا الحديث، أعني الموصوف بأنه لين، إن لم يكن حسناً فهو مقارب للحسن، صالح للحجة، ولا يخفى أن الحق خلاف هذا الفهم، والله أعلم.(5/163)
قول ابن حجر (السادسة: من ليس له من الحديث إلا القليل، ولم يثبت فيه ما يترك حديثه من أجله، وإليه الإشارة بلفظ (مقبول) حيث يتابع، وإلا فلين الحديث) تقديره، بل معناه هو ما يلي:
(المرتبة السادسة: مرتبة من ليس له من الحديث إلا القليل، ولم يأت فيه توثيق معتبر، أو لم يرد فيه توثيق أصلاً، ولم يرد في أحاديثه أو في كلام النقاد عليه ما يترك من أجله، فهذا أصفه بكلمة (مقبول)، ومعنى هذا الوصف ، أن حديثه الذي يتابع عليه متابعة معتبرة يكون مقبولاً أي ثابتاً، وحديثه الذي لم يتابع عليه يكون مردوداً، فإنه لين في الأحاديث التي يتفرد بها ، ولذلك فالحديث الذي ينفرد به يكون - وإن كان مردوداً غير مقبول - في أعلى درجات الضعف، أي أقربها إلى درجات القوة والثبوت(1) ) (2) ؛ والله أعلم.
ثم وقفت بعد كتابتي هذا المبحث بزمن على مبحث للدكتور ماهر ياسين الفحل حفظه الله ، نشره في (ملتقى أهل الحديث) فرأيت أن أذكره هنا لينظر فيه وينتفع به ويقارَن بين المبحثين ؛ قال [والهوامش له]:
(المقبول لغةً : ضد المردود ، وهو المأخوذ المرضي(3) .
وهو بنفس المعنى في اصطلاح المحدثين ، قال الحافظ ابن حجر : (( المقبول : وهو ما يجب العمل به عند الجمهور ))(4) .
هذا فيما يخص الحديث : نعني متنه ، أما لفظة : (( المقبول )) من حيث إطلاقها كحكم على أحد رجال السند ، فتختلف تبعاً لاختلاف مناهج الأئمة النقاد في جرح الرواة وتعديلهم ، واختلاف اصطلاحاتهم بخصوص هذا .
__________
(1) ولكن ذلك القرب لا يفيده شيئاً ، أي من الناحية العملية.
(2) وأما كلمة (لين الحديث) التي قالها في جماعة من رجال الكتاب، فانه لم يبين شرطه فيها، ولا دخل لها بمتابعة ولا انفراد، ولها في كتابه نظائر؛ ومعناها يعلم من استقرائها ومن ملاحظة استعمال بقية النقاد لها».
(3) لسان العرب ( 11 / 540 ) مادة ( قبل ) .
(4) نزهة النظر ( ص 71 ) مع نكت علي الحلبي .(5/164)
إلا أن الذي يهمنا من هذا معناها عند الحافظ ابن حجر ، وهو أمر ميسور لنا إذ أن الحافظ بيّن مراده فقال : (( السادسة : مَن ليس له من الحديث إلا القليل ولم يثبت فيه ما يترك حديثه من أجله ، وإليه الإشارة بلفظ : مقبول ، حيث يتابع ، وإلا فلين الحديث ))(1).
من هذا يتضح أن الحافظ ابن حجر يضع ثلاثة شروط للمقبول عنده وهي :
1 - قلة الحديث .
2 - عدم ثبوت ما يترك حديث الراوي من أجله .
3 - المتابعة .
فالأصل في المقبول عند الحافظ أنه ضعيف ، إذ (( لين الحديث )) من ألفاظ التجريح(2) ، فإذا توبع الراوي رفعته المتابعة إلى مرتبة القبول ، فالمتابعة شرط لارتقاء الراوي من الضعف إلى القبول عند الحافظ ابن حجر ، و (( المقبولية )) أول درجات سلّم القبول بمعناه الأعم .
ولكن ينبغي لنا أن لا نَغْفل عن أن الحافظ ابن حجر يضع أصلاً آخر للمقبول عنده ، وهو كونه (( قليل الحديث )) ، وهنا سؤال يطرح نفسه : لماذا قلة الحديث ؟
__________
(1) تقريب التهذيب ( 1 / 24 طبعة مصطفى ) .
(2) أنظر : شرح التبصرة والتذكرة ( 2 / 12 ) . فقد جعلها من المرتبة الخامسة .(5/165)
نقول : إن الراوي إذا كان قليل الحديث كان من السهل عليه ضبط حديثه وإتقان حفظه ، إلا أنه لم يكن ذا شهرة تجعله محط رحال المحدثين ، فيشتهر بينهم وتنطلق ألسنتهم بمدحه والثناء عليه ، أو ذمه والحط منه ، لذا بقي هذا الراوي دائراً في فلك خاص به ، فليس هو بالحافظ المشهور فيرتقي إلى مصافهم وليس بالضعيف المعروف فينزل إلى سننهم ، ولما كان هو خالياً عن كل حكم من النقاد ، وكان حديثه قليلاً ليس فيه ما يدل على خطئه ، وتوبع على أحاديثه القليلة ، خرج عن حيز الضعف ، وصار إلى مرتبة القبول ، فإذا اختل شرط من هذه الشروط عدنا إلى الأصل فيه وهو الضعف . ولذا كان من منهجه - رحمه الله - أن الراوي إذا كان بهذه الصورة ، إلا أنه قد وجد جرح لأحد النقاد فيه قُدِّمَ الجرح ؛ لأنه صار بمثابة مرجح لأحد الطرفين(1) .
والشيء الملاحظ على هؤلاء الرواة المقبولين عند الحافظ ابن حجر ، أن كثيراً منهم وصف بالجهالة ، وهذه فائدة عزيزة يجب التنبه لها ، إذ الغالب على هؤلاء - كما سبق - عدم الشهرة ، لذا فإن كل راوٍ منهم لم يكن له نصيب وافر من التلامذة الذين حدثوا عنه ، وكثير منهم لم يكن له إلا راوٍ واحد ، فوصف أحد من الأئمة لأحد هؤلاء الرواة بـ ( الجهالة ) لا يقدح في اشتراطنا : عدم ثبوت ما يترك حديثه لأجله .
__________
(1) أنظر : لسان الميزان ( 1 / 15 ، 16 ) ، ونزهة النظر ( ص 193 ) .(5/166)
وهذا المنحى من الحافظ قائم على أساس تصحيحه لاختيار أبي الحسن القطان في أن من زكاه أحد من أئمة الجرح والتعديل مع رواية واحد عنه قُبلَ وإلا فلا(1). خلافاً للقاعدة المشهورة عند جمهور المحدثين في اشتراط راويين لرفع الجهالة(2) فإذا انتفى التعديل عدنا بالراوي إلى الأصل فيه وهو جهالته ، وقد نص الحافظ على هذا ، فقال في مقدمة التقريب : (( التاسعة : مَن لم يروِ عنه غير واحد ولم يوثق ، وإليه الإشارة بلفظ : مجهول ))(3) ، فتعديل واحد من النقاد لهؤلاء " الوحدان " - كما هو معروف في اصطلاح أهل الحديث - قائم عند الحافظ مقام الراوي الثاني ، المشترط عند الجمهور في رفع الجهالة .
فإذا علمنا هذا وجب علينا أن نجعل اصطلاح الحافظ نصب أعيننا إذا ما رمنا تعقبه ، وكذلك الحال مع كل إمام له اصطلاح على أمر خاص به ، ولا يصح بحال من الأحوال محاكمته إلى غيرها ، وإن كانت قواعد مشهورة قال بها الجمهور ، وإلا كان هذا من باب المشاحة في الاصطلاح ، وهي مسألة غير مقبولة عند الجميع .
وهذا الفهم الصحيح السديد - إن شاء الله - كان حظه الغياب من ذهن المحررين ، لذا نجدهما تخبطا إزاء الموقف ممن يقول فيه الحافظ : (( مقبول )) فتارة يوثقانه ، وأخرى يجهلانه ، وثالثة يصفاه بالصدوق الحسن الحديث ورابعة يضعفانه ، فكان هذا الموقف المتصلب من الحافظ وأحكامه من أدل الأدلة على أن المحررين لم يكونا ذوي منهج واحد ، متصف بالأصالة والإنصاف ، فكانت النتيجة أن جاء تحريرهما مشحوناً بألوان التناقض ، ويتضح لك هذا جلياً من خلال الإحصائية الآتية ----) ، ثم ذكرها وذكر عقبها خلاصة البحث).
مُقِلّ :
أي قليل الأحاديث .
__________
(1) أنظر : بيان الوهم والإيهام ( 4 / 139 و 285 ) ، تدريب الراوي ( 1 / 317 ) وشرح ألفية العراقي في الحديث للسيوطي ( ص 245 ) .
(2) أنظر : الكفاية ( ص 150 ) .
(3) تقريب التهذيب ( 1 / 25 ) .(5/167)
والإقلال له من الأحكام ما يباين فيه الإكثار ، فالإقلال قد يعدُّ قرينة على مزيد تثبت الراوي ، أو على مزيد ضبطه ، لأن ضبط القليل أيسر من ضبط الكثير ؛ وقد يدل على قلة عناية الراوي بالأحاديث وهذا ربما يكون قرينة على قلة ضبطه لما رواه ، وقد يُعد الإقلال قرينة على أمور أخرى منها كون الراوي عسراً.
ثم إن خطأ المكثر في بعض ما يرويه قد يُغتفر له منه ما لا يغتفر مثله للمقل ، لأن الأمور هنا نسبية؛ قال العلامة المعلمي رحمه الله في (الفوائد المجموعة) في تضاعيف كلامه على حديث (اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله) وهو في الكتاب برقم (77):
(وأما عن أنس فتفرد به أبو بشر بكر بن الحكم المزلق عن ثابت عن أنس رفعه (إن لله عز وجل عباداً يعرفون الناس بالتوسم ) ، والمزلق قال فيه جماعة من الذين أخذوا عنه وليسوا من أهل الجرح والتعديل : ( كان ثقة ) ، يريدون أنه كان صالحاً خيراً فاضلاً ؛ أما الأئمة فقال أبو زرعة : ( ليس بالقوي ) ؛ أقول : وهو مقل جداً من الحديث ، فإذا كان مع اقلاله ليس بالقوي ، ومع ذلك تفرد بهذا عن ثابت عن أنس فلا يبعد(1) وهنه ، وذكر الهيثمي في (مجمع الزوائد) أنه حسن ، وهذا بالنظر إلى حال المزلق في نفسه ؛ فأما إذا نظرنا إلى تفرده مع إقلاله ومع قول أبي زرعة ( ليس بقوي ) فلا أراه يستقيم الحكم بحسنه ، وإن كان معناه صحيحاً والله أعلم) .
وانظر (قليل الحديث).
مقطوع :
المقطوع من الأخبار هو قول التابعي الذي يقوله من نفسه(2) ، أي من غير أن ينسبه إلى صحابي من الصحابة ولا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ والظاهر أنه يدخل تحت هذه التسمية أفعال التابعين.
وقيل : يلحق بالتابعي في تسمية قوله خبراً مقطوعاً مَن دونه ، ويظهر أن هذه الدعوى قريبة في حق أتباع التابعين دون مَن دونهم.
__________
(1) في الأصل (ينبغي) مكان (يبعد) ، وهو تحريف مفسد للمعنى.
(2) سواء قاله ابتداءً أو ترديداً لمعنى كان سمعه أو بلغه عمن فوقه.(5/168)
هذا وقد ورد التعبير بالمقطوع عن المنقطع في كلام الإمام الشافعي وأبي القاسم الطبراني وأبي بكر الحميدي وأبي الحسن الدارقطني ، فخالف هؤلاء الحفاظ الأربعة الجمهورَ في اصطلاحهم .
قال ابن الصلاح في (مقدمته) (ص43) : (وقد وجدت التعبير بالمقطوع عن المنقطع في كلام الإمام الشافعي وأبي القاسم الطبراني وغيرهما).
وقال العراقي في (شرح ألفيته) (1/124) : (ووجدته أيضاً في كلام أبي بكر الحميدي وأبي الحسن الدارقطني).
قلت : ويحتمل أن يكون هذا أيضاً اصطلاح أبي عمرو الداني المقرئ ، فإنه قال في جزئه المطبوع باسم (جزء في علوم الحديث في بيان المتصل والمرسل والموقوف والمنقطع) (ص113) في تسمية بعض أبوابه : (باب ذكر المقطوع من الآثار وتمثيله) ، ثم تكلم على المنقطع في سائر الباب مستعملاً لفظة (منقطع) مقتصراً عليها دون لفظة (مقطوع) ، فإن كان العنوان المذكور محفوظاً دلَّ على أن اصطلاح الداني في كلمة (مقطوع) كاصطلاح من تقدم ذكرهم من العلماء .
ومن العلماء من عكس فعبر بالمنقطع عن المقطوع ، فانظر (منقطع) .
مسألة لغوية : يقال في جمع مقطوع : مقاطيع ومقاطع ، كمسانيد ومساند ؛ والمنقول عن جمهور البصريين من النحاة إثبات الياء جزماً ، وعن الكوفيين والجرمي من البصريين تجويز إسقاطها ، واختاره ابن مالك .
مقلوب :
القلب في الحديث هو تبديل بعضه بما يشتبه به أو يناظره في حديث آخر ، أو يحتمله .
والقلب بالنسبة إلى موضعه أقسامٌ :
الأول : قلب في اسم من أسماء الرواة ، أي تغيير بنية الكلمة ، مثل أن يقلب (شعبة) إلى (سعيد)، أو (جبير) إلى (حنين) ؛ وهذا هو التصحيف.
الثاني : قلبٌ في اسم الراوي واسم أبيه، مثل أن يقلب (الحسين بن علي) إلى (علي بن الحسين).
الثالث : قلب في طبقتين من السند ، مثل أن يقلب (أحمد عن علي) إلى (علي عن أحمد).(5/169)
الرابع : قلب صيغة الأداء إلى صيغة أخرى ، مثل قلب العنعنة إلى تصريح ، أو عكس ذلك ؛ وهذا قد يكون مقبولاً في الجملة ، لعدم ضرره ، وقد يكون ضاراً مردوداً.
الخامس : تبديل طبقة - أو أكثر - من السند ، فيجعل بدلَ راويها - أو بدل رواتِها - بعضَ أقرانه أو أقرانهم ؛ ويدخلُ في هذا النوع من القلبِ قلبُ السندِ كلِّه .
وكل ما تقدم إنما هو قلبٌ في السند .
السادس : قلب المتن ، أو بعضِه ، أي بإبداله بكلام آخر سواء كان من متون الأحاديث الأخرى أو من غيرها من المنقولات ، كالحِكم والأمثال ونحوها.
ثم إن القلب قد يكون عمداً ؛ وقد يكون على سبيل السهو والتوهم.
وهذا النوع الثاني ، أي غير المتعمَّد ، إن كثُر من الراوي دلَّ على ضعفه وتخليطه ؛ وأما إذا وقع منه في حالات نادرة ، فذاك شأن الثقات من الرواة.
وأما النوع الأول فقد يكون وضعاً وكذباً أصلياً ، ولكنه تركيبٌ له بين المرويات ما يُشْبهه(1) ، وقد يكون سرقةً .
وربما قلب الأحاديثَ متعمداً بعضُ الحفاظِ النقادِ ، من أجلِ اختبارِ بعض الرواة ، فيقلب على المختبَر بعضَ مروياته لينظر أيجيزها أم يميزها .
قال العراقي في (ألفيته) :
وَقَسَّمُوا المَقْلُوْبَ قِسْمَيْنِ إلى
بِواحدٍ نَظِيْرِهِ ، كَيْ يُرْغَبَا
وَمِنْهُ قَلْبُ سَنَدٍ لِمَتْنِ
في مئَةٍ لَمَّا أتَى بَغْدَادَا
وَقَلْب مَا لَمْ يَقْصِدِ الرُّوَاةُ
حَدَّثَهُ في مَجْلِسِ البُنَاني
فَظَنَّهُ عَنْ ثَابِتٍ جَرِيْرُ ... مَا كَانَ مَشْهُوراً بِراوٍ أُبْدِلا
فِيهِ ، لِلاغْرَابِ إذا مَا اسْتُغْرِبَا
نَحْوُ : امْتِحَانِهِم إمَامَ الفَنِّ
فَرَدَّهَا ، وَجَوَّدَ الإسْنَادَا
نَحْوُ : إذَا أُقِيْمَتِ الصَّلاَةُ
حَجَّاج ، أعْنِي ابْنَ أبي عُثمَانِ
بَيَّنَهُ حَمَّادٌ الضَّرِيْرُ
__________
(1) لأنه تركيب حديث من جملة أحاديث .(5/170)
فقال السخاوي في (فتح المغيث) (1/319-324) : (وحقيقة القلب تغيير مَن يُعرف بروايةٍ ما ، بغيره ، عمداً أو سهواً ؛ ومناسبته لما قَبله(1) واضحة ، لتقسيم كل منهما إلى سند ومتن(2) ، وإن لم يصرح بهذا التقسيم في الموضوع بخصوصه ، وأيضاً فقد قدمنا فيه أن من الوضاعين من يحمله الشره ومحبة الظهور لأن يقلب سنداً ضعيفاً بصحيح ؛ ثم تارة يقلب جميع السند وتارة بعضه ؛ وقد لا يكون في الصورتين المزال ضعيفاً ، بل صحيحاً بصحيح ؛ ولا شك في صحة تسمية هذا كله وضعاً وقلباً ؛ ولذا عَدَّ الشارحُ(3) المُغرِبَ في أصناف الوضاعين وإن شوحح فيه ، ولكن قد جزم شيخنا بأن الإغراب من أقسام الوضع .
"وقسموا" أي أهل الحديث "المقلوبَ" السنديَّ خاصة - لكونه الأكثر ، كاقتصارهم في الموضوع على المتني لكونه الأهم - "قسمين" : عمداً ، وسهواً ؛ والعمد "إلى ما كان" متنُه "مشهوراً" براوٍ كسالم "أبدِلا بواحدٍ" من الرواة "نظيره" في الطبقة ، كنافعٍ ، "كي يُرغَبا فيه" ، أي في روايته عنه ويروج سوقه به ، للإغراب "إذ ما استُغربا" ممن وقف عليه لكون المشهور خلافه .
وممن كان يفعله بهذا المقصد على سبيل الكذب حماد بن عمرو النصيبي أحد المذكورين بالوضع ، كما وقع له حيث روى الحديث المعروف بسهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رفعه "إذا لقيتم المشركين في طريق فلا تبدؤهم بالسلام" عن الأعمش عن أبي صالح ، ليغرب به ، وهو لا يُعرف عن الأعمش كما صرح به العقيلي .
__________
(1) يعني الفصل المختص بالأحاديث الموضوعة .
(2) يعني إلى سنديٍّ ومتنيّ .
(3) يعني العراقي ، فقد قال في (شرح ألفيته) (1/284) : (هَذَا هُوَ القسمُ الثاني من قسمي المقلوبِ ، وَهُوَ أنْ يُؤخذَ إسنادُ متنٍ ، فيجعلَ عَلَى متنٍ آخرَ ، ومتنُ هذا فيُجعل بإسنادٍ آخرَ ؛ وهذا قد يُقصَدُ به أيضاً الإغرابُ ؛ فيكونُ ذلك كالوضعِ ) .(5/171)
وقد قيل في فاعل هذا : يسرق الحديث ، وربما قيل في الحديث نفسه : مسروق ؛ وفي إطلاق السرقه على ذلك نظر ، إلا أن يكون الراوي المبدل به عند بعضِ المحدثين منفرداً به فيسرقه الفاعل منه ؛ وللخوف من هذه الآفة كره أهل الحديث تتبع الغرائب ، كما سيأتي في بابه إن شاء الله .
"ومنه" وهو ثاني قسمَي العمد : "قلبُ سندٍ" تامٍّ ، لمتن ، فيُجعل لمتنٍ آخرَ مرويٍّ بسند آخر ، بقصد امتحان حفظ المحدث ، واختباره : هل اختلط أم لا - كما اتفق لهم مع أبي إسحاق الهجيمي حين جاز المئة كما سيأتي في آداب المحدث إن شاء الله - وهل يَقبل التلقينَ - الذي هو قبول ما يُلقى إليه كالصغير من غير توقف - أم لا ؟ لأنه إن وافق على القلبِ فغيرُ حافظ ، أو مختلطٌ ، أو خالَفَ فضابطٌ ، "نحو امتحانهم" أي المحدثين ببغداد "إمام الفن" وشيخ الصنعة البخاري صاحب الصحيح "في مئة" من الحديث ، "لما أتى" إليهم "بغدادا" بالمهملة آخره ، على إحدى اللغات ، حيث اجتمعوا على تقليب متونها وأسانيدها ، وصيَّروا متن هذا السند لسندٍ آخر ، وسند هذا المتنِ لمتنٍ آخر ، وانتخبوا عشرة من الرجال فدفعوا لكلٍّ منهم منها عشرة ، وتواعدوا كلهم على الحضور لمجلس البخاري ، ثم يُلقي عليه كلُّ واحد من العشرة أحاديثه ، بحضرتهم ؛ فلما حضروا واطمأن المجلس بأهله البغداديين ومن انضم إليهم من الغرباء من أهل خراسان وغيرهم : تقدم إليه واحد من العشرة وسأله عن أحاديثه واحداً واحداً والبخاري يقول له في كل منها : لا أعرفه ؛ وفعل الثاني كذلك إلى أن استوفى العشرةُ المئةَ وهو لا يزيد في كل منها على قوله : لا أعرفه ، فكان الفهماء ممن حضر يلتفت بعضهم إلى بعض ويقولون : فهمَ الرجلُ ، ومن كان منهم غيرَ ذلك يقضي عليه بالعجز والتقصير وقلة الفهم ، لكونه عنده - لمقتضى عدم تمييزه - لم يعرف واحداً من مئة ؛ ولما فهم البخاري من قرينة الحال انتهاءَهم من مسألتهم التفت للسائل الأول وقال له :(5/172)
سألتَ عن حديث كذا وصوابُه كذا ، إلى آخر أحاديثه ، وهكذا الباقي .
"فردَّها" ، أي المئة ، إلى حكمها المعتبر قبْل القلبِ "وجوَّد الإسنادا" ، ولم يرُجْ عليه موضع واحد مما قلبوه وركَّبوه ؛ فأقر له الناس بالحفظ وعظم عندهم جداً وعرفوا منزلته في هذا الشأن وأذعنوا له .
رُوِّيناها(1) في "مشايخ البخاري" لأبي أحمد بن عدي ، قال : سمعت عدة مشايخ يحكون(2) ، فذكرها(3) .
__________
(1) أي هذه القصة .
(2) يعني يحكون هذه القصة ، قصة قدوم البخاري بغداد وامتحان بعض محدثيها إياه ، كما تقدم .
(3) ضرب الشيخ حاتم العوني هذه القصة مثالاً على بعض المسائل التي ذكرها في جواب له على سؤال وُجِّه إليه في كيفية الحكم على المرويات التاريخية ، فقال في تضاعيف جوابه : (وزيادة في التقريب : لو سمعت الشيخ ابن باز - عليه رحمة الله - يقول : سمعت جماعة من شيوخي يقولون : إن العالم الفلاني كان كذا وكذا ، هل سنجد في نفوسنا ريبة من ذلك الخبر ؟!
فما بالنا بما قال ابن عدي - وهو الإمام الفحل - : "سمعت عدة مشايخ يحكون أن محمد بن إسماعيل البخاري - رحمه الله - قدم بغداد ، فسمع به أصحاب الحديث ، فاجتمعوا وعمدوا إلى مئة حديث فقلبوا متونها وأسانيدها ... " إلى آخر الخبر المشهور : انبرى أحد المعاصرين لنقد هذه القصة ، بحجة الجهالة بحال شيوخ ابن عدي ؟!!
والحال أن علم البخاري أعظم من هذه القصة ، وأن ابن عدي يروي عن جماعة من تلامذة البخاري !!! ولو أراد بن عدي - وهو الحافظ المسنِد - أن يسند هذا الخبر عن بعضهم لفعل ، لكنه كان يظن أن مثل هذا السياق .. "سمعت عدة مشايخ يحكون" أقوى ثبوتاً لمثل هذا الخبر من مثل أن يسنده عن واحد أو آحاد منهم ؛ لأن منهج نقده غير منهج نقد السنة ) .(5/173)
ومن طريق ابن عدي رواها الخطيب في "تاريخه" وغيره ، ولا يضر جهالة شيوخ ابن عدي فيها فإنهم عدد ينجبر به جهالتُهم ، ثم إنه لا يُتعجب من حفظ البخاري لها وتفطنه لتمييز صوابها من خطئها ، لأنه في الحفظ بمكان ، وإنما يُتعجب من حفظه لتواليها كما ألقيت عليه ، من مرة واحدة .
وقد قال العجلي : ما خلق الله أحداً كان أعرف بالحديث من ابن معين ، لقد كان يؤتى بالأحاديث قد خُلطت وقُلبت ، فيقول : هذا كذا ، وهذا وكذا ، فيكون كما قال ) .
ثم ذكر السخاوي طائفة أخرى من قصص امتحان الناسِ الحفاظَ ؛ ثم قال (1/322-323) : (وربما يقصد بقلب السند كله الإغراب أيضاً ، إذ لا انحصار له في الراوي الواحد ، كما أنه قد يقصد الامتحان بقلبِ راوٍ واحد .
واختُلف في حكمه ؛ فممن استعمله بهذا المقصد سوى من حكيناه عنهم : حماد بن سلمة ، وشعبة وأكثر منه ، ولكن أنكره عليه حرمي لمّا حدثه بهز أنه قلب أحاديث على أبان بن أبي عياش ، فقال : يا بئس ما صنع ، وهذا يحل ؟! وقال يحيى القطان - كما سيأتي قريباً - : لا أستحله ، وكأنه لِما يترتب عليه من تغليط من يمتحنه واستمراره على روايته لظنه أنه صواب ، وقد يسمعه من لا خبرة له فيرويه ، ظنّاً منه أنه صواب ؛ واشتد غضب محمد بن عجلان على من فعل به ذلك----) إلى أن قال (1/324) : (وقال الشارح(1) : وفي جوازه نظر ، إلا أنه إذا فعله أهلُ الحديث لا يستقرُّ حديثاً ، قلت : إلا في النادر .
وبالجملة فقد قال شيخنا : إن مصلحته ، أي التي منها معرفة رتبته في الضبط في أسرع وقت : أكثر من مفسدته ؛ قال : وشرطه - أي الجواز - أن لا يستمر عليه ، بل ينتهي بانتهاء الحاجة ) .
ثم قال السخاوي عقب ذلك :
(والقسم الثاني : قلب ما لم يقصد الرواة قلبَه ، بل وقع القلب فيه على سبيل السهو والوهم ، وله أمثلة ----) .
وانظر (منقلب) و(مبدل) .
__________
(1) هو العراقي .(5/174)
المكاتبة :
يُقصد بالمكاتبة أن يكتب الشيخ بعض حديثه لمن حضر عنده أو لمن غاب عنه ويرسله إليه ، وسواء كتبه بنفسه أم أمر غيره أن يكتبه ؛ ويكفي في الوثوق بالمكتوب أن يعرف المكتوب له خط الشيخ أو خط الكاتب عن الشيخ ، ويشترط في هذا أن يعلم بأن الكاتب ثقة .
مكثِر :
انظر (المصنِّف) .
مكرر :
يقال في تخريج الأحاديث : هذا الحديث مكرر الحديث رقم كذا ؛ أي هو رواية أخرى له ، وقد تكون الروايتان متطابقتين ، أي يكون الحديث مكرراً متناً وسنداً ؛ وقد تكونا متتابعتين ، فيكون التكرار في المتن ، وفي قطعة من السند.
وممن تكرر عنده هذا الاصطلاح كثيراً العلامة أحمد شاكر ، وذلك في تخريج (المسند)، فيقول في تخريج الحديث : (هو مكرر الحديث الفلاني) ؛ وكذلك تكرر منه كثيراً وصفُه الحديث بأنه (مطول الحديث الفلاني) أو (مختصره).
مُلا :
كلمة "ملا" هذه مشتهرة في هذه الأعصر على ألسنة العامة في العراق ، ويريدون بها من يُظهر التدين مع تعاطي شيء من العلم والقراءة ، وبعض الناس تقترن هذه الكلمة في أذهانهم بنوع من التحايل وقلة التقوى ، وذلك بسبب الجهل وإساءة الظن بمن يُظهر علامات التدين ولو كانت من السنن المؤكدة ، وساعد على ذلك كثرة من يرتدي ملابس الزهد والورع ويتكلم بلسان أهلهما وهو من أبعد الخلق عن أولئك .
وينيغي ترك استعمال هذه الكلمة الأعجمية في أصلها والانتقاصية في بعض معانيها العرفية ، واستبدالها بالكلمات اللائقة بأهل العلم والإيمان ككلمة (الشيخ) و (العالم) و (الداعية) و (الخطيب) و (إمام المسجد) و (المربي) و (المؤدب) و (الفقيه) و (المحدث) ونحو ذلك ، فينتقى من هذه الكلمات وغيرها ما يناسب المقام ويأذن به الشرع المطهَّر والعرف الصحيح .
وانظر (منلا) .(5/175)
الملازمة :
يقال : لازم الطالبُ زيدٌ شيخَه عمْراً ، إذا طالت مصاحبته له وحصل تفرغُه للتحمل عنه وكثرةِ الأخذ منه وانتفاعه به ؛ مثال ذلك قول الذهبي في ترجمة عباس الدوري من (السير) (12/523) : (ولازم يحيى بن معين، وتخرج به، وسأله عن الرجال) .
وبهذا يصير معنى "طول الملازمة" من عباراتهم : واضحاً ، فهو طول زمان صحبة التلميذ لشيخه مع التصاقه به ، وكثرة ما يحمله عنه من مروياته أو علمه توسعاً وتكريراً .
ملصق بفلان :
أي لم يروه وهو مكذوب عليه ، أو مقلوب ، أو أخطئ عليه فيه ؛ قال الإمام أحمد في (المسند) (14/321) (18831) : (حدثنا يحيى بن سعيد القطان قال ثنا عبد الله بن المبارك ثنا معمر عن الزهري عن عروة عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم قال : "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية في بضع عشرة مئة فذكر الحديث(1) ، ومن ههنا ملصق بحديث الزهري عن القاسم بن محمد---- ، قال : وقال أبو بصير للعامري ومعه سيفه---) الحديث .
وقال الذهبي في (السير) (10/322) : (وقال أبو زرعة الدمشقي سألت أحمد بن حنبل عن حديث الزهري عن أنس عن أم حبيبة ، فقال : ليس هذا من حديث الزهري ، هذا من حديث ابن أبي حسين ، فسألت أحمد بن صالح عنه ، فقال : ليس له أصل عن الزهري ، وأنكره----.
قال أبو زرعة : قال لي أحمد بن حنبل كتاب شعيب عن ابن أبي حسين ملصق بكتاب الزهري ، فبلغني أن أبا اليمان حدثهم به عن شعيب عن الزهري وليس له أصل ، كأنه يذهب إلى أنه اختلط بكتاب الزهري فرأيته كأنه يعذر أبا اليمان ولا يحمل عليه فيه .
__________
(1) هذه إحالة على حديث متن سبق .(5/176)
وقال مكحول البيروتي عن جعفر بن محمد بن أبان الحراني : سألت يحيى بن معين عن حديث أبي اليمان يعني المذكور ، فقال : أنا سألت أبا اليمان فقال : الحديث حديث الزهري فمن كتبه عني فقد أصاب ومن كتبه عني من حديث ابن أبي حسين فهو خطأ ، إنما كُتب في آخر حديث ابن أبي حسين فغلطت فحدثت به من حديث ابن أبي حسين وهو صحيح من حديث الزهري .
وروى ابن صاعد عن إبراهيم بن هانىء النيسابوري : قال لنا أبو اليمان : الحديث حديث الزهري والذي حدثتكم عن ابن أبي حسين غلطت فيه بورقة قلبتها .
قلت : تعين أن الحديث وهم فيه أبو اليمان وصمم على الوهم لأن الكبار حكموا بأن الحديث ما هو عند الزهري ، والله أعلم) .
وانظر (الإلزاق) .
ممن يُحتَمَل في بعضٍ :
أي تكتب أحاديثه وبعضها صالح للاحتجاج به ؛ وانظر (يحتمل).
المَنّ :
قال الذهبي في ترجمة أبي عبد الله بن منده من (تذكرة الحفاظ) : (3/1034) (قال جعفر المستغفري : ما رأيت أحداً أحفظ من أبي عبد الله بن منده ، سألته يوماً : كم يكون سماعات الشيخ ؟ قال : تكون خمسة آلاف منّ . قلت : المنّ يجيء عشرة أجزاء كبار).
من ----إلى :
انظر (لا ---- إلى) .
من أنفسهم :
إذا ورد في تسمية راو أو ذكر نسبه أو ترجمته ، عقبَ ذكرِ قبيلتِه ونحوِها من الجماعة الذين يُنسب إليهم النصُّ على أنه من أنفسهم ، فذلك معناه أنه منهم صليبةً ، وليس من مواليهم ، فكلمة (من أنفسهم) هنا عبارة يُحترز بها عن أن يُظن في ذلك الرجل أنه من مواليهم ؛ وانظر (مولى بني فلان) .(5/177)
من أهل الصدق :
إذا قيل في راو : (هو من أهل الصدق) ، فالذي أراه أن المراد أنه من أهل العدالة الضبط وأنه صادق فيما يرويه ، فمعنى العبارة أنه ثقة ؛ هذا الأصل فيها ، ولكنها قد تستعمل بمعنى (صدوق) ، بل قد تدل القرائن على أن المراد نفي الكذب المتعمد عن الراوي ، وممن أكثر من استعمالها بهذا المعنى الأخير ابنُ عدي رحمه الله ، فقد قالها في جماعة من رجال (الكامل) تقتضي ترجمته لطائفة منهم أنه لا يريد بها أكثرَ من أن يدفعَ عنهم تهمةَ تعمدِ الكذب ؛ قال المعلمي رحمه الله في حاشية (الفوائد المجموعة) في تعليقه على الحديث (80) متعقباً مَن نقلَ عن ابن عدي قولَه في بعض الرواة (صدوق):
(لفظُ ابن عدي "هو من أهل الصدقِ" ، يعني لم يكن يتعمد الكذب) ؛ وانظر (أرجو أنه لا بأس به).
مِن بلاياه الحديث الفلاني :
انظر (له بلايا).
مَن ذكرتَ رحمك الله ؟
كلمة أدب وتوقير بليغة كان يفتتح بها المستملي مجلس التحديث على الشيخ المملي ، فلا يقول له : " إبدأ " ولا نحوها من العبارات الشائعة بين الناس ، وإنما يعدل عن ذلك إلى هذا الأسلوب العالي الحافل بسلامة الذوق وكمال التأدب مع علماء الحديث وحفاظه .
قال الخطيب في (الجامع) (2/71) تحت باب (قوله للمحدث "من ذكرت؟") ما نصه : (إذا صلى المستملي على النبي صلى الله عليه وسلم أقبل على المحدث فقال له : من حدثك ، أو : من ذكرت ، رحمك الله ؛ فقد أنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الأرموي بنيسابور أنا محمد بن عبدالله الجوزقي أنا مكي بن عبدان نا مسلم بن الحجاج نا الحلواني نا محمد بن بشر نا خالد بن سعيد قيل لمحمد : من ذكرتَ يا أبا عبد الله ؟ قال : الثقة الصدوق المأمون خالد بن سعيد أخو إسحاق بن سعيد .(5/178)
وأنا أبو الحسن علي بن القاسم بن الحسن الشاهد بالبصرة نا علي بن إسحاق المادرائي قال : سمعت الحارث بن أبي أسامة يقول حدثت عن يحيى بن أكثم أنه قال : نلت القضاء وقضاء القضاة والوزارة وكذا وكذا ما سُررت بشيء مثل قول المستملي "من ذكرتَ رحمك الله؟" ) .
وقال (2/55) في أول (باب إملاء الحديث وعقد المجلس له) : (يُستحب عقد المجالس لإملاء الحديث ، لأن ذلك أعلى مراتب الراوين ، ومن أحسن مذاهب المحدثين ، مع ما فيه من جمال الدين والاقتداء بسنن السلف الصالحين ؛ وقد قال الخليفة المأمون فيما أنبأنا أبو سعد الماليني نا عبدالله بن عدي الحافظ أنا محمد بن أحمد بن عثمان قال سمعت أحمد بن منصور زاج يقول سمعت النضر بن شميل يقول سمعت المأمون أمير المؤمنين يقول : ما أشتهي من لذات الدنيا إلا أن يجتمع أصحاب الحديث عندي ويجيء المستملي فيقول : مَن ذكرتَ أصلحك الله؟ ) (1) .
وانظر (المستملي) .
مَن طلب الحديث لغير الله مُكر به :
كلمة عظيمة قالها حماد بن سلمة رحمه الله ؛ فما أحوج طالب علم الحديث إلى إخلاص نيته لله تعالى ؛ قال الخطيب في (الجامع) (1/80-81): (يجب على طالب الحديث أن يخلص نيته في طلبه، ويكون قصده بذلك وجه الله سبحانه)؛ ثم روى عن وكيع قال: سمعت سفيان يقول: ما شيء أخوف عندي منه، يعني الحديث؛ وما من شيء يعدله لمن أراد الله به).
ثم روى الخطيب (1/83) عن عبد العزيز بن أبي رزمة قال: (أتينا إسرائيل مع نفر من أهل خراسان فسألنا، قلنا: نحن من أهل مرو؛ فقال: مرو أم خراسان؛ فإن استطعتم أن لا يكون أحد أسعد بما سمعتم منكم فافعلوا؛ من طلب هذا العلم لله تعالى شرف وسعد في الدنيا والآخرة؛ ومن لم يطلبه لله خسر الدنيا والآخرة).
__________
(1) وأخرجه من طريق الخطيبِ الإمام السمعانيُّ في (أدب الإملاء والاستملاء) (ص19).(5/179)
ثم قال الخطيب: (وليحذر أن يجعله سبيلاً إلى نيل الأعراض وطريقاً إلى أخذ الأعواض؛ فقد جاء الوعيد لمن ابتغى ذلك بعلمه).
ثم روى (1/84) عن اسحاق بن عيسى بن الطباع قال: قال حماد بن سلمة: (من طلب الحديث لغير الله مُكر به).
ثم روى (1/85) عن ابن المبارك قال: (قيل لسفيان: من الناس؟ قال: العلماء، قيل: فمن السفلة؟ قال: الظلمة، قيل: فمن الغوغاء؟ قال: الذين يكتبون الحديث يأكلون به الناس، قيل: فمن الملوك؟ قال: الزهاد).
قال الخطيب: (وليتق المفاخرة والمباهاة به وأن يكون قصده في طلب الحديث نيل الرئاسة واتخاذ الاتباع وعقد المجالس؛ فإن الآفة الداخلة على العلماء أكثرها من هذا الوجه).
ثم قال (1/87): وليجعل حفظه للحديث حفظ رعاية لا حفظ رواية؛ فإن رواة العلوم كثير ورعاتها قليل؛ ورب حاضر كالغائب وعالم كالجاهل وحامل للحديث ليس معه منه شيء، إذ كان في اطراحه لحكمه بمنزلة الذاهب عن معرفته وعلمه).
ثم روى (1/91) عن يحيى بن المختار عن الحسن قال: تعلموا ما شئتم ان تعلموا فلن يجازيكم الله على العلم حتى تعملوا فإن السفهاء همتهم الرواية وان العلماء همتهم الرعاية.
وروى الخطيب (1/88) عن عبد الله بن المبارك قال: (من طلب الحديث وكتب ليُكتب عنه فلا يجد رائحة الجنة).
ثم روى (1/90) عن ابن شوذب عن مطر قال: (خير العلم ما نفع؛ وإنما ينفع الله بالعلم من علمه ثم عمل به ولا ينفع به من علمه ثم تركه).
وعن سفيان بن عيينة أنه قال: (إنما منزلة الذي يطلب العلم ينتفع به بمنزلة العبد يطلب كل شيء يرضي سيده، يطلب التحبب إليه والتقرب إليه والمنزلة عنده؛ لئلا يجد عنده شيئاً يكرهه)؛ وأنه قال: (إن أنا علمت بما أعلم فأنا أعلم الناس؛ وإن لم أعمل بما أعلم فليس في الدنيا أحد أجهل مني).
مِن عقاربه :
أي من موضوعاته ومفترياته وأباطيله .(5/180)
قال القزويني في (الإرشاد) (3/931 منتقى السِّلفي ) : (سلم بن سالم البلخي أجمعوا على ضعفه ، رأيت في أصل عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي من حديث الحسن بن عرفة حديثين للحسن عن سلم بن سالم ؛ قال عبد الرحمن : اضربوا عليهما فإني لا أروي حديث سلم بن سالم ؛ وقال ابن شقيق : ذكرت لابن المبارك حديثاً لسلم ، فقال : هذا من عقاربه) ؛ وانظر (لا) .
مَن مِثلُ فلان ؟ :
إذا سُئل العالم عن راوٍ فأجاب سائلَه بمثل هذه العبارة فإنه إنما يريد بذلك وصفه بأنه من أفراد زمانه في الحفظ والضبط والصدق ؛ قال أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمان الشامي - كما في (تاريخ بغداد) (6/350) - : (سئل أحمل بن حنبل , وأنا حاضر , عن إسحاق بن إبراهيم [هو ابن راهويه] ؛ فقال : مَن مثل إسحاق ؟ مِثل إسحاق يسأل عنه؟!) .
وقال حنبل بن إسحاق - كما في (تاريخ بغداد) (6/350) - : (سمعت أبا عبد الله ، وسئل عن إسحاق بن راهويه ، فقال : مثل إسحاق يسأل عنه ؟! إسحاق عندنا إمام من أئمة المسلمين) .
ولكن مما ينبغي التنبه له أن هذا الأصل لا يلزم أن يكون مطرداً فقد يطلق الناقد هذه اللفظة على من ثبتت عدالته وثقته وإن كان دون غيره من الحفاظ الأثبات البارعين لأنه أراد الثناء على دينه أو فقهه أو خلقه أو غير ذلك ، فلا بد قبل الجري على الأصول العامة من ملاحظة القرائن إذا لاحت ، ولا سيما في مواضع الاشتباه والاحتمال .
مَن مثله ؟ :
انظر (من مثل فلان؟) .(5/181)
مِن معادن الصدق :
كلمة ثناء وتعديل عالية ، قالها الشعبي في الربيع بن خثيم ، كما في (العلل ومعرفة الرجال) (2994) و (الجرح والتعديل) (3/459) ، وعمرو بن مرة في الشعبي ، كما في (الجامع) للخطيب (2/85) ، ومسعر بن كدام في عمرو بن مرة ، كما في (الجرح والتعديل) (6/257) ، وابنُ عيينة في مسعر بن كدام ، كما في (الجرح والتعديل) (1/42) و(8/368) و(صحيح ابن حبان ) (14/226) (6321) ، وابنُ أبي عمر في ابن عيينة ، كما في (الجامع) للخطيب (2/85)(1) .
وقالها أيضاً ابن عيينة في محمد بن المنكدر ، كما في (الجرح والتعديل (8/97) و (مسند ابن الجعد) (1679) و (حلية الأولياء) (7/209) ، وأحمدُ بن حنبل في ابن مهدي ، كما في (العلل ومعرفة الرجال) (4109) و (الجرح والتعديل)(2) (1/253-254) و(5/289)(3) .
__________
(1) أخرج الخطيب في (الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع) (2/85) (1247) من طريق عبد الله بن جعفر بن درستويه نا يعقوب بن سفيان [قال] : (نا محمد بن أبي عمر نا سفيان عن مسعر عن عمرو بن مرة قال : سمعت الشعبي يقول : نا الربيع بن خثيم وكان من معادن الصدق ، قال عمرو بن مرة : وكان الشعبي من معادن الصدق ، قال سفيان : وكان مسعر من معادن الصدق ، قال ابن أبي عمر : وكان سفيان من معادن الصدق).
(2) وهنا قرنها الإمام أحمد بما يؤكدها ؛ قال ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل) (1/253-254) : (انا عبد الله بن أحمد بن حنبل فيما كتب إليّ قال : سمعت أبي ، يعني أحمد بن حنبل وذكر ابن مهدي فقال : كان ثقة ، خياراً ، من معادن الصدق ، صالح مسلم) .
(3) وانظر (من معادن العلم) .(5/182)
من معادن العلم :
أي عالم متبحر ؛ قال عبدالملك الميموني في (سؤالاته) (484) : (قال ابن حنبل : ليس نجد أحداً يرفع غير زهير , يعني في المحرم , إذا لم يجد نعليه ، وكان زهير من معادن العلم) ؛ وأخرج هذا الأثر من طريق الميموني ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل) (3/588-589) ؛ ولكن تحرفت كلمة (العلم) هذه في ترجمة زهير - وهو ابن معاوية - من (تهذيب الكمال) (9/424) وفرعِه (تهذيب التهذيب) (3/351-352) إلى (الصدق) .
من معادن الكذب :
جاء في (لسان الميزان) (2/433) (1777) : (دهثم بن جناح ، عن شبابة بن سوار : قال الأزدي : كذاب ، لا يكتب حديثه(1) ؛ انتهى ولفظ الأزدي : من معادن الكذب ) .
مناقب المحدثين :
أي فضائلهم ومحاسنهم .
ولقد أُلفتْ كتبٌ كثيرة في مناقب المحدثين وفضائل الحديث وأهله وطبقات المحدثين وسيرهم ؛ وجملة مما في تلك الكتب داخلٌ في كتب الجرح والتعديل أو ملتحق بها .
ويلتحق بهذا النوع من الكتبِ أو يقاربُه في موضوعه ما ألف في حُجية السنة النبوية ودفع الشبه عنها والدفاع عن الحديث وأهله ضد أعدائه من الكفار وأهل البدع(2) .
مناهج المحدثين :
أي أصولهم في نقدهم الرواة ومروياتهم ، واصطلاحاتهم في فنهم ، وشروطهم في تصنيف كتبهم ، ومواردهم فيها ، وكل ما يتعلق بهذه المسائل تعلقاً بيناً .
__________
(1) هذه عبارة الذهبي في (الميزان) ، وما بعدها كلام ابن حجر .
(2) ولقد ذكر الدكتور خلدون الأحدب في كتابه (التصنيف في السنة النبوية وعلومها) (1/33-54) تحت هذه الترجمة (حُجية السنة النبوية ودفع الشبه عنها) (121) كتاباً مطبوعاً.(5/183)
ولقد أُلفتْ مؤخراً كثيرٌ من الكتب في دراسة مناهج بعض المحدثين ، أكثرها دراسات جامعية ، وإنه لمن نافلة القولِ القولُ بأنها ليست متساوية في رتبتها وقيمتها ، ففيها الدراسات التي يعظم نفعها ويستحق أصحابها الدعاء والثناء ، وهي قرة عين الباحثين ، وفيها ضد ذلك ، وبين هاتين الرتبتين درجات كثيرات متفاوتات ؛ وانظر (منهج المتأخرين) و (منهج المتقدمين) .
المناولة :
انظر (التحمل) ، وأزيد هنا هذا المبحث :
نُقل عن الإمام أحمد ما يُشبه أن يكون في ظاهره متناقضاً ، في موقفه من استعمال أبي اليمان الحكم بن نافع صيغةَ (أخبرنا) فيما رواه عن شعيب بن أبي حمزة ، مع أن أكثره كان إجازة أو مناولة وشبههما .
فقد روى الخطيب في (الكفاية) (2/302-303) عن أبي بكر الأثرم قال : (سمعت أبا عبد الله - يعني أحمد بن حنبل - يُسأل عن أبي اليمان ، وكان الذي سأله عنه قد سمع منه ، فقال له : أي شيء تنبش على نفسك ؟! ؛ ثم قال أبو عبدالله : هو يقول : أنا شعيب ، واستحلَّ ذلك بشيء عجيب ؛ قال أبو عبد الله : كان أمر شعيب في الحديث عسراً جداً ، وكان علي بن عياش سمع منه ، وذكر قصة لأهل حمص أراها أنهم سألوه أن يأذن لهم أن يرووا عنه ، فقال لهم : لا ترووا هذه الأحاديث عني ؛ قال أبو عبد الله : ثم كلموه وحضر ذلك أبو اليمان ، فقال لهم : ارووا تلك الأحاديث عني ؛ قلت لأبي عبد الله : مناولة ؟ فقال : لو كان مناولة كان لم يعطهم كتباً ولا شيئاً ، إنما سمع هذا فقط ؛ فكان ابن شعيب يقول : إن أبا اليمان جاءني فأخذ كتب شعيب مني بعد وهو يقول : أخبرنا ، فكأنه استحل ذلك بأن سمع شعيباً يقول لهم : ارووه عني) .
يؤخذ من ظاهر كلام الإمام أحمد في هذا الأثر أنه غير قانع بما كان يفعله أبو اليمان من رواية أحاديث شعيب من كتبه بصيغة (أخبرنا) ، ألا ترى أنه قال : واستحلَّ ذلك بشيء عجيب ؟!(5/184)
ولكن رُوي عن أبي اليمان أنه قال : ( قال لي أحمد بن حنبل : كيف سمعت الكتب من شعيب بن أبي حمزة ؟ قلت : قرأت عليه بعضَه ، وبعضُه قرأه عليّ ، وبعضُه أجاز لي ، وبعضُه مناولة ، فقال : قل في كله : أخبرنا شعيب)(1) .
فظاهر الأثرين الاختلاف والتضاد ، فهو في أحدهما يستغرب استحلال أبي اليمان أن يقول في عامة ما يرويه من كتب شعيب : (أخبرنا) ، وفي الثاني يُرشد أبا اليمان إلى أن يقول في كل ما يرويه من كتب شعيب : (أخبرنا) ؟!، وإسناداهما صحيحان ، فهل من سبيلٍ إلى الجمع بينهما ؟
إن قائل قائل :
لعلَّ الإمام أحمد علِم - بعد أن كان قبلُ يستغرب صنيع أبي اليمان : كيف استحل أن يقول في أحاديثه عن شعيب : (أخبرنا) - علِمَ أن الأحاديث التي كان أبو اليمان يروي منها عن شعيب هي من كتب شعيب نفسه ، وكتب شعيب كانت متقنة صحيحة ، فقد قال الذهبي في (السير) (10/321) : (وروى أبو زرعة النصري عن أبي اليمان قال : كان شعيب عسراً في الحديث فدخلنا عليه حين حضرته الوفاة فقال : هذه كتبي وقد صححتها ، فمن أراد أن يأخذها فليأخذها ، ومن أراد أن يعرض فليعرض ، ومن أراد أن يسمعها من ابني فليسمعها ، فإنه قد سمعها مني ).
وقال الذهبي في (تذكرة الحفاظ) (1/221) (207) في ترجمة شعيب : (الإمام الحجة المتقن أبو بشر الأموي مولاهم الحمصي الكاتب ---- ، وكان مليح الضبط أنيق الخط فكتب للخليفة هشام شيئاً كثيراً بإملاء الزهري عليه .
أبو زرعة الدمشقي : سمعت أحمد بن حنبل يقول : رأيت كتب شعيب بن أبي حمزة ، فرأيت كتباً مضبوطة مقيدة ، ورفع من ذكره---- .
قال أحمد بن حنبل : هو فوق عقيل ويونس ، هو مثل الزبيدي ، وكان قليل السقط وقال علي بن عياش الحمصي كان شعيب عندنا من كبار الناس ، وكان ضنيناً بالحديث ، وكان مِن صنف آخر في العبادة----) .
__________
(1) أخرج هذا الأثر الخطيب في (الكفاية) (2/312) وابن عساكر في (تاريخ دمشق) (15/78) .(5/185)
والإمام أحمد يظهر أنه يشترط في صحة الرواية بالمناولة أو الإجازة : أن يكون الكتاب المناوَل أو المجاز به : من كتب الشيخ التي أتقنها وقابلها وصححها ، فقد تقدم قول المروذي : قال أبو عبد الله : (إذا أعطيتك كتابي فقلت لك : أروه عني وهو من حديثي فما تبالي أسمعته أم لم تسمعه)(1) ، وأي كتاب يكون أضبط وأصح من كتب الإمام أحمد؟ وأي إذن بالرواية يكون أعلى من إذنه .
فلعله استثنى رواية أبي اليمان عن شعيب ، لهذا المعنى .
وقد قال الإمام أحمد - في رواية حنبل - فيما كان بخلاف ذلك من أنواع المناولة : (المناولة لا أدري ما هي ، حتى يعرف المحدثُ حديثَه ، وما يُدريه ما في الكتاب؟!)(2) .
ولكن هذا التوجيه لا يصح ، دليل عدم صحته : أنَّ الإمام أحمد لم يرتض رواية أبي اليمان من كتب شعيب بصيغة (أخبرنا) مع علمه بأنه [إنما] كان يروي من كتبه ، فقد قال - كما تقدم نقله عنه - : (فكان ابن شعيب يقول : إن أبا اليمان جاءني فأخذ كتب شعيب مني بعد وهو يقول : أخبرنا ، فكأنه استحل ذلك بأن سمع شعيباً يقول لهم : ارووه عني) .
وقد يقال في توجيه هذا الأثر قولٌ آخر ، وهو أنه من باب الحمل على الغالب ، أي أنه مبني على احتمال أن يكون معظم ما رواه أبو اليمان عن شعيب مما سمعه منه ، وهذا غير صحيح أيضاً ، فقد نقل البرذعي عن أبي زرعة الرازي قال : (لم يسمع أبو اليمان من شعيب بن أبي حمزة إلا حديثاً واحداً ، والباقي إجازة)(3) .
__________
(1) ذكره ابن رجب في (شرح علل الترمذي) (1/524) .
(2) شرح علل الترمذي (1/522) .
(3) شرح علل الترمذي (1/525) ؛ وفي (سؤالات أبي داود) (ص263) : (سمعت أحمد قال : رأيتُ كتب شعيب بن أبي حمزة ، فإذا كتب مصححة لا يكاد يخرم منها شيء ---- ؛ وسمعت أحمد سئل عن شعيب بن أبي حمزة قال : شعيب لا بأس به ، أو قال : ثقة ، ولكن من سمع منه ؟! كان شعيب رجلاً يمتنع في الحديث ) .(5/186)
ثم إنَّ كلام أبي زرعة هذا يعارض ما تقدم من كلام أبي اليمان ، فإنه نص على أن أبا اليمان لم يسمع من شعيب إلا حديثاً واحداً ، والسماع هنا يُحمل - كما هو ظاهر السياق ومقتضاه - على ما يَشمل قراءة أبي اليمان على شعيب وعكسها ، وعلى ما قُرئ على شعيب وأبو اليمان يسمع ، ومعنى هذا الأثر وتفسيرِه : أنَّ أبا اليمان لم يسمع من شعيب إلا بطريقة واحدة ، لأنه سمع منه حديثاً واحداً فقط ؛ وهذا يناقض ما يؤخذ من كلام أبي اليمان في الأثر المتقدم ، وهو أنَّه قرأ على شعيب بعض كتبه وقرأ عليه شعيب بعضها .
وأخيراً : إنَّ إسناد أثر أبي اليمان هذا إسناد صحيح ولكن متنه غريب ولا أدري هل يكون من الجرأة والتسرع أن يعلَّ ويُحكم عليه بالشذوذ ، أوْ لا ؟ الله أعلم .
وإن جاز تعليل هذا الخبر فإن من الأوجه المحتملة في تعليله هو أن الإمام أحمد قال للحكم بعد أن استفصله كيفية أخذه كتب شعيب وتبيين أبي اليمان لذلك : (تقول في كله : أخبرنا ؟!) ، أي على وجه الإنكار والتعجب ، ولكن أبا اليمان لم يفهم من عبارة أحمد الإنكار أو الاستغراب ، بل ظن أن أحمد إنما أراد بذلك الكلام أن يرشده ويجيز له أن يقول في كل ذلك : (أخبرنا شعيب) ، فروى كلام أحمد بمعناه وجعل (قل) مكان (تقول) .
ثم إني وجدت الأثر المتقدم في (سير أعلام النبلاء) (10/321) بهذه الصورة : (قال إبراهيم بن ديزيل : سمعت أبا اليمان يقول : قال لي أحمد بن حنبل : كيف سمعت الكتب من شعيب ؟ قلت : قرأت عليه بعضه ، وبعضه قرأه عليَّ ، وبعضه أجاز لي ، وبعضه مناولة ؛ قال : فقال في كله : أخبرنا شعيب).
ولو صح هذا اللفظ لزال الإشكال ، وتكون هذه العبارة الأخيرة لابن ديزيل أو لغيره من رواة الخبر ، ويكون معناها الإنكار على أبي اليمان ، ولكن أنّآ يصح والسياق يأباه ، فهو تصحيف بلا ريب) .(5/187)
منبع الكذب :
هو الكذاب الذي يَكثر كذبُه ؛ فكأنه عينٌ ينبع منها الكذب ، كالماء الذي ينبع من عيونه ولا ينقطع ؛ فمعنى هذه العبارة كمعنى (معدن الكذب).
منقطع :
المنقطع من الأحاديث أو الأسانيد هو ما لم يتصل ، على أي وجه كان انقطاعه ، أي سواء كان الساقط منه الصحابي أو غيره .
وكان جمهور المتقدمين يسمون الانقطاع بعامةِ أنواعه إرسالاً ، فيقولون : رواية عمرو عن زيد مرسلة ، مع أن زيداً ليس صحابياً ، بل هو تابعي أو دون ذلك ؛ ولكن الانقطاع لا يستعمل كثيراً في وصف رواية التابعي عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير ذكر صحابي الحديث ، وإنما يوصف هذا في الغالب بأنه مرسل.
وأما المتأخرون فالأحسن عندهم والأغلب في كلامهم : تسمية ما سقط منه راويان على التوالي بالمعضل ، وتسمية ما سقط منه راويان في موضعين غير متواليين بالمنقطع في موضعين ، وتسمية ما سقط بعض رواته من أول السند بالمعلَّق ، وتخصيص ما سقط منه ذكر الصحابي باسم المرسل ، وإن كانت هذه الثلاثة كلها أنواع للمنقطع الذي هو ضد المتصل .
وهل يدخل في تسمية المنقطع الإسنادُ المتصل في ظاهره ولكن فيه راو مبهم ، أي غير مسمى ؟
من المعلوم أن حكميهما أعني المنقطع والذي فيه مبهم ليسا واحداً ، وإن كان الأصل فيهما أنهما راجعان إلى جنس واحد وهو جنس الضعيف ، وأيضاً المعنى فيهما ليس واحداً ، وعليه فلا يحسن أن يسمى هذا منقطعاً ، مثل ذلك ؛ ولكن مع ذلك وُجدت تسمية هذا النوع من الأحاديث منقطعاً في كلام الحاكم وبعض من تبعه .
قال أبو عبدالله الحاكم في (معرفة علوم الحديث) (ص173-177)(1) :
(ذكر النوع التاسع من علوم الحديث :
النوع التاسع من هذا العلم معرفة المنقطع من الحديث ، وهو غير المرسل ، وقل ما يوجد في الحفاظ من يميز بينهما(2) .
__________
(1) طبعة أحمد بن فارس السلوم .
(2) مراد الحاكم هنا غير واضح ، فلا يدرى أكلامه نقدٌ لجمهور الحفاظ !! ، أم هو مجرد بيان لاصطلاحهم .(5/188)
والمنقطع على أنواع ثلاثة .
فمثال نوع] منها : ما حدثناه أبو عمرو عثمان بن أحمد بن السماك ببغداد قال حدثنا أيوب بن سليمان الصُّغْدِيّ قال حدثنا عبد العزيز بن موسى اللاحوني أبو روح قال حدثنا هلال بن حِق عن الجُريري عن أبي العلاء وهو ابن الشخير عن رجلين من بني حنظلة عن شداد بن أوس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أحدنا أن يقول في صلاته : اللهم إني أسألك التثبت في الأمور وعزيمة الرشد ، وأسألك قلباً سليماً ولساناً صادقاً ، وأسألك شكر نعمتك وحسن عبادتك ، وأستغفرك لما تعلم ، وأعوذ بك من شر ما تعلم ، وأسألك من خير ما تعلم .
هذا الإسناد مَثَلٌ لنوع من المنقطع لجهالة الرجلين بين أبي العلاء بن الشخير وشداد بن أوس ؛ وشواهده في الحديث كثيرة .
وقد يروى الحديث وفي إسناده رجل غير مسمى وليس بمنقطع .
ومثال ذلك ما أخبرنا أبو العباس محمد بن أحمد بن محبوب التاجر بمرو ، قال حدثنا أحمد بن سيار ، قال حدثنا محمد بن كثير ، قال أخبرنا سفيان الثوري ، قال حدثنا داود بن أبي هند ، قال حدثنا شيخ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يأتي على الناس زمان يخيَّرُ الرجل بين العجْز والفجور ، فمن أدرك ذلك الزمان فليختر العجز على الفجور .
وهكذا رواه عتاب بن بشير والهياج بن بسطام عن داود بن أبي هند ؛ وإذا الرجل الذي لم يقفوا على اسمه أبو عمر الجدلي .
حدثناه أبو العباس محمد بن يعقوب قال حدثني يحيى بن أبي طالب قال حدثنا علي بن عاصم عن داود بن أبي هند قال : نزلتُ جديلة قيس فسمعت شيخاً أعمى يقال له أبو عمر يقول : سمعت أبا هريرة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وآله : ليأتين على الناس زمان يخير الرجل بين العجز و الفجور فمن أدرك ذلك الزمان فليتخير العجز على الفجور .(5/189)
وهذا النوع من المنقطع الذي لا يقف عليه إلا الحافظ الفهم المتبحر في الصنعة ، وله شواهدُ كثيرةٌ جعلتُ هذا الواحدَ شاهداً لها(1) .
والنوع الثالث من المنقطع أن يكون في الإسناد رواية راوٍ لم يسمع من الذي يروي عنه الحديثَ قبل الوصول إلى التابعي الذي هو موضع الإرسال .
ولا يقال لهذا النوع من الحديث : مرسل ، إنما يقال له : منقطع(2) .
__________
(1) يتجه أن يقال في الاستدراك على الحاكم : إنه لا فرق بين هذا النوع والذي قبله ، من حيث النظر إليهما في ذاتهما ، فالإسناد يُحكم عليه بذاته قبل أن يُحكم عليه بغيره ، ألا ترى أنهم يقولون في الإسناد الضعيف الذي تابعه إسناد صحيح فاعتضد به : (هذا إسناد ضعيف) ، ولا يجوّزون أن يُطلَق على مثل هذا الإسناد أنه صحيح ، بخلاف حالة التقييد ، وبخلاف المتن ، فيقال : هذا الحديث صحيح ، من غير التفات إلى ضعف بعض أسانيده ؛ وأيضاً قد يقال في إسناد ضعيف معتضد : هذا الإسناد قوي بغيره ، ونحو ذلك .
فكذلك الأمر هنا : يقال في الإسناد المنقطع : هذا إسناد منقطع ولكن أخرجه فلان متصلاً ، ولا يسمى المنقطع متصلاً ابتداءاً ؛ ألا تراهم يقولون في الحديث الواحد بل في طريق واحدة له : أسندها فلان وأرسلها فلان .
ويقال مثل هذا في إسناد فيه راو مبهم بينتْه روايةٌ أخرى ، فيقال فيه : فيه فلان وهو مبهم ولكنه ذُكر باسمه في كتاب زيدٍ أو في رواية عمرو ، ونحو ذلك .
(2) ظاهر هذا الكلام أن الحاكم يفرق بين المرسل والمنقطع ويمنع أيَّ اشتراك أو تداخل بينهما ، وهو اصطلاح فيه نظر ، ومخالفته لاصطلاح الجمهور واضحة .(5/190)
مثاله ما حدثنا أبو النضر محمد بن محمد بن يوسف الفقيه قال حدثنا محمد بن عبدالله بن سليمان الحضرمي ، قال حدثنا محمد بن سهل ، قال حدثنا عبد الرازق قال : ذكر الثوري عن أبي إسحاق عن زيد بن يُثَيْع عن حذيفة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله : إنْ ولَّيتُموها أبا بكر فقوي أمين لا تأخذه في الله لومة لائم ، وإن وليتموها علياً فهادٍ مهديّ يُقيمكم على طريق مستقيم.
قال الحاكم : هذا إسناد لا يتأمله متأمل إلا علم اتصالَه وسندَه ، فإن الحضرمي ومحمد بن سهل بن عسكر ثقتان ، وسماع عبد الرزاق من سفيان الثوري واشتهاره به معروف ، وكذلك سماع الثوري من أبي إسحاق واشتهاره به مشهور ؛ وفيه انقطاع في موضعين فإن عبد الرزاق لم يسمعه من الثوري ، والثوري لم يسمعه من أبي إسحاق(1).
حدثنا أبو عمرو بن السماك قال حدثنا أبو الأحوص محمد بن الهيثم القاضي قال حدثنا محمد بن أبي السري قال حدثنا عبد الرزاق قال حدثني النعمان بن أبي شيبة الجَنَدي عن سفيان الثوري عن أبي إسحاق فذكره بنحوه .
وحدثنا أبو بكر بن أبي دارم الحافظ بالكوفة قال حدثنا الحسن بن علوية القطان قال حدثنا عبد السلام بن صالح قال حدثنا عبد الله بن نمير قال حدثنا سفيان الثوري قال حدثنا شريك عن أبي إسحاق عن زيد بن يثيع عن حذيفة قال : ذكروا الإمارة والخلافة عند النبي صلى الله عليه وآله ، ثم ذكروا الحديث بنحوه .
فكل من تأمل ما ذكرناه من المنقطع علم وتيقن أن هذا العلم من الدقيق الذي لا يستدركه إلا الموفق والطالب المتعلم ) .
__________
(1) أرى أن التمثيل بهذا الحديث للمعلل أو للمدلَّس أقرب من التمثيل به للمنقطع ، وإن كان منقطعاً ؛ وكأن الحاكم أراد أن يذكر هنا نوعاً من أنواع الانقطاع وهو الانقطاع الذي يخفى ، للإفادة والتنبيه على هذا النوع من الانقطاع ؛ والحاكم حريص في كتابه هذا على ذكر الأمثلة الدقيقة المهمة .(5/191)
تنبيه : قال الخطيب في (الكفاية) (ص21) : (وقال بعض أهل العلم بالحديث : الحديثُ المنقطع ما رُوي عن التابعي ومَنْ دونَه موقوفاً عليه ، من قوله أو فعله) .
قلت : ومنهم الحافظ البرديجي ، فإنه كان يسمي قول التابعي منقطعاً ؛ قال العراقي في (ألفيته) في باب (المقطوع) :
وَسَمِّ بِالمَقْطُوْعِ قَوْلَ التَّابعي
وَفِعْلَهُ ، وَقَدْ رَأى(1) للشَّافِعِي
تَعْبِيرَهُ بِهِ عَنِ المُنقطِعِ
قُلْتُ وَعَكسُهُ اصطِلاحُ البَردَعِي(2)
ثم قال في بيان معنى ذلك في (شرح الألفية) (1/124) :
__________
(1) أي ابن الصلاح .
(2) بالدال المهملة ، قال السمعاني في (الأنساب) (1/313 دار الجنان) : (البردعي: بفتح الباء الموحدة وسكون الراء وفتح الدال المهملة وفي آخرها العين المهملة، هذه النسبة إلى بدرعة وهي بلدة من أقصى بلاد أذربيجان، والمنتسب إليها جماعة---).
ثم قال (1/314-315) في رسم (البرديجي) : (هذه النسبة إلى برديج ، وهي بليدة بأقصى أذربيجان ، بينها وبين بردعة أربعة عشر فرسخاً ---- ، والمشهور بهذه النسبة أبو بكر أحمد بن هارون بن روح البردعي البرديجي الحافظ النيسابوري----) ؛ ثم نقل عن أبي عبد الله الحسين بن أحمد بن عبد الله بن بكير الحافظ: قال: (عرفت أن بعض الحفاظ أنكر أن يكون أحمد بن هارون بردعياً ؛ وهو بردعي برديجي) .
ثم ذكر (1/316) رسم ( البرذعي) وقال : (ظني أن هذه النسبة إلى براذ[ع] الحمير وعملِها ، وإلى بلدة بأقصى أذربيجان) اهـ ؛ فذكر ياقوت وغيره أنها بلدة واحدة وأن الأكثر أنها بالذال المعجمة .
قال العلامة المعلمي في تعليقه على (الإكمال) (1/480): (فعلى هذا كل من قيل فيه : البردعي ، بالدال المهملة ، يصح فيه "البرذعي" بالذال المعجمة ، وكذا عكسه ، في المنسوبين إلى البلدة ؛ فأما المنسوبون إلى عمل البراذع فيتعين فيهم الإعجام) .(5/192)
(وقولُهُ : "وعكسُهُ اصطلاحُ البرذعي" ، وهو أنَّ الحافظَ أبا بكرٍ أحمدَ بنَ هارونَ البَرْدِيجيَّ البَرْذعيَّ ، جعلَ المنقطعَ هو قولُ التابعيِّ ؛ قال ذلك في جزءٍ له لطيفٍ .
وكذا ذكرَ ابنُ الصلاحِ هذا القولَ في آخرِ كلامهِ على المنقطعِ ، أنَّ الخطيبَ حكاهُ عن بعضِ أهلِ العلمِ ، واستبعدَهُ ابنُ الصلاح .
وأتيتُ هنا بـ(قلتُ) ، لأنَّ تعيينَ القائلِ لها من الزوائدِ على ابنِ الصلاحِ ، وإن كانت المسألةُ في مَوضِعٍ آخرَ من كتابِهِ غيرَ معزوةٍ إلى قائِلِها ) .
وانظر (المرسل) و (مسنَد) و (معضل) و (مقطوع) .
منقلب :
انظر (مبدل) و (مقلوب) .
منكر :
الحديث المنكر عند المتقدمين ضد المحفوظ والمعروف ، فإذا قال الناقد منهم : هذا الحديث منكر ، فمراده أنه غريب ضعيف ، أو أنه شديد الضعف ، أو أنه شاذّ مطّرَح ؛ ذكر الإمام مسلم في مقدمة (صحيحه) ما نصه : (وعلامة المنكر في حديث المحدث إذا ما عرضت روايته للحديث على رواية غيره من أهل الحفظ والرضى خالفت روايته روايتهم ، أو لم تكد توافقها ، فإذا كان الأغلب من حديثه كذلك كان مهجور الحديث غير مقبولِه ولا مستعمَلِه ) .
ولكن ادعى بعض المتأخرين أن بعض الأئمة كان أحياناً يُطلق (المنكر) على الحديث الغريب وإن كان صحيحاً ، وذلك غير صحيح ؛ وإليك البيان .
قال الحافظ ابن حجر في (تهذيب التهذيب) (8/389) : (ومراد القطان بالمنكر الفرد المطلق ) ؛ قال ذلك عقب نقله عن يحيى بن سعيد القطان قوله في قيس بن أبي حازم (منكر الحديث) .(5/193)
وقال ابن حجر في (هدي الساري) في ترجمة يزيد بن عبد الله بن خصيفة (ص453) : (روى الآجري عن أبي داود عن أحمد أنه قال : منكر الحديث ، قلت : هذه اللفظة يطلقها أحمد على من يغرب على أقرانه بالحديث(1) ، عُرف ذلك بالاستقراء من حاله ؛ وقد احتج بابن خصيفة مالكٌ والأئمة كلهم ) .
وقال ابن حجر أيضاً في (هدي الساري) أيضاً في ترجمة محمد بن إبراهيم التيمي (ص437) بعد ذكره لقول أحمد فيه "يروي أحاديث مناكير" : (قلت : المنكر أطلقه أحمد بن حنبل وجماعة على الحديث الفرد الذي لا متابع له ، فيُحمل هذا على ذلك ، وقد احتج به الجماعة) .
وقال في (هدي الساري) في ترجمة يونس بن القاسم الحنفي (ص455) : (قال البرديجي : منكر الحديث ؛ قلت : أوردت هذا لئلا يُستدرك علي ، وإلا فمذهب البرديجي أن المنكر هو الفرد ، سواء تفرد به ثقةٌ أو غيرُ ثقة ، فلا يكون قولُه "منكر الحديث" جرحاً بيناً ، كيف وقد وثقه يحيى بن معين)(2) .
وقال الحافظ البرديجي في الكلام على بعض أحاديث (صحيح البخاري) : (هذا عندي حديث منكر ، وهو عندي وهمٌ من عمرو بن عاصم) ؛ فقال ابن حجر في (فتح الباري) (12/134) موجهاً بل مؤولاً هذا التعليل من الحافظ البرديجي : ( لم يبين [أي البرديجي] وجه الوهم ، وأما إطلاقه كونه منكراً فعلى طريقته في تسمية ما ينفرد به الراوي منكراً ، إذا لم يكن له متابع).
قال ابنُ حجر هذا مع أن كلام البرديجي في الحديث تعليل صريح للحديث إذ وصفه بأنه منكر ، وزاد تعليلَه صراحةً وصفُه الحديث بأنه وهمٌ ، فأي تعليل أصرح من هذا التعليل؟! فكيف يسوغ أن يقال في تفسير عبارة الناقد التي يصف بها الحديث بأنه وهمٌ من راويه الفلاني : أنه أراد بها كونَ الحديث عارياً عن المتابع؟!
__________
(1) قال عبد الفتاح أبو غدة في تعليقه على (الرفع والتكميل) (ص145) : (أي يتفرد ، وإن لم يخالف) .
(2) وانظر (هدي الساري) (ص392).(5/194)
فهذه الدعوى من ابن حجر - وكذلك دعاواه السابقة المذكورة - غير مسلَّمة .
وأما دعواه هذه التي في حق اصطلاح الحافظ البرديجي فلعل ابن حجر اعتمد في هذه الدعوى على تعريف البرديجي نفسه للمنكر إذ قال: (المنكر هو الذي يحدث به الرجل عن الصحابة ، أو عن التابعين عن الصحابة ، لا يُعرف ذلك الحديث ، وهو متن الحديث ، إلا من طريق الذي رواه ، فيكون منكراً ) ؛ حكاه عنه الإمام ابن رجب الحنبلي(1) في (شرح علل الترمذي) (1/450) ؛ ولا سيما أن ابن رجب علَّق على هذا الكلام بقوله : (ذكر [أي البرديجي] هذا الكلام في سياق ما إذا انفرد شعبة أو سعيد بن أبي عروبة أو هشام الدستوائي بحديث عن قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا كالتصريح بأنه كل ما ينفرد به ثقة عن ثقة ولا يعرف المتن من غير ذلك الطريق فهو منكر ، كما قاله الإمام أحمد في حديث عبد الله بن دينار عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن بيع الولاء وهبته ) .
وقال ابن رجب أيضاً (2/507) : (وقال البرديجي: أحاديث شعبة عن قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم كلها صحاح ، وكذلك سعيد بن أبي عروبة وهشام الدستوائي ، إذا اتفق هؤلاء الثلاثة على حديث فهو صحيح ، وإذا اختلفوا في حديث واحد فإن القول فيه قول رجلين من الثلاثة ، فإذا اختلف الثلاثة توقف عن الحديث ، وإن انفرد واحد من الثلاثة في حديث نُظر فيه ، فإذا كان لا يعرف متن الحديث إلا من طريق الذي رواه كان منكراً .
__________
(1) أول كلام ابن رجب هنا هو قوله : (---- ولم أقف لأحد من المتقدمين على حد المنكر من الحديث وتعريفه الا على ما ذكره أبو بكر البرديجي الحافظ - وكان من أعيان الحفاظ المبرزين في العلل - أن المنكر هو الذي يحدث به الرجل 000الخ .(5/195)
وأما أحاديث قتادة الذي يرويها الشيوخ مثل حماد بن سلمة وهمام وأبان والأوزاعي فينظر في الحديث ، فإذا كان الحديث يحفظ من غير طريقهم عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وعن أنس بن مالك ، من وجه آخر : لم يدفع ؛ وإن كان لا يعرف عن أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا من طريق عن أنس إلا من رواية هذا الذي ذكرت لك كان منكراً )(1) .
وأما الإمام أحمد فالصحيح أن معنى نكارة الحديث عنده كمعناها عند سائر المتقدمين ، وليس معناها مجرد الغرابة التي قد لا تنافي تصحيح الحديث ، فمرادهم بلفظة (منكر الحديث) ولفظة (حديث منكر) هو التضعيف الشديد والتخطئة ، أو في الأقل التوقف عن قبول الحديث ، والإمام أحمد هو القائل(2) : (الحديث عن الضعفاء قد يُحتاج إليه في وقت ، والمنكَر أبداً منكر)(3) ، فكيف يريد بالمنكر أحياناً الفرد الصحيح؟! وتقدم بعض ما يبين ذلك ، ويأتي ما يتمم بيانه .
وأما اصطلاح يحيى بن سعيد القطان في كلمة (منكر الحديث) فليس كما ادعى ابن حجر .
__________
(1) قلت : يؤخذ من كلام البرديجي أن الثقات المتقنين يسمى حديثهم منكراً إذا انتفت متابعاته وشواهده ، وأما حديث من دونهم من المقبولين فيطلق عليه أنه (منكر) بمجرد انتفاء متابعاته ولو كان له أصل أو وجد له شواهد .
وهل المنكر عند البرديجي مردود غير محتج به أم أنه له في ذلك تفصيل ؟ هذا ما ينبغي البحث فيه .
(2) كما في (العلل) للمروذي (ص287) و (مسائل أحمد) لابن هانيء (1925) (1926).
(3) وانظر (المنكر أبداً منكر).(5/196)
وقد حرر الشيخ حمزة المليباري هذه المسألة في كتابه (الحديث المعلول) (ص97) تحريراً جيداً انتهى فيه إلى قوله : (والحق الذي أميل إليه أن الإمام أحمد ويحيى والبرديجي لا يستنكرون الحديث لمجرد تفرد ثقة من الثقات ، وإنما يستنكرونه إذا لم يُعرف من مصادر أخرى ، إما براوية ما يشهد له من معنى الحديث أو بالعمل بمقتضاه ، ومما يمكن الاستئناس به لتقرير [ذلك] قولُ الحافظ البرديجي : "إذا روى الثقة من طريق صحيح الواحد ، لم يضره أن لا يرويه غيره إذا كان متن الحديث معروفاً ولا يكون منكراً ولا معلولاً"(1) ، وقول أحمد : "شر الحديث الغرائب التي لا يعمل بها"(2).
أما إطلاق المنكر على كل ما تفرد به ثقة عن ثقة فلا أظن أنه وقع ذلك في كلامهم، وإن كان بعضُ ما نقل عنهم يوهم خلاف ذلك ، فإنه ينبغي حملُه على أن ذلك على حدود معرفتهم ، لتفادي التناقض بين التصريح والعمل). انتهى.
وكتب بعض الفضلاء في (ملتقى أهل الحديث ) موضوعاً بعنوان (المنكر عند يحيى القطان رحمه الله) ضرب فيه ثلاثة أمثلة من الأحاديث التي استنكرها ، ثم بين أن معنى نكارتها عند القطان هو معنى النكارة المعروف عند عامة المحدثين ، وليس هو مجرد التفرد المطلق كما ادعاه ابن حجر ، وسأقتصر على نقل كلامه على المثال الأول ؛ قال:
(نقل الْمِزِّيُّ في (التهذيب) (24/15) أثناء ترجمة قيس بن أبي حازمٍ: (قال علي بن المديني: قال لي يحيى بن سعيد: قيسُ بن أبي حازمٍ منكرُ الحديث، ثم ذكرَ له يحيى أحاديث مناكير؛ منها: حديث كلاب الْحَوْأَبِ).
والنص المذكور: ذَكَرَهُ ابن عساكر (49/464) مسندًا عن ابن المديني .
فأنتَ ترى أن القطان يرى أن قيس منكر الحديث، وذكر له في مناكيره حديث كلاب الْحَوْأَبِ.
__________
(1) شرح علل الترمذي لابن رجب (ص253) .
(2) الكفاية (ص172) .(5/197)
وقد عَقَّب الذَّهَبِيُّ رحمه الله في (تذكرة الحفاظ) (1/61) على كلام القطان بقوله: (قلت: حديثه محتجٌّ به في كل دواوين الإسلام).
فلو فهم الذَّهَبِيُّ رحمه الله من كلام القطان أنه عَنَى مجرد التفرُّد لم يكن لهذا التعقيب معنىً ؛ وقد صححَ الذَّهَبِيُّ إسناده في (سير النبلاء) (2/178) .
وقال الذَّهَبِيُّ في كلامٍ له في (السير) (11/53): (قلت: إنْ صحت الحكاية فلعل عليّاً قال في قيس ما عنده عن يحيى القطان أنه قال: هو منكر الحديث، ثم سَمَّى له أحاديث استنكرها فلم يصنع شيئًا؛ بل هي ثابتة، فلا يُنْكَرُ له التفرُّد في سعة ما روى، من ذلك حديث: (كلاب الْحَوْأَبِ) وقد كاد قيس أن يكون صحابياً أسلم في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم) ا.هـ
وهذا الكلام من الذَّهَبِيِّ رحمه الله ظاهرٌ في تفسير مراد يحيى هنا بالحمل على قيس.
ويظهر هذا أيضاً من قول الذَّهَبِيِّ رحمه الله في (الكاشف): (قيس بن أبي حازم أبو عبد الله البجلي، تابعي كبير فاتته الصحبة بليال، سمع أبا بكر وعمر، وعنه بيان بن بشر وإسماعيل بن أبي خالد وخلق، وثقوه، وقال ابن المديني عن يحيى بن سعيد: منكر الحديث، ثم ذكر له حديث: كلاب الْحَوْأَبِ) ا.هـ
ويؤيد هذا الفهم المذكور للذهبي رحمه الله ما سبق إليه يعقوب بن شيبه في قوله: (قد تكلم فيه أصحابنا، فمنهم من رفع قدره وعَظَّمه وجعل الحديث عنه من أصح الإسناد، ومنهم من حَمَلَ عليه وقال: له مناكير، والذين أطروه حملوا هذه الأحاديث عنه على أنها عندهم غير مناكير وقالوا: هي غرائب، ومنهم من لم يحمل عليه في الحديث وحمل عليه في مذهبه----) إلخ.
فماذا عن تخريج رأي يحيى في حديث كلاب الْحَوْأَبِ ؟(5/198)
الحديث : رواه أحمد في (مسنده) (24133)(1) : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة عن إسماعيل بن أبي خالدٍ عن قيس بن أبي حازم أنَّ عائشةَ قالتْ لَمَّا أَتَتْ عَلَى الْحَوْأَبِ سَمِعَتْ نُبَاحَ الْكِلَابِ فَقَالَتْ: مَا أَظُنُّنِي إِلَّا رَاجِعَة ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَنَا: (أَيَّتُكُنَّ تَنْبَحُ عَلَيْهَا كِلَابُ الْحَوْأَبِ) ، فقال لها الزُّبَيْرُ : تَرْجِعِينَ؟! عسى اللهُ عز وجل أَنْ يُصْلِحَ بكِ بين الناس .
والحديث رواه ابن أبي شيبة وابن حبان والحاكم وغيرهم من وجوهٍ عن إسماعيل بن أبي خالدٍ عن قيس بن أبي حازمٍ به .
والحديث رواه وكيع بن الجراح وغيره من الثقات عن إسماعيل عن قيس.
فلماذا استنكره يحيى على قيسٍ؟
الذي يظهر لي من ملابسات الموضوع: أن قيساً لم يكن من الرواة عن عائشة المعروفين بالرواية عنها، بل لم أَرَ له في (تحفة الأشراف) من روايته عن عائشة سوى حديث واحد فقط، رواه له ابن ماجه، ثم الحادثة مشهورة في تاريخ الإسلام، حضرها جمعٌ من الصحابة رضي الله عنهم .
ثم لم يَرْوِ ما رواه قيسٌ بعضُ هؤلاء ولا غيرهم من المعروفين بالرواية عن أم المؤمنين أمثال عروة بن الزبير رحمة الله عليه.
فأين كانوا حين غاب عنهم هذا الخبر، فرواه قيس الذي لم يشتهر بالرواية عن عائشة رضي الله عنها.
ولم يأتِ في سياق الحديث ما يدلُّ على سماعه لهذا الخبر من عائشة رضي الله عنها .
فلعل هذه الملابسات هي التي دفعت يحيى القطان إلى استنكار الحديث.
ولا شأن لي هنا بالكلام عن صحة الحديث من ضعفه، ولا بحال قيس، وإنما المقصود هنا تخريج مراد يحيى وقوله في نكارة هذا الحديث لقيس، بغض النظر عن أي أبحاث أخرى جانبية لا تتصل بهذا المقصود) . انتهى هذا التحقيق فجزى الله كاتبه خيراً .
__________
(1) هو في طبعة دار الحديث برقم (24535) (17/395) ، وفي الطبعة القديمة (6/97) .(5/199)
وقد بين الدكتور إبراهيم اللاحم في الفصل السادس من بحثه القيم (تفرد الثقة بالحديث)(1) أن مخالفة المتأخرين لأئمة النقد في هذه المسألة ذات شقين :
الأول : التقرير النظري.
الثاني : التطبيق العملي.
ثم شرح ذلك ، وبين أن مخالفتهم في التقرير النظري كان لها مسلكان:
المسلك الأول : مخالفة القاعدة ، وهو مذهب ابن حزم، وابن القطان، وابن الصلاح، ومن تبعهم ، وهو قبول تفرد الثقة عن الثقة بلا شروط عند الأولَين، وبشروط عند الثالث أي ابن الصلاح ولكنها أخف من شروط أهل الحديث.
والمسلك الثاني : مسلك التأويل، فلجأ أصحاب هذا المسلك إلى تفسير النكارة الواردة في كلام الأئمة الثقات بما لا يعارض تصحيحها وقبولها، فالنكارة معناها حينئذ على ما هي عليه في أصل اللغة: التفرد، فهو إذن وصفٌ كاشفٌ لحال الإسناد، لا حكمٌ عليه ؛ فوصف الإسناد أو الحديث بأنه منكر إذا كان راويه ثقة معناه أن راويه تفرد به، وهو مع ذلك صحيح(2).
__________
(1) وهو منشور في (مجلة الحكمة).
(2) قال النووي في (شرح صحيح مسلم) (1/57) تعليقاً على كلام الإمام مسلم الذي شرح به معنى الحديث المنكر (هذا الذي ذكر رحمه الله هو معنى المنكر عند المحدثين يعني به المنكر المردود، فإنهم يطلقون المنكر على انفراد الثقة بحديث وهذا ليس بمنكر مردود، إذا كان الثقة ضابطاً متقنا).
وقال ابن كثير في (اختصار علوم الحديث) (ص 56 ): (فإن كان الذي تفرد به عدل ضابط حافظ [!!!] قبل شرعاً، ولا يقال له: منكر، وإن قيل له ذلك لغة).
واعتمد ابن حجر هذا كثيراً وخاصة في كلامه على الرواة؛ انظر تهذيب التهذيب (8/389 ) ، وهدي الساري ص 437 ، 455.
وأما بعد ابن حجر فصار هذا كالأمر المسلم به، لا يُناقش فيه ؛ انظر مثلاً : الحاوي للسيوطي (2/283) ، وقواعد في علوم الحديث للتهانوي
ص 258 260 ، 433 ، والرفع والتكميل للكنوي ص 98 ، ومنهج النقد لنور الدين عتر ص 432 .(5/200)
ثم قال الشيخ إبراهيم حفظه الله ونفع به : (وقد يبدو لأول وهلة أن المسلك الثاني هو الأسلم، لأن فيه تأويلاً لكلام النقاد لا رداً له؛ وعند التأمل فإن المسلك الأول أسلم بلا شك ، فهو نظرٌ في كلام المتقدمين وتقريرٌ له على حقيقته ثم مخالفته باجتهاد أخطأ أو أصاب، وأما المسلك الثاني فهو تقييد لكلام النقاد وقصرٌ له على بعض أفراده، مع أن نصوصهم وأقوالهم تأباه، وذلك لأمور:
الأول: أن جعل النكارة في كلام النقاد على معنيين اصطلاحي بمعنى التضعيف والرد، ولغوي بمعنى التفرد: بعيد جداً، فكلامهم محمول على الاصطلاح، والتفريق يحتاج إلى دليل قوي، كيف والدليل يدل على نقيضه؟! فإن كلامهم على تفرد الثقة واستنكاره يصحبه في الغالب ما يشير إلى المراد، وهو رده وتضعيفه، كما في الأمثلة السابقة من المبحث الأول، إذ قد يسميه وهماً أو خطأ أو يقول: لا أصل له، ونحو ذلك.
والمتأمل في إطلاقهم لفظ (النكارة) وما تصرف منه مثل: حديث منكر وأحاديث مناكير واستنكر عليه وأنكرت من حديثه وكان فلان ينكر عليه حديث كذا وذكرت له الحديث الفلاني فأنكره ونحو ذلك .. يدرك [أن] المقصود بها التضعيف والرد.
ثم إن تمييز نوع النكارة في نصوص النقاد على قولهم هذا كيف يمكن ضبطه؟! إن رجع الأمر إلى درجة الراوي لم يكن للتفرد حينئذ كبير معنى، ونصوصهم تدل على أن هذا النوع من النقد يدور عليه، على أن ربطه بدرجة الراوي يجعل الأمر مضطرباً، فإن الراوي متى كان فيه توثيق معتبر أمكن أن يذهب ذاهب إلى تفسير النكارة في حديث استنكر عليه بأن المقصود بها التفرد لا التضعيف، وجوابهم عن هذا سيكون ضعفه ظاهراً.
الثاني: أن النقد بالتفرد لم يقتصر على لفظ (النكارة) فقد استعملوا فيه مصطلحات أخرى كثيرة، كالتعبير عنه بأنه خطأ، أو لا أصل له، أو باطل، أو لم يتابع عليه، ونحو ذلك، فهذه ألفاظ لا يمكن صرفها إلى معنى لغوي، فيحصل التناقض في معنى واحد،(5/201)
لمجرد أن النقاد عبروا عنه بألفاظ مختلفة من باب التنويع والتفنن.
الثالث: أطلق النقاد كثيراً على حديث الثقة إذا تفرد وخالف غيره من الثقات بأنه منكر، كما تقدمت الإشارة إليه، فما المانع أن يذهب من يرى قبول زيادة الثقة مطلقاً إلى تفسير النكارة ههنا بالمعنى اللغوي فإنه موجود فيها، فيسقط بهذا التضعيفُ بالمخالفة؟!، وما كان جواباً عنه فهو أيضاً جواب عن حمل الاستنكار في التفرد دون مخالفة على المعنى اللغوي)(1).
وأخيراً فما معنى قول البخاري في الراوي (منكر الحديث)؟
حكى أبو الحسن ابن القطان في (بيان الوهم والإيهام) (2/264 و 3/377) عن البخاري أنه قال في (تاريخه الأوسط) : (كل من قلتُ فيه : "منكر الحديثِ" ، فلا تحل الروايةُ عنه) ؛ ونقله عن ابن القطان نقْلَ إقرارٍ الذهبيُّ في (الميزان) (1/6) وغيرُه من المتأخرين ؛ قال الذهبي في (الميزان) : (أبان بن جبلة الكوفي أبو عبد الرحمن : يروي عن أبي إسحاق السبيعي ، ضعفه الدارقطني وغيره، وقال البخاري : منكر الحديث ، ونقل ابن القطان أن البخاري قال : "كل من قلت فيه : منكر الحديث ، فلا تحل الرواية عنه " ) ؛ وزاد ابن حجر في (لسان الميزان) (1/20) : (وهذا القول مروي بإسناد صحيح عن عبد السلام بن أحمد الخفاف عن البخاري)(2) .
__________
(1) حقق هذه المسألة - سوى من نقلتُ عنهم - جملةٌ من العلماء والباحثين ؛ ومن أحسن من بيَّن معنى المنكر عند الإمام أحمد وغيرِه طارق عوض الله في مقدمته للقطعة التي حققها من (المنتخب من علل الخلال) ، فانظره (ص 14- 27) ؛ وكذلك بين هذه المسألة الدكتور حمزة المليباري في كتب أخرى له غير التي نقلتُ منها فيما تقدم ، وتلميذه الدكتور أبو بكر كافي في (منهج الإمام البخاري في تصحيح الأحاديث وتعليلها) في المطلب الثاني من المبحث الثاني من الفصل الثالث منه.
(2) تتمة ترجمة أبان هذا في (اللسان) : (وقال أبو حاتم : أبان بن جبلة شيخ مجهول منكر الحديث).(5/202)
ولكن قال السخاوي في (فتح المغيث) (2/125) : (لكن قال البخاري: كل من قلت فيه منكر الحديث ---- لا يحتج به، وفي لفظ: لا تحل الرواية عنه) .
إشكالٌ ودفْعُه :
هذا الكلام المروي عن البخاري يؤخذ من ظاهره أن البخاري لا يروي في مصنفاته التي على الأبواب شيئاً لمن قال هو فيه : (منكر الحديث) ، إلا أن يتغير حكمه في ذلك الراوي فيرفعه عن هذه الرتبة ، وهذا قد يُعَدُّ مخالفاً لما ورد في ترجمة مسلم بن خالد من (تهذيب التهذيب) (10/116) وهو ما نصه : (وقال البخاري : منكر الحديث يكتب حديثه ولا يحتج به يعرف وينكر) ، فإن معناه كما هو واضح أن هذا الراوي يكتب حديثه مع أنه منكر الحديث .
ولكن هذا الإشكال يُحَلُّ ، بل يندفع من أصله ، إذا عُلم الواقع ، وهو أن ما وقع في مطبوعة (تهذيب التهذيب) - أعني القديمة(1) - خطأ وأن الصواب أن البخاري لم يزد في تجريحه لهذا الراوي على كلمة (منكر الحديث) وأن بقية الكلام لأبي حاتم وليس للبخاري(2) .
وصواب العبارة - كما في طبعة مؤسسة الرسالة لتهذيب التهذيب (4/68)(3) - : (وقال البخاري : منكر الحديث ؛ وقال النسائي : ليس بالقوي ؛ وقال أبو حاتم : ليس بذاك القوي ، منكر الحديث ، يكتب حديثه ولا يحتج به ، تَعرف وتُنكر) .
فوقع ناسخ (تهذيب التهذيب) أو طابعه في انتقال نظر ، انتقل نظره من لفظة (منكر الحديث) الأولى وهي للبخاري ، إلى لفظة (منكر الحديث) الثانية ، وهي لابن أبي حاتم ، فسقط ذكر النسائي وأبي حاتم وصار كلام أبي حاتم منسوباً للبخاري .
__________
(1) وكذلك طبعة دار الفكر 1404هـ .
(2) وهذا ما لم يتنبه له الدكتور علي بقاعي في كتابه الآتي ذِكره في تضاعيف بحثه في معنى (منكر الحديث) عند البخاري ، فبنى عليه بعض ما بناه .
(3) ويدل على ذلك أيضاً ما في ترجمة مسلم بن خالد هذا في (تهذيب الكمال) (27/512) و(التاريخ الكبير) للبخاري (7/260) و(الجرح والتعديل) (8/183) .(5/203)
ثم لو قدَّرنا - لأجل المدارسة فقط - أن البخاري قال ما نُسب إليه خطأً في مطبوعة (تهذيب التهذيب) فهل يصح أن يقال : (يمكن دفع التناقض عن تلك العبارة بأن الكتابة غير الرواية والبخاري إنما حرم الرواية ولم يحرم الكتابة ومعلوم أنه لا يلزم من كتابة الحديث روايته ) ؟
الصحيح أنه لا يصح هذا الجواب لأن الأصل في من قالوا فيه : (يكتب حديثه) أنه تحل الرواية عنه ، وأما منكر الحديث فمتروك ليس أهلاً للرواية عنه.
فإن قيل: (البخاري إنما حرم الرواية على سبيل الاحتجاج ولم يحرمها على سبيل الاستشهاد) ، قلت : هذا تأويل متكلّف ، فإنَّ كلام البخاري مطلق غير مقيد ، فيعم كل ما يسمى رواية ، أي يعم الرواية بنوعيها : رواية الاحتجاج ورواية الاستشهاد ، وهذا هو معنى كلمة الرواية إذا أُطلقت .
وقال عبد الله بن يوسف الجديع في (التحرير) (1/614-617) : (والذي وجدته بالتتبُّع أن استعمال البخاري لهذه اللفظة لا يختلف عن استعمال من سبَقه أو لحِقه من علماء الحديث ، فهو إنما يقول ذلك في حقِّ من غلبت النكارة على حديثه ، أو استحكمت من جميعه ، وربما حكم عليه غيرُه بمثل حُكمه ، وربَّما وُصف بكونه "متروك الحديث" ، وربما اتُّهم بالكذب ، وربما وُصف بمجرد الضعف ، وربما قال ذلك البخاريُّ في الراوي المجهول الذي لم يرو إلا الحديث الواحد المنكر ؛ وهذه أمثلة متفاوتة من الرواة ، لذلك ----).(5/204)
وقال الدكتور علي بقاعي في كتابه (الاجتهاد في علم الحديث وأثره في الفقه الإسلامي) : (استقرأت قول البخاري في الراوي: "منكر الحديث"، في كتابه "الضعفاء الصغير" فوجدت أنه قالها في (68) راوياً، ووجدتُ بعضَ مشتقاتِها في (20) راوياً آخرين ---- ؛ ثم أحببت أن أرى مدى تطابق معاني هذه الألفاظ مع ما نقله ابن القطان عن البخاري فلم أجد تطابقاً تاماً ) ؛ ثم مثَّل بتراجم إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة ومسلم بن خالد الزنجي والنضر بن محمد المروزي وفرج بن فضالة الحمصي وناصح بن العلاء أبي العلاء البصري وزمعة بن صالح الجندي وسليمان بن موسى الأموي الأشدق ؛ ثم قال: ( فلا يبعد إذاً أن نتأول ما نقله ابن القطان عن البخاري بأنه يقصد أنه لا يحل له أن يروي عنه في "صحيحه" لقوله في بعضهم: أنا لا أروي عنه، وكل من كان مثل هذا فأنا لا أروي عنه ؛ ويؤيد هذا الكلام اللفظ الآخر للبخاري الذي نقله السخاوي: كل من قلت فيه: "منكر الحديث" لا يحتج به ؛ كما يؤيده أيضاً قول ابن حجر العسقلاني في "النكت على كتاب ابن الصلاح" : "أطلق الإمام أحمد والنسائي وغير واحد من النقاد لفظ المنكر على مجرد التفرد لكن حيث لا يكون المتفرد في وزن من يحكم لحديثه بالصحة بغير عاضد يعضده" ؛ وهكذا إذا تتبعنا كل الذين قال فيهم البخاري: "منكر الحديث" فإننا نجد بعضهم ممن ينجبر ضعفه، ونجد بعضاً آخر ممن لا ينجبر ضعفه، ويصدق على جميعهم قوله "كل من قلت فيه : منكر الحديث لا يحتج به"، ولكن لا يصدق على جميعهم اللفظ الآخر "لا تحل الرواية عنه" ؛ فينبغي ترجيح لفظ "لا يحتج به" على عمومه ، بحيث يشمل الضعف الذي ينجبر والذي لا ينجبر).
انتهى كلام الدكتور علي بقاعي ، وأنا لي ميل إلى موافقته على هذا الترجيح الأخير ، إن لم يمنع منه مانع ، ولكني أخالفه في مسألتين :(5/205)
الأولى : أنه حاول أكثر من مرة تفسير لفظة (منكر الحديث) عند البخاري على ضوء أحكام غيره من النقاد على ذلك الراوي الذي قالها البخاري فيه .
الثانية : ميله إلى تأويل قول البخاري (فلا تحل الرواية عنه ) بالمعنى الذي ذكره، وهو أنه لا يحل له الرواية عنه في (صحيحه)؛ فهذا تأويل بعيد غريب ، ولا مستند له.
المنكر أبداً منكر :
كلمة مهمة بل قاعدة جليلة أطلقها الإمام أحمد ، فقد قال رحمه الله كما في (العلل) للمروذي (ص287) و (مسائل أحمد) لابن هانيء (1925) (1926) : (الحديث عن الضعفاء قد يُحتاج إليه في وقت ؛ والمنكَر أبداً منكر) .
وهو يعني بها أن المنكر لا يتقوى بحال من الأحوال ، فهو كالخطأ لا يصححه تعدد ناقليه ، وذلك بخلاف الحديث الضعيف غير المنكر ، وهو الذي لا يكون متنه مخالفاً ، ولا إسناده شاذّاً ، وإنما يكون في إسناده ضعف متأتٍ من ضعف راويه، أو انقطاعه ، فهذا النوع من الأحاديث ربما ورد له من المتابعات والشواهد ما يقويه ؛ وذلك بخلاف المنكر ، فنكارته لا تندفع ، ولذلك لا يتقوى فيرتقي إلى درجة القبول ؛ وانظر (منكر) .
منكر الحديث :
انظر (منكر) .
منكر الحديث ولم يُترك :
هذه العبارة وردت في كلام بعض المتأخرين(1) ، وهي بحسب اصطلاح المتقدمين عبارة متناقضة أو مضطربة ، فكيف يكون منكر الحديث وهو غير متروك ؟! فالمتقدمون كانوا يتركون حديث من يصفونه بأنه منكر الحديث ، بخلاف من يقولون فيه : (روى مناكير) أو (في أحاديثه مناكير) فذلك لا يلزم منه عندهم أن يكون الراوي متروكاً ؛ وانظر (منكر الحديث ) أو (منكر).
__________
(1) وردت هذه العبارة في (ميزان الاعتدال) (2/41-42) (1238) قالها مؤلفه الحافظ الذهبي إذ قال : (بشير بن زياد الخراساني عن ابن جريج منكر الحديث ولم يترك ؛ قال ابن عدي: له ما ينكر ، من ذلك ----) ؛ ثم ذكر حديثين.(5/206)
مُنلا :
قال الدكتور محمد الصباغ في مقدمة تحقيقه كتاب (الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة) المعروف بـ(الموضوعات الكبرى) للعلامة نور الدين علي بن محمد بن سلطان المشهور بالملا علي القاري (ت 1014هـ) ما نصه :
(جاء في كتاب (برهان قاطع) - وهو باللغة الفارسية - تأليف محمد حسين بن خلف التبريزي وتحقيق الدكتور محمد معين 4/7030 ما ترجمته : "ملا : بضم الأول وتشديد الثاني ، وتُنطق "منلا" في اللغة التركية ، والظاهر أنها منحدرة من كلمة "مولى" العربية ، ومعناها السيد والمخدوم ... ؛ ومعناها في الفارسية الحديثة : فقيه ومثقف ومتعلم وفاضل وروحاني " . اهـ ) .
منهج المتأخرين :
انظر (المتأخرون والمتقدمون) .
منهج المتقدمين :
انظر (المتأخرون والمتقدمون) .
مهمل :
المهمل من الرواة هو الذي سُمي ولكن أُهمل ذِكر كل ما زاد عن اسمه مما يميزه عن غيره من اسم أب أو لقب أو كنية أو نسبة أو نحوها .
ولقد وهم من قال من الباحثين : (المهمل هو : من لم يتميز عن غيره ، سواءً ذُكر باسمه أو كنيته أو لقبه، وذلك لوجود من يشاركه في هذا الاسم أو الكنية أو اللقب ؛ فإن كان لا يشترك معه غيره في أحد هذه الأمور فحينئذ لا يعتبر مهملاً ) ؛ وانظر (الإهمال) .
وأما المهمل من الحروف فهو ضد المعجَم منها ؛ وانظر (الإعجام) و(علامات الإهمال) .
الموالي :
انظر (مولى بني فلان) .
المؤتلف والمختلف :
هي الأسماء المتقاربة جداً في رسمها ولكنها مختلفة في مسماها ؛ وانظر (الأسماء المفردة) و(الأنساب) .
مُوْدٍ :
انظر (مؤدّي) .
مُؤَدّي :
هذه اللفظة وردت على ألسنة بعض الأئمة فاختُلف في قراءتها وضبطها ؛ فمنهم من جعلها بإسكان الواو وتخفيف الدال ، على أنها اسم فاعل من (أودى) ، أي هلك ، يقال : أودى فلان أي هلك ، فهو مودٍ ، ومنهم من جعلها بالهمز وتشديد الدال على أنها اسم فاعل للفعل (أدى) ؛ وهذا هو الصواب .(5/207)
وأما معنى (مؤدي) فقد جاء تفسيرها عن ابن أبي حاتم وعن ابن القطان .
قال ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل) (4/84) في سعد بن سعيد بن قيس : (سمعت أبي يقول : سعد بن سعيد الأنصاري مؤدي(1) ، [قال أبو محمد](2) يعني أنه كان لا يحفظ ، يؤدي ما سمع).
وقال ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل) (1/81): (نا محمد بن يحيى انا مسدد قال : قال لي يحيى بن سعيد : قال لي سفيان بن سعيد(3) : كان ابن أبي ليلى مؤدياً، يعني أنه لم يكن بحافظ).
ولكنه قال في (الجرح والتعديل) (7/221-222) : (سألت أبي عن محمد بن جعفر غندر ، فقال : كان صدوقاً ، وكان مؤدياً ، وفي حديث شعبة ثقة) فهل يصح أن يقال : إن غندراً لم يكن بحافظ ؟ فالجواب : نعم ، فغندر ثقة متقن في شعبة وفضله أكثر النقاد في شعبة على سائر من روى عنه ، ولكن ليس ذلك بسبب الحفظ وإنما بسبب صحة الكتابة وإتقانها وقوة ضبطه لكتابه ؛ قال المزي في (تهذيب الكمال) (25/6-8) : (وقال [أبو الحسن الميموني] أيضاً عن أحمد بن حنبل : سمعت غندراً يقول : لزمت شعبة عشرين سنة ، لم أكتب من أحد غيره شيئاً ، وكنت إذا كتبت عنه عرضته عليه ؛ قال أحمد : أحسبه من بلادته كان يفعل هذا .
__________
(1) وقع في (تهذيب التهذيب) (3/471) سهو من مؤلفه أو خطأ من ناسخ أو طابع فجعل هذه الكلمة لابن معين رواها أبو حاتم عن إسحاق بن منصور عنه؛ والصواب أنها من قول أبي حاتم نفسه لا من روايته عن غيره ؛ وقال العلامة المعلمي في حاشية (الجرح والتعديل) (4/85) : (وإنما وقع في نسخته سقط) ؛ قلت: هو احتمال قوي بناه على سياق الترجمة ، فإن الذي قبل هذا النقل في (الجرح والتعديل) نقلُ مؤلفِه عن أبيه عن إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين أنه قال : (سعد بن سعيد صالح).
(2) هو ابن أبي حاتم.
(3) هو الثوري الإمام .(5/208)
وقال عبد الخالق بن منصور : سمعت يحيى بن معين وسئل عن غندر فقال : كان من أصح الناس كتاباً ، وأراد بعضهم أن يخطئه فلم يقدر عليه ، كأنه يريد ذلك ثبته ؛ ألقى إلينا ذات يوم جراباً من جرب الطيالسة وأحاديث ابن عيينة فقال : اجهدوا أن تخرجوا فيه خطأ ، فما وجدنا فيه شيئاً ؛ وكان يصوم منذ خمسين سنة يوماً ويوماً لا .
وقال علي بن المديني : هو أحب إلي من عبد الرحمن في شعبة .
وقال أيضاً : قال عبد الرحمن بن مهدي : كنا نستفيد من كتب غندر في حياة شعبة .
وقال أيضاً : قال وكيع : ما فعل الصحيحُ الكتابِ ؟ قلت : صاحبُ الطيالسة ؟ قال : نعم ، يعني غندراً .
وقال أبو حاتم الرازي عن محمد بن أبان البلخي : قال عبد الرحمن بن مهدي : غندر في شعبة أثبت مني .
وقال أحمد بن منصور المروزي عن سلمة بن سليمان ، قال عبد الله بن المبارك : إذا اختلف الناس في حديث شعبة فكتاب غندر حكم بينهم---- .
وذكره ابن حبان في كتاب "الثقات" وقال : كان من خيار عباد الله على غفلة فيه) .
وقال السخاوي في (فتح المغيث) (2/128-129) : ( وكذا ينبغي تأمل الصيغ فرب صيغة يختلف الأمر فيها بالنظر إلى اختلاف ضبطها ، كقولهم "فلان مودٍ" ، فإنها اختُلف في ضبطها فمنهم من يخففها ، أي هالك ، قال في "الصحاح" : "أودى فلان أي هلك ، فهو مودٍ" ؛ ومنهم من يشددها مع الهمزة ، أي حَسَن الأداء ؛ أفاده شيخي في ترجمة سعد بن سعيد الأنصاري من "مختصر التهذيب"(1) نقلاً عن أبي الحسن ابن القطان الفاسي ، وكذا أثبت الوجهين كذلك في ضبطها ابن دقيق العيد ) .
__________
(1) هذا في (تهذيب التهذيب) (3/471).(5/209)
وقال الذهبي في ترجمة سعد بن سعيد من (الميزان) (2/120) : (قال أبو حاتم: سعد بن سعيد مؤد(1) ، قال شيخنا ابن دقيق العيد: اختلف في ضبط مودٍ، فمنهم من خففها أي هالك، ومنهم من شددها أي حسن الأداء).
وقول أبي حاتم هو الصحيح ، وإني لأعجب من قول الدكتور قاسم علي سعد في (مباحث في علم الجرح والتعديل) (ص57): (وظاهر تفسير ابن أبي حاتم للفظة "مؤد" في سعد بن سعيد التعارض مع نفسه ومع تفسير ابن القطان وابن دقيق العيد).
كذا قال؛ وأنا لا أرى في كلام ابن أبي حاتم في هذه المسألة شيئاً من تناقض أصلاً، وأما ما ذكره أشار إليه من مخالفة ابن أبي حاتم للحافظَين المتأخرَين ابن القطان وابن دقيق العيد ، فلا شيء عليه فيها؛ بل الذي يتجه قوله هنا هو أن يقال: إن تفسير ابن أبي حاتم لهذه اللفظة (مُؤَدٍّ) مقدم على تفسير ابن القطان ومن تبعه من العلماء ، فإنه أقدم منهم بدهور وأعلم منهم بمراتب ؛ وقد جزم بنسبة هذا المعنى إلى أبيه في موضعين من كتابه؛ فيظهر أنه سأله عنه أو أنه علم ذلك باستقراء عباراته؛ أو أن هذا التفسير كان شائعاً بين العلماء في ذلك الوقت شيوعاً يكفي لمعرفة معناه .
__________
(1) قال الدكتور قاسم علي سعد في (مباحث في علم الجرح والتعديل) (ص57): (ولفظة أبي حاتم (مُؤَدِّ) وردت في طبعة البجاوي [أي لميزان الاعتدال] عارية عن الشكل تماماً، مع سقوط الهمزة التي فوق الواو، فلا تقرأ إلا (مُودٍ)، وهذا خطأ والصواب كما أثبته [أي مُؤَدٍّ] لذكرها هكذا في الجرح والتعديل، كما أن بعض النسخ الخطية للميزان كالأحمدية والإمامية ضبطتها بالشكل، أي مُؤَدٍّ).(5/210)
وأما تفسير ابن القطان لهذه الكلمة فلا أعلم مَن هو سلفه فيه ولا مستنده فيه(1) ؛ ثم إنَّ مما يريب في صحته - مع معارضته لتفسير ابن أبي حاتم - أن سعد بن سعيد وابن أبي ليلى ضعيفان عند النقاد، والضعيف كيف يوصف بأنه حسن الأداء؟! فإن حُسن الأداء إن كان المراد به أنه يحدِّث بما سمعه كما سمعه، وأنه يتثبت في أدائه ، فهذا وصف يليق بالثقات ؛ وأما إن كان معناها حسن الأداء المجرد، أي مع قطع النظر عن مطابقة ما أداه لما تحمله، فتكون العبارة محمولة على المعنى اللغوي أي أنه يؤدي الحديث بطريقة واضحة هادئة تعين الطالب على تحمله بإتقان ويسر وسهولة سواء كان ذلك الحديث صحيحاً أو غير صحيح، وأنه يَشترط في مجلس تحديثه شروطاً حسنة قوية وآداباً جميلة شرعية ، فهذا المعنى بعيد عن عرف المحدثين ، والمعنى العرفي للعبارة مقدم على معناها في اللغة ، ثم إن من لا يؤدي الحديث كما سمعه فكيف يوصف بحسن الأداء ، حتى عند إرادة المعنى اللغوي للعبارة ؟ .
__________
(1) ولقد تفرد الإمام الجليل ابن القطان - على تأخره وبعد داره - بطائفة من التفسيرات الغريبة لمصطلحات العلماء وبجملة من الفوائد والتنبيهات الخطيرة التي لم يسبقه إليها أحد فيما أعلم ، وفي بعضها نظر ؛ ولا أدري ما السر في ذلك ؟ أهو الثقة بالنفس مصحوبةً بنوع من تسرع؟ أم هو سعة الاطلاع والوقوف على ما لم يقف عليه الخطيب وغيره ؟ أم هو الحرص وكثرة التتبع والاستقراء ؟ أم هو الاعتماد على نسخ مغربية لكتب وتواريخ حديثية فقدت فيما بعد ، أو فقدت رواياتها المغربية ؟ أم هو الاعتماد على نسخ بعض من فيهم كلام كمسلمة بن قاسم؟ أم هو أمر آخر غير هذه الأمور ؟
وعلى كل حال فهو أحد العلماء الأعلام الثقات الأذكياء ، رحمهم الله .(5/211)
والآن لو قدَّرنا أن ابن أبي حاتم لم يكن مصيباً في تفسيره عبارة أبيه هذه وأن المصيب في تفسيرها هو ابن القطان فحينئذ كيف نجيب من يقول لنا : أليس من البعيد أن يقتصر أبو حاتم في وصف هذين الراويين الضعيفين بحسن الأداء المراد به هذا المعنى الأخير الموهِم، ويهمل جانب التجريح والتعديل الذي كان هو وابنه يحرصان عليه في كتاب ابنه أشد الحرص وأكمله؟! ثم هل عُلم أن هذين الراويين كانا حسني الأداء حقاً؟ وبعد ذلك ألا يوهم وصف الراوي بحسن الداء مع الاقتصار على ذلك أنه قوي في الجملة، وذلك خلاف وصف الراويين المذكورين ؟
والحاصل أنه يبعد جداً أن يريد أبو حاتم بـ(مؤَدٍّ) حسن الأداء سواء كان معناها تقوية الراوي أو جودة طريقته في الإِسماع.
فإن قيل : ما الأصل اللغوي لتفسير ابن أبي حاتم لكلمة (مؤدي) ؟ أقول : الظاهر أن المراد بها كثرة الأداء والتساهل فيه والحرص عليه مع عدم الضبط ، أي أنه جريء على أداء كل ما عنده ، يهجم على الرواية من غير أن يتثبتَ فيما يرويه أو ينتقيَ ما يؤديه ، فهو يحدث بما ضبطه وبما لم يضبطه ، وبما صح وبما لم يصح .
كتبت هذا ولستُ مطمئناً إلى صحته ، ولكن ما كنتُ وجدتُ توجيهاً أقرب منه ، ثم خطر ببالي معنى لعله لا يكون بعيداً من الصواب ، ولا أجزم به ولكني ذكرته ليُنظر فيه ؛ وهو أن معنى (يؤدي ما سمع) أي يُخرِجه من حافظته ويدفعه ولا يحتفظ به ، كالإناء المكسور أو المثقب الذي لا يحفظ ما يوضع فيه من ماء ، فإن التأدية فيها معنى الدفع والإخراج ، كتأدية الزكاة والدَّين والأمانة والحديث ، ونحو ذلك ؛ ولا أستبعد أنه كان بين التعابير الشائعة في عصر أبي حاتم قولهم (إناء يؤدي الماء) بمعنى أنه ينضحه ويخرجه بسبب ما فيه من فطور أو ثقوب أو فتحات ونحو ذلك ؛ جاء في (لسان العرب) (1/108 - طبعة دار الحديث ) : (وأَدَّى الشيءَ: أَوْصَلهُ، والاسم الأَداءُ ----.(5/212)
وأَدَّى دَيْنَه تَأْدِيَةً أَي قَضاه، والاسم الأَداء.
ويقال: تأَدَّيْتُ إلى فلان من حقِّه إذا أَدَّيْتَه وقَضَيْته----.
ويقال: أَدَّى فلان ما عليه أَداءً وتَأْدِيةً ، وتَأَدَّى إليه الخَبرُ أَي انْتَهى.
ويقال: اسْتأْداه مالاً إذا صادَرَه واسْتَخْرَجَ منه ----.
وإناءٌ أَدِيٌّ: صغير، وسِقاءٌ أَدِيٌّ: بَينَ الصغير والكبير، ومالٌ أَدِيٌّ ومتاع
أَدِيٌّ، كلاهما: قليل. ورجلٌ أَدِيٌّ ومتاع أَدِيٌّ، كلاهما: قليل ، ورجلٌ أَدِيٌّ: خفيف مشمِّر ---- ؛ وثوب أَدِيٌّ ويَدِيٌّ إذا كان واسعاً ؛ وأَدَى الشيءُ: كَثُر ، وآداهُ مالُه: كَثُرَ عليه فَغلَبَه) ؛ انتهى ما في (اللسان) مما له نوع تعلق بما نحن فيه .
بقي أن أقول: إنه قد يقال: (لعل كلمة "لم يكن يحفظ" - وكذلك "لم يكن بحافظ" - أراد بها ابن أبي حاتم تضعيف الراوي أو تضعيفه الشديد وأن أباه إنما قال في ابن أبي ليلى وفي سعد بن سعيد: (مُوْدٍ) بمعنى ضعيف أو هالك؛ وبهذا يتم التوفيق بين تفسير ابن أبي حاتم وتفسير ابن القطان ؛ وأما ما وقع من ضبط لفظة أبي حاتم هذه في النسخ التي ضَبَطَتها بالتشديد فإننا لا ندري ما مستنده فلا نأخذ به).
فأقول: هذا الجمع لا يصح لأن تفسير ابن أبي حاتم لكلمة أبيه هذه في الموضعين المذكورين يعيِّن أن اللفظة كانت بالتشديد، فإنه قال في سعد: (--- يؤدي ما سمع) فاشتق هذا الفعل (يؤدي) من الأداء الذي اشتق منه أبوه اسم الفاعل (مؤدي)، وهذا الذي لا يصح غيره في هذا السياق.(5/213)
وخلاصة المسألة أن من فسر كلمة (مؤدٍّ) أو (مؤَدّي) كتفسير ابن أبي حاتم لها وهو أنه لا يحفظ فهو المصيب، وأن لفظة (مؤَد) - بالتشديد - هنا إنما يُراد بها كون الرجل جريء على أداء كل ما عنده يهجم على الرواية من غير أن يتثبت فيما يرويه أو ينتقي ما يؤديه، فهو يحدث بما حفظه وبما لم يحفظه وبما صح وبما لم يصح؛ وأننا لا نقبل أن يقال في تفسيرها ما قاله المتأخرون من أن المراد بها حُسن الأداء، إلا أن يدل على صحة هذا التفسير البرهانُ الواضح، فيقال حينئذ: كان أبو حاتم وابنه يشذان في هذا الاصطلاح، ولكن ما أبعد ذلك وأغربه. والله أعلم.
الموسوعات الحديثية !! :
جاء في مقدمات (المَوسُوعَة الفقهية الكويتية) (1/53) في تعريف الموسوعة ما نصه :
(تُطْلَقُ الْمَوْسُوعَةُ - أَوْ دَائِرَةُ الْمَعَارِفِ ، أَوْ الْمَعْلَمَةُ - عَلَى الْمُؤَلَّفِ الشَّامِلِ لِجَمِيعِ مَعْلُومَاتِ عِلْمٍ أَوْ أَكْثَرَ ، مَعْرُوضَةً مِنْ خِلالِ عَنَاوِينَ مُتَعَارَفٍ عَلَيْهَا ، بِتَرْتِيبٍ مُعَيَّنٍ لا يُحْتَاجُ مَعَهُ إلَى خِبْرَةٍ وَمُمَارَسَةٍ ، مَكْتُوبَةً بِأُسْلُوبٍ مُبَسَّطٍ لا يَتَطَلَّبُ فَهْمُهُ تَوَسُّطُ الْمُدَرِّسِ أَوْ الشُّرُوحِ ، بَلْ يَكْفِي لِلاسْتِفَادَةِ مِنْهَا الْحَدُّ الأَوْسَطُ مِنْ الثَّقَافَةِ الْعَامَّةِ مَعَ الإِلْمَامِ بِالْعِلْمِ الْمَوْضُوعَةِ لَهُ ، وَلا بُدَّ مَعَ هَذَا كُلِّهِ مِنْ تَوَافُرِ دَوَاعِي الثِّقَةِ بِمَعْلُومَاتِهَا ، بِعَزْوِهَا لِلْمَرَاجِعِ الْمُعْتَمَدَةِ ، أَوْ نِسْبَتِهَا إلَى الْمُخْتَصِّينَ الَّذِينَ عُهِدَ إلَيْهِمْ بِتَدْوِينِهَا مِمَّنْ يُطْمَأَنُّ بِصُدُورِهَا عَنْهُمْ .(5/214)
فَخَصَائِصُ (الْمَوْسُوعَةِ) الَّتِي تُوجِبُ لَهَا اسْتِحْقَاقَ هَذِهِ التَّسْمِيَةِ هِيَ : الشُّمُولُ ، وَالتَّرْتِيبُ السَّهْلُ ، وَالأُسْلُوبُ الْمُبَسَّطُ ، وَمُوجِبَاتُ الثِّقَةِ)(1) .
__________
(1) وهذه تتمة كلامهم : (وَيَتَبَيَّنُ مِنْ هَذَا التَّعْرِيفِ التَّوْضِيحِيِّ الْعَامِّ أَنَّ " الْمَوْسُوعَةَ الْفِقْهِيَّةَ " هِيَ مَا كَانَتْ فِيهِ هَذِهِ الْخَصَائِصُ ، وَأَنَّ أَسَاسَ التَّرْتِيبِ فِيهَا هُوَ الْمُصْطَلَحَاتُ الْمُتَدَاوَلَةُ فِي الْفِقْهِ (وَهِيَ الْكَلِمَاتُ الْعُنْوَانِيَّةُ لأَبْوَابِهِ وَمَسَائِلِهِ الْمَشْهُورَةِ) ، وَاَلَّتِي تُرَتَّبُ أَلِفْبَائِيًّا لِتَمْكِينِ الْمُخْتَصِّ وَغَيْرِهِ مِنْ الْوُصُولِ لِمَظَانِّ الْبَحْثِ ؛ وَإِنَّ مُوجِبَاتِ الثِّقَةِ هِيَ بَيَانُ الأَدِلَّةِ وَالْعَزْوُ لِلْمَرَاجِعِ الأَصْلِيَّةِ ، وَأَنَّهُ لا بُدَّ مِنْ التَّنْسِيقِ بَيْنَ جَمِيعِ مَعْلُومَاتِهَا بِمَا يَتَحَقَّقُ بِهِ التَّرَابُطُ وَالتَّكَامُلُ وَالْبَيَانُ الْمُتَكَافِئُ .
فَهِيَ إذَنْ غَيْرُ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ : الْمُدَوَّنَاتِ ، أَوْ الْمُطَوَّلاتِ ، أَوْ الْمَبْسُوطَاتِ ، أَوْ الأُمَّهَاتِ مِنْ كُتُبٍ فِقْهِيَّةٍ لَمْ تُرَاعَ فِيهَا جَمِيعُ الْخَصَائِصِ الْمُشَارِ إلَيْهَا ، وَإِنَّ وُجُودَ خَصِيصَةٍ مِنْهَا أَوْ أَكْثَرَ ، بِالْقَصْدِ أَوْ التَّوَافُقِ ، وَلا سِيَّمَا شُمُولُ قَدْرٍ كَبِيرٍ مِنْ الْمَادَّةِ الْفِقْهِيَّةِ الْمُوَثَّقَةِ ، هُوَ الَّذِي يُسِيغُ إطْلاقَ اسْمِ الْمَوْسُوعَاتِ عَلَيْهَا ، مِنْ بَابِ التَّجَوُّزِ لا الْحَقِيقَةِ ، لِأَنَّهَا تَفْتَقِرُ إلَى أَهَمِّ الْخَصَائِصِ : اتِّخَاذُ الْمُصْطَلَحَاتِ الْمُرَتَّبَةِ أَسَاسًا لِلْبَحْثِ فِيهَا ، فَضْلاً عَنْ سُهُولَةِ الأُسْلُوبِ وَإِطْلاقِ الْحُدُودِ لِلْبَيَانِ الْمُتَنَاسِقِ .
وَالْفِقْهُ الْإِسْلامِيُّ غَنِيٌّ بِأَمْثَالِ تِلْكَ الْمَرَاجِعِ الَّتِي إنْ خُدِمَتْ بِفَهَارِسَ تَحْلِيلِيَّةٍ كَانَتْ بِمَثَابَةِ مَوْسُوعَاتٍ مَبْدَئِيَّةٍ لِمَذْهَبٍ أَوْ أَكْثَرَ ، وَهِيَ بِهَذِهِ الْخِدْمَةِ سَتَكُونُ مِمَّا يُوَطِّئُ لِلْمَوْسُوعَةِ وَيَسُدُّ الْفَرَاغَ إلَى حِينٍ ) ؛ انتهى .(5/215)
هذا وقد سُميت طائفة من كتب الحديث وأقراصها الليزرية باسم الموسوعة، وكلمة موسوعة لَفْظَةٌ مُوَلَّدَةٌ خطأً !
قال العلامة بكر بن عبدالله أبو زيد في (فقه النوازل) (1/104-105) في بحث (المواضعة في الاصلاح) في الهامش: (معلمة : هذا هو اللفظ الذي يعين المراد منه بوضوح وسلامة مبنى ؛ وقد لهج المعاصرون بلفظ موسوعة ، وهو اصطلاح قريب العهد في صدر القرن الثالث عشر؛ وقد وقع ذلك في قصة لطيفة على لسان أحد الأعجمين ، كما في مجلة الأزهر (لواء الإسلام 26/1158) بعنوان (الأدب والعلوم) ؛ ومما جاء فيه ما نصه : (لطاش كبرى زاده كتاب باسم (موضوعات العلوم) ، ولما كانت إحدى مكتبات القسطنطينية تدون فهرساً لمحتوياتها أملى أحد موظفي المكتبة بلفظ (موسوعات العلوم) ، لأن الأعاجم يلفظون الضاد بقريب من لفظ الظاء ؛ فسمع الكاتب الضاد سيناً ، فكتب اسم الكتاب (موسوعات العلوم) ؛ وسمع ... إبراهيم اليازجي صاحب مجلة (الضياء) باسم هذا الكتاب وموضوعه فخُيِّل إليه أن كلمة (موسوعات) تؤدي معنى (دائرة معارف) فأعلن ذلك في مجلته ؛ وأخذ به أحمد زكي باشا وغيره ، فشاعت كلمة موسوعة وموسوعات لهذا النوع من الكتب ، وهي تسمية مبنية على الخطأ كما رأيت ؛ وكان العلامة أحمد تيمور باشا ، والكرملي ، وغيرهما ، يرون تسمية دائرة المعارف باسم : مَعْلَمة ، لأنه أصح وأرشق وأدل على المراد منه ؛ انتهى) .
موضوع :
الحديث الموضوع هو المختلق المصنوع ؛ وهذه اللفظة مأخوذة من وضع الشيء أي حطه ، سمي الموضوع بذلك لانحطاط رتبته دائماً بحيث لا ينجبر أصلاً ؛ ولا يشترط في وصف الحديث بأنه موضوع أن يكون فيه راوٍ وضاع ؛ انظر (باطل) .
وأما أبو محمد ابن حزم فقال في (إحكام الأحكام) (1/127) : ( وكذلك نقطع ونبتّ بأن كل خبر لم يأت قط إلا مرسلاً ، أو لم يروه قط إلا مجهول ، أو مجرح ثابت الجرحة ، فإنه خبر باطل بلا شك ! موضوع لم يقله رسول الله صلى الله عليه وسلم !! ).(5/216)
قال بعض المحققين : (ولهذا يحكم أحياناً - كما هو ظاهر في كتابه "المحلى" - على الأحاديث بالوضع لضعف بعض رواتها أو جهالتهم أو لإنقطاع الإسناد أو إرساله !) ؛ انتهى.
ومذهب ابن حزم هذا مخالف لمذهب الأئمة وسائر العلماء ؛ وهو نظير قطعه بأن كل حديث يحكم هو بصحته فقد قاله النبي صلى الله عليه وسلم وكأنه منه يسمعه ، فليس يوجد عنده حديث حسن ، وليس يوجد عنده حديث صحيح ترجيحاً ، بل الأحاديث عنده قسمان باطلة لا شك في بطلانها وصحيحة لا شك في صحتها ، ولا ثالث عنده لهذين القسمين وإن أوهمت بعض عباراته خلاف ذلك ؛ قال في (الإحكام) (1/131) : ( فإذا روى العدل عن مثله كذلك خبراً حتى يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم فقد وجب الأخذ به ، ولزمت طاعته والقطع به ، سواء أرسله غيره ، أو أوقفه سواه ----) إلخ .
موقوف :
الموقوف من الأحاديث هو ما يقصره الراوي على الصحابي ، وينسبه إليه ، قولاً له أو فعلاً أو نحوهما ، يقف به عنده ، فلا يتجاوز الراوي الصحابيَّ في نسبته ذلك المروي ، إلى النبي صلى الله عليه وسلم .
ومن أراد أن يستعمل هذا الاسم فيما جاء عن التابعين فمن بعدهم فينبغي أن يقيده بهم ، فيقول مثلاً : موقوف على عطاء ، أو على طاووس ، أو وقفه فلان على بعض التابعين ، ونحو ذلك .
ويقال للموقوف والمقطوع أيضاً : الأثر ، وذلك مأخوذ من قولهم (أثرت الحديث) أي رويته ؛ وانظر (الأثر).
مولى بني فلان :
كثيراً ما يرد في كتب الرجال ونحوها من كتب التراجم والسير ، وحتى في جملة من أسانيد الأحاديث كلمة (مولاهم) أو (مولى بني فلان) عقب تسميته ، فما معناها ؟
الموالي ثلاثة أقسام رئيسة : موالي العتاقة ، وهو الأغلب ، وموالي الإسلام ، وموالي الحلف ؛ وثم قسم رابع نادر جداً ، وهو ولاء الملازمة ، والتسمية في هذا القسم الرابع كأنها تعبير تشبيهي مجازي لا حقيقي .
قال ابن الصلاح في (مقدمته) (ص358-360) :(5/217)
(النوع الرابع والستون معرفة الموالي من الرواة والعلماء :
وأهم ذلك معرفة الموالي المنسوبين إلى القبائل بوصف الإطلاق(1) ، فإن الظاهر في المنسوب إلى قبيلة - كما إذا قيل : فلان القرشي - أنه منهم صليبةً ، فإذاً بيان من قيل فيه "قرشي" من أجل كونه مولى لهم مهم .
واعلم أن فيهم من يقال فيه : "مولى فلان" أو : "لبني فلان" والمراد به مولى العتاقة ؛ وهذا هو الأغلب في ذلك .
ومنهم من أُطلق عليه لفظ "المولى" والمراد بها ولاء الإسلام ؛ ومنهم أبو عبد الله البخاري ، فهو محمد بن إسماعيل الجُعفي مولاهم ، نُسب إلى ولاء الجعفيين لأن جده - وأظنه الذي يقال له : الأحنف - أسلم - وكان مجوسياً - على يد اليمان بن أخنس الجعفي ، جَدّ عبد الله بن محمد المُسْنِدي الجعفي أحد شيوخ البخاري ؛ وكذلك الحسن بن عيسى الماسَرجسي ، مولى عبد الله بن المبارك ، إنما ولاؤه له من حيث كونه أسلم - وكان نصرانياً - على يديه .
ومنهم من هو مولىً بولاء الحلف والموالاة ، كمالك بن أنس الإمام ونفرِه ، هم أصبحيون حميريون صليبة ، وهم موالٍ لتيم قريش بالحلف ؛ وقيل: لأن جده مالك بن أبي عامر كان عسيفاً على طلحة بن عبيدالله التيمي ، أي أجيراً ، وطلحة يختلف بالتجارة ، فقيل : مولى التيميين ، لكونه مع طلحة بن عبيد الله التيمي .
وهذا قسم رابع في ذلك ، وهو نحو ما أسلفناه في مقسَمٍ أنه قيل فيه : "مولى ابن عباس" ، للزومه إياه ) .
__________
(1) يعني دون أن يقال : (من أنفسهم ، أو صليبة ، أو مولاهم ، أو من مواليهم) أو نحو ذلك .(5/218)
تكملة : قال ابن الأثير في (النهاية) (5/228) : (وقد تكرر ذكر المولى في الحديث ، وهو اسم يقع على جماعة كثيرة ، فهو الرب والمالك والسيد والمنعم والمعتِق والناصر والمُحِبّ والتابع والجار وابن العم والحليف والعقيد والصهر والعبد والمعتَق والمنعَم عليه ؛ وأكثرها قد جاءت في الحديث ، فيضاف كل واحد إلى ما يقتضيه الحديث الوارد فيه ، وكل من وَلِيَ أمراً أو قام به فهو مولاه ووليه .
وقد تختلف مصادر هذه الأسماء ، فالوَلاية - بالفتح - في النسب والنصرة والمعْتِقِ ؛ والوِلاية - بالكسر - في الإمارة ؛ والوَلاء المعتَق والموالاة مِن "والى القومَ" ) .
مولاهم :
انظر (مولى بني فلان) .
الميزان :
انظر الأصل رقم ( 5 ) من الفصل الثالث من المقدمة التأصيلية ، وهو في (بيان أنه ينبغي التفريق بين اللقب والاصطلاح وبيان عدم صحة إدخال الألقاب في الاصطلاحات إلا على سبيل التجوز) .(5/219)
فصل النون
نازل :
انظر (النزول) .
الناس :
انظر (روى عنه الناس) ، و (تركه الناس) .
نزكوه :
أي طعنوا فيه ، كأنهم ضربوه بالنيازك ، وقد قيلت في حق شهر بن حوشب .
قال عبد الله بن أحمد في (العلل ومعرفة الرجال) (3/134) : (سمعت أبي يقول : يحكون عن ابن عون قال : حدثنا هلال بن أبي زينب قال : حدثنا شهر بن حوشب وقد نزكوه ، يعني بذلك رموه بشيء ، ضعفوه).
وقال الإمام مسلم في مقدمة (صحيحه) (1/17) : (وحدثنا عبيد الله بن سعيد قال : سمعت النضر يقول : سئل ابن عون عن حديث لشهر وهو قائم على أسكفة الباب فقال : إن شهراً نزكوه ، إن شهراً نزكوه ؛ [قال مسلم رحمه الله] : يقول : أخذته ألسنة الناس ، تكلموا فيه) . انتهى.
ولقد صحفها غير واحد من رواة (صحيح مسلم) والناسخين والطابعين فجعلوها (تركوه) .
قال النووي في (شرح صحيح مسلم) (1/94) : (وقوله نزكوه ، هو بالنون والزاي المفتوحتين ، معناه : طعنوا فيه وتكلموا بجرحه ، فكأنه يقول : طعنوه بالنَّيْزَك بفتح النون وإسكان المثناة من تحت وفتح الزاي؛ وهو رمح قصير .
وهذا الذي ذكرته هو الرواية الصحيحة المشهورة ؛ وكذا ذكرها من أهل الأدب واللغة والغريب : الهرويُّ(1) في (غريبه) .
وحكى القاضي عياض عن كثيرين من رواة مسلم أنهم رووه (تركوه) بالتاء والراء ، وضعفه القاضي وقال : الصحيح بالنون والزاي ؛ قال : وهو الأشبه بسياق الكلام.
وقال غير القاضي : رواية التاء تصحيفٌ وتفسير مسلم يردها ؛ ويدل عليها أيضاً أن شهراً ليس متروكاً ، بل وثقه كثيرون من كبار أئمة السلف أو أكثرهم----)(2).
النزول :
انظر أواخر (علو) .
نزيل البلد الفلاني :
يقال للمترجَم : "نزيل مكة" مثلاً ، إذا كان طارئاً على أهلها ، أي سكن فيها معهم بعد أن لم يكن منهم ، ولا يوصف بهذه الكلمة زوار المدن والواردون عليها من غير أن يستقروا بها ويسكنوا فيها .
نسأل الله السلامة ، اللهم سلِّم سَلِّم :
انظر (أسأل الله السلامة) .
النَّسخ :
المراد بالنسخ الكتابة ، أو عمل نسخة من كتاب ، أو من شيء مكتوب ، ويراد بالنسخ أحياناً (النسخ على الوجه) ، فانظره .
__________
(1) هو أبو عبيد القاسم بن سلام.
(2) قال العسكري في (تصحيفات المحدثين) (ص39-41) : (أخبرنا ابن دريد أنبأنا أبو حاتم السجستاني قال : ذُكر شهر بن حوشب عند ابن عون فقال : ذاك رجل نزكوه ، يعني طعنوا فيه ، كأنهم ضربوه بالنيازك ؛ قال : فصحف أصحاب الحديث وقالوا : ذاك رجل تركوه ؛ قلت أنا : وإنما تكلم فيه ابن عون ؛ ويقال : رجل نُزَك : طعان في الناس ، كأنه يطعن بنيزك ، وهو دون الرمح ، له سنان وزُجّ---).(5/220)
وقال السمعاني في (الأنساب) تحت رسم (الناسخ): (الناسخ : بفتح النون وكسر السين المهملة والخاء المعجمة في آخرها ، هذه اللفظة لمن ينسخ الكتب بالأجرة، ويقال له: الوراق بسائر البلاد، وببغداد يقال له: الناسخ ؛ واشتهر جماعة بهذه الصنعة ، منهم----) ؛ وانظر (الوراقة).
قال الصولي في (أدب الكتّاب) (ص122) : (والنسخ على معنيين :
أحدهما : أن تنسخ الشيء لما تقدمه فتذهب به(1) فيحل مكانه ، ومنه قول الله عز وجل : "مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا"(2) ؛ وفي كل الآيات خير ؛ والمعنى نأت بخيرٍ منها لكم وأخفّ عليكم .
ومنه قولهم : "نسخت الشمسُ الظلَّ" : حلَّت مكانه .
والمعنى الآخر : أن ينسخ الشيءُ الشيءَ فيجيء بمثله غير مخالف له ، يقول : نسخت كتابك لم أغادر منه حرفاً ، وفي القرآن: "إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ"(3) .
ويُروى أن أول من عمل الكتب نسخاً زياد ) .
النسخ على الوجه :
النَّسْخ على الوجه : هو نسخ جميع مرويات الشيخ أو جميع ما في الكتاب أو الجزء أو النسخة؛ لسماع ذلك كله من ذلك الشيخ ، أو عليه ؛ وانظر (صاحب الانتخاب يندم وصاحب النسخ لا يندم) .
النسخ الحديثية :
انظر (النسخة) و (مدرَجة) .
النسخة :
من معاني النسخة في اصطلاح أهل الحديث : مجموعة الأحاديث المروية بإسناد واحد ، أو طريق واحدة ، ولا يضر اختلاف الرواة في بعض طبقاتها .
وهذا مثال لورود هذه اللفظة في كلامهم؛ قال الحاكم في (معرفة علوم الحديث) (ص57) :
__________
(1) لعل صواب العبارة - إن كانت مصحَّفة - هو نحو هذا (أن ينسخ الشيء ما تقدَّمه ، فيذهب به) .
(2) سورة البقرة (106) .
(3) سورة الجاثية (29) .(5/221)
(وأوهى أسانيد عائشة نسخة عند البصريين عن الحارث بن شبل عن أم النعمان الكندية عن عائشة---- وأوهى أسانيد المصريين أحمد بن محمد بن الحجاج بن رشدين بن سعد عن أبيه عن جده عن قرة بن عبد الرحمن بن حيويل عن كل من روى عنه فانها نسخة كبيرة).
وأما في عُرف الوراقين والنساخ والكتّاب فنسخة الكتاب هي صورته أو فرعه الذي نُسخ منه ، وقد تطلق على الأصل فيقال مثلاً (نسخة الشيخ) ، أو (النسخة الأم) ، ونحو ذلك من العبارات الدالة على الأصالة ، ومعلوم أن كل نسخة فرعية تصلح أن تكون بعد ذلك أصلاً لغيرها ، فهي فرعٌ باعتبار وأصلٌ باعتبار آخر .
وانظر (مدرجة) .
نسخة خطية :
أي نسخة مخطوطة لا مطبوعة ، انظر (مخطوط) .
نسخة مخطوطة :
أي خطية .
نسخة قلمية :
أي مكتوبة بالقلم ، فهي نسخة خطية ، انظر ما سبق .
نسيج وحدِه :
إذا قيل في نعت شيء : "هو نسيح وحدِه" ، فمعنى ذلك أنه لا نظير له ، وهذه العبارة أصلها مثل عربي ، وقد قالها جماعة من النقاد في بعض كبار الحفاظ ، قالها أحمد في عبد الله بن إدريس الأودي كما في (العلل ومعرفة الرجال) (973) ، بلفظ (كان نسيج وحده) ؛ وقالها عبد الرحمن بن مهدي في ابن المبارك .
وقد بين معنى هذا المثل جماعةٌ من علماء اللغة ، منهم ابنُ السِّكّيت فقد قال في (إصلاح المنطق) (ص315) : (وقولهم "هو نسيج وحده" للرجل الذي لا شِبه له في علم أو غيرِه ، وأصله أن الثوب إذا كان كريماً لم يُنسج على منواله غيرُه ، وإذا لم يكن كريماً نفسياً عُمل على منواله سدى لعدة أثواب) . انتهى ؛ ونحوه في (أدب الكاتب) لابن قتيبة (ص43) و(جمهرة الأمثال) لأبي هلال العسكري (2/239) و(مجمع الأمثال) للميداني (1/40) .(5/222)
نشاطُ المحدث وكسُله :
المحدث أحياناً ينشط أي يحرص على الإتيان بالرواية مجودة ، من غير إرسال لموصول ، ولا وقف لمرفوع ، ولا إهمال لمنسوب من الرواة ، ولا إبهام لمسمى منهم ، ولا اختصار ، ولا رواية بالمعنى ؛ وأحياناً يفتر ويتسهل فلا يحقق الرواية أو لا يجوّدها ، بل يأتي بها مرسلة أو موقوفة ، خلافاً لما معه ، أو يذكر العنعنة بدل التصريح بالسماع ، أو يذكر بعض الرواة مبهماً من غير تسمية أو مهمَلاً من غير نسبة ؛ وكل ذلك خلافاً لما معه أيضاً ؛ وهذا يسمى كسلاً وفتوراً ، وبعضهم يسميه - أو يسمي بعض أنواعه : تقصيراً ؛ وانظر (أسباب الإرسال) .
النشق :
انظر (الضرب) .
نص الحديث :
أي لفظُه .
النظم :
قال السخاوي في (الغاية في شرح الهداية) (1/89) : (النظم في اللغة : الجمع ؛ وفي الاصطلاح : الجمع على بحر من البحور المعروفة عند أهل القريض ؛ قال في "الصحاح" : نظمتُ اللؤلؤَ : جمعتُه في السلك ، والتنظيمُ مثلُه ؛ ومنه "نظمت الشعر ونظَّمته" ؛ والنظام : الخيط الذي يُنظم به اللؤلؤُ ، ونُظم من لؤلؤ ؛ انتهى ) .
نفض يده :
نفض اليد إشارة إلى ذم حال الراوي ، والظاهر أنه إشارة إلى تركه ، أو إلى تأكيد ضعفه ؛ ذُكر يحيى الحماني عند أحمد فنفض أحمد عندئذ يده ، وأمر مرة بالضرب على حديثه .
قال الميموني في (مسائله) (347): (فقلت له "يعني لأبي عبد الله" : يحيى بن عبد الحميد الحماني. قال: لا أدري، ثم نفض يده في وجهي غير مرة، يدفعه).
وقال أحمد بن محمد بن هانئ كما في (ضعغاء العقيلي) (2039): (قلت لأبي عبد الله، في حديث رواه ابن الحماني عنه، فنفض يده، ثم قال: ابن الحماني قد طلب وسمع، ثم قال: ولو اقتصر على ما سمع لكان فيه كفاية).
وانظر (ليس عليه قياس).
النقاد :
هم علماء النقد، ويأتي بيان معناه.
النقد :
هو بيان أحوال الأحاديث ورواتها من حيث القوة والضعف ، وما يتعلق بذلك.(5/223)
النقد الخفي :
لا أعلم هذه الكلمة منقولة عن أحد من المتقدمين ، وأما المتأخرون فلا أدري هل وردت في استعمالهاتهم أم لم ترد ؟ ولكنها وردت في بعض كتب المعاصرين ؛ قال عبد الله بن يوسف الجديع في (تحرير علوم الحديث) في أول المجلد الثاني منه (2/641 وما بعدها) :
(مقصودنا بالنَّقد الخفي : استكشاف العلل الخفية في الأحاديث التي ظاهرها السلامة من العلل ، وذلك أن الحديث يستجمع شروط القبول : من اتصال الإسناد ، وعدالة الرواة ، وضبطهم ، فَيُحْكم عليه ظاهراً بالقول "إسناده صحيح" ، لكن يقف الناقد على سبب غير ظاهر يَرُدّ الحكم بصحة الحديث ، وقد يبلغ به الحكم بالوضع ؛ وهذا السبب الخفي هو العلة .
وحاصل تعريفها ، أنها : سبب غامض خفي ، يقدح في ثبوت الحديث ، وظاهره السلامة منه .
ومحل النقد الخفي : رواياتُ الثقات(1) .
والبحث عن علة الحديث مُقدم في علم الحديث على إفناء العمر في مجرد الجمع والتكثير ، دون تحقيق ولا تمحيص ، كما يجري عليه أكثر المتعرضين إليه ؛ كان الإمام عبد الرحمن بن مهدي يقول : " لأن أعرف علة الحديث هو عندي أحبُّ إليَّ من أن أكتب عِشرين حديثاً ليس عندي"(2).
قلت : وكيف لا ؟ وكان همهم مَعرفة السُّنن للعمل بها وإرشاد الأمة ، فإذا تميز له من التعليل سلامةُ الرواية عَلِم ما لزم بمُقتضاها ، وإن تبين سُقوطها عَلِم سُقوط أثرها ، وهذا ما لا يكون بمُجرّد الجَمع والتكثير .
وسيأتي تحريرُ القول في لَقب "الحديث المعلل" في القِسم الثاني من هذا الكتاب) ؛ انتهى ؛ وانظر (العلة).
__________
(1) هذا الكلام فيه نظر ، فمن النقد الخفي معرفة عدم صلاحية طرق ضعيفة متكاثرة ، لمتن بعينه ، للتقوي ببعضها ، على كثرتها ، ومن النقد الخفي معرفة كيفية تكاثر الطرق لمتن لا أصل له ، ومنه أيضاً معرفة مواضع إصابة الضعفاء من الرواة ، أي ما رووه ولم يخطئوا فيه .
(2) أخرجه الحاكم في (المعرفة) (ص112) والخطيب في (الجامع) (رقم 1900) وإسناده صحيح .(5/224)
نقد المتن :
شغَّب بعض أعداء الحق من متأخري الكفار ومن تبعهم بأن علماء الحديث ينظرون في نقدهم إلى السند دون المتن ، أو يقصرون جداً في نقد المتن ، وهذه فرية منهم ظاهرة البطلان ومستمسك لهم عروته ساقطة ؛ وقد رد عليهم جماعة من العلماء ، منهم العلامة المعلمي في مواضع من (الأنوار الكاشفة) ، فقد قال (ص263-264) : (من تتبع كتب تواريخ رجال الحديث وتراجمهم وكتب العلل وجد كثيراً من الأحاديث يطلق الأئمة عليها : "حديث منكر . باطل . شبه الموضوع . موضوع" ؛ وكثيراً ما يقولون في الراوي : "يحدث بالمناكير . صاحب مناكير . عنده مناكير . منكر الحديث" ؛ ومن أنعم النظر وجد أكثر ذلك من جهة المعنى ؛ ولما كان الأئمة قد راعوا في توثيق الرواة النظر في أحاديثهم والطعن فيمن جاء بمنكر : صار الغالب أن لا يوجد حديث منكر إلا وفي سنده مجروح، أو خلل ؛ فلذلك صاروا إذا استنكروا الحديث نظروا في سنده فوجدوا ما يبين وهنه ، فيذكرونه ؛ وكثيراً ما يستغنون بذلك عن التصريح بحال المتن ؛ انظر "موضوعات ابن الحوزي" وتدبر تجده إنما يعمد إلى المتون التي يرى فيها ما ينكره ، ولكنه قلما يصرح بذلك ، بل يكتفي غالباً بالطعن في السند ؛ وكذلك كتب العلل وما يُعَلّ من الأحاديث في التراجم تجد غالب ذلك مما يُنكَر متنُه، ولكن الأئمة يستغنون عن بيان ذلك بقولهم : "منكر" أو نحوه ، أو الكلام في الراوي ، أو التنبيه على خلل من السند ، كقولهم : "فلان لم يلق فلاناً . لم يسمع منه . لم يذكر سماعاً . اضطرب فيه . لم يتابع عليه . خالفه غيره . يروي هذا موقوفاً وهو أصح" ، ونحو ذلك ) .
النُّقَط :
جمع نقطة .(5/225)
النَّقْط :
هو وضع النقَط على الحروف ؛ قال عبد السلام هارون : (وفي الإعجام ، أي الشكل والضبط، يحتاج المحقق كذلك إلى خبرة خاصة، وهذا هو الذي كان يسميه أبو الأسود (النقط) ؛ قال أبو الأسود لكاتبه القيسي : (إذا رأيتني قد فتحت فمي بالحرف فانقط نقطة على أعلاه ، وان ضممت فمي فانقط نقطة بين يدي الحرف ، وإن كسرت فمي فاجعل النقطة تحت الحرف ، فإن أتبعتُ ذلك شيئاً من غنة فاجعل مكان النقطة نقطتين" . فهذه طريقة أبي الأسود يراها القارئ في المصاحف العتيقة).
النقطتان :
انظر (الترقيم) .
النقطة :
انظر (الترقيم) .
نقط الحذف :
انظر (علامة الحذف والإضمار).
نقل :
جاء في (المعجم الوسيط) : ( نقل الشيءَ نقلاً : حوله من موضع إلى موضع ، والكتابَ : نسخه ، والخبرَ أو الكلامَ : بلَّغه عن صاحبه----) ؛ وانظر (أهل النقل) .
النكت :
جاء في (المعجم الوسيط) : ( النكتة : الأثر الحاصل من نَكْتِ الأرضِ ، والنقطةُ في الشيء تخالف لونه ، والعلامةُ الخفية ، والفكرة اللطيفة المؤثرة في النفس ، والمسألة العلمية الدقيقة يُتوصل إليها بدقة وإنعام فكر ، وشبه وسخ في المرآة أو السيف ، وشبه وقرة في قرنية العين ، ويسميها العامة نقطة . (ج) [أي جمعها] : نكت ونكات) . انتهى.
فإذن النكتة في باب العلم والتفكر : هي اللطيفة المستخرجة بقوة الفِكر ؛ مِن (نَكتَ الأرضَ) أي أثّر فيها بقضيبٍ ونحوه ؛ إمّا لأن مستخرِج ذلك المعنى ينكت الأرضَ حالةَ الفكر فيه ، لدقته ؛ أو لأنه يؤثر في نفس السامع إذا فهمه .
ومن هنا يُعلم مراد المصنفين بتسميتهم بعض شروحهم أو حواشيهم باسم (النكت) ككتاب الزركشي على ابن الصلاح ، وكتاب ابن حجر على ابن الصلاح والعراقي ، وكتاب البقاعي (النكت الوفية على شرح الألفية) .
نكرة :
أي مجهول لا يُعرف.
نكرة لا يعرف :
هي بمعنى التي قبلها.
نماه :
انظر (يبلغ به) .(5/226)
نور الدين :
هذا لقب لجماعة من متأخري المحدثين والعلماء ، وكذلك (شمس الدين) ، (شهاب الدين) ، (فخر الدين) ، (نصر الدين) ، (ناصر الدين) ، (علم الدين) (أمين الدين) (محيي الدين) ، ونحوها كثير ؛ وقد قال الشيخ العلامة بكر أبو زيد في (تسمية المولود) (ص34-36 طبعة دار ابن الجوزي - القاهرة) في مثاني الأصل التاسع - وهو فصل في بيان الأسماء المكروهة - ما يلي :
(وتُكره التسمية بكل اسم مضاف ، من اسم أو مصدر أو صفة مشبهة مضافة إلى لفظ (الدين) ولفظ (الإسلام) ، مثل : نور الدين، ضياء الدين، سيف الإسلام، نور الإسلام ... ؛ وذلك لعظيم منزلة هذين اللفظين (الدين) و (الإسلام)(1)، فالإضافة إليهما على وجه التسمية فيها دعوى فجة تُطلُّ على الكذب ؛ ولهذا نص بعض العلماء على التحريم(2)، والأكثر على الكراهية، لأن منها ما يوهم معانيَ غير صحيحة مما لا يجوز إطلاقه، وكانت في أول حدوثها ألقاباً زائدة عن الاسم ، ثم استعملت أسماءً.
وقد يكون الاسم من هذه الأسماء منهياً عنه من جهتين مثل : شهاب الدين ، فإن الشهاب الشعلة من النار، ثم إضافة ذلك إلى الدين ؛ وقد بلغ الحال في إندونيسيا التسمية بنحو : ذهَب الدين، وماسِ الدين!.
وكان النووي - رحمه الله تعالى - يكره تلقيبه بمحيي الدين، وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يكره تلقيبه بتقي الدين، ويقول " لكن أهلي لقبوني بذلك فاشتهر"(3).
وقد بينت ذلك في "معجم المناهي" و "تغريب الألقاب".
__________
(1) - " تحفة المودود " ( ص136 ) ، " السلسلة الصحيحة " ( رقم 216 ) ، " تغريب الألقاب العلمية ".
(2) - انظر : " شرح ابن علان للأذكار " ( 6/130).
(3) - ومن هذا ما يذكر من كراهة التكني بـ ( أبي عيسى ) ، فانظر : " الحطة " ( ص453) لصديق حسن خان ، وتعلق محققه عليه.(5/227)
وأول من لقب في الإسلام بذلك هو بهاء الدولة ابن بويه (ركن الدين) في القرن الرابع الهجري(1).
ومن التغالي في نحو هذه الألقاب : زين العابدين، ويختصرونه بلفظ (زينل) ، وقَسّام عَلي ، ويختصرونه بلفظ (قسملي).
وهكذا يقولون - وبخاصةٍ لدى البغاددة - في نحو : سعد الدين، عز الدين، علاء الدين : سعدي، عِزّي، علائي.
والرافضة يذكرون أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رحمه الله تعالى : سيد العابدين، وهذا لا أصل له، كما في "منهاج السنة" (4/50)، و "الموضوعات" لابن الجوزي (2/44-45)، وعلي بن الحسين من التابعين، فكيف يسميه النبي صلى الله عليه وسلم بذلك؟!
فقاتل الله الرافضة ما أكذبهم وأسخف عقولهم !
ومِن أسوأ ما رأيت منها التسمية بقولهم : جلب الله، يعني : كلب الله ! كما في لهجة العراقيين، وعند الرافضة منهم يسمونه: جلب علي، أي: كلب علي! وهم يقصدون أن يكون أميناً مثلَ أمانة الكلب لصاحبه[!!]).
وقال العلامة بكر أبو زيد أيضاً في (تغريب الألقاب العلمية) (ص307) بعد شيء كثير نقله عن العلماء في كراهة الألقاب التي فيها تزكية للملقَّب ، أو مبالغة في تعظيمه ، ونحو ذلك :
(ومن لطيف الاستطراد أن الأمير الصنعاني أنشد في الوضيعة من الألقاب التي تحمل التزكية ، مثل "نور الدين" ونحوه ، جملةَ أبيات مسطرةً في "ديوانه" ، منها قوله :
تسمى بنور الدين وهو ظلامه
وهذا بشمس الدين وهو له خسف
وذا شرفُ الإسلام يدعوه قومُه
وقد نالهم من جوره كلهم عسفُ
__________
(1) "الإسلام والحضارة الغربية" لمحمد كرد علي ، وفيه سياق مهم عن التغالي بهذه الألقاب ، حتى كانت لا تصدر إلا بمراسيم سلطانية ، وربما بُذل مال طائل للحصول عليها، ثم ابتذلت حتى سُمي بها من لا خلاق له في الإسلام، حتى قال الحسن بن رشيق القيرواني:
مما يزهدني في أرض أندلس*** ***أسماء معتضد فيها ومعتمد
أسماء مملكةٍ في غير موضعها…**كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد(5/228)
رويدك يا مسكين سوف ترى غداً
إذا نُصب الميزان وانتشر الصحفُ
بما ذا تُسمى ؟ هل سعيداً وحبذا
أو اسم شقي بئس ذا ذلك الوصف) .
انتهى .
وجاء في (مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية) (26/311 وما بعدها) ما يلي :
(وسئل عن رجل اسمه أبو بكر صار جندياً وغير اسمه وسمى روحه اسم المماليك فهل عليه إثم ؟
فأجاب : إذا سمى اسمه باسم تركي لمصلحة له في ذلك فلا إثم عليه ويكون له اسمان ، كما يكون له اسم من(1)سماه به أبواه ثم يلقبه الناس ببعض الألقاب كفلان الدين .
وسئل عن الألقاب المتواطأ عليها بين الناس فأجاب(2) :
وأما الألقاب فكانت عادة السلف الأسماء والكنى ، فإذا أكرموه كنوه بأبي فلان وأبي فلانـ[ـة](3): تارة يكنون الرجل بولده ، وتارة بغير ولده ، كما كانوا يكنون من لا ولد له ، إما بالإضافة إلى اسمه ، أو اسم أبيه ، أو ابن سميه(4) ، او إلى أمرٍ [له] بِه تعلُّق ، كما كنى النبي صلى الله عليه وسلم عائشةَ بابن أختها عبدالله ، وكما يكنّون داود أبا(5) سليمان ، لكونه باسم داود "عليه السلام"(6) الذي اسم ولده سليمان ، وكذلك كنية إبراهيم أبو اسحاق ، وكما يكنون عبدالله بن عباس أبا العباس ، وكما كنّى النبي صلى الله عليه وسلم أبا هريرة باسم هرة كانت تكون معه .
__________
(1) لعل كلمة (من) هذه زائدة من الناسخ أو غيره .
(2) تنبيه : أنقلُ أصل هذا الجواب من طبعة صلاح الدين المنجّد لرسالة ابن تيمية (فتوى في القيام والألقاب) (ص13-14) طبعة دار الكتاب الجديد / بيروت ؛ فإني رأيت العبارات فيها أصح مما في (مجموعة الفتاوى) .
(3) هذه زيادة مني ، يقتضيها السياق .
(4) في رسالة (القيام والألقاب) (ص13) (واسم أبيه) مكان (أو ابن سميه ) ، وهذه التي أثبتُّها إنما هي عبارة (مجموع الفتاوى) .
(5) في مطبوعة المنجد (أبو) فاخترت ما في (المجموع) لأنه الجادة .
(6) هذا التسليم ساقط من مطبوعة المنجد .(5/229)
وكان الأمر على ذلك في القرون الثلاثة ، فلما غلبت دولةُ الأعاجم لبنى بويه(1) صاروا يُضيفون إلى الدولة ، فيقولون : ركن الدولة ، عَضُد الدولة ، بهاء الدولة(2).
ثم بعدها أحدثوا الإضافة إلى الدين ، وتوسعوا في هذا .
ولا ريب [أن](3) ما يصلح مع الإمكان هو ما كان السلف يعتادونه من المخاطبات والكنايات(4) ؛ فمن أمكنه ذلك فلا يعدل عنه ، لا سيما وقد نهي عن الأسماء التي فيها تزكية ، كما غير النبي صلى الله عليه وسلم اسم برة فسماها زينب لئلا تزكي نفسها ، [وإن اضطر إلى المخاطبة](5) والكناية بهذه الأسماء المحدثة خوفاً من تولد شر إذا عدل عنها فليقتصر على مقدار الحاجة .
ولَقَّبوا بذلك أنه علم محضٌ لا يُلمح فيه معنى الصفة ، بمنزلة الأعلام المنقولة ، مثل أسد وكلب وثور .
__________
(1) في (مجموع الفتاوى) (أمية) مكان (بويه) !! ..
(2) بياض في مطبوعة (المجموع ) تبعاً لأصله ، واستدركته من مطبوعة صلاح الدين المنجّد المتقدم ذكرها .
(3) هذا الحصر وارد في مطبوعة المنجد الذكورة .
(4) في مطبوعة المنجد (الكتابات) مكان (الكنايات) والتي وردت في (المجموع) وهي الأقرب .
(5) هذه الجملة التي وضعتها بين الحاصرتين كانت في الأصل أعني (رسالة القيام والألقاب) واقعة في غير موقعها هذا ، وقعت قبل كلمة (لا سيما) المتقدمة فأخرتها ليستقيم المعنى ويندفع الخلل .(5/230)
ولا ريب أن هذه المحدثات التي أحدثها الأعاجم وصاروا يزيدون فيها ، فيقولون : عز الملة والدين ، وعز الملة والحق والدين ، وما أكثر ما يدخل في ذلك من الكذب المبين ، بحيثُ يكون المنعوتُ بذلك أحق بضد ذلك الوصف ، والذين يقصدون هذه الأمور فخراً وخيلاء يعاقبهم الله بنقيضِ قصدِهم ، فيذلهم الله ويسلط عليهم عدوهم ، والذين يتقون الله ويقومون بما أمرهم به من عبادته وطاعته يعزهم وينصرهم ، كما قال تعالى {إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدينا ويوم يقوم الأشهاد}(1) ، وقال تعالى : {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون}(2) ) .
__________
(1) غافر (51) .
(2) المنافقون (8) .(5/231)
فصل الهاء
هذا حديث فلان :
كان من عبارات النقاد علماء العلل إذا أرادوا أن يبينوا قلب بعض الأحاديث أن يقولوا : (هذا حديث فلان) ، وهم يشيرون بذلك إلى أنه به يُعرف وعنه يروى ، وأن من رواه عن غيره من أقرانه أو معاصريه فقد وهم أو أغرب ؛ إذ الظاهر أنه ليس من حديث ذلك الراوي القرين وأنه قُلب فجُعل من روايته ؛ انظر مثلاً لذلك تحت (ليس من الجمال التي تحمل المحامل).
هذا عامة ما يرويه فلان :
قال عبد الله بن يوسف الجديع في (تحرير علوم الحديث) (1/587 - هامش) : (واعلم أن ابنَ عدي يَستعمل عِبارة ( عامة ) بمعنى ( أكثر ) أو ( غالب ) ، دلَّ على ذلك الاستقراء ، وربما صرَّح في بعض المواضع بما يدلُّ على ذلك أيضاً ، وذلك كقوله في ترجمة الجرح بن مليح الرُّؤاسي والد وَكيع : "عامة ما يَرويه عنه ابنه وكيع ، وقد حدَّث عنه غيرُ وَكيع الثقاتُ من الناس" ، {الكامل 2/413} ؛ وقال في ترجمة داود بن علي بن عبد الله بن عباس الهاشمي بعدَ أن أملى له أحاديث عدة : "وهذا الذي أمْليتُ لداود هو عامة ما يرويه ، ولعله لا يروي غيرَ ما ذكرْته إلا حديثاً أو حديثين " ، {الكامل 3/560} ) .
هذا فلان فاحذروه :
قال مسلم في مقدمة (الصحيح) (1/11): (وقال محمد [يعني ابن عبد الله بن قهزاذ] حدثنا عبد الله بن عثمان قال: قال أبي: قال عبد الله بن المبارك: انتهيت إلى شعبة فقال: هذا عباد بن كثير فاحذروه).
هذا موضوع ولا يتعدى فلاناً :
أي هو الذي وضعه ، هذا هو الأصل في معنى هذه العبارة ، ويحتمل أن يكون مرادها أنه عليه تبعته ، كأن يكون دلسه عمن وضعه ، مع علمه بأنه موضوع ؛ قال ابن حجر في (اللسان) (1/639) (789) في ترجمة (أحمد بن محمد بن عمران أبو الحسن بن الجُنْدي) : (وأورد ابن الجوزي في "الموضوعات" في "فضل علي" حديثاً بسند رجاله ثقات إلا الجندي ، فقال : هذا موضوع ولا يتعدى الجندي) .
هالك :
هذه لفظة تعبر عن كون الراوي ساقطاً متروكاً .
الهامش :
قال الزبيدي في (تاج العروس) مادة (همش) (17/466) : (والهامش : حاشية الكتاب ؛ قال الصاغاني : "يقال : كتب على هامشه ، وعلى الهامش ، وعلى الطرة ، وهو مولَّد .
قال ابن السِّكيت : واهتمشوا : اختلطوا في مكانٍ وكثروا ، وأقبلوا وأدبروا ) .
وجاء في (المعجم الوسيط) (2/1005) : ( هَمَشَ الرجلُ [يهمِشُ] هَمْشاً : أكثرَ الكلامَ في غير صواب ؛ و[همش] القومُ : تحركوا ، و[همش] الجرادُ : تحرك ليثورَ ، و[همش] الشيءَ [يهمُشُه] هَمْشاً : جَمَعه .
همَّش الكتابَ : علق على هامشه ما يعنُّ له ، مو .
هامشه في كذا : عاجله فيه.
اهتمش القومُ : كثروا بمكان فأقبلوا وأدبروا واختلطوا .
و[اهتمشت] الدابةُ : دبت دبيباً.
تهامش القومُ : اختلط بعضهم ببعض وتحركوا .
تهمَّش الشيءُ : تأكَّل وتحكَّك.
الهامش : حاشية الكتاب .
وفلان يعيش على الهامش : لم يدخل في زحمة الناس ، "مو" ) اهـ .(5/232)
وكلمة هامش الكتاب أو هامش النسخة كلمة قديمة ، فمثلاً حكى ابن طاهر المقدسي(1) عن أبي محمد السمرقندي أنه قال في كلام له على بعض الرواة : (فوجدته ألحق على الهوامش أسماء جماعة لم يكن لهم ذكر في صدر الاستدعاء ) .
وانظر (الحاشية) .
الهجاء :
الهجاء والتهجي هو التلفظ بأسماء الحروف ، لا بمسمياتها ، فهجاء لفظة (زيد) هو : (زاي ياء دال).
وقال الصفدي في مقدمة كتابه (الوافي والوفيات) (1/36) : (الفصل السادس في الهجاء ، وهو معرفة وضع الخط ورسمه وحذف ما حُذف وزيادة ما زيد وإبدال ما أبدل واصطلاح ما تواضع عليه العلماء من أهل العربية والمحدثين والكتاب . وهذا باب جليل في نفسه ، قلّ من أتقنه ؛ والمحدث والمؤرخ شديد الحاجة إليه . فأذكر ههنا مهم هذا الباب ، فأقول : أكثر ما تجري أوضاع الكتابة التي تحتاج إلى البيان ، في الهمزة والألف والواو والياء) ؛ ثم بيَّنَ ذلك وغيره وشرحَه .
وانظر (توثيق النصوص) (ص249).
الهمزة :
قال عبد السلام هارون في (تحقيق النصوص ونشرها) (ص54-55) : (ومما يلحق بالضبط القَطْعَة ، أي الهمزة ، وهي صورة رأس عين توضع فوق ألف القطع ، أو على الواو والياء المصورتين بدلاً من الألف ، أو في موضع ألف قد حذفت صورتها ، مثل ماء وسماء .
وفي الكتابة القديمة كثيراً ما تهمل كتابتُها فتَلتبس "ماء" بكلمة "ما" ، و "سماء" بالفعل "سما" ) .
والهمزة المكسورة تكتب أحياناً تحت الحرف ، وتكتب أحياناً فوقه).
هو ابن فلان :
يردُ في ثنايا الأسانيد أحياناً عقب اسم بعض الرواة هذه العبارة (هو ابن فلان) ، وهي تعريف بصاحب ذلك الاسم ، وتعيين له ، وهذه العبارة ليست من كلام تلميذ المعرَّف به، وإنما هي من كلام بعض من دون ذلك التلميذ في السند.
قال ابن الصلاح في (مقدمته) (ص202-204) في الثاني عشر من تفريعات النوع السادس والعشرين :
__________
(1) كما في لسان الميزان (1/333 - بشائر) .(5/233)
(ليس له أن يزيد في نسب من فوق شيخه من رجال الإسناد على ما ذكره شيخه مدرِجاً عليه ، من غير فصل مميِّز ، فإن أتى بفصل جاز، مثل أن يقول : "هو ابنُ فلان الفلاني" ، أو : "يعني ابن فلان" ، ونحو ذلك .
وذكر الحافظ الإمام أبو بكر البرقاني رحمه الله في كتاب "اللقط" له بإسناده عن علي بن المديني قال: إذا حدثك الرجل فقال: حدثنا فلان ، ولم ينسبه ، فأحببت أن تنسبه فقل : "حدثنا فلان أن فلان بن فلان حدثه " ؛ والله أعلم .
وأما إذا كان شيخه قد ذكر نسب شيخه أو صفته في أول كتاب أو جزء ، عند أول حديث منه ، واقتصر فيما بعده من الأحاديث على ذكر اسم الشيخ أو بعض نسبه ، مثاله : أن أروي جزءاً عن الفراوي فأقول في أوله : "أخبرنا أبو بكر منصور بن عبد المنعم بن عبد الله الفراوي قال أخبرنا فلان" ، وأقول في باقي أحاديثه : "أخبرنا منصور" ، "أخبرنا منصور" ، فهل يجوز لمن سمع ذلك الجزء مني أن يروي عني الأحاديث التي بعد الحديث الأول متفرقة ويقول في كل واحد منها : "أخبرنا فلان قال أخبرنا أبو بكر منصور بن عبد المنعم بن عبد الله الفراوي قال أخبرنا فلان" وإن لم أذكر له ذلك في كل واحد منها ، اعتماداً على ذكري له أولاً ؟ فهذا قد حكى الخطيب الحافظ(1) عن أكثر أهل االعلم أنهم أجازوه ، وعن بعضهم أن الأولى أن يقول : "يعني ابن فلان" ؛ وروى بإسناده عن أحمد بن حنبل رضي الله عنه أنه كان إذا جاء اسم الرجل غير منسوب قال : "يعني ابن فلان" .
__________
(1) الكفاية (ص215) .(5/234)
وروى عن البرقاني باسناده عن علي بن المديني ما قدمنا ذكره عنه ؛ ثم ذكر أنه هكذا رأى أبا بكر أحمد بن علي الأصبهاني نزيل نيسابور يفعل ، وكان أحد الحفاظ المجودين ، ومن أهل الورع والدين ، وأنه سأله عن أحاديث كثيرة رواها له قال فيها : "أخبرنا أبو عمرو بن حمدان أن أبا يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلي أخبرهم ، وأخبرنا أبو بكر بن المقري: أن إسحاق بن أحمد بن نافع حدثهم ، وأخبرنا أبو أحمد الحافظ ، أن أبا يوسف محمد بن سفيان الصفار أخبرهم" ، فذكر له أنها أحاديث سمعها قراءة على شيوخه في جملة نسخ نسبوا الذين حدثوهم بها في أولها ، واقتصروا في بقيتها على ذكر أسمائهم .
قال : وكان غيره يقول في مثل هذا : "أخبرنا فلان قال : أخبرنا فلان ، هو ابن فلان" ، ثم يسوق نسبه إلى منتهاه .
قال : وهذا الذي أستحبه ، لأن قوماً من الرواة كانوا يقولون فيما أجيز لهم : "أخبرنا فلان أن فلاناً حدثهم" .
قلت : جميع هذه الوجوه جائز ، وأولاها أن يقول : " هو ابن فلان" ، أو: "يعني ابن فلان" ، ثم أن يقول : أن فلان بن فلان" ، ثم أن يذكر المذكور في أول الجزء بعينه من غير فصل(1) ، والله أعلم) ؛ انتهى كلام ابن الصلاح رحمه الله .
وقال النووي في مقدمة شرحه لـ(صحيح مسلم) تحت هذا العنوان (فصل في الزيادة للتعريف) ما لفظه :
__________
(1) يقصد أنه من غير فصل بكلمة (يعني) أو كلمة (هو) ، بين اسم الراوي واسم أبيه أو غير ذلك من نسبه .(5/235)
(ليس للراوى أن يزيد في نسب غير شيخه ولا صفته على ما سمعه من شيخه ، لئلا يكون كاذباً على شيخه ؛ فإن أراد تعريفه وإيضاحه وزوال اللبس المتطرق إليه لمشابهة غيره فطريقُه أن يقول: "قال حدثني فلان ، يعني ابن فلان ، أو الفلاني ، أو هو ابن فلان ، أو الفلاني" ، أو نحو ذلك ؛ فهذا جائز حسن ، قد استعمله الأئمة ؛ وقد أكثر البخاري ومسلم منه في الصحيحين غاية الإكثار حتى إن كثيراً من أسانيدهم يقع في الإسناد الواحد منها موضعان أو أكثر من هذا الضرب ، كقوله في أول "كتاب البخاري" في باب من سلم المسلمون من لسانه ويده : "قال أبو معاوية : حدثنا داود - هو ابن أبي هند - عن عامر قال : سمعت عبد الله - هو ابن عمرو - ؛ وكقوله في "كتاب مسلم" في باب منع النساء من الخروج إلى المساجد : "حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا سليمان - يعني ابن بلال - عن يحيى - وهو ابن سعيد - ؛ ونظائره كثيرة .
وإنما يقصدون بهذا الإيضاحَ ، كما ذكرنا أولاً ، فإنه لو قال : حدثنا داود ، أو عبد الله ، لم يُعرف من هو ، لكثرة المشاركين في هذا الاسم ، ولا يَعرف ذلك في بعض المواطن إلا الخواص والعارفون بهذه الصنعة وبمراتب الرجال ، فأوضحوه لغيرهم وخففوا عنهم مؤونة النظر والتفتيش ؛ وهذا الفصل نفيس يعظم الانتفاع به ، فإن من لا يعاني هذا الفن قد يتوهم أن قوله "يعني" وقوله "هو" زيادة لا حاجة إليها وأن الأولى حذفها ، وهذا جهل قبيح ؛ والله أعلم).
هو في جملة الضعفاء :
قال عبد الله بن يوسف الجديع في ختام بيانه لاختلاف اصطلاحهم في إطلاق كلمة (ضعيف) في (تحرير علوم الحديث) (1/609): (ومن هذا قول ابن عدي في "كامله" في كثير من الرواة "هو في جملة الضعفاء" ، فربما قالها فيمن يعتبر به ، وربما قالها في متروك).
هو كذا وكذا :
انظر (كذا وكذا) ، و(شبه الريح) .(5/236)
فصل الواو
وآخر :
انظر (حدّث فلان وآخر).
الواسطة :
هو الراوي - أو أكثر - بين راويين؛ فيقال مثلاً: روى أحمد عن ابن عيينة بلا واسطة ، ويقال: أحمد لا يروي عن شعبة إلا بواسطة .
واللفظ لفلان :
انظر (حدثنا زيدٌ وعمرو واللفظ لعمرو) .
والله أعلم :
كلمة تتردد كثيراً في كلام العلماء والمفتين وأكثر المؤلفين ، يذكرونها في ختام بعض كتبهم أو أبوابها أو فصولها أو فِقراتها أو جملها ونحو ذلك ؛ فما هو معناها ؟ هل هي إشارة إلى نوع من توقف أو ترددٍ ؟ أو هي تعظيم لله وتحقير للنفس ونوع من الإقرار بالجهل ؟ أو هي علامة على اختتام الكلام ؟
كل ذلك محتمل ، والسياق وطريقة المتكلم كثيراً ما ينفعان في تبيين المراد هنا .
وإذا نقلتَ كلاماً لعالم بنصه وكانت هذه الكلمة في ختامه ، فهل أنت ملزَم بنقلها أم يجوز لك قطعها ؟
الجواب : إن كانت في ختام فصل فالظاهر أنها نوع من الحمد والشكر المجعول علامة لاختتام الفصل ، فمَن نقل آخر فقرة من ذلك الفصل فإنه لا يتبين هناك من السياق أن كلمة "والله أعلم" وقعت في ختام الباب ، فلعل الأحسن له عدم نقلها ، أعني يقطع النقل قبل كلمة "والله أعلم" لئلا يوهم نقلُها الواقفَ على تلك الفقرة أن صاحبها يشير إلى تردده فيها وعدم جزمه بها ، وإلى احتمال كونه واهماً فيما قاله ، لأن القارئ يغلب على ظنه أن صاحب الكلام المنقول اختصه بهذه الكلمة في خاتمته ، وما درى أنها كلمة تعم الباب كله .
مثال ذلك قول ابن دقيق العيد في (الاقتراح) (ص308) : (ومن الناس من يعدُّ العلوَّ ، الإتقانَ والضبطَ ، وإن كان نازلاً في العدد ، وهذا علوٌّ معنويٌّ ، والأول صُوريٌّ ، ورعايةُ الثاني إذا تعارضا أولى ؛ والله أعلم ) .(5/237)
فلفظة (والله أعلم) هذه وقعت في (الاقتراح) في ختام (الباب الخامس) منه ، وهو باب في معرفة العالي والنازل ، ولم ترد في الكتاب كله إلا في ختام هذا الباب وبابين آخرين ، فالظاهر أنها ذكرت لتكون حمداً لله وبراءة إليه من كل حول وقوة ثم تكون علَماَ على انتهاء الباب ؛ ولذلك أرى أن من أراد نقل هذه العبارة فالأولى أن يختم النقل عند كلمة "أولى" .
وأما إن جعلها العالم ختاماً لنقله اختلاف العلماء في مسألة من مسائل العلم ، فنقلُها عنه مهمٌّ ، سواء رجح ذلك العالم شيئاً من تلك الأقوال ، أو توقف في المسألة ، ولا سيما إن كان الناقل أحد كبار العلماء .
واهٍ :
يظهر أن معناها عند معظم المحدثين هو شدة ضعف الراوي بحيث لا يصلح للاستشهاد ، ولكن بعضهم كان يستعملها أو يفسرها في كلام النقاد بمعنى الضعف الذي لا يقتضي ترك صاحبه ؛ قيل لمقبل الوادعي كما في كتابه (المقترح) (ص39) : (ذكروا في مراتب الاستشهاد قولهم (واهي) ، يقال في الرجل (واه) قالوا : إن هذا يستشهد به ، وقالوا (واهي الحديث) في مراتب الرد ، وكثيراً ما يقول الحافظ الذهبي وغيره : هذا الرجل وهاه فلان فقال : كذاب ؛ وأحياناً يقول الحافظ الذهبي أيضاً : فلان واه ، ويسوق الترجمة بالترك وبالكذب ، فالقول الأخير في قولهم في الرجل (واهي) هل هذا يستشهد به ؟) فأجاب قائلاً :
(الذي أعرفه أن من قيل فيه واه لا يصلح في الشواهد والمتابعات).
واهي الحديث :
انظر (واه).
واهٍ بمرة :
قال السخاوي في (فتح المغيث) (2/122) في شرح هذه العبارة : (أي [واهٍ] قولاً واحداً لا تردد فيه ، وكأن الباء زيدت تأكيداً ).
وبه :
انظر أولاً (مدرجة) ، ثم اقرأ ما يلي .
قال الخطيب في (الكفاية) (ص214-215) تحت هذه الترجمة : (باب ما جاء في تفريق النسخة المدرجة وتجديد الإسناد المذكور في أولها لمتونها) :(5/238)
(لأصحاب الحديث نسخ مشهورة كل نسخة منها تشتمل على أحاديث كثيرة ، يذكر الراوي إسناد النسخة في المتن الأول منها ثم يقول فيما بعده : "وبإسناده...."، الى آخرها .
فمنها نسخة يرويها أبو اليمان الحكَم بن نافع عن شعيب بن أبي حمزة عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة .
ونسخة أخرى عند أبي اليمان عن شعيب أيضاً عن نافع عن ابن عمر.
ونسخة عند يزيد بن زريع عن روح بن القاسم عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة.
ونسخة عند عبد الرزاق بن همام عن معمر بن راشد عن همام بن منبه عن أبي هريرة .
وسوى هذا نسخٌ يطول ذكرها.
فيجوز لسامعها أن يُفرد ما شاء منها بالإسناد المذكور في أول النسخة ، لأن ذلك بمنزلة الحديث الواحد المتضمن لحكمين لا تعلق لأحدهما بالآخر، فالإسناد هو لكل واحد من الحكمين ؛ ولهذا جاز تقطيع المتن في بابين .
والأكثر على ما تقدم ذكرُنا له ) .
ثم روى عن عباس بن محمد قال : (قال يحيى بن معين : أحاديث همام بن منبه لا بأس أن يقطعها ) .
وروى عن أحمد بن شبويه قال : (قلت لوكيع : المحدث يحدثني فيقول في أول الكتاب : حدثنا سفيان عن منصور، ثم يقول فيما سوى ذلك : "وعن منصور"، أقول في كل حديث : حدثنا فلان عن سفيان عن منصور؟ قال : نعم ، لا بأس به ) .
وروى عن العباس بن محمد الدوري أيضاً قال : (سألت يحيى بن معين عن حديث ورقاء بن عمر أنه كان يقول في أولها : عن ابن أبي نجيح عن مجاهد ، فقيل له : ترى بأساً أن يخرجها إنسان فيكتب في كل حديث : ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد؟ قال : ليس به بأس ) .
وأخيراً قال : أخبرنا أحمد بن محمد بن غالب الفقيه قال : سألت أبا بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي عن الإسناد المدرج؟ فقال : يجوز إذا جُعل إسناد واحد لعدة من المتون أن يجدد لكل متن إسناداً جديداً) .(5/239)
ولخص ابن الصلاح - كعادته - كلام الخطيب وزاد عليه شيئاً فقال في (المقدمة) (ص304-306) : (النسخ المشهورة المشتملة على أحاديث بإسناد واحد، كنسخة همام بن منبه عن أبي هريرة ، رواية عبد الرزاق، عن معمر، عنه ، ونحوها من النسخ والأجزاء ، منهم من يجدد ذكر الإسناد في أول كل حديث منها ؛ ويوجد هذا في كثير من الأصول القديمة، وذلك أحوط .
ومنهم من يكتفي بذكر الإسناد في أولها عند أول حديث منها، أو في أول كل مجلس من مجالس سماعها ويُدرج الباقي عليه ويقول في كل حديث بعده : "وبالإسناد" ، أو "وبه" ؛ وذلك هو الأغلب الأكثر.
وإذا أراد من كان سماعه على هذا الوجه تفريق تلك الأحاديث ورواية كل حديث منها بالإسناد المذكور في أولها : جاز له ذلك عند الأكثرين ، منهم وكيع بن الجراح، ويحيى بن معين، وأبو بكر الإسماعيلي ؛ وهذا لأن الجميع معطوف على الأول ، فالإسناد المذكور أولاً في حكم المذكور في كل حديث ، وهو بمثابة تقطيع المتن الواحد في أبواب بإسناده المذكور في أوله ، والله أعلم .
ومن المحدثين من أبى إفرادَ شيء من تلك الأحاديث المدرجة بالاسناد المذكور أولاً، ورآه تدليساً ، وسأل بعض أهل الحديث الأستاذ أبا اسحاق الإسفرائيني الفقيه الأصولي عن ذلك ؟ فقال : لا يجوز .
وعلى هذا من كان سماعه على هذا الوجه فطريقه أن يبين ويحكي ذلك كما جرى ، كما فعله مسلم في "صحيحه"(1) في صحيفة همام بن منبه ، نحو قوله : "حدثنا محمد بن رافع قال: حدثنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر، عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة ؛ وذكر أحاديث منها "وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أدنى مقعد أحدكم في الجنة أن يقول له: تمنَّ..." الحديث ؛ وهكذا فعل كثير من المؤلفين ) .
__________
(1) في "الإيمان" (1/114) .(5/240)
وُثِّق :
هذه اللفظة يستعملها الذهبي وأحياناً غيره ، والغالب أن يكون مراد من قالها في راو هو أن ذلك الراوي حصل له توثيقٌ لم يعارضه تجريحٌ معتبر ، ولكن ذلك التوثيق تفرد به بعضُ مَن عادتُهم التساهل في التوثيق كابن حبان ؛ أو بعض من يتساهل في توثيق التابعين أحياناً .
وثقه فلان :
متى يقتصر العالم المتأخر في نقده للراوي على قوله فيه (وثقه فلان) فمعنى ذلك أنه لم يجد فيه توثيق معتبر من قبل ناقد آخر ، وأما إذا قال هذه الكلمة بعض المتقدمين فليس ذلك المعنى بلازم ، وذلك لاحتمال أنه ما أراد الاستيعاب ، أو أنه ذكر توثيق أعرف الناس بذلك الراوي ، أو أنه ذكر توثيق من يقلده أو يُكثر متابعاته ، لأنه من شيوخه أو ممن يعظّم علمهم في نقد الرواة.
وابن حجر يقول في طائفة من رجال التقريب : (وثقه فلان) ويسمي بعض النقاد ، ويقتصر على ذلك من غير أن يصرح برأي نفسه ، وذلك في حالات منها ما يلي :
الأولى : إذا اختلف إمامان معتدلان في راو فقال فيه أحدهما : (مجهول) وقال فيه الآخر : (ثقة) فحينئذ يقول ابن حجر فيه في الغالب : (وثقه فلان) ، أعني الناقد الثاني .
الثانية : إذا انفرد بتوثيقه أحد الأئمة ولم يرو عنه إلا واحد ؛ انظر مثلاً ترجمتي سعيد بن ذؤيب وسعيد بن أبي كريب من (التقريب) .
الثالثة : إذا كان معلوم العين ، ولكن لا يعلم من حاله إلا توثيقه من قِبل بعض العلماء المتساهلين في التوثيق ، وأما إذا انضم إلى هذا النوع الأخير من التوثيق ما يقوي الراوي فحينئذ يقول ابن حجر فيه : (صدوق) ، إلا فيمن وثقه ابن حبان وحده فيقول فيه ابن حجر : (مقبول) عند التقوية و (مجهول) عند عدمها .
هذا هو الغالب من صنيع ابن حجر ؛ وكأنه لا يريد أن يقطع في هذه المواضع بشيء ، وأنه يقوله من باب الترجيح أو التقليد .
وهو أحياناً يذكر التوثيق ويذكر معه ما يضاده وكأن ذلك توقف منه في حال ذلك الراوي .(5/241)
تنبيه : لا فرق عند الجمهور بين قول القائل (فلان وثقه ابن حبان) وقوله (فلان ذكره ابن حبان في ثقاته) ، فإن العبارة الأولى محمولة على الثانية ؛ وليست محمولة عندهم على أن ابن حبان صرح بتوثيقه في ثقاته ، ومنهم من لم يستعمل فيمن لم يصرح ابن حبان بتوثيقه إلا العبارة الثانية أو نحوها .
الوِجادة :
قال ابن الصلاح (ص157-159 طبعة نور الدين عتر) : (القسم الثامن [أي من أقسام التحمل] : الوِجادة(1) مصدر لـ«وجد يجد» ، مولَّد غير مسموع من العرب ؛ روينا عن المعافَى بن زكريا النهرواني العلامة في العلوم أن المولدين فرعوا قولهم «وجادة» فيما أُخذ من العلم من صحيفة من غير سماع ولا إجازة ولا مناولة ، من تفريق العرب بين مصادر «وجد» للتمييز بين المعاني المختلفة ، يعني قولهم : وجد ضالته وِجداناً ومطلوبَه وجوداً ، وفي الغضب موجدةً ، وفي الغني وُجداً ، وفي الحب وَجْداً.
مثال الوجادة: أن يقف على كتاب شخص فيه أحاديث يرويها وبخطه ولم يلقه أو لقيه ولكن لم يسمع منه ذلك الذي وجده بخطه، ولا له منه إجازة ولا نحوها ، فله أن يقول : "وجدت بخط فلان، أو: قرأت بخط فلان، أو: في كتاب فلان بخطه ، أخبرنا فلان بن فلان" ويذكر شيخه، ويسوق سائر الإسناد والمتن معاً ، أو: يقول: "وجدت، أو: قرأت بخط فلان عن فلان " ويذكر الذي حدثه ومن فوقه.
هذا الذي استمر عليه العمل قديماً وحديثاً، وهو من باب المنقطع والمرسل غير أنه أخذ شوباً من الاتصال بقوله "وجدت بخط فلان" .
وربما دلس بعضهم فذكر الذي وجد خطه وقال فيه "عن فلان، أو: قال فلان" وذلك تدليس قبيح(2)، إذا كان بحيث يوهم سماعه منه، على ما سبق في نوع التدليس.
__________
(1) بكسر الواو.
(2) ولعله يصلح أن يسمى تدليس الوجادة.(5/242)
وجازف بعضهم فأطلق فيه "حدثنا" و "أخبرنا" وانتُقد ذلك على فاعله(1).
وإذا وجد حديثاً في تأليف شخص وليس بخطه فله أن يقول: " ذكر فلان(2) أو: قال فلان: أخبرنا فلان(3)، أو: ذكر فلان عن فلان " . وهذا منقطع لم يأخذ شوباً من الاتصال.
وهذا كله إذا وثق بأنه خط المذكور أو كتابه(4)، فإن لم يكن كذلك فليقل: "بلغني عن فلان، أو: وجدت عن فلان" أو نحو ذلك من العبارات ؛ أو ليفصح بالمستند فيه، بأن يقول ما قاله بعض من تقدم : "قرأت في كتاب فلان بخطه، وأخبرني فلان أنه بخطه" أو يقول: "وجدت في كتاب ظننت أنه بخط فلان، أو: في كتاب ذكر كاتبه أنه فلان بن فلان، أو: في كتاب كتاب قيل إنه بخط فلان.
وإذا أراد أن ينقل من كتاب منسوب إلى مصنف فلا يقل: " قال فلان كذا وكذا " إلا إذا وثق بصحة النسخة بأن قابلها هو أو ثقة غيره بأصول متعددة، كما نبهنا عليه في آخر النوع الأول؛ وإذا لم يوجد ذلك ونحوه فليقل " بلغني عن فلان أنه ذكر كذا وكذا، أو: وجدت في نسخة من الكتاب الفلاني " ، وما أشبه هذا من العبارات.
وقد تسامح أكثر الناس في هذه الأزمان بإطلاق اللفظ الجازم في ذلك من غير تحرٍّ وتثبت، فيطالع أحدهم كتاباً منسوباً إلى مصنف معين ونتقل منه عنه من غير أن يثق بصحة النسخه قائلاً: " قال فلان كذا وكذا، أو: ذكر فلان كذا وكذا " ؛ والصواب ماقدمناه.
__________
(1) قال العلامة أحمد محمد شاكر في (الباعث الحثيث) (ص129) : (وقد جازف بعضهم فنقل بمثل هذه الوجادة بقوله «حدثنا فلان» أو «أخبرنا فلان» ! وأنكر ذلك العلماء ، ولم يُجزه أحد يعتمد عليه ، بل هو من الكذب الصريح ، والراوي به يسقط عندنا عن درجة المقبولين ، وترد روايته).
(2) يعني صاحب الخط.
(3) أي المؤلف .
(4) أي أصله ، ولو لم يكن بخطه.(5/243)
فإن كان المطالع عالماً فطناً، بحيث لا يخفى عليه في الغالب مواضع الاسقاط والسقط وما أحيل عن جهته إلى غيرها، رجونا أن يجوز له إطلاق اللفظ الجازم فيما يحكيه من ذلك؛ وإلى هذا - فيما أحسب - استروح كثير من المصنفين فيما نقلوه من كتب الناس والعلم عند الله تعالى.
هذا كله كلام فيه كيفية النقل بطريق الوجادة)(1) .
__________
(1) تتمة كلامه : (وأما جواز العمل اعتماداً على ما يوثق به منها: فقد روينا عن بعض المالكية أن معظم المحدثين والفقهاء من المالكيين وغيرهم لا يرون العمل بذلك؛ وحُكي عن الشافعي وطائفة من نظار أصحابه جواز العمل به؛ قلت: قطع بعض المحققين من أصحابه في أصول الفقه بوجوب العمل به عند حصول الثقة به؛ وقال: "لو عرض ما ذكرناه على جملة المحدثين لأبوه" ؛ ما قطع به هو الذي لا يتجه غيره في الأعصار المتأخره، فإنه لو توقف العمل فيها على الرواية لانسد باب العمل بالمنقول، لتعذر شرط الرواية فيها، على ما تقدم في النوع الأول، والله أعلم).
وقال العلامة أحمد محمد شاكر في (الباعث الحثيث) (ص130) و(شرح ألفية السيوطي) (ص140) : (وأما العمل بها : فقد اختلف فيه قديماً ----.
وقطع بعض المحققين بوجوب العمل بها عند حصول الثقة بما يجده القارئ ، أي يثق بأن هذا الخبر أو الحديث بخط الشيخ الذي يعرفه ، أو يثق بأن الكتاب الذي ينقل منه ثابت النسبة إلى مؤلفه ؛ ومن البديهي بعد ذلك اشتراط أن يكون المؤلف ثقة مأموناً ، وأن يكون إسناد الخبر صحيحاً - حتى يجب العمل به) .
ثم ذكر أحمد شاكر استدلال بعض العلماء للعمل بالوجادة ببعض الأحاديث ثم قال عقب ذلك الاستدلال (ص131) :
(فيه نظر ، ووجوب العمل بالوجادة لا يتوقف عليه ، لأن مناط وجوبه إنما هو البلاغ ، وثقة المكلف بأن ما وصل إلى علمه صحَّتْ نسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
والوجادة الجيدة التي يطمئن إليها قلب الناظر لا تقل في الثقة عن الإجازة بأنواعها ، لأن الإجازة - على حقيقتها - إنما هي وجادة معها إذن من الشيخ بالرواية ، ولن تجد في هذه الأزمان من يروي شيئاً من الكتب بالسماع ، إنما هي إجازات كلها، إلا فيما ندر .
والكتب الأصول الأمهات في السنة وغيرها : تواترت روايتها إلى مؤلفيها بالوجادة واختلاف الأصول العتيقة الخطية الموثوق بها ؛ ولا يتشكك في هذا إلا غافل عن دقة المعنى في الرواية والوجادة ، أو متعنت لا تُقنعه حجة ) .
قلت: وفي هذا العصر عصر الطباعة صار كل الاعتماد في نشر كتب المتوفَّين من المؤلفين من الكتب القلمية القديمة والحديثة، على الوجادة والقرائن ، إلا فيما ندر مما هو إجازة أو مناولة أو غير ذلك ، كما ذكره الشيخ ؛ ولذلك صار التحقيق الوافي ضرورة قائمة وحتم لازم .(5/244)
وقال أحمد محمد شاكر في (الباعث الحثيث) (ص129) و(شرح ألفية السيوطي) (ص140) :
(والوجادة هي : أن يجد الشخص أحاديث بخط راويها - سواء لقيه أو سمع منه ، أم لم يلقه ولم يسمع منه - أو أن يجد أحاديث في كتب لمؤلفين معروفين---- .
وفي «مسند أحمد» أحاديث كثيرة نقلها عنه ابنه عبد الله ، يقول فيها : «وجدت بخط أبي في كتابه» ، ثم يسوق الحديث ، ولم يستجز أن يرويَها عن أبيه ، وهو راوية كتبه وابنه وتلميذه ، وخط أبيه معروف له ، وكتبه محفوظة عنده في خزائنه----.
وقد اجترأ كثير من الكتاب في عصرنا ، في مؤلفاتهم وفي الصحف والمجلات ، فذهبوا ينقلون من كتب السابقين من المؤرخين وغيرهم بلفظ التحديث ، فيقول أحدهم : «حدثنا ابن خلدون» ، «حدثنا ابن قتيبة» ، «حدثنا الطبري» ! وهو أقبح ما رأينا من أنواع النقل ، فإن التحديث والإخبار ونحوهما من اصطلاحات المحدثين الرواة بالسماع ، وهي المطابقة للمعنى اللغوي في السماع ، فنقْلها إلى معنى آخر - هو النقل من الكتب - إفساد لمصطلحات العلوم ، وإيهام لمن لا يعلم ، بألفاظ ضخمة ، ليس هؤلاء الكتاب من أهلها؛ ويُخشى على من تجرأ على مثل هذه العبارات أن ينتقل منها إلى الكذب البحت والزور المجرد ؛ عافانا الله(1) .
وبعد : فإن الوجادة ليست نوعاً من أنواع الرواية كما ترى ، وإنما ذكرها العلماء في هذا الباب - إلحاقاً به - لبيان حكمها ، وما يتخذه الناقل في سبيلها---- ).
__________
(1) ووردت هذه الكلمة الانتقادية بلفظها في (الباعث الحثيث) (ص129-130) شأن كثير من الجمل والفقرات المشتركة بين هذين الكتابين .(5/245)
وجب التنكب عما انفرد في الروايات ، والاحتجاج بما وافق الثقات :
هذه العبارة - وعبارات أخرى تقاربها - تكررت كثيراً عند ابن حبان في كتابيه (الثقات) و (المجروحين) ، وظاهرها مشكل لأن من لا يحتج به إلا إذا وافقه الثقات في حديث من الأحاديث وهو لا يحتج به إذا انفرد ، فأي حاجة بنا إلى متابعته لهم وهم ثقات ؟ ! ! فإنما الاعتماد حينئذ يكون على روايتهم دون روايته ؟ وحل هذا الإشكال - والله أعلم - أن ابن حبان لا يعني بكلمة الثقات في مثل هذا السياق العدول الضابطين المتقنين وحدهم ، بل يريد بها هؤلاء وصنفاً آخر من الرواة غيرهم ، ممن لا يرتقون إلى رتبة أولئك المتقنين ولكنهم معدودون في جملة الثقات عند ابن حبان وصالحون لدخولهم في كتابه (الثقات) لأنهم على شرطه ، ورواة هذا الصنف هم الذين يعتبر بهم ويستشهد بهم ، من اللينين والمستورين ، ويدل على هذا أنه قد أدخل في كتابه (الثقات) كثيراً من هذا الصنف .
ومما يكاد يجعل هذا الحمل أو التفسير متعيناً أنه لا يستقيم أن يقال: إن المراد بالثقات هم من حصل لهم توثيق تام أو حصل لهم الدرجة الثانية من التوثيق وهم رواة الحديث الحسن، لأن هؤلاء واولئك محتج بهم إذا انفردوا عند ابن حبان وكثير من العلماء ، وليس بهم كبير عند هؤلاء حاجة إلى متابعة ضعيف لا يحتج به إذا انفرد ؛ وما كان هذا المعنى ليخفى على مثل ابن حبان ؛ والله أعلم .
وانظر (لا يجوز الاحتجاج بخبره إذا انفرد).
الوجه :
معناه الطريق ؛ قال الشيخ طاهر الجزائري في (توجيه النظر) (1/89-91) : (والإسناد مصدر من قولك أسندت الحديث إلى قائله إذ رفعته إليه بذكر ناقله .
وأما السند فهو في اللغة : ما استندت إليه من جدار وغيره ، وهو في العرف : طريق متن الحديث ؛ وسمي سنداً لاعتماد الحفاظ في صحة الحديث وضعفه عليه .(5/246)
مثال الحديث المسند قول يحيى أحد رواة الموطأ أخبرنا مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يبع بعضكم على بيع بعض فمتن الحديث فيه هو لا يبع بعضكم على بيع بعض .
والمتن في أصل اللغة : الظهر ، وما صلب من الأرض وارتفع ، ثم استعمل في العرف فيما ينتهي إليه السند ؛ والإضافة فيه للبيان .
وسند الحديث هو ما ذُكر قبل المتن ؛ ويقال له : الطريق ، لأنه يوصل إلى المقصود هنا ، وهو الحديث كما يوصل الطريق المحسوس إلى ما يقصده السالك فيه .
وقد يقال للطريق : الوجه ، تقول : هذا حديث لا يعرف إلا من هذا الوجه .
وأما الإسناد فقد عرفت أنه مصدر (أسند) ، ولذلك لا يثنى ولا يجمع ؛ وكثيراً ما يراد به السند فيثنى ويجمع تقول : هذا حديث له إسنادان ، وهذا حديث له أسانيد .
وأما السند فيثنى ولا يجمع ، تقول : هذا حديث له سندان ؛ ولا يقال : هذا حديث له أسناد ، بوزن أوتاد .
وكأنهم استغنوا بجمع الإسناد ، بمعنى السند ، عن جمعه .
وقد ذكر بعض اللغويين أن السند بمعانيه اللغوية لم يجمع أيضاً.
وقد وقع ذهولٌ لكثير من الأفاضل عن أن الإسناد يأتي بمعنى المصدر ، ويأتي اسماً بمعنى السند ، فاضطربت عباراتهم حتى أوقعوا المطالع في الحيرة).
وانظر (الإسناد) و(المتن).
الوُحْدان :
هم من لم يروِ عن الواحد منهم إلا راو واحد ، ومن فوائد علم هذا الباب معرفة المجهول إذا لم يكن صحابياً ، فلا يُقبل ، وكذلك التثبت والتأني عند الوقوف على راو ثان عن هذا الذي قالوا فيه إنه من الوحدان(1) ، فمن المحتمل أن تكون تلك الرواية المستدركة ، أي الثانية، غير صحيحة .
__________
(1) وقد ألف سيد كسروي حسن كتاباً في سبعة مجلدات سماه (هدي القاصد إلى أصحاب الحديث الواحد)، ولا أدري هل يدخل في عموم تسمية الوحدان أو لا ، فإني لم أقف عليه؛ وقد أدخله فيها الدكتور خلدون الأحدب في كتابه (التصنيف في السنة) (1/145).(5/247)
الوحدانيات :
أطلق هذا الاسم الكتاني في (الرسالة المستطرفة) وهو يريد به الأحاديث التي بين مصنفيها ورسول الله صلى الله عليه وسلم راو واحد ؛ ومعلوم أن هذا النوع من الأحاديث لا يصْدق إلا على تابعي ، وعليه توجد بعض الوحدانيات في صحف بعض التابعين ، كـ(صحيفة همام بن منبه عن أبي هريرة) ؛ قال الكتاني في (الرسالة المستطرفة) (ص97) : (ومن الوحدانيات فما بعدها "الوحدانيات" لأبي حنيفة الإمام جمعها أبو معشر عبد الكريم بن عبد الصمد الطبري المقري الشافعي في جزء ، لكن بأسانيد ضعيفة غير مقبولة والمعتمد انه لا رواية له عن أحد من الصحابة ).
الوِرَاقة :
ذكر ابن خلدون في (المقدمة) (ص532-534) في (الفصل الحادي والثلاثين) في صناعة الوراقة : (كانت العناية قديماً بالدواوين العلمية والسجلات ، في نسخها وتجليدها وتصحيحها بالرواية والضبط ؛ وكان سبب ذلك ما وقع من ضخامة الدولة وتوابع الحضارة ؛ وقد ذهب ذلك لهذا العهد بذهاب الدولة وتناقص العمران بعد أن كان منه في الملة الإسلامية بحر زاخر بالعراق والأندلس إذ هو كله من توابع العمران واتساع نطاق الدولة ونَفاق أسواق ذلك لديهما ؛ فكثرت التآليفُ العلميةُ والدواوينُ وحرص الناس على تناقلهما في الآفاق والأعصار ، فانتُسخت وجُلِّدت ، وجاءت صناعة الوراقين المعانين للانتساخ والتصحيح والتجليد وسائر الأمور الكُتُبيةِ ، والدواوينُ ، واختُصت بالأمصار العظيمة العمران .
وكانت السجلات أولاً لانتساخ العلوم وكتب الرسائل السلطانية والإقطاعات والصكوك في الرقوق المهيأة بالصناعة من الجلد لكثرة الرَّفهِ وقلة التآليف صدر الملة كما نذكره ، وقلة الرسائل السلطانية والصكوك مع ذلك ، فاقتصروا على الكتاب في الرق تشريفاً للمكتوبات وميلاً بها إلى الصحة والإتقان .(5/248)
ثم طما بحر التأليف والتدوين وكثر ترسيل السلطان وصكوكه وضاق الرق عن ذلك ، فأشار الفضل بن يحيى بصناعة الكاغد ، وصنَعه وكتب فيه رسائل السلطان وصكوكه ، واتخذه الناس من بعده صحفاً لمكتوباتهم السلطانية والعلمية ؛ وبلغت الإجادة في صناعته ما شاءت .
ثم وُقِفَتْ عنايةُ أهل العلوم وهمم أهل الدول على ضبط الدواوين العلمية وتصحيحها بالرواية المسندة إلى مؤلفيها وواضعيها لأنه الشأن الأهم من التصحيح والضبط فبذلك تسند الأقوال إلى قائلها والفتيا إلى الحاكم بها المجتهد في طريق استنباطها ؛ وما لم يكن تصحيح المتون بإسنادها إلى مدوِّنِها فلا يصح إسناد قول لهم ولا فتيا.
وهكذا كان شأن أهل العلم وحملته في العصور والأجيال والآفاق ، حتى لقد قصرت فائدة الصناعة الحديثية في الرواية على هذه فقط ، إذ ثمرتها الكبرى من معرفة صحيح الأحاديث وحَسَنِها ومُسنَدها ومرسَلها ومقطوعها وموقوفها من موضوعها قد ذهبت(1) وتمخضت زبدةً في ذلك الأمهات(2) المتلقاة بالقبول عند الأمة ، وصار القصد إلى ذلك لغواً من العمل ، ولم تبقَ ثمرةُ الرواية والاشتغال بها إلا في تصحيح تلك الأمهات الحديثية وسواها من كتب الفقه للفتيا ، وغير ذلك من الدواوين والتآليف العلمية ، واتصالِ سندها بمؤلفيها ليصح النقل عنهم والإسناد إليهم .
وكانت هذه الرسوم بالمشرق والأندلس معبَّدة الطرق واضحة المسالك ؛ ولهذا نجد الدواوين المنتسخة لذلك العهد في أقطارهم على غاية من الإتقان والإحكام والصحة ، ومنها لهذا العهد بأيدي الناس في العالم أصول عتيقة تشهد ببلوغ الغاية لهم في ذلك ؛ وأهل الآفاق يتناقلونها إلى الآن ويشدون عليها يد الضنانة .
__________
(1) هذا الكلام لا يسلم بهذا الإطلاق .
(2) كذا العبارة في المطبوع ، وأشار محققه إلى أنه وقع في إحدى النسخ (تلك) مكان (ذلك) ، وتحقيقه ليس بمتقَن .(5/249)
ولقد ذهبت هذه الرسوم لهذا العهد جملةً بالمغرب وأهله لانقطاع صناعة الخط والضبط والرواية منه ، بانتقاص عمرانه وبداوة أهله وصارت الأمهات والدواوين تنسخ بالخطوط اليدوية ، تنسخها طلبة البربر ، صحائفَ مستعجمةً برداءة الخط وكثرة الفساد والتصحيف فتستغلق على متصفحها ولا يحصل منها فائدة إلا في الأقلِّ النادر ؛ وأيضاً فقد دخل الخلل من ذلك في الفتيا فإن غالب الأقوال المعزوة غير مروية عن أئمة المذهب وإنما تتلقى من تلك الدواوين على ما هي عليه ؛ وتبع ذلك أيضاً ما يتصدى إليه بعض أئمتهم من التآليف لقلة بصرهم بصناعته وعدم الصنائع الوافية بمقاصده(1) ؛ ولم يبق من هذا الرسم بالأندلس إلا أثارة خفية بالإمحاء(2) وهي الاضمحلال(3) فقد كاد العلم ينقطع بالكلية من المغرب ، والله غالب على أمره .
ويبلغنا لهذا العهد أنَّ صناعةَ الرواية قائمة بالمشرق وتصحيح الدواوين لمن يرومه بذلك سهل على مبتغيه ، لنَفاق أسواق العلوم والصنائع كما نذكره بعد . إلا أن الخط الذي بقي من الإجادة في الانتساخ هنالك إنما هو للعجم وفي خطوطهم ؛ وأما النسخ بمصر ففسد كما فسد بالمغرب وأشد) .
وقال عبدالرحمن بن خلدون في المقدمة أيضاً (ص502) وذكَر الوراقة : (وهي معاناة الكتب بالانتساخ والتجليد) .
وقال السمعاني تحت رسم (الوراق) من (الأنساب) (5/584)(4) : (الورّاق: بفتح الواو وتشديد الراء وفي آخرها القاف، هذا اسم لمن يكتبُ المصاحفَ وكتبَ الحديثِ وغيرها، وقد يقال لمن يبيع الورق - هو الكاغد - ببغداد : الوراق ، أيضاً) ؛ ثم ذكر جماعة ممن اشتهر بهذه النسبة ، من رواة الأحاديث والأخباريين وغيرهم .
الورَق :
قال في (صبح الأعشى) (2/516-517) وهو يبين أسماء الورق الواردة في اللغة ومعرفة أجناسه :
__________
(1) كذا العبارة ومعناها غير واضح .
(2) في نسخة (بالأنحاء) .
(3) لعلها للاضمحلال .
(4) طبعة دار الجنان .(5/250)
(الورق - بفتح الراء - اسم جنس يقع على القليل والكثير ، واحده ورقة ، وجمعه أوراق ، وجمع الورقة : ورقات ، وبه سمي الرجل الذي يكتب : وراقاً ، وقد نطق القرآن الكريم بتسميته قِرْطاساً وصحيفة كما مر بيانه ، ويسمى أيضاً الكاغد ، بغين ودال مهملة ؛ ويقال للصحيفة أيضاً : طِرْس ، ويجمع على طُروس ، ومُهْرَق - بضم الميم وإسكان الهاء وفتح الراء المهملة بعدها قاف - ، ويجمع على مَهَارق ، وهو فارسي معرَّب ، قاله الجوهري.
وأحسن الورق ما كان ناصع البياض غرفاً صقيلاً متناسب الأطراف صبوراً على مرور الزمان.
وأعلى أجناس الورق فيما رأيناه البغدادي ، وهو ورق ثخين مع ليونة ورِقَّة حاشية وتناسب أجزاء ، وقطعه وافر جداً ؛ ولا يكتب فيه في الغالب إلا المصاحف الشريفة ، وربما استعمله كتّاب الإنشاء في مكاتبات القانات ونحوها ، كما سيأتي بيانه في المكاتبات السلطانية.
ودونه في الرتبة الشامي ، وهو على نوعين : نوع يعرف بالحَمَويّ ، وهو دون القطع البغدادي ؛ ودونه في القدر(1) ، وهو المعروف بالشامي ، وقطعه دون القطع الحموي .
ودونهما في الرتبة الورق المصري ، وهو أيضاً على قطعين : القطع المنصوري ، وقطع العادة ؛ والمنصوري أكبر قطعاً وقلما يُصقل وجهاه جميعاً ؛ أما العادة فإن فيه ما يصقل وجهاه ويسمى في عرف الوراقين : المصلوح .
وغيره عندهم على رتبتين : عال ووسط .
وفيه صنف يعرف بالفوّيّ ، صغير القطع ، خشن ، غليظ ، خفيف الغرف ، لا ينتفع به في الكتابة ، يتخذ للحلوى والعطر ونحو ذلك .
وإنما نبهت على ذلك وإن كان واضحاً لأمرين :
أحدهما : ألا نُخْلي كتابنا من بيان الورق الذي هو أحد أركان الكتابة .
الثاني : أنه قد ينتقل الكِتَابُ إلى إقليم لا يُعرف فيه تفاصيل أمر الورق المصري ، كما لا يَعرف المصريون ورقَ غيرِ مصر معرفتهم بورق مصر ، فيقع الاطلاع على ذلك لمن أراده .
__________
(1) أي ونوع دونه --- الخ .(5/251)
ودون ذلك ورق أهل الغرب والفرنجة ، فهو رديء جداً سريع البِلَى قليل المكث ؛ ولذلك يكتبون المصاحف غالباً في الرَّقِّ ، على العادة الأولى ، طلباً لطول البقاء ) .
الورقة السليمانية :
قال النديم في (الفهرست) (ص227) : (فإذا قلنا : إن شعر فلان عشر ورقات فإنا إنما عنينا بالورقة أن تكون سليمانية ؛ ومقدار ما فيها عشرون سطراً ، أعني في صفحة الورقة ) .
قال عبد السلام هارون في (تحقيق النصوص ونشرها) (ص24) : (وعثرت كذلك على نص نادر لابن النديم في "الفهرست" يذكر فيها مقدار الورقة التي يعنيها في كتابه ، وهي الورقة السليمانية) ثم ذكر النص المذكور ، ثم قال : (وليس معنى هذا أن مقدار الورقة في المخطوطات القديمة تعني هذا القدر ، فإن مقادير الأوراق تتفاوت بلا ريب بين المخطوطة والأخرى ؛ وإنما ذكرتُ هذا تسجيلاً لما يعني ابن النديم في كتابه) .
ورق سميك !! :
قال الدكتور مصطفى جواد في (قل ولا تقل) (ص148) : (قل: ورق ثخين، وشيء ثخين؛ ولا تقل: ورق سميك، ولا شيء سميك؛ وذلك لأن السموك هو العلو والسمو والارتفاع؛ فالسميك - على حسبان أنه موجود في اللغة - العالي والرفيع ) .
وسط :
قال عبد الله بن يوسف الجديع في (التحرير) (1/579-580) في بيان معنى هذه اللفظة عند النقاد: (تقع في كلام ابن المديني ، ومن المتأخرين الذهبي ؛ وهل هي مرتبة تعديل ، أم لا ؟
دلالتها من لفظها تضع الموصوف بها في مرتبة بين التعديل والتجريح ، ومن كان كذلك فلا يَحْسُن أن يُلحق بمراتب التعديل ، كما لا يصار به إلى الجرح ، فحديثه موقوف على المرجِّح ، وهو المتابعات والشواهد ، وعليه يقال : هي مرتبة صالح الحديث الذي لا يحتج بحديثه ولكن يعتبر به).
ثم ذكر بعض ما يبين ذلك من استعمالهم ؛ ثم قال: (قلت : فدلالة هذه العبارة لا تعدو صلاحية حديث الراوي للاعتبار عند من قالها في حق من قيلت فيه) ؛ انتهى .(5/252)
وقال العلامة المعلمي في (التنكيل) (ص785) عقب شيء ذكره : (وههنا أمران :
الأول : أن أئمة الحديث قد يتبين لهم في حديثٍ مِن رواية الثقة الثبت المتفق عليه أنه ضعيف ، وفي حديث مِن رواية مَن هو ضعيف عندهم أنه صحيح ؛ والواجب على من دونهم التسليم لهم ؛ وأولى من ذلك إذا كان الراوي وسطاً كالنهشلي وابن أبي الزناد)(1) .
الوصلة :
هي الشَّرْطة ؛ (انظر الشَّرْطة).
وصلة النسب :
قال العلامة بكر أبو زيد في (تسمية المولود) (ص9-10) بعد أمور ذكرها :
(ومع هذه الفلتات والتفلتات، فهناك أمور ضابطة تصد هذا الزحفَ، وتحمي الصفَّ، فالشكر لله تعالى أولاً، ثم لحماة دينه وشرعه ثانياً، كل بقدر ما بذل ويبذل من توجيه وإصلاح، ففي قلب جزيرة العرب هناك مجموعة من القرارات الضابطة في المضامين الآتية :
1 -…التزام الأسماء الشرعية للمواليد.
2 -…المنع البات من تسجيل أي اسم غير شرعي.
3 -…المنع من تسجيل الاسم المركب من اسمين : لما فيه من الإيهام والاشتباه.
4 -…التزام وصلة النسب (لفظة : ابن) بين الأعلام .
__________
(1) تتمة الكلام : (وقد صحح الأئمة حديث ابن أبي الزناد المذكور ولين البخاري والدرامي آثر النهشلي كما مر.
والأمر الثاني : إذا اختلفوا في راوٍ فوثقه بعضهم ولينة بعضهم ولم يأت في حقه تفصيل
فالظاهر أنه وسط فيه لفين مطلقاً وهذه حال النهشلي ، وإذا أكثرهم الكلام في راو فثبتوه في حال وضعفوه في أخرى فالواجب أن لا يؤخذكم حكم ذاك الراوي إجمالاً إلا في الحديث لم يتبين من أي الضربين هو ، فأما إذا تبين فالواجب معاملته بحسب حاله ، فمن كان ثقة ثبتا ثم اختلاط فهو غاية في الصحة ، أو بعده فضعيف ، وابن أبي لزناد من هذا القبيل فإن أكثر الأئمة فصلوا الكلام فيه) .(5/253)
وهنا أذكر حقيقة تاريخية مهمة ، هي : أن التزام لفظة (ابن) بين اسم الابن وأبيه مثلاً كانت لا يُعرف سواها على اختلاف الأمم، ثم لظاهرة تبني غير الرَّشَدةِ في أوربا صار المتبني يفرق بين ابنه لصلبه فيقول : (فلان ابن فلان )، وبين ابنه لغير صلبه فيقول : ( فلان فلان )، بإسقاط لفظة (ابن) ؛ ثم أسقطت في الجميع، ثم سرى هذا الإسقاط إلى المسلمين في القرن الرابع عشر الهجري ، فصاروا يقولون مثلاً : محمد عبدالله !
وهذا أسلوب مولَّد، دخيل، لا تعرفه العربُ، ولا يُقِرُّه لسانُها، فلا محل له من الإعراب عندها.
وهل سمعتَ الدنيا فيمن يذكر نسب النبي صلى الله عليه وسلم فيقول : محمد عبدالله! ولو قالها قائل لهُجِّنَ وأُدِّبَ، فلماذا نعدل عن الاقتداء وهو أهدى طريقاً وأعدل سبيلاً وأقوم قيلاً ؟!
وانظر إلى هذا الإسقاط كيف كان داعية الاشتباه عند اشتراك الاسم بين الذكور والإناث ، مثل : أسماء وخارجة ، فلا يتبين على الورق إلا بذكر وصلة النسب : (ابن) فلان ، أو (بنت) فلان ).
وأخيراً أقول : من هذا وذاك وغيرهما من الأسباب رأيت أن أبين للمسلمين هدي الإسلام في تسمية المواليد وأهميتها، وأنها ذات خطر شديد المرمى، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.(5/254)
وإن الأمر سهل ميسور - ولله الحمد - فلا يحتاج إلى بحث ولا قواميس، ولا معاجم، إذ هو أمر التقت فيه دلالة الشرع مع سلامة الفطرة، فما على المسلم إلا أن يعبد اسم مولوده باسم من أسماء الله تعالى، أو يدير فكره ونظره في محيط أسماء أنبياء الله ورسله الصالحين من عباده من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم فمن بعدهم ممن اهتدى بهديهم، ونحو ذلك مما يجري على سنن لسان العرب، فيختار ما لا يأباه الشرع، وإن ضاقت عليه الدائرة، فليسترشد بعالم يعرف جودة رأيه، وصفاء اعتقاده، وسلامة ذوقه وحسب، فقد كان الصحابة رضي الله عنهم يعرضون أولادهم على النبي صلى الله عليه وسلم فيسميهم، وهذا دليل على مشروعية مشورة أهل العلم وطلبته في ذلك.
وهذه أيضاً واحدة من وسائل الربط بين العلماء وعامة المسلمين.
الوصية :
الوصية : أن يوصي الشيخُ عند سفره أو عند موته ونحوهما لشخص بكتاب - أو بأكثر من كتاب - من كتبه ، من غير أن يصرح له - أو لغيره - بالإذن له بروايته .
وقد ذكر المتأخرون ممن ألف في علوم الحديث الوصيةَ في أقسام التحمل ، وكان الأصح أو الأحوط أن لا تُذكر فيها ، لأن ذلك يوهِم أنها منها وأنها يُعمل بها ويُروى عنها ، ولكن قد يُعتذر عنهم بأن أقسام الرواية أو التحمل المذكورة في كتب علوم الحديث شاملة لما صح ولغيره ، ثم هم قد بينوا حكم الرواية بكل قسم منها ، فلا إيهام .(5/255)
قال ابن الصلاح في (علوم الحديث) (ص157) : (القسم السابع من أقسام الأخذ والتحمل : الوصية بالكتب ، بأن يوصي الراوي بكتاب يرويه(1) ، عند موته أو سفره ، لشخص؛ فروي عن بعض السلف رضي الله تعالى عنهم أنه جوز بذلك رواية الموصَى له ، لذلك ، عن الموصي الراوي ؛ وهذا بعيد جداً ؛ وهو إما زلة عالم ،أو متأوَّل على أنه أراد الرواية على سبيل الوجادة التي يأتي شرحها، إن شاء الله تعالى .
وقد احتج بعضهم لذلك فشبهه بقسم الإعلام وقسم المناولة(2)، ولا يصح ذلك، فإن لقول من جوز الرواية بمجرد الإعلام والمناولة مستنداً ذكرناه، لا يتقرر مثله ولا قريب منه هاهنا، والله أعلم). انتهى.
وقال العراقي في ألفيته:
وبعضهم أجاز للموصَى لهْ--بالجزء من راوٍ قضى أجلهْ
يرويه أو لسفرٍ أراده-------ورُدَّ ما لم يُردِ الوِجادهْ
فقال السخاوي في (شرحه) (2/48) :
"(وبعضهم) كمحمد بن سيرين (أجاز للموصى له) المعين واحداً فأكثر (بالجزء) من أصوله، أو ما يقوم مقامها بكتبه كلها (من راو) له رواية بالموصى به من غير أنْ يُعْلِمه صريحاً بأن هذا من مرويه؛ سواء كانت الوصية بذلك حين (قضى أجله) بالموت 000 (أو) حين توجهه (لسفر أراده)-----.
ولكن رد القول بالجواز حسبما جنح إليه الخطيب، بل نقله عن كافة العلماء، وذلك أنه قال:
__________
(1) كذا قيد ابن الصلاح هذه العبارة بكلمة (يرويه) أي الشيخ الموصي، وهو قيد مهم ، كما يأتي بيانه .
(2) قال الشيخ أحمد شاكر : (وهو يشير بذلك إلى احتجاج القاضي عياض لصحتها بأن في إعطاء الوصية للموصى له نوعاً من الإذن وشبهاً من العرض والمناولة، وأنه قريب من الإعلام).(5/256)
ولا فرق بين الوصية بها وابتياعها بعد موته في عدم جواز الرواية إلا على سبيل الوجادة؛ قال: وعلى ذلك أدركنا كافة أهل العلم، إلا أن تكون تقدمت من الراوي إجازة للذي سارت غليه الكتب برواية ما صح عنده من سماعاته، فإنه يجوز أن يقول حينئذ فيما يرويه منها: (أخبرنا) و (حدثنا) على مذهب من أجاز أن يقال ذلك في أحاديث الإجازة؛ وتبعه ابن الصلاح حيث قال: إن القول بالجواز بعيد جداً----" ؛ انتهى .
تنبيه : قال أحمد محمد شاكر رحمه الله في (شرح ألفية السيوطي) (ص139) في تعريف التحمل بالوصية والكلام عليه:
(فهو أن يوصي الشيخ عند سفره أو عند موته لشخص بكتاب يرويه عنه----).
قلت: أرى أن كلمة (يرويه عنه) زيادة من الشيخ أحمد شاكر في تعريف الوصية، وهي زيادة غير صحيحة، ومعناها هو الذي جعل الشيخ لا يرى وجهاً للتفرقة بين الوصية والإجازة كما سيأتي في كلامه.
إن المراد بالوصية عند الإطلاق الوصية المجردة عن الإذن بالرواية، أو عن قرينة مشعرة بذلك، أو دالة عليه .
فهي تحتمل أن تكون وصية على سبيل الصدقة أو الهدية أو من أجل أن ينتفع الموصى له ببيعها، وأنَّ تلك الكتب الموصى بها لعله يكون فيها ما ليس من روايته، أو يكون فيها بعض مسوَّداته التي لم يقابلها على أصولها ولم يعتن بتصحيحها ؛ ويظهر أن هذه المعاني هي التي راعاها ابن الصلاح رحمه الله عندما ذهب إلى ما سبق نقله عنه، وهو مصيب في ذلك ، أعني قوله (بأن يوصي الراوي بكتاب يرويه) ، أي بكتاب قد سمعه من شيوخه ، أو أذنوا له بروايته ؛ ولكن الشيخ العلامة أحمد شاكر رحمه الله زاد عقب كلمة (يرويه) كلمة (عنه) فاختلف المعنى .(5/257)
ثم قال الشيخ أحمد في تتمة كلامه السابق: (وهذا النوع من الرواية نادر الوقوع، ولكنا نرى أنه إن وقع صحت الرواية به، لأنه نوع من الإجازة، إن لم يكن أقوى من الإجازة المجردة، لأنه إجازة من الموصي للموصى له برواية شيء معين مع إعطائه إياه [!!!]، ولا نرى وجهاً للتفرقة بينه وبين الاجازة، وهو في معناها أو داخل تحت تعريفها، كما يظهر ذلك بأدنى تأمل). انتهى.
وضاع :
معنى هذه الكلمة بحسب وزنها الصرفي معلوم فهي صيغة مبالغة يوصف بها من كان كثير الوضع والاختلاق للأحاديث ، والأصل - أي باعتبار معناها اللغوي - أنها لا يوصف بها من وضع حديثاً واحداً مثلاً ، إلا على سبيل التجوز والتوسع والمبالغة في الذم ؛ وهذا ما قد وقع في عرف المحدثين ، فإنهم يصفون بها كل من ثبت عنه اختلاق الأحاديث ولو قلت جداً تلك الأحاديث التي اختلقها ، بل هم يطلقون كلمة (وضاع) حتى على من لم يضع إلا حديثاً واحداً ، ولا يكادون يستعملون كلمة (واضع) ؛ ولعلهم لاحظوا في ذلك ضرورة المبالغة في ذمه والتحذير منه ، وأن من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم فهو في غاية الجرأة ، وليس ثَم فرق كبير بين المقل من الوضاعين والمكثر ، فكلاهما جرئ هالك ، وإن كان شرهم قد يكون متفاوتاً .
الوضع :
المراد به وضع الحديث ؛ فانظر المصطلح التالي.
وضْعُ الحديث :
هو اختلاقه وافتراؤه؛ ولكن وردت هذه الكلمة على لسان إسماعيل ابن أبي أويس أحد شيوخ البخاري ، يريد بها معنى آخر، هو وضعه بين أيدي المتناظرين من الفقهاء ممن حضر هو مجلسهم ، وقد كتب اثنان من فضلاء الباحثين في (ملتقى أهل الحديث) مبحثين مفصلين في هذا الموضوع .(5/258)
وضَعَ حديثاً :
أي اختلقه وافتراه ، وهذا - أعني وضع حديثٍ واحدٍ - كافٍ في إسقاط الراوي واتهامه بالوضع ، إلا أن يكون ذلك في الصبا وأول العمر ، ثم يتوب ذلك الراوي ويندم وتظهر عليه آثار توبته وصلاحه ، فقد قال الذهبي في (ميزان الاعتدال) (5/140) (5789) : (علي بن أحمد أبو الحسن النعيمي الحافظ الشاعر في زمن الصوري ، قد بدت منه هفوة في صباه واتهم بوضع الحديث ، ثم تاب إلى الله واستمر على الثقة).
وقال المعلمي في (التنكيل) (1/34-36) في تضاعيف بيانه الفرق بين الرواية والشهادة :
(الرابع : أن الرواية يختص لها قوم محصورون ينشأون على العلم والدين والتحرز عن الكذب ، والشهادة يُحتاج فيها إلى جميع الناس ، لأن المعاملات والحوادث التي يُحتاج إلى الشهادة عليها تتفق لكل أحد ولا يحضرها غالباً إلا أوساط الناس وعامتهم الذين ينشأون على التساهل ، فمعقول أنه لو رُدت شهادة كل من جُربت عليه كذبة لضاعت حقوق كثيرة جداً ، ولا كذلك الرواية ؛ نعم الفلتة والهفوة التي لا ضرر فيها ويعقبها الندم ، وما يقع من الإنسان في أوائل عمره ثم يُقلع عنه ويتوب منه وما يدفع به ضرر شديد ولا ضرر فيه وصاحبه مع ذلك مستوحش منه ربما يُغتَفر ؛ والله أعلم ).(5/259)
وفلان فلان :
قال عبد الله في (العلل) (1285): (قال أبي: كان أيوب يقول: حدثنا أبو الزبير، وأبو الزبير أبو الزبير، قلت لأبي: كأنه يضعفه ؟ قال: نعم)(1).
وقال ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل) (1/42) : (حدثني أبي نا نعيم يعني ابن حماد قال سمعت بن عيينة يقول: حدثنا أبو الزبير(2) ، وهو أبو الزبير ، أي كأنه يضعفه).
وفي الباب :
تكررت هذه الكلمة كثيراً في (سنن الترمذي) ؛ قال ابن سيد الناس في (النفح الشذي) (1/315) :
(ومما تضمنه جامع أبي عيسى الترمذي رحمه الله من الاختصار في التصنيف أنه يذكر الحديث في الباب بسنده عن صحابيه ، ثم يتبعه قوله "وفي الباب عن فلان وفلان" حتى يأتي على ما يوجد في ذلك الباب أو أكثره ؛ فلو استوعب أسانيد ذلك لطال الكتاب جداً ، ولو تركه بالكلية لفاته تقوية حديثه المسند بإضافة ما أضافه إليه ، والتنبيهُ (3) على تلك الأحاديث ليتتبع مظانها من له غرض في التتبع ----) .
__________
(1) 1/4/75) . لكن الترمذي فسر كلام أيوب السختياني بالتقوية ، فقال في (علله) الملحقة بـ(جامعه) (5/757) : (حدثني ابن أبي عمر حدثنا سفيان قال سمعت أيوب السختياني يقول : حدثني أبو الزبير ، وأبو الزبير أبو الزبير ، قال سفيان بيده ، يقبضها ، قال أبو عيسى : إنما يعني به الإتقان والحفظ) ؛ وتفسير الترمذي هذا قد يؤيده قول من أثنى على حفظ أبي الزبير كقول يعلى بن عطاء كما في ترجمة أبي الزبير من (الميزان) : (حدثنا أبو الزبير وكان أكمل الناس عقلاً وأحفظهم)؛ وعلى كل حال فالإمام أحمد وأئمة النقد أعلم بفنهم من يعلى بن عطاء ، والله أعلم .
(2) كذا ، ليس فيه ذكر أيوب.
(3) معطوف على (تقوية) .(5/260)
وقال العراقي في (التقييد والإيضاح) (ص84-85) : (ومما يستغرب حكايته فى حديث عمر أني رأيت فى "المستخرج من أحاديث الناس" لعبد الرحمن بن منده أن حديث "الأعمال بالنيات" رواه سبعة عشر من الصحابة ، وأنه رواه عن عمر غير علقمة ، وعن علقمة غير محمد بن إبراهيم ، وعن محمد بن إبراهيم غير يحيى بن سعيد ؛ وقد بلغني أن الحافظ أبا الحجاج المزي سئل عن كلام ابن منده هذا فأنكره واستبعده ؛ وقد تتبعت كلام ابن منده المذكور فوجدت أكثر الصحابة الذين ذكر حديثهم فى الباب إنما لهم أحاديث أخرى فى مطلق النية ، كحديث "يبعثون على نياتهم" ، وكحديث "ليس له من غزاته إلا ما نوى" ، ونحو ذلك .
وهكذا يفعل الترمذي في (الجامع) حيث يقول : "وفي الباب عن فلان وفلان" ، فإنه لا يريد ذلك الحديث المعين ، وإنما يريد أحاديث أخر يصح أن تكتب فى ذلك الباب وإن كان حديثاً آخر غير الذي يرويه في أول الباب ؛ وهو عمل صحيح إلا أن كثيراً من الناس يفهمون من ذلك أن من سُمِّي من الصحابة يروون ذلك الحديث الذي رواه في أول الباب بعينه ؛ وليس الأمر على ما فهموه بل قد يكون كذلك ، وقد يكون حديثاً آخر يصح إيراده فى ذلك الباب ) .
ثم إني تتبعت الأحاديث التى ذكرها ابن منده فلم أجد منها بلفظ حديث ابن عمر أو قريباً من لفظه بمعناه إلا حديثاً لأبي سعيد الخدري وحديثاً لأبى هريرة وحديثاً لأنس بن مالك وحديثاً لعلي بن أبي طالب ، وكلها ضعيفة ؛ ولذلك قال الحافظ أبو بكر البزار في "مسنده" بعد تخريجه : لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من حديث عمر ، ولا عن عمر إلا من حديث علقمة ، ولا عن علقمة إلا من حديث محمد بن إبراهيم ، ولا عن محمد بن إبراهيم إلا من حديث يحيى بن سعيد ) ؛ وانظر (الباب) و (في الباب) .
وفي الصحيح :
انظر (الصحيح) .(5/261)
وفي رواية أخرى :
إذا أطلقت هذه العبارة فالمراد طريق أخرى لذلك الحديث نفسه ؛ ولكن متى تعد الروايتان المتقاربتان حديثاً واحداً ومتى تعدان حديثين؟ دونك بيان ذلك.
قال العلائي في (نظم الفرائد لما تضمنه حديث ذي اليدين من الفوائد) (ص256) وما بعدها:
(تقدم في ألفاظ طرق حديث أبي هريرة تباين في مواضع عديدة لا يمكن الجمع بينها والكل في الصحيح، وترتب عليها فوائد فقهية مما اختلف فيه العلماء.
ففي بعض الطرق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لذي اليدين: لم أنس ولم تقصر، فقال له ذو اليدين بعد ذلك: بلى قد نسيت؛ ولم تذكر هذه الزيادة في كثير من الروايات.
وفي رواية أخرى فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل ذلك لم يكن)، فقال له ذو اليدين: (قد كان بعض ذلك يا رسول الله).
وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للناس: ماذا يقول ذو اليدين؟ قالوا: صدق يا رسول الله، لم تصل إلا ركعتين.
وفي أخرى: فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس فقال: أصدق ذو اليدين؟ فقالوا: نعم يا رسول الله؛ وفي أخرى: فأومأوا أي نعم.
وقد جمع بعض الأئمة بين هاتين الروايتين بأن بعض الناس أجاب النبي صلى الله عليه وسلم بقول نعم، باللفظ، وبعضهم أجابه بالإيماء؛ وهذا الجمع إنما يقوى إذا كان الاختلاف واقعاً من رواية صحابيين؛ فنقول: أحدهما سمع الإجابة باللفظ، والآخر رأى الذين أومأوا ولم يسمع المجيب باللفظ(1).
__________
(1) أو أن كلاً منهما سمع الجواب ورأى الإيماء ولكن أحدهما اقتصر على ذكر ما سمع دون ما رأى والآخر فعل عكس ذلك . وكذلك يقوى هذا الجمع وإن كان الاختلاف واقعاً بين روايتي صحابي واحد بعينه بشرط أن يكون للحديث عنه طريقان صحيحان إليه وأن يترجح أنه روى الحديث مرتين اقتصر في إحداهما على ذكر إيماء من أومأ وفي الأخرى على ذكر قول المجيبين بكلمة (نعم) .(5/262)
وهذا الحديث بهذه الألفاظ مداره على أبي هريرة رضي الله عنه. والظاهر أن القصة واحدة ولكن الرواة تصرفوا فيها فرواه بعضهم بالمعنى على نحو مما سمع فحصل هذه الاختلافات .
فيتعين حينئذ إما الجمع بينها بوجه ما، وإما الترجيح، وهذا ما يتعلق بقاعدة شريفة عظيمة الجدوى في علم الحديث وهي:
الاختلاف الواقع في المتون بحسب الطرق ورد بعضها إلى بعض إما بتقييد الإطلاق أو تفسير المجمل أو الترجيح حيث لا يمكن الجمع أو اعتقاد كونها وقائع متعددة.
ولم أجد إلى الآن أحداً من الأئمة الماضين شفى النفس في هذا الموضع بكلام جامع يرجع إليه؛ بل إنما يوجد عنهم كلمات متفرقة وللبحث فيها مجال طويل؛ فنقول وبالله التوفيق:
إذا اختلفت مخارج الحديث وتباعدت ألفاظه فالذي ينبغي أن يجعلا حديثين مستقلين؛ وذلك كحديث أبي هريرة وعمران بن حصين ومعاوية بن حديج في هذا الباب كما سبق بيانه وهذا لا إشكال فيه.
وأما إذا اتحد مخرج الحديث وتقاربت ألفاظه فالغالب حينئذ على الظن أنه حديث واحد وقع الاختلاف فيه على بعض الرواة لا سيما إذا كان ذلك في سياقه [لعل الصواب: سياق] واقعة تبعد أن يتعدد مثلها في الوقوع كحديث أبي هريرة وحده في قصة السهو.(5/263)
فالذي يسلكه كثير من الفقهاء: أن يحمل اختلاف الألفاظ على تعدد الوقائع ويجعل كل لفظ بمنزلة حديث مستقل؛ وهذه الطريقة يسلكها الشيخ محيي الدين [هو النووي] رحمه الله في كتبه كثيراً، كما تقدم عنه مِن جعله حديث أبي هريرة الذي نتكلم عليه وقع مرتين للنبي صلى الله عليه وسلم، إحداهما في صلاة الظهر والأخرى في العصر من أجل صحة كل من اللفظين؛ حتى إنه قال في حديث ابن عمر (إن عمر رضي الله عنه كان نذر اعتكاف ليلة في الجاهلية فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عنه فأمره أن يفي بنذره)، وجاء في رواية [أن الـ]اعتكاف المنذور يوم)، وكلاهما في الصحيح؛ فقال الشيخ محيي الدين رحمه الله: هما واقعتان، وكان على عمر رضي الله عنه نذران فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا مرة وعن الآخر مرة أخرى، واستدل بذلك على صحة الاعتكاف بغير الصوم لأن عمر رضي الله عنه اعتكف ليلة وحدها.
وفي هذا القول نظر لا يخفى لأنه من البعيد جداً أن يستفتي عمر رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم في شيء واحد مرتين في أيام يسيرة لا ينسى في مثلها لأن في كل من القصتين: أن ذلك كان عقب غزوة حنين أيام تفرقة السبي ثم إعتاقهم؛ وإلحاق اليوم بالليلة في حكم الاعتكاف من الأمر الجلي الذي يقطع بنفي الفارق كما في الأمة والعبد في العتق؛ ولا يظن بعمر رضي الله عنه أن يخفى عليه ذلك.
والذي يقتضيه التحقيق رد إحدى الروايتين إلى الأخرى بأن كل من قال لفظاً عبر به عن المجموع، وهو أمر يستعمل به كثيراً في كلام العرب: أن تطلق اليوم وتريد به بليلته وبالعكس؛ فكان على عمر رضي الله عنه اعتكاف يوم وليلة، سأل النبي صلى الله عليه وسلم عنه، فأمره بالوفاء به، عبر عنه بعض الرواة بيوم، وأراد بليلته، والآخر بليلة وأراد بيومها.(5/264)
وأغرب من ذلك ما ذكره الشيخ محيي الدين رحمه الله أيضاً في حديث (بني الاسلام على خمس)، لأنه جاء في الصحيح من رواية ابن عمر رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت) فقال رجل: (وحج البيت وصوم رمضان)؛ فقال ابن عمر رضي الله عنه: (لا، وصوم رمضان وحج البيت، هكذا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم)، ثم جاء الحديث في الصحيح أيضاً من رواية ابن عمر ولفظه (وحج البيت وصوم رمضان)، فقال الشيخ محيي الدين: هذا محمول على أن ابن عمر رضي الله عنهما سمع الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم على الوجهين.
وهذا بعيد جداً، لأنه لو سمعه على الوجهين لم ينكر على من قاله بأحدهما إلا أن يكون حينئذ ناسياً لكون النبي صلى الله عليه وسلم قاله على ذلك الوجه الذي أنكره.
والظاهر القوي أن أحد رواة هذه الطريق رواه على المعنى، فقدم وأخر، ولم يبلغه نهي ابن عمر عن هذا التصرف، وغفل هذا الراوي عن المناسب المقتضي لتقدم صوم رمضان على الحج، وكونه وجب قبله، وكونه يتكرر كل سنة بخلاف الحج، وكونه يعم جميع المكلفين والحج يتخلف عن كثير منهم لعدم الاستطاعة؛ وهذا الاحتمال أولى من تطرق النسيان إلى ابن عمر رضي الله عنه أو الإنكار والرد لشيء سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم.
وإذا عرف ضعف هذه الطريقة فنقول والله الموفق للصواب:
إذا اتحد مخرج الحديث واختلفت ألفاظه فإما أن يمكن رد إحدى الروايتين إلى الأخرى أو يتعذر ذلك فإن أمكن ذلك تعين المصير إليه).
ثم قال العلائي: ولهذا القسم أمثلة؛ ثم ذكر أربعة أنواع من كيفيات رد إحدى الروايتين إلى الأخرى.(5/265)
وقال شيخ الاسلام ابن تيمية في (علم الحديث) (ص67 - طبعة عالم الكتب): (وقل أن يشتمل الحديث الواحد على جمل إلا لتناسب بينها، وإن كان قد يخفى التناسب في بعضها على بعض الناس، فالكلام المتصل بعضه ببعض يسمى حديثاً. وأما إذا روى الصاحب كلاماً فرغ منه ثم روى كلاماً آخر وفصل بينهما بأن قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أو بأن طال الفصل بينهما فهذا حديثان----) الخ.
وورد في كلامه ما يتعلق بتفرقة الحديث إلى أقسام وجعله أحاديث وقال: (وهذا يجوز إذا لم يكن في ذلك تغيير المعنى) .
وقال عبد الحق الأشبيلي رحمه الله في مقدمة كتابه (الأحكام الوسطى)(1) : (وإذا ذكرتُ الحديث لمسلم أو لغيره عن صاحب ثم أقول : وعنه ، أو : وعن فلان ، وأذكر ذلك الصاحب أو صاحباً آخر ، فإنما كل ذلك لمسلم ، أو الكتاب الذي أذكر أولاً ، حتى أسمّيَ غيرَه ، وربما تخللها كلامٌ في رجلٍ أو في شيءٍ ما .
وإذا قلت : "وفي رواية أخرى" ، أو : "في طريق أخرى" ، ولا أذكر الصاحبَ ، فإنه من ذلك الكتاب ، وعن ذلك الصاحب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ) .
وفي طريق أخرى :
انظر (وفي رواية أخرى) .
الوَفَيَات :
الوَفَيَات لغةً : جمع وفاة ، بمعنى الموت ، وأما الوفيات عُرفاً فالمراد بها أوقات وفاة ذوي الشأن من الناس ، أو من يُحتاج إلى معرفة تاريخ موتهم .
__________
(1) كما في مقدمة محقق (بيان الوهم والإيهام) د. الحسين آيت سعيد (1/184) ، وهو في مطبوعة (الأحكام الوسطى) (1/66) ، ولكني آثرت الاعتماد على المرجع المذكور لأن المطبوعة وقع في هذا الموضع منها سقط أو خلل .(5/266)
ومن المعلوم أن معرفة ذلك كان - وما زال كذلك - مِن أهم مقاصد المؤرخين ، ولذلك تم إفراد كتب كثيرة لهذا الباب من أبواب التاريخ وتعرف بكتب الوفيات ؛ قال الدكتور مصطفى جواد في تقديمه لكتاب (التكملة لوفيات النقلة) للمنذري (1/12) : (ومن فنون التاريخ ، أعني فن التراجم : "الوفيات" وهي تواريخ تَذكر الأعيان من المحدثين وغيرهم على حسب سني وفياتهم ، وشهورها وأيامها ---- وهذا هو أصل فن الوفيات كما أرى ، فإن شذ به أحدهم عن سبيله(1) كابن خلكان في "وفيات الأعيان" فذلك ضرب من الاجتهاد المخالف للأصل ، ذلك لأن الاسم يدل على مسماه ، فالوفيات معناه ذكر من توفي على حسب التاريخ المسلسل ، لا على حسب الأسماء ولا الكنى ولا الأنساب ولا الألقاب . والتطور قلما يترك شيئاً على حالته القديمة فهو يطوره ويغيره ويزيده وئاماً) .
فائدة في بيان سبب ما وقع من النقص والاضطراب في معرفة وفَيَات القدماء :
__________
(1) معنى شذوذه هنا أنه سمى كتابه (الوفيات) مع أنه مرتب على حروف المعجم ، لا على أزمنة الوفيات ، أو أنه كان كتاب سير وتراجم ، فليس مقصوده الأول تاريخ الوفيات ، والسياق يرجح أنه قصد المعنى الأول .
قال السخاوي في وصف هذا الكتاب في (الإعلان بالتوبيخ) (ص683) : (وهو خمس مجلدات ، كثر تداول الناس له وانتفاعهم به ، وقال إنه لم يذكر أحداً من الصحابة ولا من التابعين ، إلا اليسير ، وكذا الخلفاء لم يذكر منهم أحداً ، اكتفاءً بالتصانيف الكثيرة في هذا الباب ؛ لكن ذكر جماعة من الأفاضل الذين شاهدهم ونقل عنهم ، أو كانوا في زمنه ولم يرهم ؛ ولم يقصره على طائفة مخصوصة مثل العلماء أو الملوك أو الأمراء أو الوزراء أو الشعراء ، بل كل من له شهرة بين الناس ؛ ورتبه على حروف المعجم مبتدئاً في كل اسمٍ من ذلك الحرف ، بالفقهاء ، ثم بالخلفاء ، ثم بالندماء والشعراء والأدباء والكتّاب ؛ وأكثر من ذكر الشعراء ونحوهم ؛ وقد ذيّل عليه بعض المؤرخين ) .(5/267)
قال الذهبي في أول كتابه الكبير (تاريخ الإسلام) (ص16 - السيرة)(1) : (ولم يعتن العلماء بضبط الوفيات [يعني وفيات القدماء] كما ينبغي، بل اتكلوا على حفظهم، فذهبت وفيات خلق من الأعيان من الصحابة ومن تبعهم إلى قريب زمان أبي عبد الله الشافعي، فكتبنا أسماءهم على الطبقات تقريباً، ثم اعتنى المتأخرون بضبط وفَيَات العلماء وغيرهم، حتى ضبطوا جماعة فيهم جهالة بالنسبة إلى معرفتنا لهم، فلهذا حُفظت وفيات خلق من المجهولين وجهلت وفيات أئمة من المعروفين) .
وقال العلامة أحمد محمد شاكر رحمه الله في حاشية (رسالة الشافعي) (ص ؟؟) عقب ذكره اضطراب أقوالهم في تاريخ بعض الرواة :
(ومرجع ذلك عندي إلى أن المؤلفين في تراجم رجال الحديث لم يحرروا تاريخ الرواة من أهل مكة وأهل المدينة واضطربت نقولهم فيها كثيراً؛ وقد تبين لي هذا من التتبع الكثير؛ ولكنهم حرروا تاريخ الرواة من أهل العراق وأهل الشام أحسن تحرير وأدقه، ولعل هذا من نقص مجموعة التراجم التي وصلت إلينا مؤلفاتها بفقدان كثير من الأصول القديمة التدوين).
قلت : كان علماء الجرح والتعديل في العراق أول الأمر أكثر منهم في الحجاز بكثير، فمن العراقيين شعبة وتلامذته، يحيى وعبد الرحمن وغيرهما وتلامذتهم، أحمد ويحيى بن معين وعلي بن المديني وعمرو بن علي الفلاس وغيرهم؛ وتلامذتهم؛ وهؤلاء هم الذين نشروا أغلب هذا الفن في الناس شرقاً وغرباً؛ فلا عجب أن يكون نصيب الرواة العراقيين من التاريخ والترجمة أكمل وأوفر.
تنبيه : الوفَيَاتُ جمعُ وفاةٍ ، والعامة يكسرون فاءها ويشددون الياء ، كأنها عندهم جمع وَفِيّة!.
__________
(1) ونقله عنه السخاويُّ في (الإعلان بالتوبيخ) (ص332-333) .(5/268)
وفيات النقلة :
قال الدكتور مصطفى جواد في تقديمه لكتاب "التكملة لوفيات النقلة" للمنذري (1/13) : (ثم إنَّ التسمية بـ"وفيات النقلة" أريد به كما أشرنا إليه آنفاً وفيات نقلة الحديث)(1) .
وقال بعض الناس :
هذه العبارة من عبارات الإمام البخاري في (صحيحه) ، قالها في نحو خمسة وعشرين موضعاً ، وهو يذكر بها مذاهب بعض الفقهاء ، وقد اشتهر أن المراد بذلك أبو حنيفة رحمه الله ، وهذا مما اقتضى طائفةً من الأحناف أن يصنفوا في بيان هذه المسألة ليبرهنوا أن أبا حنيفة ليس هو المراد في جميع تلك المواضع ، وأن التعقب ليس غاية البخاري في جميعها ، والله أعلم بحقيقة الحال .
ومن أشهر هذه الرسائل (كشف الالتباس عما أورده الإمام البخاري على بعض الناس) لعبدالغني الغنيمي الميداني الدمشقي (1222-1298هـ) ، وقد طبعه مكتب المطبوعات الإسلامية بحلب ، بعناية عبدالفتاح أبو غدة .
الوقف :
جاء في (الموسوعة الفقهية الكويتية) (44/108) عقب ذكر المعنى اللغوي للوقف : (والوقف اصطلاحاً عرفه الفقهاء بتعريفات مختلفة .
فعرفه الحنفية بأنه حبس العين على حكم ملك الله تعالى وصرف منفعتها على من أحب ، وهذا عند الصاحبين .
وعند أبي حنيفة هو : حبس العين على حكم ملك الواقف والتصدق بالمنفعة ولو في الجملة .
وعرفه ابن عرفة من المالكية فقال : الوقف - مصدراً - إعطاء منفعة شيء مدة وجوده لازماً بقاؤه في ملك معطيه ولو تقديراً ؛ والوقف - اسماً - ما أعطيت منفعته مدة وجوده.. .
وعرّفه الشافعية بأنه حبس مالٍ يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه بقطع التصرف في رقبته على مصرفٍ مباح موجود .
__________
(1) ثم قال عقب ذلك : (ولكن "تكملة المنذري" لم تقتصر على هؤلاء ، بل شملت عدة طبقات سواهم من أدباء وشعراء وكتّاب ووزراء وملوك وسلاطين وخلفاء ؛ وبذلك أصبح كتاب "التكملة لوفيات النقلة" من أمهات كتب التاريخ للعصر الذي احتوته ، وإن شئتَ "من أمّاتِها" ) .(5/269)
وعرفه الحنابلة بأنه تحبيس مالكٍ مطلق التصرف مالَه المنتفع به مع بقاء عينه بقطع تصرفه وغيره في رقبته بصرف ريعه إلى جهة برٍّ تقرباً إلى الله تعالى .
ومعلوم أنَّ أحكام الوقف مفصلة في كتب الفقه تمام التفصيل .
ومما أوقفه المسلمون الكتب والمكتبات ، فوقف من ذلك ما ليس يحصى ، في مكتبات بعض المساجد أو المدارس أو الأفراد أو العوائل أو البلدان أو نحو ذلك .
ولإثبات كون الكتاب موقوفاً طرق(1) :
الأولى : كتابة نص الوصية الوقفية على الكتاب نفسه .
الثانية : كتابة وثيقة وقف شاملة لمجموعة من الكتب أو لمكتبة بأكملها .
الثالثة : ختم الكتاب بختم الواقف ؛ وغالباً ما يوضع الختم في أسفل يسار صفحة العنوان ، ويكون فيه التصريح بالوقف وبأركانه ؛ ويظهر أن هذه الطريقة قد اشتهرت في العصور المتأخرة.
الرابعة : ختم الكتاب بختم الخزانة أو الجهة التي وقف الكتاب عليها ؛ وقد يتكرر الختم في بعض صفحات الكتاب الداخلية ، والأصل أن تكون أرقام تلك الصفحات معينة ، أي ثابتة في كل كتب تلك الخزانة المعينة .
والغاية من كتابة الوقف وتكريره هي منع سرقة الكتب الموقوفة أو التصرف بها على وجه يخالف المشروع ويخالف شروط الواقف .
__________
(1) انظر (الوقف وبنية المكتبة العربية : استبطان للموروث الثقافي) ليحيى محمود بن جنيد (ص 131-141) .(5/270)
وما يوجد على الكتب من تصريح بوقفها يُعدّ من أقوى طرق توثيق النسخة ، ومعرفة تاريخها أو عصرها ، وتحقيق نسبتها إلى مؤلفها ، ونحو ذلك من المعاني التي يُعنى بها المحققون ؛ قال الدكتور قاسم السامرائي في (علم الاكتناه العربي الإسلامي) لقاسم السامرائي (ص129) : (الحقُّ أن تقييدات الوقف لها أهمية كبرى للمفهرس ، أولاً ، وللمحقق ، ثانياً ، لأنها صورة من صور التوثيق ، وهي بعدُ تُعين على تحديد مكان نسخ المخطوطة ؛ وأحياناً تعرِّف باسم المؤلف وعنوان الكتاب ، وهي بعدُ تكشف عن قيمة المخطوطة العلمية في اختيارها للوقف واهتمام الواقف بموضوعها ، وبمعرفة تنقلها في البلدان المختلفة ، كما هي الحال في تقييدات التملك ، ومن ثَمَّ تكشف أيضاً عن الحركة العلمية وشيوع نوع من العلوم في بلد من البلدان) .
الوقفة :
علامة من علامات الترقيم ، ولها اسم آخر هو النقطة ، وهو الأشهر ؛ انظر (النقطة) بل (الترقيم) .
وكتب فلان :
من عادة جماعة من الكتاب المعاصرين وكثير ممن تقدمهم أن يكتب أحدهم في ختام رسالته أو مقالته أو كتابه هذه العبارة (وكتب فلان بن فلان ) ويذكر اسمه ، وربما جعل مكان (وكتب) كلمة (كتبه) أو (وكتبه) ؛ وقد تُشكِل زيادة الواو في هذه العبارة على كثير من القارئين لها ، فإليك محاولات في بيان معناها :(5/271)
قال القلقشندي في (صبح الأعشى) (6/189-190) : (وقد ذكر أبو الفضل الصوري في "تذكرته" أن المكتوب من الديوان إن كان مكاتبة فالواجب أن يكون عنوانها بخط متولي الديوان ؛ وإن كان منشوراً فالواجب أن يكون التاريخ بخطه ، ليدل على أنه وقف على المكتوب وأمضى حكمه ورضيه ، ويكون ذلك قد قام مقام كتابة اسمه فيه ؛ ثم قال : وقد كان الرسم بالعراق وفيه الكُتّاب الأفاضل أن يكتب الكتاب ما يكتبون ثم يقولون في آخره : "وكتب فلان بن فلان" ، باسم متولي ديوان الرسائل(1) ؛ وما ذكره عن أهل العراق قد ذكر نحوه أبو جعفر النحاس في "صناعة الكتاب" ، إلا أنه قد جعل بدل اسم متولي الديوان اسمَ الوزير ، فقال : ويكتب في آخر الكتاب : "وكتب فلان بن فلان" ، باسم الوزير واسم أبيه ؛ وقد رأيت نسخاً عدة من سجلات الخلفاء [!!] الفاطميين بالديار المصرية مستشهداً فيها باسم الوزير على النهج المذكور ؛ على أنه كان الواجب أن يكون الاستشهاد في آخر كل كتاب باسم كاتبه الذي يكتبه ، ليُعلم مَن كتبه ، فإن الخطوط كثيرة التشابه لا سيما وقد كثر كتّاب الإنشاء في زماننا وخرجوا عن الحد حتى أنه لم يعرف بعضهم بعضاً فضلاً عن أن يعرف خطه ؛ وقد كان كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجَّلوا عنه سِجِلّاً أو نحوه كتب الكاتب في آخره : "وكتب فلان بن فلان" ، وهذه الرقعة التي كتبها النبي صلى الله عليه وسلم لتميم الداري بإقطاع قرى من قرى الشام موجودة بأيدي التميميين إلى الآن مستشهَدا فيها بخط أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه .
وإنما عدلوا عن اسم الكاتب نفسه إلى اسم متولي الديوان أو الوزير استصغاراً للكاتب أن يُستشهد للكتاب باسمه فيما يكتب به عن الخليفة .
قال أبو هلال العسكري في كتابه "الأوائل" : وقد قالوا : إن أول من كتب في آخر الكتاب "وكتب فلان بن فلان" : أبي بن كعب رضي الله عنه) ؛ انتهى.
__________
(1) أي وليس باسم الكاتب .(5/272)
وقال ابن حجر في (الإصابة) (1/27) في ترجمة (أبي بن كعب) رضي الله عنه : (قال الواقدي : وهو أول من كتب للنبي صلى الله عليه وسلم ؛ وأول من كتب في آخر الكتاب : وكتب فلان بن فلان)
وقال بعض الفضلاء على بعض الشبكات الإلكترونية : (أما كلمة : وكتب فأصلها بيان الذي كتب هذا الشيء بيده سواء كان من تأليفه أو من تأليف غيره وعهد له بالكتابة فتقول : وكتب فلان ، أي هذا هو الموضوع وقد كتبه بيده فلان .
وقد ورد في السنة شيء من هذا حين يكتب الكاتب للنبي صلى الله عليه وسلم كتاباً لقوم بصلح أو نحوه ، يكتب في آخره : وكتب فلان .
وجرت العادة بعد ذلك في كتّاب الدواوين ليعلم المسؤول عن الكتابة هل صحف أو حرف او أخطأ .. الخ [!!].
وكل من كتب بيده شيئاً يحسن أن يقول بعده : وكتب فلان ليعرف أن هذا خطه أو نسخه ، فلو كان هناك خطأ أو نحوه لم يتحمل غيره مسئوليته ، وفي حالة الكتابة باليد فيعرف خطه تمييزاً له عن خط المملي أو غيره .
ومن الأحاديث التي ورد فيها لفظ ( وكتب) حديث أبي داود في صلح النبي [صلى الله عليه وسلم ] مع أهل سبأ كتبه له خالد بن العاص ؛ وهو من حديث عامر بن شهر في كتاب الخراج ، وفي آخره : "فقيل لعك - وهو من سادة سبأ - : انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فخذ منه الأمان على قريتك ومالك ، فقدم ، فكتب له رسول الله صلى الله عليه وسلم : بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد رسول الله لعك ذي خيوان إن كان صادقاً في أرضه وماله ورقيقه فله الأمان وذمة الله وذمة محمد رسول الله ؛ وكتب خالد بن سعيد بن العاص").
ثم سأله سائل قائلاً : (والذي فهمته من الرد انه يمكن للكاتب ان يذيل كتابته بعبارة (كتبه فلان) ، أو (كتب فلان) ، أو (وكتب فلان) ، أو (وكتبه فلان) ، وأن الأمر فيه سعة) ؛ فقال في جوابه : (نعم الأمر فيه سعة ، لكن الواو تأتي في حالة ما إذا كان الكاتب غير المملي أو صاحب الكلام ضرورة ، فكأن التقدير : أملاه فلان وكتب فلان ، أو صنف فلان وكتب فلان) .
انتهى كلام الفاضل المشار إليه ويؤخذ عليه أشياء يُعلم بعضها مما تقدم نقلُه عن "صبح الأعشى" .(5/273)
فصل الياء
يأتي بطامات :
هي بمعنى (له طامات) ، فانظرها .
يأتي عن فلان بما ليس من حديثه حتى يسبق إلى القلب أنه المتعمد لذلك :
يُكثر من هذه العبارة ونجوِها ابنُ حبان رحمه الله في كتابه (المجروحين) ، وهو اتهام لذلك الراوي الذي قالها فيه ، بالوضع ، كما هو بيّن ؛ قال في (المجروحين) (1/314) في زكريا بن حكيم : (يروي عن الأثبات ما لا يُشبه أحاديثهم حتى يسبق إلى القلب أنه المتعمد لها(1) ؛ قال برهان الدين الحلبي في (الكشف الحثيث) (ص183) في تفسير كلمة ابن حبان هذه : (يعني أنه الواضع لها) .
وقال ابن حبان في (المجروحين) (3/56) (1120) : (نزار بن حيان : شيخ يروي عن عكرمة ، روى عنه العراقيون ، قليل الرواية ، منكر الحديث جداً ، يأتي عن عكرمة بما ليس من حديثه حتى يسبق إلى القلب أنه كان المتعمد لها لا يجوز الاحتجاج به بحال) ؛ فقال الحلبي في (الكشف الحثيث) (ص438) : (فقول ابن حبان ذلك اعتقادٌ منه أنها من وضعه) .
__________
(1) تتمة كلامه : (لا يجوز الاحتجاج بخبره).(5/274)
وقال في المجروحين (2/163) (786) : (عباد بن راشد التميمي ---- كان ممن يأتي بالمناكير عن أقوام مشاهير ، حتى يسبق إلى القلب أنه كان المتعمد لها فبطل الاحتجاج به ---- ) ثم ذكر ابن حبان بعض تلك المناكير وذكر أن منها ما هو موضوع ؛ قال الحلبي في (الكشف الحثيث) (ص224-225) في ترجمة عباد هذا : (قال الذهبي : وأما ابن حبان فاتهمه---- ، وقد قال ابن الجوزي في "الموضوعات" في باب النهي عن الحجامة يوم السبت والأربعاء وقد ذكر حديثاً فيه ذكر عباد بن راشد : "يأتي بالمناكير عن المشاهير حتى يسبق إلى القلب أنه المتعمد لها "(1) ، فهذا فيه إشارة إلى أنها من وضعه ؛ وقد تقدم أن ابن حبان اتهمه مع ما ينضم إليه أنه بالوضع ؛ وهذا يقوي الإشارة والله أعلم).
ولكنه قال في (الكشف الحثيث) (ص446) (815) في ترجمة هارون بن عنترة : ( د س - وثقه أحمد وابن معين ، وقال ابن حبان : لا يجوز أن يُحتج به منكر الحديث(2) ، قال الذهبي(3) : قلت الظاهر أن النكارة من الراوي عنه ، وقد قال الدارقطني : يحتج به ، وأبوه يعتبر به ، انتهى ؛ وقد نقل الذهبي(4) في ترجمة عبد الملك بن هارون بن عنترة عن الدارقطني : "ضعيفان" ، انتهى ؛ وقال ابن الجوزي في "الموضوعات"(5) في صوم رجب وقد ذكر حديثاً لا يصح : "قال أبو حاتم ابن حبان : لا يجوز الاحتجاج بهارون ، يروي المناكير الكثيرة حتى يسبق إلى قلب المستمع لها أنه المتعمد لها " ، انتهى ؛ فهذا يحتمل أنه وضاع ويحتمل أنه لا ، والله أعلم).
__________
(1) هذه عبارة ابن حبان .
(2) كلام ابن حبان هذا في (المجروحين) (3/93) (1163) ، وهذا لفظه : " منكر الحديث جداً ، يروي المناكير الكثيرة حتى يسبق إلى قلب المستمع لها أنه المتعمد لذلك ، من كثرة ما روى مما لا أصل له ، لا يحوز الاحتجاج به بحال) .
(3) في (الميزان) (7/62) .
(4) في (الميزان) (4/414) .
(5) 2/597 .(5/275)
فكلام الحلبي الأخير ليس تفسيراً لعبارة ابن حبان ، ولكنه تردد منه في حال هذا الراوي الذي وثقه بعض العلماء وروى له أبو داود والنسائي .
يأخذ عن كل ضرب :
أي يحمل الحديث عن الثقات والمجروحين ؛ قال ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل) (1/243) : (نا صالح نا علي قال : سمعت يحيى ، يعني ابن سعيد القطان ، يقول : مرسلات مجاهد أحب إلي من مرسلات عطاء بكثير ، كان عطاء يأخذ عن كل ضرب ) .
يبلغ به :
إذا قال راوي حديث أو مخرّجه عند ذكر صحابيه : (يرفع الحديث) ، أو (رفعه) ، أو (يرويه) ، أو (رواه) ، أو (ينميه) ، أو (نماه) ، أو (يبلغ به) ، أو (بلغ به) ، فكل هذا وشبهه مرفوع عند أهل العلم .
وأما إذا قيل شيء من ذلك عند ذكر التابعي من رواة الحديث ، فالحديث مرفوع مرسل ، وانظر (رفعه) .
وقال ابن حجر في (النكت) (2/535-536) : (قوله (ص) "من قبيل المرفوع ما قيل عند ذكر الصحابي رضي الله عنه : يرفعه أو يبلغ به أو ينميه أو رواية .
قلت : وكذا قوله "يرويه" أو "رفعه" أو "مرفوعاً" أو "يسنده" ؛ وكذا قوله "رواه" .
رونيا في أمالي المحاملي من طريق ابن عيينة عن ابن جدعان عن أبي نضرة عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه رواه قال : (قول إبراهيم عليه الصلاة والسلام {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ }(1) في كذباته الثلاث)(2) .
__________
(1) الشعراء {82}.
(2) مما لا وجه له استشكال محقق (النكت) هذا الموضع وتعليقه عليه بقوله (غير واضح عدّ هذا في الثلاث ، فينظر ، ثم إنه في جميع النسخ الثلاثة [كذا] ) .
ولا أدري هل ظن أن المراد أن قول إبراهيم عليه السلام هذا معدود في كذباته الثلاث ، أم بدا له معنى آخر ؛ وعلى كل حال فالمعنى ظاهر وهو أن مراد إبراهيم بالخطيئة التي يرجو مغفرتها يوم الدين كذباته الثلاث .
وقد يقال : لعله استنكر الحديث ، ولكن هذا القول لا يستقيم لأنه أشار إلى أنه استنكر - أو استشكل - ما في النسخ الثلاث ، ثم هو لم يخرج الحديث ليذكر نكارته .(5/276)
ورواه أبو يعلى في (مسنده) من هذا الوجه ، فقال : عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ، فذكره .
وأمثلة باقي ما ذكرنا مشهورة ، فلا نطيل بذكرها) .
ثم قال عقب ذلك (2/536) : (ومن أغرب ذلك سقوط الصيغة مع الحكم بالرفع بالقرينة ، كالحديث الذي رويناه من طريق الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : احفظوا عني - ولا تقولوا : "قال ابن عباس" رضي الله عنه - : أيما عبد حج به أهله ، ثم أعتق فعليه حجة أخرى … الحديث ؛ رواه ابن أبي شيبة من هذا الوجه .
فزعم أبو الحسن ابن القطان أن ظاهره الرفع وأخذه من نهي ابن عباس رضي الله عنهما لهم عن إضافة القول إليه .
فكأنه قال لهم : لا تضيفوه إليَّ وأضيفوه إلى الشارع .
لكن يعكِّر عليه أن البخاريَّ رواه من طريق أبي السفر سعيد بن يحمد قال : سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول : يا أيها الناس اسمعوا مني ما أقول لكم وأَسمعوني ما تقولون ، ولا تذهبوا فتقولوا : قال ابن عباس قال ابن عباس ، فذكر الحديث(1) .
وظاهر هذا أنه إنما طلب منهم أن يعرضوا عليه قوله ليصححه لهم خشية أن يزيدوا فيه أو ينقصوا ) .
ثم قال عقب ذلك (2/537-539) :
(تنبيهان :
أحدهما : قد يقال : ما الحكمة في عدول التابعي عن قول الصحابي رضي الله عنه "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم" ونحوها ، إلى "يرفعه" وما ذكر معها ؟ .
__________
(1) رواه البخاري (3848) .(5/277)
قال الحافظ المنذري : يشبه أن يكون التابعي مع تحققه بأن الصحابي رفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم شك في الصيغة بعينها فلما لم يمكنه الجزم بما قاله له أتى بلفظ يدل على رفع الحديث(1) .
قلت : وإنما ذكر الصحابي رضي الله عنه كالمثال وإلا فهو جارٍ في حق من بعده ولا فرق ، ويحتمل أن يكونَ مَن صنع ذلك صنعه طلباً للتخفيف وإيثاراً للاختصار .
ويحتمل أيضاً أن يكون شك في ثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجزم بلفظ "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا" ، بل كنى عنه تحرزاً ؛ وسيأتي إن شاء الله تعالى في النوع الحادي والعشرين .
وما أجاب به المنذري انتزعه من قول أبي قلابة الجرمي لما روي عن أنس رضي الله عنه قال : "من السنة إذا تزوج البكر أقام عندها سبعاً " .
قال أبو قلابة : لو شئتُ لقلت : أنساً رضي الله عنه رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم"(2) .
فإن معنى ذلك أنني لو قلت : "رفعه" لكنت صادقاً ، بناء على الرواية بالمعنى لكنه تحرز عن ذلك ، لأن قوله "من السنة" إنما يحكم له بالرفع بطريق نظري ، كما تقدم ، وقوله "رفعه" نص في رفعه ، وليس للرواي أن ينقل ما هو محتمل إلى ما هو نص غير محتمل .
__________
(1) وهذا لفظ الزركشي في (نكته) (1/436) : (ولك أن تقول : ما الحكمة في عدول التابعي عن قوله "عن الصحابي قال ، أو سمعت" إلى ذلك ؟ وقد اشار إلى الجواب الحافظ المنذري فقال : يشبه أن يكون التابعي قد تحقق أن الصحابي رفع له الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم غير أنه شك هل قال له : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فلما لم يمكنه الجزم بما قاله له أتى بلفظ يرجِع الحديثَ إلى رسول الله [صلى الله عليه وسلم]) .
(2) متفق عليه .(5/278)
ثانيهما : ذكر المصنف ما إذا قال التابعي "عن الصحابي رضي الله عنه يرفعه" ، ولم يذكر ما إذا قال الصحابي رضي الله عنه "عن النبي صلى الله عليه وسلم يرفعه" ، وهو في حكم قوله "عن الله عز وجل" ؛ ومثاله : الحديث الذي رواه الدراوردي عن عمرو بن أبي عمرو عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفعه : إن المؤمن عندي بمنزلة كل خير يحمدني وأنا أنزع نفسه من بين جنبيه" .
حديث حسن رواته من أهل الصدق ، أخرجه البزار في مسنده وهو من الأحاديث الإلهية ، وقد أفردها جمع بالجمع والله الموفق ) .
يتكلم فيه فلان ويُحتمل منه :
أي لا يترك ، وإن تكلم فيه ذلك الناقد؛ وانظر (ثقة).
يتكلمونَ في إسناده :
انظر (لم يصحَّ حديثه) .
يتكلمون فيه :
انظر (تكلموا فيه) و (الجرح المفسر) .
يُتَّهم :
انظر (متَّهم) .
يثبّجُ الحديثَ :
قال البخاري في (التاريخ الكبير) (1/359) (1138) : (إسماعيل بن شروس أبو المقدام ، قال أحمد : هو الصنعاني ، نسبه محمد بن ثور عن معمر .
يروي عن يعلى بن أمية ، وسمع عكرمةَ قولَه .
قال عبد الرزاق عن معمر : كان يثبِّجُ الحديثَ ) .
فما معنى هذه العبارة الأخيرة ؟
قال ابن فارس رحمه الله في (مقاييس اللغة) (1/399-400) : ( ثبج : الثاء والباء والجيم كلمةٌ واحدةٌ تتفرّع منها كَلِمٌ، وهي مُعْظَمُ الشيءِ ووَسَطُهُ ؛ قال ابنُ دريد: ثَبَجُ كلِّ شيءٍ وسطُه ، ورجل أثْبَجُ وامرأةٌ ثَبْجاء ، إذا كان عظيمَ الجوفِ ----.
وتَثَبَّجَ الرجلُ بالعصا إذا جعَلَها على ظهره وجعل يديه من ورائها .
وثَبَجُ الرّمْل : مُعْظَمُه، وكذلك ثَبَجُ البَحْر.
فأمّا قولهم "ثبّجَ الكلامَ تثبيجاً" فهو أن لا يأِتيَ به على وَجْهِهِ. وأصله من الباب، لأنه كأنه يجمعه جمعاً فيأتي به مجتمعاً غيرَ ملخَّص ولا مفصّل ) .(5/279)
وجاء في (لسان العرب) لابن منظور (ث ب ج) (1/655)(1) : (وثبّجَ الكتابَ والكلامَ تثبيجاً : لم يبيِّنه ، وقيل : لم يأت به على وجهه ؛ والثبَجُ : اضطرابُ الكلام وتفتُّنُه ؛ والثَبَجُ : تعمية الخط وترك بيانه .
الليث : التثبيج التخليط) .
ويتبين مما تقدم وغيره من نصوص أهل اللغة في معنى هذه اللفظة ، ومن استقراء مواضع استعمال المحدثين لهذه العبارة أن المراد بتثبيج الحديث الاضطراب فيه وعدم الإتيان به على وجهه ؛ فمن الوهم البين ما صنعه بعض المعاصرين إذ ذكر كلمة (يثبج) في مرتبة دجال ووضاع وأفاك وكذاب وما أشبهها من عبارات النقاد .
وقد وقع مما يتعلق بهذه المسألة وهمٌ في طائفة من كتب الرجال ولعل أصله هو ما وقع في كتاب ابن عدي (الكامل) فقد وقع فيه نقلٌ عن البخاري عن عبد الرزاق عن معمر أنه قال في إسماعيل بن شروس : (يضع الحديث) ، وهذا تصحيف صوابه (يثبج الحديث) كما في (تاريخ البخاري) نفسه ، وتقدم نقلًه ، وكما نقله عن البخاري العقيلي في (الضعفاء) (1/98) (95) ثم الذهبي في (الميزان)(2) وغيرهما ؛ وهذا الوهم في كتاب ابن عدي إما لذهول منه ، أو أن الكلمة تصحفت عليه أو على أحد نساخ كتابه .
__________
(1) طبعة دار الحديث ، القاهرة .
(2) ولكن الإمام الذهبي لم يثبت على هذا النقل ، فإنه نقل في (الميزان) عن البخاري عن عبد الرزاق عن معمر الكلمتين معاً (يثبج) و (يضع) ، نقل أولاهما من (تاريخ البخاري) أو (ضعفاء العقيلي) أو غيرهما ، ونقل الثانية من (الكامل) ، فأوهم صنيعه أن إحدى الكلمتين تفسيرٌ للأخرى ؛ وتابع الذهبي على طريقته هذه سبط ابن العجمي في (الكشف الحثيث عمن رمي بوضع الحديث) (ص70) ، بل الذهبي نفسه قال في (المغني) في إسماعيل هذا : (كذاب قاله معمر)! .(5/280)
ومما يدل على أنه لا يصح عن البخاري نقلُه اتهامَ إسماعيلَ بن شروس بالوضع مقرّاً له : أنَّ ابن شروس هذا قد وثقه الحافظُ ابنُ حبان في (الثقات) وهو كثير المتابعة للبخاري ولم يذكره في (المجروحين) له ، وابنُ شاهين إذ ذكره في (ثقاته) أيضاً ، ولم يذكره في (ضعفائه) ؛ وأكثر من ذلك أنه وثقه إمام علم العلل وشيخ البخاري المقدم عنده في هذه الصناعة ، الإمامُ علي بن المديني(1) ؛ ومثل ذلك - أو أكثر منه - أنه وثقه مرتين إمام الجرح والتعديل يحيى بن معين كما نقله عنه وأقره عليه الخطيب في (موضح أوهام الجمع والتفريق)(2) ، هذا فضلاً عما تقدم من أن المحفوظ عن البخاري في نقله عن معمر هو كلمة (يثبج) وليس كلمة (يضع) ، ومعنياهما متغايران كما تقدم ، وصورتاهما متقاربتان بل تحتملان - عند عدم تجويد الخط - التصحيفَ ، أي من إحداهما إلى الأخرى .
وأيضاً ابن أبي حاتم ترجم إسماعيل هذا في كتابه (الجرح والتعديل) (2/177) ولم يذكر فيه جرحاً البتة ، لا تلك العبارة المنسوبة إلى معمر ولا غيرها .
__________
(1) كما في (تاريخ أسماء الثقات ممن نُقل عنهم العلم) لابن شاهين (ص10) .
(2) أخرج الخطيب في (موضح أوهام الجمع والتفريق) (1/235) : (الوهم العاشر) يعني من أوهام يحيى بن معين رحمه الله عن علي بن الحسين بن حبان قال : وجدت في كتاب أبي بخط يده : قال أبو زكريا [هو يحيى بن معين] : (إسماعيل بن أبي سعيد شيخ صنعاني حدث عنه معمر في حرمة الزرع وإسماعيل بن شروس أبو المقدام ثقتان جميعاً) ؛ ثم قال الخيطب مبيناً وجه توهيمه ابن معين : (وإسماعيل بن شروس هو إسماعيل بن أبي سعيد ليس بغيره ----) .(5/281)
إذا عُلم هذا أفليس من البعيد أن يتهم ابنَ شروس تلميذُه الذي هو أعرف الناس به معمرُ بن راشد ثم ينقله عنه عبد الرزاق وهو تلميذه الملازم له ، ثم يأتي تلامذة عبد الزاق وتلامذتهم فيوثقونه من غير أدنى إشارة إلى إتهام معمر له بالوضع ، ولا سيما أنهم لم ينقلوا توثيقه عن أحد من أقران معمر أو أقران عبد الرزاق ليقال: لعلهم رجحوا قول الموثِّق على قول الجارِح لأمر ما ؟! بلى ، هذا في غاية البعد ونهاية الغرابة ، فيهمَل ولا يُقبل(1) .
وقال العلامة المعلمي في حاشيته على (التاريخ الكبير) للبخاري في تعليق له على الموضع المذكور منه : (أي لا يأتي به على الوجه ؛ وفي "الميزان" و "لسانه" عن ابن عدي حكايةُ هذه الكلمة عن البخاري بلفظ (يضع) فلزم من ذلك ما لزم ، والله المستعان) .
__________
(1) ثم وقفت في وقت مراجعتي الأخيرة للكتاب على تنبيه الأستاذ محمد عوامة على هذه المسألة في مقدمته لكتاب (الكاشف) (1/1620164) ، فإن المجلد الأول من هذا الكتاب لم يقع لي رغم بحثي عنه من أزمان بعدما رأيت المجلد الثاني منه ، وحده ، إلا بعد أن رأيته في (المكتبة الوقفية) على الشبكة العالمية ، جزى الله القائمين على تلك المكتبة جزاء المحسنين ، ومَن علمَ أحوالنا في بلادنا عرَف أعذارنا في قلة الاطلاع على الكتب ، ظللنا واللهِ شطراً من عمرنا نسمع بمئات من الكتب المطبوعة التي نتمنى اقتناءها أو حتى رؤيتها ، ولكن ذلك كان أشبه بالمستحيل ، الكتب الصحيحة والنافعة محرمة ! والسفر ممنوع ! والتدين تهمة بل جريمة ! ولقاء الأصحاب تحزب سياسي خطير ! والمطاردات شاملة والسجون مظلمة ، وهكذا انقضى معظم العمر والحسرات تفعل في القلوب فعلها ، ومضى زمن الشباب وأوان القوة في البحث والرغبة في الدراسة قبل الوقوف على شيء يستحق الذكر من إرثِ علمائنا الذين أحبَبنا ، وما أخبث وأظلم مكر الكافرين وأعوانهم بالإسلام وأهله وما أشدَّ حقدهم عليهم والقيامة موعدنا .(5/282)
وهي في بعض نسخ (اللسان) (يُنتج) واختارها للمتن محققه عبد الفتاح أبو غدة وقال في تعليقه على ذلك (2/34-35) : (هكذا في ص وعُلِّق في الحاشية : "ينتِج أي يولِّد" ، وجاء في "التاريخ الكبير" (يثبِّج)----) ؛ ثم نقل قول المعلمي ثم قال : (قلت : فيكون لفظ "يُنتِج" تحريفاً عن "يثبج" ، وتفسيرُه بـ "يولِّد" مبني على ظن سلامته من التحريف ، وليس كذلك .
وكذا لفظ "يضع" فإنه محرف أيضاً عن "يثبج" ، وقول الذهبي في "المغني" : "كذاب ، قال معمر" نقلٌ بالمعنى ، اعتماداً على لفظ "يضع" المحرف في (الكامل) لابن عدي !! فليتنبه لذلك ، فإن التحريف في هذه الكلمة قديم وشديد ) ؛ ثم أحال على مقدمة "الكاشف" (1/162-164) لتلميذه محمد عوامة .
يُجْهَلُ :
هي بمعنى (مجهول العين) ، فانظرها ؛ والأصل في إطلاق الجهالة أن يكون المراد بها العين لا الحال .
يُجْهَلُ حاله :
معناها هو معنى (مجهول الحال) ، فانظرها .
يحتاج إلى أن يُحبس في السجن :
قال البرذعي في (سؤالاته) (ص578-579) : (قلت لأبي زرعة إن أحمد بن جعفر الزنجاني حدثنا عن يحيى بن معين عن رفدة بن قضاعة بحديث الأوزاعي في الرفع ، فقال : إن هذا يحتاج إلى أن يحبس في السجن ؛ قلت : إنه يقول : حدثنا يحيى عن رفدة ؛ فقال : لم يسمع يحيى من رفدة شيئاً ، ولم يسمع من هشام بن عمار شيئاً ؛ فكتبت إليَّ ابن جعفر بذلك ، فقال لي : إنما رأيت يحيى يذاكر به ويقول : رواه رفدة ، ولا أدري ممن سمعه).
يحتاج إلى دِعَامة :
عبارة قالها الإمام الشافعي في في أبي الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي ، ومعناها أنه لين الحديث أو فيه لين ، فيحتاج إلى من يتابعه ويشهد لحديثه بالمتانة والثبوت ؛ قال ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل) (8/76) : (نا يونس بن عبد الأعلى قال سمعت الشافعي يقول : أبو الزبير يحتاج إلى دعامة)(1) .
__________
(1) ونقله المزي في (تهذيب الكمال) (26/408).(5/283)
وقال ابن أبي حاتم في (آداب الشافعي ومناقبه) (ص167) : (ثنا ابن عبدالأعلى يقول : سمعت الشافعي واحتج عليه رجل بحديث عن أبي الزبير ، فغضب وقال : "أبو الزبير يحتاج إلى دِعَامة" ) .
يُحتجّ بحديثه :
انظر (يحتج به) ، فهما مترادفتان.
يُحتج به :
أي ثقة ؛ ولكن ليعلمْ أن من قيل في حقهم : (يحتج به) ليسوا مرتبة واحدة في القوة والثقة، بل ذلك قد يختلف إما باختلاف المقام أو الناقد قائل اللفظة أو من قيلت فيه أي الراوي .
وقال عبد الله بن يوسف الجديع في (تحرير علوم الحديث) (1/568-569) : (قولهم "فلان حجة " ، أو "يحتج بحديثه " أو "لا يحتج بحديثه " مما يتكرر كثيراً في كلام النقاد في تعديل الرواة وتجريحهم ؛ فقولهم "حجة " يعني "ثقة "، بل فوق الثقة، يصحح حديثه ويحتج به.
وتأتي عبارة "يحتج به " في أكثر الأحيان وصفاً إضافياً مع لفظ آخر، أو أكثر، من ألفاظ التعديل ، لكن قد يستعملها الناقد أحياناً وصفاً مستقلاً ، وهي عندئذ من أوصاف التعديل ، وصريحة في صحة الاحتجاج بحديث الموصوف بها عند قائلها .
من ذلك قول الدارقطني في (مغيرة بن سُبيع الكوفي) : يروي عن بريدة الأسلمي "يحتج به "(1)؛ ويقابلها قولهم "لا يحتج به " في التجريح ، وستأتي ؛ فإذا قال الناقد : "فلان لا بأس به " فيقال له : يحتج به ؟ فيقول : لا ، دل ذلك على أنه لم يُرد بعبارة التعديل ما يُفهمه إطلاقُها من صحة أو حسن حديث ذلك الراوي ؛ ويأتي في شرح عبارة "لا بأس به " من أمثلة ما يوضح ذلك) ؛ انتهى .
قلت : لعل لكلمة (يحتج به ) عند أبي حاتم معنى أعلى من معناها عند الجمهور ، فقد قال ابنه في (الجرح والتعديل) (8/388) (1778) في (محبوب بن محرز القواريري) : (سئل أبي عنه فقال : يكتب حديثه قيل : له يحتج بحديثه ؟ فقال : يحتج بحديث سفيان وشعبة)؛ وانظر (حجة) و(يكتب حديثه ولا يحتج به) و (لا يحتج به) .
__________
(1) سؤالات البرقاني (النص 155).(5/284)
يُحتمَل(1) :
انظر (محتمل) ، و (يتكلم فيه مالك ويحتمل منه) .
يحتمل أن يكون الحدث عنده على الوجهين :
قال السخاوي في (فتح المغيث) (1/327-328) ناقلاً من كتاب شيخه ابن حجر (جلاء القلوب في معرفة المقلوب) ، مع زيادة السخاوي فيه وحذفه منه(2) :
(وكذا خطّأ يحيى القطان شعبة حيث حدثوه [عنه] بحديث "لا يجد عبدٌ طعم الإيمان حتى يؤمن بالقدر" ، عن أبي اسحاق عن الحارث عن علي ؛ وقال [أي يحيى] : حدثنا به سفيان عن أبي أسحق عن الحارث عن ابن مسعود ؛ وهذا هو الصواب ، ولا يتأتي ليحيى أن يحكم على شعبة بالخطأ إلا بعد أن يتيقن الصواب في غير روايته ، فأين هذا ممن يستروح فيقول مثلاً : يحتمل أن يكون عند أبي إسحق على الوجهين فحدث به كل مرة على إحداهما ، وهذا الإحتمال بعيد عن التحقيق إلا إن جاءت رواية عن الحارث بجمعهما ، ومدار الأمر عند أئمة هذا الفن على ما يقوى في الظن ، وأما الاحتمال المرجوح فلا تعويل عندهم عليه ؛ انتهى مع زياده وحذف) ؛ انتهى كلام السخاوي .
يُحتَمَل في الحديث :
هي بمعنى (يُحتمل) ، فانظرها .
يُحْتَمَلُ منه :
هي بمعنى (يُحتمل) ، فانظرها .
__________
(1) تنبيه إلى الصحيح في ضبط كلمة (يحتمل) : قال الدكتور محمود الطناحي رحمه الله في نقده لبعض المستشرقين كما في (مقالاته) (1/60) : (يحتمل ، ضبَطها بضم الياء ، وهو خطأ يقع فيه كثير من الناس ، يضمّون الياء ويفتحون التاء والميم ، مبنياً للمجهول .
والصواب فتح الياء مع كسر الميم ، مبنياً للمعلوم ؛ قال الفيومي في (المصباح المنير) : « والاحتمال في اصطلاح الفقهاء والمتكلمين يجوز استعماله بمعنى الوهم والجواز ، فيكون لازماً ، وبمعنى الاقتضاء والتضمين ، فيكون متعدياً ، مثل احتَمَل أن يكون كذا ، واحتمل الحال وجوهاً كثيرة ») .
(2) عقب ما نقلته عنه تحت (سلك الجادة) .(5/285)
يحدِّث عن :
إذا قال الراوي في حديث يرويه : (سمعت زيداً يحدث عن عمرو بكذا ) فإنه لا يلزم منه أن يكون زيدٌ قد صرّح بسماع ذلك الحديث من عمرو ، بل ولا يلزم منه أن يكون زيدٌ قد سمعه من عمرو أصلاً، بل هذا القول يحتمل أن يكون زيد قد صرح في ذلك الحديث بالسماع من عمرو ، إذا كان عمرو من شيوخ زيد ، ويحتمل أيضاً أنه رواه عنه بصيغة غير صريحة بالسماع مثل (عن) و(حدَّث) و(قال) ، أي من غير أن يذكر واسطة بينهما ، ويحتمل أنه رواه بصيغة صريحة في الانقطاع ، مثل (حُدِّثنا عنه) ، ويحتمل أنه رواه عنه بواسطة ، فتجاوز ذكرها الراوي عن زيد ، أي تلميذه القائل (سمعت زيداً يحدث عن عمرو).
والحاصل أن التحديث أداء فإذا ذُكر مجملاً نحو (حدث عن فلان) فلا يتبين منه كيفية التحمل وصورته، وإن كان الأكثر من ذلك هو التحديث بلا واسطة .
والحاصل أن هذه الصيغة : (يحدث عن فلان) - ومثلها (حدث عن) - ليست صريحة في السماع ، وإنما هي من الصيغ المحتملة ؛ فقول الراوي (سمعت زيداً يحدث عن عمرو) ثم يذكر حديثاً هو في قوة قوله (حدثني زيد عن عمرو) ، ولعل هذا واضح بأدنى تأمل إن شاء الله تعالى.
يحوِّل :
قال ابن حجر في (مقدمة فتح الباري) (ص 408) في ترجمة سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي المعروف بابن بنت شرحيبل :
(وقال يعقوب بن سفيان(1) : كان صحيح الكتاب إلا أنه كان يحوِّل، يعني ينسخ من أصله، فإن وقع منه شيء فمن النقل، وهو ثقة).
__________
(1) انظره في (المعرفة والتاريخ) (2/406) ، مؤسسة الرسالة .(5/286)
يحوَّل من كتاب الضعفاء :
هذه من عبارات أبي حاتم تعقب فيها البخاري على إدخاله جماعة من الرواة في كتابه (الضعفاء) ، فأبو حاتم - على ما يظهر لي - كان يرى أن هؤلاء لا ينزلون إلى درجة الضعف الشديد وما قاربه، تلك الدرجة التي كأنه كان قد علم بالاستقراء أو غيرِه أن البخاري خصص كتابه المذكور ، لأصحابها ، دون غيرهم من اللينين ومن يُعتبر بهم؛ وكان بعض أولئك الذين اعترض أبو حاتم على إدخالهم في (الضعفاء) للبخاري ثقات عند أبي حاتم أو صدوقين ؛ وأبو حاتم كثيراً ما يقرن بكلمة (ضعيف) في كلامه على الرواة كلمة (منكر الحديث) أو (متروك) أو (لا يكتب حديثه) أو غيرها من الكلمات الدالة على ترك الراوي ؛ فدونك هذه الأمثلة التي انتقيتها من جملة تراجم الرواة الذين لم يرتض أبو حاتم إدخال البخاري إياهم في كتابه (الضعفاء) .
قال ابن أبي حاتم (في الجرح والتعديل) :
1 - رواد بن الجراح العسقلاني أبو عصام ---- وسمعته [يعني أباه] يقول : هو مضطرب الحديث ، تغير حفظه في آخر عمره، وكان محله الصدق. (الجرح والتعديل 3/524).
أدخله البخاري في كتاب (الضعفاء)؛ سمعت أبي يقول : يحول من هناك.
2 - عبيد بن سلمان الأعرج مولى مسلم بن هلال ، روى عن سعيد بن المسيب وعطاء بن يسار ، روى عنه ابن أبي ذئب وموسى بن عبيدة، سمعت أبي يقول ذلك ، ويقول : لا أرى في حديثه إنكاراً، يحوَّل من كتاب (الضعفاء) الذي ألفه البخاري إلى الثقات. (الجرح والتعديل 5/407) .
3 - عبد الصمد بن حبيب الأزدي العوذي البصري روى عن أبيه حبيب ومعقل القسملي ، روى عنه مسلم بن إبراهيم ، سمعت أبي يقول بعض ذلك ، وبعضه مِن قِبلي.
انا أبو بكر بن أبي خيثمة فيما كتب إليَّ قال : سمعت يحيى بن معين يقول : عبد الصمد بن حبيب ليس به بأس .
سمعت أبي يقول : هو لين الحديث، ضعفه أحمد بن حنبل.
سمعت أبي يقول : يُكتب حديثه، ليس بالمتروك ؛ وقال : يحول من كتاب (الضعفاء). (الجرح والتعديل 6/51) .(5/287)
4 - عباد بن راشد البصري التميمي---- نا محمد بن إبراهيم نا عمرو بن علي قال : كان عبد الرحمن بن مهدي يحدثنا عن عباد بن راشد؛ وكان يحيى يقول إذا ذكره : قد رأيتُه.
انا إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني فيما كتبَ إليَّ قال : سألت أحمد بن حنبل عن عباد بن راشد، فقال : شيخ ثقة صدوق صالح.
نا عبد الله بن أحمد في كتابه إليَّ : سمعت أبي يقول : عباد بن راشد أثبت حديثاً من عباد بن ميسرة المنقري.
ذكره أبي عن إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين أنه قال : عباد بن راشد صالح.
سألت أبي عن عباد بن راشد فقال : صالح الحديث ، وأنكر على البخاري إدخال اسمه في كتاب (الضعفاء)، وقال : يحول من هناك. (الجرح والتعديل 6/79) .
5 - عاصم بن عمرو البجلي ---- سألت أبي عنه فقال : هو صدوق؛ وكتبه البخاري في كتاب (الضعفاء) فسمعت أبي يقول : يحول من هناك. (الجرح والتعديل 6/348).
6 - عباءة بن كليب ، قدم الري وكتب عنه الرازيون، وروى عنه إسحاق بن موسى الخطمي ومحمد بن آدم بن سليمان المصيصي والحسن بن علي بن عفان ، سمعت أبي يقول ذلك؛ وسألته عنه فقال : صدوق.
روى عن إسماعيل بن إبراهيم عن الحسن ، ومبارك بن فضالة وداود الطائي، وفى حديثه إنكار ؛ أخرجه البخاري في كتاب (الضعفاء) فسمعت أبي يقول : يحول من هناك. (الجرح والتعديل 7/45) .
7 - محل بن محرز الكوفي الضبي ----، نا صالح بن أحمد بن محمد بن حنبل حدثنا علي ، يعني ابن المديني قال : سألت يحيى بن سعيد عن محل الضبي ، فقال : كان وسطاً ولم يكن بذاك.
نا محمد بن حمويه بن الحسن قال : سمعت أبا طالب يعني أحمد بن حميد قال : سألت أحمد بن حنبل عن محل ، يعني الضبي، فقال : كان مكفوفاً وكان ثقة.
ذكره أبي عن إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين أنه قال : محل بن محرز صالح.(5/288)
سألت أبي عن محل بن محرز فقال : كان آخر من بقي من ثقات أصحاب إبراهيم، ما بحديثه بأس ، ولا يحتج بحديثه، كان شيخاً مستوراً؛ أدخله البخاري في كتاب (الضعفاء) فسمعت أبي يقول : يحوَّل من هناك. (الجرح والتعديل 8/413) .
8 - يحيى بن واضح أبو تميلة المروزي---- انا علي بن أبي طاهر فيما كتب إلي ، نا أبو بكر الأثرم قال : سمعت أبا عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل سُئل عن أبي تميلة فقال : ليس به بأس ، كتبنا عنه على باب هشيم.
انا أبو بكر بن أبي خيثمة فيما كتب إليَّ قال : سمعت يحيى بن معين يقول : أبو تميلة ثقة .
سمعت أبي يقول : هو ثقة في الحديث ؛ أدخله البخاري في كتاب (الضعفاء) فسمعت أبي يقول : يحوَّل من هناك . (الجرح والتعديل 9/194) .
9 - عبيد الله بن أبي زياد القداح المكي أبو الحصين ----.
نا صالح بن أحمد بن محمد بن حنبل نا علي ، يعني ابن المديني ، قال : سألت يحيى بن سعيد القطان عن عبيد الله بن أبي زياد ، فقال : كان وسطاً، لم يكن بذاك، ثم قال : ليس هو مثل عثمان بن الأسود ولا سيف بن أبي سليمان، قال يحيى : ومحمد بن عمرو أحب إليَّ منه.
انا عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل فيما كتب إليَّ قال : سألت أبي عن عبيد الله بن أبي زياد القداح فقال : صالح، فقلت له : تراه مثل عثمان بن الأسود؟ فقال : لا ، عثمان أعلى .
قرئ على العباس بن محمد الدوري عن يحيى بن معين أنه قال : عبيد الله بن أبي زياد القداح ضعيف ، ليس بينه وبين سعيد القداح نسب.
سألت أبي عن عبد الله بن أبي زياد القداح فقال : ليس بالقوي ولا بالمتين، وهو صالح الحديث ، يكتب حديثه، ومحمد بن عمرو بن علقمة أحب إليَّ منه ، يحول اسمه من كتاب (الضعفاء) الذي صنفه البخاري . (الجرح والتعديل 5/315) .
10 - قطبة بن بن العلاء بن المنهال الغنوي الكوفي أبو سفيان ، روى عن الثوري وأبيه ، ورأى محمد بن سوقة ؛ سمعت أبي يقول ذلك ، وسمع منه أبي ، وروى عنه .(5/289)
سألت أبي عنه فقال : كتبنا عنه ، ما بلغنا إلا خير ؛ قلت له : إن البخاري أدخله في كتاب (الضعفاء) ، قال : ذلك مما تفرد به ؛ قلت : ما حاله ؟ قال : شيخ يكتب حديثه ولا يحتج به .
سألت أبا زرعة عن قطبة بن العلاء ، فقال : يحدث عن سفيان بأحاديث منكرة .
قلت لأبي زرعة : قطبة بن العلاء ويحيى بن اليمان أيهما أحب إليك في الثوري ؟ قال : يحيى أكثر حديثاً ، ومن كان أكثر حديثاً منهما فهو أكثر خطأ) (الجرح والتعديل 7/141-142) .
11 - حريث بن أبي حريث ---- ؛ سمعت أبي وقيل له : إن البخاري أدخل حريث بن أبي حريث في كتاب "الضعفاء" ، فقال : يحول اسمه من هناك ، يُكتب حديثه ولا يحتج به . (الجرح والتعديل 3/263) .
كتبت هذا الكلام الذي كتبته هنا ، ثم ذهبت عقب الكتابة أبحث عما يؤيدني ، أو يخالفني رجاء تحرير ما كتبتُه أو توكيده، فظفرت ببعض المقالات في هذا الموضوع منشورة في الملتقى الالكتروني الشهير (ملتقى أهل الحديث) ، فنقلت أهم ما ورد فيها ، فدونك ذلك.
قال الشيخ طارق بن عوض الله بن محمد في كتابه (النقد البناء لحديث أسماء) (ص 201 - 207) :
(وأما إنكار أبي حاتم الرازي على البخاري إدخاله إياه في (الضعفاء) ، وأمره بأن يحوَّل منه ، فهذا - أيضاً - لا يفيد أكثر من كونه عند أبي حاتم ليس بشديد الضعف ؛ فإن أبا حاتم رحمه الله كأنه يذهب إلى أنه لا يدخل في كتاب يُخصَّص للضعفاء إلا من هو متهالك شديد الضعف جداً ، أما من هو ضعيف في حفظه غير أنه لم يبلغ إلى هذا الحد في الضعف فإنه عنده وإن كان لا يُحتج بما تفرد به ، لا يستحق أن يحشر في كتاب خصص للضعفاء .
هذا الذي تبين لي من تتبع التراجم التي أنكر أبو حاتم على البخاري إدخالها في (الضعفاء) وأمر بأن تحول منه ، فكثيراً ما ينكر على البخاري ، ثم يقول هو في الراوي ما يدل على الضعف-----).
ثم أتى بأمثلة على ذلك.(5/290)
فكتب أحد الفضلاء من كُتّاب (الملتقى) ، وهو الشيخ هشام الحلاف مقالة خالف فيها الشيخَ طارقاً في ما ذهب إليه ، أو في بعضه ، فقال بعد تمهيد ذكره :
(فأما عدد من أنكر [أبو حاتم] إدخالهم(1) فهو ثمانية وثلاثون رجلاً (38) ، وبالرجوع إلى كتاب (الضعفاء) وجدت أن تسعة (9) منهم ليسوا في المطبوع من (الضعفاء) ! ، على أن في المطبوع من (الضعفاء) سقطاً وتحريفاً كما أخبرني أحد الإخوة ممن حقق الكتاب ، ولعل الله ييسر له طباعته قريباً .
والمتأمل لإنكار أبي حاتم الرازي إدخال هؤلاء الرواة ضمن كتاب (الضعفاء) يدرك أن أبا حاتم الرازي فَهم من منهج البخاري في (كتابه) أنه لا يدخل إلا من كان ضعيفاً عنده .
أو بمعنى آخر - لمن لم يدرك المعنى السابق - يُفهم من صنيع أبي حاتم الرازي أنه يرى أن كتاب (الضعفاء) للبخاري ليس على طريقة من ألف في الضعفاء ممن يُدخِلُ كلَّ راوٍ تُكلم فيه ولو بغير حق ، لأنه لو كان كذلك لما صح إنكار أبي حاتم الرازي عليه(2) !
لكن لما كان أبو حاتم الرازي فهم من منهج البخاري أنه لا يذكر إلا من كان ضعيفاً عنده ، أنكر عليه ذلك ، لأنه يرى أن هؤلاء الرواة لا يستحقون من البخاري أن يدخلهم في كتابه(3).
ويبقى بعد ذلك هل يرى أبو حاتم الرازي عدم إدخالهم في (الضعفاء) لأن ضعفهم خفيف ، وأنه(4) لا يُدخل في (الضعفاء) إلا من كان شديد الضعف ؟! أو أن أبا حاتم يرى عدم إدخالهم في (الضعفاء) لأنهم ليسوا بضعفاء وإن كانوا في أدنى درجات التوثيق ؟
__________
(1) أي مِن قِبل البخاري في كتابه (الضعفاء) .
(2) يعني يرى أنه لا يدخل إلا من كان ضعيفاً حقاً ، أي ثبت ضعفه.
(3) قلت: هذا مشكل ، فمن أين عُلم ذلك؟ وكيف يحكم نيابة عن البخاري ؟! .
(4) الضمير هنا يعود على أبي حاتم نفسِه، وليس على البخاري.(5/291)
والذي يظهر لي هو الثاني ، وهو أن أبا حاتم يرى أن هؤلاء الرواة ليسوا بضعفاء ، وإن كانوا في أدنى درجات التوثيق، لأن كون أبي حاتم الرازي ينكر على البخاري إدخال هؤلاء الضعفاء في كتاب (الضعفاء) لأنهم ليسوا بشديدي الضعف لا معنى له ! ؛ فهذا اصطلاح للبخاري ومنهج له في كتابه - إن ثبت - (ولا مشاحة في الاصطلاح)! ؛ لكن إذا قلنا بأن أبا حاتم أنكر إدخالهم في (الضعفاء) لأنهم ليسوا بضعفاء ، كان هذا له معنى مفيد !
ويؤيد ذلك أنَّ بعضَ من أنكر إدخالَهم - كما تبين لي من خلال جمعهم - هم من الثقات ، فلو فُهم أنَّ(1) إنكار أبي حاتم الرازي لإدخال هؤلاء الرواة في (ضعفاء البخاري) لأنهم خفيفو الضعف فكيف نقول في مثل هذه الحالة(2) !
ومما يدل على ذلك أيضاً - وهو أقوى دلالة من السابق - أن العبارات التي أطلقها أبو حاتم الرازي على هؤلاء الرواة(3) هي من عبارات مراتب التعديل (التي ذكرها ابنه : ابن أبي حاتم) على تفاوت بينها ، وليس فيها عبارة من عبارات مراتب الجرح (التي ذكرها ابنه) .
لكن هل كتاب البخاري كذلك ؟! بمعنى هل البخاري لا يدخل في كتابه إلا من كان ضعيفاً عنده ؟
وإذا أردنا الجواب فلا بد من الرجوع إلى كتاب البخاري نفسه .
__________
(1) في الأصل (مِن) بدل (أنَّ) وأنا أصلحتها لتستقيم العبارة على حسب ما يظهر أنه مراد الكاتب .
(2) الظاهر أنه يعني أن هؤلاء الثقات يبعد جداً أن يكونوا عند البخاري ضعفاء جداً.
وأقول : إذا كان يعني حالة الثقات ، فالأمر يسير جداً ، وهو أن يقال إن إنكار أبي حاتم لإدخال هؤلاء الثقات في (الضعفاء) أولى من إنكاره إدخال الضعفاء الذين لم يشتد ضعفهم.
وأما إذا كان المراد بالعبارة شيئاً آخر فإني لم يتيسر لي فهمُه.
(3) هل المراد كل الرواة أم هؤلاء الثقات فقط؟ يظهر أن الثاني هو المراد .(5/292)
والناظر في (الضعفاء) للبخاري يدرك سريعاً [أنه] ليس كل من في (ضعفاء البخاري) هم ضعفاء عنده ، فضلاً أن يكونوا شديدي الضعف ! ، فقد ذكر بعض الصحابة (كما نقل ذلك الشيخ طارق عوض الله) ؛ وذكرَ بعض(1) الرواة لبدعتهم ، بل بعض الرواة وثقهم البخاري نفسه في نفس كتابه (كما في الترجمة رقم 113، 170، 240 وغيرها) !!
فلا يصح بعد ذلك إطلاق القول - كما قاله أحد الفضلاء - أن منهج البخاري هو إيراد الرواة شديدي الضعف عنده ، فإنه وإن كان هذا كثيراً في كتابه ، إلا أن هناك رواة أيضاً كُثُر(2) ليسوا بضعفاء كما تقدم .
وفائدة هذا تظهر في الرواة الذين ذكرهم البخاري في (الضعفاء) ولم يتكلم(3) فيهم بشيء ؟).
ثم قال في مشاركة لاحقة :
(فائدةٌ : تقدم فيما سبق بالدلائل البينات والشواهد الواضحات أن كتاب (الضعفاء) للبخاري ليس كل من كان فيه فهو ضعيف عنده .
وممن رأيته فهم هذا المعنى أيضاً من كتاب البخاري هو الإمام ابن عدي ، فإنه لم يذكر في كتابه (الكامل) كثيراً من الرواة الذين ذكرهم البخاري في (كتابه) ، فلو أنه فهم من ذكر الراوي في (ضعفاء البخاري) تضعيف البخاري له لذكر كل الرواة الذين أوردهم البخاري في "الضعفاء"(4) ، ولم يفعل !) ؛ انتهى كلامه حفظه الله ، والهوامش أنا كتبتها .
__________
(1) في الأصل (كثيراً بعض) بزيادة (كثيراً) ، وهو سبق قلم ، والمراد (كثيراً من الرواة) ، أو (بعض الرواة) ، وهو الذي رجحت أن يكون هو المراد فأثبتُّه .
(2) لعل الأصح (كثراً) بالنصب .
(3) ينظر هل تُضبط بفتح الياء على البناء للمعلوم ، أم بضمها على البناء للمجهول ، والذي يظهر لي الآن هو الأول .
(4) ليس لأنه مقلد للبخاري ، ولكن لأنه اشترط على نفسه أن يذكر في كتابه كل من تكلم فيه ولو بغير حق .(5/293)
وأرى أن المسألة بها حاجة إلى مزيد من الاستقراء التفصيلي والتتبع الكامل ، وهي جديرة بأن تفرد بالتأليف ، بل لعل الأولى أن يؤلف كتاب للمحاكمة بين الإمام البخاري والرازيِّين في كل ما صرحوا فيه بمخالفتهم له أو أشاروا إلى تلك المخالفة ، وأعني بالرازيين أبا زرعة وأبا حاتم وابنه .
يُحيلون عليه :
انظر (سلك الجادة).
يخالف الثقات :
جاء في (تحرير التقريب) للجديع (1/609) في شرح هذه العبارة ما نصه :
(عبارة جَرحٍ مجملةٌ ، إذا عارضت التعديل فإنها تثير شُبهةَ إمكان الشُّذوذ ، وربما أيضاً التفرد .
وابنُ حبان يقول في مواضع فيمن يوردهم في (الثقات) : "يخالف" ، "ربَّما خالف" ، فهي عبارة لا تعني الجَرحَ المسقِطَ ، والثقة قد يخالف ، فتكون روايتُه شاذَّةً إذا كانت المخالفةُ لمن هو أتقن منه ، وإنما يكونُ مجرَّدُ المخالفةِ قادحاً مؤثِّراً في الراوي إذا كان قليلَ الحديث) .
يخالف في بعض الشيء :
ربما تبادر أن معنى هذه العبارة كمعنى عبارة (ثقة له أوهام) ونحوها ، ويظهر أنه ليس الأمر كذلك ، ولعل معناها يُفهم من سياق هذا النقل ؛ قال ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل) (6/118) في عمر بن عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف : (سألت أبي عنه فقال : هو عندي صالح صدوق في الأصل ليس بذلك القوي ، يكتب حديثه ولا يحتج به ، يخالف في بعض الشيء) ؛ وعمر هذا ضعفه شعبة وابن معين وغيرهما .
يخرَّج حديثُه :
انظر (يكتَب حديثُه) .
يخطئ :
هذه الكلمة يصح أن تطلق على من يخطئ غيرَ متعمد ، خطأً كثيراً أو قليلاً ، ولكنها بقلة الخطأ أليق ؛ فإن أطلقت ولم ترد معها قرينة معيِّنةٌ للمعنى المراد بها في ذلك المقام(1) حُملت على أن المراد بها هو الراوي الصدوق الذي يخطئ ، فهذا هو الأصل في معناها ؛ والله أعلم .
يخطئ كثيراً :
انظر (لا يجوز الاحتجاج بخبره إذا انفرد) .
__________
(1) سواء كانت القرينة في اللفظ أو السياق أو خارجَهما.(5/294)
يخطئ ويخالف :
هي مثل (يخطئ) أو أشد منها .
يخطئ ويصيب :
معناها عند الإمام أحمد أن الراوي ضعيف لا يُحتج به ، ويظهر أن هذا هو معناها عند عامة النقاد ؛ قال ابن حجر في (هدي الساري)(1) في ترجمة الحافظ الثقة محمد بن عبيد الطنافسي : (من شيوخ أحمد بن حنبل ، قال : إنه كان صدوقاً ولكن يعلى أخوه أثبت منه ؛ وقال في رواية أخرى : كان يخطئ ويصيب ، وهذا على ما يختار أحمد يكونُ ساقطَ الحديث ، لكن وثقه في رواية الأثرم ، وكذا وثقه ابن معين والعجلي والنسائي وابن سعد وابن عمار وزاد : كان أبصر إخوته بالحديث وكان يعلى أحفظهم ؛ قلت : احتج بمحمد الأئمة كلهم ، ولعل ما أشار إليه أحمد كان في حديث واحد) .
يدخل في الصحيح :
أي يصلح أن يكون من رجال الأحاديث الصحيحة في الجملة ، فهو توثيق لكنه لا يرتقي إلى رتبة التوثيق الصريح التام المطلق ؛ وانظر (لا يدخل في الصحيح) .
يدخل في المسند :
إذا قيل في وصف الحديث : "يدخل في المسند" ، فمعنى ذلك أن صحابيه معدود من جملة الصحابة ، ولو على مذهب بعض المتساهلين في إثبات الصحبة ، فحينئذ لا مانع من إدخال حديثه في مسانيد الصحابة ، وإن كان في ذلك نوع تجوز أحياناً .
كتب بعض الفضلاء في (ملتقى أهل الحديث ) في معرض مناقشته بعض المصنفين المعاصرين :
(قال الشيخ : الظاهر من قول أهل العلم "فلان يدخل في المسند" أنهم يقصدون بذلك إثبات أو ترجيح أن الطالب سمع من الشيخ وروايته عنه متصلة ولقاءه له ثابت كما جاء في "جامع التحصيل" للعلائي - ترجمة زرارة بن أوفى قاضي البصرة ، سئل يحيى القطان : هل سمع زرارة من عبد الله بن سلام؟ قال القطان : "ما أراه ، ولكنه يدخل في المسند ، وقد سمع من عمران بن حصين وأبي هريرة وابن عباس" .
__________
(1) ص463 طبعة عبدالقادر شيبة الحمد .(5/295)
وقال الشيخ أيضاً : لكن أبا حاتم وابنه يقولان هذا اللفظ ويقصدان أن الراوي من جملة الصحابة ، فقد جاء في "الجرح والتعديل" [6/225] - ترجمة عمرو بن الحارث بن المصطلق الخزاعي أخي جويرية : قال ابن أبي حاتم : قلت لأبي : هل له صحبة ؟ قال : يدخل في المسند .
قلت : وهذا كلام غير صحيح ، بل إن الصواب في ذلك أنه لا يلزم من قول أحد في راوٍ "يدخل في المسند" إثبات السماع للراوي ولا عدمه ، فإنهم ينصون على عدم سماع هذا الراوي من شيخه ثم يدخلون حديثه في المسند ، لا لأنه سمع منه ، إنما لأنه اشتهر بالرواية عنه فيدخلون على سبيل المجاز والأدلة على ما قلته كثيرة فمنها :
1- طارق بن شهاب أبو عبد الله البجلي الأحمسي : قال ابن أبي حاتم عن أبيه : ليست له صحبة ، والحديث الذي رواه (أي الجهاد أفضل) مرسل ؛ قلت له : قد أدخلته في "مسند الواحدان" ! ، قال : لِما حُكي من رؤيته النبي صلى الله عليه وآله وسلم . (تهذيب التهذيب2/233) ط الرسالة ؛ فانظر كيف حكم عليه بأنه ليست له صحبة ومع هذا أدخله في المسند على المجاز .
2- قال ابن أبي حاتم : سألت أبي عن عبد الله عكيم ، فقال : ليس له سماع من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، إنما كتب إليه ؛ قلت : أحمد بن سنان أدخله في المسند ! قال : من شاء أدخله في مسنده على المجاز . (المراسيل لابن أبي حاتم ص92 رقم 260) ؛ فانظر كيف أقر غيرَه على إدخاله في المسند مع تصريحه بعدم ثبوت سماعه ، يدل على أن غيره أيضاً ينهج نهجه في ذلك .
3- عيسى يزداد اليماني : قال أبو حاتم : لا يصح حديثه ، وليس لأبيه صحبة ، ومنهم من يدخله في المسند على المجاز ، وهو أبوه مجهولان . (الجرح والتعديل6/291) ؛ وغير هذا كثير .(5/296)
وأما استدلالك بأثر يحيى القطان حيث قال في سماع زرارة من عبد الله بن سلام : "ما أراه ، ولكنه يدخل في المسند" ، فليس فيه دلالة على ما قلتَه ، لا من قريب ولا من بعيد ، بل دلالته على عدم إثباته لعدم سماع زرارة من عبد الله بن سلام أقوى ، حيث قال : ما أراه ، ثم أخبر أنه يدخل في المسند ، لا لثبوت سماعه من ابن سلام ، ولكن يدخل في المسند ، لأنه روى عنه ، على سبيل المجاز ، كما مر نقل مثل هذا عن أبي حاتم رحمه الله ) ؛ انتهى .
والظاهر أن يحيى القطان ما قال "ولكنه يدخل في المسند" لمجرد أنه روى عنه ، ولكن لهذا السبب مضموماً إليه واحد أو أكثر من واحد من الأسباب التالية :
الأول : أن سماع زرارة من ابن سلام رضي الله عنه محتمل وغير مقطوع بعدمه عند يحيى القطان ؛ وقد أثبت القطان سماع زرارة من عمران بن حصين وأبي هريرة وابن عباس ، ابن سلام توفي سنة (43هـ) ، وعمران سنة (52) ، وأبو هريرة سنة (57) ، وابن عباس سنة (68) .
الثاني : أن زرارة إن لم يسمع من ابن سلام رضي الله عنه فيحتمل أن يكون سمع حديثه بواسطة بعض أولئك الصحابة الذين سمع منهم ، وحذف الصحابي الأدنى من سند الحديث لا يمنع من دخول ذلك الحديث في المسند ؛ وانظر (مسنَد) .
يرفعه :
انظر (يبلغ به) .
يركب الأسانيد :
انظر تركيب الأسانيد .
يُروى من غير وجه نحو ذلك :
قال الشيخ الفاضل المحقق أبو محمد شحاتة السكندري حفظه الله في جزء له نُشر في (ملتقى أهل الحديث) باسم (أَوْضَحُ الْمَسَالِكِ بِبَيَانِ مَعْنَى قَوْلِ التِّرْمِذِيِّ «يروى مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ نَحْوُ ذَلِكَ» ) بعد خطبة الجزء ما يلي :
(فَقَدْ ثَبَتَ بِمَا ذَكَرَهُ أبُو عِيسَى التَّرْمِذِي فِي حَدِّ الْحَدِيثِ الْحَسَنِ أَنَّ مِنْ شُرُوطِهِ اللازِمَةِ عِنْدَهُ «أَن يُروى مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ نَحْوُهُ».(5/297)
وَقَدْ كُنْتُ أَحْسِبُ أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ وَاضِحَةً، لا إِشْكَالَ فِي فَهْمِ مَعْنَاهَا، لِمَنْ لَهُ إطِّلاعٌ وَلَوْ يَسِيْرٌ لـ «جَامِعِ التِّرْمِِذِيِّ»، وَأَنَّهَا تَعْنِي عَلَى الْفَوْرِ، وَبِلا أَدْنَى تَفْكِيْرٍ وَلا رَوِيَّةٍ:
تَعَدُّدَ طُرُقِ الْحَدِيثِ، مَهْمَا كَانَ ذَلِكَ التَّعَدُّدُ: عَنِ الصَّحَابِيِّ الرَّاوِي لِلْحَدِيثِ وَهُوَ مَا يُعْرَفُ بَالْمُتَابَعَاتِ، أَوْ عَنْ صَحَابِيٍّ آخَرَ أَوْ أَكْثَرَ وَافَقُوهُ عَلَى لَفْظِهِ أَوْ مَعْنَاهُ، وَهُوَ مَا يُعْرَفُ بِالشَّوَاهِدِ، أَوْ بِعِبَارَةٍ أَوْجَزَ: تَعْنِي تَعَدُّدَ الْمُتَابَعَاتِ وَالشَّوَاهِدِ لِحَدِيثِ الأَصْلِ ؛ حَتَّى طَالَعْتُ كَلامَاً شَاذَّاً عَجِيبَاً، يَقُولُ صَاحِبُهُ: «فَالْحَدِيثُ عِنْدَهُمْ مَتْنٌ وَصَحَابِيٌّ، فَإِذَا رَوَي نَفْسَ هَذَا الْمَتْنِ صَحَابِيٌّ غَيْرُ الأَوَّلِ فَهُمَا حَدِيثَانِ أَوْ طَرِيقَانِ، أَمَّا الأَوْجَهُ فَتَخْتَلِفُ عَنْ ذَلِكَ وَتَكُونُ تَحْتَ صَحَابِيٍّ وَاحِدٍ، وَمَنْ أَرَادَ الاسْتِقْصَاءَ فَجَامِعُ الترمذي بَيْنَ يَدَيْهِ مَطْبُوعٌ وَللهِ الْمَنِّ وَالْفَضْلُ. وَهَذِهِ هِيَ النُّقْطَةُ الَّتِي أُشْكِلَتْ عَلَي بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَظَنَّ أنَّ الْمَقْصُودَ طُرُقَاً لِلْحَدِيثِ يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضَاًً، وَلَيْسَ الأَمْرُ كَذَلِكَ.
فَكَأَنَّ كَلامَهُ - يَعْنِي التِّرْمِذِيَّ - إِنَّمَا يَدُورَ دَائِمَاً عَلَي سَنَدٍ وَاحِدٍ وَلَيْسَ كَمَا ظَنَّ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّهُ يُقَوِّي الأَحَادِيثَ بِبِعْضِهَا وَتَكُونَ فِي دَرَجَةِ الْحَسَنِ».
وَلِتَأْيِيدِ هَذِهِ الدَّعْوَى الْغَرِيبَةِ، أَوْرَدَ مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ «الْعِلَلُ الْكَبِيْرُ»(143) قَالَ:(5/298)
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ ثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ عَلَى الْمِنْبَرِ «وَنَادَوْا يَا مَالِكُ». وَقَوْلَ أَبِي عِيسَى عَنْهُ: «هذا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ».
ثُمَّ عَقَّبَ عَلَيْهِ قَائِلاً: «وَقَدْ اشْتَرَطَ التِّرْمِذِيُّ فِي الْحَدِيثِ الْحَسَنِ أَنْ يروى مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، وَهَذَا مُتَحَقِّقٌ فِي السَّنَدِ مَحْلِ الْبَحْثِ، فَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَمُسَدَّدُ بْنُ مَسَرْهَدٍ، وَعَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِىِّ كُلُّهُمْ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ.
وَبِالنَّظَرِ إِلَي هَذَا الْحَدِيثِ وَأَشْبَاهِهِ بِالتَّحْدِيدِ يَتَبَيِّنُ لَنَا بِالضَّبْطِ مَا الَّذِي يَعْنِيهِ التِّرْمِذِيُّ بِقَوْلِهِ: «وَيُروى مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ» اهـ بِنَصِّهِ.
قَالَ أبُو مُحَمَّدٍ: وَمُفَادُ دَعَوَاهُ أَنَّ الأَوْجَهَ لا تَكُونُ إِلا عَنْ الصَّحَابِِيِّ الرَّاوِي لِلْحَدِيثِ، وَصَرَّحَ بِذَلِكَ قَائِلاً «أَمَّا الأَوْجَهُ فَتَكُونُ تَحْتَ صَحَابِيٍّ وَاحِدٍ» يَقْصَدُ عَنْ صَحَابِيٍّ وَاحِدٍ، وَزَعَمَ أَنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ هُوَ الَّذِي يَعْنِيهِ التِّرْمِذِيُّ بِقَوْلِهِ «وَيروى مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ»، وَلا يَعْنِي سِوَاهُ بِمَرَّةٍ !!.
وَاللهِ لَوْ صَحَّ الَّذِي قَدْ قُلْتَهُ... قُطِعَتْ سَبِيلُ الْعِلْمِ وَالْعِرْفَانِ(5/299)
وَأَظْهَرُ قَوْلٍ عِنْدَنَا لإِبْطَالِ هَذِهِ الدَّعْوَى الْغَرِيبَةِ هُوَ تَفْسِيرُ التِّرْمِذِيِّ نَفْسَهُ لِقَوْلِهِ «وَيروى مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ نَحْوُهُ»، فَهُوَ مُوَضِّحُ مَعْنَاهُ كَمَا هُوَ وَاضِعُهُ كَشَرْطٍ لازَمٍ لِلْحُكْمِ عَلَى حَدِيثٍ مَا بِأَنَّهُ حَدِيثٌ حَسَنٌ.
فَهَذِهِ عُشَّارِيَّةٌ [يعني عشرة أحاديث من سنن الترمذي] دَالَّةٌ عَلَى أنَّ التِّرْمِذِيَّ أَرَادَ بِهَذَا الْقَوْلِ تَعَدُّدَ الطُّرُقِ وَالْمَخَارِجِ عَنِ النَِّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَيْثُ يَقُولُ عَقِبَ كُلِّ حَدِيثٍ: «هذا حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوُ هَذَا».
وَلا يَخْفَاكَ أَنَّ مَعْنَى هَذَا: أَنَّ الْحَدِيثَ يَرْوِيهِ صَحَابِيٌُّ أَوْ أَكْثَرُ غَيْرُ الصَّحَابِيِّ الرَّاوِي لِحَدِيثِ الأَصْلِ، وَهَذَا يَعْنِي تَعَدُّدَ الطُّرُقِ وَالْمَخَارِجِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلا يَعْنِي بِمَرَّةٍ الاقْتِصَارَ عَلَى إِسْنَادِ صَحَابِيٍّ وَاحِدٍ !!.(5/300)
وَمَعَ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى بَيِّنٌ بَيَانَاً لا خَفَاءَ فِيهِ وَلا غُمُوضٍ، فَإِنَّ أبَا عِيسَى كَثِيْرَاً مَا يَقْرِنُ قَوْلَهُ «رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» بِقَوْلِهِ «وَفِي الْبَاب عَنْ: فُلانٍ، وَفُلانٍ» لِنَفَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ يَذْكُرُهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ، كَنَحْوِ قَوْلِهِ تَعْقِيبَاً عَلَى أَوَّلِ هَذِهِ الْعشاريَّةِ: «وَفِي الْبَابِ عَنْ: عَلِيٍّ، وَجَدِّ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفِ بْنِ عَمْرٍو ؛ وَحَدِيثُ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذِ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ». فَعِنْدَئِذٍ تَكُونُ رِوَايَاتُ حَدِيثِ عَلِيٍّ، وَجَدِّ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفِ بِمَعْنَى حَدِيثِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذِ هِيَ مُرَادُهُ مِنْ قَوْلِهِ «رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ».
فَهَذَا وَنَظَائِرُ لَهُ كَثِيْرَةٌ فِي تَعْقِيبَاتِ أبِي عِيسَى عَلَى حِسَانِهِ، وَصِحَاحِ حِسَانِهِ، وَغَرَائِبِ حِسَانِهِ كَالْبَيَانِ الْوَاضِحِ لِمُرَادِهِ وَمَقْصُودِهِ لِمَا اشْتَرَطَهُ فِي الْحَدِيثِ الْحَسَنِ بِقَوْلِهِ «أَن يروى مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ نَحْوُهُ».
وإلَى هَذَا الْمَعْنَى ذَهَبَ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ الْحَنْبَلِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ لِهَذَا الشَّرْطِ، فَقَالَ «شَرْحُ الْعِلَلِ»(1/384):
«وَقوله «أَن يُرْوَى مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ نَحْوُهُ»، يَعْنِي أَنْ يُرْوَى مَعْنَى ذَلِكَ الْحَدِيثِ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغَيْرِ ذَلِكَ الإِسْنَادِ».(5/301)
وَهَاكَ الْعُشَارِيَّةَ الْمُبَيِّنَةَ لِهَذَا الْمَعْنَى بَيَانَاً جَلِيَّاً----) ؛ ثم ذكر أحاديث التِّرْمِذِيُّ (34) و (184) و (2386) و (2736) (1757) و (618) و (1120) و (1263) و (1936) و(3538) .
وختم بقوله :
(وَأَقُولُ: فَفِي هَذِهِ الْعُشَارِيَّةِ وَنَظَائِرَ لَهَا كَثِيْرَةٍ مِنْ تَعْقِيبَاتِ أبِي عِيسَى عَلَى حِسَانِهِ، وَصِحَاحِ حِسَانِهِ، وَغَرَائِبِ حِسَانِهِ بَيَانٌ وَاضِحٌ لِبَعْضِ مَعَانِي قَوْلِهِ «وَأَن يروى مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ نَحْوُهُ»، وَالَّذِي جَعَلَهُ شَرْطَاً لازَمَاً فِي الْحَدِيثِ الْحَسَنِ.
وإلَى هَذَا الْمَعْنَى ذَهَبَ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ الْحَنْبَلِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ لِهَذَا الشَّرْطِ، فَقَالَ «شَرْحُ الْعِلَلِ»(1/384): «وَقوله «أَن يُروى مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ نَحْوُهُ»، يَعْنِي أَنْ يُرْوَى مَعْنَى ذَلِكَ الْحَدِيثِ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغَيْرِ ذَلِكَ الإِسْنَادِ».
عَلَى أَنَنَا نَذَهْبُ فِي تَفْسِيْرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ: «وَأَن يروى مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ نَحْوُهُ» أَبْعَدَ مِنْ ذَلِكَ، وَلا نَقْتَصِرُ بِهَا عَلَى هَذَا الْمَعْنَى الْبَيِّنِ فِي هَذِهِ الْعُشَارِيَّةِ، فَلَسْنَا كَالَّذِي حَجَّرَ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْعُقَلاءِ وَاسِعَاً، فَاقْتَصَرَ عَلَى بَعْضِ مَعَانِيهَا، وَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ لَهَا أَكْثَرَ مِنْ مَعْنَى وَدِلالَةٍ.
بَلْ نَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْمَعْنَى الآنِفِ - أَعْنِي تَعَدُّدَ الطُّرُقِ وَالْمَخَارِجِ - أَحَدُ ثَلاثـ[ـة] مَعَانٍ لِهَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَكُلُّهَا مِنْ مُرَادِ التِّرْمِذِيِّ وَمَقْصُودِهِ).(5/302)
يروي المراسيل :
انظر (روى عنه أهل بلده) .
يروي الموضوعات عن الثقات :
هذه العبارة يكررها كثيراً ابنُ حبان في كتابه (الضعفاء) ، وليس معناها في كل أحوالها نسبةَ ذلك الراوي الذي يصفه بها إلى الوضع أو الكذب ، وإنما هذا أحد ثلاثة احتمالات لهذه العبارة ، وثانيها كثرة الغلط ، وثالثها التدليس عن الكذابين والوضاعين والتالفين ؛ وهذا الاحتمال الثالث هو أضعف الاحتمالات ، ويدل على ذلك أن ابن حبان يقول هذه العبارة في رجال كتابه (المجروحين) لا في رجال كتابه الآخر (الثقات).
هذا ولا يخفى أن التدليس عن الكذابين والوضاعين قد يكون جرحاً في الراوي ، وقد لا يكون ، فالأمر مختلف بحسب اختلاف مقاصد المدلسين وطرائقهم في التدليس ، والقرائن الحافة بعنعنة المدلس .
يرويه :
انظر (يبلغ به) .
يُزَرِّف :
معناها في عرف المحدثين : يَكذب(1) ؛ قال ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل) (2/3/271) : (حدثني أبي نا نصر بن على وسليمان بن معبد المروزي قالا : حدثنا الأصمعي نا قرة بن خالد قال : كانوا يرون أن الكلبي يزرف ، يعنى يكذب) .
يزوِّر الطباق :
انظر (زوّر طبقةً) .
يزيد في الرقم :
قال مسلم في مقدمة (صحيحه) (1/21) : (حدثني أحمد بن إبراهيم الدورقي قال حدثني عبد الرحمن بن مهدي عن حماد بن زيد قال: ذكر أيوب رجلاً يوماً فقال: لم يكن بمستقيم اللسان، وذكر آخر فقال: هو يزيد في الرقم) ؛ قال السخاوي في (الإعلان بالتوبيخ) (ص125) في هذه اللفظة الأخيرة : (وكنى بهذا اللفظ عن الكذب) .
__________
(1) وأما في اللغة فقد جاء في (المعجم الوسيط) : { ( زَرَفَ ) في المشي زَرْفاً: أسرع و[زرف] وثب ، و[زرف] في الكلام: زاد ، و[زرف] الجُرحُ انتقض ونُكس بعد البُرء ----.
( زَرَّف ) : زاد ، يقال: زرَّف في الكلام ، وزرَّف على الخمسين من عمره ، و[زرّفَ] الشيءَ: أرباه ، و[زرّفه] أنفذه}.(5/303)
يُستسقى بحديثه :
هذه العبارة واحدة من عبارات التوثيق النادرة التي استعملها الإمام أحمد ؛ أخرج ابن عساكر في (تاريخ دمشق) (24/121) عن أبي بكر بن أبي الخصيب قال : ذُكر عند أحمد بن حنبل صفوان بن سُليم قال : (هذا رجل يستسقى بحديثه ، وينزل القطر من السماء بذكره ).
ونقل قبله عن أحمد بن محمد بن هاني [هو أبو بكر الأثرم] أنه قال : (قال أبو عبدالله [هو الإمام أحمد] : "صفوان بن سُليم من الثقات" ، فقال من حضرنا أن أبا عبدالله قال : من الثقات ، ممن يُستسقى بحديثه ؛ ولم أحفظ أنا هذا ) (1).
يُستشهَد به :
أي يعتبر به، فقد يتقوى حديثه بالمتابعات ؛ فانظر (يعتبر به).
تنبيه : ليس معنى (يستشهد به) هو اطراد ذلك في كل الحالات كما هو ديدن أكثر المتأخرين في الاستشهاد بالأحاديث الضعيفة، ولكن معناه أنه يصلح للشهادة أحياناً ، فليس متروكاً البتة(2) ؛ ومن كانت كل أحاديثه ثابتة بطرقها وشواهدها فالصحيح أنه ثقة يُحتج به ، ومعنى هذا أن من كان ضعيفاً يستشهد به ثم وجدنا المتأخرين ثبتوا كل أحاديثه بمتابعاتها فمعنى ذلك لا يخلو أن يكون أحد معنيين :
الأول : أن هذا الراوي ثقة كما هو مقتضى صنيع المتأخرين في أحاديثه ، ولكن الأئمة المتقدمين تشددوا فضعفوه أو لينوه .
__________
(1) ونقل هذين الأثرين المزي في (تهذيب الكمال) (13/186) .
(2) وبعبارة أخرى : ليس معنى (يستشهد به) أن كل أحاديثه تتقوى بالمتابعات ، بل معناها أن الأصل فيه أنه صالح للاستشهاد به في الجملة ، ثم بعد ذلك يُنظر في كل حديث وما يتعلق به باستقراء وتدبر.(5/304)
الثاني : أنه ضعيف أو لين ، كما وصفه الأئمة المتقدمون ولكن المتأخرين تساهلوا وانحرفوا في أصولهم النقدية فصححوا أحاديثه بمجموع طرقها ، ومقتضى ذلك - لو تدبروه - أن يكون ذلك الراوي عندهم ثقة خلافاً لما قاله المتقدمون ؛ فهل الثقة إلا من صحت أحاديثه كلها أو باستثناء قدر يسير جداً منها ؛ وهل يعرف النقاد وثاقة الراوي بأكثر وأحسن من مقارنة أحاديثه بأحاديث الثقات فيجدونها موافقة لها؟
إن تصحيح المتأخرين لعامة أحاديث راو ضعيف يستشهد به ، بطرقها ، مع متابعتهم المتقدمين على وصف ذلك الراوي بأنه ضعيف يستشهد به ، أقول : إن ذلك لتناقض ، فكيف يقلدونهم في الحكم على الراوي ثم يخالفونهم في الحكم على عامة أحاديثه، وهو أيضاً تناقض من جهة أخرى ، إذ كيف يكون حكمه أنه ضعيف يستشهد به ثم يحكم على أحاديثه بما يُحكم به على أحاديث الثقات؟
إن هذا لتساهل وتناقض في وقت واحد ، لو تدبروه! والصحيح هو حكم الأئمة المتقدمين بأن ذلك الراوي ضعيف ، ثم الحكم على أحاديثه على طريقة علماء أولئك الأئمة ؛ وحينئد لا بد أن يكون في أحاديثه طائفة من الأحاديث الثابتة ، وطائفة من الأحاديث الضعيفة المردودة ، إذ لولا الطائفة الأولى لما وصفوه بأنه (يُستشهد به) ولولا الطائفة الثانية لما أنزلوه عن مرتبة الثقات إلى مرتبة الضعفاء أو اللينين ؛ وانظر (تقوية الحديث بمجموع طرقه).
يُستضعَف :
قال أبو الحسن المأربي في (إتحاف النبيل) (1/112) : (قولهم "يستضعف" جرحٌ مجمل ، وهو أخف ضعفاً من قولهم "ضعيف") .
يسرق الحديث :
انظر (سرقة الحديث) و(الاتهام بالكذب) .
يُسَوّي :
انظر (يسوّي الإسناد) .
يُسوّي الإسناد :
كلمة (يسوي الإسناد) إذا قيلت في معرض ذم الراوي وتوهينه والحمل عليه فمعناها أنه يغير في الأسانيد ويتصرف فيها ويُظهرها بمظهر الاستقامة وأهلية القبول ؛ وانظر (التسوية).
يصر على الخطأ :
انظر (الإصرار على الخطأ).
يضع :
انظر (الوضع) .(5/305)
يضع الأحاديث :
انظر (وَضْعُ الأحاديثِ) .
يضع الأسانيد :
وضع الأسانيد يعني تركيبها ، فانظر (تركيب الأسانيد) و (سرقة الحديث) و(الاتهام بالكذب) و(تدليس التسوية) .
يضرب المثل بكذبه :
أي بسبب إكثاره منه واشتهاره به .
يعتبر بحديثه :
يقال: (عمرو يعتبر بحديثه) و (يعتبر به) أي يصلح في الشواهد والمتابعات ولا يصلح للاحتجاج(1).
__________
(1) وممن يُكثر من استعمالها مفردةً الإمام الدارقطني ؛ وأحياناً يستعملها مقرونة بما يفسرها أو يزيد معناها وضوحاً؛ فمن ذلك قوله في سعيد بن زياد الشيباني : (لا يحتج به ، ولكن يعتبر به) ، وقوله في عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد : (لا يحتج به ، يعتبر به) ، وقوله في محمد بن إسحاق بن يسار وأبيه : (لا يحتج بهما ، وإنما يعتبر بهما) .
وردت هذه العبارات في (سؤالات البرقاني للدارقطني) (188 و 317 و 422).(5/306)
هذا هو الأصل في استعمالهم هاتين العبارتين ، ولكن كان بعض القدماء من النقاد يقول مثلاً : (زيد يُعتبر حديثه) أو يقول : (يُعتبر بحديثه) ، وهو يريد أنه يُنظر في أحاديثه ليُعرف الأصل في أحكامها ، أي الأصل في مرتبتها، وكذلك يقال: (كتبت أحاديث فلان الكذاب لأعتبر بها) ، أو نحو هذه العبارة ، وقائلها يريد بذلك الاستعانة بها في دراسته لأحاديث الرواة من أقران ذلك الراوي وتلامذته وغيرهم ، والكشف عن أحوالهم ، ولا سيما أهل السرقة والتخليط منهم ؛ ويقال أيضاً (فلان لا يعتبر بحديثه) أي لقلته أو لأن الرواة عنه كلهم ضعفاء أو لأن شيوخه كذلك ، قال ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل) (4/361) (1584) : (شهاب ، روى عن عمرو بن مرة ، روى عنه شعبة ، سمعت أبي يقول ذلك ؛ وسألته عنه فقال : إنما روى حديثاً واحداً ما يعتبر به) ، أي لا يكفي لمعرفة حال راويه شهاب(1) .
وانظر (ضعيف يعتبر به) .
__________
(1) ولكن قال ابن أبي حاتم عقب ذلك أي في الترجمة نفسها : (سئل أبي عن شهاب الذي روى عن عمرو بن مرة فقال : شيخ يرضاه شعبة بروايته عنه يحتاج أن يُسأل عنه) .(5/307)
وقال ابن عدي في (الكامل) (1/243) في ترجمة إبراهيم بن هارون : (حدثنا علي بن أحمد بن سليمان حدثنا أحمد بن سعد بن أبي مريم قال: سمعت يحيى بن معين يقول : إبراهيم بن هارون ليس به بأس ، يكتب حديثه ؛ وقول يحيى بن معين (يكتب حديثه) معناه أنه من جملة الضعفاء الذين يكتب حديثُهم(1) ، ولم أر لإبراهيم بن هارون هذا عندي إلا الشيء اليسير فلم أذكره ها هنا ) ؛ يعني أنه لم يجد له في كتبه أو حفظِه إلا أحاديث يسيرة فلم يكتبها هنا في ترجمته، لأنها بسبب قلتها غير كافية للدلالة الصحيحة على حال الرجل، وإنما يَحكم على الراوي مَن وقف على أكثر أحاديثه ، أو على قدر كافٍ منها ؛ فابن عدي اعتمد في هذا الراوي قول ابن معين دون الاعتماد على دراسة حديثه ، وهو نظير ما فعل أبو حاتم في الاعتماد على رواية شعبة عن شهاب لتقويته دون الاعتماد على ما رواه شهاب ؛ وسيتكرر أصل هذا الكلام تحت كلمة (يُكتب حديثه).
يعتبر به :
انظر (يعتبر بحديثه) فالعبارتان مؤداهما واحد ؛ وانظر (ضعيف يعتبر به) و(لا يعتبر به) و(يستشهد به) و(تقوية الحديث بمجموع طرقه) و(الاعتبار) .
يعتقد الرجعة :
أي يؤمن بأن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه سيرجع إلى الدنيا حياً ، ولا شك أن ذلك ضلال بيِّن ومعتقد في غاية البطلان .
يُعْرَفُ بفلان :
انظر (التفرد) ، وانظر (سلك الجادة).
يُعرَف ويُنكَر :
انظر (تَعرف وتَنكر) .
يُغْرِب :
انظر (ثقة ربما أغرب) .
__________
(1) وذكره الذهبي عن ابن عدي في ترجمة ابراهيم المذكور من (الميزان) (1/33) .(5/308)
يُكتب حديثه :
أي هو ضعيف ؛ فإن قيل : إن الذي يُكتب حديثه نوعان : النوع الأول : من يُكتب حديثه للاحتجاج به ، والنوع الثاني : من يكتب حديثه للاستشهاد به(1) ، فكيف يقال أن من قيل في حقه هذه الكلمة ضعيفٌ؟ كان الجواب أن أصل هذا الاعتراض صحيح ، ولكن (يكتب حديثه) اصطلاحية لها معني عرفي عند المحدثين ، فهو مقدم على المعنى اللغوي لها ، فاقتصار الناقد على هذه اللفظة يُشعر بأنه يريدُ أن ينفي عن الراوي التركَ وهو عدمُ صلاحيتةِ لكتابةِ حديثِه(2) ، فإن تسمحنا ، أو قلنا على سبيل التنزل : إن قائل تلك الكلمة قد يكون متردداً في حال ذلك الراوي : أيصلح للاحتجاج أم للاستشهاد وحده ، فعبر عن حاله بكلمة يكتب حديثه لأنه لم يقدرْ على الجزم بشيء ؛ أقول : إذا كان الأمر كذلك فإنه يتعين على من يستند إلى كلام ذلك الناقد الأخذُ بالأحوط أو المتيقَّن ، وهو أدنى المرتبتبن ، فأمر الرواية مبني على الاحتياط والتثبت .
__________
(1) تكميل : النقاد الأئمة يكتبون أحاديث بعض المشاهير من الكذابين والمتروكين ، لأغراض النقد والدراسة .
(2) وكذلك (اكتبْ حديثه) لا تحمل على مجموع نوعي الكتابة ، بل تحمل على الكتابة للاحتجاج وحدها ؛ فهذه بخلاف تلك ؛ فتأملهما ، والفرق بينهما أن (اكتب حديثه) للإرشاد والحث ، وأما هذه فلبيان أن ذلك الراوي داخل في جملة من يُكتب حديثه فلا مانع من كتابته ؛ وانظر (يكتبُ حديثه).(5/309)
ومما يؤيد تفسير (يكتب حديثه) بما تقدم هو أنها كثيراً ما ترِدُ في كلام النقاد مقرونة بكلمة تضعيف أو تليين ، وتأتي في أحيان قليلة مقرونة بكلمة (صدوق) أو (حسن الحديث) ، ولكن لا تأتي فيما أعلم مقرونة بكلمة توثيق تام أو ثناء عالٍ على ضبط ذلك الراوي ، فلا يقال مثلاً : (هو ثقة يكتب حديثه) أو (يكتب حديثه وهو حجة) ولا نحو ذلك(1).
قال ابن عدي في (الكامل) (1/243) في ترجمة إبراهيم بن هارون : (حدثنا علي بن أحمد بن سليمان حدثنا أحمد بن سعد بن أبي مريم قال: سمعت يحيى بن معين يقول : إبراهيم بن هارون ليس به بأس ، يكتب حديثه ؛ وقول يحيى بن معين (يكتب حديثه) معناه أنه من جملة الضعفاء الذين يكتب حديثُهم(2) ، ولم أر لإبراهيم بن هارون هذا عندي إلا الشيء اليسير فلم أذكره ها هنا ) ؛ يعني أنه لم يجد له في كتبه أو حفظِه إلا أحاديث يسيرة فلم يكتبها هنا في ترجمته، لأنها بسبب قلتها غير كافية للدلالة الصحيحة على حال الرجل، وإنما يحكم على الراوي مَن وقف على أكثر أحاديثه ، أو على قدر كافٍ منها ؛ وانظر (يُعتبر بحديثه) .
هذا ما كنتُ كتبتُه قبلاً، ثم وقفت على (تحرير علوم الحديث) لعبد الله بن يوسف الجديع فوجدته قد قال (1/591-593) في تفسير كلمة (يُكتبُ حديثُه) ما نصُّه :
(تأتي على ثلاثة أحوال :
الأولى : مفردة ؛ فهي عندئذ مشعرة بضعف الراوي لذاته ، وصلاحية حديثه للاعتبار ، على أدنى الدرجات .
__________
(1) وهذا أصل في معرفة معاني اصطلاحات المحدثين ، أعني أن تجمع كل عبارات المحدث النقدية التي قرن فيها تلك الكلمة ، المبحوث عن معناها عنده ، بغيرها ، فحينئذ قد يتيسر للدارس معرفة معنى تلك الكلمة إذا ما أُفردت أي جُردت عن الاقتران بكلمة أخرى .
(2) وذكره الذهبي عن ابن عدي في ترجمة ابراهيم المذكور من (الميزان) (1/33) .(5/310)
قال أبو حاتم الرازي في الوليد بن كثير بن سنان المزَني : " شيخ يكتب حديثه "(1) ، فقال الذهبي : " قول أبي حاتم هذا ليس بصيغة توثيق ، ولا هو بصيغة إهدار "(2) .
والثانية : مضافة إلى لفظ تعديل ، كإضافتها إلى (حسَن الحديث) أو (صدوق) ، فيكون المراد وجوبَ التحري لإثبات سلامة ما رواه من الخطأ والوهم وإثبات كونه محفوظاًَ ، كما بينتُه في (حسن الحديث) .
ومن مثاله : قول أبي حاتم الرازي في إبراهيم بن يوسف بن إسحاق بن أبي إسحاق السَّبيعي : "يكتب حديثه ، وهو حسن الحديث"(3).
وأورد ابن عدي عن يحيى بن معين قولَه في إبراهيم بن هارون الصنعاني : "ليس به بأس ، يكتب حديثه" ، فقال : " معناه : أنه في جملة الضعفاء الذين يكتب حديثهم ، ولم أر لإبراهيم هذا عندي إلا الشيء اليسير ، فلم أذكره ههنا "(4) .
قلت : وهذا منه مؤكِّد أنه لم يأت بمنكر ، وإلا سارع لذكره ، لكنه ليس في محل من يحتج به ، لعدم ظهور ذلك لقلة حديثه(5) .
والثالثة : أن تضاف إلى عبارة تجريح .
فمقتضى العبارة أن ذلك التجريح لا يبلغ بالراوي درجةَ من لا يعتبر به ، فهو في عداد من يصلح حديثه في المتابعات والشواهد ، كقول أبي حاتم الرازي في إسماعيل بن مسلم المكي : "ضعيف الحديث ، ليس بمتروك ، يكتب حديثهُ "(6) .
__________
(1) الجرح والتعديل (4/2/14).
(2) ميزان الاعتدال (4/345).
(3) الجرح والتعديل (1/1/148).
(4) الكامل (1/394).
(5) في هذا التفسير نوع اضطراب ، وأرى أن الصحيح في تفسير هذه العبارة هو أن ابن عدي لم يجد في كتبه وحفظِه ، لهذا الراوي ، إلا أحاديث يسيرة، فلم يكتبها هنا في ترجمته، لأنها بسبب قلتها غير كافية للدلالة الصحيحة على حال الرجل، وإنما يحكُم على الراوي من وقف على أكثر أحاديثه ، أو على قدر كافٍ منها.
(6) الجرح والتعديل (1/1/199)(5/311)
ويشبه هذه العبارة قولهم "يخرَّج حديثُهُ " ، كما قال الدارقطني في عبد الملك بن أبي زهير الطائفي : " شيخ مقل ، ليس بالمشهور ، يخرَّج حديثه "(1) ؛ لا ينبغي أن تتجاوز هذه العبارة الدلالة على أن الراوي يكتب حديثه للاعتبار ، حتى يرتفع أمرُه بوصف تعديلٍ يصير معه إلى الاحتجاج) ؛ انتهى كلامه(2) ، وأزيد عليه ما يلي من نقول تبين معنى (يكتب حديثه) عند أبي حاتم .
قال الذهبي في (السير) (6/360) في ترجمة هشام بن حسّان : (---- وقال أبو حاتم: كان صدوقاً، وكان يتثبت في رفع الأحاديث عن ابن سيرين؛ وقال أيضاً: يكتب حديثه ؛ قلت: قد علمتُ بالاستقراء التام أنَّ أبا حاتم الرازي إذا قال في رجل : " يكتب حديثُهُ " أنه عنده ليس بحجة).
وقال الذهبي في (الميزان) (4/53)(3) في ترجمة العباس بن الفضل العدني : (ت العباس بن الفضل العدني نزيل البصرة عن حماد بن سلمة وغيره ، سمع منه أبو حاتم وقال : شيخ ؛ فقوله "هو شيخ" ليس هو عبارة جرح ، ولهذا لم أذكر في كتابنا أحداً ممن قال فيه ذلك ، ولكنها أيضا ما هي عبارة توثيق ، وبالاستقراء يلوح لك أنه ليس بحجة ؛ ومن ذلك قوله "يكتب حديثه"، أي ليس هو بحجة) .
__________
(1) سؤالات البرقاني (303).
(2) وفي (سؤالات البرقاني للدارقطني) (ص58) (421) : (سألته عن ليث بن أبي سليم فقال : صاحب سنة يخرج حديثه ، ثم قال : إنما أنكروا عليه الجمع بين عطاء وطاووس ومجاهد حسب).
وفيها أيضاً (ص15) (19 و 20) : (سمعته يقول : ---- وإبراهيم بن هراسة : متروك لا يخرج حديثه) .
وفيها (ص77) (607) : (وأبو عتبة سنان عن أبي أمامة : حمصي يخرج حديثه اعتباراً ، لا يعرف اسمه) .
(3) طبعة علي محمد معوَّض ومن شاركه .(5/312)
وقال ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل) (2/1/126) في ترجمة الحكم بن عطية العيشي الذي وثقه ابن معين: (سألت أبي عن الحكم بن عطية ، قال : يكتب حديثه ليس بمنكر الحديث وكان أبو داود يذكره بجميل ؛ حدثنا أبو الوليد عنه ؛ قلت : يحتج به ؟ قال : لا ، من ألف شيخ لا يحتج بواحد ، ليس هو بالمتقن ، هو مثل الحكم بن سنان ) ، وقد قال في ترجمة الحكم بن سنان (2/1/117) : (سمعت أبي يقول : عنده وهم كثير ، وليس بالقوي ، ومحله الصدق ، يكتب حديثه)(1).
وقال ابن أبي حاتم (1/2/7) في ترجمة سعيد بن بشير : (سمعت أبي وأبا زرعة ذكرا سعيد بن بشير فقالا : محله الصدق عندنا ، قلت لهما : يحتج بحديثه ؟ فقالا : يحتج بحديث ابن أبي عروبة والدستوائي ، هذا شيخ يكتب حديثه ، وسمعت أبي ينكر على من أدخله في كتاب الضعفاء(2) وقال : يُحَوَّل منه(3) ).
__________
(1) قد جمع أبو حاتم في جماعة من الرواة بين كلمة (يكتب حديثه) وكلمة (لا يحتج به) ، وقرن بهما أحياناً كلمة (لا بأس به) أو كلمة (صدوق) .
(2) المراد هو الإمام البخاري.
(3) انظر (يحوَّل من كتاب الضعفاء) .(5/313)
لذا فليس كل من قال فيه أبو حاتم : (لا يحتج به) يسقط إلى درجة من قال فيه الجمهور ذلك ، بل ينبغي مقارنة قوله بأقوال أهل النقد فإن وافقوه أُسقط إليها وإلا فلا ؛ فأبو حاتم لا تخلو أحكامه من تشدد يسير أحياناً ؛ قال الذهبي في (سير أعلام النبلاء) في ترجمة أبي حاتم (13/260) : (إذا وثق أبو حاتم رجلاً فتمسك بقوله ، فإنه لا يوثق إلا رجلاً صحيح الحديث ، وإذا لين رجلاً أو قال فيه: (لا يحتج به) فتوقف حتى ترى ما قال غيرُه فيه ، فإن وثقه أحدٌ فلا تَبْنِ على تجريح أبي حاتم فإنه متعنتٌ في الرجال ، قد قال في طائفة من رجال الصحاح : ليس بحجة ، ليس بقوي ، أو نحو ذلك)(1).
وقال الزيلعي في (نصب الراية) (2/439) : (وقول أبي حاتم "لا يحتج به" غير قادح ، فإنه لم يذكر السبب ، وقد تكررت هذه اللفظة منه في رجال كثيرين من أصحاب الصحيح الثقات الأثبات من غير بيان السبب كخالد الحذاء وغيره ، والله أعلم ) ؛ وانظر (يكتب حديثه ولا يحتج به) .
يُكتَبُ حديثُه للاعتبار :
هي بمعنى العبارات الثلاث التي بعدها ؛ فانظرها .
ولكن قد ترِدُ هذه العبارةُ أحياناً بغير هذا المعنى ، تأتي بمعنى أن حديثه يكتب للاستقراء والدراسة ، ولكن الأصل هو المعنى الأول ؛ فانظر (لا يحل كتب حديثه إلا اعتباراً ) ، أو (لا يحل كتب حديثه إلا على سبيل الاعتبار) .
يُكتَبُ حديثُه للاعتبار وينظر فيه :
أي أحاديثه ضعيفة ، ولكن ينظر في كل واحد منها وفي طرقه وشواهده ، ليتبين أيتقوى بها أم لا ؛ وانظر (يكتب حديثه وينظر فيه اعتباراً) ، و(يكتب حديثه) ، و(يعتبر بحديثه) .
__________
(1) قلت : ولكن هذا الكلام - على افتراض سلامته - يتعين أن يكون أغلبياً لا كليأ ، وأن يكون المخالف لأبي حاتم من كبار الأئمة ومعتدليهم ، وأن لا يكون قول أبي حاتم راجحاً بدليل يقوم عليه ، أو قرينة تحفه . ثم تأمل قول الذهبي فإنه قال : إذا ليَّن ، ولم يقل : اذا جرّح، أو كذّب ، أو نحوهما .(5/314)
يُكتبُ حديثه ويُنظر فيه :
انظر (يكتب حديثه وينظر فيه اعتباراً) ، و(يكتب حديثه للاعتبار وينظر فيه) .
يُكتبُ حديثُه وينظر فيه اعتباراً :
هذه عبارة لابن أبي حاتم ، وقد رأيت أن أشرحها في سائر عبارات سياقها ، ليستبين مراده إن شاء الله ، فأقول :
قال ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل) (1/1/37) : (ووجدت الألفاظ في الجرح والتعديل على مراتب شتى:
وإذا قيل للواحد: إنه ثقة أو متقن ثبتٌ ، فهو ممن يحتج بحديثه.
وإذا قيل له: إنه صدوق ، أو محله الصدق ، أو لا بأس به ، فهو ممن يكتب حديثه وينظر فيه وهي المنزلة الثانية.
وإذا قيل: شيخ ، فهو بالمنزلة الثالثة ، يكتب حديثه وينظر فيه، إلا انه دون الثانية.
وإذا قيل: صالح الحديث، فإنه يكتب حديثه للاعتبار.
وإذا أجابوا في الرجل بـ(لين الحديث) فهو ممن يكتب حديثه وينظر فيه اعتباراً.
وإذا قالوا : ليس بقوي فهو بمنزلة الأولى في كِتبة حديثه إلا أنه دونه.
وإذا قالوا: ضعيف الحديث ، فهو دون الثاني ، لا يطرح حديثه ، بل يعتبر به.
وإذا قالوا: متروك الحديث ، أو ذاهب الحديث ، أو كذاب ، فهو ساقط الحديث لا يكتب حديثه، وهي المنزلة الرابعة) ؛ انتهى كلامه .
وتفسيره أنه جعل المنازل أربع:
الأولى: منزلة الثقات رواة الاحاديث الصحيحة، وذكر من ألفاظها (ثقة) و(متقن ثبت).
والثانية: منزلة رواة الاحاديث الحسنة، وذكر من ألفاظها (صدوق) و (محله الصدق) و (لا بأس به).
والثالثة: منزلة الرواة الذين يستشهد بهم ولا يحتج بهم.
وهذه المنزلة الثالثة جعلها خمس درجات، فمن أعلاها درجة (شيخ)، فهي ليست من مراتب الاحتجاج وإن كان ظاهر سياقه قد يُشعر بأنها منها؛ ويليها (صالح الحديث) ، ثم (لين الحديث) ، ثم (ليس بالقوي) ، ثم (ضعيف الحديث).
والمنزلة الرابعة: منزلة متروك الحديث وذاهب الحديث وكذاب.(5/315)
ومقصوده بالنظر الذي ذكره في مرتبة (الصدوق) هو النظر الذي يتبين به صلاحية الحديث للاحتجاج به من عدمها، وهذا بخلاف مقصوده به في مرتبة (لين الحديث)، فإنه هناك يريد النظر المميز بين أهلية الحديث للاستشهاد به من عدمها؛ وإنما لم يقل في حديث الثقة والمتقن الثبت انه ينظر فيه ، وإن كان قد يعتريه الوهم، لأن الوهم في حديث هؤلاء نادر ولا يكاد يطلع عليه إلا علماء العلل والمتبحرون في علم الحديث.
وهذا المعنى الذي بينتُه هنا تنبيه مهم قد يغفل عنه كثير من الطلبة، فيقعون في إشكالات في فهم عبارة أبي محمد ابن أبي حاتم.
قال صاحبا (تحرير التقريب) (1/42): « أما ابن أبي حاتم فجعل الرواة أربعة أصناف ---- »، فذكراها ثم قالا: « فهذا اصطلاح خاص به، ويفهم من لفظة صدوق عنده أنها لا تعني الحديث الحسن بل دونه، وهو الذي يصلح للمتابعات والشواهد ».
أقول: إن كانا فهما هذا من قوله (فهو ممن يكتب حديثه وينظر فيه) ومن كونه لم يصرح هنا بأن هذا ممن يحتج به كما صرح في المرتبة الأولى، فإن هذا الفهم فيه نظر من وجوه:
الأول: أنه يَرِد عليه أن ابن أبي حاتم لم يذكر مرتبة وسطى بين مرتبتي الثقة والصدوق، فعلى فرض أن معنى الصدوق عنده هو ما ذكراه، فإن كلامه حينئذ يحتمل ثلاثة معانٍ :
أولها : أن يكون ابن أبي حاتم قد أغفل مرتبة الحديث الحسن، وهذا لا يصح لأن السياق يأباه .
ثانيها : أن يكون قد أدرج مرتبة الحسن في مرتبة الصحيح وجعلها قسماً منها لا قسيماً لها، وهذا قد يُقبل ، ولكن لا دليل عليه وعبارته تأباه أيضاً ؛ ولا سيما أنه في مقام تقسيم وتأصيل وشرح للاصطلاحات .(5/316)
ثالثها : أن يكون قد اختار للتعبير عن صاحب تلك المرتبة لفظة (لا بأس به) أو لفظة (محله الصدق) دون لفظة (صدوق)؛ وهذا غير صحيح - كسابقيه - لأن قد جمع بين هذه الألفاظ الثلاث في مرتبة واحدة، فهي إن لم تكن متساوية في معناها عنده فإنه لن يكون بينها عنده من الفروق ما يجعلها متباينة في مراتبها، بل لا بد أن تكون على الأقل متقاربة في معانيها مشتركة في مرتبتها وحكمها.
الثاني: أنه يبعد أن يخالف ابن أبي حاتم أباه وأبا زرعة وسائر شيوخه وشيوخهما وجمهور المحدثين في معنى هذه اللفظة الاصطلاحية الشهيرة ، ولا سيما أنه لم يبين ذلك ولا صرح به مع شدة الحاجة إلى البيان والتصريح، إذ أنه - كما هو معروف - جمع كتاباً في الجرح والتعديل عظيماً أحصى فيه ما وقف عليه من أقوال أئمة الجرح والتعديل في الرواة، وقد تكررت كلمة (صدوق) في عباراتهم مئات المرات وهو في أكثر ذلك مقر لها غير مستدرك عليهم فيها، واستعملها هو أيضاً قولاً له في مرات كثيرة جداً بطريقة تشعر بأن معناها عنده هو معناها عندهم بعينه.
الثالث: أن ابن أبي حاتم هنا في هذا التقسيم ناقل لمعاني المصطلحات عند المحدثين لا عنده، كما يظهر جلياً من النظر في سياقه ، فإنه قال : (ووجدت الألفاظ في الجرح والتعديل على مراتب شتى ؛ وإذا قيل للواحد: إنه ثقة ----؛ وإذا قيل له: إنه صدوق ----؛ وإذا أجابوا في الرجل بـ(لين الحديث) فهو ----؛ وإذا قالوا ----) .
ولم يقل : إذا قلت كذا .
الرابع: أن صاحبي (تحرير التقريب) لم يسبقهما إلى هذا القول الغريب الذي قالاه هنا - فيما أعلم - أحد من علماء الحديث.(5/317)
الخامس: أنه يبعد أن يكون معنى كلمة (صدوق) عند ابن أبي حاتم هو الضعف الذي ينجبر بالمتابعات والشواهد ، ثم يعود فيستعملها في ثقات شيوخه بمعنى ثقة مطلقاً كما جاء في تنبيهات صاحبي (التحرير) في مواضع عديدة من كتابهما منها (2/65) ؛ فإن هذا لو وقع من ابن أبي حاتم لكان كالتناقض منه، وهذا ما لا يليق به ولا يُظن وقوعه من مثله، ولا سيما أنه ليس مضطراً إليه، ولو أنه وقع لبينه ولا بد(1).
يكتب حديثه ولا يحتج به :
معناها أنه يستشهد به ولا يحتج به ؛ قال ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل) (1/1/133) في ترجمة إبراهيم بن مهاجر البجلي: (سمعت أبي يقول : إبراهيم بن مهاجر ليس بقوي ، هو وحصين بن عبد الرحمن وعطاء بن السائب قريبٌ بعضُهم مِن بعض ، محلهم عندنا محل الصدق ، يكتب حديثهم ولا يحتج بحديثهم ؛ قلت لأبي : ما معنى لا يحتج بحديثهم ؟ قال : كانوا قوماً لا يحفظون فيحدثون بما لا يحفظون فيغلطون ترى في أحاديثهم اضطراباً ما شئت ) .
__________
(1) وكتب الدكتور وليد العاني رحمه الله في كتابه (منهج دراسة الأسانيد والحكم عليها) (ص154-166) مطلباً في معنى الصدوق عند ابن أبي حاتم الرازي خالف فيه ما ذهب إليه صاحبا (تحرير التقريب)، إذ انتهى في ختامه إلى هذا القول:
(وبعد هذا نخلص إلى نتيجة هذا المبحث، وهو أن الصدوق عند ابن أبي حاتم ليس له حكم واحد، بل هو على مراتب، فمنهم الصدوق الضابط الذي يصحَّح حديثُه، ومنهم الصدوق الذي يهِمُ والغالب عليه الصواب، فهذا يحسن حديثه، ومنهم الصدوق الذي يغلب خطؤه على صوابه، وهذا منه ما يحسن بالمتابع، ومنه ما يلتحق بالضعيف).
كذا قال، فلينظر فيه.(5/318)
قال العلامة المُعلّمي في (التنكيل) (1/238) : (وهذه الكلمة [أي يكتب حديثه ولا يُحتج به] يقولها أبو حاتم فيمن هو عنده صدوق ليس بحافظ ، يحدث بما لا يُتقن حفظَه فيغلط ويضطرب ، كما صرّح بذلك في ترجمة إبراهيم بن مهاجر)(1) .
__________
(1) وهذا هو الصحيح في بيان معنى هذه الكلمة في استعمال أبي حاتم ، وهو خير وأقرب مما قاله الضياء المقدسي وابن القطان الفاسيُّ وأقرهما ، أو كاد أن يُقرهما عبد الله بن يوسف الجديع إذ قال في (تحرير علوم الحديث) (1/593-595) : (قولهم "لا يحتج به" عبارة إنما يتبادر من لفظها أنها جرح ، مع أنها قد تطلق على راو صالح الأمر يعتبر بحديثه في المتابعات والشواهد ، ولا يحتج به ؛ وهي جرح مبهم ، فإذا لم يوجد تفسير مؤثر لسببها ، فالأصل : أن لا عبرة بها إذا عارضت التعديل من أهله ، إلا مراعاة معنى استثنائي يأتي التنبيه عليه ؛ قال الضياء المقدسي في شريح بن النعمان الصائدي بعد أن ذكر قول أبي إسحاق السبيعي فيه "وكان رجل صدقٍ" : " وقال أبو حاتم : لا يحتج به ، وكذا عادة أبي حاتم يقول في غير واحد ممن روى له أصحاب الصحيح : لا يحتج به ، ولا يبين الجرح ، فلا نقبل إلا ببيان الجرح ". [الأحاديث المختارة 2/114].
وكذلك قال أبو الحسن ابن القطان الفاسيُّ راداً قول أبي حاتم في بهز بن حكيم : " وقول أبي حاتم : لا يحتج به ، لا ينبغي أن يُقبل منه إلا بحجة ". [بيان الوهم والإيهام 5/566].
كما قال رداً لقول أبي حاتم في أيوب أبي العلاء : " وقول أبي حاتم فيه (لا يحتج به) ، لا يلتفت إليه إذا لم يفسره ، كسائر الجرح المجمل ". [بيان الوهم والإيهام 5/402].
قلت : لكن بيَّن أبو حاتم مراده باستعمال هذه العبارة ، بما يزيح عنها بعضَ الإجمال ، فإنه قال : " إبراهيم بن مهاجر ليس بقوي ----).
[فذكر الأثر السابق، ثم قال:] (قلت : فهذا البيان يورد شبهة في حديث من وُصف بها ، فإن عارضها التعديل ، فمعَ قولنا ( هي جرح مجمل ) ، إلا أن هذا البيان من أبي حاتم يوجب تحوطاً في الاحتجاج بحديث مَن وُصف بها حتى تزول الشبهة ، وذلك بتحقق سلامة حديثه المعين من الخطأ ، شأن ما يشترط لقبول حديث الصدوق ، أو بتفرده بإطلاقها دون سائر النقاد ، وقد عرف بالتشدد.
وفي معناها قولهم في الراوي "ليس بحجة ") ؛ انتهى كلامه.(5/319)
أقول : ولكن لا بد من مراعاة أن بعض الأئمة كان شرطه في الاحتجاج في الراوي يكون أحياناً أشد من شرط غيره ؛ قال شيخ الاسلام ابن تيمية : (وأما قول أبي حاتم "يكتب حديثه ولا يحتج به"، فأبو حاتم يقول مثل هذا في كثير من رجال الصحيحين، وذلك أن شرطه في التعديل صعب؛ والحجة في اصطلاحه ليس هو الحجة في اصطلاح جمهور أهل العلم) ؛ جاء ذلك في ثنايا كلام له طويل مفيد في مناهج بعض النقاد ومنازلهم واصطلاحاتهم وقواعد نقد الأحاديث والرواة، ولما كان هذا شأنَه رأيت أن أنقله في هامش هذا الموضع، فدونكه(1) ؛ وانظر (يكتب حديثه) .
__________
(1) قال شيخ الاسلام ابن تيمية في (مجموع الفتاوى) (24/349-352) في معرض كلامه على حديثين من الأحاديث : (فإن قيل : الحديث الأول رواه عمر بن أبي سلمة وقد قال فيه علي بن المديني: تركه شعبة وليس بذاك؛ وقال ابن سعد : كان كثير الحديث وليس يُحتج بحديثه ؛ قال السعدي [يعني الجوزجاني] والنسائي : ليس بقوي الحديث .
والثاني فيه أبو صالح باذام مولى أم هانىء وقد ضعفوه ؛ قال أحمد : كان ابن مهدي ترك حديث أبي صالح ؛ قال أبو حاتم : يكتب حديثه ولا يُحتج به ؛ وقال ابن عدي : عامة ما يرويه تفسير وما أقل ما له في المسند ، ولم أعلم أحداً من المتقدمين رضيه ؟
قلت: الجواب على هذا من وجوه :
أحدها: أن يقال : كل من الرجلين قد عدله طائفة من العلماء كما جرحه آخرون .
أما عمر فقد قال فيه أحمد بن عبد الله العجلي : ليس به بأس ، وكذلك قال يحيى بن معين : ليس به بأس ؛ وابن معين وأبو حاتم من أصعب الناس تزكيةً ؛ [ قلتُ : الحقُّ أن ابن معين كان يتشدد في مواضع دون غيرها ، وكانت مواضع تشدده يسيرة في الجملة ؛ وهو لم يكن متشدداً في أحكامه على المتقدمين من الرواة ].
وأما قول من قال : تركه شعبة ، فمعناه أنه لم يرو عنه ، كما قال أحمد بن حنبل : لم يسمع شعبة من عمر بن أبي سلمة شيئاً ؛ وشعبة ويحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي ومالك ونحوهم قد كانوا يتركون الحديث عن أناس لنوع شبهة بلغتهم لا توجب رد أخبارهم؛ فهم إذا رووا عن شخص كانت روايتهم تعديلاً له [ قلت : هكذا قال شيخ الاسلام رحمه الله تعالى ، والتحقيق أن هذا ليس على إطلاقه، كما أوضحته بدلائله في غير هذا الموضع] .
وأما ترك الرواية فقد يكون لشبهة لا توجب الجرح ، وهذا معروف في غير واحد قد خُرِّج له في (الصحيح).
وكذلك قول من قال "ليس بقوي في الحديث" عبارة لينة تقتضي أنه ربما كان في حفظه بعض التغير؛ ومثل هذه العبارة لا تقتضي عندهم تعمد الكذب ولا مبالغة في الغلط.
وأما أبو صالح فقد قال يحيى بن سعيد القطان: لم أر أحداً من أصحابنا ترك أبا صالح مولى أم هانئ ، وما سمعت أحداً من الناس يقول فيه شيئاً، ولم يتركه شعبة ولا زائدة ، فهذه رواية شعبة عنه تعديل له كما عُرف من عادة شعبة ؛ وتركُ ابن مهدي له لا يعارض ذلك ، فإن يحيى بن سعيد أعلم بالعلل والرجال من ابن مهدي، فإن أهل الحديث متفقون على أن شعبة ويحيى بن سعيد أعلم بالرجال من ابن مهدى وأمثاله.
وأما قول أبي حاتم "يكتب حديثه ولا يحتج به " فأبو حاتم يقول مثل هذا في كثير من رجال الصحيحين، وذلك أن شرطه في التعديل صعب؛ والحجة في اصطلاحه ليس هو الحجة في اصطلاح جمهور أهل العلم.
وهذا كقول من قال : "لا أعلم أنهم رضوه "؛ وهذا يقتضي أنه ليس عندهم من الطبقة العالية ؛ ولهذا لم يخرج البخاري ومسلم له ولأمثاله ؛ لكن مجرد عدم تخريجهما للشخص لا يوجب رد حديثه .
وإذا كان كذلك فيقال: إذا كان الجارح والمعدل من الأئمة لم يُقبل الجرح إلا مفسَّراً، فيكون التعديل مقدماً على الجرح المطلق .
الوجه الثاني: أن حديث مثل هؤلاء يدخل في الحسن الذي يُحتج به جمهور العلماء ، فإذا صححه من صححه كالترمذي وغيره ولم يكن فيه من الجرح إلا ما ذكر كان أقل أحواله أن يكون من الحسن .
الوجه الثالث : أن يقال : قد رُوي من وجهين مختلفين أحدهما عن ابن عباس ، والآخر عن أبي هريرة ، ورجال هذا ليس رجال هذا ، فلم يأخذه أحدهما عن الآخر ، وليس في الإسنادين من يتهم بالكذب وإنما التضعيف من جهة سوء الحفظ ؛ ومثل هذا حجة بلا ريب ؛ وهذا من أجود الحسن الذى شرَطَه الترمذيُّ، فإنه جعل الحسن ما تعددت طرقه ولم يكن فيها متهم ولم يكن شاذاً أي مخالفاً لما ثبت بنقل الثقات ، وهذا الحديث تعددت طرقه وليس فيه متهم ولا خالفه أحد من الثقات ، وذلك أن الحديث إنما يُخاف فيه من شيئين: إما تعمد الكذب ، وإما خطأ الراوي، فإذا كان من وجهين لم يأخذه أحدهما عن الآخر وليس مما جرت العادة بأن يتفق تساوي الكذب فيه عُلم أنه ليس بكذب ، لا سيما إذا كان الرواة ليسوا من أهل الكذب .
وأما الخطأ فإنه مع التعدد يضعف [ أي يضعف احتمالُه ] ، ولهذ كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما يطلبان مع المحدث الواحد من يوافقه خشية الغلط ؛ ولهذا قال تعالى في المرأتين: {أن تضلَّ إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى}.
هذا لو كان عن صاحب واحد فكيف وهذا قد رواه عن صاحب وذلك عن آخر ، وفى لفظ أحدهما زيادة على لفظ الآخر .
فهذا كله ونحوه مما يبين أن الحديث في الأصل معروف----) .(5/320)
يكتبُ حديثه وهو حسن الحديث :
انظر (يكتبُ حديثه) و(حسن الحديث).
يكذب :
انظر (الكذب) وأواخر الكلام على كلمة (صدوق).
ينبغي لك أن تكبر عليه :
قال البرذعي في (سؤالاته) (ص579) : (ذكرت لأبي زرعة عن مسدد عن محمد بن حمران عن سلم بن عبد الرحمن عن سوادة بن الربيع : "الخيل معقود في نواصيها..." ؛ فقال لي : راوي هذا كان ينبغي لك أن تكبر عليه ؛ ليس هذا من حديث مسدد كتبت عن مسدد أكثر من سبعة آلاف وأكثر من ثمانية آلاف وأكثر من تسعة آلاف ، ما سمعته قط ذكر محمد بن حمران ؛ قلت له : روى هذا الحديث يحيى بن عبدك عن مسدد فقال : يحيى صدوق وليس هذا من حديث مسدد ؛ فكتبت إلى يحيى فكتب إلي : لا جزى الله الوراق عني خيراً ، أدخل لي أحاديث المعلى بن أسد في أحاديث مسدد ولم أميزها منذ عشرين سنة ، حتى ورد كتابك وأنا أرجع عنه ؛ فقرأت كتابه على أبي زرعة فقال : هذا كتاب أهل الصدق).
يُنسَبُ إلى الوضع :
أي يوصف بأنه يضع الأحاديث ويختلقها .
ينفرد بأشياء مناكير لا تشبه حديث الثقات فبطل الاحتجاج به فيما وافقهم من الروايات :
هذه من عبارات ابن حبان في كتابه (المجروحين) قالها أو قال نحوها في جماعة من الرواة ، مثل مخلد بن عبد الواحد أبي الهذيل ، فقد قال فيه ما نصه :
(من أهل البصرة ، يروي عن البصريين : علي بن زيد بن جدعان ، وغيره ، روى عنه المكي بن إبراهيم والناس ، منكر الحديث جداً ، ينفرد بأشياء مناكير لا تشبه حديث الثقات ، فبطل الاحتجاج به فيما وافقهم من الروايات) .
يريد أنه تالف متروك ، روى أحاديث منكرة جداً مخالفة للأصول ، فصار غير صالح للاستشهاد به ، أي فيما يرويه من الأحاديث غير المنكرة من جهة معانيها ؛ فهذا النوع من الأحاديث هو المراد بموافقته للثقات ، وليس المراد المتابعة أو الشواهد .
ينميه :
انظر (يبلغ به) .
يَهِمُ كثيراً :
أي يخطئ كثيراً ، فهو ضعيف .(5/321)
يهم كثيراً ، وهو حسن الحديث :
حكى البرذعي أيضاً في (سؤالاته) (2/368) عن أبي زرعة ، أنه قال : (زياد البكائي ، يهم كثيراً ، وهو حسن الحديث).
قال الشيخ طارق عوض الله في (الإرشادات) (ص144) : (ومن يهم كثيراً ، فهو ضعيف) .
قلت : العبارة المذكورة تحتمل أكثر من معنى، ولكن أقرب معانيها هذا المعنى الذي بينه الشيخ طارق ، أعني وصْف الراوي بالضعف .
يهوي :
انظر (حديثه يهوي) .
يؤدي :
انظر (يؤدي ما سمع ) ، أو (مؤدي) .
يؤدي اللفظ :
أي يروي الحديث بلفظه ؛ قال عبد الله بن أحمد: قلت له [يعني لأبيه]: أيما أثبت أصحاب الزهري؟ فقال: لكل واحد منهم علة، إلا أن يونس وعقيلاً يؤديان الألفاظ----).
يؤدّي ما سمع :
انظر (مؤدّي) .
تم أصل الكتاب بفضل الله وتوفيقه ، فأسأله وهو خير مسؤول وأكرم مدعوٍّ وأرحم مرجوٍّ أن يتقبله مني وأن يغفر لي ما خالطني فيه من مقاصد غير مشروعة أو تصرفات غير محمودة ، وأن يتجاوز عن تقصيري وجرأتي ودخولي فيما لا أُحسن ، وأن يكتب له القبول وأن ينفع به أمتي وينصر به سنة نبيي محمد صلى الله عليه وسلم ، إنه لا يعجزه شيء والله ذو الفضل العظيم .
وأنبه في الختام إلى أن هذا ليس بآخر الممكن في هذا الباب ، فاصطلاحات المحدثين أكثر من هذا بكثير ، وأكثر ما فاتني إنما هو من كتب الرجال وتواريخ المحدثين ولا سيما المتأخرة منها ، فلأصحابها فيها اصطلاحات وعبارات نحتاج في هذا العصر إلى جمعها وفك رموزها وبيان مقاصدها ، وعسى الله أن يوفق إلى ذلك العمل من ينجزه .(5/322)
وأيضاً كتابي هذا يُعوزه الاستدراك عليه في شرح ما ذكرتُه من اصطلاحات وعبارات ، فكم من تعريف كتبتُه وغيره خير منه ، وكم من فائدة أو مسألة نقلتُها من مصدر وهي في مصدر أعلى منه ، وكم من نص نقلته وهو عن عالم وهو في الأصل لغيره ممن هو أقدم طبقة منه ، وكم من كتابٍ اعتمدتُه وقد وُجد مطبوعاً طبعة أصح من طبعتي ، وعذري في كل ذلك أني اجتهدت في عملي هذا إلى حد أراه كافياً في عذري ، ومن الله التوفيق ، وآخر كلامنا حمد الله تعالى وتعظيمه .(5/323)