قلت : أخشى أن يكون المراد هنا بكلمة (ثقة) إثبات العدالة المنافية للكذب والاتهام ، مع إثبات أدنى درجات التوثيق ؛ يقوي ذلك أنه عطف عليه قوله (وليس بحجة) ، أي ليس هو ممن يحتج به ؛ وليس من المتبادر أن ابن معين أراد أن ينفي عن ابن اسحاق كونه من كبار الحفاظ الأثبات المتقنين فإن ذلك النفي معلوم مشهور وليس بابن معين ولا بطلاب العلم يومئذ حاجة إلى التصريح به ، قال الذهبي في (تذكرة الحفاظ) (1/173) في محمد بن إسحاق : (وكان أحد أوعية العلم ، حَبراً في معرفة المغازي والسير ، وليس بذاك المتقن فانحط حديثه عن رتبة الصحة ، وهو صدوق في نفسه مرضي ، قال يحيى بن معين : قد سمع من أبي سلمة بن عبد الرحمن وأبان بن عثمان ، وقال : هو ثقة وليس بحجة----) ؛ وقال في (من تُكلم فيه وهو موثق) (ص159) (293) : (محمد بن إسحاق بن يسار على صدوق قال ابن معين ثقة وليس بحجة).
فالظاهر أن مقتضى صنيع الذهبي أنه فهم من كلمة (ثقة) في عبارة ابن معين إثبات العدالة مع شيء من حفظٍ لا ينزل به الراوي إلى درجة المتروكين والضعفاء ؛ ولكن يعكّر على هذا أنه قد ورد النقل عن ابن معين بسياق آخر يشعر بأن المراد بكلمة ثقة وحجة معناهما الاصطلاحي .
فقد قال أبو زرعة الدمشقي في (تاريخه) (1/460-461) - وأخرجه عنه الخطيب في (تاريخه) (1/232) - : (قلت ليحيى بن معين ، وذكرت له الحجة ، فقلت له : محمد بن إسحاق منهم ؟ فقال : كان ثقة ، إنما الحجة عبيد الله بن عمر ، ومالك بن أنس ، والأوزاعي ، وسعيد بن عبد العزيز).
وقال أبو زرعة أيضاً (1/462) : (فقلت ليحيى بن معين : فلو قال رجل : إن محمد بن إسحاق كان حجة ، كان مصيباً ؟ قال : (لا ، ولكنه كان ثقة).(3/80)
وقال المنذري في (رسالته في الجرح والتعديل) التي شرح فيها بعض اصطلاحات المحدثين (ص31) : (وقول يحيى بن معين في محمد بن إسحاق "ثقة وليس بحجة" يُشبه أن يكون هذا رأيه في أن الثقة دون الحجة ، وهو خلاف المحكي عنهم في ذلك).
قال عبد الله بن يوسف الجديع في (التحرير) (1/569) : (وهذه العبارات وشبهها من هؤلاء الأعلام أرادوا بها الحجة الذي يكون حكماً على غيره فيما يرويه ، ينازع الرواة إلى روايته ، ولا ينازع هو إلى غيره ، لكونه قد تجاوز في الحفظ والإتقان أن يكون محكوماً عليه ، أو أرادوا من يليق إطلاق القول : " هو ثقة " ، أو " هو حجة " دون تحفظ .
وإلا فإنهم احتجوا بروايات الثقات المقلين ، وبالثقات الذين قورنوا هنا ببعض كبار المتقنين ، بل واحتجوا بحديث الصدوق لكن بعد عرضه على المحفوظ من حديث الثقات)(1) .
وانظر (يُكتب حديثه ولا يحتج به) .
حدّث :
هذه صيغة أداء محتملة للسماع وعدمه.
حدّث فلان وآخر :
كان بعض أئمة الحديث عندما يرِدُ في تضاعيف الإسناد راويان مقرونان أحدهما ثقة والآخر مجروح ربما يُسقط اسم المجروح من الإسناد ويذكر الثقة ثم يقول : (وآخر) كناية عن المجروح ؛ وإليك شرح ذلك الصنيع وبيان حقيقته ودلالاته .
ذكر الشوكاني في (الفوائد المجموعة) (رقم 33) حديث (إن لقيتم عشارًا فاقتلوه) ، ثم قال في تخريجه :
( هو موضوع ؛ قال [السيوطي] في (اللآلئ) : أخرجه أحمد ، وفيه ابن لهيعة ذاهب الحديث ؛ وقال في (الوجيز) : في إسناده مجاهيل ، وأخرجه البخاري في (تاريخه) والطبراني .
وابن لهيعة أخرج له مسلم ، وسائرُ رجاله معرفون ؛ قال السيوطي : والصواب أنه حسن ----) .
__________
(1) وأما الفقهاء وكثير من العلماء من غير أئمة الحديث فإنهم قد يطلقون وصف الحجة على الراوي الثقة وإن لم يكن من أصحاب أعلى المراتب في التوثيق؛ لأنَّ هؤلاء يريدون بالحجة من يُحتج به عندهم ، أي على طريقتهم، وهم يحتجون بكل ثقة.(3/81)
فقال العلامة المعلمي متعقباً إطلاق السيوطي نسبة الإمام مسلم إلى الرواية عن ابن لهيعة :
(هذا إطلاق منكر ، إنما وقع لمسلم في إسناد خبرين عن ابن وهب "أخبرني عن [كذا] عمرو بن الحارث ، وابن لهيعة " ، سمع مسلم الخبر هكذا ، فحكاه على وجهه ، واعتماده على عمرو بن الحارث ، فإنه ثقة ؛ ويقع للبخاري ، والنسائي نحو هذا فيكنيان عن ابن لهيعة ، يقول البخاري : "وآخر" ، ويقول النسائي : "وذكر آخر" ؛ ورأى مسلم أنه لا موجب للكناية ، مع أن ابن لهيعة لم يكن يتعمد الكذب ، ولكن كان يدلس ، ثم احترقت كتبه وصار من أراد جمَعَ أحاديثَ على أنها من رواية ابن لهيعة ، فيقرأ عليه ، وقد يكون فيها ما ليس من حديثه ، وما هو في الأصل من حديثه لكن وقع فيه تغيير ، فيقرأ ذلك عليه ، ولا يرد من ذلك شيئاً ، ويذهبون يروون عنه ، وقد عوتب في ذلك فقال : "ما أصنع ؟ يجيئونني بكتاب فيقولون : هذا من حديثك فأحدثهم" ؛ نعم إذا كان الراوي عنه ابن المبارك أو ابن وهب وصرح مع ذلك بالسماع فهو صالح في الجملة ، وليس هذا من ذاك ، فأما ما كان من رواية غيرهما ولم يصرح فيه بالسماع وكان منكراً فلا يمتنع الحكم بوضعه ) ؛ انتهى .
وعقد الخطيب في (الكفاية) (ص378) باباً أسماه (باب في المحدث يروي حديثاً عن الرجلين أحدهما مجروح هل يجوز للطالب أن يسقط اسم المجروح ويقتصر على حمل الحديث عن الثقة وحده؟)، فقال فيه :
(ولا يستحب للطالب أن يسقط اسم المجروح ويجعل الحديث عن الثقة وحده، خوفاً من أن يكون في حديث المجروح ما ليس في حديث الثقة؛ وربما كان الراوي قد أدخل أحد اللفظين في الآخر أو حمله عليه).(3/82)
ثم قال : (وكان مسلم بن الحجاج في مثل هذا ربما يسقط المجروح من الإسناد ويذكر الثقة ، ثم يقول : "وآخر" ، كنايةً عن المجروح ؛ وهذا القول لا فائدة فيه ، لأنه إن كان ذكر الآخر لأجل ما اعتللنا به [يعني عدم جواز إسقاط اسم المجروح] فإن خبر المجهول لا يتعلق به الأحكام ، وإثبات ذكرِه [أي بلفظة "وآخر"] وإسقاطه سواء، إذ ليس بمعروف ؛ وان كان عوَّل على معرفته هو به فلِمَ ذكره بالكناية عنه وليس بمحل الأمانة عنده؟ ولا أحسب إلا استجاز إسقاط ذكره والاقتصار على الثقة لأن الظاهر اتفاق الروايتين على أن لفظ الحديث غير مختلف واحتاط مع ذلك بذكر الكناية عنه مع الثقة تورعاً ، وإن كان لا حاجة إليه، والله أعلم). انتهى كلام الخطيب رحمه الله .
قلت : أظن مسلماً لم يكن يفعل ذلك في طبقة شيوخه، ولكن في الطبقات الأخرى، وممن كان يكني عنه بالصيغة السابقة (ابن لهيعة) ، كما تقدم في كلام العلامة المعلمي ؛ وهذا من حسن صنيع مسلم وكمال أمانته، فإنه لم يستحسن حذفه فيغير سياق الرواية تغييراً كبيراً وقد يكون ضاراً، ولم يستحسن ذكره صريحاً فيظن ظان أنه يحتج به أو يستشهد به؛ وهو إنما علم أن اللفظ للثقة الذي سماه فسماه وذكر المقرون به، بالكناية عنه، فحقق المقصود واحترز مما يحذر.
وليس هذا تدليساً، لأنه لا إيهام فيه؛ ومسلم مشهور بتدقيقه في الألفاظ وتمييزه الاختلاف الواقع بين روايات الحديث الواحد عندما يجمعها في سياق واحد.(3/83)
وأقول تكميلاً لكلام الخطيب : ومما هو أدعى إلى عدم الإسقاط أن يكون الثقة مدلساً وقد عنعن ، ففي هذه الحالة يقوم الاحتمال على أنه قد سمعه من ذلك المجروح فدلسه، فسمع كلاً من روايتيهما أحد تلامذتهما ، ثم عند أدائه لهما رواهما عنهما جميعاً ، قارناً بينهما ، أعني بين شيخيه هذين ، في سياق واحد ، وصار الأمر بحسب الظاهر أن أحدهما يتابع الآخر ، وهو خلاف الحقيقة ، إذ مدار الحديث في الحقيقة على ذلك الراوي الضعيف ، وأما الثقة فرواه عنه تدليساً .
ولا يكفي في رد هذا الإيراد أو دفع هذا الاحتمال أن يقال : إن ذلك المدلس سوف يرويه بالعنعنة ، ولا بد ، لأن الفرض أنه ثقة فلا مجال للتصريح بالسماع ممن لم يسمعه منه ، وإلا لعُدَّ كاذباً كما هو معلوم ، وحينئذ فعنعنة المدلس كافية لتضعيف روايته ؛ وإنما أقول لا يكفي ذلك لأن كثيراً من الناس يجبر عنعنة المدلس بمتابعة غيره ، وبعض الرواة يقلب صيغة العنعنة إلى صيغة تصريح بالسماع ، وقد يكون ذلك المدلس قليل التدليس ، أو يكون مَن فوقه : أحد الذين لازمهم طويلاً فتُمشّى عنعنته عنه ، وثَمَّ محاذير أخرى .
حدثكم فلان :
إذا قرأ الطالب على شيخه شيئاً من أحاديث ذلك الشيخ ، فإن عادتهم في ذلك أن يقلب الطالب صيغة أداء شيخه في أول كل حديث من أحاديثه ، فيسندها إلى المخاطب ، أعني لا يقول في أول كل حديث كما قال شيخه (حدثني فلان) أو (أخبرني فلان) أو (أخبرنا فلان) أو نحو ذلك ؛ وإنما يقول في هذه الصيغ الابتدائية - دون غيرها من الصيغ التي بعدها - : (حدثكم فلان) ، (أخبركم فلان) ، يعني شيخ الشيخ ، ثم يسوق بقية السند كما هو في حفظه أو في الكتاب الذي بين يديه .
وانظر (حدثنا) .
حدثنا :
انظر (صيغ الأداء) .
حدثنا أبو الزبير وأبو الزبير أبو الزبير :
انظر (وفلان فلان) .
حدثنا زيدٌ وعمرو المعنى :
انظر (المعنى) و (حدثنا زيدٌ وعمرو واللفظ لعمرو) .(3/84)
حدثنا زيدٌ وعمرو ، قال زيدٌ : حدثنا فلان :
إذا ذكر المحدثُ في روايته لحديثٍ من أحاديثه اثنين من شيوخه ، ثم أعاد ذكر واحد منهما وحده ، وساق بقية السند والمتن ، فمعنى ذلك أن اللفظ لذلك الشيخ الذي ذكره ، دون قرينه ؛ وممن كان يفعل ذلك الإمام أبو الحسين مسلم بن الحجاج في (صحيحه) ؛ فانظر (حدثنا زيدٌ وعمرو واللفظ لعمرو) .
حدثنا زيدٌ وعمرو واللفظ لعمرو :
قال ابنُ الصلاح في (معرفة أنواع علوم الحديث) (ص200-203) في تفريعه على النوع السادس والعشرين: ( الحادي عشر : إذا كان الحديث عند الراوي عن اثنين أو أكثر، وبين روايتهما تفاوت في اللفظ، والمعنى واحد، كان له أن يجمع بينهما في الإسناد، ثم يسوق الحديث على لفظ أحدهما خاصة، ويقول : ( أخبرنا فلان وفلان ، واللفظ لفلان)، أو : (وهذا لفظ فلان، قال ، أو : قالا : أخبرنا فلان ) ، أو ما أشبه ذلك من العبارات .
و لمسلم صاحب (الصحيح) مع هذا في ذلك عبارة أخرى حسنة مثل قوله (حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو سعيد الأشج، كلاهما عن أبي خالد، قال أبو بكر : حدثنا أبو خالد الأحمر، عن الأعمش ، وساق الحديث) . فإعادته ثانياً ذِكْرُ أحدهما خاصة إشعارٌ بأن اللفظ المذكور له .
وأما إذا لم يخص لفظ أحدهما بالذكر، بل أخذ من لفظ هذا ومن لفظ ذاك، وقال: ( أخبرنا فلان وفلان، وتقاربا في اللفظ، قالا : أخبرنا فلان ) فهذا غير ممتنع على مذهب تجويز الرواية بالمعنى .
وقول أبي داود صاحب (السنن): ( حدثنا مسدد وأبو توبة ، المعنى ، قالا : حدثنا أبو الأحوص ) ، مع أشباه لهذا في كتابه : يحتمل أن يكون من قبيل الأول، فيكون اللفظ لمسدد ويوافقه أبو توبة في المعنى .
ويحتمل أن يكون من قبيل الثاني، فلا يكون قد أورد لفظ أحدهما خاصة، بل رواه بالمعنى عن كليهما، وهذا الاحتمال يقرب في قوله ( حدثنا مسلم بن إبراهيم وموسى بن إسماعيل - المعنى واحد - قالا : حدثنا أبان ) .(3/85)
وأما إذا جمع بين جماعة رواةٍ قد اتفقوا في المعنى، وليس ما أروده لفظ كل واحد منهم، وسكت عن البيان لذلك، فهذا مما عيب به البخاري أو غيره، ولا بأس به على مقتضى مذهب تجويز الرواية بالمعنى .
وإذا سمع كتاباً مصنفاً من جماعة، ثم قابل نسخته بأصل بعضهم دون بعض، وأراد أن يذكر جميعهم في الإسناد ويقول: ( واللفظ لفلان ) ، كما سبق، فهذا يحتمل أن يجوز كالأول، لأن ما أورده قد سمعه بنصه ممن ذكر أنه بلفظه .
ويحتمل أن لا يجوز، لأنه لا علم عنده بكيفية رواية الآخرين حتى يخبر عنها، بخلاف ما سبق فإنه اطلع على رواية غير من نسب اللفظ إليه و[هو](1)على موافقتهما من حيث المعنى، فأخبر بذلك، والله أعلم ).
وقال العراقي في ألفيته :
وحيث أكثر من شيخ سمع
بلفظ واحد وسمى الكل صح
بيانه مع قال أو مع قالا
اقتربا في اللفظ أو لم يقل
بأصل شيخ من شيوخه فهل ... متناً بمعنى لا بلفظ فقنع
عند مجيزي النقل معنى ورجح
وما ببعض ذا وذا وقالا
صح لهم والكتب إن تقابل
يسمى الجميع مع بيانه احتمل
__________
(1) هذه الزيادة من نسخة خطية لكتاب ابن الصلاح ، كما أشار إليها محققه.(3/86)
فقال السخاوي في (فتح المغيث) (3/180-187) في شرح هذه الأبيات : ( الفصل السابع : "اختلاف ألفاظ الشيوخ" في متن أو كتاب واقتصار من سمع منهم على بعضها ، "وحيث" كان الراوي "مِن أكثر من شيخ" اثنين فأكثر ، "سمع" متناً ، أي حديثاً ، "بمعنى" واحد اتفقوا عليه ، "لا بلفظٍ" واحد ، بل هم مختلفون ، "فقنع" حين إيراده إياه "بلفظ واحد" منهم "وسمى" معه "الكلَّ" حملاً للفظهم على لفظه ، بأن يقول فيما يكون فيه اللفظ لأبي بكر بن أبي شيبة ، مثلاً : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن مثنى ومحمد بن بشار ، قالوا : حدثنا فلان "صح" ذلك "عند مجيزي النقل معنى" أي بالمعنى ، وهم الجمهور كما سلف في بابه ، سواءً بيَّن ذلك أوْ لا ؛ وممن فعله حماد بن سلمة ، فإنه قيل : إنه كان يحملُ ألفاظَ جماعة يسمع منهم الحديث الواحد على لفظ أحدهم مع اختلافهم في لفظه ؛ "و"لكن "رجح" بيانه عندهم ، أي هو أحسن ، بأن يعيِّن صاحبَ اللفظ الذي اقتصر عليه بقوله : واللفظ لأبي بكر بن أبي شيبة ونحو ذلك ، للخروج من الخلاف ، فإن لم يعلم تمييز لفظ أحدهما عن الآخر فالراجح بيانه أيضاً ، كما وقع في الحديث الذي عند أبي داود عن مسدد عن بشر بن المفضل ثنا ابن عون عن القاسم بن محمد وإبراهيم ، زعم أنه سمع منها جميعاً ولم يحفظ حديث هذا من حديث هذا ، ولا حديث هذا من حديث هذا ، قالا : قالت أم المؤمنين ، يعني عائشة : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهدى ، وذكر حديثاً ؛ ونحوه قوله أيضاً : ثنا مسدد وأبو كامل دخل حديث أحدهما في الآخر ، ثم هو في سلوكه البيان حيث ميز بالخيار بعد تعيين صاحب اللفظ بين أن يكون "مع" إفراد "قال أو مع" ، بسكون العين فيهما ، "قالا" ، إن كان أخذه عن اثنين ، أو قالوا ، إن كانوا أكثر .(3/87)
وقد اشتدت عناية مسلم ببيان ذلك حتى في الحرف من المتن وصفة الراوي ونسبه ، وربما - كما قدمته في الرواية بالمعنى - كان بعضه لا يتغير به معنى ، وربما كان في بعضه تغير ولكنه خفي لا يتفطن له إلا من هو في العلوم بمكان ؛ واستحسن له(1) قوله : ثنا أبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب جميعاً عن ابن عيينة ، قال أبو بكر : ثنا سفيان بن عيينة ، من أجل أن إعادته ثانياً ذِكرَ أحدِهما خاصةً يشعر(2) - كما قال ابن الصلاح - بأن اللفظ المذكور له ، ويتأيد بقوله في موضع آخر : ثنا أبو بكر بن أبي شيبة وابن نمير وزهير بن حرب جميعاً عن حفص بن غياث ، قال ابن نمير : ثنا حفص عن محمد بن زيد عن عمير مولى أبي اللحم ، قال : كنت مملوكاً فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم : أتصدق من مال مواليّ بشيء ؟ قال : نعم ، والأجر بينكما نصفان ؛ فإن لفظ أبي بكر - كما في مصنفه : حفص ، بدون صيغة ، وساق سنده ، قال : كنت عبداً مملوكاً ، وكنت أتصدق ، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان مولاي ينهاني ، أو سأله فقال : الأجر بينكما ؛ ولفظ زهير - كما عند أبي يعلى في "مسنده" - عنه : حدثنا حفص ، وساق سنده ، قال : كنت مملوكاً وكنت أتصدق بلحم من لحم مولاي ، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : تصدق والأجر بينكما نصفان ؛ وعن أبي يعلى أورده ابن حبان في "صحيحه" ، فانحصر كونُ اللفظ لمن أعاده ثانياً ، في أمثلة لذلك لا نطيل بها .
وربما لا يصرح برواية الجميع عن شيخهم ، كقوله : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم ، قال أبو بكر : ثنا يحيى بن آدم ثنا حسن بن عياش .
وربما تكون الإعادة لأجل الصيغة ، حيث يكون بعضهم بالعنعنة ، وبعضهم بالتحديث أو الإخبار ؛ وعليه ، فتارة يكون اللفظ متفقاً ، وتارة مختلفاً .
__________
(1) أي للإمام مسلم .
(2) كأنَّ الجادة (تُشعر) بالتاء .(3/88)
وكثيراً ما ينبه أبو داود وغيره على التوافق في المعنى في الجملة ، من غير تعيين صاحب اللفظ ، كقوله : ثنا ابن حنبل وعثمان بن أبي شيبة ومسدد ، المعنى ؛ وربما قال : المعنى واحد ، كقوله : ثنا أحمد بن حنبل ويحيى بن معين ، المعنى واحد ؛ وهي أوضح ، فربما يتوهم غيرُ المميِّزِ كونَه المعنيّ ، بكسر النون ، نسبة لمعن ؛ ويتأكد حيث لم يقرن مع الراوي غيره .
وقد يكون(1) في حديث أحد الراويين أتقن ، كقول أبي داود : ثنا أبو الوليد الطيالسي ، وهدبة بن خالد وأنا لحديثه أتقن .
وممن سبق مسلماً لنحو صنيعه : شيخُه الإمام أحمد ، فهو حريص على تمييز الألفاظ في السند والمتن .
وقد ينشأ عن بعضه - لمن لم يتدبر - إثباتُ راوٍ لا وجودَ له ، ومنه قول أحمد : حدثنا يزيد بن هارون وعباد بن عباد المهلبي ، قالا : أنا هشام ، قال عباد [: ا]بن زياد ؛ حيث ظن بعضُ الحفاظ أن زياداً هو والد عباد ، وليس كذلك ، بل هو والد هشام ، اختص عباد بزيادته عن رفيقه يزيد .
ونحوه قوله أيضاً "حدثنا محمد بن جعفر وحجاج قالا حدثنا شعبة عن منصور عن ربعي بن حراش عن أبي الأبيض قال حجاج [:] رجل من بني عامر ، عن أنس ، فذكر حديثاً ؛ فليس قوله "رجل من بني عامر" وصفاً لحجاج ، بل هو مقوله وَصف به أبا الأبيض ، انفرد بوصفه له بذلك عن رفيقه ؛ وحجاج هو ابن محمد أحد شيخي أحمد فيه ؛ وأمثلة ذلك كثيرة .
__________
(1) أي المحدث ، كأبي داود .(3/89)
وإذا تقرر هذا فلا اختصاص للصحة حيث لم يبين ، بما يخص فيه الراوي واحداً بجميع المتن ، بل يلتحق به "ما" يأتي فيه "ببعض" لفظ "ذا" ، أي أحد الشيخين "و"بعض لفظ "ذا" ، أي الآخر ، مما اتحد عندهما المعنى فيه ، ميَّز الراوي لفظ أحدهما من الآخر ، أو لم يميز ، "وقالا" أي الراوي لفظ "اقتربا" أي كل من الشيخين "في اللفظ" ، أو قال : المعنى واحد ، وما أشبههما ، "أو لم يقل" شيئاً منه ، فإنه أيضاً قد "صح لهم" ، أي لمجيزي النقل بالمعنى ؛ والأحسن أيضاً البيان لا سيما وقد عِيبَ بتركه البخاريُّ - فيما قاله ابن الصلاح - وحمادُ بن سلمة فيما قاله غيرُه(1) ، حتى إن البخاري لم يخرج له في الأصول من "صحيحه" ، بل واقتصر مسلم فيها - كما قاله الحاكم - على خصوص روايته عن ثابت .
لكن قد رُدَّ على مَن عاب البخاري به ، بأنَّ ذلك بمجرده لا يوجب أسقاطاً إذا كان فاعله يستجيز الرواية بالمعنى ؛ هذا عبد الله بن وهب لم يتأخر البخاري ولا غيره من الأئمة عن التخريج له ، مع كونه ممن يفعله ، وإنما ترك الاحتجاج بجماد مع كونه أحد الأئمة الأثبات الموصوف بأنه من الأبدال ، لأنه قد ساء حفظه ، ولهذا فرق بين صنيعه وصنيع ابن وهب بأن ابن وهب أتقن لما يرويه وأحفظ ؛ وبه يجاب عن البخاري ؛ على أن البخاري وإن كان لا يعرج على البيان ولا يلتفت إليه ، هو - كما قال ابن كثير - في الغالب ، وإلا فقد تعاطى البيان في بعض الأحايين ، كقوله في تفسير البقرة : ثنا يوسف بن راشد ثنا جرير وأبو أسامة ، واللفظ لجرير ، فذكر حديثاً ، وفي "الصيد والذبائح" : ثنا يوسف بن راشد أيضاً ثنا وكيع ويزيد بن هارون ، واللفظ ليزيد ؛ ولكن ليس في هذا ما يقتضي الجزم بكونه من البخاري ، إذ يحتمل أن يكون ذلك من شيخه ، كما سيأتي في الفصل التاسع في مسألة أخرى .
__________
(1) انظر كلام الحاكم في (سير أعلام النبلاء) للذهبي (7/446) .(3/90)
وربما يسلك مسلكاً دقيقاً يرمز فيه للبيان ، كقوله في الحج : ثنا يحيى بن بكير ثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب - هو الزهري - عن عروة عن عائشة ؛ وحدثني محمد بن مقاتل أخبرني عبد الله - هو ابن المبارك - أنا محمد بن أبي حفصة عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت : كانوا يصومون عاشوراء ، قبل أن يفرض رمضان ، وكان يوماً تُستر فيه الكعبة ، فلما فرض الله رمضان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من شاء أن يصومه فليصممه ، ومن شاء أن يتركه فليتركه ؛ فإن الظاهر أنه إنما عدل عن أن يقطع السند الأول عند الزهري ثم يقول بعد ابن أبي حفصة من الثاني : كلاهما عن الزهري ، لكون اللفظ للثاني فقط ؛ ويتأيد بجزم الإسماعيلي بأن ستر الكعبة إنما هو عند ابن أبي حفصة خاصةً دون عقيل ؛ وحينئذ فرواية عقيل لا تدخل في الباب الذي أوردها فيه ، وهو باب قول الله {جعل الله الكعبة} الآيةَ ؛ ولذا قال الإسماعيلي : إن عادة البخاري التجوز في مثل هذا ، وقول أبي داود في "سننه" : ثنا مسدد وأبو توبة المعنى ، قالا : ثنا أبو الأحوص ، يحتمل أن يكون المعنى يتعلق بحديثهما معاً ، وحينئذ فيكون من باب "وتقاربا في اللفظ" ، ويحتمل أن يتعلق بأبي توبة فقط ، ويكون اللفظ للأول ، وحينئذ فهو من باب "واللفظ لفلان" .
قال البلقيني : ويلزم على الأول أن لا يكون رواه بلفظِ واحدٍ منهما ؛ قال : وهو بعيد ؛ وكذا إذا قال : أنبأنا فلان وفلان وتقاربا في اللفظ ، لا انحصار له في أن روايته عن كل منهما بالمعنى ، وأن المأتيَّ به لفظٌ ثالثٌ غير لفظيهما ، والأحوال كلها آيلة في الغالب إلى أنه لا بد أن يسوق الحديث على لفظ مروي له برواية واحدة والباقي بمعناه ، انتهى ، وتبعه الزركشي ؛ وفيه نظر ، كما أشار إليه العز بن جماعة ، فيجوز أن يكون ملفقاً منهما ، إذ من فروع هذا القسم - كما سيأتي في الفصل الثالث عشر - ما إذا سمع من كل شيخ قطعةً من متنٍ فأورده عن جميعهم بدون تمييز .(3/91)
"والكتب" المصنفة ، كالموطأ والبخاري ، المسموعة عند الراوي من شيخين فأكثر ، وهو القسم الثاني "إن تُقابَل بأصل شيخٍ" خاصة "من شيوخه" ، أو شيخيه ، دون من عداه ، فهل له أن يسمي عند روايته لذلك الكتاب الجميع مع بيانه أن اللفظ لفلان الذي قابل بأصله ؟ قال ابن الصلاح : "احتمل" الجواز ، كالأول ، لأن ما أورده قد سمعه بنصه ممن ذكر أنه بلفظه ، واحتمل عدمه ، لأنه لا علم عنده بكيفية رواية مَن عداه حتى يُخبر عنه ، بخلاف ما سبق فإنه اطلع فيه على موافقة المعنى ؛ وتوقف بعض المتأخرين في إطلاق الاحتمال وقال : ينبغي أن يُخص بما إذا لم يبين حين الرواية الواقع ، أما إذا بيّن - كما هو فرض المسألة - فالأصل في الكتب عدم الاختلاف ، ولو فُرض فهو يسيرٌ غالباً تجبره الإجازة ؛ هذا إذا لم يَعلم الاختلافَ ، فإن علمه فقد قال البدر بن جماعة : إنه إن كان التفاوت في ألفاظ ، أو في لغات ، أو اختلاف ضبطٍ : جازَ ، وإن كان في أحاديث مستقلة فلا ) .
وانظر (المعنى) و(الرواية بالمعنى) .
حدثنا زيد وعمرو وتقاربا في اللفظ :
انظر (حدثنا زيدٌ وعمرو واللفظ لعمرو) .
حدثني :
انظر (صيغ الأداء) .
حدثني الثقة :
قول الراوي (حدثني الثقة) من الألفاظ المفهمة لتوثيق من وُصف بها في مثل هذا السياق، مع إبهامه، مِن قِبَل مَن قالها وهو تلميذُه ، وكذلك قول الراوي (حدثني من أثق به)، وقوله (حدثني بعض الثقات)، وقوله (حدثني من لا أتهم) ونحو هذه التعابير.
وقد يتبادر إلى من لا خبرة له أن هذه الألفاظ من الألفاظ الكافية في التوثيق المعتمد، أي الذي يُحتجُّ بمن قيلت فيه ويصحح حديثه ؛ والتحقيق أن هذه الصيغة هي - على خلاف المتبادر منها - علةٌ مقتضية لتضعيف إسنادها، أو للتوقف عن الاحتجاج به، حتى ولو كان ذلك الراوي القائل (حدثني الثقة) أو نحوها من العبارات المذكورة، من علماء النقد المعتمدين .(3/92)
فإن قيل : فلِمَ لا يُقبل منه هذا التوثيق كما يُقبل منه انفراده بتوثيق من يسميه من الرواة سواء كان ذلك التوثيق في أثناء الرواية كأن يقول : حدثني فلان وهو ثقة، أو خارجها كأن يُسأل عن راو فيقول : إنه ثقة؟
فالجواب أن الذي نقبله منه إنما هو التوثيق الذي لا يخالفه فيه من هو فوقه أو مثله في هذا الفن؛ وأما هنا فلم نتحقق انفراده بتوثيق هذا الشيخ المبهم، فلذلك لم نأمن أنه يخالفه في هذا التوثيق من تضره مخالفته؛ أي أنه يحتمل - احتمالاً معتبراً - أنه لو سَمّى من وثقه لوجدنا أنه يخالفه في ذلك الحكم من هو فوقه أو مثله فيضعّف ذلك الشيخ الموثَّق أو يليّنه ، فيترجح أنه واهم في ذلك التوثيق؛ ولذا توقف النقاد عن قبول هذا النوع من التوثيق أعني توثيق الشيخ المبهم(1).
ولكن أرى أن يُستثنى من هذا التقرير من كان من كبار أئمة النقد المتثبتين ، في معرض سَوقهم الحديث للاحتجاج به، من أمثال مالك وأحمد والبخاري.
حدثني بعض الثقات :
انظر (حدثني الثقة).
حدثني من أثق به :
انظر (حدثني الثقة).
__________
(1) تنبيه : ليس في قول الراوي الثقة (حدثني الثقة) من غير أن يسميه تدليساً من نوع تدليس الأسماء أو غيرِه ، فالتدليس مداره على أمر مخصوص وهو إخفاء العيب ولو إلى حين، أو ولو على بعض السامعين للحديث؛ وهذا المعنى ليس موجوداً في صنيع من يقول من الرواة العلماء الثقات : (حدثني الثقة)، لأنه لا يوهم خلاف ما يعلمه هو، أعني : لا يوهم توثيق من يَعلم هو أنه غير ثقة، ولا من لا يَعلم أنه ثقة ، وإنما هو مصرِّح بتوثيق من يَعلم أنه ثقة؛ فهو ثقة عنده سواء وافقه العلماء على توثيقه أم خالفوه، أم سكتوا عنه؛ فأي تدليس في هذا الصنيع ؟!
وهذا بخلاف صنيع المدلس فإنه يوهم الاتصال في شيء يعلم أنه منقطع .
وبهذا يستبينُ الفرقُ بين المسلكين، مسلك من يوهم الاتصال بخلاف ما هو واقع، ومسلك من يصرح بالتوثيق بمقتضى ما قد علمه هو.(3/93)
حدثني من لا أتهم :
قال السخاوي في (فتح المغيث) (2/38) : (ألحق ابن السبكي بـ "حدثني الثقة" من مثل الشافعي دون غيره "حدثني من لا أتهم" ، في مطلق القبول ، لا في المرتبة ؛ وفرق بينهما الذهبي وقال : إن قول الشافعي "أخبرني من لا أتهم" ليس بحجة ، لأن من أنزله من رتبة الثقة إلى أنه غير متهم فهو لين عنده ولا بد وضعيف عند غيره ، لأنه عندنا مجهول ولا حجة في مجهول(1) ؛ ونفي الشافعي التهمة عمن حدثه لا يستلزم نفي الضعف ، فإن ابن لهيعة ووالد علي بن المديني وعبد الرحمن بن زياد الإفريقي وأمثالهم ليسوا ممن نتهمهم على السنن وهم ضعفاء لا نقبل حديثهم للاحتجاج به .
قال ابن السبكي : وهو صحيح إلا أن يكون قول الشافعي ذلك حين احتجاجه به ، فإنه هو والتوثيق حينئذ سواء في أصل الحجة ، وإن كان مدلول اللفظ لا يزيد على ما ذكره الذهبي(2) .
وانظر (حدثني الثقة)
الحديثُ :
الحديثُ لغةً ضدُّ القديم ، ثم إنه استعمل في قليل الخبر وكثيره ؛ وأما الحديث اصطلاحاً فهو ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، قولاً له أو فعلاً أو تقريراً أو صفة ، حتى الحركات والسكنات ، في اليقظة والمنام ، فهو أعم من السنة .
__________
(1) عبارة الذهبي هذه تدل على أنه يطلق على المجهول اسم (ضعيف) .
(2) فابن السبكي لَحَظ أثر قرينة الحال وهو ملحظ جيد وجيه ؛ وهو شبيه بقول الناقد إذا اختار قبول زيادة زادها بعض الثقات في حديث من الأحاديث : (فلان ثقة) يعني الذي زادها ، أو قوله (الزيادة من الثقة مقبولة) ، ونحو ذلك ؛ فالناقد هنا لا يريد بالعبارة الثانية تأصيل قاعدة عامة ، ولا يريد بالعبارة الأولى أن ذلك الراوي يُوْثَق به في كل ما يزيده أو يتفرد به ؛ ولكنه توثيق موضعي ، فهو يقول : أنا أثق بزيادة فلان هنا وأقبلها ، ويقول : الزيادة من الثقة مقبولة إذا لم يأت ما يمنع من قبولها ولا مانع هنا ، أو يقول : الزيادة من الثقة الذي هو من رتبة ذلك الراوي تقبل منه عن مثل شيخه هذا .(3/94)
قال السيوطي في (تدريب الراوي) (1/42-43) : (وأما الحديث فأصله ضد القديم ، وقد استعمل في قليل الخبر وكثيره ، لأنه يحدث شيئاً فشيئاً .
وقال شيخ الاسلام ابن حجر في (شرح البخاري) : المراد بالحديث في عرف الشرع ما يضاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وكأنه أريد به مقابلة القرآن لأنه قديم).
قلت : كلا التعليلين في غاية البعد عن الصواب ، وهما راجعان إلى علم الكلام الذي لم يعرفه المسلمون الأوائل أعني الذين وضعوا مصطلح (الحديث) ؛ وأنا أجزم بأنهم لما سموا الحديث حديثاً لم يخطر ببالهم تلك المقابلة المزعومة ، بل لقد وصف الله تعالى كتابه بأنه أحسن الحديث ، ووردت تسمية كلام النبي صلى الله عليه وسلم بالحديث في غير ما حديث ثابت ، وتواترت هذه التسمية عند الصحابة فمن بعدهم ؛ وكل ذلك كان قبل نشوء علم الكلام .
وكذلك دعوى ملاحظة مسألة الحدوث شيئاً فشيئاً دعوى غريبة ، فيبعد جداً أن يكون العرب الأوائل أو المسلمون الأوائل قد لاحظوا عند إطلاق هذا الاسم هذا المعنى الفلسفي .
ويظهر أن كلمة حديث راجعة في أصل وضعها إلى كون الشيء حادثاً وجديداً ، فكأن من حدَّث أخبر بشيء حدَث أو قال كلاماً جديداً لم يُسبق إليه في ذلك المجلس ، ثم توسعوا فسموا كل كلام حديثاً ، ثم صارت هذه الكلمة في عرف علماء الحديث وسائر علماء الشريعة مصطلحاً على المعنى المعروف المذكور أولاً ، وهو - باختصارٍ - ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم .
---- الحديثَ :(3/95)
قال الصفدي في مقدمات كتابه (الوافي بالوفيات) : (وجرت عادة المحدثين والمؤرخين والأدباء اذا جاء [أي في معرض كلام أحدهم ] ذكرُ آية من القرآن الكريم أو حديث مشهور أو بيت شعر اشتهر أو تقدم ذكره آنفاً ، أن يذكر أول الآية ثم يقول : (الآيةَ) ، بالنصب(1) ، على اضمار (أريد) أو (أعني)(2) .
وكذا يذكر لفظاً من الحديث ويقول : (الحديثَ) ، وأول البيت ويقول: (البيتَ) .
وبعضهم(3) يقرأ الآية ويكمل الحديث إن كان يحفظه ، وهو الأحسن ؛ وبعضهم يقتصر على لفظه كما هو مكتوب ، لكنه يحسن أن يقف عليه قليلاً).
حديثٌ مختصر :
انظر (اختصار الحديث ) .
حديث مشكل :
انظر (مختلف الحديث) .
حديثه شفاء :
عبارة توثيق عالية نادرة ، قال عبدالله بن أحمد في (العلل ومعرفة الرجال) (3/261) (5155) : (سمعت أبي يقول : عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم حديثه شفاء ) .
حديثه عن أصحابه كأنه حلم :
قال ابن حبان في (المجروحين) (3/11) في ترجمة مجالد بن سعيد الهمْداني : (سمعت ابن خزيمة يقول : سمعت أحمد بن منصور يحكي عن أحمد بن حنبل قال : مجالدٌ حديثه عن أصحابه كأنه حلم ) .
يظهر لي أنه أراد أن أحاديثه عن شيوخه لا حقيقة لها ، أي لا أصل لها من حديثهم ، كما أن الحلم لا أصل له ؛ ومجالد هذا ضعفه الأئمة .
__________
(1) تقرأ كلمة الآية بالنصب على أنها مفعول لأحد الأفعال المقدرة الآتية أو نحوها ، ويجوز رفعها على خبرية مبتدأ محذوف ، أي مرادي الآية أو نحو ذلك ؛ وكذلك قولهم (الآيتين) و(الآيات) .
(2) أو (اقرأْ) أو (أكملْ) أو (أَتِمَّ) الآيةَ.
(3) أي بعض القراء إذا مر بهم في الكتاب مثل هذه الإشارات.(3/96)
حديثه ليس بشيء :
قال السخاوي في (فتح المغيث) (2/123) : (---- ، على أنا قد روينا عن المزني قال : سمعني الشافعي يوماً وأنا أقول : فلان كذاب ، فقال لي : يا إبراهيم اكسِ ألفاظك ، أحسِنْها ، لا تقل : فلان كذاب ، ولكن قل : حديثه ليس بشيء ؛ وهذا يقتضي أنها حيث وُجدت في كلام الشافعي تكون من المرتبة الثانية(1) .
وفي كلام السخاوي هذا نظر ، والظاهر أن الشافعي أرشد المزني إلى تخفيف ألفاظه عند الطعن في الكذابين والمتهمين من الرواة والاكتفاء بما يدل على سقوط حديثهم وتركه ، ومن المعلوم أنه لا يلزم من عبارة الشافعي هذه ما قاله السخاوي فإنه لا يلزم منها أن يمتنع الشافعي من إطلاق لفظة (حديثه ليس بشيء) على غير الكذابين والوضاعين ، ممن هو ساقط متروك ، وهذا ظاهر ؛ وإن كان الأحسن في كلمات النقاد أن تكون كل لفظة مختصة بمعنى واحد أو حكم واحد .
نعم إن وردت هذه اللفظة في كلام الشافعي احتملت بقوة أن يكون الراوي كذاباً أو متروكاً ، فحينئذ نحتاج للنظر في القرائن ؛ وذلك بخلاف (حديثه ليس بشيء) عند الجمهور فإن المتبادر أن يكون الراوي متروكاً مع احتمال أن يكون ضعيفاً فقط ، وأما أن يكون كذاباً عندهم فهو احتمال بعيد .
__________
(1) أي من مراتب التجريح عند السخاوي ، وهي مرتبة (كذاب) و (وضاع) و (دجال) وما يقوم مقامها في تجريح الراوي ووضعه في هذه المرتبة نفسها ؛ وتبع السخاوي في هذا الدكتور قاسم علي سعد فعدَّ في (مباحث في علم الجرح والتعديل) (ص51-52) لفظة (لاشيء) عند الشافعي في مرتبة وضاع وكذاب ونحوهما ، وتوكأ على تفسير السخاوي لكلمة الشافعي المذكورة .(3/97)
حديثه مشهور :
هذه العبارة ظاهرها يقتضي أن تكون وصفاً للراوي الذي من عادته أن يحدث بما هو معروف ومشهور دون ما كان منكراً وغريباً ، ولكن الاستقراء يدل على أن هذه العبارة قد تَرد على غير هذا النحو ؛ ومن ذلك أن يريد الناقد أن حديث ذلك الراوي مشهور عمن روى عنهم ، فما كان فيه من إنكار فمِنْ قِبله ؛ فمثلاً أسد بن موسى قال فيه ابن حزم : منكر الحديث ، وقال فيه البخاري : مشهور الحديث ، فقال المعلمي في (التنكيل) (ص413-414) : (وهذا [يعني قول البخاري] بحسب الظاهر يُبطلُ قولَ ابنِ حزم ، لكن يجمع بينهما قولُ ابن يونس "حدث بأحاديث منكرة ، وأحسب الآفة من غيره" ، وقولُ النسائي "ثقة ولو لم يصنف لكان خيراً له" ، وذلك أنه لما صنف احتاج إلى الرواية عن الضعفاء فجاءت في ذلك مناكير ، فحمل ابن حزم على أسد ، ورأى ابن يونس أن أحاديثه عن الثقات معروفة ؛ وحقق البخاري فقال : "حديثه مشهور" ، يريد - والله أعلم - مشهور عمن روى عنهم ، فما كان فيه من إنكار فمن قبله(1) ، وقد قال ابن يونس أيضاً والبزار وابن قانع حافظ الحنفية : ثقة ، وقال العجلي : ثقة صاحب سنة ؛ وفي (الميزان) : "استشهد به البخاري ، واحتج به النسائي وأبو داود وما علمت به بأساً(2) ")(3) .
__________
(1) يظهر لي أن في هذا السياق خطأ ، وأن صواب العبارة هو : (فمِمَّن قَبْله) أو (فمن قِبَلِهم) أو (فليس مِن قِبَلِه) أو (فمِن قَبْلَهُ) .
(2) تتمة كلام الذهبي : "و احتج به النسائي و أبو داود و ما علمت به بأساً إلا أن ابن حزم ذكره في كتاب الصيد فقال : منكر الحديث" .
(3) تتمة كلام المعلمي : (وقد أساء الاستاذ إلى نفسه جداً إذ يقتصر على كلمة ابن حزم في صدد الطعن مع علمه بحقيقة الحال، ولكن!).(3/98)
حديثه يشبه حديث الصالحين :
سئل أبو الحسن المأربي كما في (إتحاف النبيل) (1/334) (س182) : إذا قال أحد الأئمة في رجل : "حديثه يشبه حديث الصالحين" فهل يكون ثقة ؟ فأجاب بهذا الكلام : (قد يتبادر لمن وقف على هذا اللفظ أنه لفظ تعديل ، وليس الأمر كذلك ، وسر المسألة أن تعلم أن الصالحين - غير الأئمة الأثبات [منهم] - اشتغلوا بالعبادة ، وغفلوا عن ضبط الحديث ومراجعته وحضور مجالسه ، حتى كثرت الأوهام بل الأكاذيب في حديثهم ، بسبب غفلتهم وعدم اشتغالهم بهذا العلم ، بل منهم من كان يحرق كتبه أو يغسلها أو يدفنها ، ظاناً أنّ هذا يزكي نفسه ويُبعده عن الرياء وحظوظ النفس ، وقد يُحتاج إليه فيُسأل عن حديث فيحدث به على التوهم ، وليس معه أصول(1) ، فشاع عند العلماء أن العُبّاد أصحاب غفلة في الحديث وإن كانوا أهل أمانة وتقوى .
وقد قال يحيى بن سعيد القطان : "ما رأيت الصالحين في شيء أكذب منهم في الحديث" ، أي أن الكذب يجري على ألسنتهم ، وهم لا يميزون ، فإذا كان الراوي مغفلاً وتكثر المناكير في حديثه قالوا : "حديثه يشبه حديث الصالحين"(2) ؛ وانظر "الكامل" لابن عدي (6/2104) ، والله أعلم ) ؛ انتهى .
رواه مسلم في مقدمة (صحيحه) (ص17 وما بعدها) من طريق محمد بن سعيد القطان عن أبيه قال : لن نرى الصالحين في شيء أكذب منهم في الحديث ؛ قال مسلم : يجري الكذب على ألسنتهم ، ولا يتعمدون ذلك . اهـ ؛ وكذا رواه ابن حبان في (المجروحين) بسنده إلى يحيى بن سعيد (1/67) ، وانظر (شرح علل الترمذي) (1/387-389) ، وانظر (شفاء العليل) للمؤلف (1/119-120 ، 144-145 ، 389) ، والله أعلم) .
__________
(1) انظر تاريخ بغداد (7/67) ؛ وفي (سير أعلام النبلاء) (9/171) ترجمة يوسف بن أسباط ؛ قال البخاري : دفن كتبه ، فكان حدبثه لا يجيء كما ينبغي) .(3/99)
حديثه يهوي :
قال عبد الله بن الإمام أحمد في (العلل ومعرفة الرجال) (2603) : (قال أبي : الحارث بن سليمان الفزاري لم يكن به بأس ، حديثه يهوي ، يعني مراسيل) .
وقال عبد الله أيضاً (4342) : (قال أبي : كان شعبة يقول : فلان حديثه(1) يهوى ؛ قلت لأبي : ما يهوي ؟ قال : مرسل ) .
وهذا المصطلح نادر جداً ، ويتراءى لي أن معنى قول شعبة وأحمد "يهوي" ، أي يسقط ، فهو تشبيه منهما لسقوط الحديث بسبب إرساله : بسقوط الشيء الذي يَستند إلى مستنَد فيسقط بزوال ذلك المستند ، فالحديث كذلك ، هو يعتمد على إسناده ما دام متصلاً ، فإذا زال إسناده أو انقطع فقد هوى - أعني ذلك الحديث - ، لأنه لا مستنَد له ولا معتمَد .
الحديثيّ :
هذه اللفظة تَصْدُق بكل من يشتغل بتعلم هذا الفن أو تعليمه ، فتشمل مَن كان مبتدئاً أو طالباً بارعاً أو عالماً ، فهي أعم من كلمة محدث ، ولكن يظهر أنهم أكثر ما يستعملونها في المبتدئ والطالب ونحوهما .
وأما العالم والإمام في الحديث فقلما يكنّون عنهما بهذه الكلمة إذا ذُكر أحدهما مفرداً .
قال ابن الصلاح في (مقدمته) (ص52) عقب ذكره نوعين من أنواع المنقطع :
(مثال الأول: ما رويناه عن عبد الرزاق، عن سفيان الثوري، عن أبي إسحاق عن زيد بن يُثَيْع، عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن وليتموها أبا بكر فقوي أمين..." الحديثَ ؛ فهذا إسناد إذا تأمله الحديثيُّ وجد صورته صورة المتصل ، وهو منقطع في موضعين ، لأن عبد الرزاق لم يسمعه من الثوري، وإنما سمعه من النعمان بن أبي شيبة الجَنَدي عن الثوري ، ولم يسمعه الثوري أيضاً من أبي إسحاق إنما سمعه من شريك عن أبي إسحاق) .
قال ابن حجر في (النكت) (2/572) : (وفيه أمران :
__________
(1) في الأصل المطبوع (حدثنيه) بدل (حديثه) ، ويظهر أنه خطأ طباعي .(3/100)
أحدهما : أن هذا المثال إنما يصلح للحديث المدلَّس ، لأن كل راو من رواته قد لقي شيخه فيه وسمع منه ، وإنما طرأ الانقطاع فيه من قِبَل التدليس .
والأولى في مثال المنقطع أن يذكر ما انقطاعه فيه من عدم اللقاء كمالك عن ابن عمر رضي الله عنهما ، والثوري عن إبراهيم النخعي وأمثال ذلك .
الثاني : قوله : إن الحديثي إذا تأمله ظنه متصلاً ، يريد بقوله "الحديثيّ" المبتدي في طلب الحديث ؛ وقد ظن بعضهم أنه أراد به المحدث ، فقال : كان ينبغي أن يقول : غير الحديثي لأن المحدث إذا نظر في إسناد فيه مدلس قد عنعنة لم يحمله على الاتصال ، من أجل التدليس ؛ فالأليقُ حملُ كلامه على أنه أراد بقوله "الحديثيّ" المبتديَ ) .
الحرص على الطلب :
المراد بالطلب طلب العلم الشرعي ؛ وانظر (الطلب) .
الحرف :
ترد هذه اللفظة في كلام المحدثين ، أحياناً ، بمعنى الكلمة أو الجملة أو القطعة القصيرة من الحديث ، ونحو ذلك ؛ مثل أن يسوق المحدثُ طُرقاً للحديث ، فيقول في بعض المواضع من كلامه : هذا الحرف - ويشير إلى بعض عبارات الحديث - : تفرد به فلان ، أو سقط من الطريق الفلانية .
قال ابن حجر في (مقدمة فتح الباري) (ص133) : (قوله "سلسبيلا" : قال مجاهد : حديدة الجرية ، وقيل : هو اسم العين ، وقيل : لينة سهلة في الحلق تسلسل فيه ، وقال ابن الأعرابي : لم أسمع هذا الحرف إلا في القرآن) .
وفسر السخاوي في (فتح المغيث) (2/205) كلمة (حرف) الواردة في بعض أبيات الألفية ، باللفظ اليسير ؛ وذلك في موضعين من تلك الصفحة .
حرَّكَ رأسَه :
تحريك الناقد رأسه عندما يُسأل عن راوٍ هو إشارةٌ منه إلى تضعيفه إلى تضعيفه وعدم الرضا به، ثم ذلك التحريك قد يكون مقروناً ببيان حال الراوي ، وقد يكون مجرداً عن ذلك .
وكان الإمام أحمد إذا سُئل عن راوٍ فاستضعفه أو حديث فاستنكره، ربما حرك رأسه واقتصر على ذلك ، مستغنياً به عن التصريح.(3/101)
حرَّكَ يده :
تحريك الناقد يده يأتي على أكثر من معنى .
من ذلك - وهو الأكثر - تقليبها بمعنى أن حال الراوي مضطرب، فتارةً يحدث فيصيب، وتارةً يحدث فيخطئ، فذلك قريب من قولهم في الراوي (تَعْرف وتنكر).
ولعلها تأتي أحياناً بمعنى التردد أو التوقف في حال الراوي ، فكأنها بمعنى (لا أدري).
وتأتي بمعنى ذم الراوي.
قال علي بن المديني : سمعت يحيى بن سعيد وذكر عمر بن الوليد الشني ، فقال بيده يحركها كأنه لا يقويه ، قال علي : فاسترجعت أنا فقال : ما لَكَ ؟ قلت : إذا حركت يدك فقد أهلكته عندي ، قال : ليس هو عندي ممن أعتمد عليه ، ولكنه لا بأس به(1) .
وقال عبد الله بن علي بن المديني : سألت أبي عن اسحاق بن نجيح الملطي فقال بيده هكذا ، أي ليس بشيء ، وضعفه .
وقال ابن عدي : (حدثنا محمد بن علي حدثنا عثمان بن سعيد الدارمي قال : وسئل يحيى بن معين عن جعفر الأحمر فقال بيده ، لم يضعفه ولم يثبته)(2).
حركة التأليف :
تعبير عصري يراد به أعمال المؤلفين ، أو حالة التأليف ، أو نتاج التأليف ، ونحو هذا المعنى ؛ وينبغي مزيد من الاعتناء بطريقة اختيار التعابير الجديدة التي تكون على هيئة التراكيب الاصطلاحية لتكون أفصح وأبلغ وأكثر مطابقة للأذواق السليمة .
__________
(1) تأمل معنى (لا بأس به) عند يحيى بن سعيد فورودها في مثل هذا السياق الذي يتبين منه تفسيرها ، هو من مهمات الفوائد ، ويحيى إمام في الجرح والتعديل ، بل هو شيخ جماعة من أئمة الجرح والتعديل ، كأحمد وعلي ويحيى بن معين وعمرو بن علي الفلاس .
(2) ورد في (تاريخ الدارمي عن ابن معين) (ص87) (يلينه) مكان (يثبته) ، خلافاً لما في (الكامل) و (تهذيب التهذيب) (2/93) ، والظاهر أن (يلينه) تصحيف .(3/102)
الحركات :
يراد بها في عُرف الكُتاب المعاصرين وطلبة العلم الفتحةُ والضمةُ والكسرة ، وهي معروفة مشهورة ؛ ولكن أود هنا أن أنبه على أمر ، وهي أن رموزها القديمة لم تكن كرموزها المعروفة اليوم ؛ قال عبد السلام هارون رحمه الله تعالى في (تحقيق النصوص ونشرها) (ص54): (وفي الإعجام ، أي الشكل والضبط، يحتاج المحقق كذلك الى خبرة خاصة، وهذا هو الذي كان يسميه أبو الأسود : "النقطَ" ؛ قال أبو الأسود لكاتبه القيسي : "إذا رأيتَني قد فتحتُ فمي بالحرف فانقط نقطةً على أعلاه ، وإن ضممتُ فمي فانقط نقطة بين يدَيِ الحرف ، وإن كسرتُ فمي فاجعل النقطة تحت الحرف ، فإن أتْبعتُ ذلك شيئاً من غنة فاجعل مكان النقطة نقطتين" ؛ فهذه طريقة أبي الأسود يراها القارئ في المصاحف العتيقة) ؛ انتهى .
الحروف الأبجدية :
انظر (أبجد) .
الحروف المثلثة :
هي التي يجوز ضبطها في كلمتها بأي حركة من الحركات الثلاث ؛ مثل كلمة (الطنفسة) ، فهي مثلثة الطاء والفاء أيضاً ، وقد تفتح الطاء وتكسر الفاء ، اسم للبساط ، وتطلق على حصير من سعف يكون عرضه ذراعاً(1) .
وكذلك (ينكلوا) مثلثة الكاف ، أي يجبنوا ويتأخروا عن الجهاد ونحوه .
حروف المعجم :
هي حروف لغة العرب بترتيبها المعروف (ألف باء تاء ثاء ---- نون هاء واو ياء ) ؛ ولعلها سميت بهذا الإسم لأن الكتب التي تصنف أو ترتب محتوياتها بحسب هذه الحروف تسمى معاجم ، والمعجم في الأصل كأنه الكتاب الذي تُبيّن مادته ويسهل الوقوف على المراد منه في مظنته بسبب ترتيبه على الحروف ، فعرفت بحروف المعجم ؛ وانظر (المعجم) و(الإعجام) .
حروف الهجاء :
انظر (الهجاء) و (أبجد) .
__________
(1) انظر (الترغيب والترهيب) للمنذري (1/273) .(3/103)
حريزي المذهب :
وصف ابن حبان في كتابه (الثقات) الحافظ العلامة أبا إسحاق الجوزجانيّ بأنه كان حريزي المذهب ، فأشكل على بعضهم ، وحُقق أن مراده أن فيه بعض الميل إلى النصب ، وهو ما يُرمى به حريز بن عثمان الشامي الثقة الشهير .
قال بعض الفضلاء : (وقد انقلبت كلمة " حريزيّ " - بتصحيف مصحّف - إلى جريريّ ، وظنّ فاضل حافظ أنّه منسوب إلى ابن جرير ، وعزب عنه أنّ ابن جرير تلميذ الجوزجانيّ الذي توفّي وابن جرير شابّ لم يتكهّل ، بله أن يكون له - آنذاك - أتباع على مذهبه الذي لم ينضج بعد ، بله أن يستقرّ !!!) .
حساب الجُمَّل :
ورد في (المعجم الوسيط) (1/137) : (الجُمَّل : الحبل الغليظ ؛ وحساب الجُمَّل : ضرْبٌ من الحساب يُجعل فيه لكل حرف من الحروف الأبجدية عددٌ، من الواحد إلى الألف، على ترتيب خاص).
الحِسان :
كلمة (حسان) جمع (حسن) ، فإن وصفت بها الأحاديث كان لها معنى اصطلاحي مشهورٌ ، ويأتي بيانه في موضعه(1) .
ولكن الحسين بن مسعود الفراء البغوي (ت 516هـ) له في كتابه (مصابيح السنة) في كلمة (حسان) اصطلاح آخر شذَّ فيه عن اصطلاح الجمهور ، وذلك أنه قسم أحاديث الكتاب المذكور (المصابيح) إلى حسان وصحاح ، وهو يريد - كما بين في خطبته - بالصحاح ما في (الصحيحين) وبالحسان ما في (السنن) ، فقد قال في تلك الخطبة (ص2) بعد الحمد ما نصه :
(فهذه ألفاظ صدرت عن صدر النبوة ، وسنن سارت عن معدن الرسالة ، وأحاديث جاءت عن سيد المرسلين وخاتم النبيين ، هنَّ مصابيح الدجى خرجت من مشكاة التقوى ، مما أوردها الأئمة في كتبهم ، جمعتُها للمنقطعين إلى العبادة ، لتكون لهم بعد كتاب الله تعالى : حظّاً من السنن ، وعوناً على ما هم فيه من الطاعة .
__________
(1) انظر (حسن) .(3/104)
وتركتُ ذكرَ أسانيدها ، حذراً من الإطالة عليهم ، واعتماداً على نقل الأئمة ؛ وربما سميت في بعضها الصحابي الذي يرويه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لمعنى دعا إليه(1) .
وتجد أحاديث كل باب منها تنقسم إلى صحاح وحسان .
أعني بالصحاح ما أخرجه الشيخان أبو عبدالله محمد بن إسماعيل الجعفي البخاري ، وأبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري ، رحمهما الله ، في جامعيهما ، أو أحدُهما .
وأعني بالحسان ما أورده أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني ، وأبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي ، وغيرُهما من الأئمة في تصانيفهم رحمهم الله ؛ وأكثرها صحاح بنقل العدل عن العدل ، غير أنها لم تبلغ غاية شرط الشيخين في علو الدرجة من صحة الإسناد ، إذ أكثر الأحكام ثُبوتُها بطريق حسن .
وما كان فيها من ضعيف أو غريب أشرتُ إليه ، وأعرضتُ عن ذكر ما كان منكراً أو موضوعاً ؛ والله المستعان وعليه التكلان ).
ثم ذكر حديث (الأعمال بالنيات) ، وذكر عقبه هذه الترجمة (كتاب الإيمان) ، ثم ذكر تحتها ترجمة فرعية باسم (من الصحاح) ، ساق تحتها جملة من أحاديث الصحيحين ، ثم قال عقب ذلك : (من الحسان) وذكر تحت هذه الترجمة جملة من أحاديث ينقلها من السنن ونحوها .
لقد أنكر على البغوي هذا الاصطلاحَ ابنُ الصلاحِ وجماعة ممن كتبوا في علوم الحديث بعده .
قال ابن الصلاح في (مقدمته) (ص34) : (ما صار إليه صاحب المصابيح رحمه الله من تقسيم أحاديثه إلى نوعين : الصحاح والحسان ، مريداً بالصحاح ما ورد في أحد الصحيحين أو فيهما ، وبالحسان ما أورده أبو داود والترمذي وأشباهُهما في تصانيفهم ؛ فهذا اصطلاح لا يعرف ، وليس الحَسن عند أهل الحديث عبارة عن ذلك ؛ وهذه الكتب تشتمل على حسن وغير حسن كما سبق بيانه، والله أعلم ) .
__________
(1) أي دعا إلى ذكر اسم الصحابي .(3/105)
وقال النووي في (التقريب والتيسير) (1/165 تدريب الراوي) في صنيع البغوي هذا : (ليس بصواب، لأنَّ في السنن الصحيحَ والحسنَ والضعيفَ والمنكرَ) .
وقال الزركشي في (النكت على مقدمة ابن الصلاح) (1/342-343) : (قوله "الخامس : ما صار إليه صاحب "المصابيح" ..." إلى آخره ، قد تبعه النووي وغيره في الاعتراض على البغوي ، وهو عجيب ، لأن البغوي لم يقل : إن مراد الأئمة بالصحاح كذا وبالحسان كذا ، وإنما اصطلح على هذا رعايةً للاختصار ، ولا مشاحة في الاصطلاح ، فإنه قال ---) ؛ ثم ذكر كلام البغوي ، ثم قال : (فقد التزم بيان غير الحسن ، وبوب على الصحيح والحسن ولم يميز بينهما لاشتراك الكل في الاحتجاج في نظر الفقيه ؛ نعم في السنن أحاديث صحيحة ليست في الصحيحين ففي إدراجه لها في قسم الحسن نوع مشاحة) .
ولكن الحافظ العراقي لم يرتض هذا النوع من الدفاع عن البغوي ، فقال في (التقييد والإيضاح) (ص41) : (وأجاب بعضهم عن هذا الإيراد(1) على البغوي بأن البغوي بيَّن في كتابه "المصابيح" عند كل حديث كونَه صحيحاً أو حسناً أو غريباً فلا يرِدُ عليه ذلك ؛ قلت: وما ذكره هذا المُجيب عن البغوي ، من أنه يذكر عقب كل حديث كونه صحيحاً أو حسناً أو غريباً ، ليس كذلك ، فإنه لا يبين الصحيح من الحسن فيما أورده من (السنن) ، وإنما يسكت عليها ؛ وإنما يبين الغريب غالباً ، وقد يبين الضعيف ؛ ولذلك قال في خطبة كتابه : وما كان فيها من ضعيف أو غريب أشرت إليه ؛ انتهى ؛ فالإيراد باق في مزجه صحيح ما في السنن بما فيها من الحسن ، وكأنه سكت عن بيان ذلك لاشتراكهما في الاحتجاج به ، والله أعلم) .
وتلخيص ما يقال في هذه القضية ما يلي :
__________
(1) يعني إيراد ابن الصلاح ومن تبعه .(3/106)
1- إن البغوي استعمل اصطلاحاً لم يُسبق إليه ، ومن المعلوم أنه لا مشاحة في الاصطلاح إذا لم يكن موهماً معنى غير صحيح ، وكذلك لا يحسن تكثير الاصطلاحات من غير حاجة ، ولا يحسن ترك الاصطلاح المشهور إلى غيره مما يضاهيه ويزاحمه ، فتقع بذلك مشقةٌ على طلاب ذلك العلم وشيء من الإلباس .
واصطلاح البغوي هذا اصطلاح موهم إيهاماً ضاراً ، فكم من حديث ضعيف قد يتوهم من يقلد البغوي أنه في نقد البغوي حسن مُحتج به .
وفي هذا بعضُ ردٍّ على التاج التبريزي إذ قال - فيما حكاه عنه السيوطي في (التدريب) (1/165) - : (ولا أزال أتعجب من الشيخين (يعني ابن الصلاح والنووي) في اعتراضهما على البغوي ، مع أن المقرر أنه لا مشاحة في الاصطلاح(1) ؛ فقاعدة "لا مشاحة في الاصطلاح" ليست على إطلاقها ، وقد ذكرت في غير هذا الموضع أهم شروطها وقيودها ؛ وانظر (لا مشاحة في الاصطلاح) .
2- إن البغوي لم يقل إن كل ما في السنن حسن ، يدل على ذلك قوله (وأعرضت عن ذكر ما كان منكراً أو موضوعاً) ، إلا إن كان يريد "من غير السنن" ، ولكن هذا الاحتمال بعيد ؛ وأصْرح من هذا قوله (وما كان فيها من غريب أو ضعيف أشرتُ إليه) .
__________
(1) قال السيوطي : (وكذا مشى عليه علماء العجم ، آخرهم شيخنا العلامة الكافيَجي في مختصره) .(3/107)
3- إن البغوي لم يدَّع ، أو لم يصرِّح ، بأنَّ كل حديث يورده تحت تراجم الحسان من كتابه فهو حديث حسن ؛ ولكن قد يُفهم هذا من قوله السابق (وما كان فيها من غريب أو ضعيف أشرتُ إليه ، وأعرضت عن ذكر ما كان منكراً أو موضوعاً) ، وقد يقال : إنه لم يشترط في الإشارة إلى الغرائب والضعاف الاستيعابَ ، ويردّ على هذا بأنه ظاهر سياقه وعبارتِه ، ويعضده أن الحديث الضعيف لا يحتج به ، فالأصل عدم إيراده في كتب الأحكام غير المسندة ، أو إيراده فيها مع بيان ضعفه ، فإذن سكوت البغوي عن الحديث يؤخذ منه أن أقل رتبة لذلك الحديث المسكوت عنه هي الحسن ، إلا إن كان يورد الأحاديث الضعيفة التي تشهد لأحاديث ثابتة قبلها ، أو أنها تتقوى ببعضها ، فيرى أنه لا يحتاج للإشارة إلى ضعف هذا النوع من الأحاديث لثبوت متونها عنده في الجملة ؛ والله أعلم .
4- من المحتمل أن تكون تسمية البغوي للحسان تسمية أغلبية ، أي أنه كان يرى أن أكثر ما يورده من الأحاديث تحت عنوان (الحسان) أحاديث حسنة ، نعم فيها الصحيح الذي رأى أنه لا يحتاج إلى التنبيه على صحته(1) ، وفيها الضعيف والغريب اللذين ذكر أنه يشير إليهما .
وبعبارة أخرى : قد يكون حكم البغوي على الأحاديث التي أوردها تحت فصول الحسان حُكماً أغلبياً أو إجمالياً أو تقريبياً ، فحكم على ما اختاره من جملة أحاديث (السنن) بالحُسن ، مستثنياً ما ضعفه أو استغربه من الأحاديث فهي غير داخلة في جملة الأحاديث الملقبة بالحُسن عنده ، وأما ما فيها من الصحاح فكأنه كان يرى أنه لا يضره دمجه بالحسان .
ولكن يَرِدُ على هذا أمران :
الأول : أنه عمم اصطلاحه في كلمته التي سبقت حكايتُها فقال : (وأعني بالحسان ----) ، فأطلق ولم يقيد ، وسياقه يُشعر بأنه أراد العموم ، وقوله (وما كان فيها من ضعيف أو غريب أشرتُ إليه) لم يخْرج مخرج الاستثناء .
__________
(1) ويأتي الكلام على هذه المسألة .(3/108)
والثاني : أنه سكت عن كثير من الأحاديث الضعيفة ، فإن كانت ضعيفة عنده كيف سكت عنها خلافاً لشرطه ؟ ، وإن كانت حسنة عنده فكيف حسنها خلافاً لجمهور المحدثين ؟! .
5- لم يَفِ البغوي بالتزامه من الإشارة إلى الغريب والضعيف ، فلم يستوف الكلام على كل ما نزل عن رتبة الحسن من أحاديث (السنن) ؛ وهذا صنيع غير جيد ، وفيه تقصير منه رحمه الله ، لأن الكتاب مؤلَّف للأحكام ونحوها، وهو محذوف الأسانيد ، فلا بد من انتقاء ما يُحتج به دون سواه ، ولا بد من بيان رتبة كل حديث بياناً شافياً كافياً .
وقد يقال : لعله وفى بالتزامه فبيَّن كلَّ ما رآه غريباً أو ضعيفاً ، ولكنه كان متساهلاً في تحسين الأحاديث ، فحسَّن كثيراً من الأحاديث الضعيفة ؛ ولكن انظر النقطة السابقة الرابعة .
6- لم يتطرق البغوي أصلاً إلى بيان ما ارتفع عن رتبة الحسن من أحاديث (السنن) ، وفي السكوت عن هذا البيان مزْجٌ لصحيح ما في (السنن) بما فيها من الحسن .
وقد قلل بعض العلماء من شأن هذا الإيراد بقوله (لكن الأمر في هذا قريب ، فقد كان جماعة من المتقدمين يطلقون على الحسن اسم الصحيح ).
قلت: هذا ليس من باب إطلاق اسم الصحيح على الحسن ، ولكنه عكْسه ، أي هو من باب إطلاق اسم الحسن على الصحيح ، أو إدخال الأحاديث الصحيحة في جملة الأحاديث الحسنة ؛ والظاهر أن ذلك المقلّل لم يخْفَ عليه الفرقُ ، ولكنه أراد جواز العكس ، بقياس هذا الصنيع على ذاك وإلحاقه به ، أو أنه جائز من بابٍ أولى لأن تسمية الصحيح حسناً أقرب وأحوط من تسمية الحسن صحيحاً ، فأمر النقد مبني على الاحتياط والتثبت ؛ ولكن يَرِدُ عليه أن الحجة بالأحاديث الحسنة لا تقوم مقام الحجة بالأحاديث الصحيحة ولا ترتقي إلى درجتها عند كثير من علماء الحديث ، ولا سيما مَن تَقدم منهم .(3/109)
حسن :
الحديث الحسن له في اصطلاح المحدثين أكثر من معنى ، ولكن معانيه كلها راجعة في أصلها إلى استحسانه ؛ سواء ما كان منها متعلقاً بثبوته ، أو متعلقاً باستحسان سنده ، أو متعلقاً باستحسان متنه.
أما سند الحديث فيستحسن لغرابته وعلوه، والعلو هو أيضاً - عند التدبر - نوع من الإغراب .
وأما استحسان المتن فيكون لاستحسان معناه، أو شدة الحاجة إليه وإلى ما يستنبط منه من مسائل العلم؛ وأحياناً يكون لبلاغته وحسن ألفاظه .
ثم عُرف لفظ الحسن عند المتأخرين بمعناه الاحتجاجي المعروف؛ وفيما يلي شرحُه.
الحديث إما أن يجزم الناقد - أو يكاد يجزم - بمطابقته للواقع ، وهو الصحيح ؛ أو بضد ذلك وهو الموضوع ؛ أو يتوسط بين الجزمين ، وهو الضعيف ؛ وما بين الصحيح والضعيف يسمى عند المتأخرين الحسن ؛ وما بين الضعيف والموضوع يسمى الضعيف جداً(1) .
__________
(1) من تدبر وجد أن كل قسم من أقسام الحديث الخمسة الشهيرة عند المعاصرين والمتأخرين نوعان :
نوع محكوم عليه بذاته.
ونوع محكوم عليه بغيره.
فالصحيح : صحيح لذاته ، وصحيح لغيره ؛ وكذلك الحسن .
وهذه الأنواع الأربعة معروفة مشهورة .
والضعيف - كذلك - منه ما هو ضعيف لذاته ، أي بسبب ضعف إسناده نفسه ، أي لوجود راو ضعيف فيه ، أو لانقطاع بين رواته ، أو ما هو مظنة ذلك .
ومنه ما هو ضعيف لغيره ، أي يكون سنده في نفسه صحيحاً أو حسناً ، ولكن تدل الأصول العامة أو الأحاديث الثابتة أو الطرق الأخرى لذلك الحديث على شذوذه وتوجب تعليله وتضعيفه .
وكذلك الموضوع ، منه ما يحكم بوضعه ، لتفرد وضاع بروايته ؛ وهذا في الحقيقة محكوم عليه بذاته .
ومنه ما يروى بسند ضعيف أو ضعيف جداً وهو سالم من وجود الكذابين فيه ، ولكنه يكون موضوعاً بدلالة غيره من أسانيده على وضعه ، أي يتبين من النظر في مجموع طرقه أنه في أصله من اختلاق بعض الوضاعين وأنه قد سرقه بعضهم فأدخله على ضعيف لا يتعمد الكذب فرواه ذلك الضعيف بإسناد نظيف فتكون هذه الطريق ضعيفة فقط ، غير دالة بنفسها على وضع الحديث ، وإنما دل عليه تدبر طرقه الأخرى ومعرفة من فيها من الوضاعين والكذابين ، أو يتبين وضع ذلك الحديث من جمع أحاديث الباب وما يتعلق بها من الأحاديث والآيات وغيرها من الأمور التي قد تضر الحديث مخالفته لها ، فيكون متنه مخالفاً لما هو مقطوع به من معاني الآيات أو لما هو مجزوم بثبوته من الأحاديث أو التواريخ أو مخالفاً للمعقولات الصريحة ، مع عدم إمكان الجمع في ذلك كله .(3/110)
وأما تعريف الحسن باعتبار شروطه فهو الحديث الذي يرويه العدل الذي خف ضبطه عن مثله إلى منتهاه من غير انقطاع ولا شذوذ ولا علة ولا اضطراب .
هذا هو التعريف المشهور للحديث الحسن ، أو يقاربه .
وينقسم الحديث الحسن عند المتأخرين قسمين هما :
القسم الأول : الحسن لذاته.
والقسم الثاني : الحسن لغيره .
والأول هو الحديث الذي لم يوجد له من الأسانيد الثابتة إلا إسناد واحد حسن(1) .
والثاني : هو الحسن بمجموع طرقه اللينة ، أو بمجموع طرقه الضعيفة الصالحة للاستشهاد(2) .
هذا ما كنت كتبت أصله قبل نحو عشر سنوات ، وأنا أرى الآن أن المسألة تحتاج إلى إعادة النظر فيها ، بسبب ما استجد من دراسات حول معنى الحسن عند الإمام الترمذي رحمه الله .
وعلى كل حال فكلامي ينطبق على منهج المتأخرين في معنى هذه الكلمة عندهم ، ولذلك ألحقت في بعض المواضع السابقة لفظة (عند المتأخرين).
وجمهور المتأخرين يحتجون بالحسن ، مطلقاً ، كما يحتجون بالصحيح ، وهذا مسلك غير صحيح .
وأبعد من ذلك أنَّ جمهورهم أيضاً لا يفرقون ، في باب الاحتجاج ، بين الحسن لذاته والحسن بمجموع طرقه ؛ وهذا أيضاً غير صحيح ، فأكثر الأحاديث المحسنة بمجموع طرقها هي عند المحاققة ضعيفة لا تثبت.
__________
(1) إنما آثرتُ هذا التعريف لأحترز عن الصحيح لذاته وعن الصحيح بمجموع طرقه ، وهو ما كان له إسنادان حسنان أو أكثر ؛ وليدخل في هذا التعريف الحديث الذي ورد بسند حسن وسند آخر ضعيف أو أكثر .
(2) تنبيه : لقد تساهل كثير من المتأخرين والمعاصرين في تحسين الأحاديث الضعيفة والواهية بكثرة طرقها فينبغي الحذر من مثل هذا التساهل المخالف لطريقة أئمة الحديث وعلماء العلل .(3/111)
وليس هذا منتهى ما عندهم من انحرافات وأوهام أصولية في باب دراساتهم للحديث الحسن وما يتعلق به ؛ وقد كشفت بعضَها بعضُ الدراسات والبحوث الحديثة، منها الدراسةُ الجيدة الجادة التي قام بها الدكتور خالد الدريس حفظه الله في كتابه (آراء المحدثين في الحديث الحسن لذاته والحسن لغيره) فإنها بينت جوانب من تلك الانحرافات والمخالفات ؛ فإليك نتائج تلك الدراسة منقولةً من خاتمة الكتاب المذكور؛ فقد جاء هناك تحت عنوان (الخاتمة) ما نصه :
(فيما يلي إبراز لأهم النتائج والتوصيات :
استعمل المحدثون مسمى(1) (الحسن) لأغراض متعددة ؛ وتنوعت معانيه التفصيلية عندهم ولكن كل تحسيناتهم لا تخرج عن أحد أمرين :
أ - تحسين احتجاجي(2)
__________
(1) أرى أنه لو قال (الاسم) بدل (المسمى) لكان أولى وأصح.
(2) في هذا الاصطلاح نظر، لأنه كل حديث قوي يحتج به؛ إلا إذا كان التعبير وارداً على سبيل التغليب، ويؤيد اعتراضي هذا ما يأتي من أقسام أحاديث هذا النوع، إذ منها : حديث الراوي المختلف فيه ، والحديث الذي فيه ضعف محتمل ، والحديث الضعيف المعتضد بمثله؛ وكذلك سيأتي قوله (الراجح أن بعض الحسن لغيره يكون حجة، وأن بعضه لا يكون كذلك ، على تفصيل ذكرته فيما تقدم) ، وقوله (الصحيح أن مسألة الاحتجاج بالحسن لغيره مسألة خلافية، لا كما يزعم بعض الباحثين المعاصرين أنه إجماع أو كالإجماع).
فلو سمي (التحسين للقوة) أو (التحسين للقوة في الجملة) أو (التحسين بمطلق القوة) ، لكان أجود؛ والله أعلم.(3/112)
: وهو استحسان الحديث لقوته ويدخل في ذلك الصحيح ، والحسن لذاته ، وحديث الراوي المختلف فيه ، والحديث الذي فيه ضعف محتمل ، والحديث الضعيف المعتضد بمثله(1) .
ب - تحسين إعجابي : وهو استحسان الحديث لميزة فيه ؛ ويدخل في ذلك : الحديث الغريب ، والحديث المتضمن فائدة في الإسناد أو المتن ، والإسناد العالي ، وحسن المتن .
استعمل المحدثون الحسن في بواكير ظهوره كثيراً بمعنى الحسن الإعجابي ؛ وكان هذا الإستعمال أسبق في الظهور من الحسن الاحتجاجي .
استُعمل الحسن وأطلق على الحديث الصحيح عند الشافعي وابن المديني وأحمد بن حنبل والبخاري ويعقوب بن شيبة وغيرهم(2) .
ظهر لي من دراستي لمصطلح الحسن عند الأئمة النقاد قبل الترمذي تنوع استعمالاتهم له .
ويظهر لي من حيث العموم أنهم استعملوه بغرض عام ولم يكن لديهم تعريف محدد دقيق له.
ويظهر لي أنهم كانوا يعنون به القبول العام ، فهو أشبه ما يكون بمصطلح صالح عند أبي داود ، إذ صرح أنه ينطوي تحته الصحيح وما يشبهه وما يقاربه ، وما ليس فيه ضعف شديد .
__________
(1) فالحديث الذي يحسنه المتقدمون لقوته : هو كل حديث لم يثبت عندهم بطلانه أو نكارته أو شدة ضعفه ؛ فكلمة (حسن) في اصطلاحهم كلمة واسعة المعنى يطلقها الناقد منهم - في الغالب - على كل جديث لا يجزِم بصحته ، وليس هو عنده منكراً أو شديد الضعف، فهو محتمل عنده للصحة أو للثبوت في الجملة، بخلاف الباطل والمنكر وشديد الضعف فإنه لا يحتمل الثبوت بحال ، فالمنكر أبداً منكر؛ ولذلك لا يوصف بالحسن ، إلا إذا كان المراد بالحسن معنى آخر لا دخل له بأحكام القوة والضعف.
(2) ولكن لا يُستبعد أن يكون بعض هذه الاطلاقات وصفاً لغوياً، وليس حكماً نقدياً اصطلاحياً ، وكذلك لا يستبعد أن بعضاً آخر منها إنما أطلقه من أطلقه ، على أحاديث هي عنده حسنة فقط وليست مرتقية إلى مرتبة الصحة الاصطلاحية؛ فلا بد من التأني التام عند استقراء مصطلحاتهم في هذا الباب.(3/113)
يعد الإمام الترمذي أقدم من عرف الحسن ، كما أنه أكثر من استعماله جداً في أحكامه على أحاديث (جامعه) ، فهو بحق أشهر من استعمله بكثرة من المتقدمين.
ظهر لي بدراسة تحسينات الترمذي ، أن تعريفه للحسن لا يفهم كما ينبغي إلا بعرضه على تطبيقاته العملية .
وقد ظهر لي من جراء قيامي بذلك أن شرطه ألا يكون الراوي متهماً بالكذب يشمل الراوي المتروك وبعضَ من وُصفوا بكثرة الخطأ وليس كلهم .
ظهر لي أن الترمذي قد حسن أحاديث مع وجود مخالفة في متنها لما هو أقوى منها ؛ وبالتأمل في منهجه في دفع التعارض بين الأحاديث ترجح لي أنه - رحمه الله - لديه ميل للجمع ما دام ممكناً ولو كان فيه بعض البعد .
وظهر لي أيضاً أن مفهوم تعدد الطرق عنده يشمل تعددها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الصحابي وعن التابعي ؛ كما ترجح لي أنه شرط أغلبي وليس كلياً .
كما ظهر لي أنه أطلق (الحسن) مجرداً من أي ألفاظ أخرى ، على أحاديث ، لوجود اختلاف في رفعها ووقفها أو في وصلها وإرسالها .
تبين لي من دراسة الأحاديث التي قال الترمذي فيها : (حسن) أن 75% لها شواهد قوية لذاتها .
كما وجدته أطلق الحسن على أحاديث هي صحيحة عنده ، بل بعضها مدار سندها واحد ؛ ومع ذلك يحسن إسناداً لأحد الرواة ، ويصحح آخر [يعني إسناداً آخر للراوي نفسِه] ، مع أن الحديث من حيث المتن ومدار السند واحد ؛ فدلنا هذا التصرف منه ، رحمه الله ، على أنه يطلق الحسن على متون صحية عنده .
لم يحسن الترمذي جملة من الأحاديث في جامعه مع صلاحيتها لذلك ، وتطابق شروط الحسن فيها .
تبين لي بعد دراسة أسانيد الأحاديث التي قال الترمذي فيها : (حسن غريب) عدم دقة قول بعض أفاضل العلماء من أنه يريد بهذه العبارة الحسن لذاته .
ترجح لدي أن الترمذي يحكم على حديث متوسط الحفظ ، أو خفيف الضبط ، بالصحة حيناً ، وبالحسن حيناً ، وبالحسن مع الغرابة حيناً آخر .(3/114)
يحتج الترمذي بغالب الأحاديث التي يطلق عليها (الحسن) إلا أن بعضها لا يكون حجة عنده .
وبناء عليه فأرى أن الذهبي رحمه الله لم يحالفه الصواب حين قال : (عند المحاققة فغالب تحسينات الترمذي ضعاف).
ترجح لي أنه لا يوجد خلاف بين ما يقول فيه الترمذي (صحيح) و(حسن صحيح) ؛ وأن معنى (حسن صحيح) يعني غالباً أن الحديث روي بإسناد حسن وبإسناد صحيح ، ولو كان أحد الإسنادين لا يطابق من حيث ألفاظ متنه الإسناد الآخر ، وإنما يشهد له من حيث المعنى .
وقد ناقشت قول الحافظ ابن حجر والدكتور نور الدين عتر أن (صحيح) أقوى من (حسن صحيح) عند الترمذي وبينت بالأدلة عدم دقة ذلك.
تتفق تعاريف العلماء للحديث الحسن لذاته على أنه يمثل منزلة وسطى فوق الضعيف ودون الصحيح ؛ كما أنها تتفق على أن مما أوجب قصوره عن الصحيح وجود بعض الضعف فيه فهو بهذا الاعتبار أعلى مراتب الضعيف ، وأنزلُ مراتب الصحيح(1).
أرى أن تبيين استعمالات المحدثين للحسن أولى من صنيع بعض المصنفين في علم مصطلح الحديث من البحث عن تعريف يميز الحسن لذاته عن غيره ويكون جامعاً مانعاً ، لأنه من الثابت يقيناً أن جمهرة من علماء الحديث يطلقون الحسن على الصحيح ، وبعضهم أدخلوا الحسن لذاته في صحاحهم .
__________
(1) هذا الكلام كأنه يناقض نوعاً من المناقضة ما تقدم من قوله (تحسين احتجاجي : وهو استحسان الحديث لقوته ويدخل في ذلك الصحيح ، والحسن لذاته ، وحديث الراوي المختلف فيه ، والحديث الذي فيه ضعف محتمل ، والحديث الضعيف المعتضد بمثله)، إلا إذا أراد بعبارة (الحسن لذاته) مرادَها عند المتأخرين؛ وإلا لوردت عليه أمور منها أن يقال : أليس حديث الراوي المختلف فيه ، والحديث الذي فيه ضعف محتمل : حديثاً حسناً لذاته عند من يحسنه لذاته من المتقدمين؟!(3/115)
لم أجد من المحدثين قبل ابن الصلاح من قصَرَ (الحسن) في استعماله على الحديث الحسن لذاته ، فقط ، إلا أن عدداً من المحدثين قبل ابن الصلاح يدخلون الحسن لذاته فيما يحسنونه باعتبار أن لفظ (الحسن) علَم على الحديث المقبول غير المردود في نظر من استحسنه إذا كان تحسينه للاحتجاج .
ترجح لي صحة كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في أن الترمذي هو أول من أشتهر عنه تقسيم الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف ، وكان غالب صنيع الأئمة قبله تقسيم الحديث إلى صحيح وضعيف ؛ ولم يكن التقسيم الثلاثي مستقراً ومشتهراً قبل الترمذي .
ولا يلزم من هذا نفي استعمال لفظ (الحسن) في وصفهم للأحاديث ، لأن ورود اللفظ في عباراتهم لا يعني أن للحسن عندهم منزلة وسطى بين الصحيح والضعيف .
من الملفت للنظر أن كتب أصول الحديث القديمة كـ (المحدث الفاصل) و (معرفة علوم الحديث) و(الكفاية) خلت تماماً من أي تعريف للحديث الحسن ، بل حتى تعريف الترمذي لم يتطرقوا إليه .
الصحيح أن حديث المختلف في توثيقه لا يعد كله حسناً ؛ بل يقسم إلى ثلاثة أقسام :
الأول : رواة يمكن التفصيل في مروياتهم .
الثاني : من لا يمكن التفصيل في مروياتهم ولكن يمكن الترجيح بين الموثفين والمضعفين ببعض المرجحات المعتبرة .
الثالث : في حالة عدم التمكن مما تقدم يحكم على حديث المختلف فيه بأنه صدوق يخطىء ولا يحتج بما ينفرد به .
تبين لي رجحان قول من لم يحتج بحديث الصدوق إذا انفرد بما لا يحتمل له والاحتجاج بتفرده إذا كان محتملاً.
الحسن لذاته حجة إذا كان راويه لم ينفرد بما لا يحتمل له ، وحققت أن ما قيل من أن البخاري لا يحتج بالحسن كلام باطل ، وأن الادعاء بأن أبا حاتم الرازي لا يحتج بالحسن مطلقاًًً غير صحيح وتنقصه الدقة ؛ وكذا الزعم بأن أبن العربي المالكي لا يحتج به مطلقاً هو زعم تناقضه الأدلة الواضحة من كلامه .
حقيقة الحسن لغيره هو اعتضاد حديث ضعيف صالح للتقوية بحديث مثله .(3/116)
وأما تقوية حديث ضعيف بحديث صحيح، فالأولى في نظري عدم إدراجه في الحسن لغيره.
ترجح لي أن مجموع الطرق الضعيفة لا تبلغ بالحديث إلى مرتبة الصحيح لغيره ، إلا أن يوجد حديث حسن لذاته يعضد تلك الطرق الضعيفة .
ترجح لي أن مرسل التابعي الكبير ، بعد اعتضاده ، لا يكون في نظر الشافعي حجة ملزمة كما هي الحال في الحديث المتصل الصحيح.
كما أن الشافعي فيما ظهر لي لم يقل بتقوية شيء من الأحاديث الضعيفة بغيره ، إلا مرسل التابعي الكبير فقط.
من أهم شروط تقوية الحديث الضعيف غير ما ذكره الترمذي في تعريفه للحسن : شرطُ حصول غلبة ظن من مجموع الطرق الضعيفة ؛ وهذا الشرط يستلزم النظر في جملة من القرائن المانعة من الاعتبار ببعض الأسانيد الضعيفة .
لم يلتزم النقاد المتقدمون بتقوية كل ضعيف معتبر به إذا كان للمتن الذي يرويه شاهد من وجه آخر ، ولو كان محفوظاً وثابتاً، كما أن هناك جملة من الأحاديث قواها بعض المتأخرين لمجموع طرقها، ولم يفعل بعض المتقدمين ذلك .
الراجح أن بعض الحسن لغيره يكون حجة، وأن بعضه لا يكون كذلك ، على تفصيل ذكرته فيما تقدم.
الصحيح أن مسألة الاحتجاج بالحسن لغيره مسألة خلافية، لا كما يزعم بعض الباحثين المعاصرين أنه إجماع أو كالإجماع).
هذا كله كلام الدكتور خالد ، فجزاه الله خيراً(1) .
__________
(1) وهذه تتمة خاتمته وختامُها :
(ومن أهم التوصيات التي أراها جديرة بالذكر ما يلي :
1 - يحتاج لفظ (صالح) المستعمل للحكم على الأحاديث عند المتقدمين إلى دراسة استقرائية تبين مقاصد الأئمة الذين استعملوه ومعانيه عندهم.
2- من الضرورة أن تجرى دراسة استقرائية للمسائل الفقهية التي اعتمد فيها الإمام أحمد ابن حنبل على أحاديث غير صحيحة في نظره أو وفق منهجه، وتبين طريقته في ذلك، وهل يعتمد على الحديث فقط أم يعضد بأدلة أو قرائن أخرى؟ وما هي الأحاديث التي كان ينبغي أن يحتج بها ولم يفعل؟ ولماذا لم يحتج بها؟ فيركز على جوانب الترك كما يركز على جوانب الإثبات، فعدم احتجاجه بحديث ولو لم يذكره لا يقل أهمية عما ذكره واحتج به.
3 - حبذا لو جُمعت أخطاء الثقات ، والصدوقين الموصوفين بعدم تمام الضبط ، حتى يتيسر على الباحث معرفة كلام النقاد المشتت في عدد من كتب العلل والتخريج وكتب الجرح والتعديل في أخطاء أولئك الرواة الذين يعامل حديثهم عند الكثيرين بأنه مقبول مطلقاً.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين) .(3/117)
ولقد ورد على لسان طائفة من المتقدمين وصفُ الإسناد - أو الحديث - بالحُسن ، بمعانٍ أخرى غير المعنى الاصطلاحي المشهور بين المتأخرين ؛ من تلك المعاني الحسن المعنوي ، ومنها الغرابة ، أو حسن الحديث لغرابته، وقد تكون الغرابة شديدة بالغة حد النكارة(1).
وهذه أمثلة من كلام المتقدمين لوصفهم الحديث أو إسناده بأنه (حسن) من غير أن يريدوا بذلك ما يريده المتأخرون من أنه محتج به، بل يريدون أحد هذه المعاني المشار إليها :
1- ذكر الحافظ الذهبي في ترجمة عباس الدوري من (السير) (12/523) عن الأصم ، أنه قال فيه : (لم أر في مشايخي أحسن حديثاً منه) ؛ ثم قال الذهبي : (يُحتمل أنه أراد بـ " حُسن الحديث " : الإتقان ، أو أنه يتبع المتون المليحة ، فيرويها ، أو أنه أراد علو الإسناد ، أو نظافة الإسناد ، وتركه رواية الشاذ والمنكر ، والمنسوخ ، ونحو ذلك ؛ فهذه أمور تقتضي للمحدث إذا لازمها أن يقال : ما أحسن حديثه).
2- روى الخطيب في كتابه (الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع) (2/100) تحت هذه الترجمة (استحباب رواية المشاهير والصدوف عن الغرائب والمناكير) والسمعاني في (أدب الإملاء والاستملاء) (ص59) عن إبراهيم بن يزيد النخعي، أنه قال : (كانوا يكرهون إذا اجتمعوا، أن يخرج الرجل أحسن حديثه، أو أحسن ما عنده).
__________
(1) فأصل تحسين الحديث أو وصفه بالحسْن هو استحسانه ؛ والحديث يستحسن إما لقوة سنده ، أو لحسن معناه، أو لحسن سنده ، ومرادي هنا بحسن السند علوه المطلق أو النسبي ، واشتماله على اللطائف ، أو غرابته المطلقة أو النسبية ، أو اشتماله على بعض اللطائف السندية ، أو وجود عدد من الأئمة في طبقاته ، أو نحو ذلك.(3/118)
قال الخطيب - وتبعه السمعاني - : (عنى إبراهيم بالأحسن : الغريب ؛ لأن الغريب غير المألوف يُستحسن أكثر من المشهور المعروف ، وأصحاب الحديث يُعبِّرون عن المناكير بهذه العبارة(1) ، ولهذا قال شعبة بن الحجاج---) ؛ ثم أسند عنه الأثر التالي .
3- روى الخطيب في (الجامع) (2/100) عن أمية بن خالد قال : (قيل لشعبة : ما لك لا تروي عن عبد الملك بن أبي سليمان [يعني العرْزمي] وهو حسن الحديث ؟ فقال : من حُسْنِها فررت).
4- قال عبدالملك الميموني في (سؤالاته) (352) : (سألته [يعني الإمام أحمد] عن ابني بريدة ، فقال: سليمان أحلى في القلب، وكأنه أصحهما حديثاً، وعبدالله له أشياء ، إنا ننكرها من حسنها، وهو جائز الحديث)(2) .
__________
(1) قال الشيخ طارق عوض الله في (الإرشادات) (ص136-137) : (ومما يؤكد صحة تفسير الخطيب البغدادي للفظ (الحسن) في كلمة النخعي هذه بـ (الغريب) و (المنكر) ؛ أمران :
الأول : أن الإمام أبا داود ذكر كلمة النخعي هذه في "رسالته إلى أهل مكةَ"، بلفظ : (كانوا يكرهون الغريب من الحديث).
ورواه الخطيب في (شرف أصحاب الحديث) (ص 125 - 126) بلفظ : (كانوا يكرهون غريب الكلام ، وغريب الحديث).
فإن كان اللفظان من قول النخعي، فهذا خير ما يُفَسَرُ به ؛ وإن كان لفظ "الغريب" من تصرف بعض الرواة عنه، فهذا يدل على أن إطلاق "الحسن" على "الغريب" كان معروفاً ؛ وإن كان من تصرف أبي داود نفسه ، فهذا تفسير من أبي داود "للحسن" بأنه مرادف "للغريب" وحسبك به.
الثاني : أن الرامهرمزي ذكرها في (المحدث الفاصل) (ص561) في (باب : من كره أن يروي أحسن ما عنده)، مع نصوص أخرى عن أهل العلم في ذم الغرائب والمناكير.
هذا فضلاً عن دلالة السياق ؛ فإن " الحسن " الاصطلاحي لا يكره أحد روايته ولا التحديث به ، بينما هذا شأنهم مع المنكر) .
(2) ونقل هذا القولَ ابنُ عبدالهادي في (بحر الدم) (ص185).(3/119)
5- روى الرامهرمزي في (المحدث الفاصل) (ص563) في باب (من كره أن يروي أحسن ما عنده) عن عبد الله بن داود [هو الخُرَيْبي] ، قال : قلت لسفيان : يا أبا عبد الله ! حديث مجوس هجر؟ قال : فنظر إليّ، ثم أعرض عني؛ فقلت : يا أبا عبد الله ! حديث مجوس هجر؟ قال : فنظر إليّ ، ثم أعرض عني؛ ثم سألته، فقال له رجل جنبه؛ فحدَّثني به(1)؛ وكان إذا كان الحديثُ حسناً لم يكد يحدث به.
و "الحسن" هاهنا بمعني المنكر ، أو الغريب؛ فلا بدّ من تفسيره بهذا التفسير(2).
6- قال علي بن المديني في (العلل) (ص94) (159) في حديث يعقوب القمي عن حفص بن حميد عن عكرمة عن ابن عباس عن عمر رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إني ممسك بحجزكم عن النار" : (هذا حديث حسن الإسناد ، وحفص بن حميد مجهول لا أعلم أحداً روى عنه إلا يعقوب القمي ، ولم نجد هذا الحديث عن عمر إلا من هذا الطريق وإنما يرويه أهل الحجاز من حديث أبي هريرة)(3).
__________
(1) أي طلب رجل من سفيان - وكان جالساً جنبه - أن يحدِّث الخريبيَّ بهذا الحديث ، ففعل.
(2) قال طارق عوض الله في (الإرشادات) (ص137-138): (ولعل هذا الحديث هو ما سأله عنه يحيى القطان؛ وذلك فيما قال يحيى القطان : سألت سفيان عن حديث حماد ، عن إبراهيم في الرجل يتزوج المجوسية ، فجعل لا يحدثني به ، مَطَلَني به أياماً ، ثم قال : إنما حدثني به جابر ـ يعني : الجعفي ـ ، عن حماد ؛ ما ترجو به؟! أخرجه ابن أبي حاتم في (التقدمة) (ص 69) والعقيلي (1/195)؛ والله أعلم).
(3) قال يعقوب بن شيبة في (مسند عمر بن الخطاب) (ص82-83) مثلَ قولِ ابن المديني.
وقال الشيخ طارق عوض الله في (الإرشادات) (ص140) : (ومقتضى هذا أن الحديث منكر عنده من هذا الوجه ؛ وبهذا يظهر معنى قوله "حسن الاسناد").
قلت : نعم، يظهر أن مراده بحسن الإسناد غرابته ، ثم إن إغراب المجهول بحديث وشذوذه فيه يجعله في عداد الأحاديث المنكرة.(3/120)
7- قال البرذعي في (سؤالاته) (2/361) : (قال لي أبو زرعة : خالد بن يزيد المصري وسعيد بن أبي هلال صدوقان ؛ وربما وقع في قلبي من حسن حديثهما)؛ يعني غرابة حديثهما.
8- حكى البرذعي أيضاً في (سؤالاته) (2/368) عن أبي زرعة ، أنه قال : (زياد البكائي ، يهم كثيراً ، وهو حسن الحديث).
قال الشيخ طارق عوض الله : (ومن يهم كثيراً ، فهو ضعيف)؛ قلت : هو محتمل لأكثر من معنى، ولكن هذا المعنى - وهو وصف الراوي بالضعف - أقربها.
9- قال أبو حاتم الرازي في (الجرح والتعديل) (2م166-167) : (أبو إسرائيل المُلائي ، حسن الحديث ، جيد اللقاء ، له أغاليط ، لا يحتج بحديثه ، ويُكتب حديثه ، وهو سيء الحفظ) .
فهذا الراوي الأقرب أنه بمنزلة دون منزلة من يقال فيه صدوق ليحسَّن حديثه بالمعنى المعروف عند المتأخرين ، بدليل ما قرن بتحسين حديثه من العبارات الأخرى المانعة من الاحتجاج به .
10- روى ابن عبد البر في (جامع بيان العلم وفضله) (ص 94 - 95) حديث معاذ ، مرفوعاً : (تعلموا العلم ؛ فإن تعلمه لله خشية ، وطلبه عبادة ...) - الحديث .
ثم قال ابن عبد البر : (حديث حسن جداً ! ولكن ليس له إسناد قوي)!!
قال العراقي في (التقييد والإيضاح) : (أراد بـ " الحسن " حسن اللفظ قطعاً ؛ فإنه من رواية موسى بن محمد البلقاوي عن عبد الرحيم بن زيد العمي ؛ والبلقاوي هذا كذاب ؛ كذبه أبو زرعة وأبو حاتم ، ونسبه ابن حبان والعقيلي إلى وضع الحديث ؛ والظاهر أن هذا الحديث مما صنعت يداه ؛ وعبد الرحيم بن زيد العمي متروك الحديث أيضاً).
11- روى ابن عبد البر في (التمهيد) (6/55) حديثاً منكراً يرويه بعض الضعفاء ، عن مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر ، مرفوعاً : (من قال في يوم مئة مرة : لا إله إلا الله الحق المبين ----) - الحديث .
ثم قال : (وهذا لا يرويه عن مالك من يوثق به ، ولا هو معروف من حديث، وهو حديث حسن، ترجى بركته ، إن شاء الله تعالى)! .(3/121)
12- قال العقيلي في (ضعفائه) (4/1241-1242 / دار الصميعي) : (1640- محمد بن شجاع النبهاني : مروزي حدثني عبد الله بن محمد بن سعدويه المروزي حدثنا أحمد بن عبد الله بن بشير المروزي حدثنا سفيان بن عبد الملك قال : سمعت ابن المبارك يقول : محمد بن شجاع ليس بشيء ولا يعرف الحديث.
حدثني الفضل بن عيسى الهاشمي حدثنا هدية بن عبد الوهاب حدثنا الفضل بن موسى قال : قال عبد الله بن المبارك : اخرُجْ إلى هذا الشيخ فائتني بحديثه ، يعني محمد بن شجاع ؛ قال : فذهبت أنا وأبو تميلة فأتيته بحديثه ، فنظر ابن المبارك في حديثه فقال : لا إله إلا الله ما أحسن حديثه !
حدثني آدم قال : سمعت البخاري قال : محمد بن شجاع النبهاني مروزي سكتوا عنه(1).
حدثنا يحيى بن عثمان حدثنا نعيم بن حماد قال : محمد بن شجاع ضعيف ، أخذ ابن المبارك كتبه وأراد أن يسمع منه فرأى منكرات فلم يسمع منه----).
فانظر كيف قرن ابن المبارك قوله (ما أحسن حديثه) بكلمة (لا إله إلا الله) الدالة في مثل هذا المقام على الاسترجاع ، والذي يُفهم منه الاستغراب ، بل الاستنكار، والتعجب، وعدم الرضا(2).
وقال الشيخ طارق في (الإرشادات) (ص141) عقب تفسيره لعبارة ابن المبارك المذكورة (لا إله إلا الله ما أحسن حديثه) بقوله : (أي ما أنكرها ، وأبعدها عن الصحة) ؛ قال : (ويدل على ذلك أمور :
الأول : أن نعيم بن حماد حكى هذه القصة ، وذكر أن ابن المبارك أنكر أحاديثه ، وضعفه من أجلها----.
الثاني : أن ابن المبارك ، قد صرح في رواية أخرى بضعف محمد بن شجاع هذا ، بل بضعفه جداً ؛ فقال : "محمد بن شجاع ؛ ليس بشيء ، ولا يعرف الحديث".
__________
(1) التاريخ الكبير (1/115).
(2) ويؤخذ من هذه القرينة أن معنى كلمة ابن المبارك هذه (ما أحسن حديثه) مخالف لمعناها الذي شرحه الذهبي كما يأتي قريباً ، وذلك لاختلاف السياق والقرينة.(3/122)
الثالث : أن غيره من الأئمة قد ضعفوه جداً ؛ قال البخاري وأبو حاتم : "سكتوا عنه" ؛ وقال أبو علي محمد بن علي بن حمزة : "ضعيف الحديث ، وقد تركوه").
13- روى النسائي في (السنن) (4/142)، عن أبي بكر بن خلاد ، عن محمد بن فضيل ، عن يحيى بن سعيد الأنصاري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، مرفوعاً : (تسحروا ؛ فإن في السحور بركة).
ثم قال النسائي : (حديث يحيى بن سعيد هذا ؛ إسناده حسن ، وهو منكر ، أخاف أن يكون الغلط من محمد بن فضيل).
قال الشيخ طارق في (الإرشادات) (ص142) : (و "الحسن" هنا بمعنى الغريب ؛ لأن " الحسن " الاصطلاحي لا يجامع " المنكر " ولا " الغلط " .
ولا يقال : لعل الإمام النسائي إنما يصف الإسناد بالحسن ، والمتن بالنكارة وأن الضمير في قوله : " هو " عائد إلى المتن ، وكما هو معلوم لا تلازم بين الحكم على الإسناد والحكم على المتن .
لا يقال ذلك ؛ لأن هذه الأوصاف الثلاث " الحسن " و " المنكر " و" الغلط " ، إنما أطلقها النسائي على إسناد هذا الحديث دون متنه ؛ فإن هذا المتن صحيح ثابت ، وقد أخرجه البخاري ومسلم من غير هذا الوجه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكذلك أخرجه النسائي في أول الباب من هذا الوجه الصحيح؛ ويُستبعد على مثل الإمام النسائي أن يخفى عليه صحة هذا المتن ؛ لا سيما مع قوله : " أخاف أن يكون الغلط من محمد بن فضيل " ؛ فإن ابن فضيل لم يتفرد بالمتن ، وإنما تفرد بهذا الإسناد فقط ؛ فالإمام النسائي إنما ينكر رواية هذا المتن بهذا الإسناد، ويرى أن ابن فضيل أخطأ في إسناده ، دخل عليه إسناد حديث في إسناد حديث آخر). انتهى كلامه.
14- قال ابن عدي في ترجمة سلام بن سليمان المدائني من (الكامل) : (هو عندي منكر الحديث) ، ثم ذكر له أحاديث كثيرة ، وختم الترجمة بقوله : (ولسلام غير ما ذكرت ، وعامة ما يرويه حِسان ، إلا أنه لا يتابع عليه).(3/123)
15- نقل ابن عدي في ترجمة الضحاك بن حُمْرَة(1) من (الكامل) تضعيفه عن غير واحد من أهل العلم ، ثم ساق له عدة أحاديث مما أنكر عليه ، ثم قال في آخر الترجمة : (وله غير ما ذكرت من الحديث ، وليس بالكثير ، وأحاديثه حسان غرائب).
16- قال الخليلي في (الإرشاد) (3/912-913) : (232) حدثني محمد بن عبد الله الحافظ وأنا سألته حدثنا علي بن محمد ابن عبد الله المروزي حدثنا محمد بن موسى الباشاني حدثنا الفضل بن خالد أبو معاذ حدثنا أبو عصمة نوح ابن أبي مريم عن داود بن أبي هند عن النعمان بن سالم عن يعقوب بن عاصم عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يخرج الدجال في آخر الزمان فيلبث أربعين لا أدري قال ليلة أو شهراً أو سنة، ويبعث الله المسيح عيسى بن مريم فيقتله ويبقى في أمتي سبعين سنة ؛ وذكر الحديث ؛ لم يروه عن داود إلا نوح ، وإن كان ضعيفاً ؛ والحديث غريب جداً حسن ، لم يروه غير الباشاني). انتهى.
والباشاني قال فيه الخليلي قبيل إخراجه لحديثه هذا : (سمع أبا معاذ الفضل بن خالد وعلي بن الحسن بن شقيق وغيرهما صاحب غرائب أكثر عنه الحبيبي مات بعد التسعين ومئتين).
17- قال ابن أبي حاتم في (العلل) (1/133) (365) : (قُلتُ لأبي : من ربِيعة بن الحارِثِ ؟ قال : هُو ربِيعةُ بنُ الحارِثِ بنِ عَبدِ المُطّلِبِ ؛ قُلتُ : سمِع مِن الفضلِ ؟ قال : أدركهُ ؛ قُلتُ : يُحتجُّ بِحدِيثِ ربِيعة بنِ الحارِثِ ؟ قال : حسنٌ ؛ فكرّرتُ عليهِ مِرارًا فلم يزِدنِي على قولِهِ "حسنٌ " ؛ ثُمّ قال : الحُجّةُ ، سُفيانُ ، وشُعبةُ ) .
وفيما يلي مثال من كلام المتأخرين :
18- ساق الذهبي في (السير) (2/94) حديثاً من طريق أبي صالح ذكوان عن صهيب مولى العباس ؛ ثم قال - أي الذهبي - : (إسناده حسن، وصهيب لا أعرفه)! .
__________
(1) حمرة بضم الحاء المهملة، وبالراء المهملة.(3/124)
وهناك أمثلة أخرى من كلام الإمام الدارقطني ذكرها وتكلم عليها الشيخ طارق عوض الله في (الإرشادات) (ص145-150) ؛ وقد قال في آخر كلامه على آخر حديث منها : (فالحاصل أن إطلاق الدارقطني لفظ "الحسن" على هذا الحديث : ليس من باب الإطلاق الاصطلاحي ، بل بمعنى الغريب والمنكر ، كما سبق) .
وكان قال قبل ذلك (ص148) عقب حديث قال فيه الدارقطني : "إسناده حسن" : (وقول الدارقطني هذا ، لا يمكن حمله على "الحسن" الاصطلاحي ؛ وإنما هذا بمعنى الغريب أو المنكر، على نحو ما يُعرف عن المتقدمين) .
وكان قبل ذلك قد قال (ص134-135)(1) ، بعد تخريجه لحديث حسنه الدارقطني : (والحاصل أن تحسين الإمام الدارقطني لحديث سعيد بن بشير : ليس من باب التحسين المصطلح عليه والذي جرى عليه عرف الأئمة المتأخرين ، والذي يقتضي أن الراوي المتفرد بالحديث صدوق الحفظ، وأن الحديث حجة وثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ وإنما هو تحسين جارٍ على اصطلاح العلماء المتقدمين ، حيث يطلقون "الحسن" أحياناً ويريدون به الحسن المعنوي ، وأحياناً أخرى يريدون به الغرابة والنكارة.
وكلا المعنيين لا يدل على ثبوت الحديث الذي وصفوه بهذا الوصف "الحسن" ، ولا على صدق الراوي الذي تفرد به في حفظه وضبطه ) .
وقبل ذلك قال في هذا المعنى أيضاً (ص130-132) في تضاعيف تخريجه للحديث المشار إليه (حديث سعيد بن بشير) :
(إن لفظ " الحسن " هاهنا ، لم يُرِد به الإمام الدارقطني المعنى المتبادر والمتقرر لهذا المصطلح لدى العلماء المتأخرين ، والذي يقتضي ثبوت الحديث ، وصدق الراوي المتفرد به في الحفظ .
__________
(1) أي قبل أمثلة الدارقطني المشار إليها .(3/125)
وإنما أراد به أحد معنيين ، لا ثالث لهما ، من المعاني التي يعنيها العلماء المتقدمون عند إطلاق هذا اللفظ ، وكلاهما لا يدل على ثبوت الحديث ، ولا على صدق الراوي ، عند من أرادهما أو أحدهما(1) .
والمعنى الأول : الحسن المعنوي .
أي : أن المعنى الذي تضمنته رواية سعيد بن بشير معنى حسن مقبول ؛ صحت الرواية به ، أو لم تصح---- .
المعنى الثاني : الحسن بمعنى الغريب والمنكر----) ؛ انتهى .
وللشيخ عمرو عبد المنعم سليم في كتابه (الحديث الحسن بمجموع طرقه) كلامٌ يؤيد هذا المذهب في الجملة ، فليرجع إليه من يتيسر له ذلك .
وقال الشيخ محمد حاج عيسى الجزائري في بحث له في معنى وحجية الحديث الحسن عند الشافعي في (التصحيح والتوضيح لمنهج الشافعي في الأصول جمعاً وتخريجاً) وهي الرسالة التي قدمها للحصول على شهادة الماجستير في أصول الفقه :
(إن من المسائل المتعلقة بحجية أخبار الآحاد، البحث عن حجية ما اصطلح المحدثون المتأخرون على تسميته حديثاً حسناً، وهو رواية من خف ضبطه من الرواة، وكذا ما ضعف إسناده وتعددت طرقه ، أعني الحسن لذاته والحسن لغيره .
والمسألة وإن كانت حديثية لم أر من أهل الأصول من تعرض لها، إلا أني رأيت لربطها بالأصول وجهاً، وذلك من حيث كونها متعلقة بالحجية .
__________
(1) قال في هامش هذا الموضع : (ليس معنى هذا أن المتقدمين لا يُطلقون هذا المصطلح على المعنى المتقرر عند المتأخرين ، أي : الحسن لذاته والحسن لغيره ، وإنما أعني أن هناك معاني أخرى أرادها المتقدمون من إطلاق هذا المصطلح أحياناً ، ولم يَجْرِ عليها عرفُ المتأخرين أو أكثرِهم .
وقد ذكرت في كتابي "لغة المحدث" (ص54-58) أمثلة على إطلاق المتقدمين "الحسن" على الصحيح ، وعلى الحسن الذاتي ، وأيضاً على الحسن لغيره ، والإمام الترمذي - وهو متقدم - من أكثر الذين أطلقوا "الحسن" على إرادة "الحسن لغيره" ، كما هو معلوم ) .(3/126)
وقد وجدت للشافعي فيها آراء ونصوصاً كان لزاماً تجلية ما خفي منها كموقفه من رواية من خف ضبطه، وتوضيح ما التبس منها كلفظ "الحسن" الوارد على لسانه ؛ وقد جعلت البحث في المبحثين الآتيين .
المبحث الأول : مفهوم لفظ الحسن عند الشافعي .
المبحث الثاني : حجية الحديث الحسن الاصطلاحي عند الشافعي .
المبحث الأول : مفهوم لفظ "الحسن" عند الشافعي :
مما ينبغي البحث فيه وتحقيق معناه "لفظ الحسن" الذي وصف به الشافعي رحمه الله تعالى بعض الأحاديث ، هل هو موافق لما اصطلح عليه المتأخرون أم هو مباين له ؛ وللوصول إلى ذلك فإنه لابد من استحضار المواضع التي ورد فيها هذا الاصطلاح جميعها .
المطلب الأول : نصوص الشافعي :
قد ورد ذكر الحسن على لسان الشافعي في عدة مواضع من مصنفاته ، [و]هذا ما تيسر لي جمعه .
الفرع الأول : ما قبِله من الأخبار :
أولا : قال الشافعي :« وسمعت من يرويه بإسناد حسن أن أبا بكرة ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم أنه ركع دون الصف فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : زادك الله حرصاً ولا تعد » .
قال البيهقي :« أخبرناه أبو الحسن علي بن أحمد بن عبدان قال أخبرنا أحمد بن عبيد قال حدثنا تمتام قال حدثنا أبو عمر قال حدثنا همام عن زياد الأعلم عن الحسن عن أبي بكرة أنه دخل المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم راكع ، فركع قبل أن يصل إلى الصف . فقال النبي صلى الله عليه وسلم :« زادك الله حرصاً ولا تَعد». رواه البخاري في الصحيح عن موسى بن إسماعيل وعن همام » .
ثانياً : قال الشافعي: « وحديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم مسند حسن الإسناد أولى أن يثبت منه لو خالفه » ؛ يعني أن حديث ابن عمر أرجح سنداً لو ثبت التعارض بين اللفظين ، لكن الحديث المخالف إسناده مرسل ولفظه عام .(3/127)
وحديث ابن عمر كان أسنده قبلُ :« فقال أخبرنا مالك عن يحيى بن سعيد عن محمد بن يحيى بن حبان عن عمه واسع بن حبان عن عبد الله بن عمر أنه كان يقول: « إن أناساً يقولون إذا قعدت على حاجتك فلا تستقبل القبلة ولا بيت المقدس » . قال ابن عمر : « لقد ارتقيت على ظهر بيت لنا ، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على لبنتين مستقبلاً بيت المقدس لحاجته » ؛ والحديث في الصحيحين .
ثالثا : قال الشافعي :« أخبرني مطرف بن مازن وهشام بن يوسف بإسناد لا أحفظه غير أنه حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم فرض على أهل الذمة من أهل اليمن ديناراً كل سنة » .
ومن المحتمل أن يكون المقصود بهذا الخبر خبر أبي بكر بن عياش عن عاصم عن أبي وائل عن مسروق عن معاذ بن جبل قال: « بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن ، وأمرني أن آخذ من كل حالم ديناراً أو عدله معافر » ؛ فقد رواه الشافعي في القديم -كما نص عليه البيهقي - من طريق الأعمش عن أبي وائل .
الفرع الثاني : ما لم يقبله من هذه الأخبار :
أولاً : قال الشافعي: « أما أحد الحديثين فليس مما يثبت أهل العلم بالحديث لو انفرد، وأما الحديث الآخر فحسن الإسناد ولو كان منفرداً ثبت والذي يخالفه أكثر وأثبت منه ؛ وإذا كان هكذا كان أولى ومع الذي خالفه ظاهر القرآن كما وصفت وهو قول الأكثر من العامة ».
وهذا الحديث هو حديث الرش على ظهور القدمين في الوضوء وقد وصفه قبل ذلك بأنه صالح الإسناد .(3/128)
قال البيهقي : « وأراد الشافعي بالحديث الثاني ما أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان قال أخبرنا أحمد بن عبيد قال حدثنا عبيد بن شريك قال حدثنا أبو الجماهر قال حدثنا عبد العزيز بن محمد عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن ابن عباس أنه قال : «توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأدخل يده في الإناء فاستنشق ومضمض مرة واحدة، ثم أدخلها فصب على وجهه مرة ، وعلى يده مرة ومسح برأسه وأذنيه مرة ، ثم أخذ بملء كفه ماء فرَّش على قدميه وهو منتعل » ؛ ثم أسنده من طريق هشام بن سعد قال: « حدثنا زيد بن أسلم » ، وبين أنه رواه جماعة أخرى عن زيد بن أسلم ، ثم قال : « قال ذكر كل واحد منهم في حديثه أنه أخذ غرفة من ماء فغسل رجله اليمنى ثم أخذ غرفة أخرى فغسل رجله اليسرى أو ما في معنى الحديث» ؛ ثم قال : « وهشام بن سعد وعبد العزيز بن محمد ليسا من الحفظ بحيث يُقبل ما ينفردان به، وكيف وقد خالفهما عدد ثقات » .
ثانياً : قال الشافعي :« أخبرنا محمد بن إسماعيل عن ابن أبي ذئب عن الحارث بن عبد الرحمن عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ، وذكر "فاجلدوه ... الحديث » ؛ قال الشافعي : « وقد بلغني عن الحارث بن عبد الرحمن فضل وعنده أحاديث حسان ، ولم يحفظ عن أحد من أهل العلم بالرواية عنه إلا ابن أبي ذئب ولا أدري هل كان يحفظ الحديث أوْ لا ؟ وقد روى من حديث عمرو بن شعيب … وروي من حديث أبي الزبير ... » ؛ ثم قال : « فإن كان شيء من هذه الأحاديث ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فقد روي عن النبي نسخُه بحديث أبي الزبير، وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم مثلها بنسخه مرسلا » .
ثالثاً : نقل الحافظ ابن حجر أن الشافعي أطلقه على حديث منصور عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود في السهو، أي الذي فيه أن السجود بعدي، والشافعي يقول إن سجود السهو قبلي. ولم أقف على كلام الشافعي .(3/129)
المطلب الثاني : بيان مفهوم لفظ "الحسن" عند الشافعي :
إنَّ بيان مفهوم الخبر الحسن عند الشافعي أو عند أي إمام من الأئمة لا بد أن يناقش فيه أمران مهمان: الأول هل كان يطلق على المقبول أم على المردود أم على كليهما؟ ثم في كل الأحوال ما هو الوصف الذاتي المقتضي للحسن؟ فإن كان يطلقها مثلا على المقبول فلماذا فرق بينه وبين الصحيح ، وإن كان مردوداً فلِمَ فرق بينه وبين الضعيف وإن أطلقه على المقبول والمردود معا فما فائدة هذا الوصف إن لم يكن القبول والرد ؟
الفرع الأول: المنقول عن الشافعي وغيره من الأئمة المتقدمين :
من الناس من حمل كلام الأئمة المتقدمين جميعاً على الاصطلاح الحادث بمعنييه ولا شك أن هذا غير جائز إلا بعد إثبات ذلك بالاستقراء والتتبع والدراسة المتأنية لكلام كل إمام بمفرده، أما حمل كلام المتقدمين على اصطلاحات المتأخرين من دون ذلك فغلط واضح ؛ وقد وجد من أطلق وصف الحسن وأراد غرابة الإسناد وانفراد رواته، ولهذا أطلقه على المقبول والمردود، ووجد من أطلقه على غير الاصطلاح وأراد المعنى اللغوي أو حسن المتن وذلك عند المتقدمين والمتأخرين أيضاً، ووجد غير هذا .
وقد نقل الحافظ العراقي عن الشافعي إطلاق الحسن، وظاهر كلامه أن الشافعي يريد به الحسن الاصطلاحي الذي توصل إليه ابن الصلاح .
أما الحافظ ابن حجر فقال :« لكن منهم من يريد بإطلاق ذلك المعنى الاصطلاحي ، ومنهم من لا يريده. أما ما وجد في عبارة الشافعي ومن قبله ، بل في عبارة أحمد بن حنبل فلم يتبين لي منهم إرادة المعنى الاصطلاحي، بل ظاهر عبارتهم خلاف ذلك ؛ فإن حكم الشافعي على حديث ابن عمر رضي الله عنهما في استقبال بيت المقدس حال قضاء الحاجة بكونه حسنا خلاف الاصطلاح ، بل هو صحيح متفق على صحته. وكذا قال الشافعي رضي الله عنه في حديث منصور عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود في السهو » .(3/130)
الفرع الثاني : توضيح هذا اللفظ في مصطلح الشافعي :
إن الجزم بما أراد الشافعي بهذا اللفظ الذي قلَّ استعماله له صعب جداً ، ومع ذلك هذه كلمات أقولها وآراء أدلي بها ، وقد كلفنا الحكم بغلبة الظن .
أولا : كل الأحاديث التي وصفها الشافعي رحمه الله تعالى بالحسن صححها وأثبتها ، فمنها ما قبِل لعدم المعارض ومنها ما ردَّ لا لعدم ثبوتها عنده ، ولكن لكونها مرجوحة ومنسوخة أو متأولة ؛ قال الشافعي عن أحد الأحاديث التي ردَّ : « أما الحديث الآخر فحسن الإسناد لو كان منفرداً ثبت والذي يخالفه أكثر وأثبت » وقال عن الثاني :« فإن كان شيء من هذه الأحاديث ثبت ، فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم نسخه ». ويشكل على ما قررته حكمه على أحاديث الحارث بن عبد الرحمن بالحسن مع أنه قال:« لا أدري أكان يحفظ أولا » ؛ فيبقى هنا مجال للتأمل.
ثانيا : اعتراض ابن حجر على كلام الشافعي بأنه على غير المعنى الاصطلاحي بأن حديث ابن عمر وابن مسعود المذكورين متفق عليهما صحة بإخراج البخاري ومسلم اعتراض غير وجيه ؛ ففي الصحيحين أحاديث لم تبلغ الشافعي بأسانيد صحيحة فردَّها أو توقف عن الأخذ بها إلى أن تصح كأحاديث الصيام عن الميت .
ولو فرضنا إطلاقه الحسن على أحاديث أدخلها من صنف الصحيح بعده في كتبهم بنفس أسانيد الشافعي ؛ فلا اعتراض عليه من جهتين :
- أن أكثر هؤلاء المصنفين - إن لم يكونوا جميعهم - يدخلون رواية من خف ضبطه في الصحيح .
- وأن من يكون عند الشافعي خفيف الضبط قد يكون عند البخاري ثقة ثبتاً أو عند الإمام مسلم .
المبحث الثاني: حجية الحديث الحسن الاصطلاحي عند الشافعي
بغض النظر عما أراد الشافعي بلفظ الحسن الذي جرى على لسانه ، أبحث الآن في الحسن الاصطلاحي أعني الحسن لذاته ، أي رواية من خف ضبطه ، والحسن لغيره ، أي رواية الضعيف المنجبر ، هل كان يحتج بهما أم لا ؟(3/131)
المطلب الأول : حجية الحسن لذاته عند الشافعي
الذي يظهر لي أن الشافعي مثله مثل الأئمة الذين كانوا يحتجون بالحسن كما كانوا يحتجون بالصحيح، وربما أطلقوا على كلا النوعين اسم الصحيح وأطلقوا عليهما اسم الثابت .
وطبعاً لن أذهب إلى أحاديث حسنها بعض الأئمة المتأخرين لأبحث هل احتج بها الشافعي أم لا ؟ وكذلك لن أنظر في رواية من قال فيهم ابن حجر أو غيره :« صدوق » لأنظر هل رد الشافعي روايتهم أم قبلها ؟ فيدل ذلك على موقفه من الحسن ؛ وإنما الطريق الصواب أن ينظر في الرواة الذين وثقهم الشافعي نفسه توثيقاً خفيفاً، ثم يُبحث عن أحاديثهم، هل اعتمد عليها أم لا ؟ وأكتفي هنا بهذا المثال : فقد وثق بعض الرواة بقوله: «ثقة»، ولما تكلم عن أسامة بن زيد الليثي قال:« لا بأس به»، فهذه عبارة لا شك في إفادتها التوثيق ولا شك أنها دون لفظ الثقة، وقد احتج به في عدة مواضع في كتابه الأم ؛ وقال أيضاً :« وأهل الحديث متباينون، فمنهم المعروف بعلم الحديث… وطول مجالسة أهل التنازع فيه، ومن كان هكذا كان مقدماً في الحديث، إن خالفه من يقصر عنه كان أولى أن يقبل حديثه ممن خالفه..» . وقال عن تشهد ابن عباس : « فكان هذا الذي علمنا من سبقنا بالعلم من فقهائنا صغاراً ، ثم سمعناه بإسناده وسمعنا ما يخالفه ، فلم نسمع إسناداً في التشهد يخالفه ولا يوافقه أثبت عندنا منه وإن كان غيره ثابتاً » ؛ وإذا كان غالب الظن أن الحسن المذكور على لسان الشافعي هو فيما صح عنده أو كان ظاهره الصحة فما عَدَل عن عبارة التصحيح إلا لشيء يفيد التفاوت في درجة الإسناد وهو ضبط الرواة .
المطلب الثاني : حجية الحسن لغيره عند الشافعي
أما هذا فموقف الشافعي منه غير خاف إن شاء الله تعالى فهو يحتج به ، ويجعله في رتبة أدنى من الحديث الذي ثبت بنفسه ويظهر ذلك مما يأتي :(3/132)
أولا : تنصيصه على اعتبار المرسل إذا اعتضد بشروط تفصيلها في موضعها من البحث، ثم قال : « وإذا وجدنا الدلائل بصحة حديثه بما وصفت ، أحببنا أن نقبل مرسله ولا نستطيع أن نزعم أن الحجة تثبت به ثبوتها بالموتصل » .
ثانيا : قوله في حديث : « وهذه رواية صالحة ليست بالقوية ولا الساقطة ولم أجد أحداً من أهل العلم يخالف في القول بهذا ، مع أنها قد رويت من غير هذا الوجه وإن لم تكن قوية » .
ثالثا : قول الشافعي في أبي الزبير:« يحتاج إلى دعامة » أي لا يحتج به إذا انفرد، وكذلك تضعيفه لرواية عمرو بن شعيب في موضع، ثم احتجاجه بها مقرونة بغيرها في موضع آخر .
رابعا : انطباق لفظ الحديث الحسن في كلام الشافعي على الحسن لغيره في بعض المواضع كقوله عن مرسل سعيد بن المسيب إنه حسن .
خامسا : قال الشافعي فيما رواه عنه يونس: « والله لو صح الإسناد عن أصحاب العراق غاية ما يكون من الصحة ، ثم لم أجد له أصلاً يعني بالمدينة ومكة على أي وجه كان مرسلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أو متصلاً أو قال به واحد من علماء الحجاز ، لم أكن أعبأ بذلك الحديث على أي صحة كان» ؛ فقد كان يتوقف في حديث العراقيين حتى يجد له ما يشده من حديث الحجازيين، وإن كان ضعيفاً عنده فهذا هو الحسن لغيره ؛ والله أعلم ) .
نشر هذا البحث في (ملتقى أهل الحديث) بإذن كاتبه ، وذكر ناشره أنه لم أتمكن تقنياً من تنزيل المراجع أي الهوامش .
وانظر (حسن بمجموع طرقه) .
حسن الحديث :
أي أحاديثه حسنة ؛ وانظر (حسن) .
حسن السمت :
قال الدكتور محمد موسى الشريف في (معجم المصطلحات والتراكيب والأمثال المتداولة) (ص80) : (السمت : هيئة أهل الخير ، يقال : ما أحسن سمته : أي هديه وطريقته ، وأصل السمت : الطريق(1) .
__________
(1) انظر (لسان العرب) (س م ت) .(3/133)
حسن الهيئة :
المراد بحُسن الهيئة عرفاً هو حسن الملبس وجماله ومناسبته لحال الرجل ومنزلته ، وقد وصف عدد من العلماء بعض من يترجمونه من الرواة وغيرهم بحسنِ الهيئة ؛ ولكن يظهر أن الإمام أحمد كان له في هذه القضية اعتبارت أُخر في كثير من الأحيان ، فإنه كان يعجب بلباس الزهد والورع ، على طريقة السلف رحمه الله تعالى ، فقد قال ابنه عبدالله في (العلل) (1282-1283) : (قال أبي : كان عباد بن العوام صاحب سمت وهيئة وعقل جيد ، هو أهيأ من ابن أبي زائدة ؛ قال : وكان ابن أبي غنية ثقة شيخ ، له ، هيئة ربما رأيت عليه قميصاً مرقوعاً ).
وقال في (العلل) (308) : (قال أبي : ما كان أحسن هيئة يحيى بن عبد الملك بن أبي غنية ! فقلت : ما كان حسن هيئته ؟ قال : كان ربما رأيت عليه ثوباً مرقوعاً ) .
ووصف الإمام أحمد بهذه العبارة (حسن الهيئة) يزيد بن أبي صالح ، وموسى بن عبد الحميد ، وحسين بن حسن صاحب ابن عون ، وسويد بن عمرو الكلبي ، وعباد بن العوام ، ومحمد بن سواء ، ومعمر بن سليمان ، وجابر بن سليم الأنصاري(1) .
حسن بمجموع طرقه :
الحديث الحسن بمجموع طرقه هو الحديث الذي يُروى من طرق ضعيفة يشهد بعضها لبعضها ويقوي بعضها بعضاً ، فيرتقي متنه بمجموعها إلى درجة الحسن ؛ وانظر (تقوية الحديث بمجموع طرقه) و(يستشهد به) .
__________
(1) راجع (العلل) لعبدالله (509 ، 1362 ، 1955 ، 1977 ، 2583 ، 2567 ، 4838 ) و(الجرح والتعديل) لابن أبي حاتم (2/501) .(3/134)
حسن صحيح :
انظر كلمة الدكتور خالد الدريس في معنى وصف الحديث بأنه حسن صحيح ، في الفقرة رقم (12) من نتائجه المذكورة قبل قليل ، تحت ترجمة (حسن)(1) .
حسن صحيح غريب :
هذه العبارة اصطلاح للترمذي ، ويقل ورودها في كلام غيره من العلماء ؛ فانظر (حسن صحيح) و (حسن غريب).
حسن غريب :
إذا جمع الترمذي أو غيره في وصف الحديث كلمة ( غريب ) مع كلمة ( حسن ) أو مع كلمة ( حسن صحيح ) فقد يقيد تلك الغرابة بما يُعلم منه أنها غرابة نسبية ، وقد يطلقها ، ولا يلزم من الاطلاق أن تكون تلك الغرابة غرابة مطلقة ، ومن هذا يعلم أنه ليس كل حديث يقول فيه الترمذي : ( هذا حديث حسن غريب ) يكون عنده حسناً لذاته ، بل بعض ذلك يكون حسناً بطرقه ؛ وهذا فيه رد على من قال أن الحديث الذي يقول فيه الترمذي : "حسن غريب" أقوى عنده من الحديث الذي يقول فيه : ( حسن ) فقط ، وقال أن علة ذلك الترجيح هي أن الأول حسن لذاته والثاني حسن لغيره ، والحسن لذاته أعلى من الحسن لغيره .
هذا ما كنتُ كتبتُه قبلاً ، ثم وقفت على ما هو أصح منه وأحسن ، فإليك ذلك :
__________
(1) استعمل هذه الكلمة الإمام الترمذي في (جامعه) كثيراً ، ولم يستعملها غيره من العلماء قبله أو بعده إلا نادراً ؛ ومصطلح الترمذي هذا من مسائل المصطلح المشكلة مع كونها قليلة الجدوى عند التحقيق لأمور ليس هذا موضع ذكرها ، وحاصل أقوال العلماء في تفسير هذا المصطلح أن الحديث الذي يوصف بهذه العبارة يكون في أقل أحواله مرتقياً عن رتبة الحسن ثم قد يبلغ مرتبة الصحيح وقد يكون وسطاً بين مرتبتي الصحيح والحسن .
هذا ما كنت كتبته قديماً ، ثم وقفت على كلمة الدكتور خالد الدريس المشار إليها ، فصرتُ إليها ، لأني أحسبه قالها عن استقراء ، وأنا راجع عما في كلامي مما يخالف كلامه أو كلام غيره من أهل العلم والباحثين المتقنين ، مما قامت الدلائل على صحته ، والله أعلم.(3/135)
قال الشيخ المحقق أبو محمد الألفي الاسكندري في بحث لطيف كتبه لملتقى أهل الحديث بعنوان ( إتحاف الأريب بمعنى قول الترمذى حسن غريب ) : (---- وبعد .. فإنَّ (جامع الترمذى ) كتاب على أكف القبول مرفوع ، وفن الحديث في طياته مبثوث لا مقطوع ولا ممنوع ، أعجز من أتى بعده عن تحصيله ، وأخمل همم النقاد الكملة عن تأويله أو تكميله .
فقد عُنى ببيان مرتبة الحديث من الصحة والضعف ، ولكنه ذكر اصطلاحات زائدة عما ذكرها أهل الاصطلاح ، وعن ذلك استشكل الحفاظ بعده جملة ً من أحكامه على درجات الأحاديث ومراتبها ! .
ومما وقع في كلام الترمذي في ثنايا بيانه مراتب الأخبار ، زائداً عما ذكره أهل الاصطلاح ؛ قوله ( حسن غريب ) .
واستشكل جماعة من أهل الاصطلاح اجتماع الغرابة والحسن في حديثٍ واحدٍ ، وهذا باعتبار تعريف الغريب عندهم بأنه ( الحديث الذي يتفرد به راوٍ، إما في متنه أو في إسناده أو هما معاً ) ، وباعتبار تعريف الحسن عند الترمذي على ما أصلَّه في ( العلل الصغير ) بقوله : ( وما ذكرنا في هذا الكتاب حديث حسن ، فإنما أردنا حسن إسناده عندنا ، وهو كلُّ حديثٍ لا يكون في إسناده من يتهم بالكذب ، ولا يكون شاذاً ، ويروى من غير وجهٍ نحو ذاك ، فهو عندنا حديث حسن )(1) .
__________
(1) قال شيخ الاسلام ابن تيمية في (مجموع الفتاوى) (24/351-352) في معرض دفاعه عن بعض الأحاديث:
(---- الوجه الثالث: أن يقال: قد رُوي من وجهين مختلفين أحدهما عن ابن عباس ، والآخر عن أبي هريرة ، ورجال هذا ليس رجال هذا ، فلم يأخذه أحدهما عن الآخر ، وليس في الإسنادين من يتهم بالكذب وإنما التضعيف من جهة سوء الحفظ ؛ ومثل هذا حجة بلا ريب ؛ وهذا من أجود الحسن الذى شرَطَه الترمذيُّ، فإنه جعل الحسن ما تعددت طرقه ولم يكن فيها متهمٌ ، ولم يكن شاذاً أي مخالفاً لما ثبت بنقل الثقات.
وهذا الحديث تعددت طرقه ، وليس فيه متهم ، ولا خالفه أحد من الثقات ، وذلك أن الحديث إنما يُخاف فيه من شيئين: إما تعمد الكذب ، وإما خطأ الراوي؛ فإذا كان من وجهين لم يأخذه أحدهما عن الآخر وليس مما جرت العادة بأن يتفق تساوي الكذب فيه عُلم أنه ليس بكذب، لا سيما إذا كان الرواة ليسوا من أهل الكذب).(3/136)
ووجه الإشكال هاهنا : كيف يجتمع الحُسْن والغرابة ، مع أن الترمذي اعتبر في الحسن تعدد الطرق ؟ كيف يكون غريباً والأمر كذلك ؟ .
وقد حاول الشيخ عبد الحق الدهلوي في (شرح المشكاة ) رفع هذا الإشكال فقال : ( ويجيبون بأن اعتبار تعدد الطرق في الحسن ليس على الإطلاق ، بل في قسمٍ منه ، فحيث حكم باجتماع الحسن والغرابة ، فالمراد قسم آخر .
وقال بعضهم : أشار بذلك إلى اختلاف الطرق بأن جاء في بعض الطرق غريباً وفى بعضها حسناً .
وقيل : الواو بمعنى أو بأنه يشكُّ ويترددُ في أنه غريب أو حسن لعدم معرفته جزماً .
وقيل : المراد بالحسن هاهنا ليس معناه الاصطلاح ، بل اللغوي ، بمعنى ما يميل إليه الطبع ، وهذا القول بعيدٌ جداً ) اهـ .
قلت : بل الأقوال كلُّها بعيدة عن مراد الترمذي بهذا الإصطلاح ، سيما وقد أوضح هو معناه في ثنايا تعقيبه على الأحاديث التي حكم عليها بأنها ( حسن غريب ) .
والظاهر أن الذي اختاره الشيخ عبد الحق الدهلوي هو الأول في كلامه ، وهو أبعدها عن مراد الترمذي لأمرين :
( أولهما ) أنه لم يأخذ في اعتباره رسم الحسن عند الترمذي ، وأنه يشترط فيه تعدد الطرق ؛ بقوله ( يروى من غير وجهٍ ).
( ثانيهما ) أن الترمذي كثيراً ما أورد هذا الاصطلاح مقروناً بقوله ( وقد روى من غير وجه نحوه ) ، وبقوله ( وفي الباب عن فلان ) ، وهذا أقوى البراهين على إرادة الترمذي بقاء رسم الحسن على إطلاقه ؛ أطلق اللفظ أو قرنه بالغرابة أو الصحة أو هما معاً .
واعتبر ما قلناه بأقوال الترمذي نفسه ، تعقيباً على الأحاديث التي هذا حكْمُها عنده ، فمن ذلك :
( أولاً ) خرَّج حديث قبيصة بن حريث عن أبى هريرة ( أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة ) ، فقال عقبه : ( هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه . وقد رُوي هذا الحديث من غير هذا الوجه عن أبى هريرة . ورُوى عن أنس بن حكيم عن أبى هريرة عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ) اهـ .(3/137)
( ثانياً ) خرَّج حديث نافع عن ابن عمر ( أن النَّبيَّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم كان إذا أدخل الميت القبر ، قال: بسم الله ، وعلى ملَّة رسول الله ) ، فقال عقبه : ( هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه . وقد روي هذا الحديث من غير هذا الوجه عن ابن عمر عن النَّبيِّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم . وقد روي عن أبى الصديق الناجي عن ابن عمر موقوفاً ) اهـ .
وهذا كثير في تعقبات الترمذي على الأحاديث التي على هذه الشاكلة .
ومن أوضح الأمثلة الدالة على إرادة الترمذي بقاء رسم الحسن على إطلاقه ، حتى ولو قرَّن لفظة ( حسن ) بلفظة ( غريب ) في قوله ( حسن غريب ):
قال في ( كتاب المناقب ) (3664) : حدَّثنا الحسن بن الصباح البزار ثنا محمد بن كثير العبدي عن الأوزاعي عن قتادة عن أنس قال : قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم لأبى بكر وعمر : ( هذان سيَّدا كهول أهل الجنَّة من الأولين والآخرين إلا النبيِّين والمرسلين ) .
وقال : ( هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه ) .
ثمَّ ذكر بعض وجوه الحديث المفسِّرة لمراده بهذا الاصطلاح ، فقال (3665) : حدَّثنا علي بن حجر أخبرنا الوليد بن محمد الموقري عن الزهري عن علي بن الحسين عن علي بن أبي طالبٍ قال : كنت مع رسولِ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم إذ طلع أبو بكر وعمر ، فقال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم : ( هذان سيَّدا كهول أهل الجنَّة من الأولين والآخرين إلا النبيِّين والمرسلين . يا علي ! لا تخبرهما ) .
وقال (3666) : حدَّثنا يعقوب بن إبراهيم الدورقي ثنا سفيان بن عيينة قال : ذكر داود عن الشعبي عن الحارث عن علي عن النَّبىِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال : ( أبو بكر وعمر سيَّدا كهول أهل الجنَّة من الأولين والآخرين ما خلا النبيِّين والمرسلين ، ولا تخبرهما يا علي ) .
ففي هذا بيانٌ جليٌّ أن الترمذي أراد بالحسن تعدد مخارج الحديث ، وبالغرابة تفرد الراوي بهذا الوجه الذي ذكره عنه .(3/138)
وعليه فاللائق بصنيع الترمذي أن نقول :
"كلُّ حديث قال عنه "حسن غريب" فهو حديث قد رُوي من غير وجهٍ نحوه ، وإنما يُستغربُ من الطريق المذكورة لتفرد راوٍ بها ؛ ولا يشذ عن هذا الحكم حديث ، إلا وفي شذوذه لطيفة دقَّتْ عن أفهام من لم يُمعن النظر في أسانيد الأخبار وطرقها "
وسوف نُشير إلى بعضها في ثنايا سرد الأمثلة المؤكدة لعموم هذا الحكم ، مع تقرير أن عدم المعرفة بالطرق لا ينفي وجودها ، ولا يثبت عدم إحاطة الترمذي بها ، ومع إحاطة علم الناظر في ( جامعه ) أن نسخه المخطوطة والمطبوعة قد تفاوتت تفاوتاً ما في أمرين :
الأول : حكم الترمذي على الأحاديث .
الثاني : سرده لأسماء الصحابة الذين يذكرهم بقوله "في الباب عن فلان".
ومن طالع ( جامع الترمذي ) بتحقيق الشيخ العلامة أحمد شاكر، يجد تفاوتاً بينه وبين غيره من الجوامع التي حققها غيره ، فله فيه مزايا في التحقيق والمقابلة بين النسخ ينبغي أن تعقد عليها الخناصر ، والله يؤتى فضله من يشاء .
ومن أبين الأمثلة على ما وقع الاختلاف فيه على حكم الترمذي على الحديث : ما أخرجه الترمذي (174) من حديث سعيد بن أبى هلال عن إسحق بن عمر عن عائشة قالت : ( مَا صَلَّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلاةً لِوَقْتِهَا الآخِرِ مَرَّتَيْنِ حَتَّى قَبَضَهُ اللهُ ) .
واختلف الحفاظ في حكم أبي عيسى الترمذي على هذا الحديث ، فاقتصر الحافظ الزيلعي في ( نصب الراية ) ، والحافظ ابن حجر في ( التهذيب ) كلاهما على الغرابة ـ يعنى قوله ( غريب ) ـ ، بينما نقل العلامة أحمد شاكر عن الترمذي قوله ( هذا حديث حسن غريب ) ، وأبان أن ذلك مذكور في ثلاث نسخ صحيحة ذكرها في ثنايا تحقيقه الحديث .
ومما يؤكد صحة هذا النقل أن الحديث مروي من غير وجهٍ عن عائشة نحوه .(3/139)
وإذ قد تبين لك معنى قول الترمذي ( حسن غريب ) ، فلنشرع في ذكر أمثلةٍ تؤكد عموم هذا المعنى السالف إيضاحه ، ونبتدئُ كلَّ مثالٍ منها بذكر الحديث من ( الجامع ) ، ثم نذكر بياناً بتخريجاته في الكتب الأخرى ، ثم نبين الوجوه والطرق التي رُوى بها نحوه للدلالة على صحة هذا المعنى المختار .
مع الإعلام بأننا نعتمد في ذكر الأحاديث : متونها وأسانيدها وأرقامها ، على النسخة المطبوعة بتحقيق الشيخ العلامة أحمد شاكر وآخرين ، ولا نكتفي في ذكر الحكم على الأحاديث ، بالاعتماد على هذه النسخة ، حتى نقارنه بما ذكره الإمام الحجة أبو الحجاج المزي في موسوعته ( تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف ) ، وبما ذكره الحافظ المباركفوري في ( تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي) ، وبما ذكره الحافظ الزيلعي في ( نصب الراية ) ، وبما ذكره الحافظ الحجة المجد ابن تيمية في ( منتقى الأخبار) ، مع اختيارنا للراجح من الحكم إن كان ثمَّ اختلافٌ .
وهذا حين الشروع في الإبانة ، ومن الله التوفيق والإعانة :
( الحديث الأول ):
قال الترمذى في ( كتاب الطهارة ) (43) : حدَّثنا أبو كريب ومحمد بن رافع قالا : ثنا زيد بن حباب عن عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان حدَّثني عبد الله بن الفضل عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج عن أبي هريرة ( أن النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم توضأ مرتين مرتين ) .
قال أبو عيسى : ( هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن ثوبان عن عبد الله بن الفضل ، وهو إسناد حسن صحيح . وفي الباب عن جابر ) اهـ .
قلت : وأخرجه كذلك أحمد (2/288) ، وأبو داود (136) ، وابن الجارود (71) ، وابن حبان كما في ( الإحسان ) (1091) ، والحاكم (1/150) ، والبيهقي ( الكبرى ) (1/79) جميعاً من طريق عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان حدثني عبد الله بن الفضل عن الأعرج عن أبى هريرة به .(3/140)
وهذا مما يصدق أن يقال عنه : "رُوي من غير وجهٍ نحوه" ، وإنما استغربه أبو عيسى من هذا الوجه لتفرد عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان به ، وبيَّن بقوله ( حسن ) أنه مروىٌّ من غير وجهٍ نحوه ، وزاد ذلك إيضاحاً بقوله "وفي الباب عن جابر" .
قلت : وفى الباب كذلك "عن عبد الله بن زيد المازني ، وابن عمر ، وزيد بن ثابت ، وأبي بن كعب ، ومعاذ بن جبل ، وعائشة " .
وهذا بيان هذه الوجوه : ----) ؛ إلى آخر ما كتبه في هذا المبحث النفيس، فجزاه الله خيراً .
وقال الدكتور حمزة المليباري مجيباً من سأله عن بعض مصطلحات الترمذي في الحكم على الأحاديث، كما في (سؤالات حديثية) (ص125):
(هذه المصطلحات لا يمكن تحديد معانيها بأحوال الرواة، ولا تفسر في ضوء ما تعارف عليه المتأخرون، وإنما ينبغي تفسيرها وفق منهج الإمام الترمذي وغيره من المتقدمين.
ومن خلال تتبع أمثلة كثيرة من (السنن) تبين لي أنه رحمه الله يطلق مصطلح (حسن صحيح) على الحديث الصحيح، ومصطلح (حسن) على الحديث الذي زال عن متنه شذوذ وغرابة، إما لكونه مروياً من طرق أخرى كالشواهد، أو لعمل بعض الصحابة بمقتضاه، أو لقوله به، حتى وإن كان سنده ضعيفاً أو معلولاً بغرابته، أو بتفرده.
وفي حال كون السند غريباً قد يقول الترمذي : (حسن غريب)، أو يقول: (غريب ) فقط، دون مصطلح (حسن) .
وأما (صحيح غريب) فقد يطلقه على ما هو حسنٌ أيضاً ، وقد يكون معناه حسن صحيح، أو يكون ذلك من اختلاف النسخ .
أما إذا فسرنا هذه المصطلحات في ضوء ربطها بأحوال الرواة فإن ذلك لا يخلو من الإشكال ؛ والله أعلم). انتهى.
حسن لذاته :
انظر (حسن) .
حسن لغيره :
انظر (حسن) .
حضَرَ :
حدد جماعة من المحدثين أول زمن يصح فيه السماع للصغير بخمس سنين وعلى هذا استقر العمل بين أهل الحديث ، أو جمهورهم، فيكتبون لابن خمس فصاعداً : (سمِع) ، ويكتبون لمن لم يبلغ خمساً : (حضر) أو (أُحضر).(3/141)
وقال جماعة آخرون : الصواب اعتبار التمييز ، فإن فهم الخطاب ورد الجواب كان مميزاً صحيح السماع وإن لم يبلغ خمساً ، وإلا فلا ، وإن كان ابن خمس فأكثر(1) .
قال الحافظ ابن كثير في (اختصار علوم الحديث) (ص108) :
(والعادة المطردة في أهل هذه الاعصار وما قبلها بمدد متطاولة : أن الصغير يكتب له حضور إلى تمام خمس سنين من عمره ، ثم بعد ذلك يسمى سماعاً----).
وقال فيه أيضاً (ص115) :
(اختلفوا في صحة سماع من ينسخ أو إسماعه ، فمنع من ذلك ابراهيم الحربي وابن عدي وأبو اسحاق الاسفرائيني . وقال(2) أبو بكر أحمد بن إسحاق الصبغي : يقول : (حضرت) ، ولا يقول : (حدثنا) ولا (أخبرنا) ؛ وجوزه موسى بن هارون الحافظ ؛ وكان ابن المبارك ينسخ وهو يقرأ ----).
الحضور :
انظر (حضر).
حفظ السنة :
أي بقاؤها بين الأمة وعدم ضياعها ، وحفظها ركن من أركان حفظ الدين ، وقد تكفل الله تعالى به ، وذلك في قوله (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ )(3) .
قال محمد بن أبي حاتم الوراق: (سمعت البخاري يقول: لا أعلم شيئاً يحتاج إليه إلا وهو في الكتاب والسنة، فقلت له: يمكن معرفة ذلك كله؟ قال: نعم). نقله الذهبي في السير (12/412).
وقال العراقي في (شرح ألفيته) (1/267): (وروينا عن سفيان قال: ما ستر الله أحداً يكذب في الحديث؛ وروينا عن عبد الرحمن بن مهدي أنه قال: لو أن رجلاً هم أن يكذب في الحديث لأسقطه الله، وروينا عن ابن المبارك قال: لو هم رجل في السحر أن يكذب في الحديث لأصبح والناس يقولون: فلان كذاب).
__________
(1) انظر (تدريب الراوي) للسيوطي (2/5-6).
(2) وقع في نسخة خطية من مختصر ابن كثير هذا : (وكان) مكان (وقال) ، وتحتمل الصحة أيضاً .
(3) سورة الحجر (9) .(3/142)
وقال المعلمي في (الأنوار الكاشفة) (ص33): (وأما السنة فقد تكفل الله بحفظها أيضاً، لأن تكفله بحفظ القرآن يستلزم تكفله بحفظ بيانه، وهو السنة، وحفظ لسانه، وهو العربية، إذ المقصود بقاء الحجة قائمة والهداية باقية بحيث ينالها من يطلبها، لأن محمداً خاتم الأنبياء وشريعته خاتمة الشرائع، بل دل على ذلك قوله (ثم إن علينا بيانه)، فحفظ الله السنة في صدور الصحابة والتابعين حتى كتبت ودونت كما يأتي، وكان التزام كتابتها في العهد النبوي شاقاً جداً، لأنها تشمل جميع أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وأحواله وما يقوله غيره بحضرته أو يفعله وغير ذلك؛ والمقصود الشرعي منها معانيها، ليست كالقرآن، المقصود لفظه ومعناه، لأنه كلام الله بلفظه ومعناه، ومتعبد بتلاوته بلفظه بدون أدنى تغيير، لا جرم خفف الله عنهم واكتفى من تبليغ السنة غالباً بأن يطلع عليها بعض الصحابة، ويكمل الله تعالى حفظها وتبليغها بقدرته التي لا يعجزها شيء؛ فالشأن في هذا الأمر هو العلم بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد بلغ ما أمر به التبليغ الذي رضيه الله منه، وأن ذلك مظنة بلوغه إلى من يحفظه من الأمة ويبلغه عند الحاجة ويبقى موجوداً بين الأمة.
وتكفُّل الله تعالى بحفظ دينه يجعل تلك المظنة مئنة، فتم الحفظ كما أراد الله تعالى.
وبهذا التكفل يدفع ما يتطرق إلى تبليغ القرآن، كاحتمال تلف بعض القطع التي كتبت فيها الآيات، واحتمال أن يغير فيها من كانت عنده، ونحو ذلك.(3/143)
ومن طالع تراجم أئمة الحديث من التابعين فمن بعدهم وتدبر ما آتاهم الله تعالى من قوة الحفظ والفهم والرغبة الأكيدة في الجد والتشمير لحفظ السنة وحياطتها بانَ له ما يحير عقله، وعلم أن ذلك ثمرة تكفل الله تعالى بحفظ دينه، وشأنهم في ذلك عظيم جداً، إذ [بالأصل : أو] هو عبادة من أعظم العبادات وأشرفها؛ وبذلك يتبين أن ذلك من المصالح المترتبة على ترك كتابة الأحاديث كلها في العهد النبوي، إذ لو كتبت لانسد باب تلك العبادة، وقد قال الله تعالى: (51: 56 وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون).
وثم مصالح أخرى منها تنشئة علوم تحتاج إليها الأمة، فهذه الثروة العظيمة التي بيد المسلمين من تراجم قدمائهم، إنما جاءت من احتياج المحدثين إلى معرفة أحوال الرواة، فاضطروا إلى تتبع ذلك وجمع التواريخ والمعاجم، ثم تبعهم غيرهم.
ومنها [أي المصالح] الإسناد الذي يعرف به حال الخبر، كان بدؤه في الحديث ثم سرى إلى التفسير والتأريخ والأدب.
هذا والعالم الراسخ هو الذي إذا حصل له العلم الشافي بقضية لزمها، ولم يبال بما قد يشكك فيها، بل إما أن يعرض عن تلك المشككات، وإما أن يتأملها في ضوء ما قد ثبت.
فههنا من تدبر كتاب الله وتتبع هدى رسوله ونظر إلى ما جرى عليه العمل العام في عهد أصحابه وعلماء أمته بوجوب [كذا في الأصل ، ولعل صواب العبارة : (قطع بوجوب)] العمل بأخبار الثقات عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأنها من صلب الدين.
فمن أعرض عن هذا وراح يقول: لماذا لم تكتب الأحاديث؟ بماذا؟ لماذا؟ ويتبع قضايا جزئية ـ إما أن لا تثبت، وإما أن تكون شاذة ، وإما أن يكون لها محمل لا يخالف المعلوم الواضح ـ من كان هذا شأنه فلا ريب في زيغه) . وانظر (التنكيل) (ص233-234) .
الحَكُّ :
حكُّ الكتابة هو إزالتها بإمرار شيء حادٍّ أو خشن عليها بنوع قوةٍ بحيث يذهب المكتوب بذهاب شيء من موضعه .(3/144)
والحكُّ هو إحدى طرق النساخ والمؤلفين في إزالة الخطأ والزيادة وإصلاح المكتوب أو تغييره ، وقد يكون ذلك التغيير تزويراً .
ولما كان الحك لا يزال أثره باقياً فهو مما لا تطمئن إليه نفس القارئ لذلك الموضع المحكوك ، وقد يُثير رِيبةً : كرهه جماعة من العلماء والكُتّاب ، وآثروا عليه الضرب ؛ قال القاضي أبو محمد بن خلاد الرامهرمزي (ت360هـ) في (المحدث الفاصل بين الراوي والواعي ) (ص606) : (قال أصحابنا : الحكُّ تهمةٌ ، وأجودُ الضرب ألا يطمسَ المضروبَ عليه ، بل يخطّ من فوقه خطاً جيداً بيناً ، يدلُّ على إبطاله ، ويُقرأ مِن تحته ما خُطَّ عليه).
وقال القاضي عياض في (الإلماع) (ص170-173) في (باب الضرب والحك والشق والمحو) عقب أن أخرج كلام الرامهرمزي هذا بإسناده إليه :
(سمعت شيخنا أبا بحر سفيان بن العاصي الأسدي يحكي عن بعض شيوخه أنه كان يقول : كان الشيوخ يكرهون حضور السكين مجلس السماع ، حتى لا يُبْشر شيء(1) ، لأن ما يُبشرُ منه قد يصح من رواية أخرى ، وقد يُسمَعُ الكتابُ مرة أخرى على شيخ آخر يكون ما بُشر وحُك من رواية هذا صحيحاً في رواية الآخر ، فيحتاج إلى إلحاقه بعد أن بَشره ؛ وهو إذا خط عليه وأوقفه من رواية الأول وصح عند الآخر اكتفى بعلامة الآخر عليه بصحته ) ؛ وانظر (الضرب) و (الكشط) .
حلو الحديث :
قالها أحمد بن حنبل في زكريا بن أبي زائدة مقرونةً بلفظة توثيق ؛ ففي (العلل) لابنه (2/338) (2495) : (قال أبي : زكريا بن أبي زائدة ثقة ، حلو الحديث ، شيخ ثقة) .
وقال أبو داود في (سؤالاته) (242) : (سمعت أحمد قال: يعلى بن عطاء شيخ حلو ثقة، هو مولى لعبد الله بن عمرو).
__________
(1) تبشير الكتابة هو حكها ؛ جاء في (المعجم الوسيط) : (و[بَشَرَ] الأديمَ وغيرَه بَشْراَ : قَشَرَ وجهَه ؛ و[بَشَرَ] الشاربَ : بالغ في أخذه حتى تظهر بَشَرَتُه ؛ ---- ؛ و[بَشَرَ] الجرادُ الأرضَ : أكل ما عليها من نبات).(3/145)
وقال ابن سعد في (الطبقات) (7/520) في يونس بن يزيد الأيلي : (كان حلوَ الحديث ، كثيرَه ، وليس بحجة(1) ؛ وربما جاء بالشيء المنكر(2) .
حمّالة الحطب :
استعمل ابن معين هذه الكلمة في جماعة من الضعفاء كناية عن ضعفهم وهلاكهم؛ روى ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل) (8/479) (2196) :
(انا يعقوب بن إسحاق فيما كتب إليَّ قال نا عثمان بن سعيد(3) قال قلت ليحيى بن معين : النضر بن منصور العنزي يروي عنه ابن أبي معشر عن أبي الجنوب عن علي رضي الله عنه ؛ من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء حمالة الحطب ؛ قال أبو محمد [هو ابن أبي حاتم] : يعنى أنهم ضعفاء).
الحمرة :
أي الحبر الأحمر .
__________
(1) تعقبه الذهبي في (السير) (6/300) بقوله : (قلت : قد احتج به أرباب الصحاح ، أصلاً وتبعاً) ، يعني أخرجوا له في الأصول والمتابعات .
(2) تعقبه الذهبي في (السير) (6/300) بقوله: (قلت : ليس ذاك عند أكثر الحفاظ منكراً ، بل غريب) ؛ قلت : هذه فائدة ، إذ يظهر من عبارة الذهبي هذه أنه يفرق بين المنكر والغريب تفريقاً تاماً ، خلافاً لمن ادعى من المتأخرين أن المتقدمين - أو بعضهم - كانوا أحياناً يطلقون كلمة (المنكر) على الحديث الغريب ولو كان صحيحاً .
ثم إن كلمة ابن سعد هذه صحيحة في الجملة ، وقد ورد معناها عن أئمة الحديث ، ومن ذلك ما نقله المزي في (تهذيب الكمال) (32/555) عن أبي زرعة الدمشقي قال : سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول : (في حديث يونس بن يزيد منكرات عن الزهري، منها عن سالم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم : "فيما سقت السماء العشر") .
(3) انظر (تاريخه عن ابن معين) (828).(3/146)
حمَّض وجهه :
أي حوَّله عن جهة مخاطبه ، أو أظهر عليه علامات النفور والاشمئزاز وعدم الرضا ؛ أو فعل الأمرين معاً ؛ قال ابن منظور في (لسان العرب) في ثنايا شرحه لكلمات مادة (ح م ض) : (وفؤُادٌ حَمْضٌ ونَفْسٌ حَمْضة : تَنْفِر من الشيءِ أَولَ ما تسمعه ؛ وتَحَمَّض الرجلُ : تحوَّل من شيءٍ إِلى شيءٍ ؛ وحمَّضه عنه وأَحْمَضَه : حَوَّله) .
فإذا حمّض الناقدُ وجهه عندما يُسأل عن راوٍ أو يذاكَر في حاله، فإن ذلك كناية عن عدم ارتضائه ذلك الراوي، بل الأصل في ذلك الصنيع أنه كناية عن شدة ضعفه وأنه متروك ؛ ولا بد في الأحوال كلها من ملاحظة القرائن ، فمثلاً قد يستدعي ذكرُ راوٍ ليّنٍ بين أقرانه أئمة الحديث وأعلامه ومقارنتُه بهم تحميضَ الناقد وجهه ، ولو ذُكر وحده لما اقتضى حالُه الناقدَ أن يحمض وجهه ، وللنقاد في كل مقام من مقاماتهم تصرف يناسبه .
ولقد ورد نقد الراوي بإشارة تحميض الوجه عن الإمام الهمام يحيى بن سعيد القطان ، في اثنين من الرواة ميمون أبي عبد الله وسيف بن وهب؛ ولم أره محكياً عن غيره من النقاد.
قال ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل) (1/153) : (نا صالح بن أحمد بن حنبل نا علي [هو ابن المديني] قال : سألت يحيى عن ميمون أبي عبد الله الذي روى عنه عوف عن زيد بن أرقم ، فحمض وجهه ، وقال : زعم شعبة أنه كان فسلا)(1).
__________
(1) وأخرجه ابن بي حاتم مرة أخرى (8/234)، والعقيلي في (الضعفاء) (4/185) وابن عدي في (الكامل) (6/413) (1895)؛ وأخرجه مختصراً من غير ذكر التحميض عبد الله في (العلل ومعرفة الرجال) (3/112) (4457) ؛ وقال عبد الله أيضاً (2351) : (سمعت أبي يقول: ميمون أبو عبد الله فسْلٌ).(3/147)
وقال (4/275) في ترجمة سيف بن وهب : (نا صالح بن أحمد بن حنبل نا علي ، يعني بن المديني قال: سألت يحيى بن سعيد عن سيف بن وهب فحمض يحيى وجهه وقال : كان سيف هالكاً من الهالكين(1) .
أنا عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل فيما كتب إليَّ قال: قال أبي : سيف بن وهب الذي حدث عنه شعبة ضعيف الحديث).
الحمل على الغالب :
أي الحكم للشيء بالحكم الأصلي ، أي بما يحكم به للأكثر الأغلب من نظائره ؛ قال المعلمي في (التنكيل) (ص660): (لأن كل من شأنه الإصابة ثم أخطأ في النادر ثم جاء عنه ما لا يُعلم أنه أخطأ فيه فهو محمول على الغالب، وهو الإصابة سواء كان محدثاً أم ناقداً أم قاضياً أم مفتياً كما هو معروف) ؛ قلت: وهذا غير مسألة سلوك الجادة ، فبينهما فرق يظهر عند التأمل ، فالحمل على الغالب هو البقاء على الأصل ما لم يأتِ من الأدلة أو القرائن ما يقتضي الخروج عن ذلك الأصل ؛ وأما سلوك الجادة فهو سير الراوي مثلاً على الطريق الذي هو الأكثر أو الأشهر في سياق سند من الأسانيد ، أو بيان نسبة راو مهمل ، أو نحو ذلك ؛ وهذا المسلك قد يكون أحياناً سبباً في وقوع صاحبه في الغلط ؛ وانظر (سلك الجادة) .
الحنطة اللازوردية :
جاء في كتاب (مسائل محمد بن عثمان بن أبي شيبة عن شيوخه) (ص 116 رقم 44) - ومن طريقه رواه ابن شاهين في (ثقاته) - ما نصه:
__________
(1) وأخرجه عبد الله بن أحمد في (العلل ومعرفة الرجال) (3/241) (5062) ، وأخرجه مرة أخرى بنحوه (3/112) (4457) ، وأخرجه العقيلي في (الضعفاء) (2/171) وابن عدي في (الكامل) (3/436) .
وورد في بعض الروايات أن شعبة وصف شيخه سيفاً بأنه فسل؛ وهذا فيه شيء من غرابة ، فكيف يروي عنه شعبة؟! إلا إذا كان روى عنه قبل أن يعرف حقيقة حاله، أو روى عنه وبيّن حاله؛ أو روى عنه ما ثبت عنده من طريق غيره.(3/148)
(سمعت أبي يقول : كنا عند أبي نعيم ، فذكرنا سفيان بن عيينة وعمران بن عيينة وإبراهيم بن عيينة ومحمد بن عيينة، فقال أبو نعيم : سفيان بن عيينة الحنطة اللازوردية(1)، وسائر القوم شعير البط) .
وهذا تفضيل ظاهر لسفيان على هؤلاء ، بل قد يكون تفضيلاً له على كل أقرانه من أهل بلده .
الحوالة :
قال ابن حجر في (النكت) (1/332) : (سمى الدمياطي ما يعلقه البخاري عن شيوخه حوالة ، فقال في كلامه على حديث أبي أيوب في الذكر : "أخرجه البخاري حوالة ، فقال : قال موسى بن إسماعيل ثنا وهيب ----").
حوَّق :
انظر (التحويق) .
حيوان :
هذه اللفظة من ألفاظ الإمام الذهبي في الجمع بين التجهيل التام والتجريح الشديد؛ وغالباً ما يقولها في المجاهيل من رواة الأباطيل ، وفي المجاهيل من شيوخ المجاهيل إذا رووا ما ينكر ؛ وبعبارة أخرى أقول: لعل أغلب الذين أطلق عليهم الذهبي العبارة المذكورة مجاهيل متهمون ، أو - في الأقل - مجاهيل يصلحون للحمل عليهم بشدة ، فيما رووا من منكرات وأباطيل ، أو فيما أُلصق بهم من منكرات تليق بمثلهم لكمال جهالتهم أو لمناسبة ذلك لحالهم.
فقد علق الذهبي على نسخة المزي من كتابه (تهذيب الكمال) في ترجمة الأحنف بن حكيم بقوله : (الأحنف حيوان مجهول).
وقال فيه في (الميزان) : (لا يدرى من هو ، وله ما ينكر) .
__________
(1) الحنطة اللازوردية هي التي يكون لونها كلون اللازورد ، وهو نوع من أنواع معادن الأرض ؛ والظاهر أنها كانت في عُرفهم أفضل أنواع الحنطة.(3/149)
وقال في (الميزان) (3/328): (سمعان بن مهدي : عن أنس بن مالك ، حيوان لا يعرف ، أُلصقتْ به نسخة مكذوبة ، رأيتُها ، قبَّح اللهُ من وضعها)(1)؛ وقال مثل هذا في (المغني) ولكن بحذف لفظة (حيوان).
وقال في (الميزان) أيضاً (3/448) : (ضرار بن سهل ، عن الحسن بن عرفة بخبر باطل ، ولا يدرى من ذا الحيوان ----) .
وقال فيه (1/306): (أحمد بن موسى النجار : حيوان وحشي ، قال(2) : قال محمد بن سهل الأموي حدثنا عبد الله بن محمد البلوي ، فذكر محنة مكذوبة للشافعي ، فضيحة لمن تدبرها)(3) .
ولم يزد ابن حجر في (اللسان) على هذه الترجمة شيئاً.
وقال في (الميزان) (4/437) : (عبد الوهاب بن موسى ، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد بحديث "إن الله أحيى لي أمي فآمنت بي " ، الحديث ؛ لا يدرى من ذا الحيوان الكذاب ، فإن هذا الحديث كذب مخالف لما صح أنه عليه السلام استأذن ربه في الاستغفار لها فلم يأذن له).
وقال (6/547) : (موسى بن عبد الله الطويل : قال ابن حبان روى عن أنس أشياء موضوعة ؛ وقال ابن عدي: روى عن أنس مناكير وهو مجهول) إلى أن ذكر الذهبي دعواه أنه رأى عائشة رأيت عائشة رضي الله عنها بالبصرة على جمل أورق في هودج أخضر، فتعقب الذهبي ذلك بقوله :
(قلت أنظر إلى هذا الحيوان المبهم كيف يقول في حدود سنة مئتين إنه رأى عائشة فمن الذي يصدقه ؟!----).
__________
(1) وزاد ابن حجر في (اللسان) : (3/114): (وهي من روية محمد بن مقاتل الرازي عن جعفر بن هارون الواسطي عن سمعان فذكر النسخة وهي أكثر من ثلاث مئة حديث أكثر متونها موضوعة) ، ثم ذكر ابن حجر أمثلة من أقبح تلك الموضوعات.
(2) أي أحمد بن موسى ، نفسه.
(3) أشار الذهبي إلى تلك القصة الطويلة المنكرة : قصة دخول الإمام الشافعي على الخليفة هارون الرشيد ومحاورتهما بحضور أبي يوسف ومحمد بن الحسن؛ وقد رواها أبو نعيم في (الحلية) (9/84-91).(3/150)
قال بعض الباحثين الفضلاء في مقالة له نشرها على الشبكة العالمية في (موقع ملتقى أهل الحديث) ، في مقام مذاكرةٍ ما يلي :
(---- فقد يفهم البعض من قول الامام (حيوان)التجريح والإساءة وليس الأمر كذلك ، فإنَّ الإمام الذهبي يذكر هذه العبارة لبيان أن الراوي موغل في الجهاله ، ولذلك يأتي بهذه اللفظة (حيوان) في بعض الرواة من قبيل تعريفه بجنس بعيد ، لبيان إيغاله في الجهالة ، وأنه لا يُعرف عنه شيء إلا كونه معدوداً في جملة الكائنات الحية التي من جملتها الإنسان ؛ ولذلك لم يقل : (إنسان) ، لأن هذا تعريف بجنس أقرب من الحيوانية ، ومراد الإمام المبالغة في تجهيل الراوي ، ولذلك أتى بالجنس الأبعد ، ولذلك ترى أن الإمام قال هذه العبارة في الأمثلة التي سقتُها في حق جماعة من المجاهيل ، فالمقصود أن هذه العبارة في مقصود الإمام ليس المراد منها ما يفهمه العامة اليوم من إطلاقها للسب والشتم وجعل من أُطلقت عليه في سلك البهائم والحيوانات في السلوك والفعل ، وإنما مراده أن صاحبها موغل في الجهالة ؛ وبالله التوفيق).
وقال أيضاً : (والإمام [يعني الذهبي ] أطلقها في حق قوم مجاهيل رووا ما ينكر ، أو روي عنهم ما ينكر ، ومقصوده بيان شدة جهالة هؤلاء الرواة بوصفهم بجنس بعيد وهو الحيوانية ، وهذا كاف في إسقاط الرواية .
وقد يطلق الإمام هذه اللفظه في حق من روى خبراً منكراً من هؤلاء المجاهيل وكان الحمل فيه عليه دون غيره من سائرة الرواة ، وربما قرنها بالتصريح بكذبه كما مر في الأمثلة أعلاه.
وقد يطلقها في حق من روي عنه من المجاهيل خبراً منكراً والحمل فيه على غيره كما في ترجمة سمعان بن مهدي المذكورة أعلاه----.
وأما حمل قول الإمام على المعنى العرفي الذي هو من جنس السباب والشتام فأنا حسب فهمي أستبعده وهو نوع من الإسفاف في الكلام الذي أنزه الإمام عنه ، فضلاً عن أنه لا معنى له معتبر ، بخلاف المعنى الذي ذكرته).
هذا قوله ؛ والله أعلم.
حيوان كذاب :
انظر (حيوان) و(كذاب) .
حيوان متهم :
انظر (حيوان) و(متهم).
حيوان وحشي :
الوحشي هو ما لا يَستأنِسُ من دوابِّ البَرّ ؛ وانظر (حيوان) .(3/151)
فصل الخاء
الخاء :
أحد حروف الهجاء ؛ وقد استعمل رمزاً لغير واحد من الكتب ، ولغير واحدة من المعاني التي يصطلح عليها النساخ وغيرهم ، ويأتي بعض ذلك في موضعه .
خ ، خـ :
رمز نسخة أخرى .
ورمز لصحيح البخاري .
والذهبي يستعمل هذا الرمز (خ) في (الميزان) رمزاً للبخاري لا لكتابه ، مثاله قوله في ترجمة محمد بن عطية بن سعد العوفي : (وقال خ : عنده عجائب) ، انظر (لسان الميزان) (7/348) .
الخبر :
انظر (الأثر) .
ثم وقفت على هذه الفائدة فاستدركتها :
قال الشيخ المحدث الفاضل إبراهيم اللاحم حفظه الله في (الاتصال والانقطاع) (ص442-444) : (يُطلق الخبر ، ويراد به متن الحديث ، وجمعه أخبار ، وهذا كثير ؛ ويُطلق ويُراد به التصريح بالسماع ، فإذا قالوا قد ذكر الخبر فيه ، فمعناه أنه صرح بالتحديث ، أو : لم يذكر الخبر ، يعني لم يصرِّح بالتحديث ؛ وإذا قالوا : في حديثه أخبار ، فمعناه أنه يعتني بالتصريح بالتحديث ، منه وممن فوقَه ، أو : ليس في حديثه أخبار ، أي لا يعتني بذلك .
وقد تقدم في هذا البحث نصوص كثيرة بهذا المعنى ، وسيأتي في المصطلح الذي بعده نصوص أخرى .
ومن ذلك أيضاً قول عفان بن مسلم : "كنتُ أوقف شعبة على الأخبار"(1) .
وسأل ابن أبي حاتم أباه عن عبدالملك بن سليمان ، والربيع بن صبيح : أيهما أحب إليه في عطاء ، فقال : "عبدالملك بن أبي سليمان ، وهو أحبّ إليّ من الحجاج بن أرطاة ، إلا أن يخبر الحجاج الخبر"(2) .
__________
(1) تاريخ بغداد (12/273) .
(2) الجرح والتعديل (5/368) .(3/152)
وقال أبو حاتم في حديث رواه ابن إسحاق فقال : ذكر الزهري عن عطاء بن أبي ميمونة ، قال أبو حاتم : "الزهري لا يروي عن عطاء بن أبي ميمونة ، وإنما يروي هذا الحديث شعبة عن عطاء بن أبي ميمونة ، ولو ذكر ابن إسحاق في هذا الحديث خبراً لتُرك حديث ابن إسحاق"(1) .
ومراده أن ابن إسحاق لم يصرح بالتحديث ، ودلسه عن الزهري ، فالعهدة على من أسقطه ابن إسحاق .
وقد خفي استخدام هذه الكلمة بهذا المعنى ، على بعض الباحثين ، فعلق أحدهم على قول أحد الأئمة : "أهل الكوفة ليس لحديثهم نور ، لا يذكرون الأخبار) وقد قرأ العبارة بحذق (لا) ، فقال معلقاً : "في ذلك مغمز لحديث أهل الكوفة ، وعلل ذلك بذكرهم الأخبار ، لأن الأخبار يُتساهل في قبولها ، فكثرة التعامل معها يُعطي في الغالب تساهلاً لا يتناسب مع دقة نقل الحديث ، ونور الحديث إنما يُستمد من ألفاظ النبوة ، لا من الأخبار" .
وعلق باحث آخر على قول إمامٍ في نقده لحديثٍ : "وهو حديث رواه الخلق عن الأعمش ، عن أبي صالح ، فلم يذكر الخبر في إسناده غير أبي أسامة ، فإنه قال فيه : عن الأعمش ، قال : حدثنا أبو صالح..." ، قال الباحث معلقاً على كلمة (الخبر) : "كذا قرأتُها (يعني في المخطوط) ، وكأنه يريد صيغة التحديث ، وهذا تعليق فيه برود ، فلا تحتاج العبارة إلى تعليق ) .
__________
(1) المراسيل (ص192) .(3/153)
خبر الخاصة :
هذه الكلمة تكرر ورودها في كلام الإمام الشافعي ، ووردت أيضاً في كلام جماعة من المتقدمين ، فإن السنة في اصطلاحهم تنقسم إلى السنة المجتمع عليها أو خبر العامة عن العامة ، أي ما تناقله المسلمون بطريقة صار بها معلوماً عندهم بالضرورة ، وإلى ما سوى ذلك ، وهو خبر الخاصة ، وهو الآحاد ، أي في اصطلاحهم ، لا في اصطلاح المتأخرين ؛ وهو اسم يعم كل الأخبار المسندة ؛ فليس للتواتر بالشروط التي وضعها المعتزلة ومن قلدهم أو تأثر بهم من المتأخرين وجود في علم أهل السنة من أئمة الحديث المتقدمين ومن سار على طريقهم.
قال الدكتور حاتم بن عارف العوني في (المنهج المقترح) (ص131-132) بعد بحث طويل في تقسيم الأحاديث عند أهلها :
{إذن فـ(السنة المجتمع عليها) أو (خبر العامة عن العامة) هو القسم الأول من أقسام السنن ، كذا بإطلاق (السنة) ، بلا قيد (المسندة) ؛ فإن قيدتها بأنها (السنن المسندة) فليس (خبر العامة) قسماً من أقسامها كما تقدم .
أما القسم الثاني (عند المحدثين كما ذكره الشافعي) : فهو (خبر الخاصة) وهو (الآحاد) ، وهو كل ما سوى (خبر العامة عن العامة) ، وهو - أيضاً - كل الأخبار المسندة بألفاظها ، وكل الآثار المروية بحروفها .
ومن (خبر الخاصة) : ما يرويه الواحد ، وما يرويه الإثنان ، والثلاثة ، والعشرة .. والمئة ! مثل حديث (من كذب علي متعمداً 00)! فمن (خبر الخاصة) : (الفرد والغريب والعزيز والمشهور والمستفيض بل والمتواتر عند عامة الأصوليين والمصنفين في علوم الحديث ، وكما قدمناه من تفسير البيهقي لـ(خبر الخاصة) !!
ولذلك قال ابن حبان عبارته القاطعة : (إن الأخبار كلها أخبار آحاد) .(3/154)
هذا هو التقسيم الذي ذكره الإمام الشافعي والذي لا يخالفه عليه المحدثون ولا غيرهم ، لأنه مما لا يختلف أحد على اعتباره منطوقاً أو ضمناً!!)(1).
خبر العامة عن العامة :
انظر (خبر الخاصة).
خبر الواحد :
انظر (آحاد) .
الختم :
الختم هو ما قد يذكره من يُسندُ ، أي يروي ، كتاباً من كتب السنة - قراءةً من حفظه أو من كتابه - في آخر مجلس من مجالس إسماعه ذلك الكتاب ، من المعاني المتعلقة به ، أي بذلك الكتاب المروي ، وبروايته وبمؤلفه، كتراجم رجاله، أي رجال الشيخ المُسْمِع(2) للكتاب ، أعني رجال سنده إلى مؤلف الكتاب ، وبعض ما يتعلق بتلك الرواية ، كصفاتها وموازنتها بالروايات الأخرى للكتاب، وترجمة المؤلف ، ومنهجه في كتابه ، وشروطه فيه ، وأهم اصطلاحاته فيه ، وثناء أهل العلم عليه وعلى كتابه.
__________
(1) ورد في (المنهج المقترح) ما حاصله أن الإمام الشافعي رحمه الله ذكر في بعض كتبه خبر الواحد وسماه (خبر الخاصة) ، ولكن ليس مقابله عنده هو المتواتر ؛ فإن الألفاظ التي ذكرها فيما يقابل خبر الواحد هي (السنة المجتمع عليها) و (خبر العامة عن العامة) ، وهما عبارتان بمعنى واحد يطلقهما الإمام الشافعي في مقابل (خبر الخاصة) ، ومعناهما الأمر الذي أجمعت الأمة على نقله ، مما لم يرد في كتاب الله أمة بعد أمة ، لا يختلف في الإجماع به اثنان ؛ مثل أن صلاة الظهر أربع ركعات . وهذا أمر فوق متواتر الأصوليين ، أو هو أعلى أنواعه عندهم ، لأن من المتواتر ما قد يخفى على الخاصة فضلاً عن العامة ؛ فيخفى العلم به ، فضلاً عن العلم بتواتره ؛ كما تجده في أمثلة (المتواتر) التي يذكرونها ، وكما في كتب (الأحاديث المتواترة) .
انظر (المنهج المقترح) للدكتور حاتم العوني .
(2) أي المسنِد.(3/155)
وهذا الصنيع أو العرف إنما اشتهر عند المتأخرين من أهل الحديث، وأحسب أنه كان قد ظهر قديماً ولكن على هيئة وجيزة مختصرة ، ثم صاروا يتوسعون فيه شيئاً فشيئاً ، إلى أن بلغ أعلى أمره في القرنين الثامن والتاسع للهجرة.
وهكذا كثر التصنيف في هذا الباب عند المتأخرين ؛ فألف عدد من أهل العلم منهم كتباً أو أجزاء في ختم كتب السنة ، ولا سيما الأصول منها؛ ومن الذين أكثروا من التصنيف في هذا الباب من أبواب علم الحديث الحافظُ السخاوي ، فقد ألف ثلاثة عشر كتاباً في ختم جملة من كتب السنة والسيرة ونحوها، وقد ذكرها هو في (الضوء اللامع) (8/18) فقال في ثنايا ذكره مصنفاته :
(ومنه في في ختم كل من الصحيحين وأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والبيهقي والشفا وسيرة ابن هشام وسيرة ابن سيد الناس والتذكرة للقرطبي.
واسم الأول : عمدة القاري والسامع في ختم الصحيح الجامع.
والثاني : غنية المحتاج في ختم صحيح مسلم بن الحجاج.
والثالث : بذل المجهود في ختم السنن لأبي داود.
والرابع : اللفظ النافع في ختم كتاب الترمذي الجامع.
والخامس : القول المعتبر في ختم النسائي ، رواية ابن الأحمر. [وهو مطبوع، وموضوعه السنن الكبرى للنسائي]
بل له فيه(1) مصنف آخر حافل ، سماه (بغية الراغب المتمني في ختم سنن النسائي رواية ابن السني)(2).
والسادس : عُجالة الضرورة والحاجة عند ختم السنن لابن ماجه.
والسابع : القول المرتقي في ختم دلائل النبوة للبيهقي.
والثامن : الانتهاض في ختم الشفا لعياض.
بل له مصنف آخر حافل اسمه الرياض [في ختم الشفا لعياض].
والتاسع : الإلمام في ختم السيرة النبوية لابن هشام.
والعاشر : رفع الإلباس في ختم سيرة ابن سيد الناس.
والحادي عشر : الجوهرة المزهرة في ختم التذكرة).
انتهى كلام السخاوي ، ومجموع ما ذكره ثلاثة عشر كتاباً، كما تقدمت الإشارة إليه .
__________
(1) أي في سنن النسائي.
(2) وهو مطبوع.(3/156)
وهذا بيان لأهم أبواب أو مسائل (القول المعتبر في ختم النسائي رواية ابن الأحمر) للسخاوي ، ليكون مثالاً يقاس عليه في الجملة بقية كتب هذا الفن:
خطبة المؤلف السخاوي.
سبب تجريد المجتبى والخلاف فيه.
ما ورد من إطلاق اسم الصحيح على سنن النسائي.
ما ورد في تفضيل سنن النسائي على (صحيح البخاري)!.
شرط النسائي في سننه.
سبب تخريجه في سننه لبعض الضعفاء.
تحريه في سننه للصحيح من الأحاديث.
اجتنابه إخراج حديث جماعة من رجال الصحيحين.
رواة سنن النسائي.
اختلاف روايات السنن .
ترجمة الإمام النسائي.
ضبط النسبة إلى (نسَى).
مصنفات النسائي.
وفاة النسائي.
خرجه :
انظر (أخرجه)، و (التخريج).
خشبي :
الخشبية هم الشيعة أو فرقة منهم ، سُمّوا بذلك نسبة إلى الخشبة التي صُلب عليها زيد بن علي رحمه الله .
وقيل : سموا بذلك لأنهم قالوا : نعتزل الفتنة ونتخذ سيفاً من خشب ؛ ويظهر أن الأول هو الصحيح ؛ قال ابن عدي في (الكامل) (2/187) : (حدثنا محمد بن علي المروزي ثنا عثمان بن سعيد ، قلت ليحيى بن معين : الحارث بن حصيرة ما حاله؟ قال : خشبي ثقة ، ينسبون إلى خشبة زيد بن علي لما صلب عليها).
وكذلك ورد في ترجمة الحارث هذا من (ميزان الاعتدال) (2/167) و(تهذيب الكمال) .
وقال ابن ماكولا في (الإكمال) (3/262) في (باب الخشني والخشبي والحسني):
(وأما الخشبي أوله خاء معجمة مفتوحة وبعد الشين المعجمة باء معجمة بواحدة فصنف من الرافضة يقال لهم الخشبية يقال للواحد منهم: خشبي).(3/157)
وهذه التسمية قديمة ، وردت على لسان بعض التابعين كنافع والشعبي وإبراهيم النخعي ، فيما روي عنهم؛ قال ابن قدامة في (المغني) (2/8) : (وقال نافع : كان ابن عمر يصلي مع الخشبية والخوارج زمن ابن الزبير وهم يقتتلون ؛ فقيل له: أتصلي مع هؤلاء ومع هؤلاء وبعضهم يقتل بعضا؟! فقال : من قال: حي على الصلاة أجبتُه ، ومن قال: حي على الفلاح أجبته ؛ ومن قال: حي على قتل أخيك المسلم وأخذِ ماله قلت: لا ؛ رواه سعيد).
وروى أبو نعيم في (حلية الأولياء) (4/223) عن إبراهيم النخعي قال: (لو كنت مستحل دم أحد من أهل القبلة لاستحللت دم الخشبية).
وأما كلمة الشعبي فمروية في (السنة) لعبدالله و(السنة) للخلال ، و(تاريخ واسط) وغيرها.
خصلتان لا يستقيم فيهما حسنُ الظن : الحكم والحديث :
قال ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل) (2/35) : (نا أحمد بن سنان قال : سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول : خصلتان لا يستقيم فيهما حسن الظن : الحكم والحديث ؛ يعني لا يستعمل حسن الظن في قبول الرواية عمن ليس بمرضي) .
الخط :
فن الخط هو فن تحسين الخطوط وتجويد الكتابة ؛ والخطّاط : من حرفته الخط ؛ والمخطوط : المكتوب بالخط لا بالمطبعة ؛ وانظر (مخطوط) .
الخط الدقيق :
هو الخط الذي تصغر حروفه بحيث تتقارب وتتشابه وتصغر كلمات الخط فتشق قراءته - بسبب ذلك - على كثير من الناس ؛ وانظر (تدقيق الخط).
الخط المائل :
هو فاصل يوضع بين رقم السفر أي المجلد ، ورقم الصفحة ، عند العزو إليهما من كتاب بعينه ، كما يقال: ((روى البخاري في (صحيحه) (1/27) كذا وكذا )) .
خف :
هذه الكلمة ليست من اصطلاحات المحدثين ، ولكنها من رموز الكتابة ، وقد وقعت في بعض النسخ الخطية لبعض دواوين الحديث وفُهمت على غير مراد كاتبها وسببت إشكالاً ؛ وهذا بيان ذلك :(3/158)
قال العلامة أحمد محمد شاكر رحمه الله ، في تحقيق ( المسند ) ( 11/226-227 ) في تخريج الحديث ( 7035 ) في كلام له على بعض الأخطاء المطبعية في ( المسند ) : ( وقع هنا في المطبوعة الأولى من المسند (ح) خطأ مطبعي عجيب !! ففيها : "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مجلس خف : ألا أحدثكم " ! فكلمة ( خف ) المزادة بين كلمتي (مجلس) و ( ألا ) - لا معنى لها ولا أصل ! وإنما هي حرفان يكتبهما الناسخون القدماء المتثبتون ، رمزاً إلى تخفيف الكلمة التي يكتبان فوقها ، هما اختصار من كلمة ( خفيفة ) ؛ وهي ثابتة في هذا الموضع في المخطوطة ( م ) فوق كلمة ( ألا ) ، يريد كاتبها إعلام القارئ بأن ( ألا ) مخففة اللام المفتوحة غير مشددة --- .
وهذا الرمز ( خف ) تجده كثيراً في المخطوطات المتقنة ، وكذلك في مطبوعات الهند التي تطبع على الحجر ، وفي بعض المطبوعات بالحروف ، كطبعتي صحيح البخاري المطبوعتين في مطبعة بولاق : النسخة السلطانية ، والنسخة التي طبعت على مثالها ) . انتهى .
وقال عبد السلام هارون في ( تحقيق النصوص ونشرها ) (ص55) : (وتخفيف الحرف ، أي مقابل تشديده ، يرمز إليه أحياناً بالحرف ( خ ) ، أو بإشارة ( خف ) ، إشارة إلى الخفة ) .
خفة الضبط :
أي نقصه عن درجة الكمال نقصاً لا يمنع من الاحتجاج بحديث صاحبه ما لم يخالفه من هو أوثق منه ، وما لم يقم الدليل على وهمه في ذلك الحديث ،أو يتفرد بما لا يُحتمل من مثله.
وقد قيل: إن خفة الضبط المذكورة في حد الحسن غير منضبطة ؛ وهذا اعتراض قوي ينبغي تحرير الإجابة عنه .
ويأتي تعريف الضبط في موضعه من هذا المعجم .
الخماسيات :(3/159)
هي الأحاديث المرفوعة التي يرويها أحد المحدثين بإسناد ظاهره الاتصال وفيه ثلاثة رواة ؛ ذكر بعض الكتب المصنفة في الأحاديث الخماسية الكتاني فقال في (الرسالة المستطرفة في بيان مشهور كتب السنة المشرفة) (ص99) : (و "الخماسيات" لمسند العراق في وقته أبي الحسين أحمد بن محمد بن أحمد بن النقور البغدادي البزار المتوفى سنة سبعين وأربعمئة ؛ وأُفردت أيضاً من "سنن الدارقطني" ) .
الخمسة :
هم عند الجمهور الأئمة الخمسة أصحاب دواوين السنة الشهيرة العظيم خطيرها : وهي الصحيحان وسنن الترمذي وأبي داود والنسائي .
وأما الكتب الستة فهذه الخمسة وسنن ابن ماجه ؛ ولكن جماعة من العلماء كانوا - قبل أن يستقر هذا الاصطلاح - يطلقون هذه اللفظة ويريدون بها الكتب الخمسة و (موطأ مالك) ، وأكثرهم من المغاربة .
قال ابن حجر في (النكت) (1/486) : (وكان الحافظ صلاح الدين العلائي يقول : ينبغي أن يُعدَّ كتابُ الدارمي سادساً للكتب الخمسة بدل كتاب ابن ماجه ، فإنه قليل الرجال الضعفاء نادر الأحاديث المنكرة والشاذة ، وإن كانت فيه أحاديث مرسلة وموقوفة ، فهو مع ذلك أولى من كتاب ابن ماجه .
قلت : وبعض أهل العلم لا يعد السادس إلا الموطأ . كما صنع رزين السرقسطي ، وتبعه المجد ابن الأثير في "جامع الأصول" ، وكذا غيره .
وحكى ابن عساكر أن أول من أضاف كتاب ابن ماجه إلى الأصول أبو الفضل ابن طاهر ، وهو كما قال ، فإنه عمل أطرافه معها وصنف جزءاً آخر في شروط الأئمة الستة فعده معهم .
ثم عمل الحافظ عبد الغني كتاب "الكمال في أسماء الرجال" - الذي هذبه الحافظ أبو الحجاج المزي - فذكره فيهم .
وإنما عدل ابن طاهر ومن تبعه عن عد الموطأ إلى عد ابن ماجه ، لكون زيادات الموطأ على الكتب الخمسة من الأحاديث المرفوعة يسيرة جداً ، بخلاف ابن ماجه ، فإن زياداته أضعاف زيادات الموطأ ، فأرادوا بضم كتاب ابن ماجه إلى الخمسة تكثير الأحاديث المرفوعة والله أعلم ) .(3/160)
تنبيه : تسمى الكتب الستة (الأصول الستة) ، وكذلك يسمى أصحابها الأئمة الستة ، وكذلك يقال في حق (الكتب الخمسة) .
وقد يراد بالخمسة والستة في اصطلاح بعض العلماء غير ما ذُكر ، قال الحافظ ابن حجر في مقدمة (بلوغ المرام) :
(وَقَدْ بَيَّنْت عَقِبَ كُلِّ حَدِيثٍ مَنْ أَخْرَجَهُ مِنْ الأَئِمَّةِ لإِرَادَةِ نُصْحِ الأُمَّةِ ؛ فَالْمُرَادُ بِالسَّبْعَةِ :
أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ .
وَبِالسِّتَّةِ مَنْ عَدَا أَحْمَدَ .
وَبِالْخَمْسَةِ مَنْ عَدَا الْبُخَارِيَّ وَمُسْلِمًا ؛ وَقَدْ أَقُولُ : الأرْبَعَةُ وأحمد .
وبالأربعة مَنْ عَدَا الثَّلاثَةَ الأُوَلَ .
وبِالثَّلاثَةِ مَنْ عَدَاهُمْ والأَخِيرَ .
وَ بِالْمُتَّفَقِ عليه الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ ؛ وَقَدْ لا أَذْكُرُ مَعَهُمَا غَيْرَهُمَا(1) .
وَمَا عَدَا ذَلِكَ فَهُوَ مُبَيَّنٌ) ؛ انتهى .
وأما أول من أطلق تسمية الكتب الخمسة بالمعنى المعروف عند الجمهور ، فكأنه لا يسهل تعيينه ؛ ولكن قد ظهرت بوادر هذه التسمية ونحوها في كتاب الحافظ الإمام أبي عبدالله ابن منده (310-395هـ) وذلك في (شروط الأئمة)(2) ، فقد تكلم على شروط هؤلاء الخمسة وغيرهم ، فقال (ص42-43) بعد أن ذكر كلام علي بن المديني في بيان الحفاظ الذين انتهى إليهم العلم والحفظ فكان عليهم في الجملة مدار الأحاديث الصحيحة :
__________
(1) أي ممن خرّج الحديث.
(2) ويظهر أنه جزء مستل من بعض كتبه .(3/161)
(وأنا ذاكر إن شاء الله مع هذه الطبقة التي ذكرها علي بن المديني ونَسب هذا العلم إليهم : جماعةً من الأئمة كانوا في أزمنتهم ممن قُبل انفرادهم وجُعلوا حجة على من خالفهم ، وإن كانوا دون من ذكرهم عليُّ بن المديني في الرواية واللُّقِيّ ، فهم في عصرهم أئمة وقُبل انفرادهم واحتج بهم الأئمة الأربعة الذين أخرجوا الصحيح وميزوا الثابت من المعلول والخطأ من الصواب : أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري ، وأبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري ؛ وبعدهما أبو داود سليمان بن الأشعث بن إسحاق السجستاني ، وأبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي ، ومَن بعدهم ممن أخذوا طريقتهم وقصدوا قصدهم وإن كانوا دونهم في الفهم : عبد الله بن عبد الرحمن السمرقندي ، وأبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي ، ومحمد بن إسحاق بن حزيمة النيسابوري ، وأحمد بن عمرو بن أبي عاصم النبيل رحمة الله عليهم أجمعين ) .
وقال أيضاً في (شروط الأئمة) (ص71-73) في جماعة ذكرهم من الرواة المختلف فيهم أو المتكلم فيهم : (قد أخرج عنهم محمد بن إسماعيل البخاري وتركهم مسلم بن الحجاج ، أو أخرج عنهم مسلم وتركهم البخاري لكلام في حديثه أو غلو في مذهبه .
وتبعهم في ذلك أبو داود السجستاني وأبو عبد الرحمن النسائي وجميع من أخذ طريقتهم في الحديث ---- ؛ وكل هؤلاء مقبولون على مذهب أبي داود السجستاني وأبي عبد الرحمن النسائي إلا نفر نذكرهم ونبين مذهبهم فيهم إن شاء الله تعالى ) .
وذكر الدكتور عمر المقبل حفظه الله في مقالة نشرها تلخيصاً لنتائج رسالته الجامعية في منهج الحافظ أبي عبدالله ابن منده في الحديث وعلومه أن من طريقة ابن منده تصحيح الحديث لكونه على رسم الشيخين أو أحدهما ، أو أصحاب السنن الثلاثة : أبي داود ، والترمذي ، والنسائي ، أو أحدهم .(3/162)
خولِف :
قولهم (فلان خولف في حديثه) و (فلان يخالِف في حديثه) كلا اللفظين يدل على أن الراوي في حفظه ضعف ، وأنه يروي أحاديث يخالف فيها أحاديث الثقات ؛ ولكن قولهم في الراوي (يخالِف) مشعر بالجزم بأنه هو المخطئ الشاذ في تلك المخالفات ، بخلاف قولهم فيه (خولف) فإنه يحتمل أن يكون الناقد متوقفاً في تعيين من يرجحه من الطرفين المختلفين في تلك الأحاديث ؛ وهو يحتمل أيضاً أن تكون المخالفات قليلة كما قد تُشعِر به صيغة الفعل الماضي ، خلافاً لصيغة الفعل المضارع ؛ والله أعلم .
خِيار :
يقول النقاد : فلان خيار ، يعنون بذلك أنه ممن يُنتقى ويُصطفى من بين أقرانه أو أهل عصره من الرواة، فهي ثناء رفيع القدْر على من قيلت فيه ؛ جاء في (المعجم الوسيط) : (الخيار : اسم بمعنى طلب خير الأمرين ، ويقال: هو بالخيار يختار ما يشاء ؛ والمختار : المنتقى ، للمفرد والمذكر وفروعهما ) .
وقد تكررت هذه اللفظة مراتٍ غيرَ قليلة في عبارات الإمام أحمد رحمه الله .(3/163)
فصل الدال
د. :
مختصر كلمة (دكتور) ؛ والدكتور هو الحاصل على شهادة الدراسة الجامعية العليا المعروفة بالدكتوراه ؛ وهو لقب غربي كرهه وانتقده جماعة من العلماء المحققين ، منهم الشيخ العلامة المحقق البارع الأديب الأريب بكر أبو زيد شفاه الله ، بل لقد ألَّف في ذم تلقب المسلم بهذا اللقب وأشباهه من ألقاب الغربيين كتيباً نافعاً ماتعاً ، ولكنه مثيرٌ للحزن والأسى ، أسماه (تغريب الألقاب العلمية) ، أجاد فيه أيما إجادة وبلغ فيه مبلغاً يقال عند مثله : ليس فوق ذا زيادة ، فجزاه الله عن الدين والعلم وأهلهما خير جزاء وأوفره .
لقد بين الشيخ في هذا الكتاب بياناً لا لبس فيه ، بأسلوب راقٍ رفيع بليغ ، بطلانَ شيوع هذه الكلمة بين المسلمين ، ورِضاهم عنها ، وحرص من يحرص منهم على التزين بها ؛ وإني - لولا التطويل الذي لا يستساغ - لراغبٌ جداً في نقل معظم ما ورد في ذلك الكتاب إلى هذا الموضع من كتابي ، فإني أرى الإحالة عليه لا تقنعني ، ولكن سأصير إليها مضطراً ، إذ لا بد منها ، وأكتفي هنا بنتف مما ورد في ذلك الكتاب من قول مؤلفه أو من نقلِه .
قال (ص311) بعد شكوى مريرة وكلام له طويل في الوضيعة من انتشار الألقاب الأجنبية بين المسلمين ورواجها عليهم :
(في ذلك أتناول فتنةَ التغريب للألقاب العلمية ، وقد ألقتْ منها حبالاً وعِصياً كُثراً ، وعلى وجه الخصوص لقباً علمياً قذفتْ به في عامة ديار الإسلام ------.
ثم قال (ص312) : (وما هذا إلا من استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير، وذلك الخير هو لقب : أبُ الأنبياءِ وعمودُ العالَمِ نبي الله إبراهيم عليه السلام ، إذ قال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في شأنه : " أبونا إبراهيم شيخ الأنبياء"(1).
ثم قال :
(وبعد وصول هذه الرسالة في طبعتها الأولى إلى : رَصِيفنا الشيخ أحمد بن الشيخ عبدالله بن محمد بن حُميد ، بعث إليَّ برسالة في 15/4/1403هـ ، مطولة مشفوعة بهذين البيتين من قوله :
استبدلوا لفظ الفقيه بغيره
ومن الغريب محدثون دكاتره
والله لو علم الجدودُ بفعلنا
لتناقلوها في المجالس نادره
وقال (ص318 وما بعدها) : (أما اللقب بهذا اللفظ بخُصوصه فإني أجَلْتُ النظر فيه فوجدته لقباً غير سائغ ، لأمور منها سوى ما تقدم ما يلي:
__________
(1) انظر (جلاء الأفهام) لابن القيم (ص154 ،155 ،156) .(3/164)
1- إن هذا اللفظ المستورد هو في أصل إطلاقه من عدوٍّ لنا في دنيانا وآخرتنا ، وقد عُلم من نصوص الشريعة المطهرة : أنَّ من مباني الإيمان بغضَ أهل الإشراك وعدمَ موالاتهم ، والبعدَ عن التشبه بأعداء الله الكافرين ، حتى في الألفاظ ؛ وهذا اللقب من هذا القبيل ، وقد أبان جمع من الكاتبين عن ذلك ؛ ومنه ما جاء في كتاب "منهج البحث الأدبي"(1) ، إذ قال :
"كثير من الدرجات لدى الغربيين : من أصل إغريقي ، أو لاتيني ، ثم تبناها الاستعمال الديني ، فكانت من مصطلحات الكنيسة ورجالها ؛ فالليسانس تعني في الأصل الإجازةَ التي تَمنح صاحبَها حقَّ أن يكون محامياً أو معلماً ... ، ثم أطلقتْ على السنتين اللتين يمضيهما خريج الدراسة الثانوية في دراسة اللاهوت ، قبل أن يُقبَل للدكتوراه على مقاعد الدرس .
والدكتور في الأصل هو الذي يُعلم علناً [كذا] ، وأطلقه اليهود على الرباني أو (الحَاخَام) العالم بالشريعة ، وأطلقه المسيحيون على الذي يفسر الكتب المقدسة .
ودخل اللقب الجامعات لأول مرة بجامعة بولونيا في إيطاليا ، في القرن الثاني عشر ، ثم تبعتها جامعة باريس بعد قليل .
وفي عام (1340م) جعلت جامعة باريس أربع كليات هي : اللاهوت ، القانون ، الطب ، الفنون - أي الآداب والعلوم - ؛ وبقي اللقب في الكليات الثلاث الأولى ، دون الفنون ؛ ولا يُمنح إلا بعد دراسة صعبة قاسية تستغرق ما بين الـ (8-14) سنة ، تعقبها مناقشة علنية يحصل الطالب فيها على أَثر نجاحه فيها الدرجة - شعار الدكتوراه - وهي الجبة (الروب) والخاتم والقُبَّعة المربعة ؛ ولم يسمح لكلية الفنون - الآداب والعلوم - بلقب الدكتور إلا بعد الثورة الفرنسية ، بموجب مرسوم 17 مارس 1808م الذي ينص على نظام جديد للدكتوراه ، تمنح بمقتضاه في كلية الآداب والعلوم والقانون والطب ؛ ثم ألغت الجامعةُ كليةَ اللاهوت سنة 1885م" ؛ انتهى .
__________
(1) للأستاذ علي جواد الطاهر [ص37-38] .(3/165)
ولعله بعدُ يتضح أن في استمراء هذا اللفظ والاعتزاز به ضرباً من ضروب التشبه في الظاهر ونوعَ ركون في الباطن ، ولا يجملُ بالمسلم تكثيرُ سوادهم ، وعن أبي ذر رضي الله عنه "من كثر سواد قوم فهو منهم" ؛ رواه أبو يعلى وغيره .
وأقل ما في هذا الوجه من المحاكاة أنه من مظاهر الذلة والضعة وتبعية المغلوب للغالب ، والمسلم مطالَبٌ بالعزة والأنَفة من التبعيات الماسخة المجردة من العوائد النافعة ؛ وما ألطف ما صاغه العلامة محمد الخضر حسين من كلام في ذلك مضمِّناً لمقولة ابن خلدون ، كما في (رسائل الإصلاح) (ص148-150) .
2- وأيضاً فإنه من مبناه (دكتور) غربي مُحْدَث لا يمتُّ إلى اللسان العربي بصلة ، فهو أتيّ(1) لا أصل له ؛ ففي إطلاقه نبذ للغة العرب في سُنن كلامها ومناحي لغتها وغضٌّ من شأنها ؛ فهو إذاً من مواطن التخذيل ، والمسلم مطالَبٌ بإحياء لغة القرآن وشد الأمة إليها وتحريرها مما يشوبها ---- .
3- إنه في معناه لا يحمل من الوقار والقيمة الأدبية في اعتبار المسلمين ، ومن السمت الإسلامي النقي من الشوائب ، ما تحمله الألفاظ السائدة في أرضية البلاد الإسلامية ، مثل لفظ شيخ وفقيه ومحدث ومفسر وأستاذ(2) ومعيد(3) وأديب ولغوي ونحْوي ، ونحوها من الألفاظ التي يُعنى بها ما يحدده مفهومها ، فيُعطى كلٌّ ما يستحقه من لقب يحدد اختصاصه ويوائم منزلته ، ويدل عليه بجلاء كفلق الصبح ----.
__________
(1) الأتي : الغريب ، كما في "كفاية المتحفظ" (ص467) .
(2) اجتماع السين والذال في كلمة هل تكون عربية أو معربة ؟ فيه بحوث متكاثرة تجد مجامعها في (لجام الأقلام) لأبي تراب (ص57-75) ، وانظر (جمع الجوامع ) (2/364) .
(3) انظر (معيد النعم ومبيد النقم) للسبكي (ص108) .(3/166)
أما هذا اللقب دكتور فإنه مضطرب الدلالة ، إذ يستوي في إطلاقه كلُّ من نال هذه الرتبة النظامية ، من طبيب وبيطار ولغوي وأديب ومحدث ومهندس ، وهكذا من كافر أو مسلم ، صالح أو غير صالح ، فالرؤوس به مستوية ، وإذا استوت الرؤوس فعلى الطهر والصلاح العفاء ؛ والتسوية من هذا القبيل مخالفة لسنن الفطرة ----) إلى آخر كلامه حفظه الله .
دائرة المقابلة :
انظر ما يلي .
دائرة الفصل بين الحديثين :
قال الرامهرمزي في (المحدث الفاصل) (ص606) (882) : (حدثنا محمد بن عطية الشامي(1) ثنا أبو حاتم السجستاني حدثنا الأصمعي ثنا ابن أبي الزناد قال : في كتاب أبي : هذا ما سمعته من عبد الرحمن بن هرمز الأعرج ؛ قال : فكلما انقضى حديث أدار دارة ، ثم قال : هكذا كل الكتاب) .
وقال الخطيب في (الجامع) (1/424-427) تحت هذه الترجمة (الدارة في آخرة كل حديث) :
(ينبغي أن يجعل بين كل حديثين دارة تفصل بينهما وتميز أحدهما عن الآخر ) ؛ ثم روى عن يعقوب بن سفيان قال : قال علي بن المديني : أتاني رجل من ولد محمد بن سيرين بكتاب محمد بن سيرين عن ابي هريرة كان كتابا في رَقٍّ عتيق ، وكان عند يحيى بن سيرين ؛ كان محمد لا يرى ان يكون عنده كتاب ، وكان في أسفل حديث النبي صلى الله عليه وسلم حيث فرغ منه : "هذا حديث أبي هريرة" ، بينهما فصل "قال ابو هريرة : كذا" ، وقال : في فصل كل حديث عاشر حوله نقط كما تدور .
ثم روى عقبه خبر الرامهرمزي المذكور ؛ ثم قال :
(رأيت في كتاب أبي عبدالله أحمد بن محمد بن حنبل بخطه بين كل حديثين دارة ، وبعض الدارات قد نقط في كل واحدة منها نقطة ، وبعضها لا نقطة فيه ، وكذلك رأيت في كتابَي إبراهيم الحربي ومحمد بن جرير الطبري بخطيهما .
__________
(1) روى الخطيب هذا الأثر من طريق الرامهرمزي في (الجامع) (572) ولكن وقع عنده (السامي) بدل (الشامي) ، ولعله الصواب .(3/167)
فأستحبُّ أن تكون الدارات غفلاً ، فإذا عورض بكل حديث نقط في الدارة التي تليه نقطة أو خط في وسطها خطاً ؛ وقد كان بعض أهل العلم لا يعتد من سماعه إلا بما كان كذلك أو في معناه) ؛ ثم روى عن علي بن الحسين بن حيان قال : وجدت في كتاب أبي بخط يده : قال أبو زكريا يعني يحيى بن معين : كان غندر رجلاً صالحاً سليم الناحية ، وكل حديث من حديث شعبة ليس عليه علامة "عين"(1) لم يعرضه على شعبة بعد ما سمعه ، فلا يقول فيه : حدثنا ) .
وكان جماعة من المحدثين يسمون دارة المقابلة إجازة ؛ روى الخطيب في (الجامع) (1/426) - عقب ما تقدم - عن أبي بكر بن أبي داود قال : "وفي كتابي عن محمد بن يحيى بغير إجازة نا يعقوب حدثني أبي عن صالح عن ابن شهاب" ، فذكر حديثاً .
ثم قال : (حُدِّثت عن عبد العزيز بن جعفر الحنبلي قال : حدثني أبو بكر الخلال انا عبدالله بن أحمد بن حنبل قال : كنت أرى في كتاب أبي إجازة يعني دارة ، ثلاث مرات ، ومرتين ، وواحدة أقله ، فقلت له : أيشٍ تصنع بها ؟ فقال : أعرفه ، إذا خالفني إنسان قلت له : قد سمعته ثلاث مرات ) .
ثم روى الخطيب عن حميد بن عبد الرحمن قال : (كان زهير بن معاوية إذا سمع الحديث مرتين كتب عليه : "قد فرغت" ) .
الدائرة المنقوطة :
انظر التي قبلها .
دثنا :
قال ابن الملقن في (المقنع) (1/363) وذكر اختصارهم (حدثنا) إلى (ثنا) : (وقد يزاد في علامة "ثنا" دالٌ في أوله ----؛ ووجدت الدال في خط الحاكم والسلمي والبيهقي)؛ وانظر (صيغ الأداء).
__________
(1) يظهر أن هذا الحرف رمز لكلمة (معارضة) أو (عُرض) ونحوهما ، ويحتمل على بُعدٍ أن يكون رمزاً لشعبة ففي اسمه عين أيضاً .(3/168)
دَجّال :
تقال هذه الكلمة لمن هو وضاع أفاك ويستعمل في ذلك أنواعاً من الحيل ؛ جاء في (المعجم الوسيط) : {{ دَجَلَ [يدجُلُ] دَجْلاً : كذب وموّه وادعى ، فهو داجل ودَجّال ( ج ) [أي جمْعها] دجاجلة ؛ و[دَجَلَ] الشيءَ : غطّاه ؛ و[دَجَلَ] البعيرَ : طَلاه بالدُّجَالة ؛ و[دَجَلَ] السيفَ : موَّهه بماء الذهب ؛ و[دَجَلَ] الحقَّ : لَبَسَهُ بالباطل.
دجَّلَ : دجَلَ (في اللزوم والتعدي) }}.
دخل عليه حديثٌ في حديث :
هذه العبارة هي من مصطلحات علماء العلل وأتباعهم، ويريدون بها أن ذلك الراوي أخطأ ، أي من غير تعمد ، فخلط بين حديثين ، انتقل من أحدهما إلى الآخر ، مثل أن يذكر سند حديث ثم ينتقل إلى متن حديث آخر فيركبه على ذلك السند، ومثل أن يزيد في سند حديث أو متنه ما هو من حديث آخر، ومثل أن يلفق حديثاً من حديثين.
دخل له حديثٌ في حديث :
هي بمعنى (دخل عليه حديث في حديث) .
الدخيل :
قالوا في مقدمة (المعجم الوسيط) (1/14) في بيان اصطلاحاتهم فيه :
{{ (د) : للدخيل، وهو اللفظ الأجنبي الذي دخل العربية دون تغيير ، كالأكسيجين والتليفون}}.
الدراسة :
دراسة الكتاب : تتبّع معانيه ، وذلك يكون بقراءته وتدبره وسؤال أهل العلم عن مقاصده وأخْذِ شرحِها منهم .
قال ابن فارس في (مقاييس اللغة) (2/267-268) تحت مادة (درس) : (الدال والراء والسين أصلٌ واحد يدلُّ على خَفاء وخفضٍ وعَفَاءٍ ؛ فالدَّرْس: الطَّريق الخفيّ ، يقال : دَرَسَ المنزلُ: عفا.
ومن الباب الدَّرِيس: الثّوب الخَلَق.
ومنه دَرَسَتِ المرأةُ: حاضَت----.
ودَرَسْتُ الحنْطَة وغيرَها في سُنْبُلها ، إذا دُسْتَها ؛ فهذا محمولُ على أنّها جُعِلت تحتَ الأقدام، كالطَّريق الذي يُدرْس ويُمشَى فيه---- .
والدَّرْس: الجَرَب القليل يكون بالبَعير .
ومن البابِ "درستُ القرآنَ وغيرَه" ، وذلك أنَّ الدارس يتتبع ما كان قرأ ، كالسالك للطريق يتتبّعه ) .(3/169)
وقال الجوهري في (الصحاح) في مادة (درس) : (دَرَسَ الرسم يدرس دُروساً، أي عفا ؛ ودَرَسَتْهُ الريح ، يتعدَّى ولا يتعدَّى ؛ ودرست الكتاب دَرْساً ودِراسة ----.
والدَرْسُ أيضاً: الطريق الخفيّ ؛ ودارسْتُ الكتب وتدارستها وادَّارَسْتُها، أي دَرَسْتُها).
الدَّرْجُ :
جاء في (المعجم الوسيط) (1/277) : (الدَّرْجُ : يقال : نحنُ دَرجَ يديك: طوع يديك ؛ وأنفذتُه في دَرجِ كتابي: في طيِّه، و[هو أيضاً] الورق الذي يكتب فيه ، "تسمية بالمصدر" ).
الدرس :
انظر (الدراسة) .
درة العراق :
هذه كلمة ثناء عظيمة ، قالها الإمام أحمد بن حنبل في الحافظ الناقد محمد بن عبد الله بن نمير الكوفي ، وهو من معاصريه؛ فقد قال ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل) (1/320) و (7/307): (نا إبراهيم بن مسعود الهمداني قال سمعت أحمد بن حنبل يقول: محمد بن عبد الله بن نمير درة العراق).
ولقد اشتهرت كلمة أحمد هذه حتى عدَّها ابن حجر لقباً فذكرها في كتابه (نزهة الألباب في الألقاب) (1/261) قائلاً : (درة العراق : هو محمد بن عبد الله بن نمير).
دعني لا أقيء :
انظر (بزق).
دعُوا حديثَه فإنه كان يسبّ السلف :
انظر (قد عرفتُه) .
الدفتر :
قال المناوي في (التوقيف) : (الدَّفتر جريدة الحساب ، وكسر الدال لغة حكاها الفراء ؛ وهو عربي ، قال ابن دريد : ولا يعرف له اشتقاق) ؛ وانظر (القرطاس) .
دكتور :
انظر (د.) .
دكتوراه:
انظر (د.).
الدواة :
جاء في (المعجم الوسيط) : ( الدواة : المحبرة ---) ؛ والتحقيق أن الدواة هي الوعاء الذي تجمع أو تُحمل فيه آلا ت الكتابة ، قال القلقشندي في (صبح الأعشى) (2/470) : (وبالجملة فإن الدواة هي أم آلات الكتابة وسِمْطُها الجامع لها ؛ ولا يخفى ما يجب من الاهتمام بأمرها والاحتفال بشأنها ؛ فقد قال عبد الله بن المبارك : من خرج من بيته بغير محبرة وأداة فقد عزم على الصدقة ، قال المدائني : يعني بالأداة مثل السكين والمقلمة وأشباههما) .(3/170)
وقال (2/471-472) : (الجملة الرابعة في قدرها وصفتها : قال الحسن بن وهب : سبيل الدواة أن تكون متوسطة في قدرها ، لا بالقصيرة فتقصر أقلامها وتقبح ، ولا بالكثيفة فيثقل مَحْملها وتُعجف ---- ؛ قال الفضل : ويكون طولها بمقدار عظم الذراع أو فُويق ذلك قليلاً لتكون مناسبة لمقدار القلم----) .
وقال (2/472) : (أما المحبرة المفردة عن الدواة فقد اختلف الناس فيها ، فمنهم من رجحها ومالوا إلى اتخاذها لخفة حملها وقالوا : بها يكتب القرآن والحديث والعلم ؛ وكرهها بعضهم واستقبحها من حيث إنها آلة النسخ الذي هو من أشد الحِرف وأتعبِها وأقلِّها مكسباً) ؛ انتهى والمقصود هو قوله (أما المحبرة المفردة عن الدواة) ، فالمحبرة ممكن أن تكون واحدة من آلات الدواة ، وممكن أن تكون مفردةً عنها ) .
وقال (2/498-500) : (الآلة الخامسة : المحبرة ، وهي المقصود(1) من الدواة ؛ وتشتمل على ثلاثة أصناف :
الصنف الأول : الجونة ، وهي الظرف الذي فيه الليقة والحبر---- .
الصنف الثاني : الليقة ، وتسميها العرب الكرسف ، تسمية لها باسم القطن الذي تتخذ منه بعض الأحوال كما سيأتي----.
الصنف الثالث : المداد والحبر وما ضاهاهما).
وآلات الكتابة سبع عشرة آلة ، فصَّل الكلام عليها القلقشندي في (صبح الأعشى) (2/374 وما بعدها) .
__________
(1) أي المقصود الأعظم .(3/171)
دواوين الإسلام :
هي أمهات الكتب الإسلامية الأصول القديمة المعتمدة في التفسير والحديث والفقه ونحوها ؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية في (المجموع) (1/248) في النوع الباطل من التوسل : (وليس في الأحاديث المرفوعة في ذلك حديثٌ في شيء من دواوين المسلمين التي يُعتمد عليها في الأحاديث ، لا في الصحيحين ، ولا كتب السنن ، ولا المسانيد المعتمدة كمسند الإمام أحمد وغيره ؛ وإنما يوجد في الكتب التي عُرف أن فيها كثيراً من الأحاديث الموضوعة المكذوبة التي يختلقها الكذابون ، بخلاف من قد يغلط في الحديث ولا يتعمد الكذب ، فإنَّ هؤلاء توجد الرواية عنهم في السنن ومسند الإمام أحمد ونحوه ، بخلاف من يتعمد الكذب فإن أحمد لم يرو في مسنده عن أحد من هؤلاء----) .
دواوين السنة :
هي أمهات كتب الرواية وأشهرها وأهمها الكتب التسعة؛ وهذه الكلمة ليست لها معنى محدداً متفقاً عليه بدقة ، وإن اتفق العلماء المحققون على أنه يدخل في هذه التسمية - ولا بد - الكتب الخمسة ومسند أحمد وسنن البيهقي ونحوها من كتب الرواية المطولة المتقنة التي صنفها الأئمة الأثبات ؛ ودواوين السنة قسم عظيم من دواوين الإسلام .
دوران الأسانيد :
دوران الإسناد على رجل بعينه : هو رجوعه إليه وخروجه من عنده ، فإن قيل : "هذا الحديث مداره على فلان" فالمراد أنه يرجع إليه وحده ، وأنه في الحقيقة متفرد به ، حتى ولو رُويَ عن غيره كذباً أو خطأً أو إرسالاً أو تدليساً .(3/172)
ونحو ذلك يقال في معنى دوران الأسانيد عامةً على جماعة بأعيانهم ، فقد كتب الخطيب في (الجامع) (2/448-450) باباً أسماه (معرفة الشيوخ الذين تدور الأسانيد عليهم) قال فيه : (أنا أبو بكر البرقاني قال : قرئ على الحسين بن علي التميمي وأنا اسمع ، وقرأته علي أبي حامد أحمد بن محمد بن عبد الله الصايغ : أخبركم محمد بن إسحاق بن خزيمة قال : سمعت أحمد بن عبدة يقول : سمعت أبا داود الطيالسي يقول : وجدنا الحديث عند أربعة الزهري وقتادة والأعمش وأبي إسحاق ؛ قال : وكان قتادة أعلمهم بالاختلاف ، وكان الزهري أعلمهم بالإسناد ، وكان ابو اسحاق أعلمهم بحديث علي وعبد الله ، وكان عند الأعمش من كل هذا ، ولم يكن عند واحد من هؤلاء إلا ألفين ألفين(1) .
أنا محمد بن أحمد بن رزق أنا عثمان بن أحمد نا حنبل بن إسحاق قال : سمعت علي بن عبد الله بن جعفر المديني يقول : نظرت في الأصول من الحديث ، فإذا هي عند ستة ممن مضى :
من أهل المدينة : الزهري .
ومن أهل مكة : عمرو بن دينار .
ومن أهل البصرة : قتادة ويحيى بن [أبي] كثير .
ومن أهل الكوفة : أبو إسحاق وسليمان الأعمش .
ثم نظرت ، فإذا علم هؤلاء الستة يصير إلى أحد عشر رجلاً ممن جمع الحديث :
من أهل البصرة : ابن أبي عروبة وحماد بن سلمة وشعبة وأبو عوانة .
وسفيان بن سعيد الثوري وابن جريج ومالك بن أنس وسفيان بن عيينة وهشيم ومعمر بن راشد والأوزاعي) .
__________
(1) هذا يدل على قلة الأحاديث المرفوعة عند السلف ، في الجملة ، وعلى قلة طرقها ، كذلك ، قياساً إلى ما عند المتأخرين ، وقد كان لأوهام الرواة وأخطائهم وتدليسات المدلسين منهم وغير ذلك من علل المرويات : أثرٌ كبير في مضاعفة عدد الأحاديث وطرقها ، في المئة الثالثة الهجرية وما بعدها ، ولكن علماء العلل كانوا لكل ذلك بالمرصاد ، فجزاهم الله عن دينه خير الجزاء وأوفره .(3/173)
ثم قال الخطيب : (إن كان حنبل قد ضبط عن علي بن المديني قوله "من أهل البصرة" في الموضع الثاني ، فإنما أراد بذلك سعيد بن أبي عروبة وحماد بن سلمة وشعبة وأبا عوانة ؛ لأن الباقين ليسوا بصريين سوى معمر ، فالثوري كوفي ، وابن جريج مكي ، ومالك مدنيّ ، وابن عيينة كوفي في الأصل سكن مكة ، وهشيم واسطي ، ومعمر بصري انتقل إلى اليمن وحديثه أكثره عندهم ، والأوزاعي شامي)(1) .
دوران الحديث :
انظر (دوران الأسانيد) .
الديباج الخسرواني :
انظر الأصل رقم ( 5 ) من الفصل الثالث من المقدمة التأصيلية ، وهو في (بيان أنه ينبغي التفريق بين اللقب والاصطلاح وبيان عدم صحة إدخال الألقاب في الاصطلاحات إلا على سبيل التجوز) .
فصل الذال
ذاكرته بأحاديث فلان :
انظر (المذاكرة) .
ذاهب :
انظر (ذاهب الحديث) ، و(متروك الحديث) .
ذاهب الحديث :
ذاهب الحديث معناها الاصطلاحي : متروك ساقط الحديث .
ومثل كلمة (ذاهب الحديث) في معناها كلمةُ (ذهب حديثه) ، إلا في حالات تستثنى، وكما يأتي تفصيله في شرح (ذهب حديثه)(2).
ذكر :
انظر (صيغ الأداء) .
__________
(1) ورد كلام ابن المديني هذا في كتابه (العلل) ، وذلك في أول القطعة المطبوعة منه بتحقيق محمد مصطفى الأعظمي (ص36-40) ، وهي من رواية ابن البراء عن ابن المديني ، وكان الكلام هناك أكثر تفصيلاً مما حكاه الخطيب ، وفيه من التفصيل في بلدان الحفاظ مثل الذي بينه الخطيب ؛ ومن طريق ابن البراء روى هذا الأثر ابنُ أبي حاتم في (الجرح والتعديل) (1/220) ، وكذلك نقل كلام ابن المديني هذا من غير إسناد : الرامهرمزيُّ في (المحدث الفاصل) (ص614-620) ، ولقد تعددت الروايات عن ابن المديني في دوران الأحاديث ، فانظر سائرها في ترجمة ابن معين من (تهذيب الكمال) (31/550-551) ..
(2) قال البخاري (ذاهب الحيث) في جماعة من المتهمين أو المتروكين، منهم عبد الله بن ميمون بن داود القداح ، وعبد المنعم بن إدريس؛ وخالد بن يزيد العمري .(3/174)
ذكر الخبر :
انظر (الخبر) .
ذكروه عند فلان فامتخط :
انظر (بزق).
ذكره أبي :
من مصطلحات ابن أبي حاتم في كتابه (الجرح والتعديل) ، وأكثر ذلك في بيان شيوخ الراوي المترجَم وتلامذته .
مثاله قوله (عباءة بن كليب قدم الري وكتب عنه الرازيون، وروى عنه إسحاق بن موسى الخطمي ومحمد بن آدم بن سليمان المصيصي والحسن بن على بن عفان ، سمعت أبي يقول ذلك؛ وسألته عنه فقال : صدوق.
روى عن إسماعيل بن إبراهيم عن الحسن ومبارك بن فضالة وداود الطائي، وفى حديثه إنكار ؛ أخرجه البخاري في كتاب (الضعفاء) فسمعت أبي يقول : يحول من هناك).
ومما قد يحسن التنبيه عليه هو أن أكثر تلك الأمور التي يختمها ابن أبي حاتم بقوله (ذكره أبي) أصلها في (تاريخ البخاري الكبير).
ذكره أبي عن فلان قال :
نوع من طريقة ابن أبي حاتم في نقل أقوال النقاد بواسطة أبيه ، في كتابه (الجرح والتعديل) ، مثال ذلك قوله في الجرح والتعديل (3/135) : (ذكره أبي عن إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين أنه قال : حماد بن أبي حميد ضعيف ؛ سمعت أبي يقول : هو منكر الحديث) .
ومن المحتمل أن ما يقول فيه ابن أبي حاتم "ذكره أبي" لم يأخذه منه على سبيل الرواية ، وإنما أخذه من بعض كتبه مناولةً أو وجادةً بخطه ، أو سمعه منه في مجلس مذاكرة أو مجلس أجاب فيه بعض سائليه عن بعض الرواة ، أو غير ذلك مما لم يستجز ابن أبي حاتم معه أن يقول فيه : سمعت أبي يقول كذا ، أو حدثني أبي بكذا ؛ والله أعلم .(3/175)
ذكره قولَه :
أي من قوله ، وتأتي هذه العبارة عند إرادة بيان منتهى الحديث ، مثل أن يسوق المحدث حديثاً مرفوعاً فيذكر سنده ومتنه ، ثم يسوق عقب تلك الرواية المرفوعة روايةً ثانية للحديث ولكنها موقوفةٌ على صحابيه ، أو على تابعيِّه ، فيقتصر فيها على ذكر السند إليه، ثم ينص على وقفها ، بقوله(1) (فذكره قوله) ، وذلك تأكيد لوقوع الوقف في هذه الرواية الثانية ، واحترازٌ من أن يُظنَّ أنها مرفوعةٌ كالأولى وأنَّ عبارةَ الرفعِ ساقطةٌ منها مِن قِبلِ ناسخِ الكتابِ ، أو غيرِه .
ذكره من قوله :
انظر (ذكره قولَه) .
ذكره معناه :
أي ذكره بمعناه ؛ وهذه العبارة تصريحٌ من المحدثِ - سواء كان راوياً مجرداً، أو مصنفاً - بأنَّ تلك الرواية بمعنى الرواية المحالِ عليها ، وليس بلفظها .
وانظر (المعنى) .
ذَمَّه ذماً شديداً :
أي طعن فيه طعناً شديداً ، وذلك الطعن يكون في العدالة ، وهو الغالب في مثل هذه العبارة، كأن يصف الراوي بالكذب أو التساهل الفاحش أو الغلو في البدعة ، وقد يكون في الضبط ، كأن يصفه بفحش الغلط وكثرة التخليط .
ذهب حديثه :
الأصل أنها بمعنى (ذاهب الحديث) أي هو متروك الحديث .
وقد قيلت هذه اللفظة - أي (ذهب حديثه) - في جماعة من المتروكين والمتهمين .
__________
(1) أي عند وصول السند إلى الصحابي أو التابعي .(3/176)
ثم إنهم كأنهم كانوا يستعملون هذه الكلمة للتعبير عن حال المتروك ، أحياناً ، لأن تركهم إياه كان سبباً في ذهاب حديثه وضياعه(1) ؛ ولا يشترط لذهاب حديثه حقيقةً - أو حكماً - أن يُجمِع الرواة على تركه ؛ ولكن يكفي في ذلك أن يتركه الثقات ، فإن ما يبقي منه بأيدي الضعفاء والمتروكين والمدلسين ممن رووا عن ذلك المتروك لا يعد شيئاً ذا بال في اعتبارات النقاد ؛ كما قال البخاري في (التاريخ الأوسط) (2/195) : ([2277]- قال يحيى بن يحيى: كان خارجة بن مصعب يدلس عن غياث بن إبراهيم ، وغياث ذهب حديثه ، ولا يعرف صحيح حديثه من غيره)؛ لأن من لا يروي عنه الثقات لا يمكن اعتبار حديثه ودراسته.
وهذا بعض ما ورد من عباراتهم التي قُرن فيها بين كلمة (ذهب حديثه) وكلمة أخرى ، وهي عبارات تحتاج إلى التدبر والتأمل ، فبعض تلك القرائن تُخرج هذا الاصطلاح عن جادته المذكورة، فقد يكون المراد هو مجرد المعنى اللغوي ، أي ضياع حديث الراوي أو معظمه، بسبب ضياع كتبه أو تلفها أو موته قبل أن يحدِّث بمسموعاته.
قال محمد بن عثمان بن أبي شيبة في (سؤالاته لابن المديني) (ص147) (199) : (سمعت علياً يقول: روح بن أسلم ذهب حديثه(2) ؛ يعني ضاع).
فهنا قد يصح أن يقال : إن هذه الكلمة واردة على خلاف الأصل فيها ؛ فلا بد إذن من ملاحظة القرائن والاحتمالات .
قال الجوزجاني في (أحوال الرجال) (ص128) (213)(3) : (يزيد بن عياض بن يزيد بن جعدبة الليثي ذهب حديثه ، سكت الناس عنه).
قلت: يظهر أن كلمة (سكت عنه الناس) بيان لمعنى (ذهب حديثه) وتوكيد له.
وقال ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل) (4/70): (296) : (سعيد بن واصل الحرشي ----.
__________
(1) فعبروا بالسبب عن مسبَّبه.
(2) هذا التفسير لمحمد.
(3) وروى كلمة الجوزجاني هذه الخطيب في (تاريخ بغداد) (14/331).(3/177)
سمعت أبي يقول: تكلم علي بن المديني(1) فيه ، قال : ذهب حديثه؛ فقلت لأبي: ما قولك فيه؟ قال: لا أتقن أمره ، لا يمكني الكلام فيه؛ البصريون يروون عنه وليس بالقوي عندي .
ثم سمعت أبي يقول: سعيد بن واصل لين الحديث).
وقال ابن الجوزي في (الضعفاء والمتروكين) (1/216) (905) : (الحسين بن الفرج أبو علي ، وقيل: أبو صالح ، الخياط ؛ يروي عن ابن مهدي ؛ قال يحيى: كذاب يسرق الحديث؛ وقال أبو زرعة : ذهب حديثه، ليس بشيء).
وقال ابن حجر في (تهذيب التهذيب) (1/15) في ترجمة أحمد بن بشير القرشي المخزومي :
(قال ابن معين: لم يكن به بأس ، وكان يُقَيِّن ؛ وقال عثمان الدارمي: قلت لابن معين: عطاء بن المبارك تعرفه؟ قال: من يروي عنه؟ قلت: ذاك الشيخ أحمد بن بشير؛ فتعجب وقال: لا أعرفه؛ قال عثمان: أحمد كان من أهل الكوفة ثم قدم بغداد وهو متروك؛ قال الخطيب: ليس أحمد بن بشير مولى عمرو بن حريث هو الذي روى عن عطاء بن المبارك، ذاك بغدادي؛ وأما مولى عمرو بن حريث فليست حاله الترك ، وإنما له أحاديث تفرد بروايتها ، وقد كان موصوفاً بالصدق.
وقال ابن نمير: كان صدوقاً حسن المعرفة بأيام الناس حسن الفهم، إنما وضعه عند الناس الشعوبية.
وقال أبو زرعة: صدوق ؛ وقال أبو حاتم: محله الصدق ؛ وقال النسائي: ليس بذاك القوي؛ وقال أبو بكر بن أبي داود: كان ثقة كثير الحديث ، ذهب حديثه فكان لا يحدث .
وقال الدارقطني ضعيف يعتبر بحديثه ----.
قلت [أي ابن حجر]: الشعوبية هم الذين يفضلون العجم على العرب ؛ وقوله "يقين" : أي يبيع القينات----).
__________
(1) قوله (تكلم علي بن المديني فيه) قرينة على أن المراد بذهاب حديثه هو أنه متروك.(3/178)
وقال المزي في (تهذيب الكمال) في جملة ما حكاه من أقوالهم في حجاج بن نصير الفساطيطي القيسي: (وقال علي بن المديني: ذهب حديثه ؛ وقال أبو حاتم : منكر الحديث ضعيف الحديث تُرك حديثه كان الناس لا يحدثون عنه ؛ وقال البخاري : يتكلمون فيه ، وقال في موضع آخر : سكتوا عنه ؛ وقال النسائي: ضعيف ؛ وقال في موضع آخر: ليس بثقة ولا يكتب حديثه) ؛ انتهى .
وقال العجلي في (معرفة الثقات) (1/287) (270) : (حجاج بن نصير الفساطيطي كان معروفاً بالحديث ، ولكنه أفسده أهل الحديث بالتلقين ، كان يلقَّن وأدخل في حديثه ما ليس منه ، فتُرك) .
وزاد ابن حجر في (تهذيب التهذيب) فيما زاده على أصله : (وقال ابن سعد: كان ضعيفاً؛ وقال الدارقطني والأزدي : ضعيف ؛ وقال أبو أحمد الحاكم: ليس بالقوي عندهم ؛ وقال الآجري عن أبي داود: تركوا حديثه؛ وقال ابن قانع: ضعيف لين الحديث).
ذو مناكير :
هذه من الألفاظ الدالة على كون الراوي متروكاً ، لأنه صاحب أحاديث منكرة ، فهو كمن يقال له: (منكر الحديث).
الذيل :
ذيل الشيء في اللغة : آخره ، وذيل الثوب والإزار : ما جُرّض منه إذا أُسبِل(1) .
ويقال : ذيّل كتابَه أو كلامه : أردفه بكلام كالتتمة له .
فذيل الكتاب في عرف المؤلفين وأهل العلم : هو ما يلحق به مما هو تكميل له واستدراك عليه وهو الغالب ، أو مما ليس كذلك ولكنه يقاربه في موضوعه ، فهو مكمل له في أصول مقاصده ، لا في تفاصيلها .
ولا يشترط أن يكون الذيل من تأليف صاحب الأصل با قد يكون من تأليف غيره .
ومن أمثلة ذلك ذيول "تذكرة الحفاظ" ، للحسيني وابن فد والسيوطي ، والأصل أي التذكرة من تأليف الحافظ الذهبي ؛ وكذلك ذيل العبر لأبي زرعة العراقي ، والأصل للذهبي أيضاً .
__________
(1) انظر (لسان العرب) مادة (ذيل) .(3/179)
وقد لا يكون الكتاب ملحقاً بغيره وذيلاً له إلا في عرف طابعيه ، مثل أن يطبع كتابان يأتي أحدهما أولاً ويأتي الآخر بعده ، فيكتب عليهما : (كتاب كذا وبذيله الكتاب الفلاني) .
وقال الدكتور موفق في (توثيق النصوص) (ص227) : (يطلق الذيل في الاصطلاح ويراد به أحياناً أسفل الصفحة ، كما في ( "سنن الدارقطني" وبذيله "التعليق المغني على الدارقطني" ) .
ويُطلق الذيل أحياناً ويُطلق به تتمة ما فات المصنف ، أو ما حدث أو جاء بعده ؛ ويكون هذا على الأغلب كتاباً مستقلاً منفصلاً عن الكتاب المذيَّل عليه ؛ ومثاله "الذيل على تاريخ الخطيب" لأبي سعد السمعاني في نحو ثماني مجلدات(1) ؛ و "ذيل التقييد" لتقي الدين محمد بن أحمد الحسيني الفاسي المكي (ت832هـ) ، وهو ذيل على كتاب "التقييد لمعرفة رواة السنن والمسانيد(2) " ، و(الذيل على رفع الإصْرِ) للإمام شمس الدين أبي الخير محمد بن عبدالرحمن السخاوي (ت 902هـ)(3) ، وغير ذلك من الذيول) ؛ انتهى .
ومن الذين ذيلوا على كتب أنفسهم الحافظ ابن حجر ذيَّل على كتابه (الدرر الكامنة في أعيان المئة التاسعة) ، وذكر في هذا الذيل ما تيسر له ذِكرُهم من أعيان المئة التاسعة .
__________
(1) ذكر عدد مجلداته هذا الصفديُّ في (الوافي بالوفيات) (3/210) .
(2) في (توثيق النصوص) : (---- الرواة والسنن والمسانيد) .
(3) الأصل لابن حجر ، واسمه الكامل (رفع الإصر عن قضاة مصر) .(3/180)
فصل الراء
رافضي :
الرافضة هم غلاة الشيعة ؛ ولكن قد يطلقها بعض العلماء على من لم يكن غالياً ؛ ؛ قال ابن حجر في ترجمة أحمد بن صالح الكَركي المحدث من (لسان الميزان) (1/487) : (قال ياقوت : كان ثقة في الحديث، تاجراً كثير المال، ---- ، وكان رافضياً).
قال ابن حجر : (كذا قال، وياقوت متهم بالنصب، فالشيعي عنده رافضي).
وقال الذهبي في (السير) (16/459): (وصح عن الدارقطني أنه قال: ما شيء أبغض إلي من علم الكلام ؛ قلت: لم يدخل الرجل أبداً في علم الكلام ولا الجدال ، ولا خاض في ذلك ، بل كان سلفياً ، سمع هذا القولَ منه أبو عبد الرحمن السلمي .
وقال الدارقطني: اختلف قوم من أهل بغداد فقال قوم : عثمان أفضل ، وقال قوم: علي أفضل ، فتحاكمو إلي فأمسكت وقلت : الإمساك خير ؛ ثم لم أر لديني السكوت وقلت للذي استفتاني : ارجع اليهم وقل لهم : أبو الحسن [يعني الدارقطنيُّ نفسَه] يقول: عثمان أفضل من علي باتفاق جماعة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ هذا قول أهل السنة وهو أول عَقدٍ يُحل في الرفض .
قلت : ليس تفضيل علي برفض ولا هو ببدعة ، بل قد ذهب إليه خلق من الصحابة والتابعين ، فكل من عثمان وعلي ذو فضل وسابقة وجهاد ، وهما متقاربان في العلم والجلالة ، ولعلهما في الآخرة متساويان في الدرجة ، وهما من سادة الشهداء رضي الله عنهما ؛ ولكن جمهور الامة على ترجيح عثمان على الإمام علي ، وإليه نذهب ، والخطب في ذلك يسير ؛ والأفضل منهما بلا شك أبو بكر وعمر ، من خالف في ذا فهو شيعي جلد .
ومن أبغض الشيخين واعتقد صحة إمامتهما فهو رافضي مقيت .
ومن سبهما واعتقد أنهما ليسا بإمامي هدى فهو من غلاة الرافضة أبعدهم الله).
وقال الذهبي في (تذكرة الحفاظ) (1/364) في ترجمة عبد الرزاق : (وثقه غير واحد ، وحديثه مخرج في الصحاح ، وله ما ينفرد به ؛ ونقموا عليه التشيع ؛ وما كان يغلو فيه ، بل كان يحب علياً رضي الله عنه ويبغض مَن قاتله ؛ وقد قال سلمة بن شبيب : سمعت عبد الرزاق يقول : والله ما انشرح صدري قط أن أفضل علياً على أبي بكر وعمر) .
وقال الذهبي في (الميزان) (1/5-6) : (فلقائل أن يقول : كيف ساغ توثيق مبتدع وحد الثقة العدالة والاتقان ، فكيف يكون عدلاً من هو صاحب بدعة ؟ وجوابه أن البدعة على ضربين :(3/181)
فبدعة صغرى كغلو التشيع أو كالتشيع بلا غلو وتحرق ، فهذا كثير في التابعين وتابعيهم مع الدين والورع والصدق ، فلو رُدَّ حديث هؤلاء لذهب جملة من الآثار النبوية ؛ وهذه مفسدة بينة .
ثم بدعة كبرى كالرفض الكامل والغلو فيه والحط على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما والدعاء إلى ذلك ؛ فهذا النوع لا يحتج بهم ولا كرامة .
وأيضا فما أستحضر الآن في هذا الضرب رجلاً صادقاً ولا مأموناً، بل الكذب شعارهم والتقية والنفاق دثارهم ، فكيف يقبل نقل من كان هذا حاله ؟ حاشا وكلا .
فالشيعي الغالي في زمان السلف وعرفهم هو من تكلم في عثمان والزبير وطلحة ومعاوية وطائفة ممن حارب علياً رضي الله عنه وتعرض لسبهم ، والغالي في زماننا وعرفنا هو الذي يكفر هؤلاء السادة ويتبرأ من الشيخين أيضاً ، فهذا ضال معثر).
وقَالَ الذَّهَبِيُّ في (سِيَرُ أَعْلامِ النُّبَلاءِ (14/512) في ترجمة أبي عروبة الحراني : (كُلُّ مَنْ أَحَبَّ الشَّيْخَيْنِ فَلَيْسَ بِغَالٍ ، بَلْ مَنْ تَعَرَّضَ لَهُمَا بِشَيْءٍ مِنْ تَنَقُّصٍ فَإِنَّهُ رَافِضِيٌّ غَالٍ ، فَإِنْ سَبَّ فَهُوَ مِنْ شِرَارِ الرَّافِضَةِ ، فَإِنْ كَفَّرَ فَقَدْ بَاءَ بِالكُفْرِ ، وَاسْتَحَقَّ الْخِزْيَ ، وَأَبُو عَرُوْبَةَ فَمِنْ أَيْنَ يَجِيْئُهُ الغُلُوُّ ، وَهُوَ صَاحِبُ حَدِيْثٍ وَحَرَّانِيٌّ ؟ بَلَى ، لَعَلَّهُ يَنَالُ مِنَ الْمَرْوَانِيَّةِ ، فَيُعذَرُ ؛ قَالَ القَرَّابُ : مَاتَ سَنَةَ ثَمَانِيَ عَشْرَة وَثَلاَثِ مِئَةٍ) .(3/182)
وقال ابن حجر في (التهذيب) (8/485) في ترجمة لمازة بن زبار الأسدي ما نصه : (وقد كنت أستشكل توثيقَهم الناصبي غالباً وتوهينهم الشيعة مطلقاً ، ولاسيما أن علياً ورد في حقه : "لا يحبه إلا مؤمن ولا يبغضه إلا منافق" ؛ ثم ظهر لي في الجواب عن ذلك أن البغض ها هنا [يعني في الحديث ] مقيد بسببٍ، وهو كونه نصر النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأن من الطبع البشري بغض من وقعت منه إساءة في حق المبغِض ، والحب بعكسه ؛ وذلك ما يرجع إلى أمور الدنيا غالباً ؛ والخبر في حب علي وبغضه ليس على العموم ، فقد أحبه من أفرط فيه حتى ادعى أنه نبي أو أنه إله ، تعالى الله عن إفكهم ؛ والذي ورد في حق علي من ذلك قد ورد مثله في حق الأنصار ، وأجاب عنه العلماء : [بأنه] إن [كان](1) بغضهم لأجل النصر(2) كان ذلك علامة نفاقه وبالعكس ؛ فكذا يقال في حق علي أيضاً.
فأكثر من يوصف بالنصب يكون مشهوراً بصدق اللهجة والتمسك بأمور الديانة ، بخلاف من يوصف بالرفض فإن غالبهم كاذب ولا يتورع في الأخبار .
والأصل فيه أن الناصبة اعتقدوا أن علياً رضي الله عنه قتل عثمان أو كان أعان عليه ، فكان بغضهم له ديانة ، بزعمهم ، ثم انضاف إلى ذلك أن منهم من قُتلت أقاربه في حروب علي).
__________
(1) هذه الزيادة والتي قبلها مني .
(2) يعني نصر اللهِ تعالى ونصر رسولِه صلى الله عليه وسلم .(3/183)
الرباعيات :
هي الأحاديث التي يكون بين مصنفها وبين النبي صلى الله عليه وسلم أربعة رواة ؛ قال الكتاني في (الرسالة المستطرفة في بيان مشهور كتب السنة المشرفة) (ص98-99) : (و "الرباعيات" للإمام الشافعي ، من تخريج أبي الحسن الدارقطني ، وهي الجزء الرابع والثامن من فوائد أبي بكر محمد بن عبد الله الشافعي ، وهي جزء ضخم ، وقد تكون في جزئين ، ولأبي عبد الله البخاري ، وقد شرحها بعضهم وسماه "درر الدراري في شرح رباعيات البخاري" ، ولمسلم في "صحيحه" ، وللنسائي في "سننه" ، وهي أعلى ما عندهما ، وللطبراني في معاجمه ، وهي على ما قال في "صلة الخلف" أربعة أحاديث ، وللترمذي في "جامعه" ، وهي مئة وسبعون حديثاً ، وللبخاري حديثان من الرباعيات الملحقة بالثلاثيات ، ولأبي داود منها حديث واحد في السؤال عن الحوض ؛ وهي(1) : أن يروي تابعي عن تابعي عن الصحابي ، أو صحابي عن صحابي ، فيُحسب التابعيان أو الصحابيان في درجة واحدة ، فهما اثنان في حكم الواحد ، فإذا كان معهم راو أخذ عنه المؤلف يقال فيه : رباعي في حكم الثلاثي ؛ وهو أعلى ما عند أبي داود .
وعندهم أيضاً "رباعيات الصحابة" لأبي محمد عبد الغني بن سعيد الأزدي ، ويأتي ، ولأبي الحجاج شمس الدين يوسف بن خليل بن عبد الله الدمشقي الحافظ محدث حلب ومسند الشام المتوفى سنة ثمان وأربعين وستمئة عن ثلاث وتسعين سنة ؛ وله أيضاً ثمانيات لنفسه ؛ و "رباعيات التابعين" لأبي محمد عبد الغني بن سعيد الأزدي(2) ، ولأبي المواهب محدث دمشق ومفيدها الحسن بن أبي العظائم هبة الله بن محفوظ ابن صصرى ---- الحافظ المتوفى سنة ست وثمانين وخمسمئة ) .
وانظر (الثلاثيات) .
الرباعيات الملتحقة بالثلاثيات :
انظر (الرباعيات) ؛ وأزيد هنا نقلَ ما يلي :
__________
(1) يعني الرباعيات الملحقة بالثلاثيات .
(2) سقط من هذا الموضع ذكر كتاب عبد الغني من طبعة العلمية الثانية .(3/184)
قال البخاري في (صحيحه) (باب من خص بالعلم قوماً دون قوم كراهية أن لا يفهموا ؛ وقال علي : حدثوا الناس بما يعرفون ، أتحبون أن يُكذَّب الله ورسوله، حدثنا عبيدالله بن موسى عن معروف بن خربوذ عن أبي الطفيل عن علي بذلك) ؛ فقال ابن حجر في (فتح الباري) (1/225) (حديث رقم 127) في شرح هذا الأثر : (وهذا الإسناد من عوالي البخاري ، لأنه يلتحق بالثلاثيات من حيث أن الراوي الثالث منه صحابي ، وهو أبو الطفيل عامر بن واثلة الليثي آخر الصحابة موتاً) .
ربما أغرب :
انظر (ثقة ربما أغرب) .
رجال إسناده ثقات :
أي كل راو من رواة ذلك الحديث ثقة ؛ هذا هو الأصل في إطلاق هذه العبارة النقدية ، ولكن قد يحصل فيها شيء من توسع وتجوز كما يُعلم مما يأتي في (رواه جماعة ثقات حفاظ) ، وذلك بأن يكون بعضهم موثقاً توثيقاً غير مقنع ، أو بعضهم يكون صدوقاً فقط ؛ وكذلك قولهم (رواته ثقات) .
قال المعلمي في (التنكيل) (ص586-587) في معرض جمعه بين كلمتين للدارقطني قد يُدعى فيهما التباين:(3/185)
(الوجه الثاني : أن قول المحدث "رواه جماعة ثقات حفاظ " ثم يعدهم لا يقتضي أن يكون كل من ذكره بحيث لو سئل عنه ذاك المحدث ، وحده ، لقال : "ثقة حافظ" ؛ هذا ابن حبان قصد أن يجمع الثقات في كتابه ، ثم قد يذكر فيهم من يليّنه هو نفسه في الكتاب نفسه(1) وهذا الدارقطني نفسه ذكر في (السنن) (ص35) حديثاً فيه مسح الرأس ثلاثاً وهو موافق لقول أصحابه الشافعية ثم قال : ((خالفه جماعة من الحفاظ الثقات ...)) فعدهم وذكر فيهم شريكاً القاضي ، وأبا الأشهب جعفر بن الحارث ، والحجاج بن أرطأة ، وجعفر الأحمر ، مع أنه قال (ص 132): ((شريك ليس بالقوي فيما يتفرد به)) وجعفر بن الحارث لم أر له كلاماً فيه ولكن تكلم فيه غيره من الأئمة كابن معبن والنسائي ؛ وحجاج بن أرطأة قال الدارقطني نفسه في مواضع من (السنن) : ((لا يحتج به)) ، وفي بعض المواضع : ((ضعيف)) ؛ وجعفر الأحمر اختلفوا فيه ، وقال الدارقطني كما في (التهذيب) : ((يعتبر به)) وهذا تليين كما لا يخفى .
__________
(1) علق الشيخ الألباني رحمه الله على هذا الموضع بقوله : "قلت : وذلك أنه يصف بعض من يورده في ((الثقات)) بصفة تدل على أنه ضعيف من قبل حفظه كقوله في عبيد الله بن الأخنس : ((يخطيء كثيراً)) . وقوله في عبيد الله بن سعيد بن مسلم وغيره : ((يخطيء)) ، وهما عنده بمعنى واحد ، فإنه أورد ابن مسلم هذا في ((الضعفاء)) أيضاً فقال : ((كثير الخطأ فاحش الوهم ...)) وكقوله في علي بن هاشم بن البريد ((... وروى المناكير عن المشاهير)) . وقد يقول في بعض (ثقاته) : ((يخطيء أحياناً ، يعتبر حديثه ...)) كما سيأتي في ترجمة (قطن) من الكتاب رقمها (181) ".(3/186)
ونحو هذا قول المصنف : ((شيوخي كلهم ثقات)) أو ((شيوخ فلان كلهم ثقات)) فلا يلزم من هذا أن كل واحد منهم بحيث يستحق أن يقال له بمفرده على الإطلاق: ((هو ثقة)) ، وإنما إذا ذكروا الرجل في جملة من أطلقوا عليهم ثقات ، فاللازم أنه ثقة في الجملة ، أي له حظ من الثقة .
وقد تقدم في القواعد أنهم ربما يتجوزون في كلمة ((ثقة)) فيطلقونها على من هو صالح في دينه وإن كان ضعيف الحديث أو نحو ذلك .
وهكذا قد يذكرون الرجل في الجملة من أطلقوا أنهم ضعفاء وإنما اللازم أن له حظاً ما من الضعف ، كما تجدهم يذكرون في كتب الضعفاء كثيراً من الثقات الذين تُكلم فيهم أيسر كلام). انتهى كلام العلامة المعلمي رحمه الله.
رجال الأئمة الأربعة :
أي رجال أسانيد الأحاديث الواردة في كتب الأئمة الأربعة الفقهاء : أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد ، رحمهم الله تعالى ؛ وقد أفرد ابن حجر زوائد هؤلاء الرجال على رجال الكتب الستة الشهيرة ، في كتابه (تعجيل المنفعة بزوائد رجال الأئمة الأربعة) .
رجال التقريب :
هم الرواة الذين ترجمهم ابن حجر في كتابه (تقريب التقريب) ، وهل يذكر فيهم من ذكرهم للتمييز فيطلق عليهم أنهم من رجال التقريب ؟ الظاهر أنهم لا يدخلون.
رجال التهذيب :
هم الرواة الذين ترجمهم ابن حجر في (تهذيب التهذيب) ؛ والظاهر أنه لا يدخل فيهم عند الإطلاق من ذكره ابن حجر تمييزاً ، وإن ترجم له ، فمِثله لا يقال فيه أنه من رجال التهذيب .
رجال الحديث :
أي رواة الأحاديث عموماً ، فكلمة الحديث هنا اسم جنس .
وقد يُرشد السياق إلى أن المراد بهذه العبارة رجال حديث مخصوص ، وهم الذين يذكرهم المصنف بينه وبين منتهى الحديث ، ويُطلق عليهم في عرف المحدثين هذا الاسم ولو كان بعضهم من النساء .
رجاله ثقات :
هي بمعنى (رجال إسناده ثقات) .
رجاله رجال البخاري :
انظر (رجاله رجال الصحيح) .(3/187)
رجاله رجال الصحيح :
إذا قيلت هذه اللفظة في حديث فهي تعني أن ذاك الحديث مروي من طريق رجال روى لهم الشيخان .
وكثير من العلماء السابقين كانوا يطلقون لفظة الصحيح على (صحيح البخاري) ، وكذلك على (صحيح مسلم) ؛ فقول بعضهم (رجاله رجال الصحيح) ، أي أخرج لهما أحد صاحبي الصحيحين ، أو كلاهما(1).
وبعض المحدثين يتسهل فيطلقها على أحاديث واردة من طريق من روى له البخاري أو مسلم في الشواهد أو المتابعات أو من طريق من هو متكلم فيه إلا أن الشيخين انتقيا من حديثه بعض ما رأياه محفوظاً(2) .
بل قد يكون الراوي مذكوراً في أحد الصحيحين على سبيل القرن مع راو آخر ، لا على سبيل الاحتجاج ولا الاستشهاد ، ويكون المحتج به هو صاحبه ، أعني ذلك الراوي الآخر الثقة ، دونه ، ويكون صاحب الصحيح إنما أبقى على ذكره لمكان الحفاظ على هيئة الرواية ، كما تحملها ، أي صاحب الصحيح ، من شيخه .
ومما ينبغي التنبيه عليه هنا مع أنه لا يخفى على الطالب المتوسع هو أن قولهم في الحديث (رجاله رجال الصحيح) هو في سُلَّم التقوية دون قولهم فيه (إسناده صحيح) ، فلا يلزم من كون رجال الإسناد من رجال الصحيح أن يكون الحديث الوارد به صحيحاً لأمور منها ما تقدم ذكره ، ومنها احتمال أن يكون في السند انقطاع جلي أو خفي أو عنعنة مدلس أو يكون في الحديث شذوذ أو علة أو اضطراب .
__________
(1) انظر (قول ابن تيمية وابن القيم "وفي الصحيح") من (الذيل الأول).
(2) بل قيل إن الإمام مسلماً كان ربما يأتي بالحديث المعلل ويضعه في أواخر بابه بعد الأحاديث الثابتة ، ليشير بمخالفته لها إلى ضعفه ؛ وهو مذهب قوي حققه بعض أهل التحقيق من المعاصرين ؛ وقد يأتي مسلم بمثل هذا الحديث لفائدتين :
الأولى : أن يكون شاهداً لأحاديث الباب - أو لبعضها - في الجملة ؛ أعني بالقدر المشترك بينهما .
الثانية : بيان شذوذه أو نكارته ، وذلك في القدر المخالف منه ، أو الذي تفرد به راو لا يحتمل ذلك التفرد من مثله .(3/188)
إذن لا بد من معرفة المراد بهذه العبارة عند كل ناقد وردت في كلامه ؛ فمقاصدهم فيها متباينة .
رجاله موثقون :
أكثر من يستعمل هذه الكلمة هم المتأخرون ، والذي يُكثر منها هو الحافظ الهيثمي رحمه الله .
ومن يطلقها من المتأخرين ، دون أن يقول : (رجاله ثقات) ، يظهر أنه إنما عدل عن هذه إلى تلك ، لأنه هنا - أعني في حال قوله (رجاله موثقون) - ناقل ومقلد أكثر من كونه محققاً ومجتهداً ، ثم هو يلقي العهدة على غيره من النقاد ، وكذلك عبارته هذه تُشعر بأن بعض أولئك الرجال قد وثقه من هو متساهل في التوثيق ، كابن حبان ، أو أن بعضهم مختلف فيه ولكنه قد وُثِّق في الجملة ويظهر أن توثيقه هو الأرجح ، وقد يدخل فيها أيضاً من هو موثق من قبل ناقد معتدل أو عدد من النقاد ، ولكنهم وثقوه توثيقاً غير تام ، أي قالوا فيه : صدوق ، أو ما يساويها ويقاربها من عبارات التعديل .
والحاصل أن قول الناقد (رجاله موثقون) دون قوله (رجاله ثقات) ؛ وهذا القول الثاني هو دون قوله (إسناده صحيح) ، كما تقدم ؛ وهذا القول الثالث دون قوله (هو حديث صحيح) .
رجع :
هي واحدة من رموز النساخ ؛ انظر (تخريج الساقط) .
الرجوع عن الحديث :
قال الخطيب في (الكفاية) (1/118): (قرأت على الحسن بن على الجوهري عن محمد بن عمران المرزباني قال ثنا محمد بن مخلد قال سمعت جعفر بن احمد بن سام أبا الفضل وكان من عقلاء الرجال يذكر عن حسين بن حبان قال: قلت ليحيى بن معين: ما تقول في رجل حدث بأحاديث منكرة فردها عليه أصحاب الحديث إن هو رجع عنها وقال: ظننتها فأما إذ أنكرتموها ورددتموها عليَّ فقد رجعت عنها؟(3/189)
فقال [يحيى]: لا يكون صدوقاً أبداً، إنما ذلك(1) الرجل يشتبه له الحديث الشاذ والشيء فيرجع عنه فأما الأحاديث المنكرة التي لا تشتبه لأحد فلا فقلت ليحيى: ما يبرئه؟ قال: يخرج كتاباً عتيقاً فيه هذه الأحاديث فإذا أخرجها في كتاب عتيق فهو صدوق فيكون شبه له فيها وأخطأ كما يخطىء الناس فيرجع عنها ؛ قلت : فإن قال : قد ذهب الأصل وهي في النسخ؟ قال: لا يقبل ذلك منه، قلت له: فإن قال: هي عندي في نسخة عتيقة وليس أجدها؟ فقال: هو كذاب أبداً حتى يجىء بكتابه العتيق، ثم قال: هذا دين لا يحل فيه غير هذا) .
وإذا رجع محدث عن حديثه ، وبين أن سبب رجوعه عنه أنه يشك فيه أو لا يضبطه أو أنه تبين له أنه أخطأ فيه ، فقد وجب على كل من كتبه عنه أو رواه عنه من تلامذته وغيرهم أن يتوقف عن روايته وأن يرجع عنه كما رجع عنه ذلك الشيخ ؛ فهذا مقتضى الأمانة والعدالة ، ومن لم يستجب لذلك فليس بعدل ولا مأمون .
وانظر (الإصرار على الخطأ) و (جحود الحديث) .
الرحلة في طلب الحديث :
أي ارتحال الطالب إلى بلد آخر غير بلده لأجل سماع الأحاديث والمصنفات ، على بعض الشيوخ، طلباً للعلو، أو لما ليس عنده وعند أهل بلده من المرويات، أو إيثاراً لثقات الشيوخ على غيرهم، أو لغير ذلك من مقاصد أهل العلم.
ومن عادة أصحاب السير والتراجم المطولة ذكرُ رحلاتِ المترجَم وتواريخها.
رُدَّ حديثُه :
هذه من الألفاظ المستعملة في المتروكين من الرواة ، ومع ذلك فلينظرْ فربما تبين أن بعض النقاد خرج عن هذا الأصل فاستعملها في ضعيف غير متروك.
ردوا حديثه :
انظر (رُدَّ حديثه) .
رديء الحفظ :
انظر (لا يجوز الاحتجاج بخبره إذا انفرد) .
رسالة :
الرسالة معناها في اللغة معلوم وكذلك معناها في العرف .
__________
(1) أي الذي يحكم له بالصدق، ولا يضره الرجوع عن أحاديثه.(3/190)
فإنها تطلق على ما يرسل ، أي يُبعَث به ، من الأشياء ، وتطلق على الكتاب الصغير ؛ قال أصحاب (المعجم الوسيط) (1/344) : (الرسالة : ما يرسَل ؛ و[هي أيضاً] الخطاب .
و[هي أيضاً] كتاب يشتمل على قليل من المسائل، تكون في موضوع واحد. (مو(1).
و[هي أيضاً] بحث مبتكر يقدمه الطالب الجامعي لنيل شهادة عالية----) ؛ انتهى .
قلت : أما استعمال (الرسالة) بمعنى الكتيب ونحوه فقد كان في أول أمره استعمالاً فيه نظر ، ولكنه صار على مر العصور شائعاً معروفاً حتى صار في الجملة سائغاً بل شبه مفروض ، ومع ذلك فالأحسن استعمال كلمة (جزء) وغيره من الكلمات المناسبة ، بدلاً من كلمة (رسالة) لمن يتيسر له ذلك .
قال الشيخ أحمد محمد شاكر في مقدمة تحقيقه (الرسالة) للإمام الشافعي (ص12) : (ويظهر أنها سميت " الرسالة " في عصره ، بسبب إرساله إياها لعبد الرحمن بن مهدي ) ؛ ثم قال في هامش هذا الكلام : (وقد غلبت عليها هذه التسمية، ثم غلبت كلمة "رسالة" في عرف المتأخرين على كل كتاب صغير الحجم، مما كان يسميه المتقدمون "جزءاً" ؛ فهذا العرف الأخير غير جيد، لأن "الرسالة" من "الإرسال").
الرسم :
الرسم يأتي بمعنى التعريف أو قريباً من ذلك. ويأتي أيضاً بمعنى الصورة ، فرسم الكلمة صورتها ؛ ويأتي بمعنى القرار المتخذ من صاحب منصب أو غيره .
الرسم الإملائي:
قال عبد السلام هارون في (تحقيق النصوص ونشرها) (ص53) : (ولكل كاتبٍ من الكتّاب طريقة خاصة تستدعي خبرةً خاصةً كذلك ، فبعضهم يقارب بين رسمي الدال واللام ، أو بين رسمي الغين والفاء ، فلا يفطن للفصل بينهما إلا الخبير ، كما أن كثيراً من الكتّاب الأقدمين يكتبون على طريقة خاصة بهم في الرسم الإملائي ، وهذا يحتاج خبرة خاصة تُكتَسب بالمرانة وبالرجوع إلى كتب الرسم ، ومن أجمع الكتب في ذلك "المطالع النصرية" للشيخ نصر الهوريني) .
__________
(1) أي مولدة .(3/191)
الرسول :
إذا أُطلقت هذه الكلمة في كتب الرواية ونحوها فالمراد بها رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم ، كما هو معلوم .
فهل يجوز أن يبدل راوي الحديث أو المؤلف الذي يحكي حديثاً كلمة "نبي" بكلمة "رسول" أو عكس ذلك ؟
ذلك مما اختلف فيه العلماء ، وليس هذا محل تفصيله .
رضا :
أي مرضي عند النقاد ، فهي بمعنى (ثقة).
رفعه :
إذا أسند الراوي - تابعياً كان أو دونه - حديثاً إلى صحابي ، ثم قال عقبه : (رفعه) أو (رفع الحديث) أو (يرفعه) ، أو (ينميه) أو (يبلغ به) ، سواء ذكر الحديث صراحة ، أو رمز إليه بضميره ، فمعنى ذلك أن الحديث مرفوع ، أي هو منسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم .
ولكن قد يأتي بعض تلك العبارات مقيداً بالصحابي ، فيفيد الوقف ، مثل قول البيهقي في بعض أحاديث (شعب الإيمان) : (ورواه إسماعيل بن زكريا عن عمرو بن قيس الملائي ، فبلغ به ابن عباس) ، يريد أنه موقوف عليه .
وقال في حديث آخر عقب روايته له عن عاصم الأحول عن عكرمة عن ابن عباس ، أي موقوفاً عليه : (ورواه أبو الأحوص عن عاصم عن عكرمة من قوله ، لم يرفعه إلى ابن عباس) .
تنبيه : قال المعلمي في حاشية (الفوائد المجموعة) (ص468) في أثناء كلامه على بعض الأحاديث : (قال البيهقي : وقد رواه عبد الله بن المبارك عن معمر بإسناده ، وقال : رفعه) ؛ وساقه كذلك ؛ وفي اسناده من لم أعرفه ، واقتصار ابن المبارك على قوله (رفعه) يُشْعِر بأنه يخشى أن يكون رفعه خطأ) ؛ وهذا تنبيه هام من العلامة المعلمي رحمه الله .
وانظر (يبلغ به) .
الرَّقّ :
قال الزبيدي في (تاج العروس) (25/353) شارحاً بعض عبارات أصله : (الرقُّ بالفتح ويكسر ، رواهما الأثرم عن أبي عبيدة، وهو: جلد رقيق يُكتب فيه، ومنه قوله تعالى: (في رَقٍّ مَنْشُورٍ) ، والفتح هى القراءة السَّبْعيةُ المتواترةُ .
والرَّقُّ : ضِدُّ الغليظ والثخين ، كالرَّقيق ، وقد رقَّ يرِقُّ رِقَّةً ، فهو رَقيق .
والرَّقُّ : الصحيفة البيضاء .(3/192)
وقال الفراء : الرَّقُّ : الصحائف التي تُخرجُ(1) إلى بني آدم يوم القيامة، قال الأزهري: وهذا يدل على أنَّ المكتوبَ يُسمى رقّاً أيضاً ) انتهى ؛ وجمع الرقّ : رقوق .
الرِّقاق :
قال ابن حجر (فتح الباري) (11/233 طبعة شيبة الحمد) في أوائل كتاب الرقاق: (قال مغلطاي : عبر جماعة من العلماء في كتبهم بالرقائق ؛ قلت: منهم ابن المبارك والنسائي في (الكبرى) ، وروايته(2) كذلك في نسخة معتمدة من رواية النسفي عن البخاري ؛ والمعنى واحد ؛ والرقاق والرقائق جمع رقيقة ؛ وسميت هذه الأحاديث بذلك لأن في كل منها ما يُحْدث في القلب رقة ؛ قال أهل اللغة : الرقة الرحمة وضد الغلظ ؛ ويقال لكثير الحياء : رق وجهه استحياء ؛ وقال الراغب : متى كانت الرقة في جسم فضدها الصفاقة ، كثوب رقيق وثوب صفيق ، ومتى كانت في نفْس فضدها القسوة ، كرقيق القلب وقاسي القلب ؛ وقال الجوهري : وترقيق الكلام تحسينه) ؛ وانظر (الترغيب والترهيب) .
الرقائق :
انظر الرقاق .
الرقم :
انظر (الأرقام).
ركن من الأركان :
أي هو أحد أعمدة الحديث ، وهذه العبارة ثناء بالغ على من تقال له.
رماه فلان :
هذه من عبارات الإمام البخاري التي معناها (وصفه فلان بالكذب) أو (اتهمه بالكذب) .
قال ابن حجر في (هدي الساري) (ص480) : (وللبخاري في كلامه على الرجال توقٍّ زائدٌ وتحرٍّ بليغٌ يظهر لمن تأمل كلامه في الجرح والتعديل ، فإن أكثر ما يقول : سكتوا عنه، فيه نظر، تركوه ؛ ونحو هذا ؛ وقلَّ أن يقولَ: كذاب ، أو وضاع ؛ وإنما يقول : كذبه فلان، رماه فلان ، يعني بالكذب) .
الرمز :
صورة حرف أو حرفين أو أكثر ، أو نحو ذلك من الأرقام العددية والخطوط ، تكون اختصاراً لكلمة أو أكثر ، أو لجملة ، أو تكون إشارة إلى معنى من المعاني التي تتكرر عند الكتّاب .
__________
(1) ضُبطت في مطبوعة (التاج) بفتح التاء ، ولعل ضبطي لها أقرب .
(2) كذا ، ولعلها (ورأيته).(3/193)
قال الدكتور محمد سليمان الأشقر في بحث له نشره في بعض أعداد مجلة الحكمة بعنوان (تَرْمِيْزُ كُتُبِ الحَدِيْثِ) : (نعني بالترميز أن يجعل رموزٌ كلٌّ منها يتكون من حرف أو حرفين أو ثلاثة، أو من رقم عددي، للدلالة على معنى محدد، بغرض الاختصار وتوفير الجهد في الكتابة ونحوها، وليكفل مزيدًا من الوضوح، وسهولة العمل .
ونعني بترميز كتب الحديث أن يجعل لكل كتاب من كتب الحديث المسندة (أي التي تروي الأحاديث بأسانيدها إلى النبي صلى الله عليه وسلم) رمزٌ يدل عليه في الكتب الجامعة، كالموسوعات أو الفهارس، أو كتب الرجال، أو نحو ذلك .
الرمز في اللغة والاصطلاح :
الرمز في كلام أهل اللغة معناه الإشارة الخفية ؛ قال الله تعالى : ? قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً ?(1).
قال ابن منظور: " الرمز : تصويت خفي باللسان كالهمس، ويكون الرمز تحريك الشفتين بكلام غير مفهوم باللفظ، من غير إبانة لصوت، إنما هو إشارة بالشفتين ؛ وقيل : الرمز : إشارة وإيماء بالعينين والحاجبين والشفتين والفم" . (لسان العرب - رمز).
واستعمل الرمز عند البلاغيين وأهل الأدب بمعنى الكناية التي في دلالتها على المقصود خفاء مع قلة الوسائط (انظر بغية الإيضاح في باب الكناية) ؛ ومن هنا نشأ تسمية نوع من الشعر بالشعر (الرمزي) نظرًا إلى أن مقصود قائله لا يعرفه إلا الخاصة .
واستُعمل لفظ (الرمز) في كتب المحدثين في وقت متأخر ، بمعنى حرف أو أكثر ، يدل على معنى محدد .
ولم نجد أحدًا استعمل هذا المصطلح بهذا المعنى قبل ابن الصلاح (643هـ)، وإن كانت (الرموز) في الواقع العملي مستخدمة قبل ذلك .
__________
(1) آل عمران (41) .(3/194)
فقد استخدم هذه الرموز بعض المحدثين لاختصار بعض الألفاظ التي تتكرر كثيرًا في كلامهم نحو (نا) و(أنا) بمعنى حدثنا أو أخبرنا، ونحو (ق) بمعنى (قال) ؛ فقد وُجد أشياء من ذلك في مؤلفات الخطيب البغدادي (463هـ) ، بل وجد منه في كلام الإمام مسلم (256هـ) فقد استعمل الرمز (ح) للتحويل، أي من مسند إلى آخر .
واستعمل ابنُ الأثير صاحب "جامع الأصول" (606هـ) رموز لأسماء كتب الحديث ، وسماها (العلائم) نحو (خ) للبخاري، و(ت) للترمذي، واستعملها أخوه صاحب (أسد الغابة) (630هـ) وسماها (العلائم) كذلك .
وقد كان مصطلح (العَلامة) لمثل هذا مستخدمًا من قبل، فقد استعمل الشيخ أبو حامد الغزالي (505 هـ) في كتابه (الوسيط) في الفقه الشافعي (رموزًا) سماها (العلامات)، نحو (ح) لأبي حنيفة، و(ق) لقول من أقوال الشافعي.
والذي ابتدأه ابن الصلاح، فيما يظهر، هو استعمال لفظ (الرمز) لمثل هذا، ولم يستعمله في أسماء الكتب الحديثية، وإنما استعمله في اختصار ألفاظ الرواية للحديث كما تقدم.
أما رموز أسماء كتب الحديث فقد استمر تسميتها باسم (العلامات) في القرون التالية فظهر هذا اللفظ في مؤلفات المزي (742هـ) وابن حجر (852هـ) إلى أن جاء السيوطي (9121هـ) واستخدم كلمة (الرمز) فانتشرت بعده وغلبت .
طبيعة الرموز:
الرموز نوع من الاختصار والإيجاز في القول والكتابة:
وأبواب الإيجاز كثيرة في أساليب اللغة، منها:
1- الترخيم في الألفاظ، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم "كفى بالسيف شا" ، أي شاهدًا.
وفي النداء خاصة، (يا سعا) بمعنى (يا سعاد) وهو عندهم كثير، وأكثر ما يكون في نداء المختوم بتاء التأنيث، نحو قول أمرئ القيس:
أفاطم مهلاً بعض هذا التدلل
وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
يعني (أفاطمة) .
ويكون الترخيم في التصغير، نحو تصغير حمدان ومحمود، على (حميد).(3/195)
2- ومنها حذف ما يكون معلومًا من سياق الكلام أو من ظروف القول والمقام: من مبتدأ أو خبر أو فعل أو مفعول أو نحوها كما يعلم في أبوابها من علمي النحو والمعاني.
3- ومنها الإضمار، أعني استخدام الضمائر، فهو طريقة لتقليل الكلام ، ساريةٌ في اللغة .
4- ومنها العَلَم بالغلبة، كقولهم: (ابن عباس)، لعبد الله بن عباس بن عبد المطلب و(ابن عمر) لعبد الله بن عمر الخطاب، رضي الله عنهم، ونحو (البيت) لبيت الله الحرام، و (المدينة) لمدينة النبي صلى الله عليه وسلم ، ونحو: (الإمام) عند الشافعية لابن الجويني و(الشيخان) في الصحابة لابي بكر وعمر رضي الله عنهما، و(الشيخان) عند الشافعية للرافعي والنووي، و(الشيخان) عند الحنابلة للموفق والمجد، و(الشيخان) عند الحنيفة لأبي حنيفة وأبي يوسف، وعند المحدثين للبخاري ومسلم، و(الصحيح) عند المحدثين لصحيح البخاري، و(الصحيحان): لصحيح البخاري وصحيح مسلم، و(السنن) لكتب أصحاب السنن الأربعة ، ونحو ذلك .
5- ومنها باب التحذير والإغراء، وهو من إيجاز الحذف.
6- ومنها الإيجاز، بإيداع المعنى التفصيلي الطويل في لفظ قليل، وهو المسمى (جوامع الكلم) ومثلوا له بقوله تعالى ?خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ?(1).
7- ومنها الرموز الموضوعة قصدًا ، للدلالة على معان محددة.
وهذا النوع كثيرٌ ، تجده مبثوثًا في كتب كافة العلوم والفنون وهو ينقسم قسمين:
القسم الأول:
رموز عامة تستخدم في جميع الكتب والمواد المكتوبة، وفي جميع العلوم والفنون وجميع نواحي الحياة ؛ وهذا النوع قليل .
ومما درج استعماله في عصرنا الحاضر نحو (الخ) بمعنى: إلى آخر الكلام، و (هـ) للسنة الهجرية، و(م) للسنة الميلادية إذا كتب الرمزان بعد الرقم الدال على السنة، ونحو (ج) لجزء الكتاب، مثاله: (ج4) بمعنى الجزء الرابع من الكتاب، و(ص) للصفحة، و (س) للسطر، ونحو (اهـ) بمعنى انتهى النص.
__________
(1) الأعراف (199) .(3/196)
القسم الثاني:
رموز متخصصة لعلوم خاصة وهذه قد يضعها مؤلف معين في علم، ثم تنتشر بعده أو لا تنتشر، بل تكون قاصرة عليه، وأمثلة ذلك كثيرة، كما في بعض كتب فقه المالكية (عبق) لعبد الباقي الزرقاني على مختصر خليل، و (عج) للشيخ علي الأجهوري، و(تت) للتتائي، (ح) للحطاب، و(بن) للبناني علي الزرقاني.
وفي كتب الحنابلة استعمل ابن مفلح صاحب الفروع (803هـ) الرموز التالية: (ع) للمسائل المجمع عليها، (و) لما وافق فيه المذاهب الثلاثة المذهب الحنبلي، (هـ) لما خالف فيه أبو حنيفة، (م) لمالك، (ش) للشافعي (ق) لأحد قولي الشافعي. ومن ذلك الرموز في كتب الحديث.
رموز كتب الحديث:
الرموز في كتب الحديث نوعان:
النوع الأول: رموز وضعت للتخفف من كتابة ألفاظ تتكرر كثيرًا في سياق الأسانيد، ربما كان منشؤها أن المملي قد يسرع في إملائه للأحاديث، فيضطر المستمع أن يختصر بعض الحروف من بعض الكلمات، ثقة منه بأنه يعرف المحذوف لكثرة وروده. ومما استعمله المحدثون من ذلك:
(ق): بمعنى قال.
(ح): لتحويل السند.
(نا) و (ثنا) و (دثنا): بمعنى حدثنا.
(أنا) و(أرنا): بمعنى أخبرنا.
ذكر أمثلة من هذه الرموز النووي (676هـ) في "تقريبه" ، والعراقي (806هـ) في "ألفيته في مصطلح الحديث" و "شرحِها" له المسمى "فتح المغيث" [!]، وقبلهم ذكر شيئاً منها الخطيب البغدادي (463هـ) في كتابه "الكفاية في علم الرواية" وابن الصلاح (643هـ) في مقدمته في النوع (الخامس والعشرين) .
وللمستشرق (فرانز روزنتال) في كتابه (منهج المسلمين في البحث العلمي) فصل ممتع حول نشأة مثل هذه (الاختصارات) في كتب الحديث، يمكن الرجوع إليه في الترجمة العربية للكتاب المذكور التي قام بها ونشرها الأستاذ أنيس فريحة في بيروت .
النوع الثاني:
وهو النوع الذي نحن بصدده في هذا البحث وهو رموز في الكتب الموسوعية الجامعة التي تجمع أحاديث الكتب المسندة من أكثر من مصدر واحد .(3/197)
وقد ظهرت الحاجة إلى هذا النوع بعد أن بدأ تجميع كتب الحديث المسندة في كتب جامعة .
والكتب الجامعة بدأت بالكتب التي جمعت بين الصحيحين، منها كتاب (الجمع ين الصحيحين) للحميدي.
(488هـ)، ثم ظهرت كتب تجمع بين أكثر من كتابين، ككتاب رزين بن معاوية العبدري (535هـ).
ويبدو أنه ليس في شيء من الكتب المتقدمة رموز لكتب الحديث ؛ إلى أن جاء العلامة المبارك ابن محمد الأثير الجزري (606هـ) فوضع كتابه المشهور (جامع الأصول من أحاديث الرسول) الذي بناه على كتاب رزين المتقدم، فأراد أن يجوِّد كتابه ويتقنه ، وكتابه شامل للكتب الستة: الصحيحين، وسنن أبي داود، والترمذي، والنسائي، وموطأ مالك ، فوضع قائمة لرموز كتب الحديث المسندة، لعلها الأولى في تاريخ علم الحديث ، مكونة من ستة رموز ؛ وسنذكرها فيما يلي ؛ وأدخل عليها بعض من سار على نهجه بعض التعديلات والإضافات ؛ إلى أن جاء السيوطي رحمه الله فقفز بالموضوع قفزة واسعة بقائمته التي اشتملت على (34) رمزًا .
ثم تتابع عليها أتباع (مدرسته) بالإضافة والتعديل إلى عصرنا الحاضر الذي ظهرت فيه الحاجة إلى الموسوعات الشاملة والفهارس الشاملة، فأبلغها البعض إلى (76) رمزًا ، وبعضهم إلى أكثر من ذلك .
وسوف نستعرض القوائم الرئيسية فيما يلي بترتيبها التاريخي، ونلفت نظر القارئ في التعليق عليها إلى بعض النواحي الأساسية التي تتعلق بعملية الترميز ؛ ثم نخلص بعد ذلك إلى قائمة جامعة .(3/198)
فوائد الترميز :
الأهداف التي تبتغى من الترميز تتلخص فيما يلي :
التخفيف: وتلك فائدة للقارئ ؛ وذلك أنه إن كان معنى الرمز واضحًا لديه، فمن الأسهل عليه أن يقرأ حرفًا واحدًا، مثل (خ) بدل أن يقرأ عشرة حروف نحو (صحيح البخاري)، وتتبين قيمة ذلك بالنسبة إلى المحدثين، فعندما يكون الذي أخرج الحديث عشرة من أصحاب الكتب المسندة يكون قد توفر على المحدث قراءة تسعين حرفًا وربما أكثر ، وإذا كان مجال دراسته أو بحثه مئات الأحاديث أو ألوفها، كان لذلك تخفيف لا يُستَخف به.
الوضوح: وهو فائدة للقارئ أيضًا، فإن الأمر الذي يتبين بحرف واحد أجلى مما يحتاج إلى مجموعة من الحروف هذا بالإضافة إلى أن الرمز يكتب بصورة الحرف الكاملة المفردة نحو (خ)، (م) أو صورة حرفين كذلك، نحو (خط)، وهذا بالنسبة للقارئ أجلى من أن يتتبع بنظره مجموعة من الحروف.
وهذا كما أن الأرقام الترتيبية أوضح من الألفاظ الترتيبية.
الاقتصاد: وهي فائدة للكاتب، والطابع، والناشر.
ففي موسوعة كبيرة تشتمل على عشرات الألوف من الأحاديث تتكرر فيها أسماء الكتب المسندة مرات بعدد كل حديث ورد فيها، ويتضاعف ذلك بمضاعفة أسماء الكتب المرموز إليها، وبتعدد نسخ الكتاب المطبوع، فقد تصل فائدة استعمال الرموز إلى توفير عشرات الألوف أو مئات الألوف من الكلمات، وربما وصلت إلى الملايين باعتبار تكرر النسخ المطبوعة) ؛ ثم ذكر قوائم الرموز .
وقال عبد السلام هارون في (تحقيق النصوص ونشرها) (ص57-59) : (وهناك رموز واختصارات لبعض الكلمات أو العبارات ، نجدها في المخطوطات القديمة ، ولا سيما في كتب الحديث . وهذا مما سبق به أسلافنا العربُ ، أو علماء العجم المتأخرون ، وقلدهم في ذلك الفرنجة)(1).
ثنا = حدثنا.
ثني = حدثني.
نا = حدثنا، أو أخبرنا(2) .
دثنا = حدثنا.
__________
(1) انظر (المطالع النصرية) (ص200-202)، و(تدريب الراوي) (157-207) و(قواعد التحديث) للقاسمي.
(2) قلت : المعروف أن (نا) مختصر (حدثنا) وحدها ، وأنها لا تجيء اختصاراً لكلمة (أخبرنا) .(3/199)
أنا = أنبأنا(1) ، أو أخبرنا.
أرنا = أخبرنا ، في خط بعض المغاربة.
أخ نا = أخبرنا ، في خط بعض المغاربة.
أبنا = أخبرنا.
قثنا = قال حدثنا.
ح = تحويل السند في الحديث.
صلعم = صلى الله عليه وسلم.
ص م = صلى الله عليه وسلم.
ع م = عليه السلام.
وكتابة هذه الثلاثة مكروهة عند الفقهاء ، وقد استعملها العجم.
رضي = رضي الله عنه.
المصنـ = المصنِّف ، بكسر النون.
ص = المصنَّف بفتح النون ، أي المتن.
ش = الشرح .
الش = الشارح .
س = سيبويه .
أيضـ = أيضاً .
لا يخـ = لا يخفى ؛ للعجم في الكتب العربية .
الظ = الظاهر .
مم = ممنوع ؛ للعجم في الكتب العربية .
م = معتمد ، أو معروف، استعمل الأخيرة صاحب "القاموس" ومن بعده .
إلخ = إلى آخره.
اهـ = انتهى ، أو إلى نهايته .
ع = موضع ، استعمله صاحب "القاموس" ومن بعده .
ج = جمع ، استعمله صاحب "القاموس" ومن بعده .
جج = جمع الجمع ، استعمله صاحب "القاموس" ومن بعده .
ججج = جمع جمع الجمع ، استعمله صاحب "القاموس" ومن بعده .
[د = بلد ، استعمله صاحب "القاموس" ومن بعده](2) .
ة = قرية .
[ق = قرآن استعمله صاحب الراموز محمد بن حسن بن حسن المتوفى 866 .
ح = حديث .
ر = أثر .
ل = جبل .
ثه = الأنثى بهاء .
سم = اسم .
عز = يتعدى ويلزم ](3) .
ح = أبو حنيفة ، أو الحلبي .
حج = ابن حجر الهيتمي .
مر = محمد الرملي .
ع ش = علي الشبراملسي .
زي = الزيادي .
ق ل = القليوبي .
شو = خضر الشوبري .
س ل = سلطان المزاحي .
ح ل = الحلبي .
__________
(1) المعروف أن (أنبأنا) لا تُختصر أصلاً ، فلا تختصر بهذا الرمز (أنا) ولا بغيره .
(2) هذه الجملة سقطت من الطبعة الرابعة ، وهي ثابتة في بعض الطبعات التي قبلها ، ولا أدري أهي من تهذيب المؤلف أو هي من سقْط الطباعة .
(3) هذه الرموز التي جعلتها بين الحاصرتين ليست في الطبعة التي أنقل منها ، وهي الرابعة ، ثم وقعت لي الطبعة السابعة فوجدت فيها هذه الزيادات فاستدركتها منها ..(3/200)
ع ن = العناني .
ح ف = الحفني .
ا ط = الإطفيحي .
م د = المدابغي .
ع ب = العباب .
س م = ابن أم قاسم العبادي .
ح = حينئذ ، في غير كتب الحديث وكتب الحنفية .
انتهى هذا المسرد ، وقد ضم طائفة من متأخري علماء المذاهب ، وأنا سردت رموزهم ، ليتبين لك أن الرموز كثرت عند المتأخرين ، وقد كانت عند المتقدمين أقل .
وقد يقال : الأولى والأجدر بمثل هذا الفصل هو سرد رموز المحدثين ، ولا سيما رموز لكتب الحديثية ، فأقول : هذا لم يخفَ عليَّ ، ولكنه شيء يطول جداً ، وقد يخرج بنا طوله إلى حد بعيد عن مناسبة المقام ، فلذلك رأيت أن أكتفي هنا ببعض ما لم يذكره عبدالسلام هارون في المسرد المتقدم ، وهو ما تيسر ذكره الآن ، مما ليس رمزاً لكتابٍ من كتب الرواية ، لأني أكتفي - في هذا الصنف من الرموز - بإحالة القارئ على المسرد الذي صنعه الشيخ الأشقر ، وقد تقدم ذكره والنقل عنه قبل قليل ؛ وهو شافٍ وافٍ ، والله الموفق .
دثني = حدثني .
قثا = قال حدثنا(1) .
ح = حاء التحويل .
رض = رضي الله عنه .
رضه = رضي الله عنه .
رح = رحمه الله .
رحه = رحمه الله .
تع = تعالى .
ش = الشرح .
للش = للشارح .
المص = المصنف(2) .
خ = البخاري .
فالذهبي مثلاً يقول : وقال خ في هذا الراوي كذا .
هذه بعض رموز الكتب المطبوعة ، وأما رموز المخطوطات فكثيرة لا يتسع هذا الموضع لسردها ، وقد نثرت كثيراً منها في مواضعها من الكتاب .
ثم اعلم أن أكثر المصنفين يبينون معاني رموزهم في خطب كتبهم ، وفي ذلك البيان تيسير على من يطالعها ؛ وكذلك المحققون يبينون رموزهم ، ومن أهمها رموز النسخ المعتمدة في الطبع والتحقيق .
__________
(1) قال الدكتور موفق في (توثيق النصوص) (ص217) : (وجاء في مشيخة قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة "قثا" ، بحذف النون) ، يعني جاء ذلك اختصاراً لكلمة (قال حدثنا) ، خلافاً للمعروف في اختصارها ، وهو (قثنا) كما تقدم .
(2) وانظر (توثيق النصوص) (ص216-220).(3/201)
رُمِيَ بالكذب :
هي بمعنى (متهم بالكذب) ، فانظر (الاتهام بالكذب) .
روى :
أي أخبر ناقلاً عن غيره ؛ وانظر (الرواية) .
روى أحاديث فيها صنعة :
ظاهر هذه العبارة اتهام الراوي بالتغيير المتعمد في الروايات ، فقد قال ابن أبي حاتم في ترجمة روح بن عبد الواحد الحراني من (الجرح والتعديل) (3/449-450) : (كتب عنه أبي ---- وسألته عنه ؟ فقال : ليس بالمتقن ، روى أحاديث فيها صنعة) .
فقال محققه الشيخ المعلمي في شرح هذه العبارة : (يعني أنه يتصرف فيها ولا يأتي بها على الوجه) .
والمراد بكلمة (يتصرف) هنا هو التغيير المقصود ؛ ولكن لعله كان تغييراً يسيراً غير خطير.
روى أحاديث منكرة :
الأصل في هذه العبارة أنها عبارة تجريح ، قال حرب بن إسماعيل الكِرمانيُّ : (قلت لأحمد بن حنبل : قيس بن الربيع ، أيُّ شيء ضعفه ؟ قال : روى أحاديث منكرة)(1).
ولكن إذا كان الراوي ممن ثبتت عدالته فهي حينئذ إشارة إلى أن في أحاديثه أحاديث منكرة قليلة نسبياً ، لا ينزل بسببها عن درجة الثقات في الجملة ، وإن نزل بها عن درجة المتقنين؛ فينبغي - لذلك - الحذرُ من قبول أفراده قبل التثبت والدراسة الكافية.
وفرْقٌ بين (منكر الحديث) و (روى أحاديث منكرة)، وكما يلي بيانه :
قال الزيلعي في (نصب الراية) (1/179) :
(حديث آخر : أخرجه الحاكم في "مستدركه"(2) عن عبد الغفار بن داود الحراني ثنا حماد بن سلمة عن عبيد الله بن أبي بكر وثابت عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إذا توضأ أحدكم ولبس خفيه فليصل فيهما ، وليمسح عليهما ، ثم لا يخلعهما إن شاء إلا من جنابة" ؛ انتهى .
قال الحاكم : إسناده صحيح على شرط مسلم ، ورواته عن آخرهم ثقات ؛ انتهى .
__________
(1) الجرح والتعديل (3 / 2 / 98).
(2) 1/181) .(3/202)
وأخرجه الدارقطني في "سننه"(1) عن أسد بن موسى ثنا حماد بن سلمة به ؛ قال صاحب "التنقيح"(2): إسناده قوي، وأسد ابن موسى صدوق، وثقه النسائي. وغيره. انتهى. ولم يعله ابن الجوزي في "التحقيق" بشيء، وإنما قال: هو محمول على مدة الثلاث .
قال الشيخ [يعني ابن دقيق العيد] في "الإمام" : قال ابن حزم(3): هذا ممن(4) انفرد به أسد بن موسى عن حماد، وأسد منكر الحديث لا يحتج به.
قال الشيخ(5): وهذا مدخول من وجهين:
أحدهما: عدم تفرد أسد به، كما أخرجه الحاكم(6) عن عبد الغفار ثنا حماد.
الثاني: أن أسداً ثقة، ولم يُر في شيء من كتب الضعفاء له ذكرٌ، وقد شرط ابن عدي أن يذكر في كتابه كل من تُكلم فيه، وذكر فيه جماعة من الأكابر والحفاظ، ولم يذكر أسداً، وهذا يقتضي توثيقه، ونقل ابن القطان توثيقه عن البزار، وعن أبي الحسن الكوفي .
ولعلَّ ابن حزم وقف على قول ابن يونس في "تاريخ الغرباء" : "أسد بن موسى حدّث بأحاديث منكرة، وكان ثقة، وأحسب الآفة من غيره" ؛ فإن كان أخذ كلامه من هذا فليس بجيد، لأن من يقال فيه: "منكر الحديث" ليس كمن يقال فيه: "روى أحاديث منكرة" ، لأن "منكر الحديث" وصف في الرجل يستحق به الترك لحديثه، والعبارة الأخرى تقتضي أنه وقع له في حين لا دائماً، وقد قال أحمد بن حنبل في محمد بن إبراهيم التيمي: "يروي أحاديث منكرة "، وقد اتفق عليه البخاري ومسلم، وإليه المرجع في حديث "إنما الأعمال بالنيات" ؛ وكذلك قال في زيد بن أبي أنيسة: "في بعض أحاديثه نكارةٌ" ، وهو ممن احتج به البخاري ومسلم، وهما العمدة في ذلك.
وقد حكم ابن يونس [أي في أسد بن موسى] بأنه ثقة، وكيف يكون ثقة وهو لا يحتج بحديثه؟! انتهى(7) . انتهى كلام الزيلعي .
__________
(1) 1/203 - دار المعرفة 1386هـ) .
(2) هو الحافظ ابن عبد الهادي رحمه الله تعالى.
(3) أي في (المحلى) (2/122).
(4) كذا .
(5) هو ابن دقيق العيد .
(6) والبيهقي .
(7) يعني كلام الإمام ابن دقيق العيد .(3/203)
قلت : كلمة (روى أحاديث منكرة) يختلف معناها باختلاف السياق :
فتكون دفاعاً عن الراوي وتوثيقاً له ، وذلك إذا ورد في السياق ما يفيد أن النكارة من غيره ، كما في النص المتقدم .
وتكون توهيناً للراوي وحكماً عليه بالترك ، وذلك إذا قُرن بها ما يدل على ذلك ، مثل قول الناقد (روى أحاديث منكرة عن شيوخ ثقات) أو (روى أحاديث منكرة والحمل فيها عليه) (روى أحاديث منكرة لا يتابع عليها) (روى أحاديث منكرة وهو متهم) .
وأما إذا لم يقرن الناقد بكلمة (روى أحاديث منكرة) ما يدل صراحة على تبرئة الراوي من تبعة تلك الأحاديث ، أو يدل صراحة على أن الحمل فيها عليه ، ولم يوجد على هذا ولا ذاك أيُّ قرينة صريحة أو شبه صريحة، بل وردت هذه الكلمة مجردةً ، فالأصل فيها حينئذ أنها جرح في الراوي ، وأن الحمل في تلك النكارة يكون عليه ؛ ولكن مع ذلك قد يكون المراد بها أنه كان ذلك يقع منه أحياناً ، وقد يكون المراد أنه منكر الحديث أي أن كل ما رواه - أو معظمه - منكر ؛ فلا بد إذن من البحث عن الدلائل والقرائن المعيِّنة للمراد والمُعِينة على فهمه أو المرجحة له .
وبمعنى قولهم (روى أحاديث منكرة) قولهم (روى مناكير).
وانظر (ليس به بأس ولكنه روى أحاديث مناكير).
روى الحديث على أوجه :
سئل الشيخ أبو الحسن المأربي كما في إتحاف النبيل (1/336-337) (س184) : (ما حكم الراوي الذي يقال فيه : "روى الحديث على أوجه" ؟) فأجاب بما لفظه :
(رواية الحديث على أوجه لها عدة أسباب :
فقد يكون سبب ذلك سوء الحفظ ، فيضطرب الراوي ويروي الحديث على أوجه(1) .
__________
(1) مثال ذلك ما ذكره المؤلف في (الشفاء) (ص400) عن العقيلي في (الضعفاء) (1/92) ، قال : "حدثنا محمد ، قال : حدثنا صالح ، قال : حدثنا علي ، قال : سمعت يحيى وسئل عن إسماعيل بن مسلم المكي قيل له : كيف كان في أول أمره ؟ قال : لم يزل مختلطاً ، كان يحدثنا بحديث الواحد على ثلاثة ضروب [صحفت إلى دروب] ) .(3/204)
وقد يكون سبب ذلك كثرة الرحلة والاشتغال بهذا الفن ، كما كان إبراهيم بن سعيد الجوهري يقول : الحديث إذا لم يكن عندي من مئة طريق فأنا فيه يتيم(1) .
والحفاظ قد شُهر عنهم رواية الحديث على وجهين فأكثر ، ولذلك تراهم في كتب العلل إذا اختلف الثقات على أحد الحفاظ أهل الرحلة والاجتهاد في الطلب يقولون : والحديث محمول على الوجهين .
وقد يكون السبب في ذلك أنه يروي الحديث بالمعنى لا يلتزم لفظاً واحداً ، كما في "تاريخ بغداد" (9/36) ، مع أن الراوي ثقة(2) .
وقد يكون ذلك لأن الراوي يكذب في الحديث ، فيتزين في كل مجلس بما يليق به ، فإذا كان بحضرة أحد النقاد فإنه يروي الحديث بوجه مقبول ، وإذا كان أمام أضرابه فإنه يروي الحديث بوجه آخر .
وقد يكون في بلد[ة] بوجه ، وفي أخرى بوجه آخر ، والله المستعان(3) .
وقد يكون سبب ذلك التدليس : تعمية للأمر ، وتوعيراً للطريق أمام الباحث .
__________
(1) انظر (تهذيب التهذيب) (1/124) .
(2) في (تاريخ بغداد) (9/36) : (قال أبو داود : كان سليمان بن حرب يحدث بحديث ، ثم يحدث به كأنه ليس بذاك) ؛ قال الخطيب : (قلت : كان سليمان يروي الحديث على المعنى فتتغير ألفاظه في روايته ) . اهـ.
(3) نُقل هنا في الهامش كلاماً لابن رجب ولكن وقع لناقله انتقالُ نظر فسقط منه شيء فسد بسقوطه معناه ، فنقلته من أصله ، أعني (شرح علل الترمذي) ، وهو قال ابن رجب في (شرح العلل) (1/424-425) : (فاختلاف الرجل الواحد في الإسناد : إن كان متهماً فإنه يُنسب به إلى الكذب ، وإن كان سيء الحفظ يُنسب به إلى الاضطراب وعدم الضبط ؛ وإنما يُحتمل مثل ذلك ممن كثر حديثه وقوي حفظه ، كالزهري وشعبة ونحوهما .
وقد كان عكرمة يتهم في رواية الحديث عن رجل ثم يرويه عن آخر ، حتى ظهر لهم سعة علمه وكثرة حديثه ، ذكر معنى ذلك ابن ليهعة عن ابن هبيرة وأبي الأسود عن إسماعيل بن عبيد الأنصاري ، وكان من أصحاب ابن عباس ) .(3/205)
وكل حالة من هذه الحالات لها حكم خاص ، ويتضح لك هذا أو ذاك بالقرائن ، والله أعلم(1) .
روى عن ابن عباس ما لا أصل له حتى كأنه ابن عباس آخر :
كلمة قالها ابن حبان في بعض الرواة ، ويكرر مثلها أحياناً ، ومراده أن ذلك الراوي قد روى عن ابن عباس رضي الله عنه أشياء غير معروفة عنه ، حتى أنه قد يُخيّل إلى سامعها من العارفين بحديث ابن عباس أنَّ المراد بابن عباس شخصٌ آخر غير ذلك الصحابي الجليل الشهير.
وهذا الأسلوب من ابن حبان هو نوع من أنواع توكيده لكثرة منكرات ذلك الراوي عن ذلك الشيخ ، وأنه يروي عنه ما لا يُعرف به .
ثم وجدت أبا الحسن المأربي قد سئل كما في (إتحاف النبيل) (1/335-336) (س183) : ما معنى قول أحد النقاد في راوٍ : "روى عنه فلان كأنه فلان آخر" ؟ فأجاب بما يلي :
(لا نستطيع أن نعرف معنى هذا القول إلا إذا عرفنا حال الشيخ المروي عنه .
فإن كان ثقة فهذا القول يعد تجريحاً للراوي عنه ، ويكون معناه أنَّ الشيخ معروف باستقامة حديثه ، فإذا روى عنه هذا الراوي أتى عنه بالمناكير التي لا تُعرف في حديثه ، ومن نظر في حديث هذا الشيخ من رواية هذا الراوي عنه : ظنَّ أنَّ هذا الشيخ شيخ آخر ، وأنه ليس ذاك الثقة المعروف(2) .
__________
(1) انظر ذلك بتوسع في (شفاء العليل) (ص400) .
(2) ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره المؤلف - حفظه الله تعالى - في كتابه (الشفاء) (1/393) ، قال : جاء في (الميزان) (1/23) ترجمة إبراهيم بن بشار الرمادي صاحب ابن عيينة : (ليس بالمتقن وله مناكير---- ؛ وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل سمعت أبي يقول : كأن [بالأصل كان] سفيان الذي يروى عنه إبراهيم بن بشار ليس بسفيان بن عيينة ، يعني مما يغرب عنه ؛ وكان مكثراً عنه) .
وجاء في (تهذيب التهذيب) ترجمة شعبة بن دينار الهاشمي مولى ابن عباس : (قال ابن حبان : روى عن ابن عباس ما لا أصل له حتى كأنه ابن عباس آخر) (4/347) .
قلت : وانظر (المجروحين) (1/361) .
انتهى نقلُ هذا الهامش بنصه سوى كلام الذهبي فقد نقلته بألفاظ (الميزان) نفسها .(3/206)
وإن كان الشيخ المروي عنه ضعيفاً ، فهذا القول يُعدُّ تعديلاً للراوي عنه ، أي أنه روى عنه أحاديث جيدة مستقيمة سالمة من العلة ، وذلك ناتج عن انتقاء لبعض أحاديث الشيخ ، أو ملازمة التلميذ له ؛ ومعرفته بحديثه(1) .
وممن يُكثر من استعمال هذا اللفظ ابنُ حبان رحمه الله تعالى ؛ والله أعلم ) . انتهى كلامه حفظه الله ، وأنا أرى أن الأصل الثاني أعني المذكور في قوله (وإن كان الشيخ المروي عنه ضعيفاً ، فهذا القول يُعدُّ تعديلاً للراوي عنه) ليس على إطلاقه ؛ فإنَّ مَن روى عن الضعيف أحاديث أخرى ليست عنده وأكثر من ذلك : صحَّ أن يوصف بهذه العبارة التي نحن بصدد شرحها .
روى عن فلان :
إذا قال الناقد أو المؤرخ الحديثي في ترجمته لراوٍ : (روى عن زيد) أو : (حدث عن زيد) مثلاً ، فإنه لا يلزم من ذلك أن تكون روايته عنه متصلة ، وإنما اللازم أن يكون له عنه رواية لم يذكر فيها بينه وبينه واسطة ؛ سواء كانت تلك الرواية متصلة أم لا ، وسواء ثبت إسناد تلك الرواية إلى هذا المترجَم أم لم يثبت ؛ وهذا بخلاف قوله : (سمع زيداً) أو (سمع من زيد) فإن في هذه الكلمة عند الجمهور إثباتاً لسماع ذلك الراوي من زيد، ولو في الجملة ؛ فلا ينافي هذه الكلمةَ أنه سمع منه بعضَ ما رواه عنه دون بعضه(2) .
__________
(1) ومثاله أيضاً: ما جاء في (الميزان) (2/262) - ترجمة شبيب بن سعيد بن حبيب الحبطي البصري ، قال ابن عدي : (كان شبيب لعله يغلط ويهم إذا حدث من حفظه ، وأرجو أنه لا يتعمد ، فإذا حدث عنه ابنه أحمد بأحاديث يونس فكأنه شبيب آخر ، يعني يجوِّد) اهـ .
انظر تفاصيل ذلك في (الشفاء) (1/393-394) ، والله أعلم .
(2) وأما في غير كتب التاريخ والتراجم فإنه لا يقتصر قولهم (روى عن فلان) على ما ذُكر ، بل هم أيضاً يقولون هذه العبارة لمن روى عن غيره مع إثبات الواسطة ، كما يقال: روى البخاري عن هذا الصحابي حديثين فقط.(3/207)
ومثل ما تقدم يقال في قولهم (روى عنه فلان)؛ فلا يلزم من هذه ولا تلك الاتصال وعدم الواسطة .
وانظر (سمع).
روى عنه الناس :
يعبر المترجمون في كتب الرجال والتراجم وغيرها بمثل هذه العبارة للإشارة إلى كثرة من روى عن ذلك المترجَم من أهل عصره ، فكأنه قال : روى عنه معظم أهل عصره من أهل الحديث وطلبته.
وكلمة الناس لها في اصطلاح أهل العلم معنى يكون هو مرادهم بها في كثير من المواضع دون المعنى الشائع في اللغة أو العرف العام ، وهذا المعنى هو أهل العلم وطلبته دون سائر الناس .
وانظر (تركه الناس) و (الناس) .
روى عنه أهل بلده :
قال المعلمي في مقدمته لكتاب (الجرح والتعديل) لابن أبي حاتم (1/يو) :
(قد يذكر المؤلفُ الرجلَ ولا يستحضرُ عمن روى ، ولا من روى عنه ، أو يستحضرُ أحدَهما دونَ الآخر ، فيدع لما لا يستحضره بياضاً {روى عن ---- ؛ روى عنه ----} .
ويكثر ذلك في الأسماء التي ذكرها البخاري ولم ينص ، وعادة ابن حبان في الثقات أن لا يدع بياضاً ولكن يقول : "يروي المراسيل" ، "روى عنه أهل بلده " ، كأنه اطلع على ذلك أو بنى على أن البخاري إنما لم يذكر عمن يروي الرجل لأنه لم يرو عن رجل معين ، وإنما أرسل ، وأن الغالب أنه إذا كان الرجل ممن يُروَى عنه فلا بد أن يروي عنه بعض أهل بلده .
وطريقة ابن أبي حاتم أحوط كما لا يخفى) هذا كله كلامه رحمه الله .
روى عنه فلان :
انظر (روى عن فلان) .(3/208)
روى عنه فلان بَسْ :
انظر (تفرد عنه فلان) فالمعنى واحد؛ ومعنى لفظة (بسْ) كمعنى لفظة (فقط) ؛ قالوا في (المعجم الوسيط) : (بس بمعنى حسْب ، فارسية)(1).
روى فلان وآخر :
انظر (حدّثَ فلانٌ وآخر) .
روى مناكير :
انظر (روى أحاديث منكرة).
رواه :
انظر (رفعه) و (يبلغ به) .
رواه بمعناه :
انظر (الرواية بالمعنى).
رواته ثقات :
انظر (رجال إسناده ثقات).
رواته عدول :
هي بمعنى (رواته ثقات) ، وإن كان الأصل في إطلاق كلمة العدالة أنها قد تفارق الضبط ، فلا يلزم من وجود العدالة توثيق الراوي.
رواه ابن حبان :
إذا أطلقت فالمراد أنه رواه في (صحيحه).
رواه ابن خزيمة :
إذا أطلقت فالمراد أنه رواه في (صحيحه).
رواه ابن ماجه :
أي في (سننه).
رواه أبو داود :
أي في (سننه).
رواه أبو نعيم :
إذا أطلقت فالمراد أنه رواه في (حلية ألأولياء) .
رواه أحمد :
إذا أطلقت فالمراد أنه رواه في (المسند) .
رواه البخاري :
أي في (صحيحه).
رواه البيهقي :
إذا أطلقت فالمراد أنه رواه في (السنن الكبرى).
__________
(1) تكررت كلمة (بس) في مواضع من كتب الإمام الذهبي رحمه الله ؛ ولقد رأيت أن أنقل هنا موضعاً مختاراً منها لأجل إراحة القارئ أو إفادته ؛ قال في (سير أعلام النبلاء) (11/321) في ترجمة الإمام أحمد : (قال ابن عقيل : من عجيب ما سمعته عن هؤلاء الأحداث الجهال أنهم يقولون : أحمد ليس بفقيه لكنه محدث ؛ قال : وهذا غاية الجهل لأن له اختيارات بناها على الأحاديث بناءً لا يعرفه أكثرهم ، وربما زاد على كبارهم ؛ قلت : أحسبهم يظنونه كان محدثاً وبس ، بل يتخيلونه من بابة محدثي زماننا ، ووالله لقد بلغ في الفقه خاصةً رتبة الليث ومالك والشافعي وأبي يوسف ، وفي الزهد والورع رتبة الفضيل وإبراهيم بن أدهم ، وفي الحفظ رتبة شعبة ويحيى القطان وابن المديني ، ولكن الجاهل لا يعلم رتبة نفسه فكيف يعرف رتبة غيره؟!).(3/209)
ولكن اذا قال العجلوني في (كشف الخفا) : (رواه البيهقي) ، فهو لا يعني (السنن) ،بل يعني (الشعب) كما بينه في المقدمة .
رواه الترمذي :
أي في (جامعه المعروف) بـ(سنن الترمذي).
رواه الجماعة :
انظر (احتج به الجماعة).
رواه الحاكم :
إذا أطلقت فالمراد أنه رواه في (المستدرك) .
رواه الخمسة :
انظر (الخمسة).
رواه الدارقطني :
إذا أطلقت فالمراد أنه رواه في (سننه).
رواه الدارمي :
إذا أطلقت فالمراد أنه رواه في (سننه).
رواه الطبراني :
إذا أطلقت فالمراد أنه رواه في (المعجم الكبير) .
رواه النسائي :
إذا أطلقت فالمراد أنه رواه في (سننه).
رواه جماعة ثقات حفاظ :
انظر (رجال إسناده ثقات).
رواه مسلم :
إذا أطلقت فالمراد أنه رواه في (صحيحه).
رواه مطوَّلاً :
انظر (اختصار الحديث) و(مطوَّل) .
الروايةُ :
الرواية معناها في عرف المحدثين هو الحديث ، ومن مسمى الحديث عندهم هو الواحدة من طرق الحديث الذي تتعدد طرقه ، فإذا أضيفت كلمة الرواية إلى كتاب أو صحابي أو راو بعينه، فقيل مثلاً : (رواية المستدرك ، أو رواية عمر ، أو رواية الأعمش)(1) ، تعيّنَ هذا المعنى الثاني.
وقد تأتي لفظة (الرواية) معرفةً بأل الجنسية لتدل على عموم الروايات وجنسها ، كقولهم (أهل الرواية) أي أهل الروايات ، وهم أهل الحديث ، وكقولِهم (علم الرواية) أي علم الروايات ، وهو مثل قولهم (علم الحديث) يريدون به علم الأحاديث.
__________
(1) أو قيل مثلاً في تخريج حديث والكلام على طرقه: رواية مسلم أتم ، أو قيل: رواية جابر مختصرة، أو قيل: رواية مالك مرسلة.(3/210)
فائدة : قال السيوطي في (تدريب الراوي) (1/192): (فائدة: أخرج القاضي أبو بكر المروزي في كتاب « العلم » قال : حدثنا القواريري ثنا بشر بن منصور ثنا ابن أبي رواد قال : بلغني أن عمر بن عبد العزيز كان يكره أن يقول في الحديث: "رواية" ، ويقول : إنما الرواية الشعر ؛ وبه إلى ابن أبي رواد قال : كان نافع ينهاني أن أقول : رواية ، قال: فربما نسيت فقلت : رواية ، فينظر إليَّ فأقول : نسيت).
وانظر (روى) و(التخريج) و(إخراج الحديث) .
روايةً :
هذه اللفظة - إذا ذكرها الراوي عقب سند الحديث - فإنها تكون إشارةً إلى رفع الحديث ؛ وهنا يُضبط آخرها بالفتح والتنوين ، على ما هو المعروف في ذلك. وانظر (يبلغ به).
رواية الأصاغر عن الأكابر :
هذه العبارة لا تكاد توجد في كلام المحدثين ، لأنها الأصل الغالب فلا يحتاجون إلى أن يخصوه بتسمية أو ينوهوا به ، وإنما يُعنون بالتنبيه على الذي بعده ، فانظره .
رواية الأقران :
انظر (الأقران).
رواية الأكابر عن الأصاغر :
المقصود بها رواية الرواة عن الأصغر منهم سناً .
رواية الصحابة عن التابعين :
رواية الصحابة عن التابعين نوع من أنواع رواية الأكابر عن الأصاغر ؛ وهي قليلة جداً ، بل نادرة قياساً إلى كثرة مرويات الصحابة عن بعضهم أو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا واسطة ؛ ولقد جمع الحافظ ابن حجر رحمه الله كتاباً في هذا الموضوع ، أسماه (نزهة السامعين في رواية الصحابة عن التابعين) قال في خطبته : (ذكر رواية الصحابة عن التابعين مما جمعه الخطيب ، اختصرته ورتبته على حروف المعجم في أسماء التابعين----) ، ذكر فيه الرواية عن (37) تابعياً ، وذلك في غاية القلة ، فكيف إذا حذفنا من هذا القدر من الروايات ما لا يثبت إسناده إلى الصحابي الراوي عن التابعي؟!(3/211)
وعلى هذا قاس علماء الحديث مراسيل الصحابة عن التابعين فقالوا إنها نادرة ، بل ندرتها من باب أولى لأن الصحابي إذا روى عن تابعي بينه في الغالب ولم يرسل الحديث ، وذلك بخلاف رواية الصحابة عن بعضهم فقد يقع فيها الإرسال ؛ وانظر (إرسال الصحابة عن التابعين) .
الرواية بالمعنى :
أي رواية الحديث بمعناه مع تغيير بعض ألفاظه ؛ وللرواية بالمعنى شروط تفصَّل في كتب أصول هذا الفن ؛ وإليك هذا البحث النفيس:
قال العلامة المعلمي في (الأنوار الكاشفة) (ص75-79): (أنزل الله تبارك وتعالى هذه الشريعة في أمة أمية، فاقتضت حكمته ورحمته أن يكفّلهم الشريعة ويكلِّفهم حفظَها وتبليغها، في حدود ما تيسر لهم؛ وتكفل سبحانه أن يرعاها بقدرته ليتم ما أراده لها من الحفظ إلى قيام الساعة؛ وقد تقدم شيء من بيان التيسير (ص20 و21 و32).
ومن تدبر الأحاديث في إنزال القرآن على سبعة أحرف وما اتصل بذلك بان له أن الله تعالى أنزل القرآن على حرف هو الأصل، ثم تكرر تعليم جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم لتمام سبعة أحرف؛ وهذه الأحرف الستة الزائدة عبارة عن أنواع من المخالفة في بعض الألفاظ للَفْظِ الحرف الأول ، بدون اختلاف في المعنى(1) ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يلقن أصحابه، فيكون بين ما يلقنه ذا وما لقنه ذاك شيء من ذاك الاختلاف في اللفظ، فحفظ أصحابه ، كلٌّ بما لُقِّن، وضبطوا ذلك في صدورهم ولقنوه الناس.
__________
(1) بين المعلمي المراد من هذه العبارة هنا فقال : (المراد بالاختلاف في المعنى هو الاختلاف المذكور في قول الله تعالى "ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً " [كذا ] ، فأما أن يدل أحد الحرفين على معنى ، والآخر على معنى آخر وكلا المعنيين معاً حق ، فليس باختلاف بهذا المعنى ) .(3/212)
ورفع الحرج مع ذلك عن المسلمين فكان بعضهم ربما تلتبس عليه كلمة مما يحفظه، أو يشق عليه النطق بها ، فيكون له أن يقرأ بمرادفها؛ فمن ذلك ما كان يوافق حرفاً آخر ومنه ما لا يوافق، ولكنه لا يخرج عن ذاك القبيل. وفي "فتح الباري": "ثبت عن غير واحد من الصحابة أنه كان يقرأ بالمرادف ولو لم يكن مسموعاً له".
فهذا ضرب محدود من القراءة بالمعنى رُخص فيه لأولئك.
وكُتب القرآن بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم في قطع من الجريد وغيره ، تكون في القطعة الآية والآيتان وأكثر؛ وكان رسم الخط يومئذ يحتمل - والله أعلم - غالب الاختلافات التي في الأحرف السبعة، إذ لم يكن له شكل ولا نقط، وكانت تحذف فيه كثير من الألفات ونحو ذلك ، كما تراه في رسم المصحف.
وبذاك الرسم عينِه نُقل ما في تلك القطع إلى صحف في عهد أبي بكر، وبه كُتبت المصاحف في عهد عثمان؛ ثم صار على الناس أن يضبطوا قراءتهم بأن يجتمع فيها الأمران:
النقل الثابت بالسماع من النبي صلى الله عليه وسلم واحتمال رسم المصاحف العثمانية.
وبذلك خرجت من القراءات الصحيحة تلك التغييرات التي كان يترخص بها بعض الناس، وبقي من الأحرف الستة المخالفة للحرف الأصلي ما احتمله الرسم ولعله غالبها إن لم يكن جميعها، مع أنه وقع اختلاف يسير بين المصاحف العثمانية، وكأنه تبعاً للقطع التي كتب فيها القرآن بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم؛ كأن توجد الآية في قطعتين كتبت الكلمة في إحداهما بوجه وفي الأخرى بالآخر؛ فبقي هذا الاختلاف في القراءات الصحيحة.(3/213)
ونخرج مما تقدم بنتيجتين:
الأولى: أن حفظ الصدور لم يكن كما يصوره أبو رية، بل قد اعتمد عليه في القرآن، وبقي الاعتماد عليه وحده - بعد حفظ الله عز وجل - في عهد النبي صلى الله عليه وسلم [وأبي بكر] وعمر وسنين من عهد عثمان، لأن تلك القطع التي كتب فيها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانت مفرقة عند بعض أصحابه لا يعرفها إلا من هي عنده، وسائر الناس غيره يعتمدون على حفظهم؛ ثم لما جمعت في عهد أبي بكر لم تنشر هي ولا الصحف التي كتبت عنها، بل بقيت عند أبي بكر ثم عند عمر ثم عند ابنته حفصة أم المؤمنين حتى طلبها عثمان .
ثم اعتمد عليه(1) في عامة المواضع التي يحتمل فيها الرسم وجهين أو أكثر، واستمر الاعتماد عليه حتى استقر تدوين القراءات الصحيحة.
النتيجة الثانية: أن حال الأميين قد اقتضت الترخيص لهم في الجملة في القراءة بالمعنى.
وإذا كان ذلك في القرآن مع أن ألفاظه مقصودة لذاتها لأنه كلام رب العالمين بلفظه ومعناه، معجز بلفظه ومعناه، متعبَّد بتلاوته، فما بالك بالأحاديث التي مدار المقصود الديني فيها على معانيها فقط؟
__________
(1) أي على الحفظ .(3/214)
وإذا علمنا ما تقدم أول هذا الفصل من التيسير مع ما تقدم (ص20 و21 و32) وعلمنا ما دلت عليه القواطع أن النبي صلى الله عليه وسلم مبيِّن لكتاب الله ودينه ، بقوله وفعله، وأن كل ما كان منه مما فيه بيان للدين فهو خالد بخلود الدين إلى يوم القيامة، وأن الصحابة مأمورون بتبليغ ذلك في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته (راجع ص12 و36 و45 و49) وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمرهم بكتابة الأحاديث وأقرهم على عدم كتابتها، بل قيل إنه نهاهم عن كتابتها كما مر، بما فيه، ومع ذلك كان يأمرهم بالتبليغ لما علموه وفهموه، وعلمنا أن عادة الناس قاطبة فيمن يُلقى إليه كلام المقصود منه معناه ويؤمر بتبليغه، أنه إذا لم يحفظ لفظه على وجهه وقد ضبط معناه لزمه أن يبلغه بمعناه ولا يعدّ كاذباً ولا شبه كاذب، علمنا يقيناً أن الصحابة إنما أمروا بالتبليغ على ما جرت به العادة: من بقي منهم حافظاً للَّفظ على وجهه فليؤده كذلك، ومن بقي ضابطاً للمعنى ولم يبق ضابطاً للَّفظ فليؤده بالمعنى.
هذا أمر يقيني لا ريب فيه، وعلى ذلك جرى عملهم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد وفاته.
فقول أبي رية "لما رأى بعض الصحابة [أن يرووا للناس من أحاديث النبي، ووجدوا أنهم لا يستطيعون أن يأتوا بالحديث عن أصل لفظه] .. استباحوا لأنفسهم أن يرووا على المعنى)، إن أراد أنهم لم يؤمروا بالتبليغ ولم يُبح لهم أن يرووا بالمعنى إذا كانوا ضابطين له ، دون اللفظ، فهذا كذب عليهم وعلى الشرع والعقل ، كما يُعلم مما مر.(3/215)
وتشديده صلى الله عليه وسلم في الكذب عليه إنما المراد به الكذب في المعاني، فإن الناس يَبعثون رسلهم ونُوابهم ويأمرونهم بالتبليغ عنهم، فإذا لم يشترط عليهم المحافظة على الألفاظ فبلغوا المعنى فقد صدقوا؛ ولو قلت لابنك: إذهب فقل للكاتب: أبي يدعوك، فذهب وقال له: والدي - أو الوالد - يدعوك، أو يطلب مجيئك إليه، أو أمرني أن أدعوك له، لكان مطيعاً صادقاً، ولو اطلعت بعد ذلك على ما قال فزعمت أنه عصى أو كذب وأردت أن تعاقبه لأنكر العقلاء عليك ذلك.
وقد قص الله عز وجل في القرآن كثيراً من أقوال خلقه بغير ألفاظهم ، لأن من ذلك ما يطول فيبلغ الحد المعجز، ومنه ما يكون عن لسان أعجمي، ومنه ما يأتي في موضع بألفاظ وفي آخر بغيرها، وقد تتعدد الصور كما في قصة موسى، ويطول في موضع ويختصر في آخر.
فبالنظر إلى أداء المعنى كرر النبي صلى الله عليه وسلم بيان شدة الكذب عليه، وبالنظر إلى أداء اللفظ اقتصر على الترغيب فقال: "نضر الله امرءاً سمع منا شيئاً فأداه كما سمعه، فرب مبلَّغ أوعى من سامع"، جاء بهذا اللفظ أو معناه مطولاً ومختصراً من حديث ابن مسعود وزيد بن ثابت وأنس وجبير بن مطعم وعائشة وسعد وابن عمر وأبي هريرة وعمير بن قتادة ومعاذ بن جبل والنعمان بن بشير وزيد بن خالد وعبادة بن الصامت، منها الصحيح وغيره، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى معونتهم على الحفظ والفهم كما مر (ص43).
واعلم أن الأحاديث الصحيحة ليست كلها قولية، بل منها ما هو إخبار عن أفعال النبي صلى الله عليه وسلم، وهي كثيرة ؛ ومنها ما أصله قولي ولكن الصحابي لا يذكر القول بل يقول: أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بكذا، أو نهانا عن كذا، أو قضى بكذا، أو أذن في كذا----وأشباه هذا؛ وهذا كثير أيضاً.
وهذان الضربان ليسا محل نزاع؛ والكلام في ما يقول الصحابي فيه: قال رسول الله كيت وكيت، أو نحو ذلك.(3/216)
ومن تتبع هذا في الأحاديث التي يرويها صحابيان أو أكثر ووقع اختلاف فإنما هو في بعض الألفاظ، وهذا يبين أن الصحابة لم يكونوا إذا حكوا قوله صلى الله عليه وسلم يُهملون ألفاظه البتة، لكن منهم من يحاول أن يؤديها فيقع له تقديم وتأخير أو إبدال الكلمة بمرادفها ونحو ذلك؛ ومع هذا فقد عُرف جماعة من الصحابة كانوا يتحرون ضبط الألفاظ، وتقدم (ص42) قول أبي رية: إن الخلفاء الأربعة وكبار الصحابة وأهل الفتيا لم يكونوا ليرضوا أن يرووا بالمعنى؛ وكان ابن عمر ممن شدد في ذلك، وقد آتاهم الله من جودة الحفظ ما آتاهم؛ وقصة ابن عباس مع عمر بن أبي ربيعة مشهورة ؛ ويأتي في ترجمة أبي هريرة ما ستراه.
فعلى هذا ما كان من أحاديث المشهورين بالتحفظ فهو بلفظ النبي صلى الله عليه وسلم، وما كان من حديث غيرهم فالظاهر ذلك، لأنهم كلهم كانوا يتحرون ما أمكنهم، ويبقى النظر في تصرف من بعدهم). واقرأ تتمة كلام المعلمي هناك إلى أواخر (ص87).
روينا :
إذا قال مصنف كتابٍ أو غيرُه : (روينا في كتاب فلان كذا من الأخبار) ، فإن كلمة (روينا) الواردة في مثل هذا السياق تُضبط عند الأكثر هكذا (رَوَيْنا) بفتح أوليْها مع تخفيف الواو ، مِن (روى) إذا نقل عن غيره ؛ وقال جمع : الأجود ضم الراء وكسر الواو مشددة فتكون هكذا (رُوِّينا) ، أي روى لنا مشايخنا ، أي نقلوا لنا .
وأما استعمال المحدث لضمير جماعة المتكلمين في هذه الكلمة دون ضمير المتكلم المفرد ، فوجهه أن العرب من عادتها أنها تؤكد فعل الواحد فتجعله بلفظ الجمع ليكون أثبت وأوكد ، وثمَّ احتمال آخر ، وهو التعبير عن حقيقة الواقع ، أي أن ذلك المحدث قد شاركه غيره من أهل بلده أو عصره في تحمل هذا الحديث فيؤْثر هذه الصيغة على غيرها ولا سيما إذا قصد مع ذلك التواضع والتجرد من الدعوى ومن إيهام التفرد بذلك الحديث .(3/217)
وقيل : إن النون لإظهار نعمة التلبس بالعلم المتأكد تعظيم أهله امتثالاً لقوله تعالى (وأمّا بنعمة ربك فحدث) ، مع الأمن من الإعجاب ونحوه ، وإلا كان مذموماً .
قلت : وهذا القول ضعيف(1) .
ومما أنبه عليه هنا هو أن بعض العلماء كان يجعل كلمة (روينا) من صيغ التمريض، فيستعملها لذلك؛ منهم ابن المنذر ، فقد كان من طريقته في كتابه (الأوسط) أنه إن كان في المسألة حديث صحيح قال: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم كذا، أو صح عنه كذا. وإن كان فيها حديث ضعيف قال: رُوِّينا، أو يُروى عن النبي صلى الله عليه وسلم كذا) .
ثم وقفت على نص رسالة مؤلفة في معنى (روينا) وهي رسالة (إيضاح ما لدينا في قول المحدثين: روينا) للشيخ عبدالغني النابلسي المتوفى سنة 1143هـ ، نشر نصَّها بعضُ الفضلاء في موقع (ملتقى أهل الحديث) ، وبيّن أنها منشورة في الأصل في كتاب (السلفيون وقضية فسطين) ، وأن مخطوطتها مِن محفوظات المكتبة الأحمدية بحلب ؛ فدونك نصها :
بسم اللّه الرحمن الرحيم
__________
(1) قال ابن حجر الهيتمي المكي في (الفتح المبين لشرح الاربعين) (ص29) شارحاً قول النووي (روينا) :
(النون لاظهار نعمة التلبس بالعلم المتأكد تعظيمُ أهله امتثالاً لقوله تعالى { واما بنعمة ربك فحدث } ، مع الأمن من الإعجاب ، ونحوه ، وإلا كان مذموماً ، وأيضاً فالعرب - كما في البخاري - تؤكد فعلَ الواحد فتجعله بلفظ الجمع ليكون أثبت وأوكد .
و (روينا) بفتح أوليه مع تخفيف الواو عند الأكثر ، مِن (روى) إذا نقل عن غيره ؛ وقال جمع : الأجود ضم الراء وكسر الواو مشددة ، أي رووا لنا مشايخنا ، أي نقلوا لنا).(3/218)
الحمد للّه وحده، والصلاة والسلام على مَنْ لا نَبِيَّ بعده وعلى آله وأصحابه، وأخص بالزيادة أتْبَاعه وأنصاره وجُنده ، أمَّا بَعْدُ : فيقول شيخنا الإمام العلامة العمدة الهُمَام الفَهَّامة جَنَاب الشيخ عبدالغني الشهير نسبه الكريم بابن النابلسي الدمشقي الحنفي - عامله اللّه تعالى بلطفه الخفي- :
سألني الكامل الفاضل جامع الفضائل والفواضل محمد أفندي الرومي نائب الشرع الشريف في محروسته دمشق الشام، يوم الخميس، تاسع شهر ربيع الثاني من شهور سنة خمس وعشرين ومئة وألف، حين ورد بالنيابة واجتمعنا به - أحسن اللّه تعالى قدومه وإيابه، وأجزل ثوابه- : عن معنى قول الإمام العالم العلامة القدوة الكامل الفهامة محيي الدين أبي زكريا يحيى بن شرف الدين النووي - رحم اللّه روحه، ونَوَّر ضريحه- في كتابه «الأربعين» المشتمل على أحاديث سَيِّد المرسلين صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أجمعين، في آخر الحديث (السابع والعشرين) من كتابه المذكور، بعد إيراد لفظ الحديث عن وابصة بن معبد - رضي اللّه عنه-، قال النووي: «حديث صحيح - وفي نسخة : حسن - ، رويناه في مسند الإمامين أحمد بن حنبل والدارمي بإسناد جيد - وفي نسخة : حسن - ، وصورة السؤال : أنّ قوله: «رويناه» في «مسند الإمامين» يقتضي أنّ الإمام النووي مَذْكور في «المسند» الذي للإمامين، مع أنَّ الإمام النووي متأخر عنهما بيقين، والإمامان متقدمان ولم يجتمع بهما ولا بأحدهما، فإنَّ الإمام أحمد بن حنبل وُلد في ربيع الأول سنة أربع وستين ومئة، ومات في ربيع الأول سنة إحدى وأربعين ومئتين عن سبع وسبعين سنة، وأبو محمد عبداللّه بن عبد الرحمن الدَّارِمي التميمي السَّمَرْقَنْدي الحافظ من بني دارم بن مالك بن حنظلة بن زيد مناة بن تميم، ولد سنة إحدى وثمانين ومئة، ومات يوم التروية سنة خمس وخمسين ومئتين.(3/219)
وأمَّا الإمام النووي، فإنه ولد في محرم سنة إحدى وثلاثين وست مئة، وتوفي في رجب سنة ست وسبعين وست مئة عن خمس وأربعين سنة، فقلت في الجواب عن ذلك - بعون القدير المالك - : أما قوله « رويناه في مسند الإمامين أحمد بن حنبل والدارمي» مثل قوله في أول كتابه «الأربعين» قبل الشروع فيه: « فقد روينا عن علي بن أبي طالب، وعبد الله ابن مسعود، ومعاذ بن جبل، وأبي الدرداء، وابن عمر، وابن عباس، وأنس بن مالك، وأبي هريرة، وأبي سعيد الخدري - رضي اللّه عنهم- »، وهم صحابة متقدمون، وهو متأخر عنهم جداً؛ فإنه على معنى روت لنا مشايخنا؛ أي : نقلوا لنا فسمعنا؛ كما صرح بهذا شارح «الأربعين» الشيخ الإمام شهاب الدين أحمد بن حجر المكي الهَيْتَمي، وذكر الشارح - أيضاً - في شرح قوله : «رويناه في مسند الإمامين» يعني: رويناه بسندنا المتصل حالة كونه في «مسند الإمامين»، وقال الشارح - أيضاً- : « وقوله رَوَيناه بفتح أوله مع تخفيف الواو عند الأكثر، مِن رَوَى ، إذا نقل عن غيره ؛ وقال جمع: الأجود ضم الراء وكسر الواو المشددة ؛ أي: روت لنا مشايخنا، فسمعنا عن علي بن أبي طالب...» إلى آخره.
وذكر الشيخ الإمام شهاب الدين أحمد بن محمد بن علي الهمداني الفَيُّومي ثم الحموي المشهور بابن خطيب الدهشة في كتابه «المصباح المنير في غريب الشرح الكبير»، وهو شرح «الوجيز»، تصنيف الإمام الغزَّالي في فقه الشافعية، وشرحه للإمام الرافعي - رحمهم اللّه تعالى - ، قال: « رَوَى البعير الماء، يَرْويه مِن باب: رَمَى ، فهو رَاوِيَة، الهاء فيه للمبالغة، ثم أطلقت الرَّاوِيَة على كل دابَّة يُسْتَقى الماء عليها، ومنه قيل : رَوَيْتُ الحديث: إذا حَمَلْتَه ونقلتَه، ويُعَدَّى بالتضعيف، فيقال : رَوَّيْت زيداً الحديث، ويُبْنى للمفعول، فيقال: رُوِّينَا الحديث». انتهى كلامه.(3/220)
وعلى هذا؛ فإذا حُمل قول النووي رحمه اللّه تعالى "فقد روينا عن علي بن أبي طالب... " إلى آخره، بتشديد الواو مبنياً للمفعول ؛ يعني: رَوَّانا مشايخنا ذلك - بتشديد الواو - بأن كان الشيخ الأول رَوَّى -بتشديد الواو - مَنْ بَعْده ، والذي بعده رَوَّى - بتشديد الواو - مَنْ بعده إلى آخر شيخ هو روَّانا - بتشديد الواو - ، فعلى هذا يُقْرأ قوله "فقد رُوِّينَا" بضم الراء وتشديد الواو مكسورة وضم الهاء مبنياً للمفعول ، ولا يختلف رسم الكتابة في ذلك .
وأمّا قوله "بإسناد جيد" أو "حسن" ، بعد قوله "رويناه في مسند الإمامين أحمد بن حنبل والدارمي" فالجار والمجرور متعلق بواجب الحذف ، حال من الهاء في قوله "رويناه" ، كما أنّ قوله «في مسند الإمامين» الجار والمجرور متعلق بواجب الحذف حال ، أيضاً ، من الهاء في قوله "رويناه"، كما أشار إليه الشارح فيما قدمناه ، فيكون الحالان من الهاء الضمير المنصوب بالمفعولية الثانية لـ"رَوَّى" - مشدد الواو - ، والمفعول الأول : نا، التي هي ضمير المُعَظِّم نفسه بشرف الرواية ، أو هو ومعه غيره من أصحابه ، وهذه الحال متداخلة ، وتقدير ذلك : رُوِّيناه حال كونه في مسند الإمامين، وحال كونه وهو من مسند الإمامين حاصلاً بإسناد جيد.(3/221)
ويصح أن يكون الجار والمجرور الثاني وهو قوله «بإسناد جيد» متعلقاً بقوله "حديث صحيح" ، إمَّا بحديث، وإما بصحيح ، وليس هذا الجار والمجرور الأول متعلقاً برويناه ، لأنّ إسناده هو لم يُرِد الإخبار عنه بأنه جيد، ولم يرد ذكره، وإنما أراد بالإسناد الجيد: إسناد الإمام أحمد والدارمي، يدل عليه قول الشارح المذكور: فإنْ قلتَ: ما حِكْمة قول المصنف أولاً: حديث صحيح، وقوله هنا: بإسناد جيد؟ قلت: حكمته: أنه لا يلزم من كون الحديث في «المسندين» المذكورين أن يكون صحيحاً، فبين أولاً بأنه صحيح، وثانياً: أنّ سبب صحته أن إسناد هذين الإمامين اللذَين أخرجاه صحيح أيضاً، وله حكمة أخرى حديثية؛ وهي: ما صرحوا به أنه لا تلازم بين الإسناد والمتن، فقد يصح فيه السند أو يحسن؛ لاستجماع شروطه من الاتصال والعدالة والضبط دون المتن؛ لشذوذ فيه أو علة، فنص المصنف أولاً: على صحة المتن بقوله: «هذا حديث صحيح»، وثانياً: على صحة السند بقوله: « بإسناد جيد» إلى آخر ما بسطه من الكلام في هذا المقام.(3/222)
والحاصل: أنّ قول الإمام النووي رحمه اللّه ، هنا "روَيناه - بفتح الواو وتخفيفها - مبنياً للفاعل ، يعني: روينا عن مشايخنا أو بإسنادنا هذا الحديث الكائن في مسند الإمامين ، المذكور ثمة بإسناد جيد، أو معناه: رُوِّيناه - بتشديد الواو - مبنياً للمفعول ، أي: رَوَّى - بتشديد الواو- هذا الحديث لنا مشايخُنا الكائن ذلك الحديث في مسند الإمامين، كما أن قوله "فقد رَوَيْنا - بتخفيف الواو مفتوحة - والبناء للفاعل؛ أي: روت لنا مشايخنا بإسناد متصل عن علي بن أبي طالب... إلى آخره ؛ أو معناه : رُوِّينا - بتشديد الواو مكسورة - مبنياً للمفعول ، أي : رَوَّتْنا - بتشديد الواو مفتوحةً - مشايخنا عن علي بن أبي طالب... إلى آخره، واللّه أعلم وأحكم، وصلى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم)(1).
رياح :
إذا وُصف الراوي أو أحاديثه بأنها رياح ، أو بأنها كالريح ، فالمراد توهيتُها وتوهينُها وإسقاطها وعدم ثبوتها أمام النقد .
وهاتان عبارتان نقديتان ورد فيهما تشبيه الأحاديث الواهية بالرياح :
__________
(1) انتهى متن هذه الرسالة ، وقد ختمها كاتبها بما يلي : (وكان الفراغ من كتابة هذه النسخة المباركة في الخامس عشر من ربيع الثاني سنة خمس وعشرين ومئة وألف على يد العبد الفقير محمد بن إبراهيم بن محمد الشهير بابن الدكدكجي الدمشقي الحنفي لطف اللّه به والمسلمين ؛ وذلك في مجلس واحد، ونقلتها مِن خط مؤلفها شيخنا الإمام الهمام العلامة نفعنا اللّه تعالى والمسلمين ببركاته، وأمدنا بصالح دعواته ؛ وصلى اللّه وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين، والحمد للّه رب العالمين).(3/223)
العبارة الأولى في حق الرّياحيّ أبي العالية رُفيع ، وهو ثقة رَفيع ، لكن مراسيله رياح ، قال ابن أبي حاتم في (آداب الشّافعيّ ومناقبه) (ص 170) : (ثنا أبي ، ثنا حرملة : سمعت الشّافعيّ يقول : حديث أبي العالية الرّياحيّ رياح(1) ؛ قال أبو حاتم : يعني الذي يُروى عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم في الضّحك في الصّلاة : أنّ على الضّاحك الوضوء) .
العبارة الثانية : رياح بن عبيدة السلمي : قال فيه ابن المنادي : (حديث رياح كالرياح)(2) .
__________
(1) قال ابن حبان في (مشاهير علماء الأمصار) (ص95) في ترجمة أبي العالية الرياحي (697) : (ولم ينصف من زعم أن حديث أبي العالية الرياحي رياح ولم يجعل حديث إبراهيم بن أبي يحيى وذويه رياحاً تهب) ! .
(2) وهذا أسلوب طريف في التجريح ، وهو اشتقاق عبارة الذم أو التجريح من جنس لفظ اسم الراوي المذموم أو المجروح ، وهذا الأسلوب له ، في الجملة ، سلفٌ - أو أصلٌ - من كلام النبي صلي الله عليه وسلم ، فعن أنس رضي الله عنه قال : قنت النبي صلى الله عليه وسلم بعد الركوع شهراً، يدعو على رعل وذكوان ، ويقول : (عصية عصت الله ورسوله) .
وفيما يلي جملة من كلمات النقاد الجارية على هذه الطريقة :
أبو جابر البياضي :
قال ابن أبي حاتم في (آداب الشافعي ومناقبه (ص167) : (ثنا بن عبد الحكم : سمعت الشافعي وذُكر له أبو جابر البياضي فقال : "بيَّض الله عيني من يروي عنه" ، يريد بذلك تغليظاً على من يَكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ) .
وتفسير كلام الشافعي هذا لابن أبي حاتم كما هو مصرَّح به في رواية (الجرح والتعديل) (7/325) ؛ وانظر (لسان الميزان) (7/276 طبعة دار البشائر) .
حرام بن عثمان :
قال ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل) (3/282) وفي (آداب الشّافعيّ ومناقبه) (ص166-167) : (نا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال : سمعت الشافعي يقول وذُكر له حرام بن عثمان ، فقال : الحديث عن حرام بن عثمان حرام) ؛ ثم قال ابن أبي حاتم في (الآداب) : (يعني أنه ليس بصدوق ، فالتحديث عمن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم حرام) .
وأخرجه من طريق ابن عبد الحكم به أيضاً العقيلي في (الضعفاء) (1/320) وابن عدي في (الكامل) (2/444) ؛ وزاد ابن عدي رواية هذا الأثر من طرق أخرى فقال :
(سمعت محمد بن خالد بن يزيد البردعي يقول : سمعت الربيع يقول : سمعت الشافعي يقول : كل حديث عن حرام حرام .
سمعت أبا عمران بن هانئ يقول : سمعت غندر أحمد بن آدم يقول : سمعت حرملة يقول : قال الشافعي : حرام بن عثمان حرام .
ثنا يحيى بن زكريا بن حيوة ثنا عمر بن عبد العزيز بن مقلاص يقول سمعت أبي يقول : قيل للشافعي : الحديث عن حرام بن عثمان حرام ؟ فقال : الحديث عنه حرام) .
ثم رواه ابن عدي عن ابن معين قوله ، فقال :
(ثنا أحمد بن الحارث بن محمد بن عبد الكريم المروزي سمعت إبراهيم بن يزيد الحافظ يقول : سألت يحيى بن معين عن حرام بن عثمان ؟ فقال : الحديث عن حرام حرام ) .
ثم قال ابن عدي : (سمعت ابن حماد يقول : قال السعدي [هو الجوزجاني] : سمعت من يقول : الحديث عن حرام بن عثمان حرام ، لأنه لم يقتصد).
مجالد بن سعيد :
قال ابن حبان في (المجروحين) (3/10-11) في مجالد بن سعيد بن عمير: (وكان رديء الحفظ يقلب الأسانيد ويرفع المراسيل لا يجوز الاحتجاج به ؛ أخبرنا الحسن بن سفيان قال سمعت حرملة بن يحيى قال سمعت الشافعي يقول: الحديث عن حرام بن عثمان حرام ؛ والحديث عن مجالد يجالد [كذا] ، (والحديث عن) أبي العالية الرياحي رياح).
وكلمتا "والحديث عن" المحوَّق عليهما وقعتا في مطبوعة "المجروحين" هكذا : "الحديث وعن" ، فاجتهدتُ في تصحيح العبارة ، وإن كان يمكن توجيهها الجملة الأخيرة من الكلام خاصةً بتقدير كلمة محذوفة ، أي يكون تقدير (وعن أبي العالية) هو : (والحديث عن أبي العالية) .
ثم قال ابن حبان : (أخبرنا الزيادي قال حدثنا ابن أبي شيبة قال: سألت يحيى بن معين وسئل عن مجالد بن سعيد فقال : كان ضعيفاً----).
وقوله (سألت) محرَّف عن (سمعت) ، أو هو محفوظ ولكن كلمة (وسئل) الآتية محرفة عن (أو سئل) .
وانظر ترجمة مجالد بن سعيد في (تهذيب الكمال) (27/219-225) .
أبوعصمة نوح الجامع :
قال الحاكم في (المدخل إلى الصحيح) (1/250) (208) : (نوح بن أبي مريم الجامع أبو عصمة القاضي المروزي ، ولقد كان جامعاً ، رُزِق من كل شيء حظاً إلا الصدق فإنه حُرمه نعوذ بالله من الخذلان ) .
وقال أبو نعيم في (الضعفاء) (ص151) (249) : (نوح بن أبي مريم الجامع ، أبو عِصمة ، قاضي مرو ؛ كان جامعاً في الخطأ والكذب ، لا شيء) .
وقال المزي في (تهذيب الكمال) (30/61) في أوساط ترجمته : (وقال ابن حبان : كان يقلب الأسانيد ويروي عن الثقات ما ليس من أحاديث الأثبات ، لا يجوز الاحتجاج به بحال ؛ وقال في موضع آخر : نوح الجامع جمع كل شيء إلا الصدق) .
والجملة الأولى وردت - دون ثانيتها - في ترجمة نوح هذا في (المجروحين) (3/48) .
أما تسميته بالجامع فقد حكى المزي في (تهذيب الكمال) (30/58) عن العباس بن مصعب المروزي قال : (وإنما سمي الجامع لأنه أخذ الرأي عن أبي حنيفة وابن أبي ليلى ، والحديثَ عن حجاج بن أرطاة ومن كان في زمانه ، وأخذ المغازيَ عن محمد بن إسحاق ، والتفسيرَ عن الكلبي ومقاتل ، وكان مع ذلك عالماً بأمور الدنيا ، فسُمي نوحَ الجامع) .
ثور بن يزيد : قال المزي في (تهذيب الكمال) (4/424) : (وقال علي بن الحسن بن شقيق عن ابن المبارك : سألت سفيان الثوري عن الأخذ عن ثور بن يزيد ؟ فقال : خذوا عنه واتقوا قرنيه ؛ وقال أبو داود السنجي عن عبد الرزاق : سمعت سفيان يُسأل عن ثور بن يزيد ، فقال : خذوا عنه واحذروا قرنيه---- .
وقال أبو عمير بن النحاس : حدثنا ضمرة عن ابن أبي رواد قال : كان الرجل إذا أتاه قال له : أين تريد؟ إلى الشام؟ قال : إنَّ بها ثوراً فاحذر لا ينطحك بقرنيه) ؛ وذكر المزي عن ابن رواد أثرين آخرين بمعنى هذا الأثر .
عطاف بن خالد :
روى أبو عثمان البرذعي عن أبي زرعة في (سؤالاته له) (2/743) قال : (سمعت أبا مسعود يقول : ذكر يوماً يزيدُ بن هارون عطافَ بن خالد ، فقال : "من ثَمَّ عُطِفَ به" ) ؛ ولم يتبين لي معنى هذه العبارة ، وعطاف صدوق وبعض النقاد وثقوه توثيقاً تاماً .
مأمون بن أحمد :
كتب بعض الفضلاء من إخواننا في بعض المذاكرات : (يُذكر أن الشافعي قال فيه : "مأمون غير مأمون" ؛ ولكن ذلك لم يصحّ عن الشّافعيّ ، بل أصل ذلك مجازفة من ابن دحية ، كما شرحه بعض الأفاضل في مقال بيّن فيه أنّه محال ، من نسج الخيال ؛ مع أن مأموناً لم يكن مأموناً ) .
ومما يشبه ما نحن فيه ما رواه ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل) (2/435) قال : (حدثني أبي نا معاوية بن صالح بن أبي عبيدالله قال : قال أبو مُسْهِرٍ : بَقِية أحاديثه ليس نقية ، فكن منها على تقيّة) ؛ وحكاه المزي في (تهذيب الكمال) (4/198) والذهبي في (ميزان الاعتدال) (2/46) ؛ وروى نحوه عن ابن مسهر ابنُ عدي في ترجمة بقية بن الوليد من (الكامل) (2/46) .
وقال ابن حجر في (لسان الميزان) (2/142-143 بشائر) عقب حديث أورده في ترجمة إسماعيل بن عبد الله الكندي أحد شيوخ بقية : (قال النباتي بعد ذكره : "أحاديث بقية ليست نقية" ) .
وشبيه بذلك ما رواه العقيلي في (الضعفاء) في ترجمة (جلد بن أيوب) (1/222) (252) عن أحمد بن شبويه قال : (سمعت ابن عيينة يقول : حديث الجلد بن أيوب في الحيض حديثٌ محدَثٌ لا أصل له) .
وربما يدخل فيه أيضاً ما يُروى عن شعبة رحمه الله من قوله "سميت ابني سعداً فما سعد ولا أفلح" ، ذكره الذهبي في (السير) (7/224) .
وقال ابن عدي في (الكامل) (2/48) : (وبلغني عن صالح جزرة أنه وقف على حلقة أبي الحسن السمناني عبد الله بن محمد بن يونس ببخارى وهو يحدث عن بركة ببعض الأحاديث التي ذكرتها فقال صالح : يا أبا الحسن ليس ذي بركة ذي نقمة) .
وقال ابن كثير في (تفسيره) (2/21) عند تفسيره الآية الخامسة من (سورة المائدة) : (وأما المجوس فإنهم وإن أُخذتْ منهم الجزية تبعاً وإلحاقاً لأهل الكتاب، فإنهم لا تُؤكل ذبائحهم ، ولا تُنكح نسائهم ، خلافاً لأبي ثور إبراهيم بن خالد الكلبي أحد الفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد بن حنبل ؛ ولما قال ذلك واشتهر عنه أنكر عليه الفقهاء ذلك ، حتى قال عنه الإمام أحمد : أبو ثور كاسمه ، يعني في هذه المسألة).
هذا مع أن الإمام أحمد كان يثني على أبي ثور فقد ورد في ترجمة أبي ثور من (سير أعلام النبلاء) (12/72-76) ما يلي :
(قال أبو بكر الأعين : سألت أحمد بن حنبل عنه فقال : أعرفه بالسنة منذ خمسين سنة ، وهو عندي في مسلاخ سفيان الثوري).
(وقد كان أحمد يكره تدوين المسائل ويحض على كتابة الأثر فقال عبدالرحمن بن خاقان : سألت أحمد بن حنبل عن أبي ثور فقال : لم يبلغني عنه إلا خيرٌ، إلا أنه لا يعجبني الكلام الذي يصيّرونه في كتبهم).
(وقيل : سئل أحمد عن مسألة فقال للسائل : سل غيرَنا، سل الفقهاء، سل أبا ثور).
(قال الخطيب : كان أبو ثور يتفقه أولا بالرأي ويذهب إلى قول العراقيين ، حتى قدم الشافعيُّ فاختلف إليه ورجع عن الرأي إلى الحديث).
وكذلك وردت عبارات في التوثيق والتزكية ، ومنها العبارات المذكورة في النقول التالية :
1 - قال البخاري في (صحيحه) (2/571) (1501) في (كتاب الحج : باب : من أين يخرج من مكة) :
(حدثنا مسدد بن مسرهد البصري حدثنا يحيى عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة من كداء من الثنية العليا التي بالبطحاء ويخرج من الثنية السفلى .
قال أبو عبد الله [هو البخاري] : كان يقال : هو مسدد ، كاسمه.
قال أبو عبد الله : سمعت يحيى بن معين يقول سمعت يحيى بن سعيد يقول : لو أنَّ مسدداً أتيتُه في بيته فحدثتُه لاستحق ذلك ؛ وما أبالي كتبي كانت عندي أو عند مسدد).
2 - قال المزي في ترجمة صالح بن جبير من (تهذيب الكمال) (13/25) : (وقال هارون بن معروف عن ضمرة عن رجاء بن أبي سلمة : قال عمر بن عبد العزيز : ولَّينا صالح بن جبير فوجدناه كاسمه).
3 - قال الرافعي في (التدوين في أخبار قزوين) (3/92) : (صالح بن عمر بن نوح الأديب أبو عبد الله المنهاجى القزويني : صالح كاسمه ، قنوع محتاط ، كتب الكثير من كل فن ، وكان مواظباً على سماع الحديث----).
4 - قال أبو نعيم في (حلية الأولياء) (2/161) : (فأما أبو محمد سعيد بن المسيب بن حزن المخزومي كان من الممتحنين ، امتحن فلم تأخذه في الله لومة لائم، صاحب عبادة وجماعة وعفة وقناعة ، وكان كاسمه ، بالطاعات سعيداً، ومن المعاصي والجهالات بعيدا).
5 - قال الرافعي أيضاً (2/413) : (الحسن بن عبد الرزاق بن محمد بن علي بن خسروماه أبو محمد الشاهد كان كثير العبادة والتهجد ، هديُه كاسمه، سمع الكثير من علي بن محمد بن مهرويه و----).
6 - قال المزي في (تهذيب الكمال) (4/346) : (وقال أبو طالب : سألت أحمد بن حنبل ، قلت : ثابت أثبت أو قتادة ؟ قال : ثابت يتثبت في الحديث ، وكان يقص ، وقتادة كان يقص ؛ وكان أذكَرَ ، وكان محدثاً من الثقات المأمونين ، صحيح الحديث)
وقال الذهبي في (ميزان الاعتدال) (2/81-82) : (ثابت بن أسلم البناني : ثقة بلا مدافعة ، كبير القدر ، تناكدَ ابن عدي بذكره في "الكامل" ----) إلى أن قال : (قلت : وثابت ثابت كاسمه ، ولولا ذكر ابن عدي له ما ذكرته) ؛ انتهى ، وأما معنى التناكد هنا فهو التشدد الذي ليس في محله والتضييق والتعسير ؛ ففي (المعجم الوسيط) (2/960) :
(ناكده : عاسره وغالبه في المضايقة .
نكَّده : جعله نَكِداً ، يقال : نكَّد عطاءَه بالمنّ .
تناكد القومُ : تعاسروا وضايق بعضهم بعضا) .(3/224)
فصل الزاي
زاد فلان :
انظر (زيادة) .
زائد ---- إلى :
قال العلامة أحمد محمد شاكر في (الباعث الحثيث) (ص138 - مصوَّرة بغداد) في بيان طرق النُّسّاخ في حذف الكلام الذي زيد خطأً في الكتاب : (وإذا كان الزائد كثيراً فالأحسن أن يكتب فوقه في أوله كلمة "لا" أو "من" أو "زائد" ، وفي آخره فوقه أيضاً كلمة "إلى" ، ليعرف القارئ الزيادة بالضبط من غير أن يشتبه فيها ؛ وتجد هذا كثيراً في الكتب المخطوطة القديمة التي عُني أصحابها بصحتها ومقابلتها ) ؛ وانظر (الضرب) .
الزوائد :
المراد الأغلب في هذا الاستعمال عند المخرجين وعلماء الحديث ، ولا سيما من تأخر منهم ، هو الأحاديث الزوائد أي التي تفرد بروايتها بعض الكتب المسندة دون كتب أخرى مسندة أيضاً؛ أي هي الأحاديث التي يزيد بها بعض كتب الرواية على بعض آخرَ معيَّنٍ منها؛ والغالب أن تكون تلك الكتب التي تجمع زوائدها ، أو الزوائد عليها ، من الأصول والأمّات.
ترى العلماء يقولون أحياناً : (هذا الحديث من زوائد البخاري على مسلم) ، أو يقولون : (هو من زوائد أبي داود على الصحيحين) ، مثلاً ، ومعنى ذلك في الحديث الأول أنه أخرجه البخاري دون مسلم ، وفي الحديث الثاني أنه أخرجه أبو داود دون الشيخين .
وقد اشتهر هذا الاسم (الزوائد) حتى كاد أن يكون عند المتأخرين والمعاصرين عَلَماً على فرع من علوم الحديث هو (علم الزوائد) ، وبذلك صارت كلمة (الزوائد) أهلاً لأن تدخل في جملة مصطلحات المحدثين .
وقد أفرد العلماء ولا سيما ممن تأخرت عصورهم زوائد كتب كثيرة ، بالتأليف ؛ وتعرف باسم كتب الزوائد.
ولأصحاب كتب الزوائد في إدخال الحديث في جملة الزوائد شروطٌ ليس هذا موضع تفصيل القول فيها ، فقد اقتصرت على ما يأتي في ثنايا الكلام التالي من الإشارة إلى جملة منها .
وكتب الزوائد متباينة في مادتها ، فمنها ما أفرد لزوائد كتاب واحد ، ومنها ما جَمع زوائد أكثر من كتاب .
فمن الصنف الأول ما يلي:(3/225)
زوائد مسلم على البخاري .
زوائد أبي داود على الصحيحين .
زوائد الترمذي على الثلاثة : البخاري ومسلم وأبي داود.
زوائد النسائي على الأربعة المذكورين.
زوائد ابن ماجه على الخمسة المذكورين.
استخرج هذه الزوائد الخمس ابن الملقن ، وشرحها في خمسة كتب ، ولكنها احترقت قبل موت مصنفها ، وقد ذكر ابن حجر أنه كان رآها قبل احتراقها .
زوائد ابن حبان على الصحيحين ، لمغلطاي بن قليج الحنفي (ت762هـ).
موارد الظمآن في زوائد ابن حبان ، أي على الصحيحين ، للهيثمي ، وأحاديثه نحو من (2647) حديثاً.
مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه ، أي على الكتب الخمسة ، للبوصيري رحمه الله.
وهو من الكتب المحررة المتقَنة، وفيه كلام على الأحاديث ورواتها.
فوائد المنتقي لزوائد البيهقي ، أي في (سننه الكبرى) ، على الكتب الستة ، للبوصيري أيضاً.
زوائد مسند البزار على مسند أحمد والكتب الستة ، لابن حجر العسقلاني .
وأصل هذا الكتاب هو (مجمع الزوائد) لنور الدين الهيثمي ، أخذه ابن حجر فحذف منه الأحاديث المروية في مسند الإمام أحمد ؛ وزاد على ذلك أموراً أهمها ما يلي :
أ- حذف الإسناد المكرر ، بتمامه ، ويبدله بقوله (بهذا الإسناد).
ب- اختصار المتون المكررة أو المطولة ، اختصاراً غير مخل.
ج- تقطيع الحديث الطويل ، وتوزيعه على أبوابه ، بحسب موضوع كل قطعة؛ ويشير في كل موضع إلى تمامه في الموضع الآخر.
د- الاستدراك على البزار وعلى شيخه الهيثمي عند الحاجة ، باقتضاب شديد.
هـ- توضيح كلام البزار في تعليقاته عند الحاجة.
و- الحكم على بعض الأحاديث تصحيحاً وتضعيفاً(1).
زوائد الأدب المفرد للبخاري ، لابن حجر(2).
غاية المقصد في زوائد المسند ، أي مسند أحمد ، على الكتب الستة ، للهيثمي .
وقد رتبه الهيثمي على الأبواب والتزم فيه ذكر الأسانيد ؛ وقال في خطبته :
__________
(1) انظر (علم زوائد الحديث) لعبد السلام محمد علوش (ص277-283).
(2) انظر (فهرس الفهارس والأثبات) (1/334).(3/226)
(ذكرتُ فيه ما انفرد [به] الإمام أحمد رضي الله عنه ، من حديث بتمامه ، ومن حديث شاركهم فيه أوبعضَهم، وفيه زيادة عنده ؛ فربما فصلتُ الزيادة بأن تكون في أول الحديث وهو طويل، فأذكرها ثم أقول : فذكره ؛ وربما كانت في آخره ، وهو طويل جداً ، فأذكر أول الحديث ، ثم أقول : إلى أن قال كذا وكذا.
وربما ذكرتُ الحديثَ ونبهتُ عليها.
وربما سكتُّ لوضوحها عندي.
كشف الأستار عن زوائد البزار ، للهيثمي أيضاً ؛ وهو مطبوع بتحقيق الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي ، في أربعة أسفار ؛ ولكن تحقيقه وتخريجه لم يكونا من الدرجة الفائقة.
وعدد أحاديث النسخة المطبوعة (3698).
تنبيه : قال عبد السلام محمد علوش في (علم زوائد الحديث - دراسة ومنهج ومصنفات) (ص218) عقب شيء ذكره في وصف (كشف الأستار) :
(لكن بقيت الإشارة إلى أن نسخته التي اعتمدها - أعني الهيثمي - كانت رديئة ، بعض الشيء، كما يظهر من قوله في مواضع :
أ- (رواه الطبراني في الكبير ؛ والبزار لم يحْسن سياقة الحديث ؛ ولعله من سقم النسخة ؛ والله أعلم) [2/151].
ب- (رواه البزار ، وفي الأصل علامة سقوط) [4/210].
ج- (رواه البزار ، وهكذا وجدتُه فيما جمعته) [8/40].
المقصد العلي في زوائد أبي يعلى الموصلي ، عليها أيضاً .
وهو مطبوع ؛ وقد بين الهيثمي منهجه فيه في خطبته فقال :
(---- فذكرت فيه ما تفرد به عن أهل الكتب الستة ، من حديث بتمامه ، ومن حديث شاركهم فيه ، أو بعضهم وفيه زيادة .
وأنبّه على الزيادة بقولي : (أخرجه فلان خلا قوله كذا) أو (لم أره بتمامه عند أحد منهم)، ونحو هذا من الفوائد.
وربما ذكر الإمام أبو يعلى بعضَ [في الأصل : بعد] الحديث أحياناً ، ثم يقول : فذكره ، أو ذكر نحوه ؛ فإذا ذكرتُ ذلك أقول : قال : فذكره.
وما كان من ذلك ليس فيه (قال) فهو من تصرفي.
وما كان من ذلك رواه البخاري تعليقاً ، والنسائي في (الكبير) ذكرتُه ؛ وما كان في (النسائي الصغير) المسمى بالمجتبي ، لم أذكره).(3/227)
البدر المنير في زوائد المعجم الكبير ، للهيثمي أيضاً .
جمع فيه زوائد (معجم الطبراني الكبير) على الكتب الستة ؛ وهذا الكتاب كان في حكم الكتب المفقودة ، ولا أدري مصيره اليوم.
وللهيثمي أيضاً (مجمع البحرين في زوائد المعجمين)(1).
جمع فيه زوائد معجمي الطبراني (الأوسط) و(الصغير).
ثم جمع الهيثمي هذه الزوائد الستة كلها في كتاب واحد محذوف الأسانيد سماه (مجمع الزوائد ومنبع الفوائد) .
وللسيوطي (بغية الرائد في الذيل على مجمع الزوائد) ، ولكنه لم يتم .
بغية الباحث عن زوائد الحارث ، للهيثمي أيضاً.
وقد صنفه - هو وسائر كتبه في الزوائد - بأمرِ شيخه زين الدين العراقي .
زوائد شعب الإيمان للبيهقي ، على الكتب الستة ، للسيوطي .
وذُكر في (كشف الظنون) أنه لم يتمه.
تشنيف الآذان بسماع الزائد على الستة عند ابن حبان ، لعبد السلام محمد علوش ، المكتب الاسلامي ، بيروت ، ط1 ، 1416هـ ، في مجلدين.
زوائد الأجزاء المنثورة على الكتب الستة المشهورة ، لعبد السلام محمد علوش ، المكتب الإسلامي ، ط1 ، 1416هـ .
تضمن (1169) حديثاً.
زوائد تاريخ بغداد على الكتب الستة ، للدكتور خلدون الأحدب ، دار القلم ، دمشق ، 1417هـ .
طبع في عشرة مجلدات ، وفيه (2223) حديثاً.
إرشاد القاري إلى أفراد مسلم عن البخاري ، لعبد الله بن صالح العبيلان ، طبع في دار غراس بالكويت ، سنة 1423هـ.
بلغت زوائد مسلم على البخاري فيه (1156) حديثاً.
تلبية الأماني بأفراد الإمام البخاري ، لعبد الكريم بن أحمد العمري الحَجُوري.
الفاروق الحديثة - مصر ؛ مكتبة صنعاء الأثرية - اليمن ؛ ط1 (1424هـ).
بلغت زوائد البخاري على مسلم بحسب ما ورد في هذا الكتاب (813) حديثاً.
زوائد الأدب المفرد على الصحيحين ، لمحمد بن محمود الإسكندري .
__________
(1) هذا الكتاب حقُّه أن يُذكر في الصنف الثاني ، لأنه في زوائد كتابين وليس في زوائد كتاب واحد ، ولكني احتجت إلى ذكره هنا ، فذكرته من غير ترقيم .(3/228)
طبعته دار ابن حزم ، بيروت ، سنة 1423هـ؛ وبلغ عدد أحاديثه (500) .
الحافظ ابن الجارود وزوائد (منتقاه) على الأصول الستة ، لمقبل بن مريشيد الحربي .
طبعته أضواء السلف ، الرياض ، سنة 1425هـ.
عدد الزوائد فيه (26) حديثاً فقط.
نفح المواسم من زوائد أبي عبد الله الحاكم ، لعبد السلام محمد علوش ، ولا أدري أطبع أم لا .
وأما كتب الصنف الثاني فمن أجمعها وأنفعها هذان الكتابان :
الأول : (إتحاف الخِيَرَة المهَرة بزوائد المسانيد العشرة) ، أي على الكتب الستة ، للحافظ أحمد بن أبي بكر البوصيري (ت 840هـ) .
والمسانيد العشرة هي : مسند الطيالسي ، ومسدّد ، والحميدي ، وإسحاق بن راهويه(1) ، وابن أبي شيبة ، والعدني ، وعبد بن حميد ، والحارث بن أبي أسامة ، وأحمد بن منيع ، ومسند أبي يعلى الكبير . ورتب أحاديثها على ترتيب كتب الأحكام .
وتكلم البوصيري على طائفة كبيرة من أحاديث كتابه هذا(2).
ويوجد للكتاب نسختان :
الأولى : مسندة ، أتمها سنة 823 هـ ؛ وهي مطبوعة .
والثانية : مجرّدة من الأسانيد ، أتمها سنة 832 هـ .
الثاني : (المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية) ، أي على الكتب الستة ومسند أحمد ، للحافظ ابن حجر العسقلاني (ت : 852هـ) .
__________
(1) وقد سقط منه أجزاء.
(2) قال عبد السلام محمد علوش في (علم زوائد الحديث) (ص254) : (وللشيخ البوصيري رحمه الله طريقته في الإيراد والتعاليق والكلام على الحديث بما لا يبعد عن طريقة الشيخ الهيثمي رحمه الله ، من حيث الأصل ، ولكن بزيادة تدقيق ، وبسطِ كلام على صحة الحديث وضعْفه ، بما لا تجده على نحوه عند الشيخ الهيثمي).(3/229)
وابن حجر إنما جمع في كتابه هذا زوائد تسعة مسانيد هي (المسانيد العشرة) التي جمع زوائدها البوصيري في (إتحاف الخيرة المهرة) باستثناء مسند أبي يعلى ، فإن ابن حجر لم يذكر زوائده في (المطالب العالية) ، لأنه اكتفى بورود زوائده في (مجمع الزوائد) لشيخه الهيثمي ، مثلما اكتفى بذلك عن زوائد مسند البزار ومعجم الطبراني الكبير، وهو مسند أيضاً.
ولكن ابن حجر تتبع ما فات الهيثمي من مسند أبي يعلى الكبير فإن فيه أحاديث زائدة على الرواية المختصرة ، فأدخلها في (المطالب العالية)(1) .
وكذلك لم يعد ابن حجر في كتب الزوائد مسندَ إسحاق بن راهويه لأنه لم يذكر في (المطالب العالية) زوائده كاملة ، فإنه لم يقف منه إلا على نحو نصفه، فذكر زوائد ذلك القدر الذي وقف عليه.
والحاصل مما تقدم أن حقيقة مجموع ما تتبعه ابن حجر في تصنيف هذا الكتاب هو عشرة دواوين .
وكان ابن حجر قد وقف على قطع من عدة مسانيد مثل : مسند الحسن بن سفيان ، ومسند الرّوياني وغيرهما ، ولكنه لم يدخل زوائدها في (المطالب العالية) ، لأنه كان ينوي أن يعود بعد أن يفرغ من (المطالب العالية) فيتتبع زوائدها ويضيف إليها الأحاديث المتفرقة من الكتب التي على فوائد الشيوخ ونحوها.
ورتب ابن حجر كتابه على كتب الأحكام قريباً من ترتيب (إتحاف الخيرة) و(مجمع الزوائد)(2) .
__________
(1) ولكن ابن حجر هنا ذكر جملة من الأحاديث التي ظنها على شرطه ، وليست كذلك ، لأنها مروية أيضاً في الرواية الصغيرة.
(2) طبع (المطالب العالية) مؤخراً أكثر من طبعة .
منها طبعة غنيم بن عباس وياسر بن إبراهيم .
ومنها طبعة دار الكتب العلمية ، وبهامشها (إتحاف المهرة) .
ومنها طبعة جامعة الإمام محمد بن سعود ؛ فقد حُقق (المطالب العالية) في عدة رسائل علمية ، في الجامعة ، ثم جمع تلك الرسائل ونسقها الدكتورُ سعد الشثري ، وبدأ بطباعتها في سنة 1419هـ .
هذا ويوجد لهذا الكتاب نسخة مجرّدة من الأسانيد ، كشأن (إتحاف المهرة) ، وقد نشرها الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي في أربعة مجلدات .(3/230)
وتظهر أهمية (المطالب العالية) و(إتحاف الخيرة المهرة) أنهما حفظا علينا زوائد بعض كتب الحديث المسندة التي فقدت ، مثل مسند العدني وأحمد بن منيع والحارث بن أبي أسامة .
وأما كتاب الهيثمي (مجمع الزوائد) فأصوله باقية والحمد لله ؛ ثم هو مع ذلك محذوف الأسانيد ، وبذلك فإنه قد لا يرتقي في أهميته عند الباحثين ، إلى منزلة هذين الكتابين(1) .
وقد استخرج بعض الباحثين زوائد (مصنف عبد الزاق) على الكتب الستة ، فبلغ عدد الزوائد : أربعة عشر ألف حديث ؛ ولكن القدر المرفوع من هذه الزوائد بحسب استقراء باحث آخر يقارب خمسها فقط والباقي آثار غير مرفوعة .
زوائد - أو زيادات - الرواة في الأصول :
قد يُلحق بعض رواة الكتب في الأصل ما ليس منه ، مع تمييزه بذكر الإسناد ؛ وقد حفلت بعض الكتب بزيادات كثيرة ، كزيادات عبدالله في مسند أبيه الإمام أحمد ، وفي كتاب (الزهد ) له ، وكزيادات رواة (الزهد) لابن المبارك فيه ، وكذلك هناك بعض الزيادات في بعض الكتب الستة ، كزيادات أبي الحسن القطان في (سنن ابن ماجه) .
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله في (فتح الباري) (12/151) : (عادة الحفاظ إذا وقع لهم الحديث عالياً عن الطريق التي في الكتاب المروي لهم يوردونها عالية عقب الرواية النازلة ، وكذلك إذا وقع في بعض أسانيد الكتاب المروي خلل ما من انقطاع أو غيره وكان عندهم من وجه آخر سالماً أوردوه ) .
وانظر تعليق محمد عوامة في تخريج الحديث رقم (9) من (مسند عمر بن عبد العزيز) للباغندي .
__________
(1) تنبيه : ذُكر في جملة كتب الزوائد - خطأً - جملةٌ من الكتب التي ألفتْ في أبواب أخرى من فن الحديث ؛ وقد نبه على ذلك عبد السلام محمد علوش في (علم زوائد الحديث) (ص300-302).(3/231)
زوَّرَ أسمعةً :
الأسمعة جمع سماع ، فمعنى هذه العبارة أنه كتب لنفسه سماعات على كتبه أو على بعضها ، أو ألحق في السماعات المكتوبة قبلاً ما لم يكن فيها ، وهو كاذب في دعواه تلك السماعات أو الإلحاقات ؛ وانظر (اتهم بتزوير سماعات) و (التسميع) .
زوَّرَ طبقةً :
أي زوَّر سماعاً ؛ انظر (اتهم بتزوير سماعات) و (زوَّرَ أسمعةً) و(الطبقة) .
زوّرَ لنفسه أسمعة وأصر عليها :
أي لم يرجع عن ذلك التزوير ولم يُقرَّ به بعد أن أقيمت الحجة عليه ؛ وانظر (زوَّرَ أسمعة) .
زيادة :
يتفاوت الرواة - ومنهم مصنفو كتب الرواية المسندة - في ما يشتركون في روايته من الأحاديث ، زيادة ونقصاً ، في المتن والإسناد؛ ومن هنا تكررت كلمة الزيادة على ألسنة المحدثين وفي كتبهم.
فالزيادة في اصطلاحهم هي القدر من الرواية ينفرد به بعض رواة الحديث فيروي ذلك القدر ، دون غيره من رواته، ممن تابعوه في رواية أصل ذلك الحديث فيروونه خالياً من تلك الزيادة.
والزيادة قد تكون في المتن ، وهو الأغلب ، وقد تكون في الإسناد ، كما تقدم، ولكن أهل المصطلح أكثر ما يطلقون لفظ الزيادة على التي في المتن(1).
والزيادة أيضاً تكون من ثقة ، أو من غيره ، فزيادة الثقة هي اللفظة أو القطعة من الحديث يتفرد بها ثقة من الرواة؛ وانظر (زيادة الثقة).
وكذلك الزيادة تكون من راو واحد أو أكثر، فلا يشترط أن تكون غريبة؛ أي أن الزائد قد يكون أكثر من واحد، كما هو شأن المزيد عليه.
__________
(1) وزيادات الرواة على بعضهم هي في الحقيقة أنواع : زيادة الرفع على من وقف الحديث ، وزيادة الوصل على من أرسله ، والمزيد في متصل الأسانيد، وزيادة راو مقروناً ، وزيادة التصريح بالسماع، وزيادة في المتن؛ وكل هذه الزيادات حكمها واحد ، ولهذا فإنه ينبغي أن تدرس في كتب علوم الحديث في موضع واحد أي باب واحد.(3/232)
وأيضاً الراوي صاحب الزيادة قد يكون صاحب كتاب مسند يروي فيه حديثاً فيه زيادة على رواية ذلك الحديث في كتاب آخر؛ وقد لا يكون مصنفاً ، ولكنه أحد رجال الإسناد، كما تقدمت الإشارة إليه في أول الكلام على معنى هذه اللفظة.
والذي ينص على الزيادة هو المصنف الذي يروي الحديث بسنده، كما يفعله البخاري في مواضع كثيرة من (صحيحه)، أو مخرِّج الحديث المتكلم على طرقه وتفاصيلها؛ الأول يذكر زيادات الرواة على بعضهم ، والثاني يذكر زيادات المصنفين على بعضهم، وزيادات سائر الرواة على بعضهم.
ومن عبارات المحدثين ولا سيما المصنفين في تخريج الأحاديث قولهم (زاد فلان في هذا الحديث كذا) أو قولهم (زاد فلان على غيره كذا) ؛ فكثيراً ما تمر بك مثل هاتين العبارتين في كتب الرواية المسندة والتخريج ونحوها؛ فيذكر المحدّث - الذي يروي الحديث بسنده - ، أو المخرّج - الذي يذكر من روى الحديث من المصنفين ويتكلم على أسانيده - متنَ إحدى روايات الحديث ، ثم يشير إلى بعض الزيادات على ذلك المتن المذكور، فيقول في بعض مواضع كلامه : (زاد فلان كذا ----) ، يذكر راوياً معيناً أو مصنِّفاً معيناً ، من بين أولئك الرواة أو المصنفين، ويذكر زيادته؛ مثل أن يقول: (هذا الحديث أخرجه أصحاب السنن الأربعة ، بلفظ كذا وكذا ، زاد ابن ماجه كذا).
ومعنى ذلك أن ابن ماجه زاد ذلك الشيء الذي تفرد به ، على رواية بقية أصحاب السنن وهم الثلاثة(1) .
__________
(1) إن معنى هذه العبارة (زاد فلان ----) معلوم من اللغة ، فليس ثَمَّ كبير حاجة إلى تعريفها هنا ، ولكني إنما عرّفتها احتياطاً وتوسعاً، ورغبة في استيعاب أكثر ما أقدر عليه من مصطلحات المحدثين وتراكيبهم الاصطلاحية ولأبني على هذا التعريف التنبيه التالي.(3/233)
وعادة العلماء أن لا ينصوا عند تخريج الحديث على شيء من زيادات بعض رواياته على البعض الآخر ، إلا ما كان من ذلك هامّاً ، أو يُحتاج إلى التنبيه عليه ، أو كان مقامه مقام تحقيق وتدقيق؛ وذلك يقدَّر بقدره ، فيختلف الأمر بحسب المقام ونوع الدراسة والموضوع والمقصود ونوع الزيادة ؛ فمقام التفصيل غير مقام الإجمال ، والزيادة ذات المعنى الطريف أو الغريب غير الزيادة ذات المعنى المعروف .
زيادة الثقة :
المراد بزيادة الثقة هو ما يزيده راوٍ ثقة ، أو صدوق ، في روايته الحديث على بعض من تابعه متابعة تامة أو قاصرة ، أي روى ذلك الحديث من مسند ذلك الصحابي نفسه ، ولكن من غير طريق ذلك الثقة أو الصدوق ، المذكور ؛ وانظر ما تقدم في (زيادة).
وقد اختلف العلماء في قبول زيادة الثقة ، ولهم في ذلك إجمال وتفصيل ، وانظر القول الصحيح من أقوالهم تحت كلمة (الزيادة من الثقة مقبولة) .
تنبيه : قال ابن الوزير الصنعاني في (الروض الباسم) (1/316) : (الترجيح بزيادة الثقة والحفظ عند التعارض أمرٌ مجمع عليه)، قلت: يريد بزيادة الثقة الأوثقيةَ، أي الزيادة في الضبط والإتقان ، وليس المصطلح المعروف الذي نحن بصدد بيان معناه.(3/234)
الزيادة من الثقة مقبولة :
إذا قال المحققون من النقاد ، وأعني بهم علماء العلل : (الزيادة من الثقة مقبولة) في معرض تخريجهم بعض الروايات ، فليس معنى ذلك أن هذه قاعدة عامة عندهم ، وأن زيادات الثقات مقبولة بإطلاق ؛ وإنما المعنى الحقيقي لتلك العبارة مقيد بذلك الموضع ومحصور به ، لا يتعداه إلى غيره ، فكأن ذلك الناقد قال : (زيادة الثقة أي الذي يوثق بما زاده في ذلك الموضع : مقبولة) ؛ ولقد تكررت هذه العبارة كثيراً في كتب العلل ونحوها ، ولم يكن مرادهم بها الإطلاق الذي مشى عليه الفقهاء وأكثر المتأخرين ، وإنما مرادهم ما ذكرت ، ودليله أن أصحاب كتب العلل المشار إليها هم أنفسهم قد ردوا كثيراً من زيادات الثقات في تلك الكتب نفسها وفي غيرها أيضاً .
فإن قيل : حصرُك لتلك العبارة في الموضع الذي قيلت فيه : فيه تحجُّرٌ لواسع ودعوى غير واضحة البرهان ، أقول : دعونا من الألفاظ والعبارات ولنأت إلى ساحة الحقائق ، فأقول : لا مانع عندي من أن أقول : إن مراد علماء العلل بالعبارة المذكورة هو أن الأصل في زيادات الثقات القبول إلا إذا منع مانع من قبول بعضها ؛ ولكني أنفي أن يكون المانع من القبول محصوراً في القدر الذي اعتبره المتأخرون ، وهو عدم إمكان الجمع ونحو ذلك ؛ فإن موانع تصحيح زيادة الثقة عند علماء العلل كثيرة جداً وفيها كثير من الخفاء والدقة والبعد بحيث لا يقدر على التصريح بانتفاء الموانع من تصحيح زيادة الثقة في حديث بعينه إلا علماء العلل ، ومَن سار على طريقتهم واستضاء بنور علمهم في أصوله وفروعه ، من الطلبة الجادين النابهين الذين تقوم دراساتهم المتبحرة الشاملة وسهرهم الدائم وتفتيشهم الدائب - مع اقتصارهم على قدر غير كبير من الأحاديث أو الأبواب - ، في تلك الأبواب ، مقامَ ما منَّ الله به على جهابذة الفن وكبار علمائه من معرفة ثاقبة وحفظ عجيب وبديهة حاضرة ؛ ومن الله التوفيق .(3/235)
قال الحاكم في (المستدرك) ( 1/ 112 ) عقب حديث أخرجه من طريق علي بن حفص(1) المدائني : (قد ذكر مسلم هذا الحديث في أوساط الحكايات التي ذكرها في خطبة الكتاب ---- ، ولم يخرجه محتجاً به في موضعه من الكتاب ، وعلي بن حفص المدائني ثقة ؛ وقد نبهنا في أول الكتاب على الاحتجاج بزيادات الثقات ).
وهذا التنبيه الذي أومأ إليه ، هو قوله في خطبة «المستدرك» ( 1/3 ) : (وأنا أستعين الله على إخراج أحاديث رواتها ثقات قد احتجَّ بمثلها الشيخان - رضي الله عنهما - أو أحدهما ، وهذا شرط الصحيح عند كافة فقهاء أهل الإسلام أن الزيادة في الأسانيد والمتون من الثقات مقبولة ؛ والله المعين على ما قصدته ، وهو حسبي ونعم الوكيل » .
فتعقبه الشيخ محمد عمرو عبداللطيف في (أحاديث ومرويات في الميزان) (ك2/42-44) بقوله :
(قلت : من المتقرر أنه لا بد لمعرفة أصول وقواعد كل علم شرعي أو دنيوي ، أن يُرجَع إلى أهل الاختصاص فيه ، الذين هم أدرى به من غيرهم بداهة .
والمذهب الذي صححه الحاكم - وإن كان هو المترجح عند غير أهل الحديث - فلا كذلك عند جهابذة النقاد من المحدثين ، فإنهم لا يقبلون الزيادة من الثقة بإطلاق ، بل إذا كانت من أمثال مالك والثوري رحمهما الله ، المبرزين في الحفظ والإتقان .
وهم لا يَجرون على قاعدة ثابتة لا محيد عنها أبداً ، بل ينظرون إلى كل حديث على انفراده ، ويرجحون أحدَ وَجْهَي أو وجوه الاختلاف بعد مراعاة القرائن المحيطة بهذا الحديث .
ونظراً لأن أصحاب الزيادة في الأسانيد والمتون كثيراً ما تكون كفة الواحد منهم مرجوحة ، تارةً في الحفظ والإتقان ، وتارةً في العدد ، بل أحياناً فيهما جميعاً كما في حديثنا هذا ، فإننا نجدهم في الغالب يرجحون الرواية الأنقص إرسالاً أو وقفاً أو قطعاً أو إبهاماً لاسم راوٍ أو غير ذلك ، ولا يفعلون ذلك باطِّراد .
__________
(1) تحرف في (المستدرك) إلى (جعفر) ، وجاء في (التلخيص) على الصواب .(3/236)
ولذلك نجد الدارقطني يقول أحياناً : « فلان ثقة والزيادة من الثقة مقبولة » ، وهو بالضرورة لا يعني آحاد الثقات الذين لا يتميزون بمزيد تثبت وإتقان ، أو بمزيد حفظ ، أو بأصحية كتاب ، أو بطول ملازمة للشيخ ... إلخ ، بل يقصد الحفاظ المبرزين في الحفظ والإتقان .
ولو كان الأمر كما قال الحاكم - عفا الله تعالى عنه - ما استحق علم « علل الحديث » أن يوصف بأنه ( أوعر وأدق علومه على الإطلاق ) بحيث لا يقوم به ولا يُطيقه إلا جهابذةُ النقاد وحُذّاقُهم ؛ ولَمَا كان لتصنيف مثل ابن المديني والنسائي والبرديجي وابن رجب (أصحاب فلان ) - من المشاهير - وذكر طبقاتهم ومعرفة المقدَّم والمؤخَّر ، بل والثقة المضعف في شيخ من الشيوخ ، كبيرُ فائدة ، بل لاستوى المبتدئ في هذا العلم مع الناقد الجهبذ لو علم - فقط - من مثل «تقريب التهذيب» أن فلاناً من الرواة ثقة ، وأن مخالفيه أيضاً ثقات ، بعد اجتماع وجوه الاختلاف عنده بالحاسوب مثلاً !
ولذلك نجد المذهب الذي انتصر له الحاكم ، وسيأتي مثله عن الإمام النووي - رحمهم الله جميعاً - لم يأخذ به إلا المتسمحون أمثال : ابن حبان ، والضياء المقدسي ، بحيث صححوا عشرات الأحاديث المعلولة إسناداً أو متناً .
فحديثنا هذا ، لم يُخرج ابن حبان لعلي بن حفص المدائني سواه - والعهدة على صانع فهارس «الإحسان» - ، على الرّغم من أنه قال في ترجمته من «الثقات» : « ربما أخطأ » ، وذلك لأن زيادة الوصل - عنده - زيادة ثقة ، وهي مقبولة ، بينما عند أهل التحقيق كالدارقطني ومن وافقه زيادة مرجوحة ، وخطأ ، ووهم ، وسلوك للجادة ! ).
زيوف :
من كلمات النقاد قولهم (أحاديث فلان زيوف) ، وهي عبارة عن تشبيه أحاديثه بالنقود الرديئة المغشوشة ؛ جاء في (المعجم الوسيط) (1/414) : (زافت النقود ـِـ زيفاً وزُيوفاً وزيوفة : ظهر فيها غِشٌّ ورداءة .
و[زافَ] في مِشيته زيفاناً : أسرع وتمايل .
و[زافَ] : اختال وتبختر ---- .
و[زافَ] النقودَ وغيْرَها : جعلها زُيوفاً ، فهو زائف وهي زائفة .
ويقال: قطعة من النقود زائفة وحجة زائفة : فيها زيف .
زيَّفَ النقودَ وغيْرَها : عملها مغشوشة .
و[زيَّفَها] : أظهر زيفها وغِشها .
ويقال : زيَّفها عليه ، وزيَّف قولَه أو رأيَه : فنَّده وأظهر باطلَه .
و [زيَّفَه] : صغَّره وحقَّره .
الزيف : مصدر ، ويوصف به ، فيقال: درهم زيف) .
وجمع الزيف زُيوفٌ وأزْياف وزِياف .(3/237)
فصل السين
ساقط :
يوصف بهذه اللفظة ما كان ساقطاً عن رتبتي الاحتجاج والاستشهاد من الأحاديث أو الرواة ، فهي بمعنى كلمة (متروك) .
وأما إذا قيدوها فقالوا : (ساقط عن رتبة الاحتجاج به) أو (سقط الاحتجاج به) فإنه لا يلزم من هذه العبارة المقيدة السقوط عن رتبة الاستشهاد ولا عدمه ، وإن كانت دلالتها على الترك والسقوط التام أقرب .
ساقط الحديث :
انظر (ساقط) و (متروك الحديث).
ساقط عدَم(1) :
هذه من الألفاظ الدالة على كون الراوي متروكاً ، فهي بمعنى (ساقط الحديث) وفيها زيادة توكيد لسقوطه وتركه ، فكما أن العدم لا يُنتفع به فكذلك المتروك ، ولذلك شبهوا المتروك بالمعدوم فوصفوه بصفة العدم .
أو تكون العبارة بمعنى أن الراوي قد عدم أهلية القبول ، فقد جاء في (المعجم الوسيط) (2/594) : (عدم المال يعدَم عَدَماً وعُدْماً : فقده فهو عادِمٌ وعَدِمٌ ، والمفعول : معدوم وعَديم) .
سألته عن فلان فسكت :
قال العقيلي : (حدثنا عبد الله بن أحمد قال : سألت أبي عن ثابت بن عجلان ، قلت : هو ثقة ؟ فسكت ، كأنه مرَّض في أمره) .
ويظهر أن معنى (مرَّض في أمره) هو التليين ، أو نحوه من التضعيف غير الشديد .
__________
(1) قالها الذهبي في (خراش بن عبدالله ) في ترجمته من (الميزان).(3/238)
السباعيات :
يراد بهذه اللفظة عند أهل الحديث الأحاديث المسندة التي يكون بين مخرّجها والنبي صلى الله عليه وسلم سبعة رواة ؛ قال الكتاني في (الرسالة المستطرفة) (ص100) : (والسباعيات لأبي موسى المديني ، ولأبي جعفر الصيدلاني ، ولأبي القاسم ابن عساكر ، ولولده القاسم ، ولأبي الفرج النجيب عبد اللطيف بن عبد المنعم بن الصيقل الحراني الحنبلي مسند الديار المصرية المتوفى سنة اثنين وسبعين وستمئة ، من تخريج السيد الشريف الحافظ عز الدين أحمد بن محمد الحسيني) .
السبعة :
الْمُرَادُ بِالسَّبْعَةِ في اصطلاح بعض العلماء : أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ ؛ انظر (الخمسة) .
الستة :
انظر (الخمسة) .
سِداد من عيش :
قال الجوهري في (الصحاح) : (وأما قولهم: فيه سِدَادٌ من عَوَزٍ، وأصَبْتُ به سِدَاداً من عيشٍ، أي ما تُسَدُّ به الخَلَّةُ، فيُكْسَرُ ويُفْتَحُ، والكسر أفصحُ).
قلت: فيظهر أن مرادَ مَن وصفَ راوياً بهذه العبارة أنه يُكتب حديثه للاعتبار .
السداسيات :
السداسيات : هي الأحاديث المسندة التي يكون بين راويها من المصنفين والنبي صلى الله عليه وسلم ستة رواة .
ذكر بعض كتب السداسيات صاحب (الرسالة المستطرفة) فقال (ص99-100) : (و "السداسيات" لمسند الديار المصرية وأحد عدول الإسكندرية أبي عبدالله محمد بن أحمد بن إبراهيم الرازي ، يعرف بابن الخطاب ، المتوفى سنة خمس وعشرين وخمسمئة ، من تخريج أبي طاهر السلفي ، و "السداسيات والخمسيات" من مرويات أبي القاسم زاهر بن طاهر بن محمد النيسابوري الشحامي مسند نيسابور ومحدثها المتوفى سنة ثلاث وثلاثين وخمسمئة .
وعندهم أيضاً "سداسيات التابعين" ، لأبي موسى محمد بن عمر بن أحمد بن عمر المديني الأصبهاني الحافظ صاحب المصنفات المتوفى بأصبهان سنة إحدى وثمانين وخمسمئة) .(3/239)
سرقة الحديث :
هي أن يختلق راو متابعةً من عنده ، تامة أو قاصرة ، لبعض ما سمعه أو وقف عليه أو بلغه من الروايات ، سواء أصح ذلك المروي أم لم يصح .
وأكثر ما تقع السرقة في الأحاديث الغرائب والعوالي .
هذا ويظهر أنهم أكثر ما كانوا يطلقون هذه الكلمة على ما إذا كان محدث ينفرد بحديث فيجيء راو آخر - وهو السارق - فيدعي أنه سمعه أيضاً من شيخ ذلك المحدث .
وأما وضع إسناد كامل لبعض المرويات ، أي اختلاق شواهد لها ، فيسمَّى وضع الاسناد، ويسمى تركيب الاسناد ؛ ويسمى أيضاً سرقة المتون ؛ ويطلق عليه أحياناً اسم السرقة بلا تقييد.
فائدة : لعل الفرق بين قولهم (هو يسوي الأسانيد) ، وقولهم (هو يسرقها) : أن السرقة تصرُّف في السند من ابتدائه ، وأما التسوية فتصرف في السند من أثنائه .
تنبيه : السارق يوصف بأنه كذاب ، ولكن لا يطلق عليه اسم الوضع ؛ وإنما يوصف به مقيَّداً فيقال : (يضع المتابعات) أو (يضع الطرق) أو (يضع الأسانيد) ؛ لأن إطلاق الوضع إنما ينصرف إلى وضع المتون وتركيب الأسانيد لها ، قال الذهبي في (السير) (11/405) في ترجمة محمد بن حميد الرازي : (قال أبو أحمد العسال : سمعت فضلك يقول : دخلت على ابن حميد وهو يركّب الأسانيد على المتون ، قلت : آفته هذا الفعل وإلا فما أعتقد فيه أنه يضع متناً ، وهذا معنى قولهم : فلان يسرق الحديث) ؛ وانظر (تدليس التسوية) و(تركيب الأسانيد) و(الاتهام بالكذب) .
السطر :
قال الصولي في (أدب الكتاب) (ص118-119) : (أصل السطر في اللغة الأثر المستطيل على استواء ، وجمعه أسطار وأسطر وسطار وسطور ؛ وكل مقدم على استواء غير خارج شيء منه عن نظيره يمنة ويسرة فهو مسطَّر من "سطَّر يسطِّر تسطيراً ---- .
والكاتب مسطِّر وساطر .(3/240)
ويقال للذي يصلح بها(1) الوراق(2) سطوره في دفاتره حتى لا تعوج سطوره : "مسطرة" .
وقد سطر ، إذا كتب خاصة ، إذا لم يذكر شيئاً علم أنه للكتابة ، لكثرة الاستعمال(3) .
وقد يقال: سطر نخله إذا غرسه على استواء) .
السِّفر :
أي الكتاب ، انظر (مجلَّد) .
السَّفَط :
هذه الكلمة ليست من مصطلحات المحدثين ، ولكنها كلمة غريبة وقد وردت في سياق قد يوهم أنها اسمٌ لنوع من الكتب أو الكراريس ونحوها ، وليست كذلك ، فأحببتُ تبيينَ معناها .
قال في (القاموس المحيط) : (السَّفَطُ، محركةً : كالجُوالِقِ، أو كالقُفَّةِ) .
وقالوا في (المعجم الوسيط) (1/435-436) : (السَّفَطُ : وعاء يوضع فيه الطِّيبُ وما أشبهه من أدوات النساء .
و[السَّفَطُ أيضاً] : وعاء من قضبان الشجر ونحوها توضع فيه الأشياء كالفاكهة والثياب . "مولدة" ) .
إذن السفَط وعاء قد توضع فيه أحياناً الكراريس والدفاتر نحوها من المكتوبات .
فمثلاً قال الخطيب في (تاريخ بغداد) (6/168) (3219) في ترجمة (إبراهيم بن محمد بن يحيى بن سختويه بن عبد الله أبو إسحاق المزكى النيسابوري) : (وكان عند البرقاني عنه سفط أو سفطان ، ولم يخرج عنه في "صحيحه" شيئاً ، فسألته عن ذلك فقال : حديثه كثير الغرائب وفي نفسي منه شيء ، فلذلك لم أرو عنه في "الصحيح" )(4) .
وفي (لسان الميزان) (5/257) في ترجمة (محمد بن عبد الرحيم بن سليمان الغرناطي) : وكان شيخاً فاضلاً صنَّف كتاباً في العجائب التي شاهدها ببلاد العرب ؛ ومن شعره :
يكتب العلم ويُلقي في سفط***ثم لا يحفظ لا يُفلح قط
إنما يفلح من يحفظه******بعد فهم وتَوَقٍّ من غلط
انتهى .
وروى الخطيب في (الجامع) (2/374) (1822) عن يموت بن المزرَّع العبدي أنه قال :
__________
(1) كذا وردت هذه العبارة ، ويحتمل أن تكون (للذي) مصحفة عن (للتي) ، فتلك الجادة .
(2) تصحفت في المطبوعة إلى (الورق) .
(3) يعني أن كلمة (سطر) يراد بها عند الإطلاق الكتابة .
(4) وانظر (الانتخاب) .(3/241)
ليس العلم ما حواه القِمَطْرُ***إنما العلم ما حواه الصدر
وقال (2/375) (1761) : أنشدني أبو القاسم الأزهري قال : أنشدنا محمد بن جعفر بن النجار الكوفي قال : أنشدني بعض البصريين :
رب إنسان ملأ أسفاطه** ** كتب العلم وهو بعد يَخُطّ
فإذا فتشتَه عن علمه***قال علمي يا خليلي في السفط
بكراريس جياد أُحرِزت**** **وبخطٍّ أيَّ خطٍّ أيَّ خطّ
فإذا قلتَ له هات إذاً *****حكَّ لَحْيَيه جميعاً وامتخط
السقْط :
االسقط هو ما يُسقطه ناسخُ الكتاب أو كتابه ، ثم يحتاج إلى استدراكه ، ولهم في هذا الاستدراك طرق معروفة تُذكر في كتب علوم الحديث في باب (تخريج الساقط) ، وهو إلحاقه في حواشي الكتاب وهوامشه وبين سطوره ؛ فانظر (تخريج الساقط)(1) .
سكت عنه - أو عليه - البخاري وابن أبي حاتم :
أي ذكراه في كتابيهما - الأول في (التاريخ) ، والثاني في (الجرح والتعديل) - ولم يذكرا فيه جرحاً ولا تعديلاً .
تنبيه : عد بعض العلماء المتأخرين سكوت البخاري وابن أبي حاتم على الراوي في كتابيهما توثيقاً له ؛ وهذا غير صحيح.
وإنما الصحيح أنه عند البخاري أمْره على الاحتمال.
قال الشيخ خالد الدريس حفظه الله في (الحديث الحسن لذاته ولغيره / دراسة استقرائية نقدية) :
(إذا ترجم البخاري في " تاريخه الكبير " لراوٍ ولم يذكر فيه جرحًا ، فإنه يكون عنده ممن يحتمل حديثُهُ ، قال الحافظ الحجة أبو الحجاج المزي في آخر ترجمة عبد الكريم بن أبي المخارق : « قال الحافظ أبو محمد عبد الله بن أحمد بن سعيد بن يربوع الإشبيلي : بيّن مسلم جَرْحَهُ في صدْرِ كتابه ؛ وأما البخاري فلم يُنبّه من أمره على شيء ، فدل أنه عنده على الاحتمال ، لأنه قد قال في "التاريخ " : كل من لم أبين فيه جُرْحَةً فهو على الاحتمال ، وإذا قلت : فيه نظر ، فلا يحتمل»)(2) .
__________
(1) وراجع (توثيق النصوص وضبطها) (ص136-142) .
(2) تهذيب الكمال (18/265).(3/242)
وانظر لتعرف معنى كون الراوي على الاحتمال عند البخاري (مُحتَمَل)، وانظر أيضاً (فيه نظر) .
وأما ابن أبي حاتم فيظهر أن سكوته له معنى آخر ؛ فإنه قال في (تقدمة الجرح والتعديل) (1/1/38) : (--- على أنا قد ذكرنا أسامي كثيرة مهملة من الجرح والتعديل ، كتبناها ليشتمل الكتاب على كل من رُوي عنه العلم رجاء وجود الجرح والتعديل فيهم فنحن ملحقوها بهم إن شاء الله تعالى )(1) .
__________
(1) قال محمد عوامة في تعليقه على (مسند عمر بن عبد العزيز) للباغندي (ص65) : { نص ابن أبي حاتم نفسه (1/1/38) على أن من لم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً فهو مجهول عنده - جهالة وصف - ، وبهذا صرح الحافظ في (التهذيب) (1/391) وابن كثير في (التفسير) (1/138) والذهبي في (الميزان) (3/483) ؛ انتهى؛ وهو مخالف لظاهر عبارة ابن أبي حاتم هذه التي نقلتُها.
ولم ينص البخاري على شيء ، والذي خبرته من صنيعه انه يسكت عن الثقة والضعيف والمختلف فيه }. انتهى ، وفي قوله (نص ابن أبي حاتم نفسه (1/1/38) على أن من لم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً فهو مجهول عنده - جهالة وصف) نظرٌ ؛ فكل الذي نص عليه ابن أبي حاتم هو ما تقدم نقله عنه في المتن.(3/243)
قلت : ولا يلزم من هذا الكلام أن كل من سكت عن نقده في كتابه فإنه لم يسمع فيه نقداً ألبتة كما هو ظاهر عبارته ؛ بل الصحيح أنه أراد بلفظة الجرح والتعديل في هذه العبارة المعتبر عنده من النقد دون غيره ؛ ذاك أنه قال (2/38) : ( وقصدنا بحكايتنا الجرح والتعديل إلى العارفين به العالمين له متأخراً بعد متقدم ، إلى أن انتهت بنا الحكاية إلى أبي وأبي زرعة رحمهما الله(1) ، ولم نحكِ عن قوم قد تكلموا في ذلك لقلة معرفتهم به )(2) .
__________
(1) أي يقدم من أقوال النقاد أقدمها ، فيرتبها بحسب قِدمها أي قِدم قائليها .
(2) وقال ابنُ القطان الفاسيُّ في (بيان الوهم والإيهام) (5/150-151) في بيان أحكام من سكت عليهم ابن أبي حاتم في كتابه (الجرح والتعديل) : (وقد بيّنا قبلُ ونبين الآن أن أبا محمد بن أبي حاتم إنما أهمل هؤلاء من الجرح والتعديل ، لأنه لم يَعْرفه فيهم ، فهم عنده مجهولو الأحوال ، بيّن ذلك عن نفسه في أول كتابه ؛ وهم على قسمين :
قسم لم يرو عن أحدهم إلا واحد ، فهذا لا تقبل روايته [قلت : يعني بلا خلاف] .
وقسم روى عنهم أكثر من واحد ، فهؤلاء هم المساتير الذين اختلف في قبول رواياتهم ؛ فطائفة من المحدثين تقبل رواية أحدهم اعتماداً على ما يثبت من إسلامه برواية عدلين عنه شريعة من الشرائع ، وما عهدناهم يروون الدين والشرع إلا عن مسلم ، وهم لا يبتغون في الشاهد والراوي مزيداً على إسلامه ، بل يقبلون منهما ما لم تتبين جرحة فيعمل بحسَبها .
وطائفة ردت هذا النوع ، وهم الذين يلتمسون في الشاهد والراوي مزيداً على إسلامه وهو العدالة ) .
وقال (4/67) : (وقد أخبر ابن أبي حاتم بأن من يذكره من الرجال خليّاً من التعديل والتجريح فلأنه لم يعرف له حالاً) .(3/244)
قلت : لا يبعد أن يقال استناداً إلى هذا الشرط : إن سكوت ابن أبي حاتم على من سكت عليهم من الرواة الذين يذكرهم في كتابه الأصل فيه أنه مضعف بعض الشيء تقوية من قواه من بعده وقادحٌ فيها أو واردٌ عليها ، إلا إذا كان ذلك المقوي من كبار أئمة الجرح والتعديل وعلماء العلل ؛ وهذا مبني على إمامة ابن أبي حاتم في هذا الفن وعلو كعبه فيه وسعة اطلاعه على تفاصيله ، وحرصه على استيعاب أقوال المعتمدين من العلماء؛ فإذا لم يذكر في الراوي شيئاً فكأنه لم يثبت عنده فيه كلام معتمد، وهذا يقتضي التثبت في قبول ما يقوله في مثل ذلك الراوي مَن جاء من النقاد من بعد ابن أبي حاتم؛ والله أعلم .
سكتوا عنه :
تأتي بمعنى أنهم لم يذكروا فيه جرحاً ولا تعديلاً، أي لم يبينوا حاله؛ ولكن البخاري يقول هذه اللفظة ويريد بها أنهم تركوه.
قال الذهبي في (الموقظة) (ص83) : (وأما قول البخاري (سكتوا عنه) فظاهرها أنهم ما تعرضوا له بجرح ولا تعديل ، وعلمنا مقصده بها بالاستقراء أنها بمعنى تركوه) . انتهى.
وسبقه إلى بيان معناها في استعمال البخاريِّ الدولابيُّ تلميذ النسائيّ ، ففسَّر - كما في (تهذيب التهذيب) (1/180) - قولَ البخاري في الراوي (سكتوا عنه) بأنهم تركوه .
وقال عبد الله بن يوسف الجديع في (التحرير) (1/631) : (هي عبارة محالة ، خبرٌ من قائلها عن غيره ، لا ينشئ بها شيئاً من جهته .
فهي بمنزلة قول الناقد وقد اطلع على كلام غيره من أهل الحديث : (تكلموا فيه) ، أو (طعنوا عليه) .
ودلَّ الاستقراء لحال من قيلت فيه أنها مساوية لإخبار الناقد عن غيره بقوله : (تركوه) .(3/245)
لذا فهي من عبارات الجرح المجملة ، ولولا دلالة الاستقراء لكانت في جملة ما لا يصح الاعتماد عليه في جرح الرواة حتى يوقف على تفسيره(1) .
وقد عُرف استعمالها عن البخاري ، وندرت جداً عن غيره ، كأبي حاتم الرازي وأبي زرعة ومسلم بن الحجاج) .
السِّكّين :
السكين آلة معروفة ، وهي أيضاً من آلات الكتابة القديمة ، فكانوا يستعملونها في برْي الأقلام ؛ قال في (صبح الأعشى) (2/150) في أوساط كلامه على بعض المسائل : (ومنها السكين ، وسيأتي ذكرها في آلات الدواة في الكلام على آلات الكتابة ؛ وإنما سميت سكيناً لأنها تسكِّن حركةَ الحيوان ، وتسمى المدية(2) أيضاً لأنها تقطع مدى الأجل ؛ وهذه الاشتقاقات أولى بآلة الحرب من آلة الكتابة ؛ وحاصل الأمر أن السكين تختلف أحوالها بحسب الحاجة إليها فتكون لكل شيء بحسب ما يناسبه) .
وانظر ما قاله في حق هذه الآلة الكتابية كلٌّ من أبي بكر الصولي في (أدب الكتاب) (ص115-117) والقلقشندي في (صبح الأعشى (2/495-497) .
سلسلة الذهب :
يطلق هذا الاسم على ما ورد من الأحاديث من رواية أحمد عن الشافعي عن مالك(3) ؛ وسمي هذا الاسناد (سلسلة الذهب) لتسلسله بهؤلاء الأئمة .
وقد أفرد الحازمي رحمه الله كتاباً لهذه السلسلة أسماه (سلسلة الذهب) ؛ ولابن حجر بهذا الاسم كتابٌ أفرده لما كان من رواية مالك عن نافع عن ابن عمر.
السلف :
__________
(1) كيف يقال هذا إذا كان القائل : "سكتوا عنه" هو أحد جهابذة الجرح والتعديل ، وهو يعني ما يقول ، وهو يحسن غاية الإحسان الكلام في الرواة واختيار عبارات كلامه ، ويَعرف بإتقانٍ مَن يُعتمد من النقاد في تركه للرواة وفي روايته عنهم، ويعرف بالاستقراء وغيره لِم ترك ذلك الناقد زيداً، ولِم روى عن عمرو ؟ !
(2) قال القلقشندي في (صبح الأعشى) (2/495) : (قال الجاحظ : تقال بضم الميم وفتحها وكسرها) .
(3) فما أصح الأحاديث المروية بهذه النسخة!.(3/246)
كلمة السلف تطلق ابتداءً وأصالةً ، على القرون الفاضلة ، وهم الصحابة والتابعون وأتباعهم ، ويدخل أحياناً تحت هذه اللفظة بعضُ مَن بَعْدَ هؤلاء ممن كان قريباً من عصورهم ، كالشافعي وأحمد والبخاري ، إما على سبيل التغليب ومراعاة مقتضى التبعية ، أو على سبيل الاستقال ومراعاة مقتضى تقدم عصرهم .
وعلى كل حال فلا يحسن أن تُطلق هذه اللفظة على من جاء بعد انصرام القرن الرابع الهجري ، ولا سيما إذا كان ممن يخالف السلف في عقيدتهم وهديهم ، والله أعلم .
سَلَكَ الجادَّةَ :
الجادة في اللغة هي معظم الطريق(1) ؛ فمعنى (سلك الجادة) و (لزم الجادة) هو أنه سار على ما هو أغلب وأشهر.
فهذه الكلمة (سلك الجادة) تقال لمن ذهب في روايته أو حكمه إلى ما غلب في ذلك الباب من الروايات أو الأحكام .
وبمعناها قولهم (أخذ المجرة) و (اتبع المجرة) و (لزم الطريق) و (سلك الطريق) ونحو ذلك.
وسلوك الجادة يكون في أحيانٍ كثيرةٍ نوعاً من أنواع وقوع الرواة أو النقاد في الوهم(2) .
ولذلك كان المعروف عند المحققين من العلماء أنه إذا وقع الاختلاف على وجهين فأقربهما أن يكون خطأ هو الجاري على الجادة ، أي الجاري على الغالب .
وقد نبه العلماء على هذه المسألة، وعملوا بمقتضاها؛ فإليك طائفة من نصوصهم ومسالكهم في ذلك.
__________
(1) قال الجوهري في (الصحاح) : (والجادَّةُ: مُعظَمُ الطريق؛ وبُنَيَّاتُ الطريق هي الطُرُقُ الصِغار تتشعّب من الجادَّةِ، وهي التُرَّهاتُ).
(2) وبعبارة أخرى : إن بعض الرواة يكون معروفاً بالرواية عن شيخ معين ، أو معروفاً بالرواية بإسناد معين كروايته عن أبيه عن جده ، فتكون أغلب أحاديثه بهذا الإسناد الذي اشتهر به، ولكنه قد يحدث بحديث بغير الإسناد ، فيأتي بعض مَن يأتي بعده من الرواة من تلامذته أو ممن دونهم ، فيهِم ويقلب هذا الحديث ، فيرويه بذلك الإسناد الشهير؛ فيقال له : لزم الجادة فوهم، أو سلك الجادة فوهم.(3/247)
1- قال الإمام أحمد - كما في (مسائل ابن هانئ) (2/197) - : (كان حماد ثبتاً في حديث ثابت البناني ، وكان بعده سليمان بن المغيرة ، وكان ثابت يحيلون عليه في حديث أنس ، وكانوا يحيلون : ثابت عن أنس ؛ وكل شيء لثابت روي عنه ، كانوا يقولون : ثابت عن أنس) .
2- قال ابن أبي حاتم في (العلل) (1/303-304 ) (213) - طبعة الدباسي : (وسألت أبي عن حديث رواه ابن المبارك عن ابن جابر عن بسر بن عبيد الله عن أبي ادريس عن واثلة عن أبي مرثد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (لا تصلوا إلى القبور ، ولا تجلسوا عليها )؛ قال أبي : يرَون أن ابن المبارك وهم في هذا الحديث ، أدخل أبا إدريس الخولاني بين بسر بن عبيدالله وبين واثلة .
ورواه عيسى بن يونس وصدقة بن خالد والوليد بن مسلم عن ابن جابر عن بسر بن عبيد الله قال: سمعت واثلة يحدث عن أبي مرثد الغنوي عن النبي صلى الله عليه وسلم .
قال أبي : بُسر قد سمع من واثلة ، وكثيراً ما يحدث بُسرٌ عن أبي إدريس فغلط ابن المبارك فظنَّ أن هذا مما روى عن أبي إدريس عن واثلة ؛ وقد سمع هذا الحديث بسر من واثلة نفسه لأنَّ أهل الشام أعرف بحديثهم)(1) .
3- قال ابن عدي في (الكامل) (4/308) : (حدثنا ابن أبي عصمة حدثنا أبو طالب سألت أحمد بن حنبل عن عبد الرحمن بن أبي الموال ، قال : (عبد الرحمن لا بأس به ، قال : كان محبوساً في المطبق حين هزم هؤلاء ؛ يروي حديثاً لابن المنكدر عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم في الاستخارة ليس يرويه أحد غيره ، هو منكر . قلت : هو منكر ؟! قال : نعم ، ليس يرويه غيره ، لا بأس به ، وأهل المدينة إذا كان حديث غلط يقولون : ابن المنكدر عن جابر ، وأهل البصرة يقولون : ثابت عن أنس ، يحيلون عليهما).
__________
(1) وانظر العلل (1029) و (1092).(3/248)
4- قال أبوداود في (مسائله الفقهية لأحمد) (1913) : (سمعت أحمد سئل عن الأوزاعي عن حسان بن عطية عن محمد بن المنكدر عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً ثائر الشعر فقال : أما وجد هذا ما يسكن به شعره ؟ ورأى رجلاً وسخ الثياب ----؟
فقال [أي أحمد] : ما أنكره من حديث ، ليس إنسان يرويه - يعني عن ابن المنكدر - غير حسان ؛ قال أحمد : كان ابن المنكدر رجلاً صالحاً ، وكان يُعرف بجابر(1) ، مثل ثابت عن أنس ، وكان يحدث عن يزيد الرقاشي ، فربما حدث بالشيء مرسلاً فجعلوه عن جابر).
5- قال ابن رجب في (فتح الباري) (5/35) : (---- فإن عروة عن عائشة سلسلة معروفة يسبق إليها لسان من لا يضبط ووهمُهُ، بخلاف عروة عن ابن عمر فإنه غريب لا يقوله إلا حافظ متقن) .
6- قال ابن رجب أيضاً في (شرح علل الترمذي) (2/841) : (فإن كان المنفرد عن الحفاظ مع سوء حفظه قد سلك الطريق المشهور ، والحفاظ يخالفونه ، فإنه لا يكاد يُرتاب في وهمه وخطئه ، لأن الطريق المشهور تسبق إليه الألسنة والأوهام كثيراً ، فيسلكه من لا يحفظ).
ثم ذكر ابن رجب بعض الأمثلة مما علل به النقاد به بهذه القرينة .
7- قال السخاوي في (فتح المغيث) (1/327-328) ناقلاً من كتاب شيخه ابن حجر (جلاء القلوب في معرفة المقلوب) ، مع زيادة السخاوي فيه وحذفه منه :
(وقد كان بعض القدماء يبالغ في عيب من وقع له ذلك [يعني القلب في الحديث] ، فروينا في "مسند الإمام أحمد" عن يحيى بن سعيد القطان أنه قال : حدث سفيان الثوري عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لا تصحب الملائكة رفقة فيها جرس ، فقلت له : تعستَ يا أبا عبد الله ، أي عثرت ، فقال : كيف هو ؟ قلت : حدثني عبيد الله بن عمر عن نافع عن سالم عن أبي الجراح عن أم حبيبة عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فقال : صدقتَ .
__________
(1) يعني روايته عنه مشهورة، وأكثر رواياته عنه، فكأنه مختص به.(3/249)
وقد اشتمل هذا الخبر على عِظم دين الثوري وتواضعه وإنصافه ، وعلى قوة حافظة تلميذه القطان وجرأته على شيخه حتى خاطبه بذلك ونبهه على عثوره ، حيث سلك الجادة ، لأن جُل رواية نافع هي عن ابن عمر ، فكان قولُ الذي يسلك غيرها إذا كان ضابطاً أرجح)(1).
8- قال ابن حجر في (فتح الباري) (3/269) في شرح بعض الأحاديث: (قوله [يعني قول عبد الله بن دينار]: (عن أبي صالح) ، كذا رواه عبد الرحمن [يعني ابن عبد الله بن دينار عن أبيه].
وتابعه زيد بن أسلم عن أبي صالح عند مسلم وساقه مطولاً .
وكذا رواه مالك عن عبد الله بن دينار .
ورواه ابن حبان من طريق ابن عجلان عن القعقاع بن حكيم عن أبي صالح لكنه وقفه على أبي هريرة .
وخالفهم عبد العزيز بن أبي سلمة فرواه عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر؛ أخرجه النسائي ورجحه ، لكن قال ابن عبد البر: رواية عبد العزيز خطأ بيِّن ، لأنه لو كان عند عبد الله بن دينار عن ابن عمر ما رواه عن أبي صالح أصلاً؛ انتهى .
وفي هذا التعليل نظر ، وما المانع أن يكون له فيه شيخان؟!(2) نعم الذي يجري على طريقة أهل الحديث أن رواية عبد العزيز شاذة ، لأنه سلك الجادة ، ومن عدل عنها دل على مزيد حفظه).
__________
(1) انظر تتمة كلامه في (يحتمل أن يكون الحدث عنده على الوجهين) .
(2) بل في هذا التعقب من ابن حجر نظر؛ ولقد صدق ابن عبد البر رحمه الله ؛ فعبد الله بن دينار لا يعدل بابن عمر رضي الله عنه أبا صالح وأمثاله ، ولا يدع رواية ابن عمر إلى غيرها من رواية أمثال أبي صالح ؛ والسلف ما كانوا يحرصون ذلك الحرص على أن يكون لهم في الحديث الواحد أكثر من شيخ بعدما يسمعونه عالياً من حافظ متقن ؛ فكيف إذا ظفروا بالحديث عند صحابي جليل؟!
فترك أحد أئمة الحديث من التابعين وأتباعهم الرواية التي هي بحسب الظاهر أصح وأعلى إلى غيرها مما هو دونها في الصحة وأنزل منها في المسافة : دليلٌ على تعليل تلك الرواية المعدول عنها.(3/250)
9- قال ابن حجر في (الفتح) (9/384) عقب ذكره شيئاً من الاختلاف في رواية بعض الأحاديث: (وقد اختلف عليه (أي على عمرو بن شعيب) فيه اختلافا آخر :
فأخرج سعيد بن منصور من وجه آخر عن عمرو بن شعيب أنه سئل عن ذلك فقال : كان أبي عرض علي امرأة يزوجنيها فأبيت أن أتزوجها وقلت : هي طالق البتة يوم أتزوجها ثم ندمت فقدمت المدينة فسألت سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير فقالا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا طلاق إلا بعد نكاح .
وهذا يشعر بأن من قال فيه : (عن أبيه عن جده) سلك الجادة ، وإلا فلو كان عنده عن أبيه عن جده لما أحتاج أن يرحل فيه إلى المدينة ويكتفي فيه بحديث مرسل ! وقد تقدم أن الترمذي حكى عن البخاري أن حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أصح شيء في الباب وكذلك نقل ما هنا عن الإمام أحمد فالله أعلم).
10- قال السيوطي في (تدريب) الراوي (1/258-261) : (وقد قسم الحاكم في علوم الحديث أجناسَ المعلل إلى عشرة ، ونحن نلخصها هنا بأمثلتها.
أحدها : ----.
التاسع : أن تكون طريقه معروفة ، يروي أحد رجالها حديثاً من غير تلك الطريق فيقع من رواه من تلك الطريق بناء على الجادة في الوهم ؛ كحديث المنذر بن عبد الله الحزامي عن عبد العزيز بن الماجشون عن عبد الله دينار عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا افتتح الصلاة قال : سبحانك اللهم ، الحديث .
قال [أي الحاكم] : أخذ فيه المنذر طريق الجادة ، وإنما هو من حديث عبد العزيز ثنا عبد الله بن الفضل عن الأعرج عن عبيد الله بن أبي رافع عن علي----) ؛ انتهى .(3/251)
11- قال المعلمي اليماني في تعليقه على (موضح أوهام الجمع والتفريق) (1/27) : (والمعروف عندهم أنه إذا وقع الاختلاف على وجهين فأقربهما ان يكون خطأ هو الجاري على الجادة ، أي الجاري على الغالب ، وعامة رواية أبي صالح عن أبي هريرة ، فمن أخطأ عليه أو كذب فإنه يسلك هذه الجادة فيقول : (أبو صالح عن أبي هريرة) ، فمن هنا رجح البخاري الوجه الآخر لا تخطئة للأعمش ، بل لشيخه الذي لا يُدرى من هو ، والأعمش معروف بأنه يسمع ويروي عن كل أحد ----).
12- قال المعلمي في (التنكيل) (2/67) عقب شيء ذكره : (وهكذا الخطأ في الأسانيد ، أغلب ما يقع بسلوك الجادة ، فهشام بن عروة غالب روايته عن أبيه عن عائشة ، وقد يروي عن وهب بن كيسان عن عبيد بن عمير ، فقد يسمع رجل من هشام خبراً بالسند الثاني ثم يمضي زمان على السامع فيشتبه عليه فيتوهم أنه سمع ذاك الخبر من هشام بالسند الأول على ما هو الغالب المألوف ، ولذلك تجد أئمة الحديث إذا وجدوا راويين اختلفا بأن رويا عن هشام خبراً واحداً ، جعله أحدهما عن هشام عن وهب عن عبيد ، وجعله الآخر عن هشام عن أبيه عن عائشة ، فالغالب أن يقدموا الأول ويخطئوا الثاني ، هذا مثال ومن راجع كتب علل الحديث وجد من هذا ما لا يحصى).
13- قال البيهقي في (السنن الكبرى) (2/463-464) : (أخبرنا أبو القاسم عبد الرحمن بن عبيد الله بن عبد الله الحرفي ببغداد أخبرنا حمزة بن محمد بن العباس أخبرنا محمد بن عيسى المدائني أخبرنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن عروة عن عبد الرحمن بن عبدٍ القاريِّ(1) قال : "صلى عمر رضي الله عنه الصبح بمكة ثم طاف سبعاً ثم خرج وهو يريد المدينة ، فلما كان بذي طوى وطلعت الشمس صلى ركعتين" .
وكذلك رواه الحميدي عن سفيان ؛ والصحيح : "عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن" .
__________
(1) نسبة إلى قبيل يقال لها (القارة) .(3/252)
وأخبرنا أبو النصر بن قتادة أخبرنا أبو عمرو بن بجيد ثنا محمد بن إبراهيم العبدي أخبرنا ابن بكير أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف(1) أن عبد الرحمن بن عبد القاري أخبره أنه طاف مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد صلاة الصبح بالكعبة ، فلما قضى عمر طوافه نظر فلم ير الشمس فركب حتى أناخ بذي طوى فسبح ركعتين .
وهكذا رواه معمر وغيره عن الزهري .
أخبرنا أبو عبد الله الحافظ أخبرني الحسين بن محمد الرافقي ثنا عبد الرحمن بن محمد(2) ثنا يونس بن عبد الأعلى قراءةً ثنا سفيان عن الزهري عن عروة(3) عن عبد الرحمن بن عبد القاري؛ فذكر الحديث بمثل رواية المدائني .
قال يونس بن عبد الأعلى : قال لي الشافعي رحمه الله في هذا الحديث : اتبع سفيان بن عيينة في قوله "الزهري عن عروة عن عبد الرحمن" المجرة ، يريد لزوم الطريق .
قال عبد الرحمن بن محمد : وذلك أن مالكاً ويونس(4) وغيرهما رووا الحديث عن الزهري عن حميد عن(5)
__________
(1) هو ابن الصحابي الجليل البدري المبشر بالجنة عبدالرحمن بن عوف الزهري رضي الله عنه ، قال ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل) (3/225) : (سئل أبو زرعة عن حميد بن عبدالرحمن بن عوف ، فقال : مديني ثقة بخ) .
(2) هو ابن أبي حاتم .
(3) هو ابن الزبير رضي الله عنه .
(4) هو يونس بن يزيد الأيلي صاحب الزهري .
(5) في مطبوعة (سنن البيهقي) (بن) مكان (عن) هذه ، والعبارة تصير بها باطلة ، فإما أن يكون ذلك تصحيفاً ، أو يكون قد سقط بعد كلمة (عبدالرحمن) لفظة (عن) أو هذه العبارة (بن عوف عن عبد الرحمن بن عبد) ونحوها .
ثم وقفت بعدُ على هذا الأثر بهيئته المحفوظة ، في (آداب الشافعي ومناقبه) لابن أبي حاتم ، فقد قال (ص174-175) : (أخبرني أبي ثنا أحمد بن أبي سريج [ح] ثنا يونس بن عبد الأعلى قراءةً ----) ، فذكر الأثر ، وذكر عقبه كلمة يونس المتقدمة ؛ ثم قال - أي ابن أبي حاتم نفسه - في تفسير ذلك : (وذلك أنَّ مالكاً ويونس بن يزيد وغيرهما ، رووا الحديث عن الزهري عن حُميد بن عبدالرحمن - يعني عن عبدالرحمن بن عبدٍ القاريّ - عن عمر ، فأراد الشافعي أنَّ ابن عيينة وهمَ وأن الصحيح ما رواه مالك) .
تنبيه : الرمز "ح" ليس ثابتاً في مطبوعة (آداب الشافعي ومناقبه) لا هو ولا ما يقوم مقامه ، وذلك موهم اتحاد الطريق ، وليس كذلك ، ولذلك زدت الرمز المذكور .(3/253)
عبد الرحمن القاري عن عمر؛ فأراد الشافعي أن سفيان وهم، وأن الصحيح ما رواه مالك). انتهى كلام البيهقي(1).
السماع :
تطلق هذه الكلمة عند المحدثين على أكثر من معنى ، وأهم معانيها ما يلي :
المعنى الأول : تحمل الحديث بسماعه من لفظ الشيخ ، أي قراءته ؛ ومن ذلك قولهم : أعلى وجوه التحمل التحمل بالسماع .
المعنى الثاني : اللقاء الذي يحصل فيه تحمل معتبر ، فهو يشمل كل أنواع الاتصال بين الراويين ؛ ومنه قولهم : فلان ليس له سماع من فلان ، يعنون أن روايته عنه مرسلة ، وقولهم : فلان مدلس ولكنه صرح في هذه الرواية بالسماع ؛ ومن ذلك قول مالك الذي حكاه عنه الخطيب في (الكفاية) (2/291)(2) إذ روى عن إسماعيل بن أبي أويس قال : (سمعت مالك بن أنس يقول : السماع عندنا على ثلاثة أضرب :
أولها : قراءتك على العالم .
والثاني : قراءة العالم عليك .
والثالث : أن يدفع إليك العالمُ كتاباً قد عرفه فيقول لك : اروه عني) .
وروى الخطيب في (الكفاية) (2/298) هذا الأثر موقوفاً على إسماعيل بن أبي أويس قوله ، فقد روى عن أحمد بن إسحاق بن بهلول القاضي قال : (تذاكرنا بحضرة إسماعيل بن إسحاق السماع ، فقال إسماعيل بن إسحاق : قال إسماعيل بن أبي أويس : السماع على ثلاثة أوجه :
القراءة على المحدث ، وهو أصحها ؛ وقراءة المحدث(3) ؛ والمناولة----) .
__________
(1) وانظر أمثلة أخرى في (الفتح) (9/632 ، 10/96 ، 10/146 ، 10/ 364 ، 10/444 ، 11/99) ، وأمثلة أخرى في (هدي الساري (353) ، و(الدراية) (2/184) (2/ 219) ، و(الإصابة) (3/468) (6/546).
ولقد انتفعت في كثير مما كتبته هنا في هذه المسألة ببحث كتبه الأخ الفاضل المحقق (هشام الحلاف) في (ملتقى أهل الحديث) على الشبكة العالمية.
(2) ورواه أيضاً الرامهرمزي في (المحدث الفاصل) (ص427-438) (506) ، ومن طريقه رواه عياض في (الإلماع) (ص79-80) .
(3) أي على التلميذ .(3/254)
المعنى الثالث : المسموع أي المروي ، ومنه قول الشيخ للطالب عند المناولة : هذا سماعي من فلان ، فاروه عني .
المعنى الرابع : الشهادة بالسماع ، وتُسمّى أيضاً التسميع ، وطبقة السماع ، والطبقة ، وتقدم شرحُ هذا المعنى الأخير من معاني السماع وبيانُ بعضِ تفاصيلِه في (التسميع) وغيرِه .
سماعه صحيح :
يصف النقاد تحمل الراوي عن بعض شيوخه بأنه سماع صحيح ، إذا كان تحملاً معتداً به موثوقاً ، صالحاً للاعتماد عليه ، ليس فيه خلل مانعٌ من الاحتجاج به أو مفسدُ له .
وبهذا يُعلم معنى العبارة التالية .
سماعه من فلان غير صحيح :
معناه أنه غير معتبر ، إما لوجود انقطاع بينهما ، أو كان سماعه مزوَّراً ، أو أنه تحمل منه بطريقة غير كافية للوثوق بتلك المرويات ، كأن يكون أخذ منه في حال اختلاطه ، أو أخذ منه بقراءة تلميذ غير ثقة ، مع كون الشيخ قد يقبل التلقين أحياناً ، أو أخذ منه بطريقة الوصية مثلاً ، من غير إذن بالرواية ، أو كان الشيخ يحدث من كتاب غيره ، وهو غير حافظ لحديثه .
السماع على الوجه :
هو أن يسمع طالب الحديث من الشيخ كل ما في كتابه ؛ من غير انتخاب ولا اختصار .
وقد يطلقون على هذا المعنى كلمة النسخ من غير أن يقيدوها بلفظة (على الوجه) ، فهي عندهم اصطلاح شائع . وانظر (النسخ) و (الكتابة على الوجه) و (الانتخاب).
سَمِعَ :
تستعمل هذه الكلمة للدلالة على التحمل بالسماع من لفظ الشيخ ، أو التحمل بالقراءة عليه ، ولا يحسن استعمالها فيما سوى ذلك من أقسام التحمل ، كالمناولة والإجازة والمكاتبة وغيرها .
ومن ذلك قولهم (فلان لم يسمع من فلان ، وإنما كان له منه إجازةٌ) ، وقول بعضهم : (يكفي الراوي أن يقول فيما سمعه قراءة : أخبرنا ، ولا يحتاج إلى أن يقول قراءةً) .(3/255)
لكن البخاري رحمه الله كان ربما استعمل هذه الكلمة في تواريخه ، من غير أن يريد إثبات حقيقتها ؛ فقد يقول البخاري في أول ترجمة الراوي: (سمع فلاناً) ، وهو لا يريد إثبات السماع ، وإنما يريد أن يذكر معنى أو مقتضى ظاهر بعض روايات ذلك المترجَم ، فإن في ظاهرها إثباتَ سماعه ؛ ولكن البخاري يعود بعد ذلك فيصرح بعدم صحة ذلك السماع ، أو يشير إلى ذلك - أعني عدم السماع - إشارة فقط ؛ وإشارات البخاري لها معان خطيرة وكثيرة ، فلا بد من استقرائها ومعرفة مراداته بها .
وأما إذا ترجم البخاري للرجل وقال في حق بعض من روى عنهم ذلك الرجل : (سمع منهم) ، وقال في حق آخرين: (روى عنهم) ؛ فهنا يكون السماع على حقيقته ، ويكون معنى قوله (روى عنهم) عدم ثبوت سماعه ممن ذكرهم .
فهذه من إشارات البخاري اللطيفة في (تاريخه الكبير) و (تاريخه الأوسط) أي أنه إذا أراد أن يبين عدم سماع راو من بعض من روى عنهم أو أن يبين شكه في صحة ذلك السماع وتوقفه في إثباته : أن يقول في ترجمته : (عن فلان) ويسمي ذلك الشيخ ، ثم يقول : (سمع فلاناً) ويسمي شيخاً آخر أو شيوخاً آخرين ثبت سماع ذلك الراوي منهم(1) .
__________
(1) لقد تنوعت تعابير الإمام البخاري وإشاراته في (تواريخه) ؛ ومن ذلك أنه قد يستعمل في ترجمة الرجل الواحد عندما يذكر من رووا عنه ، أحياناً لفظة (سمع منه فلان) ، وأحياناً لفظة (روى عنه فلان)، والتفريق مقصود له ؛ وكان من عادته في ذلك أن لا يستعمل (سمع منه فلان) إلا في ما تحققه من السماع أو وجده راجحأ على عدمه ، وهذا ما تقتضيه هذه العبارة ، وليس له ولا لغيره استعمالها في أوسع من هذا المعنى كما هو واضح.
وكذلك كان البخاري رحمه الله ربما يأتي أحياناً في ترجمة الراوي بكلمة (روى عنه فلان) في المواضع التي اشتهر فيها سماع ذلك المحدث من شيخه ، بحيث لا يكاد يكون في قوله (سمع منه فلان) زيادة في الفائدة على قوله (روى عنه فلان) ، لأن سماع ذلك المحدث عن ذلك الشيخ مما لا يخفى على أهل العلم وطلابه ولا شك عندهم فيه ، فلا يرى ضرورة للتصريح به ، ليبقى للتصريح عند الحاجة إليه دلالتُه وإشارتُه .(3/256)
سمَّع له :
أي كتب اسمه في طبقة السماع ، وذكر سماعه فيها ، وانظر (التسميع) و(الطبقة) .
سمِعتُ :
انظر (صيغ الأداء) و (سمِع) و (السماع).
وأزيد هنا على ما تقدم هذه الفائدة :
قال العلائي في (جامع التحصيل) (ص115-116) :
(إن المتفق عليه أن الشيخ إذا لم يقصد اسماع الراوي عنه فلا يقول عنه : حدثنا ، ولا أخبرنا ، بل يقول : سمعت ، كما كان البرقاني يقول : (سمعت أبا القاسم الآبندوبي يقول) ، وسأله الخطيب عن ذلك فذكر أن الآبندوبي كان عسراً في الرواية ، وكان البرقاني يجلس بحيث لا يراه الآبندوبي ولا يعلم بحضوره ، ويسمع ما يحدث به الداخل إليه ؛ فلذلك كان يقول : سمعت ، ولا يقول : حدثنا ، لأنه لم يقصد تحديثه ، فظهر بهذا أن قول حدثنا أو أخبرنا أرفع من قول "سمعتُ")(1).
قلت : تحديث بعض الطلبة والامتناع عن تحديث آخرين حاضرين في مجلس واحد ، أو مكان واحد شيء نادر الوقوع عند المحدثين فلا يصح أن يُبنى عليه حكم ؛ نعم بعضهم يستعمل (سمعت) تدليساً فيما سمعه في المذاكرة ونحوها، فلينظر فيما قاله العلائي باعتبار مجموع استعمالاتهم لصيغة (سمعت) ، لا باعتبار العُسر الذي ذكره.
سن التحمل والأداء :
سن التحمل هي السن التي يصح فيها تحمل الطالب ، فلا يطعن في تحمله بصغره.
__________
(1) وقصة البرقاني فيها تفصيل لم يرد في كلام العلائي فأحببت حكايتها هنا كاملة ؛ قال السمعاني في (الأنساب) (1/92) :
(قال أبو بكر البرقاني : كنت اختلف إلى أبي قاسم الآبندوبي الجرجاني مع أبي منصور الكرجي ، وكان لا يحدثنا جميعاً، وكان يُجلس أحدنا على باب داره ويدخل الآخر ويسمع منه ما أحب ، ثم إذا خرج دخل الآخر فكان سماعنا منه على هذا ، وقد كان حلف أن لا يحدث إلا واحداً واحداً ، وكان في خلقه شيء) .
وانظر ما ذكره ابن الاثير في أوائل (جامع الأصول) من قصة النسائي مع الحارث بن مسكين ، وهي شبيهة بهذه في معناها .(3/257)
وسن الأداء هي السن التي يصح فيها التحديث من غير أن يكون الصغر أو الكبَر قادحاً في الأداء.
واختُلف في سن التحمل والأداء ، والأصح اعتبار سن التحمل بالتمييز ؛ وسنُّ الأداء يقدَّر بالاحتياج والتأهل لذلك.
السَند :
انظر (الإسناد) .
السُنَّة :
قال العلامة المعلمي اليماني في (الأنوار الكاشفة) (ص20) : (تطلق السنةُ لغةً وشرعاً على وجهين:
الأول: الأمر يبتدئه الرجل فيتبعه فيه غيره؛ ومنه ما في "صحيح مسلم" في قصة الذي تصدق بصُرّة فتبعه الناس فتصدقوا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من سن في الإسلام سنة حسنة فعُمل بها بعده كُتب له مثلُ أجر من عمل بها..." الحديث .
والوجه الثاني: السيرة العامة ؛ وسنة النبي صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى هي التي تقابل الكتاب، وتسمى الهَديَ .
وفي "صحيح مسلم" أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته : "أما بعد ، فإن خير الحديث كتابُ الله ، وخير الهدي هديُ محمد ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل بدعة ضلالة " .
هذا وكلُّ شأنٍ من شؤون النبي صلى الله عليه وسلم الجزئية المتعلقة بالدين ، من قولٍ ، أو فعلٍ ، أو كفٍّ، أو تقريرٍ، سنة بالمعنى الأول(1) ؛ ومجموع ذلك هو السنة بالمعنى الثاني(2).
ومدلولات الأحاديث الثابتة هو السنة(3) ، أو من السنة(4)، حقيقةً ؛ فإن أُطلقت "السنة" على ألفاظها(5) فمجاز أو اصطلاح) ؛ انتهى .
__________
(1) لأنها أمورٌ تبع النبيَّ صلى الله عليه وسلم فيها غيرُه.
(2) لأنه - أي المجموع - سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ، منذ أن صار نبياً إلى أن توفاه الله تعالى .
(3) أي على المعنى الأول للسنة.
(4) أي على المعنى الثاني للسنة.
(5) أي على ألفاظ الأحاديث لا على مدلولاتها .(3/258)
فالسنة تُطلق في الأصل على ما ثبت من الأحاديث دون ما لم يثبت ، وعلى ما كان مقصوداً للنبي صلى الله عليه وسلم من أقواله وأفعاله وحركاته وسكناته دون ما ليس مقصوداً له منها ، ودون ما كان من أوصاف الخلقة ونحوها من الأمور التي لا دخل للإنسان في وجودها ، ولا يمكن له أن يتصرف فيها .
فبهذا يُعلم أن الأحاديث المروية أعم من السنة ، لأن في الأحاديث ما لا يثبت ، وفيها ما هو خارج عن المعاني المشار إليها .
ولكن وقع في هذا الباب تجوزٌ من كثير من العلماء فلم يراعوا هذا الفارق ، حتى صار ذلك التجوز لكثرته وشيوعه اصطلاحاً مستقراً مشهوراً .
فمنهم من سمى كتابه بالسنن ، وإن كان فيه كثيرٌ مما لا يَعلم هو أنه ثابت ، وكأنه إنما سماه بذلك باعتبار الغالب من محتواه .
ومنهم من يسمي كتب الحديث كتب السنة وإن كان فيها الضعيف والمتروك والموضوع .
ومنهم من يقول في وصف بعض الأحاديث : هذه سنة ثابتة ، وهذه سنة غير ثابتة .
ووقع منهم غير ذلك من أنواع التجوز في الكلام والتوسع فيه .
وكل ذلك إن شاء الله جائز سائغ لا غبار عليه لأنه صار اصطلاحاً للعلماء وإن فارقوا فيه عرف القدماء من الصحابة والتابعين ، ولكنه اصطلاح عُرف فلا محذور فيه .
تكميل: تقسم السنة باعتبار كيفية تبليغ النبي صلى الله عليه وسلم الناس إياها ، إلى قولية وفعلية وإقرارية؛ وتقسم من حيث صفة وصولها إلى المبلَّغين إلى صريحة وغير صريحة.
قال السيوطي في (تدريب الراوي) (1/194) : (قد تقرر أن السنة قول وفعل وتقرير ؛ وقسمها شيخ الإسلام [يعني ابن حجر] إلى صريح وحكم .
فمثال المرفوع قولاً صريحاً قول الصحابي : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحدثنا ، وسمعت(1) .
و[مثال المرفوع] حكماً قوله(2) ما لا يدخل الرأيُ فيه .
__________
(1) أي سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم .
(2) أي قول الصحابي .(3/259)
و[مثال] المرفوع(1) من الفعل صريحاً قوله(2) : "فعل" [أي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم] ، أو "رأيتُه يفعل" .
قال شيخنا(3) : ولا يتأتى فعلٌ مرفوعٌ حكماً ، ومثَّله شيخ الإسلام بما تقدم عن علي في صلاة الكسوف ؛ قال شيخنا: ولا يلزم من كونه عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون عنده من فعله، لجواز أن يكون عنده من قوله.
و[مثال] التقرير صريحاً قول الصحابي : "فعلتُ" أو "فُعل بحضرته صلى الله عليه وسلم" .
و[مثال التقرير] حكماً حديث المغيرة السابق). انتهى كلام السيوطي، وما بين حاصرتين فأنا زدته .
وقال عبد الله بن يوسف الجديع في (تحرير علوم الحديث) (1/17-19) وهو يعرّف علم الحديث(4): (العلمُ : معرفة الشيء ؛ والحديثُ في الأصل يطلق على الجديد من الأشياء ، ويطلق على الخبر ؛ ومنه قوله تعالى { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً } [ النِّساء : 87 ] ، وقوله {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ } [ سَبَأ : 19].
وفي الاصطلاحِ : ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قولٍ ، أو فعلٍ ، أو تقريرٍ ، أو صفةٍ .
فالقول : هو الألفاظُ النَّبويَّة [أو معانيها المنسوبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم](5) .
مثلُ حديثِ معاوية من أبي سفيان ، رضي الله عنه ، قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " من يرد الله به خيراً يفقه في الدين"(6) .
والفعل : هو التصرفات النبوية العملية .
__________
(1) في مطبوعة (التدريب) : (فالمرفوع) فتصرفتُ فيها .
(2) أي قول الصحابي .
(3) الظاهر أنه يعني الشُّمُنّي .
(4) تنبيه: لقد فات الشيخ عبدَ الله تعريفُ علم الحديث ، وإن عرّف العلم والحديث ، وجلّ من لا يسهو.
(5) ما بين الحاصرتين زيادة مني، فلا بد من إدخال الحديث المروي بالمعنى.
(6) حديث صحيح ، متفق عليه : أخرجه البخاري ( رقم : 71 ، 2948 ، 6882 ) ومسلم ( 2 / 719 ) .(3/260)
مثل حديث عبد الله بن عباس ، رضي الله عنهما : أنه توضأ فغسل وجهه ، ثم أخذ غَرْفة من ماء فمضمض بها واستنشق ، ثم أخذ غرفة من ماء فجعل بها هكذا ، أضافها إلى يده الأخرى فغسل بهما وجهه ، ثم أخذ غرفة من ماء فغسل بها يده اليمنى ، ثم أخذ غرفة من ماء فغسل بها يده اليسرى ، ثم مسح برأسه ، ثم أخذ غرفة من ماء فرشَّ على رجله اليمنى حتى غسلها ، ثم أخذ غرفة أخرى فغسل بها رجله ، يعنى اليسرى ، ثم قال : هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ(1).
والتقرير : ما يقع من غيره صلى الله عليه وسلم باطِّلاعه أو عِلمه فلا ينكره .
مثل حديث عائشة ، رضي الله عنها ، قالت: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً على باب حجرتي والحبشة يلعبون في المسجد ، ورسول الله صلى الله وعليه وسلم يسترني بردائه أنظر إلى لعبهم(2).
والصِّفة : خصائص بشريَّته صلى الله عليه وسلم فيما لا يرجع إلى كسبه وعمله ، مثل حديث البراء بن عازب ، رضي الله عنه ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجهاً ، وأحسنهم خلقاً : ليس بالطويل البائنِ ، ولا بالقصير(3).
ولا يدخل في الصفة بهذا التَّفسير ما يحبه أويكرهه صلى الله عليه وسلم من الأفعال والأحوال ، وإنما يَنْدرجُ هذا النَّمطُ من الأحاديث تحت ( الفعل ) باعتبار الصادر عنه صلى الله عليه وسلم على وفق محبته أو كرهِهِِ ، مثل حديث عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب التيمن ما استطاع في شأنه كله : في طهوره وترجله وتنعله(4).
__________
(1) حديث صحيح ، أخرجه البخاري ( رقم : 140 ) .
(2) حديث صحيح ، متفق عليه : أخرجه البخاري ( رقم : 443 ) ومسلم ( 2 / 609 ).
(3) حديث صحيح ، متفق عليه : أخرجه البخاري ( رقم : 3356 ) ومسلمٌ ( 4 / 1819 ) .
(4) حديث صحيح ، متفق عليه : أخرجه البخاري ( رقم : 116 ، 416 ، 5065 ، 5516 ، 5582 ) ومسلم ( 1 / 226 ) .(3/261)
ثم قال الجديع عقب ذلك تحت هذا العنوان (هل يدخل في "الحديث" ما أضيف إلى من دونَ النبي صلى الله عليه وسلم) ؟ ما نصه:
(ما يضاف إلى صحابيٍّ أو تابعيٍّ أو من بعدهم من الأخبار يسمى ( حديثاً ) من حيث اللغة ، لكن الاصطلاح جرى غالباً على إرادة ما يضاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم خاصة ، حتى صار يتبادر إلى الذِّهن عند الإطلاق حين يُقال مثلاً : ( في المسألة حديثٌ) أنَّه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فدفعاً للإيهام ، لا ينبغي إطلاق لفظ ( حديثٍ ) على غير ماورد عن النبي صلى الله عليه وسلم ).
ثم قال عقب ذلك تحت هذا العنوان (الفرق بين الحديث والسنة) ما نصه :
(السنة في المعنى الأُصوليِّ مساويةٌ للحديث بالتعريف المتقدّم عن أهل الحديث ، دون قيد ( أو صفة ) ، واستثناء الصفة النبوية من جملة السنن إنما وقع من أجل أن محل الكلام في السنة هو اعتبار كونها من مصادر التشريع ، وهذا لا يَنْدرجُ تحته الأوصاف الذَّاتية ، وإنما يُستفاد [أي التشريع] من الأقوال والأفعال والتقريرات النبوية) . انتهى كلامه(1) .
__________
(1) وقد اقتصر فيه على ذكر الفرق بين الحديث والسنة عند الأصوليين!.
ومن أراد التفصيل فإن السنة لها معان:
فهي في اللغة الطريقة كما تقدم.
وهي في عرف عامة المسلمين تعني جماعة المسلمين ومن قاربهم، فهي تقابل الشيعة.
وهي في اصطلاح الأصوليين تعني مجموع الأحاديث المحتج بها ، أي التي تستنبط منها الأحكام الشرعية.
وهي في اصطلاح الفقهاء تعني نوافل العبادات، فهي تقابل الفرض.
وهي تعني عندهم أيضاً الاتباع المقابل للابتداع؛ فيقال: هو صاحب سنة أي صاحب اتباع.
ومن معانيها عند السلف وفقهاء الحديثِ الحديثُ المرفوع ، مثال ذلك قول عبد الرزاق في (المصنف) (13500): (أخبرنا ابن جريج قال: قال ابن شهاب في الرجل يقع على البهيمة من الأنعام قال: لم أسمع فيها سُنة ، ولكن نراه مثل الزاني إن كان أحصن أو لم يحصن)؛ وقول ابن عبد البر في (التمهيد) (24/259): (وقد كان مالك رحمه الله في آخر عمره يدلك أصابع رجليه بأصابع يديه لحديث حدثه ابن وهب ؛ ذكر أحمد بن وهب قال حدثني عمي عبد الله بن وهب قال: سُئل مالك عن تخليل أصابع الرجلين في الوضوء فقال: ليس ذلك على الناس ؛ فأمهلته حتى خف الناس عنه ثم قلت له: يا أبا عبد الله سمعتك تفتي في مسألة عندنا فيها سنة ، قال: وما هي؟ قلت: حدثنا ابن لهيعة والليث بن سعد عن يزيد بن عمرو المعافري عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن المستورد بن شداد القرشي قال: رأيت رسول الله يتوضأ فيخلل بخنصره ما بين أصابع رجليه؛ قال: فقال لي مالك: إن هذا لحسن وما سمعت به قط إلا الساعة.
قال ابن وهب: ثم سمعته بعد ذلك يسأل عن تخليل الأصابع في الوضوء فيأمر به. وروى غيره عن ابن وهب "فرأيته يعمل به ولم يقل يأمر به ).
ولشيخ الإسلام ابن تيمية رسالة في بيان معنى لفظ السنة في القرآن.(3/262)
السنة النبوية :
هي بمعنى (السنة) المتقدم شرحها.
السنن :
السنن جمع سنة ، والسنن أيضاً اسم لمجموعة من الكتب التي تعنى بالدرجة الأولى بجمع الأحاديث المرفوعة بأسانيدها مرتبة لها على أبواب الفقه ؛ وأشهرها (السنن الأربعة) ، وهي كتب السنن الأربعة التي ألفها أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه ، وبسبب هذه الشهرة صار كثير من المتأخرين يطلقون هذه الكلمة (السنن) على هذه الكتب الأربعة دون غيرها .
تنبيه : لا يلزم من قول القائل في عزو حديث من الأحاديث (رواه أصحاب السنن) أو (هو في السنن) أنه رواه هؤلاء الأربعة جميعهم ، بل هذا العزو يصدق في عُرف كثير من الناس بما رواه ثلاثة منهم أو اثنان ، وفي مثل هذا العزو المجمل لو قال : (رواه بعض أصحاب السنن) لكان أحسن وأولى ، إلا أن يقال : التقييد بالبعض قد يكون غير صحيحاً ، أي ربما تبين بعد ذلك أن ذلك الحديث مروي في السنن الأربعة ، ولذلك يلجأ بعض المؤلفين والخطباء وغيرهم إلى التعميم - احترازاً - فيقول : (رواه أصحاب السنن) ، من غير تبعيض .
وكتب (السنن) ترتَّب أحاديثها على أبواب ، ثم ترتب فيها تلك الأبواب ترتيباً قريباً من ترتيب الصحيحين أو ترتيب الكتب الفقهية المشهورة مثل مختصر المزني عن الشافعي ؛ وهذا المختصر هو الأصل في ترتيب كتب الفقه .
ويُدخلُ أصحابُ السننِ فيها في كثير من الأحيان آثاراً موقوفة أو مقطوعة كثيرة أو قليلة .
وهم لا يشترطون في كتبهم الصحةَ ، بل أغلبهم يكتفون باشتراط القوةَ في الجملة ، لأن هذه الكتب مصنفة على الأبواب الفقهية ، فالأصل فيها أنها إنما أُلِّفت للاحتجاج بما فيها ، في الجملة أيضاً ؛ وذلك بخلاف الكتب المصنفة على أسماء الصحابة أو الشيوخ فالأصل فيها أنها إنما ألفت لجمع مروياتهم ، وإن كان فريق من جامعيها كالإمام أحمد يجتنب الأحاديث التي يعلم أنها موضوعة عمداً ، أو تفرد بها الكذابون .(3/263)
ولكن لا بد من أن أذكِّر هنا بأنَّ بعض أحاديث السنن الثلاثة أعلّها أصحابُها تصريحاً أو إشارةً ، فهذه خارجة عن حدود كلامي المتقدم بشأن الاحتجاج .
قال الحافظ ابن حجر في خطبة (تعجيل المنفعة) (ص2-3) : (أما بعد فقد وقفت على مصنف للحافظ أبي عبد الله محمد بن علي بن حمزة الحسيني الدمشقي سماه "التذكرة برجال العشرة" ، ضم إلى من في "تهذيب الكمال" لشيخه المزي من في الكتب الأربعة ، وهي : "الموطأ" و"مسند الشافعي" و"مسند أحمد" و"المسند الذي خرجه الحسين بن محمد بن خسرو من حديث الإمام أبي حنيفة" ؛ وحذا حذو الذهبي في "الكاشف" في الاقتصار على من في الكتب الستة ، دون من أُخرج لهم في تصانيف لمصنفيها خارجة عن ذلك ، كـ"الأدب المفرد" للبخاري و"المراسيل" لأبي داود ، و"الشمائل" للترمذي ؛ فلزم من ذلك أن ينسب ما خرج له الترمذي أو النسائي مثلاً إلى من أُخرج له في بعض المسانيد المذكورة ، وهو صنيع سواه أولى منه ، فإن النفوس تركن إلى من أَخرج له بعضُ الأئمة الستة ، أكثر من غيرهم ، لجلالتهم في النفوس ، وشهرتهم ، ولأن أصل وضع التصنيف للحديث على الأبواب : أن يُقتصر فيه على ما يصلح للاحتجاج أو الاستشهاد ، بخلاف من رَتَّب على المسانيد ، فإنَّ أصلَ وضعه مطلقُ الجمع) .
وبعض العلماء يفرقون بين الجوامع والسنن، ويظهر أن الكتاب الجامع نوع من أنواع كتب السنن ، فهو أخص منه .
السنن غير الجامعة ، كسنن أبي داود والنسائي وابن ماجه ، يُذكر فيها أحاديثُ الأحكامِ العملية وأبواب من العقائد وما يتعلق بها ؛ أي انها تضم أبواب السنة في الأحكام العملية والسنة في الأحكام الاعتقادية .
وأما الجوامع كجامع الترمذي ، وهو المعروف أيضاً بسنن الترمذي ، ففيه إضافةً إلى ذلك - أو معظمِه - أبواب في الفضائل والتفسير وصفة الجنة وصفة النار وغير ذلك .(3/264)
وقال الدكتور نور الدين عتر في (الإمام الترمذي والموازنة بين جامعه وبين الصحيحين)(1) (ص44-45) : (أما عنوان الكتاب نفسه واسمه الذي يُطلق عليه ، فقد وجدنا له عدة أسماء أطلقت عليه وهى :
1- صحيح الترمذي ، وهو إطلاق الخطيب كما ذكر السيوطي(2).
2- الجامع الصحيح ، وهو إطلاق الحاكم(3) .
ونحن نجد بعض حديثه صحيحاً وبعضه حسناً ومنه دون ذلك ، وهو ينص على هذه الدرجات صراحة ، إذن ففي كل من هاتين التسميتين ضَرْبٌ من التَّجَوُّز .
3- الجامع الكبير، ذكره الكتاني في "الرسالة المستطرفة"(4) ، وهو قليل الاستعمال .
4- السنن ، وهو اسم مشهور للكتاب، ويكثر نسبته إلى مؤلفه ، فيقال : "سنن الترمذي" ، تمييزاً له عن بقية السنن .
ووجه هذه التسمية اشتماله على أحاديث الأحكام مرتبة على ترتيب أبواب الفقه ، وما كان كذلك يسمى سنناً، ولكن الكتاب فيه الأحكام وغيرها ؛ ففي هذه التسمية تَجَوُّزٌ بتسمية الكل ببعض أجزائه .
5- الجامع : وهو أشهر وأكثر استعمالاً ، واشتهر إطلاقه منسوباً إلى مؤلفه فيقال : «جامع الترمذي» ، ووجه تسميته بذلك : أن الجامع عند المحدثين ما كان مستوعباً لنماذج فنون الحديث الثمانية ، وهي هذه :
السير والآداب ، والتفسير ، والعقائد ، والفتن ، والأحكام ، والأشراط ، والمناقب(5) .
فسُمِّيَ الكتاب جامعاً لوجود هذه الأبواب فيه .
وهذا الاسم «الجامع» أو «جامع الترمذي» يدل على الكتاب بالمطابقة ، وذلك :
1- لاشتماله على هذه الفنون الثمانية .
__________
(1) وصف الشيخ محمد عمرو عبداللطيف في (أحاديث ومرويات في الميزان) (1/17) هذا الكتاب بأنه (نفيس ، فهو حري بالدراسة والاهتمام ، لما فيه من إزاحة كثير من الإشكالات المتعلقة باصطلاحات الترمذي وما يتعلق بكتابه) .
(2) تدريب الراوي (ص95) .
(3) تدريب الراوي (ص95) .
(4) ص9 .
(5) ذكرها محمد أنور شاه في (العرف الشذي) : الصفحة السابقة ، وانظر مقدمة (تحفة الأحوذي) (ص24) .(3/265)
2- لأنه مطلق عن قيد الصحة ، فيطابق(1) حالَ الكتاب وواقعه ، فهو إذن أولى الأسماء بالإطلاق على كتاب الإمام الترمذي .
فأستحسن أن يسمى الكتاب ويطبع بعنوان «الجامع» ، فأما من طبع الكتاب بعنوان الصحة مثل «صحيح الترمذي»(2) أو «الجامع الصحيح»(3) ، فهذا عمل قد أخطأ صاحبه التوفيق ، لما ذكرنا ما فيه من التساهل ، ولأنا نخشى أن يقع في اللبس بسببه من لا دراية عنده ، فيظن(4) كل أحاديث الكتاب صحيحة ، وهو خلاف الواقع ) ؛ انتهى .
وقال الكتاني في (الرسالة المستطرفة) (ص32)(5) : (ومنها كتب تعرف بالسنن ، وهي في اصطلاحهم الكتب المرتبة على الأبواب الفقهية من الإيمان والطهارة والصلاة والزكاة ، إلى اخرها ؛ وليس فيها شيء من الموقوف ، لأن الموقوف لا يسمى في اصطلاحهم سنة ويسمى حديثاً) .
قلت : هناك شيء يسير من الموقوفات في بعض السنن الأربعة ، وأما (سنن سعيد بن منصور) فحافلة بالموقوفات ، وكذلك (سنن الدارمي) اشتملت على موقوفات كثيرة ، وإن اختلف في تسميتها ، إذ يرى بعض العلماء أن هذه السنن هي (مسند الدارمي) وذكروا على ذلك أدلة واضحة ؛ ولكن إن كان يسمى بالاسمين معاً فالإيراد باقٍ على حاله .
السنن الأربعة :
سنن أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه .
السنن الثلاثة :
سنن أبي داود والترمذي والنسائي .
سوء الأخذ :
سوء الأخذ يراد به سوء التحمل، أي وجود الخلل فيه ، وأسباب الخلل في التحمل كثيرة ، منها التسرع والتهاون وعدم التدقيق والتحقيق وعدم المعارضة ، وأن يكتب أحاديث أكثر من شيخ في كتاب واحد فلا يفصلها ولا يعلّمها ، ثم قد تختلط عليه ، وأن يكون القارئ على الشيخ غير ثقة ، ومنها أمور أخرى .
__________
(1) في الأصل (فنطابق) ، ويظهر أنه خطأ مطبعي .
(2) وهي طبعة بولاق ، وطبعة شرح ابن العربي .
(3) طبع مصطفى البابي الحلبي .
(4) في الأصل (فنظن) ، وهو خطأ مطبعي .
(5) وهو في (ص25) من طبعة دار الكتب العلمية .(3/266)
فالراوي الموصوف بأنه سيء الأخذ هو من يكثر منه أن يأخذ الحديث بطريقة فيها خلل مؤثر لا يرتضي التحمل بمثله الثقات أو المتثبتون من المحدثين .
ولكن مع ذلك فربما يكون عند الراوي طرق يجبر بها ما قد يقع في مروياته من خلل بسبب سوء الأخذ ، قال يعقوب بن سفيان في (المعرفة والتاريخ) (2/182) : (حدثني الفضل قَال : قال أحمد : عبد الله بن وهب صحيح الكتب عن مشايخه الذين روى عنهم ، يفصل السماع من العرض ، ما أصح حديثه وأثبته ! قيل له : أليس كان يسيء الأخذ ؟ قَال : كان سيء الأخذ ، الحقُّ ، ولكن إذا نظرت في حديثه وما روى عن مشايخه وجدته صحيحًا ) .
سوء الحفظ :
انظر (سيء الحفظ).
سيء الأخذ :
انظر (سوء الأخذ).
سيء الحفظ :
سوء الحفظ هو أن يكون الراوي لا يحسن حفظ ما يسمعه من مروياتٍ ، فيكثر خطؤه فيما يحدث به من حفظه ، إلا إذا كان يحدث من كتابه ، وكان كتابه صحيحاً.
وإذا أطلق النقاد هذه اللفظة (سيء الحفظ) في راو فهم إنما يريدون أنه يحدث من حفظه وهو حفظ سيء؛ وأما من كان يحدث من كتابه فلا معنى لوصفه بسوء الحفظ وإن كان حفظه سيئاً؛ بل إن وصفه بذلك مع الاقتصار عليه وعدم البيان لكيفية أدائه وأنه يحدث من كتابه : يوهم أنه يحدث من حفظه السيء؛ ولهذا لا ينبغي أن يوصف به إلا مع البيان والتقييد؛ قال المعلمي في قسم التراجم من (التنكيل) ، في ترجمة جرير بن عبد الحميد : ( فإن قيل فإنه يؤخذ من كلامهم أنه لم يكن يحفظ وإنما اعتماده على كتبه ، قلت : هذا لا يعطي ما زعمه الأستاذ "أنه كان سيئ الحفظ " ، فان هذه الكلمة إنما تطلق في صدد القدح فيمن لا يكون جيد الحفظ ومع ذلك يحدث من حفظة فيخطئ ، فأما من لا يحدث من حفظه إلا بما أجاد حفظه كجرير فلا معنى للقدح فيه بأنه لم يكن جيد الحفظ) . انتهى كلام المعلمي.(3/267)
وهذه العبارة (سيء الحفظ) يصف بها بعض النقاد من هو ضعيف عندهم ، وهم الأغلب ؛ ويصف بها آخرون من هو لين الحديث صالح للاعتبار ، وقد ترد في وصف من يُترك ؛ قال ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل) (2/272) (980) : ( سمعت أبي وسألته عن أبي الربيع السمان ، فقال : ضعيف الحديث منكر الحديث سيء الحفظ ، يروى المناكير عن الثقات) .
ويدل على سوء حفظ الراوي كثرة مخالفته للثقات ، وهو الشذوذ ، أو كثرة مخالفته لنفسه ، وهو الاضطراب ، أو كثرة انفراده عن الثقات المشاهير بالغرائب التي لا تحتمل من مثله ، مع ثبوت عدالته في نفسه(1) .
هذا ما كان ظهر لي من معنى هذه العبارة وبعض ما يتعلق بها، ثم وقفت على كلام صاحب (تحرير علوم الحديث) فيها ، فدونك ما قاله في شرح معناها عند النقاد (1/602-603) :
__________
(1) وبعبارة أخرى : كلمة (سيء الحفظ) إنما تطلق في صدد القدح فيمن لا يكون جيد الحفظ ومع ذلك يحدث من حفظه فيخطئ ، فأما من لا يحدث من حفظه إلا بما أجاد حفظه فلا معنى للقدح فيه بأنه لم يكن جيد الحفظ ؛ فمن كان لا يحدث من حفظه ويقتصر في التحديث على ما في كتابه فلا يجوز لأحد أن يصفه بسوء الحفظ ويطلق كلامه ، ولو كان في نفسه كذلك ، لأن مقتضى ذلك الإطلاق رد رواياته وتضعيفها ؛ فإن قولهم ذلك في الراوي معناه أنه أخطأ كثيراً فيما حدث به ، فهذا معناها الاصطلاحي ، وهو مقدم على معناها اللغوي الذي هو ضعف ضبطه في صدره لما يسمعه ، وقلة حفظه له ، سواء أداه إلى غيره من كتابه أو من حفظه ، أم لم يؤده أصلاً .
وإنما يجوز أن يوصف مثل ذلك الراوي بسوء الحفظ في حالة بيان أنه كان لا يحدث من حفظه .
أصل هذا الكلام للعلامة المعلمي فانظره في ترجمة (جرير بن عبد الحميد) من (التنكيل) (1/225) ، أو انظر (الضبط) .(3/268)
(عبارة صريحة التعلُّق بحديث الراوي ، وليست كثيرةَ الورود في كلام المتقدِّمين مطلقةً دون وصف آخر ، وإنما كان أكثرُ ما ترد عنهم مقرونةً بوصف آخر ، كالقول : (صدوق سيء الحفظ) ، و (سيء الحفظ كثير الوهم) ، أو (كثير الغلط) ، أو (كثير الخطأ) ، وما في معناها ، أو (مضطرب الحديث) ، وغير ذلك .
وإنما جاءت مطلقةً في الراوي بعد الراوي ، وقعت في كلام أحمد بن حنبل ، وأبي حاتم الرازي ، وأبي بكر البزار ، والدارقطني ، وكثر استعمالها بإطلاقٍ في كلام المتأخرين.
ويندر أن تجدها تستعمل فيمن بلغ به سوءُ الحفظ إلى حدِّ الترك .
كما وقع فيما حكاه عمرو بن علي الفلاَّسُ عن يحيى بن سعيد القطان في عيسى بن أبي عيسى الحَنَّاط ، وهو متروك الحديث ، قال : " كان سيء الحفظ "(1) .
وكما قال عمرو بن علي في عبيدة بن معتب الضبي : " سيء الحفظ متروك الحديث "(2).
قلت : وهو متروك عند جماعة من النقاد ، ضعيف لا يبلغ الترك عند آخرين .
وقالوا في جماعة : (سيء الحفظ جداً)، ولا تَعني السقوطَ .
والتحقيق : أن الضعف العائد إلى سوء الحفظ قد يبلغ صاحبُه حدَّ الترك ، كما بينتُه في (تفسير الجرح) ، لكن يندُرُ ذلك في الرواة الذين قيلت فيهم هذه العبارة ، بل أكثرهم يُعتبر بحديثه ، ولا يكادُ يُقبل حديث من رَجَحَ له هذا الوصفُ، لذاته، وإن كان منعوتاً بالصدق). انتهى كلامه ؛ وعندي من التعقيب عليه أن قوله في آخره (ولا يكاد يُقبل----) غير جيد، بل الصحيح حذف لفظة (يكاد) من الجملة ليصح معناها فيكون موافقاً لمنهج أئمة الحديث رحمهم الله.
سيء الرأي فيه :
إذا شدد الناقد كثيراً على راو ، أو اتهمه بالكذب، أو كان يسيء الظن به ، قالوا فيه : (كان سيء الرأي فيه) ، وأكثر ما تقال هذه العبارة عند مخالفة الناقد لجمهور النقاد أو لما يظهر أنه الحكم الوسط في حق ذلك الراوي .
وضدُّ هذا المعنى يعبرون عنه بقولهم (ألان القولَ فيه) ، أو (مرَّض القولَ فيه) .
سئل عنه فلان فبزق :
انظر (بزق).
__________
(1) الكامل لابن عَدي (6/436).
(2) الجرح والتعديل (3/1/94).(3/269)
فصل الشين
الشاذ :
الشاذ عند المتأخرين اسم لما خالف فيه الثقةُ الأوثقَ سواء كانت الأوثقية بزيادة الضبط أو بكثرة العدد المرجِّح ، ولما تفرد به الضعيف الذي ينجبر وهنه بمتابعة مثله .
وإطلاقهم اسم الشاذ على الفسم الأول أشهر وأكثر .
ويفرقون بين الشاذ والمنكر بأن المنكر اسم لما خالف فيه الضعيفُ الذي ينجبر وهنه بمثله الثقةَ ، أو تفردَ به الأضعفُ الذي لا ينجبر وهنه بمتابعة مثله، وهو المتروك .
وأما المتقدمون فقد كانوا لا يفرقون بين الشاذ والمنكر ، فكل شاذ عندهم منكر ، ولا بد .
وقد عرّف الشاذ من القدماء الإمام الشافعي ، والحاكم النيسابوري ، والحافظ الخليلي ؛ وقد جمع بين أقوالهم جمعاً جيداً ووفق بينها وبين المعروف من اصطلاح علماء العلل وسائر المتقدمين توفيقاً جيداً بعضُ المحققين من المعاصرين كالدكتور حمزة المليباري في غير واحد من كتبه والدكتور حاتم العوني في (المنهج المقترح).
قال الدكتور حمزة في (نظرات جديدة في علوم الحديث) بعد كلام ذكره في فصل عقده لبيان معنى الشاذ عند المتقدمين :
(وعلى ذلك فإن "الشاذ" يصدق على المنكر ، فقد سوى بينهما الإمام ابن الصلاح خلافاً للآخرين من المتأخرين .
وأما الشافعي وغيره من حفاظ الحجاز فقيدوا برواية الثقة مخالفاً لمن هو أرجح منه ، وخلاصة القول أن المتقدمين اختلفوا في معنى (الشاذ) ، وأن جل المتأخرين استقروا على رأي الإمام الشافعي ، فينبغي التفطن لهذا التباين المنهجي بينهم كي يفسر (الشاذ) حسب منهج قائله دون خلط فيه .
ومن الأخطاء المترتبة على خلط المناهج ما وقع من كثير من المتأخرين حين تفسيرهم للشاذ الذي ورد في قول الترمذي في "الحسن" .(3/270)
قال الترمذي [أي في كتاب العلل الصغير] : "كل حديث يروى لا يكون في إسناده متهم بالكذب ولا يكون الحديث شاذاً ويروى من غير وجه نحو ذلك فهو عندنا حسن".
وقد فسر الحافظ ابن رجب [أي في شرح العلل] كلمة الشاذ الواقعة في نص الإمام الترمذي بما ذكره الشافعي ، وكذا فسرها الحافظ ابن حجر(1) وتفسيرها بما ذكره الشافعي لا يستقيم هنا لأن الشاذ عنده مقيد برواية الثقة ، وأن قول الإمام الترمذي إنما هو فيما يخص برواية غير الثقة وغير المتهم ، فكيف إذن يتحقق هنا معنى الشاذ على رأي الشافعي ؟ على أن الترمذي ليس من الحجازيين الذين يقولون بذلك .
ولهذا أصبح قول الترمذي الآخر - وهو "ويُروى من غير وجه" - تفسيراً لقوله : "ولا يكون شاذاً" ، وقد فهم ذلك بعض المتأخرين كما نقله الحافظ العراقي - إذ قال : إن قول الترمذي : "ولا يكون شاذاً" زيادة لا حاجة إليها ، لأن قوله : "يروى من غير وجه" يغني عنه ، ثم قال : "فكأنه كرره بلفظ مباين"(2).
وهذا هو الصحيح ، وإن رفضه الحافظ ابن حجر بناء على أن الحمل على التأسيس أولى من الحمل على التأكيد ، ولا سيما في التعاريف(3).
وجدير بالذكر أن هذا المصطلح نادر الاستعمال لدى المتقدمين ، فإذا تتبعت كتب العلل فإنك لا تكاد تجد فيها كلمة "الشاذ" ، ولا يعني هذا أنهم لا يعتبرون الحديث الشاذ معلولاً ، وإنما أوردوا ما يقال فيه "الشاذ" على كل المناهج بعبارات أخرى واضحة مثل قولهم : "هذا خطأ" ، "هذا غير محفوظ" ، "هذا وهم" ؛ ونحو ذلك). انتهى.
وقال (ص118) أيضاً : (عادة لا يستخدم النقاد في التعليل مصطلح الشاذ، وكثيراً ما يستخدمون المنكر فيما يصدق عليه الشاذ المردود، وقد جمع بعضهم بين هذه المصطلحات مثل قول صالح بن محمد الحافظ : الحديث الشاذ المنكر الذي لا يُعرف.
__________
(1) النكت على مقدمة ابن الصلاح (1/406) .
(2) التقييد والإيضاح (ص44) .
(3) النكت على مقدمة ابن الصلاح (1/406) .(3/271)
وليس المنكر في لغة المحدثين النقاد حكماً مستقلاً لوحده، بل هو نفسه الشاذ المردود) (1).
تنبيهان :
الأول : قال الزركشي في (النكت على مقدمة ابن الصلاح) للزركشي (2/138-139) : (وروى الأثرم في كتاب الناسخ والمنسوخ من جهة موسى بن علي عن أبيه عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم عرفة وأيام التشريق أيام أكل وشرب وقال : هذا حديث تفرد به موسى بن علي والذين رووا هذا الحديث لم يذكروا عرفة ، وقد يهم الحافظ أحياناً والأحاديث إذا كثرت كانت أثبت من الواحد الشاذ كما قال إياس بن معاوية : إياك والشاذ من العلم ، وقال إبراهيم بن أدهم : إنك إن حملت الشاذ من العلم حملت شراً كثيراً) .
الثاني : إذا خالف الثقة من هو أوثق منه أو أكثر عدداً وكان الجمع غير ممكن وكانت المخالفة في أصل من الأصول كان الحديث مقطوعاً بخطئه ، وهو حينئذ أسوأ حالاً من الضعيف غير المخالف ، ولكننا لا نطلق على ذلك الشاذ اسم الوضع والكذب إلا في حال التجوز وعدم مراعاة اصطلاح الجمهور ، ولكن يصح أن يطلق عليه اسم البطلان ، إذا كان معناه باطلاً ، وكل ما خالف أصلاً مقطوعاً به مخالفة ضدية ظاهرة مانعة من الجمع بين الطرفين فهو باطل قطعاً .
شافهني :
قال ابن حجر في (نخبة الفكر) : (وأطلقوا(2) المشافهة(3) في الإجازة المتلفظ بها(4)؛ والمكاتبة(5) في الإجازة المكتوب بها).
__________
(1) وانظر كلام الدكتور حمزة أيضاً في (سؤالات حديثية) (ص112-114).
(2) أي المتأخرون أو كثير منهم.
(3) أي لفظة (شافهني فلان).
(4) وهذا تجوز مخالف لصنيع المتقدمين، فإنهم إنما يطلقونها فيما سمعه التلميذ من شيخه.
(5) أطلقوها أيضاً، فيقول أحدهم: (كتب إلي فلان).(3/272)
الشاهد :
وصف الحديث بأنه شاهد لحديث آخر أكثر ما يوقعه المتأخرون على الحديث الذي هو مثل أو نحو ذلك الحديث ولكنه من رواية صحابي آخر ؛ أو يكون من رواية ذلك الصحابي نفسه ولكنه بمعناه ويباينه في بعض المسائل بحيث يغلب على الظن - بالنظر إلى ظاهر السياق - أنهما حديثان اثنان سمعهما ذلك الصحابي في مجلسين سمعهما من النبي صلى الله عليه وسلم بلا واسطة أو سمعهما عنه بواسطة ، أو سمع أحدهما بواسطة والآخر بدونها.
وأكثر المتأخرين على التفريق بين الشاهد والمتابع ، فالشاهد عندهم هذا معناه ، وأما المتابعة فهي أن يشارك الراويَ - أو بعضَ من بينه وبين الصحابي من رجال حديثه - راوٍ آخرُ ، فيروي الحديث بإسناد ذلك الرجل إلى منتهاه(1).
هذا وقد كان يكثر في كلام العلماء تسمية الشاهد متابعة وعكس ذلك . وانظر (المتابعة) .
وأما الشاهد بالمعنى فإنما يريدون به حديثاً آخر في الباب يشهد لمعنى ذلك الحديث في الجملة ويدفع عنه ما قد يُظَنّ به من الغرابة أو النكارة .
ويظهر لي أن أصل تسميتهم الحديث شاهداً ، أي لغيره ، كان مبنياً على المعنى اللغوي ومستنداً إليه أو مستمداً منه، فكان المعنى اللغوي في تلك التسمية مقصوداً وحاضراً ، فلا يسمى الحديث شاهداً إلا إذا كان شاهداً بالفعل ، أي أنه يصلح للشهادة؛ ثم غلب المعنى الاصطلاحي ، ولا سيما عند المتأخرين ، فصارت كلمة الشاهد تطلق على ما يصلح للشهادة وعلى ما لا يصلح لها، بل وعلى ما يشهد ببطلان الحديث الضعيف ونكارته وتعليله. وانظر ما يلي.
الشاهد بالمعنى :
انظر (الشاهد).
__________
(1) والفرق بينهما باختصار هو أن الشاهد مشارك في المتن دون السند، والمتابِع مشارك في المتن والسند أو في المتن وبعض السند.(3/273)
شاهد الزور :
كلمة من الكلمات البليغة التي تكررت على ألسنة بعض النقاد ، كالمعلمي اليماني رحمه الله ، فقد كان يرد بها على بعض المتساهلين كالسيوطي عندما يأتي بحديث ساقط ويزعم أنه شاهد لحديث آخر مثله ، مثل أن يقول السيوطي: وهذا الحديث يشهد له الحديث الفلاني ، فيرده المعلمي بنحو قوله : قلت : بل هو شاهد زور ، ثم يبين علله .
شبه الريح :
هذه عبارة تضعيف للحديث ، قال ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل) (1/243) : (نا صالح قال : قال علي : قلت ليحيى بن سعيد : سعيد بن المسيب عن أبي بكر ؟ قال : ذاك شبه الريح) .
وقال (1/244) : (نا صالح نا علي قال : سمعت يحيى يقول : مرسلات ابن عيينة شبه الريح----) .
وقال عبد الله بن أحمد في (العلل) (5851) : (سمعتُ أَبي قال: عبد الأعلى(1) عن ابن الحنفية عن علي شبه الريح ، كأنه لم يصححها)(2) .
وقال عبد الله (4137) : (سئل أبي عن عبد الأعلى الثعلبي ضعيف هو؟ فقال: قال عبد الرحمن بن مهدي: سألت سفيان عن حديث عبد الأعلى ، قال: كنا نرى أنها من كتاب، حديث ابن الحنفية، ولم(3) يسمع منه شيئاً)(4) .
وانظر (رياح) .
__________
(1) هو عبدالأعلى بن عامر الثعلبي ؛ وانظر ترجمته في (الجرح والتعديل) (6/25-26) و(الكامل) (1464) .
(2) رواية الجرح والتعديل (6/26) : (شبه ريح لم يصححها) ؛ وانظر (أحاديثه عن فلان كتاب) .
(3) في الأصل أو لم) مكان (ولم) .
(4) وقال عبد الله (4707) : (قال أبي: قال ابن مهدي عن سفيان، في حديث عبد الأعلى ؛ فقال: كنا نرى أنها كتاب، عن ابن الحنفية) ؛ ونحوه في (العلل) أيضاً (1514) و (المعرفة والتاريخ) (2/818) .(3/274)
شبه لا شيء :
هذا الكلام يقال تضعيفاً للراوي أو للرواية ؛ ومن أمثلة ذلك قول عبد الله بن أحمد في (العلل) (758) : (سمعتُ أَبي وذكر قبيصة(1)، وأبا حذيفة، فقال: قبيصة أثبت منه جداً ، يعني في حديث سفيان ؛ أبو حذيفة شبه لا شيء، وقد كتبت عنهما جميعًا) .
الشدة :
ورد في (المعجم الوسيط) (1/478) : (والشدة في الخط : رأس شين مهملة النقط توضع فوق الحرف دلالة على تضعيفه) ؛ انتهى .
وقال أستاذ التحقيق عبد السلام هارون في (تحقيق النصوص ونشرها) (ص55) : (والشدة ، وهي رأس الشين ، نجدها في الكتابة القديمة حيناً فوق الحرف، وآناً تحته إذا كانت مقرونة بالكسرة ؛ ونجد خلافاً في كتابتها مع الفتحة ، فأحياناً توضع الفتحة فوق الشدة ، وأحياناً تكتب الفتحة تحت الشدة هكذا ( ــِّ ) ، فيتوهم القارئ أنها كسرة مع الشدة ، مع أن وضع الكسرة تحت الشدة وفوق الحرف أمر لا يكاد يوجد في المخطوطات العتيقة .
والضمة يضعها المغاربة تحت الشدة .
وفي كثير من الكتابات القديمة توضع الشدة على الحرف الأول من الكلمة إذا كان مدغماً في آخر من نهاية الكلمة السابقة ، مثل (بل رّان) ، (يقول أهلكتَ مالاً لَّو قَنعت به) .
والشدة في الكتابة المغربية تكتب كالعدد (7) شديدة التقويس .
وقد عثرت على مخطوط أندلسي عتيق هو كتاب ا"لعققة والبررة" لأبي عبيدة ، وقد التزم فيه كاتبه وضع الحركات تحت النقط هكذا (مضغة)(2) ، أي مُضْغَةً .
__________
(1) هو قبيصة بن عُقْبة بن محمد بن سفيان السوائي، أبو عامر الكوفي.
(2) لم أقدر على رسم هذه الكلمة كما ينبغي ، وذلك بأن يجعل تحت نقطة الضاد علامة السكون ، وتحت نقطة الغين علامة الفتح ، كما في (تحقيق النصوص ونشرها) .(3/275)
وفي النسخة المغربية من كتاب "المحتسب" لابن جني (78 قراءات / دار الكتب) وجدت الشدة توضع مشابهة للعدد (7) فوق الحرف للدلالة على الشدة والفتحة ، ومشابهة للعدد (8) فوقه للدلالة على الشدة والضمة ؛ أما الشدة والكسرة فيعبر عنهما بالرسم (8) لكن تحت الحرف) ؛ انتهى .
شديد الأخذ :
يوصف الراوي بأنه شديد الأخذ ، إذا كان محققاً وغير متهاون ولا متساهل ، في حال سماعه الأحاديث من شيخه ، فلا يسمع - أو لا يكتب - ما يشك في صحته ، بل ربما امتنع من كتابة ما يعلم إصابة شيخه في روايته إياه ؛ ومنهم من لا يأخذ عن المدلسين إلا ما يصرحون فيه بالسماع.(3/276)
وكان بعض المحتاطين ربما شك في حديث واحد من أحاديث كتاب كتبه عن بعض شيوخه ، ثم ينسى ذلك الحديث فلا يقدر أن يعيّنه ، فيجعل ذلك سبباً في تركه الكتاب كله ، فلا يحدث بشيء منه ؛ جاء في (تهذيب الكمال) (20/371 وما بعدها) في ترجمة علي بن الحسن بن شقيق بن دينار : (قال أبو زكريا : وكان عالماً بابن المبارك ، قد سمع الكتب مراراً ، حدث يوماً عن ابن المبارك عن عوف عن زيد بن شراجة ، فقيل له : شراحة ، فقال : لا ، ابن شراجة ، سمعته من ابن المبارك أكثر من ثلاثين مرة ؛ قال أبو زكريا : وهو الصواب ، ابن شراجة ؛ وقال أبو عبيد الآجري : سئل أبو داود عن سفيان بن زياد ، فقال : من أصحاب ابن المبارك ، أثبت أصحاب ابن المبارك ، وبعده سليمان ، وبعده علي بن الحسن بن شقيق ؛ قال أبو داود : وسمع علي بن الحسن بن شقيق الكتب من ابن المبارك أربع عشرة مرة ؛ وقال أبو حاتم : هو أحب إلي من علي بن الحسين بن واقد ؛ وقال أبو عمار الحسين بن حريث : قلت للشقيقي : سمعت من أبي حمزة كتاب "الصلاة" ؟ قال : قد سمعت ، ولكن نهق حمارٌ يوماً فاشتبه علي حديث ، فلا أدري أي حديث هو ، فتركت الكتاب كله !!)(1).
شديد الاضطراب :
انظر (الاضطراب) و(مضطرب الحديث).
شديد الاضطراب في المسند :
أي أنه يرفع في أحيان كثيرة أحاديث موقوفة ، وانظر انظر (الاضطراب) و(مضطرب الحديث).
الشَّرْطة :
علامة من علامات الترقيم ، وتسمى أيضاً الوصلة ، وهي خط صغير هذه صورته ( - ) ؛ وتوضع في مواضع أشهرها ما يأتي :
__________
(1) ومما جاء في تتمة ترجمته : (وقال العباس بن مصعب المروزي : كان علي بن الحسن بن شقيق جامعاً ، وكان في الزمان الأول يُعدّ من أحفظهم لكتب ابن المبارك ، وقد شارك ابن المبارك في كثير من رجاله ، مثل شريك وإبراهيم بن طهمان وقيس بن الربيع).(3/277)
الأول : بين ركني الجملة إذا طال الركن الأول ، وذلك لأجل تسهيل فهمها ، مثل : إن العبد الذي يتقي الله ويصبر ويجتنب محارم الله ويجتهد في طاعة الله بصدق واحتساب - يعينه الله .
الثاني : توضع للفصل بين كلام المتخاطبين في حالة المحاورة ، مثل : طلب بعض الملوك كاتباً لخدمته ؛ فقال للملك : أصحبك على ثلاث خصال .
ـ ما هي ؟
ـ لا تهتك لي سترًا ، ولا تشتم لي عرضًا ، ولا تقبل فيَّ قول قائل .
ـ هذه لك عندي . فما لي عندك ؟
ـ لا أفشي لك سرًا ، ولا أؤخر عنك نصيحة ، لا أؤثر عليك أحدًا .
ـ نعم الصاحب المستصحب ، أنت ! .
الثالث : توضع بعد العدد في أول السطر .
الرابع : توضع الوصلة أيضاً بين رقمي الصفحتين المنقول عنهما ، مثل أن تقول : (قال ابن حجر في (فتح الباري) (1/10-11) كذا وكذا ) ، أو تقول : قال ابن القيم في (مدارج السالكين) (1/22-24) كذا وكذا ، فهي هنا بمعنى (و) ، أو بمعنى (إلى) .
وانظر (الترقيم) .
الشَّرطتان :
علامتان من علامات الترقيم ، ورمزهما هكذا ـ ـ ؛ توضعان قبيل وعقيب الجملة المعترضة ، أي أن الجملة الاعتراضية توضع بينهما ، وذلك لئلا تحول الجملة الاعتراضية دون ظهور اتصال الجملة التي قبلها بالجملة التي بعدها ، على الوجه الصحيح ؛ وذلك كقول الطالب لشيخه : (فسر لنا - بارك الله فيك شيخنا الفاضل - معنى هذه الآية الكريمة) .
الشذوذ :
انظر (الشاذ).(3/278)
شرح الحديث :
شرح الحديث هو بيان معانيه وما يستنبط منه(1) ، أو التمهيد لذلك بشرح غريب ألفاظه وحل مواضع الإشكال فيه ؛ ثم صار الشراح يتوسعون في ذلك كثيراً حتى صارت كتب شروح الأحاديث مقاصدها متعددة وغير منضبطة ، فهي تشمل في أحيان كثيرة مسائلَ كثيرة من أصول وفروع علم الحديث، ومسائلَ كثيرةً من العلوم الأخرى كالعربية والفقه وأصوله والعقيدة والتفسير والتزكية وغيرها .
ومن أفضل هذه الكتب أعلام السنن للخطابي ، ومعالم السنن ، له أيضاً ، وهو شيخ الشراح ، وكتابه الأول شرح لصحيح البخاري ، والثاني شرح لسنن أبي داود ؛ والتمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد ، لابن عبد البر ، وشرح القاضي عياض على صحيح مسلم ، وشرح ابن القيم على مختصر سنن أبي داود للمنذري ، وشرح ابن رجب على صحيح البخاري ، ولكنه ناقص ، وشرحه على سنن الترمذي، وهو من أجل كتب المتأخرين ولكنه فقد ، وما أعظم المصيبة بفقده ، وبقي منه شرحه على علل الترمذي الملحق بآخر سننه ، وقدرٌ يسير جداً من شرح الأصل ، لا يكاد يذكر؛ وشرح ابن حجر على صحيح البخاري ، وهو كتاب حافل كثير النفع بعيد الشهرة ؛ وإن كان شرح ابن رجب متفوقاً عليه من وجوه عديدة لولا أنه ناقص.
شعوبي :
روى الخطيب في (تاريخ بغداد) (45/78-79) عن علي بن الحسين بن حبان قال : وجدت في كتاب أبي بخط يده : سألته - يعني يحيى بن معين - عن أحمد بن بشير مولى عمرو بن حريث ، فقال : قد رأيته وكتبت عنه ، لم يكن به بأس إلا أنه كان يقّين .
__________
(1) قال الجوهري في (الصحاح) : (الشَرْحُ: الكَشْفُ؛ تقول: شَرَحْتُ الغامِضَ، إذا فسّرتَه؛ ومنه تشريح اللحم؛ والقِطْعة منه شَريحة. وكلُّ سَمينٍ من اللحم مُمْتَدٍّ فهو شَريحة وشَريحٌ. وشَرَح الله صَدْرَهُ للإسلام فانْشَرَح).(3/279)
ثم روى الخطيب عن عبد الله بن إبراهيم بن قتيبة قال : سمعت ابن نمير وسئل عن أحمد بن بشير فقال : كان صدوقاً حسن المعرفة بأيام الناس ، حسن الفهم ، وكان رأساً في الشعوبية أستاذاً يخاصم فيها فوضعه ذاك عند الناس .
قال ابن حجر في (تهذيب التهذيب) (1/15) (1) : (قلت : الشُّعوبية هم الذين يفضلون العجم على العرب ؛ وقوله " يُقَيِّن " : أي يبيع القينات)(2).
وقال الدكتور عبدالله الجبوري في (ابن قتيبة والشعوبية) (ص248) في تعريف الشعوبية : (وهي كما اصطلح عليها الدارسون : حركة فارسية عنصرية ذهبت إلى محاربة الدين ---- ، من خلال توهين السلطان العربي الذي هو عضبٌ أخيذٌ في صحائف الفتوح والتحرير ... لذلك راحت تعمل على تصغير شأن العرب .
وسُمّوا بذلك لدعواهم الانتصار(3) للشعوب التي هي مغايرة للقومية ، وذلك بفرط حسدها وحقدها المستكن ونَغَل الصدر ، تدفع عن العرب كل فضيلة ) ، ثم ذكر طرق هذه الحركة وتسترها بالدين .
الشق :
قال القاضي عياض في (الإلماع) (ص171) (واختلفت اختيارات الضابطين في الضرب(4) ، فأكثرهم على ما تقدم من مدِّ الخط عليه ، لكن يكون هذا الخط مختلطاً بالكلمات المضروب عليها ، وهو الذي يسمى الضرب والشق----) .
وانظر (الضرب) و (علامات اختلاف الروايات) .
الشكل :
ورد في (المعجم الوسيط) (1/493) : (وشكَلَ الكتابَ : ضبطه بالشكْل ---- ؛ وأشكَلَ الكتابَ : ضبطه بالشكْل ---- ؛ وشكَّلَ الكتابَ : ضبطه بالشكْل ---- ؛ والشكْلُ : هيئة الشيء وصورته.
(الشَّكْلةُ : المرة من الشكْل ؛ وتطلق على إحدى الحركات التي تُضبَط بها الحروف ؛ و[الشكْلةُ أيضاً] رمز هذه الحركة ؛ (ج) شَكْلٌ وشَكَلاتٌ).
__________
(1) وهنَّ الجواري .
(2) وتقدم هذا النقل في شرح معنى (ذهب حديثه) .
(3) في الأصل (بالانتصار) .
(4) أي الضرب على المكتوب المراد إبطاله .(3/280)
الشولة :
الشولة علامة من علامات الترقيم ؛ صورتها شبيهة بصورة علامة الاستفهام وهي ممالة إلى الخلف حتى تكاد تضطجع على قفاها ، كان جماعةٌ من الكاتبين والمؤلفين والمحققين من الجيل الذي قبل جيلنا يضعونها عند ختم المقالة ، أو الكتاب ، أو الباب ، أو الفصل ، أو مقدمة الكتاب ، أو تقريضه ، ونحو ذلك .
إذن الشولة في اصطلاح الكتّاب العصريين ليست مرادفة للفصلة ، خلافاً لما يأتي نقله عن (المعجم الوسيط) ، فهما مختلفتان في الصورة والموضع ، نعم الشولة تشبه الفصلة من جهة ، ولكنها تشبه علامة الاستفهام من جهة أخرى ، وهي لا تستعمل لفصل العبارات عن بعضها ، بل هي - كما تقدم - توضع في آخر الكلام للدلالة على انتهائه بكليته .
ورد في (المعجم الوسيط) (1/503) : (الشَّوْلَةُ : ما ترفع العقرب من ذَنَبها، و[هي أيضاً] الفَصْلة : وهي علامة من علامات الترقيم ترسم هكذا (،) توضع بين الكلمات والجمل المتعاطفة ، أو بين أنواع الشيء وأقسامه ، وبعد المنادى ، محدثة). انتهى .
وانظر (الترقيم) .
الشيخ :
الشَّيخ لغةً : مَن استبانت فيه السن وظهر عليه الشيب ، فلا يشترط في تسمية من حصل له ذلك شيخاً بلوغُه سناً معينة ؛ وقيل: الشيخ هو من تجاوز عمره الخمسين سنة ، أو نحو ذلك ؛ والأول أقرب ، وهو قول الجمهور(1) .
__________
(1) وتجمع شيخ على صيغ كثيرة ، فقد ذكروا في جموعها كل هذه الألفاظ : شُيوخٌ وأَشْياخٌ وشِيَخَةٌ وشِيْخانٌ ومَشْيَخَةٌ ومَشايخُ ومَشْيوخاءُ .
وقال بعضهم في بيان بعض جموعها : (تجمع على مشيخة بفتح الميم وكسرها وسكون الشين وفتح التحتية وضمها ، وأيضاً بفتح الميم وكسر الشين المعجمة وإسكان الياء ؛ وتجمع على شيوخ بضم المعجمة وكسرها مع ضم التحتية في كل حال) .
قال الجوهري : (والمرأة شَيْخَةٌ ؛ وقد شاخَ الرجل يَشِيخُ شَيَخاً بالتحريك، جاء على أصله، وشَيْخوخةً ، وأصل الياء متحركة ؛ وشَيَّخَ تَشييخاً، أي شَاخَ؛ وشَيَّخْته: دعوته شَيْخاً للتبجيل. وتصغير الشَيْخِ شُيَيْخٌ [بالضم] وشِيَيْخٌ أيضاً بالكسر؛ ولا تقل شُوَيْخٌ).(3/281)
ويطلق الشيخ في عُرف الفقهاء والطلبة وغيرهم مجازاً على المعلم والأستاذ ، لكبره وعلو منزلته .
ولقد كانت كلمة (الشيخ) مجردة عن التسمية لقباً لجماعة من العلماء؛ ولكن أكثر ذلك لم يشتهر كثيراً ، بل كان محصوراً في كتاب أو بيْنَ جماعةٍ من أصحاب ذلك الملقَّب أو من أهل مذهبه ، أو نحو ذلك ؛ فمثلاً الزيلعي يريد بلفظة (الشيخ) عند إطلاقها في (نصب الراية) الإمامَ ابنَ دقيق العيد ؛ وأما متأخرو الحنابلة فيريدون بها أحد رجلين :
أولهما : الإمام موفق الدين ابن قدامة .
وثانيهما : شيخ الإسلام ابن تيمية ؛ واصطلح على ذلكَ في حقه جماعةٌ من الحنابلة ، منهم ابن قاسم في تآليفه .
وإذا وردت كلمة (الشيخ) مطلقةً في ألفية العراقي فالمراد بها هو الإمام ابن الصلاح؛ قال العراقي في أوائل ألفيته:
فَحَيْثُ جَاءَ الفِعْلُ والضَّميْرُ
كَـ(قَالَ) أوْ أَطْلَقْتُ لَفْظَ الشَّيْخِ مَا ... لِواحِدٍ وَمَنْ لَهُ مَسْتُوْرُ
أُرِيْدُ إلاَّ ابْنَ الصَّلاحِ مُبْهَمَا
هذه أمثلة يسيرة، واختلافهم في مرادهم بهذه اللفظة أوسع من ذلك ؛ وهي كثيراً ما تجيء تعبيراً عن المصنِّف من قِبل راوِيَةِ كتابِه أو ناسخِه أو شارحِه.
شَيخٌ :
تأتي هذه اللفظة (شيخ) في باب النقد - أي التجريح والتعديل ونحوهما - بمعانٍ كثيرة أكثرها متقاربة أو متناسبة ، أو هي - في الأقل - راجعة إلى أصول قليلة أهمها ما يلي :
الأصل الأول : قلة روايته ؛ ولذلك تراهم أحياناً يطلقونها على المقل إذا لم يكن مشهوراً ولو كان مقبول الرواية ؛ ومن ذلك أنهم قد يقولونها للرجل باعتبار قلة ما يرويه عن محدث بعينه ، كما يقول بعض أصحاب المسانيد : حديث المشايخ عن أبي هريرة أو عن أنس فيسوقون في ذلك روايات لقوم مقلين عنهم وإن كانوا مكثرين عن غيرهم ؛ وكذلك إذا قالوا : أحاديث المشايخ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنما يعنون من ليس له عنه إلا الحديث أو الحديثين ونحو ذلك .(3/282)
الثاني : قلة الرواة عنه؛ وهذان قد يكونان سببين في جهالة حاله.
الثالث : قلة علمه ؛ فهم يصفون بها أحياناً من لم يكن من أهل العلم من الرواة .
الرابع : قلة اعتنائه بضبط الروايات وحفظها ؛ وهذا قد يكون سبباً في سوء حفظه للمرويات ، أو عدم ضبطه وإتقانه لما يؤديه.
الخامس : كونه أهلاً لأن يُروى عنه في الجملة ، وأنه من جملة الرواة الذين كُتبت أحاديثهم ، وصاروا شيوخاً لغيرهم .
وبناء على ما تقدم أو بعضه تراهم يطلقون كلمة "شيخ" أحياناً على المجهول ، وأحياناً على الضعيف الذي لم يشتد ضعفه ، وأحياناً على من هو وسط بين المقبولين والمردودين ، وأحياناً على من هو دون الأئمة والحفاظ سواء كان من الثقات أو لم يكن منهم .
ولا بد هنا من الاستعانة بالقرائن والسياقات لمعرفة المراد في كل عبارة يقولها ناقد من النقاد .
وقال الذهبي في (ميزان الاعتدال) في ترجمة العباس بن الفضل العدني : (سمع منه أبو حاتم ، وقال: شيخ ؛ فقوله "هو شيخ" ليس هو عبارة جرح ؛ ولهذا لم أذكر في كتابنا أحداً ممن قال فيه ذلك ؛ ولكنها أيضاً ما هي عبارة توثيق ؛ وبالاستقراء يلوح لك أنه ليس بحجة .
ومن ذلك قوله "يكتب حديثه"، أي ليس هو بحجة).
وقال الذهبي في مقدمة (الميزان) (1/3-4) : (ولم أتعرض لذكر من قيل فيه : "محله الصدق" ، ولا من قيل فيه: "لا بأس به" ، ولا من قيل فيه: "هو شيخ" أو: "هو صالح الحديث"؛ فإن هذا باب تعديل) .
وقال الذهبي في (الموقظة) (ص37-38) :
(الثقة : من وثَّقَه كثيرٌ ولم يُضعَّف .
ودُونَه من لم يُوثَّق ولا ضُعِّف .
فإن خُرِّج حديثُ هذا في الصحيحين ، فهو مُوَثَّق بذلك .
وإن صَحَّح له مثلُ الترمذيِّ وابنِ خزيمة فجيِّدٌ أيضاً .
وإن صَحَّحَ له كالدارقطنيِّ والحاكم ، فأقلُّ أحوالهِ : حُسْنُ حديثه .(3/283)
وقد اشتَهَر عند طوائف من المتأخرين إطلاقُ اسم "الثقة" على من لم يُجْرَح ، مع ارتفاع الجهالةِ عنه ؛ وهذا يُسمَّى : مستوراً ، ويُسمىَّ : محلهُّ الصدق ، ويقال فيه : شيخ ) .
وقال الزركشي في (نكته على ابن الصلاح) (3/434) : (قال الحافظ جمال الدين المزي : المراد بقولهم "شيخ" أنه لا يترك ولا يحتج بحديثه مستقلاً) .
وقال ابن القطان في (بيان الوهم والإيهام) (4/627) في بعض الرواة : (فأما قول أبي حاتم فيه : "شيخ" فليس بتعريف بشيء من حاله إلا أنه مقل ، ليس من أهل العلم ، وإنما وقعت له رواية أُخذت عنه ) .
وقال ابن القطان في (بيان الوهم والإيهام) (3/538-540) (1318) : (وذكر [يعني عبدالحق الأشبيلي] من طريق الدارقطني ، من رواية ابن وهب ، عن محمد بن عمرو اليافعي ، عن ابن جريج ، عن أبي الزبير ، عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا يرثُ المسلم النصراني إلا أن يكون عبدَه أو أَمَتَه" ؛ ثم قال : محمد بن عمرو شيخ ، وهذا الحديث المحفوظ فيه موقوف ؛ انتهى ما ذَكر ؛ وليس هذا بيان علته ، وإنما علته أن هذا الرجل مجهول الحال لا يعرف إلا برواية ابن وهب عنه ؛ وقد جازف في قوله فيه : "شيخ" ، فإنَّ هذه اللفظة يطلقونها على الرجل إذا لم يكن معروفاً بالرواية ممن أخَذ وأخَذ عنه ، وإنما وقعت له روايةٌ لحديث أو أحاديث فهو يرويها . هذا الذي يقولون فيه : "شيخ" ، وقد لا يكون مَن هذه صفته من أهل العلم .
وقد يقولونها للرجل باعتبار قلة ما يرويه عن شخص مخصوص ، كما يقولون : حديث المشايخ عن أبي هريرة أو عن أنس فيسوقون في ذلك روايات لقوم مقلين عنهم وإن كانوا مكثرين عن غيرهم .
وكذلك إذا قالوا : أحاديث المشايخ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنما يعنون من ليس له عنه إلا الحديث أو الحديثان ونحو ذلك .(3/284)
وأبو محمد(1) لم يرَ في هذا الرجل القول بأنه شيخ ، فإنهم لم يقولوا ذلك فيه فيما أعلم ، وإنما رأى في كتاب ابن أبي حاتم سؤال أبي محمد أباه وأبا زرعة عنه ، فقالا : هو شيخ لابن وهب(2) ، فهذا شيء آخر ، ليس هو الذي ذكر ، فإن لفظة "شيخ" لفظة مصطلَح عليها كما تقدم ، فأما لفظة شيخ لفلان فإنه بمعنى آخر .
والمقصود أن تعلم أن هذا الرجل لم تُنقَل لنا عدالتُه ؛ ثم هو قد خالفه فيه عبدالرزاق ، فرواه عن ابن جريج ، فوقفه ولم يرفعه .
فإذن إنما ترجح الموقوف ، لأنه عن ثقة ، والمرفوع عمن لا نعلم عدالته ، فاعلم ذلك ) ؛ هذا كله كلام الحافظ ابن القطان .
وقال أيضاً : (لفظ "شيخ" لا يعطي معنى التعديل المبتغى ولا أيضاً التجريح )(3) .
قال الدكتور قاسم علي سعد في (مباحث في علم الجرح والتعديل) (ص40) عقب قول ابن القطان هذا ونقَلَ قبلَه قولَه الذي قبْله : (وقد أيقظ ابنُ القطان في كلامه الأول إلى فائدة مهمة ، وهي أنهم قد يُطلقون لفظة الشيوخ على الثقات الذين هم دون الأئمة الحفاظ ؛ فحماد بن سلمة مثلاً شيخ في قتادة بالنسبة لهشام الدستوائي أو شعبة أو ابن أبي عروبة ، لخفة ضبطه عنه بالنسبة لهم ) .
وقال الزيلعي في (نصب الراية) (4/233) : (قال ابن القطان : الرازيان يعنيان بذلك أنه ليس من أهل العلم وإنما هو صاحب رواية) .
وقال ابن رجب في (شرح علل الترمذي) (1/461) : (والشيوخ في اصطلاح أهل العلم عبارة عمن دون الأئمة والحفاظ وقد يكون فيهم الثقة وغيره).
وقال فيه (1/372) : (وقال رواد بن الجراح : سمعت سفيان الثوري يقول : لا تأخذوا هذا العلم في الحلال والحرام إلا من الرؤساء المشهورين بالعلم الذين يعرفون الزيادة والنقصان ولا بأس بما سوى ذلك من المشايخ) .
__________
(1) هو العلامة عبدالحق .
(2) الجرح والتعديل (8/32) .
(3) نسخة دار الكتب المصرية (2/ ورقة 14أ) ، كما في (مباحث في علم الجرح والتعديل) (ص40) .(3/285)
وقال ابن أبي حاتم في (تقدمة الجرح والتعديل ) ( 2 / 37 ) : (وإذا قيل : "شيخ" فهو بالمنزلة الثالثه ، يكتب حديثه وينظر فيه ، إلا أنه دون الثانية ) ؛ وانظر في شرح هذه الجملة (يكتب حديثه وينظر فيه) .
وقال الترمذي في "سننه" في بعض الرواة : (وهو شيخ ليس بذاك(1) ، فقال المباركفوري في كتابه (تحفة الأحوذي) (1/303-304) في شرح هذه العبارة (وهو شيخ ليس بذاك) : (أي بذاك المقام الذي يوثق به ، أي روايته ليست بقوية ، كذا في الطيبي ؛ وظاهره يقتضي أن قوله "وهو شيخ" للجرح ، وهو مخالف لما عليه عامة أصحاب الجرح والتعديل من أن قولهم "شيخ" من ألفاظ مراتب التعديل .
فعلى هذا يجيء إشكال آخر في قول الترمذي ، لأن قولهم ليس بذاك من ألفاظ الجرح اتفاقاً ، فالجمع بينما في شخص واحد جمع بين المتنافيين .
فالصواب أن يُحمل قوله "وهو شيخ" على الجرح بقرينة مقارنته بقوله "ليس بذاك" وإن كان من ألفاظ التعديل ، ولإشعاره بالجرح لأنهم وإن عدوه في ألفاظ التعديل صرحوا أيضاً بإشعاره بالقرب من التجريح .
أو نقول : لا بد في كون الشخص ثقةً من شيئين : العدالة والضبط ، كما بُيِّن في موضعه ، فإذا وُجد في الشخص العدالةُ دون الضبط يجوز أن يعدل بإعتبار الصفة الأولى ويجوز أن يجرح بإعتبار الصفة الثانية ، فإذا كان كذلك لا يكون الجمع بينهما جمعاً بين المتنافيين ؛ كذا في السيد جمال الدين رحمه الله ؛ كذا في المرقاة ) ؛ انتهى كلام المباركفوري .
تنبيه : من أكثر النقاد استعمالاً لهذه اللفظة الاصطلاحية "شيخ" الإمام أبو حاتم الرازي .
هذا يتعلق بمعنى كلمة (شيخ) مفردة أي مجردة ؛ وأما عند اقتران كلمة (شيخ) بكلمة نقدية أخرى ، فحينئذ تكون كلمة (شيخ) مفسرة بمعناها العرفي عند المحدثين، فالشيخ هو الراوي ، أو تكون مفسرة بحسب معنى تلك الكلمة التي قرنت بها ، مثل أن يقال: هو شيخ قليل الحديث .
__________
(1) وفي بعض النسخ (بذلك) .(3/286)
وأما عند الإضافة ، مثل أن يقال : فلان شيخ لفلان ، أو : هو من شيوخه ، فلها معنى آخر شهير ، يأتي ذكره في (شيخ فلانٍ) .
شيخ الإسلام :
لقبٌ أو وصفٌ يُفترض أن يدلَّ على سعة علمِ من وُصف به ورسوخِه في العلم ، وإمامتِه في الدين، وصلاحِه لإفتاء الأمة والمشاركة العظيمة في إصلاح أحوالها ، ودعوتِها إلى الله على بصيرة.
وأشهر من اشتهر بهذا الوصف هو الإمام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية رحمه الله .
وهذه الكلمة قديمة الاستعمال قالها الذهبي في (الكاشف) في الإمام عبد الله بن المبارك ، فقال : (وناهيك به شيخ الإسلام ، وشيخُ الإسلام إنما هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه الذي ثبّت الزكاة، وقاتل أهل الردة ؛ فاعرفه)(1) .
وقد أخرج الخطيب في (الرحلة في طلب الحديث) (ص91-92) عن الفضل قال : سمعت أحمد رحمه الله وقال له رجل : عمن ترى يكتب الحديث ؟ فقال له : أخرج إلى أحمد بن يوسف ، فإنه شيخ الإسلام .
وقال السخاوي في (الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر) (1/66) :
(ولم تكن هذه اللفظة مشهورة بين القدماء بعد الشيخين : الصدّيق والفاروق، رضي الله عنهما؛ الوارد وصفهما بذلك عن علي رضي الله عنه، فيما ذكره المحب الطبري في "الرياض النضرة" بلا إسناد----) .
__________
(1) نقل كلمة الذهبي هذه عن كتابه (الكاشف) الحافظُ السخاوي في (الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر) (1/66) ؛ وهذه الجمل التي نقلها السخاوي لم يرد في مطبوعة (الكاشف) شيء منها ، وإنما ورد فيها (1/591) (2941) وصفه بأنه (شيخ خراسان) ، وعلق محمد عوامة على كلمة (شيخ خراسان) هذه بقوله : (هو كذلك في الأصل ونسخة السبط ، لا يحتمل أدنى لَبْس ، لكن في النسخة الحلبية الثانية : شيخ الإسلام ، وهكذا نقله السخاوي في الجواهر والدرر 1/15 ! ) .(3/287)
وقال السخاوي أيضاً (1/68) عقب شيء ذكرَه : (وقد وصف الإمام المبجل أحمد بن حنبل - وناهيك بورعه وتحريه - أبا الوليد الطيالسي، وأحمد بن يونس(1)، بمشيخة الإسلام، ولم يكن لهما سوى فنِّ الحديث ؛ ولم تنحصر مشيختُه(2) في واحد منهما، رحمهم الله وإيانا). انتهى.
وإذا قال ابن حجر في (فتح الباري) : (شيخنا شيخ الاسلام) ، فالمراد به شيخه البلقيني ، وأحياناً يرصح به .
وهذه اللفظة أطلقها السيوطي وغيره على ابن حجر ، بل كاد السيوطي في (تدريب الراوي) أن يقتصر عليها وحدها عند ذكره ابن حجر ؛ وأطلقها أيضاً ابن القيم في (مدارج السالكين) - وأحياناً في غيره من كتبه - على الشيخ الهروي صاحب (منازل السائرين) الذي شرحه هو في (المدارج)(3) ؛ ثم أطلقتْ أيضاً على زكريا الأنصاري وهو من مشاهير متأخري الشافعية (ت 925هـ) .
وأطلقت - بعد أن صارت منصباً رسمياً في الدولة العثمانية - على جماعة من المتأخرين الذين شغلوا ذلك المنصب.
وأطلق الآلوسي في (روح المعاني) هذا اللقب على المفسر أبي السعود ، فكان إذا نقل عنه من (تفسيره) قال - غالباً - : (قال شيخ الإسلام)(4) .
__________
(1) هو أحمد بن عبدالله بن يونس الكوفي التميمي ؛ قال المزي في (تهذيب الكمال) (1/377) : (قال الفضل بن زياد القطان : سمعت أحمد بن حنبل - وقال له رجل : عمن ترى أن نكتب الحديث ؟ - قال : اخرجْ إلى أحمد بن يونس ، فإنه شيخ الإسلام).
(2) أي مشيخة الحديث.
(3) ومن عباراته في (المدارج) هذه العبارة العظيمة الشهيرة - وهي في منزلة الرجاء (2/37) - : (شيخ الإسلام حبيب إلينا ، والحق أحب إلينا منه ، وكل من عدا المعصوم فمأخوذ من قوله ومتروك ) ، ثم قال عقبها: (ونحن نحمل كلامه على أحسن محامله ثم نبين ما فيه----).
(4) وكان الالوسي إذا نقل عن (تفسير البيضاوي) يقول : قال القاضي ؛ وإذا نقل عن (تفسير الفخر الرازي) يقول : قال الإمام .(3/288)
وتكلم السخاوي في (الجواهر والدرر) (1/65-68) على معنى هذه اللفظة وتاريخ استعمالها وشيوعها، وذكر جماعة ممن لُقبوا بها ؛ ومما قاله هناك هذه الجملة :
(وابتُذلت هذه اللفظة، فوُصف بها على رأس المئة الثامنة ، وما بعد ذلك، من لا يُحصى كثرةً، حتى صارت لقباً لكل من ولي القضاء الأكبر، ولو كان عارياً عن العلم والسن وغيرهما؛ بل صارت جهلةُ الموقِّعين وغيرهم يَجمعون جُلَّ الأوصاف التي لا توجد الآن متفرقة في سائر الناس ، للشخص الواحد؛ والعجب ممن يُقرّهم على ذلك؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون).
شيخٌ صالحٌ :
انظر (صالح).
شيخُ فلانٍ :
تقدم معنى كلمة (شيخ) باعتبارها اصطلاحاً نقدياً ، وباعتبارها لفظة عرفية خارجة عن نطاق الجرح والتعديل .
وأما عند إضافة تلك اللفظة إلى بعض تلامذة الشيخ ، أي أن يقال : هو شيخ فلان ، فهذا تعبير تعريفي ، أعني أن فيه تعريف الشيخ بإضافته إلى تلميذ له مشهور ، أو تعريفاً بأن ذلك التلميذ قد لقي ذلك الشيخ وأخذ منه .
وبعبارة أخرى أقول : إن لكلمة (شيخ) - مضافةً إلى راو بعينه - معنى مشهوراً ، وهو أن ذلك الراوي - أعني الذي أضيف إليه الشيخ - قد سمع من ذلك الشيخ بلا واسطة ، ولو في الجملة ؛ فإذا قيل : الزهري شيخ مالك ، فذلك معناه.
ولا يَعدُّ المحدثون الرجلَ شيخاً لغيره إلا إذا ثبت سماعه منه ولو في بعض ما روى عنه ، فلا يصح أن يوصف كل من حدث عنه الرجل - من غير أن يذكر واسطة بينهما - بأنه شيخ له ؛ ومن حدث عن غيره حديثاً سمعه منه فهو شيخه في الجملة، وهو شيخه في ذلك الحديث وفي سائر الأحاديث التي سمعها منه ، دون الأحاديث التي رواها عنه من غير أن يذكر واسطة وهو لم يسمعها منه، فليس هو شيخاً له فيها.(3/289)
تَبيَّنَ من هذا أنه لا شأن لقولنا (زيد شيخ عمرو) بتعديل أو تجريح ؛ إلا إذا كان المضاف إليه ، أعني التلميذ ، الذي عبرت عنه هنا بكلمة (عمرو) : ممن لا يروي إلا عن ثقة ، أو كان متحرياً محتاطاً ينتقي شيوخه ، أو يمتنع عن الرواية عن الساقطين والمتروكين ومن يُجهل حاله ، فحينئذ يكون لوصف راو من الرواة بأنه من شيوخه معنى نقدي لا يهمل ؛ كما يقال في الراوي : هو من شيوخ شعبة ، أو : هو من شيوخ مالك ، أو : هو من شيوخ أحمد ، أو : هو من شيوخ البخاري في (صحيحه) ؛ فهؤلاء أئمة متثبتون لهم في شيوخهم شروط معلومة عند أهل العلم وطلبته(1).
وانظر (شيخ لفلان) .
شيخ لفلان :
تقدم شرح معنى قولهم في الراوي (هو شيخ فلان) ، ومنه يُعلم في الجملة معنى قولهم (هو شيخ لفلان) ، ولكن ثم فرق ينبغي التنبيه عليه ، وهو أن هذه العبارة الثانية أكثر ما تستعمل في التعريف بالمجاهيل والمقلين ونحوهم ، بل من يقال له ذلك يكون في الغالب ليس له إلا راو واحد هو ذلك الراوي الذي أضيف إليه ، فكأنه لا يعرف إلا ببرواية ذلك الراوي عنه ؛ وهذه أمثلة من (ميزان الاعتدال) للإمام الذهبي :
قال (2/69) (1315) : (بكير البصري : شيخ لهشيم ، مجهول).
وقال (2/59) (1277) : (بكر بن حدان : شيخ لبقية ، مجهول ، ليس بشيء ، روى عن وهب بن أبان ؛ قاله أبو حاتم).
وقال (2/96) (1404) : (ثوابة بن مسعود التنوخي : شيخ لابن وهب ، قال ابن يونس في "تاريخه" : منكر الحديث).
وقال (2/182) (1657) : (الحارث بن يزيد السكوني : شيخ للوليد بن مسلم).
وقال (2/269) (1934) : (الحسن بن فهد بن حماد : شيخ لأبي علي بن الصواف ، لا يعرف ، وأتى بخبر باطل رواه عن يحيى بن عثمان الحربي).
__________
(1) ومثل قولهم في الراوي (هو شيخ لفلان) أي من المتثبتين : قولهم فيه: (روى عنه فلان) أي منهم، كما يقال: (روى عنه يحيى بن سعيد القطان) ،أو (روى عنه أبو زرعة الرازي)، أو (روى عنه البخاري).(3/290)
وقال (2/164) : (1606) : (حاجب بن سليمان المنبجي : شيخ النسائي ، وثقه النسائي ؛ وقال الدارقطني : كان يحدث من حفظه ، ولم يكن له كتاب ، وهم في حديثه عن وكيع عن هشام عن أبيه عن عائشة "قبَّل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بعض نسائه ثم صلى ولم يتوضأ " ؛ والصواب عن وكيع بهذا الإسناد أنه كان يقبل وهو صائم).
قلت : انظر كيف قال في هذا الرجل الذي وثقه النسائي وروى عنه : (شيخ النسائي) ، ولم يقل : (شيخٌ للنسائي) ، خلافاً لما في الأمثلة السابقة التي ترجم فيها لجماعة من المجاهيل أو الهلكى .
شيخٌ وسطٌ :
من قيلت فيه هذه الكلمة من الرواة فهو يسستحق أن يستشهد به بشروط الاستشهاد ، ولا يحتج به مفرداً.
الشيخان :
إذا أطلقت هذه اللفظة في كتب الحديث أو مجالسه ، عند المتأخرين ، فالمراد بها الإمامان الجبلان البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى(1) .
ويُراد بهذه اللفظة أحياناً كثيرة، ولا سيما في كتب التاريخ والسير : أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما ؛ والسياق كفيل ببيان المراد بها .
قال الدكتور محمد سليمان الأشقر في بحثه (المنشور في مجلة الحكمة) بعنوان (ترميز كتب الحديث) : (ومنها العَلَم بالغلبة، كقولهم: "ابن عباس" ، لعبد الله بن عباس بن عبد المطلب و "ابن عمر" لعبد الله بن عمر الخطاب، رضي الله عنهم، ونحو "البيت" ، لبيت الله الحرام، و "المدينة" ، لمدينة النبي صلى الله عليه وسلم ، ونحو "الإمام" عند الشافعية لابن الجويني ، و"الشيخان" في الصحابة ، لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، و"الشيخان" عند الشافعية(2) للرافعي والنووي، و"الشيخان" عند الحنابلة للموفق والمجد، و"الشيخان" عند الحنيفة لأبي حنيفة وأبي يوسف(3) ، وعند المحدثين للبخاري ومسلم) .
شيعي :
انظر (رافضي) .
شيعي جلد :
انظر (رافضي) .
شيوخ الأئمة :
المراد بهذا اللفظ شيوخ الأئمة الستة ؛ انظر (كذاب جبل).
شيوخ فلان ثقات :
انظر (رجال إسناده ثقات).
__________
(1) وإنما قيدتُ بالمتأخرين ، لأن المتقدمين لم يستقرَّ عندهم هذا الاصطلاح فيما يظهر لي.
(2) أي متأخريهم .
(3) ولكن قال بعضهم : الشيخان في اصطلاح الحنفية هما الصاحبان أبو يوسف ومحمد بن الحسن . محمد خلف .(3/291)
فصل الصاد
ص :
هذا الحرف يُرمز به للصفحة المنقول منها أو المحال عليها ، من صفحات الكتاب ، مثل أن يقال : قال ابن الصلاح في (علوم الحديث) (ص75) ---.
والذي جرت عليه عادة أغلب المشتغلين بالتأليف والتعليق على الكتب في هذه الأوقات هو استعمال هذا الرمز (ص) إذا كان الكتاب المنقول منه ، في مجلد واحد أو سفر واحد ، أعني غير مجزَّأٍ ؛ وأما إذا كان الكتاب المنقول منه مجزءاً فيسلكون في ذلك حينئذ - كما هو معروف - طريقة أخرى ، وهي كتابة رقم ذلك الجزء من الكتاب وبعده رقم الصفحة ، مفصولاً بينهما بخط مائل ، مثل قولهم : "قال ابن حجر في (النكت (1/125) ---"، أي من دون كتابة الرمز (ص) .
وأما إذا كانت الإحالة على أرقام الأحاديث فالعادة الغالبة اليوم أن يوضع رقم الحديث بين قوسين أي هلالين متقابلين ، مجرداً من أي رمز آخر ؛ ومن المخرجين للأحاديث من يجمع في تخريجه بين ذكر رقم الصفحة ورقم الحديث ، ومعلوم أنه في هذه الحالة إذا كان الكتاب في أكثر من سِفر فإنه يحتاج إذا ذكر رقم الصفحة أن يعيّن رقم السفر أيضاً.
هذا وقد اصطلح غير واحد من العلماء على استعمال حرف الصاد رمزاً إلى كتاب بعينه ، ومن ذلك أن ابن حجر رمز في كتابه (النكت على ابن الصلاح والعراقي) للأول بالرمز (ص) وهو بشير إلى ابن الصلاح أو الأصل ، وللثاني بالرمز (ع) ، وهو يشير إلى العراقي أو الفرع .
صاحب الانتخاب يندم، وصاحب النسخ لا يندم :(3/292)
كلمة للإمام ابن معين أسندها إليه ابن عدي في (الكامل) (1/124) ، ومراده أن من يسمع على الشيخ بعض أحاديثه فإنه يندم بعد ذلك ، وذلك بخلاف من يسمعها كلها ؛ ولا شك أن مراد ابن معين بالذين يندمون هم علماء الجرح والتعديل ، والمحدثون الكبار ، وأهل الحرص من الطلبة ، والراغبون في التوسع في كثرة المرويات .
ومعنى (الانتخاب) في عبارة ابن معين هو الانتقاء ، ومعنى (النسخ) فيها هو (النسخ على الوجه) ، أي نسخ كل ما يحدث به الشيخ ؛ وانظر (الانتخاب) و(النسخ) و(إذا كتبت فقمش وإذا حدثت ففتش).
صاحب أوابد :
هذه الكلمة يطلقها أصحاب الحديث على من يروي الموضوعات والمنكرات الساقطة الباطلة والشديدة النكارة والتي يكون الحمل فيها - في الغالب - عليه .
والأوابد في اللغة جمع آبدة ، وهي التي قد تأبدت ، أي توحشت ونفرت من الإنس ، ومنه قولهم : جاء بآبدة ، أي بأمر عظيم يُنفَر منه ويستوحش ؛ قاله ابن الأثير في (النهاية في غريب الحديث والأثر) (1/13) .
وقال برهان الدين الحلبي في (الكشف الحثيث) (ص306-307) في ترجمة (علي بن يزداد الجرجاني الجوهري) : (شيخ لابن عدي متهم ، روى عن الثقات أوابد ؛ انتهى لفظ الذهبي .
والذي ظهر لي من هذه العبارة أنه اتهم بالوضع مع قرينة قوله "روى عن الثقات أوابد" .
الأوابد جمع آبدة ، والآبدة الوحشية ، يقال : أَبَدَت البهيمةُ تأْبُدُ ، وتأْبِد ، إن توحشت ؛ والأوابد : الوحوش ، والتأبُّد : التوحُّش ، وتأبَّدَ المنزل : أقفر وألِفته الوحوش ، وجاء فلان بآبدة : أتى بداهية يبقى ذكرها على الأبد ، ويقال للشوارد من القوافي : أوابد) . انتهى كلام الحلبي(1) .
وانظر (له طامات) .
صاحب حديث :
يطلق العلماء هذه الكلمة على من اشتدت عنايته بالأحاديث طلباً وسماعاً وكتابة وضبطاً وحفظاً ورواية وجمعاً وتصنيفاً ونحو ذلك مما يتعلق بهذه المسائل .
__________
(1) وانظر (لسان العرب) (3/68-69) و (الصحاح) للجوهري : مادة (أبد).(3/293)
ويقولون في وصف بعض الرواة أو الفقهاء: (لم يكن صاحبَ حديث) يريدون بذلك أنه ليس معتنياً بهذا الفن عناية كافية ، ولا معدوداً في جملة أهله ، وإن روى شيئاً من الأحاديث .
من أمثلة ذلك قول ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل) (1/38): (نا صالح [هو ابن الإمام أحمد] نا علي [هو ابن المديني] قال: سألت سفيان عن جعفر بن محمد بن عباد بن جعفر وكان قدم اليمن فحملوا عنه شيئاً؛ قلت لسفيان : روى معمر عنه أحاديث يحيى بن سعيد ؛ فقال سفيان: إنما وجد ذاك كتاباً، ولم يكن صاحب حديث ؛ أنا أعرَفُ بهم ؛ إنما جمع كتباً فذهب بها)(1). انتهى.
وفي كثير من الأحيان تكون كلمة (لم يكن صاحب حديث) أو (ليس بصاحب حديث) ونحوهما غمزاً للراوي أو إشارة إلى تضعيفه؛ روى العقيلي في (الضعفاء) في ترجمة (جلد بن أيوب) عن عبد الله بن المبارك أنه قال: (أهل البصرة يضعفون جلد بن أيوب ويقولون: ليس بصاحب حديث) .
أسند الرامهرمزي في (المحدث الفاصل) (ص406) إلى أبي بكر بن أبي شيبة قال : (من لم يكتب عشرين ألف حديث إملاءً لم يُعَدَّ صاحب حديث).
وقال المعلمي في (التنكيل) (ص708) في ترجمة محمد بن معاوية الزيادي :
(---- وقال ابن حبان في (الثقات) : (كان صاحب حديث) ؛ فدل هذا أنه قد عرفه حق معرفته ؛ وقد قدمنا في ترجمة ابن حبان أن مثل هذا من توثيقه توثيق مقبول ، بل قد يكون أثبت من توثيق كثير من الأئمة ، لأن ابن حبان كثيراً ما يتعنت في الذين يعرفهم) .
وقد يراد بصاحب الحديث الحافظُ ، قال السيوطي في أوائل كتابه (تدريب الراوي) : ( وقد كان السلف يطلقون المحدث والحافظ بمعنى ، كما روى أبو سعد السمعاني بسنده إلى أبي زرعة الرازي : سمعت أبا بكر بن أبي شيبة يقول : من لم يكتب عشرين ألف حديث إملاء لم يعد صاحب حديث .
وفي « الكامل » لابن عدي من جهة النفيلي ، قال : سمعت هشيماً يقول : من لم يحفظ الحديث فليس هو من أصحاب الحديث .
__________
(1) وانظر (أعرف بفلان).(3/294)
والحق أن الحافظ أخص(1)---) ؛ ثم نقل السيوطي كلاماً لابن السبكي من كتابه (معيد النعم ومبيد النقم) فدونكه من كتاب السبكي نفسه لا من (تدريب الراوي) فقد وقع في (التدريب) بعض الحذف والتحريف.
قال ابن السبكي (ص81-83) في أثناء فصل عقده في الكلام في العلماء ونقدهم :
(ومنهم فرقة ترقت عن هذه الفرقة وقالت : لا بد من ضم علم الحديث إلى التفسير فكان قصاراها النظر في (مشارق الأنوار) للصاغاني ، فإن ترفعت ارتفعت إلى (مصابيح البغوي) وظنت أنها بهذا القدر تصل إلى درجة المحدثين ، وما ذاك إلا لجهلها بالحديث ، فلو حفظ من ذكرناه هذين الكتابين عن ظهر قلب وضم إليهما من المتون مثليهما لم يكن محدثاً ، ولا يصير بذلك محدثاً حتى يلج الجمل في سَمِّ الخياط ؛ فإذا رامت بلوغ الغاية في الحديث - على زعمها - اشتغلت ب_(جامع الأصول ) لابن الأثير ، وإن ضمت إليه كتاب (علوم الحديث) لابن الصلاح أو مختصره المسمى بـ(التقريب والتيسير) للنووي، ونحو ذلك، فحينئذ ينادَى من انتهى إلى هذا المقام بمحدث المحدثين ، وبخاري العصر، وما ناسب هذه الألفاظ الكاذبة ؛ فإن من ذكرناه لا يُعد محدثاً بهذا القدر ؛ إنما المحدث من عرف الأسانيد والعلل وأسماء الرجال والعالي والنازل وحفظ مع ذلك جملة مستكثرة ، وسمع الكتب الستة و(مسند أحمد بن حنبل) و(سنن البيهقي) و(معجم الطبراني)، وضم إلى هذا القدر ألف جزء من الأجزاء الحديثية ؛ هذا أقل درجاته .
فإذا سمع ما ذكرناه وكتب الطباق ودار على الشيوخ وتكلم في العلل والوَفَيَات والأسانيد كان في أول درجات المحدثين، ثم يزيد الله من شاء ما شاء ).
__________
(1) الاعتراض على اصطلاح للسلف يهذه الطريقة غير جيد، لأنه أولاً لا مشاحة في الاصطلاح، ولا اعتراض عليه إلا بما يقتضي الاعتراض من إيهام ضارٍّ ونحوه ، وثانياً كيف يقال في مثل هذا الاعتراض أن الحق خلافه ، والمسألة ليست مسألة حقٍّ وضدِّه، وإنما هي مسألة اصطلاحات وألفاظ!(3/295)
وقال أيضاً (ص89-90) : (ومن أهل العلم طائفة طلبت الحديث ، وجعلت دأبها السماع على المشايخ ومعرفة العالي من المسموع ، والنازل ؛ وهؤلاء هم المحدثون على الحقيقة ؛ إلا أن كثيراً منهم يُجهد نفسه في تهجي الأسماء والمتون وكثرة السماع من غير فهم لما يقرؤُه ، ولا تتعلق فكرته بأكثر من أني حصلت "جزء ابن عرفة" عن سبعين شيخاً ، "جزء الأنصاري" عن كذا كذا شيخاً ، "جزء ابن الفيل" ، "جزء البطاقة" ، "نسخة أبي مسهر" ، وأنحاء ذلك .
وإنما كان السلف يسمعون فيعون فيرحلون فيقرءون فيحفظون فيعلمون(1) .
ورأيت من كلام شيخنا الذهبي في وصيته لبعض المحدثين في هذه الطائفة : ما حظ واحد من هؤلاء إلا أن يسمع ليروي فقط ، فلَيُعاقَبَنَّ بنقيض قصده ، وليشهرنَّه الله تعالى بعد أن ستره مرات ، وليَبْقَيَنَّ مضغة في الألسن وعبرة بين المحدثين ، ثم ليطبعَنّ الله على قلبه .
ثم قال : فهل يكون طالب من طلاب السنة يتهاون بالصلوات أو يتعانى تلك القاذورات ! وأنحس منه محدث يكذب في حديثه ويختلق الفُشار ؛ فإن ترقت همته المهينة(2) إلى الكذب في النقل والتزوير في الطباق فقد استراح ؛ وإن تعانى سرقة الأجزاء أو كشط الأوقاف فهذا لص بسمت محدث ---- ؛ وإن استعمل من العلوم قسطاً فقد ازداد مهانة وخبطا ، إلى أن قال : فهل في مثل هذا الضرب خير؟! لا كثَّر الله منهم . انتهى .
ولبعضهم :
إن الذي يروي ولكنه *** يجهل ما يروي وما يكتب
كصخرة تنبع أمواهها *** تسقي الأراضي وهي لا تشرب
----) ؛ انتهى ما أردت نقلُه من كلام التاج السبكي .
وقال السيوطي (1/48) بعد نقله هاتين الكلمتين عن ابن السبكي وغيرهما :
__________
(1) ذكر محقق الكتاب أن هذه الكلمة وردت في بعض أصوله الخطية بتقديم الميم .
(2) وقع في بعض نسخ (معيد النعم) : (الفتية) وفي أخرى (المهينة) وفي أخرى (المقينة) وفي أخرى (المعنتة) ، وفي (تدريب الراوي) (1/47) : (المفتَّنة) ، واختار محقق كتاب السبكي (الفتية)! .(3/296)
(وقال الشيخ تقي الدين السبكي إنه سأل الحافظ جمال الدين المزي عن حد الحفظ الذي إذا انتهى إليه الرجل جاز أن يطلق عليه : الحافظ ؟ فقال : يُرجع إلى أهل العرف ، فقلت : وأين أهل العرف ؟ قليل جداً ! ؛ قال : أقل ما يكون أن يكون الرجال الذين يعرفهم ويعرف تراجمهم وأحوالهم وبلدانهم أكثر من الذين لا يعرفهم ، ليكون الحكم للغالب ؛ فقلت له : هذا عزيز في هذا الزمان ، أدركت أنت أحداً كذلك ؟ فقال : ما رأينا مثل الشيخ شرف الدين الدمياطي ؛ ثم قال : وابن دقيق العيد كان له في هذا مشاركة جيدة ، ولكن أين السها من الثرى ؟!
فقلت : كان يصل إلى هذا الحد ؟ قال : ما هو إلا كان يشارك مشاركة جيدة في هذا ، أعني في الأسانيد ، وكان في المتون أكثر لأجل الفقه والأصول .
وقال الشيخ فتح الدين ابن سيد الناس : وأما المحدث في عصرنا فهو من اشتغل بالحديث رواية ودراية وجمع رواة ، واطلع على كثير من الرواة والروايات في عصره ، وتميز في ذلك حتى عُرف فيه خطه ، واشتهر فيه ضبطه ؛ فإن توسع في ذلك حتى عرف شيوخه وشيوخ شيوخه طبقةً بعد طبقة ، بحيث يكون ما يعرفه من كل طبقة أكثر مما يجهله منها ، فهذا هو الحافظ ؛ وأما ما يحكى عن بعض المتقدمين من قولهم "كنا لا نعدّ صاحب حديث من لم يكتب عشرين ألف حديث في الإملاء" فذلك بحسب أزمنتهم ؛ انتهى) ؛ اهـ .
ثم نقل السيوطي (1/48-49) جواب العراقي لتلميذه ابن حجر إذ سأله عن الحد الذي إذا بلغه الطالبُ في زمانهما استحق أن يسمى حافظاً .
ومن جملة ما ورد في كلام العراقيِّ قولُه : (وقد رُوي عن الزهري أنه قال : لا يولد الحافظ إلا في كل أربعين سنة(1) ، فإن صح كان المراد رتبة الكمال في الحفظ والاتقان ، وإن وجد في زمانه من يوصف بالحفظ ، وكم من حافظ غيره أحفظ منه ) .
ثم قال السيوطي (1/49) :
(ومن ألفاظ الناس في معنى الحفظ :
__________
(1) أرى أن هذا أثر منكر يبعد أن يقول مثلُ الزهريِّ مثلَه .(3/297)
قال ابن مهدي : الحفظ الاتقان .
وقال أبو زرعة : الإتقان أكثر من حفظ السرد .
وقال غيره : الحفظ المعرفة .
قال عبد المؤمن بن خلف النسفي : سألت أبا علي صالح بن محمد قلت : يحيى بن معين هل يحفظ ؟ قال : لا ، إنما كان عنده معرفة ، قال : قلت : فعلي بن المديني كان يحفظ ؟ قال : نعم ، ويعرف) .
ثم ذكر السيوطيُّ بعضَ ما رُوي في قدر حفظ الحفاظ ؛ فانظره وانظر بقية كلامه في هذه الأبواب في أوائل كتابه (تدريب الراوي).
وقال ابن حجر في (إنباء الغمر) (1/49) في ذكر وفيات سنة 774هـ ، وذكَرَ ابنَ رافع السلامي:
(وكان ذا صلاح وورع ومعرفة بالفن ، فائقاً، وكان الشيخ تقي الدين السبكي يرجحه على العماد ابن كثير----(1).
وذكر لي شيخنا العراقي أن السبكي كان يقدمه، لمعرفته بالأجزاء وعنايته بالرحلة والطلب.
__________
(1) مما حذفته من هذه الترجمة وأشرت إليه بالخط المقطَّع هذا المقطع: (قال ابن حبيب: إمام مقدام في علم الحديث ودرايته، ومميز بمعرفة أسماء ذوي إسناده وروايته، ورحل وطلب، وسمع بمصر ودمشق وحلب، وأضرم نار التحصيل وأجّج، وقرأ وكتب وانتقى وخرج، وعني بما روى عن سيد البشر، وجمع معجمه الذي يزيد على ألفي نفر، وكان لا يُعنَى بملبس ولا مأكل، ولا يدخل فيما أبهم عليه من أمر الدنيا إذا أشكل، ويختصر في الاجتماع بالناس، وعنده في طهارة ثوبه وبدنه أي وسواس، سكن دمشق وباشر التدريس في الحديث بالنورية وغيرها).(3/298)
قلت: والإنصاف أن ابن رافع أقرب إلى وصف الحفظ على طريقة أهل الحديث من ابن كثير ، لعنايته بالعوالي والأجزاء والوفَيَات والمسموعات دون ابن كثير، وابن كثير أقرب إلى الوصف بالحفظ على طريقة الفقهاء لمعرفته بالمتون الفقيهة والتفسيرية دون ابن رافع(1)
__________
(1) ولابن حجر رحمه الله في ابن كثير كلمة أخرى ، فقد قال فيه في (الدرر الكامنة) (1/374): (لم يكن على طريقة المحدثين في تحصيل العوالي، وتمييز العالي من النازل ونحو ذلك من فنون الحديث، وإنما هو من محدثي الفقهاء، وقد اختصر مع ذلك كتاب ابن الصلاح، وله فيه فوائد ).
قلت: لو قال: لم يكن على طريقة المتأخرين من المشتغلين بالحديث لكان الكلام أقرب وأصح، وتلك الطريقة لا تخلو من انحراف عن طريقة المحدثين الذين هم المحدثون حقاً: سفيان الثوري ويحيى بن سعيد القطان وأحمد بن حنبل والبخاري والنسائي والدارقطني والخطيب ومن عاصرهم من أئمة الحديث أو جاء من بعدهم وظل ماشياً على دربهم، فلقد كانوا لا يريدون إلا الحق والسنة، والذب عنها، وتمييز مقبول الحديث من مردوده وتعليم المسلمين أمر دينهم؛ ولكن المتأخرين - إلا من حفظه الله - كثر فيهم التكاثر وطلب الغرائب والعوالي وقلة النقد والاشتغال بالوسائل عن المقاصد.
وقد أحسن السيوطي إذ تعقب ابن حجر في ترجمة ابن كثير من كتابه (طبقات الحفاظ)، فقال: (قلت: العمدة في علم الحديث معرفة صحيح الحديث وسقيمه وعلله واختلاف طرقه ورجاله جرحاً وتعديلاً، وأما العالي والنازل ونحو ذلك، فهو من الفضلات لا من الأصول المهمة).
وانظر تعقيب المعلق على (ذيول تذكرة الحفاظ) (ص58) على ابن حجر.(3/299)
، فيُجمع منهما حافظ كامل، وقلَّ من جمعهما بعد أهل العصر الأول كابن خزيمة والطحاوي وابن حبان والبيهقي، وفي المتأخرين شيخنا العراقي. وكان ابن رافع كثير الإتقان لما يكتبه والتحرير والضبط لما يصنفه، وابتلي بالوسواس في الطهارة حتى أنْحَلَ بدنَه وأفسدَ ذهنَه وثيابه وتأسف هو على ذلك، ولم يزل مبتلى به حتى مات).
وللكتاني في (فهرس الفهارس) (ص71-78) بحث مطول تحت هذا العنوان (المقدمة الثانية في حد الحافظ والمحدث والمسنِد) فلينظره من أراد التوسع .
وقال ابن حجر في (إنباء الغمر) أيضاً (1/296) في وفيات سنة (806هـ) وهو يترجم شيخه الحافظ عبد الرحيم العراقي :
وعليه تخرج غالب أهل عصره، ومن أخصهم به صهره شيخنا نور الدين الهيثمي، وهو الذي دربه وعلمه كيفية التخريج والتصنيف، وهو الذي يعمل له خطب كتبه ويسميها له، وصار الهيثمي لشدة ممارسته أكثر استحضارا للمتون من شيخه حتى يظن من لا خبرة له أنه أحفظ منه، وليس كذلك لأن الحفظ المعرفة)؛ يعني أن الحفظ المعتد به أو الأكمل هو الحفظ الذي يكون مصحوباً بالإتقان والفقه وحسن الفهم؛ وكان نصيب العراقي من ذلك أوفر من نصيب تلميذه الهيثمي.
وقال السيوطي في (تدريب الراوي) (1/43-44) :
(الثانية : في حد الحافظ والمحدث والمسند :
اعلم أن أدنى درجات الثلاثة : المسنِد بكسر النون ، وهو من يروي الحديث بإسناده ، سواء كان عنده علم به أو ليس له الا مجرد رواية(1) .
وأما المحدث فهو أرفع منه .
__________
(1) نقل الكتاني في (فهرس الفهارس) ص71-78 كلام السيوطي فزاد من عنده في هذا الموضع ما لفظه :
"وقد صار اليوم يطلق على من توسع في الرواية وحصل الكثير من المسانيد والفهارس واتصل بها عن أيمة المشرق والمغرب من أهل هذا الشأن .
وأما المحدث فهو أرفع منه وقد عرفه المنلا الياس الكردي في حواشيه على النخبة بقوله : حده أنه العالم بطرق الحديث وأسماء الرجال والمتون لا من اقتصر عل السماع المجرد .
وفي القول الجميل لولي الله الدهلوي : نعني بالمحدث المشتغل بكتب الحديث بأن يكون قرأ لفظها وفهم معناها وعرف صحتها وسقمها ولو باخبار حافظ أو استنباط فقيه .(3/300)
قال الرافعي وغيره : إذا أوصى للعلماء لم يدخل الذين يسمعون الحديث ولا علم لهم بطرقه ولا بأسماء الرواة والمتون ، لأن السماع المجرد ليس بعلم .
وقال التاج ابن يونس في (شرح التعجيز) : إذا أوصى للمحدث تناول من علِم طرق إثبات الحديث وعدالة رجاله لأن من اقتصر على السماع ليس بعالم ، وكذا قال السبكي في (شرح المنهاج) .
وقال القاضي عبد الوهاب : ذكر عيسى بن أبان عن مالك أنه قال : لا يؤخذ العلم عن أربعة ، ويؤخذ عمن سواهم ، لا يؤخذ عن مبتدع يدعو إلى بدعته ، ولا عن سفيه يعلن بالسفه ، ولا عمن يكذب في احاديث الناس وإن كان يصدق في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا عمن لا يعرف هذا الشأن .
قال القاضي : مراده إذا لم يكن ممن يعرف الرجال من الرواة ولا يعرف هل زِيد في الحديث شيء أو نقص .
وقال الزركشي : أما الفقهاء فاسم المحدث عندهم لا يطلق الا على من حفظ سند الحديث وعلم عدالة رجاله وجرحها ، دون المقتصر على السماع .
وأخرج ابن السمعاني في (تاريخه) بسنده عن أبي نصر حسين بن عبد الواحد الشيرازي قال : العالم الذي يعلم المتن والاسناد جميعاً ، والفقيه الذي عرف المتن ولا يعرف الإسناد ، والحافظ الذي يعرف الإسناد ولا يعرف المتن ، والراوي الذي لا يعرف المتن ولا يعرف الإسناد).
ثم قال السيوطي : (وقد روى عن الزهري أنه قال : « لا يولد الحافظ إلا في كل أربعين سنة » ، فإن صح كان المراد رتبة الكمال في الحفظ والإتقان ، وإن وجد في زمانه من يوصف بالحفظ . وكم من حافظ غيره أحفظ منه . انتهى .
وانظر (أصحاب الحديث).
صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم :
هذا الوصف يستحقه كل من طالت صحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وربما أطلق - بنوع من تجوزٍ - على غير هذا الصنف من الصحابة؛ وانظر (صحابي).(3/301)
ولكن أوْلى من أُطلق عليه هذا الوصف ، به، هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، قال تعالى : (إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا) [التوبة 40]؛ وقال البخاري في (صحيحه) حدثني هشام بن عمار حدثنا صدقة بن خالد حدثنا زيد بن واقد عن بسر بن عبيد الله عن عائذ الله أبي إدريس عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: كنت جالساً عند النبي صلى الله عليه وسلم ، إذ أقبل أبو بكر آخذاً بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبته فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أما صاحبكم فقد غامر ) ؛ فسلم وقال: إني كان بيني وبين ابن الخطاب شيء فأسرعت إليه ثم ندمت فسألته أن يغفر لي فأبى علي فأقبلت إليك فقال: ( يغفر الله لك يا أبا بكر) ، ثلاثاُ؛ ثم إن عمر ندم فأتى منزل أبي بكر فسأل: أثَمَّ أبو بكر؟ فقالوا: لا ، فأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فسلم ، فجعل وجهُ النبي صلى الله عليه وسلم يتمعر حتى أشفق أبو بكر ، فجثا على ركبتيه فقال: يا رسول الله والله أنا كنت أظلم، مرتين ؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن الله بعثني إليكم فقلتم: كذبتَ، وقال أبو بكر: صدق؛ وواساني بنفسه وماله ؛ فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟! ) ، مرتين ؛ فما أوذي بعدها).
صاحِب فلان :
أي تلميذه الملازم له ؛ كما يقال : (قال المزني صاحب الشافعي) ؛ وانظر (أعرف بفلان) .
صاحب مناكير :
هذه من الألفاظ الدالة على أن الراوي متروكٌ ؛ وانظر (ذو مناكير).
صادق أمين :
أي ثقة .
صالح :
اختلفت عبارات العلماء في بيان مرتبة الراوي الذي يصفه النقاد بكلمة (صالح) وكلمة (صالح الحديث) ، والصحيح أنها من كلمات التليين فإن الائمة كثيراً ما كانوا يقرنونها بما يدل على ذلك من نحو قولهم (ليس بالقوي) و (فيه ضعف) و (لا يحتج به) و (يعتبر به) و (وسط) .(3/302)
ومن عباراتهم المهمة التي وردت فيها كلمة (صالح) قولُ أبي داود في (رسالته إلى أهل مكة) في بيانه لشرطه في (سننه) : (وليس في كتاب السنن الذي صنفته عن رجل متروك الحديث شيءٌ ، وإذا كان فيه حديث منكر بينت أنه منكر ، وليس على نحوه في البابِ غيرُه ---- .
وما كان في كتابي من حديث فيه وهن شديد فقد بينته ؛ ومنه ما لا يصح سنده .
وما لم أذكر فيه شيئاً فهو صالح .
وبعضها أصح من بعض) . انتهى.
وكلمة (صالح) هنا تحتمل ابتداءً - أي من حيث ملاحظة المعنى اللغوي - أن يكون المرادُ بها أحدَ ثلاثة أنواع من الأحاديث:
النوع الأول : الأحاديث الصالحة للاحتجاج ، وحدها، دون غيرها من الأحاديث ، سواء كانت تلك الأحاديث صالحة للاستشهاد أو متروكة .
وهذا النوع من الأحاديث يشمل الصحيح والحسن (عند من يحتج به) .
وعلى هذا التفسير لكلام أبي داود بنى من قال من المتأخرين أن كل ما سكت عنه أبو داود فهو عنده حسن في أقل أحواله .
ولكن هذا التفسير غير صحيح بدلالة أن العلماء وجدوا في (سنن أبي داود) أحاديث كثيرة لم يَذكرْ فيها شيئاً وهي ضعيفة ساقطة عن رتبة الاحتجاج ، ولكنها صالحة للاعتبار والاستشهاد.(3/303)
وأبو داود لم يُعنَ ببيان أحوال أحاديث هذا النوع ، لأن ضعفها عنده غير شديد ؛ فإنه قد قال - كما تقدمت حكايته عنه - : (وما كان في كتابي من حديث فيه وهنٌ شديدٌ فقد بينتُه ؛ ومنه ما لا يصح سنده)(1) ؛ فمعنى قوله (وهنٌ شديدٌ) هو الضعف الشديد ، ولا يصح تفسير الوهن الشديد بالضعف غير الشديد، إلا إذا كان معنى (الوهن) هو اللِّين والضعف اليسير الذي لا يمنع من صلاحية الحديث للاستشهاد ؛ وهذا غير صحيح ، لأن كلمة (وهن) تعني في اللغة والمصطلح الضعف المطلق أعني غير المقيد بخفة(2) ، بل هي في عرف بعض المتأخرين تطلق لإفادة الضعف الشديد .
فيبعد أن يكون مراد أبي داود بكلمة (وهن) الخفة في ضبط الراوي ليكون مراده بكلمة (وهن شديد) الضعيف لا الضعيف جداً .
ويؤيد هذا التقريرَ أن أبا داود ذكر في عبارته الأولى كما تقدم أنه يبين الأحاديث المنكرة عندما يذكرها في كتابه، ومعلوم أن المنكر شديد الضعف (ولو بحسب اصطلاح المتأخرين - في الأقل -)(3) فكأن تلك العبارة الأولى الصريحة هي تفسير هذه العبارة الأخيرة المشكلة ، أو التي قد تُشكل .
__________
(1) فكأنه رأى أن هذا الصنف من الأحاديث هو الذي يحتاج إلى البيان فبيَّنه .
(2) قال الجوهري في (الصحاح) : (الوَهْنُ، الضعفُ، وقد وَهَنَ الإنسانُ، ووَهَنَهُ غيره. يتعدَّى ولا يتعدَّى. ووَهِنَ أيضاً وَهْناً، أي ضَعُفَ. وأَوْهَنْتُهُ أيضاً ووَهَّنْتُهُ تَوْهيناً. والوَهْنُ من الإبل: الكثيف. والوَهْنُ: نحوٌ من نصف الليل؛ والمَوْهِنُ مثله. قال الأصمعيّ: هو حين يُدبر الليل. وقد أَوْهَنَّا: صرنا في تلك الساعة. والواهِنَةُ: القُصَيْرى، وهي أسفل الأضلاع. وامرأةٌ وَهْنانَةٌ: فيها فتور وأناة).
(3) إما بسبب شدة ضعف إسناده، أو بسبب مخالفته وشذوذه، أو لاجتماع الضعف والمخالفة.(3/304)
النوع الثاني : الأحاديث الصالحة للاستشهاد ، وحدها ، دون النوعين الباقيين ، وهما الأحاديث المحتج بها ، والأحاديث المتروكة ؛ فحينئذ لا يدخل في عبارة أبي داود - كما هو واضح - ما هو صالح للاحتجاج به ، ولا ما هو ساقط عن حد الاستشهاد .
وهذا المعنى فيه بعد ، وإن كان قريباً من أصل المعنى الاصطلاحي لكلمة (صالح) عند الجمهور، أو موافقاً له ؛ وسبب ذلك البعد هو أنه قد عُلم من استقراء (سنن أبي داود) أنه قد سكت - في جملة ما سكت عنه - عن الأحاديث الثابتة المحتجِّ بها فلا يصحّ إخراجُها من مقصودِ قولِه؛ (وما لم أذكر فيه شيئاً فهو صالح ).
النوع الثالث : مجموع النوعين السابقين ، أعني الأحاديث الصالحة للاحتجاج ، والأحاديث الصالحة للاستشهاد .
وعلى هذا المعنى الواسع بنى من قال : إن ما سكت عليه أبو داود من أحاديثه في (سننه) يحتمل أن يكون عنده صحيحاً أو حسناً أو ضعيفاً صالحاً للاستشهاد وللتقوية بكثرة الطرق بشروطها ، ولكنه لا يحتمل أن يكون ضعيفاً جداً غير صالح للاستشهاد والاعتبار.
وهذا التفسير الأخير - أي الاحتمال الثالث - هو الصحيح المتعين ، دون الاحتمالين الآخرين، وذلك لبطلانهما، كما تقدم.
ولعلنا - بعد أن تقرر هذا المعنى - لم يعدْ بنا كبيرُ حاجةٍ إلى أن نذكر أنه ، أي المعنى المذكور ، يتقوى بأن كلام أبي داود إذا كان محتملاً لأكثر من معنى ولم يترجح أحد تلك المعاني وجب حمله على أقلها مرتبة للحديث، فإن أمرَ النقد والاحتجاج بالروايات مبني على الاحتياط والتثبت .
والآن أنقل جملة من كلمات العلماء والباحثين في شرح معنى كلمة (صالح) أو (صالح الحديث):
أما معنى (صالح الحديث) عند ابن أبي حاتم فدونك بعض شرحه :
قال عبد الله بن يوسف الجديع في تعليقه على (المقنع) لابن الملقن (1/178) : (وقال أبو حاتم الرازي : "صالح الحديث" ، فقال له ابنه : تقوم به الحجة ؟ فقال : لا ، ولكنه صالح . الجرح 3/1/108.(3/305)
قلت : وفي هذا إشارة إلى لين فيه ؛ وأبو حاتم معروف بتشدده ، ومع ذلك فهو عنده ممن يعتبر به ، بل هو أعلى(1) ، لكنه لا يبلغ مبلغ الثقات ، وهذه صفة من يحسن حديثه )؛ انتهى .
وقال ابن حجر في (فتح الباري) (11/197) في عبد الملك بن الصباح : (ماله في البخاري سوى هذا الموضع ، وقد أورد طريق معاذ عن معاذ عن شعبة عَقِبَهُ إشارة إلى أنه لم ينفرد به، وعكس مسلمٌ فصدَّر بطريق معاذ ثم أتبعه بطريق عبد الملك هذا ؛ قال أبو حاتم الرازي : عبد الملك بن الصباح صالح ، قلت: وهي من ألفاظ التوثيق لكنها من الرتبة الأخيرة عند ابن أبي حاتم ، وقال ان من قيل فيه ذلك يكتب حديثه للاعتبار ؛ وعلى هذا فليس عبد الملك بن الصباح من شرط الصحيح لكن اتفاق الشيخين على التخريج له يدل على أنه أرفع رتبة من ذلك ولا سيما وقد تابعه معاذ بن معاذ وهو من الأثبات ).
وقال الذهبي في (مقدمة الميزان) (1/3-4) : (ولم أتعرض لذكر من قيل فيه : محله الصدق ، ولا من قيل فيه : لا بأس به ، ولا من قيل فيه : هو صالح الحديث ، أو يكتب حديثه ، أو هو شيخ ، فإن هذا وشبهه يدل على عدم الضعف المطلق .
فأعلى العبارات في الرواة المقبولين ثبت حجة وثبت حافظ وثقة متقن وثقة ثقة .
ثم ثقة صدوق ، و لا بأس به ، وليس به بأس .
ثم محله الصدق ، وجيد الحديث ، وصالح الحديث ، وشيخ وسط ، وشيخ حسن الحديث ، وصدوق إن شاء الله ، وصويلح ، ونحو ذلك). ثم ذكر أردأ عبارات التجريح .
وقال شيخ الاسلام ابن تيمية في (إبطال التحليل) (الفتاوى الكبرى 3/127-128) في معرض تقويته لبعض الرواة :
(قال فيه أبو حاتم : "هو صالح الحديث" ، وأبو حاتم من أشد المزكين شرطاً في التعديل ).
__________
(1) لا حاجة إلى هذا الإضراب.(3/306)
وممن عد قول أبي حاتم في الراوي (صالح) أو (صالح الحديث) تعديلاً أيضاً ابن الصلاح في (مقدمته) (ص112) والعراقي في (شرح ألفيته) (2/5) والسخاوي في (شرحه على الألفية) (1/365) والنووي في (التقريب) والسيوطي في (شرحه) (1/341-345) ثم المعلمي في (التنكيل) (2/13) .
ولكن الشيخ الألباني رحمه الله كان يرى خلاف ذلك ، فقد قال في (سلسلة الأحاديث الضعيفة) (3/112) في أثناء تخريج الحديث (1031) :
(وهذا وإن كان توثيقاً في اعتبار أكثر المحدثين ولكنه ليس كذلك بالنظر إلى اصطلاح أبي حاتم نفسه) ، ثم نقل تقسيم ابن أبي حاتم لمراتب الرواة الذي ذكره في (تقدمة الجرح والتعديل) (1/37) ثم قال :
(فهذا نص منه على أن كلمة (صالح الحديث) مثل قولهم (لين الحديث) يكتب حديثه للاعتبار والشواهد ، ومعنى ذلك أنه لا يحتج به ، فهذه العبارة من ألفاظ التجريح لا التعديل).
وهذا المذهب الذي اختاره الشيخ الألباني فيه نظر فراجع قول أبي حاتم في شيبان بن عبد الرحمن النحوي وعباد بن راشد التيمي الحبطي ومحمد بن أبي بكر المقدمي ولوين ومحمد بن علي بن ربيعة وعبد الله المكي وزياد بن كليب التيمي وزيد بن حباب .
وقال الدكتور قاسم علي سعد (ص40-41) : (وجعل ابن أبي حاتم هذه اللفظة في المرتبة الرابعة عنده وهي آخر مراتب التعديل ، غير أني وجدت في رسالة الذهبي في الرواة الثقات المتكلم فيهم ص10 ما نصه : "أبان بن يزيد العطار أحد الثقات قال فيه أبو حاتم : صالح الحديث ؛ وهذه العبارة تدل على أن غيره من رفقائه أثبت منه كهمام وبشار" .
وقول أبي حاتم لم أجده في الجرح والتعديل لابنه ، كما أني لم أعثر عليه في كثير من كتب الرجال ، ولم يذكره الذهبي في الميزان ولا في التذهيب وذكره في "المغني" و "سير أعلام النبلاء" .(3/307)
وقال ابن القطان في "بيان الوهم والإيهام" (2/141ب) : "القاسم بن مالك أبو جعفر المزني قال فيه ابن معين : ثقة ، وقال أبو حاتم : صالح لا بأس به ليس بالمتين ؛ وهذا إنما معناه أن غيره فوقه ، وبلا شك أن الثقات متفاوتون ؛ هذا إذا سلم له ما قال من إنه ليس بالمتين ، والرجل ثقة لا شك فيه " .
وكلام الذهبي هذا مع كلام ابن القطان يختلف عن مسلك ابن أبي حاتم في ترتيب لفظة "صالح الحديث" ؛ وقد تأملت طويلاً في تراجم كثيرة قال أبو حاتم في أصحابها : "صالح الحديث" ، فتبين لي أن عد ابن أبي حاتم هذه اللفظة في المرتبة الأخيرة من مراتب التعديل يخالف ما ذهب إليه أبوه) .
ثم ذكر الدكتور قاسم على سبيل التمثيل عشرة رواة قال أبو حاتم في كل منهم : (صالح الحديث)، ووثقهم بعض الأئمة كابن معين وغيره ، وخمسة رواة آخرِين وصفهم أبو حاتم بكلمة (صالح الحديث) مقرونة بكلمة (ثقة) أو (صدوق) أو (ثقة صدوق) أو (لا بأس به) " ، وراويين آخرَين قال أبو حاتم في أحدهما مرة : صالح الحديث ، ومرة : ثقة ، وفي الآخر مرة : صالح الحديث ، ومرة : ثقة صدوق .
تنبيه : كلمة (صالح) يراد بها أحياناً الصلاح في الدين ولا يكون متعلقها حال الراوي في روايته ، فلا بد من ملاحظة القرائن والانتباه إلى سياق الكلام .
قال المعلمي في (التنكيل) (ص411) في ترجمة إسحاق بن إبراهيم الحنيني : (وقال ابن أبي حاتم عن أبي زرعة : (صالح) - يعني في دينه لا في حديثه)(1) .
وقال ابن حجر في (النكت) (2/680) : (---- وقول الخليلي (إنه شيخ صالح) أراد به في دينه ، لا في حديثه، لأن من عادتهم إذا أرادوا وصف الراوي بالصلاحية في الحديث قيدوا ذلك فقالوا: (صالح الحديث) ، فإذا أطلقوا الصلاح فإنما يريدون به في الديانة ؛ والله أعلم) .
__________
(1) وانظر (الفوائد المجموعة) للشوكاني بتعليق المعلمي (ص35) .(3/308)
قلت : قول الخليلي (إنه شيخ صالح) يظهر أن الصحيح حمله على الصلاح في دينه ، كما قال ابن حجر ، ولكن ليس للسبب الذي ذكره ، وإنما لأن تلك العبارة جاءت وصفاً لكلمة شيخ، ومعروف أن قولهم (شيخ صالح) تعبير شائع ، الأصل فيه أن يكون مراده الدين لا الحديث ؛ وكذلك قولهم (رجل صالح)(1).
ما وصفه ابن حجر من عادتهم ليس شيئاً مطرداً ، فإذا قامت القرائن على أن المراد من كلمة (صالح) حال الراوي حملت عليه ، وما أكثر تلك القرائن .
ومنها أن يكون من قال تلك الكلمة في الراوي إنما قالها وحدها دون أن يقرنها قبلها بشيء ، فلا يقول مثلاً (شيخ صالح) .
ومنها أن يكون قُد سئل عن حاله في الرواية ، فأجاب بكلمة (صالح).
ومنها أن يكون السياق سياق مقارنة كأن يقول: فلان ثقة وفلان ضعيف وفلان صالح .
ومنها مثلاً أن يقول أبو حاتم: (فلان صالح)، ثم ينكر على البخاري إدخاله في الضعفاء .
ومنها أن يكون حاله عند سائر المتكلمين فيه من النقاد هو معنى كونه (صالح الحديث) .
ومنها أن لا يعرف بالصلاح الظاهر في الدين ، وأن يُحفظ عنه مع ذلك ما يَقدح في وصفِه به .
ومنها أن يقول الناقد : (فلان صالح ، مثل فلان وفلان)، فيذكر واحداً أو أكثر ممن عُرفوا بالصلاح في الرواية ولم يشتهروا بالصلاح في الدين .
صالح الأمر :
هي بمعنى (صالح) فانظرها.
صالح الأمر إن شاء الله :
هي بمعنى صالح ، على تردد من الناقد ، فانظر (صالح).
صالح الأمر وقد لُيِّن :
يظهر أنها بمعنى التي قبلها ، أو مقاربة لها فيه.
صالح الحال إن شاء الله :
هي بمعنى صالح ، على تردد من الناقد ، فانظر (صالح).
صالح الحديث :
انظر (صالح).
صالح الحديث وفي حديثه لين :
انظر (ثقة وليس ممن يوصف بالضبط) .
صالح صدوق ثقة ضعيف جداً :
انظر (ثقة وليس ممن يوصف بالضبط) .
__________
(1) ويبعد أن يراد بكلمة (شيخ) في مثل هذا التعبير المعنى النقدي لها ، وقد تقدم بيانه في (شيخ).(3/309)
صح :
هذا الرمز هو علامة التصحيح ، أو الإشارة إلى الصحة ، ويستعمل لمعانٍ ومقاصد كثيرة :
المقصد الأول : توضع هذه العلامة ( صح ) فوق الكلمة أو العبارة الموافقة للأصل الصحيح إذا كان من المحتمل أن يُظنّ أنها خطأ أو أنها زائدة أو أنها سقَطَ منها شيءٌ .
المقصد الثاني : تكتب بعد أو فوق الإصلاح الذي يُكتب في حاشية الصفحة، بعد الإشارة إلى الموضع المصحَّح .
المقصد الثالث : تكتب بعد اللحَق المخرّج في الحاشية ، إشارة إلى دخول ذلك اللحق في الأصل، وأنه صحَّ كونه منه.
المقصد الرابع : تكتب على موضع الكشط(1) ، فقد كان بعضهم يفعل ذلك ؛ ووظيفتها هنا شبيهة بوظيفتها التي تقدمت في المقصد الثاني قبل قليل .
المقصد الخامس : تأتي بمعنى حاء التحويل (ح) الموضوعة بين طريقي الحديثين. وانظر (التصحيح) و(حاء التجويل) .
صحابي :
الصحابي هو من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ، ومات على الإسلام ، وإن تخلل ذلك ردة .
ولا يشترط لإطلاق هذا الوصف على الرجل أن تطول صحبته للنبي صلى الله عليه وسلم ، أو أن يروي عنه شيئاً ، أو أن يغزو معه ، أو أن يكون بصيراً رأى النبي صلى الله عليه وسلم عندما لقيه .
فعن عبدوس بن مالك العطار قال: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل وذكرَ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أهلَ بدر فقال: (ثم أفضل الناس بعد هؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم القرن الذي بُعث فيهم ؛ كل من صحبه سنةً، أو شهراً، أو يوماً، أو ساعةً، أو رآه ، فهو من أصحابه ، له من الصحبة على قدر ما صحبه وكانت سابقته معه وسمع منه ونظر إليه). أخرجه الخطيب في (الكفاية) (ص51).
وقال الإمام البخاري في (صحيحه) (كتاب فضائل الصحابة) (باب فضائل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ورضي الله عنهم): (ومن صحب النبي صلى الله عليه وسلم ، أو رآه ، من المسلمين ، فهو من أصحابه). انتهى.
__________
(1) انظر (الكشط) .(3/310)
قال ابن حجر في (فتح الباري) (7/3 ) : (يعني أن اسم صحبة النبي صلى الله عليه وسلم مستحَقٌّ لمن صحبه أقل ما يطلق عليه اسم صحبةٍ لغةً، وان كان العرف يخص ذلك ببعض الملازمة ؛ ويُطلق [يعني اسم الصحبة] أيضاً على من رآه رؤية ، ولو على بُعد .
وهذا الذي ذكره البخاري هو الراجح ، إلا أنه هل يشترط في الرائي أن يكون بحيث يميز ما رآه أو يُكتَفَى بمجرد حصول الرؤية؟ محل نظر(1)
__________
(1) أطلق جماعة أن من رأى النبي صلى الله عليه وسلم فهو صحابي ، وهو محمول على من بلغ سن التمييز ، إذ من لم يميز لا تصح نسبة الرؤية إليه ، نعم ، قد يصدق أن النبي صلى الله عليه وسلم رآه ، فيكون صحابياً من هذه الحيثية ، وأما من حيث الرواية فيكون تابعياً .
قال السخاوي في (فتح المغيث) (4/78-79): (وأما الصغير غير المميز كعبد الله بن الحارث بن نوفل ، وعبد الله بن أبي طلحة الأنصاري ، وغيرهما ممن حنكه النبي صلى الله عليه وسلم ودعا له ، ومحمد بن أبي بكر الصديق المولود قبل الوفاة النبوية بثلاثة أشهر وأيامٍ، فهو وإن لم تصح نسبة الرؤية إليه صدق أن النبي صلى الله عليه وسلم رآه ، ويكون صحابياً من هذه الحيثية خاصةً؛ وعليه مشى غير واحد ممن صنف في الصحابة ، خلافاً للسفاقسي شارح البخاري فإنه قال في حديث عبد الله بن ثعلبة بن صعير - وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد مسح وجهه عام الفتح - ما نصه: "إن كان عبد الله هذا عَقل ذلك أو عَقل عنه كلمةً كانت له صحبةٌ، وإلا كانت له فضيلة ، وهو في الطبقة الأولى من التابعين ؛ وهو في الطبقة الأولى من التابعين" ؛ وإليه ذهب العلائي حيث قال في بعضهم : "لا صحبة له ، بل ولا رؤية وحديثه مرسل" ، وهو وإن سلم [له] الحكم لحديثهم بالإرسال ، فإنهم من حيث الرواية أتباع ، فهو فيما نفاه مخالف للجمهور).(3/311)
؛ وعملُ مَن صنف في الصحابة يدل على الثاني ، فإنهم ذكروا مثل محمد بن أبي بكر الصديق ، وإنما ولد قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بثلاثة أشهر وأيام ، كما ثبت في "الصحيح" أن أمه أسماء بنت عميس ولدته في حجة الوداع قبل أن يدخلوا مكة ، وذلك في أواخر ذي القعدة سنة عشر من الهجرة .
ومع ذلك فأحاديث هذا الضرب مراسيل ، والخلاف الجاري بين الجمهور وبين أبي إسحاق الاسفرايني ومن وافقه على رد المراسيل مطلقاً حتى مراسيل الصحابة : لا يجري في أحاديث هؤلاء ، لأن أحاديثهم لا من قبيل مراسيل كبار التابعين ، ولا من قبيل مراسيل الصحابة الذين سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم ؛ وهذا مما يُلغز به فيقال: صحابي حديثه مرسل لا يقبله من يقبل مراسيل الصحابة! .
ومنهم من بالغ فكان لا يعد في الصحابة إلا من صحب الصحبة العرفية ، كما جاء عن عاصم الأحول قال: رأى عبد الله بن سرجس رسولَ الله صلى الله عليه وسلم غير أنه لم يكن له صحبة ؛ أخرجه أحمد ؛ هذا مع كون عاصم قد روى عن عبد الله بن سرجس هذا عدة أحاديث ، وهي عند مسلم وأصحاب السنن وأكثرها من رواية عاصم عنه ، ومن جملتها قوله أن النبي صلى الله عليه وسلم استغفر له .
فهذا رأي عاصم : أن الصحابي من يكون صحب الصحبة العرفية.
وكذا روي عن سعيد بن المسيب أنه كان لا يعد في الصحابة إلا من أقام مع النبي صلى الله عليه وسلم سنةً فصاعداً ، أو غزا معه غزوة فصاعداً(1) .
__________
(1) أخرج هذين الأثرين الخطيب في (الكفاية) (ص49-50) في ( باب القول في معنى وصف الصحابي أنه صحابي ، والطريق إلى معرفة كونه صحابياً ) فقد أخرج هناك عن الإمام أحمد ثنا حجاج ثنا شعبة قال: "كان جندب بن سفيان أتى النبي صلى الله عليه وسلم ، وإن شئتُ قلتُ: له صحبة" .
قال الخطيب : وفي رواية يعقوب [يعني ابن سفيان عن أحمد] : "قد كان جندب بن عبد الله العلقي أتى النبي صلى الله عليه وسلم ، وإن شئت قلت: قد صحبه" .
ورواية يعقوب هذه تجدها في (المعرفة والتاريخ) (3/205) .
ثم أخرج أثر عاصم الأحول ؛ ثم أخرج أثر سعيد بن المسيب، ولكنه أخرجه من طريق محمد بن عمر الواقدي، وليس بثقة، ولذلك ذكره ابن حجر بصيغة التمريض .
تنبيه يسير : جندب رضي الله عنه بجلي ثم عَلَقي ، وعَقيلةُ حيٌّ من بَجيلة ؛ ينسب تارة إلى أبيه وتارةً إلى جده ، ويقال : جندب بن خالد بن سفيان ؛ انظر (تهذيب الكمال) (5/137-138) ؛ ولكن كلمة (العلقي) تصحفت في (الكفاية) (1/189- طبعة دار الهدى) إلى (العقلي) .(3/312)
والعمل على خلاف هذا القول ، لأنهم اتفقوا على عدِّ جمعٍ جمٍّ في الصحابة لم يجتمعوا بالنبي صلى الله عليه وسلم إلا في حجة الوداع.
ومن اشترط الصحبة العرفية أخرج من له رؤية ، أو من اجتمع به لكن فارقه عن قُرب ، كما جاء عن أنس أنه قيل له : هل بقي من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم غيرك؟ قال: لا ، مع أنه كان في ذلك الوقت عدد كثير ممن لقيه من الأعراب .
ومنهم من اشترط في ذلك أن يكون حين اجتماعه به بالغاً، وهو مردود أيضاً، لأنه يخرج مثل الحسن بن علي ونحوه من أحداث الصحابة.
والذي جزم به البخاري هو قول أحمد والجمهور من المحدثين.
وقول البخاري (من المسلمين) قيد يخرج به من صحبه أو من رآه من الكفار، فأما من أسلم بعد موته منهم، فإن كان قوله (من المسلمين) حالاً : خرج مَن هذه صفته ، وهو المعتمد .
ويَرِدُ على التعريف من صحبه أو رآه مؤمناً به ثم ارتد بعد ذلك ولم يعد إلى الإسلام ، فإنه ليس صحابياً اتفاقاً؛ فينبغي أن يزاد فيه ومات على ذلك .
وقد وقع في (مسند أحمد) حديث ربيعة بن أمية بن خلف الجمحي وهو ممن أسلم في الفتح وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجةَ الوداع وحدث عنه بعد موته ثم لحقه الخذلان فلحق في خلافة عمر بالروم وتنصر بسبب شيء أغضبه ؛ وإخراج حديث مثل هذا مشكل ولعل من أخرجه لم يقف على قصة ارتداده ؛ والله أعلم.
فلو ارتد ثم عاد إلى الإسلام لكن لم يره ثانياً بعد عوده ، فالصحيح أنه معدود في الصحابة، لإطباق المحدثين على عد الأشعث بن قيس ونحوه ممن وقع له ذلك ، وإخراجهم أحاديثَهم في المسانيد.
وهل يختص جميع ذلك ببني آدم أو يعم غيرهم من العقلاء؟ محل نظر.
أما الجن فالراجح دخولهم ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم بُعث إليهم قطعاً، وهم مكلفون ، فيهم العصاة والطائعون ، فمن عُرف اسمه منهم لا ينبغي التردد في ذكره في الصحابة ، وإن كان ابن الأثير عاب ذلك على أبي موسى فلم يستند في ذلك إلى حجة .(3/313)
وأما الملائكة فيَتوقف عدُّهم فيهم على ثبوت بعثتِه إليهم ، فان فيه خلافاً بين الأصوليين ، حتى نقل بعضُهم الإجماع على ثبوته، وعكس بعضهم .
وهذا كله فيمن رآه وهو في قيد الحياة الدنيوية؛ أما من رآه بعد موته وقبل دفنه فالراجح أنه ليس بصحابي ، وإلا لعد من اتفق أن يرى جسده المكرم وهو في قبره المعظم ولو في هذه الإعصار .
وكذلك من كُشف له عنه من الأولياء!! فرآه كذلك على طريق الكرامة ، إذ حجة من أثبت الصحبة لمن رآه قبل دفنه أنه مستمر الحياة وهذه الحياة ليست دنيوية ، وإنما هي أخروية لا تتعلق بها أحكام الدنيا، فإن الشهداء أحياء ؛ ومع ذلك فإن الأحكام المتعلقة بهم بعد القتل جارية على أحكام غيرهم من الموتى ؛ والله أعلم .
وكذلك المراد بهذه الرؤية من اتفقت له ممن تقدم شرحه وهو يقظان، أما من رآه في المنام وإن كان قد رآه حقاً فذلك مما يرجع إلى الأمور المعنوية لا الأحكام الدنيوية، فلذلك لا يُعد صحابياً ولا يجب عليه أن يعمل بما أمره به في تلك الحالة ، والله أعلم.
وقد وجدت ما جزم به البخاري من تعريف الصحابي في كلام شيخه علي بن المديني ، فقرأت في (المستخرج) لأبي القاسم بن منده بسنده إلى أحمد بن سيار الحافظ المروزي قال: سمعت أحمد بن عتيك يقول: قال علي بن المديني: من صحب النبي صلى الله عليه وسلم أو رآه ولو ساعة من نهار فهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.(3/314)
وقد بسطت هذه المسألة فيما جمعتُه من علوم الحديث ؛ وهذا القدر في هذا المكان كافٍ). انتهى كلام ابن حجر ، وما اختارَه من شروط إثبات الصحبة فأمور معروفة ولا إشكال فيها، وهو فيها موافق لقول المحققين ، وهو قول جمهور العلماء وعليه العمل؛ ولقد بين هذه الشروط أيضاً في مقدمة كتابه (الإصابة) في الفصل الذي عقده في تعريف الصحابي(1)
__________
(1) قال ابن حجر في (الاصابة) (ج1 ص4-5 ) في تعريف الصحابي: « أصح ما وقفت عليه من ذلك أن الصحابي: من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على الإسلام، فيدخل فيمن لقيه من طالت مجالسته أو قصرت، ومن روى عنه أو لم يرو، ومن غزا معه أو لم يغز، ومن رآه رؤية ولم يجالسه، ومن لم يره لعارض كالعمى ».
ثم بين أنه يدخل في قوله (مؤمناً به) كل مكلف من الجن والإنس، وأنه يخرج من التعريف من لقيه كافراً وإن أسلم بعد ذلك، وكذلك من لقيه مؤمناً بغيره، كمن لقيه من مؤمني أهل الكتاب قبل البعثة، وكذلك من لقيه مؤمناً ثم ارتد ومات على الردة والعياذ بالله.
ويدخل في التعريف من لقيه مؤمناً ثم ارتد ثم عاد إلى الإسلام ومات مسلماً كالأشعث بن قيس فإنه ارتد ثم عاد إلى الإسلام في خلافة أبي بكر، وقد اتفق أهل الحديث على عده في الصحابة .
ثم قال: « وهذا التعريف مبني على الأصح المختار عند المحققين كالبخاري وشيخه أحمد بن حنبل وغيرهما ».
ثم قال: « وأطلق جماعة أن من رأى النبي صلى الله عليه وسلم فهو صحابي، وهو محمول على من بلغ سن التمييز، إذ من لم يميز لا تصح نسبة الرؤية إليه، نعم، يصدق أن النبي صلى الله عليه وسلم رآه، فيكون صحابياً من هذه الحيثية ، ومن حيث الرواية يكون تابعياً» ؛ قال العلامة أحمد محمد شاكر في (الباعث الحثيث) (ص181): « وبذلك اختار ابن حجر عدم اشتراط البلوغ » ؛ وقال أيضاً : « وأما الملائكة فإنهم لا يدخلون في هذا التعريف، لأنهم غير مكلفين ».(3/315)
، وتطرق إلى هذه المسألة أيضاً في كتابه المشهور (نزهة النظر).
وأما حال الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - في الرواية(1) ، فإنهم كلهم عدول ضابطون ، حكمُ أحاديثهم الصحة إذا كانت الأسانيد إليهم صحيحة سالمة، ولا يحكم على رواية صحابي بأنه وهم فيها إلا ما قام عليه البرهان المتين الذي يكون قاطعاً أو شبه قاطع في أن ذلك الصحابي قد وقع منه ذلك الوهم، وما أندر أوهامهم ، وما أبعدهم عن الذهول والخطأ فيما يروونه ويبلّغونه من الدين ، فهم حملة هذه الرسالة ، وهم رسل رسول رب العالمين إلى الناس أجمعين ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين ، وسلم تسليما.
أما عدالتهم فإن أمرها أوضح من أن يَحتاج إلى بيان أو تقرير، ولا يخالف فيها إلا جاهل ضال أو مبتدع صاحب هوى(2).
__________
(1) أي عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أو عن غيره.
(2) ولقد أطال في تقرير عدالة الصحابة العلامة المعلمي في (الأنوار الكاشفة) (ص266-283) فأجاد وأحسن، وأفاد وبرهن، ولم يُبقِ لقائل مقالاً ، ولا لمستدرِكٍ مجالا .(3/316)
وأما الضبط فبرهان ثبوته لكل صحابي هو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبل أخبار الصحابة ، ولا يرد منها إلا ما عَلم صلى الله عليه وسلم أن ذلك المُخبِر واهم فيه ، وأيضا كان النبي صلى الله عليه وسلم يرسل آحاد الصحابة يبلغون عنه الناس أشياء سمعوها منه صلى الله عليه وسلم؛ وعلى ذلك جرى الصحابة والتابعون ، فإنهم كانوا يقبلون خبر الصحابي دون أن يقسموا الصحابة إلى أصحاب ضبط ، وغير ضابطين ، أو نحو ذلك ، والأصل عندهم أنهم يقبلون أخبار بعضهم إلا إذا قامت عند السامع قرينة على احتمال أن ذلك المخبر واهم في خبره ، وما أقل ما روي من مثل هذه الوقائع ؛ وعلى هذا أيضاً استمر عمل علماء الإسلام إلى يومنا هذا، فلا أعلم أحداً من العلماء المعتمدين ضعَّف أحداً من الصحابة - الذين هم عنده صحابة - لا من جهة عدالة ، ولا من جهة ضبط؛ والأُمة قد عملت بمقتضى توثيق جميع الصحابة وبَنَتْ دينَها على ذلك.
ومن المقطوع به أن الصحابة رضي الله عنهم لشدة خوفهم من الله تعالى وحرصهم على دينهم وتعظيمهم لسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم لم يكونوا ليحدثوا غيرهم من المسلمين بشيء من أمور الدين إلا بما علموا أنهم حفظوه وأتقنوه من الأحاديث ، ومعلوم أن كل واحد من الناس يميز في غالب أحواله ما ضبطه ووعاه من المسائل ، مما شك فيه ولم يضبطه ، منها.
والأدلة على توثيق الصحابة رضي الله عنهم - وهم القرن الأول من حملة هذا الدين العظيم ورواته - متكاثرة ، ولكن في مجموع ماذكرته هنا كفاية .(3/317)
وقال الذهبي في أول جزئه (الرواة المتكلم فيهم بما لا يوجب الرد): « وقد كتبت في مصنفي الميزان عدداً كثيراً من الثقات الذين احتج البخاري أو مسلم أو غيرهما بهم لكون الرجل منهم قد دون اسمه في مصنفات الجرح وما أوردتهم لضعف فيهم عندي بل ليعرف ذلك وما زال يمر بي الرجل الثبت وفيه مقالُ مَن لا يُعبأ به ؛ ولو فتحنا هذا الباب على نفوسنا لدخل فيه عدة من الصحابة والتابعين والأئمة ؛ فبعض الصحابة كفّر بعضهم بتأويل ما ، والله يرضى عن الكل ويغفر لهم ، فما هم بمعصومين وما اختلافهم ومحاربتهم بالتي تلينهم عندنا أصلاً وبتكفير الخوارج لهم انحطت رواياتهم(1) ، بل صار كلام الخوارج والشيعة فيهم جرحاً في الطاعنين فانظر الى حكمة ربك نسأل الله السلامة وهذا كثير من كلام الأقران بعضهم في بعض ينبغي أن يطوى ولا يروى ويطرح ولا يجعل طعناً ويعامل الرجل بالعدل والقسط وسوف أبسط فصلاً في هذا المعنى يكون فصلاً بين الجرح المعتبر وبين الجرح المردود إن شاء الله.
فأما الصحابة رضي الله عنهم فبساطهم مطوي وإن جرى ما جرى وإن غلطوا كما غلط غيرهم من الثقات فما يكاد يسلم أحد من الغلط لكنه غلط نادر لا يضر أبداً إذ على عدالتهم وقبول ما نقلوه العمل وبه ندين الله تعالى» ؛ انتهى كلام الذهبي رحمه الله .
__________
(1) أي روايات الخوارج.(3/318)
هذا من حيث إثبات العدالة والضبط التام لكل صحابي، وأما من حيث ما صنعه ابن حجر من تقديم مرتبة الصحابة على سائر مراتب التعديل حيث قال في خطبة (تقريب التهذيب) في بيانه لمراتب رجاله ، من حيث القوة والضعف : (فأولها الصحابة فأصرح بذلك لشرفهم) ، فقد استشكل هذا الصنيعَ العلامةُ المحقق الصنعاني في (توضيح الأفكار) (2/263-264) فقال: (فأول المراتب توثيقاً [يعني عند ابن حجر] كون الراوي صحابياً، وظاهر هذا أن كونه صحابياً قد تضمن أنه ثقة حافظ، فصفة الصحبة قد تكفلت بالعدالة والضبط؛ وهذا لا إشكال فيه بالنظر إلى العدالة على أصل أئمة الحديث، ولكن بالنظر إلى الضبط والحفظ لا يخلو عن الإشكال ، إذ الحفظ وعدمه من لوازم البشرية لا ينافي الصحبة، بل لا ينافي النبوة، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه نسي في صلاته وغيرها، فكيف يُجعل كون الراوي صحابياً أبلغ من الموصوف بـ "أوثق الناس" ونحوه؟ والصحبة لا تنافي النسيان وعدم الحفظ(1)----؛ وقد ورد علينا سؤال في هذا الشأن وكتبنا فيه رسالة وأطلنا فيها البحث، ولم أعلم من تنبه لذلك). انتهى كلام الصنعاني.
والجواب عن هذا الإيراد هو أن ابن حجر لم يصرح بأن كل صحابي أكثر ضبطاً وحفظاً من كل من ليس بصحابي، نعم يظهر من سياقه لمراتب كتابه أنه يرى ذلك أو يرى أن أغلب الصحابة أكثر اتقاناً من أغلب أصحاب كل مرتبة من المراتب التي ذكرها بعد الصحابة، والأقرب أنه أراد هذا المعنى الثاني دون المعنى الأول؛ وإن كان مقتضاهما من الناحية العملية واحداً لأن العلماء جمدوا على هذا الأصل الأغلبي ولم يخرجوا عنه في حق أحد من الصحابة لأسباب صحيحة يأتي ذكر أهمها في أثناء هذا التوضيح التالي.
__________
(1) وكذلك كون الرجل موصوفاً بأنه أوثق الناس لا ينافي النسيان أحياناً.(3/319)
إن الذي دفع ابن حجر إلى اختيار هذا الترتيب - على ما أرى - هو أنه وجد باب نقد الصحابة من جهة أحوالهم في الرواية مسدوداً، فكلهم بإجماع من يُعتد به عدول ضابطون، ثم وجد تقسيمهم - من حيث الضبط الذي عندهم - إلى مرتبتين أو أكثر كما فعل في حق من سواهم من الثقات: صعباً عسيراً، بل إنه يكاد يكون مستحيلاً، فإنه لم يقْدرْ ولن يقدرَ عليه أحد من المحدثين، فأعرض عن التقسيم واضطر إلى جعلهم في مرتبة واحدة، ثم كأنه نظر فرأى نفسه بين خيارات ثلاثة:
أولها : أن يجعلهم في مرتبة الثقات التي هي عنده الثانية في مراتب توثيق من سوى الصحابة .
وثانيها : أن يجعلهم في التي قبلها ، وهي الأولى من ذلك.
وثالثها: أن يفرد لهم رتبة يجعلها فوق هاتين الرتبتين؛ ثم استقر رأيه على هذا الثالث ؛ وفيه من المحاسن أن لا يجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع غيرهم في مرتبة من مراتب نقد الرواة، فإن إفرادهم بمرتبة تختص بهم هو الأنسب الأكمل، وفيه من المحاسن أيضاً أن لا يقدَّم غيرهم من الرواة عليهم، ولا لوم على ابن حجر في هذا الصنيع ، فإن أغلب الصحابة أكثر ضبطاً وإتقاناً من أغلب الذين وصفهم النقاد بـ "أوثق الناس" أو "ثقة ثقة" أو نحوهما من ألفاظ المرتبة الثانية من مراتب (التقريب)، والحكم الإجمالي إنما يكون للغالب كما هو مقرر معروف.
وكيف لا يكون الصحابة أحسن ضبطاً من سواهم لما أخبروا به عن نبيهم صلى الله عليه وسلم وهم أخوف الأمة من أن يحدثوا بما لم يتقنوه إتقاناً تاماً ويضبطوه ضبطاً محكماً، وأبعدهم عن أن يحدثوا بما شكوا فيه أو ترددوا؛ وليس المقصود بالضبط والإتقان عند المحدثين سعة الحفظ وتعاظم المحفوظات ، وإنما المقصود به التثبت وأن لا يروي الراوي إلا ما حفظه وأن يؤديه كما سمعه وأهل الضبط بهذا المعنى - لا بالمعنى الأول - يتفاوتون، وهل يخطر ببال أحد من المنصفين العارفين أن ثم من يسبق الصحابة في هذا المعنى ؟!(3/320)
ثم لو افترضنا مساواة الصحابة في الجملة لأصحاب هذه المرتبة الثانية من حيث الضبط أفلا يكفي فضل الصحبة وشرفها لتقديمهم وتمييزهم؟!
ولقد أجاب محمد عوامة في مقدمة تحقيقه "التقريب" (ص24-25) عن اعتراض الصنعاني بجواب آخر فيه نظر، وحاصله أن مرتبة الصحابة ليست من مراتب التعديل عند ابن حجر في (التقريب)، وأن تلك المراتب إنما تبدأ من المرتبة الثانية، والله أعلم .
هذا واعلم أن التغاير في مرتبة التوثيق بين الصحابة وغيرهم ليس له في باب نقد الروايات ثمرة عملية إلا في دائرة ضيقة جداً، ذاك أن الخلاف في الرواية بين صاحب وتابعي لا يُتصور وقوعه إلا بين حديث مسند وآخر مرسل ، ومن المعلوم أنه في مثل هذه الحالة يُقدم الحديث المسند ولا يُلتفت إلى المرسل، ولو شهدت له مراسيل كثيرة ، أو بين حديث يرويه تابعي عن صحابي يقفه أو يرفعه ، وحديث آخر يرويه صحابي عن صحابي الحديث الأول به.
ثم إنَّ نصْبَ مثلِ هذا الخلاف مشروط بصحة السند إلى من يُنصب الخلاف بينهما من صحابي وتابعي ، وأن لا يحتمل أن الاضطراب وقع ممن دونهما في السندين؛ والله أعلم(1).
__________
(1) تنبيه : وافق مؤلفا (تحرير التقريب) الحافظ ابن حجر على إثبات الصحبة لمن أثبتها لهم في (التقريب) إلا في بضعة تراجم خالفاه فيها فنفيا الصحبة عن المترجَمين ، أو قالا ان في الصحبة نظراً ؛ وأما الذين تردد ابن حجر في صحبتهم أو قال انها مختلف فيها أو ذكرها بصيغة التمريض فإن الغالب عليهما في هذا كله هو المخالفة له ونفي الصحبة عن هؤلاء ، واحتجا للنفي بحجج قوية مثل كون الحديث ضعيف السند أو ساقطه ولا تثبت بمثله صحبة ، ومثل كثرة من نفى الصحبة من العلماء المحققين ، وكان الحق معهما في أكثر ذلك.(3/321)
تنبيه : ثَمَّ فرقٌ - عند من يراعي التدقيق في التعابير - بين كلمة (صحابي) وكلمة (له صحبة)(1) ؛ أما الأولى فهي دالة في الغالب على طول الصحبة أو على ثبوتها عند المؤرخين من غير شك ولا تردد ؛ وأما كلمة (له صحبة) فإنما يُعدَل إليها إذا قصرت صحبته أو حصلت له الرؤية وهو صغير ، أو اختلف في صحبته وكان إثباتها هو الأرجح، أو نحو ذلك من الأمور التي لا تؤهله لأن يوصف بأنه صحابي إلا بنوع من التجوز ، أو على سبيل التغليب ، وذلك عندما يذكر في جملة من الصحابة ، أو إذا كان المراعَى في التعبير هو اصطلاح المحدثين والمؤرخين وأصحاب الطبقات ، فهؤلاء الغالب في عرفهم هو إطلاق لفظة صحابي على من حصل له الوصف المتقدم المذكور في تعريف الصحابي في أول هذه الترجمة ، ولا سيما في المختصرات من تصانيفهم .
ويتفرع عن هذا أن استبدال كلمة (صحابي) بكلمة (له صحبة) أمر قد يسوغ ، فيُطلق على كل من له صحبة أنه صحابي ، ولكن العكس فيه نظر ، أعني من طالت صحبته للنبي صلى الله عليه وسلم واشتهر بين الصحابة أو كان من كبارهم وأفاضلهم فإنه لا يَحسُنُ أن يُقتصر في وصفه على كلمة (له صحبة) ، فلا يحسن مثلاً أن يقال في ترجمة أبي بكر أو عمر رضي الله عنهما أو غيرهما من العشرة المبشرة : (له صحبة) ، فلا يُعدل هنا عن كلمة (صحابي) إلى كلمة (له صحبة) .
ومن دليل ما ذكرتُه من التفريق هو معنى الصاحب في العرف ، فإن الأصل في المعاني الاصطلاحية أن تكون مستندة إلى المعاني العرفية أو اللغوية أو تكون في الأقل متفرعة عنها ومشربة بل مشوبة بها ؛ بل ليس كل ما يرد على ألسنة العلماء من ألفاظ اصطلاحية يكون وارداً بالمعنى الاصطلاحي ، إذ ربما أريد باللفظة الاصطلاحية أحياناً المعنى العرفي أو اللغوي، كما هو معلوم عند أهل معرفة هذا الباب من العلم .
__________
(1) ومثل كلمة (له صحبة) أو قريب منها كلمة (معدود في الصحابة) ، فهي أيضاً عند أهل التدقيق دون كلمة (صحابي) .(3/322)
قال الخطيب في (الكفاية) (1/51): (حدثني محمد بن عبيد الله المالكي أنه قرأ على القاضي أبي بكر محمد بن الطيب قال : لا خلاف بين أهل اللغة في أن القول (صحابي) مشتق من الصحبة، وأنه ليس بمشتق من قدر منها مخصوص ، بل هو جارٍ على كل من صحب غيره ، قليلاً كان أو كثيراً، كما أن القول (مكلِّم)، و(مخاطِب)، و(ضارِب) مشتق من المكالمة والمخاطبة والضرب وجار على كل من وقع منه ذلك ، قليلاً كان، أو كثيراً؛ وكذلك جميع الأسماء المشتقة من الأفعال؛ وكذلك يقال: صحبت فلاناً حولاً ودهراً وسنة وشهراً ويوماً وساعةً؛ فيوقع اسم المصاحبة بقليل ما يقع منها وكثيره ، وذلك يوجب في حكم اللغة إجراء هذا على من صحب النبي صلى الله عليه وسلم ، ولو ساعة من نهار .
هذا هو الأصل في اشتقاق الاسم ، ومع ذلك فقد تقرر للأمة عرف في أنهم لا يستعملون هذه التسمية إلا فيمن كثرت صحبته واتصل لقاؤه ولا يُجْرون ذلك على من لقي المرء ساعة ومشى معه خطى وسمع منه حديثاً؛ فوجب لذلك أن لا يجرى هذا الاسم في عرف الاستعمال إلا على من هذه حاله ؛ ومع هذا فإن خبر الثقة الأمين عنه مقبول ومعمول به وإن لم تطل صحبته ولا سمع منه إلا حديثاً واحداً ).
الصحاح :
هذه اللفظة تطلق على جهتين ، تطلق على أنواع مخصوصة من الكتب، وعلى أنواع مخصوصة من الأحاديث :
أما الكتب التي تطلق عليها هذه التسمية فأربعة أنواع:
النوع الأول منها : كتب الأحاديث الصحيحة ، التي يرى الناقد المُطلِق لتلك التسمية أنها صحيحة ، أو يقرّ غيرَه على صحتها ، مثل أن يُقر أصحابَها على تسميتها بالصحاح؛ ولا يقدح في ذلك ما قد يقع من مخالفة ذلك الناقد لذلك المصنف في مواضع يسيرة جداً .(3/323)
الثاني : الكتب التي يشترط فيها أصحابُها الصحةَ في أحاديثها ، أي التي سماها أصحابها باسم الصحيح ، ولو دخل فيها ما لا يستحق أن يوصف بالصحة ، كأكثر المستدركات والمستخرجات على الصحيحين، فترى الناقد يقول مثلاً : (وأما صحاح ابن خزيمة وابن حبان والحاكم فليس كل ما فيها صحيحاً، بل فيها الصحيح وغيره)؛ وواضح من مثل هذا التعبير أن ذلك الناقد إنما سمى هذه الكتب صحاحاً بحسب دعوى أصحابها وبحسب اشتهارها بين الناس بهذا الاسم ، لا بحسب ما تبين عنده من صفتها في حقيقة أمرها.
الثالث : الكتب الخمسة الشهيرة ، وهي الصحيحان والسنن الثلاثة : سنن أبي داود والترمذي والنسائي.
الرابع : الكتب الستة الشهيرة ، وهي الخمسة المتقدمة وسنن ابن ماجه ، وهو اصطلاح غير صحيح ، أو غير جيد ، لأنه يوهم أنها صحيحة أو أغلب أحاديثها صحيحة .
قال عبدالحق البخاري الدهلوي في (مقدمة في أصول الحديث) (ص96-98) تحت هذا العنوان (الفصل العاشر في الكتب الستة المشهورة) : (الكتب الستة المشهورة المقررة في الإسلام التي يقال لها الصحاح الستة ، هي : صحيح البخاري وصحيح مسلم والجامع للترمذي والسنن لأبي داود والنسائي وسنن ابن ماجه ؛ وعند البعض الموطأ بدل ابن ماجه ، وصاحب "جامع الأصول" اختار الموطأ أحاديث الكتب الأربعة ، وفي هذه الكتب الأربعة أقسام من الأحاديث من الصحاح والحسان والضعاف وتسميتها بالصحاح الستة بطريق التغليب) .
وألف صديق حسن خان رحمه الله كتاباً أسماه (الحطة في ذكر الصحاح الستة) ، تكلم فيه على هذه الستة ، أعني التي سادسها ابن ماجه .(3/324)
وقال محمد بن جعفر الكتاني في (الرسالة المستطرفة) (ص175) وهو يذكر بعض الكتب الجامعة بين أكثر من كتاب من كتب الرواية : (---- وككتاب أنوار المصباح في الجمع بين الكتب الستة الصحاح لأبي عبد الله محمد بن عتيق بن علي التجيبي الغرناطي المتوفى في حدود ستة وأربعين وستمئة) ، ولا أدري أعَنَى ما عناه صديق حسن خان ، أم عنى المعنى التالي ، وهو الخامس .
الخامس : الكتب الخمسة وموطأ مالك ، فقد أطلق عليها بعضهم اسم الصحاح الستة ، ومن أوائل من استعمل هذا الاصطلاح رزين العبدري ؛ قال القزويني في (التدوين في أخبار قزوين) (3/475) في ترجمة علي بن يوسف الفاسي : (فقيه مالكي المذهب ورد قزوين سنة اثنتي عشرة وخمسمئة ، سمع "تجريد الصحاح الستة" لأبي الحسن رزين بن معاوية بن عمار العبدري الأندلسي ، منه ، بمكة) ؛ انتهى .
وقال عبد الحق الإشبيلي في وصف كتاب رزين : (كتاب تجريد صحاح أصول الدين ، مما اشتمل عليه الصحاح الستة الدواوين بحذف الأسانيد ، وتقييد المسائل ، مع استقصاء مضمون الحديث) .
وقال صديق حسن خان في (أبجد العلوم) (2/285-286) تحت باب الدال المهملة :
(علم دراية الحديث : تقدم الكلام عليه في علم الحديث ؛ وقال الشيخ شمس الدين الأكفاني السنجاري(1)
__________
(1) تصحفت إلى (السخاوي) ، قال في (كشف الظنون) (1/66) : (إرشاد القاصد إلى أسنى المقاصد للشيخ شمس الدين محمد بن إبراهيم بن ساعد الأنصاري الأكفاني السنجاري المتوفى سنة أربع وتسعين وسبعمئة :
مختصر أوله : "الحمد لله الذي خلق الإنسان وفضَّله" ، إلخ ؛ ذكر فيه أنواع العلوم وأصنافها ؛ وهو مأخذ "مفتاح السعادة" لطاشكبري زاده ؛ وجملة ما فيه ستون علماً ---- ؛ وذكر في جملة العلوم أربعمئة تصنيف ) ؛ وانظر ترجمته في (الدرر الكامنة) (5/3) .(3/325)
: دراية الحديث علم تُتعرف منه أنواع الرواية وأحكامها وشروط الرواية وأصناف المرويات واستخراج معانيها ؛ ويحتاج إلى ما يحتاج إليه علم التفسير من اللغة والنحو والتصريف والمعاني والبيان والبديع والأصول ويحتاج إلى تاريخ النقلة ؛ انتهى .
ولنا كتاب سميناه "الحطة بذكر الصحاح الستة" ذكرنا فيه جميع فروع علم الحديث وشرف هذا العلم وأحوال الأمهات الست وتراجم أصحابها ، فإن شئت الزيادة فارجع إليه .
وذكر في مدينة العلوم أن لفظ الصحيح في علم الحديث إذا أُطلق يراد به عند المحدثين البخاري ؛ وإذا أُطلق لفظ الصحيحين يراد به عندهم صحيح البخاري وصحيح مسلم ؛ وإذا أُطلق لفظ الصحاح يراد به عندهم الصحيحان وصحيح ابن حبان وصحيح ابن خزيمة وصحيح أبي(1) عوانة وصحيح مستدرك الحاكم ؛ وهذه هي الصحاح الستة ؛ انتهى وفيه نظر واضح .
قال : ثم إن السنن إذا أُطلقت يراد بها في اصطلاحهم سنن أبي داود وسنن الترمذي وسنن النسائي وسنن ابن ماجة القزويني ؛ وأما سنن غير هؤلاء فتُذكر مقيدةً ، كسنن الدارقطني وسنن البيهقي .
وإذا أطلق المسانيد يراد بها في اصطلاحهم مسند الإمام أحمد بن حنبل ومسند أبي يعلى الموصلي ومسند الدارمي ومسند البزار .
ثم إن المعاجم إذا اطلقت يراد بها المعجم الكبير والأوسط والصغير الثلاثة للطبراني ) ؛ انتهى وفيه - كما رأيتَ - أشياء خارجة عن هذا الموضع ولكنها داخلة في مقاصد الكتاب في الجملة ، ولذلك نقلتها .
والحقيقة أنه لم يسلم أمام أقلام الناقدين من كتب الرواية إلا صحيحا البخاري ومسلم ، فقد وفيا بشرطهما ولاق بكتابيهما تسمية الصحيحين .
وأما سائر الصحاح المعروفة فمسماها دون اسمها ؛ ومن ذلك صحيحا ابن خزيمة وابن حبان ومستدرك الحاكم على الصحيحين والأحاديث المختارة للضياء ، وصحاح أو مستخرجات أبي بكر الاسماعيلي وأبي عوانة وغيرهما ممن استخرج على الصحيحين .
__________
(1) تصحفت في المطبوعة إلى (ابن) .(3/326)
وأما الأحاديث التي تطلق عليها هذه التسمية عند الجمهور أو غيرهم فهي :
الأول : أحاديث الصحيحين دون غيرها ؛ ومن أصحاب هذا الاصطلاح البغوي فإنه قسم أحاديث كتابه (مصابيح السنة) إلى حسان وصحاح ، مريداً بالصحاح ما في الصحيحين ، وبالحسان ما في السنن ؛ وهو اصطلاح غريب موهم . انظر (الحسان) أو انظر (قول البغوي : حسان) في (الذيل الأول).
الثاني : الأحاديث الصحيحة ؛ وهذا كما يقال : (الأحاديث تقسم إلى صحاح وحسان وضعاف وموضوعات).
الصحاح الخمسة :
انظر (الخمسة) و(الصحاح) .
الصحاح الستة :
انظر (الخمسة) و (الصحاح) .
صححه الحاكم ووافقه الذهبي :
قد اشتهر في هذا العصر القول بان ما سكت عليه الذهبي في تلخيصه للمستدرك فهو موافق فيه للحاكم على حكمه ، ولكنَّ في هذا نظراً ، ويرِدُ عليه أمور يصعب دفعها :(3/327)
الأول : أنه إن كان الأمر كذلك : كان معناه ولازمه أن الإمام الذهبي كثير الخطأ(1) وكثير التساهل وكثير التناقض ، فإنه قد سكت على أحاديث كثيرة صححها الحاكم مطلقاً او على شرط الشيخين أو أحدهما وفيها رواة قد وهنهم الذهبي نفسه في الميزان أو غيره أو فيها علل أخرى مانعة من ذلك التصحيح معروفة بل مشهورة عند عامة المشتغلين بالحديث فضلاً عن الحافظ الذهبي ذلك الإمام النقاد المدقق الذي لا يخفى مثلها على مثله بحال . وهذه اللوازم الثلاثة أي كثرة الخطأ وفحش التساهل وتكرر التناقض منتفية - قطعاً - عن الإمام الذهبي ، باطلٌ - جزماً - وصْفُهُ بها ، فالملزوم - وهو أن سكوت الذهبي عما سكت عليه من أحكام الحاكم كان إقراراً له فيها وموافقة له عليها - : باطل أيضاً .
الثاني : أن الذهبي لم يصرح بهذا الذي صرح به الناس على لسانه نيابة عنه ، ولا رأيناه قال هذا الذي قولوه إياه .
__________
(1) قال أبو إسحاق الحويني في (النافلة) (2/194) عقب كلام له : (وإلا فالذهبي وقع في كثير من الوهم في تلخيصه على المستدرك . علمت ذلك بعد دراستي لكتاب المستدرك ، مما قوى عندي الرغبة في تتبع المواضع التي أخطأ فيها الحاكم ووافقه الذهبي ، فتجمع لدي حتى الآن أكثر من ألف موضع أودعتها في كتابي "اتحاف الناقم بوهم الذهبي والحاكم" ، يسر الله إتمامه بخير) اهـ ؛ فتدبر هذا الكلام .(3/328)
الثالث : أن الذهبي نفسه قد صرح عند ذكره اختصاره للمستدرك بأن المستدرك لا يزال به حاجة إلى العمل والتحرير ؛ فقد قال في السير (17 / 175 -176) : (في المستدرك شيء كثير على شرطهما وشيء كثير على شرط أحدهما ، ولعل مجموع ذلك ثلث الكتاب ، بل أقل ، فإن في كثير من ذلك أحاديث في الظاهر على شرط أحدهما أو كليهما ، وفي الباطن لها علل خفية مؤثرة ؛ وقطعة من الكتاب إسنادها صالح وحسن وجيد ، وذلك نحو ربعه ، وباقي الكتاب مناكير وعجائب ، وفي غضون ذلك أحاديث نحو المئة يشهد القلب ببطلانها كنت أفردت منها جزءاً ، وحديث الطير بالنسبة إليها سماء .
وبكل حال فهو كتاب مفيد ، قد اختصرته ، ويُعْوِز عملاً وتحريراً) .
فتدبر عبارته الأخيرة هذه ، ترى لو كان الذهبي استوفى نقده للحاكم في تلخيص "المستدرك" أيكون لهذه العبارة معنى ؟ بل الظاهر أنه لو كان أتى على جميع الكتاب نقداً واستدراكاً لذكره ، ولما اقتصر على قوله (قد اختصرته) ثم أردفه بما رأيت ، فنقد (المستدرك) أنفع من اختصاره بلا ريب .
ومما يؤيد قول من يرى أن الذهبي لم يقصد نقد "المستدرك" ، وإنما أراد تلخيصه واختصاره كيفما اتفق - والذهبي مشهور بكثرة اختصاره للمطولات من كتب الرواية والرجال - أن الذهبي نفسه سمى تلخيص "المستدرك" تعليقاً فقد قال في "التلخيص" عند رواية الحاكم لحديث الطير (3/130-131) : (ولقد كنت زماناً طويلاً أظن أن حديث الطير لم يجسر الحاكم أن يودعه في "مستدركه" ، فلما علقت هذا الكتاب رأيت الهوْل من الموضوعات التي فيه !! فإذا حديث الطير بالنسبة إليها سماء !!) .(3/329)
الثالث : عدم اشتهار هذا المعنى وشيوعه إلا عند المعاصرين ، فيما يظهر ، بل الظاهر أنه ما صرح بما صرح به المعاصرون في هذا الباب أحد من معاصري الذهبي أو تلامذته من الحفاظ والمحدثين والمؤرخين ، وما كان أكثرهم ، وما أكثر من ترجم منهم للحافظ الذهبي ، وما كان أحرصهم على مثل هذه التنبيهات بل على ما هو دونها بكثير ، كابن عبد الهادي وابن القيم والعلائي وابن كثير وابن رافع والحسيني وغيرهم .
وقال الشيخ أبو الحسن المأربي في (إتحاف النبيل) (1/324-325) (س172) :
(والذي ترجح لي أن الذهبي قصد تلخيص الكتاب ، ولم يتصد لتحقيقه كله ، بل تعرض لبعض المواضع ، وسكت عن الأكثر ، مع علمه أن الكتاب يحتاج إلى عمل كما صرح بذلك في "النبلاء" / ترجمة أبي عبد الله الحاكم صاحب "المستدرك" .
وليس من المعقول أن يسكت الحافظ الذهبي على أحاديث فيها علل ظاهرة لا تخفى عن طالب العلم ، فضلاً عن الحافظ الذهبي ، ولا يتكلم عليها(1) .
وقد قسم الحافظ الذهبي في "النبلاء" أيضاً أحاديث المستدرك إلى أقسام -----(2) .
ولو جمعنا المواضع التي له نقد واعتراض على الحاكم فيها ما وصلت ربع أحاديث الكتاب مما يدل على أن الرجل قصد التلخيص لا التحقيق وإن كان لا يصبر في بعض المواضع ويتكلم على بعض الأحاديث ، فتلك سجية أي محدث وناقد .
ومع ذلك فالأمر يحتاج إلى مزيد بحث ، والله أعلم) . اهـ .
وقال الشيخ عبد العزيز الطريفي في جوابه عن السؤال الثالث عشر من أسئلة (ملتقى أهل الحديث) وهو قول السائل (ما رأيكم بمقولة "ووافقه الذهبي"؟ ) :
__________
(1) كأن عبارة الطبعة الأولى كانت أوضح ، وهي هذه : (وليس من المعقول أن يسكت الحافظ الذهبي على أحاديث فيها علل ظاهرة - وهو لا يتكلم عليها - بنية الموافقة على تصحيح الحديث وفيه هذه العلل الظاهرة التي لاتخفى عن طالب العلم فضلاً عن الحافظ الذهبي صاحب النقد التام في علم الرجال) .
(2) ثم ذكر ما حكيته عن (السير) .(3/330)
(الجواب: إذا [كان] مقصد السائل موافقة الذهبي للحاكم في مستدركه ، فهذه العبارة ليست بصحيحة، فالذهبي لم يوافق الحاكم في جلّ ما يطلق الموافقة عليه أهل العصر، فالذهبي عمله على المستدرك تلخيصٌ لا استدراك، ومجرّد اختصاره لمقولة الحافظ الحاكم عقب الأحاديث (صحيح على شرط البخاري ومسلم) أو على شرط البخاري أو شرط مسلم، لا يعني أنه مؤيد، بل هو ناقل، وإلا فالذهبي ينتقد جزءاً كبيراً جداً من "المستدرك" ، كما في ترجمة الحاكم من "تاريخه" ، ومن ذلك قوله في "السير" ----(1) ، فكيف يوافقه؟
نعم الذهبي قد يستدرك في بعض الأحيان، لكنه لا يعني أنه يوافقه في الباقي، ومن أوائل من تساهل وأطلق هذه العبارة (ووافقه الذهبي) المناوي صاحب "الفيض"(2) ، وأطلقها جماعة كالخزرجي صاحب "الخلاصة" ، فقد رأيته أطلق هذه العبارة في ترجمة مهدي الهجري، وتجوز فيها أيضاً جماعة كصديق حسن خان والصنعاني ، ومن المعاصرين الألباني فقد أكثر منها ؛ رحم الله الجميع) ؛ انتهى ، ونقلته من الملتقى المذكور .
وأخيراً فمما لعله يقطع النزاع في هذه المسألة ويكون كلمة الفصل فيها أن الذهبي قد كان اصطلح في ذلك الكتاب على أن ما يصححه من الأحاديث يضع عليه علامة الصحة كما نبه عليه المعلمي في تعليقه على (الفوائد المجموعة) (ص464) إذ قال في تخريج بعض الأحاديث : (وقف الذهبي في "تلخيصه" فلم يتعقبه ، ولا كتب علامة الصحة كعادته فيما يُقرّ الحاكم على تصحيحه) .
ويظهر أنه وقف على نسخة خطية فعلم ذلك منها وإلا فليس في المطبوع شيء من هذا ، والحمد لله الهادي إلى سبيل الرشاد .
__________
(1) وذكر ما تقدم .
(2) وقال التهانوي في (قواعد في علوم الحديث) (ص71) : (وقد رأيت العزيزي في "شرحه للجامع الصغير" يحتج كثيراً بتقرير الذهبي للحاكم على التصحيح .(3/331)
إذا عُلم هذا فليس من الصحيح إذن ما قاله التهانوي في (قواعد في علوم الحديث) (ص71) عقب نقله بعض أقوال أهل العلم في أحكام أحاديث الحاكم في "مستدركه" ، إذ قال : (قلت : وقد أغنانا عن ذلك الذهبي ، فما أقره عليه فهو صحيح ، وما سكت عنه ولم يتعقبه بشيء ، فهو كما قال ابن الصلاح ، حسن) .
صُحُف :
جمع (صَحيفة) ، وانظر (صحفي) .
صحفي :
جاء في (تاج العروس) (ص ح ف) (24/5-6) : (والصحيفة : الكتاب، ج : صحائف على القياس ، وصُحُف ، ككتب ، ويخفف أيضاً ، وهو نادر ، قال الليث: لأن فَعيلة لا تُجمع على فُعُل ، قال سيبويه: أما صحائف فعلى بابه وصُحُف داخلٌ عليه، لأن فُعُلاً في مثل هذا قليل، وإنما شبَّهوه بقَلِيب وقُلُب، وقَضيب وقُضُب، كأنهم جمعوا صَحيفاً حين علموا أن الهاء ذاهبةٌ ، شبهوها بحُفرة وحِفَار، حين أجروها مجرى جُمْدٍ وجِمَاد ؛ قال الأزهري: ومثله في النَّدرة : سفينة وسُفُن ، والقياس: سفائن .
والصحيف ، كأمير : وجه الأرض، وهو مجاز علي التشبيه بما يُكتب فيه---- .
والصَّحَفي محركةً : من يخطئ في قراءة الصحيفة ؛ وقول العامة الصُّحُفي ، بضمتين : لحنٌ ، والنسبة إلى الجمع نسبة إلى الواحد ، لأن الغرض الدلالة على الجنس، والواحد يكفي في ذلك، وأما ما كان علَماً، كأنماري، وكِلابي، ومعافري ومدائني، فإنه لا يرد ، وكذا ما كان جارياً مجري العلَم، كأنصاري، وأَعرابي، كما في "العباب" .
والمصحف، مثلثة الميم، عن ثعلب، قال: والفتح لغة فصيحة، وقال أبو عبيد: تميم تكسرها، وقيس تضمها، ولم يذكر من يفتحها ولا أنها تفتح ، إنما ذلك عن اللِّحياني عن الكسائي ؛ وقال الفراء: قد استثقلت العرب الضمةَ في حروف وكسروا ميمها، وأصلها الضم، من ذلك: مصحف، ومخدع، ومطرف، ومجسد، لأنها في المعنى مأخوذة من أُصحف، بالضم: أي جُعلت فيه الصحفُ المكتوبة بين الدفتين، وجُمعت فيه .(3/332)
والتصحيف: الخطأ في الصحيفة بأشباه(1) الحروف، مولدة، وقد تصحف عليه لفظ كذا ---- .
والصَّحّاف، كشدّاد: بائع الصحف، أو الذي يعمل الصحف .
والمصحِّف - كمحدِّث - : الصَّحَفي ؛ وأبو داود المصاحفي : محدث مشهور) .
وانظر (مصحف) .
صحيح :
الحديث الصحيح هو الحديث الذي يرويه العدل التام الضبط - أو من يقوم مقامه من العدول الضابطين ضبطاً غير تامٍّ ، الذين من شأنهم أن رواياتهم المتتابعة يصح أن تتعاضد - عن مثله ، أو مثلهم ، إلى منتهاه(2) ، من غير انقطاع ظاهر أو خفي ، ومن غير علة خفية أو شذوذ أو اضطراب ؛ وانظر (إسناده صحيح).
وقد كان جماعة من العلماء يطلقون اسم الصحيح على كل ما يحتج به عندهم من الأحاديث فاسم الصحيح عندهم يعم الصحيح والحسن، منهم ابن خزيمة وابن حبان والحاكم، قال ابن حجر في (النكت) (1/290-291): (فلم يلتزم ابن خزيمة وابن حبان في كتابيهما أن يخرجا الصحيح الذي اجتمعت فيه الشروط التي ذكرها المؤلف، لأنهما ممن لا يرى التفرقة بين الصحيح والحسن، بل عندهما أن الحسن قسم من الصحيح لا قسيمه؛ وقد صرح ابن حبان بشرطه، وحاصله أن يكون راوي الحديث عدلاً مشهوراً بالطلب غير مدلس سمع ممن فوقه إلى أن ينتهي؛ فإن كان يروي من حفظه فليكن عالماً بما يحيل المعاني؛ فلم يشترط على الاتصال والعدالة ما اشترطه المؤلف [يعني ابن الصلاح] في الصحيح من وجود الضبط ومن عدم الشذوذ والعلة.
وهذا - وإن لم يتعرض ابن حبان لاشتراطه - فهو إن وجده كذلك أخرجه، وإلا فهو ماش على ما أصَّل، لأن وجود هذه الشروط لا ينافي ما اشترطه.
وسمى ابنُ خزيمة كتابَه "المسند الصحيح المتصل بنقل العدل عن العدل من غير قطع في السند ولا جرح في النقلة".
__________
(1) ألا تحتمل أن تكون مصحفة عن (باشتباه) .
(2) أي الشخص المنقول عنه الخبر ، وهو في المرفوعات رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي الموقوفات صحابي من الصحابة ، وهكذا .(3/333)
وهذا الشرط مثل شرط ابن حبان سواء، لأن ابن حبان تابع لابن خزيمة مغترف من بحره ناسج على منواله.
ومما يعضد ما ذكرنا احتجاجُ ابن خزيمة وابن حبان بأحاديث أهل الطبقة الثانية الذين أخرج مسلم أحاديثهم في المتابعات كابن إسحاق وأسامة بن زيد الليثي ومحمد بن عجلان ومحمد بن عمرو بن علقمة، وغير هؤلاء.
فإذا تقرر ذلك عرفت أن حكم الأحاديث التي في كتاب ابن خزيمة وابن حبان صلاحية الاحتجاج بها لكونها دائرة بين الصحيح والحسن ما لم يظهر في بعضها علة قادحة؛ وأما أن يكون مراد من يسميها صحيحة أنها جمعت الشروط المذكورة في حد الصحيح فلا ؛ والله أعلم) ؛ هذا كله كلام الحافظ ابن حجر .
الصحيح :
إذا عبر أحد المتأخرين بكلمة "الصحيح" مريداً بها كتاباً من كتب الرواية ، فإنه يريد "صحيح البخاري" ، أو يريد "أحد الصحيحين" ، إلا إذا دل السياق على غير ذلك ، مثل أن يقول : "وأخرج ابن خزيمة في الصحيح" .
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم كثيراً ما يطلقان كلمة (وفي الصحيح) ، أو (وهو من رجال الصحيح) أو (ثبت في الصحيح) ونحو ذلك ، وهما لا يريدان بذلك كتاباً بعينه، بل يريدان أحد الصحيحين أو كليهما .
وانظر (الصحاح) و (في الصحيح) .
صحيح الحديث :
أي ثقة أحاديثه صحيحة ؛ انظر (صحيح).
صحيح بمجموع طرقه :
انظر (صحيح لذاته).
صحيح على شرط البخاري :
انظر (صحيح على شرط الشيخين) .
صحيح على شرط الشيخين :
قولهم في حديث : (هذا صحيح على شرط الشيخين) له معنيان :
أولهما : معناه اللغوي أو المتبادر ، أو الذي يدل عليه ظاهر العبارة ، وهو أن يكون الحديث من رتبة الأحاديث التي يتفق على تصحيحها الشيخان تصحيحاً من جنس التصحيح الذي جريا عليه في كتابيهما، سواء أخرجاه معاً ، أو أخرجه أحدهما ، أو لم يخرجه واحد منهما ، وسواء في هذا الأخير أن يكونا أخرجا مثل سنده أو مثل رواته أو أخرجا بعض ذلك ، أو لم يخرجا شيئاً من ذلك ، أصلاً .(3/334)
وحاصل هذا المعنى أن ذلك الحديث وجدَتْ فيه حقيقة شروط الشيخين في التصحيح .
وهذا المعنى هو الشرط الحقيقي للشيخين ، ولكن العمل به متعذر أو كالمتعذر ؛ وذلك لأجل أمور أهمها أن من أهم وأصعب شروط الشيخين هو سلامة الحديث الذي يخرجانه ، من العلة الخفية، وهما يحترزان عن مثل تلك العلة ليتحقق ذلك الشرط، إما بكمال صحة وقوة سند الحديث ، أو بكثرة متابعات الحديث القوية الدالة على كونه محفوظاً سالماً من القوادح ؛ وهذا لا ينضبط بضوابط واضحة ، ولا يقدر على إدراك خفيات تفاصيله إلا أهل التبحر في هذا العلم الجليل ؛ وفوق ذلك فإن معرفة حكم الشيخين في كل حديث لم يخرجاه ، مما هو محتمل أن يكون على شرطهما ، ليست متيسرة ولا ممكنة ، إلا في حالات قليلة لا تفي بحاجة مستقرئ هذا المقام.
فكان إغفالهما بيان ما أغفلاه من شروطهما - وهو أغلبها أو أخطرها - سبباً في أن لا تُعلم كثير من مسائل تلك الشروط وتفاصيلها إلا على سبيل الظن وجهة الإجمال(1) ، فإن العلماء حاولوا - وما زالوا يحاولون - استنبطوا تلك الشروط باستقراء أحاديث الكتابين ، ومعلوم أن الاستقراء في مثل هذه المطالب لا يفضي إلى التفصيل الكامل ولا يؤدي في كثير من التفاصيل إلى اليقين ؛ ولهذا السبب حصل نوع اختلاف بين المتكلمين على شروط الشيخين .
__________
(1) فمن المعلوم أن لكل واحد من الشيخين - بل ولكل من صنف في الصحيح - شروطاً في العدالة وفي الضبط وفي الاتصال وفي السلامة من الشذوذ والعلة والاضطراب ؛ ومن المعلوم أيضاً أن كل مصنف لا تعرف شروطه إلا بنص منه أو من أصحابه الملازمين له أو باستقراءٍ من غيره لكتابه ؛ ومعلوم كذلك أنه لم ينص الشيخان بوضوح على شيء من شروطهما في كتابيهما ، إلا ما كان من مسلم في بعض ذلك ، فإنه بين شرطه في الاتصال ، ووقع منه أيضاً بعض بيان لشرطه في مراتب الرواة في الجملة .(3/335)
وبسبب ما تقدم بيانه هنا اقتصر المحققون من العلماء في وصفهم الحديث بأنه على شرط الشيخين ، على ما يُقطع أو يكاد يُقطع بأنه قد حصلت فيه شروطهما .
إن السبب في ترك العلماء العمل بهذا المعنى ، مع كونه هو الظاهر ، وعدولهم عنه إلى المعنى الآخر الآتي بيانه: هو عدم إمكان معرفة ذلك المعنى الأول على جهة التدقيق والتفصيل ، كما تقدم.
وثانيهما : معناه الذي عليه العمل ، وهو أخص من المعنى الأول المذكور ، فهو - أي الثاني - معنى اصطلاحي ، وقد وقع بين العلماء شيء من اختلاف فيه ، والمحققون منهم يكادون يقصرونه على الأحاديث المروية بأسانيد احتج بها الشيخان ، مع تحقق انتفاء العلة القادحة في الحديث المراد تصحيحه على شرطهما أو شرط أحدهما .
وقد يُنظر إلى ظاهر السند فقط ، فيقال استناداً إلى ذلك : (هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ، ولكن له علة!).
صحيح على شرط مسلم :
انظر (صحيح على شرط الشيخين) .
صحيح غريب :
إذا كان الحديث صحيحاً ، وكان غريباً غرابة نسبية أو مطلقة ، صح وصفه بمجموع هذين المعنيين ، فقيل : (صحيح غريب)؛ وممن استعمل هذا التعبير أبو عيسى الترمذي في (جامعه).
صحيح لذاته :
الحديث الصحيح لذاته هو الحديث الذي يصح إسناده بنفسه ، وهو سالم من العلل القادحة ؛ وهذه من تسميات المتأخرين ، قد يحتاج المرء أحياناً إلى تقييد تصحيحه الحديث بكلمة (لذاته) تمييزاً له عن (الصحيح لغيره) أو (الصحيح بمجموع طرقه) ؛ فمن تدبر وجد أن كل قسم من أقسام الحديث الخمسة الشهيرة عند المعاصرين والمتأخرين نوعان: نوع محكوم عليه بذاته، ونوع محكوم عليه بغيره.
فالصحيح صحيح لذاته وصحيح لغيره، وكذلك الحسن؛ وهذه الأنواع الأربعة معروفة مشهورة.(3/336)
والضعيف كذلك منه ما هو ضعيف لذاته، أي بسبب ضعف إسناده نفسه، أي لوجود راو ضعيف فيه أو لانقطاع بين رواته؛ ومنه ما هو ضعيف لغيره، أي يكون سنده صحيحاً أو حسناً، ولكن تدل الأصول العامة أو الأحاديث الثابتة أو الطرق الأخرى لذلك الحديث على شذوذه وتوجب تعليله وتضعيفه.
وكذلك الموضوع، منه ما يحكم بوضعه لتفرد وضاع بروايته وهذا في الحقيقة محكوم عليه بذاته، ومنه ما يروى بسند ضعيف أو ضعيف جداً وهو سالم من وجود الكذابين فيه، ولكنه يكون موضوعاً بدلالة غيره من أسانيده على وضعه، أي يتبين من النظر في مجموع طرقه أنه في أصله من اختلاق بعض الوضاعين وأنه قد سرقه بعضهم فأدخله على ضعيف لا يتعمد الكذب فرواه ذلك الضعيف باسناد نظيف فتكون هذه الطريق ضعيفة فقط غير دالة بنفسها على وضع الحديث وإنما دل عليه تدبر طرقه الأخرى ومعرفة من فيها من الوضاعين والكذابين، أو يتبين وضع ذلك الحديث من جمع أحاديث الباب وما يتعلق بها من الأحاديث وغيرها فيكون متنه مخالفاً لما هو مقطوع به من معاني الآيات أو لما هو مجزوم بثبوته من الأحاديث أو التواريخ أو مخالفاً للمعقولات الصريحة، مع عدم إمكان الجمع في ذلك كله.
الصحيحان :
هما كتاب الإمام محمد بن إسماعيل البخاري (الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيَّامه) ، والمشهور بـ(صحيح البخاري) ، وكتاب الإمام مسلم بن الحجاج النيسابوري (الجامع الصحيح)، والمشهور بـ(صحيح مسلم).
صحيفة :
انظر (صحفي) .
صدوق :
تباينت استعمالات العلماء لهذه الكلمة ، وهي عند المتأخرين وكثير من المتقدمين تطلق على الرواة الذين هم في أدون مراتب التوثيق، أو على من قاربهم، وهي مرتبة العدل الضابط الذي خف ضبطه، فهو ثقة غير متقن ، ويقع منه في روايته شيء من أوهام .(3/337)
وهذا الصنف من الرواة يحتَجُّ بتفرد الواحد منهم جمهورُ المتأخرين، فإنهم يُطلقون الاحتجاج بتفرد الصدوق في الأحوال كلها ما لم يخالف من هو أوثق منه مخالفة كبيرة أو بينة ؛ وأما المتقدمون - وهم علماء الحديث على الحقيقة - ومن تبعهم ، فيحتجون بتفرد الصدوق ، تارةً ، ويردونه تارةً أخرى، وذلك بحسب ما يتبين لهم من أَمارات نقدية وقرائن تحف ذلك الخبر الذي يريدون أن يتجشموا الحكم عليه ؛ وعند علماء المتقدمين في أحكام ومعاني تفرد الرواة ودلائله ، من البحث والتفصيل ، ما ليس عند المتأخرين ؛ قال ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل) (1/1/37) في شرح جملة من مصطلحات المحدثين : (ووجدت الألفاظ في الجرح والتعديل على مراتب شتى ؛ وإذا قيل للواحد : إنه ثقة أو متقن ثبت ، فهو ممن يحتج بحديثه ؛ وإذا قيل له : إنه صدوق أو محله الصدق أو لا بأس به ، فهو ممن يكتب حديثه وينظر فيه ؛ وهي المنزلة الثانية) .
قال ابن الصلاح في (مقدمته) (ص134- طبعة الطباخ)(1) في شرح الفقرة الثانية من كلام ابن أبي حاتم : (قلت : هذا كما قال ، لأن هذه العبارات [أي كلمة صدوق وأخواتها] لا تُشعر بشريطة الضبط ، فينظر في حديثه ويختبر(2) حتى يعرف ضبطه ؛ وقد تقدم بيان طريقه في أول هذا النوع ؛ وإن لم يستوف النظر المعرف لكون ذلك المحدث في نفسه ضابطاً مطلقاً واحتجنا إلى حديث من حديثه اعتبرنا ذلك الحديث ونظرنا هل له أصل من رواية غيره كما تقدم بيان طريق الاعتبار في النوع الخامس عشر) .
__________
(1) و (ص110-111) من طبعة نور الدين عتر .
(2) كذا ، وهي أصرح من (يعتبر)، ولا أستبعد أن تكون مصحفة عنها ، بدليل قوله فيما يأتي (وقد تقدم بيان طريقه في أول هذا النوع--- كما تقدم بيان طريق الاعتبار في النوع الخامس عشر ) ، والذي تبين إنما هو طريق الاعتبار، وعلى كل حال فالمعنيان متقاربان .(3/338)
وهذا الكلام من ابن الصلاح لا أعلم أنه تعقبه عليه أحد من العلماء المحققين ، بل أقره عليه الذهبي والعراقي وابن الملقن والبلقيني والسخاوي والسيوطي وغيرهم .
وقال عبد الله بن يوسف الجديع في تعليقه على (المقنع) لابن الملقن في شرح عبارة ابن الصلاح هذه عندما نقلها ابن الملقن (1/282-283) ما نصه : (هذا هو التحقيق الذي يرتضيه أصحاب الفهم السليم لخفايا هذا العلم ، فإن الناقد العارف حين ينزل بوصف الراوي عن (ثقة) فيقول : (صدوق) لم ينزل إلا لمعنى أراده ، وهذا المعنى يعود إلى ضبطه وإتقانه ، فكأنه يقول : (هو صدوق وليس هو بالمتقن وليس حديثه كحديث الثقات) ؛ وهذا الموضع هو الذي يتنازع فيه النقاد بين القبول والرد ويعمل فيه التعصب عند غيرهم عمله ، وإلا فإن الحافظ الناقد أبا محمد بن أبي حاتم حين قال في الراوي الصدوق وشبهه : (يكتب حديثه وينظر فيه) إنما استفاد ذلك من ألفاظ الأئمة أهل الشأن، والواقع يؤيد ذلك، فإن الراوي الموصوف بمثل هذا الوصف لا يسلم غالباً من لين وخطأ في حديثه ، أو يكون قليل الحديث ليس بالمشهور ، مما يثير شبهة في نقله تحتاج إلى احتياط بالغ وتحرٍّ شديد للخلوص الى تقوية حديثه وتجويده .
وكذلك المعقول الصحيح يوافق هذا ويؤيده ، فالصدوق إن اعتبرنا حديثَه فلم نجده تفرد بأصل وروى ما رواه الثقات وقلَّ إغرابه بالأسانيد والمتون حسّنا حديثه وجودناه ، وهذا في كل حديث بعينه ، وإن وجدناه تفرد بأصل كحكم لا يأتي إلا من طريقه قلنا : أين ثقات الأمة وأئمتها من طبقته عن حفظ هذا الأصل ونقله ليتفرد به صدوق دونهم ؟
قال الحافظ الذهبي في (الميزان) (3/140) (ترجمة علي بن المديني) : (وإنَّ تفرُّدَ الثقةِ المتقن يعد صحيحاً غريباً ، وإنَّ تفرد الصدوق ومن دونه يعد منكراً، وإنَّ إكثار الراوي من الأحاديث التي لا يوافق عليها لفظاً أو إسناداً يصيّره متروك الحديث).(3/339)
قلت : ولو تأملتَ كتاب (الضعفاء) للعقيلي أو كامل ابن عدي أو ميزان الذهبي وما أودع فيها مما ينكر على رواتها من الحديث مع وصف الكثيرين منهم بالصدق لقام لك البرهان جلياً على صحة ما ذكرت لك ، فكن يقظاً لذلك .
واعلم أن الحديث الحسن الذي يساوي الصحيح في الاحتجاج به هو ما نتج الحكم بحسنه عن سبر وتأمل ، لا بمجرد النظر إلى ظاهر الإسناد، كما هو صنيع كثير من المنتسبين لهذا العلم الشريف) . انتهى كلامه ، وهو ، في جملته ، كلام مستقيم ، وتنبيه نفيس .
وقال أيضاً (1/571-573) في بيان معنى قولهم "صدوق" : (وصفُ الراوي بهذه العبارة جرى عند المتأخرين حملُها على من يكون في مرتبة من يقولون فيه : (حسن الحديث) ، والاصطلاح لا حرج فيه ، لكنْ ليس على ذلك الإطلاق استعمالُ السلف .
نعم ، هي مرتبة دون الثقة في غالب استعمالهم ، بل حديث الموصوف بها - على ما نص عليه ابن أبي حاتم عن منهج أئمة الحديث - أنه يكتب وينظر فيه ، أي لا يؤخذ ثابتاً على التسليم ، حتى تُدفع عنه مظنة الخطأ والوهم ، ويكون ذلك الحديث المعيَّن منه محفوظاً .
والصدوق هو من يحكم بحسن حديثه عند اندفاع تلك المظنة ؛ قال ابن أبي حاتم : سألت أبي عن عطاء الخراساني ؟ فقال : " لا بأس به ، صدوق " ، قلت : يحتج بحديثه ؟ قال : " نعم "(1).
وقد تأتي (صدوق) وصفاً للثقة المبرز في الحفظ والإتقان ، فيكون إطلاقها عليه مجردة لا يخلو من قصور من قِبل القائل ، لا ينزل بدرجة ذلك الحافظ ، من أجل ما استقر من العلم بمنزلته .
وذلك مثل قول أبي حاتم الرازي في عمرو بن علي الفلاس : "كان أرشق من علي بن المديني ، وهو بصري صدوق"(2).
__________
(1) الجرح والتعديل (3/1/335)
(2) الجرح والتعديل (3/1/249)(3/340)
وجدير أن تعلم أن عبارة (صدوق) قد تجامع وصف الراوي بكونه (ثقة) في قول الناقد ، يوصف الراوي بهما جميعاً ، فإذا وجدت ذلك في راوٍ فالأصل أنه بمنزلة التوكيد لنعته بالثقة من قِبل ذلك الناقد ؛ كقول أحمد بن حنبل في أبي بكر بن أبي شيبة : "صدوق ثقة"(1) ، فأبو بكر متفق على حفظه وثقته ، فلم يقع هذا النعت له على سبيل التردد بين الوصفين ؛ وأكثر ما يأتي ذلك على هذا المعنى .
نعم ، قد يُطلق الوصفان مجموعين تارة ، ويشعر استعمالهما مقارنة بأوصاف سائر النقاد لذلك الراوي بأن المراد (هو صدوق أو ثقة) على سبيل التردد ، كقول أبي حاتم الرازي في سماك بن حرب : "صدوق ثقة"(2).
وربما جمع الناقد الأوصاف المتعددة من أوصاف التعديل في الراوي ، والتي لو جاءت مفرقة لكان لكل منها دلالتها ومعناها ، لكنها حيث اجتمعت فإنها تحمل على تأكيد التعديل ، كقول أبي حاتم الرازي في السري بن يحيى الشيباني : " صدوق ، ثقة ، لا بأس به ، صالح الحديث "(3) ، وقوله في عبد الله بن محمد بن الربيع الكرماني : " شيخ ثقة صدوق مأمون "(4).
وربما جُمعت إلى وصف أدنى ، فتنزل بالراوي عند الناقد له إلى تلك المرتبة الدنيا ، مع بقاء الوصف بالصدق في الجملة ، مثلُ عباد بن عباد المهلبي ، قال فيه أبو حاتم : " صدوق ، لا بأس به " ، قيل له : يحتج بحديثه ؟ قال : " لا "(5) .
أما إذا جاء الوصفان من أكثر من قائل ، فالأصل اعتبار دلالات ألفاظ كلٍّ على سبيل الاستقلال ، فإن الرجل يُختلف فيه بين أن يكون ثقة أو صدوقاً ، فيصار إلى تحرير أمره تارة بالجمع بين أقوالهم ، وتارة بالترجيح بدليله). انتهى كلامه .
__________
(1) العلل ومعرفة الرجال (1658).
(2) الجرح والتعديل (2/1/280).
(3) الجرح والتعديل (2/1/284).
(4) الجرح والتعديل (2/2/162).
(5) الجرح والتعديل (3/1/83) ؛ قلت : قارِنْ بما تقدم من كلام أبي حاتم في عطاء الخراساني!.(3/341)
قلت : وأما إذا اقترن بها وصف تليين ، فحينئذ يكون الراوي لين الحديث ، وتكون كلمة (صدوق) متعلقة بعدالة الراوي لا بضبطه ، فكأن المراد منها معناها اللغوي ؛ وإنما الذي سوّغ عندهم إطلاقَ هذه الكلمة الاصطلاحية على مثل ذلك الراوي هو عدالته من جهة وقلة ضعفه من جهة أخرى ، وكأنه له نصيب من اسمها الاصطلاحي؛ ونظير هذا إطلاق بعض السلف كلمة (يكذب) على من يخطئ من غير تعمد ، وإنما سوّغ لهم ذلك الإطلاق ملاحظة تقصيره في تحديثه بأمر لم يتقنه ، وملاحظة جرأته في الكلام في الدين في مسائل لم يحسن فهمها أو نقلها، وكذلك يلاحظون أن مثل هذه اللفظة الخشنة (يكذب) أدعى إلى الرد على ذلك الواهم وأقرب إلى التنفير من قبول ذلك الوهم منه.
والآن أسوق هذه المباحث المفصلة في تحقيق معنى كلمة (صدوق) في اصطلاح ثلاثة من الأئمة هم عبدالرحمن بن مهدي وأبو حاتم الرازي وابنه عبدالرحمن ، وفيها مناقشة بعض ما ادُّعي في تفسير اصطلاحهم في هذه الكلمة ، فدونك ذلك :
قال الدكتور بشار عواد معروف والشيخ شعيب الأرنؤوط في (تحرير التقريب) (1/41) : (وكان عبد الرحمن بن مهدي يستعمل لفظة الصدوق للثقات الذين هم دون الأثبات، فقد قيل له: أبو خلدة ثقة ؟ فقال: كان صدوقاً وكان مأموناً، الثقة سفيان وشعبة.
وأبو خلدة هذا مجمع على توثيقه(1) كما بينّاه في تحرير أحكام التقريب، ومع ذلك قال ابن حجر في "التقريب": صدوق، لعدم ادراكه لمدلول هذا اللفظ عند ابن مهدي، كما يظهر) ؛ انتهى .
أقول: هذا المثال الواحد الذي ذكراه لا يكفي لبناء قاعدة عليه ؛ وفي دعواهما هذه نظر ، وإليك تفصيل ذلك وشرحه :
يظهر أن إطلاق الإمام عبد الرحمن لكلمة (صدوق) على الرواة ، يحتمل - ابتداءً - أربعة معانٍ، وهي كما يلي.
__________
(1) قد يقال هنا من باب الإيراد على كلام المحققَين: إذا كان مجمعاً على توثيقه فكيف يكون دون الأثبات؟!(3/342)
المعنى المحتمَل الأول : ما ادعياه، أي أن ابن مهدي كان يطلق كلمة (صدوق) على الثقات الذين هم أصحاب المرتبة الثالثة من مراتب الرواة في (تقريب التهذيب)، ولا يطلقها على مَن دونهم، خلافاً لسائر المحدثين ، أو لجمهورهم ؛ ولكن هذا الاحتمال ضعيف ، لأنه خلاف الأصل ، ولا دليل يقتضي الخروج عن الأصل؛ فأين الاستقراء ؛ وأين النقل عن المتقدمين؛ وأين الدليل الصريح الصحيح؟ بل أين الدليل القوي الكافي في الاستناد إليه ، ولو كان ظنياً ؟
المعنى المحتمل الثاني: أنه لم يكن يفرق بين الثقة والصدوق من الرواة ، فكان يطلق على كلا الرجلين كلمة (صدوق).
وهذا الاحتمال الثاني ضعيف مردود يُعلم ضعفُه بأدنى تأمل في السؤال الموجَّه إلى الامام عبد الرحمن بن مهدي وجوابه عليه، في الحكاية السابقة ؛ ويؤيد كونَه ضعيفاً أيضاً أنه خلاف طريقة الأئمة(1) في التفريق بين الكلمتين.
المعنى المحتمل الثالث: أن معنى لفظة (صدوق) عند ابن مهدي كمعناها عند الجمهور، ولكن معنى عبارة (كان صدوقاً وكان مأموناً) عنده أعلى من معنى لفظة (صدوق) وحدها، وإن كان أقل من معنى إطلاق التوثيق، وأن ذلك ما يستحقه أبو خلدة في نقد ابن مهدي.
المعنى المحتمل الرابع: وهو - فيما أرى - أقوى وأصح هذه الاحتمالات ، بل لعله لا يصح منها غيره ؛ وهو أن معنى لفظة "صدوق" عنده ، هو معناها عند الجمهور، من أقرانه وتلامذته وغيرهم ، أي أن الموصوف بها يكون حسن الحديث لا صحيحه، ولكنه أنزل أبا خلدة - مع أنه ثقة عنده - إليها، لأمر أو أكثر من أمر ؛ فإن قيل : ما هي تلك الأمور ؟
قلت : أهمها وأقربها أمران :
الأول : تشدد السائل عن أبي خلدة ، وملاحظة ابن مهدي لذلك التشدد ، وقيام القرائن عليه ؛ فلو وصف ابن مهدي أبا خلدة - مع ذلك التشدد - بكلمة "ثقة" فإنه يكون حينئذ قد أعطاه أكثر مما يستحقه .
__________
(1) وابن مهدي من أفاضلهم، كما هو معلوم.(3/343)
والثاني : أن يكون المقام أو المجلس مجلس تشديد أو تحقيق أو مقارنة ؛ كأن يكون سؤال السائل لابنِ مهدي عن أبي خلدة قد تقدمه في ذلك المجلس استعمالُ ابن مهدي كلمة "ثقة" مجردةً ، في وصف واحد - أو أكثر - من أئمة الحديث الثقات الأثبات المتقنين ، لأن ظاهر هذا السؤال حينئذ هو: (هل أبو خلدة ثقة كهؤلاء؟) ، فصار لا بد من الاحتراز عن مساواته بهم ؛ فالحكم على أبي خلدة حينئذ إنما هو حكمٌ عليه بالنسبة إلى الصنف المذكور من الثقات كسفيان وشعبة أو بعض نظرائهما من أكابر الحفاظ وأمراء المؤمنين في الحديث، فأراد ابن مهدي أن يجعل بينه وبينهم فرقاً وأن يؤخر رتبته عن رتبتهم، فلما سمى هؤلاء ثقاتٍ فقط لم يجد بداً من أن يصف أبي خلدة بكلمة يكون معناها دون معنى كلمة (ثقة) في ذلك المقام ، فاختار كلمة (صدوق)(1)؛ فإن المقام الذي فيه مقارنة الراوي بهؤلاء الأساطين مقامُ تشديد وتعنت ، أو مقام تدقيق في الألفاظ ؛ أي أنه لما قال لبعض الكبار المقدَّمين : (ثقة) ، فقط ، من غير توكيد مبيِّن لعظم إتقانه وعلو كعبه بين الثقات، فإنه لا مانع حينئذ أن يوصف مثل أبي خلدة بجانبه بأنه صدوق مأمون، بل إن ذلك هو المتعين في حقه هنا، وهو الذي لا سبيل إلى أكثر منه ، وإلا فإنه لو قال فيه: (ثقة) أيضاً لساواه بهم وهو عنده دونهم .
__________
(1) وكان من الممكن الجائز أن يختار أيضاً نحوها مما يؤدي معناها.(3/344)
والحاصل أنه وصفه بكلمة (صدوق) وأراد بها معناها الاصطلاحي المعروف، أو أعلى درجة من درجات ذلك المعنى(1) ، وسوَّغ ذلك عنده ، بل ألجأه إليه ، أن المقام مقام تشديد وتعنت، أو مقارنة مع الثقات المتقنين الذين سُموا في ذلك المجلس "ثقات" فقط ، مع أنه يظهر أنه لو سئل عنه بمفرده ومن غير أن يتقدم ذلك السؤال في ذلك المجلس كلامٌ في غيره من المحدثين ولا قرينةٌ مانعة من إطلاق التوثيق لصرح بتوثيقه التام وأطلق عليه كلمة (ثقة).
ويقرّب هذا أيضاً ويؤيده أن النقاد المتقدمين كانوا يستعملون أحياناً لفظة صدوق بمعنى لفظة ثقة، وإنما يقع منهم ذلك - أعني عدول أحدهم عن لفظة " ثقةٍ " إلى لفظة "صدوق" - لأمور، منها هذه الثلاثة التالية :
الأمر الأول : أن يكون الناقد ممن لا يفرق بينهما، وهذا خلاف طريقة جمهور النقاد وأئمتهم.
والثاني: أن الناقد قد يتردد في حال الراوي هل بلغ مرتبة التوثيق التام أو قصر عنها قليلاً ، فيميل إلى الأحوط ويكتفي بوصفه بكلمة (صدوق)، ولا يرفعه إلى مرتبة كلمة (ثقة) .
والثالث: أن قرينة في السؤال أو في تصرف السائل أو في المجلس تقتضي منه ذلك العدول ، لأن كلمة ثقة حينئذ معناها الثقة الثبت الحجة الحافظ، وهو قد سئل عمن هو ثقة غير مؤكد التوثيق أي غير مرتقٍ إلى منزلة أولئك الموصوفين، فلا بد له حينئذ من استعمال كلمة صدوق أو ما يقوم مقامها؛ وهذا - فيما يظهر - شأن القصة المذكورة عن عبد الرحمن بن مهدي وسائله عن أبي خلدة.
__________
(1) فالذين يقال فيهم : "صدوق" ليسوا متساويين في درجاتهم ، وإن كانت مرتبتهم واحدة في الجملة .(3/345)
وبهذا يتبين أنَّه لا يصح جعلُ هذا المعنى الطارئ لكلمة "صدوق" معنى لازماً لها ومطّرداً فيها ، عند الإمام عبد الرحمن بن مهدي؛ فإنَّ ذلك لا يصح إلا باستقراء كاف ، أو بنصٍّ على ذلك المعنى من الإمام عبد الرحمن نفسه ، أو ممن نظن أنه عنه أخذه ومنه سمعه ، أي تلامذته ؛ أو بنصٍّ من كبار النقاد القدماء الذين هم عارفون به معرفة كافية راسخة، أو الذين هم من أهل الاستقراء التام والاطلاع الواسع والتبحر.
ومن الغريب أن المتأخرين يكثر منهم أن يستندوا على كلمة محتملة أو تفسير ارتآه بعض العلماء لبعض عبارات الأئمة ، فيجعلون ذلك أصلاً في مقصد ذلك الإمام وفي شرح اصطلاحاته ولو كان في ذلك شذوذٌ بيِّن ومخالفة ظاهرة لطريقة الجمهور أو لمقتضى اللغة وأساليب الكلام، وذلك صنيع غير جيد ولا مقبول.
قال الكوثري في ( الترحيب ) (ص 15): (وكم من راو يوثق ولا يُحتج به ، كما في كلام يعقوب الفسوي ، بل كم ممن يوصف بأنه صدوق ولا يعد ثقة كما قال ابن مهدي : أبو خلدة صدوق مأمون ، الثقة سفيان وشعبة ) ؛ فقال العلامة المعلمي رحمه الله في (التنكيل) (1/73-75 : دار الكتب السلفية):
(وعلى الأستاذ موأخذات :
الأولى : ----.
الثالثة : أن كلمة ابن مهدي لا توافق مقصود الأستاذ فأنها تعطي بظاهرها أن كلمة ( ثقة ) إنما تطلق على أعلى الدرجات كشعبة وسفيان ، ومع العلم بأن ابن مهدي وجميع الأئمة يحتجون برواية عدد لا يُحصون ممن هم دون شعبة وسفيان بكثير ، فكلمته تلك تعطي بظاهرها أن من كان دون شعبة وسفيان فإنه وإن كان عدلاً ضابطاً تقوم الحجة بروايته فلا يقال له : ( ثقة ) ، بل يقال: ( صدوق ) ونحوها ، وأين هذا من الأستاذ ؟
الرابعة : أن كلمة ابن مهدي بظاهرها منتقدة من وجهين :
الأول : أنه وكافة الأئمة قبله وبعده يطلقون كلمة ( ثقة ) على العدل الضابط ، وإن كان دون شعبة وسفيان بكثير .(3/346)
الثاني: أن أبا خلدة قد قال فيه يزيد بن زريع والنسائي وابن سعد والعجلي والدارقطني: ( ثقة ) ، وقال ابن عبد البر: ( هو ثقة عند جميعهم وكلام ابن مهدي لا معنى له في اختيار الألفاظ ).
وأصل القصة أن ابن مهدي كان يحدث فقال: حدثنا أبو خلدة، فقال له رجل: كان ثقة؟ فأجاب ابن مهدي بما مر، فيظهر لي أن السائل فخَّم كلمة (ثقة) ورفع يده وشدَّها بحيث فهم ابن مهدي أنه يريد أعلى الدرجات، فأجابه بحسب ذلك؛ فقوله (الثقة شعبة وسفيان) أراد به الثقة الكامل الذي هو أعلى الدرجات؛ وذلك لا ينفي أن يقال فيمن دون شعبة وسفيان: (ثقة) على المعنى المعروف.
وهذا ، بحمد الله ، ظاهر ؛ وإن لم أرَ من نبه عليه ؛ وقريب منه أن المروذي قال: " قلت لأحمد بن حنبل: عبد الوهاب بن عطاء ثقة؟ قال: ما تقول؟! إنما الثقة يحيى القطان" ؛ وقد وثق أحمد مئات من الرواة يعلم أنهم دون يحيى القطان بكثير). انتهى كلام المعلمي رحمه الله تعالى.
نخلص مما تقدم إلى أنه لا يسوغ القطع - ولا الظن الراجح الكافي للعمل به - بأن معنى كلمة "صدوق" عند عبد الرحمن بن مهدي هو التوثيق التام، ومن ادعى ذلك فليس بمصيب.
ومن أطلق من النقاد في مرة من عمره كلمة وظهر أنه أراد بها في تلك المرة غير عادته وغير ما يريده بها جمهور المحدثين ، فلا يتجه أن يفسر اصطلاحه في تلك الكلمة بمقتضى تلك المرة الواحدة، ولا سيما إذا اتجه تفسير تلك الكلمة في ذلك الموضع الوحيد تفسيراً خاصاً بذلك الموضع مقصوراً عليه صحيحاً بالنسبة له ، مؤيداً بالقرائن المحيطة به، قريباً من معناها الغالب عليها.(3/347)
فهذا ، كما لا يخفى ، أولى بكثيرٍ من ادعاء - أو نسبة - اصطلاح شاذ لبعض كبار النقّاد(1) ؛ ومثل هذا الادعاء إنما يقع من أصحابه بسبب أنهم يريدون أن يحافظوا على معنى موحَّد للفظة الاصطلاحية للناقد، فتراهم يطردون تفسير تلك الكلمة بذلك المعنى - ولو كان شاذاً - في جميع مواضع استعمال ذلك الناقد للكلمة ، بلا استثناء! ؛ وهذا مسلك غير مستقيم ؛ فقد قال المعلمي في مقدمته لكتاب (الفوائد المجموعة) (ص9): ( صيغ الجرح والتعديل كثيراً ما تطلق على معان مغايرة لمعانيها المقررة في كتب المصطلح، ومعرفة ذلك تتوقف على طول الممارسة واستقصاء النظر) ؛ انتهى.
وقال الباجي في (التعديل والتجريح) (1/283-288): ( اعلم أنه قد يقول المعدل: (فلان ثقة) ولا يريد به أنه ممن يُحتج بحديثه، ويقول: (فلان لا بأس به) ويريد أنه يُحتج بحديثه؛ وإنما ذلك على حسب ما هو [أي الناقد] فيه، ووجهِ السؤال له.
فقد يُسأل عن الرجل الفاضل في دينه المتوسط في حديثه فيُقرن [أي في السؤال] بالضعفاء، فيقال: ما تقول في فلان وفلان ؟ فيقول: فلان ثقة، يريد أنه ليس من نمط من قُرن به، وأنه ثقة بالإضافة إلى غيره.
وقد يُسأل عنه على غير هذا الوجه فيقول: لا بأس به، فإذا قيل: أهو ثقة ؟ قال: الثقة غير هذا ).
ثم اطال الباجي في التمثيل لتلك المعاني والاستدلال لها إلى أن قال: (فهذا كله يدل على أن ألفاظهم في ذلك تصدر على حسَب السؤال، وتختلف بحسَب ذلك، وتكون بحسَب إضافة المسؤول عنهم بعضهم إلى بعض).
ثم قال: (وقد يُحكم بالجرحة على الرجل بمعنى(2) لو وُجد في غيره لم يُجْرح به، لما شُهر من فضله وعلمه وأنَّ حالَه يحتمل مثل ذلك).
__________
(1) وهل أخذ جمهور المحدثين مصطلحاتهم إلا عن الكبار من متقدمي أئمة الحديث كشعبة وسفيان ومالك وتلميذَيهم عبد الرحمن بن مهدي ويحيى بن سعيد.
(2) أي بسبب.(3/348)
وقال في ختام مبحثه هذا: (فعلى هذا يحملُ ألفاظَ الجرح والتعديل مَن فهم أقوالهم وأغراضهم، ولا يكون ذلك إلا لمن كان من أهل الصناعة والعلم بهذا الشأن.
وأما من لم يعلم ذلك وليس عنده من أحوال المحدثين إلا ما يأخذه من ألفاظ أهل الجرح والتعديل، فإنه لا يمكنه تنزيل الألفاظ هذا التنزيل ولا اعتبارها بشيء مما ذكرنا، وإنما يتبع في ذلك ظاهرَ ألفاظهم فيما وقع الاتفاق عليه، ويقف عند اختلافهم واختلاف عباراتهم).
ومما مثل به الباجي لكلامه الأول جواب ابن مهدي في أبي خلدة.
وأخيراً فمن المهم الذي لا بد هنا من ذكرِه أن الإمامَ أبا محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم قد فهم وصرح أن عبد الرحمن بن مهدي كان يفرق بين كلمة ثقة وكلمة صدوق فقال في (الجرح والتعديل) (2/37): (حدثني أبي [حدثـ]ـنا عبد الرحمن بن عمر الأصبهاني الزهري قال سمعت عبد الرحمن بن مهدى وقيل له : أبو خلدة ثقة؟ فقال: كان صدوقاً وكان مأموناً، الثقة سفيان وشعبة) ؛ قال أبو محمد: (فقد أخبر أن الناقلة للآثار والمقبولين على منازل وأن أهل المنزلة الأعلى الثقات وأن أهل المنزلة الثانية أهل الصدق والأمانة).
بل ذهب السخاوي من المتأخرين إلى أن لفظة "صدوق" عند ابن مهدي تساوي لفظة "صالح الحديث" عنده ، مع أن هذه من أدنى مراتب التعديل ؛ فقد قال ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل) (2/37): ( [حدثـ]ـنا أحمد بن سنان الواسطي قال: سمعت عبد الرحمن بن مهدي وربما جرى ذكر رجل صدوق، في حديثه ضعف؛ فيقول: رجل صالح، الحديث يغلبه ، يعني أن شهوة الحديث تغلبه ).(3/349)
قلت: معنى هذا الكلام أن عبد الرحمن بن مهدي كان من طريقته أحياناً أنه إذا أراد أن يبين حال بعض الرواة في الحديث ممن هم عدول ، أي صدوقون في أنفسهم، ولكنهم لينون ، أي في حديثهم ضعف من جهة نقص ضبطهم ، فإنه يشير إلى حالهم في العدالة والدين بنحو كلمة صالح ، ثم يشير إلى حالهم في الرواية بمثل هذه الكلمة (الحديث يغلبه) أي أنه لا يصبر عن التحديث مع أنه كان ينبغي له أن لا يحدث لأنه غير ضابط لأحاديثه.
ولكن ابن الصلاح لم ينقل من كلمة أحمد بن سنان هذه أواخرها فصار آخر العبارة هكذا: (فيقول : رجل صالح الحديث)(1)؛ فجاء السخاوي فبنى على هذا أن كلمة (صالح الحديث) عند ابن مهدي بمعنى كلمة (صدوق) عنده، فقال في (فتح المغيث) (2/114) بعد هذه العبارة التي نقلها ابن الصلاح: (وهذا يقتضي أنها [يعني: صالح الحديث ] هي والوصف بـ"صدوق" عند ابن مهدي سواء ).
قلت: وهذه الدعوى نقيض دعوى من قال أن كلمة (صدوق) عند ابن مهدي تعني عنده التوثيق التام ؛ وكلاهما غير صحيح كما تقدم.
وأما أبو حاتم الرازي فيُكثر في نقده للرواة العدول من كلمة (صدوق) ويُقلّ من نظائرها ككلمة (لا بأس به)(2) ؛ وقد ادعى غير واحد من العلماء والباحثين أن كلمة (صدوق) عند أبي حاتم أعلى منها عند غيره ، أو أنه متشدد في إطلاقها ، أو نحو ذلك من المعاني .
قال المعلمي رحمه الله في (التنكيل) (1/350)(3) : ( وأبو حاتم معروف بالتشدد، وقد لا تقل كلمة صدوق منه عن كلمة ثقة من غيره، فإنك لا تكاد تجده أطلق كلمة صدوق في رجل إلا وتجد غيره قد وثقه؛ هذا هو الغالب ).
وذكر الشيخ عبد الله السعد(4) أن قول أبي حاتم في الرجل: "صدوق" كقول غيره " ثقة ".
__________
(1) راجع (مقدمة ابن الصلاح) (ص112) .
(2) وهو في هذا مخالف لابن معين فهو يكثر من كلمة (لا بأس به) ويُقلّ من كلمة (صدوق) .
(3) و (ص574) في الطبعة الأخرى .
(4) شرح (التمييز) / الشريط الرابع / الجزء الأول .(3/350)
وللشيخ حاتم العوني بحث في معنى قول أبي حاتم ( صدوق ) في (المرسل الخفي) (1/340-342) خلص فيه إلى أنه لا يلزم من قول أبي حاتم "صدوق" إنزال الراوي عن تصحيح حديثه .
ويؤيد هذه الدعاوى ما اشتهر به أبو حاتم عند المتأخرين أنه متشدد في تعديل الرواة ، فقد وصفه بالتشدد أو التعنت جماعة من العلماء والباحثين(1) .
ولكن يَرِدُ على هذه الدعاوى أن ابن أبي حاتم ولعله أعرف الناس بأبيه كان إذا سمع من أبيه كلمة (صدوق) ربما سأله فقال : يحتج به ؟ مثاله ما تقدم قريباً من قوله ( سألت أبي عن عطاء الخراساني ؟ فقال : " لا بأس به ، صدوق " ، قلت : يحتج بحديثه ؟ قال : " نعم )(2) ، ويَردُ عليها كذلك أمورٌ أخرى يؤخذ قد يؤخذ بعضها من المناقشة التالية .
__________
(1) فانظر الفتاوى الكبرى ج3ص127-128 ومجموع الفتاوى ج21ص93 و ج24ص349 لشيخ الإسلام ابن تيمية ، والسير ج13 ص81 و260 وتذكرة الحفاظ ج2ص420 والميزان ج2ص43 و 354-355 والموقظة ص83 وأول (ذكر من يعتمد قوله في الجرح والتعديل) للذهبي ومقدمة فتح الباري ص615-616 والنكت ج1ص482 وبذل الماعون لابن حجر ، والرفع والتكميل للكنوي ص179 والتنكيل للمعلمي ص441 و 574 و661 و 701-702 و 732 ، وتحرير التقريب ج2ص85 و311 و ج4ص76 والتعليق على الكاشف لمحمد عوامة (الترجمة 1356) ومباحث في علم الجرح والتعديل لقاسم علي سعد ص112-113 وجنة المرتاب للحويني ص326 .
(2) الجرح والتعديل (3/1/335)(3/351)
قال صاحبا (تحرير التقريب) (1/43) بعد بيانهما لبعض عبارات ابن أبي حاتم: (على أن هذه المصطلحات عند أبي حاتم لا تسير على نمط واحد، فقد عرفنا بالاستقراء أنه يطلق لفظة صدوق على شيوخه الثقات الذين ارتضاهم وروى عنهم ويريد بها ثقة، وإنما استعمل هذه اللفظة كما يبدو تواضعاً(1)، ولم ينتبه الحافظ ابن حجر إلى هذه المسألة ولا أحد ممن جاء بعده ).
قلت: ولا أحد ممن جاء قبله، فانفرد هذان المؤلفان بهذه الدعوى، وهذا مما يريب - عند اجتماعه مع عدم الدليل الواضح - في صحة إطلاقها بلا تقييد .
نعم أبو حاتم متعنت في إطلاق التوثيق على شيوخه، بل وأحياناً على غيرهم؛ ولكن لا يلزم من ذلك ما قالاه .
__________
(1) دعوى ان ذلك وقع منه تواضعاً فيها نظر، فإن من البين الواضح ان الموضع ليس موضع تواضع وانما هو موضع نقد للرواة وبيان لأحكامهم، ثم الامر- كما ترى - ليس متعلقاً بابي حاتم نفسه، وانما يتعلق بقوم آخرين، فأي دخل للتواضع هنا ؟ ومعلوم ان كون اولئك الرواة من شيوخه لا يسوغ له ذلك. وابو حاتم ما كان ليرضى بتعمية معنى كلامه على الناس وبأن يكون كلامه موهما خلاف مايريده أو ما ينبغي ان يقوله في كثير من الرواة بحجة التواضع. ولهما في موضع آخر تعليل يخالف بظاهره هذا التعليل، فقد قالا (1/70):« وقد لاحظنا ان ابا حاتم يطلق كلمة صدوق على كثير من شيوخه الثقات تحرياً».
ثم انهما لم يبينا لماذا اقتصر ابو حاتم في هذا التحري على شيوخه دون سواهم، فان قالا انه لم يقتصر فيه عليهم قيل: ولكنكما اقتصرتما على ذلك في قولكما، وأشعر به صنيعكما.(3/352)
وأرى أن الصواب في هذه القضية أن أبا حاتم كان يطلق لفظة (صدوق) على راوي الحديث الحسن أي على الراوي العدل الضابط الخفيف الضبط، وهذا هو الغالب، ويطلقها أحياناً على العدل التام ضبطه، وهو إنما يفعل ذلك في تلك الأحيان تشدداً في إطلاق التوثيق التام تارة ، وتجوزاً وتوسعاً تارة أخرى، وهذا التوسع وذاك التشدد يقعان في كلامه على شيوخه وأقرانه أكثر من وقوعهما في كلامه على من سواهم.
وهذا معناه أنه ينبغي عند دراسة أحكام الرواة الذين قال فيهم أبو حاتم: (صدوق) ، وعند محاولة الجمع والتوفيق بين أقوال النقاد فيهم : ملاحظةُ هذا الاحتمال واعتباره وعدم إهماله ووجوب التثبت والتأمل وملاحظة القرائن التي قد يتبين بها مقصد أبي حاتم على وجه التحديد.
فإن لم تقم قرينة في حق راو ما على أحد الاحتمالين المذكورين، بقي الحكم للغالب الذي تقدم بيانه ، فتفُسر عبارة أبي حاتم به ، لأنه الأصل في هذه المسألة .
والحاصل أنه لا يصح ما ذهبا اليه من عكس هذه القاعدة، وهو أن التوثيق التام هو الأصل في شيوخ أبي حاتم الذين وصفهم هو بكلمة (صدوق) ، والذي معناه الحكم بالتوثيق التام لجميع شيوخ أبي حاتم الذين قال فيهم: (صدوق) إلا من قامت القرائن على وجوب استثنائه ؛ وإنما يستقيم مثل هذا الحكم الأغلبي إذا كان أبو حاتم لا يطلق كلمة (صدوق) في الغالب إلا على من هو ثقة ؛ وأنَّى يَثبت ذلك ؟! .
إن الأصل في شيوخ أبي حاتم الذين وصفهم بكلمة (صدوق) هو غير الأصل في شيوخ أبي حاتم عامة ؛ فهذان أصلان ينبغي التفريق بينهما ، ولا يصح الخلط بينهما ، وهذا بيان ذلك :(3/353)
أما الأصل الثاني ، أي الأصل في شيوخ أبي حاتم عامة ، فالظاهر أنه كان يروي عن الأقوياء ، وقد يروي عن الضعفاء ما توبعوا عليه ، وما هو قريب من القوة ، وما يحتاج إليه مما لا يجده عند غيرهم ؛ فهذا الأصل إذن ليس له دخل في تحقيق ما نحن بصدده من التعرف على حقيقة حال شيوخ أبي حاتم الذين قال فيهم : (صدوق) .
نعم لو كان معظم شيوخ أبي حاتم ثقاتٍ تامّاً توثيقهم ، لكان هذا الأصل يعم شيوخ أبي حاتم الذين سماهم (صدوقين) فحينئذ يُحكم - تغليباً - على من لم يتيسر تحقيق حاله منهم ، بأنه ثقة، كما هو مذهب صاحبي (تحرير التقريب).
وأما الأصل الأول ، أي الأصل في إطلاق أبي حاتم لفظة (صدوق) على شيوخه ، فهو الذي تُهمنا معرفته هنا ، ولكننا لا نعرف منه سوى أن أبا حاتم كان ربما تشدد في إطلاق هذه الكلمة على الرواة ، وأن تشدده فيها في حق شيوخه ومعاصريه أوضح ؛ وهذا أيضاً لا يُبنى عليه التوثيق التام لمن لم يتيسر تحقيق حاله من شيوخ أبي حاتم الذين وصفهم بالصدق ، إلا إذا بلغ ذلك التشدد مبلغاً عظيماً بحيث يتبين أن معظم أولئك الشيوخ ثقات وثاقةً تامةً، فيُلحق بهم حينئذ في الحكم بالتوثيق التام من لم تستبن حاله من شيوخه الذين نعتهم بلفظة (صدوق).(3/354)
وإنما يُبرهن على حصول ذلك التشدد العظيم بإثبات أن شيوخ أبي حاتم الذين أطلق عليهم لفظة (صدوق) وهم عند التحقيق ثقات من أصحاب الضبط التام أكثر بكثير من مجموع شيوخه الذين أطلق تلك اللفظة عليهم وهم عند التحقيق دون أهل التوثيق التام، أي صدوقون أو لينون أو ضعفاء، فإذا كان الأمر كذلك قُبل ذلك الأصل وبُني عليه ، ولكن ما أبعد أن يكون الأمر كذلك(1)!!
ولتوضيح هذا الكلام أضرب هذا المثال المفترض:
__________
(1) وانظر (تحرير التقريب) (1/69 و 70 و 75 و 91 و 96 و 141 و 174 و 182 و 192 و 303 و 342 و 354 و 373 و 399 ) و ( 2/65 و 87 و 98 و 100 و 129 و 133 و 191 و 197 و 202 و 225 و 243 و 247 و 297 و 299 و 308 و 324 و 336 و 347 و 363 و 366 و 376-377 و 396 و 436-437 ) و ( 3/35 و 37 و 39 و 40 و 43 و 44 و 68 و 83 و 100 و 117 و 135 و 146 و 156 و 157 و 189 و 207 و 211 - فيها موضعان - و 213 و 216 و 226 و 238 و 254 و 259 و 264 و 288 و 296 - فيها موضعان - و 302 و 304 و 314 و 319 - فيها موضعان - و 321 و 324 و 331 و 332 و 335 و 356 و 427 و 442 و 443 ) و ( 4/29 و 69 و 70 و 75 و 88 و 93 و 95 و 102 و 136 ).(3/355)
لو افترضنا أنه تبين بعد الدراسة والاستقراء أن أبا حاتم كان شيوخه الذين تبين لنا أنهم ثقات توثيقا تاماً مئة، وأنه قال في عشرين منهم : (ثقة) ، وقال فيمن تبقى من هذه المئة - وهم ثمانون - : (صدوق)، ثم وجدناه أطلق كلمة (صدوق) أيضاً على مئتين آخرين من شيوخه، وتبين بعد البحث والتحقيق أن مئة وخمسين من هؤلاء المئتين من رواة الحديث الحسن، أي أنهم صدوقون بالمعنى الاصطلاحي المشهور، وكان ثلاثون من بقية المئتين دون ذلك، وكان ما تبقى منهم - وهم عشرون شيخاً - لا نعرف عنهم سوى هذه الكلمة التي قالها فيهم أبو حاتم، فترى بمن نلحق هؤلاء العشرين استناداً إلى قاعدة الحكم للغالب تلك القاعدة المجملة التي لا ينبغي أن يصار إليها إلا عند الحاجة وعدم وجدان التفصيل ؟ لا شك أنهم يلحقون برواة الأحاديث الحسنة لأنهم هم الأغلب، فهم مئة وخمسون، والثقات ثمانون.
هذا وقد قال الفاضلان المذكوران في كتابهما (1/70) في شيخ لأبي حاتم قال هو فيه: (صدوق)، قالا فيه : « ولو لم يكن ثقة عند أبي حاتم لما روى عنه ».
أقول: هذا ادعاء غريب ، ولعله من سبق القلم، ولا يصح أن يعتذر عنهما بأن مرادهما بالثقة الصدوق أو المعنى الشامل للثقة مطلقاً والصدوق، لأنهما في مقام استدراك على ابن حجر وهو قد قال فيه: (صدوق)(1)، ومَن فوق الصدوق إلا الثقة مطلقاً ؟
ثم إنهما وقعا في أمر لا يبعد أن يُعد تناقضاً ، وذلك أنهما قالا (1/42): « أما ابن أبي حاتم فجعل الرواة أربعة أصناف ---- »، فذكراها ثم قالا : « فهذا اصطلاح خاص به، ويُفهم من لفظة صدوق عنده أنها لا تعني الحديث الحسن بل دونه، وهو الذي يصلح للمتابعات والشواهد ».
__________
(1) أي ان ابن حجر لم يقل فيه عبارة تليين أو تضعيف، ليقال:لعلهما استدركا عليه لأنهما يريان انه صدوق لا لين ولا ضعيف.(3/356)
أقول: لم يوفقا إلى الصواب في معنى لفظة (صدوق) عند ابن أبي حاتم؛ فإن كانا فَهِما ما ذكراه من قوله (فهو ممن يكتب حديثه وينظر فيه) ومن كونه لم يصرح هنا بأن هذا ممن يحتج به كما صرح في المرتبة الاولى، فإن هذا الفهم فيه نظر من وجوه :
الأول : أنه يَرِد عليه ان ابن أبي حاتم لم يذكر مرتبة وسطى بين مرتبتي الثقة والصدوق، فعلى فرض أن معنى الصدوق عنده هو ما ذكراه، فإنه يكون قد أغفل مرتبة الحديث الحسن، وهذا لا يصح لأن السياق يأباه، أو يكون قد أدرجها في مرتبة الصحيح وجعلها قسماً منها لا قسيماً لها، وهذا خلاف الظاهر الذي عليه الجمهور، ثم إنه لا دليل عليه وعبارته تأباه أيضاً، أو يكون قد اختار للتعبير عن صاحب تلك المرتبة لفظة (لا بأس به) أو لفظة (محله الصدق) دون لفظة (صدوق)؛ وهذا غير صحيح كسابقيه لأنه قد ساوى بين هذه الالفاظ الثلاث، فهي إن لم تكن متساوية في معناها عنده فإنه لن يكون بينها عنده من الفروق ما يجعلها متباينة في مراتبها، بل لا بد أن تكون على الأقل متقاربة في معانيها مشتركة في مرتبتها وحكمها.
الثاني : أنه يبعد أن يخالف ابن أبي حاتم أباه(1) وأبا زرعة وسائر شيوخه وشيوخهما وجمهور المحدثين في معنى هذا المصطلح، ولا سيما أنه لم يبين ذلك ولا صرح به مع شدة الحاجة إلى البيان والتصريح، إذ أنه - كما هو معروف - جمع كتاباً في الجرح والتعديل عظيماً أحصى فيه ما وقف عليه من أقوال أئمة الجرح والتعديل في الرواة، وقد تكررت كلمة (صدوق) في عباراتهم مئات المرات وهو في أكثر ذلك مقرٌّ لها غير مستدرك عليهم فيها، واستعملها هو أيضاً قولاً له في مرات كثيرة جداً بطريقة تشعر بأن معناها عنده هو معناها عندهم بعينه .
__________
(1) وهذا هو الذي أشرت إليه بأنه يشبه التناقض ، إذ كيف يكون معنى صدوق عند أبي حاتم فوق معنى الجمهور بكثير ومعناها عند ابنه وتلميذه وخريجه دون معنى الجمهور بكثير؟!(3/357)
الثالث : أن ابن أبي حاتم هنا في هذا التقسيم ناقل لمعاني المصطلحات عند المحدثين لا عنده، وإليك نص عبارته - وهي في الجرح والتعديل (1/1/37) - :« ووجدت الألفاظ في الجرح والتعديل على مراتب شتى:
وإذا قيل للواحد انه ثقة أو متقن ثبت فهو ممن يحتج بحديثه.
واذا قيل له انه صدوق ، أو محله الصدق ، أو لا بأس به ، فهو ممن يكتب حديثه وينظر فيه ، وهي المنزلة الثانية.
واذا قيل : شيخ ، فهو بالمنزلة الثالثة ، يكتب حديثه وينظر فيه ، إلا أنه دون الثانية .
واذا قيل : صالح الحديث فإنه يكتب حديثه للاعتبار.
وإذا أجابوا في الرجل بـ(لين الحديث) فهو ممن يكتب حديثه وينظر فيه اعتباراً.
وإذا قالوا : ليس بقوي فهو بمنزلة الأولى في كِتبة حديثه إلا أنه دونه.
وإذا قالوا : ضعيف الحديث فهو دون الثاني لا يطرح حديثه بل يعتبر به.
وإذا قالوا : متروك الحديث أو ذاهب الحديث أو كذاب فهو ساقط الحديث لا يكتب حديثه، وهي المنزلة الرابعة».
هذا كلامه، وتفسيره أنه جعل المنازل أربع :
الأولى: منزلة الثقات رواة الأحاديث الصحيحة، وذكر من ألفاظها (ثقة) و (متقن ثبت).
والثانية: منزلة رواة الاحاديث الحسنة، وذكر من الفاظها (صدوق) و (محله الصدق) و (لا بأس به).
والثالثة: منزلة الرواة الذين يستشهد بهم ولا يحتج بهم .
وهذه المنزلة الثالثة جعلها خمس درجات، فمن أعلاها درجة شيخ، فهي ليست من مراتب الاحتجاج وإن كان ظاهر سياقه قد يشعر بأنها منها؛ ويليها صالح الحديث ثم لين الحديث ثم ليس بقوي ثم ضعيف الحديث.
والمنزلة الرابعة : منزلة متروك الحديث وذاهب الحديث وكذاب.(3/358)
ومقصوده بالنظر الذي ذكره في مرتبة الصدوق هو النظر الذي يتبين به صلاحية الحديث للاحتجاج به من عدمها، وهذا بخلاف مقصوده به في مرتبة لين الحديث، فإنه هناك يريد النظر المميز بين أهلية الحديث للاستشهاد به من عدمها؛ وإنما لم يقل في حديث الثقة والمتقن الثبت انه ينظر فيه وإن كان قد يعتريه الوهم، لأن الوهم في حديث هؤلاء نادر ولا يكاد يطلع عليه إلا علماء العلل والمتبحرون في علم الحديث .
الرابع : أن صاحبَي (تحرير التقريب) لم يسبقهما إلى هذا القول الغريب الذي قالاه هنا - فيما أعلم - أحد من علماء الحديث، بل هم سبقوهما إلى خلافه كما يعلم من كتب علوم الحديث وكتب الجرح والتعديل وكتب التخريج .(3/359)
الخامس : أنه يبعد أن يكون معنى كلمة (صدوق) عند ابن أبي حاتم هو الضعف الذي قد ينجبر بالمتابعات والشواهد ثم يعود فيستعملها في ثقات شيوخه بمعنى ثقة مطلقاً كما جاء في تنبيهاتهما في مواضع عديدة من كتابهما ، منها (2/65)(1)، فان هذا لو وقع من ابن أبي حاتم لكان كالتناقض منه، وهذا ما لا يليق به ولا يُظن وقوعه من مثله ولا سيما أنه ليس مضطراً إليه، ولو أنه وقع لبينه ولا بد(2).
__________
(1) إذ قالا في سليمان بن توبة النهرواني تعقيباً على وصف ابن حجر له بكلمة (صدوق) : (بل ثقة ، فقد وثقه الدارقطني ، وروى عنه جمع من الثقات ، منهم ابن أبي حاتم الرازي ، وقال : كان صدوقاً ، وهو من رسمه ورسم أبيه في ثقات شيوخهما ، ولا نعلم فيه جرحاً ) .
(2) وكتب الدكتور وليد العاني رحمه الله في كتابه (منهج دراسة الأسانيد والحكم عليها) (ص154-166) مطلبا في معنى الصدوق عند ابن أبي حاتم الرازي خالف فيه ما ذهب إليه صاحبا (تحرير التقريب) إذ انتهى في ختامه إلى هذا القول: « وبعد هذا نخلص إلى نتيجة هذا المبحث، وهو أن الصدوق عند ابن أبي حاتم ليس له حكم واحد، بل هو على مراتب، فمنهم الصدوق الضابط الذي يصحح حديثه، ومنهم الصدوق الذي يهم والغالب عليه الصواب، فهذا يحسن حديثه، ومنهم الصدوق الذي يغلب خطؤه على صوابه، وهذا منه ما يحسن بالمتابع، ومنه ما يلتحق بالضعيف، والله اعلم ». كذا قال، فلينظر فيه.(3/360)
وأخيراً أنقل هنا أن الأستاذ عبد الله الرحيلي بيّن في دراسته لمنهج الدارقطني معنى صدوق عند الدارقطني ، وذكر (ص332) أنه استنتج من استعمالاته لهذه الكلمة أنه حينما يطلقها مجردة فإنه يعني بها تزكية الراوي في عدالته فقط ، فلا يفيد ذلك توثيق الراوي أو تضعيفه عنده ، وأما إذا أضاف كلمة صدوق فيختلف حكمها باختلاف المضاف إليه : فإن أضافها إلى ما يفيد الاحتجاج بالراوي ، كأن يقول: " صدوق ثقة " فيحتج به ؛ وإن أضافها إلى ما يفيد عدم الاحتجاج به ، كأن يقول : "صدوق كثير الخطأ " فإنه لا يحتج به ، فهو موافق للجمهور في ذلك.
هذا كلام الرحيلي أو معناه ، ولم أقف على كتابه ولكن وقفت على هذا الكلام منقولاً عنه .
صدوق إن شاء الله :
هذا الاستثناء من الناقد يُشعِر بتردده في بلوغ الراوي إلى درجة الصدوق أي الذي يوصف بأنه صدوق من غير تردد، فينبغي أن يكون التأني في قبول حديث هذا أكثر.
صدوق إن شاء الله وله خطأ وأوهام :
أي ضعيف غير شديد الضعف ، فهو لين الحديث.
صدوق ثقة :
قال الشيخ محمد عمرو عبد اللطيف في (أحاديث ومرويات في الميزان) (ك2/23) في الحاشية ، في معرض كلامه على جعفر بن محمد بن الحسن الرازي : (ولفظ ابن أبي حاتم فيه "صدوق ثقة" ؛ ومعناها بالاستقراء عندي : ثقة حافظ) ؛ وانظر (صدوق) و(ثقة صدوق) .
صدوق ثقة سيء الحفظ جداً :
انظر (ثقة وليس ممن يوصف بالضبط) .
صدوق ثقة ، وفي حديثه ضعف :
انظر (ثقة وليس ممن يوصف بالضبط) .
صدوق حسن الحديث :
انظر (صدوق) و(حسن الحديث) .(3/361)
صدوق ربما يهم :
هي بمعنى (صدوق) ، ولا يقال: هي أدنى ، لأن الراوي الذي يقال فيه (صدوق) مجردةً ما كان الناقد لينزل به عن مرتبة التوثيق التام إلى مرتبة الصدوق إلا لأنه وجد له أوهاماً اقتضت ذلك الإنزال ، أو ظن أنه كذلك ، أو تردد في حاله ؛ هذا هو الأغلب في أسباب نزولهم بالراوي إلى رتبة من يقال فيه : (صدوق)؛ وقد يكون ذلك الإنزال لأمر آخر ، كأن يكون بسبب بدعته غير المسقِطة ، أو لغيرِ ذلك .
وبعبارة أخرى : كل راو موصوف بكلمة "صدوق" بمعناها الاصطلاحي فهو أهل لأن يهم ولكن من غير أن يكثر وهمه بحيث ينزل إلى مرتبة الضعفاء أو اللينين ، وكذلك ، من غير أن يندر وهمه كندرة أوهام الثقات التام توثيقهم ، أي أن الصدوق يهم أحياناً ، فإن أطلق الناقد كلمة (صدوق) ولم يقرنها بشيء فالأصل أن يكون أراد بها هذا المعنى ، وأما إن قرنها بعبارة (ربما وهم) فالظاهر أن هذه العبارة تفسيرٌ للأولى ، وبيانٌ للمراد بها ، لأن كلمة "صدوق" ربما استعملت أحياناً بمعنى التوثيق التام ، وربما استعملت أحياناً أخرى لإثبات العدالة المجردة ، من غير التفات إلى حال ذلك الراوي في الضبط .
وعلى كل حال فالنفس تطمئن إلى من يقال فيه : "صدوق" أكثر من اطمئنانها إلى من يقال فيه : "صدوق ربما وهم" ، لأن التوهيم الصريح أقوى من التوهيم التضميني ؛ أعني أن التنصيص على أن الراوي ربما وهم أشد عليه من تكفلِ كلمة (صدوق) بأداء ذلك المعنى نفسه . وأيضاً قد يقال : لا يلزم في العبارة الاصطلاحية مراعاة كل القيود اللغوية ومقتضيات أساليب التعبير ، فلعل بعض النقاد استعمل هذه العبارة لتليين الرواة ، أو إنزالهم قليلاً عن رتبة الصدوقين من غير أن يدقق في المسائل اللغوية والمنطقية ؛ والله أعلم .
صدوق سيء الحفظ :
من قيل فيه هذا القول فهو ضعيف ضعفاً لا يمنع من الاستشهاد بحديثه ، أي الاحتجاج بما توبع عليه ؛ وانظر (سيء الحفظ) .
صدوق صاحب كتاب :(3/362)
هذه من عبارات التعديل ، وهي تحتمل معنيين:
أولهما : أن تكون كلمة (صاحب كتاب) تعليلاً وتفسيراً لكلمة صدوق، فهي تعطي أنه صدوق لأنه يحدث من كتابه ، وأنه لولا كتابه لكان دون ذلك في مراتب نقد الرواة.
ثانيهما : أن تكون تأسيساً ، أي دالة على معنى زائدٍ على معنى (صدوق) ، فمعناها هنا أنه صدوق فيما يرويه ، وأنه كان كثير الاعتماد على كتابه والاعتناء به ، وذلك كقول القائل : (صدوق مكثر) أو (صدوق صاحب سنة)، أو نحو ذلك من الكلمات المجتمعة في سياق نقدي واحد.
ويظهر أن أغلب المعنيين في استعمالات النقاد هو الأول ، فقولهم صدوق في مثل هذا السياق الذي قرنت فيه بكلمة (صاحب كتاب) أقل معانيها إثباتُ العدالة المجردُ من الالتفات إلى حاله في الضبط، وهذا المعنى يعبرون عنه أحياناً بقولهم (صدوق في نفسه).
وكلمة (صاحب كتاب) تعني حينئذ أنه يحدث من كتابه ، لا من حفظه ؛ ومجموع العبارة يفيد أنه كان يحافظ على كتابه وأنه لم يكن مغفَّلاً ولا ممن يقبل التلقين أو يروج عليه الإدخال ؛ قال العلامة المعلمي في (التنكيل) في ترجمة (سالم بن عصام) من قسم التراجم: (وذَكر [أي المنتقَد] أن كلمة (( صدوق )) دون كلمة (( ثقة )) وصدق في ذلك ، ولكن أبا الشيخ أردفها بقوله (( صاحب كتاب )) وصاحب الكتاب يكفيه كونُه في نفسه صدوقاً وكون كتابه صحيحاً ). انتهى.
فإن قيل: إذا كان الراوي لا يحدث إلا من كتابه وكان كتابه صحيحاً فلمَ اقتصروا في وصفه على كلمة (صدوق) ولم يصفوه بكلمة (ثقة) ؟(3/363)
يجاب عن ذلك بأنهم كانوا في نقدهم صاحب الكتاب يلاحظون أموراً كثيرة غير حاله الإجمالي في كتابه، منها حاله في نفسه ، وكيفية تحمله ، وحاله في الأداء ، وهل كان يتساهل فيه ، وحال كتابه على وجه التدقيق ، وربما نظروا حتى إلى حال الراوي من جهة الاتباع والابتداع ؛ وكثير من الأئمة يشح بإطلاق كلمة (ثقة) على من ليس من أهلها، فترى أحدهم إما أن يصف الراوي بها ويستدرك فيبين بعض أحواله الأخرى ، حتى لا يُفهم من توثيقه الثناء عليه وتزكيته ونحو ذلك؛ أو يَجتنب وصفه بكلمة (ثقة) وينزله إلى رتبة كلمة (صدوق).
صدوق في الجملة :
هي بمعنى صدوق يخطئ ، وقد تأتي بمعنى أن حاصل أقوال النقاد فيه وتفصيلهم في حاله : أنه صدوق .
صدوق في حفظه شيء :
هذه عبارة عن صدوق في حفظه لِينٌ ، فهو لا يرتقي لمرتبة من يُحتج به ، بل يكون من أهل الشواهد والمتابعات .
صدوق في نفسه :
هذه الكلمة كثيراً ما يستعملونها في الراوي الذي يكثر وهمه بسبب سوء حفظه بحيث يحتمل أن يتهمه بعض الناس ، مع أنه في نفسه عدل مستقيم السيرة .
ويريدون بها أحياناً إثبات العدالة للراوي بقطع النظر عن حاله في الضبط .
ويستعملها الذهبي أحياناً فيمن نُسب إلى بدعة ، فيبين أنه يُحتج به وإن رُمِي بتلك البدعة .
ويستعملها أحياناً فيمن كثر المجاهيل في شيوخه ، أو في الرواة عنه ، ليبين أنه - رغم ما وقع في أحاديثه من النكارة - صدوق أمين(1) .
ويستعملها أحياناً كثيرة فيمن ينزل عن مرتبة الصدوق بيسير .
والمتحصل أن هذه الكلمة تحتمل معاني كثيرة مدارها ، في الغالب ، على ما تقدم ؛ فينبغي عند ورودها في كلام النقاد تأمل سياقها وملاحظة قرائنها .
صدوق لا بأس به :
انظر (صدوق) و(لا بأس به).
صدوق له أوهام :
انظر (صدوق يَهِمُ) ، فمعنى العبارتين متساويان أو متقاربان.
__________
(1) انظر (مباحث في علوم الحديث) للدكتور قاسم علي سعد (ص93).(3/364)
صدوق له حفظ :
أي حسن الحديث ؛ وكلمة (له حفظ) في هذا التركيب إما أن يكون المراد بها أنه مقاربٌ للحفاظ في سعة حفظهم ومتانته، أو أنه له ضبطٌ فهو مقارب للثقات أي أصحاب التوثيق التام .
يتضح من هذا أن هذه الكلمة - على الاحتمالين - غير كافية في رفع من وُصف بها ، إلى مرتبة هؤلاء الثقات التامة وثاقتهم.
وأُلقي إلى الشيخ مقبل الوادعي في (المقترح) (ص42) هذا السؤال : (قول الحافظ في ترجمة أحمد بن بكار أبي ميمونة ، قال : صدوق كان له حفظ ، فهل هذا يرفعه إلى درجة الثقة) ؟
فأجاب بقوله: (يبقى حسن الحديث ولا يرتفع إلى درجة الثقة لأن الصدوق له حفظ ، ولو لم يكن له حفظ لكان من الضعفاء) .
صدوق له ما ينكر :
هي بمعنى (صدوق يخطئ) فانظرها.
صدوق ليس بمتقن :
أي له أخطاء غير قليلة ، ولكنه لا ينزل بها إلى مرتبة الضعف .
صدوق وسط :
أي صدوق حسن الحديث .
سئل الشيخ مقبل الوادعي رحمه الله كما في (المقترح) (ص53) ، قيل له : (قولهم في الرجل (صدوق وسط) هل معناه أنه من مراتب الاستشهاد) ؟
فقال : (من مراتب الحسن ، و (صدوق) هو وسط بين الثقات والضعفاء ، فكلمة وسط إن شاء الله من باب التأكيد)؛ وهو كما قال ، أو قريب من ذلك ، فإنها - أي لفظة وسط، هنا - من باب الزيادة في البيان وتحقيق تعيين المراد؛ وهو نوع من توكيد المعنى ومدافعةِ أسباب الوهم في فهم المقصود.
صدوق وقد وثِّق :
هي بمعنى (صدوق) ؛ انظر(صدوق) و(وُثِّق).
صدوق وليس بحجة :
انظر (حجة) .
صدوق يتجهم :
أي صدوق في الحديث ، ولكنه يأخذ بمذهب الجهمية في عقائده أو في طائفة منها ، أو يميل إلى ذلك ميلاً واضحاً بحيث يصلح أن يُعدّ فيهم .
صدوق يخطئ :
انظر (صدوق) .
صدوق يهم :
هي بمعنى (صدوق يخطئ) ، فانظر (صدوق) .
الصفر :
أعني صفر الضرب على الكلام المكتوب المراد حذفُه من الكتاب ؛ انظر معناه تحت (الضرب) .(3/365)
صغار التابعين :
هم التابعون الذين بسبب صغرهم لم يدركوا من الصحابة إلا بعض الذين تأخرت وفياتهم ، مثل الذين لم يدركوا إلا أنس بن مالك رضي الله عنه ، ومات وهم صغار ، ونحو ذلك .
صغار الصحابة :
صغار الصحابة هم الصحابة الذين أدركوا النبي صلى الله عليه وسلم وهم صغار في أعمارهم ، وهو في أواخر حياته العظيمة ، فتوفي صلى الله عليه وسلم وهم صبية مميزون أو فتية قريبون من ذلك .
صلى الله عليه :
انظر (الصلاة المجلسة) .
الصلاة المجلَّسة :
قال ابن كثير في (اختصار علوم الحدث) (ص131) : (قَالَ ابْنُ اَلصَّلاحِ : وَلْيَكْتُب اَلصَّلاةَ وَالتَّسْلِيمَ مُجَلَّسَةً(1) ، لا رَمْزًا ؛ قَالَ : وَلا يقَْصر عَلَى قَوْلِهِ "عَلَيْهِ اَلسَّلامُ", يَعْنِي وَلْيَكْتُبْ صلى الله عليه وسلم وَاضِحَةً كَامِلَةً ) .
وقال العلامة أحمد محمد شاكر في (الباعث الحثيث) (ص130) : (ذهب أحمد بن حنبل إلى أن الناسخ يتبع الأصل الذي ينسخ منه ، فإن كان فيه ذلك : كتبَه ، وإلا لم يكتبه ، وفي كل الأحوال يتلفظ الكاتب بذلك حين الكتابة ، فيصلي نطقاً وخطاً إذا كانت في الأصل صلاة ، ونطقاً فقط إذا لم تكن ؛ وهذا هو المختار عندي ، محافظةً على الأصول الصحيحة لكتب السنة وغيرها ، وكذلك أختاره في طبع آثار المتقدمين ، وبه أعمل إن شاء الله ).
وقال في مقدمة تحقيقه لـ(رسالة الإمام الشافعي) : (ص25) : (ومما يلاحظ في النسخة أن الصلاة على النبي لم تكتب عند ذكره في كل مرة، بل كُتبت في القليل النادر، بلفظ "صلى الله عليه" ؛ وهذه طريقة العلماء المتقدمين، في عصر الشافعي وقبله، وقد شدد فيها المتأخرون، وقالوا: ينبغي المحافظة على كتابة الصلاة والتسليم، بل زادوا أنه لا ينبغي للناسخ أن يتقيد بالأصل إذا لم توجد فيه .
__________
(1) قال العلامة أحمد محمد شاكر في (الباعث الحثيث) : (ضُبطت في الأصل مشددة اللام مفتوحة ، ومعناها : تامّةً ، من غير نقص أو رمز ) .(3/366)
وقد ثبت عن أحمد بن حنبل أنه كان لا يكتب الصلاة ؛ وأجابوا عن ذلك بأنه كان يصلي لفظاً، أو بأنه كان يتقيد بما سمع من شيخه فلا يزيد عليه .
والذي أختاره أن يتقيد الناسخ بالأصل الذي يعتمد عليه في النقل، أما إذا كتب لنفسه فهو مخيَّر ؛ وليس معنى هذا أن يفعل كما يفعل الكتاب "المجددون!!" في عصرنا، إذ يذكرون النبي باسمه "محمد" صلى الله عليه وسلم، ولا يكتبون الصلاة عليه ؛ بل يذكره بصفة النبوة أو الرسالة أو نحوهما، لان الله سبحانه نهانا عن مخاطبته باسمه: (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا) ، ولأن الله لم يذكره في القرآن إلا بصفة النبوة أو الرسالة، أو باسمه الكريم مقروناً بإحداهما .
وانظر شرح العراقي على مقدمة ابن الصلاح (ص174 - 175) وتدريب الرواي (ص153) وشرحنا على ألفية السيوطي (ص151) وشرحنا على مختصر علوم الحديث لابن كثير (ص158 - 159) وشرحنا على الترمذي 2: 354 - 355 ) .
صلعم :
رمز اتخذه بعض متأخري المسلمين بديلاً عن كلمة (صلى الله عليه وسلم )، وفيه سوء أدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا بركة في مثل هذا النوع من الاختصار .
صناعة الحديث :
المراد بهذه العبارة علم الحديث ، مع ملاحظة اشتراط حصول قدر معتبَر من المشاركة - بالفعل - في الرواية والنقد والعناية بالمرويات(1)
__________
(1) وهذه كلمة متعلقة بهذه العبارة كتبها حاجي خليفة في (مقدمة كشف الظنون) وهي في أحوال العلوم (1/41-42) ، أنقلها لك هنا لمناسبتها للمقام ، وإن كانت لا تخلو من نفَسٍ كلاميٍّ ؛ قال :
(المنظر الثالث : في أن العلم من جملة الصنائع لكنه أشرفها ؛ واعلم أنَّ الحذاقة والتفنن في العلم والاستيلاء عليه إنما هو بحصول الملكة في الإحاطة بمباديه وقواعده والوقوف على مسائله واستنباط فروعه من أصوله .
وهذه الملكة هي غير الفهم ؛ والملكات كلها جسمانية ؛ والجسمانيات كلها محسوسة ؛ فتفتقر إلى التعليم ؛ فيكون صناعياً، ولذلك كان السند فيه معتبراً.
وجميع ما يسمونه علماً أو صناعة فهو عبارة عن ملكة نفسانية يقتدر بها صاحبها على النظر في الأحوال العارضة لموضوعٍ ما ، مِن جهةٍ ما ، بحيث يؤدي إلى الغرض .
فالعلم إذاً ما اختص بالجنان واللسان ، والصناعة إذاً ما احتاجت إلى عمل بالبنان كالخياطة .
وقد قيل : إن المعلومات الحاصلة لصاحب هذه الملكة لا تخلو إما أن تحصل عن [في الأصل على] الاستقراء والتتبع، كالنحو وصنائع الفصاحة والبديع ، أو تحصل عن النظر والاستدلال، كعلم الكلام ؛ فالأول يسمى الصناعةَ ، والثاني العلمَ ؛ لكن الزمخشري قد عكس في أول (تفسيره) ، فسمى المعاني والبيان علماً ، وسمى الكلام صناعةً؛ فقال الطيبي : والحق أن كل علم مارسه الرجل حتى صار له حرفة سمي ذلك عندهم صنعة ، واستشهد عليه بما قاله الزمخشري في قوله سبحانه وتعالى (لبئس ما كانوا يصنعون) [يشير إلى قوله تعالى في سورة (المائدة) (63) {{لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ}} ].
والأَولى أن يقال : إن أريد العرف الخاص فلا ينضبط ، وإن أريد العرف العام المتبادر إلى الأذهان عند الإطلاق فالحق ما قيل أولاً، إذ لا يطلق على الأساكفة أنهم علماء ، ولا على صنائعهم أنها علوم ، وإن كانت أفعالهم لا تصدر إلا عن علم العلماء وحكمة الحكماء.
فالصنائع الحكم التي تفتقر إلى تصور الجنان وتمرين البنان ؛ فإن أُطلقت الصناعة على ما لا وجود له في الأعيان فبالمجاز على طريق التشيبه [قال هنا في الهامش: "كما أنهم يشبهون ألقاب البديع بالنقوش ويجعلون التأليف بينها كالتأليف بين بعض الأصباغ" ].
وأطلقوا على العالِم صانعاً ، للتنبيه على أنه أحكم علمَه وتفرس فيه.
واعلم أنَّ تعليم العلم من جملة الصنائع---).(3/367)
، دون الاقتصار على الجانب العلمي النظري فقط.
الصناعة الحديثية :
هي بمعنى (صناعة الحديث) ، وهذه سبق بيان معناها.
صنّف :
انظر (التصنيف) .
صنّف على الأبواب :
انظر (ألف على الأبواب) و(جمع أبواباً) .
صويلح :
معنى هذه اللفظة - كما هو واضح - دون معنى كلمة (صالح) ، في سلم النقد .
وقال عبد الله بن يوسف الجديع في (تحرير علوم الحديث) (1/586-587) في بيان معنى لفظة (صويلح) في عُرف المحدثين : (هي كقولهم "صالح الحديث" في الصلاحية للاعتبار لا للاحتجاج ، وإن كانت صيغتها [أي اللغوية، ويعني التصغير] تفيد أنها دونها في القوة .
وقد قيلت في كلام المتقدمين في طائفة غير كثيرة من الرواة ، وقعت في كلام يحيى بن معين ، وقالها أبو زرعة الرازي في فرد لعله لم يقلها في غيره .
وقال الدارقطني في هارون بن مسلم صاحب الحناء : " صويلح ، يعتبر به "(1) .
قلت : فدل هذا ، مع التأمل لحال من قالها فيهم ابن معين وأبو زرعة ، على أن من هذا وصفه ليس بخارج عما قاله الدارقطني في هارون هذا .
ثم أكثر من استعمالها الذهبي فيما لا يخرج عن استعمال من تقدم ، في المعنى الذي بينتُ .
واعلم أنه ليس من هذا أن يقال في الراوي : (له أحاديث صالحة) ، إذ ليس هذا وصفاً له في عموم ما روى ، بل هو وصف لبعض حديثه ، وقد يكون ما عدا تلك الأحاديث واهية منكرة .
وهذا مثل قول ابن عدي في سليمان بن أرقم وذكرَ بعض حديثه : (لسليمان غير ما ذكرت من الحديث أحاديث صالحة ، وعامة ما يرويه لا يتابع عليه) .
وقوله في (القاسم بن غصن) : ( له أحاديث صالحة غرائب ، ومناكير ).
صويلح الحال :
معناها كمعنى (صويلح).
صويلح الحديث :
معناها كمعنى (صويلح) أيضاً.
__________
(1) سؤالات البرقاني (526).(3/368)
صيغ الأداء :
صيغ الأداء هي الألفاظ التي يذكرها الراوي عند تحديثه بالحديث قبل أن يذكر من تحمل منه - أو تحمل عنه - الحديث ، أو بعد ذلك ، مشيراً بها إلى كيفية تحمله لذلك الحديث ، مثل أن يقول : (حدثني الشافعي قال سمعت مالكاً قال : بلغني عن ابن عمر أنه كان يفتي بكذا) ، أو يقول : (سفيان بن عيينة حدثني قال سمعت عمرو بن دينار قال ----) ، ثم يسوق حديثاً من رواية سفيان .
وتنقسم هذه الصيغ من حيث دلالتها على الاتصال أو ضده ، ثلاثةَ أقسام :
القسم الأول : صيغ صريحة في الاتصال ، مثل (سمعتُ) و (حدثني) .
القسم الثاني : صيغ صريحة في الانقطاع ، مثل (بلغَني عنه أنه قال---) ، ومثل (حُدثتُ عنه أنه قال---) ، ومثل (يُذكر أنه كان يقول---).
القسم الثالث : صيغ محتملة للاتصال وللانقطاع ولما اختلف في اتصاله وانقطاعه من أنواع التحمل كالإجازة أو بعض أنواعها ، مثل (قال) و (عن) .
وصيغ الأداء تقسم باعتبار آخر أيضاً ، فإنها تنقسم إلى أقسام على عدد كيفيات التحمل ، يتعلق كل قسم منها بقسم من تلك الكيفيات؛ وعليه تكون هذه الأقسام كما يلي:
1-…صيغ الأداء المستعملة للسماع من لفظ الشيخ.
2-…صيغ الأداء المستعملة للقراءة على الشيخ ، وتسمى العرض.
3-…الصيغ المستعملة للتحمل بالإجازة.
4-…الصيغ المستعملة للوجادة--- إلى آخر الأقسام.
قال ابن حجر في (نخبة الفكر) :
(وصيغ الأداء:
(سمعت) و (حدثني)
ثم (أخبرني) و (قرأت عليه)
ثم (قرىء عليه وأنا أسمع)
ثم (أنبأني)
ثم (ناولني)
ثم (شافهني)(1)
ثم (كتب إلي)(2)
ثم (عن) ، ونحوها(3)
فالأولان(4): لمن سمع وحده من لفظ الشيخ.
__________
(1) أي بالإجازة، وهي السادسة.
(2) أي بالإجازة، وهي السابعة.
(3) أي ونحو (عن) من الصيغ المحتملة للسماع والإجازة ولعدم السماع أيضاً ، وهذا مثل (قال) و(ذكر) و(روى).
(4) من صيغ الأداء وهما (سمعت) و(حدثني).(3/369)
فإن جمع: فمع غيره(1).
وأولها(2): أصرحها(3)، وأرفعها في الإملاء(4).
والثالث والرابع(5): لمن قرأ بنفسه(6).
فإن جمع(7) فكالخامس(8).
والإنباء بمعنى الإخبار، إلا في عرف المتأخرين فهو للإجازة ، كعن.
وعنعنة المعاصر محمولة على السماع إلا من مدلس.
وقيل: يشترط ثبوت لقائهما ولو مرة؛ وهو المختار(9).
وأطلقوا(10) المشافهة(11) في الإجازة المتلفظ بها(12).
والمكاتبة(13) في الإجازة المكتوب بها(14).
__________
(1) إن أتى الراوي بصيغة الجمع في الصيغة الأولى كأن يقول: (حدثنا فلان أو سمعنا فلاناً يقول) فهو دليل على أنه سمع منه مع غيره وقد تكون النون للعظمة لكن بقلّة.
(2) أي أول صيغ المراتب المذكورة، والمقصود (سمعت).
(3) أي أصرح صيغ الأداء في سماع قائلها، لأنها لا تحتمل الواسطة؛ ولأن (حدثني) قد يطلق في الإجازة تدليساً.
(4) أي (سمعت) هي أرفع صيغ الأداء مقداراً إذا كان السماع بالإملاء، وذلك لما فيه من التثبت والتحفظ.
(5) وهما (أخبرني) و (قرأت عليه).
(6) على الشيخ.
(7) فقال (أخبرنا) أو (قرأنا عليه).
(8) وهو (قرئ عليه وأنا أسمع).
(9) لا أدري لم أخر هذا القول ومرّضه ثم قال: (وهو المختار) بعد أن قدم القول الآخر وحكاه بصيغة الجزم! إلا أن يكون قد حكى أولاً قول الجمهور ثم حكى قول المحققين واختاره.
(10) أي المتأخرون أو كثير منهم.
(11) أي لفظة (شافهني فلان).
(12) تجوزاً؛ وهذا بخلاف صنيع المتقدمين، فإنهم إنما يطلقونها فيما سمعه التلميذ من شيخه.
(13) أطلقوها أيضاً.
(14) قال ابن الصلاح (ص154-155) : (ذهب غير واحد من علماء المحدثين وأكابرهم، منهم الليث بن سعد ومنصور إلى جواز إطلاق "حدثنا" و "أخبرنا" في الرواية بالمكاتبة ؛ والمختار قول من يقول فيها "كتب إلي فلان قال حدثنا فلان بكذا وكذا " ، وهذا هو الصحيح اللائق بمذهب أهل التحري والنزاهة؛ وهكذا لو قال: "أخبرني به مكاتبة، أو كتابة " ونحو ذلك من العبارات).(3/370)
واشترطوا(1) في صحة المناولة(2) اقترانها بالإذن بالرواية.
وهي(3) أرفع أنواع الإجازة.
وكذا اشترطوا الإذن في الوجادة(4) والوصية بالكتاب وفي الإعلام(5)، وإلا فلا عبرة بذلك كالإجازة العامة(6)؛ وللمجهول(7) وللمعدوم على الأصح في جميع ذلك).
هذا شيء مختصر ، وقد بين العلماء على سبيل التفصيل ما يقال من صيغ الأداء في كل طريقة من طرق التحمل ، تجد ذلك في كتب علوم الحديث (كالكفاية) للخطيب و(الإلماع) لعياض و(علوم الحديث) لابن الصلاح و(شرح علل الترمذي) لابن رجب و (فتح المغيث ) للسخاوي ، وغيرها .
تنبيه : قال العلامة أحمد محمد شاكر في (شرح الفية السيوطي) (ص123-124) :
(كتب المتقدمين لا يصح لمن يرويها أن يغير فيها ما يجده من ألفاظ المؤلف أو شيوخه ، في قولهم (حدثنا) أو (اخبرنا) أو نحو ذلك - : بغيره ، وإن كان الراوي يرى التسوية بين هذه الألفاظ ، لاحتمال أن يكون المؤلف أو شيوخه ممن يرون التفرقة بينهما ، ولأن التغيير في ذاته ينافي الأمانة في النقل .
__________
(1) يعني علماء الحديث.
(2) أي في صحة الرواية بها.
(3) أي الرواية المقرونة بالإذن.
(4) وهي أن يجد شيئاً مكتوباً بخطٍّ يعرف كاتبَه فيقول: وجدت بخط فلان ولا يسوغ فيه إطلاق (أخبرني) بمجرد ذلك إلا إن كان له منه إذن بالرواية عنه.
(5) وهو أن يعلم الشيخ أحد الطلبة بأنني أروى الكتاب الفلاني عن فلان؛ فإن كان له منه إجازة اعتبر.
(6) في المجاز له لا في المجاز به، كأن يقول: أجزت لأهل البلدة الفلانية.
(7) أي وكالإجازة للمجهول.(3/371)
وأما إذا روى الراوي حديثاً عن أحد الشيوخ - وهذا في غير الكتب المؤلفة - فإن كان الشيخ ممن يرى التفرقة بين الإخبار والتحديث فإنه لا يجوز للراوي إبدال أحدهما من الآخر ؛ وإن كان الشيخ ممن يرى التسوية بينهما جاز للراوي ذلك ، لأنه يكون من باب الرواية بالمعنى ، هكذا قاله بعضهم ، وقال آخرون بمنعه مطلقاً ، وهو الحق ، لأن هذا العمل ينافي الدقة في الرواية ، ولذلك قال أحمد بن حنبل - فيما نقله عنه ابن الصلاح (ص164) : " اتبع لفظ الشيخ في قوله حدثنا وحدثني وسمعت وأخبرنا ولا تعْدُه ") . انتهى.
قاعدة : الصيغ الصريحة في الاتصال والصيغ الصريحة في الانقطاع حكمها في الأصل الاتصال والانقطاع كما هو واضح ؛ والصيغ المحتملة يحكم لها في الأصل بالاتصال إذا كان الراوي غير مدلس والمذكور فوقه شيخه ، وبالانقطاع إذا لم يجتمع فيها هذان الشرطان ؛ ولكن من العلماء من يزيد على ذلك فيحكم بالاتصال لرواية الراوي غير المدلس ، عن معاصره ، وإن لم يثبت سماعه منه بشرط أن لا يثبت عدم سماعه منه وأن لا يقْوَى الظن بذلك ، أي بعدم السماع .
صيغ التمريض :
هي صيغ الأداء المستعملة في تعليق المرويات والتي لا تدل على الجزم بنسبة الرواية إلى من عُلقت عنه ، وأكثر ما يُستعمل في التعبير عن ذلك الأفعالُ المبنية لما لم يُسمَّ فاعله ، نحو قول المصنفين أو غيرهم : (نُقل - أو حُكي أو رُوي أو قيل - عن فلان كذا) .(3/372)
وأما قول القائل (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كذا) أو قوله (رؤي رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل كذا) ، فهذا ليس تمريضاً ، فتأمل الفرق بين العبارتين تعلم ذلك ، فإن لفظة (رؤي فلان) ولفظة (سُئل فلان) ونحوهما ليست من صيغ الأداء ، وإنما هي من جنس قولنا (سأله سائل) ، أو (رآه رجل فقال له كذا---) ، فليس في هذا شيء من تمريض، بل التمريض هنا يكون هكذا (قيل - أو روي - أن فلاناً سُئل) ؛ فبناء الأفعال العملية - كسُئل وروي وطُلب منه وأكرُم ، ونحو ذلك ، للمجهول ، ليس فيه معنى تمريض الخبر ، بخلاف بناء أفعال الأخبار ، كرُوي ، وحُكي ، ونُقل وقيل وحُدِّث وأُخبر وزُعم .
وهل يلتحق بصيغ التمريض نحوُ قول القائل : (بلغَنا - أو جاءنا ، أو بلغنا كذا من الأخبار ، أو اتصل بنا كذا ، أو روى بعضهم كذا ، أو سمعنا أن فلاناً قال كذا) وأمثال هذه من عبارات الإحالة والتعليق؟ هذا موضعُ تأمُّلٍ ، ويتبين عند التحقيق أن هذه الصيغ أو أغلبها يليق إلحاقها بصيغ التمريض ، من حيث حكمها ؛ وإن كان يبعد - من جهة الاصطلاح - أن تدخل تحت اسم صيغ التمريض.
وانظر (التمريض) .
الصيغ المحتملة :
أي صيغ الأداء التي تحتمل الاتصال وعدمه ؛ انظر (صيغ الأداء) .
الصيغ الموهمة :
أي الصيغ الموهمة للسماع ، فإنها يُقتصر في تسميتها على عبارة (الصيغ الموهمة) ، من غير التلفظ بكلمة (للسماع)، في كثير من الأحيان، وهي الصيغ المحتملة للسماع وعدمه، ولذلك فهي توهم السماع إذا وقعت بين الراوي وشيخه ، في حديث ما ، سواء كان في حقيقة الأمر قد سمع منه ذلك الحديث ، أو لم يسمعه منه .
الصيغ الموهمة للسماع :
انظر (الصيغ الموهمة).(3/373)
لسان المحدثين
(مُعجم يُعنى بشرح مصطلحات المحدثين القديمة والحديثة ورموزهم وإشاراتهم
وشرحِ جملة من مشكل عباراتهم وغريب تراكيبهم ونادر أساليبهم)
تأليف: محمد خلف سلامة
........................................المجلد الرابع.......................................
(الضاد - اللام)
فصل الضاد
ض :
هذا رمز حرف الضاد ، كما هو معروف ؛ وهذا الرمز - ككثير من الحروف الهجائية - استُعمل للإشارة إلى بعض المعاني عند النساخ وغيرِهم ، قال عالم اللغة عبدالسلام هارون في تحقيق النصوص ونشرها) (ص55) : (وأحياناً يوضع الحرف "ض" في وسط الكلام ، إشارة إلى وجود بياض في الأصل المنقول عنه ، وجدتُه في نسخة من "جمهرة ابن حزم" ) ؛ وانظر (البياض) .
ضابط :
الضابط هو الراوي المتصف بالضبط ، وانظر ما يلي .
الضابط :
الضبط في اللغة هو الحزم ، وأما في العرف فهو تعيين حدود الشيء تعييناً تاماً ، والمراد حدوده في مقداره وزمانه ومكانه ونوعه .
وأما في عرف الأصوليين ومن جرى على طريقتهم فالضابط قريب - نوعاً من القرب - في معناه من القاعدة ؛ قال الأستاذ عبد المجيد جمعة الجزائري في (القواعد الفقهية المستخرجة من أعلام الموقعين) (ص618) في تضاعيف ذكرِه نتائج بحثه :
(إن الفرق بين القاعدة الفقهية والضابط الفقهي لم يتميز إلا في العصور المتأخرة ، حيث اصطلحوا على أن القاعدة هي ما تجمع جزئيات كثيرة من أبواب مختلفة ، والضابط يجمعها من باب واحد.
إن الأصل أعم من القاعدة ، إذ أنه يجمع جزئيات كثيرة من أبواب مختلفة ، وقد يجمعها من باب واحد، بخلاف القاعدة ، فإنها تجمعها من باب واحد).
الضبط :
الضبط في اصطلاح المحدثين هو قدرة الراوي على أداء ما تحمله كما تحمله ، ولو بمعناه دون لفظه(1) .
والضبط باعتبار نوع وسيلته قسمان :
__________
(1) فالضبط إن كان المرادُ به ضبطَ الصدر : ملكةٌ عقليةٌ متعلقة بالحفظ والعلم؛ والعدالةُ ملكةٌ قلبية متعلقة بالإرادة والتقوى.(4/1)
ضبط صدر : وهو أن يثبت ما سمعه بحيث يتمكن من استحضاره متى شاء(1) .
__________
(1) فلا يطلب من المحدث ، ليكون ثقةً ، أن لا ينسى شيئاً مما تحمله ، ولا أن لا يشك في شيء منه ، وإنما المطلوب منه أن يكون قادراً على استحضاره عند الاحتياج إليه ، ولا يضره أن يعجز عن استحضار شيء يسير من ذلك في أوقات نادرة ؛ ثم يطلب منه أيضاً أن لا يحدث إلا بما يتقنه ، فإن حدث بما لا يتقنه وبيّن أنه يشك فيه أو أنه لا يتقنه ، فإن ذلك لا يضره .
قال المعلمي في قسم التراجم من (التنكيل) (1/225) في ترجمة جرير بن عبد الحميد : (وقول الأستاذ "كان سيء الحفظ " ، لم يقلها أحد قبله أيضاً ؛ وإنما المعروف أن جريراً كان لا يحدث من حفظه إلا نادراً ، وإنما يحدث من كتبه ، ولم ينكروا عليه شيئاً حدث به من حفظه ، وأثنوا على كتبه بالصحة ، فأما ما حكاه العقيلي عن أحمد أنه قال : "لم يكن بالذكي اختلط عليه حديث أشعث وعاصم الأحول حتى قَدِم عليه بَهْزٌ فعرّفه" ، فقد ذُكر هذا لابن معين فقال : "ألا تراه قد بيَّنها" ، يعني أن جريراً بيَّن لمن يروي عنه أن حديث أشعث وعاصم اختلط عليه حتى ميز له بهز ذلك ؛ وعلى هذا فلم يحدث عنهما حتى ميَّز له بهزٌ فكان يحدث عنهما ويبيِّن الحال ، وهذا هو محض الصدق والنصيحة والضبط والإتقان ، فإنه لا يُطلب من المحدث أن لا يشك في شيء ، وإنما المطلوب منه أن لا يحدث إلا بما يتقنه ، فإن حدث بما لا يتقنه بيَّن الحال ؛ فإذا فعل ذلك فقد أمِنّا من غلطه وحصل بذلك المقصودُ من الضبط .
فإن قيل : فإنه يؤخذ من كلامهم أنه لم يكن يحفظ وإنما اعتماده على كتبه : قلت : هذا لا يعطي ما زعمه الأستاذ : أنه كان سيء الحفظ ؛ فإنَّ هذه الكلمة إنما تطلق في صدد القدح فيمن لا يكون جيد الحفظ ومع ذلك يحدث من حفظة فيخطئ ، فأما من لا يحدث من حفظه إلا بما أجاد حفظه كجرير فلا معنى للقدح فيه بأنه لم يكن جيد الحفظ ) .(4/2)
وضبط كتاب : وهو صيانته لديه منذ سمع فيه وصححه إلى أن يؤدي منه ، بحيث يحفظه من جميع ما يغير المكتوب فيه عن أصله ، سواء كان ذلك التغيير متعمداً كتغيير المتلاعبين فيه وتزويرهم لبعضه وإدخالهم فيه ما ليس منه ، أو غير متعمد كالتلف والتمزق والبلل الذي يطمس الكلمات ، ونحو ذلك(1) .
وهذا كله يتعلق بضبط المرويات ، والمقصود منعها من تسرب الخلل أو التغيير أو الضياع إليها ؛ وبقي للضبط معنى آخر وهو - في الحقيقة - راجع إلى أصل النوع الثاني من المعنى المتقدم أيضاً ؛ وهو ضبط المكتوب أو ضبط كلماته من أن تُقرأ على غير وجهها الصحيح ؛ فالضبط بهذا المعنى يدخل في مصطلحات الكتابة والنسخ ، قبل دخوله في مصطلحات المحدثين ؛ وهو أنواع يأتي تعدادها وبيانها ؛ انظر (ضبط الكلمة) .
ضبط الأحاديث المسندة أسهل وأهون من ضبط أسانيد التفسير وألفاظها :
ذكر المزي في (تهذيب الكمال) (2/386) في ترجمة إسحاق بن راهويه أن أبا حاتم الرازي قال : (ذكرت لأبي زرعة إسحاق وحفظه للأسانيد والمتون ، فقال أبو زرعة : ما رؤي أحفظ من إسحاق ، قال أبو حاتم : والعجب من إتقانه وسلامته من الغلط ، مع ما رزق من الحفظ .
وقال أحمد بن سلمة : قلت لأبي حاتم : أنه أملى التفسير عن ظهر قلبه فقال أبو حاتم : وهذا أعجب فإن ضبط الأحاديث المسندة أسهل وأهون من ضبط أسانيد التفسير وألفاظها ) .
فما معنى عبارة أبي حاتم هذه ؟
__________
(1) ووصف الكتاب بأنه مضبوط وصف قديم ؛ قال أبو زرعة الدمشقي في (تاريخه) (ص201) (1052) : (أخبرني أحمد بن حنبل قال : رأيت كتب شعيب، فرأيت كتباً مضبوطة مقيَّدة، ورفع من ذكره ؛ فقلت : فأين هو من يونس بن يزيد ? قال : فوقه ؛ قلت : فأين هو من عُقيل بن خالد ? قال : فوقه ؛ قلت : فأين هو من الزبيدي? قال : مثله) .(4/3)
شرحُ معناها أنه كان من عادة طلبة الحديث أنهم إذا بدأوا بتحفُّظ الأحاديث قدموا المسند (أي المرفوع) على غيره ؛ وقدموا من المرفوع الأصحَّ ، في الجملة ؛ هذا معروف ومعقول جداً وهو مقتضى صحة طريقة طالب العلم .
فيظهر - والله أعلم - أن المراد بعبارة أبي حاتم هذه هو أن أحاديث التفسير يغلب عليها أن تكون موقوفة غير مرفوعة ، وأنها أيضاً يغلب أن تكون من رواية غير المتقنين ، كالمتروكين والضعفاء والمدلسين والمختلطين وأشباههم، وأسانيد هؤلاء في الجملة كثيراً ما يقع فيها الغلط والاضطراب والاختلاف وتبديل الأسماء وتغيير الأسانيد وتركيبها ونحو ذلك ؛ وهذا كله يكون في أغلب الأوقات سبباً في إعراض الأئمة وثقات الرواة عن تلك المرويات ، فيقل تداولها بين أهل الحديث ، وتقل عنايتهم بها وبتحفظها ، أي لكونها موقوفة أولاً ، ولكونها غير ثابتة ثانياً ، ولكثرة ما فيها من اضطرابات واختلافات وإرسال ونحو ذلك من أسباب الضعف وأوهام الضعفاء ، فتبقى تلك المرويات بسبب ذلك كله محصورة غير مشهورة ، فلا يحفظها إلا حافظ كبير ، ولا يعتني بها إلا متبحر ؛ ولذلك قل نصيب مرويات التفسير من اهتمام الحفاظ وأئمة الحديث؛ وقد أسند الخطيب البغدادي في (الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع) (2/162) إلى الإمام أحمد قال : (ثلاثة كتب ليس لها أصول : المغازي والملاحم والتفسير) .
قال الخطيب : (وهذا الكلام محمول على وجه ، وهو أن المراد به كتب مخصوصة في هذه المعاني الثلاثة غير معتمَدٍ عليها ولا موثوق بصحتها لسوء أحوال مصنفيها وعدم عدالة ناقليها وزيادات القُصّاص فيها ؛ فأما كتب الملاحم فجميعها بهذه الصفة ، وليس يصح في ذكر الملاحم المرتقبة والفتن المنتظرة غير أحاديث يسيرة اتصلت أسانيدها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من وجوه مرضية وطرق واضحة جلية .
وأما الكتب المصنفة في تفسير القرآن فمن أشهرها كتابا الكلبي ومقاتل بن سليمان) .(4/4)
ثم أسند إلى أحمد أنه سئل عن تفسير الكلبي فقال : من أوله إلى آخره كذب ، فقيل له : فيحل النظر فيه ؟ قال : لا . ثم ذكر الخطيب كذب مقاتل .
ثم قال : (ولا أعلم في التفسير كتاباً مصنفاً سلم من علة فيه أو عري من مطعن عليه----). انتهى النقل عن الخطيب .
ضبط الصدر :
انظر (الضبط).
ضبط الكتاب :
انظر (الضبط).
ضبط الكلمة :
المراد بضبط الكلمة فِعلُ ما يمنعها من أن تُقرأ خطأً ؛ وتقدم ذكره في (الضبط) ؛ وضبط الكلمة أنواع :
الأول : الضبط بالقلم .
الثاني : الضبط بالتنصيص على حروف الكلمة وما عليها من حركات أو سكنات ، ويسميه بعض أفاضل المحققين (ضبط العبارة) ، ويسوغ أن يسمى الضبط بالحروف ، فانظر (الضبط بالعبارة) .
الثالث : الضبط بالقياس أي ببيان وزن الكلمة .
الرابع : الضبط بذكر صيغة الكلمة ، كأن يقال : مصغرة ، أو مكبرة ، أو مبنية للمجهول .
الخامس : الضبط بالتنصيص على أن الكلمة هي الجادة .
السادس : ضبط الكلمة بإعادة كتابتها في الحاشية مفرقة الحروف ؛ ولعله يستقيم أن يسمى أيضاً الضبط في الحاشية ، وكذلك اصطلحت عليه ؛ فانظر (الضبط في الحاشية).
السابع : الضبط بكتابة كلمة فوق أو تحت الكلمة المراد ضبطها تشير إلى إعجام أو إهمال بعض حروفها .
ويأتي شرح كل نوع من هذه الأنواع .
الضبط بالتنصيص على أن الكلمة هي الجادة :
قال ابن حجر في أول اسم من أسماء كتابه (تبصير المنتبه بتحرير المشتبه) (1/3) : (أحمد ، الجادة) ؛ قال محققه الأستاذ محمد علي البجاوي : (الجادة : الطريق الواضح ، يريد أن هذا الاسم مشهور لا لبس فيه) ؛ انتهى ؛ ويأتي بعد قليل قول ابن حجر في خطبة كتابه هذا (فكل اسمٍ كان شهيراً بدأت به ، ولا أحتاج إلى ضبطه ، بل أضبط ما يشتبه به) ؛ فهذا من هذا الباب .(4/5)
الضبط بالعبارة :
أعني به الضبط بالتنصيص بعد الكلمة على أسماء كل أو بعض حروفها المحتملة للتصحيف ، وبيان ما يُحتاج إلى بيانه مما عليها من حركات أو سكنات(1) ، مثل أن يقال في ضبط كلمة (تسعة) : (بتقديم التاء على السين) ، احترازاً من اشتباهها بكلمة (سبعة) .
ويكون ذلك التنصيص بطريقة وجيزة وكفيلة بتعيين كل حرف من حروف الكلمة من غير لبس؛ وقد ذكر الصفدي في مقدمة كتابه (الوافي بالوفيات) كيفية ضبط حروف المعجم، وتقييد الكلمات بها ، فقال :
(قالوا : (الباء الموحدة)، وبعضهم يقول : (الباء ثاني الحروف).
و(التاء المثناة من فوق) لئلا يحصل الشبه بالياء، فإنها مثناة، ولكنها من تحت، وبعضهم قال (ثالث الحروف).
و(الثاء المثلثة).
و(الجيم)، و(الحاء المهملة)، و(الخاء المعجمة).
و(الدال المهملة)، و(الذال المعجمة)، و(الراء)، و(الزاي)، وبعضهم يقول (الراء المهملة والزاي المعجمة).
و(السين المهملة)، و(الشين المعجمة)، و(الصاد المهملة)، و(الضاد المعجمة).
و(الطاء المهملة)، و(الظاء المعجمة)، و(العين المهملة)، و(الغين المعجمة).
و(الفاء)، و(القاف)، و(الكاف)، و(اللام)، و(الهاء).
و(الواو)، و(الياء المثناة من تحت)، وبعضهم يقول (آخر الحروف). ) . انتهى .
وما ذكره ليس بشيء لازم لا يجوز الخروج عنه ، بل قد يصطلح صاحب الكتاب اصطلاحاً آخر يبينه في خطبته فيفهم عنه ؛ قال ابن حجر في خطبة (تبصير المنتبه بتحرير المشتبه) (1/2) : (فكل اسمٍ كان شهيراً بدأت به ، ولا أحتاج إلى ضبطه ، بل أضبط ما يشتبه به ، بالحروف ؛ وعبرتُ عن الباء بالموحدة ، وعن التاء بالمثناة ، وعن الثاء بالمثلثة ؛ وأما الياء - آخر الحروف - فبالياء بلا وصف غالباً).
__________
(1) أي يقتصرون في التنصيص على الحروف والحركات والسكنات التي يرى الضابط أنها مما يشكل أو يشتبه ، أو مما هو يحتمل أن يقرأ على غير الوجه الصحيح .(4/6)
وقال الأستاذ الفاضل المحقق الألمعي محمود الطناحي رحمه الله في (محاضرة التصحيف والتحريف) المطبوعة بذيل (مدخل إلى تاريخ نشر التراث العربي) (ص289-291) :
(ولهم في الضبط طريقان :
الأولى : ضبط القلم ، كأن يُكتب على المفتوح فتحةٌ ، وعلى المرفوع ضمةٌ ، وتحت المجرور كسرةٌ ، فإذا كان في الحرف ضبطان رسَمُوهما ، وكتبوا بحرف صغير كلمة " معاً " ، وأمعن بعضهم في الدقة ، فرسم تحت الحاء المهملة حاءً صغيرة ، وتحت الدال المهملة نقطة ، وتحت السين المهملة ثلاث نقط ، وفوق الحرف المخفَّف كلمة "خف" ، إلى آخر هذه المصطلحات التي يعرفها من أدام النظر في المخطوطات القديمة .
والطريقة الثانية : ضبط العبارة ، وهو أن يَصِفَ الكاتبُ حروفَ الكلمة التي هي مظنة التصحيف ، بما ينفي عنها الاشتباه بأخواتها التي تتفق معها في الرسم ، فيقول ، مثلاً ، في "العتب" : "بالعين المهملة والتاء الفوقية والباء الموحدة" ، وبذلك لا تتصحف بكلمة "الغيث" ؛ وهذه الطريقة أدق ضبطاً ، وأقوم سبيلا ، إذ كان الضبط بالقلم عرضة للمحو أو التغيير---- .
ومما يتصل بهذه الوسائل : أنهم كانوا يلجأون إلى مخالفة المعروف من اللغة ، ليتوقَّوا وقوع غيرهم في التصحيف والخطأ ؛ قال أبو نصر الجوهري : "السعتر : نبتٌ ، وبعضهم يكتبه بالصاد ، في كتب الطب ، لئلا يلتبسَ بالشعير "(1) .
ومن ذلك أيضاً أنهم كانوا يشرحون الكلمة الواضحة الظاهرة ، لا لخفاء معناها ، ولكن لأنها مظنّةُ تصحيفٍ ؛ جاء في "النهاية في غريب الحديث والأثر) : "في حديث عمر رضي الله عنيه أن امرأةً نشزت على زوجها فحبسها في بيت الزبل" ، قال ابن الأثير : "هو بالكسر : السِّرْجين ، وبالفتح : مصدر "زبلتُ الأرضَ" إذا أصلحتَها بالزِّبل" ، قال : "وإنما ذكرنا هذه اللفظة مع ظهورها لئلا تُصَحَّف بغيرها ، فإنها بمكان من الاشتباه"(2) .
__________
(1) الصحاح (ص685) ، وتحقيق النصوص ونشرها (ص65) .
(2) النهاية (2/294) .(4/7)
وانظر (الضبط بالوزن) .
الضبط بالقلم :
الضبط بالقلم هو طريقة الضبط الشائعة والمعوَّل عليها في هذا العصر، وذلك برسم الكلمة كاملة بنقط الحروف وبعلامات الحركة والسكون(1).
ولا شك أن هذه الطريقة إذا أُتقن تعاطيها تكون كفيلة بدفع أسباب تصحيف الكلمة والخطأ في قراءتها ، وفيها اختصار على الكاتب والقارئ ، ولكنها لم تزل عرضة للوهم والإيهام ؛ قال ابن حجر في خطبة (تبصير المنتبه بتحرير المشتبه) (1/1) : (فإنني لما علقت كتاب "المشتبه" الذي لخصه الحافظ الشهير أبو عبدالله الذهبي رحمه الله ، وجدتُ فيه إعوازاً من ثلاثة أوجه :
أحدها - وهو أهمها : تحقيق ضبطه ، لأنه أحال في ذلك على ضبط القلم ، فما شفى من ألم----) إلى آخر كلامه .
الضبط بالقياس :
هو الضبط بالوزن ، فانظره.
الضبط بالوزن :
هو ضبط الكلمة بذكر كلمة شهيرة من وزنها ، أي ضبطها بأن يذكر مساواتها في زنتها بكلمة معلوم وزنها ، لاشتهارها وكثرة تداولها على الألسنة ، كأن تقول في ضبط لفظة ينزع : (وينزع أي يرجع ، وزناً ومعنى) ؛ قال الصفدي عقب كلامه الذي تقدم نقله في (الضبط بالعبارة) :
(تتمة : إذا أرادوا ضبط كلمة قيدوها بهذه الأحرف على هذه الصورة، فإن أرادوا لها زيادة بيان، قالوا : "على وزن كذا " ، فيذكرون كلمة توازنها وهي أشهر منها، كما إذا قيدوا (فَلُوّاً) - وهو المُهر - قالوا فيه : "بفتح الفاء وضم اللام وتشديد الواو، على وزن عدوّ "، فحينئذٍ يكون الحال قد اتضح، والإشكال قد زال).
وانظر (الضبط بالعبارة) .
__________
(1) أي هي طريقة مبنية على وضع علامات الإعجام والإهمال وهي النقط على الحروف أو تحتها ، ووضع علامات الحركات وعلامة السكون ؛ وانظر (علامات الإعجام) و(علامات الإهمال) .(4/8)
الضبط بذكر صيغة الكلمة :
كأن يقال في ضبطها : هي مصغرة ، أو مكبرة ، أو مبنية للمجهول ؛ أو نحو ذلك مما يبين صيغتها ؛ مثاله قول ابن حجر في (فتح الباري) (8/286) وهو يشرح حديثاً وردت فيه كلمة (أصيحابي) : (أصيحابي ، كذا للأكثر ، بالتصغير ؛ وللكشميهني بغير تصغير) .
وكذلك قوله في (الفتح) (8/474) : (قوله "فقام أسيد بن حضير" ، بالتصغير فيه وفي أبيه ، وأبوه بمهملة ثم معجمة).
وقال (9/464) : (---- تميمة بنت وهب ، وهي بمثناة ، واختلف هل هي بفتحها أو بالتصغير ؛ والثاني أرجح----) .
وجاء في (شرح الموطأ) للزرقاني (3/32) في ضبط عبارة (صبيغ بن عسل) : ("صبيغ" بصاد مهملة فموحدة فتحتية فغين معجمة ، بوزن عظيم ؛ "ابن عسل" بكسر العين وإسكان السين المهملتين ؛ ويقال بالتصغير----).
الضبط بكتابة كلمة فوق أو تحت الكلمة المراد ضبطها :
أي بكتابة كلمة تشير إلى إعجام أو إهمال بعض حروف الكلمة المراد ضبطها ؛ قال القاضي عياض بن موسى اليحصبي (479-544هـ) في (الإلماع) (ص155) : (قال أبو علي الحافظ : روي عن عبدالله بن إدريس الكوفي قال : لما حدثني شعبة بحديث أبي الحَوْراء السعدي عن الحسن بن علي ، كتبت أسفله "حور عين" ، لئلا أغلط ، يعني فيقرأه "أبا الجوزاء" ، لشبهه به في الخط----)(1) .
الضبط في الحاشية :
قال ابن الصلاح في (النوع الخامس والعشرون) من (مقدمته) (ص162-165) :
(ثم إن على كَتَبَةِ الحديث وطَلَبَتِه صرفَ الهمة إلى ضبط ما يكتبونه، أو يحصلونه بخط الغير ، من مروياتهم ، على الوجه الذي رووه ، شكلاً ونقطاًً ، يُؤمَنُ معهما الالتباس ----) إلى أن قال :
(وهذا بيان أمور مفيدة في ذلك :
أحدها : ينبغي أن يكون اعتناؤه - من بين ما يلتبس - بضبط الملتبس من أسماء الناس أكثرَ ، فإنها لا تستدرك بالمعنى، ولا يستدل عليها بما قَبْلُ وما بَعْدُ.
__________
(1) وهذا الأثر أخرجه بسنده الخطيب في (الجامع) (1/270) .(4/9)
الثاني : يستحب في الألفاظ المشكلة أن يكرَّر ضبطها، بأن يضبطها في متن الكتاب ، ثم يكتبها قُبالة ذلك في الحاشية مفرده مضبوطة ، فإن ذلك أبلغ في إبانتها وأبعد من التباسها ، وما ضبطه في أثناء الأسطر ربما داخله نقطُ غيره وشكْله ، مما فوقه وتحته ، لا سيما عند دقة الخط وضيق الأسطر ، وبهذا جرى رسم جماعة من أهل الضبط ، والله أعلم ) --- إلى آخر كلامه(1) .
وقال القاضي عياض في (الإلماع) (ص155-157) : (قال أبو علي الحافظ : روي عن عبد الله بن إدريس الكوفي قال : لما حدثني شعبة بحديث أبى الحوراء السعدي عن الحسن بن علي(2) كتبت أسفله "حور عين" ، لئلا أغلط ، يعني فيقرأه "أبا الجوزاء " ، لشبهه به في الخط ----.
وهكذا جرى رسم المشايخ وأهل الضبط في هذه الحروف المشكلة
والكلمات المشتبهة ، إذا ضبطت وصححت في الكتاب : أن يرسم ذلك الحرف المشكِل مفرداً في حاشية الكتاب قُبَالة الحرف ، بإهماله ، أو نقطه ، أو ضبطه ، ليستبين أمرُه ويرتفع الإشكال عنه مما لعله يوهمه ما يقابله من الأسطار فوقه أو تحته من نقط غيره أو شكله ، لا سيما مع دقة الكتاب وضيق الأسطار ، فيرتفع بإفراده الإشكال).
الضبة :
انظر (التضبيب) .
__________
(1) وقال أحمد محمد شاكر في (الباعث الحثيث) (ص134) في بعض تعليقاته على بعض مسائل النوع الخامس والعشرين : (ويحسن في الكلمات المُشْكِلة التي يُخشى تصحيفُها أو الخطأ فيها : أن يضبطها الكاتب في الأصل ثم يكتبها في الحاشية مرة أخرى بحروف واضحة ، يفرق حروفها حرفاً حرفاً ، ويضبط كلاً منها ، لأن بعض الحروف الموصولة يشتبه بغيره ؛ قال ابن دقيق العيد [في الاقتراح ص286] : "من عادة المتقنين أن يبالغوا في إيضاح المشكل ، فيفرقوا حروف الكلمة في الحاشية ، ويضبطوها حرفاً حرفاً " ؛ وقد رأينا ذلك في كثير من المخطوطات العتيقة ) .
(2) رواه أحمد في (المسند) .(4/10)
الضرب :
الضرب على المكتوب هو أن يُكتب فوقه خطاً أو خطوطاً دالة على إرادة حذفه وتركه وإبعاده .
وقال القاضي عياض في (الإلماع) (ص171-173) بعد روايته قول الرامهرمزي (قال أصحابنا : الحكُّ تهمةٌ ، وأجودُ الضرب ألا يطمسَ المضروبَ عليه ، بل يخطّ من فوقه خطاً جيداً بيناً ، يدلُّ على إبطاله ، ويُقرأ مِن تحته ما خُطَّ عليه) :
(واختلفت اختيارات الضابطين في الضرب ، فأكثرهم على ما تقدم من مدِّ الخط عليه ، لكن يكون هذا الخط مختلطاً بالكلمات المضروب عليها ، وهو الذي يسمى الضرب والشق.
ومنهم من لا يخلطه ويثبته فوقه ، لكنه يعطف طرف الخط على أول المُبْطَل وآخرِه ، ليميزه من غيره .
ومنهم من يستقبح هذا ويراه تسويداً وتطليساً في الكتاب ، بل يُحَوِّقُ على الكلام المضروب عليه بنصف دائرة ، وكذلك في آخره .
وإن كثر(1) فربما فعل ذلك في أول كل سطر وآخره من المضروب عليه للبيان ، وربما اكتفى بالتحويق على أول الكلام وآخره ، وربما كتب عليه "لا" في أوله ، و "إلى" في آخره ؛ ومثل هذا يصلح فيما صح في بعض الروايات وسقط من بعض حديث أو من كلام ؛ وقد يكتفى بمثل هذا بعلامة مَن ثبتت له(2) فقط ، أو بإثبات "لا" و "إلى" فقط .
وأما ما هو خطأ محض فالتحويقُ التامُّ عليه ، أو حكُّه أولى .
ومن الأشياخ المحسنين لكتبهم من يستقبح فيها الضرب والتحويق ويكتفى بدائرة صغيرة أول الزيادة وآخرها ، ويسميها صفراً ، كما يسميها أهل الحساب ، ومعناها خلو موضعها عندهم عن عدد ، كذلك تُشعر هنا بخلو ما بينهما عن صحة .
واختلف أهل الإتقان من أهل هذا الشأن في الحرف إذا تكرر واحتاج إلى الضرب على أحدها(3) وإبطاله : أيها أولى به ؟
فقال بعضهم : أولاهما بالإبقاء الأول ، لأنه صحيح ، ويُبطل الثاني لأنه هو الخطأ والمستغنى عنه .
__________
(1) أي المكتوب المراد إبطاله .
(2) أي تلك الرواية أو الزيادة .
(3) كذا ، ويظهر أن الجادة في هذا السياق (أحدهما) .(4/11)
وقال آخرون : أولاهما بالإبقاء أجودهما صورة وأحسنهما كتابة .
وأرى أنا إن كان الحرف تكرر في أول سطر مرتين أن يضرب على الثاني لئلا يطمس أول السطر ويسخم ؛ وإن كان تكرر في آخر سطر وأول الذى بعده فليضرب على الأول الذي في آخر السطر ؛ وإن كانا جميعاً في آخر سطر فليضرب على الأول أيضاً ؛ لأن هذا كله - من(1) سلامة أوائل السطور وأواخرها - أحسن في الكتاب وأجمل له ، إلا إذا اتفق آخر سطر وأول آخر فمراعاة الأول من السطر أولى .
وهذا عندى إذا تساوت الكلمات في المنازل ؛ فأما إن كان مثل المضاف والمضاف إليه فتكرَّر أحدهُما ، فينبغى ألا يُفصل بينهما في الخط ، ويُضرب بعْدُ على المتكرر من ذلك ، كان أولاً أو آخرا .
وكذلك الصفة مع الموصوف وشبه هذا ، فمراعاة هذا مضطرٌّ [إليها](2) للفهم ، وربما أدخل الفصلُ بينهما بالضرب والاتصال [كذا] إشكالاً وتوقفاً ؛ فمراعاة المعاني والاحتياط لها أولى من مراعاة تحسين الصورة في الخط.
أخبرنا سفيان بن العاصي الأسدي أخبرنا القاضي أبو الوليد الوقشي أخبرنا أبو عمر أحمد بن محمد المُعَافري ، قال : قال محمد بن سحنون أخبرنا موسى أخبرنا جرير عن منصور قال : كان إبراهيم النخعي يقول : من المروءة أن يرى في ثوب الرجل وشفتيه مدادٌ !! ؛ قال(3) : وفي مثل هذا دليل على جواز لعق الكتاب بلسانه ، وكان سحنون ربما كتب الشيء ثم لعقه) .
قال العراقي في (ألفيته) :
وما يزيد في الكتاب يُبعد
وصله بالحروف خطاً أو لا
أو نصف دارة وإلا صفرا
سطراً إذا ما كثرت سطوره
فأبق ما أول سطر ثم ما
أو استجد قولان ما لم يضف ... كشطاً ومحواً وبضرب أجود
مع عطفه أو كتب لا ثم إلى
في كل جانب وعلم سطرا
أولى وإن حرف أتى تكريره
آخر سطر ثم ما تقدما
أو يوصف نحوهما فألف
__________
(1) هذه (من) البيانية .
(2) انظر (التبصرة والتذكرة) للعراقي (2/150) .
(3) القائل هو المعافري أو بعض مَن دُونَه في السند .(4/12)
فقال السخاوي في (فتح المغيث) (3/98 وما بعدها) شارحاً هذه الأبيات ، ومفصلاً في معاني وشروط وآداب الكشط والمحو والضرب :
(الكشط والمحو والضرب وغيرها مما يشار به لإبطال الزائد ونحوه ، ومناسبته لإلحاق الساقط(1) ظاهرة.
"وما يزيد في الكتاب" أي يكتب على غير وجهه "يُبعد" عنه بأحد أمور مما سلكه الأئمة :
إما "كشطاً" ، أي بالكشط ، وهو بالكاف والقاف : سلخ القرطاس بالسكين ونحوها ؛ تقول : كشطتُ البعيرَ كشطاً : نزعت جلده ، وكشطت الجل عن ظهر الفرس والغطاء عن الشيء إذا كشفت عنه .
وقد يعبر عن الكشط بالبشر تارة وبالحك أخرى ، إشارة إلى الرفق بالقرطاس .
"و"إما "محواً" ، أي بالمحو ، وهو الإزالة بدون سلخ ، حيث أمكن ، بأن تكون الكتابة في لوح أو رقٍّ أو ورق صقيل جداً في حال طراوة المكتوب وأمن نفوذ الحبر بحيث يسود القرطاس .
قال ابن الصلاح : ويتنوع طرق المحو ، يعني فتارة يكون بالأصبع أو بخرقة ؛ قال : ومن أغربها مع أنه أسلمها ما روي عن سحنون أحد الأئمة من فقهاء المالكية أنه كان ربما كتب الشيء ثم لعقه ، قال : وإلى هذا يوميء ما روينا ، يعني مما أسنده عياض ، عن إبراهيم النخعي أنه كان يقول : من المروءة أن يُرى في ثوب الرجل وشفتيه مداد ، يعني لدلالة ذلك على اشتغاله بالتحصيل .
قال ابن العربي : وهكذا أخبرني أصحاب الشيخ أبي إسحاق الشيرازي أن ثيابه كأنما أُمطرت مداد [كذا] ولا يأنف من ذلك ؛ فقد حكى الماوردي في الأدب أن عبيدالله بن سليمان رأى على ثوبه أثر صفرة فأخذ من مداد الدواة وطلاه به ، ثم قال : المداد بنا أحسن من الزعفران ؛ وأنشد :
إنما الزعفران عطر العذارى ومداد الدوي عطر الرجال(2)
__________
(1) وهو باب سبق هذا الباب في (ألفية العراقي) ، بيسير ؛ والمناسبة أن أحدهما ضد الآخر ، فإلحاق الساقط ضد حذف الزائد ، وغايتهما واحدة هي ضبط الكتاب وتحقيقه .
(2) راجع (أدب الكاتب ) للصولي (ص102) و (صبح الأعشى) للقلقشندي (2/473) .(4/13)
ونحوه أن بعض الفضلاء كان يأكل طعاماً فوقع منه على ثوبه فكساه حبراً وقال : هذا أثر علم وذاك أثر شَرَهٍ ؛ وللأديب أبي الحسن الفَنْجكِرْدي :
مداد الفقيه على ثوبه***** ***أحب إلينا من الغاليه
ومن طلب الفقه ثم الحديث*******فإن له همة عاليه
ولو تشتري الناس هذي العلوم*بأرواحهم لم تكن غاليه
رواة الأحاديث في عصرنا نجوم* *وفي العُصُر الخاليه
وعن ابن المبارك قال : إذا كان يوم القيامة وزن حبر العلماء ودم الشهداء فيرجح حبر العلماء على دم الشهداء ----.
وإما "بضرب" على الزائد ، وهو "أجود" من الأمرين المتقدمين ؛ وقال الخطيب : إنه المستحب ، لقول الرامهرمزي : قال أصحابنا : الحك تهمة ، يعني بإسكان الهاء في الأكثر ، وقد تحرك ، من الإيهام بمعنى الظن ، حيث يتردد الواقف عليه(1) (والله وأعلم)(2) أكان الكشط لكتابة شيء بدله ثم لم يتيسر ، أو لا .
ولكن قد يزول الارتياب حينئذ بكتابة صح في البياض ، كما رأيت بعضهم يفعله .
__________
(1) أي على الكشط .
(2) كذا وردت هنا هذه الجملة المعترضة ، ولا أرى المقام يناسبها .(4/14)
نعم ربما يثبت ما كُشط ، في رواية أخرى صحيحة ، فيشق على من رام الجمع بين الروايات عودُ كتابته ثانياً ؛ فإذا كان قد خط عليه أولاً اكتفى بعلامة الراوي الآخر عليه ، كما رواه عياض عن أبي بحر سفيان بن العاص الأسدي حكاية عن بعض شيوخه ، قال - أعني هذا المبهم : وكان الشيوخ يكرهون حضور السكين مجلس السماع حتى لا يبشر شيء ؛ ولكن قد اختار ابنُ الجزري تفصيلاً نشأ له عن هذا التعليل ، فقال : إن تحقق كونه غلطاً سبق إليه القلم فالكشط أولى ، لئلا يوهم بالضرب أن له أصلاً ، وإلا فلا ؛ على أنه لا انحصار لتعليل الأجودية فيما ذكر ؛ فقد رأيت من قال(1) لما في الكشط من مزيد تعب يضيع به الوقت ، وربما أفسد الورقة وما ينفذ إليه ؛ بل ليس يخلو بعض الورق عن ذلك ؛ وما أحسن قول القائل :
حدقك في الكشط دليل على أنك في الخط كثير الغلط
والمحو غالباً مسود للقرطاس ، وأنكر أبو إسحاق الحبال الحافظ المصري الحكَّ في الكتاب ، من وجهين :
أحدهما : أنه يضعف الكتاب .
والثاني : أنه يوهم .
فإذا ضُرب عليه(2) يُفهم المكتوب ويسلم صاحب الكتاب من التهمة .
ثم إن لكون الضرب علامةً بينةً في إلغاء المضروب عليه روينا في "الجامع" للخطيب من طريق عبيد الله بن المعتز أنه قال : من قرأ سطراً ضُرب عليه مِن كتاب فقد خان ؛ لأن الخط يحزن(3) ما تحته ، وإليه أشار اليغموري ، فقال : قال بعض العلماء : قراءة السطر المضروب خيانة ) .
ثم ذكر السخاوي عقب ما تقدم الأقوال الخمسة في كيفية الضرب ، فقال (3/99-101) :
__________
(1) كذا العبارة ، والتقدير أو المراد - كما هو ظاهر - هو : (فقد رأيت من قال بأجودية الضرب لما----) ؛ ويحتمل أن تكون (قال لما ) مصحفة عن (علل بما) .
(2) أي على المراد إبعاده ، بدلاً من حكه .
(3) لعل هذه الكلمة مصحفة عن (يُحْزَر) .(4/15)
"وصله" ، أي الضرب "بالحروف" المضروب عليها ، بحيث يكون مختلطاً بها حال كونه "خطاً" ، كما نقله عياض عن أكثر الضابطين ، قال : ويسمى أيضاً ، يعني عند المغاربة : الشقَّ ؛ انتهى ، وهو مأخوذ من الشق ، وهو الصدع في الإناء ، زجاجاً أو غيره ، لاشتراكهما(1) في الصدع ، لا سيما والحرف صار بالخط فوقه كأنه شق ؛ أو من شق العصى ، وهو التفريق ، لكونه فرَّق بين الزائد والثابت .
قال المصنف(2) : ويوجد في بعض النسخ من ابن الصلاح النشق بزيادة نون مفتوحة في أوله وسكون المعجمة ، فإن لم يكن تصحيفاً وتغييراً من النساخ فكأنه مأخوذ من نشق الظبي في الحبالة ، وهي التي يصاد بها ، أي علق فيها ، من جهة إبطال حركة الكلمة بالخط وإهمالها ، حيث جعلت في صورة وثاق يمنعها من التصرف(3) ؛ انتهى ؛ ومنه رجل نشق ، إذا كان ممن يدخل في أمور لا يكاد يتخلص منها .
ونحو ما نقله عياض قولُ الرامهرمزي وتبعه الخطيب وغيره : أجود الضرب أن لا يطمس الحرف المضروب عليه ، بل يخط من فوقه خطاً جيداً بيناً يدل على إبطاله ولا يمنع قراءته ، يعني للأمن من الارتياب .
"أو لا" تصلْ خطَّ الضرب بالمضروب عليه ، بل أجعله أعلاه ، كالأول ، أيضاً ، لكن منفصلاً عنه "مع عطفه" أي الخط ، من طرفي المضروب عليه ، بحيث يكون كالنون المنقلبة ، أشار إليه عياض عن بعضهم ؛ وقال - وتبعه ابن الصلاح - : إن منهم من يستقبح هذا الضرب بقسميه ، ويراه تسويداً وتغليساً(4) ، ويقتصر على غيره مما سيأتي .
__________
(1) أي الكلام المضروب عليه ، والإناء .
(2) يعني العراقي .
(3) التقييد والإيضاح (ص181) .
(4) كذا ، وفي (الإلماع) (وتطليساً) بالطاء ، لا بالغين ، كما تقدم .(4/16)
"أو كتب" ، أي ويُبعد الزائد أيضاً بكتب "لا" أو "من" في أوله ، "ثم إلى" في آخره ؛ وذلك - والله أعلم - فيما يجوزون أن نفيه أو إثباته غير متفق عليه في سائر الرويات ؛ ولذا يضاف إليه ببعض الأصول الرمز لمن وقع عنده ، أو نُفي عنه ، من الرواة(1) ؛ وقد يقتصر على الرمز لكن حيث يكون الزائد كلمة أو نحوها .
وقد قال ابن الصلاح تبعاً لعياض : إن مثل هذه العلامة تحسن فيما ثبت في رواية وسقط من أخرى .
"أو نصف" ، أي يُبعد الزائد ، أيضاً ، بتحويق نصف "دارة" ، كالهلال ، حكاهما عياض عن بعضهم ، واستقبح غيرُه ثانيهما ، كما حكاه ابن الصلاح .
"وإلا صفرا " ، أي يُبعد بتحويق صفر ، وهو دائرة منطبقة صغيرة ، حكاه عياض عن بعض الأشياخ المحسنين لكتبهم ؛ قال : وسميت بذلك لخلو ما أشير إليه بها عن الصحة ، كتسمية الحُسّابِ لها بذلك لخلو موضعها من عدد .
ثم إذا أشير للزائد بواحد من الصفر ونصف الدائرة فليكن "في كل جانب" بأصل الكتاب ، إن اتسع المحل ولم يلتبس بالدائرة التي تجعل فصلاً بين الحديثين ، ونحو ذلك ، وإلا فأعلى الزائد ، كالعلامة قبلهما(2) .
"وعَلِّم" أيها الطالب لما تُبعده بأحد ما تقدم "سطراً سطراً إذا ما كثرت سطوره" أي الزائد بأن تكرر تلك العلامة في أول كل سطر وآخره ، لما فيه من البيان والإيضاح ، "أوْ لا تكررْها" بل اكتفِ بها في طرفي الزائد فقط ؛ حكاه عياض عن بعضهم) .
__________
(1) أي رواة ذلك الكتاب .
(2) يعني كما في كتابة "لا" أو "من" في أول الزائد ، ثم "إلى" في آخره ، فإن ذلك يكون فوق أول الزائد وفوق آخره ، ولا يكون معه في نفس السطر ، لئلا يدرج في الكتاب .(4/17)
قال الشيخ أحمد شاكر في (الباعث الحثيث) (ص139-139) / مصوَّرة بغداد : (وإذا غلط الكاتب فزاد في كتابته شيئاً فإما أن يمحوه إن كان قابلاً للمحو(1) ، أو يكشطه بالسكين ونحوها ، وهذا عمل غير جيد . والأصوب أن يضرب عليه بخط يخطه عليه مختلطاً بأوائل كلماته ولا يطمسها ؛ وبعضهم يخط فوقه خطاً منعطفاً عليه من جانبيه ، هكذا :
?-----?
أو يضع الزيادة بين صفرين مجوفين هكذا 5 5 أو بين نصفي دائرة وكل هذا موهم .
وإذا كان الزائد كثيراً فالأحسن أن يكتب فوقه في أوله كلمة "لا" أو "من" أو "زائد" ، وفي آخره فوقه أيضاً كلمة "إلى" ، ليعرف القارئ الزيادة بالضبط من غير أن يشتبه فيها ؛ وتجد هذا كثيراً في الكتب المخطوطة القديمة التي عُني أصحابها بصحتها ومقابلتها ) ؛ انتهى .
ضُعِّف :
أي وُصف بالضعف ، ويظهر أن هذه الصيغة تشير إلى أن قائلها غير جازم بضعف ذلك الراوي ، ولكنه قلد فيه غيرَه من غير أن يطمئن إطمئناناً كاملاً إلى صحة ما حكم به عليه ، أو تشير إلى أن التضعيف خفيفٌ غيرُ تام ، أي هو يُشبه أن يكون تلييناً .
ضُعف قليلاً :
هذا تليين للراوي ، أي تضعيف خفيف لا ينبغي معه إطلاق وصف الراوي بالضعف ، ولا سيما عند التحري والتدقيق.
ضعّفه :
حكم عليه بالضعف(2)، وانظر (ضعيف) .
ضعفه فلان ولم يُهدَر :
أي هو غير متروك وإن ضعفه ذلك الناقد ، بل هو ضعيف ضعفاً غير شديد.
__________
(1) انظر (المحو) .
(2) وهل يلزم من قول العالم المطلع - كالذهبي - في راو : (ضعفه فلان) واقتصر عليه ، أنه لم يضعفه غيره ؟ الجواب : لا ، ولكن لا بد أن يكون لذلك الاقتصار دلالات تستحق التنبه إليها ولا سيما عند احتياجها ، وقد يكون منها أن يكون ذلك الناقد هو أعرف الناس بذلك الراوي ، أو هو أول من تكلم به ، أو هو الذي تكلم باجتهاده وغيره اعتمد على كلامه ؛ ومع ذلك لا يُستبعد أن يوجد في الراوي المعين كلام لناقدين فيفوت الناقل كلام أحدهما ويقتصر على كلام الآخر.(4/18)
ضعّفه وأبى أن يحدثنا به :
انظر (ضعّفه) و (أبى أن يحدثنا به).
ضعفوه :
من قيل فيه ذلك فالأصل فيه أنه ضعيف ، ولكن قد تدل القرائن بعد ذلك على ترك بعض من وصف بهذا الوصف ؛ وكثرة مضعفي الراوي من النقاد الكبار قد تدل على شدة ضعفه، ولا سيما إذا لم يقوِّه أحد منهم.
ضعفوه ولم يُتْرَك :
معناها واضح ، وهو أنه ضعيف غير متروك.
ضعفوه بمرة :
هذه من الألفاظ الدالة على كون الراوي متروكاً ، إذ معنى (ضعفوه بمرة) أنهم ضعفوه جداً ؛ قال السخاوي في (فتح المغيث) (2/122) في شرح كلمة (واه مرة) : (أي قولاً واحداً لا تردد فيه ، وكأن الباء زيدت تأكيداً ).
ضعيف :
هذه الكلمة شائعة على ألسنة المحدثين كثيراً ، وشاركهم في ذلك من شاركهم في فنهم أو مشى على أثرهم ؛ فهم يصفون بها الحديث أو السند الذي هو أولى بالرد من القبول ، ويصفون بها أيضاً الراوي أو الناقد الذي تكاثرت أخطاؤه ومخالفاته، بحيث صار الأصل في أحاديثه أنها أولى بالرد من القبول ، أيضاً.
فالضعيف من الأحاديث أو الرواة هو المردود منهم .
ومن العلماء من يطلق هذه اللفظة أحياناً على جميع أقسام المردود من الحديث أو الرواة ، فيدخل فيها من الأحاديث الموضوع والضعيف جداً ، فضلاً عن الضعيف الذي لم يشتد ضعفه ؛ وكذلك أصحاب هذه الأصناف من الأحاديث ؛ ويكثر ذلك في اصطلاح أبي نعيم الأصبهاني في طائفة من كتبه ، والمنذري في "الترغيب والترهيب" والهيثمي في "مجمع الزوائد" وكثير ممن عاصرهم أو جاء بعدهم .(4/19)
قال عبدالله بن يوسف الجديع في حاشية (فضل التهليل وثوابه الجزيل) لابن البناء (ص63) في تخريجه لبعض الأحاديث وكلامه على الحسين بن عبدالله بن حُمران الرقي وقد قال فيه أبو نعيم في (أخبار أصبهان) (1/278) : (وفيه ضعف) : (ولقد ملت أولاً إلى صلاحية حديثه للشواهد ، حتى رأيت له هذا الخبر ، وأرى أبا نعيم ألان فيه العبارة ؛ وهذا شأن المتأخرين ، يُطلق أحدهم الضعف على الراوي مع كونه قد يأتي بالعظائم ، فيغتر بذلك بعضُ من ينتصب للعمل في الحديث ، فيحسّن من شأنه ويستشهد بحديثه بحجة أنه لم يتهم) .
وذكر بعض العلماء أن المحدثين قبل الترمذي كانوا يقسمون الحديث في الجملة - من حيث الاحتجاج به وعدمه - إلى صحيح وضعيف فقط ، وأن الضعيف عندهم نوعان ، أحدهما هو الحسن في اصطلاح الترمذي ومن تبعه ، والثاني هو المردود(1)
__________
(1) وقال في (تحرير علوم الحديث) (1/607-609) : (قولهم " ضعيف" أو "ضعيف الحديث" هي صيغة جرح بلا تردُّد ، لكن هل هي مفسرة أو مجملة ؟
التحقيق : أنها مجملة ، فإذا عارضها تعديل معتبر لم يعتد بها حتى يبين وجهها . [قلت : هذا الإطلاق فيه نظر؛ ثم إن اعتبار مراتب النقاد وأحوالهم يكون في كثير من الأحيان أولى من اعتبار الإجمال والتفسير في أحكامهم].
ثم إن التضعيف بها قد يراد به الضعفُ اليسير ، كثقة أو صدوق إذا قورن بمن هو فوقه قيل فيه : "ضعيف الحديث" .
وقد تطلق على الراوي ويراد بها أنه دون من يحتج بحديثه ، لسوء حفظه مثلاً ، ولكن يعتبر به ؛ [قلتُ : هذا هو الأصل فيها ]--- .
وقد تطلق على المجروح الشديد الضعف الذي لا يكاد يكتب حديثه ، كقول أبي حاتم الرازي في حمزة بن نجيح أبي عُمارة : " ضعيف الحديث " ، فقال ابنه : يكتب حديثه ؟ قال : "زحفاً" [الجرح والتعديل 1/2/216].
وعلى شديد الضعف الذي يبلغ حديثه الترك ، وإن كان غيرَ مُتَّهم ----.
وقال أبو حاتم الرازي في رَوْحِ بن مسافر أبي بشر : "ضعيف الحديث ، لا يكتب حديثه" . [ الجرح والتعديل 1/2/496].
[قلت : في هذا التمثيل نظر ، فهذا يشبه أن لا يكون إطلاقاً لكلمة (ضعيف)، فإن أبا حاتم قرن الكلمة بما يفسرها أو يعيّن معناها].
ومن هذا استعمال يحيى بن معين لها ، حيث قال : "وإذا قلتُ لك : (هو ضعيف) فليس هو بثقة ، ولا يُكتب حديثُه" .
ومن هذا قولهم : (ضعيف جداً) ، وهي دالة بلفظها على معناها ؛ [قلت : هذا ليس من ذاك] .
كما تطلق [يعني كلمة (ضعيف)] على الراوي المتَّهم بالكذب ، فإذا وجدت ذلك فلا تقل : هو جرح يسير .
ويُطلبُ تعيينُ مرتبةِ ذلك الضعف بالنظر في القرائن.
ومن هذا قولُ ابنِ عَديٍّ في (كامله) في كثير من الرواة : "هو في جملة الضعفاء" ، فربما قالها فيمن يعتبر به ، وربما قالها في متروك ) .
انتهى كلامه وقد ألحقت به كلَّ ما جعلتُه بين حاصرتين.(4/20)
؛ ومن أشهر من نبه على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى ، وذلك في كلام له طويلٍ جداً ولكنه نفيسٌ جداً ، ولذلك رأيت أن أنقله بتمامه في هذا الموضع ، ثم أُحيل عليه في المواضع التي يناسبها ، فذلك فيما أرى - أحسن من تفريقه .
قال رضي الله عنه في (المجموع) (1/247-252) في ثنايا تفصيله في أحكام التوسل وأحاديثه : (ولكن بعض الناس ظنَّ أنَّ توسل الصحابة به [يعني النبي صلى الله عليه وسلم ] كان بمعنى أنهم يقسمون به ويسألون به ، فظن هذا مشروعاً مطلقاً لكل أحد في حياته ومماته ، وظنوا أن هذا مشروع في حق الأنبياء والملائكة ، بل وفي الصالحين وفيمن يُظنُّ فيهم الصلاح ، وإن لم يكن صالحاً في نفس الأمر .
وليس في الأحاديث المرفوعة في ذلك حديثٌ في شيء من دواوين المسلمين التي يُعتمد عليها في الأحاديث ، لا في الصحيحين ، ولا كتب السنن ، ولا المسانيد المعتمدة كمسند الإمام أحمد وغيره ؛ وإنما يوجد في الكتب التي عُرف أن فيها كثيراً من الأحاديث الموضوعة المكذوبة التي يختلقها الكذابون ، بخلاف من قد يغلط في الحديث ولا يتعمد الكذب ، فإنَّ هؤلاء توجد الرواية عنهم في السنن ومسند الإمام أحمد ونحوه ، بخلاف من يتعمد الكذب فإن أحمد لم يرو في مسنده عن أحد من هؤلاء .
ولهذا تنازع الحافظ أبو العلاء الهمداني والشيخ أبو الفرج ابن الجوزي : هل في المسند حديث موضوع ؟ فأنكر الحافظ أبو العلاء أن يكون في المسند حديث موضوع ، وأثبت ذلك أبو الفرج وبين أن فيه أحاديث قد عُلم أنها باطلة .(4/21)
ولا منافاة بين القولين ، فإن الموضوع في اصطلاح أبي الفرج هو الذي قام دليل على أنه باطل ، وإن كان المحدث به لم يتعمد الكذب بل غلط فيه ؛ ولهذا روى في كتابه في الموضوعات أحاديث كثيرة من هذا النوع ؛ وقد نازعه طائفة من العلماء في كثير مما ذكره وقالوا : إنه ليس مما يقوم دليل على أنه باطل ، بل بينوا ثبوتَ بعضِ ذلك ؛ لكن الغالب على ما ذكره في "الموضوعات" أنه باطل باتفاق العلماء .
وأما الحافظ أبو العلاء وأمثاله فإنما يريدون بالموضوع المختلَقَ المصنوع الذي تعمد صاحبُه الكذب ، والكذبُ كان قليلاً في السلف : أما الصحابة فلم يُعرف فيهم - ولله الحمد - من تعمد الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم ، كما لم يُعرف فيهم من كان من أهل البدع المعروفة ، كبدع الخوارج والرافضة والقدرية والمرجئة ، فلم يعرف فيهم أحد من هؤلاء الفرق ----(1).
وأما التابعون فلم يُعرف تعمُّدُ الكذب في التابعين من أهل مكة والمدينة والشام والبصرة ، بخلاف الشيعة فإن الكذب معروف فيهم ، وقد عرف الكذب بعدَ هؤلاء في طوائف .
__________
(1) هذا الكلام الذي اقتطعته : (ولا كان فيهم من قال إنه أتاه الخَضِرُ ، فإن خضر موسى مات كما بُيِّن هذا في غير هذا الموضع ، والخضر الذي يأتي كثيراً من الناس إنما هو جني تصور بصورة إنسي ، أو إنسيٌّ كذاب ، ولا يجوز أن يكون ملَكاً مع قوله "أنا الخضر" ، فإن الملَك لا يكذب ، وإنما يكذب الجنى والإنسي ، وأنا أعرف ممن أتاه الخضر وكان جنياً مما يطول ذكره في هذا الموضع ، وكان الصحابة أعلم من أن يروج عليهم هذا التلبيس ؛ وكذلك لم يكن فيهم مَن حملته الجن إلى مكة وذهبت به إلى عرفات ليقف بها ، كما فعلت ذلك بكثير من الجُهّال والعُبّاد وغيرهم ، ولا كان فيهم من تسرق الجن أموال الناس وطعامهم وتأتيه به فيظن أن هذا من باب الكرامات كما قد بسط الكلام على ذلك في مواضع) .(4/22)
وأما الغلط فلا يسلم منه أكثر الناس ، بل في الصحابة من قد يغلط أحياناً ، وفيمن بعدهم .
ولهذا كان فيما صُنف في الصحيح أحاديث يُعلم أنها غلطٌ ، وإن كان جمهور متون الصحيحين مما يُعلم أنه حق .
فالحافظ أبو العلاء يعلم أنها غلط والإمام أحمد نفسه قد بين ذلك وبين أنه رواها لتُعرف ، بخلاف ما تعمد صاحبه الكذب ، ولهذا نزه أحمد مسنده عن أحاديث جماعة يروي عنهم أهل السنن ، كأبي داود والترمذي مثل نسخة(1) كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده ، وإن كان أبو داود يروي في "سننه" منها .
فشرط أحمد في "مسنده" أجود من شرط أبي داود في "سننه" .
والمقصود أن هذه الأحاديث التي تروى في ذلك : من جنس أمثالها من الأحاديث الغريبة المنكرة بل الموضوعة التي يرويها من يجمع في الفضائل والمناقب الغثَّ والسمين ، كما يوجد مثل ذلك فيما يصنَّف في فضائل الأوقات وفضائل العبادات وفضائل الأنبياء والصحابة وفضائل البقاع ونحو ذلك ؛ فإن هذه الأبواب فيها أحاديث صحيحة وأحاديث حسنة وأحاديث ضعيفة وأحاديث كذب موضوعة .
ولا يجوز أن يُعتمد في الشريعة على الأحاديث الضعيفة التي ليست صحيحة ولا حسنة ، لكن أحمد بن حنبل وغيره من العلماء جوزوا أن يُروى في فضائل الأعمال ما لم يُعلم أنه ثابت إذا لم يُعلم أنه كذبٌ ، وذلك أن العمل إذا عُلم أنه مشروع بدليل شرعي ورُوي في فضله حديثٌ لا يُعلم أنه كذبٌ جاز أن يكون الثوابُ حقاً .
ولم يقل أحد من الأئمة : إنه يجوز أن يُجعل الشيءُ واجباً أو مستحبّاً بحديث ضعيف ، ومن قال هذا فقد خالف الإجماع .
__________
(1) تحرفت في مطبوعة (المجموع) إلى (مشيخة) .(4/23)
وهذا كما أنه لا يجوز أن يُحَرَّمَ شيء إلا بدليل شرعي ، لكن إذا عُلم تحريمُه ورُويَ حديث في وعيد الفاعل له ولم يُعْلَمْ أنه كذبٌ : جاز أن يرويَه ؛ فيجوز أن يروى في الترغيب والترهيب ما لم يُعلم أنه كذب ، لكن فيما عُلم أن الله رغَّبَ فيه أو رهَّب منه بدليل آخر غير هذا الحديث المجهول حاله .
وهذا كالإسرائيليات : يجوز أن يروى منها ما لم يُعلم أنه كذبٌ ، للترغيب والترهيب فيما عُلم أن الله تعالى أمر به في شرعنا ونهى عنه في شرعنا ؛ فأما أن يثبت شرعاً(1) لنا بمجرد الإسرائيليات التي لم تثبت فهذا لا يقوله عالم ، ولا كان أحمد بن حنبل ولا أمثاله من الأئمة يعتمدون على مثل هذه الأحاديث في الشريعة .
ومن نقل عن أحمد أنه كان يحتج بالحديث الضعيف الذي ليس بصحيح ولا حسن فقد غلط عليه .
ولكن كان في عُرف أحمد بن حنبل ومن قبله من العلماء أن الحديث ينقسم إلى نوعين : صحيح وضعيف ؛ والضعيف عندهم ينقسم إلى ضعيف متروك لا يحتج به ، وإلى ضعيف حسن ، كما أن ضعف الإنسان بالمرض ينقسم إلى مرض مخوف يمنع التبرعَ من رأس المال ، والى ضعيف خفيف لا يمنع من ذلك .
وأول من عُرف أنه قسم الحديث ثلاثة أقسام : صحيح وحسن وضعيف : هو أبو عيسى الترمذي في "جامعه" ، والحسن عنده ما تعددت طرقه ولم يكن في رواته متهم وليس بشاذ ؛ فهذا الحديث وأمثاله يسميه أحمد ضعيفاً ويحتج به ، ولهذا مثَّل أحمد الحديث الضعيف الذي يحتج به بحديث عمرو بن شعيب وحديث إبراهيم الهجري ونحوهما ؛ وهذا مبسوط في موضعه) ؛ انتهى كلام شيخ الإسلام رحمه الله ، وانظر (الترغيب والترهيب) .
تذييل يدور حول معنى كلمة (ضعيف) عند ابن معين :
__________
(1) كذا .(4/24)
قال أبو بكر بن أبي خيثمة في (تاريخه) (ص 315- تاريخ المكيين ) : (قلت ليحيى بن معين(1) : إنك تقول : فلان ليس به بأس ، وفلان ضعيف ؟ قال : إذا قلتُ [لك] : ليس به بأس ، فهو ثقة ؛ وإذا قلت لك : هو ضعيف، فليس هو بثقة ، ولا يُكتب حديثه) ؛ وأخرجه من طريق ابن أبي خيثمة : ابنُ شاهين في (الضعفاء) (ص42) وفي (الثقات) (1653) ، والخطيبُ في (الكفاية) (ص22) ، وحكاه ابن حجر في (لسان الميزان) (1 / 93) .
قلت : ظاهر هذه العبارة أن حكم ابن معين على الراوي بأنه ضعيف هو حكمٌ عليه بالترك والسقوط .
وذكر الشيخ أحمد محمد نور سيف في مقدمته لـ(تاريخ الدوري) أن (ليس بشيء) و (ليس بثقة) و (ضعيف) تعني عند ابن معين غالباً الضعف الشديد.
ولقد أغرب في هذا المقام العلامةُ ابنُ القطان فقال في (بيان الوهم والإيهام) : (ابن معين إذا قال في رجل معروف من أهل العلم : إنه ضعيف ، فإن ذلك ليس تجريحاً منه له ، وإنما هو تفضيل لغيره عليه ، في الأغلب ، وقد يقوله باعتبار أوهام توجد له لا تسقط الثقة به ).
وحاول الدكتور قاسم علي سعد في (مباحث في علم الجرح والتعديل) (ص61) الجمع بين هذين المذهبين المذكورين في تفسير مراد ابن معين بكلمة (ضعيف)، فقال : (قول ابن معين "ضعيف" يختلف عن مسلك الجمهور ، فهي عندهم في المرتبة الخامسة ، أما عنده فهي أسقط من ذلك) ، ثم ذكر ما تقدم من جواب ابن معين لابن أبي خيثمة؛ ثم قال :
(أما إذا استعمل ابن معين هذه اللفظة في رجال معروفين من أهل العلم فإنه لا يريد في الغالب توهينهم ) ؛ ثم ذكر كلام ابن القطان المتقدم ، والله أعلم بحقيقة الأمر .
__________
(1) وورد في بعض الكتب أن السائل أبو خيثمة ، وهو خطأ ، والصواب أنه ابنه.(4/25)
تعقُّب : استعمل مؤلفا (تحرير التقريب) كلمة "ضعيف" لمعنى غير الذي استعملها له الجمهور ، ومنهم ابن حجر؛ فقالا (1/47) : (وقد قمنا أيضاً بدراسة من قال فيه : "ضعيف" ، فمن كان منهم يصلح للمتابعات والشواهد ألحقنا به عبارة "يعتبر به" .
وما سكتنا عنه أو قلنا : "ضعيف" فهو لا يصلح للمتابعات ولا للشواهد ) .
أقول : هذا الصنيع لا يخلو من خلل ، فقد خالفا في لفظة "ضعيف" اصطلاح الجمهور وما عليه العمل ، وهو أن لفظة "ضعيف" إذا أُطلقت - أي عند الجمهور - ولم تقيَّد بتوكيد ونحوه مما يدل على شدة الضعف فإن من قيلت فيه يصلح للمتابعات والشواهد في الجملة ؛ ولا سيما على منهج المتأخرين أو المتساهلين منهم ؛ ولكنهما استعملاها بمعنى (الضعيف جداً) أو (المتروك) عند الجمهور، وقد يكون في هذا نوعُ إيهام وتلبيس .
وقالا (1/48) : (من قلنا فيه ضعيف فحديثه ضعيف لا يصلح للمتابعات ولا للشواهد ؛ ومن قلنا فيه : متروك أو منكر الحديث؛ فحديثه ضعيف جداً لا يقوى بالمتابعات ولا بالشواهد).
وهذا الكلام أيضاً لا يخلو من خلل ؛ إذ يظهر من السياق أنهما يفرقان بين الضعيف بالمعنى الذي اصطلحا عليه ، وبين المتروك أو منكر الحديث ، وأنهما يفرقان أيضاً بين الحديث الذي لا يصلح للمتابعات والشواهد ، وبين الحديث الضعيف جداً الذي لا يقوى بالمتابعات والشواهد .
وهذان التفريقان لا وجه لهما ، فكل حديث أو راوٍ لا يصلح للمتابعات ولا للشواهد فهو لا يتقوى بها ، ويسمى عند الجمهور ضعيفاً جداً، ومتروكاً ، ويسمى عندهما ضعيفاً ، وحقيقة معناها عندهم الترك أيضاً ؛ وهل الترك في الراوي أو الحديث إلا إهماله وعدم استعماله؟!(4/26)
والاستعمال قسمان لا ثالث لهما ، هما الاحتجاج ، ويسمى أيضاً العمل ، والاستشهاد ويسمى أيضاً الاعتبار ؛ وقسيمُ الاستعمال التركُ ، وليس بين مرتبتي الاستشهاد والترك مرتبة ، والمتروكون مرتبة واحدة ، فما معنى وضع مرتبة متوسطة معبَّر عنها عندهما بلفظة "ضعيف" بين مرتبة الاستشهاد - المعبر عنها عندهما بكلمة "ضعيف يعتبر به" - ومرتبة الترك المعبَّر عنها عندهما بكلمة "متروك الحديث" ونحوها ؟ .
هذا وقد غيَّرا كلمة (ضعيف) - مع أن معناها عندهما ما تقدم بيانه وهو الترك - في مواضع من الكتاب إلى "متروك" ، أو "متروك الحديث" !! انظر مثلا (3/193و235) .
ضعيف الحديث ، وهو ثقة صدوق :
انظر (ثقة وليس ممن يوصف بالضبط) .
ضعيف بالإجماع :
المراد إجماع النقاد ؛ وانظر (مجمع على ضعفه).
ضعيف بمرة :
انظر (ضعفوه بمرة) ، و(ضعيف بالمرة).
ضعيف بالمرة :
انظر (ضعفوه بمرة) ، وأزيد هنا هذا المثال : قال العجلوني في (كشف الخفاء) (1/34) : (58) في الكلام على حديث (أبى الله أن يرزق عبده المؤمن إلا من حيث لا يعلم) : (قال في "التمييز" تبعاً للاصل : أخرجه الديلمي من حديث أبي هريرة من رواية عمر بن راشد ، وهو ضعيف جداً ، وقال البيهقي : ضعيف بالمرة ؛ وأورده ابن الجوزي في "الموضوعات"----).
ضعيف جداً :
هذه من الألفاظ الدالة على كون الراوي أو الحديث متروكاً ؛ وهي أحد أقسام الحديث عند المعاصرين وبعض من تقدمهم ، فهم يقسمونه إلى صحيح وحسن وضعيف وضعيف جداً وموضوع .
ضعيف يستشهد به :
هي بمعنى العبارة اللاحقة (ضعيف يعتبر به) .
ضعيف يعتبر به :
هذه اللفظة تعني أن الراوي يصلح للاستشهاد به ، وليس هو من نوع الضعيف الذي يكون حديثه متروكاً غير قابل للتقوية بتعدد طرقه ، ولا فرق عند المتأخرين بين قولهم في الراوي : (ضعيف) وقولهم فيه : (ضعيف يعتبر به) ، لأن الضعيف عندهم يعتبر به إلا إذا اشتد ضعفه ، بل هم يفرقون في الغالب بين الضعيف والشديد الضعف ، فيطلقون اللفظة في ذاك ، ويقيدون - أي يصرحون - بشدة الضعف في هذا .
ولكن مما ينبغي التنبه له هو أن المتقدمين كانوا في كثير من الأحيان يطلقون كلمة (الاعتبار) ومشتقاتها ، وهم لا يريدون بها ما يريده المتأخرون من معنى الصلاحية للاستشهاد ، وإمكان التقوي بالمتابعات ؛ وإنما يريدون بها دراسة الأسانيد لمعرفة أحوال رواتها ، ولو كانوا متروكين ، ولتعيين من يكون عليه الحمل في الروايات الساقطة والباطلة ؛ وانظر (يعتبر بحديثه).(4/27)
فصل الطاء
الطاقة :
قال ابن قاضي شهبة في (طبقات الشافعية) (2/13) : (قال الذهبي : ويقع لي أن الطاقة نصف كراس) .
ومما يُعين على تعيين مقدار الطاقة ولو على سبيل التقريب ما ورد في كتب التراجم ونحوها في وصف يعض المصنفات التي وُجدت وطُبعت كاملةً ، من بيان مقدارها بالطاقة ؛ فمن ذلك قول ابن النجار في (ذيل تاريخ بغداد) في ترجمة الحافظ أبي سعد السمعاني(1) : (نقلتُ أسماءَ تصانيفه من خطه ----) ثم قال في تضاعيف ذلك هذه العبارات :
(الأنساب ثلاثمئة وخمسون طاقة) .
(الإملاء والاستملاء ، خمس عشرة طاقة ).
قال الدكتور موفق في وانظر (توثيق النصوص) (ص232-233) : (والنسخة المحفوظة من الكتاب [يعني أدب الإملاء والاستملاء] ، والتي بين أيدينا نسخة فيض الله تحت رقم (1557) ، والتي كُتبت سنة ست وأربعين وخمسمئة في المدرسة العميدية(2) بمَرْو ، أي أنها كُتبت في حياة المصنف وقبل وفاته بـ (16) سنة : تقع في (154 ورقة) من ضمنها لوحة عنوان الكتاب .
__________
(1) سير أعلام النبلاء (20-460-461) .
(2) هي المدرسة السمعانية .(4/28)
وعلى هذا فإن الطاقة هنا تقرب من عشرة أوراق .
وعلى كل حال فإنَّ النسخ يختلف عدد أوراقها باختلاف الناسخ .
والذي يظهر لي أن كلمة "الطاقة" هو اصطلاح بغدادي يقصد به لَفَافةٌ أو طَبَقٌ من الورق ، لو فُتح فإنَّ عدد أوراقه قد تبلغ (10) أوراق .
وهذا اللفظ "طاقة الورق" بالمعنى المذكور لا زال مستخدماً إلى يومنا هذا في بغداد ، وهو الموافق لما ذكره ابن النجار في "ذيل تاريخ بغداد" عن(1) كتاب "أدب الإملاء والاستملاء" للسمعاني ؛ والله تعالى أعلم ) ؛ انتهى .
وقال ابن عساكر في (تاريخ دمشق) (36/446) في ترجمة أبي سعد السمعاني : (وآخر ما ورد عليَّ من أخباره كتاب كتبه بخطه وأرسل به إليَّ ، سمّاه كتاب "فرط الغرام إلى ساكني الشام" في ثمانية أجزاء) .
وفي (السير) للذهبي (20/461) أن السمعانيَّ نفسَه وصفَ كتابَه هذا بأنه خمس عشرة طاقة .
فيتحصل من هذين النعتين لهذا الكتاب أن الطاقة نصف جزء أو نحو ذلك .
وإذا قُرن هذان النعتان بكلمة الذهبي المتقدمة ، أعني قوله "يقع لي أن الطاقة نصف كراس" اتضح عن ذلك كله أن الكراس والجزء متساويان أو متقاربان في عرف جماعة من المؤلفين والوراقين ، إن لم نقل : في عرف جمهورهم ؛ والله أعلم .
وقال الذهبي في (السير) (20/463) : (الطاقة يخيَّل إليَّ أنها الطلحية) ؛ وفي القاموس المحيط (ط ل ح) : (والطلحية للورقة من القرطاس ، مولدة) .
الطباعة :
ورد في (المعجم الوسيط) (2/556) : (الطباعة : حرفة نقل النسخ المتعددة من الكتابة أو الصور، بالآلات.
الطبّاع : فعّالٌ للمبالغة من طبَعَ ؛ و[الطبّاع أيضاً] مَنْ حِرفتُه الطباعة).
__________
(1) يريد (في) .(4/29)
وأما تاريخ الطباعة والمطبوعات ، فقد أُلِّف فيه أكثر من كتاب ؛ منها (تاريخ الطباعة في الشرق العربي) للدكتور خليل صابات ؛ ومما ورد فيه قوله (ص15) في تضاعيف بيانه للمحاولات الطباعية الأولى : (وأول كتاب ديني سبكت حروفه سبكاً كاملاً طبع في مدينة منتز ، سنة 1459 ؛ وكانت المطبوعات الأولى شديدة الشبه بالمخطوطات ، مما دعا بعض الطابعين إلى بيعها على أنها مخطوطة ! ؛ ويمكن أن يقال : إن عامل الغش كان إلى حد ما الباعثَ على اختراع المطبعة ؛ ولكن عندما شرعت المطبعة في استخدام الحروف الرومانية مكان الحروف القوطية سهل على الناس التمييز بين المخطوط والمطبوع ) .
وقال (ص17) : (وتطورت الطباعة تطوراً سريعاً في السنوات الثلاثين(1) الأخيرة من القرن الخامس عشر ، وأصبح عدد المطابع ينوف على المئتين بما في ذلك مطابع الأديرة) .
وقال (ص19) : (أما المطبعة العربية فإنها عُرفت في لبنان) ، ثم ذكر أن المطبعة اللبنانية الأولى استطاعت أن تطبع أول كتاب لها في سنة 1733 .
الطباق :
انظر (الطبقة) .
طَبَقُ السماع :
أي طبقته ، وقد وردت هذه الكلمة مؤنثة ، مثال ذلك قول بعض رواة (إرشاد المبتدي وتذكرة المنتهي في القراءات العشر) للحافظ محمد بن الحسين القلانسي (ت 521هـ) في آخره عقب كتابته بعض الطباق : (نقلتُ طبق السماع هذه واللتين بعدها من أصل الشيخ بقية السلف شيخنا المقرئ العلامة نور الدين بن القاصح)(2) .
وانظر (الطبقة) و(التسميع) .
طَبَقُ الورق :
انظر (الطاقة) .
الطبقة(3) :
__________
(1) هذا التعبير منتقَد فالسنوات جمع قلة والثلاثون كثيرة .
(2) انظر (تحقيق النصوص) (ص69) .
(3) في (المعجم الوسيط) : ( الطبقة : الجيل بعد الجيل ، أو القوم المتشابهون في سن أو عهد ، والحال والمنزلة والمرتبة والدرجة) .(4/30)
الطبَقُ لغةً : غطاء كل شيء ، والجمع أطباق ؛ والمطابقة : الموافقة ؛ والطبقة : الأمة بعد الأمة ؛ وقال ابن سِيده : "الطبَق : الجماعة من الناس يَعْدِلون جماعةً" ؛ وقال الأصمعي : "الطِّبقُ ، بالكسر : الجماعة من الناس" ؛ والطِّباق : طبقة فوق طبقة ؛ وطبقةٌ : طائفةٌ ؛ ومضى طبَقٌ بعْدَ طبَقٍ : عالَمٌ من الناس بعد عالَم(1) .
وأما الطبقة في عرف المحدِّثين والمؤرخين فلها مَعان متعددة ، ولكنْ بينها في الأصل كثير من التقارب ؛ وإليك أهم وأشهر معانيها عندهم واستعمالاتها الشائعة بينهم :
المعنى الأول : جماعة من الناس متعاصرون يشتركون في بعض ما له شأنٌ من أوصافهم وأحوالهم .
ومن أمثلة ذلك هذه الطبقات :
طبقة الصحابة ، يشتركون في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم حال إيمانهم به، وموتهم على ذلك .
طبقة البدريين ، وهم الصحابة الذين قاتلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في معركة بدر .
طبقة المهاجرين ، وهم الصحابة الذين هاجروا من مكة إلى المدينة .
طبقة التابعين، وهم المسلمون الذين لقوا الصحابة وليسوا منهم.
طبقة الكوفيين من التابعين، يشتركون في معنيين هما كونهم تابعين ، وكونهم من أهل الكوفة .
وأكثر كتب الطبقات التي ألفها القدماء كخليفة بن خياط وابن سعد وغيرهما ، أُلفت لمثل هذا المعنى الأول من معاني الطبقات .
المعنى الثاني - وهو أخص من المعنى الأول - : الأقران ، فيقال : هو من طبقة شيوخ البخاري، أو هو من طبقة سفيان الثوري ، أي يصلح لمشاركة سفيان في معظم شيوخه وتلامذته.
__________
(1) كذا في معاجم اللغة ، انظر (توثيق النصوص) (ص68) .(4/31)
وهذا التعبير شهير عند المحدثين وشائع في استعمالهم؛ فهم يطلقون الطبقة على الرواة الذين يتعاصرون ويتقاربون في السن ويشتركون في غالب شيوخهم ، ويشترك في السماع منهم غالب تلامذتهم ، وهؤلاء هم الأقران؛ فتراهم يقولون : فلان من طبقة شيوخ زيد ولكن زيداً لم يسمع منه ؛ ويقولون : فلان من طبقة شيوخ شيوخ عمرو فكيف يسمع منه عمرو ؟! وهذا المعنى هو الغالب في استعمالهم لهذه الكلمة(1).
وهذا الاصطلاح كثير عند المحدثين متكرر في تواريخهم وسائر كتبهم في الرجال والعلل .
فابن حجر - مثلاً - قسم رجال الكتب الستة ومؤلفات أصحابها الأخرى في كتابه (تقريب التهذيب) إلى اثنتي عشرة طبقة ، بيَّن شروطه فيها في مقدمته، فذكر هناك أنه يذكر فيما يذكره في الترجمةِ التعريفَ بعصر الراوي بحيث يكون قائماً مقام ما حذفه مِن ذِكْر شيوخه والرواة عنه ، إلا من لا يؤمَن لبسه ، وذكر أن طبقاتهم انحصرت - باعتبار ذلك - في اثنتي عشرة طبقة ، ثم بينها بقوله :
(وأما الطبقات :
فالأولى الصحابة على اختلاف مراتبهم ، وتمييز من ليس له منهم الا مجرد الرؤية ، من غيره .
الثانية : طبقة كبار التابعين كابن المسيب ، فإن كان مخضرماً صرحت بذلك .
الثالثة : الطبقة الوسطى من التابعين كالحسن وابن سيرين .
الرابعة : طبقة تليها جل روايتهم عن كبار التابعين كالزهري وقتادة .
الخامسة : الطبقة الصغرى منهم ، الذين رأوا الواحد والاثنين ولم يثبت لبعضهم السماع من الصحابة كالأعمش .
السادسة : طبقة عاصروا الخامسة ، لكن لم يثبت لهم لقاء أحد من الصحابة كابن جريج .
السابعة : كبار أتباع التابعين كمالك والثوري .
الثامنة : الطبقة الوسطى منهم كابن عيينة وابن علية .
__________
(1) ومنهم من يكتفي في جعل الرجلين من طبقة واحدة بأن يشتركا في اللقي، ولو كان أحدهما شيخاً للآخر ، وهو اصطلاح غير جيد لأنه شاذ وموهم .(4/32)
التاسعة : الطبقة الصغرى من أتباع التابعين كيزيد بن هارون والشافعي وابي داود الطيالسي وعبد الرزاق .
العاشرة : كبار الآخذين عن تبع الأتباع ممن لم يلق التابعين كاحمد بن حنبل .
الحادية عشرة : الطبقة الوسطى من ذلك كالذهلي والبخاري .
الطبقة الثانية عشرة : صغار الآخذين عن تبع الأتباع كالترمذي وألحقت بها باقي شيوخ الأئمة الستة الذين تأخرت وفاتهم قليلاً كبعض شيوخ النسائي .
قال : وذكرت وفاة من عرفت سنة وفاته منهم ، فإن كان من الأولى والثانية فهم قبل المئة ، وإن كان من الثالثة إلى آخر الثامنة فهم بعد المئة ؛ وإن كان من التاسعة إلى آخر الطبقات فهم بعد المئتين ، ومن ندر عن ذلك بينته) .
قلت : وبهذا يعلم اصطلاح ابن حجر في هذه الكلمات التي يستعملها في تراجم (التقريب) مثل قوله (من الثانية) أو (من الثالثة)، وما بعد ذلك ، وكذلك يعلم اصطلاحه في تواريخ الوفيات في ذلك الكتاب ، فإنه يحذف فيما يذكره من ذلك ذكر المئات غالباً ويقتصر على ما زاد عليها، مثل أن يقول فيمن توفي في سنة مئة وثمانين : (توفي سنة ثمانين) ، مستغنياً عن ذلك بما يبينه من طبقات الرواة.
المعنى الثالث - وهو أخص من المعنى الثاني - : مراتب الأقران في الحفظ والإتقان ، في شيخ من شيوخهم ، مثل ما ورد في كلامهم على شروط الأئمة أصحاب الصحيحين والسنن ؛ فقد قسموا أصحاب الزهري وأصحاب غيره إلى طبقات متفاوتة في الحفظ والإتقان والملازمة ، ثم ذكروا من كان من المصنفين يُخرج لبعض الطبقات دون بعضها ، وبينوا شروطهم في الاحتجاج بتلك الطبقات ، ورد ذلك في (شروط الأئمة) للحازمي وفي (شرح علل الترمذي) لابن رجب وفي (نكت ابن حجر) و(فتح المغيث) و(تدريب الراوي) وكتب أخرى .(4/33)
المعنى الرابع : المتعاصرون الذين تقاربت أوقات وفياتهم ، واعتاد بعض المؤرخين في بعض كتبهم - منهم الإمام الذهبي في (تاريخ الإسلام) - أن يشترط في ذلك التقارب أن لا يزيد على عشر سنين، وهي عقد من الزمن ؛ فالطبقة في ذلك الكتاب تدل على طائفة من المترجمين تقاربت وفياتهم فلم يكن بينها من الفروق أكثر من عشر سنين(1)؛ فمثلاً الطبقة الرابعة والستون من الكتاب مختصة بتراجم الأعلام الذين ماتوا في سنة (631هـ) أو سنة (640هـ) ، أو بين هاتين السنتين.
ويظهر أن أهم الأمور التي ألجأت الذهبيَّ إلى هذا الاصطلاح هو عدم وقوفه ، على وجه التعيين أو التحديد ، على تاريخ وفيات كثير من قدماء المترجَمين ممن توفي قبل القرن الرابع ، ولكنه علم ذلك على سبيل التخمين والتقريب ، فرأى أن يتدارك هذه العقبة بهذا الترتيب الإجمالي(2) .
وبعبارة أخرى فيها زيادة في المعنى أقول : استعمل الذهبي ذلك التقسيم والاصطلاح ، لأمرين :
الأول : تبويب الكتاب وتفصيله وترتيبه ، أي الترتيب الزمني.
والثاني : تيسُّر إدخال كل مترجم في طبقته ، فإن جماعاتٍ من المترجمين ، ولا سيما ممن كان من المتقدمين ، لا تُعلم سنيّ وفياتهم على وجه الضبط والتعيين ؛ فلو رتب كتابه على السنوات لما تهيأ له ذكر هؤلاء في سنوات معينة ، ولاضطره ذلك إلى إدخالهم في بعض السنوات على سبيل الظن والتخمين ، أو ذِكْرِهم في ذيول خاصة بهم ، أو يسلك غير ذلك من طرق إدراجهم في الكتاب ، فاختار الذي هو أولى وأليق.
__________
(1) استعمل الذهبي (الطبقة) في طائفة من كتبه الرجالية المرتبة على الطبقات ، لتدل على خصائص اللقيا ونحوها من المعاني ، موافقاً في ذلك جمهور علماء الرجال والأسانيد .
(2) انظر تفاصيل هذه المسألة وما يتعلق بها في (الذهبي ومنهجه في كتابه "تاريخ الإسلام") للدكتور بشار عواد معروف (ص279-324) .(4/34)
وأما المترجَمون ممن توفي في مطلع القرن الرابع وما بعده ، فتواريخ وفياتهم معلومة في الغالب ، فلذلك كان الذهبي هنا يرتب التراجم ضمن الطبقة الواحدة على سني الوفيات ، سنة فسنة ، ولكنه بقي - مع ذلك - يحتاج أحياناً أن يذكر في نهاية الطبقة من لم يقف على تاريخ وفاته من المترجمين ؛ وهذا من فوائد ترتيب كتابه على الطبقات العَشرية.
فائدة : تصنيف التراجم والتواريخ على الطبقات الزمنية أمرٌ صعبٌ لا يتيسر إلا لكبار الحفاظ؛ قال المنذري في (التكملة لوفيات النقلة ) (1/427) (667) في ترجمة الحافظ ابن بصيلة أبي محمد عبد الله بن خَلَف بن رافع القاهري المتوفى سنة (598هـ) :
(وكتب كثيراً وحدّث ، رأيته ولم يتفق لي السماع منه ؛ وكان حافظاً محصّلاً عالماً بالتواريخ والوفيات ، وجمع مجاميع مفيدة ، رأيت له أجزاء من "الدر المُنَظَّم في فضل من سكن المُقَطَّم" ، أحسنَ فيه ما شاء ، وجعله على الطبقات ، مع أنه لا يصنِّف على الطبقات إلا الواثق بحفظه ، فإن الغلط فيها يكثر ، بأنْ يقصِّر برجل عن درجته ، أو يرفعه فوق درجته)(1) ؛ انتهى .
وبقي بعد هذه المعاني الأربعة لكلمة (الطبقة) معنيان آخران مجازيان أو مبنيان على نوع من التجوز :
أولهما وهو المعنى الخامس : التسميع أي كتابة السماع .
__________
(1) قال المنذري في بقية كلامه : (وشرع في "تاريخ مصر" ، وخرّج منه أشياء ، وعجز عن إكماله ، لضيق ذات يده) ؛ وقال ياقوت في (معجم البلدان) (5/128) في ترجمة هذا الحافظ : (وكان يحفظ وجمع تاريخاً لمصر أجاد فيه ومات وهو في مسوداته قد عجز أن يبيّضها ، لفقره ، فبيع على العطارين لصر الحوائج [!!] كأن لم يكن بمصر من يعينه على تبييضه ولا ذو همة يشتريه فيبيضه ، والله المستعان ) .(4/35)
فالطبقة بهذا المعنى هي ما يُكتب في أول أو آخر صفحات الكتاب، أو في أي موضع من صفحاته الأخرى ، ببيان أسماء من حضر مجلس الحديث واسم الكاتب ، وتُعرض تلك الكتابة على المُسمِع فيوقَّع عليها بخطه ويؤرخها ، ويُكتب عادة اسم المكان الذي عقد فيه مجلس السماع ، وتكون هذه الطبقة مستنداً في الرواية لمن أثبت اسمه فيها ، وشهادة له بالسماع .
وإنما سميت هذه الشهادة الخطية المثبتة على الكتاب المسموع طبقة ، لأن المذكورين في التسميع ، أعني المشهود لهم بالسماع - معدودين طبقةً واحدة ، إما لاتفاقهم في سماع ذلك المجلس أو ذلك الكتاب من الشيخ، فهم طبقة واحدة في ذلك المسموع أو ذلك المجلس ، أو لأنهم في الغالب أقران، فهم من طبقة واحدة، فلما كانوا كذلك سُمّوا طبقةً ؛ ثم حصل تجوز فأطلقوا هذا الاسم على تلك الشهادة المكتوبة المشتملة على أسماء تلك الطبقة التي سمعت ذلك المجلس أو الكتاب ؛ وانظر (التسميع) .
تنبيه : الطبقة بهذا المعنى تُجمع على طباق وطبقات ، وكلمة (طباق) يظهر أنها أكثر استعمالاً عند المحدثين .
وثانيهما ، وهو المعنى السادس : بيانه أن كلمة الطبقة تستعمل أحياناً استعمالاً مجازياً ، اسماً للكتاب من كتب التراجم، ولو كان ترتيب ذلك الكتاب على الأسماء لا على الوفَيات .
ونظير ذلك التجوز أن يسمى كتاب التراجم المصنف على حروف المعجم كتاب وفيات(1) .
تكميل :
طبقات الرواة (الزمنية) العامة يراد بها معرفة صلاحيتهم في الجملة لأن يكونوا من الرواة عن زيد وعن طبقته ، ولأن يكونوا أيضاً ممن روى عنهم عمرو أو غيره من أهل طبقته.
فتعيين طبقة الراوي الزمنية تاريخ مجمل له؛ وذلك نظير كون الحكم على الراوي بكلمة نقدية اصطلاحية حكماً مجملاً على حاله ، أي من حيث قوته وضعفه في مروياته.
__________
(1) انظر (الوفَيَات) .(4/36)
فمثلاً إذا حكمنا على فلان من الرواة بأنه ثقة فمعلوم أنه لا يلزم من ذلك الحكم أن يكون مصيباً في كل ما رواه ، بل قد تُرَدّ بعض أفراده أو متابعاته، وقد يذكر العلماء له جملة من الأحاديث التي وهم فيها ، ولكن لا بد أن تكون تلك الأوهام من القلة بحيث لا تمنع من إطلاق توثيقه.
وكذلك إذا قلنا : ( فلان من الطبقة الفلانية ) فلا يلزم أن يكون مؤهلاً للسماع من كل الرواة الذين سمع منهم أهل طبقته؛ وهذا أوضح من الذي قبله ؛ فموانع السماع من المعاصرين كثيرة جداً ، والمعاصرة وحدها بعيدة عن أن تكون كافية لحصول السماع ، ولكن المعاصرة المعتبرة تكون سبباً لإمكانية السماع ، أو شرطاً من شروطِ تحققه.
والحقيقة أن تعيين طبقة الراوي الزمنية هو محاولة لتحديد عمره الحديثي (إذا استقامت العبارة) ، أي تحديد بداية ونهاية تحملِه ، وتحديد بداية ونهاية أدائه لما تحمله.
ولما كان تحديد تواريخ هذه الحدود الأربعة غير ممكن أو غير متيسر ، في كثير من الأحيان ، احتاج العلماء إلى معرفة ما يدل على تلك الحدود دلالة تقريبية تخمينية ، فلذلك استعانوا في هذا الباب بما يلي :
1- معرفة تاريخ ولادة الراوي.
2- معرفة تاريخ وفاته.
3- معرفة بلده وتواريخ رحلاته وكل ما يدل على الطلب أو على عدمه.
4- معرفة وفيات شيوخه ومن روى عنهم.
5- معرفة تواريخ ولادات تلامذته.
6- معرفة بلدان ورحلات هؤلاء التلامذة وأولئك الشيوخ.
7- معرفة عرف أهل ذلك البلد في بدء التحمل وبدء التحديث .
وأعبر عن بعض ما تقدم بعبارة أخرى :
يحتاج النقاد ، من أجل نقد الأسانيد ، إلى معرفة ما سمعه كل راو من شيوخه ، مما لم يسمعه ، وكذلك معرفة مكان السماع أو وقته ، إذا كان الشيخ ممن اختلط في آخر عمره أو تغير حاله في الرواية .(4/37)
ولما كان ذلك غير متيسر في كثير من الأوقات طلبوا معرفةً هي أقل تفصيلاً مما تقدم ، مثل أن يعلموا أن الراوي سمع من شيخه الفلاني في بغداد فقط، أو سمع منه الكتاب الفلاني فقط، أو سمع منه ثلاثة أحاديث فقط .
فإن لم يتيسر ذلك أحياناً احتاجوا إلى تمييز شيوخه الذين سمع منهم في الجملة ، دون غيرهم من الرواة الذين وردت له عنهم روايات من غير واسطة ، أو غيرهم ممن قد يُظن أنه سمع منهم بسبب المعاصرة مثلاً ، واحتاجوا إلى معرفة حاله من حيث تعاطيه التدليس أو انعدام ذلك عنده.
فإن لم تتيسر معرفة كونه سمع في الجملة من شيخ روى عنه ، أو لم يسمع منه ، ظهرت حينئذ الحاجة إلى معرفة طبقة ذلك الراوي بين المحدثين ، إذ فيها دلالة مجملة على تعيين طبقة شيوخه وطبقة تلامذته .
فإن لم يتيسر ذلك أيضاً أو لم يكن كافياً احتيج إلى معرفة تاريخ ولادة الراوي ، لتكون معرفتها بدلاً مما تقدم وأهمه وأفضله وأقربه معرفة تاريخ شروعه بسماع الحديث.
وبهذا يتبين أن معرفة تاريخ ولادة الراوي ووفاته ليست مطلوبة لذاتها بل لتدل دلالة تقريبية على طبقته أو على إمكانية اتصال السند بينه وبين غيره من الرواة فوقه أو دونه .
فإذن لا نستغني بمعرفة تاريخ ولادة الراوي عن معرفة تاريخ بدئه بسماع الحديث ، إلا عند عدم تيسر معرفة هذا التاريخ ، أي تاريخ البدء ؛ وكذلك لا نستغني بمعرفة تاريخ وفاة الراوي عن معرفة تاريخ توقفه عن إسماع الحديث وأدائه إلا إذا لم يتيسر لنا الوقوف على ذلك التاريخ، أي تاريخ التوقف.(4/38)
ولكن الأغلب في الواقع هو عدم معرفة تواريخ البدء بالسماع والتحديث ، والانتهاء منهما أو التوقف عنهما ، فاستعاض المؤرخون عن هذه المطالب بما تقدم لأنه من أسباب الدلالة عليها ، وإنما قلت : (من أسباب الدلالة---) ، ولم أقل (يدل) لأنه لا يدل وحده ، بل يدل مع ضمائم أخرى أهمها العرف العام أو عرف أهل البلد في عمر الطالب عند بدء الطلب واختتامه وعمر الشيخ عند بدء التحديث وانتهائه.
تمثيل افتراضي لبعض ما تقدم :
لو اتفق علماء الحديث أن زيداً من الرواة لم يسمع إلا من أبيه ، ولم يسمع منه إلا ابنه ، فهل توجد ضرورة أو حاجة ملحة إلى معرفة سنة وفاته؟
الجواب : لا ؛ ولكن معرفة سنة الولادة أو الوفاة قد تكون نافعة جداً في دفع حجج المعاندين ، أو بيان أوهام الواهمين ؛ فلو زعم بعض الناس أن زيداً المذكور سمع من فلان من المشايخ غير أبيه ، رُدّ قوله بأنهما لم يتعاصرا فإن زيداً ولد بعد وفاة ذلك الشيخ ، كما يدل عليه التاريخ ؛ فهذا كما ترى أقطع لذلك القول وأوضح إبطالاً له من أن نحاول رده بقول من قال من العلماء أن زيداً لم يسمع إلا من أبيه.
تنبيه يتعلق ببعض ما تقدم ذكره :
العلم المجمل يحتاجه أهل العلم في كثير من الأحيان فلا يستغنى عنه في تلك الأحوال بالعلم المفصل ، مثل أن يكون المقام مقام إجمال أو مقام تعليم المبتدئين في ذلك العلم أو نحو ذلك من المقامات التي لا يناسبها التفصيل.
طرحوا حديثه :
هذه من الألفاظ الدالة على كون الراوي متروكاً ، فالطرح هو الترك ؛ وانظر (مطروح الحديث).
طرّف أحاديث الكتاب الفلاني :
أي صنف كتاباً ذكر فيه أطراف أحاديث ذلك الكتاب ، قال السخاوي في (فتح المغيث) (3/323) : (وقد طرّف ابنُ طاهر أحاديث "الأفراد" للدارقطني) ؛ وانظر (الأطراف) .
طرق التحمل :
انظر (التحمل).
الطُّرَّةُ :
قال ابن منظور في (لسان العرب) : (4/499) :(4/39)
(الليث : الطرة : طرة الثوب ، وهي شبه علَمين يخاطان بجانبي البُرْد على حاشيته .
الجوهري : الطرة كفة الثوب وهي جانبه الذي لا هدب له) .
وجاء في (اللسان) أيضاً (4/500) : (وطرة المزادة والثوب : عَلَمهما ، وقيل : طرة الثوب موضع هدبه ، وهي حاشيته التي لا هدب لها ، وطرة الأرض : حاشيتها ، وطرة كل شيء : حرفه) .
وقال الزمخشري في (الفائق) (3/217) : (الطرة : القطعة المستطيلة من السحاب شبهت بطرة الثوب) .
قلت : يظهر أن النُسّاخ والوراقين عبروا بعْدُ بهذه اللفظة عن جانب الورقة العلوي الذي لا كتابة فيه ، أخذاً لذلك من بعض المعاني المتقدمة ، وهي متقاربة .
قال الزبيدي في (تاج العروس) (37/436) : (وحاشية الكتاب : طرفه وطرّته).
وقال في (التاج) أيضاً (مادة همش) (17/466) : (والهامش : حاشية الكتاب ؛ قال الصاغاني : "يقال : كتب على هامشه ، وعلى الهامش ، وعلى الطُّرَّة ، وهو مولَّد ) .
وربما أطلقت في هذه الأعصر على الصفحة الأولى من المخطوطة ، والتي يعبَّر عنها في هذا العصر أحياناً بالغلاف ، ويظهر أنه - أي التعبير بكلمة غلاف - غير جيد .
ثم إن طُرَر الصفحات كثيراً ما يُكتب فيها العناوين والتراجم والفصول ونحوها ، فكأنه لذلك سميت بعض هذه المكتوبات الطرة .
قال ابن خلكان في (وفيات الأعيان) (2/190) : (والطغرائي بضم الطاء المهملة وسكون الغين المعجمة وفتح الراء وبعدها ألف مقصورة ، هذه النسبة إلى من يكتب الطُّغْرَى ، وهي الطرة التي تكتب في أعلى الكتب فوق البسملة بالقلم الغليظ ومضمونها نعوت الملك الذي صدر الكتاب عنه ؛ وهي لفظة أعجمية)(1) .
الطريق :
أي الإسناد ، أو الوجه من وجوه الإسناد ؛ انظر (الوجه) .
__________
(1) وانظر (الوافي بالوفيات) (2/431) و (تاج العروس) (ط غ ر) و (أبجد العلوم) (3/78) و(توثيق النصوص) (ص224-225) .(4/40)
الطلب :
المراد به طلب العلم الشرعي بتحمله من رواته وأخذه من حملته ، وأنت ترى في تعابيرهم (وقت الطلب) (زمن الطلب) (حال الطلب) ، (الإخلاص في الطلب) (أدب الطلب) (طول الطلب) (إدمان الطلب) (مبدأ الطلب) (قليل الطلب) ، وغير ذلك .
مثال ذلك قول الإمام أحمد الذي رواه عنه ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل) (7/203) قال : (أخبرني أبو عثمان الخوارزمي نزيل مكة فيما كتب إليَّ قال : حدثني محمد بن عبد الرحمن الدينوري قال : سمعت أحمد بن حنبل يقول : كانت أقضيتُنا ، أصحابَ الحديث ، في أيدي أبي حنيفة ، ما تُنْزَع ، حتى رأينا الشافعي وكان أفقه الناس في كتاب الله عز وجل وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ما كان يكفيه ، وكان قليل الطلب للحديث) .
الطلحية :
انظر (الطاقة) .
الطمس :
قال الراغب الأصبهاني في (المفردات) (الطمس : إزالة الأثر بالمحو ؛ قال تعالى : {فإذا النجوم طمست}(1)، {ربنا اطمس على أموالهم}(2) ، أي : أزل صورتها ، {ولو نشاء لطمسنا على أعينهم}(3) ، أي : أزلنا ضوأَها وصورتَها كما يُطمس الأثر) .
وقال الحرالي فيما نقله عنه المناوي في (التوقيف) : (الطمس محو الأثر فهو تغير إلى الدثور والدروس) .
بينت معنى هذه الكلمة لأن المحققين وغيرهم يستعملون هذه الكلمة ومشتقاتها ، كقولهم "هذه الصفحة - أو الكلمة - مطموسة" .
طول الملازمة :
انظر (الملازمة) .
طوّله :
أي رواه أطول مما رواه غيره ؛ وانظر (مطول).
__________
(1) المرسلات (8 ) ؛ وقال البقاعي في (نظم الدرر) (8/283) في تفسير قوله تعالى (وإذا النجوم طُمست) : (أي ذهبَ ضوءها بأيسر أمرٍ فاستوت مع بقية السماء ، فدل طمسُها على أن لفاعله غاية القدرة ) .
.
(2) يونس (88) .
(3) يس (66) .(4/41)
طويل :
الأحاديث الطوال هي الأحاديث التي تكون متونها طويلة ، ومسألة وصف الحديث بالطول قد تكون نسبية ، وقد تكون مجردة من النسبة أي المقارنة بحديث آخر أو برواية أخرى لذلك الحديث ؛ وقد صنف الطبراني رحمه الله كتاباً أسماه (الأحاديث الطوال) طبعه الشيخ حمدي عبدالمجيد بذيل (المعجم الكبير) (25/151-288) ؛ وكذلك فعل أبو موسى المديني ، قال ابن حجر في (الإصابة) (7/610) في بعض الأحاديث : (أخرجه أبو موسى في "الأحاديث الطوال" ) .
والأحاديث الطويلة يكثر فيها الضعف وأسباب الرد أكثر من غيرها من الأحاديث ، أسند الخطيب في (الجامع) (2/284) إلى أبي نعيم أنه قال لمحمد بن يحيى بن كثير : (سلْني ولا تسلني عن الطويل ولا المسنَد ، أما الطويل فكنا لا نحفظه ، وأما المسنَد فكان الرجل إذا والى بين حديثين مسندين(1) رفعنا إليه رؤوسنا استنكاراً لما جاء به ) .
فقوله "أما الطويل فكنا لا نحفظه" لا يريد به نفي حفظهم للطوال أصلاً ، وإنما يشير به إلى صعوبة حفظها في الغالب ، وإلى أن الغالب عليها الغرابة والنكارة ، ومن أسباب ذلك هو طولها ، فيكثر الغلط في متونها ؛ ولذلك كانوا يعجبون ممن يحفظ الطوال ويذْكرونه به ؛ قال الذهبي في (السير) (7/214) : (قال القطان : كان شعبة أمَرَّ في الأحاديث الطوال من سفيان) .
وقال العقيلي في (الضعفاء) (2/348) (950) : (حدثنا محمد بن إسماعيل قال : حدثنا محمد بن غيلان قال : قيل لوكيع : مات عبد الرحمن المحاربي ، فقال : رحمه الله ، ما كان أحفظه لهذه الأحاديث الطوال) .
وقال عبدالله في (العلل ومعرفة الرجال) (3/401) (5768) : (سمعت أبي يقول : هذه الأحاديث الطوال إنما كان سليمان بن المغيرة يحفظها ولم تكن عنده في كتاب ) .
وانظر (اختصار الحديث) و(مطوَّل) .
__________
(1) لعله يعني حديثين غير مشهورين.(4/42)
طير طرأ علينا :
هذه العبارة توهين وطعن شديد في الراوي الذي تقال فيه ؛ وقد وردت على ألسنة بعض النقاد ، بقلة ، وهم يصفون بها بعض الكذابين أو رواة المنكرات والأباطيل ، من الغرباء ؛ وممن قيلت فيه هذه الكلمة أبو ماجد الحنفي ؛ قال المزي في (تهذيب الكمال) (34/241-242) :
(أبو ماجدة ، ويقال : "أبو ماجد" ، الحنفي العجلي الكوفي ؛ قال أبو حاتم : اسمه عائذ بن نضلة .
روى عنه أيوب السختياني ، ويحيى بن عبدالله الجابر .
قال علي بن المديني : لا نعلم روى عنه غير يحيى الجابر .
قال ابن عيينة : قلت ليحيى يعني الجابر ، أمتحنه : من أبو ماجد هذا ؟ قال : شيخ طرأ علينا من البصرة ، وقد روى غير حديث منكر .
وقال البخاري : قال الحميدي عن ابن عيينة : قلت ليحيى الجابر : من أبو ماجد ؟ قال : طير طار علينا فحدثَنا ، وهو منكر الحديث .
وقال الترمذي : مجهول ، وله حديثان عن ابن مسعود .
وقال النسائي : منكر الحديث ، روى عنه يحيى الجابر ، إن كان حفظ عنه .
وقال الدارقطني : مجهول ، متروك) .
ثم نقل قول الترمذي في حديث رواه من طريقه : (غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، وسمعت محمد بن إسماعيل يضعف حديث أبي ماجد) .
وزاد الحافظ ابن حجر في (تهذيب التهذيب) في ترجمة (أبو ماجد) : (فرق الحاكم أبو أحمد بين أبي ماجد الذي روى عنه يحيى الجابر وبين أبي ماجدة الذي روى عنه أيوب ، وقال في أبي ماجد : حديثه ليس بالقائم ؛ وقال الساجي : مجهول منكر الحديث ؛ وقال العقيلي : قال أحمد بن حنبل : أبو ماجد مجهول ؛ وأخرج ابن عدي عن أحمد : يحيى الجابر ليس به بأس ، ولكن أبا ماجد الذي روى عنه يحيى لا يعرف ).(4/43)
وهذه اللفظة قالها أيضاً الحافظ الذهبي في (ميزان الإعتدال) (5/44) في (عثمان بن خطاب البلوي المغربي ، أبي الدنيا ، ويقال : ابن أبي الدنيا )، فقال الذهبي فيه : (طير طرأ على أهل بغداد ، وحدث بقلة حياء بعد الثلثمئة عن علي بن أبي طالب ، فافتضح بذلك وكذبه النقاد ؛ روى عنه المفيدُ وغيرُه ؛ قال الخطيب : علماء النقل لا يثبتون قوله ؛ ومات سنة سبع وعشرين وثلثمئة ؛ قال المفيد : سمعته يقول : ولدت في خلافة الصديق وأخذت لعلي بركاب بغلته أيام صفين ، وذكر قصة طويلة).
وقال الذهبي أيضاً في ترجمة أحمد بن علي الأنصاري من (الميزان) (1/262 - العلمية) : (أحمد بن علي الأنصاري ؛ عن أحمد بن حنبل : واه ---- ؛ قال الحاكم : طير طرأ علينا ، قلت : يوهنه الحاكم بهذا القول ) .
طير غريب :
أي مجهول ، ويحتمل أنها تقال في من يُشك في وجوده كمن تُجْهل عينه من شيوخ الوضاعين ، أو هي في الأقل تقال في المجاهيل من رواة المناكير ؛ ويظهر أن معناها مساوٍ لمعنى (طير طرأ علينا ، أو على البلد الفلاني) أو مقاربٌ له جداً، وقد تقدم قريباً شرحُ معنى (طير طرأ علينا) ، فانظره.(4/44)
فصل الظاء
ظ :
هذه صورة كتابة حرف الظاء ، كما هو معروف .
وهذا الحرف استعمله بعضُ أهل العلم اختصاراً لكلمة (الظاهر) ؛ قال عبدالسلام هارون في (تحقيق النصوص ونشرها) (ص55) : (وقد يكتب الحرف (ظ) في الهامش أيضاً ، إشارة إلى كلمة "الظاهر") ؛ انتهى .
واستعمله آخرون اختصاراً لكلمة (فيه نظر) ، كما في بعض النسخ الخطية من (لسان الميزان) ، وقد بيَّن ذلك محققه الشيخ عبد الفتاح أبو غدة في مواضع من تعليقه على الكتاب .
ظاهره الصحة :
يوصف الحديث بأن ظاهره الصحة إذا كان رجاله ثقات ، وظاهر سنده أنه متصل ، سواء سلم من علة خفية قادحة أو لم يسلم منها.
ظلمات بعضها فوق بعض :
يوصف بهذه العبارة ونحوها الحديث الذي اجتمع فيه عدد من المجاهيل أو الكذابين أو المتروكين أو العلل الفاحشة ؛ وانظر (مظلم) .
ظهرية الكتاب :
أي صفحة عنوانه كما يعبر عنها بعض المعاصرين ؛ ولعلها مأخوذة من نحو معنى الظهارة ، فالظهارة من الثوب : ما يظهر للعين منه ، ولا يلي الجسد ، وهو خلاف البطانة .
فصل العين
ع :
رمز كلمة (عليه السلام) عند أصحاب الرموز والاختصارات .
وقال عبدالسلام هارون في (تحقيق النصوص ونشرها) (ص55) : (وكذلك الحرف "عـ" رأس العين ، إشارة إلى "لعله كذا" ، وجدته في هامش بعض مخطوطات "الجمهرة"(1) ) .
وأشهر استعمالاتها الرمزية اتخاذُها علامةً للكتب الستة عند طائفة من العلماء .
عالم :
العالم هو من يحمل قدراً كبيراً من العلم بالله وأحكامه ، ويشترط بعض العلماء في تسمية صاحب العلم عالماً أن يكون عاملاً بعلمه ، وتقياً ، وهذا صحيح ، كما قال تعالى (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ)(2) ؛ واشترط آخرون أن يكون عالماً بالحديث ؛ وذهبوا إلى القول بانتفاء اسم العالم عمن لا يعرف أحوال الأحاديث صحةً وضعفاً ؛ أسند الخطيب في (الجامع) (2/450) إلى داود بن علي قال : (من لم يعرف حديث رسول الله [صلى الله عليه وسلم] بعد سماعه ولم يميز بين صحيحه وسقيمه فليس بعالم) .
وأسند البيهقي في (المدخل إلى السنن الكبرى) (ص179) (برقم 187) إلى علي بن شقيق عن ابن المبارك، قال : (قيل له : متى يفتى الرجل؟ قال : إذا كان عالماً بالأثر بصيراً بالرأي).
وأسند (برقم 188) إلى أبي قدامة قال : سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول : (إحفظْ ، لا يجوز أن يكون الرجل إماماً حتى يعلم ما يصح مما لا يصح، وحتى لا يحتج بكل شيء، وحتى يعلم مخارج العلم).
__________
(1) يعني "جمهرة أنساب العرب" ، لابن حزم .
(2) سورة فاطر (28) .(4/45)
وذكر هذا الأثر الأخير النووي في (تهذيب الأسماء واللغات) (1/284) وذكره مختصراً الذهبي في (تذكرة الحفاظ) (1/330) و(السير) (9/195) وابن حجر في (التهذيب) .
عالِم الحديث :
هو من يعرف أحكام الأحاديث ورواتها ومعانيها ، ولا يمنع من تسميته بهذه السمة أن فوته علمُ شيء قليلٍ من ذلك ؛ وانظر (محدِّث) ، و(عِلم الحديث) و (الحافظ) .
عالم بحديث فلان :
أي هو حافظٌ له ، يميز ما حدث به مما لم يُحدث به ، ويعرف ما أُخطئ عليه فيه إذا سمعه ؛ وانظر (أعرف بفلان) .
عالي :
الإسناد العالي هو الموصوف بالعلو ، وأشهر أنواع العلو قلة الوسائط بين الراوي ومنتهى الحديث ، وانظر (العلو) .
العبادلة :
لفظة العبادلة في اللغة جمعٌ لاسم (عبدالله)(1) ، ولكن يراد بها في عُرف المحدثين وكثير من الفقهاء أربعة معينون من الصحابة القرشيين رضي الله عنهم ، وهم : عبد الله بن عمر بن الخطاب ، وعبد الله بن عباس بن عبدالمطلب ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، وعبد الله بن الزبير بن العوام ، رضي الله عنهم وعن آبائهم ؛ فإذا اجتمعوا على شيء قيل : هذا قول العبادلة .
ولكن بعض العلماء خالف هذا الاصطلاح ، فأطلق هذا اللفظ على ثلاثة من المذكورين فقط ، وبعضهم أبدل بعض المذكورين الأربعة بغيرهم ممن اسمه عبدالله من الصحابة .
__________
(1) وقال الزبيدي في (تاج العروس) في حرف العين : (والْعَبَادِلَةُ مِنَ الصَّحابَةِ هو مِنَ الْكَلاَمِ المَنْحُوتِ المَجْمُوعِ مِنْ كلِمَتَيْنِ ، كالبَسْمَلَةِ ونَحْوِها ) ؛ وانظر ما سيأتي نقلُه من كلامه .(4/46)
قال الطبراني في (المعجم الكبير) (13567) : (حدثنا عبد الله بن أيوب القرني ثنا شيبان بن فروخ ثنا بشر بن عبد الرحمن الأنصاري حدثني عبد الوهاب بن مجاهد عن أبيه عن العبادلة عبد الله بن عمرو وعبد الله بن العباس وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمرو : قالوا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( القاص ينتظر المقْتَ ، والمستمع ينتظر الرحمة ، والتاجر ينتظر الرزق ، والمحتكر ينتظر اللعنة، والنائحة ومن حولها من امرأة عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)(1) .
وروى عبد الرزاق في (مصنفه) (3033) عن ابن عيينة عن إبراهيم بن ميسرة عن طاووس قال : (سمعت ابن عباس يقول : من السنة أن يمس عقبُك إليتيك ؛ قال : قال طاووس : ورأيت العبادلة يُقْعون : ابن عمر وابن عباس وابن الزبير) .
فلا أدري هل كان العبادلة عند طاووس هم هؤلاء الثلاثة فقط؟ أم أنه سماهم عبادلة من باب جمع الاسم وليس من باب إطلاق اللقب أو الكلمة العرفية ؟ أو أنه ذكر بعض من كان يُعرف في ذلك العصر بالعبادلة ؟ وقد يشهد للثاني والثالث أنه فسر الكلمة بتسمية الثلاثة الذين أرادهم ، ولم يطلقها .
وشبيه بهذا قول الرافعي في (الشرح الكبير) : (وروي ذلك عن عمر وعثمان وعلي والعبادلة : ابن مسعود وابن عمر وابن عباس)؛ فقال ابن حجر في (التلخيص الحبير) (2/24) : (مراده بقوله "العبادلة" جميع الثلاثة، لا أن الذين اشتهروا بهذا اللقب هم هؤلاء الثلاثة ، ولا معنى لاعتراض من اعترض عليه بذلك ) .
__________
(1) وجمع العبادلة بعضُ المتأخرين في هذه الأبيات ، كما في (الوافي بالوفيات) للصفدي (1/461) :
إن العبادلة الأحبار أربعةٌ
مناهج العلم في الإسلام للناس
ابن الزبير وابن العاص وابن أبي حفص
الخليفة ، والحبرُ ابن عباس
وقد يضاف ابن مسعود لهم بدلاً
عن ابن عمرو لوهمٍ أو لإلباس).(4/47)
قلت : الثلاثة الذين ذكرهم الرافعي هم العبادلة في اصطلاح الأحناف ؛ قال الزيلعي في (نصب الراية) (2/121) : (قوله [أي قول صاحب الهداية] : "روي عن العبادلة الثلاثة وعبد الله بن الزبير : أشهر الحج شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة " ؛ قلت : العبادلة في اصطلاح أصحابنا ثلاثة : عبدالله بن مسعود وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم ، وفي اصطلاح غيرهم أربعة : فأخرجوا ابن مسعود(1)، وأدخلوا ابن عمرو بن العاص وزادوا ابن الزبير(2)، قاله أحمد بن حنبل وغيره ) .
قال السخاوي في (فتح المغيث) (4/104-105) وهو يشرح فروعاً أو مسائل ذكرها العراقي الناظم في باب معرفة الصحابة :
(والخامسة في بيان من يطلق عليه العبادلة منهم دون سائر من اسمه عبد الله ، {وهو} أي البحر ابن عباس {وابن عمر} عبد الله {وابن الزبير} عبد الله {وابن عمرو} بن العاص ، عبد الله ؛ {قد جرى عليهم بالشهرة} المستفيضة {العبادلة} ، فيما قاله الإمام أحمد ؛ وقال : {ليس} من جرى عليه ذلك {ابن مسعود} عبد الله ، وإن جعله الثعلبي في تفسير {تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ}(3) من تفسيره خامساً لهم ؛ وكذا هو في "شرح الكافية" لابن الحاجب ، لأنه كما قال البيهقي تقدم موته والآخرون عاشوا حتى احتيج إلى علمهم ، فكانوا إذا اجتمعوا على شيء قيل : هذا قول العبادلة ؛ قال ابن الصلاح : {ولا من شاكله} أيضاً ، أي ابن مسعود ، في التسمية بعبد الله ، وهم نحو مئتين وعشرين نفساً ، أو نحو ثلاث مئة فيما قاله المصنف ، بل يزيدون على ذلك بكثير ؛ ولو ترتب على الحصر فائدة لحققتُه(4) .
__________
(1) ليس من العبادلة ابن مسعود ، في اصطلاح الجمهور ، خلافاً لمن قال ذلك ، وذلك لأنه تقدم موته ، وهؤلاء عاشوا حتى احتيج إلى علمهم.
(2) وانظر ما تقدم من كلام ابن الهمام .
(3) الكهف (86) .
(4) قال الزبيدي في (تاج العروس) في حرف العين - فصل العين المهملة مع اللام (29/416) :
( "والعبادلة من الصحابة" هو من الكلام المنحوت، المجموع من كلمتين، كالبسملة، ونحوها : "مئتان وعشرون" ؛ والذي صح بعد المراجعة للمعاجم والأجزاء : أنَّ عِدَّتهم بلغت أربعمئة وأربعة وثلاثين رجلاً ، رضي الله تعالى عنهم ، ما عدا المختلف في صحبتهم ، وهم ثلاثة وخمسون نفساً ؛ فاقتصار المصنف على القدر المذكور لا يخلو عن تقصير ) ، اتهى ، وكلام الفيروزابادي موضوع بين علامتين .(4/48)
ووقع كما رأيته في "عبد" من "الصحاح" للجوهري ذكر ابن مسعود بدل ابن الزبير ، وذكر في الألف اللينة في "ها" منه ، أيضاً ، ابن الزبير مع ابن عمر وابن عباس ، مقتصراً عليهم ، وكذا عدهم الرافعي في الديات من "الشرح الكبير"(1) والزمخشري في "المفصل"(2) والعلاء عبد العزيز البخاري شارح البزدوي من الحنفية أيضاً ثلاثة ، لكن عينوهم بابن مسعود وابن عمر وابن عباس ، زاد الأخير منهم أن ذلك في التحقيق ؛ قال : وعند المحدثين ابن الزبير بدل ابن مسعود .
وممن عدَّ ابنَ مسعود أيضاً أبو الحسين ابن أبي الربيع القرشي حكاه القاسم التجيبي في "فوائد رحلته" ؛ ومن المتأخرين ابنُ هشام في "التوضيح"(3) .
وفي الحج من "الهداية"(4) للحنفية : "قال العبادلة وابنُ الزبير : أشهُر الحج شوال [وذو القعدة وعشر من ذي الحجة ]" ، فعطف ابنَ الزبير عليهم .
والأول هو المعتمد المشهور بين المحدثين وغيرهم) ؛ انتهى كلام السخاوي أو شرحه لأبيات العراقي في هذه المسألة(5) .
__________
(1) تقدمت حكاية كلامه .
(2) قال الزمخشري في (المفصل) (ص28-29) : (وقد يغلب بعض الأسماء الشائعة على أحد المسمين به فيصير علماً له بالغلبة ، وذلك نحو ابن عمر وابن عباس وابن مسعود ، غلبت على العبادلة دون من عداهم من أبناء آبائهم ؛ وكذلك ابن الزبير غلب على عبد الله دون غيره من أبناء الزبير ؛ وابن الصعق وابن كراع وابن رألان غالبة على يزيد وسويد وجابر بحيث لا يذهب الوهم إلى أحد من إخوتهم).
(3) كأنه يريد (أوضح المسالك) ، ويأتي نقل عبارته .
(4) للمرغيناني ، انظره (1/244) .
(5) وقد جعلت كلمات الأصل أي الأبيات بين حاصرتين .(4/49)
وقال ابن هشام في (أوضح المسالك) (1/184) في بعض فصول كتابه : (من الُمعَّرفِ بالإضافة أو الأداة ما غَلَبَ على بعض مَنْ يستحقه حتى التْحَقَ بالأعلام ، فالأول كابن عباس وابن عُمَرَ بن الخطاب وابن عَمْرو بن العاص وابن مسعود غَلَبَتْ على الْعَبَادلة دون مَنْ عداهم من إخوتهم---)(1) .
تكميل : حصل خلاف في تفسير الجوهري صاحب (الصحاح) لمعنى (العبادلة) ؛ قال الفيروزابادي في (القاموس المحيط) : (والعَبادِلَةُ : ابنُ عَبَّاسٍ وابنُ عُمَرَ وابنُ عَمْرو بنِ العاصِ بنِ وائِلٍ ؛ وليسَ منهم ابنُ مَسْعودٍ ، وغَلِطَ الجوهريُّ ) .
قال الزبيدي في (تاج العروس) (8/342-343) في شرح هذا الكلام : (والعبادلة جمعُ عبدِالله ، على النحت ، لأنه أُخذ من المضاف وبعضِ المضاف إليه ، لا أنه جمعٌ لعبدل ، كما توهمه بعضهم ، وإن كان صحيحاً في اللفظ ، إلا أن المعنى يأباه .
وأُطلقَ على هؤلاء للتغليب ؛ قاله شيخنا ؛ وهم ثلاثة ، وقيل : أربعة :
أولهم : سيدنا الحبر عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، الهاشمي القُرَشي، ترجمان القرآن، توفي بالطائف.
وثانيهم : سيدنا عبد الله بن عمر بن الخطاب، العدوي القرشي.
وثالثهم : سيدنا عبد الله بن عمرو بن العاص بن وائل السهمي القرشي .
فهؤلاء ثلاثة قرشيون ؛ وآخرهم موتا سيدنا عبد الله بن عمر، سنة ثلاث وستين .
وليس منهم ، أي من العبادلة ، سيدنا عبد الله بن مسعود الهذلي .
وذكر ابن الهمام في (فتح القدير) أنَّ عُرْف الحنفية عدُّ عبد الله بن مسعود منهم، دون ابن عمرو بن العاص ؛ قال: وعرف غيرنا بالعكس ومنهم من أسقط ابن الزبير .
__________
(1) وانظر (تدريب الراوي) (219-220).(4/50)
و(غلط الجوهري) ؛ قال شيخنا : وهذا (يعني حكم الفيروزابادي على الجوهري بالغلط) بناء منه على أَنَّ الجوهريَّ ذَكر في العبادِلَةِ ابنَ مَسْعُودٍ رضي الله عنه ؛ وليس في شيءٍ من أُصولِ (الصحاحِ) الصّحيحةِ المقروءَةِ ذِكْرٌ له ولا تَعَرُّضٌ ، بل اقتَصَر في (الصحاح) على الثَّلاثةِ الذين ذكرهم المصنفُ ، وكأَنَّ المصنِّفَ وقع في نُسْخَتِه زيادة مُحَرَّفةٌ أو جامِعَةٌ بلا تصحيحٍ فبنى عليها ؛ فكان الأولى أن يَنْسُبَ الغلط إليها ؛ وقد راجَعْت أَكثَر من خمسين نُسخةً من (الصحاح) ! ، فلم أَرَه ذكر غيرَ الثلاثة ولم يَتَعَرض لغيرهم ؛ نعمْ رأَيتُ في بعض النُّسخ النادرة زيادَةَ ابنِ مَسْعُودٍ في الهامِشِ كأَنَّها مُلْحَقَةٌ تَصْلِيحاً ؛ ورأَيتُ العَلاَّمةَ سَعْدي جلبي أَنكَر هذه الزيادةَ وذكر أنه تتبعَ كثيراً من نسخِ (الصحاح) فلم يَجدْ فيها الزيادةَ ، وجَزَمَ بأَن الجوهريَّ لم يَعُدَّه )(1) .
العدالة :
العدالة شرط من شروط قبول الرواية عند المحدثين ، وهي نوعان :
العدالة الظاهرة : وهي الإسلام وعدم العلم بالمفسق ؛ وتعرف بالخبرة القصيرة أو السطحية .
والعدالة الباطنة : وهي الإسلام والعلم بعدم المفسق ؛ وتعرف بالخبرة الطويلة أو القوية ؛ وهذا النوع الثاني من العدالة هو المراد بكلمة (عدل) عند وصف النقاد للراوي بها مقرونة بكلمة (ضابط)؛ وإذا اجتمع في الراوي هذه العدالة والضبط - وتقدم الكلام عليه - سمي ثقة؛ فالثقة هو العدل الضابط .
__________
(1) وانظر (الإشارات إلى بيان الأسماء المبهمات) للنووي (ص609) و (مختار الصحاح) في مادة (ع ب د) ومادة (هـ ا ء) .(4/51)
وليس المقصود بالعدالة الباطنة العصمة ، ولا المراد بالحكم بها للمرء التزكية التامة له، وليس المراد بالخبرة المطلوبة لإثبات العدالة الباطنة للراوي أو إثبات عدمها معرفة حقيقةِ دين المرء وحقيقة نواياه وأحواله القلبية على الوجه القطع أو الإحاطة، فذلك لا يعلمه إلا الله عز وجل ، كما قال تعالى (فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى) ؛ ولكن المراد ما تقدم أي الخبرة الكافية .
وقد عرَّف العدالة وشرحها كثيرٌ من المحدثين والأصوليين، وتكلم عليها من المعاصرين كلاماً مفيداً العلامةُ المعلمي اليماني في كتابه (التنكيل) (ص229-230) في معرض كلامه على رواية المبتدع فقال :
(فالمبتدع الذي اتضح عناده إما كافر وإما فاسق، والذي لم يتضح عناده ولكنه حقيق بأن يتهم بذلك هو(1) في معنى الفاسق لأنه مع سوء حاله لا تثبت عدالته، والداعية الذي الكلام فيه واحد من هذين ولا بد.
وقد عرَّف أهل العلم العدالة بأنها : (ملكة تمنع عن اقتراف الكبائر وصغائر الخسة 000 ) زاد السبكي : "وهوى النفس" وقال : "لا بد منه(2)، فإن المتقي للكبائر وصغائر الخسة مع الرذائل المباحة قد يتبع هواه عند وجوده لشيء منها فيرتكبه، ولا عدالة لمن هو بهذه الصفة" ، نقله المحلي في "شرح جمع الجوامع" لابن السبكي، ثم ذكر أنه صحيح في نفسه ، ولكن لا حاجة إلى زيادة القيد ، قال : لأن من عنده ملكة تمنعه عن اقتراف ما ذُكر ينتفي عنه اتباع الهوى لشيء منه ، وإلا لوقع في المهويِّ فلا يكون عنده ملكة تمنع منه .
__________
(1) في مطبوعة التنكيل (وهو) ، والواو مزيدة خطأ.
(2) أي لا بد من هذا الاحتراز.(4/52)
أقول : ما من إنسان إلا وله أهواء فيما ينافي العدالة، وإنما المحذور اتباع الهوى؛ ومقصود السبكي(1) تنبيه المعدلين فإنه قد يخفى على بعضهم معنى "الملكة" فيكتفي في التعديل بأنه قد خبر صاحبَه فلم يره ارتكب منافياً للعدالة فيعدله ، ولعله لو تدبر لعلم أن لصاحبه هوى غالباً يُخشى أن يحمله على ارتكاب منافي العدالة إذا احتاج إليه وتهيأ له ؛ ومتى كان الأمر كذلك فلم يغلب على ظن المعدل حصول تلك الملكة وهي العدالة لصاحبه، بل إما أن يترجح عنده عدم حصولها فيكون صاحبه ليس بعدل ، وإما أن يرتاب في حصولها لصاحبه، فكيف يشهد بحصولها له ؟ كما هو معنى التعديل) ؛ انتهى .
وأسباب الطعن الأساسية في العدالة هي الكفر والكذب والفسق والغلو في البدعة ، ثم الصفات أو الأحوال الدالة على واحدة منها أو أكثر ، أي الصفات والأحوال التي تجعله متهماً بأحد هذه الأربعة اتهاماً معتبراً .
العدالة الباطنة :
انظر (العدالة) .
العدالة الظاهرة :
انظر (العدالة) .
عدلٌ :
يراد بالعدل من ثبت له وصف العدالة(2) ولو لم يكن ضابطاً(3) ؛ ولكن بعض القدماء من أهل الحديث والفقهاء كانوا يريدون بالعدل أحياناً الثقةَ ، أي الجامع بين وصفي العدالة والضبط(4)
__________
(1) أي بزيادة هذا القيد .
(2) وقد تقدم ايضاح معناها فانظر (العدالة) و(الضبط) .
(3) انظر (ضابط) .
(4) فابن حزم مثلاً كان يُطلق العدل أحياناً ويريد بها الثقة ، ومن ذلك :
قوله في (إحكام الأحكام) (1/134) : (العدالة إنما هي التزام العدل ، والعدل هو القيام بالفرائض واجتنابُ المحارم والضبطُ لما روى وأخبر به فقط) .
وقوله (1/131) : (فإذا روى العدل عن مثله كذلك خبراً حتى يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم فقد وجب الأخذ به ----) .
وقوله (2/177) : (وقالوا : نرجح أيضاً بأن يكون راوي أحد الخبرين أضبط وأتقن ؛ [قال ابن حزم] : هذا أيضاً خطأ بما قد أبطلنا فيما سلف من هذا الباب قول من رام ترجيح الخبر بأنَّ فلاناً أعدل من فلان ، فأغنى ذلك عن إعادته) .(4/53)
، وأما المتأخرون فيندر أن يعبروا عن العدل الضابط بلفظة (عدْل) وحدها .
هذا وقد جرت هذه اللفظة على ألسنة النقاد كثيراً ولكن بعد أن يردفونها بكلمة أخرى دالة على تمام الضبط وعلى علو كعب ذلك الراوي بين الثقات ، أو على توثيقه توثيقاً مطلقاً ، أو على ما يدل على خفة ضبطه ، أو سوء حفظه ، ومعنى مثل هذه التراكيب يعرف بمعرفة معنى كل واحد من جزئيه ؛ ومن أمثلة ذلك قولهم (عدل متقن) و(عدل حافظ كبير القدر) و(ثقة عدل متقن واسع الرواية) و (عدل صادق ثبت)، و (عدل صالح اضطرب في أشياء قرئت عليه لم يسمعها ولم يكن ضابطاً)(1).
عدل حافظ :
أي ثقة ، وكلمة حافظ عند المتقدمين تعني في أغلب مواردها الضبط ، ولا يلزم أن يكون من قيلت فيه واسع المحفوظ جداً بحيث يستحق أن يسمى حافظاً بالمعنى المعروف عند المتأخرين ؛ انظر (عدل) و(حافظ) و(ضابط) أو (ضبط) و(عدل ضابط).
عدلٌ ضابط :
جامع بين وصفي العدالة والضبط ، انظر (العدالة) و(الضبط).
__________
(1) هذه العبارة الأخيرة حكاها الذهبي عن ابن الفرضي في الميزان ، في محمد بن عبدالملك القرطبي ؛ ولكن نص عبارة ابن الفرضي هو : (وكان رجلاً صالحاً أحد العدول ، حدّث ، وكتب الناس عنه ، وعلتْ سنُّه فاضطرب في أشياء قرئت عليه وليست مما سمع ، ولا كان من أهل الضبط) ، انتهى منقولاً من (تاريخ العلماء والرواة للعلم بالأندلس) له (2/110) .(4/54)
عدَّله :
مما يطلقه النقاد أنهم يقولون في الراوي : (عدَّله فلان) أي أنه وثقه ، أي أثبت له العدالة والضبط ، وقد يراد بالضبط حينئذ التام منه أو الخفيف ، فيكون الراوي صدوقاً ؛ وأما أن يريد أحدهم بكلمة (عدله) إثبات العدالة مع قطع النظر عن الضبط ، فذلك خلاف اصطلاح الجمهور ، فلا يصار إليه إلا إذا دلت القرائن عليه ، ومثال القرينة في مثل هذا الموضع أن يقال في راو : اتهمه فلان وعدله غيره ، أو أن يقال فيه : عدله فلان وقال أن ما وقع في حديثه من نكارة فإنما كان من قبل سوء حفظه .
قال السيوطي في (تدريب الراوي) (1/64) في الأول من التنبيهات التي ذكرها عقب شرحه لتعريف الحديث الصحيح :
(حدَّ الخطَّابيُّ الصَّحيحَ بأنَّه ما اتَّصل سندهُ وعُدِّلَتْ نَقَلَتُه.
قال العِرَاقيُّ : فلم يشترط ضَبْط الرَّاوي, ولا السَّلامة من الشذُّوذ والعِلَّة ؛ قال : ولا شكَّ أنَّ ضبطهُ لا بدَّ منهُ, لأنَّ من كَثُر الخطأ في حديثه, وفحش استحق التَّرك .
قلت : الَّذي يظهر لي أنَّ ذلك داخلٌ في عِبَارته, وأنَّ بين قولنا "العَدْل" و "عَدَّلوه" فرقاً , لأنَّ المُغفَّل المُستحق للتَّرك , لا يصح أن يُقَال في حقِّه : عدَّله أصحاب الحديث , وإن كانَ عدلاً في دينه , فتأمَّل .
ثمَّ رأيتُ شيخ الإسلام(1) ذكر في "نكته" معنى ذلك فقال : إنَّ اشْتراط العَدَالة يَسْتدعي صِدْقَ الرَّاوي وعدمَ غَفْلته وعدمَ تساهله عند التَّحَمُّل والأداء). انتهى كلام السيوطي .
__________
(1) يعني ابن حجر .(4/55)
قلت : كأنَّ عبارة ابن حجر موهمة ، وكأنَّ الأولى أن يقول : "اشتراط التعديل" بدل "اشتراط العدالة" ، لأن العدالة إذا أطلقت تنصرف إلى معنى الأمانة والديانة والصدق في الحديث ، مجردة عن اعتبار حال الرجل في الحفظ والضبط ، بخلاف "عدلوه" و "التعديل" ، ألا ترى أن "التعديل" تناظر في اصطلاحهم "التجريح" بنوعيه النوع المتعلق بالعدالة والنوع المتعلق بالضبط ، فيقولون : "الجرح والتعديل" و "عدله جماعة وضعفه آخرون" أو نحو ذلك ؟ .
العرض :
هو إحدى طرق تحمل الحديث عمن يرويه ، وهي أن يذكر الطالبُ الحديثَ - أو يسمع من يذكره - على الشيخ فيقره الشيخ لفظاً أو سكوتاً .
قال ابن رجب في (شرح العلل) (1/502 وما بعدها) في شرح (العرض) وبيان أحكامه :
(وهو القراءة على العالم ؛ وقد ذَكَرَ(1) أنه صحيح عند أهل الحديث ، مثل السماع من لفظ العالم ، وهذا يُشعر بحكاية الإجماع على ذلك ؛ وقد ذَكر جوازه عن عطاء ، وسفيان الثوري ، ومالك ، وابن وهب ---.
وقد روي عن طائفة من التابعين ومن بعدهم---- .
وقال إسحاق بن هانئ : "كنت أقرأ على أبي عبد الله - يعني أحمد - الحديث وأنا أنظر في كتابه ، وهو ينظر معي ، فقال لي : هذا أحبُّ إليّ من أن أقرأ أنا عليك ، قلت له : أقول : حدثني ؟ قال : قل إن شئتَ ، ولكن أحب إليّ أن تصْدق ، تقول : قرأت " .
وكره طائفةٌ العرضَ ، منهم وكيع ، ومحمد بن سلام ، وأبو مسهر ، وأبو عاصم ، وحكي ذلك عن أهل العراق جملة ، وكان مالك ينكره عليهم ----.
واستدل البخاري وغيره على صحة العرض بحديث ضمام بن ثعلبة(2) ، وقد ذكر الترمذيُّ ذلك عند تخريجه لحديثه في أول كتاب الزكاة .
واستدل مالك وغيره بعرض القرآن على القارئ ، وبقراءة الصحيفة بالدَّين على من عليه الحق ، فيقر بها فيشهد عليه .
__________
(1) أي الترمذي .
(2) صحيح البخاري (1/22) .(4/56)
وقد اشترط الترمذي لصحة العرض على العالم أن يكون العالم حافظاً لما يعرض عليه ، أو يمسك أصله بيده عند العرض عليه إذا لم يكن حافظاً .
ومفهوم كلامه أنه إذا لم يكن المعروض عليه حافظاً ولا أمسك أصله أنه لا تجوز الرواية عنه بذلك العرض .
وقد قال أحمد في رواية حنبل : "لا بأس بالقراءة إذا كان رجل يعرف ويفهم ويبين ذلك " .
قال سعيد بن مروان البغدادي : سمعت يحيى بن إسماعيل الواسطي يقول : "القراءة على مالك بن أنس مثل السماع من غيره)(1) ؛ انتهى.
وانظر (التحمل).
عرض القراءة :
انظر (التحمل) .
عرض المناولة :
انظر (التحمل) .
عرفتُه :
انظر (قد عرفتُه) .
عَزْوُ الحديثِ :
أي نِسْبتُه إلى مخرِّجه أو مخرجيه من أصحاب الكتب التي تروي الأحاديث بأسانيدها ؛ قالوا في (المعجم الوسيط) : (عزا فلاناً إلى فلانٍ [يعزوه ويعزيه] عَزْواً وعَزْياً : نسبه إليه ؛ ويقال : عزا الخبرَ إلى صاحبه : أسنده إليه ؛ ويقال : عزا فلانٌ إلى فلانٍ ، ولفلانٍ : انتسب إليه ، صِدْقاً أو كذبا).
عزيز :
انظر (غريب) .
العُسْر :
من معاني العسر الصعوبة والشدة والتضييق ، يقال : (عَسِرَ فلانٌ) أي تصعَّب في الأمور وقلت سماحته فيها ؛ وقد كان العُسر صفة لطائفة من المحدثين ، فكانوا يمتنعون من التحديث إلا في حالات قليلة أو نادرة ، أو إلا بشروط تضيق بسببها مروياتهم ويصعب الانتفاع بهم على كثير من الطلبة، ولا سيما الغرباء، وهذا الوصف يسمى العُسر في الرواية(2) ؛ ولهذا الصنف من المحدثين أخبار في هذا الباب وقصص ولطائف وغرائب.
__________
(1) وانظر بقية كلام ابن رجب هذا في (التلقين).
(2) فالعُسْرُ في عُرف المحدثين إذن هو امتناع الشيخ من التحديث ، أي الأداء ، إلا لأفراد مخصوصين، أو محصورين ، أو لأحاديث يسيرة، أو في أوقات قليلة، أو بشروط صعبة، أو عند إلحاح؛ أو نحو ذلك.(4/57)
قال المعلمي في (التنكيل) (ص445) في ترجمة ابن المذهب : (وقال شجاع الذهلي : (كان عسراً في الرواية وسمع الكثير، ولم يكن ممن يعتمد عليه في الرواية، كأنه خلط في شيء من سماعه)، وقال السِّلفي : (كان مع عسره متكلماً فيه-----)؛ والعَسِرُ في الرواية هو الذي يمتنع من تحديث الناس إلا بعد الجهد، وهذه الصفة تنافي التزيد ودعوى سماع ما لم يسمع، إنما يدّعي سماع ما لم يسمع من له شهوة شديدة في ازدحام الناس عليه وتكاثرهم حوله؛ ومن كان هكذا كان من شأنه أن يتعرض للناس يدعوهم إلى السماع منه ويرغبهم في ذلك؛ فأما من يأبى التحديث بما سمع إلا بعد جهد فأي داع له إلى التزيد؟). انتهى كلام المعلمي.
وكان كثير من الطلاب - ولا سيما الغرباء الذين تضطرهم الأمور أحياناً إلى تقصير زمان الرحلة، أو الاقتصار على الكتابة عن بعض محدثي البلدة ، دون غيرهم، أو سماع بعض الأحاديث دون غيرها - ينتقون على هؤلاء غرائبهم إيثاراً لها على ما سواها وتقديماً لها على غيرها، فتنتشر غرائب ذلك المحدث أكثر من بقية حديثه؛ وبسبب هذا قد يرى الناقد عند أول نظره فيما اشتهر من أحاديث ذلك الشيخ أنه كثير الغرائب، وأن الغالب على مروياته التفرد والإغراب، فيغمزه بسبب ذلك أو يتوقف عن توثيقه مع أنه ثقة أو صدوق.
ولذا ينبغي التأني في نقد من وصف بالعسر في الرواية.
قال الذهبي في (السير) (8/336) في عبد السلام بن حرب : (قال علي بن المديني : وقد كنت استنكر بعض حديثه حتى نظرت في حديث من يكثر عنه فإذا حديثه مقارب عن مغيرة والناس، وذلك أنه كان عسراً فكانوا يجمعون غرائبه في مكان فكنت أنظر إليها مجموعة فاستنكرتها).(4/58)
أقول : أراد أن الطلبة كانوا يجمعون غرائب عبد السلام ويأتون بها إليه ليسمعوها عليه وكانوا يقتصرون عليها في الغالب لعلمهم أنه عسر لا يوافقهم على الإكثار ، بل ربما امتنع أحياناً عن تحديثهم أصلاً، فاختاروا أن يسمعوا منه الغرائب والفوائد التي لا يجدونها عند غيره ، موافقةً للطريقة المسلوكة التي ذكرها الخطيب إذ قال في (الجامع) (2/155) : (إذا كان المحدث مكثراً وفي الرواية متعسراً فينبغي للطالب أن ينتقي من حديثه وينتخبه فيكتب عنه ما لا يجده عند غيره ويتجنب المعاد من رواياته ؛ وهذا حكم الواردين من الغرباء الذين لا يمكنهم طول الإقامة والثواء ) ؛ انتهى .
وهذا التنبيه تنبيه عظيم جليل من إمام علم العلل - بحق - علي بن المديني رحمه الله ، وهو يقتضي التثبت في الحكم على من كان عسراً ولا سيما إذا كان مع عسره مكثراً من الحديث ، لأن المكثر قد يُمَشّى من غرائبه ما لا يُمشى من غرائب المقل فالإكثار مظنة الإغراب أحياناً .
العُسر (في الرواية) :
انظر (العسر) ، فالتقييد والإطلاق هنا مرادهما واحد، وكذلك قولهم (العسر في الحديث) .(4/59)
العشاريات :
هي أحاديث مسندة مجموع رجالها بين راويها ومنتهاها عشرة رواة ؛ قال الكتاني في (الرسالة المستطرفة) (ص101-102) عقب ما ذكره من أنواع العوالي : (والعشاريات للترمذي ، وللنسائي(1) ، وهي أنزل ما عندهما ، ولبرهان الدين أبي إسحاق إبراهيم بن أحمد بن عبد الواحد التنوخي البعلي الأصل الدمشقي المنشأ ، ثم المصري ، الحافظ ---- ، وللزين العراقي ، ولتلميذهما الحافظ(2)
__________
(1) إنما خصوا ذكر هذه العشاريات
(2) قال ابن حجر في أول (العشرة العشارية) : (فَهذِهِ أَحَادِيثٌ عُشَارِيَّاتُ الأَسَانِيدِ تَتَبَّعتها مِنْ مَسْمُوعَاتِي ، وَالْتَقَطْتُهَا مِنْ مَرْوِيَاتِي ؛ وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَذَا الْعَدَدَ هُوَ أَعْلَى مَا يَقَعُ لِعَامَّةِ مَشَايِخِي الَّذِينَ حَمَلْتُ عَنْهُمْ ، وَقَدْ جَمَعْتُ ذَلِكَ ، فَقَارَبَ الأَلْفَ مِنْ مَسْمُوعَاتِي مِنْهُمْ .
وَأَمَّا هَذِهِ الأَحَادِيثُ ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا قُصُورٌ عَنْ مَرْتَبَةِ الصِّحَاحِ ، فَقَدْ تَحَرَيْتُ فِيهَا جَهْدِي ، وَانْتَقَيْتُهَا مِنْ مَجْمُوعِ مَا عِنْدِي ، وَبَيَّنْتُ عِلَّةَ كُلِّ حَدِيثٍ بِعَقِبِهِ ، وَأَوْضَحْتُ مَا فِيهِ لِلْمُنْتَبِهِ ؛ وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ ، لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْكَرِيْمُ الْمَنَّانُ ) .(4/60)
، وقد أملى منها جملة ، وخرج منها - أي العشاريات - من مرويات شيخه التنوخي مئة وأربعين حديثاً ، ومن مرويات شيخه العراقي ستين كمل بها الأربعين التي كان الشيخ خرجها لنفسه ؛ وللحافظ السخاوي ؛ ولجلال الدين السيوطي ، وله "النادريات من العشاريات" جمع فيه ما وقع له عشارياً ، وهو ثلاثة أحاديث وجدها في رحلته بنواحي دمياط ، قال فيه : "وبعد فإن الإسناد العالي سنة محبوبة ، وللقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم رتبة مطلوبة ، ولذلك اعتنى أهل الحديث بتخريج عواليهم وأعلاها وأرفعها في الدرجة وأسناها ، فخرجوا الثلاثيات ثم الرباعيات ثم الخماسيات ثم السداسيات ثم السباعيات ثم الثمانيات ، وكلها قبل السبعمئة سنة ؛ وخرجوا بعد السبعمئة سنة التساعيات والعشاريات ؛ وممن خرجها قبل الثمانمئة سنة الزينُ العراقي وبعده جماعة منهم ابن حجر ، قال : وكان أكثر ما يقع لي غالباً أحد عشر لكون زماني بعيداً ، وقد فحصت فوقع لي أحاديث يسيرة عشارية ، إلى اخر ما قال .
وله أيضاً جزء "السلام من سيد الأنام" قال في "كشف الظنون" : جمع فيه ما وقع له عشارياً وهو ثلاثة وعشرون حديثاً فرغ من جمعه في ربيع الآخر سنة إحدى عشرة وتسعمئة اهـ .
وانظر "شرح ألفية العراقي" للسخاوي في الكلام على العالي والنازل .
على يدي عدل :
أي ساقط تالف مستحق للترك وذلك إما لسقوط عدالته كاتهامه بالكذب ونحوه أو لفحش خطئه وشدة غفلته وكثرة تخليطه ؛ قال يعقوب بن السِّكّيت (186-244هـ) في (إصلاح المنطق) (ص315) عاطفاً على ما ذكره من أمثال العرب : (وقولُ الناس للشيءِ إذا يُئِسَ منه "هو على يدَيْ عدْلٍ" ، قال ابنُ الكلبي : هو العدل بن جَزْءٍ - وجُزءٍ جميعاً - بن سعْد العَشيرة ، وكان ولِيَ شُرَطَ تُبَّع ، فكان تُبَّع إذا أراد قتْلَ رجل دفعه إليه فقال الناس : "وُضع على يدي عدلٍ" ) .(4/61)
وكذلك قال ابن قتيبة (213 - 276هـ) في (أدب الكاتب) (ص43) في (باب تأويل كلام من كلام الناس مستعمل) وزاد قولَه : (ثم قيل ذلك لكل شيء قد يُئس منه)(1) .
وقال ابن حجر في ترجمة محمد بن خالد بن عبد الله الواسطي من (تهذيب التهذيب) تعليقاً على قول ابن أبي حاتم فيه (سئل أبي عنه فقال : هو على يدي عدل) : (وقوله "على يدي عدل" معناه قرب من الهلاك ؛ وهذا مثل للعرب كان لبعض الملوك شرطي اسمه عدْلٌ ، فإذا دفع إليه من جنى جناية جزموا بهلاكه غالباً ؛ ذكره ابن قتيبة وغيره ؛ وظن بعضهم أنه من ألفاظ التوثيق فلم يُصب) .
__________
(1) وقال الميداني في (مجمع الأمثال) (2/8) : (فجرى به المثل في [لعلها من] ذلك الوقت فصار الناس يقولون لكل شيء قد يُئس منه : هو على يدي عدل) ؛ وذكر هذا المثل ومعناه ، أيضاً ، الفيروزابادي في (القاموس المحيط) تحت مادة (ع د ل) .(4/62)
ويظهر أن ابن حجر يشير بكلمة (بعضهم) إلى الحافظين الكبيرين الذهبي والعراقي ، وقد يكون معهما غيرهما ؛ قال السخاوي في (فتح المغيث) (2/129) : (وأفاد شيخنا(1) أيضاً أن شيخه الشارح(2) كان يقول في قول أبي حاتم "هو على يدي عدل" أنها من ألفاظ التوثيق ، وكان ينطق بها هكذا ، بكسر الدال الأولى ، بحيث تكون اللفظة للواحد ، وبرفع اللام وتنوينها ؛ قال شيخنا : كنت أظن أنَّ ذلك كذلك ، إلى أن ظهر لي أنها عند أبي حاتم من ألفاظ التجريح ، وذلك أن ابنه قال في ترجمة جبارة بن المغلس : "سمعت أبي يقول : هو ضعيف الحديث" ، ثم قال : "سألت أبي عنه فقال : هو على يدي عدل" ؛ ثم حكى أقوال الحفاظ فيه بالتضعيف(3) ، ولم ينقل عن أحد فيه توثيقاً(4) ، ومع ذلك فما فهمت معناها ولا اتجه لي ضبطُها ، ثم بان لي أنها كناية عن الهالك ، وهو تضعيف شديد ، ففي كتاب "إصلاح المنطق" ----) إلى آخره ، وفيه حكاية ما سبقت حكايته عن "إصلاح المنطق" ، ثم عزْوُه إلى ابن قتيبة أيضاً ، وكما تقدم .
وأما الذهبي فقد سبق العراقيَّ إلى الوقوع في هذا الوهم في (الكاشف) ، في ترجمة يعقوب بن محمد بن عيسى ، قطعاً ؛ وفي ترجمة محمد بن خالد بن عبد الله الطحان ، بحسب الظاهر .
__________
(1) يعني ابن حجر ؛ وما سينقله هنا عن شيخه العراقي ليس موجوداً في (شرح العراقي لألفيته) ولا في (التقييد والإيضاح) له ؛ ولذلك عبَّر السخاوي عما حكاه هنا ، بلفظ الإفادة ، إذ قال : (وأفاد شيخنا---) .
(2) يعني العراقي .
(3) الجرح والتعديل (1/1/550) .
(4) واستعمل أبو حاتم هذه اللفظة أيضاً في نقد يعقوب بن محمد الزهري وعمر بن حفص العبدي .(4/63)
قال الذهبي في (الكاشف) (2/396) (6405) : (يعقوب بن محمد بن عيسى الزهري العوفي المدني : عن إبراهيم بن سعد ومحمد ابن أخي الزهري ؛ وعنه الفسوي وابن أبي مَسَرّة ؛ وهّاه أبو زرعة وغيره ؛ وقواه أبو حاتم ؛ وذكره ابن حبان في "الثقات" ؛ قال البخاري في الصلح : حدثنا يعقوب حدثنا إبراهيم بن سعد ؛ فلعله العوفي ؛ توفي 213 ؛ ق ) ؛ انتهى بنصه ؛ ويعقوب هذا قال فيه أبو حاتم لما سأله عنه ابنه عبدالرحمن - كما في كتابه (الجرح والتعديل) (9/215) - : (هو على يدي عدل ، أدركته ولم أكتب عنه) ، فالذهبي عدَّ هذه اللفظة تقويةً .
وقال الذهبي في (الكاشف) (1/167) (4821) : (محمد بن خالد بن عبدالله الطحان ، عن أبيه وشريك ؛ وعنه ابن ماجه وأبو يعلى ؛ ضعفه أبو زرعة وغيره ؛ وقال أبو حاتم : هو على يدي عدل ، عاش تسعين سنة ، ومات 240 ؛ ق ) انتهى بنصه ؛ والذهبي هنا لم يصرح بمراد أبي حاتم ، ولكنه لم يذكره في جملة المضعفين لمحمد بن خالد ، بل فَصَلَ حكمَه عن حكمهم ، وقولُه السابق في يعقوب بن محمد قرينةٌ مقوية لقول من يرى أن الذهبي عدَّ قول أبي حاتم في محمد بن خالد تعديلاً له .
العلامات :
هي العلائم ، أي الرموز ، انظر (الرمز) .
علامات اختلاف الروايات :
قال القاضي عياض في (الإلماع) (ص189- 193) في (باب ضبط اختلاف الروايات والعمل في ذلك) :
(هذا مما يُضطر إلى اتقانه ومعرفته وتمييزه ، وإلا تسودت الصحف واخلطت الروايات ولم يحل صاحبها بطائل ؛ وأولى ذلك أن يكون الأم على رواية مختصة ، ثم ما كانت من زيارة الأخرى أُلحقت ، أو من نقص أُعلم عليها ، أو مِن خلاف خُرِّج في الحواشي وأُعلم على ذلك كله بعلامة صاحبه من اسمه أو حرف منه للاختصار ، لا سيما مع كثرة الخلاف والعلامات .(4/64)
وإن اقتصر على أن تكون الرواية الملحقة بالحمرة فقد عمل ذلك كثيرٌ من الأشياخ وأهل الضبط ، كأبي ذر الهروي وأبي الحسن القابسي وغيرهما ؛ فما أثبت لهذه الرواية كتبته(1) بالحمرة ، وما نقص منها(2) مما ثبت للأخرى حوَّق بها عليه .
وقد يقتصر بعضُ المشايخ على مجرد التخريج والتحويق والشق لإحدى الروايتين ، ويكل الأمر إلى ذُكْرِه وما عقده مع نفسه من ذلك ؛ وقد رأيتُ أبا محمد الأصيلي التزم ذلك في كثير من كتابه في "صحيح البخاري" الذي بخطه ، وما وقع(3) فيه على أبي زيد المروزي ، وقيّد فيه روايته ورواية أبي أحمد الجرجاني الذي عليها أصل كتابه ، فما سقط لأبي زيد ولم يروه عنه شقَّ عليه بخطه ، أو حوَّق عليه ، وما سقط لهما معاً شقَّ عليه بخطين ، ليظهر سقوطُه لهما ؛ وما اختلفا فيه أثبت عليه اسم صاحبه .
ولا يُغفل المهتبل بهذا عند كثرة العلامات واختلاف الروايات تقييد ذلك أول دفتره أو على ظهر جزئه أو آخره والتعريف بكل علامة ، لمن هذه ، لئلا ينسى وضع تلك العلامات مع طول الزمن وكبر السن واختلال الذُّكر(4) فتختلط عليه روايتُه ويُشكل عليه ضبطه .
ومن الصواب ألا يتساهل الناظر في ذلك ولا يُهمله ، فربما احتاج - إن أفلح - إلى تخريج حديث أو تصنيف كتاب فلا يأتى به على رواية من يُسنده إليه ، إن لم يهتبل بذلك ، فيكون من جملة أصناف الكاذبين .
__________
(1) كذا في مطبوعة (الإلماع) ، ولعلها (كتبه) .
(2) في مطبوعة (الإلماع) : (منهما) .
(3) في نسختين خطيتين من (الإلماع) : (وسمع) .
(4) في نسخة خطية من (الإلماع) : (الذهن) بدل (الذكر) .(4/65)
والناس مختلفون في إتقان هذا الباب اختلافاً يتباين ، ولأهل الأندلس فيه يد ليست لغيرهم ، وكان إمام وقتنا في بلادنا في هذا الشأن الحافظ أبو علي الجياني ، شيخنا رحمه الله : من أتقن الناس بالكتب وأضبطهم لها وأقومهم لحروفها وأفرسهم ببيان مشكل أسانيدها ومتونها ، وأعانه على ذلك ما كان عنده من الأدب ، وإتقانُه ما احتاج إليه من ذلك على شيخه الشيخ أبي مروان بن سراج اللغوي آخر أئمة هذا الشأن ، وصحبتُه للحافظ أبي عمر بن عبدالبر آخر أئمة الأندلس في الحديث ، وأخذُه عنه ، وتقييدُه عليه ، وكثرةُ مطالعته ، وناهيك من إتقانه لكتابه الذي ألفه على مشكل "رجال الصحيحين" ، وكان قرينُه وكنيُّه شيخُنا القاضي الشهيد عارفاً بما يجِبُ من ذلك جداً ، لكنه لم يهتبل بكتبه اهتباله ؛ وكان القاضي أبو الوليد الكناني ممن أتقن ربما تكلف في الإصلاح والتقويم بعضَ ما نُعِيَ عليه ) .
علامات الإعجام :
انظر (الإعجام) و(علامات الإهمال).
علامات الإلغاء :
أي علامات ترك الكلمة أو الكلمات المكتوبة خطأ أو زيادةً عما في الأصل ؛ وانظر (الضرب) .
علامات الإهمال :
إهمال الحرف هو خلوه من النقط أو علامات الإعجام ، بل هو عدم جواز وضع تلك العلامات عليه ؛ والحروف المهملة هي الحاء والدال والراء والسين والصاد والطاء والعين ، وكلٌّ منها يشتبه بحرف آخر لا يميزه عنه إلا علامة الإعجام فوقه أو تحته ، بل الحاء تشتبه بحرفين هما الجيم والخاء .
قال القاضي عياض في (الإلماع) (ص155-157) : (وكما نأمره بنقط ما ينقط للبيان ، كذلك نأمره بتبيين المهمل ، بجعل علامة الإهمال تحته ، فيجعل تحت الحاء حاء صغيرة ، وكذلك تحت العين عيناً صغيرة ، وكذلك الصاد والطاء والدال والراء ؛ وهو عمل بعض أهل المشرق والأندلس .
ومنهم من يقتصر على مثال النَّبْرَة تحت الحروف المهملة .
ومنهم من يقلب النقط في المهملات ، فيجعله أسفل ، علامةً لإهماله .(4/66)
ومن أهل المشرق من يعلِّم على الحروف المهملة بخط صغير فوقه شبه نصف النَّبْرَة ).
وقال ابن الصلاح في (النوع الخامس والعشرون) من (مقدمته) (ص162-165) :
(ثم إن على كَتَبَةِ الحديث وطَلَبَتِهِ صرف الهمة إلى ضبط ما يكتبونه، أو يحصلونه بخط الغير من مروياتهم ، على الوجه الذي رووه ، شكلاً ونقطاًً ، يُؤمَنُ معهما الالتباس ----) إلى أن قال :
(وهذا بيان أمور مفيدة في ذلك :
أحدها : ----.
الخامس : كما تضبط الحروف المعجمة بالنقط ، كذلك ينبغي أن تُضبط المهملات غير المعجمة بعلامة الإهمال، لتدل على عدم اعجامها ؛ وسبيل الناس في ضبطها مختلف ؛ فمنهم من يقلب النقط ، فيجعل النَّقْطَ الذي فوق المعجمات تحت ما يشاكلها من المهملات ، فينقط تحت الراء والصاد والطاء والعين ، ونحوها من المهملات ؛ وذكر بعض هؤلاء أن النقط التي تحت السين المهملة تكون مبسوطة صفاً ، والتي فوق الشين المعجمة تكون كالأثافي .
ومن الناس من يجعل علامة الإهمال فوق الحروف المهملة كقلامة الظفر ، مضجعة على قفاها .
ومنهم من يجعل تحت الحاء المهملة حاء مفردة صغيرة، وكذا تحت الدال والطاء والصاد والسين والعين، وسائر الحروف المهملة الملتبسة مثل ذلك .
فهذه وجوه من علامات الإهمال شائعة معروفة .
وهناك من العلامات ما هو موجود في كثير من الكتب القديمة ولا يفطن له كثيرون ، كعلامة من يجعل فوق الحرف المهمل خطاً صغيراً، وكعلامة من يجعل تحت الحرف المهمل مثل الهمزة، والله أعلم )(1) .
__________
(1) وقال أحمد محمد شاكر في (الباعث الحثيث) (ص134-135) : (وينبغي ضبط الحروف المهملة ، لبيان إهمالها ، كما تعرف المعجمة بالنقط ؛ لأن بعض القراء قد يتصحف عليه الحرف المهمل فيظنه معجماً وأن الكاتب نسي نَقْطَه ؛ وطرق البيان كثيرة :
فمنهم من يضع تحت الحرف المهمل مثل النقط الذي فوق المعجم المشابه له ، كالسين ، يضع تحتها ثلاث نقط ، إما صفاً واحداً هكذا (…) ، وإما مثل نقط الشين المعجمة .
ومنهم من يكتب الحرف نفسه بخط صغير تحت الحرف المهمل مثل (حـ) تحت الحاء ، و(سـ) تحت السين ، وهكذا .
ومنهم من يكتب همزة صغيرة تحت الحرف أو فوقه .
ومنهم من يضع خطاً أفقياً فوق الحرف ، هكذا ( ـ ) .
ومنهم من يضع فوقه رسماً أفقياً كعلامة الظفر ، هكذا (ـ) .
وتجد هذه العلامات كثيراً في الخطوط القديمة الأثرية .
وأرى أنه ينبغي أيضاً كتابة الهمزات في الحروف المهموزة ، وأن تكون التي في أول الكلمة فوق الألف إن كانت مفتوحة ، وتحتها إن كانت مكسورة ، وأكثر الكاتبين يختارون وضع الهمزة فوق الألف مطلقاً ، مفتوحة أو مكسورة ؛ ولكن الذي اخترناه أولى وأوضح ).(4/67)
وقال عالم اللغة المحقق عبد السلام هارون في (تحقيق النصوص ونشرها) (ص53-54)(1) : (وفي الكتابات القديمة توضع بعض العلامات لإهمال الحروف .
فبعضهم يدل على السين المهملة بنقط ثلاث من أسفلها ، إما صفاً واحداً ، وإما صفين .
وبعضهم يهمل نقط السين ويُعجم الشين بنقطة واحدة فوقها ، كما في "همع الهوامع" .
وبعضهم يكتب سيناً صغيرة (سـ) تحت السين ، ويكتبون حاء (حـ) تحت الحاء المهملة .
ومن الكتاب من يضع فوق المهمل أو تحته همزة صغيرة (ء) .
ومنهم من يضع خطاً أفقياً فوقه ( - ) .
ومنهم من يضع رسماً أفقياً كالهلال ( - )(2) .
ومنهم من يضع علامة شبيهة بالرقم (7) .
وفي بعض الكلمات التي تقرأ بالإهمال والإعجام معاً قد ينقط الحرف من أعلى ومن أسفل معاً ، وذلك مثل "التسميت" و "التشميت" ، أي تشميت العاطس ، يضعون أحياناً فوق السين نقطاً ثلاثاً وتحتها كذلك ، إشارة إلى جواز القراءتين ، و "المضمضة" و "المصمصة" : تكتب بنقطة فوق الضاد وأخرى تحتها ، تجويزاً لوجهي القراءة) ؛ وانظر (الإعجام) و (إنما يُشكَل ما يُشكِل) .
علامات الترقيم :
انظر (الترقيم) و (الأرقام) .
علامات التقديم والتأخير :
انظر (التقديم والتأخير) .
علامات الضرب على الكلام المكتوب خطأ :
انظر (الضرب) .
علامة الاستفهام :
انظر (الترقيم) .
علامة الانفعال :
هي علامة التعجب ، ورمزها ( ! ) .
علامة التأثر :
هي علامة التعجب ( ! ) .
علامة التثليث [اللغوي] :
قال عبد السلام هارون في (تحقيق النصوص) (ص56) : (وعلامة التثليث اللغوي ، وهي ( ث ) توضع فوق الكلمة ، اقتباساً من كلمة التثليث ؛ وجدتُها في مخطوطة الاشتقاق لابن دريد) ؛ وانظر (مثلثة) .
علامة التخفيف :
رأس خاء غير منقوطة ( حـ ) ، أي تُرسم شبه دال ، تشير إلى الحرف الأول من كلمة "خفيف" ، أي غير مشدد ؛ وانظر (خف) .
__________
(1) الطبعة الخامسة .
(2) لم يتيسر لي رسمه على الوجه الصحيح .(4/68)
علامة التعجب :
علامة من علامات الترقيم تستعمل للإشارة إلى التأثر والتعجب والتنبيه ؛ انظر (الترقيم) .
العلائم :
هي العلامات والرموز ؛ انظر (الرمز) .
علم أسماء الرواة :
هو العلم الذي يُعنى بتحرير أسماء الرواة وتمييزهم ومعرفة أعيانهم والاحتراز من التوهم في ذلك.
فهذا العلم غايتُه معرفةُ ما لكلِّ راوٍ من اسم وكنية ولقب ونسب ، تسهيلاً لتعيين المقصود بكل اسمٍ مذكور في الأسانيد ، واحترازاً من توهم الراويين واحداً ، ومِن توهمِ الواحدِ من الرواة راويين ، أو أكثر .
إنَّ تعيين الرواة الذين تتقاربُ تسمياتُهم ، وتمييزُهم عن بعضِهم ، خطوةٌ هامة ، من خطوات النقد الحديثي ، ولا استغناء عنها ، فإنَّ الأسماء تتشابه ، ولا سيما عند الإهمال ، كأن يذكر الراوي باسمه فقط ، أو بكنيته فقط ، دونَ أن يُنسبَ إلى من يحصلُ بنسبته إليه تعيينُه ، كالأبِ والجَدِّ وغيرِ ذلك .
وكتب هذا الفن هي : كتبُ الأسماءِ والأنسابِ والكنى والألقابِ ، وكتبُ المتفقِ والمفترقِ ؛ ويُنتفع في ذلك أيضاً بتدبر الطرق والروايات بعد جمعها .
علم الإسناد :
علم الإسناد يراد به علم الحديث ، ومن عبارات المتأخرين التي وردت فيها هذه الكلمة قول الحافظ ابن حجر في (النزهة) (ص60)(1) : (وإنما أبهمت شروط التواتر في الأصل [يعني النخبة] ، لأنه على هذه الكيفية ليس من مباحث علم الإسناد ، إذ علم الإسناد يُبحث فيه عن صحة الحديث أو ضعفه ، ليعمل به أو يترك ، من حيث صفاتُ الرجال ، وصيغُ الأداء ؛ والمتواتر لا يُبحث عن رجاله ، بل يجب العمل به من غير بحث) .
علم الحديث :
علم الحديث هو مجموع قواعد علماء نقل الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم وضوابطهم واصطلاحاتهم في ذلك النقل ونقده ، وأحكامهم الفرعية على تلك المنقولات وناقليها ، ومباحث العلماء في هذه الأبواب.
فوظيفة علم الحديث ومقاصده تنقسم في الجملة إلى قسمين :
__________
(1) طبعة دار ابن الجوزي .(4/69)
القسم الأول : حِفظُ ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وكلِّ ما يحتمل أن يكونَ له حكمُ الرفع ، أو يُحتج به ، أو يستشهد به ، من آثار السلف ؛ من الضياع والتحريف وسائر أنواع التغيير .
وكذلك حِفظُ ما ذكره العلماء وبينوه من أصولٍ وفروعٍ في نقد تلك الأخبار ورواتها .
ثم نشرُ ما يحتاجه العلماء والطلاب والناس من ذلك كله .
وهذه المقاصد هي - عند التأملِ - وظيفة قسم الرواية من علم الحديث .
القسم الثاني : وله شعبتان :
الأولى : نقدُ تلك المروياتِ ورواتِها ، لتمييزِ الثابتِ منها عن غيرِه .
والثانية : تحقيقُ الأحكامِ الأصلية والفرعية في هذا الفن ، أعني الأحكام العامة ، وهي الأصول والضوابط ، والأحكام الخاصة ، وهي أحكام الرواة والأحاديث من حيث القبول والرد .
وهاتان الشعبتان هما قسم الدراية من علم الحديث .
وقد تكلم العلامة الإمام أبو شامة المقدسي رحمه الله تعالى في خطبة كتابه (شرح الحديث المقتفى في مبعث النبي المصطفى) (ص44-54) في أقسام علوم الحديث في زمانه وما يتعلق بذلك ؛ وقد اختصره ثم تعقبه الحافظ ابن حجر في (النكت على ابن الصلاح) (1/228-231) فقال :
(وقد ذكر أبو شامة في كتاب (المبعث) شيئاً ينبغي تحريره فقال : يقال : علوم الحديث الآن ثلاثة :
أشرفها : حفظ متونها ومعرفة غريبها وفقهها .
والثاني : حفظُ أسانيدها ومعرفةُ رجالها وتمييزُ صحيحها من سقيمها ، وهذا كان مهماً ، وقد كُفيه المشتغل بالعلم بما صُنف وألف من الكتب ، فلا فائدة تدعو إلى تحصيل ما هو حاصل .
والثالث : جمعه وكتابته وسماعه وتطريقه وطلب العلو فيه والرحلة إلى البلدان ؛ والمشتغل بهذا مشتغل عما هو الأهم من علومه النافعة ، فضلاً عن العمل الذي هو المطلوب الأول وهو العبادة ؛ إلا أنه لا بأس [به] للبطالين لما فيه من بقاء سلسلة الاسناد المتصلة بأشرف البشر...0إلى آخر كلامه .
قلت : وفي كلامه مباحث من أوجه :(4/70)
الأول : قوله (وهذا كفيه المشتغل بالعلم بما صنف فيه ) ، يقال عليه : إن كان التصنيف في الفن يوجب الاتكال على ذلك وعدم الاشتغال به فالقول كذلك في الفن الأول ، فإنَّ فِقهَ الحديث وغريبه لا يحصى كم صُنف في ذلك ، بل لو ادعى مدعٍ أن التصانيف التي جُمعت في ذلك أجمع من التصانيف التي جمعت في تمييز الرجال ، وكذا في تمييز الصحيح من السقيم لما أبعَد ، بل ذلك هو الواقع .
فإن كان الاشتغال بالأول مهماً فالاشتغال بالثاني أهم ، لأنه المرقاة إلى الأول ، فمن أخلَّ به خلط الصحيح بالسقيم والمعدَّل بالمجروح وهو لا بشعر ، وكفى بذلك عيباً بالمحدث .
فالحق أن كلاً منهما في علم الحديث مهمٌّ لا رجحان لأحدهما على الآخر .
نعم ، لو قال : الاشتغال بالفن الأول أهم ، كان مسلَّماً مع ما فيه .
ولا شك أن من جمعهما حاز القِدْحَ المُعَلّى ، ومن أخلَّ بهما فلا حظ له في اسم المحدث ؛ ومن حرر الأول وأخلَّ بالثاني كان بعيداً من اسم المحدث عرفاً . هذا لا ارتياب فيه .
بقي الكلام في الفن الثالث وهو السماع وما ذكر معه ، ولا شك أن من جمعه مع الفن الأول كان أوفرَ قِسماً وأحظَّ قَسْماً ، لكن وإن كان من اقتصر عليه كان أنحس(1) حظاً وأبعد حفظاً ؛ فمن جمع الأمور الثلاثة كان فقيهاً محدثاً كاملاً ، ومن انفرد باثنين منها كان دونه . وإن كان ولا بد من الاقتصار على اثنين فليكن الأول والثاني .
أما من أخل بالأول واقتصر على الثاني والثالث فهو محدثٌ صِرفٌ لا نزاع في ذلك .
__________
(1) في بعض نسخ (النكت) : (أبخس) ، وفي تدريب الراوي نقلاً عن النكت (أخس) .(4/71)
ومن انفرد بالأول فلا حظ له في اسم المحدث(1) كما ذكرنا .
هذا تحرير المقال في هذا الفصل ، والله أعلم).
وللسيوطي توجيه وتخريج آخر لكلام أبي شامة ذكره في (البحر الذي زخر) (1/256) ؛ وانظر (أصول علم الحديث ) و (علوم الحديث) .
علم الحديث درايةً :
انظر (علم الحديث).
علم الحديث روايةً :
انظر (علم الحديث).
علم العلل :
موضوع هذا العلم معرفة دقائق الأحاديث وخفي تفاصيلها ، من جهة روايتها ونقدها ، والاطلاع الواسع العميق على أحوال الرواة وحقائق مروياتهم ، مع دقة الفهم وقوة الفطنة وكمال التحقيق بحيث يتأهل ذلك الناقد لمعرفة ما وقع في كثير من الأحاديث التي ظاهرها الصحة من أوهام الثقات وغيرهم.
ولم يبرز في هذا الفن الجليل إلا أفراد من كبار الحفاظ النقاد المتقنين ؛ وبين علم الرجال وعلم العلل تلازم لا يخفى، فلن يكون من علماء العلل إلا من كان من كبار علماء الرجال، وكذلك لا يتمكن الناقد من علم الرجال ويكون من المتحققين به الداخلين فيه على بصيرة إلا إذا كان من علماء العلل ذوي الاطلاع الواسع على المرويات والمعرفة الدقيقة بها من حيث ثبوتها وعدمه واتفاقها واختلافها ونكارتها وشذوذها.
__________
(1) تتمة كلام ابن حجر بحسب ما في (تدريب الراوي) هو قوله : (ومن انفرد بالأول والثاني فهل يسمى محدثاً ؟ فيه بحث ) ؛ فقد وضع السيوطي عقبه علامة الانتهاء (اهـ) ثم قال عقب ذلك : (وفي غضون كلامه ما يشعر باستواء المحدث والحافظ ، وقد كان السلف يطلقون المحدث والحافظ بمعنى----) إلخ.(4/72)
ولقد حصل اختلاف بين موضوع علم العلل عند المتقدمين وموضوعه عند المتأخرين؛ والتحقيق أنَّ كل ما غمض علمه أو غمض اكتشاف وجه الخطأ فيه أو كان خلاف الظاهر، فهو داخل في علم العلل؛ أعني عند المتقدمين؛ فلذلك تراهم لا يقتصرون في كتبهم في علم العلل على أوهام الثقات؛ بل هم يُدخلون في علم العلل أوهام الأئمة الكبار في الحكم على حديث أو أوهامهم في بيان اسم راو أو نسبه أو أي أمر يتعلق بترجمته.
وسبب إدخالهم تلك الأوهام هو أنها مما يكثر أن يُظن فيها الصوابُ، وأن الإصابة هي الأصل في أحكامهم؛ والوهم في أقوالهم مظنة للخفاء على أكثر الناس ، لأنهم أئمة معتمدون موثوق بعلمهم إلى حد بعيد.
وكذلك يُدخلون فيه القواعد والضوابط العامة والخاصة التي لا يتمكن منها إلا الجهابذة، مثل قول بعضهم (كل من اسمه فلان فهو ضعيف)، وقوله (كل من روى عن فلان فقد سمع منه بعد اختلاطه ، سوى فلان وفلان)؛ وكذلك موازناتهم - أي مقارناتهم - بين الرواة، وكذلك الاستقراء الذي يقوله الأئمة، مثل قول الناقد : (هذا الحديث لا أصل له)، أو قوله (هذا الحديث لم يروه إلا فلان)، أو (هذا الحديث ورد من أربعين وجهاً لا يثبت شيء منها).
وكذلك يدخل في علم العلل تخريج كبار الأئمة للحديث إذا كان مفصلاً، لأنهم حينئذ يذكرون من الطرق ما يصعب على غيرهم الوقوف عليه، واستحضاره؛ وكتاب الدارقطني في العلل مثال على هذا.
إذن فعلم العلل بالمعنى المستقر عند المتأخرين أخص منه عند الأئمة، لأنه عند المتأخرين يعني علم أوهام الثقات من الرواة.
وإن أبى قارئ هذا التفريق ولم يسلِّم له، فلا بد من التسليم بأن موضوع علم العلل عند المتأخرين أخص من موضوع كتب العلل التي ألفها المتقدمون.
علم المصطلح :
انظر (أصول علم الحديث) .
علماء الحديث :
انظر (عالِم الحديث) .
علماء الرجال :
انظر (بلدي الرجل أعرف به) .
العلو :
العلو أنواع :(4/73)
أول الأنواع وهو أجلها : العلو المطلق ، أو الكلي ، وهو القرب في حديث من الأحاديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من حيث عدد الرواة .
والمعتبر من هذا العلو والمرغوب فيه منه هو ما كان بإسناد صحيح أو نظيف ، بخلاف ما إذا كان مع ضعف فإنه لا التفات إليه عند علماء السلف ومن جرى على طريقتهم من علماء الحديث وأهله، وإن التفت إليه المتأخرون واعتبروه ؛ فإن اشتد ضعف الحديث العالي بحيث صار متروكاً فنفور الأئمة منه أشدُّ وأبْيَن.
النوع الثاني :
العلو النسبي أي الجزئي ، وهو العلو المقيد براو من مشاهير الحفاظ أو ائمة العلماء ، كالأعمش وهشيم وابن جريج والأوزاعي ومالك وشعبة وابن المبارك وسعيد بن منصور وأبي نعيم الفضل بن دكين ، وغيرهم .
فالقرب من إمام من هؤلاء مع الصحة يعد علوّاً أيضاً ، وإن كثر بعدَه عدد الرواة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ويُعرف هذا النوع من العلو - كما تقدمت تسميتُه - بالعلو النسبي ، أو هو أحد أقسام العلو النسبي وأهمها، ولذلك تنصرف إليه العبارة عند الإطلاق ، وفيما يلي بقية أقسامه، أعني أقسام العلو النسبي .
النوع الثالث :
هو القسم الثاني من أقسام العلو النسبي ، أو هو فرعٌ من فروعه ، وهو العلو إلى شيخ أحد الأئمة مصنفي دواوين السنة ، في حديث رواه عنه ذلك المصنف(1) .
وصاحب هذا العلو إنما حصل له العلو في هذه الطريق قياساً بالطريق الأخرى ، أعني التي يروي فيها الحديث بإسناده إلى المصنّف المذكور ، عن ذلك الشيخ به .
وهذا النوع من العلو يسمى الموافقةَ .
__________
(1) وليس المراد بدواوين السنة الكتب الستة وحدها ، بل هي والموطأ والمسند وسنن سعيد ين منصور ومصنفا عبدالرزاق وابن أبي شيبة وغير ذلك من أمات كتب الرواية ؛ وانظر (دواوين السنة).(4/74)
فالموافقةُ : أن يروي المحدثُ بسنده حديثاً رواه مسلم مثلاً ، لا يرويه من جهة مسلم ، وإنما من جهة من تابع مسلماً متابعة تامة(1) ، ويكون سندُ ذلك المحدثِ في ذلك الحديثِ أقلَّ عدداً منه إذا رواه من طريق مسلم نفسه .
والأصل اللغوي لهذا المصطلح هو موافقةُ صاحب الأصل - كالإمام مسلم - فيما رواه عن شيخه ، ومتابعتُه عليه .
النوع الرابع :
العلو إلى شيخ أحد شيوخ المصنفين المذكورين ، بمثل الطريقة السابقة ، وهذا أيضاً فرع من فروع العلو النسبي كالذي قبله واللذين بعده من الأنواع .
وهذا النوع من العلو يسمونه البدل ؛ وقد يسمى موافقة بالنسبة إلى شيخ شيخ مسلم ؛ فهو موافقة مقيدة .
فالبدلُ : أن يقعَ علوٌّ مثل العلوِّ الموصوف في الموافقة ، ولكن عن شيخِ شيخِ مسلمٍ ، مثلاً ، بدلاً من شيخ مسلم .
ثم إن جمهور المخرّجين لا يطلقون اسم الموافقة أو البدل إلا مع العلو ، وحيث فُقد فلا يلتفتون لذلك ؛ قال ابن الصلاح(2) : (هو أيضاً موافقة وبدل ، لكن لا يطلق عليه اسم الموافقة والبدل ، لعدم الالتفات إليه) .
ولكن قد أطلقه فيهما مع التساوي في الطريقين بعضُ المتأخرين .
بل وقع من بعضهم أكثر من ذلك ، وهو إطلاقهما مع النزول أيضاً ؛ وقع ذلك في كلام الذهبي وغيره من المتأخرين أيضاً .
ثم إن طريقة هؤلاء الذين يطلقون اسم الموافقة والبدل مع النزول والتساوي : أن يصفوا مثل هذه الأسانيد إذا علت ، عقب إخراجها أو قُبيله بأنها موافقة عالية ، أو بدل عالٍ ؛ فيشيرون إلى العلو الحاصل من هذا النوع بالوصف ، لأن الإطلاق له عندهم - كما تقدم - معنى آخر ، أو هو - في الأقل - لا يدل على العلو ، ولا ينصرف إليه .
وهذا بخلاف الجمهور فإن مجرد اسم الموافقة أو البدل يدل عندهم بذاته على العلو.
__________
(1) أي أن سند مسلم وسند صاحب الموافقة يلتقيان في شيخ مسلم، فيشتركان فيه وفي سائر من فوقه .
(2) في (المقدمة) (ص233) .(4/75)
هذا ومما ينبغي التنبيه عليه هو أن مقياس الأنواع المتقدمة من العلو والنزول وميزانهما في كل عصر هو الجادة عند محدثي ذلك العصر من أسانيد جمهور أقران صاحب العلو أو النزول ، أعني الأغلب من صحيح الأسانيد المتداولة في ذلك العصر ، لذلك الحديث ، أو إلى ذلك الإمام ، أو إلى ذلك المصنِّفِ في مصنَّفِه .
وهذا بخلاف النوعين التاليين من العلوِّ ، فإنَّ ميزانَهما ومقياسهما هو بعض ما نزل فيه أحد الحفاظ المصنفين .
النوع الخامس :
علو المحدث المتأخر في حديث ساوى فيه - من حيثُ عددُ رجالِه - حديثاً آخر مروي بإسنادٍ نازل في شيء من دواوين الإسلام الشهيرة .
وهذا العلو يعرف بالمساواة .
فالمساواة إذن : استواء عدد رجال الإسناد من المحدث إلى آخر الإسناد ، مع أي إسناد من أسانيد أحد الستة أو غيرهم من مصنفي الكتب المشهورة المهمة؛ ولا شك أن ذلك غير ممكن إلا فيما كان من أسانيد تلك الكتب الأمّات نازلاً جداً.
مثال ذلك أن الترمذي والنسائي رويا حديثاً يقع فيه بينهما وبين النبي صلى الله عليه وسلم عشرة رجال ، وروى ابن حجر عشرة أحاديث عشارية أيضاً(1) ، فهو مساو لهما فيها وإن لم يَرْوِياها(2) .
__________
(1) كما ذكره هو في (الإصابة) (2/573) في ترجمة (زهير بن صرد) والسخاوي في مواضع من (الجواهر والدرر) .
(2) ولكن أكثر هذه الأنواع من العلو التي يحرص عليها المتأخرون ويفرحون بها فيها تظر ؛ ومن العجيب مثلاً قول السيوطي (المتوفى في سنة 911هـ) في (تدريب الراوي) (2/166) : (فإنه تقدم أن بيني وبين النبي صلى الله عليه وسلم عشرة أنفس في ثلاثة أحاديث ، وقد وقع للنسائي [المتوفى في سنة 303هـ] حديث بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم فيه عشرة أنفس ، وذلك مساواة لنا ) ، كيف أطلقَ هذا الوصفَ ، وكيف اعتدَّ بهذا الإسناد الذي هو قطعاً إسناد مهلهل مزلزل أجوف ، وعلو صوري غير حقيقي ، وهل يُفرح بما لا حقيقة له ؟! ولكنْ للمتأخرين شأن غير شأن المتقدمين .(4/76)
قال النسائي في (السنن الكبرى) (6/173) (10517) : ( أخبرنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا زائدة ، عن منصور عن هلال عن ربيع بن خثيم عن عمرو بن ميمون عن ابن أبي ليلى عن امرأة ، عن أبي أيوب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ? قل هو الله أحد ? ثلث القرآن ؛ لا أعرف في الحديث الصحيح إسنادا أطول من هذا ) .
وهو في (السنن الصغرى) (2/171)(1) (996) ولكن وردت العبارة مختصرة ، بهذا الفظ : (قال أبو عبدالرحمن : ما أعرف إسناداً أطول من هذا) ، ولعل هذا الاختصار ممن اختصر السنن ، على قول من يقول إنه غير النسائي ، وهو أظهر القولين .
وقال الترمذي في (سننه) (5/166) (2896) : (حدثنا قتيبة ومحمد بن بشار قالا حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ----) فذكره .
النوع السادس :
المصافحة ، وهي أن تقع مثل تلك المساواة لشيخ ابن حجر مثلاً ، فتكون لابن حجر مصافحة .
ويصح أن يقال في تعريف المصافحة : أن تقع مساواة ابن حجر مع تلميذ ذلك المصنف .
ومثال هذا النوع من العلو الأحاديث التي رواها ابن حجر وبينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم فيها أحد عشر رجلاً ، فشيخه فيها مساوٍ للنَّسائي ، أي في بعض أسانيده ، وهو إسناده العشاري المتقدم مثاله .
وأما أصل تسمية المصافحة بهذا الاسمِ ، فقد بينه العلماء ، قال السخاوي في (فتح المغيث) (3/350) : (وسميت [يعني المصافحة] بذلك ، لأن العادة جرت في الغالب بالمصافحة بين المتلاقيَين ، والمخرِّج في هذه الصورة كأنه لاقى أحد أصحاب الستة فكأنه صافحه) اهـ ؛ فابن حجر - مثلاً - لما ساوى تلميذَ النَّسائيِّ في عددِ الرجالِ بينَه وبينَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في بعضِ ما يرويهِ مِن المتونِ يكونُ كأنَّهُ تلميذٌ للنسائي ، أي كأنه لقيه فصافحه وسمع منه تلك الأحاديثَ ، أي بمثل ذلك الإسناد الذي نزل فيه النسائي كثيراً .
__________
(1) طبعة عبد الفتاح أبو غدة .(4/77)
تنبيه : هذه الأنواع الأربعة الأخيرة (الموافقة والبدل والمساواة والمصافحة) سماها ابن دقيق العيد في (الاقتراح) (ص306) (علوَّ التنزيل) ، ويأتي كلامه في ذلك ، انظر (علو التنزيل) .
وقال أبو عمرو في (المقدمة) (ص235) في ختام بيانه لأقسام العلو النسبي : (ثم اعلم أن هذا النوع من العلو علو تابع لنزول ، إذ لولا نزول ذلك الإمام في إسناده لم تعلُ أنت في إسنادك ؛ وكنتُ قد قرأت بمرو على شيخنا المكثر أبي المظفر عبد الرحيم بن الحافظ المصنف أبي سعد السمعاني رحمهما الله، في أربعي أبي البركات الفراوي حديثاً ادعى فيه أنه كأنه سمعه هو أو شيخة من البخاري ، فقال الشيخ أبو المظفر : "ليس لك بعالٍ ، ولكنه للبخاري نازل" ؛ وهذا حسن لطيف يخدش وجه هذا النوع من العلو ، والله أعلم ) ؛ انتهى .
وكل ما تقدم من أنواع العلو الستة فإنه علو قربٍ ناشئ عن قلة الوسائط ، سواء كان علواً كلياً ، أعني يعم السند كله ، أو جزئياً ، أي في جزء من السند ، وسواء كان مقياسُه هو المعروفَ المتداولَ من أسانيد ذلك العصر ، أو كان مقياسُه بعضَ ما نزل من أسانيد بعض كتب الرواية المعتمدة أو الشهيرة .
وبقي صنفٌ آخر من العلو لا شأن له بالقرب وقلة الوسائط ، وإنما أساسه قِدم التحمل عن راوٍ ، أو قدم وفاتِه ؛ وهذا الصنف ثلاثة أنواع ، أذكرها باسم النوع السابع والثامن والتاسع ، لتنتظم مع ما تقدم من الأنواع ، وهي ما يأتي :
النوع السابع :
العلو إلى أحد الحفاظ أو الأئمة ، بتقدم وفاة تلميذه الراوي عنه ، وإن تساوى الإسنادان إلى ذلك الحافظِ في عدد رواتهما .
قال ابن الصلاح في (المقدمة) (ص235-236) :
(الرابع من أنواع العلو : العلو المستفاد من تقدم وفاة الراوي .(4/78)
مثاله ما أرويه عن شيخ أخبرني به عن واحد عن البيهقي الحافظ عن الحاكم أبي عبد الله الحافظ : أعلى من روايتي لذلك عن شيخ أخبرني به عن واحد عن أبي بكر عبد الله بن خلف عن الحاكم ، وإن تساوى الإسنادان في العدد ، لتقدم وفاة البيهقي على وفاة ابن خلف، لأن البيهقي مات سنة ثمان وخمسين وأربعمئة، ومات ابن خلف سنة سبع وثمانين وأربعمئة.
وروينا عن أبي يعلى الخليل بن عبد الله الخليلي الحافظ رحمه الله قال : قد يكون الإسناد يعلو على غيره بتقدم موت راويه، وإن كانا متساويين في العدد ، ومثَّل ذلك من حديث نفسه بمثل ما ذكرناه .
ثم إن هذا كلام في العلو المبني على تقدم الوفاة المستفاد من نسبة شيخ إلى شيخ وقياس راو براو ؛ وأما العلو المستفاد من مجرد تقدم وفاة شيخك ----) إلى آخر كلامه الآتي بعد قليل من الكلام .
ولعل سبب تسمية هذا النوع من التحمل علواً وسبب رغبتهم فيه : هو أن قدماء أصحاب الشيخ يكونون في الغالب أتقن من غيرهم ، وكذلك قد يكون الغالب من مرويات هؤلاء الذين تتقدم وفياتهم العزةُ والغرابةُ ، إذ يقل الرواة عنهم ، بل قد يتفرد عنهم راو واحد ، فيغرب بتلك الطرق على أقرانه ومعاصريه ، وهذا النوع من الطرق مرغوب فيه عند المتأخرين .
النوع الثامن :
العلو بقِدم وفاة شيخ المحدث الذي عنه يروي ، أي العلو بمرور زمن طويل على وفاة الشيخ وتلميذُه حي يروي عنه(1) .
هذا النوع من العلو ذكره بعض المحدثين ، فأطلقه ولم يشترط فيه أي شرط آخر ، ولم يبين مقدار قِدم الوفاة ، ومنهم من حَّده بمضي خمسين سنة من تأريخ وفاة الشيخ ، ومنهم من حدّه بثلاثين تمضي ؛ قال ابن الصلاح في (المقدمة) (ص236) في تمام كلامه السابق :
__________
(1) هذا النوع علو بقِدم وفاة شيخ المحدث ، والنوع الثامن علو بقدم وفاة بعض من فوق شيخ المحدث ، ويكون في الغالب راوياً عن أحد الحفاظ الأئمة .(4/79)
(وأما العلو المستفاد من مجرد تقدم وفاة شيخك من غير نظر إلى قياسه براو أخر، فقد حده بعض أهل هذا الشأن بخمسين سنة ؛ وذلك ما رويناه عن أبي علي الحافظ النيسابوري قال : سمعت أحمد بن عمير الدمشقي(1) - وكان من أركان الحديث - يقول : "إسناد خمسين سنة من موت الشيخ إسناد علو" ؛ وفيما نروي عن أبي عبد الله بن منده الحافظ قال : "إذا مر على إسنادٍ ثلاثون سنة فهو عال" ؛ وهذا أوسع من الأول ، والله أعلم ) .
النوع التاسع :
العلو بقدم السماع من الشيخ ، فمن سمع منه متقدماً كان أعلى ممن سمع منه بعده .
قال ابن الصلاح (ص236) في تضاعيف ذكرِه أنواع العلو :
(الخامس : العلو المستفاد من تقدم السماع ؛ أنبؤنا(2) عن محمد بن ناصر الحافظ عن محمد بن طاهر الحافظ قال : "من العلو تقدمُ السماع" .
قلت : وكثير من هذا يدخل في النوع المذكور قبله ، وفيه ما لا يدخل في ذلك ، بل يمتاز عنه ، مثل أن يسمع شخصان من شيخ واحد ، وسماع أحدهما من ستين سنة مثلاً ، وسماع الآخر من أربعين سنة. فإذا تساوى السند إليهما في العدد : فالإسناد إلى الأول الذي تقدم سماعه أعلى ) ؛ انتهى .
ويتأكد ذلك في حق من اختلط شيخه أو خرف ؛ ولكن ربما كان المتأخر أرجح بأن يكون تحديثُهُ الأول قبل أن يبلغ درجة الإتقان والضبط ثم حصل له ذلك بعد .
هذا ما يتعلق بالعلو ، وأما النزول فضد العلو وتعرف أقسامه بمعرفة أضدادها المتقدم ذكرها ؛ ولكن لم يشتهر من أنواعه إلا النزول المطلق .
__________
(1) هو ابن جوصا .
(2) وفي نسخة خطية (أُنبئنا) .(4/80)
هذا وليُعلم أن الأئمة كانوا يحرصون على علو الصفة أكثر من حرصهم على علو القرب ، فكانوا يحرصون على سماع الرواية التي هي أعلى في صحتها وفي نظافة إسنادها ، أكثر من حرص المتأخرين على سماع الرواية التي هي أعلى بأقلية عدد رواتها ؛ روى أبو نعيم في (ذكر أخبار أصبهان) (2/220) عن إسحاق بن بشير الرازي قال : قال ابن المبارك : (ليس جودة الحديث في قرب الإسناد ، ولكن جودة الحديث صحة الرجال) .
وما أحسن ما قال العلامة المحقق الإمام ابن دقيق العيد في (الاقتراح) (ص301-303) في باب معرفة العالي والنازل ، إذ قال : (وقد عظُمت رغبةُ المتأخرين في طلب العلوِّ ، حتى كان ذلك سبباً لخلل كثير في الصنعة ، وقالوا : العلوُّ قرب من الله تعالى ، وهذا كلام يحتاج إلى تحقيق وبحث .
وقال بعض الزُّهاد : طلب العلوِّ من زينة الدنيا ، وهذا كلام واقع ، وهو الغالب على الطَّالبين لذلك .
ولا أعلم وجهاً جيِّداً لترجيح العلوّ ، إلا أنه أقرب إلى الصحة ، وقلة الخطأ ، فإن الطالبين يتفاوتون في الإتقان . والغالب عدم الإتقان في أبناء الزمان ، فإذا كثُرت الوسائط وقع من كل واسطة تساهلٌ ما كثرَ الخطأ والزَّلل ، وإذا قلت الوسائط قَلَّ .
فإن كان النزول فيه إتقان والعلو بضدِّه ، فلا تردُّدَ في أن النزول أولى .
ومن الناس من رجَّح النزول مطلقاً ، لأنه إذا كثرت الوسائط وجب كثرة البحث عن كل واسطة منها ، وإذا كثر البحث كثرت المشقة فعظُم الأجر ، وهذا ضعيف ، لأن كثرة المشقة ليست مطلوبة لنفسها ، ومراعاة المعنى المقصودِ من الرواية - وهو الصحة - أولى .
فقد ظهر أن قلة الوسائط أقربُ إلى الصحة ) .
وقال (ص308) : (ومن الناس من يعدُّ العلوَّ ، الإتقانَ والضبطَ ، وإن كان نازلاً في العدد ، وهذا علوٌّ معنويٌّ ، والأول صُوريٌّ ، ورعايةُ الثاني إذا تعارضا أولى ) .(4/81)
وقال ابن الصلاح في (المقدمة) (ص237) : (وأما ما رويناه عن الحافظ أبي طاهر السلفي رحمه الله من قوله في أبيات له :
بل علو الحديث بيْنَ أُولي الحفـ ــ ـظ والاتقان صحة الاسناد
وما رويناه عن الوزير نظام الملك من قوله : "عندي أن الحديث العالي ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإن بلغت رواته مئة" ؛ فهذا ونحوه ليس من قبيل العلو المتعارف إطلاقه بين أهل الحديث ، وإنما هو علو من حيث المعنى فحسب ، والله أعلم ) .
علو التنزيل :
قال ابن دقيق العيد في (الاقتراح) (ص303-308) :
(والعلوُّ أنواع :
أحدها : العلوُّ بالنسبة إلى قلة الوسائط بيننا وبين الرسول صلى الله عليه وسلم---- .
وثانيها : العلوُّ إلى إمام من أئمة الحديث ، كمالك ، وسفيان ، واللَّيث ، والأعمش ، وغيرهم .
وأعلى ما وقع لنا إلى مالك ( رحمه الله ) ستة رجال ، وأكثر منه سبعة .
ووقع لنا إلى سفيان ستة في أحاديث كثيرة ، بسبب طول عُمره وتأخرِه بعد مالك رحمهما الله تعالى .
وثالثها : العلوُّ إلى صاحبي الصحيحين ، ومصنفي الكتب المشهورة---- .
ورابعها : علوُّ التنزيل ، وهو الذي يُولعون به ، وذلك أن يُنظر إلى عدد الرجال بالنسبة إلى غاية : إما إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، أو إلى بعض رواة الحديث ، ويُنظر العدد بالنسبة إلى هؤلاءِ الأئمة وتلك الغاية فيتنزَّل بعض الرواة من الطريق التي توصلنا إلى المصنَّفين منزِلة بعض الرواة من الطريق التي ليست من جهتهم ، لو أردنا تخريج الحديث من جهتهم فيحصل بذلك علوّ .
مثاله : أن يكون بيننا وبين النبي صلى الله عليه وسلم تسعة أنفس ، ويكون أحد هؤلاء المُصَنِّفين بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم سبعة مثلاً ، فيتنزَّل هذا المصنِّف بمنزلة شيخ شيخنا ؛ فإن اتفق أن يتنزَّل منزلة شيخنا - وكأنا سمعنا ذلك الحديث من ذلك المصنف - سمَّوه مُصَافحةً .
وخامسها : العلوّ بقدَم السماع وإن استوى العدد .(4/82)
كما إذا روى شيخ من شيوخنا حديثاً عن شيخ قديم الوفاة ، كالحافظ أبي الحسن المَقْدِسي ، عن السِّلَفي ، وروينا نحن ذلك الحديث عن من تأخرت وفاته كابن بنت السِّلَفي ، فإنَّ المقدسي توفي سنة إحدى عسرة وستمئة ، وتوفي السِّبط سنة إحدى وخمسين ، فالعدد بالنسبة إلى السِّلَفي واحد ، إلاَّ أن الأول أقدم ؛ فهذا يُعدُّونه علوَّاً ، ويُثبتون له مَزِيَّةً في الرواية ) .
العلو المطلق :
انظر (العلو) .
العلو النسبي :
انظر (العلو) .
علوم الحديث :
تطلق هذه الكلمة على العلم المعروف بـ(علم المصطلح) ، وتطلق أيضاً على أقسام علم الحديث وأنواعه وأبوابه؛ وانظر (علم الحديث) و (أصول علم الحديث) .
العلة :
للعلة في عرف المحدثين معان عديدة :
فبعض العلماء يطلق اسم العلة على جميع ما وهم فيه الثقة.
ومنهم من يطلقها على ما خفي أو لم يسهل كشفُه من أوهام الثقات؛ أو من أوهامهم وأوهام غيرهم.
ومنهم من يطلقها على ما يقدح من أوهام الثقات فقط.
ومنهم من يطلقها على ما عدا الشذوذ من أوهام الثقات.
وهذه كلها ألفاظ لا تغير المعاني التي هي المقصود ، والتي مدارها قبول الحديث ورده وما يتعلق بهما من تصحيح مسألة وتخطئتها ؛ وأما المصطلحات فلا مشاحة فيها، ولكن ينبغي الحذر من الإيهام، وينبغي الاعتناء باصطلاح كل ناقد لمعرفته على وجهه الصحيح(1).
قال ابن الصلاح (ص81) شارحاً معنى الحديث المعلل ومعرّفاً العلة التي يوصف حديثها بأنه معلل : (النوع الثامن عشر معرفة الحديث المعلل ، ويسميه أهل الحديث "المعلول" ، وذلك منهم - ومن الفقهاء في قولهم في باب القياس : العلة والمعول - مرذول عند أهل العربية واللغة .
__________
(1) وكذلك ينبغي الحرص - فيما نستعمله نحن من مصطلحات - على متابعة الأئمة المتقدمين في اصطلاحاتهم ، فهي الأصل وعليها بنيت كل هذه الكتب ، إلا ما شذ عن ذلك ، وهو في غاية الندرة.(4/83)
اعلم أن معرفة علل الحديث من أجل علوم الحديث وأدقها وأشرفها، وإنما يضطلع(1) بذلك أهل الحفظ والخبرة والفهم الثاقب ؛ وهي عبارة عن أسباب خفية غامضة قادحة فيه .
فالحديث المعلل : هو الحديث الذي اطلع فيه على علة تقدح في صحته، مع أن ظاهره السلامة منها .
ويتطرق ذلك إلى الإسناد الذي رجاله ثقات : الجامع شرط الصحه من حيت الظاهر ) .
فقيَّد ابن الصلاح (العلة) في الاصطلاح بقيدي الخفاء والقدح، مع أن ابن الصلاح نفسه يعلم أن اصطلاح المحدثين أوسع من ذلك ، فقد قال هو (ص84) في آخر هذا الموضوع : (ثم اعلم أنه قد يطلق اسم العلة على غير ما ذكرناه من باقي الأسباب القادحة في الحديث(2)، المخرجة له من حال الصحة إلى حال الضعف، المانعة من العمل به، على ما هو مقتضى لفظ (العلة) في الأصل ؛ ولذلك تجد في كتب علل الحديث الكثيرَ من الجَرح بالكذب والغفلة وسوء الحفظ ونحو ذلك من أنواع الجرح؛ وسمى الترمذي النسخ علة من علل الحديث(3)؛ ثم إن بعضهم أطلق اسم العلة على ما ليس بقادح من وجوه الخلاف، نحو إرسال من أرسل الحديث الذي أسنده الثقة الضابط حتى قال : من أقسام الصحيح ما هو صحيح معلول، كما قال بعضهم : من الصحيح ما هو صحيح شاذ).
__________
(1) قال الدكتور نور الدين عتر : (مأخوذ من التضلع ، وهو أن يمتلئ الإنسان من شرب الماء حتى يبلغ أضلاعَه ، والمراد الامتلاء من هذا العلم) ؛ كذا قال ، والأقرب أنه هنا من قولهم (ضلعَ) : أي قوي واشتدت أضلاعه ؛ فاضطلع للأمر وعليه وبه : قوي عليه ونهض به .
نعم ، هذا المعنى فرعٌ عن المعنى الذي ذكره ، فالامتلاء من العلم قوة فيه .
(2) يريد بالباقي الأسباب غير الخفية.
(3) هكذا قيل، والظاهر أرى أن الترمذي إنما أراد بتسمية النسخ علةً كونَه علةً مانعةً من العمل بالحديث؛ فهو علةٌ عملية فقهية وليس علةً علمية حديثية نقدية؛ والله أعلم.(4/84)
وقد انتقده الدكتور حاتم العوني فقال في (المنهج المقترح) (ص220 - 221) في معرض نقده صنيع المتأخرين وتصرفاتهم التي أدت إلى تغيير مدلولات المصطلحات عما كانت عليه عند (أهل الاصطلاح) من المحدثين، إما بتضييق مدلول المصطلح أو بتوسيعه!! فقال : (إذن فابن الصلاح كان يعلم أن استخدام المحدثين لفظ "العلة" شامل للعلة الخفية والظاهرة والقادحة وغير القادحة؛ فلِمَ قَصَره ابنُ الصلاح في "العلة الخفية القادحة"؟! ثم ما هي فائدة هذا التدخل في تفسير المصطلح؟! ثم كم سيشوِّش هذا المعنى الذي ذكره ابن الصلاح لـ(العلة) في فهم تعليلات الأئمة فيما لو فُهم كلامهم على ذلك المعنى الضيق المخالف لسعة معنى المصطلح عندهم؟! ثم انظر : كم قلد ابنَ الصلاح ممن جاء بعده في هذا التدخل ؟!
ولئن ذكر ابنُ الصلاح أن تفسيره لـ(العلة) في اصطلاح المحدثين يخالفه اصطلاحهم! فإن مَن جاء بعده ألقى بأقوال المحدثين المخالفة لذلك التفسير، واقتصر في تعريف "العلة" على تفسير ابن الصلاح لها(1)! وبذلك تزداد الهوة ويفدح الخطر!) ؛ انتهى.
وقال عبد الله بن يوسف الجديع في (التحرير) (2/642) مبيناً طريقةُ النُّقَّاد فيما يسمَّى (علّة) : (اعلم أن أئمة الحديث أطْلقوا لَفْظَ "العلَّة" على ما هو أعم من الخفية في الإسناد الجامع في الظاهر لشروط القبول ، فأطلقوا اللفظ على : الظاهرة ، والخفية ، كما أطلقوه من جهة أخرى على : القادحة ، وغير القادحة ، على ما سأذكره .
و (العلة الخفية) واردة في تحقيق أهل هذه الصنعة في الإسناد ، وواردة في المتن ، خلافاً لما شوش به طائفة ممن تعرض لنقد السنة من المعاصرين من المستشرقين ومن تأثر بهم من المسلمين : أن المحدثين اعتنوا بنقد الإسناد دون المتن ، فهذا منهم يرجع في خلاصته إلى سببين :
الأول : ضعف معرفتهم بمنهج أهل الحديث ، وذلك ظاهر في ضعف استقرائهم .
__________
(1) وأحال في الهامش على (نزهة النظر) .(4/85)
والثاني : التأثر بطريقة المتأخرين من علماء الحديث ، الذين أهمل أكثرهم اعتبار البحث عن العلل الخفية في الأحاديث ، بل حكموا بتصحيح الأحاديث الكثيرة التي أعلها المتقدمون ، من أجل ما أجروا عليه الحكم من مجرد اعتبار النظر إلى ظاهر الإسناد .
واعلم أن "العلة" في المتن توجب طعناً في الإسناد ، ولا بد ، حتى وإن كان ظاهر الإسناد السلامة من العلل ، فإنه لا بد أن يكون أخطأ فيه راوٍِ ، أو دلس ، والنقاد يبينون ممن يكون الخطأ والوهم ، أو التدليس ، من رواة الإسناد الثقات .
واعلم أنه لم يسلم من الوهم أوثق نقلة الحديث ، من مثل شعبة بن الحجاج ، وسفيان الثوري ، ومالك بن أنس ، وهؤلاء رءوس الحفاظ .
فأحصَيتُ لشعبة في "علل ابن أبي حاتم" الخطأ في تسعة مواضع ، وللثوري في ثلاثة مواضع ، وكانا يعتمدان على حفظ الصدر ، والثوري أحفظ من شعبة ، ولمالك الوهم في اسم بعض رواة الإسناد ، ولا يكاد يذكر له وهم في الكتب إلا بندْرة ، حتى قال في وصفه ابن حجر : " رأس المتقنين ، وكبير المتثبِّتين "(1) ، والعلة(2) أنه كان يعود حفظه إلى طريقي التوثُّق : الصدر والكتاب .
لكن المقصود أن تعلم أنه لم يسلم أحد من الرواة من وهم وإن ندر) ؛ انتهى .
تنبيه : ممن أطلق اسم العلة على معنى لا يسمى علة عند الجمهور : أبو عيسى الترمذيُّ ، سمى النسخَ علة ، قال العراقي في ألفيته وشرحِها (رقم البيت 208)(3) :
- - - 0وَالنَّسْخَ سَمَّى (التِّرْمِذِيُّ) عِلَّهْ
?
?
فَإنْ يُرِدْ في عَمَلٍ فَاجْنَحْ لَهْ
- - -
أي : وسمَّى الترمذيُّ النسخَ علةً من عللِ الحديثِ .
__________
(1) تقريب التهذيب (الترجمة 6425) .
(2) الظاهر أنه يريد بكلمة العلة هذه السببَ في شدة إتقان الإمام مالك وندرة وهمه فيما يرويه .
(3) طبعة الدكتور ماهر ياسين الفحل .(4/86)
وقولي ( فإنْ يرد ) ، هو من الزوائد على ابن الصلاح ، أي : فإنْ أرادَ الترمذيُّ أنه علّةٌ في العمل بالحديث ، فهو كلامٌ صحيحٌ فاجنح له ، أي : مِلْ إلى كلامه ؛ وإنْ يُرد أنّهُ علةٌ في صحةِ نقلِهِ ، فلا ؛ لأنَّ في الصحيحِ أحاديثَ كثيرةً منسوخةً ، وسيأتي الكلامُ على النسخِ في فصلِ الناسخِ والمنسوخِ ؛ انتهى كلام الحافظ العراقي رحمه الله .
ويظهر أن الترمذي أراد أن النسخ علة في العمل بالحديث ، ولم يُرد أنه علة في صحته؛ وإذا كان الأمر كذلك فمورد عبارته غير مورد عبارة الجمهور ، فلا يُعدُّ ذلك اختلافاً اصطلاحياً بينه وبينهم.
وانظر (معل) و (علم العلل) و (النقد الخفي).
العلة القادحة :
العلل الواقعة في الأحاديث من جهة تأثيرها عليها نوعان :
النوع الأول : العلل القادحة ، أي التي تمنع صحة المتن وتقدح فيها .
النوع الثاني : العلل غير القادحة ، وهي ما لا يمنع من تصحيح المتن المروي بذلك السند ، مثل أن يضطرب الراوي الثقة في الحديث فيرويه مرة عن أحد شيوخه الثقات ، ويرويه مرة أخرى عن شيخ آخر من ثقات شيوخه أيضاً ، كأن يكون أخاً لذلك الشيخ الأول ، ويكون الإسناد متصلاً في الحالتين .
ويظهر أن هذا الاصطلاح - أعني تقسيم العلل إلى قادحة وغير قادحة - اصطلاح متأخر وفيه بعض الميل إلى طريقة الفقهاء ؛ لأن طريقة المحدثين مفادها أن كل العلل قادحة ، لأن القدح عندهم هو الخطأ ، مهما كان نوعه ، وهم يحرصون على الصواب في الرواية ، وعلى معرفة الصحيح منها ، والقدح في صحة الاسناد يعدونه قدحاً أيضاً ؛ وبعبارة أخرى : إن نظر المحدثين لا ينحصر في المتن وحده بل يعم المتن والسند ، بخلاف الفقهاء ومن شاكلهم من متأخري المحدثين .
وبقي التنبيه على أمر آخر :
إن وصف العلة بالقدح - أي في المتن - أمرٌ نسبي ، يتباين بتباين الأحوال والقرائن ؛ قال العلامة الألمعي المعلمي اليماني رحمه الله في مقدمته لتحقيق (الفوائد المجموعة) (ص8-9) :(4/87)
(إذا استنكر الأئمة المحققون المتن، وكان ظاهر السند الصحة ، فإنهم يتطلبون له علةً ، فإذا لم يجدوا علةً قادحة مطلقاً حيث وقعت : أعلّوه بعلة ليست بقادحة مطلقاً، ولكنهم يرونها كافية للقدح في ذاك المنكر ؛ فمن ذلك إعلاله بأنَّ راويه لم يصرّح بالسماع ، هذا مع أن الراوي غير مدلس .
أعلَّ البخاري بذلك خبراً رواه عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب ، عن عكرمة ؛ تراه في ترجمة عمرو من "التهذيب" .
ونحو ذلك كلامه في حديث عمرو بن دينار في القضاء بالشاهد واليمين .
ونحوه أيضاً كلام شيخه علي ابن المديني في حديث "خلق الله التربة يوم السبت... إلخ" ، كما تراه في "الأسماء والصفات" للبيهقي .
وكذلك أعلَّ أبو حاتم خبراً رواه الليث بن سعد عن سعيد المقبري ، كما تراه في "علل ابن أبي حاتم" (2/353) .
ومن ذلك إشارة البخاري إلى إعلال حديث الجمع بين الصلاتين ، بأنَّ قتيبة لمّا كتبه عن الليث كان معه خالد المدائني ، وكان خالد يُدخل على الشيوخ ؛ يراجَع "معرفة (علوم) الحديث" للحاكم (ص120) .
ومن ذلك الإعلال بالحمل على الخطأ ، وإن لم يتبين وجهه ، كإعلالهم حديث عبدالملك بن أبي سليمان في الشفعة .
ومن ذلك إعلالهم بظنِّ أن الحديث أُدخل على الشيخ ، كما ترى في "لسان الميزان" في ترجمة الفضل بن الحباب وغيرها .
وحجتهم في هذا أن عدم القدح بتلك العلة مطلقاً ، إنما بُني على أن دخول الخلل من جهتها نادر، فإذا اتفق أن يكون المتنُ منكراً يغلب على ظنِّ الناقد بطلانُه ، فقد يُحقق(1) وجود الخلل، وإذا لم يوجد سبب له إلا تلك العلة، فالظاهر أنها هي السبب، وأن هذا من ذاك النادر الذي يجيء الخلل فيه من جهتها .
__________
(1) هكذا في المطبوعة ، ولعلها (تحقق) .(4/88)
وبهذا يتبين أن ما يقع ممن دونهم من التعقب بأن تلك العلة غير قادحة ، وأنهم قد صححوا ما لا يُحصى من الأحاديث، مع وجودها فيها، إنما هو غفلة عما تقدم من الفرق ، اللهم إلا أن يُثبِتَ المتعقبُ أنَّ الخبرَ غيرُ منكر ) .
عن :
هذه اللفظة واحدة من أخف وأخصر صيغ الأداء وأكثرها تكرراً في الأسانيد ؛ ولها في معناها وحكمها أربعة أحوال :
أحدها : أن يستعملها راو غير مدلس ، ويكون استعماله لها في غير ما يأخذه بالإجازة ، ففي هذه الحالة تكون (عن) بمنزلة (حدثنا) و(أخبرنا) إذا كان الراوي الذي فوقه(1) من شيوخه .
الثاني : أن يستعملها المدلس ، والأصل في عنعنة المدلس الرد ، إلا ما يستثنى من ذلك مما بينه العلماء في مواضعه من كتبهم .
الثالث : أن تُستعمل بطريقة تشبه التدليس من جهة وتخالفه من جهة أخرى ، وهي استعمال المتأخرين لها في الإجازة ، ولولا اصطلاحهم على استعمالها فيها وشيوع عرفهم بذلك لعُدَّ هذا الصنيع من صانعه تدليساً .
الرابع : أن يكون لها معنى لغوي أو عرفي لا علاقة له باتصال ولا انقطاع ، وكما يأتي بيانه .
قال ابن حجر في (النكت) (2/585-590) : (حاصل كلام المصنف أن للفظ "عن" ثلاثة أحوال :
أحدها : أنها بمنزلة "حدثنا" و "أخبرنا" بالشرط السابق .
الثاني : أنها ليست بتلك المنزلة إذا صدرت عن مدلس ، وهاتان الحالتان مختصتان بالمتقدمين .
وأما المتأخرون - وهم من بعد الخمسمئة وهلم جراً - فاصطلحوا عليها للإجازة ، فهي بمنزلة "أخبرنا" ، لكنه إخبار جُمْلي كما سيأتي تقريره في الكلام على الإجازة ؛ وهذه هي الحالة الثالثة ؛ ولأجل هذا قال المصنف : "لا يخرجها ذلك من قبيل الاتصال ، إلا أن الفرق بينها وبين الحالة الأولى مبني على الفرق فيما بين السماع والإجازة ، لكون السماع أرجح ، والله أعلم .
__________
(1) أي أول راو يذكره في السند.(4/89)
وإذا تقرر هذا فقد فات المصنفَ حالةٌ أخرى لهذه اللفظة وهي خفية جداً قلَّ من نبه عليها ، بل لم ينبه عليها أحد من المصنفين في علوم الحديث مع شدة الحاجة إليها ، وهي أنها ترد ولا يتعلق بها حكم باتصال ولا انقطاع ، بل يكون المراد بها سياق قصة سواء أدركها الناقل أو لم يدركها ، ويكون هناك شيء محذوف مقدر .
ومثال ذلك : ما أخرجه ابن أبي خيثمة في (تاريخه) عن أبيه قال : "ثنا أبو بكر بن عياش : ثنا أبو إسحاق عن أبي الأحوص أنه خرج عليه خوارج فقتلوه" .
فهذا لم يُرِدْ أبو إسحاق بقوله "عن أبي الأحوص" أنه أخبره به ، وإنما فيه شيء محذوف تقديره : "عن قصة أبي الأحوص" ، أو "عن شأن أبي الأحوص" ، أو ما أشبه ذلك ، لأنه لا يمكن أن يكون أبو الأحوص حدثه بعد قتله .
ونظير ذلك : ما رواه ابن منده في "المعرفة" في ترجمة معاوية بن معاوية الليثي قال : أنا محمد بن يعقوب : ثنا ابن أبي داود ثنا يونس بن محمد ثنا صدقة بن أبي سهل ، عن يونس بن عبيد عن الحسن عن معاوية بن معاوية رضي الله تعالى عنه ، قال(1) : "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان غازياً بتبوك ، فأتاه جبريل عليه الصلاة والسلام ، فقال : يا محمد : هل لك في جنازة معاوية بن معاوية ؟ قال صلى الله عليه وسلم : نعم ؛ فقال جبريل عليه الصلاة والسلام هكذا بيده ، ففرج له عن الجبال والآكام" فذكر الحديث .
قال ابن مندة : "هكذا قال يونس بن محمد "عن معاوية" ، والصواب مرسل" .
قلت : ووجه الإشكال فيه أن معاوية رضي الله تعالى عنه مات في حياة النبي صلى الله عليه وسلم - كما ترى - ، فكيف يتهيأ للحسن أن يسمع منه قصة موته ، ويحدث بها عنه ؛ وما المراد إلا ما ذكرتُ : أنه لم يقصد بقوله "عن معاوية" الروايةَ ، وإنما يُحمل على محذوف تقديره "عن قصة معاوية بن معاوية رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم" إلى آخره ؛ فيظهر حينئذ الإرسال .
__________
(1) أي الحسن .(4/90)
ونظير ذلك : ما ذكره موسى بن هارون الحمال ، ونقله عنه أبو عمر ابن عبد البر في كتاب "التمهيد" فقال : "روى مالك عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن محمد بن إبراهيم التيمي عن عيسى بن طلحة عن عمير بن سلمة عن البهزي قال : "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يريد مكة وهو محرم ، حتى إذا كان بالروحاء إذا حمار وحشي عقير ، فذُكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : دعوه ، فإنه يوشك أن يأتي صاحبه ، فجاء البهزي وهو صاحبه ، فقال : شأنكم به" الحديثَ .
هكذا رواه مالك وتابعه غيره .
وظاهر هذا يعطي أن عمير بن سلمة رواه عن البهزي ، وليس كذلك ، بل عمير بن سلمة حضر القصة وشاهدها كلها ، فقد رواه الليث بن سعد عن يزيد بن الهاد عن محمد بن إبراهيم عن عيسى بن طلحة عن عمير بن سلمة قال : بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر هذا الحديث . وكذا رواه عبد ربه بن سعيد عن محمد بن إبراهيم .
وكذا رواه حماد بن زيد وغير واحد عن يحيى بن سعيد شيخ مالك .
قال موسى بن هارون : "والظاهر أن قوله "عن البهزي" من زيادة يحيى بن سعيد ، كان أحياناً يقولها ، وأحياناً لا يقولها ، وكان هذا جائزاً عند المشيخة الأولى : أن يقولوا : "عن فلان" ولا يريدون بذلك الرواية ، وإنما معناه : "عن قصة فلان" ؛ انتهى كلام موسى بن هاورن ملخصاً ، وهو صريح فيما قصدناه .
وقال ابن عبد البر في حديث بسر بن سعيد عن أبي سعيد الخدري عن أبي موسى الأشعري - رضي الله تعالى عنه - في قصة الاستئذان ثلاثاً : "ليس المقصود من هذا رواية أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه لهذا الحديث عن أبي موسى ، لأن أبا سعيد سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم وشهد بذلك لأبي موسى عن عمر رضي الله تعالى عنه ، وإنما وقع هذا على سبيل التحرز ؛ والمراد : عن أبي سعيد عن قصة أبي موسى رضي الله تعالى عنهما" .(4/91)
قلت : وأمثلة هذا كثيرة ، ومن تتبعها وجد سبيلاً إلى التعقب على أصحاب المسانيد ومصنفي الأطراف ، في عدة مواضع يتعين الحمل فيها على ما وصفنا من المراد بهذه العنعنة ، والله أعلم ) ؛ انتهى كلام ابن حجر .
ومن الأمثلة الأخرى لما تقدم ما رواه البخاري في (صحيحه) (4509) قال : حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبو عوانة عن حصين عن الشعبي عن عَدِيٍّ قال : (أخذ عَدَيٌّ عقالاً أبيض وعقالاً أسود ، حتى كان بعضُ الليل نظر فلم يستبينا ؛ فلما أصبح قال : يا رسول الله جعلت تحت وسادي(1) ؛ قال : إنَّ وسادَك إذاً لعريض أَنْ كان الخيط الأبيض والأسود تحت وسادتك).
فهذه الرواية الجادة فيها أن تكون هكذا (--- عن الشعبي قال : أخذ عدي ---) ، ولكن ورد في سياقها هذا الحرف (عن عدي) ، فهو لفظة زائدة من الرواة ، والتقدير (عن الشعبي عن قصة عدي) ، أو (عن الشعبي يروي عن عدي) ؛ وفاعل الفعل (قال) الواقع عقب كلمة (عدي) هو الشعبي لا عدي ، كما هو معروف وكما يقتضيه السياق ، وهكذا ورد في روايات أخرى للحديث، منها رواية البخاري (1916)(2) ففيها (حدثنا حجاج بن منهال حدثنا هشيم قال أخبرني حصين بن عبد الرحمن عن الشعبي عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال : لما نزلت (وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ)(3) عمدت إلى عقال أسود وإلى عقال أبيض فجعلتهما تحت وسادتي ، فجعلت أنظر في الليل فلا يستبين لي ، فغدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك ، فقال : إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار).
ثم تكلم ابن حجر (2/590-593) على الفرق بين قول الراوي "عن فلان" وقوله "أنَّ فلاناً" ، فليرجع إليه من أحبّ .
عندي :
انظر (لا بأس به عندي) .
__________
(1) هكذا رواية البخاري هذه ، فهي مختصرة.
(2) وكذلك رواية البخاري (4510).
(3) البقرة (187) .(4/92)
وأزيد هنا أن أنبه على ضرورة أن يتعرَّف من قلَّ نصيبُه من العلم(1) قدْرَ علمه ونفسه فلا يستعمل عبارات العلماء التي لا تليق بغيرهم ، ولا ينسج على منوالهم الذي يختص بهم ، ألا ترى ما حصل في هذه الأزمنة من تكاثر التعالم ولا علْم ، وانتشار الدعاوى العريضة التي تزكم الأنوف ، وتُلبِّس على الناس أمر دينهم ؟ ألا ترى هذه العبارات التي تصدر من صغار الطلبة الذين لا يحسنون الطلب ، ترى ديدن أحدهم أن يرد على الشاقعي في الفقه وعلى أحمد في السنة وعلى ابن المديني في العلل وعلى ابن معين في الرجال ، ولو عرف قدرهم أو قدر نفسه لغطى وجهه حياءً من ذكرهم إذا ذكروا عنده ؛ وترى طويلباً آخر يأبى إلا أن يستعمل ألفاظ الفحول والفخم من عباراتهم التي هم لها أهلٌ ، فيقول تارة : وعندي أن هذا الأمر كذا ، وتارة أخرى يقول : والراجح عندي كذا ، وحيناً يقول : وهذا فيه نظر عندي ، ثم لا يبين ما هو ذلك النظر ؛ وكلما تأخر الزمن كثرت عجائبه ولكن يقلُ تعجبُ أهله ، والله المستعان .
وجدير بهذا الموضع أن أذكّر فيه بكتاب العلامة المحقق صاحب التصانيف الحسان الحافلة بالفوائد الشيخ بكر بن عبدالله أبو زيد حفظه الله لأمته وشفاه من علته (التعالم وأثره على الفكر والكتاب) .
التعالم هو ادعاء العلم بالقول أو العمل أو الحال أو الهيئة ونحو ذلك ، ممن ليس من أهل العلم .
وهو آفة شديد خطرها عظيم فتكها ، إنها إحدى كبار المصيبات التي صُبَّت على هذه الأمة ودام بقاؤها في تزايد ، وإحدى الفتن التي يصعب تقليل شرها وضررها على الأمة على رغم ما يبذله من أجل ذلك كلُّ عامل من العلماء وكلُّ حكيمٍ من الدعاة وكل مصلح مجاهد .
ولانتشار هذا المرض أسباب ، ذكرها العلامة بكر بن عبدالله أبو زيد في (التعالم وأثره على الفكر والكتاب) (ص33 - المجموعة العلمية) فقال :
(ويمكن إحمالُ الأسباب على ما يلي :
__________
(1) كما هو شأن العبد الضعيف جامع هذا الكتاب عفا الله عنه .(4/93)
قعود المتأهلين عن البلاغِ ونزولِ ساحة المعاصرة .
ضعف الإمداد السليم .
ضعف الالتفات إلى تلمُّس العلل وعلاجها .
استشراء داء حب الشهرة ، لغياب قوة الإيمان .
انفصال عروة الاتصال بين الطالب وكتب السلف ، إذ أن التلقي صار بالمذكرات والمؤلفات الحديثَة .
قلب "لغة العلم" في المصطلحات بما لا يتواطأ مع "لغة العلم" لكتب السلف ).
ثم علق عليها بهذا الكلام : (فهذه غُصَصٌ مولدة للأوجاع المذكورة ؛ والله الموعد) .
وقال في (التعالم) أيضاً (ص88-89) :
(ومن أسوأ ظواهر التعالم : "إثبات الشخصية في الرسائل" بما تلقاه عدد من الطلاب في إعداد رسائلهم عن أساتيذهم في الإشراف والمناقشة ، من أن وسيلة القبول وعنوان النجاح وقائد "الامتياز" : أن يخوض الطالب غنار الترجيح والاختيار والقبول والرد !
ولهذا فترى الرسائل محشورةً(1) سطورها بهذه العبارات السمجة :
(ترجيحنا ، اختيارنا ، رأْينا ، ونحن نرفض هذا القول ، ونحن نرى ، ونحن لا نؤيد هذا الرأي ، وهذا الحديث صحيح ، وذاك ضعيف ... ) .
قال ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى :
يقولون هذا عندنا غير جائز
ومن أنتم حتى يكون لكم عند
وهكذا في بلاء متناسل ، فالمشرف يَزْأَرُ على الطالب بإثبات شخصيته من هذا الوجه .
والمناقش يأتي - وقد ارتدى الجبة أو العباءة السوداء ، وهذا تقليد كَنَسيٌّ في مناقشة الرسائل ، يجب على أهل العلم والإيمان مخالفتهم فيه - يأتي فأول ما يستفتح المناقشة بأنه رأى الطالب قد ظهرت ووضحت شخصيته في إعداد الرسالة مشيراً إلى ذلك الوجه .
فلا تسألْ عن نشوة الجميع ، وما بين أيديهم إلا بضاعةٌ مزجاة ، يخادعون أنفسهم .
ومن أسوأ ما رأيتُ وما سمعتُ : رسائل في محاكمة الحفاظ ، أمثال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى ، في حكمه على الرجال في (التقريب) كمن قال فيه مجهول مثلاً .
__________
(1) كذا ، بالراء بعد الواو .(4/94)
وهذه لا يمكن أن تقع إلا بمشورة حنفي محترق ، لأن أحكام الحافظ ابن حجر على كثير من الرجال في مراتب : مجهول ... لا تأتي على مسلك أهل الرأي في توثيق المجاهيل قبل 300هـ مثلاً ، والطلاب يقعون في هذا وهم لا يعلمون ، فإنا لله وإنا إليه راجعون .
فيجب على أهل العلم والإيمان رسم القنوات الضابطة لإعداد الرسائل ، التي تصد هذا التعالم الجبري ، وتكف أغراض عِصْبة التعصب ، والله المستعان) ؛ انتهى .
وأختم بقول من قال فأحسن :
متى تصلُ العُطاشُ إلى ارتواءٍ
إذا استقت البحارُ من الرَّكايا
ومن يَثْني الأصاغرَ عن مرادٍ
وقد جلسَ الأكابرُ في الزَّوايا
وإنَّ تَرَفُّعَ الوُضَعاء يوماً
على الرُّفَعاء مِن إحدى البلايا
إذا استوت الأسافلُ والأعالي
فقد طابت منادمةُ المَنايا
عنعن :
فعلٌ ماضٍ اشتقوه من قول الراوي (عن فلان عن فلان----) ، فمعنى عنعنة الراوي رايته الحديث بصيغة (عن) أو نحوها من الصيغ المحتملة ؛ ومصدره (العنعنة) ؛ وانظر (معنعن) و(عن) .
العنعنة :
انظر (معنعَن) و(عن) و(عنعن) .
عن رجل :
إذا قال المحدِّث في روايته الحديث : (عن رجل) ، فهو - أعني ذلك الرجل - راو مجهول العين ، بل هو - كما هو واضح - مبهم ، أي مجهول العين والاسم.
وقد كان بعض المحدثين يترك أحياناً تسمية بعض الرواة في الإسناد ، من شيوخه أو ممن فوقهم ، عمداً ، مع معرفته لهم ، أي حفظه لأسمائهم، لأنهم ضعفاء عنده ؛ قال الإمام أحمد في أبان بن أبي عياش : هو متروك الحديث ، كان وكيع إذا مر على حديثه يقول : رجل ، ولا يسميه استضعافاً له. نقله الذهبي في (الميزان) في ترجمة أبان.(4/95)
وقال عبد الله بن أحمد في (العلل ومعرفة الرجال) : (قال أبي : كان وكيع إذا حدث عن سفيان عن مسلم الأعور يقول : "سفيان عن رجل" ، وربما قال : "سفيان عن أبي عبد الله عن مجاهد" ، وهو مسلم ، قلت : لِمَ لا يسميه ؟ قال : يضعفه)(1) .
ورواية المبهم الأصل فيها أنها ضعيفة ، وقد تخرج عن هذا الأصل ، مثل أن يكون المبهم صحابياً .
عن فلان :
انظر (روى عن فلان) .
العوالي :
كتب العوالي : هي كتب يشترط فيها المؤلفُ العلوَّ المطلق أي قلة الوسائط - أي رجال السند - بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم .
أو يَشترط فيها العلوَّ النسبي ، أو المقيَّد ، وهو قلة الوسائط بينه وبين أحد أئمة الحديث .
ومن أمثلة كتب العلو المقيد : (عوالي أبي نعيم الأصبهاني عن أبي نعيم الفضل بن دكين) ؛ و(عوالي أبي نعيم الأصبهاني [أيضاً] عن سعيد بن منصور)، كلاهما لأبي نعيم، و(بغية الملتمس في سباعيات حديث الإمام مالك بن أنس) ، للحافظ العلائي ، وهو في الأحاديث التي بينه وبين مالك فيها سبعة رواة .
__________
(1) وقال ابن حجر في ترجمة الحارث بن عبد الرحمن بن عبد الله من (التهذيب) : (قال ابن المديني : أرى مالكاً سمعه من الحارث ولم يسمه ، وما رأيت في كتب مالك عنه شيئاً ، قلت : وهذه عادة مالك فيمن لا يعتمد عليه لا يسميه) .
وقال ابن حجر في ترجمة عبيدة بن معتب الضبي : (وقال يعقوب بن سفيان : حديثه لا يساوي شيئاً ، وكان الثوري إذا روى عنه كناه قال : أبو عبد الكريم ، قال : وسفيان لا يكاد يكني رجلاً إلا وفيه ضعف) .(4/96)
وقال الكتاني في (الرسالة المستطرفة) (ص164) : (ومنها كتب في عوالي بعض المحدثين وهي كثيرة ، ككتاب "عوالي الأعمش" لأبي الحجاج يوسف بن خليل الدمشقي ، و "عوالي عبد الرزاق" للضياء محمد بن عبد الواحد المقدسي ، في ستة أجزاء ، و "عوالي سفيان بن عيينة" لأبي عبد الله محمد بن إسحاق بن منده ، و "عوالي مالك" لأبي عبد الله الحاكم ----) إلى آخر ما ذكره من كتب هذا الباب ؛ ولينظر هل هذه الكتب كتب علوٍّ نسبي لمصنفيها ، أعني علوهم إلى الأئمة المذكورين ، أم هي كتب علو مطلق لأولئك الأئمة .
ثُم هناك كتب كثيرة يشترط فيها أصحابها مع العلو تساوي أسانيد أحاديثها من حيث عدد رجالها ، كالسباعيات ، والثمانيات ، والتساعيات ، والعشاريات ، ونحوها مما جمعه المتأخرون لأنفسهم ، أو خرجوها لغيرهم كبعض شيوخهم ، أو التقطوها من مصنفات الأئمة ، كـ(ثلاثيات المسند) و (ثلاثيات البخاري) و (ثلاثيات الكتب الستة والمسند) .
وانظر (العلو) و (الوحدانيات) و (الثنائيات) و(الثلاثيات) و (الرباعيات) و (الخماسيات) و (السداسيات) و (السباعيات) و (الثمانيات) و (التساعيات) و (العشاريات) .
عَوجَ فَمَه :
قال ابن حجر في (تهذيب التهذيب) (9/85) : (وقال ابن المديني : كنت إذا ذكرت غندراً ليحيى بن سعيد عوج فمه ، كأنه يضعفه ) .
وقال العقيلي في (الضعفاء) (2/434) (527)(1) في ترجة (زياد أبو عمر) : (حدثنا محمد قال حدثنا صالح(2) قال حدثنا علي قال : قلت ليحيى : إن عبد الرحمن زعم أن زياداً أبا عمر كان ثبتاً ، فعوج يحيى فمه ، قال : كان شيخاً لا بأس به ، وأما الحديث فلا)(3) .
وكأن تعويج الفم هنا ليس لتضعيف زياد بل لتضعيف كلام عبدالرحمن بن مهدي في توثيق هذا الرجل وتثبيته .
عين الراوي :
أي شخصه وذاته ؛ وانظر (مجهول) و(مجهول العين).
__________
(1) طبعة دار الصميعي .
(2) ابن أحمد .
(3) وأخرجه من طريق صالح به ابنُ عدي في (الكامل) (3/193) .(4/97)
فصل الغين
غاية علم الحديث :
ليس غاية علم الحديث مجرد جمع الأحاديث أو حفظها أو تخريجها ، أو نحو ذلك من الأمور التي هي في الحقيقة وسائل مطلوبة لغيرها لا لذاتها ، فليست بغايات .
وإنما غاية علم الحديث الاحتجاج بما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أبواب العلم والعمل ، وذب الكذب والخطأ الذي وقع عليه صلى الله عليه وسلم .
ولا يخفى أن الاحتجاج بالنص فرع عن معرفة معناه ، وعن معرفة كيفية الاستدلال به والاستنباطِ منه والتفريعِ عليه .
ولهذا ظهرت حاجة الأمة ، ولا سيما بعد القرون الفاضلة قرون الفصاحة والبلاغة والبساطة وحسن الفهم وسلامة الذوق ، إلى بيان معنى الحديث وبيان ما يؤخذ منه ويبنى عليه ، وبيان كيفية الجمع بينه وبين الأصول الصحيحة والنصوص الثابتة إذا عارض ظاهرها ظاهره .
وهكذا استجد أنواع من الكتب في هذه المقاصد :
النوع الأول : كتب غريب الحديث .
النوع الثاني : كتب شرح مشكل الحديث .
النوع الثالث : كتب مختلف الحديث .
النوع الرابع : كتب فقه الحديث .
النوع الخامس : كتب شروح الأحاديث ؛ وهي جامعة لمقاصد الأربعة الأنواع قبلها .
وتجد شيئاً من التفصيل في هذه الأنواع الخمسة من الكتب في مواضعها من هذا المعجم .
الغرائب :
أي الأحاديث الغريبة ؛ وانظر (غريب) و(كتب الغرائب) و(فائدة).
الغرباء :
الغرباء هم الذين يدخلون بلداً وليسوا من أهله ، سواء كانوا من الطلبة أو الرواة أو من علماء الجرح والتعديل أو غيرهم ؛ وانظر (بلدي الرجل أعرف به) .
غريب :
تنقسم الأحاديث في اصطلاح المتأخرين - من حيث عدد أسانيدها - إلى متواترة وآحاد؛ وتنقسم أحاديث الآحاد في اصطلاحهم أيضاً - بحسب عدد أسانيدها - إلى ثلاثة اقسام :
الأول : الغريب ، وهو عندهم ما له إسناد واحد فقط .
والثاني : العزيز ، وهو عندهم ما له إسنادان فقط .(4/98)
والثالث : المشهور ، وهو عندهم ما انحصر بين العزيز والمتواتر(1) .
هذا تقسيم المتأخرين وهو تقسيم رياضي محض ، يُنظر فيه إلى العدد مجرداً ، وليس كذلك المتقدمون ، فهم يرمون من وراء التقسيمات والتسميات أغراضاً نقدية مهمة ، ويومئون بها إلى معانٍ يريدون تبليغها .
فالغريب عندهم له معنى يختلف بعض الشيء عما ذكر هنا ، وكذلك قسيماه العزيز والمشهور ؛ قال ابن طاهر في مقدمة (أطراف الغرائب والأفراد) (1/52-53) : أخبرنا أبو عمرو عبدالوهاب بن الإمام أبي عبدالله بن منده قال : قال أبي : (---- وأما الغريب من الحديث : كحديث الزهري وقتادة وأشباههما من الأئمة ممن يُجمع حديثُهم، إذا انفرد الرجل عنهم بالحديث يسمى غريباً .
وإذا روى عنهم رجلان وثلاثة واشتركوا في حديث سمي عزيزاً .
وإذا روى الجماعة [عنهم] حديثاً سمي مشهوراً)(2) .
ولكلمة (غريب)عند المتقدمين من المحدثين معنى نقدي خطير ، وأما المتأخرون فليس الأمر عندهم كذلك، فهم يكادون يقصرون معناها على مقصد إحصائي محض مجرد عن أي معنى نقدي؛ فالاشتغال ببيان الغرابة هو عندهم من لطائف الفن ، وليس من أصوله ومهماته(3)!.
__________
(1) تنبيه : تطلق كلمة مشهور على المعنى الذي ذكر هنا ، وتطلق كذلك على ما اشتهر في الكتب المتداولة أو اشتهر على الألسنة؛ انظر (مشهور) و(مشتهر) .
(2) وحكاه أيضاً ابن الصلاح في (المقدمة) (ص243) بصيغة (وروينا عن أبي عبدالله بن منده الحافظ الأصبهاني أنه قال ) ، فذكره ، ومنه أخذت الزيادة المحصورة .
(3) ولكن بعض العلماء من المتأخرين يستعملون أحياناً كلمة (غريب) للتعبير عن المنكر ، منهم ابن كثير في (تفسير القرآن العظيم) .(4/99)
وقال ابن رجب في (شرح علل الترمذي) (2/621) : (وأما الحديث الغريب فهو ضد المشهور ؛ وقد كان السلف يمدحون المشهور من الحديث ويذمون الغريب منه في الجملة) ؛ ثم ذكر كلمات كثيرة للسلف في هذا المعنى ، ثم قال : (ومن جملة الغرائب المنكرة الأحاديث الشاذة المطرحة ، وهي نوعان : ما هو شاذ الإسناد ، وسيذكر الترمذي فيما بعدُ بعضَ أمثلته ، وما هو شاذ المتن كالأحاديث التي صحت الأحاديث بخلافها أو أجمعت أئمة العلماء على القول بغيرها ----) إلى أن قال (ص727) : (ذكر الترمذي رحمه الله أن الغريب عند أهل الحديث يطلق بمعان :
أحدها : أن يكون الحديث لا يُروى إلا من وجه واحد ؛ ثم مثَّله بمثالين ، وهما في الحقيقة نوعان :
أحدهما : أن يكون ذلك الإسناد لا يروى به إلا ذلك الحديث ---- .
النوع الثاني : أن يكون الإسناد مشهوراً يروى به أحاديث كثيرة ولكن هذا المتن لم تصح روايته إلا بهذا الإسناد ، ومثله الترمذي بحديث عبد الله بن دينار عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن بيع الولاء وهبته فإنه لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الوجه ، ومن رواه من غيره فقد وهم وغلط(1) ----) . وانظر (الأفراد) و(التفرد) .
وقال ابن طاهر في (مقدمة أطراف الغرائب والأفراد) (1/53) : (اعلم أن الغرائب والأفراد على خمسة أنواع :
النوع الأول(2) : غرائب وأفراد صحيحة ، وهو أن يكون الصحابي مشهوراً برواية جماعة من التابعين عنه ، ثم ينفرد بحديث عنه أحد الرواة الثقات لم يروه عنه غيره ، ويرويه عن التابعي رجل واحد من الأتباع ثقة ، وكلهم من أهل الشهرة والعدالة ؛ وهذا حد في معرفة الغريب والفرد الصحيح ؛ وقد أخرج نظائر [لعلها أخرجا نظائره] في الكتابين.
__________
(1) ثم ذكر ابن رجب بعد ذلك ما حاصله أن هذا الحديث معلل على الرغم من تصحيح الترمذي له بل ومن إخراج الشيخين له .
(2) وهو التفرد المطلق.(4/100)
والنوع الثاني من الأفراد(1) : أحاديث يرويها جماعة من التابعين عن الصحابي ، ويرويها عن كل واحد منهم جماعة ، فينفرد عن بعض رواتها بالرواية عنه رجلٌ واحد لم يرو ذلك الحديث عن ذلك الرجل غيره من طرق تصح(2) ؛ وإن [في الأصل فإن] كان قد رواه عن الطبقة المتقدمة عن شيخه [غيرُه] ، إلا أنه [غريب] من رواية هذا المتفرد عن شيخه ، لم يروه(3) عنه غيره.
والنوع الثالث(4) : أحاديث يتفرد بزيادة ألفاظ فيها واحد عن شيخه، لم يرو تلك الزيادة غيره عن ذلك الشيخ ، فينسب إليه التفرد بها ، وينظر في حاله.
والنوع الرابع(5) : متون اشتهرت عن جماعة من الصحابة ، أو عن واحد منهم ، فروي ذلك المتن عن غيره من الصحابة ممن لا يعرف به إلا من طريق هذا الواحد(6) ولم يتابعه عليه غيره.
والنوع الخامس من التفرد : أسانيد ومتون ينفرد بها أهل بلد لا توجد إلا من روايتهم ، وسنن ينفرد بالعمل بها أهل مصر لا يُعمل بها في غير مصرهم ؛ وليس هذا النوع مما أراده الدارقطني ولا ذكره في هذا الكتاب (إلا أنا ذكرناه)(7) في بابه.
ولكل نوع من هذه الأنواع شواهد وأدلة لم نذكرها للاختصار ؛ والمتبحر يعلم ذلك في أثناء هذا الكتاب.
__________
(1) وهو التفرد النسبي.
(2) هذا القيد مهم جداً في معرفة معنى التفرد عند المتقدمين.
(3) في الأصل (لم يرويه).
(4) وهو التفرد بعض الزيادات أو الألفاظ.
(5) وهو يشبه أن يكون شذوذاً في الإسناد.
(6) المراد بهذا الواحد الراوي المتفرد، أي الذي شذ وروى الحديث عن ذلك الصحابي الذي لا يعرف برواية ذلك الحديث ، وإنما اشتهر الحديث عن غيره من الصحابة.
(7) في الأصل (إلا أن ذكراه).(4/101)
(ورُب حديث صحيح متنُه مخرَّج في الصحيح إلا أن أبا الحسن أورده هنا(1) من طريق آخر ينفرد بروايته بعضُ النقلة(2) وله طرق صحيحة على ما بيناه ، فيعتقد من لا خبرة له بالحديث أن هذا الأمر(3) لم يروه غير(4) هذا الرجل المتفرد به ؛ [و]ليس كذلك ، فإن الرواة يتميز بعضهم على بعض بالحفظ والإتقان ، فإن عيسى بن يونس يروي عن هشام بن عروة عن أخيه عبد الله بن عروة عن عروة عن عائشة حديث أم زرع ؛ ويرويه غيره ممن لا يحفظ ، عن هشام عن(5) أبيه عن عائشة بتلك(6) الطريق المشهورة ؛ فيورده أبو الحسن من هذه الرواية الثانية ويذكر تفرده به عن هشام ؛ وعلى هذا المثال أحاديث كثيرة يختلف الرواة في إيراد طرقها وينفرد بها رجل فيعد في أفراده ويكون الصحيح خلافه ، وإن كانت متونها صحيحة ثابتة من رواية الثقات .
فمن(7) ينظر في تفرد راو بالحديث(8) في هذا الكتاب عن غيره فإن كان من الأحاديث المشهورة الصحيحة عرف [أن المراد] تفرد هذا الراوي وأنه قد روي من غير وجه من غير طريقه .
__________
(1) في الأصل (أورد هاهنا).
(2) في الأصل (المقلة).
(3) لعلها (الأثر) أو (الخبر).
(4) في الأصل (عن) بدل (غير).
(5) في الأصل (غير) بدل (عن).
(6) في الأصل (فتلك) ، والأقرب ما أثبتُّه ، وتحتمل أيضاً أن تكون (كتلك)..
(7) في الأصل (ممن).
(8) في الأصل (باب الحديث) بدل (راو بالحديث).(4/102)
وإن كان حُكماً لم يَرد إلا من طريق هذا المتفرد نُظر في حاله وحال رواته عن آخرهم ، فإن كانوا هم من أهل العدالة والثقة والحفظ قُبل منه ما تفرد به عنهم ؛ وقد تقدم بابه ، وهو الصحيح من الأفراد ؛ وإن كانوا من أهل الجرح والضعف وسوء الحفظ وكثرة الخطأ لم يحتج بتفرده ولم يعتد به ، لا سيما الأحاديث التي يتفرد بروايتها أهل الأهواء من(1) الكذبة [و]المتروكين والضعفاء والمجروحين عن الثقات ، أو عن أمثالهم من الضعفاء ، مثل تعلق [كذا] معتقداتهم(2) ومذاهبهم ؛ والله يعصمنا من الأهواء المضلة(3) والآراء(4) المضمحلة ، بمنه ولطفه). انتهى.
هذا ، ومن أصناف المصنفات الحديثية كتب الغرائب، وهذه الكتب شرطها قريب من شرط كتب الفوائد ، ولكنه أوسع منه ، فالفوائد أخص من الغرائب ، فكتب الفوائد تجمع غرائب مصنفيها وحدهم، وأما كتب الغرائب فتُعنى أصلاً بجمع ما أغرب - أي تفرد - به راو عن إمام حافظ مكثر شهير ، كمالك(5) ، أو شعبة ؛ سواء كان المُغْرِب هو الراوي عن ذلك الحافظ ، أو كان راوياً آخر دونه في السند .
وكثير من هذه الغرائب لا تلبث أن تشتهر في الطبقات التالية لطبقة ذلك المتفرد ، وذلك بسبب كونها مروية من طريق ذلك الإمام الذي يحرص كثير الرواة على جمع كل ما روي عنه ، بخلاف الفوائد فهي غرائب في بلد جامعها ، أو في عصره ، كما تقدم ؛ فغرابتها متأخرة في طبقتها عن غرابة سائر الغرائب .
__________
(1) في الأصل (عن) بدل (من) ، ويحتمل على بُعدٍ أن تكون (أو).
(2) لعلها (مما يتعلق بمعتقداتهم).
(3) في الأصل (المعتلة).
(4) في الأصل (والانا).
(5) ومن أشهر كتب الغرائب (غرائب مالك) للدارقطني .(4/103)
هذا ، وإنَّ أكثر محتويات كتب الغرائب لا تصح ؛ ولذلك كان للأئمة عبارات كثيرة في التحذير مما كان يفعله كثير من الرواة من كثرة الإقبال على الغرائب والمبالغة في البحث عنها وسماعها وتدوينها وحفظها ، مع التقصير في الاعتناء بالصحاح والمشاهير من الأحاديث ، وأكثر الناس تراهم أكثر ولعاً بالنادر الغريب منهم بالشائع الشهير ، قال ابن رجب في (شرح علل الترمذي) (2/621) : (وأما الحديث الغريب : فهو ضد المشهور ؛ وقد كان السلف يمدحون المشهور من الحديث ويذمون الغريب منه في الجملة .
ومنه قول ابن المبارك : "العلم هو الذي يجيئك من ههنا ومن ههنا " ، يعني المشهور ؛ خرجه البيهقي من طريق الترمذي عن أحمد بن عبدة عن أبي وهب عنه .
وخرج أيضاً من طريق الزهري عن علي بن حسين قال : "ليس من العلم ما لا يُعرف ، إنما العلم ما عُرف وتواطأت عليه الألسن" .
وبإسناده عن مالك قال : "شر العلم الغريب ، وخير العلم الظاهر الذي قد رواه الناس " .
وروى محمد بن جابر عن الأعمش عن إبراهيم قال : "كانوا يكرهون غريب الحديث وغريب الكلام " .
وعن أبي يوسف قال : "من طلب غرائب الحديث كذب(1) " .
وقال أبو نعيم : "كان عندنا رجل يصلي كل يوم خمسمائة ركعة ، سقط حديثه في الغرائب " .
وقال عمرو بن خالد : سمعت زهير بن معاوية يقول لعيسى بن يونس : "ينبغي للرجل أن يتوقى رواية غريب الحديث فإني أعرف رجلاً كان يصلي في اليوم مئتي ركعة ما أفسده عند الناس إلا رواية غريب الحديث" .
وذكر مسلم في مقدمة "كتابه" من طريق حماد بن زيد أن أيوب قال لرجل : لزمت عمراً ؟ قا ل : نعم ، إنه يجيئنا بأشياء غرائب !! قال : يقول له أيوب : "إنما نفرُّ - أو نفرق - من تلك الغرائب" .
__________
(1) الكاف تحتمل في ضبطها وجهين : الضم ، على البناء لما لم يُسمَّ فاعله ، والفتح على الجادة .(4/104)
وقال رجل لخالد بن الحارث : أخرج لي حديث الأشعث لعلي أجد فيه شيئاً غريباً ، فقال : "لو كان فيه شيء غريب لمحوته" .
ونقل علي بن عثمان النفيلي عن أحمد قال : "شرُّ الحديث الغرائب التي لا يُعمل بها ولا يُعتمد عليها " .
وقال المروذي سمعت أحمد يقول : "تركوا الحديث وأقبلوا على الغرائب ، ما أقل الفقه فيهم " .
ونقل محمد بن سهل بن عسكر عن أحمد قال : "إذا سمعت أصحاب الحديث يقولون : هذا الحديث غريب أو فائدة ، فاعلم أنه خطأ ، أو دخل حديث في حديث ، أو خطأ من المحدث ، أو ليس له إسناد ، وإن كان قد روى شعبة وسفيان ؛ وإذا سمعتم يقولون : لا شيء فاعلم أنه حديث صحيح " .
وقال أحمد بن يحيى : سمعت أحمد غير مرة يقول : "لا تكتبوا هذه الأحاديث الغرائب فإنها مناكير وعامتها عن الضعفاء" .
قال أبو بكر الخطيب : "أكثر طالبي الحديث في هذا الزمان يغلب عليهم كتب الغريب دون المشهور ، وسماع المنكر دون المعروف ، والاشتغال بما وقع فيه السهو والخطأ من رواية المجروحين والضعفاء ، حتى لقد صار الصحيح عند أكثرهم مجتنباً ، والثابت مصدوفاً عنه ، مطَّرحاً ، وذلك لعدم معرفتهم بأحوال الرواة ومحلهم ، ونقصان علمهم بالتمييز ، وزهدهم في تعلمه ؛ وهذا خلاف ما كان عليه الأئمة المحدثين والأعلام من أسلافنا الماضين" .
وهذا الذي ذكره الخطيب حق ، ونجد كثيراً ممن ينتسب إلى الحديث لا يعتني بالأصول الصحاح ، كالكتب الستة ونحوها ، ويعتني بالأجزاء الغريبة ، وبمثل مسند البزار ومعاجم الطبراني وأفراد الدارقطني ، وهي مجمع الغرائب والمناكير ) .
وقال الشيخ محمد عمرو في (مرويات في الميزان) (ك2 ص174) عقب حكايته كلام الحافظ ابن رجب هذا : (قلت : فإذا وجدتَ حديثاً في أحد «المعاجم» الثلاثة ، رجاله كلهم ثقات أو صدوقون ، فلا تتسرع بالحكم عليه بالصحة أو الثبوت ، إذ لا بد أن تجد فيه خللاً ما ، من إعلال ، أو شذوذ ، أو عدم اشتهار بعضهم بالرواية عن بعض .(4/105)
وقد يجتمع فيه الأمران جميعاً ـ كما في حديثنا هذا ـ المخالفةُ في الإسناد وانتفاءُ الرواية .
وليس هذا خاصاً بالطبراني وحده و «مسند البزار» و «أفراد الدارقطني» ، فإنما ذكرها الإمام ابن رجب على سبيل التمثيل بقوله : « وبمثل مسند البزار ...» .
أما البزار فقد سمى كتابه « المسند المعلل » فهو يُشبه في معناه « علل ابن أبي حاتم » و« علل الدارقطني » ، وفي الغالب يكون الوجه الراجح هو الوجه المرسل ، أو الموقوف أو الذي فيه راوٍ مبهم أو ضعيف التبس اسمه باسم ثقة ... إلخ .
على أنَّ فيه أحاديث كثيرة واقعة في "الصحيحين" والكتب المشهورة ، فهذه لا يتناولها البحث ، هنا .
نعم ، لا تعدم أن تجد فيه حديثاً معلاًّ بالوقف على صحابي ، فإن صحَّ الإسناد فيكون أثراً صحيحاً ، أو بالإرسال عن كبار التابعين الذين لا يُسندون إلا عن أهل الثقة والصدق ، أو لا يروون إلا عن أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كسعيد بن المسيب ، وأبي أمامة بن سهل بن حنيف ، ونحوهما ، فتكون لهم مكانة متميزة في الاحتجاج أو الاعتبار ) .
وانظر (الغرائب) و (فائدة) .
غريب الحديث :
المراد بـ(غريب الحديث) ما وقع في الأحاديث من كلمات يخفى معناها على أكثر الناس وكثير من طلبة العلم ، بسبب غرابة تلك الكلمات بينهم وقلة تداولها عندهم .
والفن المختص بمعرفة هذا الباب هو في الحقيقة فرع من فروع العربية لا من فروع علم الحديث ، ولكنه مما لا يستغني عنه المحدث ولا الفقيه ولا المفسر ، في فنونهم.
أما المفسر والفقيه فحاجتهما إليه في فنهما ظاهرة لا خفاء بها ، فإنه لا يمكن معرفة معنى الحديث ولا الاحتجاج به ولا استنباط أحكامه ، إلا بمعرفة معاني كلماته .(4/106)
وأما المشتغل بعلم الحديث فإن كان راوياً بالمعنى أو قائماً بطبع شيء من كتب الحديث وتحقيقها فلا بد له من معرفة هذا الفن ، وأما إن كان ناقداً فلا بد له منه أيضاً ، لأنه يعينه على معرفة ما يقع في الأحاديث من الشذوذ والنكارة وسائر أنواع الاختلاف بين المتون ، وبدونه لا يتمكن من الجمع أو الموازنة بين متون الروايات إذا اختلفت(1) .
وقد ألف العلماء في هذا الفن عشرات من الكتب ، وجملة منها انتشرت واشتهرت ، فلا أرى الإطالة بذكرها أو ذكر أهمها ولا سيما أن ذلك خارج عن موضوع الكتاب .
ثم إن شرح الكلمات الغريبة الواردة في الأحاديث المشروحة هو من أهم مقاصد كتب شروح الحديث ، على كثرة مقاصدها وتنوع تلك المقاصد.
غريب لم نكتبه إلا من حديث فلان :
يستعمل بعض المحدثين هذه العبارة في وصف بعض مروياتهم ، وقد يتبادر أن هذا التعبير فيه نوع من التثبت ، أعني قد يتبادر أن ذلك المحدث غير جازم بغرابة تلك الطريق ، لأنه قد يكون عند غيره من طرق الأحاديث ما ليس عنده .
ولكن هذا ليس هو المعنى الوحيد لهذه العبارة ، بل قد يكون معناها أحياناً أن ذلك الحديث ورد من طرق أخرى ولكنها لشدة وهائها لا تستحق الكتابة ؟
غير أن هذا المعنى الثاني قد يُعدُّ بعيداً إذا كان قائل العبارة المذكورة مثل أبي نعيم الأصبهاني ذلك الحافظ المعروف بتساهله في الكتابة ، حتى إنه ليكاد يكتب عن كل أحد ، وقريبٌ من ذلك شأنه في الأداء .
__________
(1) وأما قولهم (الشرح فرع الثبوت) فمعناه : لا يشرح الحديث غير الثابت فلا حاجة إلى شرح الأحاديث الموضوعة والباطلة ، وأما الأحاديث الضعيفة أو التي هي قيد الدرس والنقد فقد تقوم الحاجة إلى شرحها ليتبين من ذلك حالها من حيث النكارة والشذوذ وعدمهما .(4/107)
غير صحيح :
معنى هذه الكلمة بمقتضى اعتبار المعنى اللغوي في كلمة (غير) والمعنى الاصطلاحي في كلمة (صحيح) معلوم وهو نفي الصحة الاصطلاحية فيصدق حينئذ بكل ما هو دون مرتبة الصحيح من مراتب الحديث فيعم الحديث الحسن والضعيف والضعيف جداً والموضوع .
ولكن هذا المعنى المذكور ليس هو الأصل في هذه العبارة ، بل هو نادر جداً ، وإنما الأصل فيها والشائع من استعمال القوم لها إنما هو المعنى الاصطلاحي الصرف ، وهو نفي ثبوت الحديث والحكم عليه بما يضاد ذلك من البطلان أو الكذب أو الضعف المنافي لثبوته ، فإذا قيل في حديث : هذا حديث غير صحيح فمعناه أنه لا يثبت متنه ، ففي هذه العبارة نفي للصحة والحسن عنه ؛ ولكن إذا وجدت قرينة صارفة لهذه العبارة عن هذا المعنى إلى المعنى المذكور أولاً فسرناها به ، ولكن ما أقلَّ مثلَ تلك القرائن .
غير مرضي :
الأقرب في معنى هذه اللفظة أنها دالة على كون الراوي متروكاً .
غير معتمَد :
أي لا يُحتج به ، وذلك بسبب ضعفه ، وقد يكون بسبب أنه مجهول ، ولا يلزم فيمن قيلت فيه هذه الكلمة أن يكون ممن يستشهد به ، بل قد يكون متروكاً .
غير معروف :
أي مجهول العين .
غيره أوثق منه :
هذه العبارة تحتمل أكثر من معنى فقد يقولها بعض أهل الورع وعفة اللسان في من يتهمونه ، وفي بعض المتروكين؛ قال ابن حجر في (تهذيب التهذيب) في ترجمة عبد الله بن واقد الحراني : (قال الجريري : غيره أوثق منه ؛ وهذه العبارة يقولها الجريري في الذي يكون شديد الضعف) .
وقد تقال هذه العبارة في الضعيف أيضاً، وهذا هو الأغلب من استعمال المحدثين لها.
وهل تردُ أحياناً على ظاهرها ، فتطلق على من هو ثقة ولكنه لم يبلغ الدرجة العالية من التوثيق؟
الذي أراه أن هذا بعيد عن طريقتهم في استعمال هذه الكلمة، والله أعلم.(4/108)
فصل الفاء
فارس الحديث :
هذه لفظة توثيق تامٍّ ، أو ثناء عالٍ ، تطلق على كبار أئمة هذه الصناعة الشريفة ، فهي مثل كلمة (جهبذ) ، دالة على تمكن الموصوف بها في علم الحديث وعلو كعبه بين علمائه ؛ فإن قيل : أتتضمن هذه اللفظة توثيقاً لذلك العالم ، أو هي قاصرة على بيان عِظَم منزلته في علم الحديث ؟ كان الجواب على ذلك أنها لا بد أن تتضمن توثيقاً بل توثيقاً مؤكداً ، لأنه لا يستحق أن يكون من كبار أئمة هذا العلم إلا من كان من كبار الثقات المتقنين .
فاسق :
هذه الكلمة إذا قالها العالم في الراوي فهو يعني بها إسقاط عدالته ونفي الثقة به .
والفسوق الأصل في معناه الشرعي هو الخروج عن دائرة المؤمنين ، والنزول من رتبة الإيمان إلى رتبة الإسلام ، أي رتبة المسلمين الذين لم يبلغوا مرتبة المؤمنين؛ وقد يستعمل في غير هذا الأصل فيوصف به الكافر المعاند ، أو يوصف به المنافق المارق من دين الإسلام، قال الله تبارك وتعالى مشيراً إلى ما يقع من الكفار والمنافقين من الكفر، وما يقع من فساق المسلمين من الكبائر والإصرار على الصغائر، وما قد يقع من المؤمنين من الذنوب والمعاصي : (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ) [الحجرات7].
الفاصلة ( ، ) :
انظر (الترقيم) .
الفاصلة المنقوطة (؛) :
وتسمى أيضاً : الفصلة المنقوطة ، وانظر (الترقيم) .
فائدة :
يسمي المحدث الحديث فائدةً إذا كان يرى أنه لا يوجد إلا عنده ، أو أنه يُغرب به على أقرانه أو على من يلقاهم من المحدثين ، أو على أهل بلده ، أو على أهل عصره .(4/109)
وإذا نبَّه محدثٌ أو طالبُ حديثٍ صاحباً له على حديث غريب يوجد عند بعض المشايخ وذكره له ليسمعه من ذلك الشيخ - ويكون قريباً في الغالب- فإن ذلك المنبَّه يقول : أفادنيه فلان ؛ قال أبو عوانة في (مسنده) (4/249) (6674) : (حدثنا إسماعيل بن عيسى الجيشاني قثنا إبراهيم بن محمد الجندي عن ابن أبي الزناد عن أبي الزناد عن ابن شهاب عن مالك بن أوس بن الحدثان النصري عن عمر بن الخطاب ) ثم ذكر حديثاً مرفوعاً وقال عقبه : (أفادنيه ابنُ المقري ، وما أعلمه عند أحدٍ اليوم غيري) .
وقال ابن عدي في (الكامل) (4/196) : (ثنا محمد بن محمد الباغندي ثنا أبو كامل ثنا غندر عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الأذنان من الرأس ؛ قال أبو كامل : لم أكتب عن غندر إلا هذا الحديث الواحد أفادنيه عنه عبد الله بن سلمة الأفطس) .
وقال أبو نعيم في (حلية الأولياء) (7/140) : (حدثنا عمر بن أحمد بن عمر القاضي ثنا جبير بن محمد الواسطي ثنا زكريا بن يحيى بن موسى الأكفاني ثنا قبيصة ثنا سفيان ثنا هشام بن عروة عن أبيه عن الزبير بن العوام ) وذكر الحديث مرفوعاً ، ثم قال عقبه : (غريب من حديث الثوري ، لم نكتبه إلا من حديث جبير ، أفادنيه عنه أبو الحسن الدارقطني) .
والحقيقة أنَّ أكثر الفوائد من المرويات إنما صارت فوائد أو غرائب ، بسبب خطأ وقع في روايتها ؛ أي أن أكثر الفوائد لا تصح إما من جهة إسنادها أو من جهة متنها؛ فينبغي التثبت في قبولها، لأنها نوع من أنواع الأحاديث الغريبة ؛ قال الإمام أحمد رحمه الله : (إذا سمعتَ أصحاب الحديث يقولون : هذا حديث غريب ، أو : فائدة، فاعلم أنه خطأ ، أو دخل حديثٌ في حديث أو خطأ من المحدِّث أو حديثٌ ليس له إسناد، وإن كان قد روى شعبة وسفيان؛ فإذا سمعتهم يقولون : "هذا لا شيء" فاعلم أنه حديثٌ صحيح)؛ أخرجه عنه الخطيب البغدادي في (الكفاية في علم الرواية) (ص142).(4/110)
وقد جمع كثير من الحفاظ فوائدهم في كتب أو أجزاء سميت بهذا الاسم ؛ وقد ذكر طرفاً منها الكتاني في (الرسالة المستطرفة) فقال (ص94-97) : (ومن الفوائد :
فوائد تمام بن محمد بن عبد الله بن جعفر الرازي ثم الدمشقي الحافظ بن الحافظ المتوفى سنة أربع عشرة وأربعمئة ---- ، وهي في ثلاثين جزءاً .
وفوائد أبي بشر إسماعيل بن عبد الله بن مسعود العبدي الأصبهاني الملقب بسمويه ، الحافظ المتقن الطواف المتوفى سنة سبع وستين ومئتين ، وهي في ثمانية أجزاء ؛ قال الذهبي : "ومن تأمل فوائده المروية علم اعتناءه بهذا الشأن" اهـ .
وفوائد أبي عمرو عبد الوهاب بن محمد بن إسحاق بن منده العبدي مولاهم الأصبهاني الحافظ الفاضل المتوفى بأصبهان سنة خمس وسبعين وأربعمئة .
وفوائد أبي بكر محمد بن إبراهيم بن علي بن عاصم بن زاذان الأصبهاني الخازن الشهير بابن المقرئ ، بضم الميم وسكون القاف ، صاحب "المعجم الكبير" و "الأربعين حديثاً" و "مسند أبي حنيفة" أيضاً ، المتوفى سنة إحدى وثمانين وثلاثمئة ، وهي في ثمانية أجزاء .
وفوائد أبي القاسم خلف بن عبد الملك بن مسعود بن موسى بن بشكوال الخزرجي الأنصاري القرطبي مؤلف كتاب "الصلة" الذي جعله ذيلاً على تاريخ علماء الأندلس لأبي الوليد ابن الفرضي ،وغير ذلك ، المتوفى بقرطبة سنة ثمان وسبعين وخمسمئة .
وفوائد أبي الحسين محمد بن علي بن عبد الله بن عبد الصمد بن المهتدى بالله ، ويعرف بابن الغريق ، المتوفى ببغداد سنة خمس وستين وأربعمئة ، وهو آخر من حدَّث عن الدارقطني وابن شاهين وغيرهما .
وفوائد العراقيين لأبي سعيد النقاش .
وفوائد أبي الحسين بن بشران .
وفوائد أبي بكر الشافعي .
وفوائد أبي الحسن الخلعي .
وفوائد أبي إسحاق إبراهيم بن محمد بن يحيى المزكي النيسابوري ، ممن سمع ابن خزيمة وغيره ، سمع منه البرقاني والحاكم وابن أبي الفوارس وغيرهم ، وتعرف بالمزكيات .(4/111)
وفوائد أبي طاهر المخلص ، وهي من تخريج أبي الفتح محمد بن أحمد بن محمد بن فارس بن سهل البغدادي المعروف بابن أبي الفواس ، المتوفى سنة اثنتي عشرة وأربعمئة ، ومن تخريج أبي عبد الله الحسين بن أحمد بن علي بن البقال ، المتوفى سنة سبع وسبعين وأربعمئة .
وفوائد أبي بكر النجاد صاحب "السنن" .
وفوائد أبي محمد عبد الله بن أحمد بن موسى بن زياد العسكري ، نسبة الى عسكر مكرم ، الأهوازي الجواليقي المعروف بعبدان صاحب التصانيف ، المتوفى في آخر سنة ست وثلاثمئة .
وكتب الفوائد الحديثية كثيرة أيضاً ، وقد ذكر جملة منها في "صلة الخلف" فراجعه) اهـ .
وهذا بعض ما طُبع - أو طُبع بعضه - من كتب الفوائد :
فوائد عبد الوهاب بن منده .
فوائد ابن الباغيان .
فوائد أبي الشيخ عبدالله بن محمد الأصبهاني (ت369هـ) .
فوائد حديث أبي ذر الهروي .
فوائد أبي يعلى الخليلي .
فوائد محمد بن مخلد .
فوائد حديث ابن القاص .
فوائد أبي بكر الشاشي .
الحادي عشر من فوائد أبي جعفر بن البختري .
جزء الألف دينار ، وهو الخامس من الفوائد المنتقاة والأفراد والغرائب الحسان ، لأبي بكر أحمد بن جعفر القطيعي (ت 368هـ) .
الفوائد العوالي المؤرخة من الصحاح والغرائب ، لأبي القاسم علي بن الحسن التنوخي (ت 447هـ) ، تخريج أبي عبدالله محمد بن علي الصوري (ت 490هـ) .
الفوائد المنتقاة العوالي الحسان ، لأبي عمرو السمرقندي .
الفوائد المنتقاة عن الشيوخ العوالي ، لعلي بن عمر الحربي .
فوائد أبي محمد الفاكهي .
فوائد خيثمة بن سليمان القرشي الأطرابلسي (250-343هـ) ؛ طبع ضمن مجموع سمي (من حديث خيثمة بن سليمان----).
فوائد أبي بكر الشافعي ، الشهيرة بالغيلانيات .
فوائد ابن ماسي .
من فوائد ابن شاهين .
فوائد مؤمل بن أحمد الشيباني .
فوائد تمام الرازي .
فوائد العراقيين ، لأبي سعيد النقّاش الحنبلي .
فوائد العيسوي .
الأول والثاني من فوائد أبي الحسين ابن بشران .(4/112)
فوائد الليث بن سعد .
فوائد محمد بن الحسن الفريابي .
فوائد أبي علي محمد بن أحمد بن الحسن الصواف (ت 395هـ) ، الجزء الثالث منها .
ولإدخال الحديث في كتاب من هذا النوع دلالة نقدية مهمة؛ قال المعلمي في تعليقه على (الفوائد المجموعة) (ص482) : (وإخراجه هذا الخبر في فوائده معناه أنه كان يرى أنه لا يوجد عند غيره، فإن هذا معنى الفوائد في اصطلاحهم)؛ جاء هذا في تخريج مطول لبعض أحاديث الكتاب؛ وهو حديث (ما من معمر يعمر في الإسلام أربعين سنة إلا صرف الله عنه أنواعاً من البلاء : الجنون، والجذام، والبرص؛ فإذا بلغ خمسين----) الحديث؛ وقد قال الشوكاني في تخريجه : (وله طرق كثيرة أوردها ابن حجر بعضها رجاله [رجال] الصحيح؛ وقد نقل كلامه صاحب اللآلىء، وأطال البحث؛ وقد أوردت كثيراً من طرق الحديث في رسالتي التي سميتها (زهر النسرين الفائح بفضائل المعمرين)؛ فقال المعلمي : (ليس من تلك الروايات، ما هو بهذه الصفة، وأشبهها رواية ابن الأخشيد، وستأتي.
واعلم أن هذا الخبر يتضمن معذرة وفضيلة للمسنين، وإن كانوا مفرطين أو مسرفين على أنفسهم، فمن ثَمَّ أولع به الناس، يحتاج إليه الرجل ليعتذر عن نفسه، أو عمن يتقرب إليه، فإما أن يقويه، وإما أن يركب له إسناداً جديداً، أو يلقنه من يقبل التلقين، أو يدخله على غير ضابط من الصادقين، أو يدلسه عن الكذابين، أو على الأقل يرويه عنهم ساكتاً عن بيان حاله.
فأشبه طرقه ما في (اللآلىء) (1/75) : ( قال إسماعيل بن الفضل الأخشيد في (فوائده) : ثنا أبو طاهر بن عبد الرحيم، ثنا أبو بكر بن المقري، حدثنا أبو عروبة الحراني، حدثنا مخلد بن مالك، حدثنا الصنعاني ـ هو حفص بن ميسرة ـ به) يعني : عن زيد بن أسلم، عن أنس، فذكره مرفوعاً.
إسماعيل مقرىء مسند معروف؛ توفي سنة 524، ذكره ابن الجزري في (طبقات القراء)؛ وصاحب (الشذرات)، ولم يذكرا أن أحداً وثقه، وقيد الذهبي وفاته في (التذكرة)، في ترجمة غيره.(4/113)
وإخراجه هذا الخبر في (فوائده)، معناه أنه كان يرى أنه لا يوجد عند غيره، فإن هذا معنى الفوائد في اصطلاحهم.
وشيخه أبو طاهر لم أجد له ترجمة.
وابن المقري، حافظ ثقة مشهور، له أيضاً كتاب جمع فيه فوائده؛ ورواه عنه جماعة من الحفاظ، والظاهر أن هذا الخبر ليس فيها، وإلا لكان اشتهر وانتشر، ولم يكن من فوائد ابن الأخشيد؛ [قلت : هذه فائدة أيضاً].
وأبو عروبة حافظ ثقة مشهور.
وشيخه هو مخلد بن مالك بن شيبان الحراني، له ترجمة في (تهذيب التهذيب) (10/76) فيها : (قال أبو حاتم : شيخ؛ وقال أبو زرعة : لا بأس به؛ وذكره ابن حبان في (الثقات). ).
والظاهر أنهم لم يطلعوا على روايته هذا الخبر، وإلا لكان لهم وله شأن آخر؛ [قلت : وهذه فائدة أيضاً].
ثم ذكر في (التهذيب) : أن ابن عدي ذكر حديثاً تفرد به مخلد هذا عن عطاف، قال ابن عدي : (وهو منكر، سمعت ابن أبي معشر (هو أبو عروبة) يقول : كتبنا عن مخلد كتاب عطاف قديماً ولم يكن فيه هذا)؛ قال ابن حجر : كأنه أومى إلى أن مخلداً لين هذا الحديث) [قال المعلمي : كذا، وكلمة (هذا) من زيادة الناسخ]؛ وهذه أيضاً حال حديثنا هذا؛ فإنه منكر ولم يكن في أصل مخلد من كتاب زيد وإلا لسمعه منه أبو حاتم وأبو زرعة وغيرهما.
هذا إن صح أن مخلداً رواه.
ثم هو متفرد به عن حفص؛ فأما ما قيل : إن ابن وهب رواه عن حفص فسيأتي بيان حاله.
وأحاديث حفص بن ميسرة المعروفة مجموعة في نسخة معروفة كانت عند جماعة، ولم يدرك مسلم منهم إلا سويد بن سعيد، فاحتاج إلى روايته عنه مع ما فيه من الكلام؛ ولما عوتب في روايته عنه في الصحيح قال : (فمن أين كنت آتي بنسخة حفص بن ميسرة؟!).
ومن الواضح أن هذا الخبر لم يكن فيها وإلا لاشتهر وانتشر؛ [وهذه فائدة أخرى].
ومع ذلك فحفص فيه كلام، وإنما أخرج له البخاري أحاديث يسيرة ثبت كل منها من طريق غيره، كما ترى ذلك في ترجمته في (مقدمة الفتح)؛ ولعل حال مسلم نحو ذلك؛ وزيد بن أسلم ربما دلس.(4/114)
وأنس رضي الله عنه كان بالبصرة وبها أصحابه الملازمون له المكثرون عنه، فكيف يفوتهم هذا الخبر ويتفرد به زيد بن أسلم المدني، ثم كيف يفوت أصحاب زيد الملازمين له المكثرين عنه ويتفرد به عنه هذا الصنعاني، وهكذا فيما بعد كما علم مما مر، مع أن هذا الخبر مرغوب فيه كما يعلم من كثرة الروايات الواهية له؟! [وهذه فائدة أخرى].
فأما ما قيل أن ابن وهب رواه عن حفص، فهذا شيء انفرد به بكر بن سهل الدمياطي عن عبد الله بن محمد بن رمح عن ابن وهب؛ ابن وهب إمام جليل، له أصحاب كثير منهم من وصف بأن لديه حديثه كله، وهما ابن أخيه أحمد بن عبد الرحمن، وحرملة، ولا ذكر لهذا الخبر عندهما ولا عند أحدهما ولا عند غيرهما من مشاهير أصحاب ابن وهب؛ [وهذه فائدة أخرى].
ولا بن وهب مؤلفات عدة رواها عنه الناس وليس هذا فيها؛ [وهذه فائدة].
وأما عبد الله بن محمد بن رمح فمقل جداً، له ترجمة في (تهذيب التهذيب)، لم يذكر فيها راوياً عنه إلا ثلاثة : بكر بن سهل، روى هذا وسيأتي حاله، ومحمد بن محمد بن الأشعث أحد الكذابين، وابن ماجة، وليس له عند ابن ماجه إلا حديثان غربيان؛ ومع ذلك قال ابن حجر في القول المسدد : (ثقة) وفي التقريب : (صدوق)، وهذا مخالف لقاعدة ابن حجر التي جرى عليها في التقريب، ولكنه تسمح هنا جرياً مع سماه في خطبة القول المسدد (عصبية لا تخل بدين ولا مروءة)؛ [وهذا تنبيه مهم من المعلمي رحمه الله].
والتحقيق أن هذا الرجل مجهول الحال ومثله لا يلتفت إلى ما تفرد به، ولا سيما عن ابن وهب فكيف إذا انفرد عنه بكر بن سهل، وبكر حاول ابن حجر وفاء بتلك العصبية تقويته ولم يصنع شيئاً، بكر ضعفه النسائي ولم يوثقه أحد، وله أوابد تقدم بعضها في التعليق (صفحات 135 و 226 و 245 و 467)؛ وقال الذهبي في ترجمته من الميزان : (ومِنْ وضعِهِ) فذكر قول بكر (هجرت ـ أي بكرت ـ يوم الجمعة فقرأت إلى العصر ثمان ختمات)؛ قال الذهبي : (فاسمع إلى هذا وتعجب).(4/115)
وأرى أن تفرد بكر عن ابن رمح عن ابن وهب مردود من جهة التفرد عن ابن وهب بمثل هذا الخبر مع شدة رغبة الناس فيه؛ [وهذه فائدة تقدم معناها]؛ فمن هنا لا يصلح هذا متابعة لخبر ابن الأخشيد، ولا خبر ابن الأخشيد متابعة لهذا.
وأما بقية الروايات----) ثم تكلم عليها المعلمي رحمه الله بكلام عظيم نفيس حافل بالفوائد يخضع لجلالته كل عارف بهذا الفن؛ فانظره في أصله؛ فإني ما أريد أن أشق عليك بأكثر مما صنعته بتطويلي هذا وخروجي عن أصل موضوعي؛ وهو معنى (الفوائد)؛ وما دعاني إلى الاسترسال إلا كثرة ما في الكلام الذي نقلته من الفوائد.
وقال الشيخ محمد عمرو عبد اللطيف في (أحاديث ومرويات في الميزان) (ك2 ص138) : (وكتب الفوائد تعتني بالغرائب وأخطاء الرواة ، فلا يُظن وقوع الصحيح فها دون الكتب المشهورة) ؛ وانظر أواخر ما تحت (غريب) .
وانظر (أفادني) و (كتب الغرائب).
فرد :
الحديث الفرد هو الحديث الغريب ؛ قال الذهبيُّ في المُوقِظَة : (---- إِذَا انْفَردَ الرَّجُلُ مِنْهُم مِنَ التَابِعِينَ فَحَدِيثُهُ صَحِيح، وَإِنَ كَانَ مِنَ الأَتْبَاعِ قِيلَ : صَحِيحٌ غَرِيب، وإِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الأَتْبَاعِ قِيلَ : غَرِيبٌ فَرْد(1)(2) .
وانظر (التفرد) و (غريب) .
__________
(1) انظر كيف قالَ الذهبيُّ هنا (قِيلَ : غَرِيبٌ فَرْد) وَلَمْ يذْكُر تَصْحِيحاً ، كما ذكر في اللذين قبله؛ وانظر أيضاً كيف أكد الغرابة بقوله (غريب فرد).
(2) قَالَ الشَّيخُ حَاتم العَوْنِيُّ فِي (شَرْحِ الموقظةِ) (ص188) : (هَذَا المَوْطِنُ مِنَ المَوَاطِنِ العَظِيمَةِ النَّفْعِ فِي هَذَا الكِتَاب، وَالتِي لا تُوجَد فِي كِتَابٍ آخَرَ مِنْ كُتُبِ المُصْطَلحِ؛ حَيْثُ نَبَّهَ رَحِمَهُ الله عَلَى أَنَّ قُبُولَ التَّفَرُّدِ لَهُ علاقَة بِطَبَقَةِ المُتَفَرِّد، فَكُلَّمَا عَلَت طَبَقةُ المُتَفَرِّد كُلَّمَا كَانَ ذَلِكَ أَدْعَى لِلقَبُولِ، وَكُلَّمَا نَزَلَت كُلَّمَا كَانَ أَدْعَى لِلرَدِّ). انتهى .
وَرَاجِع الشَّرِيط التَّاسع مِنْ شَرْحِ المُوقِظة للعلامة المُحَدِّث عَبْد الله السَّعْد.(4/116)
فسْل :
هذه عبارة تجريح شديد، قالها شعبة في ميمون أبي عبد الله ، وفي سيف بن وهب ؛ وتبعه الإمام أحمد ، فوصف بها ميموناً المذكور ، كما في (العلل) لابنه (2351) .
والراوي الموصوف بأنه فسل معناه أنه رديء الحال في مروياته ، وقد يتبادر أنه قد يتضمن المراد - مع ذلك - أنه مسترذلٌ لا مروءة له ؛ ولكن ذلك ليس بلازم ، فإن الأصل في معناها عند المحدثين تضعيف من قيلت فيه .
والدرهَم الفسْل هو الدرهم المغشوش الرديء ؛ وقال ابن الأثير في (النهاية) (3/446) عقب بيانه معنى الإفسال : (وأصله من الفَسْل : وهو الرَّديء الرَّذل من كل شيء) .
وانظر (حمّض وجهَه).
الفصل :
قال الزبيدي في (تاج العروس) (ف ص ل) (30/162) : (الفصل : الحاجز بين الشيئين، كما في "المحكم" ، والمصنفون يترجمون به أثناء الأبواب، إما لأنه نوع من المسائل مفصول عن غيره، أو لأنه ترجمة فاصلة بينه وبين غيره ، فهو بمعنى مفعول أو فاعل ، قاله شيخنا .
والفصل : كل ملتقى عظمَين من الجسد، كالمَفْصِل، كمَجْلِس----) .
أقول : يظهر لي أن المصنفين استعملوا كلمة فصل ، لفصل صنف من المسائل المشتركِة بموضوع معين ، عن صنف آخر منها ، قبلها أو بعدها ، ثم صاروا يطلقون اسم الفصل على ما تحته من مسائل العلم ، فلم تَعُدْ كلمةُ "فصل" فاصلاً فقط وإنما صارت ترجمة أو عنواناً ، فيقال : الفصل الأول ، والفصل الثاني ... ، ويقال : هذا الباب ينقسم إلى ثلاثة فصول ؛ وكذلك توضع كلمة "فصل" أو "الفصل الأول" في أول الفصل الأول من بابه وإن لم يكن قبله شيء في ذلك الباب .
الفَصْلة :
هي (الفاصلة) فانظرها ، بل انظر (الترقيم) .
الفصلة المنقوطة (؛) :
هي الفاصلة المنقوطة ، فانظرها ، بل انظر (الترقيم) .
فضائل الأعمال :
انظر (الترغيب والترهيب) ، و (ضعيف) .(4/117)
الفقرة :
جاء في (المعجم الوسيط) (2/704) : (الفِقْرَةُ : الفَقَارة(1) ، و[الفِقْرَةُ] العلَم من جَبَلٍ أو هَدَفٍ ونحوه ؛ و[الفِقْرَةُ ] جملة من كلام ، أو جزء من موضوع ، أو شطر من بيت شعر . [مولدة] .
و[الفِقْرَةُ] معنى مستقلٌّ مما تشتمل عليه المادة في القانون . [مولدة] .
ويقال : زدت في كلامه أو شعره فِقْرَةً ؛ وما أحسنَ فِقَرَ كلامه : نُكَتَه ؛ [جمعها] فِقَرٌ وفِقَْرات). انتهى .
الفقه :
جاء في مقدمة (الموسوعة الفقهية الكويتية ط5 - 1425هـ ) (1/11-12) في تعريف الفقه لغة ما نصه :
(الْفِقْهُ لُغَةً : الْفَهْمُ مُطْلَقًا ، سَوَاءٌ مَا ظَهَرَ أَوْ خَفِيَ ؛ وَهَذَا ظَاهِرُ عِبَارَةِ "الْقَامُوسِ" وَ"الْمِصْبَاحِ الْمُنِيرِ" ؛ وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى - حِكَايَةً عَنْ قَوْمِ شُعَيْبٍ - : { قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ } [هود 91] وقَوْله تَعَالَى : { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } [الإسراء 44] فَالآيَتَانِ تَدُلانِ عَلَى نَفْيِ الْفَهْمِ مُطْلَقًا .
وَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إلَى أَنَّ الْفِقْهَ لُغَةً هُوَ فَهْمُ الشَّيْءِ الدَّقِيقِ ، يُقَالُ : فَقِهْت كَلامَك ، أَيْ مَا يَرْمِي إلَيْهِ مِنْ أَغْرَاضٍ وَأَسْرَارٍ ، وَلا يُقَالُ فَقِهْت السَّمَاءَ وَالأَرْضَ .
__________
(1) الفقارة : واحدة من عظام السلسلة العَظمية الظهرية الممتدة من الرأس إلى العُصعص ، وعدتها في الإنسان ثلاثٌ وثلاثون فَقارة : سبع في العُنُق ، واثنتا عشرة في الظهر بين الأضلاع ، وخمس في البطن ، وخمسٌ في العَجُز ، وأربع في العُصْعُص ؛ جمعها فَقَارٌ ؛ كذا في (المعجم الوسيط) أيضاً .(4/118)
وَالْمُتَتَبِّعُ لآيَاتِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ يُدْرِكُ أَنَّ لَفْظَ الْفِقْهِ لَا يَأْتِي إلا لِلدّلالَةِ عَلَى إدْرَاكِ الشَّيْءِ الدَّقِيقِ ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى : { وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ } [الأنعام 98] ؛ وَأَمَّا الآيَتَانِ السَّابِقَتَانِ فَلَيْسَ الْمَنْفِيُّ فِيهِمَا مُطْلَقَ الْفَهْمِ ، وَإِنَّمَا الْمَنْفِيُّ فِي قَوْلِ قَوْمِ شُعَيْبٍ - عَلَيْهِ السَّلامُ - إدْرَاكُ أَسْرَارِ دَعْوَتِهِ ، وَإِلا فَهُمْ فَاهِمُونَ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ ، وَالْمَنْفِيُّ فِي آيَةِ الإِسْرَاءِ إدْرَاكُ أَسْرَارِ تَسْبِيحِ كُلِّ شَيْءٍ لِلَّهِ تَعَالَى ، وَإِلا فَإِنَّ أَبْسَطَ الْعُقُولِ تُدْرِكُ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يُسَبِّحُ بِحَمْدِ اللَّهِ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لأَنَّهَا مُسَخَّرَةٌ لَهُ .
وَأَيًّا مَا كَانَ فَاَلَّذِي يَعْنِينَا إنَّمَا هُوَ مَعْنَى الْفِقْهِ فِي اصْطِلاحِ الْأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ ، لأَنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي يَتَّصِلُ بِبَحْثِنَا ). انتهى .
ثم جاء بعد ذلك (1/12-15) في تَعْرِيف الْفِقْهِ عِنْدَ الأُصُولِيِّينَ ما نصه :
(الْفِقْهُ فِي اصْطِلاحِ الأُصُولِيِّينَ أَخَذَ أَطْوَارًا ثَلاثَةً :
الطَّوْرُ الأَوَّلُ : أَنَّ الْفِقْهَ مُرَادِفٌ لِلَفْظِ الشَّرْعِ ، فَهُوَ مَعْرِفَةُ كُلِّ مَا جَاءَ عَنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، سَوَاءٌ مَا يَتَّصِلُ بِالْعَقِيدَةِ أَوْ الأَخْلاقِ أَوْ أَفْعَالِ الْجَوَارِحِ ---- .
الطَّوْرُ الثَّانِي : وَقَدْ دَخَلَهُ بَعْضُ التَّخْصِيصِ ، فَاسْتُبْعِدََ عِلْمُ الْعَقَائِدِ ، وَجُعِلَ عِلْمًا مُسْتَقِلاً سُمِّيَ بِعِلْمِ التَّوْحِيدِ أَوْ عِلْمِ الْكَلامِ أَوْ عِلْمِ الْعَقَائِدِ .(4/119)
وَعُرفَ الْفِقْهُ فِي هَذَا الطَّوْرِ بِأَنَّهُ الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ الْفَرْعِيَّةِ الشَّرْعِيَّةِ الْمُسْتَمَدَّةِ مِنْ الَْدِلَّةِ التَّفْصِيلِيَّةِ . وَالْمُرَادُ بِالْفَرْعِيَّةِ مَا سِوَى الأَصْلِيَّةِ الَّتِي هِيَ الْعَقَائِدُ ، لأَنَّهَا هِيَ أَصْلُ الشَّرِيعَةِ ، وَاَلَّتِي يَنْبَنِي عَلَيْهَا كُلُّ شَيْءٍ . وَهَذَا التَّعْرِيفُ يَتَنَاوَلُ الأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ الْعَمَلِيَّةَ الَّتِي تَتَّصِلُ بِأَفْعَالِ الْجَوَارِحِ ، كَمَا يَتَنَاوَلُ الأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ الْفَرْعِيَّةَ الْقَلْبِيَّةَ كَحُرْمَةِ الرِّيَاءِ وَالْكِبْرِ وَالْحَسَدِ وَالْعُجْبِ ، وَكَحِلِّ التَّوَاضُعِ وَحُبِّ الْخَيْرِ لِلْغَيْرِ ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الأَحْكَامِ الَّتِي تَتَّصِلُ بِالأَخْلَاقِ .
الطَّوْرُ الثَّالِثُ : - وَهُوَ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ رَأْيُ الْعُلَمَاءِ إلَى يَوْمِنَا هَذَا - أَنَّ الْفِقْهَ هُوَ الْعِلْمُ بِالأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْفَرْعِيَّةِ الْعَمَلِيَّةِ الْمُسْتَمَدَّةِ مِنْ الأَدِلَّةِ التَّفْصِيلِيَّةِ . وَعَلَى هَذَا فَالأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ الْفَرْعِيَّةُ الْمُتَّصِلَةُ بِأَعْمَالِ الْقَلْبِ أُفْرِدَ لَهَا عِلْمٌ خَاصٌّ عُرِفَ بِاسْمِ عِلْمِ التَّصَوُّفِ أَوْ الأَخْلاقِ(1) .
3 - يَتَّضِحُ مِنْ التَّعْرِيفِ الأَخِيرِ أُمُورٌ لا بُدَّ مِنْ التَّنْبِيهِ عَلَيْهَا وَهِيَ :
أ - أَنَّ الْعِلْمَ بِالذَّوَاتِ أَوْ الصِّفَاتِ لَيْسَ فِقْهًا ، لِأَنَّهُ لَيْسَ عِلْماً بِالأَحْكَامِ .
__________
(1) الصحيح أنه سمي علم التزكية وأعمال القلوب ، وأما كلمة التصوف فيتعلق بها إشكالات كثيرة لا مجال للتطرق إليها في هذا المقام ؛ والتصوف بمعناه عند المتأخرين مجانب للتزكية في أكثر جوانبه .(4/120)
ب - وَالْعِلْمُ بِالأَحْكَامِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْحِسِّيَّةِ وَاللُّغَوِيَّةِ وَالْوَضْعِيَّةِ ( أَيْ الَّتِي تَوَاضَعَ أَهْلُ كُلِّ عِلْمٍ أَوْ فَنٍّ عَلَيْهَا ) لَيْسَ فِقْهًا أَيْضاً ، لأَنَّهَا لَيْسَتْ عِلْمًا بِالأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ .
ج - وَالْعِلْمُ بِالأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الاعْتِقَادِيَّةِ الَّتِي هِيَ أُصُولُ الدِّينِ أَوْ الأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْقَلْبِيَّةِ الَّتِي تَرْجِعُ إلَى أَعْمَالِ الْقُلُوبِ كَحُرْمَةِ الْحِقْدِ وَالْحَسَدِ وَالرِّيَاءِ وَالْكِبْرِ وَوُجُوبِ مَحَبَّةِ الْخَيْرِ لِلْغَيْرِ لَيْسَتْ مِنْ الْفِقْهِ فِي اصْطِلَاحِ هَؤُلاءِ ؛ وَكَذَا الْعِلْمُ بِالأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي يَشْتَمِلُ عَلَيْهَا عِلْمُ أُصُولِ الْفِقْهِ كَوُجُوبِ الْعَمَلِ بِخَبَرِ الآحَادِ ، أَوْ وُجُوبِ التَّقَيُّدِ بِالْقِيَاسِ ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ ؛ وَإِنَّمَا لَمْ تَكُنْ هَذِهِ مِنْ الْفِقْهِ لأَنَّهَا لَيْسَتْ أَحْكَاماً عَمَلِيَّةً ، بَلْ هِيَ أَحْكَامٌ عِلْمِيَّةٌ قَلْبِيَّةٌ أَوْ أُصُولِيَّةٌ .
د - وَعِلْمُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ ، وَعِلْمُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا طَرِيقُهُ الْوَحْيُ ، لَيْسَ فِقْهًا ، لأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَفَادٍ بِطَرِيقِ الاسْتِنْبَاطِ وَالاسْتِدْلَالِ ، بَلْ بِطَرِيقِ الْكَشْفِ وَالْوَحْيِ ؛ أَمَّا عِلْمُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا طَرِيقُهُ الاجْتِهَادُ فَلا يُسْتَبْعَدُ أَنْ يُسَمَّى اجْتِهَاداً(1) .
__________
(1) كذا قالوا ، والله أعلم بالصواب .(4/121)
هـ - وَكَذَلِكَ الْعِلْمُ بِكُلِّ مَا عُلِمَ مِنْ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ ، كَوُجُوبِ الصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ وَالْحَجِّ عَلَى الْمُسْتَطِيعِ وَكَحُرْمَةِ الرِّبَا وَالزِّنَى وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ، لَيْسَ فِقْهاً ، لَِنَّهُ غَيْرُ حَاصِلٍ بِالاسْتِنْبَاطِ بَلْ بِالضَّرُورَةِ ، بِدَلِيلِ حُصُولِهِ لِلْعَوَامِّ وَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ الْمُمَيِّزِينَ وَكُلِّ مَنْ نَشَأَ فِي دَارِ الإِسْلَامِ .
وَلا يُسْتَبْعَدُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الأَحْكَامُ مِنْ قَبِيلِ عِلْمِ الْعَقَائِدِ ، لأَنَّ مَنْ أَنْكَرَ شَيْئاً مِنْ ذَلِكَ حُكِمَ عَلَيْهِ بِالْكُفْرِ .
و - وَلَيْسَ مِنْ الْفِقْهِ كَذَلِكَ مَعْرِفَةُ الْعُلَمَاءِ لِلأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْفَرْعِيَّةِ الْعَمَلِيَّةِ بِطَرِيقِ التَّقْلِيدِ ، كَمَعْرِفَةِ الْحَنَفِيِّ فَرْضِيَّةَ مَسْحِ رُبُعِ الرَّأْسِ ، وَوُجُوبِ صَلاةِ الْوِتْرِ وَالْعِيدَيْنِ ، وَكَنَقْضِ الْوُضُوءِ بِسَيَلانِ الدَّمِ وَالْقَيْحِ عَنْ مَحَلِّهِمَا ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الأَحْكَامِ ، وَكَمَعْرِفَةِ الشَّافِعِيِّ جَوَازَ الاكْتِفَاءِ بِمَسْحِ بَعْضِ الرَّأْسِ فِي الْوُضُوءِ ، وَكَمَعْرِفَتِهِ أَنَّ الْوُضُوءَ يُنْقَضُ بِمَسِّ الْمَرْأَةِ الَّتِي تَحِلُّ لَهُ مُطْلَقًا ، وَكَعِلْمِهِ بِوُجُوبِ الْوَلِيِّ وَالشَّاهِدَيْنِ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ . فَكُلُّ هَذِهِ الْأَحْكَامِ حَاصِلَةٌ عِنْدَ الْمُتَفَقِّهِينَ ، لا بِطَرِيقِ الاسْتِنْبَاطِ ، وَإِنَّمَا بِطَرِيقِ التَّقْلِيدِ .(4/122)
ز - وَمِنْ هَذَا التَّعْرِيفِ نَعْلَمُ أَنَّ وَصْفَ الْفَقِيهِ لا يُطْلَقُ عِنْدَ الأُصُولِيِّينَ عَلَى الْمُقَلِّدِ مَهْمَا كَانَ عِنْدَهُ مِنْ عِلْمِ الْفِقْهِ وَإِحَاطَتِهِ بِفُرُوعِهِ ، بَلْ الْفَقِيهُ عِنْدَهُمْ مَنْ كَانَتْ لَهُ مَلَكَةُ الاسْتِنْبَاطِ ، وَيَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَنْبِطَ الأَحْكَامَ مِنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ . وَلَيْسَ مِنْ الضَّرُورِيِّ أَنْ يَكُونَ مُحِيطاً بِجَمِيعِ أَحْكَامِ الْفُرُوعِ ، بَلْ يَكْفِي أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ مَلَكَةُ الِاسْتِنْبَاطِ ، وَإِلا فَإِنَّ أَكْثَرَ الأَئِمَّةِ الْمَعْرُوفِينَ تَوَقَّفُوا فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ ، إمَّا لِتَعَارُضِ الأَدِلَّةِ عِنْدَهُمْ تَعَارُضاً يَصْعُبُ مَعَهُ تَرْجِيحُ دَلِيلٍ عَلَى دَلِيلٍ ، أَوْ لَمْ تَصِلْ إلَيْهِمْ أَدِلَّةٌ عَلَى هَذِهِ الْمَسَائِلِ الَّتِي تَوَقَّفُوا فِيهَا .
تَعْرِيفُ الْفِقْهِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ :
4 - يُطْلَقُ الْفِقْهُ عِنْدَهُمْ عَلَى أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ : أَوَّلُهُمَا : حِفْظُ طَائِفَةٍ مِنْ الأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْعَمَلِيَّةِ الْوَارِدَةِ فِي الْكِتَابِ أَوْ السُّنَّةِ ، أَوْ وَقَعَ الإِجْمَاعُ عَلَيْهَا ، أَوْ اُسْتُنْبِطَتْ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ الْمُعْتَبَرِ شَرْعاً ، أَوْ بِأَيِّ دَلِيلٍ آخَرَ يَرْجِعُ إلَى هَذِهِ الأَدِلَّةِ ، سَوَاءٌ أَحُفِظَتْ هَذِهِ الأَحْكَامُ بِأَدِلَّتِهَا أَمْ بِدُونِهَا ؛ فَالْفَقِيهُ عِنْدَهُمْ لا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِداً كَمَا هُوَ رَأْيُ الْأُصُولِيِّينَ .
وَتَكَلَّمُوا فِي الْمِقْدَارِ الأَدْنَى الَّذِي يَجِبُ أَنْ يَحْفَظَهُ الشَّخْصُ حَتَّى يُطْلَقَ عَلَيْهِ لَقَبُ فَقِيهٍ . وَانْتَهَوْا إلَى أَنَّ هَذَا مَتْرُوكٌ لِلْعُرْفِ .(4/123)
وَنَسْتَطِيعُ أَنْ نُقَرِّرَ أَنَّ عُرْفَنَا - الآنَ - لا يُطْلِقُ لَقَبَ " فَقِيهٍ " إلا عَلَى مَنْ يَعْرِفُ مَوْطِنَ الْحُكْمِ مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ الْمُتَنَاثِرَةِ بِحَيْثُ يَسْهُلُ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ إلَيْهِ .
وَقَدْ شَاعَ بَيْنَ عَوَامِّ بَعْضِ الْبِلادِ الإِسْلَامِيَّةِ إطْلاقُ لَفْظِ فَقِيه عَلَى مَنْ حَفِظَ الْقُرْآنَ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ لَهُ مَعْنًى .
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ " فَقِيهَ النَّفْسِ " لا يُطْلَقُ إلا عَلَى مَنْ كَانَ وَاسِعَ الاطِّلاعِ قَوِيَّ النَّفْسِ وَالإِدْرَاكِ ، ذَا ذَوْقٍ فِقْهِيٍّ سَلِيمٍ وَإِنْ كَانَ مُقَلِّداً .
وَثَانِيهِمَا : أَنَّ الْفِقْهَ يُطْلَقُ عَلَى مَجْمُوعَةِ الأَحْكَامِ وَالْمَسَائِلِ الشَّرْعِيَّةِ الْعَمَلِيَّةِ ؛ وَهَذَا الْإِطْلَاقُ مِنْ قَبِيلِ إطْلَاقِ الْمَصْدَرِ وَإِرَادَةِ الْحَاصِلِ بِهِ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} أَيْ مَخْلُوقُهُ ) [لقمان 11] ؛ انتهى .(4/124)
فقه الحديث :
تقدم بيان معنى (الفقه) وبيان معنى (الحديث) ، فإذا أُضيف الفقه إلى الحديث كان للعبارة معنى واضحٌ بيِّن ؛ وإنما يُطلقون هذه العبارة مقابل قولهم (فقه الرأي) و (فقه المذاهب) و (الفقه المقارن) ونحو ذلك ؛ وفقهاء الحديث هم أئمة علماء الأمة ، ومنهم بعد التابعين مالك بن أنس وسفيان الثوري والشافعي وأحمد بن حنبل والبخاري ثم ابن حزم لولا جموده على ظاهريته ، ثم ابن تيمية ، وابن دقيق العيد ، ثم الصنعاني ، وإن لم يبلغ في علم الحديث المرتبة المطلوبة للاجتهاد ، ثم الشوكاني لكن له بعض المخالفات في بعض الأصول ، وهو في الحديث كثيراً ما يقلد الحافظ ابن حجر وغيره(1) ، ثم كثير ممن عاصر هؤلاء أو جاء بعدهم ، فرحم الله الجميع .
الفقه المذهبي :
هو فقه علماء المذاهب : الحنفية ، والمالكية ، والشافعية ، والحنابلة .
الفقه المقارن :
كان الفقه المقارن يسمى عند المتقدمين فقه الخلاف ؛ انظر (الموسوعة الفقهية) (1/51 وما بعدها) : فصل التعريف بالموسوعة الفقهية .
وفقه الخلاف : هو علم معرفة اختلاف كبار الفقهاء وأدلة كل طرف من الأطراف المتخالفة ، وقديماً قيل : من لم يَعرف خلافَ العلماء فليس بعالم .
الفقهاء :
الفقهاء جمع فقيه ؛ وكثيراً ما تتكرر الموازنة بين المحدثين والفقهاء ، ويقابَل ذِكرُ أحد الصنفين بذكر الآخر ؛ وهذا الاصطلاح أو التقسيم فيه نظر ، فالفقيه لا يكون فقيهاً إلا إذا كان محدثاً ، و(انظر فقيه) .
فقهاء الحديث :
أي علماء فقه الحديث ، انظر (فقه الحديث) .
فقيه :
الفقيه : هو العالم بالأحكام الشرعية العملية ، أو المؤهل لاستنباط تلك الأحكام من مصادرها المعتمدة ، والتي أصلها الأول الكتاب والسنة .
__________
(1) ولكن الشوكاني خالف ابن حجر في مواضع من كتابه (الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة) ، وطريقة الشوكاني في الحكم بالوضع أقرب من طريقة ابن حجر .(4/125)
وليس كل محدث فقيه ؛ فمن الناس من هو محدث وفقيه، ومنهم من هو محدث غير فقيه، وأما أن يوجدَ فَقِيهٌ غير محدث، فهذا لا يوجد في الواقع، إلا في حق رجل متهيء للفقه، ضابط لأصول الاستنباط وقواعده، وليس عنده في الحديث علم كافٍ، ولكنه يستعين ببعض أصحابه، أو غيرهم، من علماء الحديث.
وهذا الكلام تشهد لصحته بعض النصوص ؛ والواقع والتاريخ(1) يشهدان له أيضاً.
وأما أن يوجد فقيه غير محدث وهو لا يستعين بالمحدثين، فهذا لا يوجد إلا في الخيال، أو إلا في تقسيمات واصطلاحات أهل الرأي المعرضين عن السنة كلياً أو جزئياً، أو أن يراد بالفقه هنا الملَكة الفقهية، والاستعداد لاستنباط الأحكام من النصوص، عند الوقوف عليها!
وقد أسند الخطيب في (الجامع) (2/294-295) إلى داود بن علي قال : (من لم يعرف حديث رسول الله [صلى الله عليه وسلم] بعد سماعه ولم يميز بين صحيحه وسقيمه فليس بعالم).
وأسند البيهقي في (المدخل إلى السنن الكبرى) (ص179) (برقم 187) إلى علي بن شقيق عن ابن المبارك، قال : (قيل له : متى يُفتي الرجل؟ قال : إذا كان عالماً بالأثر بصيراً بالرأي).
وأسند (برقم 188) إلى أبي قدامة قال : سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول : (إحفظ، لا يجوز أن يكون الرجل إماماً حتى يعلم ما يصح مما لا يصح، وحتى لا يحتج بكل شيء، وحتى يعلم مخارج العلم).
وذكر هذا الأثر الأخير النووي في (تهذيب الأسماء واللغات) (1/284) وذكره مختصراً الذهبي في (تذكرة الحفاظ) (1/330) و(السير) (9/195) وابن حجر في (التهذيب).
وفيما يلي فائدة جليلة تتعلق بما ذكرته من بطلان شروط أهل الرأي المنحرف في إطلاق اسم الفقيه؛ وهي درةٌ من درر شيخ الاسلام ، فتأملها جيداً فإنها جديرةٌ بالتأمل .
قال رحمه الله تعالى في (بيان الدليل على بطلان التحليل /تحقيق د. فيحان المطيري) (ص348-351)(2) :
__________
(1) أعني بالتاريخ هنا تراجم العلماء .
(2) وهو في (الفتاوى الكبرى) (3/255 وما بعدها ) .(4/126)
(فكل موضع ظهرت للمكلفين حكمته أو غابت عنهم ، لا يشك مستبصر أن الاحتيال يبطل تلك الحكمة التي قصدها الشارع ، فيكون المحتال مناقضاً للشارع مخادعاً في الحقيقة لله ورسوله ، وكلما كان المرءُ أفقه في الدين وأبصر بمحاسنه كان فراره من الحيل أشد ؛ واعتبر هذا بسياسة الملوك بل بسياسة الرجلِ أهلَ بيته ، فإنه لو عارضه بعض الأذكياء المحتالين في أوامره ونواهيه بإقامة صورها دون حقائقها لعلم أنه ساعٍ في فساد أوامره.
وأظن كثيراً من الحيل إنما استحلها من لم يفقه حكمةَ الشارع ولم يكن له بُد من التزام ظاهر الحكم ، فأقام رسم الدين بدون حقيقته ، ولو هدي رشده لسلم لله ورسوله وأطاعَ الله ظاهراً وباطناً في كل أمره ، وعلم أن الشرائع تحتها حِكَم وإن لم يهتد(1) هو لها، فلم يفعل سبباً يعلم أنه مزيل لحكمة الشارع من حيث الجملة، وإن لم يعلم حقيقة ما أزال، إلا أن يكون منافقاً يعتقد أن رأيه أصلح - في هذه القضية خصوصاً ، أو فيها وفي غيرها عموماً - مما جاءت به الشريعة ، أو صاحب شهوة قاهرة تدعوه إلى تحصيل غرضه ولا يمكنه الخروج عن ظاهر رسم الإسلام ، أو يكون ممن يحب الرياسة والشرف بالفتيا التي ينقاد له بها الناس ، ويرى أن ذلك لا يحصل عند الذين اتبعوا ما أُترفوا فيه وكانوا مجرمين ، إلا بهذه الحيل ، أو يعتقد أن الشيء ليس محرماً في هذه القضية المخصوصة لمعنى رآه لكنه لا يمكنه إظهار ذلك لأن الناس لا يوافقونه عليه ويخاف الشناعة فيحتال لحيلة يُظهر بها ترك الحرام ومقصوده استحلاله فيرضي الناس ظاهراً ويعمل بما يراه باطناً.
__________
(1) تحرفت في مطبوعة المطيري إلى (يفند)! .(4/127)
ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)(1)؛ وإنما الفقه في الدين فهم معاني الأمر والنهي ليستبصر الإنسان في دينه ألا ترى قوله تعالى (لِيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) [التوبة 122]؛ فقرن الإنذار بالفقه فدل على أن الفقه ما وزع عن محرم أو دعا إلى واجب، وخوَّفَ النفوسَ مواقعةَ المحظور، لا ما هوَّن عليها استحلال المحارم بأدنى الحيل.
ومما يقضى به العجب أن الذين ينتسبون إلى القياس واستنباط معاني الأحكام والفقه من أهل الحيل هم أبعد الناس عن رعاية مقصود الشارع وعن معرفة العلل والمعاني وعن الفقه في الدين؛ فإنك تجدهم يقطعون عن الإلحاق بالأصل ما يُعلم بالقطع أن معنى الأصل موجود فيه، يهدرون اعتبار تلك المعاني ثم يربطون الأحكام بمعانٍ لم يومىء إليها شرع ولم يستحسنها عقل (ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور) [النور 40].
وإنما سبب نسبة بعض الناس لهم إلى الفقه والقياس ما انفردوا به من الفقه وليس له أصل في كتاب ولا سنة، وإنما هو رأي محض صدر عن فطنة وذكاء ، كفطنة أهل الدنيا في تحصيل أغراضهم ، فسُمّوا بأشرف صفاتهم، وهو الفهم الذي هو مشترك في الأصل بين فهم طرق الخير وفهم طرق الشر، إذ أحسن ما فيهم من هذا الوجه فهمهم لطرق تلك الأغراض والتوصل إليها بالرأي .
فأما أهل العلم بالله وبأمره فعلمهم متلقى عن النبوة، إما نصاً، أو استنباطاً، فلا يحتاجون إلى أن يضيفوه إلى أنفسهم ، وإنما لهم فيه الاتباع؛ فمن فهم حكمة الشارع منهم كان هو الفقيه حقاً، ومن اكتفى بالاتباع لم يضره أن لا يتكلف علم ما لا يلزمه إذا كان على بصيرة من أمره ، مع أنه هو الفقه الحقيقي والرأي السديد والقياس المستقيم؛ والله سبحانه أعلم) ؛ انتهى .
__________
(1) متفق عليه.(4/128)
ولكن لكلمة (فقيه) عند أبي محمد ابن حزم رحمه الله معنى آخر ؛ فقد قال في (إحكام الأحكام) (1/133) : ( ومما غلط فيه بعض أصحاب الحديث أنه قال : "فلان يحتمل في الرقائق ولا يحتمل في الأحكام " ؛ [قال أبو محمد] : وهذا باطل ، لأنه تقسيم فاسد لا برهان عليه ، بل البرهان يبطله ، وذلك أنه لا يخلو كل أحد في الأرض من أن يكون فاسقاً أو غير فاسق ، فإن كان غير فاسق كان عدلاً ، ولا سبيل إلى مرتبة ثالثة .
فالعدل ينقسم إلى قسمين : فقيه وغير فقيه ، فالفقيه العدل مقبول في كل شيء ، والفاسق لا يحتمل في شيء .
والعدل غير الحافظ لا تُقبل نذارته خاصة في شيء من الأشياء ، لأن شرط القبول الذي نص الله تعالى عليه ليس موجوداً فيه ، ومن كان عدلاً في بعض نقله فهو عدل في سائره ، ومن المحال أن يجوز قبول بعض خبره ولا يجوز قبول سائره إلا بنص من الله تعالى أو إجماع في التفريق بين ذلك ، وإلا فهو تحكم بلا برهان ، وقول بلا علم ، وذلك لا يحل ).
وابن حزم إنما يريد بكلمة (فقيه) في قوله ( فالعدل ينقسم إلى قسمين : فقيه وغير فقيه ----) : الضابط لما يرويه، يدل على ذلك قوله في (الإحكام) أيضاً (1/137) : ( فقيهاً فيما روى أي حافظاً ، لأن النص الوارد في قبول نذارة النافر للتفقه إنما هو بشرط أن يتفقه في العلم ، ومن لم يحفظ ما روى فلم يتفقه ، وإذا لم يتفقه فليس ممن أمرنا بقبول نذارته ).
وممن نبّه على هذه المسألة الباحث البارع هشام الحلاف في بعض مقالاته في (ملتقى أهل الحديث) وقال : (فابن حزم من خلال كلامه السابق يقرر أن الرواة على قسمين فقط :
القسم الأول : هم المقبول حديثهم في كل شيء ، وهم العدول الفقهاء ( أي الحافظون لحديثهم ) .(4/129)
القسم الثاني : هم المردود حديثهم ، وهم غير العدول ، والعدول غير الفقهاء ( أي غير الحافظين لحديثهم)(1).
فقيه البدن :
هذه العبارة استعملها بعض النقاد في وصف بعض الرواة أو العلماء ؛ ومعناها أنه فقيه ، أي عالم بالأحكام الشرعية العملية .
وهذه الكلمة قالها العجلي في (معرفة الثقات) (1/247) (158) في بشر بن المفضل ، إذ وصفه بهذه الكلمات : (ثقة ، فقيه البدن ، ثبت في الحديث ، حسن الحديث ، صاحب سنة ) .
وقال العجلي أيضاً (1/281-282) (257) في الفقيه حبيب بن أبي ثابت : (كوفي ثقة تابعي ، وكان مفتي الكوفة قبل الحكم بن عتيبة وحماد بن أبي سليمان ---- ، وكان فقيه البدن) .
وقال العجلي أيضاً في الفقيه حفص بن غياث الكوفي القاضي - كما في "تهذيب التهذيب" (2/359) - : (ثبت ، فقيه البدن)(2) .
وقال ابن حجر في "تهذيب التهذيب" في ترجمة الإمام الشافعي محمد بن إدريس : (وقال على ابن المديني لابنه : لا تدع للشافعي حرفاً إلا كتبته ، فإن فيه معرفة ؛ وقال أبو حاتم : فقيه البدن صدوق ).
وقالها مسلمة بن قاسم في الفقيه الكبير أبي ثور إبراهيم بن خالد الكلبي ، كما في ترجمته من "تهذيب التهذيب" ، فقد قال فيه : (ثقة جليل فقيه البدن).
__________
(1) ومن تتمة كلامه : (ولم يبين ابن حزم _ ولا في أي موضع من كتبه _ أن المقبول حديثهم على درجات أو مراتب ، لأنه يرى أن الراوي مادام عدلاً فقيهاً ( أي ثقة ) فإنه يجب قبول حديثه كله ، إلا إذا تبين خطأ الثقة عنده بأدلة لا علاقة بها بتفاوت مراتب الثقات!
فلا حاجة حينئذ إلى تقسيم الثقات أو بيان تفاوت الأثبات !).
(2) ولكن لم ترد هذه العبارة في ترجمة حفص بن غياث من (معرفة الثقات) للعجلي ، أعني مطبوعته ، انظر (1/310-311) منه .(4/130)
وقالها مسلمة أيضاً في ترجمة الفقيه عبدالرحمن بن القاسم صاحب مالك - كما في "تهذيب التهذيب" (6/253) ، فقد قال فيه : (كان فقيه البدن ، من ثقات أصحاب مالك ، وكان ورعاً صالحاً ولم يكن صاحب حديث).
وقالها مسلمة أيضاً في الطحاوي كما في ترجمته من (لسان الميزان) (1/621)(1) .
وقال الحاكم أيضاً في "تاريخه" - كما في "تهذيب التهذيب" (2/371) - : (سئل عنه [أي عن الحسين بن منصور بن جعفر النيسابوري] أبو أحمد الفراء ، فقال : بخ بخ ، ثقة مأمون ، فقيه البدن) .
وقال ابن حجر في "تهذيب التهذيب" (6/400) في ترجمة أبي الحسن الميموني عبد الملك بن عبد الحميد صاحب أحمد بن حنبل : (و ذكر مسلمة في " الصلة " أن ابن الأعرابي حدثهم عنه ، فهو على هذا خاتمة أصحابه ؛ و قال أبو بكر الخلال : كان سنه يوم مات دون المئة ; سمعته يقول : ولدت سنة إحدى و ثمانين و مئة ، وكان فقيه البدن ، كان أحمد يكرمه ، ويفعل معه ما لا يفعله مع أحد غيره ؛ قال : وسمعته يقول : صحبت أحمد على الملازمة من سنة مئتين إلى سنة سبع وعشرين ) .
وجاء في "تهذيب الكمال" في ترجمة الفقيه الكبير الإمام الليث بن سعد : (وقال عبدالملك بن يحيى بن بكير : سمعت أبى يقول : ما رأيت أحداً أكمل من الليث بن سعد ، كان فقيه البدن ، عربي اللسان ، يحسن القرآن والنحو ، ويحفظ الشعر والحديث ، حسن المذاكرة ، وما زال يذكر خصالاً جميلة ، ويعقد بيده ، حتى عقد عشرة ، لم أر مثله) .
وقال المزي في (تهذيب الكمال) في محمد بن إبراهيم البوشنجي (24/308) : (الفقيه الأديب ، شيخ أهل الحديث في عصره) ؛ ثم قال (24/310) : (ذكره ابن حبان في كتاب "الثقات" ، وقال : كان فقيهاً متقناً ؛ وقال أبو إسحاق أحمد بن محمد بن يونس البزاز : "كان فقيه البدن ، صحيح اللسان" ) .
__________
(1) 1/276) من الطبعة القديمة .(4/131)
وجاء في "تهذيب الكمال" في ترجمة يحيى بن آدم القرشي : (و قال يعقوب بن شيبة : ثقة كثير الحديث ، فقيه البدن و لم يكن له سن متقدم ، سمعت على ابن المديني يقول : يرحم الله يحيى بن آدم أي علم كان عنده ، وجعل يطريه ، وسمعت عبيد بن يعيش يقول : سمعت أبا أسامة يقول : ما رأيت يحيى بن آدم قط إلا ذكرت الشعبي ، يعني أنه كان جامعاً للعلم ).
وجاء في "تهذيب التهذيب" في ترجمة محمد بن جعفر غندر : (و قال محمد بن يزيد : كان فقيه البدن ، وكان ينظر في فقه زفر ).
وقال الجاحظ في (البيان والتبيين) (1/101) في تضاعيف ذِكره للتابعي الحكيم إياس بن معاوية : (وجملة القول في إياس أنه كان من مَفاخر مُضَر ، ومن مقدَّمي القضاة ، وكان فقيه البَدَنِ ، رقيقَ المسلك في الفِطَن ، وكان صادق الحَدْسِ نِقَاباً(1) وعجيبَ الفراسة ملهَماً----) ؛ فكتب محققه المحقق عبدالسلام هارون في حاشيته تعليقاً على كلمة (فقيه البدن) ما نصه :
(في هامش هـ : " أي كأن بدنه مطبوع على الفقه ، لذكائه ولنفوذه فيما أشكل منه أو غمض " ، وانظر تهذيب التهذيب في ترجمة بشر بن المفضل) .
فقيه النفس :
يظهر أن مرادهم بهذه العبارة هو العالم المتدين المهذب ، الذي يعْلم ما يحتاجُه وما يُصلح حالَه وما يفسدها ، يعلم ما له وما عليه ، ويعمل بما علمه من علم الفقه وغيره.
وأكثر من رأيته يستعمل هذه العبارة الحافظ الذهبي ، وذلك في كتابيه (السير) و(التذكرة) .
وممن استعملها قبلَ الذهبي حمزةُ السهمي (ت 428هـ) ، فقد وصفَ بها في (تاريخ جرجان) (ص182) (242) أبا ذر جندب بن أحمد بن عبد الرحمن بن عبد المؤمن المهلبي ، قال : (وكان فقيه النفس متديناً) ، وحكى ذلك عنه أيضاً ابنُ ماكولا (ت 478هـ) في (الإكمال) (3/334) .
__________
(1) الحدس ، بالفتح : الظن والتخمين ؛ والنقاب ، ككتاب : الرجل العلامة الفطن ؛ قال أوس بن حجر :
نجيحٌ جوادٌ أخو مأقط **** نِقَابٌ يحدِّث بالغائب(4/132)
وقال الخطيب في (تاريخ بغداد) (10/466) (5639) في ترجمة عبد العزيز بن أحمد الخرزي : (ولي القضاء بالجانب الشرقي من حد المُخَرِّم إلى آخر باب الأزَج ؛ وكان فاضلاً ، فقيه النفس ، حسن النَّظَر ، جيد الكلام ، ينتحل مذهب داود بن علي الظاهري----).
وتقدم نقلي عن أصحاب (الموسوعة الفقهية الكويتية) (1/15) قولهم (وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ " فَقِيه النَّفْسِ " لا يُطْلَقُ إلا عَلَى مَنْ كَانَ وَاسِعَ الاطِّلاعِ قَوِيَّ النَّفْسِ وَالإِدْرَاكِ ، ذَا ذَوْقٍ فِقْهِيٍّ سَلِيمٍ وَإِنْ كَانَ مُقَلِّداً) .
فهرس :
الفهرس لفظة فارسية ، معناها في لغتهم : جملة العدد لمطلق الكتب ، وقد عرَّبها العربُ ، فمنهم من أبقاها على هذا الوزن ، ومنهم من جعلها على صيغة (فِهْرس) ، واستعملوا منها فعلاً ومصدراً ، فقالوا : فَهْرَسَ الكتبَ يُفَهْرِسُها فَهْرَسَةً ، مثل دحرج يدحرج دحرجةً .
قال الفيروزابادي في (القاموس المحيط) (2/247) : (الفهرس بالكسر : الكتاب الذي يجمع فيه الكتب ، معرب فهرست ، وقد فهرس كتابه) ، فقال الزبيدي في شرح هذا الكلام في (تاج العروس) (16/349) : (الفهرس، بالكسر، أهمله الجوهري، وقال الليث : هو الكتاب الذي تجمع فيه الكتب، قال : وليس بعربي محض، ولكنه معرب، وقال غيره : هو معرب فهرست.
وقد اشتقوا منه الفعل ، فقالوا : فهرس كتابه فهرسَةً، وجَمْعُ الفَهْرَسَةِ [كذا] : فهارِسُ ) .
وقال الحافظ ابن حجر في (النكت) (1/231) تنكيتاً على قول ابن الصلاح (فهرست أنواعه) :
(الصواب أنها بالتاء المثناة وقوفاً وإدماجاً ، وربما وقف عليها بعضهم بالهاء وهو خطأ ؛ قال صاحب "تثقيف اللسان" : "فهرست بإسكان السين ، والتاء فيه أصلية ؛ ومعناها في اللغة : جملة العدد للكتب ، لفظة فارسية ؛ قال : واستعمل الناس منها : فَهْرَسَ الكتبَ يفهرسها فهرسَةً ، مثل : دحرج ؛ وإنما الفهرست : اسم جملة العدد .(4/133)
والفهرسة المصدر : كالفذلكة ، يقال : فذلكت الحسابَ إذا وقفتَ على جملته ) .
وجاء في (المعجم الوسيط) (2/711) : (فهرسَ كتابه : جعل له فِهْرِساً .
الفِهْرِسُ : الكتاب تُجمع فيه أسماء الكتب مرتبةً بنظام معيَّن ؛ و[الفِهْرِسُ أيضاً] لَحَقٌ يوضع في أول الكتاب أو آخره يُذكر فيه ما اشتمل عليه الكتاب من الموضوعات والأعلام، أو الفصول والأبواب، مرتبة بنظام معين ، "مع"(1) .
الفِهْرِِست : الفِهرس ، "د"(2) ) ؛ انتهى .
ومن علماء اللغة من ادعى أنَّ الصحيح فيها هو (فِهرسْت) بكسر الفاء ، وإسكان السين وبالتاء ، لأنَّ التاء فيها أصلية عنده ، فهي تُكتب وتُقرأ بالتاء ، وقوفاً وإدماجاً ، لا يصح الوقف فيها على الهاء .
هذا معنى الفهرس في اللغة ، وأما الفهرس في اصطلاح المحدثين فهو الكتاب الذي يجمع فيه الشيخ شيوخه وأسانيده وبعض ما يتعلق بذلك .
فالفهارس إذن هي مشيخات ، في الجملة ، ولكن المتأخرين اختلفت مشيخاتهم عن مشيخات المتقدمين والمتوسطين ، لأن جانب رواية الأحاديث عند المتأخرين في مشيخاتهم صار ضعيفاً منحسراً ، وكذلك هم يبالغون في تحصيل الإجازات واعتمادها ، فترى مشيخاتهم حافلة بذكر الإجازات ، وكثيراً ما تطول بسبب ذلك ، وكثيراً ما تكون سرداً مجرداً أو شبه مجرد ، فبذلك أشبهت ما يسمى في اللغة الدارجة (القوائم) فاختاروا لها اسم (الفهارس) .
وانظر (المشيخة) .
__________
(1) أي معربة .
(2) أي دخيل ، والمراد بالدخيل في اصطلاح أصحاب (المعجم الوسيط) : اللفظ الأجنبي الذي دخل العربية دون تغيير ، كالأكسيجين ، والتليفون .(4/134)
وأما الفهارس في اصطلاح الباحثين المعاصرين فهي كتب أو ملاحق فرعية تُجعل في آخر الكتب المصنوع لها الفهرس ، أو في أولها ، يُشار فيها إلى جملة مقاصد تلك الكتب ، وتُجعل مفاتيح لمغلقاتها وإشارات إلى محتوياتها ، وتكون الإحالة على أرقام الصفحات غالباً ؛ وترتب تلك الإشارات والعناوين كأسماء الرواة وأطراف الأحاديث وأسماء الأبواب الفقهية ، والفوائد العلمية ، وغيرها ، في الفهرس ، ترتيباً يسهل للباحث وقوفه على مراده في أصل ذلك الفهرس ، أعني أنها ترتب وفق شيء محفوظ عند الباحثين ، مثل حروف الهجاء والأبواب الفقهية وغير ذلك .
إن فهارس الكتب هي - كما تقدم - مفاتيح مقاصد الكتب ، وأبواب الدخول إلى أهم تفاصيلها ؛ فما أكثرَ نفعَها للعلماء والباحثين ، ولا سيما إذا كان الكتاب الأصل غير مرتب ترتيباً كافياً ، ومن الفهارس التي ينبغي أن يعنى بصنعها للكتب فهرس فوائدها وغرائبها .
وانظر (الفَهْرَسَة).
فهرست :
انظر (فهرس).
الفَهْرَسَةُ :
الفهرسة صنعة غايتها : تقريبُ الرجوع إلى كتب الفن ، وتيسير الانتفاع بها والوقوف على خباياها ، وعلى ما فيها من المسائل التي وُضعت في مظانها أو في غير مظانها ، على اختلاف أنواعها.
فمبنى صنعة الفهرسة هو استنادها في الغالب إلى حروف المعجم ويصح أن يقال في تعريف الفهرسة : هي إعادة ترتيب مقاصد الكتاب أو رؤوس مسائله أو مفاتحه ، على حروف الهجاء ، كبدايات أحاديثه ، وأسماء رواتها ، وأسماء أبوابها، أو غير ذلك.
ففي الفهرسة ترتب الأحاديث أو المسائل أو الأعلام أو غيرها ، بحسب بداياتها ، ويوضع قُبالة كل شيء منها رقمُه في الأصل ، أو رقم الصفحة التي ورد فيها. وانظر (فهرس).
وليست الفهرسة هي الطريقة الوحيدة في تقريب مواد الكتب لطالبيها ، وتيسير الانتفاع بها ، وتعجيل الوقوف على مضامينها ؛ ولكنها واحدة من جملة من الطرق المتبعة للوصول إلى تلك الغايات.(4/135)
وقد سلك العلماء - وأخُص بالذكر منهم علماء الحديث - في هذا السبيل جملة من المسالك الذكية؛ فإن كثرةَ الكتبِ الحديثية ، وصعوبةَ الوقوفِ على المراد منها : أحوجتا أهلَ هذا العلمِ وطلابَه وغيرَهم إلى طرق مبتكرة لتيسير وقوفهم على مرادهم، فيها، وفيما يلي أهم تلك الطرق والمسالك :
المسلك الأول : تصنيف الكتب ، أي وضعها مرتبة موادها ، أي موضوعاتها ، بحسب معانيها أو أسمائها ، أو صفاتها؛ فالمحدثون لم يتركوا كتبهم من غير تصنيف ، بل كثير منهم قاموا بتصنيفها ؛ وهذه هي أول خطوة في تسهيل تناول العلم وتقريبه .
وبعض الكتب التي لم يحصل ترتيبها على الوجه المناسب قام بترتيبها بعض تلامذة مصنفيها أو غيرهم، مثل (علل الدارقطني) ، رتبه تلميذه الحافظ البرقاني .
المسلك الثاني : تنويعهم طرق تصنيفهم الكتب ؛ فإنهم لم يصنفوا الكتب على نمط واحد وصيغة فريدة، بل تفننوا في طرق التصنيف والتبويب ؛ وهذه هي الخطوة الثانية في ميدان تقريب علمهم لطالبيه.
المسلك الثالث : صنع الأطراف والفهارس ، ولقد قام بأعباءِ هذه الخطوةِ العلماءُ والباحثونَ قديماً وحديثاً .
والأصل في هذا المسلك كتب الأطراف وكتب الفهارس ، ولكن كثيراً من الفهارس المختصة بكتابٍ واحدٍ ألحقتْ بأصولها فطبعت بذيولها ؛ وهو أقرب نفعاً وأيسر تناولاً . وانظر (الأطراف) من هذا المعجم .
المسلك الرابع : جمع أكثر من مؤلف واحد من مؤلفات العلماء ، في كتاب واحد مرتب ترتيباً يقرّب الوقوف على المراد، وذلك مثل كتاب (جامع الأصول) لابن الأثير.
المسلك الخامس : تأليف الكتب الجامعة لفن من الفنون ، إما على سبيل الاستيعاب كـ(الجرح والتعديل) لابن أبي حاتم، أو على سبيل التقييد بكتب مخصوصة كـ(تهذيب الكمال) للمزي.
المسلك السادس : اختصار الكتب بالاقتصار على أهم مقاصدها.(4/136)
المسلك السابع : إفراد بعض الأبواب بالتصنيف الشامل لمعظم مسائل ذلك الباب ، كما صنع النووي رحمه الله في كتابه (الأذكار).
إن هذه الأمور السبعة خطوات مساعدات كثيرة النفع ، وعدمهما - وكذلك عدم الاستعانة بها - يوقع في المشقة ، وضياع كثير من الجهد والوقت ، بل ربما أوقع الدارسَ في الإخلال بالاستقراء أو في الخلل في الحكمٍ النقدي ، وذلك بسبب عدم وفاء حفظ ذلك الباحث بالمطلوب ، وعدم اكتمال اطلاعه على ما يتعلق بالمسألة ، من الروايات والنقول وأقوال الأئمة ، ونحوِ ذلك ، فيحكم باستقراء ناقص ، فيقع الخلل في ذلك الحكم في أحوال كثيرة .
والحاصلُ أنَّ سعةَ اطلاعِ علماءِ الحديثِ ، وقوةَ ذاكرتِهم ، وحرصَهم على حفظ المتون ونحوها ، وتنوعَ تصنيفِ الكتبِ ، واشتراكَها في موضوعاتِها وأبوابِها ، وتداخلَها ، وتكرُّرَ مقاصدِها ، وإعادةَ ترتيبِ بعضها ، وصناعةَ الفهارسِ المجملةِ ، أو المفصلةِ ، لبعضٍ آخر ، كلُّ ذلكَ كان عوناً طيباً لأهلِ العلمِ في تعلمهم وتعليمهم وبحوثهم ودراساتهم وتأليفاتهم .
وانظر (فهرس) .
الفوائد :
الفوائد جمع (فائدة) ، فانظر (فائدة).
في إسناده نظر :
انظر (فيه نظر) .
في الباب :
انظر (وفي الباب) و (الباب) .
في الثبَت كالاسطوانة :
أي ثقة في أعلى مراتب الثقات ، فهو في رسوخه في الرواية وثباته فيها كاسطوانة المسجد أو غيره من المباني .
في داره شجر يحمل الحديث :
هذه كلمة ابن المديني رحمه الله ، قال العقيلي في (الضعفاء) (2/370) (440) في ترجمة (خليفة بن خياط البصري) : (حدثني زكريا بن يحيى الساجي ، قال : حدثنا الحسن بن يحيى الأزدي قال : سمعت علي بن المديني يقول : في دار عبد الرحمن بن عمر بن جبلة وشباب بن خياط شجرٌ يحمل الحديث) .
ويظهر أنه يريد أنهما يحدثان أحياناً بأحاديث لا أصول لها ، وليس معنى ذلك اتهامهم بالوضع أو السرقة أو نحو ذلك من أنواع تعمد الخطأ في الروايات .(4/137)
في الصحيح :
يستعمل طائفة كبيرة من العلماء في تخريجهم الحديث وعزوه إطلاق كلمة (الصحيح) كقولهم (وفي الصحيح من حديث أبي هريرة رضي اله عنه مرفوعاً ) ثم يسوقون متن الحديث ؛ وممن يُكثر من هذا الصنيع ونحوه القرطبي في (تفسيره) ، ويوجد أيضاً في كلام شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم والهيثمي صاحب "مجمع الزوائد"(1) وكثيرٍ غيرهم .
وليُعلم أن من هؤلاء العلماء من يريد باصطلاحه هذا الصحيحين أو أحدهما ، من غير تعيين واحد منهما ؛ ومنهم من يريد الصحيحين أو "صحيح البخاري" وحده ، فهذه الطائفة الثانية من العلماء إذا أطلق أحدهم كلمة "الصحيح" على مصدر الحديث في عزوه الحديث فالحديث حينئذ يكون في صحيح البخاري وقد يكون متفَقاً عليه ، ولكن لا يحتمل أن يكون في "صحيح مسلم وحده" ؛ وانظر (الصحيح) .
ثم إن العزو إلى الصحيح إن كان - أعني ذلك العزو - في كتاب ليس من كتب الرواية المسندة ، ككتب التفسير ونحوها ، فالأصل فيه أن يكون العزو إلى الصحيح بلفظه ؛ وأما إن وقع العزو إلى الصحيح في كتب الرواية المسندة عقب رواية ذلك الحديث فيها فالأمر حينئذ مختلف ، فانظر (أخرجه البخاري) .
في حديثه أخبار :
انظر (الخبر) .
في حديثه ضعف :
هذه بمعنى (فيه ضعف) ، فانظرها.
في حديثه لِيْنٌ :
انظر (فيه لِينٌ) ، فمعنى العبارتين واحد.
في حديثه نظر :
انظر (فيه نظر) .
فيه جهالة :
أي ليس معروفاً معرفةً كافية ، بل يكاد يكون مجهول العين .
__________
(1) وهو يُكثر من قوله (رجاله رجال الصحيح) ، وأيضاً يشير إلى بعض المتون بقوله : وفي الصحيح كذا من الأحاديث .(4/138)
فيه خُلْف :
أي مختلف فيه ؛ وهذه اللفظة تقال في الراوي المختلف فيه اختلافاً مؤثراً مانعاً من الاحتجاج به ، ومقتضياً للتوقف عنه ، أو مستحقاً أن ينظر فيه من أجل الترجيح بين طرفيه ، ولا تقال هذه الكلمة في عرف المحدثين ولا كلمة (مختلف فيه) لكل من وقع فيه شيء من اختلاف ، ولو كان يسيراً أو غير مؤثر ولا معتبر ، وإنما معناهما ما ذكرت لك .
فهذه الكلمة إذن لا يصح أن تطلق على كل من لم يُتَّفق على حاله من الرواة أو على حكمه من الأخبار أو الأحكام . وإنما يصفُ بها العالم أو الباحث من رآه يصعب الترجيح بين أقوال المختلفين فيه ؛ وأما من تبين الراجح من أقوال النقاد في حقه ، فلا يجوز أن يوصف بأنه مختلف فيه مع الاقتصار على هذا الوصف دون بيان الراجح من ضده ، وكذلك من ظن الناقد أن الترجيح بين أقوال النقاد فيه ممكن ومتيسر ولكنه هو عاجز عن ذلك في ذلك الوقت ، فلا يحق له أن يقتصر على نحو قوله (مختلف فيه) ، وإنما يقول : اختلف فيه العلماء ولم يتبين لي الراجح من أقوالهم أو لم يتيسر لي النظر في أمره أو نحو ذلك من المعاني ؛ ذاك لأن المختلف فيه الذي يتعذر - فرضاً - معرفة الراجح من أقوالهم في حقه يكون في حكم مجهول الحال فهو لذلك ضعيف الحديث ، وأما الذي ترجح في حقه وصف من الأوصاف فليس مجهولاً ولكن يحكم عليه بحسب ذلك الراجح .
فيه شيء :
إذا وردت كلمة (شيء) في كلام الناقد الذي هو بصدد بيان حال الراوي في الرواية فالظاهر أن معناها الضعف اليسير ، وقد يكون المراد البدعة أو شيئاً آخر ، ولكن الأصل هو وجود نعت في ذلك الراوي يقتضي تليينه .
فيه ضَعفٌ :
أي (ليِّن الحديث) ، فمن قيلت فيه أحسن حالاً ممن أُطلق تضعيفه فقيل له : (ضعيف).
فيه ضعفٌ ما :
هي مثل (فيه شيء) ، ومعناها في الجملة أن الراوي لين الحديث ، كأن يكون في حفظه شيء من رداءة ، أو في تحمله شيء يسير من خلل ؛ والظاهر أنها من مرتبة من يقال له : (صدوق يخطئ) ، أو هي قريبة منها.(4/139)
فيه ضَعْفٌ ولم يُترَك :
يظهر أن معناها هو أن الراوي ضعيف ولكنه غير متروك ، ولكنها قد ترد أحياناً بحيث يكون معناها أن الراوي لين الحديث ، وحينئذ تكون كلمة (لم يترك) رداً على من ادعى ذلك ، أو أوهمه.
فيه علة :
إذا كان في الحديث علة فإنه يعبَّر عن ذلك بأكثر من عبارة ، مثل أن يقال : "فيه علة" ، "له علة" ، "معلل" ، معلول" ، غير محفوظ" ، "فيه خطأ " ، "فيه وهم " وغيرها ، وانظر (علة).
فيه فلان وفلان :
قال برهان الدين الحلبي في (الكشف الحثيث عمن رمي بوضع الحديث) (ص223-224) (368) في ترجمة (عباد بن نمير) : (ذكر ابن الجوزي في "موضوعاته" حديثاً في ذم معاوية رضي الله عنه ثم قال : "فيه عباد بن نمير وأبو الصلت الهروي" ، يعني عبد السلام الذي يأتي .
فقوله "فيه فلان وفلان" : كأنه اتهم أحدهما به) ؛ اهـ .
أقول : لا شك أن قول الناقد في حديث من الأحاديث : (فيه فلان) أو (فيه فلان وفلان) ونحو ذلك : لا يدل بمجرده على الاتهام بالوضع ونحوه ، إلا بقرينة ، كأن يصرح بأن ذلك الحديث موضوع أو باطل ، أو يكون الكلام وارداً في كتاب من كتب الموضوعات ، كالمثال المتقدم ؛ وقد يقول الناقد في حديث ضعيف : (فيه فلان) ويذكر راوياً ضعيفاً ويسكت عن بيان حال ذلك الراوي لاشتهاره بالضعف .
فيه كلام :
هي من حيث معناها مطابقة لقولهم (فيه مقال) ؛ ولكن لا بد من الانتباه إلى أن بعض المتساهلين أو الورعين من النقاد قد يَخرج ، أحياناً ، عن أصل معنى هذه العبارة ، ويقتصر عليها في وصف من هو ضعيف أو حتى من هو شديد الضعف.
فيه لِينٌ :
هذه العبارة بمعنى (لين) و(لين الحديث) و(فيه ضعف) ، ذكر ذلك عبد الله بن يوسف الجديع في (التحرير) (1/588-589) وذكر أنها وإن كانت قد تفيد خفةً عن (ليِّن) بمقتضى وضعها اللغوي ، لكنها كذلك في استعمالهم .
فيه مقال :
تطلق هذه العبارة على نوعين من الرواة :(4/140)
الأول : من اختلف في توثيقهم وتجريحهم ولعل هذه العبارة (فيه مقال) تُشعر هنا بأن جانب التجريح في الراوي هو الأقرب .
والثاني : من لم يرد فيه تعديل ولكن ورد فيه بعض غمز وتليين .
فيه نظر :
يستعمل الجمهور هذه العبارة في تضعيف الرواة والأحاديث والأحكام ونحو ذلك ، وكذلك اصطلاح الإمام البخاري فيها ؛ فقد قال الحافظ المزي في (تهذيب الكمال) (18/265) في آخر ترجمة عبد الكريم بن أبي المخارق : (قال الحافظ أبو محمد عبد الله بن أحمد بن سعيد بن يربوع الإشبيلي : بيّن مسلم جَرْحَهُ في صدْرِ كتابه ؛ وأما البخاري فلم يُنبّه من أمره على شيء ، فدل أنه عنده على الاحتمال ، لأنه قد قال في "التاريخ" : « كل من لم أبين فيه جُرْحَةً فهو على الاحتمال ، وإذا قلت : فيه نظر ، فلا يحتمل» ) .
ولقد ادعى جماعة من العلماء المتأخرين رحمهم الله أن البخاري رحمه الله لا يُطلق عبارة (فيه نظر) إلا فيمن كان متهماً عنده ، وفيمن اشتد ضعفه فنزل إلى مرتبة المتروكين والساقطين؛ بل منهم من نسب إلى البخاري نفسِه تفسير اصطلاحه هذا بنحو هذا المعنى ؛ ولكن التحقيق العلمي كشف وهاء هذه الدعاوى وبين عدم صحتها؛ وإليك البيان والتدليل :
1- نقل الحافظ الذهبي عن البخاري أنه قال : (إذا قلت : فلان في حديثه نظر، فهو متهم واه).
فقد قال الذهبي في (السير) (12/440-441) : (وقال بكر بن منير سمعت أبا عبد الله البخاري يقول : أرجو أن ألقى الله ولا يحاسبني أني اغتبت أحداً .
قلت : صدق رحمه الله ، ومن نظر في كلامه في الجرح والتعديل علم ورعه في الكلام في الناس وإنصافه فيمن يضعفه ؛ فإنه أكثر ما يقول : منكر الحديث ، سكتوا عنه ، فيه نظر ، ونحو هذا ؛ وقلَّ أن يقول : فلان كذاب ، أو كان يضع الحديث ؛ حتى إنه قال : "إذا قلت : فلان في حديثه نظر، فهو متهم واه"؛ وهذا معنى قوله لا يحاسبني الله أني اغتبت أحداً؛ وهذا هو والله غاية الورع).(4/141)
2- قال الذهبي في (الميزان) (2/416) : (وقد قال البخاري : "فيه نظر" ، ولا يقول هذا إلا فيمن يتهمه غالباً ) .
3- قال الذهبي في (الميزان) أيضاً (3/51-52) في ترجمة عثمان بن فائد : (قال البخاري : "في حديثه نظر" ، وقلَّ أن يكون عند البخاري رجلٌ فيه نظر إلا وهو متهم )(1) .
4- قال الحافظ العراقي في أوس بن عبد الله بن بريدة : (ضعيف جداً ، قال البخاري : فيه نظر ، وهذه العبارة يقولها البخاري في من هو متروك )؛ نقله ابن حجر في (القول المسدد) (ص10) .
5- قال العراقي في (شرح ألفيته) (2/11) : (فلان فيه نظر، وفلان سكتوا عنه : هاتان العبارتان يقولهما البخاري فيمن تركوا حديثه).
6- قال ابن حجر في (مقدمة الفتح) (ص480) : (وللبخاري في كلامه على الرجال توق زائد وتحرٍّ بليغ يظهر لمن تأمل كلامه في الجرح والتعديل ، فإن أكثر ما يقول : سكتوا عنه، فيه نظر، تركوه ؛ ونحو هذا ؛ وقلَّ أن يقولَ : كذاب ، أو وضاع ؛ وإنما يقول : كذبه فلان، رماه فلان ، يعني بالكذب).
وعبارة ابن حجر هذه ليست صريحة في معنى قول البخاري (فيه نظر)، بل هي محتملة ، وقد نقلتها على الاحتمال؛ مع أنه سيأتي عن ابن حجر تفسير صريح لمعنى قول البخاري (فيه نظر).
7- قال ابن خلدون في (المقدمة) (ص 295) : (وياسين العجلي وإن قال فيه ابن معين : ليس به بأس ؛ فقد قال البخاري : فيه نظر؛ وهذه اللفظة من اصطلاحه قوية في التضعيف جداً).
8- قال السخاوي في (الإعلان بالتوبيخ) (ص125) : (كان [البخاري] لمزيد ورعه قلَّ أن يقول : "كذاب" أو "وضاع" ؛ أكثر ما يقول "سكتوا عنه" ، "فيه نظر" ، "تركوه" ، ونحو هذا ؛ نعم ربما يقول : "كذبه فلان" أو "رماه فلان بالكذب" ) .
__________
(1) وانظر (سكتوا عنه) ، وراجع كتاب (الموقظة) للذهبي (ص83) وترجمة عبد الله بن داود الواسطي من (الميزان) (2/416) .(4/142)
9- قال السخاوي في (فتح المغيث) (2/122) : (وكثيراً ما يعبر البخاري بهاتين الأخيرتين [يعني " فيه نظر" و "سكتوا عنه" ] فيمن تركوا حديثه، بل قال ابن كثير(1) : إنهما أدنى المنازل عنده وأردؤها ؛ قلت [القائل السخاوي] : لأنه لورعه قل أن يقول : كذاب، أو وضاع ، نعم ربما يقول : كذبه فلان ، ورماه فلان بالكذب).
10- قال السيوطي في (تدريب الراوي) (1/394) : (البخاري يطلق "فيه نظر"، و "سكتوا عنه" فيمن تركوا حديثه؛ ويطلق "منكر الحديث" على من لا تحل الرواية عنه).
11- قال العلامة المعلمي في (التنكيل) في ترجمة (جرير بن عبد الحميد) من قسم التراجم : (قال البخاري : "فيه نظر" ، وهذه من أشد كلمات الجرح في اصطلاح البخاري كما مر في ترجمة إسحاق بن إبراهيم الحنيني ).
وترجم المعلمي في (التنكيل) (ص495) أبا نعيم النخعي واسمه عبد الرحمن بن هانئ فقال بعد أن ذكر وصف ابن معين له بالكذب وأشار إلى أن ذلك لا يخلو من احتمال أن يكون على غير ظاهره الذي هو تعمد الكذب : (فلننظر كلام غير ابن معين في أبي نعيم النخعي ---- .
فأما النخعي فقد قال العجلي : ثقة .
وقال أبو حاتم : لا بأس به يكتب حديثه.
وروى عنه أبو زرعة ومن عادته أن لا يروي إلا عن ثقة كما في (لسان الميزان) (2/416).
وقال البخاري : (فيه نظر وهو في الأصل صدوق) .
وكلمة (فيه نظر) معدودة من أشد الجرح في اصطلاح البخاري لكن تعقيبه هنا بقوله : (وهو في الأصل صدوق) يخفف من وطأتها ) ؛ انتهى كلام المعلمي .
__________
(1) الباعث الحثيث (ص106) .(4/143)
وقال المعلمي في (التنكيل) أيضاً (ص412) : (وذكروا أن البخاري يقول : "فيه نظر" أو "سكتوا عنه" فيمن هو عنده ضعيف جداً ، قال السخاوي في "فتح المغيث" : ---- )(1) .
__________
(1) ثم نقل ما نقلتُه ، قبل قليل ، من كلام السخاوي إلى آخر كلام ابن كثير ؛ ثم زاد المعلمي مِن قِبله : (ولم يقل البخاري في الحنيني : "فيه نظر" ، إنما قال : "في حديثه نظر" ؛ وبينهما فرق ، فقوله "فيه نظر" يقتضي الطعن في صدقه ، وقوله "في حديثه نظر" يُشعر بأنه صالح في نفسه وإنما الخلل في حديثه لغفلة أو سوء حفظ .
ولعل الأستاذ [يعني الكوثري] يقول : هذا تمحل ، فيقال له : ألم تقل (ص48) : وأما قوله في "تاريخه الكبير" : "كان مرجئاً سكتوا عنه وعن رأيه وعن حديثه" ، فبيان لسبب إعراض من أعرض عنه ؛ وقد علمت أن "سكتوا عنه" هي أخت "فيه نظر" ، بل هي الكبرى ؟) .
ثم قال المعلمي : (فكلمة البخاري [فيه نظر] تقتضي أنه مطرح لا يصلح حتى للاعتبار ؛ وكذلك كلمة النسائي [ليس بثقة] ؛ وصنيع ابن حبان يقتضي أنه يعتبر به [أورده ابن حبان في الثقات وقال : كان يخطئ] ؛ وكذا كلمة الحاكم أبي أحمد [في حديثه بعض المناكير] ؛ وكلمة البزار [كف بصره فاضطرب حديثه] تقتضي أن حديثه كان قبل عماه مستقيماً ، فينظر متى عمي ومتى سمع منه الحسن بن الصباح ؟ وهل روايته التي ساقها الخطيب من مظان الغلط ؟ ). انتهى .
وانظر ترجمة أويس القرني في (الميزان) و(اللسان) وترجمة أوس بن عبد الله الربعي من (هدي الساري) (ص553) ، و(الرفع والتكميل) للكنوي (ص213-214) .(4/144)
هذه الدعاوى كلها فيها نظر ، وأما ما نقله الذهبي من كلام معزوٍّ للبخاري فأراه غير ثابت عنه ، بل هو منكر عنه ، ولقد انتهى التحقيق إلى خلافه(1) ، فإليك ما يلي من النقول :
النقل الأول : قال المزي في (تهذيب الكمال ) في آخر ترجمة عبد الكريم بن أبي المخارق (تهذيب الكمال) (18/265) : ( قال الحافظ أبو محمد عبد الله بن أحمد بن سعيد بن يربوع الإشبيلي : بيّن مسلم جَرْحَهُ في صدْرِ كتابه ؛ وأما البخاري فلم يُنبّه من أمره على شيء ، فدل أنه عنده على الاحتمال ، لأنه قد قال في "التاريخ " : "كل من لم أبين فيه جُرْحَةً فهو على الاحتمال ، وإذا قلت : فيه نظر ، فلا يحتمل" ) .
النقل الثاني : قال المزي في (تهذيب الكمال) (19/416) : (قال ابن يربوع في عثمان بن عمر التيمي : "هو على أصل البخاري محتمل" ).
النقل الثالث : قال الترمذي ، وهو تلميذ البخاري وأعلم الناس به ، في (العلل الكبير) عقب نقلِه قول البخاري في حكيم بن جبير (لنا فيه نظر ) : (ولم يعزم فيه على شيء ) .
كذا فهم الترمذي عبارة شيخه ، أنه متردد في في حكيم بن جبير أو متوقف فيه ، والتردد لا يقع من البخاري أو غيره من العلماء في حق المتهمين أو المتروكين .
النقل الرابع : كان لابن عدي - وهو جِدُّ خبير بالبخاري - أكثر من تفسير لقول البخاري (فيه نظر )، ويظهر أن هذه التفاسير تعتمد على اختلاف سياق كلام البخاري وعلى القرائن الأخرى ، كما يأتي بيانه من كلام الشيخ حاتم العوني.
__________
(1) وأنا لا أستبعد أن يكون الإمام الذهبي رحمه الله وهم في هذه العبارة ، وكأنه قالها من حفظه ، وكأنه قد انتقل ذهنه إلى معنى (منكر الحديث) عند البخاري؛ فوقع الوهم، وتبعه عليه كثير من العلماء ؛ والله أعلم.
وقد قال الذهبي في (الميزان) (1/6) : ( ونقل ابن القطان أن البخاري قال : كل من قلتُ فيه منكر الحديث فلا تحلّ الرواية عنه ).(4/145)
النقل الخامس : قال الحافظ ابن حجر في كتابه (بذل الماعون ) في ترجمة أبي بلج الفزاري بياناً لمعنى قول البخاري (فيه نظر ) : ( وهذه عبارته فيمن يكون وسطاً ).
النقل السادس : قال الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي رحمه الله في تعقيب له على كلام الذهبي والعراقي المتقدمين : (لا ينقضي عجبي حين أقرأ كلام العراقي، هذا، وكلام الذهبي، أن البخاري لا يقول : فيه نظر، إلا فيمن يتهمه غالباً؛ ثم أرى أئمة هذا الشأن لا يعبأون بهذا، فيوثقون من قال فيه البخاري : فيه نظر، أو يدخلونه في الصحيح) ؛ نقله الشيخ عبد الفتاح أبو غدة في تعليقه على (الرفع والتكميل) ، انظر (ص388-392) .
النقل السابع : قال الشيخ عبد الفتاح أبو غدة في حاشية (الرفع والتكيل) بعد أن ذكر أحد عشر مثالاً شاهداً لكلام الأعظمي السابق : (والصواب عندي أن ما قاله العراقي ليس بمطرد، ولا صحيح على إطلاقه، بل كثيراً ما يقوله البخاري ولا يوافقه عليه الجهابذة، وكثيراً ما يقوله ويريد به إسناداً خاصاً، كما قال في (التاريخ الكبير) في ترجمة (عبد الله بن محمد بن عبد الله بن زيد رائي الأذان) : (فيه نظر، لأنه لم يذكر سماع بعضهم من بعض) ؛ وكثيراً ما يقوله ولا يعني الراوي ؛ فعليك بالتثبت والتأني).(4/146)
النقل الثامن : قام الأستاذ الدكتور مسفر بن غرم الله الدميني بدراسة موازنة استقرائية ، جمع فيها المواطن التي أطلق فيها البخاري تلك اللفظة ، ووازنها بأقوال العلماء غيره في الذين قيلت فيهم ، فخرج بأن من قيل فيه انه ( فيه نظر ) فإنه تليين خفيف الضعف ، وأن البخاري في إطلاق هذه العبارة مثل غيره من الأئمة ، لا كما زُعم من أن له اصطلاحاً خاصاً به في إطلاقها؛ وقد كتب الدكتور مسفر خلاصة بحثه هذا في مقالة نشرها في "ملتقى أهل الحديث" ، سنة 2005هـ، تحت عنوان (قول البخاري : فيه نظر) ، ولكنه لم يتمها؛ ووصف الأصل بقوله (وقد ضمنت أهم نتائجه في مقدمة كتابي " قول البخاري : سكتوا عنه ونحوه " ---- وهذا البحث كتبته منذ عشرين عاماً تقريباً)؛ وذكر أنه غير مطبوع وأن عنوانه (قول البخاري فيه نظر ونحوه)،
وقال الدكتور مسفر في مقالة "الملتقى" المذكورة : (وأحب أن ألخص هنا تلك النتائج التي انتهيت إليها [يعني في بحثه المشار إليه] :
أولاً : تعددت ألفاظ البخاري في هذا المعنى ، وهذه ألفاظه أسوقها بحسب عدد مرات ورودها(1) :
فيه نظر ، في إسناده نظر، في حديثه نظر ، فيه بعض النظر ، حديثه فيه نظر ، فيه نظر في حديثه ، فيه نظر في إسناده ، فيه نظر ولا يتابع عليه ، فيه نظر ، لم يصح حديثه ( لا يصح حديثه ) ، ليس بالقوي وفيه نظر ولا يصح حديثه ، في صحة خبره نظر ، في حديثه نظر لا يحتمل ، لا يعرف إلا بحديث فيه نظر ، فيه نظر لأنه لم يذكر سماع بعضهم من بعض، عنده مناكير وفيه نظر، في نفس الحديث نظر، في حديثه واسمه وسماعه من أبيه نظر، في حفظه نظر، في موته نظر، في قصة وفاته نظر.
__________
(1) يعني الأكثر فالأكثر.(4/147)
ولما كانت هذه الألفاظ مختلفة المؤدى والغرض فقد رأيت أن أجمع ما تقارب منها في اللفظ والنتيجة، أو في اللفظ دون النتيجة في مجموعة واحدة، مراعياً في ذلك اللفظ الذي وردت به، وحال الراوي الذي قيلت فيه، بعد سبر أقوال العلماء فيه، فتلخص لي من ذلك ثلاث مجموعات :
المجموعة الأولى : التراجم التي قال فيها : فيه نظر ، ويلحق بها : فيه نظر في حديثه ، فيه بعض النظر ، فيه نظر ولا يتابع عليه ، فيه نظر لم يصح حديثه ، أو : لا يصح حديثه ، ليس بالقوي وفيه نظر ولا يصح حديثه ، فيه نظر لأنه لم يذكر سماع بعضهم من بعض ، عنده مناكير وفيه نظر ، ليس بالقوي وفيه نظر ولا يصح حديثه .
المجموعة الثانية : التراجم التي قال فيها : في حديثه نظر ، وألحقت بها نوعين من التراجم :
النوع الأول : ألفاظ وردت في بعض التراجم تقارب ما تقدم في اللفظ وفي نتيجة الحكم على الرواة وهي : حديثه فيه نظر ، ( ولم يصح ) ولا يصح حديثه في حديثه نظر ، وفي حديثه واسمه وسماعه من أبيه نظر ، ولا يعرف إلا بحديث فيه نظر ، وفي صحة خبره نظر ، في حديثه نظر لا يحتمل .
النوع الثاني : ألفاظ تقارب ما تقدم في المعنى وتخالفه من حيث الحكم على من وردت في ترجمته ، ومن هذه قوله : في نفس الحديث نظر ، وهو حديث فيه نظر ، في حديث القميص نظر .
المجموعة الثالثة : التراجم التي قال فيها : في إسناده نظر ، والذين قيلت في تراجمهم على قسمين ، فمنهم من يشمله اسم الضعف أو الجهالة ، ومنهم من لا يرقى إليه الشك كالصحابة وبعض الثقات .
ثم ألحقت بالمجموعات الثلاث ثلاثة ألفاظ لا يمكن إدخالها فيما تقدم وهي : في حفظه نظر، في موته نظر ، في قصة وفاته نظر .(4/148)
أمر آخر متعلق بما تقدم من تقسيم الألفاظ في المجموعات الثلاث ، وهو أن الدقة المتناهية في مثل هذه الحال غير ممكنة في نظري ، فبعض الألفاظ يمكن وضعها في مجموعتين ، وبعضها لا يمكن فيه ذلك ، فمثلاً قوله : " فيه نظر في حديثه " جعلتها في المجموعة الأولى ، مع أنه يمكن أن توضع في الثانية ، فشطرها الأول " فيه نظر " يعني أن النظر في الراوي نفسه ولذا جعلتها في المجموعة الأولى ، وشطرها الثاني " في حديثه " يعني أن النظر في حديثه ، والأمر سهل فالدراسة ستشملهما على الحالين .
نتائج دراسة المجموعة الأولى :
هذه المجموعة هي أكثر التراجم عدداً ، ولم أجد فيها غير ترجمة واحدة لا يمكن أن يعني البخاري صاحبها بذلك القول ، وصاحب هذه الترجمة صحابي ، وسنبدأ بذكره أولاً ثم ننظر في بقية تراجم المجموعة بعد ذلك .
قال البخاري في (التاريخ الكبير) ج4/ص319 : صعصعة بن ناجية المجاشعي جد الفرزدق-----[إلى أن قال] : وإذن فالبخاري لا يعني صاحب الترجمة بهذه اللفظة بل يعني - والله أعلم - الحديث الوارد فيها ، وقد أخرجه الحاكم في المستدرك مطولاً من طريق العلاء .
بعد هذا ننظر في التراجم التي عقب عليها البخاري بقوله " فيه نظر " وعددها إحدى وتسعون ترجمة - ثم بعد ذلك ننظر في العبارات الملحقة بها - ومن هؤلاء من ذكره الحافظ في التقريب ، لأنه ممن أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة أو أحدهم ، ومنهم من لم يذكره ، وعدد الذين ذكرهم في التقريب ، وحكم عليهم فيه : ثمانية وخمسون راوياً ، وهذا تفصيل كلامه عليهم :
حكم على أربعين منهم بالضعف ، سواء كان ضعفهم شديداً أو يسيراً ، فمنهم من قال فيه : ضعيف ، أو : فيه ضعف ، أو : ضعفوه ، أو : لين ، أو : فيه لين ، أو : ليس بالقوي ، أو : متروك ، وقد يضيف إلى ما تقدم أوصافاً أخرى كقوله : شيعي ، أو : يتشيع ، أو : غلا في التشيع، أو : فيه رفض ونحو ذلك .(4/149)
والبقية وعددهم ثمانية عشر ، ثلاثة منهم قال عنهم : صدوق ، واثنان قال عنهما : لا بأس به ، وأربعة قال عنهم : مقبول ، وبقيتهم بين : صدوق يخطئ ، أو : صدوق كثير الخطأ ، وبين : صدوق يهم ، أو : له أوهام ، أو : صدوق فيه لين ، أو : صدوق شيعي ، أو : صدوق يخطئ ، أو : صدوق يهم ويغلو في التشيع ، أو : صدوق إلا أنه عمي فصار يلقن ما ليس من حديثه .
وإذن فالثلثان من الضعفاء - وإن تفاوت ضعفهم - وأشد جرح أطلقه عليهم قوله عن بعضهم : " متروك " وعدد هؤلاء أربعة فقط من أربعين أطلق عليهم اسم الضعف .
أما الثلث فهم ممن يشمله اسم الصدق ، وإن وصف أكثرهم بما يؤثر في العدالة أو الضبط ، والذين يمكن قبول حديثهم - من غير اشتراط المتابعة ، أو : موافقة الثقات ، أو : عدم التفرد - خمسة فقط ، وهم من قال فيهم الحافظ : صدوق ، أو : لا بأس به --------.
أما الذين قال فيهم البخاري " فيه نظر " وليسوا ممن ذُكر في التقريب فعددهم ثلاثة وثلاثون راوياً ، ولمعرفة درجتهم اجتهدت في تلخيص حال كل منهم بحسب ما بلغني من أقوال العلماء فيهم ، وبحسب ما رأيته من حديثهم ، وكانت النتيجة شمول الضعف لهم جميعاً ، وإن اختلفت عبارتي في حال كل منهم ، فمنهم الضعيف ، والضعيف جداً ، ومنهم المجهول والمتروك ، والحكم بضعفهم ليس تشدداً مني بل هو واقع حالهم ، فإذا علمت أن خمسة عشر منهم لم يوثقهم أحدٌ البتة ، وثمانية ذكرهم ابن حبان في ثقاته فقط مع تضعيف الأئمة لهم ، زال ما يُتوهم من احتمال التشدد في التوثيق ----.(4/150)
أما الألفاظ الملحقة بقوله فيه نظر ، وهي قوله : فيه نظر في حديثه ، فيه بعض النظر ، فيه نظر ولا يتابع عليه ، فيه نظر لم يصح حديثه ، أو : لا يصح حديثه ، ليس بالقوي وفيه نظر ولا يصح حديثه ، فيه نظر لأنه لم يذكر سماع بعضهم من بعض ، عنده مناكير وفيه نظر ، ليس بالقوي وفيه نظر ولا يصح حديثه ، وقد بلغت التراجم فيها تسعاً ، والضعف بين على أصحابها ، وأحسنهم حالاً من قال فيه ابن حجر : صدوق كثير الخطأ ----.
مما تقدم من التراجم - الموجزة هنا وهي مفصلة في البحث - تبين الضعف في أكثرها ، وأحسنهم سلمة الأبرش الذي قال فيه الحافظ : صدوق كثير الخطأ ، وعبد الله بن محمد الأنصاري ، مقبول ، والبقية بين ضعيف ومجهول ، وهم في عموم الأحوال لا يبعدون عن الذين قال عنهم : فيه نظر ، وإن كان قوله "فيه بعض النظر" يشعر بخفة ضعفهم ، فأحدهم - وهو بكير بن مسمار- مختلف فيه ، والثاني عبيد بن عبد الرحمن مجهول ، والثالث أحمد بن الحارث الغساني شديد الضعف ، أما سلمة فرغم قوله المتقدم فيه : عنده مناكير ، وفيه نظر ، وله قول آخر فيه هو : ووهّنه علي " إلا أنه خالف فيه جماعة وثقوه -----.
وقبل أن ننتهي إلى النتيجة النهائية ، أحب أن أذكر بكلام أهل العلم الذين جعلوا عبارة البخاري تلك في مرتبة الجرح الشديد :
فهذا الذهبي - وهو أول من وجدته يجعل هذه العبارة في هذه المرتبة - يقول : ... وكذا عادته ( يعني البخاري ) إذا قال " فيه نظر " بمعنى أنه متهم ، أو ليس بثقة ، فهو عنده أسوأ حالاً من الضعيف ، انتهى ، وجعل هذا اللفظ في مقدمة الميزان مع المتروك ، فقال : ثم متروك ، وليس بثقة ، وسكتوا عنه ، وذاهب الحديث ، وفيه نظر ، وهالك ، وساقط . لكنه لم يعزه للبخاري بل عمم الحكم .
أما ابن كثير فيقول : من ذلك أن البخاري إذا قال في الرجل : سكتوا عنه أو فيه نظر فإنه يكون في أدنى المنازل وأردئها عنده ، ولكنه لطيف العبارة في التجريح .(4/151)
ويتابع العراقيُ الذهبيَّ في مراتبه ، ويزيد عليها بعض الألفاظ ، فقد جعل المرتبة الأولى من مراتب الجرح : فلان كذاب ، أو وضاع ، أو دجال .
والمرتبة الثانية : فلان متهم بالكذب ، أو الوضع ، وساقط ، ومتروك ، وفيه نظر وسكتوا عنه وهاتان العبارتان يقولهما البخاري فيمن تركوا حديثه ....
والمرتبة الثالثة : ضعيف جداً ، أو رد حديثه ، أو واه بمرة ....
أما السخاوي فجعل مراتب الجرح ستاً أولها صيغة المبالغة نحو : أكذب الناس ، والثانية : كذاب أو يضع الحديث ، والثالثة متهم بالوضع وساقط وهالك ، وقال : فيه نظر أو سكتوا عنه ... وكثيراً ما يعبر البخاري بهاتين العبارتين الأخيرتين فيمن تركوا حديثه ..... لأنه لورعه قلّ أن يقول : كذاب أو وضاع ، نعم ربما يقول : كذبه فلان ، ورماه فلان بالكذب ، فعلى هذا فإدخالهما في هذه المرتبة بالنسبة إلى البخاري خاصة ، مع تجوز فيه أيضاً وإلا فموضعهما منه التي قبلها - يعني المرتبة التي من ألفاظها : كذاب ، أو يضع الحديث ونحوه .
أما عند الحافظ ابن حجر ففي مرتبة هذا اللفظ عنده ( قياساً ) : متروك ، ساقط ، واهي الحديث.
وبالنظر في أقوال المتقدمين [يعني العلماء الذين تقدم ذكرهم] نجد هذا اللفظ يتردد بين المرتبة الثانية من مراتب الجرح وهي : الوضع والكذب ، أو الثالثة وهي : التهمة بالوضع ، أو التي تليها وهي : متروك وساقط ونحوه ، وكل ذلك جرحٌ مؤثرُ عندهم لا يحتج بحديث صاحبه ولا يستشهد به ، بل ولا يعتبر بحديثه كما نص على ذلك السخاوي .
كما أنهم نصوا على اختصاص البخاري بالجرح الشديد بهذا اللفظ) .
النقل التاسع : قال الشيخ خالد الدريس حفظه الله في ( الحديث الحسن لذاته ولغيره / دراسة استقرائية نقدية ) (1/406-415) :(4/152)
إذا ترجم البخاري في " تاريخه الكبير " لراوٍ ولم يذكر فيه جرحًا ، فإنه يكون عنده ممن يحتمل حديثُهُ ، قال الحافظ الحجة أبو الحجاج المزي في آخر ترجمة عبد الكريم بن أبي المخارق : « قال الحافظ أبو محمد عبد الله بن أحمد بن سعيد بن يربوع الإشبيلي : بيّن مسلم جَرْحَهُ في صدْرِ كتابه ؛ وأما البخاري فلم يُنبّه من أمره على شيء ، فدل أنه عنده على الاحتمال ، لأنه قد قال في "التاريخ " : ( كل من لم أبين فيه جُرْحَةً فهو على الاحتمال ، وإذا قلت : فيه نظر ، فلا يحتمل )»(1) .
وفي موضع آخر قال ابن يربوع في عثمان بن عمر التيمي : «هو على أصل البخاري محتمل»(2).
وابن يربوع الإشبيلي الذي نقل هذا النص من كلام البخاري في (تاريخه) ولد سنة 444هـ ، وتوفي سنة 522هـ ، وقد قال فيه تلميذه ابن بشكوال : «كان حافظاً للحديث وعلله ، عارفًا بأسماء رجاله ونَقَلَتِه ، يبصر المعدَّلين منهم والمجرَّحين ، ضابطاً لما كتبه ، ثقةً فيما رواه ، وكتب بخطه علماً كثيراً ، وصحب أبا علي الغساني كثيراً واختص به وانتفع بصحبته ، وكان أبو علي يكرمه ويفضله ، ويعرف حقه ، ويصفه بالمعرفة والذكاء ، وجمع أبو محمد هذا كتبًا حسانًا ، منها : كتاب الإقليد في بيان الأسانيد ، وكتاب تاج الحلية وسراج البغية في معرفة أسانيد الموطأ ، وكتاب لسان البيان عما في كتاب أبي نصر الكلاباذي من الإغفال والنقصان ، وكتاب المنهاج في رجال مسلم بن الحجاج ، وغير ذلك»(3).
وقال ابن الأبار فيه : «الحافظ المحقق ... وله تواليف مفيدة ، وكان ظاهري المذهب»(4).
وقال الذهبي : «الأستاذ الحافظ المجوِّد الحجة»(5).
وفتشتُ عن مصنفاته في فهارس المخطوطات فلم أقف له على شيء موجود ، فيا للأسف والحسرة على ضياع مثلها .
__________
(1) تهذيب الكمال : 18/265.
(2) السابق : 19/416.
(3) الصلة لابن بشكوال : 1/283.
(4) المعجم لابن الأبار ، ص206.
(5) النبلاء : 19/578.(4/153)
وعلى أية حال ، أردت من ذكر كلام أهل العلم في الحافظ ابن يربوع أن أبيّن أنه من أهل الاعتناء الشديد بعلم الجرح والتعديل كما يظهر من كلام تلميذه ابن بشكوال ، ومن أسماء مصنفاته التي تدل دلالة واضحة على تخصصه في هذا الشأن ، فنقل مثل هذا الحافظ المحقق يعتد به إن شاء الله ، لعدم وجود طعن في صحة النقل ، وإن كان هذا النص غير موجود في كتاب (التاريخ الكبير) المطبوع ، فإني قرأته بأكمله ولم أقف على هذا النص.
ومن هنا أصبح من الملحِّ أن ننظر في بعض القرائن التي تجعل ثبوت ذلك النص ممكنًا وغير مدفوع ، فمن ذلك :
من الاحتمالات القوية جدًّا أن يكون ابن يربوع الإشبيلي نقل ذلك النص عن البخاري عن إحدى روايات (التاريخ الكبير) التي لم تعتمد في النسخة المطبوعة ، والأندلسيون يروون كتاب (التاريخ الكبير) من ثلاثة طرق عن البخاري(1) ، هي : رواية محمد بن عبد الرحمن بن الفضل الفسوي ، ورواية محمد بن سليمان بن فارس الدلال ، ورواية محمد بن سهل بن عبد الله المقرئ ، والمطبوع اعتمد في طبعه على عدة نسخ(2) ، ولم يذكر المحققون له إلا رواية محمد بن سهل(3).
__________
(1) فهرسة ابن خير الإشبيلي ، ص204 ، 205 .
(2) انظر : التاريخ الكبير : 2/398-400 و 8/456 خاتمة الطبع.
(3) انظر : التاريخ الكبير : 1/2 ، 3.(4/154)
ومما يؤكد اختلاف نسخ التاريخ الكبير ورواياته أنه في المطبوع ما صورته : «عبد الرحمن بن عائش الحميري»(1) فقط ، ووجدت البيهقي يذكر بسنده إلى أبي أحمد محمد بن سليمان بن فارس قال : أخبرنا محمد بن إسماعيل البخاري قال : «عبد الرحمن بن عائش الحضرمي ، له حديث واحد إلا أنهم يضطربون فيه»(2) ، فهذه الزيادة المهمة وردت في رواية ابن فارس ولم ترد في المطبوع ، فإما سقطت من إحدى النسخ ، أو من رواية ابن سهل المقرئ ، أو يكون البخاري حذفها ، ولكن الشاهد أن هناك زيادات وإضافات في روايات أو نسخ التاريخ الكبير---- .
وبما تقدم يقوى الظن بأن ما نقله ابن يربوع من كلامٍ للبخاري يكون وجده في رواية من روايات التاريخ الكبير أو في نسخة من نسخِهِ ، والرجل كما ذكروا عنه من أهل التحقيق والإتقان والشهرة بالضبط .
2- رأيت البخاري استعمل مصطلح ( الاحتمال ) الذي ذكره في كلمته السابقة ، فقد قال في (ضعفائه الصغير) في عبد الله بن أبي لبيد المدني : «وهو محتمل»(3) ، وعبد الملك بن أعين : «يحتمل في الحديث»(4) ، وعبد الوهاب بن عطاء الخفاف : «ليس بالقوي عندهم ... وهو محتمل»(5) ، ومُحِل بن محرز الضبي : «قال يحيى القطان : لم يكن بذاك ، قال ابن عيينة : لم يكن بالحافظ ، وهو محتمل»(6) . ووجدته يقول في كتابه ( القراءة خلف الإمام ) في عبد الرحمن بن إسحاق بن عبد الله المدني : «وليس هو ممن يعتمد على حفظه إذا خالف من ليس بدونه ، وكان عبد الرحمن ممن يحتمل في بعض»(7) ، وقد قال عنه أيضًا في (العلل الكبير) للترمذي : «هو ثقة»(8) ، وقال في التاريخ الكبير : «ربما وهم»(9).
__________
(1) التاريخ الكبير : 5/252.
(2) الأسماء والصفات للبيهقي ، ص380.
(3) الضعفاء الصغير ، ص69.
(4) السابق ، ص76.
(5) السابق ، ص80.
(6) السابق ، ص117.
(7) جزء القراءة ، ص38 ، 39 .
(8) العلل الكبير ، ص179 .
(9) التاريخ الكبير : 5/258 .(4/155)
فهذا الاصطلاح يستعمله البخاري ، ولا يعني به التوثيق المطلق كما ظهر لنا من النصوص الخمسة السابقة ، وإنما يقوله في حق الرجل الذي له أوهام ولا يسقط حديثه ويضعف مطلقًا ، وربما كانت قريبة الشبه بمرتبة ( صدوق يخطئ ) ، والله أعلم .
وعلى أية حال ، فإن استعمال البخاري للفظة ( الاحتمال ) مما يدل على أنْ ليس في النص الذي نقله ابن يربوع ما يستنكر أو يخالف منهج البخاري واستعمالاته للمصطلحات .
3- من خلال اطلاعي على كتاب (التاريخ الكبير) لاحظت أن نصوص البخاري في تعديل الرواة وتوثيقهم قليلة جداً ، بل نادرة ، إذا ما قورنت بنصوصه التي ينتقد فيها الرواة بمثل قوله : «فيه نظر» و «منكر الحديث» و «لا يتابع عليه» و «لم يصح حديثه» ، ونحو هذه العبارات النقدية التي فيها طعن وجرح لبعض الرواة .
وكنت قبل أن أطلع على ما نقله ابن يربوع أسائل نفسي : لماذا يكثر البخاري من جرح الرواة ، ولا يكاد يوثق في (تاريخه الكبير) الكثير من ثقات المحدثين ومشاهيرهم ؟ فلما وقفت على كلامه تجلى لي منهجه وتبين الأمر .
ولعل في هذه الأمور ما يجعل القلب يركن إلى ثبوت الكلام الذي نقل عن البخاري في بيان منهجه في كتابه (التاريخ الكبير) .
ويظهر أن قول البخاري : «ومن لم أبين فيه جُرحةً فهو على الاحتمال» يدخل فيه الثقة ومتوسط الحفظ وكل راوٍ ضُعّف ولم يشتد ضعفه ، ويوضح الأمر أكثر ويفسر مقصوده أنه قد قال : «كل من لا أعرف صحيح حديثه من سقيمه فلا أروي عنه» ، فغير المحتمل عنده من يترك هو الرواية عنه ، وكل من تميَّزَ صحيح حديثه من سقيمه فهو يروي عنه ، وهو المحتمل عنده فيما يظهر لي .(4/156)
والقاعدة السابقة لم أر من نبه عليها ، وإنما رأيت لبعض المشتغلين بالحديث وهو الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رسالة(1) يذهب فيها إلى أن الرجل إذا سكت عنه المتكلمون في الرجال كالبخاري وأبي حاتم وابن عدي يعد سكوتهم توثيقًا له ، وهذا كلام فيه نظر ، وقد تولى غير واحد من الباحثين الرد على الشيخ عبد الفتاح ، ولم أرَ أحدًا من الطرفين وقف على نص البخاري السابق ، وهو فيما أظن يحسم النزاع ، إذ إن لفظ الاحتمال لا يعني التوثيق المطلق ، بل هو - أعني النص السابق المروي عن البخاري - أشبه ما يكون بقول أبي داود في (سننه) : «وما كان في كتابي من حديث فيه وهن شديد فقد بينته ، ومنه ما لا يصح سنده ، وما لم أذكر فيه شيئًا فهو صالح ، وبعضها أصح من بعض»(2).
ولا يخفى أن حديثنا عن البخاري فقط ، ولا يدخل ابن أبي حاتم أو غيره معنا هنا.
انتهى كلام الشيخ خالد الدريس ؛ ونقلتُه عن كتابه بواسطة .
النقل العاشر : قال عبد الله بن يوسف الجديع في تعليقه على (المقنع) لابن الملقن (1/178) في قول البخاري (فيه نظر) : (وقد ذكر بعض المتأخرين أن هذه اللفظة جرح شديد من البخاري ، والتحقيق يفيد غير ذلك ، فقد ثبت أن البخاري يقولها في كثير من الثقات ومن يقرب منهم ، والأشبه أن يقال : إنها من ألفاظ الجرح الخفيفة ؛ وفيها دلالة على التوقف في شأن الراوي ، وربما كانت لتردد البخاري في أمره ، أو أن يعلق قبول روايته على المتابعة والوفاق ، وعلى أي تقدير فإن الاشتباه في دلالة هذه يقتضي من الباحث المنصف أن يرجح دلالتها من خلال دلالة ألفاظ غير البخاري في الراوي المعين ، بمعنى أن يعدها من ألفاظ الجرح المجملة).
__________
(1) مضمنة في تعليقه على كتاب (الرفع والتكميل) (ص230-248) ، وعنوانها : ( سكوت المتكلمين في الرجال عن الراوي الذي لم يجرح ولم يأت بمتن منكر يعد توثيقًا ).
(2) رسالة أبي داود لأهل مكة (ص27 ، 28).(4/157)
النقل الحادي عشر : قال عبد الله بن يوسف الجديع في (تحرير علوم الحديث ) (1/603-607) في شرح معنى قولهم ( فيه نظر ) : (شاع استعمال هذه العبارة عن البخاريِّ ، واستعملها غيره من المتقدمين بقلَّة ، كأبي حاتم الرازي وابن عديِّ وأبي أحمد الحاكم وغيرهم ، وأكثرَ مِن استعمالها من المتأخرين أبو المحاسن محمد بن علي الحسيني صاحب " الإكمال في ذكر من له رواية في مسند أحمد " .
وقد قال الذهبي في تفسير هذه اللفظة : " قلَّ أن يكون عند البخاري رجل فيه نظر ، إلا وهو متهم "(1) ، وقال في موضع آخر : " لا يقول هذا إلا فيمن يتهمه غالباً "(2).
قلت : لكن المتَتَبَّع لاستعمال البخاري لها لا يجد ما أطلقه الذهبي صواباً ، بل إنك تجده قالها في المجروحين على اختلاف درجاتهم ، كما قالها في بعض المجهولين الذين لم يتبيَّن أمرهم لقلة ما رَوَوا ، بل قالها في رواة هم عند غيره في موضع القبول) .
ثم ذكر تسعةَ رواةٍ أمثلةً لهذه الأقسام الثلاثة التي أشار إليها؛ ثم قال :
(وأكثر الذين قال فيهم البخاري تلك العبارة هم ممن يكتب حديثه ويعتبر به ، وفيهم جماعة كانوا قليلي الحديث ، غير مشهورين به ، لا يَصِلون إلى حدِّ السُّقُوط ، خلافاً لما قاله الذهبي .
ومما يبين مراد البخاري بقوله هذا ، ما ذكره الترمذي عنه من قوله في ( حكيم بن جبير ) : " لنا فيه نظر " ، قال الترمذي : " ولم يعزم فيه على شيء "(3).
فهذا يدل على أن هذه العبارة من البخاري فيمن هو في موضع تأمُّل وتوقُّف عنده ، فهي عبارة احترازٍ عن قبول حديث الراوي والاحتجاج به ، أو الاعتبار به ، ولكونِها توقفاً عن القبول ، فهي في جملة ألفاظ الجرح ، وإن لم يقصد البخاري إلحاق الجرح بمن أطلقها عليه .
__________
(1) ميزان الاعتدال (3/52).
(2) ميزان الاعتدال (2/416) ، وقال في الموقظة (ص83) : (هو عنده أسوأ حالاً من الضعيف).
(3) العلل الكبير (2/969).(4/158)
وأكثر ما يُقال : هي من عبارات الجرح المجملة ، يبحث عن تفسيرها في كلام سائر النقاد في ذلك الراوي .
وإذا عرف هذا في دلالة هذا اللفظ ، تبين المراد بقوله أيضاً : ( في حديثه نظر ) ، فالمعنى فيه غير خارج عما ذكرت من توقف البخاري في قبول حديث ذلك الراوي ، أو إسناده ، تارة بسببه ، وتارة من جهة علة دونه في الإسناد ، لا يُقْضى معها بقبول خبره ، أو بالدلالة على أمره في إدخاله في جملة رواة العلم) .
ثم ضرب لكل نوع مثالاً؛ ثم قال : (وما نسبه الذهبي إلى البخاري أنه قال : " إذا قلت : فلان في حديثه نظر ، فهو واه متهم "(1) ، فهذا لم أقف عليه مسنداً إلى البخاري في شيء [أي من الكتب]، ولا يدل عليه ما وقفنا عليه من استعمال البخاري .
وأما قول البخاري : ( في إسناده نَظَر ) فتوقُّفٌ منه في ثبوت إسناد معَّين جاء من رواية المذكور ، إذ أكثر ما أتت هذه العبارة في كلامه ، عقبَ حديث أو أثر يذكره في ترجمة الراوي ، فالهاء في قوله ( إسناده ) لا تعود على الراوي ، إنما تعود على الرواية المذكورة) .
ثم أتى على ذلك بمثالٍ، ثم قال : (قلت : وعلى هذا الذي بيَّنْت عن استعمال البخاري يقع استعمال غيره ، إلا أن تقوم قرينةٌ على إرادة معنى مخصوص ؛ وذلك كاستعمال ابن عبد البرِّ لعبارة : " فيه نظر "(2) ، ففسرها العلائي بقوله " أي في صحبته "(3) ؛ وقال السُّليمانيُّ في محمد بن المغيرة بن سنان الضبي فقيه الحنفية بهَمَذانَ : " فيه نظر " ، فقال الذهبي : " يشير إلى أنه صاحب رأي "(4) ؛ انتهى.
__________
(1) سير أعلام النبلاء (12/441).
(2) الاستيعاب (6/328 - هامش الإصابة).
(3) جامع التحصيل (ص262).
(4) سير أعلام النبلاء (13/384).(4/159)
النقل الثاني عشر : قال الشيخ الدكتور حاتم العوني حفظه الله تعالى في كتابه ( المرسل الخفي ) (1/440) : ( وأنبه هنا : أن قول البخاري (فيه نظر ) إن كان المقصود به الراوي ، فهي تليين خفيف ، وليست تلييناً شديداً كما ادعاه بعض الأئمة المتأخرين كالذهبي وابن كثير وغيرهما . وقد رد على هذا الفهم الخاظئ لتلك العبارة في صدورها من الإمام البخاري ، الأستاذ مسفر بن غرم الله الدميني في دراسة موازنة ، جمع فيها المواطن التي أطلق فيها البخاري تلك البخاري ، ووازنها بأقوال العلماء غيره في الذين قيلت فيهم ، فخرج بأن من قيل فيه انه ( فيه نظر ) فإنه تليين خفيف الضعف ، وأن البخاري في إطلاق هذه العبارة مثل غيره من الأئمة ، لا كما زعم من أن له اصطلاحا خاصا به في إطلاقها ؛ ولم أطلع على هذه الدراسة الموازنة التي قام بها الأستاذ الدميني وفقه الله ، لكنه ذكر القيام بها ولخص نتائجها في دراسة أخرى له ، عمن قال فيه البخاري "سكتوا عنه" ، وذلك في رسالة أسماها "قول البخاري : سكتوا عنه" .
والذي ذهب إليه الأستاذ الدميني مسبوق إلى نتيجته ، ولا أدري أأشار إلى من سبقه فيها أم لم يشر ؟! لأني لم أطلع على دراسته حول قول البخاري فيه نظر ، كما ذكرت آنفا . والذي سبقه إلى فهم قول البخاري ( فيه نظر ) هو أعلم الناس بالإمام البخاري ، ألا وهو تلميذه النقاد الجهبذ أبوعيسى الترمذي رحمه الله ! ، فقد نقل الترمذي في العلل الكبير أن البخاري قال عن حكيم بن جبير : "لنا فيه نظر" فأعقبه الترمذي بقوله : "ولم يعزم فيه على شيء " ، كذا فهم الترمذي عبارة شيخه ، أنه متردد في في حكيم بن جبير أو متوقف فيه ، وهذا التردد هو شأن الرواة خفيفي الضعف ، الذين تتردد أحاديثهم بين التحسين والتضعيف ----.(4/160)
ولابن عدي أكثر من تفسير لقول البخاري "فيه نظر" ، فيظهر أن هذه التفاسير تعتمد على اختلاف سياق كلام البخاري وإلى حال الراوي أو المروي في واقعه ، كما يعلمه ابن عدي .
فمن ذلك أنه نقل عن البخاري أنه قال عن بكير بن مسمار : "في حديثه بعض النظر" ، فأعقبه ابن عدي بقوله "لم أجد في رواياته حديثاً منكراً ، وأرجو أنه لا بأس به ، والذي قاله البخاري هو كما قال ، روى عنه أبو بكر الحنفي أحاديث لا أعرف فيها شيئاً منكراً ، وعندي أنه مستقيم الحديث----" .
فانظر إلى قوله "والذي قاله البخاري هو كما قال" ، مما يعني متابعته له ، ثم يقول عن بكير بن مسمار : "لا بأس به " و "مستقيم الحديث" .
وتفسير آخر لابن عدي أنه ذكر في ترجمة ثعلبة بن يزيد الحماني أن البخاري قال عنه : "سمع علياً ، روى عنه حبيب بن أبي ثابت ، فيه نظر ، لا يتابع في حديثه"، فقال ابن عدي بعد إخراجه حديثاً له : "ولثعلبة عن علي غير هذا ، ولم أر له حديثا منكراً في مقدار ما يرويه ، وأما سماعه من علي ففيه نظر ، كما قال البخاري" ؛ فها هو ابن عدي يفسر قول البخاري "فيه نظر" بأنه ينفي وينكر سماع ثعلبة من على رضي الله عنه !.
فهذان إمامان متقدمان من لباب الحديث وعلومه ومن أئمة الحديث ، لا يحملان قول البخاري "فيه نظر" على أنه جرح شديد ، كما ادعي! وكفى بهما في الجلائل العظام ! فضلاً عن فهم عبارة كلهم أبو عذرها ، منهم بدأت وإليهم تعود !! ).
النقل الثالث عشر : قال الشيخ الدكتور حاتم العوني أيضاً في مقالة له نُشرت في (ملتقى أهل الحديث) : (فقد اطلعت على بعض الحوار المثمر الذي دار حول قول البخاري "فيه نظر" ، ولي حول هذا الموضوع وقفات :
الوقفة الأولى : أن الرأي الذي كنت قد ذكرته في كتابي المرسل الخفي (1/440-442) حول فَهْم عبارة البخاري تلك : لم يكن فهماً مرتجلاً مبنياً على مثالين أو ثلاثة .(4/161)
وكيف لمن تحمَّل شيئاً من أمانة العلم ، ولمن عرف أن هذا العلم دين فلا يجوز التجرؤ على مسائله بغير تثبت = أن يصل إلى هذا الحد من الاستخفاف بالعلم ؟!
فلقد بنيت ذلك الرأي على عدة أمور :
الأول : دلالة اللفظ اللغوية ، البعيدة كل البعد عن إرادة الضعف الشديد .
وسيأتي بيان دلالتها ، وعلاقتها بالمعنى الاصطلاحي .
الثاني : أن الأصل في اللفظ الاصطلاحي بين العلماء أن يكون له دلالة متحدة بينهم ، إلا إذا جاء الدليل الصحيح الصارف له عن ذلك .
الثالث : أن الترمذي قد فَهِم كلام البخاري بما لا يبتعد به عن دلالته اللغوية ، وبما يوافق المعنى الاصطلاحي العام له .
وإذا فهم الترمذي كلام البخاري بما تأيد بما سبق ، والترمذي هو الإمام في الحديث والجرح والتعديل ، فهو بذلك أعرف الناس ( مع أقرانه ) بمعاني ألفاظ الجرح والتعديل . فكيف إذا كان الأمر متعلقاً بعبارة جرح أو تعديل لأحد شيوخ الترمذي ؟! وكيف إذا كان هذا الشيخ ممن لازمهم الترمذي وأكثر من الاستفادة منهم ؟! وكيف إذا كان هذا الشيخ هو البخاري الذي كان الترمذي لا يكاد يصدر إلا عن رأيه واجتهاده ، ولايكاد يساويه في العناية بأقواله واجتهاداته أحدٌ من تلامذته ؟!!
الرابع : وقد فهم إمامٌ آخر كلام البخاري بغير فهم بعض المتأخرين ، وكنت قد ذكرته أيضاً في ( المرسل الخفي ) ، وهو ابن عدي . ولابن عدي عناية كبرى بالبخاري وكتبه ، وتتلمذ على جمع من الرواة عن البخاري ؛ ثم هو ذلك الإمام الفحل صاحب ( الكامل ) الذي وافق اسمه حقيقته .
الخامس : ثم وافق هذا كله استقراء ودراسة لأحد المتخصصين ، وهو الدكتور مسفر الدميني .
والاستقراء هو الحَكَمُ في مثل هذه المسائل !(4/162)
ومع أني لم أكن اطلعت على هذا الاستقراء ، ولم أطلع عليه إلى الآن ، إلا أن الباحث الذي قام به ( وهو الدكتور مسفر الدميني ) قد ذكر نتيجة استقرائه في كتاب آخر له ، اطلعت عليه وعرفت منه تلك النتيجة . وهذا كله مما ذكرته بكل وضوح في ( المرسل الخفي ).
ولا أظن أن من شروط قبول نتيجة الاستقراء أن أطلع عليه بنفسي ، وإلا فلن نقبل كلّ دعاوى الاستقراء ، حتى لو ادّعاها كبار العلماء : كالذهبي وابن حجر وغيرهما ، لأننا لم نطلع على استقرائهم .
السادس : أنني كنت قد لاحظت من خلال البحوث والممارسة أن عبارة البخاري ( فيه نظر ) لا يطلقها للدلالة على الضعف الشديد غالباً ، وهذه الممارسة ليست استقراءً تاماً ، ولا هي مثالين أو ثلاثة ، غير أنها استقراء ناقص يفيد غلبة الظن .
فكيف إذا انضمّ هذا الاستقراء الناقص إلى ما سبق كله ؟!!
فهل من العدل والإنصاف أن نصوِّر هذا كله بأنه مثالٌ أو مثالان ؟!! وهل من الأدب أن يوصف من اجتهد هذا الاجتهاد بذلك الاستخفاف ؟!!!
عزائي في ذلك كله أننا في زمن الغُربة ، حتى بين طلبة العلم !!!
فلقد كان الأولى بمن لديه إشكال أو اعتراض يلوح في ذهنه أن يسأل صاحب ذلك الجهد ، سؤال المستفيد ، ليرى هل عنده جوابٌ عن إشكاله أو لا . أما أن يبادر بالاعتراض والنقض بذلك الأسلوب ، فهذا فيه ما فيه مما سبقت الإشارة إليه .
إن كثيراً من طلبة العلم يسيرون على منهج يقول : إن من تكلم أخيراً فهو صاحب الحق ، بغض النظر عن دليله وماذا قال !!
ولأبين لكم - إخواني - أن هذا هو واقع كثير من طلبة العلم ، فإنه لو كان أول من كتب في بيان معنى عبارة البخاري ( فيه نظر ) هو الذي يفسرها بالضعف الشديد ، وكان بذلك أول من أثار المسألة . واحتج لذلك بقول الذهبي في السير (12/441) نقلاً عن البخاري أنه قال : ( إذا قلت فلانٌ في حديثه نظر ، فهو متهمٌ واهٍ ).(4/163)
فجئت أنا لأردَّ عليه قائلاً : إن هذا القول غير صحيح ، إذ أين قال البخاري هذا القول ؟!! أين عنه العلماء بهذا اللفظ ؟!! وكيف لنا أن نقبله وهو يعارض : دلالة اللغة ، ودلالة الاصطلاح العام ، وفهم الترمذي ( وكفى به ) ، وفهم ابن عدي ( وكفى به ) ، وفهم ابن حجر ( كما يأتي ) ، ويعارض الاستقراء التامَّ الذي قام به باحثٌ مختص ، والاستقراء الناقص الذي ظهر لي من خلال واقع كلام البخاري ؟!! إنه لا يمكن إلغاء هذه الدلالات كلها لمجرد عبارة تعارضها ، الله أعلم بصحتها ؟! فإن صحت ، فالله أعلم بسياقها ؟!
إنني لا أشك لو كان هذا هو الذي وقع ، لما أكثر أو كثيرٌ من طلبة العلم إلى قولي ، لأنه الأخير ، لا لأن ما فيه حقٌ مؤيدٌ بالدليل !!!
هذا مع أن تلك الدلائل ( بل بعضها ) كافٍ - حقاً وصدقاً - في عدم صحة الاعتماد على ما نقله الذهبي عن البخاري ، في تلك العبارة المبتورة عن سياقها ، إذ كم كان للسياق من صوارف تصرف اللفظ ( إذا كان مبتوراً ) عن ظاهره . هذا لو كانت العبارة ثابتةً صحيحةً ، فلم تكن ضعيفة عن البخاري ، أو رواية بالمعنى لكنها أخلت بالمعنى !!!
وأنا أطالب من أبي إلا الاحتجاج بنقل الذهبي بالجواب عن الأسئلة التالية :
هل كان الترمذي لا يفهم كلام شيخه ؟
هل كان ابن عدي يجهل مصطلح البخاري ؟
كيف توجِّه ذلك النقل مع نتيجة الاستقراء التامّ الذي هو الحَكَم في تفسير المصطلحات ؟
كيف نفعل مع أقوال البخاري الكثيرة المخالفة في دلالتها لما يقتضيه نقل الذهبي ؟
أجب عن هذه الإشكالات أولاً ، ثم اعترض بكلام الذهبي .
الوقفة الثانية : أما دعوى أن الذهبي استقرأ .. فإني لا أدري إلى متى نُبيح لأنفسنا أن ندعي ما لا دليل عليه ؟ ومتى سنترك ما نهانا الله عنه في قوله تعالى ( ولا تقف ما ليس لك به علم ) ؟!!
هل ادعى الذهبي ذلك ؟ أو ادعاه له أحدُ العلماء الذين اطلعوا على استقرائه هذا ؟!(4/164)
ثم يأتي ما نقله الذهبي عن البخاري ، ليبين لنا أن الذهبي كان معتمداً في فهمه لكلام البخاري على هذه العبارة ، لا على الاستقراء المدَّعى . وقد أجبنا آنفاً بعضَ الجواب عن عبارة البخاري التي نقلها الذهبي ، وبيّنا ما يحوم حولها من الشكوك ، وما يحيط بها من الاحتمالات ، وما يعارضها ويعترضها من الإشكالات !!!
أما أن يبقى طلبة العلم على هذا المنهج ، وهو التسرع إلى دعاوى استقراءٍ ينسبونها إلى العلماء ، فماذا سيفعلون إذا اختلف العلماء ؟!
إذ لقائل أن يقول إن الحافظ ابن حجر قد استقرأ كلام البخاري ، فخرج بنتيجةٍ تقول عن قول البخاري ( فيه نظر ) : ( وهذه عبارته فيمن يكون وسطاً ) كما في بذل الماعون له (117).
فماذا ستقول يا من اعتاد أن يدّعي الاستقراء لأي عبارة أطلقها أحدُ أهل العلم ؟!
الوقفة الثالثة : أما كلمة البخاري التي نقلها الذهبي فقد نقلها المزي بلفظ آخر ينبغي الوقوف الطويل عنده ومعه .
فقد قال المزي في تهذيب الكمال - ترجمة عبد الكريم بن أبي المخارق - (18/265) : ( قال الحافظ أبومحمد عبدالله بن أحمد بن سعيد بن يربوع الأشبيلي : بيّن مسلم جرحه في صدر كتابه . وأما البخاري فلم ينبه من أمره على شيء ، فدلّ أنه عنده على الاحتمال ، لأنه قد قال في التاريخ : كلّ من لم أُبين فيه جَرْحة فهو على الاحتمال ، وإذا قلت : فيه نظر ، فلا يُحتمل ).
ولم أقف على هذه العبارة في تاريخي البخاري ( الكبير والأوسط ) ، ولو كانت في واحدٍ منهما في نُسخ الكتابين في عصر المزي ، لكان المزي من أولى الناس اطلاعاً عليها فيهما ، ولما افتقر في نقله لها إلى هذا الحافظ الأندلسي .(4/165)
وهذه العبارة النادرة ( التي احتاج المزي أن ينقلها عن البخاري بواسطة نقل غيره عن البخاري ) تحتاج إلى توضيح معناها ، كي لا تبتر جملة منها عن باقيها فيُدَّعى لها معنى غير مقصود قائلها ؛ إذ لو قال قائل : إن البخاري قد قال : ( إذا قلت : فيه نظر فلا يحتمل ) = لدل هذا السياق المبتور على معنى العبارة التي نقلها الذهبي ؛ لكننا رأينا أن هذه العبارة النادرة لم تكن مبتورة هكذا ، ولا جاءت بهذا المساق .
فهل لمساقها الذي وردت فيه أثرٌ في بيان معناها ؟ وهل سيختلف معناها به عن معناها مبتورة كما سبق ؟
فإذا تأملنا عبارة البخاري ، وجدنا أن البخاري يريد أن يبين لنا قسمين قسّم تراجم تاريخه باعتبارهما . فالقسم الأول هو الذي قال فيه : ( كلّ من لم أبيّن فيه جرحةً فهو على الاحتمال ) وهذا قِسمُ من لم يتكلم فيه البخاري بجرح ولا تعديل .
أما أنه قسم من لم يتكلم فيه بجرح : فهذا نص كلامه ، وأما أنه من لم يتكلم فيه بتعديل أيضاً : فهو المتبادر إلى الذهن ، ويقطع بصحة إرادته : أنه قال عن هذا القسم : ( إنه على الاحتمال ) فهل من قال عنه ( ثقة ، أو إمام حافظ ) يكون على الاحتمال ؟! ومن هنا ندخل في بيان معنى ( الاحتمال ) في هذا القسم ، ما هو هذا الاحتمال الذي سيكون من نصيب من ترجم له البخاري دون جرح ولا تعديل ؟ لا شك أن معناه : أنه لا يجزم فيه بحكم ، وأنه يُحتمل أن يكون مقبولاً ويُحتمل أن يكون مردوداً ، وأن البخاري لم يبيّن لنا من منزلته في الجرح والتعديل شيئاً . إذن ( فالاحتمال ) في هذا النصّ ليس هو بمعنى الاحتجاج ، ولا هو بمعنى احتمال الاعتبار بحديثه .
فانتبه لهذا الأمر الواضح ، ولا تغْفل عن نتيجته .(4/166)
وتفسير ( الاحتمال ) في القسم الأول بما فسرته به ، مع وضوحه ، فهو ما فهمه أيضاً ناقل العبارة نفسه ، وهو الحافظ الأندلسي ، حيث قال كما سبق : ( فلم ينبه من أمره على شيء ، فدل أنه عنده على الاحتمال ) كما أن هذا الحافظ قد فهم أن هذا القسم
هو قسم من لم يتكلم فيه بجرح أو تعديل لقوله ( فلم ينبه من أمره على شيء ).
فإذا جئنا للقسم الثاني الذي ورد في عبارة البخاري ، وهو الذي قال فيه : ( وإذا قلت : فيه نظر ، فلا يحتمل ) يظهر لنا أنه قِسمُ من جُرح بهذه العبارة ( وهي : فيه نظر ).
فما هو حال هذا القسم ؟ وما معنى الاحتمال الذي نفي عن أصحاب هذا القسم من الرواة ؟
تذكّر معنى الاحتمال في القسم الأول ، لتعرف معنى الاحتمال المنفي في القسم الثاني ! فالاحتمال في القسم الأول : أي أن الراوي فيه قد يكون من كبار الثقات وقد يكون من أضعف وأوهى الرواة أو بين ذلك . فهل من قال فيه البخاري ( فيه نظر ) ، وجرحه بذلك = يكون محتملاً في حاله كل تلك الاحتمالات ؟
لاشك أنه ( لا يُحتمل ) لأنه قد تكلم فيه ، وحكم فيه بحكمٍ لا يحتمل أن يكون معه من الثقات عنده ( على الاتفاق بيني وبين المخالفين ).
إذن فقول البخاري : ( فلا يحتمل ) أي ( ليس كمن لم أتكلم فيه بجرح أو تعديل ، لأني قد أبنت عن حكمٍ لي فيه ) ؛ فكل واحدة من هاتين العبارتين تؤدي المعنى نفسه .
أفرأيت كيف اختلف معنى العبارة عندما فهمناها من خلال مساقها ؟!!
ثم هل بقيت هذه العبارة ( من خلال فهمها الآخذ بطرفيها ) دالة على ما كان يستدل بها عليه من بترها عن مساقها ؟!!(4/167)
ونخلص من هذه الوقفات أن قول البخاري ( فيه نظر ) لم يزل غير دال وحده على الضعف الشديد ، لأن من رأى أنها تدل على الضعف الشديد إنما اعتمد على ما نُقِل عن البخاري ، غافلاً عن أدلة وإشكالات تنقض وتعترض النتيجة التي توصل إليها ، وغير منتبه إلى أن عبارة البخاري ( وهي دليله الوحيد ) لا تدل أصلاً على المعنى الذي فهمه منها .
ولم يزل عندي حول هذه المسألة من الوقفات التي أسد بها ثغراتها ، وأزيل عنها شبهاتها ، وأفسر مقصود البخاري بقوله ( فيه نظر ) على اختلاف دلالاتها من خلال واقع استخدامها ، وما هي مرتبة هذه اللفظة على التعيين ؟ وغير ذلك مما هو من لوازم الدراسة العلمية المنضبطة ، التي لا تستجيز العجلة ، بل لا تطمئن إلى النتيجة إلا بعد سد الثغرات والإجابة عن كل اعتراض محتمل بجواب صحيح ، لأن بقاء ثغرة واحدة أو قيام إشكال واحد قد يكون في حقيقته ناقضاً صحيحاً ورداً وجيهاً عما كنت قد تبنيته ، فلا بد من دراسة ذلك كله بصدق وأمانة .
وهنا أنصح طلبة العلم بهذا الأدب ، وأن يعلموا أن العلم لا يكون من استعجال قطف الثمرة . بل لا بد من طول التأمل ، ومن عمق التدبر ، ومن كثرة البحث والنظر ؛ فإنهم إذا فعلوا ذلك : كانوا أهلا لأن يوفقهم الله تعالى للصواب ، وكانوا بذلك أيضا أكثر احتراما وأدبا مع اجتهاد من سار على هذا المنهج فإن خفي عليهم شيء أو بدا لهم إشكال : أطالوا فيه الفكرة ، وأداموا فيه النظرة ، أو سألوا ( فإنما شفاء العي السؤال ) ؛ هذا .. والله أعلم ).
تنبيهان :
التنبيه الأول : فرقٌ بين قول البخاري في الراوي (فيه نظر) وقوله فيه (في حديثه نظر) .
فالأول طعن في الراوي ، أي في أحاديثه في الجملة .(4/168)
والثاني لا يشترط فيه أن يكون كذلك ، أي طعناً في كل أحاديث الراوي ، بل الأقرب أنه طعنٌ في حديثٍ واحدٍ روي عنه ، وقد يكون الحمل فيه على غيره ، وإلا فهذا القول - في الأقل - يُشعر بأن الراوي صالح في نفسه ، وإنما الخلل في حديثه ، لغفلة أو سوء حفظ أو تدليس ، أو نحو ذلك .
التنبيه الثاني : قد يكون المراد بالضمير في قول البخاري (فيه نظر) شيئاً آخر غير الراوي ، مثل بعض الأمور التي يذكرها البخاري في ترجمة الراوي قبل قوله (فيه نظر) ، كدعوى سماع المترجم من بعض المحدثين ، أو دعوى روايته لبعض الأحاديث ، أو دعوى كونه نزل مدينة بعينها؛ فلينتبه لذلك.
فيه نظر وهو في الأصل صدوق :
إذا قال البخاري في راو : (فيه نظر وهو في الأصل صدوق) ، فكلمة (فيه نظر) الأصل فيها أنه جرح في الراوي، ولكن وصْله لها بقوله : (وهو في الأصل صدوق) يخفف من وطأتها ؛ بين هذا المعنى العلامة المعلمي رحمه الله فقد ترجم في (التنكيل) (ص495) أبا نعيم النخعي واسمه عبد الرحمن بن هانئ ، فقال بعد أن ذكر وصف ابن معين له بالكذب ، وأشار إلى أن ذلك لا يخلو من احتمال أن يكون على غير ظاهره الذي هو تعمد الكذب :
(فلننظر كلام غير ابن معين في أبي نعيم النخعي --- ، فأما النخعي فقد قال العجلي : (ثقة) ، وقال أبو حاتم : (لا بأس به يكتب حديثه) ، وروى عنه أبو زرعة ومن عادته أن لا يروي إلا عن ثقة كما في (لسان الميزان) (ج2ص416) ؛ وقال البخاري : (فيه نظر ، وهو في الأصل صدوق) ، وكلمة (فيه نظر) معدودة من أشد الجرح في اصطلاح البخاري لكن تعقيبه هنا بقوله (وهو في الأصل صدوق) يخفف من وطأتها ). انتهى.
وانظر (فيه نظر) .
فيه نكارة :
يوصف الحديث بهذه العبارة إذا كانت نكارته خفيفة ، هذا هو الأصل في العبارة ، وقد يقولها بعض المتثبتين أو المتساهلين في وصف الحديث المنكر ، ولكن ذلك قليل وهو عند المتقدمين أقل.(4/169)
فصل القاف
ق :
القاف رمز لكتاب ابن ماجه (السنن) ، قال الصفدي في مقدمة (الوافي بالوفيات) (1/42) : (وإنما رمزوا القاف وإن لم يكن في شيء من اسمه لأنهم لو رمزوا له بالجيم لاشتبه حينئذٍ بالخاء للبخاري ، في الصورة ، فجعلوا القاف رمزاً لأنه من قزوين) ؛ انتهى .
وكثير من المتأخرين يرمزون لسنن ابن ماجه بحرف هاء (ه).
القاعدة :
انظر (الضابط) .
قال :
هذه إحدى صيغ الأداء المحتملة للسماع وعدمه ، وهي الأصل في هذا النوع من الصيغ.
ومما ينبغي التنبيه عليه هنا أن (قال) ليست كـ(عن) فإن الاصطلاح فيها مختلف ، فبعضهم يستعملها في السماع دائماً كحجاج بن موسى المصيصي الأعور ، وبعضهم يعكس فلا يستعملها إلا فيما لم يسمعه ، وبعضهم يستعملها تارة كذا وتارة كذا ، كالبخاري ؛ فلا يحكم عليها بحكم مطرد .
وأما (عن) فلا يكاد يوجد بين المحدثين مَن خصها بسماع أو انقطاع ، بل هي في نفسها محتملة للأمرين حيثما وجدت .
قال قال :
رويت عن أبي هريرة رضي الله عنه - وعن بعض الصحابة كذلك - أحاديث على هذا النمط : (عن أبي هريرة قال قال) ، ثم يُذكر متن الحديث ، وقد قيل أنه إذا قال حماد بن زيد والبصريون : قال قال ، فهو مرفوع .
عقد الخطيب في (الكفاية) (ص418) باباً ترجمه بقوله (باب في الحديث يروي عن الصحابي قال قال هل يكون مرفوعاً؟) ، ثم أسند فيه إلى شعبة قال : أخبرني إدريس الاودي عن أبيه عن أبي هريرة قال قال : لا يصلي أحدكم وهو يجد الخبث .
ثم أسند إلى زيد بن الحباب قال : انا أبو المنيب العتكي عن ابن بريدة عن أبيه قال قال : الوتر حق فمن لم يوتر فليس منا .
ثم أسند إلى أيوب عن محمد [هو ابن سيرين] عن أبي هريرة قال قال : إذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة فإن شدة الحر من فيح جهنم .(4/170)
ثم قال : قرأت في أصل كتاب دعلج بن أحمد ؛ ثم أخبرني أبو بكر أحمد بن محمد بن غالب البرقاني قال أنا أبو الحسن بن صغيرة قال حدثنا دعلج قال ثنا موسى بن هارون بحديث حماد بن زيد عن أيوب عن محمد عن أبي هريرة قال قال : الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه ؛ قال موسى : إذا قال حماد بن زيد والبصريون : "قال قال" فهو مرفوع ؛ قلت للبرقاني : أحسب ان موسى عنى بهذا القول أحاديث ابن سيرين خاصة فقال : كذا تحسب(1) .
قلت : ويحقق قول موسى هذا ما أخبرناه ابن الفضل قال أنا عبد الله بن جعفر قال ثنا يعقوب بن سفيان قال ثنا يحيى بن خلف قال ثنا بشر بن المفضل عن خالد قال : قال محمد بن سيرين : كل شيء حدثت عن أبي هريرة فهو مرفوع.
فالحديث الأول الذي عن أبي هريرة والحديث الذي بعده عن بريدة - على ما ذكره موسى بن هارون - ليسا مما يُعَدُّ مرفوعاً، وإنما شبه فيهما بالرفع ، وقد وردا [من] الطريقين اللذين ذكرناهما مرفوعين).
وانظر (يبلغ به) فقد ورد في شرح معناها صيغ أخرى للرفع غير صريحة فيه ، أعني لا يُذكر فيها النبي صلى الله عليه وسلم .
قال لي :
انظر (صيغ الأداء) .
قبان :
أي ثقة يكون حجة على غيره ، وتعرف بمروياته حال مرويات غيره ممن يشاركونه في مروياته ، من أقرانه ؛ ولكن انظر (الميزان).
قثنا :
اختصار لكلمة (قال حدثنا) الواردة بكثرة في الأسانيد.
قد عرفته :
قال عبد الله بن الإمام أحمد في (العلل ومعرفة الرجال) (6075) : (حدثني حسن بن عيسى قال : سمعت عبد الله بن المبارك وسألته عن عبد السلام بن حرب ، فقال : قد عرفتُه؛ وكان إذا قال : قد عرفته، فقد أهلكه)(2) .
__________
(1) كذا بالتاء ، وتحتمل أن تكون بالنون خطاً ومعنى ، وهو الأقرب .
(2) وانظر ترجمة عبد السلام بن حرب من (ضعفاء العقيلي) و(تهذيب الكمال) (18/68) .
وقال بعض الباحثين الفضلاء : (وقد حكم ابن حجر على عبد السلام بن حرب في التقريب بقوله (ثقة له مناكير) ، ومعظم أقوال أئمة النقد تفيد توثيق وتعديل هذا الرجل ، فلعل الهلاك الذي فسر به قول ابن المبارك يراد به الضعف ، والله أعلم ).
قلت : هذا بعيد ، فهو خلاف الظاهر ، وخلاف العبارة التالية لابن المبارك ، أعني قوله (ما تحملني رجلي إليه)؛ فيظهر أن ابن المبارك كان من الفريق القائلين بشدة ضعف عبد السلام بن حرب ، لكثرة ما يرويه من الغرائب؛ ولقد قام بعض الجهابذة بتحقيق حال عبد السلام بن حرب ؛ وهو الإمام علي بن المديني ؛ فانظر (عسر) .(4/171)
يؤخذ من هذا الأثر أن هذه الكلمة من كلمات الطعن الشديد عند عبد الله بن المبارك ؛ ويؤيد ذلك أن ابن المبارك رحمه الله كان من مزاياه في نقده الرواة أنه كان فيه عفَّ اللسان ، خفيف اللفظة ، شديد التوقي ، يكاد يستغني بالإشارة إلى جرح الراوي عن التصريح به، ورَعاً منه واحتياطاً ؛ فإذا اقتضى أمر الدين وواجب النصح أن يجرح ويحذر لم يقصر، ولكن مع التزام الأدب والورع والتقوى والإنصاف ؛ ولعله لذلك لم يكن ليتكلم في أحد من الرواة إلا عند وضوح الحجة على ضعفه أو سقوطه وعند قيام الحاجة إلى ذلك ؛ والأثر المتقدم بتفسيره مثال على ذلك ، وتشفعه الأمثلة الآتية .
قال مسلم في مقدمة (صحيحه) (1/18) : (حدثني أحمد بن يوسف الأزدي قال سمعت عبد الرزاق يقول : ما رأيتُ ابن المبارك يفصح بقوله "كذاب" إلا لعبد القدوس، فإني سمعته يقول له : كذاب).
وقال عبدالله بن الإمام أحمد في (العلل ومعرفة الرجال) (1/391) (775) : سمعت أبي ذكر الجلد بن أيوب ، فقال : ليس يسوى حديثه شيئاً .
قلت له : الجلد ضعيف ؟ قال : نعم ، ضعيف الحديث .
سمعت أبا معمر يقول : ما سمعت ابن المبارك ذكر أحداً بسوء إلا يوماً ذُكر عنده الجلد بن أيوب فقال : أيش حديث الجلد ؟ وما الجلد ؟ من الجلد ؟(1) .
وقال أبي : قال يزيد بن زريع : ذاك أبو حنيفة لم يجد شيئاً يحتج به إلا بالجلد ! حديث الحيض ) .
__________
(1) قال العقيلي في (الضعفاء) في ترجمة (جلد بن أيوب) (1/222) (252) (حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال : سمعت أبا معمر يقول ---- ) فذكره .(4/172)
وقال مسلم (1/12) : (وحدثني محمد بن عبد الله بن قهزاذ من أهل مرو قال : أخبرني علي بن حسين بن واقد قال : قال عبد الله بن المبارك : قلت لسفيان الثوري : إن عباد بن كثير من تعرف حاله، وإذا حدث جاء بأمر عظيم فترى أن أقول للناس : لا تأخذوا عنه؟ قال سفيان : بلى؛ قال عبد الله : فكنت إذا كنت في مجلس ذكر فيه عباد أثنيت عليه في دينه وأقول : لا تأخذوا عنه!.
وقال مسلم في مقدمة (الصحيح) (1/11) : (وقال محمد [يعني ابن عبد الله بن قهزاذ] : سمعت علي بن شقيق يقول : سمعت عبد الله بن المبارك يقول على رؤوس الناس : دعوا حديث عمرو بن ثابت، فإنه كان يسب السلف).
وقد وصف ابنُ حزم ابنَ المبارك في (المحلى) (7/241) بجمود اللسان وشدة التوقي(1) .
قدسي :
انظر (الأحاديث الإلهية).
القراء :
انظر (لم يكن من القراء).
قراءة :
يقال : حدثنا فلان قراءة ، أي قراءة عليه.
قرأت في كتاب فلان :
إذا قال المحدث : (قرأت في كتاب فلان) أو قال : (قرأت في أصل كتاب فلان) ، فمعنى ذلك هو أنه يروي عنه بالوجادة ، والعبارة الثانية أوثق وأعلى ، فهي صريحة في أنه قرأ في نسخته التي عليه سماعاته ونحوها مما يزيد الثقة بها ، وقد تكون مكتوبة بخطه ، ولكن الغالب أنهم إن وجدوا شيئاً بخط العالم وعرفوا أنه خطه نصوا عليه فتكون العبارة هكذا : (قرأت في كتاب فلان بخطه) أو نحو ذلك. وانظر (قال قال).
__________
(1) وهذه زيادة فيها بعض البيان لمنهج ابن المبارك :
كان ابن المبارك في نقده معتدلاً بل لعله كان فيه أقرب إلى التساهل، ووصفه العلامة المعلمي في تعليقه على (الفوائد المجموعة) (ص214) بأنه ليس ممن يشدد يعني في نقد الرواة؛ وعبارة المعلمي هذه قد تكون مشعرة بأن ابن المبارك كان فيه شيء يسير من التساهل في الكلام على الرواة؛ والله أعلم.(4/173)
القرطاس :
قال الصولي في (أدب الكتاب) (ص105-106) تحت فصل عنوانه (القرطاس وما يُكتب فيه) : (تسمي العرب ما يُكتب فيه القرطاس ، وجمعه قراطيس ، ومهرقاً وجمعه مهارق، وصحيفة وجمعها صحائف، وسِفْراً والجميع أسفار ، قال الله عز وجل : "يحمل أسفارا" ؛ وقد نزل القرآن بجميعها إلا المهرق ) .
ثم قال (ص107-108) : (فأما الكراريس فواحدها كراسة ، قال الأصمعي : كرست الكتب والورق : جعلت شيئاً منه إلى شيء ، وأكراس الغنم : اجتماع بعرها وبولها في مواضعها حتى يتطارق بعضه إلى بعض، قال العجاج :
يا صاح هل تعرف رسماً مكرساً
قال أبو عبيد : أكرس البعر عليه فهو مكرَس، ويروى مكرِساً كأنه أكرس فهو مكرِس ، وأصله ما ذكرت لك ؛ وتكارس ورق الشجر تحته : وقع بعضه فوق بعض .
ويقال : دَفتر ودِفتر ؛ وما سُمع شيء في اشتقاقه إلا أنه عربي فصيح ؛ قال جندل بن المثنى الطهوي :
هل لا بحجر يا ربيع تبصر *** قد قضي الدين وجف الدفتر
ويروى الدِّفتر) .
القرن :
انظر معناه في (القرون الخيرية) .
القرون الخيرية :
هي القرون أو الأجيال التي عناها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله (خير الناس قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ؛ ثم يجيء قوم تسبق شهادةُ أحدهم يمينَه ، ويمينُه شهادتَه ) أخرجه البخاري (2509 و 3451 و 6065 و 6282) ومسلم (2533) من حديث عبدالله بن مسعود ؛ وفي لفظ لمسلم (خير أمتي القرن الذين يلوني ) الحديثَ نحوَه .
قال ابن الأثير في (النهاية ) (4/51) : ( النهاية ) (4/51) : (فيه : خيرُكم قَرْنِي ثم الذين يَلونهم ، يعني الصحابة ثم التابعين ؛ والقرْن أهل كل زمان ؛ وهو مِقْدار التَّوَسُّط في أعمار أهل كل زمان ؛ مأخوذ من الاقتران ، وكأنه المِقدار الذي يَقْتَرِن فيه أهل ذلك الزمان في أعمارهم وأحوالهم ؛ وقيل : القَرْن أربعون سنة ، وقيل : ثمانون ، وقيل : مئة ، وقيل : هو مُطلَقٌ من الزمان ، وهو مصدر قَرَن يَقْرِن ) .(4/174)
قال عبدالله بن يوسف الجديع في (أضواء على حديث افتراق الأمة) (ص48) : (ثم إن الناس اصطلحت مقادير مختلفة للقرن بمعنى الزمان - كقولهم : هو أربعون سنة ، أو : ثمانون ، أو : مئة - عامتها ليست مرادة في حديث النبي صلى الله عليه وسلم ، إنما المراد أهل الزمان المعين ، وجدير بالملاحظة أنه المعنى الذي استعمله القرآن [كذا] للقرن ، وعليه فمعناه في الحديث : طبقة الصحابة ، ثم طبقة التابعين ، ثم طبقة أتباع التابعين ؛ وهي القرون المفضلة ؛ ونهايتها على التقريب أواخر المئة الثانية ، حيثُ موتُ من بقيَ من أتباع التابعين ، كسفيان بن عيينة وطبقته .
وفي هذا تحرير أطول من هذا لا يتحمله المقام ؛ وفيه إبطال لظن كثيرين أن القرن في الحديث هو المئة سنة )؛ انتهى .
قلت : أما في عرف المؤرخين وكثير من المتأخرين والمعاصرين فالقرن كذلك ، أي مئة سنة ، وبذلك المعنى سُميتْ طائفة من كتب التراجم المئوية ونحوها(1) .
__________
(1) مثل :
(تراجم رجال القرنين السادس والسابع) لابن شامة المقدسي .
و (الضوء اللامع لأهل القرن التاسع) للحافظ السخاوي .
و(البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع) للعلامة الشوكاني .
و(النور السافر عن أخبار القرن العاشر) لعبدالقادر العيدروس .
و (خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر) للمحبي ، و (علماء دمشق وأعيانها في القرن الحادي عشر الهجري) لمحمد مطيع الحافظ ونزار أباظة ، و (لطف السمر وقطف الثمر من تراجم أعيان الطبقة الأولى من القرن الحادي عشر) ، لنجم الدين الغزي (ت 1061هـ) ، طُبع بتحقيق محمود الشيخ .
و (علماء دمشق وأعيانها في القرن الثاني عشر الهجري) لمحمد مطيع الحافظ ونزار أباظة ، و (سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر) للمرادي ، و (تراجم أعلام المدينة المنورة في القرن الثاني عشر ) لمجهول .
و (المسك الأذفر في نشر مزايا القرن الثاني عشر والثالث عشر) لأبي المعالي محمود شكري الألوسي [وهو القسم الثاني من "نيل المراد في أخبار بغداد" ، و (الدر المنتثر في رجال القرن الثاني عشر والثالث عشر) لعلي علاء الدين الألوسي .
و(حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر ) لعبدالرزاق بن حسن البيطار ، طبع بتحقيق سبطه العلامة محمد بهجة البيطار ، و (أعيان القرن الثالث عشر في الفكر والسياسة والاجتماع ) لخليل مردم بك ، و (علماء دمشق وأعيانها في القرن الثالث عشر الهجري) لمحمد مطيع الحافظ ونزار أباظة ، و(الشِّرب المحتضَر [!!] والسرّ المنتظر من معين أهل القرن الثالث عشر) لجعفر بن إدريس الكتاني .
و (إتحاف المطالع بوفيات أعلام [القرنين] الثالث عشر والرابع ) لعبد السلام ابن سوده ، و (أعيان دمشق في القرن الثالث عشر ونصف القرن الرابع عشر) لمحمد جميل الشطي .
و (نزهة النظر في رجال القرن الرابع عشر) لمحمد زبارة ، و (أعلام دمشق في القرن الرابع عشر الهجري) لعبداللطيف فرفور ، و (تاريخ علماء دمشق في القرن الرابع عشر الهجري ) لمحمد مطيع الحافظ ونزار أباظة ، و(أئمة اليمن بالقرن الرابع عشر للهجرة) لمحمد زبارة ، و (نثر الجواهر والدرر في علماء القرن الرابع عشر) للدكتور يوسف المرعشلي ، و (تاريخ علماء بغداد في القرن الرابع عشر) ليونس السامرائي .
و (علماء نجد خلال ثمانية قرون ) لعبدالله البسام .
و (معجم المؤلفين العراقيين في القرنين التاسع عشر والعشرين) لكوركيس عواد ، و (معجم المؤلفين السوريين في القرن العشرين) لعبد القادر عياش ، و (التأليف ونهضته بالمغرب في القرن العشرين) لعبدالله الجراري .(4/175)
القرون الفاضلة :
هي القرون الخيرية ؛ انظرها.
القرون المفضلة :
هي القرون الخيرية التي فضلها رسول الله صلى الله عليه وسلم على غيرها من الناس ؛ انظر (القرون الخيرية) .
قُرئ على فلان :
انظر ( تدليس الإجازة) .
قُرئ على فلان وأنا أسمع :
انظر ( تدليس الإجازة) .
القرينان :
أنظر (الأقران).
قصَّر :
انظر (التسوية) .
قصة :
يرد في تخريج بعض الأحاديث أو في وصفه بأنه فيه قصة ، والمراد بذلك أن ذلك الحديث مشتمل على حكاية لأمرٍ حادثٍ وقع للنبي صلى الله عليه وسلم ، أو لصحابي الحديث ، أو لغيرهما ، ويكون الصحابي في الغالب هو راوي تلك القصة ، وتكون القصة في الغالب هي سبب ورود الحديث ، ومثال ذلك حديث أنس رضي الله عنه ، المتفق عليه (جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما أُخبروا كأنهم تقالوها ، فقالوا : وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم ، قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ؛ قال أحدهم : أما أنا فإني أصلي الليل أبداً ، وقال آخر : أنا أصوم الدهر ولا أُفطر ، وقال آخر : أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً ؛ فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فقال : أنتم الذين قلتم كذا وكذا ؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له ، لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني)(1) .
قطُّ القلم :
قال القلقشندي في (صبح الأعشى) (2/492) وقد تطرق إلى الكلام على قط الأقلام :
(المعنى الرابع : القط ، وفيه مهيعان :
__________
(1) أخرجه البخاري (4776) ومسلم (1401) .(4/176)
المهيع الأول : اشتقاقه ومعناه ؛ يقال : قططت القلم أقطه قطاً ، فأنا قاطٌّ وهو مقطوط وقطيط ، إذا قطعت سنه ؛ وأصل القط القطع ، والقط والقد متقاربان ، إلا أن القط أكثر ما يستعمل فيما يقع السيف في عرضه والقد ما يقع في طوله ؛ وكان يقال : إذا علا الرجل الشيء بسيفه قده ، وإذا عرضه قطه ؛ وذلك أن مخرج الطاء والدال متقاربان ، فأبدل أحدهما من الآخر ، كما يقال : مط حاجبيه ، ومد حاجبيه----).
وورد في (المعجم الوسيط) (2/751) : (قَطَّ الشيءَ يقُطّه قَطّاً : قطَعه عرضاً ؛ يقال : قطَّ القلمَ ----.
المِقَطّ : ما يقُطُّ الكاتبُ عليه أطرافَ أقلامه.
المِقَطّة : المِقَطّ).
القَطعة :
انظر (الهمزة) .
القلم :
القلمُ : ما يُكتب به ، وهو معروف ، وجمعه أقلام وقِلام .
وورد في (المعجم الوسيط) (2/762) : (قلَمَ العودَ ونحوه [يقْلِمُه] قلْماً : قطع منه شيئاً ؛ و[قَلَمَ] القلَمَ ونحوَه : بَراه ) .
قليل الحديث :
هذه الكلمة ليست من ألفاظ الجرح ولا التعديل ولكنها تحتمل أحياناً أن يكون فيها إشارة من الناقد إلى ضعف وثوقه بذلك الراوي لأن إقلال الراوي قد يكون دليلاً على أنه ليس من أهل هذا الشأن ولا هو صاحب اعتناء بالحديث ، إذ لو اشتغل بطلب الحديث لكثر حديثه في الغالب ، ومن قلَّت عنايته بالمرويات قلَّ ضبطه لها ، ثم إنَّ أهلَ القلة كثيراً ما تُجهل أحوالهم ؛ ولكن يخرج عن هذا الكلام الصحابةُ رضي الله عنهم وأكثرُ التابعين.(4/177)
قال الشيخ أبو الحسن المأربي في (إتحاف النبيل) (1/112) : (وقولهم : (قليل الحديث) : (قليل الحديث) لا يلزم منه الجرح أصلاً حتى نحتاج أن نعرف هل هو جرح مجمل أو مفسر ! فالراوي قد يكون قليل الحديث ومع ذلك يكون ثبتاً ، وقد يكون قليل الحديث وهو ضعيف ؛ لكن أهل القلة غالباً يكونون ضعفاء ؛ وأعني بالضعف هنا أن حديثهم لا يقبل لأن هذا يدل على أنهم ليسوا من أهل هذا الشأن ولا يشتغلون بطلب الحديث ، ولو اشتغلوا بطلب الحديث لكثر حديثهم ؛ هذا يدل على أنهم لم يشتغلوا بطلب الحديث ولم يهتموا به ولم يرفعوا له رأساً ؛ فأمثال هؤلاء غالباً ما يحكم عليهم بالجهالة ؛ وقد سبق أن ذكرت قول ابن عدي رحمه الله في (الكامل) : (فلان مقدار ما يرويه لم يتبين لي صدقه من كذبه) ، فيكون بهذا في عداد المجهولين ؛ والجهالة أيضاً ليست جرحاً ، إنما هي وقفة في عين أو حال الراوي ، ولو كان جرحاً لما كان مجهولاً).
قلت : الذي يظهر لي أن الجهالة ليست جرحاً على الحقيقة، وإنما هي جرحٌ حكميٌّ؛ لأن المجهول يردُّ حديثه ، كالمجروح جرحاً حقيقياً ، فإن قيل : المجهول يُتوقف في حديثه ولا يرد! قيل : التوقف نوع من الرد، إذ فيه عدم القبول ؛ فاستوى في الرد مجهول ومجروح؛ وعلى كل حال فتجهيل الراوي جرحٌ في مروياته مانعٌ من قبولها، سواء قلنا أنها جرحٌ في الراوي نفسه أوْ لا؛ والمبالغة في مناقشة مثل هذه المسألة توقع الانسان فيما لا حاجة له به؛ والله أعلم.
وانظر (مقل).
قليل الحياء :
يصف النقاد بهذه الكلمة من كان من الرواة وضاعاً ولا سيما إذا كان افتراؤه مكشوفاً ، وقد يصفون بها من كان خبيثاً يسب الصحابة ويدعو إلى الباطل.
القماطر :
انظر (القِمَطْر) .
القِمَطْر :
جاء في (المعجم الوسيط) (2/765) : (( قمطر ) : الشيء اجتمع والعدو هرب والشيء جمعه والقربة ونحوها ملأها وشدها بالوكاء----.
القِمَطْرُ : ما تصان فيه الكتب ؛ [جمعه] قماطر).(4/178)
القواعد الحديثية :
قاعدة الشيء في اللغة هي أصله وأساسه ؛ وأما في اصطلاح العلماء علماء الشرع وغيرهم فالقاعدة هي الأصل الجامع لفروع كثيرة ، والمبيّن لأحكامها في الجملة؛ وبهذا يُعلم معنى القواعد الحديثية.
ولقد فرّق المتأخرون بين القاعدة والأصل والضابط ؛ قال عبد المجيد جمعة الجزائري في فصل النتائج من كتابه (القواعد الفقهية المستخرجة من أعلام الموقعين) (ص618) :
(- إن الفرق بين القاعدة الفقهية والضابط الفقهي لم يتميز إلا في العصور المتأخرة ، حيث اصطلحوا على أن القاعدة هي ما تجمع جزئيات كثيرة من أبواب مختلفة ، والضابط يجمعها من باب واحد.
- إن الأصل أعم من القاعدة ، إذ أنه يجمع جزئيات كثيرة من أبواب مختلفة ، وقد يجمعها من باب واحد، بخلاف القاعدة ، فإنها تجمعها من باب واحد).
القوسان :
القوسان علامة من علامات الترقيم ، أو العلامات الملحقة بها ، رمزهما كالهلالين المتقابلين هكذا ( ) ؛ يوضع بينهما الألفاظ التي ليست من أركان هذا الكلام ، كالجمل المعترضة ، وألفاظ الاحتراس ، والتفسير أي الكلمة أو العبارة التفسيرية ، أو عبارة مهمة في سياقها فيراد لفت النظر إليها ، أو عبارة مبنية أو مذكورة على الحكاية ، أو رقم صفحة الكتاب المنقول منه أو المحال عليه ، أو رقم الآية أو الحديث أو النص ، وغير ذلك .
أمثلة ذلك :
قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : "لا يؤمن أحدكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحب لنفسه " متفق عليه .
لقد أتعب أمير المؤمنين عمر (رضي الله عنه) من جاء بعده من أمراء المسلمين .
صنف الإمام البخاري (جزاه الله خيراً ) كتابه (الصحيح) فنفع الله به نفعاً عظيماً .
المسجد الأقصى (حرسه الله) أولى القبلتين .
جُدَّة ( بضم الجيم وكسرها ) مدينة طيبة مباركة .
بين جور وشيراز ( وهي قصبة فارس ) عشرون فرسخًا .
أخرج البخاري في (صحيحه) (1429) الحديث الفلاني .
أسألك يا ربِّ (وأنت أكرم مسؤؤول ) أن تغفرلي .
قوي إن شاء الله :
هي في معناها مثل قولهم (صدوق إن شاء الله).(4/179)
فصل الكاف
ك :
هذه - كما هو معلوم - صورة حرف الكاف أحد حروف العربية .
وقد استعمل رمزاً لبعض الكتب الحديثية ، منها (مستدرك الحاكم) .
ومما أريد التنبيه عليه في إيرادي لهذا الحرف ما يلي :
1- قال الصفدي في مقدمة (الوافي بالوفيات) عقب شيء ذكره : (تذنيب : رأيت أشياخ الكتابة لا يشكلون الكاف إذا وقعت آخراً ، ولا يكتبونها مُجَلَّسةً ، أما إذا وقعت أولاً وفي بعض الكلمة حشواً ، فإنهم يجلسونها ويشكلونها بردّة الكاف )(1) .
2- قال عبدالسلام هارون في (تحقيق النصوص ونشرها) (ص55) : (وتوضع "كـ" في بعض الهوامش ، إشارة إلى أنه "كذا في الأصل" ) ؛ انتهى .
3- يوضع رمز هذا الحرف أيضاً فوق الكلمة المكررة ، ليكون علامة على الخطأ في تكرارها .
الكاغد :
جاء في (المعجم الوسيط ) : ( الكاغد : القرطاس ، [معربة]).
الكاف :
اسم أحد حروف المعجم ، وصورته (ك) ، انظر (ك) .
كان أبو إسحاق إذا أخبرني عن رجل قلت له : هذا أكبر منك ؟ فإن قال : نعم ، علمت أنه لقي ، وإن قال : أنا أكبر منه ، تركته :
قال ابن حجر في (تهذيب التهذيب) (8/58) : (وقال ابن المديني في "العلل" : قال شعبة : سمعت أبا إسحاق يحدث عن الحارث بن الأزمع بحديث ، فقلت له : سمعتَ منه ؟ فقال : حدثني به مجالد عن الشعبي عنه ؛ قال شعبة : وكان أبو إسحاق إذا أخبرني عن رجل قلت له : هذا أكبر منك ؟ فإن قال : نعم ، علمت أنه لقي ؛ وإن قال : أنا أكبر منه ، تركته) .
استشكل بعض الباحثين هذا الكلام في كلام له ذكره في (ملتقى أهل الحديث) فدارت حوله مذاكرة أذكرها هنا للفائدة ثم أبين ما يظهر لي أنه المعنى الصحيحَ لعبارة شعبة هذه :
__________
(1) تتمة كلامه : (ورأيتهم لا يجوّزون في السطر الواحد أكثر من ثلاث مدات، فأما الكلمة نفسها فلا يمدون فيها إلا بعد حرفين ، ويعدون ذلك كله من لحن الوضع في الكتابة) .(4/180)
قال بعض الأفاضل في محاولة توجيه هذا الكلام : (لعلّ شعبة علم بالتتبّع أنّ أبا إسحاق إذا روى عمّن هو أصغر منه أخطأ ، والله أعلم) .
فتعقبه غيره بقوله (كلامك بعيد جداً ، فالعلة مذكورة في كلام شعبة رحمه الله فتنبه لقوله : "وكان أبو إسحاق إذا أخبرني عن رجل قلت له : هذا أكبر منك ؟ فإن قال : نعم ، علمت أنه لقي ، و إن قال : أنا أكبر منه ، تركته ؛ فالكلام هنا على اللقاء فتنبه ؛ وهذا لمعرفة شعبة رحمه الله بكثرة إرسال أبي إسحاق السبيعي ؛ والله أعلم ) .
ثم قيل : (الكلام على اللقاء لأن السبيعي مدلس كثير الإرسال ، لكن الذي فعله شعبة كأنه عكس الأمر ؛ فالأصل أن الرجل إذا كان أكبر من أبي إسحاق فإنه قد يكون لم يدركه ؛ أما لو كان أصغر منه، فالأولى أن يدركه ؛ بل إن سبب قول شعبة يظهر عكس قوله ، لأن الحارث بن الأزمع الوادعي الهمداني مات في آخر ولاية معاوية بن أبى سفيان سنة ستين. فهو أكبر من أبي إسحاق، ومن الواضح أنه لم يسمع منه ) .
وقيل : (بعض المدلسين يسقط الشيخ إن كان أصغر منه ؛ ولكن ليس هذا من هذا الموضع ، وإنَّما ذكرته لئلا يُذكر ؛ فإنَّه يُسقط من هو أصغر منه ، لا أنَّه يسقط من بينه وبين من هو أصغر منه ؛ وتصرُّفه هذا كأنَّه مبنيٌّ على اختلاط أبي إسحاق ؛ ومعلوم أنَّ روايته عمّن هو أصغر منه تكون غالباً من حديث حديثه ؛ لأنَّ من هو أصغر منه لا يبلغ أن يُروى عنه حتَّى يرحل ، ويتحمَّل من الحديث عواليَه ليحتاج إليه أقرانه ومن يكْبرونه ؛ والله أعلم ) .
قلت : هذا غير صحيح لأن شعبة ما كان ليأخذ عن أبي إسحاق حال اختلاطه ، وأبو إسحاق وأكثر المختلطين إنما اختلطوا في زمن الأداء لا في زمن التحمل ، وهذا واضح بلا تأمل .(4/181)
ويدل على عدم صحة ذلك أيضاً أن شعبة ذكر في كلامه الذي هو مدار هذا البحث ما يبين أن سماعه للحديث من أبي إسحاق لم يكن موقوفاً إلا على شرط واحد هو أن يكون الراوي أكبر منه ، إذن ذلك الزمن هو قطعاً ليس زمن اختلاط أبي إسحاق ، وإلا فما الفرق لو كان أبو إسحاق حينئذ مختلطاً بين روايته عن كبير وروايته عن صغير ؟!
وقيل أيضاً : (في "العلل ومعرفة الرجال" (950) : "سمعت أبي يذكر عن يحيى بن سعيد القطان قال : كان ثور إذا حدثني بحديث عن رجل لا أعرفه قلت : أنت أكبر أو هذا ؟ فإذا قال : هو أكبر مني ، كتبته ؛ وإذا قال : أصغر مني لم أكتبه" ؛ فلعل قول شعبة في أبي إسحاق وقول يحيى بن سعيد في ثور بن يزيد وقول أحمد في سفيان "كان ابن عيينة إذا حدث عن الصغار كثيراً ما يخطىء" هو من باب واحد ، وهو أن هؤلاء الحفاظ إذا حدثوا عن الصغار أخطأوا ؛ وقد علم ذلك بالتتبع عند هؤلاء ) .
وقيل : (الذي يعرف بكثرة الإرسال ، يُتخوَّف من روايته عن الكبار ، أكثر من روايته عن الصَّغار) .
وقيل : (الذي يظهر لي أن مراد شعبة من قوله "لقي" راجع إلى شيوخ أبي إسحاق ، فمن كان منهم أكبر من أبي إسحاق سناً علم أنه لقي من الصحابة والكبار من لقي ؛ وإذا كان أصغر من أبي إسحاق زهد فيه لأنه يكون أقل لقياً وحالاً وشأناً من أبي إسحاق ونحوه من الكبار ؛ وهو فعل مشكل من شعبة رحمه الله ؛ ولعل سببه علو الإسناد وأن رواية أبي إسحاق عن الصغار مظنة الغلط فإن العادة أن من سمع من الصغار يكون بعد استفراغ ما عند الكبار جهده ولعله لم يلق الصغير إلا بعد كبر سنه وقلة حفظه بالنسبة لما سمعه في شبابه وحال الطلب ؛ والله أعلم ) .(4/182)
قلت : (أراد شعبة هنا أن يبين أنه لا يكتفي ولا يقنع بتحققه سماع أبي إسحاق ممن فوقه؛ ولكنه - لشدة حرصه على حصول الاتصال في عموم السند - يريد أن يتحقق سماع شيخ أبي إسحاق ممن فوقه؛ ومعلوم أنه لا سبيل إلى ذلك - في الغالب - إلا بطرق ظنية، فلا يمكن لأبي إسحاق أن ينص لشعبة على سماع شيوخه من شيوخهم، أو عدم سماعهم، اللهم إلا إذا كان ذلك في حالات نادرة، وأبو إسحاق مدلس ولا عناية له باتصال الأسانيد خلافاً لتلميذه شعبة.
إذن الملجأ الوحيد - أو الأقرب - لشعبة هنا إذا لم يعلم اتصال السند هو أن يسأل أبا إسحاق عن الشيخ، أهو أكبر من أبي إسحاق أو أصغر؟ فإن كان أكبر عَلِم أنه لقي، أي علم أن ذلك الشيخ لقي شيخه، ما لم يقم دليل أو قرينة على ضد اللقاء.
وأما إن قال أبو إسحاق: أنا أكبر من شيخي في هذا الحديث، فذلك قرينة على قوة احتمال عدم اللقاء، أعني عدم لقاء شيخ أبي إسحاق لشيخه، فيترك شعبة ذلك الحديث، وجوباً أو احتياطاً.
ولقد أحسن شعبة إذ لم يقل في الأصغر: (فعلمت أنه ما لقي)، لأن الأمر هنا قد يكون محتملاً للقاء ولعدمه.
وقول شعبة (علمت أنه لقي) يبعد جداً أن يريد به أبا إسحاق، فالهاء ضمير عائد على شيخ أبي إسحاق لا على أبي إسحاق نفسه؛ لأن طريقة شعبة في تحقق سماع أبي إسحاق وعدمه قد استفاض أنها غير هذه الطريقة؛ فقد استفاض أنه كان يسأله عن السماع نفسه لا عن الفرق بين عمره وعمر شيخه.
قال ابن أبي حاتم في (التقدمة) (ص173): (نا صالح بن أحمد نا علي، يعنى ابن المديني، قال: سمعت عبد الرحمن، يعني ابن مهدي، قال: سمعت شعبة، أو حدثني رجل عن شعبة، أنه قال: كل شيء حدثتكم به، فذلك الرجل حدثني به أنه سمعه من فلان، إلا شيئاً أبينه لكم---).
كان أمة وحده في هذا الشأن :(4/183)
كلمة عزيزة أثنى بها الإمام أحمد على الإمام شعبة بن الحجاج ، وهي من أعلى وأجل عبارات التوثيق ، فيها توثيق شعبة توثيقاً تاماً مؤكداَ ، في علمه وفي روايته ؛ قال عبدالله في (العلل) (3/539) (3557) : (كان شعبةُ أمةً وحده في هذا الشأن ، في الرجال ، وبصره بالحديث ، وتثبته ، وتنقيته للرجال) .
كان زيدٌ لا يحدث عنه :
الأصل في معنى هذه العبارة أن زيداً إنما ترك الرواية عن ذلك الراوي لأنه متروك عنده ، بسبب شدة ضعفه أو فحش بدعته أو اشتهاره بالفسق أو الظلم ونحو ذلك من القوادح التي يترك بها الرواة .
وأرى أن هذه العبارة أصرح في تضعيف الراوي ووصفه بأنه متروك من عبارة (لم يحدث عنه زيد) ، انظر (لم يحدث عنه فلان).
كان ضنيناً بالحديث :
أي كان عسراً ؛ انظر (المناولة) و(العسر) .
كان فسلاً :
انظر (فسل).
كان كخير الرجال(1) :
كلمة قالها الإمام شعبة وغيره من النقاد - كيعقوب بن سفيان - في بعض شيوخهم ، فيقول قائلهم : (حدثني - أو أخبرني - فلان ، وكان كخير الرجال) (2).
وفي هذه الكلمة في أقل أحوالها إثبات للعدالة وسكوت عن الضبط ؛ إلا إذا عُلم أن المراد بكلمة (الرجال) رجال الحديث وبالخيرية الأوثقية فتكون العبارة حينئذ عبارة نقدية توثيقية.
__________
(1) هذه الكلمة لست أقطع بأنها اصطلاحاً حديثياً ، وإنما ذكرتها للتنبيه على معناها ، مراعاة لاحتمال أن تكون من مصطلحات التوثيق ، أو أن يظن بها ذلك.
(2) قالها شعبة في مزاحم بن زفر ، ومحمد بن ذكوان.(4/184)
وقال العلامة المعلمي في حاشية (الفوائد المجموعة) (ص99-100) في كلامه على حديث ذكره الشوكاني وذكر أن في إسناده راوياً مجهولاً : (في السند إليه [يعني إلى ذلك المجهول] : محمد بن ذكوان ، وهو الأزدي الطاحي ، منكر الحديث ، قاله البخاري وأبو حاتم ، وقال النسائي : "ليس بثقة ولا يكتب حديثه" ، وقال أبو داود الطيالسي عن شعبة : "حدثني محمد بن ذكوان ، وكان كخير الرجال" ؛ ثم قال أبو داود : ولم يرو شعبة عن محمد بن ذكوان إلا هذا الحديث" .
وقد روى شعبة عن آخر يقال له : محمد بن ذكوان ، فإن كان أراد صاحبنا فقول شعبة "كخير الرجال" ليس بتوثيق ، وقد يكون الرجل صالحاً في نفسه وليس بشيء في الرواية ، واقتصار شعبة على حديث واحد يُشعر بما ذكرتُ .
وقال إسحاق بن منصور عن ابن معين : "محمد بن ذكوان الذي روى عنه شعبة ثقة" ، فإن كان أراد هذا فكأنه لم يخبره ، بل بنى على الغالب : أن شعبة لا يروي إلا عن ثقة ، وقويَ عنده ذلك بقول شعبة "كان كخير الرجال" ) .
كان لا يحفظ :
انظر (ليس بالحافظ) .
كان لا يدلس وكان فلانٌ أكثر تدليساً منه :
قال الدكتور إبراهيم اللاحم في (الاتصال والانقطاع) (ص232) : (وقد يكون نص الناقد فيه احتمال ، فيحتاج إلى النظر في كلام غيره ، كما في قول أبي الوليد الطيالسي في الربيع بن صبيح : "كان لا يدلس ، وكان المبارك بن فضالة أكثر تدليساً منه" .
فهذا يحتمل أن يكون أراد به أنه لا يدلس كثيراً كما يفعل المبارك وإن كان يقع منه التدليس ؛ ويحتمل أنه لا يدلس أبداً ، وأفعل التفضيل على غير بابه ، ويترجح الثاني بأنَّ أحداً لم يصف الربيع بن صبيح بالتدليس)(1) .
كان متقناً :
انظر (متقن) .
كان يحدثنا بحديث الواحد على ثلاثة ضروب :
انظر (روى الحديث على أوجه) .
كان يرى السيف :
أي يرى مشروعية الخروج بالسيف على أئمة الجور.
__________
(1) التاريخ الكبير (3/279) ، والضعفاء الصغير (ص44) .(4/185)
قال ابن حجر في (تهذيب التهذيب) (2/288) في ترجمة الحسن بن صالح بن حي : (وقولهم "كان يرى السيف" يعني كان يرى الخروج بالسيف على أئمة الجور ؛ وهذا مذهب للسلف قديم ، ولكن استقر الأمر على ترك ذلك لما رأوه قد أفضى إلى أشد منه ، ففي وقعة الحرة ووقعة ابن الأشعث وغيرهما عظة لمن تدبر ؛ وبمثل هذا الرأي لا يقدح في رجل قد ثبتت عدالته واشتهر بالحفظ والإتقان والورع التام ، والحسَن مع ذلك لم يخرج على أحد) .
كأنه مصحف :
هذه عبارة من عبارات التوثيق التام المؤكد ، قال السخاوي في (فتح المغيث) (2/111) وهو يذكر صيغ ذلك التوثيق ، أعني ألفاظ مرتبة التوثيق الأولى : (ومن صيغ هذه المرتبة "كأنه مصحف" ) .
الكتاب :
الكتاب هو كل شيء مكتوب ؛ وقد يختص في عرف بعض الناس بما هو صالح للاعتماد عليه كأصول المحدثين ، أو لمخاطبة الآخرين به واطلاعهم عليه ونشره على الناس .
واختصت هذه الكلمة في عرف الوراقين والمصنفين بما هو مصنَّف في بعض مسائل العلم أو الأدب وفيه قدر كافٍ من التبييض والتحرير ؛ بخلاف المسوَّدات ونحوها فقد تسمى دفاتر أو كراريس أو مجاميع أو نحو ذلك .
الكتابة :
الكتابة رسم نقوش مخصوصة تكون صورة للكلام ، تقوم عند رائيها إذا كان يحسن قراءتها - أي فهم دلالات صورها - مقام سماع ذلك الكلام من قائله .
كتابة الأطراف :
أي كتابة أطراف الأحاديث ، لتكون بمثابة ما نسميه اليوم "رؤوس نقاط" أو نحو ذلك ، فهي مذكِّرات تسهل كتابتها ويسهل حملها ؛ قال الذهبي في (سير أعلام النبلاء) (5/232) : (قال ابن عون : رأيت حماداً(1) وقد دخل على إبراهيم(2) ومعه أطراف فجعل يسأل إبراهيم عنها ؛ فقال له إبراهيم : ما هذا ؟! ألم أَنْهَ عن هذا ؟! فقال : إنما هي أطراف.
روى منصور عن إبراهيم قال : لا بأس بكتابة الأطراف) .
__________
(1) هو ابن أبي سليمان .
(2) هو النخعي .(4/186)
معنى هذا أن إبراهيم كان يكره - في طائفة من الأئمة القدماء - أن تُكتَب أحاديثهم خوفاً من الغلط وغيره مما يكرهونه ، وتشجيعاً للطلاب إلى تحفُّظِ الأحاديث ، ومنعاً لغير من يحفظ من المشاركة في هذا العلم العظيم تعظيماً له وصيانةً لأركانه وحمايةً لحدوده من أن يدخلها مَن ليس بأهلٍ لها ، ولكنهم مع ذلك كانوا يأذنون بكتابة الأطراف .
قال الذهبي في (السير) أيضاً (7/214) : (قال علي بن المديني : قيل ليحيى بن سعيد : إن عبد الله بن إدريس وأبا خالد بن عمار يزعمان أن شعبة أملي عليهما ، فأنكر ذلك وقال : قال لي شعبة : ما أمليت على أحد من الناس ببغداد إلا على ابن زريع أكرهني عليه وقال : إن أمير المؤمنين أمرني أن أكتبها ؛ ثم قال له يحيى : لو أردتُه على الإملاء لأملى عليَّ ، وما أملى وأنا حاضر قط ؛ ولقد جاءه خارجة بن مصعب وهو شيخ وليس عنده غيري فأخرج رُقيعة فنفر شعبة ، فقال له : إنما هي أطرافٌ ، فسكن) .
الكتابة المشرقية والكتابة المغربية :
طريقتان في الكتابة بينهما بعض التباين ، من ذلك تباينهما في طريقة إعجام بعض الحروف ؛ فمثلاً قال عبد السلام هارون : (والنقط تختلف طرائقه في الكتابة المشرقية والكتابة المغربية ، ففي الأخيرة تنقط الفاء بنقطة من أسفلها ، والقاف بنقطة واحدة من أعلاها).
كتابة الحديث :
انظر (تدوين السنة أو الأحاديث) .
كتابه صحيح :
أي هو مسموع له ، ومقابل ، وسالم من التزوير والإدخال وغيرهما مما يفسد الكتب .
كتب الأمالي :
انظر (الأمالي) و(كتب الغرائب).(4/187)
كتب الاتصال والانقطاع :
هذا التعبير غير مشتهر بين المشتغلين بهذا الفن ، ولكنه ربما ورد أحياناً فاستحسنت بيان معناه ؛ فكتب الاتصال والانقطاع ، أنواع أهمها كتب الإرسال والتدليس ككتاب (المراسيل) لابن أبي حاتم ، و (جامع التحصيل في أحكام المراسيل) للعلائي ، و (تحفة التحصيل في رواة المراسيل) لأبي زرعة العراقي ، و (طبقات المدلسين) لابن حجر ، وغيرها من كتب الإرسال والتدليس .
ولعل كتب الطبقات الحديثية أو أكثرها ملتحقة بهذا الصنف من الكتب أو داخلة فيه دخولاً أصلياً .
وفي كتب العلل والتواريخ والسؤالات والتخريج والجرح والتعديل كثيرٌ من بيان الانقطاع بين الرواة مطلقاً أو مقيداً بروايات معينة ، وفيها أحياناً تنصيص على الاتصال.
كتب الأنساب :
انظر (الأنساب) .
كتب التاريخ :
انظر (التاريخ) .
كتب التخريج :
انظر (التخريج) .
كتب التراجم :
هي كتب الرجال ، أي الرواة ، وكتب الطبقات بكل أنواعها ، وكتب التاريخ المقتصرة على التعريف ببعض الناس ، وما جرى مجراها أو التحق بها ؛ وانظر (التراجم) و(جمع التراجم) و(الطبقة) ، و(كتب الرجال)(1) .
كتب الترغيب والترهيب :
انظر (الترغيب والترهيب) و (الرقاق) .
كتب التزكية :
هي كتب الزهد والأخلاق والترغيب والترهيب ، وانظر (كتب الزهد) .
__________
(1) وراجع ما كتبه المستشرق (فرانز روزنثال) في بيان محتوى كتب التراجم ونحوها ، في كتابه (علم التاريخ عند المسلمين) (ص141-148) ، ترجمة الدكتور صالح أحمد العلي .(4/188)
وأني لأستأذن القارئ هنا أن أخرج به قليلاً عن موضوع الكتاب إلى الموضوع الذي ينبغي أن يُعنى به كل قارئ ، ذلكم هو مطالعة كتب السلف في التزكية وأعمال القلوب ، عسى أن تصير تلك المطالعة بإذن الله مفتاحاً لتقوى وسبيلاً إلى رقة قلب ووسيلة إلى أن يعرف المرء قدره فيقدِّر حاله حق تقديره فيعترف بنقصه وعجزه وتقصيره ، ومن قرأ سير السلف علم عِظم تفاوت الخلائق في مراتبها ، ومن لا فذلك منه جِدُّ بعيد ، والله هو الموفق إلى كل خير ، بيده الخير وهو فعال لما يريد .
أقول : لنقرأ معاً هذا النداء الذي كنتُ نشرته على هيئة مقالة في (ملتقى أهل الحديث) والذكرى تنفع المؤمنين :
إنه لمن العجب الذي لا تكاد تقف له على سبب - أو على سبب مقنع - أن ترى المتدينين من المسلمين اليوم يكادون - إلا النادر الذي يستثنيه الله - يشتركون في الجملة في شيء واحد ويتفقون عليه - رغم اختلافهم في أكثر مسائل الدين - ألا وهو التقصيرُ الشديدُ في أعمال القلوب والانحرافُ البعيد عن صراط الزهد في الدنيا، والميلُ عن جادة الرغبة الأكيدة في الآخرة؛ ولذلك ترى معظمهم يكادون يتفقون أيضاً على التقصير في العلوم المتعلقة بهذه المعاني، أعني مسائل الزهد والتزكية والآداب الإيمانية ، وما أنفع تلك المسائل وأخطرها لو كانوا يعلمون .
نعم، إن تقصير المسلمين في هذه الأعصر المتأخرة جداً في باب العلم لم يكن مقصوراً على هذه الأبواب من العلوم الشرعية ، ولكنهم قد فرطوا في حق طائفة كبيرة خطيرة من العلوم النافعة والمعارف السامية الماتعة التي تحلى بها أسلافنا وكانت من أسباب حياتهم وسبقهم وثباتهم وصدقهم وكرامتهم وعزِّهم ونفع علمهم وكثرة خيرهم ؛ كتفسير القرآن وتدبره والتوسع في تعلم لغته من أجل الزيادة في تفهم معانيه ومعاني حديث رسوله صلى الله عليه وسلم .(4/189)
إلا أن أهم هذه العلوم التي يكادون على تركها يُطْبقون وعلى نسيانها يتفقون هو ما ذُكر أولاً : علمُ التزكية وأعمال القلوب وعلم الأدب والأخلاق، وهما علمان متلازمان وصِنوان مقترنان متكاملان ، أولهما يصحح السلوك الديني ويقوّم العمل لله ويصفيه وينقيه من كل ما يبطله أو يبطئه أو يحْبطه أو يضعفه أو يخل به؛ فهو أساس التقوى وملازمة العبادة؛ وثانيهما يحسن التعامل مع الناس ويهذبه ويلطفه؛ فهو أصل الآداب العالية التي هي مادة الأخلاق العظيمة وشجرة الأذواق الرفيعة؛ فما أكثر من أهمل هذين العلمين العظيمين والأدبين الكريمين من المعاصرين وطوى بساطهما، وأعرض عنهما ولم يتعاطهما، أو اختصرهما اختصاراً مخلاً ، أو اقتصر منهما على ما لا يكاد يذكر أو على ما توهمه منهما وليس منهما أصلاً؛ وما أشدَّ حرمانَ أهل هذه الأزمنة المتأخرة إذ حرموا منهما وما أكبر خسارتهم بذلك وأعظم مصيبتهم به!
وإذا كان هذا وصف الداء، فما هو يا ترى دواؤه ؟
إن من أول وأهم ما يعين المرء المسلم - بعد الدعاء والتوكل - على معرفة ربه وعلاج قلبه ويؤدي إلى زيادة يقينه وثبات دينه، ويقويه على الطاعات ويعصمه بإذن الله من المهلكات : هو تكرر قراءة القرآن بإخلاص وتدبر وحضور وتبصر وخشوع وتفكر، ودوام ذكر الله بتعظيم لله وحضور قلب وصدق واحتساب، وكثرة مطالعة الصحاح من كتب الحديث النبوي بمحبة ويقين وتفهم، ثم الانكباب على أقوال السلف وأخبارهم وقصصهم وآثارهم بتأمل وإنصاف وسلامةِ قصد وحسنِ تصور، فإن أقوال الصحابة والتابعين وقصصهم في باب الزهد والتزكية وأعمال القلوب ما هي إلا تفسير لآيات وأحاديث هذا الباب، وشرح لها وتقريب، وما هي إلا أقوال وقصص من هم أعلم منا بنصوص الوحيين وأفقه منا في الدين وأعلم منا بالله تبارك وتعالى رب العالمين وأخشى له وأعظم اجتهاداً في مرضاته، فما أنفعها من آثار وما أرفعها من علوم.(4/190)
إن آثار سلف هذه الأمة الصالحين وأخبار علمائها المتقدمين العاملين وحكايات عبادها المتقين العالمين وزهادها الثقات المأمونين جواهر غالية لا يكاد يستغني عنها إلا محروم، وأعلاق نفيسة لا يكاد يعرض عنها إلا جاهل مغبون، وكواكب هادية في ليل حالك لا يغمض عينيه عن نورها إلا خاسر أو هالك.
وإنه لمِمّا لا يكادُ يخفى على أحدٍ من أهل العلم والمعرفة بالدينِ شدة الحاجة في مثل هذا الزمن المليء بالفتن إلى معرفة مناقبِ السلفِ الصالحينَ والاطلاعِ على أحوالهم وسيَرِهم، وتدبر كلماتهم وحِكَمِهم، والانتفاع بوصاياهم وعِبَرِهِم، والاقتداء بهم في أمور الدين كلها ما تعلق منها بالقلب أو باللسان أو بالجوارح.
وإن الحاجة إلى هذه الآثار لا تزال تزداد أضعافاً مضاعفة في هذا العصر المادي المجرم، عصر الغثاء والحثالة، الفاسد أهله إلا من رحمه الله - وقليل جداً ما هم - عصر طغيان الشهوات البهيمية، والكفر والإلحاد والبدع والضلالات، والفتن والمحن، والحضارة الممهدة للدجال، عصر سيطرة أعداء الأنبياء على أهل الأرض، عصر المعيشة الضنك نعوذ بالله منها، عصر حب الدنيا وكراهية الموت، وعبادة الدرهم والدينار والزوجة والقطيفة.
إنه لا غنى بأهل عصر من الأعصر المتوسطة والمتأخرة عن علم السلف الصالح، بل إن النصائح والوصايا في باب الزهد والتربية لا يكاد يحسنها سواهم، فلا يحسن منا سوى أن نُعنَى بكلامهم في هذا الباب جمعاً وحفظاً وسمعاً وفهماً وتأليفاً وتوضيحاً وتصنيفاً وتنقيحاً، وأما الإضافة إليه أو الاستدراك عليه أو المخالفة له أو الاستغناء عنه: فهيهات؛ لقد كان كلامهم قليلاً مباركاً كثير النفع وأما كلام الخلف فكثير قليل النفع؛ ولقد كان السلف يتكلمون بكلام كأنه الدر فتكلم أقوام من بعدهم بكلام يخرج من أفواههم كأنه القيء!
يا باريَ القوسِ برياً ليس يُحْكِمُهُ
لا تُفسِدِ القوسَ أَعطِ القوسَ باريها(4/191)
كتب السلف وكلماتهم بقية نور أصيل في هذه الحياة المظلمة، لولا بقايا أنوار السراج المحمدي (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً، وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً)(1) وهي صدى نداء قديم ناصح يحذر الناس عبادة الدنيا وأهلها، ويدعوهم إلى عبادة رب كل شيء ومالكه وخالقه، الذي يُسعِد ويُشقي ويُعز ويُذل ويَهدي ويُضل، وينفع ويضر، ويرفع ويخفض، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، ذلكم الله رب العالمين .
كتب السلف وآثارهم في الإيمان والتقوى الزهد والرقائق قبس من التاريخ القديم الزاهر وتحفة السلف لخلفهم ووصية العلماء الناصحين لكل من خافوا عليه الغرور والجهل، ممن جاء بعدهم، إلى يوم الدين؛ وإنها كغيرها مما بين أيدينا من كتب العلم النافعة - بعض حجة الله على الناس، فهل من منتفع منها أو عامل بها؟!.
إن مطالعة هذه الآثار القيمة جولة في أعماق التاريخ ممتعة ومحزنة، ومحادثة ميسَّرة ومحاورَة مختصرة، مع أولئك الناس الذين ترجموا - قدر مجهودهم - وحي الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، إلى عمل واقع وتطبيق مشهود .
إن كلام السلف في العلوم الشرعية عامة، وفي علم التزكية خاصة، لا يدرك بالفِطَن، ولا يقدَّر بثمن، ولكن هل نفطن له، أو نعرف قدره؟ إنه علم علانا بدرجات، ولكن الجاهل بيننا يظن أنه مستغن عنه ويحسب أن ذلك العلم دون علم المتأخرين بدركات، وهذا موضع التذكير بالمثل الشهير: ويل لعالم أمر من جاهله.
إن كلام السلف في الدين معانٍ عظيمة منظومة من درر متناسقة باسقة من قلوب خِيرةِ هذه الأمة وصفوتِها، وأنوارٌ صادرةٌ من تلك الصدور التي ما كان ولن يكون مثلها بعد الصدر الأول من أمة هي خير الأمم وزبدتها .
__________
(1) الأحزاب (46).(4/192)
إنه نفحات من الحكمة، ونسمات من رياح الحق، نابعة من تلك القلوب الصلدة الصافية الرقيقة الجليلة العالية المطمئنة، التي ملأها حبُّ الله ففاضت به، وأماتَها خوفُه، وأحياها رجاؤُه، وامتزج فيها الإيمان والقرآن، والصبر والشكر، والمخافة والمعرفة، والرجاء والحياء، والحق والصدق، والخضوع والخشوع، والرأفة والرحمة، والعزة والذل، واليقين والتوكل، والزهد والجد، والشجاعة والقناعة، والعلم والفهم، والهدى والنور.
وذلك الكلام هو استنباط العلماء بالله عز وجل من كلامه ومن كلام رسوله صلى الله عليه وسلم؛ وهو وصايا الصادقين وكلمات المحسنين(1) ، وكلام المحسنين هو بلا ريب حكمة وأي حكمة، قال تعالى في حق موسى صلى الله عليه وسلم: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) [القصص 14] وقال في حق يوسف صلى الله عليه وسلم: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) [يوسف 22]؛ وقال: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [آخر العنكبوت].
__________
(1) لا شك أن هذا الكلام ونحوه مما ورد في هذه المقالة مما هو داخل في باب الثناء والتزكية فإنما هو خارج على سبيل التغليب وجارٍ على طريقة التوسع في الكلام؛ وأما التعيين فنحن لا نشهد لأحد من الناس بعينه بأنه محسن بالمعنى الشرعي، أو نشهد لشيء من كلام الناس بعينه بأنه حق، إلا إذا شهد لذلك الدليل الشرعي، وهذا واضح.(4/193)
هذه هي صفة أخبارهم، ثم إنها فوق ذلك قد زانتها لقطات مؤثِّرة من حياة أهل الجنة عندما كانوا يسيرون على الأرض، لقطات من ذلك البكاء والأنين والشوق والحنين والدعاء والابتهال والقيام والركوع والسجود والتلاوة والتسبيح والتحميد والتكبير والتهليل والاستغفار والحوقلة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وصهيل الخيول ووقع السيوف والحشرجات والعبرات والآهات والحسرات وأصوات الدموع الواقعة على مواضع السجود، وعبادة الله، بمجاهدة النفس والعدو، وبالكلام والصمت، وبالخوف والرجاء، وبالكرم والحياء، وبالمنع والعطاء، وبالشكر والصبر، وبالحب والبغض، وبالحياة والموت، وبالصحة والمرض، وبالقوة والضعف، وبالفقر والغنى، وببيع النفس والمال، وبالقيام والقعود، وبالركوع والسجود، وبالدعوة والنصيحة، وبالعزلة والخلطة، وباليقظة والمنام.
ثم هي بعد ذلك - في الجملة - كلام ممتع مقنع جليل جميل صافٍ وافٍ طيب عذب رائق فائق خارج من قلوب نقية تقية جارٍ على ألسنة فصيحة بليغة عربية.
فعليك - يا من يحرص على النافع من العلم ويرجو التوفيق إلى الصالح من العمل - بآثار أسلافنا، فاسمع قصصهم وأخبارهم واجمع حكمهم وآثارهم، واقبل عظاتهم ونصائحهم، أَقبلْ عليها، وعض عليها بناجذيك؛ فإنها فوائد تشد إليها الرحال ونفائس يتنافس فيها الرجال: ارتو من مائها فهو عذب فرات، واقتبس من ضوءها فإنها كواكب هاديات، وتزيّن بفهمها والعمل بها ، قفْ عليها تتدبرها حقَّ تدبرها ، وتقيس نفسك بها بتجرد ، وتتعرَّف حقيقة حالك بواسطتها بتحقق؛ فهي ميزان منضبط يزن به المرء نفسه، وأعمال مستقيمة يعارض بها أعمالَه، وأحوال صحيحة يبصرُ من خلالها حالَه .(4/194)
واعلم أن من رغب عن آثار السلف ووصاياهم وبيانهم للدين، فقد زهد في غير زهيد وأراد تناوش الخير ولكن من مكان بعيد، فأنى له حصوله؟ وأبطأ السير فكيف يتم وصوله؟ واستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، وآثر الظلمة على النور، وتحول من ظل وارف إلى حرور، بل ليعلمْ أنه إذا انتسب إليهم فنسبته زور، وإذا حسب أنه على سبيلهم فجاهل مغرور.
هذا ولا بد أن يعلم الواقف على مثل كلامي هذا ونحوه مما فيه تعظيم لآثار السلف ودعوة إلى العناية الشديدة بها، أن هذه الآثار ليست بديلة عن القرآن وحديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنها وسيلة إليهما ومدخل سريع واسع مبارك عليهما، وإنها تفسير لهما، وتدبرٌ فيهما، واستنباط منهما، وفروع باسقة عليهما، وهي - كما تقدم ذكره - أقوال من هم أعلم منا بالقرآن والسنة وأفقه منا في الدين وأنصح للأمة.
ثم إن مظان هذه الآثار أصناف كثيرة من كتب التراث الاسلامي ككتب الإيمان والزهد والرقائق والورع والتزكية والتفسير والحديث وكتب الأدب الشرعي والتاريخ والسير والطبقات والمناقب والتراجم والدعوة.
والذي اختص منها بهذا النوع من الآثار، أعني كتب الزهد والورع والتزكية، إنما هي في الحقيقة أعلاق نفيسة وجواهر لا يعدلها ثمن، وكيف لا تكون كذلك وهي تدعوك - بأحسن أسلوب وضعه الناس وألطف طريقة ابتكروها وأقوم مسلك مشوا عليه - إلى الزهد في الدنيا والإقبال إلى الآخرة وطلب الجنة بكل جد وكل اجتهاد؛ تدعوك إلى التقوى والورع وتدلك على أسباب زيادة الإيمان بالله وأسباب الاجتهاد في طاعته واجتناب معصيته؛ ترغّبك في العلم النافع والعمل الصالح؛ وتحبب إليك الانتفاع بعلوم القرآن والحديث وآثار السلف الصالحين.(4/195)
إنها كتب جمعها أصحابها - وهم علماء محدثون أو فقهاء أو مفسرون، بل أكثرهم أئمة أعلام - من أقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقوال الصحابة وعلماء التابعين وحكمائهم الفاضلين وزهادهم المتقين، ومن أخبار تلك الأجيال في دينها وقصصها في تعبدها وزهدها، إنها كتب تقص عليك أحسن القصص بعد كتاب الله وكتب حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، إنها تطلعك على أفضل تأريخ للناس، أو قل: على تأريخ أفضل الناس، ففيها زهد الأنبياء وحكمهم وزهد الصحابة ووصاياهم وزهد التابعين ونصائحهم.
إن مكتبة الزهد والأدب توقف نماؤُها منذ زمن بعيد ثم أهملت إهمالاً عجيباً وتراكم عليها من غبار الزمن وتراب النسيان ما كاد يدفنها، وهبَّ عليها من سموم عبادة الناس للدنيا ما كاد يحرقها، وسال عليها من أودية البدعة والخرافة ما كاد يغرقها؛ ولكن المكتبة الاسلامية القديمة رغم كل ما أصيبت به من نكبات ووقع عليها من جوائح لم يزل فيها بحمد الله بقية طيبة من هذين النوعين من الكتب النفيسة الجليلة ، وفي الزوايا خبايا ؛ ولكن أين أهل هذين العلمين؟! وأين الاعتناء بما بقي من كتبهما؟! ومن يخدم تلك الكتب وينشر علمها كما ينبغي له، ومن يقربها للناس وقد شطَّ وليها وعادت عوادٍ بينهم وبينها وخطوب؟! بل من يقربهم إليها أو يدلهم عليها؟! وهم في واد وهي في واد غيره؛ فإن الأمر اليوم كما وصفه بعض المتقدمين من العلماء إذ قيل له: ما بقي من ينصح، فقال: وهل بقي من يسمع؟!
سارت مشرقة وسرت مغرباً***شتان بين مشرّق ومغرّب(4/196)
فالناس أكثر الناس اليوم تحيط بهم بل بقلوبهم ظلمات الفتن، قد اجتمع عليهم فتن السراء والضراء؛ وأنهكتهم أمراض الشهوات والشبهات؛ ودوختهم وساوس شياطين الجن وزخارف شياطين الإنس؛ الزمن أسرع من أن يتفكروا في أنفسهم، والوقت أضيق من أن يتخلفوا عن أهل الدنيا في مواكبهم؛ الحاجات كثيرة والآمال عريضة والصدور ضيقة والقلوب مريضة والهموم متشعبة متفرقة؛ فالحديث اليوم عن الزهد والورع يكاد يكون حديثاً عن خيال لا حقيقة له أو عن مستحيل لا إمكان لوقوعه؛ بل إن العاقل ليأخذه أحياناً الحياء من ربه أو من نفسه أو من الناس إذا أراد أن يتكلم في مثل هذه الأمور، والله المستعان.
وعلى كل حال فلا بد من المحاولة وقوة الرجاء، ولا بد من وصف العلاج وإن قل الآخذون به.
ثم إن هذه الكتب غير مشتهرة الاشتهار الكافي بين طلبة العلوم الشرعية اليوم، هذا من جانب؛ ومن جانب آخر فإنه يصد كثيراً من الناس عنها أمور، منها تطويل أكثرها بالأسانيد كما هو حال أكثر الكتب القديمة، ومنها احتواؤها على جملة كثيرة من أحاديث مرفوعة غير صحيحة .
وكذلك كثير من كتب الأدب تضمنت - مع ما فيها من أبواب كثيرة في الرقائق وآثار السلف وأخلاقهم - بعض المسائل التي عُني بها الأدباء والأخباريون ونحوهم من الغزل والهزل وأخبار الظلمة ورؤوس المبتدعة، كما هو الحال في بعض أمهات كتب الأدب العربي .
وكذلك كثير من الكتب القريبة في موضوعها من كتب الزهد عِيبَ عليها اختلاط حق الكتاب بباطل وحقيقتُه بمبالغة ، كما هو شأن كثير من كتب التصوف.
إن خدمة ما وصلنا إليه من كتب الزهد والأدب الاسلامي ونشر علمها حق واجب لا بد من أدائه وخير - إن شاء الله - كثير لا بد من المبادرة إليه.
وهذه الخدمة ليست نوعاً واحداً ولا طريقة معينة، بل هي أشكال كثيرة وأنواع متعددة، ليس هذا موضع تفصيلها .(4/197)
إنه لا بد من جمع وتقريب ما ورد من حكم السلف ووصاياهم في الزهد والعبادة والأدب وعرض ذلك بطرائق مختلفة في هيئتها وصورتها مشتركة في غايتها وحقيقتها؛ متطابقة في صحتها واستقامتها؛ فتقدم إلى كل فريق بالأسلوب الأفضل عندهم والترغيب الأمثل لهم والتقريب المكن ، ليكون لكل طالب لها أو راغب فيها أو مدعو إليها النسخة التي تناسبه والطريقة التي تُفْهمه ؛ فليس كل الناس يفهمون (مدارج السالكين) و(مختصر منهاج القاصدين) ولا كل الناس يقنعون بالكتيبات العصرية، وإن كان لها فضل لا ينكره منصف؛ ولكنها دون ما ينبغي بكثير وكثير .
إذن لا بد - ونحن في عصر الطباعة والنشر - من خدمة كتب أسلافنا في باب التزكية والزهد والأدب الشرعي وتقديمها سهلة دسمة مقنعة ممتعة حافلة شاملة، وبطرق مناسبة، إلى كثير من المسلمين الذين لا نشك في أنهم قد طال حرمانهم منها وإن لم يشعروا به، واشتدت حاجتهم إليها وإن لم يعرفوا حقيقة ما احتاجوه.
لنقدمها إلى كل طالب علم طال من نافع العلم حرمانه.
وطالب تقوى قلَّ بين الناس أعوانه.
وإلى الشباب قبل ضيعتهم.
وآبائهم وأمهاتهم قبل ندامتهم.
وإلى كل مربٍّ مخلص قبل أن يخرج زمام الأمر من يده.
وإلى كل عابد تفطرت شفتاه في صومه وقدماه في تهجده.
وإلى كل خطيب أو واعظ يحرص على رد الناس إلى طريقة خير القرون قبل أن يشتد الأمر في صعوبته ويزداد الليل في ظلمته.
وإلى كل داعية جادٍّ يكاد قلبه يتفطر أسى لسوء ما يرى قبل أن يفوت الأوان.
بل إلى كل مسلم صادق في إسلامه ثابت على دينه رغم الفتن التي تحيط به من كل مكان.(4/198)
لنقدمها إلى هؤلاء جميعاً - ومن شاء الله من غيرهم - قلادة من الجواهر المجموعة والنوادر المسموعة أو بستاناً من الأزهار البهية والثمار الشهية، ونناشدهم ألا يحرموا أنفسهم من كنوزها ولا قلوبهم من نسيمها ، لتكون بياناً لمراد الله تعالى ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم؛ ولتكون بإذن الله لمن يطالعها سبب ثبات في جميع الحالات والأوقات وسفينة نجاة وسط هذه الموجات الهائجات المهلكات وسراج هدى في هذه الدروب الشائكات الحالكات ودواء ناجعاً من كل هذه الأدواء والبليات.
والآن وفي ختام هذه المقالة أحب أن تقف على فصل وجيز في ذكر بعض الآثار المبينة لبعض فضائل معرفة آثار السلف ومن كان على طريقتهم في أبواب التزكية والزهد؛ وبيان عظم تأثرهم بأخبار الرقائق والوعظ الصحيح؛ فدونكه.
1. روى أبو نعيم في (حلية الأولياء) (5/103) عن مفضل بن غسان قال: قال عمرو [بن قيس الملائي]: حديث أرقق به قلبي وأتبلغ به إلى ربي أحب إلي من خمسين قضية من قضايا شريح.
2. وروى فيه أيضاً (4/313) عن الشعبيّ قال: لو أنَّ رجلاً سافرَ من أقصى الشامِ إلى أقصى اليمنِ فحفظَ كلمةً تنفعُهُ فيما يستقبلُ من عمرِهِ رأيتُ أنَّ سفرَهُ لمْ يَضِعْ.
3. وروى البغوي في (مسند علي بن الجعد) (1047) عن بكر بن خنيس عن ضرار يعني بن عمرو عن قتادة قال: باب من العلم يحفظه الرجل لصلاح نفسه وصلاح من بعده أفضل من عبادة حول(1) .
4. وروى أبو نعيم في (حلية الأولياء) (5/29) عن حسن بن صالح قال: قال زبيد: سمعت كلمة فنفعني الله عز وجل بها ثلاثين سنة.
__________
(1) وورد هذا الأثر في (صفة الصفوة) (3/259) بهذا اللفظ: (باب من العلم يحفظه الرجل يطلب به صلاح نفسه وصلاح الناس أفضل من عبادة حول كامل).(4/199)
5. وروى ابن حبان في (روضة العقلاء) (ص40) عن الحسن البصري قال: لأن يتعلم الرجل باباً من العلم فيعبد به ربه فهو خير له من أن لو كانت الدنيا من أولها إلى آخرها له فوضعها في الآخرة(1) . (وانظر الزهد ص268 والمصنف 7/188 ومفتاح دار السعادة 1/118)
6. وقال عباس الدوري في (تاريخه) (3/569): (قال يحيى [بن معين]: ورأيت وكيع بن الجراح أخذ في (كتاب الزهد) يقرؤه؛ فلما بلغ حديثاً منه ترك الكتاب، ثم قام فلم يحدث، فلما كان الغد وأخذ فيه بلغ ذلك الحديث قام أيضاً ولم يحدث؛ حتى صنع ذلك ثلاثة أيام؛ قلت ليحيى: وأي حديث هو؟ قال: حديث مجاهد، قال: أخذ عبد الله بن عمر ببعض جسدي، قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض جسدي، فقال: يا عبد الله بن عمر كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)(2) .
7. وروى البيهقي في (شعب الإيمان) (1/544) عن عثمان بن سعيد الدارمي قال: سمعت نعيم بن حماد يقول: كان ابن المبارك إذا قرأ كتاب الرقاق يصير كأنه ثور منحور أو بقرة منحورة من البكاء لا يجترىء أحد منا أن يدنو منه أو يسأله عن شيء إلا دفعه(3) .
8. وروى فيه أيضاً (2/288) عن نعيم بن حماد قال: كان ابن المبارك يكثر الجلوس في بيته فيقال له: تكثر الجلوس في بيتك ألا تستوحش؟! فيقول: كيف أستوحش وأنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين لهم بإحسان؟!
__________
(1) كان بعض الحكماء يقول: ليت شعري أي شيء أدرك من فاته العلمُ؟! وأي شيء فات من أدرك العلمَ؟! (مختصر منهاج القاصدين ص22) .
(2) ونقله الذهبي في (سير أعلام النبلاء) (9/149).
(3) وذكره ابن الجوزي في (صفة الصفوة) (4/137-138).(4/200)
9. وذكر ابن الجوزي في (صفة الصفوة) (4/137) عن شقيق بن إبراهيم قال: قيل لابن المبارك: إذا صليت معنا لمْ تجلس معنا؟! قال: أذهب أجلس مع الصحابة والتابعين؛ قلنا له: ومن أين الصحابة والتابعون؟! قال: أذهب أنظر في علمي فأدرك آثارهم وأعمالهم؛ ما أصنع معكم؟! أنتم تغتابون الناس! فإذا كانت سنة مئتين فالبعد من كثير من الناس أقرب إلى الله، وفر من الناس كفرارك من أسد وتمسك بدينك يسلم لك.
10. وروى البيهقي في (الشعب) (2/299) عن أحمد بن عبد الله بن أبي الحواري حدثني أخي محمد قال: قال علي بن الفضيل لأبيه: يا أبه ما أحلى كلام أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم! قال: يا بني وتدري لما حلا؟! قال: لا يا أبه، قال: لأنهم أرادوا به الله تبارك وتعالى.
11. وروى السلمي في (طبقات الصوفية) (ص124-125) والبيهقي في (الشعب) (2/297) عن عبد الله بن محمد بن منازل قال: سئل حمدون القصار: ما بال كلام السلف أنفع من كلامنا؟! قال: لأنهم تكلموا لعز الإسلام ونجاة النفوس ورضى الرحمن، ونحن نتكلم لعز النفس وطلب الدنيا وقبول الخلق.
12. وروى ابن أبي الدنيا في (الورع) (ص50) عن الضحاك قال: أدركت الناس وهم يتعلمون الورع وهم اليوم يتعلمون الكلام.
13. وروى ابن أبي الدنيا في (الصمت) (ص294) عن الليث بن سعد عن عبيد الله بن أبي جعفر عن أبي خلدة قال: أدركت الناس وهم يعملون ولا يقولون وهم اليوم يقولون ولا يعملون.
14. وقال ابن القيم في (الفوائد) (ص104): قال حماد بن زيد: قلت لأيوب: العلم اليوم أكثر أو فيما تقدم؟ فقال: الكلام اليوم أكثر، والعلم فيما تقدم أكثر.(4/201)
15. وروى أبو خيثمة في (العلم) (ص25) عن شيخه عبد الرحمن بن مهدي عن حماد بن زيد عن أيوب قال: قال رجل لمطرف(1) : أفضل من القرآن تريدون؟! قال: لا، ولكن نريد من هو أعلم بالقرآن منا.
16. وروى أبو نعيم في (حلية الأولياء) (8/165) عن رسته الطالقاني قال: قام رجل إلى ابن المبارك فقال: يا أبا عبد الرحمن في أي شيء أجعل فضل يومي؟ في تعلم القرآن أو في طلب العلم؟ فقال: هل تقرأ من القرآن ما تقيم به صلاتك؟ قال: نعم؛ قال: فاجعله في طلب العلم الذي يعرف به القرآن.
17. وروى السلمي في (طبقات الصوفية) (ص127) عن حمدون القصار قال: من نظر في سير السلف عرف تقصيره وتخلفه عن درجات الرجال .
18. وروى البيهقي في (الشعب) (2/303) عن أحمد بن سعيد الدارمي قال: سمعت من علي [بن] المديني كلمة أعجبتني، قرأ علينا حديث الغار ثم قال: إنما نقل إلينا هذه الأحاديث لنستعملها لا لنتعجب منها.
19. وروى المروزي في (تعظيم قدر الصلاة) (1/190) عن ابن جريج قال: قلت لعطاء(2) : أقبض بكفي اليمنى على عضدي اليسرى وكفي اليسرى على عضدي اليمنى؟ فكرهه(3) وقال: إنما الصلاة خشوع قال الله: (الذين هم في صلاتهم خاشعون)، فقد عرفتم الركوع والسجود والتكبير ولا يعرف كثير من الناس الخشوع!!.
__________
(1) مُطَرِّفُ بنُ عبد الله بن الشِّخِّير العامري البصري تابعي جليل حكيم وعابد فاضل، توفي سنة خمس وتسعين، ذكره محمد بن سعد في الطبقة الثانية من أهل البصرة، وقال: (روى عن أبي بن كعب، وكان ثقة له فضل وورع وعقل وأدب، وقال العجلي: كان ثقة ولم ينج بالبصرة من فتنة ابن الأشعث إلا رجلان: مطرف وابن سيرين؛ ولم ينج منها بالكوفة إلا رجلان: خيثمة بن عبد الرحمن وإبراهيم النخعي). انظر (تهذيب الكمال) (28/69).
(2) هو ابن أبي رباح، العالم الجبل تلميذ ابن عباس، قال أيوب بن سويد: سمعت الأوزاعي يقول: مات عطاء وهو أرضى أهل الأرض. (الحلية 3/311) .
(3) أي كره هذا السؤال .(4/202)
20. وقال ابن الجوزي في (منهاج القاصدين) كما في (مختصره) (ص396)(1) : (ومن أراد أن ينظر في سير القوم، ويتفرج في بساتين مجاهداتهم، فلينظر فى كتابي المسمى بـ ( صفة الصفوة)، فإنه يرى من أخبار القوم ما يعدُّ نفسه بالإضافة إليهم من الموتى، بل من أخبار المتعبدات من النسوة ما يحتقر نفسه عند سماعه ).
الكتب التسعة :
يظهر أن أول من أطلق تسمية الكتب الستة هو الحافظ الحازمي ؛ وأما الكتب التسعة فلعل أول من جعلها مجتمعةً موضوعاً لكتاب مختص بها المستشرقون أصحاب (المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي) ، فقد جعلوها معجماً لألفاظ الكتب الستة الشهيرة ومسند الدارمي وموطأ مالك ومسند أحمد بن حنبل .
ولهذا كره بعض المشايخ والباحثين إطلاق هذا اللفظ لأنه غير متعارف عليه بين أهل الحديث ، وكأنهم رأوا أنه لا يحسُن من أهل الحديث أن يسيروا خلف المستشرقين في اصطلاح ابتكروه في غير فنهم بل في غير دينهم ، أو بُني على عمل قاموا به لم يسبقهم أحد من المسلمين إلى مثله .
وقيل تعقباً لمن كره ذلك الاصطلاح : (لا وجه لكراهة ذلك، فهو مجرد اصطلاح لا يختلف عن اصطلاح (الكتب الستة) (الكتب الخمسة) ... إلخ ؛ ومن كره الأخير دون الأول فعليه أن يبين الفرق بينهما!) اهـ .
ثم صارت كلمة (الكتب التسعة) اصطلاحاً لشركة صخر البرامجية ، فاشتهر هذا المصطلح عند المعاصرين .
كتب التصحيف والتحريف :
هي الكتب التي تُعنى ببيان ما وقع من تصحيف في كلام بعض العلماء ، سواء كانت مقيدة بكتاب معين أو بأكثر من كتاب. وانظر (التحريف).
__________
(1) طبعة دار الحديث ، باب المحاسبة والمراقبة .(4/203)
وثم نوع آخر من كتب الأسماء أو كتب الرجال مقارب في بعض موضوعه لكتب التصحيف والتحريف ؛ ولكنْ بين النوعين فرقٌ ، وبيان ذلك هو أن النوع الأول أعني كتب التصحيف أو التحريف أخص من النوع الثاني من جهة وأعم منه من جهة أخرى ، فإنه - أي النوع الأول - يتناول ما وقع من التصحيف فعلاً ، كما تقدم ، وسواء كان ذلك بسبب تقارب صور الكلمات في الكتابة أو تقارب ألفاظها في السمع ، بخلاف الثاني فإنه يتناول ما يحتمل أن يقع فيه تصحيف - سواء وقع التصحيف فعلاً أم لم يقع - بسبب تشابه صور الكلمات في الكتابة ، دون ما يحتمل أن يقع فيه التصحيف بسبب تشابه الألفاظ .
ونظير هذا الخصوص والعموم ما وقع في موضوعي كتابي الخطيب (موضح أوهام الجمع والتفريق) و (المتفق والمفترق) ؛ ويأتي الكلام على فنهما في موضعه .
كتب الثقات :
هي كتب التراجم المختصة بالثقات ، والمراد هنا بالثقات كل من ليس مجهولاً ولا مجروحاً جرحاً معتبراً يجعله في عداد الضعفاء ، فيدخل الصدوق وما يقاربه وبعض من دونه في مراتب التعديل .
وأشهر كتب الثقات (ثقات ابن حبان) و (ثقات) العجلي .
وذكر السخاوي في (الإعلان بالتوبيخ) (ص585-586) بعض كتب الثقات فقال : (كالثقات لأبي حاتم بن حبان ، وهو أحفلها ، وهي على الطبقات ؛ وعملها الهيثمي معجماً واحداً ؛ والعجلي ، وابن شاهين ، وأبي العرب التميمي ، والشمس محمد بن أيبك السروجي ، وهو من المتأخرين ، مع أنه لم يكمل ، ولو تم لكان في أكثر من عشرين مجلداً ، بخطه البديع المتقن ، وأسماء الأحمدين فقط منه في مجلد ؛ وأفرد شيخنا الثقات ممن ليس في "التهذيب" ، وما كمل أيضاً ؛ وكذا فعل بعض نبلاء جماعة من أصحابنا ؛ وكتبت منه غير نسخة ) .(4/204)
وطريقة فصل الثقات عن الضعفاء في كتب مجملة طريقة قد يكون غيرها أكمل منها ، فعلماء العلل طريقتهم الأشهر جمع الرواة في كتاب مفصَّل من غير تقسيمهم إلى ثقات وضعفاء ، لأن التفصيل في الكلام على الرواة هو الطريقة الأمثل والمسلك الأكمل ؛ نعم هم قد يفردون المتروكين ومن اشتد ضعفهم في كتب مختصة بهم ، ولكل مؤلفٍ منهجه ولكل تأليف مقصده .
كتب الجرح والتعديل :
انظر (كتب الرجال) .
كتب الحديث :
هي الكتب التي يغلب على موضوعها العلوم الحديثية وما يرجع إليها ، كرواية الحديث ونقد سنده ومتنه وبيان أحوال رواته وغير ذلك .
وتنقسم هذه الكتب أو تنقسم المكتبة الحديثية باعتبار موضوع الكتاب إلى أربعة أقسام : كتب الرواية وكتب الرجال وكتب التخريج وكتب علوم الحديث أو أصوله ، وهي التي يطلق عليها المتأخرون (كتب المصطلح) علم الحديث . فانظر هذه التراجم الأربع في مواضعها من الكتاب .
تنبيه : ليس من البعيد أن تعد كتب فقه الحديث وكتب غريب الحديث(1) وكتب تأويل مختلف الحديث ونحوها داخلة في كتب الحديث وإن كان في ذلك توسع ظاهر .
وأما شرح الأحاديث واستنباط أحكامها واستخراج فوائدها وإزالة الإشكال عنها والجمع بين ما ظاهره الاختلاف منها ، فليس في الحقيقة من وظيفة المحدث ، وإنما بعض ذلك من وظيفة اللغوي ، وبعضه من وظيفة الفقيه ؛ ولكن كثيراً من المحدثين كانوا فقهاء أو متمكنين من لغة العرب فشاركوا في تلك الوظائف .
وربما يرى راءٍ أنَّ مِن حق كتب الغريب والشروح ومشكل الحديث ومختلف الحديث وفقه الحديث أن تدخل في مكتبة الحديث .
وأنا أرى أن لا بأس بذلك ، ولكنه لا يخلو من بعض التجوز ، ولا سيما في حق كتب فقه الأحاديث .
الكتب الخمسة :
انظر (الخمسة).
__________
(1) انظر (غريب الحديث) .(4/205)
كتب الرجال :
أما كتب الرجال فهي الكتب التي تُعنى بتعيين الرواة ، بتحرير أسمائهم وكناهم وأنسابهم ونحوها ، ودفع ما قد يقع من الاشتباه في ذلك ، ورفع ما وقع منه ، وبيان أحوال الرواة في الرواية من حيث القوة والضعف ، وكذلك أحوال رواياتهم من حيث الاتصال والانقطاع ، بينهم وبين من فوقهم أو دونهم في الأسانيد .
فعلم الرجال مقاصده الرئيسة ثلاثة :
الأول : ضبط أسماء الرجال وأنسابهم وتبيينها بما يمنع من أن يجهل معروف من الرواة أو أن يقع خطأ في تعيين المسمى منهم(1) ؛ ثم إن كتب الأسماء والكنى والأنساب وضبطها وما يلتحق بها ويذكر في عدادها أنواع كثيرة وعلوم صعبة ، وأخطر أنواعها وأهمها فن المؤتلف والمختلف وفن المتفق والمفترق(2) .
الثاني : معرفة تواريخهم وما يحتاجه النقاد من سيرهم وتراجمهم ، وأهم ذلك هنا معرفة من سمعوا منه ممن لم يسمعوا منه ، ومقدار تلك المسموعات ولو على وجه التقريب . ومن أهم وأنفع الكتب المؤلفة في هذا الباب الثاني كتب الوفيات(3) .
الثالث : أحوالهم في الرواية من حيث العدالة والضبط . والكتب المؤلفة في هذا القسم الثالث هي التي تستحق أن تسمى كتب الجرح والتعديل ، دون القسمين المتبقيين من كتب الرجال ، وهما كتب الأسماء وكتب التواريخ ، ولكن قد حصل من التوسع والتجوز في التسميات ما جرى على خلاف هذا ، وهو من باب تسمية الجزء باسم الكل ، أو عكسه وهو تسمية الشيء بأهم أقسامه ، أو غير ذلك ، والأمر في ذلك قريب محتمل .
__________
(1) ويلتحق بهذا المقصد ضبط الأسماء والأنساب وما يذكر معها ضبطاً مانعاً مما لا محذور فيه من اللحن والخطأ في قراءتها أو كتابتها أو الوهم في نسبتها ؛ أي اللحن أو الخطأ الذي لا يكون سبباً فيما تقدم من الحكم على معروف بالجهالة أو تعيين المسمى على خلاف الصواب بسبب تشابه الأسماء .
(2) انظر (الأنساب) و (المتفق والمفترق) و (المؤتلف والمختلف) .
(3) انظر (الوفيات) .(4/206)
وكتب الرجال والتواريخ صنفت إما على بدايات أسماء الرواة ، وإما على بلدانهم ، وإما على سنوات وفَيَاتهم ، وإما على أحوالهم في الرواية ، أو على غير ذلك .
وشروط أصحابها في المترجمين فيها إما مكانية ، مثل تواريخ البلدان ، منها (تاريخ بغداد) و (تاريخ دمشق) و (تاريخ جرجان).
وإما زمانية ، ككتب الوفيات .
وإما كتبية ، كتهذيب الكمال ، فهو مختص برجال الكتب الستة .
وإما وصفية ، ككتب المختلطين وكتب المدلسين وكتب الحفاظ وكتب الثقات وكتب الضعفاء .
وإما اسمية ، مثل أن يؤلف كتاب في تراجم المحمدين من الرواة .
وإما غير ذلك ؛ فهناك طرق أخرى كثيرة لتصنيف التواريخ وكتب الرجال ، ذكرها السخاوي في (الإعلان بالتوبيخ).
تنبيه على أهمية إتقان طرق البحث عن تراجم الرواة في مظانها من الكتب :
من أراد أن يبحث عن ترجمة راو في المصادر، فلا بد أن يتعلم كيف يبحث، وأين يبحث؛ ولا بد أن يتعلم كيف تؤدي أبواب البحث بعضها إلى بعض؛ ومما ينفعه هنا كثيراً معرفة شروط المصنفين لكتب الرجال والتواريخ، ومناهجهم؛ يعرف شروطهم في مادة كتابهم، ويعرف شروطهم في ترتيب مفردات الكتاب؛ فمثلاً من راح يبحث في (تاريخ بغداد) للخطيب عن راو توفي قبل بناء بغداد، أو ولد بعد وفاة الخطيب، فليعلم أنه في واد وطلبة العلم في واد آخر؛ وأنه لا يحسن شيئاً من طرق البحث الصحيح، ولا يدري كيفيته.
نعم قد يذكر الخطيب - استطراداً - كلاماً في راو ليس على شرطه، ولكن جره إلى الكلام عليه بعضُ المناقشات أو الكلامُ على بعض الأحاديث أو الأخبار.
وكذلك من جعل يبحث ابتداءً عن رجل من رجال أبي داود في "سننه" في (لسان الميزان) ، أو يبحث ابتداءً عن رجل من الثقات المتقنين في كتاب من كتب الضعفاء .
وكذلك من ظن أنه لا يجد ترجمة أحد من التابعين في كتاب ابن حجر (الإصابة في تميز الصحابة) فهو قاصر في هذا الفن ولا علم له بشرط ابن حجر في كتابه هذا وطريقة تصنيفه له .(4/207)
كتب الدراية :
انظر (علم الحديث) .
كتب الرواية :
هي الكتب التي تذكر الأحاديث بأسانيدها مثل الكتب الستة والمستخرجات عليها والمسانيد والأجزاء الحديثية المسندة ومعاجم الشيوخ والمسلسلات ، وأنواعٍ كثيرة أخرى .
وقد يدخل في جملة كتبِ الرواية ولو تجوزاً كتبُ المتونِ التي حذفتْ أسانيدُها(1) .
ثم الظاهر أن مما يلتحق بكتب الرواية من كتب المحدثين كتب ضبط الألفاظ والأسماء وكتب التصحيف والتحريف ؛ فإن هذه الكتب ونحوها إنما غايتها الاعتناء بما روي وصيانته من التغيير والخطأ.
وما في هذه الكتب وتلك(2) من علمٍ ، هو الذي أسماه بعض المتأخرين (علم الحديث روايةً) ، وأطلقوا على ما سوى ذلك من علم الحديث (علم الحديث درايةً)(3) .
تنبيه : ما تقدم من جواز لإلحاق المذكور لا ينافيه أن بعض هذه الكتب تلتحق - أي من حيثية أخرى - بكتب الرجال أيضاً ؛ فالكتاب الواحد قد يصلح للدخول في أكثر من نوع من أنواع العلم.
وأفضل وأهم وأشهر كتب الرواية : الكتب الخمسة ، وهي صحيحا البخاري ومسلم ، والسنن الثلاثة : سنن أبي داود والترمذي والنسائي ؛ فهذه هي الكتب الخمسة ؛ وسادسها عند جماعة من المتأخرين سنن ابن ماجه ؛ ولكن جماعة من المحققين يرون أن بعض الأمات غير سنن ابن ماجه أحقُّ بأن يكون سادس الكتب الخمسة ، منه ؛ فمنهم من فضل عليه (سنن الدارمي) ؛ ومنهم من فضل عليه (موطأ مالك) .
__________
(1) وقد جمع المتأخرون كتباً حديثية كثيرة في جميع أبواب العلم ، مشتملة على المتون دون الأسانيد مع الإبقاء على صحابي الحديث وحده في الغالب .
(2) أي كتب المرويات وكتب ضبطها وتصحيحها .
(3) والفقهاء وغيرهم يطلقون اسم كتب الرواية على جميع كتب الحديث بما فيها كتب النقد الحديثي ؛ وكذلك يطلقون علم الرواية على علم الحديث كله .(4/208)
ولا شك أن (موطأ مالك) أصح وأجود من (سنن ابن ماجه) ؛ ولكن الذين أرادوا إضافة كتاب سادس إلى الخمسة إنما أرادوا زيادة أحاديث كثيرة مرفوعة ، من كتاب من كتب السنن ، لا من المسانيد ولا من غيرها من الكتب التي تجمع مع المرفوعات آثاراً موقوفة .
ومعلوم أن الزيادات المرفوعة المسندة في (الموطأ) على الكتب الخمسة قليلة ، وأنَّ فيه كثيراً من الآثار الموقوفة على الصحابة أو على التابعين .
وأخيراً هذا بيان مجمل لأقسام كتب الرواية بأكثر من اعتبار :
تنقسم كتبُ الروايةِ أقساماً كثيرةً ، باعتباراتٍ متعددة .
فيمكن تقسيمُها من حيثُ مراتبُ القوةِ والضَّعفِ ، في الجملة ، مثل أن تقسم إلى الصحاح ، والسنن ،وكتب الواهيات ، وكتب الموضوعات .
ويمكن تقسيمها من حيث طبقات مؤلفيها وصفات أسانيدها من حيث العلو والنزول ؛ كأن نقسمها إلى ما ألف في المئة الثانية للهجرة ، وما ألف في المئة الثالثة ، وما ألف في المئة الرابعة ، وهلم جراً .
ويمكن تقسيمها من حيث مواضيعها إلى مرويات في العقيدة والسنة ، ومرويات في التفسير ، ومرويات في الفقه ، أي الأحكام العملية ، ومرويات في الأذكار والأدعية ، ومرويات في التزكية والرقاق ، ومرويات في الأدب ؛ وغير ذلك .
وكذلك يمكن تقسيمها بحسب ترتيبها إلى قسمين :
كتب أبواب - أو موضوعات - علمية ؛ والمنظور إليه في هذا القسم هو المتن ، من حيث معناه .
ومسانيد ؛ والمنظور إليه في هذا القسم هو السند من حيث منتهاه ، أعني الصحابي .
ومعلومٌ أن التقسيمَ أمرٌ اصطلاحيٌّ مرادُه تقريبُ العلمِ إلى المتعلم بتجزئته ، وتسهيلُه على المتحفظ بضبط أنواعه ؛ فيمكن للناظر في كتب الرواية أن يَخطرَ ببالِه أنواعٌ أخرى من التقسيم كثيرةٌ جداً ، سواء كانت صالحة للتطبيق أوْ لا .(4/209)
كتب الزهد :
الزهد لفظة دالة على التجرد من الدنيا بقدر الإمكان ، والتخفف منها ، إيثاراً للآخرة وتطلباً لمزيد من التفرغ لطاعة الله والتقرب إليه ؛ ومن أراد أقوال العلماء في (الزهد) وبيانهم لمعناه وحقيقته فالمرجع في ذلك كتاب ابن القيم رحمه الله تعالى (مدارج السالكين) باب (منزلة الزهد) .
وكتب الزهد كثيرة ، ولكنها شبه مهجورة في هذه الأزمنة ، والله المستعان .
وقد ذكر الحافظ ابن حجر في (المعجم المفهرس ، أو تجريد أسانيد الكتب المشهورة والأجزاء المنثورة) (ص88-101) طائفة من كتب الزهد والورع .
وانظر (كتب التزكية) ، و (الرقاق) .
الكتب السبعة :
الْمُرَادُ بِالسَّبْعَةِ في اصطلاح بعض العلماء : أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ ؛ انظر (الخمسة) .
الكتب الستة :
انظر (الخمسة) .
كتب السنن :
انظر (السنن) .
كتب السنة :
قال الكتاني في (الرسالة المستطرفة في بيان مشهور كتب السنة المشرفة) (ص37-38) : (ومنها كتب تعرف بكتب السنة ؛ وهي الكتب الحاضة على اتباعها والعمل بها وترك ما حدث بعد الصدر الأول من البدع والأهواء ، منها كتاب السنة للإمام أحمد ، ولأبي داود ، ولأبي بكر الأثرم ، ولعبد الله بن أحمد ، ولأبي القاسم اللالكائي ----) .
كتب السيرة :
المراد بها كتب سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ، أي تاريخ حياته المباركة .
كتب السير :
هي كتب التراجم الموسعة ، التي تفصِّل في تراجم الأعلام ، فتُعنى بالتعريف بهم وبتبيين أبرز أحوالهم وأفعالهم وأهم أخبارهم وآثارهم .
كتب الصحابة :
هي كتب التراجم المختصة بالصحابة رضي الله عنهم ؛ وقد يُدرِج فيها بعضُ من ليس بصحابي ولكن ادُّعي فيه ذلك ؛ وانظر (صحابي) .
كتب الضبط والتصحيح :
والكتب التي تُعنى بالضبط كثيرة ومتنوعة ، وهي قسمان :(4/210)
القسم الأول : كتب مختصة بالضبط والتصحيح ، مثل (صيانة صحيح مسلم عن السقط والإسقاط وحمايته من الوهم والأغلاط) للإمام أبي عمرو بن الصلاح ؛ ومثل ( مشارق الأنوار على صحاح الآثار ) للقاضي عياض ؛ وهو في تقييد وضبط ما وقع - أو يحتمل أن يقع - فيه لبس أو إشكال أو اختلاف ، أو نحو ذلك من الأسماء والألفاظ الواردة في ( الموطأ ) و ( الصحيحين ) ، وهو مبوب على الحروف ، على ترتيب أهل المغرب ؛ وهو كتاب حافل نافع ماتع .
ومثل (المغني في ضبط أسماء الرجال ومعرفة كنى الرواة وألقابهم وأنسابهم) لمحمد بن طاهر بن علي الْفَتَّنِيُّ - بِفَتْحِ الْفَاءِ وَتَشْدِيدِ التَّاءِ الْمُثَنَّاةِ - الْكَجَرَاتِيُّ اْلْهِنْدِيُّ (ت 986)(1).
والقسم الثاني : كتب غير مختصة بموضوع الضبط والتصحيح، وإنما تجد فيها جملة طيبة من ذلك ، مع ما فيها من مقاصدها الكبرى ووظائفها الرئيسة .
مثال ذلك أنك تجد كثيراً من الضبط في كتب التراجم والجرح والتعديل كـ ( تهذيب التهذيب ) وفروعه .
__________
(1) له ترجمة في (الأعلام) للزركلي (المجلد السادس) ، و(هدية العارفين) و (الرِّسَالَةِ الْمُسْتَطْرَفَةِ) (ص151 ، 158 ، 206) وغيرها؛ وله كتابان آخران (مَجْمَعُ الْبِحَارِ فِي لُغَةِ الْحَدِيثِ وَالآثَارِ) و (تَذْكَرَةُ الْمَوْضُوعَاتِ).
وكان يلقب بملك المحدثين ؛ زار الحرمين والتقى بكثير من العلماء وعاد ، فانقطع للعلم . ودعا إلى مناوأة البواهير وكانوا قومه ، أنكر عليهم بدعتهم ، فانفردوا به فقتلوه.
والبواهير أو البوهرة أو البهرة : طائفة في كجرات، بالهند ، تتسمى بالاسلام ، أسلم أسلافها على يد ( أعلا على ) في القرن السابع للهجرة ، ودخلتها بدع القرامطة ، و ( بيوهار ) باللغة الهندية : التجارة ، و ( بوهرة ) التاجر ، وهم ذوو تجارة وصناعات ، كما في (أبجد العلوم) (ص896) وهامشه .(4/211)
وكذلك في كتب اللغة مثل ( لسان العرب ) و (تاج العروس ) وغيرهما ؛ وفي كتب الشروح ، بل هذا الجانب فيها واضح جداً ؛ وفي كتب التاريخ كـ ( وفيات الأعيان ) لابن خلكان ؛ وفي كتب ( الأنساب ) و ( الكنى ) و ( الألقاب ) .
كتب الضعفاء :
هي كتب الرجال المختصة بذكر المجروحين ، مثل (المجروحين) لابن حبان ، وكتب (الضعفاء) للبخاري والنسائي والعقيلي والدارقطني والأزدي ، و(الكامل) لابن عدي ، و(الميزان) للذهبي ، و(لسان الميزان) لابن حجر ، و(الكشف الحثيث عمن رمي بوضع الحديث) للبرهان الحلبي ، وغيرها كثير جداً ، وقد ذكر السخاوي في (التوبيخ) كثيراً من كتب الضعفاء .
كتب الطبقات :
انظر (الطبقة) .
كتب العلل :
هي الكتب التي يكون مُعظم ما تُعنى به هو ذكر الأحاديث المعلة ، وذكر ما قد تخفى حقيقته من أوهام النقاد وكبار الرواة من أهل الحفظ والإتقان ؛ وبيان بعض الأمور المشكلة والترجيحات التي يصعب على غير علماء العلل الخوض فيها ؛ وانظر (العلة) .
كتب الغرائب :
هي كتب الرواية التي تجمع الأحاديث الغريبة ؛ قال الشيخ حاتم العوني في بحثه (بَيَانُ الحَدّ الذي يَنْتهِي عِنْدَهُ أَهْلُ الاصطلاحِ والنَّقْد في علوم الحديث)(1) : (وفي القرن الرابع : لا شك أن دواعي نقص حفظ الصدور قد ازدادت، بتدوين السنة كُلّها، مما يجعل الاعتماد على المكتوب أيسر وأقرب ، كما أن زيادة طول الأسانيد وتشعُّبِها واختلافِ رواتها قد أدّى إلى تعسُّرِ الحفظ أيضاً. فاجتمع لنقص حفظ الصدور سببان : الاطمئنانُ على السنة بعدم ضياع شيءٍ منها، وصعوبةُ حفظها مع امتداد زمن الرواية؛ ولذلك فقد كان عدمُ الحفظ في الصدور هو الخَلَلَ الذي نصّ عليه ابن حبان، مما أرّخ لظهوره في طلبة العلم في زمنه.
__________
(1) هو بحث من بحوث الندوة العلمية الدولية الأولى المنعقدة في رحاب كلية الدراسات الإسلامية والعربية بدبي ، في (6 - 8 صفر 1424هـ ) ، بعنوان (علوم الحديث : واقع وآفاق ) .(4/212)
ومع وجود هذا الخلل (نقصُ حفظ الصدور) إلاّ أنه لم يشمل أئمةَ النقد في هذا العصر، مع أنهم هُمْ أنفسهم واقعون تحت ضغط سَبَبَيْ نقص الحفظ الآنفَيْنِ ؛ ذلك أن أئمة النقد هؤلاء قد عرفوا أن السنّة لم تزل في حاجةٍ إلى خدمة ضروريّة، تتمِّمُ خدمةَ علماء القرون السابقة، وهذه الخدمة لا يقوم بها إلا من اكتملت فيه آلات الاجتهاد في علوم الحديث، والتي من أهمِّها إحاطةُ حفظ الصدور بالمرويّات ؛ ولذلك فقد استطاعوا أن يُقَاوموا سببَ نقصِ الحفظ، وأن يستمرّوا على نهج أسلافهم من أهل القرن الثالث فيه، بل أن يحاولوا مقاومةَ تلك الظاهرة في أهل جيلهم، كما سبق عن ابن حبان.
والاستدلالُ لصحّة هذا التقرير يحتاج إلى بيان ما هي تلك الضروريّات من وجوه الخدمة التي تستلزم الحفظَ الكاملَ في الصدور، وكانت هي سبب اكتمالِ آلاتِ الاجتهاد في أئمة النقد خلال القرن الرابع.
- ففي مجال تدوين السنة، الذي قرّرنا أنه قد اكتمل في القرن الثالث، لم يزل هناك مجالٌ لخدمته خدمةً مهمّة، وهي خدمةٌ لا يستطيع أن يقوم بها إلا الحفّاظ الكبار أصحاب الاطلاع الكامل على السنة وأسانيدها.
ذلك أن اكتمال تدوين السنة في مصنّفات متفرّقة ومدوّنات متعدّدةٍ كثيرة غير كافٍ وحده لتيسير الاطّلاع على تلك البحار المتلاطمة من الأسانيد والروايات، خاصةً تلك الأسانيد الغرائب والأحاديث الأفراد، التي هي ليست من الشهرة بحيث تتكرّر في كثير من المصنّفات، ليضمن الباحثُ بسبب شهرتها أنه سيطّلع عليها حتى لو فاته الوقوفُ على بعض مصنفات السنة، إذ إن بعضَ المصنفات سيكفي في تلك المشاهير عن بعضها الآخر. أمّا تلك الغرائب والأفراد، فيُخشى عليها (لقلّة انتشارها في المصنّفات) أن لا يَطّلعَ عليها المحتاجُ إليها، وأن يفوته الوقوفُ عليها في بعض ما لم ينظر فيه من مصنفات السنة الكثيرة.(4/213)
ولهذا.. فإن اعتبارَ أبي داود أن الفخر في أحاديث كتابه أنها مشاهير، لأنّها كانت أولى ما يجب أن يُدوّنَ ويُجْمع في زمنه، لم يَعُدْ هو الفخر بعد أن دُوّنت تلك المشاهير. بل الفخر هو أن تُدَوّن الغرائب، لتتمَّ خدمة السنة، بضمّ الغرائب إلى المشاهير!
وهذا هو ما يُفسِّرُ ذلك الاهتمام البالغ لدى عموم حفّاظ القرن الرابع بهذا الصنّف من الروايات : الروايات الغرائب، التي هي مع العوالي(1) مادّةُ كتب الفوائد والأمالي التي انتشرت انتشاراً واسعاً في هذا القرن.
بل لقد قامت مؤلّفاتٌ ضخام لجمع تلك الغرائب، مثل : المعجم الأوسط للطبراني (ت 360هـ)، والغرائب والأفراد للدارقطني (ت 385هـ)، وهما أكبر كتب الغرائب وأجلّها مطلقاً.
بل حتى من عَمَدَ إلى التأليف على منهج كتب السنن، أي في جمع أحاديث الأحكام، لم يَعْمَد إلى جمع المشاهير كما فعل أبو داود، وإنّما عمد إلى جمع غرائب أحاديث الأحكام، كما فعل الإمام الدارقطني، في كتابه الجليل (السنن)(2). وكأنه بذلك يُتمّمُ عمل أبي داود، ويؤلف كتاباً في الزوائد عليه(3).
__________
(1) تحدثتُ عن سبب العناية بالعوالي في هذه المرحلة، في دراستي لكتاب أحاديث الشيوخ الثقات لأبي بكر الأنصاري، في مقدّمة تحقيقه (1/227 - 229).
(2) انظر : مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية (27/166)، والسنة النبويّة وبيانُ مدلولها الشرعي والتعريف بحال سنن الدارقطني : لعبدالفتاح أبي غُدّة (25 - 40).
(3) ولذلك فقد عرف البيهقي عندما أراد أن يُصنّفَ في السنن : ماذا عليه أن يعمل؟ فقد أفرغ هذين الكتابين (سنن أبي داود وسنن الدارقطني) في كتابه، نقلاً مباشراً غالباً، وغير مباشر. وانظر الصناعة الحديثيّة في السنن الكبرى للدكتور نجم عبدالرحمن خلف (149، 150، 166 - 167).(4/214)
إن حاجة السنة إلى إبراز الأسانيد الغرائب؛ لما لها من علاقة كبيرة في التعليل والجرح والتعديل، ولأنّ منها ما هو صحيح مقبول أيضاً (وإن كان أكثرها ليس كذلك) هذا هو الذي جعل علماء هذه المرحلة يسعون إلى القيام بهذه المهمة الشاقّة) ؛ إلى آخر كلامه وقد قال في بعض هوامشه ما نصه :
(وقد أشار ابن طاهر في هذا الموطن [يعني "أطراف الغرائب والأفراد" له (1/44)] إلى ما ذكرناه آنفاً في الأصل ، من أن التأليف في الغرائب جاء متمّماً لجهود السابقين ، حيث قال عن كتابه وكتاب أبي مسعود الدمشقي في أطراف الصحيحين : "فمن جمع هذين الكتابين أمكنه الكلامُ عن أكثر الصحيح والغريب والأفراد" ) .
انظر (الأفراد) و (التفرد) و(غريب).
كتب الفتوح :
أي كتب فتوح البلدان ، كـ(فتوح البلدان) للبلاذري ، و (فتوح الشام) للواقدي ، و (فتوح الشام) لأبي مخنف لوط بن يحيى ، و (فتوح الشام) لمحمد بن خالد الدمشقي ، ذكره ابن حجر في (الإصابة) في ترجمة مكلبة بن حنظلة ، و (فتوح الشام) لعبدالله بن محمد بن ربيعة القدامي ، ذكره ابن حجر في (الإصابة) في ترجمة عمرو بن الطفيل بن عمرو الدوسي ، و (فتوح مصر) لابن عبدالحكم ، و (فتوح خالد بن الوليد) ، قال النديم في (الفهرست) (ص139) : (الزهري واسمه عبد الله بن سعد الزهري ، من أصحاب السير ، وله من الكتب : كتاب فتوح خالد بن الوليد) ، و (فتوح ارمينية) و (فتوح الأهواز) ، كلاهما لأبي عبيدة معمر بن المثنى(1) .
كتب الفقه :
انظر (الفقه) .
كتب الفوائد :
انظر (فائدة) .
كتب المتون :
هي كتب الحديث التي جمعها المتأخرون على غرار كتب الرواية المسندة التي جمعها المتقدمون ، إلا أنهم جردوا أحاديثها عن الأسانيد .
__________
(1) وانظر ما كتبه النديم في (الفهرس) في ترجمة المدائني (ص150) .(4/215)
وقد أصبحت هذه المدرسة شائعة وغالبة على مدرسة الإسناد في القرن السادس الهجري ، ولا زالت هذه تقوى وتلك تضعف إلى هذا اليوم الذي تكاد فيه مدرسة الإسناد النقلية يُحكم عليها بالعدم أو الخفاء.
ومن أشهر هذا النوع من الكتب (التجريد للصحاح الستة) ، لرزين بن معاوية السّرقسطي (ت 535هـ)(1) .
و (الترغيب والترهيب) للمنذري .
و (رياض الصالحين) و (الأذكار) و (الأربعون) ، ثلاثتها للنووي .
و (منتقى الأخبار) لابن تيمية الجد .
و (جامع الأصول من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم) لأبي السعادات ابن الأثير الجزري (ت 606هـ) اعتمد ابن الأثير في كتابه هذا بعض الاعتماد على كتاب رزين المتقدم ذكره (التجريد)(2) .
__________
(1) يُعدّ هذا الكتاب من أوائل المحاولات لجمع الكتب الخمسة وموطأ مالك ، وقد أدخل رزين بعض الزيادات من مروياته التي قال عنها الذهبي : (أدخل في كتابه زيادات واهية لو تنزه عنها لأجاد) .
وقال الإشبيلي في وصف هذا الكتاب : (كتاب تجريد صحاح أصول الدين مما اشتمل عليه الصحاح الستة الدواوين بحذف الأسانيد ، وتقييد المسائل ، مع استقصاء مضمون الحديث) ؛ وهو مرتب على حسب الأبواب الفقهية على غرار صحيح البخاري .
(2) قسم ابن الأثير (جامع الأصول) إلى كتب فقهية مرتبة بحسب حروفها الأولى ، على حروف المعجم ، فبدأ بالكتب التي تبدأ أسماؤها بحرف الألف ، وهي عشرة كتب ، وانتهى إلى الكتب التي تبدأ أسماؤها بحرف الياء ؛ ووضع عقبها كتاب اللواحق ، وضع فيه الأحاديث التي لم تدخل تحت باب معين .
ومهّد لكتابه بمقدمة واسعة فيها بعض الفوائد والتنبيهات في علم المصطلح وغير ذلك مما يتعلق بالكتاب ومنهجه .
بلغ عدد أحاديث جامع الأصول حسب ترقيم المحقق (9523) حديثاً . وهو كما وصفه مؤلفه : (بحرٌ زاخرة أمواجه ، وبرّ وعرة فجاجه ، ولا يكاد الخاطر يجمع أشتاته ، ولا يقوم الذكر بحفظ أفراده ، فإنها كثيرة العدد ، متشابهة الطرق ، مختلفة الروايات) .
وقد طبع الكتاب لأول مرة بتحقيق الشيخ محمد حامد الفقي ، ثم حققه وخرّج أحاديثه عبد القادر الأرنؤوط ، وذُكر أنه سلخ في تحقيقه وخدمته ثلاثين سنة من عمره .
ثم أعاد طبعه مؤخراً بعضُ من ذكر أنه استدرك في طبعته أشياء كانت محذوفة في الطبعتين السابقتين !! .(4/216)
و (جامع المسانيد والسنن الهادي لأقوم سَنَن) ، للحافظ ابن كثير الدمشقي (ت 774هـ)(1) ؛ ومما ينبغي التنبيه عليه هنا أن هذا الكتاب فيه قدر غير قليل من الأسانيد ، وبعضها يعز الوقوف عليه في غير هذا الكتاب .
و (مجمع الزوائد ومنبع الفوائد) للهيثمي (ت 807هـ)(2) .
__________
(1) وهو كتاب مرتب على مسانيد الصحابة ، جمع فيه ابن كثير أحاديث كل صحابي على حدة ؛ ورتبه على حروف المعجم في أسماء صحابته ؛ فيذكر كل صحابي له رواية ، ثم يورد في ترجمته جميع ما وقع له في الأصول الستة ، ومسانيد أحمد والبزار وأبي يعلى والمعجم الكبير للطبراني ، وما تيسر من غيرها .
وهذا الكتاب الجليل جمع فيه مؤلفه مادة علمية كبيرة ، إذ احتوى على أكثر من مئة ألف حديث ، فيها الصحيح والحسن والضعيف ، وأحياناً الموضوع .
ولكن توفي الحافظ ابن كثير رحمه الله قبل إكماله ؛ وطبع أخيراً ما وجد منه - وهو معظم مخطوطته - بتحقيق د . عبد المعطي قلعجي ، في تسعة وثلاثين مجلداً .
(2) ألف الحافظ الهيثمي كتباً في زوائد : مسند أحمد ، ومسند أبي يعلى ، ومسند البزار ، ومعاجم الطبراني الثلاثة ، كل واحد منها في تصنيف مستقل ، ما عدا المعجمين الأوسط والصغير فجعل زوائدهما في مصنف واحد أسماه (مجمع البحرين في زوائد المعجمين) .
ثم عرض الهيثمي كتبه تلك على شيخه الحافظ العراقي ، فأشار عليه أن يجمع هذه الكتب في مصنف واحد مجرّدة الأسانيد ، فعمل الهيثمي بهذه المشورة وجمعها في مؤلف واحد سماه : (مجمع الزوائد ومنبع الفوائد) ، وقد رتبه الهيثمي على الأبواب الفقهية ، فبدأ بكتاب الإيمان ، ثم العلم ، ثم الطهارة ، ثم الصلاة ---- وهكذا حتى ختمه بكتاب صفة الجنة ؛ وهو مطبوع في عشرة مجلدات .
بذل الهيثمي في جمع هذا الكتاب وترتيبه جهداً كبيراً متميزاً ، وكان يهتم ببيان درجة الحديث من حيث القوة والضعف ، ويتكلم في رجال الحديث جرحاً وتعديلاً بعبارات موجزة ، ولكن مالت كثير من أحكامه النقدية إلى التساهل .(4/217)
و (عمدة الأحكام) لابن دقيق العيد .
و (بلوغ المرام) ، و (المطالب العالية) أعني النسخة غير المسندة ، كلاهما لابن حجر العسقلاني .
و (الجامع الصغير) و (زيادة الجامع الصغير)(1) ، و (الجامع الكبير)(2) و (الدر المنثور في التفسير بالمأثور) ، كلها للسيوطي (ت 911هـ) .
و (كنز العمال) للمتقي الهندي(3) .
__________
(1) الجامع الصغير وزيادته ، للحافظ السيوطي (ت 911هـ) جمع فيه السيوطي الأحاديث النبوية القولية مرتبة على حروف المعجم ، مشترطاً فيه أن يصونه عما تفرد به وضاع أو كذاب ؛ وبلغ عدد الأحاديث التي جمعها : (10031) ، ثم استدرك عليه هو نفسه (4440) حديثاً .
وقد جمع بين الكتاب وزيادته يوسف النبهاني في مؤلف واحد سمّاه : (الفتح الكبير في ضم الزيادة إلى الجامع الصغير) رتبه على حروف المعجم ، تبعاً لأصله .
وعمل السيوطي هذا هو أحد الأعمال الجمعية العظيمة ؛ ومن فوائده تسهيل البحث عن الحديث ، ولا سيما في العصور التي سبقت هذا العصر الحافل بأسباب تيسير البحث ، من فهارس ومكتبات إلكترونية ونحوها ؛ ورمز السيوطي إلى مرتبة كل حديث من أحاديث كتابه ، أي من حيث قوته وضعفه ؛ ولكن اتسمت كثيرٌ من آرائه النقدية هناك بالعجلة والتساهل ، ثم تغير كثير من تلك الرموز من قبل النساخ تحريفاً وتبديلاً ؛ ولهذا قام الشيخ الألباني رحمه الله بتتبع أحاديثه وبيان درجتها ، وقسمه إلى كتابين : (صحيح الجامع الصغير وزيادته) ، و(ضعيف الجامع الصغير وزيادته) ، وهما مطبوعان منتشران .
(2) أو (جمع الجوامع) ؛ وقد جمع فيه السيوطي ثمانين كتاباً من كتب الحديث ، وقسمه قسمين :
الأول : يتضمن الأحاديث القولية ، وقد رتبها على حروف المعجم كالجامع الصغير .
الثاني : ويتضمن الأحاديث الفعلية وما شابهها ، وقد رتبها على مسانيد الصحابة رضي الله عنهم .
(3) كنز العمّال في سنن الأقوال والأفعال ، لعلاء الدين علي بن الحسام المتقي الهندي (975هـ) .
جمع فيه المتقي الهندي : (الجامع الصغير) و(زيادته) ، مضافاً إليه ما بقي من قسم الأقوال ، وقسم الأفعال من (جمع الجوامع) ، ورتبه جميعه على الأبواب الفقهية على غرار (جامع الأصول) لابن الأثير ، والكتاب محشو بالأحاديث الضعيفة والموضوعة تبعاً لأصوله ؛ ولكبر حجم الكتاب فإن ترتيب الأحاديث القولية والفعلية على الأبواب لا يخلو من تداخل وخلط ونقص .
وقد عمل بعض الباحثين فهرساً لأطراف أحاديث هذا الكتاب ، لتيسير البحث فيه .(4/218)
و (اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان) لمحمد فؤاد عبد الباقي .
وأخيراً فلا بد من التنبيه أو التذكير بأن هذه الكتب ليست كتب رواية بالمعنى المعروف عند القدماء ، إذ لا أسانيد فيها ، ولكنها كتب رواية بالنظر إلى أصلها ، فكأنها كتب رواية اختُصرت أسانيدها ؛ ثم إن أحاديثها تكون في الغالب معزوة إلى أصولها ، وهذا ضرب من الرواية أيضاً ؛ وكذلك هي تعد في جملة كتب الرواية من جانب آخر ، وهو كونها ألصق بجانب النقل والتبليغ والحفظ ، منها بجانب النقد والدراية .
كتب المجروحين :
هي كتب التراجم المختصة بالضعفاء من الرواة والمتروكين منهم والمتهمين والوضاعين ، وهي كثيرة ذكرها السخاوي .
كتب المراسيل :
هي كتب في تاريخ الرواة ، بل في باب واحد من تاريخهم ، وهو بيان الانقطاع في أسانيدهم بينهم وبين من فوقهم في بعض أحاديثهم .
لأصحاب كتب المراسيل شروط، فإنه لا يعقل أن يذكروا فيها كل راو لم يسمع من راو آخر أو لم يعاصره، لأن معنى ذلك استيعاب كل الرواة، لأنه ما من راو إلا وقد تقدمه رواة لم يدركهم؛ ولكن أصل شرطهم في تلك الكتب أن يذكروا كل راو يحتمل أن يرى أو يظن بعض العلماء أو بعض طلبة الحديث أنه سمع من شيخ بعينه مع أنه في الحقيقة لم يسمع منه شيئاً؛ فيذكرونه في كتبهم وينصون على عدم سماعه منه أو على عدم لقائه به أو على عدم إدراكه له.
وعلى هذا فإنه يذكر في كتب المراسيل ثلاثة أصناف من الرواة :
الصنف الأول : من له رواية عن غيره ممن لم يسمع منه، وتكون تلك الرواية خالية من ذكر الواسطة بينهما، وليس فيها تصريحه بعدم سماعه منه، ولا فيها إشارته إلى عدم السماع بنحو صيغة الأداء الصريحة في الانقطاع مثل (نبئت عنه) أو (بلغني عنه) أو غيرهما.(4/219)
الصنف الثاني : من له إدراك ظاهر لبعض الشيوخ، أو معاصرة، ولا سيما إذا ثبتت رؤيته له، أو كان ذلك الشيخ بلدياً لذلك الراوي، ولكنه في كل تلك الأحوال لم يسمع منه شيئاً، فهذا لا بأس بذكره في كتب (المراسيل)، وإن لم نقف على رواية له عنه.
الصنف الثالث : وهذا الصنف قد يلحق بالصنفين المذكورين، فيذكر معهم، وهو من روى عمن يقاربه في عصره وإن لم يعاصره، ولا سيما إذا جهلت حقيقة الحال من قبل بعض العلماء، وكان احتمال توهم سماع أدناهما من أعلاهما وارداً؛ وأما من تباعد الزمن بين وفاة أولهما وولادة ثانيهما ولم يكن لهذا الثاني رواية عن ذاك الأول، فحينئذ لا معنى لذكر الثاني في كتب رواة المراسيل؛ لأنه بيان لما هو ظاهر واضح غير محتاج إلى تنصيص عليه.
كتب المشتبه :
أي كتب الأسماء المتشابهة في رسمها ، فتكون بسبب ذلك عرضةً للتصحيف ، فجمع العلماء تلك الأسماء وضبطوها وفرقوا بينها ؛ انظر (المؤتلف والمختلف) و (المشتبه) .
كتب المصطلح :
هي كتب علوم الحديث ، أي كتب أصول هذا العلم .
وأصل موضوعها هو ذكر قواعد المحدثين وشرحها وتقريرها وذكر اصطلاحاتهم وإيضاحها وتحريرها ، ولكن يقع في أكثرها - نظير ما يقع في غيرها من كتب الأصول والقواعد في العلوم الأخرى - من التقصير بإغفال طرف من هذه المقاصد أو التطويل بما هو خارج عنها ما يقع ؛ فأنت إذا نظرت في أي كتاب من كتب مصطلح الحديث - وجدت فيه غالباً مع القواعد والمصطلحات أسماء طائفة من الكتب وجماعة من العلماء وقدراً من الأحكام والأمثلة والقواعد والتنبيهات والإيضاحات والاستدراكات والاستطرادات ونحو ذلك ؛ ولكن تلك المعاني إنما هي في الحقيقة راجعة إلى القواعد والمصطلحات أو مطلوبة لتحريرها أو تقريرها أو تفسيرها أو تكميلها .(4/220)
والحاصل أن الموضوع الرئيس لعلم الحديث هو تمييز مقبول الأحاديث من مردودها ، ولكنك ترى في كتب المصطلح مسائل أخرى غير داخلة في صلب هذا المقصد والأمر في ذلك يسير ، قال الشيخ العلامة طاهر الجزائري رحمه الله في (توجيه النظر) (1/80) : (وأما ما يقال من أن في هذا الفن مسائل لا تتعلق بالقبول والرد كآداب الشيخ والطالب ونحو ذلك فالخطب فيه سهل ، فإن أكثر الفنون قد يُتعرض فيها لمباحث غير مقصودة بالذات غير أن لها تعلقاً بالمقصود ، فتكون كالتتمة ، وهو أمر لا ينكر)(1) .
وهذا بيان لكيفية نشأة كتب علوم الحديث :
إن تقرير قواعد علم الحديث واستعمال مصطلحات خاصة بأهله أمرٌ بدأ منذ بدء المسلمين برواية حديث نبيهم صلى الله عليه وسلم، أي في عصر الصحابة رضي الله عنهم بل في عصر الرسول نفسه صلى الله عليه وسلم، ولكن لاشك أنها كانت في أول أمرها قريبة المأخذ قليلة العدد واضحة المقصد وذلك ما لم يقتض شأنهم وشأن العصر والعلم حينئذ أكثر منه.
ثم توسع الناس في الرواية وكثر اختلافهم فيها وازداد أكثر الناس بعداً عنها وجهلاً بها فاحتاج العلماء إلى بيان قواعد هذا العلم ونشرها بين الناس وتقريرها لهم وتقريبها منهم، واحتاجوا أيضاً إلى تكثير مصطلحاته طلباً للدقة في التعبير ورغبة في الاختصار في القول، وهكذا نشأ هذا العلم العظيم الذي انفردت به هذه الأمة دون سائر أمم الدنيا، وذلك فضل الله والله يؤتي فضله من يشاء.
__________
(1) ولي كتاب فيه إحصاء لأكثر كتب المصطلح ، وبيان لا بأس به لمضمون كثير منها وإشارة إلى منزلته بين كتب الفن ؛ ولكنه ما يزال مسوداً وناقصاً ، فلعل الله تعالى أن ييسر لي تبييضه ونشره .(4/221)
تكلم علماء الحديث أولاً في بيان بعض هذه القواعد والاصطلاحات من غير أن يدونوها، ثم دون بعضهم جملاً منها في مصنفاتهم في الرواية أو في العلل ومعرفة الرجال أو في أصول الفقه، ثم احتاج الناس إلى إفرادها بالتأليف ففعل العلماء ذلك ولا زالوا يفعلونه إلى هذا الوقت.
ولما بدأ إفراد هذا الفن أو بعض أبوابه بالتأليف، جاءت الكتب المفردة في ذلك متفاوتة في مقدار المسائل والأبواب التي تتناولها.
وكان المتأخرون أكثر تصنيفاً فيه من المتقدمين، ولكن المتقدمين هم - كما لا يخفى - الأعلم الأكمل، فكانت مؤلفاتهم - وإن كان الغالب عليها عدم الاستيعاب - يغلب عليها النقل عمن تقدم من الأئمة، وغزارةُ العلم وكثرة الفوائد، بل إنها أصل هذا الفن وأساسه ومادته وعمدته، وأما مؤلفات المتأخرين في المصطلح فيغلب عليها التقليد والجمود وقلة الاستقراء وكثرة المناقشات اللفظية وتعقيدها والتأثر بطرائق المتكلمين؛ بل لقد شارك في التأليف فيه كثير من المتأخرين الذين قل جداً نصيبهم من هذا العلم، وكثير ممن غلب عليهم الاهتمام بالآراء أو التقليد الجامد للمذاهب غلبة واضحة! حتى لقد كان من بعض هؤلاء بعض من يعادي أصحاب الحديث!!!
ولقد عقد الدكتور حاتم بن عارف العوني في كتابه (المنهج المقترح لفهم المصطلح) (ص67-170) باباً [هو الثاني من أبواب كتابه] في تأريخ تأثر علوم السنة بالعلوم العقلية وبيان ذلك، وجعل الفصل الأول من الباب في أثر المذاهب العقدية الكلامية على علوم السنة، والفصل الثاني منه في أثر علم أصول الفقه على علوم السنة، وقال (ص90) : (كان لأصول الفقه أثرها على علوم الحديث ومصطلحه من خلال نافذتين للتأثير :
الأولى - وهي مباشرة : من خلال دراسة كتب أصول الفقه للسنة وعلومها، بمنهجها الكلامي. وقد بينا سابقاً القدر الذي يجب عليه الاستفادة من هذه الدراسة لعلوم السنة، وأشرنا إلى التفريط الواقع في هذا الصدد.(4/222)
الثانية - وهي غير مباشرة : من خلال المنهج الذي بثته في الأوساط العلمية، وأثر المنطق اليوناني الذي شبّعت به أساليب التفكير والتأليف لدى العلماء).
كتب المغازي :
أي كتب تاريخ وتفاصيل غزوات النبي صلى الله عليه وسلم ، وما قد يلتحق بها من غزوات أصحابه رضي الله عنهم وبعض من بعدهم .
كتب الملاحم :
أي كتب التاريخ المختصة بكبار الحروب والأحداث العامة المهلكة ؛ والملاحم جمع ملحمة ؛ قالوا في (المعجم الوسيط) (2/826) : (الملحمة : الحرب الشديدة ؛ وموضعها ؛ وعمل قصصي له قواعد وأصول يشاد فيه بذكر الأبطال والملوك وآلهة الوثنيين [لعنهم الله] ، ويقوم على الخوارق والأساطير ، وقد يكون شعراً كالإلياذة عند الإغريق ، والشاهنامة عند الفرس ، وقد يكون نثراً كسيرة عنترة ) .
كتب المؤتلف والمختلف :
انظر (المؤتلف والمختلف) .
كتب الوَفَيات :
انظر (الوفيات) و (كتب الرجال) .
كَتَبَ إليَّ :
قال ابن الصلاح في (علوم الحديث) (ص154) بعد أن ذكر أن المكاتبة نوعان نوع مجرد عن الإجازة ونوع مقترن بها ، وأن العلماء اختلفوا في جواز الرواية بالنوع الأول :
(والمذهب الأول [يعني مذهب المجيزين للرواية] هو الصحيح المشهور بين أهل الحديث؛ وكثيراً ما يوجد في مسانيدهم ومصنفاتهم قولهم "كتب إلي فلان قال : حدثنا فلان" ، والمراد به هذا.
وذلك معول به عندهم، معدود في المسند الموصول ، وفيها إشعار قوي بمعنى الإجازة ، فهي وإن لم تقترن بالإجازة لفظاً فقد تضمنت الإجازة معنى.
ثم يكفي في ذلك أن يعرف المكتوب إليه خط الكاتب، وإن لم تقم البينه عليه.
ومن الناس قال : الخط يشبه الخط فلا يجوز الاعتماد على ذلك ؛ وهذا غير مرضي، لأن ذلك نادر، والظاهر أن خط الإنسان لا يشتبه بغيره، ولا يقع فيه إلْباس).
وانظر (صيغ الأداء) .(4/223)
كتب عمن دب ودرج :
أي كتب عن كل أحد تمكن من لقائه ، من الكبار والصغار والثقات والمجروحين ؛ قال أبو هلال العسكري في (جمهرة الأمثال) (2/173) (1475) في شرح قولهم (أكذبُ مَن دبَّ ودرج) : (أي أكذب الكبار والصغار ؛ دبّ لضَعف الكِبَر ، ودَرَجَ لضعف الصِّغر .
وقيل : بل معناه : أكذبُ الأحياءِ والأموات ، والدبيب للحي والدروج للميت ، يُقال : درج القوم ، إذا انقرضوا)؛ انتهى .
ومن أمثلة المواضع التي وردت فيها كلمة (كتب عمن دب ودرج) في كتب المحدثين قول الخطيب في (تاريخ بغداد) (10/148) (5299) في ترجمة عبد الله بن موسى بن الحسن وقيل الحسين بن إبراهيم : (حدثني الحسين بن محمد أخو الخلال عن أبي سعد الإدريسي قال : عبد الله بن موسى بن الحسن بن إبراهيم السلامي أبو الحسن البغدادي كان أديباً شاعراً جيد الشعر كثير الحفظ للحكايات والنوادر والأشعار ، صنف كتباً كثيرة في التواريخ ونوادر الحكام ---- ؛ كان صحيح السماعات إلا أنه كتب عمن دب ودرج من المجهولين وأصحاب الزوايا ).
ونحو هذه العبارة قول ابن المبارك في بقية بن الوليد : (صدوق لكن يكتب عمن أقبل وأدبر) ؛ نقله الذهبي في (الميزان) (2/46) .
كَتبتُ عنه على غير وجه الحديث :
قال عبدالله بن أحمد في (العلل ومعرفة الرجال) (5327) : (وقرأت على أبي زياد بن عبد الله البكائي قال : حدثنا حكيم بن جبير عن الشعبي قال : قال علي : خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر ، ولو شئت أن أسمي الثالث ؛ وقد كتبت عن يحيى بن سعيد عن شريك على غير وجه الحديث ؛ يعني المذاكرة) .
كتبنا عن الكذابين وسجرنا به التنور وأخرجنا به خبزاً نضيجاً :
انظر (إذا كتبت فقمش وإذا حدثت ففتش).
كذا :
هذه علامة التبرؤ من المنقول، أو الشك في صحته؛ وهي علامة محدثة ؛ فمعناها أن هذه اللفظة أو العبارة هكذا وردت ، وهي تقتضي التحريرَ والبحثَ عن وجه الصواب فيها .(4/224)
فمن نقل من كتاب غيره شيئاً ووجد في عبارة ذلك الكتاب خطأ في المعنى أو النقل أو خشي من ذلك فيحسن أن يكتب فوق ذلك الموضع من كتابه - وهو المنقول إليه - أو بجواره أو بهامشه : كلمة ( كذا ) ، وهو مستعمل كثيراً في هذه العصور ، وقد استعملها طائفة من أوائل المحقيين ومن كبارِهم ؛ فمثلاً قال العلامة محمد بهجت الأثري رحمه الله في مقدمة تحقيقه (أدب الكُتّاب) للصولي (ص6) : (وبذلتُ الجهدَ في تصحيح ما جاء فيه من الغلط والتحريف معتمداً على السياق والسباق ؛ وأشرتُ بكذا إلى ما لم أهتدِ إليه ، ولم أقفْ عليه ، وإلى ما أظنُّ أنَّ صوابه كذا بقولي "لعل الصواب كذا" ----) .
كذا وكذا :
قال الحافظ الذهبي في (الميزان) (4/483) في ترجمة يونس بن أبي اسحاق السبيعي : (وقال أحمد : حديثه مضطرب ، وقال عبد الله بن أحمد : سألت أبي عن يونس بن أبي إسحاق؟ قال : كذا وكذا .
قلت : هذه العبارة يستعملها عبد الله بن أحمد كثيراً فيمن(1) يجيبه به والده ، وهي بالاستقراء كناية عمن فيه لين) ؛ انتهى كلام الذهبي.
وقال في (الميزان) أيضاً في ترجمة عتاب بن بشير الجزري : (روى عبد الله بن أحمد عن أبيه قال : عتاب بن بشير كذا وكذا ، قال عبد الله : الذي يقول فيه أبي كذا وكذا يحرك يده ) .
وقال في ترجمة يحيى بن سليم الطائفي : (قال عبد الله بن أحمد عن أبيه قال : يحيى بن سليم كذا وكذا ، ولم يحمده ) .
قلت : فلعل كلمة (كذا وكذا) من الإمام أحمد قريبة في معناها من كلمة (تعرف وتنكر)(2) .
__________
(1) كذا .
(2) وهذا ما ورد من كلام الإمام أحمد في عتاب بن بشير ، منقولاً من (موسوعة أقوال الإمام أحمد) عسى أن يكون فيها تقريب لرأي الإمام أحمد في عتاب ، وبذلك قد يقرب معنى قوله فيه "كذا وكذا" :
(عتاب بن بشير الجزري، أبو الحسن، أو أبو سهل، مولى بني أمية.
(*) قال عبد الله بن أحمد : سألت أبي : أيما أحب إليك في خصيف عتاب بن بشير، أو مروان بن شجاع؟ فقال : عتاب بن بشير أحاديثه أحاديث مناكير، مروان حدث عنه الناس ؛ وقد حدثنا أبي عنه، وعن وكيع عنه. ((العلل)) (331).
(*) وقال عبد الله : قال أبي : عتاب بن بشير، كذا وكذا. ((العلل)) (3158).
(*) وقال أبوداود : قلت لأحمد : عتاب بن بشير؟ قال : كان عبد الرحمان كف عن حديثه.
قال الحسين (هو ابن إدريس راوي الكتاب عن أبي داود) : ذاك أن الخطابي حدثه عنه بأحاديث، روى عن عبد الملك حديثاً منكراً، وعن فلان سماه أحمد.
قلت لأحمد : كيف تراه؟ قال : أبو جعفر يحدث عنه، يعني النفيلي؟ قلت : نعم. قال : أبو جعفر أعلم به. ((سؤالاته)) (316).
(*) وقال أبو طالب : سئل أحمد بن حنبل عن عتاب بن بشير. فقال : أرجو أن لا يكون به بأس، روى بأخرة أحاديث منكرة، وما أرى إلا أنها من قبل خصيف. ((الجرح والتعديل)) 7/(56).
(*) وقال إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني : سمعت أحمد بن حنبل يقول : أحاديث عتاب، عن خصيف منكرة. ((الجرح والتعديل)) 7/(56).
(*) وقال الآجري : سألت أبا داود عن عتاب بن بشير؟ فقال : سمعت أحمد يقول : تركه عبد الرحمان بن مهدي بأخرة. قال أبو داود : ورأيت أحمد كف عن حديثه، وذلك أن الخطابي حدثه عنه بحديث. فقال لي أحمد : أبو جعفر، يعني النفيلي، يحدث عنه؟ قلت : نعم. قال : أبو جعفر أعلم به، يعني النفيلي. ((سؤالات الأجري)) 5/ الورقه 29.
(*) وقال الساجي : عنده مناكير، حدث أحمد عن وكيع عنه. ((تهذيب التهذيب)) 7/(192). ) انتهى .(4/225)
وانظر (شبه الريح) .
وقال المناوي في (التوقيف) : (كذا وكذا يكنى بهما عن الحديث الطويل ومثله كيت وكيت ؛ والكاف في كذا للتشبيه ، وذا للإشارة ؛ ولما ركبا جعلا اسماً لما امتد من الحديث ؛ ويستعملان في العدد لكثرته ذكره أبو البقاء).
كذّاب :
أي ذو كذب كثير أو خطير ؛ وانظر (الكذب) ، وانظر (قد عرفتُه) .
كذاب أشر :
هذه العبارة أصلها قرآني ، قال تعالى في سورة القمر : (بل هو كذاب أشر) ؛ جاء في (المعجم الوسيط) : {{ أَشِرَ [يأْشَرُ] أَشَرَاً : مرِحَ ونشط ؛ و[أَشِرَ ] : بطِر واستكبر ، فهو أَشِرٌ ، وفي التنزيل العزيز : (بل هو كذاب أشر) ، وهو أشْران ---- }}.
قال الذهبي في (ميزان الاعتدال) (3/80) (2790) : (رفاعة الهاشمي : هو زيد بن عبد الله بن مسعود الأديب ، كذاب أشر ، ركب أسانيد لأربعين حديثاً فسرقها منه ابن ودعان وادّعاها).
وقال (5/140) (5790) : (علي بن أحمد بن علي الواعظ بن الفضاض الشرواني مؤلف أخبار الحلاج ، كذاب أشر ، سمع السلفي ذلك من سليمان بن عبد الله الشرواني عنه ، ثم لحق السلفي الشرواني المؤلف فسمع منه ؛ قال السلفي ؛ أكثر ما فيه من الأسانيد من كتب لا أصل لها) .
ووَصف بهذه الكلمةِ عباسَ بنَ الضحاك البلخيَّ الإمامُ ابن القيم في (المنار المنيف) (ص37 تحقيق المعلمي ) .
كذاب جبل :
أي مكثر من الكذب ووضع الأحاديث ؛ قال الذهبي في (المغني في الضعفاء) (1/ص43) (322) : (أحمد بن عبد الله بن خالد الجوباري ، ويقال : الجويباري ، في عصر شيوخ الأئمة ، كذاب جبل).
كذاب مدبر :
لم يظهر لي المراد بكلمة (مدبر) ، فلعل المراد أنه كذاب هالك ، أو كذاب مفارق للصدق والتقوى والحياء .(4/226)
قال الذهبي في (ميزان الاعتدال) (2/15) (1160) : (بريه بن محمد عن إسماعيل الصفار ، كذاب مدبر ، هو واضع حديث "يا رسول الله هل رجل له حسنات بعدد النجوم ؟ قال : نعم ، عمر ، وهو حسنة من حسنات أبيك يا عائشة " ، فذكره بإسناد الصحيحين عن إسماعيل الصفار؛ ثم قال الخطيب : وفي كتابه بهذا الإسناد عدة أحاديث منكرة المتون جداً) .
ومما يحضرني في هذا المقام قول الإمام الحسن البصري : (أنا للعاقل المدبِر أرجى مني للأحمق المقبل)(1) ، ويريد بالعاقل المدبر من كان بعيداً عن التدين وعنده شيء من جفاء ولكنه ذو عقل وفهم .
الكذب :
الراجح في تعريف الكذب لغةً هو ما عليه الجمهور من أن الكذب مخالفة الخبر للواقع ، لكن المتبادر من قولك : كذب فلان أو فلان كاذب ونحو ذلك أنه تعمد ، فهذا هو الذي استقر عليه عرف الناس ؛ ولذلك كان الأصل في كلمة الكذب وما يشتق منها من الكلمات أنها إذا وردت في كتب الجرح والتعديل ونحوها أو في سياق تجريح ونحوه فالأصل أن تحمل على التعمد .
ولما كان الأمر كذلك فإنه لا يحسن أن يقال للمخطئ أي غير المتعمد أنه كذَب ، إلا أنه ربما قيل له ذلك تنبيهاً على أنه قصر .
ولذلك أيضاً فإن من وهّم من خالفه في بعض ما يرويه ونفى عنه الكذب مع أنه غني عن أن يُنفى عنه الكذب (أي الخطأ المتعمد في الإخبار) لأنه من أبعد خلق الله عنه ، فهو إنما يريد بذلك النفي أن ينفي عنه التعمد والتقصير .
أوضح أصول هذه المسألة العلامة المعلمي رحمه الله في (التنكيل) و (الأنوار الكاشفة) و (حقيقة التأويل) ، بل فعل أكثر من ذلك فأفرد لأحكام الكذب رسالة لعلها توجد فتطبع فينتفع بها طالبو التحقيق وعشّاق الأصالة في البحث .
__________
(1) أخرجه ابن حبان في (روضة العقلاء) (ص123) .(4/227)
قال المعلمي في (التنكيل) (ص495) في ترجمة ضرار بن صرد : "قال علي بن الحسن الهسنجاني عن ابن معين : (بالكوفة كذابان أبو نعيم النخعي وأبو نعيم ضرار بن صرد) ، وظاهر هذا تعمد الكذب ، لكن قال الأستاذ : (الإخبار بخلاف الواقع هو الكذب ، والكذب بهذا المعنى يشمل الغالط والواهم ، فمن غلط أو وهم في شيء يمكن عده كاذباً على هذا الرأي ---- ، فلا يعتد بقول من يقول : فلان يكذب ---- ما لم يفسر وجه كذبه ؛ ولذا عد عند كثير من أهل النقد قول القائل : (كذب فلان) من الجرح غير المفسر----) .
أقول : وقد قال ابن معين لشجاع بن الوليد أبي بدر السكوني : (يا كذاب) ، وقد قال ابن أبي خيثمة عن ابن معين : (شجاع بن الوليد ثقة) ، ووثقه غيره ، ولكنه يهم ويغلط ، فلننظر كلام غير ابن معين في أبي نعيم النخعي ----" . انتهى كلام المعلمي .
هكذا أقر المعلمي كلام الكوثري ، بنقله له وسكوته عليه بل زاد ما معناه أن إرادة ذلك المعنى للكذب محتملة من ابن معين .
وقال ابن حبان في (الثقات) (6/114) (6962) (برد مولى سعيد بن المسيب القرشي من أهل المدينة ، يروي عن سعيد بن المسيب ، روى عنه عبد الرحمن بن حرملة ، كان يخطىء ، وأهل الحجاز يسمون الخطأ كذباً)(1).
وقال ابن حجر في (مقدمة فتح الباري) (ص427) في ترجمة عكرمة : (وقال ابن حبان : أهل الحجاز يطلقون "كذبَ" في موضع "أخطأَ" ، ذكر هذا في ترجمة برد من كتاب "الثقات" ؛ ويؤيد ذلك إطلاق عبادة بن الصامت قوله "كذب أبو محمد" لما أُخبر أنه يقول : "الوتر واجب" ، فإن أبا محمد لم يقله روايةً ، وإنما قاله اجتهاداً ، والمجتهد لا يقال : إنه كذب ، إنما يقال : إنه أخطأ ؛ وذكر ابن عبد البر لذلك أمثلة كثيرة) .
__________
(1) يعني أنه قد ورد في حقه وصف بعض أهل الحجاز له بأنه يكذب ، فأراد ابن حبان أن مراد ذلك الناقد هو الخطأ غير المتعمد ، وليس الكذب بمعناه المشهور عند الجمهور.(4/228)
ثم ذكر ابن حجر طعن بعض القدماء على عكرمة ، وحاول الدفاع عنه ، ومما قاله في تضاعيف ذلك قوله : (ويقوي صحة ما حكاه ابن حبان أنهم يطلقون الكذب في موضع الخطأ ما سيأتي عن هؤلاء(1) من الثناء عليه والتعظيم له فإنه دال على أن طعنهم عليه إنما هو في هذه المواضع المخصوصة ----).
وقال ابن حجر في (لسان الميزان) في ترجمة جنادة بن مروان الحمصي : (وقال أبو حاتم : ليس بقوي في الحديث ، أخشى أن يكون كذب في حديث عبد الله بن بسر أنه رأى في شارب النبي صلى الله عليه وسلم بياضاً ، قلت : أراد أبو حاتم بقوله "كذب" أخطأ ) .
وقال المعلمي في (الأنوار الكاشفة) (ص74-75) : "البحث الثاني في حقيقة الكذب : بنى أبو رية على أنه (ليس بخاف أن الكذب هو الإخبار بالشيء على خلاف ما هو عليه ، سواء أكان عن عمد أم غير عمد) وهو يعلم - فيما يظهر - أن هذا مخالف لقول شيخيه اللذين يقدسهما ، وإياهما ونحوهما عنى بقوله (ص4) : (العلماء والأدباء) وقوله (ص196) : (أصحاب العقول الصريحة) ، وهما النظام والجاحظ ، فالكذب عند النظام مخالفة الخبر لاعتقاد المخبِر ، وهو عند الجاحظ مخالفته لكلا الأمرين معاً : الواقع واعتقاد المخبِر .
فعلى القولين : ما طابق اعتقاد المخبِر فليس بكذب وإن خالف الواقع .
وقد ذكر أبو رية (ص50) قول عائشة للذين حدثوها عن عمر وابنه بخبر رأت أنهما وهما فيه : (إنكم لتحدثون عن غير كاذبين ، ولكن السمع يخطئ) ، وقولها في خبر رواه ابن عمر : (إنه لم يكذب ، ولكنه نسي أو أخطأ) .
والراجح ما عليه الجمهور أن الكذب مخالفة الخبر للواقع ، لكن المتبادر من قولك : كذب فلان أو فلان كاذب ونحو ذلك أنه تعمد ، فمن ثم لا يقال ذلك للمخطئ ، إلا أنه ربما قيل له ذلك تنبيهاً على أنه قصر (راجع كتاب الرد على الأخنائي ص21) .
ولما أرادت عائشة أن تنفي عن عمر وابنه التعمد والتقصير نفت عنهما الكذب البتة " . انتهى.
__________
(1) يعني الطاعنين .(4/229)
وقال المعلمي في (التنكيل) (ص220-221) مبيناً أنه ليس كل خبر يكون ظاهره مخالفاً للواقع يكون كذباً :
(تنبيه : ليس من الكذب ما يكون الخبر ظاهراً في خلاف الواقع محتملاً للواقع احتمالاً قريباً وهناك قرينة بحيث إذا تدبر السامع صار الخبر عنده محتملاً للمعنَيَين على السواء ؛ كالمجمل الذي له ظاهر ووقتُ العمل به لم يجئ ؛ وكالكلام المرخص به في الحرب ؛ وكالتدليس ، فإن المعروف بالتدليس لا يبقى قوله (قال فلان) - ويسمي شيخاً له - ظاهراً في الاتصال ، بل يكون محتملاً ؛ وهكذا من عُرف بالمزاح إذا مزح بكلمة يعرف الحاضرون أنه لم يرد بها ظاهرها وإن كان فيهم من لا يعرف ذلك إذا كان المقصود ملاطفته أو تأديبه ، على أن ينبَّه في المجلس ؛ وهكذا فلتات الغضب ، وكلمات التنفير عن الغلو - وقد مرت الإشارة إليها في الفصل الثاني - على فرض أنه وقع فيها ما يظهر منه خلاف الواقع .
وقد بسطت هذه الأمور وما يشبهها في (رسالتي في أحكام الكذب) .
فأما الخطأ والغلط فمعلوم أنه لا يضر وإن وقع في رواية الحديث النبوي ، فإذا كثر وفحش من الراوي قدح في ضبطه ولم يقدح في صدقه وعدالته . والله الموفق ) ؛ انتهى كلام المعلمي؛ وانظر (يكذب)(1).
وهذه فائدة فيها بيان لضرر الكذب في علم الحديث وروايته ، وأحكام جملة من أنواعه :
__________
(1) وإليك هذا الخبر في مسألة التوبة من وضع حديث ؛ قال الذهبي في (ميزان الاعتدال) (5/140) (5789) : (علي بن أحمد أبو الحسن النعيمي الحافظ الشاعر في زمن الصوري ، قد بدت منه هفوة في صباه واتهم بوضع الحديث ، ثم تاب إلى الله واستمر على الثقة).(4/230)
قال العلامة المعلمي في (التنكيل) (1/34-35) : (فأما الكذب في رواية ما يتعلق بالدين ولو غيْر الحديثِ فلا خفاء في سقوط صاحبه، فإن الكذب في رواية أثر عن صحابي قد يترتب عليه أن يحتج بذلك الأثر من يرى قولَ الصحابي حجة ، ويحتج هو وغيرُه(1) به على أن مثل ذلك القول ليس خَرقاً للإجماع ، ويستند إليه في فهم الكتاب والسنة ، ويردُّ به بعض أهل العلم حديثاً رواه ذاك الصحابي يخالفه ذلك القول .
ويأتي نحوُ ذلك في الكذب في رواية قول عن التابعي ، أو عالم ممن بعده ؛ وأقلُّ ما في ذلك أن يقلدَه العامي .
وهكذا الكذب في رواية تعديل لبعض الرواة ، فإنه يترتب عليه قبول أخبار ذلك الرواي ، وقد يكون فيها أحاديث كثيرة ، فيترتب على هذا من الفساد أكثر مما يترتب على كذب في حديث واحد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وكذلك الكذب في رواية الجرح فقد يترتب عليها إسقاط أحاديث كثيرة ، وذلك أشد من الكذب في حديث واحد .
وهكذا الإخبار عن الرجل بما يقتضي جرحه .
وهكذا الكذب في الجرح والتعديل كقوله "هو ثقة" ، "هو ضعيف" ؛ فالكذب في هذه الأبواب في معنى الكذب في الحديث النبوي أو قريب منه ، وتترتب عليه مضار شديدة ومفاسد عظيمة فلا يُتوهم [أنه] محلٌّ للتسامح فيه ، على فرض أن بعضهم تسامح في بعض ما يقع في حديث الناس ) .
كذبَ فلانٌ :
انظر (الكذب) .
الكراس :
جمع (كراسة) ؛ قال الفيروزابادي في (القاموس المحيط) : (والكُرَّاسَةُ : واحِدَةُ الكُرَّاسِ والكَراريسِ : الجُزْءُ من الصَّحيفةِ ) .
وانظر (الكراسة) .
الكراسة :
قال عبد السلام هارون في (تحقيق النصوص ونشرها) (ص25) : (كلمة الكراسة قديمة ، وفي "اللسان" عن ابن الأعرابي : "الكراسة من الكتب سميت لتكرسها" ، والتكرس : التجمع ، يقال نظم متكرس : بعضه فوق بعض ، وأنشد في "اللسان" للكميت :
__________
(1) أي الذي لا يرى قول الصحابي حجة.(4/231)
حتى كأنَّ عراصَ الدار أرديةً *** من التجاويز أو كراس أسفار)(1) .
جاء في (المعجم الوسيط) (2/789) : (الكُرّاسة : جزء من الكتاب، يقال : هذه الكراسة عشر ورقات، وهذا الكتاب عدة كراريس، وقرأت كراسة من كتاب كذا .
و[هي أيضاً] إضمامةٌ من الورق تهيأ للكتابة فيها .
[جمعها] كُرّاس ، وكراريس ، وكراسات).
وقال المناوي في (التوقيف على مهمات التعاريف) : (الكراسة الورق الذي ألصق بعضه إلى بعض من قولهم رجل مكرس أي ألصقت الريح التراب به ، أو من أكراس الغنم ، وهو أن تبولَ بمحل شيئاً فشيئاً فيتلبد) ؛ وانظر (القرطاس) .
وأما عدد أوراق الكراريس فالظاهر أنه غير منضبط بعدد معيَّن ، ويظهر أن الكراريس متفاوتة في ذلك ، يدل عليه أمور منها أنهم أحياناً يصفون الكراسة بأنها كبيرة ، مثلاً ، ومنها أنهم أحياناً يخمنون عدد أوراق الكراسة الواردة في كلام بعض المترجِمين وغيرهم ، تخميناً ؛ وهذا التفاوت معقول جداً ، بل متوقع ، وذلك لأن العبرة بنوع الخط من حيث الدقة والكبَر ، وبنوع القلم والخط وحجم الورق ومقدار تقارب الأسطر ، وغير ذلك .
عدَّ القفطي في (إنباه الرواة على أنباه النحاة) (1/91-102) مؤلفات الشاعر أبي العلاء المَعَرّي ، فذكر مقدار كثيرٍ منها بالكراسة ، كقوله في وصف كتاب (الفصول والغايات) : (ومقدار هذا الكتاب مئة كراسة) ؛ قال الذهبي في (سير أعلام النبلاء) (18/38) عقب نقل طائفة من كلام القفطي في الباب المذكور : (قلت : أظنه يعني بالكراسة ثلاث ورقات) ؛ ثم قال عقب ذلك بأسطر : (قلتُ : قد قدَّرت لكَ الكُراسة) ؛ فهذا يدل على اختلاف قدر الكراسة عندهم ، ولهذا خمَّن الذهبي قدر الكراسة عند القفطي بقرينة ما وقف عليه الذهبي نفسه من كتب المعري التي وصفها القفطي .
__________
(1) قال في شرح هذا البيت : (الأسفار : جمع سفر بمعنى الكتاب ؛ التجاويز : برود موشية من برود اليمن ، واحدها تِجواز ، بالكسر ) .(4/232)
وقال السخاوي في (التحفة اللطيفة في تاريخ المدينة الشريفة) (2/18) (1970) في ترجمة (عبد الله بن أسعد بن علي بن سليمان بن فلاح العفيف---- اليافعي) : (وكان عارفاً بالفقه والأصلين والعربية والفرائض والحساب وغيرها من فنون العلم مع نظم كثير دون منه نحو عشرة كراريس كبار) ؛ قلت : هذا الوصف للكراريس يدل دلالة واضحة على أنها أنواع مختلفة في مقاديرها ، ولكن ذلك لا يمنع من أن تكون متقاربة في الجملة .
وقال الدكتور موفق بن عبدالقادر في (توثيق النصوص وضبطها عند المحدثين) (ص226) : (لم يحدِّد أهلُ الحديثِ عدد أوراق الكراسة ، غير أن الظاهر(1) [أنه] عند سماع هذه اللفظة عند أهل الحديث ، يتبادر إلى الذهن "الجزء اللطيف" أو "الصغير" ؛ ولقد سألتُ المشتغلينَ في تجليد وترميم المخطوطات في مكتبة السليمانية كتبخانة الواقعة في إسطنبول عن عدد أوراق الكراسة ، فأخبروني أنها عشرة أوراق ، وأنهم هكذا وجدوها منذ القدم ، والله تعالى أعلم ) .
الكشط :
الكشط : إزالة المكتوب عن موضعه من الورق ونحوه ، أي بإزالة الحبر وبعض ما اختلط به من مادة الألواح المكتوب عليها ؛ وهي إحدى طرق النساخ والكتّاب وأهل العلم في إبعاد ما كُتب خطأً أو زيادةً ؛ قال الفيروزابادي في (القاموس المحيط) (باب الطاء - فصل الكاف) : (الكَشْطُ : رَفْعُكَ شيئاً عن شيء قد غَشَّاهُ ؛ { وإذا السَّماءُ كُشِطَتْ } : قُلِعَتْ كما يُقْلَعُ السَّقْفُ ؛ وكَشَطَ الجُلَّ عن الفرسِ : كشَفَه .
وككِتابٍ : الانْكِشافُ، كالانكشاطِ، والجِلْدُ المَكشوطُ رُبَّما غُشِّيَ به عليها، يقالُ : ارْفَعْ كِشاطَها لأَنْظُرَ إلى لَحْمِها، وهذا خاصٌّ بالجَزورِ .
والكَشَطَةُ، محركةً : أربابُ الجَزورِ المَكْشوطَة ؛ وانْكَشَطَ الرَّوْعُ : ذَهَبَ ).
__________
(1) كأنه يعني المتبادر .(4/233)
وجاء في (المعجم الوسيط) (2/795) : (كشَطه عنه [يكشِطه] كشطاً : أزاله عنه ؛ يقال : كشَطَ الجلدَ عن الذبيحة ، وكشط الجُلَّ عن الفرس ، ولأكشِطن عن أسرارك : لأكشفَنَّ، و[كشطَ] الحرفَ : محاه وأزاله ، و[كشطَ] غِلالةَ اللَّبن : جمعها) .
وقال ابن حجر في (مقدمة فتح الباري) (179) : (والكشط والقشط سواء ، يقال : كشطت وقشطت) .
والكشط واحد من المصطلحات أو المسائل الفنية عند المحدثين والنسّاخ ، فانظر (الضرب) و (الحكّ) و (صح) .
الكشكول :
قال بعض الباحثين : (لفظ فارسي يعني وعاء من المعدن أو الخشب مرتبط بالدراويش يجمعون فيه الصدقات من مال وطعام وغير ذلك ؛ ولذلك أطلق الكشكول على ذلكم الكتاب المتنوع الموضوعات. ومن أشهر هذا النوع من الكتب كشكول العاملي في القرن العاشر للهجرة) .
كفُّ الإسلام :
عبر بها بعض الحفاظ عن الكتب الخمسة ، قال المحدث المتقن المحقق ابن رشيد الفهري رحمه الله في كتابه (إفادة النصيح) (ص106) في ترجمة أبي الحسن الغافقي الشآرّي :
(وسمع من المحدث العلَمِ أبي محمد الحجري ، وأكثرَ عنه ---- ، وقرأ عليه الموطأَ رواية يحيى بن يحيى الأندلسي ، وسمع عليه كفَّ الإسلام ، إلا أنملة من كتاب مسلم) .
وقال ابن رشيد في (إفادة النصيح) (ص81) في ترجمة أبي محمد الحجري :
(وسمع عليه [ أي على أبي عبد الله بن أبي إحدى عشرة ] المصنفاتِ الخمسة التي هي كفُّ الإسلام) .
كلام الأقران في بعضهم :
انظر (اختلاف الأقران) .(4/234)
كلاهما وتمراً :
قال عثمان بن سعيد الدارمي في (تاريخه عن يحيى بن معين) (ص92) : (سألته عن مندل بن علي ؟ فقال : ليس به بأس ، قلت : وأخوه حبان بن علي ؟ فقال : صدوق ، قلت : أيهما أحب إليك ؟ فقال : كلاهما وتمراً (1) ، كأنه يضعفهما) .
كلح وجهه :
تكليح الناقد وجهه عندما يُسأل عن بعض الرواة كناية عن تجريحه وعدم ارتضائه إياه ، مثال ذلك أن البرذعي قال في (أسئلته لأبي زرعة) (ص759) : (ذكرت لأبي زرعة عمرَ بن عثمان الكلابي فكلح وجهه وأساء الثناء عليه) ، وقال فيها (ص732) : (ذكرتُ [أي لأبي زرعة] أصحابَ مالك ، فذكرت عبدَ الله بن نافع الصائغ فكلح وجهه) .
__________
(1) هذه الكلمة مثل عربي ذكر قصتَه مطولةً الميدانيُّ في (مجمع الأمثال) (2/151-152) وحاصلها أن أول من قال ذلك عمرو بن حمران الجعدي ، وكان عمرو هذا قد نشأ مارداً مفوهاً - كأبيه - ، فلما أدرك جعله أبوه راعياً يرعى له الإبل فبَيْنا هو فيها يوماً إذ رُفع إليه رجل قد أضرَّ به العطش والسغوب ، وعمرو قاعد وبين يديه زبد وتمر وتامك ، فدنا منه الرجل فقال : أطعمني من هذا الزبد والتامك ! فقال عمرو : نعم ، كلاهما وتمراً ؛ فأطعم الرجل حتى انتهى وسقاه لبناً حتى روي وأقام عنده أياماً فذهبت كلمته مثلاً .
ورفع كلاهما ، أي لك كلاهما ؛ ونصب تمراً على معنى أزيدك تمراً ؛ ومن روى (كليهما) فإنما نصبه على معنى أطعمك كليهما وتمراً .
وقال قوم : من رفع حكى أن الرجل قال : أنلني مما بين يديك فقال عمرو : أيما أحب إليك زبد أم سنام؟ فقال الرجل : كلاهما وتمراً ، أي مطلوبي كلاهما وأزيد معهما تمراً أو وزدني تمراً .
ويعلم من معنى هذا المثل ومن تفسير عثمان بن سعيد لكلام شيخه ابن معين أن مراده أن مندل وحبان فيهما لين وضعف ، وأن حديثهما لا يقنع به الناقد المحقق ، كما لا يقنع الجائع الذي اشتد جوعه ببعض ما يجده من الطعام .(4/235)
كلهم ثقات :
قال صاحبا (تحرير التقريب) (1/353) : (ويتعين على طلاب العلم الإنتباه إلى [أن] قول الدارقطني في السنن عقب بعض الأسانيد (كلهم ثقات) فيه كثير من التساهل والوهم، وأن المعتمد هو ما نقله عنه تلامذته النجب حينما سألوه، مثل البرقاني والحاكم والسهمي ونحوهم، وما نقله الخطيب في "تاريخ بغداد" من أقواله، والله أعلم).
قلت : أما التساهل فقد وقع من الدارقطني في هذا الكتاب بلا شك؛ وأما الوهم الكثير فيبعد أن يقع من مثله، نعم الوهم اليسير لازم له ولكل المحدثين. وعلى كل حال فمقتضى ما ذكراه - وهو وجوب التثبت في أحكام الدارقطني في "سننه" قبل اعتمادها - حق لا ريب فيه .
وقد ورد في (التنكيل) (ص225 و ص586-588) بعض ما قد يصلح عذراً للدارقطني(1).
الكُنّاش ، الكُنّاشة :
ورد في (المعجم الوسيط) (2/807) : (الكُنّاشةُ : الأصل تتشعبُ منه الفروع؛ و[هي أيضاً] الأوراق تُجعل كالدفتر ، تُقيد فيها الفوائد والشوارد (مو[لدة]) ).
وقال بعض الدارسين : (الكناش أو الكناشة : كلمة سريانية أصلها كوناش وكوناشة ؛ وهي مستعملة قديماً).
__________
(1) وقال أبو الحسن المأربي في (إتحاف النبيل ) (1/45) : (والدارقطني أظن أنه معتدل، ولكنه يصحح ويحسن في السنن ما لا يثبت، وسننه فيه غرائب كثيرة).
وقال الزيلعي في (نصب الراية) (1/356) : (سنن الدارقطني مجمع الاحاديث المعلولة ومنبع الأحاديث الغريبة).
وقال (1/360) : (الدارقطني ملأ كتابه من الأحاديث الغريبة والشاذة والمعللة).
وتبعه على هذا النقد طائفة من الأحناف كالعيني ثم اللكنوي ثم عبد الفتاح أبو غدة؛ وكلام الزيلعي هذا ربما استدل به من لا معرفة له بعلم الحديث عامة، أو بعلم الدارقطني خاصة، على أن الدارقطني تساهل في هذا الكتاب تساهلاً كثيراً جداً، أو أنه لم يحسن انتقاء الأحاديث في سننه، وليس هذا واقعاً ولا ذاك، وإنما الواقع أن الدارقطني أكثر في كتابه من غرائب المرويات في الأحكام العملية وتكلم عليها، أو على أكثرها ولم يشترط في الكتاب شرطاً يعلم، وتسمية كتابه بالسنن، وترتيبه له كترتيب كتب الأحكام لا يمنع من أن يُكثر فيه من إخراج الأحاديث الواهية والضعيفة، لأنه غير ساكت عليها في الجملة، ولم يدّع أنه يحتج بكل ما في كتابه، ولم يقل هو ولا أحد من أهل العلم أنه انتقى في كتابه أصح وأقوى ما ورد في الباب؛ ثم إنه بعد ذلك كله قد أحال الناس على الأسانيد.
ومما قد يؤخذ منه أن الدارقطني متساهل في التوثيق قول الدارقطني في (سننه) (3/174) : (وأهل العلم بالحديث لا يحتجون بخبر ينفرد بروايته رجل غير معروف، وإنما يثبت العلم عندهم بالخبر إذا كان راويه [في مطبوع السنن : رواته]عدلاً مشهوراً، أو رجل قد ارتفع اسم الجهالة عنه، وارتفاع اسم الجهالة عنه أن يروي عنه رجلان فصاعداً، فإذا كان هذه صفته ارتفع عنه اسم الجهالة، وصار حينئذ معروفاً؛ فأما من لم يرو عنه إلا رجل واحد انفرد بخبر وجب التوقف عن خبره ذلك حتى يوافقه غيره؛ والله اعلم)؛ [وانظر (فتح المغيث) (2/322)].
قلت : كلام الدارقطني هذا قد يتوهم متوهم فيفهم منه ظاهره وأن الدارقطني يوثق كل من روى عنه اثنان [انظر المقترح للشيخ الوادعي رحمه الله : السؤال 84]؛ وذاك بعيد جداً، لا يقوله أحد من أهل العلم بالحديث ولو نزلت مرتبته فيه، فكيف بمثل الامام الدارقطني، وهو الإمام الجهبذ خاتمة علماء العلل؟! ثم إن كتبه كلها مبنية على خلاف هذا المعنى المتوهم؛ وهو سائر فيها على طريقة سائر أئمة الفن.
ولعله أراد أن الرجل إذا روى عنه راويان يكون حينئذ معروف العين ثم هو بعد ذلك يكون مقبول الحديث أو مردوده وذلك القبول والرد يكون بحسب ما يتبين لأهل العلم من حال الرجل، فحينئذ يكون مقصوده في هذا الكلام رد خبر مجهول العين مطلقاً؛ ولا شك أنه يستثني الصحابة، والنظر في حديث المعروفين؛ وإلا كان معنى كلامه معنى بعيداً عن الصواب مجانباً للحق مخالفاً لإجماع المحققين، مناقضاً لعمل الدارقطني في كتبه، وليس شيء من ذاك بلائق به.
وقال المناوي في مقدمة (فيض القدير) (1/28) بعد أن ذكر ثناء العلماء على الدارقطني في علم الحديث : (لكن رأيت في كلام الذهبي ما يشير إلى أنه كان يتساهل في الرجال، فإنه قال مرة : [كتاب الدارقطني] مجمع الحشرات، [يرى غير واحد من الفضلاء أنها مصحفة عن "المنكرات"]؛ وقال أخرى لما نقل عن ابن الجوزي في حديث أعله الدارقطني أنه لا يقبل تضعيفه حتى يبين سببه، ما نصه : هذا يدل على هوى ابن الجوزي وقلة علمه بالدارقطني، فإنه لا يضعف إلا من لا طبَّ فيه).
ومن جهة أخرى قال عبد الله بن يوسف الجديع في تعليقه على (عوالي سعيد بن منصور) (ص62) : (والدارقطني رحمه الله كثيراً ما يعل بما ليس بعلة عند التحقيق، وكأنه كان يلزم جانب الحيطة).
قلت : لعل الاعتدال في وصف منهج الدارقطني من جهة الاعتدال وما يخالفه هو أن الدارقطني يشدد في أحيان قليلة ويسهل أحياناً، وتساهله أكثر؛ والقضية لا يكفي في تحريرها مثلُ هذه العجالة.(4/236)
فصل اللام
لا :
قال هذه اللفظة أبو زرعة الرازي في سلم بن سالم البلخي وقرنها بالإشارة إلى فيه ، وقد فسرها راويها عنه - وهو تلميذه ابن أبي حاتم - بأنه لا يصدق ؛ ولا أدري هل قطع أبو زرعة الكلام اجتزاءاً بالتلويح عن التصريح ، أم أنه أتمه ولكن ابن أبي حاتم عبر عنه بمعناه لسبب من الأسباب ؟ الأول أقرب والله أعلم .
قال ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل) (4/266) (1149) في ترجمة سلم المذكور : (نا على بن الحسن الهسنجاني قال سمعت نعيم بن حماد يقول : سمعت ابن المبارك وذُكر عنده حديثٌ لسلم بن سالم فقال : هذا من عقارب سلم .
انا عبد الله بن أحمد بن حنبل فيما كتب إلي قال : سمعت أبي يقول : سلم بن سالم البلخي ليس بذاك في الحديث ، كأنه ضعفه .
قرئ على العباس بن محمد الدوري عن يحيى بن معين أنه قال : سلم بن سالم البلخي ليس بشيء .
سمعت أبي يقول : سلم بن سالم ضعيف الحديث ، وترك حديثه ولم يقرأه علينا .
سئل أبو زرعة عن سلم بن سالم فقال : أخبرني بعض الخراسانيين قال : سمعت ابن المبارك يقول : اتق حيات سلم بن سالم لا تلسعك .(4/237)
سمعت أبا زرعة يقول : ما أعلم أني حدثت عن سلم بن سالم إلا أظنه مرة ، قلت : كيف كان في الحديث؟ قال : لا يكتب حديثه ، كان مرجئاً، وكان لا ، وأومى بيده إلى فيه ، يعنى لا يصدق)(1) .
لا أحد :
قال ابن معين في بعض الرواة - وهو محمد بن زياد بن زبار- : لا أحد ، يريد أنه ليس بشيء ؛ انظر (لم يكن من البابة) .
لا أحد أثبت منه :
هذه اللفظة وصف للراوي بأنه أثبت الرواة أو أثبت أهل عصره أو - في الأقل - أثبت أقرانه .
وقد يقال : إن المعنى اللغوي لهذا التركيب هو نفي أن يكون في أولئك من هو أثبت منه ، وذلك لا يقتضي أن يكون هو أثبت وأوثق ، بل قد يكون مساوياً ، وذلك أقل أحواله ؛ فإن قيل ذلك قلت : هذا صحيح ، ولكن المعنى العرفي هنا مقدم على اللغوي ؛ وانظر (ما تحت أديم السماء أصح من كتاب مسلم) .
لا أختاره في الصحيح :
أي ليس هو من الثقات الذين يحتج بما تفردوا به ؛ وممن استعمل هذه العبارة الإمام الدارقطني ، قالها في إسماعيل بن أبي أويس كما في ترجمته من (ميزان الاعتدال) ؛ وانظر (الانتقاء).
لا أروي عنه شيئاً :
إذا قال الناقد هذه العبارة في حق بعض الرواة من طبقة شيوخه فهي حينئذ تحتمل معنيين :
الأول : ليس عندي شيء من حديثه فأرويه.
الثاني : تركتُ الرواية عنه ، عمداً ، لشدة ضعفه، أو لبدعته ، أو لنزوله ، أو لغير ذلك.
فينبغي ملاحظة القرائن الدالة على تعيين المعنى المراد.
لا أصل له(2) :
__________
(1) قال البرذعي في (سؤالاته) (ص533) : (فقلت [يعني لأبي زرعة] : سلم بن سالم كيف هو؟ قال : أخبرني بعض الخراسانيين، قال : سمعت ابن المبارك يقول : "اتق حيات سلم بن سالم لا تلسعك" ؛ فقلت : تحفظ من حدثك؟ فقال : نعم هو إنسان لا أرضاه ؛ قلت : من هو؟ قال : أبو الصلت الهروي).
(2) ما سيقال في هذه الكلمة يعين على فهم معاني قولهم (لا أصل له بهذا اللفظ) و (ليس له أصل) و (لم يوجد له أصل) و (لم يوجد) ونحو هذه الألفاظ .(4/238)
هذه الكلمة تقال لما لا يصح سواء كان ذلك عن تعمد من راويه ، أو بدونه.
ولها عند المتأخرين في استعمالهم معنيان ، أو لها عندهم استعمالان :
الاستعمال الأول : إطلاقها على الأحاديث التي صرح كبار الحفاظ المطلعين بأنهم لم يقفوا لها على إسناد أصلاً(1) .
الاستعمال الثاني : هم يقولون : (هذا الحديث لا أصل له في الكتاب ولا في السنة) ، ويعنون بذلك أن معناه ومضمونه غريب عن نصوص الشريعة وأصولها ، ليس فيها ما يشهد لمعناه في الجملة.
وأما المتقدمون فيطلقون هذا الوصف (لا أصل له) على ثلاثة أنواع من الأحاديث، وهي :
الأول : الأحاديث التي لا يعلمون لها إسناداً البتة.
الثاني : الأحاديث التي لا تثبت متونُها، ولا تحتمل أن تثبت ، وإن عُرفت أسانيدها.
الثالث : الروايات المعللة ، ولو كانت متونها ثابتة من طرق أخرى ، فتوصف تلك الروايات المعللة بأنها لا أصل لها ، على معنى أنها خطأ أي غير صحيحة في نفسها، أي مخالفة للأصول الصحيحة ، ولا يوجد في الروايات الصحيحة أصل لها يطابقها مطابقة تامة ، أو يتابعها متابعة تامة ، بلا مخالفة ضارة، ، وإنما كان ذلك كذلك بسبب خطأ وقع فيه بعض رواتها ، سواء كان الخطأ في المتن أو السند.
فمثل هذا النوع من الروايات يطلق عليه علماء العلل هذا الاسم (لا أصل له)(2) .
__________
(1) أحاديث هذا القسم تحتمل أن تكون في أول أمرها رويت بأسانيدها ولكنها بلغت المتأخرين متونها دون أسانيدها ؛ وتحتمل أيضاً ان تكون وُجدت بلا أسانيد ابتداء .
(2) قال عبد الفتاح أبو غدة في مقدمته على كتاب (المصنوع في معرفة الحديث الموضوع) لعلي القاري (ص17 وما بعدها) : (قولهم في الحديث (لا أصل له)، له إطلاقات متعددة أوجزها فيما يلي :
أ- تارةً يقولون : هذا الحديث لا أصل له، أو : لا أصل له بهذا اللفظ، أو : ليس له أصل، أو : لم يوجد له أصل، أو : لم يوجد، أو نحوَ هذه الألفاظ، يريدون بذلك أن الحديث المذكور ليس له إسناد يُنقَل به. قال الحافظ السيوطي في (تدريب الراوي) في أواخر النوع الثاني والعشرين ص195 [1/297 - طبعة دار إحياء السنة النبوية] : (قولهم : هذا الحديث ليس له أصل، أو : لا أصل له، قال ابن تيمية : معناه ليس له إسناد). انتهى-----.
ب- وتارة يقولون في الحديث المسند : هذا الحديث لا أصل له، يعنون به أنه موضوع مكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو على الصحابي أو التابعي الذي أُسنِد قولُه إليه، وذلك بأن يكون للحديث سند مذكور ولكن في سنده كذاب أو وضاع أو دلالة صريحة أو قرينة ناطقة بكذب المنقول به، فقولهم فيه حينئذ : لا أصل له، يعنون به كَذِب الحديث، لا نفيَ وجود إسناد له-----.
ج- وحيناً يقولون : هذا الحديث لا أصل له في الكتاب ولا في السنة الصحيحة ولا الضعيفة، يعنون بذلك أن معناه ومضمونه غريب عن نصوص الشريعة كل الغرابة، ليس فيها ما يشهد لمعناه في الجملة.
د- وتارة يقولون هذا الحديث لا أصل له في الكتاب ولا في السنة الصحيحة، يعنون أن معناه وما يتضمنه لفظه لم يرد في القرآن الكريم ولا في الحديث الصحيح الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فالنفي منهم في هذا متوجه إلى نفي ثبوت مضمون الحديث في نصوص الشريعة الثابتة لا الضعيفة.
والتمييز بين هذه الإطلاقات يعرفه أهل الممارسة، ويعرف أيضاً بالقرائن كما تقدم في الأمثلة السابقة)؛ انتهى؛ وقد حذفت أنا تلك الأمثلة طلباً للاختصار وجعلت مواضعها خطاً متقطعاً هذه صورته (----).(4/239)
فائدة :
هل أخرج الإمام أحمد في (مسنده) وصفه هو بأنه (لا أصل له)؟
الجواب : نعم؛ فقد روى في (مسنده) حديثاً وصفه خارج (المسند) بأنه من الأحاديث التي لا أصل لها، وبسبب روايته له في (مسنده) شك في صحة هذا النقد عنه - أو نفاها - الزركشي في (التذكرة) (ص32) والعراقي في (تخريج الأحياء) (4/210) وفي (التقييد والإيضاح) (ص263) والبلقيني في (محاسن الاصطلاح) (ص391).
ولكن قال الزبيدي في (شرحه للإحياء) (10/302-303) : (وجدت بخط الحافظ نقلاً عن خط ابن رجب الحنبلي ما نصه : وردُّ ذلك عن أحمد بمجرد روايته له في (مسنده) فيه نظر، فكم من حديث قال فيه أحمد : "لا يصح" ، وقد أخرجه في "مسنده" ؛ ومِنْ كتب [لعلها ومن طالع كتب] العلل لعبد الله بن أحمد والأثرم والخلال علم صحة هذا ؛ انتهى ؛ وبخط الحافظ أيضاً : الصحيح عن أحمد أنه أنكر حديث "لو صدق السائل ما أفلح من رده" ، كذا نقل عنه مهنا ) ؛ انتهى كلام الزبيدي .
وقال الدوسري في (الروض البسام بترتيب وتخريج فوائد تمام) (2/149-150) : (مما ينبغي التنبه له أن المتقدمين يقولون في الحديث : لا أصل له، إذا لم يكن له سند صحيح [انظر على سبيل المثال : العلل لابن أبي حاتم : الأرقام 102، 108، 337، 425، 584] ، بخلاف المتأخرين فقد استقر عندهم أن هذه العبارة لا تقال إلا في الحديث الذي لم يوقف على سنده .
فإذا تبين لك ذلك علمت أنه لا تعارض بين قول الإمام أحمد في الحديث (لا أصل له) وروايته في (مسنده)؛ وبالتالي فلا وجه للتشكيك في ثبوت هذه المقالة عن أحمد) ؛ انتهى.
وقال ابن رجب في (فتح الباري) (2/433) : (وفي (المسند)(1) من حديث ابن عمر مرفوعاً : "من اشترى ثوباً بعشرة دراهم وفيه درهم حرام لم تقبل له صلاة ما دام عليه"؛ وقد ضعف الإمام أحمد هذا الحديث في رواية أبي طالب وقال : هذا ليس بشيء ليس له إسناد).
__________
(1) 2/98).(4/240)
وقوله (ليس له إسناد) هو بمعنى (لا أصل له) ، لأنه أراد (ليس له إسناد يثبت).
ومن هذا القبيل إخراج الإمام أحمد في (مسنده) (6/101) أحاديث استنكرها خارجه ؛ قال ابن رجب في (فتح الباري) (2/87) : (وفي رواية للإمام أحمد ( [كان النبي صلى الله عليه وسلم ] لا يصلي في شُعُرِنا) وقد أنكره الإمام أحمد إنكاراً شديداً) ؛ انتهى كلام ابن رجب وهو يشير إلى ما ورد في (العلل ومعرفة الرجال) (5982) مما نقله عبدالله عن أبيه أنه قال : ما سمعت عن أشعث حديثاً أنكر من هذا ، وأنكره أشدَّ الإنكار .
وقال أحمد كما في (المنتخب من علل الخلال) (ص 90) : في حديث أنس بن مالك " إن هذا الدين متين" : (هو منكر) ؛ ومع ذلك أخرجه في (المسند) (3/199).
وانظر (ثلاثة كتب ليس لها أصول : المغازي والملاحم والتفسير ) .
لا أعرف له بالعراق نظيراً :
هذا وصف رفيع القدر توَّج به الإمام أحمد قرينَهُ العالم الكبير إسحاق بن راهويه ، ففي (تاريخ بغداد) (6/349) عن عبدالرحيم الجوزجاني قال : (سمعت أحمد بن حنبل ، وذكرَ إسحاق ، فقال : لا أعلم - أو لا أعرف - لإسحاق بالعراق نظيراً) .
لا أعرف له نظيراً في الدنيا :
إذا كانت هذه اللفظة واردة في باب بيان حال الراوي في الرواية فهي حينئذ أعلى مراتب التوثيق على الإطلاق .(4/241)
لا أعرفه :
هذه الكلمة تَحْسُن من كبار الحفاظ المطلعين ، فإنَّ عَدَمَ معرفتِهم للراوي له عند النقاد معنى مهم ، فإنه يكون في الغالب مجهول الحال ؛ وأهم من ذلك تصريحهم بعدم معرفتهم للحديث ، فإنه يندر أن يصرح الجهبذ من الأئمة في حديث بأنه لا يعرفه ثم يثبت ذلك الحديث ، ولا سيما بعد التدوين والرجوع إلى الكتب المصنفة فإنه يبعد عدم الاطلاع من الحافظ الجهبذ على ما يورده غيره فالظاهر عدمه ، وذلك بخلاف الأمر قبل تدوين الأخبار في الكتب فكان إذ ذاك عند بعض الرواة ما ليس عند الحفاظ . وليس كذلك قول الناقد في الراوي (لا أعرفه) فكم من راو معروف لم يعرفه كبار الحفاظ كابن معين وأبي حاتم وغيرهما ؛ ويستثنى مما تقدم أن يقول الناقد هذه العبارة في بلديه ؛ فالبغدادي مثلاً إذا لم يعرفه الخطيب - وهو الحافظ الذي صرف أكثر عمره في تتبع الرواة البغداديين - لا يكون إلا مجهولاً ، ويستثنى منه كذلك المتأخرون كالذهبي وابن حجر وغيرهما ممن كان من أهل الاستقراء والاستقصاء وسعة الاطلاع والجمع والوقوف على المجاميع المدونة في الرجال ، فإنهم إذا قالوا في راو : (لم نعرفه) فإنه لا يبعد أن يحكم بجهالته ، فمثله إن لم يكون مجهولاً عند النقاد على الحقيقية فهو في حكم المجهول إلى أن يتبين خلاف ذلك .
تنبيه : لا يحسن إطلاق هذه الكلمة ، ولا إطلاق كلمة (مجهول) من ناقد لم يتسع اطلاعه ، في حق راو لم يعاصره ولا هو من أبناء بلده ، وإنما يحسن هنا - وهذا مما ينبغي أن يراعيه الباحثون - أن يقول : لم أقف عليه ، لم أعثر له على ترجمة ، بحثت عنه فلم أجده ، أو نحو هذه العبارات ، ولا بأس في أن يقول : لم أعرفه، لأن هذه الكلمة تحمل على أنه بحث عنه فلم يجده ، بخلاف كلمة (لا أعرفه) فليست كذلك.(4/242)
تنبيه آخر : قد يريد الناقد من القدماء بقوله في الراوي : مجهول أو لم أعرفه أو لا أعرفه أنه لا يعرف حاله ، وإن كان عرف عينه فلا يلزم أن يراد بنحو هذه اللفظة جهالة العين حيثما وجدت . وانظر (مجهول) .
لا أعلم إلا خيراً :
قولهم (لا أعلم - أو لا نعلم - إلا خيراً) من ألفاظ التعديل عند علماء الجرح والتعديل ، وإن اختُلف في تعيين مرتبتها ، والظاهر أنها تعني في الأصل التوثيق المطلق ؛ ومما يرفع من مكانة هذه الكلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قالها في زوجه عائشة وفي صفوان بن المعطل ، وقالها أسامة بن زيد ، وأم المؤمنين زينب بنت جحش في عائشة أيضاً ، رضي الله عنهم جميعاً(1) .
قال عبد الله بن يوسف الجديع في (التحرير) (1/576-578 ) : (أما عبارة " لا أعلم به بأساً " ، فهذه وقعت في كلام أحمد بن حنبل في جماعة من الرواة ، منهم : صالح بن نبهان مولى التوأمة قبل أن يختلط ، وعبد الله بن شريك ، والمختار بن فلفل ، وداود بن صالح التمار، ويزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد، وعمير بن سعيد النخعي ، وقيس بن طلق ؛ ولم يقلها في راو من هؤلاء إلا وهو إما ثقة وإما صدوق ، ليس فيهم من ينزل عن ذلك .
وشبيه به استعمال من جرت في قوله من سواه من النقاد ، كالذهبي من المتأخرين ، فإنه يقولها في رواة من المستورين أو من فوقهم.
ولو جاريتَ مجردَ دلالة اللفظ اللغوية ، لوجدت بينها وبين " لا بأس به " فرقاً ، وذلك شبيه بما حدث به عبد الله بن عون ، قال : قال ابن سيرين لرجل في شيء سأله عنه : " لا أعلم به بأساً " ، ثم قال له : " إني لم أقل لك : لا بأس به ، إنما قلت : لا أعلم به بأساً " .
قلت : لكن حين تبين لنا المراد بالتعديل بها في حق النقلة ، وعلمنا أن الناقد قد عنى التعديل ، لم يؤثر ما للفظ اللغوي من دلالة .
__________
(1) ينظر (صحيح مسلم) / كتاب التوبة / باب في حديث الإفك وقبول توبة القاذف / حديث 56 ص 2133-2134 و2136 .(4/243)
وأرى مثْلَها قولَ أحمد بن حنبل في جماعة من الرواة : " لا أعلم إلا خيراً " ، فقد تتبعتها فوجدته لا يكاد يقولها إلا في ثقة أو صدوق ، وندر منه قولها في مجروح ينزل عن درجة الاعتبار ؛ وذلك كالذي نقل الميموني عن أحمد في الحكم بن عطية قال : " لا أعلم إلا خيراً " ، فقال له رجل : حدثني فلان عنه عن ثابت عن أنس ، قال : كان مهر أم سلمة متاعاً قيمته عشرة دراهم ، فأقبل أبو عبد الله يتعجب ، وقال : " هؤلاء الشيوخ لم يكونوا يكتبون ، إنما كانوا يحفظون ، ونسبوا إلى الوهم ، أحدهم يسمع الشيء فيتوهم فيه "(1).
وكان أحمد بعد ذلك إذا سُئل عنه لينه ، كما قال له المرُّوذي : الحكم بن عطية ، كيف هو ؟ قال : البصري ؟ قلت : نعم ، الذي روى عن ثابت ، قال : " كان عندي ليس به بأس ، ثم بلغني أنه حدث بأحاديث مناكير " وكأنه ضعفه(2).
قلت : وفي هذا من الفائدة دلالة على أنه قوله في الراوي : " لا أعلم إلا خيراً " تعديل يساوي قوله "ليس به بأس" .
أما عن غير أحمد من سائر النقاد ، فندر استعمال هذه اللفظة [يعني : لا أعلم إلا خيراً] في كلامهم ).
لا أعلم به بأساً :
هي بمعنى (ما أعلم به بأساً) ، فانظر هذه ، وانظر أيضاً (أرجو أنه لا بأس به) و(لا أعلم إلا خيراً).
لا أعلمه يُروى إلا من هذا الوجه :
قال بعض الفضلاء المشاركين في (ملتقى أهل الحديث) وهو الشيخ سعيد بن محمد المري في مشاركة له كتبها في موضوع في الملتقى عنوانه (معنى قول حفاظ الحديث : لا يُعرف إلا من هذا الطريق) :
__________
(1) تهذيب التهذيب (1/468).
(2) العلل ، رواية المروذي (165).(4/244)
(فقد كنت كتبت بُحيثاً في منهج البزار أيام الدراسة في الجامعة الأردنية، فوجدت حيث رأيت هذا الموضوع الذي طرحه الشيخ عبد الرحمن الفقيه أنه من المناسب أن أذكر مقطعاً من البحث لمناسبته للمقام دون التصرف فيه، علماً بأن كلام الأخوة حول الموضوع بصفة عامة يبعث على التفاؤل بإدراكنا أهل هذا العصر بعض ما عليه القوم----.
ما يستفاد من تنصيص البزار على التفردات :
الفائدة الأولى :
يستفاد من قوله : (لا أعلمه يروى إلا من هذا الوجه، أو إلا عن فلان، أو تفرد به فلان) ونحو ذلك من العبارات عدمُ صحة ذلك الحديث في الغالب من طريق متابع للطريق التي ذكرها البزار، بحيث يكون ذلك الطريق دالاً على عدم صحة كلام البزار المتقدم، وإثبات مثل تلك المتابعة لا يكون بأي طريق وجدناه، بل لابد من التيقن من صحة تلك الطريق المتابعة وكونها تامةً، لأن البزار وغيره من الأئمة يقولون مثلاً : (لا نعلمه يروى عن فلان إلا من هذا الوجه)، وهم يريدون أنهم لا يعلمونه عن ذلك الراوي بوجه صالح، متصل، ولا ينفون علمهم بوجوده عنه بوجهٍ غير صالح، أو منقطعٍ، من ذلك أن الترمذي روى حديث عبد الله بن دينار عن ابن عمر في النهي عن بيع الولاء، ثم قال : "حسن صحيح لا نعرفه إلا من حديث عبد الله بن دينار عن ابن عمر…وقد روى يحيى بن سليم هذا الحديث عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر…وهو وهم" ، فهذا الترمذي ينفي معرفته الحديثَ عن غير عبد الله بن دينار، مع علمه بوجوده عن نافع، إلا أنه لم يعتبر رواية نافع لكونها وهم من يحيى بن سليم، ومن ذلك ما يفعله البزار نفسه في مسنده في بعض الأحيان، حيث يروي حديثاً من أكثر من طريق ثم ينفي علمه إلا ببعضها، مثال ذلك :(4/245)
1- أن البزار روى حديثاً عن عمر من طريق المنهال بن بحر عن هشام الدستوائي عن يحيى بن أبي كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر ثم قال : "وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن عمر إلا من هذا الوجه وحديث المنهال بن بحر عن هشام الدستوائي عن يحيى بن أبي كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر إنما يرويه الحفاظ الثقات عن هشام عن يحيى عن زيد بن أسلم عن عمر مرسلاً، وإنما يعرف هذا الحديث من حديث محمد بن أبي حميد ومحمد رجل من أهل المدينة، ليس بقوي، قد حدث عنه جماعة ثقات واحتملوا حديثه" .
قال مقيده عفا الله عنه : فهذا البزار ينفي علمه بوجود وجهٍ غير ما ذكره لهذا الحديث عن عمر ثم هو يثبت طريقين آخرين عنه، وإنما لم يعتبر الطريق الأول لأنه منقطع، فإن زيد ابن أسلم لم يسمع من عمر، ولم يعتبر الثاني لأنه غير صالحٍ، فهو ينفي وجود طريق متصل صالح في الظاهر غير الذي ذكره، ومع ذلك فهو يضعف ذلك الطريق الذي ذكره، ويخطيء راويه المنهال بأمرين؛ الأول : أن الحفاظ يروونه عن يحيى مرسلاً، والثاني : أن الحديث إنما يعرف متصلاً من رواية رجل من طبقة يحيى بن أبي كثير، أعني محمد بن أبي حميد، وقد استغرب الحديث عليه، ومحمد بن أبي حميد ضعيف ، وشهرة الحديث عن ضعيف، وغرابته عن ثقة أو إمام كيحيى من القرائن القوية على عدم صحته عن ذلك الثقة، ولذلك أعله العقيلي بما أعله به البزار فقال : "وهذا الحديث إنما يعرف بمحمد بن أبي حميد عن زيد بن أسلم وليس بمحفوظ من حديث يحيى بن أبي كثير ولا يتابع منهالاً عليه أحد" .(4/246)
2- أن البزار روى في مسنده أربعة أحاديث كلها من طريق أبي العالية عن ابن عباس عن عمر، ثم قال عقب الأخير منها : "ولم يرو أبو العالية عن ابن عباس عن عمر إلا هذا الحديث" ، يعني بذلك الحديث الأول ؛ وهذا لا ينبغي حمله إلا على أنه لم يعد تلك الأحاديث محفوظة عن أبي العالية، إلا أن المحقق مع ذلك قد تعقبه بشيءٍ ليس خافياً عليه وهو تلك الأحاديث الثلاثة التي رواها، وإذا أردنا البحث في حال تلك الأحاديث الثلاثة التي لم يعتبرها البزار وجدناها غير محفوظةٍ عن أبي العالية، فهي لا تعدو أخطاءً من قبل رواتها، وإليك بيان ذلك :
الحديث الأول : قال البزار : "حدثنا محمد بن المثنى قال نا محمد بن أبي عدي عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أبي العالية عن ابن عباس، وحدثنا الحسن بن عرفة قال نا هشيم قال أنا منصور بن زاذان عن قتادة عن أبي العالية عن ابن عباس قال شهد عندي رجال مرضيون فيهم عمر وأرضاهم عندي عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس وبعد العصر حتى تغرب الشمس" ثم قال : "وهذا الحديث قد رواه عن قتادة سعيد وشعبة وهشام وهمام وأبان ومنصور بن زاذان كل هؤلاء ذكره فاجتزينا بمن ذكرنا" .
قال مقيده عفا الله عنه : كأن البزار بهذا التعقيب يريد أن يبين أن الحديث محفوظ عن قتادة، وقتادة تابعي جليل وأفراد التابعين مقبولة كما تقدمت الإشارة إلى ذلك، ولذلك روى هذا الحديث الجماعة.(4/247)
الحديث الثاني : قال البزار : "حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث قال حدثني أبي قال نا هشيم وهمام عن قتادة عن أبي العالية عن ابن عباس عن عمر (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم يوم الفطر ويوم النحر)"، ثم قال : "ولا نعلم يروى هذا الحديث عن ابن عباس عن عمر إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد، وقد روي عن علي وعن أبي سعيد وعن أبي هريرة وعن أنس وعن غيرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم يوم الفطر ويوم النحر" .
قال مقيده عفا الله عنه : ظني أن البزار رحمة الله عليه اعتبر هذا الحديث غير محفوظ مع صحة إسناده في الظاهر لقرائن كثيرة، منها؛
القرينة الأولى : أن هذا الحديث غريب يدل عليه قول البزار المتقدم، كما أن هذا لم يخرجه أحدٌ من الأئمة عن هشيم أو همام، ولا عن قتادة، ولا عن أبي العالية ولا عن ابن عباس، وهذا يدل على شدة غرابته، لأن التفرد عن مثل هؤلاء من الصعوبة بمكان، كما تقدمت الإشارة إلى ذلك.
القرينة الثانية : أن الحديث مشهور من رواية أبي عبيد مولى ابن أزهر عن عمر أخرجه الأئمة من طريقه، ولو كان الحديث عند ابن عباس عن عمر لما تخلف أحد عن إخراجه لجلالة ابن عباس.
القرينة الثالثة : أنه لا يعرف لأبي العالية عن ابن عباس عن عمر إلا الحديث المتقدم في النهي عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس وبعد العصر حتى تغرب.
الحديث الثالث : قال البزار : "حدثنا يحيى بن محمد بن السكن قال نا حبان بن هلال وأملاه علينا من كتابه عن همام عن قتادة عن أبي العالية عن ابن عباس عن عمر (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد مسجد الحرام ومسجدي هذا ومسجد الأقصى)، ثم قال : "وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن عمر إلا من هذا الوجه من هذا الإسناد، وهو خطأ أتى خطؤه من حبان لأن هذا الحديث إنما يرويه همام وغيره عن قتادة عن قزعة عن أبي سعيد".(4/248)
قال مقيده عفا الله عنه : هذا الحديث واضح خطؤه، لمخالفة حبان لأصحاب همام وقتادة، ولبعض القرائن التي ستذكر في الحديث التالي.
الحديث الرابع : قال البزار : "حدثنا أحمد بن المعلى الأدمي والجراح بن مخلد قالا نا خالد بن يزيد بن مسلم قال نا البراء بن يزيد الغنوي عن الحسن بن أبي الحسن قال حدثني أبو العالية الرياحي قال حدثني ابن عباس عن عمر بن الخطاب (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس أو تشرق وبعد العصر حتى تغرب الشمس، وقال لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم، فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم)"، ثم قال : "وهذا الحديث قد روى بعضه قتادة عن أبي العالية عن ابن عباس عن عمر وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد الفجر وبعد العصر ـ وقد تقدمت روايته له ـ وأما لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر فلم يروه إلا البراء عن الحسن عن أبي العالية عن ابن عباس عن عمر، ولا نعلم أسند الحسن عن أبي العالية حديثاً إلا هذا الحديث، ولم يروه عنه إلا خالد بن يزيد، ولم يرو أبو العالية عن ابن عباس عن عمر إلا هذا الحديث ـ يعني الحديث الأول الذي هو جزءٌ من هذا الحديث ـ والبراء بن يزيد ليس بالقوي وقد احتمل حديثه وروى عنه جماعة".
قال مقيده عفا الله عنه : واضح من كلام البزار أنه لا يعتبر هذه الرواية صحيحة، لأنه ذكر عدداً من القرائن تدل على غلطها، وهي؛
القرينة الأولى : تفرد البراء بها عن الحسن البصري، والبراء ليس ممن يحتمل تفرده لاسيما عن مثل الحسن.
القرينة الثانية : تفرد خالد بن يزيد عن البراء بذلك، والتفرد إذا استمر من طبقة إلى طبقةٍ أحدث ذلك مزيد شكٍ عند الناقد.
القرينة الثالثة : أن الحسن لا تعرف له رواية عن أبي العالية وهذا مما يقوي جانب الخطإ فيمن تفرد بالرواية عنه.(4/249)
القرينة الثالثة : أن أبا العالية لا يعرف له عن ابن عباس عن عمر إلا حديثاً واحداً، وهو الحديث الأول بدون زيادة).
وانظر (التفرد) .
لا ---- إلى :
(لا ---- إلى) - ومثلها (من ---- إلى) وكذلك (زائدة ---- إلى) - علامةٌ نسخيةٌ تشير إلى بداية ونهاية الزيادة التي وقعت خطأً ؛ قال عبد السلام هارون رحمه الله في (تحقيق النصوص ونشرها) (ص56) : (وإذا كان هناك خطأ ناشئ من زيادة بعض الكلمات ، فإنهم يشيرون إلى الزيادة بخط يوضع فوق الكلام منعطفاً عليه من جانبيه ، بهذا الوضع(1) ?ــــــــ? .
وأحياناً توضع الزيادة بين دائرتين صغيرتين 5 5 .
أو بين نصفي دائرة ( ) .
وأحياناً توضع كلمة "لا" أو "من" أو "زائدة" فوق أول كلمة من الزيادة ، ثم كلمة "إلى" فوق آخر كلمة منها ) .
لا بأس به :
هذه الكلمة هي إحدى المصطلحات الشهيرة الدائرة على ألسنة المحدثين ؛ وهي عند الجمهور مساوية لكلمة صدوق ، وهي عند المتأخرين دالة على صلاحية الراوي الموصوف بها للاحتجاج به ، والتحقيق أنه لا يحتج به إذا خالفه من هو فوقه أو مثله أو تفرّد بما لا يحتمل منه ، أو بما أعله بعض كبار الأئمة بما يمنع من ثبوته ، وقد قال علي بن المديني : سمعت يحيى بن سعيد وذكر عمر بن الوليد الشني ، فقال بيده يحركها كأنه لا يقويه ، قال علي : فاسترجعت أنا فقال : ما لَكَ ؟ قلت : إذا حركتَ يدَك فقد أهلكتَه عندي ، قال : ليس هو عندي ممن أعتمد عليه ، ولكنه لا بأس به(2) .
__________
(1) أي شبه مستطيل أفقي ضيق رُفعت قاعدته .ولم يتيسر لي رسمه كما ينبغي .
(2) رواه ابنُ أبي حاتم في (الجرح والتعديل) والعقيلي في (الضعفاء)؛ كلاهما من طريق صالح بن أحمد بن حنبل عن علي بن المديني به.(4/250)
فتأمل معنى (لا بأس به) عند يحيى بن سعيد ؛ فورودها في مثل هذا السياق الذي يتبين منه تفسيرها ، من مهمات الفوائد ، فإن يحيى بن سعيد إمام كبير في الجرح والتعديل بل هو شيخ كثير من أئمة الجرح والتعديل كأحمد وعلي ويحيى وعمرو بن علي الفلاس .
فمن الواضح أن الإمام يحيى بن سعيد قد قال في الأثر السابق : (لا بأس به) في حق راو لا يحتج هو به ولا يَعتمد عليه ، فإن لم يكن هذا الإمام قد استعمل هذه اللفظة بهذا المعنى استعمالاً خاصاً بسياق هذا الأثر(1)، فحينئذ يتبين أنه كان يستعملها فيمن لا يَحتج هو به ولكنه عنده متماسك أو قوي في الجملة ؛ والله أعلم(2) .
__________
(1) وهو احتمال بعيد.
(2) وقال عبد الله بن يوسف الجديع في (تحرير علوم الحديث) (1/573-576) في قولهم (لا بأس به) ، أو (ليس به بأس) ما خلاصته :
(الأصل أن هذه اللفظة إذا أطلقت على راو مِن قِبل ناقد عارف فهي تعديل له في نفسه وحديثه ، فإن أريد به معنى مخصوص بُيِّن ؛ وذلك الراوي قد يحتج به ابتداء .
وقد تكون هذه اللفظة بمنزلة قولهم في الراوي : (صدوق) ، فيكتب حديثه وينظر فيه ، ويحتج به بعد اندفاع شبهة الوهم والخطأ ، لكون الوصف بها حينئذ قاصراً عن وصف أهل الضبط والإتقان ، مثل قول ابن عدي في (المغيرة بن زياد الموصلي) : " عامة ما يرويه مستقيم ، إلا أنه يقع في حديثه كما يقع في حديث مَن ليس به بأس، من الغلط ، وهو لا بأس به عندي " .
وقد يكون الراوي الموصوف بها موضع تردد عند الناقد ، كقول أبي حاتم الرازي في (إبراهيم بن عقبة بن أبي عياش الأسدي) وقد وثقوه : " صالح ، لا بأس به " ، قال ابنه : قلت : يحتج بحديثه ؟ قال : " يكتب حديثه " ، وكقوله في (زهرة بن معبد أبي عقيل) : " ليس به بأس ، مستقيم الحديث " فقال ابنه : يحتج بحديثه ؟ قال : " لا بأس به " .
وقد يعتبر به ، ولا يبلغ حديثه الاحتجاج ).(4/251)
وقد ادعى بعض المتوسطين والمتأخرين أن طائفة من العلماء قليلة ، كابن معين ، خرجوا عن اصطلاح الجمهور في هذه اللفظة ، فاستعملوها بمعنى (ثقة) أو ما يقاربه ، ولكن الدراسة المتأنية الكافية تدل على ضعف تلك الدعاوى ، وإليك بعض أدلة ذلك :
قال أبو بكر بن أبي خيثمة في (تاريخه) (ص 315- تاريخ المكيين ) : (قلت ليحيى بن معين(1) : إنك تقول : فلان ليس به بأس ، وفلان ضعيف ؟ قال : إذا قلتُ [لك] : ليس به بأس ، فهو ثقة ؛ وإذا قلت لك : هو ضعيف، فليس هو بثقة ، ولا يُكتب حديثه) ؛ وأخرجه من طريق ابن أبي خيثمة : ابنُ شاهين في (الضعفاء) (ص42) وفي (الثقات) (1653) ، والخطيبُ في (الكفاية) (ص22) .
وقال أبو زرعة الدمشقي في (تاريخه) (ص177) (896) : (قلت لعبد الرحمن بن إبراهيم [هو دحيم] : ما تقول في علي بن حَوشب الفزاري؟ قال : لا بأس به؛ قلت : ولمَ لا تقول : ثقة، ولا تعلم إلا خيراً ؟ قال : قد قلت لك : إنه ثقة).
قال العراقي في (شرح ألفيته) (2/7-8) في أثناء كلامه على معنى قول ابن معين (لا بأس به) : (لم يقل ابن معين : إن قولي (ليس به بأس) كقولي (ثقة) ، حتى يلزم منه التساوي بين اللفظين ؛ إنما قال ان من قال فيه هذا فهو ثقة ، وللثقة مراتب ، فالتعبير عنه بقولهم (ثقة) أرفع من التعبير عنه بأنه (لا بأس به) ، وإن اشتركا في مطلق الثقة ، والله أعلم ؛ وفي كلام دحيم ما يوافق كلام ابن معين---) ؛ ثم استشهد بالخبر الذي سبق نقلُه من (تاريخ أبي زرعة الدمشقي) .
__________
(1) وورد في بعض الكتب أن السائلَ أبو خيثمة ، وهو خطأ ، والصواب أنه ابنه.(4/252)
وقال السخاوي في (فتح المغيث) (2/118) عقب كلام في هذه المسألة : (وأجاب الشارح [يعني العراقي] أيضاً بما حاصله أن ابن معين لم يصرح بالتسوية بينهما ، بل أشركهما في مطلق الثقة ، وذلك لا يمنع ما تقدم ، وهو حسن ؛ وكذا أيده غيرُه بأنهم قد يطلقون الوصف بالثقة على من كان مقبولاً ، ولو لم يكن ضابطاً(1) ، فقول ابن معين هنا يتمشى عليه) .
تنبيهات :
الأول : قد ترد كلمة (لا بأس به) على غير معناها الاصطلاحي ؛ انظر (مذاهب النقاد للرجال غامضة دقيقة) .
الثاني : قال الصنعاني في (توضيح الأفكار) (2/265) وهو يذكر مراتب التعديل) : (المرتبة الثالثة : قولهم "ليس به بأس" ، أو "لا بأس به" ؛ فإن قيل : إنه ينبغي أن يكون "لا بأس به" أبلغ من "ليس به بأس" لعراقة "لا" في النفي ، أجيب بأن في العبارة الأخرى قوة من حيث وقوع النكرة في سياق النفي ، فساوت الأولى في الجملة ؛ أو "صدوق" على صيغة المبالغة ، لا "محله الصدق" فيأتي أنها دونها ----) إلخ .
الثالث : ادعى مؤلفا (تحرير التقريب) لكلمةِ "لا بأس به" عند النسائي معنىً مبتكراً وفيه نظر ؛ فقد حملا (لا بأس به) و (ليس به بأس) من النسائي في شيوخه على التوثيق المطلق، واستدلا بشيء من نقلٍ أو من استقراء؛ قالا في (التحرير) (2/336) : (وكذلك قول النسائي "لا بأس به" إنما يقوله ويريد به التوثيق بالنسبة لشيوخه).
__________
(1) يؤخذ من هذا أن الضبط إذا أُطلق فالمراد التام منه.(4/253)
هكذا جزما بهذا في هذا الموضع وأطلقاه، ومثله قولهما في (2/335-336)، ولكنهما قيداه في مواضع أخرى بالغلبة أو الكثرة إذ قالا (2/87) : (وقال النسائي : "لا بأس به" وهو شيخه، وهذه اللفظة غالباً ما يطلقها النسائي على شيوخه الثقات تحرياً(1) ) .
وقالا (1/73) فيها : (وهذا التعبير كثيراً ما يستعمله النسائي لشيوخه الثقات الذين يرتضي حديثهم بدليل قوله في موضع آخر : ثقة ) .
ولم يجزما حيث قالا (2/282) : (ولعل النسائي يستعمل (لا بأس به) لتوثيق شيوخه كما بينّا غير مرة ) ؛ وانظر (التحرير) (1/62 و 64) .
فمستندهما في ذلك إذن هو تنوع عبارات النسائي في راو بعينه في كثير من الرواة، وليس فيه على مدعاهما كبير دلالة؛ بل ليس هذه الدعوى هنا بأولى من أن تعكس فيدَّعى أن مراد النسائي بلفظة (ثقة) أحياناً هو معنى لفظة (لا بأس به) عند الجمهور، فيكون النسائي ممن يستعمل كلمة ثقة بمعنى وصف الراوي بالقبول العام الشامل لمرتبتي الصحة والحسن ؛ أو أَن النسائي يفرق بين لفظتي (ثقة) و (لا بأس به) ولكنه كان أحياناً يتجوز - أو يتسهل - فيطلق على من هو لا بأس به عنده كلمة (ثقة).
وكذلك ليست تلك الدعوى بأولى من أن يقال : لعل النسائي كان أحياناً يتردد في الراوي فيصفه مرة بأنه ثقة ومرة بأنه لا بأس به، وعلى هذا فمن قال فيه مرة : ثقة ، ومرة : لا بأس به، يكون أحسن حالاً ممن لم يزد فيه على كلمة (لا بأس به) .
ولكن كلاً من هذه الدعاوى الثلاث لا تقبل إلا بدليل مقبول.
__________
(1) أليس تحري الإمام النسائي للدقة في التعبير هو الأليق به وبإمامته في هذا الفن؟ ؛ ثم إن قولهما (تحرياً) لا تصريح فيه بمرادهما ، ما الذي كان يتحراه النسائي عندما يصف شيخه الذي يراه ثقة وثاقة تامة بأنه (لا بأس به)؟!(4/254)
واختلاف عبارتي الناقد مع اتحاد مقصديهما أو مع تقاربهما واقع في الجملة من عدد من الائمة قبل النسائي كابن معين، وبعده كالدارقطني، بل إن غير واحد من العلماء - كهذين الإمامين أيضاً - يكثر أن يقع في كلام أحدهم في الراوي الواحد - إذا تكرر كلامهم فيه - اختلافٌ لفظي واسع واختلاف معنوي غير قليل؛ ولهذين الاختلافين اللفظي والمعنوي أسباب كثيرة ليس هذا موضع بيانها.
ثم إنه لو ثبت أن النسائي قال في طائفة من الثقات عنده : (لا بأس به) فليس من الصحيح أن يُجعل ذلك دليلاً على تساوي تلك اللفظتين عنده مطلقاً حيث وردتا مع أنهما عند سائر النقاد متباينتان ، ومع ظهور تباينهما عنده نفسه في أغلب مواضعهما.
وممن قارب مؤلفي (تحرير التقريب) في هذه القضية ولكنه كأنه كان أقرب إلى الحق منهما الدكتور قاسم علي سعد فقد قال في (مباحث في علم الجرح والتعديل) (ص37-38) بعد أن تكلم على معنى (لا بأس به) عند ابن معين : « قلت : والنسائي يقارب ابن معين أو يماثله في اصطلاحه (لا بأس به) فهذه الكلمة عند النسائي أعلى منها عند الجمهور، وأذكر هنا عدة أمثلة ساوى النسائي فيها بين لفظة (ثقة) ولفظة (لا بأس به) »، ثم ذكر ثمانية أمثلة ختمها بقوله : « فلعل هذه الأمثلة توضح ما ذكرته، وهي قليل مما في (تهذيب التهذيب) » ؛ انتهى .(4/255)
والذي أرتضيه أن يكون خاتمة لهذا النقاش في حق اصطلاح النسائي هذا ، هو أن كلمة (لا بأس به) في اصطلاحه لا تبعد أن تكون أعلى في معناها من كلمة (لا بأس به) في اصطلاح الجمهور ، ولم يكن يتسهَّل في إطلاقها على من كان ليناً أو فيه ضعف ، ولكن لا يمكن بحالٍ أن نعدها مرادفة لكلمة (ثقة) في اصطلاحه أي النسائي ، لا في حق شيوخه ولا غيرهم ؛ فالنسائي يبعد أن ينزل بالراوي من كلمة (ثقة) إلى كلمة (لا بأس به) من غير سبب يقتضي ذلك النزول ، ويبعد أيضاً أن يخالف الجمهور - ومعهم أهل اللغة - مخالفة كبيرة في اصطلاح كان كثير الدوران على ألسنة النقاد وغيرهم ، بل كان مشتهراً جداً في عصره وقبل عصره .
ونُقل عن الشيخ عبد الله السعد حفظه الله أنه قال : "لا بأس به" عند ابن عدي أحياناً تكون تضعيفاً منه للراوي .
قلت : قال ابن عدي في (الكامل) (8/76) في المغيرة بن زياد الموصلي : (عامة ما يرويه مستقيم ، إلا أنه يقع في حديثه كما يقع في حديث مَن ليس به بأس، من الغلط ، وهو لا بأس به عندي) .
لا بأس به إن شاء الله :
هي في وصف الراوي أدنى رتبةً له من قول الناقد فيه (لا بأس به) من غير أن يستثني ، لأن الاستثناء في مثل هذا المقام دالٌّ على التردد بسبب قلة خبرة الناقد بذلك الراوي أو عدم كفايتها للجزم بوصف حاله ؛ وانظر (لا بأس به).
لا بأس به عندي :
الظاهر أن الناقد إنما يزيد في هذه العبارة كلمة (عندي) ، إما ليبين أنه يعلمُ أنه خالف في ذلك الحكمِ بعضَ العلماء ، أو أنه يتوقع أنه سيخالفه بعضهم ، أو ليبين أنه قال ذلك الكلام عن دراية واستقراء وخبرة ؛ وانظر (لا بأس به) .
لا تأخذوا عنه :
انظر (قد عرفته) .(4/256)
لا تكتبْ حديثَه :
هذه الكلمة إنما تقال في الأصل لمن لا يُنتفع بكتابة حديثه ، أي أنه متروك الحديث لا يحتج به ولا يستشهد به ، هذا الذي يدل عليه مقتضى صنيعهم في كتابة الأحاديث ومقاصدهم من الكتابة ، ولكن قد يقول الناقد هذه الكلمةَ لبعض تلامذته أو سائليه في حق بعض الضعفاء الذين يستشهد بهم ولا يحتج بهم ، نصيحةً لسائله إما لعلمه بإكثار ذلك السائل من أحاديث الضعفاء ، وإما لخوفه من اشتغاله بها عن أحاديث الثقات ، وإما لبدعة في ذلك الراوي أي المسؤول عنه ، أو لنزول في أحاديثه ، أو لغير ذلك .
قال المعلمي في (التنكيل) (ص305) :
(الرابع : أن كلمة (لا تَكتبْ حديثَه)(1) ليست بصريحة في الجرح ، فقد يكون ابن معين مع علمه برأي غيره من المحدثين علم أن أحمد قد استكثر من سماع الحديث ويمكنه أن يشتغل بما هو أنفع له من تتبع أحاديث أبي حنيفة) .
وانظر (لا يكتبُ حديثه) .
لا سبيل إليه :
كلمة قالها أحمد بن سيار المروزي في أحمد بن عبد الله الفرياناني ، لمّا سُئل عنه ، كما في (أنساب السمعاني) (10/209) .
فكأنه يريد أنه لا ينبغي الكلام فيه بمدح لضعفه في الرواية ، ولا بقدحٍ لصلاحه في نفسه .
قال المعلمي في (التنكيل) (1/128-129) (قسم التراجم - ترجمة أحمد بن عبدالله أبو عبدالرحمن) وهو الفرياناني نفسه :
(قال [السمعاني] : "وسئل أحمد بن سيار عنه ؟ فقال : لا سبيل إليه" ؛ وهذا يدل أن الرجل كان له شهرة وصيت في تلك الجهات ، وقد روى عنه الحسن بن سفيان وغيره كما في ( الميزان ) ، وقال الذهبي : وقد رأيت البخاري يروي عنه في كتاب "الضعفاء" ) .
__________
(1) قال ابن معين هذه الكلمة لأحمد بن سعد بن أبي مريم وقد سأله عن أبي حنيفة رحمه الله.(4/257)
ثم بحث المعلمي في هذه المسألة وغيرها وخلص إلى أن قال (1/130) : (والمقصود هنا أن رواية البخاري عن الفرياناني تدل أنه كان عنده صدوقاً في الأصل ، وقد لقيه البخاري فهو أعرف به ممن بعده ؛ وقد تأيد ذلك بأن الرجل كان مشهوراً في تلك الجهة بالخير والصلاح كما مر، وأن أحمد بن سيار على جلالته لما سئل عنه قال : ( لا سبيل إليه ) ، كأنه يريد أنه لا ينبغي الكلام فيه بمدح لضعفه في الرواية ، ولا قدح لصلاحه في نفسه ، على أن أكثر الذين تكلموا فيه لم يرموه بتعمد الكذب ؛ فأما أبو نعيم فمتأخر وقد تتبعنا كلام من تقدمه فلم نجد فيه ما تحصل به النسبة إلى الوضع فكيف الشهرة ؟). انتهى كلام المعلمي رحمه الله(1).
لا شيء :
كلمة تضعيف للراوي ؛ وقال فيها عبد الله بن يوسف الجديع في (تحرير علوم الحديث) (1/622) : (عبارة كثيرة الاستعمال ، وهي من ألفاظ التجريح المجملة .
ومن أكثر النقاد استعمالاً لها : يحيى بن معين ، كما وقعت في كلام غيره بقلَّة ، كسفيان بن عيينة وأحمد بن حنبل والبخاري وأبي زرعة الرازي وغيرهم .
ولم أجدها خارجة عن دلالة قولهم : (ليس بشيء) ، فأكثر من قيلت فيهم الضعفاء ، ومراتبهم في الضعف تتفاوت بين خفته كاللِّين ، وشدَّته كالتُّهمة بالكذب .
وفسرها ابن أبي حاتم الرازي في استعمال ابن معين ، فنقل عن إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين في خالد بن أيوب البصري ، قال : " لا شيء " ، قال : " يعني ليس بثقة "(2).
__________
(1) وقد قال في تعليقه على بعض أحاديث (الفوائد المجموعة) (ص71) : (في السند من لم أعرفه ، وفيهم أحمد بن عبد الله بن عبد الرحمن ، وفي طبقته أحمد بن عبد الله أبو عبد الرحمن الفرياناني تالف ، ترجمتُه في (لسان الميزان) (1/194)، فإن لم يكنه فهو مجهول ) .
(2) الجرح والتعديل (1 / 2 / 321) .(4/258)
وقيلت في الراوي المقلِّ الذي لم يتبين حفظُه وإتقانه لقلِّة حديثه ، كما قالها مثلاً يحيى بن معين في هُبيرة بن حُدير العدوي(1)، وقالها الدارقطني في الهجنَّع بن قيس(2). انتهى كلامه.
وانظر (ليس بشيء) ، فهذه بمعنى تلك ، أعني في استعمالات المحدثين .
لا شيء البتة :
هذه من الألفاظ الدالة على كون الراوي متروكاً ؛ وانظر (لا شيء) .
جاء في (المعجم الوسيط) تحت مادة (بتَّ) : (يقال : لا أفعله بَتَّةً ، و لا أفعله البَتَّةَ وألبَتَّةَ(3) : قطعاً لا رجعةَ فيه) ؛ وجاء فيه قبل هذا : (بتَّ الشيءُ [يبِتُّ] بُتوتاً : انقطع ---؛ و[بَتَّ] الشيءَ [يبُتُّه] بتّاً وبتَّةً وبَتاتاً : قطعه مستأصلاً ----).
لا مشاحة في الاصطلاح :
هذه العبارة تتكرر في كلام العلماء ويعنون بها أنه لا منازعة في الألفاظ والتسميات الجديدة أو الخاصة ، أي لا مضايقة على من اصطلح لنفسه إصطلاحاً ما ، إذا كان لفظ ذلك الاصطلاح يؤدي المعنى المراد تأدية صحيحةً مبيَّنة(4).
__________
(1) الجرح والتعديل (4 / 2 / 110).
(2) سؤالات البرقاني (527) .
(3) أي بوصل الهمزة ، وبقطعها.
(4) قد كَتب في هذه المسألة أبو عبد الرحمن محمد الثاني بن عمر مقالاً جيداً في (مجلة الحكمة / عدد 22 / 1422ص / 281 ـ 317) ، بعنوان (التقييد والإيضاح لقولهم : لا مشاحة في الاصطلاح) ؛ وهو مقال نافع ؛ ويأتي النقل عنه إن شاء الله تعالى.
وقد شرح فيه ستةً من القيود والإيضاحات ، وهي :
1- لا ينزَّل كلام الله ورسوله على اصطلاح حادث.
2- لا عبرة بمصطلح قُصد به ردُّ نص شرعي .
3- لا يجوز استعمال مصطلحات تتضمن الإخلال بالأدب مع الله تعالى ، أو مع أحد من أنبيائه ورسله صلوات الله عليهم أجمعين.
4- ضرورة بيان ما في بعض الاصطلاحات من إيهام وتلبيس .
5- لا يجوز التزام المصطلحات المنطقية في بيان القضايا الشرعية .
6- لا يفسَّر كلام سلف الأمة أو يحاكمون وفق اصطلاحات حادثة .(4/259)
ثم إنَّ لهم عبارات أخرى في نحو هذا المعنى كقولهم (لا مشاحة في الألفاظ بعد معرفة المعاني)، وقولهم (لا مشاحة في الأسامي).
ولصحة الاحتجاج بهذه العبارة (لا مشاحة في الاصطلاح) - أو للعمل بها - شروط أهمها عدم الإيهام؛ قال الشيخ طاهر الجزائري في (توجيه النظر) (1/78) :
(وقد ذكر المحققون أنه ينبغي لمن تكلم في فن من الفنون أن يورد الألفاظ المتعارفة فيه مستعملا لها في معانيها المعروفة عند أربابه؛ ومخالف ذلك إما جاهل بمقتضى المقام أو قاصد للإبهام أو الإيهام .
مثال ذلك فيما نحن فيه أن يقول قائل عن حديث ضعيف : إنه حديث حسن ؛ فإذا اعتُرض عليه قال : وصفته بالحسن باعتبار المعنى اللغوي لاشتمال هذا الحديث على حكمة بالغة؛ وأما قولهم "لا مشاحة في الاصطلاح" فهو من قبيل تمحل العذر وقائل ذلك عاذل في صورة عاذر).
لا نعدل بأهل بلدنا أحداً :
كان بعض النقاد يفضلون أحياناً من يعرفونه حق المعرفة على من لا يعرفونه كذلك ولو اشتهر عنهم بالخير والفضل والثقة وسعة العلم ، فينبغي التنبه لذلك ، أي من كان من العلماء يقدم محدثاً رآه هو على آخر لم يره فينبغي التثبت في قبول كلامه، قال الذهبي في (السير) (5/474) : (كان يحيى بن سعيد القطان يقدم يحيى بن سعيد الأنصاري على الزهري لكونه رآه ولم ير الزهري).(4/260)
وكذلك يجب التثبت في تقديم بعض النقاد لأهل بلدهم على غيرهم؛ فإنه يحتمل أن يكون أحياناً من هذا الباب الذي تقدم معناه؛ روى الخطيب في (الجامع) (2/460) عن محمد بن عبدالرحمن السَّامي قال : (نا أحمد بن سعيد الدارمي قال : سمعت محمود بن غيلان يقول : قيل لوكيع بن الجراح : هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة؛ وأفلح بن حميد عن القاسم عن عائشة؛ وسفيان عن منصور عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة؛ أيهم أحبُّ إليك؟ قال : لا نعدل بأهل بلدنا أحداً؛ سفيان عن منصور عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة أحب إلي ؛ قال أحمد بن سعيد الدارمي : وأما أنا فأقول : "هشام بن عروة عن أبيه عن عائشةَ" أحَبُّ إليَّ؛ هكذا رأيت أصحابنا يقدمون).
لا نعلم إلا خيراً :
انظر (لا أعلم إلا خيراً).
لا يتابع على حديثه :
يعني أنه يروي أحاديث ينفرد بها ولا تحتمل منه والحمل فيها عليه ، فهو إما واهم فيها ، لضعف حفظه وكثرة خطئه ، وهذا هو الغالب من معانيها ، وإما أنه يكذب فيها ، بالوضع أصلاً ، أو بالسرقة ، أو بتركيب الأسانيد ، أو بنحو ذلك من أنواع التصرف الباطل في الروايات .
تنبيهات :
التنبيه الأول :
بعض النقاد كان ربما قال : (فلان لم يتابع على هذا الحديث) ، وهو يريد بهذه العبارة أن ذلك الراوي لم يتابعه على حديثه المشار إليه من يُعتد بمتابعته ، ولم يكن مراده أنه لم يتابَع أصلاً ، فليعلم ذلك.
التنبيه الثاني :
بعض النقاد - كابن حبان والعقيلي - كانوا أحياناً ولعلها قليلةً يطلقون هذه العبارة (لا يتابع على حديثه) على من روى شيئاً يسيراً من الغرائب أو المناكير ولو كان حديثاً واحداً أو حديثين ، وتشدد الإمام العُقيلي في هذا الباب أوضح وأظهر، ولذا وجب التثبت عند إرادة البناء على مثل هذا النقد من هذا الناقد.(4/261)
قال عبد الله بن يوسف الجديع في (تحرير علوم الحديث) (1/610-611) : (وأكثر من استعمل هذه العبارة من المتقدِّمين البخاري ، وإذا قالها في راوٍ فإنه يعني تفرده بما لا يُعرف إلا من طريقه ، وفي الغالب هو حديثٌ معيَّنٌ ليس لذلك الراوي سواه ، ولذا فهذه اللفظة إذا قالها البخاري في راو فهو تضعيف ؛ لأنها غالباً إمَّا في مجهول أو مُقلِّ ، ومن كان بهذه المنزلة ولا يروي إلا حديثاً واحداً يتفرد به ، فلا يحتج به .
وتبعه على استعمالها العقيلي ، وأطلقها على جماعة من الرواة هم بهذه المثابة .
لكنه ذكر بعض الثقات أيضاً ، وقال فيهم مثل ذلك ، وربما أورد الحديث مما يعنيه أن ذلك الراويَ لم يتابع عليه(1) .
فقالها مثلاً في سعد بن طارق الأشجعي ، وسلام بن سليمان أبي المنذر ، وعقبة بن خالد السَّكونيِّ ، ويحيى بن عثمان الحربي، وغيرهم ، وهؤلاء ثقات ، والتفرد لا يضر في قبول ما رووا)(2).
التنبيه الثالث : أن الصحيح في معنى هذه العبارة في استعمالات الأئمة النقاد أنها عبارة تجريح ؛ ولهذا ترى أنه لما قال العقيلي في (الضعفاء) (2 / 245) في عبد الله بن خَيرانَ البغدادي : (لا يتابع على حديثه) ، تعقَّبه الخطيب في (تاريخ بغداد) (9 / 451) فقال : (قد اعتبرت من رواياته أحاديث كثيرة ، فوجدتها مستقيمة تدل على ثقته)؛ وهذا دليل على أن الخطيب عدَّ عبارة العقيلي هذه تجريحاً.
وقال الحافظ الإمام ابن القيم رحمه الله في (الطرق الحكمية) (2/615 - الفوائد) : (وذكر البخاري في تاريخه أن عبدالله بن الخليل لا يتابع على هذا الحديث ، وهذا يوافق قول أحمد : إنه حديث منكر) .
التنبيه الرابع :
__________
(1) قلت : فكأن كتاب العقيلي - بما فيه من هذه المسائل - ضم جوانب من علم العلل ، إضافة إلى موضوعه الرئيس وهو ذكر الضعفاء من الرواة . محمد .
(2) قلت : هذا ليس على اطلاقه، فكم من ثقة رد النقاد كثيراً مما يتفرد به.(4/262)
من عبارات البزار في وصف من كان كذاباً أو ساقطاً من الرواة : (حدث بأحاديث لم يتابع عليها) .
لا يتحرر أمره :
هذه من الألفاظ التي تقتضي تضعيف الراوي .
لا يتحرر حاله :
هذه كالتي قبلها .
لا يُتْرَك :
أي يُكتب حديثه ، وهذه اللفظة تشعر بأن الراوي المقول فيه هذه الكلمة يُستشهد به ولا يحتج به ، ومرتبة الاستشهاد من مراتب الجرح لا من مراتب التعديل(1) ، وأما قول الذهبي في (الميزان) في ترجمة الربيع بن حبيب البصري : (وثقه أحمد وابن معين وابن المديني ، فقول الدارقطني فيه "لا يترك" ليس بتجريح له) فلا دلالة فيه على خلاف ما ذكرتُه ، لأنه يحتمل - بل يظهر - أن الذهبي لم ينظر في هذه الكلمة إلى معناها في نفسها مجرداً ، وإنما نظر أيضاً إلى ما اجتمع حولها من القرائن ، فحملها على معنى مخالف لما هو الأصل فيها ، حملَها على أن المراد أنه لا يترك الاحتجاج به(2) ؛ ثم إنه من المعلوم أنه لا يلزم أن يكون الذهبي مصيباً في تفسير كلمة الدارقطني هذه ، فلعل الدارقطني أراد الأصل الذي بينتُه أولاً في معنى كلمة (لا يترك) ، ومعنى ذلك أن الربيع في نقد الدارقطني يستشهد به وليس متروكاً ، فهو عنده من جملة المجروحين خلافاً للأئمة الثلاثة المذكورين ، وحينئذ يكون قول الذهبي (فقول الدارقطني فيه "لا يترك" ليس بتجريح له) غير مقبول .
__________
(1) ومن خالف في ذلك فليس بمصيب .
(2) وبعبارة أخرى أقول : لا أدري هل أراد الذهبي بالتعليق على كلمة الدارقطني بيانَ ما هو الأصل في معناها عنده ، أم بيانَ معناها في حق هذا الراوي خاصة ، أم بيان كون حكم الدارقطني مرجوحاً؟ والاحتمال الثاني هو الأقرب.(4/263)
لا يُترك حديثُ رجلٍ حتى يجتمع الجميعُ على ترك حديثه :
قال يعقوب بن سفيان في (المعرفة والتاريخ) (2/191) - ومن طريقه الخطيب في (الكفاية) (ص18) - : (سمعت أحمد بن صالح وذكر مسلمةَ بنَ علي فقال : لا يُترك حديثُ رجلٍ حتى يجتمع الجميعُ على ترك حديثه ؛ قد يقال [أي لمن لم يتركه الجميع ولكن تركه بعضهم] : فلان ضعيف ؛ فأما أن يقال [أي له] : فلان متروك ، فلا ؛ إلا أن يجتمع الجميع على ترك حديثه) ؛ انتهى وزدت عليه ما بين الحاصرتين.
هذه العبارة معناها أن أحمد بن صالح كان لا يرى ترك الرواية عن رجل تركه بعض العلماء ، ويرى أن الصحيح أن يُروى عنه ، وإن كان تركُ من تركَه قد يدل على ضعفه ، ويرى أنه لا يُترَك الراوي إلا إذا تركه كل النقاد العارفين بحاله.
وليس معنى كلمة "الجميع" هنا في عبارته هو كل أهل الحديث من أهل عصره ؛ أو أهل مصرِه ، أو كل من لقيه من أقرانه وطبقة تلامذته؛ وإنما المعنى ما ذُكِر، أي جماعة المتكلمين على حال ذلك الراوي من علماء النقد المعتمدين .
وهذا تساهل غريب واسترواح عجيب من هذا العالم الناقد .
تنبيه : نسبت هذه الكلمة أو معناها إلى أحمدين آخرين هما الإمام أحمد بن حنبل الشيباني ، والإمام أحمد بن شعيب النسائي ؛ وإليك بيان الحق في هذين الادّعائين أو مناقشتهما .
أما نسبة الكلمة إلى الإمام أحمد بن حنبل فقد قال الشيخ عبد الفتاح أبو غدة في تعليقه على (قواعد التهانوي) (ص37) ما لفظه :(4/264)
(قال السيوطي في "زهر الربى على المجتبى" أي "سنن النسائي" (1/3) : قال النسائي : لا يترك الرجل عندي حتى يجتمع الجميع على تركه؛ انتهى، وليس هذا مذهب النسائي وحده، بل تقدمه به مَن قَبْله كالإمام أحمد بن حنبل والإمام أحمد بن صالح المصري، ففي (تهذيب التهذيب) للحافظ ابن حجر في ترجمة عبد الله بن لهيعة المصري (5/237) : "قال يعقوب : قال لي أحمد بن حنبل : مذهبي في الرجال أني لا أترك حديث محدِّث حتى يجتمع أهل مصر على ترك حديثه" ، وفي (شرح الألفية) للسخاوي (ص160-161) قال أحمد بن صالح : لا يترك حديث الرجل حتى يجتمع الجميع على ترك حديثه) ؛ انتهى كلام أبو غدة .
وهذا وهم؛ فإن الذي في الموضع المذكور من (تهذيب التهذيب) هو نقل يعقوب بن سفيان عن أحمد، غير منسوب؛ والمراد به قطعاً هو ابن صالح المصري، فإن ابن حجر صرح قبل ذلك بنسبته، ثم لما ذكره ثانياً أهمله، وهذه عادة للمؤلفين، بل لأكثر الكتّاب والمتحدثين، وهي معروقة سائغة، ولا أدري من أين أتى الشيخ عبد الفتاح أبو غدة بزيادة (بن حنبل)! ؛ ولتأكيد ما ذكرته أزيده بياناً فأقول :
الذي في الموضع المشار إليه من (تهذيب التهذيب) إنما هو : (وقال يعقوب بن سفيان : سمعت أحمد بن صالح----)؛ ثم راح ابن حجر ينقل كلام يعقوب عن أحمد بن صالح ولم يزل فيه إلى أن قال : (قال يعقوب : وقال لي أحمد : مذهبي في الرجال أني لا أترك حديث محدث حتى يجتمع أهل مصر على ترك حديثه ).(4/265)
وقال المزي في ترجمة ابن لهيعة من (تهذيبه) (15/497) بعد كلام نقله عن يعقوب بن سفيان عن أحمد بن صالح المصري : ( قال يعقوب : وكنت كتبت عن ابن رمح كتاباً عن ابن لهيعة وكان فيه نحو ما وصف أحمد بن صالح، فقال : هذا وقع على رجل ضبط إملاء ابن لهيعة؛ فقلت له في حديث ابن لهيعة ؟ فقال : لم تعرف مذهبي في الرجال، إني أذهب إلى أنه لا يترك حديث محدث حتى يجتمع أهل مصره على ترك حديثه؛ وقال يعقوب بن سفيان في موضع آخر : سمعت أحمد بن صالح يقول : كتبت حديث ابن لهيعة----) الخ.
ثُم إن ثَمَّ قرائن تأبى حمله على ابن حنبل، منها هذه القرائن التالية :
الأولى : قوله (أهل مصر)، وهذه الكلمة، لو ثبتت، تليق بأحمد بن صالح المصري، لا بأحمد بن حنبل البغدادي ؛ ولكن الكلمة في الحقيقة خطأ وصوابها (مصرِهِ)، ولكن هكذا وقعت في مطبوعة (التهذيب) وعبد الفتاح أبو غدة قد اعتمدها - على ما يظهر - فهي بالنسبة إلى من يصححها ويعتمدها ينبغي أن تكون قرينة على ما ذكرتُ، أي أن المراد ابن صالح لا ابن حنبل.
الثانية : أن المحفوظ المشهور عن يعقوب نقلُ ذلك عن أحمد بن صالح - وهو عن أحمد بن صالح في كتب المصطلح وغيرها - لا عن أحمد بن حنبل، وليس من القريب أن يتوارد مثل أحمد بن صالح وأحمد بن حنبل على مثل هذا المعنى ومثل هذه العبارة ، إلا أن يكون أحدهما قد أخذها من الآخر ، أو تكون قاعدة لبعض الأئمة ممن كان قبلهما فأخذها كل واحد منهما ومشى عليها وعبر عنها بنفس عبارة صاحبها الأول ؛ وأما أنا فلم أقف على سلف لهما في هذه العبارة ، ولا أظنه موجوداً.
الثالثة : يبعد أن توجد مثل هذه العبارة عن الإمام أحمد بن حنبل ثم يُغفل نقلَها عنه ابنه عبد الله في (العلل ومعرفة الرجال) والخطيب البغدادي في (الكفاية) والناس في كتبهم .(4/266)
الرابعة : أن معنى هذه العبارة خلاف المعروف من عمل الإمام أحمد بن حنبل وما كان جارياً عليه في باب الكلام على الرواة والاحتجاج بهم والرواية عنهم وتركِهم.
الخامسة : ان هذه الكلمة تدل على تساهل في النقد، وتقليد للعلماء؛ والإمام أحمد أحد أئمة الاعتدال والإنصاف والاجتهاد؛ وهو بخلاف أحمد بن صالح المصري فإنه عنده شيء من التساهل في التوثيق ، وقد ذكر الشيخ عبدالله السعد في تقديمه لكتاب (تعليقة على العلل لابن أبي حاتم) لابن عبد الهادي رحمه الله (ص 64-65) عدداً من الأمثلة على تساهله.
هذا ما يتعلق بنسبة هذه القاعدة إلى أحمد بن حنبل رحمه الله.
وأما علامة الحديث وعلله أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي ، فقد قال ابن الصلاح في (المقدمة) (ص33) في تضاعيف كلام له : (إذ حكى أبو عبد الله الحافظ أنه سمع محمد بن سعد الباوَرْدِي بمصر يقول : كان من مذهب أبي عبد الرحمن النَّسائي أن يخرج عن كل من لم يُجمَعْ على تركه----)(1) .
__________
(1) والمراد بأبي عبدالله الحافظ محمد بن إسحاق بن منده ، فقد قال في (شروط الأئمة) (ص71-73) في جماعة ذكرهم من الرواة المختلف فيهم أو المتكلم فيهم :
(قد أخرج عنهم محمد بن إسماعيل البخاري وتركهم مسلم بن الحجاج ، أو أخرج عنهم مسلم وتركهم البخاري لكلام في حديثه أو غلو في مذهبه .
وتبعهم في ذلك أبو داود السجستاني وأبو عبد الرحمن النسائي وجميع من أخذ طريقتهم في الحديث ---- ؛ وكل هؤلاء مقبولون على مذهب أبي داود السجستاني وأبي عبد الرحمن النسائي إلا نفر نذكرهم ونبين مذهبهم فيهم إن شاء الله تعالى .
سمعت أبا علي الحسين بن علي النيسابوري يقول : ما تحت أديم السماء أصح من كتاب مسلم بن الحجاج .
وسمعت محمد بن يعقوب الأخرم وذكر كلاماً معناه هذا : قل ما يفوت البخاري ومسلماً مما ثبت من الحديث.
وسمعت محمد بن سعد الباوردي بمصر يقول : كان من مذهب النسائي أن يخرج عن كل من لم يجمع على تركه .
وكان أبو داود السجستاني كذلك يأخذ مأخذه ويخرج الإسناد الضعيف لأنه أقوى عنده من رأي الرجال) .(4/267)
فقال العراقي فيما نقله عنه السيوطي في (زهر الربى) (1/10) : (هذا مذهب متسع).
وأما ابن حجر فكأنه لم يرتض ظاهر هذا النقل ، فاضطر إلى تأويله بتقييده ، فقال في (النكت على ابن الصلاح والعراقي) (1/482) : (وما حكاه ابن الصلاح عن الباوردي أن النسائي يخرج أحاديث من لم يجمع على تركه فإنما أراد بذلك إجماعاً خاصاً.
وذلك أن كل طبقة من نقاد الرجال لا تخلو من متشدد ومتوسط.
فمن الأولى شعبة وسفيان الثوري ، وشعبة أشد منه.
ومن الثانية يحيى القطان وعبد الرحمن بن مهدي ، ويحيى أشد من عبد الرحمن.
ومن الثالثة يحيى بن معين وأحمد ، ويحيى أشد من أحمد.
ومن الرابعة أبو حاتم والبخاري ، وأبو حاتم أشد من البخاري.
وقال النسائي : "لا يُترك الرجل عندي حتى يجتمع الجميع على تركه" ؛ فأما إذا وثقه ابن مهدي وضعفه يحيى القطان مثلاً فإنه لا يُترك ، لما عرف من تشديد يحيى ومن هو مثله في النقد.
وإذا تقرر ذلك ظهر أن الذي يتبادر إلى الذهن من أن مذهب النسائي في الرجال مذهب متسع ليس كذلك ، فكم من رجل أخرج له ابو داود والترمذي تجنب النسائي إخراجَ حديثه ، كالرجال الذين ذكرنا قَبْلُ (1) أن أبا داود يخرج أحاديثهم ، وأمثال من ذكرنا ، بل تجنب النسائيُّ إخراجَ حديث جماعة من رجال الصحيحين----).
__________
(1) تصحفت في مطبوعة النكت الى (قيل) .(4/268)
قلت : إن كان الباوردي قال ذلك من عنده فإنه لا يلزم أن يكون مصيباً فيه ، والتوقف عن قبول كلامه حينئذ يكون أولى من قبوله وتأويله بنحو ما أوله به الحافظ ابن حجر ؛ وذلك لقوة المعارض ومخالفة الواقع(1)، وكذلك فإن الباوردي ليس مشهوراً بنحو كونه أحد أئمة العلل أو الاستقراء التام.
وأما إن كان الباوردي قد قاله نقلاً عن النسائي نفسه ، وبسند صحيح ، فحينئذ يكون تأويل ابن حجر سائغاً وجيهاً .
ولكن أين ذلك الإسناد ؟!
وأما نسبة ابنِ حجر هذه القاعدة إلى النسائي على أنها من قوله وتصريحه، كما تقدم في كلامه ، فلا أدري ما هو مستنده في ذلك ، وقد مرَّ أنها من ادعاء الباوردي .
__________
(1) بل إن النسائي قد وصف بالتشدد واشتهر بذلك أكثر من شهرته بالتساهل الذي أحد معانيه تلك القاعدة التي نحن بصدد مناقشة نسبتها إليه؛ فقد وصف النسائيَّ بالتشدد أو ما قد يدل عليه أو يوهمه جماعة من العلماء والدارسين فانظر (شروط الأئمة الستة) لمحمد بن طاهر (ص26) و(الميزان) للذهبي (1/437) و(السير) له (9/228) و(المغني) له (ترجمة مالك بن دينار)، و(مقدمة الفتح) لابن حجر (ص546) و(النكت) له (1/482-483) و(بذل الماعون في فضل الطاعون) له ، ومقدمة (شرح السيوطي لسنن النسائي)، و(الرفع والتكميل) للكنوي (ص100و176) و(التنكيل) للمعلمي (ص481 و697) و (الروض البسام في ترتيب وتخريج فوائد تمام) للدوسري (2/342) و(مباحث في علم الجرح والتعديل) لقاسم علي سعد (ص114-115) ، ومن تتبع مظانّ هذه المسألة في الكتب والبحوث وجد أكثر مما ذكرته هنا .
وإن كان عندي في ذلك كله نظر، وأن الإمام النسائي أقرب إلى الاعتدال منه إلى تسهُّلٍ أو تشدد.
وإنما أشرت إلى هذه المواضع لأبين أنها تعارض دعوى وصف النسائي بما يدل على سعة مذهبه في الرجال بل وعِظم تساهله فيهم.(4/269)
والذي أريد أن أقوله هو استبعادي صحة أن يكون النسائي قد صرح بمثل هذه القاعدة الدالة على التساهل والتقليد؛ واستبعادي لإصابة الباوردي في نسبته القاعدة المشار إليها ، إلى منهج النسائي في رواية الأحاديث ، أو في تصنيف الكتب على الأبواب؛ والله أعلم بحقيقة الأمر.
ومما قد يعين على تحقيق هذه القضية هو أن يُستقرأ الرواة الذين قال فيهم النسائي : (متروك) ، ثم يُنظر هل هم ممن أجمع النقادُ على تركهم ، أو أنَّ فيهم بعضَ من اختلفوا فيه ؛ وكذلك يُنظر هل ترك النسائي الإخراج لراوٍ لم يتفق النقاد على تركه ، وينظر ما نسبة هؤلاء وأولئك ، فبه يتم التوصل إلى طرف من تحقيق المسألة ، والله أعلم .
لا يُترك حديثُه :
انظر (لا يُترك) ، فمعناهما واحد .
لا يثبت :
راجع (لا يصح) .
لا يجوز الاحتجاج بخبره إذا انفرد :
معنى هذه العبارة - كما هو ظاهر : أن الراوي لا يحتج به إذا انفرد ، وأما رواياته التي تابعه عليها الأقوياء ومن يستشهد بهم في مثل ذلك المقام ، فإنه يُحتج بها بشروطها .
وهذه العبارة يكثر منها ابن حبان البستي رحمه الله ، وقد فسرها في بعض المواضع من كتبه ، قال في كتابه (المجروحين) في ترجمة يحيى بن سعيد التميمي المديني ( 3/118-119) : (كان ممن يخطئ كثيراً ، وكان رديءَ الحفظ فوجب التنكب عما انفرد من الروايات ، والاحتجاج بما وافق الثقات(1) ، لأن أمارات العدالة فيه ألْهته من الصدق والإتقان ، وإن وهم في الشيء بعد الشيء أو أخطأ في الحديث بعد الحديث ، فإن هذا شيء لا ينفك عنه البشر ، يُترك ما أخطأ فيه إذا عُلم ، والأحوط أن يترك ما انفرد من الرواية .
وكل ما نقول في هذا الكتاب : (إنه لا يجوز الاحتجاج بخبره إذا انفرد) فسبيله هذا السبيل : أنه يجب أن يترك ما أخطأ فيه ؛ ولا يكاد يعرف ذلك إلا الممعن البازل(2) في صناعة الحديث .
__________
(1) انظر (وجب التنكب ---- 0) .
(2) أي الكامل في تجربته .(4/270)
فرأينا من الاحتياط ترك الاحتجاج بما انفرد جملة حتى تشتمل هذه اللفظة على ما أخطأ فيه أو أخطئ عليه أو أُدخل عليه ، وهو لا يعلم أو دَخل له حديثٌ في حديث ، وما يشبه هذا من أنواع الخطأ ، ويُحتج بما وافق الثقات ؛ فلهذه العلة ما قلنا في هذا الكتاب لمن ذكرنا أنه لا يحتج بانفراده ) .
لا يجوز الاحتجاج به :
قولهم : (لا يجوز الاحتجاج به) أبلغ في تضعيف الراوي من قولهم فيه (لا يحتج به) ، هذا هو الغالب ، فهو الأصل .
لا يجيء :
كان من تعابيرهم في نقد الأسانيد التي يستنكرونها أو الغريبة التي لا يعرفونها ولم يسمعوا بها ويقطعون أو يظنون أنها قد وقع فيها خطأ أو تركيب أن يقولوا : فلان عن فلان لا يجيء ؛ أي أن فلاناً لا يعرف له رواية عن فلان .
قال ابن أبي حاتم في (العلل) (1/309) (926) : (وسألتُ أبِي عَن حدِيثٍ ؛ رواهُ يحيى بنُ حمزة ، عنِ المُطعِمِ بنِ المِقدامِ ، عنِ الحسنِ بنِ أبِي الحسنِ ، أنَّ مُعاوِية قال لابنِ الحنظلِيّةِ : حدِّثنا حدِيثًا سمِعتهُ مِن رسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فقال : سمِعتُ رسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم ، يقُولُ : الخيلُ معقُودٌ فِي نواصِيها الخيرُ إِلى يومِ القِيامةِ.
قال أبِي : هذا عِندِي وهمٌ رواهُ أبُو إِسحاق الفزارِيُّ ، عنِ المُطعِمِ بنِ المِقدامِ ، عن جسر بنِ الحسنِ ، عن يعلى بنِ شدّادٍ ، عن سهلِ بنِ الحنظلِيّةِ ، عنِ النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، وهذا أشبهُ.
قُلتُ لأبِي : فلِم لم تحكُم لِلحدِيثِ المُرسلِ ؟ فقال : المُطعِمِ ، عنِ الحسنِ ليس لهُ معنًى ، لم يُسمع مِنهُ ، والحسنُ البصرِيُّ ، عن سهلِ بنِ الحنظلِيّةِ لا يجِيءُ ، وأبُو إِسحاق الفزارِيُّ أحفظُ ، وأتقنُ ، مِن يحيى بنِ حمزة).(4/271)
وقال (2/158) (1968) : (وَسَأَلْتُ أَبِي عَنْ حَدِيثٍ ؛ رَوَاهُ أَبُو سَعِيدٍ الأَشَجُّ ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عِيسَى الْحَنَفِيِّ ، عَنْ مَعْمَرٍ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : بَيَّنَّا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ إِذَا قَالَ : اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ ، جَاءَ نَصْرُ اللهِ ، وَجَاءَ الْفَتْحُ ، وَجَاءَ أَهْلُ الْيَمَنِ قَوْمٌ نَقِيَّةٌ قُلُوبُهُمْ لَيِّنَةٌ طاعتهم ، الإِيمَانُ يَمَانٌ ، وَالْفِقْهُ يَمَانٌ ، وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَّةٌ.
قَالَ أَبِي : هَذَا حَدِيث باطل ، ليس له أصل ، الزهري عَنْ أَبِي حَازِم لا يجيء.
وَسُئِلَ أَبُو زُرْعَةَ ، عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ ، فَقَالَ : هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ ، وَأَبُو حَازِمٍ لا أَظُنُّهُ الْمَدِينِيَّ).
لا يُحتج به :
هذه اللفظة من ألفاظ التجريح ، وهي تطلق على كل من لا يحتج به ، سواء كان صالحاً للاستشهاد أم لا ؛ ولكن من تحرى دقة التعبير من النقاد فإنه يطلقها غالباً على من يُستشهد به ولكنه ليس ممن يحتج به ؛ فهي إذن من الكلمات التي تتسع لأكثر من معنى ، وكان من شأن كثير من النقاد في كثير من الأحيان أن يؤثروا في عباراتهم مثل هذه الكلمات المرنة العريضة المعنى على ما ليس كذلك من الكلمات ، لأن اللفظة كلما كانت أعم كان مجال الكلام أوسع ، وكان المتكلم عن المعاني الحرجة والمسالك الضيقة أبعد ؛ وإنما كان ذلك منهم جرياً على طريقتهم في عدم الهجوم على ما لا يعلمونه وعدم الجزم بما لا يتحققونه ، ووقوفاً منهم عند حدود معرفتهم ونهايات اطلاعهم ، وهذا من كمال علمهم وتثبتهم واحتياطهم ووفرة انصافهم ، رحمهم الله(1) .
وانظر (حجة) و (لا يحتجون بحديثه) و (يكتب حديثه) و (يكتب حديثه ولا يحتج به) و (يحتج به) .
__________
(1) وتقدم مزيد من البسط في هذه المسألة في قواعد فهم المصطلحات.(4/272)
لا يحتجون بحديثه :
هذه العبارة فيها نفي صلاح الراوي للحجة ، وهذا ظاهر ، ولكن هل يكون من وُصف بها صالحاً للاستشهاد أم يكون متروكاً ؟ الجواب يحتمل الأمرين ، فكلمة (لا يحتجون به) تصدُق بمن يستشهدون به وبمن هو متروك عندهم ، وقد تقدم ذكر هذا المعنى في (لا يحتج به) .
وأما الفرق بين (لا يحتج به) و (لا يحتجون به ، أو بحديثه) فهو أن الأولى قول الناقد نفسه سواء وافقه عليه غيره أم لا ، وسواء كان مقلداً فيه أم مجتهداً ، وأما الثانية فهي حكم ينسبه الناقد إلى علماء الجرح والتعديل ، ويقره باختياره له وسكوته عليه ، فيظهر أن العبارة الثانية أقوى من الأولى والنفس أكثر ركوناً إليها ، لأنها إجماع أو كالإجماع.
لا يحتجون به :
انظر (لا يحتجون بحديثه) ، فهذه بمعناها كما هو واضح .
لا يحل كتب حديثه إلا اعتباراً :
قال ابن حبان في (المجروحين) (2/297) في محمد بن أيوب : (شيخ يضع الحديث على مالك---- ، لا يحل كتب حديثه إلا اعتباراً) ؛ وهي بمعنى العبارة التي بعدها ، فانظرها .
لا يحل كتب حديثه إلا على سبيل الاعتبار :
هذه الكلمة يقولها ابن حبان في الوضاعين والمتهمين والساقطين ، أي في الرواة الذين لا يعتبر بهم ولا يستشهد بهم، فمراده هنا بالاعتبار التأمل والتدبر والنظر في بقية الإسناد وبقية طرق ذلك المتن لتعرف أحوال الرواة ؛ فلا يتوهمنَّ أحدٌ أن مراد ابن حبان بهذه العبارة أن الموصوف بها يكتب حديثه ليعتبر به، أي ليستشهد به(1) ؛ قال ابن الجوزي في (الضعفاء والمتروكين) (2/170) (2274) : (عثمان بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان أبو عمرو الأموي القرشي يروي عن مالك والليث بن سعد ، قال الأزدي : لا يُحتج بحديثه ، وقال ابن عدي : حدث بمناكير عن الثقات وله أحاديث موضوعات ، وقال ابن حبان : يضع الحديث على الثقات لا يحل كتب حديثه إلا اعتباراً) .
__________
(1) انظر (يُكتب حديثه للاعتبار وينظر فيه) .(4/273)
لا يخرَّج حديثه :
أي متروك ؛ قال الدارقطني : (إبراهيم بن هراسة : متروك لا يخرج حديثه) حكاه عنه البرقاني في (سؤالاته عنه) (ص15) (20) .
لا يدخل في الصحيح :
أي لا يحتج به .
قال حمزة بن يوسف السهمي في (سؤالاته للدارقطني وغيره من المشايخ) (ص91) (36) : ( وسألت أبا بكر بن عبدان عن محمد بن محمد بن سليمان الباغندي : هل يدخل في الصحيح ؟ قال : لو خرجت الصحيح صحيحاً لم أُدخله فيه ؛ قيل له : لمَ؟ قال : لأنه كان يخلط ويدلس)(1) .
وكلمة (لا أدخله في الصحيح ) هي بمعنى كلمة (لا أختاره في الصحيح) فانظرها وانظر أيضاً (يدخل في الصحيح).
لا يُدْرَى صحيح حديثه من سقيمه :
قال المعلمي في (التنكيل) (1/128 طبعة القاهرة) في ترجمة أحمد بن عبدالله أبو عبد الرحمن : (أقول : في باب الإمام ينهض بالركعتين من "جامع الترمذي" : "قال محمد بن إسماعيل [ البخاري ] : ابن أبي ليلى هو صدوق ، ولا أروي عنه ، لأنه لا يُدري صحيح حديثه من سقيمه ، وكل من كان مثل هذا فلا أروي عنه شيئاً " .
والبخاري لم يدرك ابن أبي ليلى ، فقوله "لا أروي عنه" أي بواسطة ، وقوله "وكل من كان مثل هذا فلا أروي عنه شيئاً " يتناول الرواية بواسطة وبلا واسطة .
وإذا لم يرو عمن كان كذلك بواسطة فلأَنْ لا يروي عنه بلا واسطة أولى ، لأن المعروف عن أكثر المتحفظين أنهم إنما يتّقون الرواية عن الضعفاء بلا واسطة ، وكثيراً ما يروون عن متقدمي الضعفاء بواسطة.
وهذه الحكاية تقتضي أن يكون البخاري لم يرو عن أحد إلا وهو يرى أنه يمكنه تمييز صحيح حديثه من سقيمه ؛ وهذا يقتضي أن يكون الراوي على الأقل صدوقاً في الأصل ، فإن الكذاب لا يمكن أن يعرف صحيح حديثه.
__________
(1) وأخرجه عن حمزةَ به الخطيبُ في (تاريخ بغداد) (3/212) .(4/274)
فإن قيل : قد يعرف بموافقته الثقات ، قلت : قد لا يكون سمع وإنما سرق من بعض أولئك الثقات ؛ ولو اعتد البخاري بموافقة الثقات لروى عن ابن أبي ليلى ولم يقل فيه تلك الكلمة ، فإن ابن أبي ليلى عند البخاري وغيرِه صدوق وقد وافق عليه الثقات في كثير من أحاديثه ، ولكنه عند البخاري كثير الغلط بحيث لا يؤمن غلطه حتى فبما وافق عليه الثقات .
وقريب منه من عُرف بقبول التلقين فأنه قد يلقن من أحاديث شيوخه ما حدثوا به ولكنه لم يسمعه منهم ، وهكذا من يحدث على التوهم فأنه قد يسمع من أقرانه عن شيوخه ثم يتوهم أنه سمعها من شيوخه فيرويها عنهم .
فمقصود البخاري من معرفة صحيح حديث الرواي من شيوخه لا يحصل بمجرد موافقة الثقات، وإنما يحصل بأحد أمرين :
إما أن يكون الراوي ثقة ثبتاً فيعرف صحيح حديثه بتحديثه .
وإما أن يكون صدوقاً يغلط ولكن يمكن معرفة ما لم يغلط فيه بطريق أخرى ، كأن يكون له أصول جيدة ، وكأن يكون غلطه خاصاً بجهة ، كيحيى بن عبد الله بن بكير ، روى عنه البخاري وقال في "التاريخ الصغير" : "ما روى يحيى [بن عبد الله ] بن بكير عن أهل الحجاز في التاريخ فإني أتقيه" ، ونحو ذلك.
فإن قيل : قضية الحكاية المذكورة أن يكون البخاري التزم أن لا يروي إلا ما هو عنده صحيح فإنه إن كان يروي ما لا يرى صحته فأي فائدة في تركه الرواية عمن لا يدري صحيح حديثه من سقيمه ؟ لكن كيف تصح هذه القضية مع أن في كتب البخاري غير "الصحيح" أحاديث غير صحيحة ، وكثير منها يحكم هو نفسه بعدم صحتها ؟
قلت : أما ما نبه على عدم صحته فالخطب فيه سهل، وذلك بأن يحمل كونه لا يروي ما لا يصح على الرواية بقصد التحديث أو الاحتجاج ، فلا يشمل ذلك ما يذكره ليبين عدم صحته ، ويبقى النظر فيما عدا ذلك .(4/275)
وقد يقال : إنه إذا رأى أن الراوي لا يعرف صحيح حديثه من سقيمه تركه البتة ليعرف الناس ضعفه مطلقاً ، وإذ رأى أنه يمكن معرفة صحيح حديثه من سقيمه في باب دون باب ترك الرواية عنه في الباب الذي لا يعرف فيه كما في يحيى بن بكير ، وأما غير ذلك فإنه يروي ما عرف صحته وما قاربه أو أشبهه مبيناً الواقع بالقول أو الحال ؛ والله أعلم ) ؛ انتهى .
لا يرجع عن غلطه :
انظر (الإصرار على الخطأ) .
لا يروي إلا عن ثقة :
لقد وُصف عدد من المحدثين بأنهم لا يروون عن الضعفاء أو بأنهم لا يروون إلا عن ثقة أو بأن شيوخهم ثقات أو أقوياء أو بنحو ذلك من العبارات.
وهذا جزء كنتُ كتبته فيمن وُصف بذلك وأقدم بين يدي ذكرهم ومناقشة ما ادي من ذلك في حقهم : طائفةً من أحكام هذه المسألة وبعض تفاصيلها(1).
1- ثبت عندي بالاستقراء الكافي أنه لا يصح الاعتماد على قول ناقد في راو غير صحابي انه لا يروي إلا عن ثقة لتوثيق جميع شيوخه توثيقاً تاماً(2). ومن استثنى أحداً من المحدثين لم يصب.
2- إن كون راو من الرواة لا يروي إلا عن ثقة إنما يكون ذلك على سبيل التغليب والظن الراجح، فلا يمنع أن يوجد بين شيوخه من هو ضعيف أو متروك أو مجهول.
__________
(1) تنبيه : سبق نشر أصل هذا البحث في العدد الثاني عشر من مجلة الحكمة، باسم (الدرر المتناسقة فيمن قيل أنه لا يروي إلا عن ثقة )، ولكن هذه الطبعة الجديدة فيها زيادات مهمة في المادة والتحقيق والتنقيح، وقد بلغت هذه الزيادات مبلغاً أراه كافياً لتغيير اسم الكتاب ومقتضياً لإعادة نشره، وهذا ما فعلته بهذه الطبعة.
(2) تنبيه : الصحابة خارجون عن دائرة هذا البحث فإن شيوخهم ثقات إذ هم صحابة أيضاً ولذلك يقبل مرسل الصحابي، وأما إن صرح الصحابي بالرواية عن تابعي فينظر في حال ذلك التابعي. ورواية الصحابة عن التابعين قليلة نادرة.(4/276)
3- إذا قال الناقد في راو أنه لا يروي إلا عن ثقة فإن كلامه هذا فيه من جهة تعيين الحاكم بالتوثيق ثلاثة احتمالات :
الأول : أن يكون الحاكم بتوثيق شيوخ ذلك الراوي هو الراوي نفسه فيصرح أنه لا يروي إلا عن ثقة عنده.
الثاني : أن يكون الحاكم بتوثيق شيوخ ذلك الراوي هو ذلك الناقد نفسه؛ فيكون معنى عبارته أن ذلك الراوي لا يروي إلا عن ثقة عند ذلك الناقد.
الثالث : أن يكون الحاكم بالتوثيق ناقداً آخر ثم تبعه هذا الناقد؛ وهذا كما لو صرح الخطيب البغدادي مثلاً بأن يحيى القطان لا يروي إلا عن ثقة وهو تابع في هذا القول لأحمد بن حنبل مثلاً ومقلد له فيه فيكون معنى كلامه أن يحيى القطان لا يروي إلا عن ثقة عند الإمام أحمد.
ومعلوم أنه لا يلزم من توثيق ناقد لراو أن يكون ثقة عند غيره أيضاً.
وعلى الاحتمال الأول فإن من ينفرد بالرواية عنه من قيل أنه لا يروي إلا عن ثقة فإن ذلك التوثيق لا يقبل لأنه في أحسن أحواله بمثابة قوله (حدثني الثقة)؛ لكن قوله (حدثني الثقة) فيه تصريح بتوثيق شيخه في تلك الرواية، وأما قوله (حدثني فلان بن فلان) أي يسمس شيخه فأعلى وذلك من جهة كونه مجهولاً عندنا لا ضعيفاً وأخفض من جهة احتمال أن تلك القاعدة أغلبية فيها تساهل في مرتبة التوثيق وفيها تساهل حتى في بعض الضعفاء أحياناً، ففيها استثناءان اثنان.
4- إذا صرح راو أو ناقد في راو : بأنه لا يروي إلا عن ثقة؛ فكلمة ثقة تحتمل هنا أن يراد بها العدل الضابط التام الضبط، وتحتمل أن يراد بها كل مقبول في الجملة فتشمل مع رواة الأحاديث الصحيحة رواة الأحاديث الحسنة ومن قاربهم. وهذا هو الغالب من معنى هذه العبارة، أعني قولهم فلان لا يروي إلا عن ثقة.
قال المعلمي في (التنكيل) (ص586-587) : « إن قول المحدث (رواه جماعة ثقات حفاظ) ثم يعدهم - لا يقتضي أن يكون كل من ذكره بحيث لو سئل عنه ذاك المحدث وحده لقال (ثقة حافظ) 0000(4/277)
ونحو هذا قول المحدث (شيوخي كلهم ثقات) أو (شيوخ فلان كلهم ثقات) فلا يلزم من هذا أن كل واحد منهم بحيث يستحق أن يقال له بمفرده على الاطلاق (هو ثقة)؛ وانما ذكروا الرجل في جملة من أطلقوا عليهم (ثقات) فاللازم أنه ثقة في الجملة أي له حظ من الثقة.
وقد تقدم في القواعد أنهم ربما يتجوزون في كلمة (ثقة) فيطلقونها على من هو صالح في دينه وإن كان ضعيف الحديث أو نحو ذلك.
وهكذا قد يذكرون الرجل في جملة من أطلقوا أنهم ضعفاء وإنما اللازم أن له حظاً من الضعف كما تجدهم يذكرون في كتب الضعفاء كثيراً من الثقات الذين تكلم فيهم أيسر كلام ».
5- اذا صرح الراوي بأنه لا يروي إلا عن ثقة فإن هذا القول منه يحمل على الأعم الأغلب فإنه قد يروي أحياناً عن بعض من يحتاج إلى الرواية عنه من الضعفاء(1)
__________
(1) جاء في شرح علل الترمذي لابن رجب (1/385) : « قال [احمد] في رواية اسحاق بن ابراهيم بن هانئ : قد يحتاج الرجل يحدث عن الضعيف مثل عمرو بن مرزوق وعمرو بن حكام ومحمد بن معاوية وعلي بن الجعد واسحاق بن اسرائيل ولا يعجبني ان يحدث عن بعضهم؛ وقال في روايته ايضا وقد سأله : ترى أن نكتب الحديث المنكر ؟ قال : المنكر ابدا منكر، قيل له : فالضعفاء ؟ قال : قد يُحتاج اليهم في وقت، كأنه لم ير بالكتابة عنهم بأساً ».
وقال المعلمي في التنكيل (2/155) : « 000 لأن المحدث قد يمتنع عن الرواية عن شيخ ثم يضطر إلى بعض حديثه ».(4/278)
وقد يغفل أحياناً عن شرطه، وقد يتساهل فيروي عن الضعيف ما هو عال عنده أو ما هو ثابت عنده من غير طريقه، وقد يكون شرطه هذا متأخراً عن بداية تحديثه، كأن يروي عن الثقات وغيرهم مدة من الزمن ثم يبدو له أن لا يروي إلا عن ثقة فيفعل ثم يصرح بشرطه فيقول : أنا لا أروي إلا عن ثقة من غير بيان لما سبق منه من منافاة هذا الشرط. وأيضاً قد يروي عمن يظنه ثقة ثم يتبين له مؤخراً أنه ليس كذلك فيمتنع عن الرواية عنه ولكن لا يبلغنا تصريحه بذلك الامتناع.
والحاصل أن هذه المسائل ونحوها مانعة من اطلاق التوثيق التام وتعميمه وموجبة لحمله على التغليب دون التعميم.
6- اذا روى من قيل أنه لا يروي إلا عن ثقة عمن صرح هو أو غيره بضعفه قدم ذلك التجريح القولي على هذا التعديل الضمني المدعى الا اذا قامت قرينة بينة على ضد ذلك.
قال المعلمي في التنكيل (ص660) : « والحكم فيمن روى عنه أحد اولئك المحتاطين أن يبحث عنه فإن وجد أن الذي روى عنه قد جرحه تبين أن روايته عنه كانت على وجه الحكاية فلا تكون توثيقاً، وإن وجد أن غيره قد جرحه جرحاً أقوى مما تقتضيه روايته عنه ترجح الجرح، والا فظاهر روايته عنه التوثيق ».
7- اذا جهل الراوي أحد كبار النقاد وروى عنه من قيل أنه لا يروي إلا عن ثقة فالأصح التوقف والنظر إلى أن يحصل الوقوف على بيان ما يستحقه من حكم.
8- إن عدد من قيل أنهم لا يروون إلا عن ثقة قليل جداً بالنسبة لمجموع الرواة فهم لا يتجاوزون مئة بحال من الأحوال؛ قال المعلمي في التنكيل (ص376-377) : « بل عامة المحدثين يكتبون عن كل أحد الا أن منهم أفراداً كانوا يتقون أن يرووا إلا عن ثقة، ويكتبون عن الضعفاء للمعرفة كما مر في ترجمة الامام أحمد من نظره في كتب الواقدي ».(4/279)
9- إذا ثبت أن الراوي كان لا يروي الا عن المقبولين الأقوياء، فذلك إنما يكون خاصاً بشيوخه لا يتعداهم إلى من فوقهم، فيجب قصر التقوية بتلك الروايات على شيوخه فيها؛ قال المعلمي في التنكيل في ترجمة أبي عبد الرحمن أحمد بن عبد الله (ص320-322) : « في باب (الإمام ينهض بالركعتين) من (جامع الترمذي) : (قال محمد بن اسماعيل [البخاري] : ابن أبي ليلى هو صدوق، ولا أروي عنه لأنه لا يُدْرَى صحيح حديثه من سقيمه، وكل من كان مثل هذا فلا أروي عنه شيئاً)؛ والبخاري لم يدرك ابن أبي ليلى، فقوله : (لا أروي عنه) أي بواسطة، وقوله : (وكل من كان مثل هذا فلا أروي عنه شيئاً) يتناول الرواية بواسطة وبلا واسطة؛ وإذا لم يرو عمن كان كذلك بواسطة فلأَن لا يروي عنه بلا واسطة أولى، لأن المعروف عن أكثر المتحفظين أنهم إنما يتقون الرواية عن الضعفاء بلا واسطة، وكثيراً ما يروون عن متقدمي الضعفاء بواسطة ».
10- قد ادعى جماعة من المتأخرين في جماعة من الرواة بأنهم لا يروون إلا عن ثقة وأطلقوا ذلك مع أنهم قد ثبت أنهم يروون عن الثقة وغيره؛ فينبغي عدم الركون إلى التقليد في هذه الدعاوى الا ما كان منها صادراً من أهل العلم المتثبتين.
11- مما يوجب استثناء بعض شيوخ الراوي الموصوف بأنه لا يروي إلا عن ثقة أن نجد ذلك الشيخ مكثراً والقرائن قائمة على تمكن ذلك الراوي من الاكثار عنه ثم نجده يقتصر فيما يرويه عنه على أخبار يسيرة في الترغيب والترهيب ونحوهما أو يقل عنه جداً فيما عدا ذلك بشرط أن لا يتضح أن له في ذلك الاقلال عذراً غير ضعف ذلك الشيخ مسوغاً لاقلاله عنه.(4/280)
فمن اشتهر عنه أنه لا يروي إلا عن ثقة، وروى عن رجل مكثرٍ تكرر لقاؤه به وسماعه منه، حديثاً واحداً فإن الأصل في مثل هذه الحالة أن هذه الرواية تُقَويه تقويةً ناقصة غير معتمد عليها، فإنه يحتمل أنه لم يرو عنه ذلك الحديث لثقته عنده وإنما رواه لصحته عنده وثبوته من طريق أو طرق اخرى، أو لاشتهاره بالضعف، أو لرجائه أن يكون ثقة ولكنه خشي أن لا يكون كذلك فلم يكثر عنه، أو لأنه صدوق في نفسه وإن كان كثير الغلط فيما يرويه، أو لأن الحديث في فضائل الأعمال ونحوها مما جرت عادة كثير من المحدثين بالتساهل فيه، أو لأنه قوي في ذلك الشيخ لا مطلقاً، أو لأنه بين حاله ثم روى عنه ذلك الحديث الواحد على سبيل التعجب ونحوه أو رواه في المذاكرة، أو أنه لم يروه أصلاً وإنما أخطأ عليه بعض من دونه في السند.
والحاصل أن رواية حديث واحد عن رجل مضعف أو مجهول الحال أو فيه جهالة، من قبل محدث موصوف بأنه لا يروي إلا عن ثقة لا يكون مؤداها كمؤدى روايته أحاديث كثيرة عنه. والله أعلم.
12- إذا انفرد واحد من العلماء بتوثيق شيخ لشعبة مثلاً، وكان ذلك العالم قد صرح في مكان آخر بأن شعبة لا يروي إلا عن ثقة، فإن الأصح أن لا يعتد بذلك التوثيق اعتداداً كاملاً لقوة الاحتمال في أن يكون بنى هذا التوثيق على تلك القاعدة، وقد تقدم ما فيها.
13- إذا قال بعض النقاد في بعض الرواة : (ثقة، روى عنه مالك)، فهذه العبارة تشعر بأن مستند قائلها في توثيق من قالها فيه إنما هو رواية مالك عنه، ويزداد هذا الاحتمال قوة إذا كان لذلك الراوي تلامذة آخرون غير مالك، أو إذا لينه أو تكلم فيه بعض المحدثين أو إذا كان قائل هذه العبارة قد صرح بأن مالكاً لا يروي إلا عن ثقة؛ قال السيوطي في إسعاف المبطأ ص4 : « قال ابو سعيد الأعرابي : كان يحيى بن معين يوثق الرجل لرواية مالك عنه، سئل عن غير واحد فقال : ثقة روى عنه مالك ».(4/281)
14- من أوصى غيره بأن لا يأخذ الحديث إلا عن ثقة فهل تدل هذه الوصية على أن هذا الموصِي كان ممن لا يروي إلا عن ثقة ؟
الأرجح أنه لا يعد من هذا الضرب، ولا سيما إذا علمنا أن الوصية كانت في أواخر عمره أو دلت القرائن على ذلك، أو وجدنا الوصية محتملة أن يكون معناها : لا تقبلوا الحديث إلا عن ثقة أي لا تعملوا به وتحتجوا به الا إذا كان صحيحاً من رواية الثقات.
مثال ذلك : قول حمزة السهمي في تاريخ جرجان (ص485) : « هود بن عبد الله الأنماطي جرجاني، وجدت في كتاب عمي أسهم بن إبراهيم السهمي حدثنا أبو العباس بن مملك حدثني هود بن عبد الله الأنماطي حدثني علي بن عبد الله وليس بالمديني عن الأصمعي عن قيس بن حكيم قال : قلت لعبد الملك بن مروان : يا أمير المؤمنين : ما العقل؟ قال : حسن الرفق وترك العجلة وأن لا يحقر [كذا] المرء كلما ولج سمعه حتى يصححه وأن لا يحدث الرجل إلا عن ثقة».
ويدخل في هذا الباب نحو قول من قال : « لا ينبغي أن يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا الثقات »؛ ويلتحق به نحو قول عبد الله بن المبارك « لنا في صحيح الحديث شغل عن سقيمه ».
15- من فوائد تصريحهم في الراوي بأنه لا يروي إلا عن ثقة إذا كان ذلك التصريح مقبولاً ولو في الجملة : أنه إذا كان في طبقة شيوخه شيخان يشتركان في الاسم والنسب وتجيء رواية له عن أحدهما مهملاً أي من غير بيان دال على تعيينه، وكان أحدهما عدلاً والآخر فاسقاً أو أحدهما ثقة والآخر ضعيفاً كان ظاهر الحال أن المراد هو العدل أو الثقة دون صاحبه.(4/282)
16- قال الذهبي في الموقظة (ص40) : « فصل : ومن الثقات الذين لم يخرَّج لهم في الصحيحين خلق : منهم من صحح لهم الترمذي، وابن خزيمة، ثم من روى لهم النسائي وابن حبان وغيرهما، ثم من لم يضعفهم أحد، واحتج هؤلاء المصنفون بروايتهم، وقد قيل في بعضهم : فلان ثقة، فلان صدوق، فلان لا بأس به، فلان ليس به بأس، فلان محله الصدق، فلان شيخ، فلان مستور، فلان روى عنه شعبة أو مالك أو يحيى وأمثال ذلك، كفلان حسن الحديث، فلان صالح الحديث، فلان صدوق إن شاء الله، فهذه العبارات كلها جيدة ليست مضعفة لحال الشيخ، نعم ولا مرقية لحديثه إلى درجة الصحة الكاملة المتفق عليها، لكنْ كثير ممن ذكرنا متجاذَب بين الاحتجاج به وعدمه ».
17- من كان لا يروي إلا عن ثقة فلا يلزم من ذلك أنه لا يكتب إلا عن ثقة، لأن هؤلاء المحتاطين كانوا يكتبون من أجل الاحتجاج أو الاستشهاد أو الاعتبار أو التفتيش، أو لعدم معرفة حال الراوي مع قيام الاحتمال عندهم على أن يتبين بعد النظر والسؤال أنه ثقة أو صدوق أو ممن يكتب حديثه عندهم.
قال ابن رجب في شرح علل الترمذي (1/381) : « وذكر العقيلي بإسناد له عن الثوري قال : إني لأروي الحديث على ثلاثة أوجه : أسمع الحديث من الرجل وأتخذه ديناً، وأسمع الحديث من الرجل أوقف حديثه، وأسمع الحديث من الرجل لا أعبأ بحديثه وأحب معرفته ».
18- بعض من كان لا يروي إلا عن ثقة كان ربما روى حديثاً واحداً أو شيئاً يسيراً من الأخبار الموقوفة ونحوها عن بعض الضعفاء الذين عرف ضعفهم واشتهر كلام الناس فيهم؛ قال الحافظ ابن عبد الهادي في (الصارم المنكي) (ص89-90) : « إن الغالب على طريقة شعبة الرواية عن الثقات، وقد يروي عن جماعة من الضعفاء الذين اشتهر جرحهم والكلام فيهم الكلمة والشيء والحديث وأكثر من ذلك ». وانظر ترجمة شعبة من هذا الفصل.(4/283)
19- من كان من النقاد متشدداً فليس في تشدده دلالة على أنه لا يروي إلا عن ثقة، وقد توهم ذلك بعض من تكلم في هذا الموضوع وهو استدلال غريب لا وجه له.
20- رواية الثقة أو الثقات عن رجل ليس تعديلاً له، ومن ادعى أنها تعديل فقد أخطأ خطأً بيناً بعيداً.
وربما استدل بعضهم بنحو قول ابن ابي حاتم في الجرح والتعديل (1/1/36) : « سألت أبي عن رواية الثقات عن رجل غير ثقة [أي لم يثبت انه ثقة] مما يقويه؟ قال : إذا كان معروفاً بالضعف لم تقوه روايته عنه، واذا كان مجهولاً نفعه رواية الثقة عنه ».
وقال ابن أبي حاتم هناك أيضاً : « سألت ابا زرعة عن رواية الثقات عن رجل مما يقوي حديثه؟ قال : إي لعمري، قلت : الكلبي روى عنه الثوري! قال : إنما ذلك إذا لم يتكلم فيه العلماء، وكان الكلبي يتكلم فيه».
وأقول : لا يستقيم حمل هذا الكلام على ظاهره فلم يزل الائمة ومنهم الرازيان يجهلون الرواة الذين لا يعرفون بضعف ولا قوة ولو روى عنهم جمع من الرواة؛ قال السخاوي في فتح المغيث (1/319-320) بعد كلام له : «على ان قول ابي حاتم في الرجل انه مجهول لا يريد به انه لم يرو عنه سوى واحد، بدليل انه قال في داود بن يزيد الثقفي(مجهول) مع انه قد روى عنه جماعة، ولذا قال الذهبي عقبه : هذا القول يوضح لك ان الرجل قد يكون مجهولا عند ابي حاتم ولو روى عنه جماعة ثقات، يعني انه مجهول الحال، وقد قال في عبد الرحيم بن كرم بعد ان عرَّفه برواية جماعة عنه انه مجهول، ونحوه قوله في زياد بن جارية التميمي الدمشقي : [شيخ مجهول] مع انه قيل في زياد هذا انه صحابي».(4/284)
وقد قال أبو حاتم : (مجهول) في راو روى عنه تسعة ووثقه ابن معين، انظر ترجمته في (التحرير) (2/125)، وانظر أيضاً (التحرير) (3/10-11 و 45 و 310 و 315 و 336) وترجمة عيسى بن أبي رزين منه. وانظر تراجم احمد بن عاصم البلخي وبيان بن عمرو والحسين بن الحسن بن بشار والحكم بن عبد الله وعباس بن الحسين القنطري ومحمد بن الحكم المروزي في الفصل التاسع من (مقدمة الفتح)، وانظر (الجرح والتعديل) (1/2/527) و(تهذيب التهذيب) (2/255) ونكت ابن حجر (1/426).
وخلاصة الكلام وغايته أن كلمتي أبي حاتم وأبي زرعة لا تحملان على إطلاقهما، فلعلهما أرادا برواية الثقات رواية الأئمة النقاد أو رواية متثبتي الرواة ولعلهما كانا مع ذلك يشترطان في الرجل شروطاً مثل أن لا يغرب او يتفرد بما لا يحتمله شأنه ونحو ذلك.
وسواء صح هذا او لم يصح، فإن الصحيح الذي أقطع به هو أن كلام الرازيين هذا من المتشابه الذي ينبغي أن يرد الى المحكم المعروف الذي جرى عليه عملهما في كلامهما في الرواة، وما أكثره، ويؤيده أيضاً ما جرى عليه عمل المحققين من المحدثين، والله أعلم.
والآن أبدأ بذكر التراجم فدونكها :
ابراهيم بن موسى بن يزيد التميمي الرازي
قال البرذعي في أسئلته لأبي زرعة زرعة الرازي (ص528) : « وقال لي أبو زرعة في ابراهيم بن موسى : لم يكن في كتبه من الضعفاء(1) إلا رجلين : عبد العزيز بن أبان وأبو قتادة الحراني، ثم قال : كأنه قد جمع له الثقات ».
قلت : هذا مع كثرة ما في كتبه من الحديث، فقد قال المزي في تهذيب الكمال 2/220 : « وقال صالح بن محمد الحافظ سمعت أبا زرعة يقول كتبت عن إبراهيم بن موسى الرازي مائة ألف حديث ».
__________
(1) في مطبوعة الأسئلة (الضعف) ولعل الصواب ما أثبته.(4/285)
وقال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (1/1/137) : « سمعت أبا زرعة يقول : ابراهيم بن موسى أتقن من أبي بكر بن أبي شيبة وأصح حديثاً منه، لا يحدث إلا من كتابه، لا أعلم أني كتبت عنه خمسين حديثا من حفظه ».
أقول : مقتضى هذه النقول الثلاثة أن ابراهيم بن موسى الرازي كان لا يكاد يحدث إلا عن ثقة، ولما كان أبو زرعة عارفاً به وهو معتدل في نقده فإني لا أستبعد أن يكون ابراهيم هذا من أولى المحدثين بأن يوصف بأنه لا يروي إلا عن ثقة، ولعله أولى بذلك ممن اشتهروا به كمالك وشعبة ويحيى بن سعيد القطان.
إبراهيم بن يزيد النخعي
قال ابن عبد البر في التمهيد (1/30) : « وأما الإرسال فكل من عرف بالأخذ عن الضعفاء والمسامحة في ذلك لم يحتج بما أرسله ، تابعياً كان أو من دونه، وكل من عرف أنه لا يأخذ إلا عن ثقة فتدليسه ومرسله مقبول ، فمراسيل سعيد بن المسيب ومحمد بن سيرين وإبراهيم النخعي عندهم صحاح ، وقالوا : مراسيل عطاء والحسن لا يحتج بها لأنهما كانا يأخذان عن كل أحد ، وكذلك مراسيل أبي قلابة وأبي العالية ».
أحمد بن حنبل
قال الحافظ أبو موسى المديني في (خصائص المسند) (ص21) بعد أن ذكر حديثاً ضرب عليه الإمام أحمد : « قد روى لابنه الحديث لكنه ضرب عليه في المسند لأنه أراد أن لا يكون في المسند إلا الثقات ويروي في غير المسند عمن ليس بذاك.
ذكر أبو العز بن كادس أن عبد الله بن أحمد قال لأبيه ما تقول في حديث ربعي عن حذيفة ؟ قال : الذي يرويه عبد العزيز بن أبي رواد ؟ قلت : يصح ؟ قال : لا الأحاديث بخلافه وقد رواه الخياط عن ربعي عن رجل لم يسموه؛ قال : قلت له : فقد ذكرته في "المسند"! ، فقال : قصدت في "المسند" الحديث المشهور ، وتركت الناس تحت ستر الله تعالى، ولو أردت أن أقصد ما صح عندي لم أرو من هذا المسند إلا الشيء بعد الشيء ، ولكنك يا بني تعرف طريقتي في الحديث لست أخالف ما ضعف إذا لم يكن في الباب ما يدفعه .(4/286)
قال الشيخ الحافظ [أبو موسى] : وهذا ما أظنه يصح لأنه كلام متناقض لأنه يقول : لست أخالف ما فيه ضعف إذا لم يكن في الباب شيء يدفعه وهو يقول في هذا الحديث بخلافه، وإن صح فلعله كان أولاً ثم أخرج منه ما ضعف لأني طلبته في المسند فلم أجده ».
وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/80) في ثابت بن الوليد : « روى عنه أحمد وشيوخه ثقات ».
وقال فيه أيضاً (5/122) : « ويقال مشايخ أحمد كلهم ثقات ».
وقال السبكي في (شفاء السقام) (ص10) : « وأحمد رحمه الله لم يكن يروي إلا عن ثقة، وقد صرح الخصم بذلك(1) في الكتاب الذي صنفه في الرد على البكري ---- قال : إن القائلين بالجرح والتعديل من علماء الحديث نوعان ، منهم من لم يرو إلا عن ثقة عنده كمالك وشعبة ويحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي وأحمد بن حنبل وكذلك البخاري وأمثاله ».
ولما قال المعلمي في (طليعة التنكيل) (ص23) في بعض الرواة : « ورواية الإمام أحمد عنه توثيق ، لما عرف من توقي أحمد » ، تعقبه الكوثري في (الترحيب) (ص320) فقال : « وقول الناقد : أحمد بن حنبل لا يروي إلا عن ثقة ، رأي مبتكر وروايته عن مثل عامر بن صالح معروفة » ؛ فقال المعلمي في (التنكيل) (ص659-660) : « وكون أحمد لا يروي إلا عن ثقة لم أقله ، وإنما قلت : ورواية الامام أحمد عنه توثيق ، لما عرف من توقي أحمد؛ ومع ذلك فقد نص ابن تيمية والسبكي في "شفاء السقام" على [أن] أحمد لا يروي إلا عن ثقة، وفي "تعجيل المنفعة " (ص15 و 19) وغيرهما ما حاصله أن عبد الله بن أحمد كان لا يكتب في حياة أبيه إلا عمن أذن له أبوه، وكان أبوه لا يأذن له بالكتابة إلا من(2) الثقات، ولم يكن أحمد ليترخص لنفسه ويشدد على ابنه ».
ثم أتم المعلمي ذلك المبحث بكلام نفيس جداً فانظره هناك.
__________
(1) يريد شيخ الاسلام رضي الله عنه.
(2) لعلها (عن) .(4/287)
وقال الحافظ ابن عبد الهادي في (الصارم المنكي) (ص18-19) : « فإن قيل : قد روى الإمام أحمد بن حنبل عن موسى بن هلال وهو لا يروي إلا عن ثقة ، فالجواب أن يقال : رواية الإمام أحمد عن الثقات هو الغالب من فعله والأكثر من عمله كما هو المعروف من طريقة شعبة ومالك وعبد الرحمن بن مهدي ويحيى بن سعيد القطان وغيرهم ، وقد يروي الإمام أحمد قليلاً في بعض الأحيان عن جماعة نُسبوا إلى الضعف وقلة الضبط، وذلك على وجه الاعتبار والاستشهاد لا على طريق الاجتهاد(1) ، مثل روايته عن عامر بن صالح الزبيري و----(2) ونحوهم ممن اشتهر الكلام فيه ، وهكذا روايته عن موسى بن هلال إن صحت روايته عنه ».
وقال الحافظ ابن رجب في (شرح علل الترمذي) (1/371) : « وقد رخص كثير من الأئمة في رواية الأحاديث الرقاق ونحوها عن الضعفاء، منهم ابن مهدي وأحمد بن حنبل ----».
وانظر (النكت) لابن حجر (2/888) و(الكفاية) للخطيب (ص134).
وقال ابن حجر في (التقريب) في علي بن مجاهد بن مسلم : « متروك، وليس في شيوخ أحمد أضعف منه».
وقال عبد الله بن أحمد كما في (الضعفاء) للعقيلي ( 1/ 174 ) : (سألت أبي عن ثابت بن زيد بن ثابت بن زيد بن أرقم ؟ فقال : روى عنه ابن أبي عروبة ، وحدثنا عنه معمر ، له أحاديث مناكير .
قلت له : تحدث عنه ؟ قال : نعم , قلت : أهو ضعيف ؟ قال : أنا أحدث عنه .
وقال ابن هانئ في (مسائله عن الإمام أحمد) (2/238) (2314) : (قيل له : يحدث الرجلُ عن الضعفاء ، مثل عمرو بن مرزوق ، وعمرو بن حكام ، ومحمد بن معاوية ، وعلي بن الجعد ، وإسحاق بن أبي إسرائيل ؟ قال أبو عبدالله : (لا يعجبني أن يحدث عن بعضهم ) .
وانظر ما يأتي في حق أحمد في ترجمة علي بن المديني وما يأتي من كلام ابن رجب في ترجمة أبي زرعة الرازي.
إسماعيل بن أبي خالد الأحمسي
__________
(1) كذا، ولو قال الاحتجاج لكانت أجود.
(2) وذكر أحد عشر رجلاً من شيوخ أحمد.(4/288)
قال ابن حجر في (التهذيب) (1/291) في ترجمته : « وقال العجلي : كان ثبتاً في الحديث وربما أرسل الشيء عن الشعبي ، وإذا وقف أخبر، وكان صاحب سنة، وكان حديثه نحو خمسمئة حديث، وكان لا يروي إلا عن ثقة ».
وكلام العجلي هذا ورد في كتابه (الثقات) (1/224-225) ولكن دون لفظة (وكان لا يروي إلا عن ثقة)، والظاهر أنها من كلام العجلي لا من كلام ابن حجر نفسه، فإن كانت من كلام العجلي فلعل عدم ورودها في مطبوعة كتابه لا يقدح في ثبوتها عنه لأن ابن حجر معروف عنه تثبته فيما يحكيه عن غيره من العلماء، ولكن الذي لعله يمنع من الاعتماد عليها هو أن العجلي يتساهل كثيراً في توثيق القدماء ولا سيما التابعين وإسماعيل تابعي جل روايته عن كبارهم. وأيضاً روى ابن أبي حاتم في (المراسيل) (ص5) وابن أبي خيثمة في (تاريخه) - كما في (تهذيب التهذيب) (1/219) - عن يحيى بن سعيد قال : مرسلات ابن أبي خالد ليست بشيء » ؛ زاد ابن أبي حاتم في روايته : « ومرسلات عمرو بن دينار أحب إلي ».
وذكر في الجرح والتعديل (3/2/130) قول أبيه في قرة العجلي : « مجهول لا أعلم روى عنه غير إسماعيل بن أبي خالد ».
وبهذه المسائل الثلاث وغيرها يتبين ضعف القول بأن اسماعيل بن أبي خالد لا يروي إلا عن ثقة.
أيوب السختياني
قال أبو داود في (مسائله) للإمام أحمد (ص210) : « قلت لأحمد : أبو يزيد المدني ؟ قال : أي شيء يسأل عن رجل روى عنه أيوب ؟! ». وانظر (تحرير التقريب 4/297).
بقي بن مخلد
نقل أحمد بن يحيى الضبّي في (بغية الملتمس) (ص230) عن ابن حزم قال : « فمن مصنفات أبي عبد الرحمن بقي بن مخلد : كتابه في تفسير القرآن، فهو الكتاب الذي أقطع قطعاً لا أستثني فيه أنه لم يؤلف في الإسلام مثله، لا تفسير محمد بن جرير الطبري ولا غيره .(4/289)
ومنها في الحديث مصنفه الكبير الذي رتبه على أسماء الصحابة رضي الله عنهم ، فروى فيه عن ألف وثلاثمئة صاحب ونيف ، ثم رتَّب حديث كل صاحب على أسماء الفقه وأبواب الأحكام؛ فهو مصنَف ومسنَد ؛ وما أعلم هذه الرتبة لأحد قبْله ، مع ثقته وضبطه وإتقانه واحتفاله فيه في الحديث وجودة شيوخه ، فإنه يروي عن مئتي رجل وأربعة وثمانين رجلاً ليس فيهم عشرة ضعفاء وسائرهم أعلام مشاهير ».
قلت : يظهر أن مستند القائلين ان بقي بن مخلد لا يروي إلا عن ثقة - ومنهم الحافظ ابن حجر - هو هذا الكلام الذي قاله ابن حزم ، أو ما نقله عن بقي نفسه مغلطاي إذ قال في (إكمال تهذيب الكمال) : « وفي "تاريخ قرطبة" : قال بقي : كل من رويت عنه فهو ثقة »(1).
وصرح بكون بقي لا يروي إلا عن ثقة عنده الحافظ ابن حجر في عدة مواضع من "تهذيب التهذيب" ، منها تراجم أحمد بن جواس الحنفي وأحمد بن سعد بن أبي مريم وأيوب بن محمد بن أيوب الهاشمي وعبد الله بن عمر بن عبد الرحمن وعصمة بن الفضل النميري ؛ وكذلك العلامة المعلمي اليماني في التنكيل (ص305 و 697) .
ولكن روى بقي عن جماعة من التالفين الساقطين منهم جبارة بن المغلس الحماني ومحمد بن خالد بن عبد الله الواسطي .
بكير بن عبد الله بن الأشج
قال ابن حجر في ترجمته من "التهذيب" : « وقال أحمد بن صالح المصري : إذا رأيت بكير بن عبد الله روى عن رجل فلا تسأل عنه فهو الثقة الذي لا شك فيه ».
وقال المعلمي في (التنكيل) (2/123) : « وعثمان بن الوليد ذكره ابن حبان فب الثقات وذاك لا يخرجه عن جهالة الحال لما عرف من قاعدة ابن حبان، لكن إن صحت رواية بكير بن الأشج عنه فإنها تقويه» ثم ذكر كلمة أحمد بن صالح ثم قال : « وهذه العبارة تحتمل وجهين :
__________
(1) نقله الزركشي في النكت على مقدمة ابن الصلاح 3/372 والدكتور بشار في تعليقه على تهذيب الكمال (1/286).(4/290)
الأول : أن يكون المراد بقوله (فلا تسأل عنه) أي عن ذلك المروي أي لا تلتمس لبكير متابعاً فإنه أي بكيراً الثقة الذي لا شك فيه ولا يحتاج إلى متابع.
الوجه الثاني : أن يكون المراد فلا تسأل عن ذلك الرجل فإنه الثقة، يعني أن بكيراً لا يروي إلا عن ثقة فلا شك فيه، والله أعلم ».
حريز بن عثمان
قال ابن حجر في (تهذيب التهذيب) (2/238 و172) و (4/137 و 309) و (6/284) وفي (اللسان) (2/438) : « وقال الآجري عن أبي داود : شيوخ حريز كلهم ثقات ».
وقال ابن عدي في (الكامل) (2/453) : « وحريز يحدث عن أهل الشام، عن الثقات منهم ».
وقال الذهبي في (الميزان) (4/10843) في ترجمة ابن هانئ عن أبي أمامة : « لا يعرف، لكن شيوخ حريز وثقوا ».
وذكر ابن رجب في (شرح علل الترمذي) (2/879) بضعة كليات في اطلاقها عنده نظر، منها قول أبي داود في مشايخ حريز بن عثمان (كلهم ثقات)، وقول أبي حاتم في مشايخ سليمان بن حرب (كلهم ثقات) ».
وقال ابن المديني في عبد الرحمن بن ميسرة الحضرمي أحد رجال أبي داود وابن ماجه : « مجهول لم يرو عنه غير حريز بن عثمان »(1).
وظاهر هذا أن ابن المديني لايوثق شيوخ حريز بروايته عنهم.
الحسن بن سفيان
قال أبو عمر العتيبي في الحلقة الثالثة من بحثه (التعقبات والتنبيهات على ما في مقالات الإباضي المتلقب بِـ"المنصور" من الهفوات) - وهو منشور على بعض مواقع الشبكة العالمية - في بعض رده ما نصه :
(ضعف المتلقب بِـ"المنصور" هذا الأثر بِـ"يحيى بن طلحى اليربوعي" ، ويجاب عن تضعيفة بما يلي :
أولاً : أن طلحة بن يحيى اليربوعي ليس ضعيفاً جداً بل هو إلى التوثيق أقرب وإليك البيان :
__________
(1) قال مؤلفا تحرير التقريب (2/351) : « قوله هذا مدفوع برواية اثنين آخرين عنه مع حريز ».(4/291)
قال النسائي : "ليس بشيء" ، والنسائي متشدد في الجرح ، وجرحه هنا مجمل غير مفسر ؛ وهذا معارض بتوثيق من وثقه ؛ فقد وثقه ابن حبان في "الثقات" وقال : "كان يغرب عن أبي نعيم وغيره" ؛ واحتج به ابن حبان في "صحيحه" ؛ وروى عنه الحسن بن سفيان وهو لا يروي إلا عن ثقة ؛ ----) ؛ كذا قال ، والله أعلم .
الحسن بن يسار البصري
قال العلائي في جامع التحصيل (ص90) : « وذكر ابن أبي خيثمة عن يحيى بن معين أنه قال : إذا روى الحسن ومحمد - يعني ابن سيرين - عن رجل وسمياه فهو ثقة».
قال العلائي : « فيحتمل هذا أنهما كانا لا يرويان إلا عن ثقة عندهما سواء كان مسنداً أو مرسلاً، ويحتمل أن ذلك فيمن ذكراه بإسمه، فأما من أرسلا عنه فجاز أن يكون كذلك وأن يكون ضعيفاً، وهذا هو الأظهر وفيه جمع بين الأقوال كلها ».
ويعني بالأقوال قول يحيى هذا وأقوال العلماء الذين ضعفوا مراسيل الحسن وذموها وكان العلائي قد سردها قبل كلمة يحيى بن معين، وهي قول ابن سيرين في الحسن وأبي العالية : (كانا يصدقان كل من حدثهما )، وقول أحمد بن حنبل -ووافقه جماعة من النقاد - : (ليس في المرسلات شيء أضعف من مرسلات الحسن وعطاء بن أبي رباح فإنهما كانا يأخذان عن كل أحد)، وقول أبي زرعة : (كل حديث قال فيه الحسن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وجدت له أصلاً إلا أربعة أحاديث).
وانظر ترجمة الشعبي الآتية في موضعها من هذا المبحث وقارن بين الروايتين عن ابن معين هذه والتي هناك.
سعيد بن المسيب
قال ابن حجر في ترجمة سعيد بن المسيب من تهذيب التهذيب (4/87) : « وروى ابن منده في (الوصية) من طريق يزيد بن أبي مالك قال كنت عند سعيد بن المسيب فحدثني بحديث فقلت له : من حدثك يا أبا محمد بهذا ؟ فقال : يا أخا أهل الشام خذ ولا تسأل فإنا لا نأخذ الا عن الثقات ».(4/292)
ونقل ابن حجر في النكت (2/552-554) كلاماً عن الشافعي وختمه بقوله : « فهذا يدل على أنه قبل مراسيل سعيد بن المسيب لكونه لا يسمي الا ثقة، وأما غيره فلم يتبين له ذلك منه فلم يقبله مطلقاً، وأحال الأمر في قبوله على وجود الشرط المذكور ».
وقال ابن عبد البر في التمهيد ما سبق نقله في ترجمة ابراهيم النخعي.
قلت : ومما لعله يؤيد كونه لا يروي إلا عن ثقة اتفاقهم على أنه لا يرسل إلا عن ثقة، قال العلائي في جامع التحصيل (ص89) : « وقد اتفقت كلمتهم على سعيد بن المسيب وأن جميع مراسيله صحيحة وانه كان لا يرسل إلا عن ثقة من كبار التابعين أو صحابي معروف، قال معنى ذلك بعبارات مختلفة جماعة من الأئمة منهم مالك ويحيى بن سعيد القطان وأحمد بن حنبل وعلي بن المديني ويحيى بن معين وغيرهم ».
ولكن انظر المراسيل لابن أبي حاتم (ص4 و 72) ففيها ما يعكر على دعوى الاتفاق هذه.
سليمان بن حرب (ت244)(1)
قال سليمان بن حرب : « عمدت إلى حديث المشايخ فغسلته، قيل : مثل من ؟ قال : مثل الحكم بن عطية ». انظر تحرير التقريب (1/311).
وقال ابن أبي حاتم في ترجمة محمد بن أبي رزين من الجرح والتعديل (7/255) : « سئل أبي عنه فقال : شيخ بصري لا أعرفه لا أعلم روى عنه غير سليمان بن حرب، وكان سليمان قلّ من يرضى من المشايخ، فإذا رأيته قد روى عن شيخ فاعلم أنه ثقة ».
أقول : رد النباتي هذا القول على أبي حاتم كما في تهذيب التهذيب (4/179)، وكذلك قد عُلمت رواية سليمان بن حرب عن جماعة من الضعفاء مثل مبارك بن فضالة وحفص بن أسلم الأصغر؛ وانظر ما تقدم عن ابن رجب في ترجمة حريز.
__________
(1) قال ابن حجر في تهذيب التهذيب : « قال أبو حاتم : إمام من الأئمة، كان لا يدلس، ويتكلم في الرجال وفي الفقه وليس بدون عفان ولعله أكبر منه 000 ولقد حضرت مجلس سليمان بن حرب ببغداد فحزروا من حضر مجلسه أربعين ألف رجل، فأتينا عفان فقال : ما حدثكم أبو أَيوب فإذا هو يعظمه.(4/293)
وقال الذهبي في (الكاشف) (2/170) (4845) : « محمد بن أبي رزين عن أمه وعنه سليمان بن حرب، ومشيخة سليمان وثقهم أبو حاتم مطلقاً ، ت » .
فقال محمد عوامة في تعليقه على هذه الترجمة : « وقد نقل قول أبي حاتم هذا المزي والمصنف هنا وفي التذهيب 3 : 203/ب والميزان 3(7520) والمغني (5498) مع الموافقة والإقرار، إلا في ديوان الضعفاء (3709) فإنه قال : مجهول؛ ولم يذكر قول أبي حاتم فكأنه لم يرتضه؛ ومثله الحافظ في التقريب (5878) فإنه قال : (مقبول)، لأنه في ثقات ابن حبان 7/422، وكان قد قال في التهذيب : (رد هذا القول النباتي على أبي حاتم) .
وعلى كل فإن الذي أفهمه من كلمة أبي حاتم التوثيق العام(1) وكل ما يدخل تحت كلمة (مقبول) - لا التوثيق المصطلح عليه وأن حديث صاحبه صحيح الصحة الاصطلاحية -؛ وهذا القبول العام يقيد من ناحية أخرى فيقال : هو كذلك عند أبي حاتم لا عند الجميع؛ ونقول فيه أيضاً : إنه اغلبي لا كلي مطرد » . انتهى كلام الأستاذ محمد عوامة .
هذا وقد ذكر المزي في (تهذيب الكمال) من عرفهم من شيوخ سليمان، وشرطه فيه - كما هو معلوم - استيعاب من يعلمهم من شيوخ المترجم والرواة عنه؛ ولكن ابن حجر في (تهذيب التهذيب) لم يستوعب أولئك الشيوخ مع أن شرطه فيه استيعاب شيوخ من قيل أنه لا يروي إلا عن ثقة !! فالظاهر أنه غير موافق لأبي حاتم على ما قاله في شيوخ سليمان بن حرب .
شعبة بن الحجاج
كلام العلماء المتعلق بكون شعبة لا يروي إلا عن ثقة كثير لا يتسع المقام لذكر جميعه.
ومن أعدل أقوالهم في هذا الباب وأوسطها قول الحافظ ابن عبد الهادي في (الصارم المنكي) (ص89-90) : « إن الغالب على طريقة شعبة الرواية عن الثقات، وقد يروي عن جماعة من الضعفاء الذين اشتهر جرحهم والكلام فيهم الكلمة والشيء والحديث وأكثر من ذلك ».
__________
(1) يعني الذي يعم جميع مراتب القبول.(4/294)
ثم مثل لهؤلاء بثلاثة عشر شيخاً من شيوخ شعبة، وذكر أنه روى عن غير هؤلاء ممن تكلم فيه ونسب إلى الضعف وسوء الحفظ وقلة الضبط ومخالفة الثقات.
ونحوه ما يتعلق بشعبة من قول العلائي في جامع التحصيل في أحكام المراسيل (ص90) : « إن مالكاً لم يرو إلا عن ثقة عنده، ووافقه الناس على توثيق شيوخه الا في النادر منهم كعبد الكريم بن أبي المخارق وعطاء الخراساني؛ وأما سفيان الثوري فإنه روى عن جماعة كثيرين من الضعفاء مثل جابر الجعفي ونحوه، وشعبة متوسط بينهما في ذلك».
وهذان القولان أقرب من قول أبي حاتم إذ قال لابنه عبد الرحمن كما في شرح علل الترمذي (1/381) : « إذا رأيت شعبة يحدث عن رجل فاعلم أنه ثقة الا نفراً بأعيانهم » إلا إذا أراد بالنفر عدداً كثيراً نحواً من عشرين، والله أعلم.
وقول أبي حاتم هذا أقرب من قول من ذهب إلى توثيق شيوخ شعبة عامة بلا استثناء(1).
__________
(1) وراجع الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (1/22) و (1/151-152) والعلل ومعرفة الرجال لعبد الله بن أحمد (2/64) والمجروحين لابن حبان (1/209) وديوان الضعفاء والمتروكين للذهبي (1/148) والميزان له (4/540) و (4/رقم 10098 ورقم 10325) والموقظة له (ص81-82) والمغني في الضعفاء له (ترجمة أبي الضحاك) وتهذيب الكمال للمزي (12/490) وتهذيب التهذيب لابن حجر (1/4-5) و (1/516) والنكت له (1/259) واعلام الموقعين لابن القيم (1/202) ونظم الفرائد بما تضمنه حديث ذي اليدين من الفوائد للعلائي (ص369) وشرح علل الترمذي لابن رجب (1/378) وعون المعبود للعظيم آبادي (1/229).(4/295)
وقال أبو القاسم البغوي -كما في سير أعلام النبلاء (7/207-208) - : « حدثنا ابن زنجويه حدثنا عبد الرزاق عن أبي أسامة قال وافقنا من شعبة طيب نفس فقلنا له حدثنا ولا تحدثنا إلا عن ثقة فقال قوموا(1)».
فائدة : لم يكن شعبة ينتقي الرجال فقط بل كان ينتقي أحاديثهم أيضاً، قال ابن حجر في فتح الباري (11/197) في معرض كلامه على بعض الأحاديث : « وأشار الإسماعيلي الى ان في السند علة أخرى فقال سمعت بعض الحفاظ يقول ان أبا إسحاق لم يسمع هذا الحديث من أبي بردة وانما سمعه من سعيد بن أبي بردة عن أبيه قلت وهذا تعليل غير قادح فإن شعبة كان لا يروى عن أحد من المدلسين الا ما يتحقق انه سمعه من شيخه ». وذكر نحو هذا في بضعة مواضع من الفتح.
عبد الله بن أحمد بن حنبل
قال الذهبي في سير أعلام النبلاء (13/523) : « قال أبو أحمد بن عدي : ولم يكتب [يعني عبد الله] عن أحد إلا من أمره أبوه أن يكتب عنه ».
وقال ابن حجر في تعجيل المنفعة (ص15) في ترجمة ابراهيم بن الحسن بن الحسن : « كان عبد الله بن أحمد لا يكتب الا عن من أذن له أبوه في الكتابة عنه، وكان لا يأذن له أن يكتب الا عن أهل السنة حتى كان يمنعه عن من أجاب في المحنة ولذلك فاته علي بن الجعد ونظراؤه من المسند ».
وقال (ص19) في ترجمة ابراهيم بن عبد الله بن بشار الواسطي : « وقد تقدم أن عبد الله كان لا يكتب إلا عن ثقة عند أبيه ».
وقال (ص355) في ترجمة الليث بن خالد البلخي : « وقد كان عبد الله بن أحمد لا يكتب الا عن من يأذن له أبوه في الكتابة عنه، ولهذا كان معظم شيوخه ثقات ».
__________
(1) كأنه غضب من قولهم؛ ولكن هل غضب لأنهم طالبوه بما لا يتيسر، أو لأنهم طالبوه بما هو متحصل منه ؟ ويدل للأول أنه قال لأصحابه مرة : لو لم أحدثكم إلا عن ثقة لما حدثتكم إلا عن ثلاثة وفي رواية ثلاثين.(4/296)
وقال (ص360) في ترجمة محمد بن تميم النهشلي : « قال أبو حاتم : مجهول. قلت : حكم شيوخ عبد الله القبول إلا أن يثبت فيه جرح مفسر لأنه كان لا يكتب الا عن من أذن له أبوه فيه ».
قلت : اشتراطه تفسير الجرح فيه نظر بل الصحيح عدم اشتراط ذلك، فكل من ثبت فيه جرح من شيوخ عبد الله ولم يثبت فيه من التعديل سوى مقتضى رواية عبد الله عنه فهو مجروح.
وأما تجهيل ناقد لشيخ من شيوخ عبد الله بن أحمد فالظاهر أن مثل ذلك الشيخ لا يحكم عليه بتعديل ولا تجهيل ولا غيرهما الا بعد النظر في القرائن والمتعلقات.
عبد الرحمن بن مهدي
قال أبو داود في سؤالاته لأحمد ص338-339 : « سمعت أحمد قال : أبان بن خالد شيخ بصري لا بأس به كان عبد الرحمن يحدث عنه، وكان لا يحدث إلا عن ثقة ».
وقال الإمام أحمد أيضاً فيما نقله عنه الخطيب في الموضع المذكور أيضاً والذهبي في السير (9/203) وابن رجب في شرح العلل (1/377) وابن حجر في ترجمة عبد الرحمن بن مهدي من تهذيب التهذيب : « إذا روى عبد الرحمن عن رجل فروايته حجة»(1).
وقال ابن حبان في ترجمة عبد الرحمن من الثقات : « كان من الحفاظ المتقنين وأهل الورع في الدين، ممن حفظ وجمع وتفقه وصنف وحدث وأبى الرواية الا عن الثقات ».
وقال الخطيب في الكفاية (ص92) : « إذا قال العالم : كل من أروي لكم عنه وأسميه فهو عدل رضا مقبول الحديث كان هذا القول تعديلاً منه لكل من روى عنه وسماه، وقد كان ممن سلك هذه الطريقة عبد الرحمن بن مهدي »(2) .
__________
(1) هذا الاطلاق فيه نظر أو هو ليس على ظاهره؛ وانظر التعليق التالي.
(2) قلت : هذا فيه نظر من جهتين :
الأولى : أن عبد الرحمن بن مهدي لم يصرح - فيما نعلم - بالكلية التي ذكرها الخطيب، وظاهر سياق الخطيب يشعر بأنه قد صرح بذلك.
الثانية : أطلق الخطيب القاعدة في تعديل شيوخ ذلك الصنف من العلماء، والذي ينبغي إنما هو تقييد ذلك التعديل وجعله خاصاً بشيوخ العالم الذين روى عنهم عقب التزامه بذلك الشرط دون سواهم، وهذا لائق بطريقة عبد الرحمن بن مهدي كما بينها الإمام أحمد إذ ذكر أنه كان يتسهل ثم قتصر في الرواية عن الثقات أو المقبولين.(4/297)
ولكن قد ورد عن الامام أحمد وغيره ما يخالف هذه الأقوال الثلاثة في أصلها أو في إطلاقها؛ فقد قال الامام أحمد أيضاً فيما أسنده إليه الخطيب في الكفاية نفسه (ص92) : « كان عبد الرحمن أولاً يتسهل في الرواية عن غير واحد ثم تشدد بعد، كان يروي عن جابر الجعفي ثم تركه ».
بل قال أحمد بن سنان فيما حكاه عنه الخطيب في الكفاية أيضاً (ص143) : « كان عبد الرحمن بن مهدي لا يترك حديث رجل إلا رجلاً متهماً بالكذب أو رجلاً الغالب عليه الغلط ».
روى مسلم في التمييز ص136 وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 1/1/38 وأبو عبد الله بن منده في شروط الأئمة ص82 والخطيب في الكفاية ص227 عن أبي موسى محمد بن المثنى قال قال لي ابن مهدي : يا أبا موسى ! أهل الكوفة يحدثون عن كل أحد !! قلت : يا أبا سعيد هم يقولون انك تحث عن كل أحد !! قال : عمن أحدث ؟! فذكرت له محمد بن راشد، فقال : احفظ عني : الناس ثلاثة : رجل حافظ متقن، فهذا لا يختلف فيه، وآخر يهم والغالب على حديثه الصحة فهذا لا يترك، لأنه لو ترك حديث هذا لذهب حديث الناس، وآخر يهم والغالب على حديثه الوهم، فهذا يترك »، انتهى؛ وبعض من ذكرتهم روى هذا الخبر مختصراً.
ويظهر أن المذهب الصحيح في الجمع بين هذا القول في شيوخ عبد الرحمن والقول الذي قبله هو أن من أطلق تقويتهم كان قوله من باب اعتبار الجملة والغلبة فيكون مراده أن عبد الرحمن لا يروي في أغلب أحواله إلا عن ثقة أو أنه من باب العام المخصوص ويكون مراده أن عبد الرحمن لا يروي فيما عدا القديم من مروياته الا عن رجل يحتج به.
تكميل : مما يتعلق بهذا الباب ويحسن إيراده فيه كلمتان، الكلمة الأولى للحافظ الخطيب، والكلمة الثانية للحافظ ابن حجر :
روى الخطيب في الكفاية (ص133) عن عبد الرحمن بن مهدي أنه قال : « لا ينبغي للرجل أن يشغل نفسه بكتابة أحاديث الضعاف فإن أقل ما فيه أن يفوته بقدر ما يكتب من حديث أهل الضعف يفوته من حديث الثقات ».(4/298)
وقال الحافظ ابن حجر في النكت (1/482) : « وذلك أن كل طبقة من نقاد الرجال لا تخلو من متشدد ومتوسط، فمن الاولى شعبة وسفيان الثوري، وشعبة أشد منه؛ ومن الثانية يحيى القطان وعبد الرحمن بن مهدي، ويحيى أشد من عبد الرحمن 000 وقال النسائي : (لا يترك الرجل عندي حتى يجتمع الجميع على تركه)؛ فأما اذا وثقه ابن مهدي وضعفه يحيى القطان مثلا فإنه لا يترك لما عرف من تشديد يحيى ومن هو مثله في النقد »(1). انتهى.
وقول الخطيب يؤيد قول من قال إن عبد الرحمن لا يروي إلا عن ثقة ولكنه ليس صريحاً في ذلك؛ وقول ابن حجر قد يؤيد قول من قال ان عبد الرحمن يروي عن الثقة وغيره ولكنه ليس صريحاً في ذلك.
وانظر الكامل لابن عدي (1/110) والجرح والتعديل (1/1/35-36) وتقدمة الجرح والتعديل (ص252) لابن أبي حاتم والكفاية للخطيب (ص167) وتغليق التعليق لابن حجر (2/353).
علي بن المديني
قال النسائي في محمد بن الحسن بن أَتَش : (متروك)، وقال مرة : (ليس بثقة) فقال أبو العرب القيرواني : « قال أحمد بن صالح : هو ثقة. وكلام النسائي فيه غير مقبول لأن أحمد وعلي بن المديني لا يرويان الا عن مقبول 00».
فتعقبه صاحبا (تحرير التقريب ) (3/227-228) بقولهما : « إن كان يريد التوثيق ففيه نظر شديد، أما المقبول الذي لا يكذب فهذا صحيح لأننا جربنا روايتهما عن ضعفاء معروفين بالضعف ».
وانظر بعض ما يتعلق بأحوال شيوخ ابن المديني وشرطه فيهم في ترجمته من الفصل الرابع.
مالك بن أنس
قد صرح عدد من العلماء بأن مالكاً ينتقي شيوخه أو بأنه لا يروي إلا عن ثقة وبعضهم وثق رواة لا يعرفهم الا برواية مالك عنهم.
أقوال العلماء في توثيق شيوخ مالك وما يتعلق بذلك التوثيق متكاثرة يطول حصرها واستقصاؤها، وأنا إنما ذكرت ما تيسر ذكره منها.
__________
(1) انظر كلمة ابن حجر هذه بتمامها مع التعليق عليها في ترجمة النسائي في كتابي (التساهل والتشدد).(4/299)
-قال ابن عيينة كما في ترتيب المدارك (1/150) : « كان مالك لا يبلغ [من] الحديث الا صحيحاً ولا يحدث إلا عن ثقة ».
-وقال عليّ بن المَديني عن سُفيان بن عُيَيْنَة : « ما كان أشد انتقاد(1) مالك للرجال وأعلمه بشأنِهم »(2).
-قال عليّ أيضاً : « قيل لسُفيان : أيما كان أحفظ سُمَيّ أو سالم أبو النّضْر؟ قال : قد روىَ مالك عنهما ».
-قال عليّ أيضاً عن حبيب الوَرّاق كاتب مالك : « جعل لي الدّراوَرْديّ وابن أبي حازم، وابن كنانة ديناراً علىَ أن أسأل مالكاً عن ثلاثة رجال لم يروِ عنهم وكنتُ حديثَ عَهْدٍ بِعُرس، فقالوا : أتدخل عليه وعليك موردتان؟ قال : فدخلتُ عليه بعد الظهر، وليسَ عنده غير هؤلاء، قال : فقال لي : يا حبيب ليس هذا وقتك. قال : قلت : أجل، ولكن جعل لي قومٌ ديناراً علىَ أن أسألك عن ثلاثة رجال لم ترو عنهم وليس في البَيْت دَقِيق ولا سويق. قال : فأطرق ثم رفع رأسه، وقال : ما شاءَ الله لا قوة إلا بالله، وكان كثيراً ما يقولها، ثم قال : يا حبيب ما أحبّ إليّ منفعتك ولكني أدركت هذا المسجد وفيه سبعون شيخاً ممن أدرك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وروىَ عن التابعين ولم يحمل العِلْمَ إلا عن أهله. قال : فأومأ القَوْمُ إليّ أن قد اكتفينا 000
قال : وسألت مالكاً عن رجل، فقال : رأيته في كُتُبي؟ قلت : لا. قال : لو كان ثقة لرأيته في كتبي ».
__________
(1) ولكن قد ورد في عدة كتب بدل كلمة (انتقاد) في هذه العبارة (انتقاء).
(2) قال الذهبي في السير (8/73) : « وروى علي بن المديني عن سفيان قال رحم الله مالكا ما كان أشد انتقاده للرجال. ابن أبي خيثمة حدثنا ابن معين قال ابن عيينه ما نحن عند مالك إنما كنا نتبع آثار مالك وننظر الشيخ إن كان كتب عنه مالك كتبنا عنه. وروى طاهر بن خالد الأيلي عن أبيه عن ابن عيينه قال كان مالك لا يبلغ من الحديث إلا صحيحا ولا يحدث إلا عن ثقة ».(4/300)
- قال علي - كما في اسعاف المبطأ (ص2) - : « إن مالكاً لم يكن يروي إلا عن ثقة ».
- قال عليّ : « لا أعلم مالكاً ترك إنساناً إلا إنساناً في حديثه شيء ».
- قال الشافعي - كما في تقدمة الجرح والتعديل (ص14) والكامل (1/92) - : « إذا جاء الحديث عن مالك فشدَّ به يدك ».
وقال أحمد : ما روى مالك عن أحد إلا وهو ثقة ، كل من روى عنه مالك فهو ثقة . كذا في مسائل ابن هانئ ( 244) وشرح علل الترمذي لابن رجب (2/876).
وقال أحمد أيضاً : « لا تبالِ أن لا تسأل عن رجل روى عنه مالك ولا سيما مدني ». ذكر هذه العبارة الإمام ابن رجب في (شرح علل الترمذي) (1/377) . قلت : وتحمل أولى العبارتين على ثانيتهما .
قال البخاري كما في (العلل الكبرى) للترمذي (ص271) : « ما أعرف لمالك بن أنس رجلاً يروي عنه مالك يستحق أن يترك حديثه غير عطاء الخراساني ».
قال ابن معين : « لا تريد أن تسأل عن رجال مالك، كل من حدث عنه ثقة إلا رجلاً أو رجلين ».
قال أبو سعيد الأعرابي : « كان يحيى بن معين يوثق الرجل لرواية مالك عنه، سئل عن غير واحد فقال : ثقة روى عنه مالك » (إسعاف المبطأ ص4).
قلت : ولكن ورد عن ابن معين ما ظاهره خلاف هذا فقد قال ابن عبد البر في التمهيد (2/175) : « قال عبد الله بن أحمد بن حنبل : سألت أبي عن عمرو بن أبي عمرو ؟ فقال : سمع من أنس، ليس به بأس، روى عنه مالك بن أنس؛ وقال ابن أبي حاتم : سألت أبي عن عمرو بن أبي عمرو ؟ فقال : لا بأس به روى عنه مالك؛ وسئل أبو زرعة عن عمرو بن أبي عمرو ؟ فقال : مدني ثقة؛ وأما ابن معين فروى عنه عباس الدوري أنه قال عمرو بن أبي عمرو ليس بحجة؛ وقول أبي زرعة أولى من قول ابن معين إن شاء الله لرواية مالك عنه وكان لا يروى عندهم إلا عن ثقة؛ قال أبو عمر [هو ابن عبد البر] : قد ضعفه بعضهم ولم يفرده مالك في موطئه بحكم ».(4/301)
قال ابن عبد البر في التمهيد (24/176) : « مالك عن الثقة عنده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع العربان.
هكذا قال يحيى عن مالك عن الثقة عنده في هذا الحديث عن عمرو بن شعيب وتابعه قوم منهم ابن عبد الحكم. وقال القعنبي والتنيسي وجماعة عن مالك أنه بلغه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وسواء قال عن الثقة عنده أو بلغه لأنه كان لا يأخذ ولا يحدث إلا عن ثقة عنده ».
وقال أيضاً (24/184) : « مالك عن الثقة عنده عن يعقوب بن عبد الله بن الأشج عن بسر بن سعيد عن سعيد بن أبي وقاص عن خولة بنت حكيم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من نزل منزلا فليقل أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق فإنه لن يضره شىء حتى يرتحل.
هكذا قال يحيى عن مالك عن الثقة عنده عن يعقوب وقال القعنبي وابن بكير وابن القاسم وابن وهب عن مالك أنه بلغه عن يعقوب والمعنى واحد ولم يكن مالك يروي إلا عن ثقة ».
قال أبو حاتم في داود بن الحصين الأموي : « ليس بالقوي، ولولا أن مالكاً روى عنه لترك حديثه ». (الجرح والتعديل 1/2/409).
روى ابن خزيمة في صحيحه عن ابن عيينة قال : إنما كنا نتبع آثار مالك، وننظر إلى الشيخ إن كتب عنه وإلا تركناه، وما مثلي ومثل مالك إلا كما قال الشاعر :
وابنُ اللّبُون إِذَا مَا لز في قرن **** لَمْ يَسْتَطِع صَولة البزل القناعيس ».
قال ابن حجر في التلخيص الحبير ج3ص10 في بعض الرواة : «قد اعتمده مالك مع شدة نقده»(1).
قال ابن حجر في تهذيب التهذيب : « وقال النسائي : ما عندي بعد التابعين أنبل من مالك ، ولا أجل منه ، ولا أوثق ، ولا آمن على الحديث منه ، ولا أقل رواية عن الضعفاء ، ما علمناه حدث عن متروك إلا عبد الكريم » .
__________
(1) عبارة ابن حجر هذه وعبارة الجوزجاني الآتية غير صريحتين في شدة أحكام مالك في نقد الرواة، انظر ما شرحي لهما في ترجمة مالك من كتابي (التساهل والتشدد).(4/302)
قال ابن عدي في الكامل (6/126) - ونقله عنه ابن حجر في ترجمة أبي الزبير من التهذيب - : « وكفى بأبي الزبير صدقاً أن حدث عنه مالك فإن مالكاً لا يروي إلا عن ثقة ».
قال ابن عدي أيضاً في عمرو بن أبي عمرو - واسمه ميسرة - مولى المطلب بن عبد الله بن حنطب القرشي : « لا بأس به لأن مالكاً قد روى عنه ولا يروي مالك الا عن صدوق ثقة » .
تنبيه : الشيخ المذكور ضعفه ابن معين رغم أنه من شيوخ مالك.
قال القاضي اسماعيل : إنما يعتبر بمالك في أهل بلده، فأما الغرباء فليس يحتج به فيهم ، قال ابن رجب في شرح علل الترمذي (1/380-381) : « وبنحو هذا اعتذر غير واحد عن مالك في روايته عن عبد الكريم أبي أمية وغيره من الغرباء ».
قال النسائي في مالك : « لا نعلمه روى عن انسان ضعيف مشهور بضعف الا عاصم بن عبيد الله فإنه روى عنه حديثاً، وعن عمرو بن أبي عمرو، وهو أصلح من عاصم ، وعن شريك بن أبي نمر، وهو أصلح من عمرو بن أبي عمرو في الحديث ، ولا نعلم مالكاً روى عن أحد يترك حديثه غير عبد الكريم بن أبي المخارق أبي أمية البصري، والله أعلم . ولا نعلم في هذا الباب مثل مالك بن أنس رحمه الله والله أعلم » . كذا في سؤالات الحاكم للدارقطني (ص287-288)، والكلمة الأخيرة (ولا نعلم 000) لست أقطع بأنها من كلام النسائي بل هي محتملة أن تكون من كلام الدارقطني أو الحاكم.
قال ابن حبان في (الثقات) (7/459) وابن منجويه في (رجال صحيح مسلم) (2/220) : « كان مالك أول من انتقى الرجال من الفقهاء بالمدينة، وأعرض عمن ليس بثقة في الحديث، ولم يكن يروي الا ما صح ولا يحدث إلا عن ثقة، مع الفقه والدين والفضل والنسك ».(4/303)
وقال الذهبي في (السير) (8/67-68) : « إبراهيم بن المنذر حدثنا معن وغيره عن مالك قال : لا يؤخذ العلم عن أربعة : سفيه يعلن السفه ، وإن كان أروى الناس، وصاحب بدعه يدعو إلى هواه، ومن يكذب في حديث الناس وإن كنت لا أتهمه في الحديث، وصالح عابد فاضل إذا كان لا يحفظ ما يحدث به »(1).
والقول بتوثيق جميع شيوخ مالك بلا استثناء مذهب ضعيف أو هو لا يخلو من تساهل ، ولعل الحق - وهو الذي يوافق ما صرح به غير واحد من المحققين - توثيق المدنيين من شيوخ مالك إلا إذا قام الدليل - أي في حق بعضهم - على خلاف ذلك ، بخلاف غير المدنيين منهم ، فلا تعد رواية مالك عنهم كافية في توثيقهم ، فقد قال الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (13/79) : « قال ابن أبي حاتم : وسمعت أبا زرعه وسئل عن مرسلات الثوري ومرسلات شعبة فقال : الثوري تساهل في الرجال وشعبة لا يدلس ولا يرسل ؛ قيل له : فمالك مرسلاته أثبت أم الأوزاعي ؟ قال : مالك لا يكاد يرسل إلا عن قوم ثقات ، مالك متثبت في أهل بلده جداً ، فإن تساهل فإنما يتساهل في قوم غرباء لا يعرفهم ».
ومن العلماء من لم يستثن من شيوخ مالك إلا رجلاً واحداً أو رجلين ، ونحو ذلك ؛ قال يحيىَ بن مَعِين : « كُل مَن روىَ عنه مالك بن أنَس فهو ثقة إلاّ عبد الكريم البَصْريّ أبو أُمية ».
وقال عباس الدوري في (تاريخه) (3/178) : « سمعت يحيى يقول : قد روى مالك بن أنس عن عبد الكريم أبى أمية وهو ضعيف وعبد الكريم بصرى؛ قال يحيى : وقد روى مالك عن داود بن حصين، قلت له : داود ما تقول فيه ؟ قال : هو ثقة، قال أبو الفضل [هو عباس الدوري] : وقد كان عندي أن داود ضعيف حتى قال يحيى : ثقة .
__________
(1) أخرج هذا الخبر يعقوب بن سفيان في المعرفة والتاريخ ج1ص684 حدثنا ابراهيم بن المنذر فذكره به، وليس فيه دلالة على شيء من تشدد في انتقاء الشيوخ فهو قول الجمهور وهو حق وعدل.(4/304)
سمعت يحيى يقول : وقد روى مالك بن أنس عن عطاء الخراساني وعطاء ثقة. قلت ليحيى : كان مالك بن أنس يكره عكرمة ؟ قال : نعم ؛ قلت : وقد روى عن رجل عنه ، قال : نعم شيء يسير ».
قال الجوزجاني في معرفة الرجال : « داود بن حصين لا يحمد الناس حديثه، قد روى عنه مالك ، على انتقاده»(1).
ومما أغرب به أبو عبد الله الحاكم على سائر النقاد وشذ به عنهم دعواه أن مالكاً ممن يجيز الرواية عن الضعفاء، واستدل على ذلك بروايته عن عبد الكريم البصري، جاء ذلك في بحث لابن رجب في شرح العلل (1/382) .
__________
(1) انظر هذه الأقوال وأقوالاً أخرى غيرها في توثيق شيوخ مالك وانتقائه لهم وشرطه فيهم ومعنى روايته عنهم في العلل الكبير للترمذي ص271 والجرح والتعديل لابن أبي حاتم 1/2/409 والتقدمة له ص14 وص22 والكامل لابن عدي ج1ص91و92 وج5ص116 وج6ص126 وثقات ابن حبان ج7ص459 والمجروحين له ج1ص41 والكفاية للخطيب ص116-117 ورجال صحيح مسلم لابن منجويه ج2ص220 وسؤالات الحاكم للدارقطني ص287-288 والارشاد للخليلي ج1ص214 وترتيب المدارك للقاضي عياض ج1ص150-151 وشرح علل الترمذي لابن رجب ج1ص355 و 377 وص380-381 وص382 و ج2ص876 و877 و878 و879 وعلل المروذي ص65-66 وتهذيب الكمال ج13ص502 وتهذيب التهذيب (ترجمة مالك) و ج1ص4-5 منه، وسير أعلام النبلاء ج13ص79 وتاريخ عباس الدوري ج3ص178 واسعاف المبطأ للسيوطي ص2 وص4 وص5 والتاريخ الصغير للبخاري ج1ص315 وتنوير الحوالك ص3 وأخبار أبي حنيفة للصيمري ص79 والتمهيد لابن عبد البر ج1ص60 و ج2 ص175 ج13ص188 و ج24ص176 و ج24 ص184 وفتح المغيث للسخاوي ج3ص316 و351 وجامع التحصيل للعلائي (1/90) وتهذيب الأسماء واللغات للنووي (2/515) وبقية الكتب التي نقلت عنها هنا ولم أذكرها في هذا المسرد.(4/305)
ولم يكن تثبت مالك مقصوراً على انتقاء شيوخه وإنما كان ذلك دأبه في كل مسائل العلم فهو كما قال فيه الحافظ ابن حجر في تقريب التهذيب : « إمام دار الهجرة رأس المتقنين وكبير المتثبتين ».
ومن ذلك أن الامام مالكاً كان أحياناً يتشدد - أو قل : يبالغ في التثبت - في قبول الأحاديث الصحيحة والعمل بها، فانظر ترجمة مالك من الفصل الرابع ففيها بيان لهذه المسألة.
محمد بن جحادة الكوفي
جاء في ترجمته من تهذيب التهذيب : « وقال الآجري عن أبي داود كان لا يأخذ عن كل أحد وأثنى عليه».
قلت : ظاهر هذه العبارة والمعروف من استعمالها عند علماء الجرح والتعديل أن من قيلت فيه يكون نقي الشيوخ متجنباً للرواية عن الساقطين والمتروكين والكذابين؛ ولكن لا يلزم من ذلك أن يكون كل شيوخه ثقات، بل ولا يلزم منه أنه يجتنب الرواية عن اللينين وبعض من فيهم نوع ضعف، والله أعلم.
محمد بن سيرين
قال ابن عبد البر في (التمهيد) (8/301) : « أجمع أهل العلم بالحديث أن ابن سيرين أصح التابعين مراسل وأنه كان لا يروي ولا يأخذ إلا عن ثقة وأن مراسله صحاح كلها ليس كالحسن وعطاء في ذلك والله أعلم ».
قال ابن حجر في (النكت) (2/557) : « صحح ابن عبد البر مراسيل محمد بن سيرين قال : لأنه كان يتشدد في الأخذ ولا يسمع الا من ثقة---- ».
وقال العلائي في (جامع التحصيل) (ص90) : « وذكر ابن أبي خيثمة عن يحيى بن معين أنه قال : إذا روى الحسن ومحمد - يعني ابن سيرين - عن رجل وسمياه فهو ثقة ».
وانظر تعليق العلائي على هذه الكلمة في ترجمة الحسن البصري من هذا الفصل.(4/306)
وقال ابن رجب رحمه الله تعالى في (شرح العلل) (1/355) : « وابن سيرين رضي الله عنه هو أول من انتقد الرجال وميز الثقات من غيرهم ، وقد روي عنه من غير وجه أنه قال : "إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم" ، وفي رواية عنه أنه قال : "إن هذا الحديث دين فلينظر الرجل عمن يأخذ دينه" ؛ قال يعقوب بن شيبة : قلت ليحيى بن معين : تعرف أحداً من التابعين كان ينتقي الرجال كما كان ابن سيرين ينتقيهم ؟ فقال برأسه ، أي لا ».
وانظر تتمة ما نقله ابن رجب هناك .
محمد بن وضاح
جاء في (تهذيب التهذيب) (6/347-348) مما ذكره تمييزاً : «عبد الملك بن حبيب بن سليمان بن مروان بن جاهمة بن عباس بن مرداس الأندلسي الفقيه أبو مروان السلمي----.
وقال ابن الفرضي : وكان حافظاً للفقه نبيلاً إلا أنه لم يكن له علم بالحديث ولا يعرف صحيحه من سقيمه ، وقال غيره : كان ذاباً عن مذهب مالك ، صنف في الفقه والتاريخ والأدب ، وله "الواضحة" في الفقه ، ولم يصنف مثله ، وكتاب "فضائل الصحابة" وكتاب "غريب الحديث" وكتاب "حروب الإسلام" .
قال ابن الفرضي : وكان نحوياً عروضياً شاعراً نسابة طويل اللسان متصرفاً في فنون العلم ----.
وقال أبو محمد بن حزم : روايته ساقطة مطرحة ----.
وذكر ابن الفرضي أنه كان يتسهل في السماع ويحمل على سبيل الإجازة أكثر رواياته .
ولما سئل أسد بن موسى عن رواية عبد الملك بن حبيب عنه قال : إنما أخذ من كتبي ، فقال الأئمة : إقرار أسد بهذا هي الإجازة بعينها ، إذا كان قد دفع له كتبه كفى أن يرويها عنه ، على مذهب جماعة من السلف .(4/307)
وسئل وهب بن ميسرة عن كلام ابن وضاح في عبد الملك بن حبيب ؟ فقال : ما قال فيه خيراً ولا شراً ، إنما قال : لم يسمع من أسد بن موسى ؛ وكان ابن لبابة يقول : عبد الملك عالم الأندلس روى عنه ابن وضاح وبقي بن مخلد ، ولا يرويان إلا عن ثقة عندهما . وقد أفحش ابن حزم القول فيه ونسبه إلى الكذب وتعقبه جماعة بأنه لم يسبقه أحد إلى رميه بالكذب ».
قلت : إن أراد أنهما لا يرويان عن متهم عندهما ولا يرويان إلا عن عدل فليس ذلك ببعيد؛ وأما إن أراد أنهما لا يرويان إلا عن عدل ضابط فهذا فيه نظر فابن وضاح على فضله لم يكن من المتقنين لعلم الجرح والتعديل ونقد الأحاديث فكيف يتيسر له أن ينتقي الثقات من الشيوخ ؟
محمد بن الوليد بن عامر
قال فيه الإمام أحمد كما في (تهذيب التهذيب) (9/503) : « كان لا يأخذ إلا عن الثقات ».
مظفر بن مدرك
قال ابن حجر في ترجمة مظفر بن مدرك من (التقريب) : « ثقة متقن ، كان لا يحدث إلا عن ثقة ».
وقال في ترجمته من (تهذيب التهذيب) : « مُظَفّرُ بنُ مُدْرِك الخُرَاسَانِيّ، أبو كامل الحَافِظ ، سكن بغداد (ت س). روى عن حماد بن سلمة، وأبي خيثمة زهير بن معاوية، ومهدي بن ميمون، ونافع بن عمر الجمحي، وقيس بن الربيع، والليث بن سعد، وعبد العزيز بن الماجشون، وشيبان بن عبد الرحمن النحوي، وغيرهم(1) » .
__________
(1) انظر كيف اقتصر ابن حجر على ذكر بعض شيوخه دون جميعهم مع أن شرطه فيمن لا يروي إلا عن ثقة أن يستقصي ذكر شيوخه.(4/308)
قال الخطيب البغدادي في (تاريخه) (13/70) : « أخبرنا محمد بن الحسين بن الفضل القطان أخبرنا عبد الله بن جعفر حدثنا يعقوب بن سفيان حدثني الفضل يعني ابن زياد قال : قال أبو عبد الله ، وهو أحمد بن حنبل : لم يكن ببغداد من أصحاب الحديث ولا يحملون عن كل إنسان ولهم بصر بالحديث والرجال ولم يكونوا يكتبون إلا عن الثقات ولا يكتبون عمن لا يرضونه إلا أبو سلمة الخزاعي والهيثم بن جميل وأبو كامل ؛ وكان أبو كامل بصيراً بالحديث متقناً يشبه الناس لا يتكلم إلا أن يسأل فيجيب ويسكت ،له عقل سديد ، والهيثم كان أحفظهم ، وأبو سلمة كان من أبصر الناس بأيام الناس ، لا تسأله عن أحد إلا جاءك بمعرفته ، وكان يتفقه ».
وقال المزي في (تهذيب الكمال) (28/99) في ترجمة مظفر أيضاً : « وقال أبو طالب عن أحمد بن حنبل : لم يكن ببغداد من أصحاب الحديث، ولا يحملون عن كل نسان، ولهم بصر بالحديث والرجال ، ولم يكتبوا إلا عن الثقات ، ولا يكتبون عمن لا يرضونه إلا أبو سلمة الخزاعي والهيثم بن جميل وأبو كامل » ثم أتم الكلام بمثل ما تقدم نقله عن تاريخ الخطيب(1).
منصور بن سلمة الخزاعي (ت210)
انظر ما تقدم بشأنه في ترجمة مظفر بن مدرك. وأزيد هنا ذكر بعض ما يبين منزلته في علم النقد وهو قول الخطيب البغدادي في تاريخه (13/70) : « أخبرني أبو القاسم الأزهري قال قال لنا أبو الحسن الدارقطني : أبو سلمة الخزاعي أحد الثقات الحفاظ الرفعاء الذين كانوا يسئلون عن الرجال ويؤخذ بقوله فيهم أخذ عنه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وغيرهما علم ذلك ».
وقال أبو بكر الأعين - كما في الجرح والتعديل 8/الترجمة 763 : « سمعت أحمد بن حنبل يقول : أبو سلمة الخزاعي من متثبتي بغداد ».
__________
(1) وانظر المعرفة والتاريخ ليعقوب بن سفيان (2/180) وترجمة مظفر بن مدرك من تهذيب التهذيب.(4/309)
قال ابن سعد : « خرج إلى الثغر فمات بالمصيصة سنة عشر ومئتين ، وكان ثقة يتمنع بالحديث رحمه الله تعالى»(1).
منصور بن المعتمر
ورد في ترجمة منصور بن المعتمر من تهذيب الكمال (28/549) وتهذيبه : « قال الآجري عن أبي داود : كان منصور لا يروي إلا عن ثقة ».
وقال الترمذي في سننه (3/557) : « ومنصور بن المعتمر يكنى أبا عتاب، حدثنا أبو بكر العطار البصري عن ابن المديني قال : سمعت يحيى بن سعيد يقول : إذا حدثت عن منصور فقد ملأت يدك من الخير لا ترد غيره؛ ثم قال يحيى : ما أجد في إبراهيم النخعي ومجاهد أثبت عن منصور.
وأخبرني محمد عن عبد الله بن أبي الأسود قال : قال عبد الرحمن بن مهدي : منصور أثبت أهل الكوفة».
وجاء في تحفة الأحوذي (4/391) في شرح هذه العبارة : « إذا حدثت بصيغة المجهول عن منصور أي ابن المعتمر يعني إذا حدثك رجل عن منصور فقد ملأت يدك من الخير ، كناية عن كونه ثقة ثبتاً في الحديث ، وكان هو أثبت أهل الكوفة ، وكان لا يحدث إلا عن ثقة ، لا ترد من الإرادة غيره ، أي غير منصور؛ وأخبرني محمد هو الإمام البخاري رحمه الله ، وهذا قول الترمذي ».
موسى بن هارون الحمال
قال ابن عدي في مقدمة الكامل (1/137) : « كان عالماً بعالي الحديث ، متوقي ، ولم يحدث إلا عن ثقة ».
الهيثم بن جميل
سبق كلام الامام أحمد فيه في ترجمة مظفر بن مدرك.
وهيب بن خالد بن عجلان
هذا حافظ ثبت ثقة أثنى الأئمة على علمه بالجرح والتعديل وذكر أبو حاتم أنه لا يكاد يحدث إلا عن ثقة، وإليك كلمة أبي حاتم هذه مع طرف من ثناء العلماء على وهيب وتوثيقهم له :
__________
(1) انظر ترجمته في تذكرة الحفاظ (1/358-359).(4/310)
قال المزي في (تهذيب الكمال) (31/166-167) - وهو في تهذيب التهذيب (11/149) : « قال صالح بن أحمد بن حنبل عن أبيه : ليس به بأس. وقال الفضل بن زياد : سألت أحمد بن حنبل عن وهيب وإسماعيل بن علية أيهما أحب إليك إذا اختلفا ؟ قال : كان عبد الرحمن يختار وهيباً على إسماعيل، قلت : في حفظه ؟ قال : في كل شيء، وإسماعيل ثبت.
وقال معاوية بن صالح قلت ليحيى بن معين : من أثبت شيوخ البصريين ؟ قال : وهيب بن خالد ، مع جماعة سماهم. وقال علي بن المديني عن عبد الرحمن بن مهدي : كان من أبصر أصحابه بالحديث والرجال. وقال عمرو بن علي : سمعت يحيى بن سعيد ذكره فأحسن الثناء عليه. وقال يونس بن حبيب عن أبي داود الطيالسي : حدثنا وهيب وكان ثقة. وقال العجلي : ثقة ثبت.
وقال أبو حاتم : ما أنقى حديثه لا تكاد تجده يحدث عن الضعفاء، وهو الرابع من حفاظ أهل البصرة وهو ثقة؛ ويقال إنه لم يكن بعد شعبة أعلم بالرجال منه ، وكان يقال : إنه يخلف حماد بن سلمة في كثرة حديثه عن المدنيين وغيرهم.
وقال محمد بن سعد : كان قد سجن فذهب بصره وكان ثقة كثير الحديث حجة ، وكان يملي من حفظه ، وكان أحفظ من أبي عوانة ».
يحيى بن سعيد القطان
قال العجلي في الثقات (2/353) : « بصري ثقة نقي الحديث، وكان لا يحدث إلا عن ثقة »؛ ونقل قول العجلي هذا الذهبي في السير (9/181).
وقال ابن عدي في الكامل (4/72) في صالح بن رستم : « وقد روى عنه يحيى القطان مع شدة استقصائه، وهو عندي لا بأس به ».
وقال الذهبي في ترجمة سيف بن سليمان المكي من ميزان الاعتدال : « حدث يحيى القطان مع تعنته عن سيف ».
وقال ابن حجر في مقدمة الفتح (ص585) في بعض رجال البخاري : « قال الدوري عن ابن معين : في حديثه عندي ضعف، وقد حدث عنه يحيى القطان ويكفيه رواية يحيى عنه ».(4/311)
وقال ابن حجر في ترجمة الفضل بن دكين من تهذيب التهذيب : « وقال عبد الصمد بن سليمان البلخي سمعت أحمد يقول : ما رأيت أحفظ من وكيع، وكفاك بعبد الرحمن اتقانا، وما رأيت أشد تثبتا في الرجال من يحيى وأبو نعيم أقل الأربعة خطأ ».
وقال ابن حجر في تهذيب التهذيب : وقال ابن منجويه : كان من سادات أهل زمانه حفظاً، وورعاً، وفهما، وفضلاً، وديناً، وعلماً، وهو الذي مهد لأهل العراق رسم الحديث، وأمعن في البحث عن الثقات وترك الضعفاء. قلت : هذا الكلام برمته كلام أبي حاتم بن حبان في (الثقات) في ترجمة يحيى القطان، وهذا دأب ابن منجويه رحمه الله تعالى ينقل كلامه برمته ولا يعزوه إليه. زاد ابن حبان : ومنه تعلم أحمد ويحيى وعلي وسائر أئمتنا.
وقال الخليلي : هو إمام بلا مدافعة، وهو أجلّ أصحاب مالك بالبصرة، وكان الثوري يتعجب من حفظه، واحتج به الأئمة كلهم وقالوا : من تركه يحيى تركناه ».
وقال ابن رجب في شرح علل الترمذي (1/376) : « ما ذكره الترمذي رحمه الله يتضمن مسائل من علم الحديث :
أحدها : أن رواية الثقة عن رجل لا تدل على توثيقه، فإن كثيراً من الثقات رووا عن الضعفاء كسفيان الثوري وشعبة وغيرهما. وكان شعبة يقول : لو لم أحدثكم إلا عن الثقات لم أحدثكم إلا عن نفر يسير. قال يحيى القطان : إن لم أرو إلا عمن أرضى ما رويت عن خمسة، أو نحو ذلك ».
وانظر تقدمة الجرح والتعديل (ص233) وفتح الباري (1/226 - الطبعة القديمة)(1).
يحيى بن أبي كثير
قال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (4/2/142) : « سمعت أبي يقول : يحيى بن أبي كثير إمام لا يحدث إلا عن ثقة »؛ ونقله عنه الذهبي في تذكرة الحفاظ (1/128) وأقره بسكوته عليه.
يعقوب بن سفيان الفارسي
__________
(1) ممن وصف بأنه لا يروي إلا عن ثقة يحيى بن سعيد الأنصاري، ولكني لم أذكره مع بقية الموصوفين بذلك لأن ذلك خطأ محض، والذي وصفه بذلك هو (صاحب معجم الجرح والتعديل للسنن الكبرى للبيهقي).(4/312)
جاء في تهذيب الكمال (32/333) : « وقال عبد الله بن عمر بن عبد الله بن الهيثم الأصبهاني حدثنا أبو بكر الحافظ قال سمعت أبا عبد الرحمن النهاوندي الحافظ يقول سمعت يعقوب بن سفيان يقول : كتبت عن ألف شيخ وكسر كلهم ثقات ».
قال الدكتور بشار عواد في تعليقه على هذا الكلام : « في هذا مبالغة ظاهرة تنبه إليها الذهبي فقال في (السير) : (ليس في مشيخته إلا نحو من ثلاث مئة شيخ، فأين الباقي ؟ ثم في المذكورين جماعة قد ضعفوا ) (13/181)؛ وقلنا قبل قليل أن العلامة [أكرم ضياء] العمري استقصاهم فما عدا الأربع مئة إلا بقليل ».
أبو حاتم الرازي
قال مؤلفا تحرير التقريب (1/70) في بعض الرواة : « ولو لم يكن ثقة عند أبي حاتم لما روى عنه ».
أقول : هذه دعوى غريبة، ولا يسوغ أن يعتذر لهما بأن مرادهما بالثقة ما هو أعم من الصدوق والثقة بالمعنى المشهور، وذلك لأنهما في مقام الاستدراك على ابن حجر في اقتصاره في الحكم على ذلك الراوي على قوله فيه (صدوق) وأنه لم يقل فيه (ثقة)، فهما قطعاً لا يستدركان عليه الا ما لم يذهب إليه.
وقالا في موضع آخر من كتابهما : « والنسائي وأبو حاتم ممن ينتقون الشيوخ فلا يحدثون عن كل أحد».
وقالا (2/128) في صالح بن سهيل الذي قال فيه ابن حجر : (مقبول) : « بل ثقة فقد روى عنه جمع من الثقات منهم أبو داود في سننه وهو لا يروي فيها إلا عن ثقة، وأبو زرعة وأبو حاتم الرازيان وهما من تعرف في شدة التحري، ووثقه ابن حبان، وقال الذهبي في الكاشف : ثقة ».
أبو داود السجستاني
قال ابن القطان في (بيان الوهم والإيهام) (3/466) : (فأما إسحاق بن إسماعيل الذي يروي عنه علي بن عبد العزيز ، فهو ابن عبد الأعلى الأيلي ، يكثر عنه ، يروي عن ابن عيينة وجرير وغيرهما ؛ وهو شيخ لأبي داود ، وأبو داود لا يروي إلا عن ثقة عنده ، فاعلمه) .
ونقله الزيلعي في (نصب الراية) (1/199) .(4/313)
وقال ابن حجر في التهذيب (2/344) بعد كلام نقله عن أبي داود في ترجمة الحسين بن علي بن الأسود العجلي : « وهذا مما يدل على أن أبا داود لم يرو عنه فإنه لا يروي إلا عن ثقة عنده ».
وقال في ترجمة داود بن عمير الأزدي من (التهذيب) (3/180) : « وقد تقدم أن أبا داود لا يروي إلا عن ثقة » ؛ وانظر ترجمة داود بن أمية الأزدي من (تهذيب التهذيب) .
وقال المعلمي في (التنكيل) (ص443) مستدلاً على قوة بعض الرواة : « وروى عنه البخاري ومسلم في صحيحيهما وأبو داود مع أنه لا يروي إلا عن ثقة زمع شدة متابعته لأحمد ».
وانظر (التنكيل) (ص 305 و 441 و 481 و 546 و 571 و 702).
وقال مؤلفا (تحرير التقريب) (1/27) : « إن توثيق شيوخ من عرف من عادته أو حاله أنه لا يروي إلا عن ثقة، ليس على إطلاقه، وإنما هو في الأعم الأغلب، فقد روى هؤلاء الذين قيل فيهم ذلك عن بعض الضعفاء والواهين، ويستثنى من ذلك أبو داود السجستاني صاحب (السنن) ، فإنه قد عُرف بالاستقراء أنه لا يروي في (السنن) خاصةً إلا عن من هو ثقة »(1).
__________
(1) قلت : صنيعهما في شيوخ ابي داود في الكتاب يعطي أنهما أرادا بكلمة (ثقة) هنا المعنى الذي يعم العدل الضابط والعدل الخفيف الضبط، ويشعر بذلك أيضاً سياقهما، فانهما قالا : « ---فقد روى هؤلاء --- عن بعض الضعفاء والواهين »، ولم يذكرا معهم الصدوقين.(4/314)
وعليهما في دعوى الاستقراء في هذه القضية استدراك، فإنه إن كان المراد الاستقراء الناقص فلا حجة فيه على مثل دعواهما؛ وأما إن كان مرادهما الاستقراء التام(1) أي أنهما وجدا في كل شيخ من شيوخ أبي داود في (سننه) من كلام المعتمدين من العلماء أو من مقتضى سبر أحاديث أولئك الشيوخ ودراستها أن جميع شيوخ أبي داود ثقات فهذا خلاف الواقع؛ ففي (تقريب التهذيب) من شيوخ أبي داود في (سننه) نحو مئة أكثرهم إذا أهملنا مقتضى رواية أبي داود عنهم(2) لا يستحقون أن يوصفوا عند التحقيق بأعلى من كلمة صدوق، بل لعله لا يرتقي إلى هذه الرتبة إلا أقلهم، بل إنه لا يوجد في كثير منهم نقد صريح معتبر ففيهم بعض جهالة، بل إن طائفة منهم كانوا الى جهالة الحال أقرب .
فالتحقيق إذن يوجب أن لا يقال في شيوخ أبي داود أكثر مما قيل في شيوخ مالك أو سليمان بن حرب أو يحيى بن سعيد القطان أو بقي بن مخلد أو حريز بن عثمان أو نحوهم من المحدثين الذين ادعى فيهم بعضُ العلماء المعتمدين أنهم لا يروون إلا عن الثقات.
وإليك حال بعض شيوخ أبي داود في سننه في الرواية :
1- أحمد بن سعيد بن بشر بن عبيد الله الهمداني أبو جعفر المصري؛ جاء في ترجمته من تهذيب التهذيب : « قال النسائي ليس بالقوي لو رجع عن حديث بكير بن الأشج في الغار لحدثت عنه وذكر عبد الغني بن سعيد عن حمزة الكناني أن أحمد بن محمد بن الحجاج بن رشدين هو ادخل على الهمداني حديث الغار.
__________
(1) معنى الاستقراء التام هنا هو ان المؤلفين علما من نصوص الائمة المفصلة في شيوخ ابي داود ومن دراسة احاديث كل شيخ منهم دراسة مفصلة أيضاً انهم ثقات جميعا، ولا شك ان هذا متعذر عليهما وعلى غيرهما الان، فأين تلك النصوص الشاملة المفصلة ؟ وأين هذه الدراسة الشاملة الكاملة ؟
(2) تنبيه : قبل استقراء حال شيوخ أبي داود هذا الإهمال لا بد منه فإننا لا نعرف ما سنتهي إليه ذلك الاستقراء.(4/315)
قال زكريا الساجي ثبت، وقال العجلي ثقة وقال أحمد بن صالح ما زلت أعرفه بالخير مذ عرفته وذكره ابن حبان في الثقات وذكره النسائي في شيوخه الذين سمع منهم ».
2- أحمد بن عبد الجبار بن محمد بن عمير بن عطارد، مجمع على ضعفه؛ ولكن يظهر أن أبا داود لم يرو عنه في سننه خلافاً لما قاله المزي.
3- أحمد بن محمد بن أيوب البغدادي؛ قال عثمان الدارمي : كان أحمد وعلي بن المديني يحسنان القول فيه وكان يحيى يحمل عليه(1)؛ وقال عبد الله بن أحمد : عن أبيه ما أعلم أحدا يدفعه بحجة وقال يعقوب بن شيبة ليس من أصحاب الحديث وإنما كان وراقاً »(2).
4- إبراهيم بن العلاء بن الضحاك، روى عنه أبو داود وبقي بن مخلد ومحمد بن عوف وأبو حاتم الرازي وقال : صدوق، ويعقوب بن سفيان وغيرهم. قال ابن عدي : سمعت أحمد بن عمير سمعت محمد بن عوف يقول وذكرت له حديث إبراهيم بن العلاء عن بقية عن محمد بن زياد عن أبي إمامة رفعه استعتبوا الخيل فإنها تعتب فقال رأيته على ظهر كتابه ملحقاً فأنكرته فقلت له ، فتركه؛ قال ابن عوف : وهذا من عمل ابنه محمد بن إبراهيم كان يسوي الأحاديث ؛ وأما أبوه فشيخ غير متهم لم يكن يفعل من هذا شيئاً؛ قال ابن عدي : وإبراهيم حديثه مستقيم ولم يرم إلا بهذا الحديث ، ويشبه أن يكون من عمل ابنه كما ذكر محمد بن عوف.
وقال ابن حجر في (التهذيب) : قال أبو داود : ليس بشيء ؛ وذكره ابن حبان في (الثقات) .
__________
(1) قال فيه يحيى بن معين : كذاب.
(2) وانظر ترجمة ابراهيم بن حرب العسقلاني من تهذيب التهذيب.(4/316)
ولكن قال الدكتور بشار عواد معروف في رده على بعض من طعن في كتاب (تحرير التقريب) في (جريدة الرأي العراقية) (العدد 64 - السنة الثانية) : « وهذا النقل مما اخطأ فيه الحافظ ابن حجر رحمه الله فلا أدري من اين أتى به، فليس في الرواة الذين رووا أقوال أبي داود من قال مثل هذا القول، بل هناك نقيضه، حيث قال الآجري، وهو اشهر من روى أقوال أبي داود في الجرح والتعديل : (سألت أبا داود عنه فقال : ثقة كتبت عنه) (سؤالات الآجري 5/ الورقة 25).
ثم كيف يتصور أن يقول إمام كبير مثل أبي داود عن شيخ : (ليس بشيء) ثم يروي عنه في السنن ؟!
وقد فاتت ابن حجر هذه النكتة التي رد مثيلتها قبل قليل حينما قال : (وهذا مما يدل على أن أبا داود لم يرو عنه، فإنه لا يروي إلا عن ثقة عنده) (تهذيب التهذيب 3/180)؛ وقد بينا(1) غير مرة أن ابن آدم خطاء وأن كل إنسان يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم »(2).
5- إبراهيم بن مخلد الطالقاني، لم يوثقه إلا مسلمة بن قاسم وابن حبان وهما متساهلان.
6- إبراهيم بن الحارث بن اسماعيل، لم يوثقه احد ولكن روى عنه البخاري حديثين أحدهما في الاصول والاخر في التفسير.
7- إسحاق بن الجراح الأذني روى عن أبي النضر ويزيد بن هارون وجعفر بن عون وغيرهم وعنه أبو داود وابنه أبو بكر بن أبي داود وأبو عوانة ومحمد بن المسيب الأرغياني؛ لم يزد ابن حجر في ترجمته من التهذيب على هذا الكلام.
8- إسحاق بن سالم، ذكر ابن القطان وتبعه الذهبي أنه لا يعرف إلا في حديث واحد رواه ابو داود؛ وانظر ترجمته من التهذيب.
__________
(1) الأولى أن يقول بدل (بينا) : (ذَكَرْنا) أو (ذكَّرْنا) أو نحو ذلك، فإن هذا من البين المجمع عليه، والبيان إنما يكون لشيء غير بين ولا واضح.
(2) وانظر ترجمة ابراهيم بن محمد بن خازم من تهذيب التهذيب.(4/317)
9- إسحاق بن الصباح الكندي الأشعثي؛ لم يذكر فيه ابن حجر - إذا استثنينا ذكره لأبي داود في الرواة عنه - لا جرحاً ولا تعديلاً، ولا ما يقتضي شيئاً من ذلك(1).
10- إسماعيل بن عمر غير منسوب، لم يجزم بتعيينه أحد من العلماء، ولا يدرى من المراد به.
11- أيوب بن منصور الكوفي، قال العقيلي : في حديثه وهم؛ قال ابن حجر : « إنما هو حديث واحد أخطأ في إسناده رواه عن على بن مسهر عن هشام عن أبيه عن عائشة والصواب عن مسعر عن قتادة عن زرارة عن أبي هريرة ومتنه تجاوز لا متى ما حدثت به أنفسها ».
12- بشر بن آدم بن يزيد البصري، قال أبو حاتم : ليس بقوي وقال النسائي لا بأس به وذكره ابن حبان في الثقات، وقال مسلمة صالح : وقال الدارقطني : ليس بقوي.
13- بشر بن عمار القهستاني، لم يوثقه غير ابن حبان.
14- جعفر بن مسافر بن راشد التنيسي، قال النسائي : صالح؛ وقال أبو حاتم : شيخ؛ وذكره ابن حبان في الثقات وقال : كتب عن ابن عيينة ربما أخطأ ؛ وانظر بقية كلام ابن حجر في ترجمته من التهذيب.
15- الحارث بن مخلد الزرقي، قال البزار : ليس بمشهور، وقال ابن القطان : مجهول الحال، وذكره ابن حبان في الثقات.
16- الحسن بن شوكر البغدادي لم يوثقه إلا ابن حبان.
17- الحسن بن عمرو السدوسي البصري، جاء في (تهذيب التهذيب) : « قال ابن حبان في (الثقات) : الحسن بن عمرو من أهل سجستان صاحب حديث متعبد يروي عن حماد بن زيد وأهل البصرة وعنه أهل بلده... فيحتمل أن يكون هو هذا. قلت : ويحتمل أن يكون الذي بعده فإن الأزدي ذكر في (الضعفاء) : الحسن بن عمرو السدوسي البصري منكر الحديث روى عن شعبة والحسن بن أبي جعفر ».
18- الحسين بن حفص بن الفضل، قال أبو حاتم : محله الصدق(2) وذكره ابن حبان في (ثقاته) .
__________
(1) انظر ترجمة اسحاق بن الضيف من تهذيب التهذيب.
(2) فهو عند أبي حاتم - ومن يتابعه من العلماء - لا يحتج به.(4/318)
19- الحسين بن عبد الرحمن الجرجرائي، ذكره ابن حبان في الثقات وقال حدثنا عنه أهل واسط، وقال أبو حاتم : مجهول؛ قال ابن حجر : فكأنه ما خَبر أمرَه(1).
20- الحسين بن يزيد بن يحيى الطحان لم يوثقه إلا ابن حبان، بل قال فيه أبو حاتم ثم ابن حجر : لين الحديث.
21- حكيم بن سيف بن حكيم الأسدي مولاهم أبو عمرو الرقي، قال أبو حاتم : شيخ صدوق لا بأس به يكتب حديثه ولا يحتج به ليس بالمتين؛ وذكره ابن حبان في الثقات؛ وقال ابن عبد البر : شيخ صدوق لا بأس به عندهم.
22- داود بن أمية الأزدي، لم يوثقه أحد.
23 و 24 - داود بن مخراق، وداود بن معاذ العتكي وثقهما ابن حبان وحده.
25- سعيد بن عمرو الحضرمي لم يقوه أحد، وقول أبي حاتم فيه : (شيخ) ليس بتقوية وانما هو تليين أو تجهيل حال.
26- سعيد بن نصير البغدادي، لم يوثقه أحد.
27- سهل بن تمام بن بزيع الطفاوي، قال أبو زرعة : لم يكن بكذاب ، كان ربما وهم في الشيء؛ وقال أبو حاتم : شيخ، وذكره ابن حبان في الثقات وقال : يخطىء.
28- شاذ بن فياض اليشكري، قال أبو حاتم : صدوق ثقة، وقال مسلمة بن قاسم صاحب رقائق لا بأس به وقال الساجي صدوق عنده مناكير يرويها عن عمرو بن إبراهيم عن قتادة؛ وقال ابن حبان : كان ممن يرفع المقلوبات ويقلب الأسانيد لا يشتغل بروايته كان محمد بن إسماعيل شديد الحمل عليه.
29- شعيب بن أيوب بن زريق، قال الآجري عن أبي داود : إني لأخاف الله في الرواية عن شعيب بن أيوب ، وقال الدارقطني ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات فقال : كان على قضاء واسط يخطئ ويدلس كلما حدث جاء في حديثه من المناكير مدلسة؛ وقال الحاكم : ثقة مأمون.
30- صالح بن سهيل النخعي لم يوثقه قبل الذهبي إلا ابن حبان.
31- عاصم بن النضر لم يوثقه أحد إلا ابن حبان، ولكن أخرج له مسلم.
__________
(1) وانظر ترجمة الحسن بن علي بن جعفر الأحمر بن زياد الكوفي من تهذيب التهذيب.(4/319)
32- عبد الله بن مخلد بن خالد، لم يذكر فيه ابن حجر جرحاً ولا تعديلاً.
33- عبد الرحمن بن حسين الحنفي، لم يوثقه إلا بان حبان.
34- عبد الملك بن حبيب المصيصي لا يؤْثر فيه تجريح ولا تعديل عن أحد من المتقدمين.
35- عبد الوهاب بن عبد الرحيم بن عبد الوهاب، لم يوثقه غير ابن حبان أحد.
36- عبيد الله بن ابي الوزير، قال فيه ابن حجر : « من شيوخ ابي داود لا يُعرف حاله » فقالا في تحرير التقريب : « بل مقبول في اقل أحواله فان ابا داود ممن ينتقي شيوخه وهوكما قيل لا يروي إلا عن ثقة ».
ولا أدري لم اقتصرا فيه على هذا، ولم يقولا فيه ثقة او على الاقل صدوق وهو من شيوخ ابي داود الذين قالا فيهم أنهما علما بالاستقراء انهما ثقات !!
37- عثمان بن محمد الدشتكي قال فيه ابن حجر مقبول، فقالا في تحرير التقريب : بل صدوق حسن الحديث، فقد روى عنه جمع منهم ابو داود وهو ممن ينتقي شيوخه، وروايته عنه افضل من ذكر ابن حبان له في الثقات.
38- عمر بن حفص الحميري الوصابي قال فيه ابن حجر : مقبول، فقالا : بل صدوق حسن الحديث، مع انه لم يوثقه احد.
39 و40 و41 و42 - عمرو بن الحباب، وغسان بن الفضل، ومحمد بن حفص القطان(1)، ومحمد بن مكي : هؤلاء الأربعة لم يوثقهم الا ابن حبان وقال ابن حجر في كل منهم : مقبول.
43- محمد بن حسان بن خالد مختلف فيه وقال ابن حجر : صدوق لين الحديث.
44 و45 و46 و47- محمد بن خلف بن طارق، ومحمد بن عبد الله بن ابي حماد، ويحيى بن اسماعيل الواسطي، ويحيى بن الفضل السجستاني : هؤلاء الأربعة لم يوثقهم أحد.
48- محمد بن خلف بن طارق الداري، لم يورد فيه ابن حجر شيئاً من تعديل.
49- محمد بن داود بن سفيان لا يدرى ما حاله.
__________
(1) قال ابن حجر في التهذيب : ذكره أبو عبد الله أحمد بن منده في تاريخه وذكر أنه بغدادي حدث عن ابن عيينة ويحيى القطان بالمناكير.(4/320)
50- محمد بن سفيان بن أبي الزرد ذكره ابن حبان في الثقات (9/119) وأثنى عليه ابو داود بما لا يعد توثيقاً.
51- محمد بن المتوكل وثقه ابن معين وابن حبان والذهبي وقال فيه ابوحاتم : لين الحديث، وابن عدي : كثير الغلط، ومسلمة بن قاسم : « كان كثير الوهم وكان لا بأس به ».
52- محمد بن مكي بن عيسى، لم يوثقه غير ابن حبان.
53- محمد بن يونس النسائي(1)، لم يذكر له ابن حجر راوياً غير أبي داود، وقال فيه الذهبي : لا يكاد يعرف، قال فيه ذلك رغم رواية أبي داود عنه ورغم قوله فيه : كان ثقة(2).
54- موسى بن عامر بن عامر بن عمارة لم يوثقه من المتقدمين إلا ابن حبان وقال الذهبي فيه : صدوق صحيح الكتاب تكلم فيه بعضهم بغير حجة وقال ابن حجر : صدوق له اوهام.
55- موسى بن مروان لم يوثقه الا ابن حبان.
56- نصر بن عاصم الانطاكي وثقه ابن حبان وحده وضعفه العقيلي؛ وذكره ابن وضاح في مشايخه وقال فيه : شيخ.
57- هارون بن عباد الأزدي : لم ينقل فيه ابن حجر لا جرحاً ولا تعديلاً.
58- هشام بن عبد الملك بن عمران اليزني، قال أبو داود نفسه فيما نقله عنه الآجري : شيخ ضعيف، ولكن قال أبو حاتم : كان متقنا في الحديث، وقال النسائي : ثقة، وقال في موضع آخر : لا بأس به؛ وذكره ابن حبان في الثقات.
59- يحيى بن إسماعيل الواسطي، قال الآجري : سئل أبو داود عنه فقال سمعت أحمد ذكره فقال أعرفه قديما وكان لي صديقاً، وقال أبو حاتم : أدركته ولم اكتب عنه.
__________
(1) تنبيه : هذا الراوي ثقة عند أبي داود بتصريحه هو بذلك، فلا يستدرك بمثله - مهما كان وصفه عند غير أبي داود - على من ادعى أن أبا داود لا يروي إلا عن ثقة عنده أي عند أبي داود نفسه، ولكن يستدرك به على من يوثق شيوخ أبي داود برواية أبي داود عنهم، أي على من يقول : أبو داود لا يروي إلا عن ثقة عندي.
(2) انظر ترجمة محمد بن يونس الكديمي من تهذيب التهذيب.(4/321)
قلت : في اقتصار أبي داود على هذه الكلمة التي نقلها عن الامام أحمد ما قد يُشعِر بأنه لم يخبر أمره، وهو مع ذلك روى عنه !
60- يزيد بن قبيس بن سليمان، وثقه ابن حبان وحده.
61- أبو العباس القلوري العصفري، لم يحكِ فيه ابن حجر جرحاً ولا تعديلاً.
وانظر كلام صاحبي تحرير التقريب على شيوخ ابي داود فيه (1/55 و 72 و 95 و 329-330) و (2/35 و72 و 87 و 123 و 133 و 140 و 197 و 202 و 296-297 و 335 و 350 و 363 و 400) و (3/40 و 44 و 207 و 213 و 230 و 267 و 274 و 371 و 433 و 434 و 438 و 442 و 443) ومواضع اخرى منه.
والحاصل أنه لا يصح إطلاق توثيق شيوخ أبي داود في سننه؛ ولا يصح أيضاً توثيقهم دون شيوخ مالك ويحيى القطان وسليمان بن حرب وغيرهم ممن قال بعض كبار الأئمة أنهم لا يروون إلا عن ثقة، بل لعله يكون في هؤلاء وغيرهم من هو أنقى حديثاً وأوثق شيوخاً من ابي داود.
والحق أن رواية ابي داود وغيره من هؤلاء المحتاطين المتثبتين تقوي الراوي في أحيان كثيرة تقوية تختلف بحسب القرائن والاحوال، وبشروط تعرف من تتبع كلام الأئمة وتصرفاتهم في هذه المواضع.
أبو زرعة الرازي
قال ابن حجر في ترجمة داود بن حماد البلخي من لسان الميزان : « قال ابن القطان : ح اله مجهول، قلت : بل هو ثقة فمن عادة أبي زرعة أن لا يحدث إلا عن ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات وقال : كان ضابطاً صاحب حديث يغرب ».
وقد أقر ابن حجر على هذه القاعدة واحتج بها في مواضع من كتبه وتبعه في الاحتجاج بها العلامة المعلمي في مواضع كثيرة من التنكيل منها (ص 300 و 416 و 442 و 495 و 537 و 540 و 679 و 702 و 719) .(4/322)
وأما كلمة الفصل في شيوخ أبي زرعة فلعلها تلك التي قالها العلامة المحقق الكبير ابن رجب في شرح العلل (1/386-387) وهذا نصها : « والذي يتبين لي من عمل الامام أحمد وكلامه أنه يترك الرواية عن المتهمين والذين كثر خطؤهم للغفلة وسوء الحفظ، ويروي عمن دونهم في الضعف مثل من في حفظه شيء ويختلف الناس في تضعيفه وتوثيقه، وكذلك كان أبو زرعة يفعل ».
ابن أبي ذئب محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة المدني
اختلف إماما الجرح والتعديل أحمد بن حنبل ويحيى بن معين - فيما نقل عنهما - في شيوخ ابن أبي ذئب، ففي ترجمته من تهذيب الكمال (25/634) : (وقال أبو داود(1) : سمعت أحمد بن حنبل يقول: كان ابن أبي ذئب يشبَّه بسعيد بن المسيب ؛ قيل لأحمد: خلف مثله ببلاده ؟ قال: لا، ولا بغيرها.
قال: وسمعت أحمد يقول: ابن أبي ذئب كان ثقة صدوقاً ، أفضل من مالك بن أنس، إلا أن مالكاً أشدُّ تنقية للرجال منه ؛ ابن أبي ذئب كان لا يبالي عن من يحدث.
وقال عبدالله بن محمد البغوي عن أحمد بن حنبل: كان ابن أبي ذئب رجلاً صالحاً يأمر بالمعروف ؛ وكان يشبَّه بسعيد بن المسيب.
وقال أحمد بن سعد بن أبي مريم عن يحيى بن معين: ابن أبي ذئب ثقة(2) ؛ وكل من روى عنه ابن أبي ذئب ثقة إلا أبا جابر البياضي، وكل من روى عنه مالك ثقة إلا عبد الكريم أبا أمية.
وقال أبو داود في موضع آخر: سمعت أحمد بن صالح يقول: شيوخ ابن أبي ذئب كلهم ثقات إلا أبو جابر البياضي .
__________
(1) تاريخ الخطيب: (2/298) .
(2) الذي في (تاريخ بغداد) (2/303) من كلام ابن معين هذا هو فقط هذه الجملة دون الزيادة الآتية ، فلا أدري من أين جاءت الزيادة التي في (تهذيب الكمال) ، ويحتمل أنها ثابتة في نسخة المزي من (تاريخ بغداد) ، أو أن الخطيب قد اختصر الكلام ولكن ذلك ليس من عادته .(4/323)
وقال يعقوب بن شيبة السدوسي: ابن أبي ذئب ثقة صدوق ، غير أن روايته عن الزهري خاصة تكلم الناس فيها، فطعن بعضهم فيها بالاضطراب، وذكر بعضهم أن سماعه منه عرض، ولم يُطعن بغير ذلك، والعرض عند جميع من أدركنا صحيح .
قال: وسمعت أحمد ويحيى يتناظران في ابن أبي ذئب، وعبد الله بن جعفر المخرمي، فقدم أحمد المخزومي على ابن أبي ذئب، فقال يحيى: المخرمي شيخ وأيش عنده من الحديث ؟ ! وأطرى ابن أبي ذئب وقدمه على المخرمي تقديماً كثيراً متفاوتاً ) .
وأنا أستغرب ما نقله ابن أبي مريم عن ابن معين فقد تفرد بذلك وهو خلاف الواقع(1)، والظنٌّ بيحيى أنه ليس ممن يخفى عليه أن ابن أبي ذئب كان يحدث عن كل أحد ولا يبالي ، كما تقدم في كلام أحمد ؛ فينبغي جمع أقوال يحيى في شيوخ ابن أبي ذئب ليتبين حال هذا الخبر عنه ، وإن كان ما تقدم من إطراء يحيى لابن أبي ذئب قد يُشعر بأنه عَلم أنه لا يروي إلا عن ثقة ، وربما أراد الغالبَ من أمره ، فيقْرب بذلك الجمع بين قول يحيى وأحمد ، أو يقل الفرق بينهما ؛ وقد قال الخليلي في ابن أبي ذئب كما في (تهذيب التهذيب) (9/307) : « حديثه مخرج في الصحيح، إذا روى عن الثقات فشيوخه شيوخ مالك ، لكنه قد يروي عن الضعفاء » .
البخاري
قال شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في (الرد على البكري) ما تقدم نقله عنه في ترجمة الإمام أحمد، وهو قوله : « ان القائلين بالجرح والتعديل من علماء الحديث نوعان منهم من لم يرو إلا عن ثقة عنده كمالك وشعبة ويحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي وأحمد بن حنبل وكذلك البخاري وأمثاله».
وأقول : في إطلاق أن البخاري لا يروي إلا عن ثقة عنده نظر.
__________
(1) ولعله وهم هو أو غيره من رواة كلامه أو النساخ فنسب كلمة أحمد بن صالح المصري ليحيى بن معين.(4/324)
قال المعلمي في (التنكيل) في ترجمة أحمد بن عبد الله الفرياناني (ص320-322) : « قال الذهبي : وقد رأيت البخاري يروي عنه في كتاب (الضعفاء). أقول(1) : في باب (الإمام ينهض بالركعتين) من (جامع الترمذي) : (قال محمد بن اسماعيل [البخاري] : ابن أبي ليلى هو صدوق، ولا أروي عنه لأنه لا يُدْرَى صحيح حديثه من سقيمه، وكل من كان مثل هذا فلا أروي عنه شيئاً)؛ والبخاري لم يدرك ابن أبي ليلى، فقوله : (لا أروي عنه) أي بواسطة، وقوله : (وكل من كان مثل هذا فلا أروي عنه شيئاً) يتناول الرواية بواسطة وبلا واسطة؛ وإذا لم يرو عمن كان كذلك بواسطة فلأَن لا يروي عنه بلا واسطة أولى، لأن المعروف عن أكثر المتحفظين أنهم إنما يتقون الرواية عن الضعفاء بلا واسطة، وكثيراً ما يروون عن متقدمي الضعفاء بواسطة.
وهذه الحكاية تقتضي أن يكون البخاري لم يرو عن أحد إلا وهو يرى أنه يمكنه تمييز صحيح حديثه من سقيمه، وهذا يقتصي أن يكون الراوي على الأقل صدوقاً في الأصل فإن الكذاب لا يمكن أن يُعرَف صحيح حديثه؛ فإن قيل : قد يعرف بموافقته الثقات، قلت : قد لا يكون سمع وإنما سرق من بعض أولئك الثقات، ولو اعتد البخاري بموافقة الثقات لروى عن ابن أبي ليلى ولم يقل فيه تلك الكلمة، فإن ابن [أبي] ليلى عند البخاري وغيره صدوق، وقد وافق الثقات في كثير من أحاديثه، ولكنه عند البخاري كثير الغلط بحيث لا يُؤمَن غلطه حتى فيما وافق عليه الثقات، وقريب منه من عرف بقبول التلقين، فإنه قد يلقن من أحاديث شيوخه ما حدثوا به ولكنه لم يسمعه منهم، وهكذا من يحدث على التوهم فإنه قد يسمع من أقرانه عن شيوخه ثم يتوهم أنه سمعها من شيوخه فيرويها عنهم.
__________
(1) القائل هو المعلمي.(4/325)
فمقصود البخاري من معرفة صحيح حديث الراوي من شيوخه لا يحصل بمجرد موافقة الثقات، وإنما يحصل بأحد أمرين : إما أن يكون الراوي ثقة ثبتاً فيعرف صحيح حديثه بتحديثه، وإما أن يكون صدوقاً يغلط ولكن يمكن معرفة ما لم يغلط فيه بطريق أخرى كأن يكون له أصول جيدة، وكأن يكون غلطه خاصاً بجهة كيحيى بن عبد الله بن بكير، روى عنه البخاري وقال في (التاريخ الصغير) : (ما روى يحيى [ابن عبد الله] بن بكير عن أهل الحجاز في التأريخ فإني أتقيه ) ، ونحو ذلك .
فإن قيل : قضية الحكاية المذكورة أن يكون البخاري التزم أن لا يروي إلا ما هو عنده صحيح، فإنه إن كان يروي ما لا يرى صحته فأي فائدة في تركه الرواية عمن لا يدري صحيح حديثه من سقيمه ؟
لكن كيف تصح هذه القضية مع أن في كتب البخاري غير الصحيح أحاديث غير صحيحة، وكثير منها يحكم هو نفسه بعدم صحتها ؟
قلت : أما ما نبه على عدم صحته فالخطب فيه سهل وذلك بأن يحمل كونه (لا يروي ما لا يصح) على الرواية بقصد التحديث أو الاحتجاج، فلا يشمل ذلك ما يذكره ليبين عدم صحته؛ ويبقى النظر فيما عدا ذلك.
وقد يقال : إنه إذا رأى أن الراوي لا يُعرف صحيح حديثه من سقيمه تركه البتة تركه البتة ليعرف الناس ضعفه مطلقاً، وإذا رأى أنه يمكن معرفة صحيح حديثه من سقيمه في باب دون باب ترك الرواية عنه في الباب الذي لا يعرف فيه كما في يحيى بن بكير، وأما غير ذلك فإنه يروي ما عرف صحته وما قاربه أو أشبهه مبيناً الواقع بالقول أو الحال، والله أعلم ».(4/326)
وقال المعلمي في ترجمة ضرار بن صرد في (التنكيل) ص495-496 : « وأما ضرار فروى عنه أبو زرعة أيضاً(1)، وقال البخاري والنسائي : (متروك الحديث)، لكن البخاري روى عنه وهو لا يروي إلا عن ثقة كما صرح به الشيخ تقي الدين ابن تيمية، ومر النظر في ذلك في ترجمة أحمد بن عبد الله أبو عبد الرحمن. والظاهر التوسط وهو أن البخاري لا يروي الا عمن هو صدوق في الأصل يتميز صحيح حديثه من سقيمه، كما صرح به في رواية الترمذي عنه كما تقدم في تلك الترجمة؛ فقوله في ضرار : (متروك الحديث) محمول على أنه كثير الخطأ والوهم، ولا ينافي ذلك أن يكون صدوقاً في الأصل يمكن لمثل البخاري تمييز بعض حديثه. وقال أبو حاتم في ضرار : (صدوق صاحب قرآن وفرائض يكتب حديثه ولا يحتج به، روى حديثاً عن معتمر عن ابيه عن الحسن عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في فضيلة بعض الصحابة ينكره أهل المعرفة بالحديث ).
أقول : متنه : (قال لعلي : أنت تبين لأمتي ما اختلفوا فيه بعدي)، أخرجه الحاكم في (المستدرك) ج3 ص122 وقال : (صحيح على شرط الشيخين)، قال الذهبي : بل هو فيما أعتقده من وضع ضرار، قال ابن معين : كذاب).
أقول : لا ذا ولا ذاك، والصواب ما أشار إليه أبو حاتم، فإنه أعرف بضرار وبالحديث وعلله، فكأن ضراراً لُقّن أو أدخل عليه الحديث أو وهم؛ فالذي يظهر أن ضراراً صدوق في الأصل لكنه ليس بعمدة فلا يحتج بما رواه عنه من لم يُعرف بالإتقان، ويبقى النظر فيما رواه عنه مثل أبي زرعة أو أبي حاتم أو البخاري، والله أعلم ».
__________
(1) أي ومن عادته أن لا يروي إلا عن ثقة.(4/327)
وقوى مؤلفا (تحرير التقريب) بعض الرواة او عضداهم برواية البخاري عنهم خارج الصحيح، وذلك لا يستقيم، قال المعلمي في تخريج (الفوائد المجموعة) (ص354) في بعض الضعفاء : « وروى له البخاري في الادب المفرد، وليس في ذلك ما يشد منه، لأن البخاري لا يمتنع في غير الصحيح عن الرواية عن الضعفاء، فقد روى عن ابي نعيم النخعي وهو كذاب، وعن الفرياناني وهو كذاب ايضاً ».
كذا قال المعلمي هنا مع أن الذي انتهى إليه تحقيقه في (التنكيل) خلاف ذلك، كما تقدم قبل قليل ، في ذلك المبحث النفيس في تحقيق شرط البخاري في شيوخه .
تكميل : قال ابن حجر في مقدمة شرح البخاري : « الفصل التاسع : في سياق أسماء من طعن فيه من رجال هذا الكتاب مرتباً لهم على حروف المعجم والجواب عن الاعتراضات موضعا موضعا وتمييز من أخرج له منهم في الأصول أو في المتابعات والاستشهادات مفصلاً لذلك جميعه.(4/328)
وقبل الخوض فيه ينبغي لكل مصنف أن يعلم أن تخريج صاحب الصحيح لأي راو كان مقتض لعدالته عنده وصحة ضبطه وعدم غفلته ولا سيما ما انضاف إلى ذلك من إطباق جمهور الأئمة على تسمية الكتابين بالصحيحين وهذا معنى لم يحصل لغير من خرج عنه في الصحيح فهو بمثابة إطباق الجمهور على تعديل من ذكر فيهما؛ هذا إذا خرج له في الأصول، فأما إن خرج له في المتابعات والشواهد والتعاليق فهذا يتفاوت درجات من أخرج له منهم في الضبط وغيره مع حصول اسم الصدق لهم وحينئذ إذا وجدنا لغيره في أحد منهم طعناً فذلك الطعن مقابل لتعديل هذا الإمام فلا يقبل إلا مبين السبب مفسراً بقادح يقدح في عدالة هذا الراوي أو في ضبطه مطلقاً أو في ضبطه لخبر بعينه، لأن الأسباب الحاملة للأئمة على الجرح متفاوتة، منها ما يقدح ومنها ما لا يقدح، وقد كان الشيخ أبو الحسن المقدسي يقول في الرجل الذي يخرَّجُ عنه في الصحيح : هذا جاز القنطرة يعني بذلك أنه لا يلتفت إلى ما قيل فيه؛ قال الشيخ أبو الفتح القشيري في مختصره : وهكذا نعتقد وبه نقول ولا نخرج عنه إلا بحجة ظاهرة وبيان شاف يزيد في غلبة الظن على المعنى الذي قدمناه من اتفاق الناس بعد الشيخين على تسمية كتابيهما بالصحيحين ومن لوازم ذلك تعديل رواتهما. قلت : فلا يقبل الطعن في أحد منهم إلا بقادح واضح لأن أسباب الجرح مختلفة ومدارها على خمسة أشياء البدعة أو المخالفة أو الغلط أو جهالة الحال أو دعوى الانقطاع في السند بأن يدعي في الراوي أنه كان يدلس أو يرسل.
فأما جهالة الحال فمندفعة عن جميع من أخرج لهم في الصحيح لأن شرط الصحيح أن يكون راويه معروفاً بالعدالة فمن زعم أن أحدا منهم مجهول فكأنه نازع المصنف في دعواه أنه معروف ولا شك أن المدعي لمعرفته مقدم على من يدعي عدم معرفته لما مع المثبت من زيادة العلم؛ ومع ذلك فلا تجد في رجال الصحيح أحداً ممن يسوغ إطلاق اسم الجهالة عليه أصلاً كما سنبينه.(4/329)
وأما الغلط فتارة يكثر من الراوي وتارة يقل فحيث يوصف بكونه كثير الغلط ينظر فيما أخرج له إن وجد مروياً عنده أو عند غيره من رواية غير هذا الموصوف بالغلط علم أن المعتمد أصل الحديث لا خصوص هذه الطريق وإن لم يوجد إلا من طريقه فهذا قادح يوجب التوقف عن الحكم بصحة ما هذا سبيله، وليس في الصحيح بحمد الله من ذلك شيء؛ وحيث يوصف بقلة الغلط كما يقال : سيء الحفظ أو له أوهام أو له مناكير وغير ذلك من العبارات فالحكم فيه كالحكم في الذي قبله إلا أن الرواية عن هؤلاء في المتابعات أكثر منها عند المصنف من الرواية عن أولئك 000».
الشعبي عامر بن شراحيل
قال الزركشي في (النكت على مقدمة ابن الصلاح) (3/372) : وحكى الشيخ علاء الدين مغلطاي عن (تاريخ قرطبة) أن بقي بن مخلد قال كل من رويت عنه فهو ثقة، ومن (تاريخ ابن أبي خيثمة) : سمعت يحيى بن معين يقول : إذا حدث الشعبي عن رجل فسماه فهو ثقة يحتج بحديثه.
وجاء في حاشية (تهذيب الكمال) (8/13) من تعليق محققه : « وقال ابن خلفون في كتاب الثقات : قال ابن أبي خيثمة : سمعت يحيى بن معين يقول : إذا روى الحسن والشعبي عن رجل فسمياه فهو ثقة يحتج بحديثه. نقله مغلطاي واختصره ابن حجر »(1).
يعني نسب هذا الضابط إلى ابن أبي خيثمة، جعله من قوله ولم يذكر ابن معين؛ أقول : ولعل ابن حجر ذكره من غير اختصار ثم سقط ذكره من بعض نساخ كتابه.
وقد ورد في المحدث الفاصل للرامهرمزي (ص417) وتهذيب ابن حجر (8/353) أن الشعبي عاب على قتادة أنه يأخذ الحديث عن كل أحد.
__________
(1) وانظر ما تقدم عن ابن معين في ترجمة الحسن، فإن في تلك الرواية (محمد بن سيرين) مكان (الشعبي) وأرى أن الرواية التي فيها ذكر الشعبي هي المحفوظة.(4/330)
وقال يعقوب بن شيبة : « قلت ليحيى بن معين : متى يكون الرجل معروفاً ؟ إذا روى عنه كم ؟ قال : إذا روى عن الرجل مثل ابن سيرين والشعبي وهؤلاء أهل العلم فهو غير مجهول. قلت : فإذا روى عن الرجل مثل سماك بن حرب وأبي اسحاق ؟ قال : هؤلاء يروون عن مجهولين ».
نقله ابن رجب في شرح العلل (1/377) وقال : « وهذا تفصيل حسن وهو يخالف اطلاق محمد بن يحيى الذهلي الذي تبعه عليه المتأخرون أنه لا يخرج الرجل من الجهالة إلا برواية رجلين فصاعداً عنه » .
تنبيه : ورد في فهرس (بيان الوهم والإيهام) لابن القطان (6/ ) في حق زفر بن وثيمة هذه العبارة (مجهول الحال ---- ، فإنه لا يُعرف بأكثر من رواية الشعبي عنه وروايته هو عن حكيم) خطأ والصواب (الشعيثي) بدل (الشعبي) كما في (3/344) منه .
النَّسائي صاحب السنن
قال الدكتور حاتم العوني في خاتمة تحقيقه كتاب (تسمية مشايخ النسائي) (ص127-129) ما نصه :
(كان النسائي شديد الانتقاء لشيوخه، عظيم التحري فيمن يروي عنه؛ واتضح ذلك على أجلى وجه في هذا البحث، كما سألخصه في الإحصائية التالية :
الذين ضعفهم النسائي من شيوخه سبعة فقط : ثلاثة في تسمية مشايخه ---، وأربعة في الملحق الأول----، بل هؤلاء السبعة يخرج منهم خمسة، الراجح في شأنهم - حسب إجتهاد الحافظ ابن حجر في التقريب - أنهم في مراتب الاحتجاج---.(4/331)
أما الذين لم نجد للنسائي فيهم جرحاً أو تعديلاً، وكلهم إنما وردوا في الملحق الأول والثاني؛ وقد بلغ عددهم : خمسة وأربعين شيخاً = فجلهم معدلون محتج بهم ؛ حيث إن إثنين وثلاثين منهم لا ينزلون عن مرتبة الاحتجاج، وهم : في الملحق الأول (رقم16، 31، 42، 52، 69، 91، 97، 101، 107، 111، 143، 162، 164، 172، 175، 180، 184، 185، 188، 195، 202، 209، 212، 225، 233)؛ وفي الملحق الثاني (رقم 1، 2، 4، 5، 7، 8، 12)؛ وأما البقية، وهم ثلاثة عشر شيخاً : في الملحق الأول : (رقم 63، 66، 85، 118، 117، 197، 198، 199، 228، 145، 252)؛ وفي الملحق الثاني (8، 10، 11) = فكلهم قال الحافظ ابن حجر فيهم عبارة (مقبول)؛ ولا يخفى أن عبارة (مقبول) عند الحافظ هي عبارة عن أخف مراتب الجرح.
فلا نكاد نكون مبالغين إن قلنا : إن مجرد رواية النسائي - بانتقائه الشديد ذاك - يرفع من شأنهم، وربما كفى في تعديلهم.
وبذلك نخرج أنه ليس في شيوخ النسائي من هو (عنده) ضعيف، على وجه التحقيق والقطع في ذلك = إلا شيخان فقط هما اللذان وردا في تسمية شيوخه برقم (112، 192).
وما نسبة اثنين من سبعة وخمسين وأربعمئة شيخ؟!
هذه - تالله - شهادة شرف للنسائي، يكاد ينفرد بها.(4/332)
فلا نستغرب بعد ذلك أن يدافع الخطيب البغدادي عن أحد شيوخ النسائي، (وهو أحمد بن عبد الرحمن بن بكار الدمشقي)، بعد ذكره لجرح فيه من أحد الأئمة، بقوله عنه في تاريخ بغداد (4/242) : (وقد حدث عنه من الأئمة أبو عبد الرحمن النسائي وحسبك به)؛ وأن يصفه الذهبي بأنه نظيف الشيوخ كما في (المغني في الضعفاء : رقم 487) ؛ انتهى . وارجع إلى ما تقدم في ترجمة أبي حاتم(1).
لا يُسأل عنه :
هذه العبارة يقولها الناقد أحياناً في جوابه لسائله عن بعض المحدثين ، ويريد الناقد بهذا الجواب الإنكار على السائل في سؤاله عن إمام حجة أو محدث ثقة مجمع عليه مشهور ، أو يريد الناقد توكيد توثيقه ، أو نفي ما قد غُمز به من قِبل بعض خصومه أو مخالفيه أو بعض من لم يَخْبرْه جيداً ، إن كان وقع شيء من ذلك(2) ، أو يريد نحو ذلك من المعاني.
وفي الجملة فهذه الكلمة تُعد في أقل أحوالها توثيقاً تاماً ، بل قد تقوم القرائن في بعض الأحيان على أن المراد بها المرتبة العليا من التوثيق التام ، وهي مرتبة الثقات الأثبات المتقنين.
ومما يُعد توكيداً لمعنى هذه الكلمة أن يزاد فيها نحو قولهم : (هو يُسال عن الناس) ؛ ففي مثل هذا التعبير ثناء كبير على ذلك المحدث أو إثبات لإمامته في علم الجرح والتعديل .
ومثل هذه اللفظة - أو أعلى - قولهم (لا يسأل عن مثله) و (مثله لا يسأل عنه) .
__________
(1) تنبيه : ذكر التهانوي في (قواعد في علوم الحديث) (ص214-226) وعبد الفتاح أبو غدة في التعليق عليه جماعة من الرواة وصفاهم بعدم الرواية إلا عن الثقات فأولئك الرواة داخلون في شرطي في هذا الفصل ولكنني أعرضت عن ذكرهم لما تبين لي من عدم صحة دعوى ذلك الوصف في حقهم ولا سيما أن التهانوي ليس من أهل هذا الشأن ولا خبرة عنده بصنعة المحدثين وإن صنف فيها.
(2) فيكون معناها هنا أن ذلك المحدث قد ثبتت عدالته وبان بطلان ما طعن به عليه فينبغي تعديله .(4/333)
لا يساوي شيئاً :
انظر أواخر الكلام على (ليس بشيء).
لا يستشهد به :
أي لا يعتبر به فهو متروك .
لا يصح :
معناها - كما هو ظاهر - أن ذلك الحديث غير صحيح ، وانظر (غير صحيح) و (لا يصح في هذا الباب شيء) .
لا يصح حديثه :
انظر (لم يصحّ حديثه) .
لا يصح في هذا الباب شيء :
أي لا يثبت في هذا الموضوع أي شيء من الأحاديث .
وهذه العبارة يعرف معناها أيضاً بمعرفة معنى (لا يصح) ومعنى (الباب) ، فانظر (لا يصح) و (الباب) و (وفي الباب) .
لا يصدق :
الأصل في هذه الكلمة في عرف المحدثين أن تكون اتهاماً للراوي ، ولكن ربما خرج بعضهم عن الأصل فاستعملها بمعنى أنه لا يصيب فيما يرويه ، أي أنه كثير الخطأ وفاحشه ؛ والأصل هو المتبع ما لم يقم على خلافهِ الدليلُ.
لا يصلح للمتابعات والشواهد :
إذا قيلت هذه الجملة في حق راو ، فمعناها أنه متروك لا خير في الرواية عنه ، ولا انتفاع بها ، إلا عند علماء الدراسة الحديثية النقدية ، فحديث مثل هذا الراوي لا يصلح للتقوية بمتابعاته وشواهده، فضلاً عن عدم صلاحيته للاحتجاج به في نفسه.
لا يعتبر بحديثه :
أي لا يستشهد به ، فهي بمعنى الكلمة التي قبلها والكلمة التي بعدها ؛ فانظرهما.
لا يعتبر به :
قال عبد الله الجديع في (تحرير علوم الحديث) (1/622-623) في الكلام على هذه العبارة من مصطلحات النقاد : (صريحةٌ في ترك حديث الموصوف بها ، لكن لا تكاد تجدها لسابق غير الدارقطني---- .
وينبغي أن يكون من بابها : " لا يعتبر بحديثه " من جهة واقع الاستعمال ، لكنها نادرة في كلامهم ، وجدتُها من قول الجوزجاني في عبد الغفار بن الحسن أبي حازم الرَّمليِّ ، قال : " لا يعتبر(1) بحديثه "----).
__________
(1) تصحَّفت (يُعتبر) في (الميزان) (2 / 639) وغيرِه إلى (يغتر)؛ والنص على الصواب في (الكامل) لابن عدي (7 / 20) .(4/334)
لا يُعرَف :
أصل استعمالها تجهيلٌ لعين من تقال فيه ، وربما أريد بها جهالة حاله في الرواية مع كونه معروف العين ؛ ومعلوم أنها إن وردت في كلام النقاد فُسرت على الأصل ، أي فُسرت بجهالة العين ، إلا إذا قامت القرائن على أن المراد جهالة الحال وحدها .
وقال ابن حجر في (التهذيب) (10/428) في ترجمة نَهِيك بن يَرِيم الأوزاعي : (وجرى الذهبي على عادته فيمن لم يجد له إلا راوياً واحداً فقال : لا يعرف)(1) .
لا يعرف إلا من رواية فلان عنه :
الأصل في هذا الكلام أنه تجهيل لعين الراوي.
لا يُعرَفُ حالُه :
أي في الرواية، وقد يكون ذلك من جهتي العدالة والضبط جميعاً ، أو من جهة الضبط وحده ؛ وإنما اقتصرت على هذا ولم أقل : (أو من جهة العدالة وحدها) لأن من لم تُعرف عدالتُه فإنه يندر أن تتيسر معرفةُ حاله من جهة الضبط ، حتى ولو تبين أنه واسع الحفظ، أي ذا ملكة جيدة في حفظ مسموعاته.
لا يفرح بما يتفرد به :
قال البيهقي في (السنن الكبرى) (2/355) في حديث أخرجه : (وهذا يتفرد به محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن الشعبي ، ولا يفرح بما يتفرد به) ، وهذا واضح أنه تضعيف لهذا الحديث واستنكار له .
لا يُفرح بأحاديثه :
يظهر أن من إشارات قول الناقد في الراوي (لا يفرح بأحاديثه) أنها عالية أو فوائد ، ولكنها لا تصح ؛ وأكثر المحدثين - ولا سيما ممن كان من المتأخرين - يحرصون على كل نادر غريبة بين عموم الأحاديث ، وكذلك الفوائد .
لا يكاد يُعرف :
هي بمعنى (فيه جهالة) ، فانظرها.
__________
(1) وانظر تعليق محمد عوامة على (الكاشف) للذهبي (2/327) ترجمة (نهيك) (5885) .(4/335)
لا يكتبُ حديثُه :
أي أن حديثه لا ينتفع به في احتجاج ولا استشهاد ، فلا معنى لكتابته ، وإن كان بعض الأئمة النقاد يكتبون أحاديث بعض المتروكين ليحفظوها ويعتبروا بها مرويات أقرانهم وغيرهم ، وقال أبو بكر الأثرم كما في ترجمة يحيى بن معين من (تهذيب الكمال) (31/557) : (رأى أحمدُ بنُ حنبل يحيى بن مَعِين بصنعاء في زاويةٍ وهو يكتب صَحِيفة مَعْمَر عن أَبان عن أنس، فإذا اطّلَع عليه إنسانٌ كَتَمَهُ؛ فقال له أحمد : تكتب صحيفةَ مَعْمَر عن أبان عن أنس وتعلم أنها موضوعة؟ فلو قال لك قائل : أنت تتكلّم في أَبان ثم تكتب حديثَهُ على الوجه؟! فقال : رَحمك الله يا أبا عبد الله ، أكتبُ هذه الصّحيفة عن عبد الرزاق عن مَعْمَر على الوجه فأحفظها كُلّها، وأعلمُ أنها موضوعة ، حتى لا يجيء إنسانٌ بعده فيجعل أبان ثابتاً ويرويها عن مَعْمَر، عن ثابت، عن أنس، فأقول له : كذبت إنما هو عن مَعْمَر، عن أَبان لا عن ثابت).
وقال أحمد بن عليّ الأبّار(1) : قال يحيى بن مَعِين : كتبنا عن الكَذّابين وسَجَرنا به التّنّور، وأخرجنا به خُبزاً نَضِجاً ) .
لا ينبغي أن يُروى عنه :
هذه من الألفاظ الدالة على كون الراوي مستحقاً للترك .
لا ينبغي أن يروى عنه ولا كرامة :
تقال مثل هذه العبارة في حق المتروك الوضاع ، أو المتروك الداعي إلى بدعته ، أو المتروك الفاسق الفاجر المجاهر .
لا يوثق به :
هذه من الألفاظ الدالة على كون الراوي متروكاً ، ففيها إشارة إلى اتهامه .
لازَمَ فلاناً :
انظر (الملازمة) .
اللحن في الحديث :
اللحن هو الخطأ في القول ، وأكثر ما يطلقونه على ما خالف قواعد النحو والصرف .
__________
(1) كما في (تهذيب الكمال) (31/557) .(4/336)
وما وقع في الأحاديث فهو من الرواة قطعاً ، بل هو ممن جاء بعد التابعين وربما وقع من بعض التابعين في حالات نادرة ؛ قال ابن هانئ في (مسائله عن الإمام أحمد) (2/234-235) (2294) : (سمعت ابن زنجويه يسأل أبا عبد الله : يجيء الحديثُ فيه اللحن ، وشيء فاحش فترى أن (يغير أو)(1) يحدث به كما سمع ؟ قال : يغيره ، شديداً ، إن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يكونوا يلحنون ، إنما يجيء اللحن ممن دونهم ، يغيَّر ، شديداً) .
اللَّحَق(2) :
اللحق هو ما يسقط من صاحب الكتاب أو ناسخه أثناء الكتابة فيكتبه في حاشية الصفحة أو طرتها ويرمز إلى موضعه منها ، ويعرف هذا الصنيع عندهم بالتخريج على الحواشي .
وبعبارة أخرى : اللحق هو ما يستدركه ناسخ الكتاب سواء - كان هو جامعه نفسه أو غيره - في أحد جوانب الصفحة أو بين الأسطر ، مما سقط منه أثناء الكتابة أو بدا له إضافته بعدها ؛ ولهذا الإلحاق آداب وضوابط تذكر في كتب علوم الحديث ؛ وانظر (تخريج الساقط) .
لزم الجادة :
أي مشى في روايته أو في نقده على الطريقة الغالبة المشهورة أو المعروفة ؛ وهي بمعنى (سلك الجادة) ، وينظر معناها في موضعها من هذا المعجم.
لزم الطريق :
هي بمعنى (لزم الجادة).
لفظ الحديث :
أي كلماته ، وانظر (الرواية باللفظ) .
اللفظ لفلان :
انظر (حدثنا زيدٌ وعمرو واللفظ لعمرو) .
اللقب :
انظر (الألقاب).
للضعف ما هو :
أي ليس ببعيد عن الضعف .
لم أجده :
عبارة يقولها العالم أو الباحث في تخريجه للحديث أو الراوي إذا عجز أو أيس من الوقوف عليه بعد أن أطال بحثه عنه في مظانه وغيرها.
وانظر (لا أعرفه).
__________
(1) في المطبوعة (يعبر أن) ، ولعل ما كتبتُه بدل ذلك هو الصحيح .
(2) بفتح اللام والحاء المهملة ؛ وهذا الاسم مأخوذ من الإلحاق أو من الزيادة فإنه يطلق على كل منهما ، لغةً .(4/337)
لم أدخله في التصنيف :
هذه من العبارات التي يستعملها أحياناً الإمام أبو حاتم الرازي في نقده بعض الرواة والأحاديث وهي دالة على أن الذي قيلت فيه من الرواة - أو من الأحاديث - فهو متروك غير صالح للاستشهاد فضلاً عن الاحتجاج ، لأن الراوي - أو الحديث - إنما يدخل في التصنيف ، إما للاحتجاج به أو للاستشهاد به ، فما كان غير صالح لهذا ولا ذاك فإنه لا معنى لإدخاله في التصنيف .
ومما لعله يكون غنياً عن التذكير به أن الحديث الذي لا يدخل في التصنيف لا يشترط أن يكون من رواية المتروكين ، بل قد يكون حديثاً أخطأ فيه بعض الثقات .
قال ابن أبي حاتم في (العلل) (1/116) (313) : (وسمِعتُ أبِي ، وقيل لهُ : حدِيث مُحمّد بن المنكدر ، عن جابِرٍ ، عنِ النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الجمع بين الصلاتين.
فقال : حدّثنا الربيع بن يحيى ، عنِ الثّورِيِّ ، غير أنّهُ باطل عِندِي هذا خطأٌ ، لم أدخله فِي التصنيف ، أراد : أبا الزبير ، عن جابِرٍ ، أو : أبا الزبير ، عن سعِيدِ بنِ جُبيرٍ ، عنِ ابنِ عبّاسٍ ؛ والخطأ من الربيع).
لم أرَ للمتقدمين فيه كلاماً :
روى عبد الله بن بُديل ، عن عمرو بن دينار ، عن ابن عمر ، أن عمر - رضي الله عنه - جعل عليه أن يعتكف في الجاهلية ليلةً أو يوماً ، عند الكعبة ، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : " اعتكف وصم " .
أخرجه أبو داود (2474) (2475) وجماعة منهم ابن عدي في (الكامل) (4/1529) .
وهذا الحديث أنكره جماعة من أهل العلم على عبد الله بن بديل هذا ؛ فهو أولاً ضعيف لا يعتمد عليه ، ثم إنه قد تفرد بهذا الحديث عن عمرو بن دينار دون سائر اصحابه ، وعمرو بن دينار واحد من الرواة الذين تُجمع أحاديثهم ، وأصحابه كثيرون وفيهم كثير من العارفين بحديثه ، ثم إن بديلاً - فوق ذلك - اضطرب في إسناده ، فتارة يرويه فيجعله من مسند ابن عمر ، وتارة يجعله من رواية ابن عمر عن عمر .(4/338)
ومن جملة من أنكر هذا الحديث ابنُ عدي فإنه عدَّه من مناكير ابن بديل في ترجمته من " الكامل " ، ثم قال : "لا أعلم ذُكِر في الإسناد ذِكْرُ "الصوم" مع الاعتكاف ، إلا من رواية عبد الله بن بديل ، عن عمرو بن دينار" .
ثم قال في آخر الترجمة : "وعبدالله بن بديل له غير ما ذكرت مما ينكر عليه ، من الزيادة في متن أو إسناد ، ولم أر للمتقدمين فيه كلاماً فأذكره".
قال الشيخ طارق عوض الله في (الإرشادات) (ص126) : (قلت : كونه لم ير للمتقدمين فيه كلاماً ، ومع ذلك أدخله في الضعفاء ، مستدلاً على ضعفه بما يرويه من المناكير ، مثل هذا الحديث وغيره ، يدل على أن هذه الأحاديث التي أنكرها عليه - ومنها هذا الحديث - عند ابن عدي في غاية النكارة ؛ حيث انه لم يضعفها فحسب ، بل استدل بها على ضعف راويها المتفرد بها، والذي لا يعلم للمتقدمين فيه كلاماً)(1) .
لم أر له عندي إلا الشيء اليسير فلم أذكره ها هنا :
انظر (يُكتب حديثه) .
لم أره :
يظهر أنها بمعنى (لم أجده) ، ولكنها قد لا تُشعر بما أشعرت به تلك من طول البحث والتفتيش، إلا إذا دلت القرائن الأخرى على ذلك ، مثل أن يكون القائل (لم أره) قد قال هذا الكلام في كتاب من كتب التخريج التي أطال فيها النفس والتزم فيها التبحر في التفتيش والتوسع في التنقيب .
لم أعثر عليه :
هذه مثل سابقتها .
لم أقف عليه :
هي بمعنى سابقتيها .
لم تثبت عدالته :
قال الذهبي في (ميزان الاعتدال) : (مالك بن الخير الزبادي : مصري محله الصدق يروي عن أبي قبيل عن عبادة مرفوعاً "ليس منا من لم يبجل كبيرنا ".
__________
(1) وهذه تتمة كلامه : (فهذا هو شأن هذا الحديث عند نقاد الحديث، أنه حديث منكر، أخطأ فيه عبد الله بن بديل المتفرد به عن ابن دينار ، أو على الأقل أخطأ في ذكر "الصوم" ، والصواب أن هذه الزيادة غير محفوظة ، وأنها ليست في الحديث----) .(4/339)
روى عنه حيوة بن شريح وهو من طبقته وابن وهب وزيد بن الحباب ورشدين؛ قال ابن القطان : "هو ممن لم تثبت عدالته" ، يريد أنه ما نص أحد على أنه ثقة؛ وفي رواة "الصحيحين" عدد كثير ما علمنا أن أحداً نص على توثيقهم ؛ والجمهور على أن من كان من المشايخ قد روى عنه جماعة ولم يأت بما يُنكر عليه أن حديثه صحيح) .
لم يحدث عنه فلان :
هذه الكلمة يراد بها معانٍ :
الأول منها : أنه تركه لأنه متروك عنده .
الثاني : أنه تركه لمطلَق ضعفه ، وإن لم يكن متروكاً، ولكنه تركه تشدداً وانتقاءً للأقوياء من الرواة .
الثالث : أنه ترك الرواية عنه لنزول روايته عنه، أو لوجود ما هو أعلى له من مرويات أقرانه.
الرابع : أنه لم يتهيأ له السماع منه ، فلذلك لم يكتب عنه شيئاً .(4/340)
وبهذا يُعلم أن هذه الكلمة لا يصح أن تعدَّ جرحاً إلا إذا قام الدليل على تعيُّن أحد المعنيين الأولين ؛ ومن القرائن على أنها تجريح هو أن يكون من طبقة شيوخ ذلك الراوي الذي ترك الرواية عنه ، ومنها أن يكون الناقل للترك أحد علماء الجرح والتعديل وأن يكون السياق سياق تجريح وتعديل ، وذلك كالذي تنقله كتب الجرح والتعديل عن عمرو بن علي الفلاس وغيره من تلامذة يحيى بن سعيد القطان وعبدالرحمن بن مهدي عنهما ؛ مثاله قول ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل) (2/186) (629) في ترجمة إسماعيل بن عبد الملك بن أبي الصفيراء المكي : (سمعت على بن الحسين بن الجنيد يقول سمعت عمرو بن علي يقول : كان يحيى وعبد الرحمن لا يحدثان عن إسماعيل بن عبد الملك بن أبى الصفيراء ) ؛ وقد صرح يحيى بن سعيد بتركه عمداً ؛ قال ابن أبي حاتم في الموضع المشار إليه : (نا صالح بن أحمد بن حنبل نا علي يعني بن المديني قال : سمعت يحيى يعني القطان يقول : تركت إسماعيل بن عبد الملك ثم كتبت عن سفيان عنه)(1).
لم يُخرجاه :
انظر (أخرجاه) .
لم يخرجه البخاري :
تأتي هذه العبارة على أوجه :
الأول : مجرد نفيٍ ابتدائيٍّ لإخراج البخاري لهذا الحديث.
الثاني : تصحيح وهم من عزا الحديث إلى البخاري وهو ليس فيه.
الثالث : غمز الحديث، وربما وردت مثل هذه العبارة ، بهذا المعنى في كلام الإمام الدارقطني ، فقد أشار في (التتبع) كما في (بين الإمامين مسلم والدارقطني) (ص17) إلى إعلال حديث رواه مسلم بقوله بعد أن ذكر إخراج مسلم له : (ولم يخرجه البخاري).
لم يخرج له الشيخان :
قال الذهبي في (الموقظة) (ص40-41) : (ومن الثقات الذين لم يُخْرَجْ لهم في الصحيحين خلقٌ :
__________
(1) لعل هذا يصلح مثالاً على ما كان يفعله بعض علماء الحديث من أنه يترك بعض الرواة بسبب عدم ارتضائه له ، ثم يجد لنفسه مخرجاً بأن ينزل فيحدث عن راو عنه ؛ انظر (تركتُه ثم حدثتُ عن فلان عنه ).(4/341)
منهم من صحح لهم الترمذي ، وابن خزيمة .
ثم من روى لهم النسائي وابن حبان وغيرهما .
ثم من لم يضعفهم أحد واحتج هؤلاء المصنفون بروايتهم .
وقد قيل في بعضهم : فلان ثقة ، فلان صدوق ، فلان لا بأس به ، فلان ليس به بأس ، فلان محله الصدق ، فلان شيخ ، فلان مستور ، فلان روى عنه شعبة أو مالك أو يحيى وأمثال ذلك ، كـ : فلان حسن الحديث ، فلان صالح الحديث ، فلان صدوق إن شاء الله .
فهذه العبارات كلها جيدة ليست مضعفة لحال الشيخ ، نعم ولا مرقية لحديثه إلى درجة الصحة الكاملة المتفق عليها ، لكنْ كثيرٌ ممن ذكرنا متجاذَبٌ بين الاحتجاج به وعدمه .
وقد قيل في جَمَاعاتٍ : ليس بالقويِّ ، واحتُجَّ به(1) ؛ وهذا النَّسائيُّ
قد قال في عِدَّةٍ : ليس بالقويّ ، ويُخرِجُ لهم في "كتابه" ؛ قال : قولُنا "ليس بالقوي" ليس بجَرْحٍ مُفْسِد ) .
لم يسمع :
انظر (سمع).
لم يصح حديثه :
قال ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل) (2/345) (1311) : (الأخنس روى عن ابن مسعود ، روى عنه ابنه بكير بن الأخنس ؛ سمعت أبي يقول ذلك .
__________
(1) أي مع أنه قد وصف بأنه ليس بالقوي ، ولا غرابة في ذلك فعلماء العلل قد يحتجون تاراتٍ بمن لُيِّن وقد يتركون الاحتجاج ببعض ما رواه الثقة ، فليس لهم في النقد أصول عامة لا ينفكون عنها في كل أحيانهم ، بل لكل حالة جزئية أصلها وقاعدتها وقرائنها وملابساتها التي يحكمون عليها بمقتضاها ، وهم يبنون أحكامهم على خبرة كاملة ومهارة عالية وبصيرة لا مثيل لها عند طائفة من الناس سوى هذه الطائفة المباركة .(4/342)
سمعت أبي ينكر على من أخرج اسمه في كتاب "الضعفاء" ويقول : لا أعلم روى عن الأخنس إلا ما روى أبو جناب يحيى بن أبي حية الكوفي عن بكير بن الأخنس عن أبيه ؛ فإن كان أبو جناب لين الحديث فما ذنب الأخنس والد بكير ؟ وبكير ثقة عند أهل العلم ؛ وليس في حديث واحد رواه ثقة(1) عن أبيه ما يلزم أباه الوهن بلا حجة) .
علق العلامة المعلمي على هذا الكلام قائلاً : (الذي ذكره في الضعفاء : البخاريُّ ، وقال - كما في "الضعفاء الصغير" - : "لم يصح حديثه" ، وفي هذا تنبيه على أن الحمل على غيره ؛ وكذلك ذكر البخاري في "الضعفاء" هند بن أبي هالة وهو صحابي ، وقال : "يتكلمون في إسناده" .
فهذا اصطلاح البخاري ، يذكر في الضعفاء من ليس له إلا حديث واحد لا يصح ، على معنى أن الرواية عنه ضعيفة ؛ ولا مشاحة في الاصطلاح ) ؛ انتهى كلام المعلمي .
لم يصرح بالسماع في هذا الحديث :
أي لم يذكر فيه إذ رواه عمن فوقه صيغة صريحة في سماعه منه مثل (سمعت) و (حدثنا) و (أخبرنا) .
لم يصنع شيئاً :
هذه العبارة أشهر معانيها (لم يُصِب) ، وهي ترد في نحو قول الناقد (فلان رفع هذا الحديث فلم يصنع شيئاً) أي من الصحيح أو الحق ، وكذلك قوله (فلان صحح هذا الإسناد فلم يصنع شيئاً).
لم يكن بالحافظ :
أي لا يحفظ أحاديثه ، فهو كثير الغلط فيما يرويه ؛ وانظر (ليس بالحافظ) ، و(ليس بمحكم الحديث) .
لم يكن بالسكة :
من عبارات التجريح .
ولعل المراد أنه غير مستقيم الحديث ، أو أحاديثه غير قويه ، أو أن أحاديثه ضعاف كالنقود الزائفة ، فلا يوثق به كما يوثق بالنقود المسكوكة .
جاء في (المعجم الوسيط) (1/442) : (السكة : السطر المصطف من الشجر والنخيل ؛ والطريق المستوي ---- ؛ والزقاق ، وحديدة منقوشة تضرب عليها النقود ، وحديدة المحراث التي يحرث بها ) .
__________
(1) ذكر المعلمي أنه ورد في بعض نسخ الكتاب (غير ثقة) ، ثم قال : (والظاهر : رواه غير ثقة عن ثقة) .(4/343)
لم يكن بالصافي :
هذه لفظة تجريح .
لم يكن بالقوي في حديثه :
هذه الكلمة بمعنى (ليس بالقوي) التي سيأتي الكلام عليها .
والظاهر أن النقد في هذه الكلمة يتعلق بالضبط لا بالعدالة ، فاطلاق بعض المعاصرين أن قولهم (لم يكن بالقوي في حديثه) جرح مجمل لعدم معرفة سبب نفي القوة فيه نظر .
لم يكن بجيد العقدة :
من عبارات التجريح .
لم يكن بمستقيم اللسان :
انظر (يزيد في الرقم).
لم يكن له حركة في الحديث :
الظاهر أن المراد نفي الرحلة والنشاط الزائد في طلب الحديث ، عن ذلك الراوي .
لم يكن من البابة :
عبارةٌ استعملها أبو حاتم يريد بها أن ذلك الرجل ليس من صنف الرواة الذين يُكتَب عنهم الحديث ؛ قال في (الجرح والتعديل) (2/355) : (بشر بن الحسين أبو محمد الأصبهاني : روى عن الزبير بن عدي ، روى عنه يحيى بن أبي بكير ، وأحمد بن سليمان أبو سليمان ؛ سمعت أبي يقول ذلك .
سئل أبي عن بشر بن حسين الأصبهاني فقال : لا أعرفه ، فقيل له : إنه ببغداد قوم يحدثون عن محمد بن زياد بن زبار عن بشر بن الحسين عن الزبير بن عدي عن أنس نحو عشرين حديثاً مسندة ، فقال : هي أحاديث موضوعة ليس يعرف للزبير عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا أربعة أحاديث أو خمسة أحاديث ، وأتيت محمد بن زياد بن زبار ببغداد وكان شيخاً شاعراً ولم يكن من البابة فلم نكتب عنه ) .
وقال في (الجرح والتعديل) (7/258) : (محمد بن زياد بن زبار الكلبي : روى عن أبي مودود المديني وقال : رأيت شرقي بن قطامي ولم أسمع منه .
سمعت أبي يقول ذلك ؛ وسمعته يقول : أتينا محمد بن زياد بن زبار هذا ببغداد وكان شيخاً شاعراً وقعدنا في دهليزه ننتظره وكان غائباً فجاءنا فذكر أنه قد ضجر ، فلما نظرنا إلى قده علمنا أنه ليس من البابة فذهبنا ولم نرجع إليه .
ذكره أب عن إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين أنه قال : محمد بن زياد بن زبار لا أحد) .(4/344)
لم يكن من القراء :
هذه اللفظة استعملها مالك في نقد بعض الرواة ، ويظهر أن مراده بها أن ذلك الراوي لم يكن من العلماء ولا من الفقهاء ، ولا من أهل الضبط التام والإتقان الكامل والروياة باللفظ ، الذين يستغنون بشدة حفظهم واقتصارهم على الأداء بالألفاظ عن معرفة معاني المرويات وأحكامها ؛ ومالك كان في كثير من الأحيان لا يثق كثيراً - أو لا يرغب كثيراً - برواية من لم يكن من أهل العلم والفقه ، ولو ثبتت عدالته عند مالك وغيره(1) .
وانظر (ثقة).
__________
(1) قال العقيلي في كتابه (1469 طبعة دار الصميعي) في ترجمة (عَطّاف بن خالد المخزومي أبو صفوان المديني :
(حدثنا أحمد بن علي حدثنا محمد بن عبد الرحمن القرمطي حدثني عبد الرحمن بن عبد الملك الحزامي قال : قيل لمالك بن أنس : قد حدث عطاف بن خالد ، قال : قد فعل ، ليس هو من إبل القباب .
حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا الحسن بن علي حدثنا أحمد بن صالح وحدثنا مطرف بن عبد الله ، قال : قال لي مالك بن أنس : عطاف يحدث ؟ قلت : نعم ، فأعظم ذلك إعظاماً شديداً ، ثم قال : أدركت أناساً ثقات يحدثون ما يؤخذ عنهم ؛ قلت : وكيف وهم ثقات ؟! قال : مخافة الزلل----.
حدثني محمد بن موسى حدثنا عبد الله بن أحمد بن شبويه قال : سمعت مطرف بن عبد الله المزني قال : سمعت مالك بن أنس يقول : ويكتب عن مثل عطاف بن خالد ؟! لقد أدركت في هذا المسجد سبعين شيخاً كلهم خير من عطاف ما كتبت عن أحد منهم ؛ وإنما يكتب العلم عن قوم قد جرى فيهم العلم ، مثل عبيد الله بن عمر وأشباهه).(4/345)