فوائد وتعليقات
على
مختصر صحيح مسلم للمنذري
للشيخ العلامة
سلمان بن فهد العودة
كتاب الإيمان ، كتاب الوضوء ، كتاب الحيض
1 ـ 189
باب : أول الإيمان قول لا إله إلا الله
[1] عن أبي جمرة قال : كنت أترجم بين يدي ابن عباس وبين الناس ، فأتته امرأة تسأله عن نبيذ الجر فقال: إن وفد عبد القيس أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من الوفد ؟ أو من القوم ؟ قالوا : ربيعة ، قال : ( مرحبا بالقوم أو بالوفد غير خزايا ولا ندامى ) فقالوا : يا رسول الله إنا نأتيك من شقة بعيدة وإن بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر ، وإنا لا نستطيع أن نأتيك إلا في شهر الحرام ، فمرنا بأمر فصل نخبر به من وراءنا ، ندخل به الجنة ، قال : فأمرهم بأربع ، ونهاهم عن أربع ، قال : أمرهم بالإيمان بالله وحده ، وقال: ( هل تدرون ما الإيمان بالله وحده ؟ ) قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : ( شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وأن تؤدوا خمسا من المغنم ) ، ونهاهم عن الدباء والحنتم والمزفت ، قال شعبة : وربما قال : ( النقير ) ، وقال : ( احفظوه وأخبروا به من وراءكم ) .
وزاد ابن معاذ في حديثه عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأشج أشج عبدالقيس : ( إن فيك لخصلتين يحبهما الله : الحلم والأناة ) .
فوائد الحديث رقم (1) :
1 – في حديث أبي جمرة من أدب الدعوة السؤال عن الاسم ، والتعرف إلى المدعو وحسن مقابلته والترحيب به .
2 – التبشير والدعاء للمدعو .
3 – مراعاة الحال في الإيجاز والاختصار .
4 – الاقتصار على المسائل الكبار عند السؤال .
5 – فيه العناية بحال المدعو فيما يؤمر به وينهى عنه، كما نهاهم هاهنا عن منكرات كانت فاشية بينهم .
6 – لزوم الدعوة لكل أحد بحسبه وبقدر ما عنده فقد قال هاهنا : احفظوه وأخبروا من وراءكم .(1/1)
7 – وفيه الثناء على المدعوين بخصال الخير الموجودة لديهم .
[2] عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً بارزاً للناس ، فأتاه رجل فقال : يا رسول الله ما الإيمان ؟ قال : ( أن تؤمن بالله ، وملائكته ، وكتابه ولقائه ورسله ، وتؤمن بالبعث الآخر ) قال : يا رسول الله ما الإسلام ؟ قال : ( الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئاً ، وتقيم الصلاة المكتوبة ، وتؤدي الزكاة المفروضة ، وتصوم رمضان ) . قال : يا رسول الله ، ما الإحسان ؟ قال : ( أن تعبد الله كأنك تراه فإنك إن لا تراه ، فإنه يراك ) قال : يا رسول الله متى الساعة ؟ قال : ( ما المسئول عنها بأعلم من السائل ، ولكن سأحدثك عن أشراطها : إذا ولدت الأمة ربها فذاك من أشراطها ، وإذا كانت العراة الحفاة رؤوس الناس فذاك من أشراطها ، وإذا تطاول رعاء البهم في البنيان فذاك من أشراطها ، في خمس لا يعلمهن إلا الله ) ، ثم تلا صلى الله عليه وسلم : )إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير (قال : ثم أدبر الرجل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ردوا عليّ الرجل ) فأخذوا ليردوه فلم يروا شيئاً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( هذا جبريل جاء ليعلم الناس دينهم ) .
فوائد الحديث رقم (2) :
1 – فيه طريقة السؤال والجواب في التعليم .
2 – فيه صرف السائل عما سأل إذا لم يكن ملائماً ، والانتقال إلى غيره مما يغني عنه، ويكون فيه مصلحة للسائل كما أعرض عليه الصلاة والسلام عن سؤال: متى الساعة ؟ وأجاب عن أشراطها .
3 – فيه الترقي في السؤال وحسن الترتيب حيث سأل عن الإسلام ، ثم الإيمان ، ثم الإحسان ، ثم سأل عن الساعة لأنها ميعاد الجزاء على ذلك كله .(1/2)
[3] عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال : لما حضرت أبا طالب الوفاة ، جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يا عم قل لا إله إلا الله ، كلمة أشهد لك بها عند الله ) فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية : يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعيد له تلك المقالة ، حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم : هو على ملة عبد المطلب ، وأبى أن يقول : لا إله إلا الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أما والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك ) فأنزل الله عز وجل : ( ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانواا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم ) وأنزل الله تعالى في أبي طالب فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين ) .
فوائد الحديث رقم (3) :
1 – فيه الصراع بين دعوة الحق ودعوة الباطل على الإنسان حتى وهو في حالة النزع والاحتضار .
2 – استماتة أهل الزيغ والضلال في صرف الناس عن الحق ( أولئك يدعون إلى النار والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون ) [البقرة:221] .
باب : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله(1/3)
[4] عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واستخلف أبو بكر بعده ، وكفر من كفر من العرب ، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأبي بكر رضي الله عنه كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم منى ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله " ؟! فقال أبو بكر رضي الله عنه : والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة ، فإن الزكاة حق المال والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه ، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق .
فوائد الحديث رقم (4) :
1 – يقع في حياة المسلمين والدعاة أحوال مشتبهة يلتبس فيها الأمر ، وتتقابل الأدلة ، ويتحير الحليم ، وفي مثل تلك الأحوال يستبصر الناس بأفراد من أهل العلم والإيمان والبصيرة يكون في يقينهم وقوة شكيمتهم وصلابة موقفهم ما يعزز وضوح الحجة ونقاء الدليل لديهم ويقطع دابر التردد لدى الصادقين المخلصين الذين تحيروا في مفرق الطريق والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .
[5] عن ابن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة ، فإذا فعلوا عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله ) .
فوائد الحديث رقم (5) :(1/4)
1 – عموم هذا الحديث مخصوص بمن يؤدون الجزية ، فإنه لا يقاتلون سواء قلنا بأنها تؤخذ من أهل الكتاب فحسب كما هو رأي الجمهور ، أو قلنا تؤخذ من عموم المشركين كما هو مذهب المالكية وجماعة من المحققين وهو قوي المأخذ أثراً ونظراً فالناس مخيرون بين إحدى ثلاث كما جاء عند المصنف من حديث سليمان بن بريدة عن أبيه ، إما الإسلام فإن أبوا فالجزية ، فإن أبوا فالقتال ، ولذلك قال الله تعالى : } لا إكراه في الدين { [البقرة:256] ولم يعرف في تاريخ المسلمين أنهم أكرهوا أحداً على الدخول في الإسلام ، اللهم إلا أن يكون ذلك في المرتدين فإنه لا يقبل منهم إلا الإسلام أو يقتلون .
باب من قتل رجلاً من الكفار بعد أن قال : لا إله إلا الله
[6] عن المقداد بن الأسود أنه قال : يا رسول الله أرأيت إن لقيت رجلا من الكفار فقاتلني فضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها ثم لاذ مني بشجرة فقال : أسلمت لله ، أفأقتله يا رسول الله بعد أن قالها ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا تقتله ) ، قال : فقلت : يا رسول الله إنه قد قطع يدي ثم قال ذلك بعد أن قطعها أفأقتله ؟! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا تقتله فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله ، وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال ) .
أما الأوزاعي وابن جريج ففي حديثهما قال : " أسلمت لله " وأما معمر ففي حديثه : " فلما أهويت لأقتله قال لا إله إلا الله " .(1/5)
[7] عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال : بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية فصبحنا الحرقات من جهينة ، فأدركت رجلا فقال : لا إله إلا الله فطعنته ، فوقع في نفسي من ذلك ، فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أقال لا إله إلا الله وقتلته " ؟! قال : قلت يا رسول الله إنما قالها خوفا من السلاح! قال : " أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا؟ فما زال يكررها علي حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ . قال : فقال سعد : وأنا والله لا أقتل مسلما حتى يقتله ذو البطين يعني أسامة ، قال : قال رجل : ألم يقل الله تعالى : } وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله {فقال سعد : قد قاتلنا حتى لا تكون فتنة ، وأنت وأصحابك تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة.(1/6)
[8] عن صفوان بن محرز أن جندب بن عبد الله البجلي بعث إلى عسعس بن سلامة زمن فتنة بن الزبير فقال : اجمع لي نفراً من إخوانك حتى أحدثهم ، فبعث رسولاً إليهم ، فلما اجتمعوا جاء جندب وعليه برنس أصفر فقال : تحدثوا بما كنتم تحدثون به ، حتى دار الحديث ، فلما دار الحديث إليه حسر البرنس عن رأسه فقال : إني أتيتكم ولا أريد أن أخبركم عن نبيكم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم . بعث بعثاً من المسلمين إلى قوم من المشركين ، وأنهم التقوا ، فكان رجل من المشركين إذا شاء أن يقصد إلى رجل من المسلمين قصد له فقتله ، وإن رجلاً من المسلمين قصد غفلته ، قال : وكنا نحدث أنه أسامة بن زيد ، فلما رفع عليه السيف قال : لا إله إلا الله ، فقتله ، فجاء البشير إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله فأخبره حتى أخبره خبر الرجل كيف صنع . فدعاه فسأله فقال : (لم قتلته ؟ ) قال : يا رسول الله أوجع في المسلمين وقتل فلاناً وفلاناً ، وسمى له نفراً . وإني حملت عليه . فلما رأى السيف قال : لا إله إلا الله ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أقتلته ؟ ) قال : نعم ، قال : فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة ؟! ) قال : يا رسول الله استغفر لي . قال : ( فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة ؟! ) قال : فجعل لا يزيده على أن يقول : ( فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة ؟ ) .
فوائد الحديث رقم (6 ، 7 ، 8 ) :
هذه الأحاديث مصرحة بحرمة دم المسلم الذي يقول (لا إله إلا الله) ولم يرتكب ما يوجب عليه حداً أو قصاصاً ، وهذا هو الأصل الأصيل الذي يجب الركون إليه ولا ينتقل منه إ لا بيقين ، وأما الجراءة على دماء المسلمين فقد عُرف بها طائفتان في تاريخ المسلمين :(1/7)
الأولى : الحكام المتسلطون المتخوضون في دماء المسلمين وأموالهم والذين يظنون بجهلهم أن رئاساتهم إنما تثبت بالقهر والظلم وسفك الدماء كما فعل الحجاج وغيره فباؤوا بخزي في الدنيا والآخرة إلا من تاب واستدرك وتبقى حقوق العباد في ذمته حتى مع التوبة .
والثانية : هم الخوارج المقاتلون الذي يقتلون أهل الإيمان ويدعون أهل الأوثان وإثخانهم في المسلمين معروف .
ولا يزال بلاء هاتين الطائفتين على المسلمين قائمًا كفى الله المسلمين شرهم أجمعين ، وحمى المسلمين منهم برحمته ...
باب : من لقي الله تعالى بالإيمان غير شاك فيه دخل الجنة
[9] عن عثمان رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة ) .
[10] عن أبي هريرة رضي الله عنه أو عن أبي سعد رضي الله عنه (شك الأعمش) قال : لما كان غزوة تبوك ، أصاب الناس مجاعة فقالوا : يا رسول الله لو أذنت لنا فنحرنا نواضحنا فأكلنا وادهنا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( افعلوا ) قال : فجاء عمر فقال : يا رسول الله إن فعلت قل الظهر ، ولكن ادعهم بفضل أزوادهم ثم ادع الله لهم عليها بالبركة لعل الله أن يجعل في ذلك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( نعم ) قال : فدعا بنطع فبسطه ثم دعا بفضل أزوادهم . قال : فجعل الرجل يجيء بكف ذرة ، قال : ويجيء الآخر بكف تمر ، قال : ويجيء الآخر بكسرة حتى اجتمع على النطع من ذلك شيء يسير ، قال : فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه بالبركة ، ثم قال : (خذوا في أوعيتكم ) قال فأخذوا في أوعيتهم ، حتى ما تركوا في العسكر وعاء إلا ملأوه ، قال : فأكلوا حتى شبعوا وفضلت فضلة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ، لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيحجب عن الجنة ) .(1/8)
[11] عن الصنابحي عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال : دخلت عليه وهو في الموت . فبكيت ، فقال : مهلاً لم تبكي فوالله لئن استشهدت لأشهدن لك ، ولئن شفعت لأشفعن لك ، ولئن استطعت لأنفعنك ، ثم قال : والله ما من حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لكم فيه خير إلا حدثتكموه ، إلا حديثاً واحداً وسوف أحدثكموه اليوم ، فقد أحيط بنفسي ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله حرم الله عليه النار ) .(1/9)
[12] عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : كنا قعوداً حول رسول الله صلى الله عليه وسلم معنا أبو بكر وعمر رضي الله عنهما في نفر ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين أظهرنا ، فأبطأ علينا ، وخشينا أن يقتطع دوننا ، وفزعنا ، فقمنا ، فكنت أول من فزع ، فخرجت أبتغي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتيت حائطا للأنصار لبني النجار فدرت به هل أجد له باباً . فلم أجد . فإذا ربيع يدخل في جوف حائط من بئر خارجة (والربيع الجدول) فاحتفزت كما يحتفز الثعلب فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : (أبو هريرة) ؟ فقلت : نعم يا رسول الله ، قال : ( ما شأنك ؟ ) قلت : كنت بين أظهرنا فقمت فأبطأت علينا فخشينا أن تقتطع دوننا ففزعنا ، فكنت أول من فزع فأتيت هذا الحائط فاحتفزت كما يحتفز الثعلب وهؤلاء الناس ورائي . فقال : ( يا أبا هريرة ! ) وأعطاني نعليه وقال : ( اذهب بنعلي هاتين فمن لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستقيناً بها قلبه فبشره بالجنة ) فكان أول من لقيت عمر فقال : ما هاتان النعلان يا أبا هريرة ؟ فقلت : هاتان نعلا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثني بهما من لقيت يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه بشرته بالجنة ، قال : فضرب عمر بيده بين ثديي فخررت لاستي فقال : ارجع يا أبا هريرة ، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجهشت بكاءً ، وركبني عمر فإذا هو على أثري ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما لك يا أبا هريرة ؟) فقلت : لقيت عمر ، فأخبرته بالذي بعثني به ، فضرب بين ثديي ضربه خررت لاستي ، فقال : ارجع ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يا عمر ما حملك على ما صنعت ؟ ) قال : يا رسول الله بأبي أنت وأمي أبعثت أبا هريرة بنعليك من لقي يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه بشره بالجنة ؟ قال : ( نعم ) قال : فلا تفعل ، فإني أخشى أن يتكل الناس عليها ، فخلهم يعملون(1/10)
، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( فخلهم) .
[13] عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال : كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم ليس بيني وبينه إلا مؤخرة الرحل فقال : ( يا معاذ بن جبل ) قلت : لبيك يا رسول الله وسعديك ، ثم سار ساعة ، ثم قال : ( يا معاذ بن جبل ) قلت : لبيك يا رسول الله وسعديك ، ثم سار ساعة ، ثم قال : ( يا معاذ بن جبل ) قلت : لبيك يا رسول الله وسعديك ، قال : ( هل تدري ما حق الله على العباد ؟ ) قال : قلت : الله ورسوله أعلم قال : ( فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً ) ثم سااار ساعة ثم قال: ( يا معاذ بن جبل ) قلت : لبيك يا رسول الله وسعديك قال: ( هل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلكك ؟ ) قلت : الله ورسوله أعلم ،، قال : ( أن لا يعذبهم ) .
[14] عن محمود بن الربيع عن عتبان بن مالك قال : قدمت المدينة فلقيت عتبان، فقلت حديث بلغني عنك ، قال : أصابني في بصري بعض الشيء فبعثت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أحب أن تأتيني فتصلي في منزلي فأتخذه مصلى ، قال : فأتى النبي صلى الله عليه وسلم ومن شاء الله من أصحابه ، فدخل ، وهو يصلي في منزلي ، وأصحابه يتحدثون بينهم ، ثم أسندوا عظم ذلك وكبره إلى مالك بن دخشم قالوا : ودوا أنه دعا عليه فهلك وودوا أنه أصابه شر ، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة ، وقال : ( أليس يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ؟! ) قالوا : إنه يقول ذلك ، وما هو في قلبه ! قال : ( لا يشهد أحد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فيدخل النار أو تطعمه ) قال أنس : فأعجبني هذا الحديث فقلت لابني : اكتبه ، فكتبه .
فوائد الحديث رقم (9، 10، 11، 12، 13، 14) :
1 - هذه الأحاديث فيها ثبوت الجنة لمن لقي الله على التوحيد والإيمان ومن المعلوم أن هذا الوعد لا يتم إلا بتحقق الشروط وانتفاء الموانع شأنه شأن مسائل الشريعة الأخرى كلها .(1/11)
ومن الشروط : العلم ، التصديق ، الإخلاص ، الالتزام ، القبول ، ولابد من انتفاء الموانع كالشرك بالله وعبادة غيره معه وسب الدين أو الأنبياء والمرسلين أو إهانة القرآن عمدأً واستخفافاً .. فلا بد أن يجتنب الموحد جميع ما يناقض كلمة التوحيد ويبطلها .. كما يجتنب مبطلات الصلاة ونواقض الوضوء ، ومفطرات الصوم وهكذا ... والله أعلم .
2 – ومن فوائد الحديث رقم (14) :
: فيه جواز الحديث بحضرة المصلي إذا لم يشغله ذلك عن صلاته – والله أعلم – وخاصةً إذا كانت صلاته في غير المسجد كما ها هنا .
باب : الإيمان ما هو ؟ وبيان خصاله
[15] عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه : أن أناسا من عبد القيس قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا نبي الله إنا حي من ربيعة ، وبيننا وبينك كفار مضر ، ولا نقدر عليك إلا في أشهر الحرم فمرنا بأمر نأمر به من وراءنا ، ندخل به الجنة إذا نحن أخذنا به ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( آمركم بأربع ، وأنهاكم عن أربع ، اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً ، وأقيموا الصلاة ، وآتوا الزكاة ، وصوموا رمضان ، وأعطوا الخمس من الغنائم ، وأنهاكم عن أربع : عن الدباء والحنتم والمزفت والنقير ).(1/12)
قالوا : يا نبي الله ما علمك بالنقير؟ قال: ( بلى جذع تنقرونه فتقذفون فيه من القطيعاء (قال سعيد : أو قال : من التمر) ثم تصبون فيه من الماء ، حتى إذا سكن غليانه شربتموه حتى إن أحدكم ( أو : إن أحدهم) ليضرب بن عمه بالسيف! ) قال : وفي القوم رجل أصابته جراحة كذلك ، قال : وكنت أخبؤها حياء من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : ففيم نشرب يا رسول الله ، قال : ( في أسقية الأدم التي يلاث على أفواهها ) قالوا : يا رسول الله إن أرضنا كثيرة الجرذان ، ولا تبقى بها أسقية لأدم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( وإن أكلتها الجرذان وإن أكلتها الجرذان وإن أكلتها الجرذان، ) قال : وقال نبي الله صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس : ( إن فيك لخصلتين يحبهما الله ، الحلم والأناة ) .
فوائد الحديث رقم (15) :
1 - تعجب القوم من دقة علم النبي صلى الله عليه وسلم - ببعض خصوصياتهم حتى سألوه عن ذلك ليطمئنوا أن ما يريده ويقصده النبي صلى الله عليه وسلم مطابق لما عندهم .
2 - وفي الحديث وجوب معرفة الداعي أو الفقيه بحال عصره وواقع الناس فيه ليكون أمره ونهيه مطابقاً للحال والواقع حتى في أدق الجزئيات ، فما بالك بمعرفة تيارات الفكر المنحرف ونظريات العلم وأنماط الاقتصاد .. حيث هي في هذا العصر خاصة تيار لا يعرف آخره ولا يمكن أن يحيط به فرد لكنه من فروض الكفايات التي يجب أن تتضافرهمم أهل الإسلام في تحقيقها من خلال فرقٍ ومجموعات متخصصة - والله المستعان - .
3 - قوله في الحديث : " وأنهاكم عن أربع ... " .
هذا النهي منسوخ كما سيأتي في الإذن بالانتباذ فيما شاء من الظروف غير أن لا يشربوا مسكراً . والله أعلم .
باب : الإيمان بالله أفضل الإيمان(1/13)
[16] عن أبي ذر -رضي الله عنه- ،قال : قلت يا رسول الله، أي الأعمال أفضل ؟ قال : " الإيمان بالله والجهاد في سبيله " قال ، قلت : أي الرقاب أفضل ؟ قال: " أنفسها عند أهلها، وأكثرها ثمناً " قال : قلت : فإن لم أفعل ؟ قال: " تعين صانعاً ، أو تصنع لأخرق ، قال : قلت : يا رسول الله ، أرأيت إن ضعفت عن بعض العمل؟ ،قال: " تكف شرك عن الناس، فإنها صدقة منك على نفسك " .
فوائد الحديث رقم (16) :
1 – سؤالات أبي ذر -رضي الله عنه- تعكس ، وتبين الجبلة الإنسانية والطبيعة البشرية التي ترتقي وتشرق أحياناً ، وتضعف وتخفق أحياناً أخرى ، والدين جاء لكل البشر وفي كل ظروفهم وحالاتهم من القوة والضعف، والغنى، والفقر، والصحة والمرض، والنشاط والخمول ، ولهذا جمع أبو ذر في مسألته بين الاستفسار عن أفضل الأعمال، وأحبها إلى الله ، وأفصل الرقاب للعتق حتى تدرج إلى السؤال عمن ضعف عن ذلك كله لم يفعله ، أو ضعف عن بعضه ، فأجابه -صلى الله عليه وسلم-، بقوله : " تكف شرك عن الناس " فمن لم يفعل الخير فلا أقل من ترك الشر، ومن لم يقل الحق، فلا أقل من أن ألا يقول الباطل .
باب : في الأمر بالإيمان ، والاستعاذة بالله عند وسوسة الشيطان
[17] عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : "لا يزال الناس يسألونكم عن العلم حتى يقولوا : هذا الله ، فمن خلق الله ؟ " قال: فبينا أنا في المسجد إذ جاءني ناس من الأعراب ، فقالوا : يا أبا هريرة هذا الله خلقنا فمن خلق الله ؟ قال : فأخذ حصى بكفه فرماهم به ، ثم قال : قوموا ، صدق خليلي -صلى الله عليه وسلم- .
[17ب ] عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال : " لا يزال الناس يسألونكم عن العلم حتى يقولوا : هذا الله خلقنا ، فمن خلق الله ؟ " قال: وهو آخذ بيد رجل ، فقال : " صدق الله ورسوله قد سألني واحد ، وهذا الثاني " .
فوائد الحديث رقم (17،17ب) :(1/14)
هذا السؤال لاشك أنه سؤال تنطع وتعجرف وجهالة ، فالله -جل وعلا- هو كما قال عن نفسه: " الأول" فليس قبل شيء ، وليس له ابتداء و " الآخر" فليس بعده شيء، وليس له انتهاء ، وهو الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد ، والعقول لا تحيط به ، والأبصار لا تدركه ، والأوهام لا تحده ، فهو أعظم من كل ما يخطر بالبال أو يدور في الخيال ، وهو الكبير المتعال .
باب : في الإيمان بالله والاستقامة
[18] عن سفيان بن عبد الله الثقفي، قال قلت : يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك " ، وفي حديث أبي أسامة :" غيرك" قال : " قل آمنت بالله ثم استقم " .
فوائد الحديث رقم (18) :
كأن سفيان -رضي الله عنه- يسأل عن كلمة جامعة لمعنى الإسلام، فأرشده النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى النطق بكلمة الإيمان، ثم الاستقامة عليها ظاهراً بالعمل ، وباطناً بالاعتقاد وعمل القلب، وهذا يجمع الخير كله، ولهذا عد العلماء هذا الحديث من جوامع كلمه -صلى الله عليه وسلم- .
باب : في آيات النبي -صلى الله عليه وسلم- والإيمان به
[19] عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال : " ما من الأنبياء من نبي إلا قد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر ، وإنما كان الذي أوتيت وحياً أوحى الله إلي ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة " .
فوائد الحديث رقم (19) :(1/15)
1 – فيه أن القرآن هو أعظم معجزات الرسول -صلى الله عليه وسلم- والآيات الشاهدة بصدق نبوته -عليه الصلاة والسلام- ؛ لوضوحها وبقائها واستمرار التحدي بها، ولا يزال العلم البشري كلما تقدم يكتشف شيئاً من عظمة القرآن وإعجازه ودلالاته، ولذلك حصر الآيات فيه هنا فقال : " وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحى الله إليَّ " ، وليس المقصود – والله أعلم – الحصر المطلق لثبوت آيات آخرى له - صلى الله عليه وسلم- في حياته كانشقاق القمر وغيره كما لاينفي ثبوت الآيات له بعد وفاته -صلى الله عليه وسلم- على يد بعض الصالحين من أمته، وهي الكرامات وهذه كتلك ثابتةٌ في الجملة بالتواتر ، وهذا الحق وعليه جماهير علماء الأمة . ولكن القرآن هو المعجزة الخالدة الباقية إلى ما شاء الله .
[20] عن أبي هريرة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال : " والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ، ولا نصراني ، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار " .
فوائد الحديث رقم (20) :
1 – في هذا الحديث دليل على أنه لا يحكم لأحد من الكفار عيناً أنه في النار إلا لمن بلغته الدعوة، وقامت عليه الحجة، ثم عاندها وأعرض عنها قال -تعالى- : " وأوحي إليَّ هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ " [الأنعام : 19] وقال : " وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً " [الأسرى :15] .(1/16)
[21] عن صالح بن صالح الهمداني عن الشعبي قال : رأيت رجلاً من أهل خراسان، سأل الشعبي فقال : يا أبا عمرو إن من قبلنا من أهل خراسان، يقولون في الرجل إذا أعتق أمته، ثم تزوجها ، فهو كالراكب بدنته . فقال الشعبي : حدثني أبو بردة بن أبي موسى عن أبيه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال : " ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين : رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وأدرك النبي -صلى الله عليه وسلم- فآمن به، واتبعه، وصدقه فله أجران ، وعبد مملوك أدى حق الله -تعالى- وحق سيده فله أجران ، ورجل كانت له أمة فغذاها فأحسن غذاءها، ثم أدبها فأحسن أدبها، ثم أعتقها وتزوجها فله أجران " ثم قال الشعبي للخراساني : خذ هذا الحديث بغير شيء، فقد كان الرجل يرحل فيما دون هذا إلى المدينة.
فوائد الحديث رقم (21) :
1 – قوله في الحديث " فله أجران " . ومصداق ذلك في كتاب الله " الذين آتيناهم الكتاب من قبله ... إلى قوله : أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ... وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه " [القصص :52-55] . ويدخل في ذلك كل من أسلم وصدق إسلامه من أهل الكتاب في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- أو بعده .
باب : ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان
[22] عن أنس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال : " ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان ، من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله ، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار " .
فوائد الحديث رقم22
1 – يحتمل أن تكون هذه الخصال الثلاث أسباباً لتحصيل لذة الإيمان ، ويحتمل أن تكون علامات من وجدت فيه دل على أنه يتذوق حلاوة الإيمان ، ومما يؤيد المعنى الثاني رواية البخاري "من كن فيه وجد حلاوة الإيمان" ولم يقل : بهن والله أعلم.(1/17)
[23] عن أنس ابن مالك -رضي الله عنه- قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده وَوالده والناس أجمعين " .
[24] عن أنس -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ،قال : " والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتى يحب لجاره أو قال لأخيه ما يحب لنفسه " .
فوائد الحديث رقم 23،24
المقصود في الحديثين وما أشبههما الإيمان الكامل ، وليس المقصود نفي الإيمان عنه بالكلية .
باب : ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً
[25] عن العباس بن عبد المطلب -رضي الله عنه- أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، يقول : " ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد رسولاً"
فوائد الحديث رقم 25
1 – الرضا بالله رباً يقتضي الرضا بأقداره كلها ، وهي منزلة فوق الصبر يبصر فيها العبد لطف الله في كل ما يقضي عليه وإن كان في الظاهر مراً أو شراً ولهذا قال تعالى " ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه " [الطلاق: 11] ، وقال علقمة : هو العبد تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم
باب : أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً
[26] عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- ،قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : " أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً ، ومن كان فيه خلة منهن كانت فيه خلة من نفاق ، حتى يدعها : إذا حدث كذب ، وإذا عاهد غدر ، وإذا وعد أخلف ، وإذا خاصم فجر " ،غير أن في حديث سفيان " وإن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق " .
[27] عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال : " آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان " .
فوائد الحديث رقم 26، 27(1/18)
يجتمع من الحديثين خمس خصال من وجدت فيه كاملة كان منافقاً ، فإن كان فيه بعضها كان فيه بعض النفاق ،وأصح ما قيل في معنى الحديثين أنه إن كان العبد متصفاً بهذه الصفات على وجهها الأكمل ظاهراً وباطناً فهو منافق نفاقاً اعتقادياً ؛ لأنه كاذب في حديثه كله حتى في دعوى الإيمان والإسلام ، وحتى في عباداته وأذكاره لا يفعلها إيماناً، بل رياءً وسمعة ، وهكذا في خيانته لآماناته مع الله ومع عباده ، ونكثه بما عاهد الله عليه، كما قال -تعالى- في المنافقين " ومنهم من عاهد الله ..." إلى قوله "فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله وما وعدوه وبما كان يكذبون "[التوبة : 75-77] . وهكذا خلْف الوعد كما ترى في هذه الآية وغيرها.
باب : مثل المؤمن كخامة الزرع ، ومثل المنافق والكافر كالأرزة
[28] عن كعب بن مالك قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع، تَفِيئُها الريح، تصرعها مرة، وتعدلها أخرى حتى تهيج ، ومثل الكافر كمثل الأرزة المجْذِية على أصلها، لا يفيئها شيء حتى يكون انجعافها مرة واحدة " وفي رواية : " وتعدلها مرة حتى يأتيه أجله ومثل المنافق مثل الأرزة المجذية التي لا يصيبها شيء"
فوائد الحديث رقم (28) :
1 - قال النووي - رحمه الله - : قال العلماء : معنى الحديث إن المؤمن كثير الآلام في بدنه، أو أهله أو ماله، وذلك مكفر لسيئاته ورافع لدرجاته، وأما الكافر فقليله، وإن وقع به شيء لم يكفر شيئاً من سيئاته ، بل يأتي بها يوم القيامة كاملة ا.هـ
2 - وفي ذلك أيضاً تمحيص صفوف المؤمنين وفضح المنافقين " وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم " [المنافقين : 4].(1/19)
3 - وقد يُحمل هذا - والله أعلم - على مَنْ غايته الدنيا، فله من مزيد العناية بمأكلها، ومشاربها ورياضاتها، وطيباتها، والشح بنفسه، وعمره، ما يجعل الغالب عليه ضخامة الجسم، والسلامة من الآفات. وهذا مشاهد معروف ، وإن كان للمؤمن من صفاء النفس، وسكينتها، وطمأنينتها، ما هو حرام على الكافرين كما حرمت عليهم جنة الآخرة ، ولا يعني هذا تفريط المؤمن بدنياه ، كلا ولكنه الاعتدال.
باب : الحياء من الإيمان
[31] عن أبي قتادة - رضي الله عنه - قال : كنا عند عمران بن حصين في رهط ، وفينا بشير بن كعب ، فحدثنا عمران يومئذ قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " الحياء خير كله ، أو قال الحياء كله خير " فقال بشير بن كعب : إنا لنجد في بعض الكتب أو الحكمة أن منه سكينة ووقاراً لله - تعالى - ، ومنه ضعفاً ، فغضب عمران حتى احمرّت عيناه ، وقال : ألا أراني أحدثك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتعارض فيه ؟! قال : فأعاد عمران الحديث ، قال فأعاد بشير ، فغضب عمران ، فما زلنا نقول فيه : إنه منا يا أبا نجيد ، إنه لا بأس به .
فوائد الحديث رقم (31) :
1 - الحياء كله خير ، فإذا خرج عن حد الخير إلى الضعف والانكسار لم يسمَّ حياء ، قد يسمى جبناً أو غيره ، وإنما أنكر عمران على بشير ما ظاهره الاعتراض على الخبر النبوي الكريم .
باب : آية الإيمان حب الأنصار وبغضهم آية النفاق
[37] عن عدي بن ثابت قال : سمعت البراء -رضي الله عنه- يحدث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال في الأنصار : " لا يحبهم إلا مؤمن ، ولا يبغضهم إلا منافق ، من أحبهم أحبه الله ، ومن أبغضهم أبغضه الله " .
فوائد الحديث رقم (37) :(1/20)
1 –هذه التزكية النبوية للأنصار لأنهم الشعب الذي آوى ونصر وآثر وكانت أرضهم مهاجر النبي -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين ، ومنطلق الدعوة والفتح وعاصمة الإسلام وتشرفت بضم جسد النبي الطاهر -صلى الله عليه وسلم- بعد مماته وضم رفات أصحابه وهي أرض الإسلام في آخر الزمان؛ حتى إنه حرام على الدجال أن يدخلها، ولا يعني هذا تزكية جميع أفراد ساكنيها؛ فقد كان فيها المنافقون في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- وكثر فيها الباطنية واستحوذوا عليها في بعض حقب التاريخ ، وحين يأتيها الدجال يخرج إليه منها كل منافق ومنافقة .
باب : الإيمان يمان والحكمة يمانية
[39] عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال : سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول : " جاء أهل اليمن ، هم أرق أفئدة ، وأضعف قلوباً ، الإيمان يمان ، والحكمة يمانية . السكينة في أهل الغنم والفخر والخيلاء في (الفدادين) أهل الوَبَر قبل مطلع الشمس".
[40] عن جابر بن عبدالله -رضي الله عنهما- قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : " غلظ القلوب والجفاء في المشرق ، والإيمان في أهل الحجاز " .
فوائد الحديث رقم (39، 40) :
1 – يدخل في مسمى اليمن البلد المعروف ، لكنه لا يختص بذلك بل يشمل معهم من كان يمين الكعبة ويدخل في ذلك قبائل الأنصار؛ فإنها يمانية الأصل، ولعل من أسرار الثناء عليهم عمق صلتهم بالحجاز، أرض الرسالة والدعوة .
2 – حيث إن بلادهم محاطة بالبحر ، فبرُّهم متصل بالحجاز وهم به أولى وإليه أصعر ، "وربك يخلق ما يشاء ويختار" [القصص : 68] وعليه فالثناء على أهل اليمن يتضمن الثناء على الحجاز من باب أولى .
باب : من لم يؤمن لم ينفعه عمل صالح
[41] عن عائشة -رضي الله عنها- قالت : قلت : يا رسول الله ، ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ، ويطعم المسكين ، فهل ذاك نافعه ؟ قال : " لا ينفعه ، إنه لم يقل يوماً : رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين ".
فوائد الحديث رقم (41) :(1/21)
انظر التعليقة على الحديث الآتي برقم (70) من المختصر وعلى أحاديث أبي طالب الآتية برقم (99، 100) من المختصر .
باب : لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن
[43] عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال : " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن "وكان أبو هريرة يلحق معهن "ولا ينتهب نُهْبةً ذاتَ شرفٍ يرفع الناسُ إليه فيها أبصارَهم حين ينتهبها وهو مؤمن " . وفي حديث همام " يرفع إليه المؤمنون أعينَهم فيها وهو حين ينتهبها مؤمن " . وزاد: " ولا يغُلُّ أحدُكم حين يغُلُّ وهو مؤمن فإياكم إياكم ".
فوائد الحديث رقم (43) :
1 – ذلك أن الإيمان قيد يحبس العبد عن المعاصي كما قال –تعالى- " وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى . فإن الجنة هي المأوى "[النازعات:40-41] فلا يقدم العبد علىالمعصية حين يكون الإيمان حاضراً في قلبه، إنما يفعلها حين يعزُبُ الإيمان عنه ، ويغفُل عن مراقبة الله، واستحضار هيبته، ولذلك صح عن ابن عباس أنه كان يقول : " إن العبد إذا زنى نُزع الإيمان من قلبه، حتى يكون كالظُّلةِ فوق رأسه، فإن تاب عاد إليه " ومعلوم أن نفي الإيمان لا يلزم منه نفي الإسلام، فينفى عنه الإيمان ويبقى معه أصل الإسلام .
باب : لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين
[44] عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال : " لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين " .
فوائد الحديث رقم (44) :(1/22)
1 – هذا ثناء صريح على المؤمن الحق بأنه لا يكرر أخطاءهُ بل يستفيد منها،ويتجنب تكرارها ، فإذا كان الإنسان مطالباً بالانتفاع من تجارب الآخرين، وتجنُّبِ أخطائهم فكيف بتجاربه التي تخصه، وهو أولى بالإفادة منها، وهذا لا يخص الأفراد فحسب ، بل الجماعات والدول والأمم أولى وأحرى بالاعتبار بأحوال غيرها عبر العصور والأحقاب، وأحوالها الحاضرة وأن تبدأ من حيث انتهى الناس وليس من حيث بدؤوا ، ولما ذكر الله تعالى ما جرى لليهود في المدينة عقب بقوله :" فاعتبروا يا أولي الأبصار " [ الحشر:2] .
باب : في الوَسْوَسة في الإيمان
[45] عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال : جاء ناس من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- فسألوه : إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به . قال : " وقد وجدتموه ؟ " قالوا : نعم . قال : " ذاك صريح الإيمان " .
فوائد الحديث رقم (45) :
1 – ظاهر الحديث يساعد ما ذكره القاضي عياض، ونقله عنه النووي أن الإشارة إلى الوسوسة نفسها أي أنها علامة على مَحْضِ الإيمان وصريحه ، ذلك أن الكافر والمنافق لا تعتريه الوسوسة إذ إنها إنما تقع في الإيمان وهو لا إيمان لديه أصلاً حتى يوسوس فيه، ثم إنّ من شأن المؤمن أن يرفض هذه الوسوسة، وينكرها قلبه، وتضيق بها نفسه، ويسعى في دفعها عنه بكل حيلة ، وهذا باب آخر من أبواب الإيمان وهو معنى آخر للحديث ، ولا مانع من إرادة الأمرين .
باب : أكبر الكبائر الشرك بالله
[46] عن عبدالرحمن بن أبي بكرة عن أبيه قال : كنا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال :" ألا أنبئكم بأكبر الكبائر (ثلاثاً) : الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين ، وشهادة الزور ، أو قول الزور " وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- متكئاً فجلس ، فما زال يكررها حتى قلنا : ليته سكت .
فوائد الحديث رقم (46) :(1/23)
1 – قد يعجب البعض من تكرار النبي -صلى الله عليه وسلم- لشهادة الزور، وقول الزور ،ولا يدرك سر هذا التكرار، إلا من تفحَّص أحوال الناس الحاضرة والغابرة ، ولحظ الأثر السَّيِّء للتزوير في حياة المسلمين، وكيف يقلب الحق باطلاً ، والباطل حقاً ويظهر المفسد في هيئة المصلح والعكس، ويدمر إمكانياتِ الأمة وقدراتها، وكثيرون لا يفهمون من ذلك إلا الشهادة لفلان أو على فلان.
[47] عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال : " اجتنبوا السبع الموبقات . قيل : يا رسول الله، وما هن ؟ قال : " الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وأكل مال اليتيم ، وأكل الربا والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات " .
فوائد الحديث رقم ( 47) :
هذه السبع تجمع أصول المعاصي؛ فإن الشرائع جاءت لتوحيد الله بألوهيته وربوبيته ، والشرك ينافي ذلك ،وجاءت بحفظ حياة الناس، ومنع إزهاقها بغير حق ، والقتل ينافي ذلك ، وجاءت بحفظ أموال الناس ، وأكل الربا وأكل مال اليتيم ينافي ذلك ، وجاءت بحفظ الأعراض ، والقذف ينافي ذلك ، وجاءت بحماية عقولهم وعلاقاتهم وخصوصياتهم ، والسحر ينافي ذلك ، وجاءت بالجهاد الذي هو حراسة لكل هذه المعاني ، والتولي يوم الزحف مضعف لهمم المؤمنين المجاهدين مُحَرِّضٌ للكافرين والمعاندين مشعرٌ بالرغبة في الدنيا والزهد في الآخرة، والشهادة، والله المستعان .
باب : من قال لأخيه : كافر .
[50] عن أبي ذرٍّ- رضي الله عنه- أنَّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( ليس من رجل ادَّعى لغير أبيه- وهو يعلمه- إلا كفر ، ومن ادَّعى ما ليس له فليس منا ، وليتبوأْ مقعَدَهُ من النَّار ، ومن دعا رجلاً بالكفر أو قال : عدوُّ اللهِ . وليس كذلك . إلا حار عليه ) .
فوائد الحديث رقم (50) :(1/24)
1 – هذا الحديث وما قبله وما شاكله من أحاديث الوعيد ، وقد أجمع أهل الحق على أن هذه الذنوب بمجردها لا توجب الكفر الأكبر المخرج من الملة الموجب للخلود في النار ، ثم اختلفوا في تأويلها على طرائق شتى تُطْلَبُ في مظانِّها .
باب : من مات لايشرك بالله شيئاً دخل الجنة.
[53] عن أبي الأسود الدِّيلي أن أبا ذر حدثه أنه قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم، عليه ثوبٌ أبيضُ ، ثم أتيته فإذا هو نائم ، ثم أتيته وقد استيقظ ، فجلست إليه ، فقال : ( ما من عبدٍ قال: لا إله إلا الله ، ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة ) قلت : وإنْ زنى وإنْ سرق ؟ قال : ( وإنْ زنى وإنْ سرق ) قلت : وإنْ زنى وإنْ سرق ؟ قال : (وإنْ زنى وإنْ سرق ) ثلاثاً ، ثم قال في الرابعة : ( على رَغْمِ أنفِ أبي ذرٍّ ) قال : فخرج أبو ذرّ وهو يقول : وإنْ رَغِمَ أنفُ أبي ذرّ .
فوائد الحديث رقم ( 53) :
1 – فيه قبول الحق والانصياع له وإن خالف هوى النفس ،وما كان عليه الصحابة من ذلك رضي الله عنهم، وليس في الحديث التقليل من شأن هذه الذنوب ، كيف وقد أعذر الشارع في تقبيحها وجعل عليها الحد في الدنيا والعقوبة في الآخرة لمن لم يتب وإنما جاء الحديث في تقرير أنه لا يخرج من الإسلام بذلك، ولا يستوجب الخلود في النار وإن عُذِّبَ فيها ما عُذِّبَ .نسأل الله السلامة .
باب : لايدخل الجنة من كان في قلبه مثقالُ ذرةٍ من كِبْرٍ.
[54] عن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه -عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال : ( لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقالُ ذرةٍ مِنْ كِبْرٍ ) قال رجل : إن الرجلَ يحبُّ أنْ يكونَ ثوبُهُ حسناً ، ونعلُهُ حسنةً ؟ قال : ( إن الله َجَمِيلٌ يحبُّ الجمالَ . الكِبْرُ بَطَرُ الحقِّ وغَمْطُ الناسِ ) .
فوائد الحديث رقم (54) :(1/25)
1 – هذا من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم المتكبر لا يرى إلا نفسه، ولا يرى الآخرين شيئاً فيزدريهم ويحتقرهم، ولا يرى لهم الحق في مخالفة رأيه وقوله، فيرفض ما لديهم ولو كان هو الحقَّ. فتأمَّلْ .
باب : من قال مُطِرْنا بالأنواءِ فهو كافِرٌ .
[56] عن زيد بن خالد الجهنيّ -رضي الله عنه- قال : " صلّى بنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلاة الصبح بالحديبية في إثر سماء كانت من الليل ، فلما انصرف ، أقبل على الناس فقال : ( هل تدرون ماذا قال ربُّكم ؟ ) قالوا : اللهُ ورسوله أعلم ، قال : ( قال : أصبح مِنْ عبادي مؤمنٌ بي وكافر ، فأما مَنْ قال : مُطِرْنا بفضل الله ورحمته ، فذلك مؤمنٌ بي كافرٌ بالكوكب ، وأما من قال : مطرنا بنوء كذا وكذا ، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب ) ".
فوائد الحديث رقم ( 56) :
1 – الكفر هنا يختلف بحسب نيَّةِ القائل واعتقاده ، فَمَنْ قال هذا معتقداً أنَّ الكوكب هو الفاعل فهذا شِركٌ في الربوبية، ومن اعتقد للكوكب تأثيراً فهذا باطلٌ وبخسٌ لحق الله -تعالى- وشرك في اللّفظِ لكنه لا يكفر به. والله أعلم .
أما مَنْ قَصَدَ الظرفية الزمنية فهذا مكروه والله أعلم ؛ لمشابهته في اللفظ لهؤلاء وإمكانية حصول اللَّبْس .
باب : إذا أَبَقَ العبدُ فهو كفرٌ
[57] عن الشعبي، عن جرير أنه سمعه يقول : ( أَيُّما عبد أبق مِنْ مواليه فقد كفر حتى يرجع إليهم ) . قال منصور : قد والله رُوِيَ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولكني أكره أن يروى عني هاهنا بالبصرة .
فوائد الحديث رقم (57) :
1 – قوله في الحديث " ... ولكني أكره أَنْ يُروى عني ها هنا بالبصرة " . قد يكون ذلك – والله أعلم – لرواج آراء الخوارج فيها آنذاك ، أو لشيوع آراء المعتزلة الذين يشاركون الخوارج في إخراج مرتكب الكبيرة من الإيمان.
[58] عن جرير -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال : " إذا أبق العبدُ لم تُقْبَلْ له صلاةٌ " .(1/26)
فوائد الحديث رقم (58) :
1 – ولكن الصلاةَ عليه واجبةٌ ، يُؤَدِّيها في وقتها ، ولا يعيدها بعد ، ووجب عليه الرجوع إلى أهله ، فإنْ أَصَرَّ على إباقه فهو عاصٍ مرتكبٌ كبيرةً ومع هذا لا يتركُ الصَّلاةَ ، بل يُصَلِّّيها بحسب الأمر الأْصْلي الواجب عليه وعلى كل مسلم .
باب : إنما ولييَ اللهُ وصالح المؤمنين .
[59] عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم جهاراً غير سر يقول : ( ألا إن آل أبي يعني فلاناً ، ليسوا لي بأولياء إنما وليي الله وصالح المؤمنين ) .
فوائد الحديث رقم (59) :
كأنه صلى الله عليه وسلم يعني ناساً من قرابته ، بل السياق مشعر بأنهم من قريش ، قيل : هم من آل أبي العاص وقيل : آل أبي طالب ، والمراد حينئذٍ أبو طالب نفسه لأنه لم يُسلِم فناسب نفي الولاية عنه ، وقد توارد الرواة على نفس الاسم والتكنية عنه بـ " فلان " وفي بعضها " بياض " أي ترك الموضع بياضاً رعاية لقرابته من المسلمين الذين قد يتأذون بذلك . والله أعلم .
باب : جزاء المؤمن بحسناته في الدنيا والآخرة وتعجيل حسنات الكافر في الدنيا
[60] عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الله لا يظلم مؤمنا حسنة يعطى بها في الدنيا ، ويجزى بها في الآخرة ، وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل بها لله في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزى بها ) .
فوائد الحديث رقم (60) :(1/27)
أما ما يعطى المؤمن في الدنيا فمنه الصحة والمال والأهل والولد وغير ذلك من النعم ، فإن حُرم من ذلك كله لم يحرم سرور القلب وسعادته ، وطمأنينة النفس وصفاءها } الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب {[الرعد:28] وأما الكافر فيمنح الله من شاء منهم ما شاء من العاجل كما قال سبحانه : } من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموماً مدحوراً {[الإسراء:18].
باب : الإسلام يهدم ما قبله ، والحج والهجرة(1/28)
[64] عن ابن شماسة المهري قال: " حضرنا عمرو بن العاص وهو في سياقة الموت. فبكى طويلا . وحول وجهه إلى الجدار . فجعل ابنه يقول : يا أبتاه أما بشرك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بكذا ؟ أما بشرك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بكذا ؟ قال : فأقبل بوجهه ، فقال : إن أفضل ما نعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله إني كنت على أطباق ثلاث . لقد رأيتني وما أحد أشد بغضاً لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مني ، ولا أحب إليّ أن أكون قد استمكنت منه فقتلته . فلو مت على تلك الحال لكنت من أهل النار ، فلما جعل الله الإسلام في قلبي . أتيت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقلت : ابسط يمينك فلأبايعك فبسط يمينه . قال : فقبضت يدي . قال : ( ما لك يا عمرو ؟ ) قال : قلت أردت أن أشترط . قال : ( تشترط بماذا ؟ ) قلت : أن يغفر لي . قال : ( أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله ، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها ، وأن الحج يهدم ما كان قبله ؟ ) وما كان أحد أحب إلي من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا أجل في عيني منه ، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالاً له ، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت ؛ لأني لم أكن أملأ عيني منه، ولو مت على تلك الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنة ، ثم ولينا أشياء ما أدري ما حالي فيها ، فإذا أنا مت فلا تصحبني نائحة ولا نار ، فإذا دفنتموني فسنُّوا عليّ التراب سنا ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور ويقسم لحمها حتى أستأنس بكم وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي " .
فوائد الحديث رقم (64) :
1 – قوله في الحديث " فإذا دفنتموني فسنوا عليَّ التراب سنَّا..." هذا اجتهاد خاص من عمرو رضي الله عنه ولم ينقل عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا عن أحد من الصحابة غيره .
باب : من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية .(1/29)
[65] عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال أناس لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية ؟ قال : ( أما من أحسن منكم في الإسلام فلا يؤاخذ بها ، ومن أساء أخذ بعمله في الجاهلية والإسلام ) .
من فوائد الحديث رقم ( 65) :
-فيه أنه إذا تاب من الشرك وأصر على ذنبٍ كان مقيماً عليه في شركه لا يغفر له ذنبه ذلك إلا بتوبة خاصة منه . والله أعلم .
باب : إذا أحسن أحدكم إسلامه فكل حسنة يعملها تكتب بعشر أمثالها
[67] عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( قال الله عز وجل إذا تحدث عبدي بأن يعمل حسنة فأنا أكتبها له حسنة ما لم يعملها ، فإذا عملها فأنا أكتبها بعشر أمثالها ، وإذا تحدث بأن يعمل سيئة فأنا أغفرها له ما لم يعملها ، فإذا عملها فأنا أكتبها له بمثلها ) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( قالت الملائكة: رب ذاك عبدك يريد أن يعمل سيئة -وهو أبصر به- فقال : ارقبوه فإن عملها فاكتبوها له بمثلها ، وإن تركها فاكتبوها له حسنة ، إنما تركها من جرائي ) . وقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( إذا أحسن أحدكم إسلامه ، فكل حسنة يعملها تكتب بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، وكل سيئة يعملها تكتب بمثلها حتى يلقى الله عز وجل ) .
من فوائد الحديث رقم ( 67) :
1 – يدخل في حسن إحسان العمل والتزام الواجبات والسنن وغيرها وصلاح النية فيه ، وحسن الاستقامة بعده مما تضاعف معه الأجور .
2 – وفيه بيان أن الذي تكتب له حسنة إنما هو من ترك المعصية خشية لله ، أما من تركها عجزاً أو خوفاً من المخلوقين ، فلم يتركها لذلك فعليه إثم النية الجازمة كما في حديث أبي بكرة ( القاتل والمقتول في النار ) والله أعلم . ومن تركها رغبة عنها من غير نية ولا خوف من الله فكأنها لا تكتب له ولا عليه كما هنا وكما في حديث أنس رقم (76) .(1/30)
[68] عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله تبارك وتعالى تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم يتكلموا أو يعملوا به ).
من فوائد الحديث رقم (68) :
-فيه سعة رحمة الله تعالى وتجاوزه لهذه الأمة عن حديث النفس ، ويدخل فيه الوساوس والخواطر والتمنيات ما لم يسع صاحبها في تحقيقها .
باب : من عمل براً في الجاهلية ثم أسلم
[70] عن عروة بن الزبير أن حكيم بن حزام أخبره أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أرأيت أموراً كنت أتحنث بها في الجاهلية من صدقة أو عتاقة أو صلة رحم أفيها أجر ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أسلمت على ما أسلفت من خير ) .
من فوائد الحديث رقم (70) :
ظاهر هذا الحديث وما أشبهه في المعنى أن الكافر إذا عمل حال كفره أعمال خير من الإطعام والإعتاق والبر ونحوه ، ثم أسلم أنه يثاب على عمله ذلك ، وهذا لا يعارض أصلاً شرعياً ، فإن الله لا يضيع أجر المحسنين ، ومعلوم أن عقاب الكافرين يتفاوت بحسب أعمالهم كما قال تعالى : } الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذاباً فوق العذاب بما كانوا يفسدون { [النحل:88] وقال سبحانه : } أدخلوا آل فرعون أشد العذاب {[غافر:46] فمن أسلم من الكفار وختم له بخير أثيب بعمله الطيب ، ومن مات على كفره فلا حظ له في ذلك ، ولكنه يثاب على عمله الصالح في دار الدنيا كما سبق في حديث أنس ، وقال بعض العلماء : يجوز أن يخفف عن الكفار من العذاب الذي يستوجبونه يْغُبُر الكفر بما عملوه من الخيرات تفضلاً منه تعالى وهذا لا يحيله العقل ، وقد جاء شيء منه في خبر أبي طالب ، فقد تنفع الكافر أعماله في تخفيف العذاب عنه لا في إسقاطه بالكلية [ وانظر : الفتاوى 1/144 ، الفتح 9/145 وغيره ] .
باب : بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ وهو يأرز بين المسجدين(1/31)
[72] عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ وهو يأرز بين المسجدين كما تأرز الحية في جحرها ) .
من فوائد الحديث رقم (72) :
-بدأ الإسلام غريباً برجل واحد وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال أبو بكر بن العربي : أن يعود برجل واحد كما بدأ ، وقد تكون الإشارة والله أعلم إلى غربته آخر الزمان قبل الساعة حين تندرس معالمه وتضيع فرائضه وهي الغربة التي لاقيام بعدها ، وهذا يتضمن الإشارة إلى ممهداتها ومقدماتها مما يقع عبر القرون والأجيال ، وليس في الحديث حجة للقاعدين واليائسين إذ الصراع بين الحق والباطل سجال ولهذا قال هاهنا : ( وهو يأرز بين المسجدين ) .
باب : مابدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي.(1/32)
[73] عن عروة بن الزبير أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته أنها قالت : كان أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ، ثم حبب إليه الخلاء ، فكان يخلو بغار حراء يتحنث فيه (وهو التعبد) الليالي أولات العدد قبل أن يرجع إلى أهله . ويتزود لذلك ، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها ، حتى فجئه الحق وهو في غار حراء ، فجاءه الملك فقال : اقرأ . قلت : ( ما أنا بقارئ ) قال : فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد . ثم أرسلني ، فقال : اقرأ . قلت : ( ما أنا بقارئ ) ، قال : فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد . ثم أرسلني : فقال : أقرأ . فقلت : ( ما أنا بقارئ ) فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد . ثم أرسلني فقال : } اقرأ باسم ربك الذي خلق . خلق الإنسان من علق . اقرأ وربك الأكرم . الذي علم بالقلم . علم الإنسان ما لم يعلم { فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ترجف بوادره . حتى دخل على خديجة ، فقال : ( زملوني زملوني ) فزملوه حتى ذهب عنه الروع ثم قال لخديجة : ( أي خديجة ما لي ؟ ) وأخبرها الخبر . قال: ( لقد خشيت على نفسي ) فقالت له خديجة : كلا ، أبشر ، فوالله لا يخزيك الله أبداً ، والله إنك لتصل الرحم ، وتصدق الحديث ، وتحمل الكل وتكسب المعدوم ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق ، فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى وهو ابن عم خديجة أخي أبيها وكان امرأ تنصر في الجاهلية ، وكان يكتب الكتاب العربي ويكتب من الإنجيل بالعربية ما شاء الله أن يكتب وكان شيخاً كبيراً قد عمي . فقالت له خديجة : أي عم . اسمع من ابن أخيك ، قال ورقة : يا ابن أخي ماذا ترى ؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رآى ، فقال له : هذا الناموس الذي أنزل على موسى بن عمران صلى الله عليه وسلم ، يا ليتني فيها(1/33)
جذعاً ، يا ليتني أكون حياً حين يخرجك قومك ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أومخرجي هم ؟ ) قال ورقة : نعم لم يأت رجل قط بما جئت به إلا عودي ، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً " .
من فوائد الحديث رقم (73) :
1 – بيان أول ما نزل من القرآن .
2 – بيان ثقل الوحي وشدته ، قال تعالى : } إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً { [المزمل :5] ، مع يسره كما في قوله تعالى : } ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر { [القمر :17] .
3 – أن عمل الخير يقي مصارع السوء .
4- استنارة الإنسان برأي من يكبره وإن كان مفضولاً .
5 – فضل تمني الإنسان الخير وإن عجز عنه ، وإن كان مستحيلاً كتمني ورقة الشباب .
6 – سنة الله في الأنبياء والدعاة الصادقين أنه لابد أن يوجد من يعاديهم ويخرجهم ثم تكون العاقبة لهم ، قال تعالى : } وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين وكفى بربك هادياً ونصيراً { [ الفرقان:31] . .
[74] عن يحيى قال : سألت أبا سلمة : أي القرآن أنزل قبل ؟ قال }يا أيها المدثر{ فقلت : أو (اقرأ) فقال سألت جابر بن عبد الله : أي القرآن أنزل قبل قال } يا أيها المدثر{ فقلت : أو (اقرأ) قال جابر : أحدثكم ما حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : ( جاورت بحراء شهراً فلما قضيت جواري نزلت فاستبطنت بطن الوادي فنوديت فنطرت أمامي وخلفي وعن يميني وعن شمالي ، فلم أر أحداً ، ثم نوديت ، فنظرت فلم أر أحدا ، ثم نوديت فرفعت رأسي فإذا هو على العرش في الهواء ـ يعني جبريل عليه السلام ـ فأخذتني رجفة شديدة فأتيت ، فأتيت خديجة فقلت : دثروني ، فدثروني ، فصبوا علي ماء فأنزل الله عز وجل } يا أيها المدثر . قم فأنذر . وربك فكبر . وثيابك فطهر . والرجز فاهجر ) .
من فوائد الحديث رقم (74) :(1/34)
1 – الصواب أن أول ما نزل " اقرأ " كما في حديث عائشة المتفق عليه السابق ، وأما قول أبي سلمة بن عبدالرحمن وجابر رضي الله عنهما : إن أول ما نزل } يا أيها المدثر { فهو محمول على أولية خاصة أي : بعد فترة الللوحي وتلبثه ولذلك قال في رواية : ( فإذا الملك الذي جاءني بحراءٍ جالساً على كرسي بين السماء والأرض ) وقال في أخرى : ( ثم فتر الوحي عني فترة فبينا أنا أمشي سمعت صوتاً ... ) الحديث . وكلاهما في مسلم وهما يدلان على سبق نزوله بحراء ، ثم حصول الفترة ، ثم نزول المدثر . والله أعلم .
باب : صلى النبي صلى الله عليه وسلم بالأنبياء عليهم السلام
[80] عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لقد رأيتني في الحجر وقريش تسألني عن مسراي ، فسألتني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها فكربت كربة ما كربت مثله قط ، فرفعه الله لي أنظر إليه ما يسألوني عن شيء إلا أنبأتهم به ، وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء فإذا موسى عليه السلام قائم يصلي ، فإذا رجل ضرب جعد كأنه من رجال شنوءة ، وإذا عيسى بن مريم عليه السلام قائم يصلي ، أقرب الناس به شبها عروة بن مسعود الثقفي ، وإذا إبراهيم عليه السلام قائم يصلي ، أشبه الناس به صاحبكم ، يعني نفسه ، فحانت الصلاة . فأممتهم فلما فرغت من الصلاة قال قائل : يا محمد هذا مالك صاحب النار ، فسلم عليه فالتفت إليه فبدأني بالسلام ) .
فائدة من الحديث رقم (80) :
قوله في الحديث : ( فأممتهم ) فيه – والله أعلم – إشارة إلى تولي هذه الأمة أمر القيادة البشرية وخلافتها بني إسرائيل ومن قبلهم في ذلك . .
باب : انتهاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى سدرة المنتهى في الإسراء.(1/35)
[81] عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهي به إلى سدرة المنتهى ، وهي في السماء السادسة ، إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض فيقبض منها ، وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها فيقبض منها، قال : } إذ يغشى السدرة ما يغشى { قال : فَراش من ذهب ، قال : فأعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً : أعطي الصلوات الخمس وأعطي خواتيم سورة البقرة ، وغفر لمن لم يشرك بالله من أمته شيئاً المُقْحِمَات" .
فائدة من الحديث رقم (81) :
قوله في الحديث : ( وهي في السماء السادسة ) . سبق في حديث أنس (76) ما يدل على أنها في السماء السابعة وعليه الأكثرون ، ويمكن أن تكون في السماء السادسة وتمتد على ما فوق السماء السابعة لطولها وعظمها – والله أعلم – والمقحمات هي الذنوب العظام التي تُهلك أصحابها وتقحمهم النار.
باب : في رؤية الله جل جلاله.(1/36)
[84] عن مسروق قال : كنت متكئاً عند عائشة فقالت : يا أبا عائشة ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله الفرية ، قلت : ما هن ؟ قالت : من زعم أن محمداً رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية ، قال : وكنت متكئاً فجلست فقلت : يا أم المؤمنين أنظريني ولا تعجليني ، ألم يقل الله تعالى : } ولقد رآه بالأفق المبين { } ولقد رآه نزلة أخرى { ؟ فقالت عائشة : أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : إنما هو جبريل عليه السلام لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين ، رأيته منهبطاً من السماء ساداً عظم خلقه ما بين السماء إلى الأرض فقالت : أولم تسمع أن الله يقول : } لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير { أو لم تسمع أن الله يقول : } وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً { إلى قوله : } عليُّ حكيم { ؟ قالت : ومن زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتم شيئاً من كتاب الله فقد أعظم على الله الفرية ، والله يقول : } يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته { قالت : ومن زعم أنه يخبر بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية ، والله يقول } قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله { وزاد داود قالت : ولو كان محمد صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً مما أنزل عليه لكتم هذه الآية { وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه } .
من فوائد الحديث رقم (84) :(1/37)
اتفق أهل السنة على رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة ، لدلالة القرآن والأحاديث المتواترة على ذلك ، وسيأتي طرف منها واختلفوا في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه ليلة المعراج ؟ فذهب الجمهور من أئمة المحدثين والفقهاء والمتكلمين إلى أنه لم يره بعينه ، وهو مذهب عائشة كما صرحت هنا ، وابن مسعود ، ونقل عن أبي ذر وأبي هريرة .
ودليلهم : حديث عائشة في الباب وحديث أبي ذر ، وقوله عليه الصلاة والسلام في حديث الدجال : ( إنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا ) إلى غير ذلك من النصوص وهذا القول هو الصحيح ، ونقل عن ابن عباس القول بالرؤية ، وأن الله تعالى اختص موسى بالكلام وإبراهيم بالخلة ، ومحمداً بالرؤية ، وهكذا روي عن أبي ذر وأبي هريرة والحسن وأحمد بن حنبل ، وقولهم هذا - والله أعلم – محمول على الرؤية القلبية لا على الرؤية البصرية وقد روى المصنف عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أنه قال : رآه بقلبه ، وقال : مرة رآه بفؤاده مرتين ، وهذه المسألة اجتهادية ، وليست من قواطع الاعتقاد ، والاختلاف فيها لا يضر بحمد الله .
أما رؤيته في المنام فقد جاء فيها حديث جيد رواه أهل السنة : ( إني نعست فاستثقلت نوماً فرأيت ربي في أحسن صورة . . . ) وصح عن جماعة من السلف أنهم رأوا ربهم في المنام منهم : أبو بكر المروذي صاحب أحمد ، ونجم الشيرازي ، وأبو الفرج البعلي وأحمد بن يحيى الكرمي ، وذكرهم أبو زيد في المدخل 2/653 .
وذكر الشيخ علي جريشة أنه رآه في المنام في عدد من كتبه ولعل هذا مما يتعذر حصره ، وفيه اختلاف – والله أعلم .
[85] عن أبي موسى رضي الله عنه قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات فقال : ( إن الله لا ينام ، ولا ينبغي له أن ينام ، يخفض القسط ويرفعه ، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار ، وعمل النهار قبل عمل الليل ، حجابه النور (وفي رواية : النار) لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه ) .(1/38)
من فوائد الحديث رقم (85) :
1- قوله في الحديث : ( وهي في السماء السادسة ) . سبق في حديث أنس (76) ما يدل على أنها في السماء السابعة وعليه الأكثرون ، ويمكن أن تكون في السماء السادسة وتمتد على ما فوق السماء السابعة لطولها وعظمها – والله أعلم – والمقحمات هي الذنوب العظام التي تُهلك أصحابها وتقحمهم النار.
– قوله في الحديث : ( يخفض القسط ) القسط هو الميزان أوالعدل والمعنى -والله أعلم- يخفض ميزان من يشاء ويرفع من يشاء ، ويغني من يشاء ويفقر من يشاء ـ والله أعلم بمراد نبيه صلى الله عليه وسلم ـ ويعز ويذل ويحيي ويميت وهذا له تعلق بما قبله فإنه كل يوم هو في شأن فكيف يتصور في حقه النوم ؟
2 – قوله في الحديث : ( إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام ) ذلك أن الله سبحانه الحي القيوم ، لا تأخذه سنة ولا نوم والنوم أخو الموت وهو عجز وضعف يلحق الإنسان يغيب معه إدراكه ، وهو في الإنسان كمال إذا كان في حد الاعتدال ، لما في الإنسان من الافتقار والضعف الجبلي ، أما في حق الله تعالى فنقص يتزه الله عنه ، فكأنه بين في الحديث أن الله لا يقع منه النوم وأنه لا يجوز في حق الله تعالى .
3 – قوله في الحديث : ( يرفع إليه عمل الليل ) أي أن أعمال العباد ترفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل الليل .(1/39)
4 – قوله في الحديث : ( ما انتهى إليه بصره من خلقه ) هذا هو النور الذي رآه النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي ذر ( رأيت نوراً ) أي أنه رأى الحجاب الذي يحجب بصر العباد عن ربهم وليس يحجب بصر الله عن عباده ، ورواية النار محمولة على معنى النور فإنها نار صافية وضيئة تسمى ناراً ونوراً كما تسمى الشمس ناراً ونوراً بخلاف النار المظلمة كنار جهنم فتلك لا تسمى نوراً ، والسبحات هو النور والجلال والبهاء كما فسره الخليل وأبو عبيد والخطابي وغيرهم من أئمة اللغة ، والمعنى أنه لو كشف الحجاب لأحرقت سبحات وجهه خلقه كله لأن بصره مدرك جميع خلقه ، أما السبحات فمحجوبة بالنور . والله أعلم .(1/40)
[86] عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن أناساً قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ؟ ) قالوا : لا يا رسول الله . قال : ( هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب ؟ ) قالوا : لا يا رسول الله . قال : ( إنكم ترونه كذلك ، يجمع الله الناس يوم القيامة فيقول : من كان يعبد شيئاً فليتبعه ، فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس ويتبع من كان يعبد القمر القمر ، ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت ، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها ، فيأتيهم الله تبارك وتعالى في صورة غير صورته التي يعرفون . فيقول : أنا ربكم ، فيقولون : نعوذ بالله منك ، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فإذا جاء ربنا عرفناه ، فيأتيهم الله تعالى في صورته التي يعرفون ، فيقول : أنا ربكم . فيقولون : أنت ربنا . فيتبعونه ، ويضرب الصراط بين ظهري جهنم ، فأكون أنا وأمتي أول من يجيز ، ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل ، ودعوى الرسل يومئذ : اللهم سلم سلم. وفي جهنم كلاليب مثل شوك السعدان هل رأيتم السعدان ؟ قالوا: نعم يا رسول الله . قال : فإنها مثل شوك السعدان غير أنه لا يعلم ما قدر عظمها إلا الله ، تخطف الناس بأعمالهم . فمنهم المؤمن بقي بعمله . ومنهم المجازى حتى ينجّى ، حتى إذا فرغ الله من القضاء بين العباد ، وأراد أن يخرج برحمته من أراد من أهل النار أمر الملائكة أن يخرجوا من النار من كان لا يشرك بالله شيئا ممن أراد الله تعالى أن يرحمه ، ممن يقول : لا إله إلا الله فيعرفونهم في النار ، يعرفونهم بأثر السجود ، تأكل النار من ابن آدم ، إلا أثر السجود ، حرم الله على النار أن تأكل أثر السجود ، فيخرجون من النار وقد امتحشوا فيصب عليهم ماء الحياة فينبتون منه كما تنبت الحبة في حميل السيل . ثم يفرغ الله تعالى من القضاء بين العباد ، ويبقى رجل مقبل بوجهه على النار ، وهو آخر أهل(1/41)
الجنة دخولاً الجنة ، فيقول : أي رب اصرف وجهي عن النار فإنه قد قشبني ريحها وأحرقني ذكاؤها فيدعو الله ما شاء الله أن يدعوه ثم يقول الله تبارك وتعالى : هل عسيت إن فعلت ذلك بك أن تسأل غيره ؟
فيقول : لا أسألك غيره ، ويعطي ربه من عهود ومواثيق ما شاء الله فيصرف الله وجهه عن النار ، فإذا أقبل على الجنة ورآها ، سكت ما شاء الله أن يسكت ثم يقول : أي رب قدمني إلى باب الجنة ، فيقول الله له : أليس قد أعطيت عهودك ومواثيقك لا تسألني غير الذي أعطيتك ويلك يا ابن آدم ما أغدرك فيقول : أي رب ويدعو الله حتى يقول له : فهل عسيت إن أعطيتك ذلك أن تسأل غيره ؟
فيقول: لا وعزتك ، فيعطي ربه ما شاء الله من عهود ومواثيق فيقدمه إلى باب الجنة ، فإذا قام على باب الجنة انفهقت له الجنة فرأى ما فيها من الخير والسرور ، فيسكت ما شاء الله أن يسكت ، ثم يقول : أي رب أدخلني الجنة ، فيقول الله له : ألست قد أعطيت عهودك ومواثيقك أن لا تسأل غير ما أعطيت ؟ ويلك يا ابن آدم ما أغدرك فيقول : أي رب لا أكون أشقى خلقك ، فلا يزال يدعو الله حتى يضحك الله تبارك وتعالى منه ، فإذا ضحك الله منه ، قال : ادخل الجنة ، فإذا دخلها قال الله له : تمنه ، فيسأل ربه ويتمنى ، حتى إن الله ليذكره من كذا وكذا ، حتى إذا انقطعت به الأماني قال الله تعالى : ذلك لك ومثله معه ) قال عطاء بن يزيد : وأبو سعيد الخدري مع أبي هريرة لا يرد عليه من حديثه شيئاً ، حتى إذا حدث أبو هريرة أن الله عز وجل قال لذلك الرجل : ( ومثله معه ) قال أبو سعيد : ( وعشرة أمثاله معه) يا أبا هريرة ، قال أبو هريرة : ما حفظت إلا قوله : ( ذلك لك ، ومثله معه ) قال أبو سعيد : أشهد أني حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله : ( ذلك لك ، وعشرة أمثاله ) قال أبو هريرة : ( وذلك الرجل آخر أهل الجنة دخولاً الجنة ).
من فوائد الحديث رقم (86) :(1/42)
1 – قوله في الحديث : ( غير صورته التي يعرفون ) المقصود بما لم يحيطوا بعلمه من كمالاته سبحانه وبحمده وهو أعلم .
2 – قوله في الحديث : ( أن تأكل أثر السجود ) فيه فضيلة السجود فإن أعضاء السجود هي الأكثر عدداً من بين أعضاء العبادة كالقيام والركوع والقعود .
3 – فيه إثبات رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة وهو مذهب السلف وجمهور الأمة خلافاً للمعتزلة والخوارج وبعض المرجئة . وقد صنف فيه الإمام الدارقطني جزءاً جمع فيه أحاديث عن عشرين صحابياً وأوصلها ابن القيم إلى ثلاثين حديثاً ، وأما الآثار في ذلك عن الصحابة فأكثر من أن تحصر ، ويكفي فيها دلالة القرآن كما سبق } كلا إنهم عن ربهم يومئذٍ لمحجوبون {[المطففين:15] ولذلك كان الراجح أن الكفار لا يرون ربهم يوم القيامة وهو مذهب الجمهور وإن كانت المسألة محل خلاف .
والرؤية تكون بالعين لأن هذا هو المعقول المفهوم من إثباتها ، وفي الحديث إثبات الصورة لله تعالى كما نص عليه الإمام أحمد وابن قتيبة وأئمة السلف وخالف فيها الإمام ابن خزيمة رحمهم الله أجمعين .
4- وفي الحديث سعة رحمة الله عز وجل .
باب : خروج الموحدين من النار
[87] عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أما أهل النار الذين هم أهلها ، فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون ، ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم أو قال : بخطاياهم ، فأماتهم إماتة ، حتى إذا كانوا فحماً أُذن بالشفاعة فجيء بهم ضبائر ضبائر فبثوا على أنهار الجنة ، ثم قيل : يا أهل الجنة أفيضوا عليهم ، فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل ) فقال رجل من القوم : كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان بالبادية .
من فوائد الحديث رقم (87) :(1/43)
– ذكر صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أهل النار الكافرين المخلدين ، وأنهم لا يموتون فيها ولا يحييون وهذا مطابق لقوله تعالى : } ويتجنبها الأشقى . الذي يصلى النار الكبرى . ثم لا يموت فيها ولا يحيا {[الأعلى:11-13] وقول الله تعالى: } إنه من يأت ربه مجرماً فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيا{[طه:74] ، ثم ذكر عصاة الموحدين الذين أصابتهم النار بذنوبهم ، قال : فأماتهم الله إماتة وقد ذكر بعض الشرَّاح فيها معنيين : أحدهما : أنهم يموتون موتاً حقيقياً في النار حتى لا يحسون بالنار بعد أن عذبهم الله فيها ما شاء ، ثم يخرجون منها موتى فيصب عليهم ماء الحياة ، وهذا الذي رجحه النووي . والثاني : أن الإماتة ليست على الحقيقة ، ولكن يجعلهم الله في حال كالموت ، يغيب معها أحساسهم بالآلام بلطف منه تعالى كما سمى الله النوم وفاة ، ولعل مما يرجح المعنى الثاني قوله تعالى : } وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم { [البقرة :28] وقوله : } قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين {[غافر:11] .
قوله (ضبائر ضبائر) الضبائر جمع ضبارة ، وهي جماعات الناس ، يقال : رأيتهم ضبائر أي : جماعات متفرقة .(1/44)
[89] عن أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يسأل عن الورود فقال : ( نجيء نحن يوم القيامة عن كذا وكذا انظر أي ذلك فوق الناس . قال فتدعى الأمم بأوثانها وما كانت تعبد ، الأول فالأول ، ثم يأتينا ربنا بعد ذلك فيقول : من تنظرون ؟ فيقولون : ننظر ربنا ، فيقول : أنا ربكم ، فيقولون : حتى ننظر إليك ، فيتجلى لهم يضحك ، قال : فينطلق بهم ويتبعونه ، ويعطى كل إنسان منهم منافق ، أو مؤمن نوراً ، ثم يتبعونه . وعلى جسر جهنم كلاليب وحسك تأخذ من شاء الله ثم يطفأ نور المنافقين ، ثم ينجو المؤمنون ، فتنجو أول زمرة وجوههم كالقمر ليلة البدر ، سبعون ألفاً لا يحاسبون ، ثم الذين يلونهم كأضوأ نجم في السماء ، ثم كذلك ثم تحل الشفاعة ، ويشفعون حتى يخرج من النار من قال لا إله إلا الله ، وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة ، فيجعلون بفناء الجنة ويجعل أهل الجنة يرشون عليهم الماء حتى ينبتوا نبات الشيء في السيل ، ويذهب حراقه ، ثم يسأل حتى تجعل له الدنيا وعشرة أمثالها معها .
من فوائد الحديث رقم (89) :
1– قوله في الحديث : ( فيتجلى لهم يضحك ) في هذا الحديث وحديث أنس الذي قبله وحديث أبي هريرة رقم (86) وغيرها إثبات صفات الضحك للرب تعالى على ما يليق به سبحانه .
2 – قوله في الحديث : ( سبعون ألفاً لا يحاسبون ) . هؤلاء السبعون ألفاً ورد ذكر صفتهم في حديث عمران بن حصين وابن عباس وأبي هريرة وغيرهم وأنهم الذي لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون ، وقد جاء في مسند أحمد وغيره من حديث ثوبان أن مع كل ألف سبعون ألفاً وسنده صحيح ، ونحوه من حديث أبي أمامة الباهلي وزاد : (وثلاث حثيات من حثيات ربنا) ، رواه الطبراني وابن أبي عاصم في السنة وإسناده جيد ، وله شواهد سرد ابن كثير بعضها عند تفسير قوله تعالى : } كنتم خير أمة أخرجت للناس { [آل عمران : 110 ] .(1/45)
3 – قوله في الحديث : ( ما يزن شعيرة ) هذا صريح في أن الإيمان يزيد وينقص وهذا مذهب عامة أهل السنة ذكره القاضي عياض والنووي وابن تيمية وابن حجر وغيرهم ، وقد نقل الإمام محمد بن نصر المروزي ، في كتاب (تعظيم قدر الصلاة) ذلك عن جماعة من الأئمة ، وكذلك عبد الرزاق في مصنفه ، وروى اللالكائي بسند صحيح عن البخاري قال : لقيت أ كثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار فما رأيت أحداً منهم يختلف في أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص . وفيه دليل على أن مجرد النطق بالشهادة ، وإن كان علامة على الإسلام إلا أنه لابد معه من العمل ولهذا تجده هنا يضيف إلى شرط الشهادة أن يكون في قلب صاحبها مقدار من الخير ولو بوزن شعيرة ، وإلا فالمنافقون كانوا يقولونها وهم في الدرك الأسفل من النار ، وهم ممن حبسه القرآن ووجب عليه الخلود ، ولهذا لا يكاد يذكر الإيمان في القرآن إلا وذكر معه العمل الصالح ، فالعمل ثمرة حتمية ضرورية لكل من وجد عنده شيء من الإيمان إلا أن يكون عاجزاً عن ذلك عجزاً يعذر به والله أعلم .
أما قوله في أول الحديث (نجيء يوم القيامة عن كذا وكذا انظر أي ذلك فوق الناس) قال الحافظ عبد الحق الأشبيلي في (الجمع بين الصحيحين) هذا الذي وقع في صحيح مسلم تخليط من أحد الناسخين والحديث معروفٌ وهو (نجيء يوم القيامة على تلٍ مشرفين على الخلائق) وقال القاضي عياض : هذه صورة الحديث في جميع النسخ وفيه تغيير كثير وتصحيف وصوابه : (نجيء يوم القيامة على كومٍ) .(1/46)
[90] عن يزيد الفقير قال : " كنت قد شغفني رأي من رأي الخوارج فخرجنا في عصابة ذوي عدد نريد أن نحج ثم نخرج على الناس . قال فمررنا على المدينة فإذا جابر بن عبد الله يحدث القوم ، جالس إلى سارية ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فإذا هو قد ذكر الجهنميين قال : فقلت له : يا صاحب رسول الله ما هذا الذي تحدثون ؟ والله يقول : } إنك من تدخل النار فقد أخزيته { و } كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها { فما هذا الذي تقولون ؟ قال : فقال أتقرأ القرآن ؟ قلت : نعم . قال : فهل سمعت بمقام محمد عليه السلام يعني الذي يبعثه الله فيه ؟ قلت : نعم . قال : فإنه مقام محمد صلى الله عليه وسلم المحمود الذي يخرج الله به من يخرج ، قال : ثم نعت وضع الصراط ومر الناس عليه . قال : وأخاف ألاَّ أكون أحفظ ذاك ، قال : غير أنه قد زعم أن قوماً يخرجون من النار بعد أن يكونوا فيها . قال : يعني فيخرجون كأنهم عيدان السماسم . قال : فيدخلون نهرا من أنهار الجنة ، فيغتسلون فيه فيخرجون كأنهم القراطيس ، فرجعنا قلنا : ويحكم أترون الشيخ يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فرجعنا . فلا والله ما خرج منا غير رجل واحد . أو كما قال أبو نعيم .
فائدة من الحديث رقم (90) :(1/47)
في هذا الحديث أن أصحاب البدع إنما يتمسكون ببعض ظواهر النصوص وعموماتها ويغفلون عن ضم بعضها إلى بعض ، والواجب أن يعمل النص في مداره شريطة أن لا يبطل نصاً آخر أو يجور عليه ؛ لئلا تتعارض النصوص وتتضارب } آمنا به كل من عند ربنا { [آل عمران : 7] ، فمثلاً عموم هاتين الآيتين المذكورتين في الحديث يؤخذ به بالقدر الذي لا يبطل مدلول قوله تعالى : } ولا يشفعون إلا لمن ارتضى { [الأنبياء :28] وقوله تعالى : } من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه { [البقرة:255] ونحوهما ، ولا يبطل الأحاديث المتواترة في الشفاعة كما جاء في شفاعته صلى الله عليه وسلم لفصل القضاء ودخول أهل الجنة الجنةَ ، ورفع منازلهم فيها ، وشفاعته في بعض من استحقوا النار ألا يدخلوها أو يخفف عنهم كما في خبر أبي طالب ، أو بعض من دخلوها أن يخرجوا منها والله أعلم ، وقد ذكر هذه الأقسام وغيرها الأئمة : كالقاضي عياض وابن تيمية وابن القيم وابن حجر وابن أبي العز الحنفي وسواهم .
[91] عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( يخرج من النار أربعة ، فيعرضون على الله تعالى ، فيلتفت أحدهم فيقول : أي رب إذ أخرجتني منها فلا تعدني فيها ، فينجيه الله منها ) .
من فوائد الحديث رقم (91) :
1– في هذا الحديث والأحاديث قبله والحديثين بعده رد على طائفتي الخوارج والمرجئة معاً ، أما الخوارج ففي الأحاديث دليل صريح على أن المعاصي دون الشرك لا تخرج من الملة ، وأما المرجئة ففيه تعذيب بعض هذه الأمة بمعاصيها ووقوع ذلك قطعاً ومعلوم أن المشرك لا يدخل الجنة كما أن كامل الإيمان لا يعذب في النار . والله أعلم .
2 – وفيها إثبات الشفاعة للمؤمنين والشهداء والصالحين في إخراج بعض العصاة من النار ودخولهم الجنة ، وأعظم من ذلك للأنبياء ، وقبله وبعده وفوقه رحمة أرحم الراحمين .
باب :الشفاعة العظمى لرسول الله – صلى الله عليه وسلم .(1/48)
[92] عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : " أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً بلحم ، فرفع إليه الذراع ، وكانت تعجبه . فنهس منها نهسة فقال : " أنا سيد الناس يوم القيامة ، وهل تدرون بم ذاك ؟ يجمع الله يوم القيامة الأولين والآخرين في صعيد واحد ، فيسمعهم الداعي ، وينفذهم البصر ، وتدنو الشمس ، فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ، وما لا يحتملون ، فيقول بعض الناس لبعض : ألا ترون ما أنتم فيه ؟ ألا ترون ما قد بلغكم ؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم ؟ فيقول بعض الناس لبعض : ائتوا آدم ، فيأتون آدم ، فيقولون: يا آدم أنت أبو البشر ، خلقك الله بيده ، ونفخ فيك من روحه ، وأمر الملائكة فسجدوا لك ، اشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى إلى ما نحن فيه ، ألا ترى إلى ما قد بلغنا ؟ فيقول آدم: إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله ، وإنه نهاني عن الشجرة فعصيته ، نفسي نفسي ، اذهبوا إلى غيري ، اذهبوا إلى نوح ، فيأتون نوحاً عليه السلام فيقولون : يا نوح أنت أول الرسل إلى الأرض ، وسماك الله عبداً شكوراً اشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول لهم : إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله وإنه قد كانت لي دعوة دعوت بها على قومي ، نفسي نفسي ، اذهبوا إلى إبراهيم صلى الله عليه وسلم ، فيأتون إبراهيم فيقولون : أنت نبي الله تعالى وخليله من أهل الأرض ، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه ، ألا ترى إلى ما قد بلغنا ؟ فيقول لهم إبراهيم: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ، ولا يغضب بعده مثله ، وذكر كذباته ، نفسي نفسي . اذهبوا إلى غيري ، اذهبوا إلى موسى ، فيأتون موسى عليه السلام ، فيقولون يا موسى أنت رسول الله فضلك الله برسالاته وبتكليمه على الناس ، اشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى إلى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول لهم موسى(1/49)
: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله ، وإني قتلت نفساً لم أومر بقتلها ، نفسي نفسي ، اذهبوا إلى عيسى ، فيأتون عيسى عليه السلام ، فيقولون : يا عيسى أنت رسول الله ، وكلمت الناس في المهد (وكلمة منه ألقاها إلى مريم وروح منه) فاشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول لهم عيسى : إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله . ولم يذكر له ذنباً ، نفسي نفسي . اذهبوا إلى غيري ، اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، فيأتوني ، فيقولون : يا محمد أنت رسول الله وخاتم الأنبياء ، وغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، اشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فأنطلق فآتي تحت العرش ، فأقع ساجداً لربي ، ثم يفتح الله تعالى علي ويلهمني من محامده وحسن الثناء عليه شيئاً لم يفتحه لأحد قبلي ، ثم يقول : يا محمد ارفع رأسك ، سل تعطه ، اشفع تشفع . فأرفع رأسي فأقول : يا رب أمتي أمتي ! فيقال : يا محمد أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة ، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب ، والذي نفس محمد بيده إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة لكما بين مكة وهجر ، أو كما بين مكة وبصرى " .
من فوائد الحديث رقم (92):
1 – الكلام على الطعام خاصة في الذكر والعلم لأن هذا خلاف شأن النهم الأكول.
2 – وفيه أن آدم عليه السلام هو أول الأنبياء .
3 – وفيه إثبات صفة الغضب لله – عز وجل – على ما يليق بجلاله وعظمته .
4 – وفيه أن نوح عليه السلام أول الرسل .
5 – علو منزلة الشكر .
6 – وفيه بيان عذر نوح عليه السلام في ترك الشفاعة وهو دعوته التي دعا بها على قومه ، علماً أنه مكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً وفي هذا إشارة إلى منزلة الصبر .
7 – وفيه التنويه بمنزلة الرسول صلى الله عليه وسلم حيث تنتهي النوبة إليه .(1/50)
8 - وفيه إثبات الشفاعة لفصل القضاء ، والشفاعة في أهل الجنة أن يدخلوها .
9 – فضيلة السجود ، وأن الثناء من أحسن الدعاء كما قال أمية :
أ ذكر حاجتي أم قد كفاني حياؤك إن شيمتك الحياءُ
إذا أثنى عليك المرء يوماً كفاه من تعرضه الثناء
10ـ وفيه سعة أبواب الجنة .
باب قوله النبي صلى الله عليه وسلم " لكل نبي دعوة مستجابة "
[95] عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لكل نبي دعوة مستجابة ، فتعجل كل نبي دعوته ، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة ، فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً ) .
فائدة من الحديث رقم (95) :
1 – المعنى – والله أعلم – أن الله تعالى أعطى كل نبي دعوة يجزم معها بالقبول والإجابة ، فتعجل الأنبياء هذه الدعوات في الدنيا ، وأرجأ النبي صلى الله عليه وسلم دعوته تلك ليوم القيامة ، فهي المقام المحمود والذي يحمده عليه الأولون والآخرون ، ويدخل فيه جميع شفاعاته في ذلك اليوم العظيم ،من الشفاعة لفصل القضاء إلى الشفاعة في خروج عصاة الموحدين من النار ، وهذا ما اختاره جماعة من المحققين كالقاضي عياض وابن القيم وغيرهما .
وهذه الدعوة ليس هي الوحيدة التي أعطي النبي صلى الله عليه وسلم إجابتها قبل أن يسألها ، فقد صح الخبر بدعوات أخر كما في حديث أبي بن كعب عند مسلم ، وحديث أبي هريرة عنده أيضاً ، وفيها : ( اللهم اغفر لأمتي اللهم اغفر لأمتي ، وأخرت الثالثة ليوم يرغب إليَّ الخلق كلهم ) والله أعلم .
باب : في قوله عز وجل : ( وأنذر عشيرتك الأقربين ) :(1/51)
1[98] عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : " لما أنزلت هذه الآية } وأنذر عشيرتك الأقربين { دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً فاجتمعوا فعم وخص ، فقال: (يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني عبدالمطلب أنقذوا أنفسكم من النار ، يا فاطمة أنقذي نفسك من النار ، فإني لا أملك لكم من الله شيئاً ، غير أن لكم رحماً سأبلها ببلالها ) .
فائدة من الحديث رقم (98) :
في هذا الحديث وغيره مما في معناه أن مسؤولية الداعية والعالم عن أهله وقرابته مضاعفة ، فهم أحق ببره ومعروفه ، وكما أن الصلة المادية بالنفقة ، أو الصدقة ، أو الزكاة تنبغي لمستحقيها منهم قبل غيرهم ، فإن الصلة المعنوية بالتوجيه والتعليم والدعوة هي أهم ألزم وأعظم نفعاً وأشد وقعاً وأبعد أثراً ، ومع أن الآيات المكية منذ أول البعثة كانت صريحة في أنه كان للعالمين نذيراً كما في سورة الفرقان و" ص " و " ن " وغيرها إلا أن عشيرته الأقربين ورهطه الأدنين وذوي قرباه كان لهم من ذلك ما ليس لغيرهم كما في سورة الشعراء ، والأحزاب ، والشورى ، ولذلك خصهم صلى الله عليه وسلم في هذه الخطبة ، وحذرهم من أن يركنوا إلى صلة القربى فيتركوا العمل الصالح الذي هو حسب الإنسان يوم القيامة ونسبه، وهذا يتجلى ضلاله عند المفرطين المغترين بشرف القبيلة ، أو قداسة الموطن ، أوقرابة الجنس ، وإنما شرف الإنسان عمله .
باب : ما نفع النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبا طالب
[99] عن العباس بن عبد المطلب أنه قال : يا رسول الله هل نفعت أبا طالب بشيء فإنه كان يحوطك ويغضب لك ؟ قال : ( نعم هو في ضحضاح من نار ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار ) .
من فوائد الحديث رقم (99) :(1/52)
1 – انظر ما سبق تعليقه على حديث الشفاعة ، وانظر أيضاً ما سبق تعليقه على حديث حكيم بن حزام ، وفي حديث أبي سعيد في أصل مسلم التصريح بأن ذلك كان بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي عليه جمهور العلماء ، وذهب عياض والقرطبي إلى أن شفاعته له كانت بلسان الحال لا بلسان المقال فكأنه لما بالغ بالذب عنه جوزي عليه بالتخفيف ، وسماه شفاعة لكونه بسببه ، وانظر في الجمع بين هذا الحديث وقوله تعالى} فما تنفعهم شفاعة الشافعين {[المدثر : 48]الفتاوى (1/118)، الفتح (17/431)،
إكمال المعلم وغيرها ، وخلاصة ما ذكره شيخ الإسلام : " أن الشفاعة المنفية في الآية هي الشفاعة المعروفة عند الناس عند الإطلاق وهي أن يشفع الشفيع إلى غيره ابتداء فيقبل شفاعته ، فأما إذا أذن له في أن يشفع فشفع لم يكن مستقلاً بالشفاعة بل يكون مطيعاً له أي تابعاً له في الشفاعة وتكون شفاعته مقبولة ويكون الأمر كله للآمر المسؤول" أ هـ . وقال القرطبي في ( المفهم 1/457) : " المنفعة المنفية في الآية غير المنفعة المثبتة في الحديث، فالمراد بها في الآية الإخراج من النار وفي الحديث المنفعة التخفيف" والله أعلم.
2 -فيه دليل على أن الدرك الأسفل ليس خاصاً بالمنافقين بل يشركهم معهم فيه غيرهم .
[100] عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( أهون أهل النار عذابا أبو طالب ، وهو منتعل بنعلين يغلي منهما دماغه ) .
من فوائد الحديث رقم (100):(1/53)
1 – المقصود والله أعلم أنه أهون أهل النار الذين هم أهلها من الكافرين الذين وجب عليهم الخلود ، فلا يدخل في ذلك أهل التوحيد من المعذبين ، فإن أشدهم عذاباً أهون من أبي طالب وبينهما من البون ما الله به عليم ، وقد وردت نصوص في أشد أهل النار عذاباً من الكافرين كقوله تعالى : } أدخلوا آل فرعون أشد العذاب {[غافر:46] ونصوص أخرى في أشد أهلها عذاباً من الموحدين كقوله صلى الله عليه وسلم : ( ... إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يشبهون بخلق الله ) رواه الشيخان عن عائشة .
باب قول النبي صلى الله عليه وسلم : (يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفاً بغير حساب)(1/54)
[101] عن حصين بن عبد الرحمن قال : كنت عند سعيد بن جبير فقال : أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة ؟ قلت : أنا. ثم قلت : أما إني لم أكن في صلاة ولكني لدغت قال : فماذا صنعت ؟ قلت : استرقيت قال : فما حملك على ذلك ؟ قلت : حديث حدثناه الشعبي ، قال : وما حدثكم الشعبي ؟ قلت : حدثنا عن بريدة بن حصيب الأسلمي أنه قال : لا رقية إلا من عين أو حمة ، فقال : قد أحسن من انتهى إلى ما سمع ، ولكن حدثنا ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( عرضت علي الأمم ، فرأيت النبي ومعه الرهيط ، والنبي ومعه الرجل والرجلان والنبي ليس معه أحد ، إذ رفع لي سواد عظيم فظننت أنهم أمتي فقيل لي : هذا موسى وقومه ، ولكن انظر إلى الأفق ، فنظرت فإذا سواد عظيم فقيل لي : انظر إلى الأفق الآخر فنظرت ، فإذا سواد عظيم فقيل لي : هذه أمتك ، ومنهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب ) ثم نهض . فدخل منزله . فخاض الناس في أولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب ، فقال بعضهم : فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال بعضهم : فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام ولم يشركوا بالله شيئاً ، وذكروا أشياء فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : (ما الذي تخوضون فيه ؟) فأخبروه ، فقال : ( هم الذين لا يرقون ، ولا يسترقون ، ولا يتطيرون ، وعلى ربهم يتوكلون) فقام عكاشة بن محصن . فقال : ادع الله أن يجعلني منهم ، فقال : ( أنت منهم ) ثم قام رجل آخر فقال : ادع الله أن يجعلني منهم ، فقال : (سبقك بها عكاشة ) .
من فوائد الحديث رقم (101):
1 – انظر في خبر السبعين ألفاً ما سبق تعليقه على حديث جابر الماضي في المختصر برقم (89) .(1/55)
2 – فيه فضيلة عكاشة بن محصن الأسدي وهو بدري من السابقين ، وأما الآخر فقيل كان منافقاً وهذا ضعيف ؛ لأنه جاء وصفه في بعض طرق الحديث بأنه من الأنصار ، ولأن المنافق لا تتشوف نفسه لمثل هذا ، ولعل رد النبي صلى الله عليه وسلم له لئلا يتسلسل الأمر ، وقد ذكر الخطيب البغدادي في " الأسماء المبهمة " احتمالاً أن الرجل هو سعد بن عبادة .
3- وفيه فضيلة المبادرة والمسارعة واغتنام الفرص في الخيرات .
4- أخذ بعضهم من الحديث كراهية التداوي ، والصواب جوازه من غير كراهة ،بل ذهب جمهور السلف والأئمة إلى استحبابه ما لم يكن بما يخالف الشرع ، وقد وردت فيه أحاديث كثيرة ، وهو من جملة الأسباب المأمور بها ، وحينئذ فلابد من حمل الحديث على ضرب من التأويل كالقول بأن الممدوحين تركوا هذين السببين " الكي والرقية " خاصة أو تركوها لعدم الحاجة الماسة إليها ونحو ذلك والله أعلم .
5- ومعنى الحمة : لدغة ذوات السموم ، وقيل السم نفسه .
باب في قوله عز وجل لآدم : اخرج بعث النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين(1/56)
[103] عن أبي سعيد رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يقول الله عز وجل : يا آدم ، فيقول : لبيك وسعديك . والخير في يديك قال : يقول : أخرج بعث النار ، قال : وما بعث النار ؟ قال : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين ، قال : فذاك حين يشيب الصغير ، }وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد{ قال : فاشتد ذلك عليهم . قالوا : يا رسول الله وأينا ذلك الرجل ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أبشروا فإن من يأجوج ومأجوج ألفاً ومنكم رجل ) قال : ثم قال : ( والذي نفس محمد بيده إني لأطمع أن تكونوا ربع أهل الجنة) فحمدنا الله وكبرنا ، ثم قال : (والذي نفسي بيده إني لأطمع أن تكونوا ثلث أهل الجنة ) فحمدنا الله وكبرنا ، ثم قال : ( والذي نفسي بيده إني لأطمع أن تكونوا شطر أهل الجنة ، إن مثلكم في الأمم كمثل الشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود أو كالرقمة في ذراع الحمار ) .
من فوائد الحديث رقم (103) :
1 – فيه فضيلة ظاهرة لهذه الأمة ، وإشارة إلى قلة عددها بالنسبة إلى الأمم الأخرى ، ومع ذلك فهم نصف أهل الجنة كما ورد مجزوماً به في غير هذه الأحاديث ، بل هم الثلثان .
2 – وفيه التكبير عند سماع ما يسره ومثله الحمد .
3 – وفيه أن يأجوج ومأجوج من ذرية آدم من البشر وهم من سكان الأرض ومن المكلفين وهو عدد كبير ، وظاهر الحديث أنهم الكثرة الكاثرة من الأمم الكافرة فإنه جعلهم في مقابل هذه الأمة ، وقد يكون أطلق ذلك تغليباً والمراد بعضهم ، وانظر ما سيأتي في كتاب الفتن إن شاء الله تعالى .
باب : لا يقبل الله صلاة بغيرطهور
[104] عن مصعب بن سعد قال : دخل عبد الله بن عمر على ابن عامر يعوده وهو مريض فقال : ألا تدعو الله لي يا ابن عمر ؟ قال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول ) وكنت على البصرة .(1/57)
من فوائد الحديث رقم (104):
1– فيه دليل على شرطية الطهارة من الأحداث للصلاة ، وهو اتفاق ، ومثله حديث أبي هريرة المتفق عليه ، وهو شاهد حديث الباب ، ولفظه : ( لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ ) وهذا اللفظ يدل على أن الوضوء إنما يكون من الحدث كالبول والغائط ونحوهما ، ومثله الغسل ، وعلى هذا فلا وضوء واجياً إلا من حدثٍ ، والوضوء من النوم المستغرق لأنه مظنة الحدث كما في حديث ( العين وكاء السه ) ، والمظنة تقوم مقام المئنة ، والوضوء من مس الذكر محمول على الاستحباب ، أو على مسه بشهوة لأنه مظنة الحدث أيضاً ، والوضوء من لحم الإبل محمول على الاستحباب كما هو مذهب الجماهير ، ونسبه النووي للخلفاء الأربعة ، وجمهور الصحابة والتابعين وهو قول الأئمة الثلاثة خلافاً لأحمد ، وهو اختيار جمع من المحققين كابن تيمية وغيره – والله أعلم – ويؤيده أن حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه الآتي في آخر الباب فيه أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أأتوضأ من لحوم الإبل ؟ قال : نعم ، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر به ابتداءً وإنما جاء جواباً للسؤال ، وفي الحديث أيضاً : أصلي في مرابض الغنم ؟ قال : نعم ومعلوم أن الصلاة في مرابضها ليست واجبة بالاتفاق والله أعلم .
2– علق المحقق الشيخ / ناصر –رحمه الله- على قوله: وكنت على البصرة بقوله: يعني لست بسالم من الغلول وقد كنت والياً على البصرة فتعلقت بك تبعات من حقوق الله وحقوق العباد ولايقبل الدعاء لمن هذه صفته كما لاتقبل الصلاة(1/58)
والصدقة إلا من متصون )إ.هـ كلامه : وأقرب من ذلك أن يكون أراد تعزيره بترك الدعاء له عقوبة له على ما يظن من غلوله ؛ لأنه كان أميراً ، ومن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك الصلاة على الغال تعزيراً وتحذيراً ، وصلاة الجنازة شفاعة ودعاء ، فيؤخذ من هذا ترك الدعاء علانية للمتخوضين في مال الله بغير حق ، والظالمين الناس الباغين في الأرض بغير حق سواءً كانوا من الأمراء أو من عامة الناس ويلحق بذلك أهل المجاهرة بالمعاصي إذا كان في ترك الصلاة عليهم ، والدعاء لهم مصلحة والله أعلم .
باب : النهي عن التخلي في الطريق والظلال
(106) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " اتقوا اللعانين ، قالوا : وما اللعانان يا رسول الله ؟ قال الذي يتخلى في طريق الناس أو في ظلهم " .
فائد ة من الحديث رقم (106) :
1 – سميا بذلك – والله أعلم – ؛ لأن فاعلهما مستحق للعنة الشارع بارتكاب هذا الفعل ، أو لأنه متسبب للعن الناس له حين يتأذون بفعل ذلك .
باب : ما يستتر به لقضاء الحاجة
(107) عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما قال : أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم خلفه ، فأسرَّ إلي حديثاً لا أحدث به أحداً من الناس ، وكان أحب ما استتر به رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجته هدف أو حائش نخل ، " قال ابن أسماء في حديثه " : يعني حائط نخل .
فائد ة من الحديث رقم (107):
1 – فيه الاستتار لقضاء الحاجة ، وكان صلى الله عليه وسلم إذا أراد الخلاء أبعد ، ومعلوم أن الاستتار بالحيطان ونحوها إنما هو حيث لا يتأذى بذلك الناس ، وإلا فقد صح النهي عن المصنف وغيره كما مر قريباً عنه التخلي في طريق الناس وظلهم .
وقوله: (هدف ، أو حائش نخل) الهدف: كل شيء مرتفع من بناءٍ، أو كثيب رمل، أو جبل ونحوه.
باب : ما يقول إذا دخل الخلاء(1/59)
(108) عن أنس رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء قال : ( اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث ) .
فائد ة من الحديث رقم (108):
– المعنى : إذا أراد دخوله ، وقد جاء في بعض الروايات كذلك .
أما زيادة : ( من الرجس النجس الشيطان الرجيم ) فلا تصح ، أما التسمية فجاءت في حديث عند سعيد بن منصور في سننه ، ولها شواهد من حديث علي وغيره .
باب : لا تستقبل القبلة بغائط ولا بول
(109) عن أبي أيوب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ، ولا تستدبروها ، ببول ولا غائط ، ولكن شرقوا أو غربوا ) قال أبو أيوب : فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت قبل القبلة فننحرف عنها ، ونستغفر الله .
من فوائد الحديث رقم (109):
1– هذا لمن كان بالمدينة المنورة أو على مسامتتها ، وأهل كل بلد بحسبهم شمالاً أو جنوباً أو غير ذلك قوله (شرقوا وغربوا( .
2– في المسألة بضعة أقوال ، قيل بالتحريم مطلقاً ، وقيل بالتحريم في غير بنيان وذهب بعض السلف إلى اختيار القول بالكراهة جمعاً بين الأدلة كحديث أبي أيوب وحديث ابن عمر الآتي بعده ، ومثله حديث جابر بنحوه وهو حسن الإسناد وهو مذهب جيد .
باب : النهي أن يبال في الماء ثم يغتسل منه
(111) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل منه ) .
(112) عن أبي هريرة رضي الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا تبل في الماء الدائم الذي لا يجري ثم تغتسل منه ) .
من فوائد الحديثين رقم (111 ، 112):(1/60)
1 – فيهما النهي عن البول في الماء الراكد الذي لا يجري وظاهره التحريم ؛ لأنه ينجسه إن تغير بالبول أو يقذره على نفسه وغيره ، وقد يحتاج أن يغتسل منه وهو بهذه المثابة ، وهذا من محافظة الإسلام على النظافة العامة، وصيانة المرافق والخدمات التي ينتفع بها الناس من سواء الاستعمال ، ومثله النهي عن البول في الظل والطريق ونحوهما – والله أعلم – وفي رواية ( لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب ) قيل : كيف يفعل يا أبا هريرة ؟ قال : يتناوله تناولاً . وهذا أيضاً فيه النهي عن الانغماس للجنب في الماء الراكد وهو يقتضي التحريم لما يؤدي إليه من استخباث الماء واستقذاره خاصة مع توارد الاستعمال عليه ، فحسم الشرع مادة ذلك بتحريمه على آحاد الناس .
باب : الاستبراء والاستتار من البول
[113] عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبرين فقال : ( أما إنهما ليعذبان ، وما يعذبان في كبير ، أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة ، وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله ) قال : فدعا بعسيب رطب فشقه باثنين ، ثم غرس على هذا واحداً ، وعلى هذا واحداً ، ثم قال : ( لعله أن يخفف عنهما ما لم ييبسا ) .
من فوائد الحديث رقم (113) :
1 – فيه إثبات عذاب القبر وتحريم النميمة وهو إجماع ، بل هي من الكبائر .
2 – وجوب التنزه من البول .
3 – وأما وضع العسيب فمن خصوصياته – عليه السلام – والله أعلم ويستأنس لذلك أن غيره لا يطلع على ما يطلع عليه هو من تعذيب المقبورين ، ولم ينقل فعل ذلك عن أصحابه رضي الله عنهم إلا قليلاً ، ولو كان خيراً لسبقونا إليه وسيمر نحو هذا في حديث جابر الطويل في آخر الصحيح والله أعلم .
باب : النهي عن الاستنجاء باليمين
[114] عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لايمسكن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول ، ولا يتمسح من الخلاء بيمينه، ولا يتنفس في الإناء ) .(1/61)
من فوائد الحديث رقم (114) :
1 – الظاهر والله أعلم أن النهي عن مس الذكر باليمين مقيد بحال التبول فعلى ذلك لو أمسكه بيمينه ليمسحه بالأخرىلم يكن عليه بأس ، ولهذا قال : ( ولا يتمسح من الخلاء بيمينه ) .
2- وأما النهي عن التنفس في الإناء حال الشرب فإن هذا من مكارم الأخلاق، إذ قد يحتاج أن يشربه غيره فيكره ذلك منه ، وقد ينتقل أثر الطعام أو رائحته من الفم إلى الماء .
باب : الاستنجاء بالماء من التبرز
[115] عن أنس بن مالك رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل حائطاً وتبعه غلام معه ميضأة ، هو أصغرنا ، فوضعها عند سدرة فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجته ، فخرج علينا ، وقد استنجى بالماء " .
فائد ة من الحديث رقم (115) :
1 – فيه دليل على إجزاء الماء في الاستنجاء كالأحجار ونحوها ، بل هو أبلغ في التطهير والإنقاء منها، وأبلغ من ذلك الجمع بينهما باستخدام الأحجار أو الورق أو غيرها في إزالة عين النجاسة ثم استخدام الماء في تطهير الموضع وإنقائه ، وقد اختار هذا جمع من الأئمة كابن قدامة صاحب المغني ، وهذا مذهب موفق .
باب : الاستجمار بالأحجار والمنع من الروث والعظم
[116] عن سلمان رضي الله عنه قال : قيل له : قد علمكم نبيكم صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى (الخراءة) قال فقال : أجل نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول، أو أن نستنجي باليمين، أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيع أو بعظم " .
فائدة من الحديث رقم (116) :(1/62)
1 – قضاء الحاجة من الضرورات التي لابد للإنسان منها ، وفي ذلك المصالح البدنية والنفسية للإنسان ما لاخفاء به ، وقد أحاط الشرع هذه الضرورة بتعليمات وآداب تجعل المسلم الحق مهذباً متميزاً في أدائه وتصرفاته في كل الظروف وعلى كافة الصعد، ومن ذلك النهي عن الاستنجاء باليمين تكريماً لها ، وفيه استخدام الحجر أو الورق أو غيرها في التنظيف ، ومنه قطع الاستجمار على وتر ، وعدم استخدام الروث والعظام ونحوها ، وعدم استقبال القبلة ، أو استدبارها ، وحمل ذلك بعضهم على ما إذا كان في فضاء جمعاً بين الأدلة ، وقيل بالمنع مطلقاً ، وقيل : يحمل النهي على الكراهة فحسب ، وفعله صلى الله عليه وسلم لبيان الجواز والله أعلم .
باب : الانتفاع بأهب الميتة
[117] عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : تُصدق على مولاة لميمونة بشاة فماتت فمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به ) فقالوا : إنها ميتة . فقال : ( إنما حرم أكلها ) .
فائد ة من الحديث رقم (117) :
1 – فيه إشارة إلى أن الذي يطهر الدباع هو جلد مأكول اللحم ولو مات فهو الذي حرم أكله بالموت ، أما ما لا يؤكل لحمه فليس سبب تحريمه الموت بل هو حرام بأصل الشرع بكل حال والله أعلم، وهذا أحد سبعة أقوال في المسألة، ويليه في القوة القول بطهارة كل جلد إلا ما ورد النص على النهي عنه ، ومما يقوي ما رجحناه الأحاديث الواردة في النهي عن جلود السباع والنمور ونحوها .
باب : إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً
[119] عن عبدالله بن المغفل قال : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب ثم قال : ( ما بالهم وبال الكلاب ) ثم رخص في كلب الصيد وكلب الغنم وقال : ( إذا ولغ الكلب في الإناء ، فاغسلوه سبع مرات ، وعفروه الثامنة في التراب) وفي رواية يحيى بن سعيد : " ورخص في كلب الغنم والصيد والزرع " .
من فوائد الحديث رقم (119) :(1/63)
1 – التعفير في التراب إما أن يكون وحده فيكون بمثابة غسلة ثامنة ، أو يكون مع أحد الغسلات السبع مع الماء كما في حديث أبي هريرة شاهد حديث الباب .
2 – فيه وجوب غسل الإناء سبعاً من ولوغ الكلب ، إحداهن بالتراب ، والأرجح أن تكون الأولى ؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه عند المصنف ( أولاهن بالتراب ) .
3 – فيه أن لعاب الكلب نجس لقوله صلى الله عليه وسلم في رواية : ( طهور إناء أحدكم .. ) وذهب الحسن البصري وهي رواية عن أحمد إلى أن الغسلات ثمان بموجب حديث الباب ، والجمع بينها ممكن بأن التتريب إن كان وحده فهو بمثابة غسله ثامنة ، وإن كان مع الماء صارت سبعاً والله أعلم ، وهناك قول بطهارة سؤر الكلب ،وهو مذهب البخاري والزهري وسفيان الثوري ومالك وغيرهم .
باب : فضل الوضوء
[120] عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الطهور شطر الإيمان . والحمد لله تملأ الميزان ، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماوات والأرض ، والصلاة نور ، والصدقة برهان ، والصبر ضياء ، والقرآن حجة لك أو عليك ، كل الناس يغدو فبايع نفسه فمعتقها أو موبقها " .
من فوائد الحديث رقم (120) :
1 – قوله في الحديث : ( الطهور شطر الإيمان ) من معناه أن الطهور الحسي بالوضوء وغيره من الإيمان فلا يحافظ عليه إلا مؤمن ، وكذلك هو من الصلاة فهو شرط لها والصلاة إيمان كما قال تعالى : [ وما كان الله ليضيع إيمانكم ] [البقرة:143] ، والطهور المعنوي سلامة القلب من الشرك وهو جزء مهم من التوحيد ، فلا توحيد إلا بالطهارة من الأنداد كلها ، وسلامة القلب أيضاً من الأمراض والآفات والتعلقات شرط للنجاة التامة كما قال تعالى : [ يوم لا ينفع مال ولا بنون . إلا من أتى الله بقلب سليم ] [الشعراء :88-89] .
2 – قوله في الحديث : ( الصبر ضياء ... ) .(1/64)
كأنه جعل مصائب الدنيا ونوازلها ظلمات ، وجعل الصبر هو الضياء الذي يكشف غياهبها ، ويرشد إلى المسلك الصحيح فيها ، ومن لا صبر له يهلك ، وهذا يتوافق مع قوله تعالى : [ ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه][ التغابن : 11] .
3 – قوله في الحديث : ( ... فمعتقها أو موبقها ) .
معناه أن كل إنسان كادح في هذه الدنيا ، فلابد فيها من العناء والتعب ، لكن منهم من يتعب في راحة نفسه وإعتاقها فيعود عليه تعبه بالسعادة في الدنيا والنجاة في الأخرى ومنهم من يتعب في شهواته وملذاته التي هي كالسراب يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ، فيجتمع عليه شقاء الدارين .
يحزن المرء على ما فاته من لذاذات إذالم يقضها
وتراه فرحاً مستبشراً للتي أمضى كأن لم يمضها
إنها عندي كأحلام الكرى لقريب بعضها من بعضها
باب : خروج الخطايا مع ماء الوضوء
[121] عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينه مع الماء أو مع آخر قطر الماء ، فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء ، فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء حتى يخرج نقياً من الذنوب ) .
فائد ة من الحديث رقم (121) :(1/65)
1 – فيه – والله أعلم – أن من أسرار تخصيص أعضاء الوضوء بالغسل أنها مما تكثر مواقعتها للخطايا والذنوب كاليد والرجل والسمع والبصر والفم ، فغسلها بالماء طاعة وامتثالاً مع تغير الأحوال من حرٍّ وبرد وشغل وضعف وغير ذلك هو من أسباب تكفير ما ارتكب ، وكلما أسبغ المتطهر كان أبلغ في تحصيل المغفرة مالم يتعد المشروع ، ولهذا جاء في حديث عثمان رضي الله عنه عند المصنف : ( من توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده حتى تخرج من تحت أظفاره ) وهذا لا يمنع أن يكون لتخصيصها أسباب أخر ككثرة تعرضها للأوساخ وغير ذلك .
باب : صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم
[125] عن عبد الله بن زيد ابن عاصم الأنصاري رضي الله عنه وكانت له صحبة قال : قيل له : توضأ لنا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدعا بإناء فأكفأ منها على يديه ، فغسلهما ثلاثاً ، ثم أدخل يده فاستخرجها ، فمضمض واستنشق من كف واحدة ، ففعل ذلك ثلاثاً ، ثم أدخل يده فاستخرجها ، فغسل وجهه ثلاثاً ، ثم أدخل يده فاستخرجها ، فغسل يديه إلى المرفقين مرتين مرتين ، ثم أدخل يده فاستخرجها فمسح برأسه فأقبل بيديه وأدبر ، ثم غسل رجليه إلى الكعبين ، ثم قال : هكذا كان وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم " .
من فوائد الحديث رقم (125) :
1 – قوله في الحديث : "فأقبل بيديه وأدبر" جاء تفصيل ذلك في الرواية المتفق عليها: "بدأ بهما بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه ، ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه " وهذه إحدى فوائد الحديث .
2 – فيه جواز غسل بعض الأعضاء ثلاثاً ، وبعضها اثنتين ، وبعضها واحدة .
3 – استحباب المضمضة والاستنشاق من كف واحدة ، ويفعل ذلك ثلاثاً .(1/66)
4 – مسح الرأس واحدة ،نص عليه في رواية عند المصنف ، واستحباب أخذ ماء للرأس غير الذي فضل من يديه كما في رواية عند المصنف ، وهي المحفوظة، والرواية التي عند الترمذي والبيهقي وصححها " أنه أخذ لرأسه ماءً غير الذي أخذ لأذنية " فشاذة ، كما أفاد الحافظ ابن حجر في البلوغ والله أعلم .
باب : الاستنثار
[126] عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا توضأ أحدكم فليستنشق بمنخريه من الماء ثم لينتثر ) .
[127] عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا استيقظ أحدكم من منامه ، فليستنثر ثلاث مرات ،فإن الشيطان يبيت على خياشيمه ) .
من فوائد الحديثين رقم (126، 127 ) :
1– فيه مشروعية الاستنثار ، والراجح في معناه أنه إخراج الماء من الأنف بعد الاستنشاق ، وفيه من باب الأولى مشروعية الاستنشاق ، وذهب إلى القول بوجوبه أحمد وجمهور السلف ، وهو ظاهر الأحاديث .
2 – فيه مشروعية قطع الاستجمار على وتر ، وهو سنة عند الجماهير والله أعلم .
باب : الغر المحجلين من إسباغ الوضوء
[128] عن نعيم بن عبد الله المجمر قال : رأيت أبا هريرة يتوضأ ، فغسل وجهه ، فأسبغ الوضوء ، ثم غسل يده اليمنى ، حتى أشرع في العضد ، ثم يده اليسرى ، حتى أشرع في العضد ، ثم مسح برأسه ، ثم غسل رجله اليمنى ، حتى أشرع في الساق ، ثم غسل رجله اليسرى . حتى أشرع في الساق ، ثم قال لي : هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ ، وقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أنتم الغر المحجلون يوم القيامة ،من إسباغ الوضوء ، فمن استطاع منكم فليطل غرته وتحجيله ) .
فائد ة من الحديث رقم (128) :(1/67)
1 – فيه أن المشروع غسله من العضد والساق ما يتحقق به غسل المرفق والقدم ، وهذا هو الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث ، وهو غير واجب إذ الواجب بنص الكتاب ، ومنطوق الحديث هو غسل اليد والرجل فحسب ، وهذا ثبت بفعل النبي صلى الله عليه وسلم كما رواه أبو هريرة فيكون مسنوناً ، أما قوله : ( فمن استطاع ... ) فالصواب أنه ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وإنما هو مدرج من كلام أبي هريرة كما حكم بذلك جمهور الأئمة كالطحاوي وابن بطال وابن تيمية وابن حجر وغيرهم ، وقد روي الحديث عن أبي هريرة من غير طريق نعيم فلم تذكر عنه هذه الزيادة كما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من الصحابة فلم يذكروها والله أعلم.
[129] عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى المقبرة فقال : ( السلام عليكم دار قوم مؤمنين ، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ، وددت أنا قد رأينا إخواننا ) قالوا : أولسنا إخوانك يا رسول الله ؟ قال : ( بل أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد ) فقالوا : كيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك يا رسول الله ؟ فقال : ( أرأيت لو أن رجلاً له خيل غر محجلة بين ظهري خيل دهم بهم ألا يعرف خيله ؟ ) قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : ( فإنهم يأتون يوم القيامة غراً محجلين من الوضوء ، وأنا فرطهم على الحوض ، ألا ليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال ، أناديهم : ألا هلم ، فيقال : إنهم قد بدلوا بعدك ، فأقول : سحقاً سحقاً ) .
من فوائد الحديث رقم (129) :
1 – فيه مشروعية زيارة المقابر ، وما يقول فيها .
2 – فيه جواز تمني ما لا يكون من الخير .(1/68)
3 – بيان فضل الوضوء وأنه سيما خاصة لهذه الأمة يوم القيامة يُعرفون بها ، وهي الغرة والتحجيل ، والغرة بياض في جبهة الفرس والتحجيل بياض في يديها ورجليها ، وهي صفة مستحسنة ، وأراد بها صلى الله عليه وسلم ما يكون من النور في وجوه المؤمنين وأرجلهم كما قال تعالى : [ يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم] [الحديد :12] .
4– وفيه إثبات الحوض ، وقد جاء فيه أحاديث تبلغ مبلغ التواتر .
5 – وفيه التحذير من البدع والتبديل .
باب : من توضأ فأحسن الوضوء
[130] عن حمران مولى عثمان بن عفان رضي الله عنه : أن عثمان بن عفان دعا بوضوء فتوضأ ، فغسل كفيه ثلاث مرات ، ثم مضمض واستنثر ، ثم غسل وجهه ثلاث مرات ، ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاث مرات ، ثم غسل يده اليسرى مثل ذلك ، ثم مسح رأسه ، ثم غسل رجله اليمنى إلى الكعبين ثلاث مرات ، ثم غسل اليسرى مثل ذلك ، ثم قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ نحو وضوئي هذا ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من توضأ نحو وضوئي هذا ، ثم قام فركع ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه ) قال ابن شهاب : وكان علماؤنا يقولون : هذا الوضوء أسبغ ما يتوضأ به أحد للصلاة .
من فوائد الحديث رقم (130) :
1 – هذا الحديث أصل في صفة الوضوء ، وهو عظيم الفوائد .
2 – فيه التعليم بالفعل وأنه أبلغ من القول ، وأن فعل العبادة لغرض التعليم جائز .
3 – جواز الإعانة في الوضوء .
4 – استحباب غسل الكفين ثلاثاً قبله ، ويتأكد في حق المستيقظ من النوم .
5– مشروعية المضمضة والاستنشاق والاستنثار ثلاثاً ثلاثاً .
6– غسل الوجه ثلاثاً .
7 – غسل اليدين ثلاثاً ثلاثاً .
8 – البداءة باليمين وهو مستحب بالإجماع غير واجب .
9 – غسل المرفق مع اليد ومثله الكعب مع القدم ، وهو مذهب الجمهور ، وهو الصحيح .(1/69)
10 – مسح الرأس واحدة يقبل بها ويدبر ، وهو مذهب الجمهور ، وهو الصحيح وما خالفه من الروايات فشاذ .
11- استحباب ركعتين للوضوء .
12- مشروعية الإقبال على الصلاة بخشوع ، وبيان فضل هذا العمل ، وأنه كفارة للذنوب ، والمراد عند الجمهور الصغائر أما الكبائر فلابد لها من توبة ، وقيل بالعموم . والله الموفق .
[132] عن عثمان رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( من توضأ للصلاة فأسبع الوضوء ، ثم مشى إلى الصلاة المكتوبة فصلاها مع الناس ، أو مع الجماعة، أو في المسجد، غفر الله له ذنوبه ) .
فائدة من الحديث رقم (132) :
1 – قوله : ( أو مع الجماعة .. ) يحتمل أن يكون شكاً من الراوي ، ويحتمل أن يكون للتنويع ، أي صلاها مع الناس أو فاتته الصلاة مع الإمام الراتب فصلاها في جماعة ، أو لم يدرك ذلك فصلاها منفرداً في المسجد ، وقد ورد تقييد ذلك أي بالمغفرة المذكورة بمالم يغش كبيرة كما في اللفظ الآخر : ( ما من امرىء مسلم تحضره صلاة مكتوبة ..) إلى قوله : ( ما لم يأت كبيرة ، وذلك الدهر كله ) وهو عند المصنف والله أعلم .
باب : إسباغ الوضوء على المكاره
[133] عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات ؟ ) قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : ( إسباغ الوضوء على المكاره ، وكثرة الخطا إلى المساجد ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة ، فذلكم الرباط ) .
فائدة من الحديث رقم (133) :
1 – الرباط مأخوذ في اللغة من الربط ، وهو الحبس والمنع ، ومنه سمي الرباط ، وهو لزوم الثغور والإقامة بها لصد عدوان الكافرين ، وسمى صلى الله عليه وسلم الإقامة في المساجد لانتظار الصلوات رباطاً لما فيها من حبس النفس على الطاعة ، وكفها عن الانهماك في الدنيا والله أعلم .
باب : تبلغ الحلية حيث يبلغ الوضوء(1/70)
[134] عن أبي حازم قال : كنت خلف أبي هريرة ، وهو يتوضأ للصلاة ، فكان يمد يده حتى تبلغ إبطه ، فقلت له : يا أبا هريرة ما هذا الوضوء ؟ فقال : يا بني فروخ أنتم هاهنا ؟ لو علمت أنكم هاهنا ما توضأت هذا الوضوء ! سمعت خليلي صلى الله عليه وسلم يقول : ( تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء ) .
فائدة من الحديث رقم (134) :
1 – هذا مذهب خاص لأبي هريرة رضي الله عنه حيث كان يغسل يده إلى إبطه ، ويغسل ساقه ولم يثبت فيه حديث مرفوع ، وجمهور الصحابة والأئمة على خلافه ، أما اللفظ المرفوع فقصد به – والله أعلم – بيان فضل الوضوء وإسباغه بدليل أن إطالة الغرة لا تكون في الظاهر إلا بغسل شيء من مقدم الرأس والمشروع فيه المسح والله أعلم .
باب : من ترك من مواضع الوضوء شيئاً غسله وأعاد الوضوء
[135] عن جابر رضي الله عنه قال : أخبرني عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلاً توضأ فترك موضع ظفر على قدمه ، فأبصره النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ( ارجع فأحسن وضوءك ، فرجع ، ثم صلى ) .
فوائد الحديث رقم (135) :
1 – تمسك بهد الحديث من قال بوجوب الموالاة بين الأعضاء في الوضوء بحيث لا يقع بينها فاصل طويل في العرف ، وهو مذهب أحمد ومالك ، وظاهر أنه لا دلالة في لفظ الحديث على المراد ، واختار جمع من المحققين وجوب الموالاة إلا من عذر ، وهو اختيار الإمام ابن تيمية رحمه الله أما الغسل فلا تجب فيه الموالاة حتى عند أحمد وهو الراجح والله أعلم .
باب : ما يكفي من الماء في الغسل والوضوء
[136] عن أنس رضي الله عنه قال : " كان النبي الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ بالمد ، ويعتسل بالصاع ، إلى خمسة أمداد " .
فائدة من الحديث رقم (136) :(1/71)
1 – هذا هو القدر المعتدل في ماء الطهارة ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقتصر عليه مع كمال بدنه وكثرة شعره ، وربما نقص عنه كما يدل عليه حديث عائشة عند المصنف : " أنها كانت تغتسل هي والنبي صلى الله عليه وسلم في إناء واحد ، يسع ثلاثة أمداد أو قريباً من ذلك " . وقد روى عبدالله بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم " أتي بثلثي مدٍ فجعل يدلك ذراعيه " أخرجه أحمد وصححه ابن خزيمة .
باب : المسح على الخفين
[136 ] عن همام قال : بال جرير ، ثم توضأ ومسح على خفيه ، فقيل : أتفعل هذا ؟ فقال نعم . رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بال ثم توضأ ، ومسح على خفيه ، قال الأعمش : قال إبراهيم : كان يعجبهم هذا الحديث ؛ لأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة .
فائدة من الحديث رقم (136) :
1 – يعني أن المسح على الخفين محكم غير منسوخ ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم فعله بمرأى من جرير الذي أسلم بعد نزول المائدة ، وقد جاء في المسح على الخفين أحاديث تبلغ مبلغ التواتر وقال الحسن البصري : جاءت أحاديث المسح عن سبعين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال به جماهير من السلف والخلف بشرطه . والله أعلم .
[137] عن أبي وائل قال : كان أبو موسى يشدد في البول ، ويبول في قارورة ويقول : إن بني إسرائيل كان إذا أصاب جلد أحدهم بول قرضه بالمقاريض ، فقال حذيفة : لوددت أن صاحبكم لا يشدد هذا التشديد ، فلقد رأيتني أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم نتماشى ، فأتى سباطة قوم خلف حائط ، فقام كما يقوم أحدكم ، فبال ، فانتبذت منه ، فأشار إليَّ ، فجئته فقمت عند عقبه حتى فرغ " زاد في رواية : " فتوضأ فمسح على خفيه " .
من فوائد الحديث رقم (137) :
1 – فيه كراهة التشديد في شأن الطهارات وما يفضي إليه من الوسوسة .
2 – جواز البول قائماً .
3 – فيه المسح على الخفين .(1/72)
[138] عن المغيرة بن شعبة قال : كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة في مسير ، فقال لي : أمعك ماء ؟ فقلت : نعم . فنزل عن راحلته فمشى حتى توارى في سواد الليل ، ثم جاء ، فأفرغت عليه من الإداوة ، فغسل وجهه ، وعليه جبة من صوف ، فلم يستطع أن يخرج ذراعيه منها حتى أخرجهما في أسفل الجبة ، فغسل ذراعيه ، ومسح برأسه ، ثم أهويت لأنزع خفيه ، فقال : ( دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين ) .
فائدة من الحديث رقم (138) :
1 – فيه أن من شرط المسح على الخفين ونحوهما أن يلبسهما على طهارة وهو قول الكافة من العلماء ، والمقصود من الطهارة الطهارة المائية ، فلا يجزىء لبسهما على تيمم باتفاق ، وأخذ منه بعضهم أنه لا يلبس الخفين إلا بعد كمال الطهارة ، فلو لبس اليمنى قبل غسل اليسرى لم يصح ، وهو غير ظاهر ، بل ذلك مجزىء ، ولكن لا تأخذ اليمنى حكم المسح حتى يغسل اليسرى ، ويلبس خفها ، للاتفاق على أنه لابد من لبس كل الخفين فلو لبس خفاً واحداً لم يجز أن يمسح عليه ويغسل الأخرى إلا أن يكون أقطع .
باب : التوقيت في المسح على الخفين
[139] عن شريح بن هانئ قال : أتيت عائشة أسألها عن المسح على الخفين ؟ فقالت: عليك بابن أبي طالب فسله فإنه كان يسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه ، فقال : جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر ، ويوماً وليلة للمقيم .
من فوائد الحديث رقم (139) :
1 – فيه الإحالة على من هو أعلم منه في مسألة وإن كان المحيل أعلم في غيرها ، وألا يمنعه من ذلك ما يكون بينه وبينه من خواطر النفوس كما كان بين علي وعائشة رضي الله عنهما ، وقد جاء في رواية للمصنف : " إئت علياً فإنه أعلم بذلك مني " ، وهو أصل في مسألة التخصص في العلم وغيره .
2 – في التوقيت أقوال أعدلها قول الجمهور بمقتضى هذا الحديث ، إلا أن يكون في ضرورة أو حاجة شديدة ، فيمسح بلا توقيت كما صح عن عمر وعقبة بن عامر .(1/73)
باب : المسح على الناصية والعمامة
[140] عن المغيرة بن شعبة قال : تخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وتخلفت معه ، فلما قضى حاجته قال : أمعك ماء ؟ فأتيته بمطهرة ، فغسل كفيه ووجهه ، ثم ذهب يحسر عن ذراعيه ، فضاق كم الجبة ، فأخرج يده من تحت الجبة ، والقى الجبة على منكبيه ، وغسل ذراعية ، ومسح بناصيته ، وعلى العمامة ، وعلى خفيه ، ثم ركب وركبت ، فانتهينا إلى القوم وقد قاموا في الصلاة ، يصلي بهم عبدالرحمن بن عوف ، وقد ركع بهم ركعة ، فلما أحس بالنبي صلى الله عليه وسلم ذهب يتأخر ، فأومأ إليه فصلى بهم ، فلما سلم ، قام صلى الله عليه وسلم ، وقمت ، فركعنا الركعة التي سبقتنا .
من فوائد الحديث رقم (140) :
1 – فيه جواز إمامة المفضول على الفاضل .
2 – وفيه المسح عل العمامة ، وقد جاء فيه أحاديث ، وقال به الإمام أحمد وإسحاق وأهل الحديث وأهل الظاهر ، وإذا كان بعض الرأس ظاهراً مسح عليه وأكمل المسح على العمامة ، وهكذا المرأة تمسح على خمارها إذا شق نزعه كما ثبت ذلك عن أم سلمة وغيرها .
3 – وفيه فضيلة لعبدالرحمن بن عوف حيث صلى بالنبي صلى الله عليه وسلم والفرق بين قصة عبدالرحمن وقصة أبي بكر حين صلى بالناس فجاء النبي-صلى الله عليه وسلم- فتأخر وتقدم النبي –صلى الله عليه وسلم- فأتم الصلاة أن عبدالرحمن كان قد صلى ركعة قبل مجيء النبي صلى الله عليه وسلم فلذلك أكمل الصلاة ، أما أبو بكر فقد أدركه النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الركعة الأولى ، ولهذا استأخر وتقدم رسول الله فأتم الصلاة .
باب : في الصلوات بوضوء واحد
[142] عن بريدة رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الصلوات يوم الفتح بوضوء واحد ، ومسح على خفيه ، فقال له عمر رضي الله عنه : لقد صنعت اليوم شيئا لم تكن تصنعه قال : ( عمداً صنعته يا عمر ) .
من فوائد الحديث رقم (142) :
1– فيه أن عادة النبي صلى الله عليه وسلم الوضوء لكل صلاة .(1/74)
2 – وفيه أنه لا بأس على العالم أو الفقيه أن يترك السنة مرة أو مرات لسبب ، إما لحاجة تعرض له من شغل أو غيره ، وإما لبيان الحكم ورفع اللبس .
باب : القول بعد الوضوء
[143] عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال : كانت علينا رعاية الإبل ، فجاءت نوبتي فروحتها بعشي ، فأدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما يحدث الناس فأدركت من قوله : ( ما من مسلم يتوضأ فيحسن وضوءه ، ثم يقوم فيصلي ركعتين مقبل عليهما بقلبه ووجهه ، إلا وجبت له الجنة ) قال : فقلت ما أجود هذه ، فإذا قائل بين يدي يقول : التي قبلها أجود ، فنظرت فإذا عمر قال : إني قد رأيتك جئت آنفا ، قال : ( ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ أو فيسبغ الوضوء ، ثم يقول : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء ) .
فائدة من الحديث رقم (143) :
1 – من الأذكار الواردة قبل الوضوء : التسمية ، وقد ورد فيها أحاديث كثيرة لا تخلوا أسانيدها من ضعف ، وقال أحمد : لا يثبت فيه شيء ، وحسنه الأكثرون ، والراجح فيه السنية لا الوجوب ، ولا يثبت في الأذكار أثناء الوضوء شيء ، وصح عن عقبه ما ذكر المصنف هنا ، وفي سنن الترمذي عن عمر وفيه ضعف : ( اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين ) وجاء عند النسائي عن أبي سعيد موقوفاً بسند لابأس به : ( سبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك ) أما المرفوع فلا يصح . والله أعلم .
باب : في غسل المذي والوضوء منه
[144] عن علي رضي الله عنه قال : كنت رجلاً مذاءً ، فكنت أستحيي أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكان ابنته ، فأمرت المقداد بن الأسود ، فسأله : فقال : ( يغسل ذكره ويتوضأ ).
فائدة من الحديث رقم (144) :(1/75)
1 – قوله في الحديث : " مذاء ..." أي كثير المذي وهو سائل أبيض رقيق يخرج عند اشتداد الشهوة ، وهو نجس باتفاق ، يغسل منه الثوب أو ينضح ، ويجب منه الوضوء عند جميعهم ، ورأى بعض أهل العلم مع ذلك غسل الذكر كله والأنثيين ، والأقرب أن ذلك لا يصح والحديث الوارد فيه معلول .
باب : نوم الجالس لا ينقض الوضوء
[145] عن أنس رضي الله عنه قال : " أقيمت الصلاة ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم نجي لرجل " وفي حديث عبد الوارث : " ونبي الله صلى الله عليه وسلم يناجي الرجل " فما قام إلى الصلاة حتى نام القوم . وفي حديث شعبة "فلم يزل يناجيه حتى نام الصحابة ، ثم جاء فصلى بهم ".
من فوائد الحديث رقم (145) :
1 – عنوان هذه الترجمة هو مذهب الشافعي أن نوم الجالس لا ينقض الوضوء ، وبه ترجم النووي للحديث في المنهاج ، وهو واحد من ثمانية أقوال في المسألة أصحها أنه لا ينقض الوضوء إلا النوم المستغرق ، والذي لا يبقى معه إدراك بحيث لو أحدث لم يشعر فعلى هذا فالنوم مظنة الحدث ، وأقام المظنة مقام المئنة ، وانظر التعليق على حديث ابن عمر أول أحاديث الوضوء .
2 – وفي الحديث جواز المناجاة بين اثنين بحضرة جماعة .
3 – جواز الفصل الطويل بين الإقامة والصلاة للحاجة .
باب : الوضوء مما مست النار
[147] عن عمر بن عبدالعزيز أن عبدالله بن إبراهيم بن قارظ أخبره أنه وجد أبا هريرة يتوضأ على المسجد ، فقال : إنما أتوضأ من أثوار أقط أكلتها ، لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( توضئوا مما مست النار ) .
فائدة من الحديث رقم (147) :(1/76)
1 – " أثوار " جمع ثور وهو القطعة من الأقط ، والأقط هو اللبن المطبوخ المجفف وقد ثبت في الأحاديث التي ساقها المصنف بعد عدم وجوب الوضوء مما مست النار ، وهو مذهب الجمهور ، فقيل : هو منسوخ ، وقيل الأمر للاستحباب وهو باق غير منسوخ ، وهو مذهب جماعة من السلف منهم عمر بن عبدالعزيز والحسن البصري وغيرهم ، والحديث يدل على أنه مذهب أبي هريرة أيضاً .
باب : نسخ الوضوء مما مست النار
[148] عن جعفر بن عمرو بن أمية الضمري عن أبيه أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتز من كتف شاه ، فأكل منها ، فدعي إلى الصلاة ، فقام ، وطرح السكين ، وصلى ولم يتوضأ .
فائدة من الحديث رقم (148) :
1 – هذا الحديث وما شابهه في الدلالة هو الحجة على نسخ وجوب الوضوء مما مست النار ، وقد روى جابر رضي الله عنه ، قال : " كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار " والله أعلم .
باب : الذي يخيل إليه أن يجد الشيىء في الصلاة
1 – هذا الحديث وما شابهه في الدلالة هو الحجة على نسخ وجوب الوضوء مما مست النار ، وقد روى جابر رضي الله عنه ، قال : " كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار " والله أعلم .
باب : الذي يخيل إليه أن يجد الشيىء في الصلاة
[150] عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا وجد أحدكم في بطنه شيئاً فأشكل عليه أخرج منه شيء أم لا ؟ فلا يخرجن من المسجد حتى يسمع صوتاً ، أو يجد ريحاً ) .
فائدة من الحديث رقم (150) :
1 – هذا الحديث أصل لقاعدة البناء على اليقين المعروفة ، والمعنى أن الطهارة المتيقنة لا تزول بمجرد الشك الطارئ عليها ، بل يستصحب أصل الطهارة حتى يزول بيقين ، وهي قاعدة نافعة في الطهارات وسائر العبادات والمعاملات والله أعلم .
باب : إنما الماء من الماء(1/77)
[151] عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه قال : خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين إلى قباء حتى إذا كنا في بني سالم ، وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على باب عتبان فصرخ به ، فخرج يجر إزاره . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أعجلنا الرجل ) فقال عتبان : يا رسول الله أرأيت الرجل يعجل عن امرأته ، ولم يمن ماذا عليه ؟ قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إنما الماء من الماء ) .
فائدة من الحديث رقم (151) :
1 – هذا المذهب القائل بأن الغسل لا يجب بمجرد الإيلاج حتى ينزل المني هو مذهب كثير من الأنصار كأبي سعيد وعتبان بن مالك وأبي أيوب وأبي بن كعب وزيد بن خالد وغيرهم وبعض المهاجرين كعثمان بن عفان ، وهذا كله ذكره الإمام مسلم في صحيحه ، أو ذكر ما يدل عليه ، وأخرج معه قول أبي العلاء بن الشخير : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينسخ حديثه بعضه بعضاً ، كما ينسخ القرآن بعضه بعضاً (مسلم 1/269) ومذهب جمهور المهاجرين وجوب الغسل بالإيلاج ولو لم ينزل ، كما في الحديث بعد هذا ، وهو الصحيح لأنه آخر الأمرين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، والله أعلم .
باب : نسخ " الماء من الماء " ووجوب الغسل بالتقاء الختانين
[152] عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : اختلف في ذلك رهط من المهاجرين والأنصار ، فقال الأنصاريون : لا يجب الغسل إلا من الدفق أو من الماء ، وقال المهاجرون : بل إذا خالط فقد وجب الغسل . قال : فقال أبو موسى : فأنا أشفيكم من ذلك . فقمت فاستأذنت على عائشة ، فأذن لي ، فقلت لها : يا أماه أو يا أم المؤمنين إني أريد أن أسألك عن شيء وإني أستحييك .
فقالت : لا تستحيي أن تسألني عما كنت سائلاً عنه أمك التي ولدتك فإنما أنا أمك .
قلت : فما يوجب الغسل ؟(1/78)
قالت : على الخبير سقطت ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا جلس بين شعبها الأربع ، ومس الختان الختان ، فقد وجب الغسل ) .
فائدة من الحديث رقم (152) :
1 – المقصود بمس الختان الختان ، هو مجاوزة الختان للختان أي تغييب الحشفة كلها ، أو مقدارها من مقطوعها ، فهذا الذي يوجب الغسل ، وتبنى عليه سائر أحكام الجماع ؛ ولهذا جاء في رواية : ( إذا جاوز الختان الختان ) أما مجرد الملامسة فلا توجب غسلاً ولا غيره ، وقد جاء في حديث أبي هريرة عند مسلم : ( إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها ) أو في لفظٍ : ( ثم اجتهد فقد وجب عليه الغسل ) وفي لفظٍ : ( وإن لم ينزل ) .
باب : في المرأة ترى في النوم مثل مايرى الر جل وتغتسل
[154] عن إسحق بن أبي طلحة عن أنس بن مالك قال : جاءت أم سليم وهي جدة إسحاق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له وعائشة عنده : يا رسول الله المرأة ترى ما يرى الرجل في المنام ، فترى من نفسها ما يرى الرجل من نفسه ؟
فقالت عائشة : يا أم سليم فضحت النساء تربت يمينك ، فقال لعائشة : ( بل أنت فتربت يمينك ، نعم فلتغتسل يا أم سليم إذا رأت ذلك ) .
من فوائد الحديث رقم (154) :
1 - قوله (إذا رأت ذلك) : يعني إذا رأت الماء الذي ينزل من المرأة عند الجماع.
2 – فيه دليل على أن المرأة قد تنزل خلافاً لمن نفى ذلك من أهل الطب وفي غير ما حديث أن ماء المرأة رقيق أصفر ـ والله أعلم 3ـ لكن سؤال عائشة وأم سلمة ـ كما عند المصنف ـ عن ذلك دليل على أنه لا يكون من جميع النساء ولا في جميع الأحوال .
باب : صفة الغسل من الجنابة(1/79)
[155] عن ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : أدنيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم غسله من الجنابة ، فغسل كفيه مرتين أو ثلاثاً ، ثم أدخل يده في الإناء ، ثم أفرغ به على فرجه ، وغسله بشماله ، ثم ضرب بشماله الأرض فدلكها دلكاً شديداً ، ثم توضأ وضوءه للصلاة ، ثم أفرغ على رأسه ثلاث حفنات كل حفنة ملء كفه ، ثم غسل سائر جسده ، ثم تنحى عن مقامه ذلك فغسل رجليه ، ثم أتيته بالمنديل فرده .
من فوائد الحديث رقم (155) :
1 – فيه استحباب الوضوء قبل الغسل .
2 – استحباب المبالغة في تنظيف اليد بعد الغسل سواء كان ذلك بالتراب أو الصابون أو غيرهما من المنظفات .
3 – بيان صفة الغسل ، واستحباب تثليث الرأس فيه خلافاً للوضوء كما سبق .
4 – التنحي لغسل الرجلين ، فالظاهر أنه لعارض ، كطين ونحوه يلتصق برجله من أثر المحل ، وعلى هذا فلا حاجة إليه في المغتسلات التي لا يعلق بالرجل منها شيء والله أعلم .
5 – التنشف بالمنديل ونحوه ففيه أقوال كثيرة ، أصحها أنه مباح غير مشروع ولا مكروه ، ولكن يستحب عند الحاجة إليه .
باب : قدر الماء الذي يغتسل به من الجنابة
[156] عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال : دخلت على عائشة أنا وأخوها من الرضاعة ، فسألها عن غسل النبي صلى الله عليه وسلم من الجنابة ، فدعت بإناء قدر الصاع ، فاغتسلت ، وبيننا وبينها ستر ، وأفرغت على رأسها ثلاثاً قال : وكان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يأخذن من رؤوسهن حتى تكون كالوفرة .
من فوائد الحديث رقم (156) :
1 – فيه الاقتصاد في ماء الغسل والوضوء ، وتجنب الإسراف ، والحذرمن الوسوسة والمبالغة .
2 – استحباب غسل الرأس للجنابة ثلاثاً كما سبق .
3 – وفيه دليل على جواز تخفيف المرأة شعر رأسها بشرط تجنب التشبه بما هو من خصائص الكفار .
باب : تستر المغتسل بالثوب(1/80)
[157] عن أم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنها أنها لما كان عام الفتح أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بأعلى مكة ، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غسله ، فسترت عليه فاطمة ، ثم أخذ ثوبه فالتحف به ، ثم صلى ثماني ركعبات سبحة الضحى .
من فوائد الحديث رقم (157) :
1 - فيه وجوب ستر العورة .
2 – جواز الاستعانة بالولد والمصاحب وغيرهما في أمر الطهارة .
3 – مشروعية صلاة الضحى للمسافر وغيره ، وأنها ثمان ركعات وقيل: بل أكثر والله أعلم .
باب : غسل الرجل وحده من الجنابة والتستر
[158] عن أبي هريرة رضي الله عنه عن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم (فذكر أحاديث منها) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة ينظر بعضهم إلى سوأة بعض ، وكان موسى عليه السلام يغتسل وحده ، فقالوا : والله ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلا أنه آدر .
قال : فذهب مرة يغتسل ، فوضع ثوبه على حجر ، ففر الحجر بثوبه .
قال : فجمح موسى بأثره يقول : ثوبي حجر! ثوبي حجر ! حتى نظرت بنو إسرائيل إلى سوأة موسى .
قالوا : والله ما بموسى من بأس ، فقام الحجر حتى نُظر إليه ، قال : فأخذ ثوبه ، فطفق بالحجر ضرباً .
قال أبو هريرة : والله إنه بالحجر نَدَبٌ ستة أو سبعة ضرب موسى بالحجر .
قوله : (آدر) هو عظيم الخصيتين ، وهو عيب خَلْقى وقوله : (جمع بأثره) أى جرى خلفه أشد الجري .
من فوائد الحديث رقم (158) :
1 – هذا شيء صنعه الله تعالى لموسى تبرئةً له مما يظنه به الجاحدون ، وهو آية من آياته ، وهو داخل في عموم قوله تعالى : [ يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيهاً ] [ الأحزاب : 69] لكن لا يسوغ قصر الآية عليه.
2 – فيه دليل على جواز اغتسال المرء عرياناً إذا كان منفرداً ، أو كان معه من يحل له النظر إليه من زوج أو ملك يمين .
باب : النهي عن النظر إلى عورة الرجل والمرأة(1/81)
[159] عن بن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ، ولا المرأة إلى عورة المرأة ، ولا يفضي الرجل إلى الرجل في الثوب الواحد ، ولا تفضي المرأة إلى المرأة في الثوب الواحد ) .
فائدة من الحديث رقم (159) :
1 – إنما نهي عن هذا لتساهل الناس به ، إذا كان الأمر يتعلق بأفراد الجنس الواحد بعضهم مع بعض الرجال مع الرجال والنساء مع النساء ، والنهي عن هذا يقتضي قطعاً النهي عما فوقه بطريق الأولى .
باب : التستر ولا يرى الإنسان عرياناً
[160] عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينقل معهم الحجارة إلى الكعبة ، وعليه إزاره ، فقال له العباس عمه : يا ابن أخي لو حللت إزارك فجعلته على منكبك دون الحجارة ، قال : فحله فجعله على منكبه , فسقط مغشياً عليه ، قال : فما رؤي بعد ذلك اليوم عرياناً .
فائدة من الحديث رقم (160) :
1 – هذا من تعاهد الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ، وحفظه عما يشين حتى قبل البعثة ، وقد روى المصنف عن المسور بن مخرمة قال : أقبلت بحجر أحمله ثقيل ، وعليَّ إزار خفيف ، قال : فانحل إزاري ومعي الحجر ، ولم أستطع أن أضعه حتى بلغت به إلى موضعه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إرجع إلى ثوبك فخذه ، ولا تمشوا عراة ) .
باب : غسل الرجل والمرأة من الإناء الواحد من الجنابة
[161] عن معاذة عن عائشة رضي الله عنهما قالت : كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد بيني وبينه ، فيبادرني حتى أقول : دع لي دع لي ، قالت : وهما جنبان .
من فوائد الحديث رقم (161) :
1 – فيه دليل على جواز التطهر بفضل طهور المرأة ومثله حديث ميمونة .
2 – جواز الإخبار عن هذا ونحوه مما يقع بين الزوجين ، وقد يتأكد ذلك إذا ثبت عليه مصلحة كبيان حكم شرعي مثلاً .(1/82)
3 – فيه ملاطفة الأهل ومباسطتهم ، وأن ذلك من التواضع المشروع والله أعلم .
باب : وضوء الجنب إذا أراد النوم والأكل
[162] عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان جنباً فأراد أن يأكل أو ينام توضأ وضوءه للصلاة .
من فوائد الحديث رقم (162) :
1 – هذا على سبيل الاستحباب ، والأكمل أن يغتسل قبل أن ينام ، ويجوز له النوم دون غسل أو وضوء ، وكذلك الأكل والشرب ونحوهما .
2 – فيه دليل على أن الوضوء يخفف من حدث الجنب .
باب : نوم الجنب قبل أن يغتسل
[163] عن عبد الله بن أبي قيس قال : سألت عائشة رضي الله عنها عن وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم (فذكر الحديث) .
قلت : كيف كان يصنع في الجنابة ، أكان يغتسل قبل أن ينام أم ينام قبل أن يغتسل ؟
قالت : كل ذلك قد كان يفعل . ربما اغتسل فنام ، وربما توضأ فنام .
قلت : الحمد لله الذي جعل في الأمر سعة .
فائدة من الحديث رقم (163) :
1 – ظاهر الحديث أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يدع أحد هذين الأمرين إذا أراد النوم وهو جنب ، إما الغسل وإما الوضوء ، وقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ، وقد روى أهل السنن عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله ينام وهو جنب من غير أن يمس ماءً . قال الحافظ : وهو معلول .
باب : من أتى أهله ثم أراد أن يعود فليتوضأ
[164] عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود فليتوضأ).
فائدة من الحديث رقم (164) :
1 – ورد تعليل ذلك في رواية عند الحاكم ... فإنه أنشط للعَود بفتح العين ، والتعليل هذا مشعر بأن الأمر للاستحباب فحسب .
باب : التيمم وما جاء فيه(1/83)
[165] عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت : خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بعض أسفاره ، حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عقد لي ، فأقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على التماسه ، وأقام الناس معه ، وليسوا على ماءٍ ، وليس معهم ماء ، فأتى الناس أبا بكر .
فقالوا : ألا ترى إلى ما صنعت عائشة ؟
أقامت برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبالناس معه ، وليسوا على ماء وليس معهم ماء ، فجاء أبو بكر ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- واضع رأسه على فخذي قد نام .
فقال : حبست رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والناس ، وليسوا على ماء ، وليس معهم ماء .
قالت عائشة : فعاتبني أبو بكر . وقال ما شاء الله أن يقول ، وجعل يطعن بيده في خاصرتي ، فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على فخذي ، فنام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى أصبح على غير ماء ، فأنزل الله آية التيمم ، فتيمموا .
فقال أسيد بن الحضير وهو أحد النقباء : ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر . فقالت عائشة : فبعثنا البعير الذي كنت عليه فوجدنا العقد تحته .
من فوائد الحديث رقم (165) :
1 – هذه القصة هي سبب نزول آية المائدة [ فتيمموا صعيداً طيباً ] وهي بالتالي سبب مشروعية التيمم عند فقد الماء .
2 – فيه فضل عائشة ومكانتها عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم- .
3 – فيه عتاب الرجل بنته ولو كانت متزوجة .
4 – فيه أن الفرج لا يبطىء ولا يتأخر لمن استعان بالله وفوض إليه ، وقد جاء في رواية أخرى للحديث أن القلادة كانت لأسماء ، فتكون نسبتها لعائشة هنا لأنها كانت في يدها ، والله أعلم .
باب تيمم الجنب
[166] عن شقيق قال : كنت جالسا مع عبد الله وأبي موسى ، فقال أبو موسى : يا أبا عبدالرحمن أرأيت لو أن رجلاً أجنب ،فلم يجد الماء شهراً كيف يصنع بالصلاة ؟
فقال عبد الله : لا يتيمم وإن لم يجد الماء شهراً .(1/84)
فقال أبو موسى : فكيف بهذه الآية في سورة المائدة ( فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً ) .
فقال عبد الله : لو رخص لهم في هذه الآية لأوشك إذا برد عليهم الماء أن يتيمموا بالصعيد !
فقال أبو موسى لعبد الله : ألم تسمع قول عمار : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة ، فأجنبت ، فلم أجد الماء ، فتمرغت في الصعيد كما تمرغ الدابة ، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكرت ذلك له .
فقال : ( إنما يكفيك أن تقول بيديك هكذا ) ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة ثم مسح الشمال على اليمين ، وظاهر كفيه ووجهه .
فقال عبد الله : أولم تر عمر لم يقنع بقول عمار رضي الله عنهما .
من فوائد الحديث رقم (166) :
1 – مذهب عمر وابن مسعود أن الجنب لا يتيمم ، وهذا قول مهجور خالفه جمهور الصحابة وسائر الأئمة بل لم يعد ثم قائل به ، والآية الكريمة والحديث يدلان على خلافه ، لذلك لم يرد ابن مسعود على استدلال أبي موسى بالآية بجواب.
2 – والحديث هو أصح ما ورد في صفة التيمم ، وهي ضربة على الصعيد ثم ينفض يديه أوينفخهما ثم يمسح وجهه وكفيه .
3 – وفيه دليل على جواز الاجتهاد في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- ، ووقوعه وأن من استفرغ وسعه ثم صلى بحسب حاله لا إعادة عليه .
أما قول عمار لعمر : إن شئت لم أحدث به . فذلك لأن عمر وهو الخليفة كان فقيهاً مجتهداً مهيباً ، كما قال ابن عباس : كان عمر مهاباً فهبته . وكان عمار يتحدث عن قصة كان عمر طرفاً فيها ، ومع ذلك لم يتذكرها ولهذا قال له : اتق الله ! تثبت عما تروي فقد تكون نسيت أو اشتبه عليك الأمر .
ويحتمل كما قال النووي أن يكون المعنى : لم أحدث به تحديثاً شائعاً بحيث يشتهر في الناس ، ومع ذلك كله لم يستجز عمر وهو الخليفة أن يمنعه من هذه الفتيا ، ولا من رواية هذه القصة ، فلا يحل لأحدٍ من بعده أن يمنع أهل العلم والفقه والوعظ من التحديث والفتيا والدعوة إلا بحجة شرعية والله والمستعان .(1/85)
باب : التيمم لرد السلام
[167] عن عمير مولى ابن عباس أنه سمعه يقول : أقبلت أنا وعبدالرحمن بن يسار مولى ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، حتى دخلنا على أبي الجهم بن الحارث بن الصمة الأنصاري فقال أبو الجهم : أقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من نحو بئر جمل ، فلقيه رجل فسلم عليه فلم يرد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عليه ، حتى أقبل على الجدار فمسح وجهه ويديه ثم رد عليه السلام .
فائدة من الحديث رقم (167) :
1 – فيه دليل على استحباب الوضوء لذكر الله ، والإجماع أنه ليس بواجب والحديث ذكره مسلم تعليقاً في كتاب الحيض ، وقد رواه البخاري موصولاً وفيه أبو الجهيم وهو المعتمد خلافاً لما في مسلم والله أعلم .
باب : الحائض لا تقضي الصلاة وتقضي الصوم
[180] عن معاذة قالت : سألت عائشة فقلت : ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة ؟
فقالت : أحرورية أنت ؟!
قلت : لست بحرورية ، ولكني أسأل .
قالت : كان يصيبنا ذلك ، فنؤمر بقضاء الصوم ، ولا نؤمر بقضاء الصلاة .
من فوائد الحديث رقم (180) :
– أجمع العلماء إلا من شذ على أن الحائض لا تقضي الصلاة ، وهو من الهدي العملي المتوارث عند المسلمين المقطوع بصحة نقله ، وكأن الحكمة ـ والله أعلم ـ أن الصلاة تتكرر ففي قضائها حرج ومشقة بخلاف الصوم فلا مشقة فيه .
2 – فيه أن خلو المسألة من الأمر دليل على عدم مشروعيتها ، وقد يترتب عليه إباحتها ، كالأعمال المسكوت عنها ، أوتحريمها كإنشاء عبادات لم يرد الشرع بها ... أو غير ذلك .
باب : عشر من الفطرة
[182] عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( عشر من الفطرة : قص الشارب وإعفاء اللحية والسواك واستنشاق الماء وقص الأظفار وغسل البراجم ونتف الإبط وحلق العانة وانتقاص الماء ) .
قال زكريا : قال مصعب : ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة .
زاد قتيبة قال وكيع : انتقاص الماء يعني الاستنجاء .(1/86)
فائدة من الحديث رقم (182) :
– كأنه عد هذه الخصال من الفطرة ؛ لأنها تتعلق بالخلقة ، أي : بالبدن ونظافته وطيبه وجماله وكماله ، فكأن المعنى : هذه الخصال من السنة المتعلقة بالبدن ، وحديث عائشة أوفى الأحاديث في ذلك ، وقد جاءت أحاديث بزيادة خصال أُخر كالختان والتيمم في الطهور والتنعل والترجل وغيرها والله أعلم .
وقد تكلم بعض الحفاظ في حديث عائشة ، وأعلوه بمصعب بن شيبة ، ورجح بعضهم أنه من كلام طلق بن حبيب أحد رجال الإسناد .
باب : نضح بول الصبي من الثوب
[187] عن أم قيس بنت محصن رضي الله عنها ، أنها أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بابن لها لم يبلغ أن يأكل الطعام ، قال عبيد الله ، أخبرتني أن ابنها ذاك بال في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بماء فنضحه على ثوبه ولم يغسله غسلاً .
من فوائد الحديث رقم (187) :
– قال بمقتضى هذا الحديث أكثر العلماء ، وفرقوا بين بول الجارية وبول الغلام ، فبول الجارية يغسل كسائر الأبوال ، وبول الغلام ينضح إذا كان لم يبلغ أن يأكل الطعام ، والنضح هو الرش وكأن السبب ـ والله أعلم ـ كثرة ملامسة الآباء للصبيان بالحمل وغيره بخلاف الإناث ، وذلك يوجب التخفيف .
2 – فيه تواضع النبي صلى الله عليه وسلم بحمل الصبيان وتحنيكهم والدعاء لهم ، مع ما يحصل منهم عادةً من البول وغيره " قد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة " .
باب : غسل المني من الثوب
[188] عن عبد الله بن شهاب الخولاني قال : كنت نازلاً على عائشة رضي الله عنها ، فاحتلمت في ثوبيّ فغمستهما في الماء ، فرأتني جارية لعائشة ، فأخبرتها ، فبعثت إلي عائشة فقالت : ما حملك على ما صنعت بثوبيك ؟
قال : قلت : رأيت ما يرى النائم في منامه .
قالت : هل رأيت فيهما شيئاً ؟
قلت : لا .
قالت : فلو رأيتَ شيئاً غسلته ، لقد رأيتني وإني لأحكه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم يابساً بظفري .(1/87)
فائدة من الحديث رقم (188) :
– المذهب المختار القول بطهارة المني ؛ لهذا الحديث وغيره مما ورد في معناه ، وقد جاءت السنة بغسله ( إذا كان رطباً ) وحكه أو حته ( إذا كان يابساً ) وهذا ـ والله أعلم ـ على سبيل الاستقذار لا على سبيل التنجس ، وقد روى معاوية عن أم حبيبة أم المؤمنين أنها قالت : إنما هو بمنزلة المخاط أو البصاق ، وإنما يكفيك أن تميطه عنك بإذخره ، والله أعلم .
باب : غسل دم الحيضة من الثوب
[189] عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت : جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : إحدانا يصيب ثوبها من دم الحيضة كيف تصنع به ؟ قال : ( تحته ، ثم تقرصه بالماء ، ثم تنضحه ، ثم تصلي فيه ) .
من فوائد الحديث رقم (189) :
1 – أجمع العلماء على نجاسة دم الحيض ، واختلفوا في دم الجرح وغيره والجمهور على نجاسته كذلك .
2 – في الحديث بيان كيفية تطهير النجاسة .(1/88)