فوائد في أنواع التدليس وأحكامه
بسم الله والحمد لله
مسألة التدليس وما يتعلق بها: من أمهات ومهمات مسائل الحديث؛ وقد حصل فيها غير قليل من النزاع الاختلاف بين العلماء، في فروعها وأصولها.
والتدليس مشتق من الدَّلَسِ، وهو في أصل معناه الظلام، ثم استعمل التدليس في اللغة بمعنى إخفاء العيب في المبيع ونحوه؛ وإنما استعملت هذه اللفظة في مصطلح المحدثين بالمعنى الآتي شرحه، لأن المدلس – مهما كان نوع التدليس – كأنه قد أظلم شيئاً من أمر الحديث على الناظر بتغطية وجه الصواب فيه كما يتضح مما يأتي؛ فإن التدليس أقسام عديدة مرجعها إلى أربعة أصول، أو أربعة أغراض؛ وتتبين تفاصيل ذلك كله بشرح أنواع التدليس فدونك أنواعه.
النوع الأول
تدليس الإسناد
وهو المراد بالتدليس عند الإطلاق، وهو أهم صوره وأشهرها وأكثرها وجوداً.
وهو أن يروي غير الصحابي عمن سمع منه - أو عمن حصل له من اللقاء به ما يظن معه حصول السماع - ما لم يسمعه منه من حديثه، حاذفاً الواسطة، قاصداً إيهام السماع بإحدى طرق الإيهام الآتي ذكرها.
وهو بتعبير آخر: أن يروي الشيخ حديثاً فيسمعه بعض تلامذته عنه، لا منه، أي يسمعه بواسطة وليس من الشيخ مباشرة، ثم بعد ذلك يرويه عن ذلك الشيخ موهماً سماعه إياه منه بحذف الواسطة والتعبير بإحدى الطرق الموهمة للسماع.
وهذا النوع من التدليس فيه إخفاء الانقطاع؛ ويسمى أيضاً تدليس الإرسال.
طرق الإيهام
يتم للراوي المدلِّس إيهام سماعه الحديث ممن فوقه من شيوخه، خلافاً للواقع، بإحدى أربع طرق:
الطريقة الأولى
وهي الأغلب الأشهر بين سائر طرق الإيهام؛ وهي استعمال الصيغة المحتملة للسماع ولعدمه - وتسمى أيضاً الصيغة الموهمة للسماع، أو الصيغ الموهمة - مثل (قال) و (ذكر) و (حدث)؛ بدل الصيغة الصريحة في الانقطاع مثل (حُدِّثت) و (أًخْبرت) و(قيل لي) ونحوها.(1/1)
والمدلس لا يستعمل عند إرادته التدليس صيغ الانقطاع هذه لأنه لا يتم بها مقصوده. وأيضاً لا يستعمل صيغ صريحة في السماع لأنه حينئذ يكون كاذباً لا مدلساً، والفرض هنا أنه ثقة.
الطريقة الثانية
حذف صيغة الأداء أصلاً كما كان ابن عيينة يقول: (عمرو بن دينار سمع جابراً رضي الله عنه) ونحو ذلك. انظر (النكت لابن حجر) (2/617).
وهذا الصنيع يليق أن يسمى التدليس بحذف الصيغة.
ومنه صنيع هشيم في حديثه الذي رواه عنه عبد الله بن أحمد في (العلل) (2229) قال: حدثني أبي قال حدثنا هشيم قال: إما المغيرة وإما الحسن بن عبيد الله، عن إبراهيم: لم ير بأساً بمصافحة المرأة التي قد خلت من وراء الثوب؛ سمعت أبي يقول: لم يسمعه هشيم من مغيرة ولا من الحسن بن عبيد الله.
الطريقة الثالثة
تدليس العطف
وهو ثلاثة أنواع:
النوع الأول: عطف اسم راو على اسم راو قبله مع نية القطع:
وهو أن يروي عن شيخين من شيوخه ما سمعاه من شيخ اشتركا فيه، ويكون المدلس قد سمع ذلك المروي من أحدهما دون الآخر، فيصرح عن الأول بالسماع ويعطف الثاني عليه، فيوهم أنه حدث عنه بالسماع أيضاً؛ وهو إنما حدث بالسماع عن الأول ثم نوى القطع فقال: (وفلان)، أي: وحدث فلانٌ.
مثاله ما روى الحاكم في (معرفة علوم الحديث) ص131 قال: (وفيما حدثونا أن جماعة من أصحاب هشيم اجتمعوا يوماً على أن لا يأخذوا منه التدليس ففطن لذلك فكان يقول في كل حديث يذكره: حدثنا حسين ومغيرة عن إبراهيم، فلما فرغ قال لهم: هل دلست لكم اليوم؟ فقالوا: لا، فقال: لم أسمع من مغيرة حرفاً مما قلته، إنما قلت حدثني حصين، ومغيرة غير مسموع لي) ا.هـ.
ولكن هذه القصة ذكرها الحاكم بغير سند، ويظهر أنها لم تُرو مسندة، فعلى هذا لا تصح.
النوع الثاني: عطف جملة سياق حديث على جملة سياق حديث قبله:
ورد نحو ذلك فيما يظهر في صنيع هشيم في حديثه التالي:(1/2)
قال عبد الله بن أحمد في العلل (2191): (حدثني أبي قال: حدثنا هشيم قال أخبرنا الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل يوم خيبر للفرس سهمين وللرجل سهماً)؛ ثم قال (2192): (حدثني أبي قال: حدثنا هشيم قال: وعبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك سمعت أبي يقول: لم يسمعه هشيم من عبيد الله).
فهشيم ساق حديثاً لشيخه الكلبي بقوله (حدثنا)، ثم عطف عليه حديثاً لشيخه عبيد الله ولكن لم يبدأه بأي صيغة؛ فهو أراد بهذا العطف عطف جملة على جملة، أي (وحدث عبيد الله) إلى آخره، لا عطف فاعل على فاعل، أعني لم يعطف عبيد الله على الكلبي.
النوع الثالث: أن ينفي السماع من الأول ثم يذكر الثاني من غير صيغة أداء ويوهم أنه سمع منه بخلاف الأول.
وقد ادعى بعضهم أن أبا إسحاق السبيعي فعله.
قال البخاري في (صحيحه) (152): حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: لَيْسَ أَبُو عُبَيْدَةَ ذَكَرَهُ، وَلَكِنْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْأَسْوَدِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ يَقُولُ: ( أَتَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْغَائِطَ فَأَمَرَنِي أَنْ آتِيَهُ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ فَوَجَدْتُ حَجَرَيْنِ وَالْتَمَسْتُ الثَّالِثَ فَلَمْ أَجِدْهُ فَأَخَذْتُ رَوْثَةً فَأَتَيْتُهُ بِهَا فَأَخَذَ الْحَجَرَيْنِ وَأَلْقَى الرَّوْثَةَ وَقَالَ: هَذَا رِكْسٌ؛ وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ).(1/3)
قال الحاكم في (معرفة علوم الحديث) ص135: (قال علي: وكان زهير وإسرائيل يقولان عن أبي إسحاق أنه كان يقول: ليس أبو عبيدة حدثنا ولكن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم في الاستنجاء بالأحجار الثلاثة، قال ابن الشاذكوني: ما سمعت بتدليس قط أعجب من هذا ولا أخفى، قال: أبو عبيدة لم يحدثني، ولكن عبد الرحمن عن فلان عن فلان، ولم يقل حدثني؛ فجاز الحديث وسار).
ولكن ابن حجر بين في (هدي الساري) أن هذا ليس بتدليس، وكذلك فعل في شرح الحديث في (الفتح) فقال (1/256-258): (قوله {ليس أبو عبيدة} أي ابن عبد الله بن مسعود؛ وقوله (ذكره) أي لي (ولكن عبد الرحمن بن الأسود) أي هو الذي ذكره لي بدليل قوله في الرواية الآتية المعلقة (حدثني عبد الرحمن).
وإنما عدل أبو إسحاق عن الرواية عن أبي عبيدة إلى الرواية عن عبد الرحمن مع أن رواية أبي عبيدة أعلى له لكون أبي عبيدة لم يسمع من أبيه على الصحيح فتكون منقطعة بخلاف رواية عبد الرحمن فإنها موصولة.
ورواية أبي إسحاق لهذا الحديث عن أبي عبيدة عن أبيه عبد الله بن مسعود عند الترمذي وغيره من طريق إسرائيل بن يونس عن أبي إسحاق.
فمراد أبي إسحاق هنا بقوله (ليس أبو عبيدة ذكره) أي لست أرويه الآن عن أبي عبيدة وإنما أرويه عن عبد الرحمن ----.
قوله (وقال إبراهيم بن يوسف عن أبيه) يعني يوسف بن إسحاق بن أبي إسحاق السبيعي عن أبي إسحاق وهو جده قال (حدثني عبد الرحمن) يعني بن الأسود بن يزيد بالإسناد المذكور أولاً.
وأراد البخاري بهذا التعليق الرد على من زعم أن أبا إسحاق دلس هذا الخبر كما حُكِي ذلك عن سليمان الشاذكوني حيث قال: لم يسمع في التدليس بأخفى من هذا، قال: ليس أبو عبيدة ذكره، ولكن عبد الرحمن، ولم يقل: ذكره لي، انتهى.(1/4)
وقد استدل الإسماعيلي أيضاً على صحة سماع أبي إسحاق لهذا الحديث من عبد الرحمن يكون يحيى القطان رواه عن زهير فقال بعد أن أخرجه من طريقه: والقطان لا يرضى أن يأخذ عن زهير ما ليس بسماع لأبي إسحاق وكأنه عرف ذلك بالاستقراء من صنيع القطان، أو بالتصريح من قوله؛ فانزاحت عن هذه الطريق علة التدليس). انتهى كلام ابن حجر.
الطريقة الرابعة
مثالها ما كان يفعله عمر بن علي بن عطاء بن مقدم المقدمي؛ قال ابن سعد في (الطبقات) 7/291 فيه: (وكان يدلس تدليساً شديداً وكان يقول: " سمعتُ " و "حدثنا " ، ثم يسكت ثم يقول: "هشام بن عروة، الأعمش") ا.هـ.
وقال عبد الله بن أحمد: سمعت أبي ذكر عمر بن علي فأثنى عليه خيراً، وقال: (كان يدلس، سمعته يقول: حجاج سمعته، يعني: حدثنا آخر، قال أبي: هكذا كان يدلس ) ا.هـ من (تهذيب الكمال).
وهذا النص موجود في (سؤالات عبد الله بن أحمد لأبيه) (3/14) ولكن أخطأ المحقق في قراءة النص ففصل أول الكلام عن آخره؛ نبه عليه الشيخ عبد الله السعد.
ووهم ابن حجر إذ قال في (النكت) (2/617) في شرح معنى تدليس القطع أو السكوت: (مثاله ما رويناه في الكامل لأبي أحمد ابن عدي وغيره عن عمر بن عبيد الطنافسي أنه كان يقول: (حدثنا)، ثم يسكت ينوي القطع، ثم يقول: هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها).
فذكر عمر بن عبيد الطنافسي بدل عمر بن علي المقدمي؛ وأظنه لا يُعلم أحدٌ وصف الطنافسي بالتدليس غير الحافظ ابن حجر في (النكت)، بل لم يذكره ابن حجر نفسه في (طبقات المدلسين)، ولا وصفه بالتدليس في (التهذيب) ولا (التقريب)، ولكنه قال في ترجمة عمر بن علي المقدمي من (التقريب): (ثقة وكان يدلس شديداً).
فهذا كله يدل على وهمه في وصفه إياه بالتدليس.
انتفاء التدليس عن الصحابة(1/5)
التدليس منتفٍ عن الصحابة كلهم رضي الله عنهم، وقد حقق هذا المعنى العلامة المعلمي رحمه الله في (الأنوار الكاشفة) فقال (ص159–161): (قال الخطيب في (الكفاية) (ص357): (تدليس الحديث الذي لم يسمعه الراوي ممن دلسه عنه بروايته إياه على وجه يوهم أنه سمعه منه).
ومثال هذا أن قتادة كان سمع من أنس، ثم سمع من غيره عن أنس ما لم يسمعه هو من أنس، فربما روى بعض ذلك بقوله (قال أنس ... ) ونحو ذلك. ثم ذكر الخطيب (ص358) ما يؤخذ على المدلس، وهاك تلخيصه بتصرف:
أولاً: إيهامه السماع ممن لم يسمع منه.
ثانياً: إنما لم يبين لعلمه أن الواسطة غير مرضي.
ثالثاً: الأنفة من الرواية عمن حدثه.
رابعاً: إيهام علو الإسناد.
خامساً: عدوله عن الكشف إلى الاحتمال.
أقول ]القائل المعلمي:[ هذه الأمور منتفية فيما كان يقع من الصحابة رضي الله عنهم من قول أحدهم فيما سمعه من صحابي آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "قال النبي صلى الله عليه وسلم".
أما الأول: فلأن الإيهام إنما نشأ منذ عُني الناس بالإسناد، وذلك عقب حدوث الفتنة، وفي مقدمة "صحيح مسلم" عن ابن سيرين قال: "لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم ... )؛ فمن حينئذ التزم أهل العلم الإسناد فأصبح هو الغالب حتى استقر في النفوس، وصار المتبادر من قول من قد ثبت لقاؤه لحذيفة "قال حذيفة سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول ... " أو نحو ذلك: أنه أسند، ومعنى الإسناد أنه ذكر من سمع منه، فيفهم من ذاك القول أنه سمع من حذيفة، فلو قال قائل مثل ذلك مع أنه لم يسمع ذاك الخبر من حذيفة وإنما سمعه ممن أخبر به عن حذيفة كان موهماً خلاف الواقع.(1/6)
وهذا العرف لم يكن مستقراً في حق الصحابة، لا قبل الفتنة ولا بعدها، بل عُرفهم المعروف عنهم أنهم كانوا يأخذون من النبي صلى الله عليه وسلم بلا واسطة، ويأخذ بعضهم بواسطة بعض، فإذا قال أحدهم: (قال النبي صلى الله عليه وسلم ... ) كان محتملاً أن يكون سمع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يكون سمعه من صحابي آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فلم يكن في ذلك إيهام.
وأما الثاني فلم يكن ثم احتمال لأن يكون الواسطة غير مرضي، لأنهم لم يكن أحد منهم يرسل إلا ما سمعه من صحابي آخر - يثق به وثوقه بنفسه - عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولم يكن أحد منهم يرسل ما سمعه من صبي أو من مغفل أو قريب العهد بالإسلام أو من مغموص بالنفاق أو من تابعي.
وأما الثالث فلم يكن من شأنهم رضي الله عنهم.
وأما الرابع فتبع للأول.
وأما الخامس فلا ضرر في الاحتمال مع الوثوق بأنه إن كان هناك واسطة فهو صحابي آخر) انتهى كلام المعلمي رحمه الله.
وسبقه إلى نفي التدليس عن الصحابة بكلام جليل العلامة المحقق ابن رشيد السبتي رحمه الله في (السَّنَن الأبْيَن والمورد الأمعن في المحاكمة بين الإمامين في السند المعنعن) (ص63– 65) فقال: (فإن قيل: قد وجد الإرسال من الصحابة رضي الله عنهم وممن بعدهم ممن يعلم أو يظن أنه لا يدلس عمن لقيه وسمع منه؟(1/7)
قلنا: أما حال الصحابة رضي الله عنهم في ذلك الذين وجبت محاشاتهم عن قصد التدليس فتحتمل وجوهاً: منها أن يكونوا فعلوا ذلك اعتماداً على عدالة جميعهم، فالمخوف في الإرسال قد أمن؛ يدل على ذلك ما قاله أنس بن مالك رضي الله عنه؛ ذكر أبو بكر بن أبي خيثمة في "تاريخه" قال: نا موسى بن إسماعيل وهدبة قالا نا حماد بن سلمة عن حميد أن أنساً حدثهم بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رجل: أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فغضب غضباً شديداً وقال: والله ما كل ما نحدثكم سمعنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولكن كان يحدث بعضنا بعضاً، ولا يتهم بعضنا بعضاً.
قلت: ولذلك قبل جمهور المحدثين، بل جميع المتقدمين - وإنما خالف في ذلك بعض من تأصل من المحدثين المتأخرين – مراسل الصحابة رضي الله عنهم؛ وعلى القبول محققو الفقهاء والأصليين.
ومنها أن يكونوا أتوا بلفظ (قال) أو (عن)؛ ولفظ (قال) أظهر إذ هو مهيع الكلام قبل أن يغلب العرف في استعمالهما للإتصال.
ومنها أن يكونوا فعلوا ذلك عند حصول قرينة مفهمة للإرسال مع تحقق سلامة أعراضهم وارتفاعهم عن مقاصد المدلسين وأغراضهم.
ومنها أن يكونوا أتوا بلفظ مفهم لذلك فاختصره من بعدهم لثقة جميعهم ولعل قول كثير من التابعين عمن يروون عنه من الصحابة (ينمي الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) أو (يبلغ به النبي عليه السلام) أو (يرفعه)، أو ما أشبه هذا من الألفاظ: عبارة عن ذلك.
وأما من سوى الصحابة فإنما فعل ذلك من فعله منهم بقرينة مفهمة للإرسال في ظنه وإلا عُدَّ مدلساً). انتهى.
انتفاء معنى التدليس
عن بعض أنواع التجوز بصيغة الأداء الصريحة في السماع(1/8)
يظهر أنه ليس من التدليس استعمال الصيغة الصريحة في السماع بغير معناها الدال على السماع، إذا كانت القرائن كافية لانتفاء السماع؛ ولكن ابن حجر سمى ذلك تدليساً إذ قال في (النكت): (لأنه قد يدلس الصيغة فيرتكب المجاز، كما يقول مثلاً: (حدثنا)، وينوي حدث قومنا أو أهل قريتنا، ونحو ذلك)، إلى آخر كلامه.
وهذه طائفة - أو أمثلة - مما ورد في أحاديث بعض الثقات من استعمال صيغة صريحة في السماع في ما لم يسمعه، تجوزاً - وهو الأرجح - أو تدليساً - وهو الأضعف احتمالاً :
المثال الأول: حديث مسعر عن عبد الملك بن ميسرة عن النزال بن سبرة قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا وإياكم ندعى بني عبد مناف---)، الحديث.
وأراد بذلك: أنه صلى الله عليه وسلم قال لقومه، وأما هو فلم ير النبي صلى الله عليه وسلم.
المثال الثاني: قال طاووس: (قدم علينا معاذ بن جبل رضي الله عنه اليمن). وطاووس لم يدرك معاذاً رضي الله عنه، وإنما أراد: قدم بلدنا.
المثال الثالث: قال الحسن: (خطبنا عتبة بن غزوان)، يريد أنه خطب أهل البصرة، والحسن لم يكن بالبصرة لما خطب عتبة. ذكر هذه الأمثلة الثلاثة الطحاوي كما في النكت لابن حجر.
الأمثلة الرابع والخامس والسادس والسابع والثامن: قال ابن أبي حاتم في (المراسيل) (97): حدثنا محمد بن أحمد بن البراء قال: قال علي بن المديني: الحسن لم يسمع من ابن عباس وما رآه قط؛ كان الحسن بالمدينة أيام كان ابن عباس بالبصرة، استعمله عليها علي رضي الله عنهما؛ وخرج إلى صفين.
وقال لي في حديث الحسن (خطبنا ابن عباس بالبصرة): إنما هو كقول ثابت: (قدم علينا عمران بن حصين)(1)، ومثل قول مجاهد: (قدم علينا علي)؛ وكقول الحسن أن سراقة بن مالك بن جعشم حدثهم؛ وكقوله (غزا بنا مجاشع بن مسعود).
__________
(1) أورده ابن حجر في (النكت) بلفظ (خطبنا عمران بن حصين). ...(1/9)
وقال ابن أبي حاتم في (المراسيل) (100): سمعت أبي رحمه الله يقول: الحسن لم يسمع من ابن عباس؛ وقوله (خطبنا ابن عباس) يعني خطب أهل البصرة.
المثال التاسع: قال ابن أبي حاتم في (المراسيل) (103): حدثنا صالح بن أحمد قال: قال أبي: قال بعضهم عن الحسن (حدثنا أبو هريرة)؛ قال ابن أبي حاتم(1): إنكاراً عليه أنه لم يسمع من أبي هريرة.
وقال في (المراسيل) أيضاً (110): (سمعت أبا زرعة يقول: لم يسمع الحسن من أبي هريرة، ولم يره؛ فقيل له: فمن قال (حدثنا أبو هريرة)؟ قال: يخطىء.
المثال العاشر: قول ثابت البناني: خطبنا ابن عباس رضي الله عنهما؛ ذكر هذا المثال ابن حجر في (النكت على ابن الصلاح).
المثال الحادي عشر: قال في (المراسيل) (272): سمعت أبي يقول: أبو البختري الطائي لم يلق سلمان؛ وأما قول أبي البختري أنهم حاصروا نهاوند، يعني أن المسلمين حاصروا(2).
المثال الثاني عشر: قال في (المراسيل) (197): ذكره أبي عن إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين وسألته، قلت: خليد العصري لقي سلمان؟ قال: لا؛ قلت: إنه يقول (لما ورد علينا)! قال: يعني البصرة.
انتهت الأمثلة.
ولكن خالف في بعض ما تقدم عبد الله بن يوسف الجديع فقال في (تحرير علوم الحديث) (1/134): (قول الراوي: (حدثنا فلان) لا يجوز تأوله على معنى (حدث أهل بلدنا)، فهذا تكلف، ولا شاهد له في الواقع، وذُكر له مثال عن الحسن البصري أنه قال: (حدثنا أبو هريرة)، ولا يصح، إنما هو غلط من بعض الرواة عن الحسن، حسبوه سمع منه، فأبدلوا (عن) بـ(حدثنا)(3).
نعم، توسع بعض الرواة في صيغة (خطبنا فلان)، وعنوا خطب أهل بلدهم، ونحوها؛ أما التحديث والإخبار الصريحين في أمر الرواية فلا).
انتفاء معنى التدليس
عن تعليق المصنفين غير المدلسين الحديث عن شيوخهم
__________
(1) في بيان صيغة كلام أحمد ومعناه.
(2) وليس هو معهم يومئذ. ...
(3) وانظر (جامع التحصيل) للعلائي (ص133). ...(1/10)
إذا روى مصنف كتاب حديثاً فحذف شيخه فيه وكان شيخ المحذوف من شيوخ المصنف أيضاً ولكن لم يسمع منه هذا الحديث وذكر صيغة محتملة فهل يكون هذا تعليقاً لا تدليس فيه أو يكون تدليساً؟ قال ابن حجر في (نزهة النظر): (الصحيح في هذا التفصيل، فإن عرف بالنص أو الاستقراء أن فاعل ذلك مدلس قضي به وإلا فتعليق).
انتهى.
قلت: حاصل هذا الجواب أنه لا يعد بذاته تدليساً ولا يثبت وصف المصنف بالتدليس بمجرد هذا الصنيع.
ومما قد يكون هو القول الفصل في هذا الباب هو أنه إن كان مكثراً من التعليق في كتابه وأن أغلب تلك التعليقات كانت ظاهرة الانقطاع حمل القليل - وهو التعليق إلى شيوخه - على الكثير، فإن الحكم للغالب، ولم يعد ذلك تدليساً؛ وإما إن قلت تعاليقه وكان أكثرها عن شيوخه فهو تدليس. والله أعلم.
الفرق
بين تدليس الإسناد والإرسال الخفي
المذاهب هنا ثلاثة:
المذهب الأول
أن التدليس هو ما تقدم؛ وأما الإرسال الخفي فهو رواية الراوي بالصيغة المحتملة عمن عاصره وليس من شيوخه.
قال ابن رشيد في (السنن الأبين): وأما المعاصر غير الملاقي إذا أطلق (عن) فالظاهر أنه لا يعد مدلساً، بل هو أبعد عن التدليس لأنه لم يعرف له لقاء ولا سماع بخلاف من علم له لقاء أو سماع) وقال ابن حجر في (طبقات المدلسين) (ص16) في الإرسال الخفي: (ومنهم من ألحقه بالتدليس، والأولى التفرقة لتتميز الأنواع).
المذهب الثاني
أنه لا فرق بينهما، ونُسبَ هذا، أعني عدم التفريق، إلى المتقدمين من أهل العلم.
ألف الشريف حاتم بن عارف العوني كتاباً أسماه (المرسل الخفي وعلاقته بالتدليس) قام فيه بدراسة مفصلة لهذا الموضوع؛ ثم إنه لخص أهم نتائجه (1/231-232) فذكرها بقوله:
أولاً: أن المرسل الخفي ليس مصطلحاً تداوله المحدثون كباقي مصطلحات هذا العلم. وإنما هو اسم أطلقه ابن الصلاح لأحد فصول كتابه، أخذاً من كتاب صنفه فيه الخطيب البغدادي بعنوان (التفصيل لمبهم المراسيل).(1/11)
ثانياً: أن (المرسل الخفي) إن أغضينا الطرْف عن كونه ليس مصطلحاً، أو قبلناه لا كمصطلح ولكن عنواناً لبعض الانقطاعات فإنه: كل انقطاع خفي، هذا هو (الإرسال الخفي) الذي صنف فيه الخطيب، وأفرده ابن الصلاح في كتابه بنوع خاص، ومن تبعهما.
ثالثاً: أن (رواية الراوي عمن عاصره ولم يسمع منه): (تدليس) من (تدليس الإسناد) هذا هو المصطلح الذي مضى عليه أهلُ العلم)(1).
انتهى كلام الشيخ الدكتور حاتم حفظه الله، وأرى أن في بعضه نظراً؛ فقد روى مئات الرواة آلاف من الروايات التي أرسلوها عمن عاصروهم ولم يدخلهم العلماء في المدلسين، لهذا الأمر، أعني لعدم الإيهام أو عدم تعمده وارتضائه.
ومن تتبع كتب المراسيل والعلل والتخريج والتواريخ كتاريخ البخاري والمطولات من كتب الجرح والتعديل كتهذيب الكمال: علم صحة ذلك.
ولقد ثبت أن أبا زرعة وأبا حاتم كانا لا يسميان الإرسال الخفي تدليساً. انظر (تهذيب التهذيب) (5/244 – 245 و 5/226) و(التنكيل) (2/89).
المذهب الثالث
التفرقة بينهما بطريقة أخرى، وهي طريقة التفصيل.
__________
(1) تتمة كلامه هي :(رابعاً: أنَّ حصْرَ الحافظ ابن حجر ومن جاء بعده لـ(التدليس) في (رواية الراوي عمن سمع منه ما لم يسمعه منه)، وكذلك تسميته (رواية المعاصر عمن لم يلقه) إرسالاً خفياً، ذلك كله وما تبعه من نتائج: خطأ محْضٌ، مخالف لمصطلح المحدثين.
خامساً: أن حكم الراوي (المدلس) تدليسَ (رواية المعاصر عمن لم يلقه) المكثر من ذلك: أن يُتوقف في صحة سماعه - غالباً - من المعاصر له فلا تقبل عنعنته حينها، حتى يثبت لنا لقاء له مجمل بذلك المعاصر، كأن يصرح بالسماع في أحد أحاديثه عنه.
ولا بد أن يكون لهذا الحكم في الذي عرف بـ(الرواية عن معاصر لم يلقه) شذوذات قد يقبل فيها الأئمة (عنعنته) عن معاصر لم يثبت لنا لقاؤه به، لمسوِّغات خاصة بكل مسألة). انتهى. ...(1/12)
وذلك أن الإرسال الخفي يعد تدليساً، أعني يوصف فاعله بأنه مدلس، وتعدُّ عنعنته عن شيوخه عنعنة مدلس، إذا كان في ذلك الإرسال يتعمد إيهام السماع، أو لا يجتنب الإيهام ولا يحترز منه، ويرتضيه مع علمه بوقوعه، أو بقوة احتمال وقوعه.
ومن أسباب إيهام الإرسال الخفي السماع كثرته عن راو بعينه، من غير بيان لحقيقة الحال، أصلاً، أعني كثرة رواية ذلك المرسِل عمن عاصره أو لقيه ولم يسمع منه شيئاً، من غير أن يبين أنه لم يسمع منه(1).
ولعله مما يطابق هذا المذهب أو يقاربه قول ابن حجر في (النزهة): (والفرق بين المدلَّس والمرسَل الخفي دقيق--- وهو أن التدليس يختص بمن روى عمن عرف لقاؤه إياه، فأما إن عاصره ولم يعرف أنه لقيه فهو المرسل الخفي). انتهى.
وهذا المذهب يصلح للجمع بين ما قد يظهر من تناقض بين عبارات بعض الأئمة في تعريف التدليس، كالخطيب في (الكفاية)؛ وانظر ما كتبه الدكتور خالد منصور الدريس في كتابه (موقف الإمامين البخاري ومسلم من اشتراط اللقيا والسماع) (ص338-345)(2).
***************************************
__________
(1) ولكن قد يقال: من كان مكثراً عن شيخ فلا بد أن يتداول أهل الحديث صفة مروياته عنه من حيث الاتصال والانقطاع فيبعد أن يبقى إرساله عنه بعدئذ غير معروف عند النقاد. ...
(2) تنبيه: قال الذهبي في (تذكرة الحفاظ) (1/248-250) في هشيم بن بشير: "لا نزاع في أنه كان من الحفاظ الثقات إلا أنه كثير التدليس فقد روى عن جماعة لم يسمع منهم ...".
قلت: إن أراد الذهبي أن هشيماً لم يسمع منهم أصلاً فالذهبي هنا قائل بقول من يسمي الإرسال الخفي تدليساً، إلا إن كان هشيم قد أوهم الناس أنه قد سمع من تلك الجماعة في الجملة؛ وأما إن أراد الذهبي أنه لم يسمع منهم بعض ما حدث به عنهم فقوله كقول الجمهور. ...(1/13)
وأخيراً فالذي يظهر أن جمهور العلماء بالحديث قدماء ومتأخرين كانوا يفرقون بين الإرسال الخفي والتدليس، وإن كان المتأخرون يسمون الإرسال الخفي بهذا الاسم، والمتقدمون يسمونه (الإرسال) فقط.
ولكن كان طائفة من النقاد كابن حبان والخليلي يدخلون نوع الإرسال الخفي تحت جنس التدليس.
ولكن هل كان هؤلاء يشترطون في تسميته تدليساً تعمدَ فاعلِه الإيهام أم لا؟ هذا ما ينبغي أن يحرر.
وقد قال عبد الله بن يوسف الجديع في تعليقه على (المقنع) (2/487 – 488): (ومن الجدير بالتنبيه عليه هنا: أنه وقع في كلام كثير من المتقدمين تسمية هذا النوع [يعني المرسل الخفي] تدليساً، وإنما أرادوا به هذا النوع من الإرسال؛ فمن صنف في التدليس من المتأخرين راعى لفظ التدليس ولم يمعن النظر في حقيقة المراد منه فجاء من جُلُّ بضاعتهم في التحقيق الحديثي دراسة بعض كتب المصطلح من غير خبرة بمناهج أئمة الشأن، فحملوه على التدليس الاصطلاحي، فعللوا الكثير من الأحاديث الصحيحة المتصلة، اعتماداً على وصف التدليس الذي أطلقه بعض المتقدمين من الأئمة، وفاتهم معرفة حقيقة المراد من ذلك الوصف في حق كثير من الرواة خاصة من طبقة التابعين.
لذا فإني أنصح المشتغل بهذا العلم أن لا يقبل وصف الراوي بالتدليس إلا بعد معرفة المراد منه، هل أريد به التدليس الاصطلاحي أم الإرسال الخفي). انتهى.
أسباب تدليس الاسناد
لتدليس الإسناد أسباب دفعت إليه أو أغراض دعت إليه؛ أذكر أهمها فيما يلي:(1/14)
السبب الأول: إرادة إخفاء الانقطاع وإيهام الإتصال، مع التخلص من ذكر راو مرغوب عن ذكره إما لطعن فيه أو لجهالته أو لصغره أو لنزول السند به أو لأية علة إخرى تجعله مرغوباً في الرواية عنه؛ فيدلسون ترويجاً لتلك الأحاديث بين الرواة وترغيباً لهم في سماعها منه طلباً للشهرة أو الإغراب أو لمعاني أخرى، كنصرة المذهب؛ وذلك بأن يسمع حديثاً من راو ضعيف أو متروك أو متهم أو وضاع يرويه بإسناد صحيح أو مقبول في الجملة فيدلسه ويروي الحديث عن شيخ ذلك الوضاع؛ ولهذا فإن هذا النوع من التدليس يكون أحياناً سبباً لإسقاط صاحبه وذلك إذا وجدت فيه شروط أخرى ليس هذا موضع تفصيل الكلام فيها.
السبب الثاني: إرادة إيهام العلو إما لترغيب الناس بتلك الرواية؛ فالرواة - كما هو معلوم - لهم من الحرص على سماع الأحاديث العالية ما ليس لهم مثله في الأحاديث النازلة؛ وإما للتشبع بذلك العلو المتوهَّم؛ وهذا لا يصح شرعاً قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (من تشبع بما لم يعط كان كلابس ثوبَي زور).
السبب الثالث: إرادة اختصار السند؛ فإن كثيراً من علماء التابعين كان يروي الأحاديث في معرض احتجاجه أو استشهاده أو استئناسه بها في فتوى أو خطبة أو موعظة أو تفسير آية أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر، فكان لا يحرص على سياقة السند كاملاً لأن المقام ليس مقام تحديث كما هو الشأن في أحاديث المحدثين الذين جاءوا بعد التابعين وكانوا يعقدون المجالس المختصة برواية الأحاديث وسردها بأسانيدها. فهؤلاء مقصدهم الأساس السند، وأولئك مقصدهم الأساس المتن؛ وكان يناسبهم في مثل تلك المقامات المذكورة الاختصار، ولذلك كثر في مروياتهم الإرسال، ولا تكاد تجد تابعياً من المكثرين إلا وفي أحاديثه مراسيل قليلة أو كثيرة.(1/15)
ولهذا كان جماعة منهم إذا سئلوا عن أسانيد أحاديثهم التي أرسلوها أو دلسوها أحالوا على الثقات فلم يكن ذلك قادحاً؛ وفي (تاريخ ابن أبي خيثمة) عن الأعمش قال: قلت لإبراهيم: إذا حدثتني عن عبد الله فأسندْ لي، قال: إذا قلت: (قال عبد الله) فقد سمعته من غير واحد من أصحابه، وإذا قلت: حدثني فلان فقد حدثني فلان.
السبب الرابع: نسيان الراوي أو شكه أو تردده فيمن حدثه؛ وذلك أن يشك الراوي في الذي حدثه ببعض الأحاديث عن شيخه فيدلسها ويرويها عن شيخه من غير أن يذكر الواسطة التي هي شيخه في ذلك الحديث بعينه.
ومن ذلك أن تختلط أحاديث المدلس عن شيخ معين له بأحاديثه عن راو آخر عن ذلك الشيخ نفسه فلا تسمح نفسه بتركها ولا بروايتها على الشك بل يرويها كلها عن شيخه من غير أن يذكر واسطة فيكون قد دلس وهذا في الحقيقة أقرب إلى الكذب منه إلى التدليس.
النوع الثاني
تدليس التسوية
وأما تدليس التسوية: فهو أن يفعل الراوي مثلما فعل في تدليس الإسناد تماماً سوى أنه لا يفعل ذلك لنفسه بل يفعله لشيخه أو بعض من فوقه؛ أي أنه لا يحذف شيخه بل يحذف بعض من فوقه، فكأن هذا الذي فُعل له ذلك هو الذي دلس وهو في الحقيقة غير مدلس.
أو يقال في تعريف هذا النوع من التدليس: هو أن يحذف الراوي من السند راوياً ، غير شيخه الذي سمع ذلك الحديث منه ، ويبقى الإسناد بعد حذفه محتملاً للوصف بالاتصال.
أو يقال في تعريفه: هو أن يحذف المدلس راوياً من بين راويين سمع متأخرهما من متقدمهما في الجملة، ولكنه لم يسمع منه تلك الرواية بعينها، ويذكر بينهما صيغة موهمة للسماع، يفعل ذلك متعمداً.
وكان بعض المحدثين يسمي هذا النوع تجويداً لأن المدلس يُبقي جَيِّد رواته. وانظر معنى (التجويد) الآتي بيانه قريباً.
تنبيهات:(1/16)
الأول: لا وجه للقول بأن من يفعل تدليس التسوية مجروح، ما دام أنه بيَّن أنه أهلٌ لأن يفعله، أو عُرف عنه ذلك فأقرّه؛ وكيف يستقيم أن نفرّق في الحكم، بينه وبين مدلِّس الإسناد، فنطعن في هذا - بسبب تدليسه - دون ذاك؟!
الثاني: من يدلس تدليس التسوية يشترط لقبول روايته - عند من يقبلها - تصريحه بالتحديث ما بينه وبين منتهى الحديث.
الثالث: تدليس التسوية قليل، بل نادر، لعله لم يفعله إلا بضعة من الرواة، ومن أشهرهم به بقية بن الوليد والوليد بن مسلم.
الرابع: يرى بعض العلماء والباحثين أن تدليس التسوية مقصور على حذف شيخ شيخ المدلِّس، لا يتعداه إلى من فوقه؛ وعليه يختلف - بعضَ الشيء - تعريف (تدليس التسوية)، وكذلك أحكامه، كما هو واضح.
*******************
معنى التسوية:
التسوية لها في اصطلاح المحدثين ثلاثة معان:
الأول: تدليس التسوية، وقد تقدم شرحه.
والثاني: التسوية التي ليست بتدليس، وهي حذف المحدث راوياً ممن بين شيخه والصحابي، بحيث لا يكون تدليساً، وذلك بأن يصير السند بعد حذف ذلك الراوي منقطعاً ظاهر الانقطاع، وتسمية هذا النوع تقصيراً أولى من تسميته تسوية، وقَلَّ بين المتقدمين من العلماء من يستعمل التسوية بهذا المعنى.
والثالث: هو تغيير الأسانيد الساقطة أو النازلة بالزيادة والنقص والتبديل ونحو ذلك، بحيث تكون مقبولة أو مرغوباً فيها، وهذا صنيع الكذابين واللاعبين، ومن هذا المعنى وصفهم بعض المجروحين بأنه كان يسوّّي الأسانيد.
فهذه معاني التسوية.
وبعدُ، فإذ بان بهذا الفرقُ بين (التسوية) و (تدليس التسوية)، فمن المناسب أن أكمّل ذلك البيان هنا، بأن أبين معنى مصطلحين آخرين بين كل واحد منهما وتدليس التسوية نوع من العموم والخصوص أو التداخل أو التشابه والتقارب في المعنى، وهما التقصير والتجويد.(1/17)
أما التقصير: فبيانه أنه كان جماعة من القدماء - ومنهم أبو حاتم وأبو زرعة الرازيان - يستعملون لفظة (قصّر) للتعبير عن إسقاط الراوي بعض من فوق شيخه في السند بحيث يصير السند بعد ذلك منقطعاً؛ وقد يكون ذلك الإسقاط عمداً مع ضبط فاعله لما سمعه، أو يفعله من أجل شكه فيه وعدم ضبطه له، أو يفعله خطأ؛ وقد يكون الساقط واحداً أو أكثر، ومعلوم أن هذا ليس من التدليس في شيء.
فلفظة "التقصير" إذن مستعملة بالمعنى الثاني المذكور للفظة التسوية.
ومنهم أيضاً من كان يستعمل لفظة (قصَّرَ) للتعبير عن وقف الراوي الحديث الذي رفعه غيره أو رفعه هو في وقت آخر.
وأما التجويد: فيطلق على ذكر الرواية سالمة من العلة الظاهرة خلافاً للروايات الأخرى، ولكن المجوِّد قد يكون متهماً وتعمد التجويد، وقد يكون ضعيفاً وقد يكون ثقة واهماً في تلك الرواية، أي واهماً في جعلها سالمةً من العلة الظاهرة؛ وقد يكون ثقة وروايته هذه محفوظة أي أنه لم يَهِمْ فيها.
ومعنى ذلك أن الرواية المجوَّدة قد تكون منكرة، وقد تكون شاذة، وقد تكون محفوظة.
فالتسوية لا تكون إلا بنقص في السند، لكن التجويد أحياناً يكون بنقص في السند وأحياناً بزيادة فيه، وأحياناً بلا نقص ولا زيادة، وإنما يكون بروايته من طريق سالمة من الضعفاء بخلاف الطرق الأخرى لذلك الحديث.
----------------------------
ومما تقدم يعلم أن تدليس التسوية أحد أقسام التجويد.
أعلَّ الإمام أبو حاتم روايةً للأوزاعي عن عطاء فقال: إن الأوزاعي لم يسمعها من عطاء بل بينهما رجل، وذكر البيهقي أنه جود إسناده الراوي عن الأوزاعي بشر بن بكر فليس مراده من (جوده) أنه جيد، بل يريد أنه رواه موصولاً فبشر ذكر (عبيد بن عمير) بينما هو مقطوع كمارواه الوليد بن مسلم عن الأوزاعي ولم يذكر (عبيد بن عمير) ولهذا قال الإمام الطبراني في الأوسط: (لم يروه عن الأوزاعي - يعني موصولاً - إلا بشر...).
تنبيه أو توكيد:(1/18)
لفظة (يسوي الاسناد) إذا قيلت في معرض ذم الراوي وتوهينه والحمل عليه فمعناها أنه يغير في الأسانيد ويتصرف فيها ويظهرها بمظهر الاستقامة والقبول.
الفرق
بين تسوية الأسانيد وسرقتها
سرقة الحديث هي أن يختلق راو متابعة من عنده تامة أو قاصرة، لبعض ما سمعه أو وقف عليه أو بلغه من الروايات، سواء أصح ذلك المروي أم لم يصح.
وأكثر ما تقع السرقة في الغرائب والعوالي.
ويظهر أنهم أكثر ما كانوا يطلقون هذه الكلمة على ما إذا كان محدث ينفرد بحديث فيجيء السارق ويدعي أنه سمعه أيضاً من شيخ ذلك المحدث.
وأما وضع إسناد كامل لبعض المرويات أي اختلاق شواهد لها فيسمى وضع الإسناد أو تركيب الإسناد، ويسمى أيضاً "سرقة المتون"؛ ويطلق عليه أحياناً اسم السرقة.
إذا عُلم هذا عُلم أن الفرق بين قولهم: (يسوي الأسانيد) وقولهم: (يسرق الأسانيد)، أن السرقة تصرُّفٌ في السند من ابتدائه، وأما التسوية فتصرف في السند من أثنائه؛ المسوي كان عنده أصل السند، والسارق لم يسمع الحديث بذلك السند أصلاً.
*******************************
أسباب
تدليس التسوية
أسبابه هي بعض ما تقدم من أسباب تدليس الإسناد، ومن تأمل ذلك علمه.
النوع الثالث
تدليس الأسماء أو تدليس الشيوخ
وهو أن يروي الراوي عن الشيخ، فيسميه أو يكنيه أو ينسبه أو يصفه، بما لم يشتهر به، أو بما لم يعرف به أصلاً؛ فإما أن يُجْهَل - بسبب ذلك - الشيخ المراد تعيينه، أو توافق تسميته تسمية غيره من الثقات أو الكبار أو المشاهير فيوهم ذلك أنه المراد.
وهذا كما فُعِل بتسمية (محمد بن سعيد الأسدي الشامي المصلوب)، قيل: قلبوا اسمه على مئة وجه ليخفى، انظر (الضعفاء) للعقيلي (4/72) و(الكفاية) للخطيب (ص522).
فينبغي أن يكون الباحث في أحكام الأحاديث ورواتها قادراً على تخمين مظان هذا النوع من التدليس وكيفياته.(1/19)
وينبغي الاعتناء بمعرفة أسماء الرواة الذين كانوا يتعاطون هذا النوع من التدليس، فإنه يورد ريبة في كل شيخ لأحدهم غير معروف، وكذلك يورد ريبة في روايته عن حافظ ثقة شهير له أصحاب يلازمونه وتفرد عنه بالحديث ذلك المدلس، دونهم، فحينئذ يقوم الاحتمال على أن يكون المسمى بذلك الإسم راوياً آخر غير ذلك الحافظ الشهير، وقد يكون مجروحاً أو مجهولاً، ولكن ذلك المدلس دلس اسمه عمداً، غيَّره ليوافق اسم الحافظ المشهور ليوهم أنه هو شيخه في ذلك الحديث.
ومن الكتب المُساعدة على كشف هذا النوع من التدليس (موضح أوهام الجمع والتفريق) للخطيب البغدادي.
تنبيه: هذا النوع من التدليس لا علاقة له بالاتصال والانقطاع، فحقه أن يذكر في كتب المصطلح في أبواب أسماء الرواة وكناهم وألقابهم، ولكن جرت عادة المصنفين في هذا الفن بذكر أنواع التدليس مجتمعة في موضوع الاتصال والانقطاع غالباً؛ ولذلك - أو لغيره - يذكرون هذا النوع في أبوابها.
تنبيه آخر: إذا روى الراوي الحديث عن ثقة ومجروح - أو مجهول - مقرونَين في طبقة فوق شيخه، فأسقط غير الثقة، فهذا ليس من تدليس الإسناد، كما هو واضح.
وهو أيضاً ليس من تدليس الأسماء.
ولكن شرط إخراج هذا الصنيع من التدليس أن يكون فاعله جازماً بأن الرواية التي ساقها هي رواية الثقة أو أن روايتيهما واحدة.
وكان مسلم بن الحجاج رحمه الله عندما يرد في الاسناد راويان مقرونان أحدهما ثقة والآخر مجروح ربما يسقط المجروح من الإسناد ويذكر الثقة ثم يقول: (وآخر)، كناية عن المجروح.
وهذا في الحقيقة ليس تدليساً، ولكنه يشبه تدليس الأسماء.(1/20)
وعقد الخطيب في (الكفاية) (ص378) باباً أسماه (باب في المحدث يروي حديثاً عن الرجلين أحدهما مجروح هل يجوز للطالب أن يسقط اسم المجروح ويقتصر على حمل الحديث عن الثقة وحده؟)، فقال فيه: (ولا يستحب للطالب أن يسقط اسم المجروح ويجعل الحديث عن الثقة وحده، خوفاً من أن يكون في حديث المجروح ما ليس في حديث الثقة؛ وربما كان الراوي قد أدخل أحد اللفظين في الآخر أو حمله عليه).
ثم قال: (وكان مسلم بن الحجاج في مثل هذا ربما يسقط المجروح من الاسناد ويذكر الثقة ثم يقول: (وآخر) كناية عن المجروح؛ وهذا القول لا فائدة فيه لأنه إن كان ذِكْر الآخر لأجل ما اعتللنا به ]يعني عدم جواز اسقاط اسم المجروح[ فإن خبر المجهول لا يتعلق به الأحكام وإثبات ذكره ]أي بلفظة وآخر[ وإسقاطه سواء، إذ ليس بمعروف؛ وان كان عول على معرفته هو به فلمَ ذكره بالكتابة عنه وليس بمحل الأمانة عنده؟ ولا أحسب إلا استجاز إسقاط ذكره والاقتصار على الثقة لأن الظاهر اتفاق الروايتين على أن لفظ الحديث غير مختلف واحتاط مع ذلك بذكر الكناية عنه مع الثقة تورعاً وإن كان لا حاجة إليه، والله أعلم). انتهى كلام الخطيب رحمه الله.
قلت: أظن مسلماً لم يكن يفعل ذلك في طبقة شيوخه، ولكن في الطبقات الأخرى، وممن كان يكني عنه بالصيغة السابقة (ابن لهيعة).
وهذا من حسن صنيع مسلم وكمال أمانته، فإنه لم يستحسن حذفه فيغير سياق الرواية تغييراً كبيراً وقد يكون ضاراً، ولم يستحسن ذكره صريحاً فيظن ظان أنه يحتج به أو يستشهد به؛ وهو إنما علم أن اللفظ للثقة الذي سماه فسماه وذكر المقرون به، بالكناية عنه، فحقق المقصود واحترز مما يحذر.
وليس هذا تدليساً، لأنه لا إيهام فيه؛ ومسلم مشهور بتدقيقه في الألفاظ وتمييزه الاختلاف الواقع بين روايات الحديث الواحد عندما يجمعها في سياق واحد.(1/21)
وأقول تكميلاً لكلام الخطيب: ومما هو أدعى إلى عدم الإسقاط أن يكون الثقة مدلساً وقد عنعن ففي تلك الحالة يقوم الاحتمال على أنه قد سمعه من ذلك المجروح فدلسه، فتابع أحدهما الآخر فسمعهما الراوي عنهما فقرن بينهما في سياق الإسناد ووحد المتن.
********************************
أضرار تدليس الأسماء
قال ابن دقيق العيد رحمه الله: (فيه [أي تدليس اسم الشيخ الثقة] مفسدة من جهة أنه قد يخفى فيصير الراوي المدلس مجهولاً لا يُعرف فيسقط العمل بالحديث مع كونه عدلاً في نفس الأمر.
قال ابن حجر في (النكت): وقد نازعته في كونه يصير مجهولاً عند الجميع، لكن من مفسدته أن يوافق ما يدلَّس به شهرة راو ضعيف يمكن ذلك الراوي الأخذ عنه، فيصير الحديث من أجل ذلك ضعيفاً وهو في نفس الأمر صحيح؛ وعكس هذا في حق من يدلس الضعيف ليخفي أمره فينتقل عن رتبة من يُرَدُّ خبره مطلقاً إلى رتبة من يتوقف فيه. فإن صادف شهرة راو ثقة يمكن ذلك الراوي الأخذ عنه فمفسدته أشد؛ كما وقع لعطية العوفي في تكنيته محمد بن السائب الكلبي أبا سعيد، فكان إذا حدث عنه يقول: حدثني أبو سعيد فيوهم أنه أبو سعيد الخدري الصحابي رضي الله عنه لأن عطية كان لقيه وروى عنه؛ وهذا أشد ما بلغنا من مفسدة تدلس الشيوخ.
وأما ما عدا ذلك من تدليس الشيوخ، فليس فيه مفسدة تتعلق بصحة الإسناد وسقمه، بل فيه مفسدة دينية فيما إذا كان مراد المدلس إيهام تكثير الشيوخ لما فيه من التشبع---.
ونظيره في تدليس الإسناد أن يوهم العلو وهو عنده بنزول). انتهى.
********************************
أسباب تدليس الأسماء
من أسباب هذا النوع من التدليس أن يكون الشيخ المدلَّس اسمُه: مجروحاً أو مجهولاً أو صغيراً أو قريباً أو تكون أحاديثه مشهورة متداولة قد سمعها أكثر الحاضرين في مجلس المدلس، أو مجلس غيرِه، أو يكون المدلس مكثراً عن ذلك الراوي فيغير تسميته دفعاً للتكرار.(1/22)
وبعبارة أخرى: سبب تدليس الإسناد إرادة إخفاء حقيقة الراوي وإيهام أن الحديث لراو آخر غيره؛ إما بسبب صغره أو قربه أو رغبة الناس عن حديثه أو كراهته أو الخوف من ذكره عند من يعاديه أو كذبه أو تركه أو ضعفه، وذلك أن قوماً سمعوا الحديث من ضعفاء لهم أسماء أو كنى مشهورة عرفوا بها فلو صرحوا بأسمائهم المشهورة وكناهم المعلومة لم يُشتغَل بحديثهم فأتوا بالإسم الخامل وبالكنية المجهولة ليبهموا الأمر ولئلا يعرف ذاك الراوي وضعفه فيزهد في حديثهم.
النوع الرابع
تدليس البلاد
هذا النوع يشبه تدليس الشيوخ، ومثاله ما إذا قال المصري: (حدثني فلان بالأندلس) وأراد موضعاً بالقرافة؛ أو قال: (بزقاق حلب) وأراد موضعاً بالقاهرة؛ أو قال البغدادي: (حدثني فلان بما وراء النهر) وأراد نهر دجلة، أو قال: (بالرقة) وأراد بستاناً على شاطئ دجلة؛ أو قال الدمشقي: (حدثني فلان بالكرك) وأراد كرك نوح، وهو بالقرب من دمشق.
وحكْمه الكراهة، لأنه يدخل في باب التشبع بغير المُعطى، وإيهام الرحلة في طلب الحديث.
وهم إنما يفعلون تدليس البلاد لإيهام الرحلة أو ليكون البلد المتوهَّم قرينة تُوْهم أن شيخ ذلك المدلس، أو شيخ شيخه، هو أحد مشاهير محدثي ذلك البلد المتوهَّم، مع أنه - في الحقيقة - غيره ولكنه يشاركه في التسمية، دون البلد.
***************************
أسباب
تدليس البلاد
غرض من يفعل هذا النوع من التدليس قد اتضح مما تقدم، وهو إخفاء حقيقة موضع التحمل وإيهام أنه موضع آخر؛ إما لإيهام الرحلة أو إيهام السماع من راو شهير من أهل ذلك البلد المراد توهم السماع فيه أو إيهام قدم السماع أو غير ذلك.
**************************
النوع الخامس
تدليس كيفية التحمل
وأشهر أقسامه تدليس الإجازة وتدليس المذاكرة، وهذا شرحهما.
تدليس الاجازة(1/23)
أما تدليس الإجازة، فهو أن يروي الراوي ما تحمله بالإجازة، بصيغة أداء توهم أنه سمعه من المجيز، أو أنه كتب به إليه، مع أنه إنما سمع منه عبارة الإجازة فقط، أو كتب إليه بالإجازة فقط، وأشار إلى المجاز به، أو عينه، دون أن يكتبه له.
ومن تلك الصيغ المستعملة للإيهام (أخبرني) و(شافهني) و(كتب إليّ).
قال ابن حجر في (طبقات المدلسين) (ص62): (ويلتحق بالتدليس ما يقع من بعض المحدثين من التعبير بالتحديث أو الإخبار عن الإجازة موهماً للسماع ولا يكون سمع من ذلك الشيخ شيئاً).
ونبه عليه أيضاً في (النكت على ابن الصلاح) انظر (2/624، 625، 633) منه.
وقال في (النخبة) و(شرحها) (ص172): (---(وأطلقوا المشافهة في الاجازة المتلفظ بها) تجوزاً، (و) كذا (المكاتبة في الاجازة المكتوب بها)؛ وهو موجود في عبارة كثير من المتأخرين، بخلاف المتقدمين، فإنهم إنما يطلقونها فيما كتب به الشيخ من الحديث، إلى الطالب، سواء أذن له في روايته أم لا، لا فيما إذا كتب إليه بالإجازة فقط).
يعني يقول أحدهم مثلاً: (قال فلان فيما شافهني به: حدثنا فلان) ثم يذكر حديثاً؛ أو يقول: (شافهني فلان قال أخبرني فلان) ثم يذكر حديثاً، مع أن أصل استعمالهم لهذه الكلمة أو أصل معناها في اللغة إنما يقال فيما يسمعه الطالب من شيخه.
وأما ما قاله بشأن المكاتبة فواضح لا يحتاج إلى شرح.
وهذا يسميه بعضهم (تدليس الصيغة)، ولعل تسميته (تدليس صورة التحمل)، أو (تدليس كيفية التحمل) أحسن وأبْيَن.
تكميل: قال ابن الصلاح: (وينبغي فيما شاع استعماله من هذه الألفاظ مخصوصاً بما سمع من غير لفظ الشيخ أن لا يطلق فيما سمع من لفظه لما فيه من الإيهام والإلباس).
وقال العراقي: (إطلاق (أنبأنا) بعد أن اشتهر استعمالها في الإجازة يؤدي إلى أن نظن بما أداه بها أنه إجازة فيسقطه من لا يحتج بها فينبغي أن لا يستعمل في السماع لما حدث من الاصطلاح).(1/24)
وممن وصف بهذا النوع من التدليس أبو نعيم الأصبهاني، قال ابن حجر في (طبقات المدلسين) (ص82): (كانت له إجازة من أناس أدركهم ولم يلقهم فكان يروي عنهم بصيغة " أخبرنا " ، ولا يبين كونها إجازة، لكنه كان إذا حدث عمن سمع منه يقول: "ثنا " سواء ذلك قراءة أو سماعاً، وهو اصطلاح له تبعه عليه بعضهم، وفيه نوع تدليس لمن لا يعرف ذلك).
ومن العلماء من لم يرض بتسمية هذا الصنيع تدليساً؛ قال العلائي عقب ذكره طبقات المدلسين: (وهذا كله في تدليس الراوي ما لم يتحمله أصلاً بطريق ما؛ فأما تدليس الإجازة والمناولة والوجادة بإطلاق " أخبرنا " فلم يعده أئمة الفن في هذا الباب، كما قيل في رواية أبي اليمان الحكم بن نافع عن شعيب، وروايةِ مخرمة بن بكير بن الأشج عن أبيه، وصالح بن أبي الأخضر عن الزهري، وشبه ذلك؛ بل هو إما محكوم عليه بالانقطاع أو يعد متصلاً؛ ومن هذا القبيل ما ذكره محمد بن طاهر المقدسي عن الحافظ أبي الحسن الدارقطني أنه كان يقول فيما لم يسمع من البغوي: "قرئ على أبي القاسم البغوي حدثكم فلان" ويسوق السند إلى آخره، بخلاف ما هو سماعه فإنه يقول فيه: "قرىء على أبي القاسم وأنا أسمع" ، أو "أخبرنا أبو القاسم البغوي قراءةً " ، ونحو ذلك؛ فإما أن يكون له من البغوي إجازة شاملة بمروياته كلها فيكون ذلك متصلاً له، أو لا يكون كذلك فيكون وجادة؛ وهو قد تحقق صحة ذلك عنه؛ على أن التدليس في المتأخرين بعد سنة ثلاثمئة يقل جداً قال الحاكم: لا أعرف في المتأخرين من يذكر به إلا أبا بكر محمد بن محمد بن سليمان الباغندي).
ونحو تدليس الاجازة تدليس المكاتبة والمناولة.
**************************
حكم من وصف بهذا التدليس(1/25)
إذا كانت صيغة الأداء صريحة في عدم احتمال الواسطة بين الراوي ومن فوقه، فإن كان غير موصوف بتدليس الاجازة ونحوها فتلك الصيغة تعتبر صريحة في السماع؛ ولكن إذا كان الراوي موصوفاً بهذا النوع من التدليس، أو كان من الطبقات التي كثر فيها ذلك وهم المتأخرون، ولم يأت ما يدل على عدم تعاطيه إياه، فينبغي اعتبار احتمالات هذه القضية والنظر في قرائنها وملابساتها؛ فإذا كان الحديث شاذاً أو منكراً أو غريباً غرابة لا يحتملها ظاهر الإسناد فقد يترجح عند الناقد الحمل على هذا النوع من التدليس.
**************************
تدليس المذاكرة
وأما تدليس المذاكرة، فأن يروي ما سمعه بالمذاكرة من غير أن يصرح بأنها مذاكرة، ليس من باب الوهم والنسيان، بل من باب التعمد والتساهل وإخفاء حقيقة كيفية أخذ الحديث.
والمذاكرة: هي أن يتذاكر أهل الحديث فيما بينهم في مجالسهم ببعض الأحاديث، والمعروف أنهم حين ذاك لا يحرصون على الدقة في أداء الرواية، كما يحرصون عليها في مجالس التحديث، أي الأداء، وذلك لعلمهم أن السامع ، أي لما يقال في المذاكرة، يعلم من القرائن القائمة في ذلك المقام أن المحدث لم يقصد بذلك الإسماعَ الذي ينبني عليه الرواية والتبليغ، ولذلك منع جماعة من الأئمة الحمل عنهم حال المذاكرة.(1/26)
وكان من عادة كثير من المحدثين التباهي بالإغراب، يحرص كل منهم على أن يكون عنده من الروايات ما ليس عند الآخرين لتظهر مزيته عليهم، وكانوا يتعنتون شديداً لتحصيل الغرائب ويحرصون على التفرد بها، وكانوا إذا اجتمعوا تذاكروا فيحرص كل واحد منهم على أن يذكر شيئاً يُغْرب به على أصحابه، بأن يكون عنده، دونهم، ولم يكونوا يبالون في سبيل إظهار المزية والغلبة أكان الخبر عن ثقة أو غيره، صحيحاً أو غير صحيح؛وكانت طريقتهم في المذاكرة أن يشير أحدهم إلى الخبر الذي يرجو أنه ليس عند صاحبه ثم يطالبه بما يدل على أنه قد عرفه، كأن يقول الأول: مالك عن نافع قال 000، فإن عرفه الآخر قال: حدثناه فلان عن فلان عن مالك. وقد يذكر ما يعلم أنه لا يصح أو أنه باطل كأن يقول: (المقبري عن أبي هريرة مرفوعاً: أبغض الكلام إلى الله الفارسية). ومن حدث بما سمعه في المذاكرة كان عليه أن يقول: حدثنا فلان مذاكرة أو في المذاكرة، ولا يطلق ذلك فيقع في نوع من التدليس.
]أصل هذا الكلام للعلامة المعلمي في التنكيل[.
**************************
أسباب هذا النوع (الخامس) من التدليس
غرض من يتعاطى هذا النوع من التدليس إخفاء حقيقة كيفية التحمل المرغوب عنها أو المفضولة أو غير المعتمدة عند جماعة، وإيهام كونه - أي التحمل - حاصلاً بكيفية أخرى صحيحة أو فاضلة.
النوع السادس
تدليس المتون
قال أبو المظفر السمعاني في كتابه (قواطع الأدلة) (2/323): (وأما من يدلس في المتون فهذا مطرح الحديث مجروح العدالة وهو ممن يحرف الكلم عن مواضعه فكان ملحقا بالكذابين ولم يقبل حديثه).
قال بعض الفضلاء المحققين، وأظنه الشيخ عبد الله السعد: (إذا كان أبو المظفر يقصد تغيير المتن تعمداً من الراوي أو حمل هذا المتن على إسناد آخر فهذا كذب لمن تعمده، ولكن لا يسمى – اصطلاحاً - تدليساً، وأما إذا لم يتعمد فهذا أيضاً لا يسمى تدليساً، وإنما خطأ وسوء حفظ). انتهى.(1/27)
وقال الزركشي في (النكت على مقدمة ابن الصلاح) (2/31-32) بعد كلام في التدليس: (هذا كله في تدليس الرواة وأما تدليس المتون فهو الذي يسميه المحدثون المدرج--- وقد ذكره المصنف في النوع العشرين وكان ذكره هنا أنسب؛ وممن ذكره هنا من الأصوليين الأستاذ أبو منصور البغدادي وأبو المظفر السمعاني--- وكذلك ذكره الماوردي والروياني في الحاوي والبحر في كتاب القضاء فقسما التدليس إلى ما يقع في الإسناد وإلى ما يقع في المتن).
هذا آخر أنواع التدليس، وإذا أخرجنا منها النوع الأخير، تكون راجعة إلى أربعة أصول: إيهام العلو أو الصحة، بحذف راو.
أو إيهام الرحلة أو الغرابة أو الصحة بتسمية راو بغير ما اشتهر به.
أو إيهام مثل ذلك بتسمية مكان السماع باسم بلد بعيد أو مهم.
أو إيهام صحة التحمل، أو جودتِه، بتغيير صيغة الأداء المعبرة عن كيفية التحمل.
***************
قواعد
وضوابط
وتنبيهات
في التدليس
(1)
ضرورة التثبت في قبول وصف الراوي بالتدليس
إذا وصف الراوي بالتدليس فلا بد لاعتماد ذلك الوصف من تحقق صحة ذلك الوصف، فالوهم قد يقع في وصف الرواة بالتدليس من قبل النقاد الواصفين أو من قبل الرواة الناقلين لذلك الوصف أو من قبل النساخ والطابعين للكتب التي يرد فيها الوصف؛ نظير ما يقع في باب التجريح والتعديل.
(2)
ضرورة تعيين نوع التدليس المدعى على الراوي
الأصل في إطلاق لفظة التدليس أن يراد بها تدليس الإسناد؛ ولكن قد يراد بها غيره من أنواع التدليس؛ ولذلك ينبغي تحقق المراد؛ ويتم ذلك بجمع أقوالهم المتعلقة بتدليس ذلك الراوي وملاحظة المصطلحات والقرائن والتطبيق على الأصول والقواعد.
وأخشى أن يكون ابن سعد أحد النقاد الذين يطلقون وصف الراوي بالتدليس ويريدون به تدليس الأسماء، وما أنفع أن يدرس منهجه في وصف الرواة بالتدليس.
(3)
التدليس ليس جرحاً في فاعله(1/28)
قال العلامة المعلمي في (الأنوار الكاشفة) (ص161-162) في بيان هذه المسألة: (وذكر [أبو رية] ص165 ما حكي عن شعبة في ذم التدليس وقال: (ومن الحفاظ من جرح من عرف بهذا التدليس من الرواة، فرد روايته مطلقاً وإن أتى بلفظ الاتصال).
أقول: بعد أن استحكم العرف الذي مر بيانه نشأ أفراد لا يلتزمونه، وهم ضربان: الضرب الأول: من بين عدم التزامه فصار معروفاً عند أصحابه والآخذين عنه أنه إذا قال: (قال فلان 000) ونحو ذلك وسمى بعض شيوخه احتمل أن يكون سمع الخبر من ذاك الشيخ واحتمل أن يكون سمعه من غيره عنه. فهؤلاء هم المدلسون الثقات. وكان الغالب أنه إذا دلس أحدهم خبراً مرة أسنده على وجهه أخرى. وإذا دلس فسئل بيّن الواقع.
والضرب الثاني من لم يبين بل يتظاهر بالالتزام ومع ذلك يدلس عمداً.
وتدليس هذا الضرب الثاني حاصله إفهام السامع خلاف الواقع ، فإن كان المدلس مع ذلك متظاهراً بالثقة كان ذلك حملاً للسامع ومن يأخذ عنه على التدين بذاك الخبر عملاً وإفتاءً وقضاءً.
فأما تدليس الضرب الأول فغايته أن يكون الخبر عند السامع محتملاً للاتصال وعدمه، وما يقال إن فيه إيهام الاتصال إنما هو بالنظر إلى العرف الغالب بين المحدثين، فأما بالنظر إلى عرف المدلس نفسه فما ثم إلا الاحتمال.
فالضرب الثاني هو اللائق بكلمات شعبة ونحوها وبالجرح وإن صرح بالسماع.(1/29)
فأما الضرب الأول فقد عد منهم ابراهيم النخعي واسماعيل بن أبي خالد وحبيب بن أبي ثابت والحسن البصري والحكم بن عتبة وحميد الطويل وخالد بن معدان وسعيد بن أبي عروبة وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة وسليمان التيمي والأعمش وابن جريج وعبد الملك بن عمير وأبو اسحاق السبيعي وقتادة وابن شهاب والمغيرة بن مقسم وهشيم بن بشير ويحيى بن أبي كثير ويونس بن عبيد؛ وهؤلاء كلهم ثقات أثبات أمناء مأمونون عند شعبة وغيره متفق على توثيقهم والاحتجاج بما صرحوا فيه بالسماع. قال ابن القطان: (إذا صرح المدلس الثقة بالسماع قبل بلا خلاف، وإن عنعن ففيه الخلاف [فتح المغيث للسخاوي ص77[).
فأما الصحابة رضي الله عنهم فلا مدخل لهم في التدليس كما تقدم.
(4)
فعلُ الراوي نوعاً من أنواع التدليس
لا يلزم منه أن يفعل سائر أنواعه
وهذه المسألة واضحة، وقد نسب النقاد طائفة من الرواة إلى كل نوع من أنواع التدليس، ولم يقع بين تلك الطوائف من الاشتراك إلا القليل.
(5)
الأصل في الرواة الثقات البراءة من صفة التدليس
إن الأصل في الرواة الثقات السلامة من التدليس؛ فمن وصفه العلماءُ، بالتدليس، فهو المدلِّس، ومن لا فلا؛ وبعبارة أخرى، فإنه لا معنى لأن يُشترَط لنفي التدليس عن الراوي الذي لم يوصَف به، أن يَنصَّ على انتفائه عنه علماءُ العلل وأئمة الحديث.
(6)
حكم من نص على تدليسه بعض النقاد وسكت عنه آخرون
قد يردُّ بعضُ العلماء أو الباحثين وصفَ الناقد للراوي بالتدليس بأن النقاد الآخرين الذين بينوا حاله أطلقوا توثيقه ولم يذكروا تدليساً.
وهذا الرد أو التعقب فيه نظر؛ فإن من علم حجة على من لم يعلم؛ وإطلاق التوثيق من قِبل ناقد مع سكوته عن ذكر التدليس لا ينافي إثبات التدليس من قِبل ناقد آخر .(1/30)
وسكوت الناقد عن وصف الراوي بالتدليس أقلُّ دلالةً - بكثير - من سكوته عن تجريحه أو تعديله؛ فإنهم لا يكادون يسكتون في كتب الجرح والتعديل عن بيان حاله في الرواية من جهة نفسه، أعني صفته من حيث العدالة والضبط، ولكنهم كثيراً ما يسكتون عن بيان حال أسانيده من حيث الاتصال والانقطاع، ومن ذلك إرساله وتدليسه؛ ولكن إذا لم يذكروه بالتدليس في كتبهم التي ألفوها في التدليس والمراسيل ولا ذكروه في كتب العلل ولا أعلوا حديثاً بعنعنته؛ فمعنى هذا أنه غير مدلس عند صاحب هذا الكتاب.
ولكن من النقاد من هو دون غيره في العلم والتمييز، فإذا انفرد مثله بوصف أحد الثقات المشاهير بالتدليس، فيحمل كلامه على تدليس الأسماء، أو الإرسال الخفي، أو يكون واهماً في تلك الدعوى، أو مقلداً لمن لا يصح الاعتماد عليه في مثل هذه المسائل، أو غير ذلك من الوجوه؛ ومثال ذلك ما يقع من ابن سعد أحياناً.
(7)
معنى قلة الواصفين للراوي بالتدليس
من لم يصفه بالتدليس إلا الواحد والاثنان من النقاد مع كثرة من بيَّن حاله في الرواية منهم، فإن ذلك دال على قلة تدليسه؛ ولكن ثَمَّ فرقٌ بين قوة ثبوت تدليس من وصفه بالتدليس الأئمةُ العارفون به، وتدليس من وصفه به غيرهم.
(8)
إقرار الراوي بتدليس حديث
إذا أقرَّ الراوي بتدليسه لحديث يرويه فهو حديث مدلَّس، كما هو بيِّن؛ ويقوم مقامه في الاعتراف شيخه الذي عنه روى الحديث، أو أحد أقرانه ممن حضر مجلس السماع؛ أو من خالطه من الأئمة النقاد؛ أو غيرهم من المطلعين على شأنه في ذلك الحديث.
(9)
كيف يحصل الإقرار بالتدليس
الاعتراف بالتدليس إما أن يكون إقراراً من الراوي بتدليس حديث بعينه، وهذا يكفي لإدخاله في جملة المدلسين، أو يكون إقراراً بوقوع التدليس منه في الجملة، من غير أن يذكر حديثاً دلس فيه، بعينه، وقد يقول كلاماً يُفهم منه أنه يدلس.(1/31)
وفيما يلي تلخيص لأهم طرق إقرار الراوي بأنه يتعاطى التدليس، أو تصريحه بما يُفهَم منه أنه كذلك: الطريقة الأولى: أن يُسأل - في حال التحديث بلا تأخير - عن رواية عنعن فيها، فيخبر السائلَ أنه دلَّسها أو أنه لم يسمعها ممن رواها عنه.
ومثال هذا ما كان يفعله شعبة، كثيراً، مع شيخيه قتادة وأبي إسحاق.
الطريقة الثانية: أن يسأل بعد مجلس الأداء بمدة، قد تطول أو تقصر، عن سماعه من شيخ معين إما سؤالاً مقيداً بشيء معين، أو سؤالاً مطلقاً، فيجيب بأنه لم يسمع ذلك الشيء منه، أو يجيب بأنه لم يسمع منه شيئاً أصلاً.
ومثال هذا ما جاء عن أبي الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي؛ قال الليث: (قدمت على أبي الزبير فدفع إليَّ كتابين وانقلبت بهما، ثم قلت في نفسي: لو عاودته فسألته أسمع هذا كله من جابر؟ فقال: منه ما سمعتُ، ومنه ما حُدثناه عنه)؛ فهذا يعني أنه مدلِّس.
الطريقة الثالثة: أن يقول ما يُعرَف به أنه مدلس، قال أبو بكر بن عياش: (قال لي حبيب بن أبي ثابت: لو أنَّ رجلاً حدثني عنك ما باليتُ أن أرويه عنك)؛ فهذا كافٍ في نسبة حبيب إلى التدليس ووصفهِ به.
(10)
وسائل اكتشاف التدليس في الحديث
إذا وُجد في إسناد الحديث عنعنة راو مدلس، فالحديث يحتمل أن يكون مدلَّساً، ويحتمل أن يكون غير مدلَِّس؛ فإن نصّ العلماء العارفون على أنه مدلَّس فذاك؛ وإلّأ احتاج الباحث إلى دراسة القضية.
وحينئذ فإنَّ أهم السبل المؤدية إلى اكتشاف التدليس في الروايات هي جمع الطرق والأسانيد والتبحر في نقدها ومقارنتها ببعضها، وجمع ما يتعلق بالمسألة من أقوال النقاد والمؤرخين، ولا سيما علماء العلل منهم، وملاحظة القرائن والاحتمالات، بتدقيق النظر وإطالة التأمل.
(11)(1/32)
الشواهد والمتابعات القاصرة – بل والتامة أيضاً - للمدلس في حديث يرويه معنعناً لا تكفي لدفع تهمة التدليس عنه في ذلك الحديث، ولو كانت تلك المتابعات أو الشواهد صحيحة؛ لأن الشواهد الصحيحة إنما تؤكد حفظ الراوي للمتن، أو لمعناه، وللقطعة المشتركة من السند، وتؤكد إتيانه بذلك على وجهه؛ وأما ما دون ذلك من السند، ومنه عنعنته، فهي باقية على حكمها الأول.
ولكن إذا توبع الراوي عن ذلك المدلس - لا المدلِّس نفسه - متابعةً تامة مع المخالفة في صيغة أداء المدلس، بأن يجعلها أحدهما صريحة في السماع ويجعلها الآخر محتملة، فتلك مسألة أخرى.
(12)
اعتبار كون الراوي مدلساً يشتد في الأخبار التي يرويها عمن هو مقل عنهم؛ انظر كلام المعلمي في حاشية (الفوائد المجموعة) (ص349) وانظر (النقد الصريح) لعمرو عبد المنعم سليم (ص116).
(13)
ذكر الدكتور ناصر الفهد في ختام بحوثه في كتابه (منهج المتقدمين في التدليس) خلاصة تلك البحوث فقال:
1. إن أساس منهج المتقدمين في أحكامهم على الحديث في الجملة قائم على الاستقراء الواسع والتتبع والسبر والمقارنة مع طول اشتغال بهذا العلم وحفظه ومذاكرته ومدارسته الأئمة.
2. إن التدليس له عدة صور، وكل صورة لها حكم خاص، بل لكل مدلس حكم خاص تقريباً. فهناك من التدليس ما يلحق بالإرسال؛ وهناك من التدليس ما لا ينظر فيه إلى (الصيغة) وذلك مثل (تدليس الشيوخ) و (الأخذ من الصحيفة)؛ وهناك من التدليس ما يكون عاماً؛ وهناك ما هو خاص براوٍ معين؛ وهناك من الروايات ما يؤمن فيها من التدليس، لأنها من رواية المدلس عن شيوخ معينين أو من روايات شيوخ معينين عن المدلس؛ وكل هذا يعرف بدراسة حال المدلس وأقوال الأئمة فيه واعتبار رواياته.(1/33)
3. إن (صيغ التحديث والأداء) يلحقها (التغيير) كثيراً، فالعنعنة في الغالب تكون ممن دون المدلس أو الراوي عموماً، كما أن التصريح بالتحديث أحياناً قد يكون وهماً ممن دون المدلس، فالحكم بالتدليس بناءاً على العنعنة فقط خطأ؛ والحكم بالاتصال بناءاً على وجود طريق فيه التصريح بالتحديث فقط – مع مخالفتها جميع الطرق – خطأ، ومعرفة هذه الأمور تكون باستقراء الروايات مع معرفة حال الرواة بدقة.
4. إن طريقة المتقدمين في حكمهم على روايات المدلسين المعنعنة تنقسم إلى قسمين:
a. القسم الأول: الرد، وهو في حالتين:
i. الحالة الأولى: أن يكون قام الدليل على أن حديثه هذا بعينه مدلس؛ وهذا يعرف بعدد من الوجوه ذكرتها في الفصل الرابع.
ii. الحالة الثانية: أن لا يعلم وجود التدليس ولكن تكون في الحديث علة فتحمل هذه العلة على احتمال وجود التدليس.
b. القسم الثاني: القبول، وهو فيما عدا ذلك.
c. وهذا ما ظهر لي بعد طول بحث وتأمل في طريقة السلف والأئمة في هذا الباب). انتهى.
(14)
من كان مدلساً ولكنه كان لا يدلس إلا الأحاديث التي سمعها من الثقات في نقده، أو من الثقات في نقد من وصف ذلك المدلسَ بهذا الشرط، أعني كونه لا يروي إلا عن ثقة، فالظاهر أن أحاديثه تقبل معنعنة؛ ولكن يبعد تحقق هذا الشرط في حق أحد من المدلسين.
ثم إنه لو التزم ذلك بعضُهم فهل يقلَّد هو في توثيق من دلَّسهم، أو يقلَّد من ادعى له ذلك الشرط؟
الجواب: لا يستقيم التقليد، وفاقاً لما قالوه في حق من يوثق شيخه ويبهمه فيقول: "حدثني الثقة " ، أو يقول "حدثني من لا أتهم".
(15)
إن المدلس إذا لم يثبت سماعه لحديث بعينه من شيخه، وكان الأمر على الاحتمال، ثم تابعه على رواية ذلك الحديث عن ذلك الراوي الذي فوقه: بعضُ الرواة، فلا يصح أن تجعل المتابعة - حينئذ - لذلك المدلِّس، لاحتمال أن تكون للواسطة التي أسقطها بينه وبين شيخه.(1/34)
بل قد تكون تلك الواسطة المحذوفة ذلك المتابِعَ نفسَه، أعني الراوي الذي كان يُظَن أنه متابع للمدلس، وهو في الحقيقة شيخه المحذوف؛ فإن ثبت مثل ذلك بشأن بعض روايات المدلسين، فحينئذ يكون على ذلك المحذوف مدار الروايتين.
ثم إن تبين أن ذلك الشيخ قد تفرد بالحديث: حُكِم على حديثه ذاك بمقتضى ذلك السند، فإن وُجد أن ذلك الراوي ضعيفٌ ضُعّف الحديث بسببه، فصارت الرواية التي كانت تعدُّ - أول الأمر - متابعةً: دليلاً على ضعف رواية المدلس لا على قوتها.
مثال ذلك: حديث عمرو بن شعيب، قال: طاف محمد - جده - مع أبيه عبد الله بن عمرو، فلما كان سبعهما، قال محمد لعبد الله حيث يتعوذون: استعذ؛ فقال عبد الله: أعوذ بالله من الشيطان؛ فلما استلم الركن تعوذ بين الركن والباب، وألصق جبهته وصدره بالبيت، ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع هذا.
فهذا الحديث رواه ابن جريج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو؛ أخرجه عبد الرزاق في (المصنف) (5/75).
وتابع ابنَ جريج في روايته عن عمرو به: المثنى بنُ الصباح، عند أبي داود (1899).
ولكن ابن جريج مدلس، وقد ثبت أنه دلس في هذا الحديث، وثبت أن الواسطة بينه وبين عمرو بن شعيب هو المثنى نفسه، إذ أخرجه، من غير تدليس، عبدُ الرزاق في (المصنف) أيضاً (5/74)، فرواه عن ابن جريج عن المثنى عن عمرو بن شعيب به.
وبهذه الرواية يتبين أن رواية ابن جريج عن عمرو، لهذا الحديث، لا تتقوى برواية ابن المثنى عن عمرو للحديث نفسه، أعني التي عند أبي داود؛ بل تبين أنها رواية ساقطة - كرواية أبي داود، وكرواية عبد الرزاق الأخرى المتصلة - لأنها ، أعني الرواية المدلَّسة ، راجعة إلى رواية المثنى نفسه، وهو متروك.
(16)(1/35)
ينظر في حال عنعنة المدلس إلى القرائن الأخرى من استقامة الخبر وغرابته ونكارته وشواهده ومتابعاته، وبابه وموضوعه؛ فإذا وجِد في الخبر نكارة أو غرابة أو مخالفة فهذا قرينة على التدليس، ولذلك تجد أن الأئمة أحياناً إذا استنكروا شيئاً ردوه بعدم ذكر السماع، أي ردوه بالعنعنة، ولو كان ذلك المعنعِن قليل التدليس جداً، أو كان مكثراً جداً عن شيخه الذي روى عنه ذلك الحديث، فإنهم في حال استنكار الخبر يتطلبون له علة مناسبة، فإن عدموا علة واضحة أو قوية اكتفوا بتعليله بعلة تقدح أحياناً دون أحيان أخرى، بل ربما ألجأتهم معرفتهم إلى تعليله بعلة يسيرة ليس من عادتهم إعلال الأخبار بمثلها، إذ نكارة الخبر قد تكفي للحمل على تلك العلة وحدها، عند عدم غيرها، رغم وهائها.
(17)
لا يلزم أن يكون التدليس بإسقاط راو واحد بل قد يكون بإسقاط أكثر من راو
معروف أن التدليس قد يقع بإسقاط المدلس أكثر من واسطة بينه وبين شيخه كما قال أحمد بن حنبل في المبارك بن فضالة: كان يرسل [عن] الحسن؛ قيل: يدلس؟ قال: نعم؛ قال: (وحدث يوماً عن الحسن بحديث فوُقِف عليه، قال: حدثنيه بعض أصحاب الحديث عن أبي حرب عن يونس) أي عن الحسن.
وبناء على ما تقدم فإنه قد لا يقنع الناقد الفطن بالوقوف على راو واحد بين الراوي المدلس وشيخه في حديث من الأحاديث، لقيام القرينة على قوة احتمال أن تكون الواسطة بينهما أكثر من راو؛ وهذا أمر مهم يدخل في مسألة أحكام متابعة المدلسين والضعفاء لبعضهم في الروايات، وقد يكون مانعاً من تقوية الحديث بمجموع طريقيه أو طرقه؛ ولن أطيل في بيان ذلك، فإنه أمر لا يكاد يفهمه إلا طالب تدبر أصول هذه المسألة وأمعن فيها؛ أو آخر ارتوى من معين علم أئمة العلل.
(18)
أنواع أحكام عنعنة المدلس
إن الحديث الذي يعنعنه الراوي الموصوف بالتدليس له أربعة احتمالات:(1/36)
الأول: أن يحكم للسند بالاتصال حكماً قطعياً بأن ينتفي تدليس الراوي في ذلك الحديث بوروده عنه من طريق أخرى صحيحة يصرح فيها بالسماع.
الثاني: أن يحكم للسند بالاتصال حكماً ظنياً كما في حال كون الراوي مقلاً من التدليس طويل الملازمة لشيخه في ذلك الحديث، ولم تدل قرينة على احتمال تدليسه، أعني الاحتمال المعتبر.
الثالث: أن يحكم على السند بالانقطاع حكماً ظنياً وذلك لأسباب منها أن يكون المدلس كثير التدليس وهو مع ذلك قليل الرواية عن شيخه الذي روى عنه ذلك الحديث.
الرابع: أن يحكم على السند بالانقطاع حكماً قطعياً؛ كما في حالة اعتراف المدلس بتدليس ذلك الحديث.
ولعله مما يلتحق بهذا القسم الرابع ما يأتي في الفائدة التالية.
(19)
ورود روايتين للمدلس إحداهما بالعنعنة والأخرى بالتصريح
إذا روى المدلس حديثاً بالعنعنة ثم تم الوقوف على رواية صحيحة الإسناد إلى المدلس وهو يذكر فيها واسطة بينه وبين من فوقه في الإسناد الأول فإنه حينئذ يُعلم بذلك أن في موضع العنعنة انقطاعاً أي تدليساً؛ قال ابن القطان: (فإذا روى المدلس حديثاً بصيغة محتملة، ثم رواه بواسطة تبين انقطاع الأول عند الجميع)؛ قال ابن حجر في (النكت): وهذا بخلاف غير المدلس، فإن غير المدلس يُحمل غالب ما يقع منه من ذلك على أنه سمعه من الشيخ الأعلى، وثبَّتَه فيه الواسطة.
(20)
حكم روايات المتثبتين والمحتاطين، عن شيوخهم المدلسين
كان عدد من الأئمة لا يحدثون عن شيوخهم إلا بما تحققوا سماعه لأولئك الشيوخ ممن فوقهم؛ ومنهم من لا يكتب من أحاديث شيخه المدلس إلا ما صرح فيه الشيخ بالسماع؛ وممن كان يفعل ذلك شعبة وتلميذه يحيى بن سعيد القطان؛ وربما فعله سفيان الثوري.
فمن عرف بالتشديد في الأخذ ممن عرف بالتدليس فكان يوقفهم على السماع، فهذا يكون الأصل فيما رواه عن شيوخه المدلسين بعنعنتهم، أن تُحمل تلك العنعنة على الاتصال.
(21)
طبقات المدلسين(1/37)
قسم العلائي في (جامع التحصيل) (ص113-114) الموصوفين بالتدليس إلى خمس طبقات يحكم على عنعنة كل طبقة بحسبها؛ فقال عقب ذكره أسماء من ظفر بأنهم ذكروا بالتدليس:
(ثم ليعلم بعد ذلك أن هؤلاء كلهم ليسوا على حد واحد بحيث أنه يتوقف في كل ما قال فيه واحد منهم (عن) ولم يصرح بالسماع بل هم على طبقات:
أولها: من لم يوصف بذلك إلا نادراً جداً بحيث أنه لا ينبغي أن يُعد فيهم كيحيى بن سعيد الأنصاري وهشام بن عروة وموسى بن عقبة.
وثانيها: من احتمل الأئمة تدليسه وخرجوا له في الصحيح وإن لم يصرح بالسماع، وذلك إما لإمامته أو لقلة تدليسه في جنب ما روى، أو لأنه لا يدلس إلا عن ثقة؛ وذلك كالزهري وسليمان الأعمش وإبراهيم النخعي وإسماعيل بن أبي خالد وسليمان التيمي وحميد الطويل والحكم بن عتبة ويحيى بن أبي كثير وابن جريج والثوري وابن عيينة وشريك وهشيم؛ ففي الصحيحين وغيرهما لهؤلاء الحديث الكثير مما ليس فيه التصريح بالسماع.
وبعض الأئمة حمل ذلك على أن الشيخين اطلعا على سماع الراوي؟؟ لذلك الحديث الذي أخرجه بلفظ (عن) ونحوها من شيخه، وفيه نظر، بل الظاهر أن ذلك لبعض ما تقدم آنفا من الأسباب؛ قال البخاري: لا أعرف لسفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت ولا عن سلمة بن كهيل ولا عن منصور، وذكر مشايخ كثيرة، لا أعرف لسفيان عن هؤلاء تدليساً، ما أقل تدليسه.
وثالثها: من توقف فيهم جماعة فلم يحتجوا بهم إلا بما صرحوا فيه بالسماع وقبلهم آخرون مطلقاً كالطبقة التي قبلها، لأحد الأسباب المتقدمة كالحسن وقتادة وأبي إسحاق السبيعي وأبي الزبير المكي وأبي سفيان طلحة بن نافع وعبد الملك بن عمير.(1/38)
ورابعها: من اتفقوا على أنه لا يحتج بشيء من حديثهم إلا بما صرحوا فيه بالسماع لغلبة تدليسهم وكثرته عن الضعفاء والمجهولين كابن إسحاق وبقية وحجاج بن الاطأة وجابر الجعفي والوليد بن مسلم وسويد بن سعيد وأضرابهم ممن تقدم فهؤلاء هم الذين يحكم على ما رووه بلفظ عن بحكم المرسل كما تقدم.
وخامسها: من قد ضعف بأمر آخر غير التدليس فرد حديثهم به لا وجه له إذ لو صرح بالتحديث لم يكن محتجا به كأبي جناب الكلبي وأبي سعد البقال ونحوهما فليعلم ذلك.انتهى كلام العلائي.
قسمة الحافظ العلائي هذه أدق وأليق بمذاهب القدماء وتصرفاتهم من قسمة من جاء بعد العلائي كابن حجر وغيره؛ ولكن الحكم على أحد المدلسين بأنه يدخل في طبقة معينة مما تقدم يحتاج إلى مزيد من البحث والتحقيق وكذلك لا يكفي الحكم العام للطبقة الواحدة ليكون حكماً دقيقاً على كل واحد من أفرادها؛ فلا بد من مراعاة ما أمكن مراعاته من قرائن الرواية وحال الراوي فيها ونحو ذلك مما يجعل الحكم أدق، أو مما يوجب الخروج في بعض الروايات عن الحكم الأصلي للطبقة إلى حكم آخر خاص بتلك الرواية؛ فقد قال عبد الله بن يوسف الجديع: (لكن محاكمة من أطلقت فيه العبارة من أولئك الرواة يحتاج إلى تحرير في حق كل راو مذكور به على سبيل الاستقلال بمنزلة تحرير ألفاظ الجرح والتعديل فيه لما تقدم بيانه من كون إطلاق اسم التدليس على الراوي إنما هو من قبيل الجرح المجمل.(1/39)
وكثير من المتأخرين من العلماء وطلبة هذا العلم صاروا إلى تقليد ابن حجر فيمن سماهم في (طبقات المدلسين) من تأليفه، وسلموا له مجرد إيراده للراوي فيما اصطلحه (الطبقة الثالثة) وما بعدها لرد حديثه بمجرد العنعنة؛ وفي ذلك قصور ظاهر؛ والتقليد في هذا لا يجوز؛ فإنه علم بناؤه على البحث والنظر، فلا يسوغ لمنتصب له أن يقلّد فيه، فيصير إلى الطعن في الحديث الصحيح بمجرد كون ابن حجر أورد هذا الراوي أو ذاك في كتابه، علماً بأن ابن حجر أورد الأسماء في غاية من الاختصار؛ والمتتبع لكلامه نفسه في تقوية الأحاديث يجده لا يلتزم ما التزمه هؤلاء المقلدون). انتهى.
وكذلك ما تقدم من كلام العلائي مما يتعلق بالإمامة، فيه نظر أيضاً، قال عبد الله بن يوسف الجديع في (تحرير علوم الحديث) (2/988): (الإمامة ليست معياراً لقبول حديثه لو كان كثير التدليس، فابن جريج إمام لكن لا تقبل عنعنته لكثرة تدليسه سوى ما يرويه عن عطاء والتفسير عن مجاهد).
(22)
التدليس النادر
إذا وجد لراو معروف بالثقة والإتقان الحديث أو الأحاديث المنكرة يأتي بها معنعنة، ولم يتعين الحمل على أحد ممن دونه أو فوقه في السند، فقد يكون من وجوه ومقتضيات هذه الحال أن يحمل منه ذلك على التدليس، إذا كان محتملاً في حقه، وإن لم ينص على نعته بالتدليس أحد.
(23)
الشذوذ والإغراب في وصف بعض الرواة بالتدليس
من وصف بعض الرواة بالتدليس وكان ظاهر ذلك الصنيع منه مستغرَباً لأنه تفرد به على شهرة ذلك الراوي أو دلت القرائن على أنه ليس يعرفه معرفة كافية أو غير ذلك مما يريب في اعتماد ذلك الوصف فينبغي التأمل في عبارته وقرائنها، جيداً، فلعله عنى الإرسال الظاهر أو الإرسال الخفي أو تدليس الأسماء أو تكلم برأيه أو وهم في نقله عن غيره، أو نقله عن ناقد واهم فيه.
(24)
شذوذ الرواية التي فيها تصريح المدلس بالسماع، أحياناً(1/40)
إذا ثبتت إلى المدلس المكثر من التدليس روايته لحديث معين بالعنعنة، فرواه عنه كذلك غير واحد من ثقات تلامذته، وتفرد بعض الضعفاء من تلامذته بأن جعل مكان العنعنة تصريحاً بالسماع؛ فهذا التصريح إما أن يحكم عليه بالنكارة على أنه مخالفة لرواية الثقات، أو بالضعف على أنه زيادة تفرد بها وهو ضعيف.
وعلى الاحتمالين فلا يصح – كما هو ظاهر – أن يعتمد على هذه الرواية لإثبات سماع هذا المدلس لهذا الحديث من ذاك الشيخ؛ لأنه لا اعتماد على رواية منكرة ولا ضعيفة.
وليس هذا من باب الاستشهاد حتى يتسامح في إسناده، بل هو من باب الاحتجاج؛ لأن لفظ السماع لم يجيء إلا في تلك الرواية التي جاء بها ذاك الضعيف، فمن أثبت السماع بتلك الرواية، فقد احتج بها وحدها.
ومعلوم أن الإسناد الضعيف لا تقوم به الحجة لإثبات الرواية، فكيف بإثبات السماع، الذي هو من أخص تفاصيلها ويحتاج إلى حفظ وإتقان، وقد يهم فيه الثقة فضلاً عن الضعيف؟!
روى ابن أبي حاتم عن أبيه، قال: (سألت أبا مسهر: هل سمع مكحول من أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: سمع من أنس بن مالك؛ فقلت له: سمع من أبي هند الداري؟ فقال: من رواه؟ قلت: حيوة بن شريح، عن أبي صخر، عن مكحول، أنه سمع أبا هند الداري يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم؛ فكأنه لم يلتفت إلى ذلك.
فقلت له: واثلة بن الأسقع؟ فقال: من؟ قلت: حدثنا أبو صالح كاتب الليث: حدثني معاوية بن صالح، عن العلاء بن الحارث، عن مكحول، قال: دخلت أنا وأبو الأزهر على واثلة بن الأسقع. فقلت: كأنه أومأ برأسه، كأنه قبل ذلك) اهـ.
فكان حكم أبي مسهر بإثبات السماع ونفيه ينبني على حال إسناد الرواية التي جاء فيها ذكر السماع، وأقره على ذلك أبو حاتم وأقرهما عليه ابن أبي حاتم.
(25)
اختلاف حكم تصريح المدلس الضعيف، بالسماع، عن حكم تصريح المدلس الثقة(1/41)
من شروط قبول عنعنة وحملها على الاتصال أن يكون المدلس ثقة، لا ضعيفاً؛ فإن المدلس الضعيف إذا روى عن شيخ له وصرح بسماعه منه، فإنه يحتمل أن يكون مخطئاً في ذلك التصريح، وأن الواقع أنه إنما أخذ ذلك الحديث عن ذلك الشيخ بواسطة، ثم أسقطها وهماً، لا تدليساً ولذلك صرح بالسماع بناء على ما توهمه وإلا عُدَّ كاذباً.
ولا غرابة في هذا فالضعيف يخطئ بأكثر من هذا؛ بل لا يُستبعد أنه لم يتحمل ذلك الحديث من طريق هذا الشيخ أصلاً، لا بواسطة ولا بدونها؛ وإنما دخل عليه حديث في حديث.
(26)
الاحتراز من تدليس صيغة الأداء، أي تدليس نوع التحمل، من قِبل مدلِّس الإسناد المصرِّح بالسماع
لحمل عنعنة المدلس الثقة على الاتصال لا بد من احتراز أن يكون ذلك المصرح بالسماع ممن له في بعض ألفاظ السماع اصطلاح خاص ينافي الاتصال، كأن يكون ممن يرى جواز إطلاق لفظ التحديث في الإجازة أو الوجادة، أو ممن يرى التسامح في هذه الألفاظ، بإطلاقها في موضع السماع وغيره، كما ذكر الإمام أبو بكر الإسماعيلي أن المصريين والشاميين يتسامحون في قولهم: (حدثنا) من غير صحة السماع، منهم: يحيى بن أيوب المصري؛ ونقل عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه أنه قال: كان سجية في جرير بن حازم، يقول: (حدثنا الحسن، قال: حدثنا عمرو بن تغلب)؛ وأبو الأشهب يقول: (عن الحسن قال: بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمرو بن تغلب).
قال الحافظ ابن رجب: (يريد أن قول جرير بن حازم: "حدثنا الحسن حدثنا عمرو بن تغلب" كانت عادة له لا يرجع فيها إلى تحقيق).
وقد ذكر أبو حاتم نحو هذا في أصحاب بقية بن الوليد، أنهم يَرْوُون عنه عن شيوخه ويصرحون بتحديثه عنهم، من غير سماع له منهم.
وكذلك قال يحيى بن سعيد القطان في فِطْر بن خليفة: أنه كان يقول: (حدثنا فلان بحديث)، ثم يدخل بينه وبينه رجلاً آخر، كان ذلك سجيه منه؛ ذكره العقيلي في (الضعفاء).(1/42)
راجع (الإرشادات في تقوية الأحاديث بالشواهد والمتابعات) للشيخ طارق بن عوض الله.
(27)
الاحتراز من أوهام المدلس الثقة في التصريح بالسماع
ليس كل ما يرويه المدلِّس الثقة مصرحاً فيه بالسماع يقطع فيه بأنه قد سمعه ممن فوقه، ولكن هذا – أي الحكم بالسماع في مثل هذه الحالة – هو الأصل، والأصل قد يًخرَج عنه أحياناً، وذلك عندما توجد القرينة المقتضية للخروج؛ فهنا قد يرى الناقد من علماء العلل وجهابذة الحديث أنه قد وقع وهم من ذلك المدلس أو - ممن دونه من الثقات - في تصريح المدلس بالسماع، فيحكمون بانقطاعه، وأن صواب الرواية أن تكون بالعنعنة وما كان في معناها.
ولأئمة الحديث في إدراك ذلك طرق متعددة، هي عين طرقهم في إدراك علة الحديث الذي ظاهره الصحة، بل هذا الأمر هو بعض موضوعات علم العلل.
فمن تلك الطرق مخالفة الأوثق، أو الثقات الأكثر عدداً، أو مخالفة اتفاق الأئمة أو ما ثبت بالتاريخ أو غير ذلك.
روى جماعة عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر مرفوعاً: (ليس على المنتهب قطع)، فلم يذكروا سماع ابن جريج من أبي الزبير، بينما ذكره اثنان، وهما: أبو عاصم؛ أخرج حديثه الدارمي.
وابن المبارك؛ أخرج حديثه النسائي في (الكبرى) من طريق محمد بن حاتم عن سويد بن نصر عنه.
وقد وهَّم الأئمة هذه الرواية التي فيها ذكر التصريح بالسماع، ورأوا أنه غلط. فقال أبو داود: (هذا الحديث؛ لم يسمعه ابن جريج من أبي الزبير؛ وبلغني عن أحمد بن حنبل أنه قال: إنما سمعه ابن جريج من ياسين الزيات).
وقال مثل قول أحمد أبو حاتم وأبو زرعة الرازيان والنسائي والخليلي، ويدخل فيهم أيضاً أبو داود فإنه هو الذي نقل كلام أحمد وأقره.
(28)
تفصيل في اختلاف أحكام المدلسين باختلاف أحوالهم(1/43)
ينبغي عند نقد روايات الموصوفين بالتدليس التفريق في الحكم بين المكثر من التدليس والمقل منه، والتفريق بين عنعنة المدلس عمن هو كثير الملازمة له وعنعنته عن غيره؛ والتفريق بين المكثر عن شيخه والمقل عنه؛ وينبغي ملاحظة القرائن والمظان، وحال الرواية من جهة الغرابة والنكارة ونحوهما.
فإذا كان الراوي الموصوف بالتدليس مكثراً جداً من الرواية عن شيخ معين وكان طويل الملازمة له فالأصل في روايته أنها تحمل على الاتصال، لأنه يندر أن يفوته شيء من أحاديثه، فالظاهر أنه سمع جميعها، أو أنه لم يفته منها إلا النادر الذي لا يمنع من قبول عنعناته عن ذلك الشيخ، لأن النادر لا حكم له ولا تبنى عليه القواعد؛ فلا تضر مروياتِه عنه عنعنتُه فيها إلا بقرينة تقتضي إعلال الرواية بتلك العنعنة؛ قال الذهبي في (الميزان) 2/ 224 عن الأعمش: (وهو يدلس وربما دلس عن ضعيف ولا يدري به فمتى قال: حدثنا، فلا كلام، ومتى قال (عن) تطرق إليه احتمال التدليس إلا في شيوخ له أكثر عنهم كإبراهيم وأبي وائل وأبي صالح السمان فإن روايته عن هذا الصنف محمولة على الاتصال).
ونحو ما قيل في الملازِم يقال في المكثر من السماع عن شيخه ولو لم يلازمه إذا كان ذلك الإكثار مقارباً لاستيعاب أحاديث ذلك الشيخ؛ ومعلوم أنه ليس المراد بالإكثار هنا كثرة التحديث عن الشيخ؛ وإنما المراد كثرة التحمل منه بلا واسطة.
وكذلك المقل من التدليس الأصل في عنعنته القبول؛ قال البخاري: (ولا أعرف للثوري عن حبيب بن أبي ثابت ولا عن سلمة بن كهيل ولا عن منصور – وذكر مشايخ كثيرة – لا أعرف لسفيان عن هؤلاء تدليساً، ما أقل تدليسه). اهـ من (العلل الكبير) للترمذي (2/966).
ولكن مع ذلك يُحتاط في عنعنة هؤلاء الثلاثة (أعني الملازِم، والمكثر عن شيخه، والمقل من التدليس) أكثر مما يحتاط في عنعنة من لم يوصف بتدليس أصلاً.
وأما المكثر من التدليس والمقل عن شيخه وغير الملازم له فالأصل في عنعنتهم الرد.(1/44)
فإذا نص الحفاظ في حق بعض المدلسين أنه لم يسمع من شيخ معين له إلا القليل كأن يكون سمع منه حديثاً أو حديثين أو نحو ذلك ثم روى عنه أحاديث كثيرة فحينئذٍ يكون الأصل في روايته الانقطاع إلا ما صرح فيه بالسماع أو نص الحفاظ على أنه سمع هذا الخبر بعينه عمن رواه عنه ونحو ذلك.
ولذلك كان من النافع المهم معرفة قدْر ما روى الراوي عن شيخه متصلاً إن أمكن ذلك؛ فإنه إذا روى عنه غير ذلك علمنا أنه إنما تلقاه عنه بواسطة فأسقطها. لكن هذا الطريق يوجب تحرياً شديداً قبل الجزم به.
ومثال على هذا رواية الحسن عن سمرة، ثبت في صحيح البخاري سماعه من سمرة لحديث العقيقة وقد روى نحواً من (164) حديثاً بالمكرر كما في (معجم الطبراني الكبير) (7/6800 –6964).
وبعض هذه الأحاديث فيها نكارة، ولا شك أن العلة في ذلك ليست من الحسن لأنه إمام، فعلى هذا تكون العلة من الواسطة بينهما، ودل ذلك على أن القول الراجح في رواية الحسن عن سمرة أن الأصل فيها الانقطاع، والقول بأنه لم يسمع منه إلا حديث العقيقة قول قوي، وقد أخرج عبد الله بن أحمد عن أبيه ثنا هشيم أخبرنا ابن عون قال: (دخلنا على الحسن فأخرج إلينا كتاباً من [لعلها عن] سمرة ...). ا.هـ من (العلل) (2/260)؛ فهذا يؤيد أنها صحيفة ولم تكن سماعاً، والله أعلم.
والحاصل أن الراوي الموصوف بالتدليس إذا كان مكثراً جداً من الرواية عن شيخ معين وكان طويل الملازمة له فالأصل في روايته أنها تحمل على الاتصال؛ وأنه إذا كان مكثراً من التدليس أو مقلاً من السماع عن شيخه أو غير ملازم له فالأصل في عنعنتهم الرد.
فهذان أصلان مقرران والناقد المتمكن يخرج عنهما بحسب اجتهاده وما يلاحظه من القرائن.(1/45)
وهذا المذهب هو أرجح المذاهب وأقربها، وعليه دلت عبارات وتصرفات كبار النقاد وعلماء العلل وعليه جرى عمل أكثرهم، فتأمل مثلاً ما جاء في الصحيحين من عنعنة الموصوفين بالتدليس، وكذلك ما جاء من ذلك في صحيح ابن خزيمة وما صححه من ذلك الترمذي في سننه؛ وقال يعقوب بن شيبة السدوسي كما في (الكفاية) (ص362): سألت علي بن المديني عن الرجل يدلس أيكون حجة فيما لم يقل: حدثنا؟ قال: إذا كان الغالب عليه التدليس فلا حتى يقول: حدثنا. وانظر (شرح علل الترمذي) لابن رجب (1/ 353 - 354) وقد قال أبو داود – كما في شرح علل الترمذي (583) - : (سمعت أحمد سئل عن الرجل يعرف بالتدليس في الحديث، يحتج به فيما لم يقل فيه: حدثني أو سمعت؟ قال: لا أدري)؛ فالظاهر من هذا الجواب أن الإمام أحمد لا يحكم على عنعنة المدلس بحكم كلي بل ينظر إلى الملابسات والقرائن وأن الحكم على عنعنة المدلسين لا يصح أن يكون واحداً وإنما هو أحكام متعددة؛ بل الحكم على عنعنة الراوي الواحد قد يختلف من حال إلى حال.
هذا وقد بقي مذهبان آخران في حكم رواية المدلس أعني الثقة الذي يدلس عن الثقة وغيره، [وأما رواية المدلس الضعيف فالأصل فيها الرد صرح أو لم يصرح. وأما رواية المدلس الذي لا يدلس إلا عن ثقة فالأصل فيها القبول صرح أو لم يصرح]؛ وهذان المذهبان هما:
الأول: مذهب الشافعي ومن تبعه كابن حبان والخطيب؛ وعلى ظاهره أكثر المتأخرين والمعاصرين؛ قال الإمام الشافعي في (الرسالة) (ص379–380): (من عرفناه دلس مرة فقد أبان لنا عورته في روايته ... فقلنا: لا نقبل من مدلس حديثاً حتى يقول فيه: حدثني أو سمعت). ا.هـ.(1/46)
فهذا الأقرب أنه عند غرابته أو معارضته لحديث آخر مثله في القوة أو في الحالات التي ينبغي أن يكون فيها الحديث المحتج به في أعلى مراتب القوة؛ ويظهر أن الشافعي نفسه لم يلتزم بطرد ظاهر هذا الأصل في الأحوال كلها، فقد روى لابن جريج على سبيل الاحتجاج أحاديث معنعنة في مواضع من كتبه، ولم يذكر الشافعي أن ابن جريج سمع هذا الخبر ممن حدث عنه، وكذلك روى لأبي الزبير، (انظر الرسالة ص498 و890 و903 و498 و889)، والأمثلة على هذا كثيرة لمن أراد أن يتتبعها.
ووافق الشافعي في مذهبه هذا ابن حبان في مقدمة (صحيحه) (1/161) وفي (ثقاته) (1/12) وفي (المجروحين) (1/92)؛ وقال عقب تقريره في (المجروحين): (وهذا أصل أبي عبد الله الشافعي رحمه الله ومن تبعه من شيوخنا).
قال الخطيب في (الكفاية) (ص51): (وهذا هو الصحيح عندنا).
ويجاب عن قول ابن حبان كما أجيب عن قول الشافعي.
والظاهر أن هذا هو مذهب الإمامين الكبيرين شعبة بن الحجاج وتلميذه يحيى بن سعيد القطان؛ ولكن تشديد شعبة على التدليس وأهله معلوم، والله أعلم.
الثاني: مذهب ابن حزم؛ وهو قبول روايته مطلقاً ما لم يُتيقن فيها أنه أسقط بعض رواتها. وهو أضعف المذاهب وأبعدها عن التحقيق.
قال أبو الحسن ابن القطان: (إذا صرح المدلس قبل بلا خلاف؛ وإذا لم يصرح فقد قبله قوم ما لم يتبين في حديث بعينه أنه لم يسمعه، ورده آخرون ما لم يتبين أنه سمعه).
***************************
تعقيب على الفقرة (27)
ساق صاحب الفوائد ... الشيخ محمد سلامة حفظه الله ما نصه :
(27)
الاحتراز من أوهام المدلس الثقة في التصريح بالسماع(1/47)
ليس كل ما يرويه المدلِّس الثقة مصرحاً فيه بالسماع يقطع فيه بأنه قد سمعه ممن فوقه، ولكن هذا – أي الحكم بالسماع في مثل هذه الحالة – هو الأصل، والأصل قد يًخرَج عنه أحياناً، وذلك عندما توجد القرينة المقتضية للخروج؛ فهنا قد يرى الناقد من علماء العلل وجهابذة الحديث أنه قد وقع وهم من ذلك المدلس أو - ممن دونه من الثقات - في تصريح المدلس بالسماع، فيحكمون بانقطاعه، وأن صواب الرواية أن تكون بالعنعنة وما كان في معناها.
ولأئمة الحديث في إدراك ذلك طرق متعددة، هي عين طرقهم في إدراك علة الحديث الذي ظاهره الصحة، بل هذا الأمر هو بعض موضوعات علم العلل.
فمن تلك الطرق مخالفة الأوثق، أو الثقات الأكثر عدداً، أو مخالفة اتفاق الأئمة أو ما ثبت بالتاريخ أو غير ذلك.....
وتعقب ذلك بما نصه :
والحاصل أنه ليس كل ما يرويه المدلس مصرِّحاً فيه بالسماع يكون مقبولاً منه؛ بل الأصل في ذلك أنه لا يقبل منه تصريحه بالسماع إلا إذا ثبت السند إليه؛ ثم إن الأمر بالنسبة لعلماء العلل لا يقف عند هذا الحد، بل قد يتعداه إلى عدم الثقة بذلك التصريح، وإن ورد بإسناد صحيح؛ لا اتهاماً بل توهيماً، سواء تهيأ لهم تعيين الواهم جزماً أو ظناً غالباً، أو لم يتهيأ لهم ذلك.
انتهى كلامه حفظه الله.
***************************
(29)
طريقة علماء العلل في الحكم على نعنة المدلس الأصل فيها التفصيل؛ فهم في كثير من الأحيان يميزون ما سمعه الراوي من شيخ له بعينه عما لم يسمعه منه، فيحكمون على حديثه عنه بحسب تلك المعرفة التفصيلية، وهذا بخلاف الحكم عند غيرهم ممن يمشي على ظواهر القواعد وقد يجهل تفاصيل المسائل، أو لا بُعنى بالبحث عنها.(1/48)
علماء العلل الأصل الأول عندهم هو التفصيل، فإن عدموه صاروا إلى القواعد مع ملاحظة القرائن واختلاف الأحوال من راو إلى راو، ومن حديث إلى آخر، ومن مقام إلى غيره؛ ولكن من لم يَسِر على طريقتهم تراه يقدم القواعد ويصبها في قوالب جامدة ويجمد هو عليها؛ وهذا لا يصح.
والحاصل أن طريقة علماء العلل في عنعنة الموصوف بالتدليس هي الحكم على حديثه بحسب أعلى ما عندهم من التفصيل، وأحياناً يكون لديهم معرفة مفصلة بكل حديث من أحاديث ذلك المدلس.
فإن لم يجدوا سبيلاً إلى ذلك صاروا إلى مرتبة أقل تفصيلاً ولكنها تشبه التفصيل وتقاربه، مثل معرفتهم بأن فلان المدلس كان ملازماً لشيخه الفلاني وسمع منه كل ما رواه عنه سوى حديثين، ولكن تلك الحديثين لم يتعينا، ثم يجدون في رواياته عنه حديثاً يستنكرونه أو يستغربونه ويرويه عنه بالعنعنة، فلا يجدون مانعاً بل ولا بداً من حمله على التدليس؛ ومثل أن يعلموا أن يحيى بن سعيد القطان كان لا يكاد يحمل عن شيوخه إلا صحيح حديثهم، فيجعلون هذا قرينة مرجحة للحكم بالاتصال لعنعنة مدلس في حديث رواه عنه تلميذه يحيى.
فإن عدموا هذه الدرجة من التفصيل نزلوا إلى التي دونها، وهي مستندة إلى أصول وخطوط عريضة مختصة بذلك الراوي، مثل كونه مقلاً في تدليسه عن كبار شيوخه، أو مكثراً في تدليسه فيما رواه عن الكوفيين، أو نحو ذلك.
فإن لم يتيسر لهم معرفة ذلك ونحوه من الاستثناءات والضوابط انتهوا إلى ما يبدأ به غيرهم من أهل الإجمال، من المتأخرين وغيرهم، وهو الحكم بالانقطاع على ما يرويه المدلس معنعناً، وبالاتصال على ما يرويه مصرحاً بسماعه.
(30)(1/49)
التدليس والإرسال الخفي أو الظاهر، ليس لواحد منها ضابط كلي باعتبار طبقات الرواة، كأن يقال: فلان كان يدلس عن التابعين ولا يدلس عن الصحابة؛ وقد علم أن الطبقات تتداخل وأن بعض التابعين أقدم وفاة من بعض الصحابة، وأن بعض التابعين أرسل عن بعض التابعين إرسالاً خفياً أو جلياً، في حين كانت رواياته عن شيوخ له من الصحابة متصلة.
وفي الجملة فإن التدليس والإرسال الخفي والإرسال الجلي لا يخصها من يتعاطاها من الرواة بصغير ممن فوقه أو بكبير، هذا هو الغالب.
ولو افترضنا أنهم – أو بعضهم – كانوا يعيّنون من يذكرونه ويسمونه من شيوخهم، ويعينون أيضاً من يدلسونه منهم، فهل حُفظ ذلك كله؟ الظاهر أنه لم يحفظ منه إلا ما ندر؛ وحينئذ فهل يسهل على من بعدهم من النقاد وضع الضوابط الدقيقة المفصلة لمعرفة حدود تدليسهم بحسب طبقات شيوخهم، أو بحسب الأزمنة أو الأمكنة أو غير ذلك؟! هذا ما لا يتيسر بل هو غير ممكن.
فلا معنى إذن للتفصيل الزمني أو الطبقي الذي ذكره بعض الباحثين في شأن شيوخ جماعة من المدلسين.
(31)
التدليس أحد أهم وسائل الكذابين ودعاة البدعة والضلالة في تكثير أسانيد الأحاديث المختلقة والواهية وتمشيتها وترويجها؛ فإن قام بعض الدجالين بتركيب متن مرغوب فيه مزور على إسناد معروف، ودعا غيره من أمثاله إلى متابعته عليه؛ ثم قام هو أو غيره بإدخال هذا الحديث على بعض الضعفاء أو المغفلين؛ وقام هو أو غيره أيضاً بتلقينه لمن يقبل التلقين؛ ثم حمله عن هؤلاء الدجالين والهالكين والضعفاء والمغفلين والملقَّنين واحد – أو أكثر من واحد، من الرواة المدلسين، ثم رواه هؤلاء المدلسون مدلَّساً؛ أي رووه عمن رواه عنه أولئك الكذابون ومن تابعهم من الضعفاء والغالطين، فكم طريقاً سيكون لهذا الحديث، وكم سيكون اتساع دائرة انتشاره واشتهاره.(1/50)
ثم إذا أتى – بعد ذلك، أو في أثنائه - مِن الثقات أو المتماسكين مَن يسمعه من أحد هؤلاء المدلِّسين، ثم يؤديه فيغلط فيجعل بدل العنعنة تصريحاً، فإذا الأمر قد صار ظلمات بعضها فوق بعض ولكنها تشبه النور، وكذب مصمت ولكنه مغلَّف بالصدق الموهوم؛ بناء كاد أن يكون محكماً، أسَّسه الكذابون عن سوء قصد وخبث طوية، وأعانهم - أيما إعانة - الضعفاء والمغفَّلون، عن غفلة وحسن نية! بحيث ضمن أولئك الدجالون أن حديثهم المفترى سيقال فيه: إنه بمجموع طرقه حسن في أقل أحواله!! وما أكثر ما قيل في مثل هذا القبيل؛ فيا قرة أعين الكذابين لولا من جعلهم الله لهم بالمرصاد، من أئمة هذا الشأن، الذين لا يثبت أمام مثل هذه المعركة الحديثية سواهم فإنهم فرسان الحديث، ولا يشفي من مثل هذا الداء العضال غيرهم، فإنهم أطباء الرواية؛ ولكن كيف إذا أتى غيرهم من أهل الظواهر فرد عليهم إسقاطهم لتلك الرواية الساقطة أصلاً، وقال: لا يجوز توهيم الثقة بغير دليل؛ ماذا تُرى يقال لمثله؟ لعل السكوت والاسترجاع هو الأولى؛ فإن كان لا بد من مقال فليكن نحو هذا المثل المضروب قديماً: (ويل لعالم أمر من جاهله)، الله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله.
(32)
كل من أسقط من السند راوياً أو أكثر فلا بد أن يكون واحداً مما يلي:
1- كاذباً.
2- مدلساً.
3- ناسياً - سواء كان ثقة أو ضعيف الحفظ.
4- متعمّداً معْتمداً على القرينة الدالة على الإسقاط كالتاريخ ونحوه؛ وهذا هو الارسال بنوعيه الخفي الظاهر.ومعرفة ضوابط التفريق بين هذه الأصناف نافعة كثيراً.
(33)
الراوي إذا ثبت أنه مدلس وثبتت عدالته لم تضره النكارة في بعض ما يرويه من الأحاديث – بالعنعنة - عن الثقات من شيوخه، لأن الحمل يكون حينئذ على الذين دلسهم أي أسقطهم تدليساً، وهذا بخلاف غير المدلس فإنه إذا روى عن شيوخه أحاديث منكرة بأسانيد مستقيمة وكثر منه ذلك، فإنها تضره، وتكون تبعتها عليه.
(24)(1/51)
إذا كان المدلس يدلِّس عن شيوخ بعينهم، دون سواهم، أو يدلِّس في باب معين دون سواه، أو لا يدلس إلا عن ثقة، فهذا القسم من المدلسين لا يصلح تعميم حكم عنعنة الواحد منهم على جميع مروياته المعنعنة.
ولكن الأمر هنا يبنى على التفصيل، فمثلاً من عُرف بالتدليس لكنه لا يدلس عن بعض شيوخه خاصة، فإنه تستثنى عنعنته عن هؤلاء الشيوخ، مثل عنعنة ابن جريج عن عطاء.
(35)
من ظن أن وصف الضعفاء من الرواة المدلسين بالتدليس لا يُحتاج إليه في نقد الأحاديث، بحجة أنهم ضعفاء في أنفسهم، وضعفهم يكفي في رد حديثهم، فقد وهم؛ وذلك لأن عنعنتهم تزيد رواياتهم وهناً؛ ثم إن من كان منهم صالحاً للإعتبار اذا صرح بالسماع، فلن يكون صالحاً له إذا عنعن، ولا سيما إذا كان متابعه في هذه الرواية المعنعنة أحد شيوخه، لاحتمال أن مرجع رواية ذلك المدلس إلى ذلك الشيخ.
هذا من جهة؛ ومن جهة أخرى فإن ذلك الراوي الذي هو ضعيف عند جماعة من النقاد ربما يكون قوياً محتجاً به عند جماعة أخرى، وهؤلاء الذين يحتجون به لا غنى بهم أصلاً عن معرفة كونه مدلساً.
(36)
قد يظنُّ ظانٌّ أننا لن نحتاج إلى التمييز بين من لقيهم المدلس ممن روى عنهم، وبين من لم يلقهم منهم، لأننا نرد عنعنته مطلقاً، أي في الحالتين؛ ولكن هذا لا يصح لأمرين:(1/52)
أولهما: أنه إذا خيف من وقوع الوهم في صيغ أدائه من قِبل بعض من دونه في السند في بعض الروايات عنه بأن يقلب العنعنة إلى تصريح فإن ذلك الوهم يكتشف في حالة العلم بأنه لم يسمع من ذلك الراوي الذي فوقه شيئاً، ومثل هذا نادر الوقوع لا يستحق كثيراً من الاعتناء؛ ولكن الحاجة إلى ذلك التمييز تبقى واقعة من أجل شيء مهم، هو أن ذكر الانقطاع الثابت المتحقق في الإسناد أولى وأقوى في النقد وتعليل الرواية من مجرد الاقتصار على التنبيه على عنعنة الراوي وتدليسه، لأن عنعنة المدلس وإن كان لها حكم الانقطاع، فإنه حكم محتمل مظنون غير مقطوع به بخلاف الانقطاع الذي هو روايته عمن لم يسمع منه شيئاً أو عمن لم يدركه أصلاً، ثم إنه قد وقع مِن تساهل فريق من العلماء في روايات المدلسين بالعنعنة ما لم يقع مثله ولا مثل شطره في روايات الرواة عن غير شيوخهم بلا واسطة يذكرونها. وهذا يقتضي معرفة صفة من فوق المدلس فإن كان من شيوخه أُعلت الرواية بعنعنة ذلك المدلس، وإلا أُعلت بالانقطاع الظاهر إن كان كذلك، فإن لم يكن الانقطاع ظاهراً ولم يعلم أن الذي فوقه من شيوخه أعلت بعنعنته، وبأنها مظنة الإرسال الخفي.
(37)
من تحمل تحملاً سيئاً وحدث عن ذلك السماع وهو يظنه جيداً كافياً للرواية عنه تكُلم في سماعه، فإن أتى بما ينكر عليه ضُعف، فإن أوهم أنه سماع حسن فهو مدلس أو متساهل، وأما إن جزم بأنه حسن وهو يعلم الحال ويميز الفرق بين السماعين السيء والجيد فهو كاذب.
(38)
التدليس فيه إيهام الاتصال في موضع الانقطاع، كما هو معروف، ولا يكون ذلك إلا بصيغة محتملة، ولكن الصيغة المحتملة لا يلزم أن تتضمن إيهاماً.
(39)
من روى عمن اختلط ما تحمله منه حال اختلاطه ولم يبين ذلك، فهل يعدُّ في جملة المدلسين، أي هل يدخل عمله في معنى التدليس وإخفاء العيب؟(1/53)
الصواب من الجواب أن ذلك الصنيع لا يعدُّ تدليساً إلا إذا كان الراوي قد عُرف عنه أنه لم يسمع من ذلك المختلط إلا قبل اختلاطه، أو كان ذلك الشيخ معروفاً بالثقة غير معروف بأنه اختلط.
وكذلك لا يُعدُّ مدلساً إذا كان ناقداً بارعاً متثبتاً وكان ينتقي من أصول شيخه الذي اختلط ما يَعلم أنه محفوظ عن شيوخ ذلك الشيخ.
(40)
من المهم معرفة بدع المدلسين المبتدعة وأهوائهم لأن ما يرويه المدلس بالعنعنة فيما يؤيد بدعته يكون له حكم أسوأ من بقية مروياته؛ قال العلامة المعلمي في حاشية (الفوائد المجموعة) (ص351-352) في كلام له على بعض الأحاديث: (وقد قرر ابن حجر في (نخبته) ومقدمة (اللسان) وغيرهما، أن من نوثقه ونقبل خبره من المبتدعة، يختص ذلك بما لا يؤيد بدعته، فأما ما يؤيد بدعته، فلا يقبل منه البتة، وفي هذا بحثٌ، لكنه حق فيما إذا كان مع بدعته مدلساً ولم يصرح بالسماع.(1/54)
وقد أعل البخاري في (تاريخه الصغير) (ص68) خبراً رواه الأعمش عن سالم، يتعلق بالتشيع، بقوله "والأعمش لا يُدرَى سمع هذا من سالم أم لا؛ قال أبو بكر بن عياش عن الأعمش أنه قال: نستغفر الله من أشياء كنا نرويها على وجه التعجب، اتخذوها ديناً "، ويشتد اعتبار تدليس الأعمش في هذا الخبر خاصة، لأنه عن مجاهد، وفي ترجمة الأعمش من (تهذيب التهذيب) "قال يعقوب بن شيبة في (مسنده): ليس يصح للأعمش عن مجاهد إلا أحاديث يسيرة؛ قلت لعلي بن المديني: كم سمع الأعمش من مجاهد؟ قال: لا يثبت منها إلا ما قال: سمعت، هي نحو من عشرة، وإنما أحاديث مجاهد عنده عن أبي يحيى القتات؛ وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه في أحاديث الأعمش عن مجاهد، قال أبو بكر بن عياش عنه حدثنيه ليث ]بن أبي سليم[ عن مجاهد)؛ أقول: والقتات وليث ضعيفان، ولعل الواسطة في بعض تلك الأحاديث من هو شر منهما، فقد سمع الأعمش من الكلبي أشياء، يرويها عن أبي صالح باذام، ثم رواها الأعمش عن باذام تدليساً، وسكت عن الكلبي، والكلبي كذاب، ولا سيما فبما يرويه عن أبي صالح، كما مر في التعليق ص 315----). انتهى كلام العلامة المعلمي رحمه الله تعالى.(1/55)