|
تم استيراده من نسخة : أ/علي عبد الباقي
عناصر شرح الحديث النبوي في الجامعات
بين الواقع والطموح
د. صالح يوسف معتوق
الأستاذ المشارك في الحديث الشريف وعلومه
كلية الدراسات الإسلامية والعربية بدبي
مقدمة:
الحمد لله رب العالمين، الذي أنزل كتابه نوراً وهدى للناس أجمعين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم الشارح والمبين لما أُوحي إليه من كتاب رب العالمين، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد:
مما هو معلوم لدى المسلمين أن السنة النبوية جاءت شارحة ومبينة ومفسرة ومؤكدة لما في القرآن الكريم، وأتت - أيضاً - بتشريعات لم يرد ذكرها فيه. وإذا كان كتاب ربنا - عز وجل - قد لقي من العناية به - حفظاً وتلاوة وجمعاً وتدويناً ثم تفسيراً وشرحاً - ما لم يعتن بكتاب آخر فإن الحديث النبوي الشريف لقي - أيضاً - عناية كبيرة من علماء الأمة حفظاً وتدويناً ودراسة لأسانيده ومتونه.
وكما تفاوتت مناهج المفسرين لكتاب الله تعالى تفاوتت مناهج شراح السنة على مر العصور، فهناك شروح مطولة، وشروح مختصرة، ومنها شروح خاصة بالمتون ومنها ما أضيف إلى ذلك دراسة الأسانيد، وهناك كتب لشرح غريبها، أو بيان مشكلها ومختلفها ومنسوخها وغير ذلك، ثم توجت شروحها بأعظم شرحين هما: فتح الباري للحافظ ابن حجر العسقلاني وعمدة القاري للحافظ بدر الدين العيني.
ثم توالت الشروح بعدهما حتى يومنا، وأصبح شرح الحديث الشريف علماً قائماً بذاته، يدرس في المعاهد والجامعات، وخصصت له ساعات تدريسية في المناهج الجامعية، واختيرت له كتب تتفاوت مناهجها من جامعة إلى أخرى، فبعض الجامعات مثلاً تدرس شرح أحاديث الأحكام، وبعضها شرح أحاديث الرقائق، وبعضها شرح أحاديثَ متنوعةِ الأبواب وغير ذلك. وأغلب هذه الشروح - حسب علمي - تقتصر على شرح المتون.
(1/1)
وطريقة شرح المتن في الكتب المقررة متفاوتة أيضاً، فبعضها يقتصر على بيان الفوائد والأحكام الشرعية وشرح المفردات، وبعضها يهتم بالمعنى الإجمالي وبيان الإعراب والبلاغة وغير ذلك، وتتفق جميعها في إغفال كل ما يتعلق بالأسانيد.
سبب اختيار الموضوع وأهميته:
من أهم عوامل نجاح أي بحث علمي أن يعالج الباحث مشكلة يشكو منها المجتمع أو فئة من فئاته، فوجود الشكوى والمعاناة تدفع العلماء إلى البحث عن حلول وأجوبة تسهم في إزالة المشكلات، وعدم الشكوى والمعاناة ليست دليلاً قاطعاً على عدم وجود مشكلة.
فالطبيب يعالج المريض الذي يأتي إليه بعد أن يشعر بالألم، ولكن عدم الإحساس بالألم لا يعني الخلوَّ من المرض، فهناك أمراض لا تظهر أعراضها إلا بعد سنوات من توطنها في جسم الإنسان، ولا يكتشفها قبل وقتها إلا الأطباء المتخصصون بعد إجراء تحاليل وأشعة وفحوص مخبرية ونحو ذلك.
وبالنسبة لمقرر شرح الحديث النبوي هل المشكلة فيه ظاهرة والشكوى منه عامة ؟ أم هي مشكلة كامنة لا يدركها إلا الأساتذة المتخصصون؟
لقد تتبعت آراء الطلبة الذين يدرسون هذا العلم في أكثر من جامعة وسألت بعض الأساتذة، فما وجدت أحداً من الطلبة يعاني من وجود خلل في هذا المقرر أو يشكو من صعوبته، وإنما الشكوى والمعاناة قائمة في مقرر علوم الحديث، بل إن أكثر الطلبة يرون أن هذا العلم سهل التحصيل لا يحتاج الطالب فيه إلى جهد ذهني كبير، ولا يتطلب من دارسه أدوات علمية مساعدة، لكن عدم وجود الشكوى لا يدل قطعاً على عدم وجود خلل في المناهج، فربما لا يكون الطلبة أهلاً لاكتشاف هذا الخلل لقصورهم عن إدراك ذلك، أما الأساتذة المتخصصون فقد سمعت من الكثير منهم الشكوى من قصور المناهج وعدم صلاحيتها لإعطاء فكرة واضحة عن موضوعات السنة النبوية وما ينبغي أن تتضمنه شروحها.
(1/2)
لذا اخترت الكتابة في هذا المحور من محاور الندوة. وتكمن أهمية هذا البحث في أنه يعالج مشكلة غير ظاهرة لدى البعض، ويضع الحلول المناسبة لها حسب اجتهاد كاتبه.
حال مناهج شرح الحديث في الجامعات:
يغلب على مناهج شرح الحديث في جامعاتنا تدريس شرح أحاديث الأحكام الفقهية، لتنمية ملكة الاستنباط الفقهي لدى الطالب.
ولهذه الطريقة بعض العيوب منها:
1- جهل الطالب بباقي موضوعات السنة التي يحتاجها في حياته العملية والدعوية.
2- يقوم بتدريس هذا المقرر - في كثير من الأحيان - أساتذة غير متخصصين في السنة النبوية مما يجعل الدرس درس فقه لا حديث.
3- يكون تكراراً لما درسه الطالب في علم الفقه. وقد حدث مرة في إحدى الكليات الشرعية أن تشابهت أسئلة الفقه وأسئلة شرح أحاديث الأحكام في العبادات بنحو 50%.
4- تُرسِّخ في عقل الطالب فكرة أن علم شرح الحديث الشريف رديف ومساعد للمقررات الأخرى وليس علماً قائماً بذاته.
إن واقع هذه المناهج لا تخرج عالماً بالسنة النبوية كتخصص مستقل، وطموحنا أن تبرز المناهج استقلالية هذا العلم، وعدم تبعيته لأي فن آخر، وهذا لا يتم إلا إذا أخرجناه من دائرته الضيقة المحصورة في شرح متون أحاديث ذات صبغة واحدة، وأن تحدد العناصر أو الفقرات التي ينبغي أن يشتمل عليها الشرح.
وهذا ما سنتاوله بالتفصيل في المبحث التالي إن شاء الله تعالى.
أهم العناصر التي ينبغي أن يشتمل عليها شرح الحديث:
(1/3)
1- تنويع الموضوعات التي تعالجها الأحاديث المقررة ليطلع الدارس على مجمل موضوعات السنة فيدرك شمولها لجميع مناحي الحياة، ويستحسن في اختيار الأحاديث ما يعالج مشكلة يعاني منها المجتمع الحالي، أو التي تثار حولها الشبهات، أو التي تفهم خطأ، وأمثل لذلك بأحاديث (ناقصات عقل ودين) و (الشؤم في ثلاث المرأة والدار والفرس) و(سحر النبي صلى الله عليه وسلم) و (وقوع الذبابة) و (مراحل خلق الإنسان في بطن أمه) و (حقوق الإنسان أو العمال) و (النظافة) و (التعامل مع أهل الذمة) وغير ذلك كثير. وتدريس هذا النوع من الأحاديث يعين الطالب في خدمة مجتمعه وأمته.
2- ألا يقتصر في الاختيار على الأحاديث الصحيحة، بل ينبغي أن تشمل المتواتر، والصحيح بقسميه (لذاته ولغيره) والحسن بقسميه، والضعيف، ويوضح للطلبة أسباب ارتقاء الحديث للقسم الأعلى أو أسباب تقاعده عن ذلك.
3- أن يورد النص سنداً ومتناً، ويضبط ضبطاً تاماً. وفائدة ذلك تعويد الطالب على القراءة الصحيحة المضبوطة لأسماء الرواة فيألف هذه الأسماء، وتشرح له الرموز (ثنا، نا، أنا، ح) وغيرها.
4- الترجمة للصحابي في المرة الأولى باختصار مع رد بعض الشبهات التي تثار حوله ككثرة مروياته مثلاً.
5- بيان لطائف الإسناد. كأن يكون فيه عنعنة، أو انقطاع، أو تدليس، أو إرسال، أو روى بسلسلة قيل فيها إنها أصح الأسانيد، أو أحسنها، أو فيها رواية الآباء عن الأبناء أو رجاله كلهم مكيون أو أئمة ونحو ذلك من اللطائف التي لا يخلو إسناد من واحد منها.
6- بيان درجة الحديث بنقل أقوال الأئمة المعتمدين، مع بيان أسباب تصحيحه أو تحسينه أو تضعيفه.
7- ذكر من أخرجه من أصحاب المصنفات، وبيان المتابعات والشواهد، وذكر مواطن الاتفاق والاختلاف في المتن.
8- سبب ورود الحديث - إن وجد -.
9- شرح الألفاظ اللغوية الغريبة وإعراب الكلمات المشكلة أو التي تحتمل أكثر من وجه في الإعراب.
(1/4)
10- بيان بلاغة الحديث من البيان والمعاني والمحسنات البديعية، والأمثال النبوية؛ ليدلل به على فصاحته صلى الله عليه وسلم، وأنه أوتي جوامع الكلم (وهذا فيما لم يرو بالمعنى).
11- الأحكام والآداب المستفادة من الحديث (فقهية، عقائدية، سلوكية، صحية، دلائل النبوة، إخبار بالمغيبات وغيرها) تذكر أقوال العلماء مع بيان موضع دليلهم من الحديث أو شواهده.
12- الإجابة عن الإشكالات والشبهات الواردة على النص.
13- ربط الحديث بالواقع قدر الإمكان، وتنزيل بعض الأحداث المعاصرة عليه.
14- وأخيراً ذكر المصادر والمراجع التي يمكن أن يرجع إليها الطالب في شرح الحديث.
إن هذه العناصر التي أوردتها آنفاً لا توجد كاملة في كل حديث يشرح، فبعض الأحاديث - مثلاً - لا سبب لوروده، أو لا يوجد فيه إشكال نحوي، أو إن الصحابي أو الإسناد قد سبق ذكره، فينقص عدد العناصر إلى عشرة أو أقل أو أكثر، حسب ما يقتضيه الحديث.
أهمية وجود هذه العناصر في الشرح:
تلك الطريقة الموسعة في دراسة الحديث تربط الطالب بالجانب النظري الذي درسه في مقرر علوم الحديث، ويرسخه في ذهنه، وتفتح أمام الطالب آفاقاً أرحب في مدلولات الأحاديث وشموليتها لجميع مناحي الحياة.
كما يدرك الطالب فيها - عملياً - مدى ارتباط علوم الشريعة بعلوم اللغة العربية، وأنه لا يجوز الفصل أبداً بين هذه العلوم. وعلى من ينشد التميز والتفوق الاستفادة من العلوم المساعدة في فهم الحديث النبوي، فإن النص الشرعي (سواء أكان قرآناً أم حديثاً) لا يتم فهمه إلا باستخدام علوم الآلة.
كما تغرس هذه الطريقة في ذهن الطالب فكرة حاجة كل علم إلى غيره وعدم استغنائه عما سواه، وإن حاجة العلوم الشرعية إلى العلوم العربية أشد من العكس. وقد كان أسلافنا يحثون الطلبة على تعلم النحو كي لا يلحنوا في الأحاديث، وما من عالم من علمائنا إلا وقد درس علوم العربية واستفاد منها في دراسته الشرعية.
(1/5)
نقل الإمام القرطبي المفسر عن الإمام أبي جعفر الطبري قال: سمعت الجَرْميَّ يقول: »أنا منذ ثلاثين سنة أُفتي الناس في الفقه من كتاب سيبويه«.
قال محمد بن يزيد (أي المبرد): وذلك أن أبا عمر الجَرْميَّ كان صاحب حديث؛ فلما علم كتاب سيبويه تفقه في الحديث، إذ كان كتاب سيبويه يتعلم منه النظر والتفسير، ثم ينظر في السنن المأثورة الثابتة عن رسوله صلى الله عليه وسلم، فبها يصل الطالب إلى مراد الله عز وجل في كتابه، وهي تفتح له أحكام القرآن فتحاً أ.هـ (1) .
ولعل قائلاً يقول: إن هذه الطريقة تؤدي إلى تقليل كمية الأحاديث المقرر شرحها في الفصل الدراسي الواحد.
ويُرَدُّ عليه بأن دراسة عشرة أحاديث في فصل واحد على هذا النحو الشمولي أكثرُ عوداً بالنفع والفائدة على الطالب من دراسة ثلاثين حديثاً لا تربطه بعلوم الحديث، وتقف به عند دراسة بعض فوائد المتن، وتجعله غير ملم بتنوع موضوعات السنة، ولا يعرف كيف يرد على الشبهات التي تثار حول بعض الأحاديث، وتصرفه عن الاهتمام بالعلوم المساعدة لفهم النصوص النبوية.
إن شرح متونِ أحاديثَ ذاتِ صبغة واحدة (فقه أو عقيدة، أو سلوك) يمكن أن يقوم به أي أستاذ متخصص في تلك العلوم، ولا يتطلب متخصصاً في علوم السنة، أما الشرح وفق الطريقة التي ذكرتها لا يتمكن من الوفاء بها إلا أهل الحديث الشريف بلا مزاحمة.
لذا ينبغي إعادة النظر في صياغة مناهج شروح الحديث الشريف في الجامعات فلا يكون همها كثرة عدد الأحاديث المشروحة بقدر نوعية الشرح ومدى استيعابه للعناصر اللازمة له، ومدى التصاقه بأهله المختصين به.
هل توجد مؤلفات معاصرة تفي بهذا الغرض ؟
__________
(1) تفسير القرطبي 1/21-22 المقدمة، باب ما ينبغي لصاحب القرآن أن يأخذ نفسه به ولا يغفل عنه.
(1/6)
إن شروح السنة القديمة تتفاوت في وجود العناصر المذكورة - سابقاً - فيها، ولكن الشروح تطورت عبر العصور ووصلت إلى قمتها بشرحي صحيح البخاري للإمامين ابن حجر العسقلاني وبدر الدين العيني، وهذان الكتابان يدلان على إحاطة مؤلفيهما بعلوم الآلة وعلوم الغاية (الشريعة)، وقد أودعا كتابيهما جميع ما ذكرت، وكتاب العيني أكثر تنظيماً وترتيباً، إلا أن أسلوبهما فوق مستوى الطالب الجامعي في عصرنا وتصلح للتدريس في مرحلة الدراسات العليا لا المرحلة الجامعية.
أما الشروح المعاصرة المقررة في الجامعات فلا أعلم - حسب اطلاعي - كتاباً جامعياً حوى تلك العناصر. ولكنّ أَقْرَبَها إلى ذلك كتاب إعلام الأنام شرح بلوغ المرام لأستاذنا الفاضل الدكتور نور الدين عتر - حفظه الله تعالى - وإننا نعلم - حسب عنوان الكتاب - أنه خاص بأحاديث الأحكام، ولو لم يلتزم أستاذنا الفاضل شرح هذا الكتاب واختار أحاديث متنوعة الموضوعات - حسب البيان الذي ذكرته سابقاً - لكان هو الكتاب الذي ننشده ونطمح إليه.
لذا أقترح - إن تم الاتفاق على ضرورة وجود هذه العناصر في الشرح - أن تشكل لجنة متخصصة من الحاضرين أو من غيرهم؛ ليقوموا بهذا المشروع ويعمم ذلك على الجامعات، فلا بد من تضافر الجهود والعمل المشارك لإنجاح هذا المقترح لأنه يصعب على فرد واحد أن يقوم به.
وأتمنى أن تتبنى مؤسسة علمية أو خيرية هذا المشروع، وتطرحه على أهل العلم، وترصد جائزة قيمة لمن يتقدم بأحسن تصنيف في شرح الحديث يتناسب مع مستوى الطلبة في المرحلة الجامعية.
وفقنا الله تعالى وإياكم إلى ما فيه خدمة القرآن الكريم وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وحشرنا في زمرة أتباعه وأحبابه، واستخدمنا في سنة حبيبه ننفي عنها انتحال المبطلين وتأويل الجاهلين.والحمد لله رب العالمين في بدءٍ ومختتم
(1/7)