على الأسئلة الحديثية
لفضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن عبد الله القناص
أستاذ الحديث المشارك بجامعة القصيم - كلية الشريعة والدراسات الإسلامية - قسم السنة وعلومها
مقدمة
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لانبيّ بعده أما بعد ..
فهذه أجوبة على أسئلة وردت إليّ عن طريق موقع الإسلام اليوم وغيره، وقد أجبت عليها، وغالبها في السنة وعلومها، ولهذا سميتها " الأجوبة على الأسئلة الحديثية "
اسأل الله تبارك وتعالى أن ينفع بها ويجعلها خالصة لوجه الكريم .
وكتبه:
محمد بن عبد اله القناص
أستاذ الحديث المشارك بجامعة القصيم - كلية الشريعة والدراسات الإسلامية قسم السنة وعلومها
تخريج بعض الأحاديث والآثار والكلام عليها
حوت يحمل الأرضين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
معذرة عن هذا السؤال ولكني متحير عندما قرأت في تفسير الإمام ابن كثير في سورة طه الآية " لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى " (طه:6)، حيث أن هناك حديثاً مرفوعاً للنبي - صلى الله عليه وسلم - فيما معناه: أن تحت الأرضيين السبع حوت، وفي سورة : " ن " وجدت تفسيرها أن المقصود بها الحوت الذي تحت الأرضيين السبع، وهل الأرض تحتها حوت فما مدى صحة هذه الروايات ؟ ولسيادتكم جزيل الشكر .
بسم الله الرحمن الرحيم .
أنا أكتب السؤال للمرة الثانية، فأرجو المعذرة لو جاءت الرسالة مرتين، السؤال هو لقد قرأت تفسير الإمام ابن كثير رحمه الله في سورة طه الآية: " لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى " (طه:6)، ووجدت روايات منسوبة للنبي - صلى الله عليه وسلم - تقول أن تحت الأرضيين السبع حوت ومعنى "ن" في سورة القلم ذلك الحوت
الحديث الآخر: لما خلق الله الأرض قمصت وقالت أترسل علي بني آدم يرمون بلحمهم ونتهم فألقى الله عليها الجبال . رواها ابن جرير رحمه الله .السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .(1/1)
معذرة إذا كان هذا السؤال للمرة الثالثة حيث أنني لم أتأكد من وصول الرسالة حيث عند إرسالها في المرتين كانت الشبكة تفصل، فأرجو المعذرة لو كانت للمرة الثالثة، السؤال هو : قرأت تفسير الإمام ابن كثير وعند سورة القلم وجدت أن أحد التفاسير تقول أن "ن" المقصود بها الحوت الذي يحمل الأرضيين السبع فما صحة هذا التفسير . وعند سورة "طه" الآية التي تقول: " لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى " (طه:6)، وجدت روايات تقول أن تحت الثرى الأرضيين السبع والحوت فما تفسير ذلك معذرة على هذا السؤال لأنني حديث بقراءة كتب التفسير وعندما قرأت ذلك الموضوع تخوفت من قراءة التفسير
هناك حديث أخرجه الإمام الطبري معناه " أن الأرض قمصت لما علمت أن الله سينزل عليها بنى أدم فألقى الله عليها الجبال فرجعت " ما صحة هذا الحديث ** أسف على الإطالة .
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
الحديث الأول: أخرجه ابن جرير في تفسيره ( 29/14 )، وابن منده في التوحيد ( 1/94، 192 رقم 15، 65 )، والحاكم في المستدرك ( 2/498 )، والبيهقي في الأسماء والصفات ص( 481 ) من طرق عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس، وفيه: " ثم خلق النون الذي عليه الأرض، فبسط الأرض من فوقه، فتحرك النون، فمادت الأرض، فأثبتت بالجبال، فإن الجبال لتفخر على الأرض بأنها أثبتت بها . "
وهو موقوف على ابن عباس، ويظهر أن هذا مما أخذ من الإسرائيليات والله أعلم .(1/2)
والحديث الثاني: أخرجه الطبري ( 14/90 ) من حديث علي موقوفاً عليه، قال: " لما خلق الله الأرض قمصت وقالت: تخلق عليَّ آدم وذريته يلقون عليَّ نتنهم، ويعملون عليَّ بالخطايا، فأرساها الله فمنها ما ترون ومنها ما لا ترون..... " ، وحسن إسناده الحافظ ابن حجر في الفتح ( 8/385 )، وأخرجه الإمام أحمد ح ( 12253 )، والترمذي ح ( 3369 )، وأبو يعلى ح ( 4210 ) ، والضياء في " المختارة " ح ( 2149 ) ، ح ( 2150 ) من طريق سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْأَرْضَ جَعَلَتْ تَمِيدُ فَخَلَقَ الْجِبَالَ فَأَلْقَاهَا عَلَيْهَا فَاسْتَقَرَّتْ فَتَعَجَّبَتْ الْمَلَائِكَةُ مِنْ خَلْقِ الْجِبَالِ فَقَالَتْ يَا رَبِّ هَلْ مِنْ خَلْقِكَ شَيْءٌ أَشَدُّ مِنْ الْجِبَالِ قَالَ نَعَمْ الْحَدِيدُ قَالَتْ يَا رَبِّ هَلْ مِنْ خَلْقِكَ شَيْءٌ أَشَدُّ مِنْ الْحَدِيدِ قَالَ نَعَمْ النَّارُ قَالَتْ يَا رَبِّ هَلْ مِنْ خَلْقِكَ شَيْءٌ أَشَدُّ مِنْ النَّارِ قَالَ نَعَمْ الْمَاءُ قَالَتْ يَا رَبِّ فَهَلْ مِنْ خَلْقِكَ شَيْءٌ أَشَدُّ مِنْ الْمَاءِ قَالَ نَعَمْ الرِّيحُ قَالَتْ يَا رَبِّ فَهَلْ مِنْ خَلْقِكَ شَيْءٌ أَشَدُّ مِنْ الرِّيحِ قَالَ نَعَمْ ابْنُ آدَمَ يَتَصَدَّقُ بِيَمِينِهِ يُخْفِيهَا مِنْ شِمَالِهِ .
وإسناده ضعيف، سليمان بن أبي سليمان - وهو مولى ابن عباس - لم يرو عنه غير العوام بن حوشب، وقال ابن معين: لا أعرفه، قال الترمذي : هذا حديث غريب لا نعرفه مرفوعاً إلا من هذا الوجه .(1/3)
وأنصح الأخ السائل مادام أنه حَديث عَهدٍ بالقراءة في كتب التفسير أن يقرأ في مختصرات تفسير ابن كثير والتي جردت من الإسرائيليات مثل: عمدة التفسير للشيخ : أحمد شاكر، وتيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير، لمحمد نسيب الرفاعي . هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل .
- - - - - -
سبب نزول قوله تعالى: { إن جاءكم فاسق بنبأ ... }
يقول سبحانه وتعالي : (( إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا )) فهل سبب نزول هذه الآية قصة الصحابي الوليد بن عقبة مع بني المصطلق, وما علاقة الموضوع بعدالة الصحابة.
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:(1/4)
ذكر كثير من المفسرين أن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط حين بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على صدقات بني المصطلق ، وقد رُوي ذلك من طرق، ومن أحسنها ما رواه الإمام أحمد في مسنده ح ( 17991 ) قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَابِقٍ حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ دِينَارٍ حَدَّثَنَا أَبِي أَنَّهُ سَمِعَ الْحَارِثَ بْنَ أَبِي ضِرَارٍ الْخُزَاعِيِّ قَالَ: قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَدَعَانِي إِلَى الْإِسْلَامِ فَدَخَلْتُ فِيهِ وَأَقْرَرْتُ بِهِ، فَدَعَانِي إِلَى الزَّكَاةِ فَأَقْرَرْتُ بِهَا وَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرْجِعُ إِلَى قَوْمِي فَأَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَأَدَاءِ الزَّكَاةِ، فَمَنْ اسْتَجَابَ لِي جَمَعْتُ زَكَاتَهُ، فَيُرْسِلُ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَسُولًا لِإِبَّانِ كَذَا وَكَذَا (1) لِيَأْتِيَكَ مَا جَمَعْتُ مِنْ الزَّكَاةِ فَلَمَّا جَمَعَ الْحَارِثُ الزَّكَاةَ مِمَّنْ اسْتَجَابَ لَهُ، وَبَلَغَ الْإِبَّانَ الَّذِي أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُبْعَثَ إِلَيْهِ، احْتَبَسَ عَلَيْهِ الرَّسُولُ فَلَمْ يَأْتِهِ، (2) فَظَنَّ الْحَارِثُ أَنَّهُ قَدْ حَدَثَ فِيهِ سَخْطَةٌ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَرَسُولِهِ؛ فَدَعَا بِسَرَوَاتِ قَوْمِهِ (3) فَقَالَ لَهُمْ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ وَقَّتَ لِي وَقْتًا يُرْسِلُ إِلَيَّ رَسُولَهُ لِيَقْبِضَ مَا كَانَ عِنْدِي مِنْ الزَّكَاةِ، وَلَيْسَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْخُلْفُ وَلَا أَرَى حَبْسَ رَسُولِهِ إِلَّا مِنْ سَخْطَةٍ كَانَتْ فَانْطَلِقُوا فَنَأْتِيَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه
__________
(1) - أي لوقت كذا وكذا ، والمراد وقت حصول الثمرة
(2) - الحبس المنع والتأخير
(3) - أي زعمائهم وسادتهم(1/5)
وسلم - ، وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ إِلَى الْحَارِثِ لِيَقْبِضَ مَا كَانَ عِنْدَهُ مِمَّا جَمَعَ مِنْ الزَّكَاةِ، فَلَمَّا أَنْ سَارَ الْوَلِيدُ حَتَّى بَلَغَ بَعْضَ الطَّرِيقِ فَرِقَ (1) فَرَجَعَ فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الْحَارِثَ مَنَعَنِي الزَّكَاةَ، وَأَرَادَ قَتْلِي فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْبَعْثَ إِلَى الْحَارِثِ، فَأَقْبَلَ الْحَارِثُ بِأَصْحَابِهِ إِذْ اسْتَقْبَلَ الْبَعْثَ، وَفَصَلَ مِنْ الْمَدِينَةِ لَقِيَهُمْ الْحَارِثُ فَقَالُوا هَذَا الْحَارِثُ، فَلَمَّا غَشِيَهُمْ قَالَ لَهُمْ إِلَى مَنْ بُعِثْتُمْ ؟ قَالُوا إِلَيْكَ قَالَ وَلِمَ قَالُوا إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ بَعَثَ إِلَيْكَ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ فَزَعَمَ أَنَّكَ مَنَعْتَهُ الزَّكَاةَ، وَأَرَدْتَ قَتْلَهُ قَالَ لَا وَالَّذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ مَا رَأَيْتُهُ بَتَّةً وَلَا أَتَانِي فَلَمَّا دَخَلَ الْحَارِثُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: مَنَعْتَ الزَّكَاةَ وَأَرَدْتَ قَتْلَ رَسُولِي، قَالَ لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا رَأَيْتُهُ وَلَا أَتَانِي وَمَا أَقْبَلْتُ إِلَّا حِينَ احْتَبَسَ عَلَيَّ رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خَشِيتُ أَنْ تَكُونَ كَانَتْ سَخْطَةً مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَرَسُولِهِ، قَالَ فَنَزَلَتْ الْحُجُرَاتُ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } إِلَى هَذَا الْمَكَانِ { فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }
__________
(1) - الفَرق: الخوف والفزع(1/6)
وهذا إسناد ضعيف: دينار والد عيسى هو الكوفي مولى عمرو بن الحارث تفرد بالرواية عنه ابنه عيسى، قال ابن المديني: لا أعرفه، ومحمد بن سابق: مختلف في توثيقه، ولهذه القصة شواهد ضعيفة من حديث ابن عباس عند الطبري في التفسير ( 26 / 123 )، والبيهقي في السنن ( 9/54 ) ، ومن حديث أم سلمة عند الطبري في التفسير ( 26 / 123 ) ، والطبراني ( 23 / ح ( 960 ) ، ومن حديث جابر عند الطبراني في الأوسط ( 3809 )، ومراسيل عن قتادة ومجاهد وغيرهما عند الطبري ( 26/123 - 125 )، وقد ذكر الحافظ ابن عبد البر أنه لا خلاف بين أهل العلم بتأويل القرآن أن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط (1)
وقد يُشكل ما جاء في هذه القصة من وصف الوليد بالفسق مع ما أجمع عليه العلماء من عدالة الصحابة - رضي الله عنهم - ، والتي دلت عليها أدلة كثيرة من الكتاب والسنة، وليس المقام مقام بسط هذه الأدلة، وقد أجاب العلماء عن هذه القصة بأجوبة:
__________
(1) - الاستيعاب ( 1/492 )(1/7)
1- منهم من يرى أن هذه القصة لا تثبت لأن جميع طرق هذه القصة لا تخلو من ضعف، قال الحافظ ابن كثير: " وقد بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الوليد بن عقبة على صدقات بنى المصطلق فخرجوا يتقلونه فظن أنهم إنما خرجوا لقتاله فرجع فأخبر بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأراد أن يجهز إليهم جيشا، فبلغهم ذلك فجاء من جاء منهم ليعتذروا إليه ويخبرونه بصورة ما وقع فأنزل الله تعالى في الوليد: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } الآية ذكر ذلك غير واحد من المفسرين والله أعلم بصحة ذلك، وقد حكى أبو عمرو بن عبد البر على ذلك الاجماع " (1) ، ومال ابن العربي في كتابه العواصم من القواصم (2) إلى تضغيف القصة من جهة أن الوليد بن عقبة كان صغير السن في ذلك الوقت، ومن كان في مثل سنه لا يناسب أن يبعث مصدقاً، فقد ورد في مسند الإمام أحمد عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ قَالَ لَمَّا فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَكَّةَ جَعَلَ أَهْلُ مَكَّةَ يَأْتُونَهُ بِصِبْيَانِهِمْ فَيَمْسَحُ عَلَى رُءُوسِهِمْ وَيَدْعُو لَهُمْ فَجِيءَ بِي إِلَيْهِ وَإِنِّي مُطَيَّبٌ بِالْخَلُوقِ وَلَمْ يَمْسَحْ عَلَى رَأْسِي وَلَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا أَنَّ أُمِّي خَلَّقَتْنِي بِالْخَلُوقِ فَلَمْ يَمَسَّنِي مِنْ أَجْلِ الْخَلُوقِ (3) ، وفي هذا الإسناد ضعف، فهو من طريق عبد الله الهمداني عن الوليد، وهو مجهول، والراوي عنه ثابت بن الحجاج تفرد بالرواية عنه، وقال البخاري في التاريخ الكبير : لا يصح حديثه .
__________
(1) - البداية والنهاية ( 8/214 )
(2) - ص ( 91 )
(3) - أخرجه أحمد ( 4/32 )(1/8)
2- أن هذه الآية دلت على وجوب التثبت من خبر الفاسق، ولكن لا يلزم من ذلك وصف الوليد بالفسق لأن الوليد لم يتعمد الكذب، بل أخبر بما رأى، فهو لما رأى الحارث وقومه ظن أنهم اجتمعوا لقتله، فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بما ظنه، قال الرازي: " ما ذكره المفسرون من أن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة حين بعثه إلى بني المصطلق، إن كان مرادهم أن الآية نزلت عامة لبيان وجوب التثبت من خبر الفاسق، وأنها نزلت في ذلك الحين الذي وقعت فيه حادثة الوليد فهذا جيد، وإن كان غرضهم أنها نزلت لهذه الحادثة بالذات فهو ضعيف، لأن الوليد لم يقصد الإساءة إليهم، وحديث أحمد يدل على أن الوليد خاف وفرق حين رأى جماعة الحارث، فظن أنها خرجت لحربه فرجع وأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما أخبره ظناً منه أنهم خرجوا لقتاله، ويتأكد ما ذكرنا أن إطلاق لفظ " الفسق " على الوليد شيء بعيد، لأنه توهم وظن فأخطأ والمخطئ لا يسمى فاسقاً" ، وقال الحافظ ابن حجر - في ختام ترجمة الوليد بن عقبة - : " والرجل قد ثبتت صحبته، وله ذنوب أمرها إلى الله تعالى، والصواب السكوت عنها " (1)
__________
(1) - تهذيب التهذيب ( 11/142 - 144 )(1/9)
3- أنه على تقدير وصف الوليد بالفسق فهذا شيء نادر في الصحابة، والنادر لا حكم له، ثم إنه حصلت له التوبة التي تُذهب وصف الفسق، قال العلائي : " الصحابة كلهم عدول، .... ولا يقال فقد وقع من بعض الصحابة الكذب كما نقله أهل التفسير في قصة الوليد بن عقبة ونزول قوله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ ) الآية .... لأنا نقول إن سُلِّم صحة ذلك فهو نادر جدا لا أثر له، والحكم إنما هو للغالب المستفيض الشائع، وقد تقدم قول البراء - رضي الله عنه - ولم يكن بعضنا يكذب بعضا، وهذا هو الأمر المستقر الذي أطبق عليه أهل السنة أعني القول بعدالة جميع الصحابة - رضي الله عنهم - ، ولا اعتبار بقول أهل البدع والأهواء ولا تعويل عليه" (1) ، هذا والله أعلم .
- - - - - -
هل قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إنا لله وإنا إليه راجعون " عند وفاة أحد ؟
هل ثبت في السنة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنا لله وإنا إليه راجعون" عندما سمع عن وفاة أحد؟
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
__________
(1) - جامع التحصيل ص ( 96 )(1/10)
ورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استرجع لما مات عبد الله بن ثابت - رضي الله عنه - فقد أخرج مالك في الموطأ ، ومن طريقه أبو داود ، والنسائي عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَابِرِ بْنِ عَتِيكٍ عَنْ عَتِيكِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَتِيكٍ - وَهُوَ جَدُّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو أُمِّهِ - أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَمَّهُ جَابِرَ بْنَ عَتِيكٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - جَاءَ يَعُودُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ ثَابِتٍ فَوَجَدَهُ قَدْ غُلِبَ فَصَاحَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمْ يُجِبْهُ فَاسْتَرْجَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَقَالَ غُلِبْنَا عَلَيْكَ يَا أَبَا الرَّبِيعِ فَصَاحَ النِّسْوَةُ وَبَكَيْنَ فَجَعَلَ ابْنُ عَتِيكٍ يُسَكِّتُهُنَّ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - دَعْهُنَّ فَإِذَا وَجَبَ فَلَا تَبْكِيَنَّ بَاكِيَةٌ (1)
__________
(1) - أخرجه مالك ( 1/233 - 234 )، ومن طريقه أبو داود ( 3111 ) ، والنسائي ( 4/13 )(1/11)
وفي صحيح مسلم من حديث أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: مَا مِنْ مُسْلِمٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ فَيَقُولُ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ اللَّهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا إِلَّا أَخْلَفَ اللَّهُ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا قَالَتْ فَلَمَّا مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ قُلْتُ أَيُّ الْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ أَوَّلُ بَيْتٍ هَاجَرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ إِنِّي قُلْتُهَا فَأَخْلَفَ اللَّهُ لِي رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَتْ أَرْسَلَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَاطِبَ بْنَ أَبِي بَلْتَعَةَ يَخْطُبُنِي لَهُ فَقُلْتُ إِنَّ لِي بِنْتًا وَأَنَا غَيُورٌ فَقَالَ أَمَّا ابْنَتُهَا فَنَدْعُو اللَّهَ أَنْ يُغْنِيَهَا عَنْهَا وَأَدْعُو اللَّهَ أَنْ يَذْهَبَ بِالْغَيْرَةِ، (1) هذا والله أعلم .
- - - - - -
القراءة خلف الإمام
ما صحة حديث "من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة"؟ نرجو إلقاء الضوء على طرق الحديث وكلام أهل العلم عليه بالتفصيل. وجزاكم الله خيراً.
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
__________
(1) - أخرجه مسلم ح (918)(1/12)
هذا الحديث أخرجه أحمد (14684) قال : حدثنا أسود بن عامر ، أخبرنا حسن بن صالح ، عن أبي الزبير ، عن جابر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ... وهذا إسناد منقطع ، حسن بن صالح لم يسمعه من أبي الزبير بينهما جابر بن يزيد الجعفي، وهو ضعيف. وأخرجه ابن ماجه (850)، والدارقطني (1/331)، والبيهقي في القراءة خلف الإمام (344- 395)، وابن عدي ( 2/542 ) من طرق عن الحسن بن صالح ، عن جابر بن يزيد الجعفي، عن أبي الزبير ، عن جابر - رضي الله عنه - مرفوعاً. قال ابن عدي: " وهذا معروف بجابر الجعفي عن أبي الزبير يرويه عنه الحسن بن صالح..." وأخرجه مالك (1/84) ومن طريقه البيهقي (2/160) عن وهب بن كيسان ، عن جابر - رضي الله عنه - موقوفاً . قال البيهقي: " هذا هو الصحيح عن جابر - رضي الله عنه - من قوله غير مرفوع ...(1/13)
وقد يشبه أن يكون مذهب جابر - رضي الله عنه - في ذلك ترك القراءة خلف الإمام فيما يجهر فيه بالقراءة دون ما لا يجهر فيه " وأخرجه أبو حنيفة في مسنده (ص: 307)، ومن طريقه محمد بن الحسن في موطئه (ص: 117)، والطحاوي (1/ 217)، والدارقطني (1/331-324)، والبيهقي في السنن (2/159)، وفي القراءة خلف الإمام ( 334 ، 335 ) عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شداد بن الهاد ، عن جابر - رضي الله عنه - قال البيهقي: " هكذا رواه جماعة عن أبي حنيفة موصولاً ، ورواه عبد الله بن المبارك مرسلاً دون ذكر جابر - رضي الله عنه - وهو المحفوظ " قال الدارقطني في حديث عبد الله بن شداد عن جابر - رضي الله عنه - : " وروي هذا الحديث سفيان الثوري وشعبة وإسرائيل وأبو خالد الدالاني وأبو الأحوص وسفيان بن عيينة وجرير بن عبد الحميد وغيرهم عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شداد مرسلاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو الصواب " وورد الحديث عن جماعة من الصحابة أوردها البيهقي في كتابه القراءة خلف الإمام (ص: 147)، وأعلها كلها، وأعلها أيضاً الحافظ في التلخيص ( 1 / 232 ) قال الحافظ: " حديث" من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة " مشهور من حديث جابر - رضي الله عنه - ، وله طرق عن جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم - ، وكلها معلولة " ويتلخص مما تقدم أن الحديث لا يصح مرفوعاً والله أعلم . (1)
هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
حديث: "إدخال الحزن على المسلم..."
هل هذا الحديث صحيح؟: "إدخال الحزن على المسلم أشدَّ من هدم الكعبة أربعين مرة".
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
__________
(1) - ينظر: العلل المتناهية في الأحاديث الواهية (1/430 - 431)، تنقيح التحقيق في أحاديث التعليق (2/845 - 849)، إتمام الكلام فيما يتعلق بالقراءة خلف الإمام لـ / اللكنوي ( ص : 199 - 207 )(1/14)
هذا الحديث لا أصل له حسب اطلاعي وعلمي. هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
- - - - - -
أحاديث التباكي
ذكر الشيخ أبو عبد الرحمن بن عقيل الظاهري في كتابة البكاء والتباكي (على ما أظن) أن أحاديث الحث على التباكي كلها ضعيفة وأن التباكي من النفاق، فما وجهة نظركم في هذا الكلام؟
الجواب:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين . وبعد
نعت الله عز وجل عباده المؤمنين المتدبرين لكلامه المتفكرين في معانيه بوجل القلب ورقته وخشوعه وجريان الدمع عند سماعه وتلاوته فقال تعالى: { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } (1) ، وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً } (2) ، قال عبد الأعلى التيمي: " من أوتي من العلم ما لا يبكيه فليس بخليق أن يكون أوتي علماً ينفعه؛ لأن الله تعالى نعت العلماء فقال: { إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ .... } وتلا الآيتين
__________
(1) - سورة الزمر الآية:23
(2) - سورة الإسراء: 108-109(1/15)
وقال تعالى: { وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ... } (1) ، وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - اقْرَأْ عَلَيَّ الْقُرْآنَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟ قَالَ: إِنِّي أَشْتَهِي أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي، فَقَرَأْتُ النِّسَاءَ حَتَّى إِذَا بَلَغْتُ: "فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا" رَفَعْتُ رَأْسِي أَوْ غَمَزَنِي رَجُلٌ إِلَى جَنْبِي فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَرَأَيْتُ دُمُوعَهُ تَسِيلُ " (2) ، قال ابن بطال: " وإنما بكى - صلى الله عليه وسلم - عند هذا؛ لأنه مثل لنفسه أهوال يوم القيامة، وشدة الحال الداعية له إلى شهادته لأمته بتصديقه والإيمان به، وسؤاله الشفاعة لهم ليريحهم من طول الموقف، وأهواله، وهذا أمر يحق له طول البكاء والحزن " (3) ، واقتدى الصحابة - رضي الله عنهم - ومن بعدهم من سلف هذه الأمة - رضي الله عنهم - بالرسول - صلى الله عليه وسلم - في ذلك فكانوا عند قراءة القرآن أو سماعه يغلبهم الوجل أو البكاء بأدب وخشية .
__________
(1) - سورة المائدة الآية: 83
(2) - أخرجه البخاري ح (4582)، ومسلم ح ( 800 )
(3) - شرح صحيح البخاري لابن بطال ( 10/281 )(1/16)
- ففي صحيح مسلم من حديث عائشة -رضي الله عنها- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في مرضه الذي تُوفي فيه : " مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ " قَالَتْ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ وَإِنَّهُ مَتَى يَقُمْ مَقَامَكَ لَا يُسْمِعْ النَّاسَ .... ، وفي رواية قالت : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ رَقِيقٌ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ لَا يَمْلِكُ دَمْعَهُ ". (1)
- وفي صحيح البخاري من حديث عائشة -رضي الله عنها- حين ذكرت خروج أبي بكر - رضي الله عنه - إلى أرض الحبشة ، ثم رجوعه ، ودخوله في جوار ابن الدَّغنة ، قالت : ثُمَّ بَدَا لِأَبِي بَكْرٍ فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ، وَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَيَنقَذِفُ عَلَيْهِ نِسَاءُ الْمُشْرِكِينَ، وَأَبْنَاؤُهُمْ، وَهُمْ يَعْجَبُونَ مِنْهُ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلًا بَكَّاءً لَا يَمْلِكُ عَيْنَيْهِ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ .... (2)
- ولما قدم أهل اليمن في زمان أبي بكر - رضي الله عنه - فسمعوا القرآن جعلوا يبكون فقال أبو بكر - رضي الله عنه - : " هكذا كنا ثم قست القلوب " (3)
- وعن عبد الله بن شداد أنه قال : " سمعت نشيج عمر ، وأنا في آخر الصف ، وهو يقرأ سورة يوسف : { إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ } (4) " (5)
- وعن سالم بن عبد الله أن ابن عمر قرأ : { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ } (6) الآية فدمعت عيناه. (7)
__________
(1) - أخرجه البخاري ح (418)
(2) - أخرجه البخاري ح ( 3905 )
(3) - أخرجه ابن أبي شيبة ( 14/6 )
(4) - سورة يوسف الآية: 86
(5) - أخرجه ابن أبي شيبة ( 14/7 )
(6) - سورة البقرة الآية: 284
(7) - أخرجه ابن أبي شيبة ( 14/7 )(1/17)
- وعن عبد الله بن رباح عن صفوان بن محرز أنه كان إذا قرأ هذه الآية بكى حتى أرى أن قصص زوره سيندق { وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ } (1)
- وعن إبراهيم التيمي قال : " لقد أدركت ستين من أصحاب عبد الله - رضي الله عنه - في مسجدنا هذا أصغرهم الحارث بن سويد ، وسمعته يقرأ : { إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا...... } حتى بلغ { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ } ، قال : فبكى ثم قال : إن هذا الإحصاء شديد .." (2)
- وقال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - : " ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون ، وبنهاره إذا الناس مفطرون، وبحزنه إذا الناس يفرحون ، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخلطون، وبخشوعه إذا الناس يختالون، وينبغي لحامل القرآن أن يكون باكياً محزوناً حليماً حكيماً...." (3)
- وعن أبي رجاء قال : " كان هذا المكان من ابن عباس - رضي الله عنهما- مجرى الدموع مثل الشراك البالي من الدموع ". (4)
__________
(1) - سورة الشعراء الآية: 227
(2) - أخرجه ابن أبي شيبة ( 14/11 )
(3) - أخرجه ابن أبي شيبة ( 14/24 )
(4) - أخرجه ابن أبي شيبة ( 14/5 )(1/18)
ومن خلال ما سبق يتضح ما كان عليه السلف من تدبر للقرآن وحسن فهمه واستحضارهم لمعانيه وخشوعهم عند سماعه وتلاوته فيغلبهم الوجل أو البكاء من غير تكلف ولا تصنع بخلاف أهل البدع الذين يتصارخون عند سماع القرآن، ويتكلفون ما ليس فيهم ويتصنعون الصعق والغشيان عليهم ، وقد بدأ ظهور هذا في زمن الصحابة - رضي الله عنهم - ، قال قتادة في قوله تعالى : { تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ.. } (1) ، قال : " هذا نعت أولياء الله تعالى ، نعتهم الله فقال : تقشعر جلودهم ، وتبكي أعينهم ، وتطمئن قلوبهم إلى ذكر الله تعالى ، ولم ينعتهم الله تعالى بذهاب عقولهم ، والغشيان عليهم ، إنما هذا في أهل البدع ، وإنما هو من الشيطان "، وعن عبد الله بن عروة بن الزبير - رضي الله عنه - ، قال : " قلت لجدتي أسماء - رضي الله عنها - كيف كان يصنع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قرأوا القرآن ؟ قالت : كانوا كما نعتهم الله - عز وجل - : تدمع أعينهم، وتقشعر جلودهم، قلت: فإن ناساً ههنا إذا سمعوا ذلك تأخذهم غَشْية ؟ ، فقالت : أعوذ بالله من الشيطان ". (2)
وأما الأحاديث الواردة في الأمر بالتباكي فهي ضعيفة من جهة أسانيدها، ومنها: ما أخرجه ابن ماجه من حديث سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ - رضي الله عنه - قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:" إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ نَزَلَ بِحُزْنٍ فَإِذَا قَرَأْتُمُوهُ فَابْكُوا فَإِنْ لَمْ تَبْكُوا فَتَبَاكَوْا وَتَغَنَّوْا بِهِ فَمَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِهِ فَلَيْسَ مِنَّا" (3) ففي إسناده إسماعيل بن رافع وهو متروك .
__________
(1) - سورة الزمر الآية: 23
(2) - أخرجه سعيد بن منصور في سننه ( 2/331 )
(3) - أخرجه ابن ماجه ح ( 1327 )(1/19)
وما أخرجه أبو عبيد من حديث عبد الملك بن عمير أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إني قارئ عليكم سورة فمن بكى فله الجنة ، فقرأها فلم يبك أحد، ثم أعاد الثانية، ثم الثالثة، فقال: ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا " (1) ، وهذا الحديث مرسل وفيه عبد الرحمن بن إسحاق وهو ضعيف ..
وأخرج البيهقي حديثاً في الشعب (2) في الأمر بالتباكي من حديث جرير بن عبد الله البجلي وقال : هذا إسناد ضعيف بمرة
وهذه الأحاديث على فرض ثبوتها محمولة على أن التباكي مندوب إليه ، ومعناه أن يتدبر القارئ آيات القرآن ويستحضر معانيها مع الحرص على الخشوع، وليس المقصود ما يفعله بعض القراء من تصنع البكاء وتكلفه، فالبكاء الصادق ما يجلبه التدبر لآيات القرآن وهذا الذي كان عليه السلف - رضي الله عنهم - ، هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
- - - - - -
أحاديث بناء الأقصى
فضيلة الشيخ: -حفظه الله- السلام عليكم و رحمة الله و بركاته.
__________
(1) - فضائل القرآن ( ص: 22 )
(2) - ( 5/ 19 )(1/20)
قرأت في موقع وزارة الأوقاف الكويتية ما يلي: روى البيهقي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن أبي بن كعب - رضي الله عنه - قال: إن الله - عز وجل- أمر عبده ونبيه داود عليه السلام أن يبني له بيتاً فقال: أي رب وأين هذا البيت؟ فقال: حيث ترى المَلَك شاهراً سيفه، فرآه على الصخرة، وإذا ما هناك يومئذ أندر لغلام من بني إسرائيل، فأتاه داود، فقال: إني أُمرت أن أبني هذا المكان بيتاً لله عز وجل فقال له الفتى: الله أمرك أن تأخذها بغير رضاي؟ قال: لا، فأوحى الله إلى داود عليه السلام إني قد جعلت في يديك خزائن الأرض فأرضه، فأتاه داود فقال: إني أُمرت برضاك ولك بها قنطار من ذهب فقال: قد قبلت يا داود، وهي خير أم القنطار؟ قال: بل هي خير، قال: فأرضني، قال: فلك بها ثلاثة قناطير، فلم يزل يشدد على داود حتى رضي منه بتسع قناطير، ونقل الطبراني في الكبير عن رافع بن عمير عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن سليمان عليه السلام أخذ بعد ما مات داود عليه السلام في بنائه، فلما تم قربّ القرابين وذبح الذبائح وجمع بني إسرائيل، فأوحى الله إليه: قد أرى سرورك ببنيان بيني فسلني أعطك، قال: أسألك ثلاث خصال: حكماً يصادف حكمك ـ أي يوافقه ـ وملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي، ومن أتى هذا البيت لا يريد إلا الصلاة فيه، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أما اثنتين فأعطيها، وأنا أرجو أن يكون قد أعطي الثالثة.ما مدى صحة هذه الأحاديث؟ وهل إذا كانت صحيحة أنها تؤكد زعم اليهود بوجود هيكل سليمان؟ أفيدونا نظراً لأهمية الموضوع الشديدة و جزاكم الله كل خير.
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.(1/21)
الحديث الأول: أخرجه البيهقي في السنن ( 6/ 168 ) من طريق عطاء الخراساني عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وسعيد بن المسيب عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: " لما أراد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن يزيد في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقعت زيادته على دار العباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه - فأراد عمر - رضي الله عنه - أن يدخلها في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويعوضه منها فأبى، وقال: قطيعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واختلفا فجعلا بينهما أبي بن كعب - رضي الله عنهم - فأتياه في منزله - وكان يسمى سيد المسلمين - فأمر لهما بوسادة، فألقيت لهما فجلسا عليها بين يديه، فذكر عمر - رضي الله عنه - ما أراد وذكر العباس - رضي الله عنه - قطيعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال أًبَّي: إن الله عز وجل أمر عبده ونبيه داود عليه السلام أن يبني له بيتا، قال: أي رب وأين هذا البيت ؟ قال: حيث ترى الملك شاهراً سيفه، فرآه على الصخرة، وإذا ما هناك يومئذ أنذر لغلام من بني إسرائيل فأتاه داود فقال: إني قد أمرت أن أبني هذا المكان بيتا لله عز وجل، فقال له الفتى: الله أمرك أن تأخذها مني بغير رضاي ؟ قال: لا، فأوحى الله إلى داود عليه السلام أني قد جعلت في يدك خزائن الأرض، فأرضه فأتاه داود، فقال: إني قد أمرت برضاك، فلك بها قنطار من ذهب، قال: قد قبلت يا داود وهي خير أم القنطار ؟ قال: بل هي خير، قال فأرضني، قال: فلك بها ثلاث قناطير، قال: فلم يزل يشدد على داود، حتى رضي منه بتسع قناطير، قال العباس - رضي الله عنه - : اللهم لا آخذ لها ثواباً، وقد تصدقت بها على جماعة المسلمين، فقبلها عمر - رضي الله عنه - ، فأدخلها في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .(1/22)
"وما ذكره أُبي بن كعب - رضي الله عنه - هو مما يحدث به عن بني إسرائيل فهو من الأخبار الإسرائيلية، وقد جاء في روايات أخرى عن أبي بن كعب - رضي الله عنه - ما يدل على أن الله لم يجعل بناء هذا البيت على يد داود - عليه السلام - ، فطلب من الله أن يكون بناؤه على يد أحد أبنائه فكان بناؤه على يد سليمان - عليه السلام - .
وهي كلها من الأخبار الإسرائيلية ، وقد ورد في بعض الروايات التصريح برفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولا يصح . (1)
الحديث الثاني:
__________
(1) - ينظر: طبقات ابن سعد ( 4/20-22 )، والدر المنثور (230- 233)(1/23)
- أخرجه الطبراني في الكبير (4477) قال: حدثنا محمد بن الحسن بن قتيبة العسقلاني ثنا محمد بن أيوب بن سويد حدثني أبي ثنا إبراهيم بن أبي عبلة عن أبي الزاهرية عن رافع بن عمير قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: قال الله عز وجل لداود - عليه السلام - ابن لي بيتا في الأرض، فبنى داود بيتاً لنفسه قبل البيت الذي أمر به فأوحى الله عز وجل إليه يا داود نصبت بيتك قبل بيتي، قال: يا رب هكذا قلت: فيما قضيت من ملك استأثر ثم أخذ في بناء المسجد، فلما تم السور سقط ثلثاه، فشكا ذلك إلى الله عز وجل، فأوحى الله عز وجل إليه أنه لا يصلح أن تبني لي بيتا، قال: أي رب ولم؟ قال: لما جرت على يديك من الدماء، قال: أي رب أو لم يكن في هواك ومحبتك ؟ قال: بلى ولكنهم عبادي، وأنا أرحمهم، فشق ذلك عليه، فأوحى الله إليه لا تحزن فإني سأقضي بناءه على يدي ابنك سليمان، فلما مات داود أخذ سليمان في بنائه، فلما تم قرب القرابين وذبح الذبائح وجمع بني إسرائيل فأوحى الله عز وجل إليه قد أرى سرورا ببنيان بيتي فسلني أعطك، قال: أسألك ثلاث خصال: حكما يصادف حكمك، وملكا لا ينبغي لأحد من بعدي، ومن أتى هذا البيت لا يريد إلا الصلاة فيه خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أما اثنتين فقد أعطيهما وأنا أرجو أن يكون قد أعطي الثالثة . "، وأخرجه ابن حبان في كتاب " المجروحين " (1) ، وابن الجوزي في " الموضوعات " (2) ، من طريق محمد بن أيوب بن سويد عن أبيه ثنا إبراهيم بن أبي عبلة الزاهرية عن رافع بن عمير.
وفي هذا الإسناد محمد بن أيوب الرملي وهو متهم بالوضع ، وقد حكم على الحديث بأنه موضوع ابن الجوزي والذهبي والسيوطي وغيرهم.
__________
(1) - ( 2/300 )
(2) - ( 1/200 - 201 )(1/24)
لكن الخصال التي سألها سليمان - عليه السلام - ، وردت من حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - مرفوعاً بإسناد صحيح: أنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ عَلَيْهماِ السَّلام سَأَلَ اللَّهَ ثَلَاثًا أَعْطَاهُ اثْنَتَيْنِ وَنَحْنُ نَرْجُو أَنْ تَكُونَ لَهُ الثَّالِثَةُ: فَسَأَلَهُ حُكْمًا يُصَادِفُ حُكْمَهُ، فَأَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ، وَسَأَلَهُ مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ، فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ، وَسَأَلَهُ أَيُّمَا رَجُلٍ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ لا يُرِيدُ إِلَّا الصَّلَاةَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ خَرَجَ مِنْ خَطِيئَتِهِ مِثْلَ يَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ، فَنَحْنُ نَرْجُو أَنْ يَكُونَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَعْطَاهُ إِيَّاهُ .
- أخرجه أحمد (1) قال: حدثنا معاوية بن عمرو ، حدثنا إبراهيم بن محمد أبو إسحاق الفزاري، حدثنا الأوزاعي، حدثني ربيعة بن يزيد عن عبد الله الديلمي قال: دخلت على عبد الله بن عمرو،.... وفيه: وَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: إِنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام سَأَلَ اللَّهَ ثَلَاثًا ... الحديث وإسناد أحمد صحيح رجاله ثقات .
- وأخرجه ابن حبان (2) والحاكم (3) ، من طريق الأوزاعي به. قال الحاكم :هذا حديث صحيح قد تداوله الأئمة، وقد احتج بجميع رواته ثم لم يخرجاه ولا أعلم له علة، ووافقه الذهبي .
__________
(1) - أخرجه أحمد ح (6357)
(2) - أخرجه ابن حبان (1633)
(3) - أخرجه الحاكم في المستدرك (1/30- 31) (2/434)(1/25)
وأخرجه النسائي (1) من طريق سعيد بن عبد العزيز عن ربيعة بن يزيد عن أبي إدريس الخولاني عن ابن الديلمي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما وفيه أن سليمان بن داود - عليهما السلام- لما بنى بيت المقدس سأل الله تعالى .... الحديث، وهذا يستدل به على أن سليمان -عليه السلام- هو الذي بنى المسجد الأقصى وبناؤه للمسجد إنما هو تجديد للبناء، فليس هو أول من بنى المسجد الأقصى بدليل حديث أبي ذَرٍّ - رضي الله عنه - قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الأَرْضِ أَوَّلَ ؟ قَالَ: الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ قَالَ قُلْتُ ثُمَّ أَيٌّ قَالَ الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى قُلْتُ كَمْ كَانَ بَيْنَهُمَا قَالَ أَرْبَعُونَ سَنَةً .... " (2) ، قال ابن كثير: " ومعلوم أن بين إبراهيم - عليه السلام - الذي بنى المسجد الحرام وبين سليمان بن داود عليهما السلام أزيد من ألف سنة وأن أول من جعله مسجداً - أي المسجد الأقصى - إسرائيل " (3) ، والهيكل تسمية قديمة للمكان المختار للعبادة، وهيكل سليمان: هو المعبد الذي شيده سليمان عليه السلام، وهو الاسم التاريخي القديم للمسجد الأقصى قبل أن يتحول إلى إرث الأمة الإسلامية، وقد بناه سليمان على قاعدة سداسية الشكل، ويقال إن هذا هو أصل اتخاذ اليهود للنجمة السداسية شعاراً لهم، والمعروف تاريخيّاً أن ذلك المعبد قد دُمِّر مرتين ، المرة الأولى على يد الملك البابلي "بختنصر" عام (587 قبل الميلاد) ، والمرة الثانية عام (70 ميلادي) على يد الإمبراطور الروماني "طيطس"، حيث دمره تدميراً كاملاً، ولم يبقَ منه إلا جزء من السور في الجهة الجنوبية الغربية لساحة المعبد . وقد جاء ذكر التدميرَين (الأول والثاني) في القرآن الكريم في أول سورة الإسراء .
__________
(1) - أخرجه النسائي (2/34)
(2) - أخرجه البخاري (3366) ومسلم (520)
(3) - البداية والنهاية ( 2/341)(1/26)
- وظل مكان الهيكل فضاءً خالياً من أي بناء بقية عهد الرومان النصارى ، وقد حدث الإسراء والمعراج بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في عهد الحاكم الروماني هرقل عام 621م ، وكان المكان ما زال خالياً من أي بناء ، إلا أنه محاط بسور ، وهو الذي رُبط فيه (البراق) في ليلة الإسراء والمعراج، وهو نفسه السور الذي تسميه اليهود اليوم بـ (حائط المبكى) وفيه أبواب داخله ساحات واسعة هي المقصودة بالمسجد الأقصى في قوله تعالى: { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } (1) ، وقد ظل المكان معروفاً مقدساً في داخله الصخرة رغم زوال الآثار.
__________
(1) - سورة الإسراء الآية: 1(1/27)
- ثم جاء الفتح الإسلامي لبيت المقدس صلحاً في عهد عمر - رضي الله عنه - سنة 16 هـ / 637م ، ولم يكن لليهود وجود بها وقت الفتح؛ حتى إن بطريرك النصارى اشترط في عقد تسليم المدينة عدم دخول أحد من اليهود إليها، ثم طلب عمر - رضي الله عنه - من البطريرك أن يدله على مسجد داود، - يعني المسجد الأقصى- فانطلق به حتى انتهى إلى مكان الباب وقد انحدر الزبل على درج الباب، فتجشم عمر - رضي الله عنه - حتى دخل ونظر، فقال: الله أكبر، هذا والذي نفسي بيده مسجد داود الذي أخبرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه أسري به إليه، ثم أخذ عمر - رضي الله عنه - والمسلمون يكنسون الزبل عن الصخرة حتى ظهرت كلها .... ففي مسند الأمام أحمد بسند حسن (261) أن عمر - رضي الله عنه - قال لكعب - رضي الله عنه - بعد فتح بيت المقدس أين أصلي ؟ قال: إن أخذت عني صليت خلف الصخرة، فكانت القدس كلها بين يديك، فقال: عمر ضاهيت اليهودية، لا ولكن أصلي حيث صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فتقدم إلى القبلة فصلى ، ثم جاء فبسط رداءه، وكنس الكناسة في ردائه وكنس الناس.
- وبقي المسجد الأقصى على حالته بعد الفتح الإسلامي إلى أن جاء الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان فبدأ بناء المسجد الأقصى سنة 66 هـ على صورته القائمة اليوم. وأما الصخرة فأول من بنى فوقها مسجداً في العصر الإسلامي عبد الملك بن مروان، وهو المسجد المعروف بمسجد الصخرة، والمشهور بقبته الذهبية على المبنى المثمن.(1/28)
والخلاصة: أنه عند الفتح الإسلامي لبيت المقدس في عهد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لم يكن للهيكل - ولا لليهود - أي وجود على أرض بيت المقدس إلا جزء من السور كما سبق القول ، واليهود أنفسهم يعترفون أن الهيكل تم تدميره لذلك هم يسعون الآن لبناء ما يسمى عندهم بـ (الهيكل الثالث) ، وذلك مكان المسجد الأقصى، ولهذا تجري الآن أعمال الحفر على قدم وساق تحت المسجد الأقصى بدعوى البحث عن أي آثار للهيكل المزعوم، وفي الحقيقة الهدف من ذلك هدم المسجد الأقصى وإقامة الهيكل الثالث مكانه .
هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
حديث: " يأتي أناس يوم القيامة لهم إيمان خارقة نوره .. "
ما صحة حديث في يوم القيامة يأتي أناس لهم إيمان خارقة نوره يخرج من صدورهم ومن أيديهم اليمنى فيقال لهم ابشروا اليوم السلام عليكم والخير لكم أدخلوا الجنة خالدين فيها أبدا فيحسدهم الملائكة والأنبياء من محبة الله لهم، فيقول الصحابة من هم يا رسول الله فيجب : هم ليس منا وليسوا منكم أنتم أصحابي وهم أحبابي . وذلك يقع بعد أن يهجر الناس القرآن والسنة فيستمسكون بالقرآن ويحيون العمل بالكتاب والسنة ويعلمونهما للناس ويجددون في سبيل ذلك عذاباً وشدة أكثر مما عاينتم (يا أصحابي) وإن إيمان أحدهم يعدل إيمان 40 منكم والشهيد منهم يعدل (40) من شهدائكم لأنكم تجدون على الحق أعواناً (النبي - صلى الله عليه وسلم - ) وهم لا يجدون على الحق أعواناً فيحيط بهم الحكام الظالمون في كل مكان فيأتيهم نصر الله ويكون شرف ذلك في أيديهم ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم - اللهم أنصرهم وأجعلهم من المقربين إلى في الجنة.
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:(1/29)
لا أعلم حديثاً باللفظ الذي ذكره السائل - وفقه الله - ، وقد وردت أحاديث في الثناء على من يأتي بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ويؤمن بما جاء، ويتمسك بسنته - صلى الله عليه وسلم - ، ويصبر على ما يلحقه من الأذى والشدة، منها:
- حديث أَبَي ثَعْلَبَةَ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ، الصَّبْرُ فِيهِ مِثْلُ قَبْضٍ عَلَى الْجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهِمْ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ ، وفي رواية: قال: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْهُمْ ؟ قَالَ: أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ " (1) ، وفي حديث عتبة بن غزوان - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن من روائكم أيام الصبر، للمتمسك ، فيهن يومئذ بما أنتم عليه أجر خمسين منكم "، قالوا: يا نبي الله أو منهم ؟ ، قال : " بل منك " (2)
- حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَتَى الْمَقْبُرَةَ فَقَالَ: " السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ، وَدِدْتُ أَنَّا قَدْ رَأَيْنَا إِخْوَانَنَا " قَالُوا: أَوَلَسْنَا إِخْوَانَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ: " أَنْتُمْ أَصْحَابِي، وَإِخْوَانُنَا الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ " (3)
- حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال من أشد أمتي لي حبا ناس يكونون بعدي يود أحدهم لو رآني بأهله وماله " (4)
__________
(1) - أخرجه أبو داود ح ( 3778 ) والترمذي ح ( 2984 ) ، وقال : حديث حسن غريب .
(2) - أخرجه ابن نصر المروزي في السنة ( ص: 9 ) وإسناد رجاله ثقات، لكن فيه انقطاع ويشهد له ما قبله .
(3) - أخرجه مسلم ح ( 249 )
(4) - أخرجه مسلم ح ( 2832 )(1/30)
- حديث حبيب بن سباع - رضي الله عنه - قال: " تَغَدَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَمَعَنَا أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ أَحَدٌ خَيْرٌ مِنَّا ؟ أَسْلَمْنَا مَعَكَ وَجَاهَدْنَا مَعَكَ، قَالَ: " نَعَمْ قَوْمٌ يَكُونُونَ مِنْ بَعْدِكُمْ، يُؤْمِنُونَ بِي وَلَمْ يَرَوْنِي " (1)
وفي رواية أخرى أخرجها البخاري من طريق عبد الله بن صالح ، عن معاوية بن صالح ، عن صالح بن جبير ، قال: قدم علينا أبو جمعة الأنصاري صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعنا معاذ بن جبل عاشر عشرة، فقلنا: يا رسول الله، هل من قوم أعظم منا أجراً ؟ آمنا بالله واتبعناك، قال: " ما يمنعكم من ذلك ورسول الله بين أظهركم يأتيكم بالوحي من السماء ؟ " بل قوم يأتون من بعدكم يأتيهم كتاب بين لوحين يؤمنون به، ويعملون بما فيه أولئك أعظم منكم أجرا " (2)
فهذه الأحاديث وما جاء بمعناها تدل على فضيلة من جاء في أواخر هذه الأمة إذا أقاموا الدين وتمسكوا به ، وصبروا على الطاعة حين ظهور المعاصي والفتن ، ولا يؤخذ من هذه الأحاديث تفضيلهم على الصحابة - رضي الله عنهم - .
__________
(1) - أخرجه أحمد ح ( 16976 ) بإسناد حسن
(2) - خلق أفعال العباد ( ص: 75 )(1/31)
قال الحافظ ابن حجر : " والذي ذهب إليه الجمهور أن فضيلة الصحبة لا يعدلها عمل لمشاهدة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأما من اتفق له الذب عنه والسبق إليه بالهجرة أو النصرة وضبط الشرع المتلقى عنه وتبليغه لمن بعده فإنه لا يعدله أحد ممن يأتي بعده لأنه ما من خصلة من الخصال المذكورة إلا وللذي سبق بها مثل أجر من عمل بها من بعده فظهر فضلهم ومحصل النزاع يتمحض فيمن لم يحصل له إلا مجرد المشاهدة ..... على أن حديث للعامل منهم أجر خمسين منكم لا يدل على أفضلية غير الصحابة على الصحابة لأن مجرد زيادة الأجر لا يستلزم ثبوت الأفضلية المطلقة وأيضا فالأجر إنما يقع تفاضله بالنسبة إلى ما يماثله في ذلك العمل، فأما ما فاز به من شاهد النبي - صلى الله عليه وسلم - من زيادة فضيلة المشاهدة فلا يعدله فيها أحد " (1)
هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل
- - - - - -
حديث : " أنتم أعلم بأمور دنياكم "
بالنسبة لرواية " أنتم أعلم بأمر دنياكم " التي عند مسلم _رحمه الله _ فهناك رجل يزعم: أنها موضوعة بناء على إسنادها، وأن معناها باطل لأنها _ على زعمه:
أ - مقيدة بالله فيكون معناها أنتم أعلم بأمر دنياكم من الله .
ب - مطلقة فيكون معناها - على زعمه - أنتم أعلم بأمر دنياكم من الله ورسوله والملائكة والجن ... الخ .
ويرفض رفضا شديدا أن يكون المقصود بها الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فما رأي فضيلتكم في تفكير ذلك الرجل ؟ خاصة وهو يطالب بنشر فتاواه في الإنترنت والتي من ضمنها أنه يحرم على الأم النظر إلى شعر ابنتها وفي فتوى أخرى يرى بأن الشَعر ليس بزينة .
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
قصة تأبير النخل أخرجها الإمام مسلم من حديث غير واحد من الصحابة :
__________
(1) - فتح الباري ( 7 / 7)(1/32)
1- أخرجها من حديث طلحة بن عبيد الله قَالَ: مَرَرْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِقَوْمٍ عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ، فَقَالَ: " مَا يَصْنَعُ هَؤُلَاءِ ؟ " فَقَالُوا: يُلَقِّحُونَهُ يَجْعَلُونَ الذَّكَرَ فِي الْأُنْثَى فَيَلْقَحُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " مَا أَظُنُّ يُغْنِي ذَلِكَ شَيْئًا " قَالَ: فَأُخْبِرُوا بِذَلِكَ فَتَرَكُوهُ، فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِذَلِكَ فَقَالَ: " إِنْ كَانَ يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ فَلْيَصْنَعُوهُ، فَإِنِّي إِنَّمَا ظَنَنْتُ ظَنًّا . فَلَا تُؤَاخِذُونِي بِالظَّنِّ؛ وَلَكِنْ إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ اللَّهِ شَيْئًا فَخُذُوا بِهِ فَإِنِّي لَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ " (1)
2- ومن حديث رافع بن خديج قال: قَدِمَ نَبِيُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْمَدِينَةَ، وَهُمْ يَأْبُرُونَ النَّخْلَ، يَقُولُونَ يُلَقِّحُونَ النَّخْلَ، فَقَالَ: " مَا تَصْنَعُونَ؟ " قَالُوا: كُنَّا نَصْنَعُهُ، قَالَ: لَعَلَّكُمْ لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا كَانَ خَيْرًا "، فَتَرَكُوهُ فَنَفَضَتْ أَوْ فَنَقَصَتْ، قَالَ: فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: " إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ دِينِكُمْ فَخُذُوا بِهِ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ رَأْيٍ فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ " قَالَ عِكْرِمَةُ أَوْ نَحْوَ هَذَا . (2)
3- ومن حديث أنس أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ بِقَوْمٍ يُلَقِّحُونَ فَقَالَ: " لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا لَصَلُحَ " قَالَ: فَخَرَجَ شِيصًا، فَمَرَّ بِهِمْ، فَقَالَ: " مَا لِنَخْلِكُمْ؟ " قَالُوا: قُلْتَ كَذَا وَكَذَا، قَالَ: " أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ " (3)
__________
(1) - أخرجه مسلم ح ( 2361 )
(2) - أخرجه مسلم ح ( 2362 )
(3) - أخرجه مسلم ح ( 2363 )(1/33)
- هذه القصة ظاهرة الدلالة أنه - صلى الله عليه وسلم - قد خاطب أصحابه حينما وجدهم يؤبرون النخل، فظن أن هذا لا يفيد شيئاً، والصحابة - رضي الله عنهم - فهموا أنه - صلى الله عليه وسلم - نهاهم عن ذلك فتركوا التأبير، والرسول - صلى الله عليه وسلم - لم ينههم عن التلقيح، لكن هم غلطوا في ظنهم أنه نهاهم .
وظنه عليه الصلاة والسلام في أمور المعايش وخبرات الحياة كغيره فلا يمتنع وقوع مثل هذا ولا نقص في ذلك ، قال القرطبي : " وقوله - صلى الله عليه وسلم - " ما أظن ذلك يغني شيئاً " يعني به الإبار ، إنما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا، لأنه لم يكن عنده علم باستمرار هذه العادة ، فإنه لم يكن ممن عانى الزراعة ، ولا الفلاحة ، ولا باشر شيئاً من ذلك ، فخفيت عليه تلك الحالة. " (1)
وقال النووي : " قال العلماء : ولم يكن هذا القول خبراً وإنما كان ظناً كما بينه في هذه الروايات، قالوا: ورأيه - صلى الله عليه وسلم - في أمور المعايش وظنه كغيره فلا يمتنع وقوع مثل هذا، ولا نقص في ذلك، وسببه تعلق هممهم بالآخرة ومعارفها والله أعلم " (2)
هذه القصة وقعت مرة واحدة، وقد تعددت ألفاظها، مما يشعر بدخول الرواية بالمعنى في بعض سياقاتها، والإمام مسلم قدم حديث طلحة في الترتيب ولعل ما جاء في سياقه مقدم على غيره ثم ثنى برواية عكرمة بن عمار عن رافع بن خديج وفيه: " وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ رَأْيٍ فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ "
__________
(1) - المفهم ( 6/168 )
(2) - شرح النووي على صحيح مسلم ( 15/116 )(1/34)
قال النووي - رحمه الله -: " لفظة الرأي إنما أتى بها عكرمة على المعنى لقوله في آخر الحديث قال عكرمة: أو نحو هذا ، فلم يخبر بلفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - محققاً " (1) ، ثم ذكر الإمام مسلم السياق الثالث ، وهو من طريق حماد بن سلمة، وكان حماد يخطئ، وهذا السياق هو الذي فيه : " أنتم أعلم بأمور دنياكم"
وبعض المغرضين اتخذ من قوله: " أنتم أعلم بأمور دنياكم " ذريعة للتنصل من أحكام الإسلام المتعلقة بالدنيا مثل المعاملات ونحوها ، ومن المعلوم أن تشريعات الإسلام وأحكامه جاءت لتحكم حياة الناس في جميع شؤونهم من عبادات ومعاملات وأحكام أسرية، وغير ذلك ، قال الله تعالى: { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً } (2) ، وقال تعالى: { إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً } (3) ، وقال عز وجل : { قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } (4)
هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل .
- - - - - -
حديث: عندما تكثر الشهادة في الأمراء
أرجو التحقق من صحة الحديث التالي: "عندما تكثر الشهادة في الأمراء فأعلموا أن النصر قريب"
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
هذا الحديث لا أعلم له أصلاً، ولم يتضح المراد بمعناه، والله أعلم .
- - - - - -
حديث: " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين ... "
__________
(1) - وينظر إكمال المعلم ( 7/334 )
(2) - سورة النساء الآية: 65
(3) - سورة النساء الآية: 105
(4) - سورة الأنعام الآية: 162(1/35)
ما صحت هذا الحديث: " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ..... قيل من هم وأين هم قيل هم في البيت المقدس " أو كما قيل لا احفظ الحديث ولكن هل هم فعلا الذين في بيت المقدس وجزاكم الله خيرا .
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
هذا الحديث بالسياق الذي ذكره السائل في مسند الإمام أحمد ح ( 21286 ) وجادة قَالَ أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ وَجَدْتُ فِي كِتَابِ أَبِي بِخَطِّ يَدِهِ حَدَّثَنِي مَهْدِيُّ بْنُ جَعْفَرٍ الرَّمْلِيُّ حَدَّثَنَا ضَمْرَةُ عَنِ السَيْبَانِيِّ - وَاسْمُهُ يَحْيَى بْنُ أَبِي عَمْرٍو - عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْحَضْرَمِيِّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ لَعَدُوِّهِمْ قَاهِرِينَ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ إِلَّا مَا أَصَابَهُمْ مِنْ لَأْوَاءَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَيْنَ هُمْ قَالَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَكْنَافِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ "، وفي إسناده عمرو بن عبد الله السيباني الحضرمي ، لم يوثقه غير ابن حبان والعجلي ، وللحديث شاهد من حديث: مُرَّة بن كعب البهزي - رضي الله عنه - أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين على من نأوأهم ، وهم كالإناء بين الأكلة ، حين يأتي أمر الله - عز وجل - وهم كذلك ، قال: فقلنا: يا رسول الله لِلَّهِ من هم ؟ ، وأين هم؟ ، قال : بأكتاف بيت المقدس .(1/36)
(1) ، ومن حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أبواب دمشق وما حولها، وعلى أبواب بيت المقدس ، وما حولها ، لا يضرهم خذلان من خذلهم، ظاهرين على الحق إلى يوم القيامة " (2)
وأصل الحديث في الصحيحين دون قوله: " بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَكْنَافِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ " (3) من حديث الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " لَا يَزَالُ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ "
وأخرجاه من حديث معاوية - رضي الله عنه - قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " لَا يَزَالُ مِنْ أُمَّتِي أُمَّةٌ قَائِمَةٌ بِأَمْرِ اللَّهِ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلَا مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ" قَالَ عُمَيْرٌ: فَقَالَ مَالِكُ بْنُ يُخَامِرَ قَالَ: مُعَاذٌ وَهُمْ بِالشَّأْمِ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ هَذَا مَالِكٌ يَزْعُمُ أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاذًا يَقُولُ وَهُمْ بِالشَّأْمِ (4)
وأخرجه مسلم من حديث ثوبان - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ " (5)
__________
(1) - أخرجه يعقوب بن سفيان الفسوي في " المعرفة والتاريخ " (2/298)، والبخاري في " التاريخ الكبير " ح (752)
(2) - أخرجه أبو يعلى ح ( 6417 ) ، والطبراني في الأوسط ح ( 47 ) ، وابن عدي في الكامل ( 7/2545 )
(3) - البخاري ح ( 3640 ) ، ومسلم ح ( 1921 )
(4) - البخاري ح ( 3641 )، ومسلم ح ( 1037 )
(5) - أخرجه مسلم ح (1920)(1/37)
وأخرجه مسلم من حديث جابر بن سمرة - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: " لَنْ يَبْرَحَ هَذَا الدِّينُ قَائِمًا يُقَاتِلُ عَلَيْهِ عِصَابَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ " (1)
وأخرجه مسلم من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ " (2)
وأخرج أبو داود ح ( 2484 ) ، والإمام أحمد ح (19007) من حديث عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ عَلَى مَنْ نَاوَأَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَيَنْزِلَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَام (3)
وأخرج الإمام أحمد من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: " لَا يَزَالُ لِهَذَا الْأَمْرِ أَوْ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ عِصَابَةٌ عَلَى الْحَقِّ وَلَا يَضُرُّهُمْ خِلَافُ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ " (4)
__________
(1) - أخرجه مسلم ح (1922)
(2) - أخرجه مسلم ح (1923)
(3) - أخرجه أبو داود ح ( 2484 ) ، وأحمد ح (19007)
(4) - أخرجه أحمد ح (7925)(1/38)
وهذا الحديث من الأحاديث المستفيضة المشهورة بل يمكن أن يكون متواتراً فقد رواه ما يقرب من عشرين صحابياً، وفيه بشارة لهذه الأمة المحمدية ببقاء واستمرار وجود طائفة من هذه الأمة على الحق إلى أن يأتي أمر الله لا يضرهم خلاف المخالف، ولا خذلان الخاذل، والمتأمل في هذه الأحاديث يجد أن بعضها حدد هذه الطائفة ببيت المقدس ، وبعضها بالشام، وبعضها أطلق ولم يحدد، ولا خلاف بينها بإذن الله ، حيث يمكن توجيه تحديد الطائفة بالشام وبيت المقدس على ما يكون قبل قيام الساعة، حيث تدل النصوص الكثيرة على أن معظم الأحاديث المتعلقة بالمهدي وعيسى ونحوهما من أحداث الساعة إنما تكون بالشام ، فيكون قوله: " ببيت المقدس " أي حال إتيان الأمر .
قال الحافظ ابن حجر فيما نقله عن الطبري: " المراد بالذين يكونون ببيت المقدس الذين يحصرهم الدجال إذا خرج فينزل عيسى إليهم فيقتل الدجال، ويظهر الدين في زمن عيسى ثم بعد موت عيسى تهب الريح المذكورة، فهذا هو المعتمد في الجمع والعلم عند الله تعالى ...." (1)
وأما الأحاديث التي دلت على وجود الطائفة المنصورة ولم يرد فيها التحديد فتحمل على إطلاقها والله أعلم ، ويؤخذ منها وجود هذه الطائفة ولا يلزم أن تكون محددة بمكان ، قال الإمام النووي : " وأما هذه الطائفة فقال البخاري هم أهل العلم ، وقال أحمد بن حنبل إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم، وقال القاضي عياض إنما أراد أحمد أهل السنة والجماعة ومن يعتقد مذهب أهل الحديث ... "
وقال أيضاً: " ويحتمل أن هذه الطائفة مفرقة بين أنواع المؤمنين منهم شجعان مقاتلون ومنهم فقهاء ومنهم محدثون ومنهم زهاد وآمرون بالمعروف وناهون عن المنكر ومنهم أهل أنواع أخرى من الخير ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين بل قد يكونون متفرقين في أقطار الأرض ... " (2)
- - - - - -
حديث: " فلان بن فلان لفلانة "
__________
(1) - فتح الباري ( 13/294 )
(2) - ينظر: شرح النووي على مسلم ( 13/67 )(1/39)
روي أن رجلا آتى الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله أنى أريد أن أتزوج فادع الله أن يرزقني زوجة صالحة فقال الرسول: لو دعا جبريل وميكائيل وأنا معهما ما تزوجت إلا المرآة التي كتب الله لك فإنه ينادى في السماء : ألا أن مرآة فلان بن فلان لفلانة بنت فلانة .
ما رأيكم بالحديث من حيث الصحة والمعنى وعلاقته بالقضاء والقدر .
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:(1/40)
هذا الحديث ذكره السيوطي في الجامع كما في فيض القدير ( 5/320 ) ، وعزاه لابن عساكر ، ورمز لضعفه، وذكره المتقي في كنز العمال ( 1/ 356 ) ، وعزاه لابن عساكر وابن منده، وقال ابن منده: غريب، فالحديث ضعيف ، والمسلم مأمور بالدعاء والتضرع إلى الله والالتجاء إليه في طلب الحوائج وجلب المنافع ، ودفع المضار، والأخذ بالأسباب ، مع صدق التوكل على الله، وتفويض الأمور إليه والتسليم بالقضاء والقدر ، ولا منافاة في ذلك ، فإن الدعاء والأخذ بالأسباب هي من قدر الله ففي الحديث، قيل: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ رُقًى نَسْتَرْقِيهَا وَدَوَاءً نَتَدَاوَى بِهِ وَتُقَاةً نَتَّقِيهَا هَلْ تَرُدُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ شَيْئًا قَالَ هِيَ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ .(1/41)
(1) ، وفي الحديث : " الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ " (2) ، وقال عمر - رضي الله عنه - لأبي عبيدة ، لما جاء الخبر بانتشار الوباء في الشام، ورأى عمر الرجوع ، فقال له أبو عبيدة : " أَفِرَارًا مِنْ قَدَرِ اللَّهِ ؟ فَقَالَ عُمَرُ: لَوْ غَيْرُكَ قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدَةَ نَعَمْ نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ إِلَى قَدَرِ اللَّهِ أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ إِبِلٌ هَبَطَتْ وَادِيًا لَهُ عُدْوَتَانِ إِحْدَاهُمَا خَصِبَةٌ وَالْأُخْرَى جَدْبَةٌ أَلَيْسَ إِنْ رَعَيْتَ الْخَصْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ وَإِنْ رَعَيْتَ الْجَدْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ " (3) ، وفي وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس - رضي الله عنهما - : " يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ " (4) ،
__________
(1) - أخرجه الترمذي ح ( 1991 ) من حديث يعمر السعدي - رضي الله عنه - ، قال الترمذي: حديث حسن صحيح
(2) - أخرجه مسلم ح ( 2664 ) من حديث أبي هريرة
(3) - أخرجه البخاري ح ( 5729 )
(4) - أخرجه الترمذي ح ( 2440 ) ، وقال: حديث حسن صحيح(1/42)
والحاصل أن الدعاء من قدر الله وهو سبب لرد البلاء واستجلاب الرحمة ، وقد يقضي الله سبحانه وتعالى على عبده قضاء مقيداً بأن لا يدعوه ، فإذا دعاه اندفع عنه، وفي الحديث : " لَنْ يَنْفَعَ حَذَرٌ مِنْ قَدَرٍ وَلَكِنَّ الدُّعَاءَ يَنْفَعُ مِمَّا نَزَلَ وَمِمَّا لَمْ يَنْزِلْ فَعَلَيْكُمْ بِالدُّعَاءِ عِبَادَ اللَّهِ " (1) ، وفي الحديث أيضاً : " لَا يَرُدُّ الْقَضَاءَ إِلَّا الدُّعَاءُ وَلَا يَزِيدُ فِي الْعُمْرِ إِلَّا الْبِرُّ " (2)
- - - - - -
حديث : النظر إلى الوالدين نظر محبة
سمعت عن حديث رواه الإمام الترمذي بأن من ينظر إلى والديه نظرة محبة تغفر جميع ذنوبه.
هل هذا الحديث صحيح؟
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
الحديث المشار إليه في السؤال لم أقف عليه باللفظ المذكور، وقد أخرج البيهقي في شعب الإيمان ح ( 7472 ) عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " ما من ولد بار ينظر إلى والديه نظرة رحمةٍ إلا كتب الله له بكل نظرة حجة مبرورة، قالوا: وإن نظر كل يوم مائة مرة ؟ قال: نعم، الله أكثر وأطيب . "، وإسناده ضعيف ، وذكره السيوطي في الجامع الصغير كما في فيض القدير ( 5/483 ) ، ورمز له بالضعف . وذكره الخطيب التبريزي في " مشكاة المصابيح " ( 3/1383 ) والله أعلم .
- - - - - -
حديث أسماء : " إذا بلغت المرأة المحيض ... "
إشارة إلى حديث أسماء الذي رواه أبو داود حيث ذكر الشيخ رياض المسيميري أن أبا داود نفسه ضعفه وكذلك الشيخ ابن باز.
وسؤالي هو: على أي أساس إذًا صححه الشيخ الألباني؟
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
__________
(1) - أخرجه أحمد ح ( 21033 ) من حديث معاذ بن جبل - رضي الله عنه -
(2) - أخرجه الترمذي ح ( 2065 ) من حديث سلمان الفارسي - رضي الله عنه - ، قال الترمذي: حديث حسن غريب، وصححه ابن حبان(1/43)
الحديث المشار إليه في السؤال: أخرجه أبو داود ح ( 4104 )، والطبراني في مسند الشاميين ح ( 2739 )، والبيهقي في السنن الكبرى ( 2/226 ) ، ( 7/86 )، وفي الآداب له ( 877 ) من طريق: الوليد بن مسلم، عن سعيد بن بشير، عن قتادة، عن خالد بن دريك عن عائشة - رضي الله عنها - أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وعليها ثياب رقاق، فأعرض عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقال: " يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم تصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا " ، وأشار إلى وجهه وكفيه .
وقد أُعل إسناد هذا الحديث بما يأتي:
1- الانقطاع بين خالد بن دُرَيْك، وعائشة رضي الله عنها، قال أبو داود عقب تخريج هذا الحديث: " هذا مُرْسَل؛ خالد بن دُرَيْك لم يدرك عائشة رضي الله عنها . "
2- سعيد بن بشير ضعيف لاسيما في قتادة، قال ابن معين: " ليس بشيء "، وقال - مرة - : " ضعيف "، وكذا ضعفه ابن المديني، والنسائي وأبو داود، وقال ابن نمير: " منكر الحديث، ليس بشيء، ليس بقوي الحديث، يروي عن قتادة منكرات "، وقال الساجي: " حدَّثَ عن قتادة بمناكير "، وقد تفرد بروايته عن قتادة، واضطرب فيه، فتارة يرويه عن خالد بن دُرْيَك عن عائشة، وتارة أخرى يرويه عن خالد بن دريك عن أم سلمة بدلاً من عائشة، وهذا يدل على عدم ضبطه له .
قال ابن عدي - بعد أن ذكر الحديث -: " لا أعلم رواه عن قتادة غير سعيد بن بشير، وقال مرة: عن خالد بن دريك عن أم سلمة، بدل عائشة . "
وقال ابن القطان: " هذا حديث ضعيف، سعيد بن بشير يضعف برواية المنكرات عن قتادة، وإن كان قد شهد له شعبة بالصدق وابن عيينة بالحفظ، ولكنهم مع ذلك يضعفونه، وخالد بن دريك لم يدرك عائشة، قاله أبو داود ، فالحديث منقطع "(1/44)
3- خالف سعيد بن بشير، هشام الدستوائي، فلم يذكر خالد بن دُرْيَك ولا عائشة حيث رواه مرسلاً عن قتادة: " إن الجارية إذا حاضت لم يصلح أن يرى منها إلا وجهها ويداها إلى المفصل " (1) ، وهشام الدستوائي: ثقة ثبت وهو من أوثق أصحاب قتادة، وقد تابع هشام معمر بن راشد، قال معمر بن راشد عن قتادة: بلغني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا يحل لامرأةٍ تؤمن بالله واليوم الآخر أن تخرج يدها إلا إلى هاهنا " وقبض نصف الذراع، أخرجه عبد الرزاق، ومن طريقه ابن جرير الطبري في تفسيره (2)
وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير، والأوسط، والبيهقي في السنن الكبرى من طريق ابن لهيعة عن عياض بن عبد الله الفهري عن إبراهيم بن عبيد بن رفاعة الأنصاري عن أبيه عن أسماء بنت عُميس أنها قالت: دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عائشة بنت أبي بكر وعندها أختها أسماء بنت أبي بكر وعليها ثياب شامية واسعة الأكمام، فلما نظر إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام فخرج فقالت لها عائشة - رضي الله عنها - تنحي فقد رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمراً كرهه فتنحت فدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألته عائشة - رضي الله عنها - لم قام، قال: " أولم تري إلى هيئتها ؟! إنه ليس للمرأة المسلمة أن يبدو منها إلا هذا وهذا " وأخذ بكفيه فغطى بهما ظهر كفيه حتى لم يبد من كفه إلا أصابعه ثم نصب كفيه على صدغيه حتى لم يبد إلا وجهه . (3)
__________
(1) - أخرجه أبو داود في المراسيل ح ( 437 )
(2) - تفسير ابن جرير ( 18/118 - 119 )
(3) - وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير ( 24/143 )، والأوسط ( 8394 )، والبيهقي في السنن الكبرى ( 7/86 )(1/45)
وهذا إسناد ضعيف تفرد به ابن لهيعة، والكلام فيه مشهور حيث ضعفه الأئمة من جهة حفظه وضبطه، وقد أُدخل عليه ما ليس من حديث، وليس الراوي عنه في هذا الإسناد ممن لا يروى عنه إلا من أصوله مثل العبادلة، وعياض بن عبد الله الفهري ضعيف، وعبيد بن رفاعة ليس فيه توثيق معتبر .
والخلاصة: أن هذا الطريق لا يصلح شاهداً لمرسل قتادة، وعلى هذا فالمحفوظ في الحديث أنه من مراسيل قتادة، ومراسيل قتادة ضعيفة، كان يحيى بن سعيد القطان لا يرى إرسال الزهري وقتادة شيئاً، ويقول هو بمنزلة الريح (1) ، ثم إن هذا الحديث فيه غرابة في متنه إذا كيف تدخل أسماء وهي كبيرة على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعليها ثياب رِقَاق، ثم إنه عرف عنها أنها كانت تستر وجهها وهي محرمة فلو كان عندها هذا الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لكشفت وجها في الإحرام، فعن فاطمة بنت المنذر - رضي الله عنها- قالت: " كُنَّا نُخَمِّرُ وُجُوهَنَا وَنَحْنُ مُحْرِمَاتٌ وَنَحْنُ مَعَ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ" (2) ، وكذلك عائشة - رضي الله عنها - لو ثبت عندها الحديث لما احتاجت أن تخمر وجهها، وقد ورد عنها في حديث الإفك أنها قالت عن صفوان بن معطل: " فَعَرَفَنِي حِينَ رَآنِي وَكَانَ رَآنِي قَبْلَ الْحِجَابِ فَاسْتَيْقَظْتُ بِاسْتِرْجَاعِهِ حِينَ عَرَفَنِي فَخَمَّرْتُ وَجْهِي بِجِلْبَابِي" (3) ولهذا فقد ذهب بعض العلماء إلى توجيه الحديث - على فرض ثبوته - أنه كان قبل الحجاب والله أعلم، وأما من صححه من المعاصرين فنظر إلى تعدد طرقه وأن بعضها يقوي بعضاً ، ولكن هذا غير مستقيم كما تقدم بيانه، وقد كتب غير واحد من الباحثين في نقد الحديث وتضعيفه (4)
__________
(1) - ينظر: جامع التحصيل ص ( 79 )، المراسيل لابن أبي حاتم ص ( 3 )
(2) - أخرجه مالك في الموطأ ح ( 634 )
(3) - أخرجه البخاري ح ( 4141 ) ، ومسلم ح ( 2445 )
(4) - يراجع : فتح الغفور بتضعيف حديث السفور، لخالد بن علي بن محمد العنبري - النقد البناء لحديث أسماء في كشف الوجه والكفين للنساء، لأبي معاذ طارق بن عوض الله بن محمد - عودة الحجاب ( القسم الثالث - الأدلة ) لمحمد بن أحمد بن إسماعيل المقدم(1/46)
- - - - - -
أثر عمر بن الخطاب: " ليس هناك أحب إلي من أيام اقضي فيها ما فاتني من صيام في رمضان من صومها في أيام عشر ذي الحجة
أرجو التأكد من صحة هذه الرواية المنسوبة لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وهي : "ليس هناك أحب إلي من أيام اقضي فيها ما فاتني من صيام في رمضان من صومها في أيام عشر ذي الحجة" والرواية في مصنف عبد الرزاق وابن أبي شيبة، والسنن الكبرى للبيهقي في فصل سماه "جواز قضاء ما فات من صيام رمضان في التسع أيام الفضيلة من أول شهر ذو الحجة.
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:(1/47)
الأثر المشار إليه في السؤال أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه ( 3/74 ) ، عن شريك عن الأسود عن قيس عن أبيه عن عمر قال: لا بأس بقضاء رمضان في العشر، والبيهقي في سننه ( 4/285 ) من طريق سفيان عن الأسود بن قيس به ولفظه: أن عمر - رضي الله عنه - قال: ما من أيام أحب إلي أن أقضي فيها شهر رمضان من أيام العشر ، وأخرجه مسدد كما في المطالب العالية (6/4) من طريق سلام بن أبي مطيع عن الأسود بن قيس به ، وإسناد هذا الأثر حسن، رجاله ثقات، وقد روى هذا الأثر إبراهيم بن إسحاق الصيني عن قيس بن الربيع فرفعه ولا يصح، أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط ( 5/374 ) قال: حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي قال حدثنا إبراهيم بن إسحاق الصيني قال حدثنا قيس بن الربيع عن الأسود بن قيس عن أبيه عن عمر قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا يرى بأسا بقضاء رمضان في عشر ذي الحجة " ، قال الطبراني عقبه: " لا يروى هذا الحديث عن عمر إلا بهذا الإسناد تفرد به إبراهيم بن إسحاق الصيني . وفي الصغير ( 2/63 ) قال: " حدثنا محمد بن أحمد بن نصر أبو جعفر الترمذي الفقيه حدثنا إبراهيم بن إسحاق الصيني حدثنا قيس بن الربيع عن الأسود بن قيس عن أبيه عن عمر - رضي الله عنه - قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا فاته شيء من رمضان قضاه في عشر ذي الحجة " لم يروه عن الأسود إلا قيس ولا يروى عن عمر إلا بهذا الإسناد . قال الهيثمي : " رواه الطبراني في الأوسط والصغير، وفي إسناده إبراهيم بن إسحاق الصيني وهو ضعيف " (1) ، وقال الذهبي: " قال الدارقطني: متروك الحديث، قلت: تفرد عن قيس بن الربيع عن الأسود بن قيس عن أبيه عن عمر قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا فاته شيء من رمضان قضاه في عشر ذي الحجة، لا يروى عن عمر إلا بهذا الإسناد .
__________
(1) - المجمع ( 3/179 )(1/48)
" (1) ، وهذا الأثر عن عمر يدل على جواز قضاء رمضان في أيام العشر من ذي الحجة، وهذا قول سعيد بن المسيب، والشافعي، وإسحاق، ورواية في مذهب الإمام أحمد، وذهب بعض العلماء إلى كراهة قضاء رمضان في أيام العشر، وهو قول الحسن والزهري ، ويروى عن علي ، ورواية في مذهب الإمام أحمد . والقول الأول أرجح لأن الأصل عدم الكراهة (2) والله أعلم .
- - - - - -
دفن عمر لابنته في الجاهلية
نرجو التكرم بإرسال هذا السؤال إلى الشيخ محمد القناص: هذه المسألة تتطلب جوابا واضحا على أمرين:
الأول : بيان صحة هذه الرواية
الثاني : على فرض صحتها فما الحكم فيمن ينكرها لأنها لا تعجبه مع علمه بصحتها وماذا يترتب على عدم التصديق بها )
دفن عمر - رضي الله عنه - لابنته في الجاهلية
السلام عليكم
سبق للشيخ فوزي ساعاتي أن أجابني مشكوراً على ما روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه وأد ابنته في الجاهلية. وقد ذكر الشيخ أن هذا صحيح. أرجو ذكر المصدر لهذه الرواية مع ذكر تصحيحها. لأنني أخشى أن تكون افتراء من الشيعة أو اليهود.
وجزاكم الله خيراً، وهذا هو السؤال والجواب السابقين، دفن عمر - رضي الله عنه - لابنته في الجاهلية، السؤال(13489)، السلام عليكم.
__________
(1) - الميزان ( 1/18 )
(2) - ينظر: الشرح الكبير مع الإنصاف ( 7/ 505 )(1/49)
ما صحة القصة التي تروي أن الخليفة عمر - رضي الله عنه - دفن ابنته وهي حية قبل الإسلام؟ أين نجد الكتب الإسلامية الصحيحة؟ وفيما إذا كانت هذه القصة صحيحة ألا تنافي عظمة الخليفة عمر - رضي الله عنه - ؟ قد توحي هذه القصة أن عمر - رضي الله عنه - كان قاسياً لا قلب له. فكيف يصبح شخصاً هذه صفاته أميرا للمؤمنين؟ وثاني الخلفاء الراشدين - رضي الله عنهم - ؟ وإذا صحت هذه القصة، هل يحق لأحد أن يقول إنه لا يصدقها لأنها تنزل من قدر صحابي وخليفة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ وهل يحق للشخص أن يجادل بأن هذه القصة ليست مذكورة في القرآن ولا في الأحاديث الصحيحة، ولا يكون على الشخص بأس في دينه لعدم تصديقه لها؟.
أجاب عن السؤال الشيخ/ فوزي ساعاتي
الجواب: بسم الله الرحمن الرحيم، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
نعم القصة صحيحة، قام عمر - رضي الله عنه - بدفن ابنته وهي حية على عادة أهل الجاهلية قبل الإسلام، كما قال تعالى: "وإذا المؤودة سئلت بأي ذنب قتلت" ، هذه القصة وقعت وهي لا تنزل من قدره؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول عندما سأله صحابي عن أعماله قبل الإسلام: أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية؟ قال: "من أحسن في الإسلام لم يُؤاخذ بما عمل في الجاهلية"، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : "إن الإسلام يهدم ما كان قبله"، وهذا هو الإسلام فقد ألان القلوب، وهذّب النفوس، وأعطى للمرأة المكانة اللائقة مثلها مثل الرجل، وأول من وأد البنات قيس التميمي، وأول من فدى المؤودة صعصعة بن الفرزدق. والله أعلم.
أجاب عن السؤال الشيخ/ فوزي ساعاتي
الجواب: بسم الله الرحمن الرحيم، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.(1/50)
مناقب عمر بن الخطاب لابن الجوزي، أما تصحيحها، فلا نستغرب حدوثها، فالإسلام هذب النفوس ورقعتها وهو عندما كان خليفة قال: (لو أن بغلة بالعراق عثرت لكان عمر مسئولاً عنها)، فالإسلام هو الباعث لهذه النفوس، ينشر الخوف والمحبة بدلاً من الكره والفظاعة، كما قال تعالى مخاطباً رسوله - صلى الله عليه وسلم - : "ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك" والله أعلم .
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
قصة وأد عمر ابنته لم أقف عليها في شيء من كتب الرواية ولا غيرها من المصادر ولو كانت هذه القصة ثابتة لكانت متداولة مشهورة في المصادر، وقد ذكرها الشيخ عطية سالم في إكماله لتفسير أضواء البيان للشيخ الشنقيطي - رحمه الله - قال: " وقد جاء عن عمر - رضي الله عنه - قوله أمران في الجاهلية أحدهما يبكيني والآخر يضحكني أما الذي يبكيني فقد ذهبت بابنة لي لوأدها فكنت أحفر لها الحفرة وتنفض التراب عن لحيتي وهي لا تدري ماذا أريد لها فإذا تذكرت ذلك بكيت والأخرى كنت أصنع إلهًا من التمر أضعه عند رأس يحرسني ليلاً فإذا أصبحت معافى أكلته فإذا تذكرت ذلك ضحكت من نفسي " (1) لكنه لم يعزها إلى أي مصدر، وعلى تقدير ثبوت هذه القصة فإن ما كان عليه أهل الجاهلية من الشرك وعبادة الأوثان أعظم، والإسلام يهدم ما كان قبله .
- - - - - -
حديث: " من بلغه عني ثواب عمل فعمله حصل له أجره وإن لم أكن قلته
ما هو رأي علمائنا في الروايات الواردة التي نصها: من بلغه عني ثواب عمل فعمله حصل له أجره وإن لم أكن قلته ؟ فهل هذه القاعدة تامة عندنا من أنه من بلغه ثواب على عمل ما فعمله الإنسان برجاء ذلك الثواب فانه يحصل عليه وإن لم يفعله النبي - صلى الله عليه وسلم - . فلو تفضلتم بالإجابة مشكورين فذكروا لي المصادر .
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
__________
(1) - أضواء البيان ( 9/63 )(1/51)
الحديث المشار إليه في السؤال أخرجه الحسن بن عرفة العبدي في جزئه ص ( 78 ) ح ( 63 ) ، قال: حدثنا أبو يزيد خالد بن حيان الرقي، عن فرات بن سليمان وعيسى بن كثير كليهما عن أبي رجاء عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن جابر بن عبد الله ، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من بلغه عن الله عز وجل شيء فيه فضل، فأخذه إيماناً به ، ورجاء ثوابه ، أعطاه الله عز وجل ذلك ، وإن لم يكن كذلك "، ومن طريقه الخطيب في تاريخه ( 8/296 )، وابن الجوزي في الموضوعات ( 1/258 )، وفي إسناد في الحديث أبو رجاء وقد رمي بالكذب، قال يحيى بن معين: كذاب "، وقال السخاوي في المقاصد الحسنة ص( 405 ):" خالد وفرات فيهما مقال، وأبو رجاء لا يعرف " . قال ابن الجوزي: " هذا حديث لا يصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "
وأخرجه أبو الشيخ في مكارم الأخلاق كما في المقاصد ص ( 405 ) من طريق بشر بن عببيد الله حدثنا حماد عن أبي الزبير عن جابر مرفوعاً ، وبشر متروك .
وأخرجه أبو يعلى الموصلي في مسنده ( 6/ 163 ) ومن طريقه ابن عدي في الكامل ( 2/59 ) ، والطبراني في المعجم الأوسط كما في مجمع البحرين ( 1/149 ) ، من طريق بزيع أبي الخليل عن ثابت عن أنس بن مالك ، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من بلغه عن الله فضيلة فلم يصدق بها ، لم ينلها " ، وبزيع ضعيف جداً.
وأخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله ( 1/22 ) من طريق أبي معمر عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلفظ: " من بلغه عن الله فضل فأخذ بذلك الفضل الذي بلغه أعطاه الله ما بلغه وإن كان الذي حدثه كاذباً "
وأبو معمر عباد بن عبد الصمد قال أبو حاتم: ضعيف جداً، وقال ابن حبان في المجروحين: روى عن أنس نسخة أكثرها موضوعة .
وهذا الحديث لا يستقيم من جهة المعنى لأمرين:(1/52)
1- يخالف ما دلت عليه الأدلة من وجوب التثبت والاحتياط في قبول الأخبار .
2- أن العمل بهذا الحديث يؤدي إلى العمل بأشياء لا تثبت فيحصل الوقوع في البدع والمخالفات الشرعية ، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدّ " (1) ، هذا والله أعلم .
- - - - - -
حديث: " من حمل جنازة فليتوضأ ومن غسلها فليغتسل"؟
ما صحة حديث: " من حمل جنازة فليتوضأ ومن غسلها فليغتسل"؟
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
الحديث المشار إليه في السؤال أخرجه الطيالسي ح ( 2314 ) ، وابن أبي شيبة ( 3/269 ، 369 ) وأحمد ح ( 9601 )، والبيهقي ( 1/303 ) من طريق ابن أبي ذئب عن صالح مولى التوأمة قال: سمعت أبا هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " من غسَّل ميتاً فليغتسل " ، وفي هذا الإسناد: صالح مولى التوأمة، وهو صدوق اختلط، وقد اختلف في رفع هذا الحديث ووقفه، وأشار غير واحد من الأئمة منهم الإمام أحمد والبخاري وأبو حاتم إلى أن المحفوظ وقف الحديث على أبي هريرة - رضي الله عنه - .
وللحديث طرق أخرى يطول المقام ببسطها (2) ، وقد ذكر غير واحد من الأئمة أنه لا يصح في هذا الباب شيء منهم الإمام أحمد وعلي بن المديني والذهلي ، قال الترمذي: " سألت محمد بن إسماعيل البخاري عن هذا الحديث، فقال: إن أحمد بن حنبل وعلي بن عبد الله قالا: لا يصح في هذا الباب شيء " (3) ، وفي سنن البيهقي: " قال محمد بن يحيى: لا أعلم فيمن غسل ميتاً حديثاً ثابتاً ولو ثبت لزمنا استعماله " ، وقال البيهقي بعد أن ذكره موقوفاً: " هذا هو الصحيح موقوفاً على أبي هريرة كما أشار البخاري "
__________
(1) - أخرجه مسلم ح ( 3243 )
(2) - ينظر: البدر المنير ( 2/524 - 543 )
(3) - ينظر: علل الترمذي ( 1/142 )، سنن البيهقي ( 1/302 )(1/53)
ويتلخص مما سبق أن الحديث موقوف على أبي هريرة - رضي الله عنه - ، وعلى هذا فلا ينهض للاستدلال به على وجوب الغسل على من غَسَّل الميت، وقد ذهب بعض العلماء إلى استحباب الغسل لمن غسل ميتاً، وهذا قول الشافعي وإسحاق والأحناف ورواية عن الإمام أحمد وعليها المذهب، وفي رواية أخرى لا يستحب، والله أعلم .
- - - - - -
حديث: " من أتى امرأة في دبرها أو عرافا فقد كفر
في سنن الترمذي روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أتى امرأة في دبرها أو عرافا فقد كفر بما أنزل على محمد"
فكيف تم الربط بين العملين في الحديث ونحن نعلم أن الجماع في الدبر ليس كفرا في الحقيقة بينما اتيان العراف كفر حقيقةً ؟ أرجو التوضيح .
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
الحديث المشار إليه في السؤال أخرجه أحمد ح ( 9290 )، وأبو داود ح ( 3899 )، الترمذي ح ( 135 )، والنسائي في الكبرى ح ( 9071 ) من طرق عن حماد بن سلمة عن حكيم الأثرم، عن أبي تميمة الهجيمي عن أبي هريرة عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: مَنْ أَتَى حَائِضًا أَوْ امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا أَوْ كَاهِنًا فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - . " واللفظ للترمذي .
وإسناد هذا الحديث ضعيف، أبو تميمة لا يعرف له سماع من أبي هريرة، وقد ذكر غير واحد من الأئمة أن حكيم الأثرم لا يتابع عليه، وهو مما أنكر عليه، قال البخاري: " هذا حديث لا يتابع عليه ولا يعرف لأبي تميمة سماع من أبي هريرة في البصريين "، وقال البزار: " حدث عنه حماد بحديث منكر "، وضعف الحديث البخاري فيما نقله عنه الترمذي، قال الترمذي: " لا نعرف هذا الحديث إلا من حديث حكيم الأثرم عن أبي تميمة الهجيمي عن أبي هريرة ... وضعف محمد - يعني البخاري- هذا الحديث من قبل إسناده "، ومن خلال ما سبق يتبين أن الحديث ضعيف، وقد تضمن الحديث ما يأتي:(1/54)
1- ما يتعلق بإتيان المرأة في دبرها أو في الحيض ، وهذا محرم ، وقد دلت أدلة على تحريم ذلك ، وما جاء في الحديث المذكور من وصف من أتى امرأة في دبرها أو في الحيض بأنه كفر بما أنزل على محمد على تقدير ثبوته محمول على التغليظ والتشديد في النهي عن هذا العمل ، قال الترمذي : " وإنما معنى هذا عند أهل العلم على التغليظ وقد روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من أتى حائضا فليتصدق بدينار فلو كان إتيان الحائض كفرا لم يؤمر فيه بالكفارة "،(1/55)
2- الجملة الثانية في الحديث دلت على أن من أتى كاهناً فقد كفر بما أنزل على محمد ، وقد ورد في حديث آخر أن إتيان الكهان وتصديقهم بما يقولون كفر ، وأما مجرد الإتيان ففيه أن صلاته لا تقبل أربعين يوماً، ففي صحيح مسلم من حديث صَفِيَّةَ عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً " (1) ، وفي المسند من طريق خِلَاسٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالْحَسَنِ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: مَنْ أَتَى كَاهِنًا أَوْ عَرَّافًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - ، (2) وهذا حديث رجاله ثقات، لكن خلاس - وهو ابن عمرو الهجري - لم يسمع من أبي هريرة، وفيه دليل على أن إتيان الكهان وتصديقهم بما يدعونه من علم الغيب كفر بما أنزل على محمد، قال في تيسير العزيز الحميد: " وظاهر الحديث أنه يُكفر متى اعتقد صدقه بأي وجه كان، لاعتقاده أنه يعلم الغيب، وسواء كان من قبل الشياطين، أو من قبل الإلهام لاسيما وغالب الكهان في وقت النبوة إنما كانوا يأخذون عن الشياطين "، وقول السائل - حفظه الله - إن إتيان الكهان كفر حقيقة ليس على إطلاقه، هذا وقد ذكرت في فتوى سابقة بعض الأحاديث الواردة في تحريم إتيان النساء في أدبارهن والله أعلم .
- - - - - -
إتيان النساء في أدبارهن
أولاً: ما صحة هذه الأقوال:
1- قال أبو بكر المشهور عن مالك إباحة النكاح في الدبر
2- سئل مالك بن انس عن النكاح في الدبر فقال الساعة اغتسلت منه
3- يروى عن محمد القرطبي أنه لا يرى بأسا بذلك
4- جمع ابن شعبان كتاب جماع النسون جوازه إلى زمرة من الصحابة والتابعين
__________
(1) - أخرجه مسلم ح ( 2230 )
(2) - أخرجه أحمد ح ( 9171 )(1/56)
5- قول الشافعي في الآية ( أنى شئتم ) احتمالين
أ - أن تؤتى المرأة من حيث شاء زوجها
ب - أن تؤتى في موضع الحرث وهو الفرج
ثانيا: هل يأثم من أخذ بهذه الأقوال .
وجزاكم الله خيرا
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
من المسائل الشاذة التي نقلت عن أهل المدينة: القول بجواز إتيان النساء في أدبارهن، روى عبد الرزاق عن معمر قال: لو أن رجلاً أخذ بقول أهل المدينة في استماع الغناء وإتيان النساء في أدبارهن، وبقول أهل مكة في المتعة والصرف، وبقول أهل الكوفة في المسكر كان شر عباد الله، وقال الأوزاعي: يجتنب أو يترك من قول أهل الحجاز خمس، ومن قول أهل العراق خمس، من أقوال أهل الحجاز: استماع الملاهي والمتعة وإتيان النساء في أدبارهن والصرف والجمع بين الصلاتين بغير عذر، ومن أقوال أهل العراق: شرب النبيذ، وتأخير العصر حتى يكون ظل الشيء أربعة أمثاله، ولا جمعة إلا في سبعة أمصار، والفرار من الزحف، والأكل بعد الفجر في رمضان " (1) ، وما نقل عن الإمام مالك - رحمه الله - في جواز إتيان النساء في أدبارهن اختلف موقف العلماء منه على أقوال:
1- أن هذا القول باطلٌ لا يثبت عن مالك - رحمه الله -، قال القرطبي : " وما نسب إلى مالك وأصحابه من هذا باطل وهم مبرءون من ذلك لأن إباحة الإتيان مختصة بموضع الحرث لقوله تعالى: { فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ } ولأن الحكمة في خلق الأزواج بث النسل فغير موضع النسل لا يناله ملك النكاح وهذا هو الحق " (2)
__________
(1) - ينظر: تلخيص الحبير 3/ 187 ، معرفة علوم الحديث للحاكم ص 65
(2) - تفسير القرطبي (3/94 )(1/57)
2- أن مالكاً - رحمه الله - رجع عنه ، ذكر الخليلي في الإرشاد عن ابن وهب أن مالكاً رجع عنه . وأخرج الخطيب في " الرواة عن مالك " من طريق إسرائيل بن روح قال: سألت مالكاً عن ذلك فقال: ما أنتم قوم عرب ؟ هل يكون الحرث إلا موضع الزرع؟ قلت: يا أبا عبد الله إنهم يقولون ذلك، قال: يكذبون علي . قال ابن حجر: " وعلى هذه القصة اعتمد المتأخرون من المالكية فلعل مالكاً رجع عن قوله الأول " . (1)
__________
(1) - فتح الباري ( 8/190 )(1/58)
3- على تقدير ثبته عنه، فقد ذكر ابن عطية أنه من الزلات، قال: " وهذا هو الحق المتبع - يعني تحريم إتيان النساء في أدبارهن - ولا ينبغي لمؤمن بالله واليوم الآخر أن يعرج في هذه النازلة على زلة عالم بعد أن تصح عنه والله المرشد لا رب غيره " (1) ، وأما ما ذكره السائل عن الشافعي - رحمه الله - فهو في كتابه " الأم " (2) ، وتمام كلامه: " احتملت الآية معنيين أحدهما أن تؤتى المرأة من حيث شاء زوجها لأن { أَنَّى شِئْتُمْ } يبين أين شئتم لا محظور منها كما لا محظور من الحرث، واحتملت أن الحرث إنما يراد به النبات وموضع الحرث الذي يطلب به الولد الفرج دون ما سواه لا سبيل لطلب الولد غيره، فاختلف أصحابنا في إتيان النساء في أدبارهن فذهب ذاهبون منهم إلى إحلاله وآخرون إلى تحريمه، وأحسب كلا الفريقين تأولوا ما وصفت من احتمال الآية على موافقة كل واحد منهما قال الشافعي: فطلبنا الدلالة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوجدنا حديثين مختلفين أحدهما ثابت وهو حديث: ابن عيينة عن محمد بن المنكدر أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: كانت اليهود تقول من أتى امرأته في قبلها من دبرها جاء الولد أحول فأنزل الله عز وجل: { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } ، ثم ذكر حديث خزيمة بن ثابت : إن الله لا يستحي من الحق لا تأتوا النساء في أدبارهن ، ثم قال الشافعي: " فلست أرخص فيه بل أنهى عنه " ، وللشافعي كلام معروف يدل على الإباحة وهو مما جرى بين الشافعي ومحمد بن الحسن على سبيل المناظرة، وقد أجيب عنه بأن هذا قول الشافعي في القديم أما الجديد فصرح فيه بالتحريم، قال الحاكم : " لعل الشافعي كان يقول ذلك في القديم، وأما في الجديد فقد صرح بالتحريم" (3) ، وقال ابن القيم: " لعل الشافعي -
__________
(1) - المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ( 2/184 )
(2) - (5/172 )
(3) - ينظر: فتح الباري ( 8/191 ) ، الدر المنثور ( 638 )(1/59)
رحمه الله - توقف فيه أولاً ، ثم لما تبين له التحريم وثبوت الحديث فيه رجع إليه، وهو أولى بجلالته ومنصبه وإمامته ... والشافعي - رحمه الله - قد صرح في كتبه المصرية بالتحريم، واحتج بحديث خزيمة ووثق رواته، وقال في الجديد: قال الله تعالى: { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } وبين أن موضع الحرث هو موضع الولد، وأن الله تعالى أباح الإتيان فيه إلا في موضع الحيض ( أَنَّى شِئْتُمْ ) بمعنى: من أين شئتم " (1) ، وقد ذهب جمهور العلماء إلى تحريم إتيان النساء في أدبارهن واستدلوا بما يأتي:
1- أن الله سبحانه وتعالى قال: { فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ } ، وقال سبحانه وتعالى: { فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } ، حيث أمر الله سبحانه وتعالى أن يأتي الرجل امرأته في موضع الحرث وهو الفرج، وفي الصحيحين عَنْ جَابِر - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَتْ الْيَهُودُ تَقُولُ إِذَا جَامَعَهَا مِنْ وَرَائِهَا جَاءَ الْوَلَدُ أَحْوَلَ فَنَزَلَتْ { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } " (2) وفي لفظ لمسلم: " إِنْ شَاءَ مُجَبِّيَةً وَإِنْ شَاءَ غَيْرَ مُجَبِّيَةٍ غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ فِي صِمَامٍ وَاحِدٍ " ، والمجبية: المكنبة على وجهها، والصمام الواحد: الفرج ، وهو موضع الحرث والولد .
2- استدلوا بالأحاديث الواردة في المنع من إتيان النساء في أدبارهن وهي كثيرة، وقد اختلف في ثبوتها ، فذهب جماعة من أئمة الحديث كالبخاري والذهلي والبزار والنسائي إلى أنه لا يثبت في هذا الباب شيء ، ومال بعض الأئمة إلى أنه بالنظر إلى مجموع طرقها تكون صالحة للاحتجاج بها، قال الحافظ ابن حجر: " طرقها كثيرة فمجموعها صالح للاحتجاج به" ، ومن هذه الأحاديث:
__________
(1) - حاشية ابن القيم ( 6/143 )
(2) - البخاري ح ( 4528 ) ، ومسلم ح ( 2592 )(1/60)
أ- حديث: خزيمة بن ثابت - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : لَا يَسْتَحِي اللَّهُ مِنْ الْحَقِّ لَا تَأْتُوا النِّسَاءَ فِي أَعْجَازِهِنَّ . (1)
ب- حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " إِنَّ الَّذِي يَأْتِي امْرَأَتَهُ فِي دُبُرِهَا لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِ " (2)
ج- حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَى رَجُلٍ أَتَى رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً فِي الدُّبُرِ " (3) ، وهناك أحاديث أخري في الموضوع (4)
- - - - - -
حديث: " إذا عاش هذا الغلام فلا يهرم حتى تقوم الساعة
أرجو منكم التعليق على هذا الحديث وهو عن يوم القيامة.
وقد ورد في المجلد 41 ورقمه 7051
__________
(1) - أخرجه أحمد ح ( 20852 )، والنسائي في الكبرى ح ( 8985 )، والطبراني في الكبير ح ( 3741 ) ، ( 3742 ) ، ( 3743 ) وابن حبان ح ( 4198 ) ، والبيهقي ( 7/197 ) ، من طرق عن يزيد بن الهاد ، أن عبيد الله بن الحصين الوالبي حدثه أن هرمي بن عبد الله الواقفي حدثه عن خزيمة، وفي إسناد هذا الحديث اختلاف واضطراب، وهرمي بن عبد الله ذكره ابن حبان في الثقات ، وعبيد الله بن الحصين وثقه بعض الأئمة ، وقال البخاري فيه نظر، وقال الحافظ : فيه لين
(2) - أخرجه أحمد ح ( 7359 )، والنسائي ح ( 9013 ) ، والبيهقي ( 7/98 ) من طريق الحارث بن مخلد، وفي هذا الإسناد: الحارث بن مخلد ، وهو مجهول
(3) - أخرجه الترمذي ح ( 1086 ) ، وقال: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ
(4) - ينظر البدر المنير لابن الملقن ( 7/649 - 660 ) ، تلخيص الحبير ( 3/179 - 188 )، نيل الأوطار ( 6/351 - 358 )(1/61)
روى أنس أن رجلا سأل النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) متى تحين الساعة؟ وكان من الحاضرين غلاما صغيرا من الأنصار اسمه محمد ، فقال النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) إذا عاش هذا الغلام فلا يهرم حتى تقوم الساعة.
وفي رواية أخرى عن أنس في نفس المجلد (رقم الحديث 7053) مر غلام للمغيرة بن شعبة من أمام النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) وهو في مثل سني، عندها قال النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) إذا عاش هذا الولد طويلا فلا يهرم حتى تقوم الساعة.
وفي حديث آخر روتْه عائشة رضي الله عنها في نفس المجلد (رقم الحديث 7050) أن بعض الأعراب سألوا النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) عن موعد الساعة فنظر إلى أصغرهم سنّا وقال: إذا عاش فلا يهرم حتى يرى قيام ساعتكم عليكم ويراكم تموتون.
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
هذه الأحاديث خاطب بها النبي - صلى الله عليه وسلم - من كان يسأل عن الساعة حيث بين لهم أن ساعتهم وهي وقت موتهم وانقضاء آجالهم وانتقالهم إلى الدار الأخرة ليس ببعيد، وأن مرور مائة سنة أو قريباً منها تخرم القرن بمعنى أن من كان موجوداً على الأرض تكون قد وافته المنية والأجل المحتوم وبموته تكون ساعته قد قامت لأن من مات قامت قيامته، وليس المقصود الساعة العظمى فهذه علمها إلى الله سبحانه وتعالى، والأحاديث الواردة بعضها يفسر بعضاً، وهذا بيان للأحاديث الواردة في هذا الموضوع بألفاظها وذكر من خرجها:
1- حديث عائشة - رضي الله عنها- قَالَتْ: كَانَ رِجَالٌ مِنْ الْأَعْرَابِ جُفَاةً يَأْتُونَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَيَسْأَلُونَهُ مَتَى السَّاعَةُ فَكَانَ يَنْظُرُ إِلَى أَصْغَرِهِمْ فَيَقُولُ: إِنْ يَعِشْ هَذَا لَا يُدْرِكْهُ الْهَرَمُ حَتَّى تَقُومَ عَلَيْكُمْ سَاعَتُكُمْ (1)
__________
(1) - البخاري ح ( 6511 ) ، ومسلم ح ( 2952 )(1/62)
2- حديث أنس - رضي الله عنه - أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَتَى السَّاعَةُ قَائِمَةٌ ؟ قَالَ: وَيْلَكَ وَمَا أَعْدَدْتَ لَهَا ؟ قَالَ: مَا أَعْدَدْتُ لَهَا إِلَّا أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ قَالَ: إِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ فَقُلْنَا وَنَحْنُ كَذَلِكَ قَالَ نَعَمْ فَفَرِحْنَا يَوْمَئِذٍ فَرَحًا شَدِيدًا فَمَرَّ غُلَامٌ لِلْمُغِيرَةِ وَكَانَ مِنْ أَقْرَانِي فَقَالَ إِنْ أُخِّرَ هَذَا فَلَنْ يُدْرِكَهُ الْهَرَمُ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ (1)
3- وفي الصحيحين من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - قَالَ: صَلَّى بِنَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - الْعِشَاءَ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ فَقَالَ أَرَأَيْتَكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ فَإِنَّ رَأْسَ مِائَةِ سَنَةٍ مِنْهَا لَا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَحَدٌ . (2)
قال ابن بطال: " إنما أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن هذه المدة تخترم الجيل الذي هم فيه فوعظهم بقصر أعمارهم وأعلمهم أن أعمارهم ليست كأعمار من تقدم من الأمم ليجتهدوا في العبادة " (3) وقال النووي: " المراد أن كل من كان تلك الليلة على الأرض لا يعيش بعد هذه الليلة أكثر من مائة سنة سواء قل عمره قبل ذلك أم لا وليس فيه نفي حياة أحد يولد بعد تلك الليلة مائة سنة والله أعلم " (4)
- - - - - -
أثر حول خلق آدم - عليه السلام -
أرجو بيان صحة الحديث التالي:
__________
(1) - أخرجه البخاري ح ( 6167 )
(2) - البخاري ح ( 116 ) ، ومسلم ح ( 2537 )
(3) - شرح ابن بطال لصحيح البخاري ( 1/203 )
(4) - ينظر: فتح الباري ( 1/213 )(1/63)
وقد ذكر السدي عن أبي مالك وأبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالوا فبعث الله عز وجل جبريل في الأرض ليأتيه بطين منها فقالت الأرض أعوذ بالله منك أن تنقص مني أو تشينني فرجع ولم يأخذ وقال رب إنها عاذت بك فأعذتها فبعث ميكائيل فعاذت منه فأعاذها فرجع فقال كما قال جبريل فبعث ملك الموت فعاذت منه فقال وأنا أعوذ بالله أن أرجع ولم أنفذ أمره فأخذ من وجه الأرض وخلطه ولم يأخذ من مكان واحد وأخذ من تربة بيضاء وحمراء وسوداء فلذلك خرج بنو آدم مختلفين فصعد به فبل التراب حتى عاد طينا لازبا واللازب هو الذي يلزق بعضه ببعض ثم قال للملائكة إني خالق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين فخلقه الله بيده لئلا يتكبر إبليس عنه فخلقه بشرا فكان جسدا من طين أربعين سنة من مقدار يوم الجمعة فمرت به الملائكة ففزعوا منه لما رأوه وكان أشدهم منه فزعا إبليس فكان يمر به فيضربه فيصوت الجسد كما يصوت الفخار يكون له صلصلة فلذلك حين يقول من صلصال كالفخار ويقول لأمر ما خلقت ودخل من فيه وخرج من دبره وقال للملائكة لا ترهبوا من هذا فإن ربكم صمد وهذا أجوف لئن سلطت عليه لأهلكته فلما بلغ الحين الذي يريد الله عز وجل أن ينفخ فيه الروح قال للملائكة إذا نفخت فيه من روحي فاسجدوا له فلما نفخ فيه من الروح فدخل الروح في رأسه عطس فقالت الملائكة قل الحمد لله فقال الحمد لله فقال له الله رحمك ربك فلما دخلت الروح في عينيه نظر إلى ثمار الجنة فلما دخلت الروح في جوفه اشتهى الطعام فوثب قبل أن تبلغ الروح إلى رجليه عجلان إلى ثمار الجنة وذلك حين يقول الله تعالى خلق الإنسان من عجل فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس أبى أن يكون من الساجدين .
وذكر تمام القصة ولبعض هذا السياق شاهد من الأحاديث وإن كان كثير منه متلقى من الإسرائيليات(1/64)
قال لي أحد المشايخ أن هذا الحديث ضعيف واعترض عليه أيضا بأن لا أحد يمكن له أن يمنع الملائكة من عملهم
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
الأثر الذي ذكره السائل - وفقه الله - أخرجه ابن جرير في تفسيره ( 1/240 ) ، وساقه الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية ( 1/200- 202 )، وفي التفسير ( 1/ 111- 112)، وقال: " فهذا الإسناد إلى هؤلاء الصحابة مشهور في تفسير السدي ويقع فيه إسرائيليات كثيرة فلعل بعضها مدرج ليس من كلام الصحابة أو أنهم أخذوا من بعض الكتب المتقدمة والله أعلم "، فهذا الأثر كثيرٌ منه متلقى من الإسرائيليات كما ذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله، ولكن لبعض ما جاء فيه شواهد ومن ذلك :
1- أن الله سبحانه خلق الخلق من قبضة قبضها من الأرض فقد أخرج أحمد من حديث أبي موسى عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَ آدَمَ مِنْ قَبْضَةٍ قَبَضَهَا مِنْ جَمِيعِ الْأَرْضِ فَجَاءَ بَنُو آدَمَ عَلَى قَدْرِ الْأَرْضِ جَاءَ مِنْهُمْ الْأَبْيَضُ وَالْأَحْمَرُ وَالْأَسْوَدُ وَبَيْنَ ذَلِكَ وَالْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَالسَّهْلُ وَالْحَزْنُ وَبَيْنَ ذَلِكَ . (1)
2- أن إبليس مر بجسد آدم وطمع فيه لما رآه أجوف ففي صحيح مسلم من حديث أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لَمَّا صَوَّرَ اللَّهُ آدَمَ فِي الْجَنَّةِ تَرَكَهُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَتْرُكَهُ فَجَعَلَ إِبْلِيسُ يُطِيفُ بِهِ يَنْظُرُ مَا هُوَ فَلَمَّا رَآهُ أَجْوَفَ عَرَفَ أَنَّهُ خُلِقَ خَلْقًا لَا يَتَمَالَكُ . (2)
__________
(1) - أخرجه أحمد ح ( 18761 )، الترمذي ح ( 2879 ) ، وقال: حديث حسن صحيح .
(2) - أخرجه مسلم ح ( 2611 )، ولا يتمالك : أي لا يملك نفسه ويحسبها عن الشهوات والمراد جنس بني آدم .(1/65)
3- وأيضاً ما جاء في الأثر من أنا الله خلق آدم بيده وأسجد له ملائكته ونفخ فيه من روحه ، وأن إبليس امتنع من السجود فهذا كله ثابت في القرآن كما هو معلوم .
- - - - - -
أحاديث مس ظهر آدم وإخراج الذرية
قال رجل عندنا إن جميع أسانيد الحديث في مس ظهر آدم وإخراج الذرية لا تثبت.
وأريد جوابا مفصلا عن صحة هذا الحديث.
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
أخبر الله سبحانه وتعالى في كتابه أنه استخرج ذرية بني آدم من أصلابهم شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم قال عز وجل: { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ } (1) ، واختلف المفسرون في معنى الإشهاد المذكور في الآية على قولين:
__________
(1) - سورة الأعراف الآية: 172(1/66)
1- أن الإشهاد في الآية هو أن الله فطرهم على التوحيد وجبلهم على الإيمان وجعل لديهم الاستعداد لقبوله، قال سبحانه وتعالى: { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } (1) ، وفي الصحيحين من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ (2) ، وفي صحيح مسلم من حديث عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي خُطْبَتِهِ أَلَا إِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ مِمَّا عَلَّمَنِي يَوْمِي هَذَا كُلُّ مَالٍ نَحَلْتُهُ عَبْدًا حَلَالٌ وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمْ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا ... الحديث (3)
__________
(1) - سورة الروم الآية: 30
(2) - البخاري ح ( 1385 )، ومسلم ح ( 2658 )
(3) - أخرجه مسلم ح ( 2865 )(1/67)
2- تفسير الإشهاد بما ورد في بعض الأحاديث والآثار الدالة على أن الله عز وجل استخرج ذرية آدم من صلبه وأشهدهم أنه ربهم ومعبودهم، ففي الصحيحين من حديث أنس إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ لِأَهْوَنِ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا لَوْ أَنَّ لَكَ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ كُنْتَ تَفْتَدِي بِهِ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَقَدْ سَأَلْتُكَ مَا هُوَ أَهْوَنُ مِنْ هَذَا وَأَنْتَ فِي صُلْبِ آدَمَ أَنْ لَا تُشْرِكَ بِي فَأَبَيْتَ إِلَّا الشِّرْكَ (1) ، وورد أحاديث فيها تفصيل هذا الإشهاد الذي أُخذ على بني آدم حينما اسْتُخِرجوا من صلب آدم عليه السلام ، وهذه الأحاديث لا تخلوا من كلام ، ومن تلك الأحاديث ما يأتي:
__________
(1) - البخاري ح (3334 ) ، ومسلم ح (2805 )(1/68)
1- حديث ابن عباس عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ أَخَذَ اللَّهُ الْمِيثَاقَ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ بِنَعْمَانَ يَعْنِي عَرَفَةَ فَأَخْرَجَ مِنْ صُلْبِهِ كُلَّ ذُرِّيَّةٍ ذَرَأَهَا فَنَثَرَهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ كَالذَّرِّ ثُمَّ كَلَّمَهُمْ قِبَلًا قَالَ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ . (1) أخرجه أحمد عن حسين بن محمد عن جرير بن حازم عن كلثوم بن جبر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ... ورجال هذا الإسناد ثقات، ولكن الحديث أُعل بالوقف، قال الحافظ ابن كثير: " وقد رواه عبد الوارث عن كلثوم بن جبر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فوقفه وكذا رواه إسماعيل بن علية ووكيع عن ربيعة بن كلثوم بن جبر عن أبيه به وكذا رواه عطاء بن السائب وحبيب بن أبي ثابت وعلي بن بذيمة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس وكذا رواه العوفي وعلي بن أبي طلحة عن ابن عباس فهذا أكثر وأثبت والله أعلم " (2) ، وقال النسائي بعد إخراجه للحديث في السنن الكبرى: " وكلثوم هذا ليس بالقوي وحديثه ليس بالمحفوظ " (3)
__________
(1) - أخرجه أحمد ح ( 2327 )
(2) - تفسير ابن كثير ( 2/347 )
(3) - السنن الكبرى ( 6/347 )(1/69)
2- حديث عمر بن الخطاب أنه سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ } فَقَالَ عُمَرُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ عَنْهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَ آدَمَ ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ بِيَمِينِهِ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً فَقَالَ خَلَقْتُ هَؤُلَاءِ لِلْجَنَّةِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَعْمَلُونَ ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً فَقَالَ خَلَقْتُ هَؤُلَاءِ لِلنَّارِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ يَعْمَلُونَ فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَفِيمَ الْعَمَلُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا خَلَقَ الْعَبْدَ لِلْجَنَّةِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيُدْخِلَهُ بِهِ الْجَنَّةَ وَإِذَا خَلَقَ الْعَبْدَ لِلنَّارِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ النَّارِ فَيُدْخِلَهُ بِهِ النَّارَ. (1) أخرجه مالك في الموطأ، ومن طريقه أبو داود، والترمذي، وأحمد عن زيد بن أبي أنيسة، أن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب أخبره ، عن مسلم بن يسار الجهني أن عمر بن الخطاب ... ، وهذا الإسناد ضعيف، مسلم بن يسار الجهني لم يسمع من عمر، ولم يوثقه غير ابن حبان والعجلي، ولم يرو عنه غير عبد الحميد بن عبد الرحمن فهو في عداد المجاهيل، وذكر في بعض الطرق بين مسلم بن يسار رجل وهو: نعيم بن ربيعة وهو مجهول الحال .
__________
(1) - أخرجه مالك في الموطأ ح ( 1395 )، ومن طريقه أبو داود ح ( 4081 )، والترمذي ح ( 3001 ) ، وأحمد ح ( 311)(1/70)
وقال ابن عبد البر: " هذا الحديث منقطع بهذا الإسناد لأن مسلم بن يسار هذا لم يلق عمر بن الخطاب ... ثم قال: زيادة من زاد في هذا الحديث نعيم بن ربيعة ليست حجة لأن الذي لم يذكره أحفظ وإنما تقبل الزيادة من الحافظ المتقن وجملة القول في هذا الحديث أنه حديث ليس إسناده بالقائم لأن مسلم بن يسار ونعيم بن ربيعة جميعا غير معروفين بحمل العلم ولكن معنى هذا الحديث قد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجوه كثيرة ثابتة يطول ذكرها " (1)
__________
(1) - التمهيد ( 6/3 )(1/71)
3- حديث عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } قال: أخذوا من ظهره كما يؤخذ بالمشط من الرأس فقال لهم: { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى } قالت الملائكة : { شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ } (1) أخرجه ابن جرير في تفسيره من طريق أحمد بن أبي طيبة عن سفيان بن سعيد عن الأجلح عن الضحاك عن منصور عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأُعل هذا الحديث بالوقف ، قال الحافظ ابن كثير : " أحمد بن أبي طيبة هذا هو أبو محمد الجرجاني قاضي قومس كان أحد الزهاد أخرج له النسائي في سننه، وقال أبو حاتم الرازي يكتب حديثه ، وقال ابن عدي حدث بأحاديث كثيرة غرائب، وقد روى هذا الحديث عبد الرحمن بن حمزة بن مهدي عن سفيان الثوري عن منصور عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو وكذا رواه جرير عن منصور به ، وهذا أصح والله أعلم " ، وقال أيضاً بعد أن ساق عدداً من الأحاديث والآثار الواردة في أخذ الذرية من صلب آدم عليه السلام ، قال: " فهذه الأحاديث دالة على أن الله عز وجل استخرج ذرية آدم من صلبه وميز بين أهل الجنة وأهل النار وأما الإشهاد عليهم هناك بأنه ربهم فما هو إلا في حديث كلثوم بن جبر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس وفي حديث عبد الله بن عمرو وقد بينا أنهما موقوفان لا مرفوعان كما تقدم ومن ثم قال قائلون من السلف والخلف إن المراد بهذا الإشهاد إنما هو فطرهم على التوحيد كما تقدم في حديث أبي هريرة وعياض بن حمار المجاشعي ومن رواية الحسن البصري عن الأسود بن سريع وقد فسر الحسن الآية بذلك قالوا: ولهذا قال : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ } ولم يقل من آدم { مِنْ ظُهُورِهِمْ } ولم يقل من ظهره {
__________
(1) - أخرجه ابن جرير في تفسيره (6 /110 )(1/72)
ذُرِّيَّتَهُمْ } أي جعل نسلهم جيلا بعد جيل وقرنا بعد قرن كقوله تعالى { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ } (1) وقال { وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ } (2) ، وقال { كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آَخَرِينَ } (3) ، ثم قال { وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى } أي أوجدهم شاهدين بذلك قائلين له حالا وقالا والشهادة تارة تكون بالقول كقوله { قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا } الآية وتارة تكون حالا كقوله تعالى : { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْر } (4) أي حالهم شاهد عليهم بذلك لا أنهم قائلون ذلك وكذا قوله تعالى : { وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ } (5) كما أن السؤال تارة يكون بالقال وتارة يكون بالحال كقوله { وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ } (6) قالوا ومما يدل على أن المراد بهذا هذا أن جعل هذا الإشهاد حجة عليهم في الإشراك فلو كان قد وقع هذا كما قال من قال لكان كل أحد يذكره ليكون حجة عليه فإن قيل إخبار الرسول - صلى الله عليه وسلم - به كاف في وجوده فالجواب أن المكذبين من المشركين يكذبون بجميع ما جاءتهم به الرسل من هذا وغيره وهذا جعل حجة مستقلة عليهم فدل على أنه الفطرة التي فطروا عليها من الإقرار بالتوحيد ولهذا قال: ( أن تقولوا ) أي لئلا تقولوا يوم القيامة { إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا } أي التوحيد { غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا } (7)
- - - - - -
أحاديث المسح على ظهر آدم - عليه السلام -
__________
(1) - سورة الأنعام الآية: 165
(2) - سورة النمل الآية: 62
(3) - سورة الأنعام الآية: 133
(4) - سورة التوبة الآية: 17
(5) - سورة العاديات الآية: 7
(6) - سورة إبراهيم الآية: 34
(7) - ينظر: تفسر ابن كثير ( 2/345- 347 )(1/73)
قرأت حديثا أن الله تعالى مسح ظهر آدم عليه السلام.
وهناك أربعة أسانيد لهذا الحديث على الأقل لكنني أعلم أن جميع هذه الروايات ضعيفة. فهل هناك أي حديث صحيح في هذه المسألة؟ أو على الأقل هل مجموع هذه الروايات تجعله حسناً لغيره؟ جزاكم الله خيرا
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
سبق أن أجبت عن سؤال مشابه لهذا السؤال، وهذا نص الجواب:
أخبر الله سبحانه وتعالى في كتابه أنه استخرج ذرية بني آدم من أصلابهم شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم قال عز وجل: { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ } (1) ، واختلف المفسرون في معنى الإشهاد المذكور في الآية على قولين:
__________
(1) - سورة الأعراف الآية: 172(1/74)
1- أن الإشهاد في الآية هو أن الله فطرهم على التوحيد وجبلهم على الإيمان وجعل لديهم الاستعداد لقبوله، قال سبحانه وتعالى: { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } (1) ، وفي الصحيحين من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ (2) ، وفي صحيح مسلم من حديث عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي خُطْبَتِهِ أَلَا إِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ مِمَّا عَلَّمَنِي يَوْمِي هَذَا كُلُّ مَالٍ نَحَلْتُهُ عَبْدًا حَلَالٌ وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمْ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا .الحديث (3)
__________
(1) - سورة الروم الآية: 30
(2) - البخاري ح ( 1385 )، ومسلم ح ( 2658 )
(3) - أخرجه مسلم ح ( 2865 )(1/75)
2- تفسير الإشهاد بما ورد في بعض الأحاديث والآثار الدالة على أن الله عز وجل استخرج ذرية آدم من صلبه وأشهدهم أنه ربهم ومعبودهم، ففي الصحيحين من حديث أنس إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ لِأَهْوَنِ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا لَوْ أَنَّ لَكَ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ كُنْتَ تَفْتَدِي بِهِ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَقَدْ سَأَلْتُكَ مَا هُوَ أَهْوَنُ مِنْ هَذَا وَأَنْتَ فِي صُلْبِ آدَمَ أَنْ لَا تُشْرِكَ بِي فَأَبَيْتَ إِلَّا الشِّرْكَ (1) ، وورد أحاديث فيها تفصيل هذا الإشهاد الذي أُخذ على بني آدم حينما اسْتُخِرجوا من صلب آدم عليه السلام ، وهذه الأحاديث لا تخلوا من كلام ، ومن تلك الأحاديث ما يأتي:
__________
(1) - البخاري ح (3334 ) ، ومسلم ح (2805 )(1/76)
1- حديث ابن عباس عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ أَخَذَ اللَّهُ الْمِيثَاقَ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ بِنَعْمَانَ يَعْنِي عَرَفَةَ فَأَخْرَجَ مِنْ صُلْبِهِ كُلَّ ذُرِّيَّةٍ ذَرَأَهَا فَنَثَرَهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ كَالذَّرِّ ثُمَّ كَلَّمَهُمْ قِبَلًا قَالَ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ . (1) أخرجه أحمد عن حسين بن محمد عن جرير بن حازم عن كلثوم بن جبر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ... ورجال هذا الإسناد ثقات، ولكن الحديث أُعل بالوقف، قال الحافظ ابن كثير: " وقد رواه عبد الوارث عن كلثوم بن جبر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فوقفه وكذا رواه إسماعيل بن علية ووكيع عن ربيعة بن كلثوم بن جبر عن أبيه به وكذا رواه عطاء بن السائب وحبيب بن أبي ثابت وعلي بن بذيمة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس وكذا رواه العوفي وعلي بن أبي طلحة عن ابن عباس فهذا أكثر وأثبت والله أعلم " (2) ، وقال النسائي بعد إخراجه للحديث في السنن الكبرى: " وكلثوم هذا ليس بالقوي وحديثه ليس بالمحفوظ " (3)
__________
(1) - أخرجه أحمد ح ( 2327 )
(2) - تفسير ابن كثير ( 2/347 )
(3) - السنن الكبرى ( 6/347 )(1/77)
2- حديث عمر بن الخطاب أنه سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ } فَقَالَ عُمَرُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ عَنْهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَ آدَمَ ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ بِيَمِينِهِ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً فَقَالَ خَلَقْتُ هَؤُلَاءِ لِلْجَنَّةِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَعْمَلُونَ ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً فَقَالَ خَلَقْتُ هَؤُلَاءِ لِلنَّارِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ يَعْمَلُونَ فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَفِيمَ الْعَمَلُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا خَلَقَ الْعَبْدَ لِلْجَنَّةِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيُدْخِلَهُ بِهِ الْجَنَّةَ وَإِذَا خَلَقَ الْعَبْدَ لِلنَّارِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ النَّارِ فَيُدْخِلَهُ بِهِ النَّارَ. (1) أخرجه مالك في الموطأ، ومن طريقه أبو داود، والترمذي، وأحمد عن زيد بن أبي أنيسة، أن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب أخبره ، عن مسلم بن يسار الجهني أن عمر بن الخطاب ... ، وهذا الإسناد ضعيف، مسلم بن يسار الجهني لم يسمع من عمر، ولم يوثقه غير ابن حبان والعجلي، ولم يرو عنه غير عبد الحميد بن عبد الرحمن فهو في عداد المجاهيل، وذكر في بعض الطرق بين مسلم بن يسار رجل وهو: نعيم بن ربيعة وهو مجهول الحال .
__________
(1) - أخرجه مالك في الموطأ ح ( 1395 )، ومن طريقه أبو داود ح ( 4081 )، والترمذي ح ( 3001 ) ، وأحمد ح ( 311)(1/78)
وقال ابن عبد البر: " هذا الحديث منقطع بهذا الإسناد لأن مسلم بن يسار هذا لم يلق عمر بن الخطاب ... ثم قال: زيادة من زاد في هذا الحديث نعيم بن ربيعة ليست حجة لأن الذي لم يذكره أحفظ وإنما تقبل الزيادة من الحافظ المتقن وجملة القول في هذا الحديث أنه حديث ليس إسناده بالقائم لأن مسلم بن يسار ونعيم بن ربيعة جميعا غير معروفين بحمل العلم ولكن معنى هذا الحديث قد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجوه كثيرة ثابتة يطول ذكرها " (1)
__________
(1) - التمهيد ( 6/3 )(1/79)
3- حديث عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } قال: أخذوا من ظهره كما يؤخذ بالمشط من الرأس فقال لهم: { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى } قالت الملائكة : { شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ } (1) أخرجه ابن جرير في تفسيره من طريق أحمد بن أبي طيبة عن سفيان بن سعيد عن الأجلح عن الضحاك عن منصور عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأُعل هذا الحديث بالوقف ، قال الحافظ ابن كثير : " أحمد بن أبي طيبة هذا هو أبو محمد الجرجاني قاضي قومس كان أحد الزهاد أخرج له النسائي في سننه، وقال أبو حاتم الرازي يكتب حديثه ، وقال ابن عدي حدث بأحاديث كثيرة غرائب، وقد روى هذا الحديث عبد الرحمن بن حمزة بن مهدي عن سفيان الثوري عن منصور عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو وكذا رواه جرير عن منصور به ، وهذا أصح والله أعلم " ، وقال أيضاً بعد أن ساق عدداً من الأحاديث والآثار الواردة في أخذ الذرية من صلب آدم عليه السلام ، قال: " فهذه الأحاديث دالة على أن الله عز وجل استخرج ذرية آدم من صلبه وميز بين أهل الجنة وأهل النار وأما الإشهاد عليهم هناك بأنه ربهم فما هو إلا في حديث كلثوم بن جبر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس وفي حديث عبد الله بن عمرو وقد بينا أنهما موقوفان لا مرفوعان كما تقدم ومن ثم قال قائلون من السلف والخلف إن المراد بهذا الإشهاد إنما هو فطرهم على التوحيد كما تقدم في حديث أبي هريرة وعياض بن حمار المجاشعي ومن رواية الحسن البصري عن الأسود بن سريع وقد فسر الحسن الآية بذلك قالوا: ولهذا قال : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ } ولم يقل من آدم { مِنْ ظُهُورِهِمْ } ولم يقل من ظهره {
__________
(1) - أخرجه ابن جرير في تفسيره (6 /110 )(1/80)
ذُرِّيَّتَهُمْ } أي جعل نسلهم جيلا بعد جيل وقرنا بعد قرن كقوله تعالى { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ } (1) وقال { وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ } (2) ، وقال { كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آَخَرِينَ } (3) ، ثم قال { وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى } أي أوجدهم شاهدين بذلك قائلين له حالا وقالا والشهادة تارة تكون بالقول كقوله { قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا } الآية وتارة تكون حالا كقوله تعالى : { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْر } (4) أي حالهم شاهد عليهم بذلك لا أنهم قائلون ذلك وكذا قوله تعالى : { وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ } (5) كما أن السؤال تارة يكون بالقال وتارة يكون بالحال كقوله { وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ } (6) قالوا ومما يدل على أن المراد بهذا هذا أن جعل هذا الإشهاد حجة عليهم في الإشراك فلو كان قد وقع هذا كما قال من قال لكان كل أحد يذكره ليكون حجة عليه فإن قيل إخبار الرسول - صلى الله عليه وسلم - به كاف في وجوده فالجواب أن المكذبين من المشركين يكذبون بجميع ما جاءتهم به الرسل من هذا وغيره وهذا جعل حجة مستقلة عليهم فدل على أنه الفطرة التي فطروا عليها من الإقرار بالتوحيد ولهذا قال: ( أن تقولوا ) أي لئلا تقولوا يوم القيامة { إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا } أي التوحيد { غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا } (7)
- - - - - -
__________
(1) - سورة الأنعام الآية: 165
(2) - سورة النمل الآية: 62
(3) - سورة الأنعام الآية: 133
(4) - سورة التوبة الآية: 17
(5) - سورة العاديات الآية: 7
(6) - سورة إبراهيم الآية: 34
(7) - ينظر: تفسر ابن كثير ( 2/345- 347 )(1/81)
حديث: ائْتُونِي أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَا تَضِلُّوا بَعْدِي. "، وتوضيح موقف عمر بن الخطاب منه
ما صحة الخبر أو الأثر الذي نسمعه من الشيعة في سبهم لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وهو أنه عند وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - أو في أيامه الأخيرة أمر أن يؤتى له بقرطاس وقلم ليكتب للناس كتاب لا يضلوا بعده أبدا وعند ذلك تدخل عمر بن الخطاب وقال إنه أي النبي ليهجر ومعنى يهجر أي يهذي والعياذ بالله وقال أي عمر حسبنا كتاب الله فهذا مخالف لأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذه رواية الشيعة التي يرددونها وأرجو التوضيح ودمتم .
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
الحديث المشار إليه في السؤال أخرجه البخاري ح ( 3168 ) ، ومسلم ح ( 1637 ) من حديث سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَوْمُ الْخَمِيسِ وَمَا يَوْمُ الْخَمِيسِ ثُمَّ بَكَى حَتَّى بَلَّ دَمْعُهُ الْحَصَى فَقُلْتُ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ وَمَا يَوْمُ الْخَمِيسِ ؟ قَالَ اشْتَدَّ بِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَجَعُهُ فَقَالَ: ائْتُونِي أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَا تَضِلُّوا بَعْدِي فَتَنَازَعُوا وَمَا يَنْبَغِي عِنْدَ نَبِيٍّ تَنَازُعٌ وَقَالُوا: مَا شَأْنُهُ أَهَجَرَ اسْتَفْهِمُوهُ قَالَ: دَعُونِي فَالَّذِي أَنَا فِيهِ خَيْرٌ أُوصِيكُمْ بِثَلَاثٍ أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَأَجِيزُوا الْوَفْدَ بِنَحْوِ مَا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ قَالَ: وَسَكَتَ عَنْ الثَّالِثَةِ أَوْ قَالَهَا فَأُنْسِيتُهَا "(1/82)
وفي لفظ آخر: عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: يَوْمُ الْخَمِيسِ وَمَا يَوْمُ الْخَمِيسِ ثُمَّ جَعَلَ تَسِيلُ دُمُوعُهُ حَتَّى رَأَيْتُ عَلَى خَدَّيْهِ كَأَنَّهَا نِظَامُ اللُّؤْلُؤِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ائْتُونِي بِالْكَتِفِ وَالدَّوَاةِ أَوْ اللَّوْحِ وَالدَّوَاةِ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ أَبَدًا فَقَالُوا إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَهْجُرُ .(1/83)
وفي لفظ آخر: عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا حُضِرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَفِي الْبَيْتِ رِجَالٌ فِيهِمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : هَلُمَّ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَا تَضِلُّونَ بَعْدَهُ، فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْوَجَعُ وَعِنْدَكُمْ الْقُرْآنُ حَسْبُنَا كِتَابُ اللَّهِ فَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْبَيْتِ فَاخْتَصَمُوا فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ قَرِّبُوا يَكْتُبْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ مَا قَالَ عُمَرُ، فَلَمَّا أَكْثَرُوا اللَّغْوَ وَالِاخْتِلَافَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : قُومُوا، قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: إِنَّ الرَّزِيَّةَ كُلَّ الرَّزِيَّةِ مَا حَالَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَبَيْنَ أَنْ يَكْتُبَ لَهُمْ ذَلِكَ الْكِتَابَ مِنْ اخْتِلَافِهِمْ وَلَغَطِهِمْ .(1/84)
واللفظ لمسلم، هذا هو الحديث بألفاظه كما أخرجه الإمام مسلم، ومن المعلوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - في مرضه الذي توفي فيه عزم على أن يكتب كتاباً يتضمن استخلاف أبي بكر ففي الصحيحين من حديث عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي مَرَضِهِ: ادْعِي لِي أَبَا بَكْرٍ أَبَاكِ وَأَخَاكِ حَتَّى أَكْتُبَ كِتَابًا فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَتَمَنَّى مُتَمَنٍّ وَيَقُولُ قَائِلٌ أَنَا أَوْلَى وَيَأْبَى اللَّهُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَّا أَبَا بَكْرٍ " (1) ، وعن ابن أبي مليكة قال: سُئِلَتْ عائشة مَنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مُسْتَخْلِفًا لَوْ اسْتَخْلَفَهُ ؟ قَالَتْ: أَبُو بَكْرٍ فَقِيلَ لَهَا ثُمَّ مَنْ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ عُمَرُ ثُمَّ قِيلَ لَهَا مَنْ بَعْدَ عُمَرَ قَالَتْ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ ثُمَّ انْتَهَتْ إِلَى هَذَا " (2) ، ثم إنه حصل التنازع والاختلاف عنده - صلى الله عليه وسلم - ، واشتبه الأمر على عمر - رضي الله عنه - هل غلب على النبي - صلى الله عليه وسلم - الوجع أم لم يغلب عليه الوجع فيكون كلامه من الكلام المعروف الذي يجب قبوله ، ولم يجزم عمر بذلك والشك جائز على عمر - رضي الله عنه - ، إذ لا معصوم إلا النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد عزم على أن يكتب الكتاب فلما حصل الاختلاف والتنازع وحصل الشك علم أن الكتاب لا يحصل به المقصود، وقد علم أن الله يجمعهم على ما عزم عليه كما قال : " َيَأْبَى اللَّهُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَّا أَبَا بَكْرٍ " ، ولو أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يكتب الكتاب وكان هذا مما يجب تبليغه وبيانه للناس لم يمنعه من ذلك أحد لا عمر ولا غيره، قال الإمام البيهقي: " قصد عمر بن
__________
(1) - أخرجه البخاري ح ( 5666 )، ومسلم ح ( 2387 )
(2) - أخرجه مسلم ح ( 2385 )(1/85)
الخطاب - رضي الله عنه - بما قال التخفيف على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين رآه قد غلب عليه الوجع ، ولو كان ما يريد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يكتب لهم شيئاً مفروضاً لا يستغنون عنه لم يتركه باختلافهم ولغطهم لقول الله عز وجل: " بلغ ما أنزل إليك من ربك " ، كما لم يترك تبليغ غيره بمخالفة من خالفه، ومعاداة من عاداه، وإنما أراد ما حكى سفيان بن عيينة عن أهل العلم قبله أن يكتب استخلاف أبي بكر، ثم ترك كِتْبَته اعتماداً على ما علم من تقدير الله تعالى .... ،(1/86)
وقال : يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكرٍ، ثم نبه أمته على خلافته باستخلافه إياه في الصلاة حين عجز عن حضورها " (1) ، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: " الذي وقع في مرضه كان من أهون الأشياء وأبينها وقد ثبت في الصحيح أنه قال لعائشة في مرضه: ادعى لي أباك وأخاك حتى أكتب لأبي بكر كتابا لا يختلف عليه الناس من بعدي " ثم قال: يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر فلما كان يوم الخميس همَّ أن يكتب كتابا فقال عمر: ماله أهجر ؟ فشك عمر هل هذا القول من هجر الحمي ؟ أو هو مما يقول على عادته ؟ فخاف عمر أن يكون من هجر الحمى فكان هذا مما خفى على عمر كما خفى عليه موت النبي - صلى الله عليه وسلم - بل أنكره ثم قال بعضهم هاتوا كتابا، وقال بعضهم لا تأتوا بكتاب، فرأى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الكتاب في هذا الوقت لم يبق فيه فائدة؛ لأنهم يشكون هل أملاه مع تغيره بالمرض أم مع سلامته من ذلك، فلا يرفع النزاع فتركه، ولم تكن كتابة الكتاب مما أوجبه الله عليه أن يكتبه أو يبلغه في ذلك الوقت، إذ لو كان كذلك لما ترك - صلى الله عليه وسلم - ما أمره الله به، لكن ذلك مما رآه مصلحة لدفع النزاع في خلافة أبي بكر، ورأى أن الخلاف لا بد أن يقع، وقد سأل ربه لأمته ثلاثا فأعطاه اثنتين ومنعه واحدة، سأله أن لا يهلكهم بسنة عامة فأعطاه إياها، وسأله أن لا يسلط عليهم عدوا من غيرهم، فأعطاه إياها، وسأله أن لا يجعل بأسهم بينهم، فمنعه إياها وهذا ثبت في الصحيح، وقال ابن عباس: الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين أن يكتب الكتاب فإنها رزية أي مصيبة في حق الذين شكوا في خلافة أبي بكر - رضي الله عنه - ، وطعنوا فيها، وابن عباس قال ذلك لما ظهر أهل الأهواء من الخوارج والروافض ونحوهم، وإلا فابن عباس كان يفتي بما في كتاب الله، فإن فلم يجد في كتاب الله فبما في سنة رسول الله، فإن لم يجد في سنة رسول
__________
(1) - دلائل النبوة ( 7/184 )(1/87)
الله - صلى الله عليه وسلم - فبما أفتى أبو بكر وعمر ..... ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - ترك كتابة الكتاب باختياره فلم يكن في ذلك نزاع ولو استمر على إرادة الكتاب ما قدر أحد أن يمنعه .... ومن جهل الرافضة أنهم يزعمون أن ذلك الكتاب كان كتابه بخلافة علي، وهذا ليس في القصة ما يدل عليه بوجه من الوجوه ولا في شيء من الحديث المعروف عند أهل النقل أنه جعل عليا خليفة كما في الأحاديث الصحيحة ما يدل على خلافة أبي بكر ثم يدعون مع هذا أنه كان قد نص على خلافة علي نصا جليا قاطعا للعذر فإن كان قد فعل ذلك فقد أغنى عن الكتاب وإن كان الذين سمعوا ذلك لا يطيعونه فهم أيضا لا يطيعون الكتاب فأي فائدة لهم في الكتاب لو كان كما زعموا " (1) ، وقال رحمه الله في موضع آخر: " عمر - رضي الله عنه - قد ثبت من علمه وفضله ما لم يثبت لأحد غير أبي بكر، ففي صحيح مسلم عن عائشة - رضي الله عنها - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول: قد كان في الأمم قبلكم مُحَدَّثون، فإن يكن في أمتي أحد فعمر" قال ابن وهب: تفسير " محدثون " ملهمون، وروى البخاري عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إنه قد كان فيما مضى قبلكم من الأمم مُحدَّثون، وإنه إن كان في أمتي هذه منهم فإنه عمر بن الخطاب "، وفي لفظ للبخاري: " لقد كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل رجال يكلَّمون من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يكن في أمتي منهم أحد فعمر " وفي الصحيح عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: بينا أنا نائم إذ رأيت قدحا أُتيت به فيه لبن، فشربت منه حتى أني لأرى الرَّيَّ يخرج من أظفاري، ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب، قالوا: فما أوَّلته يا رسول الله ؟ قال: العلم "، وفي الصحيحين عن أبي سعيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : بينا أنا نائم رأيت الناس يُعرضون عليَّ وعليهم قمص، ومنها ما
__________
(1) - ينظر: منهاج السنة ( 6/ 315 - 318 )(1/88)
يبلغ الثدي، ومنها ما يبلغ دون ذلك، ومر عمر بن الخطاب وعليه قميص يجرّه " قالوا ما أوَّلت ذلك يا رسول الله ؟ قال: الدين " ، وفي الصحيحين عن ابن عمر قال: قال عمر: وافقت ربي في ثلاث: في مقام إبراهيم، وفي الحجاب وفي أسارى بدر" وللبخاري عن أنس قال: قال عمر: " وافقت ربي في ثلاث أو وافقني ربي في ثلاث: قلت: يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلَّى فنزلت: { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } (1) ، وقلت: يا رسول الله يدخل عليك البَرُّ والفاجر، فلو أمرت أمّهات المؤمنين بالحجاب فأنزل الله آية الحجاب، وبلغني معاتبة النبي - صلى الله عليه وسلم - بعض أزواجه، فدخلت عليهم فقلت: إن انتهيتن، أو ليبدلن الله رسوله خيرا منكن حتى أتت إحدى نسائه فقالت: يا عمر أما في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت فأنزل الله: { عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ } (2) الآية، وأما قصة الكتاب الذي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد أن يكتبه، فقد جاء مبينا كما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضه: ادعى لي أباك وأخاك حتى أكتب كتاباً، فإني أخاف أن يتمنى متمنٍّ ويقول قائل: أنا أولى، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر، وفي صحيح البخاري عن القاسم بن محمد قال قالت عائشة: وارأساه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لو كان وأنا حي فاستغفر لك وأدعو لك، قالت عائشة: واثكلاه، والله إني لأظنك تحب موتي، فلو كان ذلك لظللت آخر يومك مُعَرِّساً ببعض أزواجك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " بل أنا وارأساه، لقد همت أن أرسل إلى أبي بكر وابنه وأعهد: أن يقول القائلون أو يتمنى المتمنون، ويدفع الله ويأبى المؤمنون ، وفي صحيح مسلم عن ابن
__________
(1) - سورة البقرة الآية: 125
(2) - سورة التحريم الآية: 5(1/89)
أبي مليكة، قال: سمعت عائشة وسُئلت: من كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستخلفا لو استخلف ؟ قالت: أبو بكر، فقيل لها: ثم من بعد أبي بكر ؟ قالت: عمر قيل لها: ثم من بعد عمر ؟ قالت: أبو عبيدة عامر بن الجراح ثم انتهت إلى هذا، وأما عمر فاشتبه عليه هل كان قول النبي - صلى الله عليه وسلم - من شدة المرض أو كان من أقواله المعروفة، والمرض جائز على الأنبياء ولهذا قال: ماله أهجر ؟ فشك في ذلك ولم يجزم بأنه هجر والشك جائز على عمر فإنه لا معصوم إلا النبي - صلى الله عليه وسلم - لا سيما وقد شك بشبهة، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مريضا فلم يدر أكلامه كان من وهج المرض، كما يعرض للمريض أو كان من كلامه المعروف الذي يجب قبوله، وكذلك ظن أنه لم يمت حتى تبين أنه قد مات، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد عزم على أن يكتب الكتاب الذي ذكره لعائشة، فلما رأى أن الشك قد وقع علم أن الكتاب لا يرفع الشك، فلم يبق فيه فائدة، وعلم أن الله يجمعهم على ما عزم عليه، كما قال: ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر، وقول ابن عباس: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين أن يكتب الكتاب، يقتضي أن هذا الحائل كان رزية وهو رزية في حق من شك في خلافة الصديق أو اشتبه عليه الأمر؛ فإنه لو كان هناك كتاب لزال هذا الشك فأما من علم أن خلافته حق فلا رزية في حقه ولله الحمد، ومن توهم أن هذا الكتاب كان بخلافة علي فهو ضال باتفاق عامة الناس من علماء السنة والشيعة، أما أهل السنة فمتفقون على تفضيل أبي بكر وتقديمه، وأما الشيعة القائلون بأن عليا كان هو المستحق للإمامة فيقولون: إنه قد نص على إمامته قبل ذلك نصا جليا ظاهرا معروفا، وحينئذ فلم يكن يحتاج إلى كتاب، وإن قيل: إن الأمة جحدت النص المعلوم المشهور فلأن تكتم كتابا حضره طائفة قليلة أولى وأحرى، وأيضا فلم يكن يجوز عندهم تأخير البيان إلى مرض موته، ولا يجوز له(1/90)
ترك الكتاب لشك من شك فلو كان ما يكتبه في الكتاب مما يجب بيانه وكتابته، لكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يبينه ويكتبه ولا يلتفت إلى قول أحدٍ، فإنه أطوع الخلق له، فعُلم أنه لما ترك الكتاب لم يكن الكتاب واجبا، ولا كان فيه من الدين ما تجب كتابته حينئذ، إذ لو وجب لفعله ولو أن عمر - رضي الله عنه - اشتبه عليه أمر ثم تبين له أو شك في بعض الأمور فليس هو أعظم ممن يفتي ويقضي بأمور ويكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قد حكم بخلافها مجتهدا في ذلك ولا يكون قد علم حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن الشك في الحق أخف من الجزم بنقيضه، وكل هذا إذا كان باجتهاد سائغ كان غايته أن يكون من الخطأ الذي رفع الله المؤاخذه به " (1)
وقال المازري: " إنما جاز للصحابة الاختلاف في هذا الكتاب مع صريح أمره لهم بذلك لأن الأوامر قد يقارنها ما ينقلها من الوجوب فكأنه ظهرت منه قرينة دلت على أن الأمر ليس على التحتم بل على الاختيار فاختلف اجتهادهم وصمم عمر على الامتناع لما قام عنده من القرائن بأنه - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك عن غير قصد جازم وعزمه - صلى الله عليه وسلم - كان إما بالوحي وإما بالاجتهاد وكذلك تركه إن كان بالوحي فبالوحي وإلا فبالاجتهاد أيضا" (2)
وهذه النصوص عن هؤلاء العلماء الأجلاء توضح المقصود بالحديث وتدحض افتراءات الشيعة وتلبيسهم وتنقصهم لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - . هذا والله أعلم .
- - - - - -
حديث أبي بكر في تمنيه تحمل العقوبة عن أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة
أرجو بيان صحة الحديث التالي وفي أي الكتب ورد:
" ورد في قوله تعالى "الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار"
__________
(1) - منهاج السنة ( 6/ 20 - 26 )
(2) - ينظر: فتح الباري ( 8/133 )(1/91)
فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر: "يا أبا بكر ماذا ترى وأنت تقرأ هذه الآية؟
فقال أبو بكر: أفكر بالنار وجحيمها وأقلق لحال أمتك فيها وأشعر بأن للبشر علي حق فأقول: يا رب اجعلني كبيرا جدا بحيث أملىء النار فتأتي النار علي ولا يدخلها أحد فأتحمل العقوبة عن جميع الناس وتنجو الأمة"
فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - ما تفكر به لك عليه ثواب عبادة سبعين سنة وأكثر من يهتم بأمة محمد ( - صلى الله عليه وسلم - ) هو أبو بكر.
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
هذا الخبر لا أصل له فيما أعلم، ومتنه منكر، ولم أقف عليه فيما اطلعت عليه من مصادر .
- - - - - -
حديث حول عنترة
ما مدى صحة هذا الحديث: " ما وصف لي أعرابي قط وأحببت أن أراه إلا عنترة .
وجزاكم الله خيراً .
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
لم أقف على الحديث في شيء من كتب السنة، وقد ذكر في بعض كتب الأدب ذكره أبو الفرج الأصبهاني في الأغاني (1) من طريق ابن شبة بسند منقطع، قال أبو الفرج: أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا ابن عائشة قال: أنشد النبي قول عنترة:
ولقد أَبِيتُ على الطَّوَى وأَظَلُّه ... حتىَّ أنالَ به كريمَ المأكلِ
فقال: ما وصف لي أعرابي قط فأحببت أن أراه إلا عنترة
وأخرجه المعافي بن زكريا في الجليس الصالح الكافي والأنيس الناصح الشافي من طريق ابن عائشة قال: أنشد النبي - صلى الله عليه وسلم - لعنترة:
ولقد أَبِيتُ على الطَّوَى وأَظَلُّه ... حتىَّ أنالَ به كريمَ المأكلِ
قال: فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ما أحد من فرسان العرب كنت أحب أن أراه ما خلا عنترة، وذكره أسامة بن منقذ في لباب الآداب (2) ، عن أبي الفرج الأصبهاني، هذا والله أعلم .
- - - - - -
تخريج حديث : " اللهم بارك لنا في رجب ... "
__________
(1) - ( 8/250 )
(2) - ص ( 216 )(1/92)
تخريج حديث : " كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا دَخَلَ رَجَبٌ قَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي رَجَبٍ وَشَعْبَانَ وَبلغنا رَمَضَانَ "، وفي رواية: " وبارك لنا في رمضان "
الجواب:
أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند ح ( 2346 )، والبزار في مسنده ( 616 كما في كشف الأستار )، وابن السني في عمل اليوم والليلة ح ( 658 )، والطبراني في الأوسط ( 3939 )، وفي الدعاء ( 911 )، وأبو نعيم في الحلية ( 6/269 )، والبيهقي في الشعب ح ( 3534 )، وفي كتاب فضائل الأوقات ح ( 14)، والخطيب البغدادي في الموضح ( 2/473 )، وابن عساكر في تاريخه ( 40/57 )، من طريق زائدة بن أبي الرقاد عن زياد النميري عن أنس .
وهذا إسنادٌ ضعيف: زائدة بن أبي الرقاد: قال البخاري والنسائي: منكر الحديث، وقال أبو داود: لا أعرف خبره، وقال أبو حاتم: يحدث عن زياد النميري عن أنس أحاديث مرفوعة منكرة، ولا ندري منه أو من زياد، وقال الذهبي: ضعيف، وقال الحافظ ابن حجر: منكر الحديث (1)
__________
(1) - ينظر: التاريخ الكبير ( 3/433 ) ، الجرح ( 3/613 ) ، المجروحين ( 1/308 ) ، الميزان ( 2/65 ) ، التهذيب ( 3/305 ) ، التقريب ( 1/256 )(1/93)
وزياد بن عبد الله النميري البصري: قال ابن معين: ليس بشيء وضعفه أبو داود ، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: يخطئ، ثم ذكره في المجروحين، وقال: منكر الحديث يروي عن أنس أشياء لا تشبه حديث الثقات لا يجوز الاحتجاج به، وقال الذهبي: ضعيف، وقال الحافظ: ضعيف (1) ، وقد تفرد زائدة بن أبي الرقاد بهذا الحديث عن زياد النميري ، قال الطبراني في الأوسط: " لا يروى هذا الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا بهذا الإسناد، تفرد به زائدة بن أبي الرقاد " ، وقال البيهقي: " تفرد به النميري وعنه زائدة بن أبي الرقاد، قال البخاري: زائدة بن أبي الرقاد عن زياد النميري منكر الحديث "
وقد أشار غير واحد من العلماء إلى ضعف إسناد هذا الحديث منهم: النووي في الأذكار ح ( 547 )، وابن رجب في لطائف المعارف ص ( 143 )، والهيثمي في المجمع ( 2/165 )، والذهبي في الميزان ( 2/65 )، وابن حجر في تبين العجب ح ( 38 )
__________
(1) - ينظر: تاريخ ابن معين ( 2/179 )، الجرح ( 3/536 )، الكامل ( 3/1044 ) ، الميزان ( 2/65 )، التهذيب ( 3/378 )(1/94)
ويحسن الإشارة بمناسبة تخريج هذا الحديث إلى أنه لم يثبت في فضل شهر رجب ولا في صيامه ولا قيام ليلة مخصوصة منه حديث صحيح ، قال الحافظ ابن حجر: " لم يرد في فضل شهر رجب، ولا في صيامه شيء منه معين، ولا في قيام ليلة مخصوصة فيه حديث صحيح يصلح للحجة، وقد سبقني إلى الجزم بذلك الإمام أبو إسماعيل الهروي الحافظ، رويناه عنه بإسناد صحيح، وكذلك رويناه عن غيره " (1) ، وقال الحافظ ابن رجب: " فأما الصلاة فلم يصح في شهر رجب صلاة مخصوصة تختص به، والأحاديث المروية في فضل صلاة الرغائب في أول ليلة جمعة من شهر رجب كذب وباطل لا تصح، وهذه الصلاة بدعة عند جمهور العلماء، وممن ذكر ذلك من العلماء المتأخرين من الحفاظ: أبو إسماعيل الأنصاري ، وأبو بكر بن السمعاني ، وأبو الفضل بن ناصر، وأبو الفرج بن الجوزي، وغيرهم، وإنما لم يذكرها المتقدمون لأنها أحدثت بعدهم، وأول ما ظهرت بعد الأربعمائة فلذلك لم يعرفها المتقدمون ولم يتكلموا فيها، وأما الصيام فلم يصح في فضل رجب بخصوصه شيء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أصحابه .... وقد روي أنه كان في شهر رجب حوادث عظمية، ولم يصح شيء من ذلك ، فروى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولد في أول ليلة منه، وأنه بعث في السابع والعشرين منه ، وقيل في الخامس والعشرين ولا يصح شيء من ذلك، وروي بإسناد لا يصح عن القاسم بن محمد أن الإسراء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - كان في سابع وعشرين من رجب، وأنكر ذلك إبراهيم الحربي وغيره . " (2)
- - - - - -
حديث: من آذى شخصا فقد آذاني ...
ما هي صحة هذا الحديث : إن النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) قال : من آذى شخصا فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله"
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
__________
(1) - تبين العجب بما ورد في شهر رجب ص ( 23 )
(2) - لطائف المعارف ص ( 140 )(1/95)
أخرجه الطبراني في الصغير ( 1/168 ) ، والأوسط ح ( 3632 ) من طريق سعيد بن سليمان عن موسى بن خلف العمي الواسطي عن القاسم العجلي عن أنس بن مالك قال : بينما النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب إذ جاءه رجل يتخطى رقاب الناس حتى جلس قريبا من النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاته قال : " ما منعك يا فلان أن تجمع معنا ؟ " قال : يا رسول الله قد حرصت أن أضع نفسي بالمكان الذي ترى قال : " قد رأيتك تخطى رقاب الناس وتؤذيهم من آذى مسلما فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله عز وجل "
وقال الطبراني : لم يروه عن أنس إلا القاسم العجلي البصري ولا عنه إلا موسى تفرد به سعيد . وذكره الهيثمي في المجمع وقال: " فيه القاسم بن مطيب، قال ابن حبان كان يخطئ كثيراً فاستحق الترك " (1) ، وقال الحافظ ابن حجر : " القاسم بن مطيب فيه لين " (2) هذا والله أعلم
- - - - - -
أثر: اذكر أحب الناس إليك ، فقال: يا محمد فكأنما نشط من عقال
ذكر الإمام النووي في شرحه على صحيح مسلم في كتاب الأذكار أن بعض الناس كانوا جالسين مع عبد الله بن عباس عندما شعر أحد الجالسين فجأة بحصول تشنجات له.
فنصحه الصحابي الجليل بتذكر أحب الناس إليه. فقال الرجل "وا محمدا " فبرىء في الحال وكثير من الصحابة يرون حوادث مشابهة لهذه.
هل تصح مثل هذه الرواية؟
وذكر الإمام البخاري في كتابه الأدب المفرد والإمام ابن السني والإمام ابن باشكول أن عبد الله بن عمر أصابه تشنج، فنصحه البعض بتذكر أحب الناس إليه. فقال الصحابي الجليل بصوت مرتفع "وا محمدا " فبرىء في الحال .
فماذا تقولون في ذلك وهل تصح مثل هذه الرواية؟
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
لم يثبت ذكر أو دعاء يقال عند خدر الرجل ، وقد ورد خبران موقوفان عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما، وهما :
__________
(1) - المجمع ( 2/179 )
(2) - التقريب ص ( 288 )(1/96)
1- أخرج ابن السني في عمل اليوم والليل ( 170) من طريق الهيثم بن حنش قال: كنا عند عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، فخدرت رجله، فقال له رجل: اذكر أحب الناس إليك ، فقال: يا محمد فكأنما نشط من عقال ، والهيثم بن حنش مجهول .
2- وأخرج ابن السني أيضاً في عمل اليوم والليل ( 169 ) ، من طريق غياث بن إبراهيم عن عبد الله بن عثمان بن خثيم عن مجاهد قال: خدرت رجل رجلٍ عند ابن عباس، فقال ابن عباس - رضي الله عنهما - : اذكر أحب الناس إليك ، فقال: محمد - صلى الله عليه وسلم - فذهب خدره، وفي إسناده غياث بن إبراهيم ، وهو كذاب .
3- وأخرج البخاري في الأدب المفرد من طريق أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن سعد ، قال: خدرت رجل ابن عمر ، فقال له رجل : اذكر أحب الناس إليك ، فقال: يا محمد (1) ، وفي هذا الإسناد: عبد الرحمن بن سعد ليس له الكتب الستة ولواحقها سوى هذا الأثر في الأدب المفرد للبخاري ، ويظهر أنه مجهول الحال، وقد سئل ابن معين من عبد الرحمن بن سعد فقال: لا أدري (2) ، ولم يذكر فيه ابن أبي حاتم والبخاري جرحاً ولا تعديلاً ، وذكره ابن حبان في الثقات، ونقل ابن حجر في التقريب توثيقه عن النسائي ، وقد عرف عن النسائي أنه ربما حصل له تساهل في التوثيق لاسيما وأنه لم يشاركه أحد من الأئمة المعتبرين في توثيقه، قال المعلمي: " ابن سعد وابن معين والنسائي وآخرون غيرهم يوثقون من كان من التابعين وأتباعهم إذا وجدوا رواية أحدهم مستقيمة بأن يكون له فيما يروي متابع أو شاهد ، وإن لم يرو عنه إلا واحد ولم يبلغهم عنه إلا حديث واحد" (3)
- - - - - -
حديث: " ما على المتحابين إلا النكاح "
__________
(1) - أخرجه البخاري في الأدب المفرد ص ( 324 )
(2) - ينظر: تاريخ ابن معين ( 4/24 )
(3) - التنكيل ( 1/16 )(1/97)
سؤال محيرنى وهو الحديث للنبي محمد عليه صلاة وسلام وهو ما على المتحابين إلا النكاح وهو دال على وجود علاقة قبل الزواج وعلى علم إنها علاقة محرمة المتخذين آخذان يعنى هل الحب حلال أو حرام مع أفضل تحياتي .
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
الحديث المشار إليه في السؤال أخرجه ابن ماجه ح ( 1837 ) والعقيلي ( 4/134 ) والبيهقي ( 7/ 78 ) من طريق محمد بن مسلم الطائفي عن إبراهيم بن ميسرة عن طاووس عن ابن عباس مرفوعاً ، وأخرجه أبو يعلى ( 2747 ) والبيهقي ( 7/78 ) والعقيلي ( 4/134 ) من طريق سفيان عن إبراهيم بن ميسرة عن طاووس مرسلاً ، وأخرجه عبد الرزاق ( 6/151 ) عن معمر عن إبراهيم بن ميسرة عن طاووس مرسلاً ، وقال العقيلي بعد أن أخرجه مرسلاً: وهذا أولى ، فالحديث يترجح إرساله لأن سفيان ومعمر روياه عن إبراهيم بن ميسرة عن طاووس مرسلاً، وخالفهم محمد بن مسلم الطائفي فرواه عن ابن عباس موصولاً ، ومحمد بن مسلم الطائفي فيه مقال ، والحديث على تقدير صحته وثبوته لا يدل على إقرار وجود علاقة بين الرجل والمرأة قبل الزواج ، ولكنه أرشد إلى أنه إذا حصلت المحبة بين رجل وامرأة فعليهما أن يبادرا إلى الزواج، لأن الزواج يزيد المحبة قوة وتماسكاً، وهو دواء العشق إذا وجد ، ثم إن المحبة قد تقع ولو لم يحصل علاقة ، فربما عرف الرجل المرأة وهي صغيرة ، أو يكون سمع شيئاً من صفاتها فوقعت في قلبه ، أو تكون من قريباته التي يعرفها مثل أن تكون ابنة عمه أو ابنة خاله، وكذلك بالنسبة للمرأة، وأما علاقة الرجل بالمرأة قبل العقد فلا يجوز له أن يستمتع منها بكلام أو نظر أو يخلو بها لأنها أجنبية عنه، والله أعلم .
- - - - - -
حديث: النهي عن صبر وإخصاء البهائم
ورد في حديث عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منع بشدة من ربط المخلوقات ذوات الأرواح واتخاذها هدفا واخصاء الحيوانات.(1/98)
والحديث رواه البزار وجميع رواته رواة الصحيحين كما في مجمع الزوائد المجلد 5 صفحة 265 وسنده صحيح كما ورد في نيل الأوطار المجلد 8 صفحة 73.
أرجو توضيح مدى صحة أو ضعف هذا الحديث مع التوضيح الشامل. جزاكم الله خيرا
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
ورد النهي عن صبر البهائم واتخاذ ما فيه الروح غرضاً، ففي الصحيحين من حديث ابن عمر من طريق سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: مَرَّ ابْنُ عُمَرَ بِفِتْيَانٍ مِنْ قُرَيْشٍ قَدْ نَصَبُوا طَيْرًا وَهُمْ يَرْمُونَهُ وَقَدْ جَعَلُوا لِصَاحِبِ الطَّيْرِ كُلَّ خَاطِئَةٍ مِنْ نَبْلِهِمْ فَلَمَّا رَأَوْا ابْنَ عُمَرَ تَفَرَّقُوا فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ مَنْ فَعَلَ هَذَا؟، لَعَنْ اللَّهُ مَنْ فَعَلَ هَذَا إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَعَنَ مَنْ اتَّخَذَ شَيْئًا فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا، واللفظ لمسلم ، وفي رواية للبخاري : " لَعَنَ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - مَنْ مَثَّلَ بِالْحَيَوَانِ " (1) ، وفي صحيح مسلم من حديث ابن عباس أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لَا تَتَّخِذُوا شَيْئًا فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا (2) ، وفي الصحيحين من حديث أنس من طريق شُعْبَةُ عَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ دَخَلْتُ مَعَ أَنَسٍ عَلَى الْحَكَمِ بْنِ أَيُّوبَ فَرَأَى غِلْمَانًا أَوْ فِتْيَانًا نَصَبُوا دَجَاجَةً يَرْمُونَهَا فَقَالَ أَنَسٌ نَهَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ تُصْبَرَ الْبَهَائِمُ . (3)
__________
(1) - البخاري ح ( 5514 ) ، ومسلم ح ( 1958 )
(2) - أخرجه مسلم ح ( 1957 )
(3) - أخرجه البخاري ح ( 5513 ) ، ومسلم ح ( 1956 )(1/99)
والمراد بصبر البهائم واتخاذها غرضاً أن تحبس وهي حية لتقتل بالرمي ونحوه، فتُجعل هدفاً وغرضاً كما يُجعل الشيء من الجلود أو الحجارة أو الأعواد غرضاً يرمى، وكانوا يفعلون هذا بغرض اللعب وتعلم الرماية أو بغرض المسابقة لقصد إصابة الهدف؛ وقد جاء التشديد في هذا لما فيه من تعذيب الحيوان وإتلافه وإضاعة المال .
وحديث ابن عباس المشار إليه في السؤال أخرجه البزار ( 5/483 ) ، والبيهقي ( 10/24 ) من طريق عبيد الله بن موسى ، عن ابن أبي ذئب ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن صبر الروح، وعن إخصاء البهائم نهياً شديداً . وهذا الحديث قد رواه غير عبيد الله عن ابن أبي ذئب مرسلاً، وجعلوا الإخصاء من قول الزهري، فقد رواه البيهقي من طريق أبي عامر العقدي عن ابن أبي ذئب ، قال: سألت الزهري عن الإخصاء فقال: حدثني عبيد الله بن عبد الله ، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صبر الروح، قال الزهري: والإخصاء صبر شديد، يعني قياساً على ما نُهي عنه من صبر الروح، قال البيهقي: وكذلك رواه يونس ومعمر عن الزهري مرسلاً، وذَكر معمر عن الزهري الخصاء كما ذكره ابن أبي ذئب ، والمحفوظ في هذا الخبر ما رواه العقدي عن ابن أبي ذئب لمتابعة معمر ويونس ، والله أعلم .(1/100)
والحاصل أن الحديث غير محفوظ موصولاً، وذكر الإخصاء فيه مدرج من كلام الزهري، وقد ورد في النهي عن الإخصاء حديث ابن عمر، ولكنه أعل بالوقف ففي المسند من طريق عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ إِخْصَاءِ الْخَيْلِ وَالْبَهَائِمِ وقَالَ ابْنُ عُمَرَ فِيهَا نَمَاءُ الْخَلْقِ (1) ، وهذا إسناد ضعيف ، فيه عبد الله بن نافع وهو ضعيف، وأخرجه مالك ( 2/948 ) ، والبيهقي ( 10/24 ) من طريق عبيد الله بن عمر ، كلاهما عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يكره إخصاء البهائم، ويقول: لا تقطعوا نامية الله عز وجل ، قال البيهقي: هذا هو الصحيح موقوف .
والإخصاء هو سل الخصية، بقصد قطع نسل الحيوان، ولعل المراد بالنهي عن الإخصاء عند عدم الحاجة، لما فيه من إيلام الحيوان، وإلحاق الضرر به، وقد ذهب جمهور العلماء إلى جواز إخصاء البهائم مأكولة اللحم، لما فيه من تطيب اللحم وصلاحه، وقد ضحى النبي - صلى الله عليه وسلم - بكبشين موجوءين (2) ، قال الخطابي: " الموجوء يعني بضم الجيم وبالهمز منزوع الأنثيين، والوجاء الخصاء وفيه جواز الخصي في الضحية، وقد كرهه بعض أهل العلم لنقص العضو لكن ليس هذا عيبا لأن الخصاء يفيد اللحم طيبا وينفي عنه الزهومة وسوء الرائحة " (3)
- - - - - -
هل جلد عمر لأبي بكرة يؤثر في روايته لحديث :" لا يلفح قوم ولوا أمرهم امرأة "
سمعت أن أبا بكرة جُلد بسبب رميه شخصا بالزنى دون إحضار شهودا على ادعائه وذلك في عهد عمر - رضي الله عنه - .
وقد سمعت أنه بسبب ذلك فإن الحديث الذي رواه في صحيح البخاري وفيه إن النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) قال : لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" لا يمكن الوثوق به. أو على الأقل جرى نزاع بين الأئمة في صحته.
__________
(1) - أخرجه أحمد ( 2/24 )
(2) - أخرجه أبو داود ح ( 2413 )
(3) - ينظر فتح الباري ( 10/10 )(1/101)
وقد سمعت أن هذا الحديث احتجّ به في وقت الفتنة بين علي وعائشة واختلاف الصحابة في الجهة التي يقفون معها أو الحياد كما فعل أبو موسى الأشعري.
فماذا تقولون فيما ذكرت؟ وجزاكم الله خيرا .
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
قصة أبي بكرة الثقفي - رضي الله عنه - المشار إليها في السؤال قصة مشهورة أخرجها البخاري تعليقاً (1) ، قال البخاري - رحمه الله - : " وَجَلَدَ عُمَرُ أَبَا بَكْرَةَ وَشِبْلَ بْنَ مَعْبَدٍ وَنَافِعًا بِقَذْفِ الْمُغِيرَةِ ثُمَّ اسْتَتَابَهُمْ ... " ، ورواها ابن جرير في التفسير (2) قال: " حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة عن ابن إسحاق عن الزهري عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب ضرب أبا بكرة وشبل بن معبد ونافع بن الحارث بن كلدة حدهم، وقال لهم من أكذب نفسه أجزت شهادته فيما استقبل ومن لم يفعل لم أجز شهادته، فأكذب شبل نفسه ونافع وأبى أبو بكرة أن يفعل ".
وأبو بكرة - رضي الله عنه - اتفق الأئمة على الاحتجاج به ، وأخرجوا حديثه في مصنفاتهم وكتبهم، ومنهم البخاري فقد أخرج له في مواضع من صحيحه، واتفق أئمة الحديث على أن الصحابة كلهم عدول فلا يسأل عن عدالتهم، ويجاب عن كون أبي بكرة لم يتب من قذف المغيرة بما يأتي:
- أن أبا بكرة كان يعلم صدق نفسه، فلذلك لم يكذب نفسه، وقد ذهب بعض السلف إلى أن إكذاب القاذف نفسه ليس بشرط في قبول توبته، لجواز أن يكون صادقاً في نفس الأمر ، قال الإمام مالك: " إذا ازداد خيراً كفاه "، وإلى هذا مال البخاري، قال المهلب: " إكذاب القاذف نفسه ليس شرطاً في قبول توبته، لأن أبا بكرة لم يكذب نفسه ، ومع ذلك فقد قبل المسلمون روايته وعملوا بها " (3)
__________
(1) - ينظر: البخاري مع الفتح ( 5/255 )
(2) - ( 18/76 )
(3) - ينظر: فتح الباري ( 5/256 )(1/102)
- أن هناك فرقاً بين الشهادة والرواية ، فالشهادة يطلب فيها مزيد تثبت مما لا يطلب في الرواية كالعدد والحرية وغير ذلك، وقد أجاب بهذا الإسماعيلي .
وحديث : " لن يفلح قوم " أخرجه البخاري قال: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ الْهَيْثَمِ حَدَّثَنَا عَوْفٌ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ لَقَدْ نَفَعَنِي اللَّهُ بِكَلِمَةٍ سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَيَّامَ الْجَمَلِ بَعْدَ مَا كِدْتُ أَنْ أَلْحَقَ بِأَصْحَابِ الْجَمَلِ فَأُقَاتِلَ مَعَهُمْ قَالَ لَمَّا بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ أَهْلَ فَارِسَ قَدْ مَلَّكُوا عَلَيْهِمْ بِنْتَ كِسْرَى قَالَ لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمْ امْرَأَةً . (1)
والحديث لا يعرف عن أحد من الأئمة أنه ضعفه، وقد استدل به جمهور العلماء على أن المرأة لا تتولى الإمام العظمى والقضاء .
- - - - - -
حديث: ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم من المسيح
سمعت عن حديث يذكر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لم أذكر لكم أعظم من فتنة الدجال ثم ذكر المسلم الذي يطيل في صلاته لما يرى من نظر الناس إليه، حتى يُرى أنه تقي. أرجو ذكر مصدر هذا الحديث.
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
__________
(1) - أخرجه البخاري ح ( 7099 )(1/103)
الحديث المشار إليه في السؤال أخرجه الإمام أحمد ح ( 11270 ) قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ حَدَّثَنَا كَثِيرُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ رُبَيْحِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: كُنَّا نَتَنَاوَبُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَنَبِيتُ عِنْدَهُ تَكُونُ لَهُ الْحَاجَةُ أَوْ يَطْرُقُهُ أَمْرٌ مِنْ اللَّيْلِ فَيَبْعَثُنَا فَيَكْثُرُ الْمُحْتَسِبُونَ وَأَهْلُ النُّوَبِ فَكُنَّا نَتَحَدَّثُ فَخَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ اللَّيْلِ فَقَالَ مَا هَذِهِ النَّجْوَى أَلَمْ أَنْهَكُمْ عَنْ النَّجْوَى قَالَ: قُلْنَا: نَتُوبُ إِلَى اللَّهِ يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّمَا كُنَّا فِي ذِكْرِ الْمَسِيحِ فَرَقًا مِنْهُ فَقَالَ أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا هُوَ أَخْوَفُ عَلَيْكُمْ مِنْ الْمَسِيحِ عِنْدِي قَالَ قُلْنَا بَلَى قَالَ الشِّرْكُ الْخَفِيُّ أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ يَعْمَلُ لِمَكَانِ رَجُلٍ . وأخرجه ابن ماجه في سننه ح (4194)، من طريق أبي خَالِدٍ الْأَحْمَرُ عَنْ كَثِيرِ بْنِ زَيْدٍ به، وهذا الحديث إسناده ضعيف، لضعف كثير بن زيد وربيح بن عبد الرحمن، قال الحافظ ابن كثير: " هذا إسناد غريب وفيه بعض الضعفاء . " (1)
- - - - - -
هل كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - ظل ؟
إن الله بعث إلينا رسوله الكريم محمد - صلى الله عليه وسلم - وأيده بمعجزات كثيرة فهل حقا كان من هذه المعجزات أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يكن له ظل يعني أنه عندما كان يقف في الشمس لم ير له ضل ، وهل نستطيع أن نعرف كل معجزاته - صلى الله عليه وسلم - .
أثابكم الله و أبقاكم الله في خدمة الإسلام و المسلمين.
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
__________
(1) - تفسير ابن كثير (4/324 )(1/104)
دلت الأحاديث الصحيحة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس خَلْقاً وأكملهم صورة، وأتمهم جمالاً، وأجمعهم للمحاسن الدالة على كماله، وأيده الله سبحانه وتعالى بالآيات العظيمة والمعجزات الباهرة، وأما ما ورد من صفته أنه ليس له ظل فلم أقف له على إسناد يعتمد عليه، ولم يذكرها الأئمة الذين يعتنون بذكر صحيح الأخبار في مصنفاتهم المشهورة، وإنما ذكرها الحكيم الترمذي وابن سبع وغيرهما ممن لا يعتنون بتمحيص الأحاديث، ويوردون الأحاديث الواهية والموضوعة قال السيوطي : " أخرج الحكيم الترمذي ، عن ذكوان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يرى له ظل في شمس ولا قمر، قال ابن سبع: من خصائصه أن ظله كان لا يقع على الأرض، وأنه كان نوراً فكان إذا مشى في الشمس أو القمر لا ينظر له ظل، قال بعضهم: ويشهد له قوله - صلى الله عليه وسلم - في دعائه " واجعلني نوراً " (1)
__________
(1) - الخصائص الكبرى ( 1/116 )(1/105)
وقد اعتنى الأئمة رحمهم الله بجمع معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم - أو دلائل نبوته، وحاولوا الاستقصاء، ومن أوسع المصنفات في هذا الفن كتاب دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة، لأبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي ( ت 458 هـ )، حيث توسع في ذكر سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وشمائله ، ثم في أثناء الكتاب تحدث عن دلائل النبوة، فخصص لها قدراً من الكتاب قال- رحمه الله -: " جماع أبواب دلائل النبوة ما ظهر منها على نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - من وقت الولادة إلى أن بعث بالرسالة ثم من وقت الرسالة إلى وقت الهجرة، ثم من وقت الهجرة إلى آخر مغازيه المعروفة وأسفاره المشهور " (1) ، ثم جعل يسرد دلائل النبوة بتوسع، وخصص الحافظ ابن كثير في كتابه البداية والنهاية فصلاً لدلائل النبوة، توسع في إيراد الأحاديث الدالة على دلائل النبوة وهو من أنفع ما كتب في هذا الموضوع لعنايته بانتقاء الأحاديث وعزوها إلى مصادرها، وقسم دلائل النبوة إلى قسمين: دلائل معنوية، ودلائل حسية، فذكر من الدلائل المعنوية إنزال القرآن العظيم، حيث قال: " وهو أعظم المعجزات وأبهر الآيات، وأبين الحجج الواضحات... فالقرآن العظيم معجز من وجوه كثيرة من فصاحته وبلاغته وتراكيبه وأساليبه، وما تضمنه من الإخبار بالغيوب الماضية والمستقبلة، وما اشتمل عليه من الأحكام المحكمة الجلية ...
__________
(1) - ينظر: كتاب دلائل النبوة(1/106)
" ، ثم ذكر الدلائل الحسية، ومنها انشقاق القمر، وتكثير الطعام، وحنين الجذع، وتسبيح الحصى، وانقياد الشجر للرسول - صلى الله عليه وسلم - ، ونبع الماء من بين أصابعه - صلى الله عليه وسلم - ، ثم ذكر ما يتعلق بالحيوان من دلائل النبوة، مثل: قصة الذئب وشهادته له بالرسالة، ثم ذكر إخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الغيوب الماضية والمستقبلية والتي وقعت كما أخبر بها، وغير ذلك مما يدخل تحت دلائل نبوته عليه الصلاة والسلام (1)
هذا والله أعلم .
- - - - - -
هل تفسير ابن عباس لهذه الآية: { وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ } من باب التأويل ؟
ما هي صحة نسبة هذه الآثار إلى ابن عباس:
1. في قول الله تعالى: "والسماء بنيناها بأيد" قال أي بقوة عظيمة (رواه الطبري وذكره سفيان الثوري وقتادة).
2. في قوله تعالى" الله نور السماوات والأرض" أولها ابن عباس بالهادي الذي يخلق الهداية (رواه الطبري)
3. في قوله تعالى :"يوم يكشف عن ساق" أولها ابن عباس باشتداد الأمور في يوم القيامة.
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
هذه الآثار الثلاثة مما رواها علي بن أبي طلحة عن ابن عباس- رضي الله عنهما- ، ومن المعلوم أن علي بن أبي طلحة له نسخة مشتملة على تفسير ابن عباس، وقد أثنى عليها العلماء لأنها من أجود الطرق وأصحها عن ابن عباس، قال الإمام أحمد: " بمصر صحيفة في التفسير، رواها علي بن أبي طلحة، لو رحل رجل فيها إلى مصر قاصداً ، ما كان كثيراً " . (2)
وقال الحافظ ابن حجر: " وهذه النسخة كانت عند أبي صالح كاتب الليث ، رواها عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ، وهي عند البخاري عن أبي صالح، وقد اعتمد عليها في صحيحه كثيراً فيما يعلقه عن ابن عباس " (3)
__________
(1) - البداية والنهاية ( 6/73 )
(2) - ينظر: الإتقان ( 1/453 )
(3) - ينظر : الإتقان ( 1/453 )(1/107)
قال الحافظ السيوطي: " وقد ورد عن ابن عباس في التفسير ما لا يحصى كثرة، وفيه روايات وطرق مختلفة، فمن جيدها طريق علي بن أبي طلحة عنه " (1)
وتنظر هذه الآثار في صحيفة علي بن أبي طلحة التي جمعها بعض الباحثين ( ص: 375، 466، 496 ) ، وليس ما جاء عن ابن عباس من باب التأويل بل فهم منها ابن عباس أنها ليست نصاً في الصفات، إذ لا يعرف عن الصحابة تأويل شيء من نصوص الصفات، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " إن جميع ما في القرآن من آيات الصفات فليس عن الصحابة اختلاف في تأويلها، وقد طالعت التفاسير المنقولة عن الصحابة وما رووه من الحديث ووقفت من ذلك على ما شاء الله تعالى من الكتب الكبار والصغار أكثر من مائة تفسير فلم أجد إلى ساعتي هذه عن أحد من الصحابة أنه تأول شيئا من آيات الصفات أو أحاديث الصفات بخلاف مقتضاها المفهوم المعروف .... وتمام هذا أنى لم أجدهم تنازعوا إلا في مثل قوله تعالى: { يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ } فروى عن ابن عباس وطائفة أن المراد به الشدة أن الله يكشف عن الشدة في الآخرة، وعن أبى سعيد وطائفة أنهم عدوها في الصفات للحديث الذي رواه أبو سعيد في الصحيحين، ولا ريب أن ظاهر القرآن لا يدل على أن هذه من الصفات فإنه قال: { يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ } نكرة في الإثبات لم يضفها إلى الله ولم يقل عن ساقه، فمع عدم التعريف بالإضافة لا يظهر أنه من الصفات إلا بدليل آخر ، ومثل هذا ليس بتأويل ، إنما التأويل صرف الآية عن مدلولها ومفهومها ومعناها المعروف" (2) ، وقال أيضاً: " ثم قول من قال من السلف: هادي أهل السموات والأرض لا يمنع أن يكون في نفسه نوراً فإن من عادة السلف في تفسيرهم أن يذكروا بعض صفات المُفسَّر من الاسماء أو بعض أنواعه، ولا ينافى ذلك ثبوت بقية الصفات للمسمى بل قد يكونان متلازمين ولا دخول لبقية الأنواع فيه .....
__________
(1) - الإتقان ( 1/453 )
(2) - ينظر: مجموع الفتاوى ( 6/394 )(1/108)
فقول من قال: { نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } هادى أهل السماوات والأرض كلام صحيح، فإن من معاني كونه نور السماوات والأرض أن يكون هاديا لهم، أما أنهم نفوا ما سوى ذلك فهذا غير معلوم، وأما أنهم أرادوا ذلك فقد ثبت عن ابن مسعود أنه قال إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار، نور السماوات من نور وجهه، وقد تقدم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذكر نور وجهه وفى رواية " النور " ما فيه كفاية" (1) ، والحاصل أن بعض الآيات والأحاديث يفهم من سياقها والقرائن المحتفة بها أنها ليست نصاً في الصفات ، فتفسر بما يفهم من المقصود بها مثل قوله تعالى: { فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ } (2) ، ومثل قوله تعالى: { أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ } (3) ، وقوله تعالى: { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ } (4) ، قال الحافظ ابن رجب - معلقاً على قوله تعالى: { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً } : " وليس المراد هنا الصفة الذاتية - بغير إشكال - ، وإلا استوى خلق الأنعام وخلق آدم عليه السلام " (5) ، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: " والصواب في كثير من آيات الصفات وأحاديثها: القطع بالطريقة الثابتة كالآيات والأحاديث الدالة على أن الله - سبحانه وتعالى - فوق عرشه ويعلم طريقة الصواب في هذا وأمثاله، بدلالة الكتاب والسنة والإجماع على ذلك؛ دلالة لا تحتمل النقيض، وفى بعضها قد يغلب على الظن ذلك مع احتمال النقيض، وتردد المؤمن في ذلك هو بحسب ما يؤتاه من العلم والإيمان، ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور " (6) ،
__________
(1) - ينظر: مجموع الفتاوى ( 6/390 )
(2) - سورة البقرة الآية: 115
(3) - سورة الزمر الآية: 56
(4) - سورة يس الآية: 71
(5) - فتح الباري لابن رجب ( 1/7 )
(6) - ينظر : مجموع الفتاوى ( 5/117 )(1/109)
هذا والله أعلم .
- - - - - -
والد النبي - صلى الله عليه وسلم -
سمعت أن والدَي النبي - صلى الله عليه وسلم - كافرين ولكن كيف تكون أمه كذلك وقد ثبت أنها رأت في منامها وهي حاملا به نورا يخرج منها يضيىء قصور الشام. فمثل هذه الرؤية الصادقة هي بلا شك من الله . وأنا أعتقد أن الرؤيا الصالحة لا تأتي إلا للصالحين لكون الرؤية جزءا من النبوة.
ألا تثبت هذه الواقعة أن أم النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت مسلمة ومؤمنة؟ وماذا عن أبيه أيضا؟ وجزاكم الله خيرا.
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:(1/110)
الرؤيا الصادقة قد تقع لغير المسلم، مثل ما حصل في رؤيا صاحبي السجن مع يوسف عليه السلام، ورؤيا الملك التي عبرها يوسف عليه السلام وغير ذلك، والرؤيا إن صدرت من غير المسلم فلا تكون من أجزاء النبوة، ولهذا جاء في بعض الروايات : " رؤيا المسلم جزء من النبوة "، وأما الكافر أو الكاذب وإن صدقت رؤياهم في بعض الأوقات فلا تكون من الوحي ولا من النبوة إذ ليس كل من صدق في شيء يكون خبره نبوة، فقد يقول الكاهن كلمة حق، وقد يحدث المنجم فيصيب لكن ذلك على الندرة والقلة قال القرطبي: " المسلم الصادق الصالح هو الذي يناسب حاله حال الأنبياء فأكرم بنوع مما أكرم به الأنبياء وهو الاطلاع على الغيب، وأما الكافر والفاسق والمخلط فلا، ولو صدقت رؤياهم أحيانا فذاك كما قد يصدق الكذوب وليس كل من حدث عن غيب يكون خبره من أجزاء النبوة كالكاهن والمنجم " (1) ، وأما ما يتعلق بحكم والدي النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن الله سبحانه وتعالى من كمال عدله أنه لا يعذب أحداً إلا بعد بلوغ الدعوة وقيام الحجة حتى أهل الفترة ومن في حكمهم مثل: أطفال الكفار والمجانين، ومن ولد أكمه أعمى أصم، تقام عليهم الحجة يوم القيامة كما جاء في بعض الأحاديث، وقد جاءت أحاديث في شأن والدي النبي - صلى الله عليه وسلم - منها ما جاء في صحيح الإمام مسلم من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لِأُمِّي فَلَمْ يَأْذَنْ لِي وَاسْتَأْذَنْتُهُ أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأَذِنَ لِي . (2) وأخرج مسلم أيضاً من حديث أَنَسٍ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيْنَ أَبِي ؟ قَالَ: فِي النَّارِ فَلَمَّا قَفَّى دَعَاهُ فَقَالَ إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ .
__________
(1) - فتح الباري (12/362)
(2) - أخرجه مسلم ح ( 976 )(1/111)
(1) وفي المسند من حديث ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: جَاءَ ابْنَا مُلَيْكَةَ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَا: إِنَّ أُمَّنَا كَانَتْ تُكْرِمُ الزَّوْجَ وَتَعْطِفُ عَلَى الْوَلَدِ، قَالَ: وَذَكَرَ الضَّيْفَ غَيْرَ أَنَّهَا كَانَتْ وَأَدَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَالَ: أُمُّكُمَا فِي النَّارِ، فَأَدْبَرَا وَالشَّرُّ يُرَى فِي وُجُوهِهِمَا، فَأَمَرَ بِهِمَا فَرُدَّا فَرَجَعَا، وَالسُّرُورُ يُرَى فِي وُجُوهِهِمَا رَجِيَا أَنْ يَكُونَ قَدْ حَدَثَ شَيْءٌ، فَقَالَ: أُمِّي مَعَ أُمِّكُمَا ..... " الحديث (2) ، وهذه الأحاديث من العلماء من استدل بها على قيام الحجة على والدي النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وذلك لمعرفة العرب الذين بعث فيهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بملة إبراهيم عليه السلام، ولهذا وجد منهم الحنفاء الذين لم يشركوا بالله شيئاً مثل: زيد بن عمرو، وقس بن ساعدة، قال النووي- معلقاً على حديث أنس السابق-: " فيه أن من مات على الكفر فهو في النار ولا تنفعه قرابة المقربين، وفيه أن من مات في الفترة على ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان فهو من أهل النار، وليس هذا مؤاخذة قبل بلوغ الدعوة فإن هؤلاء كانت قد بلغتهم دعوة إبراهيم وغيره من الأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم وقوله - صلى الله عليه وسلم - أن أبي وأباك في النار هو من حسن العشرة للتسلية بالاشتراك في المصيبة ...
__________
(1) - أخرجه مسلم ح ( 203 )
(2) - أخرجه أحمد ح ( 3598 )(1/112)
" (1) ، وقال النووي - معلقاً على حديث عدم الإذن للنبي - صلى الله عليه وسلم - في الاستغفار لأمه - : " فيه جواز زيارة المشركين في الحياة وقبروهم بعد الوفاة لأنه إذا جازت زيارتهم بعد الوفاة ففي الحياة أولى، وقد قال الله تعالى: { وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً } ، وفيه النهي عن الاستغفار للكفار " (2) ، ويحتمل أن المقصود بهذه الأحاديث أن من مات على غير التوحيد والإيمان فإنه يعامل معاملة الكفار في الدنيا فلا يدعى لهم ولا يستغفر لهم، لأنهم في ظاهرهم كفار وأمرهم إلى الله، وورد في أحاديث واهية منكرة أن الله أحيا والدي النبي - صلى الله عليه وسلم - فآمنا به ثم ماتا مرة أخرى، وقد حكم عليه بعض الأئمة بالوضع (3) ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " لا نزاع بين أهل المعرفة أن هذا من أظهر الموضوعات كذبا كما نص عليه أهل العلم، وليس ذلك في الكتب المعتمدة في الحديث لا في الصحيح ولا في السنن ولا في المسانيد ونحو ذلك من كتب الحديث المعروفة، ولا ذكره أهل كتب المغازي والتفسير وإن كانوا قد يروون الضعيف مع الصحيح لأن ظهور كذب ذلك لا يخفى، فإن مثل هذا لو وقع لكان مما تتوافر الهمم والدواعي على نقله فإنه من أعظم الأمور خرقا للعادة من وجهين: من جهة إحياء الموتى ومن جهة الإيمان بعد الموت، فكان نقل مثل هذا أولى من نقل غيره، فلما لم يروه أحد من الثقات علم أنه كذب، ثم هذا خلاف الكتاب والسنة الصحيحة والإجماع قال الله تعالى: { وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ } (4) فبين
__________
(1) - ينظر:شرح النووي على صحيح مسلم ( 3/79 )
(2) - شرح النووي على صحيح مسلم ( 7/45 )
(3) - ينظر: تفسير ابن كثير (3/462 )، والحاوي في الفتاوي للسيوطي (2/353 ) ، الروض ( 2/185 )
(4) - سورة النساء الآية: 18(1/113)
الله سبحانه وتعالى أنه لا توبة لمن مات كافراً، وجاء في صحيح مسلم أن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أين أبي ؟ فقال: إنه في النار، فلم قفا دعاه، فقال له: إن أبي وأباك في النار، وكذلك حديث الاستغفار، فلو كان الاستغفار جائزاً بحقهما، لم ينهه عن ذلك - أي عن الاستغفار- فإن الأعمال بالخواتيم، ومن مات مؤمناً فإن الله يغفر له، ولا يكون الاستغفار له ممتنعاً، أما زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمه، فإنها كانت بطريقه بالحجون ( بمكة ) أما أبوه فقد دفن بالشام، فكيف أحياه له، ولو كان أبواه مؤمنين لكانا أحق بالشهرة من عميه الحمزة والعباس، والله أعلم" (1) ، والله أعلم .
- - - - - -
حديث: من علامات الساعة ركوب النساء الأحصنة
سمعتُ أن من علامات يوم القيامة أن تركب النساء الأحصنة وقد أوّل الناس ذلك بقيادة المرأة للسيارة. وبهذا لا ينبغي للنساء قيادة السيارات . فهل هناك ما يدل على صحة هذا الحديث وصحة التأويل؟ وكيف كانت النساء يسافرن على عهد النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) ؟ جزاكم الله خيرا.
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
__________
(1) - ينظر: مجموع الفتاوى ( 4/324 )(1/114)
الحديث المذكور لا أعلم له أصلاً ولم أقف عليه في شيء من مصادر السنة، وكانت النساء على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سافرن يحملن في الهودج وهو قبة من خشب تستر بثياب وتجعل فوق البعير، فتحمل فيه النساء، ولهذا جاء في حديث الإفك - في قصة عائشة رضي الله عنها - : " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ أَزْوَاجِهِ فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ فَأَقْرَعَ بَيْنَنَا فِي غَزَاةٍ غَزَاهَا فَخَرَجَ سَهْمِي فَخَرَجْتُ مَعَهُ بَعْدَ مَا أُنْزِلَ الْحِجَابُ فَأَنَا أُحْمَلُ فِي هَوْدَجٍ وَأُنْزَلُ فِيهِ فَسِرْنَا حَتَّى إِذَا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ غَزْوَتِهِ تِلْكَ وَقَفَلَ وَدَنَوْنَا مِنْ الْمَدِينَةِ آذَنَ لَيْلَةً بِالرَّحِيلِ فَقُمْتُ حِينَ آذَنُوا بِالرَّحِيلِ فَمَشَيْتُ حَتَّى جَاوَزْتُ الْجَيْشَ فَلَمَّا قَضَيْتُ شَأْنِي أَقْبَلْتُ إِلَى الرَّحْلِ فَلَمَسْتُ صَدْرِي فَإِذَا عِقْدٌ لِي مِنْ جَزْعِ أَظْفَارٍ قَدْ انْقَطَعَ فَرَجَعْتُ فَالْتَمَسْتُ عِقْدِي فَحَبَسَنِي ابْتِغَاؤُهُ فَأَقْبَلَ الَّذِينَ يَرْحَلُونَ لِي فَاحْتَمَلُوا هَوْدَجِي فَرَحَلُوهُ عَلَى بَعِيرِي الَّذِي كُنْتُ أَرْكَبُ وَهُمْ يَحْسِبُونَ أَنِّي فِيهِ .... " الحديث (1) ، هذا والله أعلم .
- - - - - -
حديث عن أسواق خاصة بالمسلمين
هل هناك حديث قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - إن على المسلمين أن يعملوا مثل اليهود ( في ذلك الوقت ) بإقامة أسواق خاصة بهم حتى تدور الثروات فيما بينهم، أعتقد أن هذا الحديث كان عندما هاجروا إلى المدينة ، والله أعلم .
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
__________
(1) - أخرجه البخاري ح ( 2661 ) ، ومسلم ح ( 2445 )(1/115)
لم أقف على الحديث الذي ذكره السائل ، ولكن ورد في بعض الأحاديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اختار مكان السوق، ويظهر أن هذا كان عند هجرته للمدينة ، فقد روى الطبراني من طريق الحسن بن علي بن الحسن بن أبي الحسن أن رجلاً جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني رأيت موضعاً للسوق ، أفلا تنظر إليه ؟ قال : بلى ، فقام معه حتى جاء موضع السوق ، فلما رآه أعجبه ، وركض برجله ، وقال : نِعْمَ سوقكم هذا ، فلا ينقص ولا يضربن عليكم خراج . (1)
ورواه ابن ماجه بلفظ : " ذَهَبَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى سُوقِ النَّبِيطِ فَنَظَرَ إِلَيْهِ فَقَالَ: لَيْسَ هَذَا لَكُمْ بِسُوقٍ، ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى سُوقٍ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: لَيْسَ هَذَا لَكُمْ بِسُوقٍ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى هَذَا السُّوقِ فَطَافَ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: هَذَا سُوقُكُمْ فَلَا يُنْتَقَصَنَّ وَلَا يُضْرَبَنَّ عَلَيْهِ خَرَاجٌ " (2)
__________
(1) - المعجم الكبير ( 19/264 )، قال الهيثمي: رواه الطبراني في الكبير وفيه الحسن بن علي بن الحسن أبي الحسن البراد ولم أجد من ترجمه
(2) - أخرجه ابن ماجه ح ( 2224 )، وقال البوصيري في مصباح الزجاجة (3/27) : " هذا إسناد ضعيف لضعف رواته إسحاق بن إبراهيم ومحمد بن علي ابني الحسن وشيخهما الزبير بن أسيد قال المزي رواه الحسن بن علي بن أبي الحسن البراد عن أبيه عن الزبير بن أبي أسيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً(1/116)
وقد حث الإسلام على التكسب ، وطلب الزرق الحلال عن طريق التجارة وغيرها ، قال الله عز وجل : { وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ } (1) ، عن عمر بن الخطاب قال: ما من حال يأتيني عليه الموت بعد الجهاد في سبيل الله أحب إلي من أن يأتيني وأنا بين شعبتي رحلي ألتمس من فضل الله، ثم تلا هذه الآية { وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ } (2) ، وقال تعالى : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ } (3) ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَتْ عُكَاظٌ وَمَجَنَّةُ وَذُو الْمَجَازِ أَسْوَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَلَمَّا كَانَ الْإِسْلَامُ فَكَأَنَّهُمْ تَأَثَّمُوا فِيهِ فَنَزَلَتْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ قَرَأَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ (4) ، وكان من هدي الأنبياء وأتباعهم بإحسان البحث عن التكسب ، وطلب الرزق ، فعن أبي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ دَاوُدَ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ لَا يَأْكُلُ إِلَّا مِنْ عَمَلِ يَدِهِ . (5) ، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " كَانَ زَكَرِيَّاءُ نَجَّارًا " ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا رَعَى الْغَنَمَ فَقَالَ أَصْحَابُهُ وَأَنْتَ فَقَالَ نَعَمْ كُنْتُ أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لِأَهْلِ مَكَّةَ " (6)
__________
(1) - سورة المزمل الآية:20
(2) - أخرجه سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر، ينظر الدر المنثور ( 8/323 )
(3) - سورة البقرة الآية: 198
(4) - أخرجه البخاري ح ( 2050 )
(5) - أخرجه البخاري ح ( 2073 )
(6) - أخرجه البخاري ح ( 2262 ) من حديث أبي هريرة(1/117)
وعَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَدِمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ الْمَدِينَةَ فَآخَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ الْأَنْصَارِيِّ وَكَانَ سَعْدٌ ذَا غِنًى فَقَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ أُقَاسِمُكَ مَالِي نِصْفَيْنِ وَأُزَوِّجُكَ قَالَ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ دُلُّونِي عَلَى السُّوقِ، فَمَا رَجَعَ حَتَّى اسْتَفْضَلَ أَقِطًا وَسَمْنًا .... " (1)
وأورد البخاري هذا الحديث في كتاب البيوع ؛ وقال الحافظ ابن حجر:" وَالْغَرَض مِنْ إِيرَادِ هَذَا الْحَدِيث اِشْتِغَالُ بَعْضِ الصَّحَابَةِ بِالتِّجَارَةِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَتَقْرِيره عَلَى ذَلِكَ , وَفِيهِ أَنَّ الْكَسْبَ مِنْ التِّجَارَةِ وَنَحْوِهَا أَوْلَى مِنْ الْكَسْب مِنْ الْهِبَةِ وَنَحْوِهَا " (2)
ولما استخلف أبو بكر - رضي الله عنه - قال : " لَقَدْ عَلِمَ قَوْمِي أَنَّ حِرْفَتِي لَمْ تَكُنْ تَعْجِزُ عَنْ مَئُونَةِ أَهْلِي ... " (3) ، وقد كان - رضي الله عنه - تاجراً ، فعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: خرج أبو بكر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تاجراً إلى بصرى .... " (4)
وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عن نفسه : " أَلْهَانِي الصَّفْقُ بِالْأَسْوَاقِ " يَعْنِي الْخُرُوجَ إِلَى تِجَارَةٍ . (5) ، وقال أبو هريرة - رضي الله عنه - : " إِنَّ إِخْوَانَنَا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ كَانَ يَشْغَلُهُمْ الصَّفْقُ بِالْأَسْوَاقِ، وَإِنَّ إِخْوَانَنَا مِنْ الْأَنْصَارِ كَانَ يَشْغَلُهُمْ الْعَمَلُ فِي أَمْوَالِهِمْ ..... " (6)
__________
(1) - أخرجه البخاري ح ( 2049 )
(2) - فتح الباري 4/290
(3) - أخرجه البخاري ( 2070 )
(4) - أخرجه أحمد ح ( 25465 )
(5) - أخرجه البخاري ح ( 2062 )
(6) - أخرجه البخاري ح ( 118 ) ، ومسلم ح ( 2492 )(1/118)
وعَنْ عُرْوَةَ البارقي أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَعْطَاهُ دِينَارًا يَشْتَرِي لَهُ بِهِ شَاةً فَاشْتَرَى لَهُ بِهِ شَاتَيْنِ فَبَاعَ إِحْدَاهُمَا بِدِينَارٍ وَجَاءَهُ بِدِينَارٍ وَشَاةٍ فَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ فِي بَيْعِهِ وَكَانَ لَوْ اشْتَرَى التُّرَابَ لَرَبِحَ فِيهِ . (1)
__________
(1) - أخرجه البخاري ح ( 3643 )(1/119)
ولم يشغل الصحابة - رضي الله عنهم - التكسب والعمل عن القيام بواجبات الدين بل إنهم كما وصفهم الله بقوله : { رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ } (1) ، قال قتادة : " كَانَ الْقَوْمُ يَتَبَايَعُونَ وَيَتَّجِرُونَ وَلَكِنَّهُمْ إِذَا نَابَهُمْ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ لَمْ تُلْهِهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ حَتَّى يُؤَدُّوهُ إِلَى اللَّهِ " (2) ، ولهذا فإن العمل والسعي في طلب الرزق لا ينافي التقوى والعبادة ، بل هو من العبادة إذا حسنت النية ، ولهذا كان الصحابة - رضي الله عنهم - يتجرون في البر والبحر، ويعملون في نخيلهم، ولم يُؤثر عن واحدٍ منهم أنه ترك العمل والتكسب وجلس في بيته، بل ورد عنهم ذم ذلك . قال عمر - رضي الله عنه - : " لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق ويقول : اللهم ارزقني ؛ فقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة" (3) ، وكذلك من جاء بعدهم من السلف اقتفوا أثرهم في الحث على التكسب بالطرق المشروعة . قال سعيد بن المسيب: " لا خير فيمن لا يجمع المال فيكف به وجهه، ويؤدي به أمانته ، ويصل به رحمه " ، وحكي أنه لما مات ترك دنانير فقال: " اللهم إنك تعلم أني لم أتركها إلا لأصون بها ديني وحسبي " . (4)
وقال رجل للإمام أحمد : إني في كفاية، فقال: " الزم السوق ؛ تصل به الرحم ، وتعود به على نفسك" (5)
هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل .
- - - - - -
حديث: الذئب الذي تكلم
حديث الذئب الذي تكلم ، ما صحته ؟
الجواب:
__________
(1) - سورة النور الآية: 27
(2) - أخرجه البخاري تعليقاً ( 4/297 )
(3) - انظر إحياء علوم الدين ، للغزالي ( 2/ 65 )
(4) - شرح السنة ، للبغوي ( 14/219 ) وسير أعلام النبلاء ( 4/ 245 )
(5) - الآداب الشرعية ، لابن مفلح (3/ 269)(1/120)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
الحديث المشار إليه في السؤال أخرجه الإمام أحمد في المسند ( 3/ 83 ) قال: حَدَّثَنَا يَزِيدُ أَخْبَرَنَا الْقَاسِمُ بْنُ الْفَضْلِ الْحُدَّانِيُّ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: عَدَا الذِّئْبُ عَلَى شَاةٍ فَأَخَذَهَا فَطَلَبَهُ الرَّاعِي فَانْتَزَعَهَا مِنْهُ فَأَقْعَى الذِّئْبُ عَلَى ذَنَبِهِ قَالَ: أَلَا تَتَّقِي اللَّهَ تَنْزِعُ مِنِّي رِزْقًا سَاقَهُ اللَّهُ إِلَيَّ ؟ فَقَالَ: يَا عَجَبِي ذِئْبٌ مُقْعٍ عَلَى ذَنَبِهِ يُكَلِّمُنِي كَلَامَ الْإِنْسِ فَقَالَ الذِّئْبُ: أَلَا أُخْبِرُكَ بِأَعْجَبَ مِنْ ذَلِكَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَثْرِبَ يُخْبِرُ النَّاسَ بِأَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ قَالَ: فَأَقْبَلَ الرَّاعِي يَسُوقُ غَنَمَهُ حَتَّى دَخَلَ الْمَدِينَةَ فَزَوَاهَا إِلَى زَاوِيَةٍ مِنْ زَوَايَاهَا ثُمَّ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنُودِيَ الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ لِلرَّاعِي أَخْبِرْهُمْ فَأَخْبَرَهُمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَدَقَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُكَلِّمَ السِّبَاعُ الْإِنْسَ وَيُكَلِّمَ الرَّجُلَ عَذَبَةُ سَوْطِهِ وَشِرَاكُ نَعْلِهِ وَيُخْبِرَهُ فَخِذُهُ بِمَا أَحْدَثَ أَهْلُهُ بَعْدَهُ ، ورجال إسناد هذا الحديث ثقات، وأخرجه من طريق القاسم بن الفضل الحاكم في المستدرك ( 4/ 367 ) ، وأبو نعيم في الدلائل ح ( 270 ) ، والبيهقي في الدلائل ( 6/ 41 - 42 ) ، وقال الحاكم : " هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه " ، وصحح إسناده البيهقي في الدلائل ، وقال ابن كثير في البداية والنهاية ( 9 /(1/121)
316 ) : " وهذا إسناد على شرط الصحيح " ، وقد أخرج الترمذي بعض الحديث ح ( 2181 ) ، وقال: " هذا حديث حسن غريب صحيح لا نعرفه إلا من حديث القاسم وهو ثقة مأمون عند أهل الحديث "، وفي الصحيحين البخاري ح ( 2324 ) ، ومسلم ح ( 2388 ) من حديث أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: بَيْنَمَا رَجُلٌ يَسُوقُ بَقَرَةً لَهُ قَدْ حَمَلَ عَلَيْهَا الْتَفَتَتْ إِلَيْهِ الْبَقَرَةُ فَقَالَتْ إِنِّي لَمْ أُخْلَقْ لِهَذَا وَلَكِنِّي إِنَّمَا خُلِقْتُ لِلْحَرْثِ فَقَالَ النَّاسُ سُبْحَانَ اللَّهِ تَعَجُّبًا وَفَزَعًا أَبَقَرَةٌ تَكَلَّمُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَإِنِّي أُومِنُ بِهِ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَيْنَا رَاعٍ فِي غَنَمِهِ عَدَا عَلَيْهِ الذِّئْبُ فَأَخَذَ مِنْهَا شَاةً فَطَلَبَهُ الرَّاعِي حَتَّى اسْتَنْقَذَهَا مِنْهُ فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ الذِّئْبُ فَقَالَ لَهُ مَنْ لَهَا يَوْمَ السَّبُعِ يَوْمَ لَيْسَ لَهَا رَاعٍ غَيْرِي فَقَالَ النَّاسُ سُبْحَانَ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَإِنِّي أُومِنُ بِذَلِكَ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ " ، هذا والله أعلم ، وصلى الله وسلم على محمد وآله وسلم .
- - - - - -
حديث: في هذه الأمة خسف ومسخ وقذف
- حديث : " في هذه الأمة خسف ومسخ وقذف " هل هو صحيح ؟
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
ورد في عدد من الأحاديث الإخبار عن ظهور الخسف والقذف والمسخ في هذه الأمة، وهي عقوبات بسبب ظهور المعاصي والمنكرات ، ومن هذه الأحاديث ما يلي:(1/122)
1- حديث عائشة - رضي الله عنها - قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " يَكُونُ فِي آخِرِ هَذِهِ الاُمَّةِ خَسْفٌ وَمَسْخٌ وَقَذْفٌ ، قَالَتْ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، انهلَكُ وَفِينَا الصالِحُونَ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، إِذَا ظَهَرَ الْخبثُ " ، أخرجه الترمذي (2185) وقال: " هذا حديث غريبٌ من حديث عائشة ، لا نعرفه إِلا من هذا الوجه وعبد الله بن عُمر تكلم فيه يحيى بن سعيد من قِبَلِ حفظه. "
2- حديث عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " يَكُونُ فِي أُمَّتِي خَسْفٌ ، وَمَسْخٌ ، وَقَذْفٌ " ، أخرجه أحمد ( 2/163) ، وابن ماجه ح ( 4062 ) ، ورجال إسناد هذا الحديث ثقات ، لكنه من رواية أبي الزبير عن عبد الله بن عمرو ولم يسمع منه .
3- حديث عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ خَسْفٌ وَمَسْخٌ وَقَذْفٌ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَتَى ذَاكَ ؟ قَالَ: إِذَا ظَهَرَتْ الْقَيْنَاتُ وَالْمَعَازِفُ وَشُرِبَتْ الْخُمُورُ " ، أخرجه التِّرْمِذِي (2212) ، وقال: " غريب . "
4- حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا تقوم الساعة حتى يكون في أمتي خسف ومسخٌ وقذفٌ " أخرجه ابن حبان كما في الإحسان ح ( 6759 )
5- حديث ابْنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما - قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " يَكُونُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ أَوْ فِي أُمَّتِي الشَّكُّ مِنْهُ خَسْفٌ أَوْ مَسْخٌ أَوْ قَذْفٌ فِي أَهْلِ الْقَدَرِ " أخرجه الترمذي ح ( 2152 ) ، وقال: " هذا حديث حسن صحيح غريب"(1/123)
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من العلامات الكبرى التي تكون في آخر الزمان حدوث ثلاث خسوفات ، ففي حديث حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ الْغِفَارِيِّ قَالَ: اطَّلَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْنَا وَنَحْنُ نَتَذَاكَرُ فَقَالَ مَا تَذَاكَرُونَ قَالُوا نَذْكُرُ السَّاعَةَ قَالَ إِنَّهَا لَنْ تَقُومَ حَتَّى تَرَوْنَ قَبْلَهَا عَشْرَ آيَاتٍ فَذَكَرَ الدُّخَانَ وَالدَّجَّالَ وَالدَّابَّةَ وَطُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا وَنُزُولَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَأَجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَثَلَاثَةَ خُسُوفٍ خَسْفٌ بِالْمَشْرِقِ وَخَسْفٌ بِالْمَغْرِبِ وَخَسْفٌ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَآخِرُ ذَلِكَ نَارٌ تَخْرُجُ مِنْ الْيَمَنِ تَطْرُدُ النَّاسَ إِلَى مَحْشَرِهِمْ . أخرجه مسلم ح ( 2901 ) ، والترمذي ح ( 2183 ) ، وقال: " هذا حديث حسن صحيح . " ، هذا والله أعلم ، وصلى الله وسلم على محمد وآله وسلم .
- - - - - -
حديث: النهي عن التسمي بأسماء الملائكة
- هل ورد حديث صحيح في النهي عن التسمي بأسماء الملائكة ؟
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:(1/124)
أخرج البخاري في التاريخ الكبير ( 5/35 ) ، والبيهقي في الشعب ( 15/124 ) من طريق أحمد بن الحارث، حدثنا أبو قتادة الشامي، حدثنا عبد الله بن جراد، قال: صحبني رجل من مؤتة فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وأنا معه، فقال: يا رسول الله، ولد لي مولود، فما أخير الأسماء ؟ قال : " إن أخير أسمائكم الحارث وهمام، ونعم الاسم عبد الله وعبد الرحمن، وسموا بأسماء الأنبياء ولا تسموا بأسماء الملائكة " ، قال : وباسمك ؟ قال : " وباسمي ، ولا تكنوا بكنيتي " ، وهذا إسناد ضعيف جداً ، أحمد بن الحارث: متروك ، وأبو قتادة الشامي: ضعيف، وقال البخاري: " في إسناده نظر " ، وأخرج أبو الشيخ في العظمة ( 4/1479 ) ، ح ( 976 ) ، من طريق ابن إسحاق قال: حدثنا ثور بن يزيد عن خالد بن معدان قال: وسمع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - رجلاً يقول: يا ذا القرنين فقال عمر - رضي الله عنه - : " اللهم غفراً ، أما رضيتم أن تسموا بأسماء الأنبياء حتى تسموا بأسماء الملائكة " وفي هذا الإسناد انقطاع ظاهر ، خالد بن معدان لم يدرك عمر، وذكره السيوطي في الدر المنثور ( 4/241 ) ، وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم .(1/125)
ويتبين مما تقدم أنه لا يصح الحديث في النهي عن التسمي بأسماء الملائكة ، وقد كره بعض العلماء فيما حكاه القاضي عياض التسمي بأسماء الملائكة وهو قول الحارث بن مسكين قال: وكره مالك التسمي بجبريل وإسرافيل وميكائيل ونحوها من أسماء الملائكة ، وقال ابن القيم في تحفة المولود ص ( 119 ): " أسماء الملائكة كجبريل وميكائيل وإسرافيل ، فإنه يكره تسمية الآدميين بها، قال أشهب: سئل مالك عن التسمي بجبريل فكره ذلك ، ولم يعجبه ، وقال القاضي عياض : قد استظهر بعض العلماء التسمي بأسماء الملائكة ، وهو قول الحارث بن مسكين ، قال: وكره مالك التسمي بجبريل وياسين ، وأباح ذلك غيره ، قال عبد الرزاق في الجامع عن معمر قال: قلت لحماد بن أبي سليمان: كيف تقول في رجل تسمى بجبريل وميكائيل ؟ فقال: لا بأس به " ، وقال النووي في المجموع (ج 8 / ص 436): " مذهبنا ومذهب الجمهور جواز التسمية بأسماء الأنبياء والملائكة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين " ، هذا والله أعلم ، وصلى الله وسلم على محمد وآله وسلم .
- - - - - -
حديث: إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه ...
ما صحة حديث: " إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فانكحوه إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير " ؟
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:(1/126)
الحديث المشار إليه في السؤال رُوي من حديث أبي هريرة وأبي حاتم المزني رضي الله عنهما ، حديث أبي هريرة رضي الله عنه أخرجه الترمذي ح ( 1084 ) ، وابن ماجه ح ( 1957 ) ، من طريق عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ ابْنِ عَجْلَانَ عَنْ ابْنِ وَثِيمَةَ النَّصْرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ " ، وقد خُولف عبد الحميد بن سليمان فقد رواه الليث بن سعد عن ابن عجلان عن أبي هريرة من غير ذكر وثيمة النصري ، وعلى هذا يكون منقطعاً ، وقد أشار البخاري إلى أن رواية الليث أشبه ، وأن رواية عبد الحميد غير محفوظة .
وحديث أبي حاتم المزني ، أخرجه الترمذي ح ( 1085 ) ، وأبو داود في المراسيل ح ( 224 ) ، والبيهقي في السنن ( 7/82 ) ، من طريق عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هُرْمُزَ عَنْ مُحَمَّدٍ وَسَعِيدٍ ابْنَيْ عُبَيْدٍ عَنْ أَبِي حَاتِمٍ الْمُزَنِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَأَنْكِحُوهُ إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ قَالَ إِذَا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَأَنْكِحُوهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ "، وقال الترمذي: " حديث حسن غريب " ، ولعل الترمذي حسن الحديث باعتبار شواهده ، وإلا فإن إسناده ضعيف لضعف عبد الله بن هرمز، وجهالة محمد وسعد ابني عبيد ، وأشار الترمذي إلى أنه في الباب عن عائشة رضي الله عنها ، هذا والله أعلم ، وصلى الله وسلم على محمد وآله وسلم .
- - - - - -
حديث: النظر سهم من سهام إبليس(1/127)
- ما صحة حديث : " النظر سهم من سهام إبليس فمن غض بصره عن محاسن امرأة لله أورث الله قلبه حلاوة إلى يوم القيامة " ؟
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
الحديث المشار إليه في السؤال ورد من رواية عدد من الصحابة ، وهي أحاديث ضعيفة ، فأخرجه الطبراني في الكبير ح ( 10362 ) من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن النظر سهم من سهام إبليس مسموم، من تركه مخافتي، أبدلته إيمانا يجد حلاوته في قلبه " قال الهيثمي في المجمع (8/63): "وفيه عبد الرحمن بن إسحاق الواسطي وهو ضعيف".
وأخرجه الحاكم في المستدرك ( 4/313 - 314 ) والقُضاعي في مسند الشهاب ( 1/265 ) من حديث حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " النظرة سهم من سهام إبليس مسمومة فمن تركها من خوف الله أثابه جل وعز إيمانا يجد حلاوته في قلبه " قال الحاكم: " هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه " وتعقبه الذهبي بقوله: " إسحاق - وهو ابن عبد الواحد القرشي الموصلي - واهٍ ، وعبد الرحمن الواسطي : ضعفوه "
وأخرجه الإمام أحمد (5/264 ) ، والبيهقي في شعب الإيمان ( 5431 ) ، والطبراني في الكبير ( 7842 ) ، من حديث أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما من مسلم ينظر إلى محاسن امرأة ثم يغض بصره إلا أخلف الله له عبادة يجد حلاوتها " ، وفي هذا الإسناد : علي بن زيد بن أبي هلال الألهاني: واهي الحديث ، وعبيد الله بن زحر الضمري الإفريقي ضعيف .
قال ابن كثير: " وروي هذا مرفوعاً عن ابن عمر وحذيفة وعائشة رضي الله عنهم ولكن في أسانيدها ضعف "، هذا والله أعلم ، وصلى الله وسلم على محمد وآله وسلم .
من قضايا علوم الحديث
ذكر الحديث بالمعنى
أنا أحد طلبة العلم وأرجوا من فضيلتكم جوابا شافيا وذكر الخلاف إن وجد وإن أحلتموني على مرجع بعد الفتيا فجزاكم الله خيرا.(1/128)
ما حكم ذكر الحديث معنى مع تطابق أغلب ألفاظه دون القول فيما معناه أو نحوها . لا سيما أن بعض العامة إذا قلت عندهم فيما معناه . تقالوا النصيحة بل ربما صححوا الحديث بالظن .
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
رواية الحديث بالمعنى أكثر العلماء على جوازها لمن كان عالماً بلغات العرب، بصيراً بالمعاني، عالماً بما يحيل المعنى وما لا يحيله، قال الإمام أحمد: ما زال الحفاظ يحدثون بالمعنى، وروي عن الحسن أنه استدل لذلك بأن الله يقص قصص القرون السالفة بغير لغاتها، وروي عن قتادة عن زرارة بن أوفى قال: " لقيت عدة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فاختلفوا في اللفظ، واجتمعوا في المعنى، وقال أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - كنا نجلس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - عسى أن نكون عشرة نفر، نسمع الحديث فما منا اثنان يؤديانه غير أن المعنى واحد، وروي عن ابن مسعود وأبي الدرداء: أنهم كانوا يحدثون عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم يقولون: أو نحو هذا، أو شبهه، وكان أنس يقول: أو كما قال، وعن ابن عون قال: كان إبراهيم النخعي والحسن والشعبي يأتون بالحديث على المعاني (1) ، وهذا كله قبل وجود المصنفات والدواوين، أما بعد وجودها فيتعين على من ينقل عنها أن يحافظ على الألفاظ ، وذلك لزوال الحاجة التي من أجلها سوغت الرواية بالمعنى حيث كانت السنة تنقل مشافهة، قال ابن دقيق العيد: " لا تغير الألفاظ بعد الانتهاء إلى الكتب المصنفة سواء روينا فيها أو نقلنا منها " (2) ، وقال ابن الصلاح : " ثم إن هذا الخلاف لا نراه جارياً ، ولا أجراه الناس فيما نعلم فيما تضمنته بطون الكتب ، فليس لأحد أن يغير لفظ شيء من كتاب مصنف ويثبت بدله لفظاً آخر
__________
(1) - ينظر: الكفاية ( ص: 204 - 210 )، المحدث الفاصل ص (533- 537 ) ، جامع بيان العلم وفضله ( 1/78-81 )، شرح العلل ( 1/145- 149 )
(2) - ينظر: فتح المغيث ( 3/147 )(1/129)
بمعناه ، فإن الرواية بالمعنى رَخَّص فيها من رَخَّص لما كان عليهم من ضبط الألفاظ والجمود عليها من الحرج والنصب، وذلك غير موجود فيما اشتملت عليه بطون الأوراق والكتب " (1) ، ولكن إذا كان المتحدث يتكلم مشافهة في كلمة أو موعظة أو خطبة أو نحو ذلك ، ثم استشهد بحديث فلا يلزم أن يسوقه بلفظه فلو أورده بمعناه ، وهو عالم بما يحيل المعنى وما لا يحيله فلا بأس ، ولا يلزم أن يقول: " أو كما قال " ، وإن قالها فهذا أكمل وأفضل ، لأن الذين نقلوا الحديث بالمعنى لم يلتزموا بذلك ، ولكن إذا كتبت هذه الكلمة أو الخطبة ، فيجب أن تراجع الأصول بحيث تورد الأحاديث بألفاظها ، والله أعلم .
- - - - - -
رد حديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم -
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: "لا أعرفن أحداً منكم أتاه عني حديث وهو متكئ في أريكته فيقول: اتلوا علي به قرآنا، وما جاءكم عني من خير قلته أو لَم أقله, فأنا أقوله, وما آتاكم عني من شر, فأنا لا أقول الشر" مسند الإمام أحمد (8787), والترمذي .
وقوله عليه الصلاة والسلام: "إذا سمعتم الحديث عني, تعرفه قلوبكم, وتلين له أشعاركم وأبشاركم, وترون أنه منكم قريب , فأنا أولاكم به , وإذا سمعتم الحديث عني, تنكره قلوبكم, وتنفر عنه أشعاركم وأبشاركم, وترون أنه منكم بعيد, فأنا أبعدكم منه" ابن حبان, مسند الإمام أحمد .
وقوله عليه الصلاة والسلام: "مَن كذب علي متعمداً, فليتبوأ بيتاً في النار ومَن ردَّ حديثاً عني, فليتبوأ بيتاً في النار, ومَن ردَّ حديثاً بلغه عني فأنا مخاصمه يوم القيامة, وإذا بلغكم عني حديث, ولَم تعرفوه, فقولوا الله أعلم" الطبراني في المعجم الكبير(6163).
وقوله عليه الصلاة والسلام : "مَن بلغه عني حديث, فكذب به, فقد كذب ثلاثة: الله, ورسوله , والذي حدث به" الطبراني في الأوسط (7596).
__________
(1) - ينظر: علوم الحديث ص ( 214 )(1/130)
وقوله عليه الصلاة والسلام: "عسى أن يكذبني رجل وهو متكئ على أريكته, يبلغه الحديث عني, فيقول: ما قال رسول الله - صلى الله عليه و سلم - دع هذا وهات ما في القرآن" أبو يعلى في المسند (1813).
وقوله عليه الصلاة والسلام :"من بلغه عن الله فضيلة فلم يصدق بها لَم ينلها" الطبراني في الأوسط (5129).
فضيلة الشيخ: هل نستطيع أن نحكم بهذه الأدلة على أن المصطلحات النبوية أو الأحاديث النبوية كلها صحيحة؟ وأن مَن كذب على النبي عليه الصلاة والسلام يعود إثمه على الراوي: "مَن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار", وهل نستطيع أن نقول إن جميع ما في كتب السنن الثمانية صحيحة؟ لأن أصحابها اشترطوا على أنفسهم صحة الأحاديث التي في كتبهم، وربما نثقل عليكم نريد رداً علمياً على هذه الشبهة, وهذا مما عهدناه منكم ؟.
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله، وبعد:(1/131)
السنة المطهرة حجة باتفاق العلماء سواء منها ما كان على سبيل البيان للقرآن أو على سبيل الاستقلال، وقد دلت الأدلة المستفيضة من القرآن والسنة على وجوب اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والتحذير من مخالفة أمره ونهيه عليه الصلاة والسلام، قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } (1) ، قال ميمون بن مهران: " الرد إلى الله هو الرجوع إلى كتابه، والرد إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الرجوع إليه في حياته وإلى سنته بعد مماته "، وقال تعالى: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } (2) ، وقال تعالى: { مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } (3) ، فقد جعل طاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - من طاعته سبحانه، وحذر من مخالفته فقال: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } (4) ، فلولا أن أمره حجة ولازم لما توعد على مخالفته بالنار، وقال سبحانه وتعالى: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا } (5) ، وقال سبحانه: { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } (6) ،
__________
(1) - سورة النساء الآية: 59
(2) - سورة آل عمران الآية: 31
(3) - سورة النساء الآية: 80
(4) - سورة النور الآية: 63
(5) - سورة الأحزاب الآية: 21
(6) - سورة النساء الآية: 65(1/132)
وقال سبحانه وتعالى: { وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } (1) ، وقد فهم الصحابة - رضي الله عنهم - من هذه الآيات وجوب الرجوع إلى السنة والاحتجاج بها، روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: " لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَاتِ وَالْمُوتَشِمَاتِ وَالْمُتَنَمِّصَاتِ وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ فَبَلَغَ ذَلِكَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي أَسَدٍ يُقَالُ لَهَا أُمُّ يَعْقُوبَ فَجَاءَتْ فَقَالَتْ: إِنَّهُ بَلَغَنِي عَنْكَ أَنَّكَ لَعَنْتَ كَيْتَ وَكَيْتَ فَقَالَ: وَمَا لِي أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَمَنْ هُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَقَالَتْ: لَقَدْ قَرَأْتُ مَا بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ فَمَا وَجَدْتُ فِيهِ مَا تَقُولُ قَالَ: لَئِنْ كُنْتِ قَرَأْتِيهِ لَقَدْ وَجَدْتِيهِ أَمَا قَرَأْتِ { وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } (2) ، وحينما بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - معاذاً - رضي الله عنه - إلى اليمن قال له: " كَيْفَ تَقْضِي إِذَا عَرَضَ لَكَ قَضَاءٌ ؟ قَالَ: أَقْضِي بِكِتَابِ اللَّهِ، قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي كِتَابِ اللَّهِ ؟ قَالَ: فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلَا فِي كِتَابِ اللَّهِ ؟ قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي وَلَا آلُو، فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَدْرَهُ وَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يُرْضِي رَسُولَ اللَّهِ " (3)
__________
(1) - سورة الحشر من الآية: 7
(2) - أخرجه البخاري ح ( 4886 ) ، ومسلم ح ( 2125 )
(3) - أخرجه أبو داود ح (3592)(1/133)
وأما الأحاديث الدالة على وجوب اتباع السنة فكثيرة منها ما رواه أبو داود في سننه عن المقدام بن معد يكرب - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ أَلَا يُوشِكُ رَجُلٌ شَبْعَانُ عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ: عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلَالٍ فَأَحِلُّوهُ وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ أَلَا لَا يَحِلُّ لَكُمْ لَحْمُ الْحِمَارِ الْأَهْلِيِّ وَلَا كُلُّ ذِي نَابٍ مِنْ السَّبُعِ وَلَا لُقَطَةُ مُعَاهِدٍ إِلَّا أَنْ يَسْتَغْنِيَ عَنْهَا صَاحِبُهَا وَمَنْ نَزَلَ بِقَوْمٍ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَقْرُوهُ فَإِنْ لَمْ يَقْرُوهُ فَلَهُ أَنْ يُعْقِبَهُمْ بِمِثْلِ قِرَاهُ " (1) ، قال الخطابي: " وقوله: يوشك رجل شبعان، يحذر بهذا القول من مخالفة السنن التي سنها مما ليس له من القرآن ذكر على ما ذهبت إليه الخوارج والروافض فإنهم تمثلوا بظاهر القرآن وتركوا السنن التي قد ضمنت بيان الكتاب فتحيروا وضلوا، وأراد بقوله: متكئ على أريكته أن من أصحاب الترفه والدعة الذين لزموا البيوت ولم يطلبوا العلم من مظانه " (2) ، وفي حديث العرباض بن سارية - رضي الله عنه - مرفوعاً: " عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ " (3) ، وعن ابن عباس - رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب في حجة الوداع فقال: " إن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم ولكن رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحترقون من أمركم، فاحذروا إني تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً: كتاب الله وسنة نبيه" (4)
__________
(1) - أخرجه أبو داود ح (4604 )
(2) - معالم السنن (4/298)
(3) - أخرجه أبو داود (4607)، والترمذي (2676) وقال: حديث حسن صحيح
(4) - أخرجه مالك في الموطأ ( 2/899)، والحاكم (318) واللفظ له.(1/134)
ولمكانة السنة من الدين ومنزلتها من القرآن الكريم عُني الصحابة - رضي الله عنهم - بحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فحفظوا كلامه - صلى الله عليه وسلم - ، ووعوا ما شاهدوا من أفعاله وأحواله، وأحاطوا علماً بالظروف والملابسات التي قيلت فيها هذه الأحاديث، وقد بلغ من حرصهم على سماع الوحي والسنن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنهم كانوا يتناوبون في هذا السماع، روى البخاري عن عمر - رضي الله عنه - قال: " كُنْتُ أَنَا وَجَارٌ لِي مِنْ الْأَنْصَارِ فِي بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ وَهِيَ مِنْ عَوَالِي الْمَدِينَةِ وَكُنَّا نَتَنَاوَبُ النُّزُولَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَنْزِلُ يَوْمًا وَأَنْزِلُ يَوْمًا فَإِذَا نَزَلْتُ جِئْتُهُ بِخَبَرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ الْوَحْيِ وَغَيْرِهِ وَإِذَا نَزَلَ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ" (1) ، وكان إذا قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وفد وعلمهم من القرآن والسنة أوصاهم بأن يحفظوا ويبلغوا، ففي صحيح البخاري أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لوفد بني عبد القيس: " احْفَظُوهُ وَأَخْبِرُوهُ مَنْ وَرَاءَكُمْ " (2) ، وفي حديث مالك بن حويرث قال: " ارْجِعُوا إِلَى أَهْلِيكُمْ فَعَلِّمُوهُمْ " (3) ، وتثبت الصحابة - رضي الله عنهم - واحتاطوا في قبول الأخبار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسترشدين بكتاب الله عز وجل الذي أمر بالتثبت في قبول الأخبار قال سبحانه وتعالى: { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا } (4) ، وفي قراءة: "فتثبتوا" ، ومستضيئين بسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - التي حذرت من الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان أبو بكر - رضي الله عنه - أول من احتاط في
__________
(1) - أخرجه البخاري ح (89)
(2) - أخرجه البخاري ح ( 87 )
(3) - أخرجه البخاري ح (6008)، ومسلم ح (674)
(4) - سورة الحجرات الآية: 6(1/135)
قبول الأخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، روى ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ إِسْحَقَ بْنِ خَرَشَةَ عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ قَالَ: جَاءَتْ الْجَدَّةُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ تَسْأَلُهُ مِيرَاثَهَا قَالَ: فَقَالَ لَهَا: مَا لَكِ فِي كِتَابِ اللَّهِ شَيْءٌ، وَمَا لَكِ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - شَيْءٌ فَارْجِعِي حَتَّى أَسْأَلَ النَّاسَ، فَسَأَلَ النَّاسَ فَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ: حَضَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَعْطَاهَا السُّدُسَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَلْ مَعَكَ غَيْرُكَ ؟ فَقَامَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ الْأَنْصَارِيُّ فَقَالَ مِثْلَ مَا قَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ فَأَنْفَذَهُ لَهَا أَبُو بَكْرٍ - رضي الله عنه - (1) ، وتثبت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أيضاً في قبول الأخبار، فعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: " كُنْتُ فِي مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ الْأَنْصَارِ إِذْ جَاءَ أَبُو مُوسَى كَأَنَّهُ مَذْعُورٌ فَقَالَ: اسْتَأْذَنْتُ عَلَى عُمَرَ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي فَرَجَعْتُ فَقَالَ: مَا مَنَعَكَ ؟ قُلْتُ: اسْتَأْذَنْتُ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي فَرَجَعْتُ وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُمْ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَلْيَرْجِعْ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَتُقِيمَنَّ عَلَيْهِ بِبَيِّنَةٍ أَمِنْكُمْ أَحَدٌ سَمِعَهُ مِنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ؟ فَقَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: وَاللَّهِ لَا يَقُومُ مَعَكَ إِلَّا أَصْغَرُ الْقَوْمِ فَكُنْتُ أَصْغَرَ الْقَوْمِ فَقُمْتُ مَعَهُ فَأَخْبَرْتُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ ذَلِكَ ، فَقَالَ عُمَرُ لِأَبِي مُوسَى:
__________
(1) - أخرجه أبو داود (2894)، والترمذي (2100)، وابن ماجه (2724)(1/136)
أَمَا إِنِّي لَمْ أَتَّهِمْكَ وَلَكِنْ خَشِيتُ أَنْ يَتَقَوَّلَ النَّاسُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - (1) ، وفي رواية لمسلم أن أبي بن كعب - رضي الله عنه - قال: يَا ابْنَ الْخَطَّابِ فَلَا تَكُونَنَّ عَذَابًا عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ إِنَّمَا سَمِعْتُ شَيْئًا فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَتَثَبَّتَ " (2) ، وروى مسلم عن الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ قَالَ: اسْتَشَارَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ النَّاسَ فِي مِلَاصِ الْمَرْأَةِ قَالَ: فَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ: شَهِدْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى فِيهِ بِغُرَّةٍ عَبْدٍ أَوْ أَمَّةٍ قَالَ فَقَالَ عُمَرُ ائْتِنِي بِمَنْ يَشْهَدُ مَعَكَ قَالَ: فَشَهِدَ لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ (3) ، وما ورد عن الصحابة - رضي الله عنهم - من التثبت في قبول الأخبار كثير لا يتسع المقام لبسطه، وقد سار على منهج الصحابة - رضي الله عنهم - التابعون ومن بعدهم، فاعتنوا بالأسانيد وفتشوا عن حملة الأخبار ونقلة الآثار، فنقدوا الرجال وميزوا الثقات من غيرهم، قال ابن سرين: " إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم"، وفي رواية عنه أنه قال: " إن هذا الحديث دين فلينظر الرجل عمن يأخذ دينه " وقال عبد الله بن المبارك: " الإسناد عندي من الدين، لولا الإسناد لقال من شاء ما شاء، فإذا قيل له من حدثك؟ بقي "، وقال سفيان الثوري: " الإسناد سلاح المؤمن، إذا لم يكن معه سلاح فبأي شيء يقاتل؟" ، وقال الأوزاعي: " ما ذهاب العلم إلا ذهاب الإسناد " ، وقد درس الأئمة هذه
__________
(1) - أخرجه البخاري (6245)، ومسلم (2153)، ومالك في الموطأ(2/964)، وقوله: " أما إني لم أتهمك..." ليس في الصحيحين وهو عند مالك في الموطأ
(2) - أخرجه مسلم ح (2154)
(3) - أخرجه مسلم (1689)، والملاص: هو جنين المرأة، والغرة: العبد والأمة(1/137)
الأسانيد ونظروا في أحوال الرواة من خلال قواعد وأصول علوم الحديث، فميزوا المقبول من الأحاديث من المردود، والمحفوظ من الشاذ والمعلل .
وبهذه الجهود المباركة حُفظت السنة، وتميز الصحيح من الضعيف، ولعله اتضح بهذا أنه ليس كل ما نسب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يُقبل ويُؤخذ به، بل لا بد من معرفة ثبوته عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وذلك لوجود الوضع في السنة، ولأن السنة نقلت عن طريق رجال الأسانيد، وحملة الأخبار وفيهم الثقات وغير الثقات، والثقات يتطرق إلى حديثهم الوهم والخطأ، وهذا أمر ظاهر والذين صنفوا في السنة من الأئمة منهم من اشترط الصحة فيما يورده من الأحاديث كالبخاري ومسلم، ومن بعدهما كابن خزيمة وابن حبان، ولكن كتابيهما لا يبلغا مبلغ كتابي الشيخين، ومنهم من لم يشترط الصحة، لكن غالب ما يذكر الصحيح، وما قاربه وما فيه بعض ضعف، وهذا مثل بقية الكتب الستة وهي السنن الأربع: سنن أبي داود والنسائي، والترمذي، وابن ماجة، وهذه الكتب مع الصحيحين تسمى الكتب الستة، ومثلها موطأ مالك ومسند الإمام أحمد، فهذه المصنفات ونظائرها من كتب السنة أورد الأئمة فيها أمثل ما وقفوا عليه من المتون والأسانيد وما يصلح للاحتجاج والاستشهاد لأنهم ألفوها للعمل بما جاء فيها، ولتكون مرجعاً للأمة، قال أبو داود في رسالته إلى أهل مكة في وصف سننه: " فإنكم سألتم أن أذكر لكم الأحاديث التي في كتاب السنن، أهي أصح ما عرفت في الباب؟ ووقفت على جميع ما ذكرتم، فاعلموا أنه كذلك كله..... وهو كتاب لا ترد عليكم سنة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بإسناد صالح إلا وهي فيه... ولا أعلم شيئاً بعد القرآن ألزم للناس أن يتعلموه من هذا الكتاب...(1/138)
وما كان في كتابي من حديث فيه وهن شديد فقد بينته، ومنه ما لا يصح سنده وما لم أذكر فيه شيئاً فهو صالح وبعضها أصح من بعض " (1) ، وقال الإمام أحمد عن المسند: " إن هذا الكتاب قد جمعته وأتقنته من أكثر من سبعمائة وخمسين ألفاً، فما اختلف المسلمون فيه من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فارجعوا إليه، فإن كان فيه وإلا فليس بحجة "، وهذا القول من الإمام أحمد المقصود به - والله أعلم - أصول الأحاديث، فإنه ما من حديث غالباً إلا وله أصل في المسند، وقال أيضاً: " قصدت في المسند الحديث المشهور .... ولو أردت أن أقصد ما صح عندي، لم أرو من هذا المسند إلا الشيء بعد الشيء، ولكنك يا بني تعرف طريقتي في الحديث لست أخالف ما ضعف إذا لم يكن في الباب ما يدفعه " (2) ، والحاصل: أن هذه المصنفات هي كتب الأصول التي ينبغي العناية بها والرجوع إليها، وهناك مصنفات في السنة لم يقصد مؤلفوها ما قصده هؤلاء الأئمة بل هي مشتملة على الغرائب والمناكير ...
__________
(1) - رسالة أبي داود إلى أهل مكة في وصف سننه ص ( 22 - 24 )
(2) - خصائص المسند لأبي موسى المديني ضمن مسند الإمام أحمد(1/27)(1/139)
وهذه يتعامل معها المتمكن في علم الحديث، يقول الحافظ ابن رجب - رحمه الله - بعد كلام نقله عن الخطيب يحذر فيه من تتبع الأحاديث الغرائب- : " وهذا الذي ذكره الخطيب حق، ونجد كثيراً ممن ينتسب إلى الحديث لا يعتني بالأصول الصحاح كالكتب الستة ونحوها، ويعتني بالأجزاء الغريبة وبمثل مسند البزار، ومعاجم الطبراني، أو أفراد الدارقطني، وهي مجمع الغرائب والمناكير " (1) ، والأحاديث التي ذكرها السائل - وفقه الله - في سؤاله منها ما يصح، ومنها ما لا يصح، وهي تدل على حجية السنة ووجوب اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومتضمنة لوجوب التثبت في قبول الأحاديث لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حذر من الكذب عليه ولا يكون التحذير إلا من أمر يخشى وقوعه، وقد حصل هذا وبذل الأئمة جهوداً كبيرة للذب عن السنة وتميز المقبول من المردود .
هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
- - - - - -
الرد على منكري السنة
أريد مساعدتكم للرد على أحدهم حيث أنه ينكر العمل بالسنة وقد احتج بالقرآن ولم أستطع الرد عليه، وذكر لي قول الله تعالى في سورة يوسف: "لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثاً يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون"، وعليه فليست هناك حاجة للمزيد في تفسير القرآن، وينكر القول بأن الحديث يفصِّل القرآن. فكيف أرد عليه بخصوص الآية المذكورة؟.
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
__________
(1) - شرح علل الترمذي(1/409)(1/140)
من الدعاوى الباطلة والشبهات الضالة التي أثارها أعداء الإسلام القول برد السنة مطلقاً، وأن القرآن يكفي وحده ولا حاجة إلى السنة، والغرض من هذه الدعوة الضالة الخبيثة هدم الشريعة وتقويض الإسلام، فالسنة هي المفسرة والمبينة للقرآن، فالطعن فيها طعن في القرآن وترك للعمل بنصوصه التي تحتاج إلى بيان، وكان بداية هذه الدعوة الخبيثة والانحراف الخطير في أواخر عهد الصحابة - رضي الله عنهم - ، ثم تطور مع الزمن حتى جاء الاستعمار الغربي وذلك عبر طلائعه من المبشرين والمستشرقين وأتباعهم من أشباه العلماء وأبواق الاستعمار الذين قصدوا القضاء على الإسلام وهدم الشريعة فأحيوا ما اندثر من هذه البدع والآراء المنحرفة، وقد تصدى الصحابة - رضي الله عنهم - لهذا الانحراف، فعن الحسن البصري أن عمران بن حصين - رضي الله عنه - كان جالساًً ومعه أصحابه، فقال رجل من القوم: لا تحدثونا إلا بالقرآن، قال فقال له: ادنه فدنا، فقال: أرأيت لو وكلت أنت وأصحابك إلى القرآن، أكنت تجد فيه صلاة الظهر أربعاً، وصلاة العصر أربعا،ً وصلاة المغرب ثلاثاً تقرأ في اثنتين ؟ أرأيت لو وكلت أنت وأصحابك إلى القرآن، أكنت تجد الطواف بالبيت سبعاً، والطواف بالصفا والمروة ؟ ثم قال: أي قوم خذوا عنا فإنكم والله إن لا تفعلوا لتضلن (1) ، ثم ما زال العلماء يردون على هذه الشبهات ويوضحوا الأدلة الدالة على حجية السنة ومنهم الإمام الشافعي فقد بسط القول في الرد على هذه الشبهة في كتاب (جماع العلم ) ، حيث قال: "باب حكاية قول الطائفة التي ردت الأخبار كلها " ثم شرع في الرد عليهم، والمقام لا يتسع لبسط الأدلة في الرد على هذه الدعوة الخبيثة لكن حسبي أن أذكر بعض الأدلة وفيها كفاية لمن وفقه الله وأراد الحق، فأقول السنة المطهرة حجة باتفاق العلماء سواء منها ما كان على سبيل
__________
(1) - أخرجه البيهقي في مدخل الدلائل(1/25)، والخطيب في الكفاية (48)، وابن عبد البر في الجامع (2/191)(1/141)
البيان للقرآن أو على سبيل الاستقلال، وقد دلت الأدلة المستفيضة من القرآن والسنة على وجوب اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - والتحذير من مخالفة أمره ونهيه عليه الصلاة والسلام، قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } (1)
__________
(1) - سورة النساء الآية: 59(1/142)
قال ميمون بن مهران: " الرد إلى الله هو الرجوع إلى كتابه، والرد إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الرجوع إليه في حياته وإلى سنته بعد مماته " ، وقال تعالى: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ... } (1) ، وقال تعالى: { مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ... } (2) ، فقد جعل طاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - من طاعته سبحانه، وحذر من مخالفته فقال: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ...
__________
(1) - سورة آل عمران الآية: 31
(2) - سورة النساء الآية: 80(1/143)
} (1) ، فلولا أن أمره حجة ولازم لما توعد على مخالفته بالنار، وقال سبحانه وتعالى: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ } (2) ، وقال سبحانه: { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً } (3) ، وقال سبحانه: { وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } (4) ، وقد فهم الصحابة - رضي الله عنهم - من هذه الآيات وجوب الرجوع إلى السنة والاحتجاج بها، روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: " لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَاتِ وَالْمُوتَشِمَاتِ وَالْمُتَنَمِّصَاتِ وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ فَبَلَغَ ذَلِكَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي أَسَدٍ يُقَالُ لَهَا أُمُّ يَعْقُوبَ فَجَاءَتْ فَقَالَتْ: إِنَّهُ بَلَغَنِي عَنْكَ أَنَّكَ لَعَنْتَ كَيْتَ وَكَيْتَ فَقَالَ: وَمَا لِي أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَمَنْ هُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَقَالَتْ: لَقَدْ قَرَأْتُ مَا بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ فَمَا وَجَدْتُ فِيهِ مَا تَقُولُ قَالَ: لَئِنْ كُنْتِ قَرَأْتِيهِ لَقَدْ وَجَدْتِيهِ أَمَا قَرَأْتِ { وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } (5) ، وحينما بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - معاذاً - رضي الله عنه - إلى اليمن قال له: " كَيْفَ تَقْضِي إِذَا عَرَضَ لَكَ قَضَاءٌ ؟ قَالَ: أَقْضِي بِكِتَابِ اللَّهِ، قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي
__________
(1) - سورة النور الآية: 63
(2) - سورة الأحزاب الآية: 21
(3) - سورة النساء الآية: 65
(4) - سورة الحشر من الآية: 7
(5) - أخرجه البخاري ح ( 4886 ) ، ومسلم ح ( 2125 )(1/144)
كِتَابِ اللَّهِ ؟ قَالَ: فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلَا فِي كِتَابِ اللَّهِ ؟ قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي وَلَا آلُو، فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَدْرَهُ وَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يُرْضِي رَسُولَ اللَّهِ " (1)
__________
(1) - أخرجه أبو داود ح (3592)(1/145)
وأما الأحاديث الدالة على وجوب اتباع السنة فكثيرة منها ما رواه أبو داود في سننه عن المقدام بن معد يكرب - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ أَلَا يُوشِكُ رَجُلٌ شَبْعَانُ عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ: عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلَالٍ فَأَحِلُّوهُ وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ أَلَا لَا يَحِلُّ لَكُمْ لَحْمُ الْحِمَارِ الْأَهْلِيِّ وَلَا كُلُّ ذِي نَابٍ مِنْ السَّبُعِ وَلَا لُقَطَةُ مُعَاهِدٍ إِلَّا أَنْ يَسْتَغْنِيَ عَنْهَا صَاحِبُهَا وَمَنْ نَزَلَ بِقَوْمٍ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَقْرُوهُ فَإِنْ لَمْ يَقْرُوهُ فَلَهُ أَنْ يُعْقِبَهُمْ بِمِثْلِ قِرَاهُ " (1) ، قال الخطابي: " وقوله: يوشك رجل شبعان، يحذر بهذا القول من مخالفة السنن التي سنها مما ليس له من القرآن ذكر على ما ذهبت إليه الخوارج والروافض فإنهم تمثلوا بظاهر القرآن وتركوا السنن التي قد ضمنت بيان الكتاب فتحيروا وضلوا، وأراد بقوله: متكئ على أريكته أن من أصحاب الترفه والدعة الذين لزموا البيوت ولم يطلبوا العلم من مظانه " (2) ، وفي حديث العرباض بن سارية - رضي الله عنه - مرفوعاً: " عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ " (3) ، وعن ابن عباس - رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب في حجة الوداع فقال: " إن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم ولكن رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحترقون من أمركم، فاحذروا إني تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً: كتاب الله وسنة نبيه" (4)
__________
(1) - أخرجه أبو داود ح (4604 )
(2) - معالم السنن (4/298)
(3) - أخرجه أبو داود (4607)، والترمذي (2676) وقال: حديث حسن صحيح
(4) - أخرجه مالك في الموطأ ( 2/899)، والحاكم (318) واللفظ له.(1/146)
ووصف القرآن بأنه تفصيل لكل شيء لا يفهم منه أنه ليس بحاجة إلى البيان الذي أخبر الله سبحانه وتعالى عنه بقوله: { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ... } (1) ، لأن التفصيل والبيان الوارد في القرآن على نوعين:
أ- ما جاء في القرآن مفصلاً ومبيناً بحيث لا يحتاج معه إلى غيره.
__________
(1) - سورة النحل الآية: 44(1/147)
ب- ما جاء في القرآن مفصلاً ومبيناً من حيث بيان وجوبه وافتراضه ونحو ذلك وهو بحاجة إلى البيان والتفسير والإيضاح من وجوه أخرى، فعلى سبيل المثال: ورد في القرآن ذكر العبادات مفصلة من صلاة وزكاة وصيام وحج واعتكاف، وهذه العبادات تحتاج إلى بيان وإيضاح، فالصلاة تحتاج إلى بيان أوقاتها وكيفيتها،ونحو ذلك، وقد جاءت السنة ببيان ذلك على وجه التمام والكمال، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي" (1) ، ولو اكتفينا بالقرآن فإنه فلا يمكن أن نقيم الصلاة التي أمر الله بها في كتابه، وهذا أمر ظاهر، وكذلك الزكاة فقد بين الله عز وجل وجوبها وافتراضها على عباده وهي بحاجة إلى التفصيل والبيان من وجوه أخرى من حيث: الأموال التي يجب فيها الزكاة، ومقدار الواجب، ومقدار النصاب، وهكذا ولو اكتفينا بالقرآن لم نستطع أن نؤدي الزكاة التي أمر الله بها في القرآن، وهكذا الصيام والحج، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع: " لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ" (2) ، قال الشافعي رحمه الله: " البيان في الفرائض المنصوصة في كتاب الله منها ما أتى الكتاب على غاية البيان فيه فلا يحتج مع التنزيل فيه إلى غيره ومنها ما أتى على غاية البيان في فرضه، وافترض طاعة رسوله، فبين رسول الله عن الله: كيف فرضه ؟ وعلى من فرض ؟ ومتى يزول بعضه ويثبت ويجب...
__________
(1) - أخرجه البخاري ح (631) من حديث مالك بن الحويرث - رضي الله عنه -
(2) - أخرجه مسلم ح (1297) من حديث جابر - رضي الله عنه -(1/148)
ومنها: ما سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما ليس فيه نص حكم، وقد فرض الله في كتابه طاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - والانتهاء إلى حكمه، فمن قبل عن رسول الله فبفرض الله قبل "، قال الخطابي: " بعد أن ذكر الله سبحانه وتعالى أنزل الكتاب تبياناً لكل شيء فأخبر سبحانه أنه لم يغادر شيئاً من أمر الدين لم يتضمن بيانه الكتاب، إلا أن البيان على ضربين:
أ- بيان جلي تناوله الذكر نصاً .(1/149)
ب- بيان خفي اشتمل عليه معنى التلاوة ضمناً، فما كان من هذا الضرب كان تفصيل بيانه موكولاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو معنى قوله سبحانه: { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } ، فمن جمع بين الكتاب والسنة فقد استوفى وجهي البيان " ، وصنف الإمام أحمد كتاباً في طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - رد فيه على من احتج بظاهر القرآن في معارضة سنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وترك الاحتجاج بها وقال في أثناء خطبته: " إن الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه بعث محمداً - صلى الله عليه وسلم - بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وأنزل عليه كتابه الهدى والنور لمن اتبعه، وجعل رسوله الدال على ما أراد من ظاهره وباطنه، وخاصه وعامه، وناسخه ومنسوخه، وما قصد له الكتاب، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو المعبر عن كتاب الله الدال على معانيه، شاهده في ذلك أصحابه الذين ارتضاهم الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - واصطفاهم له، ونقلوا ذلك عنه، فكانوا هم أعلم الناس برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وبما أراد الله من كتابه بمشاهدتهم، وما قصد له الكتاب فكانوا هم المعبرين عن ذلك بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال جابر - رضي الله عنه - : ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أظهرنا عليه ينزل القرآن وهو يعرف تأويله وما عمل به من شيء علمنا به، ثم ساق الآيات الدالة على طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - .... " (1)
هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
- - - - - -
النيل من أبي هريرة - رضي الله عنه -
__________
(1) - ينظر: إعلام الموقعين (2/290 )(1/150)
شخص من الشيعة يصف أبا هريرة - رضي الله عنه - بأنه كذاب؛ لأنه روى كثيراً من الأحاديث من نفسه، ولم يعايش النبي - صلى الله عليه وسلم - لفترة طويلة، كما فعل كثير من الصحابة الآخرين - رضي الله عنهم - فكيف أرد عليه؟.
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
أبو هريرة - رضي الله عنه - هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي على المشهور من أقوال المؤرخين، وكنيته أبو هريرة وهو صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحافظ الصحابة - رضي الله عنهم - ، قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - عام خيبر سنة سبع من الهجرة، وهو أحفظ أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في عصره، وقد أثيرت بعض الشبهات حول كثرة حديثة مع تأخر هجرته، حيث لم يصحب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا قرابة أربع سنين، ويجاب عن هذا بما يأتي:(1/151)
1- أبو هريرة - رضي الله عنه - منذ هاجر إلى المدينة لازم النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يشغله عن حضور مجالسه شيء من مشاغل الدنيا، يقول أبو هريرة - رضي الله عنه - عن نفسه كما جاء في الصحيحين : "إِنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَلَوْلا آيَتَانِ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا حَدَّثْتُ حَدِيثًا ثُمَّ يَتْلُو: { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ*إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } (1) إِنَّ إِخْوَانَنَا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ كَانَ يَشْغَلُهُمْ الصَّفْقُ بِالْأَسْوَاقِ وَإِنَّ إِخْوَانَنَا مِنْ الْأَنْصَارِ كَانَ يَشْغَلُهُمْ الْعَمَلُ فِي أَمْوَالِهِمْ وَإِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يَلْزَمُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِشِبَعِ بَطْنِهِ ،وَيَحْضُرُ مَا لَا يَحْضُرُونَ وَيَحْفَظُ مَا لَا يَحْفَظُونَ" (2) ، وقد شهد له الصحابة - رضي الله عنهم - بتلك الملازمة كما جاء عند الْبُخَارِيّ فِي (التَّارِيخ)، وَأَبُي يَعْلَى بِإِسْنَادٍ حَسَن مِنْ طَرِيق مَالِك بْن أَبِي عَامِر قَالَ: " كُنْت عِنْد طَلْحَة بْن عُبَيْد اللَّه, فَقِيلَ لَهُ: مَا نَدْرِي هَذَا الْيَمَانِيّ - يعني أبو هريرة - أَعْلَمَ بِرَسُولِ اللَّه مِنْكُمْ, أَوْ هُوَ يَقُول عَلَى رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - مَا لَمْ يَقُلْ ؟ قَالَ: فَقَالَ : وَاَللَّه مَا نَشُكّ أَنَّهُ سَمِعَ مَا لَمْ نَسْمَع, وَعَلِمَ مَا لَمْ نَعْلَم , إِنَّا كُنَّا أَقْوَامًا لَنَا بُيُوتَات وَأَهْلُونَ , وَكُنَّا نَأْتِي
__________
(1) - سورة البقرة:159-160
(2) - أخرجه البخاري ح (118)، ومسلم ح (2492)(1/152)
النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - طَرَفَيْ النَّهَار ثُمَّ نَرْجِع, وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَة - رضي الله عنه - مِسْكِينًا لَا مَال لَهُ وَلَا أَهْل, إِنَّمَا كَانَتْ يَده مَعَ يَد النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - , فَكَانَ يَدُور مَعَهُ حَيْثُمَا دَار, فَمَا نَشُكّ أَنَّهُ قَدْ سَمِعَ مَا لَمْ نَسْمَع " وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي مَدْخَله مِنْ طَرِيق أَشْعَث عَنْ مَوْلًى لِطَلْحَةَ - رضي الله عنه - قَالَ : " كَانَ أَبُو هُرَيْرَة - رضي الله عنه - جَالِسًا , فَمَرَّ رَجُل بِطَلْحَةَ - رضي الله عنه - فَقَالَ لَهُ : لَقَدْ أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَة - رضي الله عنه - , فَقَالَ طَلْحَة - رضي الله عنه - : قَدْ سَمِعْنَا كَمَا سَمِعَ , وَلَكِنَّهُ حَفِظَ وَنَسِينَا " (1)
2- عُرِفَ عن أبي هريرة - رضي الله عنه - شدة حرصه على حفظ السنة ورغبته الشديدة في تحصيل العلم، وقد شهد له النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك ففي البخاري أن أبا هريرة - رضي الله عنه - قال: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَقَدْ ظَنَنْتُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنْ لا يَسْأَلُنِي عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَحَدٌ أَوَّلُ مِنْكَ لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حِرْصِكَ عَلَى الْحَدِيثِ......" (2)
__________
(1) - أخرجه أبو يعلى ح ( 636 ) ، وحسن إسناد الحافظ في الفتح ( 7/75 )
(2) - أخرجه البخاري ح (99)(1/153)
3- تميز أبو هريرة - رضي الله عنه - بحفظه لما سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث كان لا ينسى شيئاً سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد ناله بركة دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - له كما جاء في صحيح البخاري حيث قال أبو هريرة - رضي الله عنه - : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَسْمَعُ مِنْكَ حَدِيثًا كَثِيرًا أَنْسَاهُ قَالَ: ابْسُطْ رِدَاءَكَ فَبَسَطْتُهُ قَالَ فَغَرَفَ بِيَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ ضُمَّهُ فَضَمَمْتُهُ فَمَا نَسِيتُ شَيْئًا بَعْدَهُ " (1) ، ومما يدل على قوة حفظه - رضي الله عنه - ما ذكر ابن حجر في " الإصابة " ، قال: " قال أبو الزعيزعة - كاتب مروان -: أرسل مروان إلى أبي هريرة - رضي الله عنه - فجعل يحدثه ، وكان أجلسني خلف السرير أكتب ما يحدث به، حتى إذا كان في رأس الحول أرسل إليه فسأله وأمرني أن أنظر، فما غير حرفاً " (2) وقد عَرَفَ هذه الخاصية لأبي هريرة - رضي الله عنه - الصحابة - رضي الله عنهم - ومن جاء بعدهم من التابعين ، فهذا ابن عمر - رضي الله عنهما - يقول عنه: " إن كان لألزمنا لرسول الله، وأعرفنا بحديثه " ، وقال أيضاً وهو يترحم على جنازته : " كان يحفظ على المسلمين حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - "، وقال الإمام الشافعي: " أبو هريرة - رضي الله عنه - أحفظ من روى الحديث في عصره "
4- أدرك أبو هريرة - رضي الله عنه - كبار الصحابة - رضي الله عنهم - وأخذ عنهم ما فاته مما لم يسمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - فربما رواها عنهم، وربما قال فيها : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا ما يعرف بمراسيل الصحابة - رضي الله عنه - ، وكان الصحابة - رضي الله عنهم - بعضهم يروي عن بعض لكمال وثوق بعضهم ببعض .
__________
(1) - أخرجه البخاري ح (119)
(2) - الإصابة ( 3/418 )(1/154)
قال البراء بن عازب - رضي الله عنه - : " ليس كلنا كان يسمع حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، كانت لنا ضيعة وأشغال ولكن الناس لم يكونوا يكذبون يومئذ ، فيحدث الشاهد الغائب "
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: " ... ليس كل ما نحدثكم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمعناه منه ولكن كان يحدث بعضناً بعضاً ولا يتهم بعضناً بعضناً "، وفي رواية عن قتادة أن أنساً - رضي الله عنهما- حدث بحديث فقال له رجل : أسمعت هذا من رسول الله تعالى ؟،قال: نعم، أو حدثني من لم يكذب والله ما كنا نكذب (1)
5- بقى أبو هريرة - رضي الله عنه - بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ينشر الحديث بين الناس ويبلغه ولم يشغله عن ذلك ولايات ولا تجارة، ولا غير ذلك، وقد تأخرت وفاته، حيث مات سنة سبع، وقيل ثمان وخمسين وهو ابن ثمان وسبعين سنة.
__________
(1) - أخرج هذين الأثرين الخطيب في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع .(1/155)
لهذه الأمور وغيرها كان أبو هريرة أكثر الصحابة - رضي الله عنهم - حديثاً، وقد شاركه الصحابة - رضي الله عنهم - في رواية ما رواه من الحديث حيث يوجد أكثر ما رواه عند غيره من الصحابة - رضي الله عنهم - ، وقد تلقى عن أبي هريرة - رضي الله عنه - زهاء ثمانمائة نفس كما ذكر البخاري، ومن بين هؤلاء الرواة أئمة أعلام من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - والتابعين لهم بإحسان وأئمة آل البيت مثل: علي بن الحسين زين العابدين ، ومحمد بن الحنفية ، وغيرهما ، وهذا العدد الكبير يدل على حرصهم ورغبتهم في سماع الحديث من أبي هريرة - رضي الله عنهم - لما يعلمون من ضبطه وإتقانه وصدقه، ومن المعلوم أن الصحابة - رضي الله عنهم - كلهم عدول كما دلت على ذلك نصوص الكتاب والسنة وإجماع من يعتد بإجماعهم من الأمة، والطعن في عدالتهم وتنقصهم من سمات أهل الزندقة والضلال ، قال أبو زرعة الرازي : " إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاعلم أنه زنديق، وذلك أن الرسول حق ، والقرآن حق ، وما جاء به حق، وإنما أدى ذلك كله إلينا الصحابة - رضي الله عنهم - ، وهؤلاء الزنادقة يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، فالجرح بهم أولى " وقال الخطيب: " عدالة الصحابة - رضي الله عنهم - ثابتة معلومة بتعديل الله لهم، واخباره عن طهارتهم واختياره لهم في نص القرآن فمن ذلك قوله تعالى: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } (1) ، وقوله: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً } (2) ، وقوله: { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً
__________
(1) - سورة آل عمران الآية: 11
(2) - سورة البقرة الآية:143(1/156)
قَرِيباً } (1) ، وقوله تعالى: { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ - رضي الله عنهم - وَرَضُوا عَنْهُ... } (2) ، وقوله تعالى: { وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ } (3) وقوله: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } (4) ، وقوله تعالى: { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } (5) ، في آيات يكثر إيرادها ويطول تعدادها...
__________
(1) - سورة الفتح الآية:18
(2) - سورة التوبة الآية: 100
(3) - سورة الواقعة:10-12
(4) - سورة الأنفال الآية: 64
(5) - سورة الحشر:8-9(1/157)
وجميع ذلك يقتضى القطع بتعديلهم، ولا يحتاج أحد منهم مع تعديل الله تعالى له إلى تعديل أحدٍ من الخلق له، على أنه لو لم يرد من الله عز وجل ورسوله فيهم شيء مما ذكرناه لأوجبت الحال التي كانوا عليها من الهجرة والجهاد، ونصرة الإسلام، وبذل المهج والأموال، وقتل الآباء والأولاد، والمناصحة في الدين وقوة الإيمان واليقين، القطع على عدالتهم والاعتقاد لنزاهتهم وأنهم أفضل من جميع الخالفين بعدهم، والمعدلين الذين يجيؤن من بعدهم، هذا مذهب كافة العلماء ومن يعتد بقوله من الفقهاء " (1) ، وقال ابن الصلاح: " للصحابة - رضي الله عنهم - بأسرهم خصيصة وهي أنه لا يسأل عن عدالة أحد منهم ، بل ذلك أمر مفروغ منه لكونهم على الإطلاق معدلين بنصوص الكتاب والسنة وإجماع من يعتد به في الإجماع من الأمة " (2) هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
- - - - - -
ذاكرة أبي هريرة - رضي الله عنه -
قرأت أن ذاكرة أبي هريرة لم تكن جيدة. وأنه كان ينسى كثيرا فلا تكون الأحاديث التي يرويها صحيحة. وسأنقل لكم جزءا من كامل النص وأرجو أن تخبروني عن صحة ذلك من عدمه وأيضا أريد معرفة منزلة الإمام الزركشي بين أهل السنة والجماعة.
__________
(1) - ينظر: الكفاية في علم الرواية (ص: 46-48)، والإصابة في تميز الصحابة (1/ 11)
(2) - علوم الحديث ص ( 90 )(1/158)
الحديث الذي رواه البخاري في الثلاثة التي فيها الشؤم الدار والمرأة والفرس، ولا يذكر البخاري اعتراض عائشة على هذا الحديث. وقد نقل عن أم المؤمنين عائشة أن أبي هريرة تلقى درسه بطريقة سيئة فقد جاء بيتنا حين كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في منتصف كلامه وأن أبو هريرة سمع نهاية كلامه فقط وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : قاتل الله اليهود فقد ذكروا ثلاثة أشياء يكون الشؤم فيها الدار والمرأة والفرس (الإمام الزركشي الإجابة صفحة 113) وأن عائشة رضي الله عنها نازعت في كثير من أحاديث أبي هريرة وقررت في كثير من الأحيان أنه لا يسمع جيدا وأنه عندما يسأل يعطي أجوبة خاطئة (الزركشي صفحة 116) .
وأيضا ذكر العسقلاني نقلا عن أبي هريرة في مناقب الخليفة عمر بن الخطاب قوله: "نريد أن نقول أشياء كثيرة لكننا نخاف من هذا الرجل (عمر) ـ الإصابة للعسقلاني مجلد 7 صفحة 440.
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:(1/159)
ما قرأته عن أبي هريرة غير صحيح ، وهذا كلام بعض المغرضين الذين يريدون النيل من أبي هريرة والتشكيك فيه ، حتى يتسنى لهم التشكيك في الأحاديث التي رواها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقد شهد له النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحرص على الحديث ، وشهد له الصحابة - رضي الله عنهم - بالحفظ والضبط لما يحدث به ، قال الإمام الشافعي : " أبو هريرة أحفظ من روى الحديث في عصره "، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: " هو حافظ الأمة على الإطلاق يؤدي الحديث كما سمعه ويدرسه بالليل درساً، فكانت همته مصرفة إلى الحفظ وتبليغ ما حفظه كما سمعه " (1) ، وقد سبق أن فصلت القول في هذه القضية والإجابة عن الشبهات التي أثيرت حول أبي هريرة في جواب نشر في الموقع فراجعه إن شاءت ، وأما كون عائشة - رضي الله عنها - قد استدركت على أبي هريرة ، فعائشة - رضي الله عنها - استدركت على أبي هريرة وغيره من الصحابة مثل : علي بن أبي طالب ، عبد الله بن عمر ، عبد الله بن عمرو بن العاص ، وعبد الله بن مسعود ..... ، وهذا حسب اجتهادها ، وقد يكون الصواب معها في بعض ما استدركته، وقد يكون الصواب والحق مع غيرها ، وهذه قضايا اجتهادية بين الصحابة، والتفصيل في كل قضية يطول .
__________
(1) - مجموع الفتاوى ( 4/ 94 )(1/160)
أما الإمام الزركشي، فهو: محمد بن عبد الله بن بهادر بن عبد الله الزركشي، أبو عبد الله بدر الدين، مصري المولد والوفاة، ولد سنة ( 745 هـ )، وأخذ عن الشيخين: جمال الدين الأسنوي، وسراج الدين البلقيني، ورحل إلى حلب فأخذ عن الشيخ شهاب الدين الأذرعي، وسمع الحديث بدمشق وغيرها وكان فقيهاً أصولياً أديباً فاضلاً، ودرّس وأفتى، وكان أكثر اشتغاله بالفقه وأصوله وعلوم الحديث والقرآن والتفسير، وقد ترك فيها أكثر من ثلاثين مصنفاً، ومن أشهر مؤلفاته: البرهان في علوم القرآن، التذكرة في الأحاديث المشتهرة، النكت على ابن الصلاح، وغيرها توفي بمصر سنة ( 794 هـ )، وقد سبقه إلى التأليف في هذا الموضوع - وهو جمع ما استدركته عائشة على الصحابة - أبو منصور عبد المحسن محمد بن على الشيحي البغدادي ( ت 489 هـ ) ، والكتاب مطبوع بعنوان : جزء فيه استدراك أم المؤمنين عائشة على الصحابة . (1)
__________
(1) - ينظر ترجمة الإمام الزركشي في : شذرات الذهب ( 6/335 - 336 )(1/161)
وأما ما نقل عن عمر - رضي الله عنه - ، فمن المعروف إن عمر - رضي الله عنه - كان يشدد على الصحابة في التحديث من باب الاحتياط للسنة، والتثبت في النقل، خشية أن يؤدي التوسع في الرواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الوقوع في الخطأ والوهم ، وقصة عمر مع أبي موسى الأشعري مشهورة ، فقد روى الإمام مسلم عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ جَاءَ أَبُو مُوسَى إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ هَذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قَيْسٍ فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ فَقَالَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ هَذَا أَبُو مُوسَى السَّلَامُ عَلَيْكُمْ هَذَا الْأَشْعَرِيُّ ثُمَّ انْصَرَفَ فَقَالَ رُدُّوا عَلَيَّ رُدُّوا عَلَيَّ فَجَاءَ فَقَالَ يَا أَبَا مُوسَى مَا رَدَّكَ كُنَّا فِي شُغْلٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ الِاسْتِئْذَانُ ثَلَاثٌ فَإِنْ أُذِنَ لَكَ وَإِلَّا فَارْجِعْ قَالَ لَتَأْتِيَنِّي عَلَى هَذَا بِبَيِّنَةٍ وَإِلَّا فَعَلْتُ وَفَعَلْتُ فَذَهَبَ أَبُو مُوسَى قَالَ عُمَرُ إِنْ وَجَدَ بَيِّنَةً تَجِدُوهُ عِنْدَ الْمِنْبَرِ عَشِيَّةً وَإِنْ لَمْ يَجِدْ بَيِّنَةً فَلَمْ تَجِدُوهُ فَلَمَّا أَنْ جَاءَ بِالْعَشِيِّ وَجَدُوهُ قَالَ يَا أَبَا مُوسَى مَا تَقُولُ أَقَدْ وَجَدْتَ قَالَ نَعَمْ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ قَالَ عَدْلٌ قَالَ يَا أَبَا الطُّفَيْلِ مَا يَقُولُ هَذَا قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ ذَلِكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ فَلَا تَكُونَنَّ عَذَابًا عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ إِنَّمَا سَمِعْتُ شَيْئًا فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَتَثَبَّتَ . (1)
هذا والله أعلم .
- - - - - -
هل تغير حفظ ابن عمر لما كبر ؟
__________
(1) - أخرجه مسلم ح ( 2154 )(1/162)
هل صحيح أن حفظ ابن عمر أصبح ضعيفا عندما كبر في السن؟ وماذا يترتّب على ذلك؟
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
لا يصح أن حفظ ابن عمر - رضي الله عنه - تغير لما كبر ، بل بقي ابن عمر حافظاً متقناً حتى وفاته .
- - - - - -
اعتماد العلماء على رواية الواقدي للسنة بالرغم من ضعفه
حصل عندي إشكال: وهو أني عندما أقرأ في سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - أو في سير السلف مثل "صفة الصفوة" أجد الكثير منقول عن الإمام الواقدي وعندما نرى كلام الأئمة عنه نجد أنهم يجمعون على ضعفه، فكيف نوفق؟ وكيف يمكن أن يتساهل في السيرة والأحكام تؤخذ منها؟
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:(1/163)
الواقدي هو: محمد بن عمر بن واقد الواقدي الأسلمي مولاهم - أبو عبد الله المدني - القاضي أحد الأعلام ، ولد سنة ( 130 هـ ) وتوفي سنة ( 207 هـ )، واتفق أئمة النقد على أنه متروك، قال الذهبي: " استقر الإجماع على وهن الواقدي "، وقد عرف عن الواقدي سعة حفظه للأخبار والسير والمغازي والحوادث وأيام الناس، ولهذا نجد أن الأئمة الذين كتبوا في التاريخ والمغازي والأخبار احتاجوا إلى ما عند الواقدي فأوردوا شيئاً كثيراً من طريقه، ومن أمثال هؤلاء: الذهبي، وابن كثير، وابن حجر، قال ابن كثير: والواقدي - رحمه الله - عنده زيادات حسنة وتأريخ محرر غالباً فإنه من أئمة هذا الشأن الكبار، وهو صدوق في نفسه مكثار "، وقال الذهبي: " وقد تقرر أن الواقدي ضعيف، يحتاج إليه في الغزوات والتأريخ "، وقال في موضع آخر: " الواقدي جمع فأوعى وخلط الغث بالسمين والخرز بالدر الثمين فاطرحوه لذلك، ومع هذا فلا يستغنى عنه في المغازي وأيام الصحابة وأخبارهم . " (1) ويظهر من صنيع هؤلاء الأئمة أن الواقدي يؤخذ عنه ما عرف اختصاصه به وهو المغازي والسير والأخبار ولكن يحتاط فيما إذا تضمنت المرويات عنه أشياء في العقائد أو الأحكام والشريعة، وكذلك عند الاختلاف يرجح مرويات من كان أوثق منه، والله أعلم .
أسانيد تاريخ الأمم والملوك
هل كل الأسانيد والأحاديث الواردة في كتاب الإمام الطبري ( تاريخ الأمم والملوك) صحيحة؟ إن كان قليل منها غير صحيح أو أقل من مرتبة الصحيح فكيف أتأكد وأعرف ذلك؟ سبب سؤالي هو أني قرأت في المجلد الأول للطبري فوجدت أسانيد للصحابي الجليل عبدالله بن العباس ولكعب الأحبار قد أثارت الشك لدي. بالذات حينما قرأت في فصل خلق الأرض والشمس والقمر، والعين الحمأة.
ونترك لسماحتكم الإجابة والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أخوكم حبيبكم محبكم .
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
__________
(1) - ينظر: سير أعلام النبلاء ( 9/454 )(1/164)
محمد بن جرير الطبري ( 224 - 310 هـ ) أحد الأئمة المشهورين في التفسير والفقه والتاريخ، واشتهر بكتابيه في التفسير والتاريخ، وكتابه في التاريخ من أوسع الكتب التاريخية وأكثرها شمولاً للأحداث والوقائع، ولم يلتزم الصحة فيما يذكره من الروايات والأخبار، ولكنه أوردها مسندة وترك الحكم للقارئ على منهج وطريقة: العهدة على الرواة ومن أسند فقد أحال، قال في مقدمته: " فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين، مما يستنكره قارئه، أو يستشنعه سامعه، من أجل أنه لم يعرف له وجهاً من الصحة ولا معنى في الحقيقة، فليعلم أنه لم يؤت في ذلك من قبلنا، وإنما أُتي من قبل بعض ناقليه إلينا، وأنا إنما أدينا ذلك على نحو ما أُدي إلينا " (1) ، وقد وقع في تاريخه كثير من الأخبار الواهية والإسرائيليات المنكرة، والأحاديث الموضوعة والضعيفة، ونجد في تاريخ الطبري الاعتماد على كتب الإخباريين المطعون في عدالتهم والمتكلم فيهم، من أمثلة: سيف بن عمر التميمي ( ت 170 هـ ) ، وأبي مخنف لوط بن يحيى ( ت 157 هـ )، وعلي بن محمد المدائني ( 225 هـ ) ، ومحمد بن عمر الواقدي ( 207 هـ ) ، وغيرهم، ويصعب التعامل مع تاريخ الطبري لغير المتخصصين الذين يستطيعون التميز بين صحيح الأخبار وسقيمها، ولهذا فأنصح السائل أن تكون مطالعته في كتاب البداية والنهاية للحافظ ابن كثير لعنايته بانتقاء الروايات والأخبار ونقد المرويات، حيث ذكر منهجه في مقدمته،قال: " أما بعد فهذا كتابٌ أذكر فيه بعون الله وحسن توفيقه ما يسره الله تعالى بحوله وقوته من ذكر مبدأ المخلوقات من خلق العرش والكرسي والسموات والأرضين وما فيهن وما بينهن من الملائكة والجان والشياطين، وكيفية خلق آدم عليه السلام وقصص النبيين، وما جرى مجرى ذلك إلى أيام بني إسرائيل، وأيام الجاهلية حتى تنتهي النبوة إلى أيام نبينا محمد صلوات الله وسلامه عليه، فنذكر سيرته كما
__________
(1) - ينظر: تاريخ الطبري ( 1/8 )(1/165)
ينبغي فتشفي الصدور والغليل وتزيح الداء عن العليل، ثم نذكر ما بعد ذلك إلى زماننا، ونذكر الفتن والملاحم وأشراط الساعة، ثم البعث والنشور وأهوال القيامة، ثم صفة ذلك وما في ذلك اليوم وما يقع فيه من الأمور الهائلة، ثم صفة النار ثم صفة الجنان وما فيها من الخيرات الحسان وغير ذلك وما يتعلق به، وما ورد في ذلك من الكتاب والسنة والآثار والأخبار المنقولة المقبولة عند العلماء وورثة الأنبياء الآخذين من مشكاة النبوة المصطفوية المحمدية على من جاء بها أفضل الصلاة والسلام ولسنا نذكر من الإسرائيليات إلا ما أذن الشارع في نقله مما لا يخالف كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وهو القسم الذي لا يصدق ولا يكذب مما فيه بسط لمختصر عندنا أو تسمية لمبهم ورد به شرعنا مما لا فائدة في تعيينه لنا فنذكره على سبيل التحلي به لا على سبيل الاحتياج إليه والاعتماد عليه وإنما الاعتماد والاستناد على كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مها صح نقله أو حسن وما كان فيه ضعف نبينه وبالله المستعان وعليه التكلان " (1) ، وأُرشد السائل أيضاً إلى العناية بكتب السنة مثل الكتب الستة ومسند أحمد ولاسيما الصحيحين مع الرجوع إلى شرحيهما مثل فتح الباري للحافظ ابن حجر، وشرح النووي على مسلم، وأما من أراد دراسة أسانيد تاريخ الطبري فعليه الرجوع إلى كتب الرجال لمعرفة مراتبهم ومنزلتهم، وكتب الرجال كثيرة منها: المتقدمة والمتأخرة، ومنها المطولة والمختصرة مثل: التاريخ الكبير للبخاري، الجرح والتعديل لابن أبي حاتم، طبقات ابن سعد، كتاب الثقات لابن حبان، والمجروحين له، والكامل لابن عدي، والضعفاء الكبير للعقيلي، والميزان للذهبي، وتهذيب الكمال للمزي، وتهذيب التهذيب لابن حجر، وغيرها من الكتب التي صنفت في الرجال، ويمكن الاستفادة في البحث عن الرجال من برامج الحاسب مثل المكتبة الألفية، الموسوعة
__________
(1) - البداية والنهاية ( 1/ 6 )(1/166)
الذهبية، موسوعة الكتب التسعة، وعلى الدارس للأسانيد التأكد من مواضع الاتصال والانقطاع، وذلك بالرجوع إلى كتب المراسيل مثل: المراسيل لابن أبي حاتم، جامع التحصيل للعلائي، وغيرهما، وعليه أيضاً الرجوع إلى كتب العلل للنظر في المحفوظ من الروايات وغير المحفوظ، وعلى كل حال فدراسة الأسانيد فن له أصوله وقواعده، ويمكن الاستفادة من الكتب التي ألفت في هذا الفن، وهي متوفرة في المكتبات، ويوجد لأساتذة الجامعات مذكرات في هذه المادة حيث إن مادة دراسة الأسانيد تدرس في كليات أصول الدين ، وفي برنامج الماجستير والدكتوراه في تخصوصات السنة وعلومها، والله أعلم .
- - - - - -
تاريخ الطبري
قرأت شيئاً من كتاب ( تاريخ الطبري للأمم والملوك). في بداية الكتاب يشرح لنا كيف بدأ الخلق . فأولا يبدأ في ( القول في الزمان ما هو) . ثانيا ( القول في كم قدر جميع الزمان من ابتدائه إلى انتهائه وأوله وآخره). ففي الثاني قرأت بعض الأسانيد والأدلة فعلا أثارت الشك في نفسي على مدى صحتها. فمن منطلق قوله تعالى ( فأسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) أحببت أن أعلم من فضيلتكم مدى صحة الأسانيد التالية:
الأول: حدثنا ابن حميد, قال حدثنا يحيى بن واضح, قال حدثنا يحيى بن يعقوب, عن حماد, عن سعيد بن جبير عن ابن عباس, قال: الدنيا سبعة آلاف سنة, فقد مضى ستة آلاف سنة ومائتا سنة, وليأتين عليها مئون من السنين, ليس عليها موحد.
الثاني: حدثنا أبو هشام, قال: حدثنا معاوية بن هشام, عن سفيان, عن الأعمش, عن أبي صالح, قال: قال كعب: الدنيا ستة آلاف سنة .
الثالث: حدثنا محمد بن سهل بن عسكر, قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال: حدثني عبد الصمد بن معقل, أنه سمع وهباً يقول: قد خلا من الدنيا خمسة آلاف سنة وستمائة سنة, وإني لأعرف كل زمان منها, ما كان فيها من ملوك و الأنبياء, قلت لوهب بن منبه: كم الدنيا؟ قال: ستة آلاف سنة.(1/167)
هل يؤخذ بهذه الأدلة؟ وإذا كانت صحيحة فكيف نصدقها وتعقلها عقولنا في القرن الواحد والعشرين؟
وفي فصل: ( القول فيما خلق الله في كل يوم من الأيام الستة التي ذكر الله في كتابه أنه خلق فيهن السماوات والأرض وما بينهما ) يستند الإمام الطبري إلى دليل أريد من سعادتكم أن تبينوا لنا مدى صحته
حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا يحيى, قال: حدثنا سفيان قال: حدثني سليمان, عن أبي ظبيان, عن ابن عباس قال: أول ما خلق الله تعالى القلم فقال: اكتب, فقال: ما اكتب؟ قال: اكتب القدر, قال: فجرى بما هو كائن من ذلك اليوم إلى قيام الساعة. ثم خلق النون, ورفع بخار الماء ففتقت منه السماء, وبسطت الأرض على ظهر النون, فاضطرب النون, فمادت الأرض فأثبتت بالجبال, قال: فإنها لتفخر على الأرض .
حدثنا ابن حميد, قال, حدثنا جرير, عن عطاء بن السائب, عن أبي الضحى مسلم بن صبيح, عن ابن عباس قال: أول شيء خلق الله تعالى القلم, فقال له اكتب, فكتب ما هو كائن إلى أن تقوم الساعة, ثم خلق النون فوق الماء, ثم كبس الأرض عليه .
كيف خلق الله الأرض على حوت ( النون) كما هو في المسند؟
ويقول أيضا في فصل( ذكر الأخبار الواردة بان إبليس كان له ملك السماء الدنيا و الأرض وما بين ذلك:
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني الحجاج,عن ابن جريج عن صالح مولى التوءمة, وشريك بن أبي نمر-أحدهما أو كلاهما- عن ابن عباس, قال: إن من الملائكة قبيلة من الجن وكان إبليس منها, وكان يسوس ما بين السماء والأرض .
حدثني عبدان المروزي, حدثني الحسين بن فرج, قال: سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال: أخبرنا عبيد الله بن سليمان , قال: سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله ( فسجدوا إلا إبليس كان من الجن) قال: كان ابن العباس يقول: إن إبليس كان من أشرف الملائكة وأكرمهم قبيلة, وكان خازنا على الجنان, وكان له سلطان سماء الدنيا, وكان له سلطان الأرض .(1/168)
فهل صحيح أن إبليس كان ملكاً أصلاً؟ وإن كان ملك فكيف يعصي ربه؟ أنا أعرف أن الملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون .
وسؤال أخير: ( كيف أتأكد من صحة الأسانيد بنفسي؟ هل يوجد برنامج بالكمبيوتر يبين لك صحة السند؟، ونترك لسماحتكم الإجابة على هذه الأسئلة، ولكم جزيل الشكر، أخوكم في الله أبو ذر .
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
هذا السؤال متفرع عن السؤال السابق، ولهذا أحيل على إجابة السؤال السابق ، وأما ما ذكره الطبري في الأبواب التي ذكرها السائل فهذا يؤكد ما سبق من أن الطبري يسوق الروايات بالأسانيد دون نقدها وتمحيصها، وفيه روايات موضوعة ومنكرة مثل الروايات التي وردت في السؤال وهي من الأخبار الإسرائيلية الواهية كما هو ظاهر، وقد نص العلماء على أن ما جاء من الأحاديث والأخبار في تحديد مقدار الدنيا فهي كذب مختلق لمخالفتها لصريح القرآن والسنة والحس، قال الله تعالى عن قيام الساعة { يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ } (1) ، وقال تعالى : { يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ } (2) ، وقال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ } (3) ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سأله جبريل عليه السلام عن الساعة: " مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنْ السَّائِلِ " (4) ، وبقية الآثار الواردة تحتاج إلى دراسة أسانيدها على ما تقدم تقريره في السؤال الأول ، والله أعلم .
- - - - - -
كتاب: " أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة " لللالكائي
__________
(1) - سورة الأعراف الآية: 187
(2) - سورة الأحزاب الآية: 63
(3) - سورة لقمان الآية: 34
(4) - أخرجه البخاري ح ( 50 ) ، ومسلم ح ( 9 )(1/169)
أطالع كتاب شرح أصول اعتقاد أهل السنة و الجماعة للإمام أبو القاسم اللالكائي طبعة المكتبة الإسلامية بمصر بتحقيق نشأت المصري، لاحظت في الكتاب اغلب أحاديثه التي أخرجها صاحب الكتاب لم يرد حكم عليها بمعنى أن اغلب الأحاديث لم يشار إلى الحكم عليها صحة أو ضعفا أو تحسينا إلا البعض مما قال فيها المحقق تصحيحا وتضعيفا ولكن الأغلب من هذه الأحاديث غير مشار إلى صحتها أو ضعفها ,, فهل نعتبر أن هذه الأحاديث الغير مشار إلى إسنادها أنها صحيحة؟؟ و ما خلا ذلك تضعيفا أو تصحيحا أو تحسينا فهي مثل ما حكم عليها؟؟؟ ارجوا الإيضاح لان اغلب الأحاديث لا يوجد حكم عليها ,, مع أن هناك أحاديث قد تكلم المحقق في سندها و في رجالها وضعف وأيضا بعض الأحاديث الصحيحة أشار إلى صحتها و قال صحيح و صححه الألباني مثلا و بعضها قال إنها مخرجة في البخاري ومسلم وهناك أحاديث لم يقول فيها تصحيح ولا تضعيف.
السؤال الأخر هو هل هذه الأحاديث كلها تعني أنها متصلة السند لغاية الإمام اللالكائي أو بمعنى آخر هل الكتاب عبارة عن كتاب تخريج أحاديث مثل البخاري ومسلم والسنن وهل الأحاديث المخرجة في كتاب شرح أصول الاعتقاد والموجودة في البخاري ومسلم يعني أنها اتصلت سندا لغاية الإمام اللالكائي ( بغض النظر عن الإسناد ) إضافة إلى إسناد البخاري و مسلم أي أنها من الرسول صلى الله عليه و سلم لغاية البخاري وأيضا استمرت من البخاري لغاية اللالكائي ؟؟ ارجوا الإيضاح و شكرا
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:(1/170)
كتاب: " أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم "، للحافظ أبي القاسم هبة الله بن الحسن بن منصور الطبري اللالكائي المتوفي سنة ( 418 هـ ) يعد من أشمل الكتب التي اعتنت بنقل الأحاديث والآثار في عقيدة أهل السنة والجماعة، وقد اتبع المؤلف في تأليفه للكتاب ما كان سائداً في عصره من ذكره للأحاديث والآثار مسندة دون تمحيص أو اكتفاء بالصحيح دون غيره، وكذلك لم يشرح هذه النصوص أو يعلق عليها، حيث حرص رحمه الله على سياق النصوص في موضوعات الاعتقاد بالأسانيد التي وقعت له، فهو محدث حافظ راوية، واسع الاطلاع على الكتب والمصنفات التي صنفت قبله، لكن لم يلتزم بتميز الصحيح من غيره ولا الاقتصار على ما صح وثبت، قال في مقدمة الكتاب: " فابتدأت بشرح هذا الكتاب بعد أن تصفحت عامة كتب الأئمة الماضين - رضي الله عنهم - أجمعين، وعرفت مذاهبهم وما سلكوا من الطرق في تصانيفهم ....(1/171)
وما نقلوا من الحجج في هذه المسائل التي حدث الخلاف فيها بين أهل السنة وبين من انتسب إلى المسلمين، ففصلت هذه المسائل وبينت في تراجمها أن تلك المسألة: متى حدث في الإسلام الاختلاف فيها، ومن الذي أحدثها وتقولها، ليعرف حدوثها وأنه لا أصل لتلك المقالة في الصدر الأول من الصحابة، ثم استدل على صحة مذاهب أهل السنة بما ورد في كتاب الله تعالى فيها، وبما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فإن وجدت فيهما جميعاً ذكرتهما وإن وجدت في أحدهما دون الآخر ذكرته، وإن لم أجد فيهما إلا عن الصحابة الذين أمر الله ورسوله أن يقتدى بهم ويهتدى بأقوالهم ويستضاء بأنوارهم لمشاهدتهم الوحي والتنزيل ومعرفتهم معاني التأويل احتججت بها، فإن لم يكن فيها أثر عن صحابي فعن التابعين لهم بإحسان، الذين في قولهم الشفا والهدى والتدين بقولهم القربة إلى الله والزلفى، فإذا رأيناهم قد أجمعوا على شيء عولنا عليه، ومن انكروا قوله أو ردوا عليه بدعته أو كفروه حكمنا ه واعتقدناه " (1) ويوجد في الكتاب عشرات الأحاديث والآثار الضعيفة التي تحتاج إلى بيان ضعفها، وعذر المؤلف أنه أبرز الإسناد، واتبع طريقة: العهدة على الرواة ومن أسند فقد أحال، وقد طبع الكتاب بتحقيق الدكتور: أحمد سعد حمدان، ونشرته دار طيبة، وذكر المحقق في مقدمته عنايته ببيان درجة الأحاديث المرفوعة، وأما الطبعة التي ذكرها السائل وفقه الله فلم اطلع عليها. هذا والله أعلم،
- - - - - -
أقوى الأسانيد عند الشافعي
ما هي أقوى أسانيد الإمام الشافعي التي استخدمها؟.
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
__________
(1) - شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة ( 1/27 )(1/172)
تلقى الإمام محمد بن إدريس الشافعي المطلبي (150 هـ - 204 هـ) مروياته الحديثية عن جماعة من أئمة الحديث، ومن أبرزهم الإمام مالك بن أنس (ت 179 هـ) إمام دار الهجرة، حيث سمع منه الموطأ، وقد قال الإمام البخاري: " أصح الأسانيد كلها مالك عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنهما - " (1) ، والإمام الشافعي روى عن مالك من هذا الطريق أحاديث كثيرة، فقد روى مالك عن نافع في الموطأ ثمانين حديثاً، وهذه كلها رواها الشافعي؛ لأنه سمع الموطأ من مالك كما سبق، قال أبو منصور: أجل الأسانيد: الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر -رضي الله عنهما-، واحتج بإجماع أصحاب الحديث على أنه لم يكن في الرواة عن مالك أجل من الشافعي .
وينظر بعض مرويات الشافعي بهذا الإسناد في مسنده ( رقم: 164 ، 213، 682، 683،789، 966، ) (2)
هذا والله الموفق، والهادي إلى سواء السبيل.
- - - - - -
قوله تعالى (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) هل يشمل السنة؟
سمعت أن الآية (9) من السورة رقم (15)، تتحدث عن حفظ القرآن والسنة، بعض الناس - ومنهم حزب التحرير - يقولون إن المقصود بكلمة "ذكر" هو القرآن فقط دون السنة، وليس هناك حماية إلهية للسنة، وقد بحثت في تفسير ابن كثير بالإنجليزية فلم أجد أي إشارة للسنة، أرجو التكريم بالإيضاح، هل تتضمن الآية المذكورة إشارة للسنة؟ ومَن مِن العلماء قال بذلك؟.
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
__________
(1) - علوم الحديث لابن الصلاح ص:16
(2) - ينظر: علوم الحديث لابن الصلاح ص:16 ، تجريد التمهيد ص:170 ، النكت لابن حجر (1/262 )، مسند الإمام الشافعي الذي جمعه أبو العباس بن يعقوب الأصم (ت 346 هـ) ورتبه محمد عابد السندي .(1/173)
الآية المشار إليها في السؤال في سورة الحجر وهي قوله تعالى: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } (1) ، والذكر هو القرآن، والمعنى: أن الله سبحانه نزل القرآن وحفظه من أن يزاد فيه أو ينقص أو يحصل فيه تغيير أو تبديل، كقوله عز وجل: { وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } (2) ، وقوله تعالى: { لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ } (3) قال ابن جرير: " يقول تعالى ذكره: "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ" وهو القرآن "وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" قال: وإنا للقرآن لحافظون من أن يزاد فيه باطل ما ليس منه ، أو ينقص منه ما هو منه من أحكامه وحدوده وفرائضه" (4) ، وبهذا يتضح من دلالة الآية أن الله سبحانه تكفَّل بحفظ القرآن ، وهذا يستلزم منه حفظ السنة التي هي بيان للقرآن كما قال سبحانه: { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } (5) ؛ لأن المقصود حفظ الشريعة والدين، ولا يتحقق هذا على وجه الكمال والتمام إلا بحفظ السنة التي هي بيان للقرآن ، وقد دل على هذا قوله سبحانه: { إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرآنه ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } (6) ، أي بيان القرآن وإيضاحه علينا، ويستلزم من ذلك حفظ هذا البيان ، وهو السنة، وقد حفظ الله السنة في صدور الصحابة - رضي الله عنهم - والتابعيين حتى بلغوها للأمة وكتبت ودونت في المصنفات، والمسانيد
__________
(1) - سورة الحجر الآية: 9
(2) - سورة فصلت الآية: 42
(3) - سورة القيامة : 16- 18
(4) - تفسير ابن جرير (14/ 7)
(5) - سورة النحل الآية:44
(6) - سورة القيامة: 18-19(1/174)
والمعاجم، وهيأ الله - سبحانه وتعالى- لهذه السنة جهابذة العلماء الذين بذلوا جهوداً عظيمة في حفظها من تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، وابتكروا وسائل وطرقاً تضمنت أصولاً وقواعد عرفت بعلوم الحديث، وهي في غاية الإتقان والإحكام يحصل من خلالها تمييز الصحيح من الضعيف والمحفوظ من المنكر والشاذ ، وإيضاح الأوهام والأخطاء التي توجد في الأسانيد والمتون، ومن أمعن النظر في تراجم أئمة الحديث، وتدبر ما آتاهم الله من قوة الحفظ وسداد الفهم والتفاني في خدمة السنة وحياطتها والذب عنها أدرك أن ذلك ثمرة حفظه تعالى لدينه وشريعته، ولكن لما كان القرآن معجزاً بألفاظه ومعانيه ومتعبداً بتلاوته جعل الله حفظه إليه ونُقل نقلاً متواتراً، وأما السنة فلم يقصد التعبد ولا الإعجاز بألفاظها فحفظها الله- سبحانه وتعالى- بتهيئة أولئك الأئمة الذين بذلوا جهوداً عظيمة في حفظها والذب عنها، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: " فإن الدين محفوظ بحفظ الله له ولما كانت ألفاظ القرآن محفوظة منقولة بالتواتر لم يطمع أحد في إبطال شيء منه ولا في زيادة شيء فيه بخلاف الكتب التي قبله قال تعالى: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } بخلاف كثير من الحديث طمع الشيطان في تحريف كثير منه وتغيير ألفاظه بالزيادة والنقصان والكذب في متونه وإسناده فأقام الله له من يحفظه ويحميه، وينفي عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، فبينوا ما أدخل أهل الكذب فيه وأهل التحريف في معانيه " (1) ، ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله- أيضاً: " قال تعالى: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } ، فما في تفسير القرآن أو نقل الحديث أو تفسيره من غلط فإن الله يقيم له من الأمة من يبينه ويذكر الدليل على غلط الغالط وكذب الكاذب، فإن هذه الأمة لا تجتمع على
__________
(1) - الرد على البكري ( 1/ 171 )(1/175)
ضلالة ولا يزال فيها طائفة ظاهرة على الحق حتى تقوم الساعة إذ كانوا في آخر الأمم فلا نبي بعدهم ولا كتاب بعد كتابهم، وكانت الأمم قبلهم إذا بدَّلوا وغيروا بعث الله نبياً يبين لهم ويأمرهم وينهاهم ولم يكن بعد محمد - صلى الله عليه وسلم - نبي ، وقد ضمن الله أن يحفظ ما أنزله من الذكر، وأن هذه الأمة لا تجتمع على ضلالة، بل أقام الله لهذه الأمة في كل عصر من يحفظ به دينه من أهل العلم والقرآن " (1) ، ومن العلماء من فسر الذكر في الآية : بالكتاب والسنة، يقول ابن تيمية: " قال تعالى: { وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } (2) ، وذكر الرحمن الذي أنزله هو الكتاب والسنة اللذان قال الله فيهما : { وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } (3) ، وقال تعالى: { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } (4) ، وهو الذكر الذي قال الله فيه: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } (5) " (6)
هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
- - - - - -
سؤال من العلاقات العامة بوزارة الشؤون الإسلامية
__________
(1) - الجواب الصحيح (3 / 39)
(2) - سورة الزخرف الآية: 36
(3) - سورة البقرة الآية: 231
(4) - سورة آل عمران: من الآية164
(5) - سورة الحجر: 9
(6) - الفتاوى الكبرى (2 / 274)(1/176)
يطالب البعض بإعادة قراءة السنة وإعادة تصنيفها وفق منهج علمي واستبعاد الأحاديث الموضوعة ومحل الخلاف لمقاومة ظاهرة الوضع في الحديث الشريف أو اختلاف شروحاته ، فكيف تنظرون لمثل هذه الدعاوى ؟ وما هي الإشكاليات التي تواجه تصنيف وتحقيق السنة بأسلوب عصري ؟
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
1- اتسمت هذه الدعوة بسمة الكلام العام المجمل الذي يحتاج إلى تفصيل وبيان حتى يتضح المقصود بها، وعلى ضوء ذلك يتم مناقشة هذه الدعوة وتقويمها، ومعرفة مدى الحاجة إليها، وهل فيها إضافة جديدة إلى الجهود المعاصرة في خدمة السنة.
2- يجب عند طرح أي مشاريع تتعلق بالسنة النبوية وعلومها الرجوع إلى المختصين والمتمكنين في هذا العلم، لأنهم أعلم بدقائق هذا العلم من غيرهم ، وأعرف بما يحتاج إليه من جهود، ولضمان سلامة المنهج بحيث لا يحصل إخلال بقواعد هذا العلم وأصوله، وهذا أمر معروف في كل علم فمراعاته في علم السنة من باب أولى، لأن السنة هي المصدر الثاني من مصادر التشريع بعد القرآن وما تضمنته من أحاديث وآثار هي الأصول التي يعتمد عليها في الأحكام الشرعية، وكما قيل : أكثر ما يفسد الدنيا نصف متكلم، ونصف متفقه، ونصف متطبب، ونصف نحوي هذا يفسد الأديان، وهذا يفسد البلدان، وهذا يفسد الأبدان، وهذا يفسد اللسان "، وكما قيل أيضاً: " من دخل في غير فنه أتى بالعجائب . "(1/177)
3- من المعلوم أن السنة حظيت عبر القرون السابقة واللاحقة بجهود ضخمة حيث هيأ الله سبحانه وتعالى علماء خدموا السنة، وأثمرت هذه الجهود مكتبة حديثية واسعة ساهمت في خدمة السنة في كافة المجالات، وهذه ثروة عظيمة ينبغي أن تفخر بها الأمة ، وتقدر هؤلاء الرواد أعظم تقدير، وتشيد بجهودهم وأعمالهم ، ويجب أن تحظى هذه المؤلفات بالدراسة والفحص والنقد وإظهار مميزاتها ، وبيان جوانب القصور والخلل إن وجدت، وهناك جهود بحمد الله كبيرة في هذا المجال وهي تحتاج إلى التسديد والتقويم والتطوير، وأي دعوة للتجديد والابتكار في مجال السنة ينبغي أن تكون امتداداً لتلك الجهود، وتتميماً لتلك الأعمال العظيمة .
4- أود أن أوضح أن التدوين في السنة مر بمراحل عديدة حتى تم نضجه في القرن الثالث والذي هو العصر الذهبي في تدوين السنة ، حيث اتجه أئمة الحديث بعد جمع السنة إلى تمحيصها ونقدها فأثمرت تلك الجهود مصنفات أصبح عليها المعول والاعتماد ، حيث قصد مؤلفوها أن تكون هذه المصادر مرجعاً للأمة ، مثل الكتب الستة ، ومسند الإمام أحمد ، ونظائرها من كتب السنة .
قال الإمام أحمد - رحمه الله - : " إن هذا الكتاب قد جمعتهُ وأتقنته من أكثر من سبعمائة وخمسين ألفاً ، فما اختلف المسلمون فيه من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فارجعوا إليه ، فإن كان فيه وإلا فليس بحجة . "
وقال البخاري - رحمه الله - : صنفت كتاب الجامع الصحيح في المسجد الحرام ، وما أدخلت فيه حديثاً إلا استخرت الله وصليت ركعتين وتبينت صحته "
وقال أيضاً: " صنفت هذا الجامع الصحيح من ستمائة ألف حديث في ست عشرة سنة ، وجعلته حجة بيني وبين الله "
وقال الإمام مسلم - رحمه الله - : " صنفت هذا الحديث من ثلثمائة ألف حديث مسموعة "
وقال أيضاً: " لو أن أهل الأرض يكتبون الحديث مائتي سنة ما كان مدارهم إلا على هذا المسند "(1/178)
وقال: " أخرجت هذا من الحديث الصحيح ليكون مجموعاً عندي ، وعند من يكتبه عني فلا يرتاب في صحتها "
وقال : " ما وضعت شيئاً في كتابي هذا إلا بحجة ، وما أسقطت منه شيئاً إلا بحجة "
وقال أبو داود في رسالته إلى أهل مكة في وصف سننه : " فإنكم سألتم أن أذكر لكم الأحاديث التي في كتاب " السنن " أهي أصح ما عرفتُ في الباب ؟ ووقفت على جميع ما ذكرتم . فاعلموا أنه كذلك كله ....... وهو كتاب لا ترد عليك سنة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بإسناد صالح إلا وهي فيه ...... ولا أعلم شيئاً بعد القرآن ألزم للناس أن يتعلموه من هذا الكتاب ....... وما كان في كتابي من حديث فيه وهنٌ شديد فقد بينته ، ومنه ما لا يصح سنده وما لم أذكر فيه شيئاً فهو صالح وبعضها أصح من بعض "
ويقول الحافظ ابن رجب رحمه الله - بعد كلام نقله عن الخطيب يحذر فيه من تتبع الأحاديث الغرائب -: " وهذا الذي ذكره الخطيب حق، ونجد كثيراً ممن ينتسب إلى الحديث لا يعتني بالأصول الصحاح كالكتب الستة ونحوها "
وأي دعوة لتقريب السنة لجماهير المسلمين ينبغي أن تنطلق من هذه الأصول المعتمدة التي بذل فيها مصنفوها جهداً كبيراً في تمحيص السنة ونقدها حيث استخرجوا هذه الأحاديث وانتخبوها من الاف الطرق والروايات وفق منهجٍ في غاية الدقة والإحكام .(1/179)
5- ما ورد في هذه الدعوة من استبعاد الأحاديث الموضوعة هذا أمر متفق عليه والعلماء قد قاموا بجهود عظيمة في مقاومة الوضع منذ ظهر ، حيث نقدوا المرويات وتكلموا في الرواة، ورسموا منهجاً لمعرفة الوضع ، ثم دونت الأحاديث الموضوعة في مصنفات خاصة مثل: كتاب الأباطيل للجوزقاني، وكتاب الموضوعات، لابن الجوزي، وكتاب تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الشنيعة الموضوعة، لعلي بن محمد بن عراق الكناني، والمنار المنيف في الصحيح والضعيف، لابن قيم الجوزية، وكتاب المصنوع في الحديث الموضوع، للحافظ علي القارئ، وكتاب الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة، لمحمد بن علي الشوكاني، واعتنى العلماء عبر كتب التخريج إلى كشف الأحاديث الموضوعة في كتب التفسير والعقائد والسلوك وغير ذلك
6- ما ورد في هذه الدعوة من استبعاد المختلف فيه من الأحاديث ولعل المقصود بالمختلف في قبوله ورده ، وهذا لا يمكن استبعاده من السنة لأسباب كثيرة منها:
أ- أن التصحيح والتضعيف من الأمور الاجتهادية فقد يصحح إمام من الأئمة حديثاً أو يحسنه ويرى آخر أنه ضعيف، وهذا يرجع إلى الاختلاف في الحكم على الحديث المعين هل توفرت فيه شروط القبول: من عدالة الرواة، واتصال السند، والسلامة من الشذوذ والعلة أم لم تتوفر ، فيحصل الخلاف بين أئمة الحديث ، وباب الاجتهاد في هذا المجال لا يمكن إغلاقه بل هو مفتوح للمتأهلين والمتمكنين في هذا الفن، كما يوجد الاختلاف في المسائل الفرعية في الفقه الإسلامي .
ب- الأحاديث المختلف في قبولها وردها استدل بها الأئمة في مسائل كثيرة ودخلت في مناقشاتهم العلمية وتداولوها في كتبهم ومصنفاتهم ، ولهذا لابد من دراستها ومعرفتها .
ج- بعض الأحاديث المختلف فيها قد يستأنس بها حيث يوجد ما يؤيدها من أصول الدين وقواعد الشريعة ، أو ظاهر القرآن ، أو السنة الصحيحة .(1/180)
وأما ما يتعلق بالاشكاليات التي تواجه تصنيف السنة النبوية والسيرة بأسلوب عصري أقول: السنة النبوية والسيرة بحاجة إلى تقريبها لجماهير المسلمين بلغة العصر مع المحافظة التامة على أصالتها واتباع المنهج النقدي الذي رسمه الأئمة الأعلام وهذا يتطلب ما يأتي:
- تأهيل الكفاءات العلمية في مجال السنة وعلومها والتي تجمع بين العلم الراسخ في تخصصهم وفهم ضروريات العصر، وحاجياته واكتشافته العلمية والتطبيقية، ومسايرة التقدم السريع للعلم والتقنية، والتوسع في البحوث العلمية الجادة للوصول إلى إضافات علمية وتطبيقية مبتكرة يتوفر فيها الإبداع والابتكار وتطوير البحث العلمي، ومعالجة قضايا المجتمع .
- الاستفادة قدر الإمكان من التقنيات المعاصرة في الكتابة والطباعة والبحث والتخزين ، وغير ذلك، وتقويم الجهود التي بذلت للاستفادة من التقنية الحديثية في خدمة السنة النبوية، مع بحث سبل تطويرها وتعميم الإفادة منها .
- تنسيق الجهود المبذولة لخدمة السنة في الهيئات العلمية، ومراكز خدمة السنة بحيث تستثمر هذه الجهود لتلبية الطموحات المأمولة لخدمة السنة والسيرة .
وفي الختام أود أن أنوه بالجهود المشكورة للمملكة العربية السعودية في خدمة السنة والسيرة في الداخل والخارج ، وقد أثمرت هذه الجهود المباركة ما نراه من نهضة علمية واسعة في مجال السنة وعلومها
هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل ...
- - - - - -
مرويّات أبي حنيفة رحمه الله؟!
هل كان للإمام أبي حنيفة سلسلة معينة أو سلسلة رواة يأخذ عنها؟ سمعت أنه كان للإمام مالك ما يسمى (سلسلة ذهبية)، وكانت عبارة عن سلسلة من أدق الرواة، فهل كان للإمام أبي حنيفة سلسلة رواة متميزين بالصدق التام؟ وما هي؟ أرجو تقديم أمثلة.
سمعت أن الإمام استنبط أحكاماً كثيرة من أحاديث الصحابي عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - ، فمن كان من الرواة بين هذا الصحابي - رضي الله عنه - والإمام أبو حنيفة.(1/181)
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
للإمام أبي حنيفة - رحمه الله - مرويات حديثية رواها عنه محمد بن الحسن في كتاب الآثار، ويوجد له مرويات أخرى مبثوثة في تصانيف محمد بن الحسن، وأبي يوسف - رحمهما الله -، وقد اعتنى بعض العلماء بجمع حديثه منهم:
(1) محمد بن محمود الخوارزمي المتوفى سنة 665هـ ، ذكر ذلك صاحب كشف الظنون، وطبع المسند الذي جمعه بمصر سنة 1326هـ.
(2) الحافظ أبو محمد الحارثي، فقد اعتنى بحديث أبي حنيفة فجمعه في مجلدة ورتبه على شيوخ أبي حنيفة، وخرج المرفوع منه الحافظ أبو بكر بن المقري، ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في مقدمة تعجيل المنفعة .
(3) الحسين بن محمد بن خسرو المتوفى سنة 522 هـ، وقال الحافظ الذهبي في ترجمته: " المحدث العالم جامع مسند أبي حنيفة . " (1) ، ولا يعرف للإمام سلسلة إسنادية موصوفة بأصح الأسانيد، كما يوجد للإمام مالك - رحمه الله - وروايته عن ابن مسعود - رضي الله عنه - هي من طريق حماد بن أبي سليمان، عن النخعي، عن ابن مسعود - رضي الله عنه - وفي بعضها عن النخعي، عن علقمة، عن ابن مسعود - رضي الله عنه - ورواية النخعي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - ، وإن كانت مرسلة أي منقطعة، وذلك أن النخعي لا يصح له سماع عن أحدٍ من الصحابة - رضي الله عنهم - إلا أن العلماء صححوا مراسيله عن ابن مسعود - رضي الله عنه - ، وقد اعتنى الحسيني بتراجم رجال أبي حنيفة ضمن كتابه: التذكرة برجال العشرة. واعتمد في رجال أبي حنيفة على المسند الذي جمعه ابن خسرو، ثم أفرد الحافظ ابن حجر رجال الأربعة ممن ليس له رواية في تهذيب الكمال في كتابه: تعجيل المنفعة. والأربعة هم: أبو حنيفة، مالك ، الشافعي ، أحمد بن حنبل . هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
- - - - - -
معنى الجرح والتعديل ومن يقوم به
__________
(1) - سير أعلام النبلاء (19/592)(1/182)
ارجو أن توضحوا لي باختصار ما معنى: (الجرح والتعديل؟) ومن يقوم به؟ ومن أين جاء؟ مع الأدلة.
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
الجرح في اللغة: التأثير في الجسم بالسلاح ونحوه ، يقال: جرحه جرحاً إذا أثر فيه، ويكون الجرح معنوياً فيقال: جرحه بلسانه أي: شتمه ، وسبه، وقال بعض أئمة اللغة: " الجُرح - بالضم - يكون في الأبدان بالحديد ونحوه، والجَرح - بالفتح - يكون باللسان في المعاني والأعراض ونحوها . "
وقد استعمل المحدثون الجرح في نقد الرواة والمقصود به: وصف الراوي بما يقتضي تليين روايته أو تضعيفها أو ردها، مثل قولهم: لين الحديث ، سيىء الحفظ، مجهول ، متروك ، متهم بالكذب ، كذاب، وضاع.
والتعديل في اللغة: التسوية، وتقويم الشيء وهو ضد الجور .. والتعديل عند المحدثين: وصف الراوي بما يقتضي قبول روايته، مثل قولهم: ثقة متقن ، ثقة ثبت ، ثقة ، حجة ، صدوق ، لا بأس به، وذلك إذا تحقق فيه شرطان هما: عدالة الراوي وضبطه ، كما أن جرح الراوي يكون بسبب اختلال هذين الشرطين أو أحدهما.... والمراد بالعدالة: ملكة تحمل المرء على ملازمة التقوى والمروءة، والمراد بالتقوى: اجتناب الأعمال السيئة من شرك أو فسق أو بدعة ، وأما المروءة فآداب تحمل الإنسان على الوقوف عند محاسن الأخلاق وجميل العادات، ويُرجع في معرفتها إلى العُرْف، وذلك يختلف باختلاف الأشخاص والبلدان.
والمراد بالضبط: الضبط نوعان هما: ضبط الصدر وضبط الكتاب، فضبط الصدر: أن يكون الراوي يقظاً غير مُغَفَّل بل يحفظ ما سمعه ويُثْبِتُه، بحيث يتمكن من استحضاره متى شاء، مع علمه بما يحيل المعاني إن روى بالمعنى .(1/183)
وضبط الكتاب: صيانته لديه منذ سمع فيه وصححه إلى أن يؤدي منه، والأدلة على اعتبار العدالة والضبط في الرواة: الأصل في اعتبار عدالة الراوي قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين } (1) ، ووجه الدلالة أن الآية نص في وجوب التبين والتثبت من حقيقة خبر الفاسق .
والأصل في اعتبار الضبط الحديث المشهور: " نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا وَحَفِظَهَا وَبَلَّغَهَا فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ " (2) ، وفي بعض رواياته: " فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَ " (3) ، ووجه الدلالة:
(1) أن قوله - صلى الله عليه وسلم - : " فحفظها " نص على الحفظ، وهو يشمل الحفظ في الصدر وفي الكتاب.
(
__________
(1) - سورة الحجرات الآية: 6
(2) - أخرجه الترمذي ح (2580) من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -
(3) - أخرجه الترمذي ح (2657)(1/184)
2) وقوله: " فبلغه كما سمع " نص على اعتبار الضبط عند الأداء، وجرح الرواة بقدر الحاجة لا يعد من الغيبة المحرمة بإجماع المسلمين ، بل هو واجب إذ يترتب عليه تميز ما يقبل من الأحاديث ، وما يرد منها، ومن الأدلة على جواز الغيبة لغرض شرعي: ما جاء في الصحيحين من حديث عائشة -رضي الله عنها- : أن رجلاً استأذن على النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما رآه قال: "بئس أخو العشيرة وبئس ابن العشيرة " فلما جلس تَطَلَّقَ النبي - صلى الله عليه وسلم - في وجهه وانبسط إليه، فلما انطلق الرجل قالت عائشة- رضي الله عنها-: يا رسول الله حين رأيت الرجل قلت له كذا وكذا ثم تطلقت في وجهه وانبسطت إليه ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "يا عائشة متى عهدتني فاحشاً ؟ إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره " وفي رواية عند مسلم: " اتقاء فحشه ". (1)
ووجه الدلالة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تكلم في ذلك الرجل على وجه الذم لما كان في ذلك مصلحة شرعية ، وهي التنبيه إلى سوء خلقه ليحذره السامع كما يفيده قوله: " إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء فحشه " ، ولذلك تطلق في وجهه وانبسط إليه مداراة له لا مداهنة، وتثبت عدالة الراوي بأحد أمرين :
الأمر الأول: الاستفاضة بأن يشتهر الراوي بالصدق والأمانة والاستقامة، ويعرف بالضبط والإتقان والعلم، مثل الأئمة الأعلام كمالك وأحمد والشافعي، ومن جرى مجراهم في نباهة الذكر، والاشتهار بالصدق والبصيرة والفهم .
__________
(1) - أخرجه البخاري ح (6032)، ومسلم ح (2591)(1/185)
الأمر الثاني : تنصيص الأئمة على عدالة الراوي، ويكفي تعديل الإمام الواحد على القول الراجح قياساً على قبول خبر الراوي الثقة عند تفرده، ويعرف الأئمة عدالة الراوي بتتبع سيرته وحياته ، وهذا يقوم به من عايش هذا الراوي ، وقد يستدل على عدالة الراوي بتمعن أحاديثه، وأما ضبط الراوي فيعرف بعرض رواياته على أقرانه ممن يروي عن شيخه، فإذا وافق الثقات صار ضابطاً ، وإذا خالفهم اختل ضبطه ، وهو درجات، فالإمام أحمد أو غيره من الأئمة مثلاً عندما يقول: فلان في أحاديثه اضطراب يكون عرف ذلك بتتبع مروياته ودراسة أحاديثه، وقد يعرف ضبط الراوي باختباره مباشرة من قبل أحد الأئمة، والذي يقوم باختبار ضبط الراوي ومعرفته لعدالته هم أئمة الجرح والتعديل: كأحمد، وابن معين، وابن المديني، والبخاري وغيرهم .
هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
- - - - - -
ضوابط في تصحيح الأحاديث وتضعيفها
سمعت بعض الأخوة يقولون أن كل حديث ضعفه الألباني فهو ضعيف وكل حديث صححه الألباني بعض منها ضعيف هل هذا الكلام صحيح؟
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
هذا الكلام نقل عن بعض أهل العلم، وهو أن العلامة الشيخ الألباني - رحمه الله - قوي فيما ضعف، وليس كذلك فيما صحح أو حسن، ومعنى ذلك أنه صحح أحاديث أو حسنها، وعند التدقيق يظهر أنها ضعيفة، وقد تراجع الشيخ - رحمه الله - عن أحاديث صححها ثم تبين له ضعفها فيما بعد، ولكن لا يناسب أخذ هذا الكلام على إطلاقه، فهناك أحاديث ضعفها الشيخ - رحمه الله -، وقد تراجع عن تضعيفها، أو يكون ضعفها في مكان وصححها في مكان آخر، أو ضعفها باعتبار إسناد معين، وهي بمجموع الطرق والشواهد تكون صحيحة، أو ضعفها واستُدِركَ عليه في تضعيفها من قبل بعض أهل العلم والباحثين لاسيما ما كان في الصحيحين أو أحدهما .
وأود في هذه المناسبة أن أشير إلى بعض الأمور المتعلقة بتصحيح نصوص السنة، أوجزوها فيما يأتي:(1/186)
1- أن التصحيح ليس من الأمور السهلة، والخوض فيه مزلة أقدام، وهو يحتاج إلى طول ممارسة ومطالعة واسعة لكلام أئمة هذا الشأن، وتوفر ملكة راسخة في هذا الفن، وفهم دقيق لأصوله وقواعده، ومن ثم تطبيق ذلك على الأسانيد والطرق، والتدقيق في المتون، والتأكد من سلامتها من الشذوذ والعلل، وهل فيها معارضة لنصوص أخرى من الكتاب والسنة، ومعنى هذا أنه لا يتأهل للتصحيح والتضعيف إلا القلة على مر الدهور والعصور، قال ابن رجب - رحمه الله - وهو في معرض حديثه عن البخاري ومسلم وصحيحيهما: " فقلَّ حديثٌ تركاه إلا وله علةٌ خفيّة؛ لكن لعزة من يَعرف العلل كمعرفتهما وينقده، وكونه لا يتهيأ الواحد منهم إلا في الأعصار المتباعدة: صار الأمر في ذلك إلى الاعتماد على كتابيهما، والوثوق بهما والرجوع إليهما، ثم بعدهما إلى بقية الكتب المشار إليها . ولم يُقبل من أحد بعد ذلك الصحيح والضعيف إلا عمَّن اشتُهر حِذقه ومعرفته بهذا الفن واطلاعُه عليه، وهم قليل جداً . " (1)
__________
(1) - مجموع رسائل ابن رجب ( 2/622 )(1/187)
2- أن المتأمل في الأحكام على الأحاديث يجد كثرة الأحاديث التي صححها من جاء بعد الأئمة المتقدمين وقد حكم عليها الأئمة المتقدمون بالضعف والنكارة وربما بالبطلان أو الوضع، ومن المعلوم أن الأئمة المتقدمين هم أهل هذا الشأن، فهم أرسخ في فهم قواعد هذا العلم وأصوله، وهم المرجع في التصحيح والتضعيف، حيث توفر لهم من الأسباب والعوامل المعينة على تمييز الصحيح من الضعيف والمحفوظ من المنكر مالم يتوفر لغيرهم، وهذا يجعل كلامهم أقرب إلى الصواب . قال الذهبي - وهو يتحدث عن العنعنة والتدليس -: " وهذا في زماننا يَعْسُرُ نقدُه على المحدَّث، فإن أولئك الأئمة، كالبخاري وأبي حاتم وأبي داود عاينوا الأصول وَعَرَفوا عِلَلَها، وأما نحن فطالت الأسانيدُ وَفُقِدَتْ العباراتُ المتيقَّنة، وبمثل هذا ونحوه دخل الدَّخَلُ على الحاكم في تَصَرُّفِه في المستدرك " (1) ، وقال الحافظ ابن حجر - بعد أن ذكر كلام بعض الأئمة في نقد حديث-: " وبهذا التقرير يتبين عظم موقع كلام الأئمة المتقدمين، وشدة فحصهم، وقوة بحثهم، وصحة نظرهم، وتقدمهم بما يوجب المصير إلى تقليدهم في ذلك والتسليم لهم فيه ." (2) ، وقال السخاوي وهو يتحدث عن التفرد: " ولذا كان الحكم به من المتأخرين عسراً جداً، وللنظر فيه مجال، بخلاف الأئمة المتقدمين الذين منحهم الله التبحر في علم الحديث والتوسع في حفظه كشعبة والقطان وابن مهدي ونحوهم وأصحابهم مثل أحمد وابن المديني وابن معين وابن راهوية، وطائفة، ثم أصحابهم مثل البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي، وهكذا إلى زمن الدارقطني والبيهقي، ولم يجيء بعدهم مساو لهم ولا مقارب أفاده العلائي، وقال: فمتى وجدنا في كلام أحد المتقدمين الحكم به كان معتمداً لما أعطاهم الله من الحفظ الغزير وإن اختلف النقل عنهم عدل إلى الترجيح . " (3)
__________
(1) - الموقظة ص: 46
(2) - ينظر: النكت على ابن الصلاح ( 2/726 )
(3) - فتح المغيث ( 1/237 )(1/188)
3- إذا تقرر هذا فمن المهم معرفة منهج الأئمة المتقدمين في دراسة الأسانيد والمرويات، وهذا يحتاج إلى بسط لا يتسع له المقام ، ولكن من المناسب الإشارة إلى أبرز معالم المنهج النقدي الذي سلكه الأئمة ، ومن ذلك:
- العناية التامة بسلامة الحديث من العلة والشذوذ
- الترجيح بالقرائن في زيادات الثقات وتعارض الوصل والإرسال والوقف والرفع .
- مراعاة أحوال الرواة الثقات في شيوخهم، إذ أن هناك من الرواة الثقات من ضعف في بعض شيوخه، أو في روايته عن أهل بلد معين، أو إذا حدث من حفظه .
- حرصهم على النص على ما يوجد في الأسانيد من تفرد وغرابة ونكارة، وأن وجود التفرد مظنة قوية على خطأ الراوي وإن كان ثقة .
- التحقق من وجود الاتصال بين الرواة ولا يحكم للراوي أنه سمع مِنْ مَنْ روى عنه حتى يثبت هذا بطريق راجح .
- تقوية الحديث بالمتابعات والشواهد له ضوابط ومن أبرزها التأكد من كونها محفوظة وسالمة من الخطأ والوهم ، إذا أن تعدد الطرق من راوي قد يكون سببه اضطرابه أو اضطراب من روى عنه ، وأن كثرة الطرق قد لا تفيد الحديث قوة إذ أنها ترجع إلى طريق واحد ، وما يظن أنه شاهد قد يكون خطأ من بعض الرواة.(1/189)
هذه إشارات موجزة وعبارات مقتضبة عن منهج الأئمة المتقدمين في دراسة المرويات، وقد حصل الإخلال بهذا المنهج في الجملة في تصحيح كثير من المتأخرين ، إما عن قصور في فهمه أو تركه على سبيل القصد والتعمد ، ولذا ينبغي عرض ما نجده من تصحيح المتأخرين على كلام الأئمة المتقدمين ، وإذ لم نجد لهم كلاماً خاصاً في الحديث، فنعرضه على منهجهم والقواعد التي ساروا عليها . قال السخاوي: " فالله تعالى بلطيف عنايته أقام لعلم الحديث رجالاً نقاداً تفرغوا له، وأفنوا أعمارهم في تحصيله، والبحث عن غوامضه، وعلله، ورجاله، ومعرفة مراتبهم في القوة واللين، فتقليدهم والمشي وراءهم ، وإمعان النظر في تواليفهم .... وملازمة التقوى والتواضع يوجب لك إن شاء الله معرفة السنن النبوية ولا قوة إلا بالله " (1)
وهذا والله أعلم .
- - - - - -
ما المقصود بالإجازة والإسناد في علم الحديث
ما هي الإجازة والإسناد بين العلماء؟ وهل العلماء السعوديون يحملون مثل هذه المؤهلات العلمية؟
في هذه الأيام بعض الصوفيين يخبرون الناس بأن من يريد أن يصبح عالما عليه أن يحصل على إجازة وإسناد من العلماء الآخرين الذين لهم مرجعية.
وهم يدعون أن العلماء السعوديون ومنهم السلفية والوهابية ليس عندهم إجازة ولا إسناد.
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
__________
(1) - فتح المغيث ( 1/274 )(1/190)
بلاد الحرمين بحمد الله ينتشر فيها العلم الشرعي والفقه الصحيح المستقى من معين الكتاب والسنة، والقائم على اتباع هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - ومحاربة البدع والخرافات والانحرافات العقدية التي حدثت في الأمة منذ ظهور الافتراق الذي أخبر عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: " افْتَرَقَتْ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى أَوْ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَتَفَرَّقَتْ النَّصَارَى عَلَى إِحْدَى أَوْ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً " (1) ، وتنتشر فيها - بحمد الله - الكليات الشرعية والمعاهد العلمية والحلقات العلمية في المساجد، ويتوفر في هذه الصروح العلمية علماء أجلاء متخصصون في العلوم الشرعية تلقوا علمهم عن علماء راسخين متمكنين في علوم الشرعية ونهلوا من علوم الكتاب والسنة وانتفعوا بما كتبه علماء الإسلام في شتى المجالات والتخصصات مثل: التفسير والحديث والفقه والأصول واللغة العربية وغير ذلك .
__________
(1) - أخرجه أبو داود ح ( 3980 ) والترمذي ح ( 2564 ) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -(1/191)
وأما الأسانيد والإجازة فهي متيسرة وموجودة لمن يريدها ويطلبها ولكن الذي أحب أن أشير إليه أن الأسانيد والإجازات بعد عصر الرواية، أي بعد ما صنفت الكتب ودونت المؤلفات التي جمعت فيها الأحاديث بالأسانيد أصبح الاهتمام بالأسانيد من أجل بقاء بركة الأسانيد التي هي من خصائص هذه الأمة، ويمكن الرجوع إلى هذه الكتب مباشرة والأخذ منها وذلك أن هذه المصنفات اشتهرت عن أصحابها فإذا أرادت أن تأخذ حديثاً عن البخاري فأنت ترجع إليه مباشرة ولا يلزم أن يكون لك إسنادٌ إلى البخاري ولا إجازة ، وهكذا في بقية الكتب، وقد نص علماء الحديث على أن نقل الحديث من الكتب المعتمدة التي اشتهرت نسبتها إلى مصنفيها أو صحت يكون بالرجوع إلى الكتب مباشرة بشرط أن تكون قد قوبلت على أصول معتمدة ولا يلزم أن يكون له رواية إلى تلك الكتب ، قال ابن برهان : " ذهب الفقهاء كافة إلى أنه لا يتوقف العمل بالحديث على سماعه بل إذا صحت عنده النسخة من الصحيحين مثلاً، جاز له العمل بها وإن لم يسمع" (1) ، وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: " وأما الاعتماد على كتب الفقه الصحيحة الموثوق بها فقد اتفق العلماء في هذا العصر على جواز الاعتماد والإسناد إليها، لأن الثقة قد حصلت بها كما تحصل بالرواية، ولذلك اعتمد الناس على الكتب المشهورة في النحو واللغة والطب وسائر العلوم لحصول الثقة بها وبعد التدليس "، ثم قال: " وكتب الحديث أولى بذلك من كتب الفقه وغيرها، لاعتنائهم بضبط النسخ وتحريرها، فمن قال: إن شرط التخريج من كتاب يتوقف على اتصال السند إليه فقد خرق الإجماع، وغاية المخرج أن ينقل الحديث من أصل موثوق بصحته وينسبه إلى من رواه، ويتكلم على علته وغريبه وفقه " (2) ، والحاصل أن الأخذ من كتب الحديث وغيرها لا يتطلب وجود رواية أو إجازة فهي كتب اشتهرت نسبتها لمؤلفيها، ولكن على طالب العلم في هذا
__________
(1) - ينظر: فتح المغيث ( 1/69 )
(2) - ينظر: تدريب الراوي ( 1/152 )(1/192)
العصر أن يحرص على اقتناء الكتب التي حققت تحقيقاً علمياً وأشرف على طباعتها من لديه خبرة ومعرفة في تحقيق كتب التراث، والمقصود أن العناية بالأسانيد والإجازات لم يعد له قيمة تذكر في عصرنا، والمهم هو التلقي عن العلماء الراسخين في العلم، والأخذ عنهم والاستفادة مما كتبه أئمة الإسلام في سائر الفنون العلمية، وملازمة التقوى والإخلاص ، والأخذ بمنهج السلف في التعامل مع نصوص الكتاب والسنة .
- - - - - -
معنى قول الترمذي: حسن صحيح غريب
قرأت حديثا رواه الإمام مالك عن أبي هريرة أنه خرج مع النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) فسمع رجلا يتلو "قل هو الله أحد" فقال: قد أوجبت فقلت : ما أوجبت؟ فقال :الجنة. رواه الترمذي والنسائي عن مالك وقال الترمذي: حسن صحيح غريب، لا نعرفه إلا من رواية مالك.
والسؤال: ما معنى قول الترمذي: "حسن صحيح غريب"؟
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله، وبعد:
الحديث المشار إليه في السؤال أخرجه الترمذي ح ( 2897 ) قال الترمذي: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ حَدَّثَنَا إِسْحَقُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ ابْنِ حُنَيْنٍ مَوْلًى لِآلِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ أَوْ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ أَقْبَلْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَسَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ } فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : وَجَبَتْ، قُلْتُ: وَمَا وَجَبَتْ ؟ قَالَ: الْجَنَّةُ، قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَابْنُ حُنَيْنٍ هُوَ عُبَيْدُ بْنُ حُنَيْنٍ .(1/193)
ومعنى قول الترمذي: حسن صحيح أي أن الحديث توفرت فيه شروط الصحة، وهي: عدالة الرواة ، وتمام ضبطهم، واتصال السند والسلامة من الشذوذ والعلة القادحة، وهي الشروط الخمسة المعروفة، ووصف الترمذي له بالحسن مع الصحة من باب التأكيد على صحة الحديث وترادف العبارة لاسيما وأن بعض الأئمة المتقدمين يصفون الحديث الحسن بالصحة، قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله - : " واختار بعض من أدركنا أن اللفظين - يعني الحسن والصحيح - عند الترمذي مترادفان، ويكون إتيانه باللفظ الثاني بعد الأول على سبيل التأكيد، كما يقال: صحيح ثابت أو جيد قوي أو غير ذلك " (1) ، وقال ابن دقيق العيد: " أن ههنا صفات للرواة تقتضي قبول الرواية، وتلك الصفات درجات بعضها فوق بعضٍ، كالتيقظ والحفظ والإتقان مثلاً، فوجود الدرجة الدنيا كالصدق مثلاً وعدم التهمة بالكذب لا ينافيه وجود ما هو أعلى منه كالحفظ والإتقان، فإذا وجدت الدرجة العليا لم يناف ذلك وجود الدنيا، كالحفظ مع الصدق فيصح أن يقال في هذا: إنه حسن باعتبار وجود الصفة الدنيا، وهي الصدق مثلاً ، صحيح باعتبار الصفة العليا، وهي الحفظ والإتقان " (2)
وأما وصف الترمذي له بالغرابة ، فالمقصود أن هذا الحديث ليس له إلا طريقٌ واحد، فمداره على مالك بن أنس ، ولهذا قال: لا نعرفه إلا من حديث مالك بن أنس، وللعلماء أقوال أخرى في توجيه جمع الترمذي بين الحسن والصحة في وصف الحديث منها :
__________
(1) - ينظر النكت على ابن الصلاح ( 1/478 )
(2) - ينظر: الاقتراح ص ( 176 )(1/194)
1- أن ذلك بسبب التردد الحاصل من المجتهد في راوي الحديث ، هل اجتمعت فيه شروط الصحة أو قصر عنها ؟، قال الحافظ ابن حجر : " فإن جُمعا أي الصحيح والحسن في وصفٍ واحدٍ كقول الترمذي وغيره " حديث حسن صحيح " فللتردد الحاصل من المجتهد في الناقل ، وهل اجتمعت فيه شروط الصحة أو قصر عنها ، وهذا حيث يحصل منه التفرد بتلك الرواية . وعرف بهذا جواب من استشكل الجمع بين الوصفين فقال: الحسن قاصر عن الصحيح ، ففي الجمع بين الوصفين إثبات لذلك القصور ونفيه . ومحصل الجواب : أن تردد أئمة الحديث في حال ناقله اقتضى للمجتهد ألا يصفه بأحد الوصفين ، فيقال فيه : حسن باعتبار وصفه عند قوم، صحيح باعتبار وصفه عند قوم ، وغاية ما فيه أنه حذف منه حرف التردد لأن حقه أن يقول : " حسن أو صحيح " ، وهذا كما حذف حرف العطف من الذي بعده ، وعلى هذا فما قيل فيه : حسن صحيح دون ما قيل فيه : صحيح ، لأن الجزم أقوى من التردد ، وهذا حيث التفرد " (1) ، وهذا التوجيه بعد أن ذكره الحافظ في كتابه النكت عن بعض المتأخرين قال : " ويتعقب هذا بأنه لو أراد ذلك لأتى بالواو التي للجمع فيقول : حسن وصحيح أو أتى بـ " أو " التي هي للتخيير أو التردد فقال: حسن أو صحيح ، ثم إن الذي يتبادر إلى الفهم أن الترمذي إنما يحكم على الحديث بالنسبة إلى ما عنده لا بالنسبة إلى غيره ، فهذا يقدح في هذا الجواب ويتوقف - أيضاً - على اعتبار الأحاديث التي جمع الترمذي فيها بين الوصفين فإن كان في بعضها ما لا اختلاف فيه عند جميعهم في صحته ، فيقدح في الجواب - أيضاً - لكن لو سلم هذا الجواب من التعقب لكان أقرب إلى المراد من غيره ، وإني لأميل إليه وأرتضيه " (2)
__________
(1) - ينظر: نزهة النظر ص : 66
(2) - ينظر: النكت على ابن الصلاح ( 1/477 )(1/195)
2- أنه حسن باعتبار إسناد وصحيح باعتبار إسناد آخر، وهذا إذا كان للحديث أكثر من إسناد ، قال ابن الصلاح: " إن ذلك راجع إلى الإسناد ، فإذا روي الحديث الواحد بإسنادين أحدهما إسناد حسن ، والآخر إسناد صحيح استقام أن يقال فيه إنه حديث حسن صحيح . أي : أنه حسن بالنسبة إلى إسنادٍ ، وصحيح بالنسبة إلى إسنادٍ آخر " (1) ، وقد تعقب هذا ابن رجب فقال : " إن الترمذي إذا جمع بين الحسن والصحة فمراده أنه روى بإسنادين : أحدهما حسن ، والآخر صحيح وهذا فيه نظر ، لأنه يقول كثيراً : " حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه "
__________
(1) - ينظر: علوم الحديث ص : 39(1/196)
3- أن المقصود أن الحديث بين الصحة والحسن ، قال ابن كثير : " والذي يظهر لي أنه يُشرِب الحكم بالصحة على الحديث كما يُشرِب الحسن بالصحة ، فعلى هذا يكون ما يقول فيه : " حسن صحيح " أعلى رتبة عنده من الحسن ودون الصحيح ، ويكون حكمه على الحديث بالصحة المحضة أقوى من حكمه عليه بالصحة مع الحسن ، والله أعلم " (1) ، وتعقب ابن رجب هذا القول فقال: " ومن المتأخرين من قال إن الحسن الصحيح عند الترمذي دون الصحيح المفرد ، فإذا قال : صحيح فقد جزم بصحته ، وإذا قال: حسن صحيح فمراده أنه جمع طرفاً من الصحة وطرفاً من الحسن ، وليس بصحيح محض، بل حسن مشوب بصحة ، كما يقال في المز : إنه حلو حامض ، باعتبار أن فيه حلاوة وحموضة وهذا بعيد جداً ، فإن الترمذي يجمع بين الحسن والصحة في غالب الأحاديث الصحيحة المتفق على صحتها ، والتي أسانيدها في أعلى درجة الصحة ، كمالك عن نافع عن ابن عمر ، والزهري عن سالم عن أبيه ، ولا يكاد الترمذي يفرد الصحة إلا نادراً ، وليس ما أفرد فيه الصحة بأقوى مما جمع فيه بين الصحة والحس" (2) ، وتعقبه الحافظ قول ابن كثير فقال: " قلت لكن هذا يقتضي إثبات قسم ثالث ولا قائل به، ثم إنه يلزم عليه أن لا يكون في كتاب الترمذي حديث صحيح إلا النادر؛ لأنه قل ما يعبر إلا بقوله: حسن صحيح" (3)
__________
(1) - اختصار علوم الحديث ص: 47
(2) - ينظر: شرح علل الترمذي ( 1/392- 393 )
(3) - النكت على ابن الصلاح ( 1/477 )(1/197)
فهذه خلاصة أجوبة أهل العلم عن الجمع بين الحسن والصحة ، والترمذي لم ينص على قصده بهذا الاصطلاح ، ولكن فسر الحسن بأن لا يكون في إسناده متهم بالكذب ، ولا يكون شاذاً ويروى من غير وجه نحوه . فكل حديث كان كذلك فهو عنده حديث حسن . " (1) ، ولهذا فيمكن أن يرجع في المراد بالحسن لما ذكره، قال ابن رجب : " فعلى هذا : الحديث الذي يرويه الثقة العدل ، ومن كثر غلطه ، ومن يغلب على حديثه الوهم ، إذا لم يكن أحد منهم متهماً كله حسن بشرط أن لا يكون شاذاً مخالفاً للأحاديث الصحيحة ، وبشرط أن يكون معناه قد روي من وجوه متعددة.
فإن كان مع ذلك من رواية الثقات العدول الحفاظ فالحديث حينئذ حسن صحيح ، وإن كان مع ذلك من رواية غيرهم من أهل الصدق الذين في حديثهم وهم وغلط - إما كثير أو غالب عليهم - فهو حسن ، ولو لم يرو لفظه إلا من ذلك الوجه ، لأن المعتبر أن يروى معناه من غير وجه ، ولا نفس لفظه . وعلى هذا : فلا يشكل قوله " حديث حسن غريب " ، ولا قوله : " صحيح حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه" ، لأن مراده أن هذا اللفظ لا يُعرف إلا من هذا الوجه ، لكن لمعناه شواهد من غير هذا الوجه ، وإن كانت شواهده بغير لفظه . وهذا كما في حديث " الأعمال بالنيات " ، فإن شواهده كثيرة جداً في السنة ، مما يدل على أن المقاصد والنيات هي المؤثرة في الأعمال ، وأن الجزاء يقع على العمل بحسب ما نوي به ، وإن لم يكن لفظ حديث عمر مروياً من غير حديثه من وجه يصح " ويحتمل أن يقال إن الترمذي أراد بالحسن الذي فسره إذا افرد هذه العبارة، قال الحافظ ابن رجب: " إن الترمذي إنما أرد بالحسن ما فسره به، إذا ذكر الحسن مجرداً عن الصحة، فأما الحسن المقترن بالصحيح فلا يحتاج إلى أن يروى نحوه من غير وجه ، لأن صحته تغني عن اعتضاده بشواهد أخر . والله أعلم " (2)
حكم ما سكت عنه أبو داود
__________
(1) - شرح علل الترمذي ( 1/384 )
(2) - شرح علل الترمذي ( 1/384- 386 )(1/198)
أرجو بيان صحة القول التالي : "بناء على الشرط الذي وضعه أبو داود حين ألّف كتابه فإنه عندما يسكت عن حديث يكون الحديث حسن صحيح "
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
ذكر أبو داود في رسالته إلى أهل مكة ما نصه: " ما لم أذكر فيه شيئاً فهو صالح، وبعضها أصح من بعض" (1) ، وقد أخذ بعض العلماء من هذه العبارة أن ما سكت عنه أبو داود في سننه فهو حسن عنده لاسيما وقد ذكر ابن كثير أن عبارة أبي داود : " وما سكت عنه فهو حسن " ، لكن المشهور في النسخ المعتمدة لفظ : صالح لا حسن ، والراجح : أن ما سكت عنه أبو داود في سننه لا يوصف بالحسن بل لابد من النظر في الأحاديث التي سكت عنها والحكم عليها بما يليق بها، ومما يؤكد ما سبق أن أبا داود قال في ضمن كلامه: " وما كان فيه وهنٌ شديد بينته "، فيفهم أن الذي يكون فيه وهن غير شديد لا يبينه، وقد حرر الحافظ ابن حجر هذه المسألة في كتابه النكت على ابن الصلاح ، قال رحمه الله: " ما سكت عليه أبو داود لا يكون من قبيل الحسن الاصطلاحي بل على أقسام: منه ما هو في الصحيحين أو على شرط الصحة، ومنه ما هو من قبيل الحسن لذاته، ومنه ما هو من قبيل الحسن إذا اعتضد، وهذان القسمان كثير في كتابه جداً، ومنه ما هو ضعيف، لكنه من رواية من لم يجتمع على تركه غالباً "
__________
(1) - رسالة أبي داود إلى أهل مكة في وصف سننه ص ( 27 )(1/199)
وقال أيضاً: " ومن هنا يظهر ضعف طريقة من يحتج بكل ما سكت عليه أبو داود فإنه يخرج أحاديث جماعة من الضعفاء في الاحتجاج ويسكت عنها مثل: ابن لهيعة ، وصالح مولى التوأمة، وعبد الله بن محمد بن عقيل، وموسى بن وردان، وسلمة بن الفضل، ودلهم بن صالح وغيرهم ، فلا ينبغي للناقد أن يقلده في السكوت على أحاديثهم ويتابعه في الاحتجاج بهم، بل طريقه أن ينظر هل لذلك الحديث متابع فيعتضد به أو هو غريب فيتوقف فيه ؟ ، لاسيما إن كان مخالفاً لرواية من هو أوثق منه، فإنه ينحط إلى قبيل المنكر وقد يخرج لمن هو أضعف من هؤلاء بكثير كالحارث بن وجيه وصدقة الدقيقي وعثمان بن واقد العمري ومحمد بن عبد الرحمن البيلماني وأبي جناب الكلبي وسليمان بن أرقم وإسحاق بن عبد الله بن أبي فروة وأمثالهم من المتروكين ، وكذلك ما فيه من الأسانيد المنقطعة وأحاديث المدلسين بالعنعنة والأسانيد التي فيها من أبهمت أسماؤهم، فلا يتجه الحكم لأحاديث هؤلاء بالحسن من أجل سكوت أبي داود، لأن سكوته تارة يكون اكتفاء بما تقدم له من الكلام في ذلك الراوي في نفس كتابه وتارة لذهول منه ، وتارة يكون لشدة وضوح ضعف ذلك الراوي واتفاق الأئمة على طرح روايته ، كأبي الحويرث ويحيى بن العلاء وغيرهما ، وتارة يكون من اختلاف الرواة عنه وهو الأكثر ، فإن في رواية أبي الحسن بن العبد عنه من الكلام على جماعة من الرواة والأسانيد ما ليس في رواية اللؤلؤي وإن كانت روايته أشهر " وقال: " فالصواب عدم الاعتماد على مجرد سكوته (1)
- - - - - -
قول الألباني: إسناده صحيح ، رجاله ثقات
__________
(1) - ينظر: النكت على كتاب ابن الصلاح ( 1/ 435 - 445 )(1/200)
علمت من مقدمة ابن الصلاح أن قول المحدث: "إسناده صحيح "، لا يدل على صحة الحديث قطعا عند المحدث وإلا لقال: "صحيح " ورد عليه ابن حجر في النكت على ابن الصلاح بأن هذا ليس شأن كل المحدثين، وأنه يجب الرجوع لما أطردت عليه عادة كل محدث على حده . وأسأل الآن هل إذا قال الألباني: إسناده صحيح رجاله ثقات يعنى أن الحديث صحيح عنده؟ بارك الله فيك .
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
نعم ذكر ابن الصلاح أن قول المحدث: " هذا حديث صحيح الإسناد أو حسن الإسناد " دون قولهم: هذا حديث صحيح أو حديث حسن، لأنه قد يقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولا يصح ، لكونه شاذاً أو معللاً..." (1) ، وتعقبه الحافظ ابن حجر بأن هذا لا يطرد مع كل محدث بل يحتاج إلى استقراء طريقة كل محدث والنظر فيها، ولكن ذكر السيوطي عن الحافظ ابن حجر أنه قال: " والذي لا أشك فيه أن الإمام لا يعدل عن قوله صحيح إلى قوله صحيح الإسناد إلا لأمر ما . " (2)
وهذا الذي ذكره الحافظ جيد فإن كثيراً من الأئمة المتأخرين إذا قيدوا التصحيح أو التحسين بالإسناد، فإنههم يقصدون توفر ثلاثة شروط وهي: عدالة الراوي، ضبطه، اتصال السند .
قال السخاوي: " قد يصح السند أو يحسن لاستجماع شروطه من الاتصال، والعدالة، والضبط دون المتن لشذوذ أو علة .... " (3)
__________
(1) - مقدمة ابن الصلاح ( ص: 38 )
(2) - تدريب الراوي ( 1/161 )
(3) - فتح المغيث ( 1/106 )(1/201)
بل ذكر السخاوي أن من المحدثين والفقهاء من يحكم بصحة الحديث أو حسنه على وجه الإطلاق قبل النظر في سلامته من الشذوذ والعلة، وقد انتقد هذا المسلك فقال: " وأما من لم يتوقف من المحدثين والفقهاء في تسمية ما يجمع الشروط الثلاثة صحيحاً، ثم إن ظهر شذوذ أو علة رده فشاذ، وهو استرواح حيث يحكم على الحديث بالصحة قبل الإمعان في الفحص عن تتبع طرقه التي يعلم بها الشذوذ والعلة نفياً وإثباتاً فضلاً عن أحاديث الباب كله التي ربما احتيج إليها في ذلك " (1) ، ولو نظرنا في طريقة الحاكم في المستدرك فإنه كثيراً ما يصحح الأسانيد، ولا يشترط سلامتها من العلة، وقد نص على هذا في المقدمة حيث قال: " وقد سألني جماعة من أعيان أهل العلم بهذه المدينة وغيرها، أن أجمع كتاباً يشتمل على الأحاديث المروية بأسانيد يحتج محمد بن إسماعيل ومسلم بن حجاج بمثلها، إذ لا سبيل إلى إخراج ما لا علة له ....، وقال: " وأنا استعين بالله على إخراج أحاديث رواتها ثقات قد احتج بمثلها الشيخان رضي الله عنهما أو أحدهما، وهذا شرط الصحيح عند كافة فقهاء أهل الإسلام أن الزيادة في الأسانيد والمتون من الثقات مقبولة ... "
وكذلك الضياء المقدسي في " المختارة " فإنه يصحح أحاديث، ولا يشترط سلامتها من العلة، وقد نص على هذا في المقدمة حيث قال: " هذه أحاديث اخترتُها مما ليس في " البخاري " و " مسلم " إلا أنني ربما ذكرتُ بعض ما أورده البخاريُّ معلَّقاً، وربما ذكرنا أحاديث بأسانيد جياد لها علَّةٌ...... " (2)
وقال ابن القيم: " وقد عُلِم أن صحة الإسناد شرط من شروط صحة الحديث وليست موجبة لصحة الحديث، فإن الحديث الصحيح إنما يصح بمجموع أمور منها: صحة سنده، وانتفاء علته، وعدم شذوذه ونكارته، وأن لا يكون راويه قد خالف الثقات أو شذ عنهم " (3)
__________
(1) - فتح المغيث ( 1/17 )
(2) - الأحاديث المختارة ( 1/69- 70 )
(3) - الفروسية لابن القيم ص(64)(1/202)
وأما ما يتعلق بخصوص الشيخ الألباني، فقد أشار في مقدمة تمام المنة إلى أن إطلاق الصحة على الإسناد يقصد بها استيفاء الشروط الخمسة، فعلى هذا لا فرق عنده بين إسناده صحيح أو حديث صحيح، قال رحمه الله: " قول بعض المحدثين في حديث ما : " رجاله رجال الصحيح " أو : " رجاله ثقات " أو نحو ذلك لا يساوي قوله: " إسناده صحيح " ؛ فإن هذا يثبت وجود جميع شروط الصحة التي منها السلامة من العلل .... " ومن المعلوم أن الشيخ - رحمه الله - يغلب على طريقته في التحسين أو التصحيح الإطلاق دون التقيد بالإسناد .
هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل .
- - - - - -
المؤلفات قبل الموطأ
أرجو التكرم بذكر المصادر الإسلامية المكتوبة (من حديث ومواد فقهية غير القرآن الكريم) متوفرة الآن وكانت موجودة قبل موطأ الإمام مالك. وجزاكم الله خيرا .
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:(1/203)
كان الصحابة - رضي الله عنهم - يتلقون عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقواله وأفعاله ويتداولونها بينهم حفظاً ورواية، وكان بعض الصحابة يكتب في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولهذا وجد بعض الصحف المكتوبة في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل: صحيفة أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - ، وفيها فرائض الصدقة، وصحيفة علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ، وفيها أسنان الإبل، وشيء من الجراحات، وصحيفة عبد الله بن عمرو بن العاص، المعروفة بالصحيفة الصادقة، ودرج على ذلك التابعون، فكانوا يعتمدون على الحفظ والتلقي، ودوَّن بعضهم بعض السنة، ولهذا وجود عدد من النسخ أو الصحف الحديثية، ومن أمثلة هذه الصحف: صحيفة أو صحف سعيد بن جبير تلميذ ابن عباس، وصحيفة مجاهد بن جبر تلميذ ابن عباس، وصحيفة بشير بن نهيك كتبها عن أبي هريرة، وصحيفة أبي الزبير محمد بن مسلم بن تدريس المكي تلميذ جابر بن عبد الله يروي نسخة عنه وعن غيره أيضاً، وصحيفة هشام بن عروة بن الزبير، وغير ذلك من الصحف الكثيرة التي رويت عن التابعين والتي كانت هي الأساس الثاني بعد صحائف الصحابة - رضي الله عنهم - لما أُلف وصنف بعد ذلك، ثم إنه على رأس المائة الأولى من الهجرة بدأ التدوين الذي اتصف بالشمول، وذلك خوفاً من ضياع السنة، وكان من أوائل من قام بهذا العمل أبو بكر بن محمد بن حزم ( ت 120هـ )، وابن شهاب الزهري ( ت 124 هـ )، ثم إنه في عصر تابعي التابعين بدأ التصنيف في السنة حيث جمع طائفة من أهل العلم كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - وكلام الصحابة، فألف أبو محمد عبد الملك بن جريج ( ت 150 هـ ) بمكة، ومعمر بن راشد باليمن ( ت 153 هـ )، وأبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي ( ت 156 هـ ) بالشام، وسعيد بن أبي عروبة ( ت 156 هـ )، والربيع بن صُبيح ( ت 160 هـ )، وحماد بن سلمة ( ت 176 هـ ) بالبصرة، ومحمد بن إسحاق ( ت 151 )، وسفيان الثوري ( ت 161 ) بالكوفة،(1/204)
والليث بن سعد ( ت 175 هـ ) بمصر وغيرهم، وهذه المصنفات أغلبها لم يصل إلينا، لكن ما تضمنته من أحاديث وآثار دخلت في المصنفات التي جاءت بعدها مثل مصنف عبد الرزاق الصنعاني ( ت 211 هـ)، ومسند الإمام أحمد (ت 241هـ )، ومصنف ابن أبي شيبة ( ت 235 هـ )، وغيرها من كتب الحديث، ويعد الموطأ من أوائل المصنفات الحديثية التي وصلت إلينا، وهو نموذج للمصنفات في تلك الفترة حيث جمعت الأحاديث مقرونة بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين وقد وصل إلينا بعض النسخ والكتب التي كتبت في عصر التابعين ومن بعدهم، وبعضها من موارد الإمام مالك في الموطأ، وهي مازالت مخطوطة، ومنها ما حقق (1) مثل:
- أحاديث الأعمش (ت 148 هـ) برواية وكيع عنه .
- كتاب المناسك لابن أبي عرابة ( ت 156 هـ )
- جزء من سيرة ابن إسحاق ( ت 151 هـ )
- أحاديث ابن جريج ( 150 هـ ) جزء منه .
- نسخة ابن طهمان ( 168 هـ ) جزء منه .
- نسخة جويرية عن نافع مولى ابن عمر ( 117 هـ )
- نسخة عبيد الله بن عمر عن نافع مولى ابن عمر ( 117 هـ )
- نسخة سهيل بن أبي صالح ( ت 138 هـ )
- الجزء الأول مما أسند سفيان الثوري ( ت 161 هـ )
- نسخة الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب ( 128 هـ )
- نسخة الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب ( ت 128 هـ )
- نسخة شعيب بن أبي حمزة عن الزهري ( ت 124 هـ )
__________
(1) - ينظر: دراسات في الحديث النبوي وتاريخ تدوينه، للدكتور: محمد مصطفى الأعظمي ( 2/471- 483 )، معرفة النسخ والصحف الحديثية، تأليف: بكر بن عبد الله أبو زيد، تاريخ التراث العربي تأليف فؤاد سزكين ( 1/ 117 )(1/205)
وأما الكتب الفقهية المصنفة قبل الموطأ، فمن المعلوم أن بداية الفقه هو فتاوى الصحابة والتابعين مثل الفقهاء السبعة وغيرهم، وهذه الفتاوى توجد في كتب السنة وكتب التفسير في الغالب، وتضمن الموطأ قدراً منها، وقد وجد بعض الرسائل والكتب الصغيرة مثل: كتاب الفرائض لزيد بن ثابت - رضي الله عنه - وتفسيره لأبي الزناد ( ت 131 هـ ) (1)
هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل .
- - - - - -
كتاب النزول للدارقطني
هل كتاب النزول تثبت نسبته إلى الإمام الدارقطني ؟
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
كتاب أحاديث النزول للإمام الحافظ أبي الحسن علي بن عمر بن أحمد بن مهدي الدارقطني البغدادي (385 هـ) ذُكر ضمن مصنفات الدارقطني ونسبته ثابتة له ، ويدل على ذلك ما يأتي:
1- رواية الكتاب بالسند المتصل إلى المؤلف.
2 - استفادة العلماء منه ونسبتهم إياه إلى الدارقطني، كما فعل الحافظ ابن حجر حيث قال: " وروى الدارقطني حديثاً من طريق عبد الحميد بن سلمة، وقال: عبد الحميد بن سلمة وأبوه وجده لا يعرفون، قال: ويقال: عبد الحميد بن يزيد بن سلمة وكذا قال في كتاب السنة له في أحاديث النزول " (2) ، ونسبه إليه أيضاً سزگين في تاريخ التراث العربي (3)
وقد حقق الكتاب الدكتور: علي بن محمد بن ناصر الفقيهي، ونشر عام 1403 هـ.
- - - - - -
طبعات البخاري والتخريج من تحفة الأشراف
- ما مشكلات طبعات البخاري المتعلقة بالتخريج من تحفة الأشراف ؟
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
__________
(1) - وينظر ما كتبه فؤاد سزكين في تاريخ التراث العربي ( 3/ 15- 16 )
(2) - تهذيب التهذيب ( 6/115 )
(3) - ( 1/420 )(1/206)
كتاب تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف للحافظ يوسف بن عبد الرحمن بن يوسف المزي ( ت 742 هـ ) كتاب نفيس متقن رتبه المؤلف على مسانيد الصحابة ، وهو خاص بأطراف أحاديث الكتب الستة، وبعض ملحقاتها، وعندما يُحيل المزي للبخاري يرمز له بحرف ( خ ) ، ويذكر اسم الكتاب الذي يوجد فيه الحديث، والمحقق للكتاب يذكر بين قوسين ما يشير به إلى رقم الترجمة، وترتيب الحديث داخل الترجمة ، وبالرجوع إلى الكشاف، وهو المجلد الرابع عشر الذي أضافه المحقق يتبين اسم الباب، ومن ثم يسهل بمعرفة الكتاب والباب وترتيب الحديث داخل الباب الرجوع إلى طبعات البخاري على اختلافها، هذا والله أعلم ، وصلى الله وسلم على محمد وآله وسلم .
- - - - - -
هل كتاب الأدب المفرد للبخاري من كتب التخريج
- هل يعد كتاب الأدب المفرد من كتب التخريج الأصلية وهل جميع ما به صحاح .
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
كتاب الأدب المفرد للإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري ( 194 هـ - 256 هـ ) من الكتب المُسندة ويُعد من كتب التخريج الأصلية، وسمي بالأدب المفرد من أجل التمييز بينه وبين كتاب الأدب الموجود داخل الجامع الصحيح للبخاري، والبخاري - رحمه الله - لم يشترط في كتابه الأدب المفرد الصحة، ولهذا يوجد فيه ما لا يصح، وليس كل ما فيه من الأحاديث المرفوعة بل فيه آثار عن الصحابة والتابعين، قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله - في الفتح ( 10/400 ) : " وكتاب الأدب المفرد يشتمل على أحاديث زائدة على ما في الصحيح، وفيه قليل من الآثار الموقوفة، وهو كثير الفائدة، والأدب: استعمال ما يحمد قولا وفعلا، وعبر بعضهم عنه بأنه الأخذ بمكارم الأخلاق، " ، وقد طبع الكتاب مرات عديدة ، هذا والله أعلم ، وصلى الله وسلم على محمد وآله وسلم.
- - - - - -
مختلف الحديث ومشكله
إعراض النبي - صلى الله عليه وسلم - عن تزويج فاطمة رضي الله عنها لصغرها(1/207)
أريد من فضيلتكم أن توضحوا لي لماذا لم يقم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتزويج ابنته فاطمة من أبي بكر أو عمر - رضي الله عنهما-، وعلل ذلك بصغر سن فاطمة - رضي الله عنها- وفي المقابل تزوج عائشة -رضي الله عنها-، وهي لم تبلغ بعد العاشرة .وما أردت بهذا السؤال إلا رفع الحرج الذي وقع في نفسي ولمعرفة الرد السوي على شبهات المستشرقين على نبينا الكريم - صلى الله عليه وسلم - وجزاكم الله خيراً.
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:(1/208)
الحديث المشار إليه في السؤال أخرجه النسائي في سننه (6/62)، وابن حبان والحاكم في المستدرك (2/167)، وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي (6948) من طرق عن الحسين بن واقد عن ابن بريدة عن أبيه قال: خطب أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما- فاطمة -رضي الله عنها-، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إنها صغيرة " فخطبها علي - رضي الله عنه - ، فزوجها منه، وهذا إسناد صحيح، وبوب النسائي على الحديث بقوله: تزويج المرأة مثلها في السن، ويؤخذ من الحديث أن الموافقة بين الزوجين في السن أو المقاربة تراعى عند الزواج لكونها أقرب إلى الائتلاف بين الزوجين وأدعى لاستمرار الزواج وحسن العشرة، ولكن قد يترك مراعاة ذلك لمصلحة أعلى وأكبر كما في زواج النبي - صلى الله عليه وسلم - من عائشة - رضي الله عنها- فقد دلت الأحاديث أن زواجها كان عن طريق الرؤيا، ورؤيا الأنبياء حق، فهو أمر أراده الله وقدره وهو العليم الحكيم، ففي الصحيحين من حديث عَائِشَة أَنَّهَا قَالَتْ قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " أُرِيتُكِ فِي الْمَنَامِ ثَلَاثَ لَيَالٍ جَاءَنِي بِكِ الْمَلَكُ فِي سَرَقَةٍ مِنْ حَرِيرٍ - أي قطعة من حرير - فَيَقُولُ هَذِهِ امْرَأَتُكَ فَأَكْشِفُ عَنْ وَجْهِكِ فَإِذَا أَنْتِ هِيَ فَأَقُولُ: إِنْ يَكُ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يُمْضِهِ " (1) ، وقد حصل في هذا الزواج المبارك خير عظيم للأمة إلى قيام الساعة، فقد اختار الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - الصديقة بنت الصديق التي كانت آية في الذكاء والحفظ والفصاحة والفهم، والنبوغ المبكر، فحفظت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كثيراً من أقواله وأفعاله وأحواله لا سيما تفاصيل ودقائق ما يتعلق بحياته الزوجية التي لا يطلع عليها إلا نساؤه، وبلغت ذلك للأمة أتم البلاغ وأكمله فرضي الله عنها وأرضاها.
__________
(1) - أخرجه البخاري ح (3895) ومسلم ح (2438)، وهذا لفظ مسلم .(1/209)
هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
- - - - - -
الجمع بين آية: { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا } وحديث التقاء المسلمين بسيفيهما
الجمع بين حديث: "إذا التقا المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار" وبين الآية: "وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فاصلحوا بينهما.." وجزاكم الله خيراً.
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:(1/210)
الحديث المذكور في السؤال أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي بكرة - رضي الله عنه - قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ ؟ قَالَ: إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ " (1) ، وليس هناك تعارض بين الآية وهي قوله عز وجل: { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } (2) ، وبين الحديث؛ بل يؤخذ من الآية دلالة على أن ما يحصل بين المؤمنين من قتال فإنه لا يُخرجهم عن الإيمان فقد سماهم الله مؤمنين مع الاقتتال، وقال بعد ذلك: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } (3) ، وأخرج البخاري من حديث الحسن عن أبي بكرة - رضي الله عنه - قال: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الْمِنْبَرِ وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ إِلَى جَنْبِهِ وَهُوَ يُقْبِلُ عَلَى النَّاسِ مَرَّةً وَعَلَيْهِ أُخْرَى وَيَقُولُ: إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ" (4) ، فكان كما أخبر عليه الصلاة والسلام أصلح الله به بين أهل الشام والعراق بعد الحروب التي وقعت بينهم، وعلى هذا فمرتكب الكبيرة من قتل - وهذا إذا كانت
__________
(1) - البخاري ح (31)، ومسلم ح (2888)
(2) - سورة الحجرات الآية: 9
(3) - سورة الحجرات الآية: 10
(4) - أخرجه البخاري ح (2704)(1/211)
المقاتلة بغير تأويل سائغ - وزنى وشرب خمر هو تحت المشيئة ولا يخرج عن الملة، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة خلافاً للخوارج والمعتزلة، كما قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ } (1) ، وقد بوب البخاري في كتاب الإيمان بقوله: باب المعاصي من أمر الجاهلية، ولا يكفر صاحبها إلا بالشرك (2) ، ثم بوب أيضاً بقوله: { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا } ، قال البخاري: فسماهم المؤمنين وذكر حديث أبي بكرة - رضي الله عنه - : " إذا التقى المسلمان..." (3) الحديث قال ابن بطال: " غرض البخاري الرد على من يُكفر بالذنوب كالخوارج ويقول إن من مات على ذلك يخلد في النار، والآية ترد عليهم لأن المراد بقوله: { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } ، من مات على كل ذنب سوى الشرك " (4) ، قال الحافظ ابن حجر: " واستدل المؤلف - يعني البخاري - أيضاً على أن المؤمن إذا ارتكب معصية لا يكفر بأن الله تعالى أبقى عليه اسم المؤمن فقال: "وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا " ثم قال: "إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم"، واستدل أيضاً بقوله - صلى الله عليه وسلم - : " إذا التقى المسلمان بسيفيهما " فسماهما مسلمين مع التوعد بالنار، والمراد هنا إذا كانت المقاتلة بغير تأويل سائغ " (5)
__________
(1) - سورة النساء الآية: 48
(2) - البخاري مع الفتح ( 1/85 )
(3) - البخاري مع الفتح ( 1/86 )
(4) - شرح صحيح البخاري لابن بطال ( 1/86 )
(5) - فتح الباري لابن حجر ( 1/85 )(1/212)
والحاصل أن ما جاء في هذا الحديث من توعد المُلتقيين بسيفيهما بالنار، هذا الوعيد تحت مشيئة الله عز وجل إن شاء عذبهما وإن شاء غفر لهما؛ لعموم قوله: { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ } لكن لا يخلدان في النار، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة في حكم مرتكب الكبيرة إذا مات من غير توبة؛ لأن التوبة تَجُبُّ ما قبلها
هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل .
- - - - - -
الجمع بين حديث " يضحك الله إلى رجلين يتقاتلان .. " وبين حديث " إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار
كيف نجمع بين حديث " يضحك الله إلى رجلين يتقاتلان إلى آخر الحديث " وبين "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار .
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
حديث: " يَضْحَكُ اللَّهُ إِلَى رَجُلَيْنِ يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ يَدْخُلَانِ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُ هَذَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلُ، ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَى الْقَاتِلِ فَيُسْتَشْهَدُ . " أخرجه البخاري ح ( 2826 ) ، ومسلم ح ( 1890 ) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - .
وحديث: " إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ قَالَ إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ . " أخرجه البخاري ح ( 31 ) ، ومسلم ح ( 2888 ) من حديث أبي بكرة - رضي الله عنه - .(1/213)
وليس بين الحديثين تعارض، فالحديث الأول معناه أن رجلين أحدهما كافر والآخر مسلم، فيقتل الكافر المسلم ثم يمن الله على الكافر فيسلم، والإسلام يهدم ما كان قبله، وأما الحديث الآخر فهو من أحاديث الوعيد فإن الملتقيين بسيفيهما قد توعدا بالنار، وهما تحت المشئية إن شاء الله غفر لهما، وإن شاء عذبهما لعموم قوله عز وجل : { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ } (1) ، وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة في مرتكب الكبيرة، وقد سماهم الله مسلمين مع توعدهما بالنار، وهذا مثل قوله عز وجل: { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا } (2) ، فسماهم الله مؤمنين مع وجود القتال بينهم، فالحاصل أن القتل من كبائر الذنوب، وهذا إذا لم يكن بتأويل سائغ، والله أعلم .
- - - - - -
التوفيق بين قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا } ، وأثر ابن عباس في خلق السماوات والأرض
أريد من سيادتكم معرفة التوفيق بين هذه الرواية عن ابن عباس رضي الله عنه "لما كان العرش على الماء قبل أن يخلق الله السماوات والأرض بعث ريحاً فصفقت الماء فأبرزت عن خشفة واحدة في موضع البيت كأنها قبة فدحا الله الأرض من تحتها فأوتدها بالجبال .
وآية : أن السماوات والأرض كانتا رتقاً هذا فيما معنى الآية حيث أنني قرأت هذه الرواية في أحدى مواضيع الإعجاز العلمي ولسيادتكم جزيل الشكر .
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
__________
(1) - سورة النساء الآية: 48 ، 116
(2) - سورة الحجرات الآية: 9(1/214)
ذكر الله سبحانه وتعالى في مواضع من القرآن ما يدل على أن الأرض خلقت قبل خلق السماء، ومن ذلك قوله عز وجل: { قُلْ أَئنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ } (1) إلى قوله تعالى: { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } (2) ، وقوله تعالى: { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } (3) ، و( ثم ) كما هو معلوم للترتيب والتراخي ، ودلت الآية في سورة النازعات أن دحو الأرض بعد خلق السماء، قال تعالى: { أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا } (4) ، وقد قال رجل لابن عباس - رضي الله عنهما - إني لأجد في القرآن أشياء تختلف علي ...
__________
(1) - سورة فصلت الآية: 9
(2) - سورة فصلت الآية: 10
(3) - سورة البقرة الآية: 29
(4) - سورة النازعات : 27 - 30(1/215)
فذكر منها: قوله تعالى: { أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا } ، فذكر خلق السماء قبل الأرض، ثم قال تعالى { قُلْ أَئنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ } إلى قوله { طَائِعِينَ } فذكر في هذه خلق الأرض قبل خلق السماء ، فقال ابن عباس: " خلق الأرض في يومين ثم خلق السماء ثم استوى إلى السماء فسواهن في يومين آخرين ثم دحى الأرض ودحيها أن أخرج منها الماء والمرعى وخلق الجبال والرمال والجماد والآكام وما بينهما في يومين آخرين فذلك قوله تعالى دحاها وقوله ( خلق الأرض في يومين ) فخلق الأرض وما فيها من شيء في أربعة أيام وخلق السماوات في يومين" (1) ، وذهب بعض العلماء إلى أن خلق الأرض جميعاً حصل قبل خلق السماء، ووجهوا قوله تعالى: { وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا } ، بأن المراد بـ ( بعد ) أي : مع . وأثر ابن عباس المذكور في السؤال - إن صح وسيأتي الكلام عليه - لا ينافي ما تقدم وهو يدل على أن دحو الأرض حصل ابتداء من هذه البقعة المباركة وهي الكعبة، والله أعلم، وأخرج الطبري في تفسيره عن مجاهد قال: كان موضع البيت على الماء قبل أن يخلق الله السماوات مثل الزبدة البيضاء، ومن تحته دحيت الأرض .
__________
(1) - ينظر: تفسير ابن كثير ( 4/94)(1/216)
(1) ، أما أثر ابن عباس الوارد في السؤال فقد أخرجه الأزرقي في أخبار مكة من طريق سعيد بن سلام عن طلحة بن عمرو عن عطاء عن ابن عباس أنه قال: " لما كان العرش على الماء قبل أن يخلق الله السماوات والأرض بعث الله تعالى ريحا هفافة فصفقت الماء فأبرزت عن خشفة في موضع هذا البيت كأنها قبة فدحا الله الأرضين من تحتها فمادت ثم مادت فأوتدها الله تعالى بالجبال فكان أول جبل وضع فيها أبو قبيس فلذلك سميت مكة أم القرى" (2) ، وسعيد بن سلام أبو الحسن البصري العطار، ضعيف ، قال البخاري: سعيد بن سلام أبو الحسن العطار البصري يذكر بوضع الحديث، وقال أحمد بن حنبل: كذاب، وضعفه النسائي (3) ، وطلحة بن عمرو الحضرمي المكي، ضعفه ابن معين وغيره، وقال أحمد والنسائي : متروك الحديث، وقال البخاري وابن المديني: ليس بشيء . (4) ، وقد أخرجه الطبري في تفسيره من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج قال: قال عطاء وعمرو بن دينار: بعث الله رياحاً فصففت الماء، فأبرزت في موضع البيت عن حشفة كأنها القبة، فهذا البيت فمنها، فلذلك هي " أم القرى " قال ابن جريج قال ابن عطاء: ثم وتدها بالجبال كي لا تكفأ بميد فكأن أول جبل " أبو قبيس" (5) ، أما قوله سبحانه وتعالى: { أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا } (6) فرتقاً: مصدر رتقه رتقاً إذا سده، يقال: رتق فلان الفتق رتقاً إذا ضمه وسده، وهو ضد الفتق الذي هو بمعنى الشق والفصل . وللعلماء في هذا الآية خمسة أقوال :
__________
(1) - تفسير ابن جرير ( 3/60 )
(2) - أخبار مكة للأزرقي ( 1/ 32 )
(3) - ينظر: الكامل لابن عدي ( 3/404 )، الضعفاء للعقيلي (2/108)، الميزان ( 2/ 141)
(4) - ينظر: الكامل لابن عدي (4/107)، الضعفاء للعقيلي (2/224 )، ( الميزان ( 2/340 )
(5) - تفسير ابن جرير ( 3/60 )
(6) - سورة الأنبياء الآية:30(1/217)
القول الأول: أن معنى (كَانَتَا رَتْقاً ) يعني أن السموات والأرض كانت متلاصقة بعضها مع بعض، ففتقها الله وفصل بين السموات والأرض، فرفع السماء إلى مكانها . قال قتادة : قوله: { كَانَتَا رَتْقاً } يعني أنهما كانا شيئاً واحداً ففصل الله بينهما بالهواء .
القول الثاني: أن السموات السبع كانت رتقاً ؛ أي متلاصقة بعضها ببعض ، ففتقها الله وجعلها سبع سموات ، كل اثنتين منها بينهما فصل، وكذلك الأرضين كانت رتقاً ففتقها، وجعلها سبعاً بعضها منفصل عن بعض . قال مجاهد: كانت السموات طبقة واحدة مؤتلفة، ففتقها فجعلها سبع سموات ، وكذلك الأرضين كانت طبقة واحدة ففتقها فجعلها سبعاً "
القول الثالث: أن معنى { كَانَتَا رَتْقاً } أن السماء كانت لا ينزل منها مطر ، والأرض كانت لا ينبت فيها نبات، ففتق الله السماء بالمطر، والأرض بالنبات . قال ابن عباس: كانت السموات رتقاً لا تمطر، وكانت الأرض رتقاً لا تنبت، فلما خلق سبحانه للأرض أهلاً ، فتق هذه بالمطر، وفتق هذه بالنبات .
القول الرابع: أنهما { كَانَتَا رَتْقاً } أي في ظلمة لا يرى من شدتها شيء ففتقها الله بالنور ، وهذا القول يرجع إلى القول الأول والثاني .
القول الخامس: - وهو أبعدها - أن الرتق يراد به العدم، والفتق يراد به الإيجاد ؛ أي كانتا عدما فأوجدناهما .
وقد رجح بعض المحققين من المفسرين والعلماء القول الثالث - وهو أن كونهما رتقاً بمعنى أن السماء كان لا ينزل منها مطر، والأرض كانت لا تنبت شيئاً ففتق الله السماء بالمطر والأرض بالنبات - وذلك لأن هناك قرائن تدل على هذا المعنى من كتاب الله عز وجل منها:(1/218)
1- أن قوله تعالى: { أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا } يدل على أنهم رأوا ذلك لأن الأظهر في " رأى " أنها بصرية ، والذي يرونه بأبصارهم هو أن السماء تكون لا ينزل منها مطر، والأرض لا نبات فيها، فيشاهدون بأبصارهم نزول المطر من السماء ، وخروج النبات من الأرض .
2- أنه سبحانه أتبع ذلك بقوله: { وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } (1) ، والظاهر اتصال هذا الكلام بما قبله أي: وجعلنا من الماء الذي أنزلناه بفتقنا السماء، وأنبتنا به أنواع النبات بفتقنا الأرض، كل شيء حي . قال الفخر الرازي في تفسيره: " ورجحوا هذا الوجه على سائر الوجه - يعني كونهما رتقاً بمعنى أن السماء كان لا ينزل منها مطر، والأرض كانت لا تنبت شيئاً ففتق الله السماء بالمطر والأرض بالنبات - بقوله بعد ذلك : { وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } ، وذلك لا يليق إلا وللماء تعلق بما تقدم، ولا يكون كذلك إلا إذا كان المراد ما ذكرنا .
3- أن هذا المعنى جاء موضحاً في آيات أخرى ، كقوله تعالى: { وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ } (2) ، والمراد بالرجع: نزول المطر من السماء تارة بعد أخرى، والمراد بالصدع : انشقاق الأرض عن النبات .
والآية الكريمة مسوقة لتجهيل المشركين وتوبيخهم على كفرهم، مع أنهم يشاهدون بأعينهم ما يدل دلالة واضحة على وحدانية الله تعالى وقدرته ، ويعلمون أن من كان كذلك لا يصح أن تترك عبادته إلى عبادة حجر أو نحوه، مما لا يضر ولا ينفع . (3) هذا ولله أعلم .
- - - - - -
الجمع بين آية وحديث في التوبة
__________
(1) - سورة الأنبياء الآية: 30
(2) - سورة الطارق: 11 - 12
(3) - ينظر: تفسير الطبري ( 3/60 )، أضواء البيان للشنقطي( 4/ 563 - 566 )(1/219)
سؤالي هو: كيف نجمع بين قوله تعالى :"والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون .. أولئك جزاءهم جنات..." الآية في سورة آل عمران. وحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - :"يأتي أقوام يوم القيامة بأعمال كالجبال يجعلها الله هباء منثورا"، فقال الصحابة - رضي الله عنهم - لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - جلهم لنا يا رسول الله، فقال: "أما إنهم يصلون كما تصلون ويصومون كما تصومون ويقومون من الليل كما تقومون لكنهم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها" . الحديث... نرجو الإيضاح. ولكم جزيل الشكر.
الجواب:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين . وبعد
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.(1/220)
دلت نصوص الكتاب والسنة على أن التوبة النصوح التي استكملت الشروط يحصل بها مغفرة الذنوب وتكفير السيئات ودخول الجنات، كما جاء في الآية التي ذكرها السائل، وهي قوله تعالى: { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ } (1) ، وكما في قوله تعالى: { وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً } (2) ، وكما في قوله تعالى : { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } (3) ، وقد ورد في سبب نزول هاتين الآيتين ما أخرجه مسلم من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما- أَنَّ قَوْمًا كَانُوا قَتَلُوا فَأَكْثَرُوا وَزَنَوْا فَأَكْثَرُوا وَانْتَهَكُوا فَأَتَوْا النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالُوا يَا مُحَمَّدُ إِنَّ الَّذِي تَقُولُ وَتَدْعُو إِلَيْهِ لَحَسَنٌ لَوْ تُخْبِرُنَا أَنَّ لِمَا عَمِلْنَا كَفَّارَةً فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَر" } إِلَى: { فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } (4)
__________
(1) - سورة آل عمران الآية: 135
(2) - سورة الفرقان:68-70
(3) - سورة الزمر الآية: 53
(4) - سورة الفرقان: 68-70(1/221)
قَالَ: يُبَدِّلُ اللَّهُ شِرْكَهُمْ إِيمَانًا وَزِنَاهُمْ إِحْصَانًا، وَنَزَلَتْ: { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ } (1) ، وأما ما جاء في الحديث المذكور في السؤال فهو محمول - والله أعلم - على أن هؤلاء الذين انتهكوا محارم الله قد وافتهم المنية ولم يتوبوا من هذه الذنوب، أو لم يستوفوا شروط التوبة، وهي: الإقلاع عن الذنب والعزم على عدم العود، والندم على ما فات، وإذا كانت الحقوق للعباد لم يقوموا بأدائها، والخروج من المظالم، فبقيت السيئات والذنوب من غير توبة ، فقدموا على ربهم وهم يحملونها على ظهورهم، فعند الموازنة تغلب سيئاتهم حسناتهم ، كما جاء في الحديث الذي أخرجه مسلم من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟، قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، فَقَالَ: إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ" (2) ، وكما أخرجه البخاري من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ لِأَخِيهِ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهَا فَإِنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلا دِرْهَمٌ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُؤْخَذَ لِأَخِيهِ مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ أَخِيهِ فَطُرِحَتْ
__________
(1) - أخرجه مسلم ح (122)
(2) - أخرجه مسلم ح (2581)(1/222)
عَلَيْهِ" (1) ، ويحتمل أن هؤلاء الذين جاء وصفهم في الحديث المذكور في السؤال فعلوا هذه المحرمات فعل المُسْتَحِل لها، الآمن من مكر الله وعقوبته، ويؤيد هذا أن معنى الانتهاك المبالغة في خرق محارم الله، والحديث المذكور من أفراد ابن ماجه أخرجه من حديث ثَوْبَانَ - رضي الله عنه - أن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ قَالَ: أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ وَيَأْخُذُونَ مِنْ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا"، (2) وقال البوصيري : إسناده صحيح، هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
- - - - - -
الجمع بين حديث: دونك فانتصري، وحديث : أما إن ملكاً بينكما يذب عنك كلما يشتمك
كيف نجمع بين هذين الحديثين ( الحديثان بالمعنى ) : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخلت عليه إحدى أمهات المؤمنين ومعه غيرها منهن فجعلت تسبها فقال عليه الصلاة والسلام للتي عنده دونك فانتصري
والآخر: أن إحدى زوجاته عليه الصلاة والسلام جعلت تسب أخرى منهن وهي صامتة ثم أخذت ترد عليها، فقال كان ملك يذب عنك فلما تكلمت ذهب وتركك .
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
__________
(1) - أخرجه البخاري ح (6534)
(2) - أخرجه ابن ماجه (4235)(1/223)
الحديث الأول أخرجه باللفظ المذكور الإمام أحمد بإسناد حسن ح ( 24664 ) من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: " مَا عَلِمْتُ حَتَّى دَخَلَتْ عَلَيَّ زَيْنَبُ بِغَيْرِ إِذْنٍ وَهِيَ غَضْبَى ثُمَّ قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : أَحْسِبُكَ إِذَا قَلَبَتْ لَكَ بُنَيَّةُ أَبِي بَكْرٍ ذُرَيِّعَيْهَا ثُمَّ أَقْبَلَتْ إِلَيَّ فَأَعْرَضْتُ عَنْهَا حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : " دُونَكِ فَانْتَصِرِي " فَأَقْبَلْتُ عَلَيْهَا حَتَّى رَأَيْتُهَا قَدْ يَبِسَ رِيقُهَا فِي فَمِهَا مَا تَرُدُّ عَلَيَّ شَيْئًا فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَتَهَلَّلُ وَجْهُهُ .(1/224)
وهذا الحديث أصله في الصحيحين بسياق مطول من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: " أَرْسَلَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَاسْتَأْذَنَتْ عَلَيْهِ وَهُوَ مُضْطَجِعٌ مَعِي فِي مِرْطِي فَأَذِنَ لَهَا فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَزْوَاجَكَ أَرْسَلْنَنِي إِلَيْكَ يَسْأَلْنَكَ الْعَدْلَ فِي ابْنَةِ أَبِي قُحَافَةَ وَأَنَا سَاكِتَةٌ قَالَتْ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَيْ بُنَيَّةُ أَلَسْتِ تُحِبِّينَ مَا أُحِبُّ فَقَالَتْ بَلَى قَالَ فَأَحِبِّي هَذِهِ قَالَتْ فَقَامَتْ فَاطِمَةُ حِينَ سَمِعَتْ ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَرَجَعَتْ إِلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَخْبَرَتْهُنَّ بِالَّذِي قَالَتْ وَبِالَّذِي قَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْنَ لَهَا مَا نُرَاكِ أَغْنَيْتِ عَنَّا مِنْ شَيْءٍ فَارْجِعِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقُولِي لَهُ إِنَّ أَزْوَاجَكَ يَنْشُدْنَكَ الْعَدْلَ فِي ابْنَةِ أَبِي قُحَافَةَ فَقَالَتْ فَاطِمَةُ وَاللَّهِ لَا أُكَلِّمُهُ فِيهَا أَبَدًا قَالَتْ عَائِشَةُ فَأَرْسَلَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ زَوْجَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ تُسَامِينِي مِنْهُنَّ فِي الْمَنْزِلَةِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلَمْ أَرَ امْرَأَةً قَطُّ خَيْرًا فِي الدِّينِ مِنْ زَيْنَبَ وَأَتْقَى لِلَّهِ وَأَصْدَقَ حَدِيثًا وَأَوْصَلَ لِلرَّحِمِ وَأَعْظَمَ صَدَقَةً وَأَشَدَّ ابْتِذَالًا لِنَفْسِهَا فِي الْعَمَلِ الَّذِي تَصَدَّقُ بِهِ وَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ(1/225)
تَعَالَى مَا عَدَا سَوْرَةً مِنْ حِدَّةٍ كَانَتْ فِيهَا تُسْرِعُ مِنْهَا الْفَيْئَةَ قَالَتْ فَاسْتَأْذَنَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَعَ عَائِشَةَ فِي مِرْطِهَا عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي دَخَلَتْ فَاطِمَةُ عَلَيْهَا وَهُوَ بِهَا فَأَذِنَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَزْوَاجَكَ أَرْسَلْنَنِي إِلَيْكَ يَسْأَلْنَكَ الْعَدْلَ فِي ابْنَةِ أَبِي قُحَافَةَ قَالَتْ ثُمَّ وَقَعَتْ بِي فَاسْتَطَالَتْ عَلَيَّ وَأَنَا أَرْقُبُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَرْقُبُ طَرْفَهُ هَلْ يَأْذَنُ لِي فِيهَا قَالَتْ فَلَمْ تَبْرَحْ زَيْنَبُ حَتَّى عَرَفْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَا يَكْرَهُ أَنْ أَنْتَصِرَ قَالَتْ فَلَمَّا وَقَعْتُ بِهَا لَمْ أَنْشَبْهَا حَتَّى أَنْحَيْتُ عَلَيْهَا قَالَتْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَتَبَسَّمَ إِنَّهَا ابْنَةُ أَبِي بَكْرٍ " (1)
والحديث الثاني : حديث حسن قد رواه جماعة من الصحابة ، فقد أخرجه أحمد ح ( 23796 ) من حديث النُّعْمَانِ بْنِ مُقَرِّنٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَسَبَّ رَجُلٌ رَجُلًا عِنْدَهُ قَالَ فَجَعَلَ الرَّجُلُ الْمَسْبُوبُ يَقُولُ عَلَيْكَ السَّلَامُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " أَمَا إِنَّ مَلَكًا بَيْنَكُمَا يَذُبُّ عَنْكَ كُلَّمَا يَشْتُمُكَ "
__________
(1) - أخرجه البخاري ح ( 2581 ) ، ومسلم ح ( 2442 )، واللفظ لمسلم .(1/226)
وأخرجه الإمام أحمد ح ( 9622 ) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أَنَّ رَجُلًا شَتَمَ أَبَا بَكْرٍ وَالنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - جَالِسٌ فَجَعَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَعْجَبُ وَيَتَبَسَّمُ فَلَمَّا أَكْثَرَ رَدَّ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ فَغَضِبَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَقَامَ فَلَحِقَهُ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَانَ يَشْتُمُنِي وَأَنْتَ جَالِسٌ فَلَمَّا رَدَدْتُ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ غَضِبْتَ وَقُمْتَ قَالَ إِنَّهُ كَانَ مَعَكَ مَلَكٌ يَرُدُّ عَنْكَ فَلَمَّا رَدَدْتَ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ وَقَعَ الشَّيْطَانُ فَلَمْ أَكُنْ لِأَقْعُدَ مَعَ الشَّيْطَانِ ثُمَّ قَالَ: " يَا أَبَا بَكْرٍ ثَلَاثٌ كُلُّهُنَّ حَقٌّ مَا مِنْ عَبْدٍ ظُلِمَ بِمَظْلَمَةٍ فَيُغْضِي عَنْهَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا أَعَزَّ اللَّهُ بِهَا نَصْرَهُ.... " الحديث
وأخرجه البخاري في الأدب المفرد ح ( 419 ) من حديث ابن عباس
وأخرجه عبد الرزاق مرسلاً ح ( 20255 ) من حديث زيد بن أثيع.
ومن خلال استعراض هذه الأحاديث يتبين أن السباب وقع بين رجلين، وفي بعض هذه الأحاديث أن المسبوب أبو بكر - رضي الله عنه - ، وليس كما ورد في السؤال أن السباب كان بين زوجتين من أزواج الرسول - صلى الله عليه وسلم - والله أعلم .(1/227)
ولا تعارض بين الحديثين ، فيجوز للإنسان أن ينتصر ممن ظلمه كما فعلت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها مع أم المؤمنين زينب رضي الله عنها حينما نالت منها، وتطاولت عليها بالكلام، ولكن العفو والصفح أفضل إذا لم يكن في الانتصار مصلحة أكبر، قال الله عز وجل : { وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ } (1)
والانتصار مشروط بشرطين :
1- القدرة على ذلك ، فإذا كان عجزاً أو كان الانتصار يفضي إلى عدوان زائد أو مفسدة أكبر ترك وهو أصل النهي عن الفتنة .
2- ألا يعتدي . قال الله عز وجل : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } (2) ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " الْمُسْتَبَّانِ مَا قَالَا فَعَلَى الْبَادِئِ مَا لَمْ يَعْتَدِ الْمَظْلُومُ " (3)
وعلى هذا فالمباح في الانتصار أن يرد مثل ما قال الجاني، أو يقاربه لأنه قصاص فلو قال له: يا كلب - مثلاً - فالانتصار أن يرد عليه بقوله: بل هو الكلب ، وهكذا فلا يتجاوز المنتصر في السباب وغيره .
هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل .
- - - - - -
شبه نصرانية حول اختلاف الحديث
__________
(1) - سورة الشورى الآيات: 39 - 41
(2) - سورة المائدة الآية: 8
(3) - أخرجه مسلم ح ( 2587 ) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -(1/228)
جاءني أحد من وصفهم الحق بالضالين وقال لي أن القرآن والحديث لا يقولون بتحريف كتابهم, و عندما أريته بعض الآيات التي تفند رأيه قال لي أنها تعنى أن النصارى و اليهود لم ينقلوا للمسلمين ما يقول كتابهم بأمانة, و قال انه لا يمكن الاعتداد بالحديث لوجود الاختلاف في الحديث " علم اختلاف الحديث" مدللا زعمه باختلاف أحاديث الاسراء والمعراج .
أرجوا أن تساعدوني مشكورين للرد عليه وخاصة فيما يتعلق بمسألة اختلاف الحديث، أرجو أن تدعوا الله لي حتى أقيم الحجة عليه !
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
1- من الحقائق الثابتة أن التوراة والإنجيل قد دخلهما التحريف والتبديل والتغير ، وأن ما في أيدي اليهود والنصارى اليوم من التوراة والأناجيل المتعددة والأسفار، والإصحاحات ، التي بلغت العشرات، ليست هي عين التوراة المنزلة على موسى عليه السلام، ولا هي عين الإنجيل المنزل على عيسى عليه السلام، لانقطاع أسانيدها، واحتواها على كثير من التحريف، والتبديل، والأغاليط والاختلاف فيها، واختلاف أهلها عليها، واضطرابهم فيها . قال الله عز وجل عن التوراة: { فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } (1) ، وقال تعالى عن الإنجيل: { وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ } (2)
__________
(1) - سورة المائدة الآية: 13
(2) - سورة المائدة الآية: 14(1/229)
وأخرج الإمام أحمد من حديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - بِكِتَابٍ أَصَابَهُ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكُتُبِ فَقَرَأَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَغَضِبَ فَقَالَ: أَمُتَهَوِّكُونَ فِيهَا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً لَا تَسْأَلُوهُمْ عَنْ شَيْءٍ فَيُخْبِرُوكُمْ بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُوا بِهِ أَوْ بِبَاطِلٍ فَتُصَدِّقُوا بِهِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ مُوسَى - صلى الله عليه وسلم - كَانَ حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي " (1)
وقد أقام العلماء الأدلة على وجود التحريف والتبديل ، ومن ذلك: ما ذكره القرطبي في كتاب الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام، حيث عقد فصلين طويلين بعنوان : فصل في بيان ما طرأ في التوراة من الخلل وأنها لم تنقل نقلاً متواتراً فتسلم لأجله من الخطأ والزلل، وفصل في بيان أن الإنجيل ليس بمتواتر وبيان بعض ما وقع فيه من الخلل، وما ذكره ابن تيمية في كتابه " الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح " ، وما ذكر ابن القيم في كتابه " هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى "
2- وأما ما جاء في السؤال من أن السنة لا يعتد بها لوجود الاختلاف فيها ، فهذا كلام لا يلتفت إليه، ودعوى باطلة، فإن السنة حجة بالاتفاق ، وقد بذل الصحابة ومن بعدهم جهوداً عظيمة في تبليغها للأمة حتى وصلت إلى الأمة غضة طرية، وأحب أن أذكر بعض الدلائل على حجية السنة ، وعن الجهود التي بذلها الصحابة ومن بعدهم في نقلها :
__________
(1) - أخرجه أحمد ح ( 14623 )(1/230)
قد دلت الأدلة المستفيضة من القرآن والسنة على وجوب اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والتحذير من مخالفة أمره ونهيه عليه الصلاة والسلام ، قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } (1)
قال ميمون بن مهران: " الرد إلى الله هو الرجوع إلى كتابه، والرد إلى الرسول هو الرجوع إليه في حياته وإلى سنته بعد مماته."
__________
(1) - سورة النساء الآية: 59(1/231)
وقال تعالى: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } (1) ، وقال تعالى : { مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } (2) ، فقد جعل طاعة رسوله من طاعته سبحانه ، وحذر من مخالفته فقال: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } (3) ، فلولا أن أمره حجة ولازم لما توعد على مخالفته بالنار، وقال سبحانه وتعالى: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ } (4) ، وقال سبحانه: { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً } (5) ، وقال سبحانه: { وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } (6) ، وقد فهم الصحابة - رضي الله عنهم - من هذه الآيات وجوب الرجوع إلى السنة والاحتجاج بها، روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: " لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَاتِ وَالْمُوتَشِمَاتِ وَالْمُتَنَمِّصَاتِ وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ فَبَلَغَ ذَلِكَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي أَسَدٍ يُقَالُ لَهَا أُمُّ يَعْقُوبَ فَجَاءَتْ فَقَالَتْ: إِنَّهُ بَلَغَنِي عَنْكَ أَنَّكَ لَعَنْتَ كَيْتَ وَكَيْتَ فَقَالَ: وَمَا لِي أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَمَنْ هُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَقَالَتْ: لَقَدْ قَرَأْتُ مَا بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ فَمَا وَجَدْتُ فِيهِ مَا
__________
(1) - سورة آل عمران الآية: 31
(2) - سورة النساء الآية: 80
(3) - سورة النور الآية: 63
(4) - سورة الأحزاب الآية: 21
(5) - سورة النساء الآية: 65
(6) - سورة الحشر من الآية: 7(1/232)
تَقُولُ قَالَ: لَئِنْ كُنْتِ قَرَأْتِيهِ لَقَدْ وَجَدْتِيهِ أَمَا قَرَأْتِ { وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } (1) ، وحينما بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - معاذاً - رضي الله عنه - إلى اليمن قال له: " كَيْفَ تَقْضِي إِذَا عَرَضَ لَكَ قَضَاءٌ ؟ قَالَ: أَقْضِي بِكِتَابِ اللَّهِ، قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي كِتَابِ اللَّهِ ؟ قَالَ: فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلَا فِي كِتَابِ اللَّهِ ؟ قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي وَلَا آلُو، فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَدْرَهُ وَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يُرْضِي رَسُولَ اللَّهِ " (2)
__________
(1) - أخرجه البخاري ح ( 4886 ) ، ومسلم ح ( 2125 )
(2) - أخرجه أبو داود ح (3592)(1/233)
وأما الأحاديث الدالة على وجوب اتباع السنة فكثيرة منها ما رواه أبو داود في سننه عن المقدام بن معد يكرب - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ أَلَا يُوشِكُ رَجُلٌ شَبْعَانُ عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ: عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلَالٍ فَأَحِلُّوهُ وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ أَلَا لَا يَحِلُّ لَكُمْ لَحْمُ الْحِمَارِ الْأَهْلِيِّ وَلَا كُلُّ ذِي نَابٍ مِنْ السَّبُعِ وَلَا لُقَطَةُ مُعَاهِدٍ إِلَّا أَنْ يَسْتَغْنِيَ عَنْهَا صَاحِبُهَا وَمَنْ نَزَلَ بِقَوْمٍ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَقْرُوهُ فَإِنْ لَمْ يَقْرُوهُ فَلَهُ أَنْ يُعْقِبَهُمْ بِمِثْلِ قِرَاهُ " (1) ، قال الخطابي: " وقوله: يوشك رجل شبعان، يحذر بهذا القول من مخالفة السنن التي سنها مما ليس له من القرآن ذكر على ما ذهبت إليه الخوارج والروافض فإنهم تمثلوا بظاهر القرآن وتركوا السنن التي قد ضمنت بيان الكتاب فتحيروا وضلوا، وأراد بقوله: متكئ على أريكته أن من أصحاب الترفه والدعة الذين لزموا البيوت ولم يطلبوا العلم من مظانه " (2) ، وفي حديث العرباض بن سارية - رضي الله عنه - مرفوعاً: " عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ " (3) ، وعن ابن عباس - رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب في حجة الوداع فقال: " إن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم ولكن رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحترقون من أمركم، فاحذروا إني تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً: كتاب الله وسنة نبيه" (4)
__________
(1) - أخرجه أبو داود ح (4604 )
(2) - معالم السنن (4/298)
(3) - أخرجه أبو داود (4607)، والترمذي (2676) وقال: حديث حسن صحيح
(4) - أخرجه مالك في الموطأ ( 2/899)، والحاكم (318) واللفظ له.(1/234)
وكان إذا قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وفد وعلمهم من القرآن والسنة أوصاهم بأن يحفظوا ويبلغوا، ففي صحيح البخاري أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لوفد بني عبد القيس: " احْفَظُوهُ وَأَخْبِرُوهُ مَنْ وَرَاءَكُمْ " (1) ، وفي حديث مالك بن حويرث قال: " ارْجِعُوا إِلَى أَهْلِيكُمْ فَعَلِّمُوهُمْ " (2)
ولمكانة السنة من الدين ومنزلتها من القرآن الكريم عُني الصحابة - رضي الله عنهم - بحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فحفظوا كلامه - صلى الله عليه وسلم - ، ووعوا ما شاهدوا من أفعاله وأحواله وأحاطوا علماً بالظروف والملابسات التي قيلت فيها هذه الأحاديث ، وقد بلغ من حرصهم على سماع الوحي والسنن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنهم كانوا يتناوبون في هذا السماع روى البخاري في صحيحه عن عمر - رضي الله عنه - قال : " كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد وهي من عوالي المدينة وكنا نتناوب النزول على رسول الله صلى الله علية وسلم ينزل يوماً وأنزل يوماً ، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره ، وإذا نزل فعل مثل ذلك " (3)
__________
(1) - أخرجه البخاري ح ( 87 )
(2) - أخرجه البخاري ح (6008)، ومسلم ح (674)
(3) - أخرجه البخاري ح (89 )(1/235)
وتثبت الصحابة واحتاطوا في قبول الأخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، مسترشدين بكتاب الله عز وجل الذي أمر بالتثبت في قبول الأخبار قال سبحانه وتعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا } (1) ، وفي قراءة : " فتثبتوا " ، ومستضيئين بسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - التي حذرت من الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فكان أبو بكر - رضي الله عنه - أول من احتاط في قبول الأخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، روى ابن شهاب عن قبيضة بن ذؤيب أن الجدة جاءت إلى أبي بكر - رضي الله عنه - تلتمس أن تورَّث ، فقال أبو بكر : " ما أجد لك في كتاب الله شيئاً ، وما علمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر لك شيئاً ، ثم سأل الناس ، فقام المغيرة فقال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعطيها السدس ، فقال له أبو بكر : هل معك أحد ؟ ، فشهد محمد بن مسلمة بمثل ذلك فأنفذه لها أبو بكر - رضي الله عنه - . " (2)
__________
(1) - سورة الحجرات الآية: 6
(2) - أخرجه أبو داود ح ( 2894 ) ، والترمذي ح ( 2100 ) وابن ماجه ح ( 2724 )(1/236)
وتثبت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أيضاً في قبول الأخبار ، من ذلك ما رواه الإمام البخاري عن أبي سعيد الخدري ، قال : " كنت في مجلس من مجالس الأنصار إذ جاء أبو موسى كأنه مذعور ، فقال : استأذنت على عمر ثلاثاً فلم يؤذن لي فرجعت ، فقال : ما منعك ؟ ، قلت استأذنت ثلاثاً فلم يؤذن لي فرجعت ، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فليرجع . " ، فقال : والله لتقيمن عليه بينة ، أمنكم أحد سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقال أبي بن كعب : والله لا يقوم معك إلا أصغر القوم ، فكنت أصغر القوم ، فقمت معه ، فأخبرت عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك " ، فقال عمر لأبي موسى : أما إني لم أتهمك ، ولكن خشيت أن يتقول الناس على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " (1)
وقوله : " أما إني لم أتهمك .... " ليس في الصحيحين وهو عند مالك في الموطأ ، وفي رواية لمسلم أن أبي بن كعب قال : يا ابن الخطاب لا تكوننا عذاباً على أصحاب رسول الله ، قال عمر : سبحان إنما سمعت شيئاً فأحببت أن أتثبت
وروى مسلم عن المسور بن مخرمة قال : استشار عمر بن الخطاب الناس في ملاص المرأة ، فقال المغيرة بن شعبة : شهدت النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى فيه بغرة : عبد أو أمة ، قال : فقال عمر ائتني بمن يشهدك معك . قال : فشهد له محمد بن مسلمة . (2)
وما ورد عن الصحابة من التثبت في قبول الأخبار كثيرة لا يتسع المقام لبسطها .
وسار على منهج الصحابة التابعون ، ومن بعدهم فاعتنوا بالأسانيد وفتشوا عن حملة الأخبار ونقلة الآثار ، فنقدوا الرجال وميزوا الثقات من غيرهم
__________
(1) - أخرجه البخاري ح (6245 ) ، ومسلم ح ( 2153 ) ،ومالك في الموطأ ( 2 / 964 )
(2) - أخرجه مسلم ح ( 1689 ) ، والملاص : هو جنين المرأة ، والغُرَّة : العبد والأمة(1/237)
قال ابن سرين : " إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم " وفي رواية عنه أنه قال : " إن هذا الحديث دين فلينظر الرجل عمن يأخذ دينه "
قال عبد الله بن المبارك : " الإسناد عندي من الدين ، لولا الإسناد لقال من شاء ما شاء ، فإذا قيل له من حديثك ؟ بقي "
وقال سفيان الثوري : " الإسناد سلاح المؤمن ، إذا لم يكن معه سلاح فبأي شيء يقاتل ؟ "
وقال الأوزاعي : " ما ذهاب العلم إلا ذهاب الإسناد "
ودرس الأئمة هذه الأسانيد ونظروا في أحوال الرواة من خلال قواعد وأصول علوم الحديث ، فميزوا المقبول من الأحاديث من المردود والمحفوظ من الشاذ والمعلل ، وبهذه الجهود المباركة حفظت السنة ، وتميز الصحيح من الضعيف .
وقد مر تدوين السنة بمراحل عديدة حتى تم نضجه في القرن الثالث والذي هو العصر الذهبي في تدوين السنة ، حيث اتجه أئمة الحديث بعد جمع السنة إلى تمحيصها ونقدها فأثمرت تلك الجهود مصنفات أصبح عليها المعول والاعتماد ، حيث قصد مؤلفوها أن تكون هذه المصادر مرجعاً للأمة ، مثل الكتب الستة ، ومسند الإمام أحمد ، ونظائرها من كتب السنة .
قال الإمام أحمد - رحمه الله - : " إن هذا الكتاب قد جمعتهُ وأتقنته من أكثر من سبعمائة وخمسين ألفاً ، فما اختلف المسلمون فيه من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فارجعوا إليه ، فإن كان فيه وإلا فليس بحجة . "
وقال البخاري -رحمه الله - : صنفت كتاب الجامع الصحيح في المسجد الحرام ، وما أدخلت فيه حديثاً إلا استخرت الله وصليت ركعتين وتبينت صحته "
وقال أيضاً: " صنفت هذا الجامع الصحيح من ستمائة ألف حديث في ست عشرة سنة ، وجعلته حجة بيني وبين الله "
وقال الإمام مسلم - رحمه الله - : " صنفت هذا الحديث من ثلثمائة ألف حديث مسموعة "
وقال أيضاً: " لو أن أهل الأرض يكتبون الحديث مائتي سنة ما كان مدارهم إلا على هذا المسند "(1/238)
وقال: " أخرجت هذا من الحديث الصحيح ليكون مجموعاً عندي ، وعند من يكتبه عني فلا يرتاب في صحتها "
وقال : " ما وضعت شيئاً في كتابي هذا إلا بحجة ، وما أسقطت منه شيئاً إلا بحجة "
وقال أبو داود في رسالته إلى أهل مكة في وصف سننه : " فإنكم سألتم أن أذكر لكم الأحاديث التي في كتاب " السنن " أهي أصح ما عرفتُ في الباب ؟ ووقفت على جميع ما ذكرتم . فاعلموا أنه كذلك كله ....... وهو كتاب لا ترد عليك سنة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بإسناد صالح إلا وهي فيه ...... ولا أعلم شيئاً بعد القرآن ألزم للناس أن يتعلموه من هذا الكتاب ....... وما كان في كتابي من حديث فيه وهنٌ شديد فقد بينته ، ومنه ما لا يصح سنده وما لم أذكر فيه شيئاً فهو صالح وبعضها أصح من بعض "
وهذه المصنفات هي الأصول المعتمدة حيث بذل مصنفوها جهداً كبيراً في تمحيص السنة ونقدها واستخرجوا هذه الأحاديث وانتخبوها من الاف الطرق والروايات وفق منهجٍ في غاية الدقة والإحكام .(1/239)
3- وأما علم مختلف الحديث فالمقصود به وجود أحاديث ظاهرها التعارض والاختلاف ، وبقدر ما يؤتى الإنسان من سعة العلم وقوة الفهم يستطيع دفع هذا التعارض، وفهم النصوص فهماً صحيحاً، إذ لا يوجد تعارض حقيقي بين النصوص، فلا يمكن أن يصدر عن الشارع دليلان متعارضان يقتضي أحدهما نقيض ما يقتضي الآخر ، ولا يمكن التوفيق بينهما، إنما التعارض في ظاهر الأمر في نظر المجتهد، قال الشافعي: " لا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أبداً حديثان صحيحان متضادان ينفي أحدهما ما يثبته الآخر من غير جهة الخصوص والعموم والإجمال والتفسير إلا على وجه النسخ وإن لم يجده" (1) ، وقال القاضي أبو بكر الباقلاني: " وكل خبرين علم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تكلم بهما، فلا يصح دخول التعارض فيهما على وجه، وإن كان ظاهرهما التعارض "، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: " لا يجوز أن يوجد في الشرع خبران متعارضان من جميع الوجوه ، وليس مع أحدهما ترجيح يقدم به " (2) ، ويقول الإمام الشاطبي: " لا تجد البتة دليلين أجمع المسلمون على تعارضهما بحيث وجب عليهم الوقوف، لكن لما كان أفراد المجتهدين غير معصومين من الخطأ أمكن التعارض بين الأدلة عندهم " (3)
وقال ابن خزيمة: " - وكان أحسن الناس كلاماً في مختلف الحديث - قال : " لا أعرف حديثين متضادين ، فمن كان عنده فليأتني به لأولف بينهما . " (4) ، وقد اعتنى العلماء عناية كبيرة بعلم مختلف الحديث، وألفت فيه مؤلفات عديدة، وتضمنت كتب شروح الأحاديث مادة علمية غزيرة في النظر بين الأحاديث التي ظاهرها التعارض .
وهناك مسالك تسلك لدفع التعارض الذي يوجد في بعض الأحاديث ، وهي:
__________
(1) - الرسالة للشافعي ( ص: 173، 213 )
(2) - المسودة في أصول الفقه ص: 306
(3) - الموافقات في أصول الشريعة للشاطبي ( 4/217 )
(4) - الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي ( ص: 606 )(1/240)
1- الجمع بين الأحاديث التي ظاهرها التعارض: وهناك وجوه كثيرة للجمع بين الأحاديث التي ظاهرها التعارض وهي غير منحصرة ، وقد يحتاج كل حديثين ظاهرهما التعارض إلى نظر خاص يدفع من خلاله ما بينهما من تعارض، ومن الأمثلة على الأحاديث التي ظاهرة التعارض :
- ما ورد من نفي العدوى بقوله - صلى الله عليه وسلم - : " لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ .. " (1) ، وما جاء من إثباتها في حديث : " فِرَّ مِنْ الْمَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنْ الْأَسَدِ " (2) ، فيجمع بينهما بأن العدوى ثابتة وموجودة ، وأنها سبب من الأسباب التي جعلها الله سبباً لانتقال المرض ، وأن المراد بنفيه - صلى الله عليه وسلم - للعدوى إنما هو نفي ما كان يعتقده أهل الجاهلية من أن المرض يُعدي بطبعه .
- ومثل ما ورد من إثبات رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - لربه في ليلة المعراج كما أُثر عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى: { مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى } (3) ، { وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى } (4) قال: رآه بفؤاده مرتين ، وفي رواية قال: رآه بقلبه . وما جاء من نفي الرؤية كما جاء عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : هل رأيت ربك ؟ قال: " نور أنى أراه " ، وذلك بحمل الرؤية لله تعالى برؤية الفؤاد ، حيث لم يثبت عن أحد من الصحابة القول بالرؤية البصرية ، وأما الذين قالوا إنه رآه ببصره من أهل العلم فليس لهم مستند على ذلك إلا ما فهموه من الروايات المطلقة عن بعض الصحابة كابن عباس وغيره .
__________
(1) - أخرجه البخاري ح ( 5753 ) ، ومسلم ح ( 2225 )
(2) - أخرجه أحمد ح ( 9429 )
(3) - سورة النجم الآية: 11
(4) - سورة النجم الآية: 13(1/241)
- ومثل ما ورد من النهي عن استعمال " لو " كما جاء عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ " (1) ، وما جاء من نصوص دالة على جواز استعمالها مثل حديث عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا أَهْدَيْتُ وَلَوْلَا أَنَّ مَعِي الْهَدْيَ لَأَحْلَلْتُ " (2)
فيجمع بينهما بأن الضابط في استعمال ( لو ) هو: أنها بحسب الحال الباعث عليها ، فإن كان الباعث عليها الضجر والحزن ، أو الاعتراض على قضاء الله وقدره وشرعه ، أو تمني الشر فإن استعمالها يكون محرماً مذموماً ، وإن كان الباعث عليها محبة الخير والرغبة فيه ، أو الإرشاد والتعليم وبيان ما ينبغي فعله ، كان استعمالها جائز ، بل قد يكون محموداً
وإذا كان بين الحديثين اللذين ظاهرهما التعارض عموم وخصوص ، أو إطلاق وتقيد ، أو كان أحدهما يدل على الأمر والآخر لا يدل على الأمر صراحةً، فإنه يخصص العام، ويقيد المطلق، ويحمل الأمر على الاستحباب .
__________
(1) - أخرجه مسلم ح ( 2664 )
(2) - أخرجه البخاري ح ( 6802 ) ، ومسلم ح ( 1281 )(1/242)
- مثال الجمع بالحمل على التخصيص: أي أن أحد الحديثين عام والآخر خاص، ومن أمثلة ذلك حديث عبد الله بن عمر عن رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " فيما سقت السماء والعيون أو كان عثرياً العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر " (1) ، يدل ظاهر الحديث أن الزكاة تجب في كل ما يخرج من الأرض قليله وكثيره ، وهذا العموم مخصص بما جاء في الأحاديث الأخرى أن الزكاة لا تجب حتى تبلغ الحبوب والثمار نصاباً وهو خمسة أوسق . فعن أبي سعيد - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ليس فيما دون خمسة أوسق من تمر ولا حب صدقة" (2)
ومثل ذلك أيضاً : أحاديث النهي عن الصلاة بعد صلاة الصبح وصلاة العصر ، فيخصص منها ذوات الأسباب ، فيجوز أن تصلى في أوقات النهي .
- مثال الجمع بالحمل على التقييد: أي أن أحد الحديثين يكون مقيداً للآخر، ومن أمثلة الجمع بين الأحاديث التي ظاهرها التعارض بالحمل على التقييد حديث ابن عمر رضي الله عنهما " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إذا كان أحدكم يصلي فلا يدع أحداً يمر بين يديه ، فإن أبى فليقاتله ؛ فإن معه القرين " (3) ، وحديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفعه، فإن أبى فليقاتله؛ فإنما هو شيطان " (4)
فحديث ابن عمر مطلق لم يذكر فيه السترة، وقد قيد في حديث أبي سعيد المدافعة إذا اتخذ المصلي سترة فقيد الإطلاق في حديث ابن عمر، فيكون حق المصلي في دفع المار بين يديه مقيداً بما إذا كان للمصلي شيئاً يستره .
__________
(1) - أخرجه البخاري ح ( 1483 )، ومسلم ح ( 981 )
(2) - أخرجه البخاري ح ( 1459 )، ومسلم ح ( 979 )
(3) - أخرجه مسلم ح ( 506 )
(4) - أخرجه مسلم ح ( 505 )(1/243)
قال ابن حجر: " والمطلق في هذا محمول على المقيد ؛ لأن الذي يصلي إلى غير سترة ..... أو كانت وتباعد منها فالأصح أنه ليس له الدفع لتقصيره " (1)
قال النووي : " اتفق العلماء على أن المقاتلة تكون لمن لم يفرط في صلاته بل احتاط وصلى إلى سترة أو في مكان يأمن المرور بين يديه " (2)
- مثال الجمع بالحمل على الندب: ومن أمثلة ذلك: حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل" (3) ، وحديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم ، وسواك ، ويمس من الطيب ما قدر عليه " (4) ، وحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " حق على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام يوماً يغسل فيه رأسه وجسده" (5)
فذهب جمهور العلماء على أن الأمر بالاغتسال يوم الجمعة ليس أمر وجوب بل هو محمول على الاستحباب والندب .
ويدل على هذا ما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: " كان الناس ينتابون الجمعة من منازلهم من العوالي فيأتون في العباء، ويصيبهم الغبار فتخرج منهم الريح فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنسان منهم وهو عندي فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لو أنكم تطهرون ليومكم هذا " (6)
ومن الأمثلة أيضاً :
__________
(1) - فتح الباري ( 1/582 )
(2) - شرح النووي على مسلم ( 4/223 )
(3) - أخرجه البخاري ح ( 877 )
(4) - أخرجه البخاري ( 880 )، ومسلم ح ( 846 )، واللفظ له
(5) - أخرجه البخاري ح ( 897 ) ، مسلم ح ( 849 )
(6) - أخرجه مسلم ح ( 847 )(1/244)
حديث سمرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " كل غلام مرتهن بعقيقته ، تذبح عنه يوم سابعه ويحلق ، ويسمى " (1) ، وحديث عائشة رضي الله عنها قالت : " أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نعق عن الغلام شاتين ، وعن الجارية شاة " (2) ، وحديث سلمان بن عامر الضبي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " مع الغلام عقيقة فأهريقوا عنه دما وأميطوا عنه الأذى " (3)
فذهب جمهور العلماء إلى حملها على الندب لعدم صراحتها على الوجوب ولما جاء في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن العقيقة على المولود ؟ فقال: " لا يحب الله العقوق "، كأنه كره الاسم ، وقال: " من ولد فأحب أن ينسك عنه فلينسك، عن الغلام شاتان مكافئتان، وعن الجارية شاة" (4)
2- النسخ : إذا دل دليل على وجود النسخ، فيحكم على الحديث المتقدم بالنسخ ، فيزول التعارض بين الحديثين ويعرف النسخ بأمور، منها:
ما ورد في النص كحديث بريدة في صحيح مسلم : " كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكر الآخرة " . (5)
ومثله حديث سبرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي قَدْ كُنْتُ أَذِنْتُ لَكُمْ فِي الِاسْتِمْتَاعِ مِنْ النِّسَاءِ وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ ذَلِكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْهُنَّ شَيْءٌ فَلْيُخَلِّ سَبِيلَهُ وَلَا تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا " (6)
__________
(1) - أخرجه أبو داود ح ( 2838 )
(2) - أخرجه الترمذي ح ( 1513 )
(3) - أخرجه البخاري ح ( 5472 )
(4) - أخرجه أبو داود ح ( 2842 )
(5) - أخرجه مسلم ح ( 977 )
(6) - أخرجه مسلم ح ( 1406 )(1/245)
ومنها ما يجزم الصحابي بأنه متأخر، مثل قول علي - رضي الله عنه - : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرنا بالقيام في الجنازة ثم جلس بعد ذلك وأمرنا بالجلوس" (1)
ومنها ما يعرف بالتاريخ وهو كثير ، مثل ما رواه أُبيّ بن كعب - رضي الله عنه - قال: قلت يا رسول الله إذا جامع أحدنا فأكسل ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يغسل ما مس المرأة منه وليتوضأ ثم يصل " (2) ، فهذا الحديث يدل على أن لا غسل مع الاكسال ، وأن موجب الغسل الإنزال ، ثم نسخ هذا الأمر بحديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل ذلك ولا يغتسل وذلك قبل فتح مكة ثم اغتسل بعد ذلك وأمر الناس بالغسل " (3)
3- الترجيح : إذا لم يمكن الجمع، ولا يوجد دليل يدل على النسخ، فيسلك مسلك الترجيح بين النصوص التي ظاهرها التعارض، وهناك وجوه كثيرة للترجيح بين الأحاديث التي ظاهرها التعارض، منها : ما يرجع إلى الإسناد ، ومنها ما يتعلق بالمتن ، ومنها ما يكون بأمر خارج ، .......
ومثال الترجيح بالنظر للإسناد: تقديم الراوي الأحفظ على من دونه:
حديث أبي هريرة في القيام للجنازة ، فقد رواه أبو معاوية ، عن سهيل ، عن أبيه ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إذا رأيتم الجنازة فقوموا لها ، فمن تبعها ، فلا يقعد حتى توضع في اللحد" (4) أخرجه أبي داود ورواه سفيان الثوري ، عن سهيل ، عن أبيه ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إذا رأيتم الجنازة فقوموا لها، فمن تبعها فلا يقعد حتى توضع في الأرض " (5)
__________
(1) - أخرجه أحمد ح ( 589 )
(2) - أخرجه عبد الرزاق ح ( 957 )، والاكسال : الجماع من غير إنزال
(3) - أخرجه ابن حبان ح ( 1180 )
(4) - أخرجه أبو داود ح ( 3173 )
(5) - أخرجه أبي داود ح ( 3173 )(1/246)
رجح العلماء رواية سفيان الثوري على رواية أبي معاوية، لأن سفيان الثوري أحفظ من أبي معاوية. قال أبو داود: " سفيان الثوري أحفظ من أبي معاوية " (1)
ومثال الترجيح باعتبار أحد الحديثين أقوى من الآخر: حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله " (2)
وحديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال : علمت ناساً من أهل الصفة الكتاب والقرآن فأهدى إلي رجل منهم قوساً فقلت ليست بمال وارمي عنها في سبيل الله عز وجل لآتين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلأسالنه فأتيته فقلت :يا رسول الله رجل أهدى إلي قوساً ممن كنت أعلمه الكتاب والقرآن وليست بمالٍ وارمي عنها في سبيل الله قال : " إن كنت تحب أن تطوق طوقاً من نارٍ فاقبلها " (3)
حديث ابن عباس أخرجه البخاري ، وحديث عبادة بن الصامت أخرجه أبو داود وابن ماجه ، وقد ضعف
ومثل قوله - صلى الله عليه وسلم - : " من مس ذكره فلا يصلي حتى يتوضأ " (4) ، وحديث طلق بن علي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الرجل يمس ذكره في الصلاة أعليه وضوء ؟ ، قال : لا إنما هو بضعة منك . (5) ، فهذان حديثان ظاهرهما التعارض ، الأول يوجب الوضوء من مس الذكر ، والثاني لا يوجبه ، فيرجح الحديث الأول - الذي يوجب الوضوء - لأنه أقوى من الحديث الثاني . وهذا اختيار بعض أهل العلم .
ومثال الترجيح بالنظر إلى المتن: تقديم دلالة المنطوق على المفهوم :
مثل ما جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال : " تراءي الناس الهلال فأخبرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أني رأيته فصامه وأمر الناس بصيامه" (6)
__________
(1) - سنن أبي داود ( 3/519 )
(2) - أخرجه البخاري ح ( 5737 )
(3) - أخرجه أبو داود ح ( 3416 )
(4) - أخرجه الترمذي ح ( 77 ) ، أبو داود ح ( 154 )
(5) - أخرجه أحمد ح ( 15700 )
(6) - أخرجه أبو داود ح ( 2342 )(1/247)
حيث دل على الاكتفاء بشهادة واحد لدخول شهر رمضان على مفهوم حديث الحارث بن حاطب قال: " عهد إلينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ننسك للرؤية فإن لم نره وشهد شاهدا عدلٍ نسكنا بشهادتهما " (1) ، فدلالة مفهوم هذا الحديث وهو أنه لا يحكم بدخول شهر رمضان إلا بشهادة رجلين يقدم عليها دلالة المنطوق من حديث ابن عمر .
هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل .
- - - - - -
الجمع بين آية وحديث في الأطعمة
قال تعالى : { قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ } ، ولكننا نعلم من الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن أكل الحمر الأهلية والسباع وغيرها.
فكيف يكون التوفيق بين الآية والحديث؟
وفي صحيح البخاري مجلد 7 كتاب 67 رقم 437 روى عمرو: قلت لجابر بن زيد " يزعم الناس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن أكل لحم الحمر، ولكن الحبر ابن عباس رفض أن يفتي في ذلك وتلا: " قل لا أجد فيما أوحي إلي...." الآية
أرجو توضيح المسألة. وجزاكم الله خيرا
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
__________
(1) - أخرجه أبو داود ح ( 2338 )(1/248)
ثبت في السنة النهي عن لحوم الحمر الأهلية وعن كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير، ففي الصحيحين من حديث أنس - رضي الله عنه - : " إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ فَإِنَّهَا رِجْسٌ" (1) ، وفيهما من حديث جابر - رضي الله عنه - قال: " نَهَى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ، وَأَذِنَ فِي لُحُومِ الْخَيْلِ " (2) ، وفيهما من حديث أبي ثعلبة - رضي الله عنه - قَالَ حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لُحُومَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ (3) ، وفي صحيح مسلم من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ: " كُلُّ ذِي نَابَ مِنْ السِّبَاعِ فَأَكْلُهُ حَرَامٌ" (4) ، وفيه من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : عَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَعَنْ كُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ (5) ، وهذه الأحاديث تدل على تحريم ما ذكر، وهو قول جمهور العلماء، وأما الاستدلال بقوله تعالى: { قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ } (6) ، وكون ابن عباس أخذ بظاهرها فيجاب عنه بما يأتي:
__________
(1) - أخرجه البخاري ح ( 4198 )، ومسلم ح ( 1940 )
(2) - أخرجه البخاري ح ( 4219 )، ومسلم ح ( 1941 )
(3) - أخرجه البخاري ح ( 5527 ) ، ومسلم ح (1932)
(4) - أخرجه مسلم ح ( 1933 )
(5) - أخرجه مسلم ح ( 1934 )
(6) - سورة الأنعام الآية: 145(1/249)
1- أن الاستدلال بالآية يتم فيما لم يرد فيه النص بالتحريم، والحمر الأهلية قد تواردت النصوص على تحريمها - كما سبق - والتنصيص على التحريم مقدم على عموم التحليل وعلى القياس .
2- أن الآية الكريمة مكية والحصر فيها قبل أن يستجد تحريم ما ذُكر في السنة فقد حُرم أشياء بعد نزولها، والآية جاءت بصيغة الفعل الماضي: { قُلْ لَا أَجِدُ } ، فمعنى ذلك أن وقت نزول الآية لم يحرم إلا ما ذكر فيها ثم حرم أشياء بعد نزولها .
3- أن الآية جاءت في سياق نقض أقوال المشركين الذين حرموا أشياء بأهوائهم، وافتروا على الله عز وجل، ومن ذلك أنهم يجعلون بعض الأنعام محرماً ما في بطونها على الإناث دون الذكور ، وأشياء أخرى ذكرت في الآيات، فجاءت هذه الآية الكريمة لتبين أنه لا يحرم من بهية الأنعام إلا الميتة وما أهل لغير الله به، والله أعلم .
4 - أن الله سبحانه وتعالى وصف المحرمات في الآية بأنها رجس فما كان مشتركاً في هذا الوصف فيدخل في التحريم، وقد وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - الحمر الأهلية في حديث أنس - كما تقدم - بأنها رجس .
أما ما يروى عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في الاستدلال بالآية على أن الحمر الأهلية ليست محرمة فيجاب عنه بما يأتي:
1- أن ابن عباس - رضي الله عنهما - لم يتحقق له أن تحريم الحمر الأهلية تحريماً مؤبداً، بسبب ما جاء في بعض الروايات أنها حُرمت من أجل خوف قلة الظهر أو لأنها لم تخمس أو لأنها جوالة القرية، أي جلالة تأكل النجاسات، ولهذا توقف ابن عباس هل كان تحريمها بسببٍ عارض أو على وجه التأبيد، ولكن حديث أنس في الصحيحين صريح بأنها حرمت لأنها رجس .(1/250)
2- أنه يروى عن ابن عباس أنه رجع عن رأيه هذا وجزم بالتحريم، قال ابن القيم : " والتحقيق أن ابن عباس أباحها أولاً حيث لم يبلغه النهي فسمع ذلك منه جماعة فرووا ما سمعوه ثم بلغه النهي عنها فتوقف هل هو للتحريم أو لأجل كونها حمولة فروى ذلك عنه الشعبي وغيره ثم لما ناظره علي بن أبي طالب جزم بالتحريم كما رواه عنه مجاهد " (1)
شبهة حول حديث العرانيين الذين ارتدوا وقتلوا رعاة إبل الصدقة ، وحكم الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيهم
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو قِلَابَةَ الْجَرْمِيُّ عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - نَفَرٌ مِنْ عُكْلٍ فَأَسْلَمُوا فَاجْتَوَوْا الْمَدِينَةَ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَأْتُوا إِبِلَ الصَّدَقَةِ فَيَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا فَفَعَلُوا فَصَحُّوا فَارْتَدُّوا وَقَتَلُوا رُعَاتَهَا وَاسْتَاقُوا الْإِبِلَ فَبَعَثَ فِي آثَارِهِمْ فَأُتِيَ بِهِمْ فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ ثُمَّ لَمْ يَحْسِمْهُمْ حَتَّى مَاتُوا (البخاري 6802)
بعد قرائتي لهذا الحديث ومعرفتي أن النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) هو نبي الرحمة صعقتُ واحترتُ. أنا أفهم معاقبة النبي ( - صلى الله عليه وسلم - لهم لقتلهم الراعي ولكنني لا أفهم قتلهم بتلك الطريقة . مثل هذه العقوبة لا تنسجم مع رجل هو أفضل الخلق وأرحمهم فلماذا لم يقتلهم فحسب؟ أرجو التوضيح.
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
__________
(1) - تهذيب السنن ( 5/322-323 )(1/251)
الحديث المشار إليه في السؤال أخرجه البخاري ح ( 6802 ) ، ومسلم ح ( 1671 ) من حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ نَاسًا مِنْ عُرَيْنَةَ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْمَدِينَةَ فَاجْتَوَوْهَا فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنْ شِئْتُمْ أَنْ تَخْرُجُوا إِلَى إِبِلِ الصَّدَقَةِ فَتَشْرَبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا فَفَعَلُوا فَصَحُّوا ثُمَّ مَالُوا عَلَى الرُّعَاةِ فَقَتَلُوهُمْ وَارْتَدُّوا عَنْ الْإِسْلَامِ وَسَاقُوا ذَوْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَبَعَثَ فِي أَثَرِهِمْ فَأُتِيَ بِهِمْ فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ وَتَرَكَهُمْ فِي الْحَرَّةِ حَتَّى مَاتُوا .
ومعاقبة النبي - صلى الله عليه وسلم - لهؤلاء بما ذُكر في الحديث اختلف العلماء في توجيه على قولين :
1- أن ذلك وقع عليهم على سبيل القصاص والمماثلة حيث صنع بهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ما صنعوا بالرعاة ، ففي صحيح مسلم : " إِنَّمَا سَمَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَعْيُنَ أُولَئِكَ لِأَنَّهُمْ سَمَلُوا أَعْيُنَ الرِّعَاءِ "، وذكر أهل المغازي: أنهم مثلوا بالراعى، قال ابن القيم: " يؤخذ من قصة العرانيين أنه يُفعل بالجاني كما فَعل، فإنهم لما سملوا عين الراعي، سمل أعينهم " (1)
__________
(1) - ينظر: زاد المعاد ( 3/286 )(1/252)
2- أن ما ورد في الحديث منسوخ، وذلك بالنهي عن المثلة، فيكون ما حصل في هذا الحديث قد نسخ، وقد مال إلى هذا البخاري، وذكر عن قتادة أنه قال: " بَلَغَنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ يَحُثُّ عَلَى الصَّدَقَةِ وَيَنْهَى عَنْ الْمُثْلَةِ " (1) ، وروى قَتَادَة عن مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الْحُدُودُ، وذكر الحازمي أن هذا الحديث منسوخ، وبوب عليه: " باب المثلة ونسخها " ، قال: " ذهبت جماعة إلى أنها أحكام كانت ثابتة في أول الأمر ثم نسخت لما نزل قوله: ( إنما جزء الذين يحارب الله ورسوله...) الآية " (2) ، هذا والله أعلم .
- - - - - -
هل قصة اللعان قصة واحد أم قصتين ؟
- هل ما جاء في اللعان من قصة هلال وعويمر قصة واحدة أم قصتان ، وإذا كانت قصتان فكيف يجمع بين الروايات لأنها متعارضة في الظاهر .
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
__________
(1) - أخرجه البخاري ح ( 4192 )
(2) - كتابه " الاعتبار في الناسخ والمنسوخ " ص ( 196 )(1/253)
الذي يظهر أنهما واقعتان حصل حدوثهما في وقت متقارب، فنزل بشأنهما آيات اللعان في سورة النور، ولا مانع من أن تتعدد القصص ويتحد النزول، ويحتمل أن النزول سبق بسبب هلال بن أمية فلما جاء عويمر، ولم يكن علم بما وقع لهلال أعلمه النبي صلى الله عليه وسلم بالحكم، وقد أخرج القصتين البخاري في صحيحه، فأخرج بسنده ح ( 4745 ) ، عن سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ عُوَيْمِرًا أَتَى عَاصِمَ بْنَ عَدِيٍّ - وَكَانَ سَيِّدَ بَنِي عَجْلَانَ- فَقَالَ: كَيْفَ تَقُولُونَ فِي رَجُلٍ وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ أَمْ كَيْفَ يَصْنَعُ ؟ سَلْ لِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ ، فَأَتَى عَاصِمٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسَائِلَ فَسَأَلَهُ عُوَيْمِرٌ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَرِهَ الْمَسَائِلَ وَعَابَهَا قَالَ عُوَيْمِرٌ: وَاللَّهِ لَا أَنْتَهِي حَتَّى أَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَجَاءَ عُوَيْمِرٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ رَجُلٌ وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ أَمْ كَيْفَ يَصْنَعُ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ الْقُرْآنَ فِيكَ وَفِي صَاحِبَتِكَ فَأَمَرَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمُلَاعَنَةِ بِمَا سَمَّى اللَّهُ فِي كِتَابِهِ فَلَاعَنَهَا ثُمَّ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ حَبَسْتُهَا فَقَدْ ظَلَمْتُهَا فَطَلَّقَهَا فَكَانَتْ سُنَّةً لِمَنْ كَانَ بَعْدَهُمَا فِي الْمُتَلَاعِنَيْنِ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ(1/254)
وَسَلَّمَ: انْظُرُوا فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَسْحَمَ أَدْعَجَ الْعَيْنَيْنِ عَظِيمَ الْأَلْيَتَيْنِ خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ فَلَا أَحْسِبُ عُوَيْمِرًا إِلَّا قَدْ صَدَقَ عَلَيْهَا وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أُحَيْمِرَ كَأَنَّهُ وَحَرَةٌ فَلَا أَحْسِبُ عُوَيْمِرًا إِلَّا قَدْ كَذَبَ عَلَيْهَا فَجَاءَتْ بِهِ عَلَى النَّعْتِ الَّذِي نَعَتَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَصْدِيقِ عُوَيْمِرٍ فَكَانَ بَعْدُ يُنْسَبُ إِلَى أُمِّهِ .(1/255)
وأخرج بسنده ح ( 2747 ) عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْبَيِّنَةَ أَوْ حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذَا رَأَى أَحَدُنَا عَلَى امْرَأَتِهِ رَجُلًا يَنْطَلِقُ يَلْتَمِسُ الْبَيِّنَةَ فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: الْبَيِّنَةَ وَإِلَّا حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ فَقَالَ: هِلَالٌ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنِّي لَصَادِقٌ فَلَيُنْزِلَنَّ اللَّهُ مَا يُبَرِّئُ ظَهْرِي مِنْ الْحَدِّ فَنَزَلَ جِبْرِيلُ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ ...(1/256)
} فَقَرَأَ حَتَّى بَلَغَ: { إِنْ كَانَ مِنْ الصَّادِقِينَ } فَانْصَرَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا فَجَاءَ هِلَالٌ فَشَهِدَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ ثُمَّ قَامَتْ فَشَهِدَتْ فَلَمَّا كَانَتْ عِنْدَ الْخَامِسَةِ وَقَّفُوهَا وَقَالُوا إِنَّهَا مُوجِبَةٌ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَتَلَكَّأَتْ وَنَكَصَتْ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهَا تَرْجِعُ ثُمَّ قَالَتْ لَا أَفْضَحُ قَوْمِي سَائِرَ الْيَوْمِ فَمَضَتْ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبْصِرُوهَا فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَكْحَلَ الْعَيْنَيْنِ سَابِغَ الْأَلْيَتَيْنِ خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ فَهُوَ لِشَرِيكِ ابْنِ سَحْمَاءَ فَجَاءَتْ بِهِ كَذَلِكَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْلَا مَا مَضَى مِنْ كِتَابِ اللَّهِ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ، هذا والله أعلم ، وصلى الله وسلم على محمد وآله وسلم .
- - - - - -
من فقه السنة
حديث "إن يكن في أمتي محدثون فإنه عمر"
ما معنى حديث (إن يكن منكم محدثون ... فإنه عمر)؟ وهل من الممكن أن يعلم أحد من الناس الغيب المستقبل (غير نبي)؟ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الجواب:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين ، أما بعد :
هذا الحديث أخرجه البخاري من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: إِنَّهُ قَدْ كَانَ فِيمَا مَضَى قَبْلَكُمْ مِنْ الْأُمَمِ مُحَدَّثُونَ وَإِنَّهُ إِنْ كَانَ فِي أُمَّتِي هَذِهِ مِنْهُمْ فَإِنَّهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ " (1) وأخرجه مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها (2)
__________
(1) - أخرجه البخاري ح (3689)
(2) - أخرجه مسلم ح (2398)(1/257)
والمحدَّثون - بفتح الدال - : جمع محدث، وهو الملهم، بهذا فسره ابن وهب كما في صحيح مسلم، وفي مسند الحميدي - عقب حديث عائشة رضي الله عنها - : المحدث الملهم بالصواب الذي يُلقى على فيه، والمعنى : أنهم يُلقى في قلوبهم الصواب والحق فيجري على ألسنتهم، ويخبرون بالشيء فيقع كما أخبروا .... وفسره بعض العلماء بأن معناه أنهم مصيبون فيما يظنون من نوع الفراسة والتوسم ... وخص عمر - رضي الله عنه - بهذا لكثرة ما وقع له في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - من الموافقات التي نزل القرآن مطابقاً لها، ووقع له بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - أشياء عديدة حدث بها فأصاب كما في قصة: الجبل يا سارية وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث وجود المحدثين في الأمم السابقة ، وعلق وجودهم في هذه الأمة بـ " إن " الشرطية ، مع أنها أفضل الأمم وأكرمها عند الله ، - هذا والله أعلم - لاحتياج الأمم قبلنا إليهم في إصابة الحق حيث لا يكون حينئذ فيهم نبي ، واستغناء هذه الأمة بالقرآن والسنة ، لهذا لا يؤخذ بقول أحد محدث ولا ملهم حتى يعرض على الكتاب والسنة. وأما السؤال عن الغيب المستقبل ، وهل يعلمه غير نبي ؟ فيجاب بأن الغيب الحقيقي ، وهو ما لا يمكن أن تدركه الحواس والعقول، فهذا على مرتبتين:
1- المرتبة الأولى : ما استأثر الله بعلمه، فهذا لا يطلع عليه أحد لا نبي مرسل ولا ملك مقرب، كعلم الساعة وسائر الأمور الخمسة التي هي مفاتح الغيب ، قال سبحانه : { وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ....... } (1)
__________
(1) - سورة الأنعام الآية: 59(1/258)
2- ما لم يرد فيه نص صريح أن الله سبحانه قد كتمه عن الخلق جميعا ، فله سبحانه أن يطلع من يشاء من رسله على ما شاء منه ، قال سبحانه : { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا } (1) ، وقال سبحانه : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ } (2) ، فالرسل عليهم الصلاة والسلام لا يعلمون شيئا من الغيب إلا ما أطلعهم الله عليه ، قالت عائشة رضي الله عنها: " من زعم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخبر بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية، والله تعالى يقول: { قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ } (3) (4) ، ولهذا نعرف ضلال من يدعي شيئا من علم الغيب الذي استأثر به الله، أو لم يمكن الخلق من أسباب معرفته مثل ما يدعيه المنجمون والكهنة وغيرهم من علم الغيب.
- - - - - -
حديث " عجب ربنا عز وجل من قوم يقادون إلى الجنة في السلاسل"
قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - : " عجب ربنا - عز وجل - من قوم يقادون إلى الجنة في السلاسل" رواه البخاري وأحمد وأبو داود ، ما معنى الحديث، مع ذكر أمثلة للتوضيح؟ والسلام.
الجواب:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين ، وبعد :
__________
(1) - سورة الجن الآيتين: 26 ، 27
(2) - سورة آل عمران الآية : 179
(3) - سورة النمل الآية: 65
(4) - أخرجه مسلم ح (177)(1/259)
الحديث المشار إليه في السؤال أخرجه البخاري بسنده عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم - يقول:" عَجِبَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ مِنْ قَوْمٍ يُقَادُونَ إِلَى الْجَنَّةِ فِي السَّلَاسِلِ" (1) وأخرجه بلفظ : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } قَالَ: خَيْرَ النَّاسِ لِلنَّاسِ تَأْتُونَ بِهِمْ فِي السَّلَاسِلِ فِي أَعْنَاقِهِمْ حَتَّى يَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ (2) ومعنى الحديث أن الأسارى الذين يؤتى بهم إلى بلاد الإسلام وهم مقيدون بالسلاسل يمن الله عليهم بالإسلام فيدخلون الجنة ... ويكون دخولهم في الإسلام عن طواعية واختيار بعد ما يعلمون أنه الحق، فيكون ما حصل لهم من الأسر والتقييد سببا لما تحقق لهم من الخير ، وذكر بعض العلماء : أن ذكر السلاسل ليس مقصوداً وإنما المراد أنهم يقادون إلى ديار الإسلام مكرهين فيدخلون في الإسلام ، وقد حصل في غزوات النبي - صلى الله عليه وسلم - والفتوحات الإسلامية أن المسلمين يأتون بالسبايا من المشركين من غير أن يكونوا مسلسلين أو مقيدين، فإذا عرفوا الإسلام وسمعوا القرآن أسلموا ...
__________
(1) - أخرجه البخاري ح ( 3010 )
(2) - أخرجه البخاري ح ( 4557 )(1/260)
ويمكن أن يقال إن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر في هذا الحديث طائفة من الأسارى يؤتى بهم على الصفة المذكورة ، وهذا دليل على شدة نفورهم وكراهيتهم للمسلمين ومع هذا فيدخلون في الإسلام حينما يعلمون أنه الحق ويخالط الإيمان بشاشة قلوبهم ، ويؤخذ من الحديث أن الله سبحانه وتعالى إذا أراد بالعبد خيراً هيأ له الأسباب التي توصله إليه وتدله عليه وإن كان كارهاً لهذه الأسباب ، فربما أراد شخص - على سبيل المثال - أن ينتقل من بلد إلى بلد وهو كاره فيجد في البلد الذي انتقل إليه رفقة طيبة من أهل الخير والصلاح فينتفع بصحبتهم وتتغير حاله إلى الأفضل والأحسن، وربما تزوج شخص امرأة ولم يحبها ولكنه أمسكها ولم يطلقها فحصل له منها ذرية طيبة صالحة، ولهذا قال الله عز وجل : { فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا } (1)
- - - - - -
حديث "العبادة في الهرج كهجرة إلي"
فضيلة الشيخ: قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما معنى الحديث " العبادة في الهرج كهجرة إلي"
(1) ما هو الهرج؟
(2) وهل القيام بأي عبادة سواء كانت فرضاً، أم نافلة، أو ذكراً من الأذكار، أو غير ذلك يكون كالهجرة ؟
(3) وهل ورد في الوحيين ذكر لأجر الهجرة ؟
(4) لماذا كانت العبادة في الهرج بهذا الأجر؟ أو لماذا حرص المصطفى - صلى الله عليه وسلم - على الحث عليها في الهرج؟
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
هذا الحديث أخرجه مسلم ( 2948)، والإمام أحمد (20298)، والترمذي (220) من حديث معقل بن يسار - رضي الله عنه - ، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "العِبَادة في الهَرْجِ كهِجْرةٍ إليَّ"، وعند الإمام أحمد: " العمل في الهَرْجِ..."
__________
(1) - سورة النساء الآية: 19(1/261)
الهَرْج: أصل الهرج في اللغة الاختلاط، ومنه هرج الرجل في حديثه خلط، وهَرَّجَ الناس: اختلطوا واختلفوا، والمراد به في الحديث: القتل والفتن. وقد شبَّه النبي - صلى الله عليه وسلم - العبادة في الهرج - وهو زمن ظهور الفتن والقتل، واختلاط أمور الناس - بالهجرة إليه عليه الصلاة والسلام، ووجه الشبه: أن المهاجر قد فرَّ بدينه من دار الكفر وأهله إلى دار الإيمان وأهله، والمتعبد في الهرج قد اعتصم بعبادة ربه من الفتن، وتمسَّك بدينه، واتبع ما يحبه الله ويرضاه، وتجنب ما يسخطه، ونبذ ما يكون عليه الناس في زمن الفتن من اتباع الأهواء والآراء المنحرفة، التي تصد عن دين الله.
وهناك معنى آخر: وهو ما يحصل في زمن الفتن، من انشغال الناس وغفلتهم عن العبادة؛ بحيث لا يتفرغ لها إلا القليل من الناس، فبذلك يعظم أجرها وثوابها، ثم ما يكون في لزوم العبادة من زيادة الإيمان، ورسوخ اليقين الذي يظهر أثره على المتعبد فتحصل له العصمة -بإذن الله- من الفتن، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنْ الدُّنْيَا " (1) ، والعبادة - المنوه بفضلها في زمن الهرج - يدخل فيها جميع أنواع العبادة من الصلاة، والصيام، والصدقة، والحج، والعمرة، والذكر، وقراءة القرآن، وغير ذلك.
__________
(1) - أخرجه مسلم ح ( 118 )(1/262)
وأما عن فضل الهجرة، فقد ورد في القرآن والسنة ما يدل على فضلها ومنزلتها، وامتداح أهلها قال الله - عز وجل-: { وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً } (1) ، قال سبحانه: { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ - رضي الله عنهم - وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } (2) ، وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } (3)
__________
(1) - سورة النساء الآية: 100
(2) - سورة التوبة الآية: 100
(3) - سورة البقرة الآية: 218(1/263)
وورد في السنة أحاديث كثيرة تدل على فضل الهجرة وعظيم ثوابها ، وتكفيرها للذنوب ومن ذلك: ما أخرجه مسلم من حديث عمرو بن العاص - رضي الله عنه - عندما جاء يبايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأراد أن يشترط أن يغفر الله له ما كان قبل الإسلام، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلِهَا..." (1) ، وكذلك ما أخرجه مسلم من حديث الطفيل بن عمرو الدوسي - رضي الله عنه - عندما هاجر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعه رجل آخر من قومه فقتل هذا الرجل نفسه، فرآه الطفيل في المنام في هيئة حسنة، فقال له: مَا صَنَعَ بِكَ رَبُّكَ ؟ فَقَالَ: غَفَرَ لِي بِهِجْرَتِي إِلَى نَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم - (2) ، وما أخرجه النسائي من حديث أبي مسعود - رضي الله عنه - قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ فِي الْهِجْرَةِ ..." (3) ، وما جاء في الصحيحين من حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " اللَّهُمَّ أَمْضِ لِأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ وَلَا تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ ....." (4) ، وهذا يدل على فضل الهجرة، وحرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على أصحابه - رضي الله عنهم - كي يفوزوا بفضلها، ولا يفوتهم ما ادخر الله لهم من أجلها من أجر عظيم وثواب جزيل. هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
- - - - - -
حديث"رأيت ربي في أحسن صورة "
__________
(1) - أخرجه مسلم ح ( 120 )
(2) - أخرجه مسلم ح ( 116 )
(3) - أخرجه النسائي ح ( 780 )
(4) - أخرجه البخاري ح (1296)، ومسلم ح (1628)(1/264)
أريد شرحاً لحديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذي ورد فيه قوله: "رأيت الله في أحسن صورة.."، ولعل هذه الجملة التي أحتاج شرحاً لها بالتفصيل. وجزاكم الله خيراً.
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
الجملة المذكورة في السؤال وردت في حديث معاذ - رضي الله عنه - والحديث أخرجه الإمام أحمد في المسند (1)
__________
(1) - أخرجه أحمد (5/243) ح (22162)، والترمذي ح (3235)، وقال: حديث حسن صحيح، وسألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث، فقال: هذا حديث حسن صحيح..وصححه الإمام أحمد كما في التهذيب (6/205)(1/265)
قال: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّهِ حَدَّثَنِي أَبِي حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ حَدَّثَنَا جَهْضَمٌ - يَعْنِي الْيَمَامِيَّ - حَدَّثَنَا يَحْيَى - يَعْنِي ابْنَ أَبِي كَثِيرٍ - حَدَّثَنَا زَيْدٌ يَعْنِي ابْنَ أَبِي سَلَّامٍ عَنْ أَبِي سَلَّامٍ وَهُوَ زَيْدُ بْنُ سَلَّامِ بْنِ أَبِي سَلَّامٍ نَسَبُهُ إِلَى جَدِّهِ أَنَّهُ حَدَّثَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَائِشٍ الْحَضْرَمِيُّ عَنْ مَالِكِ بْنِ يَخَامِرَ أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ قَالَ احْتَبَسَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ غَدَاةٍ عَنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ حَتَّى كِدْنَا نَتَرَاءَى قَرْنَ الشَّمْسِ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - سَرِيعًا فَثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ وَصَلَّى وَتَجَوَّزَ فِي صَلَاتِهِ فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ كَمَا أَنْتُمْ عَلَى مَصَافِّكُمْ ثُمَّ أَقْبَلَ إِلَيْنَا فَقَالَ إِنِّي سَأُحَدِّثُكُمْ مَا حَبَسَنِي عَنْكُمْ الْغَدَاةَ إِنِّي قُمْتُ مِنْ اللَّيْلِ فَصَلَّيْتُ مَا قُدِّرَ لِي فَنَعَسْتُ فِي صَلَاتِي حَتَّى اسْتَيْقَظْتُ فَإِذَا أَنَا بِرَبِّي عَزَّ وَجَلَّ فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ أَتَدْرِي فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى قُلْتُ لَا أَدْرِي يَا رَبِّ قَالَ يَا مُحَمَّدُ فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى قُلْتُ لَا أَدْرِي رَبِّ فَرَأَيْتُهُ وَضَعَ كَفَّهُ بَيْنَ كَتِفَيَّ حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ أَنَامِلِهِ بَيْنَ صَدْرِي فَتَجَلَّى لِي كُلُّ شَيْءٍ وَعَرَفْتُ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى قُلْتُ فِي الْكَفَّارَاتِ قَالَ وَمَا الْكَفَّارَاتُ قُلْتُ نَقْلُ الْأَقْدَامِ إِلَى الْجُمُعَاتِ وَجُلُوسٌ فِي الْمَسَاجِدِ بَعْدَ الصَّلَاةِ وَإِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عِنْدَ الْكَرِيهَاتِ قَالَ وَمَا(1/266)
الدَّرَجَاتُ قُلْتُ إِطْعَامُ الطَّعَامِ وَلِينُ الْكَلَامِ وَالصَّلَاةُ وَالنَّاسُ نِيَامٌ قَالَ سَلْ قُلْتُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ وَحُبَّ الْمَسَاكِينِ وَأَنْ تَغْفِرَ لِي وَتَرْحَمَنِي وَإِذَا أَرَدْتَ فِتْنَةً فِي قَوْمٍ فَتَوَفَّنِي غَيْرَ مَفْتُونٍ وَأَسْأَلُكَ حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ وَحُبَّ عَمَلٍ يُقَرِّبُنِي إِلَى حُبِّكَ وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِنَّهَا حَقٌّ فَادْرُسُوهَا وَتَعَلَّمُوهَا " والرؤية المذكورة في الحديث رؤيا منام لا يقظة، وهذا ظاهر من قوله في الحديث: " فنعست في صلاتي حتى استثقلت...(1/267)
" وفي المسند: "حتى استيقظت "، وقال الحافظ ابن كثير- بعد أن أورد الحديث -: " فهذا حديث المنام المشهور ومن جعله يقظة فقد غلط " (1) ، وأما ما جاء في هذا الحديث من وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - لربه، فهو حق يجب الإيمان به من غير تكييف ولا تمثيل ولا تشبيه، كما قال عز وجل عن نفسه: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } (2) ، قال الحافظ ابن رجب: " وأما وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - لربه عز وجل بما وصفه به فكل ما وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - به ربه عز وجل فهو حق وصدق يجب الإيمان والتصديق به كما وصف الله عز وجل به نفسه مع نفي التمثيل عنه، ومن أشكل عليه فهم شيء من ذلك واشتبه عليه فليقل كما مدح الله تعالى به الراسخين في العلم وأخبر عنهم أنهم يقولون عند المتشابه: { آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا } (3) ، وكما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في القرآن: " وَمَا جَهِلْتُمْ مِنْهُ فَرُدُّوهُ إِلَى عَالِمِهِ " (4) ، ولا يتكلف ما لا علم له به فإنه يخشى عليه من ذلك الهلكة " ، وقد أفرد الحافظ ابن رجب - رحمه الله- شرح الحديث في كتاب مستقل، وهو: " اختيار الأولى في شرح حديث الملأ الأعلى"، وهو كتاب نفيس توسع فيه ابن رجب في شرح الحديث، فيحسن الرجوع إليه.
هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
- - - - - -
حديث " الشهداء خمسة"
__________
(1) - تفسير ابن كثير ( 7/81 )
(2) - سورة الشورى الآية: 11
(3) - سورة آل عمران الآية: 7
(4) - أخرجه أحمد ح (6588) والنسائي في الكبرى ح (6870) ، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - .(1/268)
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:"بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك على الطريق، فأخره، فشكر الله له، فغفر له، ثم قال الشهداء خمسة: المطعون والمبطون، والغريق، وصاحب الهدم، والشهيد في سبيل الله، وقال: "لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا لاستهموا عليه ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه، ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما و لو حبوا." ما معنى هذا الحديث الشريف؟ جزاكم الله خيراً.
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
هذه ثلاثة أحاديث قد أخرجها البخاري بسياق واحد (652-653-654) قال حدثنا قتيبة عن مالك عن سمي مولى أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ عَلَى الطَّرِيقِ فَأَخَّرَهُ فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ ثُمَّ قَالَ: الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ الْمَطْعُونُ وَالْمَبْطُونُ وَالْغَرِيقُ وَصَاحِبُ الْهَدْمِ وَالشَّهِيدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالَ: لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا لَاسْتَهَمُوا عَلَيْهِ وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لَاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا" قال الحافظ: " وكأن قتيبة حدث به عن مالك هكذا مجموعاً فلم يتصرف فيه المصنف كعادته في الاختصار " (1) ، وقد تضمنت هذه الأحاديث ما يأتي:
(
__________
(1) - فتح الباري ( 2/139 )(1/269)
1) دل الحديث الأول على فضل إماطة الأذى عن الطريق، وأن قليل العمل إذا أخلص فيه العبد لربه، يحصل به كثير الأجر والثواب، وقوله: "فشكر الله له...." الله - سبحانه وتعالى- هو الشكور، والشاكر على الإطلاق الذي يقبل القليل من العمل، ويعطي الكثير من الثواب مقابل هذا العمل القليل، ومن شكره تبارك وتعالى أن غفر لهذا الرجل الذي نحى غصن الشوك عن طريق المسلمين، وهو عمل قليل .
(2) أفاد الحديث الثاني أن الشهداء خمسة وهم:
أ- المطعون: هو الذي يموت بالطاعون، وهو الوباء، وقد فسره النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث آخر حيث قال: " الطَّاعُونُ شَهَادَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ " (1)
ب- المبطون: هو الذي يموت من علة البطن، كالاستسقاء، والحقن وهو: انتفاخ الجوف والإسهال .
ج- الغريق: هو الذي يموت بالغرق .
د- صاحب الهدم: هو الذي يموت تحت الهدم .
هـ- الشهيد في سبيل الله .
قال الحافظ: " اختلف في سبب تسمية الشهيد شهيداً، فقيل لأنه حي فكأن أرواحهم شاهدة أي حاضرة، وقيل: لأن الله وملائكته يشهدون له بالجنة، وقيل: لأنه يشهد عند خروج روحه ما أعدَّ له من الكرامة " والحصر المذكور في الحديث غير مقصود، فقد دلت أحاديث أخرى على وصف غير المذكورين بالشهادة، قال الحافظ: " والذي يظهر أنه - صلى الله عليه وسلم - أعلم بالأقل ثم أعلم زيادة على ذلك فذكرها في وقت آخر ولم يقصد الحصر في شيء من ذلك " (2)
__________
(1) - أخرجه البخاري ح (2830)، ومسلم ح (1916) عن أنس - رضي الله عنه - .
(2) - فتح الباري(6/43)(1/270)
وممن جاء وصف موتهم بالشهادة غير المذكورين في الحديث السابق ما يأتي: الحريق، وصاحب الجنب، والمرأة تموت بجمع، وقد جاء ذلك في حديث جابر بن عتيك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " مَا تَعُدُّونَ الشَّهَادَةَ؟ قَالُوا: الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : الشَّهَادَةُ سَبْعٌ سِوَى الْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الْمَطْعُونُ شَهِيدٌ وَالْغَرِقُ شَهِيدٌ وَصَاحِبُ ذَاتِ الْجَنْبِ شَهِيدٌ وَالْمَبْطُونُ شَهِيدٌ وَصَاحِبُ الْحَرِيقِ شَهِيدٌ وَالَّذِي يَمُوتُ تَحْتَ الْهَدْمِ شَهِيدٌ وَالْمَرْأَةُ تَمُوتُ بِجُمْعٍ شَهِيدٌ " (1)
__________
(1) - أخرجه أبو داود ح (2704)، وصاحب ذات الجنب: ذات الجنب هي: قرحة في الجنب، وورم شديد، وتسمى ذات الجنب الشوصة.(1/271)
وأما المرأة تموت بجمع: يقال بضم الجيم وكسرها، وقد تفتح الجيم وسكون الميم فهي المرأة تموت حاملاً، وقد جمعت ولدها في بطنها، وقيل: هي التي تموت في نفاسها وبسببه، وقيل التي تموت عذراء، والأول: أشهر الأقوال، ومن مات دون ماله ودينه ودمه وأهله فهو شهيد، وذلك لما جاء في حديث سعيد بن زيد - رضي الله عنه - قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ " (1) ، ومن قتل دون مظلمته فهو شهيد، وذلك لحديث سويد بن مقرن - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " مَنْ قُتِلَ دُونَ مَظْلَمَتِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ " (2) ، وموت الغربة شهادة، وذلك لحديث ابن عباس - رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " مَوْتُ غُرْبَةٍ شَهَادَةٌ " (3) ، وقد ذكر الحافظ أنه من خلال نظره في الأحاديث تحصل له إطلاق الشهادة على عشرين خصلة، قال ابن التين: هذه كلها ميتات فيها شدة تفضل الله على أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - بأن جعلها تمحيصاً لذنوبهم وزيادة في أجورهم يبلغهم بها مراتب الشهداء، ووصف هؤلاء بالشهداء بمعنى أنهم يعطون من جنس أجر الشهداء ولا تجري عليهم أحكام الشهداء في الدنيا (4)
__________
(1) - أخرجه الترمذي (1341)، وقال: هذا حديث حسن صحيح
(2) - أخرجه النسائي(4025)، قوله: دون مظلمته، أي: قصده قاصد بالظلم
(3) - أخرجه ابن ماجه ح (1602)
(4) - ينظر: فتح الباري ( 6/44 )(1/272)
الحديث الثالث: " لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا لَاسْتَهَمُوا عَلَيْهِ وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لَاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا " (1) ، فقوله - صلى الله عليه وسلم - : " لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا "، النداء هو: الأذان، والاستهام: الاقتراع ومعناه أنهم لو علموا فضيلة الأذان وقدرها وعظيم جزائه ثم لم يجدوا طريقاً يحصلونه به لضيق الوقت عن أذان بعد أذان، أو لكونه لا يؤذن للمسجد إلا واحد لاقترعوا في تحصيله، ولو يعلمون ما في الصف الأول من الفضيلة نحو ما سبق، وجاءوا إليه دفعة واحدة وضاق عنهم، ثم لم يسمح بعضهم لبعض به لاقترعوا عليه، وفيه إثبات القرعة في الحقوق التي يزدحم عليها ويتنازع فيها، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : " وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لَاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ "، التهجير: التبكير إلى الصلاة وقوله - صلى الله عليه وسلم - : " وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا "، العتمة: هي صلاة العشاء، وفيه الحث العظيم على حضور جماعة هاتين الصلاتين، والفضل الكثير في ذلك لما فيهما من المشقة على النفس من تنغيص أول نومها وآخره، ولهذا كانتا أثقل الصلاة على المنافقين (2)
هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
- - - - - -
حديث : " أجدُ نَفسَ رَبكُم مِن قِبل اليَمَنِ "
هل هناك حديث يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول فيه "شعرت بتنفس ربي في اليمن" (أو كما قال)
__________
(1) - أخرجه البخاري ح (615)، ومسلم ح (437) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - .
(2) - ينظر شرح النووي لمسلم (4/158)(1/273)
فماذا يعني هذا الحديث ؟ هل يعني أن هناك صفة تنفس لله عز وجل ؟ وهل يشعر من يذهب إلى اليمن بذلك ؟
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
الحديث المشار إليه في السؤال أخرجه الإمام أحمد في مسنده ح ( 10978 ) قال: حَدَّثَنَا عِصَامُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا حَرِيزٌ عَنْ شَبِيبٍ أَبِي رَوْحٍ أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى أَبَا هُرَيْرَةَ فَقَالَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ حَدِّثْنَا عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرَ الْحَدِيثَ فَقَالَ قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَلَا إِنَّ الْإِيمَانَ يَمَانٍ وَالْحِكْمَةَ يَمَانِيَةٌ وَأَجِدُ نَفَسَ رَبِّكُمْ مِنْ قِبَلِ الْيَمَنِ، وأخرجه الطبراني في مسند الشاميين ح ( 1083 ) من طريق علي بن عياش الحمضي، عن حريز بن عثمان به ، وأصل الحديث في الصحيحين بلفظ: " جاء أهل اليمن هم أرق أفئدة، الإيمان يمان، والفقه يمان، والحكمة يمانية "، وقوله : " وأجد نفس ربكم من قبل اليمن " زيادة تفرد بها شبيب أبي روح ، ولم يوثقه غير ابن حبان، وعلى تقدير ثبوت هذه الزيادة فمعناها أي تفريج الله وتنفيسه من قبل اليمن ، والمراد أن الله سبحانه وتعالى نفس الكرب عن نبيه - صلى الله عليه وسلم - بأهل اليمن ، وهم الأنصار ، قال ابن قتيبة: " وهذا من الكناية لأن معنى هذا أنه قال: كُنتُ في شدة وكرب وغم من أهل مكة ففرج الله عني بالأنصار يعني أنه يجد الفرج من قبل الأنصار وهم من اليمن فالريح من فرج الله تعالى وروحه كما كان الأنصار من فرج الله تعالى " (1) ، قال القرطبي : " روي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إني لأجد نفس ربكم من قبل اليمن ) وفيه تأويلان : أحدهما : أنه الفرج لتتابع إسلامهم أفواجا والثاني : معناه أن الله تعالى نفس الكرب عن نبيه - صلى الله عليه وسلم - بأهل اليمن وهم الأنصار " (2) ،
__________
(1) - ينظر: تأويل مختلف الحديث ص ( 143 )
(2) - تفسير القرطبي ( 20/212 )(1/274)
وقال ابن الأثير : " عَنَى به الأنصار لأنَّ اللَّه نَفَّس بهم الكَرْبَ عن المؤمنين وهُم يَمَانُون لأنَّهم من الأزْد. " (1) هذا والله أعلم
- - - - - -
حديث: " فإنَّ الشَّيْطَان يَبيتُ على خيشُومِه ... "
ورد في صحيح البخاري: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ يَزِيدَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ إِذَا اسْتَيْقَظَ أُرَاهُ أَحَدُكُمْ مِنْ مَنَامِهِ فَتَوَضَّأَ فَلْيَسْتَنْثِرْ ثَلَاثًا فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَبِيتُ عَلَى خَيْشُومِهِ
فما معنى هذا الحديث ؟ ولماذا ينام الشيطان على خيشومه ؟ وما مغزى ذلك ؟ لماذا لا يمكث في مكان غير هذا ؟ لماذا يحبّ الخيشوم ؟ ولماذا يمكث داخلنا ؟ أرجو التوضيح
وجزاكم الله خيرا .
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
الحديث المشار إليه في السؤال أخرجه البخاري ح ( 3295 ) ، ومسلم ح ( 238 ) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ إِذَا اسْتَيْقَظَ أُرَاهُ أَحَدُكُمْ مِنْ مَنَامِهِ فَتَوَضَّأَ فَلْيَسْتَنْثِرْ ثَلَاثًا فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَبِيتُ عَلَى خَيْشُومِهِ .
الخيشوم: بفتح الخاء المعجمة وبسكون الياء التحتانية وضم المعجمة وسكون الواو هو الأنف، وقوله: فإن الشيطان يبيت على خيشومه: يحتمل أحد أمرين :
__________
(1) - النهاية ( 5/203 )(1/275)
1- أن يكون هذا على ظاهره وأن الشيطان يبيت في هذا المكان ، ويختار الشيطان هذا المكان لأن الخيشوم محل الأذى والقذارة ، قال ابن القيم - رحمه الله - : " وفي مبيت الشيطان على الخيشوم سر يعرفه من عرف أحكام الأرواح واقتران الشياطين بالمحال التي تلابسها فإن الشيطان خبيث يناسبه الخبائث فإذا نام العبد لم ير في ظاهر جسده أوسخ من خيشومه فيستوطنه في المبيت " (1)
2- ويحتمل أن يكون المعنى أن ما يكون في الأنف من الأذى والقذارة يوافق الشيطان ، لأن الشياطين خبيثة ، وتكون في الأماكن الخبيثة، فيشرع للنائم إذا استيقظ أن ينظف أنفه بالاستنثار ، وهو جذب الماء إلى الأنف ثم إخراجه
قال القاضي عياض: " يحتمل أن يكون ذلك على حقيقته وأن يكون على الاستعارة فإن ما ينعقد من الغبار ورطوبة الخياشيم قذارة توافق الشيطان " (2) ، وظاهر الحديث أن هذا يتناول كل نائم، ويحتمل أن يكون مخصوصاً بمن لم يحصن نفسه بشيء من الذكر عند النوم، مثل قراءة آية الكرسي ، قال الحافظ ابن حجر: " ظاهر الحديث أن هذا يقع لكل نائم ويحتمل أن يكون مخصوصا بمن لم يحترس من الشيطان بشيء من الذكر لحديث أبي هريرة فإن فيه: " فكانت له حرزا من الشيطان " وكذلك آية الكرسي وقد تقدم فيه: " ولا يقربك شيطان " ويحتمل أن يكون المراد بنفي القرب هنا أنه لا يقرب من المكان الذي يوسوس فيه وهو القلب فيكون مبيته على الأنف ليتوصل منه إلى القلب إذا استيقظ فمن استنثر منعه من التوصل إلى ما يقصد من الوسوسة فحينئذ فالحديث متناول لكل مستيقظ " (3) ، والله أعلم .
- - - - - -
حديث: " لن يدخل أحد الجنة بعمله "
__________
(1) - ينظر حاشية ابن القيم على سنن أبي داود ( 1/85 )
(2) - ينظر: شرح النووي على مسلم ( 3/127 )
(3) - فتح الباري ( 6/343 )(1/276)
أريد من فضيلتكم أن تشرحوا لي قول الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - لا يدخل أحد الجنة بعمله ,,, أو كما صح عنه - صلى الله عليه وسلم - , وقوله (أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة وعثمان في الجنة...الخ) حتى يكمل العشرة المبشرين في الجنة،، فرسول - صلى الله عليه وسلم - استدل على دخول أبي بكر - رضي الله عنه - الجنة لما راءه منه من حسن الخلق ومن صالح الأعمال فشهد له أنه في الجنة وكذلك التسعة الباقين - رضي الله عنهم - أجمعين...فكيف نوفق بين الحديث الأول والثاني ،،، أفيدونا جزاكم الله كل خير .
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:(1/277)
الحديث المشار إليه في السؤال أخرجه البخاري ح ( 5673 )، ومسلم ح ( 2816 ) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا عَمَلُهُ الْجَنَّةَ قَالُوا وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ لَا وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَلَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمْ الْمَوْتَ إِمَّا مُحْسِنًا فَلَعَلَّهُ أَنْ يَزْدَادَ خَيْرًا وَإِمَّا مُسِيئًا فَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَعْتِبَ "، وهذا الحديث يدل على أن دخول الجنة لا يكون بمجرد العمل بل لولا رحمة الله وفضله لما دخل الجنة أحد، لأن الأعمال مهما بلغت لا تقاوم نعم الله التي أنعم بها على عباده حيث أوجدهم من العدم، ورزقهم من الطيبات، وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة، وهداهم إلى الإيمان، ووفقهم للأعمال الصالحة، وفي الحديث : " لَوْ أَنَّ اللَّهَ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ عَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ وَلَوْ رَحِمَهُمْ كَانَتْ رَحْمَتُهُ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ ...(1/278)
" (1) ، وعلى هذا فدخول الجنة ليس عوضاً عن العمل ولا مقابلة به، فمن شهد له النبي - صلى الله عليه وسلم - بدخول الجنة ومنهم العشرة المبشرون بالجنة، فدخولهم الجنة برحمة الله وفضله، ولكن أعمالهم الصالحة سبب لدخولهم الجنة، قال الله تعالى: { ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } (2) ، وقال تعالى: { وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } (3) ، وقال تعالى: { أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلاً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } (4) ، وقال تعالى: { كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } (5) ، فالباء الواردة في الآيات هي باء السببية أي أن الله - سبحانه وتعالى - يدخل عباده المؤمنين الجنة بسبب أعمالهم .
__________
(1) - أخرجه أبو داود ح ( 4077 ) ، وأحمد ح ( 20607 )
(2) - سورة النحل الآية: 32
(3) - سورة الزخرف الآية: 72
(4) - سورة السجدة الآية: 19
(5) - سورة الطور الآية: 19(1/279)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - بعد أن ذكر هذه النصوص ونظائرها : " فبين بهذه النصوص أن العمل سبب للثواب، والباء للسبب كما في مثل قوله تعالى: { فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ } (1) ، وقوله: { وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } (2) ، ونحو ذلك مما يبين به الأسباب، ولا ريب أن العمل الصالح سبب لدخول الجنة والله قدر لعبده المؤمن وجوب الجنة بما ييسره له من العمل الصالح كما قدر دخول النار لمن يدخلها بعمله السيء كما في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار قالوا يا رسول الله أفلا نتكل على الكتاب وندع العمل قال لا اعملوا فكل ميسر لما خلق له " أما من كان من أهل السعادة فسييسره لعمل أهل السعادة وأما من كان من أهل الشقاوة فسييسره لعمل أهل الشقاوة وقال إن الله خلق للجنة أهلا وخلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم وبعمل أهل الجنة يعملون وخلق للنار أهلا وخلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم وبعمل أهل النار يعملون، وإذا عرف أن الباء هنا للسبب فمعلوم أن السبب لا يستقل بالحكم فمجرد نزول المطر ليس موجبا للنبات بل لا بد من أن يخلق الله أمورا أخرى ويدفع عنه الآفات المانعة فيربيه بالتراب والشمس والريح ويدفع عنه ما يفسده فالنبات محتاج مع هذا السبب إلى فضل من الله أكبر منه، وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل فإنه ذكره في سياق أمره لهم بالإقتصاد قال سددوا وقاربوا واعلموا أن أحدا منكم لن يدخل الجنة بعمله وقال إن هذا الدين متين وإنه لن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا واستعينوا
__________
(1) - سورة الأعراف الآية: 57
(2) - سورة البقرة الآية: 164(1/280)
بالغدوة والروحة وشيء من الدجلة والقصد تبلغوا فنفى بهذا الحديث ما قد تتوهمه النفوس من أن الجزاء من الله عز وجل على سبيل المعاوضة والمقابلة كالمعاوضات التي تكون بين الناس في الدنيا فإن الأجير يعمل لمن استأجره فيعطيه أجره بقدر عمله على طريق المعاوضة إن زاد أجرته وإن نقص نقص أجرته وله عليه أجرة يستحقها كما يستحق البائع الثمن فنفى - صلى الله عليه وسلم - أن يكون جزاء الله وثوابه على سبيل المعاوضة والمقابلة والمعادلة، والباء هنا كالباء الداخلة في المعاوضات كما يقال استأجرت هذا بكذا وأخذت أجرتي بعملي ...... وإذا تبين ذلك أفاد هذا الحديث ألا يعجب العبد بعمله بل يشهد نعم الله عليه وإحسانه إليه في العمل وأنه لا يستكثر العمل فإن عمله لو بلغ ما بلغ إن لم يرحمه الله ويعف عنه ويتفضل عليه لم يستحق به شيئا" (1)
- - - - - -
حديث: "ستكون أمراء..." وحكام اليوم
ما معنى حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - : " ستكون أمراء، فتعرفون وتنكرون، فمن عرف برئ، ومن أنكر سلم، ولكن من رضي وتابع قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: لا ما صلوا"، وهل ينبطق على حكامنا اليوم؟.
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
__________
(1) - رسالة ابن تيمية في دخول الجنة ( ص: 50 ) ، وينظر: رسالة ابن تيمية في دخول الجنة، مفتاح دار السعادة ( 1/8- 10 )، ومدارج السالكين ( 1/94- 96 )، لابن القيم، فتح الباري لابن حجر ( 11/294 - 297 )(1/281)
الحديث المذكور أخرجه مسلم ح (1854) من حديث أُمِّ سَلَمَةَ - رضي الله عنها- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - َ قَالَ: "سَتَكُونُ أُمَرَاءُ فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ فَمَنْ عَرَفَ بَرِئَ وَمَنْ أَنْكَرَ سَلِمَ وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ قَالُوا: أَفَلَا نُقَاتِلُهُمْ ؟ قَالَ: لَا مَا صَلَّوْا ". وقوله في الحديث: "سَتَكُونُ أُمَرَاءُ فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُون"َ أي: يعمل الأمراء أعمالاً منها ما تعرفون كونه معروفاً، ومنها ما تعرفون كونه منكراً ..... أي: أن أفعالهم منها ما يكون حسناً موافقاً للشريعة، ومنها ما يكون قبيحاً مخالفاً للشريعة .... وقوله: "فَمَنْ عَرَفَ بَرِئَ" ، والرواية الأخرى في مسلم أيضاً: " فمن كره فقد برئ ". ومعناه: فمن كره ذلك المنكر فقد برئ من إثمه وعقوبته، وهذا في حق من لا يستطيع إنكاره بيده ولا لسانه، فيكره بقلبه .. وقوله: "وَمَنْ أَنْكَرَ سَلِم"َ. أي: من أنكر باللسان تلك الأفعال القبيحة إذا استطاع ذلك فقد سلم من الهلاك .. ويحتمل أن يكون الإنكار أيضاً بالقلب، ويكون المعنى: اعتقد الإنكار بقلبه، وقد جاء في رواية في صحيح مسلم: " أي: من كره بقلبه وأنكر بقلبه"، قال القرطبي : " أي اعتقد الإنكار بقلبه، وجزم عليه بحيث لو تمكن من إظهار الإنكار لأنكره ، ومَن كان كذلك فقد سلم من مُؤاخذة الله تعالى على الإقرار على المنكر، وهذه المرتبة هي رتبةُ مَن لم يقدر على تغيير المنكر لا باللسان، ولا باليد، وهي التي قال فيها - صلى الله عليه وسلم - : " وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ " (1) ، وفي الحديث الآخر: " وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ" (2) ، وقوله: " وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ .....
__________
(1) - أخرجه مسلم ح (49) من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - .
(2) - أخرجه مسلم ح (50) من حديث أبي مسعود - رضي الله عنه -(1/282)
" أي: من رضي المنكر، وتابع عليه فعليه الإثم والعقوبة والمؤاخذة. قال النووي: " وفيه دَلِيل عَلَى أَن من عجز عن إزالة المُنكر لا يأثَم بِمُجَرَّد السُّكوت . بل إنما يَأثَم بالرِّضَا به، أو بألا يَكرههُ بقلبِه أو بالمتَابعَة عليه . " (1) ، وقوله في الحديث: " أَفَلَا نُقَاتِلُهُمْ ؟ قَالَ: لَا مَا صَلَّوْا.." أي: ما أقاموا الصلاة في الناس ، وفي حديث عوف بن مالك - رضي الله عنه - كما سيأتي: " لا ما أقاموا فيكم الصلاة " (2) ، قال النووي: " لا يجوز الخروج على الخلفاء بمجرد الظلم أو الفسق، ما لم يغيروا شَيئاً من قواعد الإسلام . " (3) وقال شيخ الإسلام: " هذا يبين أن الأئمة هم الأمراء ولاة الأمور، وأنه يُكره ويُنكر ما يأتونه من معصية الله، ولا تنزع اليد من طاعتهم، بل يطاعون في طاعة الله، وأن منهم خياراً وشراراً ".
وقد دلت أحاديث أخرى على ما دل عليه حديث أم سلمة - رضي الله عنها- من ترك الخروج على أئمة الجور ما لم يوجد منهم كفر بواح ، والسمع والطاعة ما لم يأمروا بمعصية:
- ففي صحيح مسلم من حديث عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " خِيَارُ أَئِمَّتِكُمْ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ، وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ، وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمْ الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ وَيُبْغِضُونَكُمْ، وَتَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُمْ " قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نُنَابِذُهُمْ بِالسَّيْفِ ؟ فَقَالَ:" لَا مَا أَقَامُوا فِيكُمْ الصَّلَاةَ، وَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْ وُلَاتِكُمْ شَيْئًا تَكْرَهُونَهُ، فَاكْرَهُوا عَمَلَهُ، وَلَا تَنْزِعُوا يَدًا مِنْ طَاعَةٍ " (4)
__________
(1) - شرح النووي على مسلم ( 12/243 )
(2) - أخرجه مسلم ح (1855)
(3) - شرح النووي على مسلم ( 12/244 )
(4) - أخرجه مسلم ح (1855)(1/283)
- وفي الصحيحين من حديث عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ - رضي الله عنه - قَالَ: بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - َ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي الْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ، وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ، وَأَنْ نَقُومَ أَوْ نَقُولَ بِالْحَقِّ حَيْثُمَا كُنَّا، لَا نَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ" زاد في رواية عندهما بعد قوله : "وألا ننازع الأمر أهله" قال : " إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان " (1)
- وفي الصحيحين من حديث أَبَي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمْ الْأَنْبِيَاءُ كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ، وَإِنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي، وَسَتَكُونُ خُلَفَاءُ تَكْثُرُ قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا ؟ قَالَ: فُوا بِبَيْعَةِ الْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ، وَأَعْطُوهُمْ حَقَّهُم،ْ فَإِنَّ اللَّهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ " (2)
- وفي الصحيحين من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:" مَنْ كَرِهَ مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا، فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ خَرَجَ مِنْ السُّلْطَانِ شِبْرًا فَمَاتَ عَلَيْهِ إِلَّا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً" (3)
__________
(1) - أخرجه البخاري (7199)، ومسلم ( 1842)
(2) - أخرجه البخاري ح (3455)، ومسلم ح (1842)
(3) - أخرجه البخاري ( 7053 ) ، ومسلم (1849)(1/284)
- وفي صحيح مسلم من حديث سَلَمَةُ بْنُ يَزِيدَ الْجُعْفِيُّ - رضي الله عنه - أنه سأل رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - َ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ قَامَتْ عَلَيْنَا أُمَرَاء،ُ يَسْأَلُونَا حَقَّهُمْ وَيَمْنَعُونَا حَقَّنَا، فَمَا تَأْمُرُنَا ؟ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ فِي الثَّانِيَةِ أَوْ فِي الثَّالِثَةِ فَجَذَبَهُ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ، فقَالَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - َ: اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِمْ مَا حُمِّلُوا وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ ". (1)
وفي الصحيحين من حديث حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - قال: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا بِشَر،ٍّ فَجَاءَ اللَّهُ بِخَيْرٍ، فَنَحْنُ فِيهِ فَهَلْ مِنْ وَرَاءِ هَذَا الْخَيْرِ شَرٌّ؟ قَالَ: "نَعَمْ" قُلْتُ: هَلْ وَرَاءَ ذَلِكَ الشَّرِّ خَيْرٌ ؟قَالَ: "نَعَم"ْ قُلْتُ: فَهَلْ وَرَاءَ ذَلِكَ الْخَيْرِ شَرٌّ؟ قَالَ: "نَعَمْ" قُلْت:ُ كَيْفَ؟ قَالَ: "يَكُونُ بَعْدِي أَئِمَّةٌ لَا يَهْتَدُونَ بِهُدَايَ، وَلَا يَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِي، وَسَيَقُومُ فِيهِمْ رِجَالٌ قُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الشَّيَاطِينِ فِي جُثْمَانِ إِنْسٍ" قَالَ: قُلْتُ: كَيْفَ أَصْنَعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَدْرَكْتُ ذَلِكَ ؟ قَالَ: "تَسْمَعُ وَتُطِيعُ لِلْأَمِيرِ وَإِنْ ضُرِبَ ظَهْرُكَ، وَأُخِذَ مَالُك،َ فَاسْمَعْ وَأَطِعْ" (2)
__________
(1) - أخرجه مسلم ح (1846)
(2) - أخرجه البخاري ح (7084) ، ومسلم ح ( 1847 )(1/285)
وقد أخذ بما دلت عليه هذه الأحاديث جمهور أهل السنة والجماعة، فذهبوا إلى تحريم الخروج على أئمة الظلم والجور ما لم يحصل منهم كفر بواح.. قال الإمام أحمد : " والسمع والطاعة للأئمة وأمير المؤمنين البر والفاجر ومن ولي الخلافة، فاجتمع الناس عليه، ورضوا به" ، وقال الإمام الطحاوي : " ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا، ولا ندعو عليهم ولا ننزع يداً من طاعتهم ، ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضة ما لم يأمروا بمعصية، وندعو لهم بالصلاح والمعافاة " (1) وقال ابن أبي العز الحنفي في شرح العقيدة الطحاوية : " وأما لزوم طاعتهم وإن جاروا فلأنه يترتب على الخروج عن طاعتهم من المفاسد أضعاف ما يحصل من جورهم، بل في الصبر على جورهم تكفير السيئات ومضاعفة الأجور" (2) وقال ابن بطال: " وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلب والجهاد معه، وأن طاعته خير من الخروج عليه؛ لما في ذلك من حقن الدماء وتسكين الدهماء ..
__________
(1) - العقيدة الطحاوية ص ( 47 )
(2) - شرح العقيدة الطحاوية ( 1/379 )(1/286)
ولم يستثنوا من ذلك إلا إذا وقع من السلطان الكفر الصريح" (1) ، وقال شيخ الإسلام : " استقر أمر أهل السنة على ترك القتال في الفتنة؛ للأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وصاروا يذكرون هذا في عقائدهم، ويأمرون بالصبر على جور الأئمة وترك قتالهم" (2) وقال: " وإن ما أمر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الصبر على جور الأئمة، وترك قتالهم والخروج عليهم هو أصلح الأمور للعباد في المعاش والمعاد ، وإن من خالف ذلك متعمداً أو مخطئاً لم يحصل بفعله صلاح بل فساد " (3) ، وقال أيضاً : " إن الملك الظالم لا بد أن يدفع الله به من الشر أكثر من ظلمه، وقد قيل: ستون سنة بإمام ظالم خير من ليلة واحدة بلا إمام ، وإذا قدر كثرة ظلمه فذاك ضررٌ في الدين، كالمصائب تكون كفارة لذنوبهم، ويثابون عليها، ويرجعون فيها إلى الله، ويستغفرونه، ويتوبون إليه ، وكذلك ما يسلط عليهم من العدو ..
__________
(1) - شرح صحيح البخاري لابن بطال ( 3/405 )
(2) - مجموع الفتاوى ( 4/529 )
(3) - مجموع الفتاوى ( 4/531 )(1/287)
ولهذا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتال من يقاتل على الدين الفاسد من أهل البدع كالخوارج ، وأمر بالصبر على جور الأئمة ، ونهى عن قتالهم والخروج عليهم " (1) ، وكلام الأئمة في هذا الموضوع كثير يطول المقام بذكره، ولعل فيما ذكرته كفاية، وينبغي الإشارة إلى أن حرمة الخروج على أئمة الجور لا تعني عدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإظهار الشرع وإعلاء كلمة الحق بحسب الاستطاعة ، وقد سبق في حديث عبادة - رضي الله عنه - قال: " بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي الْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ، وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ، وَأَنْ نَقُومَ أَوْ نَقُولَ بِالْحَقِّ حَيْثُمَا كُنَّا، لَا نَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ "، وفي حديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ " (2) ، ولكن الأمر والنهي يحتاج إلى الرفق والصبر والعلم والحكمة ..... قال بعض السلف: " لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلا من كان فقيهاً فيما يأمر به، فقيهاً فيما ينهى عنه، رفيقاً فيما يأمر به، رفيقاً فيما ينهى عنه، حليماً فيما يأمر به، حليماً فيما ينهى عنه "
وأما إذا ظهر من الحاكم كفر بواح قام عليه البرهان وجب الخروج مع القدرة، ويدل على هذا ما تقدم في حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - : " إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان "، ولأنه لا ولاية للكافر على المسلم، والمخاطب في ذلك الأمة ممثلة بأهل الحل والعقد ...
__________
(1) - مجموع الفتاوى ( 14/268 )
(2) - أخرجه الترمذي ح (4001)(1/288)
قال القاضي عياض: " أجمع العلماء على أن الإمامة لا تنعقد لكافر ، وعلى أنه لو طرأ عليه كفرٌ وتغيير للشرع أو بدعة مكفرة خرج عن حكم الولاية، وسقطت طاعته، ووجب على المسلمين القيام عليه وخلعه، ونصب إمام عادل إن أمكنهم ذلك، فإن لم يقع ذلك وجب عليهم القيام بخلع الكافر " (1) ، وينبغي هنا الإشارة إلى الفرق بين الحكم على القول أو الفعل بالكفر وتكفير المعين ، فقد يحكم على القول أو الفعل بأنه كفر ويتوقف في تكفير المعين، قال ابن تيمية في تكفير الخوارج والروافض ونحوهم ممن يقول بالكفر، ويفعل أفعالاً من جنس أفعال الكفار : " الصحيح أن هذه الأقوال التي يقولونها ، التي يعلم أنها مخالفة لما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - كفر ، وكذلك أفعالهم التي هي من جنس أفعال الكفار بالمسلمين هي كفر أيضاً ..... ولكن تكفير الواحد المعين منهم بتخليده في النار موقوف على ثبوت شروط التكفير وانتفاء موانعه ، فإنا نطلق القول بنصوص الوعد والوعيد والتكفير والتفسيق ، ولا نحكم للمعين بدخوله في ذلك العام حتى يقوم فيه المقتضي الذي لا معارض له " (2)
هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
- - - - - -
حديث الاستفتاح في صلاة الليل
الحديث في صحيح البخاري رقم 7385: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو في الليل " اللهم لك الحمد أنت رب السموات والأرض لك الحمد أنت قيم السموات والأرض ومن فيهن لك الحمد أنت نور السموات ... أنت إلهي لا إله غيرك"
أرجو شرح الحديث.
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
__________
(1) - إكمال المعلم ( 6/246 )
(2) - مجموع الفتاوى ( 28/ 500 - 501 )(1/289)
الحديث المشار إليه في السؤال أخرجه البخاري ح ( 1120 ) ، ومسلم ح ( 769 ) من حديث ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ قَالَ: " اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ، لَكَ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَمَنْ فِيهِنَّ وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ مَلِكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ الْحَقُّ وَوَعْدُكَ الْحَقُّ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ، وَقَوْلُكَ حَقٌّ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ وَمُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ وَبِكَ خَاصَمْتُ وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ أَوْ لَا إِلَهَ غَيْرُكَ "
شرح الحديث:
- قوله: " إِذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ " : أي إذا قام إلى الصلاة من جوف الليل وظاهر السياق أنه كان يقوله أول ما يقوم إلى الصلاة .
- قوله: " اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ ": معنى الحمد: الثناء على الله تبارك وتعالى لما اتصف به من صفات الكمال والجلال والجمال ، ولنعمه وآلائه على عباده ، فهو المستحق للحمد دون سواه و " ال " في الحمد للاستغراق أي جميع أصناف الحمد له سبحانه وتعالى .(1/290)
- قوله: " قَيِّمُ السَّمَوَاتِ " من صفاته سبحانه القيام والقيم والقيوم، ومعنى ذلك أن الله سبحانه وتعالى هو القائم بنفسه الدائم الذي لا يزول، وهو قيمٌ لأهل السموات والأرض، القائم بتدبيرهم وأرزاقهم وتصريف أحوالهم، المطلع على أعمالهم، وسوف يجازيهم ويحاسبهم، قال تعالى: { أفمن هو قائمٌ على كل نفسٍ بما كسبت } (1)
- قوله: " أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ "، من صفات الله تبارك وتعالى النور، ومنه اشتق اسم النور الذي هو أحد الأسماء الحسنى، وقد أضاف الله سبحانه وتعالى النور إلى نفسه إضافة الصفة إلى موصوفها في قوله تعالى: { وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا } (2) ، ومن معاني قوله: " أنت نور السموات والأرض " أنه هادي أهل السموات والأرض، وأنه منور السموات والأرض وخالق نورهما .
- قوله: " أَنْتَ الْحَقُّ " من أسمائه تبارك وتعالى: الحق، فهو الحق المبين في ذاته وصفاته لا شك ولا ريب في وجوده فهو و(3) الوجود الذي لا تنبغي الألوهية والربوبية إلا له لا شريك له ، وما سواه من الآلة والمعبودات فباطل زائل
- قوله: " وَوَعْدُكَ الْحَقُّ " أي وعدك ثابت لا يتخلف، وعرفه ونكر ما بعده لأن وعده مختص بالإنجاز دون وعد غيره والتنكير في البواقي ( لقاء - قول ) للتعظيم، واللقاء وما ذكر بعده داخل تحت الوعد لكن الوعد مصدر وما ذكر بعده هو الموعود به ويحتمل أن يكون من الخاص بعد العام كما أن ذكر القول بعد الوعد من العام بعد الخاص .
قوله: " وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ " فيه الإقرار بالبعث بعد الموت وهو عبارة عن مآل الخلق في الدار الآخرة بالنسبة إلى الجزاء على الأعمال .
قوله: " وَالْجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ " فيه إشارة إلى إنهما موجودتان
قوله: " وَمُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - حَقٌّ " خصه بالذكر تعظيما له .
__________
(1) - سورة الرعد الآية: 33
(2) - سورة الزمر الآية: 69(1/291)
قوله: " وَالسَّاعَةُ حَقٌّ " أي يوم القيامة وأصل الساعة القطعة من الزمان وإطلاق اسم الحق على ما ذكر من الأمور معناه أنه لا بد من كونها وإنها مما يجب أن يصدق بها وتكرار لفظ حق للمبالغة في التأكيد .
قوله: " اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ " أي انقدت وخضعت، وَبِكَ آمَنْتُ: أي صدقت، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ: أي فوضت الأمر إليك، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ أي رجعت إليك في تدبير أمري، قوله: وَبِكَ خَاصَمْتُ: أي بما أعطيتني من البرهان وبما لقنتني من الحجة قوله: وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ: أي كل من جحد الحق حاكمته إليك وجعلتك الحكم بيننا لا من كانت الجاهلية تتحاكم إليه من كاهن ونحوه .
وقوله: فَاغْفِرْ لِي: قال ذلك مع كونه مغفوراً له إما على سبيل التواضع والهضم لنفسه وإجلالا وتعظيما لربه، أو على سبيل التعليم لأمته لتقتدي به، والأولى أنه لمجموع ذلك .
قوله: مَا قَدَّمْتُ: أي قبل هذا الوقت، وَمَا أَخَّرْتُ: عنه قوله: وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ أي أخفيت وأظهرت أو ما حدثت به نفسي وما تحرك به لساني .
قوله: أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ: أي أن الله سبحانه وتعالى يقدم من شاء من عباده بتوفيقه ويؤخر من شاء بخذلانه، وينزل الأشياء منازلها ، يقدم من شاء من مخلوقاته ويؤخر .
وهذا حديث عظيم من جوامع كلمه - صلى الله عليه وسلم - تضمن حمد الله والثناء عليه بأسمائه وصفاته الحسنى الدالة على عظمته وجلاله وكماله وإحاطته بخلقه، وفي هذا الدعاء إظهار العبودية لله والتأله وتفويض الأمور إليه ، والإقرار بذكر الإيمان بالأمور الغيبية التي هي أصول الإيمان وأركانه مثل الإيمان بالله والنبيين واليوم الآخر والجنة والنار، وتقديم الثناء على الله قبل طلب المغفرة، فحري بالمسلم أن يتضرع إلى الله بهذا الدعاء الكريم اقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - . هذا والله أعلم .
- - - - - -
ما المراد بقوله: نتخايل الله بين أعيننا؟(1/292)
ورد في السير للذهبي ما يلي: عن أبي الأسود، عن عروة قال: خطبت إلى ابن عمر - رضي الله عنهما - بنته سودة، ونحن في الطواف، فلم يجبني بشيء، فلما دخلت المدينة بعده مضيت إليه، فقال: أكنت ذكرت سودة؟ قلت: نعم، قال: إنك ذكرتها ونحن في الطواف؟ ((يتخايل الله بين أعيننا))، أفلك فيها حاجة؟ قلت: أحرص ما كنت، قال: يا غلام، ادع عبد الله بن عبد الله - رضي الله عنه - ونافعاً مولى عبد الله - رضي الله عنه - قال: قلت له: وبعض آل الزبير قال: لا، قلت: فمولى خبيب، قال:ذاك أبعد، ثم قال لهما: هذا عروة بن أبي عبد الله، وقد علمتما حاله، وقد خطب إلي سودة، وقد زوجته إياها بما جعل الله للمسلمات على المسلمين من إمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان، وعلى أن يستحلها بما يستحل به مثلها، أقبلت يا عروة؟ قلت: نعم، قال: -بارك الله لك-، فهل هذه القصة صحيحة؟ وإذا كانت صحيحة فما المراد بقوله: يتخايل الله بين أعيننا؟ أفتونا -مأجورين-؛ لأن هناك بعض مشايخ الصوفية الضُّلَّال يحتج بهذه القصة على رؤيته (أي الشيخ الصوفي)، لله ومجالسته معه.- وجزاكم الله خير الجزاء -.
الجواب:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:(1/293)
هذا الأثر أخرجه الفاكهي في أخبار مكة (1/204) قال: حدثني أبو يحيى بن أبي ميسرة قال: حدثنا محمد بن يزيد بن خنيس ، قال حدثنا عبد العزيز بن أبي رواد عن نافع .....فذكره وهذا إسناد قوي، ورواه أبو نعيم في الحلية من طريق آخر (1/309)، واستشهد به ابن رجب في مواضع من كتبه، وأصل الأثر أخرجه عبد الرزاق (6/188)، وابن أبي شيبة (4/382) دون قول ابن عمر - رضي الله عنهما-: أنا كنا نتخايل الله ...... الخ، وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما سأله جبريل - عليه السلام - أن مقامات الدين ثلاث مقامات: هي الإسلام، والإيمان، والإحسان ...... وفسر النبي - صلى الله عليه وسلم - الإحسان بقوله: " أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ " (1) ، ومعنى هذا أن الإحسان أن يعبد المؤمن ربه في الدنيا على وجه الحضور والمراقبة كأنه يراه بقلبه، وينظر إليه في حال عبادته .... فيستحضر قربه، وأنه بين يديه كأنه يراه، وذلك يوجب الخشية والخوف والتعظيم، وقد جاء في رواية أبي هريرة - صلى الله عليه وسلم - : " أن تَخْشَى اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ " (2) ، ويوجب الإخلاص في العبادة، وبذل الجهد في تحسينها وإتمامها وإكمالها، وقول ابن عمر - رضي الله عنهما- كما جاء في هذه القصة -: كنا نتخايل الله . هو من هذا الباب، أي أنهم لقوة إيمانهم ونفوذ بصائرهم واستحضارهم لقرب الله منهم واطلاعه عليهم يتخايل أحدهم أنه لا يزال بين يدي الله .
__________
(1) - أخرجه البخاري ح (50)، ومسلم ح (8)
(2) - أخرجه مسلم ح (10)(1/294)
بمعنى : يتخيل ذلك في عبادته لا أنه يراه حقيقة، لا ببصره ولا بقلبه، وأما من زعم من الصوفية أن القلوب تصل في الدنيا إلى رؤية الله عياناً كما تراه الأبصار في الآخرة فهذا زعم باطل وضلال مبين، فإن هذا المقام هو الذي قال من قال من الصحابة - رضي الله عنهم - كأبي ذر وابن عباس وعائشة - رضي الله عنهم - أنه حصل للنبي - صلى الله عليه وسلم - مرتين، وكذا قال بعض التابعين أي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى ربه بقلبه، والصوفية يزعمون أن رؤية القلب تصير حالاً دائماً أو غالباً لهم، وينشأ عن هذا تفضيل الأولياء عندهم على الأنبياء، ويتفرع عن ذلك أنواع من الضلالات والجهلات، نسأل الله السلامة والعافية. (1)
هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
- - - - - -
حديث : " إنما الشؤم في ثلاثة "
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، بارك الله فيكم وجزاكم الله كل خير، لقد وقفت الأيام الماضية على حديث ورد في السلسة الصحيحة للشيخ الألباني رحمه الله المجلد الثاني تحت رقم 788 حديث عن الطيرة و التشاؤم و هذا متن الحديث: " لا عدوى و لا طيرة, وإنما الشؤم في ثلاثة : المرأة و الفرس و الدار" ، وحسب علمي البسيط جداً انه لا طيرة في الإسلام و السؤال هنا ما الفرق بين الطيرة والتشاؤم وما هو تفسير هذا الحديث و كيف يكون التشاؤم من هذه الثلاثة .
نريد توضيح مفصل بارك الله فيكم لهذا الحديث . جزاكم الله كل خير ، والسلام عليكم و رحمة الله وبركاته
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
__________
(1) - ينظر: جامع العلوم والحكم (1/125-1302)، فتح الباري لابن رجب (1/193-196)(1/295)
الطيرة مأخوذة من زجر الطير ، وكان العرب يزجرون الطير والوحش ويثيرونها فما تيامن منها أي أخذت ذات اليمين تبركوا به ومضوا في سفرهم وحاجاتهم، وما تياسر منها، أي أخذت ذات الشمال تشاءموا بها ورجعوا عن سفرهم وحاجتهم، فكانت تصدهم في كثير من الأوقات عن مصالحهم، ثم استعملوا التطير في كل شيء فتطيروا من الأعور والأبتر وغيرهما .
وأما الفأل ، فمعناه التفاؤل مثل أن يكون رجل مريضاً فيتفاءل بما يسمع من كلام مثل أن يسمع آخر يقول: يا سالم ، أو يكون طالب ضالة فيسمع آخر يقول: يا واجد ، فيقع في ظنه أنه يبرأ من مرضه ويجد صالته، وقد خص الشرع الطيرة بما يسوء والفأل بما يسر ، وفسر النبي - صلى الله عليه وسلم - الفأل بالكلمة الصالحة والحسنة والطيبة .
وقد دلت الأحاديث على نفي الطيرة وتحريمها وبطلانها ، وأنها من الشرك لما فيها من تعلق القلب بغير الله ومنافاة التوكل ، واعتقاد أنها مؤثرة في جلب النفع ودفع الضر ، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " لَا طِيَرَةَ وَخَيْرُهَا الْفَأْلُ " قَالُوا: وَمَا الْفَأْلُ ؟ قَالَ: " الْكَلِمَةُ الصَّالِحَةُ يَسْمَعُهَا أَحَدُكُمْ " (1)
وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " الطيرة شرك، الطيرة شرك ثلاثاً " (2)
وأما حديث : " لا عدوى و لا طيرة, وإنما الشؤم في ثلاثة : المرأة والفرس و الدار"
__________
(1) - أخرجه البخاري ح ( 5754 )، ومسلم ح ( 2223 )
(2) - أخرجه أبو داود ح ( 3411)(1/296)
- فقد أخرجه البخاري، ومسلم من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما - (1) ، وفي رواية للبخاري : " وَالشُّؤْمُ فِي ثَلَاثٍ فِي الْمَرْأَةِ وَالدَّارِ وَالدَّابَّةِ " (2) ، وفي رواية أخرى : " إِنَّمَا الشُّؤْمُ فِي ثَلَاثٍ فِي الْفَرَسِ وَالْمَرْأَةِ وَالدَّارِ " (3) ، وفي رواية لمسلم : " إِنْ كَانَ الشُّؤْمُ فِي شَيْءٍ فَفِي الْفَرَسِ وَالْمَسْكَنِ وَالْمَرْأَةِ " ، وفي رواية أخرى لمسلم : " إِنْ يَكُنْ مِنْ الشُّؤْمِ شَيْءٌ حَقٌّ فَفِي الْفَرَسِ وَالْمَرْأَةِ وَالدَّارِ " .
- وأخرجه البخاري ومسلم من حديث سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِنْ كَانَ فَفِي الْمَرْأَةِ وَالْفَرَسِ وَالْمَسْكَنِ يَعْنِي الشُّؤْمَ (4)
- وأخرجه مسلم من حديث جابر - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إِنْ كَانَ فِي شَيْءٍ فَفِي الرَّبْعِ وَالْخَادِمِ وَالْفَرَسِ " . (5)
وقد اختلف العلماء في توجيه هذا الحديث ، وأجابوا عنه بأجوبة منها :
1- حمل الحديث على ظاهره، وأنه قد يحصل الشؤم في هذه الثلاث، ومعنى ذلك أنه ربما لحق الإنسان ضرر وفوات منفعة، ونزع بركة بتقدير الله في سكناه لبعض البيوت، أو في زواجه من بعض النساء ، أو امتلاكه لبعض المراكب ، فعند ذلك يجد الإنسان في نفسه كراهة لهذه الأشياء عند حصول الضرر، فإذا تضرر الإنسان من شيء ، فيشرع له تركه ومفارقته مع اعتقاد أن النفع والضر بيد الله سبحانه وتعالى، وأن هذه الأشياء ليس لها بنفسها تأثير ,إنما شؤمها ويمنها ما يقدره الله تعالى فيها من خير وشر .
__________
(1) - أخرجه البخاري ح ( 5772 ) ، ومسلم ح ( 2225 )
(2) - أخرجه البخاري ح ( 5753 )
(3) - البخاري ح ( 2858 ) ، ومسلم ح ( 2225 )
(4) - أخرجه البخاري ح ( 2859 ) ومسلم ح ( 2226 )
(5) - أخرجه مسلم ح ( 2227 )(1/297)
وفي حديث أنس - رضي الله عنه - قال: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا فِي دَارٍ كَثِيرٌ فِيهَا عَدَدُنَا وَكَثِيرٌ فِيهَا أَمْوَالُنَا فَتَحَوَّلْنَا إِلَى دَارٍ أُخْرَى فَقَلَّ فِيهَا عَدَدُنَا وَقَلَّتْ فِيهَا أَمْوَالُنَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَرُوهَا ذَمِيمَةً " (1) ، وقال ابن قتيبة: " وإنما أمرهم بالتحول منها لأنهم كانوا مقيمين فيها على استثقال لظلها واستيحاش بما نالهم فيها، فأمرهم بالتحول ، وقد جعل الله في غرائز الناس وتركيبهم استثقال ما نالهم السوء فيه ، وإن كان لا سبب له في ذلك ، وحب من جرى على يده الخير لهم وإن لم يردهم به، وبغض من جرى على يده الشر لهم وإن لم يردهم به " (2)
قال الخطابي: " اليُمن والشؤم سمتان لما يصيب الإنسان من الخير والشر والنفع والضر ولا يكون شيء من ذلك إلا بمشيئة الله وقضائه ، وإنما هذه الأشياء محال وظروف جعلت مواقع لأقضيته ليس لها بأنفسها وطباعها فعل ولا تأثير في شيء ، إلا أنها لما كانت أعم الأشياء التي يقتنيها الناس ، وكان الإنسان في غالب أحواله لا يستغني عن دار يسكنها وزوجة يعاشرها وفرس يرتبطه ، وكان لا يخلو من عارض مكروه في زمانه ودهره أُضيف اليُمن والشؤم إليها إضافة مكان ومحل وهما صادران عن مشيئة الله سبحانه " (3)
2- ومن العلماء من وجه الحديث بأن المقصود بالشؤم ما يكون في هذه الأشياء من صفات مذمومة ، فقالوا: إن المراد " بشؤم الدار " ضيقها وسوء جيرانها وأذاهم ، وقيل : بعدها عن المساجد وعدم سماع الأذان منها وشؤم المرأة : عدم ولادتها وسلاطة لسانها وتعرضها للريب ، وشؤم الفرس : أن لا يغزى عليها ، وقيل : حرانها وغلاء ثمنها ، وشؤم الخادم سوء خلقه وقلة تعهده لما فوض إليه .
__________
(1) - أخرجه أبو داود ح ( 3423 )
(2) - تأويل مختلف الحديث ص: 99
(3) - أعلام الحديث 2/1379(1/298)
3- ومن العلماء من وجه الحديث بأن المراد بالشؤم هنا عدم التوافق ، كما جاء في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد من حديث سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من سعادة ابن آدم ثلاثة ومن شقوة ابن آدم ثلاثة من سعادة ابن آدم المرأة الصالحة والمسكن الصالح والمركب الصالح ومن شقوة ابن آدم المرأة السوء والمسكن السوء والمركب السوء " (1)
وقد أشار البخاري إلى هذا التأويل بأن قرن بالاستدلال بهذا الحديث قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ } (2)
- - - - - -
حديث: " إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة"
السلام عليكم
هناك حديث "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة" ، أريد توضيح الحكم المستفاد من هذا الحديث. وهل هناك أي اختلاف بين العلماء بهذا الشأن؟ جزاكم الله خيرا
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
الحديث المشار إليه في السؤال أخرجه مسلم ح ( 710 )، والترمذي ح ( 386 ) ، والنسائي ح ( 855 ) من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إِذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَلَا صَلَاةَ إِلَّا الْمَكْتُوبَةُ "
والحديث يدل على النهي عن الاشتغال بالنافلة بعد الشروع في إقامة الصلاة سواء كانت النافلة راتبة الفجر أو غيرها ، وقد جاء في رواية : " قِيلَ يَا رَسُول اللَّه وَلَا رَكْعَتَيْ الْفَجْر ؟ قَالَ : وَلَا رَكْعَتَيْ الْفَجْر " وحسن إسنادها الحافظ في الفتح .
__________
(1) - أخرجه أحمد ح ( 1445)
(2) - سورة التغابن الآية:14(1/299)
وقد أنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - على من صلى ركعتي الفجر وقد أقيمت الصلاة ، ففي الصحيحين من حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكٍ بْنِ بُحَيْنَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ بِرَجُلٍ يُصَلِّي وَقَدْ أُقِيمَتْ صَلَاةُ الصُّبْحِ فَكَلَّمَهُ بِشَيْءٍ لَا نَدْرِي مَا هُوَ فَلَمَّا انْصَرَفْنَا أَحَطْنَا نَقُولُ مَاذَا قَالَ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: قَالَ لِي يُوشِكُ أَنْ يُصَلِّيَ أَحَدُكُمْ الصُّبْحَ أَرْبَعًا . (1)
وقال أبو بكر الأثرم : سئل أحمد بن حنبل - وأنا أسمع - عن الرجل يدخل المسجد والإمام في صلاة الصبح ولم يركع الركعتين ؟ فقال: يدخل في الصلاة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة " واحتج أيضاً بقوله: " أصلاتان معاً " (2)
وقد أشار غير واحد من الأئمة إلى الحكمة من هذا النهي، قال النووي - رحمه الله - : " الحكمة فيه أن يتفرغ للفريضة من أولها فيشرع فيها عقب شروع الإمام ، والمحافظة على مكملات الفريضة أولى من التشاغل بالنافلة "
وقال القاضي عياض - رحمه الله - : " وفيه حكمة أخرى: وهو النهي عن الاختلاف على الأئمة " (3)
وأباح بعض العلماء صلاة ركعتي الفجر ولو بعد إقامة الصلاة ، منهم من قيد ذلك بألا تفوته الركعة الأولى ، ومنهم من قيده بألا تفوته الركعة الثانية ، ومنهم من قيده بألا يكون ذلك في المسجد بل يكون خارج المسجد ، قال مالك: إذا كان قد دخل المسجد فليدخل مع الإمام ولا يركعهما وإن كان لم يدخل المسجد فإن لم يخف أن يفوته الإمام بركعة فليركع خارج المسجد ولا يركعهما في شيء من أفنية المسجد .
وقال الثوري: إن خشي فوت ركعة دخل معهم ولم يصلهما وإلا صلاهما وإن كان قد دخل المسجد .
__________
(1) - أخرجه البخاري ح (663) ، ومسلم ح (711)
(2) - ينظر: التمهيد ( 22/74 )
(3) - ينظر: شرح النووي على مسلم ( 5/ 230 )(1/300)
وقال الأوزاعي: إذا دخل المسجد يركعهما إلا أن يوقن أنه إن فعل فاتته الركعة الآخرة فأما الركعة الأولى فيركع وإن فاتته
وقال أبو حنيفة وأصحابه: إن خشي أن تفوته الركعتان ولا يدرك الإمام قبل رفعه من الركوع في الثانية دخل معه وإن رجا أن يدرك ركعة صلى ركعتي الفجر خارج المسجد ثم يدخل مع الإمام .
وقد استدلوا بدليلين :
1- أن ركعتي الفجر من السنن المؤكدة التي كانت النبي - صلى الله عليه وسلم - يواظب عليها .
2- ما روي عن ابن مسعود، أنه جاء والإمام يصلي الفجر، فصلى ركعتين إلى سارية ولم يكن صلى ركعتي الفجر . (1) ، وما روي عن ابن عمر أنه دخل المسجد والناس في الصلاة، فدخل بيت حفصة، فصلى ركعتين ، ثم خرج إلى المسجد فصلى (2)
والأولى الأخذ بما دل عليه عموم الحديث أنه إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة، والسنة هي الحجة عند التنازع .
وإذا تقرر ما سبق من النهي عن الشروع في النافلة بعد سماع الإقامة، فهل يقطع النافلة من كان داخلاً فيها بعد إقامة الصلاة ؟
من العلماء من قال بقطع النافلة عند سماع الإقامة لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم - : " إِذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَلَا صَلَاةَ إِلَّا الْمَكْتُوبَةُ "
قال العراقي: " إن قوله : " فلا صلاة " يحتمل أن يراد فلا يشرع حينئذٍ في صلاة عند إقامة الصلاة، ويحتمل أن يراد فلا يشتغل بصلاة وإن كان قد شرع فيها قبل الإقامة بل يقطعها المصلي لإدراك فضيلة التحريم أو أنها تبطل بنفسها ، وإن لم يقطعها المصلي يحتمل كلاً من الأمرين " (3)
__________
(1) - أخرجه عبد الرزاق ( 2/444 )
(2) - أخرجه ابن عبد البر في التمهيد ( 22/ 75 )
(3) - ينظر : نيل الأوطار ( 3/97 )(1/301)
وخص بعض العلماء النهي في الحديث عن الشروع في النافلة بعد سماع الإقامة، أما من كان شارعاً فيها قبل الإقامة فلا يشمله النهي وله أن يتمها بشرط أن لا تفوته الجماعة وبعضهم لم يشترط ذلك، واستدلوا بعموم قوله تعالى: " وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ "، ويمكن الإجابة عن الآية بأنها عامة والحديث خاص فيخصص ما تضمنه الحديث من عموم الآية، ثم إن سياق الآية يدل على أن المقصود بالإبطال المعصية من الشرك وغيره الذي يؤدي إلى إبطال العمل .
والذي يظهر - والله أعلم - أن المصلي إذا كان في نافلة وسمع الإقامة فإن أمكنه أن يتمها خفيفة ويدرك أول الصلاة مع الإمام بحيث لا تفوته الركعة الأولى من الصلاة فله ذلك ، وإذا قطعها أخذاً بعموم الحديث فلا حرج والله أعلم .
هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل .
- - - - - -
حديث: " فقد آية من الأحزاب ... "
أرجو من سيادتكم شرح رواية الإمام البخاري التي تتكلم عن جمع القرآن الكريم في عهد سيدنا عثمان بن عفان الجزء الأخير منها: "قال زيد حين نسخنا المصحف التمسنا آية في سورة الأحزاب فوجدنها عند خزيمة بن ثابت الأنصاري " من المؤمنين رجالاً صدقوا ما عاهدوا الله عليه " " من سورة الأحزاب
حيث أن أحد العلماء كان يعلق على هذه الرواية هل معنى ذلك أن هذه الآية لم تكتب في عهد سيدنا أبو بكر وهل هي متواترة حيث اقتصروا على زيد بن ثابت أرجو الإفادة لأن هذا الموضوع منذ أن سمعت هذا العالم وأنا لا أعرف هل هذه الرواية صحيحة أم لا وخاصة أنها من الإمام البخاري وشكرا لكم .
الجواب :
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:(1/302)
الحديث المذكور أخرجه البخاري ح ( 4986 ) قال: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ السَّبَّاقِ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ - رضي الله عنه - قَالَ أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ مَقْتَلَ أَهْلِ الْيَمَامَةِ فَإِذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عِنْدَهُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رضي الله عنه - إِنَّ عُمَرَ أَتَانِي فَقَالَ إِنَّ الْقَتْلَ قَدْ اسْتَحَرَّ يَوْمَ الْيَمَامَةِ بِقُرَّاءِ الْقُرْآنِ وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ الْقَتْلُ بِالْقُرَّاءِ بِالْمَوَاطِنِ فَيَذْهَبَ كَثِيرٌ مِنْ الْقُرْآنِ وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَأْمُرَ بِجَمْعِ الْقُرْآنِ قُلْتُ لِعُمَرَ كَيْفَ تَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ عُمَرُ هَذَا وَاللَّهِ خَيْرٌ فَلَمْ يَزَلْ عُمَرُ يُرَاجِعُنِي حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِذَلِكَ وَرَأَيْتُ فِي ذَلِكَ الَّذِي رَأَى عُمَرُ قَالَ زَيْدٌ قَالَ أَبُو بَكْرٍ إِنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ لَا نَتَّهِمُكَ وَقَدْ كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَتَتَبَّعْ الْقُرْآنَ فَاجْمَعْهُ فَوَاللَّهِ لَوْ كَلَّفُونِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنْ الْجِبَالِ مَا كَانَ أَثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا أَمَرَنِي بِهِ مِنْ جَمْعِ الْقُرْآنِ قُلْتُ كَيْفَ تَفْعَلُونَ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ فَلَمْ يَزَلْ أَبُو بَكْرٍ يُرَاجِعُنِي حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ لَهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ أَجْمَعُهُ مِنْ الْعُسُبِ وَاللِّخَافِ وَصُدُورِ الرِّجَالِ حَتَّى وَجَدْتُ آخِرَ سُورَةِ التَّوْبَةِ مَعَ أَبِي خُزَيْمَةَ(1/303)
الْأَنْصَارِيِّ لَمْ أَجِدْهَا مَعَ أَحَدٍ غَيْرِهِ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَتَّى خَاتِمَةِ بَرَاءَةَ فَكَانَتْ الصُّحُفُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ حَيَاتَهُ ثُمَّ عِنْدَ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ - رضي الله عنه - .
قال البخاري : قَالَ ابْنُ شِهَابٍ وَأَخْبَرَنِي خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ سَمِعَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ قَالَ فَقَدْتُ آيَةً مِنْ الْأَحْزَابِ حِينَ نَسَخْنَا الْمُصْحَفَ قَدْ كُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرَأُ بِهَا فَالْتَمَسْنَاهَا فَوَجَدْنَاهَا مَعَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيِّ: { مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ " فَأَلْحَقْنَاهَا فِي سُورَتِهَا فِي الْمُصْحَفِ }
كان زيد - رضي الله عنه - لا يكتفي في جمعه للقرآن بالحفظ دون الكتابة ، وكان لا يقبل من أحدٍ شيئاً حتى يشهد شاهدان ولما جمع القرآن لم يجد آخر براءة مكتوبة إلا عند أبي خزيمة بن أوس ، وكذلك آية الأحزاب لم يجدها مكتوبة إلا عند خزيمة بن ثابت ذي الشهادتين، ومعنى هذا أنه لم يجد هذه الآيات مكتوبة وإلا فهي محفوظة في صدور الصحابة ، ويدل على ذلك قول زيد نفسه: فقدتُ آية من سورة الأحزاب .... ، فإن تعبيره بلفظ " فقدت " يشعر بأنه كان يحفظ هذه الآية ، وأنها كانت معروفة له ، غير أنه فقدها مكتوبة . وهذا لا ينفي أن تكون هذه الآيات متواترة ، ونحن بحمد الله لدينا دليل قطعي على أن هذا القرآن محفوظ بحفظ الله ، قال الله عز وجل : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } (1)
هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل .
- - - - - -
حديث : " لولا صفية لتركته - أي حمزة - حتى يجمعه الله
__________
(1) - سورة الحجر الآية: 9(1/304)
ما هي الحكمة وراء قول النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما رأى عمه حمزة ميتا بعد معركة أحد: "لولا صفية لتركته حتى يجمعه الله يوم القيامة من بطون الحيوانات."
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
الحديث المشار إليه في السؤال أخرجه أحمد ح ( 12322) ، والترمذي ح ( 1016 ) وأبو داود ح ( 3136 ) والحاكم ( 1/365 ) ، ( 3/196 ) من طريق أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - قَالَ: أَتَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى حَمْزَةَ يَوْمَ أُحُدٍ فَوَقَفَ عَلَيْهِ فَرَآهُ قَدْ مُثِّلَ بِهِ فَقَالَ لَوْلَا أَنْ تَجِدَ صَفِيَّةُ فِي نَفْسِهَا لَتَرَكْتُهُ حَتَّى تَأْكُلَهُ الْعَافِيَةُ حَتَّى يُحْشَرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ بُطُونِهَا ....(1/305)
" واللفظ للترمذي، قال الترمذي: " حديث أنس حديث غريب لا نعرفه من حديث أنس إلا من هذا الوجه ، وفي بعض نسخ الترمذي : حسن غريب، وفي إسناد هذا الحديث ضعف ، وقد أشار البخاري إلى خطأ أسامة في روايته هذا الحديث عن الزهري عن أنس قال البخاري : " وحديث أسامة بن زيد ، عن ابن شهاب ، عن أنس غير محفوظ ، غلط فيه أسامة بن زيد ، وقال : عبد الرحمن بن كعب عن جابر بن عبد الله في شهداء أحد هو حديث حسن "، وقد أخرج البخاري حديث جابر وليس فيه ما يتعلق بترك حمزة دون دفن ، وهذا لفظه عند البخاري من طريق ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ ثُمَّ يَقُولُ أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إِلَى أَحَدِهِمَا قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ وَقَالَ أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَمَرَ بِدَفْنِهِمْ فِي دِمَائِهِمْ وَلَمْ يُغَسَّلُوا وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِمْ " (1)
وعلى تقدير صحة الحديث ، فمعناه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قصد بتركه من غير دفن تأكله السباع والطير من أجل أن يتم له الأجر ويكمل له الثواب ويكون بدنه كله مصروفاً في سبيل الله ، أو يكون - صلى الله عليه وسلم - قصد أن ما فعل المشركون بحمزة - رضي الله عنه - من المثلة لا يضره ولا ينقصه شيئاً حتى إن دفنه أو تركه سواء، والله أعلم .
هذا والله الموفق والهادي إلى سواء .
- - - - - -
خطبة الحاجة
أرجو التكرم بشرح خطبة الحاجة وفوائدها وفضائلها والفوائد التي نحصل عليها من هذه الخطبة. حيث أنوي تقديم محاضرة عنها.
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
__________
(1) - أخرجه البخاري ح ( 1343 )(1/306)
وردت خطبة الحاجة من طريق عدد من الصحابة منهم: ابن مسعود أخرج حديثه الأمام أحمد ح ( 3536 )، والترمذي ح ( 1023) وصححه، والنسائي ح ( 1387 ) ، أبو داود ح ( 1809 ) قال: " عَلَّمَنَا النبي - صلى الله عليه وسلم - خُطْبَةَ الْحَاجَةِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ثُمَّ يَقْرَأُ ثَلَاثَ آيَاتٍ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } (1) ، { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا } (2) ، { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا } (3) ثُمَّ تَذْكُرُ حَاجَتَكَ ، واللفظ لأحمد ، ويشهد له حديث عبد الله بن عباس، أخرجه مسلم وأحمد في مسنده: " إنَّ ضِمَادًا قَدِمَ مَكَّةَ وَكَانَ مِنْ أَزْدِ شَنُوءَةَ وَكَانَ يَرْقِي مِنْ هَذِهِ الرِّيحِ فَسَمِعَ سُفَهَاءَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ يَقُولُونَ إِنَّ مُحَمَّدًا مَجْنُونٌ فَقَالَ لَوْ أَنِّي رَأَيْتُ هَذَا الرَّجُلَ لَعَلَّ اللَّهَ يَشْفِيهِ عَلَى يَدَيَّ قَالَ فَلَقِيَهُ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ
__________
(1) - سورة آل عمران الآية: 102
(2) - سورة النساء الآية: 1
(3) - سورة الأحزاب الآية: 70(1/307)
إِنِّي أَرْقِي مِنْ هَذِهِ الرِّيحِ وَإِنَّ اللَّهَ يَشْفِي عَلَى يَدِي مَنْ شَاءَ فَهَلْ لَكَ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَمَّا بَعْدُ قَالَ فَقَالَ أَعِدْ عَلَيَّ كَلِمَاتِكَ هَؤُلَاءِ فَأَعَادَهُنَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثَلَاثَ مَرَّاتٍ قَالَ فَقَالَ لَقَدْ سَمِعْتُ قَوْلَ الْكَهَنَةِ وَقَوْلَ السَّحَرَةِ وَقَوْلَ الشُّعَرَاءِ فَمَا سَمِعْتُ مِثْلَ كَلِمَاتِكَ هَؤُلَاءِ وَلَقَدْ بَلَغْنَ نَاعُوسَ الْبَحْرِ قَالَ فَقَالَ هَاتِ يَدَكَ أُبَايِعْكَ عَلَى الْإِسْلَامِ قَالَ فَبَايَعَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَعَلَى قَوْمِكَ قَالَ وَعَلَى قَوْمِي قَالَ فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - سَرِيَّةً فَمَرُّوا بِقَوْمِهِ فَقَالَ صَاحِبُ السَّرِيَّةِ لِلْجَيْشِ هَلْ أَصَبْتُمْ مِنْ هَؤُلَاءِ شَيْئًا فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ أَصَبْتُ مِنْهُمْ مِطْهَرَةً فَقَالَ رُدُّوهَا فَإِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمُ ضِمَادٍ . (1)
__________
(1) - أخرجه مسلم ح ( 868 )، وأحمد ح ( 2613 )، واللفظ لمسلم .(1/308)
ويشهد لخطبة الحاجة أيضاً ما أخرجه مسلم والنسائي من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قَالَ: " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ النَّاسَ يَحْمَدُ اللَّهَ وَيُثْنِي عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ يَقُولُ مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَخَيْرُ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وكَانَ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا خَطَبَ احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ وَعَلَا صَوْتُهُ وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ حَتَّى كَأَنَّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ . (1)
وهذه الخطبة تسمى خطبة الحاجة لقول عبد الله بن مسعود : " عَلَّمَنَا النبي - صلى الله عليه وسلم - خُطْبَةَ الْحَاجَةِ: ... " فيشرع للإنسان أن يأتي بها عند كل حاجة مثل عقد النكاح والموعظة ونحو ذلك، وقد اشتهر عند أهل العلم أنها تقال عند عقد النكاح، ولهذا يذكرون حديث ابن مسعود في كتاب النكاح، وخطبة الحاجة على وجازة ألفاظها تضمنت معاني عظيمة وكلمات جامعة، وفيها إظهار العبودية والافتقار والتذلل لله تبارك وتعالى، وهذا تحليل موجز لمضامين هذه الخطبة الجامعة:
__________
(1) - أخرجه مسلم ح ( 867 )، والنسائي ح ( 1560 )(1/309)
1- تضمنت هذه الخطبة كلمة التوحيد، وهي الشهادة لله بالوحدانية والإقرار له بالألوهية، وللنبي - صلى الله عليه وسلم - بالرسالة، وأنه عبد لله ففي قوله - صلى الله عليه وسلم - : " أشهد أن لا إله إلا الله " شهادة بنفي العبادة عما سوى الله، وإثباتها لله سبحانه وتعالى، يعني: إبطال عبادة كل ما سوى الله وإثبات العبادة لله، فعلى هذا معنى لا إله إلا الله: لا معبود - بحق أو لا معبود حقاً - إلا الله سبحانه وتعالى، لأن المعبودات على قسمين: معبود بحق، ومعبود بالباطل، المعبود بحق هو الله، والمعبود بالباطل هو ما سوى الله من كل المعبودات، قال تعالى: { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } (1) ، وكلمة ( لا إلا الله ) كلمة عظيمة، جاءت في أكثر من موضع في القرآن الكريم بلفظها وبمعناها، كما في قوله تعالى: { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ } (2) ، وقوله تعالى: { إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ } (3) ، وكلمة التوحيد هي أفضل الذكر وهي كلمة التقوى والإخلاص، ودعوة الحق، وهي براءة من الشرك، ولأجلها خُلق الخلق، وأرسلت الرسل، ، وأُنزلت الكتب، وأعدت دار الثواب ودار العقاب في الآخرة، فمن قالها وعمل بمقتضاها كان من أهل الجنة، ومن ردها وعمل بما يناقضها كان من أهل النار، ومن أجلها شرع الجهاد، من قالها عصم ماله ودمه، وهي مفتاح دعوة الرسل، وهي تمحو الذنوب، وتجدد ما درس من الإيمان في القلب . والشهادة للنبي - صلى الله عليه وسلم - بالرسالة معناها الإيمان بأنه رسول من الله تجب طاعته واتباعه والاقتداء به وتوقيره ومحبته
__________
(1) - سورة الحج الآية: 62
(2) - سورة محمد الآية: 19
(3) - سورة الصافات الآية: 35(1/310)
2- الاعتراف بأن الله هو الذي يستحق الحمد دون سواه، والتعبد لله بحمده والثناء عليه، ومعنى الحمد: الثناء على الله تبارك وتعالى لما اتصف به من صفات الكمال والجلال والجمال ، ولنعمه وآلائه على عباده ، فهو المستحق للحمد دون سواه و " ال " في الحمد للاستغراق أي جميع أصناف الحمد له سبحانه وتعالى . قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " فإن الله سبحانه أخبر أن له الحمد ، وأنه حميد مجيد، وأن له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم ونحو ذلك من أنواع المحامد . والحمد نوعان: حمد على إحسانه إلى عباده، وهو من الشكر، وحمد لما يستحقه هو بنفسه من نعوت كماله، وهذا الحمد لا يكون إلا على ما هو في نفسه مستحق للحمد، وإنما يستحق ذلك من هو متصف بصفات الكمال ..... " (1) ، والشكر مثل الحمد إلا أن الحمد أعم منه، قال القرطبي : " الحمد ثناء على الممدوح بصفاته من غير سبق إحسان، والشكر ثناء على المشكور بما أولى من الإحسان وهذا قول علماء اللغة" (2) ، وقال ابن القيم: " والفرق بين الحمد والشكر: أن الشكر أعم من جهة أنواعه وأسبابه، وأخص من جهة متعلقاته، والحمد أعم من جهة المتعلقات وأخص من جهة الأسباب، ومعنى هذا أن الشكر يكون بالقلب خضوعاً واستكانة وباللسان ثناءً واعترافاً ، وبالجوارح طاعة وانقياداً، ومتعلقاته: النعم دون الأوصاف الذاتية، فلا يقال: شكرنا الله على حياته وسمعه وبصره وعلمه وهو المحمود على إحسانه وعدله والحمد يكون على الإحسان والنعم، فكل ما يتعلق به الشكر يتعلق به الحمد من غير عكس، وكل ما يقع به الحمد يقع به الشكر من غير عكس، فإن الشكر يقع بالجوارح والحمد يقع بالقلب واللسان" (3)
__________
(1) - مجموع الفتاوى (6/83- 84)
(2) - النهج الأسمى ( 1/272 )
(3) - مدارج السالكين ( 2/246 )(1/311)
3- طلب الاستعانة من الله، والاستعانة: الثقة بالله والاعتماد عليه، والعبد محتاج للاستعانة بالله على مصالح دينه ودنياه، فهو محتاجٌ إليها في فعل المأمورات وترك المحظورات، وفي الصبر على المقدورات، كما قال يعقوب عليه السلام: { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } (1) ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " تأملت أنفع الدعاء فإذا هو: سؤال العون على مرضاته، ثم رأيته في الفاتحة في: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } " (2) ، ومن أسماء الله الحسنى المستعان، وقد ورد في القرآن الكريم مرتان ، في قوله عز وجل: { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } ، وفي قوله تعالى: { قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } (3) ، والمستعان معناه: الذي يُطْلَبُ منه العون، والعون الظهير على الأمر، وهو سبحانه غني عن الظهير والمعين والشريك، فهو سبحانه يُعين عباده ولا يستعين بأحد منهم لا في الأرض ولا في السماوات قال تعالى: { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ } (4) ، قال الحافظ ابن رجب رحمه الله عند شرح قوله - صلى الله عليه وسلم - : " وإذا استعنت فاستعن بالله " قال: " الاستعانة بالله وحده منتزع من قوله تعالى: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } ، وهي كلمة عظيمة جامعة يقال: إن سر الكتب الإلهية كلها ترجع إليها وتدور عليها، وفي استعانة الله وحده فائدتان: إحداهما: أن العبد عاجز عن الاستقلال بنفسه في عمل الطاعات، والثانية: أنه لا معين له على مصالح
__________
(1) - سورة يوسف الآية: 18
(2) - مجموع الفتاوى ( 14/320 )
(3) - سورة يوسف الآية: 112
(4) - سورة سبأ الآية: 22(1/312)
دينه ودنياه إلا الله عز وجل ، فمن أعانه الله فهو المعان، ومن خذله الله فهو المخذول، وفي الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ " (1) ، وأمر معاذ بن جبل أن لا يدع في دبر كل صلاة أن يقول: " رَبِّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ (2) ، وكان من دعائه - صلى الله عليه وسلم - " رَبِّ أَعِنِّي وَلَا تُعِنْ عَلَيَّ" (3)
__________
(1) - أخرجه مسلم ح ( 2664 )، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - .
(2) - أخرجه أبو داود ح ( 1301 )
(3) - أخرجه أبو داود ح ( 1522 )، والترمذي ح ( 3551 ) ، وقال: حديث حسن صحيح .(1/313)
4- طلب الاستغفار من الله، والاستغفار والمغفرة أصلها الغفر: أي التغطية والستر، وغفر الله له ذنوبه أي سترها، فالاستغفار من الذنوب هو طلب المغفرة، والعبد أحوج ما يكون إليه لأنه يخطئ بالليل والنهار، وقد تكرر في القرآن ذكر التوبة والاستغفار، والأمر بهما، والحث عليهما، وحث النبي - صلى الله عليه وسلم - على طلب المغفرة واستغفار الله سبحانه وتعالى، أخرج أحمد عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ فَإِنِّي أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ وَأَسْتَغْفِرُهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ .... " (1) ، وأخرج البخاري من حديث أبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً (2) ، وأخرج مسلم من حديث الْأَغَرَّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ فَإِنِّي أَتُوبُ فِي الْيَوْمِ إِلَيْهِ مِائَةَ مَرَّةٍ (3) ، وأخرج الإمام أحمد من حديث ابن عمر قال: " إِنْ كُنَّا لَنَعُدُّ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْمَجْلِسِ يَقُولُ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الْغَفُورُ مِائَةَ مَرَّةٍ " (4)
__________
(1) - أخرجه أحمد ح ( 17577 )
(2) - أخرجه البخاري ح ( 6307 )
(3) - أخرجه مسلم ح (2702 )
(4) - أخرجه أحمد ح ( 4496 )(1/314)
والله سبحانه وتعالى سمى نفسه بالغفور في إحدى وتسعين آية، وسمى نفسه بالغفار في خمس آيات، فورود الغفور في القرآن أكثر من الغفار، وكلاهما من أبنية المبالغة، قال تعالى: { أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } (1) ، وقال تعالى: { نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } (2) ، وقال تعالى: { وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ } (3) وقوله تعالى: { أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ } (4) ، وقوله تعالى: { رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ } (5) ، وقوله تعالى: { فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً } (6) ، وأما الغافر فقد ورد مرة واحدة في القرآن، وذلك في قوله تعالى: { غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ } (7) ، فالله - سبحانه وتعالى - هو الغفور والغفار والغافر الذي يغفر الذنوب جميعاً ويسترها، وفي هذا حث لعباده أن يطلبوا منه المغفرة وستر الذنوب والتجاوز عن السيئات .
__________
(1) - سورة الشورى الآية: 5
(2) - سورة الحجر الآية: 49
(3) - سورة البروج الآية: 14
(4) - سورة الزمر الآية: 5
(5) - سورة ص الآية: 66
(6) - سورة نوح الآية: 10
(7) - سورة غافر الآية: 3(1/315)
5- الاستعاذة بالله، والاستعاذة معناها الالتجاء والاستجارة بالله في دفع كل مكروه، وقد جاء في هذه الخطبة الاستعاذة من شرور الأنفس وسيئات الأعمال، فالنفس أمارة بالسوء، وفيها أخلاق رديئة وطباع غير لائقة تحتاج إلى تزكية وتهذيب، والذنوب والسيئات لها آثار وخيمة على القلب والبدن، ولا يعيذ من شرور الأنفس وسيئات الأعمال وينجي من عواقبها إلا الله عز وجل، فهو الذي يؤتي النفوس تقواها ويزكيها وهو خير من زكاها، وقد ذكرت مادة " التعوذ " أو الاستعاذة في القرآن الكريم نحو خمس عشرة مرة، ودلنا التنزيل الحميد على أن التعوذ أمر مطلوب في كثير من المواقف والأحوال ، وهو أيضاً من صفات الأنبياء والرسل فجاء في سورة هود عن نوح - عليه السلام - : { قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ } (1) ، وقال موسى - عليه السلام - : { أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ } (2) ، ويوسف - عليه السلام - يذكر القرآن الكريم أنه تحلى بفضيلة التعوذ فقال: { مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } (3) ، وقال: { مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظَالِمُونَ } (4) ، وفي السنة النبوية كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يكثر من التعوذ بالله ، وكان من تعوذه - صلى الله عليه وسلم - ما أخرجه مسلم من حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: فَقَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَيْلَةً مِنْ الْفِرَاشِ فَالْتَمَسْتُهُ فَوَقَعَتْ يَدِي عَلَى بَطْنِ قَدَمَيْهِ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ وَهُمَا مَنْصُوبَتَانِ وَهُوَ يَقُولُ:
__________
(1) - سورة هود الآية: 47
(2) - سورة البقرة الآية: 67
(3) - سورة يوسف الآية: 23
(4) - سورة يوسف الآية: 79(1/316)
اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ . (1) وقوله - صلى الله عليه وسلم - : " اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْكَسَلِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْجُبْنِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْهَرَمِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْبُخْلِ " (2) ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : " أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ غَضَبِهِ وَعِقَابِهِ وَشَرِّ عِبَادِهِ وَمِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَنْ يَحْضُرُونِ " (3) ، ومنه أيضاً قوله - صلى الله عليه وسلم - : " اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ وَضَلَعِ الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ " (4) ، قال ابن القيم رحمه الله: " حديث: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن تضمن الاستعاذة من ثمانية أشياء كل اثنين منها قرينان مزدوجان، فالهم والحزن أخوان، والعجز الكسل أخوان، والجبن والبخل أخوان، وضلع الدين وغلبة الرجال أخوان، فأن المكروه المؤلم إذا ورد على القلب فإما أن يكون سببه أمراً ماضياً، فيُوجب له الحزن، وإن كان أمراً متوقعاً في المستقبل، أوجب الهم، وتخلفُ العبد عن مصالحه وتفويتها عليها إما أن يكون من عدم القدرة وهو العجز، أو من عدم الإرادة وهو الكسل، وحبس خيره ونفعه عن نفسه وعن بني جنسه، إما أن يكون منع نفعه ببدنه فهو الجبن، أو بماله فهو البخل، وقهرُ الناس له إما بحق فهو ضَلع الدين أو بباطل فهو غلبة الرجال فقد تضمن الحديث
__________
(1) - أخرجه مسلم ح ( 486 )
(2) - أخرجه البخاري ح (6371) ، ومسلم ح (2706)
(3) - أخرجه الترمذي ح ( 3451 ) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، وقال: حديث حسن غريب
(4) - أخرجه البخاري ح ( 6369 ) ، ومسلم ح ( 2706 ) من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -(1/317)
الاستعاذة من كل شر " (1) ، هذا وقد طلب الله سبحانه وتعالى أن نتعوذ بالله من الشيطان الرجيم عند قراءة القرآن الكريم قال تعالى: { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } (2) ، قال ابن كثير: " ومن لطائف الاستعاذة أنها طهارة للفم مما كان يتعاطاه من اللغو والرفث وتطيب له، وهو لتلاوة كلام وهي استعانة بالله واعتراف له بالقدرة وللعبد بالضعف والعجز عن مقاومة هذا العدو المبين الباطني والذي لا يقدر على منه ودفعه إلا الله الذي خلقه ولا يقبل مصانعة ولا يداري بالإحسان ، بخلاف العدو من نوع الإنسان " (3)
__________
(1) - زاد الميعاد ( 4/208 )
(2) - سورة النحل الآية: 98
(3) - تفسير ابن كثير ( 1/114 )(1/318)
6- طلب الهداية من الله، فجميع الخلق مفتقرون إلى الله تعالى في أمور دينهم ودنياهم، والله سبحانه وتعالى يهدي من يشاء ويضل من يشاء، فمن هداه الله تعالى للإيمان فبفضله وله الحمد، كما قال تعالى: { وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ } (1) ، وقوله تعالى: { وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِين } (2) ، ومن أضله فبعدله، قال سبحانه: { وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ } (3) ، وقال عز وجل: { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } (4) ، وقوله: { إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } (5) ، وقد جعل الله سبحانه وتعالى للهداية سبلاً وطرقاً فمن أخذ بأسبابها هداه الله، ومن أخذ بأسباب الضلال أضله الله، قال تعالى: { إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً } (6) ، وقال: { وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ } (7) .
__________
(1) - سورة الأعراف الآية: 43
(2) - سورة الصافات الآية: 57
(3) - سورة فصلت الآية: 46
(4) - سورة الصف الآية: 5
(5) - سورة المائدة الآية: 51
(6) - سورة الإنسان الآية: 3
(7) - سورة البلد الآية: 10(1/319)
قال ابن رجب : " الإنسان يولد مفطوراً على قبول الحق، فإن هداه الله سبب له من يعلمه الهدى، فصار مهتدياً بالفعل بعد أن كان مهتدياً بالقوة، وإن خذله الله قيض له من يعلمه ما يغير فطرته... والهداية نوعان هداية مجملة وهي الهداية للإسلام والإيمان وهي حاصلة للمؤمن وهداية مفصلة وهي هداية إلى معرفة تفاصيل أجزاء الإيمان والإسلام وإعانته على فعل ذلك وهذا يحتاج إليه كل مؤمن ليلا ونهارا ولهذا أمر الله عباده أن يقرأوا في كل ركعة من صلاتهم قوله: { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في دعائه بالليل اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم " (1) ، والهداية نوعان: هداية إرشاد وبيان وهي التي يملكها الرسل وأتباعهم والتي ذكرها الله تعالى بقوله: { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى } (2) ، وهداية توفيق وهي التي بيد الله تعالى ، ومن أسمائه تبارك وتعالى الهادي فهو الذي هدى الخلق إلى معرفته وربوبيته، وهدى عباده إلى الصراط المستقيم، وقد ورد هذا الاسم في آيتين من الكتاب العزيز وهما قوله تعالى: { وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } (3) ، وقوله تعالى: { وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً } (4) ، ولا يمكن أن يكون المسلم مهتدياً إلا بإتباع الرسول الكريم كما قال تعالى: { وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ } (5) ، واتباع هديه أحد شرطي قبول العمل الصالح، وهما : المتابعة والإخلاص، وجعل الله سبحانه وتعالى الكتب المنزلة هداية للناس ونوراً وفرقاناً بين الحق والباطل قال تعالى: { إِنَّا
__________
(1) - جامع العلوم والحكم (2/40 )
(2) - سورة فصلت الآية: 17
(3) - سورة الحج الآية: 54
(4) - سورة الفرقان الآية: 31
(5) - سورة النور الآية: 54(1/320)
أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ } (1) ، وقال عن عيسى - عليه السلام - : { وَآتَيْنَاهُ الْأِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ } (2) ، وغير ذلك من الآيات الكثيرة، فالهداية أكبر نعمة ينعم بها الله سبحانه وتعالى على العبد، وبقدر هدايته تكون سعادته في الدنيا والآخرة، والأنبياء عليهم السلام هم أكمل البشر هداية، وكانوا يسألون الله سبحانه وتعالى الهداية ومن ذلك قوله موسى - عليه السلام - : { عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ } (3) ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكثر في دعائه من طلب الهداية من الله ومن ذلك ما أخرجه مسلم من حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها قالت: كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ افْتَتَحَ صَلَاتَهُ اللَّهُمَّ رَبَّ جَبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ " (4) ، وما أخرجه أيضاً من حديث عبد الله بن مسعود عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالْعَفَافَ وَالْغِنَى " (5) ، وأمرنا الله سبحانه وتعالى بطلب الهداية منه في كل ركعة من صلاتنا فقال تعالى: { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } ، قال ابن القيم: " ولما كان سؤال الله الهداية إلى الصراط المستقيم أجل المطالب ونيله أشرف المواهب علم الله عباده كيفية سؤاله وأمرهم أن يقدموا بين يديه حمده والثناء عليه وتمجيده ثم
__________
(1) - سورة المائدة الآية: 44
(2) - سورة المائدة الآية: 46
(3) - سورة القصص الآية: 22
(4) - أخرجه مسلم ح (770 )
(5) - أخرجه مسلم ح (2721)(1/321)
ذكر عبوديتهم وتوحيدهم فهاتان وسيلتان إلى مطلوبهم: توسل إليه بأسمائه وصفاته وتوسل إليه بعبوديته وهاتان الوسيلتان لا يكاد يرد معهما الدعاء .... وقد جمعت الفاتحة الوسيلتين وهما التوسل بالحمد والثناء عليه وتمجيده والتوسل إليه بعبوديته وتوحيده ثم جاء سؤال أهم المطالب وأنجح الرغائب وهو الهداية بعد الوسيلتين فالداعي به حقيق بالإجابة " (1) ، وهداية الله سبحانه وتعالى وسعت كل المخلوقات، فقد هدى سبحانه وتعالى جميع الأحياء إلى جلب مصالحها ودفع مضارها، قال تعالى: { رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } (2) ، وقال تعالى: { وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى } (3) ، فهدى سبحانه كل مخلوق إلى ما لابد منه في قضاء حاجاته .
__________
(1) - مدارج السالكين ( 1/23 - 24 )
(2) - سورة طه الآية: 50
(3) - سورة الأعلى الآية: 3(1/322)
7- ختمت هذه الخطبة بثلاث آيات فيها الأمر بالتقوى والحث عليها، وتقوى الله هي أن يفعل العبد ما أمر الله سبحانه وتعالى به، ويجتنب ما نهى عنه، وهي وصية الله سبحانه وتعالى لعباده الأولين والآخرين قال تعالى: { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ } (1) ، وقد أمر الله بتقواه في آيات كثيرة من كتابه الكريم ورتب على التقوى خير كثير في العاجل والآجل، فرتب عليها حصول العلم النافع قال تعالى: { وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ } (2) ، ورتب عليها حياة القلوب وتمييزها بين الحق والباطل، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } (3) ، ووعد سبحانه المتقين بأن يجعل لهم من الشدائد والمحن مخرجاً ويرزقهم من حيث لا يحتسبون قال تعالى: { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ } (4) ، فقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } معناه: يا أيها المؤمنون تمسكوا بتقوى الله ومراقبته وخشيته حتى يأتيكم الموت وأنتم على ذلك، روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال في معنى { اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } : أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر، أما قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي
__________
(1) - سورة النساء الآية: 131
(2) - سورة البقرة الآية: 282
(3) - سورة الأنفال الآية: 29
(4) - سورة الطلاق : 2 - 3(1/323)
تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا } ، فالمراد بالنفس الواحدة هنا آدم عليه السلام، وكلمة " مِنْهَا " للتبعيض، والمراد بقوله تعالى: " زَوْجَهَا " حواء فإنها أخرجت من آدم عليه السلام، وقوله : { وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ } المعنى: واتقوا الله الذي يسأل بعضكم بعضاً به، بأن يقول له على سبيل الاستعطاف: أسألك بالله أن تفعل كذا، أو أن تترك كذا، واتقوا الأرحام أن تقطعوها فلا تصلوها بالبر والإحسان، فإن قطعها وعدم صلتها مما يجب أن يتقى ويبتعد عنه، قوله: { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا } أي حافظاً يحصي عليكم كل شيء ، و مطلع على جميع أحوالكم وأعمالكم، أما قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا } ، فالقول السديد هو القول الصواب المتضمن للحق والصدق، مأخوذ من قولك: سدد فلان سهمه يسدده، إذا وجهه بإحكام إلى المرمى الذي يقصده فأصابه، ومنه قولهم: سهم قاصد إذا أصاب الهدف ، والمعنى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وراقبوه وخافوه في كل ما تأتون وما تذرون، وفي كل ما تقولون وما تفعلون، وقولوا قولاً كله الصدق والصواب، فإنكم إن فعلتم ذلك { يُصْلِحْ } الله تعالى { لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ } بأن يجعلها مقبولة عنده { وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } أي يتجاوز عن ذنوبكم بتقواكم واستقامتكم في أقوالكم وأفعالكم، { وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } أي بامتثال الأمور واجتناب النواهي { فَقَدْ فَازَ } في الدارين { فَوْزًا عَظِيمًا } أي ظفر بخيري الدنيا والأخرة . هذا والله أعلم .
- - - - - -
حديث: " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث .... "(1/324)
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث.... منها ولد صالح يدعو له .
السؤال المطروح هل الولد المقصود في الحديث هو الولد من الصلب أم الولد بشكل عام فمثلاً نحن نعتبر الوالد والشيخ زايد بمثابة والد لنا فندعو له بالرحمة والمغفرة ، والعمة أو الخالة أو الشخص الذي ساهم في تربيتي من معلم وآخرون هل لهم الأحقية في برهم بعد وفاتهم وبذلك ندخل ضمن من خصهم الحديث الشريف ؟
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:(1/325)
معنى الحديث أن عمل الميت ينقطع بموته، وينقطع تجدد الثواب له إلا بهذه الأشياء الثلاثة لكونه كان سببها، فإن الولد من كسبه، وكذلك العلم الذي خلفه من تعليم أو تصنيف، وكذلك الصدقة الجارية وهي الوقف، وعلى هذا فالولد الصالح في الحديث هو ولد الإنسان من صلبه، ولكن إذا صدر الدعاء من المسلم لأخيه المسلم أو لمن له فضل عليه في تربية أو تعليم أو إحسان، فإن الدعاء ينتفع به الميت، ولهذا أثنى الله سبحانه وتعالى على المؤمنين الذين يأتون بعد إخوانهم ويدعون لهم: { وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } (1) ، وفي دعاء التشهد: " السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ فَإِنَّهُ إِذَا قَالَ ذَلِكَ أَصَابَتْ كُلَّ عَبْدٍ صَالِحٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ " (2) ، وأخرج مسلم من حديث أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يَدْعُو لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ إِلَّا قَالَ الْمَلَكُ وَلَكَ بِمِثْلٍ (3) ، وشُرع دعاء المسلم للأموات من المسلمين إذا مر بالمقبرة ، ففي حديث بُرَيْدَةَ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُعَلِّمُهُمْ إِذَا خَرَجُوا إِلَى الْمَقَابِرِ فَكَانَ قَائِلُهُمْ يَقُولُ : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَلَاحِقُونَ أَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمْ الْعَافِيَةَ " (4) ،
__________
(1) - سورة الحشر الآية: 10
(2) - أخرجه البخاري ح ( 835 ) ، ومسلم ح ( 402 )
(3) - أخرجه مسلم ح ( 2732 )
(4) - أخرجه مسلم ح ( 975 )(1/326)
وكذلك الدعاء للميت عند الصلاة عليه ، ففي حديث أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: إِذَا صَلَّيْتُمْ عَلَى الْمَيِّتِ فَأَخْلِصُوا لَهُ الدُّعَاءَ (1) ، وفي حديث عَوْفَ بْنَ مَالِكٍ قال: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى جَنَازَةٍ فَحَفِظْتُ مِنْ دُعَائِهِ وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ وَعَافِهِ وَاعْفُ عَنْهُ وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ وَاغْسِلْهُ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ وَنَقِّهِ مِنْ الْخَطَايَا كَمَا نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الْأَبْيَضَ مِنْ الدَّنَسِ وَأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ وَأَهْلًا خَيْرًا مِنْ أَهْلِهِ وَزَوْجًا خَيْرًا مِنْ زَوْجِهِ وَأَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ وَأَعِذْهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ أَوْ مِنْ عَذَابِ النَّارِ قَالَ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنْ أَكُونَ أَنَا ذَلِكَ الْمَيِّتَ (2) ، وهذا كله يدل على انتفاع المسلم بدعاء أخيه المسلم ، وأن ثواب الدعاء والصدقة يصل إلى الأموات ، والله أعلم .
- - - - - -
الدعاء المأثور: "اللهم أرنا الحق حقاً.."
نسمع الدعاء التالي كثيراً وهو: "اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه" أرجو إيراد بعض الشرح عليه،وهل هو مسنون أم لا؟ علماً أنه مذكور في كتاب الأذكار للنووي.
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
__________
(1) - أخرجه أبو داود ح ( 2784 )
(2) - أخرجه مسلم ح ( 963 )(1/327)
هذا دعاء مأثور عن عمر - رضي الله عنه - ، ذكره البهوتي في كتابه شرح منتهى الإرادات (3/497)، وعزاه إلى عمر - رضي الله عنه - ، وذكره ابن كثير في تفسيره عند قوله تعالى: { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } (1) ، قال: وفي الدعاء المأثور: " اللهم أرنا الحق حقاً، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً، وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، واجعلنا للمتقين إماما " (2) ، وهذا الدعاء من الأدعية الجامعة النافعة ، ومعناه أن العبد يسأل ربه تبارك وتعالى أن يوفقه لمعرفة الحق والصواب في كل ما حصل فيه الاختلاف بين الناس من مسائل العلم، وفي كل ما يستجد من أمور للعبد في حياته ويسأل الله أن يرزقه اتباع الحق والثبات عليه، كما أنه يسأل ربه أن يوفقه لرؤية الباطل باطلاً وضلالاً ويرزقه اجتنابه كما قيل:
عرفت الشرَّ لا للشر لكن لتوقيه
ومن لا يعرف الشر يقع فيه
__________
(1) - سورة البقرة الآية: 213
(2) - تفسير ابن كثير (1/ 444)(1/328)
وقد أمر الله عباده أن يسألوه الهداية إلى الصراط المستقيم في كل صلاة { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } (1) ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من الليل يصلي يقول: " اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ " (2) ، وفي حديث أبي ذر - رضي الله عنه - : " يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ ..." (3)
هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
- - - - - -
حديث "ما تركت بعدي فتنة أشد على الرجال من النساء" استهانة بهن؟!
أرجو من حضرتكم إيضاح وتفسير المعنى في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - :"ما تركت بعدي فتنة أشد على الرجال من النساء" وأرجو أن يكون ذلك بإسهاب؛ لما قد يبدو من ظاهر الحديث من أنه استهانة بحق النساء وتقليل من شأنهن... وجزاكم الله خيراً.
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
__________
(1) - سورة الفاتحة الآية: 6
(2) - أخرجه مسلم ح ( 770 )
(3) - أخرجه مسلم ح (2577)(1/329)
الحديث المذكور في السؤال أخرجه البخاري (5096) من حديث أُسَامَةَ بْن زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:"مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنْ النِّسَاءِ" وأخرجه مسلم (2742) من حديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:"إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ" ، ومعنى الحديث التحذير من الفتنة بالنساء، وذلك أن الله سبحانه وتعالى ركب في طبيعة الرجل الميل إلى المرأة ومحبتها، كما قال سبحانه: { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ ...... } (1) ، فإذا كان هذا فيما أباحه الله من الزواج فهو مطلوب، وقد امتن الله به على عباده، قال سبحانه: { وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً... } (2) ، وقال سبحانه: { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً....
__________
(1) - سورة آل عمران: الآية14
(2) - سورة النحل الآية:72(1/330)
} (1) ، ورغب النبي - صلى الله عليه وسلم - في الزواج وحث عليه، لما يحصل فيه من غض البصر وتحصين الفرج وبقاء النسل، ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ" (2) ، وفي صحيح مسلم من حديث جابر - رضي الله عنه - قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " إِذَا أَحَدُكُمْ أَعْجَبَتْهُ الْمَرْأَةُ فَوَقَعَتْ فِي قَلْبِهِ فَلْيَعْمِدْ إِلَى امْرَأَتِهِ فَلْيُوَاقِعْهَا فَإِنَّ ذَلِكَ يَرُدُّ مَا فِي نَفْسِهِ" (3) ، وأما إذا كان الميل والمحبة وقضاء الشهوة عن الطرق المحرمة فالمرأة تكون فتنة للرجل حيث أوقعته فيما حرم الله، ولهذا قال سبحانه: { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ ...
__________
(1) - سورة الروم: الآية:21
(2) - أخرجه البخاري ح (5065) ومسلم ح (1400)
(3) - أخرجه مسلم ح (1403)(1/331)
} (1) ، وقال سبحانه: { الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُم وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ } (2) ، وقد تكون الزوجة فتنة لزوجها إذا صرفته عن طاعة الله، أو أمرته بمعصية الله سبحانه وتعالى، مثل أن تحمله على قطيعة أرحامه، أو تحمله على التساهل في ترك أوامر الله مثل الصلاة أو الزكاة أو الجهاد ونحو ذلك، ولهذا قال سبحانه وتعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ ... } (3)
__________
(1) - سورة النساء الآية:24
(2) - سورة المائدة الآية: 5
(3) - سورة التغابن الآية: 14(1/332)
وحث النبي - صلى الله عليه وسلم - على اختيار الزوجة الصالحة التي تعين زوجها على الاستقامة والخير وتحفظه في نفسها وماله، ففي الصحيحين من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لأَرْبَعٍ لِمَالِهَا وَلِحَسَبِهَا وَلِجَمَالِهَا وَلِدِينِهَا فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ" (1) ، وفي صحيح مسلم من حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ " (2) ، ونهى الله سبحانه وتعالى المرأة عن التبرج وإظهار الزينة لغير محارمها؛ حتى لا تكون فتنة للرجل، وأمرها بالعفاف والحشمة وغض البصر ، قال تعالى: { وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الأِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } (3) ، وقال تعالى: { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ
__________
(1) - أخرجه البخاري ح (5090) ومسلم ح (1466)
(2) - أخرجه مسلم ح (1467)
(3) - سورة النساء الآية: 31(1/333)
الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ.... } (1) ، والمرأة حينما تخالف ما شرع الله سبحانه وتعالى، وتنحرف عن الصراط المستقيم تكون فتنة للرجال، وقد وقع ما حذر الرسول - صلى الله عليه وسلم - منه من فتنة الرجال بالنساء، وهي من أعظم الفتن التي تفاقم خطرها، وعظم خطبها ، ولعل من المناسب أن أذكر بعض مظاهر الفتنة بالمرأة في زماننا الحاضر:
1) سفور النساء وتبرجهن في كثير من المجتمعات الإسلامية، مما ترتب عليه إطلاق النظر إليهن وإثارة الغرائز وثوران الشهوة والوقوع فيما حرم الله والافتتان بهن، وكما قيل:
نظرةٌ، فابتسامةٌ ، فسلامُ فكلامٌ ، فموعدٌ فلقاءُ
2) تفننت وسائل الإعلام بأنواعها من تلفاز وفضائيات وفيديو ومجلات وكتب في عرض صور النساء الخليعة وشبه العارية مما لم يوجد في عصر مضى، وأصبحت الفتنة بهن عظيمة، حيث تعلق كثير من الرجال بصورهن وافتتنوا بهن.
3) كثر الاختلاط بين الجنسين في كثير من مجالات الأعمال، مما أدى إلى حصول الفتنة بالنساء التي حذَّر منها النبي - صلى الله عليه وسلم - .
والحاصل أن الحديث لا يفهم من ظاهره الاستهانة بحق المرأة، وحاشا كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يشتمل على مثل هذا، كيف والإسلام رفع شأن المرأة وأعلى مكانها، فهي الأم والبنت والأخت والزوجة، والنساء شقائق الرجال كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - (2) ، ولكن الحديث حذَّر الرجال أن يحملهم ما يجدونه من المحبة والميل إلى المرأة في الوقوع فيما حرم الله، وهو متضمن تحذير المرأة من إظهار زينتها للرجال الأجانب فتكون سبباً في فتنتهم.
__________
(1) - سورة الأحزاب الآية: 33
(2) - أخرجه أبو داود ح (237) والترمذي ح (113) من حديث عائشة -رضي الله عنها-(1/334)
وقد سمى الله سبحانه الأولاد والأموال فتنة، لأن هذه الأشياء محبوبة للنفس، فإذا أدت إلى الوقوع فيما حرم الله أو ترك ما أوجب الله تكون فتنة، قال سبحانه وتعالى: { إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ... } (1) ، وقال سبحانه: { قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } (2)
هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
- - - - - -
حديث: قصة الأعمى الذي قتل جاريته التي سبت النبي - صلى الله عليه وسلم -
شخص نصراني يصر على أن الإسلام يعلِّم العنف، واستند إلى حديث الرجل الأعمى الذي قتل أم ولد كانت عنده؛ لأنها كانت تقع في النبي - صلى الله عليه وسلم - فأهدر النبي - صلى الله عليه وسلم - دمها، أرجو التكرم بشرح الحديث؟ وما دلالة هذا الحديث على ما يقول الرجل النصراني؟.
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
__________
(1) - سورة التغابن الآية: 15
(2) - سورة التوبة: 24(1/335)
الحديث المشار إليه في السؤال أخرجه أبو داود (4361) والنسائي ( 7 / 107 ) من طريق إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ قَال:َ حَدَّثَنِي إِسْرَائِيلُ عَنْ عُثْمَانَ الشَّحَّامِ عن عِكْرِمَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما- أَنَّ أَعْمَى كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَكَانَتْ لَهُ أُمُّ وَلَدٍ وَكَانَ لَهُ مِنْهَا ابْنَانِ وَكَانَتْ تُكْثِرُ الْوَقِيعَةَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَتَسُبُّهُ فَيَزْجُرُهَا فَلَا تَنْزَجِرُ وَيَنْهَاهَا فَلَا تَنْتَهِي، فَلَمَّا كَانَ ذَاتَ لَيْلَةٍ ذَكَرْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَوَقَعَتْ فِيهِ فَلَمْ أَصْبِرْ أَنْ قُمْتُ إِلَى الْمِغْوَلِ فَوَضَعْتُهُ فِي بَطْنِهَا فَاتَّكَأْتُ عَلَيْهِ فَقَتَلْتُهَا فَأَصْبَحَتْ قَتِيلًا فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَجَمَعَ النَّاس،َ وَقَالَ أَنْشُدُ اللَّهَ رَجُلًا لِي عَلَيْهِ حَقٌّ فَعَلَ مَا فَعَلَ إِلَّا قَامَ فَأَقْبَلَ الْأَعْمَى يَتَدَلْدَلُ. فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا صَاحِبُهَا كَانَتْ أُمَّ وَلَدِي، وَكَانَتْ بِي لَطِيفَةً رَفِيقَة،ً وَلِي مِنْهَا ابْنَانِ مِثْلُ اللُّؤْلُؤَتَيْنِ، وَلَكِنَّهَا كَانَتْ تُكْثِرُ الْوَقِيعَةَ فِيكَ وَتَشْتُمُكَ، فَأَنْهَاهَا فَلَا تَنْتَهِي، وَأَزْجُرُهَا فَلَا تَنْزَجِرُ، فَلَمَّا كَانَتْ الْبَارِحَةُ ذَكَرْتُكَ فَوَقَعَتْ فِيكَ، فَقُمْتُ إِلَى الْمِغْوَلِ فَوَضَعْتُهُ فِي بَطْنِهَا فَاتَّكَأْتُ عَلَيْهَا حَتَّى قَتَلْتُهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " أَلَا اشْهَدُوا أَنَّ دَمَهَا هَدَرٌ"، ورجال إسناد هذا الحديث ثقات، وقد أخرجه الحاكم في المستدرك ( 4 / 394 )، من طريق إسرائيل به وقال: " هذا حديث صحيح الإسناد على شرط مسلم ولم يخرجاه .(1/336)
" ، وهذه القصة يمكن أن تكون هي التي جاء ذكرها مختصرة فيما رواه الشعبي عن علي - رضي الله عنه - : أن يهودية كانت تشتم النبي - صلى الله عليه وسلم - وتقع فيه ، فخنقها رجلٌ حتى ماتت، فأبطل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دمها . (1) ، وفي رواية عن الشعبي قال: " كان رجل من المسلمين - يعني أعمى - يأوي إلى امرأة يهودية، فكانت تطعمه وتحسن إليه، فكانت لا تزال تشتم النبي - صلى الله عليه وسلم - وتؤذيه، فلما كان ليلة من الليالي خنقها فماتت، فلما أصبح ذُكِرَ ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، فنشد الناس في أمرها، فقام الأعمى فذكر أمرها فأبطل النبي - صلى الله عليه وسلم - دمها .
وقوله في الحديث: أم ولد: يحتمل أن تكون زوجة له أو مملوكة، والظاهر أنها كانت كافرة، وكان لها العهد بملك المسلم إياها أو بتزوجه بها، فإن أزواج المسلمين من أهل الكتاب لهم حكم أهل الذمة بالعصمة، ويبعد أن تكون مسلمة؛ لأن مثل هذا السب الدائم لا يفعله مسلم إلا عن ردة.
__________
(1) - أخرجه أبو داود ح ( 4362)(1/337)
"يزجرها": أي يمنعها ، " فلا تنزجر ": أي فلا تمتنع، "المِغْوَل": بالغين المعجمة: سيف قصير يشتمل به الرجل تحت ثيابه فيغطيه، وقيل: حديدة لها حد ماض، وفي رواية: "معول" وهي: آلة حديدية تستعمل للحفر في الأرض أو الجبل فاتكأ عليها: أي تحامل عليها، " أنشد الله رجلاً " : أي أسأله بالله وأقسم عليه، " يتدلدل ": أي يضطرب في مشيه، " دمها هدر " : الهدر الذي لا يضمن بقصاص ولا دية ولا كفارة، وقد استُدِلَ بهذا الحديث أن الذمي يقتل إذا سب الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وينتقض عهده بذلك حيث أهدر النبي - صلى الله عليه وسلم - دم هذه المرأة وأبطله، ويظهر أن هذه المرأة كانت ذمية ، وكانت تكثر الوقيعة بالرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وكانت أم ولد لهذا الرجل الأعمى فينهاها ويزجرها فلا تنتهي ولا تنزجر فعند ذلك قتلها، قال ابن تيمية: " وهذه المرأة إما أن تكون زوجة لهذا الرجل أو مملوكة له، وعلى التقديرين فلو لم يكن قتلها جائزاً لبيَّن النبي - صلى الله عليه وسلم - له أن قتلها كان محرماً، وأن دمها كان معصوماً ..... فلما قال: " اشهدوا أن دمها هدر"، والهدر الذي لا يضمن ولا دية ولا كفارة علم أنه كان مباحاً مع كونها ذمية، فعلم أن السب أباح دمها ، لاسيما والنبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أهدر دمها عقب إخباره بأنها قُتلت لأجل السب، فعلم أنه الموجب لذلك، والقصة ظاهرة الدلالة في ذلك . " (1)
قال السندي: " وفيه دليل على أن الذمي إذا لم يكف لسانه عن الله ورسوله فلا ذمة له فيحل قتله والله أعلم. "
وقد نقل غير واحد من أهل العلم الإجماع أن ساب الرسول - صلى الله عليه وسلم - إن كان مسلماً فإنه يكفر ويقتل بغير خلاف، وهو مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم ، وإن كان ذميًّا فإنه يُقتل أيضاً في مذهب مالك وأهل المدينة، وهو مذهب أحمد وفقهاء الحديث .
__________
(1) - مجموع الفتاوى ( 1/73 )(1/338)
قال حنبل: سمعت أبا عبد الله يقول: كل من شتم الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو تنقصه - مسلماً كان أو كافراً - فعليه القتل ، وأرى أن يقتل ولا يستتاب، وقال: سمعت أبا عبد الله يقول: كل من نقض العهد وأحدث في الإسلام حدثاً مثل هذا رأيت عليه القتل، ليس على هذا أعطوا العهد والذمة، وكذلك قال أبو الصفراء : سألت أبا عبد الله عن رجل من أهل الذمة شتم الرسول - صلى الله عليه وسلم - ماذا عليه ؟ قال: إذا قامت البينة عليه يقتل من شتم النبي - صلى الله عليه وسلم - مسلماً كان أو كافراً، وقال في رواية عبد الله وأبي طالب، وقد سئل عن شتم النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يقتل، قيل له: فيه أحاديث ؟ قال: نعم أحاديث كثيرة منها: حديث الأعمى الذي قتل المرأة، قال: سمعتها تشتم النبي - صلى الله عليه وسلم - .(1/339)
ومن خلال ما سبق يتبين أن هذه المرأة التي سبت الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأكثرت الوقيعة فيه قد نقضت عهدها وأصبحت غير معصومة الدم فحل قتلها، وأما كون هذا الرجل هو الذي باشر قتلها؛ فهي إن كانت مملوكة له فقد جاء ما يدل على أن السيد له أن يقيم الحد على أرقائه كما جاء في الحديث: " أَقِيمُوا الْحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ " (1) ، وفي صحيح مسلم خَطَبَ عَلِيٌّ - رضي الله عنه - فَقَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَقِيمُوا عَلَى أَرِقَّائِكُمْ الْحَدَّ مَنْ أَحْصَنَ مِنْهُمْ وَمَنْ لَمْ يُحْصِنْ ... " (2) ، وإن كانت زوجة ذمية فيكون هذا الرجل قد حملته غيرته الدينية على قتلها، حيث لم يصبر لما أكثرت من سب الرسول والوقيعة فيه - صلى الله عليه وسلم - وهو ينهاها ويزجرها فلم تستجب ، ولما علم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بذلك جمع الناس، وبحث عن قاتلها حتى أخبره هذا الرجل بما حدث وصدقه الرسول - صلى الله عليه وسلم - بما قال، والرسول - صلى الله عليه وسلم - ليس كغيره فهو مؤيدٌ بالوحي من الله، والحاصل أن هذه القصة ليس فيها ما يدل على العنف، بل إن هذه المرأة فعلت ما يوجب القتل؛ لأن سب الرسول - صلى الله عليه وسلم - معناه الاستخفاف والاستهانة به وتكذيب ما جاء به....؛ فإن صدر من مسلم فهو كفر وردة ، وإن صدر من ذمي فهو نقض للعهد .
__________
(1) - أخرجه أحمد ح ( 698 )
(2) - أخرجه مسلم ح ( 1705 )(1/340)
يقول ابن تيمية : " إن سب النبي - صلى الله عليه وسلم - تعلق به عدة حقوق: حق الله سبحانه من حيث كَفَرَ برسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وعادى أفضل أوليائه وبارزه بالمحاربة، ومن حيث طعن في كتابه ودينه فإن صحتهما موقوفةٌ على صحة الرسالة، ومن حيث طعن في ألوهيته فإن الطعن في الرسول - صلى الله عليه وسلم - طعن في المرسِلِ وتكذيبه تكذيبٌ لله تبارك وتعالى وإنكار لكلامه وأمره وخبره وكثير من صفاته، وتعلق به حق جميع المؤمنين من هذه الأمة، ومن غيرها من الأمم فإن جميع المؤمنين مؤمنون به خصوصاً أمته فإن قيام أمر دنياهم ودينهم وآخرتهم به بل عامة الخير الذي يصيبهم في الدنيا والآخرة بواسطته وسفارته، فالسب له أعظم عندهم من سب أنفسهم وآبائهم وأبنائهم وسب جميعهم، كما أنه أحب إليهم من أنفسهم وأولادهم وآبائهم والناس أجمعين، وتعلق به حق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حيث خصوص نفسه، فإن الإنسان تؤذيه الوقيعة في عرضه أكثر مما يؤذيه أخذ ماله، وأكثر مما يؤذيه الضرب بل ربما كانت عنده أعظم من الجرح ونحوه، خصوصاً من يجب عليه أن يظهر للناس كمال عرضه وعُلو قدره لينتفعوا بذلك في الدنيا والآخرة، فإن هتك عرضه قد يكون أعظم عنده من قتله، فإن قتله لا يقدح عند الناس في نبوته ورسالته وعلو قدره، كما أن موته لا يقدح في ذلك بخلاف الوقيعة في عِرْضِه فإنها قد تؤثر في نفوس بعض الناس من النُّفرة عنه وسوء الظن به ما يفسد عليهم إيمانهم ويوجب لهم خسارة الدنيا والآخرة . (1)
__________
(1) - الصارم المسلول ص ( 300 )(1/341)
والأصل أن إقامة الحدود والقصاص والجنايات إلى السلطان؛ فقد كانت الحوادث ترفع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم إلى خلفائه من بعده، وما وقع في هذه الحادثة من النوادر، والمتأمل بعين الإنصاف والبعد عن الهوى والمقاصد السيئة في تشريعات الإسلام وأحكامه يجد أنها مبنية على الرحمة والعدل والإحسان والرفق، قال الله - عز وجل-: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } (1) ، وقال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ والإحسان وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ } (2) ، وجاءت الشريعة بحفظ الأنفس والأموال والأعراض والوفاء بالعهود والمواثيق، ففي حجة الوداع قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أَلَا إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، وَكَحُرْمَةِ شَهْرِكُمْ هَذَا، وَكَحُرْمَةِ بَلَدِكُمْ هَذَا " (3) ، وفي بعض غزوات النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى امرأة مقتولة فَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ.
__________
(1) - سورة الأنبياء الآية: 107
(2) - سورة النحل الآية: 90
(3) - أخرجه أحمد ح (18198)(1/342)
(1) ، وأخرج البخاري من حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا " (2) وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتألف أهل الكتاب ولا يقابل إساءتهم بالعقوبة؛ فعن أنس - رضي الله عنه - قال مَرَّ يَهُودِيٌّ بِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: السَّامُ عَلَيْكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : وَعَلَيْكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : أَتَدْرُونَ مَا يَقُولُ؟ قَالَ: السَّامُ عَلَيْكَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا نَقْتُلُهُ قَالَ: لَا إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَقُولُوا وَعَلَيْكُمْ .
__________
(1) - أخرجه البخاري ح (3015)، ومسلم ح (1744)
(2) - أخرجه البخاري ح ( 3166 )(1/343)
(1) ، وفي الصحيحين من حديث عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: دَخَلَ رَهْطٌ مِنْ الْيَهُودِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالُوا السَّامُ عَلَيْكُمْ، قَالَتْ عَائِشَةُ - رضي الله عنها-: فَفَهِمْتُهَا فَقُلْتُ: وَعَلَيْكُمْ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " مَهْلًا يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ"، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا ؟ قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " قَدْ قُلْتُ وَعَلَيْكُمْ " (2) ، والسام: هو الدعاء بالموت، وقد تركهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يعاقبهم لمصلحة تأليفهم، ولأن هذا القول منهم ليس بصريحٍ في السب بل هو دعاء بالموت الذي لا بد منه والله أعلم .
وإن كان بعض العلماء استدل بحديث أنس وعائشة -رضي الله عنهما- على أن أهل الذمة لا يقتلون بمجرد السب للنبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأن ما هم فيه من الكفر أعظم، وهو قول الكوفيين وأبي حنيفة والثوري ، ولعلهم لا يرون صحة ما جاء في حديث الأعمى لاسيما وأن مداره على عثمان الشحام وهو وإن كان بعض الأئمة وثقه، فقد تكلم فيه يحيى بن سعيد القطان، فقال: عثمان الشحام تعرف وتنكر ولم يكن عندي بذاك، وقال النسائي: ليس بالقوي.
والله أعلم، هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
- - - - - -
طلب التنقية من الذنوب بالبارد دون الحار
في الحديث: "اللهم أغسلني من خطاياي بالثلج والماء والبرد"، والمعروف أن الماء الساخن أكثر تنظيفاً من الماء البارد فلم ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - الماء البارد ولم يذكر الساخن؟.
الجواب:
الحمد لله والصلاة السلام على رسول الله وآله وبعد:
__________
(1) - أخرجه البخاري ح ( 6926 )
(2) - أخرجه البخاري ح (6024)، ومسلم ح (2165)(1/344)
هذا الدعاء ورد في افتتاح الصلاة، يقال بعد التكبير وقبل القراءة، أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا كَبَّرَ فِي الصَّلَاةِ سَكَتَ هُنَيَّةً قَبْلَ أَنْ يَقْرَأَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي أَرَأَيْتَ سُكُوتَكَ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ مَا تَقُولُ ؟ قَالَ: أَقُولُ اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنْ خَطَايَايَ كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنْ الدَّنَسِ اللَّهُمَّ اغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ بِالثَّلْجِ وَالْمَاءِ وَالْبَرَدِ " (1) ، وقد ذُكر الثلج والبرد بعد الماء - والله أعلم - إشارة إلى حرارة الخطايا والذنوب والحاجة إلى إطفائها بالغسل فذكر الماء ثم عطف عليه ما هو أبلغ في مقابلة الحرارة وهو الثلج والبرد، قال ابن القيم: " وفي هذا الحديث من الفقه أن الداء يداوى بضده فإن في الخطايا من الحرارة والحريق ما يضاده الثلج والبرد والماء البارد، ولا يقال إن الماء الحار أبلغ في إزالة الأوساخ؛ لأن في الماء البارد من تصلب الجسم وتقويته ما ليس في الحار، والخطايا توجب أثرين: التدنيس والإرخاء، فالمطلوب مداواتها بما ينظف القلب ويصلبه، فذكر الماء البارد، والثلج والبرد إشارة إلى هذين الأمرين " (2)
هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
- - - - - -
أحاديث النهي عن الشتم
هل هناك أحاديث أو أقوال من الصحابة - رضي الله عنهم - تنهى عن الشتم باستخدام ألفاظ نابية؟.
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
ورد في النهي عن الشتم والسباب أحاديث كثيرة، ومن ذلك ما يأتي:
__________
(1) - أخرجه البخاري ح (744) ، ومسلم ح ( 598 )
(2) - زاد المعاد ( 4/293 )(1/345)
1- أخرج البخاري ومسلم عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ " (1) قَوْله: " سِبَاب" هُوَ بِكَسْرِ السِّين وَتَخْفِيف الْمُوَحَّدَة, وَهُوَ مَصْدَر يُقَال: سَبَّ يَسُبّ سَبًّا وَسِبَابًا، والسِّبَاب أَشَدّ مِنْ السَّبّ, وَهُوَ أَنْ يَقُول الرَّجُل مَا فِي الرجل وَمَا لَيْسَ فِيهِ يُرِيد بِذَلِكَ عَيْبه.
قَوْله : " فُسُوق ": الْفِسْق فِي اللُّغَة الْخُرُوج, وَفِي الشَّرْع: الْخُرُوج عَنْ طَاعَة اللَّه وَرَسُوله, وَهُوَ فِي عُرْف الشَّرْع أَشَدّ مِنْ الْعِصْيَان, قَالَ اللَّه تَعَالَى { وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْر وَالْفُسُوق وَالْعِصْيَان } (2) , فَفِي الْحَدِيث تَعْظِيم حَقّ الْمُسْلِم وَالْحُكْم عَلَى مَنْ سَبَّهُ بِغَيْرِ حَقّ بِالْفِسْقِ.
__________
(1) - أخرج البخاري ح (48) ، ومسلم ح (64)
(2) - سورة الحجرات الآية: 7(1/346)
2- وفي الصحيحين من حديث الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ قَالَ: لَقِيتُ أَبَا ذَرٍّ - رضي الله عنه - فَقَالَ: إِنِّي سَابَبْتُ رَجُلًا فَعَيَّرْتُهُ بِأُمِّهِ فَقَالَ لِي النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : يَا أَبَا ذَرٍّ أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ......" (1) قَوْله: " سَابَبْت " فِي رِوَايَة " شَاتَمْت " وَفِي أخرى " كَانَ بَيْنِي وَبَيْن رَجُل كَلَام " وَزَادَ مُسْلِم " مِنْ إِخْوَانِي " وَقِيلَ : إِنَّ الرَّجُل الْمَذْكُور هُوَ بِلَال الْمُؤَذِّن مَوْلَى أَبِي بَكْر -رضي الله عنهما-, وَمَعْنَى "سَابَبْت" وَقَعَ بَيْنِي وَبَيْنه سِبَاب بِالتَّخْفِيفِ قَوْله: " فَعَيَّرْته بِأُمِّهِ" أَيْ : نَسَبْته إِلَى الْعَار , وفِي رواية: " وَكَانَتْ أُمّه أَعْجَمِيَّة فَنِلْت مِنْهَا " وَفِي رِوَايَة أخرى: " قُلْت لَهُ يَا اِبْن السَّوْدَاء "قَولَه : " إِنَّك اِمْرُؤٌ فِيك جَاهِلِيَّة" أَيْ: خَصْلَة مِنْ خِصَال الْجَاهِلِيَّة.
3- وأخرج البخاري من حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - قَالَ: " لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - سَبَّابًا وَلَا فَحَّاشًا وَلَا لَعَّانًا" (2)
4- وأخرج الترمذي من حديث عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ وَلا اللَّعَّانِ وَلَا الْفَاحِشِ وَلَا الْبَذِيءِ" (3) قَوْلُهُ: " لَيْسَ الْمُؤْمِنُ " أَيْ الْكَامِلُ "بِالطَّعَّانِ " أَيْ عَيَّابًا النَّاسَ " وَلا الْفَاحِشِ " أَيْ فَاعِلِ الْفُحْشِ أَوْ قَائِلِهِ، ويدخل في ذلك الشتم القبيح الذي يقبح ذكره " وَلَا الْبَذِيِّ ": وَهُوَ الَّذِي لا حَيَاء لَهُ.
__________
(1) - أخرجه البخاري ح (30)، ومسلم ح (1661)
(2) - أخرجه البخاري ح (6031)
(3) - أخرجه الترمذي ح (1900)(1/347)
5- وأخرجه مسلم من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: أَتَدْرُونَ من الْمُفْلِسُ ؟ قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : الْمُفْلِسُ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاتِهِ وَصِيَامِهِ وَزَكَاتِهِ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا فَيَقْعُدُ فَيَقْتَصُّ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْتَصَّ مَا عَلَيْهِ مِنْ الْخَطَايَا أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ" (1)
6- وأخرج مسلم من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " الْمُسْتَبَّانِ مَا قَالَا فَعَلَى الْبَادِئِ مَا لَمْ يَعْتَدِ الْمَظْلُومُ " (2) ، قَوْله: " الْمُسْتَبَّانِ مَا قَالَا فَعَلَى الْبَادِئ مَا لَمْ يَعْتَدِ الْمَظْلُوم " مَعْنَاهُ أَنَّ إِثْم السِّبَاب الْوَاقِع مِنْ اِثْنَيْنِ مُخْتَصّ بِالْبَادِئِ مِنْهُمَا كُلّه إِلَّا أَنْ يَتَجَاوَز الثَّانِي قَدْر الِانْتِصَار , فَيَقُول لِلْبَادِئِ أَكْثَر مِمَّا قَالَ لَهُ.
__________
(1) - أخرجه مسلم ح (2581)
(2) - أخرجه مسلم ح (2587)(1/348)
7- وأخرج الإمام أحمد من حديث أَبُي جَبِيرَةَ بْنُ الضَّحَّاكِ قَالَ: فِينَا نَزَلَتْ فِي بَنِي سَلِمَةَ { وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ } قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْمَدِينَةَ وَلَيْسَ مِنَّا رَجُلٌ إِلَّا وَلَهُ اسْمَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ فَكَانَ إِذَا دُعِيَ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِاسْمٍ مِنْ تِلْكَ الْأَسْمَاءِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ يَغْضَبُ مِنْ هَذَا قَالَ فَنَزَلَتْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ (1) ، ووردت آثار في النهي عن السب والشتم والتنابز بالألقاب ومن ذلك ما يأتي:
1- أخرج ابن جرير عن ابن عباس - رضي الله عنهما- { وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ } (2) قال: التنابز بالألقاب أن يكون الرجل عمل السيئات ثم تاب منها وراجع الحق فنهى الله أن يعير بما سلف من عمله .
2- وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن مسعود - رضي الله عنه - { وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ } قال: أن يقول إذا كان الرجل يهودياً فأسلم يا يهودي يا نصراني يا مجوسي ويقول للرجل المسلم يا فاسق .
3- أخرج ابن المنذر عن عطاء في قوله تعالى: { وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ } قال: أن يسميه بغير اسم الإسلام، يا خنزير، يا حمار ، يا كلب.
4- وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة { وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ } قال: لا تقل لأخيك المسلم يا فاسق يا منافق. (3)
هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
- - - - - -
الحديث الوارد في النهي عن الزواج من العقيم
أرجو الاستفسار عن شرح هذين الحديثين:
__________
(1) - أخرجه أحمد ح (17572)، ورجال إسناد الإمام أحمد ثقات، لكن اختلف في أبي جبيرة بن الضحاك هل له صحبة، أوليس له صحبة.
(2) - سورة الحجرات الآية: 11
(3) - ينظر: الدر المنثور ( 7/564)(1/349)
* الأول وهو موجود في رواية كل من الإمامين أبي داود والنسائي ومعنى الحديث أن رجل أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال له لقد أصبت امرأة ذات مال وجمال وأنها لا تلد أفأتزوجها ؟ فقال له الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا ثم أتاه في المرة الثانية فنهاه ثم في الثالثة قال له تزوجوا الودود الولود فاني مكاثر بكم .
لماذا قال له الرسول الكريم لا تتزوجها وهل في ذلك نهى عن عدم الزواج ومن من لا تلد.
* الحديث الثاني : " إذا سبق ماء الرجل ماء المرأة أذكر بإذن الله وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل أناث بإذن الله".
وتفسير هذه الآية "فخلق منه الزوجين الذكر والأنثى"
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
الحديث الأول: أخرجه أبو داود ح ( 2050 ) ، والنسائي في الكبرى ح ( 5342 )، وابن حبان ح ( 4056 )، والحاكم في المستدرك ح ( 2685 ) وقال حديث : حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، والبيهقي في السنن ح ( 13253 ) من طرق عن يزيد بن هارون أخبرنا المستلم بن سعيد عن منصور بن زاذان عن معاوية بن قرة عن مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ - رضي الله عنه - قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ إِنِّي أَصَبْتُ امْرَأَةً ذَاتَ حَسَبٍ وَجَمَالٍ وَإِنَّهَا لَا تَلِدُ أَفَأَتَزَوَّجُهَا قَالَ لَا ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ فَنَهَاهُ ثُمَّ أَتَاهُ الثَّالِثَةَ فَقَالَ تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمْ الْأُمَمَ " واللفظ لأبي داود ، وهذا إسناد قوي وله شاهد عند الإمام أحمد من حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَأْمُرُ بِالْبَاءَةِ وَيَنْهَى عَنْ التَّبَتُّلِ نَهْيًا شَدِيدًا وَيَقُولُ تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ إِنِّي مُكَاثِرٌ الْأَنْبِيَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ . " (1)
__________
(1) - أخرجه أحمد ح ( 12152 )(1/350)
والحديث يدل على كراهية تزوج العقيم التي لا تلد ، لأن الزواج بها لا يحقق ما قصده النبي - صلى الله عليه وسلم - من كثرة نسل هذه الأمة الذي يحصل بها مباهاة الأنبياء يوم القيامة ، ثم إن الولد مما ينتفع به والده سواء عاش بعده أو قبض في حياة والده ، ففي صحيح مسلم من حديث أَبِي حَسَّانَ قَالَ قُلْتُ لِأَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّهُ قَدْ مَاتَ لِيَ ابْنَانِ فَمَا أَنْتَ مُحَدِّثِي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِحَدِيثٍ تُطَيِّبُ بِهِ أَنْفُسَنَا عَنْ مَوْتَانَا قَالَ قَالَ نَعَمْ صِغَارُهُمْ دَعَامِيصُ الْجَنَّةِ يَتَلَقَّى أَحَدُهُمْ أَبَاهُ أَوْ قَالَ أَبَوَيْهِ فَيَأْخُذُ بِثَوْبِهِ أَوْ قَالَ بِيَدِهِ كَمَا آخُذُ أَنَا بِصَنِفَةِ ثَوْبِكَ هَذَا فَلَا يَتَنَاهَى أَوْ قَالَ فَلَا يَنْتَهِي حَتَّى يُدْخِلَهُ اللَّهُ وَأَبَاهُ الْجَنَّةَ " (1) والدعاميص : أي صغار أهلها .
وفي الصحيحين من حديث أَبِي سَعِيدٍ - رضي الله عنه - أَنَّ النِّسَاءَ قُلْنَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - اجْعَلْ لَنَا يَوْمًا فَوَعَظَهُنَّ وَقَالَ: أَيُّمَا امْرَأَةٍ مَاتَ لَهَا ثَلَاثَةٌ مِنْ الْوَلَدِ كَانُوا حِجَابًا مِنْ النَّارِ قَالَتْ امْرَأَةٌ وَاثْنَانِ قَالَ وَاثْنَانِ . (2)
وروى مسلم من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ " (3)
__________
(1) - أخرجه مسلم ح (2635)
(2) - أخرجه البخاري ح (1250) ومسلم ح (2634)
(3) - أخرجه مسلم ح (1631)(1/351)
الحديث الثاني : أخرجه مسلم ح ( 315 ) من حديث ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ كُنْتُ قَائِمًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَجَاءَ حِبْرٌ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ ،.... وفيه: جِئْتُ أَسْأَلُكَ عَنْ الْوَلَدِ قَالَ: مَاءُ الرَّجُلِ أَبْيَضُ وَمَاءُ الْمَرْأَةِ أَصْفَرُ فَإِذَا اجْتَمَعَا فَعَلَا مَنِيُّ الرَّجُلِ مَنِيَّ الْمَرْأَةِ أَذْكَرَا بِإِذْنِ اللَّهِ وَإِذَا عَلَا مَنِيُّ الْمَرْأَةِ مَنِيَّ الرَّجُلِ آنَثَا بِإِذْنِ اللَّهِ قَالَ الْيَهُودِيُّ لَقَدْ صَدَقْتَ وَإِنَّكَ لَنَبِيٌّ ثُمَّ انْصَرَفَ ..... "
وفي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - هَلْ تَغْتَسِلُ الْمَرْأَةُ إِذَا احْتَلَمَتْ وَأَبْصَرَتْ الْمَاءَ فَقَالَ نَعَمْ فَقَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ تَرِبَتْ يَدَاكِ وَأُلَّتْ قَالَتْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - دَعِيهَا وَهَلْ يَكُونُ الشَّبَهُ إِلَّا مِنْ قِبَلِ ذَلِكِ إِذَا عَلَا مَاؤُهَا مَاءَ الرَّجُلِ أَشْبَهَ الْوَلَدُ أَخْوَالَهُ وَإِذَا عَلَا مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَهَا أَشْبَهَ أَعْمَامَهُ. (1)
__________
(1) - أخرجه البخاري ح ( 130 ) ومسلم ح ( 314 )، واللفظ له .(1/352)
وأخرج مسلم من حديث حَدَّثَنَا أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ حَدَّثَتْ أَنَّهَا سَأَلَتْ نَبِيَّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الْمَرْأَةِ تَرَى فِي مَنَامِهَا مَا يَرَى الرَّجُلُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِذَا رَأَتْ ذَلِكِ الْمَرْأَةُ فَلْتَغْتَسِلْ فَقَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ وَاسْتَحْيَيْتُ مِنْ ذَلِكَ قَالَتْ وَهَلْ يَكُونُ هَذَا فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَعَمْ فَمِنْ أَيْنَ يَكُونُ الشَّبَهُ إِنَّ مَاءَ الرَّجُلِ غَلِيظٌ أَبْيَضُ وَمَاءَ الْمَرْأَةِ رَقِيقٌ أَصْفَرُ فَمِنْ أَيِّهِمَا عَلَا أَوْ سَبَقَ يَكُونُ مِنْهُ الشَّبَهُ . (1)
وهذه الأحاديث تدل على أن الحنين يخلق من ماء الرجل وماء المرأة ، وهذا موافق لقوله تعالى : { فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ } قال أهل اللغة : التريبة موضع القلادة من الصدر ، والجمع ترائب . وقال عطاء وابن عباس : يريد صلب الرجل ، وترائب المرأة : وهو موضع قلادتها ، وهذا قول جمهور أهل التفسير .
وأما قوله تعالى: { وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى } فمعنى الآية : أن الله سبحانه وتعالى هو الذي خلق الزوجين الذكر والأنثى ، من نطفة تتدفق من الرجل إلى رحم الأنثى فتلتقي ببويضة الأنثى ، فيكون منهما الإنسان - بإذن الله - كما تقدم في الأدلة السابقة . (2)
هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل
- - - - - -
دعاء ينال به حب الله
__________
(1) - أخرجه مسلم ح ( 311 )
(2) - ينظر: ما كتبه الحافظ ابن القيم عن هذه الأحاديث في تحفة المولود ( ص: 193- 199 ) ، الطرق الحكمية ( ص: 229- 231 )(1/353)
أرجو منكم أن تخبروني هل يوجد دعاء أدعو به لكي يحبني الله والناس. كثير من الناس من حولي يكرهونني من مثل زوجتي وأقاربها، ولم أتمكن من كسب ودهم.
وجزاكم الله خيرا .
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
أوصي السائل بتقوى الله وطاعته والإكثار من الأعمال الصالحة ، فإن كثرة الأعمال الصالحة مع الإخلاص وحسن المتابعة للنبي - صلى الله عليه وسلم - تقرب إلى الله تعالى وتورث محبته ، ففي الحديث القدسي : " مَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ.... " (1) ، وإذا أحب الله العبد وضع له المحبة والقبول عند الناس ، ففي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَبْدَ نَادَى جِبْرِيلَ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحْبِبْهُ فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ فَيُنَادِي جِبْرِيلُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ " (2) ، وقال الله سبحانه وتعالى: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً } (3)
وأوصي الأخ الكريم بالتخلق بالأخلاق الكريمة وحسن معاملة الناس والإحسان إليهم ، فهذا كله يزرع المودة والمحبة في قلوب الناس .
__________
(1) - أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة ح ( 6502 )
(2) - أخرجه البخاري ح ( 3209 ) ومسلم ح (2673)
(3) - سورة مريم الآية: 96(1/354)
هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل .
- - - - - -
رؤية الأخ أخاه في الجنة
هل يرى الأخ أخيه في الجنة؟.
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
أخبر الله في كتابه أن أهل الجنة يتحدثون فيما بينهم، ويسأل بعضهم بعضاً عن أحوال كانت في الدنيا فقال تعالى: { فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ*قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ*يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ*أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَدِينُونَ*قَالَ هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ*فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاء الْجَحِيمِ*قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدتَّ لَتُرْدِينِ*وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ } (1) ، قال ابن كثير: " يخبر الله عن أهل الجنة أنه أقبل بعضهم على بعض يتساءلون أي عن أحوالهم وكيف كانوا في الدنيا، وماذا كانوا يعانون فيها ، وذلك من حديثهم على شرابهم واجتماعهم في تنادمهم ومعاشرتهم في مجالسهم وهم جلوس على السرر والخدم بين أيديهم يسعون ويجيئون بكل خير عظيم من مآكل ومشارب وملابس وغير ذلك مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر " (2) ، وقال سبحانه وتعالى: { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ } (3) ، فذكر الله في هذه الآية أنه يمن على الذرية المؤمنة بأن يجمعهم في الجنة، وذلك برفع منزلة الأبناء التي قصرت إلى منزلة الآباء ، وهذا تفضل منه وتكرم.
__________
(1) - سورة الصافات:50-57
(2) - تفسير ابن كثير ( 6/12 )
(3) - سورة الطور الآية: 21(1/355)
قال ابن عباس - رضي الله عنهما- في قوله تعالى: { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } ، قال: " هم ذرية المؤمن يموتون على الإيمان فإن كانت منازل آبائهم أرفع من منازلهم ألحقوا بآبائهم، ولم ينقصوا من أعمالهم التي عملوها شيئاً " (1) ، وأخرج أبو نعيم عن حميد بن هلال قال: " بلغنا أن أهل الجنة يزور الأعلى الأسفل....." وقد ورد في تزاور أهل الجنة أحاديث ضعيفة، ذكرها أبو نعيم في كتاب " صفة الجنة " (2) ، والحافظ ابن القيم في كتابه " حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح " (3)
هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل ...
- - - - - -
هل أحب النبي - صلى الله عليه وسلم - اللون الأخضر؟
هل صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفضل أو يحب اللون الأخضر؟ وجزاكم الله خيراً
الجواب:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
__________
(1) - ينظر: تفسير ابن كثير ( /433 )
(2) - ص ( 258 - 260 )
(3) - ص ( 332 - 336 )(1/356)
ورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يلبس الأخضر من الثياب ، ففي حديث أبي رمثة - صلى الله عليه وسلم - قال: " رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ وَعَلَيْهِ بُرْدَانِ أَخْضَرَانِ" (1) ، وفي حديث يعلى بن أمية - رضي الله عنه - : " طَافَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مُضْطَبِعًا بِبُرْدٍ أَخْضَرَ " (2) ، لكن يظهر أن هذه الثياب ليست خضراً خالصاً، وإنما مخطوطة بخطوط خضر؛ لأن البرود تكون ذوات خطوط، قال ابن القيم: " والبرد الأخضر هو الذي يكون فيه خطوط خضر" (3) ، وبوب البخاري في الصحيح بقوله: باب: الثياب الخضر، وذكر حديثاً فيه: أن عائشة- رضي الله عنها- عليها خمار أخضر. (4) ، وقال ابن بطال: " الثياب الخضر من لباس أهل الجنة" وكفى بذلك شرفاً لها. يشير بذلك إلى قوله تعالى : { وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً } (5) (6)
وقال الشوكاني: "يستحب لبس الأخضر؛ لأنه لباس أهل الجنة وهو أيضاً من أنفع الألوان للأبصار، ومن أجملها في أعين الناظرين". (7)
هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
- - - - - -
كيف أكون جاراً للنبي - صلى الله عليه وسلم - في الجنة؟
__________
(1) - أخرجه أحمد (7117 ) بإسناد صحيح، وأخرجه أبو داود، ( 3674 )، والترمذي (2737)، وقال: هذا حديث حسن غريب، والنسائي ( 1554)
(2) - أخرجه أحمد (17492) وأبو داود (1883) والترمذي (859) وابن ماجة (2954)، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح
(3) - زاد المعاد ( 1/137 )
(4) - البخاري مع الفتح ( 10/282 )
(5) - سورة الكهف الآية: 30
(6) - شرح ابن بطال لصحيح البخاري ( 9/102 )
(7) - نيل الأوطار ( 3/66 )(1/357)
عندي سؤال سبب لي توتراً؛ لأنني أحصل على إجابات مختلفة من المشايخ، ولم أعد أعرف ما هو الجواب الصحيح؟ والسؤال هو: ماذا يفعل المرء ليكون جاراً للنبي - صلى الله عليه وسلم - في الجنة؟ أي في جنة الفردوس؟ البعض يقول بإعالة يتيم والبعض بفعل الصالحات. أرجو إعطائي الجواب الشافي.
الجواب:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:(1/358)
حب الله ورسوله يحصل به القرب من النبي - صلى الله عليه وسلم - والكون معه في الجنة، ففي الصحيحين من حديث أنس - رضي الله عنه - قَالَ بَيْنَمَا أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خَارِجَيْنِ مِنْ الْمَسْجِدِ فَلَقِينَا رَجُلًا عِنْدَ سُدَّةِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَتَى السَّاعَةُ ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " مَا أَعْدَدْتَ لَهَا ؟ " قَال:َ فَكَأَنَّ الرَّجُلَ اسْتَكَانَ ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَعْدَدْتُ لَهَا كَبِيرَ صَلَاةٍ وَلَا صِيَامٍ وَلَا صَدَقَة،ٍ وَلَكِنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ قَالَ: " فَأَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ"، فَقُلْنَا: وَنَحْنُ كَذَلِكَ قَالَ: " نَعَمْ "، (1) قال أنس - رضي الله عنه - : فما فرحنا بعد الإسلام فرحاً أشد من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " فَأَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ"، وعلامة صدق المحبة للنبي - صلى الله عليه وسلم - اتباعه وطاعته، ولهذا رتب على اتباعه وطاعته مرافقته في الجنة، قال الله عز وجل: { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً } (2) ، قال ابن كثير : " أي من عمل بما أمره الله به ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وترك ما نهاه الله عنه ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ، فإن الله عز وجل يسكنه دار كرامته، ويجعله مرافقاً للأنبياء ثم لمن بعدهم في الرتبة، وهم الصديقون ثم الشهداء ثم عموم المؤمنين، وهم الصالحون الذين صلحت سرائرهم وعلانيتهم . " (3) ، وقال القرطبي: " أي هم معهم في دار واحدة ونعيم واحد يستمتعون برؤيتهم والحضور معهم...
__________
(1) - أخرجه البخاري ح (3688)، ومسلم ح (2639)
(2) - سورة النساء الآية: 69
(3) - تفسير ابن كثير (2/333)(1/359)
" (1) ، فمن صدق في محبته واتباعه وطاعته للنبي - صلى الله عليه وسلم - فيرجى أن يكون معه في الجنة، وقد ذكرت بعض الأعمال على وجه الخصوص أن من عمل بها فإنه يحصل له مرافقة النبي - صلى الله عليه وسلم - والقرب منه في الجنة، فعلى المسلم أن يحرص على الأخذ بها ومن ذلك :
1- كفالة اليتيم: ففي صحيح البخاري من حديث سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِي الْجَنَّةِ هَكَذَا " وَقَالَ بِإِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى (2) ، قال ابن بطال: " حقٌ على كل مسلم يسمع هذا الحديث أن يرغب في العمل به؛ ليكون في الجنة رفيقاً للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولجماعة النبيين والمرسلين، ولا منزلة عند الله في الآخرة أفضل من مرافقة الأنبياء" (3)
2- كثرة السجود: ففي صحيح مسلم من حديث رَبِيعَةُ بْنُ كَعْبٍ الْأَسْلَمِيُّ قَالَ: كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ فَقَالَ لِي: "سَلْ" فَقُلْتُ: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ قَالَ: "أَوْ غَيْرَ ذَلِك"َ قُلْتُ: هُوَ ذَاكَ قَالَ: " فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ " (4)
3- عول البنات والقيام عليهن: ففي صحيح مسلم من حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :" مَنْ عَالَ جَارِيَتَيْنِ حَتَّى تَبْلُغَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَا وَهُوَ " وَضَمَّ أَصَابِعَهُ . (5)
__________
(1) - تفسير القرطبي ( 5/ 272)
(2) - أخرجه البخاري ح (6005)
(3) - شرح صحيح البخاري لابن بطال (9/217)
(4) - أخرجه مسلم ح (489)
(5) - أخرجه مسلم ح (2631)(1/360)
4- حسن الخلق: ففي جامع الترمذي من حديث جَابِرٍ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقًا، وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الثَّرْثَارُونَ وَالْمُتَشَدِّقُونَ وَالْمُتَفَيْهِقُون"َ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ عَلِمْنَا الثَّرْثَارُونَ وَالْمُتَشَدِّقُونَ فَمَا الْمُتَفَيْهِقُون؛َ قَال:َ "الْمُتَكَبِّرُونَ" (1) ، ولا يمنع أن تتعدد الخصال التي يتحقق بها القرب من النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجنة كما أن هناك أعمالاً عديدة يحصل بها دخول الجنة وأعمالاً عديدة يحصل بها تكفير الذنوب، وهذا من سعة فضل الله ورحمته بعباده، فالمؤمن الذي حقق الإيمان وأدى الواجبات، واجتنب الكبائر، وعمل بما تيسر له من هذه الأعمال يرجى له أن يكون مرافقاً للنبي - صلى الله عليه وسلم - في الجنة .
هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
- - - - - -
هل يتحمل قابيل أوزار القتلة من بعده؟
طرح أحد الأصدقاء موضوع القتل قائلاًَ إن قابيل هو أول من قام به، فعرفته البشرية من بعده، فبذلك هو يتحمل وزر من قتل من البشرية كلها من بعده؛ مستشهداً بالحديث الشهير للرسول - صلى الله عليه وسلم - "من سن سنة حسنة فله أجر من عملها لا ينقص من أجره شيئاً، ومن سن سنة سيئة فعليه وزر من عملها لا ينقص من وزره شيئاً" أو كما قال - صلى الله عليه وسلم - وقد خالفته الرأي بأن ما فعله قابيل كان من وسوسة الشيطان، فبذلك هو لا يتحمل وزر أحد. فأرجو منك البيان الواضح في هذه المسألة مستشهداً بالأدلة -وجزاكم الله خيراً، ونفع بكم خلقه- .
الجواب:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، وبعد:
__________
(1) - أخرجه الترمذي ح (1941)(1/361)
أخرج البخاري ومسلم من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " لَا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا لِأَنَّهُ كَانَ أَوَّلَ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ" ، (1) والحديث صريح الدلالة أن على ابن آدم الأول كفل من كل نفس تقتل ظلماً ، لأنه أول من سن القتل، والكفل هو: الجزء والنصيب، أي نصيب من الإثم، وابن آدم الأول: هو قابيل على قول أكثر العلماء .
ويؤيد ما جاء في هذا الحديث ما أخرجه مسلم من حديث جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ كُتِبَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا وَلا يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ وَمَنْ سَنَّ فِي الإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ كُتِبَ عَلَيْهِ مِثْلُ وِزْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا وَلا يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ " (2) وما أخرجه مسلم أيضاً من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لَايَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا". (3)
وقوله تعالى: { لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ } (4)
__________
(1) - أخرجه البخاري ح (335) ومسلم ح (1677)
(2) - أخرجه مسلم ح (1017)
(3) - أخرجه مسلم ح (2674)
(4) - سورة النحل الآية: 25(1/362)
قال النووي في شرحه للحديث: " الحَدِيث مِنْ قَوَاعِد الْإِسْلَام , وَهُوَ: أَنَّ كُلّ مَنْ اِبْتَدَعَ شَيْئًا مِنْ الشَّرّ كَانَ عَلَيْهِ مِثْل وِزْر كُلّ مَنْ اِقْتَدَى بِهِ فِي ذَلِكَ الْعَمَل مِثْل عَمَله إِلَى يَوْم الْقِيَامَة , وَمِثْله مَنْ اِبْتَدَعَ شَيْئًا مِنْ الْخَيْر كَانَ لَهُ مِثْل أَجْر كُلّ مَنْ يَعْمَل بِهِ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة , وَهُوَ مُوَافِق لِلْحَدِيثِ الصَّحِيح : " مَنْ سَنَّ سُنَّة حَسَنَة وَمَنْ سَنَّ سُنَّة سَيِّئَة " وَلِلْحَدِيثِ الصَّحِيح " مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْر فَلَهُ مِثْل أَجْر فَاعِله " وَلِلْحَدِيثِ الصَّحِيح : " مَا مِنْ دَاعٍ يَدْعُو إِلَى هُدًى وَمَا مِنْ دَاعٍ يَدْعُو إِلَى ضَلَالَة " (1)
وقال القرطبي : " وقوله " لأنه أول من سن القتل " نص على تعليل ذلك الأمر ، لأنه لما كان أول من قتل كان قتله ذلك تنبيهاً لمن أتى بعده وتعليماً له ، فمن قتل كأنه اقتدى به في ذلك فكان عليه من وزره " (2)
هذا والله الموفق، والهادي إلى سواء السبيل.
- - - - - -
هل للمسلم قتل نفسه؟
قرأت في كتاب (نيل الأوطار) حديثاً لا أذكر لفظه الآن، ولكن معناه أن صحابياً - رضي الله عنه - أصيب فقتل نفسه بمشاقص فعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - فسكت فهل هذا الحديث صحيح؟ وإذا كان صحيحاً هل يدل على جواز قتل المسلم لنفسه إذا أصيب ببلاء وخشي على دينه، أو خشي من الفتنه بسبب البلاء؟ أفتونا مأجورين .
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
__________
(1) - شرح النووي على صحيح مسلم (11/ 166)
(2) - تفسير القرطبي ( 6/140 )(1/363)
الحديث المذكور في السؤال أخرجه مسلم (978) من حديث جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: أُتِيَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِرَجُلٍ قَتَلَ نَفْسَهُ بِمَشَاقِصَ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ"، والْمَشَاقِص: سِهَام عِرَاض, وَاحِدهَا مِشْقَص بِكَسْرِ الْمِيم وَفَتْح الْقَاف والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يسكت عن قاتل نفسه بل عاقبه بترك الصلاة عليه لعصيانه، وزجراً للناس عن مثل فعله، ففي رواية الإمام أحمد: " فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : إِذَنْ لَا أُصَلِّيَ عَلَيْهِ " (1) ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " ولم يصل النبي - صلى الله عليه وسلم - على من قتل نفسه فقال لأصحابه - رضي الله عنهم - صلوا عليه فيجوز لعموم الناس أن يصلوا عليه، وأما أئمة الدين الذين يقتدى بهم فإذا تركوا الصلاة عليه زجراً لغيره اقتداء بالنبي فهذا حق والله أعلم " (2) ، وقد ورد وعيد شديد لمن قتل نفسه ومن ذلك:
- ما أخرجه مسلم من حديث جندب - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ رَجُلًا مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ خَرَجَتْ بِهِ قُرْحَةٌ فَلَمَّا آذَتْهُ انْتَزَعَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ فَنَكَأَهَا فَلَمْ يَرْقَأْ الدَّمُ حَتَّى مَاتَ قَالَ رَبُّكُمْ قَدْ حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ" (3)
- وفي الصحيحين من حديث ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " مَنْ حَلَفَ بِمِلَّةٍ غَيْرِ الْإِسْلَامِ كَاذِبًا مُتَعَمِّدًا فَهُوَ كَمَا قَالَ، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ عُذِّبَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ"، وفي رواية لمسلم: " وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ عُذِّبَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ". (4)
__________
(1) - أخرجه أحمد ح ( 20337 )
(2) - مجموع الفتاوى ( ( 24/290 )
(3) - أخرجه مسلم ح ( 113)
(4) - أخرجه البخاري ح ( 1364)، ومسلم ح ( 110 )(1/364)
- وفي صحيح مسلم عن أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَتَوَجَّأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ شَرِبَ سَمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا وَمَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَرَدَّى فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا (1)
ويؤخذ من هذه الأحاديث تحريم قتل النفس، وأنه من كبائر الذنوب، وعلى هذا فلا يجوز قتل النفس بأي حال من الأحوال.
هذا والله الموفق، والهادي إلى سواء السبيل.
- - - - - -
ما هي شعب الإيمان السبعون؟
الإيمان سبعون شعبة أولها الشهادة، وآخرها إبعاد الأذى عن الطريق، فما هي السبعون شعبة؟ وشكراً.
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
الحديث الوارد في السؤال أخرجه البخاري (9) بسنده عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الإِيمَان"، ومسلم (35) من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الإِيمَانِ"، وفي رواية:"الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ -أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ- شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الإِيمَانِ".
معنى البضع: هو عدد مبهم مقيد بما بين الثلاث إلى التسع، وقيل: إلى عشرة.
__________
(1) - أخرجه مسلم ح ( 109 )(1/365)
والشعبة: القطعة من الشيء، وتطلق على ما يتفرع من الشجرة من أغصان، والمراد بالشعبة في الحديث الخصلة، أي أن الإيمان ذو خصال معدودة ، وهي متفاوتة في مراتبها، وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أفضلها : التوحيد الذي هو أساس الإيمان، ولا يصح شيء من الشعب إلا بعد تحققه، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق.
ولم يرد في الأحاديث حصر هذه الشعب، وقد اجتهد بعض العلماء في عدها، ولكن لا يجزم بأنها هي المقصودة على وجه التحديد في الحديث.
قال الحافظ ابن حجر: " وَلَمْ يَتَّفِق مَنْ عَدَّ الشُّعَب عَلَى نَمَط وَاحِد, وَأَقْرَبهَا إِلَى الصَّوَاب طَرِيقَة اِبْن حِبَّانَ, لَكِنْ لَمْ نَقِف عَلَى بَيَانهَا مِنْ كَلامه, وَقَدْ لَخَّصْت مِمَّا أَوْرَدُوهُ مَا أَذْكُرهُ, وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الشُّعَب تَتَفَرَّع عَنْ أَعْمَال الْقَلْب, وَأَعْمَال اللِّسَان, وَأَعْمَال الْبَدَن.
فَأَعْمَال الْقَلْب فِيهِ الْمُعْتَقَدَات وَالنِّيَّات, وَتَشْتَمِل عَلَى أَرْبَع وَعِشْرِينَ خَصْلَة : الْإِيمَان بِاَللَّهِ, وَيَدْخُل فِيهِ الإِيمَان بِذَاتِهِ وَصِفَاته وَتَوْحِيده بِأَنَّهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء، وَاعْتِقَاد حُدُوث مَا دُونه. وَالإِيمَان بِمَلائِكَتِهِ, وَكُتُبه, وَرُسُله, وَالْقَدَر خَيْره وَشَرّه. وَالإِيمَان بِالْيَوْمِ الآخِر, وَيَدْخُل فِيهِ الْمَسْأَلَة فِي الْقَبْر، وَالْبَعْث, وَالنُّشُور, وَالْحِسَاب, وَالْمِيزَان, وَالصِّرَاط, وَالْجَنَّة وَالنَّار.(1/366)
وَمَحَبَّة اللَّه وَالْحُبّ وَالْبُغْض فِيهِ وَمَحَبَّة النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - , وَاعْتِقَاد تَعْظِيمه, وَيَدْخُل فِيهِ الصَّلاة عَلَيْهِ, وَاتِّبَاع سُنَّته. وَالإِخْلَاص, وَيَدْخُل فِيهِ تَرْك الرِّيَاء وَالنِّفَاق. وَالتَّوْبَة. وَالْخَوْف. وَالرَّجَاء. وَالشُّكْر. وَالْوَفَاء. وَالصَّبْر. وَالرِّضَا بِالْقَضَاءِ وَالتَّوَكُّل. وَالرَّحْمَة. وَالتَّوَاضُع. وَيَدْخُل فِيهِ تَوْقِير الْكَبِير وَرَحْمَة الصَّغِير. وَتَرْك الْكِبْر وَالْعُجْب. وَتَرْك الْحَسَد. وَتَرْك الْحِقْد. وَتَرْك الْغَضَب.
وَأَعْمَال اللِّسَان: وَتَشْتَمِل عَلَى سَبْع خِصَال: التَّلَفُّظ بِالتَّوْحِيدِ. وَتِلاوَة الْقُرْآن. وَتَعَلُّم الْعِلْم. وَتَعْلِيمه. وَالدُّعَاء. وَالذِّكْر, وَيَدْخُل فِيهِ الاسْتِغْفَار, وَاجْتِنَاب اللَّغْو.
وَأَعْمَال الْبَدَن: وَتَشْتَمِل عَلَى ثَمَان وَثَلاثِينَ خُصْلَة.
مِنْهَا مَا يَخْتَصّ بِالأَعْيَانِ وَهِيَ خَمْس عَشْرَة خُصْلَة: التَّطْهِير حِسًّا وَحُكْمًا, وَيَدْخُل فِيهِ اِجْتِنَاب النَّجَاسَات. وَسَتْر الْعَوْرَة. وَالصَّلاة فَرْضًا وَنَفْلاً. وَالزَّكَاة كَذَلِكَ.
وَفَكّ الرِّقَاب. وَالْجُود, وَيَدْخُل فِيهِ إِطْعَام الطَّعَام وَإِكْرَام الضَّيْف. وَالصِّيَام فَرْضًا وَنَفْلاً. وَالْحَجّ, وَالْعُمْرَة كَذَلِكَ، وَالطَّوَاف. وَالاعْتِكَاف. وَالْتِمَاس لَيْلَة الْقَدْر. وَالْفِرَار بِالدِّينِ , وَيَدْخُل فِيهِ الْهِجْرَة مِنْ دَار الشِّرْك. وَالْوَفَاء بِالنَّذْرِ, وَالتَّحَرِّي فِي الإِيمَان, وَأَدَاء الْكَفَّارَات.(1/367)
وَمِنْهَا مَا يَتَعَلَّق بِالاتِّبَاعِ: وَهِيَ سِتّ خِصَال: التَّعَفُّف بِالنِّكَاحِ, وَالْقِيَام بِحُقُوقِ الْعِيَال; وَبِرّ الْوَالِدَيْنِ, وَفِيهِ اِجْتِنَاب الْعُقُوق. وَتَرْبِيَة الأَوْلاد وَصِلَة الرَّحِم، وَطَاعَة السَّادَة أَوْ الرِّفْق بِالْعَبِيدِ.
وَمِنْهَا مَا يَتَعَلَّق بِالْعَامَّةِ: وَهِيَ سَبْع عَشْرَة خُصْلَة: الْقِيَام بِالإِمْرَةِ مَعَ الْعَدْل. وَمُتَابَعَة الْجَمَاعَة، وَطَاعَة أُولِي الأَمْر. وَالإِصْلَاح بَيْن النَّاس, وَيَدْخُل فِيهِ قِتَال الْخَوَارِج وَالْبُغَاة، وَالْمُعَاوَنَة عَلَى الْبِرّ, وَيَدْخُل فِيهِ الأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر وَإِقَامَة الْحُدُود. وَالْجِهَاد, وَمِنْهُ الْمُرَابَطَة. وَأَدَاء الأَمَانَة, وَمِنْهُ أَدَاء الْخُمُس. وَالْقَرْض مَعَ وَفَائِهِ. وَإِكْرَام الْجَار. وَحُسْن الْمُعَامَلَة, وَفِيهِ جَمْع الْمَال مِنْ حِلّه. وَإِنْفَاق الْمَال فِي حَقّه, وَمِنْهُ تَرْك التَّبْذِير وَالإِسْرَاف. وَرَدّ السَّلام. وَتَشْمِيت الْعَاطِس. وَكَفّ الأَذَى عَنْ النَّاس. وَاجْتِنَاب اللَّهْو وَإِمَاطَة الأَذَى عَنْ الطَّرِيق. فَهَذِهِ تِسْع وَسِتُّونَ خُصْلَة, وَيُمْكِن عَدّهَا تِسْعًا وَسَبْعِينَ خُصْلَة بِاعْتِبَارِ إِفْرَاد مَا ضُمَّ بَعْضه إِلَى بَعْض مِمَّا ذُكِرَ. وَاَللَّه أَعْلَم . " (1)
هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
- - - - - -
التحلق قبل الجمعة
__________
(1) - فتح الباري (1/52)(1/368)
أنا أعيش في بريطانيا، وأنا والحمد لله من الدعاة إلى الله، في هذا الوقت أتحدث في المسجد قبل صلاة الجمعة، وبعض الإخوة ذكروا أن هذا الأمر غير جائز، استنادا إلى الحديث الذي رواه أبو داود وفيه نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن التحلق قبل الصلاة، ورأيت ممن برر هذا النهي - وهو الإمام الخطابي - أن ذلك يقطع صفوف الصلاة التي يجب أن تظل مستقيمة في ذلك اليوم حسب علمي القليل، فما وجدته في كتاب "عون المعبود" لا يكفي للحكم في هذه المسألة، فأرجو منكم التفضل في التوسع في توضيح هذه المسألة من مصادر أخرى، وهل هذا النهي هو نهي تحريم؟ أم نهي تنزيه؟ وهل هذا الفعل بدعة أم سنة؟ أرجو الإجابة بالعربية لأنها لغتي الأصلية.
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
الحديث المذكور في السؤال أخرجه الإمام أحمد ح ( 6638 ) قال: حدثني يحي: عن ابن عجلان، حدثنا عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده، قال: " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ فِي الْمَسْجِدِ، وَأَنْ تُنْشَدَ فِيهِ الْأَشْعَارُ، وَأَنْ تُنْشَدَ فِيهِ الضَّالَّةُ، وَعَنْ الْحِلَقِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ الصَّلَاةِ " وهذا إسناد حسن، وأخرجه أبو داود (1079)، والنسائي (793)، والترمذي (322)، وابن خزيمة (1304)، من طرق عن محمد بن عجلان به، وقال الترمذي: حديث حسن ومعنى التحلق: أي جلوسهم حلقة، والحديث يدل على كراهة التحلق قبل صلاة الجمعة، وبهذا قال الجمهور؛ لأنه ربما قطع الصفوف مع كونهم مأمورين يوم الجمعة بالتبكير، والاشتغال بالصلاة والتراص في الصفوف الأول فالأول، والتهيؤ لسماع الخطبة والإنصات لها.
قال الخطابي: " وإنما كره الاجتماع قبل الصلاة للعلم والمذاكرة، وأمر أن يشتغل بالصلاة، وينصت للخطبة والذكر، فإذا فرغ منها كان الاجتماع والتحلق بعد ذلك "(1/369)
قال التوربشتي: " النهي عن التحلق يحتمل معنيين أحدهما: أن تلك الهيئة تخالف اجتماع المصلين، والثاني: أن الاجتماع للجمعة خطب جليل، لا يسع من حضرها أن يهتم بما سواها حتى يفرغ، وتحلق الناس قبل الصلاة موهم للغفلة عن الأمر الذي ندبوا إليه "
وقال الطحاوي: " النهي عن التحلق في المسجد قبل الصلاة إذا عم المسجد وغلبه فهو مكروه، وغير ذلك لا بأس به "
وقال السندي: " قيل يكره قبل الصلاة الاجتماع للعلم والمذاكرة، ليشتغل بالصلاة وينصت للخطبة والذكر، فإذا فرغ منها كان الاجتماع والتحلق بعد ذلك، وقيل النهي عن التحلق إذا عم المسجد، وعليه فهو مكروه وغير ذلك لا بأس به، وقيل نهى عنه لأنه يقطع الصفوف، وهم مأمورون بتراص الصفوف "
هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
- - - - - -
أحاديث في الحجامة
أعاني من الصداع، وقد نصحني بعض الإخوة بالحجامة؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يحتجم بسبب الصداع، وقد روى لي الإخوة بعض الأحاديث التي لا أعلم صحتها كقوله - صلى الله عليه وسلم - : "نعم العادة الحجامة" وقوله - صلى الله عليه وسلم - :"ما مررت بملأ من الملائكة ليلة أسري بي إلا قالوا يا محمد: أوص أمتك بالحجامة"، وفي رواية: "مر أمتك بالحجامة".
والخلاصة:
(1) ما هي صحة هذه الأحاديث؟.
(2)ما هو أفضل وقت للحجامة؟ وهل ورد فيه سنة معينة؟.
(3) أين يمكنني عمل الحجامة في السعودية؟.
(4) ما هو أفضل مكان في الجسم للحجامة؟ أرجو تحديد المكان بدقة فمثلا لو كان في الرأس ففي أي جزء من الرأس ؟. وجزاكم الله خير الجزاء.
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:(1/370)
ورد في الحجامة أحاديث كثيرة تضمنت ذكر منافعها ودواعيها، وأوقاتها، ففي صحيح البخاري من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " الشِّفَاءُ فِي ثَلَاثٍ شَرْبَةِ عَسَلٍ وَشَرْطَةِ مِحْجَمٍ وَكَيَّةٍ بِنَارٍ وَأَنْهَى أُمَّتِي عَنْ الْكَيِّ رَفَعَهُ" (1) ، وفي الصحيحين عَنْ حُمَيْدٍ قَالَ: سُئِلَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ كَسْبِ الْحَجَّامِ ؟ فَقَالَ: احْتَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَجَمَهُ أَبُو طَيْبَةَ فَأَمَرَ لَهُ بِصَاعَيْنِ مِنْ طَعَامٍ وَكَلَّمَ أَهْلَهُ فَوَضَعُوا عَنْهُ مِنْ خَرَاجِهِ وَقَالَ إِنَّ أَفْضَلَ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ الْحِجَامَةُ (2) ، وفي جامع الترمذي من طريق عباد بن منصور قال: سمعت عكرمة قال ابن عباس - رضي الله عنهما- : قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " نِعْمَ الْعَبْدُ الْحَجَّامُ يُذْهِبُ الدَّمَ وَيُخِفُّ الصُّلْبَ وَيَجْلُو عَنْ الْبَصَرِ " (3) ، وقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين عرج به ما مر على ملإ من الملائكة إلا قالوا: " عليك بالحجامة " وقال: " إِنَّ خَيْرَ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ السَّعُوطُ وَاللَّدُودُ وَالْحِجَامَةُ وَالْمَشِيُّ " (4) ، وفي سنن ابن ماجه من حديث جُبْارَةَ بن المُغلِّس - وهو ضعيف- عن كثير بن سليم قال سمعت أنس بن مالك - رضي الله عنه - يقول: " قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " مَا مَرَرْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي بِمَلَإٍ إِلَّا قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ مُرْ أُمَّتَكَ بِالْحِجَامَةِ " (5) ، وأما وقتها فقال صاحب القانون: " ويؤمر باستعمال
__________
(1) - أخرجه البخاري ح (5680)
(2) - أخرجه البخاري ح (2210) ومسلم ح (1577)
(3) - أخرجه الترمذي ح (2053)
(4) - أخرجه الترمذي ح ( 2047 ) ، وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث عباد بن منصور
(5) - أخرجه ابن ماجه ح (3479)(1/371)
الحجامة لا في أول الشهر،؛ لأن الأخلاط لا تكون قد تحركت وهاجت، ولا في آخره؛ لأنها تكون قد نقصت بل في وسط الشهر، حين تكون الأخلاط هائجة بالغة في تزايدها لتزيد النور في جرم القمر "، وقال ابن القيم: " وتستحب في وسط الشهر، وبعد وسطه وبالجملة في الربع الثالث من أرباع الشهر؛ لأن الدم في أول الشهر لم يكن بعد قد هاج وتبيغ وفي آخره يكون قد سكن، وأما في وسطه وبعيده فيكون في نهاية التزيد " (1) وأما أماكن الحجامة من البدن فقد تحدث عنها الأطباء المتقدمون، وفصلوا فيها ومن ذلك:
(1) الحجامة في الأخدعين، والكاهل، وورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجم في الأخدعين والكاهل (2) ، قال أهل الطب: الحجامة على الكاهل تنفع من وجع المنكب والحلق، والحجامة على الأخدعين تنفع من أمراض الرأس والوجه كالأذنين، والعينين، والأسنان، والأنف، والحلق .
(2) الحجامة في الرأس، ففي الصحيحن من حديث عبد الله بن بُحينَة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - احتجم بِلحي جمل - من طريق مكة- وهو محرم في وسط رأسه (3) ، قال الأطباء: " الحجامة في وسط الرأس نافعة جداً "، وفي الصحيحين من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - احتجم وهو محرم في رأسه من شقيقة كانت به (4) ، والشقيقة: وجع يأخذ في أحد جانبي الرأس أو في مقدمه، وبوب عليه البخاري: باب الحجامة من الشقيقة والصداع (5)
وثبت في الأبحاث الطبية الحديثة منافع الحجامة وفوائدها، ويوجد في هذه الدراسات تحديد دقيق لأماكن الحجامة بحسب دواعي الاستعمال، وهي متوفرة عند من يقوم بالحجامة.
__________
(1) - زاد المعاد ( 4/49 )
(2) - أخرجه الترمذي (2051) وحسنه، وأبو داود (3860) وابن ماجه (3483)، وصححه الحاكم (7477)
(3) - أخرجه البخاري ح (1836) ومسلم ح (1203)
(4) - أخرجه البخاري ح (5701) ومسلم ح (1202)
(5) - فتح الباري10/153)(1/372)
وسمعت أن هناك بعض المستشفيات في المملكة تعالج عن طريق الحجامة. (1)
وأما الحديثان المسؤول عنهما في السؤال فحديث: " نعم العادة الحجامة "، فذكره الديلمي في الفردوس (4/256) بدون إسناد، والمتقي في كنز العمال (28147)، وعزاه له، وقد ساق الحافظ في زهر الفردوس (4/115) ، (16/10) إسناده ، وفيه من لم أقف على ترجمته، والظاهر أن الحديث ضعيف والله أعلم ، وأما حديث: " ما مررت ليلة أسري بي..." فقد سبق ذكره في أثناء الجواب، وهو عند ابن ماجه (3479) من حديث أنس - رضي الله عنه - وفي إسناده جُبارة بن المغلس، وهو ضعيف، وأخرجه الترمذي (2053) من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - وفي إسناده عباد بن منصور، وهو ضعيف، وأخرجه أيضاً من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - وهو من رواية عبدالرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه - رضي الله عنه - ، ولم يسمع من أبيه كل ما رواه عنه، وقال الترمذي: حديث حسن غريب، ولعل الحديث بمجموع شواهده حسنٌ، والله أعلم .
هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
- - - - - -
الحساء لعلاج الزوجة
قرأت في مقال أنه إذا مرضت زوجة أحد الناس فيستحب للشخص فعل ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعله: "إذا وعكت إحدى زوجاته أمر بصنع حساء ثم أمرها أن تحتسي منه" وكان يقول: "إن ذلك يشد قلب الحزين وينظف قلب المريض كمثل أن ينظف أحدكم وجهه"، جامع الترمذي(2039)، وصحيح الجامع(4646).
وسؤالي هو: إذا مرضت زوجة أحدنا مرضاً شديداً فهل نفعل ما ذكر أعلاه قبل وبعد إدخال المرأة إلى غرفة الطوارئ؟.
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
__________
(1) - ينظر الطب النبوي لعبد الملك بن حبيب الأندلسي الألبيري (ص48-55)، زاد المعاد(4/50-62)، فتح الباري(10/ 149-154)، الطب من الكتاب والسنة لموفق الدين عبد الله البغدادي.(1/373)
الحديث المشار إليه في السؤال أخرجه الترمذي بسنده عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا أَخَذَ أَهْلَهُ الْوَعَكُ أَمَرَ بِالْحِسَاءِ فَصُنِعَ ثُمَّ أَمَرَهُمْ فَحَسَوْا مِنْهُ وَكَانَ يَقُولُ إِنَّهُ لَيَرْتُقُ فُؤَادَ الْحَزِينِ، وَيَسْرُو عَنْ فُؤَادِ السَّقِيمِ كَمَا تَسْرُو إِحْدَاكُنَّ الْوَسَخَ بِالْمَاءِ عَنْ وَجْهِهَا " (1)
__________
(1) - أخرجه الترمذي ح (2039) ، وقال: حديث حسن صحيح ..(1/374)
ومعنى قوله: ليرتق فؤاد الحزين: أي يشد قلبه ويقويه، وقوله: يسرو عن فؤاد السقيم: أي يكشف عن قلبه الألم ويزيله، والحِسَاء: هو طبيخ يتخذ من دقيق وماء ودهن، وقد يُحلى ويكون رقيقاً يحسى، وفي الصحيحين من حديث عائشة -رضي الله عنها- أَنَّهَا كَانَتْ تَأْمُرُ بِالتَّلْبِينِ لِلْمَرِيضِ وَلِلْمَحْزُونِ عَلَى الْهَالِكِ وَكَانَتْ تَقُولُ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " إِنَّ التَّلْبِينَةَ تُجِمُّ فُؤَادَ الْمَرِيضِ وَتَذْهَبُ بِبَعْضِ الْحُزْنِ " (1) ، وبوب عليه البخاري: باب التلبينة للمريض (2) ، قوله: " فإنها تجم فؤاد المريض" المعنى: أنها تريح فؤاده وتزيل عنه الهم وتنشطه، والتلبينة قال الأصمعي: هي حساء يعمل من دقيق أو نخالة ويجعل فيه عسل، وقال غيره: أو لبن، سميت تلبينة تشبيها لها باللبن في بياضها ورقتها، وقال ابن قتيبة: وعلى قول من قال يخلط فيها لبن سميت بذلك لمخالطة اللبن لها، وذكر الحافظ ابن القيم أن التلبينة: " حساء متخذ من دقيق الشعير بنخالته، وهو الرقيق النضيح لا الغليظ النيء "، ثم ذكر منافع ماء الشعير، وقال: " والمقصود أن ماء الشعير مطبوخاً صحاحاً ينفذ سريعاً، ويجلو جلاء ظاهراً، ويغذي غذاء لطيفاً، وإذا شرب حاراً كان جلاؤه أقوى، ونفوذه أسرع " (3)
ويؤخذ من هذين الحديثين، وما جاء في معناهما من الأحاديث مراعاة المريض في غذائه، بحيث يكون لطيفاً رقيقاً لا يُثقل عليه، وهذا موجود في التلبينة وهي تعطى للمريض إذا كانت حالته مناسبة لإعطائه الطعام، والله أعلم.
- - - - - -
الكمأة وعلاج العيون
__________
(1) - أخرجه البخاري ح (5689) ومسلم ح (2216)
(2) - البخاري مع الفتح ( 10/146 )
(3) - زاد المعاد ( 4/109 )(1/375)
أود أن أسألكم عن معنى هذا الحديث وإن كان صحيحا فكيف تتم الاستفادة منه أي كيف أستطيع الحصول على مائها يقول (ص) إن صح الحديث ( الكمأة من المن, وماؤها شفاء للعين) وهل توجد أحاديث أخرى تبحث في شفاء العين .
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
الحديث المشار إليه في السؤال أخرجه البخاري ح ( 5708 )، ومسلم ح ( 2049 ) من حديث سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " الْكَمْأَةُ مِنْ الْمَنِّ وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ " ، والكمأة نبات يكون في جوف الأرض ينبت بعد نزول المطر وتنفلق عنه الأرض، ويشتهر باسم: الفقع، ومعنى قوله : " من المن " أي هو مما امتن الله سبحانه وتعالى به من غير جهد من الإنسان حيث لا يد للإنسان في استنباته فهو من هذه الحيثية شبيه بالمن الذي أنزله الله سبحانه وتعالى على بني إسرائيل، حيث كان الطل يسقط على الشجر فيجمع ويؤكل حلواً، ومعنى قوله: " ماؤها شفاء للعين " ظاهره أن ماءها يعصر ويكحل به العين بعد أن تشوى على النار، وللعلماء أقوال أخرى، قال الحافظ ابن القيم: " وقوله - صلى الله عليه وسلم - في الكمأة: " وماؤها شفاء للعين فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن ماءها يُخلط في الأدوية التي يُعالج بها العين، لا أنه يستعمل وحده ذكره أبو عبيد، الثاني: أنه يُستعمل بحتا بعد شيِّهَا، واستقطار مائها لأن النار تُلطِّفه وتنضجه، وتُذِيبُ فضلاته ورطوبته المؤذية وتبقي المنافع، الثالث: أن المراد بمائها الماء الذي يحدث به من المطر، وهو أولُ قطر ينزل إلى الأرض، فتكون الإضافة إضافة اقتران، لا إضافة جزء، ذكره ابن الجوزي، وهو أبعد الوجوه وأضعفها، وقيل: إن استعمل ماؤها لتبريد ما في العين، فماؤها مجرداً شفاء، وإن كان لغير ذلك فمركب مع غيره، وقال الغافقي: ماء الكمأة أصلح الأدوية للعين إذا عُجِنَ به الإثمد واكُتحل به ويقوِّي(1/376)
أجفانها، ويزيدُ الروحَ الباصرة قوةً وحدِة، ويدفع عنها نزول النوازل " (1) ، وقد أجريت أبحاث استخدم فيها ماء الكمأة في علاج التراكوما مع مركبات أخرى فكانت نتائجه جيدة (2) ، ولكن لا ينبغي للمريض أن يُقدم على استخدام ماء الكمأة حتى يسأل أهل الخبرة والمعرفة ليتبين هل يناسبه أم لا، لأنه ربما يكون الحديث من العام المخصوص أي أن ماء الكمأة يصلح لبعض أمراض العيون دون الأخرى، وقد ورد في السنة الحث على الاكتحال بالإثمد، فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يجلو البصر وينبت الشعر فعن ابن عباس رضي الله عنهما قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " اكتحلوا بالْإِثْمِدِ, فإنه يَجْلُو الْبَصَرَ وَيُنْبِتُ الشَّعْرَ " (3) ، وعَنْ جَابِرٍ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " عَلَيْكُمْ بِالْإِثْمِدِ: عِنْدَ النَّوْمِ فَإِنَّهُ يَجْلُو الْبَصَرَ وَيُنْبِتُ الشَّعْرَ " (4) ، والإثمد حجر معروف أسود يضرب إلى الحمرة يكون في بلاد الحجاز، وأجوده ما يؤتى به من أصفهان، وأجوده السريع التفتت الذي لفتاته بصيص، وداخله أملس ليس فيه شيء من الأوساخ، قال الحافظ ابن القيم: " الإثمد ينفع العين ويقويها، ويشد أعصابها، ويحفظ صحتها، وينقي أوساخها، وهو أجود أكحال العين لاسيما للمشايخ، والذين قد ضعفت أبصارهم إذا جعل معه شيء من المسك " (5) ، وعلى من يريد استخدام الإثمد التأكد من سلامته من الغش حيث يوجد في الأسواق أكحال مغشوشة، ففي دراسة لمستشفى الملك خالد لطب العيون بالرياض عن
__________
(1) - زاد المعاد ( 4/365 )
(2) - ينظر: موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة ص ( 826- 831 )، ليوسف الحجاج أحمد
(3) - أخرجه الترمذي ح ( 1757 ) ، وقال: حديث حسن غريب
(4) - أخرجه ابن ماجه ح ( 3495 )
(5) - زاد المعاد ( 4/283 ) ، وينظر: الطب من الكتاب والسنة لموفق الدين عبد اللطيف البغدادي ( ت 629 هـ )(1/377)
الكحل الموجود في أسواق الرياض ( عام 1986 م ) وجد الباحثون نوعين من الكحل، وكلا النوعين ملوث بالبكتريا العضوية والفطريات، كما وجدوا أن الكحل مغشوش بمواد أخرى غير الإثمد مثل الرصاص . هذا والله أعلم .
- - - - - -
علاج العقم
هل ورد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما هو مختص بعلاج العقم ؟ وفقكم الله
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
لا أعلم شيئاً ورد في السنة يختص بعلاج العقم، ولكن ينبغي للإنسان أن يحرص على الدعاء وصدق الالتجاء إلى الله بسؤاله الذرية الطيبة، ويتوخى ساعات الإجابة، وقد أخبر الله سبحانه وتعالى أنه رزق زكريا عليه السلام الولد على كبر سنه وعقم امرأته حينما دعا ربه، قال عز وجل: { وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ } (1) ، وقال تعالى: { هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً } (2) ، وعلى الإنسان الذي لم يرزق بولد أن يحرص على كثرة الاستغفار والتوبة فهو سبب في مغفرة الذنوب ونزول الغيث والإمداد بالأموال والبنين قال تعالى: { فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مُدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً } (3) ، وإذا بذل المسلم الأسباب في طلب الولد ولم يتحقق ذلك فعليه بتفويض الأمر إلى الله والرضا بما قسم الله له، فهو لا يعلم فيما تكون الخيرة فيه، هذا والله أعلم .
- - - - - -
هل يشرع قراءة القرآن في الماء
__________
(1) - سورة الأنبياء الآية: 89
(2) - سورة آل عمران الآية: 38
(3) - سورة نوح الآيات: 10- 12(1/378)
ورد في إحدى فتاوى ابن تيمية للمريض ولمن هو في شدة أن تكتب آيات من القرآن الكريم بالحبر ثم تغسل اللوحة بالماء ليخلط الحبر بالماء ثم يشرب الماء. وورد عن ابن عباس أنه ذكر دعاء معينا ليكتب ويوضع قرب المرأة التي تعاني صعوبة في الولادة. ويروى عن علي - رضي الله عنه - قوله إن هذا الدعاء يجب أن يكتب ويربط بذراع المرأة ولم ير أعجب منه" (فتاوى ابن تيمية 19/65 ) وروى تلميذه ابن القيم جواز استخدام التعويذة عن عدد من السلف بمن فيهم الإمام أحمد، وقد ذكر ابن القيم نفسه تعويذات مختلفة في زاد المعاد (3/180)
أرجو التعليق على هذه الفتاوى.
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:(1/379)
الرقية مشروعة بالآيات القرآنية، وبأسماء الله الحسنى، وما ثبت في السنة النبوية من الأدعية والأذكار المشروعة، مع اعتقاد أن الرقية سبب من الأسباب والشفاء من الله تعالى ، وتكون الرقية بالقراءة المباشرة على من يراد رقيته ، ويجوز أن ينفث الراقي مع القراءة ففي حديث عائشة - رضي الله عنها - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ كُلَّ لَيْلَةٍ جَمَعَ كَفَّيْهِ ثُمَّ نَفَثَ فِيهِمَا فَقَرَأَ فِيهِمَا { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } وَ { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ } وَ { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ } ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا مَا اسْتَطَاعَ مِنْ جَسَدِهِ يَبْدَأُ بِهِمَا عَلَى رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ وَمَا أَقْبَلَ مِنْ جَسَدِهِ يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ . (1) ، وفي حديث أبي سعيد في قصة رقية اللديغ : " فَانْطَلَقَ يَتْفِلُ عَلَيْهِ وَيَقْرَأُ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَكَأَنَّمَا نُشِطَ مِنْ عِقَالٍ ..... " (2) ، وقد بوب عليهما البخاري بقوله: " باب النفث في الرقية " (3) والنفث شبيه بالنفخ، وهو أقل من التفل، قال ابن القيم - رحمه الله - : " وفي النفث والتفل استعانة بتلك الرطوبة والهواء والنفس المباشر للرقية والذكر والدعاء فإن الرقية تخرج من قلب الراقي وفمه فإذا صاحبها شيء من أجزاء باطنه من الريق والهواء والنفس كانت أتم تأثيرا وأقوى فعلا ونفوذا ...... والمقصود : أن الروح إذا كانت قوية وتكيفت بمعاني الفاتحة، واستعانت بالنفث والتفل قابلت ذلك الأثر الذي حصل من النفوس الخبيثة فأزالته والله أعلم " (4)
__________
(1) - أخرجه البخاري ح ( 5018 ) ، ومسلم ح ( 2192 )
(2) - أخرجه البخاري ح ( 2276 ) ، ومسلم ح ( 2201 )
(3) - البخاري مع الفتح ( 10/219 )
(4) - زاد المعاد ( 4/164 )(1/380)
والأولى أن يُقتصر في الرقية على ما ثبت من القراءة المباشرة على المريض ، ولا بأس أن تكون القراءة مع النفث كما تقدم، وورد حديث في القراءة بالماء وصبه على المريض أو شربه، ولكن هذا الحديث فيه ضعف، وهو ما رواه يوسف بن محمد بن ثابت بن قيس عن أبيه عن جده ثابت بن قيس - رضي الله عنه - أن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ عَلَيه وَهُوَ مَرِيضٌ فَقَالَ: اكْشِفْ الْبَأْسَ رَبَّ النَّاسِ عَنْ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ ثُمَّ أَخَذَ تُرَابًا مِنْ بَطْحَانَ فَجَعَلَهُ فِي قَدَحٍ ثُمَّ نَفَثَ عَلَيْهِ بِمَاءٍ وَصَبَّهُ عَلَيْهِ . (1) ، وفي إسناده : يوسف بن محمد ليس فيه توثيق معتبر ، ورواية محمد بن ثابت عن أبيه مرسلة ، قال الحافظ ابن حجر: والظاهر أن رواية محمد عن أبيه، مرسلة لأنه قتل يوم اليمامة وهو صغير إلا أن يكون حفظ عن أبيه وهو طفل ، وقد أوردته في الصحابة على قاعدتهم ولا تصح له صحبة ، وقد أخذ بهذا الحديث بعض العلماء وقاسوا عليه كتابة الآيات في ورقة ثم غسلها بالماء وشرب المريض له، وبعد هذه المقدمة نعود إلى ما طلبه السائل الكريم - وفقه الله - من التعليق على كلام شيخ الإسلام ابن تيمية ، وابن القيم - رحمهما الله - و قد تضمن كلامهما أمرين:
__________
(1) - أخرجه أبو داود ح ( 3387 )(1/381)
1- كتابة الآيات في ورقة ثم غسلها في ماء وسقي المريض هذا الماء ، ويدخل في هذا الكتابة للمرأة إذا عسرت ولادتها، وهذا لم يرد فيه حديث مرفوع عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقد استدل شيخ الإسلام بأثر ابن عباس - رضي الله عنهما - وبما جاء عن الإمام أحمد - رحمه الله - ، وورد عن بعض السلف كما ذكر ابن القيم ، ولكن الأولى الاقتصار على ما ورد في السنة النبوية كما سبق، وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة: أن كتابة سورة أو آيات من القرآن في لوح أو طبق أو قرطاس وغسله بالماء ، وشرب تلك الغسالة رجاء البركة ، أو استفادة علم أو كسب مال أو صحة أو عافية، لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه فعله لنفسه أو غيره ولا أنه أذن فيه لأحد من أصحابه أو رخص فيه لأمته مع وجود الدواعي التي تدعو إلى هذا ، ولم يثبت في أثر صحيح عن أحد من الصحابة، وعلى هذا فالأولى ترك ذلك، وأن يستغنى عنه بما ثبت في الشريعة من الرقية بالقرآن وأسماء الله الحسنى ، وما صح من الأذكار والأدعية النبوية ، وليتقرب إلى الله بما شرع، رجاء التوبة ، وأن يفرج الله كربته . (1)
__________
(1) - فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء ( 1/246 ، 259 )(1/382)
2- تعليق ما كتب من الآيات على عضد المرأة ، وهذا نقله شيخ الإسلام عن أحد رواة الحديث ، وهو علي بن الحسين بن شقيق، وقد اختلف السلف في تعليق الرقى على المريض إذا كانت من القرآن فرخص فيه بعضهم ، وذهب بعضهم إلى التحريم ، واستدلوا بعموم الأحاديث الواردة في النهي عن تعليق التمائم ، مثل قوله - صلى الله عليه وسلم - : " إِنَّ الرُّقَى وَالتَّمَائِمَ وَالتِّوَلَةَ شِرْكٌ " (1) ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : " مَنْ تَعَلَّقَ تَمِيمَةً فَلَا أَتَمَّ اللَّهُ لَهُ، وَمَنْ تَعَلَّقَ وَدَعَةً فَلَا وَدَعَ اللَّهُ لَهُ " (2) ، وغير هذا من الأحاديث التي تدل على النهي عن تعليق التمائم ، وهي أحاديث عامة، ولا مخصص لها، فالأولى ترك تعليق التمائم وإن كانت من القرآن ، لأن هذا العمل قد يفضي إلى تعليق التمائم المحرمة، وقد يحصل امتهان لهذه التمائم مثل أن يدخل بها الحمام عند قضاء الحاجة، وإذا كانت هذه التمائم معلقة على الأطفال فلا يؤمن أن يقع عليها أوساخ ونجاسات ، هذا والله أعلم .
- - - - - -
الرقية بما لم يرد عن النبي - رضي الله عنه -
أفهم من (صحيح مسلم 2199) أن هناك كلمات جائزة في الرقية لم تكن كلمات من القرآن أو الحديث وفي نفس الوقت ليس فيها عبارات تقود إلى الشرك. فهل كلامي صحيح؟
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
__________
(1) - أخرجه أبو داود ح ( 3385 ) من حديث عبد الله بن مسعود
(2) - أخرجه أحمد ( 4/156 ) من حديث عقبة بن عامر(1/383)
الحديث المشار إليه في السؤال أخرجه مسلم ح ( 2200 ) من حديث عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ قَالَ: كُنَّا نَرْقِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَرَى فِي ذَلِكَ ؟ فَقَالَ اعْرِضُوا عَلَيَّ رُقَاكُمْ، لَا بَأْسَ بِالرُّقَى مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شِرْكٌ " ، وأخرج مسلم من حديث جَابِرٍ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الرُّقَى فَجَاءَ آلُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ كَانَتْ عِنْدَنَا رُقْيَةٌ نَرْقِي بِهَا مِنْ الْعَقْرَبِ وَإِنَّكَ نَهَيْتَ عَنْ الرُّقَى قَالَ فَعَرَضُوهَا عَلَيْهِ فَقَالَ مَا أَرَى بَأْسًا مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَنْفَعْهُ " (1) ، وحديث عوف بن مالك يدل على أن ما كان من الرقى يؤدي إلى الشرك فيمنع منه، ويدخل في ذلك ما لا يعقل معناه لأنه لا يؤمن أن يؤدي إلى الشرك، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " نهى علماء المسلمين عن الرقى التي لا يفهم معناها لأنها مظنة الشرك وإن لم يعرف الراقي أنها شرك " (2) ، قال الحافظ ابن حجر: " وقد أجمع العلماء على جواز الرقي عند اجتماع ثلاثة شروط: أن يكون بكلام الله تعالى أو بأسمائه وصفاته وباللسان العربي أو بما يعرف معناه من غيره وأن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها بل بذات الله تعالى " (3) ، وقال الشافعي: " لا بأس أن يرقى بكتاب وما يعرف من ذكر الله "، والمستحب أن يقتصر في الرقية على ما ورد في كتاب الله وسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - سواء ما ورد من قوله أو إقراره، ومن المعلوم أن كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - اشتملا على أكمل الرقى والتعاويذ ، وقد أخرج الترمذي والنسائي من
__________
(1) - أخرجه مسلم ح ( 2199 )
(2) - ينظر: مجموع الفتاوى ( 19/13 )
(3) - أخرجه مسلم ح ( 2199 )(1/384)
حديث أبي سعيد قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَتَعَوَّذُ مِنْ الْجَانِّ وَعَيْنِ الْإِنْسَانِ حَتَّى نَزَلَتْ الْمُعَوِّذَتَانِ فَلَمَّا نَزَلَتَا أَخَذَ بِهِمَا وَتَرَكَ مَا سِوَاهُمَا (1) ، وقال الحافظ : " وعلى كراهة الرقي بغير كتاب الله علماء الأمة " (2) ، وقسم القرطبي الرقى إلى أقسام، فذكر ما يجوز منها ، وما لا يجوز فقال: " الرقي أقسام: أحدها: ما كان يرقى به في الجاهلية مما لا يعقل معناه فيجب اجتنابه لئلا يكون فيه شرك، أو يؤدي إلى الشرك، الثاني: ما كان بكلام الله أو بأسمائه فيجوز فإن كان مأثورا فيستحب ... "، هذا والله أعلم .
- - - - - -
صوت المرأة
السلام عليكم ورحمة الله
يتبادر إلى ذهني سؤال وهو كالآتي: بما أن صوت المرأة ليس عورة مطلقا، ألا يجوز أن تقدم المرأة المسلمة برنامجا إذاعيا جادا ؟ إذا كنا نسمع أصوات النساء في الإذاعة يسألن المشايخ ويستفتين فما الفرق بين هذه وتلك؟
وعلى الجانب المرئي هل يجوز أن تخرج المرأة المسلمة بحجابها الشرعي مع كوادر نسائية داخل الأستديو حتى لا نقع في محظور الاختلاط وتقدم برنامجا جادا
في الحقيقة لدينا شيخات ونساء فاضلات ذوات علم في مجالات متعددة يمثلن الوجه المشرق لنا في هذا الزمان لماذا لا يراهن العالم؟ لماذا لا تستفيد منهن البشريه؟
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
__________
(1) - أخرجه ح ( 1984 ) والنسائي ح ( 5399 ).
(2) - فتح الباري ( 10/195 )(1/385)
صوت المرأة يجوز سماعه عند الحاجة وأمن الفتنة، فقد كانت المرأة تستفتي النبي - صلى الله عليه وسلم - وتسأله عما تحتاج إليه من الأحكام والقضايا ويكون ذلك بحضور الصحابة، وقد حصل هذا في وقائع عديدة منها : ما أخرجه البخاري ومسلم عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: قَالَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي حُبَيْشٍ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَا أَطْهُرُ أَفَأَدَعُ الصَّلَاةَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِنَّمَا ذَلِكِ عِرْقٌ وَلَيْسَ بِالْحَيْضَةِ فَإِذَا أَقْبَلَتْ الْحَيْضَةُ فَاتْرُكِي الصَّلَاةَ فَإِذَا ذَهَبَ قَدْرُهَا فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّي . (1)
__________
(1) - أخرجه البخاري ح ( 306 )، ومسلم ح ( 333 )(1/386)
قال الحافظ ابن حجر: " وفيه جوازا استفتاء المرأة بنفسها ومشافهتها للرجل فيما يتعلق بأحوال النساء وجواز سماع صوتها للحاجة " (1) ، وأخرج البخاري ومسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ كَانَ الْفَضْلُ رَدِيفَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ فَجَعَلَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَتَنْظُرُ إِلَيْهِ فَجَعَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَصْرِفُ وَجْهَ الْفَضْلِ إِلَى الشِّقِّ الْآخَرِ فَقَالَتْ إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ أَفَأَحُجُّ عَنْهُ قَالَ نَعَمْ وَذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ .
__________
(1) - فتح البار ي ( 1/410 )(1/387)
(1) قال الحافظ ابن حجر: " ويؤخذ منه جواز كلام المرأة وسماع صوتها للأجانب عند الضرورة كالاستفتاء عن العلم والترافع في الحكم والمعاملة " (2) ، وأخرج البخاري ومسلم عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ هِنْدَ بِنْتَ عُتْبَةَ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ وَلَيْسَ يُعْطِينِي مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي إِلَّا مَا أَخَذْتُ مِنْهُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ فَقَالَ خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ " (3) ، قال الحافظ ابن حجر: " استدل بهذا الحديث على جواز سماع كلام الأجنبية عند الحكم والافتاء " (4) ، وأخرج البخاري ومسلم عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُبَايِعُ النِّسَاءَ بِالْكَلَامِ بِهَذِهِ الْآيَةِ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا قَالَتْ وَمَا مَسَّتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَدَ امْرَأَةٍ إِلَّا امْرَأَةً يَمْلِكُهَا " (5) ، قال ابن حجر: " في الحديث أن كلام الأجنبية مباح سماعه وأن صوتها ليس بعورة ومنع لمس بشرة الأجنبية من غير ضرورة لذلك .
__________
(1) - أخرجه البخاري ح ( 1855 )، ومسلم ح ( 1334 )
(2) - فتح الباري ( 4/70 )
(3) - أخرجه البخاري ح ( 5364 )، ومسلم ح ( 1714 )
(4) - فتح الباري ( 9/509 )
(5) - أخرجه البخاري ح ( 7214)، ومسلم ح ( 1866 )(1/388)
" (1) ، وكان للمرأة إسهام كبير ودور فاعل في حمل العلم ونشره، وهذا ظاهر عند التأمل في تراجم أعلام النساء في كتب التراجم، فالمرأة التي أمتن الله عليها بالعلم والفقه في الدين عليها أن تسعى في تبليغه ونشره من خلال المجالات المناسبة، ومن ذلك المشاركة في الدروس والمحاضرات والندوات التي تقام للنساء ، وتأليف الكتب المفيدة، والمقالات النافعة ونحو ذلك، أما المشاركة في وسائل الإعلام مع المحافظة على الضوابط الشرعية فهذا يحتاج إلى دراسة وافية ينظر فيه إلى ما يترتب على ذلك من المصالح وما قد يحصل من المفاسد والمحاذير.
وضع الرأس عند النوم
ما هو الوضع الصحيح لاتجاه الرأس عند النوم ؟
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
__________
(1) - فتح الباري ( 13/204 )(1/389)
لم يرد - حسب علمي - نصٌ يحدد جهة الرأس عند النوم، لكن ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يتوسد يده اليمنى وينام على شقه الأيمن فعَنْ سُهَيْلٍ، قَالَ: كَانَ أَبُو صَالِحٍ يَأْمُرُنَا إِذَا أَرَادَ أَحَدُنَا أَنْ يَنَامَ، أَنْ يَضْطَجِعَ عَلَى شِقِّهِ اْلأَيْمَنِ، ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَاوَاتِ وَرَبَّ الأرض وَرَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ، فَالِقَ الْحَبِّ وَالنَّوَى، وَمُنْزِلَ التَّوْرَاةِ وَاْلإنْجِيلِ وَالْفُرْقَانِ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ كُلِّ شَيْءٍ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهِ. اللَّهُمَّ أَنْتَ اْلأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ اْلآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ. اقْضِ عَنَّا الدَّيْنَ، وَأَغْنِنَا مِنَ الْفَقْرِ. وَكَانَ يَرْوِي ذَلِكَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - . (1) ، وعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ - رضي الله عنه - ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ، فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلاَةِ، ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ اْلأَيْمَنِ، ثُمَّ قُلِ: اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ، رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ، لاَ مَلْجَأَ وَلاَ مَنْجَا مِنْكَ إِلاَ إِلَيْكَ. اللَّهُمَّ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ، وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ. فَإِنْ مُتَّ مِنْ لَيْلَتِكَ فَأَنْتَ عَلَى الْفِطْرَةِ، وَاجْعَلْهُنَّ آخِرَ مَا تَتَكَلَّمُ بِهِ.
__________
(1) - أخرجه مسلم ح (2713)(1/390)
قَالَ: فَرَدَّدْتُهَا عَلَى النَّبِي ِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَلَمَّا بَلَغْتُ: اللَّهُمَّ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ، قُلْتُ: وَرَسُولِكَ. قَالَ: لاَ، وَنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ. (1) ، وعَنْ أم المؤمنين حَفْصَةَ رضي الله عنها، زَوْجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْقُدَ وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى تَحْتَ خَدِّهِ، ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ قِنِي عَذَابَكَ يَوْمَ تَبْعَثُ عِبَادَكَ، ثَلاَثَ مِرَارٍ. (2) ، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - َ قَالَ: إِذَا أَوَى أَحَدُكُمْ إِلَى فِرَاشِهِ، فَلْيَأْخُذْ دَاخِلَةَ إِزَارِهِ، فَلْيَنْفُضْ بِهَا فِرَاشَهُ، وَلْيُسَمِّ اللَّهَ، فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُ مَا خَلَفَهُ بَعْدَهُ عَلَى فِرَاشِهِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَضْطَجِعَ فَلْيَضْطَجِعْ عَلَى شِقِّهِ اْلأَيْمَنِ، وَلْيَقُلْ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبِّي، بِكَ وَضَعْتُ جَنْبِي، وَبِكَ أَرْفَعُهُ، إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِي فَاغْفِرْ لَهَا، وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ (3) ، ويؤخذ من هذه الأحاديث أن السنة أن ينام الإنسان على شقه الأيمن ويضع يده تحت خده ويقول ما ورد من الأذكار في هذه الأحاديث، والنوم على الشق الأيمن له فوائد صحية، قال الحافظ ابن القيم: " وأنفع النوم: أن ينام على الشق الأيمن، ليستقر الطعام بهذه الهيئة في المعدة استقرارا حسنا، فإن المعدة أميل إلى الجانب الأيسر قليلا ... وكثرة النوم على الجانب الأيسر مضر بالقلب، بسبب ميل الأعضاء إليه، فتنصب إليه المواد.
__________
(1) - أخرجه البخاري ح (6311) ، ومسلم ح (2710)
(2) - أخرجه أبو داود ح (5045)
(3) - أخرجه البخاري ح (6320)، ومسلم ح (2714)، واللفظ له .(1/391)
" (1) ، وقد ثبت علمياً أن النوم على الجانب الأيمن يمنع ضغط الكبد على المعدة، ويساعد على تفريغ محتوياتها، كما يسهل عمل القلب؛ إذ يمنع ضغط المعدة والحجاب الحاجز عليه، أما النوم على الجانب الأيسر.. فإنه يزيد العبء على القلب نتيجة لوضع المعدة والكبد على القلب في هذا الاضطجاع، وكذلك على الرئة اليمنى ... أما النوم على الصدر فله ضرره ؛ إذ أن النائم لابد أن يلوي عنقه إلى أحد الجانبين حتى يتنفس، أما النوم على الظهر ... فإنه يجعل الأحشاء ترفع الحجاب الحاجز، وهذا بدوره يضغط على القفص الصدري، فيحس النائم بالضيق، ولربما قام من نومه متضايقاً " (2) ، هذا والله أعلم
- - - - - -
آداب النوم
__________
(1) - ينظر: زاد المعاد ( 4/166 )
(2) - دراسة لظاهرة النوم: أجراها د: عبد القادر الميلادي، مجلة منار الإسلام سبتمبر 1982، وينظر: الإعجاز العلمي في الإسلام ص (111)، لمحمد كامل عبد الصمد(1/392)
النوم آية من آيات الله ونعمة من نعمه التي أمتن بها على عباده، وضرورة من ضروريات الحياة، قال تعالى: { وَمِنْ آيَاته مَنَامكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَار وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْله إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَات لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } (1) ، وقال تعالى: { أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } (2) ، ويحصل بالنوم الراحة والسكون وزوال التعب والمشقة وتجديد النشاط والقوة ، قال تعالى : { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً } (3) ، وقال تعالى: { وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً } (4) ، والإسلام الذي اتصفت تعاليمه وتشريعاته بالشمول والكمال بحيث اعتنى بالإنسان في جميع مراحله وكافة جوانب حياته لم يغفل حالة النوم والتي يقضي الإنسان فيها حوالي ثلث حياته بل أحاطها الإسلام بالآداب والسنن فمن أخذ بها تحقق له في نومه الطمأنينة والراحة، والهدوء والسكينة، وابتعد عن القلق والأرق، وسوف اذكر بعض هذه السنن والآداب بإيجاز بحسب ما يتسع له المقام .
وهذه الآداب والسنن تنقسم إلى قسمين:
1- السنن والآداب القولية والفعلية عند إرادة النوم والاضطجاع على الفراش:
- استحباب النوم مبكراً والحذر من السهر لغير حاجة:
ففي حديث أَبِي بَرْزَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَ الْعِشَاءِ وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا. (5)
__________
(1) - سورة الروم الآية: 23
(2) - سورة النمل الآية: 86
(3) - الفرقان الآية: 47
(4) - النبأ الآية: 9
(5) - أخرجه البخاري ح ( 568 ) ، ومسلم ح ( 647 )، واللفظ للبخاري(1/393)
قال الحافظ: " وذلك لأن النوم قبلها قد يؤدي إلى إخراجها عن وقتها مطلقا، أو عن الوقت المختار، والسمر بعدها قد يؤدي إلى النوم عن الصبح أو عن وقتها المختار أو عن قيام الليل. وكان عمر بن الخطاب يضرب الناس على ذلك ويقول: " أسمرًا أول الليل ونومًا في آخره " (1) ، ويجوز السمر للحاجة فعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَسْمُرُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ فِي الْأَمْرِ مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ وَأَنَا مَعَهُمَا . (2)
قال الترمذي: " وقد اختلف أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - والتابعين ومن بعدهم في السمر بعد صلاة العشاء الآخرة فكره قوم منهم السمر بعد صلاة العشاء ورخص بعضهم إذا كان في معنى العلم وما لا بد منه من الحوائج وأكثر أهل الحديث على الرخصة" (3)
- الوضوء عند النوم:
فعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ - رضي الله عنه - ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ، فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلاَةِ ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الْأَيْمَنِ ..... (4)
وإذا كان الإنسان عليه جنابة فيستحب له يغتسل قبل أن ينام، وإذا لم يتيسر له الغسل فيخفف الجنابة بالوضوء ففي حديث عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه - أنه سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَيَرْقُدُ أَحَدُنَا وَهُوَ جُنُبٌ ؟ قَالَ: نَعَمْ إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَلْيَرْقُدْ وَهُوَ جُنُبٌ . (5)
- الوتر قبل النوم:
__________
(1) - فتح الباري ( 2/73 )
(2) - أخرجه الترمذي ح ( 154 )
(3) - جامع الترمذي ( 1/284 )
(4) - أخرجه البخاري ح ( 247 ) ، ومسلم ح ( 2710 )
(5) - أخرجه البخاري ح ( 286 ) ، ومسلم ح ( 305 )(1/394)
الوتر آخر الليل أفضل لمن عرف من نفسه أنه يقوم آخر الليل، وأما من خشي ألا يقوم آخر الليل فيوتر قبل أن ينام ففي حديث جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَنْ خَافَ أَنْ لَا يَقُومَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ فَلْيُوتِرْ أَوَّلَهُ وَمَنْ طَمِعَ أَنْ يَقُومَ آخِرَهُ فَلْيُوتِرْ آخِرَ اللَّيْلِ فَإِنَّ صَلَاةَ آخِرِ اللَّيْلِ مَشْهُودَةٌ وَذَلِكَ أَفْضَلُ (1)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: أَوْصَانِي خَلِيلِي - صلى الله عليه وسلم - بِثَلَاثٍ: صِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ وَرَكْعَتَيْ الضُّحَى وَأَنْ أُوتِرَ قَبْلَ أَنْ أَنَامَ " (2)
- نفض الفراش قبل النوم:
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: إِذَا أَوَى أَحَدُكُمْ إِلَى فِرَاشِهِ فَلْيَأْخُذْ دَاخِلَةَ إِزَارِهِ فَلْيَنْفُضْ بِهَا فِرَاشَهُ وَلْيُسَمِّ اللَّهَ فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُ مَا خَلَفَهُ بَعْدَهُ عَلَى فِرَاشِهِ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَضْطَجِعَ فَلْيَضْطَجِعْ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ... (3)
- الاضطجاع على الشق الأيمن:
وقد دل عليه حديث أبي هريرة، وحديث البراء بن ع(9) رضي الله عنهما كما تقدم .
- وضع اليد اليمنى تحت الخد:
فعَنْ أم المؤمنين حَفْصَةَ رضي الله عنها، زَوْجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْقُدَ وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى تَحْتَ خَدِّهِ، ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ قِنِي عَذَابَكَ يَوْمَ تَبْعَثُ عِبَادَكَ، ثَلاَثَ مِرَارٍ. (4)
__________
(1) - أخرجه مسلم ح ( 755 )
(2) - أخرجه البخاري ح ( 731 ) ، ومسلم ح ( 1178 )
(3) - أخرجه البخاري ح ( 6320 )، ومسلم ح ( 2714 )
(4) - أخرجه أبو داود ح (5045)(1/395)
وعَنْ حُذَيْفَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: " كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ مِنْ اللَّيْلِ وَضَعَ يَدَهُ تَحْتَ خَدِّهِ ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ بِاسْمِكَ أَمُوتُ وَأَحْيَا وَإِذَا اسْتَيْقَظَ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ . (1)
- كراهة النوم على البطن:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ رَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلًا مُضْطَجِعًا عَلَى بَطْنِهِ فَقَالَ إِنَّ هَذِهِ ضَجْعَةٌ لَا يُحِبُّهَا اللَّهُ (2)
- الأذكار عند النوم:
ورد أذكار عديدة تشرع عند النوم يستحب للمسلم أن يحافظ على ما تيسر منها ومن ذلك ما جاء في الأحاديث التالية:
* حديث الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلَاةِ ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الْأَيْمَنِ ثُمَّ قُلْ: اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَا مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ اللَّهُمَّ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ فَإِنْ مُتَّ مِنْ لَيْلَتِكَ فَأَنْتَ عَلَى الْفِطْرَةِ وَاجْعَلْهُنَّ آخِرَ مَا تَتَكَلَّمُ بِهِ قَالَ فَرَدَّدْتُهَا عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمَّا بَلَغْتُ اللَّهُمَّ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ قُلْتُ وَرَسُولِكَ قَالَ لَا وَنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ (3)
__________
(1) - أخرجه البخاري ح ( 6314 )
(2) - أخرجه الترمذي ح ( 2692 )
(3) - أخرجه البخاري ح ( 247 ) ، ومسلم ح ( 2710 )(1/396)
* حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، رضي الله عنهما، أَنَّهُ أَمَرَ رَجُلًا، إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ، قَالَ: اللَّهُمَّ خَلَقْتَ نَفْسِي وَأَنْتَ تَوَفَّاهَا، لَكَ مَمَاتُهَا وَمَحْيَاهَا، إِنْ أَحْيَيْتَهَا فَاحْفَظْهَا، وَإِنْ أَمَتَّهَا فَاغْفِرْ لَهَا. اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ. فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: أَسَمِعْتَ هَذَا مِنْ عُمَرَ؟ فَقَالَ: مِنْ خَيْرٍ مِنْ عُمَرَ، مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . (1)
* حديث عَلِيٌّ أَنَّ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلَام اشْتَكَتْ مَا تَلْقَى مِنْ الرَّحَى مِمَّا تَطْحَنُ فَبَلَغَهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أُتِيَ بِسَبْيٍ فَأَتَتْهُ تَسْأَلُهُ خَادِمًا فَلَمْ تُوَافِقْهُ فَذَكَرَتْ لِعَائِشَةَ فَجَاءَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرَتْ ذَلِكَ عَائِشَةُ لَهُ فَأَتَانَا وَقَدْ دَخَلْنَا مَضَاجِعَنَا فَذَهَبْنَا لِنَقُومَ فَقَالَ عَلَى مَكَانِكُمَا حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ قَدَمَيْهِ عَلَى صَدْرِي فَقَالَ أَلَا أَدُلُّكُمَا عَلَى خَيْرٍ مِمَّا سَأَلْتُمَاهُ إِذَا أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا فَكَبِّرَا اللَّهَ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ وَاحْمَدَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَسَبِّحَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمَا مِمَّا سَأَلْتُمَاهُ . (2)
- استحضار نية قيام الليل عند النوم:
فعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رضي الله عنه - أن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: مَنْ أَتَى فِرَاشَهُ وَهُوَ يَنْوِي أَنْ يَقُومَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ حَتَّى أَصْبَحَ كُتِبَ لَهُ مَا نَوَى وَكَانَ نَوْمُهُ صَدَقَةً عَلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ . (3)
__________
(1) - أخرجه مسلم ح ( 2712 )
(2) - أخرجه البخاري ح ( 3113 ) ، ومسلم ح ( 2727 )
(3) - أخرجه النسائي ح ( 1765 )(1/397)
- قراءة بعض الآيات والسور مثل:
* قراءة آية الكرسي:
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: وَكَّلَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ فَأَتَانِي آتٍ فَجَعَلَ يَحْثُو مِنْ الطَّعَامِ فَأَخَذْتُهُ فَقُلْتُ لَأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرَ الْحَدِيثَ فَقَالَ إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنْ اللَّهِ حَافِظٌ وَلَا يَقْرَبُكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ ذَاكَ شَيْطَانٌ. (1)
- قراءة الآيتين الأخيرتين من سورة البقرة :
ففي حديث أَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : الْآيَتَانِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مَنْ قَرَأَهُمَا فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ . (2)
- قراءة قل هو الله أحد والمعوذتين:
ففي حديث عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ كُلَّ لَيْلَةٍ جَمَعَ كَفَّيْهِ ثُمَّ نَفَثَ فِيهِمَا فَقَرَأَ فِيهِمَا قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وَ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وَ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا مَا اسْتَطَاعَ مِنْ جَسَدِهِ يَبْدَأُ بِهِمَا عَلَى رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ وَمَا أَقْبَلَ مِنْ جَسَدِهِ يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ . (3)
- كراهية النوم على سطح غير محجور:
__________
(1) - أخرجه البخاري ح ( 3275 ) ، ومسلم ح ( 505 )
(2) - أخرجه البخاري ح ( 4008 ) ، ومسلم ح ( 807 )
(3) - أخرجه البخاري ح 5018 ) ، ومسلم ح ( 2192 )(1/398)
فعَنْ عَلِيٍّ بن شَيْبَانَ - رضي الله عنه - ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : مَنْ بَاتَ عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ لَيْسَ لَهُ حِجَارٌ، فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ. (1)
2- السنن والآداب القولية والفعلية عند الاستيقاظ:
- ما يقول إذا كان يفزع في منامه:
عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: إِذَا فَزِعَ أَحَدُكُمْ فِي النَّوْمِ، فَلْيَقُلْ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ غَضَبِهِ وَعِقَابِهِ، وَشَرِّ عِبَادِهِ، وَمِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ، وَأَنْ يَحْضُرُونِ. فَإِنَّهَا لَنْ تَضُرَّهُ (2)
- ما يقول إذا تعارَّ من الليل أو استيقظ:
عن عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: مَنْ تَعَارَّ مِنْ اللَّيْلِ فَقَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي أَوْ دَعَا اسْتُجِيبَ لَهُ فَإِنْ تَوَضَّأَ وَصَلَّى قُبِلَتْ صَلَاتُهُ . (3)
__________
(1) - أخرجه أبو داود ح ( 4384 ) ( حجار ): ساتر وحاجز كحائط وغيره يمنعه من السقوط .
(2) - أخرجه الترمذي ح ( 3451 )، وقال: حديث حسن غريب
(3) - أخرجه البخاري ح ( 1154 )(1/399)
وعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا اسْتَيْقَظَ مِنْ اللَّيْلِ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ أَسْتَغْفِرُكَ لِذَنْبِي وَأَسْأَلُكَ رَحْمَتَكَ اللَّهُمَّ زِدْنِي عِلْمًا وَلَا تُزِغْ قَلْبِي بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنِي وَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ . (1)
- ما يقول إذا قام من الليل يتهجد:
فعن ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ قَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ وَلَكَ الْحَمْدُ لَكَ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ مَلِكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ الْحَقُّ وَوَعْدُكَ الْحَقُّ وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ وَقَوْلُكَ حَقٌّ وَالْجَنَّةُ حَقٌّ وَالنَّارُ حَقٌّ وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ وَمُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - حَقٌّ وَالسَّاعَةُ حَقٌّ اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ وَبِكَ خَاصَمْتُ وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ أَوْ لَا إِلَهَ غَيْرُكَ . (2)
__________
(1) - أخرجه أبو داود ح ( 4402 )
(2) - أخرجه البخاري ح ( 1120 )، ومسلم ح ( 769 )(1/400)
وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ فَتَحَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَعَ أَهْلِهِ سَاعَةً ثُمَّ رَقَدَ فَلَمَّا كَانَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ قَعَدَ فَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ثُمَّ قَامَ فَتَوَضَّأَ وَاسْتَنَّ فَصَلَّى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً ثُمَّ أَذَّنَ بِلَالٌ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الصُّبْحَ . (1)
وعن أبي سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ بِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَفْتَتِحُ صَلَاتَهُ إِذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ قَالَتْ كَانَ إِذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ افْتَتَحَ صَلَاتَهُ اللَّهُمَّ رَبَّ جَبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . (2)
- ما يقول إذا رأي رويا في منامه:
فعن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ مِنْ اللَّهِ وَالْحُلُمُ مِنْ الشَّيْطَانِ فَإِذَا حَلَمَ أَحَدُكُمْ حُلُمًا يَخَافُهُ فَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ وَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّهَا فَإِنَّهَا لَا تَضُرُّهُ . (3)
__________
(1) - أخرجه البخاري ح ( 4569 )، ومسلم ح ( 763 )
(2) - أخرجه أحمد ح ( 25266 )
(3) - أخرجه البخاري ح ( 3292 ) ، ومسلم ح ( 2261 )(1/401)
وعن أبي سَلَمَةَ - رضي الله عنه - قال: لَقَدْ كُنْتُ أَرَى الرُّؤْيَا فَتُمْرِضُنِي حَتَّى سَمِعْتُ أَبَا قَتَادَةَ يَقُولُ وَأَنَا كُنْتُ لَأَرَى الرُّؤْيَا تُمْرِضُنِي حَتَّى سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ الرُّؤْيَا الْحَسَنَةُ مِنْ اللَّهِ فَإِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مَا يُحِبُّ فَلَا يُحَدِّثْ بِهِ إِلَّا مَنْ يُحِبُّ وَإِذَا رَأَى مَا يَكْرَهُ فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّهَا وَمِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ وَلْيَتْفِلْ ثَلَاثًا وَلَا يُحَدِّثْ بِهَا أَحَدًا فَإِنَّهَا لَنْ تَضُرَّهُ . (1)
وعَنْ جَابِرٍ - رضي الله عنه - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: إِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ الرُّؤْيَا يَكْرَهُهَا فَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ ثَلَاثًا وَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ ثَلَاثًا وَلْيَتَحَوَّلْ عَنْ جَنْبِهِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ . (2)
- ما يقول عند القلق في النوم:
عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: شَكَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ الْمَخْزُومِيُّ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَنَامُ اللَّيْلَ مِنْ الْأَرَقِ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَقُلْ اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَمَا أَظَلَّتْ وَرَبَّ الْأَرَضِينَ وَمَا أَقَلَّتْ وَرَبَّ الشَّيَاطِينِ وَمَا أَضَلَّتْ كُنْ لِي جَارًا مِنْ شَرِّ خَلْقِكَ كُلِّهِمْ جَمِيعًا أَنْ يَفْرُطَ عَلَيَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَوْ أَنْ يَبْغِيَ عَزَّ جَارُكَ وَجَلَّ ثَنَاؤُكَ وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ . (3)
__________
(1) - أخرجه البخاري ح ( 7044) ، ومسلم ح ( 2261 )
(2) - أخرجه مسلم ح ( 2262 )
(3) - أخرجه الترمذي ح (3445)، وقال: حديث ليس إسناده بالقوي(1/402)
- التسوك إذا قام من الليل:
فعَنْ حُذَيْفَةَ - رضي الله عنه - ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَشُوصُ فَاهُ بِالسِّوَاكِ. (1)
وعَنْ أم المؤمنين عَائِشَةَ رضي الله عنها، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ لاَ يَرْقُدُ مِنْ لَيْلٍ وَلاَ نَهَارٍ، فَيَسْتَيْقِظُ، إِلاَ تَسَوَّكَ قَبْلَ أَنْ يَتَوَضَّأَ. (2)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رضي الله عنهما، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي بِاللَّيْلِ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ فَيَسْتَاكُ. (3)
عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ لَا يَنَامُ إِلَّا وَالسِّوَاكُ عِنْدَهُ فَإِذَا اسْتَيْقَظَ بَدَأَ بِالسِّوَاكِ . (4)
- ذكر الله عند الاستيقاظ:
يشرع عند الاستيقاظ من النوم أن يأتي بالأذكار الواردة ومنها ما ورد في الأحاديث الآتية:
* عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ قَالَ بِاسْمِكَ أَمُوتُ وَأَحْيَا وَإِذَا قَامَ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ . (5)
__________
(1) - أخرجه البخاري ح ( 246 ) ، ومسلم ح ( 255 ) ( يشوص ): يدلك أو يغسل أو يحك .
(2) - أخرجه أبو داود ح ( 52 )
(3) - أخرجه مسلم ح ( 256 ) ، وابن ماجه ح ( 284 ) ، واللفظ له
(4) - أخرجه أحمد ح ( 5979 )
(5) - أخرجه البخاري ح ( 6312 )، ومسلم ح ( 3339 )(1/403)
* وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - ، أَنَّ رَسُولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ إِذَا هُوَ نَامَ ثَلاَثَ عُقَدٍ، يَضْرِبُ على كُلَّ عُقْدَةٍ، عَلَيْكَ لَيْلٌ طَوِيلٌ فَارْقُدْ، فَإِنِ اسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ اللَّهَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ صَلَّى انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَأَصْبَحَ نَشِيطًا طَيِّبَ النَّفْسِ، وَإِلاَ أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلاَنَ. (1)
* وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَافَانِي فِي جَسَدِي وَرَدَّ عَلَيَّ رُوحِي وَأَذِنَ لِي بِذِكْرِهِ . (2)
- غسل اليدين عند الاستيقاظ من النوم وقبل غمسهما في إناء الوضوء :
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَلْيَجْعَلْ فِي أَنْفِهِ ثُمَّ لِيَنْثُرْ وَمَنْ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ وَإِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلْيَغْسِلْ يَدَهُ قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهَا فِي وَضُوئِهِ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ. (3)
وعَنْ جَابِرٍ - رضي الله عنه - ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنَ النَّوْمِ فَأَرَادَ أَنْ يَتَوَضَّأَ، فَلاَ يُدْخِلْ يَدَهُ فِي وَضُوئِهِ حَتَّى يَغْسِلَهَا، فَإِنَّهُ لاَ يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ وَلاَ عَلَى مَا وَضَعَهَا؟ (4)
- الاستنثار ثلاثا :
__________
(1) - أخرجه البخاري ح ( 1142 )، ومسلم ح ( 776 )
(2) - أخرجه الترمذي ح ( 3323 )
(3) - أخرجه البخاري ح ( 162 )، ومسلم ح ( 237 )
(4) - أخرجه ابن ماجه ح ( 389 )(1/404)
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَنَامِهِ فَلْيَسْتَنْثِرْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَبِيتُ عَلَى خَيَاشِيمِهِ. (1)
- الوضوء والصلاة:
* فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - ، أَنَّ رَسُولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ إِذَا هُوَ نَامَ ثَلاَثَ عُقَدٍ، يَضْرِبُ على كُلَّ عُقْدَةٍ، عَلَيْكَ لَيْلٌ طَوِيلٌ فَارْقُدْ، فَإِنِ اسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ اللَّهَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ صَلَّى انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَأَصْبَحَ نَشِيطًا طَيِّبَ النَّفْسِ، وَإِلاَ أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلاَنَ. (2)
هذه جملة من الآداب والسنن على المسلم أن يحافظ على ما تيسر منها حتى يتحقق له في نومه الهدوء والطمأنينة والحفظ من الشيطان ومن كل ذي شر ، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل .
- - - - - -
أصل التشهد
التحيات هو لقاء بين الله عز وجل وبين الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حادثة الإسراء والمعراج، عندما دخل الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "التحيات لله والصلوات والطيبات رد الله عز وجل السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وكان يحضر المشهد الملائكة وقالوا اشهدوا أن لا إله إلا الله.
فهل هذه المعلومة صحيحة؟.
الجواب:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين . وبعد :
__________
(1) - أخرجه البخاري ح ( 3295 ) ، ومسلم ح ( 2389 )
(2) - أخرجه البخاري ح ( 1142 )، ومسلم ح ( 776 )(1/405)
هذه المعلومة لا أصل لها - فيما أعلم - ثم كيف ينسب إلى الله عز وجل أنه قال : السلام علينا ..... الخ والله هو السلام وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - الصحابة - رضي الله عنهم - أن يقولوا : السلام على الله؛ كما في حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - قال : كُنَّا نَقُولُ فِي الصَّلَاةِ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - السَّلَامُ عَلَى اللَّهِ السَّلَامُ عَلَى فُلَانٍ فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ يَوْمٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلَامُ فَإِذَا قَعَدَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَقُلْ التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ فَإِذَا قَالَهَا أَصَابَتْ كُلَّ عَبْدٍ لِلَّهِ صَالِحٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ثُمَّ يَتَخَيَّرُ مِنْ الْمَسْأَلَةِ مَا شَاءَ " وفي رواية: قال: عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - التَّشَهُّدَ كَفِّي بَيْنَ كَفَّيْهِ كَمَا يُعَلِّمُنِي السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ .... (1)
__________
(1) - أخرجه البخاري ح (831)، و مسلم ح (402) واللفظ لمسلم..(1/406)
وجاء في حديث أنس - رضي الله عنه - ، قال : قَالَ جِبْرِيل لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إِنَّ اللَّه يُقْرِئ خَدِيجَة السَّلَام " يَعْنِي فَأَخْبِرْهَا " فَقَالَتْ : إِنَّ اللَّه هُوَ السَّلَام , وَعَلَى جِبْرِيل السَّلَام وَعَلَيْك يَا رَسُول اللَّه السَّلَام وَرَحْمَة اللَّه وَبَرَكَاته (1) قال العلماء : في هذه القصة دليل على وفور فقهها لأنها لم تقل " وعليه السلام " كما وقع لبعض الصحابة - رضي الله عنهم - حيث كانوا يقولون في التشهد " السلام على الله " فنهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فعرفت خديجة رضي الله عنها لصحة فهمها أن الله لا يرد عليه السلام كما يرد على المخلوقين؛ لأن السلام اسم من أسماء الله تعالى، ومعناه سلم من جميع العيوب والنقائص لكماله في ذاته وصفاته وأفعاله، فهذه الألفاظ المذكورة في السؤال هي التي علَّم النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه أن يقولوها إذا جلسوا للتشهد... ومعنى التحيات: جمع تحية أي أنواع التعظيم لله سبحانه ....والصلوات : أي جميع الصلوات من الفرائض والنوافل وسائر العبادات لله سبحانه. والطيبات : أي الطيبات من الكلمات والأفعال والصفات لله وحده فهو طيب لا يقبل إلا طيباً، قال تعالى : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } (2)
- - - - - -
كيف أقر النبي - صلى الله عليه وسلم - تبديل القرآن
عندي سؤال عن حديث شريف بارك الله فيكم: جاء في مسند أحمد، باقي مسند المكثرين، مسند أنس بن مالك - رضي الله عنه - ما يلي:
__________
(1) - أخرجه النسائي في الكبرى ح (8358)
(2) - سورة فاطر الآية : 10(1/407)
حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا حميد عن أنس أن رجلا كان يكتب للنبي - صلى الله عليه وسلم - وقد كان قرأ البقرة وآل عمران، وكان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جد فينا يعني عظم فكان النبي عليه الصلاة والسلام يملي عليه غفوراً رحيماً فيكتب عليما حكيما فيقول له النبي عليه الصلاة والسلام اكتب كذا وكذا اكتب كيف شئت ويملي عليه عليماً حكيماً فيقول أكتب سميعاً بصيراً فيقول: اكتب اكتب كيف شئت فارتد ذلك الرجل عن الإسلام فلحق بالمشركين: وقال: أنا أعلمكم بمحمد إن كنت لأكتب ما شئت فمات ذلك الرجل فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - إن الأرض لم تقبله، وكذلك في تفسير القرطبي والدر المنثور في تفسير قوله تعالى: (( أو قال سأنزل مصل ما أنزل الله، جاءت الرواية الآتية : أخرج ابن جرير عن عكرمة في قوله: ( و من أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي و لم يوح إليه شيء) قال: نزلت في مسيلمة, ( و من قال سأنزل مثل ما أنزل الله ) قال: نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح, كان يكتب للنبي - صلى الله عليه وسلم - , فيملي عليه عزيز حكيم, فيكتب غفور رحيم , ثم يقرأ عليه فيقول: نعم سواء , فرجع عن الإسلام و لحق بقريش.( سورة الأنعام 93 )
السؤال هو كيف يقر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرجل على تبديله، وعلى هذا يعنى أن الفاصلة يجوز وضعها بالاجتهاد، كما جاء في الحديث:" عزيزاً حكيماً غفوراً رحيماً ما لم تجعل آية رحمة عذاب أو أية عذاب رحمة" فأفيدونا بارك الله فيكم
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:(1/408)
الحديث المشار إليه أخرجه الإمام أحمد في مسنده ح ( 11769 ) من حديث أنس - رضي الله عنه - أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَكْتُبُ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَقَدْ كَانَ قَرَأَ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ، وَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا قَرَأَ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ جَدَّ فِينَا - يَعْنِي عَظُمَ - فَكَانَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ يُمْلِي عَلَيْهِ غَفُورًا رَحِيمًا، فَيَكْتُبُ عَلِيمًا حَكِيمًا فَيَقُولُ لَهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ: اكْتُبْ كَذَا وَكَذَا اكْتُبْ كَيْفَ شِئْتَ، وَيُمْلِي عَلَيْهِ عَلِيمًا حَكِيمًا فَيَقُولُ: أَكْتُبُ سَمِيعًا بَصِيرًا، فَيَقُولُ: اكْتُبْ اكْتُبْ كَيْفَ شِئْتَ فَارْتَدَّ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَنْ الْإِسْلَامِ فَلَحِقَ بِالْمُشْرِكِينَ، وَقَالَ: أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِمُحَمَّدٍ إِنْ كُنْتُ لَأَكْتُبُ مَا شِئْتُ فَمَاتَ ذَلِكَ الرَّجُلُ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إِنَّ الْأَرْضَ لَمْ تَقْبَلْهُ .
وقَالَ أَنَسٌ: فَحَدَّثَنِي أَبُو طَلْحَةَ أَنَّهُ أَتَى الْأَرْضَ الَّتِي مَاتَ فِيهَا ذَلِكَ الرَّجُلُ، فَوَجَدَهُ مَنْبُوذًا، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: مَا شَأْنُ هَذَا الرَّجُلِ ؟ قَالُوا: قَدْ دَفَنَّاهُ مِرَارًا فَلَمْ تَقْبَلْهُ الْأَرْضُ .(1/409)
وهو في الصحيحين بسياق مختصر، ولفظه: كَانَ مِنَّا رَجُلٌ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ قَدْ قَرَأَ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ وَكَانَ يَكْتُبُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَانْطَلَقَ هَارِبًا حَتَّى لَحِقَ بِأَهْلِ الْكِتَابِ، قَالَ: فَرَفَعُوهُ قَالُوا هَذَا قَدْ كَانَ يَكْتُبُ لِمُحَمَّدٍ، فَأُعْجِبُوا بِهِ، فَمَا لَبِثَ أَنْ قَصَمَ اللَّهُ عُنُقَهُ فِيهِمْ، فَحَفَرُوا لَهُ فَوَارَوْهُ، فَأَصْبَحَتْ الْأَرْضُ قَدْ نَبَذَتْهُ عَلَى وَجْهِهَا، ثُمَّ عَادُوا فَحَفَرُوا لَهُ فَوَارَوْهُ، فَأَصْبَحَتْ الْأَرْضُ قَدْ نَبَذَتْهُ عَلَى وَجْهِهَا، ثُمَّ عَادُوا فَحَفَرُوا لَهُ فَوَارَوْهُ، فَأَصْبَحَتْ الْأَرْضُ قَدْ نَبَذَتْهُ عَلَى وَجْهِهَا فَتَرَكُوهُ مَنْبُوذًا . (1)
__________
(1) - أخرجه البخاري ح ( 3617 )، ومسلم ح ( 2781 )(1/410)
ومعنى الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للرجل: اكتب كيف شئت، يعني اكتب هذه الكلمة كيف شئت، إن شئت غفوراً رحيماً، وإن شئت عليماً حكيماً ..... الخ، فكل هذا قد نزل به جبريل، لأن القرآن قد نزل على سبعة أحرف كما صحت بذلك الأحاديث، وهذا فيه توسعة للأمة في أول الإسلام لحاجتها إلى ذلك، حيث رُخص للنبي - صلى الله عليه وسلم - وتلقى من جبريل ختم رؤوس الآيات بما يناسب المقام من أسماء الله تعالى لتقارب المعنى، وهذا يدخل ضمن الأحرف السبعة، كما جاء في حديث أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَ قَرَأْتُ آيَةً وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ خِلَافَهَا فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ أَلَمْ تُقْرِئْنِي آيَةَ كَذَا وَكَذَا ؟ قَالَ: بَلَى، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: أَلَمْ تُقْرِئْنِيهَا كَذَا وَكَذَا ؟ فَقَالَ: بَلَى كِلَاكُمَا مُحْسِنٌ مُجْمِلٌ، قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ فَضَرَبَ صَدْرِي فَقَالَ يَا أُبَيُّ بْنَ كَعْبٍ، إِنِّي أُقْرِئْتُ الْقُرْآنَ فَقِيلَ لِي عَلَى حَرْفٍ أَوْ عَلَى حَرْفَيْنِ قَالَ: فَقَالَ الْمَلَكُ الَّذِي مَعِي عَلَى حَرْفَيْنِ، فَقُلْتُ: عَلَى حَرْفَيْنِ، فَقَالَ عَلَى حَرْفَيْنِ، أَوْ ثَلَاثَةٍ فَقَالَ الْمَلَكُ الَّذِي مَعِي عَلَى ثَلَاثَةٍ، فَقُلْتُ: عَلَى ثَلَاثَةٍ حَتَّى بَلَغَ سَبْعَةَ أَحْرُفٍ، لَيْسَ مِنْهَا إِلَّا شَافٍ كَافٍ إِنْ قُلْتَ غَفُورًا رَحِيمًا أَوْ قُلْتَ سَمِيعًا عَلِيمًا أَوْ عَلِيمًا سَمِيعًا فَاللَّهُ كَذَلِكَ مَا لَمْ تَخْتِمْ آيَةَ عَذَابٍ بِرَحْمَةٍ أَوْ آيَةَ رَحْمَةٍ بِعَذَابٍ (1) ، وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ عَلِيمًا حَكِيمًا، غَفُورًا رَحِيمًا (2) ،
__________
(1) - أخرجه أحمد ح ( 20222 )
(2) - أخرجه أحمد ح ( 8040 )(1/411)
وفي حديث أبي بكرة - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: أَتَانِي جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ عَلَيْهِمَا السَّلَام فَقَالَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَام اقْرَأْ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ فَقَالَ مِيكَائِيلُ اسْتَزِدْهُ قَالَ اقْرَأْهُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ كُلِّهَا شَافٍ كَافٍ مَا لَمْ تُخْتَمْ آيَةُ رَحْمَةٍ بِعَذَابٍ أَوْ آيَةُ عَذَابٍ بِرَحْمَةٍ . (1)
ولكن لا يجوز هذا التغيير والتبديل لكل أحد بل يقتصر في القراءة على ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " اقرءوا كَمَا عُلِّمْتُمْ " (2)
وفي الصحيحين من حديث عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه - قال: سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ عَلَى غَيْرِ مَا أَقْرَؤُهَا وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَقْرَأَنِيهَا وَكِدْتُ أَنْ أَعْجَلَ عَلَيْهِ ثُمَّ أَمْهَلْتُهُ حَتَّى انْصَرَفَ ثُمَّ لَبَّبْتُهُ بِرِدَائِهِ فَجِئْتُ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ إِنِّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ عَلَى غَيْرِ مَا أَقْرَأْتَنِيهَا فَقَالَ لِي أَرْسِلْهُ ثُمَّ قَالَ لَهُ اقْرَأْ فَقَرَأَ قَالَ هَكَذَا أُنْزِلَتْ ثُمَّ قَالَ لِي اقْرَأْ فَقَرَأْتُ فَقَالَ هَكَذَا أُنْزِلَتْ إِنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ فَاقْرَءُوا مِنْهُ مَا تَيَسَّرَ . (3)
__________
(1) - أخرجه أحمد ح ( 19529)
(2) - أخرجه أحمد ح (791)
(3) - أخرجه البخاري ح ( 2419 ) ، ومسلم ح ( 818 )(1/412)
وكان جبريل عليه السلام يعارض النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقرآن في كل عام مرة ، فلما كان العام الذي قبض فيه عارضه به مرتين ، والعرضة الأخيرة هي قراءة زيد بن ثابت وغيره، وهي التي أمر أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - بكتابتها في المصاحف ، ثم في عهد عثمان بن عفان - رضي الله عنه - أمر بكتابتها في المصاحف وإرسالها إلى الأمصار ، وجمع الناس عليها باتفاق من الصحابة ، وأصبحت القراءات الأخرى لا تخرج عن رسم المصحف العثماني . هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل .
- - - - - -
الرقص للرجال
شخص يقول أن الرقص للرجال حلال، لسببين:
1- الإمام النووي يقول بجوازه . " منهاج الطالبين "
2- حديث آخر في مسند الإمام أحمد (3/152) رواه أنس أن الحبشة كانوا يرقصون أمام النبي - صلى الله عليه وسلم - ويقولون بلهجتهم "محمد عبد صالح" فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ماذا يقولون فقالوا: محمد عبد صالح (مسند الإمام أحمد
3- قال علي زرت النبي - صلى الله عليه وسلم - مع جعفر وزيد فقال لزيد أنت موالي فصار زيد يقفز على رجل واحدة حول النبي - صلى الله عليه وسلم - (حجلاً) فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لجعفر أشبهت خلقي وخلقي فقفز جعفر خلف زيد فقال لي النبي - صلى الله عليه وسلم - أنت مني وأنا منك فبدأت بالقفز خلف جعفر مسند أحمد 1/108
أرجو توضيح أسانيد هذه الأحاديث وتبين أن حكم الرقص ليس جائزاً استناداً لها وإظهار ما قال ابن عثيمين رحمه الله وتأييده في عدم جواز الرقص .
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:(1/413)
الرقص إذا قصد به إظهار الفرح والسرور في مناسبات الأعياد والأعراس ونحوها، وخلا من الأمور المحرمة مثل وجود آلات اللهو أو الغناء المحرم أو الاختلاط، ونحو ذلك فهو جائز ، ويدل على هذا ما جاء في حديث عائشة - رضي الله عنها - : قَالَتْ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ بِغِنَاءِ بُعَاثٍ، فَاضْطَجَعَ عَلَى الْفِرَاشِ، وَحَوَّلَ وَجْهَهُ، فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ فَانْتَهَرَنِي، وَقَالَ: مِزْمَارُ الشَّيْطَانِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ: دَعْهُمَا فَلَمَّا غَفَلَ غَمَزْتُهُمَا فَخَرَجَتَا وَكَانَ يَوْمَ عِيدٍ يَلْعَبُ السُّودَانُ بِالدَّرَقِ وَالْحِرَابِ فَإِمَّا سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَإِمَّا قَالَ تَشْتَهِينَ تَنْظُرِينَ فَقُلْتُ نَعَمْ فَأَقَامَنِي وَرَاءَهُ خَدِّي عَلَى خَدِّهِ، وَهُوَ يَقُولُ: دُونَكُمْ يَا بَنِي أَرْفِدَةَ حَتَّى إِذَا مَلِلْتُ قَالَ حَسْبُكِ، قُلْتُ: نَعَمْ قَالَ فَاذْهَبِي (1) ، وفي رواية للترمذي : " فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَإِذَا حَبَشِيَّةٌ تَزْفِنُ - ترقص - وَالصِّبْيَانُ حَوْلَهَا ....." (2)
وأما الحديثان المستفسر عنهما ، فإليك تخريجهما :
__________
(1) - أخرجه البخاري ح ( 950 )، ومسلم ح ( 892 )
(2) - أخرجه الترمذي ح ( 3624 )(1/414)
1- حديث أنس - رضي الله عنه - أخرجه أحمد قال : حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَتْ الْحَبَشَةُ يَزْفِنُونَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَيَرْقُصُونَ وَيَقُولُونَ مُحَمَّدٌ عَبْدٌ صَالِحٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا يَقُولُونَ قَالُوا يَقُولُونَ مُحَمَّدٌ عَبْدٌ صَالِحٌ (1)
2- حديث علي - رضي الله عنه - ، أخرجه أحمد قال: حَدَّثَنَا أَسْوَدُ يَعْنِي ابْنَ عَامِرٍ أَنْبَأَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ هَانِئِ بْنِ هَانِئٍ عَنْ عَلِيٍّ - رضي الله عنه - قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَجَعْفَرٌ وَزَيْدٌ قَالَ: فَقَالَ: لِزَيْدٍ أَنْتَ مَوْلَايَ فَحَجَلَ، قَالَ: وَقَالَ لِجَعْفَرٍ أَنْتَ أَشْبَهْتَ خَلْقِي، وَخُلُقِي قَالَ: فَحَجَلَ وَرَاءَ زَيْدٍ، قَالَ: وَقَالَ: لِي أَنْتَ مِنِّي وَأَنَا مِنْكَ، قَالَ فَحَجَلْتُ وَرَاءَ جَعْفَرٍ . (2)
وفي إسناد هذا الحديث ضعف، هانئ بن هانئ مختلف في توثيقه وقد أخرج الإمام أحمد (3) الحديث من روايته ورواية هبيرة بن يريم مقرونةً وليس فيها لفظة: الحجل، وقال النسائي في هانئ بن هانئ: ليس به بأس، وقال ابن المديني : مجهول ، وقال حرملة عن الشافعي: هانئ بن هانئ لا يعرف، وأهل العلم بالحديث لا ينسبون حديثه؛ لجهالة حاله، وقال الحافظ في التقريب: مستور ، وقال البيهقي: هانئ بن هانئ ليس بالمعروف جداً (4)
هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل .
- - - - - -
هل تدخل النساء في هذا الوعيد: لا يدخل الجنة قاطع رحم ؟
__________
(1) - أخرجه أحمد ح ( 12540 ) ، إسناده صحيح ، وأخرجه ابن حبان ح ( 5870 ) ، من طريق هدبة بن خالد ، عن حماد بن سلمة بهذا الإسناد .
(2) - أخرجه أحمد ح ( 815 )
(3) - أخرجه أحمد ح (731)
(4) - السنن الكبرى ( 10/226 )(1/415)
من المقصود بالحديث الشريف( ما دخل الجنة قاطع رحم) هل هم الرجال أم النساء أم الاثنين معا وما الدليل ولكم جزيل الشكر سلفا .
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
الحديث المشار إليه في السؤال أخرجه البخاري ح (5984) ، ومسلم ح ( 2556 ) من حديث جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعُ رَحِمٍ . "(1/416)
وقطيعة الرحم معناها: الإساءة إلى الأقارب بالقول أو الفعل، وترك الإحسان إليهم، فلا يقوم بزيارتهم، والسلام عليهم، وتفقد أحوالهم، ومشاركتهم في أفراحهم وأتراحهم، وقد حذر الله سبحانه وتعالى من قطيعة الرحم فقال سبحانه: { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ } (1) ، وقال الله تعالى: { وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ } (2) ، وود الحث والترغيب في صلة الرحم، والإحسان إلى الأقارب، وَرُتِبَ على ذلك الأجر العظيم والثواب الجزيل، وسعادة الدنيا والأخرة، فصلة الرحم سبب في زيادة الزرق وطول الأجل، ففي الصحيحين من حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ أَوْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ " (3) ، وصلة الرحم شعار الإيمان بالله واليوم الآخر ففي الصحيحين من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: : مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ " (4) ، وصلة الرحم تجلب صلة الله سبحانه وتعالى لعبده ففي الصحيحين من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ إِنَّ
__________
(1) - سورة محمد الآية: 22
(2) - سورة الرعد الآية: 25
(3) - أخرجه البخاري ح ( 2067 ) ومسلم ح ( 2557 )
(4) - أخرجه البخاري ح ( 6138 ) ، ومسلم ح ( 47 )(1/417)
اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْ خَلْقِهِ قَالَتْ الرَّحِمُ هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنْ الْقَطِيعَةِ قَالَ نَعَمْ أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ قَالَتْ بَلَى يَا رَبِّ قَالَ فَهُوَ لَكِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: " فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ " (1) ، وصلة الرحم سبب في دخول الجنة كما جاء في الصحيحين من حديث أَبِي أَيُّوبَ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ أَعْمَلُهُ يُدْنِينِي مِنْ الْجَنَّةِ وَيُبَاعِدُنِي مِنْ النَّارِ قَالَ تَعْبُدُ اللَّهَ لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ وَتَصِلُ ذَا رَحِمِكَ فَلَمَّا أَدْبَرَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِنْ تَمَسَّكَ بِمَا أُمِرَ بِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ إِنْ تَمَسَّكَ بِهِ . (2)
والخطاب بالأمر بصلة الرحم والنهي عن القطيعة يشمل الذكور والإناث على السوء ولكن كل بحسب قدرته واستطاعته، قال القاضي عياض : " ولا خلاف أن صلة الرحم واجبة في الجملة، وقطيعتها معصية كبيرة، والأحاديث في الباب تشهد لهذا ولكن الصلة درجات بعضها أرفع من بعض، وأدناها ترك المهاجرة وصلتها بالكلام ولو بالسلام، ويختلف ذلك باختلاف القدرة والحاجة، فمنها واجب، ومنها مستحب، فلو وصل بعض الصلة، ولم يصل غايتها لا يسمى قاطعاً، ولو قصر عما يقدر عليه وينبغي له، لا يسمى واصلاً .... " (3)
هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل .
__________
(1) - أخرجه البخاري ح ( 5987 ) ، ومسلم ح ( 2554 )
(2) - أخرجه البخاري ح ( 1396 ) ، ومسلم ح ( 13 )
(3) - شرح النووي على صحيح مسلم ( 16/113-114 )(1/418)
- - - - - -
أدعية لتفريج الهم
أود السؤال عن الأدعية التي وردت عن الرسول, - صلى الله عليه وسلم - , في حالة الضيق وطلب الفرج وتكالب الدنيا على الإنسان مع ذكر السند الشرعي شكرا جزيلاً .
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
الدعاء هو ملاذ المسلم عندما تشتد الكروب، وتنقطع الأسباب، وتعجز الحيل، يجأر العبد إلى ربه، ويلتجيء إليه، فيفرج همه، ويكشف غمه، ويرحم ضعفه، قال سبحانه وتعالى: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } (1) ، وقد أرشد النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته إلى أدعيةٍ يقولونها حينما تشتد بهم الكروب، وتنزل بهم الخطوب، وتضيق عليهم الأمور، ويعرض لهم في هذه الدنيا ما ينغص عيشهم ، ويكدر راحتهم من الشدائد والأمور الشاقة، ومن هذه الأدعية ما يأتي:
- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَدْعُو عِنْدَ الْكَرْبِ يَقُولُ: " لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ، وَرَبُّ الْأَرْضِ، وَرَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ" (2)
- وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قال: { حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَام حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ قَالُوا: { إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } (3)
__________
(1) - سورة البقرة الآية: 186
(2) - أخرجه البخاري ح ( 6346 ) ، ومسلم ح ( 2730 )
(3) - أخرجه البخاري ح ( 4563 )(1/419)
- وعن أبي بكرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " دَعَوَاتُ الْمَكْرُوبِ: اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو فَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ أَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ " (1)
- وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا أَهَمَّهُ الْأَمْرُ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ: " سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ " وَإِذَا اجْتَهَدَ فِي الدُّعَاءِ قَالَ: " يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ " (2)
- وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا كَرَبَهُ أَمْرٌ قَالَ: " يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ " (3)
- وعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ - رضي الله عنها - قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " أَلَا أُعَلِّمُكِ كَلِمَاتٍ تَقُولِينَهُنَّ عِنْدَ الْكَرْبِ - أَوْ فِي الْكَرْبِ - : أَللَّهُ أَللَّهُ رَبِّي لَا أُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا" (4)
__________
(1) - أخرجه أبو داود ح ( 4426 )
(2) - أخرجه الترمذي ح ( 3358 ) ، وقال: هذا حديث غَريب
(3) - أخرجه الترمذي ح ( 3446 )
(4) - أخرجه أبو داود ح ( 1304 )(1/420)
- وعن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - دَعْوَةُ ذِي النُّونِ إِذْ دَعَا وَهُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ: { لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنْ الظَّالِمِينَ } فَإِنَّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ (1)
- وعن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ يَوْمٍ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ أَبُو أُمَامَةَ، فَقَالَ: يَا أَبَا أُمَامَةَ مَا لِي أَرَاكَ جَالِسًا فِي الْمَسْجِدِ فِي غَيْرِ وَقْتِ الصَّلَاةِ ؟ قَالَ: هُمُومٌ لَزِمَتْنِي، وَدُيُونٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ أَفَلَا أُعَلِّمُكَ كَلَامًا إِذَا أَنْتَ قُلْتَهُ أَذْهَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَمَّكَ وَقَضَى عَنْكَ دَيْنَكَ ؟ قَالَ: قُلْتُ بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: قُلْ: إِذَا أَصْبَحْتَ وَإِذَا أَمْسَيْتَ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْجُبْنِ وَالْبُخْلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ وَقَهْرِ الرِّجَالِ، قَالَ فَفَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَذْهَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَمِّي وَقَضَى عَنِّي دَيْنِي . (2)
__________
(1) - أخرجه الترمذي ح ( 3427 ) ، والحاكم في المستدرك ( 2/637 ) ، وقال : صحيح الإسناد ، وزاد فيه من طريق آخر : فقال رجل : يا رسول الله هل كانت ليونس خاصة ، أم للمؤمنين عامة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ألا تسمع إلى قوله الله عز وجل : ( وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ)
(2) - أخرجه أبو داود ح ( 1330 )(1/421)
- وعن عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : مَا أَصَابَ أَحَدًا قَطُّ هَمٌّ وَلَا حَزَنٌ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ، وَابْنُ عَبْدِكَ، وَابْنُ أَمَتِكَ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ، أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ صَدْرِي، وَجِلَاءَ حُزْنِي، وَذَهَابَ هَمِّي، إِلَّا أَذْهَبَ اللَّهُ هَمَّهُ وَحُزْنَهُ، وَأَبْدَلَهُ مَكَانَهُ فَرَجًا قَالَ فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا نَتَعَلَّمُهَا فَقَالَ بَلَى يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَهَا أَنْ يَتَعَلَّمَهَا " (1)
- وعن عائشة - رضي الله عنها- ، في حديث الإفك ، أنها قالت: وَاللَّهِ مَا أَجِدُ لَكُمْ مَثَلًا إِلَّا قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ قَالَ: { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } (2)
- وعن أنس - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً ، وأنت تجعل الحزن سهلاً إذا شئت " (3)
اسأل الله أن يلهمنا الدعاء ويوفقنا للإجابة، وأن يجعل لنا وللمسلمين من كل همٍ فرجا، ومن كل ضيقٍ مخرجا، ومن كل بلاءٍ عافية ، هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل
- - - - - -
الحور العين من القرآن والسنة
أرجو ذكر أوصاف الحور العين كما وردت في القرآن والسنة.
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
__________
(1) - أخرجه أحمد ح ( 3528 )
(2) - أخرجه البخاري ح ( 2661 ) ، ومسلم ح ( 2770 )
(3) - أخرجه ابن حبان ح ( 974 )(1/422)
فإن الآيات والأحاديث في وصف الحور العين كثيرة يطول المقام باستقصائها ، ولكن اذكر جملة مما ورد في وصفهن في الكتاب والسنة حسب ما طلب السائل وفقنا الله وإياه .
- قال الله تعالى جلَّ ثناؤه: { فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ } (1) ، وقال تعالى : { فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ } (2) ، وقال تعالى: { وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ } (3) ، وقال في الآية الأخرى: { كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ } (4) ، وقال تعالى: { إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً عُرُباً أَتْرَاباً } (5) ، وقال تعالى: { وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ } (6) وقال تعالى: { وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ } (7) ، وقال تعالى: { وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ } (8) ، وقال تعالى: { وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً } (9)
والحور: جمع حوراء، وهي المرأة الشابة الحسناء الجميلة البيضاء شديدة سواد العين .
__________
(1) - سورة الرحمن: 56 - 58
(2) - سورة الرحمن الآيات : 70 - 74
(3) - سورة الواقعة : 22 - 23
(4) - سورة الصافات الآية: 49
(5) - سورة الواقعة : 35 - 37
(6) - سورة الصافات الآية: 48
(7) - سورة البقرة الآية: 25
(8) - سورة الدخان الآية: 54
(9) - سورة النبأ الآية: 33(1/423)
والعِين: جمع عيناء، وهي العظيمة العين من النساء ، التي جمعت أعينهن صفات الحسن والملاحة، ومن محاسن المرأة اتساع عينها في طول، قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ: والمعنى قصرن طرفهن على أزواجهن، فلا يطمحن إلى غيرهم ، وقيل: قصرن طرف أزواجهن عليهن، فلا يدعهم حسنهن وجمالهن أن ينظروا إلى غيرهن، لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ: أي لم يمسهن . كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ: أي شبههن في صفاء اللون وبياضه بالياقوت والمرجان ، فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً عُرُباً أَتْرَاباً: عرباً جمع عروب ، وهي المتحببات إلى أزواجهن ، قال ابن الأعرابي : العروب من النساء : المطيعة لزوجها المتحببة إليه، أَتْرَاب: جمع تِرب ، وهو لِدَةُ الإنسان ، والمعنى أي مستويات على سن واحد وميلاد واحد ، ليس فيهن عجائز قد فات حسنهن ، ولا ولائد لا يطقن الوطء ، مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ: المقصورات المحبوسات ، وفيه معنى آخر، وهو أن يكون المراد أنهن محبوسات على أزواجهن لا يردن غيرهم ، إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء: أي أنشأناهن بعد الكبر والعجز والضعف في الدنيا فصرن في الجنة شباباً أبكاراً ، يعني نساء أهل الدنيا، أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ: أي مطهرات من الحيض والغائط والبول والقذر والأذى وغير ذلك، بخلاف نساء أهل الدنيا، كَوَاعِب: جمع كاعب، وهي : الناهد ، والمراد أن ثديهن نواهد كالرمان ليست متدلية إلى أسفل ،ويسمين نواهد وكواعب .(1/424)
- وعن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: " لَرَوْحَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ غَدْوَةٌ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا وَلَقَابُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ أَوْ مَوْضِعُ قِيدٍ يَعْنِي سَوْطَهُ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ اطَّلَعَتْ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ لَأَضَاءَتْ مَا بَيْنَهُمَا وَلَمَلَأَتْهُ رِيحًا، وَلَنَصِيفُهَا عَلَى رَأْسِهَا خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا " (1)
- وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَوَّلُ زُمْرَةٍ تَلِجُ الْجَنَّةَ صُورَتُهُمْ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَا يَبْصُقُونَ فِيهَا وَلَا يَمْتَخِطُونَ وَلَا يَتَغَوَّطُونَ آنِيَتُهُمْ فِيهَا الذَّهَبُ أَمْشَاطُهُمْ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَمَجَامِرُهُمْ الْأَلُوَّةُ وَرَشْحُهُمْ الْمِسْكُ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ زَوْجَتَانِ يُرَى مُخُّ سُوقِهِمَا مِنْ وَرَاءِ اللَّحْمِ مِنْ الْحُسْنِ لَا اخْتِلَافَ بَيْنَهُمْ وَلَا تَبَاغُضَ قُلُوبُهُمْ قَلْبٌ وَاحِدٌ يُسَبِّحُونَ اللَّهَ بُكْرَةً وَعَشِيًّا . (2)
__________
(1) - أخرجه البخاري ح ( 2796 ) والنصيف : هو الخمار
(2) - أخرجه البخاري ح ( 3245 )(1/425)
- وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: إِنَّ الْمَرْأَةَ مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ لَيُرَى بَيَاضُ سَاقِهَا مِنْ وَرَاءِ سَبْعِينَ حُلَّةً حَتَّى يُرَى مُخُّهَا، وَذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: { كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ } فَأَمَّا الْيَاقُوتُ فَإِنَّهُ حَجَرٌ لَوْ أَدْخَلْتَ فِيهِ سِلْكًا ثُمَّ اسْتَصْفَيْتَهُ لَأُرِيتَهُ مِنْ وَرَائِهِ " (1)
وعن عَلِيٍّ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَمُجْتَمَعًا لِلْحُورِ الْعِينِ يُرَفِّعْنَ بِأَصْوَاتٍ لَمْ يَسْمَعْ الْخَلَائِقُ مِثْلَهَا قَالَ: يَقُلْنَ: نَحْنُ الْخَالِدَاتُ فَلَا نَبِيدُ وَنَحْنُ النَّاعِمَاتُ فَلَا نَبْؤُسُ وَنَحْنُ الرَّاضِيَاتُ فَلَا نَسْخَطُ طُوبَى لِمَنْ كَانَ لَنَا وَكُنَّا لَهُ " (2)
نسأل الله تعالى الفردوس الأعلى من الجنة، ونعوذ به من النار، إنه سميع مجيب، هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل .
- - - - - -
الإمارة في الأنشطة الدعوية
نحن خمسه شباب في المسجد المقيمين على الدعوة إلي دين الله..واقترح بعض الأخوة أن نكون متوحدين في المنهج الدعوى والنشاط الذي يخدم الدعوة، وقد اقترح أن يكون هناك منا أمير أي هو المسئول عن تنظيم تلك الأمور..وقد اختاروني ..ولكن أنا في ريب من تلك الفكرة وهو أن أكون أنا الأمير أو المسئول على تنظيم الأمور..وأنا أريد أن تفيدوني في هذا الأمر مع العلم أني اعرف أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا كنتم ثلاثة فأمروا أحدكم..ولكن أنا أريد النصيحة..هل هناك شيء اسمها أمير..وما هي معناها، وإن كانت تصح فما هي الأمور التي تنصحونني بها أن اعملها ؟
__________
(1) - أخرجه الترمذي ح ( 2456 )
(2) - أخرجه الترمذي ح ( 2488 )، قال: حَدِيث غَرِيب(1/426)
وجزاكم الله خيرا.. وأرجوا من الله أن يرزقني وإياكم الإخلاص في القول والعمل .
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
الحديث المشار إليه في السؤال حديث حسن أخرجه الإمام أحمد ح ( 6647 ) من حديث عبد الله بن عمرو في أثناء حديث ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " .... وَلَا يَحِلُّ لِثَلَاثَةِ نَفَرٍ يَكُونُونَ بِأَرْضِ فَلَاةٍ إِلَّا أَمَّرُوا عَلَيْهِمْ أَحَدَهُمْ ..... " ، وله شاهد من حديث أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: إِذَا خَرَجَ ثَلَاثَةٌ فِي سَفَرٍ فَلْيُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ " (1) ، ومن حديث أبي هريرة أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: إِذَا كَانَ ثَلَاثَةٌ فِي سَفَرٍ فَلْيُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ (2) ، ومن حديث عمر بن الخطاب (3)
وهذه الأحاديث تدل على أنه يسن للجماعة إذا كانوا في سفر، أو فلاة من الأرض أن يؤمروا أحدهم حتى تنتظم أمورهم وتستقيم أحوالهم وتجتمع كلمتهم، ولا يحصل بينهم خلاف وشقاق يؤدي إلى فساد أحوالهم وتفرقهم واختلافهم .
يقول ابن تيمية : " فإذا كان قد أوجب في أقل الجماعات وأقصر الاجتماعات أن يولي أحدهم، كان هذا تنبيهاً على وجوب ذلك فيما هو أكثر من ذلك .... " (4)
__________
(1) - أخرجه أبو داود ح ( 2608 )، والبيهقي ( 5/257 )
(2) - أخرجه أبو داود ح ( 2609 ) ، والبيهقي ح ( 5/257 )
(3) - أخرجه الحاكم ( 1/443- 444 )، وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي .
(4) - الحسبة في الإسلام ( ص: 12 )(1/427)
وقد استدل العلماء بهذا الحديث وغيره على وجوب تنصيب الأئمة والحكام والولاة ليقوموا برعاية مصالح الأمة وترتيب أمورها وشؤونها، والحاكم الشرعي له البيعة والطاعة بالمعروف، ويناط به النظر في قضايا الأمة وشؤونها، وإذا احتاج مجموعة من الناس إلى الترتيب فيما بينهم والتنسيق في أمور دعوية محدودة فلا بأس بذلك بما لا يخالف ما يوجد من ترتيب وتنظيم مشروع من قبل ولاة الأمر، فعلى هذا إذا أحب مجموعة الاجتماع والتناصح والتعاون فيما بينهم فهذا من الخير، ولا بأس أن يوجد من يكون مسئولاً عن هذا الاجتماع واللقاء، نسأل الله أن يجعلنا من أنصار دينه ومن الدعاة إليه على بصيرة وعلم ومن المتعاونين على البر والتقوى، هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل .
- - - - - -
هل ورد شيء في تفضيل الشباب على الشيوخ ؟
هل ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: بعثني الله عز وجل وصدقني الشباب، وكذبني الشيوخ . أو نحو هذا المعنى, وهل ثبت في فضل الشباب شيء . أرجوا منكم التكرم بالإجابة على هذا السؤال، ونتمنى أن يكون المجيب هو الشيخ القناص أو الشيخ حاتم العوني لتخصصهما في هذا الفن .
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:(1/428)
هذا الحديث لم أقف عليه بعد البحث الواسع في كتب السنة وغيرها من المصادر، ولكن من المعلوم أن الشباب أسرع استجابة وأقبل للحق من الشيوخ، فكثير من السابقين الأولين ممن استجاب لدعوة الإسلام كانوا من الشباب، قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله - عند قوله تعالى : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً } (1) ، قال: " فذكر تعالى أنهم فتية، وهم الشباب وهم أقبل للحق وأهدى للسبيل من الشيوخ الذين قد عتوا وأنغمسوا في دين الباطل، ولهذا كان أكثر المستجيبين لله تعالى ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - شباباً، وأما المشايخ من قريش فعامتهم بقوا على دينهم، ولم يسلم منهم إلا القليل وهكذا أخبر تعالى عن أصحاب الكهف أنهم كانوا فتية شبابا " (2)
وقال أبو حمزة الشاري الخارجي في خطبته المشهورة: " يا أهل الحجاز قد بلغني أنكم تعيرونني بأصحابي وتزعمون أنهم شباب، ويحكم وهل كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا شبابا ؟ ... " (3)
وأخرج ابن أبي شيبة من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما كان يوم بدر قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من صنع كذا وكذا فله كذا وكذا قال فتسارع في ذلك شبان الرجال، وبقيت الشيوخ تحت الرايات فلما كانت الغنائم جاؤوا يطلبون الذي جعل لهم فقال الشيوخ لا تستأثرون علينا فإنا كنا ردءكم وكنا تحت الرايات ولو انكشفتم انكشفتم إلينا، فتنازعوا فأنزل الله: { يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ } إلى قوله: { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } (4) " (5)
__________
(1) - سورة الكهف الآية: 13
(2) - تفسير ابن كثير (3/75 )
(3) - أخبار مكة للفاكهي (3/144 )
(4) - سورة الأنفال الآية: 1
(5) - أخرجه ابن أبي شيبة ح ( 36661 )(1/429)
وكان العلماء في تعليمهم وتدريسهم يعتنون بالشباب، ويحرصون عليهم؛ لكونهم أقدر من غيرهم على حمل العلم وتبليغه، حيث يتوفر فيهم القوة والنشاط، وحدة الذهن، وصفاء النفس، وصدق الرغبة، وقوة الحافظة، فعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - ، أنه كان إذا رأى الشباب قال: مرحبا بوصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أوصانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نوسع لكم في المجلس، وإن نفهمكم الحديث، فإنكم خلوفنا، وأهل الحديث بعدنا، وكان يقبل على الشاب يقول له: يا ابن أخي إذا شككت في شيء فسلني حتى تستيقن، فإنك إن تنصرف على اليقين أحب إلي من أن تنصرف على الشك . (1) ، قال عمرو بن قيس الملائي : " إذا رأيت الشاب أول ما ينشأ مع أهل السنة والجماعة فارجه، وإذا رأيته مع أهل البدع فايئس منه فإن الشاب على أول ما نشوئه " (2)
__________
(1) - شعب الإيمان (2/275 )
(2) - الإبانة لابن بطة ص ( 133 )(1/430)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما بعث الله نبيا إلا وهو شاب ولا أوتي العلم عالما إلا وهو شاب، وقرأ: { قَالُوا سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ } (1) ، { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ } (2) و { إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ } (3) ، وكان الحسن يقول: " قَدِّموا إلينا أحداثكم، فإنهم أفرغ قلوباً، وأحفظ لما سمعوا، فمن أراد الله أن يتمه له أتمه " ، وقال مالك بن دينار: " إنما الخير في الشباب " ، وعن سعيد بن رحمة الأصبحي قال: " كنت أسبق إلى مجلس عبد الله بن المبارك بليل، معي أقراني، لا يسبقني أحد، ويجيء هو مع الأشياخ، فقيل له: قد غلبنا عليك هؤلاء الصبيان، فقال هؤلاء أرجى عندي منكم، أنتم كم تعيشون ؟ وهؤلاء عسى الله أن يَبْلُغُ بهم، قال سعيد فما بقي أحد غيري . "، وعن يحيى بن حميد الطويل قال: " أتينا يوماً حماد بن سلمة وبين يديه صبيان يحدثهم، فجلسنا إليه حتى فرغ فقلنا له: يا أبا سلمة، نحن مشايخ أهلك، قد جئناك، تركتنا وأقبلت على هؤلاء الصبيان، قال: رأيت فيما يرى النائم كأني على شط نهر، ومعي دُلَيَّة أسقي فَسِيلاً فَتأوَّلْتُهُ هؤلاء الصبيان " (4) ، ولما كلف أبو بكر - رضي الله عنه - زيد بن ثابت - رضي الله عنه - بجمع القرآن، قال له: " إِنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ وَلَا نَتَّهِمُكَ كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَتَتَبَّعْ الْقُرْآنَ فَاجْمَعْهُ ...
__________
(1) - سورة الأنبياء الآية: 60
(2) - سورة الكهف الآية: 60
(3) - الدر المنثور (5/371 )
(4) - ينظر: الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع ( 1/309- 310 )(1/431)
" (1) ، قال الحافظ ابن حجر: " ذكر له أربع صفات مقتضية خصوصيته بذلك: كونه شاباً فيكون أنشط لما يطلب منه، وكونه عاقلاً فيكون أوعى له، وكونه لا يتهم فتركن النفس إليه، وكونه كان يكتب الوحي فيكون أكثر ممارسة له، وهذه الصفات التي اجتمعت له قد توجد في غيره لكن مفرقة (2)
__________
(1) - أخرجه البخاري ح ( 4679 )
(2) - فتح الباري ( 9/13 )(1/432)
والشاب إذا وفق للاستقامة والثبات على الدين، وسلوك مسلك الاعتدال والوسط، والبعد عن الغلو والإفراط؛ فهو على خير عظيم، فقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظله إلا ظله شاب نشأ في طاعة الله (1) ، وفي الحديث الآخر: " إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَيَعْجَبُ مِنْ الشَّابِّ لَيْسَتْ لَهُ صَبْوَةٌ " (2) ، والشباب بما أعطاهم الله من القوة والنشاط والحماس بحاجة إلى الاستفادة من حكمة الشيوخ، وتجاربهم في الحياة، وحسن نظرهم في العواقب ومآلات الأمور، ولهذا لما أعطى النبي - صلى الله عليه وسلم - المؤلفة قلوبهم يوم حنين من أموال هوازن ، وسمع أن ناساً من الأنصار قالوا: يغفر الله لرسول الله ، يعطي قريشاً ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم ، فلما جمعه قال: " مَا حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكُمْ ؟ فَقَالَ لَهُ فُقَهَاءُ الْأَنْصَارِ: أَمَّا ذَوُو رَأْيِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَلَمْ يَقُولُوا شَيْئًا، وَأَمَّا أُنَاسٌ مِنَّا حَدِيثَةٌ أَسْنَانُهُمْ، قَالُوا: يَغْفِرُ اللَّهُ لِرَسُولِهِ يُعْطِي قُرَيْشًا وَيَتْرُكُنَا، وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : فَإِنِّي أُعْطِي رِجَالًا حَدِيثِي عَهْدٍ بِكُفْرٍ أَتَأَلَّفُهُمْ أَفَلَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالْأَمْوَالِ وَتَرْجِعُونَ إِلَى رِحَالِكُمْ بِرَسُولِ اللَّهِ فَوَاللَّهِ لَمَا تَنْقَلِبُونَ بِهِ خَيْرٌ مِمَّا يَنْقَلِبُونَ بِهِ فَقَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ رَضِينَا قَالَ فَإِنَّكُمْ سَتَجِدُونَ أَثَرَةً شَدِيدَةً فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْا اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنِّي عَلَى
__________
(1) - أخرجه البخاري ح ( 660 ) ، ومسلم ح ( 1031 ) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -
(2) - أخرجه أحمد في مسنده ح ( 16731 ) من حديث عقبة بن عامر - رضي الله عنه -(1/433)
الْحَوْضِ قَالُوا سَنَصْبِرُ " (1) ، ولما ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - الخوارج وصفهم بحداثة الأسنان، وسفاهة الأحلام، ففي حديث علي - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " سَيَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ أَحْدَاثُ الْأَسْنَانِ، سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ، يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ، فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا لِمَنْ قَتَلَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " (2)
ويؤخذ من هذا أن حداثة السن مظنة للوقوع في الخطأ والزلل والغلو في الدين إذا لم تقترن بالعقل والعلم والفقه في الدين، والبعد عن التسرع، والأخذ عن العلماء الربانين الراسخين في العلم، والتأسي بهم، والوقوف عند كلامهم . والله أعلم .
- - - - - -
علاقة الأسماء بشخوص المسمين
ما حكم استخراج واستنباط معاني للأسماء وأن هذا الاسم صاحبه مثلا اجتماعي أو ذو شخصية قوية أو يحب التحدي ومن ذلك مثلا اسم (حمزة) رمز القوة والإصرار متواصل اجتماعيا وينجح في العلاقات العامة ... شخصية قوية ويفرض ما يراه على من حوله عميق التفكير ولا يرتاح حتى يحقق ما يريد !
__________
(1) - أخرجه البخاري ح ( 4331) ، ومسلم ح ( 1059 ) من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -
(2) - أخرجه البخاري ح ( 3611 ) ، ومسلم ح ( 1066 )(1/434)
هناك متجر يجعل هذه المعاني على أشياء ويبيعها وكل شخص يطلب منه أن يجد له معنى لاسمه وهكذا فما الحكم في ذلك وهل قول الرسول عليه الصلاة والسلام أن لكل شخص نصيب من اسمه أو ما حدث بين عمر - رضي الله عنه - مع أحد الأعراب عندما سأله عن اسمه ومن أي القبائل هو فقال أن اسمه شهاب وإنه من قبيلة لظى فقال له الحق بأهلك فقد احترقوا ... أرجو إجابة شافية كافية وافية وجزاكم الله خيراً .
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:(1/435)
حث النبي - صلى الله عليه وسلم - على اختيار الاسم الحسن المشتمل على الصفات الحميدة والمعاني السامية، وأخبر أن الناس يدعون يوم القيامة بأسمائهم، فقال: " إِنَّكُمْ تُدْعَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَسْمَائِكُمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِكُمْ فَأَحْسِنُوا أَسْمَاءَكُمْ " (1) ، وندب إلى التسمي بأسماء الأنبياء، فقال: " تَسَمَّوْا بِأَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَحَبُّ الْأَسْمَاءِ إِلَى اللَّهِ عَبْدُ اللَّهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ ....
__________
(1) - أخرجه أبو داود ح ( 4297 ) من حديث أبي الدرداء(1/436)
" (1) ، وكان من هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - تغيير الاسم القبيح بالاسم الحسن على وجه التفاؤل والتيمن لأنه كان يعجبه الفأل الحسن، وقد غير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العديد من الأسماء، مثل: اسم عاصية إلى جميلة كما جاء في صحيح مسلم من حديث ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - غَيَّرَ اسْمَ عَاصِيَةَ وَقَالَ أَنْتِ جَمِيلَةُ (2) ، وغير اسم بَرَّة إلى زينب، فعن أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ زَيْنَبَ كَانَ اسْمُهَا بَرَّةَ فَقِيلَ تُزَكِّي نَفْسَهَا فَسَمَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - زَيْنَبَ (3) ، ومثل اسم أصرم إلى زرعة، فعن أُسَامَةَ بْنِ أَخْدَرِيٍّ أَنَّ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ أَصْرَمُ كَانَ فِي النَّفَرِ الَّذِينَ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا اسْمُكَ قَالَ أَنَا أَصْرَمُ قَالَ بَلْ أَنْتَ زُرْعَةُ (4) ، وأخرج الأمام أحمد في مسنده من حديث عَلِيٍّ - رضي الله عنه - قَالَ لَمَّا وُلِدَ الْحَسَنُ سَمَّيْتُهُ حَرْبًا فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ أَرُونِي ابْنِي مَا سَمَّيْتُمُوهُ قَالَ قُلْتُ حَرْبًا قَالَ بَلْ هُوَ حَسَنٌ فَلَمَّا وُلِدَ الْحُسَيْنُ سَمَّيْتُهُ حَرْبًا فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ أَرُونِي ابْنِي مَا سَمَّيْتُمُوهُ قَالَ قُلْتُ حَرْبًا قَالَ بَلْ هُوَ حُسَيْنٌ فَلَمَّا وُلِدَ الثَّالِثُ سَمَّيْتُهُ حَرْبًا فَجَاءَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ أَرُونِي ابْنِي مَا سَمَّيْتُمُوهُ قُلْتُ حَرْبًا قَالَ بَلْ هُوَ مُحَسِّنٌ ثُمَّ قَالَ
__________
(1) - أخرجه أبو داود ح ( 4299 ) من حديث أبي وهب الجشمي
(2) - أخرجه مسلم ح ( 2139 )
(3) - أخرجه البخاري ح ( 6192 ) ، ومسلم ح ( 2141 )
(4) - أخرجه أبو داود ح ( 4303)(1/437)
سَمَّيْتُهُمْ بِأَسْمَاءِ وَلَدِ هَارُونَ شَبَّرُ وَشَبِيرُ وَمُشَبِّرٌ.... (1)
قال أبو داود : " وغير النبي - صلى الله عليه وسلم - اسم العاص وعزيز وعتلة وشيطان والحكم وغراب وحباب وشهاب فسماه هشاما وسمى حربا سلما وسمى المضطجع المنبعث وأرضا تسمى عفرة سماها خضرة وشعب الضلالة سماه شعب الهدى وبنو الزنية سماهم بني الرشدة وسمى بني مغوية بني رشدة قال أبو داود تركت أسانيدها للاختصار " (2) ، وفي تغيير هذه الأسماء ونحوها دليل على حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على تغيير الأسماء القبيحة والمشتملة على التزكية أو الذم أو المدح أو المعاني غير اللائقة، وليس المقصود من ذلك أن معنى الاسم يكون صفةً لازمة في الشخص، لأن الأسماء للدلالة والتعريف، وقد يوجد شيء من تأثير الأسماء في مسمياتها، ونوع من الارتباط، ولكن هذا ليس بمطرد .
قال الطبري رحمه الله : " لا ينبغي التسمية باسم قبيح المعنى، ولا باسم يقتضي التزكية له، ولا باسم معناه السب، ولو كانت الأسماء إنما هي أعلام للأشخاص، ولا يقصد بها حقيقة الصفة. لكن وجه الكراهة أن يسمع سامع بالاسم، فيظن أنه صفة للمسمى، فلذلك كان - صلى الله عليه وسلم - يحول الاسم إلى ما إذا دعى به صاحبه كان صدقاً ". (3)
__________
(1) - أخرجه أحمد ح ( 730 )
(2) - ينظر: سنن أبي داود ح ( 4956 )
(3) - ينظر: فتح الباري ( 10/577)(1/438)
وقال: " وليس تغيير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما غير من الأسماء على وجه المنع للتسمي بها، بل ذلك على وجه الاختيار ، لأن الأسماء لم يسم بها لوجود معانيها في المسمى بها، وإنما هي للتمييز ، ولذلك أباح المسلمون أن يتسمى الرجل القبيح بحسن، والرجل الفاسد بصالح ، ويدل على ذلك قول جد ابن المسيب للنبي - صلى الله عليه وسلم - حين قال له أنت سهل: ما كنت أغير اسماً سمانيه أبي ، فلم يلزمه الانتقال عنه على كل حال ، ولا جعله بثباته آثماً بربه، ولو كان آثماً بذلك لجبره على النقلة عنه إذ غير جائز في صفته عليه السلام أن يرى منكراً وله إلى تغييره سبيل . (1)
__________
(1) - ينظر: شرح صحيح البخاري لابن بطال ( 9/348 )(1/439)
ومن خلال ما سبق يعلم أن الأسماء هي أعلام للأشخاص، وليس من تسمى باسم معناه أن ما يحمله الاسم من صفة ومعنى موجودة فيه، فهذا خلاف الواقع، فإن هناك من تسمى بأسماء صالحة وحسنة وتكون أخلاقه وشمائله غير ذلك، والعكس أيضاً، وعلى هذا فمن الخطأ المبالغة في هذا الجانب، وأخذ صفات الأشخاص من أسمائهم والاستدلال بها على أخلاقهم وشمائلهم مثل ما ذكر السائل وفقه الله، وأما ما جاء عن عمر - رضي الله عنه - ، فمن المعلوم أن عمر - رضي الله عنه - كان محدثاً ملهماً، وقد انقدح في نفسه حينما سمع هذه الأسماء، وتنبأ بحصول احتراق مسكن الرجل، ومثله العابر الذي ينقدح في نفسه حينما يسمع الرؤيا فيأخذ من الأسماء ما يدل على تعبيرها وتأويلها مثل ما جاء في حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَأَيْتُ ذَاتَ لَيْلَةٍ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ كَأَنَّا فِي دَارِ عُقْبَةَ بْنِ رَافِعٍ فَأُتِينَا بِرُطَبٍ مِنْ رُطَبِ ابْنِ طَابٍ فَأَوَّلْتُ الرِّفْعَةَ لَنَا فِي الدُّنْيَا وَالْعَاقِبَةَ فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ دِينَنَا قَدْ طَابَ . (1) ، هذا والله أعلم ، وأما ما جاء في السؤال من أن لكل شخص نصيب من اسمه ، فهذا لا تصح نسبته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وإنما هو من الأقوال السائرة المعروفة ، وقصة عمر رضي اله عنه مع الرجل ، أخرجها الإمام مالك في الموطأ عن يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ لِرَجُلٍ مَا اسْمُكَ فَقَالَ جَمْرَةُ فَقَالَ ابْنُ مَنْ فَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ قَالَ مِمَّنْ قَالَ مِنْ الْحُرَقَةِ قَالَ أَيْنَ مَسْكَنُكَ قَالَ بِحَرَّةِ النَّارِ قَالَ بِأَيِّهَا قَالَ بِذَاتِ لَظًى قَالَ عُمَرُ أَدْرِكْ أَهْلَكَ فَقَدْ احْتَرَقُوا قَالَ فَكَانَ كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه - .
__________
(1) - أخرجه مسلم ح ( 2270 )(1/440)
(1)
قال الحافظ ابن عبد البر معلقاً على هذا الأثر: " لا أدري ما أقول في هذا إلا أنه قد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال سيكون بعدي محدثون فإن يكن فعمر ..... وقد يوجد هذا في مَنْ دون عمر من الذكاء وحسن الظن حتى لا يكاد يخطئه ظنه ..... والله عز وجل أعلم في احتراق أهل المخبر وكأنه من نحو قوله - صلى الله عليه وسلم - : " البلاء موكل بالمنطق "، فصادف قوله قدراً سبق في علم الله - عز وجل " (2) ، هذا والله أعلم .
- - - - - -
إسداء النصح للسلطان
هل النصح للسلطان من خلال عريضة أو صحيفة أو أي وسيلة من وسائل الإعلام أو من خلال برلمان الدولة إذا كان بقصد الإخلاص في النصح ولفت انتباهه المعروف وتحذيره من المنكر خطأ وأنه لابد أن يكون بالسر كما قال - صلى الله عليه وسلم - :من أراد أن ينصح لسلطان فليأخذ بيده فيخلو به...الخ الحديث . لأن هناك من الناس من يقول أن الجهر للسلطان بالنصح والأمر بالمعروف من سبيل أهل الأهواء ؟ فالمرجو بيان هل المسالة خاضعة للاجتهاد والعرف السياسي وهل الحديث المذكور حجة في ذلك وما مدى صحة الحديث .
وجزاكم الله خيرا ونفع بموقعكم وعلمكم وعلمائكم الإسلام والمسلمين .
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
__________
(1) - أخرجه مالك ح ( 1541 )
(2) - الاستذكار ( 8/514 )(1/441)
النصيحة بمفهومها الشامل هي الدين ، وتتسع مجالاتها فتشمل النصيحة لله، ولكتابه ورسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم، كما أخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، ووردت أحاديث بالأمر بالنصح لولاة الأمر خاصة، ففي مسند الإمام أحمد من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا: أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَأَنْ تُنَاصِحُوا مَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ أَمْرَكُمْ ..... " (1) ، وفي المسند من حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وغيره عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: ثَلَاثٌ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ صَدْرُ مُسْلِمٍ: إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمُنَاصَحَةُ أُولِي الْأَمْرِ وَلُزُومُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ . (2) قال الحافظ ابن رجب: " وأما النصيحة لأئمة المسلمين: فحب صلاحهم ورشدهم وعدلهم، وحب اجتماع الأمة عليهم، وكراهة افتراق الأمة عليهم، والتدين بطاعتهم في طاعة الله عز وجل، والبغض لمن رأى الخروج عليهم ، وحب إعزازهم في طاعة الله عز وجل " ، وقال: " والنصيحة لأئمة المسلمين معاونتهم على الحق، وطاعتهم فيه، وتذكيرهم به، وتنبيههم في رفق ولطف، ومجانبة الوثوب عليهم، والدعاء لهم بالتوفيق . " (3) ، وقال القرطبي : " والنصح لأئمة المسلمين : ترك الخروج عليهم، وإرشادهم إلى الحق وتنبيههم فيما أغفلوه من أمور المسلمين، ولزوم طاعتهم والقيام بواجب حقهم .
__________
(1) - أخرجه أحمد ح ( 8444 )
(2) - أخرجه أحمد ح ( 12871 )
(3) - ينظر: جامع العلوم والحكم ( 1/ 217 )(1/442)
(1) ، من أدب نصيحة ولاة الأمور أن تكون سراً مع الرفق واللين لأن هذا أدعى لقبول الحق والانقياد له، وأجدر في درء المفاسد والفتن، وتحقيق المصالح، ففي الصحيحين من حديث أَبِي وَائِلٍ قَالَ: قِيلَ لِأُسَامَةَ لَوْ أَتَيْتَ فُلَانًا فَكَلَّمْتَهُ قَالَ إِنَّكُمْ لَتُرَوْنَ أَنِّي لَا أُكَلِّمُهُ إِلَّا أُسْمِعُكُمْ إِنِّي أُكَلِّمُهُ فِي السِّرِّ دُونَ أَنْ أَفْتَحَ بَابًا لَا أَكُونُ أَوَّلَ مَنْ فَتَحَهُ (2) ، والرجل المذكور هو عثمان - رضي الله عنه - ، قال القاضي عياض: " مراد أسامة أنه لا يفتح باب المجاهرة بالنكير على الإمام لما يخشى من عاقبة ذلك بل يتلطف به وينصحه سراً فذلك أجدر بالقبول ...
__________
(1) - ينظر: الجامع لأحكام القرآن ( 8/226 )
(2) - أخرجه البخاري ح ( 3267 )، ومسلم ح ( 2989 )(1/443)
" (1) ، وفي المسند من حديث عِيَاضُ بْنُ غَنْم أنه سمع الرَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْصَحَ لِسُلْطَانٍ بِأَمْرٍ فَلَا يُبْدِ لَهُ عَلَانِيَةً وَلَكِنْ لِيَأْخُذْ بِيَدِهِ فَيَخْلُوَ بِهِ فَإِنْ قَبِلَ مِنْهُ فَذَاكَ وَإِلَّا كَانَ قَدْ أَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ لَهُ (2) ، قال الحافظ ابن رجب: " كان السلف إذا أرادوا نصيحة أحد وعظوه سرّاً ، حتى قال بعضهم : من وعظ أخاه فيما بينه وبينه ، فهي نصيحة، ومن وعظه على رؤوس الناس فإنما وبخه، وقال الفضيل: المؤمن يستر وينصح، والفاجر يهتك ويعير، وسئل ابن عباس - رضي الله عنهما - عن أمر السلطان بالمعروف ونهيه عن المنكر ؟ ، فقال : إن كنت فاعلاً ولا بُدّ ففيما بينك وبينه " (3) ، وقد يجتهد العالم المتأهل للأمر والنهي في بعض الأحوال فيرى الإنكار على ولاة الأمر علانيةً، وذلك لظهور المصلحة مع أمن الفتنة، أو حدوث مفسدة أكبر، وربما كان ذلك بسبب خشية فوات الأمر، أو من أجل إظهار الحق، فقد يكون خافياً على الناس، وقد أنكر عدد من الصحابة على بعض الأمراء علانية، ومن ذلك: إنكار عبادة بن الصامت على معاوية رضي الله عنهما، ففي صحيح مسلم من حديث أَبِي قِلَابَةَ قَالَ: كُنْتُ بِالشَّامِ فِي حَلْقَةٍ فِيهَا مُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ فَجَاءَ أَبُو الْأَشْعَثِ قَالَ: قَالُوا أَبُو الْأَشْعَثِ أَبُو الْأَشْعَثِ فَجَلَسَ فَقُلْتُ لَهُ حَدِّثْ أَخَانَا حَدِيثَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ: نَعَمْ غَزَوْنَا غَزَاةً وَعَلَى النَّاسِ مُعَاوِيَةُ فَغَنِمْنَا غَنَائِمَ كَثِيرَةً فَكَانَ فِيمَا غَنِمْنَا آنِيَةٌ مِنْ فِضَّةٍ فَأَمَرَ مُعَاوِيَةُ رَجُلًا أَنْ يَبِيعَهَا فِي أَعْطِيَاتِ النَّاسِ فَتَسَارَعَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ فَبَلَغَ
__________
(1) - ينظر: فتح الباري ( 13/52 )
(2) - أخرجه أحمد ح (14792)
(3) - ينظر: جامع العلوم والحكم ( 1/225 )(1/444)
عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ فَقَامَ فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَنْهَى عَنْ بَيْعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ وَالْبُرِّ بِالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ بِالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ بِالتَّمْرِ وَالْمِلْحِ بِالْمِلْحِ إِلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ عَيْنًا بِعَيْنٍ فَمَنْ زَادَ أَوْ ازْدَادَ فَقَدْ أَرْبَى فَرَدَّ النَّاسُ مَا أَخَذُوا فَبَلَغَ ذَلِكَ مُعَاوِيَةَ فَقَامَ خَطِيبًا فَقَالَ أَلَا مَا بَالُ رِجَالٍ يَتَحَدَّثُونَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَحَادِيثَ قَدْ كُنَّا نَشْهَدُهُ وَنَصْحَبُهُ فَلَمْ نَسْمَعْهَا مِنْهُ، فَقَامَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ فَأَعَادَ الْقِصَّةَ ثُمَّ قَالَ لَنُحَدِّثَنَّ بِمَا سَمِعْنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَإِنْ كَرِهَ مُعَاوِيَةُ أَوْ قَالَ وَإِنْ رَغِمَ مَا أُبَالِي أَنْ لَا أَصْحَبَهُ فِي جُنْدِهِ لَيْلَةً سَوْدَاءَ . (1)
__________
(1) - أخرجه مسلم ح (1587)(1/445)
ومثل موقف عبادة في الإنكار، ما حصل لأبي سعيد الخدري مع مروان بن الحكم حينما قدم الخطبة على الصلاة يوم العيد ، ففي صحيح البخاري من حديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَخْرُجُ يَوْمَ الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى إِلَى الْمُصَلَّى فَأَوَّلُ شَيْءٍ يَبْدَأُ بِهِ الصَّلَاةُ ثُمَّ يَنْصَرِفُ فَيَقُومُ مُقَابِلَ النَّاسِ وَالنَّاسُ جُلُوسٌ عَلَى صُفُوفِهِمْ فَيَعِظُهُمْ وَيُوصِيهِمْ وَيَأْمُرُهُمْ فَإِنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَقْطَعَ بَعْثًا قَطَعَهُ أَوْ يَأْمُرَ بِشَيْءٍ أَمَرَ بِهِ ثُمَّ يَنْصَرِفُ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ فَلَمْ يَزَلْ النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى خَرَجْتُ مَعَ مَرْوَانَ وَهُوَ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ فِي أَضْحًى أَوْ فِطْرٍ فَلَمَّا أَتَيْنَا الْمُصَلَّى إِذَا مِنْبَرٌ بَنَاهُ كَثِيرُ بْنُ الصَّلْتِ فَإِذَا مَرْوَانُ يُرِيدُ أَنْ يَرْتَقِيَهُ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ فَجَبَذْتُ بِثَوْبِهِ فَجَبَذَنِي فَارْتَفَعَ فَخَطَبَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَقُلْتُ لَهُ غَيَّرْتُمْ وَاللَّهِ فَقَالَ أَبَا سَعِيدٍ قَدْ ذَهَبَ مَا تَعْلَمُ فَقُلْتُ مَا أَعْلَمُ وَاللَّهِ خَيْرٌ مِمَّا لَا أَعْلَمُ فَقَالَ إِنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا يَجْلِسُونَ لَنَا بَعْدَ الصَّلَاةِ فَجَعَلْتُهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ (1) ، قال الحافظ ابن حجر : " وفي الحديث إنكار العلماء على الأمراء إذا صنعوا ما يخالف السنة " (2) ، وقال: " وفي الحديث إنكار العالم على الحاكم ما يغيره من أمر الدين والموعظة بلطف وتدرج " (3) ، ومن الأمثلة أيضاً إنكار أبي شريح خويلد بن عمرو الخزاعي على عمرو بن سعيد والي يزيد على المدينة ففي الصحيحين من حديث أَبِي شُرَيْحٍ أَنَّهُ قَالَ لِعَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ وَهُوَ يَبْعَثُ
__________
(1) - أخرجه البخاري ح ( 956 )
(2) - فتح الباري ( 2/450 )
(3) - فتح الباري ( 4/ 45 )(1/446)
الْبُعُوثَ إِلَى مَكَّةَ ائْذَنْ لِي أَيُّهَا الْأَمِيرُ أُحَدِّثْكَ قَوْلًا قَامَ بِهِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - الْغَدَ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ وَوَعَاهُ قَلْبِي وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنَايَ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ فَلَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا وَلَا يَعْضِدَ بِهَا شَجَرَةً ....... " الحديث (1) ، قال الحافظ ابن حجر : " قوله: " ائذن لي " فيه حسن التطلف في الإنكار على أمراء الجور ليكون أدعى لقبولهم . " (2) ، ومن الأمثلة أيضاً ما أخرجه البخاري ومسلم من حديث ابن شهاب أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَخَّرَ الصَّلَاةَ يَوْمًا فَدَخَلَ عَلَيْهِ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ فَأَخْبَرَهُ أَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ أَخَّرَ الصَّلَاةَ يَوْمًا وَهُوَ بِالْعِرَاقِ فَدَخَلَ عَلَيْهِ أَبُو مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيُّ فَقَالَ مَا هَذَا يَا مُغِيرَةُ ..... الحديث (3) ، قال الحافظ ابن حجر: " وفي الحديث من الفوائد: دخول العلماء على الأمراء وإنكارهم عليهم ما يخالف السنة ....
__________
(1) - أخرجه البخاري ح ( 104 )، ومسلم ح ( 1354 )
(2) - فتح الباري ( 1/198 )
(3) - أخرجه البخاري ح ( 499 )، ومسلم ح ( 611 )(1/447)
" (1) ، وفي صحيح مسلم أن عَائِذَ بْنَ عَمْرٍو وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ عَلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ فَقَالَ أَيْ بُنَيَّ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ إِنَّ شَرَّ الرِّعَاءِ الْحُطَمَةُ فَإِيَّاكَ أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ فَقَالَ لَهُ اجْلِسْ فَإِنَّمَا أَنْتَ مِنْ نُخَالَةِ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ وَهَلْ كَانَتْ لَهُمْ نُخَالَةٌ إِنَّمَا كَانَتْ النُّخَالَةُ بَعْدَهُمْ وَفِي غَيْرِهِمْ . (2)
هذا والله أعلم .
- - - - - -
ينظر إلى المتبرجات ثم يتوضأ
هناك شخص يقول إنه لو نظر إلى النساء المتبرجات فترة طويلة ثم قام فتوضأ فإن ذنوبه تخرج مع قطر الماء؟ هل هذا صحيح؟ وما معنى حديث تكفير الوضوء للخطايا؟.
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
__________
(1) - فتح الباري ( 2/6 )
(2) - أخرجه مسلم ح ( 1830 )(1/448)
الوضوء من الأعمال الصالحة التي يكفر الله بها السيئات والذنوب، وقد دل على هذا أحاديث منها حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إِذَا تَوَضَّأَ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ أَوْ الْمُؤْمِنُ فَغَسَلَ وَجْهَهُ خَرَجَ مِنْ وَجْهِهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ نَظَرَ إِلَيْهَا بِعَيْنَيْهِ مَعَ الْمَاءِ أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ، فَإِذَا غَسَلَ يَدَيْهِ خَرَجَ مِنْ يَدَيْهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ كَانَ بَطَشَتْهَا يَدَاهُ مَعَ الْمَاءِ أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ، فَإِذَا غَسَلَ رِجْلَيْهِ خَرَجَتْ كُلُّ خَطِيئَةٍ مَشَتْهَا رِجْلَاهُ مَعَ الْمَاءِ أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ حَتَّى يَخْرُجَ نَقِيًّا مِنْ الذُّنُوبِ " (1) ، وحديث عثمان بن عفان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ خَرَجَتْ خَطَايَاهُ مِنْ جَسَدِهِ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ تَحْتِ أَظْفَارِهِ " (2) ، والذي عليه جمهور العلماء أن الأعمال الصالحة مثل: الوضوء والصلاة والصيام والحج والعمرة وغيرها تكفر الصغائر دون الكبائر، لقوله تبارك وتعالى: { إنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا } (3) ، ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْجُمْعَةُ إِلَى الْجُمْعَةِ وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ " (4)
__________
(1) - أخرجه مسلم ح (244)
(2) - أخرجه مسلم ح (245)
(3) - سورة النساء الآية: 31
(4) - أخرجه مسلم (233) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -(1/449)
قال النووي: " معناه أن الذنوب كلها تغفر إلا الكبائر فإنها لا تغفر وليس المراد أن الذنوب تغفر ما لم تكن كبيرة، فإن كان لا يغفر شيء من الصغائر، فإن هذا وإن كان محتملاً فسياق الأحاديث يأباه " (1) ، قال القاضي عياض: " هذا المذكور في الحديث من غفران الذنوب ما لم تؤت كبيرة هو مذهب أهل السنة، وأن الكبائر إنما تكفرها التوبة أو رحمة الله تعالى وفضله . " والله أعلم .
ومن العلماء من يرى أن الأعمال الصالحة تكفر الصغائر فقط وبشرط عدم ارتكاب كبيرة لقوله تعالى: { إنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا } (2)
__________
(1) - شرح النووي على مسلم ( 3/112 )
(2) - سورة النساء الآية: 31(1/450)
وأما ما ذكره السائل عن الشخص الذي يقول: إنه لو نظر إلى النساء المتبرجات فترة طويلة ثم قام فتوضأ فإن ذنوبه تخرج مع الماء فهذا الكلام من إيحاءات الشيطان نسأل الله السلامة والعافية، فالشيطان حريص على إضلال بني آدم وإيقاعهم في المحرمات، ويدخل عليهم من مداخل وطرق كثيرة، كما قال سبحانه عن الشيطان: { قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ } (1) ، وقال سبحانه: { وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } (2) ، والله سبحانه وتعالى أمر عباده بطاعته واجتناب معصيته، وأمرهم بغض البصر وحفظ الفرج، قال تعالى: { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } (3) ، ودعا عباده إلى الاستجابة له ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } (4) ، وحذر سبحانه الذين لا يستجيبون لله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - من أن يحال بينهم وبين قلوبهم، بمعنى يعاقبون بسبب ذنوبهم ومعاصيهم وعدم استجابتهم لأوامر الله، فلا يستطيعون الرجوع إلى الطاعة، وقد تخرمهم المنية وهم مقيمون على المعصية، أفلا يخشى من يقول هذا
__________
(1) - سورة الأعراف : 16 - 17
(2) - سورة البقرة : 168 - 169
(3) - سورة النور الآية: 30
(4) - سورة الأنفال الآية: 24(1/451)
الكلام أن يحال بينه وبين قلبه، وأن لا يوفق لعمل صالح مقبول يكون مكفراً لذنوبه، ثم إن إطالة النظر في النساء المتبرجات والإصرار على هذا يجعل المعصية كبيرة ويوقع الإنسان في الفتنة التي تجره إلى ما هو أعظم؛ ولهذا حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته من فتنة النساء، فقال - صلى الله عليه وسلم - : " مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنْ النِّسَاءِ " (1) ، وقال - صلى الله عليه وسلم - : " إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ " (2) ، وإن كان هذا الكلام قد صدر على وجه الاستهزاء بآيات الله وأحاديث نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، فهذا أمر خطير نسأل الله العافية، يقول سبحانه وتعالى عن المنافقين: { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } (3)
هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
- - - - - -
كيفية الأذان والإقامة
أرجو أن تخبروني بالتفصيل كيفية رفع الأذان وإقامة الصلاة والحركات التي ينبغي عملها في الأذان.
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
__________
(1) - أخرجه البخاري (5096)، ومسلم (2740) من حديث أسامة بن زيد - رضي الله عنه - .
(2) - أخرجه مسلم ح (2742) من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - .
(3) - سورة التوبة : 65- 66(1/452)
الأذان: هو الإعلام بدخول وقت الصلاة بألفاظ مخصوصة، والإقامة: هي الإعلام بالقيامة للصلاة بذكر مخصوص، ويشرعان للصلوات الخمس دون غيرها للرجال دون النساء، وهما من فروض الكفايات إذا قام بهما من يكفي سقط الإثم عن الباقين، لأنهما من شعائر الإسلام الظاهرة، ويشترط لصحتهما: الإسلام والعقل والذكورية، وأن يكون الأذان في وقت الصلاة، ولا يصح قبل دخول وقتها، غير الأذان الأول للفجر والجمعة، فيجوز قبل الوقت، وأن تكون الإقامة عند إرادة القيام للصلاة، وأن يكون الأذان والإقامة مرتباً متوالياً كما وردت بذلك السنة، وينبغي أن يكون المؤذن صيتاً أميناً عالماً بالأوقات، ويستحب في المؤذن ما يأتي:
- أن يكون بالغاً عاقلاً ، ويصح أذان الصبي المميز .
- أن يكون متطهراً من الحديث الأصغر والأكبر .
- أن يؤذن قائماً مستقبلاً القبلة .
- أن يجعل أصبعيه في أذنيه ، وأن يدير وجهه عن يمينه إذا قال: " حي على الصلاة " ، وعن يساره إذا قال: " حي على الفلاح "
- أن يترسل في الأذان، أي يتمهل ، ويحدر الإقامة، أي يسرع فيها .
- أن يرفع صوته بالنداء ، وإن كان منفرداً في صحراء .
وللأذان كيفيات وردت في السنة منها:(1/453)
- أولاً: تربيع التكبير الأول وتثنية باقية جمل الأذان بلا ترجيع ما عدا كلمة التوحيد فيكون عدد كلماته خمس عشرة كلمة لحديث عبد الله بن زيد قَالَ لَمَّا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالنَّاقُوسِ يُعْمَلُ لِيُضْرَبَ بِهِ لِلنَّاسِ لِجَمْعِ الصَّلَاةِ طَافَ بِي وَأَنَا نَائِمٌ رَجُلٌ يَحْمِلُ نَاقُوسًا فِي يَدِهِ فَقُلْتُ يَا عَبْدَ اللَّهِ أَتَبِيعُ النَّاقُوسَ قَالَ وَمَا تَصْنَعُ بِهِ فَقُلْتُ نَدْعُو بِهِ إِلَى الصَّلَاةِ قَالَ أَفَلَا أَدُلُّكَ عَلَى مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ فَقُلْتُ لَهُ بَلَى قَالَ فَقَالَ تَقُولُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ (1)
- ثانياً: تربيع التكبير ، وترجيع كل من الشهادتين ، بمعنى أن يقول المؤذن : أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن محمد رسول الله ، أشهد أن محمد رسول الله ، يخفض بها صوته، ثم يعيدها مع الصوت لحديث أبي محذورة : أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَّمَهُ الْأَذَانَ تِسْعَ عَشْرَةَ كَلِمَةً" (2)
__________
(1) - أخرجه أحمد ح ( 15880 )، وأبو داود ح ( 431 ) والترمذي ح (174) ، وقال: حسن صحيح .
(2) - أخرجه الترمذي ح ( 177 )، وقال : حديث حسن صحيح(1/454)
هذا ويشرع للمؤذن التثويب ، وهو أن يقول في أذان الصبح - بعد الحيعلتين - : " الصلاة خير من النوم " قال أبو محذورة : " يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي سُنَّةَ الْأَذَانِ ، فعلمه وقال: " فَإِنْ كَانَ صَلَاةُ الصُّبْحِ قُلْتَ: الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنْ النَّوْمِ الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنْ النَّوْمِ " (1)
والإقامة ورد لها كيفيات منها:
- أولاً: أن تكون الإقامة إحدى عشرة كلمة وذلك بتثنية التكبير الأول والأخير ، وقد قامت الصلاة، وإفراد سائر كلماتها، لحديث عبد الله بن زيد المتقدم: " وَتَقُولُ إِذَا أَقَمْتَ الصَّلَاةَ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ " ، وهذه إقامة بلال لحديث أنس - رضي الله عنه - : " أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة إلا الإقامة " (2)
__________
(1) - أخرجه أبو داود ح ( 422 )
(2) - أخرجه البخاري ح ( 603 )، ومسلم ح ( 378 )(1/455)
- ثانياً: تربيع التكبير مع تثنية جميع كلماتها، ما عدا الكلمة الأخيرة لحديث أبي مَحْذُورَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَّمَهُ الْأَذَانَ تِسْعَ عَشْرَةَ كَلِمَةً وَالْإِقَامَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ كَلِمَةً .... وَالْإِقَامَةُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ "
والكيفية الأولى للأذان والإقامة هي التي كان بلال ينادي بهما بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - حضراً وسفراً حتى توفي النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والكيفية الثانية للأذان والإقامة هي ما يعرف بأذان وإقامة أبي محذورة حيث علمه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقد استحب الإمام أحمد - رحمه الله - وغيره الأخذ بأذان بلال وإقامته، وتجويز أذان وإقامة أبي محذورة إذا عمل بهذا في مكان وهذا في مكان ، والله أعلم .
- - - - - -
التثنية والإفراد في ألفاظ الأذان والإقامة
قرأت حديثا عن إقامة الصلاة قبل صلاة الجماعة وهو حديث أنس - رضي الله عنه - : أن بلال - صلى الله عليه وسلم - أُمر بتثنية الأذان وإفراد الإقامة باستثناء قول " قد قامت الصلاة" وحديث ثاني هو حديث ابن أبي ليلى: أُمر بلال - رضي الله عنه - بتثنية الأذان والإقامة. أرجو التكلم في إسناد الحديثين ومن منها الأصح وأين ذكر هذين الحديثين؟
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:(1/456)
أخرج البخاري (605) من طريق سِمَاكِ بْنِ عَطِيَّةَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلابَةَ عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: " أُمِرَ بِلَالٌ أَنْ يَشْفَعَ الْأَذَانَ وَأَنْ يُوتِرَ الْإِقَامَةَ إِلَّا الْإِقَامَةَ". وأخرج (606) من طريق عبد الْوَهَّابِ الثَّقَفِي قَالَ أَخْبَرَنَا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - قَالَ: " لَمَّا كَثُرَ النَّاسُ قَالَ ذَكَرُوا أَنْ يَعْلَمُوا وَقْتَ الصَّلَاةِ بِشَيْءٍ يَعْرِفُونَهُ، فَذَكَرُوا أَنْ يُورُوا نَارًا أَوْ يَضْرِبُوا نَاقُوسًا، فَأُمِرَ بِلالٌ - رضي الله عنه - أَنْ يَشْفَعَ الأَذَانَ وَأَنْ يُوتِرَ الإِقَامَةَ " ، ثم أخرجه برقم (607) من طريق إِسْمَاعِيل بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ أَبِي قِلابَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - قَالَ: " أُمِرَ بِلالٌ - رضي الله عنه - أَنْ يَشْفَعَ الأَذَانَ وَأَنْ يُوتِرَ الإقَامَةَ " قَالَ إِسْمَاعِيلُ فَذَكَرْتُ لأَيُّوبَ فَقَالَ إِلا الإِقَامَة ، قال الحافظ : " اِدَّعَى اِبْن مَنْدَهْ أَنَّ قَوْله "إِلا الإِقَامة" مِنْ قَوْل أَيُّوبَ غَيْرُ مُسْنَدٍ كَمَا فِي رِوَايَة إِسْمَاعِيل بْنِ إِبْرَاهِيمَ , وَأَشَارَ إِلَى أَنَّ فِي رِوَايَة سِمَاكِ بْنِ عَطِيَّةَ هَذِهِ إِدْرَاجًا , وَكَذَا قَالَ أَبُو مُحَمَّد الأَصِيلِيُّ : قَوْله " إِلا الإِقَامَةَ" هُوَ مِنْ قَوْل أَيُّوبَ وَلَيْسَ مِنْ الْحَدِيث .(1/457)
وَفِيمَا قَالاهُ نَظَرٌ , لأَنَّ عَبْدَ الرَّزَّاق رَوَاهُ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ أَيُّوبَ بِسَنَدِهِ مُتَّصِلا بِالْخَبَرِ مُفَسَّرًا وَلَفْظه " كَانَ بِلال - رضي الله عنه - يُثَنِّي الأَذَان وَيُوتِرُ الْإِقَامَة , إِلَّا قَوْلَهُ قَدْ قَامَتْ الصَّلَاة " وَأَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَة فِي صَحِيحه وَالسَّرَّاجُ فِي مُسْنَده وَكَذَا هُوَ فِي مُصَنَّف عَبْد الرَّزَّاق , وَلِلْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ هَذَا الْوَجْه " وَيَقُول قَدْ قَامَتْ الصَّلَاة مَرَّتَيْنِ" وَالْأَصْل أَنَّ مَا كَانَ فِي الْخَبَر فَهُوَ مِنْهُ حَتَّى يَقُومَ دَلِيل عَلَى خِلَافه, وَلَا دَلِيل فِي رِوَايَة إِسْمَاعِيل لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَتَحَصَّل مِنْهَا أَنَّ خَالِدًا كَانَ لَا يَذْكُر الزِّيَادَةَ وَكَانَ أَيُّوبُ يَذْكُرُهَا , وَكُلٌّ مِنْهُمَا رَوَى الْحَدِيث عَنْ أبِي قِلابَةَ عَنْ أَنَس - رضي الله عنه - , فَكَانَ فِي رِوَايَة أَيُّوبَ زِيَادَة مِنْ حَافِظ فَتُقْبَلُ, وَاَللَّه أَعْلَم. " (1) ، وقوله : وأن يوتر الإقامة إلا الإقامة: أي يأتي بألفاظ الإقامة وتراً إلا قوله : قد قامت الصلاة فيأتي بها مرتين ، وقد استشكل عدم استثناء التكبير في الإقامة وهو شفع - أي مرتين - ، وأجيب عن ذلك بأن تثنية التكبير في الإقامة بالنسبة إلى الأذان إفراد لأن التكبير في أول الأذان تربيع ، فيكون مقابل تكبيرتين من الأذان تكبيرة من الإقامة فتكون وتراً من هذا الاعتبار وهذا إنما يتم في تكبير أول الأذان لا في آخره ، ولكن يؤخذ شفع التكبير في الإقامة من الأحاديث الأخرى فعدم استثنائه في هذا الحديث لا يقدح في ثبوته في أحاديث أخرى.
__________
(1) - فتح الباري (2/83)(1/458)
وقد ورد ذكر جمل الأذان والإقامة في حديث عبد الله بن زيد - رضي الله عنه - فعن محمد بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ قَالَ لَمَّا أَجْمَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَضْرِبَ بِالنَّاقُوسِ يَجْمَعُ لِلصَّلَاةِ النَّاسَ وَهُوَ لَهُ كَارِهٌ لموافقته النَّصَارَى، طَافَ بِي مِنْ اللَّيْلِ طَائِفٌ وَأَنَا نَائِمٌ، رَجُلٌ عَلَيْهِ ثَوْبَانِ أَخْضَرَانِ، وَفِي يَدِهِ نَاقُوسٌ يَحْمِلُهُ قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ أَتَبِيعُ النَّاقُوسَ ؟ قَالَ: وَمَا تَصْنَعُ بِهِ ؟ قُلْتُ: نَدْعُو بِهِ إِلَى الصَّلَاةِ، قَالَ: أَفَلَا أَدُلُّكَ عَلَى خَيْرٍ مِنْ ذَلِكَ ؟ فَقُلْتُ: بَلَى قَالَ: تَقُولُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ . قَالَ: ثُمَّ اسْتَأْخَرْتُ غَيْرَ بَعِيدٍ قَالَ: ثُمَّ تَقُولُ إِذَا أَقَمْتَ الصَّلَاةَ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ .(1/459)
قَالَ: فَلَمَّا أَصْبَحْتُ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا رَأَيْتُ قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّ هَذِهِ لَرُؤْيَا حَقٌّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ أَمَرَ بِالتَّأْذِينِ فَكَانَ بِلَالٌ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ يُؤَذِّنُ بِذَلِكَ. (1) ، وقد جاء في رواية من حديث عبد الله بن زيد - رضي الله عنه - وهي المشار إليها في السؤال - من طريق عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ - رضي الله عنه - قَالَ:" كَانَ أَذَانُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - شَفْعًا شَفْعًا فِي الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ" (2) ،
__________
(1) - أخرجه أحمد (16524) وهو حديث حسن
(2) - أخرجه الترمذي (194) وهذه الرواية منقطعة ..(1/460)
قال الترمذي بعد تخريجه للحديث : " عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ - رضي الله عنه - " ولكن ورد شفع الإقامة وترجيع الأذان في حديث أبي محذورة - رضي الله عنه - أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ عَلَّمَهُ هَذَا الْأَذَانَ: " اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ " ثُمَّ يَعُودُ فَيَقُولُ: " أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ مَرَّتَيْنِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ مَرَّتَيْنِ، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ" (1) ، وأخرج الترمذي عن أَبِي مَحْذُورَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَّمَهُ الْأَذَانَ تِسْعَ عَشْرَةَ كَلِمَةً وَالْإِقَامَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ كَلِمَةً (2) . وقد اختلف العلماء في جمل الإقامة ؛ فذهب جمهور العلماء ومنهم: الشافعي وأحمد إلى أن ألفاظ الإقامة إحدى عشرة جملة كلها مفردة إلا التكبير في أولها وآخرها ، ولفظ: قد قامت الصلاة فإنها مثنى... واستدلوا بما جاء في حديث عبد الله بن زيد وحديث أنس -رضي الله عنهما- أن بلالاً - رضي الله عنه - أُمرأن يشفع الأذان ويوتر الإقامة . قال الخطابي: " مذهب جمهور العلماء، والذي جرى به العمل في الحرمين والحجاز والشام واليمن ومصر والمغرب إلى أقصى بلاد الإسلام ، أن الإقامة فرادى .
__________
(1) - أخرجه مسلم ح (379)
(2) - أخرجه الترمذي ح ( 192 ) ، وقال: حديث حسن صحيح .(1/461)
"، وقال أيضاً : " مذهب كافة العلماء أنه يكرر قوله : قد قامت الصلاة ؛ إلا مالكاً ؛ فإن المشهور عنه أنه لا يكررها ، وذهب الشافعي في قديم قوليه إلى ذلك " ، وذهب أبو حنيفة والثوري وابن المبارك وأهل الكوفة إلى أن ألفاظ الإقامة مثل الأذان مع زيادة : قد قامت الصلاة مرتين فتكون جمل الإقامة سبع عشرة جملة ، واستدلوا بما جاء في حديث أبي محذورة - رضي الله عنه - ، وبالرواية الأخرى من حديث عبد الله بن زيد - رضي الله عنه - وهذا الاختلاف الوارد في جمل الإقامة ، وترجيع الأذان من اختلاف التنوع، والأمر في ذلك واسع، فمن أخذ بما جاء في أذان بلال - رضي الله عنه - وإقامته فقد أصاب السنة، ومن أخذ بأذان وإقامة أبي محذورة فقد أصاب السنة ، وقد كان بلال - رضي الله عنه - يؤذن بالمدينة، وأبو محذورة بمكة ، قال ابن عبد البر : " ذهب أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهوايه وداود بن علي ومحمد بن جرير إلى إجازة القول بكل ما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، وحملوه على الإباحة والتخيير، وقالوا : كل ذلك جائز ؛ لأنه قد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - جواز ذلك، وعمل به أصحابه ، فمن شاء قال: الله أكبر ، الله أكبر ، مرتين في أول الأذان ، ومن شاء قال ذلك أربعاً، ومن شاء رجع في أذانه، ومن شاء لم يرجع، ومن شاء ثنى الإقامة، ومن شاء أفردها، إلا قوله: قد قامت الصلاة، فإن ذلك مرتان على كل حال " (1) ، فإذا عمل المسلمون بأذان بلال - رضي الله عنه - وإقامته في مكان وبأذان أبي محذورة - رضي الله عنه - وإقامته في مكان آخر فهذا جائز، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - علم أبا محذورة - رضي الله عنه - الأذان بمكة عام الفتح وفيه الترجيع والإقامة وهي أكثر جمل من إقامة بلال - رضي الله عنه - ...
__________
(1) - الاستذكار (1/417)(1/462)
وأقر بلالاً - رضي الله عنه - على أذانه وإقامته لما رجع إلى المدينة ، وقد قيل لأحمد بن حنبل : أليس حديث أبي محذورة - رضي الله عنه - بعد حديث عبد الله بن زيد - رضي الله عنه - ؟ قال : " أليس قد رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة فأقر بلالاً - رضي الله عنه - على أذان عبد الله بن زيد - رضي الله عنه - "، وقال ابن تيمية : " وأما الترجيع وتركه، وتثنية التكبير وتربيعه، وتثنية الإقامة وإفرادها فقد ثبت في صحيح مسلم والسنن حديث أبي محذورة - رضي الله عنه - الذي علمه النبي - صلى الله عليه وسلم - الأذان عام فتح مكة وكان الأذان فيه وفي ولده بمكة وثبت أنه علمه الأذان والإقامة وفيه الترجيع وروى في حديثه " التكبير مرتين" كما في صحيح مسلم وروى " أربعا " كما في سنن أبى داود وغيره وفى حديثه أنه علمه الإقامة شفعا وثبت في الصحيح عن أنس بن مالك قال: " لما كثر الناس قال تذاكروا أن يعلموا وقت الصلاة بشيء يعرفونه فذكروا أن يوروا نارا أو يضربوا ناقوساً فأُمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة " وفي رواية للبخاري: "إلا الإقامة " وفي سنن أبي داود وغيره أن عبد الله بن زيد - رضي الله عنه - لما أرى الأذان وأمره النبي أن يلقيه على بلال - رضي الله عنه - فألقاه عليه، وفيه التكبير أربعا بلا ترجيع، وإذا كان كذلك فالصواب مذهب أهل الحديث ومن وافقهم وهو تسويغ كل ما ثبت في ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يكرهون شيئا من ذلك، إذ تنوع صفة الأذان والإقامة كتنوع صفة القراءات والتشهدات ونحو ذلك وليس لأحد أن يكره ما سنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأمته ....(1/463)
وإن كان أحمد وغيره من أئمة الحديث يختارون أذان بلال - رضي الله عنه - وإقامته لمداومته على ذلك بحضرته فهذا كما يختار بعض القراءات والتشهدات ونحو ذلك، ومن تمام السنة في مثل هذا: أن يفعل هذا تارة، وهذا تارة، وهذا في مكان، وهذا في مكان؛ لأن هجر ما وردت به السنة، وملازمة غيره قد يفضي إلى أن يجعل السنة بدعة، والمستحب واجباً، ويفضي ذلك إلى التفرق والاختلاف، إذا فعل آخرون الوجه الآخر فيجب على المسلم أن يراعي القواعد الكلية التي فيها الاعتصام بالسنة والجماعة لا سيما في مثل صلاة الجماعة، وأصح الناس طريقة في ذلك هم علماء الحديث الذين عرفوا السنة واتبعوها " (1)
هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
- - - - - -
رفع السبابة عند قول المؤذن : " أشهد أن لا إله إلا الله "
هل يجوز رفع إصبع السبابة من اليد اليمنى عندما نسمع المؤذن يقول " أشهد أن لا إله إلا الله"؟، أم أن ذلك بدعة من بدع البيرلاوية ؟ وجزاكم الله خيرا
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
لا أعلم دليلاً يدل على مشروعية رفع السبابة عند سماع المؤذن يقول: " أشهد أن لا إله إلا الله " ، والذي ورد هو رفع السبابة في التشهد ففي حديث ابْنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا قَعَدَ فِي التَّشَهُّدِ وَضَعَ يَدَهُ الْيُسْرَى عَلَى رُكْبَتِهِ الْيُسْرَى وَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى رُكْبَتِهِ الْيُمْنَى وَعَقَدَ ثَلَاثَةً وَخَمْسِينَ وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ . (2) ، هذا والله أعلم .
- - - - - -
حكم جمع الصلاتين من غير سبب
أنا محافظ على الصلاة في أوقاتها ولكن احد الزملاء الشيعة في الجامعة قال لي لماذا تتعب نفسك اعمل مثلنا نحن الشيعة وصل جمعا .
__________
(1) - مجموع الفتاوى ( 22/65 - 66 )
(2) - أخرجه مسلم ح ( 580 )(1/464)
عندها تبسمت وقلت له مصادركم غير مصادرنا ولكنه ضحك بشدة وقال نحن ملتزمون بالسنة اكتر منك وشيخوكم يتعمدون إخفاء أحاديث الجمع في البخاري ومسلم ومسند احمد و موطأ الإمام مالك .
وبالفعل وجدت حديث ابن عباس عن الجمع ، لذا ارجوا ايضاح الأحاديث وهل صلاة الشيعة جمعا صحيحة ولا إشكال في ذلك؟ ولماذا جمع الرسول - صلى الله عليه وسلم - ؟ وما هو تفسير ذلك ؟ وكيف اقنع الشيعة إن جمعهم الصلاة خطأ ؟
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
أود أن يكون الجواب عن هذا السؤال من خلال النقاط الآتية:
1- فرض الله سبحانه وتعالى على المسلم خمس صلوات في اليوم والليلة ، وهذه الصلوات موقتة بأوقات محددة كما قال سبحانه: { إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً } (1) ، وقال تعالى: { وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ } (2) ، وقال: { أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ } (3) .
__________
(1) - سورة النساء الآية: 103
(2) - سورة هود الآية: 114
(3) - سورة الإسراء الآية: 78(1/465)
وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله وفعله مواقيت الصلاة بياناً شافياً ، وذلك بتحديد بداية ونهاية وقت كل صلاة من هذه الصلوات الخمس ، ففي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " وَقْتُ الظُّهْرِ إِذَا زَالَتْ الشَّمْسُ، وَكَانَ ظِلُّ الرَّجُلِ كَطُولِهِ مَا لَمْ يَحْضُرْ الْعَصْرُ، وَوَقْتُ الْعَصْرِ مَا لَمْ تَصْفَرَّ الشَّمْسُ، وَوَقْتُ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ مَا لَمْ يَغِبْ الشَّفَقُ، وَوَقْتُ صَلَاةِ الْعِشَاءِ إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ الْأَوْسَطِ، وَوَقْتُ صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ مَا لَمْ تَطْلُعْ الشَّمْسُ؛ فَإِذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ فَأَمْسِكْ عَنْ الصَّلَاةِ فَإِنَّهَا تَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ " (1)
__________
(1) - أخرجه مسلم ح (612)(1/466)
وفي صحيح مسلم أيضاً من حديث بريدة بن الحصيب - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ عَنْ وَقْتِ الصَّلَاةِ فَقَالَ لَهُ: صَلِّ مَعَنَا هَذَيْنِ - يَعْنِي الْيَوْمَيْنِ - فَلَمَّا زَالَتْ الشَّمْسُ أَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الظُّهْرَ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الْعَصْرَ، وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ بَيْضَاءُ نَقِيَّةٌ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الْمَغْرِبَ حِينَ غَابَتْ الشَّمْسُ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الْعِشَاءَ حِينَ غَابَ الشَّفَقُ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الْفَجْرَ حِينَ طَلَعَ الْفَجْرُ، فَلَمَّا أَنْ كَانَ الْيَوْمُ الثَّانِي أَمَرَهُ، فَأَبْرَدَ بِالظُّهْرِ فَأَبْرَدَ بِهَا فَأَنْعَمَ أَنْ يُبْرِدَ بِهَا، وَصَلَّى الْعَصْرَ، وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ أَخَّرَهَا فَوْقَ الَّذِي كَانَ وَصَلَّى الْمَغْرِبَ قَبْلَ أَنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ وَصَلَّى الْعِشَاءَ بَعْدَمَا ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ وَصَلَّى الْفَجْرَ فَأَسْفَرَ بِهَا ثُمَّ قَالَ: " أَيْنَ السَّائِلُ عَنْ وَقْتِ الصَّلَاةِ؟ " فَقَالَ الرَّجُلُ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: " وَقْتُ صَلَاتِكُمْ بَيْنَ مَا رَأَيْتُمْ " (1)
__________
(1) - أخرجه مسلم ح ( 613 )(1/467)
وفيه أيضاً من حديث أَبِي مُوسَى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ أَتَاهُ سَائِلٌ يَسْأَلُهُ عَنْ مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ شَيْئًا قَالَ فَأَقَامَ الْفَجْرَ حِينَ انْشَقَّ الْفَجْرُ وَالنَّاسُ لَا يَكَادُ يَعْرِفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ بِالظُّهْرِ حِينَ زَالَتْ الشَّمْسُ وَالْقَائِلُ يَقُولُ قَدْ انْتَصَفَ النَّهَارُ وَهُوَ كَانَ أَعْلَمَ مِنْهُمْ ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ بِالْعَصْرِ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ بِالْمَغْرِبِ حِينَ وَقَعَتْ الشَّمْسُ ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الْعِشَاءَ حِينَ غَابَ الشَّفَقُ ثُمَّ أَخَّرَ الْفَجْرَ مِنْ الْغَدِ حَتَّى انْصَرَفَ مِنْهَا وَالْقَائِلُ يَقُولُ قَدْ طَلَعَتْ الشَّمْسُ أَوْ كَادَتْ ثُمَّ أَخَّرَ الظُّهْرَ حَتَّى كَانَ قَرِيبًا مِنْ وَقْتِ الْعَصْرِ بِالْأَمْسِ ثُمَّ أَخَّرَ الْعَصْرَ حَتَّى انْصَرَفَ مِنْهَا وَالْقَائِلُ يَقُولُ قَدْ احْمَرَّتْ الشَّمْسُ ثُمَّ أَخَّرَ الْمَغْرِبَ حَتَّى كَانَ عِنْدَ سُقُوطِ الشَّفَقِ ثُمَّ أَخَّرَ الْعِشَاءَ حَتَّى كَانَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الْأَوَّلِ ثُمَّ أَصْبَحَ فَدَعَا السَّائِلَ فَقَالَ الْوَقْتُ بَيْنَ هَذَيْنِ . (1)
__________
(1) - أخرجه مسلم ح ( 614 )(1/468)
وفي مسند الإمام أحمد من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - جَاءَهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ قُمْ فَصَلِّهْ فَصَلَّى الظُّهْرَ حِينَ زَالَتْ الشَّمْسُ ثُمَّ جَاءَهُ الْعَصْرَ فَقَالَ قُمْ فَصَلِّهْ فَصَلَّى الْعَصْرَ حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ أَوْ قَالَ صَارَ ظِلُّهُ مِثْلَهُ ثُمَّ جَاءَهُ الْمَغْرِبَ فَقَالَ قُمْ فَصَلِّهْ فَصَلَّى حِينَ وَجَبَتْ الشَّمْسُ ثُمَّ جَاءَهُ الْعِشَاءَ فَقَالَ قُمْ فَصَلِّهْ فَصَلَّى حِينَ غَابَ الشَّفَقُ ثُمَّ جَاءَهُ الْفَجْرَ فَقَالَ قُمْ فَصَلِّهْ فَصَلَّى حِينَ بَرَقَ الْفَجْرُ أَوْ قَالَ حِينَ سَطَعَ الْفَجْرُ ثُمَّ جَاءَهُ مِنْ الْغَدِ لِلظُّهْرِ فَقَالَ قُمْ فَصَلِّهْ فَصَلَّى الظُّهْرَ حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ ثُمَّ جَاءَهُ لِلْعَصْرِ فَقَالَ قُمْ فَصَلِّهْ فَصَلَّى الْعَصْرَ حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ ثُمَّ جَاءَهُ لِلْمَغْرِبِ الْمَغْرِبَ وَقْتًا وَاحِدًا لَمْ يَزُلْ عَنْهُ ثُمَّ جَاءَ لِلْعِشَاءِ الْعِشَاءَ حِينَ ذَهَبَ نِصْفُ اللَّيْلِ أَوْ قَالَ ثُلُثُ اللَّيْلِ فَصَلَّى الْعِشَاءَ ثُمَّ جَاءَهُ لِلْفَجْرِ حِينَ أَسْفَرَ جِدًّا فَقَالَ قُمْ فَصَلِّهْ فَصَلَّى الْفَجْرَ ثُمَّ قَالَ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ وَقْتٌ . (1)
__________
(1) - أخرجه أحمد ح ( 14011 )(1/469)
2- رغب النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته بالمبادرة في الصلاة لوقتها وحذرهم من تأخيرها عن وقتها ، ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ: الصَّلَاةُ لِوَقْتِهَا قَالَ: قُلْتُ ثُمَّ أَيٌّ ؟ قَالَ: بِرُّ الْوَالِدَيْنِ، قَالَ: قُلْتُ ثُمَّ أَيٌّ ؟ قَالَ: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَمَا تَرَكْتُ أَسْتَزِيدُهُ إِلَّا إِرْعَاءً عَلَيْهِ " (1)
وفي صحيح مسلم من حديث أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّهُ سَيَكُونُ بَعْدِي أُمَرَاءُ يُمِيتُونَ الصَّلَاةَ، فَصَلِّ الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا...." (2)
وفي سنن أبي داود من حديث عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ قال: أَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: خَمْسُ صَلَوَاتٍ افْتَرَضَهُنَّ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ أَحْسَنَ وُضُوءَهُنَّ وَصَلَّاهُنَّ لِوَقْتِهِنَّ وَأَتَمَّ رُكُوعَهُنَّ وَخُشُوعَهُنَّ كَانَ لَهُ عَلَى اللَّهِ عَهْدٌ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلَيْسَ لَهُ عَلَى اللَّهِ عَهْدٌ إِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ" (3)
وفي الصحيحين من حديث ابْنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: الَّذِي تَفُوتُهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ كَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ " (4)
3- دلت السنة على أن الجمع يجوز بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء في وقت إحداهما لثلاثة أمور :
__________
(1) - أخرجه البخاري ح (7534) ، ومسلم ح (85)، واللفظ لمسلم
(2) - أخرجه مسلم ح ( 648 )
(3) - أخرجه أبو داود ح ( 361 )
(4) - أخرجه البخاري ح ( 552 ) ، ومسلم ح ( 626 )(1/470)
أ- السفر: ففي الصحيحين من حديث أنس - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ أَنْ تَزِيغَ الشَّمْسُ أَخَّرَ الظُّهْرَ إِلَى وَقْتِ الْعَصْرِ ثُمَّ نَزَلَ فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا فَإِنْ زَاغَتْ الشَّمْسُ قَبْلَ أَنْ يَرْتَحِلَ صَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ رَكِبَ . (1)
وفي صحيح مسلم من مُعَاذٍ - رضي الله عنه - قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ فَكَانَ يُصَلِّي الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا (2)
قال البيقهي : " الجمع بين الصلاتين بعذر السفر من الأمور المشهورة المستعملة في ما بين الصحابة والتابعين - رضي الله عنهم - لأنه الثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم عن أصحابه ثم ما أجمع عليه المسلمون من جمع الناس بعرفة ثم المزدلفة"
ب- المطر: ففي الصحيحين من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِالْمَدِينَةِ فِي غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا مَطَرٍ . الحديث يدل بمفهومه على جواز الجمع بعذر المطر ، وأن هذا كان متقرراً عند الصحابة - رضي الله عنهم - (3)
قال ابن تيمية : " فيدل - أي حديث ابن عباس - على الجمع للخوف والمطر"، وقال : " يجوز الجمع للوحل الشديد والريح الشديدة الباردة في الليلية الظلماء ، ونحو ذلك ، وإن لم يكن المطر نازلاً في أصح قولي العلماء" (4)
ج- المرض الذي يلحقه بترك الجمع فيه مشقة وضعف : ويدل على إباحة الجمع للمريض أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - المستحاضة أن تجمع بين الصلاتين بغسل واحد ؛ لمشقة الغسل عليها لكل صلاة .
__________
(1) - أخرجه البخاري ح (1111) ، ومسلم ح (704)
(2) - أخرجه مسلم ح ( 706 )
(3) - أخرجه البخاري ح ( 510 )، ومسلم ح ( 1151)
(4) - مجموع الفتاوى ( 24/29 )(1/471)
قال ابن قدامة: " نص أحمد على جواز جمع المريض ، وهذا قول عطاء ومالك"
4- حُفِظ من هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يصلى كل صلاة في وقتها ، وهذا مستفيض ومتواتر من فعله عليه الصلاة والسلام ، وقد ورد في حديث ابن عباس أنه صلى بأصحابه مرة واحدة بالمدينة ، فجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء ، ولكون هذا على خلاف المعروف من عادة النبي - صلى الله عليه وسلم - بادر أصحاب ابن عباس إلى أن يسألونه عن سبب ذلك، وقد اختلف العلماء في توجيه هذا الحديث وسلكوا مسالك متعددة :
الأول: أنه منسوخ بالإجماع على خلافه، وقد حكى الترمذي في آخر " كتابه" أنه لم يقل به أحد من العلماء.
قال الترمذي: " جميع ما في هذا الكتاب من الحديث فهو معمول به وقد أخد به بعض أهل العلم ما خلا حديثين حديث بن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جمع بين الظهر والعصر بالمدينة والمغرب والعشاء من غير خوف ولا سفر ولا مطر... " (1)
الثاني: أن الأحاديث الواردة في المواقيت جاءت على خلاف ما دل عليه حديث ابن عباس ، قال ابن رجب : " وقد عارضه الإمام أحمد بأحاديث المواقيت، وقوله: " الوقت ما بين هذين" ، وبحديث أبي ذر في الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها، وأمره بالصلاة في الوقت، ولو كان الجمع جائزاً من غير عذر لم يحتج إلى ذلك، فإن أولئك الأمراء كانوا يجمعون لغير عذرٍ، ولم يكونوا يؤخرون صلاة النهار إلى الليل، ولا صلاة الليل إلى النهار .
وكذلك في حديث أبي قتادة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أنه قال لما ناموا عن صلاة الفجر حتى طلعت الشمس: " ليس في النوم تفريط، إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى". خرجه مسلم.
__________
(1) - شرح العلل الترمذي ( 1/736 )(1/472)
الثالث: أن ما حصل في حديث ابن عباس هو جمع صوري ، بمعنى أن الظهر صلاها في آخر وقتها ، وقدم العصر في أول وقتها ، وأخر المغرب في آخر وقتها ، وقدم العشاء في أول وقتها، ويدل على هذا ما جاء في الصحيحين عن عمرو بن دينار قال: قُلْتُ يَا أَبَا الشَّعْثَاءِ أَظُنُّهُ أَخَّرَ الظُّهْرَ وَعَجَّلَ الْعَصْرَ وَأَخَّرَ الْمَغْرِبَ وَعَجَّلَ الْعِشَاءَ قَال:َ وَأَنَا أَظُنُّ ذَاكَ
الرابع: أن ذلك كان جمعا بين الصلاتين لمطر، وهذا هو الذي حمله عليه أيوب السختياني كما في رواية البخاري :قَالَ أَيُّوبُ: لَعَلَّهُ فِي لَيْلَةٍ مَطِيرَةٍ قَالَ عَسَى، وهو الذي حمله عليه مالك- أيضا.
الخامس: أن الذي نقله ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما كان في السفر لا في الحضر، قال ابن رجب : " وأكثر رواة حديث ابن عباس ذكروا أن جمعه كان بالمدينة، وهم أكثر وأحفظ. "
السادس: أن جمعه ذلك كان لمرض.
وقد روي عن الإمام أحمد، أنه قال:هذا عندي رخصة للمريض والمرضع.
السابع: الأخذ بظاهر الحديث ، فيجوز الجمع في الحضر للحاجة بشرط ألا يتخذ ذلك عادة ، قال ابن سيرين: " لا بأس بالجمع بين الصلاتين للحاجة والشيء ما لم يتخذ عادة " ، وقال الحافظ ابن حجر: " وممن قال بذلك : ابن سيرين وربيعة وأشهب وابن المنذر والقفال الكبير وحكاه الخطابي عن جماعة من أصحاب الحديث ، واستدل لهم بما وقع عند مسلم في هذا الحديث من طريق سعيد بن جبير قال: فقلت لابن عباس لم فعل ذلك ؟ قال: أراد أن لا يحرج أحداً من أمته . "
هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل .
- - - - - -
الجمع بين الصلوات بعذر المطر
هل يوجد دليل من الشرع على جواز الجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء بسبب المطر؟ حتى ولو لم يسبب المطر الأذى؟(1/473)
بعض الناس هنا يقولون بالجواز، مع العلم أن هذه البلاد - بريطانيا - تمطر يوميا فهم يجمعون بين هذه الصلوات وقد يجمعون بين المغرب والعشاء مع أن المطر كان في وقت الظهر، فيرون الجواز لأن السماء أمطرت في ذلك اليوم (حتى ولو كان مطرا قليلا)
فما الحكم الشرعي في الجمع بين الصلوات في مثل هذا الوضع؟
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
يجوز الجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء في الحضر على الراجح من أقوال العلماء إذا وجد مطر يبل الثياب، وحصل مشقة للناس في خروجهم إلى المساجد، ومثل ذلك إذا وجد سيول غزيرة ووحل وريح شديدة، ويدل على ذلك ما جاء في حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قَالَ جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِالْمَدِينَةِ فِي غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا مَطَرٍ . (1) ، الحديث يدل بمفهومه على جواز الجمع بعذر المطر ، وأن هذا كان متقرراً عند الصحابة - رضي الله عنهم - .
قال ابن تيمية : " فيدل - أي حديث ابن عباس - على الجمع للخوف والمطر"، وقال : " يجوز الجمع للوحل الشديد والريح الشديدة الباردة في الليلية الظلماء ، ونحو ذلك ، وإن لم يكن المطر نازلاً في أصح قولي العلماء" (2)
- - - - - -
رفع اليدين في الصلاة
رواية الطحاوي عن عمر وأبو بكر بن أبي شيبة عن الأسود أنه قال "رأيت عمر بن الخطاب يرفع يديه في التكبيرة الأولى ثم لا يعد إلى ذلك" هل هذا الحديث صحيح ؟
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
__________
(1) - أخرجه البخاري ( 510 )، ومسلم ح ( 1151)
(2) - مجموع الفتاوى ( 24/29 )(1/474)
الأثر المشار إليه في السؤال أخرجه ابن أبي شيبة ( 1/237 )، قال: حدثنا يحيى بن آدم عن حسن بن عياش عن عبد الملك بن أبجر عن الزبير بن عدي عن إبراهيم عن الأسود قال: صليت مع عمر فلم يرفع يديه في شيء من صلاته إلا حين افتتح الصلاة قال عبد الملك ورأيت الشعبي وإبراهيم وأبا إسحاق لا يرفعون أيديهم إلا حين يفتتحون الصلاة .(1/475)
وهذا الأثر إسناده صحيح، وهو يدل على أن عمر - رضي الله عنه - كان لا يرفع يديه إلا عند تكبيرة الإحرام، ولكن دلت أحاديث أخرى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وآثار عن الصحابة على مشروعية رفع اليدين عند الركوع والرفع منه، ومن ذلك حديث ابن عمر رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ، وَإِذَا كَبَّرَ لِلرُّكُوعِ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ (1) ، فالحديث يدل على مشروعية رفع اليدين في حال افتتاح الصلاة وإذا كبر للركوع وعند الرفع من الركوع فهذه ثلاثة مواطن، وهناك موطن رابع وهو الرفع إذا قام من الركعتين بعد التشهد ، ففي صحيح البخاري من حديث ابن عمر : أنه كَانَ إِذَا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ وَإِذَا رَكَعَ رَفَعَ يَدَيْهِ وَإِذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَفَعَ يَدَيْهِ وَإِذَا قَامَ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ رَفَعَ يَدَيْهِ وَرَفَعَ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ (2) ، فهذه المواطن الأربعة ثبت فيها رفع اليدين في الصلاة، وأما ما عداها فلم يثبت فيها رفع اليدين، ولحديث ابن عمر شواهد كثيرة ذكر البخاري في جزء رفع اليدين أنه رواه سبعة عشر رجلاً من الصحابة، وذكر الحافظ العراقي أنه تتبع من رواه فبلغوا خمسين رجلاً، ورفع اليدين في هذه المواطن من الأمور المستحبة المندوب إليها، وليست من الأمور الواجبة، قال الإمام النووي: " أجمعت الأمة على استحباب رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام، واختلفوا فيما سواها فقال الشافعي وأحمد وجمهور العلماء من الصحابة - رضي الله عنهم - فمن بعدهم يستحب رفعهما أيضا عند الركوع وعند الرفع منه، وهو رواية عن مالك وللشافعي قول أنه يستحب
__________
(1) - أخرجه البخاري ح ( 735 ) ومسلم ح ( 390 )
(2) - أخرجه البخاري ح ( 739 )(1/476)
رفعهما في موضع آخر رابع وهو إذا قام من التشهد الأول وهذا القول هو الصواب، فقد صح فيه حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يفعله رواه البخاري وصح أيضا من حديث أبي حميد الساعدي رواه أبو داود والترمذي بأسانيد صحيحة ..... وقال أبو حنيفة وأصحابه وجماعة من أهل الكوفة لا يستحب في غير تكبيرة الإحرام وهو أشهر الروايات عن مالك واجمعوا على أنه لا يجب شيء من الرفع ... " (1) ، ومن الآثار الواردة عن الصحابة - رضي الله عنهم - الدالة على مشروعية رفع اليدين في غير تكبيرة الإحرام ما رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن عطاء بن أبي رباح قال: رأيت أبا سعيد وابن عمر وابن عباس وابن الزبير يرفعون أيديهم عند تكبيرة الإحرام وعند الركوع ، وعند الرفع منه . (2) وأخرج عبد الرزاق بإسناد صحيح عن الحسن بن موسى قال: سمعت طاووساً وهو يسأل عن رفع اليدين في الصلاة فقال: رأيت عبد الله وعبد الله وعبد الله يرفعون أيديهم في الصلاة، لبعد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير. (3)
- - - - - -
رفع اليدين في الصلاة
__________
(1) - شرح النووي على مسلم ( 4/95)
(2) - أخرجه ابن أبي شيبة ( 1/235 )
(3) - أخرجه عبد الرزاق ح ( 2525 )(1/477)
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ نَصْرِ بْنِ عَاصِمٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَفَعَ يَدَيْهِ فِي صَلَاتِهِ وَإِذَا رَكَعَ وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ وَإِذَا سَجَدَ وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ السُّجُودِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا فُرُوعَ أُذُنَيْهِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى قَالَ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ نَصْرِ بْنِ عَاصِمٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَفَعَ يَدَيْهِ فَذَكَرَ مِثْلَهُ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ قَتَادَةَ عَنْ نَصْرِ بْنِ عَاصِمٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ فَذَكَرَ نَحْوَهُ وَزَادَ فِيهِ وَإِذَا رَكَعَ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ السُّجُودِ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ (النسائي 1085)(1/478)
هذا الحديث أعلاه صححه النووي في آثار السنة وفيه رفع اليدين حتى في السجود، وهناك حديث آخر عن يحيى بن أبي إسحق أنه رأى أنس بن مالك يرفع يديه بين السجدتين . وقد صححه الإمام النووي أيضا. وأعرف أن هناك أحاديث أخرى تثبت عدم رفع اليدين عند السجود. ولكن من المعلوم حديث ابن مسعود الذي فيه أن النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) كان لا يرفع يديه في الصلاة إلا في تكبيرة الاحرام لكن العلماء قالوا بسنية الرفع عند الركوع والرفع من الركوع في كل صلاة بحجة أن المثبت مقدم على المنفي. وعلى هذا الأساس فلماذا لا نقول بسنية رفع أيدينا عند السجود والرفع منه في كل صلاة على أساس أن المثبت في الحديث الصحيح قددم على المنفي؟
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:(1/479)
ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع يديه في أربعة مواطن: إذا كبر للإحرام ، وإذا كبر للركوع ، وإذا رفع رأسه من الركوع ، وإذا قام من التشهد الأول، ففي الصحيحين من حديث ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - افْتَتَحَ التَّكْبِيرَ فِي الصَّلَاةِ فَرَفَعَ يَدَيْهِ حِينَ يُكَبِّرُ حَتَّى يَجْعَلَهُمَا حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ وَإِذَا كَبَّرَ لِلرُّكُوعِ فَعَلَ مِثْلَهُ وَإِذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَعَلَ مِثْلَهُ وَقَالَ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ وَلَا يَفْعَلُ ذَلِكَ حِينَ يَسْجُدُ وَلَا حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ مِنْ السُّجُودِ، (1) وفي صحيح البخاري من حديث ابن عمر : أنه كَانَ إِذَا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ وَإِذَا رَكَعَ رَفَعَ يَدَيْهِ وَإِذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَفَعَ يَدَيْهِ وَإِذَا قَامَ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ رَفَعَ يَدَيْهِ وَرَفَعَ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ (2) ، فهذه المواطن الأربعة ثبت فيها رفع اليدين في الصلاة، وقوله في حديث ابن عمر : " وَلَا يَفْعَلُ ذَلِكَ حِينَ يَسْجُدُ وَلَا حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ مِنْ السُّجُودِ " يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يرفع يديه إذا خر للسجود ، ولا حين الرفع من السجود ، ولا بين السجدتين ، ويؤخذ مما تقدم أنه لا ترفع الأيدي في الصلاة في غير هذه المواطن الأربعة ، ولم يُخرج في الصحيحين حديث يدل على رفع الأيدي في السجود ، ولا في الرفع منه، وهذا قول جمهور العلماء ، وقد نص عليه الشافعي وأحمد ، وسئل أحمد : أليس يُروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه فعله ؟ ، فقال: هذه الأحاديث أقوى وأكثر (3) ،
__________
(1) - أخرجه البخاري ح ( 738 ) ومسلم ح ( 390 )
(2) - أخرجه البخاري ح ( 739 )
(3) - ينظر: فتح الباري لابن رجب ( 4/323 )(1/480)
وذهب بعض العلماء إلى استحباب رفع اليدين إذا قام من السجود ، واستدلوا ببعض الأحاديث والآثار الواردة في ذلك ، قال الحافظ ابن حجر : " وَأَصَحُّ مَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ مِنْ الْأَحَادِيثِ فِي الرَّفْعِ فِي اَلسُّجُودِ مَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ مِنْ رِوَايَةِ سَعِيد بْن أَبِي عَرُوبَة عَنْ قَتَادَة عَنْ نَصْرِ بْن عَاصِم عَنْ مَالِك بْن الْحُوَيْرِثِ " أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي صَلَاتِهِ إِذَا رَكَعَ ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ رُكُوعِهِ ، وَإِذَا سَجَدَ ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ سُجُودِهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا فُرُوعَ أُذُنَيْهِ " ... .(1/481)
وَفِي الْبَابِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ لَا يَخْلُو شَيْءٌ مِنْهَا عَنْ مَقَال " (1) ، ويحتمل أن ما جاء في بعض الروايات من رفع اليدين في كل خفض ورفع المراد به التكبير واشتبه على الراوي، قال الحافظ ابن القيم - رحمه الله - : " ثم كان - صلى الله عليه وسلم - يكبر ويخر ساجداً ، ولا يرفع يديه ، وقد روي عنه أنه كان يرفعهما أيضاً ، وصححه بعض الحفاظ كأبي محمد بن حزم - رحمه الله - وهو وهم، فلا يصح ذلك عنه البتة، والذي غره أن الراوي غلط من قوله: كان يُكبر في خفض ورفع إلى قوله: كان يرفع يديه عند كل خفض ورفع " (2) ، ومال بعض العلماء إلى حمل ما ورد من رفع اليدين عند السجود والرفع منه على غير الغالب من فعله - صلى الله عليه وسلم - ، بمعنى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ربما فعله في بعض الأحيان، لكن الغالب من فعله - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة أنه لا يرفع في غير المواطن الأربعة المتقدمة ، قال الحافظ ابن رجب - رحمه الله : " على تقدير أن يكون ذكر الرفع محفوظا، ولم يكن قد اشتبه بذكر التكبير بالرفع - بأن مالك بن الحويرث ووائل بن حجر لم يكونا من أهل المدينة ، وإنما كانا قد قدما إليها مرة أو مرتين ، فلعلهما رأيا النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل ذَلِكَ مرة ، وقد عارض ذَلِكَ نفي ابن عمر ، مع شدة ملازمته للنبي - صلى الله عليه وسلم - وشدة حرصه على حفظ أفعاله واقتدائه به فيها ، فهذا يدل على أن أكثر أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - كانَ ترك الرفع فيما عدا المواضع الثلاثة والقيام من الركعتين ، وقد روي في الرفع عندَ السجود وغيره أحاديث معلولة : .... " ثم ذكر هذه الأحاديث وبين عللها (3) ، وسبق أن أجبت عن سؤال مشابه لما ذكره السائل حول مذاهب العلماء في رفع اليدين في الصلاة .
- - - - - -
رفع اليدين في الصلاة
__________
(1) - فتح الباري ( 2/223 )
(2) - زاد المعاد ( 1/222 )
(3) - فتح الباري لابن رجب ( 4/326 )(1/482)
يقول بعض العلماء إن رفع اليدين خلال الصلاة بخلاف تكبيرة الإحرام قد نسخ ، بينما يقول آخرون بأنه سنة وأن النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) توفي وهو يفعله.
فأرجو بيان القول الصحيح بين هذين القولين ومعالجة دعوى النسخ بالتفصيل.
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله، وبعد:
سبق الإجابة عن بيان المواضع التي يشرع فيها رفع اليدين في الصلاة، ولا صحة للقول بالنسخ، ونرفق للسائل الجواب السابق :(1/483)
ففي حديث ابن عمر في الصحيحين أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ، وَإِذَا كَبَّرَ لِلرُّكُوعِ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ رَفَعَهُمَا كَذَلِكَ أَيْضًا، وَقَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، وَكَانَ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي السُّجُودِ .(1/484)
(1) والحديث يدل على مشروعية رفع اليدين في حال افتتاح الصلاة وإذا كبر للركوع وعند الرفع من الركوع فهذه ثلاثة مواطن، وهناك موطن رابع وهو الرفع إذا قام من الركعتين بعد التشهد ، ففي صحيح البخاري من حديث ابن عمر : أنه كَانَ إِذَا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ وَإِذَا رَكَعَ رَفَعَ يَدَيْهِ وَإِذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَفَعَ يَدَيْهِ وَإِذَا قَامَ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ رَفَعَ يَدَيْهِ وَرَفَعَ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ، (2) فهذه المواطن الأربعة ثبت فيها رفع اليدين في الصلاة، وأما ما عداها فلم يثبت فيها رفع اليدين، ولحديث ابن عمر شواهد كثيرة ذكر البخاري في جزء رفع اليدين أنه رواه سبعة عشر رجلاً من الصحابة، وذكر الحافظ العراقي أنه تتبع من رواه فبلغوا خمسين رجلاً، ورفع اليدين في هذه المواطن من الأمور المستحبة المندوب إليها، وليست من الأمور الواجبة، قال الإمام النووي: " أجمعت الأمة على استحباب رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام، واختلفوا فيما سواها فقال الشافعي وأحمد وجمهور العلماء من الصحابة - رضي الله عنهم - فمن بعدهم يستحب رفعهما أيضا عند الركوع وعند الرفع منه، وهو رواية عن مالك وللشافعي قول أنه يستحب رفعهما في موضع آخر رابع وهو إذا قام من التشهد الأول وهذا القول هو الصواب، فقد صح فيه حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يفعله رواه البخاري وصح أيضا من حديث أبي حميد الساعدي رواه أبو داود والترمذي بأسانيد صحيحة ..... وقال أبو حنيفة وأصحابه وجماعة من أهل الكوفة لا يستحب في غير تكبيرة الإحرام وهو أشهر الروايات عن مالك واجمعوا على أنه لا يجب شيء من الرفع ... " (3)
- - - - - -
__________
(1) - أخرجه البخاري ح ( 735 ) ومسلم ح ( 390 )
(2) - أخرجه البخاري ح ( 739 )
(3) - شرح النووي على مسلم ( 4/95)(1/485)
رواية رفع اليدين في الصلاة في مسند الحميدي
السلام عليكم: سمعت أنه وقع تحريف من قبل عالم حنفي في مسند الحميدي في حديث عبد الله بن عمر عن عدم رفع اليدين في الصلاة إلا عند تكبيرة الإحرام. فهل هذا صحيح؟
وما هي الرواية الأصلية الصحيحة وما مدى صحتها؟
جزاكم الله خيرا
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:(1/486)
حديث ابن عمر المشار إليه في السؤال أخرجه البخاري ح ( 735 ) ومسلم ح ( 390 ) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ، وَإِذَا كَبَّرَ لِلرُّكُوعِ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ رَفَعَهُمَا كَذَلِكَ أَيْضًا، وَقَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، وَكَانَ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي السُّجُودِ .(1/487)
والحديث يدل على مشروعية رفع اليدين في حال افتتاح الصلاة وإذا كبر للركوع وعند الرفع من الركوع فهذه ثلاثة مواطن، وهناك موطن رابع وهو الرفع إذا قام من الركعتين بعد التشهد ، ففي صحيح البخاري من حديث ابن عمر : أنه كَانَ إِذَا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ وَإِذَا رَكَعَ رَفَعَ يَدَيْهِ وَإِذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَفَعَ يَدَيْهِ وَإِذَا قَامَ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ رَفَعَ يَدَيْهِ وَرَفَعَ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ (1) ، فهذه المواطن الأربعة ثبت فيها رفع اليدين في الصلاة، وأما ما عداها فلم يثبت فيها رفع اليدين، ولحديث ابن عمر شواهد كثيرة ذكر البخاري في جزء رفع اليدين أنه رواه سبعة عشر رجلاً من الصحابة، وذكر الحافظ العراقي أنه تتبع من رواه فبلغوا خمسين رجلاً، ورفع اليدين في هذه المواطن من الأمور المستحبة المندوب إليها، وليست من الأمور الواجبة، قال الإمام النووي: " أجمعت الأمة على استحباب رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام، واختلفوا فيما سواها فقال الشافعي وأحمد وجمهور العلماء من الصحابة - رضي الله عنهم - فمن بعدهم يستحب رفعهما أيضا عند الركوع وعند الرفع منه، وهو رواية عن مالك وللشافعي قول أنه يستحب رفعهما في موضع آخر رابع وهو إذا قام من التشهد الأول وهذا القول هو الصواب، فقد صح فيه حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يفعله رواه البخاري وصح أيضا من حديث أبي حميد الساعدي رواه أبو داود والترمذي بأسانيد صحيحة ..... وقال أبو حنيفة وأصحابه وجماعة من أهل الكوفة لا يستحب في غير تكبيرة الإحرام وهو أشهر الروايات عن مالك واجمعوا على أنه لا يجب شيء من الرفع ...
__________
(1) - أخرجه البخاري ح ( 739 )(1/488)
" (1) ، وأما لفظ حديث ابن عمر عند الحميدي فقد ورد في مسنده هكذا: قال الحميدي: ثنا سفيان ثنا الزهري قال: أخبرني سالم بن عبد الله عن أبيه قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا افتتح الصلاة رفع يديه حذو منكبيه ، وإذا أراد أن يركع وبعدما يرفع رأسه من الركوع فلا يرفع ولا بين السجدتين " (2) ، ويظهر أن هذه الرواية فيها تحريف لأن الإمام أحمد وغيره قد روى الحديث عن سفيان، ولفظه في مسند أحمد : " حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ مَنْكِبَيْهِ وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ وَبَعْدَمَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ وَقَالَ سُفْيَانُ مَرَّةً وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ وَأَكْثَرُ مَا كَانَ يَقُولُ وَبَعْدَمَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ وَلَا يَرْفَعُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ " (3) ، وهذا السياق هو الذي يتفق مع روايات الحديث في الصحيحين وغيرهما والله أعلم .
- - - - - -
مقاربة الصفوف من الإمام في الصلاة
هو هل يوجد حديث صحيح أو قول للأئمه أو التابعين أو تفضيل بخصوص مقاربه في صفوف المأمومين للإمام في الصلاة كمسافة بين موضع وقوفهم ووقفه شكراً .
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
__________
(1) - شرح النووي على مسلم ( 4/95)
(2) - مسند الحميدي ح ( 614 )
(3) - أخرجه أحمد ح ( 4312 )(1/489)
ورد في الأحاديث الأمر برص الصفوف وتسويتها والدنو من الإمام، وقد ذكر بعض أهل العلم أن السنة ألا تزيد المسافة بين الإمام والمأمومين على ثلاثة أذرع، قال ابن حجر الهيثمي: " السنة ألا يزيد ما بين الإمام ومن خلفه من الرجال على ثلاثة أذرع تقريبا كما بين كل صفين " (1) ، ومعنى هذا أن المسافة ما بين أقدام المصلين في الصف الأول وقدم الإمام لا تزيد على ثلاثة أذرع، وهذا مأخوذ من أن السنة أن يكون ما بين المصلي - أي موضع قدميه - وسترته قدر ثلاثة أذرع، والله أعلم .
- - - - - -
ساعة الإجابة يوم الجمعة
نحن مأمورون بتحري الساعة المرجوة لإجابة الدعاء في يوم الجمعة بين أن يجلس الإمام إلى انتهاء الصلاة، كما في صحيح مسلم. فكيف يتيسر لنا ذلك ومتى؟ فإن الوقت قصير جدا بين الجلوس والصلاة ثم إن علينا الاستماع للخطبة؟
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
ثبت أن في الجمعة ساعة يرجى فيها الإجابة، واختلف أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم في تعيين هذه الساعة، فمنهم من حددها بوقت معين، ومنهم من جعلها متنقلة في سائر ساعات الجمعة، ومنهم من قال: إنها أخفيت كما أخفيت ليلة القدر، وقد توسع في ذكر الخلاف في هذه القضية ابن القيم في زاد المعاد (2) ، والحافظ ابن حجر في " الفتح (3) حيث أبلغ الأقوال في هذه المسألة ثلاثة وأربعين قولاً، وقال - بعد سياقه للأقوال -: " وهذه الأقوال ليست كلها متغايرة من كل وجه بل كثير منها يمكن أن يتحد مع غيره "
وقال ابن القيم - بعد ذكره للأقوال- : " وأرجح هذه الأقوال: قولان تضمنتهما الأحاديث الثابتة، وأحدهما أرجح من الآخر "، وهذان القولان هما:
__________
(1) - الفتاوى الفقهية الكبرى (1/215 )
(2) - (1/388 )
(3) - (2/421 )(1/490)
- القول الأول: أنها ما بين جلوس الإمام إلى انقضاء الصلاة، وحجة هذا القول ما روى مسلم في صحيحه من حديث أبي بردة بن أبي موسى رضي الله عنهما أن عبد الله بن عمر قال له: أَسَمِعْتَ أَبَاكَ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي شَأْنِ سَاعَةِ الْجُمُعَةِ ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " هِيَ مَا بَيْنَ أَنْ يَجْلِسَ الْإِمَامُ إِلَى أَنْ تُقْضَى الصَّلَاةُ . " (1)
- والقول الثاني: أنها بعد صلاة العصر، وهذا أرجح القولين، وهو قول عبد الله بن سلام، وأبي هريرة والإمام أحمد وخلق، وحجة هذا القول: ما رواه أبو داود والنسائي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " يَوْمُ الْجُمُعَةِ ثِنْتَا عَشْرَةَ- يُرِيدُ سَاعَةً - لَا يُوجَدُ مُسْلِمٌ يَسْأَلُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ شَيْئًا إِلَّا أَتَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَالْتَمِسُوهَا آخِرَ سَاعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ" (2)
وأخرج الحديث الحاكم وصححه ووافقه الذهبي، وصححه أيضاً النووي، وحسنه ابن حجر .
وأخرج أحمد في مسنده عن أبي سعيد وأبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إِنَّ فِي الْجُمُعَةِ سَاعَةً لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ يَسْأَلُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِيهَا خَيْرًا إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ وَهِيَ بَعْدَ الْعَصْرِ " (3)
وفي إسناد هذا الحديث محمد بن سلمة الأنصاري وهو مجهول، لكن يشهد للحديث ما قبله .
وروى سعيد بن منصور في سننه عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن ناساً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اجتمعوا، فتذكروا الساعة التي في يوم الجمعة، فتفرقوا، ولم يختلفوا أنها آخر ساعة من يوم الجمعة . "
__________
(1) - أخرجه مسلم ح ( 853 )
(2) - أخرجه أبو داود ح ( 884 ) والنسائي ح ( 1373 )
(3) - أخرجه أحمد ح ( 7674 )(1/491)
ونقل الترمذي عن الإمام أحمد أنه قال: " أكثر الأحاديث في الساعة التي ترجى إجابة الدعوة أنها بعد صلاة العصر، وترجى بعد زوال الشمس." (1) ، والحاصل أن القول أنها بعد العصر أرجح، وعلى القول بأنها ما بين أن يجلس الإمام إلى الفراغ من الصلاة فهناك وقت ولو كان قصيراً يمكن للمسلم أن يستغله بالدعاء بأدعية جامعة ، ثم إن المستمع للخطبة ودعاء الإمام يحصل له التأمين على دعاء الإمام والمُؤمن على الدعاء مثل الداعي قال الله عز وجل عن موسى وهارون: ( قد أجيبت دعوتكما )، وتجد الإشارة إلى أن حديث أبي موسى الذي أخرجه مسلم قد أُعل بالوقف، قال الدارقطني: " الصواب من قول أبي بردة منقطع " (2) ، قال الحافظ ابن حجر: " ورجح الدارقطني أنه من قول أبي بردة " (3) ، هذا والله أعلم .
- - - - - -
الخطبة بـ " اتقوا الله " فقط
السلام عليكم، هل الرواية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب يوما بقوله: "اتقوا الله" فقط ؟، وهل هذا يعني أنه لم يقل " الحمد لله نحمده ونستعينه..." وبقية الأشياء بالعربية التي ينبغي قولها.
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
__________
(1) - جامع الترمذي ( 2/260 )
(2) - الإلزامات والتتبع ص ( 234 )
(3) - بلوغ المرام ص ( 94 )(1/492)
لم أقف على خطبة للرسول - صلى الله عليه وسلم - اقتصر فيها على قوله: " اتقوا الله " ، وكان من هديه - صلى الله عليه وسلم - القصد والاعتدال في الخطبة، ففي صحيح مسلم من حديث جابر بن سمرة - رضي الله عنه - قال: " كنت أصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكانت صلاته قصداً وخطبته قصداً " (1) ، وفي صحيح مسلم من حديث عمار بن ياسر قال: " سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنةٌ من فقه، فأطيلوا الصلاة واقصروا الخطبة، وإن من البيان سحراً (2) ، ومَئِنَّة: أي علامة، ويستفاد من هذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يطيل الخطبة ويتوسط فيها ويقصد الكلمات الجوامع، وقد أوتي - صلى الله عليه وسلم - جوامع الكلم، فيعبر باللفظ المختصر عن المعاني الكثيرة، فينبغي للخطيب أن يتأسى به فتكون خطبته قصداً بقدر الحاجة ويختار الكلمات الجامعة المتضمنة للمعاني الكثيرة ليحصل بها المقصود وتكون مؤثرة وبليغة . هذا والله أعلم،
- - - - - -
الصلاة في الفلاة ، والصلاة في الجماعة
هناك شخص رفض الصلاة في جماعة وفضل الصلاة في الفلاة معتلا بأن الصلاة في الفلاة تعدل خمسين صلاة وقد راجعت الحديث فوجدته صحيح وقد صححه الألباني فما هو الرد على مثل هذا وما معنى الحديث .
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
__________
(1) - أخرجه مسلم ح ( 866 )، والترمذي ح (507)، وقال: حسن صحيح
(2) - أخرجه مسلم ح (869)(1/493)
دلت الأحاديث الصحيحة على تضعيف صلاة الجماعة على صلاة الفذ بسبع وعشرين أو خمس وعشرين درجة ، والأحاديث في هذه المعنى كثيرة مستفيضة، ففي الصحيحين من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ صَلَاةَ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً " (1) ، وفيهما من حديث أبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قال رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي الْجَمَاعَةِ تُضَعَّفُ عَلَى صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ وَفِي سُوقِهِ خَمْسًا وَعِشْرِينَ ضِعْفًا وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا الصَّلَاةُ لَمْ يَخْطُ خَطْوَةً إِلَّا رُفِعَتْ لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ وَحُطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ فَإِذَا صَلَّى لَمْ تَزَلْ الْمَلَائِكَةُ تُصَلِّي عَلَيْهِ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ وَلَا يَزَالُ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاةٍ مَا انْتَظَرَ الصَّلَاةَ (2) ، والحديث المشار إليه في السؤال أخرجه أبو داود ح ( 473 )، وابن حبان ح ( 1749 ) من طريق هلال بن ميمون عن عطاء بن يزيد عن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " الصَّلَاةُ فِي جَمَاعَةٍ تَعْدِلُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ صَلَاةً فَإِذَا صَلَّاهَا فِي فَلَاةٍ فَأَتَمَّ رُكُوعَهَا وَسُجُودَهَا بَلَغَتْ خَمْسِينَ صَلَاةً .
__________
(1) - البخاري ح ( 645 ) ومسلم ح ( 650 )
(2) - البخاري ح ( 647 ) ومسلم ح ( 649 )(1/494)
"، وهلال بن ميمون وثقه ابن معين، وقال النسائي: لا بأس به، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال أبو حاتم: ليس بقوي، ويكتب حديثه، وقال الحافظ: صدوق، وعلى تقدير ثبوته يحمل على مَنْ حصل له هذا الأمر اتفاقاً حيث لم يقصد ترك الجماعة ولكنه لم تحصل له فاجتهد وأقام الصلاة في فلاة، وهو بعيد عن الناس فكان عمله فيه إخلاص وعناية بأمر الصلاة وحسن اهتمام فكان جديراً بمضاعفة الأجر والمثوبة، وليس من المناسب أن يقدم مثل هذا الحديث على النصوص المستفيضة في الصحيحين فهي نصوص محكمة، وهذا النص محتمل، وقد ورد في الأحاديث الثناء على من عبد الله وأقام الصلاة على قدر سعته وطاقته وهو بعيد عن الناس، أو حصلت فتنة فاعتزل الناس، وحافظ على الصلاة، ففي الصحيحين من حديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ ؟ فَقَالَ: " رَجُلٌ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِمَالِهِ وَنَفْسِهِ " قَالَ: ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ: " مُؤْمِنٌ فِي شِعْبٍ مِنْ الشِّعَابِ يَعْبُدُ اللَّهَ رَبَّهُ وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ " (1) ، وفي صحيح مسلم من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: مِنْ خَيْرِ مَعَاشِ النَّاسِ لَهُمْ رَجُلٌ مُمْسِكٌ عِنَانَ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَطِيرُ عَلَى مَتْنِهِ كُلَّمَا سَمِعَ هَيْعَةً أَوْ فَزْعَةً طَارَ عَلَيْهِ يَبْتَغِي الْقَتْلَ وَالْمَوْتَ مَظَانَّهُ أَوْ رَجُلٌ فِي غُنَيْمَةٍ فِي رَأْسِ شَعَفَةٍ مِنْ هَذِهِ الشَّعَفِ أَوْ بَطْنِ وَادٍ مِنْ هَذِهِ الْأَوْدِيَةِ يُقِيمُ الصَّلَاةَ وَيُؤْتِي الزَّكَاةَ وَيَعْبُدُ رَبَّهُ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْيَقِينُ لَيْسَ مِنْ النَّاسِ إِلَّا فِي خَيْرٍ. (2)
هذا والله أعلم
__________
(1) - أخرجه البخاري ح ( 2786 )، ومسلم ح ( 1888 )
(2) - أخرجه مسلم ح ( 1889 )(1/495)
التطوع بين المغرب والعشاء
سمعتُ أنه قد رُوِيَ عن سعيد بن جبير أن الصحابة رأوا أن أداء أربع ركعات قبل صلاة العشاء مستحبّ. [قيام الليل للمروزي ص (58) ] فما صحة هذه الرواية؟ وما تخريجها؟ وما موقف الفقهاء منها؟
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
لا حرج على المسلم أن يصلي نفلاً مطلقاً بين المغرب والعشاء ، لأن الصلاة خير موضوع ، وفي حديث حذيفة - رضي الله عنه - قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فصليت معه المغرب، فصلى إلى العشاء (1) ، وبوب عليه النسائي في الكبرى بقوله : " الصلاة بين المغرب والعشاء " ، وورد في بعض روايات حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - في قصة مبيته عند خالته ميمونة : " أن العباس بعثه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في حاجة ، قال: فوجدته جالساً في المسجد فلم أستطع أن أكلمه، فلما صلى المغرب قام فركع حتى أذن العشاء " ، قال الحافظ ابن حجر: " ويؤخذ من هذا مشروعية التنفل بين المغرب والعشاء" (2) ، وورد عن بعض الصحابة والتابعين أنهم كانوا يصلون بين المغرب والعشاء ، وعقد عبد الرزاق في مصنفه وابن أبي شيبة في مصنفه باباً في الصلاة بين المغرب والعشاء ، وأوردا فيه عن عدد من الصحابة والتابعين أنهم كانوا يصلون بين المغرب والعشاء (3) ، وقال الحافظ العراقي : " وممن كان يصلي ما بين المغرب والعشاء من الصحابة : عبد الله بن مسعود ، وعبد الله بن عمرو ، وسلمان الفارسي، وابن عمر ، وأنس بن مالك في ناس من الأنصار، ومن التابعين : الأسود بن يزيد، وأبو عثمان النهدي ، وابن أبي مليكة، وسعيد بن جبير، ومحمد بن المنكدر ، وأبو حاتم ، وعبد الله بن سخبرة ، وعلي بن الحسين ، وأبو عبد
__________
(1) - أخرجه أحمد ح ( 22240 ) والترمذي ح ( 3714 ) والنسائي ح ( 379 ) ، وإسناده صحيح
(2) - ينظر: فتح الباري ( 2 / 482 - 485 )
(3) - ينظر: مصنف عبد الرزاق ( 3/44 ) ، مصنف ابن أبي شيبة ( 2/196 )(1/496)
الرحمن الحبلي ، وشريح القاضي ، وعبد الله بن مغفل وغيرهم ومن الأئمة: سفيان الثوري " ، وقال الشوكاني بعد أن أورد بعض الأحاديث والآثار في الباب: " وهي تدل على مشروعية الاستكثار من الصلاة ما بين المغرب والعشاء " (1) ، وأما الأثر عن سعيد بن جبير المذكور في السؤال فلم أقف عليه مسنداً لكون كتاب مختصر قيام الليل مجرداً من الأسانيد ، لكن أخرج ابن أبي شيبة عن ابن فضيل عن وقاء بن إياس عن سعيد بن جبير أنه كان يصلي ما بين المغرب والعشاء ويقول هي ناشئة الليل " (2) ، وفي هذا الإسناد : وقاء بن إياس الأسدي، ضعفه بعض الأئمة ، وقال الحافظ ابن حجر في التقريب : لين الحديث ، والله أعلم .
هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الليل
صديق لي يسأل عن الدليل على قيام الأئمة بالدعاء في الركوع والسجود في ليالي العشر الأواخر من رمضان بصورة مطولة.
وقد قدمت لصديقي حديث عن النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) فيه أذكار مختلفة في الركوع والسجود وأن الإنسان يكون أقرب إلى ربه في السجود فلذلك ينبغي عليه أن يدعو.
لكن صديقي يرغب في الحصول على حديث محدد يوضح ويثبت أن النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) نفسه كان يطيل صلاة التراويح في الليالي العشر الأخيرة من رمضان.
فهل هناك حديثا بهذا الخصوص؟ وجزاكم الله خيرا.
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
كان من هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - إطالة الصلاة بالليل وتطويل القراءة، وكان يداوم على قيام الليل في رمضان وغيره، وقد جاء في أحاديث كثيرة وصف صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - في قيام الليل منها ما يأتي:
__________
(1) - ينظر: نيل الأوطار ( 2/ 241 )
(2) - مصنف ابن أبي شيبة ( 2/ 197 )(1/497)
- عن أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - كَيْفَ كَانَتْ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي رَمَضَانَ ؟، قَالَتْ: " مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ، وَلَا فِي غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي ثَلَاثًا .... " (1)
- وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي تَطَوُّعِهِ ؟ ، فَقَالَتْ:" كَانَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ تِسْعَ رَكَعَاتٍ فِيهِنَّ الْوِتْرُ، وَكَانَ يُصَلِّي لَيْلًا طَوِيلًا قَائِمًا، وَلَيْلًا طَوِيلًا قَاعِدًا، وَكَانَ إِذَا قَرَأَ وَهُوَ قَائِمٌ رَكَعَ وَسَجَدَ وَهُوَ قَائِمٌ، وَإِذَا قَرَأَ قَاعِدًا رَكَعَ وَسَجَدَ وَهُوَ قَاعِدٌ وَكَانَ إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ صَلَّى رَكْعَتَيْن" (2)
- وعنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " كَانَ يُصَلِّي جَالِسًا، فَيَقْرَأُ وَهُوَ جَالِسٌ، فَإِذَا بَقِيَ مِنْ قِرَاءَتِهِ قَدْرُ مَا يَكُونُ ثَلَاثِينَ أَوْ أَرْبَعِينَ آيَةً، قَامَ فَقَرَأَ وَهُوَ قَائِمٌ، ثُمَّ رَكَعَ، ثُمَّ سَجَدَ ثُمَّ يَفْعَلُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِثْلَ ذَلِكَ " (3)
__________
(1) - أخرجه مسلم ح (738)
(2) - أخرجه مسلم ح (730)
(3) - أخرجه البخاري ح (1119،1118) ، ومسلم (731)(1/498)
- وعن حذيفة - رضي الله عنه - قال : صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَافْتَتَحَ الْبَقَرَةَ، فَقُلْتُ: يَرْكَعُ عِنْدَ الْمِائَةِ، ثُمَّ مَضَى، فَقُلْتُ: يُصَلِّي بِهَا فِي رَكْعَةٍ، فَمَضَى، فَقُلْتُ: يَرْكَعُ بِهَا، ثُمَّ افْتَتَحَ النِّسَاءَ فَقَرَأَهَا، ثُمَّ افْتَتَحَ آلَ عِمْرَانَ فَقَرَأَهَا، يَقْرَأُ مُتَرَسِّلًا، إِذَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا تَسْبِيحٌ سَبَّحَ، وَإِذَا مَرَّ بِسُؤَالٍ سَأَلَ، وَإِذَا مَرَّ بِتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ، ثُمَّ رَكَعَ فَجَعَلَ يَقُولُ: " سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ "، فَكَانَ رُكُوعُهُ نَحْوًا مِنْ قِيَامِهِ، ثُمَّ قَالَ: " سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ "، ثُمَّ قَامَ طَوِيلًا قَرِيبًا مِمَّا رَكَعَ، ثُمَّ سَجَدَ فَقَالَ: " سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى "، فَكَانَ سُجُودُهُ قَرِيبًا مِنْ قِيَامِهِ . (1)
- وعن عبد الله - رضي الله عنه - قال : " صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَطَالَ حَتَّى هَمَمْتُ بِأَمْرِ سَوْءٍ، قَالَ: قِيلَ وَمَا هَمَمْتَ بِهِ ؟ قَالَ: هَمَمْتُ أَنْ أَجْلِسَ وَأَدَعَهُ " (2)
__________
(1) - أخرجه مسلم ح ( 772)
(2) - أخرجه البخاري ح ( 1135 ) ، ومسلم ح ( 773 ) ، واللفظ له .(1/499)
- وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ بِتُّ فِي بَيْتِ خَالَتِي مَيْمُونَةَ فَبَقَيْتُ كَيْفَ يُصَلِّي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ فَقَامَ فَبَالَ ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ وَكَفَّيْهِ ثُمَّ نَامَ ثُمَّ قَامَ إِلَى الْقِرْبَةِ فَأَطْلَقَ شِنَاقَهَا ثُمَّ صَبَّ فِي الْجَفْنَةِ أَوْ الْقَصْعَةِ فَأَكَبَّهُ بِيَدِهِ عَلَيْهَا ثُمَّ تَوَضَّأَ وُضُوءًا حَسَنًا بَيْنَ الْوُضُوءَيْنِ ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي فَجِئْتُ فَقُمْتُ إِلَى جَنْبِهِ فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ قَالَ فَأَخَذَنِي فَأَقَامَنِي عَنْ يَمِينِهِ فَتَكَامَلَتْ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً ثُمَّ نَامَ حَتَّى نَفَخَ وَكُنَّا نَعْرِفُهُ إِذَا نَامَ بِنَفْخِهِ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ فَصَلَّى فَجَعَلَ يَقُولُ فِي صَلَاتِهِ أَوْ فِي سُجُودِهِ اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا وَفِي سَمْعِي نُورًا وَفِي بَصَرِي نُورًا وَعَنْ يَمِينِي نُورًا وَعَنْ شِمَالِي نُورًا وَأَمَامِي نُورًا وَخَلْفِي نُورًا وَفَوْقِي نُورًا وَتَحْتِي نُورًا وَاجْعَلْ لِي نُورًا أَوْ قَالَ وَاجْعَلْنِي نُورًا (1)
__________
(1) - أخرجه البخاري ح ( 117 ) ، ومسلم ح ( 763 )(1/500)
- وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا تَهَجَّدَ مِنْ اللَّيْلِ قَالَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ أَنْتَ الْحَقُّ وَقَوْلُكَ الْحَقُّ وَوَعْدُكَ الْحَقُّ وَلِقَاؤُكَ الْحَقُّ وَالْجَنَّةُ حَقٌّ وَالنَّارُ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ حَقٌّ اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْكَ خَاصَمْتُ وَبِكَ حَاكَمْتُ فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ وَأَسْرَرْتُ وَأَعْلَنْتُ وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ . (1)
- عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ فَقَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَيْلَةً مِنْ الْفِرَاشِ فَالْتَمَسْتُهُ فَوَقَعَتْ يَدِي عَلَى بَطْنِ قَدَمَيْهِ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ وَهُمَا مَنْصُوبَتَانِ وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ . (2)
__________
(1) - أخرجه البخاري ح ( 1120 ) ، ومسلم ح ( 769 )
(2) - أخرجه مسلم ح ( 486 )(2/1)
- عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ كَانَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ قَالَ: وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ اللَّهُمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ أَنْتَ رَبِّي وَأَنَا عَبْدُكَ ظَلَمْتُ نَفْسِي وَاعْتَرَفْتُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي جَمِيعًا إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ وَاهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ أَنَا بِكَ وَإِلَيْكَ تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ وَإِذَا رَكَعَ قَالَ اللَّهُمَّ لَكَ رَكَعْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَلَكَ أَسْلَمْتُ خَشَعَ لَكَ سَمْعِي وَبَصَرِي وَمُخِّي وَعَظْمِي وَعَصَبِي وَإِذَا رَفَعَ قَالَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَاوَاتِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ وَمِلْءَ مَا بَيْنَهُمَا وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ وَإِذَا سَجَدَ قَالَ اللَّهُمَّ لَكَ سَجَدْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَلَكَ أَسْلَمْتُ سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ تَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ثُمَّ يَكُونُ مِنْ آخِرِ مَا يَقُولُ بَيْنَ التَّشَهُّدِ وَالتَّسْلِيمِ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ وَمَا أَسْرَفْتُ وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي أَنْتَ(2/2)
الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ . (1) ، هذه بعض الأحاديث التي وصفت قيام النبي - صلى الله عليه وسلم - بالليل ، وما كان يقوله في ركوعه وسجوده ، وقد صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في رمضان وصلى بصلاته أناسٌ من أصحابه ثم ترك الصلاة بهم خشية أن تفرض عليهم ، فعن أَبِي ذَرٍّ قَالَ: صُمْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمْ يُصَلِّ بِنَا حَتَّى بَقِيَ سَبْعٌ مِنْ الشَّهْرِ فَقَامَ بِنَا حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ ثُمَّ لَمْ يَقُمْ بِنَا فِي السَّادِسَةِ وَقَامَ بِنَا فِي الْخَامِسَةِ حَتَّى ذَهَبَ شَطْرُ اللَّيْلِ فَقُلْنَا لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ نَفَّلْتَنَا بَقِيَّةَ لَيْلَتِنَا هَذِهِ فَقَالَ إِنَّهُ مَنْ قَامَ مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ ثُمَّ لَمْ يُصَلِّ بِنَا حَتَّى بَقِيَ ثَلَاثٌ مِنْ الشَّهْرِ وَصَلَّى بِنَا فِي الثَّالِثَةِ وَدَعَا أَهْلَهُ وَنِسَاءَهُ فَقَامَ بِنَا حَتَّى تَخَوَّفْنَا الْفَلَاحَ قُلْتُ لَهُ وَمَا الْفَلَاحُ قَالَ السُّحُورُ . (2)
__________
(1) - أخرجه مسلم ح ( 771 )
(2) - أخرجه الترمذي ح ( 734 ) ، وقال: حديث حسن صحيح(2/3)
- وعَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى ذَاتَ لَيْلَةٍ فِي الْمَسْجِدِ فَصَلَّى بِصَلَاتِهِ نَاسٌ ثُمَّ صَلَّى مِنْ الْقَابِلَةِ فَكَثُرَ النَّاسُ ثُمَّ اجْتَمَعُوا مِنْ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ قَدْ رَأَيْتُ الَّذِي صَنَعْتُمْ وَلَمْ يَمْنَعْنِي مِنْ الْخُرُوجِ إِلَيْكُمْ إِلَّا أَنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ . (1) هذا والله أعلم .
- - - - - -
تعجيل الفطر في رمضان
السلام عليكم أخوة الإيمان وبعد أريد أن اسأل في ما يخص تعجيل الإفطار في رمضان الكريم وقد وردت أحاديث الرسول صلي الله عليه وسلم كثيرة في هذا الباب ومن جراء هذا السؤال قد وقع عندنا خلاف كبير في هده المسألة منهم من ذهب إلى غياب قرص الشمس مباشرة الافطار مستدنداً إلى الحديث الرسول ص إذا رأيتم قرص الشمس غرب فقد افطر الصائم و الجمع الكبير من المسلمين العلمي والمتعلم ذهب إلى الحديث الرسول ص وهو ذهاب النهار وإتيان الليل وغياب قرص الشمس افدونا وفصلو لنا في هده المسالة رحمكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد
__________
(1) - أحرجه البخاري ح ( 1129 ) ، ومسلم ح ( 761 )(2/4)
السنة للصائم أن يعجل الفطر إذا تحقق من غروب الشمس، ففي الصحيحين من حديث عمر - رضي الله عنه - قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَا هُنَا وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَا هُنَا وَغَرَبَتْ الشَّمْسُ فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ (1) ، وفي الصحيحين من حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى - رضي الله عنه - قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي سَفَرٍ وَهُوَ صَائِمٌ فَلَمَّا غَرَبَتْ الشَّمْسُ قَالَ لِبَعْضِ الْقَوْمِ يَا فُلَانُ قُمْ فَاجْدَحْ لَنَا فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ أَمْسَيْتَ قَالَ انْزِلْ فَاجْدَحْ لَنَا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَلَوْ أَمْسَيْتَ قَالَ انْزِلْ فَاجْدَحْ لَنَا قَالَ إِنَّ عَلَيْكَ نَهَارًا قَالَ انْزِلْ فَاجْدَحْ لَنَا فَنَزَلَ فَجَدَحَ لَهُمْ فَشَرِبَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ قَالَ إِذَا رَأَيْتُمْ اللَّيْلَ قَدْ أَقْبَلَ مِنْ هَا هُنَا فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ. (2) ، وفي هذين الحديثين دليل على استحباب تعجيل الفطر، وأنه لا يجب إمساك جزء من الليل مطلقاً بل متى تحقق غروب الشمس حل الفطر ، وقد ترجم عليهما البخاري بقوله: " باب متى يحل فطر الصائم، وأفطر أبو سعيد الخدري حين غاب قرص الشمس " ، قال الحافظ ابن حجر: غرض هذه الترجمة الإشارة إلى أنه هل يجب إمساك جزء من الليل لتحقق مضي النهار أم لا وظاهر صنيعه يقتضي ترجيح الثاني لذكره أثر أبي سعيد في الترجمة، لكن محله إذا تحقق غروب الشمس " (3) . هذا والله أعلم .
- - - - - -
علامات ليلة القدر
__________
(1) - البخاري ح ( 1954 ) ، ومسلم ح ( 1100 )
(2) - البخاري ح ( 1955 ) ومسلم ح ( 1101 )
(3) - فتح الباري ( 4/196 )(2/5)
ورد أن عائشة قالت للرسول - صلى الله عليه وسلم - أرأيت إن علمت ليلة القدر ما أقول فيها هل يعني هذا أن الشخص يعرف ليلة القدر تظهر له علامات يعرفها إنه ليله القدر وهل ورد أن الصحابة كلهم شاهدو ليله القدر لعظم مكانتهم وعبادتهم وشأنهم عند الله وإذا لم يكن كذلك فمن باب أولى نحن لن نرى هذه الليلة .
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:(2/6)
الحديث المشار إليه في السؤال أخرجه الترمذي ح ( 3513 )، وابن ماجه ح ( 3840 ) ، من طريق كَهْمَسِ بْنِ الْحَسَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ عَلِمْتُ أَيُّ لَيْلَةٍ لَيْلَةُ الْقَدْرِ مَا أَقُولُ فِيهَا ؟ قَالَ قُولِي اللَّهُمَّ إِنَّكَ عُفُوٌّ كَرِيمٌ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، ومقصود عائشة - رضي الله عنها - والله أعلم أنها إذا تحرت ليلة القدر فعرفتها عن طريق معرفة علاماتها، أو أنها رأتها في المنام ماذا تقول فيها، فقد حصل لبعض الصحابة - رضي الله عنهم - أنهم أُرُوا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر، فأرشدها النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أن تقول هذا الدعاء، ولا يلزم أن تكون عائشة - رضي الله عنها - عرفت ليلة القدر على سبيل القطع، فقد ورد عنها في نفس الحديث عند المروزي أنها سُئلت عن ليلة القدر فقالت : " لا أدري أي ليلة ليلة القدر ، ولو علمت أي ليلة ليلة القدر ما سألت الله فيها إلا العافية"، وقد حث النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته على تحري ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان ولاسيما أوتار العشر، وآكدها ليلة سبع وعشرين، ففي حديث عائشة - رضي الله عنها - : " تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ " (1) ، وقال - صلى الله عليه وسلم - : " تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْوِتْرِ مِنْ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ " (2) ، وفي حديث أُبي بن كعب - رضي الله عنه - : إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: مَنْ قَامَ السَّنَةَ أَصَابَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فَقَالَ أُبَيٌّ: وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا
__________
(1) - أخرجه البخاري ح ( 2020 ) ، ومسلم ح ( 1169 )
(2) - أخرجه البخاري ح ( 2017 ) ، ومسلم ح ( 1169 )(2/7)
هُوَ إِنَّهَا لَفِي رَمَضَانَ يَحْلِفُ مَا يَسْتَثْنِي وَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَيُّ لَيْلَةٍ هِيَ هِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي أَمَرَنَا بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِقِيَامِهَا هِيَ لَيْلَةُ صَبِيحَةِ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ .... " (1) ، والذي دلت عليه الأحاديث أنها تنتقل في ليالي العشر، ومن قام العشر الأواخر من رمضان واجتهد فيها إيماناً واحتساباً فقد وفق لقيام ليلة القدر، ونال الثواب والأجر المرتب لمن قامها لا يلزم منه أن يكون علم بها، وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بعض علامات ليلة القدر منها في صحيح مسلم عن أبي بن كعب " أن الشمس تطلع في صبيحتها لا شعاع لها " (2) ، وفي رواية لأحمد من حديثه " مثل الطست " (3) ، ونحوه لأحمد من طريق أبي عون عن ابن مسعود وزاد " صافية " ، ولابن خزيمة من حديث ابن عباس مرفوعا " ليلة القدر طلقة لا حارة ولا باردة ، تصبح الشمس يومها حمراء ضعيفة " (4) ولأحمد من حديث عبادة بن الصامت مرفوعا " إنها صافية بلجة كأن فيها قمرا ساطعا ، ساكنة صاحية لا حر فيها ولا برد ، ولا يحل لكوكب يرمى به فيها (5) ، ومن أماراتها أن الشمس في صبيحتها تخرج مستوية ليس لها شعاع مثل القمر ليلة البدر ولا يحل للشيطان أن يخرج معها يومئذ، ولابن أبي شيبة من حديث ابن مسعود أيضا " أن الشمس تطلع كل يوم بين قرني شيطان ، إلا صبيحة ليلة القدر " (6) ، والله أعلم
- - - - - -
الرسول - صلى الله عليه وسلم - في رمضان
__________
(1) - أخرجه مسلم ح ( 762 )
(2) - أخرجه مسلم ح ( 762 )
(3) - أخرجه أحمد ح ( 20704 )
(4) - أخرجه ابن خزيمة ح ( 2006 )
(5) - أخرجه أحمد ح ( 22259 )
(6) - أخرجه ابن أبي شيبة ( 2/489 )(2/8)
رمضان ضيف كريم ، وموسم عظيم ، يمر علينا بخيره وبركاته ورحماته ، فيذكر الغافل ، ويعين الذاكر ، ويشحذ الهمم للطاعات ، فما أجدر المؤمن أن يتعرف على هدي المصطفى - صلى الله عليه وسلم - في رمضان ليكون متأسياً بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ومتبعاً له ، فهديه - صلى الله عليه وسلم - هو أكمل الهدي وأعظمه شأناً وأسهله على النفوس ، وباتباع العبد لهديه - صلى الله عليه وسلم - ينال رضا الله ، وتتحقق له السعادة ، ويعبد الله على بصيرة ، ويتدرج في سلم الوصول ، ويصعد في مراقي الكمال البشري .
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستعد قبل رمضان بتهيئة النفس لاستقباله فكان يكثر من الصيام في شعبان. قالت عائشة رضي الله عنها: " لَمْ أَرَهُ صَائِمًا مِنْ شَهْرٍ قَطُّ أَكْثَرَ مِنْ صِيَامِهِ مِنْ شَعْبَانَ كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إِلَّا قَلِيلًا " . (1)
وكان - صلى الله عليه وسلم - يستنهض همم أصحابه - رضي الله عنهم - للاجتهاد في رمضان ، فيبشرهم بقدومه ويذكرهم بفضائله وخصائصه ومضاعفة الأجور فيه ؛ ومن ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - : " إِذَا كَانَتْ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ صُفِّدَتْ الشَّيَاطِينُ، وَمَرَدَةُ الْجِنِّ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ، فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ، وَفُتِحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ، وَنَادَى مُنَادٍ يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنْ النَّارِ، وَذَلِكَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ" . (2)
__________
(1) - أخرجه البخاري ح (1969 ) ، ومسلم ح ( 1156 )
(2) - أخرجه البخاري ح ( 1898 ) ، ومسلم ح ( 1079 ) ، والترمذي ح ( 682 ) ، واللفظ له(2/9)
ويقول - صلى الله عليه وسلم - : " أَتَاكُمْ رَمَضَانُ شَهْرٌ مُبَارَكٌ فَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ، وَتُغَلُّ فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ، لِلَّهِ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ" (1)
وكان - صلى الله عليه وسلم - يرغب في قيام رمضان من غير أن يأمرهم بعزيمة، ويقول: " مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ " (2)
ويبين للصحابة بعض ما يحتاجون إليه من أحكام الصيام قبل دخول رمضان، فكان - صلى الله عليه وسلم - لا يصوم رمضان إلا برؤية شاهد أو إتمام عدة شعبان ثلاثين، قال - صلى الله عليه وسلم - : " صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُم عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ " (3) ، وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: تَرَاءَى النَّاسُ الْهِلَالَ فَأَخْبَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنِّي رَأَيْتُهُ فَصَامَهُ وَأَمَرَ النَّاسَ بِصِيَامِهِ " (4)
وكان - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين قال - صلى الله عليه وسلم - : " لَا تَقَدَّمُوا بَيْنَ يَدَيْ رَمَضَانَ بِيَوْمٍ وَلَا يَوْمَيْنِ إِلَّا رَجُلًا كَانَ يَصُومُ صَوْمًا فَلْيَصُمْهُ " (5) ، وفي هذا إرشاد للأمة بترك التكلف والتنطع، والتقيد بما ورد من إدخال رمضان بالرؤية أو إكمال عدة شعبان .
__________
(1) - أخرجه النسائي ح ( 2079 )
(2) - أخرجه البخاري ح ( 37 ) ، ومسلم ح ( 759 )
(3) - أخرجه البخاري ح ( 1909 )، ومسلم ح ( 1081 )
(4) - أخرجه أبو داود ح (1995 )
(5) - أخرجه البخاري ح ( 1913 )(2/10)
وكان من هديه - صلى الله عليه وسلم - في رمضان الإقبال على تلاوة كتاب الله ومدارسة آياته وتدبر معانيه ، قال ابْنِ عَبَّاسٍ كَانَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ أَجْوَدِ النَّاسِ، وَأَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ يَلْقَاهُ كُلَّ لَيْلَةٍ يُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ أَجْوَدَ مِنْ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ " (1)
واقتدى السلف الصالح بنبيهم - صلى الله عليه وسلم - فكانوا يخصون شهر القرآن بمزيد من الإقبال على كتاب الله والحرص على تلاوته ، وتدبر معانيه ، قال ابن شهاب : " إذا دخل رمضان فإنما هو تلاوة القرآن وإطعام الطعام "
وجدير بالمسلم أن يتأسى بنبيه - صلى الله عليه وسلم - فيحرص في هذا الشهر الكريم على تلاوة كتاب الله وتدبر معانيه والائتمار بأوامره ، والوقوف عند حدوده ، والخشية عند سماعه وتلاوته قال تعالى: { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } (2)
__________
(1) - أخرجه البخاري ح ( 4997)
(2) - سورة الزمر آية : 23(2/11)
وكان من هديه - صلى الله عليه وسلم - أن يخص رمضان من العبادة بما لا يخص غيره به من الشهور، حتى إنه كان ليواصل فيه أحياناً ليوفر ساعات ليلة ونهاره على العبادة، وكان ينهى أصحابه عن الوصال فيقولون له إنك تواصل فيقول: " لست كهيئتكم إني أبيت " وفي رواية: " إني أظل عند ربي يطعمني ويسقيني " (1) ، وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الوصال رحمة للأمة، وخوفاً عليها من التعمق في الدين والغلو فيه، فكان حريصاً على تربية الأمة على الاعتدال والتوسط والبعد عن الغلو والتنطع ، ولذلك لما نهاهم عن الوصال ، فأبوا أن ينتهوا ، واصل بهم يوماً ، ثم يوماً ، ثم رأوا الهلال فقال: " لو تأخر الهلال، لزدتكم " كالمنكل لهم حين أبوا أن ينتهوا عن الوصال (2)
وفي لفظ آخر: " لو مد لنا الشهر لواصلنا وصالاً يدع المتعمقون تعمقهم، إني لست مثلكم " أو قال: " إنكم لستم مثلي ، فإني أظل يطعمني ربي ويسقيني " (3)
وكان من هديه - صلى الله عليه وسلم - في هذا الشهر المبارك وغيره من الشهور الحرص على قيام الليل ، وتميزت صلاته بطولها وحسنها، مع كمال الخشوع والطمأنينة ، فعن أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: كَيْفَ كَانَتْ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي رَمَضَانَ ؟ فَقَالَتْ: " مَا كَانَ يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلَا فِي غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلَا تَسَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلَا تَسَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ ثُمَّ يُصَلِّي ثَلَاثًا " (4)
__________
(1) - أخرجه الإمام مالك في " الموطأ 1/301 ، ومسلم ح ( 1103 )
(2) - أخرجه البخاري ح ( 7299 ) ومسلم ح ( 1103 )
(3) - أخرجه مسلم ح ( 1104 )
(4) - أخرجه البخاري ح ( 1147 ) ، ومسلم ح ( 738 )(2/12)
ولم يكن من هديه - صلى الله عليه وسلم - قيام الليل كله، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: " وَلَا أَعْلَمُ نَبِيَّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَرَأَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ فِي لَيْلَةٍ، وَلَا قَامَ لَيْلَةً حَتَّى أَصْبَحَ، وَلَا صَامَ شَهْرًا كَامِلًا غَيْرَ رَمَضَانَ " (1)
وكان من هديه - صلى الله عليه وسلم - في قيامه أن يكون منفرداً خشية أن يفرض على أمته ، فيقصر فيه أناس فيأثوا ، هذا مع شدة حرص صحابته الكرام على أن يقوم بهم غالب الليل، لكنه ينظر لمن بعدهم ، وكأنه يرى ضعفنا وشدة عجزنا . فعن عائشة رضي الله عنها: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ فَصَلَّى فِي الْمَسْجِدِ، فَصَلَّى رِجَالٌ بِصَلَاتِهِ فَأَصْبَحَ النَّاسُ يَتَحَدَّثُونَ بِذَلِكَ فَاجْتَمَعَ أَكْثَرُ مِنْهُمْ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ فَصَلَّوْا بِصَلَاتِهِ فَأَصْبَحَ النَّاسُ يَذْكُرُونَ ذَلِكَ فَكَثُرَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ مِنْ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ فَخَرَجَ فَصَلَّوْا بِصَلَاتِهِ فَلَمَّا كَانَتْ اللَّيْلَةُ الرَّابِعَةُ عَجَزَ الْمَسْجِدُ عَنْ أَهْلِهِ فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَطَفِقَ رِجَالٌ مِنْهُمْ يَقُولُونَ الصَّلَاةَ فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى خَرَجَ لِصَلَاةِ الْفَجْرِ فَلَمَّا قَضَى الْفَجْرَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ ثُمَّ تَشَهَّدَ فَقَالَ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّهُ لَمْ يَخْفَ عَلَيَّ شَأْنُكُمْ اللَّيْلَةَ وَلَكِنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ صَلَاةُ اللَّيْلِ فَتَعْجِزُوا عَنْهَا " ، وكان ذلك في رمضان (2)
__________
(1) - أخرجه الإمام أحمد ح ( 23134 )
(2) - أخرجه مسلم ح (761 )(2/13)
وكان من هديه - صلى الله عليه وسلم - تعجيل الإفطار ، حيث كان - صلى الله عليه وسلم - يفطر قبل أن يصلي المغرب ، وكان يفطر - صلى الله عليه وسلم - على رطبات ، أو على تمرات أو على حسوات من ماء فعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: " كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُفْطِرُ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى رُطَبَاتٍ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ رُطَبَاتٌ فَتُمَيْرَاتٌ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تُمَيْرَاتٌ حَسَا حَسَوَاتٍ مِنْ مَاءٍ " (1)
وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول عند الإفطار : " اللَّهُمَّ لَكَ صُمْتُ وَعَلَى رِزْقِكَ أَفْطَرْتُ " (2) ، وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول أيضاً : " ذَهَبَ الظَّمَأُ وَابْتَلَّتْ الْعُرُوقُ وَثَبَتَ الْأَجْرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ " (3)
ويروى عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول: " إِنَّ لِلصَّائِمِ عِنْدَ فِطْرِهِ لَدَعْوَةً مَا تُرَدُّ " (4)
وكان من هديه - صلى الله عليه وسلم - أن يتسحر ، ويحث على السحور . فعن أنس - رضي الله عنه - قال : قال رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً " (5) ، وعن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " فَصْلُ مَا بَيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَكْلَةُ السَّحَرِ " (6)
__________
(1) - أخرجه الترمذي ح ( 632 ) وقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ
(2) - أخرجه أبو داود ح ( 2001 )
(3) - أخرجه أبو داود ح ( 2010 )
(4) - أخرجه ابن ماجه ح ( 1743 )
(5) - أخرجه البخاري ح ( 1923 ) ، ومسلم ح ( 1095 )
(6) - أخرجه مسلم ح ( 1096 )(2/14)
وكان من هديه - صلى الله عليه وسلم - أن يؤخر السحور، ويرغب في تأخيره، فعن أَبِي ذَرٍّ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " لَا تَزَالُ أُمَّتِي بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْإِفْطَارَ وَأَخَّرُوا السُّحُورَ " ، وعن زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ أَنَّهُمْ تَسَحَّرُوا مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ، قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُمَا ؟ قَالَ: قَدْرُ خَمْسِينَ أَوْ سِتِّينَ يَعْنِي آيَةً (1)
وسافر - صلى الله عليه وسلم - في رمضان فصام وأفطر وخيَّر الصحابة بين الأمرين .
فعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: " خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ عُسْفَانَ ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَرَفَعَهُ إِلَى يَدَيْهِ لِيُرِيَهُ النَّاسَ فَأَفْطَرَ حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُول:ُ قَدْ صَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَفْطَرَ فَمَنْ شَاءَ صَامَ وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ " (2)
__________
(1) - أخرجه البخاري ح ( 575)، ومسلم ح ( 1097)
(2) - أخرجه البخاري ح ( 1944 ) ، ومسلم ح ( 1113)(2/15)
وكان - صلى الله عليه وسلم - يأمرهم بالفطر إذا دنوا من عدوهم ليتقووا على قتاله، فعن أبي سعيد الخدري - صلى الله عليه وسلم - قال: " سَافَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى مَكَّةَ وَنَحْنُ صِيَامٌ قَالَ: فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :" إِنَّكُمْ قَدْ دَنَوْتُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَالْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ " فَكَانَتْ رُخْصَةً فَمِنَّا مَنْ صَامَ وَمِنَّا مَنْ أَفْطَرَ ثُمَّ نَزَلْنَا مَنْزِلًا آخَرَ فَقَالَ: " إِنَّكُمْ مُصَبِّحُو عَدُوِّكُمْ وَالْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ فَأَفْطِرُوا " وَكَانَتْ عَزْمَةً فَأَفْطَرْنَا ثُمَّ قَالَ لَقَدْ رَأَيْتُنَا نَصُومُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَعْدَ ذَلِكَ فِي السَّفَرِ . (1) ، وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه يوم فتح مكة : " إنه يوم قتال فأفطروا "
ولما كان شهر رمضان شهر بذل وعطاء وجهاد ، فقد شهد هذا الشهر أعظم وأجل غزوات الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فعن أبي سعيد الخدري - صلى الله عليه وسلم - قال : " كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي رَمَضَانَ " (2) ، وقد وقعت أعظم غزوات الرسول - صلى الله عليه وسلم - غزوة بدر وفتح مكة في شهر رمضان ، فعن عمر بن الخطاب - صلى الله عليه وسلم - قال: " غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي رَمَضَانَ غَزْوَتَيْنِ يَوْمَ بَدْرٍ وَالْفَتْحِ فَأَفْطَرْنَا فِيهِمَا " (3)
وشهد هذا الشهر أيضاً سرايا وبعوث عديدة ، وهي مشهورة في كتب المغازي والسير .
__________
(1) - أخرجه مسلم ح ( 1120 )
(2) - أخرجه مسلم ح ( 1116 )
(3) - أخرجه الترمذي ح ( 648 )(2/16)
وكان من هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - الاجتهاد في العبادة في العشر الأواخر من شهر رمضان ، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: " كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ وَأَحْيَا لَيْلَهُ وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ " (1) ، وسن - صلى الله عليه وسلم - الاعتكاف في العشر الأواخر من شهر رمضان وما تركه - صلى الله عليه وسلم - منذ قدم المدينة حتى لحق بربه عز وجل، فكان - صلى الله عليه وسلم - يأمر بأن يضرب له خباء في المسجد يدخله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى فجر اليوم الأول من العشر ويلزمه يخلوه فيه بربه، ولا يخرج منه إلا لحاجة كما يدل على ذلك حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: " وَكَانَ لَا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إِلَّا لِحَاجَةٍ إِذَا كَانَ مُعْتَكِفًا " (2)
وفي اعتكافه - صلى الله عليه وسلم - وانقطاعه من نفسه ليجتهد في ذكر ربه وعبادة مولاه دليل على مسيس حاجة المسلم إلى أوقات خلوة ومراجعة ومحاسبة، وإن التقصير في ذلك يرسخ عيوب النفس ويزيد أمراضها، حتى تكون مزمنة .
وقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - في اعتكافه يجتهد في العبادة والطاعة، ويتحرى ليلة القدر ويحث أصحابه على ذلك ، فعن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ " (3)
__________
(1) - أخرجه البخاري ح ( 2024 ) ، ومسلم ح ( 1174 )
(2) - أخرجه البخاري ح ( 2029 ) ، ومسلم ح ( 279 )
(3) - أخرجه البخاري ح ( 2017 ) ومسلم ح ( 1169 )(2/17)
وكان يدركه - صلى الله عليه وسلم - الفجر وهو جنب من أهله، فيغتسل بعد الفجر ويصوم ، فعن عائشة - رضي الله عنها - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُدْرِكُهُ الْفَجْرُ وَهُوَ جُنُبٌ مِنْ أَهْلِهِ ثُمَّ يَغْتَسِلُ وَيَصُومُ . (1)
- - - - - -
همُّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - بإعادة بناء الكعبة
ورد في الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لعائشة: " لولا أن قومكم حديثو عهد بكفر لهدمت الكعبة ثم اعدت بنائها وجعلت بابها مسويا بالأرض ثم جعلت لها بابين باب يدخل الناس منه وباب يخرجون منه، فما معنى هذا الحديث؟
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
الحديث المشار إليه في السؤال أخرجه البخاري ح ( 1586 ) ومسلم ح ( 1333 ) من حديث عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لَهَا: يَا عَائِشَةُ لَوْلَا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ، لَأَمَرْتُ بِالْبَيْتِ فَهُدِمَ، فَأَدْخَلْتُ فِيهِ مَا أُخْرِجَ مِنْهُ، وَأَلْزَقْتُهُ بِالْأَرْضِ، وَجَعَلْتُ لَهُ بَابَيْنِ بَابًا شَرْقِيًّا وَبَابًا غَرْبِيًّا، فَبَلَغْتُ بِهِ أَسَاسَ إِبْرَاهِيمَ...
__________
(1) - أخرجه البخاري ح ( 1926 )(2/18)
الكعبة المشرفة جدد بناؤها في الجاهلية قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد حضر النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا البناء، لكن قريش قصرت بها النفقة فلم تتم بناءها على قواعد إبراهيم، وأخرجوا الحجر منها، وجعلوا لها باباً واحداً فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يهدم الكعبة - شرفها الله -، ثم يتم بناءها على قواعد إبراهيم عليه السلام، أي يرد ما كان منها على غير قواعد إبراهيم إلى قواعده، ولهذا لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يمسح الركن الشامي والركن الغربي، ويجعل لها بابين، ويدخل الحجر في الكعبة لأنه في الأصل منها، ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - ترك ما هو أولى لأجل تأليف القلوب والخشية من الفتنة ونفور الناس بسبب قرب عهدهم بالشرك والكفر، قال النووي - رحمه الله - : " إذا تعارضت المصالح، أو تعارضت مصلحة ومفسدة، وتعذر الجمع بين فعل المصلحة وترك المفسدة، بدئ بالأهم، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر أن نقض الكعبة وردها إلى ما كانت عليه من قواعد إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - مصلحة، ولكن تعارضه مفسده أعظم منه، وهي خوف فتنة بعض من أسلم قريباً، وذلك لما كانوا يعتقدونه من فضل الكعبة، فيرون تغييرها عظيماً، فتركها - صلى الله عليه وسلم - ...(2/19)
" (1) ، وقد أعاد بناءها عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما - حين احترقت زمن يزيد بن معاوية لما غزاها أهل الشام - ، على الصفة التي أرادها النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ففي صحيح مسلم ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: لَمَّا احْتَرَقَ الْبَيْتُ زَمَنَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ حِينَ غَزَاهَا أَهْلُ الشَّامِ فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ تَرَكَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ حَتَّى قَدِمَ النَّاسُ الْمَوْسِمَ يُرِيدُ أَنْ يُجَرِّئَهُمْ أَوْ يُحَرِّبَهُمْ عَلَى أَهْلِ الشَّامِ، فَلَمَّا صَدَرَ النَّاسُ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَشِيرُوا عَلَيَّ فِي الْكَعْبَةِ، أَنْقُضُهَا ثُمَّ أَبْنِي بِنَاءَهَا أَوْ أُصْلِحُ مَا وَهَى مِنْهَا ؟، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَإِنِّي قَدْ فُرِقَ لِي رَأْيٌ فِيهَا، أَرَى أَنْ تُصْلِحَ مَا وَهَى مِنْهَا، وَتَدَعَ بَيْتًا أَسْلَمَ النَّاسُ عَلَيْهِ، وَأَحْجَارًا أَسْلَمَ النَّاسُ عَلَيْهَا، وَبُعِثَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: لَوْ كَانَ أَحَدُكُمْ احْتَرَقَ بَيْتُهُ مَا رَضِيَ حَتَّى يُجِدَّهُ، فَكَيْفَ بَيْتُ رَبِّكُمْ، إِنِّي مُسْتَخِيرٌ رَبِّي ثَلَاثًا، ثُمَّ عَازِمٌ عَلَى أَمْرِي، فَلَمَّا مَضَى الثَّلَاثُ أَجْمَعَ رَأْيَهُ عَلَى أَنْ يَنْقُضَهَا، فَتَحَامَاهُ النَّاسُ أَنْ يَنْزِلَ بِأَوَّلِ النَّاسِ يَصْعَدُ فِيهِ أَمْرٌ مِنْ السَّمَاءِ حَتَّى صَعِدَهُ رَجُلٌ فَأَلْقَى مِنْهُ حِجَارَةً، فَلَمَّا لَمْ يَرَهُ النَّاسُ أَصَابَهُ شَيْءٌ تَتَابَعُوا فَنَقَضُوهُ، حَتَّى بَلَغُوا بِهِ الْأَرْضَ فَجَعَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ أَعْمِدَةً فَسَتَّرَ عَلَيْهَا السُّتُورَ، حَتَّى ارْتَفَعَ بِنَاؤُهُ، وَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: إِنِّي سَمِعْتُ عَائِشَةَ تَقُولُ إِنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) - النووي على صحيح مسلم (9/89 )(2/20)
قَالَ: " لَوْلَا أَنَّ النَّاسَ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِكُفْرٍ، وَلَيْسَ عِنْدِي مِنْ النَّفَقَةِ مَا يُقَوِّي عَلَى بِنَائِهِ لَكُنْتُ أَدْخَلْتُ فِيهِ مِنْ الْحِجْرِ خَمْسَ أَذْرُعٍ، وَلَجَعَلْتُ لَهَا بَابًا يَدْخُلُ النَّاسُ مِنْهُ، وَبَابًا يَخْرُجُونَ مِنْهُ "، قَالَ: فَأَنَا الْيَوْمَ أَجِدُ مَا أُنْفِقُ، وَلَسْتُ أَخَافُ النَّاسَ قَالَ: فَزَادَ فِيهِ خَمْسَ أَذْرُعٍ مِنْ الْحِجْرِ حَتَّى أَبْدَى أُسًّا نَظَرَ النَّاسُ إِلَيْهِ فَبَنَى عَلَيْهِ الْبِنَاءَ، وَكَانَ طُولُ الْكَعْبَةِ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ ذِرَاعًا، فَلَمَّا زَادَ فِيهِ اسْتَقْصَرَهُ فَزَادَ فِي طُولِهِ عَشْرَ أَذْرُعٍ، وَجَعَلَ لَهُ بَابَيْنِ: أَحَدُهُمَا يُدْخَلُ مِنْهُ، وَالْآخَرُ يُخْرَجُ مِنْهُ، فَلَمَّا قُتِلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ كَتَبَ الْحَجَّاجُ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ يُخْبِرُهُ بِذَلِكَ، وَيُخْبِرُهُ أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ قَدْ وَضَعَ الْبِنَاءَ عَلَى أُسٍّ نَظَرَ إِلَيْهِ الْعُدُولُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ إِنَّا لَسْنَا مِنْ تَلْطِيخِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فِي شَيْءٍ، أَمَّا مَا زَادَ فِي طُولِهِ فَأَقِرَّهُ، وَأَمَّا مَا زَادَ فِيهِ مِنْ الْحِجْرِ فَرُدَّهُ إِلَى بِنَائِهِ، وَسُدَّ الْبَابَ الَّذِي فَتَحَهُ فَنَقَضَهُ وَأَعَادَهُ إِلَى بِنَائِهِ " (1)
__________
(1) - أخرجه مسلم ح ( 1333 )(2/21)
وأخرج مسلم أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ بَيْنَمَا هُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ إِذْ قَالَ: قَاتَلَ اللَّهُ ابْنَ الزُّبَيْرِ حَيْثُ يَكْذِبُ عَلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ يَقُولُ سَمِعْتُهَا تَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَا عَائِشَةُ لَوْلَا حِدْثَانُ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ لَنَقَضْتُ الْبَيْتَ حَتَّى أَزِيدَ فِيهِ مِنْ الْحِجْرِ فَإِنَّ قَوْمَكِ قَصَّرُوا فِي الْبِنَاءِ فَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ: لَا تَقُلْ هَذَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَنَا سَمِعْتُ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ تُحَدِّثُ هَذَا، قَالَ: لَوْ كُنْتُ سَمِعْتُهُ قَبْلَ أَنْ أَهْدِمَهُ لَتَرَكْتُهُ عَلَى مَا بَنَى ابْنُ الزُّبَيْرِ . (1)
قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: " فدل هذا على صواب ما فعله ابن الزبير، فلو ترك لكان جيداً، ولكن بعد ما رجع الأمر إلى هذا الحال فقد كره بعض العلماء أن يغير عن حاله، كما ذكر عن أمير المؤمنين هارون الرشيد أو أبيه المهدي أنه سأل الإمام مالكا عن هدم الكعبة وردها إلى ما فعله بن الزبير فقال له مالك: يا أمير المؤمنين لا تجعل كعبة الله ملعبة للملوك لا يشاء أحد أن يهدمها إلا هدمها فترك ذلك الرشيد " (2)
قال ابن حجر - بعد أن أورد كلام الإمام مالك -: " وهذا بعينه خشية جدهم الأعلى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما فأشار على ابن الزبير لما أراد أن يهدم الكعبة ويجدد بناءها بأن يرم ما وهي منها ولا يتعرض لها بزيادة ولا نقص، وقال له: لا آمن أن يجيء من بعدك أمير فيغير الذي صنعت " (3) ، والله أعلم .
هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل .
- - - - - -
الأعمال التي تشرع عند الحطيم
__________
(1) - أخرجه مسلم ح ( 1333 )
(2) - تفسير ابن كثير ( 1/184 )
(3) - ينظر: فتح الباري ( 3/448 )، والخبر أخرجه الفاكهي في أخبار مكة ( 5/229 )(2/22)
ما هي الأفعال التي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة - رضي الله عنهم - يقومون بها عند الحجر /الحطيم ( أي: نصف الدائرة التي عند الكعبة)؟
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
الحجر: هو الجزء الشمالي من الكعبة المشرفة، وهو بناء مستدير على شكل نصف دائرة، وهو من الكعبة، ولكن قصرت بقريش النفقة فلم تدخله بالبيت ومقدار ما يدخل منه في البيت ستة أذرع وشبراً (3 أمتار)، وسمي بذلك لأنه محجور لكي يطوف الناس من ورائه لأنه لا يصح الطواف من داخله لكونه من الكعبة، ويشرع صلاة النافلة داخل الحجر، وأما صلاة الفريضة ففيه خلاف مشهور بين العلماء حيث اختلفوا في حكم صلاة الفريضة في الكعبة، ومن دخله فكأنه دخل البيت، ففي حديث عائشة رضي الله عنها قالت: " كُنْتُ أُحِبُّ أَنْ أَدْخُلَ الْبَيْتَ فَأُصَلِّيَ فِيهِ فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِيَدِي فَأَدْخَلَنِي الْحِجْرَ فَقَالَ: صَلِّي فِي الْحِجْرِ إِنْ أَرَدْتِ دُخُولَ الْبَيْتِ فَإِنَّمَا هُوَ قِطْعَةٌ مِنْ الْبَيْتِ وَلَكِنَّ قَوْمَكِ اسْتَقْصَرُوهُ حِينَ بَنَوْا الْكَعْبَةَ فَأَخْرَجُوهُ مِنْ الْبَيْتِ " (1) ، وفي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: سَأَلْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الْجَدْرِ أَمِنَ الْبَيْتِ هُوَ قَالَ نَعَمْ قُلْتُ فَمَا لَهُمْ لَمْ يُدْخِلُوهُ فِي الْبَيْتِ قَالَ إِنَّ قَوْمَكِ قَصَّرَتْ بِهِمْ النَّفَقَةُ ... " الحديث (2) . هذا والله أعلم .
- - - - - -
غسل الكعبة
هل هناك أصل أو دليل لغسل الكعبة وجزاكم الله خيرا
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
__________
(1) - أخرجه الترمذي ح (876) وقال: حسن صحيح
(2) - البخاري ح (1586) ، ومسلم ح (1333)(2/23)
أمر الله تبارك وتعالى بتطهير البيت ويدخل في تطهير البيت أن يطهر من الأوثان والرجس والرفث وقول الزور والأذى والأوساخ، بحيث يكون البيت طيباً نظيفاً طاهراً، قال سبحانه وتعالى: { وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } (1) ، وقال عز وجل: { وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } (2) ، وورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح أخرج الأصنام من الكعبة المشرفة وطهرها من آثار المشركين وارجاسهم وغسل الكعبة فأخرج ابن أبي شيبة والفاكهي في أخبار مكة من طريق عبيد الله بن موسى، حدثنا موسى بن عبيدة، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر قال: أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلالا فرقي على ظهر الكعبة فأذن بالصلاة وقام المسلمون فتجرروا في الأزر وأخذوا الدلاء وارتجزا على زمزم فغسلوا الكعبة ظهرها وباطنها فلم يدعوا أثرا من آثار المشركين إلا محوه وغسلوه " (3) ، وجعل الفاسي هذا الحديث أصلاً في غسل الكعبة وتطهيرها في الجملة (4) ، وأخرج الطيالسي في مسنده قال: حدثنا بن أبي ذئب عن عبد الرحمن بن مهران قال حدثني عمير مولى بن عباس عن أسامة بن زيد قال دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الكعبة ورأى صورا قال: " فدعا بدلو من ماء فأتيته به فجعل يمحوها ويقول: قاتل الله قوما يصورون ما لا يخلقون " (5) ، وأخرج الأزرقي بسنده عن عائشة - رضي الله عنها أنها قالت: طيبوا البيت فإن ذلك من تطهيره، وعن هشام بن عروة أن عبد
__________
(1) - سورة البقرة الآية: 125
(2) - سورة الحج الآية: 26
(3) - أخرجه ابن أبي شيبة ( 14/493 ) والفاكهي في أخبار مكة ( 5/ 221 )
(4) - ينظر: شفاء الغرام ( 1/212 )
(5) - أخرجه الطيالسي ح ( 623 )(2/24)
الله بن الزبير كل يجمر الكعبة كل يوم برطل من مجمر، ويجمر الكعبة كل يوم جمعة برطلين من مجمر (1) ، وعلى هذا فتعاهد البيت بالغسل والتطهير والتطيب أمر مشروع ولا يتحدد بزمن معين والله أعلم .
- - - - - -
زكاة النخيل
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين وبعد:
فقد امتن الله سبحانه وتعالى على عباده بنعم كثيرة لا تعد ولا تحصى، ومن ذلك: أن مكن لهم في الأرض وجعلها صالحة مهيأة للإنبات والإثمار لتكون من مصادر رزقهم ومعاشهم التي تقوم عليها حياتهم، وأوجب الله سبحانه وتعالى الزكاة فيما يخرج من الأرض قال سبحانه وتعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ } (2) ، وقال سبحانه وتعالى: { وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } (3) ، وفي أداء المسلم للزكاة شكر لله على ما اسبغ من نعم ظاهرة وباطنة ، وتطهير له من الشح والبخل وأرجاس الذنوب والخطايا ، وتربية للنفس على الإنفاق والبذل ومواساة للفقراء والمساكين ، وتحصين للمال من الفساد والتلف .
وهذه كلمات موجزة عن زكاة التمر تتضمن: بيان النصاب، ومقدار الواجب ، وكيفية الإخراج ، وقد ناسب التذكير بها ونحن في هذا الوقت من السنة الذي أينعت فيه ثمار النخيل، وبدا قطافها، وقد امتلأت - بفضل الله - المزارع والاستراحات والبساتين بها ، وربما يوجد من يخفى عليه هذه الأحكام ، فيحهل قدر النصاب أو مقدار الواجب أو كيفية الإخراج ، فيترتيب على هذا: التساهل في أداء الزكاة التي هي ركن من أركان الإسلام وقرينة الصلاة في آي القرآن .
نصاب زكاة الحبوب:
__________
(1) - أخرجه الأزرقي في أخبار مكة ( 1/257 )
(2) - سورة البقرة الآية: 267
(3) - سورة الأنعام الآية: 141(2/25)
نصاب زكلة الحبوب والثمار خمسة أوسق - بعد التصفية في الحبوب والجفاف في الثمار - والوسق: ستون صاعاً، والصاع: أربع حفنات باليدين المعتدلتين، وقدره بعض أهل العلم بـ 2.600 كيلو جرام ، فيكون نصاب زكاة الحبوب والثمار = 2.600 × 60 × 5 = 780 كيلو جرام ، فإذا بلغ عند صاحب النخل هذا المقدار وجبت عليه الزكاة ، وإن كان دون ذلك فليس عليه زكاة ، ويدل على هذا ما جاء في حديث جابر - رضي الله عنه - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنْ التَّمْرِ صَدَقَةٌ " (1) ، وفي حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسَاقٍ مِنْ تَمْرٍ وَلَا حَبٍّ صَدَقَةٌ " (2)
مقدار الواجب في زكاة الحبوب والثمار :
مقدار الواجب في زكاة الحبوب والثمار نصف العشر لما سقي بمؤنة ، وهو ما سقي عن طريق الغطاسات والدينموات والمكائن ونحوها ، والعشر لما سقي بالأمطار والأنهار والعيون ، ففي الصحيحين من حديث ابن عمر عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ وَالْعُيُونُ أَوْ كَانَ عَثَرِيًّا الْعُشْرُ وَمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ الْعُشْرِ " (3) ، ونصف العشر هو 5 % فمن كل ألف كيلو خمسون كيلو ، وهكذا .
__________
(1) - أخرجه مسلم ح ( 980 )
(2) - أخرجه البخاري ح 1405 ) ، ومسلم ح ( 979 )
(3) - أخرجه البخاري ح ( 1483 )(2/26)
يكون تقدير النصاب ومقدار الواجب في زكاة النخيل عن طريق الخرص حينما يبدو صلاح الثمر ، ويُترك في الخرص الثلث أو الربع ، وهذا من التيسير والتوسعة على أرباب الأموال ، وقد جاء في حديث سَهْل بْن أَبِي حَثْمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقُولُ: " إِذَا خَرَصْتُمْ فَخُذُوا وَدَعُوا الثُّلُثَ فَإِنْ لَمْ تَدَعُوا الثُّلُثَ فَدَعُوا الرُّبُعَ " (1) ، قال الترمذي: " والعمل على حديث سهل بن أبي حثمة عند أكثر أهل العلم " ، وعن عائشة أَنَّهَا قَالَتْ وَهِيَ تَذْكُرُ شَأْنَ خَيْبَرَ: " كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَبْعَثُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ إِلَى يَهُودَ فَيَخْرُصُ النَّخْلَ حِينَ يَطِيبُ قَبْلَ أَنْ يُؤْكَلَ مِنْهُ" (2) ، وإذا لم يتم الخرص ، فإن صاحب المال يحصي ما يأخذه منه حتى يتمكن من أداء الزكاة ، وإذا كان النخل نوعاً واحداً فإن الواجب أن يُخرج من الجيد الوسط، وإذا كان أنواعاً متعددة ، فإنه يخرج زكاة كل نوع من ذلك النوع، الطيب من الطيب ، وزكاة المتوسط من المتوسط ، وزكاة ما دون ذلك منه، فإن شق عليه ذلك أخرج عن الجميع من الثمر الطيب الوسط ، فعل سبيل المثال إذا كانت قيمة السكري ونحوه عشرة ريالات ، وقيمة أقل نوع لديه ثلاث ريالات والوسط قيمته خمس أو ست ريالات ، فيجوز أن يخرج من الوسط عن الجميع .
إذا باع إنسان ثمر حائطه ، فإنه يخرج الزكاة من الثمن نصف العشر إذا كان بمؤنة أو العشر إذا كان بلا مؤنة .
يجوز أن يخرج الزكاة رطباً للنوع الذي لا يجيء منه تمر ، ويخرج بسراً للنوع الذي لا يؤكل بسراً مثل البرحي .
هذا والله أعلى وأعلم وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه.
- - - - - -
تفاصيل أخبار الجنة والنار
__________
(1) - أخرجه الترمذي ح ( 643 )
(2) - أخرجه أبو داود ح ( 1368 )(2/27)
لاحظت عند قراءة القرآن عدم تحدثه بالتفصيل عن الجنة والنار فلا أشعر بتأثر كبير ولكنني أجد هذا التأثر عند قراءة الأحاديث التي تفصل ذكر ذلك.
فلماذا يكون التفصيل في الأمور الغيبية في الحديث أكثر؟
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
القرآن الكريم هو الأصل الأول والسنة النبوية هي الأصل الثاني، ومنزلة السنة من القرآن أنها مبينة له وشارحة: تفصل مجمله، وتوضح مشكله، وتقيد مطلقه، وتخصص عامه، وتبسط ما فيه من إيجاز، قال تعالى: { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } (1) ، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يبين تارة بالقول وتارة بالفعل وتارة بهما معاً، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه فسر الظلم في قوله سبحانه: { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ } بالشرك (2) ، وفسر الحساب اليسير بالعرض في قوله تعالى: { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً } (3) ، وأنه قال في حجة الوداع : " لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ " (4) وقال - صلى الله عليه وسلم - في شأن الصلاة : " صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي " (5) فبين النبي - صلى الله عليه وسلم - ما أجمل في القرآن الكريم من الأمر بإقامة الصلاة حيث بين النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله وفعله
__________
(1) - سورة النحل الآية: 44
(2) - أخرجه البخاري ح ( 3360 ) ، ومسلم ح ( 124 ) من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -
(3) - أخرجه البخاري ح ( 4939 )، ومسلم ح ( 2876 ) من حديث عائشة رضي الله عنها
(4) - أخرجه مسلم ح ( 1297 ) من حديث جابر بن عبد الله
(5) - أخرجه البخاري ح ( 631)(2/28)
كيفيتها وأوقاتها ، وعدد ركعاتها، إلى غير ذلك ، والحاصل أن السنة مبينة لكتاب الله ما يتعلق بالأمور الغيبة وغير ذلك من أمور العبادات والأحكام والتشريعات ، وأرشد الأخ السائل أن يستعين على تدبر القرآن والتأثر به بالعناية بفهم كتاب الله ومعرفة المراد بالآيات وذلك بالرجوع إلى كتب التفسير ، فمن الأسباب التي تحول دون أن يتدبر الإنسان كتاب الله الجهل بمعاني القرآن، هذا والله أعلم .
- - - - - -
موجبات الرحمة
ورد في الدعاء المأثور: " اللهم أسألك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك" فما هي موجبات رحمة الله وعزائم مغفرته سبحانه وتعالى؟ وجزاكم الله كل خير .
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
الدعاء الوارد في السؤال جاء ضمن الحديث المعروف بحديث صلاة الحاجة أخرجه الترمذي ح ( 441 )، وابن ماجه ح ( 1374 )، من حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَنْ كَانَتْ لَهُ إِلَى اللَّهِ حَاجَةٌ أَوْ إِلَى أَحَدٍ مِنْ بَنِي آدَمَ فَلْيَتَوَضَّأْ فَلْيُحْسِنْ الْوُضُوءَ ثُمَّ لِيُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ لِيُثْنِ عَلَى اللَّهِ وَلْيُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ لِيَقُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْحَلِيمُ الْكَرِيمُ سُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَسْأَلُكَ مُوجِبَاتِ رَحْمَتِكَ وَعَزَائِمَ مَغْفِرَتِكَ وَالْغَنِيمَةَ مِنْ كُلِّ بِرٍّ وَالسَّلَامَةَ مِنْ كُلِّ إِثْمٍ لَا تَدَعْ لِي ذَنْبًا إِلَّا غَفَرْتَهُ وَلَا هَمًّا إِلَّا فَرَّجْتَهُ وَلَا حَاجَةً هِيَ لَكَ رِضًا إِلَّا قَضَيْتَهَا يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ .(2/29)
قال الترمذي: " هذا حديثٌ غريبٌ وفي إسناده مقالٌ، فائدُ بنُ عبد الرحمن يضعَّف في الحديث وفائِدٌ هو أبو الوَرْقَاءِ ". فالحديث ضعيف، وله شاهد من حديث أنس وأبي الدرداء وهما ضعيفان (1) ، ومعنى قوله: " موجباتِ رحمتك ": أي الأفعال والخصال والأقوال التي تكون سبباً لنيل رحمة الله ودخول جنته، ويدخل في ذلك: الإيمان بالله ورسوله، وتقوى الله وطاعته، وحسن الاتباع لرسوله - صلى الله عليه وسلم - ، قال الله عز وجل: { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ } (2) الآية، ومقصود هذا الدعاء أن يوفق العبد للأخذ بالأسباب التي توجب رحمة الله، وعزائم مغفرتك: جمع عزيمة، ومعنى هذا الدعاء أن يوفق العبد لأعمال صالحة تتعزم وتتأكد بها مغفرة الله سبحانه وتعالى . هذا والله أعلم .
- - - - - -
كثرة الكلام
هناك بيان أو حديث عن الشخص إذا جلس مع جماعة بأن يفعل خمسة أشياء ويمتنع عن فعل خمسة أشياء.
ولا أذكر إلا شيئا واحدا وهو عندما يغادر الشخص الاجتماع يجب أن لا يغلب ذكره بينهم بمعنى أن لا ينبغي له أن يتكلم كثيرا في المجلس ويجعل نفسه محط الحديث.
أرجو أن تخبروني ما هي النتائج على الشخص الذي لا يمتثل لهذا الحديث أو البيان.؟ وجزاكم الله خيرا .
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
__________
(1) - ينظر: كلام الحافظ ابن حجر على هذه الأحاديث في الفتوحات الربانية ( 4/298 )
(2) - سورة الأعراف: 156 - 157(2/30)
الحديث أو الأثر المشار إليه في السؤال لم أقف عليه ولا يحضرني الآن، وقد وردت أحاديث وآثار في الحث على حفظ اللسان وكفه عن الشر، وأن المسلم لا يتكلم إلا بخير أو يسكت فما ليس بخير فالسكوت أفضل من الكلام، ففي الصحيحين من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ (1) ، وفي المسند من حديث أنس قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ وَلَا يَدْخُلُ رَجُلٌ الْجَنَّةَ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ " (2) ، وفي الصحيحين من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ فِيهَا يَزِلُّ بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ الْمَشْرِقِ " (3) ، وكثرة الكلام الذي لا حاجة إليه يوجب قسوة القلب، ففي حديث ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَا تُكْثِرُوا الْكَلَامَ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ فَإِنَّ كَثْرَةَ الْكَلَامِ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ قَسْوَةٌ لِلْقَلْبِ وَإِنَّ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْ اللَّهِ الْقَلْبُ الْقَاسِي .
__________
(1) - أخرجه البخاري ح ( 6018 ) ، ومسلم ح ( 47 )
(2) - أخرجه أحمد ح ( 12575 )
(3) - أخرجه البخاري ح ( 6477 ) ، ومسلم ح ( 2988 )(2/31)
(1) ، وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : " من كثر كلامه ، كثر سقطه، ومن كثر سقطه، كثرت ذنوبه، ومن كثرت ذنوبه، كانت النار أولى به "، وكان أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - يأخذ بلسانه ويقول: هذا أوردني الموارد "، وقال ابن مسعود : " والله الذي لا إله إلا هو ما على الأرض أحق بطول سجن من اللسان " ، وقال: " إياكم وفضول الكلام، حسب امرئ ما بلغ حاجته وعن النخعي قال: يهلك الناس في فضول المال والكلام . " هذا والله أعلم .
إيلاء النبي - صلى الله عليه وسلم - من نسائه
إشكال بسيط على هذه القصة .
صحيح البخاري ج: 5 ص:1997 91- باب هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - نساءه بيوتهن .
4907- حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا مروان بن معاوية ، حدثنا أبو يعفور قال : تذاكرنا عند أبي الضحى فقال: حدثنا ابن عباس قال: أصبحنا يوما ونساء النبي - صلى الله عليه وسلم - يبكين عند كل امرأة منهن أهلها، فخرجتُ إلى المسجد فإذا هو ملآن من الناس لِلَّهِ فجاء عمر بن الخطاب فصعد إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في غرفة فلم يجبه أحد، ثم سلم فلم يجبه أحد ، ثم سلم فلم يجبه أحد، فناداه فدخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أطلَّقتَ نساءكَ ؟!! فقال: لا ؛ ولكن آليت منهن شهراً فمكث تسعا وعشرين، ثم دخل على نسائه.انتهت.
ولكن في صحيح مسلم: صحيح مسلم ج: 2ص:105
5- باب في الإبلاء واعتزال النساء وتخييرهن وقوله تعالى وإن تظاهرا عليه
__________
(1) - أخرجه الترمذي ح ( 2333 ) قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب(2/32)
1479- حدثني زهير بن حرب حدثنا عمر بن يونس الحنفي حدثنا عكرمة بن عمار عن سماك أبي زميل حدثني عبد الله بن عباس حدثني عمر بن الخطاب قال : لما اعتزل نبي الله - صلى الله عليه وسلم - نساءه قال دخلت المسجد فإذا الناس ينكتون بالحصى ويقولون طلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نساءه وذلك قبل أن يؤمرنَ بالحجاب. فقال عمر فقلت لأعلمن ذلك اليوم قال فدخلت على عائشة فقلت يا بنت أبي بكر أقد بلغ من شأنك أن تؤذي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت مالي ومالك يا بن الخطاب عليك بعيبتك قال: فدخلت على حفصة بنت عمر فقلت لها : يا حفصة أقد بلغ من شأنك أن تؤذي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟! والله لقد علمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يحبك ولولا أنا لطلقك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . !! فبكت أشد البكاء . !! فقلت لها: أين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قالت: هو في خزانته في المشربة .(2/33)
فدخلت فإذا أنا برباح غلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاعدا على أسكفة المشربة مدل رجليه على نقير من خشب وهو جذع يرقى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وينحدر فناديت يا رباح استأذن لي عندك على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنظر رباح إلى الغرفة ثم نظر إلى فلم يقل شيئا ثم قلت يا رباح استأذن لي عندك على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنظر رباح إلى الغرفة ثم نظر إلي فلم يقل شيئا ثم رفعت صوتي فقلت يا رباح استأذن لي عندك على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإني أظن أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ظن أنى جئت من أجل حفصة والله لئن أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بضرب عنقها لأضربن عنقها ورفعت صوتي فأومأ إلى أن ارقه فدخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو مضطجع على حصير فجلست فأدنى عليه إزاره وليس عليه غيره وإذا الحصير قد أثر في جنبه فنظرت ببصرى في خزانة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا أنا بقبضة من شعير نحو الصاع ومثلها قرظا في ناحية الغرفة وإذا أفيق معلق قال فأبتدرت عيناي قال ما يبكيك يا بن الخطاب قلت يا نبي الله ومالي لا أبكى وهذا الحصير قد أثر في جنبك وهذه خزانتك لا أرى فيها إلا ما أرى وذاك قيصر وكسرى في الثمار والأنهار وأنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصفوته وهذه خزانتك فقال يا بن الخطاب ألا ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا قلت بلى قال ودخلت عليه حين دخلت وأنا أرى في وجهه الغضب فقلت يا رسول الله عليك من شأن النساء فإن كنت طلقتهن فإن الله معك وملائكته وجبريل وميكائيل وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك وقلما تكلمت وأحمد الله بكلام إلا رجوت أن يكون الله يصدق قولي الذي أقول ونزلت هذه الآية آية التخيير عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير وكانت عائشة بنت أبي بكر(2/34)
وحفصة تظاهران على سائر نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت يا رسول الله أطلقتهن قال لا قلت يا رسول الله إني دخلت المسجد والمسلمون ينكتون بالحصى يقولون طلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نساءه أفأنزل فأخبرهم أنك لم تطلقهن قال نعم إن شئت فلم أزل أحدثه حتى تحسر الغضب عن وجهه وحتى كشر فضحك وكان من أحسن الناس ثغرا ثم نزل نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ونزلت فنزلت أتشبث بالجذع ونزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كأنما يمشي على الأرض ما يمسه بيده فقلت يا رسول الله إنما كنت في الغرفة تسعة وعشرين قال إن الشهر يكون تسعا وعشرين فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي لم يطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نساءه ونزلت هذه الآية وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولى الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر وأنزل الله عز وجل آية التخيير.انتهت .
أقول:
تلاحظ فيما ذكرنا لك أن الروايتين هما لقصة واحدة (وهي قصة معروفة) الرواية الأولى رواها عبد الله بن عباس (صحيح البخاري) الرواية الثانية: رواها عمر، رواها ابن عباس عنه (صحيح مسلم)، ففي الأولى .. رواها ابن عباس مباشرة ... وفي الثانية رواها ابن عباس عن عمر وليس هنا المشكلة فحسب بل في الرواية الأخرى تلاحظ قوله (وذلك قبل أن يؤمرنَ بالحجاب) يعني أن آية الحجاب لم تنزل بعد وهي هذه(2/35)
آية الحجاب: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُم...)[الأحزاب] ومعلوم أن ابن عباس لم ينتقل من مكة إلى المدينة المنورة إلاّ سنة فتح مكة أو بعدها مع أبويه سنة 8 هـ ومعلوم أن آية الحجاب نزلت لما عرس النبي صلى الله عليه وآله بزينب بنت جحش ( سنة 4 أو 5 هـ ) يعني أن ابن عباس كان وقت نزول آية الحجاب بمكة المكرمة، لم ينتقل بعد إلى المدينة والسؤال: كيف روى ابن عباس القصة المذكورة بنفسه معاينة وهو بمكة المكرمة ؟؟!!!
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
ذكر السائل - وفقه الله - في سؤاله قصة اعتزال النبي - صلى الله عليه وسلم - نساءه، ثم نزول آية التخيير، من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - عند البخاري ح ( 5203 )، ومن حديث ابن عباس عن عمر، وهو السياق الطويل للقصة، حيث رواه مسلم ح ( 1479 ) من طريق عكرمة بن عمار عن سماك أبي زميل عن عبد الله بن عباس عن عمر بن الخطاب، واستشكل السائل أمرين: أحدهما أن رواية البخاري تدل على أن ابن عباس كان حاضراً للحادثة، بينما رواية مسلم تدل على أنه سأل عنها عمر، ثانيهما: أن في رواية مسلم من طريق عكرمة بن عمار عن سماك أبي زميل عن عبد الله بن عباس عن عمر بن الخطاب: " وذلك قبل أن يؤمرنَ بالحجاب "، ومن المعلوم أن نزول آية الحجاب كان متقدماً سنة أربع أو خمس، في أول زواج النبي - صلى الله عليه وسلم - من زينب بنت جحش، وابن عباس انتقل إلى المدينة مع أبويه بعد فتح مكة، فإذا قلنا إن ابن عباس شهد القصة فيشكل هذا على ما سبق، ويجاب عن هذا بما يأتي:
1- يظهر أن حادثة اعتزال النبي - صلى الله عليه وسلم - نساءه متأخرة، وقعت سنة تسع، ويدل على ذلك ما يأتي:(2/36)
أ- أن رواية البخاري ظاهرها حضور ابن عباس - رضي الله عنهما - لهذه القصة، وابن عباس كما سبق قدم المدينة مع أبوية بعد فتح مكة، فآية التخيير على هذا نزلت سنة تسع .
ب- أنه جاء في سياق القصة أن عمر - رضي الله عنه - ذكر ملك غسان حيث جاء في الرواية: " وكان من حول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد استقام له إلا ملك غسان بالشام " ، فقد أشار إلى استقامة الأمر للرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وعدم وجود المنازع له من العرب، وهذا لم يحصل إلا بعد فتح مكة، وقد كانت العرب تنظر ما يحصل بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وقريش، كما جاء في حديث عمرو بن سلمة: " وَكَانَتْ الْعَرَبُ تَلَوَّمُ بِإِسْلَامِهِمْ الْفَتْحَ فَيَقُولُونَ اتْرُكُوهُ وَقَوْمَهُ فَإِنَّهُ إِنْ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ فَهُوَ نَبِيٌّ صَادِقٌ فَلَمَّا كَانَتْ وَقْعَةُ أَهْلِ الْفَتْحِ بَادَرَ كُلُّ قَوْمٍ بِإِسْلَامِهِمْ" (1) ، والفتح كان في رمضان سنة ثمان، ورجوع النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة في أواخر ذي القعدة، وقد اختار غير واحد من العلماء أن نزول آية التخيير سنة تسع . (2)
__________
(1) - أخرجه البخاري ح ( 4302 )
(2) - ينظر : فتح الباري ( 9/285 )(2/37)
وعلى هذا فما وقع في رواية عكرمة بن عمار: " وذلك قبل أن يؤمرنَ بالحجاب " يظهر أنه غلط من الراوي، فإن نزول الحجاب كان في سنة أربع أو خمس، أول زواج النبي - صلى الله عليه وسلم - من زينب بنت جحش، وكانت زينب بنت جحش - رضي الله عنها - فيمن خير، ولهذا قال عمر - رضي الله عنه - لابنته حفصة وهو يعاتبها : " إنه ليس لك مثل حظوة عائشة، ولا حسن زينب " يعني زينب بنت جحش ، ولعل منشأ هذا الخطأ في رواية عكرمة أن الراوي لما رأى قول عمر أنه دخل على عائشة ظن أن ذلك كان قبل الحجاب فجزم به ، ولكن لا يلزم من الدخول رفع الحجاب فقد يدخل من الباب وتخاطبه من وراء الحجاب . (1) ، وعكرمة بن عمار ، وإن كان قد وثقه جمهور الأئمة إلا أن أبا حاتم قال: " كان صدوقاً، وربما وهم في حديثه "، وقد جاء الحديث بطوله من طرق عن ابن عباس عن عمر، وليس فيه قوله: " وذلك قبل أن يؤمرنَ بالحجاب " كما في الصحيحين (2) ، وعكرمة بن عمار هو الذي أخرج مسلم من طريقه قول أبي سفيان: " عندي أحسن العرب وأجمله أم حبيبة بنت أبي سفيان " (3) ، وقد انكرها الأئمة لأن أبا سفيان أسلم يوم فتح مكة والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد تزوج أم حبيبة قبل ذلك بزمان .
2- ويجاب عما جاء في رواية البخاري من حضور ابن عباس لهذه القصة، ثم روايته لها عن عمر حيث سأله عنها بأن يقال: إن ابن عباس كان يعرف القصة مجملة فأراد أن يعرف القصة بتفاصيلها، وكان اطلاع عمر على هذه القصة أتم من اطلاع ابن عباس . فرغب ابن عباس أن يأخذ تفاصيل هذه القصة من عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ، هذا والله أعلم .
- - - - - -
الاستدلال بحديث لدَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - على جواز لعن الصحابة - رضي الله عنهم -
__________
(1) - ينظر: فتح الباري ( 9/286 )
(2) - أخرجه البخاري ح ( 5191 ) ، ومسلم ح ( 1479 ) مكرر
(3) - أخرجه مسلم ح ( 2501 )(2/38)
أرجو التكرم بشرح حديث رقم 5712 في البخاري وفيها: " أن أبا بكر قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ميت ......إلا العباس فإنه لم يشهدكم"
فإن الشيعة يستدلون به على لعن الصحابة.
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
الحديث المشار إليه في السؤال أخرجه البخاري ح ( 4458 ) من حديث عَائِشَةُ - رضي الله عنها- قالت: لَدَدْنَا النبي - صلى الله عليه وسلم - فِي مَرَضِهِ فَجَعَلَ يُشِيرُ إِلَيْنَا أَنْ لَا تَلُدُّونِي فَقُلْنَا كَرَاهِيَةُ الْمَرِيضِ لِلدَّوَاءِ فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ: أَلَمْ أَنْهَكُمْ أَنْ تَلُدُّونِي قُلْنَا كَرَاهِيَةَ الْمَرِيضِ لِلدَّوَاءِ فَقَالَ لَا يَبْقَى أَحَدٌ فِي الْبَيْتِ إِلَّا لُدَّ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَّا الْعَبَّاسَ فَإِنَّهُ لَمْ يَشْهَدْكُمْ، وأخرج عبد الرزاق في مصنفه من حديث أسماء بنت عميس قالت: أول ما اشتكى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيت ميمونة فاشتد مرضه حتى أغمي عليه قال فتشاور نساؤه في لده فلدوه فلما أفاق قال هذا فعل نساء جئن من هؤلاء - وأشار إلى أرض الحبشة - وكانت أسماء بنت عميس فيهن قالوا: كنا نتِّهم بك ذات الجنب يا رسول الله قال: إن ذلك لداء ما كان الله ليقذفني به لا يبقين في البيت أحد إلا التدَّ إلا عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعني عباسا - فلقد التدت ميمونة يومئذ وإنها لصائمة لعزيمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .(2/39)
(1) ، ومعنى الحديث ظاهر وهو أن بعض الصحابة ممن كان موجوداً عنده في مرضه أراد أن يداوي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن طريق اللد، واللد معناه: أن يُجعل في جانب فم المريض دواء بغير اختياره، وقد جاء في رواية الطبراني أنهم أذابوا قسطاً بزيت فلدوه به، وعند ابن سعد من طريق الواقدي - وهو ضعيف - : " قال: فبما لددتموني ؟ ، قالوا بالعود الهندي وشيء من ورسٍ، وقطرات من زيت " (2) ، وذلك لأن الصحابة ظنوا أن به ذات الجنب وهو ورم حار يعرض في الغشاء المستبطن، فلدوه بما يرونه ملائماً لدائه ومرضه، ونهاهم النبي عن ذلك لأنه كان غير ملائم لمرضه، ولكنهم لم يستجيبوا، لحملهم نهي الرسول - صلى الله عليه وسلم - لهم على كراهية المريض للدواء، فأقدموا على لده، فعند ذلك أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يؤدبهم لتركهم امتثال نهيه - صلى الله عليه وسلم - ، وأما العباس - رضي الله عنه - فلم يشهد الموقف بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث: " فَإِنَّهُ لَمْ يَشْهَدْكُمْ "، فلذلك استثناه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وليس في الحديث غض من قدر الصحابة - رضي الله عنهم - فما فعلوه هو من تمام شفقتهم على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكمال محبتهم له، حيث رغبوا أن يبذلوا ما يستطيعون من أسباب لكي يستعيد النبي - صلى الله عليه وسلم - عافيته، ولكن اجتهادهم حملهم على تأويل نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك ، وأنه قال ذلك من باب كراهية المريض للدواء ، وأن المريض ولو كره الدواء يلزم به ويحمل عليه، ولما أمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يلد جميع من في البيت بادروا إلى ذلك فلم يبقى أحد في البيت إلا لد .
__________
(1) - أخرجه عبد الرزاق ح ( 9754 )، وصحح إسناده الحافظ في الفتح ( 8/148 )
(2) - أخرجه ابن سعد في الطبقات ( 2/235 )(2/40)
والصحابة - رضي الله عنهم - هم سادة الأمة فضلاً وعلماً ومنزلة، وكيف يستجيز أحدٌ سبهم والنيل منهم وهم خير القرون وأفضل الأمة بعد نبيها عليه الصلاة والسلام، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ " (1) ، ومن المعلوم أن الصحابة كلهم عدول كما دلت على ذلك نصوص الكتاب والسنة وإجماع من يعتد بإجماعهم من الأمة، والطعن في عدالتهم وتنقصهم من سمات أهل الزندقة والضلال، قال أبو زرعة الرازي: " إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاعلم أنه زنديق، وذلك أن الرسول حق، والقرآن حق، وما جاء به حق، وإنما أدى ذلك كله إلينا الصحابة، وهؤلاء الزنادقة يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، فالجرح بهم أولى "
__________
(1) - أخرجه البخاري ح ( 3673 ) ومسلم ح ( 2541 ) من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -(2/41)
وقال الخطيب: " عدالة الصحابة ثابتة معلومة بتعديل الله لهم، واخباره عن طهارتهم واختياره لهم في نص القرآن فمن ذلك قوله تعالى: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } (1) ، وقوله: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً } (2) ، وقوله: { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً } (3) ، وقوله تعالى: { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ - رضي الله عنهم - وَرَضُوا عَنْهُ } (4) ، وقوله تعالى: { وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ } (5) ، وقوله: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } (6) ، وقوله تعالى: { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } (7) في آيات يكثر إيرادها ويطول تعدادها .....
__________
(1) - سورة آل عمران الآية: 110
(2) - سورة البقرة الآية: 143
(3) - سورة الفتح الآية: 18
(4) - سورة التوبة الآية: 100
(5) - سورة الواقعة الآية: 10
(6) - سورة الأنفال الآية: 64
(7) - سورة الحشر الآية: 8(2/42)
وجميع ذلك يقتضى القطع بتعديلهم، ولا يحتاج أحد منهم مع تعديل الله تعالى له إلى تعديل أحدٍ من الخلق له، على أنه لو لم يرد من الله عز وجل ورسوله فيهم شيء مما ذكرناه لأوجبت الحال التي كانوا عليها من الهجرة والجهاد، ونصرة الإسلام، وبذل المهج والأموال، وقتل الآباء والأولاد، والمناصحة في الدين وقوة الإيمان واليقين، القطع على عدالتهم والاعتقاد لنزاهتهم وأنهم أفضل من جميع الخالفين بعدهم، والمعدلين الذين يجيؤن من بعدهم، هذا مذهب كافة العلماء ومن يعتد بقوله من الفقهاء " (1)
وقال ابن الصلاح: " للصحابة بأسرهم خصيصة وهي أنه لا يسأل عن عدالة أحد منهم ، بل ذلك أمر مفروغ منه لكونهم على الإطلاق معدلين بنصوص الكتاب والسنة وإجماع من يعتد به في الإجماع من الأمة "
هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل .
- - - - - -
خلق المرأة من ضلع أعوج
صحيح أن الزوجة مخلوقة من ضلعه الأعوج ؟ أفيدونا جزاكم الله خيرا مع ذكر المراجع من القرآن والسنة وكتب التفاسير وشروح الأحاديث .
وإذا كان كذلك فما الجواب في الحالات التالية:
1 - هناك من النساء من تفوتها قطار الزواج وتبقى آنسة طوال عمرها
2 - وهناك من الرجال من يفوته قطار الزواج ويبقى من غير زواج طوال عمره
3 - هناك من النساء من تتزوج بأكثر من زوج
4 - وهناك من الرجال من يتزوج بأكثر من زوجة
أفيدونا جزاكم الله كل خير عنا وعن المسلمين حتى يمكننا أن نرد على أعداء الإسلام الذين يشوهون الإسلام قصدا أو جهلا والله نسأل التوفيق والسداد.
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
__________
(1) - الكفاية في علم الرواية ص: 46-48 ، والإصابة في تميز الصحابة ( 1/ 11 )(2/43)
الحديث المشار إليه في السؤال أخرجه البخاري ح ( 3331 ) ومسلم ح ( 1468 ) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلَاهُ فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ "، ومعنى الحديث الحث على الرفق بالمرأة والإحسان إليها، وطيب معاشرتها وحسن مراعاتها ومداراتها، وقد بوب عليه البخاري بقوله: باب المداراة مع النساء (1) ، وقوله: " خلقت من ضلع " فيه إشارة إلى أنها خلقت من ضلع آدم، وقد دل القرآن أن المرأة خلقت من الرجل، قال تعالى: { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا } (2) ، قال الطبري: " ويعني بقوله: وجعل منها زوجها، وجعل من النفس الواحدة، وهو آدم زوجها حواء ... " ثم ذكر عن قتادة: " وجعل منها زوجها، حواء جعلت من أضلاعه، ليسكن إليها " (3) ، وقال الحافظ ابن كثير: " ينبه تعالى على أنه خلق جميع الناس من آدم عليه السلام، وأنه خلق منه زوجته حواء ثم انتشر الناس منهما ... " (4) ، وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } (5) ، قال ابن كثير: " وخلق منها زوجها وهي حواء عليها السلام خلقت من ضلعه الأيسر من خلفه وهو نائم، فاستيقظ فرآها فأعجبته، فأنس إليها وأنست إليه... "، وقال ابن جرير: " وخلق منها زوجها، وهي حواء ...
__________
(1) - البخاري مع الفتح ( 9/252 )
(2) - سورة الأعراف الآية: 189
(3) - تفسير ابن جرير ( 6/141 )
(4) - تفسير ابن كثير ( 3/523 )
(5) - سورة النساء الآية: 1(2/44)
"، وذهب بعض العلماء إلى أن قوله في الحديث: " من ضلع " قصد به المثل أي من مثل ضلع، وقصد من هذا التشبيه الحث على الرفق بها والإحسان إليها، وإمساكها بالمعروف ويشهد له ما جاء في رواية مسلم : " لن تستقيم لك على طريقة، فإن استمتعت بها؛ استمتعت وبها عوج ، وإن ذهبت تقيمها كسرتها، وكسرها: طلاقها "، ومن المعلوم أن الخالق جل ثناؤه قد زود كلاً من الرجل والمرأة بخصائص تتناسب والمهمة التي يقوم بها كل منهما، فالمرأة هي الحاضنة والمربية والحاملة والمرضعة، وهذه المهمة بحاجة إلى عواطف جياشة ومشاعر مرهفة حتى تستطيع أن تؤدي مهمتها على الوجه الأكمل، وغلبة هذه العاطفة مع ما يتكرر معها من المحيض والولادة يولد لديها بعض الضعف من الانفعال النفسي والشعور بالضيق فيضعف تحملها فتحتاج إلى مراعاة، فأرشد النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث إلى طبيعة المرأة، وأنها تحتاج إلى مراعاة ومداراة وترك التقصي عليها فلا تعامل بالشدة والمحاسبة الدقيقة على تصرفاتها، ولو أن الزوج استحضر هذه الوصية عند تعامله مع امرأته لطابت حياتهما وعاشا حياة طيبة وعيشة هنيئة بعيدة عن المشاكل والمكدرات، والإسلام كما لا يخفى في تشريعاته وأحكامه قد أعطى المرأة مكانة عالية ومنزلة رفيعة وحفظ كرامتها وأنوثتها وعفتها وقد عرض القرآن الكريم لكثيرٍ من شئون المرأة في أكثر من عشر سور منها سورتان عرفت إحداهما بسور النساء الكبرى، وعرفت الأخرى بسور النساء الصغرى، وهما سورتا: النساء والطلاق، وعرض لها في سور: البقرة والمائدة والنور والأحزاب والمجادلة والممتحنة والتحريم، وحظيت المرأة في الإسلام بمكانة لم تحظ بها في شرع سماوي سابق ولا في اجتماع إنساني، ومع هذه المكانة للمرأة في تشريعات الإسلام يأتي من يزعم أن الإسلام هضم حق المرأة، وجعلها متعة بيد الرجل، والقرآن يقول: { وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ } (1) ،
__________
(1) - سورة البقرة الآية: 228(2/45)
والحقيقة أن القضية لا ترجع إلى حق وعدل ولكن إلى أهواء وشهوات وتقليد لما يوجد في البلاد الغربية والتي أخرجت المرأة عن وظيفتها الإنسانية وأقحمتها في ميادين ليست لها وقضت على أنوثتها وعفتها وكرامتها، والشاهد خير واقع، إن الإسلام منح المرأة كل خير وصانها من كل شر، ولا منقذ لها ولا حافظ لكرامتها سوى التعاليم التي جاءت في نصوص الوحيين الكتاب والسنة، والإسلام بين أن المرأة خلقت من الرجل، وأن خلق المرأة نعمة ينبغي أن يحمد الله عليها، قال تعالى: { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } (1) ، وقال تعالى: { وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً } (2) ، والمرأة في الإسلام كالرجل فهي شقيقته وشريكته، ومن الرجل والمرأة تعددت القبائل والشعوب { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ ...
__________
(1) - سورة الرم الآية: 21
(2) - سورة النحل الآية: 72(2/46)
} (1) ، والمرأة هي الأم وقد وضعها الإسلام موضع التكريم والإجلال وجاءت الوصايا بالإحسان إليها: { وَوَصَّيْنَا الْإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ } (2) ، وقال تعالى: { وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً } (3) ، والمرأة كالرجل فرض الله عليها القيام بالواجبات الشرعية، وهي كالرجل إذا استجابت لأمر الله : { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } (4) ، { فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ } (5) ، { إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً } (6) ، والمرأة مسئولة مسؤولية خاصة عن واجباتها الشرعية، ومسئولة مسؤولية عامة فيما يختص بالدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف، والإرشاد إلى الفضائل والتحذير من الرذائل، قال تعالى: {
__________
(1) - سورة الحجرات الآية: 13
(2) - سورة لقمان الآية: 14
(3) - سورة الأحقاف الآية: 15
(4) - سورة النحل الآية: 97
(5) - سورة آل عمران الآية: 195
(6) - سورة الأحزاب الآية: 35(2/47)
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } (1) ، وللمرأة في الإسلام حرية التصرف في مالها، ولها حق أن تستأذن في أمر زواجها، ولها أن ترفض وليس لوليها أن يكرهها فيمن لا ترغب فيه، ولها نصيبها من الميراث، واعتنى الإسلام بتعليم المرأة وتثقيفها والحاصل أن المتأمل في هذه الشريعة العظيمة يرى أنها أحاطت المرأة بتشريعات وأحكام تكمل بها كرامتها وسعادتها وتتحقق لها الحياة الطيبة في الدنيا والآخرة، ويجب أن ننظر إلى جميع ما ورد في شأن المرأة ولا ننظر إلى جزئية مقطوعة عن باقي التشريعات، فالنظرة الجزئية خاطئة ، والله أعلم.
ولم يظهر لي مناسبة الربط بين أول السؤال وآخره حيث الحالات التي ذكرها السائل لا علاقة لها بكون المرأة خلقت من ضلع، ومن المعلوم أن الإسلام حث على الزواج ورغب في المبادرة إليه، قال تعالى : { وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ } (2) ، وفي الحديث: " يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ " (3)
- - - - - -
هل هناك نساء صالحات لم يتزوجن ؟
هل هناك أمثلة على نساء صالحات لم يتزوّجن في سلف الأمة؟
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
__________
(1) - سورة التوبة الآية: 71
(2) - سورة النور الآية: 32
(3) - أخرجه البخاري ح ( 5065 ) ، ومسلم ح ( 1400 )(2/48)
حث الإسلام على الزواج، ورغب فيه لمن قدر عليه، قال تعالى: { وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } (1) ، وفي الحديث: " يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنْ اسْتَطَاعَ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ " (2) ، وأمر الله عز وجل بالاستعفاف لمن لم يتيسر له الزواج قال تعالى: { وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ } (3) ، وأما هل هناك أمثلة لنساء صالحات لم يتزوجن فلا تخلو كتب التراجم والسير من ذكر نساء صالحات لم يتيسر لهن الزواج، على أن كتب التراجم حينما تترجم للنساء لا تعتني بذكر حالة المترجمة هل تزوجت أم لم تتزوج ، ولعل السبب في ذلك أن الأصل هو أن تكون المرأة متزوجة . وقد وقفت على بعض النساء اللاتي نص على أنهن لم يتزوجن ومن ذلك:
1- أم شريك: امرأة من بني عامر بن لؤي وهبت نفسها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يقبلها فلم تتزوج حتى ماتت، واسمها غزية بنت جابر بن حكيم، وكانت امرأة صالحة . (4)
2- أم عبد الله بنت عبد الله بن جعفر بن أبي طالب ، أمها زينب بنت علي بن أبي طالب، ذكر الزبيري في نسب قريش ص ( 83 ) أنها لم تتزوج .
__________
(1) - سورة النور الآية: 32
(2) - أخرجه البخاري ح ( 5065 ) ، ومسلم ح ( 1400 )
(3) - سورة النور الآية: 33
(4) - ينظر: البداية والنهاية ( 5/302 )(2/49)
3- أم الكرام بنت أحمد بن محمد بن حاتم المرويزة أم الكرام المجاورة بمكة كانت كاتبة فاضلة عالمة سمعت من محمد بن مكي الكشميهني وكانت تضبط كتابها وحدثت بالصحيح مرات وكانت بكراً لم تتزوج وطال عمرها وعلا إسنادها توفيت سنة خمس وستين وأربعمائة (1)
4- الشيخة الصالحة الخيرة المعمرة أم عبد الله حبيبة بنت الخطيب عز الدين إبراهيم بن عبد الله بن أبي عمر المقدسية ماتت عن إحدى وتسعين سنة . حدثت عن ابن عبد الدايم وغيره . وأجاز لها في سنة أربع وخمسين وستمائة محمد بن عبد الهادي وابن السروري وابن عوه وطائفة . وكانت سوداء . ماتت في ذي القعدة ولم تتزوج (2)
5- أم عبد الله فاطمة بنت سليمان بن عبد الكريم الأنصاري توفيت في ربيع الآخر سنة ثمان وسبعمائة عن قريب التسعين بدمشق . لها إجازة من الفتح وابن عفيجة وجماعة . وسمعت المُسَلَّم المازني وكريمة وابن رواحة، وكانت صالحة ، روت الكثير ، وتفردت ، لم تتزوج . (3)
6- أتم الرجاء الواعظة ؛ امرأة صالحة متدينة تعظ النساء ببغداد وماتت وهي بكر ولم تتزوج وكانت تعرف بابنة الدباس ولها رباط بالريحانيين سمعت أبا الحسن علي بن محمد بن علي بن العلاف وخالها المبارك بن فاخر بن يعقوب بن الدباس النحوي . وروى عنها عبد الوهاب بن علي الأمين وعاشت ثمانين سنة وتوفيت رحمها الله سنة ثمان وخمسين وخمس مائة . (4)
7- خاتون بنت الملك الصالح إسماعيل ابن العادل بن أبي بكر بن أيوب بن شادي كانت رئيسة محترمة ولم تتزوج قط وليس في طبقتها من بني أيوب غيرها في هذا الحين توفيت يوم الخميس الحادي والعشرين من شعبان سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة ودفنت بتربة أم الصالح رحمهما الله (5)
__________
(1) - سير أعلام النبلاء ( 18/233 )
(2) - ينظر: العبر ( 1/305 )
(3) - ينظر: العبر ( 1/270 )
(4) - الوافي بالوفيات ( 1/1465 )
(5) - البداية والنهاية ( 14/108 )(2/50)
8- نواب زيب النساء بيكم : الملكة الفاضلة بنت السلطان محي الدين أورنك أكبر ملوك الهند وأكرمهم ، ولدت في عاشر شوال سنة ثمان وأربعين وألف ، ونشأت في نعمة أبيها وحفظت القرآن ، ثم تعلمت الكتابة، وقرأت الكتب الدراسية على الشيخ أحمد بن سعيد الحنفي، وعلى غيره من العلماء، وأخذت الشعر والإنشاء عن الشيخ محمد بن سعيد المازندراني، وأحرزت الكتب النفيسة في خزانتها واجتمع عندها من العلماء والشعراء ما لم يجتمع عند أحد ، وكانت شاعرة ولا يضاهيها امرأة في الهند في جودة القريحة وسلامة الفكرة ، ولم تتزوج قط ، وتوفيت سنة ثلاث عشرة ومائة وألف في حياة أبيها ، ودفنت في لاهور . (1)
هذا والله أعلم .
- - - - - -
أحكام تخص النساء
الحمد لله والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإن المرأة المسلمة مطالبة بالتفقه في أحكام دينها حتى تعبد الله على بصيرة ، وتؤدي العبادات عن علم وفقه، وقد أمر الله سبحانه وتعالى نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله : { وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ } (2) ، وقالت عائشة رضي الله عنها : " نِعْمَ النِّسَاءُ نِسَاءُ الْأَنْصَارِ لَمْ يَكُنْ يَمْنَعُهُنَّ الْحَيَاءُ أَنْ يَتَفَقَّهْنَ فِي الدِّينِ " (3)
وفي هذا المجلس المبارك سوف يكون حديثنا عن أحكام تخص المرأة وتحتاج إليها ، فعسى أن تجد آذاناً صاغية، وقلوباً واعية ، وهذه الأحكام تشمل: الحيض والاستحاضة والنفاس والعدة والإحداد .
أولاً الحيض:
__________
(1) - ينظر: نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر، لعبد الحي الحسني
(2) - سورة الأحزاب الآية: 34
(3) - أخرجه مسلم ح ( 332 )(2/51)
قال تعالى: { وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ } (1)
والحيض هو دم طبيعة وجبلة ، يخرج من قعر الرحم في أوقات معلومة، خلقه الله لحكمة غذاء الولد في بطن أمه، فإذا خلت المرأة من الحمل بقي لا مصرف له، فيستقر في مكانٍ من رحمها ، ثم يخرج في الغالب في كل شهر ستة أيام أو سبعة أيام ، وقد يزيد عن ذلك أو يقل حسبما ركبه الله من الطباع .
ومتى رأت المرأةُ الدم فهي حائض، ومتى طهرت منه فهي طاهر، ولو زاد عن عادتها أو نقص، أو تقدم، أو تأخر فقد علق الشارع أحكام الحيض على وجوده إلا أن يكون مستمراً على المرأة لا ينقطع، أو ينقطع مدة يسيرة فيكون استحاضة، وما تراه المرأة من نقاء يسير أثناء مدة الحيض فهو حيض، والكدرة والصفرة في أثناء الحيض حيض تثبت له أحكام الحيض، ولا تستعجل المرأة في الاغتسال من الحيض حتى تتأكد من تمام الطهر .
أخرج البخاري تعليقاً قال: " بَاب إِقْبَالِ الْمَحِيضِ وَإِدْبَارِهِ وَكُنَّ نِسَاءٌ يَبْعَثْنَ إِلَى عَائِشَةَ بِالدُّرَجَةِ فِيهَا الْكُرْسُفُ فِيهِ الصُّفْرَةُ فَتَقُولُ لَا تَعْجَلْنَ حَتَّى تَرَيْنَ الْقَصَّةَ الْبَيْضَاءَ تُرِيدُ بِذَلِكَ الطُّهْرَ مِنْ الْحَيْضَةِ" (2)
والدرجة هي: القطنة التي تحتشي بها المرأة .
وللحائض خلال حيضها وعند نهايته أحكام مفصلة في الكتاب والسنة منها:
- أن الحائض لا تصلي ولا تصوم حال حيضها ، فلو صامت الحائض أو صلت حال حيضها؛ لم يصح لها صوم ولا صلاة، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهاها عن ذلك .
__________
(1) - سورة البقرة الآية: 222
(2) - البخاري مع الفتح ( 1/420 )(2/52)
فإذا طهرت من حيضها؛ فإنها تقضي الصوم دون الصلاة بإجماع أهل العلم ، قال عائشة رضي الله عنها: " كُنَّا نَحِيضُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ نَطْهُرُ فَيَأْمُرُنَا بِقَضَاءِ الصِّيَامِ وَلَا يَأْمُرُنَا بِقَضَاءِ الصَّلَاةِ " (1)
- لا يجوز للحائض أن تطوف بالبيت ، فرضه ونفله لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - لعائشة لما حاضت : " افْعَلِي مَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي " (2) ، ولها أن تفعل أعمال الحج الأخرى مثل: السعي بين الصفا والمروة والمبيت بالمزدلفة ومنى ورمي الجمار وغيرها من مناسك الحج والعمرة .
- يحرم على الحائض المكث في المسجد .
- يجوز للحائض الذكر والتكبير والتحميد والتسمية على الأكل وغيره ، وقراءة الحديث والفقه والدعاء والتأمين عليه واستماع القرآن فلا يحرم عليها شيء من ذلك ، فقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتكئ في حجر عائشة رضي الله عنها وهي حائض فيقرأ القرآن . ويجوز لها أن تقرأ القرآن لاسيما عند الحاجة مثل أن تكون معلمة تحتاج إلى تلقين المتعلمات، أو في حال الاختبار ، أو تخشى من نسيانه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " أظهر قولي العلماء أنها - أي المرأة الحائض - لا تمنع من قراءة القرآن إذا احتاجت إليه ، كما هو مذهب مالك ، وأحد القولين في مذهب الشافعي ويذكر رواية عن أحمد ، فإنها محتاجة إليه ، ولا يمكنها الطهارة كما يمكن الجنب " (3)
__________
(1) - أخرجه البخاري ح ( 321 ) ، ومسلم ح 335 ) ، والترمذي ح ( 787 ) ، واللفظ له ، قال الترمذي: هذا حديث حسن .
(2) - أخرجه البخاري ح ( 294 ) ، ومسلم ح ( 1211 ) ، واللفظ له .
(3) - مجموع الفتاوى ( 26/179 )(2/53)
- ويحرم على الزوج وطؤها في الفرج حتى ينقطع حيضها وتغتسل، قال تعالى: { وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ } (1) ، ومعنى الاعتزال: ترك الوطء ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " اصْنَعُوا كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا النِّكَاحَ " (2) ، وفي لفظ : " إلا الجماع " ، ويجوز لزوج الحائض أن يستمتع منها بغير الجماع في الفرج ؛ كالقبلة والضم واللمس ونحو ذلك .
- يحرم على الزوج طلاق الحائض حال حيضها لقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } (3) ، أي: طاهرات من غير جماع، وثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض فأخبر عمر بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فتغيظ فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقال: " مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ " (4) ، والطهر : هو انقطاع الدم ، فإذا انقطع دمها؛ فقد طهرت ، وانتهت فترة حيضها ؛ فيجب عليها الاغتسال، وإن رأت بعد الطهر كدرة أو صفرة ؛ لم تلتفت إليها ؛ لقول أم عطية رضي الله عنها : " كُنَّا لَا نَعُدُّ الْكُدْرَةَ وَالصُّفْرَةَ بَعْدَ الطُّهْرِ شَيْئًا " (5)
__________
(1) - سورة البقرة الآية: 222
(2) - أخرجه مسلم ح ( 302 )
(3) - سورة الطلاق الآية: 1
(4) - أخرجه البخاري ح ( 5252 ) ، ومسلم ( 1015 )
(5) - أخرجه البخاري ح ( 326 )(2/54)
- ويجب على الحائض إذا طهرت أن تغتسل بتطهير جميع البدن لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لفاطمة بنت أبي حبيس : " فَإِذَا أَقْبَلَتْ الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلَاةَ وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْتَسِلِي وَصَلِّي" (1) ، وأقل و(3) في الغسل أن تعم جميع بدنها حتى ما تحت الشعر والأفضل أن يكون على صفة ما جاء في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين سألته أسماء بنت شكل عن غسل المحيض فقال - صلى الله عليه وسلم - : " تَأْخُذُ إِحْدَاكُنَّ مَاءَهَا وَسِدْرَتَهَا فَتَطَهَّرُ فَتُحْسِنُ الطُّهُورَ ثُمَّ تَصُبُّ عَلَى رَأْسِهَا فَتَدْلُكُهُ دَلْكًا شَدِيدًا حَتَّى تَبْلُغَ شُؤُونَ رَأْسِهَا ثُمَّ تَصُبُّ عَلَيْهَا الْمَاءَ ثُمَّ تَأْخُذُ فِرْصَةً مُمَسَّكَةً فَتَطَهَّرُ بِهَا فَقَالَتْ أَسْمَاءُ وَكَيْفَ تَطَهَّرُ بِهَا فَقَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ تَطَهَّرِينَ بِهَا فَقَالَتْ عَائِشَةُ كَأَنَّهَا تُخْفِي ذَلِكَ تَتَبَّعِينَ أَثَرَ الدَّمِ " (2)
ثانياً: الاستحاضة:
وهي: استمرار الدم على المرأة بحيث لا ينقطع عنها أبداً، أو ينقطع عنها مدة يسيرة كاليوم واليومين في الشهر .
وللمستحاضة ثلاث حالات هي:
__________
(1) - أخرجه البخاري ح ( 320 ) ، ومسلم ح ( 333 )
(2) - أخرجه البخاري ح ( 314 ) ، ومسلم ح ( 332 )، واللفظ له .(2/55)
الحالة الأولى: أن يكون لها حيض معلوم قبل الاستحاضة فهذه ترجع إلى مدة حيضها المعلوم السابق فتجلس فيها ويثبت لها أحكام الحيض وما عداها استحاضة يثبت لها أحكام المستحاضة . مثال ذلك: امرأة كان يأتيها الحيض ستة أيام من أول كل شهر ثم طرأت عليها الاستحاضة فصار الدم يأتيها باستمرار فيكون حيضها ستة أيام من أول كل شهر، فإذا انتهت ؛ اغتسلت وصلت ، واعتبرت الدم الباقي استحاضة ؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - لأم حبيبة: " امْكُثِي قَدْرَ مَا كَانَتْ تَحْبِسُكِ حَيْضَتُكِ ثُمَّ اغْتَسِلِي وَصَلِّي " (1)
الحالة الثانية: إذا لم يكن لها عادة معروفة ، لكن دمها متميز ، بعضه يحمل صفة الحيض ؛ بأن يكون أسود أو ثخيناً أو له رائحة ، وبقيته لا تحمل صفة الحيض ؛ بأن يكون أحمر ليس له رائحة ولا ثخيناً ؛ ففي هذه الحالة تعتبر الدم الذي يحمل صفة الحيض حيضاً ، فتدع الصلاة والصيام ، وتعتبر ما عداه استحاضة ، وتغتسل عند نهاية الذي يحمل صفة الحيض ، وتصلي وتصوم وتعتبر طاهراً ؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - لفاطمة بنت أبي حبيش : " إِذَا كَانَ دَمُ الْحَيْضِ فَإِنَّهُ دَمٌ أَسْوَدُ يُعْرَفُ فَأَمْسِكِي عَنْ الصَّلَاةِ فَإِذَا كَانَ الْآخَرُ فَتَوَضَّئِي " (2) ، ففيه أن المستحاضة تعتبر صفة الدم ، فتميز بها بين الحيض وغيره .
__________
(1) - أخرجه البخاري ح ( 327 )، ومسلم ح ( 334 )
(2) - أخرجه أبو داود ح ( 261 ) والنسائي ح (355) ، وصححه الحاكم وابن حبان .(2/56)
الحالة الثالثة: أن لا يكون لها حيض معلوم ولا تمييز صالح بأن تكون الاستحاضة مستمرة من أول ما رأت الدم ودمها على صفة واحدة أو على صفات مضطربة لا يمكن أن تكون حيضاً فهذه تعمل بعادة غالب النساء فيكون حيضها ستة أيام أو سبعة أيام - لأن هذه هي عادة غالب النساء - من كل شهر يبتدئ من أول المدة التي رأت فيها الدم وما عداه استحاضة؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - لحمنة بنت جحش : " إِنَّمَا هِيَ رَكْضَةٌ مِنْ الشَّيْطَانِ فَتَحَيَّضِي سِتَّةَ أَيَّامٍ أَوْ سَبْعَةَ أَيَّامٍ فِي عِلْمِ اللَّهِ ثُمَّ اغْتَسِلِي فَإِذَا رَأَيْتِ أَنَّكِ قَدْ طَهُرْتِ وَاسْتَنْقَأْتِ فَصَلِّي أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً أَوْ ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً وَأَيَّامَهَا وَصُومِي وَصَلِّي فَإِنَّ ذَلِكِ يُجْزِئُكِ وَكَذَلِكِ فَافْعَلِي كَمَا تَحِيضُ النِّسَاءُ " (1)
والحاصل مما سبق أن المعتادة ترد إلى عادتها، والمميزة ترد إلى العمل بالتمييز ، والفاقدة لهما تحيض ستاً أو سبعاً .
أحكام المستحاضة:
أحكام المستحضة كأحكام الطهر فلا فرق بين المستحاضة وبين الطاهرات إلا فيما يأتي:
1- يجب عليها أن تغتسل عند نهاية حيضتها المعتبرة حسبما سبق بيانه.
2- تغسل فرجها لإزالة ما عليه من الخارج عند كل صلاة ، وتجعل في المخرج قطناً ونحوه يمنع الخارج ، وتشد عليه ما يمسكه عن السقوط ، ثم تتوضأ عند دخول وقت كل صلاة . لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في المستحاضة: " تَدَعُ الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا الَّتِي كَانَتْ تَحِيضُ فِيهَا ثُمَّ تَغْتَسِلُ وَتَتَوَضَّأُ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ وَتَصُومُ وَتُصَلِّي " (2)
__________
(1) - أخرجه أبو داود ح ( 128 ) ، والترمذي ح ( 128 )
(2) - أخرجه أبو داود ح ( 255 ) ، وابن ماجه ح ( 617 ) ، والترمذي ح (126) وقال : حديث حسن(2/57)
وقال - صلى الله عليه وسلم - : " أَنْعَتُ لَكِ الْكُرْسُفَ " (1) ، والكرسف القطن ، ويمكن استعمال الحفائظ الطبية الموجودة الآن .
ثالثاً: النفاس وأحكامه .
النفاس : هو دم ترخيه الرحم للولادة وبعدها ، وهو بقية الدم الذي احتبس في مدة الحمل ، وأكثر مدته عند الجمهور أربعون يوماً .
فإذا انقطع دم النفساء قبل الأربعين ؛ فقد انتهى نفاسها ، فتغتسل وتصلي وتزاول ما منعت منه بسبب النفاس .
ولا يثبت النفاس إلا إذا وضعت الحامل ما تبين فيه خلق إنسان فعندها يصبح لها أحكام النفساء، أما لو وضعت سقطاً صغيراً لم يتبين فيه خلق إنسان ، فليس دمها دم نفاس ، والمدة التي يتبين فيها خلق الإنسان في الحمل ثلاثة أشهر غالباً ، وأقلها واحد ثمانون يوماً .
وأحكام النفاس كأحكام الحيض فيما يحل ويحرم على التفصيل السابق.
رابعاً: العدة
العدة هي: التربص المحدود شرعاً مأخوذ من العدد ؛ لأن أزمنة العدة محصورة مقدورة .
ودليلها من الكتاب ، قوله تعالى: { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ } (2) ، وقوله تعالى: { وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } (3) ، هذا بالنسبة للمفارقة في الحياة، وأما بالنسبة للوفاة، فقال تعالى : { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً } (4)
__________
(1) - أخرجه أبو داود ح ( 248 ) ، وابن ماجه ح ( 614 ) ، والترمذي ح ( 128 ) وقال : حديث حسن
(2) - سورة البقرة الآية: 228
(3) - سورة الطلاق الآية: 4
(4) - سورة البقرة الآية: 234(2/58)
والحكمة من العدة: هي استبراء رحم المرأة من الحمل؛ لئلا يحصل اختلاط الأنساب ، وإتاحة الفرصة للزوج المطلق ليرجع إذا ندم وكان الطلاق رجعياً، وتعظيم عقد النكاح ، وبيان أن له حرمة، وتعظيم حق الزوج المطلق، وفيها أيضاً صيانة حق الحمل فيما لو كانت المفارقة حاملاً.
والعدة تلزم كل امرأة فارقت زوجها بطلاق أو خلع أو فسخ أو مات عنها؛ بشرط أن يكون الزوج المفارق لها قد خلا بها وهي مطاوعة مع علمه بها وقدرته على وطئها سواء كانت الزوجة حرة أو أمة وسواء كانت بالغة أو صغيرة يوطأ مثلها .
وأما من فارقها زوجها حياً بطلاق أو غيره قبل الدخول بها ؛ فلا عدة عليها ؛ لقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا } (1)
وأنواع المعتدات على سبيل الإجمال ست: الحامل، والمتوفى عنها زوجها من غير حمل منه، والحائل التي تحيض وقد فورقت في الحياة، والحائل التي لا تحيض لصغر أو إياس وهي مفارقة في الحياة ، ومن ارتفع حيضها ولم تدر ما رفعه ، وامرأة المفقود.
فالحامل: تعتد بوضع الحمل ؛ سواء كانت مفارقة في الحياة أو بالموت ؛ لقوله تعالى: { وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } (2)
والمتوفى عنها إذا كانت غير حامل: تعتد أربعة أشهر وعشرة أيام ، سواء كانت وفاته قبل الدخول بها أو بعده ، وذلك لقوله تعالى: { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً } (3)
__________
(1) - سورة الأحزاب الآية: 49
(2) - سورة الطلاق الآية: 4
(3) - سورة البقرة الآية: 234(2/59)
والمطلقة إذا كانت تحيض ، ولم يكن فيها حمل؛ تعتد بثلاث حيض ؛ لقوله تعالى: { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ } (1) ، وأما المطلقة الآيسة من الحيض لكبرها، والصغيرة التي لم تحض بعد، فإنها تعتد بثلاثة أشهر ؛ لقوله تعالى: { وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ } (2)
خامساً: الإحداد
الإحداد يترتب عليه أحكام بالنسبة للمرأة وهي :
أ- اجتناب الطيب فيحرم على المرأة استعماله في ثيابها وبدنها كما جاء في الحديث: " وَلَا تَمَسَّ طِيبًاً " (3) وهذا محل اتفاق .
ب - اجتناب الزينة من الخضاب والامتشاط والاكتحال، ولبس الحلي وثياب الزينة ونحو ذلك من دواعي الزينة ، فعن أُمِّ عَطِيَّةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " لَا تُحِدُّ امْرَأَةٌ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ إِلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا وَلَا تَلْبَسُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا إِلَّا ثَوْبَ عَصْبٍ وَلَا تَكْتَحِلُ وَلَا تَمَسُّ طِيبًا إِلَّا إِذَا طَهُرَتْ نُبْذَةً مِنْ قُسْطٍ أَوْ أَظْفَارٍ. (4)
وعن أم سلمة : " لا تلبس المتوفى عنها زوجها المعصفر من الثياب ولا الممشق ولا الحلي ... "
__________
(1) - سورة البقرة الآية: 228
(2) - سورة الطلاق الآية: 4
(3) - أخرجه البخاري ح ( 5343 ) ، ومسلم ح ( 938 )
(4) - أخرجه البخاري ح ( 313 ) ، ومسلم ح ( 938 )(2/60)
ج- يجب على المرأة المعتدة أن تلزم بيتها الذي مات زوجها وهي ساكنة فيه، ولا تخرج منه إلا لحاجة أو ضرورة كمراجعة المستشفى عند المرض أو شراء حاجتها من السوق إذا لم يكن لديها من يقوم بذلك . فعن فُرَيْعَةَ بِنْتِ مَالِكٍ; أَنَّ زَوْجَهَا خَرَجَ فِي طَلَبِ أَعْبُدٍ لَهُ فَقَتَلُوهُ. قَالَتْ: فَسَأَلْتُ اَلنَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي; فَإِنَّ زَوْجِي لَمْ يَتْرُكْ لِي مَسْكَنًا يَمْلِكُهُ وَلَا نَفَقَةً, فَقَالَ: "نَعَمْ". فَلَمَّا كُنْتُ فِي اَلْحُجْرَةِ نَادَانِي, فَقَالَ: " اُمْكُثِي فِي بَيْتِكَ حَتَّى يَبْلُغَ اَلْكِتَابُ أَجَلَهُ". قَالَتْ: فَاعْتَدَدْتُ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا, قَالَتْ: فَقَضَى بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ عُثْمَانُ (1)
هذا وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد ومن اتبع هداه إلى يوم الدين .
- - - - - -
ضوابط زينة المرأة
الإسلام دين الفطرة واليسر، والإنسان مفطور على حب الزينة والجمال ، وقد شرع الله لعباده التزين والعناية بالمظهر بل طلب منهم ذلك عند كل مسجد، قال تعالى: { يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ } (2) ، وعُني الإسلام بزينة المرأة مراعاةً لأنوثتها، وتلبيةً لنداء الفطرة فيها، فرخص لها ما لم يرخص للرجل، فأبيح لها الحرير والتحلي بالذهب دون الرجال . والزينة من حيث استعمالها تنقسم إلى:
زينة مباحة: كل زينة أباحها الشرع، وأذن فيها للمرأة، مما فيه جمال للمرأة وعدم ضرر بالشروط المعتبرة، ويدخل في ذلك: لباس الزينة، والحرير، والحلي والطيب، ووسائل التجميل الحديثة .
زينة مستحبة: وهي كل زينة رغب فيها الشارع، وحث عليها ويدخل في هذا القسم سنن الفطرة: كالسواك، ونتف الإبط، وتقليم الأظافر، والاستحداد، ونحو ذلك .
__________
(1) - أخرجه مالك ح ( 1081 )
(2) - سورة الأعراف الآية: 31(2/61)
زينة محرمة: وهي كل ما حرم الشرع وحذر منه مثل: النمص ووصل الشعر، أو كان فيه تشبه بالرجال، أو بالكفار .
ومن الضوابط الخاصة بزينة المرأة:
ستر الزينة والبعد عن التبرج وتجنب إظهارها للرجال الأجانب، ومراعاة القصد والاعتدال والبعد عن الإسراف، ومراعاة حدود الزينة أمام النساء .
- ضوابط زينة وتجميل الشعر:
1- قص الشعر:
طول شعر المرأة ووفوره زينة وجمال وبهاء، وهذا أمر معروف منذ القدم، وإذا احتاجت المرأة إلى قصه مثل أن تعجز عن مؤنته، ويشق عليها كلفته فلها أن تقصه إذا كان هذا ليس فيه تشبه بالفاسقات والكافرات أو الرجال، ولا يكون في ذلك تلاعب واتباع للموضات، وقد ورد أن أمهات المؤمنين رضي الله عنهن قد قصصن شعورهن بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد روى أبو سلمة بن عبد الرحمن قال: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ أَنَا وَأَخُوهَا مِنْ الرَّضَاعَةِ فَسَأَلَهَا عَنْ غُسْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ الْجَنَابَةِ فَدَعَتْ بِإِنَاءٍ قَدْرِ الصَّاعِ فَاغْتَسَلَتْ وَبَيْنَنَا وَبَيْنَهَا سِتْرٌ وَأَفْرَغَتْ عَلَى رَأْسِهَا ثَلَاثًا، قَالَ: وَكَانَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَأْخُذْنَ مِنْ رُءُوسِهِنَّ حَتَّى تَكُونَ كَالْوَفْرَةِ . (1)
2- حلق شعر الرأس:
__________
(1) - أخرجه البخاري ح (251) ، ومسلم ح (320)، واللفظ له(2/62)
الحلق أخذ الشعر كله وإزلته بالموسى، وحلق المرأة رأسها لا يجوز إلا عند الضرورة وتقدر الضرورة بقدرها، لأن حلقه من غير ضرورة يعتبر مثلة في حق المرأة، وفيه أيضاً تشبه بالرجال، إذ أن الحلق من خصائصهم، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ حَلْقٌ إِنَّمَا عَلَى النِّسَاءِ التَّقْصِيرُ " (1) ، وعن عائشة رضي الله عنها أن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ تَحْلِقَ الْمَرْأَةُ رَأْسَهَا . (2)
3- نمص الشعر من الوجه والحاجبين:
النمص: النمص لغةً: رقة الشعر ودقته حتى تراه كالزغب، والنمص: نتف الشعر، والنامصة: هي التي تُزيِّن النساء بالنمص، والمتنمصة: المُزيَّنة بالنمص .
__________
(1) - أخرجه أبو داود ح ( 1693 )
(2) - أخرجه الترمذي ح ( 915 ) ، وقال: والعمل على هذا عند أهل العلم(2/63)
ونتف شعر الوجه والحاجبين لا يجوز، فعن عَلْقَمَةَ قَالَ: لَعَنَ عَبْدُ اللَّهِ الْوَاشِمَاتِ وَالْمُتَنَمِّصَاتِ وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ فَقَالَتْ أُمُّ يَعْقُوبَ: مَا هَذَا ؟ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وَمَا لِي لَا أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ وَفِي كِتَابِ اللَّهِ، قَالَتْ: وَاللَّهِ لَقَدْ قَرَأْتُ مَا بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ فَمَا وَجَدْتُهُ قَالَ وَاللَّهِ لَئِنْ قَرَأْتِيهِ لَقَدْ وَجَدْتِيهِ: { وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } (1) ، والنمص والنتف سواء، ولا يختص النمص بالحاجبين بل يشمل أخذ الشعر من الوجه، قال ابن الأثير: " النامصة التي تنتف الشعر من وجهها "، لكن إذا نبت للمرأة شعر في شاربها أو لحيتها أو خدها فلا بأس بإزالته لأنه خلاف المعتاد وهو مشوه للمرأة . وكذلك إذا طال شعر الحاجب ونزل على العين فيزال ما يؤذي منه، ومن الأمور المحدثة في النمص أن تزيل المرأة كامل الحاجب وتضع خطاً مكانه، وكل هذا الأمور سواء الإزالة الكاملة أو التخفيف منهي عنها .
4- وصل الشعر:
وصل المرأة شعرها لا يجوز ففي الحديث: " لَعَنَ اللَّهُ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ وَالْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ " (2) ، ويدخل في ذلك لبس ما يسمى بالباروكة، إلا لمن بها عيب كأن تكون المرأة قرعاء ليس على رأسها شعر فلا حرج من استخدام الباروكة لستر العيب .
5- صبغ الشعر:
__________
(1) - أخرجه البخاري ح ( 5939 ) ، ومسلم ح ( 2125 )
(2) - أخرجه البخاري ح ( 5933 ) ، ومسلم ح ( 2127 )(2/64)
صبغ الشعر لتغيير الشيب مشروع بل مسنون، إذ ثبتت مشروعيته بالأحاديث الصحيحة الواردة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - دون فرق في هذا بين الرجل والمرأة، فعن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ أُتِيَ بِأَبِي قُحَافَةَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَرَأْسُهُ وَلِحْيَتُهُ كَالثَّغَامَةِ بَيَاضًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - غَيِّرُوا هَذَا بِشَيْءٍ وَاجْتَنِبُوا السَّوَادَ " (1) ، وعن أبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لَا يَصْبُغُونَ فَخَالِفُوهُمْ " (2)
تعلية الشعر فوق الرأس: وهو من الأمور المستحدثة التي وردت علينا من نساء الغرب، وقد أخبرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو من معجزات النبوة - عن صنفين لم يرهما من أهل النار، فقال فيما يرويه عنه أبو هريرة: " صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مُمِيلَاتٌ مَائِلَاتٌ رُءُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا " (3)
ضوابط في تجميل الوجه :
1- العدسات الملونة:
__________
(1) - أخرجه مسلم ح ( 2103 )
(2) - أخرجه البخاري ح ( 3462 ) ، ومسلم ح ( 2103 )
(3) - أخرجه مسلم ح ( 2128 )(2/65)
عرفت العدسات في مجال علاج قصر النظر، واستخدمت على نطاق واسع في مجال التجميل والزينة، وخاصة الملون منها، ويجوز لبس العدسات عند الحاجة بقصد العلاج، وأما استخدامها بهدف الزينة فقط، فمن أهل العلم من منع ذلك لما فيه من تغير خلق الله ، والتلبيس مع عدم وجود الحاجة إلى ذلك، ومن أهل العلم من أباح استخدامها لأن الأصل في الأشياء الإباحة والحل ولكن هذا مقيد بقيود وشروط الزينة عموماً بحيث لا يكون في لبسها مضرة ولا تشبه، ومن غير تبذير ولا إسراف .
2- الرموش الصناعية:
الرموش الصناعية هي نوع من الزينة المستحدثة تضعها المرأة فوق جفن العين فوق رموشها الطبيعية، لتبدو رموشها غزيرة طويلة، وتستخدم مادة مخصوصة لتثبيتها. ولا يجوز استخدام هذه الرموش لدخولها في الوصل المنهي عنه، ولأنه قد ثبت من الناحية الطبية أن المادة التي تستخدم في صناعة الرموش الصناعية، وكذا المادة المثبتة لها تسبب حساسية مزمنة بالجلد والعين وتؤثر على الرموش الطبيعية ونموها الطبيعي .
3- في الأسنان وتجميلها:
وشر الأسنان وهو ترقيقها وتحديدها وتفليجها لا يجوز، وفي الحديث : لعن المتفلجات للحسن المغيرات لخلق الله . (1) ، وعن أبي ريحانة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الوشر والوشم . (2)
4- استخدام المساحيق والأصباغ:
يجوز استخدام المساحيق وأدوات التجميل إذا لم يكن فيها مضرة وحصل هذا بقصد واعتدال ، والأطباء ينصحون بعدم استخدام أدوات التجميل عموماً والمكياجات إلا في حالات قليلة وعدم المواظبة على استخدامها لأن فيها مواد كيميائية تؤثر على نضارة البشرة وحيويتها في المستقبل ، وغالباً ما تؤدي إلى ظهور التجاعيد مبكراً في البشرة .
5- الوشم:
__________
(1) - أخرجه البخاري ح ( 5939 ) ، ومسلم ح ( 2125 )
(2) - أخرجه النسائي ( 8/149 )(2/66)
الوشم: هو غرز إبرة أو نحوها في الوجه أو الذراع، ثم يحشى الموضع بمادة كالكحل أو غيره ليخضر الموضع أو يزرق . وهو محرم ، وفي الحديث لعن الواشمات والمستوشمات ، ومما استحدث من أساليب الوشم: أن يحدد شكل العينين والشفتين ثم ينقش عليها بالإبر ويحشى الموضع باللون المطلوب، فتصبح العينان كحيلتين على الدوام، وتصبح الشفتان دائمتي الحمرة، وهذا الفعل ينطبق عليه حكم الوشم .
6- طلاء الأظافر:
طلاء الأظافر يسمى لدى العامة ( موناكير )، وهو مادة سائلة ملونة لزجة تصبغ بها المرأة أظفارها، فتجف بعد فترة مكونة طبقة عازلة تمنع وصول الماء في الوضوء ، وهذا الطلاء إن لم يكن فيه مضرة فيراعى إزالته عند كل وضوء وغسل ليصل الماء إلى البشرة . وتركه أولى ، وقد أشار بعض الأطباء إلى أن الطلاء المستمر يضر بالأظافر، وقد يؤدي إلى تشققات بها .
التزين عن طريق عمليات التجميل:
التجميل المستعمل في الطب ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: الجراحة التي يحتاج إليها الإنسان لوجود عيوب خَلْقية ولد بها الإنسان كالتصاق أصابع اليدين أو الرجلين، أو عيوب ناشئة عن الآفات المرضية التي تصيب الجسم أو العيوب الطارئة على الجسم كالتشوهات الناشئة عن الحروق والحوادث، فهذه العيوب يجوز إجراء العمليات الجراحية لإزالتها .(2/67)
القسم الثاني: الجراحة التجميلية التي يقصد بها تحسين المظهر وتحقيق صورة أجمل وأحسن، ومن ذلك ما يسمى بعمليات تجديد الشباب، وعمليات تجميل الأنف بتصغيره أو تغيير شكله عموماً، وتجميل الثديين بتصغيرهما إن كانا كبيرين أو تكبيرهما إن كانا صغيرين، وتصغير الشفة الغليظة وتكبير الشفة الرقيقة، ونحو ذلك، وشد تجاعيد الوجه ليظهر صاحبه وكأنه أصغر بكثير من سنه الحقيقي، وهذا النوع من الجراحة مشتمل على تغيير خلق الله، والعبث به حسب الهوى والرغبة، وهو داخل في عموم قوله - سبحانه وتعالى- حكاية عن إبليس: { وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ } (1) ، وفي حديث ابن مسعود السابق : " والمتفلجات للحسن المغيرات لخلق الله" (2)
التزين والتجمل بالمطعوم:
المواد المطعومة مثل: الحبة السوداء، وزيت الزيتون وعسل النحل، وغيرها هي غذاء للبدن وتستخدم للعلاج وقد تستخدم بغرض التجميل والتحسين المحض مثل وضع القناعات للوجه بغرض تغذية الوجه وتخفيف تجاعيده وخشونته، وإعادة رونقه ونضارته ونعومته، فإذا كانت هذه المواد داخلة في مواد أخرى مصنعة مثل المراهم والمحاليل فلا إشكال في ذلك، وأما إذا كانت خالصة فإن احتيج إليها مما لا يعد امتهاناً فلا بأس بذلك ، والله أعلم .
- - - - - -
ضوابط في لباس المرأة
__________
(1) - سورة النساء الآية: 119
(2) - أخرجه البخاري ح (5939) ومسلم ح (2125 )(2/68)
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين وبعد: اللباس من النعم الكبرى التي امتن الله بها على عباده، يحصل به ستر العورة، وحفظ البدن من تقلبات الجو وعاديات الزمن، وهو زينة وجمال ، قال تعالى : { يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً } (1) ، وقال تعالى : { وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ } (2) ، والأصل في الألبسة الحل والإباحة فلا يحرم منها إلا ما دل الدليل على تحريمه، وقد جاءت الأدلة من الكتاب والسنة موضحة الشروط والضوابط التي يجب على المرأة المسلمة مراعاتها في لباسها وزينتها حتى يكون لباسها وفق شرع الله، ومن ذلك:
1- أن يكون اللباس شاملاً مستوعباً ما يجب ستره من العورة والزينة التي نهيت المرأة عن إبدائها، قال تعالى: { وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا } (3) ، والنهي عن إبداء الزينة نهي عن إبداء مواضعها، ولولا اللباس لظهرت مواضع الزينة من الصدر والذراع والقدم ونحوها .
__________
(1) - سورة الأعراف الآية: 26
(2) - سورة النحل الآية: 81
(3) - سورة النور الآية: 31(2/69)
2- أن يكون اللباس واسعاً ساتراً، ومعنى واسعاً: أي لا يكون ضيقاً يصف مفاتنها، ومعنى ساتراً: أي لا يشف ما تحته، واللباس إذا كان ضيقاً أو شفافاً يجسد بدن المرأة، ويُظهر مفاتنها ولون بشرتها فإنه يشمله ما جاء في وصف الكاسيات العاريات، ففي الحديث: " صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ، وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مُمِيلَاتٌ مَائِلَاتٌ رُءُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ، وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا" (1)
3- أن تبتعد المرأة المسلمة في لباسها وزينتها عن التشبه بلباس الكافرات والفاسقات، والمقصود أن لا تتشبه بما عُلم وتحقق أنه من اختصاصهن، ففي الحديث: " مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ " (2) ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: " وهذا الحديث أقل أحواله أن يقتضي تحريم التشبه بهم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم، كما في قوله تعالى: { وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } (3) " (4)
4- أن تبتعد المرأة المسلمة عن التشبه بالرجل فيما يُعرف اختصاصه به، ففي حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: " لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْمُتَشَبِّهِينَ مِنْ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ وَالْمُتَشَبِّهَاتِ مِنْ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ" (5)
__________
(1) - أخرجه مسلم ح ( 2128 )
(2) - أخرجه الترمذي ح ( 2619 )
(3) - سورة المائدة الآية: 51
(4) - كتاب اقتضاء الصراط ص ( 83 )
(5) - أخرجه البخاري ح ( 5885 )(2/70)
5- أن لا يكون لباس شهرة، ولباس الشهرة: هو الذي إذا لبسه الإنسان افتضح به واشتهر بين الناس، لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " مَنْ لَبِسَ ثَوْبَ شُهْرَةٍ أَلْبَسَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَوْبَ مَذَلَّةٍ " (1) ، فينبغي أن يكون اللباس ملائماً للعرف السائد في البلد من حيث لونه وشكله، لئلا يشار إليه بالأصابع، وقد ذكر بعض العلماء أنه يكره للإنسان مخالفة زي بلده ، وأن ذلك داخل في لباس الشهرة .
6- البعد في اللباس عن الإسراف والمخيلة، فيستحب التواضع وترك الترفع في اللباس، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " كُلُوا وَتَصَدَّقُوا وَالْبَسُوا فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلَا مَخِيلَةٍ" (2)
__________
(1) - أخرجه أبو داود ح ( 3511 )
(2) - أخرجه النسائي ح ( 2512 )(2/71)
7- أن تبتعد المرأة عن اللباس الذي فيه تصاوير، سواء تصاوير ما فيه روح ونفس كالإنسان والحيوان والطير، أو صور الصلبان فيجب على المرأة المسلمة أن تبادر إلى التخلص مما يوجب عذاب الله، فعن أنس - رضي الله عنه - قال: كَانَ قِرَامٌ لِعَائِشَةَ سَتَرَتْ بِهِ جَانِبَ بَيْتِهَا فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَمِيطِي عَنَّا قِرَامَكِ هَذَا فَإِنَّهُ لَا تَزَالُ تَصَاوِيرُهُ تَعْرِضُ فِي صَلَاتِي " (1) ، وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كَانَ لَنَا سِتْرٌ فِيهِ تِمْثَالُ طَائِرٍ وَكَانَ الدَّاخِلُ إِذَا دَخَلَ اسْتَقْبَلَهُ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَوِّلِي هَذَا فَإِنِّي كُلَّمَا دَخَلْتُ فَرَأَيْتُهُ ذَكَرْتُ الدُّنْيَا " (2) ، وعنها - رضي الله عنها- قالت: " قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ سَفَرٍ وَقَدْ سَتَّرْتُ عَلَى بَابِي دُرْنُوكًا فِيهِ الْخَيْلُ ذَوَاتُ الْأَجْنِحَةِ فَأَمَرَنِي فَنَزَعْتُهُ " (3) ، وعنها: " لَمْ يَكُنْ يَتْرُكُ فِي بَيْتِهِ شَيْئًا فِيهِ تَصَالِيبُ إِلَّا نَقَضَهُ " (4)
8- ألا يكون اللباس زينة في نفسه، بحيث يلفت الأنظار ويثير الغرائز، مثل الألبسة ذوات الألوان والأشكال والزخارف المثيرة، والمقصود أن لا تجعل ما يسترها عن الرجال الأجانب فيه زينة في نفسه، ولا مانع من لباس الزينة إذا سترته بالعباءة لحضور مناسبة نسائية مثلاً .
__________
(1) - أخرجه البخاري ح ( 374 )
(2) - أخرجه البخاري ( 2105 ) ، مسلم ح ( 2107 )
(3) - أخرجه مسلم ح ( 2107 )
(4) - أخرجه البخاري ح ( 5952 )(2/72)
9- أن يخلو لباسها من الطيب عند الخروج، لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " أَيُّمَا امْرَأَةٍ اسْتَعْطَرَتْ فَمَرَّتْ عَلَى قَوْمٍ لِيَجِدُوا مِنْ رِيحِهَا فَهِيَ زَانِيَةٌ . " (1) ، وأي شيء أعظم شناعة وقبحاً وذنباً من أن توصف المرأة بالزنا، وقال - صلى الله عليه وسلم - : " أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَصَابَتْ بَخُورًا فَلَا تَشْهَدْ مَعَنَا الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ " (2)
هذه جملة من الضوابط في لباس المرأة ، عليها أن تراعيها ليكون لباسها وفق ما شرعه الله تعالى، نسأل الله التوفيق لما يحبه ويرضاه .
- - - - - -
أكل الآدمي عند مخافة الهلاك من الجوع
ما صحة الحديث الذي يقول بأنه إذا كان بعض الناس في صحراء قاحلة ولم يجدوا ما يؤكل وإذا خافوا على أنفسهم الهلاك فليأكلوا أضعفهم
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
هذا الكلام لا يصح ، وقد أجمع العلماء على أن المضطر إذا لم يجد إلا آدمياً معصوم الدم فإنه لا يجوز له قتله، وهذا لا خلاف فيه ، قال ابن قدامة: " المضطر إذا لم يجد إلا آدمياً محقون الدم، لم يُبح له قتله إجماعاً، ولا إتلاف عضو منه، مسلماً كان أو كافراً؛ لأنه مثله، فلا يجوز أن يقي نفسه بإتلافه ، وهذا لا خلاف فيه " (3)
- - - - - -
هل الكوارث الطبيعية تكون بسبب ذنوب معينة
أرجو أن تذكروا لي حديث عائشة (رضي الله عنها) بخصوص الكوارث الطبيعية. وأرجو التحديد هل ذكر أن الزلازل تكون بسبب ذنوب بعينها والفيضانات بسبب ذنوب أخرى معينة، ونحو ذلك . جزاكم الله خيراً.
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
__________
(1) - أخرجه النسائي ح (5036)
(2) - أخرجه مسلم ح (444)
(3) - ينظر: الشرح الكبير ( 27/251 )، والمغني ( 11/79 )(2/73)
الحديث الذي يشير إليه السائل - وفقه الله - لعله حديث عائشة - رضي الله عنها - قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : يَكُونُ فِي آخِرِ الْأُمَّةِ خَسْفٌ وَمَسْخٌ وَقَذْفٌ قَالَتْ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ ؟ قَالَ نَعَمْ إِذَا ظَهَرَ الْخُبْثُ، أخرجه الترمذي ح ( 2111 )، وقال: حديث غريب، أو يكون المقصود حديثها الآخر قالت: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا كَانَ يَوْمُ الرِّيحِ وَالْغَيْمِ عُرِفَ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ وَأَقْبَلَ وَأَدْبَرَ فَإِذَا مَطَرَتْ سُرَّ بِهِ وَذَهَبَ عَنْهُ ذَلِكَ قَالَتْ عَائِشَةُ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ إِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ عَذَابًا سُلِّطَ عَلَى أُمَّتِي وَيَقُولُ إِذَا رَأَى الْمَطَرَ رَحْمَةٌ " (1) والزلازل وغيرها من الآيات: كالبراكين والخسوف والكسوف والكوارث الطبيعية لها حِكَم شرعية وهي تخويف العباد واستعتابهم، قال الله جل ثناؤه: { وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً } (2) ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَا يَكْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ وَلَكِنَّهُمَا مِنْ آيَاتِ اللَّهِ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِمَا عِبَادَهُ فَإِذَا رَأَيْتُمْ كُسُوفًا فَاذْكُرُوا اللَّهَ حَتَّى يَنْجَلِيَا " (3) ، ولا ينافي هذا أن يكون للزلازل أسباب طبيعية يعرفها العلماء المختصون بعلوم الأرض، قال شيخ الإسلام ابن تيمية لما سئل عن الزلازل: " الزلازل من الآيات التي يخوف الله بها عباده كما يخوفهم بالكسوف وغيره من الآيات والحوادث، لها أسباب وحكم، فكونها آية يخوف الله بها عباده هي من حكمة ذلك،
__________
(1) - أخرجه البخاري ح ( 4829 ) ، ومسلم ح ( 899 ) ، واللفظ له
(2) - سورة الإسراء الآية: 59
(3) - أخرجه البخاري ح ( 1044 ) ، ومسلم ح ( 901 ) من حديث عائشة رضي الله عنها(2/74)
وأما أسبابه فمن أسبابه انضغاط البخار في جوف الأرض كما ينضغط الريح والماء في المكان الضيق فإذا انضغط طلب مخرجا فيشق ويزلزل ما قرب منه من الأرض . " (1) ، وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه ومسلم ما يدل على أن تكاثر الزلازل مرتبط بتفشي المعاصي، وظهور المنكرات، والفتن وكثرة القتل، وقبض العلم، ففي صحيح البخاري من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقْبَضَ الْعِلْمُ وَتَكْثُرَ الزَّلَازِلُ وَيَتَقَارَبَ الزَّمَانُ وَتَظْهَرَ الْفِتَنُ وَيَكْثُرَ الْهَرْجُ وَهُوَ الْقَتْلُ الْقَتْلُ حَتَّى يَكْثُرَ فِيكُمْ الْمَالُ فَيَفِيضَ .
__________
(1) - مجموع الفتاوى (24/264 )(2/75)
" (1) ، ولا ريب أن للذنوب والمعاصي آثار سيئة على الأمم والشعوب، فهي سبب في زوال النعم، ومحو البركات، وزوال الأمن، وكانت سبباً في هلال الأمم والشعوب السابقة، قال عز وجل: { ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَونَ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ } (2) ، وقال تعالي: { وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } (3) ، وقال تعالى: { وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ } (4) ، وقال تعالى : { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } (5) ، وقال تعالى: { ولَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً والَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وأَخَذَتِ الَذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ * كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا
__________
(1) - أخرجه البخاري ح ( 1036 )، ومسلم ح ( 157 )
(2) - سورة الأنفال الآيتين: 53 - 54
(3) - سورة النحل الآية: 112
(4) - سورة المائدة الآية: 66
(5) - سورة البقرة الآية: 61(2/76)
فِيهَا أَلا بُعْداً لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ } (1) ، والآيات في هذا المعنى كثيرة ، وقد دلت هذه النصوص على شؤم المعاصي والذنوب وأنها سبب في حلول المصائب والفتن والعقوبات المتنوعة ، قال الله عز وجل: { ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } (2) ، وقال عز وجل: { وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ } (3) ، نسأل الله تبارك وتعالى أن يدفع عنا الزنا والربا والزلازل والمحن وسواء الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يفتح علينا من بركات السماء والأرض إنه سميع مجيب.
- - - - - -
التهنئة بالمولود
هل هناك ذكر معين يقال لمن رزق بمولد ويهنى به و تبث عن النبي عليه الصلاة والسلام أو عن السلف الصالح؟
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
__________
(1) - سورة هود الآيتين: 94 - 95
(2) - سورة الروم الآية: 41
(3) - سورة الشورى الآية: 30(2/77)
أخبر الله سبحانه وتعالى عن امرأة عمران أنها حين ولدت مريم عليها السلام قالت: { وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } (1) ، قال القرطبي: " حَفِظَ اللَّه مَرْيَم وَابْنهَا مِنْ الشيطان بِبَرَكَةِ دَعْوَة أُمّهَا حَيْثُ قَالَتْ: { إِنِّي أُعِيذُهَا بِك وَذُرِّيَّتَهَا مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيم } وَلَمْ يَكُنْ لِمَرْيَم ذُرِّيَّة غَيْر عِيسَى . " ، ووردت التهنئة بالمولود عن بعض السلف فقد ورد عن الحسن البصري أنه علم إنساناً التهنئة فقال: قل: " بارك الله لك في الموهوب لك، وشكرت الواهب، وبلغ أشده ، ورزقت بره " (2) ، وكان أيوب إذا هنأ رجلاً بمولود قال: " جعله الله مباركاً عليك، وعلى أمة محمد" (3)
- - - - - -
الإجتماع للذكر
قرأت أجوبتكم في الموقع بخصوص الذكر الجماعي وحاولت إضافة لذلك الاطلاع على آراء العلماء قديما وحديثا.
وبينما نرى قوة الأحاديث المؤيدة للذكر الجماعي (مثل الحديث عن مجالس الذكر في رياض الصالحين)
أرجو منكم إيراد شرح الإمام ابن حجر والإمام النووي على صحيحي البخاري ومسلم.
وكثيرا ما يقال إنه ليس هناك دليل على الذكر الجماعي بصوت واحد فما الحكم إذا لم يكن بصوت واحد بحيث تجمع فئات مختلفة من الناس للذكر ما بين رجل يحمد وآخر يكبر وثالث يهلل فيكون هناك اختلاف في أذكارهم ويفعلون ذلك دون التشويش على بعضهم ولا تشبه مجالسهم مجالس غيرهم من صوفية ومن شابههم.
أي أن الذكر لا يكون بصورة جماعية بصوت واحد لكنه مجلس مقصوده التجمع معا لذكر الله بكلمات من صلب الشريعة وموافقة للسنة.
__________
(1) - سورة آل عمران الآية: 36
(2) - أخرجه ابن المنذر في الأوسط كما في تحفة المولود ص ( 19 ) ، وابن عساكر في تاريخ دمشق ( 59/276 )
(3) - ينظر: وصول الأماني بأصول التهاني ، للسيوطي ص ( 55 )(2/78)
وأخيرا يقال إن الصحابة لم يفعلوا الذكر الجماعي بينما ثبت من الحديث وجود مجالس الذكر، أفلا يكون هذا كافيا لاثبات المسألة ويكون حديث معاوية الذي رأى فيه الناس مجتمعين في مجالس الذكر ( مذكور في رياض الصالحين في فضائل الذكر ) أيضا مثالا واضحا على مشروعية مجالس الذكر الجماعي؟
جزاكم الله خيرا
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
الاجتماع للقراءة والذكر مستحب سواء في مسجد أو بيت أو مدرسة أو غيرها من المواضع إذا لم يقترن بذلك بدعة مثل كونه بصوت واحد أو يصاحب الذكر حركات مبتدعة كالتمايل والدوران ونحو ذلك ، أو إفراده بزمان أو مكان معين، واتخاذ ذلك سنة راتبة ، وقد وردت أحاديث تدل على فضل الاجتماع لقراءة القرآن وذكر الله ، ومن ذلك ما يأتي:
- حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - وفيه: " وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ وَغَشِيَتْهُمْ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ وَذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ " (1)
- حديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: " أنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ عَلَى حَلْقَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ مَا أَجْلَسَكُمْ قَالُوا جَلَسْنَا نَذْكُرُ اللَّهَ وَنَحْمَدُهُ عَلَى مَا هَدَانَا لِلْإِسْلَامِ وَمَنَّ بِهِ عَلَيْنَا قَالَ آللَّهِ مَا أَجْلَسَكُمْ إِلَّا ذَاكَ قَالُوا وَاللَّهِ مَا أَجْلَسَنَا إِلَّا ذَاكَ قَالَ أَمَا إِنِّي لَمْ أَسْتَحْلِفْكُمْ تُهْمَةً لَكُمْ وَلَكِنَّهُ أَتَانِي جِبْرِيلُ فَأَخْبَرَنِي أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُبَاهِي بِكُمْ الْمَلَائِكَةَ" (2)
__________
(1) - أخرجه مسلم ح ( 2699 )
(2) - أخرجه مسلم ح ( 2701 )(2/79)
- حديث أَبِي هُرَيْرَةَ: " إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً يَطُوفُونَ فِي الطُّرُقِ يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَنَادَوْا هَلُمُّوا إِلَى حَاجَتِكُمْ قَالَ فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا قَالَ فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ مِنْهُمْ مَا يَقُولُ عِبَادِي ؟ قَالُوا: يَقُولُونَ: يُسَبِّحُونَكَ وَيُكَبِّرُونَكَ وَيَحْمَدُونَكَ وَيُمَجِّدُونَكَ قَالَ: فَيَقُولُ هَلْ رَأَوْنِي ؟ قَالَ: فَيَقُولُونَ: لَا وَاللَّهِ مَا رَأَوْكَ، قَالَ: فَيَقُولُ: وَكَيْفَ لَوْ رَأَوْنِي ؟ قَالَ يَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْكَ كَانُوا أَشَدَّ لَكَ عِبَادَةً وَأَشَدَّ لَكَ تَمْجِيدًا وَتَحْمِيدًا وَأَكْثَرَ لَكَ تَسْبِيحًا قَالَ يَقُولُ: فَمَا يَسْأَلُونِي ؟ قَالَ: يَسْأَلُونَكَ الْجَنَّةَ، قَالَ يَقُولُ: وَهَلْ رَأَوْهَا ؟ قَالَ يَقُولُونَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا قَالَ يَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا ؟! قَالَ يَقُولُونَ: لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ عَلَيْهَا حِرْصًا وَأَشَدَّ لَهَا طَلَبًا وَأَعْظَمَ فِيهَا رَغْبَةً قَالَ: فَمِمَّ يَتَعَوَّذُونَ ؟ قَالَ يَقُولُونَ مِنْ النَّارِ قَالَ يَقُولُ: وَهَلْ رَأَوْهَا ؟ قَالَ يَقُولُونَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا قَالَ يَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا ؟ قَالَ يَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ مِنْهَا فِرَارًا وَأَشَدَّ لَهَا مَخَافَةً قَالَ فَيَقُولُ: فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ قَالَ يَقُولُ مَلَكٌ مِنْ الْمَلَائِكَةِ فِيهِمْ فُلَانٌ لَيْسَ مِنْهُمْ إِنَّمَا جَاءَ لِحَاجَةٍ قَالَ هُمْ الْجُلَسَاءُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ " (1) ، قال شيخ الإسلام - رحمه
__________
(1) - أخرجه البخاري ح ( 6408 ) ، ومسلم ح ( 2689 )(2/80)
الله - : " الاجتماع لذكر الله واستمتاع كتابه والدعاء عمل صالح وهو من أفضل القربات والعبادات في الأوقات .... لكن ينبغي أن يكون هذا أحيانا في بعض الأوقات والأمكنة فلا يجعل سنة راتبة يحافظ عليها " (1) ، وقال الشاطبي: " وإذا اجتمع القوم على التذكر لنعم الله، أو التذاكر في العلم - إن كانوا علماء - أو كان فيهم عالم فجلس إليه متعلمون، أو اجتمعوا يذكر بعضهم بعضاً بالعمل بطاعة الله والبعد عن معصيته ... وما أشبه ذلك مما كان يعمل به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أصحابه، وعمل به الصحابة والتابعون، فهذه المجالس كلها مجالس ذكر ، وهي التي جاء فيها من الأجر ما جاء " (2) ، ويجوز الجهر ورفع الصوت بالذكر إذا لم يترتب عليه تشويش وأذى لمن حوله ، ففي الحديث القدسي يقول الله عز وجل : " أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ .... " الحديث (3) ، وفي حديث أَبِي هُرَيْرَةَ السابق: " إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً يَطُوفُونَ فِي الطُّرُقِ يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَنَادَوْا هَلُمُّوا إِلَى حَاجَتِكُمْ قَالَ فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ ...
__________
(1) - ينظر: مجموع الفتاوى ( 22/520 )
(2) - ينظر: الاعتصام ( 1/341 )
(3) - أخرجه البخاري ح ( 7405 ) ، ومسلم ح ( 2675 ) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - .(2/81)
" الحديث، وورد رفع الصوت بالذكر عقب الصلوات المكتوبة ففي حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: أَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ حِينَ يَنْصَرِفُ النَّاسُ مِنْ الْمَكْتُوبَةِ كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ كُنْتُ أَعْلَمُ إِذَا انْصَرَفُوا بِذَلِكَ إِذَا سَمِعْتُهُ " (1) ، هذا والله أعلم .
- - - - - -
من هم المبذرون؟
من هم المبذرين الذين هم إخوان الشياطين خاصة أننا في زمان عجيب نشتري ما نشاء ونأكل ما نشاء.
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
التبذير هو: إفساد المال وتضييعه، وإنفاقه في غير الوجوه المشروعة، وعدم إحسان التصرف فيه، وبذله في المعاصي والشهوات المحرمة، والإسراف في المباحات.
__________
(1) - أخرجه البخاري ح ( 841 ) ، ومسلم ح ( 583 )(2/82)
وقد ذم الله سبحانه وتعالى التبذير، فقال عز وجل: { وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ } (1) ، ونهى سبحانه وتعالى عن الإسراف، فقال: { وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } (2) ، وفي الحديث: " كُلُوا وَاشْرَبُوا وَالْبَسُوا وَتَصَدَّقُوا فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلَا مَخِيلَةٍ " (3) ، ومدح الله سبحانه التوسط والإعتدال في الإنفاق قال تعالى: { وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } (4) ، والمسلم مأمور بالاعتدال والاقتصاد في مأكله وملبسه ومركبه ومسكنه بحيث لا يخرج إلى حد الإسراف والتبذير والتوسع في المباحات، حتى لا يكون من أهل الترف الذين وصفهم الله بقوله: { أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ } (5) ، وقال تعالى عن أهل النار: { إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ } (6) . هذا والله أعلم
- - - - - -
لعن المخنثين
السلام عليكم إني أحبكم في الله واسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجمعنا في دار كرامته سؤال قد حيرني كثيراً وهو عن أبي هريرة قال : لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مخنثي الرجال الذين يتشبهون بالنساء والمترجلات من النساء المتشبهات بالرجال والمتبتلين من الرجال الذين يقولون لا نتزوج والمتبتلات من النساء الآتي يقلن ذلك
لماذا لعن رسول الله هؤلاء الأصناف مع إن الذي أشد من ذلك الزنا والقتل؟؟
الجواب:
__________
(1) - سورة الإسراء الآية: 26
(2) - سورة الأعراف الآية: 31
(3) - أخرجه البخاري معلقاً ( 10/253 البخاري مع الفتح )
(4) - سورة الفرقان الآية: 67
(5) - سورة الأحقاف الآية: 20
(6) - سورة الواقعة الآية: 45(2/83)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد :
الذنوب تنقسم إلى صغائر وكبائر كما قال سبحانه : { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً } (1) ، وكقوله تعالى: { وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ } (2) ، قوله تعالى: { الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ } (3) ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : " الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْجُمْعَةُ إِلَى الْجُمْعَةِ وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ " (4) ، فقد دلت هذه النصوص على انقسام الذنوب إلى صغائر وكبائر ، وقد تنوع وصف الكبائر في نصوص الكتاب والسنة فتارة يلعن مرتكبها وتارة يتوعد مرتكبها بالنار أو الغضب ، أو منع دخول الجنة أو شم رائحتها أو يكون على مرتكبها حد في الدنيا أو عقوبة في الآخرة.
فإذا ورد اللعن في حق مرتكب بعض الكبائر وبعضها لم يوصف مرتكبها باللعن وهي أشد ، فلا نقول : لماذا لم يلعن مرتكبها ؟، لأن تلك الذنوب قد جاء في حق مرتكبها ما هو مثل اللعن أو أشد .
والزنا والقتل قد رتب عليهما أشد العقوبات في الدنيا والآخرة ، ففي الدنيا قتل الزاني المحصن وجلد الزاني غير المحصن وتغريبه، وفي الآخرة : وعد بدخول النار .
__________
(1) - سورة النساء الآية: 31
(2) - سورة الشورى الآية: 37
(3) - سورة النجم الآية: 34
(4) - أخرجه مسلم ح ( 233 ) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -(2/84)
والقاتل عوقب في الدنيا بالقتل وفي الآخرة توعد بالنار واللعن والغضب، قال تعالى: { وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً } (1) ، وقال سبحانه: { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً } (2)
والحديث المذكور في السؤال أخرجه أحمد ح ( 7878 ) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: " لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مُخَنَّثِي الرِّجَالِ الَّذِينَ يَتَشَبَّهُونَ بِالنِّسَاءِ وَالْمُتَرَجِّلَاتِ مِنْ النِّسَاءِ الْمُتَشَبِّهِينَ بِالرِّجَالِ وَالْمُتَبَتِّلِينَ مِنْ الرِّجَالِ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا نَتَزَوَّجُ وَالْمُتَبَتِّلَاتِ مِنْ النِّسَاءِ اللَّائِي يَقُلْنَ ذَلِكَ وَرَاكِبَ الْفَلَاةِ وَحْدَهُ " فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى اسْتَبَانَ ذَلِكَ فِي وُجُوهِهِمْ وَقَالَ الْبَائِتُ وَحْدَهُ .
وما جاء في هذا الحديث من لعن المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال صحيح فقد جاء من طرق عديدة من حديث أبي هريرة وله شاهد من حديث ابن عباس أخرجه البخاري وغيره، والحكمة من لعن المتشبهين والمخنثين لما في فعلهم من تغير خلق الله، فالرجل يظهر نفسه بصورة المرأة ، والمرأة تظهر نفسه بصورة الرجل ، وقد جاء في لعن الواصلات تعليل اللعن بقوله في الحديث : " الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ " (3)
__________
(1) - سورة الفرقان الآية: 68
(2) - سورة النساء الآية: 93
(3) - أخرجه البخاري ح ( 5931 ) ومسلم ح ( 2125 ) من حديث عبد الله بن مسعود(2/85)
وأما لعن المتبتلين وما ذكر بعده في الحديث فهذا ضعيف ، فقد رواه أحمد من طريق : طيب بن محمد عن عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة ، وطيب بن محمد مجهول ، وأورده البخاري في التاريخ الكبير ( 4/ 362 )، وقال: لا يصح .
وقد جاءت الأحاديث بالنهي عن التبتل وعن الوحدة في السفر وأن يبت الرجل وحده، هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل .
- - - - - -
من هم الذين تعجل لهم العقوبة في الدنيا ؟
من هم الثلاثة الذين تعجل لهم العقوبة في الدنيا ؟
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
أخرجه الترمذي ح ( 2435 ) بسنده عن أَبِي بَكْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ وقَالَ الترمذي: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ . هذا والله أعلم
- - - - - -
آداب زيارة القبر ، والصلاة على الميت في قبره
ما الواجب عند زيارة الميت في المقبرة ؟، وهل يجوز الصلاة عليه عند كل زيارة ؟، وهل الميت يشعر بالزيارة ممن زاره ؟ أو يحس بالبكاء ممن حوله ؟
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:(2/86)
يستحب زيارة القبور للرجال خاصة ويكون القصد منها الاعتبار والاتعاظ والدعاء للأموات والاستغفار لهم، فهذه هي الزيارة الشرعية، وإن كان القصد من الزيارة التبرك بالقبور والأضرحة، وطلب قضاء الحاجات، وتفريج الكربات من الموتى، فهذه زيارة شركية بدعية، وقد حث النبي - صلى الله عليه وسلم - على زيارة القبور من أجل الاتعاظ ، ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " زُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْمَوْتَ" (1) ، وعَلم النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته ماذا يقولون عند زيارة القبور ففي صحيح مسلم من حديث بُرَيْدَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُعَلِّمُهُمْ إِذَا خَرَجُوا إِلَى الْمَقَابِرِ أن يقول قَائِلُهُمْ: السَّلَامُ عَلَى أَهْلِ الدِّيَارِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَلَاحِقُونَ أَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمْ الْعَافِيَةَ " (2) ، وفيه أيضاً من حديث عَائِشَةَ - رضي الله عنها - أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كُلَّمَا كَانَ لَيْلَتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَخْرُجُ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ إِلَى الْبَقِيعِ فَيَقُولُ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَأَتَاكُمْ مَا تُوعَدُونَ غَدًا مُؤَجَّلُونَ وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأَهْلِ بَقِيعِ الْغَرْقَدِ" (3) ، ولا يُصلى على الميت عند كل زيارة، لكن إذا كان الزائر لم يصل على الميت عند الصلاة عليه، فله أن يصلي عليه إذا لم يمض مدة طويلة على دفنه، وقد حددها بعض العلماء بشهر فما دونه، إذ هو أكثر ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه صلى على قبر
__________
(1) - أخرجه مسلم ح ( 976 )
(2) - أخرجه مسلم ح ( 975 )
(3) - أخرجه مسلم ح ( 974 )(2/87)
بعد الدفن، فقد ورد أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى على أم سعد بعد موتها بشهر (1) ، وصلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - على القبر بعد الدفن ثابت في الصحيحين، ففي حديث ابن عباس - رضي الله عنهما- قَالَ: صَلَّى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى رَجُلٍ بَعْدَ مَا دُفِنَ بِلَيْلَةٍ قَامَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ وَكَانَ سَأَلَ عَنْهُ فَقَالَ مَنْ هَذَا فَقَالُوا فُلَانٌ دُفِنَ الْبَارِحَةَ فَصَلَّوْا عَلَيْهِ" (2) ، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أَنَّ رَجُلًا أَسْوَدَ أَوْ امْرَأَةً سَوْدَاءَ كَانَ يَقُمُّ الْمَسْجِدَ فَمَاتَ فَسَأَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْهُ فَقَالُوا مَاتَ قَالَ أَفَلَا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي بِهِ دُلُّونِي عَلَى قَبْرِهِ أَوْ قَالَ قَبْرِهَا فَأَتَى قَبْرَهَا فَصَلَّى عَلَيْهَا (3) ، أما هل يشعر الميت بمن يزوره فإن الله سبحانه وتعالى نفى في كتابه الكريم أن الموتى يسمعون، فقال سبحانه وتعالى : { وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ } (4) ، وقال عز وجل: { إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى } (5) ، وهذا هو الأصل أن الميت لا يسمع في قبره ، ولكن توجد حالات يسمع فيها الميت، وقد ذهب طوائف كثيرة من السلف إلى أن الميت لا يسمع الكلام إلا إذا أعاد الله روحه إلى جسده، مثل ما حصل في قصة أصحاب القليب حين خاطبهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومثل ما ورد أن الميت إذا أُدخل في قبره سمع قرع نعال مشيعيه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: " فهذه النصوص وأمثالها تبين أن الميت يسمع في الجملة كلام الحي ولا يجب أن يكون السمع له دائما بل قد يسمع في حال دون حال ....
__________
(1) - أخرجه البيهقي في السنن ( 4/48 ) ، وقال: مرسل صحيح
(2) - أخرجه البخاري ح ( 1340 ) ، ومسلم ح ( 954 )
(3) - أخرجه البخاري ح ( 458 ) ، ومسلم ح ( 956 )
(4) - سورة فاطر الآية: 22
(5) - سورة النمل الآية: 30(2/88)
" (1) ، وورد في حديث لكنه لا يثبت أن الميت يعرف من يزوره وهو حديث: " ما من عبد يمر على قبر رجل مسلم يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا عرفه ورد عليه السلام " (2) ، قال ابن رجب: " خرجه ابن عبد البر وقال عبد الحق الإشبيلي: إسناده صحيح يشير إلى أن رواته كلهم ثقات وهو كذلك إلا أنه غريب بل منكر " (3)
- - - - - -
هل يكفي أن نقرأ سورة الإخلاص ثلاث مرات في اليوم بدلا من قراءة أجزاء كثيرة من القرآن؟
__________
(1) - مجموع الفتاوى ( 24/364 )
(2) - أخرجه ابن عبد البر في الاستذكار ( 1/185 ) ، وذكره ابن كثير في تفسيره ( 6/325 ) ، وعزاه لابن عبد البر .
(3) - أهوال القبور ص ( 140 )(2/89)
الحديث التالي في صحيح البخاري عن فضل قراءة سورة الإخلاص وأنها تعدل ثلث القرآن: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَجُلًا سَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ يُرَدِّدُهَا فَلَمَّا أَصْبَحَ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ وَكَأَنَّ الرَّجُلَ يَتَقَالُّهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهَا لَتَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ وَزَادَ أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَخْبَرَنِي أَخِي قَتَادَةُ بْنُ النُّعْمَانِ أَنَّ رَجُلًا قَامَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرَأُ مِنْ السَّحَرِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ لَا يَزِيدُ عَلَيْهَا فَلَمَّا أَصْبَحْنَا أَتَى الرَّجُلُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَحْوَهُ
فهل يكفي أن نقرأ سورة الإخلاص ثلاث مرات في اليوم بدلا من قراءة أجزاء كثيرة من القرآن؟ وهل يجب التسمية عند كل قراءة للسورة إذا قرأته ثلاثة مرات متتابعةً.؟
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:(2/90)
في هذا الحديث دليل على فضل: { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } وبيان أنها تعدل ثلث القرآن الكريم، قال بعض أهل العلم: "هي ثلث القرآن باعتبار معاني القرآن الكلية، لأنه أحكام، وأخبار، وتوحيد، وقد اشتملت هي على القسم الثالث، وهو أشرف المعارف وأفضلها، فكانت ثلثاً بهذا الاعتبار ويستأنس لهذا بقوله - صلى الله عليه وسلم - " إِنَّ اللهَ جَزَّأَ القُرْآنَ ثَلاَثَةَ أَجْزَاءٍ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } جُزْءاً مِنْ أَجْزَاءِ القُرْآنِ " " (1)
__________
(1) - أخرجه مسلم ح 811 )(2/91)
وقال أبو العباس بن سريج لما سئل عن معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن فقال: " معناه أنزل القرآن على ثلاثة أقسام: ثلث منها الأحكام، وثلث منها وعد ووعيد، وثلث منها الأسماء والصفات، وهذه السورة جمعت الأسماء و الصفات " (1) ، وقال القرطبي: " اشتملت هذه السورة على اسمين من أسمائه تعالى يتضمنان جميع أوصاف كماله تعالى, لم يوجدا في غيرها من السور وهما الأحد الصمد لأنهما يدلان على أحادية الذات المقدسة الموصوفة بجميع أوصاف الكمال وبيان ذلك أن الأحد يشعر بوجوده الخاص الذي لا يشاركه فيه غيره، وأما الصمد: فهو المتضمن لجميع أوصاف الكمال، فإن الصمد هو الذي انتهى سؤدده بحيث يصمد إليه في الحوائج كلها، أي يقصد، ولا يصح ذلك تحقيقاً إلا ممن حاز جميع خصال الكمال حقيقة وذلك لا يكمل إلا لله تعالى فهو الأحد الصمد الذي: { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ } فقد ظهر أن لهذين الاسمين من شمول الدلالة على الله تعالى وصفاته ما ليس لغيرهما من الأسماء، وأنهما ليسا موجودين في شيء من سور القرآن فظهرت خصوصية هذه السورة بأنها ثلث القرآن " (2) ، وقد ورد في فضل هذه السورة أحاديث أخرى منها: حديث عائشة - رضي الله عنها - في الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : بَعَثَ رَجُلًا عَلَى سَرِيَّةٍ، وَكَانَ يَقْرَأُ لِأَصْحَابِهِ فِي صَلَاتِهِمْ فَيَخْتِمُ بـ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } فَلَمَّا رَجَعُوا ذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: " سَلُوهُ لِأَيِّ شَيْءٍ يَصْنَعُ ذَلِكَ ؟ " فَسَأَلُوهُ فَقَالَ: لِأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَ بِهَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ "
__________
(1) - ينظر: مجموع الفتاوى ( 17/103 )
(2) - المفهم ( 2/441- 442)(2/92)
(1) ، وهذه السورة المباركة إذا قرأها المسلم حصل له ثواب بقدر ثواب ثلث القرآن، ولكن لا يكتفى بتلاوتها ثلاث مرات عن تلاوة بقية القرآن، وذلك لتنوع الثواب والأجر، وحاجة المسلم إلى قراءة بقية القرآن لما فيه من الأحكام والقصص التي يحتاج المسلم إلى تدبرها والانتفاع بما تضمنتها من أوامر ونواهي وتوجيهات حتى يعبد الله على بصيرة وهدى ، ويوفق للاستقامة ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - : " فإذا قرأ الإنسان ( قل هو الله أحد ) حصل له ثواب بقدر ثواب ثلث القرآن، لكن لا يجب أن يكون الثواب من جنس الثواب الحاصل ببقية القرآن، بل قد يحتاج إلى جنس الثواب الحاصل بالأمر والنهي والقصص، فلا تسد ( قل هو الله أحد ) مسد ذلك ولا تقوم مقامه، .... بل يبقى فقيرا محتاجا إلى ما يتم به إيمانه من معرفة الأمر والنهي والوعد والوعيد ولو قام بالواجب عليه فالمعارف التي تحصل بقراءة سائر القرآن لا تحصل بمجرد قراءة هذه السورة، فيكون من قرأ القرآن كله أفضل ممن قرأها ثلاث مرات من هذه الجهة لتنوع الثواب وإن كان قارىء ( قل هو الله أحد ) ثلاثا يحصل له ثواب بقدر ذلك الثواب، لكنه جنس واحد ليس فيه الأنواع التي يحتاج إليها العبد، كمن معه ثلاثة آلاف دينار وآخر معه طعام ولباس ومساكن ونقد يعدل ثلاثة آلاف دينار فإن هذا معه ما ينتفع به في جميع أموره وذاك محتاج إلى ما مع هذا وإن كان ما معه يعدل ما مع هذا وكذلك لو كان معه طعام من أشرف الطعام يساوي ثلاثة آلاف دينار فإنه محتاج إلى لباس ومساكن وما يدفع به الضرر من السلاح والأدوية وغير ذلك مما لا يحصل بمجرد الطعام . " (2) ، والبسملة عند افتتاح كل سورة مستحبة إلا عند قراءة سورة التوبة، هذا والله أعلم .
- - - - - -
تفسير الأحلام
__________
(1) - أخرجه البخاري ح ( 7375) ، ومسلم ح ( 813)
(2) - مجموع الفتاوى ( 17/138 )(2/93)
السلام عليكم: أرجو التكرم بالإجابة عن السؤال المتعلق بتفسير الأحلام ما ضوابطها وما مدى الاعتقاد بحصولها والتعلق بها والحرص على تفسيرها والشروط المفروض توافرها بالمفسر وما رأيكم بكتب تفسير الأحلام وجزاكم الله خيراً واعتذر عن الإطالة .
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
فإن من الظواهر الملفتة للانتباه في واقعنا تعلق كثير من الناس بالرؤى والمنامات، واعتمادهم عليها، وتوسعوهم فيها حيث أصبحت شغلهم الشاغل، عبر المجالس والمنديات والمجامع، بل والقنوات الفضائية، وطغت على الفتاوى الشرعية، وأصبح السؤال عنها يفوق السؤال عما يحتاج إليه الإنسان من أمور دينه، من المعتقدات والعبادات والمعاملات وغيرها، وابتعدوا في تعاملهم مع الرؤى والمنامات عن هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأضاعوا أوقاتهم في ما لا يعود عليهم بالخير والنفع، ولو أن الناس وقفوا تجاه الرؤى وتعاملوا معها، وفق الهدي النبوي لاستراحوا وأراحوا، وحصل لهم التوفيق والسداد والطمأنينة، ولم يوجد هذا التهافت في السؤال عنها، والإفراط في البحث عن تأويلها، ولأجل أن نقف موقفاً صحيحاً سليماً معتدلاً تجاه هذه الرؤى المتكاثرة، فلابد من الرجوع إلى الآداب السامية، والتوجهات النبوية التي فيها العصمة من الزلل والخطأ، والوقاية من الإفراط والتفريط .
لقد دلت السنة المطهرة أن الرؤى تتنوع إلى ثلاثة أنواع، وأن هناك جملة من الآداب ينبغي أن يأخذ بها الرائي، وإليك بيان ذلك :
أولاً: أنواع الرؤى :
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " الرُّؤْيَا ثَلَاثٌ: فَالرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ بُشْرَى مِنْ اللَّهِ، وَالرُّؤْيَا مِنْ تَحْزِينِ الشَّيْطَانِ، وَالرُّؤْيَا مِمَّا يُحَدِّثُ بِهَا الرَّجُلُ نَفْسَهُ ...... " (1)
__________
(1) - أخرجه مسلم ح ( 2263 ) ، والترمذي ح ( 2196 ) ، وقال: حديث حسن صحيح(2/94)
ففي هذا الحديث بيان تنوع ما يراه النائم في منامه إلى ثلاثة أنواع، النوع الأول : الرؤيا الصالحة أو الصادقة، وهي التي تكون مبشرة أو منذرة، وقد تكون واضحة ظاهرة لا تحتاج إلى تعبير كما رأى إبراهيم أنه يذبح ابنه في المنام، وقد تكون خافية تحتاج إلى عابر يعبرها، كرؤيا صاحبي السجن مع يوسف، ورؤيا ملك مصر، والنوع الثاني: رؤيا تحزين من الشيطان، وهي ما يدخل تحت أضغاث الأحلام، مثل أن يرى أنه قطع رأسه وهو يتبعه، أو يرى أنه واقع في هول ولا يجد من ينجده، ونحو ذلك.
فعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إِنَّ الرُّؤْيَا ثَلَاثٌ: مِنْهَا أَهَاوِيلُ مِنْ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ بِهَا ابْنَ آدَمَ، وَمِنْهَا مَا يَهُمُّ بِهِ الرَّجُلُ فِي يَقَظَتِهِ، فَيَرَاهُ فِي مَنَامِهِ وَمِنْهَا جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ " (1)
وقال عبد الله بن مسعود: " الرؤيا ثلاثة: حضور الشيطان, والرجل يحدث نفسه بالنهار فيراه بالليل, والرؤيا التي هي الرؤيا " . (2)
وأخرج مسلم من حديث جابر قال: جاء أَعْرَابِيٍّ إلى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ إِنِّي حَلَمْتُ أَنَّ رَأْسِي قُطِعَ فَأَنَا أَتَّبِعُهُ فَزَجَرَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَقَالَ لَا تُخْبِرْ بِتَلَعُّبِ الشَّيْطَانِ بِكَ فِي الْمَنَامِ " ، وفي رواية له: " إِذَا لَعِبَ الشَّيْطَانُ بِأَحَدِكُمْ فِي مَنَامِهِ فَلَا يُحَدِّثْ بِهِ النَّاسَ " (3)
النوع الثالث: حديث النفس، وهو أن يرى ما تتحدث به نفسه في اليقظة أو يتمناه فيراه كما هو في المنام، كمن يكون مشغولاً بسفر أو تجارة أو نحو ذلك، فينام فيرى في منامه ما كان يفكر فيه في يقظته .
__________
(1) - أخرجه ابن ماجه ح ( 3897 )
(2) - أخرجه ابن أبي شيبة ( 6/181 )
(3) - أخرجه مسلم ح ( 2268 )(2/95)
وهذا التقسيم يدل على أنه ليس كل ما يراه الإنسان في منامه يكون رؤيا صادقة تحتاج إلى تعبير، بل منها حديث النفس، ومنها أضغاث أحلام، وهذان النوعان هما الغالب على حال الكثيرين، والله أعلم، ومن هنا ندرك خطأ من يسارع إلى طلب تعبير كل ما يراه في منامه، وخطأ أيضاً من يتصدر للتعبير، فيقدم على تعبير كل ما يسمعه، ولو أن الناس استحضروا ذلك لما حصل هذا التكالب على طلب تعبير الرؤى والمنامات، والحرص الشديد على تأويلها .
ثانياً: الآداب المشروعة إذا رأى الإنسان في منامه ما يكره:
أرشد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى جملة من الآداب ينبغي أن يأخذ بها من رأى في منامه ما يكره، فعن أَبِي قَتَادَةَ - رضي الله عنه - أن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ مِنْ اللَّه،ِ وَالْحُلُمُ مِنْ الشَّيْطَانِ، فَإِذَا حَلَمَ أَحَدُكُمْ حُلُمًا يَخَافُهُ فَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ، وَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّهَا فَإِنَّهَا لَا تَضُرُّهُ، وَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ: وَإِنْ كُنْتُ لَأَرَى الرُّؤْيَا أَثْقَلَ عَلَيَّ مِنْ الْجَبَلِ فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ سَمِعْتُ هَذَا الْحَدِيثَ فَمَا أُبَالِيهَا " (1)
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " إِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ رُؤْيَا يُحِبُّهَا، فَإِنَّمَا هِيَ مِنْ اللَّهِ، فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ عَلَيْهَا، وَلْيُحَدِّثْ بِهَا، وَإِذَا رَأَى غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَكْرَهُ، فَإِنَّمَا هِيَ مِنْ الشَّيْطَانِ فَلْيَسْتَعِذْ مِنْ شَرِّهَا، وَلَا يَذْكُرْهَا لِأَحَدٍ فَإِنَّهَا لَا تَضُرُّهُ " (2)
__________
(1) - أخرجه البخاري ح ( 5747)، ومسلم ح ( 2261 )
(2) - أخرجه البخاري ح ( 6985 )(2/96)
وعَنْ جَابِرٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: " إِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ الرُّؤْيَا يَكْرَهُهَا، فَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ ثَلَاثًا، وَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ ثَلَاثًا، وَلْيَتَحَوَّلْ عَنْ جَنْبِهِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ . " (1)
وفي حديث أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: فَإِنْ رَأَى أَحَدُكُمْ مَا يَكْرَهُ فَلْيَقُمْ فَلْيُصَلِّ وَلَا يُحَدِّثْ بِهَا النَّاسَ" (2)
وحاصل ما ذكر في هذه الأحاديث من أدب الرؤيا المكروهة ما يأتي:
1- أن يتعوذ بالله من شرها، وذلك لما في الاستعاذة بالله من صدق اللجوء إليه، والاعتصام به في دفع شرها، وورد في صفة التعوذ من شر الرؤيا أثر صحيح أخرجه سعيد بن منصور وبن أبي شيبة وعبد الرزاق بأسانيد صحيحة عن إبراهيم النخعي قال: " إذا رأى أحدكم في منامه ما يكره، فليقل إذا استيقظ أعوذ بما عاذت به ملائكة الله ورسله من شر رؤياي هذه، أن يصيبني فيها ما أكره في ديني ودنياي " (3) ، وعن عمر أنه كتب إلى أبي موسى: فإذا رأى أحدكم رؤيا، فقصها على أخيه فليقل: خير لنا وشر لأعدائنا " (4)
2- أن يتعوذ من شر الشيطان، لأن الشيطان يخيل بها للتحزين والتهويل، وقد جاء في بعض طرق الحديث أنها منه .
3- أن يتفل عن يساره ثلاثاً، ليحصل بذلك طرد الشيطان، والاستعاذة منه، وخصت به اليسار لأنها محل الأقذار ونحوها .
4- أن لا يذكرها لأحد .
5- أن يصلي ما كتب له، وذلك لما في الصلاة من التوجه إلى الله واللجوء إليه والاستعانة بها على دفع المكروه
__________
(1) - أخرجه مسلم ح ( 2262 )
(2) - أخرجه مسلم ح ( 2263 )
(3) - أخرجه ابن أبي شيبة ( 5/51 ) ، وعبد الرزاق في مصنفه ( 11/214 )
(4) - أخرجه عبد الرزاق ( 11/213 ) ، ورجاله ثقات .(2/97)
6- التحول عن جنبه الذي كان عليه، لما في ذلك من التفاؤل بالتحول من تلك الحال التي كان عليها، فهذه ستة آداب، وزاد بعض العلماء: قراءة آية الكرسي، ولم يذكر لذلك مستنداً، فإن كان أخذه من عموم قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة: " وَلَا يَقْرَبُكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ " (1) ، فيتجه، والله أعلم .
وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن من فعل هذه الآداب " فَإِنَّهَا لَا تَضُرُّهُ "، قال أهل العلم معناه أن من فعل ما أمر به مصدقاً متكلاً على الله جلت قدرته في دفع المكروه عنه، فإنه يذهب الخوف والوجل ويندفع عنه المكروه بإذن الله ، ويمنع من نفوذ ما دل عليه المنام من المكروه ، ويكون ذلك من الأسباب كما تكون الصدقة تدفع البلاء، والدعاء يمنع القضاء، وصلة الرحم تزيد في العمر والرزق .
قال النووي: " وينبغي أن يجمع بين هذه الروايات كلها، ويعمل بجميع ما تضمنه، فإن اقتصر على بعضها أجزأه في دفع ضررها بإذن الله تعالى كما صرحت به الأحاديث ..." (2) ، ويغلب على أحوال كثيرٍ من الناس اليوم إهمال هذه الآداب، والتفريط في الأخذ بها، فتجد الواحد منهم عندما يرى في منامه ما يكره، يصيبه الخوف والهلع والقلق، فيسارع إلى البحث عن عابر لها يعبرها، وعن مفسر يفسرها، حتى يظهر له أشر هي أم خير، ولو وقف الإنسان مع هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - لما حصلت له هذه المعاناة والتعلق الشديد، الذي أثر في نفسيات كثير من الناس وسلوكياتهم، واستثمرته بعض المجامع والمنتديات، وجعلته وسيلة لجلب الناس واستقطابهم.
ثالثاً: آداب العابر
__________
(1) - أخرجه البخاري ح ( 3275 ) ، ومسلم ح ( 505 )
(2) - شرح النووي لصحيح مسلم ( 15/ 18 )(2/98)
وأما عن المعبرين فلا يخفى ما للرؤيا الصادقة من مكانة ومنزلة، حيث بين النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها جزء من النبوة، وأنه لم يبقى من المبشرات إلا الرؤيا الصادقة، وعلى المعبر أن يستشعر المسئولية العظيمة تجاه تعبير الرؤى، سئل مالك - رحمه الله تعالى - أيفسر الرؤيا كل أحد ؟ قال: أبالنبوة يلعب لِلَّهِ قيل له: أيفسرها على الخير, وهي عنده على الشر لقول من يقول: الرؤيا على ما أولت فقال: الرؤيا جزء من أجزاء النبوة أفيتلاعب بأمر النبوة . (1)
وهناك صفات وشروط لابد من توفرها لمن يقوم بتعبير الرؤى، أشير إلى بعضها:
1- أن يكون عالماً بهذا العلم الجليل، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " لَا تُقَصُّ الرُّؤْيَا إِلَّا عَلَى عَالِمٍ أَوْ نَاصِحٍ " (2)
قال القاضي عياض: " لا يعبر الرؤيا كل أحد، ولا يعبرها إلا العالم بها " (3) ، وقال القرافي : " ولا يعبر الرؤيا إلا من يعلمها ويحسنها, وإلا فليترك "
وتعبير الرؤى من الأمور الدقيقة التي تحتاج إلى وجود ملكة وموهبة، وقوة نفس لدى المعبر، ونوع من الإلهام والفراسة، ولا يحصل التمكن في التعبير بمجرد التعلم والقراءة، وحفظ ما يوجد في الكتب، ولهذا لم يتأهل لتعبير الرؤى حتى امتداد القرون إلا النوادر من الناس، بخلاف العلوم والمعارف الأخرى التي تدرك بالتعلم والأخذ من الكتب .
__________
(1) - التمهيد لابن عبد البر ( 1/288 )
(2) - أخرجه الترمذي ح ( 2280 ) ، وقال: حديث حسن صحيح
(3) - إكمال المعلم ( 7/228 )(2/99)
قال ابن قتيبة: " وليس فيما يتعاطى الناس من فنون العلم ويتمارسون من صنوف الحكم، شيء هو أغمض وألطف، وأجل وأشرف، وأصعب مراراً، وأشد إشكالاً ، من الرؤيا ؛ لأنها جنس من الوحي ، وضرب من النبوة ...... ولأن كل علمٍ يطلب، فأصوله لا تختلف، ومقاييسه لا تتغير، ..... خلا التأويل فإن الرؤيا تتغير عن أصولها باختلاف أحوال الناس ، في هيآتهم وصناعتهم ، وأقدارهم ، وأديانهم وهمم وإراداتهم ، وباختلاف الأوقات والأزمان ..... ولأن كل عالم بفنٍ من الفنون يستغني بآلة ذلك العلم لعلمه، خلا عابر الرؤيا ، فإنه يحتاج إلى أن يكون عالماً بكتاب الله عز وجل ، وبحديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليعتبرهما في التأويل ، وبأمثال العرب ، والأبيات النادرة ، واشتقاق اللغة ، والألفاظ المبتذلة عند العرب ، وأن يكون - مع ذلك - أديباً ، لطيفاً ، ذكياً ، عارفاً بهيآت الناس وشمائلهم وأقدراهم ، وأحوالهم ، عالماً بالقياس ، حافظاً للأصول، ولن تغني عنهم معرفة الأصول، إلا أن يمده الله بتوفيق ، ويسدد حكمه للحق ، و لسانه للصواب . " (1)
وقال القرافي: " اعلم أن تفسير المنامات قد اتسعت تقييداته، وتشعبت تخصيصاته، وتنوعت تعريفاته، بحيث صار الإنسان لا يقدر أن يعتمد فيه على مجرد المنقولات، لكثرة التخصيصات بأحوال الرائين، بخلاف تفسير القرآن العظيم، والتحدث في الفقه والكتاب والسنة وغير ذلك من العلوم، فإن ضوابطها إما محصورة أو قريبة من الحصر . "
__________
(1) - تعبير الرؤيا لابن قتيبة ( ص: 27 - 28 )(2/100)
وقال: " وعلم المنامات منتشر انتشاراً شديداً لا يدخل تحت ضبط، فلا جرم احتاج الناظر فيه مع ضوابطه وقرائنه إلى قوة من قوى النفوس المعينة على الفراسة، والاطلاع على المغيبات بحيث إذا توجه الحزر إلى شيء لا يكاد يخطئ بسبب ما يخلقه الله - تعالى - في تلك النفوس من القوة المعينة على تقريب الغيب، أو تحققه كما قيل في ابن عباس رضي الله عنهما: إنه كان ينظر إلى الغيب من وراء ستر رقيق، إشارة إلى قوة أودعه الله إياها، فرأى بما أودعه الله - تعالى - في نفسه من الصفاء والشفوف والرقة واللطافة، فمن الناس من هو كذلك، وقد يكون ذلك عاما في جميع الأنواع، وقد يهبه الله تعالى ذلك باعتبار المنامات فقط .... "
وقال: " فمن لم تحصل له قوة نفس عسر عليه تعاطي علم التعبير, ولا ينبغي لك أن تطمع في أن يحصل لك بالتعلم والقراءة وحفظ الكتب إذا لم تكن لك قوة نفس فلا تجد ذلك أبدا , ومتى كانت لك هذه القوة حصل ذلك بأيسر سعي وأدنى ضبط، فاعلم هذه الدقيقة فقد خفيت على كثير من الناس . " (1)
وذكر الأئمة أصولاً وضوابط لتعبير الرؤى والمنامات، وهي موجودة في مظانها من كتب أهل العلم، ولكن إنما يستفيد منها من يتوفر لديه الاستعداد والموهبة لتعبير الرؤى، والمتأمل في الواقع يجد أن هذا المجال قد اقتحمه من لا يحسن، وخاض فيه من لا علم عنده، حتى أصبح تعبير الرؤى مهنة من لا مهنة له مع بالغ الأسف .
2- على العابر التثبت والتريث فيما يرد عليه، وعدم التسرع، والبعد عن الجزم بما يعبر
__________
(1) - ينظر: الفروق للإمام القرافي ( 4/ 249-250 )(2/101)
قال ابن قتيبة - رحمه الله - : " يجب على العابر التثبت فيما يرد عليه وترك التعسف ولا يأنف من أن يقول لما يشكل عليه لا أعرفه, وقد كان محمد بن سيرين إمام الناس في هذا الفن وكان ما يمسك عنه أكثر مما يفسر . " ، وحدث الأصمعي عن أبي المقدام أو قرة بن خالد قال: كنت أحضر ابن سيرين يُسأل عن الرؤيا فكنت أحزره يعبر من كل أربعين واحدة .
وقال هشام بن حسان : كان ابن سيرين يسأل عن مائة رؤيا، فلا يجيب فيها بشيء إلا أن يقول: اتق الله وأحسن في اليقظة، فإنه لا يضرك ما رأيت في النوم، وكان يجب في خلال ذلك، ويقول إنما أجيب بالظن، والظن يخطئ ويصيب . (1)
وإذا كان هذا موقف إمام المعبرين في زمانه، فما الظن بمن جاء بعده ، لقد توسع كثير من المعبرين في تعبير الرؤى فتجده لا يرد شيئاً مما يرد عليه، فلا تسمعه يقول: هذا من أضغاث الأحلام، أو من حديث النفس، أو لا أدري ....
قال ابن قتيبة: " وتفهم كلام صاحب الرؤيا وتبينه، ثم اعرضه على الأصول، فإن رأيته كلاما صحيحاًَ يدل على معاني مستقيمة، يشبه بعضها بعضاً، عبرت الرؤيا بعد مسألتك الله تعالى أن يوفقك للصواب, وإن وجدت الرؤيا تحتمل معنيين متضادين نظرت أيهما أولى بألفاظها وأقرب من أصولها فحملتها عليه, وإن رأيت الأصول صحيحة، وفي خلالها أمور لا تنتظم ألقيت حشوها، وقصدت لصحيح ما يصلح منها, وإن رأيت الرؤيا كلها مختلطة لا تلتئم على الأصول علمت أنها من الأضغاث فأعرض عنها, وإن اشتبه عليك الأمر سألت الله تعالى كشفه . " (2)
__________
(1) - ينظر: الآداب الشرعية ( 3/451 )
(2) - ينظر: كتاب تعبير الرؤيا ص( 96 )(2/102)
وإذا تأملنا ما سبق من كلام أهل العلم تبين ما يحتاج إليه تعبير الرؤى من التثبت والتريث ، وحسن التدبر ، وهذا لا يتوفر عند كثير ممن يخوض في هذا الميدان، ومن الأمور التي ينبغي الإشارة إليه أن الرؤى لا يعتمد عليها في إثبات شيء من أحكام الشرعية، ولا يعول عليها فيما يتعلق بحقوق الناس وحرماتهم، أو الحكم على عدالتهم ونواياهم ، قال في الآداب الشرعية: " قال أبو زكريا النواوي: نُقل الاتفاق على أنه لا يُغير بسبب ما يراه النائم ما تقرر في الشرع ... . ولا يجوز إثبات حكم شرعي به .." (1)
وقال العلّامة المُعلِّمي - رحمه الله - : "... اتفق أهل العلم على أنّ الرؤيا لا تصلح للحجة، وإنما هي تبشير وتنبيه، وتصلح للاستئناس بها إذا وافقت حُجّة شرعية صحيحة " (2)
وقد ذكر الشاطبي - رحمه الله في كتابه "الاعتصام" - أن الخليفة المهدي أراد قتل شريك بن عبد الله القاضي، فقال له شريك: ولِم ذلك يا أمير المؤمنين، ودمي حرام عليك؟! قال: لأني رأيت في المنام كأني مقبل عليك أكلمُك وأنت تكلمني من قفاك، فأرسلت إلى من يعبِّر فسألته عنها، فقال: هذا رجل يطأ بساطَك وهو يُسِرّ خلافَك، فقال شريك: يا أمير المؤمنين، إن رؤياك ليست رؤيا يوسف بن يعقوب، وإن دماء المسلمين لا تسفَك بالأحلام. فنكَّس المهدي رأسه، وأشار إليه بيده أن اخرُج، فانصرف.
__________
(1) - الآداب الشرعية ( 3/447 )
(2) - التنكيل (2/242)(2/103)
وذكر ابن عساكر في "تاريخ دمشق" أن بعضهم رأى في المنام الشافعيَّ - رحمه الله - فقال له: كذبَ عليَّ يونس بن عبد الأعلى في حديث، ما هذا من حديثي ولا حدثتُ به. فقال الحافظ ابن كثير - رحمه الله معلقاً على هذا الكلام- : "يونس بن عبد الأعلى من الثقات، لا يُطعن فيه بمجرد منام". وقد نقل الذهبي - رحمه الله- عن المروزي قال: " أدخلتُ إبراهيمَ الحصري على أبي عبد الله أحمد بن حنبل وكان رجلاً صالحاً فقال: إن أمي رأت لك مناما هو كذا وكذا، وذكرت الجنة، فقال: يا أخي، إن سهل بن سلامة كان الناس يخبرونه بمثل هذا، وخرج إلى سفك الدماء، وقال: الرؤيا تسرُّ المؤمن ولا تغرُّه" (1) .
وإن من الخطأ في المنهج التعويل على الرؤى والمنامات والاغترار بها، والمسارعة في تنزيلها على الواقع وتفسير المستقبل من خلالها في قضايا الأمة وشئونها، وإغفال السنن الربانية الثابتة، وترك النظر في الأسباب، وقد تسامع الناس في هذه الأيام برؤيا عُبرت بنصر من الله وفتح قريب يقع في فلسطين محدد باليوم والشهر في مدة قريبة جداً !!
3- على المعبر أن يراعي جانب المصالح والمفاسد في تعبيره، فلا يلقي بالتعبير على عواهنه ، فربما أوقع تعبيره في فتنة أو مفسدة أو ضرر وهو لا يشعر، أخرج البخاري في صحيحه قول علي - رضي الله عنه - : " حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ، أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؟! " (2) ، وعند مسلم عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: " مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إِلَّا كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً ". (3)
__________
(1) - ينظر: تاريخ مدينة دمشق ( 47/ 519 )، سير أعلام النبلاء (11/227)
(2) - أخرجه البخاري ح ( 127 )
(3) - صحيح مسلم ( 1/11 )(2/104)
يقول ابن القيم - رحمه الله- : " المفتي والمعبِّر والطبيب يطَّلعون من أسرار الناس وعوراتهم على ما لا يطلع عليه غيرهم، فعليهم استعمال الستر فيما لا يحسن إظهاره ". (1)
هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل .
- - - - - -
رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام
إذا رأى الشخص النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام هل تكون رؤية صادقة أم كاذبة؟، كثير من أهل البدع مثل بدعة المولد يحتجون على بدعتهم بأنهم رأوا النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام وأقرهم على ذلك فما هي ضوابط رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم -
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
من الأمور المتقررة لدى العلماء أن الأحكام والأوامر والنواهي لا تؤخذ عن طريق الرؤى والمنامات، وأن من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في منامه يأمره بفعل أو ينهاه فعليه أن يعرض ذلك على شريعته فما وافقها فهو حق، وما خالفها فالخلل من الرائي، قال الإمام القرافي في الفروق : " إخباره - صلى الله عليه وسلم - في اليقظة مقدم على الخبر في النوم لتطرق الاحتمال للرائي بالغلط .... فلو قال له عن حلال أنه حرام، أو عن حرام أنه حلال أو عن حكم من أحكام الشريعة قدمنا ما ثبت في اليقظة على ما رأى في النوم " (2) ، وقال في الآداب الشرعية: " قال أبو زكريا النواوي: نُقل الاتفاق على أنه لا يُغير بسبب ما يراه النائم ما تقرر في الشرع ... . ولا يجوز إثبات حكم شرعي به .... " (3) ، وقال العلّامة المُعلِّمي - رحمه الله - : " اتفق أهل العلم على أنّ الرؤيا لا تصلح للحجة، وإنما هي تبشير وتنبيه، وتصلح للاستئناس بها إذا وافقت حُجّة شرعية صحيحة " (4)
__________
(1) - إعلام الموقعين ( 4/257 )
(2) - ينظر: الفروق ( 4/245- 246 )
(3) - الآداب الشرعية ( 3/447 )
(4) - التنكيل (2/242)(2/105)
وبهذا يتبين ضلال أهل البدع والصوفية الذين يزعمون أنهم رأوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه أمرهم ونهاهم بأمور تخالف الشريعة أو لم تثبت في الشريعة، لأن الرؤى لا يُعول عليها في إثبات الأحكام الشرعية، وأما حديث: من رآني في المنام، فقد أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ بِي" (1) وللعلماء في تفسير هذا الحديث أقوال أُجملها فيما يلي:
1- أن المراد بهذا الحديث أن من رأي النبي - صلى الله عليه وسلم - في منامه على صورته المعروفة وأوصافه الجسمانية التي دلت عليها الأحاديث فكأنه رآه في اليقظة، وكان محمد بن سيرين إذا قص عليه رجل أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال صف لي الذي رأيته فان وصف له صفة لا يعرفها قال لم تره " (2) ، وأخرج الحاكم من طريق عاصم بن كليب حدثني أبي قال قلت لابن عباس: " رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام قال صفه لي قال ذكرت الحسن بن علي فشبهته به قال قد رأيته وسنده جيد (3) ، وقال القاضي عياض: " يحتمل أن يكون معنى الحديث: إذا رآه على الصفة التي كان عليها في حياته لا على صفة مضادة لحاله، فإن رؤي على غيرها كانت رؤيا تأويل لا رؤيا حقيقة، فإن من الرؤيا ما يخرج على وجهه، ومنها ما يحتاج إلى تأويل"
__________
(1) - أخرجه البخاري ح ( 110 ) ومسلم ح ( 2266 )
(2) - ذكره البخاري في الصحيح معلقاً وسنده صحيح
(3) - أخرجه الحاكم في المستدرك ح ( 8301 )(2/106)
2- وذهب بعض العلماء إلى أن المراد بهذا الحديث أن كل من رأي النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام فإنه يراه حقيقة سواء كانت رؤيته على حقيقته المعروفة أو غيرها، قال القرطبي: " الصحيح في تأويل هذا الحديث أن مقصوده أن رؤيته في كل حالة ليست باطلة ولا أضغاثا بل هي حق في نفسها ولو رؤي على غير صورته فتصور تلك الصورة ليس من الشيطان بل هو من قبل الله "
3- وذهب بعض العلماء إلى أن هذا الحديث خاص بأهل عصره - صلى الله عليه وسلم - ممن آمن به قبل أن يراه، قال المازري: " إن كان المحفوظ: " فسيراني في اليقظة " احتمل أن يكون أراد أهل عصره ممن يهاجر إليه، فإنه إذا رآه في المنام جعل ذلك علامة على أنه يراه بعد ذلك في اليقظة وأوحي الله بذلك إليه - صلى الله عليه وسلم - "
4- وذهب بعض العلماء إلى أن هذا الحديث خاص بالصحابة الذين رأوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وعرفوا صفته فمن رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم في منامه بعد وفاته فإنه رآه حقاً لأنهم رأوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وعرفوه ، ويشعر بهذا قوله : " من رآني " ، قال ابن جزي المالكي: " تنبيه: قال - صلى الله عليه وسلم - : من رآني في المنام فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثل بي ، وقال العلماء: لا تصح رؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم - قطعاً إلا لصحابي رآه حافظ صفته حتى يكون المثال الذي رآه في المنام مطابقاً لخلقته - صلى الله عليه وسلم - " (1)
__________
(1) - ينظر القوانين الفقهية لابن جزي ص ( 379 )(2/107)
وقال الإمام القرافي : " قال العلماء : إنما تصح رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - لأحد رجلين أحدهما صحابي رآه فعلم صفته فانطبع في نفسه مثاله فإذا رآه جزم بأنه رأى مثاله المعصوم من الشيطان فينتفي عنه اللبس والشك في رويته عليه السلام، وثانيهما رجل تكرر عليه سماع صفاته المنقولة في الكتاب حتى انطبعت في نفسه صفته عليه السلام ومثاله المعصوم كما حصل ذلك لمن رآه فإذا رآه جزم بروية مثاله عليه السلام كما يجزم به من رآه فينتفي عنه اللبس والشك في رويته عليه السلام، وأما غير هذين فلا يحصل له الجزم بل يجوز أن يكون رآه عليه السلام بمثاله ويحتمل أن يكون من تخييل الشيطان ولا يفيد قول المرئي لمن يراه أنا رسول الله ولا قول من يحضر معه هذا رسول الله لأن الشيطان يكذب لنفسه ويكذب لغيره ... "
هذا والله أعلم
- - - - - -
هل الرؤية تقع على ما أولت
سمعتُ من أهل العلم أن هناك حديث بأن تفسير المنام سيقع حسب تأويله. فهل هذا صحيح؟ وهل ذلك يشير إلى نهي شديد عن تأويل الأحلام؟ وذلك لسبب أن يقع أمر سيّئ ناتج عن سوء تأويل من يفسر المنام؟
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:(2/108)
أخرج أبو داود ح ( 4366 ) ، والترمذي ح ( 2204 ) وابن ماجه ( 3904 ) من حديث أَبِي رَزِينٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " الرُّؤْيَا عَلَى رِجْلِ طَائِرٍ مَا لَمْ تُعَبَّرْ فَإِذَا عُبِّرَتْ وَقَعَتْ قَالَ وَأَحْسِبُهُ قَالَ: وَلَا تَقُصَّهَا إِلَّا عَلَى وَادٍّ أَوْ ذِي رَأْيٍ " (1) ، ومعنى الحديث أن الرؤيا الصادقة إذا عُبرت وقعت، ولكن لابد أن يكون من يُعبرها مصيباً في تعبيرها وإلا فهي لمن أصاب بعده فالمعول على إصابة الصواب في تعبير المنام، وفي حديث ابن عباس حينما عبر أبو بكر رؤيا بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له : " أصابت بعضاً وأخطأت بعضاً ... " ، (2) ، وقد بوب عليه البخاري بقوله : " باب من لم ير الرؤيا لأول عابر إذا لم يصب " ، قال الحافظ : " فأشار البخاري إلى تخصيص ذلك بما إذا كان العابر مصيبا في تعبيره وأخذه من قوله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر في حديث الباب: أصبت بعضا وأخطأت بعضا فإنه يؤخذ منه أن الذي أخطأ فيه لو بينه له لكان الذي بينه له هو التعبير الصحيح ولا عبرة بالتعبير الأول قال أبو عبيد وغيره: معنى قوله الرؤيا لأول عابر إذا كان العابر الأول عالما فعبر فأصاب وجه التعبير وإلا فهي لمن أصاب بعده إذ ليس المدار إلا على إصابة الصواب في تعبير المنام ليتوصل بذلك إلى مراد الله فيما ضربه من المثل فإذا أصاب فلا ينبغي أن يسأل غيره وإن لم يصب فليسأل الثاني وعليه أن يخبر بما عنده ويبين ما جهل الأول " (3) ، وقد سبق أن أجبت جواباً موسعاً عن الآداب المتعلقة بالرؤى والمنامات يحسن إدراجه مع هذا الجواب ، وهذا نصه :
__________
(1) - أبو داود ح ( 4366 ) ، والترمذي ح ( 2204 ) وابن ماجه ( 3904 )، قال الترمذي: " هذا حديث حسن صحيح "، وحسن إسناده الحافظ في الفتح ( 12/432 )
(2) - أخرجه البخاري ح ( 7046 ) ، ومسلم ح ( 2269 )
(3) - فتح الباري ( 12/432 )(2/109)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
فإن من الظواهر الملفتة للانتباه في واقعنا تعلق كثير من الناس بالرؤى والمنامات، واعتمادهم عليها، وتوسعوهم فيها حيث أصبحت شغلهم الشاغل، عبر المجالس والمنديات والمجامع، بل والقنوات الفضائية، وطغت على الفتاوى الشرعية، وأصبح السؤال عنها يفوق السؤال عما يحتاج إليه الإنسان من أمور دينه، من المعتقدات والعبادات والمعاملات وغيرها، وابتعدوا في تعاملهم مع الرؤى والمنامات عن هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأضاعوا أوقاتهم في ما لا يعود عليهم بالخير والنفع، ولو أن الناس وقفوا تجاه الرؤى وتعاملوا معها، وفق الهدي النبوي لاستراحوا وأراحوا، وحصل لهم التوفيق والسداد والطمأنينة، ولم يوجد هذا التهافت في السؤال عنها، والإفراط في البحث عن تأويلها، ولأجل أن نقف موقفاً صحيحاً سليماً معتدلاً تجاه هذه الرؤى المتكاثرة، فلابد من الرجوع إلى الآداب السامية، والتوجهات النبوية التي فيها العصمة من الزلل والخطأ، والوقاية من الإفراط والتفريط .
لقد دلت السنة المطهرة أن الرؤى تتنوع إلى ثلاثة أنواع، وأن هناك جملة من الآداب ينبغي أن يأخذ بها الرائي، وإليك بيان ذلك :
أولاً: أنواع الرؤى :
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " الرُّؤْيَا ثَلَاثٌ: فَالرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ بُشْرَى مِنْ اللَّهِ، وَالرُّؤْيَا مِنْ تَحْزِينِ الشَّيْطَانِ، وَالرُّؤْيَا مِمَّا يُحَدِّثُ بِهَا الرَّجُلُ نَفْسَهُ ...... " (1)
__________
(1) - أخرجه مسلم ح ( 2263 ) ، والترمذي ح ( 2196 ) ، وقال: حديث حسن صحيح(2/110)
ففي هذا الحديث بيان تنوع ما يراه النائم في منامه إلى ثلاثة أنواع، النوع الأول : الرؤيا الصالحة أو الصادقة، وهي التي تكون مبشرة أو منذرة، وقد تكون واضحة ظاهرة لا تحتاج إلى تعبير كما رأى إبراهيم أنه يذبح ابنه في المنام، وقد تكون خافية تحتاج إلى عابر يعبرها، كرؤيا صاحبي السجن مع يوسف، ورؤيا ملك مصر، والنوع الثاني: رؤيا تحزين من الشيطان، وهي ما يدخل تحت أضغاث الأحلام، مثل أن يرى أنه قطع رأسه وهو يتبعه، أو يرى أنه واقع في هول ولا يجد من ينجده، ونحو ذلك.
فعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إِنَّ الرُّؤْيَا ثَلَاثٌ: مِنْهَا أَهَاوِيلُ مِنْ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ بِهَا ابْنَ آدَمَ، وَمِنْهَا مَا يَهُمُّ بِهِ الرَّجُلُ فِي يَقَظَتِهِ، فَيَرَاهُ فِي مَنَامِهِ وَمِنْهَا جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ " (1)
وقال عبد الله بن مسعود: " الرؤيا ثلاثة: حضور الشيطان, والرجل يحدث نفسه بالنهار فيراه بالليل, والرؤيا التي هي الرؤيا " . (2)
وأخرج مسلم من حديث جابر قال: جاء أَعْرَابِيٍّ إلى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ إِنِّي حَلَمْتُ أَنَّ رَأْسِي قُطِعَ فَأَنَا أَتَّبِعُهُ فَزَجَرَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَقَالَ لَا تُخْبِرْ بِتَلَعُّبِ الشَّيْطَانِ بِكَ فِي الْمَنَامِ " ، وفي رواية له: " إِذَا لَعِبَ الشَّيْطَانُ بِأَحَدِكُمْ فِي مَنَامِهِ فَلَا يُحَدِّثْ بِهِ النَّاسَ " (3)
النوع الثالث: حديث النفس، وهو أن يرى ما تتحدث به نفسه في اليقظة أو يتمناه فيراه كما هو في المنام، كمن يكون مشغولاً بسفر أو تجارة أو نحو ذلك، فينام فيرى في منامه ما كان يفكر فيه في يقظته .
__________
(1) - أخرجه ابن ماجه ح ( 3897 )
(2) - أخرجه ابن أبي شيبة ( 6/181 )
(3) - أخرجه مسلم ح ( 2268 )(2/111)
وهذا التقسيم يدل على أنه ليس كل ما يراه الإنسان في منامه يكون رؤيا صادقة تحتاج إلى تعبير، بل منها حديث النفس، ومنها أضغاث أحلام، وهذان النوعان هما الغالب على حال الكثيرين، والله أعلم، ومن هنا ندرك خطأ من يسارع إلى طلب تعبير كل ما يراه في منامه، وخطأ أيضاً من يتصدر للتعبير، فيقدم على تعبير كل ما يسمعه، ولو أن الناس استحضروا ذلك لما حصل هذا التكالب على طلب تعبير الرؤى والمنامات، والحرص الشديد على تأويلها .
ثانياً: الآداب المشروعة إذا رأى الإنسان في منامه ما يكره:
أرشد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى جملة من الآداب ينبغي أن يأخذ بها من رأى في منامه ما يكره، فعن أَبِي قَتَادَةَ - رضي الله عنه - أن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ مِنْ اللَّه،ِ وَالْحُلُمُ مِنْ الشَّيْطَانِ، فَإِذَا حَلَمَ أَحَدُكُمْ حُلُمًا يَخَافُهُ فَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ، وَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّهَا فَإِنَّهَا لَا تَضُرُّهُ، وَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ: وَإِنْ كُنْتُ لَأَرَى الرُّؤْيَا أَثْقَلَ عَلَيَّ مِنْ الْجَبَلِ فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ سَمِعْتُ هَذَا الْحَدِيثَ فَمَا أُبَالِيهَا " (1)
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " إِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ رُؤْيَا يُحِبُّهَا، فَإِنَّمَا هِيَ مِنْ اللَّهِ، فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ عَلَيْهَا، وَلْيُحَدِّثْ بِهَا، وَإِذَا رَأَى غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَكْرَهُ، فَإِنَّمَا هِيَ مِنْ الشَّيْطَانِ فَلْيَسْتَعِذْ مِنْ شَرِّهَا، وَلَا يَذْكُرْهَا لِأَحَدٍ فَإِنَّهَا لَا تَضُرُّهُ " (2)
__________
(1) - أخرجه البخاري ح ( 5747)، ومسلم ح ( 2261 )
(2) - أخرجه البخاري ح ( 6985 )(2/112)
وعَنْ جَابِرٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: " إِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ الرُّؤْيَا يَكْرَهُهَا، فَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ ثَلَاثًا، وَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ ثَلَاثًا، وَلْيَتَحَوَّلْ عَنْ جَنْبِهِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ . " (1)
وفي حديث أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: فَإِنْ رَأَى أَحَدُكُمْ مَا يَكْرَهُ فَلْيَقُمْ فَلْيُصَلِّ وَلَا يُحَدِّثْ بِهَا النَّاسَ" (2)
وحاصل ما ذكر في هذه الأحاديث من أدب الرؤيا المكروهة ما يأتي:
1- أن يتعوذ بالله من شرها، وذلك لما في الاستعاذة بالله من صدق اللجوء إليه، والاعتصام به في دفع شرها، وورد في صفة التعوذ من شر الرؤيا أثر صحيح أخرجه سعيد بن منصور وبن أبي شيبة وعبد الرزاق بأسانيد صحيحة عن إبراهيم النخعي قال: " إذا رأى أحدكم في منامه ما يكره، فليقل إذا استيقظ أعوذ بما عاذت به ملائكة الله ورسله من شر رؤياي هذه، أن يصيبني فيها ما أكره في ديني ودنياي " (3) ، وعن عمر أنه كتب إلى أبي موسى: فإذا رأى أحدكم رؤيا، فقصها على أخيه فليقل: خير لنا وشر لأعدائنا " (4)
2- أن يتعوذ من شر الشيطان، لأن الشيطان يخيل بها للتحزين والتهويل، وقد جاء في بعض طرق الحديث أنها منه .
3- أن يتفل عن يساره ثلاثاً، ليحصل بذلك طرد الشيطان، والاستعاذة منه، وخصت به اليسار لأنها محل الأقذار ونحوها .
4- أن لا يذكرها لأحد .
5- أن يصلي ما كتب له، وذلك لما في الصلاة من التوجه إلى الله واللجوء إليه والاستعانة بها على دفع المكروه
__________
(1) - أخرجه مسلم ح ( 2262 )
(2) - أخرجه مسلم ح ( 2263 )
(3) - أخرجه ابن أبي شيبة ( 5/51 ) ، وعبد الرزاق في مصنفه ( 11/214 )
(4) - أخرجه عبد الرزاق ( 11/213 ) ، ورجاله ثقات .(2/113)
6- التحول عن جنبه الذي كان عليه، لما في ذلك من التفاؤل بالتحول من تلك الحال التي كان عليها، فهذه ستة آداب، وزاد بعض العلماء: قراءة آية الكرسي، ولم يذكر لذلك مستنداً، فإن كان أخذه من عموم قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة: " وَلَا يَقْرَبُكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ " (1) ، فيتجه، والله أعلم .
وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن من فعل هذه الآداب " فَإِنَّهَا لَا تَضُرُّهُ "، قال أهل العلم معناه أن من فعل ما أمر به مصدقاً متكلاً على الله جلت قدرته في دفع المكروه عنه، فإنه يذهب الخوف والوجل ويندفع عنه المكروه بإذن الله ، ويمنع من نفوذ ما دل عليه المنام من المكروه ، ويكون ذلك من الأسباب كما تكون الصدقة تدفع البلاء، والدعاء يمنع القضاء، وصلة الرحم تزيد في العمر والرزق .
قال النووي: " وينبغي أن يجمع بين هذه الروايات كلها، ويعمل بجميع ما تضمنه، فإن اقتصر على بعضها أجزأه في دفع ضررها بإذن الله تعالى كما صرحت به الأحاديث ..." (2) ، ويغلب على أحوال كثيرٍ من الناس اليوم إهمال هذه الآداب، والتفريط في الأخذ بها، فتجد الواحد منهم عندما يرى في منامه ما يكره، يصيبه الخوف والهلع والقلق، فيسارع إلى البحث عن عابر لها يعبرها، وعن مفسر يفسرها، حتى يظهر له أشر هي أم خير، ولو وقف الإنسان مع هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - لما حصلت له هذه المعاناة والتعلق الشديد، الذي أثر في نفسيات كثير من الناس وسلوكياتهم، واستثمرته بعض المجامع والمنتديات، وجعلته وسيلة لجلب الناس واستقطابهم.
ثالثاً: آداب العابر
__________
(1) - أخرجه البخاري ح ( 3275 ) ، ومسلم ح ( 505 )
(2) - شرح النووي لصحيح مسلم ( 15/ 18 )(2/114)
وأما عن المعبرين فلا يخفى ما للرؤيا الصادقة من مكانة ومنزلة، حيث بين النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها جزء من النبوة، وأنه لم يبقى من المبشرات إلا الرؤيا الصادقة، وعلى المعبر أن يستشعر المسئولية العظيمة تجاه تعبير الرؤى، سئل مالك - رحمه الله تعالى - أيفسر الرؤيا كل أحد ؟ قال: أبالنبوة يلعب لِلَّهِ قيل له: أيفسرها على الخير, وهي عنده على الشر لقول من يقول: الرؤيا على ما أولت فقال: الرؤيا جزء من أجزاء النبوة أفيتلاعب بأمر النبوة . (1)
وهناك صفات وشروط لابد من توفرها لمن يقوم بتعبير الرؤى، أشير إلى بعضها:
1- أن يكون عالماً بهذا العلم الجليل، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " لَا تُقَصُّ الرُّؤْيَا إِلَّا عَلَى عَالِمٍ أَوْ نَاصِحٍ " (2)
قال القاضي عياض: " لا يعبر الرؤيا كل أحد، ولا يعبرها إلا العالم بها " (3) ، وقال القرافي : " ولا يعبر الرؤيا إلا من يعلمها ويحسنها, وإلا فليترك "
وتعبير الرؤى من الأمور الدقيقة التي تحتاج إلى وجود ملكة وموهبة، وقوة نفس لدى المعبر، ونوع من الإلهام والفراسة، ولا يحصل التمكن في التعبير بمجرد التعلم والقراءة، وحفظ ما يوجد في الكتب، ولهذا لم يتأهل لتعبير الرؤى حتى امتداد القرون إلا النوادر من الناس، بخلاف العلوم والمعارف الأخرى التي تدرك بالتعلم والأخذ من الكتب .
__________
(1) - التمهيد لابن عبد البر ( 1/288 )
(2) - أخرجه الترمذي ح ( 2280 ) ، وقال: حديث حسن صحيح
(3) - إكمال المعلم ( 7/228 )(2/115)
قال ابن قتيبة: " وليس فيما يتعاطى الناس من فنون العلم ويتمارسون من صنوف الحكم، شيء هو أغمض وألطف، وأجل وأشرف، وأصعب مراراً، وأشد إشكالاً ، من الرؤيا ؛ لأنها جنس من الوحي ، وضرب من النبوة ...... ولأن كل علمٍ يطلب، فأصوله لا تختلف، ومقاييسه لا تتغير، ..... خلا التأويل فإن الرؤيا تتغير عن أصولها باختلاف أحوال الناس ، في هيآتهم وصناعتهم ، وأقدارهم ، وأديانهم وهمم وإراداتهم ، وباختلاف الأوقات والأزمان ..... ولأن كل عالم بفنٍ من الفنون يستغني بآلة ذلك العلم لعلمه، خلا عابر الرؤيا ، فإنه يحتاج إلى أن يكون عالماً بكتاب الله عز وجل ، وبحديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليعتبرهما في التأويل ، وبأمثال العرب ، والأبيات النادرة ، واشتقاق اللغة ، والألفاظ المبتذلة عند العرب ، وأن يكون - مع ذلك - أديباً ، لطيفاً ، ذكياً ، عارفاً بهيآت الناس وشمائلهم وأقدراهم ، وأحوالهم ، عالماً بالقياس ، حافظاً للأصول، ولن تغني عنهم معرفة الأصول، إلا أن يمده الله بتوفيق ، ويسدد حكمه للحق ، و لسانه للصواب . " (1)
وقال القرافي: " اعلم أن تفسير المنامات قد اتسعت تقييداته، وتشعبت تخصيصاته، وتنوعت تعريفاته، بحيث صار الإنسان لا يقدر أن يعتمد فيه على مجرد المنقولات، لكثرة التخصيصات بأحوال الرائين، بخلاف تفسير القرآن العظيم، والتحدث في الفقه والكتاب والسنة وغير ذلك من العلوم، فإن ضوابطها إما محصورة أو قريبة من الحصر . "
__________
(1) - تعبير الرؤيا لابن قتيبة ( ص: 27 - 28 )(2/116)
وقال: " وعلم المنامات منتشر انتشاراً شديداً لا يدخل تحت ضبط، فلا جرم احتاج الناظر فيه مع ضوابطه وقرائنه إلى قوة من قوى النفوس المعينة على الفراسة، والاطلاع على المغيبات بحيث إذا توجه الحزر إلى شيء لا يكاد يخطئ بسبب ما يخلقه الله - تعالى - في تلك النفوس من القوة المعينة على تقريب الغيب، أو تحققه كما قيل في ابن عباس رضي الله عنهما: إنه كان ينظر إلى الغيب من وراء ستر رقيق، إشارة إلى قوة أودعه الله إياها، فرأى بما أودعه الله - تعالى - في نفسه من الصفاء والشفوف والرقة واللطافة، فمن الناس من هو كذلك، وقد يكون ذلك عاما في جميع الأنواع، وقد يهبه الله تعالى ذلك باعتبار المنامات فقط .... "
وقال: " فمن لم تحصل له قوة نفس عسر عليه تعاطي علم التعبير, ولا ينبغي لك أن تطمع في أن يحصل لك بالتعلم والقراءة وحفظ الكتب إذا لم تكن لك قوة نفس فلا تجد ذلك أبدا , ومتى كانت لك هذه القوة حصل ذلك بأيسر سعي وأدنى ضبط، فاعلم هذه الدقيقة فقد خفيت على كثير من الناس . " (1)
وذكر الأئمة أصولاً وضوابط لتعبير الرؤى والمنامات، وهي موجودة في مظانها من كتب أهل العلم، ولكن إنما يستفيد منها من يتوفر لديه الاستعداد والموهبة لتعبير الرؤى، والمتأمل في الواقع يجد أن هذا المجال قد اقتحمه من لا يحسن، وخاض فيه من لا علم عنده، حتى أصبح تعبير الرؤى مهنة من لا مهنة له مع بالغ الأسف .
2- على العابر التثبت والتريث فيما يرد عليه، وعدم التسرع، والبعد عن الجزم بما يعبر
قال ابن قتيبة - رحمه الله - : " يجب على العابر التثبت فيما يرد عليه وترك التعسف ولا يأنف من أن يقول لما يشكل عليه لا أعرفه, وقد كان محمد بن سيرين إمام الناس في هذا الفن وكان ما يمسك عنه أكثر مما يفسر . "
__________
(1) - ينظر: الفروق للإمام القرافي ( 4/ 249-250 )(2/117)
وحدث الأصمعي عن أبي المقدام أو قرة بن خالد قال: كنت أحضر ابن سيرين يُسأل عن الرؤيا فكنت أحزره يعبر من كل أربعين واحدة .
وقال هشام بن حسان : كان ابن سيرين يسأل عن مائة رؤيا، فلا يجيب فيها بشيء إلا أن يقول: اتق الله وأحسن في اليقظة، فإنه لا يضرك ما رأيت في النوم، وكان يجب في خلال ذلك، ويقول إنما أجيب بالظن، والظن يخطئ ويصيب . (1)
وإذا كان هذا موقف إمام المعبرين في زمانه، فما الظن بمن جاء بعده ، لقد توسع كثير من المعبرين في تعبير الرؤى فتجده لا يرد شيئاً مما يرد عليه، فلا تسمعه يقول: هذا من أضغاث الأحلام، أو من حديث النفس، أو لا أدري ....
قال ابن قتيبة: " وتفهم كلام صاحب الرؤيا وتبينه، ثم اعرضه على الأصول، فإن رأيته كلاما صحيحاًَ يدل على معاني مستقيمة، يشبه بعضها بعضاً، عبرت الرؤيا بعد مسألتك الله تعالى أن يوفقك للصواب, وإن وجدت الرؤيا تحتمل معنيين متضادين نظرت أيهما أولى بألفاظها وأقرب من أصولها فحملتها عليه, وإن رأيت الأصول صحيحة، وفي خلالها أمور لا تنتظم ألقيت حشوها، وقصدت لصحيح ما يصلح منها, وإن رأيت الرؤيا كلها مختلطة لا تلتئم على الأصول علمت أنها من الأضغاث فأعرض عنها, وإن اشتبه عليك الأمر سألت الله تعالى كشفه . " (2)
وإذا تأملنا ما سبق من كلام أهل العلم تبين ما يحتاج إليه تعبير الرؤى من التثبت والتريث ، وحسن التدبر ، وهذا لا يتوفر عند كثير ممن يخوض في هذا الميدان، ومن الأمور التي ينبغي الإشارة إليه أن الرؤى لا يعتمد عليها في إثبات شيء من أحكام الشرعية، ولا يعول عليها فيما يتعلق بحقوق الناس وحرماتهم، أو الحكم على عدالتهم ونواياهم
__________
(1) - ينظر: الآداب الشرعية ( 3/451 )
(2) - ينظر: كتاب تعبير الرؤيا ص( 96 )(2/118)
قال في الآداب الشرعية: " قال أبو زكريا النواوي: نُقل الاتفاق على أنه لا يُغير بسبب ما يراه النائم ما تقرر في الشرع ... . ولا يجوز إثبات حكم شرعي به .... " (1)
وقال العلّامة المُعلِّمي - رحمه الله - : "... اتفق أهل العلم على أنّ الرؤيا لا تصلح للحجة، وإنما هي تبشير وتنبيه، وتصلح للاستئناس بها إذا وافقت حُجّة شرعية صحيحة " (2)
وقد ذكر الشاطبي - رحمه الله في كتابه "الاعتصام" - أن الخليفة المهدي أراد قتل شريك بن عبد الله القاضي، فقال له شريك: ولِم ذلك يا أمير المؤمنين، ودمي حرام عليك؟! قال: لأني رأيت في المنام كأني مقبل عليك أكلمُك وأنت تكلمني من قفاك، فأرسلت إلى من يعبِّر فسألته عنها، فقال: هذا رجل يطأ بساطَك وهو يُسِرّ خلافَك، فقال شريك: يا أمير المؤمنين، إن رؤياك ليست رؤيا يوسف بن يعقوب، وإن دماء المسلمين لا تسفَك بالأحلام. فنكَّس المهدي رأسه، وأشار إليه بيده أن اخرُج، فانصرف.
وذكر ابن عساكر في "تاريخ دمشق" أن بعضهم رأى في المنام الشافعيَّ - رحمه الله - فقال له: كذبَ عليَّ يونس بن عبد الأعلى في حديث، ما هذا من حديثي ولا حدثتُ به. فقال الحافظ ابن كثير - رحمه الله معلقاً على هذا الكلام- : "يونس بن عبد الأعلى من الثقات، لا يُطعن فيه بمجرد منام". وقد نقل الذهبي - رحمه الله- عن المروزي قال: " أدخلتُ إبراهيمَ الحصري على أبي عبد الله أحمد بن حنبل وكان رجلاً صالحاً فقال: إن أمي رأت لك مناما هو كذا وكذا، وذكرت الجنة، فقال: يا أخي، إن سهل بن سلامة كان الناس يخبرونه بمثل هذا، وخرج إلى سفك الدماء، وقال: الرؤيا تسرُّ المؤمن ولا تغرُّه" (3) .
__________
(1) - الآداب الشرعية ( 3/447 )
(2) - التنكيل (2/242)
(3) - ينظر: تاريخ مدينة دمشق ( 47/ 519 )، سير أعلام النبلاء (11/227)(2/119)
وإن من الخطأ في المنهج التعويل على الرؤى والمنامات والاغترار بها، والمسارعة في تنزيلها على الواقع وتفسير المستقبل من خلالها في قضايا الأمة وشئونها، وإغفال السنن الربانية الثابتة، وترك النظر في الأسباب، وقد تسامع الناس في هذه الأيام برؤيا عُبرت بنصر من الله وفتح قريب يقع في فلسطين محدد باليوم والشهر في مدة قريبة جداً !!
3- على المعبر أن يراعي جانب المصالح والمفاسد في تعبيره، فلا يلقي بالتعبير على عواهنه ، فربما أوقع تعبيره في فتنة أو مفسدة أو ضرر وهو لا يشعر، أخرج البخاري في صحيحه قول علي - رضي الله عنه - : " حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ، أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؟! " (1) ، وعند مسلم عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: " مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إِلَّا كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً ". (2) وقال ابن القيم - رحمه الله -: " المفتي والمعبِّر والطبيب يطَّلعون من أسرار الناس وعوراتهم على ما لا يطلع عليه غيرهم، فعليهم استعمال الستر فيما لا يحسن إظهاره" (3)
هذا والله أعلم
- - - - - -
التزام الصديق وتقبيله
هل الحديث الذي ينهى فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن إلتزام الصديق وتقبيله يدل على التحريم أم هناك تفسير آخر أفيدونا جزاكم الله خيراً؟
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
__________
(1) - أخرجه البخاري ح ( 127 )
(2) - صحيح مسلم ( 1/11 )
(3) - إعلام الموقعين ( 4/257 )(2/120)
الحديث المشار إليه في السؤال أخرجه أحمد ح ( 13044 )، والترمذي ح ( 2728 ) وابن ماجه ح ( 3702 ) والبيهقي في السنن ( 7/100 ) من طرق عن حنظلة بن عبد الله السدوسي قال حدثنا أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الرَّجُلُ مِنَّا يَلْقَى أَخَاهُ أَوْ صَدِيقَهُ أَيَنْحَنِي لَهُ ؟ قَالَ: لَا قَالَ: أَفَيَلْتَزِمُهُ وَيُقَبِّلُهُ ؟ قَالَ: لَا قَالَ أَفَيَأْخُذُ بِيَدِهِ وَيُصَافِحُهُ ؟ قَالَ: نَعَمْ .(2/121)
" ، وإسناد هذا الحديث ضعيف لضعف حنظلة بن عبد الرحمن السدوسي، قال الإمام أحمد: " كان حنظلة السدوسي ضعيف الحديث يروي عن أنس بن مالك أحاديث مناكير، روى: أينحني بعضنا لبعض " (1) ، والمصافحة ثبتت مشروعيتها في أحاديث أخرى منها ما أخرجه البخاري من طريق قتادة قال: قلت لأنس: أكانت المصافحة في أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال: نعم (2) ، وفي حديث كعب بن مالك الطويل عند البخاري قال: " دخلت المسجد فإذا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقام إلي طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني " (3) ، وبوب عليه البخاري بقوله: " باب المصافحة " (4) ، وأخرج البخاري في الأدب المفرد بسند صحيح من طريق حميد عن أنس بن مالك قال: لما جاء أهل اليمن ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " قد أقبل أهم اليمن وهم أرق قلوباً منكم؛ فهم أول من جاء بالمصافحة " (5) ، وأخرج الترمذي من حديث البراء بن عازب قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غُفر لهما قبل أن يفترقا " (6) قال ابن بطال: " المصافحة حسنة عند عامة العلماء وقد استحبها مالك بعد كراهته وقال النووي المصافحة سنة مجمع عليها عند التلاقي " (7) ، أما المعانقة فقد ورد فيها أحاديث، قال الحافظ ابن حجر: " قد ورد في المعانقة حديث أبي ذر أخرجه أحمد وأبو داود من طريق رجل من عنزة لم يسم قال قلت لأبي ذر: هل كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصافحكم إذا لقيتموه ؟ قال: ما لقيته قط إلا صافحني، وبعث إلي ذات يوم فلم أكن في أهلي فلما جئت أخبرت أنه أرسل إلي فأتيته وهو على سريره فالتزمني فكانت
__________
(1) - ينظر: الجرح والتعديل ( 3/241 )
(2) - أخرجه البخاري ح ( 6263 )
(3) - أخرجه البخاري ح ( 4418 )
(4) - البخاري مع الفتح ( 11/54 )
(5) - أخرجه البخاري في الأدب المفرد ح ( 967 )
(6) - أخرجه الترمذي ح ( 2651 )
(7) - ينظر فتح الباري ( 11/55 )(2/122)
أجود وأجود ورجاله ثقات إلا هذا الرجل المبهم وأخرج الطبراني في الأوسط من حديث أنس كانوا إذا تلاقوا تصافحوا وإذا قدموا من سفر تعانقوا " (1) ، والتقبيل ورد فيه أحاديث، قال الحافظ : " قد جمع الحافظ أبو بكر بن المقرئ جزءا في تقبيل اليد أورد فيه أحاديث كثيرة وآثارا فمن جيدها حديث الزارع العبدي وكان في وفد عبد القيس قال فجعلنا نتبادر من رواحلنا فنقبل يد النبي - صلى الله عليه وسلم - ورجله أخرجه أبو داود، ومن حديث مزيدة العصري مثله ومن حديث أسامة بن شريك قال: قمنا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقبلنا يده وسنده قوي ومن حديث جابر أن عمر قام إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقبل يده ومن حديث بريدة في قصة الأعرابي والشجرة فقال يا رسول الله ائذن لي أن أقبل رأسك ورجليك فأذن له وأخرج البخاري في الأدب المفرد من رواية عبد الرحمن بن رزين قال أخرج لنا سلمة بن الأكوع كفا له ضخمة كأنها كف بعير فقمنا إليها فقبلناها وعن ثابت أنه قبل يد أنس وأخرج أيضا أن عليا قبل يد العباس ورجله وأخرجه بن المقرئ وأخرج من طريق أبي مالك الأشجعي قال قلت لابن أبي أوفى ناولني يدك التي بايعت بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فناولنيها فقبلتها قال النووي: تقبيل يد الرجل لزهده وصلاحه أو علمه أو شرفه أو صيانته أو نحو ذلك من الأمور الدينية لا يكره بل يستحب فإن كان لغناه أو شوكته أو جاهه عند أهل الدنيا فمكروه شديد الكراهة وقال أبو سعيد المتولي لا يجوز " (2) ، وقال ابن مفلح: " وتباح المعانقة وتقبيل اليد والرأس تديناً وإكراماً واحتراماًً مع أمن الشهوة ، وظاهر هذا عدم إباحته لأمر الدنيا، والكراهة أولى، قال المروذي سألت أبا عبد الله عن قبلة اليد ، فقال: إن كان على طريق التدين فلا بأس قد قبل أبو عبيدة يد عمر بن الخطاب رضي الله عنهما وإن كان على طريق الدنيا
__________
(1) - أخرجه الطبراني في الأوسط ح ( 97 )
(2) - فتح الباري ( 11/57 )(2/123)
فلا إلا رجلاً يخاف سيفه أو سوطه " (1) ، هذا والله أعلم
- - - - - -
دعاء الركوب
لي أخوة في الله وقد اخبروني بدعاء لركوب السيارة وهو (( بسم الله الحمد لله سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ* وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ. الحمد لله، الحمد لله، الحمد لله، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، سبحانك اللهم إني ظلمت نفسي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت )) ، فالأصل في العبادات التوقيف إلا بدليل.. فهل ورد هذا عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
__________
(1) - الآداب الشرعية ( 2/257 )(2/124)
دعاء السفر المذكور في السؤال أخرجه أحمد في مسنده ح ( 753 ) وأبو داود ح ( 2602 )، والترمذي ح ( 3443 ) والنسائي ح ( 502 ) في عمل اليوم والليلة، وابن حبان كما في الإحسان ح ( 2698 )، والحاكم ( 2/99 )، من طريق أبي إسحاق عن عَلِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ شَهِدْتُ عَلِيًّا - رضي الله عنه - وَأُتِيَ بِدَابَّةٍ لِيَرْكَبَهَا فَلَمَّا وَضَعَ رِجْلَهُ فِي الرِّكَابِ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ، فَلَمَّا اسْتَوَى عَلَى ظَهْرِهَا قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ ثُمَّ قَالَ: { سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ } (1) ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ - ثَلَاثَ مَرَّاتٍ - ثُمَّ قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ - ثَلَاثَ مَرَّاتٍ - ثُمَّ قَالَ: سُبْحَانَكَ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، ثُمَّ ضَحِكَ، فَقِيلَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ ضَحِكْتَ ؟ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَعَلَ كَمَا فَعَلْتُ ثُمَّ ضَحِكَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ ضَحِكْتَ قَالَ إِنَّ رَبَّكَ يَعْجَبُ مِنْ عَبْدِهِ إِذَا قَالَ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ غَيْرِي . " ، وهو حديث حسن، وقال الترمذي: حسن صحيح، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم
__________
(1) - سورة الزخرف الآية: 13(2/125)
وأخرج الإمام مسلم وأبو داود من حديث ابْنَ عُمَرَ - رضي الله عنهما - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا اسْتَوَى عَلَى بَعِيرِهِ خَارِجًا إِلَى سَفَرٍ كَبَّرَ ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ: { سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ } اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ فِي سَفَرِنَا هَذَا الْبِرَّ وَالتَّقْوَى وَمِنْ الْعَمَلِ مَا تَرْضَى اللَّهُمَّ هَوِّنْ عَلَيْنَا سَفَرَنَا هَذَا وَاطْوِ عَنَّا بُعْدَهُ، اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ، وَكَآبَةِ الْمَنْظَرِ، وَسُوءِ الْمُنْقَلَبِ فِي الْمَالِ وَالْأَهْلِ، وَإِذَا رَجَعَ قَالَهُنَّ وَزَادَ فِيهِنَّ آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ . " (1) هذا والله أعلم .
- - - - - -
الفرق بين التورية والتقية
ما الفرق بين التورية والتقية؟
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
__________
(1) - أخرجه مسلم ح ( 1342 ) ، وأبو داود ح ( 2599 )(2/126)
المراد بالتقية أن المسلم إذا خشي على نفسه الهلاك أو الضرر فله أن يتقي الكفار والفسقة والظلمة بما يُظهر لهم من المداراة والمصانعة، ويكون باطنه ونيته على خلاف ذلك، ومثل ذلك إذا أكره على الكفر فيتلفظ بلسانه وقلبه مطمئن بالإيمان، قال الله سبحانه وتعالى: { لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ } (1) ، قال ابن جرير : " إلا أن تتقوا منهم تقاه: إلا أن تكونوا في سلطانهم فتخافهم على أنفسكم، فتظهروا لهم الولاية بألسنتكم وتضمروا لهم العداوة ولا تشايعوهم على ما هم عليه من الكفر ولا تعينوهم على مسلم بفعل "، وروي عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - أنه قال: " إِنَّا لَنَكْشِرُ فِي وُجُوهِ أَقْوَامٍ وَإِنَّ قُلُوبَنَا لَتَلْعَنُهُمْ " (2) ، وقال الحسن: " التقية جائزة للإنسان إلى يوم القيامة " (3) ، وقال الله تبارك وتعالي: { مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ } (4) ، قال ابن كثير: " اتفق العلماء على أن المكره على الكفر يجوز له أن يوالي إبقاءٍ لمهجته، ويجوز له أن يأبى كما فعل بلال " (5)
__________
(1) - سورة آل عمران الآية: 38
(2) - أخرجه البخاري معلقاً ( البخاري مع الفتح 10/528 )
(3) - ينظر: تفسير ابن كثير ( 2/27 )
(4) - ينظر: تفسير ابن كثير ( 4/228 )
(5) - تفسير ابن كثير ( 4/606 )(2/127)
وأما التورية فمعناها: أن يذكر لفظاً يحتمل معنيين أحدهما أقرب من الآخر فيوهم إرادة القريب وهو يريد البعيد، وقد جاء في الحديث: " لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُرِيدُ غَزْوَةً إِلَّا وَرَّى بِغَيْرِهَا " (1) ، أي أوهم بغيرها، وقال إبراهيم عليه السلام : " يَا سَارَةُ لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مُؤْمِنٌ غَيْرِي وَغَيْرَكِ وَإِنَّ هَذَا سَأَلَنِي فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّكِ أُخْتِي فَلَا تُكَذِّبِينِي " (2)
فإذا احتاج المسلم إلى التورية أو المعاريض ففيها مندوحة عن الكذب وعن التقية والله أعلم .
- - - - - -
الصور الجائزة في الإسلام
قرأت عن الصور الجائزة في الإسلام، روي عن سالم بن عبد الله أنه أوضح طبيعة الصور المحرمة فيما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . وهو مما نقله الإمام أحمد عن الليث أنه زار مرة سالم بن عبد الله.
فقال: عندما دخلت عليه رأيته متكئا على وسادة عليها تصاوير طيور وسباع، فسألته: أليست هذه التصاوير مكروهة (في الإسلام) .
فقال: لا، إنما يكره من الصور ما علق للعبادة.
أرجو التعليق على صحة هذا الحديث . وجزاكم الله خيرا .
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
__________
(1) - أخرجه البخاري ح ( 2947 ) ، ومسلم ح ( 4973 ) من حديث كعب بن مالك
(2) - أخرجه البخاري ح ( 3358 ) ، ومسلم ح ( 4371 )(2/128)
الأثر المشار إليه في السؤال أخرجه ابن أبي شيبة (5/207 ) قال: حدثنا ابن فضيل عن ليث قال رأيت سالم بن عبد الله متكئا على وسادة حمراء فيها تماثيل فقلت له فقال إنما يكره هذا لمن ينصبه ويصنعه . وأخرج ابن أبي شيبة أيضاً ( 5/208 ) قال: حدثنا الحسن بن موسى قال حدثنا حماد بن سلمة عن عمرو بن دينار عن سالم بن عبد الله قال: كانوا لا يرون بما وطئ من التصاوير بأساً، وقد ساق ابن أبي شيبة عدداً من الآثار الدالة على أن الصورة إذا كانت مما يمتهن ويوطأ ويتكأ عليه من الفرش والوسائد فإنها جائزة، وبوب البخاري في الصحيح، باب ما وطئ من التصاوير (1) ، وذكر حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ سَفَرٍ وَقَدْ سَتَرْتُ بِقِرَامٍ لِي عَلَى سَهْوَةٍ لِي فِيهَا تَمَاثِيلُ فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - هَتَكَهُ وَقَالَ أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ يُضَاهُونَ بِخَلْقِ اللَّهِ قَالَتْ فَجَعَلْنَاهُ وِسَادَةً أَوْ وِسَادَتَيْنِ . " (2) ، وهذا القول أحد الأقوال في المسألة، وهناك أقوال أخرى:
__________
(1) - البخاري مع الفتح ( 10/386 )
(2) - أخرجه البخاري ح ( 5954 )(2/129)
1- فمن العلماء من ذهب إلى أن الصورة إذا كانت لا ظل لها أي ليست مجسمة فلا تدخل في التصوير المنهي عنه، ويدل على ذلك حديث زيد بن سهل - رضي الله عنه - إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ الصُّورَةُ قَالَ بُسْرٌ ثُمَّ اشْتَكَى زَيْدٌ فَعُدْنَاهُ فَإِذَا عَلَى بَابِهِ سِتْرٌ فِيهِ صُورَةٌ فَقُلْتُ لِعُبَيْدِ اللَّهِ رَبِيبِ مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَلَمْ يُخْبِرْنَا زَيْدٌ عَنْ الصُّوَرِ يَوْمَ الْأَوَّلِ فَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ أَلَمْ تَسْمَعْهُ حِينَ قَالَ إِلَّا رَقْمًا فِي ثَوْبٍ . (1)
2- ومن العلماء من ذهب إلى المنع مطلقاً أخذاً بعموم الأحاديث الدالة على تحريم التصوير .
3- ومن العلماء من ذهب إلى أن الصورة إذا كانت باقية الهيئة قائمة الشكل حرمت وإن قطع الرأس أو تفرقت الأجزاء جاز، ويدل على هذا حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَتَانِي جِبْرِيلُ فَقَالَ إِنِّي كُنْتُ أَتَيْتُكَ الْبَارِحَةَ فَلَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَكُونَ دَخَلْتُ عَلَيْكَ الْبَيْتَ الَّذِي كُنْتَ فِيهِ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ فِي بَابِ الْبَيْتِ تِمْثَالُ الرِّجَالِ وَكَانَ فِي الْبَيْتِ قِرَامُ سِتْرٍ فِيهِ تَمَاثِيلُ وَكَانَ فِي الْبَيْتِ كَلْبٌ فَمُرْ بِرَأْسِ التِّمْثَالِ الَّذِي بِالْبَابِ فَلْيُقْطَعْ فَلْيُصَيَّرْ كَهَيْئَةِ الشَّجَرَةِ وَمُرْ بِالسِّتْرِ فَلْيُقْطَعْ وَيُجْعَلْ مِنْهُ وِسَادَتَيْنِ مُنْتَبَذَتَيْنِ يُوطَآَنِ وَمُرْ بِالْكَلْبِ فَيُخْرَجْ فَفَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " (2) ، هذا والله أعلم .
- - - - - -
__________
(1) - أخرجه البخاري ح ( 3226 )، ومسلم ح ( 2106 ) ، والرقم: النقش في الثوب .
(2) - أخرجه الترمذي ح ( 2730 ) وقال: حسن صحيح(2/130)
هل هناك دعاء لهداية الأبناء ؟
ما هو الدعاء الذي ندعو به بعد صلاة الفجر (ربما 100 مرة) لكي يهدي الله أبنائنا ويحفظهم من الشيطان؟، أعتقد أن الدعاء هو "رب هب لي من الصالحين" فهل هذا صحيح؟
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
هذا الدعاء المذكور في السؤال دعا به إبراهيم الخليل عليه السلام كما في قوله تعالى: { رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ } (1) ، ويشرع للإنسان أن يدعو بهذا الدعاء ونحوه من الأدعية الواردة عن الأنبياء مما يناسب المقام من غير تقيد بوقت ولا عدد، وأن يحرص على أن يتوخى ساعات الإجابة والأوقات الفاضلة مثل: الثلث الأخير من الليل، وما بين الأذان والإقامة، ووقت نزول الغيث، وحين الإفطار، وفي حال السفر، وساعة الجمعة، وقد كان الدعاء بصلاح الذرية واستقامتهم محل عناية الأنبياء واهتمامهم قبل وجود الذرية وبعد وجودها، قال تعالى عن زكريا - عليه السلام - : { هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء } (2) ، وقال عن إبراهيم - عليه السلام - : { رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء } (3) ، وقال تعالى عن صالحي المؤمنين: { رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } (4) ، وقال عن امرأة عمران: { فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ
__________
(1) - سورة الصافات الآية: 100
(2) - سورة الصافات الآية: 100
(3) - سورة آل عمران الآية: 38
(4) - سورة الأحقاف الآية: 15(2/131)
وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } (1) ، وحث النبي - صلى الله عليه وسلم - حال الجماع أن يدعو الإنسان بما يحصل به ابتعاد الشيطان عنه وعن مولوده ففي الصحيحين من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - أن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَتَى أَهْلَهُ قَالَ بِاسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ وَجَنِّبْ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا فَقُضِيَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ لَمْ يَضُرُّهُ " (2) ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعوذ الحسن والحسين فيقول: " أُعِيذُكُمَا بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وَهَامَّةٍ وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ لَامَّةٍ " (3) ، ولم يرد فيما أعلم أن الدعاء: { رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ } يقال مائة مرة بعد صلاة الفجر، وقد ورد أدعية وأوراد تقال بعد صلاة الفجر وهي ما يعرف بأذكار الصباح والمساء، وقد اعتنى العلماء بجمعها مع الأذكار الأخرى التي تقال في مناسبات مختلفة، ومن أشهر الكتب التي أُلفت في هذه الموضوع كتاب الأذكار للنووي، والكلم الطيب لابن تيمية، والوابل الصيب لابن القيم، وسلاح المؤمن لابن الإمام، وجمع بعض المعاصرين أذكار الصباح والمساء في كتيبات صغيرة وهي متوفرة مثل كتاب حصن المسلم وغيره .
هذا والله أعلم.
- - - - - -
هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في عيشه
__________
(1) - سورة آل عمران الآية: 36
(2) - أخرجه البخاري ح ( 141 ) ، ومسلم ح ( 1434 )
(3) - أخرجه البخاري ح ( 3371 ) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، والترمذي ح ( 2060 ) وقال حديث حسن صحيح، واللفظ له .(2/132)
أسبغ الله - سبحانه وتعالى - نعمه على عباده ظاهرة وباطنة، فهو الذي خلقهم ورزقهم، ووهبهم العقول والأسماع والأبصار، ومنحهم الصحة والعافية، فهم يتقلبون في نعم الله وفضله، ولو ذهب الإنسان يتأمل في نعم الله عليه فإنه لا يدرك لها عداً ولا إحصاءً، واقتضت حكمته - سبحانه وتعالى - أن يتفاوت الناس في أرزاقهم ومعاشهم، فهذا قد بُسط له في دنياه، وآخر قد قدر عليه رزقه، ولم يؤت سعة من المال، وجعل سبحانه وتعالى في نبيه وصفوة خلقه - صلى الله عليه وسلم - قدوة وأسوة، حيث اختار له أن يعيش في دنياه حياة الكفاف، فكان أزهد الناس في الدنيا مع قدرته عليها، وتعلق قلبه بربه؛ فأعرض عن الدنيا، وأقبل على الآخرة، حتى إنه - صلى الله عليه وسلم - لما مات لم يترك شيئاً كما في حديث عائشة - رضي الله عنها - : " مَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا وَلَا شَاةً وَلَا بَعِيرًا وَلَا أَوْصَى بِشَيْءٍ " (1) ، وتُوُفِّيَ - صلى الله عليه وسلم - وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِيٍّ بِثَلَاثِينَ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ لِأَهْلِهِ (2) ، والحديث عن مظاهر زهده - صلى الله عليه وسلم - في عيشه يطول، ولكننا نترك المجال للأحاديث .
__________
(1) - أخرجه البخاري ح ( 4461 )
(2) - أخرجه البخاري ح ( 2916 ) ، ومسلم ( 1603 )(2/133)
والروايات تتحدث عن عيش النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وتصف لنا هديه وزهده في طعامه، وشرابه، ولباسه، ومسكنه ومركبه، ففي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كان - صلى الله عليه وسلم - يدعو ربه فيقول: " اللَّهُمَّ ارْزُقْ آلَ مُحَمَّدٍ قُوتًا " (1) ، القوت: هو ما يسد الرمق، وفي رواية: " اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ كَفَافًا "، والكفاف: الكفاية بلا زيادة ولا نقص، ومن مظاهر زهده - صلى الله عليه وسلم - في الطعام أنه مضى لسبيله، ولم يشبع هو وأهله ثلاثة أيام تباعاً من خبز بُرٍّ كما في الصحيحين من حديث عائشة - رضي الله عنها -: " مَا شَبِعَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ تِبَاعًا مِنْ خُبْزِ بُرٍّ حَتَّى مَضَى لِسَبِيلِهِ" (2) ، وفي الصحيحين من حديث عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الْهِلَالِ ثُمَّ الْهِلَالِ ثَلَاثَةَ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ وَمَا أُوقِدَتْ فِي أَبْيَاتِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَارٌ، فقيل لها: مَا كَانَ يُعِيشُكُمْ ؟ قَالَتْ: الْأَسْوَدَانِ التَّمْرُ وَالْمَاءُ (3) ، وفي مسند أحمد من حديث أنس - رضي الله عنه - : " لَمْ يَجْتَمِعْ لَرسول الله - صلى الله عليه وسلم - غَدَاءٌ وَلَا عَشَاءٌ مِنْ خُبْزٍ وَلَحْمٍ إِلَّا عَلَى ضَفَفٍ " (4) ، أي: عندما ينزل عليه الضيوف، وخطب النعمان بن بشير - رضي الله عنه - يوماً على المنبر فقال: " أَلَسْتُمْ فِي طَعَامٍ وَشَرَابٍ مَا شِئْتُمْ ؟ لَقَدْ رَأَيْتُ نَبِيَّكُمْ - صلى الله عليه وسلم - وَمَا يَجِدُ مِنْ الدَّقَلِ مَا يَمْلَأُ بِهِ بَطْنَهُ " (5) ،
__________
(1) - أخرجه البخاري ح ( 6460 ) ، ومسلم ح ( 1055 )
(2) - أخرجه البخاري ح ( 2970 ) ، ومسلم ح ( 5416 )
(3) - أخرجه البخاري ح ( 2567 ) ،ومسلم ح ( 2972 )
(4) - أخرجه أحمد ح ( 13447 )
(5) - أخرجه مسلم ح ( 2977 ) ، والترمذي ح ( 2372 ) ، وقال: حديث حسن صحيح .(2/134)
والدقل: هو التمر الرديء، وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا وجد طعاماً أكل، وإلا صبر، وربما نوى الصوم، فعن عائشة - رضي الله عنها - قَالَتْ: " قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ يَوْمٍ يَا عَائِشَةُ هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ ؟ قَالَتْ: فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عِنْدَنَا شَيْءٌ قَالَ فَإِنِّي صَائِمٌ " (1) ، وبلغ من شدة زهده - صلى الله عليه وسلم - أن صعبت هذه المعيشة على زوجاته، فطالبن بالتوسعة قليلاً في العيش، فنزلت هذه الآيات: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً } (2) " (3) ، فاخترن حياة الزهد والتقشف، وآثرن ما عند الله والدار الآخرة، ومع ذلك لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يحرم على نفسه الطيبات، بل كان يستمتع منها بما يتيسر، فلم يكن يرد موجوداً من الطعام، ولا يتكلف مفقوداً، وكان من هديه - صلى الله عليه وسلم - أنه لا يعيب طعاماً قط، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: " مَا عَابَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - طَعَامًا قَطُّ إِنْ اشْتَهَاهُ أَكَلَهُ، وَإِلَّا تَرَكَهُ " (4) ، ولما قدم له الضب وعافه لم يحرمه وأُكل على مائدته، وحث - صلى الله عليه وسلم - على القصد والاعتدال في الطعام والشراب، ففي حديث المِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً
__________
(1) - أخرجه مسلم ح ( 1154 )
(2) - سورة الأحزاب 28 -29
(3) - أخرجه البخاري ح ( 4786 ) ، ومسلم ح ( 1475 )
(4) - أخرجه البخاري ح ( 3563 ) ، ومسلم ح ( 2064 )(2/135)
شَرًّا مِنْ بَطْنٍ، بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أُكُلَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ كَانَ لَا مَحَالَةَ، فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ، وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ " (1)
وورد في وصف فراشه - صلى الله عليه وسلم - ما أخرجه البخاري ومسلم من حديث عائشة - رضي الله عنها -: " إِنَّمَا كَانَ فِرَاشُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الَّذِي يَنَامُ عَلَيْهِ أَدَمًا حَشْوُهُ لِيفٌ" (2) ، ويصف عمر - رضي الله عنه - فراشه - صلى الله عليه وسلم - فيقول: " دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَإِذَا هُوَ مُضْطَجِعٌ عَلَى رِمَالِ حَصِيرٍ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فِرَاشٌ قَدْ أَثَّرَ الرِّمَالُ بِجَنْبِهِ مُتَّكِئًا عَلَى وِسَادَةٍ مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ ...
__________
(1) - أخرجه أحمد ح ( 16735 ) ، والترمذي ح ( 2380 ) وقال: حديث حسن صحيح.
(2) - أخرجه البخاري ح ( 6456 ) ، ومسلم ح ( 2082 )(2/136)
فَوَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ فِي بَيْتِهِ شَيْئًا يَرُدُّ الْبَصَرَ غَيْرَ أَهَبَةٍ ثَلَاثَةٍ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ فَلْيُوَسِّعْ عَلَى أُمَّتِكَ فَإِنَّ فَارِسَ وَالرُّومَ قَدْ وُسِّعَ عَلَيْهِمْ وَأُعْطُوا الدُّنْيَا وَهُمْ لَا يَعْبُدُونَ اللَّهَ فَجَلَسَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَكَانَ مُتَّكِئًا فَقَالَ أَوَفِي هَذَا أَنْتَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ إِنَّ أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلُوا طَيِّبَاتِهِمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا " (1) ، وفي حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: " نَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى حَصِيرٍ فَقَامَ وَقَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ اتَّخَذْنَا لَكَ وِطَاءً فَقَالَ: مَا لِي وَمَا لِلدُّنْيَا مَا أَنَا فِي الدُّنْيَا إِلَّا كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا" (2) ، ويصف لنا أنس - رضي الله عنه - مركبه - صلى الله عليه وسلم - في الحج فيقول: " حَجَّ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى رَحْلٍ رَثٍّ وَقَطِيفَةٍ لَا تُسَاوِي أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ " (3)
__________
(1) - أخرجه البخاري ح ( 2468 ) ، ومسلم ح ( 1479 )
(2) - أخرجه الترمذي ح ( 2377 ) ، وقال: حديث حسن صحيح
(3) - أخرجه ابن ماجه ح ( 2881 )(2/137)
وأما هديه - صلى الله عليه وسلم - في لباسه فقد كان - صلى الله عليه وسلم - في غاية الزهد فيه، واقتصر منه على ما تيسر، ففي الصحيحين من حديث أبي بردة - رضي الله عنه - قال: " دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ فَأَخْرَجَتْ إِلَيْنَا إِزَارًا غَلِيظًا مِمَّا يُصْنَعُ بِالْيَمَنِ وَكِسَاءً مِنْ الَّتِي يُسَمُّونَهَا الْمُلَبَّدَةَ قَالَ: فَأَقْسَمَتْ بِاللَّهِ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قُبِضَ فِي هَذَيْنِ الثَّوْبَيْنِ " (1) ، والكساء الملبد: أي المرقع، لقد كان - صلى الله عليه وسلم - زاهداً في كل جوانب حياته، مُهوناً من أمر الدنيا حتى قال: " لَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ " (2) ، وقال: " لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ " (3)
فهذه لمحة موجزة عن عيش صفوة الخلق، وخاتم النبيين، وهي تُذكر المسلم بحقارة الدنيا، وهوانها على الله، وتسكب في القلب الرضا والطمأنينة، والقناعة بما قسم الله للإنسان، وفي الحديث: " قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ وَرُزِقَ كَفَافًا وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا آتَاهُ " (4)
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
- - - - - -
هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأكل
في صحيح البخاري المجلد (7/297) ذكر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يأكل خبزاً رقيقاً ولحماً مشوياً، فهل يمنع مثل هذا الطعام؟ وهناك أيضاً حديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأكل طعاماً متتالياً مرتين طوال حياته، فهل يكون اتباع مثل ذلك سنة أو مباحاً أو مندوباً؟.
الجواب:
__________
(1) - أخرجه البخاري ح ( 3108 ) ، ومسلم ح ( 2080 )
(2) - أخرجه الترمذي ح ( 2320 ) ، وقال: حديث صحيح غريب من هذا الوجه
(3) - أخرجه البخاري ح ( 6446 ) ، ومسلم ح ( 1051 )
(4) - أخرجه مسلم ح ( 1054 )(2/138)
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين . وبعد : أود قبل الإجابة عن الحديثين المستفسر عنهما أن أذكر شيئاً من هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في الطعام فمن ذلك :
1- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأكل من الطيبات ما تيسَّر له، فلم يكن يرد موجوداً، ولا يتكلف مفقوداً، فكان عليه الصلاة والسلام يأكل الحلوى والعسل ويحبهما، ففي صحيح البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها قالت:" كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُحِبُّ الْحَلْوَاءَ وَالْعَسَلَ". (1)
وكان يأكل اللحم المطبوخ والمشوي ، كما جاء في أحاديث كثيرة منها : -
__________
(1) - أخرجه البخاري ح ( 5431 )(2/139)
ما جاء في صحيح البخاري من حديث عمرو بن أمية - رضي الله عنه - أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يحتز - أي يقطع - من كتف شاة في يده فدعي إلى الصلاة فألقاها والسكين التى يحتز بها..... الحديث (1) . وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : " أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمًا بِلَحْمٍ فَرُفِعَ إِلَيْهِ الذِّرَاعُ وَكَانَتْ تُعْجِبُهُ فَنَهَسَ مِنْهَا نَهْسَةً ." (2) الحديث، وفي صحيح البخاري من حديث عَبْد الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أن النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - اشْتَرَى شَاةً فَصُنِعَتْ فَأَمَرَ نَبِيُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِسَوَادِ الْبَطْنِ يُشْوَى الحديث (3) وأكل الحيس ، وهو ما يتخذ من التمر والأقط والسمن ، وقد يجعل مكان الأقط الفتيت أو الدقيق , ففي صحيح البخاري من حديث أنس - رضي الله عنه - في قصة بنائه - صلى الله عليه وسلم - بصفية بنت حُيي ٍ " .... حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالصَّهْبَاءِ صَنَعَ حَيْسًا فِي نِطَعٍ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَدَعَوْتُ رِجَالًا فَأَكَلُوا.....
__________
(1) - أخرجه البخاري ح ( 208 )
(2) - أخرجه البخاري (3340)، ومسلم (194)
(3) - أخرجه البخاري ح ( 2618 )(2/140)
" الحديث (1) ، وأكل الثريد، وهو أن يثرد الخبز بمرق اللحم ، وقد يكون معه اللحم ، ففي صحيح البخاري من حديث أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى غُلَامٍ لَهُ خَيَّاطٍ فَقَدَّمَ إِلَيْهِ قَصْعَةً فِيهَا ثَرِيدٌ قَالَ وَأَقْبَلَ عَلَى عَمَلِهِ قَالَ فَجَعَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَتَتَبَّعُ الدُّبَّاءَ قَالَ فَجَعَلْتُ أَتَتَبَّعُهُ فَأَضَعُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ قَالَ فَمَا زِلْتُ بَعْدُ أُحِبُّ الدُّبَّاءَ (2) ، وأكل الدباء ، وهو اليقطين (القرع)، ففي الصحيحين من حديث أنس - رضي الله عنه - قال : " قَرَّبَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خُبْزًا مِنْ شَعِيرٍ وَمَرَقًا فِيهِ دُبَّاءٌ وَقَدِيدٌ قَالَ أَنَسٌ: فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَتَتَبَّعُ الدُّبَّاءَ مِنْ حَوْلِ الصَّحْفَةِ (3) ، وربما جمع بين لونين من الطعام ، ففي الصحيحين من حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَأْكُلُ الرُّطَبَ بِالْقِثَّاءِ (4) قال النووي: " في هذا الحديث جواز أكل الشيئين من الفاكهة وغيرها معاً وجواز أكل طعامين معاً ، ويؤخذ منه جواز التوسع في المطاعم، ولا خلاف بين العلماء في جواز ذلك ، وما نقل عن السلف من خلاف هذا محمول على الكراهة منعاً لاعتياد التوسع والترفه والإكثار لغير مصلحة دينية" (5)
__________
(1) - أخرجه البخاري ح (5425)
(2) - أخرجه البخاري ح (5420)
(3) - أخرجه البخاري ح (5439)، ومسلم ح (2041)
(4) - أخرجه البخاري ح (5440)، ومسلم ح (2043)
(5) - شرح النووي على مسلم ( 13/227 )(2/141)
2- وكان من هديه - صلى الله عليه وسلم - أنه لا يعيب طعاما ً قط ، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : " مَا عَابَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - طَعَامًا قَطُّ إِنْ اشْتَهَاهُ أَكَلَهُ وَإِلَّا تَرَكَهُ " (1) ولما قدم له الضب وعافه ... لم يحرمه وأُكل على مائدته ، ففي صحيح البخاري من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - أَنَّهُ دَخَلَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى مَيْمُونَةَ وَهِيَ خَالَتُهُ فَوَجَدَ عِنْدَهَا ضَبًّا مَحْنُوذًا قَدْ قَدِمَتْ بِهِ أُخْتُهَا حُفَيْدَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ مِنْ نَجْدٍ فَقَدَّمَتْ الضَّبَّ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَكَانَ قَلَّمَا يُقَدِّمُ يَدَهُ لِطَعَامٍ حَتَّى يُحَدَّثَ بِهِ وَيُسَمَّى لَهُ فَأَهْوَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَدَهُ إِلَى الضَّبِّ فَقَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْ النِّسْوَةِ الْحُضُورِ أَخْبِرْنَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا قَدَّمْتُنَّ لَهُ هُوَ الضَّبُّ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَدَهُ عَنْ الضَّبِّ فَقَالَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ أَحَرَامٌ الضَّبُّ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ لَا وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ قَالَ خَالِدٌ فَاجْتَرَرْتُهُ فَأَكَلْتُهُ وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَنْظُرُ إِلَيَّ (2)
__________
(1) - أخرجه البخاري ح (3563)، ومسلم ح (2064)
(2) - أخرجه البخاري ح (5391)(2/142)
3- وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا لم يجد طعاماً صبر حتى إنه يعرف في صوته الجوع، وربما ربط على بطنه الحجر من شدة الجوع، ويرى الهلال والهلال ولا يوقد في بيته نار ، ففي صحيح مسلم من حديث النُّعْمَان بن بشير قَالَ: ذَكَرَ عُمَرُ مَا أَصَابَ النَّاسُ مِنْ الدُّنْيَا فَقَالَ لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَظَلُّ الْيَوْمَ يَلْتَوِي مَا يَجِدُ دَقَلًا يَمْلَأُ بِهِ بَطْنَهُ (1) وفي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها، أَنَّهَا قَالَتْ لِعُرْوَةَ: ابْنَ أُخْتِي إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الْهِلَالِ ثَلَاثَةَ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ وَمَا أُوقِدَتْ فِي أَبْيَاتِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَارٌ فَقُلْتُ مَا كَانَ يُعِيشُكُمْ ؟ قَالَتْ: الْأَسْوَدَانِ التَّمْرُ وَالْمَاءُ إِلَّا أَنَّهُ قَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - جِيرَانٌ مِنْ الْأَنْصَارِ كَانَ لَهُمْ مَنَائِحُ وَكَانُوا يَمْنَحُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَبْيَاتِهِمْ فَيَسْقِينَاهُ . (2)
__________
(1) - أخرجه مسلم ح (2978)
(2) - أخرجه البخاري ح (2567)، ومسلم ح (2972)(2/143)
4- حث النبي - صلى الله عليه وسلم - على القصد والاعتدال في الطعام والشراب ، ففي حديث مِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أُكُلَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ فَإِنْ كَانَ لَا مَحَالَةَ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ (1) ، ويؤخذ من الحديث الحض على التقلل من الأكل ، وقد كان العقلاء في الجاهلية والإسلام يتمدحون بقلة الأكل ويذمون بكثرة الأكل . وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - موصوفاً بقلة الأكل ، قال القاضي عياض : " هذا ما لا يدفع من سيرته ، وهذا الذي أمر به وحض عليه...." ، هذه لمحة موجزة عن هديه - صلى الله عليه وسلم - في طعامه، ويجاب عن الحديثين المستفسر عنهما في السؤال بما يأتي : -
أما حديث عائشة - رضي الله عنها - : " مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - مُنْذُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ مِنْ طَعَامِ الْبُرِّ ثَلَاثَ لَيَالٍ تِبَاعًا حَتَّى قُبِضَ " (2) الشبع المنفي في هذا الحديث مقيد بقيدين هما :
1- الشبع المتوالي بمعنى أنهم لا يشبعون الأيام المذكورة متوالية ، ولهذا يؤخذ من الحديث جواز الشبع في الجملة .
__________
(1) - أخرجه أحمد (16735)، والترمذي (2380) وقال حديث حسن صحيح.
(2) - أخرجه البخاري ح (5374)، ومسلم ح (2970)(2/144)
2- قيد الشبع بالطعام المذكور، وهو البر ، وعند مسلم " مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ خُبْزِ شَعِيرٍ يَوْمَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ " (1) وقد أخبرت عائشة رضي الله عنها بشبعهم من التمر ، ففي صحيح البخاري: " تُوُفِّيَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ شَبِعْنَا مِنْ الْأَسْوَدَيْنِ التَّمْرِ وَالْمَاءِ " (2) ، ولعل عدم شبعهم من البر أو الشعير بسبب قلته عندهم أو أنهم قد يجدون ويؤثرون على أنفسهم . أو يتركون ذلك كراهة الشبع وكثرة الأكل ، وحديث أنس - رضي الله عنه - : " مَا أَكَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - خُبْزًا مُرَقَّقًا وَلَا شَاةً مَسْمُوطَةً حَتَّى لَقِيَ اللَّهَ " (3) الخبز المرقق : الترقيق هو التلين، والمرقق من الخبز ما كان ملينا محسنا موسعا، وهذا النوع من الخبز لم يكن موجوداً في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - على هذه الصفة، وحين وجد في عهد الصحابة - رضي الله عنهم - رأوا أنه من التوسع في العيش ، فعن قتادة، قال : كنا عند أنس - رضي الله عنه - وعنده خباز له .... فذكر الحديث .
__________
(1) - أخرجه مسلم ح (2970)
(2) - أخرجه البخاري ح (5383)
(3) - أخرجه البخاري ح (5385)(2/145)
وعند الطبراني من طريق راشد بن أبي راشد قال: " كان لأنس غلام يخبز له الحواري ويعجنه بالسمن" (1) ، والحواري : الخالص الذي ينخل مرة بعد مرة ، وعن أَبِي حَازِمٍ قَالَ: سَأَلْتُ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ فَقُلْتُ: هَلْ أَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - النَّقِيَّ ؟ فَقَالَ سَهْلٌ: مَا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - النَّقِيَّ مِنْ حِينَ ابْتَعَثَهُ اللَّهُ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ قَالَ: فَقُلْتُ هَلْ كَانَتْ لَكُمْ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَنَاخِلُ ؟ قَالَ: مَا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مُنْخُلًا مِنْ حِينَ ابْتَعَثَهُ اللَّهُ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ قَالَ قُلْتُ: كَيْفَ كُنْتُمْ تَأْكُلُونَ الشَّعِيرَ غَيْرَ مَنْخُولٍ ؟ قَالَ: كُنَّا نَطْحَنُهُ وَنَنْفُخُهُ فَيَطِيرُ مَا طَارَ وَمَا بَقِيَ ثَرَّيْنَاهُ فَأَكَلْنَاهُ (2) والشاة المسموطة : المسموط الذي أزيل شعره بالماء المسخن ، وشوى بجلده أو يطبخ ، ويصنع ذلك في الصغير السن الطري ، وقد ذكر العلماء أن طبخ الشاة على هذه الصفة من صنيع أهل الترف .
وأسأل الله تبارك وتعالى أن يوفقنا لاتباع هديه في طعامه، وفي سائر أحواله ، فخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - .
- - - - - -
شبهات حول المرأة والرد عليها
أنا طالبة في كلية وندرس تاريخ الشرق الأوسط.
مدرستنا وهي غير مسلمة أوردت بعض الأحاديث الخاصة بالمرأة.
ولم تتم مناقشة هذه الأحاديث بعد لكنني أتوقع ردود فعل سلبية. لذلك أريد شرح الأحاديث قبل أن تتم المناقشة. ومن ضمن هذه الأحاديث حديث أن المرأة خلقت من ضلع أعوج. فهل هذا الحديث صحيح؟
أعتقد أن صحته محل نظر لأن القرآن لم يذكر خلق آدم أولا حيث النفس ليس جنسا محددا في العربية.
وحديث ما تركت فتنة بعدي أشد على الرجال من النساء.
__________
(1) - أخرجه الطبراني (1/673)
(2) - أخرجه البخاري ح (5413)(2/146)
أرجو التكرم بشرح الحديثين لتقديم الشرح أمام الطالبات.
وجزاكم الله خيرا
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
الحديث الأول: أخرجه البخاري ح ( 3331 ) ومسلم ح ( 1468 ) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلَاهُ فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ "، ومعنى الحديث الحث على الرفق بالمرأة والإحسان إليها، وطيب معاشرتها وحسن مراعاتها ومداراتها، وقد بوب عليه البخاري بقوله: باب المداراة مع النساء (1) ، وقوله: " خلقت من ضلع " فيه إشارة إلى أنها خلقت من ضلع آدم، وقد دل القرآن أن المرأة خلقت من الرجل، قال تعالى: { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا } (2) ، قال الطبري: " ويعني بقوله: وجعل منها زوجها، وجعل من النفس الواحدة، وهو آدم زوجها حواء ... " ثم ذكر عن قتادة: " وجعل منها زوجها، حواء جعلت من أضلاعه، ليسكن إليها " (3) ، وقال الحافظ ابن كثير: " ينبه تعالى على أنه خلق جميع الناس من آدم عليه السلام، وأنه خلق منه زوجته حواء ثم انتشر الناس منهما ... " (4) ، وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } (5) ، قال ابن كثير: " وخلق منها زوجها وهي حواء عليها السلام خلقت من ضلعه الأيسر من خلفه وهو نائم، فاستيقظ فرآها فأعجبته، فأنس إليها وأنست إليه...
__________
(1) - البخاري مع الفتح ( 9/252 )
(2) - سورة الأعراف الآية: 189
(3) - تفسير ابن جرير ( 6/141 )
(4) - تفسير ابن كثير ( 3/523 )
(5) - سورة النساء الآية: 1(2/147)
"، وقال ابن جرير: " وخلق منها زوجها، وهي حواء..."، وذهب بعض العلماء إلى أن قوله في الحديث: " من ضلع " قصد به المثل أي من مثل ضلع، وقصد من هذا التشبيه الحث على الرفق بها والإحسان إليها، وإمساكها بالمعروف ويشهد له ما جاء في رواية مسلم : " لَنْ تَسْتَقِيمَ لَكَ عَلَى طَرِيقَةٍ فَإِنْ اسْتَمْتَعْتَ بِهَا اسْتَمْتَعْتَ بِهَا وَبِهَا عِوَجٌ وَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهَا كَسَرْتَهَا وَكَسْرُهَا طَلَاقُهَا " (1) ، ومن المعلوم أن الخالق جل ثناؤه قد زود كلاً من الرجل والمرأة بخصائص تتناسب والمهمة التي يقوم بها كل منهما، فالمرأة هي الحاضنة والمربية والحاملة والمرضعة، وهذه المهمة بحاجة إلى عواطف جياشة ومشاعر مرهفة حتى تستطيع أن تؤدي مهمتها على الوجه الأكمل، وغلبة هذه العاطفة مع ما يتكرر معها من المحيض والولادة يولد لديها بعض الضعف من الانفعال النفسي والشعور بالضيق فيضعف تحملها فتحتاج إلى مراعاة، فأرشد النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث إلى طبيعة المرأة، وأنها تحتاج إلى مراعاة ومداراة وترك التقصي عليها فلا تعامل بالشدة والمحاسبة الدقيقة على تصرفاتها، ولو أن الزوج استحضر هذه الوصية عند تعامله مع امرأته لطابت حياتهما وعاشا حياة طيبة وعيشة هنيئة بعيدة عن المشاكل والمكدرات، والإسلام كما لا يخفى في تشريعاته وأحكامه قد أعطى المرأة مكانة عالية ومنزلة رفيعة وحفظ كرامتها وأنوثتها وعفتها وقد عرض القرآن الكريم لكثيرٍ من شئون المرأة في أكثر من عشر سور منها سورتان عرفت إحداهما بسور النساء الكبرى، وعرفت الأخرى بسور النساء الصغرى، وهما سورتا: النساء والطلاق، وعرض لها في سور: البقرة والمائدة والنور والأحزاب والمجادلة والممتحنة والتحريم، وحظيت المرأة في الإسلام بمكانة لم تحظ بها في شرع سماوي سابق ولا في اجتماع إنساني، ومع هذه المكانة للمرأة في
__________
(1) - أخرجه البخاري ح ( 3331 ) ، ومسلم ح ( 1468 )(2/148)
تشريعات الإسلام يأتي من يزعم أن الإسلام هضم حق المرأة، وجعلها متعة بيد الرجل، والقرآن يقول: { وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ } (1) ، والحقيقة أن القضية لا ترجع إلى حق وعدل ولكن إلى أهواء وشهوات وتقليد لما يوجد في البلاد الغربية والتي أخرجت المرأة عن وظيفتها الإنسانية وأقحمتها في ميادين ليست لها وقضت على أنوثتها وعفتها وكرامتها، والشاهد خير واقع، إن الإسلام منح المرأة كل خير وصانها من كل شر، ولا منقذ لها ولا حافظ لكرامتها سوى التعاليم التي جاءت في نصوص الوحيين الكتاب والسنة، والإسلام بين أن المرأة خلقت من الرجل، وأن خلق المرأة نعمة ينبغي أن يحمد الله عليها، قال تعالى: { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } (2) ، وقال تعالى: { وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً } (3) ، والمرأة في الإسلام كالرجل فهي شقيقته وشريكته، ومن الرجل والمرأة تعددت القبائل والشعوب { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ ...
__________
(1) - سورة البقرة الآية: 228
(2) - سورة الروم الآية: 21
(3) - سورة النحل الآية: 72(2/149)
} (1) ، والمرأة هي الأم وقد وضعها الإسلام موضع التكريم والإجلال وجاءت الوصايا بالإحسان إليها: { وَوَصَّيْنَا الْإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ } (2) ، وقال تعالى: { وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً } (3) ، والمرأة كالرجل فرض الله عليها القيام بالواجبات الشرعية، وهي كالرجل إذا استجابت لأمر الله : { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } (4) ، { فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ } (5) ، { إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً } (6) ، والمرأة مسئولة مسؤولية خاصة عن واجباتها الشرعية، ومسئولة مسؤولية عامة فيما يختص بالدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف، والإرشاد إلى الفضائل والتحذير من الرذائل، قال تعالى: {
__________
(1) - سورة الحجرات الآية: 13
(2) - سورة لقمان الآية: 14
(3) - سورة الأحقاف الآية: 15
(4) - سورة النحل الآية: 97
(5) - سورة آل عمران الآية: 195
(6) - سورة الأحزاب الآية: 35(2/150)
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } (1) ، وللمرأة في الإسلام حرية التصرف في مالها، ولها حق أن تستأذن في أمر زواجها، ولها أن ترفض وليس لوليها أن يكرهها فيمن لا ترغب فيه، ولها نصيبها من الميراث، واعتنى الإسلام بتعليم المرأة وتثقيفها والحاصل أن المتأمل في هذه الشريعة العظيمة يرى أنها أحاطت المرأة بتشريعات وأحكام تكمل بها كرامتها وسعادتها وتتحقق لها الحياة الطيبة في الدنيا والآخرة، ويجب أن ننظر إلى جميع ما ورد في شأن المرأة ولا ننظر إلى جزئية مقطوعة عن باقي التشريعات، فالنظرة الجزئية خاطئة ، والله أعلم.
__________
(1) - سورة التوبة الآية: 71(2/151)
أما الحديث الثاني: فأخرجه البخاري من حديث أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنْ النِّسَاءِ " (1) ، وأخرجه مسلم من حديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ " (2) ، ومعنى الحديث التحذير من الفتنة بالنساء ، وذلك أن الله سبحانه وتعالى ركب في طبيعة الرجل الميل إلى المرأة ومحبتها كما قال سبحانه : { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ ...... } (3) ، فإذا كان هذا فيما أباحه الله من الزواج فهو مطلوب ، وقد أمتن الله به على عباده ، قال سبحانه : { وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً ..... } (4) ، وقال سبحانه : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ..... } (5)
__________
(1) - أخرجه البخاري ح ( 5096 )
(2) - أخرجه مسلم ح ( 2742 )
(3) - سورة آل عمران الآية: 14
(4) - سورة النحل الآية: 72
(5) - سورة الروم الآية: 21(2/152)
ورغب النبي - صلى الله عليه وسلم - في الزواج وحث عليه لما يحصل فيه من غض البصر وتحصين الفرج وبقاء النسل، ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال : قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ" (1) ، وفي مسلم من حديث جابر - رضي الله عنه - قال : سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " إِذَا أَحَدُكُمْ أَعْجَبَتْهُ الْمَرْأَةُ فَوَقَعَتْ فِي قَلْبِهِ فَلْيَعْمِدْ إِلَى امْرَأَتِهِ فَلْيُوَاقِعْهَا فَإِنَّ ذَلِكَ يَرُدُّ مَا فِي نَفْسِهِ "، وإما إذا كان الميل والمحبة وقضاء الشهوة عن الطرق المحرمة فالمرأة تكون فتنة للرجل حيث أوقعته فيما حرم الله ولهذا قال سبحانه : { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ ... } (2) ، وقال سبحانه : { الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ......
__________
(1) - أخرجه البخاري ح ( 3331 ) ، ومسلم ح ( 1468 )
(2) - سورة النساء الآية: 24(2/153)
} (1) ، وقد تكون الزوجة فتنة لزوجها إذا صرفته عن طاعة الله أو أمرته بمعصية الله سبحانه وتعالى مثل أن تحمله على قطيعة أرحامه ، أو تحمله على التساهل في ترك أوامر الله مثل الصلاة أو الزكاة أو الجهاد ونحو ذلك ، ولهذا قال سبحانه وتعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ ...... } (2) ، وحث النبي - صلى الله عليه وسلم - على اختيار الزوجة الصالحة التي تعين زوجها على الاستقامة والخير وتحفظه في نفسها وماله، ففي الصحيحين من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ لِمَالِهَا وَلِحَسَبِهَا وَلِجَمَالِهَا وَلِدِينِهَا فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ " (3) ، وفي صحيح مسلم من حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ " (4)
__________
(1) - سورة المائدة الآية: 5
(2) - سورة التغابن الآية: 14
(3) - أخرجه البخاري ح ( 5090 ) ، ومسلم ح (1466)
(4) - أخرجه مسلم ح ( 1467 )(2/154)
ونهى الله سبحانه وتعالى المرأة عن التبرج وإظهار الزينة لغير محارمها حتى لا تكون فتنة للرجل ، وأمرها بالعفاف والحشمة وغض البصر . قال تعالى: { وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْأِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } (1) ، وقال تعالى : { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ.... } (2)
والمرأة حينما تخالف ما شرعه الله سبحانه وتعالى وتنحرف عن الصراط المستقيم تكون فتنة للرجال، وقد وقع ما حذر الرسول - صلى الله عليه وسلم - من فتنة الرجال بالنساء وهي من أعظم الفتن التي تفاقم خطرها ، وعظم خطبها ، ولعل من المناسب أن أذكر بعض مظاهر الفتنة بالمرأة في زمننا الحاضر:
1- سفور النساء وتبرجهن في كثير من المجتمعات الإسلامية وترتب على هذا إطلاق النظر إلى النساء وإثارة الغرائز وثوران الشهوة والوقوع فيما حرم الله والافتتان بهن . وكما قيل:
__________
(1) - سورة النور الآية: 31
(2) - سورة الأحزاب الآية: 33(2/155)
نظرةٌ، فابتسامةٌ ، فسلامُ فكلامٌ ، فموعدٌ فلقاءُ
2- تفننت وسائل الإعلام بأنواعها من تلفاز وفضائيات وفيديو ومجلات وكتب في عرض صور النساء الخليعة وشبة العارية مما لم يوجد في عصر مضى وأصبحت الفتنة بهن عظيمة حيث تعلق كثير من الرجال بصورهن وافتتنوا بهن .
3- كُثر الاختلاط بين الجنسين في كثير من مجالات الأعمال مما أدى إلى حصول الفتنة بالنساء التي حذر منها النبي - صلى الله عليه وسلم - .
والحاصل أن الحديث لا يفهم من ظاهره الاستهانة بحق المرأة ، وحاشا كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يشتمل على مثل هذا، كيف والإسلام رفع شأن المرأة وأعلى مكانها فهي الأم والبنت والأخت والزوجة والنساء شقائق الرجال كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - (1) ، ولكن الحديث حذر الرجال أن يحملهم ما يجدونه من المحبة والميل إلى المرأة في الوقوع فيما حرم الله، وهو متضمن تحذير المرأة من إظهار زينتها للرجال الأجانب فتكون سبباً في فتنتهم .
وقد سمى الله سبحانه الأولاد والأموال فتنة، لأن هذه الأشياء محبوبة للنفس فإذا أدت إلى الوقوع فيما حرم الله أو ترك ما أوجب الله تكون فتنة، قال سبحانه وتعالى: { إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ... } (2) ، وقال سبحانه : { قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } (3)
هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل
- - - - - -
__________
(1) - أخرجه أبو داود ح ( 205 ) ، والترمذي ح ( 113 ) من حديث عائشة رضي الله عنها
(2) - سورة التغابن الآية: 15
(3) - سورة التوبة الآية: 24(2/156)
فائدة الختان وإزالة شعر العانة
أنا امرأة أسترالية ولدي اهتمام في اعتناق الإسلام لكنني أريد أن تجيبوني على بعض الأسئلة.
ما هو الغرض من إزالة شعر العانة والإبطين والله قد أعطانا كل ما نحتاج فكيف يعطينا إياها ثم يأمرنا بإزالتها؟
وكذلك الأمر بالنسبة للختان كيف يعطينا شيء ثم يأمرنا بالتخلص منه؟ وقد ثبت علميا وطبيا الآن عدم وجود ضرورة للختان فهو لن يجعل الشخص أصح ولا أنظف.
أرجو إرشادي لتفهم هذه المسائل وشكرا لكم .
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:(2/157)
نشكر السائلة الكريمة على اهتمامها وعنايتها في السؤال عن الإسلام، وأسأل الله تبارك وتعالى أن يوفقها للهداية، وما ذكرته السائلة الكريمة من الأمر بإزالة شعر العانة والإبطين والختان، فإزالة هذه الأشياء هي الفطرة السليمة ويحصل بذلك كمال النظافة والطهارة فمن المعلوم أن شعر العانة والإبطين والقلفة بالنسبة للذكر تتجمع فيها الأوساخ والأدران فإذا أُزيل شعر العانة والإبطين والقلفة التي على الذكر عن طريق الختان زالت الأوساخ والنجاسات التي تتجمع فيها، ودين الإسلام هو دين النزاهة والنظافة وتكريم الإنسان، ولا ريب أن ترك إزالة هذه الأشياء وغيرها من سنن الفطرة مثل قص الشارب وتقليم الأظافر تجعل الإنسان شبيهاً بالحيوان، وأما لماذا يعطينا الله سبحانه وتعالى هذه الأشياء ثم يأمرنا بإزالتها، فالذي أحب أن أوضحه للسائلة الكريمة أن الله سبحانه وتعالى يبتلي عباده بهذه الأمور لينظر هل يستجيبون لأمره أم لا، ولهذا ورد أن الله ابتلى - أي اختبر - إبراهيم بهذه الأشياء التي هي سنن الفطرة ، قال تعالى: { وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } (1) ، قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: ابتلاه الله بالطهارة خمس في الرأس وخمس في الجسد، في الرأس: قص الشارب والمضمضة والاستنشاق والسواك وفرق الرأس، وفي الجسد: تقليم الأظفار وحلق العانة والختان ونتف الإبط وغسل مكان الغائط والبول بالماء " (2) ، والحاصل: أن تعاليم الإسلام كلها خير ونفع وسعادة للإنسان فمن استجاب لهذه التعليم الإلهية فقد أطاع الله وحقق العبودية له ويستحق دخول الجنة ، ومن عصى الله وأبى أن يقبل هدى الله استحق دخول النار ، قال تعالى: {
__________
(1) - سورة البقرة الآية: 124
(2) - أخرجه عبد الرزاق في تفسيره ( 1/57 ) وينظر: الدر المنثور ( 1/273 )(2/158)
وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً } (1) ، وقال تعالى: { وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ } (2) ، وثبت أن لختان الرجال فوائد صحية كثيرة منها:
1- الوقاية من الالتهابات الموضعية في القضيب الناتجة عن وجود القلفة التي تؤدي إلى احتباس البول، والتهابات حشفة القضيب .
2- التهابات المجاري البولية: أثبتت الأبحاث العديدة أن الأطفال غير المختونين يتعرضون لزيادة كبيرة في التهاب المجاري البولية .
3- الوقاية من سرطان القضيب: قد أجمعت الدراسات على أن سرطان القضيب يكاد يكون منعدما لدى المختونين بينما نسبته لدى غير المختونين ليست قليلة .
4- يقلل الختان من احتمالات إصابة الذكر بمرض الزهري، حيث ثبت أن ميكروب هذا المرض يتخير القلفة بالذات للنمو بها . (3) ، وأما الختان بالنسبة للمرأة وهو أخذ شيء من البظر، فهو غير واجب على الصحيح من أقوال أهل العلم ومن فوائده تخفيف شهوة المرأة، وفي ذلك محافظة على عفة المرأة .
- - - - - -
مقولة: " لا تستوفى الحدود حتى تعطى الحقوق "
المكرم فضيلة الشيخ: ما رأيك بعبارة (لا تُستوفى الحدود حتى تُعطى الحقوق)؟، ويحتج على ذلك إيقاف حد السرقة عام الرمادة، وهل من عدل الشريعة أن تقام الحدود ولم يُعط عمر - رضي الله عنه - الحقوق لأصحابها مع توفرها؟.
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
__________
(1) - سورة الفتح الآية: 17
(2) - سورة النساء الآيتين: 13 - 14
(3) - يراجع كتاب الختان للدكتور: محمد علي البار(2/159)
الإسلام دين شامل متكامل بعقائده وتشريعاته وأحكامه، ويجب على المسلمين الأخذ به، والتحاكم إليه، وعدم التفريق بين أحكامه بحيث يعمل ببعضٍ ويترك بعضًا، وقد ذم الله -عز وجل- هذا المسلك، كما قال تعالى: { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ } (1) ، والحدود جزء لا يتجزأ من تشريعات الإسلام، وقد شرعت لحكم ومقاصد عظيمة، حيث يتحقق بإقامتها المحافظة على الضروريات التي جاءت الشريعة بحفظها، وهي حفظ الدين، والنفس، والعقل والعرض، والمال .
__________
(1) - سورة البقرة الآية: 85(2/160)
والله سبحانه وتعالى شرع هذه الحدود، وأمر بالعدل وأداء الحقوق، ونهى عن الظلم، وأكل أموال الناس بالباطل، وهذه العبارة التي تقال: " لا تستوفى الحدود حتى تعطى الحقوق " يجاب عنها بأن الحدود لا تعطل بمثل هذه الدعوى، بل إذا حصل تقصير في استيفاء الحقوق، فتوجه الدعوة إلى أداء الحقوق، وإقامة العدل الذي أمر به الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم إن استيفاء الحقوق لا يفترض فيه المثالية، فإن المجتمعات لا تخلو من تقصير في أدائها، والغالب أن هذه العبارة تصدر من أناس مغرضين، يقصدون من ورائها إبطال الحدود وتعطيلها في المجتمعات الإسلامية، وكما قال سبحانه وتعالى: { وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً } (1) ، وما جاء عن عمر - رضي الله عنه - في عام الرمادة ليس من باب تعطيل حد السرقة، بل هو من باب درء الحدود بالشبهات، وهذه قاعدة في إقامة الحدود أنها تدفع بالشبهات، لأنه في عام الرمادة عمت المجاعة، وكثر المحاويج والمضطرون، فيصعب التمييز بين من يسرق من أجل الحاجة والضرورة، ومن يسرق وهو مستغن، ولهذا أسقط عمر - رضي الله عنه - القطع عن السارق في عام المجاعة، كما أخرج ذلك عبد الرزاق عن معمر عن يحيى بن أبي كثير قال : قال عمر - رضي الله عنه - : " لا يقطع في عذق، ولا عام السنة " (2) .
__________
(1) - سورة النساء: من الآية: 27
(2) - أخرجه عبد الرزاق ح (18990)، والعذق هو: النخلة أو الغصن من النخل فيه ثمره، وعام السنة: المراد بالسنة: الجدب، والقحط، وانقطاع المطر، ويبس الأرض .(2/161)
قال السعدي: " سألت أحمد عن هذا الحديث فقال: العذق النخلة، وعام سنة: المجاعة، فقلت لأحمد: تقول به؟ فقال: إي لعمري، قلت: إن سرق في مجاعة لا تقطعه ؟ فقال: لا، إذا حملته الحاجة على ذلك، والناس في مجاعة وشدة "، قال ابن القيم: " ومقتضى قواعد الشرع إذا كانت السنة سنة مجاعة وشدة، غلب على الناس الحاجة والضرورة، فلا يكاد يسلم السارق من ضرورة تدعوه إلى ما يسد به رمقه، ويجب على صاحب المال بذل ذلك له إما بالثمن أو مجاناً على الخلاف في ذلك، والصحيح وجوب بذله مجاناً؛ لوجوب المواساة، وإحياء النفوس مع القدرة على ذلك، والإيثار بالفضل مع ضرورة المحتاج، وهذه شبهة قوية تدرأ القطع عن المحتاج " (1) وجاء أيضاً عن عمر - رضي الله عنه - درء الحد عن غلمان حاطب بن أبي بلتعة لما علم أن سرقتهم كانت عن حاجة، وكذلك درء الحد عن الخادم الذي سرق من مال مخدومه ، فعن ابن حاطب أن غلمة لحاطب بن أبي بلتعة سرقوا ناقة لرجل من مزينة، فأتى بهم عمر - رضي الله عنه - فأقروا، فأرسل إلى عبد الرحمن بن حاطب فجاء، فقال له: إن غلمان حاطب سرقوا ناقة رجل من مُزيَنة، وأقروا على أنفسهم، فقال عمر - رضي الله عنه - : يا كثير بن الصَّلت اذهب فاقطع أيديهم، فلما ولى بهم ردهم عمر - رضي الله عنه - ثم قال: أما والله لولا أني أعلم أنكم تستعملونهم وتجيعونهم - حتى إن أحدهم لو أكل ما حرم الله عليه حل له - لقطعت أيديهم، وأيم الله إذ لم أفعل لأغرمنك غرامة تُوجعكَ، ثم قال: يا مزني بكم أريدت منك ناقتك ؟ قال: بأربعمائة، قال عمر - رضي الله عنه - : اذهب فأعطه ثمانمائة .
__________
(1) - إعلام الموقعين ( 3/11 )(2/162)
(1) ، وفي الموطأ عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما- قال: جاء رجل إلى عمر - رضي الله عنه - بغلام له، فقال: اقطع يده، فإنه سرق مرآة لامرأتي، فقال عمر - رضي الله عنه - : " لا قطع عليه هو خادمكم أخذ متاعكم " (2) ، والحاصل أن الشبهة إذا وجدت فإنه يدرأ بها الحد .
هذا والله الموفق، والهادي إلى سواء السبيل.
- - - - - -
رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - لله تعالى في الإسراء
في الاسراء والمعراج والخلاف بين قول ابن عباس وعائشة رضي الله عنهما وهل راه كفاحا رأي العين، وما صحة حديث أن النبي تأخر عن الصحابة في صلاة الفجر فقال: لقد رأيت ربي البارحة وما معنى: ( ثم دنى فتدلى ) أرجوا إفادتي لأني في حيرة من هذا الأمر وجزاكم الله خيرا .
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
القول الصحيح في المسألة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ير ربه تعالى ببصره في ليلة المعراج، وإنما رآه بفؤاده، وأنه لم يثبت عن واحد من الصحابة القول بالرؤية البصرية، وأما الذين قالوا إنه رآه ببصره من أهل العلم فليس لهم مستند على ذلك إلا ما فهموه من الروايات المطلقة عن بعض الصحابة كابن عباس وغيره.
__________
(1) - أخرجه عبد الرزاق في المصنف (18799)
(2) - أخرجه مالك في الموطأ (1321)(2/163)
أخرج البخاري ومسلم عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: كُنْتُ مُتَّكِئًا عِنْدَ عَائِشَةَ، فَقَالَتْ: يَا أَبَا عَائِشَةَ ثَلَاثٌ مَنْ تَكَلَّمَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ، قُلْتُ: مَا هُنَّ ؟ قَالَتْ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ، قَالَ: وَكُنْتُ مُتَّكِئًا فَجَلَسْتُ فَقُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَنْظِرِينِي وَلَا تَعْجَلِينِي أَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ } { وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى } فَقَالَتْ: أَنَا أَوَّلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: إِنَّمَا هُوَ جِبْرِيلُ لَمْ أَرَهُ عَلَى صُورَتِهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا غَيْرَ هَاتَيْنِ الْمَرَّتَيْنِ، رَأَيْتُهُ مُنْهَبِطًا مِنْ السَّمَاءِ سَادًّا عِظَمُ خَلْقِهِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، فَقَالَتْ: أَوَ لَمْ تَسْمَعْ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: { لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } أَوَ لَمْ تَسْمَعْ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ } ....(2/164)
" الحديث وفي رواية: عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ: فَأَيْنَ قَوْله: { ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى } قَالَتْ: إِنَّمَا ذَاكَ جِبْرِيلُ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَأْتِيهِ فِي صُورَةِ الرِّجَالِ وَإِنَّهُ أَتَاهُ فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ فِي صُورَتِهِ الَّتِي هِيَ صُورَتُهُ فَسَدَّ أُفُقَ السَّمَاءِ . (1) وأخرج مسلم من حديث أَبِي ذَرٍّ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ ؟ قَالَ: نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ (2) ، وهذا حديث صريح في نفي الرؤية، بل هو أبلغ من النفي الصريح لمجيئه على صورة الاستفهام الإنكاري، لأن معناه: كيف أراه، وقد منعني من رؤيته النور؟ ، وهذا النور هو الحجاب الوارد في حديث أبي موسى - رضي الله عنه - : " حِجَابُهُ النُّورُ لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ " (3) ، وقد جاء عن ابن عباس - رضي الله عنهما - روايات مطلقة بإثبات الرؤية، ورايات مقيدة بأنه رآه بفؤاده، فتحمل الروايات المطلقة على الروايات المقيدة، ففي صحيح مسلم أنه قال في قوله تعالى: { مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى } قَالَ: رَآهُ بِقَلْبِهِ (4) ، وأخرج ابن أبي عاصم في السنة، والحاكم في المستدرك، وابن منده في الإيمان عن ابن عباس قال: " أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم عليه السلام، والكلام لموسى، والرؤية لمحمد " (5) ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " والألفاظ الثابتة عن ابن عباس هي مطلقة أو مقيدة بالفؤاد ....
__________
(1) - أخرجه البخاري ح (4574)، ومسلم ح (177)، واللفظ له .
(2) - أخرجه مسلم ح (178)
(3) - أخرجه مسلم ح (179)
(4) - أخرجه مسلم ح (176)
(5) - أخرجه ابن أبي عاصم في السنة ح (192)، والحاكم في المستدرك (2/509)، وابن منده في الإيمان (2/761)(2/165)
ولم يثبت عن ابن عباس لفظ صريح بأنه رآه بعينه " (1) ، وقال الحافظ ابن حجر: " الجمع بين إثبات ابن عباس ونفي عائشة بأن يحمل نفيها على رؤية البصر، وإثباته على رؤية القلب" (2) ، وأما قوله تعالى في سورة النجم: { ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى } ، فالمقصود هو دنو جبريل وتدليه، كما قالت عائشة وابن مسعود - رضي الله عنهما -، وهذا الذي يدل عليه سياق الآيات قال تعالى: { عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى } فالضمائر كلها راجعة إلى هذا المعلم الشديد القوى، وهو جبريل عليه السلام . (3)
__________
(1) - ينظر: مجموع الفتاوى ( 6/509 )
(2) - ينظر: فتح الباري (8/608)
(3) - ينظر: شرح العقيدة الطحاوية (1/276)(2/166)
أما حديث: " رأيت ربي البارحة " فأخرجه الإمام أحمد في المسند قال: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ حَدَّثَنَا جَهْضَمٌ - يَعْنِي الْيَمَامِيَّ - حَدَّثَنَا يَحْيَى - يَعْنِي ابْنَ أَبِي كَثِيرٍ - حَدَّثَنَا زَيْدٌ - يَعْنِي ابْنَ أَبِي سَلَّامٍ - عَنْ أَبِي سَلَّامٍ - وَهُوَ زَيْدُ بْنُ سَلَّامِ بْنِ أَبِي سَلَّامٍ نَسَبُهُ إِلَى جَدِّهِ - أَنَّهُ حَدَّثَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَائِشٍ الْحَضْرَمِيُّ عَنْ مَالِكِ بْنِ يَخَامِرَ أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ قَالَ: احْتَبَسَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ غَدَاةٍ عَنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ حَتَّى كِدْنَا نَتَرَاءَى قَرْنَ الشَّمْسِ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - سَرِيعًا فَثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ وَصَلَّى وَتَجَوَّزَ فِي صَلَاتِهِ فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ: كَمَا أَنْتُمْ عَلَى مَصَافِّكُمْ، ثُمَّ أَقْبَلَ إِلَيْنَا فَقَالَ: إِنِّي سَأُحَدِّثُكُمْ مَا حَبَسَنِي عَنْكُمْ الْغَدَاةَ إِنِّي قُمْتُ مِنْ اللَّيْلِ فَصَلَّيْتُ مَا قُدِّرَ لِي، فَنَعَسْتُ فِي صَلَاتِي حَتَّى اسْتَيْقَظْتُ، فَإِذَا أَنَا بِرَبِّي عَزَّ وَجَلَّ فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَتَدْرِي فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى ؟ قُلْتُ: لَا أَدْرِي يَا رَبِّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى ؟ قُلْتُ: لَا أَدْرِي رَبِّ، فَرَأَيْتُهُ وَضَعَ كَفَّهُ بَيْنَ كَتِفَيَّ حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ أَنَامِلِهِ بَيْنَ صَدْرِي، فَتَجَلَّى لِي كُلُّ شَيْءٍ، وَعَرَفْتُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى ؟ قُلْتُ: فِي الْكَفَّارَاتِ قَالَ: وَمَا الْكَفَّارَاتُ ؟ قُلْتُ: نَقْلُ الْأَقْدَامِ إِلَى الْجُمُعَاتِ، وَجُلُوسٌ فِي الْمَسَاجِدِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَإِسْبَاغُ(2/167)
الْوُضُوءِ عِنْدَ الْكَرِيهَاتِ قَالَ: وَمَا الدَّرَجَاتُ ؟ قُلْتُ: إِطْعَامُ الطَّعَامِ، وَلِينُ الْكَلَامِ، وَالصَّلَاةُ وَالنَّاسُ نِيَامٌ، قَالَ: سَلْ قُلْتُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ، وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ، وَحُبَّ الْمَسَاكِينِ، وَأَنْ تَغْفِرَ لِي وَتَرْحَمَنِي، وَإِذَا أَرَدْتَ فِتْنَةً فِي قَوْمٍ، فَتَوَفَّنِي غَيْرَ مَفْتُونٍ، وَأَسْأَلُكَ حُبَّكَ، وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ، وَحُبَّ عَمَلٍ يُقَرِّبُنِي إِلَى حُبِّكَ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِنَّهَا حَقٌّ فَادْرُسُوهَا وَتَعَلَّمُوهَا " (1) والرؤية المذكورة في الحديث رؤيا منام لا يقظة، وهذا ظاهر من قوله في الحديث: " فنعست في صلاتي حتى استثقلت.... " وفي المسند : " حتى استيقظت "
قال الحافظ ابن كثير - بعد أن أورد الحديث -: " فهذا حديث المنام المشهور، ومن جعله يقظة فقد غلط " (2) ، وقد نقل القاضي عياض اتفاق العلماء على جواز رؤية الله في المنام وصحتها (3) ، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: " وقد يرى المؤمن ربه في المنام في صور متنوعة على قدر إيمانه ويقينه، فإذا كان إيمانه صحيحاً لم يره إلا في صورة حسنة، وإذا كان في إيمانه نقص رأى ما يشبه إيمانه ..... " (4) ، وأما ما جاء في هذا الحديث من وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - لربه، فهو حق يجب الإيمان به من غير تكييف ولا تمثيل ولا تشبيه، كما قال عز وجل عن نفسه: { لَيس كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } (5)
__________
(1) - أخرجه أحمد ( 5 / 243 ) ح ( 22162 )، والترمذي ح ( 3235 )، وقال: " حديث حسن صحيح، وسألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث، فقال: هذا حديث حسن صحيح ." وصححه الإمام أحمد كما في التهذيب ( 6 / 205 )
(2) - تفسير ابن كثير ( 7/81 )
(3) - ينظر: إكمال المعلم ( 7/220 )
(4) - مجموع الفتاوى (3/390)
(5) - سورة الشورى الآية: 11(2/168)
قال الحافظ ابن رجب: " وأما وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - لربه عز وجل بما وصفه به فكل ما وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - به ربه عز وجل فهو حقٌ وصدقٌ يجب الإيمان والتصديق به كما وصف الله عز وجل به نفسه مع نفي التمثيل عنه، ومن أشكل عليه فهم شيء من ذلك واشتبه عليه فليقل كما مدح الله تعالى به الراسخين في العلم وأخبر عنهم أنهم يقولون عند المتشابه: { آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا } ، وكما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في القرآن: " وما جهلتم منه فكلوه إلى عالمه " خرجه الإمام أحمد والنسائي وغيرهما، ولا يتكلف ما لا علم له به فإنه يخشى عليه من ذلك الهلكة .
وقد أفرد الحافظ ابن رجب رحمه الله شرح الحديث في كتاب مستقل، وهو : " اختيار الأوْلَى في شرح حديث الملأ الأعلى "، وهو كتاب نفيس توسع فيه ابن رجب في شرح الحديث، فيحسن الرجوع إليه. هذا والله أعلم .
- - - - - -
تأويل الصفات
سؤالي هو: ماذا تفسرون تأويل بعض الصحابة وبعض التابعين بإحسان من القرون المفضلة لبعض آيات وأحاديث الصفات؟ فقد قرأت عن الشيخ صالح آل الشيخ أنه ثبت عن ترجمان القرآن ابن عباس أنه أول آية(يوم يكشف عن ساق)وقال: هذه كناية عن هول الموقف وشدته، أو بما معناه، لكنه لم يثبت هذه الصفة صفة(الساق)وكذلك تأويلات بعض العلماء الجهابذة كالنووي وابن حجر وغيرهما، وقرأت عن بعض علماء الأشاعرة كالرملي وغيره أن الله ليس موجودا في زمان ولا مكان. واستدلوا بقول الإمام علي الذي يقول: كان الله ولا مكان وهو الآن على ما هو عليه كان. وحكوا عن علي بن الحسين زين العابدين أنه كان يقول:سبحانك لا يحويك مكان. وقالوا أن تلك الروايات ثابتة ومروية عن كثير من الأئمة كأبي حنيفة والطبري والماتريدي والأشعري، ومفاده أن مذهب أهل السنة والجماعة أن الله موجود بلا مكان ولا زمان . هل هذا الكلام صحيح؟ وجزاكم الله خيرا .
الجواب:(2/169)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
يعتقد أهل السنة والجماعة أن من الإيمان بالله سبحانه الذي أمر الله به ورسوله : الإيمان بما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - ؛ من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل؛ ولهذا فهم يؤمنون بأن الله ليس كمثله شيء ، وهو السميع البصير ؛ فلا ينفون عنه ما وصف به نفسه ، ولا يحرفون الكلم عن مواضعه ، ولا يلحدون في أسمائه وآياته ، ولا يكيفون ولا يمثلون صفاته بصفات خلقه ؛ لأنه سبحانه لا سمي له ، ولا كفو له، ولا ند له، ولا يقاس بخلقه .(2/170)
قال الإمام أحمد - رحمه الله - : " لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ لا يتجاوز القرآن والحديث " (1) ، وقال نعيم بن حماد - شيخ البخاري - : " من شبه الله بخلقه كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - تشبيه .
__________
(1) - ينظر: المسائل والرسائل المروية عن الإمام أحمد ص ( 116 )(2/171)
" (1) ، وقال الأوزاعي - رحمه الله -: " كنا - والتابعون متوافرون - نقول: إن الله فوق عرشه، ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته " (2) ، وقال الإمام الشافعي - رحمه الله - : " لله أسماء وصفات لا يسع أحد جهلها، فمن خالف بعد ثبوت الحجة عليه كفر ، وأما قبل قيام الحجة فيعذر بالجهل " (3) ، وقال أبو زرعة الرازي: " الأخبار التي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الرؤية وخلق آدم على صورته والأحاديث التي في النزول ونحو هذه الأخبار ، المعتقد من هذه الأخبار : مراد النبي - صلى الله عليه وسلم - والتسليم بها ، حدثني أبو موسى الأنصاري قال: قال سفيان بن عيينة ما وصف الله تبارك وتعالى به نفسه في كتابه : فقراءته تفسيره ليس لأحد أن يفسره إلا الله " (4) ، وقال ابن عبد البر - رحمه الله -: " أهل السنة مجتمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة والإيمان بها وحملها على الحقيقة لا على المجاز؛ إلا أنهم لا يكيفون شيئاً من ذلك ، وأما أهل البدع من الجهمية والمعتزلة والخوارج فينكرونها ولا يحملونها على الحقيقة ويزعمون أن من أقر بها مشبه، وهم عند من أقر بها نافون للمعبود، والحق فيما قاله القائلون بما نطق به الكتاب والسنة وهم أئمة الجماعة" (5) ، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: " ومذهب سلف الأمة وأئمتها أن يوصف الله بما وصف به نفسه ، وبما وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - ؛ من غير تحريف ولا تعطيل ، ومن غير تكييف ولا تمثيل ؛ فلا يجوز نفي صفات الله التي وصف بها نفسه ، ولا يجوز تمثيلها بصفات المخلوقين، بل هو سبحانه: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ
__________
(1) - العلو للذهبي ص ( 116 )
(2) - ينظر: الأسماء والصفات للبيهقي ص ( 408 )
(3) - ينظر: مناقب الشافعي للبيهقي ( 1/412 )
(4) - ينظر: تاريخ أبو زرعة ( 1/231 )، طبقات الحنابلة ( 1/201 - 202 )
(5) - ينظر: التمهيد لابن عبد البر ( 7/145 )(2/172)
} " (1) ، وقال الحافظ ابن رجب : " والصواب ما عليه السلف الصالح من إمرار آيات الصفات وأحاديثها كما جاءت من غير تفسير لها ، ولا تكييف ، ولا تمثيل ، ولا يصح عن أحد منهم خلاف ذلك البتة " (2) ، وسلف هذه الأمة وأئمتها يثبتون علو الله وفوقيته وأنه تعالى فوق سماواته على عرشه، بائن من خلقه وهم بائنون منه، وهو سبحانه مع العباد بعلمه ومع أوليائه بالنصر والتأييد، وأدلة ثبوت علو الله وفوقيته لا يمكن حصرها، حيث دل العقل والفطرة والكتاب والسنة على علو الله عز وجل، ومن ذلك: نصوص الاستواء والنزول والرؤية وصعود الأعمال إليه والروح والملائكة، وأنه في السماء، ونزول القرآن، وتنزل الملائكة، والتصريح بالفوقية وغير ذلك كثير جداً، وقد استقر في فطرة بني آدم علو الله ، وقصدهم له سبحانه وتعالى عند الحاجات التي لا يقصد إلا هو، وذلك في دعاء العبادة ودعاء المسألة لا يكون إلا إلى جهة العلو، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " ذكر محمد بن طاهر المقدسي، عن الشيخ الجليل أبي جعفر الهمداني، أنه حضر مجلس أبي المعالي الجويني، وهو يقول: كان الله، ولا عرش ولا مكان وهو على ما كان عليه قبل خلق المكان أو كلام من هذا المعنى، فقال: يا شيخ دعنا من ذكر العرش، أخبرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا، فإنه ما قال عارف قط: يا الله إلا وجد من قلبه ضرورة، بطلب العلو، ولا يلتفت يمنة ولا يسرة، فكيف ندفع هذه الضرورة عن قلوبنا ؟، فصرخ أبو المعالي، ولطم رأسه، وقال: حيرني الهمداني، حيرني الهمداني " (3) ، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة، وقد تعلق نفاة العلو: بأن الله - تعالى - لو كان في مكان لأشبه المخلوقات لأن ما أحاطت به الأمكنة فهو مخلوق، فيقال: هذا نشأ عن القياس الفاسد والتشبيه المستكن في نفوس هؤلاء إذ لو آمنوا
__________
(1) - ينظر: مجموع الفتاوى ( 5/195 )
(2) - ينظر: فضل علم السلف على الخلف لابن رجب ص ( 22 )
(3) - ينظر: كتاب الاستقامة ( 1/167 )(2/173)
بأن الله على كل شيء قدير وأنه ليس كمثله شيء ما انطلت هذه الشبه وهذا الهراء على نفوسهم، ويقال أيضاً: ألستم تقرون بأن الله تعالى موجود قبل خلق الكون فهو تعالى كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " كان الله، ولم يكن شيء غيره "، ونحن وأنتم وكل العقلاء لا نعقل وجود أحد منا إلا في مكان، وما ليس في مكان فهو عدم، والله بخلاف ذلك ، فلا يجوز أن يقاس بخلقه كما فعلتم ، قلتم: لو كان في مكان لأشبه خلقه، فإن زعموا أنه يلزم من كونه تعالى في العلو التغير والانتقال لأنه تعالى كان ولا مكان فلما خلق المكان صار في العلو، فزال عن صفته في الأزل وصار في مكان، قيل: وأنتم يلزمكم أقبح من ذلك ، وهو زعمكم أنه تعالى كان لا في مكان ثم صار في كل مكان فقد تغير عندكم معبودكم وانتقل من لا مكان إلى كل مكان، وهذا لازم لكم، لا نفكاك لكم منه ، وقولهم: كان الله ، ولا مكان وهو الآن على ما كان عليه قبل خلق المكان كلام فاسد متناقض وذلك أن النفاة للاستواء والعلو على قسمين ، قسم يقول: إن الله لا فوق ولا تحت ولا يمين ولا شمال ولا أمام ولا خلف ولا داخل العالم ولا خارجه وهذا لا يفهم منه إلا العدم المحض ، فليس له وجود فعلي على هذا الوصف، فهو إذاً ليس له مكان أصلاً ، إذ لا وجود له، وقسم يقول: إنه في كل مكان، فيلزم أنه كان في كل مكان، قبل خلق المكان، فهو إذاً في هذا الكون كله، قبل خلقه له، وهذا قول ظاهر الفساد، إذ معناه: كان في الأمكنة قبل خلقها، فالحق أن الله ليس كمثله شيء لا في نفسه ولا في فعله ولا في صفاته، ولا في مفعولاته، فإذا رام الإنسان أن ينفي شيئاً مما يستحقه ، لعدم نظيره في الشاهد المحسوس، صار ما يثبته بدل نفيه أبعد عن المعقول والمشهود (1) ، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: " افترق الناس، في علو الله ، واستوائه أربع فرق: الأولى: الجهمية النفاة، يقولون: ليس داخل العالم ولا
__________
(1) - ينظر: بيان تلبيس الجهمية ( 1/147 )(2/174)
خارجه ولا فوق ولا تحت وجميع الطوائف من أهل البدع يتمسكون بنصوص ، إلا الجهمية، وقسم ثان منهم يقولون: إنه بذاته في كل مكان، ويدخل فيهم الأشاعرة، وهؤلاء هم الفرقة الثانية، الثالثة: من يقول: إنه فرق العرش، وهو في كل مكان ويزعم أنه بذلك يجمع بين النصوص، الرابعة: المتبعون للكتاب والسنة، الذين أثبتوا ما أثبته الله ورسوله، من غير تحريف، فآمنوا بأن الله فوق سماواته مستوٍ على عرشه " (1) ، والحاصل أن الحق فيما ذهب إليه أهل السنة، وأن علو الله ثابت بالكتاب والسنة والفطرة وصريح العقل، والأدلة عليه لا تحصى، وليس بين علو الله واستواءه على عرشه وبين معيته لخلقه ولأوليائه وأنبيائه وقربه منهم تعارض.
__________
(1) - ينظر: مجموع الفتاوى ( 5/229-231 )(2/175)
وأما القول بوجود تأويل لبعض الصفات عن الصحابة والتابعين بمعنى التأويل عند المتأخرين وهو صرفها عن ظاهرها فهذا لم يرد عن أحد منهم، وليس ما جاء عن ابن عباس من باب التأويل بل فهم منها ابن عباس أنها ليست نصاً في الصفات، إذ لا يعرف عن الصحابة تأويل شيء من نصوص الصفات، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " إن جميع ما في القرآن من آيات الصفات فليس عن الصحابة اختلاف في تأويلها، وقد طالعت التفاسير المنقولة عن الصحابة وما رووه من الحديث ووقفت من ذلك على ما شاء الله تعالى من الكتب الكبار والصغار أكثر من مائة تفسير فلم أجد إلى ساعتي هذه عن أحد من الصحابة أنه تأول شيئا من آيات الصفات أو أحاديث الصفات بخلاف مقتضاها المفهوم المعروف ....(2/176)
وتمام هذا أنى لم أجدهم تنازعوا إلا في مثل قوله تعالى: ( يوم يكشف عن ساق ) فروى عن ابن عباس وطائفة أن المراد به الشدة أن الله يكشف عن الشدة في الآخرة، وعن أبى سعيد وطائفة أنهم عدوها في الصفات للحديث الذي رواه أبو سعيد في الصحيحين، ولا ريب أن ظاهر القرآن لا يدل على أن هذه من الصفات فإنه قال: ( يوم يكشف عن ساق ) نكرة في الإثبات لم يضفها إلى الله ولم يقل عن ساقه، فمع عدم التعريف بالإضافة لا يظهر أنه من الصفات إلا بدليل آخر ، ومثل هذا ليس بتأويل ، إنما التأويل صرف الآية عن مدلولها ومفهومها ومعناها المعروف " (1) ، وقال ابن القيم - رحمه الله - : " إن أهل الإيمان قد يتنازعون في بعض الأحكام، ولا يخرجون بذلك عن الإيمان، وقد تنازع الصحابة في كثير من مسائل الأحكام وهو سادات المؤمنين، وأكمل الأمة إيماناً، ولكن بحمد الله لم يتنازعوا في مسألة من مسائل الأسماء والصفات والأفعال، بل كلهم على إثبات ما نطق به الكتاب والسنة، كلمة واحدة، من أولهم إلى آخرهم، ولم يسوموها تأويلاً، ولم يحرفوها عن مواضعها تبديلاً، ولم يبدوا لشيء منها إبطالاً، ولا ضربوا لها أمثالاً، ولم يدفعوا في صدورها وأعجازها، ولم يقل أحد منهم: يجب صرفها عن حقائقها، وحملها على مجازها، بل تلقوها بالقبول والتسليم، وقابلوها بالإيمان والتعظيم وجعلوا الأمر فيها كلها أمراً واحداً ، وأجروها على سنن واحدة " (2) ، والحاصل أن بعض الآيات والأحاديث يفهم من سياقها والقرائن المحتفة بها أنها ليست نصاً في الصفات ، فتفسر بما يفهم من المقصود بها مثل قوله تعالى: { فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ } (3) ، ومثل قوله تعالى: { أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ } (4) ، وقوله تعالى: { أَوَلَمْ يَرَوْا
__________
(1) - ينظر: مجموع الفتاوى ( 6/394 )
(2) - إعلام الموقعين ( 1/51- 52 )
(3) - سورة البقرة الآية: 115
(4) - سورة الزمر الآية: 56(2/177)
أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ } (1) ، قال الحافظ ابن رجب - معلقاً على قوله تعالى: { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً } : " وليس المراد هنا الصفة الذاتية - بغير إشكال - ، وإلا استوى خلق الأنعام وخلق آدم عليه السلام " (2) ، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: " والصواب في كثير من آيات الصفات وأحاديثها: القطع بالطريقة الثابتة كالآيات والأحاديث الدالة على أن الله سبحانه وتعالى فوق عرشه ويعلم طريقة الصواب في هذا وأمثاله، بدلالة الكتاب والسنة والإجماع على ذلك؛ دلالة لا تحتمل النقيض، وفى بعضها قد يغلب على الظن ذلك مع احتمال النقيض، وتردد المؤمن في ذلك هو بحسب ما يؤتاه من العلم والإيمان، ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور" (3) ، وأما ما يوجد من تأويل عند بعض العلماء مثل النووي وابن حجر وغيرهما فهذا بسبب تأثرهم بمذهب الأشاعرة حيث تلقوا هذا المذهب عن شيوخهم فرأوا أنه هو الحق الذي يجب اتباعه، والمسلم عليه أن يتبع الحق والصواب وما عليه سلف الأمة ويعرف الرجال بالحق، ولا يعرف الحق بالرجال، ويعتذر لمن أخطأ من أهل العلم وينتفع من علومهم ومعارفهم فيما أصابوا فيه، وأما ما ورد من الأقوال المنسوبة لعلي وزين العابدين وأبي حنيفة فحسب اطلاعي لا تصح عنهم، هذا والله أعلم .
- - - - - -
سير وتاريخ وتراجم
هل خُتم الرسل بمحمد كما خُتم به الأنبياء؟!
__________
(1) - سورة يس الآية: 71
(2) - فتح الباري لابن رجب ( 1/7 )
(3) - ينظر : مجموع الفتاوى ( 5/117 )(2/178)
هناك طائفة لها موقع على شبكة المعلومات تدعي أن نبي الله محمد - صلى الله عليه وسلم - كان آخر نبي، لكنه لم يكن آخر رسول، وهم ينظرون إلى راشد خليفة كرسول لهم جاءت رسالته لتحذير الناس لاتباع القرآن فقط بدلا من الأشياء المضللة (يقصدون بذلك الأحاديث) ، وفوق ذلك يقولون: كل نبي رسول، وليس كل رسول نبي، والحظر إنما جاء في القرآن على النبي وليس الرسول (والعياذ بالله)، فهل هناك نص معين في القرآن بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان آخر نبي وآخر رسول؟ وكيف ندحض حججهم الكفرية بالقرآن؟ هذا الموضوع هام جداً؛ لأن هذه الجماعة تنشط الآن في الجامعات والكليات.
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
من عقائد المسلمين القطعية إيمانهم بأن محمداً عليه الصلاة والسلام هو خاتم الأنبياء والمرسلين ، وقد دل على هذا نصوص الكتاب والسنة. قال الله سبحانه : { وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً } (1) ، ومعنى خاتم النبيين: أي الذي ختمت به النبوة فطبع عليها فلا تفتح لأحد بعده إلى قيام الساعة . وهذه الآية نص في أنه لا نبي بعده، وإذا كان لا نبي بعده فلا رسول بعده بطريق الأولى والأحرى؛ لأن مقام الرسالة أخص من مقام النبوة، فإن كل رسول نبي، وليس كل نبي رسول.
__________
(1) - سورة الأحزاب: من الآية40(2/179)
قال القاضي عياض: " والصحيح الذي عليه الجم الغفير - أي عامة العلماء - أن كل رسول نبي ، وليس كل نبي رسول " (1) ، والأدلة على أن مقام الرسالة أخص وأكمل من مقام النبوة كثيرة، ومنها قوله تعالى: { فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ } (2) ، فنوه الله سبحانه وتعالى بأولي العزم من الرسل وأمر نبيه أن يقتدي بصبرهم وثباتهم، وهم على أشهر الأقوال: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى، وخاتم النبيين محمد عليهم الصلاة والسلام، وذكرهم الله بوصف الرسالة مما يدل على أن وصف الرسالة أخص وأكمل، وأخرج الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي ذر - رضي الله عنه - قلت: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَمْ وَفَّى - أي بلغ - عِدَّةُ الْأَنْبِيَاءِ ؟ قَالَ: مِائَةُ أَلْفٍ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا الرُّسُلُ مِنْ ذَلِكَ ثَلَاثُ مِائَةٍ وَخَمْسَةَ عَشَرَ جَمًّا غَفِيرًا " (3) وقد دلت السنة المتواترة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه خاتم الأنبياء والمرسلين ومن ذلك: ما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: إِنَّ مَثَلِي وَمَثَلَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بَيْتًا فَأَحْسَنَهُ وَأَجْمَلَهُ إِلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِهِ وَيَعْجَبُونَ لَهُ وَيَقُولُونَ هَلَّا وُضِعَتْ هَذِهِ اللَّبِنَةُ قَالَ فَأَنَا اللَّبِنَةُ وَأَنَا خَاتِمُ النَّبِيِّينَ " (4) ، وفي رواية في (تاريخ دمشق) لابن عساكر من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - : " فكنت أنا سددت موضع تلك اللبنة، ختم بي البنيان، وختم بي الرسل" ذكرها السيوطي في الجامع الكبير، وكذلك ما جاء في الصحيحين من حديث جبير بن مطعم
__________
(1) - الشفاء(1/ 347)
(2) - سورة الأحقاف الآية: 35
(3) - أخرجه أحمد ح (22288)
(4) - أخرجه البخاري ح (3535) ومسلم ح (2286)(2/180)
- رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أَنَا مُحَمَّدٌ وَأَنَا أَحْمَدُ وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يُمْحَى بِيَ الْكُفْرُ وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى عَقِبِي وَأَنَا الْعَاقِبُ وَالْعَاقِبُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ " (1) ، وكذلك ما جاء في صحيح مسلم عن ثوبان - رضي الله عنه - ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " وَإِنَّهُ سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي كَذَّابُونَ ثَلَاثُونَ كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ وَأَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ لَا نَبِيَّ بَعْدِي " (2) ، وما جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " فُضِّلْتُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ بِسِتٍّ: أُعْطِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ ، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ ، وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ طَهُورًا وَمَسْجِدًا، وَأُرْسِلْتُ إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً ، وَخُتِمَ بِيَ النَّبِيُّونَ " (3)
__________
(1) - أخرجه البخاري ح (3532) ومسلم ح (2354)
(2) - أخرجه مسلم ح (1920)
(3) - أخرجه مسلم ح (523)(2/181)
قال الحافظ ابن كثير : " وقد أخبر الله تبارك وتعالى في كتابه، ورسوله في سنته المتواترة عنه أنه لا نبي بعده، ليعلموا أن كل من ادعى هذا المقام بعده فهو كذاب أفاك دجال ضال مضل، ولو تخرق وشعبذ وأتى بأنواع السحر والطلاسم " (1) ، فهذه الطائفة المذكورة طائفة ضالة زائغة عن الهُدى، مكذبة للقرآن والسنة، وهذا المدعي للرسالة كذاب أفاك مفتر على الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، قال القاضي عياض: " نكفر من ادعى نبوة أحدٍ مع نبينا - صلى الله عليه وسلم - ... أو من ادعى النبوة لنفسه، أو جوز اكتسابها والبلوغ بصفاء القلب إلى مرتبتها كالفلاسفة وغلاة المتصوفة، وكذلك من ادعى منهم أنه يوحى إليه وإن لم يدع النبوة، فهؤلاء كلهم كفار مكذبون للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، لأنه أخبر - صلى الله عليه وسلم - أنه خاتم النبيين لا نبي بعده ، وأخبر - صلى الله عليه وسلم - عن الله تعالى أنه خاتم النبيين ..." (2)
هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
- - - - - -
ما المراد بخاتم الأنبياء؟
السلام عليكم.
تدعي الطائفة الأحمدية أن خاتم الأنبياء لا تعني أن النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - هو آخر الأنبياء. فما صحة هذا القول، وما صحة ما روي عن عائشة -رضي الله عنها- "قولوا إنه خاتم الأنبياء ولا تقولوا لا نبي بعده" (تكملة مجموع البحر صفحة 88 )، وقال الإمام السيوطي: إن المغيرة قال بذلك (الدر المنثور).
الجواب:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
__________
(1) - تفسير ابن كثير ( 6/421 )
(2) - الشفاء (2/ 1070)(2/182)
هذه الطائفة زائغة عن الحق ، ضالة عن الصراط المستقيم ، مكذبة للقرآن والسنة، وقد تواترت الأدلة من الكتاب والسنة أنه لا نبي بعد نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - ، قال الله -سبحانه وتعالى-: { وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً } (1) ، ومعنى خاتم النبيين : أي الذي ختمت به النبوة فطبع عليها، فلا تفتح لأحد بعده إلى قيام الساعة .
ودلت السنة المتواترة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه خاتم الأنبياء والمرسلين ومن ذلك:
- ما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: إِنَّ مَثَلِي وَمَثَلَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بَيْتًا فَأَحْسَنَهُ وَأَجْمَلَهُ إِلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِهِ وَيَعْجَبُونَ لَهُ وَيَقُولُونَ هَلَّا وُضِعَتْ هَذِهِ اللَّبِنَةُ قَالَ فَأَنَا اللَّبِنَةُ وَأَنَا خَاتِمُ النَّبِيِّينَ " (2) ، وفي رواية في (تاريخ دمشق) لابن عساكر من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - : " فكنت أنا سددت موضع تلك اللبنة، ختم بي البنيان، وختم بي الرسل" ذكرها السيوطي في الجامع الكبير .
- وفي الصحيحين من حديث جبير بن مطعم - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أَنَا مُحَمَّدٌ وَأَنَا أَحْمَدُ وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يُمْحَى بِيَ الْكُفْرُ وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى عَقِبِي وَأَنَا الْعَاقِبُ وَالْعَاقِبُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ " (3)
__________
(1) - سورة الأحزاب الآية: 40
(2) - أخرجه البخاري ح (3535) ومسلم ح (2286)
(3) - أخرجه البخاري ح (3532) ومسلم ح (2354)(2/183)
- وكذلك ما جاء في صحيح مسلم عن ثوبان - رضي الله عنه - ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " وَإِنَّهُ سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي كَذَّابُونَ ثَلَاثُونَ كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ وَأَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ لَا نَبِيَّ بَعْدِي " (1)
- وما جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " فُضِّلْتُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ بِسِتٍّ: أُعْطِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ ، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ ، وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ طَهُورًا وَمَسْجِدًا، وَأُرْسِلْتُ إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً ، وَخُتِمَ بِيَ النَّبِيُّونَ " (2)
__________
(1) - أخرجه مسلم ح (1920)
(2) - أخرجه مسلم ح (523)(2/184)
قال الحافظ ابن كثير : " وقد أخبر الله تبارك وتعالى في كتابه ، ورسوله في سنته المتواترة عنه أنه لا نبي بعده ، ليعلموا أن كل من ادعى هذا المقام بعده فهو كذاب أفاك دجال ضال مضل ، ولو تخرق وشعبذ وأتى بأنواع السحر والطلاسم .." (1) قال القاضي عياض : " نكفر من ادعى نبوة أحدٍ مع نبينا - صلى الله عليه وسلم - .. أو من ادعى النبوة لنفسه، أو جوز اكتسابها والبلوغ بصفاء القلب إلى مرتبتها كالفلاسفة وغلاة المتصوفة ، وكذلك من ادعى منهم أنه يوحى إليه وإن لم يدع النبوة ، فهؤلاء كلهم كفار مكذبون للنبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأنه أخبر - صلى الله عليه وسلم - أنه خاتم النبيين لا نبي بعده ، وأخبر - صلى الله عليه وسلم - عن الله تعالى أنه خاتم النبيين ... " (2) ، وأما ما جاء عن عائشة والمغيرة -رضي الله عنهما- فقد أخرجهما ابن أبي شيبة في مصنفه (3) قال : من كره أن يقول : لا نبي بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - حدثنا حسين بن محمد قال: حدثنا جرير بن حازم عن عائشة - رضي الله عنها- قالت: قولوا خاتم النبيين، ولا تقولوا: لا نبي بعده.
__________
(1) - تفسير ابن كثير ( 6/431 )
(2) - الشفاء (2 / 1070)
(3) - (9 / 109 - 110 )(2/185)
حدثنا أبو أسامة عن مجالد قال أخبرنا عامر قال: قال: رجل عند المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - : صلى الله على محمد خاتم الأنبياء لا نبي بعده، قال المغيرة - رضي الله عنه - : حسبك إذا قلت خاتم الأنبياء فإنا كنا نحدث أن عيسى - عليه السلام - خارج فإن هو خرج فقد كان قبله وبعده، ومراد عائشة والمغيرة -رضي الله عنهما- واضح وهو الإشارة إلى نزول عيسى - عليه السلام - في آخر الزمان .... وقد دل على هذا قوله تعالى : { وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً } (1) ، ودل أيضاً على نزول عيسى -عليه السلام- في آخر الزمان الأحاديث المتواترة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
قال ابن قتيبة: " وأما قول عائشة - رضي الله عنها-: قولوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : خاتم الأنبياء، ولا تقولوا لا نبي بعده، فإنها تذهب إلى نزول عيسى - عليه السلام - وليس هذا من قولها ناقضاً لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لا نبي بعدي " لأنه أراد لا نبي بعدي ينسخ ما جئت به كما كانت الأنبياء عليهم السلام تبعث بالنسخ، وأرادت هي لا تقولوا إن المسيح لا ينزل بعده " (2) وهذا على تقدير صحة ما جاء عن عائشة والمغيرة - رضي الله عنهما -، فأثر عائشة - رضي الله عنها - منقطع، وفي أثر المغيرة - رضي الله عنه - مجالد بن سعيد وهو ضعيف.
هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
- - - - - -
متى كان اصطفاء النبي - صلى الله عليه وسلم -
بما أن الرابط لم يعمل معكم فهو في ركن الشيخ الدكتور/يوسف القرضاوي في ملتقى الإخوان المسلمين ستجده في الصفحة الأولى.
وأجدني مضطرا -وجزاكم الله خيرا على الرد ولكن لم أجد في الكتاب بغيتي-أن أضع بين يديكم الموضوع كاملا:
__________
(1) - سورة النساء الآية: 159
(2) - تأويل مختلف الحديث ص ( 55 )(2/186)
أخرج الحافظ ابن الجوزي في الوفا بفضائل المصطفى من طريق الحافظ أبو الحسن بن بشران قال حدثنا أبو جعفر محمد بن عمرو حدثنا أحمد بن إسحاق بن صالح ثنا محمد بن صالح ثنا محمد بنا سنان العوقي ثنا إبراهيم بن طهمان عن بديل بن ميسرة عن عبد الله بن شقيق عن ميسرة قال قلت: يا رسول الله، متى كنت نبياً? قال "لما خلق الله الأرض واستوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وخلق العرش كتب على ساق العرش محمد رسول الله خاتم الأنبياء وخلق الله الجنة التي أسكنها آدم وحواء فكتب اسمي على الأبواب والأوراق والقباب والخيام وآدم بين الروح والجسد، فلما أحياه الله تعالى نظر إلى العرش فرأى اسمي فأخبره الله أنه سيد ولدك، فلما غرهما الشيطان تابا واستشفعا باسمي إليه " وقد ورد هذا الحديث في أثناء مناقشة بيني وبين بعض مجيزي التوسل فقال: قال الشيخ محمود سعيد ممدوح في رفع المنارة لتخريج أحاديث التوسل والزيارة ،صـ 247 : ( وذكره شيخنا العلامة المحقق السيد عبد الله بن الصديق الغماري ـ نور الله مرقده ـ في الرد المحكم المتين ( ص 138 ـ 139 ) وقال إسناد هذا الحديث قوي وهو أقوى شاهد وقفت عليه لحديث عبد الرحمن بن زيد أهـ ثم زاد الشيخ ممدوح وكذا قال الحافظ ابن حجر.
ثم قال الشيخ ممدوح إسناده مسلسل بالثقات ما خلا راو واحد صدوق، ثم ختم كلامه قائلاً : فالصواب أن هذا الإسناد من شرط الحسن على الأقل ويصححه من يدخل الحسن في الصحيح من الحفاظ كابن حبان والحاكم ).أهـ(2/187)
و الآن سأنقل كلام الإمام ابن تيمية رحمه الله في الحديث، وكيف علق في آخر الحديث عن تعضيد الحديث بحكمة بالغة، قال رحمه الله في الفتاوى (2/150 ): " وقد تقدم لفظ الحديث الذي في المسند عن ميسرة الفجر لما قيل له متى كنت نبياً ? قال: "وآدم بين الروح والجسد" وقد رواه أبو الحسن بن بشران من طريق الشيخ أبي الفرج بن الجوزي في ( الوفا، بفضائل المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ) : حدثنا أبو جعفر محمد بن عمرو حدثنا أحمد بن إسحاق بن صالح ثنا محمد بن صالح ثنا محمد بنا سنان العوفي ثنا إبراهيم بن طهمان عن يزيد بن ميسرة عن عبد الله بن سفيان عن ميسرة قال قلت: يا رسول الله، متى كنت نبياً? قال "لما خلق الله الأرض واستوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وخلق العرش وكتب على ساق العرش محمد رسول الله خاتم الأنبياء وخلق الله الجنة التي أسكنها آدم وحواء، فكتب اسمي على الأبواب والأوراق والقباب والخيام وآدم بين الروح والجسد، فلما أحياه الله تعالى نظر إلى العرش فرأى اسمي فأخبره الله أنه سيد ولدك، فلما غرهما الشيطان تابا واستشفعا باسمي إليه . "(2/188)
وروى أبو نعيم الحافظ في كتاب دلائل النبوة: ومن طريق الشيخ أبي الفرج حدثنا سليمان بن أحمد ثنا أحمد بن رشدين ثنا أحمد بن سعيد الفهري ثنا عبد الله بن إسماعيل المدني عن عبد الرحمن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لما أصاب آدم الخطيئة رفع رأسه فقال: يا رب بحق محمد إلا غفرت لي، فأوحى إليه وما محمد? ومن محمد? فقال: يا رب إنك لما أتممت خلقي رفعت رأسي إلى عرشك فإذا عليه مكتوب: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعلمت أنه أكرم خلقك عليك، إذ قرنت اسمه مع اسمك. فقال: نعم، قد غفرت لك، وهو آخر الأنبياء من ذريتك ولولاه ما خلقتك" فهذا الحديث يؤيد الذي قبله وهما كالتفسير للأحاديث الصحيحة . [ الفتاوى ج 2 ص 150] إنتبه لقول الإمام ابن تيمية: " فهذا الحديث يؤيد الذي قبله وهما كالتفسير للأحاديث الصحيحة . "
وهو يدل بذلك دلالة واضحة لا غبار عليها أن الحديث هذا عند ابن تيمية صالح للإستشهاد ويتقوى ويعضد بعضه بعضا كما يشرح بعضه بعضا كشرح الأحاديث للتفسير ، والأحاديث الواهية كما لا يخفاك لا يعتمدها ابن تيمية لتفسير القرآن .انتهى كلام المناقش .
ولما سألته عن (محمد بن صالح الراوي في الإسناد قال:بالنسبة لمحمد بن صالح فهو إما: - أبو بكر الأنماطي المعروف بكيلجة بكسر الياء وفتح اللام . ثقة حافظ من رجال التهذيب أو هو محمد بن صالح الواسطي كعب الذراع ثقة أيضاً مترجم له في تاريخ الخطيب ( 5/360)، والاختلاف في تعيين الثقة لا يضر كما لا يخفى عليك عند أصحاب الفن . انتهى كلامه
وقد رددنا عليه قائلين: بالنسبة لمحمد بن صالح:
أ ترجم الخطيب البغدادي لأربعة عشر راويا اسمهم محمد بن صالح (من طبقة محمد بن سنان العوقي) : محمد بن صالح أبو إسماعيل الواسطي مولى ثقيف ويعرف بالبطيخي.وهو من المحتمل أن يروي عنه(2/189)
ب- ممن توفي بعده ومن المحتمل أن يروي عنه: محمد بن صالح الفزاري الخياط (ت:230 هـ) محمد بن صالح بن مهران المعروف بابن النطاح مولى بني هاشم يكنى أبا عبد الله وقيل أبا جعفر (ت:252 هـ) محمد بن صالح بن عبد الرحمن أبو بكر الأنماطي يعرف بكيلجة (ت:271 هـ) محمد بن صالح بن شعبة أبو عبد الله الواسطي يعرف بكعب الذارع (ت: هـ 276 هـ) محمد بن صالح أبو عبد الله البغدادي (وهو ممن سمع أحمد بن حنبل وابن حنبل من طبقة العوقي) ثم جاء بعدهم بثمانية رواه لا يحتمل روايتهم عن العوقي.فما الدليل على اختيار الاثنين من الستة؟ .
ب-احتمال كونه الأول أو الثاني ممن ذكرتهما هذا لا يشهد للشاهد بحسن حتى لو كان المشكوك فيه ثقة فقد يروي الثقة عن ثقة ولكن الأول ضعيف في الثاني خاصة كما هو حال هشيم عن الزهري فكليهما ثقة لكن هشيم ضعيف في الزهري خاصة مع أنه قد روى عنه كثيراً وكذلك بالنسبة لعكرمة بن عمار فهو ثقة أو صدوق في الجملة لكن في روايته عن يحيى بن أبي كثير خاصة اضطراب وضعف وهناك أمثلة أخرى كثيرة فكيف بنا ونحن مع إسناد لا يرى مثله في كل كتب السنة!!.
ج-هذا الحديث لم يروه أصحاب الصحيح ولا السنن ولا المسانيد ولا المعاجم ولا المستخرجات ولا غيرها من الكتب المتداولة .صحيح أن هذا لا يقدح في الحديث لكن هذا الأمر من المفترض أنه مشتهر أفلا يخرج إلا في كتب نادرة وقليلة جدا ؟ .
د-بل أكثر من هذا أن هذا الإسناد في غاية الندرة (فمحمد بن صالح الأنماطي المعروف بكيلجة) لا يروي عن محمد بن سنان العوقي ولا هو في شيوخ أحمد بن إسحاق بن صالح
وأما محمد بن صالح كعب الذارع فمن تلاميذه ( أبو جعفر محمد بن عمرو بن البختري ) الراوي عن (أحمد بن إسحاق بن صالح ) الراوي عن (محمد بن صالح كعب الذارع) وكفى بهذا اضطرابا وغرابة.(2/190)
هـ -بل إن أحمد بن إسحاق بن صالح يروي مباشرة عن محمد بن سنان العوقي ولا يحتاج إلى واسطة غير معروفة عنه ولا عن العوقي. صحيح أنه قد يروي الراوي عن شيخه بواسطة (مثل مالك بن أنس فهو يروي عن نافع ولكن في بعض الأحيان يروي عن الزهري عن نافع ولكن في حديث قد رواه عن نافع ) وفي حديثنا هذا لم يرو أحمد بن إسحاق بن صالح عن محمد العوقي هذا الحديث في أي مصدر.
و-بل إن (محمد بن صالح الأنماطي كيلجة) لم يرو له أحد من أصحاب السنن ولا الصحاح والظان أن النسائي قد أخرج له يرد عليه الحافظ ابن حجر فى "تقريب التهذيب" ص /484 حيث يقول: لم يثبت أن النسائى أخرج له . اهـ
وأما (محمد بن صالح كعب الذارع) لم يرو عنه أحد من أصحاب السنن ولا المسانيد.
ز-أما من روى عنهم محمد بن صالح كيلجة فقد قال المزى فى "تهذيب الكمال" روى عن: .ثابت بن محمد الزاهد ، سعيد بن أبى مريم ، أبى عقبة عباد بن موسى القرشى الأزرق ، عبد الله بن عبد الوهاب الحجبى ، أبى معمر عبد الله بن عمرو المنقرى ، عفان بن مسلم ، أبى صالح محبوب بن موسى الفراء، مسلم بن إبراهيم الأزدى، أبى سلمة موسى بن إسماعيل ، موسى بن أيوب النصيبى ، أبى حذيفة موسى بن مسعود النهدي
وقال الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" في ترجمته: سمع مسلم بن إبراهيم وعفان بن مسلم وأبا سلمة التبوذكي وأبا معمر المقعد وعبد الله بن عبد الوهاب الحجبي وسعيد بن أبي مريم المصري ومحبوب بن موسى الفراء.
قلت: (الأزهري الأصلي):فلم يزد الخطيب راويا واحدا عما قاله المزي.
قال المزى في "تهذيب الكمال" روى عنه: أبو العباس أحمد بن محمد بن سعيد بن عقدة أبو بكر أحمد بن محمد بن موسى المعروف بابن أبى حامد ( صاحب بيت المال وسماه أحمد، إسماعيل بن محمد الصفار، الحسين بن إسماعيل المحاملى ، عبيد الله بن عبد الرحمن السكرى، محمد بن مخلد الدوري ( و سماه في بعض المواضع أحمد ) يحيى بن محمد بن صاعد .(2/191)
قال الخطيب البغدادي: روى عنه يحيى بن محمد بن صاعد وعبيد الله بن عبد الرحمن السكري والقاضي أبو عبد الله المحاملي ومحمد بن مخلد الدوري وإسماعيل بن محمد الصفار وغيرهم
قلت (الأزهري الأصلي): فلم يزد أيضا عن المزي.
أما محمد بن صالح الواسطي فقد قال الخطيب البغدادي: وحدث بها(أي بغداد) عن عاصم بن علي وعمر بن حفص بن غياث وأبي سلمة التبوذكي وعباد بن موسى القرشي وموسى بن إسماعيل الختلي وداود بن شبيب البصري روى عنه يحيى بن محمد بن صاعد ومحمد بن عمرو الرزاز ومحمد بن عبد الله بن أحمد بن عتاب وأبو بكر بن مالك الإسكافي وكان ثقة
قلت (الأزهري الأصلي): ليس له ترجمة في التهذيبين.
فكلا الرجلين لا يعرف لهما رواية عن محمد بن سنان العوقي ولا يعرف لأحمد بن إسحاق بن صالح رواية عن أحد منهما.
ح- ثم إن العلماء قد تكلموا عن تفرد المتأخرين بالرواية وردها بعضهم وقبلها بعضهم بشرط اتصال الرواية وعدم شذوذها إلى غير ذلك من شروط.
ط-الحديث رواه الحاكم قال: حدثنا أبو النضر الفقيه وأحمد بن محمد بن سلمة العنزي قالا حدثنا عثمان بن سعيد الدارمي ومحمد بن سنان العوفي حدثنا إبراهيم بن طهمان عن بديل بن ميسرة عن عبد الله بن شقيق عن ميسرة الفخر.
جاء في مسند أحمد: حدثنا عبد الله حدثني أبي ثنا عبد الرحمن بن مهدي ثنا منصور بن سعد عن بديل عن عبد الله بن شقيق عن ميسرة الفجر.
ورواه الطبراني في (الكبير): حدثنا حفص بن عمر الرقي وأحمد بن داود المكي قالا: ثنا محمد بن سنان العوقي، ثنا إبراهيم بن طهمان عن بديل بن ميسرة عن عبد الله بن شقيق عن ميسرة الفجر.
حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني أبي ح وحدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة ثنا يحيى بن معين ح وحدثنا الحسين بن إسحاق التستري ثنا علي بن بحر قالوا ثنا عبد الرحمن بن مهدي ثنا منصور بن سعد عن بديل بن ميسرة إذنه عن عبد الله بن شقيق عن ميسرة الفجر.(2/192)
كل هؤلاء لا يرويه إلا عن ميسرة الفجر قال قلت يا رسول الله متى كتبت نبيا قال وأدم بين الروح والجسد.
وبدون الزيادة المذكورة.فلا يعقل أن يأتي إسناد آخر ويروي ما فات كل هؤلاء.
وقد قال المزي في تهذيب الكمال: وقد اختلف فيه على عبد الله بن شقيق ، فرواه عنه خالد الحذاء هكذا (يقصد: عن ابن أبى الجدعاء، قال: قلت: يا نبي الله ، متى كنت نبياً؟ قال : " إذ آدم بين الروح والجسد ") ، ورواه بديل بن ميسرة ، عن عبد الله بن شقيق ، عن ميسرة الفجر
ي-ثم إن من أخرج الحديث لم يتكلم فيه بتصحيح ولا تضعيف ولم يصححه إسناده سوى الشيخ الغماري بقوله إسناده قوي
قلت:نعم الإسناد كله ثقات (غير ما نقلناه عن الاضطراب في محمد بن صالح) لكن يا أخي الفاضل هناك علم ألف فيه فحول علم الحديث اسمه (علل الحديث) ولو درسته -وأظنك فعلت- لعلمت أن الحديث قد يكون إسناده قوي لكن فيه علة خفية مما يوهن الحديث وقد قدمنا بعض علل الحديث وما خفي كان أعظم ولكن اليد قصيرة ولم نر من تكلم عن هذا الحديث بتفصيل.
ك-إسناد هذا الشاهد غريب حيث إنه لم يروه أحد عن رجال الإسناد سوى بهذا السند.فلا يروه عن العوقي سوى محمد بن صالح المجهول العين ولا يروه عن (محمد بن صالح) سوى (أحمد بن إسحاق) ومن فوقه.
ل- ثم إن الحاكم نفسه يسمي ما ينفرد به الثقة شاذاً وإن لم يخالف غيره هكذا ذكر السيوطي في ألفيته وذكر أنه رأي مرجوح.
م-ثم هناك مشكلة أخرى: أن الطبعة الموجودة لكتاب الوفا لابن الجوزي لدار الكتب العلمية تحقيق مصطفى عبد القادر عطا لا تحتوي على الإسناد الذي ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية فلا ندري أحذف المحقق الإسناد أم أن ابن الجوزي لم يذكر الإسناد والتصحيف عند ابن تيمية.
الخلاصة: لكل هذه الأسباب وغيرها لا يطمئن القلب ولا العقل ولا البحث الدقيق إلى صحة هذا الشاهد. والله أعلم.(2/193)
وقد رد بأنه الآن يعرض هذه التساؤلات على ممدوح سعيد أجيبونا مشكورين ونأسف للإطالة ولكن عهدناكم أهل علم وفضل.
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
خلاصة السؤال الاستفسار عن الحديثين المذكورين، وايضاح المراد بكلام ابن تيمية .
أ- حديث ميسرة الفجر أخرجه أحمد ح ( 20596 ) قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا منصور بن سعد عن بديل عن عبد الله بن شقيق عن ميسرة الفجر قال: قلت: يا رسول الله متى كتبت نبياً ؟ قال: " وآدم عليه السلام بين الروح والجسد "
وهذا إسناد قوي لكن اختلف فيه على بديل بن ميسرة فرواه منصور بن سعد عنه هكذا، وخالفه حماد بن زيد فرواه عن بديل عن عبد الله بن شقيق، قال: قيل يا رسول الله ولم يذكر ميسرة ، وهناك وجوه أخرى من الاختلاف (1) ، وأخرجه الإمام أحمد : حدثنا سريج بن النعمان، قال: حدثنا حماد عن خالد الحذاء ، عن عبد الله بن شقيق، عن رجل ، قال: قلت : يا رسول الله متى جعلت نبياً ؟ ، قال: " وآدم بين الروح والجسد" (2)
وأما السياق المطول لحديث ميسرة الذي ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى وعزاه لابن الجوزي في كتابه " الوفا بحقوق المصطفى " فيلاحظ عليه ما يأتي :
1- قوله: وقد رواه أبو الحسين بن بشران من طريق الشيخ أبي الفرج بن الجوزي، وهذا خلل ظاهر ، فأبو الحسين بن بشران توفي سنة 415 هـ ، وابن الجوزي ولد سنة 510 هـ ، وتوفي 597 هـ ، وقد يكون صواب العبارة: رواه ابن الجوزي من طريق أبي الحسين بن بشران
__________
(1) - ينظر الإصابة ( 6/ 144 )
(2) - أخرجه أحمد ح (16623) وإسناده صحيح . وصححه الحافظ في الإصابة .(2/194)
2- الحديث رواه البيهقي عن أبي الحسين بن بشران باللفظ المختصر الذي اتفقت عليه جميع روايات الحديث قال البيهقي : أخبرنا أبو الحسين بن بشران ، ببغداد ، قال: حدثنا أبو جعفر محمد بن عمرو الرزاز ، قال: حدثنا أحمد بن إسحاق بن صالح، قال: حدثنا محمد بن سنان العوقي، قال: حدثنا إبراهيم بن طهمان، عن بديل بن ميسرة، عن عبد الله بن شقيق، عن ميسرة الفجر، قال: قلت: يا رسول الله ، متى كتبت نبياً ؟ قال: " وآدم بين الروح والجسد . " (1) ، وإسناد البيهقي يوضح أنه ليس هناك واسطة بين أحمد بن إسحاق بن صالح ، ومحمد بن سنان العوقي ، كما جاء في السياق المطول المنقول عن ابن الجوزي، وبهذا يتضح أن محمد بن صالح مقحم في الإسناد، ومحمد بن عمرو هو: ابن البختري بن مدرك بن أبي سليمان أبو جعفر الرزاز ثقة، له ترجمة في السير (2) ، وأحمد بن إسحاق بن صالح الوزان له ترجمة في سؤالات الحاكم للدارقطني (3) قال : لا بأس به .
3- رواية البيهقي توضح أن رواية أبي الحسين بن بشران موافقة لروايات الحديث الأخرى، باللفظ المختصر، وأما السياق المطول والمشتمل على غرابة ونكارة فيظهر أن العلة فيه ما بين ابن الجوزي وأبي الحسين بن بشران ، فقد يكون هناك أحد الرواة أدخل هذه الزيادة في الحديث، وكتاب الوفا لابن الجوزي المطبوع بين أيدينا مجرد من الأسانيد
__________
(1) - دلائل النبوة ( 1/84 )
(2) - ( 15/385 )
(3) - ( ص: 90 )(2/195)
ب- حديث عمر بن الخطاب، أخرجه الحاكم ح ( 4228) ( 2/672 ) : حدثنا أبو سعيد عمرو بن محمد بن منصور العدل، حدثنا أبو الحسن محمد بن إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، حدثنا أبو الحارث عبد الله بن مسلم الفهري، حدثنا إسماعيل بن مسلمة، أنبأ عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن جده، عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لما اقترف آدم الخطيئة قال: يا رب أسألك بحق محمد لما غفرت لي، فقال الله: يا آدم وكيف عرفت محمداً ولم أخلقه ؟ قال: يا رب لأنك لما خلقتني بيدك ونفخت في من روحك رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوبا لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك، فقال الله: صدقت يا آدم إنه لأحب الخلق إلي ادعني بحقه فقد غفرت لك ولولا محمد ما خلقتك "
قال الحاكم بعده: صحيح ، واستدرك عليه الذهبي ، وقال : بل موضوع ، عبد الرحمن بن زيد بن أسلم المذكور في الإسناد واه، وقال أيضاً في الميزان ( 4/199 ): عبد الله بن مسلم أبو الحارث الفهري روى عن إسماعيل بن مسلمة بن قعنب عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم خبراً باطلاً فيه: يا آدم لولا محمد ما خلقتك "
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : ورواية الحاكم لهذا الحديث مما أنكر عليه فإنه نفسه قد قال في كتاب " المدخل ": عبد الرحمن بن زيد بن أسلم روى عنه أبيه أحاديث موضوعة لا يخفى على من تأملها من أهل الصنعة أن الحمل فيها عليه " (1)
__________
(1) - القاعدة الجليلة في التوسل والوسيلة ( ص: 69 )(2/196)
وأما كلام شيخ الإسلام ابن تيمية فلا يؤخذ منه تصحيح حديث ميسرة بلفظ ابن بشران، ولا تصحيح حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، كيف وقد حكم عليه بالوضع ولكن شيخ الإسلام ابن تيمية حين أورد هذين الحديثين كان بصدد الرد على ابن عربي في زعمه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان موجوداً بحقيقته قبل أن يُخلق، فبين شيخ الإسلام أن هذا كذب، وأن حقيقة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم تكون موجودةً قبل أن يخلق، إلا كما كانت حقيقة غيره، بمعنى أن الله عَلِمَها وقدرها، وأن الله سبحانه كتب نبوته وأظهرها وأعلنها بعد خلق جسد آدم كما في حديث ميسرة المختصر ، فظهر خبره واشتهر اسمه، فإنه كان مكتوباً في التوراة والإنجيل وقبل ذلك، ثم استدل بحديث العرباض بن سارية (1) وفيه : " إني عند الله لخاتم النبيين، وإن آدم عليه السلام لمنجدل في طينته، وسأنبئكم بأول ذلك دعوة أبي إبراهيم وبشارة عيسى بي ....."، واستدل بحديث ابن مسعود في الصحيحين (2) ، وفيه : " إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ..... " والذي يؤخذ منه أن المقادير تسبق الوجود الحقيقي حيث يكتب رزق الإنسان وعمله وأجله قبل أن تنفخ فيه الروح .
__________
(1) - أخرج أحمد ح (17150)
(2) - أخرجه البخاري ح ( 3208 ) ومسلم ( 2643 )(2/197)
ثم قال رحمه الله : " يغلط كثير من الناس في قول النبي صلى الله عليه و سلم في الحديث الصحيح الذي رواه ميسرة قال: قلت: يا رسول الله متى كنت نبياً ؟ و في رواية متى كتبت نبياً ؟ قال: " وآدم بين الروح و الجسد " فيظنون أن ذاته ونبوته وجدت حينئذ وهذا جهل فإن الله إنما نبأه على رأس أربعين من عمره وقد قال له: ( وكذلك أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين ) و قال: ( ووجدك ضالا فهدى ) و في الصحيحين أن الملك قال له حين جاءه: إقرأ فقال لست بقارئ ثلاث مرات ومن قال أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان نبيا قبل أن يوحى إليه فهو كافر باتفاق المسلمين وإنما المعنى أن الله كتب نبوته فأظهرها وأعلنها بعد خلق جسد آدم وقبل نفخ الروح فيه كما أخبر أنه يكتب رزق المولود وأجله وعمله وشقاوته وسعادته بعد خلق جسده وقبل نفخ الروح فيه " ثم ذكر حديث العرباض (1)
والحاصل: أن الذي يفهم من كلام شيخ الإسلام أنه ذكر أن ما تضمنه حديث ميسرة بالسياق المطول ، وكذلك حديث عبد الرحمن بن زيد ، أنها لا تدل على وجود حقيقي للنبي - صلى الله عليه وسلم - كما زعمه ابن عربي ، ودلالتهما لا تخرج عما تفيده الأحاديث الصحيحة في أصل المسألة وهو أن وجوده قبل أن يخلق بمعنى: اشتهار اسمه وظهور خبره ، وليس المعنى: أن ما تضمنته هذه الأحاديث من تفاصيل أنها محفوظة وصحيحة، ولذلك قال: " كالتفسير للأحاديث الصحيحة " ومفهوم العبارة أنها ليست صحيحة، وأراد بـ " كالتفسير " أي في الجملة .
هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل
- - - - -
وظيفة النبي - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) - مجموع الفتاوى ( 8/282 )(2/198)
هل كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - عمل أو أي شكل من الوظيفة ؟ يسألني كثير من غير المسلمين مثل هذا السؤال، لكنني لست متأكداً من الجواب عليه، الذي أعرفه أنه كان راعياً في مرحلة من عمره، وسافر للتجارة، وطبعاً كان يرعى شؤون المسلمين في المدينة بعد نهوض المسلمين فيها، فهل كان عليه الصلاة والسلام يعتمد على الآخرين في معيشته مثل خديجة أو أبي طالب، أو أبي بكر - رضي الله عنه - ؟.
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:(2/199)
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتكسب برعي الغنم قبل البعثة كما جاء في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا رَعَى الْغَنَمَ فَقَالَ أَصْحَابُهُ: وَأَنْتَ ؟ فَقَالَ: نَعَمْ كُنْتُ أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لِأَهْلِ مَكَّةَ" (1) ، قال أحد رواته: يعني كل شاة بقيراط، يعني القيراط الذي هو جزء من الدينار أو الدرهم، وزاول النبي - صلى الله عليه وسلم - التجارة فخرج إلى الشام في تجارة لخديجة -رضي الله عنها- مضاربة كما ذكره ابن إسحاق في السيرة (2) ، وأخرج البيهقي في السنن الكبرى من طريق الربيع بن بدر- وهو ضعيف- عن أبي الزبير عن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " آجرت نفسي من خديجة سفرتين بقلوص..
__________
(1) - أخرجه البخاري ح (2262)
(2) - سير ابن هشام ( 1/187 )(2/200)
" (1) ، وقال الله سبحانه وتعالى: { وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا } (2) ، وقال أيضاً: { وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ } (3) ، ومعنى وصفه - صلى الله عليه وسلم - ووصف الأنبياء بالمشي في الأسواق أي للتكسب والتجارة طلباً للربح الحلال، ثم لما شرع الله الجهاد بالمدينة، كان يأكل مما أباح الله له من المغانم التي لم تبح قبله، ومما أفاء الله عليه من أموال الكفار التي أبيحت له دون غيره، كما جاء في مسند أحمد عن ابن عمر - رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " بُعِثْتُ بِالسَّيْفِ حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي ..... " (4) ، قال الحافظ ابن حجر - وهو يتحدث عن أفضل المكاسب -: " وفوق ذلك من عمل اليد ما يَكتسب من أموال الكفار بالجهاد وهو مكسب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم - وهو أشرف المكاسب لما فيه من إعلاء كلمة الله تعالى وخذلان كلمة أعدائه والنفع الأخروي" (5)
هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
- - - - - -
صفة النبي - صلى الله عليه وسلم -
ما هو وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ وكيف كان يبدو حسب الأحاديث الصحيحة؟.
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
__________
(1) - السنن الكبرى ح (10891)، والقلوص هي: الناقة من الإبل
(2) - سورة الفرقان الآية : 7
(3) - سورة الفرقان من الآية: 20
(4) - أخرجه أحمد ح (5094)
(5) - فتح الباري ( 4/304 )(2/201)
ورد في صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - أحاديث كثيرة حيث كان الصحابة - رضي الله عنهم - يصفون النبي - صلى الله عليه وسلم - فيذكر كل منهم ما استحضره من صفاته - صلى الله عليه وسلم - ، ومن الأحاديث الجامعة في هذا ما يأتي:
1- ما أخرجه البخاري من طريق رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ - رضي الله عنه - يَصِفُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: كَانَ رَبْعَةً مِنْ الْقَوْمِ لَيْسَ بِالطَّوِيلِ وَلَا بِالْقَصِيرِ أَزْهَرَ اللَّوْنِ لَيْسَ بِأَبْيَضَ أَمْهَقَ وَلَا آدَمَ لَيْسَ بِجَعْدٍ قَطَطٍ وَلَا سَبْطٍ رَجِل (1) ، وقَوْله: "كَانَ رَبْعَة"أَيْ مَرْبُوعًا, وَالتَّأْنِيث بِاعْتِبَارِ النَّفْس, يُقَال رَجُل رَبْعَة وَامْرَأَة رَبْعَة, وَقَدْ فَسَّرَهُ، بِقَوْلِهِ : " لَيْسَ بِالطَّوِيلِ الْبَائِن وَلَا بِالْقَصِيرِ"، وِالطَّوِيلِ الْبَائِن: الْمُفْرِط فِي الطُّول مَعَ اِضْطِرَاب الْقَامَة، وَسَيَأْتِي فِي حَدِيث الْبَرَاء - رضي الله عنه - بَعْد قَلِيل أَنَّهُ قَالَ: كَانَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - مَرْبُوعًا " وَوَقَعَ فِي حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة - رضي الله عنه - : " كَانَ رَبْعَة وَهُوَ إِلَى الطُّول أَقْرَب"، قَوْله : (أَزْهَر اللَّوْن) أَيْ أَبْيَض مُشَرَّب بِحُمْرَةِ, وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي حَدِيث أَنَس - رضي الله عنه - عِنْد مُسْلِم (2) , وَعِنْد التِّرْمِذِيّ وأحمد مِنْ حَدِيث عَلِيّ - رضي الله عنه - قَالَ : " كَانَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أَبْيَض مُشَرَّبًا بَيَاضه بِحُمْرَةٍ" (3) ، قَوْله: " لَيْسَ بِأَبْيَض أَمْهَق ": الْمُرَاد أَنَّهُ لَيْسَ بِالْأَبْيَضِ الشَّدِيد الْبَيَاض وَلَا بِالْآدَمِ الشَّدِيد
__________
(1) - أخرجه البخاري ح ( 3547 )
(2) - أخرجه مسلم ح (2347)
(3) - أخرجه التِّرمذي ح (3638) وأحمد ح (947)(2/202)
الْأُدْمَة, وَإِنَّمَا يُخَالِط بَيَاضه الْحُمْرَة. قَوْله : " لَيْسَ بِجَعْدٍ قَطَط وَلَا سَبِط ", وَالْجُعُودَة فِي الشَّعْر: أَنْ لَا يَتَكَسَّر وَلا يَسْتَرْسِل، وَالسُّبُوطَة ضِدّه , فَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ وَسَط بَيْنهمَا . وَوَقَعَ فِي حَدِيث عَلِيّ - رضي الله عنه - عِنْد التِّرْمِذِيّ : "وَلَمْ يَكُنْ بِالْجَعْدِ الْقَطَط, وَلَا بِالسَّبِطِ, كَانَ جَعْدًا رَجِلًا" (1) وَقَوْله : رَجِل أَيْ مُتَسَرِّح , وَهُوَ مَرْفُوع عَلَى الِاسْتِئْنَاف, أَيْ هُوَ رَجِل.
__________
(1) - أخرجه الترمذي ح (3638) وأحمد (947)(2/203)
2- وفي الصحيحين من حديث الْبَرَاءَ - رضي الله عنه - ، قال: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلًا مَرْبُوعًا بَعِيدَ مَا بَيْنَ الْمَنْكِبَيْنِ عَظِيمَ الْجُمَّةِ إِلَى شَحْمَةِ أُذُنَيْهِ عَلَيْهِ حُلَّةٌ حَمْرَاءُ مَا رَأَيْتُ شَيْئًا قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهُ - صلى الله عليه وسلم - (1) قَوْله : "بَعِيد مَا بَيْن الْمَنْكِبَيْنِ" أَيْ عَرِيض أَعْلَى الظَّهْر, وَوَقَعَ فِي حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة - رضي الله عنه - عِنْد اِبْن سَعْد " رَحْب الصَّدْر"، قَوْله : " لَهُ شَعْر يَبْلُغ شَحْمَة أُذُنه" وفِي رِوَايَة " أُذُنَيْهِ"، بِالتَّثْنِيَةِ . وَفِي رِوَايَة أخرى: " تَكَاد جُمَّته تُصِيب شَحْمَة أُذُنَيْهِ". والْمُرَاد أَنَّ مُعْظَم شَعْره كَانَ عِنْد شَحْمَة أُذُنه، وَمَا اِسْتَرْسَلَ مِنْهُ مُتَّصِل إِلَى الْمَنْكِب .
__________
(1) - أخرجه البخاري ح (3551)، ومسلم ح ( 2337 )(2/204)
وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيث أَنَس - رضي الله عنه - عِنْد البخاري ومسلم أَنَّ شَعْره - صلى الله عليه وسلم - " كَانَ بَيْن أُذُنَيْهِ وَعَاتِقه " (1) وَفِي حَدِيث حُمَيْدٍ عَنْ أنس - رضي الله عنه - " إِلَى أَنْصَاف أُذُنَيْهِ" عند مسلم (2) ، وفي سنن أبي دَاوُدَ مِنْ حديث عَائِشَة -رضي الله عنها- قَالَتْ : " كَانَ شَعْر رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فَوْق الْوَفْرَة وَدُون الْجُمَّة" (3) ، قَالَ أَهْل اللُّغَة : الْجُمَّة أَكْثَر مِنْ الْوَفْرَة , فَالْجُمَّة الشَّعْر الَّذِي نَزَلَ إِلَى الْمَنْكِبَيْنِ , وَالْوَفْرَة مَا نَزَلَ إِلَى شَحْمَة الْأُذُنَيْنِ، وقيل إن اختلاف صفة الشعر لِاخْتِلَافِ الْأَوْقَات, فَإِذَا غَفَلَ عَنْ تَقْصِيرهَ بَلَغَ الْمَنْكِب, وَإِذَا قَصَّرَهَ كَانَ إِلَى أَنْصَاف الْأُذُنَيْنِ , فَكَانَ يَقَصرُ وَيَطَولُ بِحَسَبِ ذَلِكَ.
3- وفي الصحيحين من حديث الْبَرَاءَ - رضي الله عنه - قال: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَحْسَنَ النَّاسِ وَجْهًا وَأَحْسَنَهُ خَلْقًا لَيْسَ بِالطَّوِيلِ الْبَائِنِ وَلَا بِالْقَصِيرِ" (4)
__________
(1) - أخرجه البخاري ح (5905) ومسلم ح (2338)
(2) - أخرجه مسلم ح (2338)
(3) - أخرجه أبو داود ح (3655)
(4) - أخرجه البخاري ح ( 3549 ) ، ومسلم ح ( 2337 )(2/205)
4- وفي الصحيحين من حديث أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: مَا مَسِسْتُ حَرِيرًا وَلَا دِيبَاجًا أَلْيَنَ مِنْ كَفِّ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَلَا شَمِمْتُ رِيحًا قَطُّ أَوْ عَرْفًا قَطُّ أَطْيَبَ مِنْ رِيحِ أَوْ عَرْفِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - "واللفظ للبخاري (1) ، ولفظ مسلم : " قَالَ أَنَسٌ - رضي الله عنه - : مَا شَمَمْتُ عَنْبَرًا قَطُّ وَلَا مِسْكًا وَلَا شَيْئًا أَطْيَبَ مِنْ رِيحِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَلَا مَسِسْتُ شَيْئًا قَطُّ دِيبَاجًا وَلَا حَرِيرًا أَلْيَنَ مَسًّا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " قَوْله : " وَلَا دِيبَاجًا " هُوَ مِنْ عَطْف الْخَاصّ عَلَى الْعَامّ, ِأَنَّ الدِّيبَاج نَوْع مِنْ الْحَرِير قَوْله : أَلْيَن مِنْ كَفّ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قِيلَ هَذَا يُخَالِف مَا وَقَعَ فِي حَدِيث أَنَس " أَنَّهُ كَانَ ضَخْم الْيَدَيْنِ " وَالْجَمْع بَيْنهمَا أَنَّ الْمُرَاد اللِّين فِي الْجِلْد وَالْغِلَظ فِي الْعِظَام فَيَجْتَمِع لَهُ نُعُومَة الْبَدَن وَقُوَّته.
5- وفي الصحيحين من حديث كَعْب بْن مَالِكٍ - رضي الله عنه - يُحَدِّثُ حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ تَبُوكَ قَالَ: فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يَبْرُقُ وَجْهُهُ مِنْ السُّرُورِ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا سُرَّ اسْتَنَارَ وَجْهُهُ حَتَّى كَأَنَّهُ قِطْعَةُ قَمَرٍ وَكُنَّا نَعْرِفُ ذَلِكَ مِنْهُ، (2) قَوْله : " اِسْتَنَارَ وَجْهه كَأَنَّهُ قِطْعَة قَمَر " أَيْ الْمَوْضِع الَّذِي يَبِين فِيهِ السُّرُور, وَهُوَ جَبِينه, فَلِذَلِكَ قَالَ : "قِطْعَة قَمَر".
__________
(1) - أخرجه البخاري ح ( 3561 ) ، ومسلم ح ( 2330 )
(2) - أخرجه البخاري ح ( 3556 ) ، ومسلم ح ( 2769 )(2/206)
6- وفي مسند الإمام أحمد بإسناد حسن من حديث عَلِيٍّ - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ضَخْمَ الرَّأْسِ عَظِيمَ الْعَيْنَيْنِ هَدِبَ الْأَشْفَارِ مُشْرَبَ الْعَيْنِ بِحُمْرَةٍ كَثَّ اللِّحْيَةِ أَزْهَرَ اللَّوْنِ إِذَا مَشَى تَكَفَّأَ كَأَنَّمَا يَمْشِي فِي صُعُدٍ وَإِذَا الْتَفَتَ الْتَفَتَ جَمِيعًا شَثْنَ الْكَفَّيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ (1) ، وقوله: هَدِبَ الْأَشْفَارِ: أي طويل شعر الأجفان، وقوله: " إِذَا مَشَى تَكَفَّأَ " أي إذا مشى تمايل إلى قُدَّام، وقوله : " شَثْنَ " أي غليظ الكفين، هذه بعض أوصافه الخَلقية الكريمة عليه الصلاة والسلام، وقد لخص القاضي عياض -رحمه الله - ما جاء من صفات النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأحاديث فقال: " كان أزهر اللون، أدعج (2) ، أنجل (3) ، أشكل (4) ، أهدب الأشفار، أبلج (5) ، أقنى (6) ، أفلج (7) ، مدور الوجه، واسع الجبين، كث اللحية تملأ صدره، سَوَاءَ البطن والصدر، واسع الصدر، عظيم المنكبين، ضخم العظام، عَبْل (8) العضدين والذراعين والأسافل، (9) رَحب (10) الكفين والقدمين، ...
__________
(1) - أخرجه أحمد ح ( 646 )
(2) - أَدْعَج ، الدعج : شدة سواد العين مع سعتها
(3) - أَنْجَل: النجلة: سعة شق العين مع حسنها
(4) - أَشْكَل: الشكلة: حمرة يسيرة في بياض العين
(5) - أبلج: البلج: نقاء ما بين الحاجبين من الشعر
(6) - الأقنى: طول أنفه ودقة أرنبته مع حدب في وسطه
(7) - أفلج: الفلج: تباعد ما بين الثنايا، أو ما بين الأسنان
(8) - عبل: ضخم قوي
(9) - الأسافل: جمع أسفل، يريد رجليه
(10) - رحب: واسع(2/207)
دقيق المسربة (1) ربعة القد (2) ، ليس بالطويل البائن ولا بالقصير، ومع ذلك فلم يكن يماشيه أحد ينسب إلى الطول إلا طاله - صلى الله عليه وسلم - ، رجل الشعر، إذا افْتَرَّ ضاحكاً افتر عن مثل سنا البرق، وعن مثل حب الغمام (3) ، إذا تكلم رُئي كالنور يخرج من ثناياه... " (4) ، هذا ومن أحب التوسع فليرجع إلى كتاب الشمائل للترمذي وشروحه، والبداية والنهاية لابن كثير، باب جامع لأحاديث متفرقة في صفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وصحيح البخاري (5) ، هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
- - - - - -
هل دونت خطب النبي - صلى الله عليه وسلم -
أين خطب الرسول - صلى الله عليه وسلم - لكل يوم جمعة؟ لماذا لم تدوَّن كأحاديثه وسيرته، وحركاته،وصفاته، ومجالسه؟ إن كان هناك الكثير من أقوال الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله قد نقلت إلينا صغيرة وحتى كبيرة.
الجواب:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، وبعد:
__________
(1) - دقيق المسربة: المراد ليس بعريض ولا متكاثف الشعر، والمسربة: شعر مستطيل من الصدر للسرة
(2) - ربعة القد: القد بمعنى القامة، وربعة: معتدل أي مربوع القامة
(3) - حب الغمام: هو البرد، أي مثله في بياضه ونقائه وصفائه
(4) - الشفا بتعريف حقوق المصطفى ( 1/82-83)
(5) - البخاري مع الفتح (6/563- 579)(2/208)
كان العرب قبل الإسلام يعتمدون على الحفظ في نقل أشعارهم وتاريخهم، وأيامهم ومآثرهم، وأنسابهم، واشتهروا بقوة الذاكرة وسرعة الحفظ، ووصفهم الله عز وجل بالأميين، قال تعالى: { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ } (1) ، وكان الكُتاب فيهم ندرة، ثم جاء الإسلام، وحث على العلم والكتابة، ووجد كُتاب في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وقاموا بتدوين القرآن الكريم، ولكنهم لم يقوموا بجمع حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - وكتابته بشمول واستقصاء، بل اعتمدوا على الحفظ والذاكرة في أغلبه، ولم يأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك ، ولعله أراد المحافظة على ملكة الحفظ عندهم لاسيما وأن الحديث تجوز روايته بالمعنى، ولا يقصد بألفاظه التعبد والإعجاز بخلاف القرآن الذي هو معجز بلفظه ومعناه، ومتعبد به، ثم كان هناك خشية في أول الإسلام أن يحدث التباس عند عامة المسلمين، فيخلطوا القرآن بالحديث إذا حصل كتابة القرآن، والحديث في صحيفة واحدة، أو أن تخلط الصحف التي يكتب فيها الحديث بالصحف التي يكتب فيها القرآن، وكذلك خشية انشغال المسلمين بالحديث عن القرآن وهم حديثو عهد به، ولهذا جاء في حديث أبي سعيد - رضي الله عنه - النهي عن كتابة الحديث، فعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :" لا تَكْتُبُوا عَنِّي وَمَنْ كَتَبَ عَنِّي غَيْرَ الْقُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ" (2)
__________
(1) - سورة الجمعة الآية: 2
(2) - أخرجه مسلم ح (3004)(2/209)
قال الرامهرمزي: " وحديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - ، فأحسبه أنه كان محفوظاً في أول الهجرة، وحين كان لا يؤمن الاشتغال به عن القرآن" (1) ، وقال الخطابي - عن الحديث -: " وجهه - والله أعلم - أن يكون إنما كره أن يكتب شيء من القرآن في صحيفة واحدة، أو يجمع بينهما في موضع واحد؛ تعظيماً للقرآن وتنزيهاً له أن يسوى بينه وبين كلام غيره" (2) ، وقد اعتنى الصحابة - رضي الله عنهم - بحفظ السنة، وبلغوها إلى من بعدهم، ثم دونت في المعاجم، والمصنفات والمسانيد كما هو معلوم، وخطب النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحصل تدوينها وكتابتها في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، لكنها توجد في الغالب مفرقة فيما نقله الصحابة - رضي الله عنهم - ، وقد لا يُنَص على أن هذا الكلام قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - في الخطبة، ثم إن الصحابة - رضي الله عنهم - قد ينقل بعضهم أول كلامه - صلى الله عليه وسلم - في الخطبة، وينقل صحابي آخر آخرها أو وسطها، ولهذا جاء في حديث أبي زيد عمرو بن أخطب - رضي الله عنه - أنه قال: " صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْفَجْرَ، وَصَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَخَطَبَنَا حَتَّى حَضَرَتْ الظُّهْرُ، فَنَزَلَ فَصَلَّى ثُمَّ صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَخَطَبَنَا حَتَّى حَضَرَتْ الْعَصْرُ ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى، ثُمَّ صَعِدَ الْمِنْبَرَ ، فَخَطَبَنَا حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ، فَأَخْبَرَنَا بِمَا كَانَ وَبِمَا هُوَ كَائِن،ٌ فَأَعْلَمُنَا أَحْفَظُنَا " (3) ، وقد يحصل النص في بعض الأحاديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاله في خطبة الجمعة ومن ذلك على سبيل المثال:
__________
(1) - المحدث الفاصل ص ( 71 )
(2) - غريب الحديث (1/632)
(3) - أخرجه مسلم ح ( 2892 )(2/210)
- ما رواه مسلم من حديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنهما- قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا خَطَبَ احْمَرَّتْ عَيْنَاه،ُ وَعَلَا صَوْتُهُ، وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ، حَتَّى كَأَنَّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ، يَقُولُ: "صَبَّحَكُمْ وَمَسَّاكُمْ "، وَيَقُولُ: " بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ"، وَيَقْرُنُ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى، وَيَقُولُ: " أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرُ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ، وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ " ثُمَّ يَقُولُ: " أَنَا أَوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِهِ، مَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِأَهْلِهِ، وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا فَإِلَيَّ وَعَلَيَّ" وفي لفظ: كَانَتْ خُطْبَةُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ الْجُمُعَةِ: يَحْمَدُ اللَّهَ، وَيُثْنِي عَلَيْه،ِ ثُمَّ يَقُولُ عَلَى إِثْرِ ذَلِك،َ وَقَدْ عَلَا صَوْتُهُ، ثُمَّ سَاقَ الْحَدِيثَ بِمِثْلِهِ . (1)
- ومما حفظ من خطبه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يكثر أن يخطب بالقرآن وسورة (ق) كما جاء في صحيح مسلم عن أم هشام بنت الحارث بْنِ النُّعْمَانِ - رضي الله عنها- قَالَتْ: " مَا حَفِظْتُ ق إِلا مِنْ فِي رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ بِهَا كُلَّ جُمُعَةٍ". (2)
- وكما جاء في مسند الإمام أحمد من حديث أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَرَأَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ: "بَرَاءَةٌ "وَهُوَ قَائِمٌ يُذَكِّرُ بِأَيَّامِ اللَّهِ...." (3)
__________
(1) - أخرجه مسلم ح ( 867 )
(2) - أخرجه مسلم ح ( 873 )
(3) - أخرجه أحمد ح ( 20325 )(2/211)
- وفي رواية عند ابن ماجه من حديث أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَرَأَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ تَبَارَكَ وَهُوَ قَائِمٌ فَذَكَّرَنَا بِأَيَّامِ اللَّهِ.. " (1)
- ومما حفظ من خطبته - صلى الله عليه وسلم - أيضاً ما أخرجه ابن ماجه من حديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رضي الله عنهما- قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ قَبْلَ أَنْ تَمُوتُوا، وَبَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ قَبْلَ أَنْ تُشْغَلُوا، وَصِلُوا الَّذِي بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ رَبِّكُمْ بِكَثْرَةِ ذِكْرِكُمْ لَهُ، وَكَثْرَةِ الصَّدَقَةِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ تُرْزَقُوا وَتُنْصَرُوا وَتُجْبَرُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ قَدْ افْتَرَضَ عَلَيْكُمْ الْجُمُعَةَ فِي مَقَامِي هَذَا، فِي يَوْمِي هَذَا، فِي شَهْرِي هَذَا، مِنْ عَامِي هَذَا، إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَمَنْ تَرَكَهَا فِي حَيَاتِي أَوْ بَعْدِي وَلَهُ إِمَامٌ عَادِلٌ أَوْ جَائِرٌ اسْتِخْفَافًا بِهَا، أَوْ جُحُودًا لَهَا فَلَا جَمَعَ اللَّهُ لَهُ شَمْلَهُ، وَلَا بَارَكَ لَهُ فِي أَمْرِهِ، أَلَا وَلَا صَلَاةَ لَه،ُ وَلَا زَكَاةَ لَهُ، وَلَا حَجَّ لَه،ُ وَلَا صَوْمَ لَهُ، وَلَا بِرَّ لَهُ، حَتَّى يَتُوبَ فَمَنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ، أَلَا لَا تَؤُمَّنَّ امْرَأَةٌ رَجُلًا، وَلَا يَؤُمَّ أَعْرَابِيٌّ مُهَاجِرًا، وَلَا يَؤُمَّ فَاجِرٌ مُؤْمِنًا إِلَّا أَنْ يَقْهَرَهُ بِسُلْطَانٍ يَخَافُ سَيْفَهُ وَسَوْطَهُ " (2)
__________
(1) - أخرجه ابن ماجه ح ( 1101 )
(2) - أخرجه ابن ماجه ح (1071)، وفي إسناد هذا الحديث علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف .(2/212)
- وحفظ من خطبته أيضاً ما أخرجه أبو داود من حديث ابْنِ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا تَشَهَّدَ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُه،ُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، مِنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَه،ُ وَمَنْ يُضْلِل،ْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَرْسَلَهُ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَة،ِ مَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَقَدْ رَشَدَ وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّ إِلَّا نَفْسَه،ُ وَلَا يَضُرُّ اللَّهَ شَيْئًا" (1)
- ومن خطبه - صلى الله عليه وسلم - أيضاً ما أخرجه البيهقي عن الحسن البصري قال: طلبت خُطَبَ النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجمعة فأعيتني فلزمت رجلاً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فسألته عن ذلك، فقال: كان يقول في خطبته يوم الجمعة - صلى الله عليه وسلم - : " يا أيها الناس إن لكم علماً فانتهوا إلى علمكم، وإن لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم، فإن المؤمن بين مخافتين: بين أجل قد مضى لا يدري كيف صنع الله فيه، وبين أجل قد بقي لا يدري كيف الله بصانع فيه، فليتزود المرء لنفسه ومن دنياه لآخرته، ومن الشباب قبل الهرم، ومن الصحة قبل السقم، فإنكم خلقتم للآخرة، والدنيا خلقت لكم، والذي نفسي بيده ما بعد الموت من مستعتب، وما بعد الدنيا دار إلا الجنة والنار، وأستغفر الله لي ولكم". (2)
__________
(1) - أخرجه أبو داود ح ( 925 )
(2) - أخرجه البيهقي في الشعب (7/360)(2/213)
وكان - صلى الله عليه وسلم - يعلم أصحابه - رضي الله عنهم - في خطبته قواعد الإسلام، وشرائعه، ويأمرهم، وينهاهم في خطبته إذا عرض له أمر أو نهي كما جاء في الصحيحين من جَابِرِ حديث بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رضي الله عنهما- قَالَ: بَيْنَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِذْ جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : "أَصَلَّيْتَ يَا فُلَانُ؟" قَالَ: لَا، قَالَ: "قُمْ فَارْكَعْ " (1)
__________
(1) - أخرجه البخاري ح ( 930 )، ومسلم ح (875)(2/214)
ونهى المتخطي رقاب الناس عن ذلك ، وأمره بالجلوس، كما جاء فيما رواه أبو داود من حديث عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُسْرٍ - رضي الله عنه - قال: جَاءَ رَجُلٌ يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : اجْلِسْ فَقَدْ آذَيْتَ (1) ، وربما قطع خطبته للحاجة تعرض، أو السؤال من أحد من أصحابه - رضي الله عنهم - فيجيبه ثم يعود إلى خطبته فيتمها، وكان ربما نزل عن المنبر للحاجة ثم يعود، فيتمها كما جاء في سنن أبي داود من حديث بُرَيْدَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَقْبَلَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- عَلَيْهِمَا قَمِيصَانِ أَحْمَرَانِ يَعْثُرَانِ وَيَقُومَانِ فَنَزَلَ فَأَخَذَهُمَا فَصَعِدَ بِهِمَا الْمِنْبَرَ ثُمَّ قَال: صَدَقَ اللَّهُ إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ رَأَيْتُ هَذَيْنِ فَلَمْ أَصْبِرْ ثُمَّ أَخَذَ فِي الْخُطْبَةِ (2) ، وكان يدعو الرجل في خطبته تعال يا فلان، اجلس يا فلان، صل يا فلان، وكان يأمرهم بمقتضى الحال في خطبته فإذا رأى منهم ذا فاقة وحاجة أمرهم بالصدقة وحضهم عليها، كما جاء في صحيح مسلم من حديث جرير بن عبد الله - رضي الله عنه - قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي صَدْرِ النَّهَارِ قَالَ فَجَاءَهُ قَوْمٌ حُفَاةٌ عُرَاةٌ مُجْتَابِي النِّمَارِ أَوْ الْعَبَاءِ مُتَقَلِّدِي السُّيُوفِ عَامَّتُهُمْ مِنْ مُضَرَ بَلْ كُلُّهُمْ مِنْ مُضَرَ فَتَمَعَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِمَا رَأَى بِهِمْ مِنْ الْفَاقَةِ فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ فَأَمَرَ بِلَالًا - رضي الله عنه - فَأَذَّنَ وَأَقَامَ فَصَلَّى، ثُمَّ
__________
(1) - أخرجه أبو داود ح (923)
(2) - أخرجه أبو داود ح (935)(2/215)
خَطَبَ فَقَالَ: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِلَى آخِرِ...." (1) الحديث.
وكان يستسقي بهم إذا قحط المطر في خطبته، كما جاء في صحيح البخاري من حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - قَالَ: أَصَابَتْ النَّاسَ سَنَةٌ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَبَيْنَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ قَامَ أَعْرَابِيٌّ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّه:ِ هَلَكَ الْمَال،ُ وَجَاعَ الْعِيَال،ُ فَادْعُ اللَّهَ لَنَا، فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَمَا نَرَى فِي السَّمَاءِ قَزَعَةً، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا وَضَعَهَا حَتَّى ثَارَ السَّحَابُ أَمْثَالَ الْجِبَالِ ثُمَّ لَمْ يَنْزِلْ عَنْ مِنْبَرِهِ حَتَّى رَأَيْتُ الْمَطَرَ يَتَحَادَرُ عَلَى لِحْيَتِهِ - صلى الله عليه وسلم - .....". (2)
__________
(1) - أخرجه مسلم ح (1017)
(2) - أخرجه البخاري ح (933)(2/216)
وقد حفظت بعض كتب التاريخ نصاً كاملاً لبعض خطبه - صلى الله عليه وسلم - مثل ما جاء في تاريخ الطبري قال ابن جرير: حدثني يونس بن عبد الأعلى أخبرنا ابن وهب عن سعيد بن عبد الرحمن الجمحي أنه بلغه عن خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - في أول جمعة صلاها بالمدينة في بني سالم بن عمرو بن عوف - رضي الله عنهم - : " الحمد لله، أحمده وأستعينه، وأستغفره وأستهديه، وأؤمن به ولا أكفره ، وأعادي من يكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى، ودين الحق والنور والموعظة على فترة من الرسل، وقلة من العلم، وضلالة من الناس، وانقطاع من الزمان، ودنو من الساعة، وقرب من الأجل من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى وفرط، وضل ضلالاً بعيداً، وأوصيكم بتقوى الله فإنه خير ما أوصى به المسلم المسلم أن يحضه على الآخرة وأن يأمره بتقوى الله فاحذروا ما حذركم الله من نفسه، ولا أفضل من ذلك نصيحة، ولا أفضل من ذلك ذكرى، وإنه تقوى لمن عمل به على وجل، ومخافة، وعون، صدق ما تبتغون من أمر الآخرة، ومن يصلح الذي بينه وبين الله من أمر السر والعلانية لا ينوي بذلك إلا وجه الله، يكن له ذكراً في عاجل أمره، وذخراً فيما بعد الموت حين يفتقر المرء إلى ما قدم، وما كان من سوى ذلك يود لو أن بينه وبينه أمداً بعيداً ويحذركم الله نفسه والله رءوف بالعباد والذي صدق قوله وأنجز وعده لا خُلْفَ لذلك فإنه يقول تعالى: { مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ } (1) ، واتقوا الله في عاجل أمركم وآجله، في السر والعلانية، فإنه من يتق الله فقد فاز فوزاً عظيماً، وإن تقوى الله توقي مقته، وتوقي عقوبته، وتوقي سخطه، وإن تقوى الله تبيض الوجه، وترضي الرب، وترفع الدرجة، خذوا بحظكم ولا تفرطوا في جنب الله، قد علمكم الله كتابه ونهج لكم سبيله، ليعلم الذين صدقوا وليعلم
__________
(1) - سورة ق الآية: 29(2/217)
الكاذبين، فأحسنوا كما أحسن الله إليكم، وعادوا أعداءه، وجاهدوا في الله حق جهاده، هو اجتباكم وسماكم المسلمين؛ ليهلك من هلك عن بينة، ويحي من حي عن بينة، ولا قوة إلا بالله، فأكثروا ذكر الله، واعملوا لما بعد الموت، فإنه من أصلح ما بينه وبين الله، يكفه ما بينه وبين الناس، وذلك بأن الله يقضي على الناس ولا يقضون عليه، ويملك من الناس ولا يملكون منه، الله أكبر، ولا قوة إلا بالله العلي العظيم " (1)
__________
(1) - تاريخ الطبري ( 2/394 - 396 )(2/218)
وقال البيهقي: " باب أول خطبة خطبها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قدم المدينة أخبرنا أبو عبد الله الحافظ أخبرنا أبو العباس الأصم حدثنا أحمد بن عبد الجبار حدثنا يونس بن بكير عن ابن إسحاق حدثني المغيرة بن عثمان بن محمد بن عثمان، والأخنس بن شريق، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - قال: كانت أول خطبة خطبها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة أن قام فيها فحمد الله، وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: " أما بعد أيها الناس فقدموا لأنفسكم، تعلمن والله ليصعقن أحدكم، ثم ليدعن غنمه ليس لها راعٍ ثم ليقولن له ربه - ليس له ترجمان ولا حاجب يحجبه دونه-: ألم يأتك رسولي فبلغك، وآتيتك مالاً، وأفضلت عليك، فما قدمت لنفسك ؟ فينظر يميناً وشمالاً فلا يرى شيئاً، ثم ينظر قدامه فلا يرى غير جهنم، فمن استطاع أن يقي وجهه من النار ولو بشق تمرة فليفعل، ومن لم يجد فبكلمة طيبة، فإن بها تجزى الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، والسلام على رسول الله ورحمة الله وبركاته"، ثم خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرة أخرى فقال: " إن الحمد لله أحمده وأستعينه، نعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إن أحسن الحديث كتاب الله، قد أفلح من زينه الله في قلبه، وأدخله في الإسلام بعد الكفر، واختاره على ما سواه من أحاديث الناس إنه أحسن الحديث وأبلغه، أحبوا من أحب الله أحبوا الله من كل قلوبكم ولا تملوا كلام الله وذكره، ولا تقس عنه قلوبكم، فإنه من يختار الله ويصطفي فقد سماه خيرته من الأعمال، وخيرته من العباد، والصالح من الحديث، ومن كل ما أوتي الناس من الحلال والحرام، فاعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، واتقوه حق تقاته، واصدقوا الله صالح ما تقولون بأفواهكم، وتحابوا بروح الله بينكم، إن الله يغضب أن ينكث عهده، والسلام(2/219)
عليكم ورحمة الله وبركاته". (1)
وفي إسناد ابن جرير والبيهقي إرسال، قال ابن كثير بعد أن ذكر أن طريق ابن جرير والبيهقي فيهما إرسال قال: " إلا أنها - أي رواية البيهقي - مقوية بما قبلها وإن اختلفت الألفاظ " (2)
ويستدل بما نقل من خطبه - صلى الله عليه وسلم - على طريقته في الخطبة وهديه فيها فمن ذلك: يقول ابن القيم - رحمه الله - : " كانت خطبته - صلى الله عليه وسلم - إنما هي تقرير لأصول الإيمان من الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، ولقائه، وذكر الجنة والنار، وما أعد الله لأوليائه، وأهل طاعته، وما أعد لأعدائه وأهل معصيته، فيملأ القلوب من خطبته إيماناً وتوحيداً ومعرفة الله وأيامه "
وقال: "ومن تأمل خطب النبي - صلى الله عليه وسلم - وجدها كفيلة ببيان الهدى، والتوحيد، وذكر صفات الرب جل جلاله، وأصول الإيمان الكلية، والدعوة إلى الله، وذكر آلائه تعالى التي تحببه إلى خلقه، وأيامه التي تخوفهم من بأسه، والأمر بذكره، وشكره الذي يحببهم إليه، فيذكرون من عظمة الله وصفاته، وأسمائه، ما يحببه إلى خلقه، ويأمرون من طاعته، وشكره، وذكره ما يحببهم إليه ." (3)
وهناك من المؤلفين من اعتنى بتتبع خطب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأفردها بالتصنيف مثل:
1- خطب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، لـ علي بن محمد المدائني (ت 215 هـ9).
2- خطب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، لـ / أبي الشيخ محمد بن جعفر ابن حيان الأصبهاني (ت 369 هـ) .
3- خطب النبي - صلى الله عليه وسلم - لـ / أبي العباس جعفر بن محمد المستغفري (ت433 هـ).
4- أربعون خطبة للنبي - صلى الله عليه وسلم - مع شرحها، لابن ودعان محمد بن علي ( ت 494 هـ )، وهذه الكتب حسب إطلاعي لم تصل إلينا.
هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
- - - - - -
__________
(1) - دلائل النبوة ( 2/523- 525 )
(2) - البداية والنهاية (4/528)
(3) - زاد المعاد (1/ 423)(2/220)
تعدد زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم -
كثيراً ما يذكر عند ترجمة أمهات المؤمنين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل بإحداهن في سنة كذا وكذا، فما الحكمة من ذكر ذلك؟ وماذا نستفيد منه؟ لا سيما وأن بعض المستشرقين يعرّضون في هذا، فما الجواب عن هذا الإشكال.
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
ليس هناك استشكال فيما ذكر بل هو من مميزات سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث حفظت بتفاصيلها ودقائقها، وذكرُ تاريخ دخوله - صلى الله عليه وسلم - في زوجاته جزء من سيرته - صلى الله عليه وسلم - ، ويحتاج إليه في نقد الروايات وترجيح بعضها على بعض عند التعارض، فعلى سبيل المثال إذا جاء في بعض الروايات ذكر لبعض زوجاته - صلى الله عليه وسلم - ثم علمنا أنه لم يدخل بها في ذلك الوقت أدركنا أن الرواية حصل فيها وهم أو خطأ .(2/221)
وأما ما يثيره المستشرقون من شبهات وأباطيل حول تعدد زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ويعتمدون في ذلك على روايات باطلة وواهية لاسيما ما جاء في قصة زواجه - صلى الله عليه وسلم - بزينب بنت جحش - رضي الله عنها- والمستشرقون وأبواقهم يقصدون من وراء ذلك النيل من كرامة النبي - صلى الله عليه وسلم - والطعن في رسالته، وتشكيك المؤمنين في دينهم ورسولهم، { يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } (1) ، ولنعلم أن تعدد زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - سنة من سنن المرسلين الذين كانوا قبله، كما قال سبحانه وتعالى: { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً } (2) ، ولتعدد زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - حِكم ومقاصد سامية لا تخفى على من نظر بعين الإنصاف، وتجرد من الهوى والمقاصد السيئة، ولنعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعدد إلا بعد بلوغه سن الشيخوخة أي بعد أن جاوز من العمر الخمسين، ثم إن جميع زوجاته الطاهرات ثيبات (أرامل)، ما عدا عائشة - رضي الله عنها- فهي بكر، ولعل من أظهر الحكم لتعدد زوجاته أنه - صلى الله عليه وسلم - خاتم الأنبياء والمرسلين، ودينه خاتم الأديان، وشريعته عامة لكل البشر في كل زمان ومكان، وكان حريصاً غاية الحرص على أن تبلغ عقائد هذا الدين وشرائعه، وآدابه وأخلاقه إلى جميع البشر، وقد كان لزوجاته الطاهرات دور عظيم في تبليغ الشريعة ونشر السنة لا سيما ما يتعلق بحياة النبي - صلى الله عليه وسلم - الزوجية والبيتية مثل الأحكام المتعلقة بالمعاشرة الزوجية، وكيفية الاغتسال من الجنابة والقبلة أثناء الصوم ونحو ذلك، وقد قال الله تعالى مخاطباً أزواج النبي: { وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ
__________
(1) - سورة الصف الآية: 8
(2) - سورة الرعد الآية: 38(2/222)
وَالْحِكْمَةِ } (1) ، وقد قمن بهذه المهمة خير قيام، ومن يطلع على كتب السنة يجدها زاخرة بالأحاديث التي جاءت عن طريقهن ولو نظرنا على وجه التفصيل لوجدنا أن هناك مقاصد سامية لاختيار تلك الزوجات الطاهرات أمهات المؤمنين، وهذا عرض موجز لزوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - يتضح من خلاله وجوه متعددة من الحكم والمقاصد.
(1) خديجة بنت خويلد - رضي الله عنها-: وهي أول أزواجه عليه السلام، تزوجها الرسول - صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة وهو ابن خمس وعشرين سنة، وهي ثيب بنت أربعين، وكانت امرأة عاقلة ذات رأي وحكمة وسداد وقد وقفت بكل صدق وإيمان إلى جنب النبي - صلى الله عليه وسلم - حينما جاءه الملك في غار حراء، فقد رجع إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرجف فؤاده، وهو يقول: زملوني زملوني، حتى ذهب عنه الروع، فحدَّث خديجة بالخبر، وقال لها: " لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: كَلَّا وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَحْمِلُ الْكَلَّ وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَتَقْرِي الضَّيْفَ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ ...." (2)
(2) سودة بنت زمعة: تزوجها الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاة خديجة - رضي الله عنها-، والحكمة في اختيارها مع أنها أكبر سناً من الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنها كانت من المؤمنات المهاجرات توفي عنها زوجها بعد الرجوع من هجرة الحبشة الثانية فكفلها النبي - صلى الله عليه وسلم - بزواجه منها.
(
__________
(1) - سورة الأحزاب الآية : 34
(2) - البخاري ح (4) ومسلم ح (160) من حديث عائشة - رضي الله عنها-.(2/223)
3) عائشة بنت أبي بكر - رضي الله عنها-: تزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن جاءه الملك بصورتها في المنام، وأخبره بأنها امرأته كما في الصحيحين (1) ، وكانت آية في الذكاء والحفظ والفهم، وقد بَلَّغت كثيراً من سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وكان الصحابة - رضي الله عنهم - يرجعون إليها في مسائل العلم.
قال أبو موسى الأشعري - رضي الله عنه - : "ما أشكل علينا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديث قط، فسألنا عائشة - رضي الله عنها- إلا وجدنا عندها منه علماً ".
وقال مسروق: " رأيت مشيخة أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأكابر يسألونها عن الفرائض ".
وقال عروة بن الزبير - رضي الله عنه - : " ما رأيت امرأة أعلم بطب، ولا فقه، ولا شعر من عائشة - رضي الله عنها - "
(4) حفصة بنت عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما-: تزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن تأيمت من زوجها خنيس بن حذافة، وكان شهد بدراً، وتوفي بالمدينة، وقد عرضها عمر على عثمان وعلى أبي بكر - رضي الله عنهم - ، ثم تزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فكان في ذلك تكريم لعمر - رضي الله عنه - .
(5) زينب بنت خزيمة - رضي الله عنها -: تزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد حفصة بنت عمر - رضي الله عنهما- بعد استشهاد زوجها عبيدة بن الحارث - صلى الله عليه وسلم - وكانت تلقب بأم المساكين لكثرة تصدقها عليهم وبرها بهم، وكان في زواج النبي - صلى الله عليه وسلم - بها تكريم لها، وكانت امرأة حين تزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - كبيرة السن، ولم تبق عند النبي - صلى الله عليه وسلم - سوى عامين ثم توفاها الله .
(
__________
(1) - البخاري ح (3895) ومسلم ح (2438) من حديث عائشة -رضي الله عنها-(2/224)
6) زينب بنت جحش - رضي الله عنها-: تزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن طلقها زيد بن حارثة - رضي الله عنه - ، ومن الحكم التشريعية في زواج النبي - صلى الله عليه وسلم - بها إبطال عادة التبني كما جاء في القرآن الكريم .
(7) أم سلمة - رضي الله عنها-: تزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن توفي زوجها عبد الله بن عبد الأسد أبو سلمة، وقد جبر النبي - صلى الله عليه وسلم - كسرها بعد أن فقدت زوجها، وكانت تقول: من خير من أبي سلمة، ففي صحيح مسلم في صحيحه عن أم سلمة قالت: " سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: مَا مِنْ مُسْلِمٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ فَيَقُولُ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ { إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } اللَّهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا إِلَّا أَخْلَفَ اللَّهُ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا قَالَتْ: فَلَمَّا مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ قُلْتُ: أَيُّ الْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ أَوَّلُ بَيْتٍ هَاجَرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ إِنِّي قُلْتُهَا فَأَخْلَفَ اللَّهُ لِي رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَتْ أَرْسَلَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَاطِبَ بْنَ أَبِي بَلْتَعَةَ يَخْطُبُنِي لَهُ (1)
(8) أم حبيبة، رملة بنت أبي سفيان - رضي الله عنها-: تزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن تنصر زوجها عبيد الله بن جحش ومات بأرض الحبشة، وثبتت على إيمانها، فكان في زواج النبي - صلى الله عليه وسلم - بها تكريماً لها، وقد عقد عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي بأرض الحبشة، ولم يدخل بها إلا بعد فتح خيبر سنة 7 هـ .
(
__________
(1) - أخرجه مسلم ح (918)(2/225)
9) جويرية بنت الحارث - رضي الله عنها-: تزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد قتل زوجها مسافع بن صفوان الذي كان من ألد أعداء الإسلام، وقد أُسرت مع قومها وعشيرتها، فعرض عليها الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يدفع عنها الفداء وأن يتزوجها فقبلت ذلك، فتزوجها الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وأعتق المسلمون جميع الأسرى الذين كانوا تحت أيديهم من قومها، فلما رأى قومها ذلك أسلموا جميعاً، فكان زواجه - صلى الله عليه وسلم - بها بركة عليها وعلى قومها، وكانت أيمن امرأة على قومها (1)
(10) صفية بنت حُييِّ بن أخطب - رضي الله عنها-: تزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن أُسرت وقتل زوجها في غزوة خيبر، وهي سيدة بني قريظة، ووقعت في سهم بعض المسلمين، فقال أهل الرأي والمشورة هذه سيدة بني قريظة لا تصلح إلا للرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فدعاها النبي - صلى الله عليه وسلم - وخيرها بين أن يعتقها ويتزوجها، أو يطلق سراحها فتلحق بأهلها فاختارت أن تكون زوجاً له - صلى الله عليه وسلم - ، وقد أسلم بإسلامها عدد من قومها.
(11) ميمونة بنت الحارث - رضي الله عنها-: وهي آخر أزواجه - صلى الله عليه وسلم - ، وقد قالت فيها عائشة - رضي الله عنها-: " أما إنها كانت من أتقانا لله وأوصلنا للرحم "، وقد وثق النبي عليه الصلاة والسلام- بالزواج منها ما بينه وبين قبيلة من أشرف قبائل العرب، وقد ورد أن العباس - صلى الله عليه وسلم - هو الذي رغبه فيها، وكانت أختها أم الفضل تحت العباس - رضي الله عنه - .
هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
- - - - - -
ترتيب الخلفاء الراشدين في الفضل
__________
(1) - أخرجه أبو داود ح (3931) وأحمد ح (25161) من حديث عائشة -رضي الله عنها-.(2/226)
شيخنا الفاضل يوجد سؤال موجه لنا نحن أهل السنة والجماعة وأريد ردك عليه، لماذا نفضل أبو بكر وعمر وعثمان على علي بن أبي طالب - رضي الله عنهم - أجمعين؟؟ مع الدليل من صحاحنا إن وجد ولكم جزيل الشكر.
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
ذهب جمهور أهل السنة إلى أن ترتيب الخلفاء الراشدين في الفضل كترتيبهم في الخلافة، فأفضل الأمة بعد نبيها عليه الصلاة والسلام أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي - رضي الله عنهم - أجمعين ، ويدل على ذلك أدلة منها:
1- الآثار الواردة في ذلك ومنها قول ابن عمر رضي الله عنهما: كُنَّا نُخَيِّرُ بَيْنَ النَّاسِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَنُخَيِّرُ أَبَا بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ثُمَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ - رضي الله عنهم - " (1) ، وفي رواية للبخاري: " كنا لا نعدل بأبي بكر أحداً ثم عمر ثم عثمان " ، وفي رواية عند أبي داود :" كُنَّا نَقُولُ وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَيٌّ أَفْضَلُ أُمَّةِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بَعْدَهُ أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ ثُمَّ عُثْمَانُ - رضي الله عنهم - أَجْمَعِينَ " (2) ، قال الحافظ ابن حجر : " وفي الحديث تقديم عثمان بعد أبي بكر وعمر كما هو مشهور عند أهل السنة " (3) ، وأخرج الإمام أحمد عن ابن حبيش عن أبي جحيفة قال: سَمِعْتُ عَلِيًّا - رضي الله عنه - يَقُولُ: أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ قَالَ: أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ عُمَرُ - رضي الله عنه - . (4)
__________
(1) - أخرجه البخاري ح ( 3655)
(2) - أخرجه أبو داود ح ( 4628 )
(3) - فتح الباري ( 7/ 16 )
(4) - أخرجه أحمد ح ( 833 )(2/227)
2- إجماع الصحابة - رضي الله عنهم - على تقديم عثمان في البيعة ، قال عبد الرحمن بن عوف لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - : " إني نظرت أمر الناس فلم أرهم يعدلون بعثمان" (1) ، فهذا يدل على تقديم عثمان - رضي الله عنه - ، لأنهم قدموه باختيارهم بعد تشاورهم، وكان علي - رضي الله عنه - من جملة من بايعه ، وكان يقيم الحدود بين يديه، قال الشافعي: " أجمع الصحابة وأتباعهم على أفضلية أبي بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي " ، وقال الدارقطني: " من لم يقدم عثمان على علي فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار " (2) ، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: " استقر أمر أهل السنة على تقديم عثمان ثم علي " (3) ، وقد ذهب بعض السلف إلى تقديم علي على عثمان وممن قال به سفيان الثوري، ويقال إنه رجع عنه، وقال به ابن خزيمة وطائفة، وقيل لا يفضل أحدهما على الآخر، قاله الإمام مالك، وتبعه جماعة منهم يحيى القطان وابن حزم (4) ، ومسألة تفضل علي على عثمان مسألة خلافية بين السلف فلا يضلل من فضل علياً على عثمان وإن كان خلاف الراجح، قال شيخ الإسلام ابن تيمية وهو يذكر معتقد أهل السنة والجماعة: " ويقرون بما تواتر به النقل عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وغيره من أن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر ويثلثون بعثمان ويربعون بعلي - رضي الله عنهم - ، كما دلت عليه الآثار، وكما أجمع الصحابة على تقديم عثمان في البيعة مع أن بعض أهل السنة كانوا قد اختلفوا في عثمان وعلي رضي الله عنهما بعد اتفاقهم على تقديمهم أبي بكر وعمر أيهما أفضل، فقدم قوم عثمان وسكتوا وربعوا بعلي، وقدم قوم علياً، وقوم توقفوا لكن استقر أمر أهل السنة على تقديم عثمان ثم علي، وإن كانت هذه المسألة - مسألة عثمان وعلي - ليست من الأصول التي
__________
(1) - أخرجه البخاري ح ( 7207 )
(2) - ينظر: فتح المغيث ( 3/ 126 )
(3) - ينظر: العقيدة الواسطية ص ( 26 )
(4) - ينظر: فتح الباري ( 7/ 16 )(2/228)
يضلل المخالف فيها عند جمهور أهل السنة، ولكن التي يضلل فيها مسألة الخلافة؛ وذلك لأنهم يؤمنون أن الخليفة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، ومن طعن في خلافة أحد من هؤلاء فهو أضل من حمار أهله" (1) ، وقال الإمام الصابوني ( ت 449 هـ ) في عقيدة السلف وأصحاب الحديث: " ويشهدون ويعتقدون أن أفضل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي وأنهم الخلفاء الراشدون الذين ذكر - صلى الله عليه وسلم - خلافتهم بقوله فيما رواه سعد بن نبهان عن سفينة " الخلافة بعدي ثلاثون سنة " (2) ، وبعد انقضاء أيامهم عاد الأمر إلى الملك العضوض على ما أخبر عنه الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، ويثبت أصحاب الحديث خلافة أبي بكر - رضي الله عنه - بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - باختيار الصحابة واتفاقهم عليه .....ثم خلافة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وأرضاه باستخلاف أبي بكر - رضي الله عنه - إياه واتفاق الصحابة عليه بعده ثم خلافة عثمان - رضي الله عنه - بإجماع أهل الشورى وإجماع الأصحاب كافة ورضاهم به حتى جعل الأمر إليه، ثم خلافة علي - رضي الله عنه - ببيعة الصحابة إياه " (3) ، هذا والله أعلم .
- - - - - -
لعن الأمويين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -
ما هي حقيقة لعن الأمويين الخليفة علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وهل يعتبر الخليفة الراشد عندهم من لدن معاوية - رضي الله عنه - .
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
__________
(1) - ينظر العقيدة الواسطية ص ( 26 )
(2) - أخرجه أبو داود ح ( 4647 )
(3) - ينظر: مجموعة الرسائل المنيرية (1/ 128)(2/229)
من المعلوم أنه بعد مقتل عثمان - رضي الله عنه - حدث خلاف بين الصحابة - رضي الله عنهم - وجرت حروب مثل: واقعة الجمل، وصفين، ونجم عن هذه الفتنة ظهور بعض الفرق مثل: الخوارج والرافضة والناصبة، ومن ضلالات هذه الفرق شتم الصحابة وسبهم والنيل منهم، فالناصبة وهم الذين يبغضون علياً - رضي الله عنه - ومن كان معه فيقعون فيهم ويسبونهم، والرافضة يبغضون معاوية ومن كان معه ويسبونهم ويقعون فيهم، وقد كثر النصب في أهل الشام، وكثر التشيع في أهل الكوفة، ولعله اتضح بهذا السبب في لعن علي وشتمه عند بعض الأمويين ، وهذا كله من الزيغ والانحراف عن الطريق المستقيم، وأهل السنة والجماعة يعرفون للصحابة قدرهم ومكانتهم ويمسكون عما وقع بينهم ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية وهو يتحدث عن عقيدة أهل السنة والجماعة: " ويتبرؤون من طريقة الروافض الذي يبغضون الصحابة ويسبونهم، وطريقة النواصب الذين يؤذون أهل البيت بقول أو عمل ويمسكون عما شجر بين الصحابة ويقولون: إن هذه الآثار المروية في مساوئهم منها ما هو كذب، ومنها ما قد زيد فيه ونقص وغير عن وجهه ، والصحيح منه هم فيه معذورون " (1) ، وقال الحافظ ابن حجر: " اتفق أهل السنة على وجوب منع الطعن على أحد من الصحابة بسبب ما وقع لهم من ذلك ، ولو عرف المحق منهم، لأنهم لم يقاتلوا في تلك الحروب إلا عن اجتهاد ، وقد عفا الله تعالى عن المخطئ في الاجتهاد ، بل ثبت أنه يؤجر أجراً واحداً، وأن المصيب يؤجر أجرين " (2) ، وأما الخفاء الراشدون فهم : أبو بكر وعمر وعثمان وعلي - رضي الله عنهم - ، وهذا باتفاق أهل السنة وترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة، وقد سبق تفصيل هذا الموضوع في فتوى بعثت إلى الموقع . هذا والله أعلم
- - - - - -
هل يعد أبو حنيفة من التابعين؟
__________
(1) - العقيدة الواسطية ص ( 27 )
(2) - ينظر: فتح الباري ( 13/34 )(2/230)
لقد سمعت آراء مختلفة فيما إذا كان الإمام أبو حنيفة روى أي حديث عن صحابي، ومَن مِن الصحابة رآه أبو حنيفة فعلاً يعد تابعياً، فهل روى أبو حنيفة أي أثر مباشر عن الصحابة - رضي الله عنهم - ؟ ومن رأى منهم في حياته؟ وهل كان من هؤلاء الصحابة - رضي الله عنهم - من قاتل مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ مع رجاء ذكر اسم المعركة أو المبايعة تحت الشجرة،سواء الذي رآه يعتبر تابعياً، أو روى، أو تعلَّم حديثاً منه.
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
أبو حنيفة هو: النعمان بن ثابت التيمي الكوفي، الإمام، فقيه الملة، عالم العراق، ولد سنة ثمانين في حياة صغار الصحابة - رضي الله عنهم - ، حيث أدرك زمن أربعة منهم، وهم: أنس بن مالك بالبصرة وعبد الله بن أبي أوفى بالكوفة، وسهل بن سعد الساعدي في المدينة، وأبو الطفيل عامر بن وائلة في مكة - رضي الله عنهم - ، واختلف هل رأى أحداً منهم أم لا؟، فذكر الذهبي نقلاً عن الخطيب في تاريخ بغداد أنه رأى أنس بن مالك - رضي الله عنه - لما قدم عليهم الكوفة ، قال الذهبي : " ولم يثبت له حرف عن أحد منهم - أي من الصحابة - رضي الله عنهم - " (1) ، وادعى بعض أصحاب أبي حنيفة أنه لقي عدداً من الصحابة - رضي الله عنهم - فيكون تابعياً، ولكن هذا لم يتحقق ثبوته. والراجح أنه لم يلق أحداً من الصحابة - رضي الله عنه - ، فهو بهذا من أتباع التابعين.
هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
- - - - - -
هل لهذه الآثار صلة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ؟
أثناء زيارتي للمدينة المنورة شاهدت بئرين مغلقين، قيل لي إن أحد البئرين كان مالحاً فبصق فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأصبح حلواً، هل هناك أية روايات بخصوص هذين البئرين؟
__________
(1) - سير أعلام النبلاء (6/390)(2/231)
كما شاهدنا مسجداً مغلقاً هناك، قيل إنه يقع حيث توقفت الشمس، وأظن أنه يسمى مسجد الشمس، وشرح لنا أحد الناس أن ذلك حيث كان النبي - صلى الله عليه وسلم - نائماً في حجر علي - رضي الله عنه - وفاتت الصلاة علياً، ثم دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - ليوقف الشمس حيث كانت. فهل هناك حديث بهذا الشأن؟.
كذلك شاهدت بيتاً للنبي - صلى الله عليه وسلم - وكان بالغ التخرب لكنني لا أعلم هل هو بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ولماذا لم يعتن به؟ -وجزاكم الله خيراً-.
الجواب:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. وبعد:
لا أعرف عن هذين البئرين شيئاً، والمدينة فيها آبار كثيرة، ورد ذكرها في كتب الحديث والسيرة، وقد اندرس غالب هذه الآبار، ولم تعد معروفة، ومنها ما دخل في توسعة المسجد النبوي، وما يحدد منها فهو على وجه التخمين .
وليس لهذه الآبار خصوصية، فلم ترد نصوص في ذكر فضلها، أو الحث على الشرب منها، أو الاستشفاء بمائها، ونحو ذلك، مثل ما جاء في بئر زمزم .
ومن هذه الآبار التي كانت معروفة في العهد النبوي، ولها ذكر في كتب الحديث والسيرة: بئر خارجة، بئر أريس، بئر حلوة، بئر حاء أو بيرحا، بئر ذروان، بئر أبي عنبة، بئر غرس، بئر رومة: وهي بئر قديمة تقع في العقيق، ويذكر بعض الباحثين أنها من جملة أوقاف المسجد النبوي، وقد جاء في بعض الأحاديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بصق في بعض هذه الآبار مثل:
- بئر أنس: فعن أنس - رضي الله عنه - قال: " أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منزلنا، فسقيناه من بئرٍ لنا في دارنا، كانت تسمى النزور في الجاهلية، فتفل فيها، فكانت لا تنزح بعد . "، وفي رواية: " فلم يكن في المدينة بئرٌ أعذب منها" (1)
__________
(1) - رواه البزار كما في البداية والنهاية (8/623)، والبيهقي في دلائل النبوة (2/572 - 573)(2/232)
- بئر بضاعة: فعن أبي أسيد الساعدي - رضي الله عنه - ، وله بئر في المدينة يقال لها: بئر بضاعة قد بصق فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فهي يُبَشَّر بها ويتيمن بها (1)
- وفي صحيح مسلم من حديث سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه - قَالَ: قَدِمْنَا الْحُدَيْبِيَةَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَنَحْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً وَعَلَيْهَا خَمْسُونَ شَاة،ً لَا تُرْوِيهَا قَالَ: فَقَعَدَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى جَبَا الرَّكِيَّةِ، فَإِمَّا دَعَا وَإِمَّا بَصَقَ فِيهَا قَالَ: فَجَاشَتْ فَسَقَيْنَا وَاسْتَقَيْنَا". (2)
هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
- - - - - -
آبار المدينة، وحديث رد الشمس
أثناء زيارتي للمدينة المنورة شاهدت بئرين مغلقين، قيل لي إن أحد البئرين كان مالحاً ف فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأصبحوا حلوا. هل هناك أية روايات بخصوص هاذين البئرين ؟ كما شاهدت مسجداً مغلقاً هناك ، وقيل أنه حيث توقفت الشمس، وأظن أنه يسمى مسجد الشمس، شرح لنا أحد الناس أن ذلك حيث كان النبي - صلى الله عليه وسلم - نائماً في حجر علي - رضي الله عنه - ، وفاتت الصلاة علياً ، ثم دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - ليوقف الشمس، حيث كانت، فهل هناك حديث بهذا الشأن، كذلك شاهدت بيتاً للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكان بالغ التخريب، لكنني لا أعلم هل هو بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولماذا لا يعتنى به ، وجزاكم الله خيرا .
الجواب:
__________
(1) - أخرجه الطبراني في الكبير ( 19/ 263 ) وقال الهيثمي في المجمع (6/322 - 323) رجاله وثقوه وفي بعضهم ضعف .
(2) - أخرجه مسلم ح (1807 )(2/233)
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين . وبعد: لا أعرف عن هذين البئرين شيئاً، والمدينة فيها آبار كثيرة ورد ذكرها في كتب الحديث والسيرة، وقد اندرس غالب هذه الآبار ولم تعد معروفة، ومنها ما دخل في توسعة المسجد النبوي، وما يحدد منها فهو على وجه التخمين .
وليس لهذه الآبار خصوصية فلم ترد نصوص في ذكر فضلها أو الحث على الشرب منها أو الاستشفاء بمائها ونحو ذلك مثل ما جاء في بئر زمزم .
ومن هذه الآبار التي كانت معروفة في العهد النبوي ولها ذكر في كتب الحديث والسيرة: بئر خارجه، بئر أريس، بئر حلوه، بئر حاء أو بيرحا، بئر ذروان، بئر أبي عنبة، بئر غرس، بئر رومة: وهي بئر قديمة تقع في العقيق، ويذكر بعض الباحثين أنها من جملة أوقاف المسجد النبوي
وقد جاء في بعض الأحاديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بصق في بعض هذه الآبار مثل:
- بئر أنس: فعن أنس - رضي الله عنه - قال: " أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منزلنا، فسقيناه من بئرٍ لنا في دارنا، كانت تسمى النزور في الجاهلية، فتفل فيها، فكانت لا تنزح بعد . "، وفي رواية: " فلم يكن في المدينة بئرٌ أعذب منها " (1) - بئر بضاعة: فعن أبي أسيد الساعدي - رضي الله عنه - ، وله بئر في المدينة يقال لها: بئر بضاعة قد بصق فيها النبي صلى الله عليه، فهي يُبَشَّر بها ويتيمن بها. (2)
__________
(1) - رواه البزار كما في البداية والنهاية (8/623 )، والبيهقي في دلائل النبوة ( 2/572 - 573 )
(2) - أخرجه الطبراني في الكبير ( 19/ 263 ) وقال الهيثمي في المجمع ( 6/322 - 323 ) رجاله وثقوه وفي بعضهم ضعف.(2/234)
- وفي صحيح مسلم من حديث سلمة بن الأكوع قَالَ: قَدِمْنَا الْحُدَيْبِيَةَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَنَحْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً وَعَلَيْهَا خَمْسُونَ شَاةً لَا تُرْوِيهَا قَالَ: فَقَعَدَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى جَبَا الرَّكِيَّةِ، فَإِمَّا دَعَا وَإِمَّا بَصَقَ فِيهَا قَالَ: فَجَاشَتْ فَسَقَيْنَا وَاسْتَقَيْنَا " (1)
وأما المسجد المذكور فلعله ما يعرف بمسجد الفضيخ، وقد ورد في بعض الأحاديث الضعيفة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما حاصر بني النضير في ربيع الأول عام 4هـ ضربت قبته قرب هذا الموقع. وورد أن الخمر لما حرمت خرج الخبر إلى أبي أيوب في نفر من الصحابة ، وهو يشربون فيه فضيخاً - أي خمر التمر- ، فأمر أبو أيوب بسكبه فاشتهر المسجد بهذا الاسم، ويعرف أيضاً بمسجد الشمس، ولعله لكونه على مكان عال في شرق مسجد قباء أول ما تطلع الشمس عليه، ويقع هذا المسجد شرقي مسجد قباء على طرف وادي بطحان، ويبعد عن المسجد النبوي حوالي 3كم، وهو مسجد صغير مربع الشكل مبني بحجارة سوداء بازلتية ، ويقال إن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى فيه ست ليال أثناء حصاره لبني النضير .
وقد قيل إنه سمي بمسجد الشمس لأن الشمس ردت لعلي - رضي الله عنه - لما فاتته صلاة العصر، وهذا لا يثبت ، قال السمهودي نقلاً عن المجد : " ولا يظن ظان أنه المكان الذي أعيدت فيه الشمس بعد الغروب لعلي - رضي الله عنه - ....." (2)
وليس لهذا المسجد ولا غيره من مساجد المدينة فضائل ولا خصائص، ولم يرد الحث على قصدها والذهاب إليها سوى مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومسجد قباء لمن كان في المدينة .
__________
(1) - أخرجه مسلم ح (1807 )
(2) - وفاء الوفا ( 3/822 )(2/235)
وأما رد الشمس لعلي - رضي الله عنه - فقد ورد من حديث أسماء بنت عميس قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوحى إليه ورأسه في حجر علي فلم يصل العصر حتى غربت الشمس، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " اللهم إن علياً كان في طاعتك وطاعة رسولك فاردد عليه الشمس " قالت أسماء فرأيتها غربت ورأيتها طلعت بعدما غربت . (1)
وأورده ابن الجوزي في الموضوعات ( 1/355 ) ، وقال: ومن تغفيل واضع هذا الحديث أنه نظر إلى صورة فضيلة ولم يتلمح إلى عدم الفائدة ، فإن صلاة العصر بغيبوبة الشمس صارت قضاء فرجوع الشمس لا يعيدها أداء .
وقال الحافظ ابن كثير: هذا الحديث ضعيف ومنكر من جميع طرقه، فلا تخلو واحدة منها عن شيعي ومجهول الحال وشيعي ومتروك ، ومثل هذا الحديث لا يقبل فيه خبر واحد إذا اتصل سنده لأنه من باب ما تتوافر الدواعي على نقله ، فلابد من نقله بالتواتر والاستفاضة ، لا أقل من ذلك.
وقال : والأئمة في كل عصر ينكرون هذا الحديث ويردونه ،ويبالغون في التشنيع على رواته . كما قدمنا عن غير واحد من الحفاظ ؛ كمحمد ويعلى ابني عبيد الطنافسيين ، وكإبراهيم بن يعقوب الجوزجاني خطيب دمشق ، وكأبي بكر محمد بن حاتم البخاري المعروف بابن زنجويه، وكالحافظ أبي قاسم بن عساكر، والشيخ أبي الفرج بن الجوزي ، وغيرهم من المتقدمين والمتأخرين، وممن صرح بأنه موضوع شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي والعلامة أبو العباس بن تيمية . (2)
__________
(1) - أخرجه الطبراني في الكبير ( 24/147-152 ) ، والطحاوي في مشكل الآثار ( 2/8-9 ، 4/388 ) ، والعقيلي في الضعفاء ص( 322 )
(2) - البداية والنهاية ( 8/569 )(2/236)
وقال ابن تيمية: فضل علي وولايته لله وعلو منزلته عند الله معلوم ، ولله الحمد ، بطرق ثابتة أفادتنا العلم اليقيني ، لا يحتاج معها إلى ما لا يعلم صدقه أو يعلم أنه كذب ، وحديث رد الشمس قد ذكره طائفة ، كأبي جعفر الطحاوي ، والقاضي عياض وغيرهما ، وعدوا ذلك من معجزات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لكن المحققون من أهل العلم والمعرفة بالحديث يعلمون أن هذا الحديث كذب موضوع . (1)
وأما البيت المذكور للنبي - صلى الله عليه وسلم - فلا أعلم عنه شيئاً ، ولكن من المعروف أن بيوت النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت مجاورة للمسجد ، وعلى هذا فتكون قد دخلت ضمن توسعة المسجد والله أعلم .
هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل .
- - - - - -
مبايعة فاطمة لأبي بكر
هل صحيح بأن فاطمة الزهراء رضي الله عنها لم تبايع أبا بكر - رضي الله عنه - وبايعت علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فإذا صحت بيعتها لعلي - رضي الله عنه - فكيف تمت البيعة لرجلين اثنين في وقت واحد؟ ففي هذا تعارض واضح لحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث إنه قال فيما معناه إذا بويع رجلان فاقتلوا أحدهما فمن كان يجب أن يقتل في هذه الحالة؟ والله ما أوردت هذا السؤال لضعف إيمان أوشك في نفسي، ولكن لتطاول وتحدي أحد الرافضة لنا معاشر أهل السنة والجماعة بعد أن قال إن فاطمة الزهراء - رضي الله عنها- لا يمكن أن تموت ميتة جاهلية ولن تبايع. جزاكم الله عن الإسلام والمسلمين خيراً.
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
__________
(1) - منهاج السنة (8/165 )(2/237)
دلت الروايات الصحيحة أن البيعة قد تمت لأبي بكر - رضي الله عنه - في سقيفة بني ساعدة حيث بايعه الصحابة - رضي الله عنهم - المجتمعون في السقيفة ثم تمت له البيعة العامة في المسجد، ففي صحيح البخاري من حديث أَنَس بْن مَالِكٍ - رضي الله عنه - أَنَّهُ سَمِعَ خُطْبَةَ عُمَرَ الْآخِرَةَ حِينَ جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَذَلِكَ الْغَدَ مِنْ يَوْمٍ تُوُفِّيَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَتَشَهَّدَ وَأَبُو بَكْرٍ صَامِتٌ لَا يَتَكَلَّمُ، قَالَ: كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَعِيشَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى يَدْبُرَنَا - يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ آخِرَهُمْ - فَإِنْ يَكُ مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ مَاتَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ جَعَلَ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ نُورًا تَهْتَدُونَ بِهِ وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثَانِيَ اثْنَيْنِ فَإِنَّهُ أَوْلَى الْمُسْلِمِينَ بِأُمُورِكُمْ فَقُومُوا فَبَايِعُوهُ، وَكَانَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ قَدْ بَايَعُوهُ قَبْلَ ذَلِكَ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ وَكَانَتْ بَيْعَةُ الْعَامَّةِ عَلَى الْمِنْبَرِ قَالَ الزُّهْرِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ لِأَبِي بَكْرٍ - رضي الله عنهما- يَوْمَئِذٍ اصْعَدْ الْمِنْبَرَ فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَبَايَعَهُ النَّاسُ عَامَّةً. (1)
وأما ما زعمه بعض الشيعة من أن فاطمة - رضي الله عنها- بايعت علياً فهذا من هذيان الشيعة وكذبهم وافترائهم، ويجاب عنه بما يلي:
__________
(1) - أخرجه البخاري ح ( 7219 )(2/238)
1- كيف ينسب إلى فاطمة رضي الله عنها هذا الزعم الباطل ، فهي أفقه وأعلم من أن تبايع علياً - رضي الله عنه - وهي تعلم أن المسلمين أجمعوا على بيعة أبي بكر - رضي الله عنه - ، ثم إن البيعة من شأن أهل الحل والعقد والنساء تبع لهم.
2- أن علياً - رضي الله عنه - قد بايع أبا بكر - رضي الله عنه - فكيف يقال بأن فاطمة -رضي الله عنها- قد بايعته فقد دلت الروايات أن علياً - رضي الله عنه - قد بايع أبا بكر - رضي الله عنه - في أول الأمر كما دل على هذا حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - وفيه: أن أبا بكر - رضي الله عنه - لما قعد على المنبر نظر في وجوه الناس فلم ير علياً - رضي الله عنه - ، فدعا بعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فجاء، فقال: قلت : ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وختنه أردت أن تشق عصا المسلمين؟ قال: لا تثريب يا خليفة رسول الله، فبايعه " (1) ، ثم بايعه بعد وفاة فاطمة - رضي الله عنها- تأكيداً للبيعة الأولى وإزالةٍ لما حدث من جفوة بسبب الاختلاف حول الميراث الذي طالبت به فاطمة -رضي الله عنها- أبا بكر - رضي الله عنه - فذكر لها أبو بكر - رضي الله عنه - قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لا نورث ما تركنا صدقة "، ففي صحيح البخاري من حديث عَائِشَةَ أَنَّ فَاطِمَةَ - رضي الله عنها- بِنْتَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَرْسَلَتْ إِلَى أَبِي بَكْرٍ - رضي الله عنه - تَسْأَلُهُ مِيرَاثَهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالْمَدِينَةِ وَفَدَكٍ وَمَا بَقِيَ مِنْ خُمُسِ خَيْبَرَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ - رضي الله عنه - إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:" لا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ إِنَّمَا يَأْكُلُ آلُ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - فِي هَذَا الْمَالِ وَإِنِّي وَاللَّهِ لَا أُغَيِّرُ
__________
(1) - سنن البيهقي الكبرى (8/143)(2/239)
شَيْئًا مِنْ صَدَقَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ حَالِهَا الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلَأَعْمَلَنَّ فِيهَا بِمَا عَمِلَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَبَى أَبُو بَكْرٍ - رضي الله عنه - أَنْ يَدْفَعَ إِلَى فَاطِمَةَ -رضي الله عنها- مِنْهَا شَيْئًا فَوَجَدَتْ فَاطِمَةُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ -رضي الله عنهما- فِي ذَلِكَ فَهَجَرَتْهُ فَلَمْ تُكَلِّمْهُ حَتَّى تُوُفِّيَتْ وَعَاشَتْ بَعْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - سِتَّةَ أَشْهُرٍ فَلَمَّا تُوُفِّيَتْ دَفَنَهَا زَوْجُهَا عَلِيٌّ - رضي الله عنه - لَيْلا وَلَمْ يُؤْذِنْ بِهَا أَبَا بَكْرٍ - رضي الله عنه - وَصَلَّى عَلَيْهَا وَكَانَ لِعَلِيٍّ - رضي الله عنه - مِنْ النَّاسِ وَجْهٌ حَيَاةَ فَاطِمَةَ -رضي الله عنها- فَلَمَّا تُوُفِّيَتْ اسْتَنْكَرَ عَلِيٌّ وُجُوهَ النَّاسِ فَالْتَمَسَ مُصَالَحَةَ أَبِي بَكْرٍ - رضي الله عنه - وَمُبَايَعَتَهُ وَلَمْ يَكُنْ يُبَايِعُ تِلْكَ الْأَشْهُرَ فَأَرْسَلَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ - رضي الله عنه - أَنْ ائْتِنَا وَلَا يَأْتِنَا أَحَدٌ مَعَكَ كَرَاهِيَةً لِمَحْضَرِ عُمَرَ فَقَالَ عُمَرُ - رضي الله عنه - لَا وَاللَّهِ لَا تَدْخُلُ عَلَيْهِمْ وَحْدَكَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ - رضي الله عنه - وَمَا عَسَيْتَهُمْ أَنْ يَفْعَلُوا بِي وَاللَّهِ لآتِيَنَّهُمْ فَدَخَلَ عَلَيْهِمْ أَبُو بَكْرٍ - رضي الله عنه - فَتَشَهَّدَ عَلِيٌّ - رضي الله عنه - فَقَالَ: إِنَّا قَدْ عَرَفْنَا فَضْلَكَ وَمَا أَعْطَاكَ اللَّهُ وَلَمْ نَنْفَسْ عَلَيْكَ خَيْرًا سَاقَهُ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَكِنَّكَ اسْتَبْدَدْتَ عَلَيْنَا بِالْأَمْرِ وَكُنَّا نَرَى لِقَرَابَتِنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَصِيبًا حَتَّى فَاضَتْ عَيْنَا أَبِي بَكْرٍ(2/240)
- رضي الله عنه - فَلَمَّا تَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ - رضي الله عنه - قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَرَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ أَصِلَ مِنْ قَرَابَتِي وَأَمَّا الَّذِي شَجَرَ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ مِنْ هَذِهِ الْأَمْوَالِ فَلَمْ آلُ فِيهَا عَنْ الْخَيْرِ وَلَمْ أَتْرُكْ أَمْرًا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَصْنَعُهُ فِيهَا إِلَّا صَنَعْتُهُ فَقَالَ عَلِيٌّ لِأَبِي بَكْرٍ - رضي الله عنهما-: مَوْعِدُكَ الْعَشِيَّةَ لِلْبَيْعَةِ فَلَمَّا صَلَّى أَبُو بَكْرٍ - رضي الله عنه - الظُّهْرَ رَقِيَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَتَشَهَّدَ وَذَكَرَ شَأْنَ عَلِيٍّ - رضي الله عنه - وَتَخَلُّفَهُ عَنْ الْبَيْعَةِ وَعُذْرَهُ بِالَّذِي اعْتَذَرَ إِلَيْهِ ثُمَّ اسْتَغْفَرَ وَتَشَهَّدَ عَلِيٌّ - رضي الله عنه - فَعَظَّمَ حَقَّ أَبِي بَكْرٍ - رضي الله عنه - وَحَدَّثَ أَنَّهُ لَمْ يَحْمِلْهُ عَلَى الَّذِي صَنَعَ نَفَاسَةً عَلَى أَبِي بَكْرٍ - رضي الله عنه - وَلَا إِنْكَارًا لِلَّذِي فَضَّلَهُ اللَّهُ بِهِ وَلَكِنَّا نَرَى لَنَا فِي هَذَا الْأَمْرِ نَصِيبًا فَاسْتَبَدَّ عَلَيْنَا فَوَجَدْنَا فِي أَنْفُسِنَا فَسُرَّ بِذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ وَقَالُوا أَصَبْتَ وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى عَلِيٍّ - رضي الله عنه - قَرِيبًا حِينَ رَاجَعَ الْأَمْرَ الْمَعْرُوفَ.(2/241)
(1) وما جاء في هذه الرواية من بيعة علي - رضي الله عنه - لأبي بكر - رضي الله عنه - محمولة على تجديد البيعة، قال الحافظ ابن كثير - بعد أن ذكر حديث أبي سعيد - رضي الله عنه - المتضمن لبيعة علي لأبي بكر - رضي الله عنهما- أول الأمر - قال: " وهذا إسناد صحيح محفوظ من حديث أبي نَضْرَة المنذر بن مالك بن قِطْعةَ، عن أبي سعيد سعد بن مالك بن سنان الخدري - رضي الله عنه - ، وفيه فائدة جليلة، وهي مبايعة علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أما في أول يوم أو في اليوم الثاني من الوفاة.
__________
(1) -أخرجه البخاري ح (4241)(2/242)
وهذا حق؛ فإن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - لم يفارق الصِّدِّيق - رضي الله عنه - في وقت من الأوقات، ولم ينقطع في صلاة من الصلوات خلفه، وخرج معه إلى ذي القَصَّةِ لما خرج الصديق - رضي الله عنه - شاهراً سيفه يريد قتال أهل الرِّدَّةِ، ولكن لما حصل من فاطمة رضي الله عنها عَتْبٌ على الصديق - رضي الله عنه - بسبب ما كانت مُتَوَهِّمةً من أنها تستحق ميراث رسول الله ولم تعلم بما أخبرها به الصديق - رضي الله عنه - أنه قال: " لا نورث ما تركنا فهو صدقة " فحجبها وغيرها من أزواجه وعمه عن الميراث بهذا النص الصريح، فسألته أن ينظر علي زوجها في صدقة الأرض التي بخيبر وفدك فلم يجبها إلى ذلك لأنه رأى أن حقاً عليه أن يقوم في جميع ما كان يتولاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهو الصادق البار الراشد التابع للحق - رضي الله عنه - ، فحصل لها - وهي امرأة من البشر ليست بواجبة العصمة - عتب وتَغَضُّبٌ ولم تكلم الصديق - صلى الله عليه وسلم - حتى ماتت رضي الله عنها، واحتاج علي - رضي الله عنه - أن يراعي خاطرها بعض الشيء، فلما ماتت بعد ستة أشهر من وفاة أبيها - صلى الله عليه وسلم - رأى علي - رضي الله عنه - أن يجدد البيعة مع أبي بكر - رضي الله عنه - " (1) هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
- - - - - -
فتنة مقتل عثمان - رضي الله عنه -
أريد أن أعرف أسماء الصحابة الذي دخلوا على الخليفة الراشد عثمان بن عفان - رضي الله عنه - في منزله وقتلوه؟؟ أرجو ذكرهم بالأسماء وجزاكم الله عن المسلمين خير الجزاء
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
__________
(1) - البداية والنهاية (8/ 92)(2/243)
تعتبر فتنة مقتل الخليفة الراشد عثمان بن عفان - رضي الله عنه - مصيبة عظيمة، وحدث خطير أدى إلى فتن داخلية، وانقسام في صفوف الأمة، وتفرق واختلاف حيث نشأت بعض الفرق الضالة مثل: الخوارج والشيعة والنواصب، وقد حصل تلاعب في نقل أخبار هذه الفتنة حيث شحنت كتب التاريخ بكثير من الروايات الواهية والمتعارضة ويتعين التأكد من سلامة هذه الروايات، وذلك بدراسة أسانيدها، والتأكد من سلامتها من العلل والتناقض والاضطراب، وقد وردت روايات متعدد في الذين شاركوا في مقتل عثمان - رضي الله عنه - ، وتدل الروايات الصحيحة أن الذي باشر قتل عثمان - رضي الله عنه - رجل من بني سدوس، خنقه قبل أن يضرب بالسيف، قال كنانة مولى صفية: رأيت قاتل عثمان، رجلاً أسود من أهل مصر، وهو في الدار رافعاً يديه يقول: أنا قاتل نَعْثل " (1) ، وقال عبد الله بن شقيق: أول من ضرب عثمان - رضي الله عنه - رومان اليماني بصولجان " (2) ، وتتضافر روايات أخرى متعددة تدل على أن محمد بن أبي بكر الصديق دخل على عثمان - رضي الله عنه - يوم مقتله، فأخذ بلحيته، وأن عثمان ذكرَّه بمكانه من أبيه، فخرج دون أن يشترك في قتله، ولم يثبت أن أحداً من الصحابة شارك في مقتل عثمان إلا ما كان من موقف محمد بن أبي بكر كما سبق، بل حاول الصحابة - رضي الله عنهم - أن يدافعوا عن عثمان ولكن أمرهم عثمان - رضي الله عنه - بالكف عن القتال والخروج من الدار ولزوم بيوتهم، واختار حقن دمائهم وفداء أرواحهم بدمه وروحه - رحمه الله -، فعن محمد بن طلحة قال: حدثنا كنانة مولى صفية بنت حيي بن أخطب قال: " شهدت مقتل عثمان فأخرج من الدار أمامي أربعة من شبان قريش ملطخين بالدم محمولين كانوا يدرأون عن عثمان - رضي الله عنه - الحسن بن علي
__________
(1) - أخرجه ابن الجعد في مسنده ( 2/958 - 959 ) وإسناده حسن، وأخرجه ابن سعد في الطبقات ( 3/83 - 84 ) وإسناده حسن
(2) - أخرجه خليفة في تاريخه ص ( 175 ) وإسناده صحيح(2/244)