عُلوم الحديث في ضوء تطبيقات المحدثين النقاد
عُلوم الحديث
في ضوء تطبيقات المحدثين النقاد
بقلم
د. حمزة عبد الله المليباري
مُلتقى أهل الحديث
www.ahlalhdeeth.com(1/1)
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمد ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا ، من يهدِ الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وأمينه على وحيه ، وخاتم رسله ، بلغ الرسالة وأدى الأمانة ، وتركنا - والله - على محجة بيضاء ليلها كنهارها .
اللهم صلِ على محمد وعلى آله ، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ، وبارك على محمد وعلى آل محمد ، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ، في العالمين إنك حميد مجيد .
رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق ، واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً، رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء .
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب .
أما بعد : فإن أصدق الحديث كتاب الله ، وخير الهدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها ، وكل بدعة ضلالة .
قال الله تعالى : {يأيها الذين أمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين }[التوبة:119]ٍ.
المقدمة(1/2)
أولاً دواعي تأليف هذا الكتاب :
لقد تبوأ علم الحديث مكانة عظيمة لدى علماء المسلمين قديماً وحديثاً على اختلاف تخصصهم العلمي ، وتوجههم الفكري ، وحفزهم ذلك إلى خدمة هذا العلم الشريف ، حتى تسابقوا إلى نيل الشرف بخدمته ، وانخراطهم في صفوف المؤلفين فيه ، فكثرت الكتب في علم الحديث مع تنوع الأساليب في طرح مسائله وشرح مصطلحاته وترتيب أنواعه ، حتى وصل إلينا هذا العلم جامعاً بين الأصالة والتجديد ، وشاهداً لمراحل تطوره حسب تغير الأعراف العلمية ، وحاملاً في طياته جهود الأئمة في مختلف العصور في مجال حفظ السنة النبوية . فرحم الله جميع أئمتنا ، وجزاهم عنا خير الجزاء ، وجعلنا خير خلف لخير سلف .
ولا ينبغي أن يكون إجلالنا لعلمهم وإخلاصهم دافعاً إلى التقليد والتقديس ، ومانعاً من النهوض بواجبنا ودورنا في خدمة هذا العلم بما تقتضيه مستجدات عصرنا ، لا سيما حين نلحظ بعض أهل عصرنا يسيء استخدامه ، ويخلط فيه بين مرجعه الأصيل ومصادره المساعدة ، حتى أصبحت عنده لغة المحدثين النقاد في نقد الأحاديث مجهولة ، ومنهجهم في الجرح والتعديل غير معروف ، وطريقتهم في تلقي الأخبار وروايتها وضبطها غير مألوفة مع أن كتب مصطلح الحديث من طليعة الكتب التي يهتمون بدراستها .
ولذلك يكون م الواجب أن نبحث عن أسباب تلك السلبيات ، ونقوم بتوعية شبابنا بخطورة آثارها ، حتى نتفق جميعاً على تحديد ما يلائمها من العلاج ، والعمل الجاد في سبيل ذلك، ومن ثم يتصل آخرنا بأولنا بتشييد ما بنوا ، وبالتالي نكون قد قمنا بتدوين تاريخنا بالبناء المعرفي والعطاء العلمي المتجدد .
إن متتبع كتب المصطلح بدقة بالغة يلحظ شيئاً مهماً ، قد يكون أحد أسباب تخلفنا عن منهج المحدثين في تصحيح الأخبار وتعليلها ، وهو أن كثرة المؤلفين في علوم الحديث ، وتنوع أساليبهم في طرح مسائلها وترتيبها بتنوع تخصصاتهم العلمية ، أدى إلى تشتت المصطلحات واختلاف الأقوال في أحكامها ، وتداخل الآراء بين أئمة الحديث وأئمة الفقه والأصول في تحرير راجحها ، وحتى في تقسيم علوم الحديث ، وتعريف أنواعها ، إلى أن صار محتواها معقداً عموماً، لا سيما حين كانت تعريفات المصطلحات مصاغة وفق قواعد علم المنطق ، وأصبحت لغة المنطق هي المستخدمة في كتابة هذا العلم الشريف غالباً ، بعيداً عما يألف أهل عصرنا من الأساليب والأمثلة .
وعلى الرغم من جمع كتب المصطلح ما يتصل بمنهج المحدثين دون تقصير من أصحابها ، إلا أن استيعاب هذا المنهج لم يتحقق لدى كثير الباحثين لعدم مراعاة ما سبق ذكره آنفاً عند دراستها .
ومن هنا جاءت فكرة تأليف هذا الكتاب لطرح ما تعاني منه الأبحاث المعاصرة في مجال الحديث وفقهه من عدم الانضباط بقواعد النقد التي تمخض عنها جهود المحدثين النقاد القدامى ، محاولاً الوصول إلى معرفة أسباب ذلك ، ثم اقتراح ما يلائمها من علاج .
ولذلك سأبذل قصارى جهدي ، متوكلاً على الله سبحانه وتعالى ، وفي تقديم علوم الحديث ، وشرح مصطلحاتها ، في ضوء ما تدل عليه نصوص النقاد وعملهم التطبيقي ، مراعياً في ذلك أسلوب سهلاً (بإذن الله تعالى) عسى أ، يكون هذا الكتاب أقرب إلى طبيعة التكوين النفسي لطلابنا اليوم في تناول هذا العلم ؛ إذ الغرض من الدراسة هو استيعاب منهج المحدثين النقاد في التصحيح والتضعيف ، وما يتصل به من مسائل ، وفهم مصطلحاتهم في ذلك فهماً صحيحاً ، بأي أسلوب من أساليب التعلم ، يكون أكثر ملائمة لطبيعة التفكير النفسي للطالب ، وليس الغرض أن تقوم الدراسة دوماً على ربط هذا العلم بأساليب المنطق ، بحجة أن أئمتنا المتأخرين ، قد استخدموها في ذلك إذ طريقة التدريس والتلقي تختلف باختلاف ثقافات المجتمع ، وطبيعة تكوينهم النفسي ، ونوعية انشغالاتهم العلمية ، حتى إن طريقة أئمتنا المتأخرين في ذلك لم تكن تقليدية محضة ، بل كانت مختلفة عن طريق من سبقهم من المتقدمين ، وذلك في إطار تجديد وسائل التعليم وتطويرها بمقتضى مستجدات عصورهم في مجال العلوم ، أو ليس لنا فيهم قدوة في ذلك(1) .
وإذا كانت مناهج التدريس قد تعرضت للتجديد وفق ما تقتضيه المراحل الزمنية التي مرت على الأمة في طول تاريخها ، فإن مناهجنا اليوم في تدريس علوم الحديث يجب النظر فيها، لنجدها حسب ما يقتضيه عصرنا ، دون أن يمس ذلك شيئاً من العلم ومصطلحاته ، وبالتالي يستفيد الطالب من جهود السابقين جمعياً ، مع التمييز بين مناهجهم المختلفة .
وهذا الأسلوب المقترح في تدريس علوم الحديث لا يدعو إلى إهمال ما ورد في كتب المصطلح من التعريفات ، بل يدعو إلى تسهيل فهمها على طلابنا من خلال ترتيبها ترتيباً موضوعياً ، ثم عرض كل منها على التطبيقات العملية لنقاد الحديث ، وشرحها بالأمثلة ا لواقعية التي يألفها المجتمع في معالجة الأخبار التي تتداول فيما بينهم .
ولعل هذا الأسلوب مما سيسهل على طلابنا اليوم استيعاب علوم الحديث ، وفهم مضامين مصطلحاتها فهماً صحيحاً ، ووقوفهم على منهج المحدثين النقاد في التصحيح والتضعيف ، والجرح والتعديل ، بجميع أبعاده ، جليلها ودقيقها ، وبالتالي يكون كل منهم بإذن الله تعالى قد هيأ نفسه لاحترام أهل هذا العلم ، وتقديم منهجهم على غيرهم فيما يخص الحديث ونقده.
ولا يسعني بعد بذل ما في وسعي من جهد ، إلا أن أرجو من الله تعالى أن أكون موفقاً في ذلك .
ومن الجدير بالذكر أن موضوع هذا الكتاب كان مختمراً في نفسي أكثر من خمس عشرة سنة، إذ كان هذا الموضوع من المقررات الرئيسة التي قمت بتدريسها بشغف بالغ في معظم هذه الفترة الزمنية التي عشتها في الجامعات والمعاهد ، لقد كان من عادتي أن أقوم بالتحضير قبل كل درس ، مع حرصي الشديد على ربط مصطلحات الحديث بتطبيقات المحدثين النقاد ، ثم أقوم بشرحها في ضوء ذلك ، حتى وفقني الله تعالى لإعداد هذا الكتاب ، وأرجو أن يكون جهدي هذا خدمة للسنة النبوية ، وتوجيهاً صحيحاً لطلبتها نحو إبداع علمي ، وعطاء معرفي متجدد.
والله من وراء القصد ، وله الحمد والشكر أولاً وآخراً ، وهو حسبنا ، نعم المولى ونعم النصير .
__________
(1) هذا الأمر يتضح أكثر من خلال مقارنة سريعة بين ما كتبه الإمام مسلم في مقدمته على الصحيح ، أو الإمام الحاكم في معرفة علوم الحديث ، وبين ما ألفه ابن الصالح وغيره من كتب مصطلح الحديث .(1/3)
ثانياً وصف علوم الحديث :
إن علوم الحديث عبارة عن جملة من القواعد التي تمخضت عنها جهود المحدثين النقاد في المجالات الآتية ؛ وهي :
نظم تعليم الحديث .
نقد الأحاديث تصحيحاً وتضعيفاً .
نقد رواتها جرحاً وتعديلاً .
فقه الحديث ومعرفة المقصود منه .
ثم قام المتأخرون بتنظير تلك القواعد وجمعها في أطر المصطلحات وتعريفاتها المصاغة طبقاً لقواعد علم المنطق .
وينبغي هنا أن نركز على أربع نقاط مهمة تضمنتها هذه الجمل ، بعضها يتصل بمصدر علوم الحديث ، والأخرى بمحتواها ، وهي كالآتي :
النقطة الأولى : الذي قام به المتأخرون في مجال علوم الحديث هو جمع ما تفرق في كتب النقاد من نصوص ومصطلحات ، ثم تحديد معانيها وضبط مدلولاتها ، بوضع تعريفات لكل منها، منضبطة بقواعد المنطق ، وبأسلوب ألفه معاصروهم ، حتى استقرت تلك المصطلحات ، بحيث إذا أطلق لفظ أو مصطلح لا يتبادر إلى الذهن إلا ذاك المعنى المحدد(1) .
النقطة الثالثة : كل ما تتوقف عليه معرفة صحة الحديث وضعفه ، من قواعد وضوابط تعتبر من أهم أنواع علوم الحديث ، إلى جانب الجرح والتعديل ، وطرق التحمل والأداء .
النقطة الرابعة : ما يتوقف عليه فقه الحديث من قواعد وضوابط يعد أيضاً من أهم مفردات علوم الحديث ، وليس ذلك دخيلاً .
__________
(1) لعل من أهم فوائد تركيز الطالب على هاتين النقطتين ، والفصل بينهما على النحو الذي شرحنا، اعتبار ما ألفه المتأخرون والمعاصرون من كتب المصطلح مصادر مساعدة لعلم الحديث ، دون اعتبارها منابع أصيلة له ، وبالتالي تكون تعريفاتهم ونصوصهم وترجيحاتهم مما يجب عرضه على تطبيقات النقاد ليتم تحديد معنى المصطلحات التي استخدامها المحدثون النقاد ، ومنهجهم في نقد الحديث وتعليله، وذلك لئلا تكون ثقافتنا ناقصة وقاصرة من جراء الخلط بين المرجع الأصيل وبين المصدر المساعد.(1/4)
ثالثاً الأدلة على ذلك من نصوص الأئمة :
فيما يلي من نصوص الأئمة ما يؤكد على أهمية التركيز على تلك النقاط الأربع :
قال الإمام مسلم رحمه الله فيما يخص النقطة الأولى :
" واعلم رحمك الله أن صناعة الحديث ومعرفة أسبابه من الصحيح والسقيم إنما هي لأهل الحديث خاصة ، لأنهم الحفاظ لروايات الناس العارفون بها دون غيرهم .. وأهل الحديث هم الذين يعرفونهم ، ويميزونهم ، حتى ينزلوهم منازلهم في التعديل والتجريح(1) .
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى :
" أما كلام هؤلاء الأئمة المنتصبين لهذا الشأن فينبغي أن يؤخذ مسلماً من غير ذكر أسباب، وذلك للعلم بمعرفتهم ، واطلاعهم ، واضطلاعهم في هذا الشأن ، واتصافهم بالإنصاف والديانة ، والخبرة والنصح ، لا سيما إذا أطبقوا على تضعيف الرجل أو كونه متروكاً أو كذباً، أو نحو ذلك . فالمحدث الماهر لا يتخالجه في مثل هذا وقفة في موافقتهم ، لصدقهم وأمانتهم ونصحهم(2) .
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى :
" هذا الفن أغمض أنواع الحديث وأدقها مسلكاً ، ولا يقوم به إلا من منحه الله تعالى فهماً غائصاً واطلاعاً حاوياً وإدراكاً للمراتب الرواة ، ومعرفة ثاقبه ، ولهذا لم يتكلم فيه إلا أفراد أئمة هذا الشأن وحذاقهم ، وإليهم المرجع في ذلك ، لما جعل الله تعالى فيهم من معرفة ذلك والاطلاع على غوامضه ، دون غيرهم ممن يمارس ذلك ..." (3) .
وفيما يخص النقطة الأولى والثانية يقول السخاوي رحمه الله تعالى ، وهذا نصه :
" ولذا كان الحكم من المتأخرين عسراً جداً ، للنظر فيه مجال ، بخلاف الأئمة المتقدمين الذين منحهم الله التبحر في علم الحديث والتوسع في حفظه ، كشعبة والطقان وابن مهدي ونحوهم وأصحابهم ؛ مثل أحمد وابن المديني وابن معين وابن راهويه وطائفة ، ثم أصحابهم ؛ مثل البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي ، وهكذا إلى زمن الدار قطني والبقهقي ولم يجئ بعدهم مساو لهم ولا مقارب ، فأده العلائي"(4) .
وأما فيما يخص النقطة الثالثة والرابعة فقد قال الإمام الحاكم رحمه الله تعالى : "النوع العشرون من هذا العلم (يعني علوم الحديث) - بعد معرفة ما قدمنا ذكره من صحة الحديث إتقاناً ومعرفة لا تقليداً وظناً - معرفة فقه الحديث ؛ إذ هو ثمرة هذه العلوم، وبه قوام الشيعة"(5) .
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى :
" فالحق أن كلاً منهما (يعني معرفة فقه الحديث ومعرفة صحته وضعفه) في علم الحديث مهم لا رجحان لأحدهما على الآخر ، نعم لو قال : الاشتغال بالفن الأول (يعني فقه الحديث) أهم كان مسلماً مع ما فيه ، ولا شك أن من جمعها حاز القدح المعلى ، ومن أخل بهما فلا حظ له في اسم المحدث"(6) .
وقال الإمام علي بن المديني رحمه الله تعالى :
" التفقه في معاني الحديث نصف العلم ومعرفة الرجال نصف العلم"(7) .
" المحدث إذا لم يعرف السقيم والصحيح والناسخ والمنسوخ فلا يعد عالماً"(8) .
وقليلاً ما يتذكر أهل عصرنا دور علماء الحديث في الجوانب الفقهية التي برعوا فيها ، كعلماء أهل الرأي ، وسبب ذلك يعود بقدر كبير إلى خلل في تدريس علوم الحديث ، وقلة اهتمامنا في بلورة صلتها بالجوانب الفقهية ، مع كونها من أهم مفرداتها .
وعلى كل فلتحديد محتوى علوم الحديث وترتيب مفرداتها وأنواعها على وحداتها الموضوعية، ومعرفة مرجعيتها الأصيلة ، وتمييزها من مصادرها المساعدة ، وفوائد عظيمة ، ومن أهمها إبعاد الطالب عن :
خلطه بين مناهج مختلفة .
وتقليده لغير أهله فيما يأخذه من مسائل ذلك العلم .
ومن المعلوم بديهياً أنه لا يعد شخص ما مصدراً أصيلاً في علم من العلوم لمجرد أنه قد ألف كتاباً فيه إلا بقدر ما يتوافر لديه من التخصص والملكة العلمية والاطلاع الواسع على الأحاديث وطريقة أصحابها في النقد ، وكم من مؤلف في علم الحديث لم يؤلف فيه إلا تقليداً لمن سبقه في كتابه ، ولم يتجاوز عمله في التأليف مجرد تلخيص ذلك الكتاب أو تهذيبه أو شرحه ، أو جمع ما تتأثر في الكتب السابقة من نصوص الأئمة ومصطلحاتهم ، دون إبداع أو تصحيح أو نقد مؤسس ، إلا ما ندر .
وما من خلط يقع من دارس علوم الحديث بين مرجعه الأصيل ومصادره المساعدة في بناء تصوراته حول مسألة من المسائل إلا وقد أسفر عن نتائج سيئة يصعب استدراكها وإصلاحها فيما بعد ، كما هو حالنا اليوم في دراسة علوم الحديث ، إذا نرى بعض المعاصرين يرد قول النقاد قائلاً : "زيادة الثقة مقبولة كما هو مقرر في كتب المصطلح " ، أو "الراوي ثقة لا يضر تفرده" ، بل بلغ غرور بعضهم بما حفظوا من تعريفات كتب المصطلح إلى قوله : "لو درس أبو حاتم وغيره من الأئمة ، حتى البخاري دراسة وافية لما تجاوزوا النتائج التي توصلت إليها، والحمد لله إني طبقت منهج المحدثين" .
__________
(1) كتاب التمييز ، ص 218 ، للإمام مسلم .
(2) اختصار علوم الحديث مع الباعث الحثيث ، ص79 .
(3) النكت على مقدمة ابن الصلاح 2/711 لابن حجر العسقلاني ، (تحقيق د. ربيع المدخلي ، الجامعة الإسلامية ، ط1 ، سنة 1404هـ) . اختصار علوم الحديث ، ص64 الحافظ ابن كثير ، مع شرح الشيخ أحمد شاكر (الباعث الحثيث) .
(4) فتح المغيث 1/237 ، وتوضيح الأفكار 1/344 ، والنكت 2/604-605 .
(5) معرفة علوم الحديث ص63 ، للحاكم ، (ط4 ، منشورات دار الآفاق الجديدة / بيروت) .
(6) النكت على مقدمة ابن الصلاح 1/230 ، لابن حجر العسقلاني .
(7) المحدث الفاصل بين الراوي والواعي 1/320 ، رواه الرامهرمزي عن زنجويه عن البخاري عن ابن المديني ، ورواه الذهبي في كتابه سير أعلام النبلاء 11/18 ، عن طريق الرامهرمزي ، لكن رواه الخطيب البغدادي في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع 2/211 ، عن طريق خلاد عن زنجويه بلفظ : "التفقه في معاد الحديث.." وأورده تحت باب كتب الأحاديث المعادة ، ولذلك فإن هذا اللفظ ثابت في كتاب الخطيب ، وليس تصحيفاً من الناسخ . ومن المعلوم أن الخطيب متأخر عن الرامهرمزي ، ولذا فالأصح ما ذكره الرامهرمزي ، واعتمد عليه الذهبي - كما هو في السير الذي حققه صالح السمر تحت إشراف شعيب الأرناؤوط - وهذا اللفظ هو الذي يتأيد من حيث السياق ، وإلا فما معنى التفقه في معاد الحديث حتى يشكل نصف العلم بمقابل علم الرجال ؟ والله أعلم .
(8) معرفة علوم الحديث ، ص60 للحاكم .(1/5)
رابعاً فوائد علوم الحديث :
بعد أن تأكدنا من أن مرجعية هذا العلم هي التطبيقات العلمية لنقاد الحديث وما صدر عنهم في أثنائها من النصوص ، وأن ما يتوقف عليه معرفة صحة الحديث وضعفه ، ومعرفة أحوال الرواة، وطرق التحمل والأداء ، ومعرفة فقه الحديث ، كل ذلك يشكل مفردات علوم الحديث ، يحسن بنا أن نحدد أهم فوائد دراستها ، وهي ما يلي :
معرفة منهج المحدثين النقاد في نقد الأحاديث ورواتها .
احترام نقاد الحديث فيما صدر عنهم من الأحكام ، وتقليدهم فيها .
فهم مصطلحاتهم ، وما تضمنته من الأبعاد النقدية .
الوقوف على سنة النبي صلى ا لله عليه وسلم وسيرته في ضوء منهج علمائها .
تقليص وجوه الاختلاف بين فصائل الأمة الإسلامية ، وتضييق فرص الانشقاق ، علماً بأن كثيراً من الاختلافات الفقهية وغيرها يعود سببها إلى تساهل بعض العلماء في التصحيح ، أو تشدد الآخرين في التضعيف ، متجاوزين في ذلك قواعد النقد المنبثقة من جهود المحدثين النقاد .
وإذا كان من أهم فوائد هذا العلم توجيه الطالب نحو تأهله لإدراك الأخطاء والأوهام التي تقع من رواة الحديث عموماً ، فإن معظم العلوم الشرعية التي تدور على الرواية والنقل تكون بحاجة ملحة إلى هذا العلم ، وبالتالي يعد أصلاً عظيماً للتفسير والفقه والأصول والتاريخ ؛ إذ إن هذه العلوم ، تعتمد أساساً على الرواية والنقل عن السابقين .(1/6)
خامساً أنواع علوم الحديث وتوزيعها على الوحدات الموضوعية :
يمكن أن نوزع أنواع علوم الحديث جمعيها تحت أربع وحدات موضوعية رئيسة ، وهي كما يلي :
علم الرواية .
قواعد التصحيح والتعليل .
علم الجرح والتعديل .
فقه الحديث .
وبتنسيق أنواع علوم الحديث على هذا النمط ، من غير تفريق بين المشترك في المعنى والحكم، وذكر بعض منه في موضع ، وآخر في موضع قد يتباعدان ، كما هو الحال في كتب المصطلح عموماً ، فإن كثيراً من العقد والشبه التي تكتنف هذا العلم تتبد تلقائياً ، ويصبح منهج المحدثين في نقد الأحاديث واضح المعالم لدى الجميع .
الوحدة الأولى :
تحوي هذه الوحدة - وهي علم الرواية - المسائل التالية :
طريق تحمل الحديث ، وكتابة الحديث ، وضبط الكتاب ، ورواية الحديث وشروطها ، ومعرفة آداب المحدث ، ومعرفة آداب طالب الحديث ، ومعرفة علو الإسناد ونزوله .
وتحتل هذه الوحدة مكانة رفيعة عند المحدثين وغيرهم من أهل العلم ، وذلك لأن نظمهم في التعليم قائمة على مراعاة أنواعها ، وظهور التأليف مبكراً ومستقلاً في هذه الوحدة من وحدات علوم الحديث - مثل كتاب الرامهرمزي (المحدث الفاصل بين الراوي والواعي) - دليل واضح على مدى اهتمامهم بهذا الجانب التربوي .
وإن كان كثير من مواضيع هذه الوحدة - مثل طرق التحمل والأداء وكتابة الحديث وضبط الكتاب ومعرفة علو الإسناد ونزوله - يغلب عليها الجانب التاريخي ، ولا يوجد في دراستها اليوم كبير فائدة إذا نظرنها في مدى إمكانية تطبيقها في نظمنا في التعليم ، لكنها تلقي أضواء كاشفة على كثير من الحيثيات التي يعتمد عليها نقاد الحديث في التصحيح والتعليل والجرح والتعديل ، ومن هذه الجهة تظهر الأهمية الكبيرة في دراستها اليوم ضمن مادة علوم الحديث .
الوحدة الثانية :
تحوي هذه الوحدة - وهي قواعد التصحيح والتضعيف - الأنواع الآتية :
الصحيح ، والحسن ، والضعيف ، والمدلس ، والمرسل ، والمنقطع ، والمعلق ، والمعضل، وزيادة الثقة ، والعلة ، والشاذ ، والمنكر ، والمقلوب ، والمدرج ، والمصحف ، والمضطرب، والموضوع .
وتنقسم هذه الأنواع إلى ثلاث نقاط حسب الوحدة الموضوعية فيها . وسيأتي تفصيلها إن شاء الله تعالى .
والوحدة الثالثة :
تضم الوحدة الثالثة - وهي علم الجرح والتعديل - ما يلي :
رواه الحديث ، وطبقاتهم ، والصحابة ، والتابعون ، وأتباع التابعين ، وشروط قبول الرواية : العدالة ، والضبط ، وما يختل به كل من العدالة والضبط ، والبدعة وأثرها في العدالة، والضبط ، وما يختل به كل من العدالة والضبط ، والبدعة وأثرها في العدالة ، والجهالة ، وأثرها في رد الحديث ، والكذب ، وأثره في العدالة ، وصيغ الجرح والتعديل ، وتعارض الجرح والتعديل، وأسباب ذلك ، وعلماء الجرح والتعديل ، ومصادر هذا العلم .
وتجدر الإشارة إلى أن علم الجرح والتعديل من أهم النتائج التي تمخض عنها جهد المحدثين في نقد الأحاديث ، تصحيحاً وتعليلاً .
الوحدة الرابعة :
تضم الوحدة الرابعة ما يلي :
معرفة الناسخ والمنسوخ في الحديث ، ومشكل الحديث ومحكمه ، وغريب الحديث ، ومعرفة مناسبة الحديث وأسباب وروده .
وهذه المسائل التي طبقها المحدثون لمعرفة فقه الحديث ينبغي أن ندمجها في مفردات علوم الحديث ، حتى يترسخ في ذهن الطالب مدى اهتمام المحدثين النقاد بالجوانب الفقهية للأحاديث، وهي التي تطورت فيما بعد حتى استقلت بعلم أصول الفقه .
سادساً : معاني المصطلحات المتكررة في الدراسة :
بعد أن وصفنا علم الحديث ورتبنا أنواعه على الوحدات الموضوعية ، نود لفت الانتباه إلى ما يتكرر في أثناء دراسة علوم الحديث من المصطلحات العامة ، ومعانيها الراجحة ، ليكون الطالب المبتدئ على بصيرة ، وفيما يلي بيان ذلك .(1/7)
المصطلحات العامة ، ومعانيها الراجحة :
السنة في الاصطلاح : ما صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجه التشريع من قول أو فعل أو تقرير ، أو صفة خلقية من مبدأ بعثته إلى وفاته(1) .
الحديث النبوي : ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خلقية أو خلقية ، سواء قبل البعثة أم بعدها ، سواء صدر على وجه التشريع أم لا ، ويطلق تجوزاً على ما أضيف إلى الصحابة والتابعين .
وعليه يكون الحديث أعم من الستة ، فإن السنة لا تشمل إلا ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم على وجه التشريع ، وبالتالي فحديث حفر زمزم على سبيل المثال لا يندرج تحت السنة ، حيث إنه من أخبار ما قبل البعثة ، كما لا يدخل في السنة صفة النبي صلى الله عليه وسلم الخلقية باعتبارها صفات فطرية ، وليست موضوع اقتداء ، ولا يستفاد منها حكم شرعي.
الحديث القدسي : ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل ، وقد يأتي بعبارة : (قال الله تعالى) ، أو (يرويه عن ربه تارك وتعالى) ، أو (إن روح القدس نفث في روعي).
الصحيحان : المقصود بهما صحيح البخاري وصحيح مسلم .
الشيخان : البخاري ومسلم .
حديث متفق عليه : اتفق على روايته البخاري ومسلم في صحيحيهما .
الكتب الستة : الصحيحان ، والسنن الأربعة .
السنن الأربعة : سنن الترمذي وسنن النسائي ، وسنن أبي داود ، وسنن ابن ماجه .
السنن : كتب رتبت فيها الأحاديث المرفوعة على الأبواب الفقهية ، ولا تذكر فيها الآثار إلا نادراً ومعلقة .
والمصنف : كتاب رتب فيه الأحاديث والآثار الموقوفة على الأبواب الفقهية وغيرها.
الموطأ : مثل المصنف .
الجامع : كتاب جامع لمواضيع النبوي وأبوابه ، أو أكثرها .
السند : عبارة عن سلسلة الرواة ، ويقال : الإسناد .
المسند : هو الكتاب الذي جمعت فيه أحاديث كل صاحبي على حدة ، كما يطلق على الحديث المتصل المرفوع(2) .
المتن : ما انتهى إليه السند من قول أو عمل أو إقرار .
الراوي : من يروي الحديث بسنده .
المحدث : من لديه أحاديث كثيرة ، سماعاً ورواية ، دون تحديد عددها ، ويختلف معناه باختلاف العصور والأعراف ، مثلاً : قولنا اليوم فلان محدث العصر ، يكون معناه : أنه كان ينشغل بالأحاديث تخريجاً وشرحاً واستدلالاً ، ويكون انشغاله بذلك أكثر من أي علم آخر .
الناقد : محدث يقدر على معرفة الخطأ والصواب في أحاديث الرواي ، وتمييز الثقة من من الضعيف .
الصحابي : من لقي النبي صلى الله عليه وسلم وهو مسلم ومات على إسلامه .
التابعي : من لقي الصحابي .
المرفوع : الحديث الذي أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم .
الموقوف : الحديث الذي أضيف إلى الصحابي .
المقطوع : الحديث الذي أضيف إلى التابعي(3) .
الأثر : يطلق على المرفوع والموقوف ، أو يطلق على الموقوف فقط .
الثقة : الراوي الذي جمع بين صلاحه سلوكياً وبين إتقانه للأحاديث علمياً .
الضعيف : من اختل فيه الجانب العلمي كإتقان الحديث .
المتروك : من اختل فيه الجانب السلوكي ، أو أهمل كلياً الجانب العلمي .
العدل : الرجل الصالح حسن السلوك .
المدلس : يوصف به الراوي إذا روى عمن عاصره أو لقيه ، أو سمعه ، ما لم يسمعه منه ، بعبارة توهم أنه قد سمعه منه . وبعبارة أخرى : يوصف به الراوي إذا لم يكن صريحاً فيما إذا لم يسمع الحديث ممن رواه عنه ، مع وجود معاصرة بينهما أو لقاء أو سماع ، ولو كان صريحاً في ذلك لذكر اسم شيخه المباشر ، أو استعمل كلمة تدل على أنه لم يسمعه منه مباشرة ، إذا أسقط شيخه الذي سمع منه الحديث ؛ كقوله : نبئت عن فلان ، أو حدثت عن فلان ، أو أخبرت عن فلان(4) .
المرسل : يوصف به الراوي إذا روى عمن لم يعاصره ، أو يجعل خاصاً بالتابعي الذي يروي الحديث عن الني صلى الله عليه وسلم مباشرة .
المتواتر : ما رواه جمع عن جمع عن جمع إلى أن ينتهي إلى متنه ، ، ويكون عدد الجمع بحيث تحيل العادة تواطؤهم على الكذب .
خبر الآحاد : ما اختل فيه شرط من شروط المتواتر .
المشهور : ما اشتهر بين المحدثين ولم يبلغ رواته مبلغ التواتر . وقد يطلق على ما أشتهر على ألسنة العوام ، وإن كان باطلاً .
الغريب : حديث تفرد به راو واحد ، ولم يعرفه غيره .
العنعنة : كأن يقول الراوي في حديثه (عن فلان) .
الأنأنة : كأن يقول الراوي (أن فلاناً حدث) .
__________
(1) ما ذكرنا هو الأصح فيما يظهر من خلال تتبع صنيع المحدثين وغيرهم ، وهو :
كقولهم : مصادر التشريع الكتاب والسنة .
وكلمة السنة هنا لا تشمل إلا الحديث الذي يكون صالحاً للاستدلال .
وقول عبد الرحمن بن مهدي : سفيان الثوري إمام في الحديث ، وليس إماماً في السنة ، والأوزاعي إمام في السنة ، وليس إماماً في الحديث ، ومالك بن أنس إمام فيهما جميعاً .
وجاء التفريق بين الحديث والسنة من عبد الرحمن بن مهدي ، وهو أحد نقاد الحديث . ويكون قصده بالسنة ما تستمد منه الأحكام الشرعية من الأحاديث ، كالفرائض والنوافل والإباحات ، والحلال والحرام .
وقول سفيان بن عيينة : لا تسمعوا من بقية ما كان في سنة ، واسمعوا منه ما كان في ثواب وغيره ، (مقدمة الجرح والتعديل 40 - 41) .
جاءت الكتب التي تحتوي على هذا النوع من الأحاديث مشهورة باسم (السنن) ، كسنن الترمذي، وسنن النسائي وغيرهما .
نعم لقد اشتهر لدينا إطلاق السنة فيما يرادف معنى كلمة الحديث ، كقولنا : (كنت السنة) أي (كتب الأحاديث) .
ولذلك تتفق كتب المصطلح المعاصرة على ترجيح هذا المعنى المرادف للحديث وينسبونه إلى المحدثين دون ذكر دليل على ذلك ، ويمكن إجمال ما ورد في معنى السنة من الأقوال بما يلي :
أولاً : السنة عند المحدثين ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خلقية أو خلقية ، سواء كان قبل البعثة أم بعدها ، وعليها فالسنة مرادفة للحديث .
ثانياً : السنة عند الأصوليين ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم غير القرآن من قول أو فعل أو تقرير ، مما يصلح أن يكون دليلاً على حكم شرعي .
ثالثاً : السنة عند الفقهاء كل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن من باب الفرض ولا الواجب . هذا وقد جاء عن الحافظ ابن رجب رحمه الله توضيح حول كلمة السنة ، وهذا نصه : "السنة : هي الطريقة المسلوكة ؛ فيشمل ذلك التمسك بما كان عليه هو وخلفاؤه الراشدون من الاعتقادات والأعمال والأقوال ، وهذه هي السنة الكاملة ، ولهذا كان السلف قديماً لا يطلقون اسم السنة إلا على ما يشمل ذلك كله ، وروي معنى ذلك عن الحسن البصري والأوزاعي والفضيل بن عياض ، ويخص كثير من العلماء المتأخرين اسم السنة بما يتعلق بالاعتقاد" . (جامع=
= العلوم والحكم 1/263) .
وقال الشيخ عبد الرحمن المعلمي رحمه الله :
"تطلق السنة لغة وشرعاً على وجهين ؛ الوجه الأول : الأمر الذي يبتدئه الرجل فيتبعه فيه غيره ، ومنه ما ورد في صحيح مسلم في قصة الرجل الذي تصدق بصرة فتبعه الناس فتصدقوا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من سنن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بعده ..." الحديث .
الوجه الثاني : السيرة العامة ، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى هي التي تقابل الكتاب وتسمى الهدي ، وفي صحيح مسلم : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته : أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة .
فعلى هذا فكل شأن من شؤون النبي صلى الله عليه وسلم الجزئية المتعلقة بالدين من قول أو فعل أو كف أو تقرير سنة بالمعنى الأول ، ومجموع ذلك هو السنة بالمعنى الثاني ، ومدلولات الأحاديث الثابتة هي السنة أو من السنة حقيقة ، فإن أطلقت السنة على ألفاظها فمجاز أو اصطلاح" انتهى .
(2) المسند (بكسر النون) : مصطلح محدث ، استعمل وصفاً لمن يروي الحديث بإسناده في العصر الذي انقطع فيه الإسناد ، وليس لهذا المصطلح على هذا المعنى وجود في عصور الرواية. وكذلك مصطلح (الحاكم) ، ذكروه في كتب المصطلح وصفاً لمن أحاط علمه بجميع الأحاديث المروية سنداً ومتناً ، جرحاً وتعديلاً وتاريخاً إلى غير ذلك ، لكن ليس له أثر في نصوص النقاد ولا غيرهم ، وإنما يعرف بذلك صاحب كتاب (المستدرك) أبو عبد الله الحاكم ، ولا أدري ما مصدر هذا المصطلح .
(3) قد يرد في كلام النقاد بمعنى الحديث المنطقع والمعضل .
(4) من المتأخرين من يفرق بين الإرسال الخفي والتدليس ، ويجعل الأول مقيداً بوجود المعاصرة بين الراوي المعنعن ، والراوي المعنعن عنه ، والثاني باللقاء ، أو باللقاء والسماع ، ومنهم من لا يفرق بينها، ويجعلهما نوعاً واحداً ، وأياً كان الأمر فإن الإرسال الخفي والتدليس تصفان بانقطاع خفي، بخلاف المرسل ، لكن التدليس أشد خفاء من الإرسال الخفي ، كما سيأتي شرح ذلك مفصلاً في الموضوع الثالث من الوحدة الأولى .(1/8)
سادساً مراحل التأليف في علوم الحديث :
بقى لنا شيء يكون من الأحسن أن يعرفه الطالب ، وهو إلقاء نظرة سريعة على الكتب في علوم الحديث ، وقد سبق أن من كتبه ما يعد مرجعاً أصيلاً ، ومنها ما يعد مصدراً مساعداً، أما النوع الأول فهو :
كتاب الرسالة للإمام الشافعي(1) .
كتاب التمييز ، للإمام مسلم .
مقدمة صحيح مسلم ، له أيضاً .
رسالة الإمام أبي داود إلى أهل مكة .
خاتمة سنن الترمذي . للإمام الترمذي(2) .
وأما لنوع الثاني من كتب علوم الحديث ، وهو المصدر المساعد ، فهي على سبيل المثال:
شرح العلل لابن رجب الحنبلي .
كتاب (ما لا يسع المحدث جهله) ، لابن جماعة .
كتاب (علوم الحديث) المعروف بمقدمة ابن الصلاح ، للإمام ابن الصلاح.
كتاب (التقريب والتيسير لمعرفة سنن البشير النذير) ، للإمام النووي .
كتاب (تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي) ، للسيوطي .
كتاب (فتح المغيث في شرح ألفية الحديث) ، للسخاوي .
وغيرها من الكتب وهي كثيرة ، وأخص بالذكر هنا كتاب الدكتور / نور الدين عتر (منهج النقد في علوم الحديث) .
ومن الجدير بالذكر أن كتاب الحافظ ابن رجب الحنبلي شرح العلل ، وكتاب المراسل للحافظ العلائي ، وكتاب النكت للحافظ ابن حجر ، وكتاب التنكيل للشيخ عبد الرحمن المعلمي اليماني ، من أكثر الكتب التي تسلط الأضواء على منهج النقاد في التصحيح والتعليل، والجرح والتعديل ، وآرائهم فيما يخص علوم الحديث عموماً .
ولا يسعني هنا إلا أن أتقدم بجزيل الشكر والامتنان لجميع الإخوة الذين أسهموا في إثراء هذا الكتاب بملحوظاتهم العلمية واللغوية .
سائلاً الله أن يجزيهم خيراً .
وإذ أقدم هذا الكتاب أتضرع إلى الله تعالى أن يتقبل مني هذا الجهد وينفعني به في الدارين إنه سميع الدعاء .
كتبه أبو محمد
حمزة بن عبد الله المليباري
كلية الدراسات الإسلامية والعربية دبي
__________
(1) كتاب الرسالة للإمام الشافعي أول كتاب تطرق لعلوم الحديث إلى جانب أصول الفقه ، ولهذا لم يكن الكتاب مفرداً في علوم الحديث ، كما أنه لم يشرح من مسائل علوم الحديث إلا بعضها .
(2) هذه الكتب غير مستوعبة لمسائل علوم الحديث ، وإنما تطرقت لبعضها ، لا سيما موضوع العلة ، والغرابة .(1/9)
الوحدة الأولى وترتيب أنواعها وشرح مسائلها ومصطلحاتها
الوحدة الأولى وترتيب أنواعها(1)
لعل من الأفضل إلقاء نظرة سريعة على موضوعات هذه الوحدة ، وما يطلق عليها من المصطلحات .
تضم الوحدة الأولى ثلاثة موضوعات رئيسة ، وتدور عليها المصطلحات الآتية :
صحيح ، حسن ، حسن صحيح ، جيد ، لا بأس به ، زيادة الثقة ، العلة ، الشاذ ، المنكر، المقلوب ، المدرج ، المصحف ، المضطرب ، الموضوع .
والموضوعات الثلاثة هي :
الحديث الذي ثبتت صحته .
الحديث له الذي ثبت خطؤه .
الحديث الذي لم يثبت فيه هذا ولا ذاك .
وفيما يلي بيان كيف تدور تلك المصطلحات على هذه الموضوعات الثلاثة :
أما الموضوع الأول فيطلق عليه عادة مصطلح " صحيح " ، وقد يطلق عليه مصطلح "حسن"(2) ، بينما يصطلح عليه بعضهم كلمة "حسن صحيح"(3) .
وأما الموضع الثاني فيطلق عليه : (ضعيف) ، (معلول) ، (شاذ) ، (منكر) ، (مقلوب) ، (مدرج) ، (مصحف) ، (مضطرب) ، (موضع) . وإلى جانبها ألفاظ صريحة يستعملها النقاد كثيراً ؛ وهي :
(حديث غريب) ، (غير محفوظ) ، (باطل) ، (وهم) ، 0خطأ) (تفرد به فلان) ، (لا يشبه حديث فلان) (لا يجيء) وغيرها من العبارات الصريحة التي تزخر بها كتب العلل وكتب الضعفاء وغيرها .
والموضوع الثالث يقول فيه : (ضعيف) (4) ، (مرسل) ، (مدلس) ، (مدلس) ، (منقطع)، (معضل) ، (معلق) وإذا تقوى نوع من هذه الأنواع بعواضد بالشروط التي سيأتي ذكرها، ولم يصل إلى حد شعور الناقد بأنه ثابت يقال : (حسن) ، (جيد) ، (لا بأس به) ، وقد يطلق عليه أيضاً (صحيح) تجوزاً ، ولا يريد به الموضوع الأول(5) .
__________
(1) أورد لفت القارئ إلى أن هذه الوحدة تعد الوحدة الثانية حسب الترتيب الذي سبق شرحه ، لكني أقدم هذه الوحدة في الذكر واعتبرها الوحدة الأولى نظراً لأهميتها .
(2) يقول الحافظ الذهبي : إنهم قد يقولون فيها صح : هذا حديث حسن . وانظر كتاب (نظرات جديدة) ، ص23 - 26 للمؤلف ، ففيه أمثلة تطبيقية من نصوص النقاد .
(3) من الجدير بالذكر أن النقاد لم يفرقوا بين المصطلحات ، وأنهم لم ينشغلوا بتعريفاتها لتكون مضامينها محددة ، وإنما جاء تحديدها في العصور المتأخرة حين احتاج الناس إلى ضبط المصطلحات الواردة عن النقاد القدامى ، وتحديد معانيها ، لبعدهم عن عصر النقد ، بخلاف المتقدمين ، فإنهم يفهمون معانيها بالخبرة والممارسة ، دون حاجتهم في ذلك إلى التعريف المنطقي ، وشأنه في ذلك شأن بقية العلوم الشرعية .
ولذلك فلا مانع لدى المتقدمين - لا لغوياً ولا اصطلاحياً - من إطلاق الصحيح على الحسن ، والحسن على الصحيح ، أو الجمع بينهما ؛ كقول بعضهم : حسن صحيح ، وإن كان ذلك مشكلاً عن المتأخرين ، لكونهم قد ضبطوا معانيها من خلال تعريفات محددة ، بحيث إذا أطلق مصطلح من المصطلحات لا يتبادر إلى الذهن إلى ذلك المعنى . وسيأتي إن شاء الله تعالى حدث خاص حول هذا الموضوع في نوع الحسن . ومن الجدير بالذكر أن الإمام الترمذي حين يحكي عن بعض النقاد
(4) تصحيحه كان يقول : "قال فلان هذا حديث حسن صحيح " أو "هذا أحسن وأصح" ، دون أن يلفظ ذلك الناقد بهذه الكلمة . فقد حكى الإمام الترمذي عن الإمامين : أحمد والبخاري تصحيحهما حديث المستحاضة الذي روته حمنة بنت جحش : بقوله : "حسن صحيح" . دون أن يرد هذا اللفظ عنهما (سنن الترمذي ، أبواب الطهارة ، باب ما جاء في المستحاضة أنها تجمع بين الصلاتين بغسل واحد 1/226) .
وأما لفظهما فكما ورد في علل الترمذي : " قال محمد (يعني البخاري) : حديث حمنة بنت جحش في المستحاضة هو حديث حسن ، إلا أن إبراهيم بن محمد بن طلحة هو قديم ، لا أدري سمع منه عبد الله بن محمد بن عقيل أم لا ، وكان أحمد بن حنبل يقول : هو حديث صحيح " . (العلل الكبير ص58 ، تحقيق السامرائي ، ط1 ، 1409هـ ، عالم الكتب ، وسنن البيهقي 1/339) .
وفي أثناء المقارنة بين السياقين يبدو واضحاً أن ما تضمنه السياق الثاني هو لفظ البخاري وأحمد ، بخلاف ما ورد في السياق الأول ، فإنه ورد مختصراً ، اختصره الترمذي بأسلوبه المعروف في التعبير في التصحيح .
ومثال آخر : يحكي فيه الترمذي عن البخاري تصحيح حديث "البحر هو الطهور ماؤه" : بقوله : "حسن صحيح" . (شرح العلل 1/ 342 - 343 ، تحقيق الأستاذ نور الدين عتر) . وفي الوقت ذاته قال الترمذي : سألت محمداً عن حديث مالك عن صفوان بن سليم في حدث "البحر هو الطهور ماؤه" فقال : "هو حديث صحيح" (العلل الكبير للترمذي ص41 ، وكذا في التمهيد لابن عبد البر 16/218). وقال الحافظ ابن حجر في هذا الحديث : "صحح البخاري - فيما حكاه عنه الترمذي في العلل المفرد - حديثه ، وكذا صححه ابن خزيمة وابن حبان وغير واحد" (التهذيب 4/42) .
وهذا كله يدل على توسعهم في إطلاق الألفاظ والمصطلحات ، وأن الترمذي يقصد بقوله حسن صحيح ما يقصده غيره بقوله : صحيح" لا غير . والله أعلم .
( ) مصطلح (ضعيف) يطلق على كل أنواع الضعيف .
(5) سبق شرح هذا الموضوع بالأمثلة في كتاب (نظرات جديدة في علوم الحديث) للمؤلف ، ومما ينبغي لفت النظر إليه أن فهم ذلك التفاوت بين المصطلحات ، ومقصود الناقد بها يتوقف بقدر كبير على خبرة واسعة ، ودراية بمنهجهم ، وفقه مناسبة استعمالهم لها ، ولا يصلح في ذلك اعتماد كتب المصطلح اعتماداً كلياً ، فإنها تذكر لك من المعاني ما هو الأغلب استعمالاً .(1/10)
وجه تقسيم هذه الأنواع تقسيماً ثلاثياً
لقد قسمنا هذه المصطلحات على ثلاثة أقسام - كما رأيت آنفاً - ، وذلك حسب شعور النقاد تجاه الحديث . وإلا ففي الواقع لا ينقسم الحديث سوى قسمين :
صحيح وخطأ .
لكن لن يكون بمقدور الناقد أن يعرف دوماً ماذا في الواقع ، خطأ أو صواب ، لأنه قد لا يتوافر لديه من المعلومات ما يساعده على معرفة ذلك ؛ فإذا علم الناقد بصحة الحديث يعبر عن ذلك بما يدل عليه من الألفاظ ، وإذا علم بخطئه يعبر عنه بما يدل عليه من العبارات ، وإذا لم يعمل هذا ولا ذاك فتعبيره عن ذلك يكون بقدر شعوره تجاه الحديث .
وعليه فإن الحديث ينقسم إلى ثلاثة أقسام بالنسبة إلى شعور الناقد ، وأما في واقع الأمر فلا يكون له إلا قسمان : خطأ ، وصواب .
وإذا رجعنا إلى أنفسنا نجد هذا التقسيم واقعياً ، إذ الخبر الذي نسمعه لا يكون في الواقع إلا صواباً ، أو خطأ ، لكن ليس بمقدورنا أن نعرف هذا الواقع دائماً ، وبالتالي ينقسم هذا الخبر بالنسبة إلى شعور المخاطب إلى تلك الأقسام الثلاثة ؛ لأنه قد يعرف أن الخبر صواب، أو أنه طأ ، أو لا يعرف شيئاً ، وإن كان يتنوع ما يعبر به المخاطب عما يجول في خلده تجاه الخبر الذي سمعه ، بيد أنه لا يخرج عن قسم من هذه الأقسام .
وإذا كان الموضوع الأول يضم جميع المسائل المتعلقة بمعرفة صحة الحديث وثبوته ، فإن الموضوع الثاني باعتباره مقابل الأول يشمل جميع الأنواع التي تكون لها صلة بمعرفة الخطأ في الحديث - سواء أكان الراوي معتمداً في خطئه أم غير متعمد - والأنواع هي :
العلة ، والشاذ ، والمنكر ، والمقلوب ، والمدرج ، والمصحف ، والمضطرب ، والموضع. غير أن نوع (الموضوع) يجب أن يكون ذكره في باب خاص ، لكون روايه كذاباً ووضاعاً . ويلحق به ما رواه المتروك بسبب فسقه ، لأنه مثل الوضاع في عدم جواز الرواية عنه .
ومن الجدير بالذكر أن مصطلح (العلة) أو (المعلول) يشكل موضوعاً عاماً يندرج تحته بقية الأنواع المذكورة ، وليس نوعاً قسيماً ، وهي : الشاذ ، والمنكر ، والمقلوب ، والمدرج ، والمصحف ، والمضطرب .
وأما الموضوع الثالث فيمثل درجة متوسطة بين هذين الموضوعين ، وعريضة ، إذ يجذبها أحياناً أحد الطرفين : الصحيح أو المعلول ، بقدر ما تتوافر في الحديث من العواضد الخارجية ، غير أنه لا يرقي إلى الصحيح ، كما لا ينزل إلى الضعيف الذي تبين خطؤه . ومن هنا قد يكون موقف النقاد تجاه الحديث الذي يندرج تحت هذا النوع مضطرباً ، كما اضطرب المتأخرون في تحديد معنى مصطلح (الحسن) الذي يكون أساسه هذه الدرجة المتوسطة ، وسيأتي تفصيل ذلك في مبحث الحسن .
والعنوان الذي يطابق هذا الموضوع هو "الضعيف المنجبر" ، ويشمل الأنواع التالية :
المرسل ، والمعلق ، والمدلس ، والمنقطع ، والمعضل ، وما رواه الضعيف غير المتروك بشرط أن لا يظهر للناقد ما يدل على صحته ولا خطئه ، وأما إذا تقوى نوع من هذه الأنواع بالوجوه التي سيأتي تفصيلها فيقال عنه : (حسن) وتستعمل فيه ألفاظ أخرى ، مثل (جيد) و (لا بأس به) و (صالح) و (مقبول) .
وبقي لنا تصنيف مسألة زيادة الثقة ، فإن زيادة الثقة من حيث كونها مسألة لا تشكل نوعاً خاصاً مستقلاً عن مسائل الصحيح والحسن والمعمول ، ولا خارجة من حدودها ؛ إما أن تكون صحيحة ، أو حسنة ، أو معلولة ، ويكون كل ذلك تبعاً لدلالة القرائن المحتفة بها . وأما من حيث كونها كلمة اصطلاحية فتظل نوعاً يحتاج إلى تعريف ، ولتوضيح ذلك سنخصص لها فصلاً خاصاً .
وعلى هذا الترتيب الموضوعي ستكون دراستنا لأنواع الوحدة الأولى إن شاء الله تعالى.(1/11)
مصطلح (صحيح) وأبعاده النقدية
الموضوع الأول
من الوحدة الأولى
مصطلح (صحيح) وأبعاده النقدية
الموضوع الأول
من الوحدة الأولى
مصطلح الصحيح وأبعاده النقدية
وفيه ما يأتي :
معنى مصطلح الصحيح .
العناصر المهمة لمعرفة صحة الحديث .
نماذج توضيحية لما صح من أحاديث الضعفاء .
تلخيص القضايا المنهجية المتعلقة بالتصحيح .
تعريف الصحيح في كتب المصطلح .
توجيه هذا التعريف .
تباين منهجي بين النقاد والمتأخرين في التصحيح .
مثال توضيحي للحديث الصحيح .
ماذا يفيد الحديث الصحيح : العلم أو الظن ؟
مصادر الصحيح .
الصحيحان والموازنة بينهما .
مراتب الأحاديث الصحيحة .
الكتب المستخرجة .
قولهم في أصح الأسانيد .(1/12)
الحديث الصحيح(1)
الحديث إذا تبين للناقد أنه تم نقله عن النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره ، من غير خطأ ولا وهم ، فإنه يعبر عنه غالباً بأ،ه (صحيح) ، وقد يعبر عنه بأنه (حسن) ، بينما يستعمل الإمام الترمذي في ذلك لفظه (حسن صحيح) .
وبقدر ما يتوافر لدى الناقد من القرائن يتقوى شعوره ، حتى يصل إلى العلم بأن الحديث ثابت عن مصدره ، وأنه تم نقله عنه عبر رواته من غير وهم ولا خطأ ، مع كونه من خبر الآحاد، ولا يتوقف الجزم بذلك أبداً على تواتره ، كما هو الشائع لدى كثير من المثقفين الذين ينظرون في الحديث من زاوية ثقافتهم ، دون احترام أهله من الناقد القدامى ، ودون اعتبار شعورهم تجاه الحديث .
وبما أن هذا الأمر من علم الخاصة ؛ فإنه لا يمكن أن يكون للجميع شعور النقاد وإحساسهم تجاه الحديث ومدى إفادته اليقين والعلم ، ولذا يتعين على غيرهم التسليم بذلك ، سواء أفاد ذلك عنده الظن أم لا .
__________
(1) من الأفضل أن يتأمل القارئ – قبل قراءة هذا الموضوع الذي شرح منهج المحدثين النقاد في تصحيح الأخبار وتضعيفها – أسلوبه الشخصي في معالجة الخبر الذي يسمعه ، سواء أكان ذلك عبر وسائل الإعلام ، أم عن طريق فردي ، وذلك يتضح ما يلي :
معنى الصحيح عموماً .
طريقته في معرفة صحة الخبر الذي يعالجه ، أو خطئه .
حاجة ذلك إلى خلفية علمية ، أو تخصص علمي في موضوع ذلك الخبر ، أو في ملابساته .
وأما الشخص الجاهل غير المتحفظ فلا يكون من عادته إلا تقليد من ينقل إليه الخبر ، وبالتالي يكون بعيداً عن معرفة صوابه وخطئه ، واعتداله في ذلك .
كما لا ينسى القارئ أن يطرح أسئلة على نفسه :
هل يصدق أحدنا الأخبار كلها دائماً ؟
هل يكذب بها دائماً ؟
أليس هو يُكذب حيناً ، ويُصدق حيناً آخر ، أو لا يعلم هذا ولا ذاك حيناً ثالثاً ؟
وما معيار ذلك إذن ؟
ألا يكون معيار ذلك هو : اعتماده على مدى :
موافقة الخبر للواقع الذي يعرفه أو يعرف ملابساته .
أو مخالفته له .
ج- أو التفرد بما له أصل ، أو بما ليس لها أصل .
د- أو اعتماد الحالة العامة لذلك الرجل الناقل ، إذا لم يتبين له شيء من ملابسات ذلك الخبر؟
- ألا تعتقد جازماً أن الذي يكون بمقدوره معرفة صحة الخبر وخطئه هو من لديه خلفية علمية حول موضوع الخبر أو ملابساته ؟ أما غيره فليس له ناقة في ذلك ولا جمل .(1/13)
العناصر المهمة لمعرفة صحة الحديث
كيف يقوى شعور الناقد بذلك ؟
والسؤال الذي نطرحه هنا : كيف يقوى شعور الناقد بأن الراوي لم يخطئ ولم يهم ولم يكذب في حديثه الذي رواه عمن فوقه ؟ وللإجابة على ذلك أقول :
إن ناقد الحديث يحس بذلك عن يقين ويطمئن به شعوره ، أو يغلب عليه الظن إذا توفر في الحديث ما يلي :
أن يكون رواة الحديث كلهم معروفين بصلاح الدين ، وحسن السيرة والسلوك ، بحيث لا يتوقع أحد ممن يعرف ذلك احتمال كذبهم فيما يحدثون به عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا فيما يدعون به من لقائهم وسماعهم ، وذلك ما يعنيه المحدثون بالعدالة الدينية . وهذا أمر يجب تحققه في الراوي منذ البداية ، وإلا أصبح متروكاً ، وإذا تبين للمحدث أنه متروك لا يستساغ له سماع حديثه ، ولا الرواية عنه .
أن يصرح كل رواه باسم شيخه الذي سمع منه ذلك الحديث ، وهو المقصود باتصال السند .
أن لا تخالف رواية كل راو من رواة الحديث الأمر الواقع في رواية ذلك الحديث ، أو الواقع العملي الذي ثبت عن مصدر ذلك الحديث ، أو عن مصدره الأعلى ، ولا سيما عن النبي صلى الله عليه وسلم .
ويتحقق ذلك إما بموافقة الحديث الواقع ، أو أن يكون لما تفرد به الراوي أصل لدى شيخه. وهذه النقطة هي مناط حكم الحديث بسلامته من شذوذ وعلة .
وفيما يلي توضيح هذه العناصر الثلاثة :
+++++(1/14)
العنصر الأول العدالة الدينية
أما العنصر الأول : فقد بالغ المحدثون في الالتزام به ، فإذا تبلور هذا الالتزام في حياة الراوي أثناء معاملاته اليومية مع غيره ، إذا كان معاصراً ، أو أشتهر اسم الراوي بين أصحاب الحديث دون أن ينقل في حقه ما يدل على فسقه أو على فساد عقيدته ، إن كان غير معاصر، يكون ذلك – أي الالتزام والشهرة – دليلاً قوياً بل قاطعاً ، على أن الراوي قد تحققت فيه العدالة الدينية(1) .
+++++
__________
(1) بالإضافة إلى وسائل أخرى قد تكون ركيزة لدى المحدثين النقاد في حكمهم على الراوي بمدى التزامه بالصدق ، ومن أهمها استعمال التاريخ .
قال سفيان الثوري : لما استعمل الرواة الكذب استعملنا لهم التاريخ .
وقال حفص بن غياث : اتهمتم الشيخ فاحسبوه بالسنين .
وقال عفير بن معدان الكلاعي : قدم علينا عمر بن موسى حمص ، فاجتمعنا إليه في المسجد ، فجعل يقول : "حدثنا شيخكم الصالح" .
فلما أكثر قلت له : "من شيخنا الصالح" ؟ سمه لنا نعرفه " .
قال : فقال : " خالد بن معدان " .
قلت له : "في أي سنة لقيته" ؟
قال : لقيته سنة ثمان ومائة .
قلت : فأين لقيته ؟
قال : لقيته في غزاة أرمينية .
قال : فقلت : اتق الله يا شيخ ، ولا تكذب ، مات خالد بن معدان سنة أربع ومائة ، وأنت تزعم أنك لقيته بعد موته بأربع سنين . (الكفاية في معرفة الرواية ص119) . وسيأتي هذا الموضوع بشيء من التفصيل في وحدة " الجرح والتعديل" .(1/15)
العنصر الثاني اتصال السند
وأما العنصر الثاني فيعرف بما يلي :
1- تصريح كل من سلسلة الإسناد بما يدل على سماعه للحديث من مصدره الذي روى عنه ذلك الحديث ، كقوله ك (سمعت فلاناً) أو (سمعنا فلاناً) أو (حدثني فلان) أو (حدثنا) أو (قرأت عليه) أو (حدثني قراءة عليه) أو (حدثنا قراءة عليه) أو (أخبرني) أو (أخبرنا) أو (أنبأني) أو (أنبأنا) أو (قال لي) أو (قال لنا) ، أو نحو ذلك من العبارات الدالة على أن الراوي قد لقي من فوقه ، وأنه سمع منه ذلك الحديث .
ومثال ذلك : قال الإمام البخاري في صحيحه :
" حدثنا بن سعيد الأنصاري ، قال : أخبرني محمد بن إبراهيم التيمي ، أنه سمع علقمة بن وقاص الليثي ، يقول : سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه على المنبر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه"(1) .
وهذا مثال واضح لمعرفة اتصال السند ، إذ صرح كل من رواته بما يدل على سماعه ممن فوقه ، وكانت ألفاظهم في ذلك مختلفة ، وهي : (حدثنا) و (أخبرني) و (سمعت) ، ومن المعلوم أن هؤلاء الرواة جميعاً عدول ثقات بحيث لا يتصور في حقهم احتمال كذب في ذلك ، ويتأيد ذلك بطبقاتهم الزمنية ، وصحبة كل منهم مع من فوقه(2) .
2- عنعنة الراوي ، إذا لم يكن مدلساً ، أو مرسلاً(3) ، فتفيد عنعنته الاتصال ، وأما إن
كان الراوي المعنعن مدلساً ، فعنعنته تحمل على الانقطاع لقوة احتمال تدليسه في الإسناد بإسقاط شيخه الذي سمع منه هذا الحديث(4) .
وكذا الأمر إذا اختلف العلماء في سماع الراوي ممن فوقه عموماً ، ولم يتبين الراجح في ذلك، فإن الحكم على الإسناد باتصاله حينئذ متوقف على ما يزول به احتمال الانقطاع ، من القرائن .
ومثال الحديث المعنعن :
قال الإمام البخاري : حدثنا يحيى بن بكير ، حدثنا مالك عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "نعم المنيحة اللقحة الصفي منحة ، والشاة الصفي تغدو بإناء وتروح بإناء"(5) .
ورواية مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة معنعنة ، وهذه العنعنة تفيد الاتصال ، إذا الرواة غير مدلسين ، إلى جانب شهرتهم بتاريخهم الحافل المتميز باهتمام كل منهم بأحاديث شيخه خاصة ، وبالأحاديث عامة(6) .
+++++
__________
(1) صحيح البخاري ، كتاب بدء الوحي ، باب كيف كان بدء الوحي 1/12 ، (فتح الباري ، مكتبة الرسالة الحديثة / عمان ، الأردن) .
(2) فائدة : يكون مثل هذا السند الصحيح مما يعول عليه علماء الجرح والتعديل عادة في تدوين تاريخ الراوي ، ولقائه مع من فوقه ، وإثبات سماعه منه عموماً .
ويتضح ذلك جلياً لمن يتتبع كتب العلل والجرح والتعديل ، لا سيما كتاب التاريخ الكبير للإمام البخاري ، ولعل من الأفضل أن أذكر مثالاً واحداً لذلك
يقول عبد الله بن أحمد : قلت (لأبي) : إنهم يقولون لم يسمع (ابن أبي ذئب) من الزهري؟
قال : قد سمع من الزهري ، حدثناه يحي بن سعيد عن ابن أبي ذئب حدثني الزهري ، فذكرنا غير حديث ، فيها : "حدثني الزهري" ، وفيها أيضاً : "سألت الزهري" (علل الإمام أحمد 1/538) .
وكان الإمام أحمد قد أثبت سماع ابن أبي ذئب من الزهري عموماً من خلال صيغ التلقي الصريحة على ذلك ؛ حيث وقعت هذه الصيغ في بعض الأسانيد الصحيحة الثابتة .
(3) العنعنة في هذه الحالة تفيد اتصال السند ، بدون خلاف ، وحتى في حالة ما إذا لم يثبت تاريخياً أن الراوي المعنعن لم يلتق مع من فوقه ، ولم يتبين أنه سمعه ولا نقيضه ، يعني في حالة الإبهام ، كما صرح بذلك الإمام مسلم رحمه الله تعالى في مقدمة صحيحه ، فإن العنعنة عندئذ تحمل على الاتصال بمجرد المعاصرة بينهما ، مع إمكانية اللقاء ، بشرط أن ذلك الراوي الثقة كان ممن يصعب البحث عن
(4) تفاصيل لقاءاته مع من روى عنه الأحاديث ، كما يقع ذلك في طبقة التابعين ، حيث لا تتوفر المعلومات التاريخية والكافية فيما يخص تفاصيل علاقتهم ولقائهم مع بعض الصحابة .
وليس كما هو الشائع لدى الكثيرين من إطلاق مذهب مسلم باكتفائه بالمعاصرة ، والبخاري بثبوت اللقاء ، ثم يوصف البخاري بتشدده ، والآخر بتساهله ، أو قد يوصف كل منهما بالاعتدال ، لكن حسب مواطن الاحتجاج لما يميل إليه الباحث .
والواقع أن مذهب مسلم في ذلك مقيد بحالة الإبهام ، وليس ذلك مطلقاً ، ولم يختلف معه في ذلك لا البخاري ولا علي بن المديني ، وهو أمر انعقد الاجتماع عليه ، كما ادعى الإمام مسلم رحمه الله ، وللشيخ حاتم الشريف جزاه الله خيراً بحث ماتع حول هذا الموضوع .
وهذا الأسلوب المتمثل في اعتماد الحالة العامة عند الإبهام ليس غريباً ، بل هو معول عليه في التصحيح والتضعيف أيضاً ، وحين لم تتوافر القرائن فيما يرويه الراوي من الحديث تكون حالة الراوي أساساً لدى النقاد في تصحيح ذلك الحديث وتضعيفه وتحسينه
كما نعول على هذا الأسلوب في معالجة القضايا اليومية ، إذا لم نجد قرائن تدل على حقيقة الأمر ، اعني في حالة كون الأمر مبهماً .
وموضوع العنعنة والأنأنة سيأتي بشيء من التفاصيل في النقطة الثالثة من هذه الوحدة حين نتحدث عن الانقطاع .
( ) سيأتي إن شاء الله تعالى في الموضوع الثالث من هذه الوحدة تفاصيل التدليس والمدلسين ، وأنهم ليسوا على مستوى واحد في إفادة عنعنتهم الاتصال والانقطاع .
(5) كتاب الهبة ، باب فضل المنيحة 5/242 (فتح الباري) المنيحة في الأصل : العطية ، والمراد هنا عارية ذوات الألبان ليؤخذ لبنها ثم ترد هي لصاحبها . (اللقحة) : الناقة ذات اللبن ، القريبة العهد بالولادة. (الصفي) الكريمة الغزيرة البن ، ويقال لها الصفية أيضاً . قوله : (منحة) تمييز (راجع فتح الباري) .
(6) ثم إن الاتصال يزداد وضوحاً من خلال جمع طرق الحديث ، كما يتأكد من خلالها على سلامته من وهم راويه وخطئه . ومن الجدير بالذكر أن كثيراً من المعلومات المتعلقة بالإسناد والمتن وفقهه تتوقف على جمع الروايات ، ومقارنة بعضها ببعض .
لفتة علمية مهمة :
إن صيغ التحمل التي تقع في سلسلة الإسناد ، كـ حدثنا ، وأخبرنا وأنبأنا ، أو عنعنة غير المدلسين ، تعد الأصل في معرفة اتصال السند ، وهذا واضح لمن يتتبع عمل النقاد ، لكن يجدر بنا أن نلفت الانتباه إلى أن هذه الصيغ والألفاظ قد لا تفيد اتصال السند بمفردها ، لتساهل بعض رواة الحديث في استخدام هذه الكلمات في غير معناها الحقيقي ، الذي هو السماع والتلقي المباشر ، أو لوقوع وهم منه في استعمالها ، بدلاً عن الصيغة التي استخدمها شيخه ، ويكون بمقدور الباحث أن يكتشف هذه الأمور الخفية من خلال جمع الروايات ومقارنة بعضها بعض ، وموظفاً في ذلك ما ورد عن النقاد من النصوص حول انقطاع السند أو اتصاله .
ولهذا قال الحافظ ابن رجب :
" ولا يعتبر بمجرد ذكر السماع والتحديث في الأسانيد ، فقد ذكر ابن المديني أن شعبة وجدوا له غير شيء يذكر فيه الإخبار عن شيوخه ، ويكون منقطعاً" .
" وذكر أحمد عن ابن مهدي حدث بحديث عن هشيم أخبرنا منصور بن زاذان ، قال أحمد : ولم يسمعه هشيم من منصور . ولم يصح قول معمر وأسامة عن الزهري سمعت عبد الرحمن بن أزهري" (شرح العلل 2/594) .
وقال الحافظ ابن عبد البر في مبحث العنعنة من مقدمة التمهيد 1/26 :
" إنه لا اعتبار بالحروف والألفاظ ، وإنما هو باللقاء والمجالسة والسماع " .
وقال الإسماعيلي :
" إن عادة المصريين والشاميين ذكر الخبر فيما يروونه " (فتح الباري 1/645 كتاب الصلاة ، باب فضل استقبال القبلة) .
يعني : أنهم يتساهلون في استعمال صيغ التلقي ، ويذكرون (أخبرنا) و (حدثنا) ، وإن لم يكن ذلك الحديث مما سمعه الراوي من شيخه . وقد قاله الإسماعيلي في مناسبة تعليله رواية يحيى بن أيوب ، عن حميد حدثنا أنس : (أمرت أ، أقاتل الناس) .
يعني الإسماعيلي : أن يحيى بن أيوب تساهل حين استعمل لفظه (حدثنا) مع كون حميد لم يسمع هذا الحديث من أنس مباشرة . ويحيى بن أيوب هذا من ضعفاء مصر . =
= وقال الحافظ ابن حجر :
" ويلتحق بالتدليس ما يقع من بعض المدلسين من التعبير بالتحديث أو الإخبار عن الإجازة ، موهما بالسماع ، ولا يكون سمع من ذلك الشيخ شيئاً " .
وقال ابن القطان الفاسي في صدد نقد حديث الذهب :
" إن الناس قالوا إن رواية يحيى بن أبي كثير عن زيد بن سلام منقطعة على أن يحيى قال : حدثنا زيد بن سلام ، وقد قيل : إنه دلس ذلك ، ولعله أجازه زيد بن سلام ، فجعل يقول حدثنا زيد" .
وقال ابن عبد البر – بعد أو أورد رواية يحيى بن أبي كثير التي قال فيها حدثنا أبو سلام :
" ولم يسمعه يحيى من أبي سلام ، ولا يصح " (التمهيد 16/115) .
وعن علي بن المديني :
" قلت ليحي بن سعيد القطان : يعتمد على قول فطر بن خليفة (حدثنا) ويكون موصولا؟
فقال : لا .
فقلت : أكان ذلك منه سجية ؟
قال : نعم " .
وكذا قال الفلاس :
" إن القطان قال له : وما ينتفع بقوله فطر : (حدثنا عطاء) ، ولم يسمع منه " .
ويقول الإمام أحمد :
" كان سجية في جرير بن حازم أن يقول : حدثنا الحسن قال حدثنا عمرو بن تغلب" .
وأبو الأشهب يقول : عن الحسن قال : "بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمرو بن تغلب" . (علل أحمد 1/267) .
إذن كيف يعتمد قول جرير عن الحسن حدثنا عمرو بن تغلب في إفادته الاتصال ، وهو يقول : بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمرو بن تغلب ؟
وقال أبو عبيد الحداد :
" كتب لأبي حرة حديثه (سمعت الحسن) ، أو (حدثنا الحسن) ، فقال : ما قلت هذا ، أنا أقول هذا ؟ قال (أي الإمام أحمد) : فما قال في شيء (سمعت الحسن) إلا في ثلاثة أشياء" (علل أحمد 1/267).
ومن المعلوم أ، أبا حرة معروف بتدليسه عن الحسن (علل أحمد 1/267) .
وإن كانت هذه النصوص واضحة وجلية في دلالتها على أن المعرفة الحديثية والتاريخية هي أساس نقد الأحاديث ورواتها ، وحتى في الحكم على الأسانيد بانقطاعها أو باتصالها ، فإن اعتماد ظاهر السند، وقياس الحكم على أحوال الرواة ومراتبهم في الجرح والتعديل ، يصبح غير منهجي ، لا سيما حين يكون ذلك رداً على نقاد الحديث الذين حكموا بخلاف مقتضى ظاهر السند .(1/16)
المؤنن وإزالة الشبهة عنه
يذكر في كتب المصطلح في هذه المناسبة مصطلح (الأنأنة) أو (المؤنن) ، ويقال في مثال ذلك : "حدثنا فلان أن فلاناً حدثه بكذا" ، وهو : نحو حديث مالك ، عن ابن شهاب أن سعيد بن المسيب قال كذا ، وفرق بعضهم بين (عن) و (أن) : فرأوا أن (أن) محمولة على الانقطاع حتى يتبين السماع في ذلك الخبر بعينه من طريق آخر.
_______________
= وبناءً على ذلك فإن حكم أحد من النقاد بانقطاع سند قال فيه الراوي (أخبرنا) أو (حدثنا) لا ينبغي لنا أن نعترض عليه بحجة أن المدلس إذا صرح بالسماع زال الخوف من احتمال تدليسه ، ثم نحكم على السند باتصاله ، بل يتعين علينا تسليم الحكم لذا الناقد ، دون استفسار ، وذلك لأن حكمه على السند بانقطاعه إنما هو بناءً على ما توافرت لديه من المعرفة الحديثية والتاريخية .
ومما يزيدنا شعوراً بعمق موضوع الاتصال أن كلمة (قال) تفيد الاتصال في حق بعض الرواة ، حتى ولو كان مدلساً ، مثلاً إذا قال حجاج الشاعر : (قال ابن جريج) فذلك يعني أنه قد سمعه ، ولا يحتمل ذلك للانقطاع . وكذلك إذا قال ابن جريج : (قال عطاء) فإنه يفيد الاتصال أيضاً ، مع كون ابن جريج مشهوراً بالتدليس .
وهذا – كما ترى – مخالف للقاعدة المعروفة في كتب المصطلح ، وهي : أن المدلس إذا قال : (قال) لا يحمل على الاتصال ، ويكون شأنه في ذلك شأن العنعنة .
ومخالف أيضاً لقول النقاد : إذا قال ابن جريج : (قال) فذلك شبه الريح .
وجواب ذلك :
أولاً : لأن ابن جريج قد صحب شيخه ، ولازمه ملازمة طويلة حتى استوعب جميع أحاديثه بحيث لم يفته شيء منها ، وحينئذ تكون روايته عنه بأي صيغة كانت مما لا يحتمل فيه التدليس ، ومن المعلوم أنه لا يعول على ظاهر ألفاظ التلقي في حالة ما إذا دلت الأدلة والقرائن على خلافه .
ثانياً : قول بعض النقاد : (إذا قال ابن جريج : قال ، فذلك شبه الريح) إنما هو في حق شيوخه الذين لم يستطع استيعاب أحاديثهم ، لعدم مجالسته معهم طويلاً . ولا صلة لهذا القول بروايته عن عطاء ، فإنه ينبغي استثناؤه منه . (راجع كتاب الموازنة للمؤلف ص276) .
وإن كان في هذه النصوص ما يدلنا على أن رواية المدلس قد تظل منقطعة ، مع أنه قد وقعت في سنده صيغة تنص على سماعه ممن فوقه كـ (حدثنا) و (أخبرنا) ، كما يدل على أن المدلس إذا قال (قال) فقد يحمل على الاتصال ، وحتى إذا لم يرد في طرق أخرى تصريحه بالسماع ، فبذلك كنا قد وقفنا على دقة علم الحديث ومنهج أهله في النقد ، الأمر الذي يمنع الباحث من الاستعجال في حكمه على الحديث بناءً على ظاهر السند ، لا سيما في رده أحكام النقاد بما يخالف الظاهر .
وفي ضوء ما سبق يمكن التخليص بأنه إذا ثبت لقاء الراوي بشيخه ، واشتهرت صحبته له ، وتبين من خلال جمع الروايات ومقارنة بعضها ببعض أنه قد انتفى ما يعكر صحة سماعه منه لذلك الحديث الذي رواه ، فيكون ذلك المعول عليه في معرفة اتصال سنده ، وإن لم يرد عن ذلك الراوي تصريح بالسماع .
أقول : هذا غريب من قائله ، لأن المثال الذي ذكره لتوضيح صورة (المؤنن) لا يصلح لأنه بصدد بيان اختلاف العلماء حول إفادته الاتصال والانقطاع ، فإن المثال لا يختلف في اتصاله أحد ، لأنه صرح باتصال السند حيث قال : (أن فلاناً حدثه) ، فصيغة (حدثه) – سواء استخدام معه كلمة (أن) أو لا – صريحة بسماع الراوي من شيخه ، وإذا استخدمت فيه (أن) يفيد التأكيد على الاتصال ، إذن كيف يقال بوجود الاختلاف حول هذا الإسناد المؤنن في إفادة الاتصال ، إذن كيف يقال بوجود الاختلاف حول هذا الاسناد المؤنن في إفادة الاتصال والانقطاع ؟ والمثال الثاني ليس له صلة بأن في إفادة الاتصال أو الانقطاع ، فإن كلمة (حدث) أو (قال) أو (أخبر) – سواء استخدمت فيها (أن) أو لا – غير صريحة في إفادة الاتصال ، بل تفيد الاتصال إذا لم يكن الراوي مدلساً ، وليس لأنأنته صلة في ذلك . ومن المعلوم أن (أن) لا تشكل بمفردها السند ، فلا يقال : (أن فلاناً أن فلاناً) ، وليس لها معنى إلا إذا جاءت مع كلمة ، مثل (حدثني) أو (حدث) أو (قال لنا) أو (قال) ونحوها ، بخلاف (عن) فإنها تستقل بالمعنى ، وتتكون منها الأسانيد ، ويقال "الإسناد المعنعن" .
وقياساً على ذلك قيل : "المؤنن" ، ولم يرد هذا المصطلح في كلام القدامى ممن تطرق لبيان ذلك ، كمسلم وابن عبد البر وحتى العلائي من المتأخرين .
والواقع أن المؤنن الذي وقع فيه اختلاف بين العلماء هو الإسناد الذي ينتهي بـ (أن)، ومثاله : "عن مالك عن سعيد بن المسيب أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم " فأن هنا ليست كعن لأن (أن) هنا تفيد الانطقاع ، وأما إذا قيل المثال (عن) مثلاً : عن سعيد بن المسيب عن رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم أفاد الاتصال هنا ، فإن سعيداً يحكي عن رجل .
وأما (المؤنن) كما في المثال المذكور آنفاً فلا يفيد إلا الانقطاع ، لأنه لم يكن حاضراً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا معنى قوله الإمام البرديجي أن (أن) محمولة على الانقطاع حتى يتبين السماع في ذلك الخبر بعينه من طريق آخر . وفي مثل هذا تفيد (أن) الانقطاع ، ولن تكون (أن) مثل (عن) .
وأما قول بعض الأئمة أن (عن وأن) سواء ، فمثال ذلك كما قال ابن عبد البر : مالك عن هشام بن عروة أن أباه قال ، ولا يختلف هذا الإسناد عن الإسناد المعنعن الذي فيه (عن أبيه) بدلاً (أن أباه قال) ، وكلاهما سواء في إفادة الاتصال والانقطاع . وهذا الموضع بحاجة إلى مزيد من التضويح والأمثلة .
+++++(1/17)
خلاصة الفكر حول مسألة الاتصال
خلاصة القول حول مسألة الاتصال :
أن صيغ التلقي التي ترد في السند ك (حديثنا) و (أخبرنا) وعنعنة غير المدلسين ، وغيرها مما سبق ذكره ، تعد أصلاً في معرفة اتصاله وانقطاعه عموماً ، غير أنه قد تعتريها بعض الحالات ، تجعل تلك الصيغ غير معول عليها لدى النقاد في معرفة الاتصال ، وذلك لأسباب يعرفونها ؛ منها:
وهم أحد الرواة في استخدام صيغة التحديث بدلاً عن الصيغة التي ذكرها شيخه .
توسع الراوي في استخدام صيغة التحديث في غير معناها الحقيقي تجاوزاً .
وبالتالي يكون الاعتماد في ذلك على ما نص عليه الأئمة في هذا المجال ، كما أن المعاصرة قد لا تكفي بمردها في ثبوت الاتصال ، لا سيما في حالة وجود نص صريح من أولئك الأئمة النقاد على انقطاع السند ، اللهم إلا إذا توفرت عند الباحث المعاصر معرفة تاريخية دقيقة وشاملة حول ذلك الراوي ، ومدى علاقته بمن روى عنه ، وكيف تلقى ذلك الحديث منه بالتحديد ن وذلك من خلال جمعه الروايات ، وفقه نتائج المقارنة بينها ، واطلاعه على آراء الأئمة(1) .
ولعل من المفيد ذكر بعض الأمثلة لندلل على أن معرفة الاتصال تتوقف على خلفية علمية تاريخية ، وأنها لا يكفي في ثبوت ذلك الاعتماد صيغ التلقي في بعض الأحيان ، وحتى لو كانت المعاصرة بين الرواة جلية في ضوء التاريخ
قال الإمام أحمد :
" حج عيسى بن يونس سنة ثلاث وثمانين ، في السنة التي مات فيها هشيم ، وخرجت إلى الكوفة في تلك السنة فمرضت ورجعت ، وقدم عيسى الكوفة بعد ذلك بأيام ، ولم أسمع منه ، ولم يحج عيسى بعد تلك السنة ، وعاش بعد ذلك ستين " . (العلل ومعرفة الرجال 1/559 ، تحقيق وصي اتلله ، وط:الأولى سنة 1408هـ ، المكتب الإسلامي ، دار الخاني ، بيروت) .
ومن له إحاطة بمثل هذا الحدث التاريخي الذي يتعرض له آحاد الرواة لا يتسرع إلى إثبات السماع بين الرواة بمجرد وجود المعاصرة ، أو بإمكانية السماع ، حتى ولو وقع من الراوي من صيغ التحمل ما يدل ظاهره على ذلك ، لاحتمال أن يكون قد وقع ذلك خطأ أو تساهلاً أو تدليساً منه أو ممن بعده .
وقال الإمام أحمد :
" يزيد بن أبي حبيب لم يسمع من الزهري ابن شهاب شيئاً ، إنما كتب إليه الزهي ، ويروي عن رجل عنه ، لم يسمع من الزهري شيئاً " .
وقال الإمام أحمد :
وقال مرة : " يزيد ابن أبي حبيب عن الزهري كتاب إلا ما سمى بينه وبين الزهري " (العلل ومعرفة الرجال 1/538) .
وفي هذين النصين وغيرهما من النصوص التي ترد في كتب العلل وكتب الضعفاء ما يؤكد على أن اتصال السند تتوقف معرفته بقدر كبير على خلفية إسنادية وتاريخية ، وأنه لا يتأهل أحد لذلك بمجرد نظر سطحي في صيغ التلقي الواردة في سلسلة الإسناد ، وبمراجعة عامة لتاريخ رواة الحديث.
وأما أهمية هذا العنصر في معرفة صحة الحديث فتكمن في أن العنصر الثالث الذي سيأتي الحديث عنه مباشرة يتوقف البحث عنه بقدر كبير على معرفة مصدر الراوي الذي سمع منه الحديث ، إذ لو لم يعرف ذلك المصدر وأصبح الإسناد منقطعاً لكان البحث عن الواقع الحديثي أو العملي أو التاريخي الخاص به متوقفاتً ، وبالتالي لا يعرف هل أخطأ الراوي في روايته عن مصدره الحقيقي أو أصاب ، وه لحدث عنه فعلاً كما سمعه منه . كما سيتضح ذلك جلياً في المبحث الآتي .
+++++
__________
(1) ولذلك يجب على الباحث الذي يتصدى لمهمة تصحي الأحاديث وتعليلها أن يكون عالماً بملابسات كل رواية ، وملماً بتتبع القرائن التي تحف بها ، وفاهماً بما تضمنه نصوص النقاد من الأبعاد النقدية ، ومراعياً لأسباب تداخل الروايات على رواتها عموماً .
ولصعوبة نقد الحديث في العصور المتأخرة يقول الحافظ الذهبي :
" وهذا في زماننا يعسر نقده على المحدث ، فإن أولئك الأئمة ، كالبخاري وأبي حاتم وأبي داود ، عاينوا الأصول ، وعرفوا عللها ، وأما نحن فطالت علينا الأسانيد ، وفقدت العبارات المتيقنة ، ويمثل هذا ونحوا فطالت علينا الأسانيد ، وفقدت العبارات المتيقنة ، وبمثل هذا ونحوه دخل داخل على الحاكم في تصرفه في المستدرك "الموقظة للذهبي : ص46 ، تحقيق عبد الفتاح أبو غدة ، ط2 ، سنة 1412هـ ، دار البشائر الإسلامية ، بيروت) .
ولئن أطلت الحديث في مسألة اتصال السند بعض الشيء فذلك إحساساً مني بخطورة ما يروج في بعض البحوث المعاصرة من تساهل كبير في الحكم على السند باتصاله معتمداً على ظاهر صيغ التلقي، أو على تاريخ الراوي العام ، الذي يمكن الاستدلال به على وجود المعاصرة بينه وبين من روى عنه الحديث ، وإمكانية سماعه منه عموماً ، في الوقت ا لذي يتفق فيه أئمة النقد على أن السند منقطع ، والراوي لم يسمع أصلاً ممن فوقه ، أو لم يسمع منه ذلك الحديث بعينه . =(1/18)
العنصر الثالث عدم مخالفة الحديث الواقع
وبقى لنا العنصر الثالث ، وهو عدم مخالفة الواقع ، أو الواقع العملي ، ويتحقق هذا العنصر إما بموافقة ما رواه الراوي الأمر الواقع في رواية ذلك الحديث ، أو بتفرده بما له أصل في الواقع ، ويعد هذا من أهم عناصر التصحيح ، إذ يعتبر الحديث صحيحاً بمجرد تحقق هذا العنصر، وإن كان روايه ضعيفاً بشرط أن لا يكون متروكاً ، كما أن هذا العنصر يكون في غاية من الدقة والغموض ؛ حيث يحتاج الناقد في معرفة ذلك إلى خلفية علمية وملكة نقدية .
ولذلك قال يزيد بن أبي حبيب : "إذا سمعت الحديث فانشده كما تنشد الضالة"(1) .
وقال بعض الحافظ : " إن لم يكن للحديث عندي مائة طريق فأنا فيه يتيم"(2) .
وقال الإمام علي بن المديني : "الباب إذا لم تجمع طرقه لم يتبين خطؤه"(3) .
وقال ابن معين : " لو لم نكتب الحديث من ثلاثين وجهاً ما عقلناه"(4) .
وقال الإمام أحمد : " الحديث إذا لم تجمع طرقه لم تفهمه ، والحديث يفسر بعضه بعضاً"(5).
+++++
__________
(1) كتاب الجامع لأخلاق الراوي 2/212 للخطيب البغدادي .
(2) سنن الدارمي 1/161 ، كتاب التعديل والتجريح 1/386 ، (تحقيق أبو لبابة ، ط1 . سنة 1406هـ ، دار اللواء) .
(3) الجامع لأخلاق الراوي 2/295 .
(4) تاريخ بغداد 6/94 ، سير أعلام النبلاء 12/150 .
(5) الجامع لأخلاق الراوي 2/212 ، وأما اليوم فقد خرق الناس نهج المحدثين ، وكثر فيهم من يعرف الحديث من خلال رواية واحدة !! وإذا أنكر عليه أحد تساهله في ذلك واستعجاله في الحكم ، ونصحه باحترام النقاد ، فإنه يكون قد عرض نفسه للخطر ، والله المستعان .(1/19)
الواقع الحديثي
أم الواقع الحديثي فأعني به ما ثبت عن المحدث الذي روى عنه الحديث ، فبمقدور الناقد أن يقف على الواقع ، وتحديده بكل دقة ، من خلال معاينته أصول ذلك المحدث ، أو بحفظ ما يتداوله أصحابه الثقات عنه ، لا سيما أكثرهم مجالسة له وحفظاً وضبطاً لأحاديثه .
وفي هذا الصدد تصدر عن النقاد عبارات مختلفة : كقولهم : (المشهور عن فلان كذا) و (المحفوظ في هذا الحديث كذا) و (الثابت عن فلان كذا) و (ما رواه الثقات عنه كذا) ، ونحو ذلك من عبارات النقد التي تزخر بها كتب العلل وكتب الضعفاء وسنن الترمذي .
ولعل من المفيد أن أذكر هنا أنموذجاً لذلك :
قال الإمام أحمد – وهو في مناسبة ذكر الوهم الذي وقع فيه شيخه وكيع ، أحد كبار أئمة الحفاظ المكثرين - : " الحديث الذي رواه وكيع عن ابن أبي ذنب عن صالح مولى التوأمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم في الجمع بين الظهر والعصر ، إنما هو حديث داود بن قيس هو من حديث ابن أبي ذئب"(1) .
وتفيد هذه العبارة بأن الأمر الواقع في هذا الحديث هو أن يضاف إلى داود بن قيس ، وليس إلى ابن أبي ذئب . فإذا خالف أحد هذا الواقع الثابت في رواية هذا الحديث يعتبر واهماً ومخطئاً، ولا يثق بذلك إلا من قد مارس منهج القوم وأحاط بأسسه وتيقن دقته(2) .
+++++
__________
(1) علل الإمام أحمد 2/30 .
(2) ومن الجدير بالذكر مخالفة الراوي للأمر الواقع ، أو تفرده بما لا أصل له ، تكون هي المناط في مفهوم مصطلح (الشاذ) المعبر عنه بمخالفة الثقة لما رواه الجامعة ، أو بمخالفته للأوثق . وعلى هذا يكون معنى الشاذ هو : مخالفة الراوي للواقع الحديثي ، أو تفرده بما لا أصل له ، كما سيأتي في الموضع الثاني من هذه الوحدة .(1/20)
الواقع العملي
وأما الواقع العملي فأقصد به العمل المشهور عن الشيخ ، أو فتواه ، أو عقيدته ، أو ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن الصحابة في الجانب العملي(1) .
ولإيضاح هذا الأمر أذكر هنا مثالاً واحداً ، روي عن أبي هريرة أن رجلاً قال : يا رسول الله ما الطهور بالخفين ؟ قال : للمقيم يوم وليلة وللمسافر ثلاثة أيام ولياليهن(2) .
يقول الإمام مسلم : "هذه الرواية في المسح عن أبي هريرة ليست بمحفوظة ، وذلك أن أبا هريرة لم يحفظ المسح عن النبي صلى الله عليه وسلم لثبوت الرواية عنه بإنكاره المسح على الخفين ، ولو كان قد حفظ المسح عن النبي صلى الله عليه وسلم كان أجدر الناس وأولاهم للزومه والتدين به ، فلما أنكره الذي في الخبر من قوله : ما أمرنا الله أن نمسح على جلود البقر والغنم ، والقول الآخر : ما أبالي على ظهر حمار مسحت أو على خفي ، بان ذلك أن غير حافظ المسح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن من أسند ذلك عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم واهي الرواية ، أخطأ فيه إما سهواً أو تعمداً"(3) .
لقد رسم الإمام مسلم من خلال هذه الفقرة منهج نقده لحديث أبي هريرة في المسح ، وأن ه أعل هذا الحديث لكونه مخالفاً لما ثبت عنه من إنكاره مسح الخفين .
وهذه صورة مخالفة الحديث الواقع العملي ، ومراعاة ذلك عند التصحيح.
فإذا كان الحديث الذي يروى عن شخص مخالفاً لما ثبت عنه ، أو لم يكن له أصل عنده ، فإنه يتوقف عن قبوله كل من يعرف ذلك ، دون أن يغتر بظاهر سند الحديث ولا بشخصية رواية(4) .
__________
(1) لعلماء الأصول في ذلك قاعدة كلية لمعالجة مسألة : "إذا عمل الراوي بخلاف حديثه الذي رواه" ، وبموجب هذه القاعدة يبقى الحديث ثابتاً عندهم ، وأنهم لا يحكمون بضعفه لاحتمال كون الراوي قد ترك العمل به لوجود دليل أقوى ، أو للاحتياط ، أو لوجود إشكال عنده ، أو لأنه يرى الحديث منسوخاً .
لا يكون هذا الموقف مسلماً إلا إذا ثبت الحديث عمن أضيف إليه ، وأما قبل ثبوته عنه ، ولمجرد كون الحديث قد أضيف إليه من قبل ثقة أو غيره فلا ، ولذلك فتعميم هذه القاعدة حتى في الحال التي لم يثبت فيها الحديث عن الراوي يكون غير منهجي ، وإن عمل الراوي بخلاف الحديث قد يشكل لدى النقاد قرينة قوية على خطأ رواية ذلك الحديث عنه ، لا سيما إذا كان الثقات قد رووا هذا الحديث عن راو آخر ، كما في المثال .
يمكن التفريق بين الثابت وغيره في مثل هذه المناسبة بشهر الرواية وغرابتها ، ففي حال ثبوت الحديث عن الراوي يكون مشهوراً بين الثقات ، وأما في غير ذلك فيكون الحديث غريباًُ عن الراوي ، لا يعرفه الثقات . والله أعلم .
(2) الإمام مسلم في التمييز ص209 ، وابن الجوزي في التحقيق في أحاديث الخلاف 1/209، وابن عدي في الكامل 5/64 .
(3) التميز ص 208-209 .
(4) وبقدر ما يتوفر لدى الناقد من المعرفة والفهم والذوق الحديثي يحس عن يقين بأن ذلك الحديث خطأ، أو يغلب عليه الظن بذلك .
ولا شك أن هذه الأمور تكون في غاية من الدقة والغموض ، ولا يقف على حقيقتها إلا الناقد الجهيذ، وليس لغيره إلا التسليم له والقبول ، لا سيما فيما يخص التمييز بين حالتي التفرد : التفرد بما له أصل والتفرد بما ليس له أصل .
وبقدر مطابقة الراوي للواقع ومخالفته له وتفرده بما له أصل أو بما ليس له أصل ، يحدد المحدثون درجات ذلك الراوي في الحفظ والضبط والإتقان عموماً ، ومراتبه في سلم الجرح والتعديل بدقة بالغة.
وذلك أن الراوي إن كان صادقاً فيما رواه عن شيخه ، ومنصفاً في نقله ، فإن بذلك يصبح مطابقاً لغيره من الثقات ، أو منفرداً بما له أصل ثابت عن ذلك المصدر . =(1/21)
نماذج توضيحية لتصحيح النقاد أحادي الضعفاء(1)
ولعل من الأفضل أن أسوق هنا بعض الأمثلة ليكون الموضوع واضحاً وجلياً .
أخرج الإمام البخاري في صحيحه عن فضيل بن سليمان جملة من الأحاديث على سبيل الاحتجاج والتصحيح ، وفضيل بن سليمان ليس من الثقات ، بل ممن ضعف لسوء حفظه ، ولذلك قال الحافظ ابن حجر ملخصاً آراء النقاد حول مرتبته : (صدوق له خطأ كثير) .
منها : ما أخرجه البخاري عن فضيل بن سليمان عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالو : إن قوماً يأتونا باللحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا ؟ قال: سموا الله وكلوه(2) ، وهو ما وافقه أبو خالد سليمان بن حيال الأحمر ومحمد بن عبد الرحمن وعبد العزيز بن محمد وأسامة بن حفص(3) .
كما أخرج البخاري في صحيحه ما صح من أحاديث إسماعيل بن أبي أويس مع أنه قد أتفق النقاد على تضعيفه ، على وجه الاعتماد والتصحيح ، وليس على وجه الاستئناس والاستشهاد .
وقد جمع الحافظ ابن حجر في مقدمة شرح لصحيح البخاري أسماء الضعفاء والمتكلم فيهم ممن أخرج لهم الإمام البخاري في صحيحه ، سواء على سبيل الاعتماد والاحتجاج ، أو على سبيل الاستئناس والاستشهاد ، وعقد لذلك فصلاً خاصاً .
وكذلك الإمام مسلم في صحيحه لم يختلف أسلوبه في ذلك عن أسلوب الإمام البخاري ، فقد أخرج مسلم على وجه التصحيح ما صح من أحاديث سويد بن سعيد واسباط بن نصر ، وقطن بن نسير ، وأحمد بن عيسى المصري ، وهم متكلم فيهم لسوء الحفظ(4) .
ومن أحاديث الضعفاء التي نصل الإمام الترمذي على صحتها ما رواه شريك عن المقدام بن شريح عن أبيه عن عائشة قال : "من حدثكم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبول قائماً فلا تصدقوه ، ما كان يبول إلا قاعداً" .
وقال الترمذي : " حديث عائشة أحسن شيء في الباب وأصح"(5) .
وحديث شريك هذا مما تابعه فيه سفيان الثوري (6).
وشريك مشهور بالضعف ، ومع ذلك صحح حديثه لإمام الترمذي بقوله : (حديث عائشة أحسن وأصح) (7).
وفي هذه النماذج ما يؤكد أن ما رواه الضعيف إذا وافق أحاديث الثقات أو الواقع الحديثي يعد صحيحاً على منهج نقاد الحديث ، لكونه قد حفظه بإتقان وضبط ، وبالتالي فلا داعي لإخراج هذا النوع من الأحاديث الصحيحة من حد الصحيح ، ولا لذكر القيود فيه ليتحرز بها من الصدوق والضعيف(8) .
ولعله يرى عدم اشتراط نفي الشذوذ في شرط الصحيح لأنه هناك لم يصرح عنه نفسه باختيار شيء ، بل اقتصر على نقل ما عند المحدثين " . (النكت 2/653) .
وهنا قد أكد الحافظ أن نفي الشذوذ من شروط الصحيح عند المحدثين ، دون غيرهم .
ثم إن الحافظ ابن حجر - في أثناء رده على الإمام الدار قطني فيما كان يعترض على الإمام البخاري بأحاديث أختلف الرواه فيها - لم يكن يدعي أن الشذوذ ليس قادحاً في صحة الحديث ، وأن انتفاءه في الحديث ليس شرطاً في ذلك لدى أصحاب الصحاح .
وفيما يبدو أن هذا الكلام لم يصدر من الحافظ ابن حجر على سبيل التعقيد والتأصيل ، وإنما هو مجرد نزاع في مسألة الشاذ ، كما عبر عن ذلك السخاوي بقوله : "إن الحافظ قد مال إلى النزاع" ، وكيف لا! وهو الذي حرر مسألة الشذوذ ، مؤكداً على قدحها في صحة الحديث .
على أن كتب العلل والسنن والمسانيد تزخر بأحاديث الثقات التي أعلها النقاد بالمخالفة والتفرد ، وليس من الإنصاف العلمي غض الطرف عن هذا الواقع الملموس ليعول على قول الحافظ الذي يعد مجرد نزاع في مسألة الشذوذ الذي يكون عبارة عن المخالفة : هل يشترط في الصحيح خلوه من شذوذ أو لا ، دون أن يؤصل ذل كفاعدة .
__________
(1) وأما إذا كذب الراوي في الرواية ، أو اخطأ فيها فيسفر ذلك عن تصادمه بالواقع ، أو تفرده بما لا أصل له في أحاديث شيخه . وهذا هو شأن الكاذبين والمخطئين والواهمين في نقل الأخبار ، ولا يحس بغلطهم وكذبهم إلا من له معرفة سابقة حول ملابسات موضوع تلك الأخبار. كما يقول المثل : "أهل مكة أدرى بشعابها" .
( ) انظر كتاب (منهج البخاري في التصحيح والضعيف من خلال الجامع الصحيح) للأخ أبي بكر الكافي جزاه الله خير الجزاء ص149 - 158 .
(2) كتاب البيوع ، باب من لم ير الوساوس ونحوها من الشبهات 4/345 .
(3) أنظر البخاري ، كتاب التوحيد ، باب السؤال بأسماء الله .. 13/391 ، وكتاب الذبائح والصيد ، باب ذبيحة الأعراب ونحوهم 9/550 .
(4) صيانة صحيح مسلم ص94 - 98 .
(5) سنن الترمذي 1/17 (تحقيق أحمد شاكر) .
(6) رواه الحاكم في مستدرك 1/189 من طرق متعددة عن سفيان .
(7) واعترض على الإمام الترمذي في تصحيحه شراح سنن الترمذي وسنن النسائي وغيرهم ، بحجة أن شريكاً ضعيف ، وقال بعضهم : إن قوله : حديث عائشة أصح وأحسن لا يدل على صحته، ولذلك قال ابن القطان : "إنه لا يقال فيه صحيح ، وتساهل الحاكم في التصحيح معروف" .
أقول : لا مجال لهذا الاعتراض على الترمذي فإنه وغيره من الأئمة النقاد ، يصححون من أحاديث الضعفاء ما تأكدوا على أنهم قد حفظوه بضبط وإتقاتن ، كما سبق .
وأما مصطلح (هذا أصح بشيء في الباب وأحسن) فيفيد الصحة عنده ، بخلاف قوله : (أحسن شيء في هذا الباب حديث فلان) أو (أصح شيء في هذا الباب حديث فلان) ، إذ لا يفيد إلا مطلق الترجيح من بين المرويات التي وردت في الباب ، وهذا ما تبين لي بالاستقرار ، حيث يستخدم الإمام الترمذي في سننه مصطلح (حديث فلان أحسن وأصح) فيما صححها البخاري ومسلم .
وعليه فإن هذا المصطلح المركب يكون أكد في إفادة الصحة من قوله المعتاد : (حسن صحيح) . والله أعلم .
(8) هنا لفتة علمية مهمة لابد من التلويح إليها في هذه المناسبة ، وهي :
أن بعض المعاصرين يصححون الأحاديث بناءً على ظاهر سندها ، حتى وإن أعلها نقاد الحديث بالتفرد أو المخالفة . وربما يستدلون في ذلك بقول الحافظ ابن حجر الذي ورد في تدريب الراوي (1/65) :
" وهو (يعني أن يشترط خلو الحديث من شذوذ) مشكل ، لأن الإسناد إذا كان متصلاً وكان رواته كلهم عدولاً ضابطين ، فقد انتفت عنه العلل الظاهرة ، ثم إذا انتفى كونه معلولاً فما المانع من الحكم بصحته ؟ فمجرد مخالفة أحد رواته لمن هو أوثق منه أو أكثر عدداً لا يستلزم الضعف ، بل يكون من باب صحيح أو أصح" .
ثم قال : "فإن قيل " يلزم أن يسمى الحديث صحيحاً ولا يعمل به ، قلت : لا مانع من ذلك ، إذ لس كل صحيح يعمل به ، بدليل المنسوخ" أهـ.
وإن كان هذا النص يفيد بظاهره أن ثقة الراوي واتصال السند يكفيان في الحكم على الحديث بصحته، وأن خلوه من شذوذ وعلة ليس من شروط الصحيح ، غير أن الحافظ نفسه ينقض هذه القاعدة جملة وتفصيلاً ، ولذا فإن هذا النص الذي يعد غريباً بالنسبة إلى الحافظ ابن حجر لا يصح اعتماده ، دون عرضه على نصوصه وأعماله التي تدل بوضوح على أنه يعتبر خلو الحديث من شذوذ وعلة من أهم شروط الصحيح .
وإليك بعض هذا النصوص .
يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله :
"صحة الحديث وحسنه ليس تابعاً لحال الراوي فقط ، بل لأمور تنضم إلى ذلك من المتابعات والشواهد وعدم الشذوذ والنكارة" . (النكت 1/404) .
وقال أيضاً : "وهذا (يعني قبول زيادة الثقة مطلقاً) قول جماعة من أئمة الفقه والأصول ، وجرى على هذا الشيخ محيي الذين النووي في مصنفاته . وفيه نظر كثير ؛ لأنه يرد عليهم الحديث الذي يتحد مخرجه فيرويه جماعة من الحفاظ الأثبات على وجه ويرويه ثقة دونهم في الضبط والإتقان على وجه يشتمل على زيادة تخالف ما رووه إما في المتن وإما في الإسناد فكيف تقبل زيادته وقد خالفه من لا يغفل مثلهم عنها لحفظهم أو لكثرتهم . ولا سيما إن كان شيخهم ممن يجمع حديثه ويعني بمروياته ، كالزهري وأضرابه ، بحيث يقال : إنه لو رواها لسمعها منه حفاظ أصحابه ، ولو سمعوها لرووها ولما تطابقوا على تركها ، والذي يغلب على الظن في هذا ,أمثله تغليط راوي الزيادة .
" وقد نص الشافعي في (الأم) على نحو هذا فقال في زيادة ملك ومن تابعه في حديث : "فقد عتق منه ما عتق) : إنما يغلط الرجل بخلاف من هو أحفظ منه ، أو بأن يأتي بشيء يشركه فيه من لم يحفظه عنه، وهم عدد وهو فرد ، فأشار إلى أن الزيادة متى تضمنت مخالفة الأحفظ أو الأكثر عدداً أنها تكون مردودة . انتهى (النكت 2/688) .
= وقال أيضاً في رده على الدار القطني :
" وأما من حيث التفصيل فقد قررنا أن مدار الحديث الصحيح على الاتصال وإتقان الرجال وعدم العلل" . (هدي الساري مقدمة فتح الباري ص1/11) .
وقال أيضاً :
" وأما المخالفة فينشأ عنها الشذوذ والنكارة فإذا روى الضابط والصدوق شيئاً فرواه من هو أحفظ منه أو أكثر عدداً بخلاف ما روى بحيث يتعذر الجمع على قواعد المحدثين فهذا شاذ ، وقد تشتد المخالفة أو يضعف الحفظ فيحكم على ما يخالف فيه بكونه منكراً ، وهذا ليس في الصحيح منه إلا نزر يسير قد بين في الفصل الذي قبله بحمد الله تعالى . (هدي الساري 1/384 - 385) .
هذا ، والحافظ ابن حجر قد صرح بأن سلامة الحديث من الشذوذ والعلة شرط أساسي في الصحيح، حيث قال في تعريف الصحيح :
" خبر الآحاد بنقل عدل تام الضبط متصل السند غير معلل ولا شاذ هو الصحيح لذاته" . (شرح النخبة ص54- تحقيق نور الدين عتر ط2 . ، سنة 1414هـ الصباح ، دمشق) .
وقال أيضاً مستدركاً على تعريف ابن الصلاح :
"وينبغي أن يزاد في التعريف بالصحيح ، فيقال : هو الحديث الذي يتصل إسناده بنقل العدل التام الضبط أو القاصر عنه ، إذا اعتضد ، عن مثله إلى منتهاه ، ولا يكون شاذاً ولا معللاً ". (النكت 1/417) .
وقال تعليقاً على ابن الصلاح في مبحث تعارض الوصل والإرسال .
" وهنا شيء يتعين التنبيه عليه ، وهو : أنهم شرطوا في الصحيح أن لا يكون شاذاً . وفسروا الشاذ بأنه ما رواه الثقة فخالفه من هو أضبط منه أو أكثر عدداً ، ثم قالوا : تقبل الزيادة من الثقة مطلقاً فلو اتفق أن يكون من أرس لأكثر عدداً أو ضبط حفظاً أو كتاباً على من وصل ايقبلونه أم لا ؟ أم هل يسمونه شاذاً أم لا ؟ لابد من الإتيان بالفرق أو الاعتراف بالتناقض" . (النكت 2/612).
ثم قال الحافظ في مبحث الشاذ : "وعلى المصنف " (يعني ابن الصلاح) إشكال أشد منه وذلك أنه يشترط في الصحيح أن لا يكون شاذاً كما تقدم ، ويقول : إنه لو تعارض الوصل والإرسال قدم الوصول مطلقاً سواء كان رواه الإرسال أكثر أو أقل حفظاً أم لا ، ويختار في تفسر الشاذ أنه الذي يخالف روايه من هو أرجح منه . وإذا كان راوي الإرسال أحفظ ممن روى الوصل مع اشتراكهما في الثقة فقد ثبت كون الوصل شاذاً فكيف يحكم له بالصحة مع شرطه في الصحة أن لا يكون شاذاً؟".
وتابع الحافظ قائلاً : "هذا في غاية الإشكال ، ويمكن أن يجاب عنه بأن اشتراط نفي الشذوذ في شرط الصحة إنما يقوله المحدثون ، وهم القائلون بترجيح رواية الأحفظ إذا تعارض الوصل والإرسال ، والفقهاء وأهل الأصول لا يقولون بذلك ، والمصنف قد صرح باختيار ترجيح الوصل على الإرسال=(1/22)
هذا ويمكن الجمع بين ذلك القول وبين هذه النصوص ، بأن القول السابق الذي هو مصدر شبه لدى بعض المعاصرين إنما هو في حالة عدم تبين خطأ المخالف من خلال القرائن ، إذ المخالفة لا تعتبر بحد ذاتها شاذة ، وقد أوضح ابن الصلاح وغيره من الأئمة ، ومنهم الحافظ ابن حجر ، في نوع العلة بأن المخالفة أو التفرد التي تصحبها قرائن تنبه العارف بهذا الشأن أنه خطأ ووهم ، هي التي تعد علة، وليس مجرد المخالفة ، ولعل هذه المخالفة هي التي تكون موضوع تساؤل الحافظ ابن حجر ، فيما أرى. (والله تعالى أعلم وأجل) .(1/23)
تلخيص الفكرة المنهجية حول مصطلح الصحيح وأبعاده النقدية
بعد هذه الجولة يكون من المفيد أن نلخص ما سبق من القضايا المنهجية ، وذلك كما يلي:
إذا توفرت في الحديث عدالة رواية واتصال سنده ، وسلم من شذوذ وعلة يعد صحيحاً ، وإن كان رواية ضعيفاً .
منهج المحدثين في التصحيح هو التأكد من موافقة الحديث للواقع ، أو تفرد الراوي بما له أصل ، وذلك من خلال القرائن المحيطة به .
الجرح والتعديل ليس هو أساس التصحيح والتضعيف عند المحدثين النقاد كما يزعم كثير من الناس اليوم ، بل هو نتيجة تمخض عنها نقدهم للأحاديث تصحيحاً وتضعيفاً .
معنى سلامة الحديث من شذوذ وعلة ، هو أن لا يكون مخالفاً للواقع ، ولا غريباً ليس له أصل .
تكون مهمة التصحيح من اختصاص المحدثين النقاد الذين يعرفون القرائن التي تحيط برواية الأحاديث ، وملابساتها ، دون غيرهم ، وإن كانوا من كبار الأئمة في مجالات أخرى ؛ كالفقه والتاريخ والتفسير وغير ذلك من العلوم الشرعية .
قد تكون ثقة الراوي معولاً عليها في الحكم على الحديث ، وذلك فقط حين يصعب على الناقد معرفة ا لواقع المتعلق بالحديث الذي يريد تصحيحه . وعلى هذا المحمل يحمل من نصوص بعض النقاد ما يدل ظاهره على إطلاق الحكم بصحة ما رواه الثقة عن الثقة ، وحجته . وسيأتي قريباً هذا الموضوع بمزيد من التفصيل إن شاء الله تعالى.
قول الترمذي (حسن صحيح) لا يختلف في المعنى عن قول النقاد (صحيح) .
ما رواه الضعيف قد يكون صحيحاً ، كما قد يكون ما رواه الثقة ضعيفاً ، ومن كانت رتبه متوسطة بينهما - كالصدوق مثلاً - يكون أولى بذلك كله . وبقدر ما يكون للراوي من تفوق علمي يقل وهمه وشذوذه ، وأما أن يكون معصوماً من الأخطاء والشذوذ فلا .
تأسيس الفكرة حول هذا الواقع المهم يجعل الباحث وقافاً عند أقوال النقاد ، ويمنعه من استعجاله بالحكم على الحديث تصحيحاً أو تضعيفاً أو تحسيناً وفق مراتب رواته في سلم الجرح والتعديل .
إذا اتفق النقاد على تصحيح حديث أو تضعيفه لا ينبغي لنا اعتراضه بل يتعين قبوله، لأن صحة الحديث ليست تابعة لحال الراوي فقط بل يرجع الأمر فيها إلى شعور الناقد بوقوع خطأ فيه من راويه أو عدمه . وهذا متوقف على خلفية علمية حديثة وتاريخية كما سبق .
إن عملية التصحيح مهمة علمية يحتاج فيها الناقد إلى خلفية علمية واسعة تؤهله لمعرفة الواقع الحديثي والعملي ، ولا يستطيع القيام بها عابر سبيل في مصطلحات علوم الحديث . وبدون المعرفة الحديثية لا ينبغي لأحد تصحيح الأحاديث ولا تضعيفها . حتى الحكم على الأسانيد اتصالاً وانقطاعاً وتدليساً وإرسالاً(1) .
ولكي يتم تأسيس فكرة منهجية واضحة حول منهج المحدثين في تصحيح الأحاديث يحسن بنا أن ننظر في تعريف الصحيح الذي استقرت عليه كتب المصطلح ، وربطه مع منهج نقاد الحديث في التصحيح .
ولا شك أن هذه المقارنة تكون أنفع وأجدى لوقف الطالب على حقيقة ما تحويه المصطلحات وتعريفاتها من القضايا الجوهرية إن شاء الله تعالى .
__________
(1) ولذا قال البيهقي : " وهذا النوع من معرفة صحيح الحديث من سقيمه لا يعرف بعدالة الرواة وجرهم وإنما يعرف بكثرة السماع ومجالسة أهل العلم بالحديث ومذاكرتهم والنظر في كتبهم والوقوف على روايتهم حتى إذا شذ منها حديث عرفه" . (معرفة السنن والآثار 1/144) .
وقال الحاكم : "إن الصحيح لا يعرف بروايته فقط ، وإنما يعرف بالفهم والحفظ وكثرة السماع، وليس لهذا النوع من العلم عون أكثر من مذاكرة أهل الفهم والمعرفة ليظهر ما يخفى من علة الحديث" (معرفة علوم الحديث ، ص59) .
ولهذا قال الحافظ ابن حجر : " ... صحة الحديث وحسنه ليس تابعاً لحال الراوي فقط ، بل لأمور تنضم إلى ذلك من المتابعات والشواهد وعدم الشذوذ والنكارة" .(1/24)
الصحيح في كتب المصطلح
مقدمة ابن الصلاح وما بعدها
ما سبق اعتماده في التصحيح من العناصر الثلاثة يشمله تعريف الصحي الذي ذكره ابن الصالح رحمه الله تعالى في مقدمته ، وهو :
" المسند المتصل بنقل العدل الضابط عن العدل الضابط إلى منتهاه ولا يكون شاذاً ولا معلولاً" .
وهذا التعريف لا يشمل إلا الحديث المرفوع ، إذ جاء مقيداً بقوله : (المسند المتصل) يعني المرفوع .
ولذا فإن اللاحقين ، وإن اتفقوا مع ابن الصلاح في اصل هذا التعريف ، غير أنهم جعلوا التعريف شاملاً للمرفوع والموقف ، وأذكر هنا بعض التعريفات على سبيل المثال .
يقول الإمام النووي :
" الصحيح ما اتصل سنده بالعدول الضابطين من غير شذوذ ولا علة"(1) .
ويقول الحافظ ابن حجر :
" خبر الآحاد بنقل عدم تام الضبط متصل السند غير معلل ولا شاذ هو الصحيح لذاته"(2) .
فهذا التعريف كما ترى شاملة للمرفوع وغيره ، حيث لم يقيدوه بكونه مسنداً . وهذه ملحوظة فنية . وإما الجانب الذي يهمنا هنا فهو أن هذه التعريفات تضمنت أربعة عناصر، وهي:
أن يكون الراوي عدلاً .
أن يكون ضابطاً متقناً .
أن يتصل الإسناد .
أن يكون حديثه خالياً من الشذوذ والعلة(3) .
والذي نلحظه في هذه التعريفات هو ذكر قيد زائد على ما سبق شرحه ، وهو أن يكون الرواة معروفي الضبط والإتقان .
وبهذا القيد يخرج من حد الصحيح ما رواه الضعيف ، وكذا ما رواه الصدوق الذي يكون دون مرتبة الثقة ، وعليه فلا تعد أحاديثهما صحيحة ، حتى وإن توبعت من قبل الثقات ، وتيقن صوابها ، وذلك لفقدان شرط من شروط الصحيح ، وهو أن يكون الراوي ضابطاً(4) .
__________
(1) تدريب الراوي 1/36 .
(2) المقنع في علوم الحديث 1/14 .
(3) شرح النخبة ص54 ، (تحقيق نور الدين عتر ، ط2 ، سنة 1414هـ ، مطبعة الصباح ، دمشق).
(4) تعقب الحافظ ابن حجر على ابن الصلاح بن الإشكال ذاته : إذ قال :
"وصف الحديث بالصحة إذا قصر عن رتبة الصحيح ، وكان على شرط الحسن إذا روي من وجه آخر لا يدخ لفي التعريف الذي عرف به الصحيح أولاً ، فإما أن يزيد في حد الصحيح ما يعغطي أن هذا أيضاً يسمى صحيحاً ، وإما أن لا يسمى هذا صحيحاً ، والحق أنه من طريق النظر أنه يسمى صحيحاً ، وإما أن لا يسمى هذا صحيحاً ، والحق أنه من طريق النظر أنه يسمى صحيحاً ، وينبغي أن يزداد في التعريف بالصحيح ، فيقال : هو الحديث الذي يتصل إسناده بنقل العدل التام الضبط أو القاصر عنه ، إذا اعتضد ، عن مثله إلى منتهاه ، ولا يكون شاذاًَ ولا معللاً . وإنما قلت ذلك ، لأنني أعتبرت كثيراً من أحاديث الصحيحين فوجدتها لا يتم الحكم عليها بالصحة إلا بذلك". (النكت 1/417) .
وهذا الذي قاله الحافظ ابن حجر هو الحق الذي يتأيد بعمل النقاد عموماً ، وبصنيع الإمامين : البخاري ومسلم ، في صحيحيهما خصوصاً ؛ إذ لا فرق عندهم في التصحيح بين حديث الثقة والصدوق والضعيف إذا أصاب كل منهم فيما رواه ، غير أن الفرق بينهم هو تفاوت نسبة الصواب والخطأ في المرويات . فنسبة الخطأ في أحاديث الثقة تكون أقل بالنسبة إلى الصواب ، وأما الصدوق فتكون نسبة خطئه أعلى من الثقة ، وأما الضعيف فنسبة خطته تكون أكثر بالنسبة إلى صوابه ، ولا تقدر هذه النسبة إلا بقدر مروياته .
هذا إذا جعلنا قول الحافظ : (أو القاصر عنه) شاملاً للصدوق غير المتروك ، وأما إذا جعلناه خاصاً بالصدوق - كما هو ظاهر كلامه وصنيعه في جعل حديث الضعيف حسناً لغيره إذا تقوى - فلا يكون تعريفه جامعاً لما يصح من أحاديث الضعيف . وسيأتي ما يعزز هذه الفكرة من الأمثلة الحديثية من الصحيحين . إن شاء الله تعالى .(1/25)
كيف يوجه قول ابن الصلاح
ليكون تعريف ابن الصلاح للصحيح خالياً من الاعتراض - وهو أنه لم يكن جامعاً لنوعيه، وهما الصحيح لذاته ، والصحيح لغيره - يمكن توجيهه بأحد الاعتبارين ، وهما :
أ- أن التعريف الذي ذكره ابن الصلاح إنما قصد به الصحيح لذاته ، دون النوع الثاني ، وبالتالي يكون ضبط الراوي وإتقانه قيداً مهماً في تعريف (الصحيح لذاته) ، كما جاء تعريف الحافظ ابن حجر مقيداً بذلك ، وهذا التوجيه واضح وجلي .
ب- أن التعريف جامع لقسمي الصحيح : صحيح لذاته وصحيح لغيره ، لكن تكون ثقة الراوي شرطاً أغلبياً للصحيح ، وليس شرطاً احترازياً يحترز به عن حديث الصدوق والضعيف.
وتوضيح هذا التوجيه أنك إذا تتبعت كتب الصحاح وما صححه النقاد عموماً من الأحاديث وجدت أكثرها من مرويات الثقات ، كما تجد أكثر مرويات الثقة صحيحة ، ولولا ذلك لكان راويها ضعيفاً ، بينما تكون أغلب الأحاديث الضعيفة من مرويات الضعفاء ، كما تكون أكثر مرويات الضعيف ضعيفة أيضاً ، ولولا أن الأمر كذلك ما كان راويها ضعيفاً، بل يكون من الثقات ، وبناءً على هذا الواقع لعل ابن الصلاح اضاف في التعريف أن يكون الراوي ضابطاً .
ولو كان هذا التوجيه مطابقاً لما قصده ابن الصلاح من ذكر هذا القيد في تعريفه للصحيح لكان التعريف سليماً من الاعتراض السابق ذكره ، ومنسجماً مع عمل النقاد القدامى عموماً ، إذ يطلقون الصحة على ما قد حفظه الضعيف وأتقنه من الأحاديث(1) .
ثانياً : ما يتعلق باتصال السند .
أما الأمر الأول فيرجع إلى الفقرات من 1 إلى 4 .
ولا يخهد ش في ذلك قوله في الفقرة الرابعة : " ويحدث عن النبي ما يحدث الثقات خلافه عن النبي " لأنه يرجع أيضاً إلى حال الراوي ، وليس إلى حديث معين بذاته ، وإن كان هذا قد يفهم من ظاهر هذا المقطع.
وبين هذين الأمرين فرق واضح ؛ إذ الأول وصف عام للراوي ، والثاني وصف خاص للحديث ، ولا تلازم بينهما .
توضيح ذلك أن مفاد هذا المقطع هو :
أن يتعود الراوي على أن لا يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يخالف حديث الثقات عن النبي صلى ا لله عليه وسلم . يعني ذلك أن يكون نادراً الغلط في مروياته عموماً ، وذلك ليثق الناقد بما يتفرد بروايته ، وتطمئن نفسه إلى صوابه في حالة ما إذا لم يتوافر لديه من القرائن والمعلومات ما يدل على وهمه أو صوابه ، حيث تشكل الحالة العامة للراوي حينئذ أصلاً يرجع إليه .
ولذا يكون الأقرب إلى الصواب أن يرجع مفاد هذا المقطع إلى حال الراوي العام ، وليس إلى حديث معين بذاته ، وذلك لمطابقته مع سياق النص ؛ إذا كانت الجمل :
" ويحدث عن النبي ما يحدث الثقات خلافه عن النبي " معطوفة على كلمة (أن يكون مدلساً) السابق ذكرها، فعلى هذا يكون المعنى : برياً من أن يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يحدث الثقات خلافه عن النبي" ، وهذا وصف عام للراوي ، كما في الجملة السابقة في التدليس سواء بسواء .
ثم إن هذه الجملة أفادت بذاتها أن المقصود هو الحال العام للراوي ، حيث أن لفظه (ما يحدث الثقات) مبهمة تفيد العموم ، يعني به أي حدث كان يحدث به ، ثم قال : (ويكون هكذا من فوقه ممن حدثه..) الأمر الذي يعطي للقارئ مزيداً من التوضيح حول الموضوع الذي نحن بصدده ، وهو أن ما تضمنته الفقرات السابقة كله راجع إلى حال الراوي عموماً .
وإذا كان مما لابد من أن يكون الراوي ممن لا يحدث مخالفاً لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فمن باب أولى أن يكون الحديث الذي رواه يجب أن لا يخالف ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من السنة ، ليحتج به ، ويعمل ؛ فإنه في حالة مخالفته له لا يعمل به بدون شك .
وبعد هذا يمكن التخليص بأن جميع هذه الفقرات من رقم 1 إلى 4 ترتكز على تقرير حال الراوي من حيث عدالته وضبطه وفهمه وعنايته بالحديث وصراحته في الراوية .
وأما الأمر الثاني - وهو اتصال السند - فيظهر جلياً من الفقرة الخامسة .
وعلى هذا فكون الحديث سليماً من شذوذ وعلة لم يتبلور في هذا النص ، كشرط من شروط الصحيح ، بل يكفي عند الإمام الشافعي في الاحتجاج بالخبر أن يكون روايه ثقة عالماً ، أو ثقة صاحب كتاب صحيح ، وأن يكون سنده متصلاً .
هل قول الإمام الشافعي تعريف لمصطلح "الصحيح؟ ؟
ومن الجدير بالذكر أنه الإمام الشافعي رحمه الله تعالى لم يذكر ذلك ، كتعريف عام لمصطلح (الصحيح) ، بل كان شرحه متصلاً بأقل ما تقوم به الحجة من الأحاديث ، ويثبت به خبر الواحد عن الواحد ، وذلك في سبيل دفاعه عن موقف أهل السنة والجماعة تجاه خبر الآحاد من السنة. ولذلك جاء كلامه في نوع خاص من الأخبار ؛ حيث كان ذلك محمل خلاف جوهري بين أهل السنة والجماعة وبين أهل البدع ممن يشترط العدد من الرواة ليكون الحديث حجة لديهم .
وإذا كان الإمام الشافعي في صدد تحرير مسألة النزاع بين أهل السنة والجماعة وبين غيرهم - وهي متى يجب العمل بخبر الواحد عن الواحد الذي لم يحتف به ما يدل على غلطه أو صوابه من القرائن والملابسات ، وهل يكون العمل به مطلقاً أم مقيداً بشروط معينة - فإن ابن الصلاح قد عالج موضوعاً أعم من ذلك ؛ فوضع تعريفاً عاماً للحديث الصحيح ، سواء أكان الحديث مشهوراً أم لا، وسواء احتفت به القرائن أو لا .
وبالتالي فالذي نلحظه في تعريف ابن الصلاح من بعض الاستدراكات التي سيأتي ذكرها، لا صلة له بفحوى نص الإمام الشافعي رحمه الله تعالى حيث كان مقيداً بأقل ما يحتج به خبر الواحد عن الواحد. وكون الراوي ثقة يعد شرطاً مهماً في الاحتجاج والعمل وذلك ليطمئن بحالة العام شعور الناقد إلى أن هذا الراوي لم يكن مخطئاً فيما رواه ، مع أن الباطن لا يعلمه إلا الله .
وهذا كله فيما يتصل بتحليل نص الإمام الشافعي رحمه الله تعالى .
وأما بقية الأئمة كالحميدي والذهلي والحاكم والخطيب فلم يتطرقوا أيضاً في نصوصهم لذكر سلامة الحديث من شذوذ وعلة ، كما تعرض له ابن الصلاح ، إلا ما تضمنه نص الحميدي والحاكم من إشارة لطيفة إلى ذلك القيد ، كما سيأتي تحليلها ، إن شاء الله تعالى . وإليك نصوصهم مع التحليل.
ثانياً : نص عبد الله بن الزبير الحميدي شيخ البخاري .
قال عبد الله بن الزبير الحميدي :
" فإن قال قائل : فما الحديث الذي يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويلزمنا الحجة به؟ قلت : هو أن يكون الحديث ثابتاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، متصلاً غير مقطوع ، معروف بالرجال ، أو يكون حديثاً متصلاً ، حدثنيه ثقة معروف ، عن رجل جهلته ، وعرفه الذي حثني عنه ، فيكون ثابتاً ، يعرف من حدثنيه عنه ، حتى يصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ...
ثم قال : فهذا الظاهر الذي يحكم به ، والباطن ما غاب عنا من وهم المحدث وكذبه ونسيانه وإداخله بينه وبين من حدث عنه رجلاً أو أكثر ، وما أشبه ذلك مما يمكن أن يكون ذلك على خلاف ما قال ، فلا نكلف علمه إلا بشيء ظهر لنا فلا يسعنا حينئذ فبوله لما ظهر لنا منه " (الكافية ص42-52). =
وإن كان هذا النص يفيد بظاهره أن مدار الاحتجاج هو اتصال السند وثقة الراوي ، كما سبق عن الإمام الشافعي فإن الجملة الأخيرة - وهي قوله : "فلا نكلف علمه إلا بشيء ظهر لنا فلا يسعنا حينئذ قبوله لما ظهر لنا منه" - تضمنت إشارة واضحة إلى أن ما رواه الثقة عن الثقة وكان سنده متصلاً ، لا ينبغي الإطلاق عليه بأنه حجة ، بل يجب الاستثناء من ذلك ما يظهر للنقاد شذوذه وعلته.
وبهذا الاستثناء وحده يتم التطابق بين فحوى النصوص التي يوهم ظاهرها إطلاق الاحتجاج بخبر الواحد عن الواحد ، وبين طبيعة التطبيق العملي لدى أصحابها ؛ حيث تدل على أن ذلك ليس مطلقاً، بل كان الاحتجاج مقيداً بما أشار إليه الحميدي آنفاً . وهذا بعينه سبق بيانه في أثناء تحليل نص الإمام الشافعي .
والذي يفهم من خلال المقارنة بين هذه النصوص وبين عملهم التطبيقي أنهم لم يقصدوا بهذه النصوص سوى معالجة قضية تتصل بموقف أهل السنة تجاه خبر الآحاد ، وهي ما مدى وجوب العمل بما رواه الواحد عن الواحد ، في حالة ما إذا لم يكن محتفاً به شيء من القرائن التي تدل على صوابه أو غلطه، وما هي معايير الاحتجاج بهذا النوع من السنة .
__________
(1) يبدو من خلال تتبع نصوص الإمام ابن الصالح الآتية في مبحث الحسن والضعيف وغيرهما يظهر لنا ما يمنع هذا التوجيه ؛ إذ يكون مقياس التصحيح والتحسين والتضعيف في هذه المباحث هو حال الراوي ومرتبته في سلم الجرح والتعديل ، فكان ابن الصلاح يعد حديث الصدوق حسناً ، وحديث الضعيف ضعيفاً ، وإذا روي حديثهما من طرق أخرى صار عنده حديث الأول صحيحاً لغيره ، وحديث الثاني حسناً لغيره ، ولذا فإن القيد المذكور في التعريف لم يكن إلا من أجل أن يحترز مما رواه الصدوق والضعيف . والله أعلم .
وعليه فالإشكال المذكور باق في التعريف ، حيث يكون غير جامع لجميع أنواع الصحيح لدى النقاد، ولذا فحل هذا الإشكال لا يتم إلا بجعل التعريف خاصاً بـ (صحيح لذاته) ، كما سبق ذلك عن الحافظ ابن حجر .
هنا فائدتنا ؛ الفائدة الأولى - وهي مهمة - : =
= قد تكون ثقة الراوي شرطاً للصحيح .
لم ينفرد الإمام ابن الصلاح بذكر ثقة الراوي قيداً مهماً للحديث الصحيح ، بل تبلور ذلك في نصوص الأئمة المتقدمين ؛ كالشافعي والحميدي والذهلي والخطابي والحاكم والخطيب رحمهم الله تعالى جمعياً .وإن كانت نصوصهم تدل بظاهرها على أن مدار الصحيح عندهم أمران ؛ وهما ؛ ثقة الراوي واتصال السند ، فإن ابن الصلاح جعل شروط الصحيح عند أهل الحديث ثلاثة أمور ، وهي : ثقة الراوي واتصال السند والخلو من شذوذ وعلة . وسأركز فيما بعد على هذه النقطة بشيء من التفصيل إن شاء الله تعالى .
وفيما يلي نصوصهم :
أولاً : قول الإمام الشافعي :
يقول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى : "فقال لي قائل أحدد لي القول ، ما تقوم به الحجة على أهل العلم حتى يثبت عليهم خبر الخاصة . فقلت : خبر الواحد عن الواحد حتى ينتهي به إلى النبي ، أو من انتهى به إليه دونه ، ولا تقوم الحجة بخبر الخاصة حتى يجمع أموراً ؛ منها :
أن يكون من حدث به ثقة في دينه معروفاً بالصدق في حديثه عاقلاً لما يحدث به عالماً بما يحيل معاني ا لحديث من اللفظ .
وأن يكون ممن يؤدي الحديث بحروفه كما سمع لا يحدث به على المعنى لأنه إذا حدث على المعنى وهو غير عالم بما يحيل به معناه لم يدر لعله يحيل الحال إلى حرام وإذا أداه بحروفه فلم يبق وجه يخاف فيه إحالته الحديث .
حافظاً إذا حدث به من حفظه حافظاً لكتابه إذا حدث من كتابه إذا شرك أهل الحفظ في حديث وافق حديثهم .
برياً من أن يكون مدلساً : يحدث عمن لقي ما لم يسمع منه ، ويحدث عن النبي ما يحدث الثقات خلافه عن النبي .
ويكون هكذا من فوقه ممن حدثه ، حتى ينتهي بالحديث موصولاً إلى النبي ، أو إلى من انتهى به إليه دونه ، لأن كل واحد منهم مثبت لمن حدثه ، ومثبت على من حدث عنه ، فلا يستغني في كل واحد منهم عما وصفت" . "الرسالة 1/369) .
ويدور هذا النص على أمرين ؛ وهما :
أولاً : ما يتصل بحال الراوي عموماً ؛ كالعدالة والبط والإتقان وعدم التدليس .(1/26)
ولقد كان موقف أهل السنة تجاه خبر الواحد عن الواحد هو : أن الحديث إذا جاء براوية الثقة عن الثقة ، وكان سنده متصلاً ، يكون صالحاً للاحتجاج به ، ويكون ذلك هو الأصل فقط إذا لم يظهر للنقاد ما يدل على أن الحديث فيه خطأ ، وأن في إضافته إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهماً، وذلك نظراً لما يتصف به ا لراوي الثقة عموما من الوعي والإتقان والعناية ، وأما في الباطن فيحتمل أن يكون وهماً أو صواباً ، بخلاف الخبر الذي تحيط به القرائن التي تدل على حقيقة الأمر من الصواب أو الخطأ.
وشأن هذه المسألة : أعني بها مسألة التصحيح والاحتجاج ، لا يختلف عن شأن القضاء ؛ حيث إن القاضي لم يكن مكلفاً فيه يقوم به الشاهدان ، وهذا لا يعني بالضرورة تقاعس القاضي عن بحث الأدلة والملابسات التي تساعده على تحري الحقائق بدقة بالغة ، بل يجب عليه البحث عنها ، وإذا وقف القاضي على الحقائق بعد التحري فليس أمامه إلا القضاء بها ، وإن كان ذلك خلاف ما يظهر لأول وهلة عند النظر ، وقد يكون هذا الظاهر هو الأصل الذي يتعين الرجوع إليه إذا شهد به الشاهدان وكان القاضي قد عجز عن معرفة ما يحيط به من القرائن والملابسات التي تدل على الحقيقة .
وكذلك الأمر بالنسبة إلى الاستنباط الفقهي ، فإن المجتهد غير مكلف إلا باجتهاد في سبيل معرفة المقصود من النصوص ، وقد يتمكن من ذلك وقد لا يتمكن ، كل ذلك تبعاً لما يتوافر فيه من آليات البحث ، وإذا لم يقف المجتهد – بعد أن استنفد ما في وسعه من جهد – على ملابسات النص وقرائنه المحتفة به فليس له إلا قبول ما يظهر من النص ، وقد يكون ذلك غير مقصوداً أصلاً، إذ هو غير مكلف في تلك الحالة بمعرفة ا لباطن .
وعلى كل فالذي فهمه المجتهد من النصوص بعد اجتهاده يكون أمراً باطنياً بالنسبة إلى غيره ممن ينظر في النصوص نظرة عابرة وغير مؤسسة.ومن المعلوم أنه لا يجوز لأحد أن يستند إلى ظاهر النصوص، دون أن يبحث عن مناسبة ورودها ، وما تحف به من القرائن ، وما يمكن أن يكون مفسراً لها من عمل الصحابة ، بحجة أنه لم يطالب إلا بمعرفة الظاهر .
وإن كان القضاء والاجتهاد مما لا يجوز لأحد أن يتصدى له قبل التأهل ، ولا يعذر له الخوض فيه بكونه لم يكلف ببواطن الأمور ، فكذلك لا يجوز الباحث العادي أن يزاحم صفوف النقاد في التصدي لعملية التصحيح والتضعيف ، ولا يبرر له ذلك بكونه لم يكلف بالحكم إلا بما يفهمه من ظاهر السند.
وذلك أن ظهور العلة وعدم ظهورها في أحاديث الثقات إنما هو بالنسبة إلى شعور النقاد المجربين المطلعين على ملابسات الرواية وخفاياها وحدهم ، وأما غيرهم فلا ينبغي لهم إلا تسليم الأمر لنقاد الحديث في ذلك ، وهم وحدهم المتأهلون لتصحيح الحديث بناء على ظاهر السند بما تقتضيه القرائن والملابسات التي تحيط بذلك الحديث .
وأما أن يقول الباحث العادي الذي لم يشم رائحة منهج المحدثين في التصحيح والتضعيف مثلاً " هذا الحديث صحيح ، لاتصال سنده بالثقات ، ولم تظهر لي علة فيه ، وأن الباطن لم نكلف بمعرفته" معتمداً في ذلك كله على تقريب التهذيب ، ونحوه من كتب التراجم ، فغير مقبول على الإطلاق، بل يعد ذلك انحرافاً خطيراً عن الجادة !! ، وطمساً لمعالم نقد المحدثين !!! ، لا سيما حين يرد على الناقد تصحيحه أو تضعيفه .
وقال السخاوي : " .. ترى الجامع بين الفقه والحديث ، كابن خزيمة والإسماعيلي والبيهقي وابن عبد البر ، لا ينكر عليهم ، (أي نقاد الحديث) بل يشاركهم ، ويحذو حذوهم ، وربما يطالبهم الفقيه، أو الأصولي العاري عن الحديث ، بالأدلة" ، (فتح المغيث 1/274 ، ط1 ، سنة 1407هـ ، إدارة البحوث الإسلامية ، بنارس) .
وقال أيضاً (رحمه الله ، ولله دره) :
" وأما من لم يتوقف من المحدثين والفقهاء في تسمية ما يجمع الشروط الثلاثة (وهي العدالة والضبط والاتصال) صحيحاً ، ثم إن ظهر شذوذ أو علة رده ، فشاذ وهو استرواح ، حيث يحكم على الحديث بالصحة قبل الإمعان في الفحص وتتبع طرقه التي يعلم بها الشذوذ والعلة نفياً وإثباتاً فضلاً عن أحاديث الباب كله التي ربما احتيج إليها في ذلك ، وربما تطرق إلى التصحيح متمسكاً بذلك من لا يحسن ، فالأحسن سد هذا الباب". (فتح المغيث 1/20) .
وفي نهاية تحليل قول الحميدي يتجلى بوضوح أنه يطلق الحجة على ما رواه الثقة عن الثقة، إلا إذا ظهر فيه خطأ لأمثاله من النقاد .
وكذلك الأمر بالنسبة إلى ما سبق من قول الإمام الشافعي .
ثالثاً : نص الإمام محمد بن يحي الذهلي :
وقال محمد بن يحيى الذهلي : "ولا يجوز الاحتجاج إلا بالحديث الموصول غير المنقطع الذي ليس فيه رجل مجهول ولا رجل مجروح" . (الكفاية 20) .
رابعاً : نص يحيى بن محمد الذهلي :
وقال يحيى بن محمد بن يحيى :
" لا يكتب الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى يرويه ثقة عن ثقة حتى يتناهى الخبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الصفة ، ولا يكون فيهم رجل مجهول ولا رجل مجروح ، فإذا ثبت الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الصفة وجب قبوله والعمل به وترك مخالفته " . (الكافية ص20) .
خامساً : نص الخطابي والحاكم :
وقال الخطابي :
الصحيح ما اتصل سنده وعدلت نقلته" (معالم السنن 1/11 ، هامش مختص سنن أبي داود للمنذري).
قال الحاكم :
" صفحة الحديث الصحيح أن يرويه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحبي زائل عنه اسم الجهالة ، وهو أن يروي عنه تابعيان عدلان ثم يتداوله أهل الحديث بالقبول إلى وقتنا هذا كالشهادة على الشهادة " . (معرفة علوم الحديث ، ص26) .
وهذه النصوص باستثناء قول الحاكم – كما ترى – تدل بظاهرها على أن الاحتجاج يتم بمجرد اتصال اسند برواية الثقات ، وأما سلامة الحديث من شذوذ وعلة فغير منصوص عليها في تلك النصوص . ولكن حين ننظر إلى واقع عملهم في هذا المجال نجد فيه ما يؤكد أن الاحتجاج بما رواه الثقة عن الثقة ليس على الإطلاق ، بل هو مقيد بما لم يظهر لهم فيه شذوذ ولا علة ، كما سبق ذلك عن الحميدي ؛ إذ هم مرة يردون ما رواه الثقة مع اتصال سنده ، وإن كان ذلك قليلاً ، وأخرى يقبلونه ويحتجون به ، وكتبهم في العلل والأحكام تزخر بذلك .
وإذا كان كلامهم فيما يخص الاحتجاج بخير الثقة عن الثقة مقيداً بحالة ما إذا لم يقترن به ما يدل على خطئه أو صوابه من الأدلة والقرائن فإن مرجع الاحتجاج بخبر الواحد هو ما يكون أصلاً في الرواة، وذلك لأن الله تعالى يكلف الإنسان إلا بما ظهر له دون الباطن . وأما إذا ظهر للعالم حقيقة الأمر أو باطنه بفضل علمه وتخصصه وملكته فلا مجال لغيره أن يرفضه مستنداً إلى أنه غير مكلف بالاطلاع على الباطن .
ومن خلال ما سبق من التوضيح تتبين أهمية القيد بخلو الحديث من شذوذ وعلة في تصحيح الحديث، سواء تأكد الناقد ذلك من خلال القرائن أم من ظاهر السند ، ولذا جاء قول الحاكم في صفة الحديث الصحيح وصفاً دقيقاً للحديث الصحيح ، وإن كان فيه نوع إيهام بالنسبة إلى غير المتخصصين . وهذا نصه :
" أن يرويه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحبي زائل عنه اسم الجهالة ، وهو أن يروي عنه تابعيان عدلان ثم يتداوله أهل الحديث بالقبول إلى وقتنا هذا كالشهادة على الشهادة" . (معرفة علوم الحديث ص26) .
وفي ضوء ذلك فما ذكره ابن الصلاح في تعريف الصحيح جمعاً بين القيدين – وهما : كون الراوي ثقة ، وأن يخلو الحديث من شذوذ وعلة – ينبغي تأويله بما سبق ، وهو أن ثقة الراوي قيد أغلبي ، وليس احترازياً ، وأن هذا التعريف خاص بما رواه الثقة فقط دون غيره ، كما قيد بذلك الحافظ ابن الحجر ، وإلا يكون ذلك تضييقاً لمفهوم الصحيح عند نقاد الحديث ، هذا ويمكن الاستغناء عن ذكر الضبط كشرط، بذلك الخلو من شذوذ وعلة أو بالعكس .
وعلى ذلك فإن تعريف ابن الصلاح إذا ارتكز الراوي ضابطاً ، إضافة إلى قيد الخلو عن الشذوذ والعلة لن يستقيم إلا إذا اعتبرنا فيه تغليب أحاديث الثقات على غيرهم ، وليس لإخراج ما يصح ما أحاديث الضعيف وأحاديث الصدوق ، حيث إن الضعيف قد يضبط حديثه ، ويرويه مطابقاً للواقع الحديثي .
ولذلك نرى النقاد ينصون على صحة ذلك الحديث ، غير أن الفارق بين الثقة والضعيف يظهر بجلاء في نسبة الموافقة والمخالفة والتفرد ؛ فتكون نسبة الموافقة على أحاديث الأول كثيرة ، وفي الثاني قليلة ، كما سبق ، هذا ويضم الصحيحان عدداً لا بأس به من صحيح أحاديث الصدوق والضعيف غير المتروك ، غير أ، ذلك لم يكن منهم على وجه الاستيعاب والأصالة والمقصود ، كما هو الشأن في أحاديث الثقات ، وإنما وقع اختيارهما لهذا النوع من الأحاديث الصحيحة لأسباب علمية ؛ ومن أهمها أن يكون سند الضعيف عالياً من سند الثقة . كما نص الإمام مسلم على ذلك .
لقد نقل الإمام ابن الصلاح فيه عن مسلم قوله : "إنما أدخلت من حديث أسباط ، وقطن ، وأحمد ، ما قد رواه الثقات عن شيوخهم ، إلا أنه ربما وقع إلى عنهم بارتفاع ، ويكون عندي من رواية أوثق منه بنزول ، فاقتصر على ذلك ، وأصل الحديث معروف من رواية الثقات" (صيانة صحي مسلم ص94-98) .
وجاء في سير أعلام النبلاء 11/418 بسياق آخر ، وهو : "وقال إبراهيم بن أبي طالب قلت لمسلم كيف اتجزت الرواية عن سويد في الصحيح ؟ قال : فمن أين كنت آتي نسخة حفص بن ميسرة؟ قلت (القائل الذهبي) : ما كان لمسلم أن يخرج له في الأصول ، وليته عضد أحاديث حفص بين ميسرة بأن رواها بنزول درجة أيضاً" .
الفائدة الثانية :
في الواقع أن شروط الصحيح تختلف باختلاف أنواع الحديث وطبيعة روايتها ، وباختلاف طبقات الرواة الزمنية أيضاً ، وعلى سبيل المثال فما كان شرطاً في الخبر غير المشهور فليس مطلوباً أن يتوافر جميعه في الخبر المشهور ، بل يكفي فيه من الشروط ما تقتضيه طبيعة شهرة الحديث ، وكذلك الحديث الذي تحيط به الملابسات والقرائن تختلف شروطه عن الحديث العاري عن هذه القرائن ، ولكل منهما مقتضياته ، وخصوصياته .
وعلى ذلك فحديث الضعيف غير المتروك إذا وافقه الثقة أو الثقات يكون صحيحاً ، لدلالة هذه الموافقة على أن روايه الضعيف قد حفظه بضبط وإتقان ، بينما يضعف الحديث إذا تفرد به هذا =(1/27)
تلخيص الموضوع
أولاً : تعريف الإمام ابن الصلاح وغيره من الملاحقين لمصطلح الصحيح تتضمن أربعة عناصر ؛ وهي : عدالة الراوي ، وضبطه ، واتصال السند وخلوه من الشذوذ والعلة .
ثانياً : في هذا التعريف تضييق لمدلول الصحيح ، إذ قيدوه بثقة رواته ، وبالتالي لا يعد حديث الضعيف والصدوق صحيحاً ، بينما النقاد يصححونه إذا أصاب كل منهما في الرواية، ويحكمون عليه بالصحة دون قولهم : (صحيح لغيره) أو (صحيح لذاته) .
الضعيف ، فقدان أحد أهم شروط الصحيح ، بخلاف الخبر العاري عن تلك القرائن ، وبالتالي فما كان شرطاً في خبر الواحد عن الواحد من كونه ثقة لم يكن شرطاً في الحديث الذي يرويه غير واحد ، كما سيأتي من الأمثلة ما يعزز ذلك إن شاء الله تعالى .
وأما ما يتصل بخلاف طبقات الرواة الزمنية فما كان مطلوباً في الطبقات المتأخرة قد لا يطالب جميعه في الطبقات المتقدمة ، إذ أسباب وقوع الخطأ في الطبقة المتأخرة قد كثرت خلاف الطبقة المتقدمة، فإن كان التفرد مقبولاً في الطبقة المتقدمة بالشروط التي سبق ذكرها عن الإمام الشافعي ، فإن التفرد في الطبقة المتأخرة يثير التساؤل : كيف تفرد الراوي بحديثه ، وغيره حريص على سماعه وروايته ، وأنه قد توافرت دواعي انتشار ذلك الحديث عن صاحبه ، لا سيما حين يكون صاحب الحديث مدرسة في الحديث ، بخلاف طبيعة الطبقة المتقدمة .
ولذا يتوقف قبوله على مراعاة ما تقتضيه طبيعة الرواية ، حتى يطمئن شعور الناقد بصواب ما تفرد به الراوي .
فمثلاً : تفرد الإمام أحمد بحديث ليس كتفرد بن المسيب ، ولكل من هذين التفردين أسباب خاصة، وتكون نتائجها مختلفة بعضها عن بعض ، بل كلما يكون مصدر الحديث مشهوراً في الطبقة المتأخرة تكون عوامل الشهرة والانتشار أوفر ، ووقوع تفرد بالحديث فيها يسترعي انتباه الناقد ، بينما لا يكون الأمر كذلك في الطبقة المتقدمة فإن عوامل الشهرة والتعدد فيها تكاد منعدمة .
ولذلك لا يقاس تفرد الإمام أحمد على تفرد سعيد بن المسيب ، ولا تطلق هنا القاعدة (الثقة عن الثقة حجة على رأي أهل السنة) يعني إذا قبل النقاد ما تفرد به سعيد بن المسيب لا يعني بالضرورة أن ما تفرد به الإمام أحمد أيضاً مقبول وصحيح مثله .
وسيأتي إن شاء الله تعالى في الأمثلة التوضيحية ما يعزز هذه الفكرة من الأدلة الواقعية .
وقد حررت هذه الفكرة بعد دراسة نماذج كثيرة من كلا النوعين ؛ ما أعله النقاد وما صححوه من أحاديث الثقات مع كون كل منها غربياً .
ثالثاً : إن كان يمكن توجيه ما ورد في التعريف من القيود بأنه كان باعتبار الأغلب في استعمال النقاد لمصطلح الصحيح ، أو بأنه تعريف لقسم خاص من الصحيح ، وهو الصحيح لذاته ، فإنه ينبغي أخذ هذه الملحوظة بعين الاعتبار ، حين نتعامل مع نصوص النقاد ، حتى لا نخطئ في فهم مقصودهم .
رابعاً : هذه الملحوظة حول تعريف الصحيح المستقر في كتب المصطلح ، لم تكن واضحة إلا بعد ربط المصطلحات وتعريفاتها بالتطبيقات العملية لنقاد الحديث ، واعتبار كتب المصطلح مصادر مساعدة في علم الحديث .
خامساً : إن أحوال الرواة (من حيث الضبط وسوء الحفظ) تتوقف معرفتها بدقة على معرفة نسبة الصواب والخطأ فيما رووه من الأحاديث والآثار . وسيأتي في الوحدة الثانية توضيح لهذا الجانب بتوسع إن شاء الله تعالى .(1/28)
تباين منهجي بين النقاد والمتأخرين في تصحيح الأحاديث وتضعيفها
مما ينبغي أخذه بعين الاعتبار في هذه المناسبة وجود تباين منهجي بين المحدثين النقاد وبين غيرهم كمتأخري المحدثين ، والفقهاء وأئمة الأصول في التصحيح والضعيف ، وذلك تفادياً للخلط بين المعنيين المختلفين لمصطلح الصحيح ، وتفسير ما صححها الفقهاء أو المتأخرون في ضوء منهج النقاد أو بالعكس.
لذلك أشار إلى ذلك التابين المنهجي للإمام ابن الصلاح رحمه الله تعالى بعد تعريف الصحيح(1) بقوله :
"فهذا هو الحديث الذي يحكم له بالصحة بلا خلاف بين أهل الحديث"(2) .
يعني بأهل الحديث نقاد الحديث المتقدمين ، ومن سار على نهجهم ، فإنهم هم الذين يصححون الحديث بعد تأكدهم من سلامة الحديث من الشذوذ والعلة ، أي من الغرابة والمخالفة المردودتين .
وتبعه كل من صنف في مصطلح الحديث عموماً ، في تخصيص ذلك التعريف بأهل الحديث دون غيرهم من الفقهاء وعلماء الأصول .
وأوضح ابن دقيق العيد منهج الفقهاء والأصوليين بقوله :
" ومداره (يعني الصحيح) بمقتضى أصول الفقهاء والأصوليين على صفة عدالة الراوي في الأفعال مع التيقظ ، العدالة المشترطة في قبول الشهادة ، على ما قرر في الفقه ، فمن لم يقبل المرسل منهم زاد في ذلك أن يكون مسنداً"(3) .
كما بينه أيضاً في شرح الإلمام : "إن لكل من أئمة الفقه والحديث طريق غير طريق الآخر، فإن الذي تقتضيه قواعد الأصول والفقه أن العمدة في تصحيح الحديث عدالة الراوي وجزمه بالرواية ، ونظرهم يميل إلى اعتبار التجويز الذي يمكن معه صدق الراوي وعدم غلطه ، فمتى حصل ذلك ، وجاز ألا يكون غلطاً ، وأمكن الجمع بين روايته ورواية من خالفه من الوجوه الجائزة، لم يترك حديثه" .
وقال الصنعاني معقباً عليه :
" وهو صريح في اختلاف الاصطلاحين في مسمى الصحيح من الحديث كما قررناه"(4) .
وهذا التباين المنهجي - المتمثل في أن النقاد يعتمدون في التصحيح على سلامة الحديث من الشذوذ والعلة مع عدالة الراوي واتصال السند ، وأن الفقهاء وأئمة الأصول كان تعويلهم على ظاهر السند ، أي ثقة الراوي واتصال السند ، والتجويز العقلي بأن لا يكون غلطاً - شبه متفق عليه بين الأئمة .
وفي ضوء هذا التباين المنهجي في التصحيح ينبغي تقديم المتقدمين لكونهم أدرى بالحديث ، كما هو شأن كل العلوم ، وقد ألف الناس قديماً وحديثاً أن يقدم في كل فن أهله عند الاختلاف ، وهذا لا يعني بالضرورة أنهم معصومون من الخطأ .
ويقول السخاوي :
" .. ولهذا ترى الجامع بين الفقه والحديث كابن خزيمة والإسماعيلي والبيهقي وابن عبد البر لا ينكر عليهم ، بل يشاركهم ويحذو حذوهم ، وربما يطالبهم الفقيه أو الأصولي العاري عن الحديث بالأدلة" .
" هذا مع اتفاق الفقهاء على الرجوع إليهم في التعديل والتجريح كما اتفقوا على الرجوع في كل فن إلى أهله ، ومن تعاطى تحرير فن غير فنه فهو متعن ، فالله تعالى بلطيف عنايته أقام لعلم الحديث رجالاً نقاداً تفرغوا له وأفنوا أعمارهم في تحصيله والبحث عن غوامضه وعلله ورجاله ومعرفة مراتبهم في القوة واللين" .
" فتقليدهم ، والمشي وراءهم ، وإمعان النظر في تواليفهم ، وكثرة مجالسة حفاظ الوقت مع الفهم ، وجودة التصور ، ومداومة الاشتغال وملازمة التقوى والتواضع ، يوجب لك
(إن شاء الله) معرفة السنن النبوية ولا قوة إلا بالله"اهـ(5) .
ويقول أيضاً :
" وأما من لم يتوقف من المحدثين (يعني المتأخرين) والفقهاء في تسمية ما يجمع الشروط الثلاثة (وهي العدالة والضبط والاتصال) صحيحاً ، ثم إذ ظهر شذوذ أو علة رده ، فشاذ ، وهو استرواح ، حيث يحكم على الحديث بالصحة قبل الإمعان في الفحص وتتبع طرقه التي يعلم بها الشذوذ والعلة نفياً وإثباتاً فضلاً عن أحاديث الباب كله التي ربما احتيج إليها في ذلك ، وربما تطرق إلى التصحيح متمسكاً بذلك من لا يحسن ، فالأحسن سد هذا الباب"(6) .
والمتتبع لأسلوب عامة محدثي عصرنا في التصحيح ، يتجلى له بوضوح أنهم سالكوا مسلك الفقهاء وأئمة الأصول ، مع إغفالهم بأن ذلك يتنافى مع منهج المحدثين ، أو ربما يزعمون بأنه لا تباين بينهم في ذلك(7) !! .
__________
(1) بغض النظر عما سبق من الملحوظات حول تعريف ابن الصلاح للصحيح عند أهل الحديث.
(2) علوم الحديث ، المشهور بت (مقدمة ابن الصلاح) ص11-13 ، (تحقيق نور الدين عتر ، ط3 ، سنة 1418هـ) .
(3) الاقتراح في بيان الاصطلاح ص186 ، (تحقيق عامر الصبري ، ط1 ، سنة 1417، دار البشائر الإسلامية ، بيروت) .
(4) توضيح الأفكار ، 1/23 .
(5) فتح المغيث 1/274 ، (إدارة البحوث الإسلامية بالجامعة السلفية ببنارس ، ط1 ، سنة 1407) .
(6) فتح المغيث 1/20 ، (تحقيق عبد الرحمن محمد عثمان ، ط2 ، سنة 1388، المكتبة السلفية) .
(7) وإذا كان الذي يقوم بالتصحيح بناءً على تلك الشروط الثلاثة - قبل البحث عن مدى سلامة الحديث من شذوذ وعلة ، ثم إذا ظهر له ذلك رده - ، شاذاً ، وعمله ذلك استرواح كما قال الحافظ السخاوي ، فالذي لا يرده بعد أن عله أئمة النقد بالمخالفة أو التفرد ، ثم يعقبه بقوله : (إنه زيادة الثقة ، وهي مقبولة) ، أو (إن الراوي ثقة ، ولا يضر تفرده) ، أو بقوله : "لو درس أبو حاتم وغيره من الأئمة حتى البخاري دراسة وافية ، لما تجاوزوا النتائج التي توصلت إليها" ، يعني لا يقبل العلة لا بالمخالفة ولا بالتفرد ، يكون هو أغرب من الأول ، كما هو حال كثير من محدثي زماننا.
وعلى الرغم من أن هذا الموضوع المتعلق بضرورة اعتماد أقوال النقاد قد أشبع بحثاً من قبل كثير من علمائنا ، وإيراد نصوص كثيرة عن المتأخرين أنفسهم في تأييد ذلك ، فإن من الناس من ينكر علينا هذا الموقف ، متشبثاً بقول حق أريد به الباطل ، وهو أن المتقدمين ليسوا بمعصومين ، وأن منهجهم عمل اجتهادي وليس بوحي .
وإني أتساءل مع هؤلاء الإخوة :
هل سلامة الحديث من العلة شرط مهم لتصحيح الحديث عندكم ؟
الذي لا يعتبر ذلك شرطاً على أي منهج تصنفونه : منهج النقاد أو منهج الفقهاء ؟
أليس موضوع العلة معقداً وغامضاً لا يكتشفه إلا أقذاذ الناس من المتقدمين ، كما هو مقرر في جميع كتب المصطلح ؟
هل تزعمون أن اكتشاف العلة ، والتأكد من خلو الحديث منها يكون في متناول الجميع متقدماً كان أو متأخراً ؟(1/29)
مثال توضيحي للحديث الصحيح
لمزيد من التوضيح والتحديد أذكر هنا نموذجاً واحداً من الأحاديث التي تجسد فيها ما سبق شرحه من قواعد التصحيح .
يقول الإمام البخاري :
" حدثنا الحميدي عبد الله بن الزبير ، حدثنا سفيان ، حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري، أخبرني محمد بن إبراهيم التيمي أنه سمع علقمة بن وقاص الليثي ، سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه على المنبر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكها فهجرته إلىما هاجر إليه"(1) .
وقد رواه البخاري ومسلم وغيرهما من الأئمة من طرق شتى تدور كلها على يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم عن علقمة عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم(2) .
وصح الأئمة هذا الحديث منهم :
الإمام البخاري والإمام مسلم حيث روياه في صحيحيهما بأنظف أسانيدهما فيه وأصحها، وأعلاها . ،/
والإمام الترمذي ، فقد قال في سننه(3) : هذا حديث حسن صحيح ، وقد روى مالك بن أنس وسفيان الثوري وغير واحد من الأئمة هذا عن يحيى بن سعيد ، ولا نعرفه إلا من حديث يحيى بن سعيد الأنصاري" .
وذلك بعد أن رواه الترمذي من طريق عبد الوهاب الثقفي عن يحيى بن سعيد الأنصاري، وهذا الطريق مما رواه مسلم في صحيحه ، كما نص على صحته الإمام الدار قطني بقوله : (حديث صحيح) (4) .
وقد سبقت الإشارة في مستهل الحديث عن الصحيح إلى تنوع المصطلحات التي يطلقها المتقدمون على الحديث الذي تحققت سلامته من الخطأ والوهم وثبتت صحته . وهنا قد رأينا الدار قطني يقول في حديث يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم عن علقمة عن عمر : (حديث صحيح) ، بينما أطلق الترمذي عليه : (حسن صحيح) وأما البخاري ومسلم فقد رويا الحديث نفسه في كتابيهما الموسومين بالصحيح مما يفيد أن هذا الحديث من الأحاديث التي يقولان في كل منها (صحيح) . هذا من جهة ، ومن جهة أخرى يكون معنى تصحيحهم لهذا الحديث أنهم تأكدوا بأنه لم يقع في الحديث كذب ولا خطأ ولا وهم من روايه أثناء نقله له عمن فوقه ، وأنه قد رواه كل منهم كما حدثه به من فوقه .
__________
(1) كتاب بدء الوحي ، باب كيف كان بدء الوحي 1/9 .
(2) رواه البخاري في مواضع كثيرة من صحيحه ، منها كتاب الإيمان ، باب ما جاء إن الأعمال بالنية والحسبة 1/135 ، وكتاب العتق ، باب الخطأ والنسيان في العتاقة والطلاق . 5/160 (فتح الباري، دار المعرفة بيروت ، بترقيم محمد فؤاد عبد الباقي) ومسلم في كتاب الإمارة ، باب قوله صلى الله عليه وسلم : "إنما الأعمال بالنية .." 13/53-55 .
(3) كتاب فضائل الجهاد ، باب ما جاء فيمن يقاتل رباء وللدنيا 4/179 - 180 ، (تحقيق إبراهيم عطوة ، مصطفى البابي الحلبي ، ط2 ، سنة 1390هـ) .
(4) انظر علل الدار قطني 2/ 192 .(1/30)
توضيح بعض المصطلحات المتصلة بالمثال
ولعل من المفيد أن نوضح معاني المصطلحات الآتية ، وهي :
الرواة والحديث والإسناد والمتن .
ورواة الحديث هنا :
الحميدي عبد الله بن الزبير ،
وشيخه سفيان ،
وشيخه يحيى بن سعيد الأنصاري ،
وشيخه محمد بن إبراهيم ،
وشيخه علقمة بن وقاص الليثي ،
وشيخه عمر بن الخطاب عن الني صلى الله عليه وسلم .
والحديث عبارة عن مجموع الإسناد والمتن ، وهو هنا من أقوال قول البخاري : "حدثنا الحميدي عبد الله بن الزبير ..." إلى آخر قوله : "ما هاجر إليه" .
ويقال : "هذا الحديث حديث البخاري" أي ما رواه البخاري بسنده ومتنه . وباعتبار سند مسلم لهذا الحديث يقال : "هذا حديث مسلم" .
وهكذا يعد الحديث عدة أحاديث باعتبار طرقه المتعددة .
وباعتبار طرق الحديث يصح وصفه بأنه صحيح ، أو ضعيف ، أو موضوع ، أو غير ذلك من الأوصاف .
وأما إذا قلنا : إن الحديث هو قول النبي صلى الله عليه وسلم ، فلا يصح وصفه بالوضع ولا بالضعف .
لقد وصفه بذلك الأئمة قديماً وحديثاً ، وذلك باعتبار سنده وكيفية روايته ، وبالتالي يكون معنى قولهم : (هذا حديث موضوع) هو : أن هذا الحديث أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم كذباً . وقل مثل ذلك في الحسن والضعيف .
وأما الإسناد فهو عبارة عن السلسلة المكونة من الرواة الذي نقلوا المتن ، وهو هنا قول البخاري : "حدثنا الحميدي عبد الله بن الزبير حدثنا سفيان حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري أخبرني محمد بن إبراهيم التيمي أنه سمع علقمة بن وقاص لليثي سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه".
والمتن هو ما انتهى إليه السند ، وهو في المثال قول النبي صلى الله عليه وسلم : "إنما الأعمال ..." إلى آخره.
وقد يكون ذلك قول الصحابي ، أو قول غيره ، وليس بشرط أن يكون المتن دائماً قول النبي صلى الله عليه وسلم(1) .
____________________
= حميدي : (حدثنا سفيان) تصريح منه بسماعه من سفيان حين قال : "حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري سمعت محمد بن إبراهيم .." إلى آخر قوله .
وقد تبين جلياً صدق الحميدي في ذلك ، وأنه قد حدث كما سمع من شيخه سفيان دون خطأ ولا وهم ، حيث إن الثقات من أقرانه نقلوا عن سفيان ما نقله الحميدي عنه من غير تغيير يذكر إلا زيادة زادوها في آخر الحديث .
وبذلك يكون الحميدي قد اتفق مع الآخرين في كل ما ذكره عن سفيان .
فتدل هذه الموافقة على أن الحميدي قد أصاب في القدر الذي رواه من الحديث دون وقوع وهم ولا خطأ فيه .
وعلى هذا النحو من الموافقة ألفينا ما يخص بقية مصادر الحديث ورواته ، الأمر الذي يجعلنا نقول إن كلاً منهم قد روى عمن فوقه كما حدث به .
سبب تفرد الحديث في الجزء الأعلى من الإسناد وشهرته في آخره .
ولاحظنا في هذا الحدث أن الجزء الأعلى من الإسناد - وهو يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم عن علقمة عن عمر - ظهر فيه تفرد ، بينما في الجزء الأخير اشتهر الحديث بين ثقات الحفاظ شهرة واسعة .
فما سبب ذلك ؟
إذا كانت شهرة الحديث وتعدد رواياته مما يساعد الباحث على إجراء المقارنة بينها ليعرف الصواب منها والخطأ ، فكيف يتم ذلك في حالة التفرد ؟ وما حكم الحديث إذا تفرد به الراوي ؟ وفيما يلي الإجابة على هذه الأسئلة .
أولاً : إن تفرد الحديث في طبقة الصحابة وتابعهم أمر طبيعي .
ثانياً : لا يضر ذلك التفرد بصحة الحديث بخلاف الأمر في الطبقات المتأخرة .
وذلك لأن الحديث من شأنه أن ينقل من شخص إلى شخص ، ومن بلد إلى بلد ، ومن جيل إلى جيل ، كما أن من شأنه أن يختلف سياقه بتعدد رواته .
وحين يصل الحديث إلى عصر الإمام البخاري - مثلاً - فإن الحديث قد مر على عصور مختلفة ، ومن الطبيعي جداً أن تتأثر فيها طريقة نقل الحديث بقدر ما يحدث وعلى سبيل المثال ؛ فعصر الإمام البخاري يختلف عن عصر الصحابة ومن بعدهم من التابعين ، بل يختلف اللاحق عن سابقه . فما استجد في اللاحق من عوامل انتشار الحديث وتناقله بين فئات مختلفة ، وأسباب تداخله على من يرويه حفظاً ، منعدم تماماً في السابق ، ولذا فما يجب تحريه في نقل الحديث في القرن الثالث - مثلاً - من شروط وضوابط قد لا يجب استيفاؤها في بداية القرن الأول ، لأنه كلما تتأثر طريقة نقل الحديث بسبب تطور مستمر في حقل التعليم يحتاج الحديث إلى تطوير القواعد التي تضمن صحة نقله
وتوضيح ذلك :
أن رحلة المحدثين في سبيل طلب الحديث لم تكن آخذة في التوسع إلا بعد عصر التابعين ، وأن تبادل الأحاديث بين مصادر مختلفة ، ومراكز متباعدة ، لم يظهر إلا بعد توسع دائرة الرحلة التي تربط المدن والقرى ، وتتيح لجميع فئات المحدثين فرص اللقاءات مع الشيوخ في نطاق واسع .
أما بالنسبة إلى عصر الصحابة فلم تكن الرحلة فيها لطلب الحديث معتادة وميسرة لجميع الفئات من الطلبة والمحدثين ، إلا إلى مكة والمدينة (حرسها الله تعالى) ، إذ يرحل الناس إليهما للحج والعمرة والزيارة ، ومن عادة المحدثين أن يغتنموا رحلتهم المباركة لتحقيق آمالهم في لقاء أصحاب الحديث، سواء أكان ذلك في البقاع المقدسة أم في البلاد التي تكون في طريقهم إليها ، لكن اللقاء خارج البلاد يكون في إطار ضيق .
ولذلك كان خروج بعض الصحابة من المدينة إلى خارجها ، كمصر والشام ، لضبط حديث ، مدعاة للعجب ، وتدوينه كحدث تاريخي نادر ، ومنهم أبو أيوب وجابر بن عبد الله (أنظر كتاب الرحلة في طلب الحديث ، للخطيب البغدادي ، ص111 - 126) .
أما بعد عصر الصحابة فأخذت الرحلة تتوسع تدريجياً ، حتى صارت من أهم العناصر التي ينبغي توافرها في الراوي كي يعتمد في رواية الحديث .
ولذلك قال ابن معين : أربعة لا تؤنس منهم رشداً ، حارس الدرب ، ومنادي القاضي وابن المحدث ورجل يكتب في بلده ولا يرحل في طلب الحديث . (معرفة علوم الحديث ص9 للحاكم) .
ولذلك قال ابن معين : أربعة لا تؤنس منهم رشداً ؛ حارس الدرب ، ومنادي القاضي وابن المحدث ورجل يكتب في بلده ولا يرحل في طلب الحديث . (معرفة علوم الحديث ص9 للحاكم) .
لعل تلك التدرجات المرحلية التي لاحظناها في رحلة المحدثين المتقدمين عموماً تشكل عوامل رئيسة لإبقاء عدد كبير من الأحاديث أفراداً في عصر الصحابة ، وكذا في عهد التابعين ، ثم لتحولها تدريجياً من حالة التفرد إلى الشهرة ، كما لمسنا ذلك في رواية حديث : "إنما الأعمال بالنيات" .
وإذا تفرد الراوي بحديث في الطبقات المتأخرة التي من شأنها تعدد طرق الحديث ، لا سيما في روايته عن المحدثين المعروفين ، فإن ذلك يثير لدى نقاد الحديث تساؤلاً ؛ كيف تفرد الراوي دون غيره من الثقات ، وكانوا جمعياً حريصين على لقاء الشيوخ ، وسماع الأحاديث منهم مباشرة .
لاشك أن هذا التساؤل يكون أمراً منطقياً وواقعياً إذا نظرنا إلى طبيعة اللقاءات والرحلات في تلك العصور المتأخرة ونظراً لقلة دواعي تعدد الروايات ، وشهرتها ، بين حفاظ الحديث في العصور المبكرة ، ونظراً لقلة أسباب التداخل بين الأحاديث والأقوال والآثار على رواتها ، فإن علماء أهل السنة والجماعة لم يشترطوا في قبول الحديث العدد في الرواة .
وعليه فإذا تفرد ثقة من ثقات التابعين بحديث ، ولم يكن غريباً شاذاً يخالف الثابت فإن ذلك التفرد لا يضر بصحة ذلك الحديث ، ومن هنا أصبح من المعقول أن تكون رواية العدل عن العدل حجة، كما سبق في شرح الإمام الشافعي لموضوع الاحتجاج بخبر الواحد .
ومن المعلوم أن هذه القاعدة لم يقبلها المعتزلة ، ممن يشترط التعدد في رواة الحديث ليحتج بخبر الآحاد.
وإذا كانت رواية العدل عن العدل حجة لدى أهل السنة والجماعة ، فإن من المتأخرين من يعتبرها قاعدة مطردة يطبقها في جميع أجزاء الإسناد ، وفي جميع الحالات دون استثناء ، وبالتالي يصبح الحديث الذي اتفق النقاد على تعليله بالتفرد والغرابة صحيحاً عنده دون تردد .
على ضوء هذا الواقع نلقي نظرة سريعة على هذا الحديث الذي نحن بصدده .
تفرد عمر به ، ثم تفرد عنه علقمة ، ثم تفرد عن قلقمة محمد بن إبراهيم ، كما تفرد عن يحيى بن سعيد الأنصاري .
__________
(1) هنا عدة أمور مهمة ؛ منها :
أسلوب المحدثين في البحث عن مدى صحة هذا الحديث :
من الجدير بالذكر أن سلسلة الإسناد لا تتحقق على شكله الذي رأينا إلا إذا ذكر المتن معه ، وإلا فماذا يسمع كل منهم ممن فوقه ؟ وما الذي يحدث به السابق منهم لاحقه ؟
وعلى ضوء صدق كل منهم عمن فوقه من سند ومتن يتم البحث عما يلي :
اتصال السند ، ومدى سماع كل منهم ممن فوقه هذا الحديث ، وهو حديث : "إنما الأعمال..".
مدى صدق كل منهم في نقل ذلك الحديث ، أو احتمال وهمه ، أو تصرفه فما من حكم يصدر في شأن الإسناد ، كاتصال أو انقطاع أو تدليس أو إرسال أو تصحيح أو تعليل أو غير ذلك من الأحكام ، إلا على اعتبار متنه الذي أضيف إليه ، وإلا فإن الحكم الذي يقع من الباحث على = الإسناد يكون مجرد عبارة عن أ؛وال عامة لرواة ، استخلصها من كتب التراجم ، ولا يكون لذلك الحكم صلة برواية هذا المتن البتة .
ولذلك فإن النقاد ينظرون في الحديث لمعرفة مدى صحته عن كل من أضيف إليه هذا الحديث على الشكل الآتي :
ماذا قال الحميدي عن سفيان سنداً ومتناً ؟
هل سمع الحميدي من سفيان هذا الحديث ؟
هل رواه الحميدي كما حدثه سفيان ؟
أو بعبارة أخرى :
هل حدث الحميدي ذلك الحديث بحيث يطابق المعروف عن سفيان ؟
على هذا النحو يتسق النظر في جميع من أشيف إليه الحديث من الرواة حتى ينتهي إلى الصحابي.
لمزيد من المعلومات حول دراسة الحديث سنداً ومتناً راجع كتاب (كيف ندرس علم تخريج الحديث) للمؤلف .
ولا يتم تحري هذه الأمور إذا كان النظر في الحديث متكاملاً وشاملاً للإسناد والمتن ، ولا ينبغي فصل الإسناد عن المتن عند الحكم على الحديث ، بل يجب أن يكون الحكم تابعاً لطبيعة الرواية .
لذا يجب أن يكون لدى الناقد من الخلفية العلمية ما يمكنه من معرفة ما يلي :
كيف كان يروي الثقات ذلك الحديث .
كيف ذكر الحديث في أصول شيخهم .
ما مصدر هذا الحديث .
وغيرها من الأمور التي تتصل بالواقع الحديثي ، كما سبق التوضيح .
هل استوفى هذا الحديث العناصر الثلاثة : عدالة الراوي ن وعدم وقوع الخطأ منه ، واتصال السند؟
أما عدالة رواة هذا الحديث فإنهم جميعاً معروفون بصلاحهم وصدقهم بين أهل الحديث ، لاسيما يحيى بن سعيد ومحمد بن إبراهيم وعلقمة ، الذين يشكلون المصدر الرئيس لهذا الحديث ، والمدار الكلي لجميع الروايات المتفرعة .
وفي مثل هذا الحديث الذي تفرده به يحيى بن سعيد ومحمد بن إبراهيم وعلقمة ، الذين عن عمرو فإن أحوال رواة هذه السلسلة التي دارت عليها الروايات كلها تكون محل عناية بالغة لدى النقاد ، وأما الروايات المتفرعة عنها فلا حاجة لترجمة أصحابها ترجمة معللة ومفصلة لأنهم متفقون سنداً ومتناً.
وأما إذا اختلفوا ، فتكون ترجمة الأطراف المختلفة أمراً ملحاً ليتم الترجيح فيما بينهم ، (انظر تفصيل هذا الموضوع في كتاب كيف تدرس علم تخريج الحديث للمؤلف) .
أما عن اتصال السند فقد وجدنا الرواة يصرح كل منهم بمصدره الذي سمع منه هذا الحديث؛فقول =(1/31)
وإن كان يحيى بن سعيد من صغار التابعين ممن له رواية عن بعض الصحابة ، ومحمد بن إبراهيم من أوسطهم ، وعلقمة من كبارهم ، فإنهم جميعاً يعدون في طبقة واحدة ، وهي طبقة التابعين ، وإذا نظرنا إلى عصورهم وأعرافها العلمية وإمكانية اللقاءات بين علماء الأقطار المتباعدة ، وتبادل الأحاديث فيما بينهم ، فإن وقوع التفرد برواية الأحاديث في عصر عمر وكذا في عصر علقمة ثم في عصر محمد يعد شيئاً طبيعياً لا يدعو إلى الإثارة والتساؤل ، ولا يشكل ذلك عائقاً أمام الأئمة في تصحيح ذلك الحديث، واحتجاجهم به ، لا سيما وللحديث أصل ، إذ كانت النصوص القرآنية والأحاديث النبوية تحث على الإخلاص والنية عموماً .
وأما في عصر يحيى فأخذ الحديث يشتهر بين عدد كبير من المحدثين ، حين أتيح لهم لقاء الشيوخ في نطاق واسع ، لاسيما يحيى بن سعيد من الأئمة المكثرين الذي يشكلون مراكز بلادهم للأحاديث ، وتستقطب إليها أصحاب الحديث من مختلف البلدان .
إذا كان التفرد في هذه الطبقة وما بعدها يثير استغراباً لدى النقاد نظراً لتوافر البواعث لسماع الحديث من عدد كبير من الرواة ، وشهرته بين الثقات الذي يحرصون أشد الحرص على جمع الأحاديث من الشيوخ المعروفين ، فإن أي خطأ يقع من الراوي يتبلور في حالة المخالفة بينه وبين غيره من الثقات ، أو تفرده بما لا يعرفونه . =(1/32)
ماذا يفيد الحديث الصحيح العلم أو الظن ، ولمن يكون ذلك ؟
وإن كان من المسلمات التي لا نزاع فيها بين أهل السنة والجماعة أن الكتاب والسنة من مصادر التشريع ، لكن التطبيق العملي فيما يخص السنة تعرض فيما بعد لنوع من الاختلاف ، ولا سيما حول الذي يكون مصدراً للعقيدة(1) .
وطرح هذا الموضوع ضمن أنواع علوم الحديث لم يكن مألوفاً لدى نقاد الحديث ، وإنما بدأ يظهر فيها منذ أن ألف الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى كتابه المشهور (الكفاية في علم الرواية) ، حيث تطرق فيه إلى تقسيم الخبر إلى متواتر ، مع بيان ما يفيد كل منهما من يقين وظن ، وتبعه في ذلك اللاحقون ، كما أن هذا الموضوع مما تداخلت فيه الآراء ، واضطربوا في ذكر راجحها كل حسب توجهه الفكري .
والمتتبع لكتب المتقدمين في علوم الحديث يرى أنهم لم يتطرفوا لإثارة هذه المسألة ، من الزاوية التي يفكر فيها علماء الكلام ، وهي التجويز العقلي المجرد ، لكنهم عالجوا خبر الآحاد من زاوية وجوب العمل به ، إذا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ، كما نلمس ذلك جيداً في كتب الإمام الشافعي وغيره .
هذا وقد عقد الإمام البخاري في صحيحه باباً مستقلاً تحت عنوان : (خبر الآحاد) لبيان وجوب العمل به ، دون أن يتعرض لموضوع : هل ذلك يفيد العلم أو الظن ؟
__________
(1) ولتوضيح ذلك أذكر مثالاً واحداً وهو ما رواه ابن عساكر وغيره من طريق عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد عن مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد مرفوعاً : "إنما الأعمال بالنيات.." .
وقال ابن أبي حاتم : هذا حديث باطل لا أصل له ، إنما هو (مالك عن يحيى بن سعد عن محمد بن إبراهيم عن علقمة من عمر) .
فلما وهم ابن أبي رواد في نقل هذا الحديث عن مالك أصبح مخالفاً لما كان يحفظه الثقات عن مالك ، ومنفرداً بما لا أصل له عنده ، ولهذا قال ابن أبي حاتم :
" إنما هو مالك عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم عن علقمة عن عمر" .
وكان المفروض أن يروي ابن أبي رواد حديث : "إنما الأعمال .." عن مالك عن يحيى بن سعيد على النحو الذي يرويه الثقات ، غير أنه تداخلت عليه الأحاديث ، فرواه عن زيد بن أسلم عن عطاء عن أبي سعيد خطأ ووهماً ، وسبب تداخل الحديث عليه هو أن مالكاً كثيراً ما يروي عن زيد بن أسلم عن عطاء عن أبي سعيد غير حديث .
وأعود إلى روايات الثقات عن يحيى بن سعيد وأقول :
إن اتفاقهم على نقل هذا الحديث عنه ، وشهرته فيما بينهم من غير اعتراض منهم عليه يدل على ثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وهنا يتجسد ما قاله الإمام الحاكم : "وصفه الحديث الصحيح أن يرويه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحبي زائل عنه اسم الجهالة وهو أن يروي عنه تابعيان عدلان ثم يتداوله أهل الحديث بالقبول إلى وقتنا هذا كالشهادة على الشهادة" (معرفة علوم الحديث ، ص26) .
( ) لعل من المفيد أن نطرح بعض التساؤلات حول هذا الموضوع ، وهي كما يلي :
هل يعد جميع ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأحاديث سنة ومصدراً للتشريع ؟
أو فقط الحديث الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم ، دون غيره من الأحاديث ؟
هل كل حديث صححها أي باحث يعد مصدراً للتشريع ؟
من يكون مؤهلاً لذلك ؟
هل يشمل لفظ التشريع أمور الدين كلها بما في ذلك الجانب العقدي ؟
أو أنه لا يشمل سوى ما يتعلق بالعبادات والمعاملات ؟ =
هل يعد الحديث الصحيح مصدراً للجونب العقدية ؟
هل يتوقف ذلك على إفادة اليقين للجميع ؟
ألا يكفي في ذلك إفادة اليقين عند النقاد باعتبار الحديث من علم الخاصة ؟
هل تتوقف إفادة اليقين على التواتر ؟
ألا يكفي في ذلك تصحيح النقاد ، سواء أفادنا اليقين أو لا ؟
هل تستثنى العقائد من مقولة "الكتاب والسنة مصدر للتشريع" ؟ ويقال : الكتاب والسنة المتواترة مصدر للعقائد ؟
هل يفرق بين العبادات والعقائد في الاحتجاج بالسنة ؟ تساؤلات تدور في الأذهان لكثرة الاختلافات حول موضوع الاحتجاج بخبر الآحاد في العقائد .(1/33)
تقسيم الخبر إلى متواتر وخبر آحاد
نبغ قوم من أهل الكلام بنظرهم المنطقي ، فقسموا الخبر إلى متواتر وآحاد ، واثبتوا أن المتواتر يفيد العلم القطعي لذاته وأن خبر الآحاد يفيد الظن لذاته .
هذا صحيح نظرياً إذا صرفنا النظر عن جميع ما يحيط بالخبر من ملابسات وقرائن ، غير أن بعض أهل البدع تجاوزوا بتطبيق هذه النظرية الفلسفية على السنة النبوية على وجه العموم والاطراد ، فضلوا وأضلوا حين قالوا : إن ما ورد من السنة عن طريق الآحاد لا تصلح للحجة حيث تحتمل الخطأ والصواب .
ورغم دفاع علماء أهل السنة عن حجية السنة على مر الدهور وكر العصور فإن آثار ذلك التفكير المنطقي ظلت باقية في كثير من الكتب بأشكال مختلفة .(1/34)
ما صحة تطبيق هذا التقسيم على السنة النبوية؟
أما الحديث النبوي فلا مانع من تقسيمه إلى متواتر وغير متواتر ضمن كونه من جملة الأخبار ، بغض النظر عن حالة في الواقع ، وما ورد في تعريف كل منهما من الاختلافات ، لكن الأحكام المرتبة على هذا التقسيم ، لا ينبغي تطبيقها في الأحاديث النبوية دون اعتبار ملابسات روايته وطبيعة نقله .
وذلك لأن الحديث النبوي لا ينبغي التعامل معه كقضية فلسفية ، تقوم على النظريات المجردة ، بل ينبغي النظر فيه باعتباره أمراً واقعياً ، حيث إنه يدور حول (قال النبي صلى الله عليه وسلم) و (عمل النبي صلى الله عليه وسلم) و (أقر النبي صلى الله عليه وسلم) .
وبما أن معالجة الحديث ينبغي أن تكون على أساس أنه وقع أو لم يقع ، وليس على أساس الفرض والاحتمال ، فإنه يمكن لنا القول في ضوء ما سبق شرحه في مبحث الصحيح :
إن في الحديث الصحيح ما يفيد القطع بثبوته ، مع كونه خبر آحاد ، وما يفيد الظن الغالب ، وما يفيد الظن ، وكل ذلك طبعاً وفق شعور نقاد الحديث وحدهم ، لكونهم مطلعين على القرائن المحتفة به ، وفهم دلالتها خفيها وجليها .
وأما عدم إحساس الآخرين بذلك الشعور فلا يغير الواقع الذي أحس به النقاد ، ولذا أصبح العمل بما صححوه واجباً في أمور الدين كلها من غير أن يفرق بين العبادات والعقائد، اتباعً لسلفنا الصالح كما سيأتي إن شاء الله تعالى .(1/35)
مدى صحة التفريق بين العقيدة والعبادة في الاحتجاج بخير الآحاد
لقد اشتهر لدى كثير من المشتغلين بعلم الأصول والفقه وبعض متأخري المحدثين ممن تأثروا بعلم المنطق أن الأحاديث لا تفيد إلا الظن لكونه خبر آحاد ، ومن ثم زعموا ضرورة التفريق بين العبادات والعقائد في احتجاجهم بخبر الآحاد ، مستندين إلى أن العقيدة ينبغي أن يكون أساسها اليقين .
بيد أن الأمر يصطدم بالواقع التاريخي لسلف الأمة ؛ فقد ثبت بيقين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرسل إلى جهات مختلفة آحاد الصحابة لدعوة الناس إلى دين الإسلام ، العقيدة أولاً ، ثم العبادات ثانياً ، ولم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يستثني العقيدة مما يبلغ به عن طريق الآحاد ، ولو لم يكن قبول خبر العدل في أمور الدين كلها - وأهمها العقيدة - واجباً في الحالات التي تتوفر القرائن فيها على صدق المبلغ ، ما بعثه صلى الله عليه وسلم إلى القبائل والأمم ممن يعيشون بجوار المدينة .
ومن أبرز الأدلة على صحة ما ذكرنا من عدم التفريق بين العقيدة وغيرها في الاحتجاج بخبر الآحاد ، أن الله تعالى أرسل الأنبياء آحاداً ليبلغوا الناس أمور دينهم من غير انفكاك بين العقيدة والعبادة ، وليس فينا أحد يدعي أن ما بلغه نبي منهم أو مرسل لا يفيد إلا الظن باعتبار كونه واحداً ، بل كلنا متفقون على إفادة القطع لكونه نبياً صادقاً ، مؤدياً بالمعجزات(1) .
__________
(1) من الجدير بالذكر أن النظر في الحديث يجب أن يكون من زاويتين : الرواية والعمل ، وذلك لأن المقصود من الأحاديث العمل بها ، قولاً أو عملاً ، وعلى هذا فلا مناص من أن يوجد في الأمة من يعلمها ويعمل بها ، منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى عصرنا هذا ، من غير أن تتحول الأحاديث إلى مجرد فن الرواية ولا إلى (آيات متلوة) دون العمل بها .
وذلك لاستحالة كون الحديث مروياً عن النبي صلى الله عليه وسلم دون أن يعمل به سابقاً، إلا إذا كان منسوخاً ، ولهذا اشترطوا في الصحيح خلوه من الشذوذ والعلة ، ولهذا الشرط مغزى بعيد المدى، إذ يتعدى حدود المخالفة بين رواته ليشمل مخالفته الواقع العملي على مستوى طبقة الصحابة والتابعين أو بعضهم ، وحين يقترن الحديث بالعمل ترتفع الأحاديث النبوية من إفادة الظن إلى درجة إفادة القطع ، ولا يكون العلم بذلك إلا عند نقاد الحديث ممن لديه فقه القرائن .
وقد سبق ما يدل أكثر من مرة أن منهج النقاد في التصحيح والتعليل قائم على هذا الأساس الذي يتمثل في اعتبار موافقة الحديث الواقع العملي والواقع الحديثي ، ويتبلور ذلك بوضوح في صنيع =(1/36)
إفادة اليقين لا تتوقف على تواتر الخبر
ومن المسلمات أيضاً إن إفادة اليقين لا تتوقف على تواتر الخبر ، بل يفيد خبر الواحد اليقين لدى نقاده حسب اطلاعه على القرائن التي تحيط به ، ومن هذه القرائن المعمول بها، شخصية الرجل ، مثلاً قد يكون الشخص مساوياً لمئات الناس ، لما يتوفر فيه من المميزات العلمية والدينية ، فإذا تحدث في مجال تخصصه فإن في خبره ما يفيد اليقين عند من يعرف ذلك(1) .
وأما شاع بين الكثيرين من أن الأحاديث خبر آحاد ، ولا تفيد إلا الظن فهو تفكير منطقي مجرد ، يغضون فيها النظر عن القرائن والملابسات التي قد ترفع خبر الآحاد إلى درجة إفادة اليقين بثبوته عند علماء الحديث الذين لهم إحاطة شاملة بتلك القرائن والملابسات ، وإن لم يكن مثل المتواتر .
ولهذا جاء في سباق تعريفهم للمتواتر كلمة (لذاته) يعني : يفيد المتواتر العلم لذاته، كما أن خبر الآحاد يفيد الظن لذاته ، يعني بصرف النظر عن القرائن التي تحف بالخبر.
__________
(1) الإمام الترمذي في كتابه السنن ، حيث كان يلتزم بذكر عمل الصحابة أو التابعين أو غيرهم بمقضى الحديث الذي هو بصدد تصحيحه ، بل إن تحسينه كان مبنياً على ثبوت العمل به من بعض الصحابة.
ولما كان الإمام مالك رحمه الله يركز في موطنه على ذكر عمل أهل المدينة بمقتضى الحديث الذي أورده فيه على سبيل الاحتجاج قال الإمام ابن عبد البر : (إن مالكاً كان من أشد الناس تركاً لشذوذ العلم) .
ومما يجب علمه أن النقاد يتحرون في الحديث الصحيح أن يكون مشهوراً (رواية أو عملاً). كما أشار إلى ذلك الإمام أبو داود في رسالته إلى أهل مكة ، والحاكم في معرفة علوم الحديث ، وهذا هو القصد بقولهم في تعريف الصحيح : (أن لا يكون شاذاً ولا معلوماً) ، وأما الحديث الذي لا يعرفه ثقات الحفاظ ولم يكن له عمل في عصر الصحابة ولا التابعين فيعتبرونه غريباً شاذاً ومردوداً، وإن كان سنده متكوناً من ثقة عن ثقة ، وقد ورد عن كثير من الأئمة نصوص في هذا الصدد .
قال الإمام الشافعي رحمه الله : فعليك من الحديث بما تعرفه العامة (يعني عامة الحافظ) وإباك والشاذ منه (كتاب الأم 7/703 - 803) .
وقال الإمام مالك : شر العلم الغريب وخير العلم الظاهر الذي قد رواه الناس .
وينبغي أن نلحظ الفرق بين (الغريب الشاذ) الذي يرده النقاد وبين (خبر الآحاد) الذي يصححونه وفق مقاييس علمية ، وإن كان الغريب داخلاً ضمن خبر الآحاد حسب الدلالة اللغوية فإنه يجب التفريق بينهما في القبول والاعتماد ، وقد عرج كثير من الناس الذين لا صلة لهم بالحديث على التخليط بينهما إضفاء للشرعية على حكمهم بظنية الحديث .
ولقد تعود الناس في زماننا على دراسة الحديث بنظرهم المركز على أحوال الرواة ، مع إغفالهم الشديد في معرفة عمل الناس بمقتضاه في الصدر الأول وبعده ، وهذا أسلوب غير مقبول عند علماء هذا الفن ، وبذلك أصبحت البحوث الإسنادية التي تفيض بها (الأسواق العلمية الحرة) لا تتجاوز حد الشكليات التي فيها تهميش خطير لمنهج النقاد في التصحيح والتعليل ، إلا نادراً .
( ) ولكون الأحاديث التي ينقلها الآحاد تفيد القطع عند علمائها المتخصصين ، ولا يشترك في ذلك جميع الفئات من الناس فإن إنكارها لا يعد كفراً ، بل يكون عاصياً ، بخلاف المتواتر الذي يعلم بثبوته جميع الناس .(1/37)
التواتر أمر نسبي
إن حصول العلم بطريق تواتر الأخبار يختلف باختلاف الوقائع والمخبرين والسامعين ، فقد يحصل العلم في واقعه بعدد مخصوص ولا يحصل به في واقعة أخرى ، وقد يحصل بأخبار جماعة مخصوصة ولا يحصل بأخبار جماعة أخرى تساويهم في العدد ، وقد يحصل لسامع ولا يحصل لسامع آخر ، ويستفاد منه أن التوتر وحصول العلم أمر نسبي .
وقال الحافظ ابن حجر : (وهذه الأنواع التي ذكرناها لا يحصل العلم بصدق الخبر منها إلا للعالم بالحديث المتبحر فيه العارف بأحوال الرواة المطلع على العلل ، فكون غيره لا يحصل له العلم بصدق ذلك لقصوره عن الأوصاف المذكورة لا ينفي حصول العلم للمتبحر المذكور) (1) .
ولذلك لا يصح الإطلاق بأن الأحاديث خبر آحاد وأنها لا تفيد إلا الظن ؛ ومن المعلوم أن في جملة أخبار الآحاد ما يفيد القطع بكذبه ، وفيها ما يفيد القطع بصدقه ، وفيها ما يفيد الظن بكذبه ، كما يفيد الظن بصدقه ، وفيها ما تعتريه ريبة ، وكل هذا واقع تبعاً للقرائن التي تحتف به.
فإذا نقل أحد الكذابين خبراً يخالف الواقع وينافي التاريخ بشكل واضح فإن ذلك يفيد الجزم بكذبه عند من يعلم ذلك ، وكذلك إذا نقل العدل التقي الموثوق المعروف بعنايته بطلب العلم وضبطه حديثاً وافق الواقع أو النص الثابت أو عمل الأمة أو عمل بعضهم ثم اشتهر ذلك الحديث لدى ثقات الحفاظ فإنه يفيد أيضاً القطع بصحته ، وعلى هذا الأمر البدهي فأطلاق القول بأن خبر الواحد لا يفيد إلا الظن لا يستقيم إلا على التجويز العقلي المجرد عن ملاحظة القرائن الطارئة .
__________
(1) شرح النخبة ص64 (من شرح الشرح للشرقاوي .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى :
" قوم اجتمعوا على أمور متنوعة في الفساد ومنهم من يقول : لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث واحد بالتواتر ، إذ التواتر نقل الجم الغفير عن الجم الغفير ؟ أما من أنه لم يثبت حديث واحد بالتواتر فيقال له : التواتر نوعان : تواتر عن العامة وتواتر عن الخاصة وهم علماء الحديث ، وعلماء الحديث يتواتر عندهم ما لا يتواتر عند غيرهم ، لأنهم سمعوا ما لم يسمع غيرهم ، وعلموا من أحوال النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يعلم غيرهم.
والتواتر لا يشترط له عدد معين ، بل من العلماء من أدعى أن له عدداً يحصل له به العلم من كل ما أخبر به كل مخبر ، ونقوا ذلك عن الأربعة وتوقفوا فيما زاد عليها ، وهذا غلط ، فالعلم يحصل تارة بالكثرة وتارة بصفات المخبرين وتارة بقرائن تقترن بأخبارهم وبأمور أخر .
وأيضاً فالخبر الذي رواه الواحد من الصحابة والأثنان : إذا تلقته الأمة بالقبول والتصديق أفاد العلم عند جماهير العلماء ، ومن الناس من يسمى هذا : المستفيض ، والعلم هنا حصل بإجماع العلماء على صحته ، فإن الإجماع لا يكون على خطأ ، ولهذا أكثر متون الصحيحين مما يعلم صحته عند علماء =
= الطوائف : من الحنفية والملكية والشافعية والحنبلية والأشعرية ، وإنما خالف في ذلك فريق من أهل الكلام . (علوم الحديث لشيخ الإسلام ابن تيمية ص) .
وقال البلقيني في محاسن الاصطلاح : "نقل بعض الحفاظ المتأخرين عن جمع من الشافعية والحنفية والمالكية والحنابلة أنهم يقطعون بصحة الحديث الذي تلقته الأمة بالقبول ، فالخبر إذا تلقته الأمة بالقبول تصديقاً له وعملاً بموجبه أفاد العلم عند جماهير العلماء من السلف والخلف ، وهو الذي ذكره جمهور المصنفين ، كالإمام السرخسي وغيره من الحنفية ، والقاضي عبد الوهاب وأمثله من المالكية والقاضي أبي الطيب الطبري وأبي إسحاق الشيرازي وغيرهم من المصنفين في أصول فقه الشافعية ، وأبي يعلى القاضي وأبي الخطاب وغيرهم من الحنابلة وهو قول أكثر أهل العلم حتى من الأشاعرة وغيرهم" .
وخبر الآحاد إذا احتفت به القرائن أفاد العلم والقطع على رأي جماهير الأصوليين من المذاهب الأربعة، ورغم كل هذا فإن الأصوات تعلو مرددة لتلك النظرية المنطقية المجردة التي تقضي بأن خبر الآحاد لا يفيد إلا الظن ، سعياً على تطبيقها في السنة النبوية بشكل موسع دون أدنى اعتبار لواقع السنة وطبيعة نقل أحاديثها ، وسيرة المحدثين النقاد في اهتمامهم بجمعها ونقدها وعرضها على عمل الأمة وتفانيهم في سبيل ذلك .(1/38)
خلاصة القول
ما يهمنا في هذا الصدد أن ما اتفق المحدثون النقاد على تصحيحه من الأحاديث لا يصح القول فيه إنه خبر آحاد لا يفيد إلا الظن ، ولا يصلح الاحتجاج به في العقائد ، وذلك لأن ما يشعر به المحدثون النقاد تجاه تلك الأحاديث يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار ، ولا يعكر صفاءه ما قد ينطوي عليه شعور الآخرين بخلاف ذلك لأن المحدثين هم الذين يطلعون على جميع أنواع القرائن التي لا تخطر على نفوس آحاد الناس ، والتي من شأنها إفادة القطع عندهم بصحة المروي أو إفادة الظن الذي يطمئنون به ، وذلك لذوقهم الحديثي وممارستهم للسنة النبوية بحيث يستطيعون تمييز قول النبي صلى الله عليه وسلم عن الأقوال الأخرى ، وما علينا سوى التسليم لهم(1) .
__________
(1) سبق أن طرحنا في بداية هذا الموضوع عدة تساؤلات منهجية ، وفي ضوء ما شرحنا يمكن الإجابة عنها بما يلي :
لا يعد جميع ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأحاديث سنة ولا مصدراً للتشريع.
إنما يعد فقط ما صححها النقاد من الأحاديث .
ما صححها غير النقاد لا يصلح للتشريع إذا كان تصحيحهم مبنياً على ثقة الرواة، واتصال السند فقط .
لا يكون مؤهلاً للتصحيح إلا من استوعب منهج النقاد ، واستطاع بخبرته العلمية اكتشاف الخطأ.
المقصود من كلمة (التشريع) ما يتعلق بأمور الدين كلها ، عقيدة كانت أو غيرها .
الحديث الذي صححها النقاد يجب العمل به في جانب العقيدة ، سواء أفادنا اليقين أو لا.
ما صححها النقاد لا ينبغي رده في العقيدة لمجرد كونه خبر آحاد .
لا تتوقف إفادة اليقين على التواتر ، بل يفيد خبر واحد اليقين إذا احتفت به القرائن .
ولا فرق بين العقيدة وبين غيرها من أمور الدين في الاحتجاج بخبر الخاصة إذا صح.(1/39)
مصادر الصحيح
إن مصادر الحديث التي تركها لنا سلفنا كثيرة ومتنوعة جداً ، ولعل ما نتداوله منها اليوم أقل بكثير مما فقدناه من المسانيد والجوامع والمصنفات ، ولا يعتبر المصدر أصيلاً في الحديث إلا إذا اعتمد صاحبه في أحاديثه على الرواية المباشرة ، وقال فيها : (حدثني فلان عن فلان ..) أو نحوه ، وإلا فهو مصدر فرعي .
ولذا يكون معظم ما ألفه المتقدمون من القسم الأول لكونهم أصحاب الروايات ، بينما تقع تآليف المتأخرين من الثاني لأنهم يعتمدون على الكتب بدل الروايات .
إن المصطلحات التي تطلق على المصادر تتنوع وفق مناهج أصحابها في التصنيف وحسب شروطهم فيها لذكر الأحاديث ، كـ : الصحاح ، والجوامع ، والسنن ، والمستخرجات، والمستدركات ، والمسانيد ، والمصنفات ، والموطآت ، والمعاجم ، والأجزاء ، والفوائد ، والعلل ، والأفراد وغيرها .
وأما مصطلح (الكتب الستة) أو (الأصول الستة) فقد أطلقه المتأخرون على مجموعة من الكتب التي هي : صحيح الإمام البخاري وصحيح الإمام مسلم وسنن النسائي وسنن أبي داود وسنن الترمذي وسنن ابن ماجه ، أو موطأ الإمام مالك ، بدل سنن ابن ماجه ، ومنهم من يجعل الأصول خمسة ، وهي الصحيحان وكتب السنن باستثناء سنن ابن ماجه .
وذلك باعتبار المنهج العلمي الذي انتهجه أصحابها في ذكر الأحاديث فيها ، وشمولها لما يحتاج إليه المسلم في حياته من أمور العقيدة والعبادة والمعاملة والسلوك وغيرها ، ومنهجهم في ذلك متمثل في :
تأصيل الأحاديث المرفوعة الصحيحة ، بالنسبة إلى الصحيحين .
تأصيل الأحاديث المقبولة الصالحة للعمل ، بالنسبة إلى السنن .
عدم ذكر الآثار والموقفات فيها إلا معلقة ونادرة .
بيان الخطأ والضعف على سبيل الاستطراد ، إما صراحة أو إشارة ، باستثناء سنن ابن ماجه ، فإنه لا يشير إلى ضعف الأحاديث التي يذكرها في أبوابه ، ولعل هذا هو السبب لعدم ذكر البعض سنن ابن ماجه في الأصول .
ولكون موطأ الإمام مالك رحمه الله تعالى يحوي عدداً كبيراً من الأقوال الفقهية ممزوجة بالأحاديث المرفوعة ، حتى يستقل بعض أبوابه بأقوال فقهية ، دون ذكر الأحاديث فإن من المحدثين من أدرجه في ضمن الكتب الفقهية .(1/40)
الصحيحان
إذا أطلق الصحيحان فيكون المقصود منهما : صحيح الإمام البخاري وصحيح الإمام مسلم .
وما ينبغي ذكره أن المحدثين لم يلتزموا في كتبهم بذكر ما صح من الأحاديث دون غيرها إلا الإمام البخاري وصحيح مسلم ، ولهذا انعقد الاجماع على أن صحيح الإمام البخاري وصحيح مسلم مصدران للأحاديث الصحيحة ، وإذا روى كل منهما في أصل الصحيحين حديثاً فذلك يفيد بذاته صحته ، وهذا هو الأصل الغالب ، غير أنه قد يورد كل منهما بعض الأحاديث أو بعض الروايات التي لم يتوفر فيها شروط الصحيح ، أو فيها خلل يمنع صحتها ، وذلك لأغراض علمية ، منها فقهية وإسنادية ونقدية ، وقد يذكر الإمام البخاري هذه الأنواع معلقة ، بينما الإمام مسلم في الغالب يوردها في أواخر الأبواب ، وسيأتي شرح ذلك - إن شاء الله تعالى- في موضعه .(1/41)
الموازنة بين الصحيحين
وأما الترجيح بين الصحيحين فقد استقر الأمر فيه أن صحيح الإمام البخاري أصح من صحيح الإمام مسلم ، وقد أبدع الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في تحرير ذلك من خلال أدلة كثيرة في كتابه (هدي الساري) وكتابه (النكت) ، وصار ذلك عمدة لمن جاء بعده.
ونجملها في النقاط التالية :
أن الذين انفرد البخاري بالإخراج لهم دون مسلم أربعمائة وخمسة وثلاثون رجلاً ، المتكلم فيهم منهم نحو من ثمانين رجلاً ، والذين انفرد مسلم بإخراج حديثهم دون الخباري ستمائة وعشرون رجلاً . المتكلم فيهم بالضعف منهم مائة وستون رجلاً على الضعف من كتاب البخاري.
ولا شك أن الذين انفرد بهم البخاري ممن تكلم فيه لم يكن يكثر من تخريج أحاديثهم وليس لواحد منهم أحاديث كثيرة أخرج البخاري كلها أو أكثرها إلا حديث عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما ، بخلاف مسلم فإنه يخرج أكثر هذا النوع من الأحاديث ، كحديث أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه ، وحديث سهيل عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ، وحديث حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس رضي الله عنه ، وحديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ونحوهم .
أن الذين انفرد بهم البخاري ممن تكلم فيه أكثرهم من شيوخه الذين لقيهم وعرف أحوالهم واطلع على أحاديثهم فميز جيدها من رديها بخلاف مسلم فإن أكثر من تفرد بتخريج حديثه ممن تكلم فيه من المتقدمين . ولا شك أن المرء أشد معرفة بحديث شيوخه وبصحيح حديثهم من ضعيفه ممن تقدم عن عصرهم .
أن أكثر هؤلاء الرجال الذين تكلم فيهم من المتقدمين يخرج البخاري أحاديثهم غالباً في الاستشهادات والمتابعات والتعليقات بخلاف مسلم ، فإنه يخرج لهم الكثير في الأصول والاحتجاج ، وهذه الأوجه الأربعة كلها تتعلق بعدالة الرواة .
وبقي ما يتلعق بالاتصال ، هو :
أن مسلماً كان مذهبه أن الإسناد المعنعن له حكم الاتصال إذا تعاصر المعمعن ومن عنعن عنه وإن لم يثبت اجتماعهما . والبخاري لا يحمله على الاتصال حتى يثبت اجتماعهما ولو مرة واحدة
وقد أظهر البخاري هذا المذهب في التاريخ وجرى عليه في الصحي وهو مما يرجح به كتابه ، لأنا وإن سلمنا ما ذكره مسلم من الحكم بالاتصال فلا يخفي أن شرط البخاري أوضح في اتصال . وبهذا يتبين أن شرطه في كتابه أقوى اتصالاً وأشد تحرياً. والله أعلم(1) .
__________
(1) هذا ما حرره الحافظ ابن حجر في ترجيح البخاري على صحيح مسلم ، وما ينبغي ذكره في هذا الصدد أن ما تجري فيه الموازنة بين الكتابين هو ما ينفرد به كل منهما من الأحاديث ، كما هو جلي من سياق الحافظ ابن حجر السابق ذكره .
فأما الحديث الذي يتفقان في مخارجه فلا يدعو إلى الموازنة بينهما إلا باعتبار شيوخهما ، وقد يتفقان في الشيوخ أيضاً ، ولا تفيد مثل هذه الموازنة التي تقع في الجزء الأخير من إسناديهما سوى علو إنساد البخاري بالنسبة إلى مسلم ، وهذا العلو والنزول أمر نسبي ، وإن كان معظم ما رواه نسلم نازلاً بالنسبة إلى الإمام البخاري فإنه يظل عالياً ، بل يكون أعلى بالنسبة إلى الإمام مسلم ، ولا شك أن أعلى أسانيد الإمام البخاري لا يظفر به تلميذه الإمام مسلم لصغره . ونتائج مثل هذه الموازنة لا تؤثر في مستوى الكتابين ، ولهذا اتفق الجميع على أن أعلى مراتب الحديث الصحيح ما اتفقنا عليه.
واضرب لك المثال : حديث : "إنما الأعمال بالنيات.." ، اتفق الشيخان على روايته من مخارج متعددة ، حتى كان الإمام مسلم يشترك مع الإمام البخاري في شيخه المباشر ، ومع ذلك فإن الرواية تعتبر عالية بالنسبة إلى كل منهما ، وهذا الحديث الذي اتفقا في أقرب مخارجه لا يمكن أن يصلح مجالاً للتفاضل بينهما .
وإذا كان اتفقا الشيخين على النحو الذي رأينا في المثال المذكور هو النصيب الأوفر من أحاديث الصحيحين فإن التفاضل إنما يكون في القدر الذي ينفرد به كل منهما عن الآخر سنداً أو متناً ، وعليه فإن ترجيح صحيح البخاري على مسلم يكون بالنسبة إلى بعض الأحاديث التي ينفرد بها كل منهما، ولا يكون لهذا الحكم اعتبار إذا نظرنا في أغلب أحاديثهما المتفق عليهما ، ولذا يكون من الأفضل أن نقول بناءً على الأغلب أن الصحيحين أصح الكتب بعد كتاب الله عز وجل .
أما قول الحافظ ابن حجر بكثرة الرواة المتكلم فيهم في صحيح مسلم فيعود سبب هذه الكثرة إلى أسلوبه المتمثل في رواية المتابعات التي قد تكون من رواية المتكلم فيه ، ولم يكن سالكاً فيه مسلك الإمام البخاري في التعليق ، ولا يعني بذلك تساهل مسلم في شروط الصحيح ، وأما البخاري فقد كان يورد هذا النوع من الأحاديث معلقة في أغلب الأحيان مما أدى إلى قلة عدد الرواة المتكلم فيهم في صحيحه . =
= كما ينبغي أ، نذكر أن رواية (حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس) تعتبر من الطبقة العليا ، من سلسلة الأسانيد ، بل من الأئمة من يرجحها على رواية حماد بن زيد عن ثابت عن أنس ، وإكثار مسلم لهذا النوع من الروايات يكون على أساس اختيار أصح الإسناد ، وليس على وجود تساهل منه وعدم دقته في النقد ، وهذا رسم توضيحي لاتفاق الشيخين في رواية حديث : "إنما الأعمال بالنيات" في مخرجه :
يوضح الرسم الأول صورة اشتراك الإمامين في عبد الله بن مسلمة عن مالك كما أنهما اشتكرا في مخرجي الحديث مالك وسفيان ، بينما يوضح الرسم الثاني اشتراكهما في مخرج الحديث الرئيسي، وهو يحي بن سعيد ، بالنسبة إلى بقية الروايات ، وفي كلتا الحالتين يساوي عدد الرواة بين الإمامين وبين مخرج الحديث ، وهذا كما ترى يعتبر حديثاً واحداً اتفقاً في المخرج ولا مجال فيه للموازنة(1/42)
مراتب الأحاديث الصحيحة
وعلى أساس الخصائص العلمية التي يتميز بها كل من الشيخين في صحيحيهما تم تقسيم الأحاديث في كتب المصطلح على ست مراتب ، وهي كالتالي :
ما اتفق عليه الشيخان .
ما انفرد به البخاري .
ما انفرد به مسلم .
ما كان على شرطيهما .
ما على شرط البخاري .
ما على شرط مسلم(1) .
وأما الكتب الأخرى التي توصف بـ (الصحاح) ، كصحيح ابن خزيمة صحيح ابن حبان، فذلك نظراً لتسمية كل منهما ما ألفه بالصحيح ، لكن لكثرة تساهلهم في تطبيق شروط الصحي ، والالتزام بها لم يعتبرها الأئمة من الصحاح التي يحكم على الحديث بصحته بمجرد وروده فيها .
وكذا كتاب (المستدرك) للإمام الحاكم فإنه اشترط شروط الصحيحين في استدراك الأحاديث التي فاتت الإمامين : البخاري ومسلماً ، ولهذا سمي الكتاب (المستدرك على الشيخين) غير أن تساهله في الالتزام بشروطه فيه جعله دون الكتب الستة ، حيث إنه يصحح فيه الأحاديث ويستدرك بها على الشيخين لمجرد كون رواتها رواة الصحيحين أو رواة أحدهما .
وصحيح ابن حبان ، فذلك نظراً لتسمية كل منهما ما ألفه بالصحيح ، لكن لكثرة تساهلهم في تطبيق شروط الصحيح ، والالتزام بها لم . يعتبرها الأئمة من الصحاح التي يحكم على الحديث بصحته بمجرد وروده فيها .
وكذا كتاب (المستدرك) للإمام الحاكم فإنه اشترط شروط الصحيحين في استدراك الأحاديث التي فاتت الإمامين : البخاري ومسلماً ، ولهذا سمي الكتاب (المستدرك على الشيخين) غير أن تساهله في الالتزام بشروطه فيه جعله دون الكتب الستة ، حيث إنه يصحح فيه الأحاديث ويستدرك بها على الشيخين لمجرد كون رواتها رواة الصحيحين أو رواة أحدهما.
ومن هنا فإن العلماء لم يعدوه من مصادر الصحيح ، وإن كانت هذه الكتب معزوفة بتساهل أصحابها في تصحيح أحاديثها ، لكن مراتبها تتفاوت بقدر تساهلهم فيها ، وعليه فإن صحيح ابن خزيمة يعتبر أصح هذه الكتب الثلاثة ، ثم صحيح ابن حبان ثم المستدرك .
ويستخلص مما سبق أن مجرد ورود حديث في كتب الحديث غير الصحيحين لا يلزم منه صحته ، إذ تحتوي هذه الكتب أصنافاً كثيرة من الأحاديث المعلولة والضعيفة .
وأما كتب السنن الأربعة ، وهي سنن أبي داود وسنن النسائي وسنن الترمذي وسنن ابن ماجه فليست من مصادر الصحيح ، لأن شرطهم فيها أوسع من شرط الصحيحين ؛ إذ يشترطون فيها كون الحديث مقبولاً وأن لا يكون من رواية المتروك المتفق عليه تركه ، فجاءت هذه السنن تحوي الصحيح وما يقاربه والضعيف الذي انجبر ضعفه ، وقد يذكرون فيها الضعيف الذي تبين خطؤه لكنهم شرحون ذلك غالباً إما بالتصريح أو بالإشارة ، كالإمام الترمذي والإمام النسائي والإمام أبي داود .
وأما الموطأ للإمام مالك رحمه الله تعالى فإ'نه يضم أنواع الأحاديث التالية : المتصلة والمنطقعة والمرسلة والبلاغات ، ممزوجة بين المرفوع والموقوف ومرتبة على الموضوعات الفقهية، بل فيه كثير من الأبواب تستقل بالآباء الفقهية من دون ذكر الأحاديث فيها ، ولذا عدة بعضهم من المصادر الفقهية .
غير أن الموطأ يعتبر أصح بالنسبة إلى كافة كتب المصنفات التي تضم المرفوع والموقف أصالة ومقصوداً ، وذلك نظراً لمنهج الإمام مالك في موطئه ، المتمثل في تمحيص شيوخه وترك الأحاديث الشاذة غير المعمول بها لدى أهل المدينة ، وهذا معنى قول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى : "ما بعد كتاب الله عز وجل أصح من كتاب مالك" .
ولا يلزم من قول الإمام الشافعي هذا إطلاق الصحيح على الموطأ ، إذ كان قوله بالنسبة إلى المصنفات المعروفة في عصره ، ولهذا فإن صحيح البخاري يظل أول كتاب في موضوع الصحيح المجرد .
__________
(1) وهنا نقطتان مهمتان :
النقطة الأولى : الحديث الذي كان على شرطهما .
لماذا جعل هذا الحديث في المرتبة الرابعة ؟
ما المانع من أن يكون ما صححاه أو ما صححها أحدهما هو عين ما توفر فيه شروطهما في التصحيح ؟
لم يكن ما كان على شرطهما في مرتبة المتفق عليه سواء بسواء ؟
وكذا بالنسبة إلى المرتبة الخامسة والسادسة .
أقول : نعم لا فرق بينهما إذا كانت الأحاديث قد توفرت فيها شروطها فعلاً - سواء أخرجاها أم لم يخرجاها - لكن الخلل الذي جعل الحديث الذي كان على شرطهما في المرتبة الأدنى يرجع إلى المستوى العلمي الذي يتسم به من يدعي ذلك ؟ ولو نص البخاري ومسلم على صحته ذلك فلا إشكال ، لكن القول الذي يصدر من غيرهما لا يكون على مستوى الشيخين ، ولذا قد يكون ذلك الحديث واهياً أو ضعيفاً ، كما نرى في مستدرك الحاكم .
والنقطة الثانية : أن هذا الترتيب يكون أغلبياً بالنسبة إلى الصحيحين ، لأنه قد يكون ما أخرجه الإمام مسلم أصح مما اتفقا عليه أو مما أخرجه الإمام البخاري لأسباب علمية ، منها شهرة ما رواه مسلم بين ثقات الحافظ ، كما بينه الحافظ ابن حجر في النكت .(1/43)
الكتب المستخرجة على الصحيحين
كتب المستخرجات على الصحيحين أو أحدهما كثيرة ، منها (المستخرج على صحيح البخاري) للإسماعيلي وللبرقاني ، و (المستخرج على صحيح مسلم) لأبي عوانة وأبي جعفر بن حمدان ، و (المستخرج على الصحيحين) لأبي نعيم الأصفهاني وأبي عبد الله بن الأحزم .
وموضوع هذه المستخرجات أن يروي أصحابها أحاديث الصحيحين أو أحدهما بأسانيد خاصة بهم ، قصد علوها ، دون أن تمر بالبخاري ولا بمسلم ، لكن بشرط أن تلتقي أسانيدهم بأسانيدهما في مخرج الحديث ، أو في أقرب شيوخهما ، أو في شيوخهما أنفسهم ، وإلا لا يعتبر مستخرجاً لحديث الشيخين ، بل تكون روايتهم مستقلة ، لا صلة لها بأحاديثهما ، وقد ترد في الأحاديث المستخرجة زيادات ، لكونها مروية عن غير الإمام البخاري والإمام مسلم .
نظراً لكون هذه الكتب مستخرجة على الصحيحين فإن كثيراً من المتأخرين أدرجوها ضمن الصحاح . وهذا صحيح بالنسبة إلى الأحاديث التي ليس فيها زيادات ، وأما غيرها ففي إطلاق صحتها وقبولها نظر قوي ؛ لأن أصحابها لم يشترطوا الصحة في أسانيدهم ، وكان هدفهم الرئيس من الاستخراج هو تحقق العلو فيها ، وأنه كلما يتحقق هذا الهدف استخرجوا الأحاديث من غير أن تشترط فيها الصحة ، وقد تكون روايتهم من طريق ضعيف زاد أو خالف بما رواه البخاري ، وحتى إذا كان راويها ثقة ففي زيادته إشكال .
لذلك فإن ا لزيادات التي ينفرد بها المستخرج عن الصحيحين لا تعتبر صحيحة عموماً لمخالفة تلك الزيادات لألفاظ الصحيحين ، وقد توصف بشذوذها ونكارتها ، كما حقق ذلك الحافظ ابن حجر في نكته خلاف ما أقره الإمام ابن الصلاح رحمها الله تعالى(1) .
__________
(1) هذا الموضوع يحتاج إلى مزيد بسط ، ولذا أقول :
إن الاستخراج هو أسلوب جميع المحدثين في عصر الرواية في كتبهم ، وليس محصوراً بين الصحيحين والكتب المستخرجة عليهما ، كما يتوهم ذلك من كتب المصطلح ، بل هو ظاهرة علمية قامت عليها نهضة الرواية في ذلك العصر كله ، وما من حافظ من حفاظ ذلك العصر يؤلف حديثه إلا وقد رواه على سبيل الاستخراج إذا حدث به سابقه ، ويرويه عن شيخ آخر يكون أعلى منه بالنسبة إلى هذا اللاحق المستخرج ، أو بإسناد آخر ، يلتقي معه في أقرب شيوخه أو مصدر الحديث تحقيقاً لعلو إسناده واستقلالاً بالمصدرية ، بدل أن يكون تابعاً لسابقه ومقلداً له فيه ، ولذلك نجد جميع كتب اللاحقين مستخرجه لأحاديث كتب السابقين .
ولهذا السبب بعينه نلقي الإمام أحمد لا يري في مسنده عن الإمام الشافعي ، وأنه لم يرو عنه فيه سوى حديث واحد ، بل كان يروي عن شيوخ أقدم منه ، بل عن شيوخ الإمام الشافعي ، مثل وكيع وغيره، كما أن مسلم ، ولا ابن خزيمة يروي عن البخاري ولا عن مسلم ، ولا ابن حبان يروي عن ابن خزيمة ولا عن البخاري ولا عن مسلم ، وهكذا نرى أصحاب السنن والصحاح والجوامع والمسانيد والمصنفات لا يرون الأحاديث إلى على الاستخراج .
وهذا الموضوع مما درسناه في الملحق الثاني من كتاب (نظرات جديدة في علوم الحديث) .(1/44)
قولهم (أصح الأسانيد كذا)
قد وردت عن المتقدمين نصوص مختلفة حول أصح الأسانيد ، حيث قال بعضهم : أصح الأسانيد (مالك عن نافع عن ابن عمر) ، وقال بعضهم : (الزهري عن سالم عن ابن عمر) ، وقال بعضهم : (أصح الأسانيد محمد بن سيرين عن عبيدة عن علي) ، وقال بعضهم : (شعبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة) ، وقال بعضهم : (عبيد الله بن عمر عن القاسم عن عائشة) وغيرها من الآراء حكاها الحافظ ابن حجر في كتابه (النكت) (1) .
وأول من حكى ذلك الإمام الحاكم في كتابه (معرفة علوم الحديث) ، ورجح أن يكون ذلك مقيداً بالصحابي أو البلد ، كقوله ، أصح أسانيد أهل البيت : جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن علي ، إذا كان الراوي عن جعفر ثقة .
وأصح أسانيد الصديق : إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن أبي بكر .
وأصح أسانيد عمر : الزهري عن سالم عن أبيه عن جده ، وغير ذلك من الأسانيد(2).
الموضوع الثاني
من الوحدة الأولى
__________
(1) 1/842) .
(2) معرفة علوم الحديث ص54 - 56 . أقول : ما أساس هذا التفاضل بين الأسانيد ؟ ولماذا اضطربوا فيها ؟ وهل معيار ذلك جلالة الرواة ؟ أو أن هناك معايير علمية أخرى يستندون إليها في ذلك ؟
وأصح ما يقال في هذا المجال - فيما أرى - هو أن هذا ترجيح عام بين أشهر الأسانيد بكثرة دوران الأحاديث عليها وبأقل قدر من الأخطاء ، إضافة إلى أمور أخرى علمية مثل جلالة الرواة ومدى علاقة كل منهم بمن فوقه .
ولهذا اتفق العلماء على أن هذا القول لا يلزم منه أصحية الحديث الذي ورد عنه ، إذ التفاضل يكون باعتبار مجموع ما ورد عنها من الأحاديث ، ويشبه ذلك بقدر كبير ما ورد عنهم في مجال الترجيح بين آحاد الرواة بالنسبة إلى بعض المراكز الحديثية المشهورة والمعتمدة عليها لدى كافة المحدثين ، ونذكر على سبيل المثال (نافع عن ابن عمر) حيث يعتبر من أشهر المراكز الحديثية في المدينة المنورة ، حيث قال بعضهم : أثبت الناس في أحاديث نافع هو عبيد الله بن عمر ، وقال بعضهم أثبت الناس فيها مالك ، ونحوه من الأقوال التي وردت في صدد الترجيح بين تلاميذ نافع ، كما وقع الاختلاف فيما يخص أحاديث ابن عمر ، حيث قال بعضهم : أثبت الناس فيه سالم عن أبيه ، وقال بعضهم : "نافع مولاه" .
وأساس هذا النحو من الترجيح هو شهرة الرواة بكثرة حفظهم الأحاديث وروايتها بأقل نسبة من الأخطاء والأوهام إضافة إلى خصائص أخرى يضطربون في تحديدها ، مثل ما ورد عن وكيع :
( لا نعدل بأهل بدلنا أحداً)
وأما ما ورد عنهم (أصح شيء في هذا الباب كذا) فهو أيضاً ترجيح مطلق بين أحاديث الباب ولا يعني تصحيحه ، بل يكون معناه (هذا أقل خطأ وضعفاً من غيره) .(1/45)
العلة
وهو ينقسم إلى قسمين ؛ هما :
ما أخطأ فيه الراوي دون قصد ، ويطلق عليه مصطلح (المعلول) .
ما أخطأ فيه الراوي متعمداً ، ويسمى مصطلح (الموضوع) .
القسم الأول
المعلول ، وأنواعه التالية :
الشاذ .
المنكر .
المقلوب .
المصحف .
المدرج .
المضطرب .
تعارض الوصل والإرسال وعلاقته بالعلة .
تعارض الوقف والرفع وعلاقته بالعلة .
زيادة الثقة وصلتها بالعلة .
المزيد في متصل الإسناد وعلاقته بالعلة .
قبل دراسة هذا الموضوع نطرح بعض التساؤلات المنهجية حول طلباً للتذكير :
ما معنى العلة عند نقاد الحديث ؟
هل تطلق العلة على حديث الضعيف كما تطلق على حديث الثقة ؟
هل العلة كلها قادحة ؟
ما منهج المحدثين في تعليل الحديث ؟
كيف يكتشف خطأ الراوي ؟
لماذا يرجع إلى نقاد الحديث في معرفة علة الحديث ؟
كيف عولج موضوع العلة في كتب المصطلح ؟
من يكون مؤهلاً لمهمة تعليل الحديث ؟
هل يضعف الحديث لمجرد كون راويه ضعيفاً ؟
متى يضعف حديثه ؟
ما صلة العلة بالشاذ والمنكر ؟
ما صلة زيادة الثقة بأنواع العلة ؟(1/46)
الموضوع الثاني من الوحدة الأولى : العلة(1)
بعد أن انتهينا من موضوع الصحيح ، وما يتعلق به من المسائل والمصطلحات ، نتحدث الآن عن الموضوع الثاني من الوحدة الأولى من وحدات علوم الحديث الأربع ، ويتمثل هذا الموضوع في الحديث الذي تبين للناقد أن روايه قد اخطأ في ورايته ووهم ، بغض النظر عن درجة هذا الراوي في سلم الجرح والتعديل بشرط أن لا يكون متروكاً ، إذ حديث المتروك ساقط واه ، يدخل في ضمن الأحاديث الموضوعة والواهية .
وأما المصطلحات المستخدمة في بيان خطأ الراوي فتتنوع بتنوع أسبابه ، وصور وقوعه من الراوي . وهي كالآتي :
" الشاذ" و "المنكر" و "المضطرب" ، و "المقلوب" ، و " المصحف" ، و" المدرج" ، وتندرج هذه الأنواع كلها تحت مصطلح "العلة" .
وهذه الأنواع تشكل وحدة موضوعية ، وإن كانت تعريفاتها ومعانيها متفاوته ، كما يتضح ذلك في الخريطة .
العلة
الشاذ المنكر المضطرب
المقلوب المدرج المصحف
والجدير بالذكر أن العلة ليست نوعاً منفصلاً عن هذه الأنواع ، ولا قسيماً لها ، بل إنها تشكل معناها المشترك ، وهو الخطأ ، والدليل على ذلك أنك إذا تتبعت معناها المشترك، وهو الخطأ ، والدليل على ذلك أنك إذا تتبعت كتب العلل التي وضعت في الأحاديث المعلولة تجد فيها تلك الأنواع كلها ، لكن قد تكون بألفاظ أخرى واضحة المعاني ؛ كقولهم : "هذا باطل"، و "هذا خطأ" و "هذا وهم" و "هذا منكر" و "هذا غريب" و "هذا تفرد به فلان" و "هذا غير محفوظ" و "هذا لا يشبه حديث فلان" ونحوها(2) ، بحيث يدل على أن تلك الأنواع تدور على هذه المعاني .
ومن المفيد أن نتعرف على طريقة المحدثين في كشف الخطأ في الأحاديث ، وقد قال أبو حاتم من قبل لأحد جلة أهل الرأي :
"إنا لم نجازف ، ولم نقله إلا بفهم"(3) .
وقال الحاكم : "الحجة عندنا الحفظ والفهم والمعرفة لا غير"(4) .
__________
(1) من المفيد أن يتأمل القارئ أسلوبه الشخصي في معالجته لما يسمعه من الأخبار اليومية عبر وسائل الإعلام أو عن طريق فردي وذلك يتضح ما يلي :
أولاً : معنى الخبر المعلول .
ثانياً : طريقته لمعرفة خطأ الناقل فيما ينقله من الخبر ، أو لمعرفة تصرفه فيه ، بغض النظر عن شخصية هذا الناقل ، وقد يكون أعز الناس إليه .
ثالثاً : حاجة ذلك كله إلى خلفية علمية ، أو تخصص علمي في موضوع الخبر الذي يريد معالجته.
رابعاً : أن فاقد هذه الخاصية يضطر إلى تقليد المخبر ، وبالتالي يكون هو بعيداً عن الواقع والإنصاف والاعتدال .
(2) بهذا يتضح أن العلة مصطلح عام يشمل تلك الأنواع كلها ، وأن المحدثين الناقد لم يجعلوا العلة نوعاً مستقلاً عنها ، ولا قسيماً لها ، وإن كان قد يفهم ذلك من معظم كتب المصطلح عموماً ، لقصور منا؛ إذ المعنى المشترك بين هذه الأنواع هو وجود خطأ في الرواية ، بغض النظر عن مرتبة الراوي المخطئ في سلم الجرح والتعديل ، ونوعية خطئه وآثاره .
ومن المعلوم أن الثقة قد يخطئ ، كما أن الضعيف قد يصيب ، غير أن خطأه ووهمه يكون هو الأغلب بالنسبة إلى الصواب ، بخلاف الثقة . وإن كانت هذه الأنواع متفاوتة المعنى من بعض الجوانب، لكن مناط الحكم فيها جميعاً واحد ، وهو ردها لوجود خطأ في الرواية ، الذي شكل نقطة جوهرية لمفهوم العلة .
(3) تقدمه الجرح والتعديل 1/351 .
(4) معرفة علوم الحديث ، ص112 .(1/47)
كيف يتبين للناقد خطأ الراوي
إذا كان المعنى المشترك بين هذه الأنواع هو خطأ الراوي ، سواء أكان ثقة أم ضعيفاً ، فإن منهج النقاد في معرفته وتحديد صاحبه يشكل أهم جوانب علم الحديث ، وأن معرفته تكون من أهم الأهداف التي نصبوا إلى تحقيقها من وراء هذا العلم عموماً .
ولذلك تأتي الفقرات التالية لتسليط الضوء على أهم معالم منهج النقد عند المحدثين في تعليل الأحاديث ، ثم تأتي المناسبة لبيان تفاصيل تلك الأنواع ، كل على حدة .
إن المخالفة والتفرد وسيلتان مهمتان لمعرفة الخطأ ، بل لتحديد صاحبه بدقة ، وذلك لأن الراوي إذا أخطأ ، أو تصرف عند روايته الحديث ، فإنه يؤدي إلى مخالفته الواقع الحديثي، أو تفرده بما ليس له أصل ، لا سيما حين يحدث عن حافظ مشهور بحفظه ، وإتقانه ، وكثرة أصحابه ، فإن خطأه فيما يرويه عن هذا الحافظ المشهور يكون أكثر وضوحاً. وأسهل تسليماً(1).
ومن المعلوم أن المخالفة والتفرد في حديث الراوي لا تعرفان إلا من خلال جمع رواياته ومقارنة بعضها مع بعض مقارنة علمية ومنهجية ، وأما إذا كان الحديث عن ثقة غير مشهور، فإن جمع الروايات عنه ومقارنة بعضها ببعض لا تتاح إلا في أضيق النطاق ، حيث يقل عدد الرواة عنه(2) .
ويمكن أن نقرأ في سياق قول الإمام ابن الصلاح رحمه الله تعالى ، هذا الجانب المهم الذي يشكل نقطة جوهرية في منهج المحدثين في معرفة العلة ، وهذا نصه :
" ويستعان على إدراكها (أي العلة) بتفرد الراوي وبمخالفة غيره له ، مع قرائن تنضم إلى ذلك ، تنبه العارف بهذا الشأن على إرسال في الموصول أو وقف في المرفوع ، أو دخول حديث في حديث ، أو وهم وأهم لغير ذلك ، بحيث يغلب على ظنه ذلك ، فيحكم به أو يتردد فيتوقف فيه ، وكل ذلك مانع من الحكم بصحة ما وجد ذلك فيه"(3) .
وهذا نص واضح يعكس بجلاء منهج المحدثين النقاد في تعليل الأحاديث ، ويتضمن هذا النص النقاط التالية :
العلة عبارة عن وهم الراوي وخطئه .
العلة نوع عام يشمل الشاذ والمنكر والمقلوب والمصحف والمدرج والمضطرب.
الذي يكشف الخطأ هو الناقد الجهبذ .
وسائل كشف الخطأ هي المخالفة والتفرد مع قرائن تنضم إليهما .
يعد تعارض الوصل والإرسال ، وتعارض الوقف والرفع ، وتداخل الأحاديث صوراً مشهورة لنوعية الأخطاء التي تقع من الرواة عموماً .
زيادة الثقة لها ظهور في هذا النص .
أن العلة كلها قادحة .
وأن الحكم بالخطأ يكون على الظن الغالب(4) .
__________
(1) وأما إذا كان الحديث عن ثقة غير مشهور فإنه يزداد غموضاً في معرفة الخطأ والصواب ، لصعوبة الوقوف على الواقع الحديثي بالنسبة إليه ؛ إذ الدلائل والقرائن تكون شحيحة الوجود ، ووسائل البحث والمقارنة لا تكون متوفرة كما ينبغي . فإذا تفرد عنه راو بحديث فإن الحكم عليه لن يكون سهلاً ، بل قد يؤدي ذلك إلى اضطراب بين تصحيح وتحسين وتضعيف .
(2) بما أن المخالفة والتفرد من أهم مؤشرات الخطأ تضمنها تعريف الشاذ والمنكر ، فقد قبل في تعريف الشاذ :
أن يخالف الثقة من هو أوثق منه .
أو أن يتفرد الراوي بحديثه .
وأما المنكر فقيل في تعريفه :
أن يخالف الضعيف ما رواه الثقة ، أو أن يتفرد الراوي بحديثه .
والجدير بالذكر أن المقصود هنا في هذه التعريفات ليس مجرد مخالفة تكون بين ثقة وأوثق ، ولا مطلق تفرد يتفرد به راو ، كما يتوهم ذلك ، وإنما المقصود هو أن يخالف الراوي الأمر الواقع ، أو أن ينفرد بما ليس له أصل في واقع الأمر .
ومن أهم ما تتوقف عليه معرفة ذلك بدقة متناهية هو فقه ما يحيط بالحديث من القرائن والملابسات، يقول الحافظ ابن رجب :
" ولهم في كل حديث نقد خاص ، وليس عندهم لذلك ضابط يضبطه" . (شرح العلل ، ص208).
ويقول الحاكم : "والحجة عندنا الحفظ والفهم والمعرفة لا غير" . (معرفة علوم الحديث ص13).
ويقول أبو حاتم : "وإنما قلناه بعلم ومعرفة قد أوتينا" . (مقدمة الجرح والتعديل 1/350) .
(3) علوم الحديث المشهور بمقدمة ابن الصلاح ص53 - 53 .
(4) وتفصل ذلك كما يلي :
أما النقطة الأولى فتتجلى من قوله الذي ختم به النص ، وهو قوله :
" أو وهم واهم لغير ذلك ، بحيث يغلب على ظنه ذلك" .
يدل هذا النص على أن ما سبق ذكره من تعارض الوصل والإرسال ، وتعارض الوقف والرفع ، وإدخال حديث في حديث يكون نتيجة وهم وأهم ، كما يدل على أن الوهم لا ينحصر في هذه الصور المذكورة ، بل له صور أخرى .
وعلى هذا السياق يمكن أن نفهم أن مفهوم العلة دائر على وهم الراوي وخطئه ، وأنه يقع في صور مختلفة .
والنقطة الثانية تظهر من تمثيل ابن الصلاح للعلة بتعارض الوصل والإرسال وتعارض الوقف والرفع وغير ذلك ، إذا الواصل أو الرافع يخالف المرسل أو الواقف ؛ فإذا كان الأول ثقة ، وبالثاني أوثق، أو جماعة، أو راجحاً في ضوء قرائن أخرى، فيعد حديث الثقة المتصل أو المرفوع =(1/48)
المثال التوضيحي لمفهوم العلة
يحسن بي أن أذكر هنا مثالاً أو على الأقل ما أعله النقاد من حديث الضعيف ، لأن حديث الثقة لا يختلف في كونه مصداق العلة ، ويكون في الوقت ذاته مثالاً لما سبق شرحه من مفهوم العلة ومنهج النقاد في كشفها وغير ذلك من الأمور المنهجية .(1/49)
المثال الأول :
سئل الدار قطني عن حديث علقمة بن وقاص الليثي عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم : "إنما الأعمال بالنيات .." الحديث .
فقال : هو حديث يرويه يحيى بن سعيد الأنصاري عن محمد بن إبراهيم عن علقمة بن وقاص عن عمر . وهو حديث صحيح عنه .
وحدث بهذا الحديث شيخ من أهل الجزيرة – يقال له سهل بن صقير – عن الدراوردي وابن عيينة وأنس بن عياض عن محمد بن عمرو عن محمد بن إبراهيم عن علقمة بن وقاص عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم .
ووهم على هؤلاء الثلاثة فيه ، وإنما رواه هؤلاء الثلاثة وغيرهم عن يحيى بن سعيد الأنصاري ، لا عن محمد بن عمرو .
جاء هذا التعليل في كتاب العلل للإمام الدار قطني ، وقال في أثناء نقده لهذا الحديث : "إن رواية سهل بن قصير وهم ".
وسهل بن صقير هذا ضعيف . وظهر خطؤه حين خالف الواقع الحديثي ، ولذا قال الإمام الدار قطني : "وإنما رواه هؤلاء الثلاثة وغيرهم عن يحيى بن سعيد الأنصاري ، لا عن محمد بن عمرو"(1) .
__________
(1) - يكون منكراً . وقول ابن الصلاح : "وإدخال حديث في حديث أو وهم واهم لغير ذلك" يدلنا على أن المقلوب والمدرج والمصحف كله داخ لفي العلة ، كما يفيدنا قوله : "أو يتردد فيتوقف" بأن المضطرب نوع يندرج تحت أنواع العلة .
والنقطة الثالثة واضحة من قوله : (ينبه العارف بهذا الشأن) .
والنقطة الرابعة والخامسة واضحتان أيضاً من عموم ذلك النص .
والسادسة تظهر من التمثيل أيضاً ، وذلك لأنه إذا كان الواصل أو الرافع أو المدرج ثقة ، فيكون ذلك صورة لزيادة الثقة المردودة التي دلت القرائن على أن ذلك خطأ
( ) علل الدار قطني 2/191 – 192 .(1/50)
والمثال الثاني :
قال ابن أبي حاتم : سئل عن حديث رواه نوح بن حبيب عن عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد عن مالك بن أنس عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم : " إنما الأعمال بالنيات" .
قال أبي : هذا حديث باطل لا أصل له ، إنما هو : مالك عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم عن علقمة عن عمر(1) .
فملا وهم ابن أبي رواد في نقل هذا الحديث عن مالك ، وتصرف في إسناده خطأ ، أصبح بذلك مخالفاً لما يحفظه الثقات عن مالك ، ومنفرداً بما لا أصل له عنده ، حتى قال أبو حاتم :
"إنما هو مالك عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم عن علقمة عن عمر" .
ومعنى ذلك أن ابن أبي رواد كان عليه أن يروي حديث : "إنما الأعمال.." عن مالك عن يحيى بن سعيد على النحو الذي يرويه الثقات ، غير أنه لم يدقق ما سمعه من مالك ، حتى تداخلت عليه أحاديثه ، فرواه عن مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء عن أبي سعيد خطأ ووهماً .
ولما وهم ابن أبي رواد في هذا الحديث سهل على لسانه لانتقال من إسناد إلى إسناد أكثر تداولاً ، وشهرة ؛ إذ كان مالك يروي كثيراً عن زيد بن أسلم عن عطاء عن أبي سعيد غير حديث . وهذا ما يقال عنه في لغة النقاد : سلوك الجادة . وابن أبي رواد هو عبد المجيد بن أبي رواد متكلم فيه .
وهكذا ترى في هذين المثالين تجسد جميع ما سبق شرحه من :
إطلاق العلة على وهم الراوي وخطئه .
تم الكشف عنها حين تفرد الراوي بما لا أصل له أو خالف الواقع .
مدى توقف ذلك على الحفظ والفهم والمعرفة .
لم يضعف أبو حاتم هذا الحديث لكون ابن أبي رواد ضعيفاً أو متكلماً فيه وإنما لمخالفته الواقع المعروف عن مالك في هذا الحديث .
وكذا الدار قطني لم يضعف حديث سهل لكونه ضعيفاً ، وإنما لمخالفته الواقع المعروف عن الثقات .
تطلق العلة على ما رواه الضعيف أيضاً .
لكي يكون تصورانا حول العلة مؤسساً ومتكاملاً ينبغي أن لا نترك هذا الموضوع إلا بعد قراءته في كتب المصطلح حتى نفهم ما تضمنه تعريف العلة .
__________
(1) علل ابن أبي حاتم 1/131 .(1/51)
العلة في كتب المصطلح
يقول ابن الصلاح :
العلة : "عبارة عن أسباب خفية غامضة قادحة في صحة الحديث" والحديث المعلل : هو الحديث الذي أطلع فيه على علة تقدح في صحته مع أن ظاهره لسلامة منها"(1) .
وتبعه اللاحقون في كتبهم ، ومفاد هذا التعريف أن العلة عبارة عن شيء خفي غامض يقدح في صحة الحديث ، دون أن يوضح حقيقة هذا الشيء ، وما هذا الشيء ؟ ، ومما لاشك فيه أن الانقطاع - وإن كان قادحاً في صحة الحديث - لا يكون مقصوداً هنا ، لكونه ظاهراً ، وقد جاء التعريف مقيداً بأن يكون القادح خفياً غامضاً ، وفي السياق الثاني بسلامة ظاهر السند.
وكذا يفهم من السياقين أن الحديث الذي رواه الضعيف لا يصدق عليه تعريف العلة، لأن ضعف الراوي ظاهر أيضاً ، وليس غامضاً خفياً(2) .
والذي يعتمد هذا التعريف لبناء تصوراته حول هذا المصطلح - دون أن يبحث معناه في الجانب التطبيقي لنقاد الحديث ، حيث إن هذا الجانب التطبيقي يشكل المرجعية الأصيلة لعلوم الحديث - ليس بمقدوره استيعاب موضوع العلة ، ولا معرفة وجه الاشتراك بينها وبين أنواعها، ولا فهم مصطلحات النقاد في التعليل ، ولا فقه القرائن التي يعتمدونها في ذلك(3) .
والمتتبع لكتب العلل ، وصنيع النقاد فيها ، يرى العلة عندهم أوسع مما تضمنه التعريف السابق ، وأنها عبارة عن خطأ الراوي ن سواء أكان ثقة أم ضعيفاً .
وبالتالي لا داعي لإخراج حديث الضعيف من التعريف ، ثم إن الغموض ليس شرطاً أساسياً للعلة ، وإنما من صفاتها الطبيعية ، حيث إنها لا تعرف إلا من خلال استحضار الروايات ومقارنة بعضها ببعض ، ومعرفة ما بينها من صلة ، وفقه ما يحيط بها من قرائن وملابسات .
ومن هنا نجد تعريف العلة في كتب المصطلح يضيق معناها ، حيث صارت العلة مقيدة فيها بمرويات الثقات ، كما سبق ذلك في تعريف الصحيح ، ولفت الانتباه إلى هذا الجانب أمر له أهمية في فهم منهج القوم في التصحيح والتعليل ، ولا يلحظ القارئ ذلك ولا يقتنع به إلا إذا كان مطمئناً بضرورة التمييز بين المرجع الأصيل والمصدر المساعد في علوم الحديث .
وبعد ، فإنه من المفيد أن نلخص موضوع العلة بما يلي :
العلة تكون عبارة عن خطأ الراوي .
تطلق العلة على حديث الثقة وحديث الضعيف سواء بسواء .
تكون العلة من خلال مخالفة الراوي الأمر الواقع ، أو تفرده بما ليس له أصل .
يشكل هذا النوع من المخالفة والتفرد أهم معالم منهج المحدثين في التعليل .
وبعد هذه الفكرة المنهجية الواضحة حول مفهوم العلة عموماً ننظر فيما يتفرع عنها من الأنواع ، وإن كان مصطلحات هذه الأنواع وتعريفاتها مختلفة فإن القدر المشترك بينها يتمثل دائماً في خطأ الراوي ، سواء أكان ثقة أم ضعيفاً(4) . وفيما يلي بيان هذه الأنواع ؛ أولاً : الشاذ .
__________
(1) مقدمة ابن الصلاح ، ص90 .
(2) قد يشكل على تعريف ابن الصلاح بأنه لم يكن مانعاً من دخول الإرسال الخفي ، والتدليس فيه، لأن التعريف يصدق عليهما ؛ إذ هما من الأسباب القادحة في صحة الحديث مع الغموض والخفاء.
ومن المعلوم أن الإرسال الخفي والتدليس لا يعرفان بمجرد عنعنة الراوي أو المدلس ، بل بجمع الروايات ، وأما إذا قلنا إن العلة عبارة عن خطأ الراوي ، فيكون المعنى واضحاً ومانعاً من دخول التدليس والإرسال الخفي ، فيها إذا لا صلة لهما بالخطأ ، وإن كان كل منهما قادحاً في صحة الحديث.
ومن الجدير بالذكر أنه قد ورد إطلاق العلة في كلام النقاد في مطلق القدح ، ظاهراً كان أم خفياً ، وذلك تمشياً مع دلالتها اللغوية ، كقولهم في الحديث المرسل : (هذا حديث لا يصح وفيه علة) ، يقصدون بها الإرسال ، أو (وفيه علة الإرسال) مثلاً ، فإن الانقطاع مما يمنع العمل والاحتجاج بالحديث ، كما تطلق العلة على الحديث المنسوخ ، لكونه خارج نطاق العمل به .
(3) ههنا لفتة علمية لابد من التلويح بها ، وهي :
أن كثيراً من المتأخرين والمعاصرين يجعلون أحاديث الثقات ميدان وقوع العلة والشذوذ ، ويفرقون بينهما في التعريف ، وفي الوقت ذاته نراهم يصححون الحديث لمجرد كون رواته ثقات ، على الرغم من مخالفة أحدهم لمن هو أوثق منه ، أو تفرده بما لا يعرفه الآخرون ، ثم يستدلون به في الأحكام الفقهية أو العقدية ، أو في الدفاع عن مذهب أو رأي يذهبون إليه .
وإذا وقفوا على أن الحديث قد أعله ناقد بالتفرد أو المخالفة يعقبون عليه بقولهم : "كلا ! إنه ثقة لا يضر تفرده" ، أو "زيادة الثقة مقبولة" .
أو ليس هذا مفارقة عجيبة في مواقفهم ، وتناقضاً صريحاً بين الحكم النظري والعمل التطبيقي ! إذ يجعلون العلة والشذوذ خاصتين بما رواه الثقة نظرياً ، بينما يجعلونهما مقيدين بما رواه الضعيف علمياً، وكأنهم لا يرفضون الحديث ولا يعلونه إلا إذا كان روايه ضعيفاً .
(4) إن كان يمكن تقسيم العلة إلى نوعين باعتبار حال الراوي ، فإن كان ثقة فشاذ ، وإن كان ضعيفاً فمنكر ، بناءً على كتب المصطلح ، غير أننا لا نجد لذلك دليلاً ملموساً في صنيع النقاد ؛ إذ لم يستخدموا في كتب العلل مصطلح الشاذ ، بل استخدموا عبارات مختلفة واضحة ، ثم إنهم يطلقون المنكر على مرويات الثقات والضعاف ، لكنه في الضعفاء أكثر وأشهر .(1/52)
مصطلح الشاذ(1)
الشاذ نوع من أنواع العلة ، وردت في معناه ثلاثةأقوال(2)
__________
(1) الشاذ اسم فاعل من (شذ) والشذوذ في اللغة : الانفراد . ولابن حزم فيه كلام جميل ، أنقله هنا، وهذا نصه :
(الباب السابع والعشرون في الشذوذ) : الشذوذ في اللغة التي خوطبنا بها هو الخروج عن الجملة ، وهذه اللفظة في الشريعة موضوعة باتفاق على معنى ما ، واختلف الناس في ذلك المعنى .
فقالت طائفة : الشذوذ هو مفارقة الواحد من العلماء سائرهم ، وهذا قول قد بينا بطلانه في باب الكلام في (الإجماع) من كتابنا هذا . والحمد لله رب العالمين .
وذلك أن الواحد إذا خالف الجمهور إلى حق ، فهو محمود ممدوح ، والشذوذ مذموم بإجماع، فمحال أن يكون المرء محموداً مذموماً من وجه واحد في وقت واحد ، وممتنع أن يوجب شيء واحد الحمد والذم معاً في وقت واحد من وجه واحد ، وهذا برهان ضروري .
وقد خالف جميع الصحابة رضي الله عنهم أبا بكر في حرب أهل الردة ، فكانوا في حين خلافهم مخطئين كلهم ، فكان هو وحده المصيب فبطل القول المذكور .
وقال طائفة : الشذوذ هو أن يجمع العلماء على أمر ما ، ثم يخرج رجل منهم عن ذلك القول الذي جامعهم عليهم ، وهذا قول أبي سليمان وجمهور أصحابنا .
وهذا المعنى - لو وجد - شذوذ وكفر معاً لما قد بينا في باب (الكلام في الإجماع) : أن من فارق الإجماع ، وهو يوقن أنه إجماع ، فقد كفر ، مع دخول ما ذكر في الامتناع والمحال ، وليت شعي متى تيقنا إجماع جميع العلماء كلهم في مجلس واحد ، فيتقون ثم يخالفهم واحد منهم .
والذي نقول به وبالله تعالى التوفيق : إن حد الشذوذ هو مخالفة الحق ، فكل من خالف الصواب في مسألة ما ، فهو فيها شاذ ، وسواء كانوا أهل الأرض كلهم بأسرهم ، أو بعضهم ، والجماعة والجملة هم أهل الحق ، ولو لم يكن في الأرض منهم إلا واحد فهو الجماعة ، وهو الجملة .
وقد أسلم أبو بكر وخديجة رضي الله عنهما فقط ، فكانا هم الجماعة ، وكان سائر أهل الأرض غيرهما وغير رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الشذوذ .
وهذا الذي قلنا لا خلاف فيه بين العلماء ، وكل من خالف فهو راجع إليه ، ومقربه ، شاء أو أبى والحق هو . (الإحكام لابن حزم 5/82) .
(2) آراء الأئمة حول الشاذ :
قال يونس بن عبد الأعلى قال لي الشافعي : ليس الشاذ من الحديث أن يروي الثقة ما لا يرويه غيره، هذا ليس بشاذ ، إنما أن يروي الثقة حديثاً يخالف فيه الناس . هذا الشاذ من الحديث. (نقله الحاكم في معرفة علوم الحديث ، ص119) .
قال الحافظ الخليلي : الشاذ عند حافظ الحديث ما ليس له إلا إسناد واحد ، يشذ بذلك شيخ، ثقة كان أو غير ثقة ، فما كان عن غير ثقة فمتروك لا يقبل ، وما كان عن ثقة يتوقف فيه ولا يحتج به . (الإرشاد 1/176) .
قال الحاكم : الشاذ غير المعلول فإن المعلول ما يتوقف على علته : أنه دخل حديث في حديث، أو وهم فيه راو أو أرسله واحد ، فوصله واهم ، فأما الشاذ فإنه حديث يتفرد به ثقة من الثقات وليس للحديث بمتابع لذلك الثقة. (معرفة علوم الحديث ص119) .
وأن كانت نصوصهم هذه حول المقصود بالشاذ مختلفة بعضها عن بعض فإنها تدور جمعياً على معنى الغرابة التي تقع في الحديث لسبب مخالفته الراجح ، أو تفرد راويه به وليس له أصل.
هل تعتبر هذه النصوص تعريفات أو توضيحات ؟
إذا نظرنا إلى هذه النصوص ، كأنها توضيحات ، ينبغي فهمها في ضوء سياقها ، وجمع ما له صلة بالموضوع من النصوص ، وعملهم التطبيقي ، فلا يوجد فيها تناقض ولا اختلاف منهجي، ولا إشكال من حيث الاصطلاح ، ما سيأتي شرح ذلك مفصلاً إن شاء الله تعالى .
أما إذا قرأناها باعتبارها تعاريف متنوعة لمصطلح الشاذ ، نجد بعضها غير مانع من أن يدخله ما ليس منه ؛ كغرائب الصحيح ، مما دفع علماءنا من المتأخرين إلى ترجيح ما قاله الإمام الشافعي، لاستيفائه من عناصر التعريف ما لم يستوف قول الحاكم ، وما نقله الخليلي عن الحافظ .
فإن كان قول الحاكم والخليلي لا يمنعان دخول الأحاديث الصحيحة التي تفرد بها الثقات في مفهوم الشاذ ، فإنه حسب قول الشافعي لا تكون تلك الأحاديث شاذة ، إذ اشترط في اشاذ المخالفة . وبذلك استقر مصطلح الشاذ في كتب المصطلح على المعنى الذي نص عليه الإمام الشافعي رحمه الله تعالى .
كيف قرأ المتأخرون هذه الأقوال ؟
ويمكن أن نقرأ في قول الإمام ابن الصلاح رحمه الله تعالى ، ما يدل على أنه كان ينظر إلى نصوص الأئمة حول الشاذ من منطلق صناعة التعريف ، وخصائصه المنطقية ، ولهذا اعتمد ظاهر تلك الأقوال في فهم مغزاها ، ولم يقبل منها ما كان يكتنفه غموض وإشكال - كقول الحاكم وقول الخليلي - وإن كان قصدهما واضحاً وجلياً من خلال عرض هذين القولين على صنيعهما في التطبيق العملي ، وما ورد عنهما من النصوص في مناسبات أخرى ، وذلك لأنه مخالف لخصائص التعريف المنطقي . =
= يقول ابن الصلاح رحمه الله تعالى :
"أما ما حكم الشافعي عليه بالشذوذ فلا إشكال في أنه غير مقبول ، وأما ما حكيناء عن غيره فيشكل بما ينفرد به العدل الحافظ الضابط كحديث : "إنما الأعمال بالنيات" فإنه حديث فرد تفرد به عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم تفرد به عن عمر علقمة بن وقاص ، ثم عن علقمة محمد بن إبراهيم ، ثم عنه يحيى بن سعيد على ما هو الصحيح عند أهل الحديث " .
" وأوضح من ذلك في ذلك : حديث عبد الله بن دينار عن ابن عمر (أن النبي صلى ا لله عليه وسلم نهى عن بيع الولاء وهبته) تفرد به عبد الله بن دينار ، وحديث مالك عن الزهري عن أنس (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة وعلى رأسه المغفر) تفرد به مالك عن الزهري".
" كل هذه مخرجة في الصحيحين مع أنه ليس لها إلا إسناد تفرد به ثقة . وفي غرائب الصحيح أشباه لذلك غير قليلة ، وقد قال مسلم بن الحجاج : للزهري نحو تسعين حرفاً يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يشاركه فيه أحد بأسانيد جياد . والله أعلم " .
"فهذا الذي ذكرناه وغيره من مذاهب أئمة الحديث يبين لك أنه ليس الأمر في ذلك على الإطلاق الذي أتى به الخليلي والحاكم ، بل الأمر في ذلك على تفصيل نبينه" .
ثم لخص ابن الصلاح ذلك بقوله :
"فخرج من ذلك أن الشاذ المردود قسمان :
أحدهما : الحديث الفرد المخالف .
والثاني : الفرد الذي ليس في روايه من الثقة والضبط ما يقع جابراً لما يوجبه التفرد والشذوذ من النكارة والضعف ، والله أعلم" . (مقدمة ابن الصلاح ، ص78 - 79) .
فهذب الإمام ابن الصلاح إلى هذا التلخيص ، وحاول أن يكون ذلك بعيداً عن الاعتراض الذي سبق إيراده على إطلاق الحاكم والخيلي ، ويكون مصطلح الشاذ أكثر تحديداً وضبطاً لدى الطلبة جاء تقسيمه للشاذ إلى قسمين :
أحدهما : الفرد المخالف :
يكون مرجع هذا القسم قول الشافعي ، غير أن ابن الصلاح خالفه في أمرين :
الأمر الأول: أنه أطلق بقوله : "الفرد المخالف" ولم يوضح هل المخالف هنا الثقة دون الضعيف أو هو عام شامل للثقة والضعيف ، وعلى كل فظاهر هذا القول يكون أعم مما ذكره الشافعي ، حيث جعل رحمه الله تعالى الشاذ خاصاً بالثقة .
والأمر الثاني : أنه اشترط في المخالفة أن تكون منافية ، فقد قال في النوع السادس عشر :
"وقد رأيت تقسيم ما ينفرد به الثقة إلى ثلاثة أقسام : أحدها : أن يقع مخالفاً منافياً لما رواه سائل الثقات ، فهذا حكمه الرد كما سبق في نوع الشاذ" . (مقدمة ابن الصلاح ، ص67) .=
= ولذلك أصبح ابن الصلاح بعيداً عن منهج الشافعي الذي لم يشترط فيه المنافاة ، بل أطلق المخالفة ، بل أصبح موافقاً لمنهج الفقهاء وأئمة الأصول في ذلك .
والقسم الثاني من الشاذ : ما ينفرد به الضعيف :
وهذا القسم جاء مصححاً لما قاله الحاكم والخليلي ، ومستدركاً عليهما فيما أطلقا ، حيث يدل قولهما في معنى الشاذ على أن ما تفرد به الثقة مطلقاً يعد شاذاً .
استقرار مصطلح الشاذ بعد استدراك الحافظ ابن حجر على الإمام ابن الصلاح .
استدرك الحافظ ابن حجر على تلخيص الإمام ابن الصلاح قائلاً :
" إن الشاذ ما رواه المقبول مخالفاً لمن هو أولى منه ، وهذا هو المعتمد في حد الشاذ بحسب الاصطلاح ، وقال : إن الشاذ والمنكر يجتمعان في اشتراط المخالفة ، ويفترقان في أن الشاذ روايه ثقة أو صدوق ، والمنكر راويه ضعيف . وقد غفل من سوى بينهما". (نخبة الفكر ص68 ،70).
وتبعه في ذلك جل المتأخرين ، حتى استقر الرأي في الشاذ على ما رجحه الحافظ ابن حجر .
تأمل في صنيع المتأخرين :
هل كان مصطلح الشاذ مضطرباً عند الحافظ حتى يقال إنه قال استقر بعدهم ؟
وعند التتبع يظهر أنه لم يكن مضطرباً ، بل كان معناه واضحاً ومستقراً ، ومطابقاً لدلالاته اللغوية، وهي غرابة الحديث ، دون أن يكون له أصل لا رواية ولا عملاً ، سواء خالف الصواب، أم تفرد به الراوي ، ولذا فإن نصوص الأئمة ينبغي اعتبارها توضيحية ، وكثيراً ما يركزون فيها على جانب المشكل الذي أشكل على المخاطب ، بعيداً عن صناعة التعريف المنطقي، وبالتالي لا ينبغي أن يكون الغموض واللبس والإشكال سبباً للإعراض عن نصوصهم وأقوالهم ، بل لابد من عرضها على عملهم التطبيقي ، أو على ما ورد عنهم في مناسبة أخرى من النصوص التي قد تكون مفصلة ومفسرة لما هو مبهم ، وفهم مقصودهم من خلال ذلك .
وبما أن النقاد قد استخدموا مصطل الشاذ في الحديث المخالف للصواب ، أو الحديث الغريب الذي لا أصل له ، فإنه لا يجدي نفعاً في تفسير الشاذ الذي ورد في نصوصهم ، بما استقر فيما بعد من المعنى ، بل لابد من معرفة مواقع استعمالهم لذلك ، ثم تفسيره في ضوء ما تدل عليه مناسبة إطلاقهم له ، أو في ضوء منهجهم العام في ذلك .
مثلاً ؛ يقول شعبة : لا يجيئك الشاذ إلا من الرجل الشاذ .
ويقول الترمذي في سياق كلامه عن مصطلح الحسن الذي يكون في سنده راو ضعيف غير متروك: "ولا يكون شاذاً ويروى من غير وجه" .
يعني : أن لا يكون ما رواه الضعيف غير المتروك شاذاً ، بل يروى من غير وجه .
وهل يمكن أن نفسر الشاذ في هذين النصين في ضوء تعريف الشاذ المستقر في كتب المصطلح ؟ كلا، إذ الشاذ مرتبط بالثقة ، وهذان النصان بصدد الحديث الغريب الذي تفرد به الراوي الضعيف، ولم يكن له أصل . =
= والتفطن إلى تفاوت اساليب الحفاظ في استخدام كلمة الشاذ ، ثم شرحها في ضوء منهج قائلها ، يشكل أبرز معالم التكوين العلمي الذي نسعى إلى تحقيقه من دراسة علوم الحديث .
قول الإمام الشافعي في الشاذ ليس على صناعة التعريف .
وإن كان ما ذكره الإمام ابن الصلاح - في سبيل ترجيحه قول الإمام الشافعي في تعريف الشاذ- سليماً حسب صناعة التعريف المنطقي ، لكن هذه النظرة المنطقية تثير التساؤلات الآتية:
لماذا آثر الإمام الشافعي مصطلح الشاذ لشرحه دون غيره من المصطلحات ؟
هل هذا المصطلح فقط يتسم بغموض دون سواه ؟
هل الإمام الشافعي إراد بذلك فعلاً وضع تعريف منطقي لمصطلح الشاذ ؟
هل كان علماء عصره يهتمون بتحديد المصطلحات وتعريفها ، كما كان عليه المتأخرون؟
هل الإمام الشافعي أصبح بذلك مخالفاً للمحدثين ، ويصحح ما يعلونه ؟
هل كان الشافعي يقبل كل ما تفرد به الراوي الثقة مطلقاً ؟
وهذه التساؤلات تكون ملحة حين نعتبر ما قاله الشافعي تعريفاً منطقياً لمصطلح الشاذ ، وأما إذا قلنا إنه لم يقل ذلك تعريفاً له - وإنما كان ذلك توضيحاً - وشرحاً عابراً لبعض أعباد هذه الكلمة ، حيث أشكل على من خاطبه به موضوع الاحتجاج بخبر الواحد - فإن ذلك يكون بعيداً عن إثارة هذه التساؤلات .
وتوضيح ذلك أنه يمكن أن يكون لما قاله الإمام الشافعي فيما يخص الشاذ صلة وثيقة بموقف أهل السنة والجماعة تجاه الأحاديث الآحاد التي يتفرد بنقلها ثقة عن ثقة ، ولم يخالفهم في هذا الموقف إلا أهل البدع ، إذ لم يقبلوا تلك الأحاديث ، ولم يحتجوا بها ، إلا إذا رواها أكثر من واحد ، مع اختلافهم في تحديد العدد الذي ينبغي أن يستكمل في رواية الخبر. (راجع النكت 1/241 - 243) .
وإذا قلنا إن الشاذ معناه ما تفرد به الثقة وأطلقنا ذلك ، فإنه يكون في ذلك ما يعزز موقف أهل البدع ، ولذلك لعله رحمه الله تعالى أنكر بقوله :
" ليس الشاذ من الحديث أن يروي الثقة ما لا يرويه غيره ، (يعني مطلق التفرد) هذا ليس بشاذ ، إنما الشاذ أن يروي الثقة حديثاً يخالف فيه الناس ، هذا الشاذ من الحديث" .
وإذا كان يفهم من ظاهر هذا النص أن يرف إطلاق الشاذ على تفرد الثقة ، فإنه لا يمكن حمله على ظاهره ، ولا أن يفهم منه أن الإمام الشافعي كان يقبل كل تفرد يقع من الثقة ، وأنه ينتهج في ذلك منهجاً مناقصاً لمنهج المحدثين النقاد ، كلا ، إذ سبق لنا في مسألة الاحتجاج بحديث الخاصة ما يدل على أنه رحمه الله لم يعد يحتج بذلك مطلقاً ، وإنما بشرط بينها هناك .
ومعنى ذلك أنه إذا لم تتوافر هذه الشروط فيما يروي الثقة عن الثقة لم يعد يقبله ، بل كانوا جميعاً متفقين على أن قبول ذلك متوقف على شروط معينة . ولم يكن الإمام الشافعي يحتج بالأحاديث التي يعتبرها الحفاظ شاذة غريبة ، بل كان يعول كثير على نقاد الحديث في مجال التصحيح والتضعيف ، ففي الغالب يقبل ما صححوه ، ويرد ما ضعفوه ، وكان يقول : =
= " وفيه حديث لا يثبته أهل العلم بالحديث " . (النكت 2/117) .
وقال أيضاً : "فعليك من الحديث بما تعرفه العامة وإياك والشاذ منه " . (الأم 7/703-803) .
وهذا يدل على أن الإمام الشافعي يرد الحديث الغريب الذي لا تعرفه عامة المحدثين ، ويعتبره شاذاً مردوداً ، سواء تفرد به ثقة أم خالفه الآخرون فيه ، ولا يختلف في ذلك لا الحاكم ولا الحافظ ، وبالتالي فلا يوجد بينهم تباين منهجي في رد الغريب الذي لا اصل له عموماً ، سواء أطلق عليه الشاذ أو لا .
المنهج الصحيح في تفسير نصوص الأئمة ومصطلحاتهم العلمية :
ومن المعلوم أ، نصوص النقاد لا ينبغي تأويلها دائماً باعتماد ظاهرها ، وإنما ينبغي أن يكون ذلك في ضوء طبيعة عملهم التطبيقي ، أو ما ورد عنهم في النصوص في مناسبات أخرى ، فيفسر بنصه أو بعمله التطبيقي ، وإلا يكون التأويل مصدر غموض وشبه وإشكال.
وأوضح مثال يضرب في ذلك ما سبق عن الحاكم في الشاد ، وكذا ما نقله الخليلي عن الحفاظ عموماً، ومن ينظر إلى ظاهر قوليهما يبدو له أنهما يطلقان الشاذ على جميع ما تفرد به الثقة ، سواء كان له أصل أم لا ، غير أنهما لا يقصدا ذلك يقيناً ، وإنما يريدان فقط الغريب الذي ليس له أصل ، وأما إذا خالف الثقة غيره في ذلك ، فبالأولى أن يكون غريباً ليس له أصل ، ولذلك ليم يتطرق لذكر حالة المخالفة .
ومما يؤيد هذا التفسير أنهما جميعاً يتفقان على تصحيح الأحاديث الغريبة التي يكون لها أصل من الشواهد ، وأنهما لا يطلقان القول بعدم الاحتجاج بما يتفرد به الثقة ، وهذا لم يقل به أحد من علماء أهل السنة والجماعة سوى المعتزلة .
فقد قال الخليلي : "وأما الأفراد فما يتفرد به حافظ مشهور ثقة أو إمام عن الحفاظ والأئمة فهو صحيح متفق عليه " (الإرشاد 1/167) .
وهذا لا يعني بالضرورة أن أئمتنا المتأخرين لم يتفطنوا لذلك ، كلا ، وإنما نظروا في ذلك من نطلق الصناعة التعريفية ، التي لا يغتفر فيها الغموض ، ولا يقبل فيها دعوى المقصود ، ولذلك اختاروا من النصوص السابقة قول الشافعي ، لكونه أقرب إلى خصائص التعريف المنطقي .
والذي ذكرناه آنفاً فيما يخص قول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى يشكل تفسيراً مقنعاً حول سبب اختياره مصطلح الشاذ لتوضيح بعض جوانبه ، دون بقية المصطلحات التي لا تقل عنه أهمية وغموضاً وتعقيداً .
وفي ضوء ما سبق يمكن القول : إن الشاذ هو كل حديث غريب يتفرد به راو وليس له أصل في الواقع الحديثي أو العملي ، سواء خالفه الآخرون ، أو تفرد به ، تطرق بعضهم لذكر المخالفة، والآخر لذكر التفرد ، ولا شك أن بينهما تلازماً قد يظهر في بعض الصور ، وقد لا يظهر في أخرى.
وأما إذا تفرد الراوي بما له أصل في الواقع ورواه هو وحده لكثرة ضبطه وتيقظه أو كثرة مجالسته مع شيخه وكثرة سماعه منه فلا يعتبره أحداً شاذاً غريباً ، لا الحاكم ولا الخليلي ولا أحد من الحفاظ ، وإن كان ظاهر نصوصهم يوهم ذلك ، فإن عملهم في هذا المجال وما ورد عنهم من النصوص في شتى المناسبات يدل دلالة قاطعة على أن عدم قبول التفرد ليس على إطلاقه ، وإنما هو لديهم مقيد بكونه مما لا أصل له ، إذ مبحثا "الغريب" و "الأفراد" يكونان خير شاهد على ذلك ، حيث لم يختلفوا في تصحيح حديث : "إنما الأعمال بالنيات" وغيره من الأحاديث الغريبة التي يكون لها أصل .
وقد يتعرض على ذلك بالحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه ، وجعله الحاكم مثالاً للشاذ، وهو حديث رواه محمد بن عبد الله الأنصاري قال : حدثني أبي عن ثمامة بن عبد الله بن أنس عن أنس بن مالك ، كان منزلة قيس بن سعد من النبي صلى الله عليه وسلم بمنزلة صاحب الشرطة من الأمير. (معرفة علوم الحديث ص121 - 122) .
ويجاب بأنه يمكن أن الحاكم لا يرى صحته ، فإنه يقول :
" هذا الحديث شاذ ، فإن رواته ثقات ، وليس له أصل عن أنس ، ولا عن غيره من الصحابة بإسناد آخر" .
وهذا واضح أنه يضعف الحديث . لا سيما وهو بصدد ذكر الأمثلة للشاذ المردود ، وإن كان يرى صحة هذا الحديث ، بخلاف ما أورده سابقاً في كتابه "معرفة علوم الحديث" من الأمثلة قال : (شاذ، غير أنه صحيح) ، لكنه لم يقل ، بل ترك التعقيب على ذلك الحديث .
ويوافقه في تضعيف الحديث زكريا الساجي ، والأزدي ، فقد أوردا هذا الحديث ، بعد أن قال الأول في عبد الله بن المثني الأنصاري روايه : ضعيف لم يكن صاحب حديث ، وقال الثاني : روى مناكير . (ميزان الاعتدال 2/499) .
ومن الجدير بالذكر أنه اشتهر بين المعاصرين أن ينسب ما نقله الخليلي من الحافظ إلى نفسه هو ، وهذا غير سليم ، وإنما كان قد نقل رأي الحفاظ عموماً ، وقد يميل إليه الخليلي .
هل الشاذ نوع مستقل عن العلة :
ومما لا حظنا في نص الإمام الحاكم أن يفرق بين الشاذ والمعلول ، حيث قال : "الشاذ غير المعلول" ، وهذا لا يعني سوى التفريق بينهما من حيث غموض العلة والخطأ في الشاذ وظهورهما في المعلول ، أما من حيث وجود الخطأ والوهم فلا فرق لديه بينهما ، لكن الشاذ أدق من المعلول .
وبناءً على هذا التفريق لعل ابن الصلاح ذكر الشذوذ والعلة معاً في تعريف الصحيح ، وفي الواقع لا حاجة إلى ذكر الشذوذ حيث يغني عنه ذكر العلة ، لا سيما حسب استقرار لفظ الشاذ في المعنى الذي رجحه الإمام ابن الصلاح ، إذ لا فرق بينهما وأما على قول الحاكم فلا مانع من الجمع بينهما في سياق واحد .
يقول الحافظ ابن حجر معلقاً على نص الحاكم :
" وهو (أي الشاذ) على هذا أدق من المعلل بكثير ، فلا يتمكن الحكم به إلا من مارس الفن غاية الممارسة ، وكان في الذروة العليا من الفهم الثاقب ورسوخ القدم في الصناعة ورزقه الله نهاية الملكة" (نقله الصنعاني في توضيح الأفكار 1/379) . =(1/53)
تختلف في ظاهرها ، والذي ينبغي أن نعمله في هذه المناسبة هو أن لفظ الشاذ قليل الورود في كتب العلل ، غير أن ما يوردونه فيها من أنواع الحديث المعلول يتجسد فيها معنى الشاذ على اختلاف الآراء، لا سيما على معناه المستقر في كتب المصطلح .
وإذا أمعنا النظر في تلك الآراء الواردة في معنى الشاذ وجدناها جمعياً تدور على نقطة التفرد بما لا أصل له ، أو المخالفة للواقع ، وبالتالي يشكل مصطلح الشاذ نوعاً بارزاً من العلة ، وليس قسيماً لها .
والمتتبع لمواقع استعمال كلمة الشاذ في نصوص النقاد ، مع قلة ذلك ، يجد أن بعضهم يستخدموها في الحديث إذا كان غريباً لا أصل له في جانبي العمل والرواية ، لا سيما إذا خالف ذلك المتن ما ثبت العمل به واشتهر ، وتناقض معه تناقضاً صريحاً ، كما يتجلى ذلك من النصوص الآتية(1) :
عن شعبة : لا يجيئك الشاذ إلا من الرجل الشاذ .
وعن صالح بن محمد الحافظ : الحديث الشاذ الحديث المنكر الذي لا يعرف .
وعن إبراهيم بن أبي عبلة : من حمل شاذ العلم حمل شراً كثيراً .
وعن معاوية بن قرة : إياك والشاذ من العلم .
وعن الإمام أحمد : أنه قال فيما روي عن أسماء بنت عميس زوجة جعفر بن أبي طالب بعد وفاته : (تسلبي ثلاثاً ثم أصنعي ما بدا لك) : "إنه من الشاذ المطروح" .
وعن الشافعي : "فعليك من الحديث ما تعرفه العامة وإياك والشاذ منه"(2) .
وقال أبو داود : "لا يحتج بحديث غريب ، ولو كان من رواية مالك ، ويحيى بن سعيد، والثقات ، من أئمة العلم ، ولو احتج رجل بحديث غريب وجدت من يطعن فيه ، ولا يحتج بالحديث الذي قد احتج به ، إذا كان الحديث غريباً شاذاً"(3) .
ولذلك نقل الخليلي عن الحافظ عموماً فقال :
" الشاذ عند حفاظ الحديث ما ليس له إلا إسناد واحد ، يشذ بذلك شيخ ، ثقة كان أو غير ثقة ، فما كان عن غير ثقة فمتروك لا يقبل ، وما كان من ثقة يتوقف فيه ولا يحتج به" .
والذي يمكن فهمه من ذلك هو :
أن الشاذ عند حفاظ الحديث كل حديث غريب لا أصل له . ويكون هذا معنى قول الخليلي : "ليس له إلا إسناد واحد يشذ بذلك شيخ.." يعني لم يعرف إلا بسند واحد ، ولم يرو من غير وجه .
كما أن بعض المحدثين ؛ كالحاكم ، والبيهقي ، والخليلي ، قد يستخدمون كلمة الشاذ في الغريب المطلق ، سواء أكان له أصل أم لا ، وهو بخلاف ما بينه الحاكم والخليلي ، ويكون حينئذ مرادفاً لكلمة الفرد أو الرغيب ، ولذا قد يكون الشاذ صحيحاً أو ضعيفاً .
وإذا كان ذلك هو معنى الشاذ عند المحدثين فإن الذي استقر في كتب المصطلح ، ورسخ لدى الكثيرين أن الشاذ هو الحديث الذي رواه المقبول مخالفاً لمن هو أولى(4) .
وهذا يعني أن مفهوم الشاذ محصور في نقطة المخالفة بين الثقات الذين تتفق روايتهم في المخرج(5) .
ومن خلال ما سبق علمنا أن المحدثين عموماً يستعملون الشاذ في معان مختلفة ، وعليه فإنه ينبغي أن نأخذ ذلك بعين الاعتبار حين نقرؤه في نصوص الأئمة ، ولا ينبغي أن نتعامل معه حسب معناه المستقر في كتب المصطلح .
ويمكن أن نلخص الكلام حول الشاذ في معنيين ، وهما :
الحديث الغريب الذي لا أصل له ، ولم يرو من وجه آخر .
الحديث المخالف للصواب .
وكلاهما يدور على معنى الغرابة التي تنافى الصواب ، وبذلك نكون قد جمعنا بين الأقوال المختلفة ، واستوعبنا في الوقت ذاته منهجهم في التعليل بذلك .
وأما إذا جعلنا الشاذ مقيداً بمخالفة الثقة لمن هو أولى منه ، وتعاملنا على هذا الأساس مع نصوص النقاد ، فإننا نكون قد ضيقنا الواسع ، وأسأنا فهم مصطلحاتهم ، وسلكنا مسلكاً غير سليم .
ومن الجدير بالذكر أن المخالفة التي تؤخذ في مفهوم الشاذ ينبغي أن تكون في أوسع معانيها ، لتشمل ما يلي :
مخالفة الحديث لما رواه الناس من الأحاديث .
مخالفته للواقع العملي .
مخالفته للواقع التاريخي .
ولا ينبغي حصرها بين ثقة وأوثق ، يتحدان في المخرج .
__________
(1) ويقول السخاوي مستخلصاً من قول الحافظ ابن حجر :
" والشاذ لم يوقف له على علة ، وهذا يشعر باشتراك هذا مع ذلك (يعني المعلول) في كونه ينقدح في نفس الناقد أنه غلط ، وقد تقصر عبارته عن إقامة الحجة على دعواه ، وأنه من أغمض الأنواع وأدقها ، والشاذ أدق من المعلل بكثير" . (فتح المغيث 1/232) .
وإذا كانت العلة تعرف بمخالفة الراوي الثقات أو بتفرده بما لا اصل له ، فإن الشاذ - سواء فسرناه بكونه مخالفة للراجح ، كما استقر عليه رأي المتأخرين ، أم فسرناه بأنه غريب تفرد به الراوي وليس له أصل ، كما هو رأي الحفاظ عموماً - متداخل في مفهوم العلة ، وأنه لا ينفك عنها . والله أعلم.
( ) هذه النصوص نقلها الحافظ ابن رجب الحنبلي في شرح العلل ، ص236 ، وهي في كتاب الكفاية في علوم الرواية ، ص140 - 141 .
(2) الأم 7/338 .
(3) رسالة أبي داود لأهل مكة ، ص29 .
(4) على أن فيه ملحوظة ، وهي :
إن كان الشاذ مقيداً بنقطة المخالفة ، وكان المقصود من المخالفة مخالفة الراجح ، فإن تخصيص الشاذ بمخالفة الثقة مع الأوثق ، أو مع الجماعة ، يصبح ضيق النطاق ، وكان ينبغي حمله على أوسع من ذلك ، وتجعل المخالفة مع الأمر الواقع ، لأنه قد تصحبه قرينة تدل على أن ما رواه الأوثق مرجوح شاذ ، أو ما رواه الجماعة مردود شاذ ، وكون الراوي أوثق ليس قرينة مطردة لمعرفة شذوذ الحديث الذي يخالفه .
(5) وبالتالي يكون الشاذ بهذا المعنى جزءاً بارزاً من العلة ، ومع ذلك فإنه يفرق بينهما ، ويعتبر الشاذ غير العلة .(1/54)
الأمثلة التوضيحية للحديث الشاذ
روى محمد بن طلحة بن مصرف عن الحكم عن عبد الله بن شداد عن أسماء بنت عميس، قالت : لما أصيب جعفر ابن أبي طالب أمروني النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : "تسلبي(*) ثلاثاً ثم أصنعي ما شئت"(1) .
يقول الإمام أحمد : "إنه من الشاذ المطروح"(2) .
وأورد ابن أبي حاتم هذا الحديث في علله ، وحكى عن أبيه قوله :
" فسروه على معنيين :
أحدهما أ، الحديث ليس هو عن أسماء ، وغلط محمد بن طلحة ، وإنما كانت امرأة سواها.
وقال آخرون : هذا قبل أن ينزل العدد" .
ثم قال أبو حاتم :
" أشبه عندي والله أعلم أن هذه كانت امرأة سوى أسماء ، وكانت من جعفر بسبيل قرابة ، ولم تكن امرأته ؛ لأ، النبي صلى الله عليه وسلم قال : "لا تحد امرأة على أحد ، فوق ثلاثة إلا على زوج"(3) .
والشاهد في هذا الحديث أن محمد بن طلحة - الذي قاله فيه البيهقي : ليس بالقوى - تفرد بهذا الحديث ، ولم يكن له أصل في حديث الحكم ، بل خالف الصواب المعروف عن النبي صلى الله عليه وسلم من خلال أحاديث صحيحة ، وهو وجوب حداد المرأة على زواجها المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشراً ، وقد ثبت ذلك أيضاً بالقرآن الكريم .
فوصف بعض الأئمة بشذوذ هذا الحديث لغرابته مع مخالفة الواقع العملي ، والأحاديث الصحيحة الأخرى عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وأورده أبو حاتم في علله ، كما أورده ابن عدي في الكامل ، دون إطلاقهما عليه لفظ الشذوذ .
ومن هنا يتضح معنى الشاذ وأنه هو الحديث الغريب الذي لا أصل له ، وإذا كان مخالفاً للصواب الذي دل عليه القرآن الكريم أو الأحاديث الصحيحة فغرابته تكون أظهر(4) .
وأنت ترى في هذا المثال أن المخالفة لم تكن بين ثقة وأوثق ، بل كانت بين ما رواه الضعيف ، وبين ما يدل عليه القرآن الكريم والسنة الصحيحة ، مع أنه لم يرو عن الحكم هذا الحديث سوى محمد بن طرحة .
ولذلك قلنا سابقاً : إن المخالفة التي تؤخذ في مفهوم الشاذ ينبغي أن نجعلها في نطاق أوسع ، دون حصرها بين ثقة وأوثق .
والمثال الثاني :
قال أبو حنيفة رحمه الله تعالى في رجل من أهل دار الحرب تزوج خمس نسوة في عقدة ، ثم أسلم هو وهن جميعاً ، وخرجوا إلى دار الإسلام :
" إنه يفرق بينه وبينهن " .
وقال الأوزاعي : بلغنا أنه (يعني النبي صلى الله عليه وسلم) قال : "أيتهن شاء" .
وقال أبو يوسف رحمه الله : " " ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقال الشافعي : "فهو كما قال ، وقد بلغنا من هذا ما قال الأوزاعي ، وهو عندنا شاذ ، والشاذ من الحديث لا يؤخذ به ، لأن الله تبارك وتعالى لم يحل إلا نكاح الأربع ، فما كان من فوق ذلك كله فحرام من الله في كتابه"(5) .
والشاهد هنا أن الإمام الشافعي وصف الحديث الذي تفرد الأوزاعي بروايته بلاغاً ، بأنه شاذ ، وذلك لمخالفته ما ثبت في القرآن الكريم .
وهذا يوضح أن الشاذ ليس فقط هو مجرد مخالفة بين ثقة وأوثق ، بل عنده في أوسع معناها كما أوضحنا سابقاً .
وأما حسب المعنى المستقر في كتب المصطلح فإن أمثلة الشاذ تزخر بها كتب العلل، دون أن يصفها بالشذوذ ، وقد يطلقون الخطأ أو المنكر ، وغير محفوظ ، وغير ذلك من العبارات.
واكمتفى هنا بمثال واحد ، وهو :
ما رواه معتمر بن سليمان عن حميد الطويل عن أبي المتوكل عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرخص في الحجامة ، والمباشرة للصائم .
أورده ابن أبي حاتم في علله ، فقال :
" هذا خطأ ، إنما هو عن أبي سعيد قوله "(6) . أي : من قوله .
فحديث معتمر بن سليمان ، يصدق عليه الشاذ حسب معناه المستقر في كتب المصطلح، وهو مخالفة الثقة لمن هو أولى ؛ إذ خالف معتمر ، وهو ثقة إمام ، قتادة وجماعة من الحفاظ ، فرفع ما وقفوه .
__________
(1) معناه : البسي لباس الحداد .
( ) رواه أحمد في مسنده 6/438 ، وإسحاق بن راهويه 1/39، وابن سعد في الطبقات الكبرى 4/4، 8/282 ، وابن الجعد في مسنده 1/398 ، والطبري في تفسيره 2/514 ، وابن حبان في صحيحه 7/418 ، والطبراني في المعجم الكبير 24/139 ، والبيهقي في سننه الكبرى 7/438، وابن عدي في الكامل 6/2365 .
(2) شرح العلل ، ص236 .
(3) فتح الباري 9/487 .
(4) ومثل هذا الخطأ الفادح لا يقع عادة من الثقات ، وإنما من الضعفاء شديدي الضعف ، وهذا معنى قول شعبة : لا يجيئك الشاذ إلا من الرجل الشاذ .
(5) الأم 7/260 .
(6) علل ابن أبي حاتم 1/232 .(1/55)
المنكر
أما المنكر فمعناه اللغوي ضد المعروف ، يعني غير معروف ، فقد ورد في لسان العرب : "نكر الأمر نكيراً وأنكره إنكاراً ونكراً جهله"(1) .
ويكون هذا المعنى اللغوي أكثر بلورة في استعمال النقاد لمصطلح (منكر) ، فإنهم يطلقونه على الحديث إذ لم يكن معروفاً عمن أضيف إليه - ويعنون بذلك أن إضافة الخبر إلى ذلك المصدر خطأ .
وإن كان هذا هو معنى المنكر فإن أكثر استعمال له في كلام النقاد إنما هو فيما تفرد به الضعيف ، وليس له أصل ، أو خالف فيه الثقات ، وقد يستعملون هذا اللفظ في الأحاديث الواهية الساقطة التي يرويها مجهور الحديث أيضاً .
وقد يرد في نصوصهم الجمع بين لفظ المنكر وما يكون تفسيراً لمعناه :
كقول الإمام أحمد : "يحدث بأحاديث مناكير ليس لها أصل"(2) .
وقول البخاري : "حديثه ليس بمعروف منكر الحديث"(3) .
وقوله : "هذا حديث منكر خطأ"(4) .
وقول الترمذي : "هذا حديث منكر ، لا نعرف أحداً من الثقات روى هذا الحديث عن هشام بن عروة " . وغير ذلك من النصوص التي ترد بكثافة في كتب العلل .
ولكثرة استعمال المحدثين لكلمة (منكر) فيما رواه الضعيف استقر لدى بعض المتأخرين أن المنكر هو ما رواه الضعيف مخالفاً لثقات ، كما حرر ذلك الحافظ ابن حجر في كتابه النكت ونخبة الفكر ، وتبعه جل اللاحقين .
ويلاحظ أن معنى المنكر عند ابن الصلاح وغيره من بعض الأئمة أوسع مما ذكره الحافظ ابن حجر ، ولذا جعله ابن الصلاح نوعين ؛ وهما :
ما تفرد به الضعيف .
ما خالف الراوي فيه الآخرين .
ويتمثل الفرق بينهم في أن ابن الصالح ومن أيده من الأئمة يجعلون النوع الأول مقيداً بالضعيف ، بينما يكون النوع الثاني غير مقيد به ، ولذلك فما خالف الراوي فيه غيره من الثقات، سواء أكان ذلك الراوي ثقة أم ضعيفاً يعد منكراً .
وأما الحافظ ابن حجر فمفهوم المنكر عند منحصر فيما خالف فيه الضعيف الثقات. غير أنهم جميعاً متفقون على أن ما ينفرد به الثقة يكون مقبولاً مطلقاً ، وهذا يشكل نقطة خلاف جوهري بين المتأخرين والمتقدمين عموماً .
ومع وجود ذلك الخلاف المنهجي بينهم يكون ابن الصلاح أقربهم إلى منهج النقاد في مفهوم المنكر ، حين ألحق حديث الثقة الذي خالفه فيه الثقات بالمنكر ، وكذلك الحافظ الذهبي، حين قال :
"المنكر ما تفرد الضعيف به ، وقد يعد تفرد الصدوق منكراً"(5) .
وقال في موضع آخر :
" وقد يُسمى جماعة من الحفاظ الذي ينفرد به مثل هشيم وحفص بن غياث منكرأً ، فإذا كان المتفرد من طبقة مشيخة الأئمة أطلقوا المنكر على ما انفرد به ؛ مثل عثمان بن أبي شيبة ، وأبي سلمة التبوذكي ، وقالوا : (هذا منكر)" (6) .
وإذا فهمنا معنى (المنكر) على اختلاف الآراء حوله بين المتقدمين والمتأخرين فإننا نكو ن قد استوعبنا منهج القوم في تعليلهم بهذا المصطلح ، وأننا قد حملنا هذا المصطلح على محمله الصحيح عند صاحبه .
وخلاصة الفكرة حول مصطلح المنكر ما يلي :
المنكر هو الحديث الذي لم يكن معروفاً عن مصدره الذي أضيف إليه ، سواء أكان روايه ثقة أم صدوقاً أم ضعيفاً ، سواء أتفرد به الراوي مع المخالفة أم لا . يعني ذلك أن الحديث فيه خطأ .
يعد المنكر جزءاً من العلة ، وليس نوعاً مستقلاً عنها ، ولا قسيماً لها ، والمعنى المشترك بينهما هو وجود خطأ في الحديث .
وكثيراً ما يستعمل النقاد عوضاً عن لفظ المنكر عبارات واضحة المعنى ؛ كقولهم : (هذا خطأ) ، (هذا وهم) ، (هذا غير محفوظ) ، (هذا غير صحيح) ، (ولا يشبه) ، (غريب) ، (لا يثبت) ، (لا يصح) ، وإذا قمت بدراسة تلك الأحاديث التي أعلها النقاد بهذه العبارات وجدتها مصداقاً لتعريف المنكر ، لا سيما حسب التعريف المستقر في كتب المصطلح .
ونسوق هنا بعض الأمثلة التي تؤيد ما سبق ذكره .
__________
(1) 5/332
(2) تهذيب التهذيب 3/282 .
(3) المصدر السابق 1/209 .
(4) العلل الكبير للترمذي 2/818 .
(5) الموقظة ، ص42 .
(6) المصدر السابق ، ص77 .(1/56)
المثال الأول :
روى أبو داود عن همام عن ابن جريح عن الزهري عن أنس قال "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء وضع خاتمه" .
ثم قال أبو داود : " هذا حديث منكر ، وإنما يعرف عن ابن جريح عن زياد بن سمعان عن الزهري عن أنس أنس النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتماً من ورق ثم ألقاه ، والوهم فيه من همام ، ولم يروه إلا همام"(1) .
فقول أبي داود بأن حديث همام هذا (منكر) جاء على معنى أنه غير معروف عن مصدره الذي عزاه إليه ، وهو ابن جريح ، ويدل على ذلك سياق قوله :
"وإنما يعرف عن ابن جريح عن زياد بن سمعان عن الزهري عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتماً ، والوهم من همام ، ولم يروه إلا همام " .
وهمام هذا ثقة معروف من أصحاب ابن جريح .
وعند إمعان النظر في سياق قول أبي داود يفهم ما يلي :
أن هماماً قد أخطأ حين أضاف حديث ابن جريح إلى غير مصدره الحقيقي ، والذي رواه همام غير معروف عن ابن جريج ، وكان عليه أن يروي عنه لفظ (اتخذ خاتماً) بسند "عن زياد بن سمعان عن الزهري عن أنس" . لكنه وهم فأضاف إليه ما لم يقله ، وهو لفظ : (إذا دخل الخلاء وضع خاتمه) .
بذلك أصبح همام منفرداً بما لا أصل له عند ابن جريج ، ومخالفاً للواقع الحديثي ، ليصدق عليه معنى العلة ، ومعنى المنكر ، ومعنى الشاذ أيضاً . وهكذا نرى الوحدة الموضوعية بين هذه المصطلحات ، إذ تشترك جميعاً في نقطة الخطأ ، بغض النظر عن حال الراوي المخطئ ، وصورة وقوعه في الخطأ .
__________
(1) كتاب الطهارة ، باب الخاتم يكون فيه ذكر الله يدخل به الخلاء ¼ .(1/57)
والمثال الثاني :
روى أبو داود من طريق أبي خالد الدالاني عن قتادة عن أبي العالية عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسجد وينام وينفخ ثم يقوم فيصلي ولا يتوضأ ، قال : فقلت له : صليت ولم تتوضأ وقد نمت ؟ فقال : "إنما الوضوء على من نام مضجعاً" .
ثم قال أبو داود : قاله : "الوضوء على من نام مشجعاً" حديث منكر ، لم يروه إلا يزيد الدلاني عن قتادة ، وروى أول الحديث جماعة عن ابن عباس ، ولم يذكروا شيئاً من هذا(1) .
والإمام أبو داود وصف تلك الجملة بنكارتها ، لأنها غير معروفة عن قتادة ، وإضافتها إليه حديث مرفوعاً خطأ ، وعرف ذلك حين تفرد بها الدالاني مخالفاً لما رواه الناس .
وفي هذين المثالين نروى الإمام أبا داود لم يفرق بين ثقة وضعيف في إطلاقه المنكر ، ففي الحديث الأول ثقة أو صدوق ، وفي المثال الثاني ضعيف .
__________
(1) كتاب الطهارة باب الوضوء من النوم 1/13 . وقال البخاري : هذا لا شيء ، ورواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن ابن عباس قوله . وقال ابن عبد البر : وهذا الحديث عندهم منكر ، لم يروه أحد من أصحاب قتادة الثقات ، وإنما انفرد به أبو خالد الدالاني ، وأنكر عليه ، وليس بحجة فيما نقل (التمهيد 18/243) .(1/58)
المثال الثالث :
روى الإمام النسائي عن طريق أبي الأحوص عن سماك عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي بردة بن نيار قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أشربوا في الظروف ولا تسكروا" .
ثم قال النسائي : "وهذا حديث منكر ، غلط فيه أبو الأحوص سلام بن سليم ، لا نعلم أن أحداً تابعه عليه من أصحاب سماك بن حرب" .
قال الإمام أحمد : "كان أبو الأحوص يخطئ في هذا الحديث"(1) .
فرأينا الإمام النسائي في هذا المثال قد وصفه بأنه منكر ، مع كون راويه ثقة متقناً ، وذلك لأن الحديث غير معروف عن سماك ، وأشار إلى ذلك بقوله : "لا نعلم أن أحداً تابعه عليه من أصحاب سماك بن حرب" ، بينما عبر الإمام أحمد عن ذلك بأنه خطأ .
وبهذه النصوص يتجلى بوضوح أن أصل المعنى في المنكر هو الخطأ(2) .
__________
(1) كتاب الأشربة باب ذكر الأخبار التي اعتل بها من أباح شراب السكر 8/913 .
(2) مما يفيدنا في تأسيس فكرة منهجية واضحة حول هذا المصطلح ، ومنهج النقاد في تعليل الأحاديث به الوقوف على نصوصهم في معنى المنكر .
نصوص النقاد حول المنكر :
أولاً : نص الإمام مسلم ، يقول :
" وكذلك من الغالب على حديثه المنكر أو الغلط أمسكنا أيضاً عن حديثهم ، وعلامة المنكر في حديث المحدث إذا ما عرضت روايته للحديث على رواية غيره من أهل الحفظ والرضا خالفت روايته روايتهم ، أو لم تكد توافقها ، فإذا كان الأغلب من حديثه كذلك (يعني المخالفة أو عدم الموافقة) كان مهجور الحديث غير مقبوله ولا مستعملة" . (صحيح مسلم 1/7) .
وعلى هذا القول يكون المنكر عبارة عن مخالفة الراوي الثقات ، سواء أكانت المخالفة صريحة وواضحة ، أم غير ذلك ، كان لا يوافقهم في جميع الحديث ، وسياقه عموماً .
وإذا كثرت هذه المخالفة ، وغلبت في رواية الراوي أصبح متروك الحديث لا يشتغل بحديثه ؛ لا رواية ولا كتابة .
من الجدير بالذكر أن قول الإمام مسلم يشمل مرويات الثقة والضعيف سواء بسواء ، كما يتضح من قوله : "فإذا كان الأغلب من حديثه كذلك كان مهجور الحديث غير مقبولة ولا مستعملة" ، ومفهومه أنه إذا لم يكن الأغلب من حديثه كذلك لا يكون الراوي متروك الحديث ، بل قد يكون الراوي ثقة أو صدوقاً أو ضعيفاً ، غير أن المخالفة تضر الحديث الذي وقعت فيه ، دون أن تؤثر في حالة الراوي العامة .
كما يتضمن قوله ، التفرد بما لا أصل له ، لتلازمه مع المخالفة التي صرح بها ، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك ، وبالتالي لا يدل قوله على أن الإمام مسلماً يقبل جميع أنواع التفرد من الراوي ، لمجرد أنه لم يذكر هنا إلا المخالفة .
ثانياً : نصوص الإمام البرديجي :
قال الحافظ ابن رجب الحنبلي : لم أقف لأحد من المتقدمين على حد المنكر من الحديث وتعريفه إلا على ما ذكره الحافظ أبو بكر البرديجي وكان من أعيان الحفاظ المبرزين في العلل : =
= أن المنكر هو الذي يحدث به الرجل عن الصحابة ، أو عن التابعين عن الصحابة ، لا يعرف ذلك الحديث - وهو متن الحديث - إلا عن طريق الذي رواه فيكون منكراً .
ذكر هذا الكلام في سياق ما إذا انفرد شعبة أو سعيد بن أبي عروبة أو هشام الدستوائي بحديث عن قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا كالتصريح بأن كل ما ينفرد به ثقة عن ثقة ولا يعرف ذلك المتن من غير ذلك الطريق فهو منكر . اهـ. (شرح العلل 2/65) .
ونقل ابن رجب عن البرديجي أيضاً قوله :
إذا روى الثقة من طريق صحيح عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حديثاً لا يصاب إلا عند الرجل الواحد لم يضره أن لا يرويه غيره إذا كان متن الحديث معروفاً ، ولا يكون منكراً ولا معلولاً . (شرح العلل 2/65) .
ثم نقل لنا ابن رجب مثالاً لذلك ، وهو حديث عمرو بن عاصم عن إسحاق بن أبي طلحة عن أنس أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم : (إني أصبت حداً فأقمه علي) .
وقال البرديجي : هذا حديث منكر ، وهو عندي وهم من عمرو بن عاصم .
ثم عقبه ابن رجب قوله :
وهذا الحديث مخرج في الصحيحين من هذا الوجه ، وخرج مسلم معناه أيضاً من حديث أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فهذا شاهد لحديث أنس ، ولعل البرديجي إنما أنكر الحديث ، لأن عمرو بن عاصم هو عنده في محل من لا يحتمل تفرده بمثل هذا الإسناد. (المصدر السابق) .
قلت : إن هذه النصوص عن البرديجي تدلنا بمجموعها على أن مطلق التفرد من الثقة لا يعد منكراً، وإنما فقط إذا لم يكن لمتن الحديث أصل ، دون أن يتوقف ذلك على حال الراوي ، وقد ينكر الحديث مع كون راويه إماماً ، ولذا تأويل ابن رجل بأن عمرو بن عاصم عنده في محل من لا يحتمل تفرده بمثل هذا الإسناد ، فيه نظر .
وأما إذا كان المتن معروفاً ، ولم يكن منكراً ولا معلولاً فلا يضره كونه مروياً من جهة واحدة، وأن لا يوجد إلا عند الراوي الواحد .
ومن الجدير بالذكر أن الإمام البرديجي لا يعني بنصوصه السابقة أنه يربط مصطلح المنكر بالتفرد، دون المخالفة ، كما لا يعني ما سبق نقله عن الإمام مسلم أنه يذهب إلى تخصيص المنكر بحالة المخالفة.
وإن كان ذلك هو الذي يتجلى من ظاهر نصوصها لمن ينظر فيها من زاوية المنطق في صياغة التعريفات ، فإن الذي يتعين اعتماده هو ما يدل عليه مجموع نصوص هذين الإمامين مع تطبيقاتهما العملية ، حيث يفسر بعضها بعضاً ، لا سيما وبين التفرد والمخالفة تلازم قد يظهر وقد لا يظهر ؛ يظهر حين المشاركة بين الرواة في الرواية مع اتحاد مخرجهم ، ولا يظهر ذلك حين ينفرد الراوي بما ليس عند الآخرين من معاصريه ، لكنه لا يخلو من كونه مخالفاً مع الآخرين في ذكر الحديث عن شيخهم ، وإضافة إليه .
= ولذلك وجدنا الإمام مسلماً يستغني بذكر حالة المخالفة عن التفرد ، كما وجدنا البرديجي يكتفي بذكر التفرد ، وليس غرضهما إخراج ما لم يتطرقا إليه من المخالفة أو التفرد .
ومن هنا أصبح صنيع الإمام ابن الصلاح في الجمع بين المخالفة والتفرد في مفهوم الشاذ والمنكر، والتسوية بينهما أمراً مقبولاً ومستقيماً .
وعليه فإن كان التفرد بما لا أصل له يعد منكراً مردوداً فمن باب أولى أن يكون ما خالف فيه الراوي الثقات منكراً مردوداً ، لكونه أوضح في تفرده بما لا أصل له من خلال مخالفته الثابت المعروف .
وأما المثال الذي ذكره ابن رجب فيمكن القول بأن البرديجي لم يكن قد استحضر ما ورد عن أبي أمامة من الشاهد ، وإلا فحسب معنى المنكر الذي أوضحه لن يكون حديث عاصم بن عمرو منكراً ولا وهماً ، لكون متنه مروياً من جهة أخرى .
وإذا كان قصد البرديجي بالتفرد واضحاً من مجموع نصوصه ، فإن قول الحافظ ابن حجر : "مذهب البرديجي أن المنكر هو الفرد سواء تفرد به ثقة أو غير ثقة" فيه إطلاق فيما ينبغي تقييده .
وقد جاء هذا التقييد بوضوح حين عقب الحافظ ابن رجب على قول البرديجي بقوله : "فأما أحاديث قتادة التي يرويها الشيوخ ، مثل حماد بن سلمة وهمام وأبان والأوزاعي ننظر في الأحاديث ؛ فإن كان الحديث يحفظ من غير طريقهم عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن أنس بن مالك من وجه آخر لم يدفع ، وإن كان لا يعرف عن أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا من طريق أنس إلا من رواية هذا الذي ذكره لك كان منكراً. (شرح العلل 2/654) .
وفي ضوء هذا النص الصريح لا ينبغي القول إن البرديجي يعتبر مطلق التفرد منكراً . وإنما يتعين علينا أن نقول : إنه لا يعد ذلك منكراً إلا بالقيد الذي سبق ذكره ، وهو أن لا يكون المتن أصل ، ولذلك نرى البرديجي وغيره من الأئمة يعلون الحديث بالنكارة ، وأما أن يرد الحديث بمطلق تفرده فلم يعرف إلا عن المعتزلة . والله أعلم .
وممن قيل إنه يستخدم لفظه المنكر في مطلق التفرد الإمام يحي بن سعيد القطان والإمام أحمد. وفي الواقع أنهما لم يعتبرا مطلق التفرد منكراً ، وإنما ذلك يكون كما شرحنا آنفاً عن البرديجي .
وبهذه النصوص الواردة في موضوع المنكر والشاذ ، ومن خلال المقارنة بينهما يتبين جلياً أن ما قيل في المنكر هو ذاته قيل في اشاذ من التفرد أو المخالفة ، وأنهما ليسا على إطلاقهما وإنما على القيد الذي سبق ذكره ، وهو التفرد بما لا أصل له ، ومخالفة الحديث الأمر الواقع رواية أو عملاً .(1/59)
المصطلحات التي لها صلة بالشاذ والمنكر
يقع الخطأ من الراوي في صور شتى وبأسباب مختلفة ، وقد يطلق على الحديث الذي وقع فيه الخطأ بما يطابق سبب وقوعه أو صورته من المصطلحات ، كالمقلوب ، والمدرج ، والمصحف ، وهي كلها معلولة نظراً لدلالتها على الخطأ .(1/60)
أولاً المقلوب :
معنى المقلوب أن يروي الراوي حديثاً ، ويجعله لغير صاحبه وهماً منه ، ولعل ذلك يرجع إلى تداخل الأحاديث عليه ، وبذلك يخالف الراوي الآخرين من الثقات ، أو يتفرد عن شيخه بما لا أصل له في أحاديثه ، وإن كان هذا الراوي الذي انقلب عليه الحديث ثقة أصبح حديثه شاذاً ، وإن كان ضعيفاً أصبح حديثه منكراً ، هذا تبعاً لما استقر في كتب المصطلح من التعريفات ، وأما حسب منهج المتقدمين فلا فرق في ذلك بين الثقة والضعيف ، وكله عندهم معلول ، كما يصح أن يقال فيه : منكر ، أو شاذ .
ولهذا قال الحافظ ابن حجر :
" كل مقولب لا يخرج عن كونه معللاً ، أو شاذاً ، لأنه إنما يظهر بجمع الطرق، واعتبار بعضها ببعض ، ومعرفة من يوافق ممن يخالف"(1) .
ومما يدل على ذلك أن كتب العلل وكتب الضعفاء تحوي الأحاديث المقلوبة بجميع أنواعها ، مبنية خطأ الراوي فيها ، ووجه تداخل الأحاديث عليه ، بغض النظر من كونه ثقة أو ضعيفاً"(2) .
المثال :
أسوق هنا بعض الأمثلة ليتبين أن المقلوب يندرج تحت مفهوم العلة ، وأنه لا يخرج عن كونه حديثاً معلولاً تبين للناقد خطؤه من خلال مخالفة رواية للواقع الحديثي أو تفرده بما لا أصل له .
روى إسحاق بن عيسى الطباع عن جرير بن حازم عن ثابت عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني" .
وروى هذا الحديث بلفظه الإمام البخاري ومسلم وغيرهما من طرق تدور كلها على يحيى بن أبي كثير عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم .
ولعل الباحث المستعجل يذهب إلى صحة الحديث من الطريقين جميعاً ، حيث إن الإسناد الأول ظاهر سليم ، ورجاله كلهم ثقات ، وأنه رواية مستقلة لا صلة لها بالرواية الثانية في ظاهرها .
والواقع أن جرير بن حازم أخطأ – حسب تعبير الحافظ ابن عدي – حين جعله من حديث أنس ، بدل أن يرويه من حديث أبي قتادة ، وبذلك أصبح جرير قد تفرد بما لا أصل له من حديث أنس ، ولا من حديث ثابت أصلاً ، إذ لم يروه عنه أحد من أصحابه إلا جرير . بينما يرويه الحافظ من معاصري جرير ، عن يحيى بن أبي كثير عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه .
هذا وقد وجدنا عند إسحاق بن عيسى الطباع ما يؤكد ذلك ، وهو يقول :
حدثت حماد بن زيد بحديث جرير بن حازم عن ثابت عن أنس هذا فأنكره .
فقال : إنما سمعه من حجاج الصواف عن يحيى بن أبي كثير عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه في مجلس ثابت وظن أنه سمعه من ثابت(3) .
ولا شك أن هذا الحديث المقلوب ينطبق عليه ما قيل في مفهوم الشاذ ، من مخالفة الراوي الراجح ، أو تفرده بما لا أصل له ، كما يصح إطلاق المنكر عليه أيضاً باعتبار كون الحديث غير معروف عن ثابت ولا عن أنس .
وأما مثال المتن المقلوب فالحديث المشهور الذي رواه ابن خزيمة من حديث عائشة رضي الله عنها قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن ابن أم مكتوب يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن بلال" ، وكان بلال لا يؤذن حتى يرى الفجر .
قال الحافظ ابن حجر نقلاً عن ابن دقيق العيد :
" هذا مقلوب ، والصحيح من حديث عائشة أن بدلاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا تسمعوا أذان ابن أم كتوم ، وكان رجلاً أعمى لا ينادي حتى يقال له : أصبحت أصبحت ، كما رواه الإمام البخاري ومسلم وغيرهما"(4) .
فالخلاصة : أن الحديث الذي وقع فيه القلب من جهة الراوي يعتبر معلولاً ، يعني أنه أخطأ حين جعله لغير مصدره ، وإن شئت فقل شاذ ، وإن شئت فقل منكر(5) .
يقول الحافظ ابن حجر :
فإن قيل : إذا كان الراوي ثقة فلم لا يجوز أن يكون للحديث إسنادان عند شيخه ؛ حدث بأحدهما مرة ، وبالآخر مرة ؟
قلنا : هذا التجويز لا ننكره ، لكن مبنى هذا العلم على غلبة الظن ، وللحافظ طريق معروفة في الرجوع إلى القرائن في مثل هذا ، وإنما يعول في ذلك على النقاد المطلعين منهم، ولهذا كان كثير منهم يرجعون عن الغلط إذا نبهوا عليه"(6) .
وقلب الأحاديث وتداخلها هو أكثر وقوعاً في أحاديث الثقات ، كما يظهر ذلك لمن يتبع كتب العلل ، ولم يسلم من ذلك كبار الأئمة ، فيجعلون الرمسل متصلاً ، أو الموقف مرفوعاً.
__________
(1) النكت 2/478 .
(2) وهذا المقلوب الذي نحن بصدد بيانه إنما هو في حالة عدم تعمد الراوي بذلك ، أما إذا تعمد لغرض الإغراب على المحدثين ، ولفت انتباههم إلى حديثه ، فيعتبر موضوعاً ، كما عمل به حماد بن عمرو، المعروف بالوضع والافتراء ، ولم ندرج هذا النوع في أنواع المعلول لكون روايه متروكاً وضاعاً أو كذاباً .
وأما إذا قلب الراوي الأحاديث شيوخه ، ولمعرفة مدى ضبطهم للأحاديث فليس بداخل في مبحثنا هذا ، إذ لا يعتبر ذلك الحديث معلولاً .
وقد عرف ذلك عن شعبة ، كان يقوم بقلب الأحاديث على بعض شيوخه الذي لقيهم لينظر هل كان حفظهم متماسكاً ، أو أنه مضطرب غير ضابط ، فإن أقر الراوي بالحديث المقلوب ، ولم يتعرض على تلميذه ، عرف أنه غير ضابط ، وإن اعتراض عرف أنه متقن .
وما وقع من البغداديين في قلب الأحاديث على الإمام البخاري ليمتحنوا حفظه قصة مشهورة .
(3) حكاه العقلي في الضعفاء 1/791 – 991 ، وابن عدي في الكامل 1/155 . ومعنى هذا الكلام أنه حين كان جرير وزملاؤه في مجلس ثابت ، يسمعون منه أحاديثه ، جاءت مناسبة دعت أن يفيدهم حجاج الصواف بهذا الحديث ، فحدث به في مجلس ثابت ، فظن جرير فيما بعد أن هذا الحديث من جملة الأحاديث التي سماعها من ثابت فحدث به جرير عنه وهماً .
وفي الواقع أن هذا الحديث مما أفاده زميله حجاج ، ومن الجدير بالذكر أن الطالب المجد قد يفيد شيخه بحديث لم يسمعه ، وهو ظاهرة علمية تتميز بها حلقات المحدثين الكبار ، وقد تكون هذه الظاهرة من أسباب تداخل الأحاديث على رواتها عموماً ، وهذا هو الذي أشار إليه حماد بن زيد – وهو أحد كبار الثقات من أصحاب ثابت – بقوله :
"إنما سمعه من حجاج الصواف عن يحيى بن أبي كثير عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه في مجلس ثابت، وظن أنه سمعه منه" .
وتدلنا مثل هذه الحادثة على طبيعة القرائن التي يتميز بفقهها النقاد .
(4) غير أن ابن خزيمة وابن حبان تأولا الحديث بأ،ه كان نوبة بين بلال وابن أم مكتوم ، بدون أن يذكرا ما يعضده من القرائن ، كتعدد مخارج الحديث – مثلاً - ، أما إذا كان اختلاف المتن على راو واحد، وكانت الروايات المختلفة تدور على ذلك الراوي المتأخر ، فيستعبد فيه مثل ذلك التأويل الذي يقوم على التجويز العقلي ، ولهذا لم يوافقهما كثير من المحققين .
(5) ويدخل في القلب كل أنواع التلقين بين الأسانيد أو المتون .
(6) النكت 2/875 – 876 . وحكى الحافظ فيه قصة طريفة يقول :
روينا في تاريخ العباس بن محمد الدوري عن يحيى بن معين ، قال : حضرت مجلس نعيم بن حماد بمصر، فجعل يقرأ كتاباً من تصنيفه ، قال : فقرأ ساعة ، ثم قال : حدثنا ابن المبارك عن ابن عون ، فذكر أحاديث .
فقلت له : ليس هذا عن ابن مبارك ، فغضب . =(1/61)
ثانياً المدرج :
المدرج هو الحديث الذي أدرج فيه الراوي ما ليس منه ، سواء أكان ثقة أم ضعيفاً، سواء أكان ذلك من كلام الراوي أم من حديث آخر مرفوع ، من غير أ، يفصل بينهما ، بحيث يتوهم أنه طرف من هذا الحديث الذي رواه(1) .
وعليه فالحديث المدرج يعتبر معلولاً ، فإن ما أدرجه الراوي في الحديث وجعله جزءاً منه ليس من الحديث الذي رواه شيخه ، وهذا طبعاً إذا لم يفصل بين الحديث وبين ما أدرجه بأي شكل كان ، وأما إذا فصل بينهما فلا يعد مدرجاً.
ويعرف الإدراج بما يلي :
أن يُذكر المدرج في الروايات الأخرى الصحيحة ، مفصولاً عن أصل الحديث ،
أولاً لا يذكر فيها أصلاً ،
أو تضم الرواية الصحيحة ما يدل على أن الراوي لم يسمع المدرج من شيخه ،
أو يستحيل صدور ذلك المدرج من النبي صلى الله عليه وسلم ،
أو نحو ذلك من القرائن التي تؤكد بأن ذلك مدرج في الحديث .
فإذا أدرج الراوي فيما يرويه عن شيخه ما ليس منه ، وجعله طرفاً من حديثه ، فإنه أصبح بتصرفه هذا مخالفاً الواقع الحديثي ، أو متفرداً بما ليس له أصل في الواقع .
ويقع الإدراج تارة في المتن ، وتارة في الإسناد ، ومثال الأول :
روى الإمام الدار قطني من طريق بشر بن عمر : حدثنا شعبة عن أنس بن سيرين قال : سمعت ابن عمر يقول : طلقت امرأتي وهي حائض ، فأتى عمر النبي صلى الله عليه وسلم فسأله فقال : "مره فليرجعها فإذا طهرت فليطلقها إن شاء" ، قال : فقال عمر : يا رسول الله ، أفتحسب بتلك التطليقة ؟ قال : "نعم" .
قوله : (فقال عمر يا رسول الله ...) إلى آخره ، مدرج ، لم يرفعه إلا بشر بن عمر ، وهو خطأ ووهم خطأ ووهم منه ، والصواب أن السائل هو ابن سيرين ، والذي أجابه بذلك ابن عمر، فقد جاء ذلك مفصلاً في رواية محمد بن جعفر ويحيى بن سعيد القطان والنضر بن شميل وخالد بن الحارث وبهز بن أسد وسليمان بن حرب في رواتهم عن شعبة ، وحديث بعضهم في الصحيحين(2).
وأما مدرج الإسناد فله صور مختلفة ، وأذكر هنا صورة واحدة ، وهي :
ما رواه غندر محمد بن جعفر عن شعبة عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن رزين عن سالم بن عبد الله بن عمر عن سعيد بن المسيب عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي تكون له المرأة فيطلقها ثم يتزوجها رجل ، فطلقها قبل أن يدخل بها فترجع إلى زوجها الأول .. الحديث .
يقول أبو حاتم : "قد زاد (لعله محمد بن جعفر أو شعبة) عندي في هذا الإسناد رجلاً لم يذكره الثوري ، وليست هذه الزيادة بمحفوظة" . ثم روى حديث سفيان عن علقمة عن سليمان بن رزين عن ابن عمر ، مع بيان الاختلاف في أسم سليمان بن رزين(3) .
فأدرج شعبة أو تلميذه محمد بن جعفر في الإسناد سالم بن عبد الله وسعيد بن المسيب(4).
__________
(1) وقال : ترد علي ؟
قلت : نعم ، أريد زينك ، فأبى أن يرجع .
فقلت : والله ما سمعت أنت هذه الأحاديث من ابن مبارك (عن) ابن عون ، فعضب هو وكل من كان عنده ، وقام ، فدخل البيت فأخرج صحائف ، فجعل يقول : نعم يا مبارك ما غلطت ، وكانتن هذه صحائف يعني مجموعة ، فغلطت ، فجعلت أكتب من حديث ابن المبارك عن ابن عون ، وإنما رواها لي عن ابن عون غير ابن المبارك . قال : فرجع عنها . (انظر : القصة في الكفاية للخطيب ص146).
( ) قال ابن الصلاح : "النوع العشرون : معرفة المدرج في الحديث . وهو أقسام : منها ما أدرج في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من كلام بعض رواته ، بأن يذكر الصحابي أو من بعده عقيب ما يرويه من الحديث ، كلاماً من عند نفسه ، فيرويه من بعده موصولاً بالحديث غير فاصل بينهما بذكر قائله ، فيلتبس الأمر فيه على من لا يعلم حقيقة الحال ، ويتوهم أن الجميع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " . (مقدمة ابن الصلاح ، ص95 - 96) .
(2) البخاري في كتاب الطلاق ، باب إذا طلقت الحائض تعتد بذلك الطلاق 9/351 ، ومسلم في الطلاق ، باب تحريم طلاق الحائض بغير رضاها 10/67 .
ومثال آخر ما رواه الخطيب من طريق أبي قطن وشبابة بن سوار عن شعبة عن محمد بن زياد عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اسبغوا الوضوء ، ويل للأعقاب من النار" .
ثم قال الخطيب :
" وهم أبو قطن وشبابة بن سوار في روايتهما هذا الحديث عن شعبة على ما سقناه ، وذلك أن قوله : "اسبغوا الوضوء" كلام أبي هريرة ، وقوله : "ويل للأعقاب من النار" من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد رواه جمع كثير من الثقات عن شعبة ، وجعلوا الكلام الأول من قول أبي هريرة ، والكلام الثاني مرفوعاً ، كما رواه البخاري من طريق آدم بين أبي إياس عن شعبة عن محمد بن زياد عن أبي هريرة قال : "أسبغوا الوضوء" فإن أبا القاسم صلى الله عليه وسلم قال : "ويل للأعقاب من النار" .
(3) العلل 1/428 .
(4) يصدق على هذا المثال مصطلح (زيادة الثقة) ، ومصطلح (المزيد في متصل الإسناد) ، إذا كان إسناد الثوري متصلاً ، كما سيأتي شرح ذلك إن شاء الله تعالى .
ومن الأمثلة التي تذكر في كتب المصطلح : أن يكون المتن مختلف الإسناد بالنسبة إلى أفراد رواته ، فيرويه راو واحد منهم فيحمل بعض رواياتهم على بعض ولا يميز بينها ، ويقع في إدراج الرمسل في الموصول والمنقطع في المسند المتصل ، والموقوف في المرفوع .
مثاله ما رواه عثمان بن عمر عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي عبد الرحمن السلمي وعبد الله بن حلام عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت سودة رضي الله عنها فإذا امرأة على الطريق قد تشوفت ترجو أن يتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث ، وفيه :
"إذا رأى أحدكم امرأة تعجبه فليأت أهله فإن معها مثل الذي معها" .
يقول الحافظ ابن حجر :
فظاهر هذا السياق يوهم أن أبا إسحاق رواه عن أبي عبد الرحمن وعبد الله بن حلام جميعاً عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وليس كذلك ، وإنما رواه أبو إسحاق عن أبي عبد الرحمن عن النبي مرسلاً، وعن أبي إسحاق عن عبد الله بن حلام عن ابن مسعود رضي الله عنه متصلاً ، بينه عبيد الله بن موسى وقبيصة ومعاوية وبن هشام عن الثوري متصلاً" .
فأدرج إسرائيل المرسل في المسند ، وصارت رواية الجميع مسندة ، وبذلك خالف إسرائيل الأمر الواقع أو الثقات الآخرين ، وحديثه إذن معلول ، أو شاذ أو منكر .(1/62)
ثالثاً المصحف والمحرف :
اختلف العلماء في تعريف المصحف والمحرف ، غير أن آراءهم تتفق على معنى التغيير في الكلمة الصحيحة عموماً(1) .
والحديث المصحف أو المحرف معلول ، أخطأ فيه الراوي بتصحيف كلمة أو تحريفها ، ويخالف بذلك الواقع الحديثي أو يتفرد بما لا أصل له .
وكثيراً ما يقع التصحيف ممن يأخذ الحديث من الصحيفة دون سماعها من راويه أو القراءة عليه ، ولهذا لم تقبل أحاديثهم ، كعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، وأبي الزبير عن جابر .
يقول الحافظ الذهبي : وأما تعليل بعضهم بأنها صحيفة وروايتها وجادة بلا سماع فمن جهة أ، الصحف يدخل في روايتها التصحيف لا سيما في ذلك العصر ، إذ لا شكل بعد في الصحف ولا نقاط بخلاف الأخذ من أفواه الرجال(2) .
وقد يقع التصحيف في أسماء الرواة وقد يقع في المتن ، وهناك أسماء يشتبه بعضها ببعض في الخط ، مثل شعبة وسعيد ، وشيبان وسفيان ، وبسر وبشر ، وهذه الأسماء تتعرض كثيراً للتصحيف ، ولذلك اهتم المتأخرون بوضع الرموز على هذه الأسماء لتفادي التصحيف فيها.
ومثال التصحيف في الرواة ما صحفه يحيى بن معين في حدث شعبة عن العوام بن مراجم – بالراء والجيم – عن أبي عثمان النهدي عن عثمان بن عفان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لتؤدن الحقوق إليها أهلها ..." الحديث من حيث قال ابن معين : (ابن مزاحم) – بالزاي والحاء – وإنما هو ابن مراجم .
ومثال التصحيف في المتن : حديث زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجر في المسجد بخوصة أو حصير يصلي فيها .
رواه ابن لهيعة وصحف فيه وقال :
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم في المسجد .
وقيل له : مسجد في بيته ؟
قال : مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم .
ويقول الإمام مسلم معلقاً عليه :
وهذه رواية فاسدة من كل جهة ، فاحش خطؤها في المتن والإسناد جميعاً ، إنما وقع في الخطأ من هذه الرواية أنه أخذ الحديث من كتاب موسى بن عقبة إليه فيما ذكر ، وهي الآفة التي نخشى على من أخذ الحديث من الكتب من غير سماع من المحدث أو عرض عليه .
حدثني محمد بن حاتم حدثنا بهز بن أسد حدثنا وهيب حدثني موسى بن عقبة قال : سمعت أبا النضر يحدث عن بسر بن سعيد ، عن زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ حجرة في المسجد من حصير فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم(3) .
ومن خلال جمع الروايات تبين أن ابن لهيعة خال وهيباً ، وتفرد عن موسى بن عقبة بما لا يعرفه أصحابه ، أو بما لا يوجد في كتابه ، وسبب هذا الخطأ هو التصحيف .
ومن الجدير بالذكر أن هذه الأنواع – المقلوب والمدرج والمصحف – إنما يتحقق وجودها حين تترجح رواية من بين الروايات المختلفة ، في ضوء القرائن ، وقد يكون المرجوح منها مقلوباً ، أو مدرجاً ، أو مصحفاً .
وأما الحديث الراجح فيقال عنه : (المحفوظ) أو (المعروف) أو (الصحيح) أو (الأشبه) أو (شيبه) أو (يشبه) ، أو غير ذلك من العبارات التي تزخر بها كتب العلل وكتب الضعفاء(4).
وأما إذا لم يترجح شيء من تلك الوجوه المختلفة ، ولم يثبت لدى الناقد أنا جميعاً صدرت من مصدر الحديث ، فذلك الحديث الذي يسمى مضطرباً ، مع تأكده من وجود خطأ في الحديث، غير أنه لم يستطع تحدي جهة صدوره .
وفي الفقرات الآتية توضيح ذلك .
__________
(1) قيل : التصحيف : هو تغيير في نقط الحروف أو حركاتها مع بقاء صورة الخط ، مثل قحمة وفخمة.
والتحريف : هو العدول بالشيء عن جهته ، وحرف الكلام تحريفاً أي عدل به عن جهته ، وهو قد يكون بالزيادة فيه ، أو النقص منه ، أو تبديل بعض كلماته ، أو بحمله على غير المراد منه ، فالتحريف أعم من التصحيف .
(2) سير أعلام النبلاء 5/471 .
(3) كتاب التمييز 1/187 للإمام مسلم .
(4) ينبغي لفت الانتباه إلى أن تخصيص المحفوظ بمقابل الشاذ ، والمعروف بمقابل المنكر أمر اصطلاحي ذكره الحافظ ابن حجر ، غير أنه ليس له أصل في استعمال النقاد ، فإنهم يستعملون هذين المصطلحين وغيرهما عند ترجيح رواية من الروايات المختلفة ، بغض النظر عن أحوال الرواة .
كما أن هذا الراجح لا يعني بالضرورة صحته وصلاحيته للاحتجاج ؛ إذا معنى الترجيح هو ذكر الثابت عن الشيخ المختلف عليه ، فقد يكون الشيخ مخطئاً في حديثه ، أو قد رواه منقطعاً ، كما يتضح ذلك عند تتبع نصوص النقاد في كتب العلل وكتب الضعفاء . والله أعلم .(1/63)
المضطرب
والمضطرب هو الحديث الذي يختلف فيه راو ، أو الرواة على أكثر من وجه ، كالوصل الإرسال ، أو الوقف والرفع ، أو الزيادة والنقص ، مع اتحاد مصدرهم ، ولم يستقم الجمع بينها ، ولا الترجيح على منهج المحدثين النقاد ، لا على التجويز العقلي المجرد(1) .
والاضطراب يضر في صحة ما وقع فيه ، وقد يؤثر ذلك في صحة الحديث بكامله ، أو لا يؤثر إلا في القدر الذي وقع فيه الاضطراب من الحديث ، سواء أكان في السند أم في المتن .
والنقاد يعلون من الحديث ما وقع فيه الاضطراب ، ويكون قصدهم بذلك القدر الذي وقع فيه دون غيره ، ولا يمنعهم ذلك من الاحتجاج بما لم يقع فيه الاضطراب من سياق الحديث، والاعتماد عليه ، ولذا نرى الشيخين في صحيحهما يوردان الأحاديث التي فيها اضطراب ، لكن الغرض من ذلك هو اعتماد القدر الذي لم يقع فيه ، وليس الحديث كله ، كما هو ظاهر من صنيع الإمام مسلم في ترتيبه للأحاديث ، ومن العناوين الجزئية التي وضعها الإمام البخاري لتلك الأنواع من الأحاديث(2) .
وقد سرد الحافظ ابن حجر أمثلة كثيرة من هذا النوع في كتابه النكت ، ومنها :
حديث جابر في وفاء دين أبيه .
يقول الحافظ ابن حجر :
" فإنه مخرج في الصحيح من عدة طرق ، وفي سياقه تباين لا يتأتى الجمع فيه إلا بتكلف شديد ، لأن جميع الروايات عبارة عن دين كان على أبيه ليهود فأوفاهم من نخله ذلك العام .
ففي رواية وهب بن كيسان أنه كان ثلاثين وسقاً ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كلمه في الصبر فأبى ، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم النخل فمشى فيها ، ثم قال لجابر رضي الله عنه: "جد(3) له " فجد له بعد ما رجع النبي صلى الله عليه وسلم .
وفي حديث عبد الله بن كعب عن جابر : "أن النبي صلى الله عليه وسلم سألهم أن يقبلوا ثمر الحائط ، ويحللوه ، فأبوا .." .
وفي رواية الشعبي عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : "اذهب فبيدر كل ثمر على ناحية" ، وأنه صلى الله عليه وسلم طاف في أعظمها بيدراً ، ثم جلس صلى الله عليه وسلم فقال : "ادع أصحابك ، فما زال يكيل لهم حتى أدى الله تعالى أمانة والدي ، وفي آخره فسلم الله البيادر كلها"(4) .
ففي حمل هذه الروايات اختلاف شديد كما ترى ، وفي حملها على التعدد بعدّ وتكلف، والأقرب حملها على ما أشرنا إليه أن المقصود من جميعها البركة في التمر بسبب النبي صلى الله عليه وسلم ، وأن الاختلاف وقع من بعض الرواة(5) .
ومنها : حديث عائشة في ضياع العقد ونزول آية التيمم ، وبعد أن سرد وجوه الاضطراب في بعض تفاصيل القصة نقل عن ابن عبد البر قوله :
" ليس اختلاف النقلة في العقد ولا في القلادة ولا في الموضع الذي سقط ذلك فيه، ولا في كونها لعائشة أو لأسماء ما يقدح في الحديث ، ولا يوهنه لأن المعنى المراد من الحديث المقصود هو نزول آية التيمم ، ولم يختلفوا في ذلك"(6) .
ومنها : حديث الواهبة نفسها .
يقول الحافظ ابن حجر : واختلف الرواة على أبي حازم .
فقال مالك وجماعة معه : "فقد زوجتكها" .
وقال ابن عيينة : "أنكحتكها" .
وقال ابن أبي حازم ويعقوب بن عبد الرحمن : "ملكتكها" .
وقال الثوري : "أملكتكها" .
وقال أبو غسان : أمكناكها .
وأكثر هذه الروايات في الصحيحين ، فمن البعيد جداً أن يكون سهل بن سعد شهد هذه القصة من أولها إلى آخرها مراراً عديدة ، فسمع في كل مرة لفظاً غير الذي سمعه في الأخرى، بل ربما يعلم ذلك بطريق القطع أيضاً .
فالمقطوع به أن النبي صلى الله عليه وسلم يم يقل هذه الألفاظ كلها مرة واحدة تلك الساعة ، فلم يبق إلا أن يقال : "إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لفظاً منها ، وعبر عنه بقية الرواة بالمعنى"(7) .
فواضح جداً أن الاضطراب وقع في تلك الكلمة ، حيث لا يدري أيها ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي الوقت نفسه يجزم بأنه صلى الله عليه وسلم لم يقل جميع الألفاظ ، ومع هذا الاضطراب اتفق البخاري ومسلم على روايته في الصحيحين ، اعتماداً منهما على القدر المتفق عليه من الحديث ، وذلك واضح من العناوين التي ذكرها البخاري ، وهي :
باب وكالة المرأة في النكاح .
باب إذا كان الولي هو الخاطب .
باب صادق النساء .
باب التزويج على القرآن .
باب تزويج المعسر .
وليس في هذه الأبواب ما له صلة بما اضطرب الرواة فيه ، وإنما جميعها في الاحتجاج بالمتفق عليه بين الرواة ، أو بالذي لم يقع فيه الاضطراب .
وفي ضوء ما سبق يتبين أن الحديث المضطرب نوع من أنواع المعلول ، وأن فيه خطأ، غير أنه لا يُدري في أي رواية من الروايات المختلفة ذلك الخطأ ، ولذلك لم يتم الجمع بين تلك الوجوه المختلفة ، ولا الترجيح فيما بينها على قواعد المحدثين النقاد .
والاضطراب ، أياً كان نوعه ، يضر في صحة ما وقع فيه ذلك .
أخيراً تبين جلياً أن العلة تشمل الشاذ والمنكر والمضطرب ، وما يتفرع عن الشاذ والمنكر من المصحف والمقلوب والمدرج ، وأن منهج المحدثين في معرفة ذلك قائم على مراعاة القرائن والملابسات التي تحيط بالحديث ، وأن هذه الأنواع جميعاً تشكل وحدة موضوعية لدورانها على نقطة المخالفة أو نقطة التفرد التي تدل على خطأ الراوي ، سواء أكان ثقة أم ضعيفاً . والله أعلم.
__________
(1) هذا وقد استعمل النقاد لفظ الاضطراب في غير معناه الاصطلاحي ، وهي معنى الاختلاف. ومن ذلك قول أبي حاتم : "قد اختلفوا في هذا الحديث فاضطربوا والصحي حديث سلمة بن كهيل" (العلل 1/402) ، وحسب التعريف السابق لا يكون هذا الاختلاف اضطراباً ؛ إذ تم الترجيح فيه ، ولذلك أمثلة كثيرة في كلام النقاد ، ولذا يجب التفطن إلى ذلك عند فهم نصوص النقاد . والله أعلم .
(2) ولذا فإنه لا ينبغي الفهم من ذلك أن الشيخين صححاً ذلك اللفظ الذي وقع فيه الاضطراب، هذا وقد يتصرف أحدهما في هذا النوع من الأحاديث بحذف ما وقع فيه ذلك ، أو قد يروي الحديث بكامله دون حذف ذلك الجزء المضطرب ، باعتبار كون ذلك مسموعاً من شيخه ، ويحدث كما سمع دون تصرف فيه .
(3) جد التمر يجده والجداد الحصاد والقطاف . (لسان العرب : مادة جدد) .
(4) البيدر هو الموضع الذي يداس فيه الطعام .
(5) النكت 2/802 - 803 .
(6) النكت 2/806 .
(7) النكت 2/810 .(1/64)
زيادة الثقة ، وتعارض الوصل والإرسال ، وتعارض الوقف والرفع ،والمزيد في متصل الإسناد
في ختام الموضوع الثاني من الوحدة الأولى ، وفي ضوء ما سبق في الموضوعين جميعاً: الأول والثاني ، لعل من المفيد جداً تناول بعض المسائل التي لها صلة وثيقة بهذين الموضوعين ، وذلك لتكون الفكرة المنهجية حول منهج المحدثين النقاد في التصحيح والتعليل واضحة المعالم ، ومتكاملة الجوانب ، ومستوعبة الأبعاد .
والمسائل هي كالتالي :
تعارض الوصل والإرسال .
تعارض الوقف والرفع .
زيادة الثقة .
المزيد في متصل الإسناد .
تشكل هذه المسائل وحدة موضوعية ، كما أنها تشكل صوراً واقعية لأهم النقاد الجوهرية التي تضمنتها المباحث ، كما سيتبين ذلك جلياً .(1/65)
أولاً تعارض الوصل والإرسال ، وتعارض الوقف والرفع :
تعني هذه المسألة أن يروي جماعة حديثاً واحداً مع اتحاد مخرجه ، فيرويه بعضهم متصلاً ويرويه الآخرون مرسلاً ، أو يرويه بعضهم مرفوعاً ، ويرويه الآخرون موقوفاً(1) .
ترد كثيراً مسألة تعارض الوصل والإرسال ، وتعارض الوقف والرفع ، في كتب العلل، كنماذج واقعية لأخطاء الرواة الثقات ، أو الضعفاء غير المتروكين ، وقد أشار إلى ذلك ابن الصلاح رحمه الله تعالى بقوله في مبحث العلة : "وكثيراً ما يعللون الموصول بالمرسل"(2) .
كما أن هذه المسألة قائمة على زيادة الثقة بقدر كبير ؛ ذلك أنه إذا كان الثقة هو الذي وصل الإسناد المرسل ، فإن وصله يعدّ زيادة في السند حيث رواه غيره مرسلاً ، وكذلك إذا روى الحديث الموقوف مرفوعاً فيكون رفعة زيادة في السند إذ رواه غيره موقوفاً على الصحابي.
أما حكم الوصل فيما هو مرسل ، أو الرفع فيما هو موقوف فيكون وفق ما تدل عليه القرائن ، وليس فيه حكم مطرد .
يقول ابن دقيق العيد : " من حكى عن أهل الحديث أو أكثرهم أنهم إذا تعارض رواية مسند ومرسل ، أو رافع وواقف ، أو ناقص وزائد ، إن الحكم للزائد لم يصب في هذا الإطلاق؛ فإن ذلك ليس قانوناً مطرداً ، والمراجعة لأحكامهم الجزئية تعرف صواب ما نقول"(3) .
__________
(1) مثال التعارض بين الوصل والإرسال :
حديث : " لا نكاح إلا بولي " رواه إسرائيل بن يونس وغيره عن أبي إسحاق السبيعي عن أبي بردة عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وخالفهم سفيان الثوري وشعبة عن أبي إسحاق عن أبي بردة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً . (مسند الإمام أحمد 4/349، مسند البزار 8/111) وجاء بين الروايتين تعارض بين الوصل والإرسال.
مثال التعارض بين الوقف والرفع .
حديث رواه عبثر وجرير عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : "من أدرك من العصر ركعة قبل أن تغيب الشمس ..." الحديث ، موقوفاً على أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث . وقال أبو حاتم : الصحيح عندي موقوف . (العلل 1/139) . =
(2) مقدمة ابن الصلاح ، ص90 .
(3) نقله الصنعاني في توضيح الأفكار 1/343 - 344 .
وقال ابن الصلاح رحمه الله تعالى في مبحث الانقطاع .
" الحديث الذي رواه بعض الثقات مرسلاً وبعضهم متصلاً ، اختلف أهل الحديث في أنه ملحق بقبيل الموصول ، أو بقبيل المرسل . مثاله : "لا نكاح إلا بولي" . رواه إسرائيل بن يونس في آخرين عن جده أبي إسحاق السبيعي عن أبي بردة عن أبيه عن أبي موسى الأشعري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسنداً هكذا متصلاً ، ورواه سفيان الثوري وشعبة عن أبي إسحاق عن أبي بردة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً هكذا ، فحكى الخطيب الحافظ أن أكثر أصحاب الحديث يرون الحكم في هذا وأشباهه للمرسل ، وعن بعضهم أن الحكم للأكثر ، وعن بعضهم أن الحكم للأحفظ" .
" فإذا كان من أرسله أحفظ ممن وصله فالحكم لمن أرسله ، ثم لا يقدح ذلك في عدالة من وصلة وأهليته ، ومنهم من قال : من أسند حديثاً قد أرسله الحافظ ، فإرسالهم له يقدح في مسنده وفي عدالته وأهليته ، ومنهم من قال : الحكم لمن أسنده ، إذا كان عدلاً ضابطاً ، فيقبل خبره ، وإن خالفه غيره ، سواء كان المخالف له واحداً أو جماعة ، قال الخطيب : هذا القول هو الصحيح" .
" قلت (يعني ابن الصلاح) : وما صححه هو الصحيح في الفقه وأصوله ، وسئل البخاري عن حديث: "لا نكاح إلا بولي" المذكور فحكم لمن وصله ، وقال : الزيادة من الثقة مقبولة ، فقال البخاري هذا مع أن من أرسله شعبة وسفيان ، وهما جبلان ، لهما من الحفظ والإتقان الدرجة العالية" . =(1/66)
ثانياً زيادة الثقة(1) :
المقصود منها : أن يروى جماعة واحداً بإسناد واحد، فيزيد بعض الثقات فيه زيادة لم يذكرها بقية لم يذكرها بقية الرواة(2) ، سواء أكان ذلك في السند أم في المتن أم كان في
كليهما(3).
لذا فإن هذه المسألة تشمل جميع صور الزيادة التي تقع من الثقة ، سواء أكان الثقة واحداً أم أكثر ، وسواء أكانت الزيادة صحيحة أم ضعيفة ، وسواء أكانت في السند والمتن أم في أحدهما.
وأما الزيادة التي تقع من بعض الصحابة على صحابي آخر فمقبولة إن ثبتت عنه دون خلاف(4) .
وإن كانت زيادة الثقة تشمل السند والمتن ، فتعارض الوصل والإرسال ، وتعارض الوقف والرفع ، والمزيد في متصل الأسانيد ، وتعارض الزيادة والنقص في المتن ، تعد نماذج مختلفة تتجسد فيها مسألة زيادة الثقة .
أما صلة زيادة الثقة بالصحيح وأنواع المعلول فظاهر مما يلي :
إذا تبين للناقد أن الراوي الثقة لم يكن واهماً حين زاد في الحديث ؛ لوجود قرائن تدل على ذلك ، فيكون ما زاده صحيحاً .
وإذا تبين أن الراوي كان واهماً ، لكونه قد أدرج في الحديث ما ليس منه بسبب الاختلاط ، أو لروايته بالمعنى ، أو غير ذلك من الأسباب فتكون تلك الزيادة معلولة ، وإن شئت سمها شاذة ، أو منكرة ، أو مدرجة ، أو مقلوبة .
وإذا لم يتبين الخطأ ولا الصواب في تلك الزيادة التي زادها أحد الثقات ولم تحتف بها قرائن تدل على ذلك فتصير زيادة مقبولة نظراً إلى الأصل في حاله .
ومن ثم فإن زيادة الثقة لا تشكل نوعاً مستقلاً عن تلك الأنواع المذكورة في الموضوعين السابقين من هذه الوحدة ، وإنما تكون متداخلة فيها(5) .
على هذا الواقع ينبغي أن نعالجها ونبين تفاصيلها ونؤسس أحكامها وفق منهج المحدثين الحفاظ ، ولذا فإن إطلاق القبول في زيادة الثقة غير سليم، بل يكون قبولها وردها في ضوء ما
تدل عليه القرائن(6) .
__________
(1) " ويلتحق بهذا ما إذا كان الذي وصله هو الذي أرسله ؛ وصله في وقت وأرسله في وقت ، وهكذا إذا رفع بعضهم الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم ووقفه بعضهم على الصحابي أو رفعه واحد في وقت ووقفه هو أيضاً في وقت آخر ، فالحكم على الأصح في كل ذلك لما زاده الثقة من الوصل والرفع ، لأنه مثبت وغيره ساكت ، ولو كان ناقياً فالمثبت مقدم عليه ، لأنه علم ما خفى عليه ، ولهذا الفصل تعلق بفصل زيادة الثقة في الحديث" . (مقدمة ابن الصلاح ص71 - 72) .
وهذا - كما ترى - نموذج واضح لتداخل آخراء أئمة الفقه والأصول في قضايا علوم الحديث ، وترجيحها وفق التوجه الفكري لمن ألف في مصطلح الحديث ، وتخصصه العلمي ، ولذا يجب لفت الانتباه إلى ذلك تفادياً للخلط بين منهج المحدثين النقاد وبين غيرهم .
ولذا قال الحافظ ابن حجر :
" وعلى المصنف (يعني ابن الصلاح) إشكال أشد منه وذلك أنه يشترط في الصحيح أن لا يكون شاذاً كما تقدم ، ويقول : إنه لو تعارض الوصل والإرسال قدم الوصل مطلقاً سواء كان رواة الإرسال اكثر أو أقل حفظاً أم لا ، ويختار في تفسير الشاذ إنه الذي يخالف روايه من هو أرجح منه . وإذا كان راوي الإرسال أحفظ ممن الوصل مع اشتراكهما في الثقة فقد ثبت كون الوصل شاذاً فكيف يحكم له بالصحة مع شرطه في الصحة أن لا يكون شاذاً ؟ " .
وتابع الحافظ قائلاً :
" هذا في غاية الإشكال ، ويمكن أن يجاب عنه بأن اشتراط نفي الشذوذ في شرط الصحة إنما يقوله المحدثون ، وهم القائلون بترجيح رواية الأحفظ إذا تعارض الوصل والإرسال ، والفقهاء وأهل الأصول لا يقولون بذلك ، والمصنف قد صرح باختيار ترجيح الوصل على الإرسال ولعله يرى عدم اشتراط نفي الشذوذ في شرط الصحيح لأنه هناك لم يصرح عن نفسه باختيار شيء ، بل اقتصر على نقل ما عند المحدثين" . (النكت 2/653) .
ويقول البقاعي : "إن الصلاح خلط هنا طريقة المحدثين بطريقة الأصوليين ، فإن للحذاق من المحدثين في هذه المسألة نظراً لم يحكه ، وهو الذي لا ينبغي أن يعدل عنه ، وذلك أنهم لا يحكمون منها بحكم مطرد ، وإنما يديرون ذلك على القرائن " . (توضيح الأفكار ص1/339) .
( ) كتب في هذا الموضوع بحثاً مستقلاً تحت عنوان : (زيادة الثقة في كتب المصطلح) ، وقد تم نشره بمجلة كلية الشريعة بجامعة الكويت .
(2) ابن رجب الحنبلي ، شرح العلل 1/425 .
(3) تقع زيادة الثقة في الإسناد في صور مختلفة ، ومنها :
ما رواه غندر محمد بن جعفر عن شعبة عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن رزين عن سالم بن عبد الله بن عمر عن سعيد بن المسيب عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي تكون له المرأة فيطلقها ثم يتزوجها رجل فطلقها قبل أن يدخل بها فترجع إلى زوجها الأول .. الحديث .
يقول أبو حاتم : "قد زاد عندي في هذا الإسناد رجلاً لم يذكره الثوري ، وليست هذه الزيادة بمحفوظة" . ثم روى حديث سفيان عن علقمة عن سليمان بن رزين عن ابن عمر ، مع بيان الاختلاف في اسم سليمان بن رزين . (العلل 1/428) .
فزاد شعبة أو تلميذه محمد بن جعفر في إسناد سالم بن عبد الله وسعيد بن المسيب ، فهي صورة من صور زيادة الثقة في السند ، ومع ذلك فقد قال أبو حاتم : "ليست بمحفوظة".
ولزيادة الثقة في المتن صور شتى ، ومنها : ما رواه أبو نعيم في مستخرجه على صحيح مسلم من طريق إسحاق بن راهوية : حدثنا ليث عن قيل عن ابن شهاب عن أنس قال : "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان في سفر فزالت الشمس صلى الظهر والعصر جميعاً ، ثم ارتحل" . (كتاب الصلاة، باب الجمع بين الصلاتين في السفر 2/294 .
(تحقيق محمد حسن ، دار الكتب العلمية ، بيروت ط1 ، سنة 1417هـ) .
والحديث في صحيح البخاري من طريق عقيل بن خالد عن الزهري عن أنس قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا زاغت صلى الظهر ثم ركب " . (كتاب الصلاة باب الجمع بين الصلاتين 1/48، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي ، دار إحياء التراث العربي بيروت) .
وعند المقارنة بين الحديثين نلحظ أن إحصاق بن راهويه زاد في الحديث كلمة (والعصر) ؛ وهي زيادة ثقة ، لأن إسحاق ثقة إمام ، وبذلك أصبح حديثه مختلفاً تماماً عن حديث الثقات عن عقيل ، الذي يدل على أنه صلى الله عليه وسلم لا يجمع بين الصلاتين في أسفاره إلا جمع التأخير ، بينما يفيد حديث إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع جمع التقديم أيضاً .
(4) انظر : انكت على مقدمة ابن الصلاح 2/691 .
(5) لقد صرح الحافظ ابن حجر بوجود علاقة وثيقة بين الشاذ وزيادة الثقة ، حيث يقول تعليقاً على ابن الصلاح في مبحث تعارض الوصل والإرسال :
" وهنا شيء يتعين التنبيه عليه وهو : أنهم شرطوا في الصحيح أن لا يكون شاذاً ، وفسروا الشاذ بأنه ما رواه الثقة فخالفه من هو اضبط منه أو أكثر عدداً ، ثم قالوا : تقبل الزيادة من الثقة مطلقاً فلو اتفق أن يكون من أرسل أكثر عدداً أو أضبط حفظاً أو كتاباً على من وصل أيقبلونه أم لا ؟ أم هل يسمونه شاذاً أم لا ؟ لابد من الإتيان بالفرق أو الاعتراف بالتناقض" . (النكت 2/612) .
ويؤكد الحافظ ابن حجر من خلال هذا النص على وجود صلة وثيقة بين مسألة زيادة الثقة ومسألة الشاذ ، لا سيما حين ألزمهم رحمه الله في آخر كلامه أحد الأمرين :
الاعتراف بالتناقض بين قبولهم زيادة الثقة مطلقاً وبين شرطهم في الصحيح أن لا يكون شاذاً ، أو أن يأتوا بالفرق بينهما .
(6) الجدير بالذكر أن مسألة زيادة الثقة قد وردت في مواضع متفرقة من كتب المصطلح ؛ مرة تحت عنوان "زيادة الثقة" ، وأخرى ضمن أنواع متعددة ؛ مثل (المعلول) ، و (الشاذ) ، و (المنكر) ، وغيرهما ؛ مما أدى إ'لى تغاير حكم هذه المسألة على أشكال مختلفة ، ونجملها فيما يلي :
أولاً : أن يدور القبول والرد فيما زاده الثقة على القرائن والملابسات ، فلا تقبل الزيادة ولا ترد إلا بمقتضى القران المحيطة بها ، ولا ينهض بذلك إلا نقاد الحديث . وذلك خلاصة حكم زيادة الثقة المذكورة ضمناً في نوع (العلة) .
ثانياً : أن يكون حال الراوي ميزاناً للقبول والرد ؛ فإن كان راوي الزيادة أوثق وأحفظ فهي مقبولة، وإلا فمردودة ، وهي خلاصة حكم زيادة الثقة المبينة ضمناً في نوعي (الشاذ) و (المنكر) .
ثالثاً : أن يكون معيار الرد هو أن تكون الزيادة منافية لما رواه الناس ، فلا تكون مردودة إلا في حالة منافاتها لما رواه الناس ، وأما في غير ذلك فالزيادة مترددة بين القبول والرد ، وهو ما خلص إليه حكم الزيادة صراحة في نوع (زيادة الثقة) .
رابعاً : قبول زيادة الثقة مطلقاً ، وهذا هو الذي رجحه ابن الصلاح في مبحث تعارض الوصل والإرسال ، وتعارض الوقف والرفع .
وهكذا وقع حكم زيادة الثقة على صور مختلفة ، ومع ذلك نرى كثيراً من المعاصرين يطلقون القول بقبولها اعتماداً على كتب المصطلح ، وقد رأيت الحكم الذي في كتب المصطلح .(1/67)
ثالثاً المزيد في متصل الإسناد :
لعل هذا المصطلح أخذ مكانه من مباحث كتب المصطلح حيث ألف الخطيب البغدادي كتاباً مستقلاً هذا العنوان : وأما قبله فلم أجد في كتب العلل أو كتب الضعفاء أو غيرهال من استعمله من النقاد .
مثاله : ما روي عن عبد الله بن المبارك : حدثنا سفيان عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، حدثني بسر بن عبيد الله ، سمعت أبا إدريس يقول : سمعت واثلة بن الأسقع ، يقول : سمعت أبا مرصد الغنوي يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها" .
فسفيان وأبو إدريس مزيدان في هذا الإسناد ، فقد رواه جماعة ثقات عن ابن المبارك عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن بسر بن عبيد الله عن واثلة بن الأسقع(1) .
وحكم بعض النقاد على الإسناد المزيد أنه وهم ، وذلك في ضوء القرائن ، التي أشار إليها أبو حاتم بقوله :
" وهم أبن المبارك في زيادته (أبا إدريس) لأن بسر بن عبد الله روى عن واثلة ولقيه، ولا أعلم أبا إدريس روى عن واثلة شيئاً ، وأهل الشام أضبط لحديثهم من الغرباء"(2) .
وبقوله في موضع آخر :
" يرون أن ابن المبارك وهم في هذا . وكثيراً ما يحدث بسر عن أبي إدريس ، فغلط ابن المبارك ، وظن أن هذا روى عن أبي إدريس عن واثلة ، وقد سمع هذا بسر من واثلة نفسه"(3) .
والواقع أن أصل هذا الموضوع يرجع إلى نقطة اختلاف الرواة في الإسناد بالزيادة والنقص؛ يزيد البعض فيه رواياً ، ويسقطه الآخر ، مما يشكل وحدة موضوعية مع مسألة تعارض الوقف والرفع وتعارض الوصل والإرسال . وبذلك يصبح (المزيد في متصل الإسناد) جزءاً مهماً من مسألة زيادة الثقة ، إذا كان الثقة هو الذي زاد في الإسناد رواياً(4) .
القسم الثاني :
__________
(1) راجع مقدمة ابن الصلاح ، ص287 – 288 .
(2) ابن أبي حاتم ، العلل 1/368 – 369 .
(3) المصدر السابق 1/349 .
(4) لي بحث مستقل في هذا الموضوع تحت عنوان : (زيادة الثقة في كتب المصطلح) ، وللفائدة أنقل منه ما ذكرت فيه من خلاصة الحكم ، وهو ما يلي :
أنه إذا تبين بالقرائن خطأ المزيد في السند ، واتصال السند الآخر الخالي عن ذلك يقال : (مزيد في متصل الإسناد) ، وفي عبارة أخرى : (مزيد في أصل السند المتصل) . كما في المثال الذي أورده ابن الصلاح ، ولم يحكم النقاد على المزيد فيه بأنه وهم وخطأ إلا على أساس القرائن المحيطة به.
وهي واضحة بجلاء في قول أبي حاتم ، حين قال : وهم ابن المبارك في زيادة (أبا إدريس) لأن بسر بن عبد الله روى عن وائلة ولقيه ، ولا أعلم أبا إدريس روى عن واثلة شيئاً ، وأهل الشام اضبط لحديثهم من الغرباء . (العلل 1/368 – 369) .
يعني أبو حاتم بذلك أن رواية أبي إدريس عن واثلة غريبة ، وللنقاد في مثل ذلك مصطلح معروف وهو : (هذا لا يجيء) ، ويرونه قرينة قوية على وجود خطأ في الرواية . وهذا أمر دقيق لا يقتنع به إلا من مارس لغة القوم ومنهجهم في النقد ، وللأسف نرى في كثير من الأبحاث المعاصرة ظاهرة الاعتراض على مثل هذا القول بإثبات المعاصرة بين الروايين وإمكانية اللقاء بينهما ، مادحاً لمذهب الإمام مسلم في ذلك . =
وجاء في موضع آخر من كتابه العلل : " وكثير ما يحدث بسر عن أبي إدريس ، فغلط ابن المبارك ، وظن أن هذا مما روى عن أبي إدريس عن وائلة ، وقد سمع هذا بسر من واثلة نفسه" . (العلل 1/349) .
يعني بذلك سلوك الجادة . وبذلك يندرج هذا المزيد تحت المعلول عموماً أو الشاذ أو المنكر أو المدرج خصوصاً .
وإذا تبين بالقرائن أن اسم الراوي مقحم في السند ، وذكره فيه خطأ ، وأن السند الآخر الذي خلا من ذكره منقطع ، صح أن يقال : مزيد في أصل السند المنقطع ، لكونه مدرجاً فيه ومقحماً، كما في حديث المكي بن إبراهيم عن ابن جريح عن نافع عن إبراهيم بن عبد الله بن معبد أن ابن عباس حدثه عن ميمونة في فضل المسجد النبوي . (التاريخ الكبير 1/302) .
وقد صرح أئمة النقد مثل البخاري والدار قطني بأن ذكر ابن عباس فيه وهم ، والصواب : ما رواه عبد الرزاق وغيره من الثقات عن ابن جريح عن نافع عن إبراهيم بن عبد الله بن معبد عن ميمونة . وكذا رواه الليث بن سعد عن نافع بإسقاط (ابن عباس) راوياً عن ميمونة . (سنن السنائي ، كتاب الحج ، باب فضل الصلاة في المسجد الحرام 5/213 ، وصحيح مسلم 9/163 من شرح النووي) .
ولذلك يظل الإسناد منقطعاً ، حيث إن إبراهيم لم يسمع من ميمونة حسب قول ابن حبان . (ثقات ابن حبان 6/6) .
ج- وأما إذا دلت القرائن على أن الراوي حدث مرتين مرة بذكر الواسطة وأخرى بدونها يعني عالياً ونازلاً فيقال : مزيد في متصل الإسناد ، يعني أن وجود الواسطة في السند لا يدل على انقطاع السند الآخر الذي خلا من الواسطة ، بل كلاهما متصل .
ومثاله : حديث بسرة في الوضوء من مس الفرج ؛ فقد رواه يحيى بن سعيد القطان وعلي ابن المبارك عن هشام بن عروة عن أبيه عن بسرة . (سنن البيهقي 1/129) .
ورواه سفيان بن عيينة وجماعة عن هشام بن عروة عن أبيه عن مروان بن الحكم عن بسرة (التمهيد 17/186 ، 188 ، 189 ، وصحيح ابن حبان 3/396) .
وكذلك رواه جماعة عن الزهري عن عروة . (سنن البيهقي 1/129) .
ورواه مالك عن عبد الله بن أبي بكر أنه سمع عروة يقول : دخلت على مروان بن الحكم فذكرنا ما يكون منه الوضوء ، فقال مروان : من مس الذكر الوضوء ، فقال عروة : ما علمت ذلك ، فقال مروان : أخبرتني بسرة بنت صفوان أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : "إذا مس أحدكم ذكره فليتوضأ" . (موطأ الإمام مالك 1/42) .
= هذا وقد رواه شعيب بن إيحاق ، وعنبسة بن عبد الواحد وحميد بن الأسود وغيرهم عن هشام بن عروة عن أبيه عن مروان عن بسرة بالقسة ، بزيادة في آخر الحديث : "قال عروة : ثم لقيت بسرة ، فسألتها عن هذا الحديث ، فحدثتني به عن النبي صلى الله عليه وسلم " . (صحيح ابن حبان 3/396 ، ومستدرك الحاكم 1/232) .
قال ابن حبان : " وأما خبر بسرة الذي ذكرناه فإن عروة بن الزبير سمعه من مروان بن الحكم عن بسرة ، فلم يقنعهم ذلك ، حتى بعث مروان شرطياً له إلى بسرة فسألها ، ثم أتاهم فأخبرهم بمثل ما قالت بسرة فسمعه عروة ثانياً عن الشرطي عن بسرة ، ثم لم يقنعه ذلك حتى ذهب إلى بسرة فسمع منها . بالخبر عن عروة عن بسرة متصل ليس بمنقطع ..." . (صحيح ابن حبان 3/396) .
وقال ابن خزيمة : "ويقول الشافعي أقول؛ لأن عروة قد سمع خبر بسرة منها ، لا كما توهم بعض علمائنا أن الخبر واه لطعنه في مروان" . (صحيح ابن خزيمة 1/23) .
د- وأما في حالة وجود القرائن التي تدل على ثبوت المزيد في السند ، وأن الإسناد بدون ذكره يكون منقطعاً فلا يقال : مزيد في متصل الإسناد . كما في حديث سعيد بن عامر عن جويرية بنت أسماء عن نافع عن ابن عمر عن عمر رضي الله عنه حديث : (وافقت ربي في ثلاث) ، وقد رواه محمد بن عمر المقدمي عن سعيد بن عامر عن جويرية عن رجل عن نافع .
ولعل من القرائن الدالة على ثبوت المزيد بين جويرية ونافع أن جويرية مكثر عن نافع جداً ، فلو كان هذا الحديث عنده عنه لما رواه عن رجل مبهم عنه . (جامع التحصيل ص132) .
قال الحافظ العلائي – وهو يشرح هذه القرينة - : "وحاصل الأمر أن الراوي متى قال : (عن فلان) ، ثم أدخل بينه وبينه في ذلك الخبر واسطة ، فالظاهر أنه لو كان عنده عن الأعلى لم يدخل الواسطة ؛ إذا لا فائدة في ذلك ، وتكون الرواية الأولى مرسلة إذا لم يعرف الراوي بالتدليس وإلا فمدلسة ، وحكم المدلس حكم المرسل كما تقدم ، وخصوصاً إذا كان الراوي مكثراً عن الشيخ الذي روى عنه بالواسطة ، كهشام بن عروة عن أبيه ، ومجاهد عن ابن عباس ، وغير ذلك مما تقدم من الأمثلة .
فلوا أن هذا الحديث عنده عنه لكان يساير ما روى عنه ، (كذا ولعل الصواب : وما رواه عن الواسطة عنه) ، فلما رواه بواسطة بينه وبين شيخه المكثر عنه عُلم أن هذا الحديث لم يسمعه منه، ولا سيما إذا كان ذلك الواسطة رجلاً مبهماً أو متكلماً فيه" . (المصدر السابق) .
هـ- وإذا لم توجد القرائن الدالة على صواب المزيد أو خطئه فهذا يكون قسماً آخر من المزيد، وينطبق عليه ما ذكره الإمام ابن الصالح من مراعاة ظواهر السند،ومع ذلك لا يصفو المقام من=
= كدر الإشكال الذي أشار إليه الإمام ابن الصلاح في نوع المرسل الخفي بقوله هذا : "وهذا وما سبق في النوع الذي قبله (يعني الإرسال الخفي والمزيد في متصل الإسناد) يتعرض لأن يعترض بكل واحد منهما على الآخر" . (مقدمة ابن الصلاح ، ص291) ، وانظر : تلخيص الحافظ العلائي في جامع التحصيل . والله أعلم .(1/68)
ما تعمد في خطئه الراوي ، ويطلق عليه مصطلح (الموضوع)(1/69)
الموضوع وما يتصل به من الأنواع(1)
الحديث الموضوع هو ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم كذباًَ ، من قول أو فعل أو تقرير ، وقد يكون ذلك من نسخ خيال الراوي الكاذب ، أو قولاً لأحد الحكماء ، أو لأحد الصاحبة ، أو التابعين ، أو غير ذلك من الأمثال العربية أو الإسرائيليات ، سواء أكان ذلك لأغراض سيئة ، أم حسنة ، كما سيأتي تفصيلها إن شاء الله تعالى .
وإطلاق مصطلح (الموضوع) في هذا المعنى هو الأغلب ، لا سيما عند المتأخرين ، بل استقر عندهم ، بحيث لا ينصرف إلى ذهنهم غير ذلك . غير أن بعض القدامى أطلقوا لفظة الموضوع أيضاً فيما أخطأ الراوي من غير قصد ، وخاصة عندما يتبين ذلك الخطأ بجلاء ، وإن كان ذلك الراوي ثقة(2) ، ومن لم يعرف منهج المحدثين في إطلاق هذا المصطلح فإنه يعترض على النقاد ، ويصف ذلك بالمبالغة ، بحجة أن الراوي ليس كذاباً ولا متهماً بالكذاب .
إن كان الحديث الموضوع يختلف عن الحديث المعلول بتعمد الراوي الخطأ في الأول ، وبأنه لا يعذر في ذلك مهما كان قصده ، فإنهما في الحكم سواء ، ألا وهو رد الحديث باعتباره خطأ .
بما أن الكشف عن الكذب في الأحاديث ، والافتراء على النبي صلى الله عليه وسلم أصبح أمراً سهلاً ، بعد أن قام النقاد بتمييز الوضاعين من المقبولين من الرواة(3) ، فإن الأئمة النقاد انصبت عنايتهم في بيان أخطاء الثقات والضعفاء ، لغموضها ، وصعوبة الوقوف عليها .
وعلى كل فإن الحديث الموضوع كان محل اهتمام القدامى من النقاد ، غير أن الكثيرين من الأئمة المتأخرين بذلوا جهداً كبيراً في إبراز ذلك بذكر المقاييس العلمية التي تعرف بها الأحاديث المكذوبة على الني صلى الله عليه وسلم ن اعتقاداً منهم بأن ذلك يبلور جهد المحدثين في نقد المتون . وما شرحه ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه (المنار المنيف) يعد أكثر استيعاباً لما يتعلق بالمقاييس التي يعرف بها الكذب .
__________
(1) قد حظي هذا الموضوع باهتمام العلماء قديماً وحديثاً ، وألفوا فيه كتباً كثيرة ، ولذا فإني أختصر الحديث عنه هنا ، ومن أراد المزيد فليرجع إليها ، وسيأتي ذكر بعض أسماء تلك الكتب إن شاء الله تعالى .
(2) مثاله : حديث قتيبة في جمع التقديم أطلق عليه الحاكم بأنه موضوع مع تصريحه بأن قتيبة ثقة، انظر كتاب (الموازنة) للمؤلف .
والمتتبع لكتاب العلل لابن أبي حاتم يجد أمثلة كثيرة من هذا النوع ، وأنا أذكر هنا بعضاً منها على وجه السرعة :
يقول أبو حاتم : هذا حديث موضوع ، وأبو سفيان الأنباري مجهول (1/68) .
وقال ابن نمير : الشيخ لا بأس به ، والحديث منكر ، قال أبو حاتم : الحديث موضوع (1/74).
ويقول أبو حاتم : هذا حديث موضوع لا أصل له ، وسنان عندنا مستور (1/416) .
ويقول : هذا حديث موضوع ، ويهلول ضعيف الحديث (2/321) .
ويقول أيضاً : وهذا حديث موضوع ، عبد الملك مضطرب الحديث (2/368) .
ويقول أيضاً : وهذا حديث موضوع بهذا الإسناد ، ونوفل بن سليمان هذا ضعيف الحديث (2/12).
ويقول أيضاً : هذا حديث موضوع بهذا الإسناد ، والمعلى متروك الحديث (2/375) وغير ذلك من الأمثلة .
ويقول ابن الجوزي : فمتى رأيت حديثاً خارجاً عن دواوين الإسلام ، كالموطأ ومسند أحمد والصحيحين وسنن أبي داود ونحوها، فانظر فيه، فإن كان له نظير من الصحاح والحسان قرب أمره =
(3) وإن ارتبت فيه ورأيته يباين الأصول فتأمل رجل إسناده واعتبر أحوالهم من كتاب المسمى بالضعفاء والمتروكين ، فإنك تعرف وجه القدح فيه .
قود يكون الإسناد كله ثقات ، ويكون الحديث موضوعاً أو مقلوباً أو قد جرى فيه تدليس ، وهذا أصعب الأحوال ، ولا يعرف ذلك إلا النقاد ، وذلك ينقسم إلى قسمين :
أحدهما : أن يكون بعض الزنادقة أو بعض الكذابين قد دس ذلك الحديث في حديث الثقات ، فحدث به بسلامة صدره ظناً منه أنه من حديثه ، وقد ابتلى جماعة من السلف بمثل هذا .
القسم الثاني : أن يكون الراوي شرهاً فيسمع الحديث من بعض الضعفاء والكذابين عن شيخ عقد عاصره أو سمع منه فيسقط اسم الذي سمعه منه ويدلس بذكر الشيخ ، وقد كان جماعة يفعلون هذا ، منهم بقية بن الوليد .
ثم قال ابن جوزي : فإن قوي نظرك ورسخت في هذا العلم فهمت مثل هذا ، وإن ضعفت فسل عنه، وإن كان قد فل من يفهم هذا ، بل قد عدم ، وإياك أن تسمع الحديث من كذاب أو متهم أو ممن لا يعرف ما يروي فإنه يخلط ولا يدري (الموضوعات 1/99 – 101) .
ويمكن أن نستنتج مما سبق أن ابن الجوزي قد يذكر في كتابه (الموضوعات) أحاديث باطلة مع أن رواتها لم يكونوا وضاعين ولا كذابين ، وعليه فلا اعترض عليه إذا ذكر الأحاديث الباطلة لمجرد كون راويها غير كذاب ، مع أنه لم يشترط في كتابه الموضوعات أن يكون الحديث من مرويات الكذابين.
( ) يمكن فهم ذلك جيداً مما ورد عن يحيى بن معين : كتبنا عن الكذابين وسجرنا به التنور وأخرجنا به خبزاً نضيجاً (تاريخ بغداد 14/184) . ولذلك لا يقال إن المحدثين النقاد توجهوا نحو ظواهر السند، وانشغلوا بأمور لا وزن لها ، معرضين عن المتون ، والكشف عن افتراءات الكذابين فيها.(1/70)
بوادر الوقاية من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم
في ضوء تحذير شديد من رسول الله صلى الله عليه وسلم يهدد الكاذب عليه بمقعده من النار ظهرت الوقاية من الكذب عليه صلى الله عليه وسلم في عهد الصحابة ، وأخذت تتطور باستمرار إلى أن تم تدوين السنة كلها في عصور الرواية ، بحفظ المدونات والكتب والأجزاء بشتى الوسائل ، لما ظهرت في الأفق بوادر الكذب والانتحال في هذه الكتب التي أصبحت أساساً في نقل الأحاديث .
كانت جهود الأئمة في عصور الرواية وعصور ما بعد الرواية لحفظ السنة النبوية قد شكلت منهجاً صلباً أمام الكذابين ، بحيث أصبح من المستحيل أن يخرقوه مهما حاولوا . ومن أهم تلك الوسائل :
طلب الإسناد لكل خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم في عصور الرواية .
طلب الإسناد لكل نسخة يملكها المحدثون في عصور ما بعد الرواية .
ولذلك قال ابن المبارك : الإسناد من الدين ، لولاه لقال من شاء ما شاء . ومعنى ذلك أن الإسناد هو الذي منع أن يقول من شاء ما شاء في السنة النبوية ، حيث يُطالب الراوي بسنده، فإذا وضع إسناداً من عنده ، أو ركب الحديث برواية الثقات ، سرعان ما انكشفت زيغة وافتراؤه ، وفضح نفسه إلى الأبد .(1/71)
أسباب الوضع
ومن تتبع تاريخ الكذابين وما وضعوا من الأحاديث تبين أن أسباب الوضع كثيرة ومتنوعة . منها :
1- الكيد للإسلام والتشكيك به كما صدر من الزنادقة ، إذا وضعوا أحاديث في الصفات ، يقول الإمام ابن الجوزي : لقد أدخل جماعة من الزنادقة تفي أحاديث الصفات أشياء يقصدون بها عيب الإسلام ، وإدخال الشك في قلوب المؤمنين(1) .
ومن تلك الأحاديث الموضوعة ما رواه أيوب بن عبد السلام : أن الله إذا غضب انتفخ على العرش حتى يثقل على حملته .
يقول ابن حبان : كان أيوب بن عبد السلام هذا زنديقاً ، ولا يحل ذكر مثل هذا الحديث ولا كتباته إلا في مثل هذا المكان لبيان الطعن في رواته ، وما أراه إلا دهرياً يوقع الشك في قلوب المسلمين بمثل هذه الموضوعات(2) .
وقال حماد بن زيد : وضعت الزنادقة على النبي صلى الله عليه وسلم أربعة عشر ألف حديث(3) .
2- الانتصار للفرق ، سياسية كانت أو مذهبية ؛ مثل حديث : (أبو بكر يلي أمتي بعدي) ، وحديث : (علي خير البشر فمن أبي فقد كفر) ، وحديث (الأمناء ثلاثة : أنا وجبريل ومعاوية) (4) ، وأحاديث يقال له محمد بن إدريس أضر على أمتي من إبليس ، ويكون في أمتي رجل يقال له أبو حنيفة هو سراج أمتي هو سراج أمتي) (5) .
3- الترغيب في فضائل الأعمال. قال عبد الرحمن بن مهدي : قلت لميسرة بن عبد ربه: من أين جئت بهذه الأحاديث من قرأ كذلك فله كذا .. قال : وضعتها أرغب الناس فيها .
وقيل لأبي عصمة نوح بن أبي مريم المروزي : من أين لك عن عكرمة عن ابن عباس في فضائل القرآن سورة سورة ، وليس عند أصحاب عكرمة هذا ؟ فقال : إني رأيت الناس أعرضوا عن القرآن واشتغلوا بفقه أبي حنيفة ومغازي ابن إسحاق فوضعت هذا الحديث حسبة(6) .
وقيل لمحمد بن أحمد بن غالب غلام الخليل : هذه الأحاديث التي تحدث بها من الرقائق؟ فقال : وضعناها لنرفق بها قلوب العامة(7) .
4- نيل المنافع الشخصية ؛ كالتقرب من الأمراء ، أو الاستجداء من العوام ، كما كان يفعل القصاص ، يقول ابن قتيبة : "ومن شأن العوام القعود عند القاص ما كان حديثه عجيباً خارجاً عن فطر العقول ، أو كان رقيقاً يحزن القلوب ويستغزر العيون . فإذا ذكر الجنة قال : فيها الحوراء من مسك أو زعفران ..." إلى أن قال : "وكلما كان من هذا أكثر كان العجب أكثر، والقعود عنده أطول ، والأيدي بالعطاء إليه أسرع"(8) .
__________
(1) كتاب الموضوعات 1/126 .
(2) المصدر السابق .
(3) المصدر السابق 1/38 .
(4) المصدر السابق 2/17 .
(5) المصدر السابق 2/48.
(6) الموضوعات لابن الجوزي 1/41 .
(7) المصدر السابق 1/40 .
(8) تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة ، ص279 – 280 .(1/72)
القرائن التي يعرف بها الوضع
إذا كان المحدثون النقاد قد استطاعوا الكشف عن أخطاء الثقات وأوهامهم ، فإن الكشف عن كل زيف ودخيل على السنة ، بل على أحاديث الثقات وأصولهم يكون عندهم أسهل، ومهما كان الأمر فإنهم يدورون في ذلك كله على معرفة مدى التفرد والمخالفة .
يقول الإمام ابن الجوزي : "ما أحسن قول القائل : إذا رأيت الحديث يباين المعقول أو يخالف المنقول ، أو يناقض الأصول ، فأعلم أنه موضوع" .
رحم الله أئمتنا النقاد ، وجزاهم عنا خير الجزاء ، في وصول سنة نبينا صلى الله عليه وسلم إلينا ، وهي منقحة وبعيدة عن الدخيل ، بفضل جهودهم ، بل تركوا لنا منهجاً رائعاً لعملية التنقيح والتدقيق ، حتى ولو زيد حرف واحد في السنة ، أو في أحاديث الثقات ، فإن كشفه يتم بسهولة بفضل هذا المنهج القائم على المقارنة بين الأحاديث ، والجوانب العملية أو التاريخية ، أو العقلية .
فإذا تفرد الراوي الوضاع برواية حديث ، أو خالف حديثه ما ثبت بالقرآن ، أو بالسنة، أو بالإجماع ، فإن زيغه وكذبه في ذلك يكون كالشمس ، ولا يحتاج في معرفة تلك إلى بحث وتأمل .
وذلك لأنه يأتي الحديث الكذب مناقصاً للقرآن الكريم ، أو السنة الصحيحة ، أو بدهيات العقيدة ، أو التاريخ أو العقل(1) .
وإن كان الكاذب قد تفرد برواية نص دون أن يعرفه أحد من الحفاظ فإن هذا التفرد وحده كاف لمعرفة كذبه وزيغه ، ومع ذلك فإذا خالف القرآن الكريم أو الثابت عقلاً أو تاريخاً أو إجماعاً فإنه يزيد الباحث يقيناً وجزماً بأنه كذب .
__________
(1) راجع كتاب الموضوعات لابن الجوزي ، ترى فيه منهج المقارنة ، والحكم على الحديث بالوضع في ضوء ذلك .
تنبيه : قد نرى بين المفكرين المعاصرين من يتجرأ بتضعيف حديث صحيح برواية الثقات ، ومتفق على تصحيحه بين النقاد ، بحجة أن ذلك الحديث يخالف عقله ، أو ما فهمه من ظاهر القرآن الكريم، أو غير ذلك ، متهماً المحدثين النقاد بقصر نظرهم في الحديث ، واهتمامهم في ظواهر السند ، والجرح والتعديل .
وقد نقل فضيلة الشيخ الدكتور / نور الدين عتر في كتابه منهج النقد ص316 عن أستاذه المحقق الشيخ محمد السماحي ما يلي : "وهنا مسألة هامة جداً ، وهي أن كثيراً من الباحثين اليوم يعمدون إلى أحاديث صحيحة في الصحيحين أو أحدهما ، ثم يعارضونها بالمعقول تارة وبالمنقول أخرى ، ويدعون عليها الوضع بحجة أنهم تحاكموا إلى القواعد فحكمت لهم بما يقولون . والاعتدال في ذلك أن ننظر =(1/73)
حكم نقل الحديث الموضوع
إذا كان الحديث الموضوع كذباً على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لا يجوز ذكره ونقله إلا على سبيل التعريف بوضعه ، وتحذير الناس من خطره ، فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم : "من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين"(1) .
ومع ذلك فكثير من الناس لا يبالون نقل الأحاديث الموضوعة إلى عوام الناس عبر منابر الجمعة ، ووسائل الإعلام ، وخطورة نشرها بين الأطفال في مجال التربية ، وربما يزعم بعضهم أن هذه الأحاديث وإن كانت موضوعة لكن معناها صحيح .
من المعلوم أن صحة المعنى لا تعني بالضرورة أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قاله ، وأنه لا يجوز إضافة الحديث الموضوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وحتى نقله بقوله : "روي عن النبي صلى الله عليه وسلم" ، إلا لتوعية الناس بحال ذلك الحديث من الكذب والوضع .
أما الأحاديث الضعيفة فلا تذكر إلا بأساليب معينة من شأنها بيان ذلك الضعف أو الإشارة إليه ، إذا كان العوام يفهم دلالة تلك الأساليب ، وإلا فإني أرى أن يبين لهم الضعف في الأحاديث الضعيفة بحيث يفهمون ذلك . والله أعلم .
__________
(1) لحديث الذي هو محل الإشكال فإن أمكن فهمه على وجه يتفق مع القواعد ولا يتعارض معها فهو المطلوب ، ولا داعي إلى تجريح الرجال .." .
والواقع أن صنيع هؤلاء الباحثين في السنة النبوية ظلم للتاريخ وقلب للحقائق وجهل لمنهج النقاد في التصحيح والتضعيف . وقد عالجنا هذا الموضوع في مبحث الصحيح بشيء من التفصيل .
ومن الأسف أن نرى بعض الباحثين ، وحتى المتخصصين في الحديث يرددون بأن الجرح والتعديل هما أساس التصحيح والتضعيف . وليس الأمر كذلك ؛ فإن الجرح والتعديل ، وتصنيف الرواة على مراتبهم فيها بدقة متناهية إنما ذلك بعد نقد مروياتهم ، وهذا من خصائص نقاد الحديث دون سائر النقاد ، إذ استثمروا ذلك من جهودهم في نقد النصوص ، والأسانيد .
( ) أخرجه الإمام مسلم في مقدمة صحيحه 1/7 .(1/74)
كتب الموضوعات
ظهرت كتب كثيرة للتعريف بالأحاديث الموضوعة ، وكثرت الأبحاث لمعالجة آثار الوضع على العلوم الشرعية ، والمجتمع الإسلامي ولذلك فإني اختصرت الكلام حول هذا الموضوع الذي نال اهتمام العلماء السابقين والمعاصرين على حد سواء .
من تلك الكتب :
كتاب الأباطيل ، للجوزقاني ، وكتاب الموضوعات ، لابن الجوزي ، وكتاب تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الشنيعة الموضوعة ، لعلي بن محمد بن عراق الكناني ، والمنار المنيف في الصحيح والضعيف ، لابن قيم الجوزية ، وكتاب المصنوع في الحديث الموضوع ، للحافظ علي القارئ ، وكتاب الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة ، لمحمد بن علي الشوكاني، وكتاب الوضع في الحديث للشيخ عمر فلاته .
أما الحديث الواهي فيكون مما تفرد به الرواة المتهمون ، أو خالفوا فيه الثقات ، وكثيراً ما يطلقون عليه مصطلح (المنكر) . وقد ألف فيه ابن الجوزي كتاباً أسماه (العلل المتناهية في الأحاديث الواهية) (1) .
__________
(1) لحديث الذي هو محل الإشكال فإن أمكن فهمه على وجه يتفق مع القواعد ولا يتعارض معها فهو المطلوب ، ولا داعي إلى تجريح الرجال .." .
والواقع أن صنيع هؤلاء الباحثين في السنة النبوية ظلم للتاريخ وقلب للحقائق وجهل لمنهج النقاد في التصحيح والتضعيف . وقد عالجنا هذا الموضوع في مبحث الصحيح بشيء من التفصيل .
ومن الأسف أن نرى بعض الباحثين ، وحتى المتخصصين في الحديث يرددون بأن الجرح والتعديل هما أساس التصحيح والتضعيف . وليس الأمر كذلك ؛ فإن الجرح والتعديل ، وتصنيف الرواة على مراتبهم فيها بدقة متناهية إنما ذلك بعد نقد مروياتهم ، وهذا من خصائص نقاد الحديث دون سائر النقاد ، إذ استثمروا ذلك من جهودهم في نقد النصوص ، والأسانيد .
( ) على الباحث أن يعتبر نصوص النقاد وتطبيقاتهم العملية المصدر الأصيل لينهل منه المعلومات المتعلقة بالموضوع الذي نحن بصدده ، وتحديد معنى المصطلحات الواردة عنهم في ذلك ، وأما كتب المصطلح فهي مصادر مساعدة ، ولابد من عرضها على الأول حتى تكون تصوراتنا حول علوم الحديث عامة صحيحة وسليمة .
وفي هذه المناسبة يكون من المفيد أن ننظر في أنواع الحديث الضعيف التي تذكر في كتب المصطلح، وهي : الحديث المتروك ، والحديث المطروح ، والمضعف . وقيل في تعريف الأول :
هو الحديث الذي يرويه من يتهم بالكذب ، ولا يعرف ذلك الحديث إلا من جهته ويكون مخالفاً للقواعد المعلومة ، وكذا من عرف بالكذب في كلامه وإن لم يظهر منه وقوع ذلك في الحديث النبوي.
وأما الثاني فقيل في تعريفه ما نزل عن الضعيف وارتفع عن الموضوع ، وقيل : هو المتروك بعينه .
والثالث : هو الذي لم يجمع على ضعفه ، بل ضعفه بعضهم وقواه آخرون : إما في المتن أو في السند.
أقوال : مصطلح (المتروك) لم أر له أثراً في نصوص النقاد ، وإنما يطلقون (المتروك" لقباً للراوي الضعيف ، وكذا مصطلح (المطروح) يطلقونه لقباً للراوي ، وليس للحديث ، وأما المضعف فليس مما يستخدمه المحدثون النقاد .
ويعد هذا من نتائج الحكم على الحديث بأحوال رواته ، وجعله تابعاً لها ، كما جعلوا أقسام الصحيح والحسن تابعة لأحوال الرواة ؛ فالصحيح لذاته يكون روايه ثقة ، والحسن لذاته يكون روايه صدوقاً، وإذا توبع أصبح صحيحاً لغيره ، ويتنوع الضعيف باختلاف أحوال راويه الضعيف ؛ فإذا كان الراوي غير شديد الضعيف فحديثه ضعيف ، وإذا توبع فحسن لغيره ، وإذا كان شديد الضعف فإن كان متروكاً فحديثه متروك ، أو مطروح ، وإن كان وضاعاً فموضوع .
وقد سبق البحث والتحقيق أن الحكم على الحديث ليس تابعاً لأحوال الراوي ، وإنما يدور على مدى موافقته ومخالفته وتفرده ، فإذا تبين للناقد أن الراوي قد أقتن ما رواه من الحديث ، ولم يخطئ فيه ، بل حدث كما سمع ، أطلقوا عليه الصحة ، حتى وإن كان ضعيفاً غير متروك ، أو صدوقاً . وإذا تبين للناقد أن ذلك الحديث الذي رواه الراوي خطأ ، عبروا عنه بمصطلحات مختلفة ، وقد يطلقون الموضوع أيضاً حسب فداحة الخطأ . وإن لم يتبين له شيء من هذا أو ذاك فحسب انطباعه بما له من العواضد ، قد يكون حسناً أو جيداً أو لا بأس به أو ضعيفاً يستأنس به أو يقدم على الرأي في العمل به ، ويكون ذلك على سبيل الاحتياط . والله أعلم .(1/75)
الحديث الذي لم يتبين للناقد صوابه ولا خطؤه
الموضوع الثالث من الوحدة الأولى
الحديث الذي لم يتبين للناقد
صوابه ولا خطؤه
ويحتوي على ما يلي :
الضعيف المنجبر .
ما يرد في هذا المجال من المصطلحات ، وهي :
المتابعات والشواهد .
المنقطع .
المعلق .
المعضل .
المرسل .
المرسل الخفي .
المدلس .
العنعنة والأنأنة .
حسن .
جيد .
لا بأس به .
3- قواعد تقوية الحديث الضعيف .
لعل من المفيد أن نطرح بعض الأسئلة المنهجية حول أهم النقاط التي تتضمنها مباحث الموضوع الثالث :
- متى ينجبر الحديث الضعيف بالمتابعات والشواهد ؟
- ما حدود الضعيف الذي يصلح للمتابعة والشاهد ؟
ما منهج المحدثين في تقوية الحديث الضعيف ؟
هل يوجد تباين منهجي بين النقاد وبين المتأخرين عموماً في مسألة التقوية ؟
لماذا ينتهج المعاصرون منهج المتأخرين دائماً ؟
ما معنى الحديث الحسن ؟
متى يصلح العمل بالضعيف ؟(1/76)
الضعيف الذي ينجبر ضعفه بتعدد الطرق والمصادر(1)
يتمحور الموضوع الأخير من الوحدة الأولى على الحديث الذي لم يتوفر لدى الناقد ما يدل على خطئه وصوابه من القرائن ، ولذا يكون هذا النوع من الأحاديث متردداً بين الصحيح والمعلول ، غير أنه لم يرتق إلى الصحيح الذي تبين صوابه ، كما أنه لم ينزل إلى الضعيف الذي تبين خطؤه ، ولذا تكون درجته مختلفة المستويات ، في القبول والاحتجاج وجواز العمل ، وبقدر اقترابه من أحد الطرفين : الصحيح والمعلول ، حسب وجود العواضد الخارجية وعدمها ، يحدث اضطراب في موقف الناقد تجاهه ، لا سيما إذا تساهل أحد فصححها ، أو تشدد فتركه(2) .
يقول الذهبي في هذا الصدد :
" ثم لا تطمع بأن للحسن قاعدة تندرج جميع الأحاديث الحسان فيها ، فأنا على أياس من ذلك ، فكم من حديث تردد فيه الحفاظ هل هو حسن ، أو ضعيف ، أو صحيح ، بل الحفاظ الواحد يتغير اجتهاده في الحديث الواحد ، فيوماً يصفه بالصحة ويوماً يصفه بالحسن ، ولربما استضعفه"(3) .
ويتضمن هذا الموضوع ما يأتي :
جميع أنواع الانقطاع ، ظاهراً كان أو خفياً ، وتتقوى كلها بالعواضد .
الحديث الذي رواه ضعيف مقبول ، ولم تدل القرائن على خطئه أو صوابه .
الحديث الحسن الذي تقوى بالمتابعات والشواهد .
ضوابط تقوية الحديث الضعيف .
ما يصلح للمتابعة والشاهد .
إن كان يتعين التوقف عن قبول الأحاديث وردها إذا لم يتوافر لدى الناقد ما يساعده على معرفة صوابها وخطئها ، لاحتمال أن يكون لهذه الأحاديث أصل قد يكون مقبولاً أو صحيحاً أو لا يكون له أصل ، فإنه لا مانع من إطلاق الضعيف على تلك الأحاديث تجاوزاً ، والعمل بها احتياطاً لا تشريعاً(4) ، وكلما تقوى الحديث بالعوامل الخارجية كان أصلح للاحتجاج به .
ولعل من أهم القضايا التي يجب التركيز عليها في أثناء دراسة هذا الموضوع ما يأتي:
قضية تقوية الحديث الضعيف .
الحديث الضعيف الذي يصلح للمتابعة والشواهد .
وبقدر تحرير هاتين القضيتين في ضوء منهج المحدثين النقاد ، دون خلطه بمناهج الفقهاء، تتم معالجة الاختلافات الفقهية والعقدية والسلوكية التي يعود سببها إلى عدم احترام الباحثين، قواعد تقوية الحديث الضعيف بالمتابعات والشواهد عن المحدثين النقاد الذين هم المرجعية الأصيلة في علوم الحديث .
لذا يتعين علينا تأسيس فكرة منهجية واضحة وسليمة حيال هاتين المسألتين ، قبل الدخول في تفاصيلهما ، وهو الهدف من دراسة هذا الموضوع من الوحدة الأولى ، وذلك كما يلي:
إن الحديث الضعيف الذي ينجبر ضعفه بالمتابعات والشواهد هو كل حديث لم يتبين للناقد فيه خطأ مما رواه الضعيف غير المتروك . وهذا النوع من الحديث هو وحده يصلح للمتابعة والشاهد دون غيره من أنواع الضعيف .
أما ما تبين خطؤه فلا ينجبر ؛ لا بالمتابعات ولا بالشواهد ، كما لا يصلح ذلك للمتابعة والشواهد أيضاً ، والخطأ أبداً خطأ ، وإن رواه ثقة أو إمام . ومن المعلوم أن قبول الأحاديث وردها ليس تابعاً لحال الراوي دائماً .
وبناء على هذا الواقع فإن الحديث الذي أعله النقاد بتفرده ، أو عدم وجود متابعة له ، أو غرابته ، أو نكارته ، فلا ينبغي اعتماد ذلك الحديث المعلول في تقوية الأحاديث ، ولا اعتباره متابعة ولا شاهداً ، لمجرد كون روايه ثقة أو ضعيفاً غير متروك ، أو لعدم وضوح سبب تعليلهم له(5).
والجدير بالذكر أن هذا التأصيل العلمي يساعد الباحث على حل كثير من الخلافات الفقهية وغيرها التي يعود سببها إلى عدم التقيد بما اعتمده نقاد الحديث من القواعد والضوابط في تقوية الأحاديث(6) .
وبعد أن أخذنا فكرة منهجية واضحة حيال مسألة تقوية الحديث الضعيف ومنهج المحدثين فيها ، فإن دخولنا في تفاصيلها ، ومعرفة أنواعها وما ورد فيها من المصطلحات أصبح مناسباً(7) .
__________
(1) إذا رجعنا إلى أسلوبنا الشخصي في معالجة الأخبار التي تنقل إلينا ، وجدنا أن الخبر إذا كان ناقله قد أخطأ فيه وأصبح خطؤه معروفاً لدى المخاطب من خلال ممارسته مع الجو العام لموضوع الخبر، أو من خلال حياته في محيطه ، أو غير ذلك ، فإنه - وإن جاء من مصادر متعددة - يبقى ذلك الخبر لديه خطأ. وأما إذا لم يكن كذلك فالخبر يزداد قوة كلما تعددت مصادره .
هذا طبعاً بالنسبة إلى من لديه خلفية أو صلة بملابسات الخبر ، وأما الذي يعيش بعيداً عن موضوع الخبر الذي ينقل إليه ، وليس له صلة به ، فإنه لا يسعه إلا أن يقلد ناقل الخبر ، وكلما تعددت مصادر الخبر يتقوى انطباعه تجاه ذلك الخبر . وهذا بعينه سنراه في الحديث الضعيف ومنهج المحدثين النقاد في تقويته بتعدد المصادر .
(2) الجدير بالذكر أن موضوع تقوية الحديث الضعيف ، الذي نحن بصدده لا يشمل تقويته برواية الثقات الموافقة له ؛ إذ تجعله متابعتهم حديثاً صحيحاً ، وهو الذي سبق بيانه في الموضوع الأول من الوحدة الأولى .
(3) الموقظة ، ص27 .
(4) هذا النوع من الضعيف يكون هو المقصود بقول الإمام أحمد وغيره من الأئمة بتقديم الحديث الضعيف على الراوي ، إذ الحديث الضعيف الذي لم يتبين للناقد خطؤه يحتمل أن يكون قولاً للنبي صلى الله عليه وسلم ، كما يحتمل كونه موقوفاً على صحابي أو تابعي ، وأما الرأي فليس فيه احتمال إلا لأن يكون رأي شخص ، وكذلك الأمر فيما إذا تبين الخطأ في رفعه ، فحينئذ لا يقدم على الرأي ، لأنهما سواء .
وللأسف فإن كثير من المعاصرين يظنون أن الحديث الضعيف الذي قال الإمام أحمد بتقديمه على الرأي، وهو ما رواه غير المتروك على عمومه ، سواء أكان مما أخطأ فيه الراوي أم لا ، ويخلطون بذلك بين الحابل والنابل . والله المستعان .
(5) وهذا النوع من الأحاديث هو الذي كان محوراً رئيساً في المبحث السابق .
(6) وبعد تأصيل موضوع التقوية في ضوء منهج المحدثين يكون من المفيد أن تقرأ ذلك في مقدمة ابن الصلاح وغيره من الكتب .
قال ابن الصلاح رحمه الله تعالى :
" ليس كل ضعف يزول بمجيئه من وجوه ، بل ذلك يتفاوت .
فمن ضعف يزيله ذلك ؛ بأن يكون ضعفه ناشئاًَ من ضعف حفظ راويه ، مع كونه من أهل الصدق والديانة .
فإذا رأينا ما رواه قد جاء من وجه آخر عرفنا أنه مما قد حفظه ، ولم يختل ضبطه له .
وكذلك إذا كان ضعفه من حيث الإرسال ، زال بنحو ذلك ، كما في المرسل الذي يرسله إمام حافظ، إذا فيه ضعف قليل يزول بروايته من وجه آخر . =
= من ذلك ضعف لا يزول بنحو ذلك لقوة الضعف وتقاعد هذا الجابر عن جبره ، ومقاومته ، وذلك كالضعف الذي ينشأ من كون الراوي متهماً بالكذب أو كون الحديث شاذاً" . والله أعلم .
وإن كان هذا النص يدلك بظاهره على أن الضابط في تقوية الحديث الضعيف بالمتابعات والشواهد هو أن لا تكون هذه المتابعات والشواهد من مرويات المتروكين ، وأن لا يكون فيها شذوذ ، فإن الإمام النووي اختصر النص على النحو الذي يتبلور فيه الشروط الأول دون الثاني ؛ إذ قال رحمه الله تعالى :
" إذا روي الحديث الضعيف من وجوه ضعيفة لا يلزم أن يحصل من مجموعها حسن ، بل ما كان ضعفه ضعف حفظ راويه الصدوق الأمين زال بمجيئه من وجه آخر وصار حسناً ، وكذا إذا كان ضعفه بالإرسال زال بمجيئه من وجه آخر ، وأما الضعف لفسق الراوي فلا يؤثر فيه موافقته غيره".
وكذا اختصره الإمام ابن كثير ، وهذا نصه :
" قال الشيخ أبو عمرو : لا يلزم من ورود الحديث من طرق متعددة أن يكون حسناً ، لأن الضعف يتفاوت ؛ فمنه ما لا يزول بالمتابعات - يعني كرواية الكذابين والمتروكين - ومنه ضعف يزول بالمتابعة كما إذا كان راويه سيء الحفظ ، أو روى الحديث مرسلاً ، فإن المتابعة تنفع حينئذ ويرفع الحديث عن حضيض الضعف إلى أوج الحسن أو الصحة . والله أعلم .اهـ . (اختصار علوم الحديث مع الباعث الحثيث ، ص33) .
لاشك أنه يفهم من هذين النصين أن المعيار في تقوية الحديث الضعيف هو حال الراوي ، فإذا كان متروكاً فلا يتقوى ، ولا يقوي غيره ، وإلا فيكون صالحاً للتقوية ، وعلى هذا الأسلوب الذي يقوم على حال الراوي استقر عمل كثير من المتأخرين وجمهور الباحثين المعاصرين ؛ بل جعلوه قاعدة مسلمة .
والواقع أننا إذا اعتمدنا ظاهر هذه النصوص في بناء تصوراتنا حول مسألة تقوية الحديث الضعيف، دون عرضها على منهج النقاد فيها فإننا نكون قد قصرنا في فهم هذه المسألة بأبعادها النقدية، وبالتالي تصبح نصوص النقاد في التعليل ، مشكلاً علينا دائماً ، لما فيها من إطلاق أو إبهام ، وقد يكون ما قصدوه غير ظاهر من سياق النص ، والخطورة في ذلك أننا لا نشعر بوقوع تقصير في فهمنا؛ بل يسودنا الغرور .
والمتتبع لنصوص النقاد يراهم فيها يحكمون على حديث بغرابته ، وتفرد الراوي به وعدم وجود متابعة له ، مع أنهم قد رووا الحديث من طرق أخرى تبدو في ظاهرها أنها متابعات لذلك الراوي ، أو شواهد ، ومن لا يعرف منهجهم في التعليل والتصحيح يجد نفسه مضطراً إلى رفض الحكم الذي صدر منهم في هذا المجال بما رووه هم أنفسهم من الروايات ، وليس بما اكتشفوا من الروايات ، بل قد يأتون بما وقع فيه الوهم من الرواة المتأخرين للرد على أولئك النقاد ، ويقولون في ذلك :
" هذه متابعات تامة ، أو ناقصة ، ولم تكن من مرويات المتروكين ، وبمجموعها يتقوى الحديث، وتزول غرابتها ، ويصير حسناً لغيره أو صحيحاً لغيره " . =
(7) وإذا جعلنا ما ورد في نصوص الإمام ابن الصلاح وغيره من اللاحقين في مسألة المتابعة والشاهد وتقوية الحديث الضعيف بها ، مقيداً محصوراً في الحديث الضعيف الذي لم يتبين فيه الخطأ ، دون حمله على جميع أنواع الضعيف سوى حديث المتروك ، فإننا نكون بذلك قد وفقنا بين التعريفات ونصوص المتأخرين في تفاصيلها وبين منهج المحدثين القدامى ، وربطنا بينها ربطاً صحيحاً .
( ) الواقع أننا بحاجة ملحة إلى مزيد من النظر في نصوص نقاد الحديث وتطبيقاتهم العملية ، باعتبارهم المرجعية الأصيلة لجميع مسائل علوم الحديث ، ثم العرض عليها ما جاء في كتب المصطلح من التعريفات والمسائل ، لا سيما معالجة الحديث الضعيف وتقويته بالمتابعات والشواهد ، وعمل المعاصرين في هذا المجال ، وذلك لتكون الفكرة المنهجية حول هذا الموضوع مؤسسة بجميع أبعادها. ولذا أنصح القارئ بقراءة كتاب الشيخ طارق عوض الله (الإرشادات) ، وهو من أحسن ما كتب في هذا الموضوع في رأيي . جزاه الله خيراً .
وأنت إذا تتبعت أحاديث الأحكام - مثلاً - وجدت فيها النقاد يقولون مرة : لا يصلح في هذا الباب شيء ، أو هذا حديث تفرد به فلان ، على الرغم مما رووه من أحاديث الباب . وفي أخرى يقولون: هذا حديث حسن ، وقد روى من غير وجه ، يعني وجود تفاصيل دقيقة في تقوية الحديث الضعيف بالضعيف .(1/77)
الضعيف نوعان
في ضوء ما ذكرنا في الموضوع الثاني وفي مستهل الموضوع الثالث يمكن التلخيص بأن الضعيف نوعان :
نوع ينجبر .
نوع لا ينجبر .
النوع الذي ينجبر هو ما لم يتبين خطؤه ولا صوابه ، ويقع تحته جميع أنواع الانقطاع مثل "المعلق" و "المدلس" و "المرسل" و "المنقطع" و "المعضل" بشرط أن لا يخالف نوع من هذه الأنواع المنقطعة ما صح من حديث متصل ، أو أن لا يكون غريباً ، أي : لا يعرف الحدي ثمن وجه آخر .
كما يقع تحت هذا النوع المنجبر ما رواه الضعيف غير المتروك ، ولم يتبين خطؤه ولا صوابه .
أما النوع الذي لا ينجبر هو ما تبين خطؤه وكان معلولاً ، سواء أكان متصلاً أم منطقعاً، سواء أرواه ثقة أم ضعيف ، أو ما تبين كذبه وكان موضوعاً .
وكثيراً ما يستخدم في هذا المجال مصطلحاً (المتابعة) و (الشاهد) ؛ لهذا لعل من المفيد أن نتعرف على المقصود بهما .(1/78)
المتابعات والشواهد
المتابعة هي عبارة عن مشاركة بين الرواة في رواية حدث عن صاحبه ، أو عن مصدره ، القريب أو البعيد ، مع اتفاقهم سنداً ومتناً ، ودون زيادة أو نقص ، وتعد كل رواية متابعة لأخرى ، ويقال في هذا المجال : تابعه فلان وفلان .
ومثاله ما رواه البخاري :
حدثنا ملك بن إسماعيل حدثنا ابن عيينة عن الزهري قال : قال السائب بن يزيد رضي الله عنه ذهبنا نتلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ثنية الوداع .
حدثنا على بن عبد الله حدثنا سفيان قال : سمعت الزهري عن السائب بن يزيد يقول : أذكر أني خرجت من الغلمان إلى ثنية الوداع نتلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم(1) .
فرواية علي بن عبد الله تعد متابعة لمالك بن إسماعيل ، أو بالعكس ، لأنهما اشتركا في رواية هذا الحديث عن سفيان بن عيينة – وهو مصدر الحديث القريب – مع اتفاقهما سنداً ومتناً(2).
وهذه المشاركة من شأنها أن تزيل الشبهات والمخاوف حول مدى حفظ كل واحد منهم لما رواه من الحديث ، بخلاف التفرد ، والمخالفة ، فإنهما تثيران ريبة حول حفظ ما تفرد به ، أو خالف فيه غيره ، وقد سبق الكلام في تفاصيلهما في الموضوع الثاني من هذه الوحدة .
ومن الجدير بالذكر أن المتابعة قد تبدو للباحث حقيقة ، لكنها وهم من بعض الرواة. ويشير إلى ذلك النقاد أحياناً بقولهم : (لا يصح في الباب شيء) ، أو (لا يعرف إلا من هذا الوجه) ، أو (تفرد به فلان) ، لكن كثيراً من الباحثين لا يتفطنون لذلك ، فيظنون تلك المشاركة الوهمية ، أو الطرق غير المتفقة ، طرقاً متعددة ، ثم يوظفونها في تقوية الحديث وإزالة الشبهات حول حفظ الراوي الضعيف .
ومثاله : حديث : (لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه) ، روي من عدة طرق وعن أكثر من صحابي ومع ذلك ، يقول الإمام أحمد : (ليس فيه شيء يثبت) .
ويقول ابن سيد الناس: (لا يخلو هذا الباب من حسن صريح ، وصحيح غير صريح) (3).
وأما إذا كانت المشاركة في الحديث بين صحابيين أو أكثر ، مع اتفاقهم في المتن وإن لم يكن بلفظه ، دون اختلافهم – زيادة ونقصاً ، أو تعميماً وتخصيصاً ، أو إطلاقاً وتقييداً – فيعد حديث كل واحد منهم شاهداً للآخر .
وقد يكون هذا التعدد أيضاً نتيجة وهم بعض الرواة ، لعدم حفظه لما يرويه ، وتداخل الأحاديث عليه ؛ فأضاف الحديث إلى صحابي آخر وهماً وخطأ.
مثاله : حديث : "إنما الأعمال بالنيات" اتفق النقاد على أنه قد تفرد به يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم عن علقمة عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، على الرغم من أنه رواه ابن أبي رواد عن مالك عن عطاء عن أبي سعيد مرفوعاً . وذلك لأن رواية ابن أبي رواد خطأ ، وكان من المفروض أن يروي عن مالك عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم عن علقمة عن عمر ، كما روى غيره من الثقات .
ومثال آخر : حديث : (لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه) روي عن أبي هريرة وأبي سعيد وسعيد بن زيد وغيرهم . وقد قال فيه الإمام أحمد : (لا أعلم في التسمية حديثاً صحيحاً، وأقوى شيء فيه حديث أبي سعيد) كما رجحه إسحاق بن راهويه . ومعنى هذا الترجيح أنه لم يعتبر ما روي عن أبي هريرة وسعيد بن زيد وغيرهما شواهد من شأنها تقوية الحديث بمجموعها، بل قام بترجيح حديث أبي سعيد .
وأما المتأخرون فمنهم من اعتبرها شواهد ، ثم قوى بها الحديث ، بحجة أن الطرق يقوي بعضها بعضاً(4) .
لذا ينبغي التفطن لذلك عند توظيف هذه المشاركة في تقوية الحديث الضعيف ، وهذه المسألة من أدق المسائل تنظيراً ، وأصعبها تطبيقاً .
__________
(1) فتح الباري 6/191 ، 8/126 .
(2) وإذا كان المشاركة بينهما في الزهري دون سفيان ، تكون المشاركة في المصدر البعيد ، ومثاله يروي علي بن عبد الله عن هشيم عن الزهري ، ويروي مالك بن إسماعيل عن سفيان عن الزهري ، وتسمى رواية علي بن عبد الله متابعة لمالك إلا أنها ناقصة ، وأما الصورة الأولى فتسمى (المتابعة التامة) .
(3) أنظر : (نيل الأوطار 1/134) ، وراجع كتاب الموازنة للمؤلف ، ففيه أمثلة لذلك .
(4) أضرب هنا مثالاً آخر ، روى الإمام النسائي من طرق متعددة حديث عمر : (أمر بامرأة مجنونة أن ترجم ، لكونها زنت . فمر بها علي ، فقال : ارجعوا بها . ثم أتاه فقال لعمر : أما تذكر أن رسول الله قال ... فذكره ، فقال : صدقت وخلى عنها) .
ثم قال النسائي : "لا يصح منها شيء ، والموقوف أولى بالصواب" .
غير أن الحافظ ابن حجر قال : "وهذه طرق يقوي بعضها بعضاً" (فيض القدير 4/36).
أقول : عند اختلاف الرواة في الرفع والوقف ، لا ينبغي القول إن تعدد الطرق يقوي بعضها بعضاً، لا سيما وقد رجح النسائي الوقف .
وأنظر مثلاً : حديث القنوت ، وحديث الهوي للسجود ، وحديث ترك رفع اليدين ، وغيرها من أحاديث الأحاكم ، تجد فيها نماذج كثيرة لتقوية الضعيف بتعدد الطرق والمصادر دون أ، ينضبط ذلك بمنهج المحدثين النقاد .(1/79)
أنواع الضعيف الذي ينجبر ، ومصطلحاتها
أولاً المنقطع والمعضل والمرسل والمرسل الخفي :
المنقطع هو ما سقط من السند راو ، وإذا سقط منه اثنان أو أكثر على التوالي فذلك معضل . أما المرسل فقول التابعي : (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) وبعبارة أخرى : ما لم يذكر التابعي مصدره الذي سمع منه الحديث ، ويحتمل أن يكون مصدره صحابياً أو تابعياً .
وقد تطلق هذه المصطلحات بعضها على البعض دون التقيد بما سبق ، مثل قولهم : (أرسله الزهري عن ابن عمر) ، حيث إن الزهري لم يعاصر ابن عمر ؛ بل جاء في كلامهم إطلاق الإرسال على الانقطاع أيضاً ، مثل قولهم : (هذا مرسل) يعني فقط منقطع .
ولهذا قال الخطيب البغدادي :
" المرسل ما انقطع إسناده ، بأن يكون في رواته من لم يسمعه ممن فوقه . إلا أن أكثر ما يوصف بالإرسال من حيث الاستعمال ، ما رواه التابعي عن النبي صلى الله عليه وسلم "(1) .
وأما (المرسل الخفي) فمصطلح استعماله بعض المتأخرين في الحديث المنقطع انقطاعاً خفياً، لكون الراوي قد رواه عمن عاصره ، وهو لم يسمع منه شيئاً .
لذلك فإن المرسل الخفي ليس له صلة بالمرسل ؛ إذ يكون المرسل الخفي عبارة عن وجود انقطاع في أي موضع من الإسناد غير أن الانقطاع يكون أكثر خفاء لوجود المعاصرة بين الراويين، بخلاف المرسل ؛ فإن انقطاعه بين وظاهر ، لكون التابعي لم يعاصر مع النبي صلى الله عليه وسلم .
__________
(1) الكفاية ، ص41 .(1/80)
ثانياً المعلق :
وهو الحديث الذي لم يذكر المحدث أو المؤلف مبتدأ إسناده ، إما بحذفه راوياً من أول السند أو أكثر ، أو بحذف الإسناد كله .
ويأتي التعليق عادة بعبارات مختلفة يبدأ بها المؤلف روايته للحديث ؛ مثل : (قال) ، و (ذكر)، و (روى) ، و (عن) ، و (قيل) ، و (ذكر) ، (روي) ، و (يذكر) ، و (يروي) وغيرها من العبارات التي تدل على إسقاط المؤلف مبتدأ إسناد الحديث له كله .
مثاله : أن يقول البخاري في كتابه الصحيح :
( قال محمد بن جعفر : حدثنا شعبة عن قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومحمد بن جعفر لم يعاصره البخاري ، بل هو شيخ شيخه(1) .
أو يقول : (قال شعبة عن قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم) .
أو : (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) .
أو يقول : (روي عن شعبة عن قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم) .
ومن التعليق (البلاغات) التي كان يروي بها الإمام مالك كثيراً في كتابه الموطأ وهي قوله: (بلغني عن أبي هريرة) .
وغاية ما في (المعلق) أنه منقطع أو معضل ، لا يدرى من الراوي الذي سقط من السند؟ ولسبب الانقطاع في مبتدأ سند الحديث أصبح ضعيفاً . غير أن هذا الانقطاع ينجبر ، ولا يضر في قبول الحديث ، أو صحته ، إذا تبين الساقط من طرق أخرى ، أو جاء الحديث من طريق آخر، وقد يكون الحديث المعلق صحيحاً ، وقد يكون حسناً ، تبعاً لحال الراوي الذي سقط من الإسناد ، وملابسات روايته .
وكثيراً ما تردد في صحيح البخاري أحاديث معلقة ، وإن كانت هذه الأحاديث المعلقة منقطعة ، فإنها لا يحكم بضعفها ولا بصحتها مطلقاً ، وبما أن الإمام البخاري قد يعلق في موضع حديثاً ، قد رواه متصلاً في موضع آخر ، فإن أحكامه تكون على التفاصيل التي حققها الحافظ ابن حجر بعد استقرائه لما في الصحيح من الأحاديث المعلقة ، ومناسبة روايتها فيه ، وعليه فإن الأحاديث المعلقة فيها ما هو صحيح أو حسن أو ضعيف .
ومن التفاصيل التي شرحها الحافظ ابن حجر في كتابه النكت ما علقه البخاري بصيغة الجزم ، فذلك يفيد صحته عمن علق عنه ، مثاله :
قول البخاري في الصوم : " وقال صلة عن عمار من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم " ، وهذا التعليق جاء – كما ترى – بصيغة الجزم ، وهي تفيد صحته عن صلة ، بغض النظر عن مدى صحة رواية صلة عن عمار ومدى اتصاله وانقطاعه ، ويتوقف الحكم بصحة الحديث أو ضعفه على طبيعة رواية صلة عن عمار .
أما المعلق بصيغة التمريض فليس فيه حكم بصحته عمن علق الحديث عنه ولا بضعفه، لأنه قد يكون صحيحاً وقد يكون ضعيفاً ، وهذا بخلاف الذي استقر لدى المتأخرين من أن ضيغة التمريض لا تستعمل سوى في الضعيف(2) .
أما قول البخاري : (قال لنا) أو (قال لي فلان كذا) أو (زادني فلان كذا) ونحو ذلك فلا يكون معلقاً ، لأنه لم يحذف أحداً من مبتدأ السند ، ويكون حكمه الاتصال .
وقد يستخدم الإمام البخاري تلك الألفاظ في صحيحه بخلاف عادته في الرواية ، إما لأنه قد سمعه من شيخه أو غيره في المذاكرة ، أو أخذه من شيخه عرضاً أو إجازة ، كما قيل ذلك من التوجيهات حين روى البخاري حديث المعازف معلقاً بصيغة : (قال هشام ...) وهشام هذا من شيوخه .
لذا فإنه كلما ترد في الإسناد كلمة (قال) ونحوها يعتبر تعليقاً ، وإنما في حال حذف مبتدأ السند فقط ، وأما إذا وقعت كلمة (قال) في أثناء السند فهي مثل العنعنة بتفاصيلها السابقة في الموضوع الأول .
هذا كله بالنسبة إلى صحيح الإمام البخاري ، وأما صحيح مسلم فإن الأحاديث المعلقة فيه قليلة لم تتجاوز أثنى عشر حديثاً ، كما حققه ابن الصلاح في مطلع شرحه لصحيح مسلم .
__________
(1) كان البخاري يروي ويقول : "حدثني عندر عن محمد بن جعفر عن شعبة عن قتادة عن أنس .." ، وفي المثال حذف البخاري شيخه ، ولا يدري من شيخه هنا ، لعله غندر أو غيره.
(2) والجدير بالذكر أن الإمام البخاري يكثر من إيراد هذا النط من الأحاديث المنطقعة في صحيحه الذي لا يستقيم فيه سوى الأحاديث المتصلة والمرفوعة ، وله في ذلك أغراض علمية ، منها ما يلي :
فقهي : وهذا يقع كثيراً في تراجم الأبواب .
إسنادي : مثل إثبات الاتصال والسماع .
نقدي : مثل شرح الاختلاف والعلة ، وهذا يقع في الغالب خارج التراجم .(1/81)
ثالثاً التدليس :
وإن كان التدليس يتنوع بأنواع كثيرة ، فإن هذه الأنواع جميعاً تدور على قسمين اثنين ، وهما :
تدليس الإسناد .
تدليس الشيوخ .
أما تدليس الإسناد فيكون بإسقاط الراوي المدلس شيخه المباشر ، أو بإسقاطه شيخ شيخه، ويظل الإسناد في كلتا الحالين يوهم بظاهره أنه متصل ، لوجود معاصرة أو لقاء أو سماع بين الراويين الذين سقط من بينهما راو .
ويطلق في الحال الثانية التي يسقط فيها الراوي شيخ شيخه : " تدليس التسوية" ويقال أيضاً : "سوى فلان"(1) .
وقد اشتهر بالتدليس وتدليس التسوية كثيرة من الرواة ، منهم الوليد بن مسلم، كان يسوي بين الأزاعي والزهري ، يعني يحذف شيخ الأوزاعي ثم يعنعن عن الزهري ، بحيث يتوهم من ظاهر العنعنة أن الأوزاعي قد سمع ذلك الحديث من الزهري ، وهو لم يسمعه منه ، مع أن الأوزاعي من تلاميذ الزهري .
ولكون هؤلاء المحدثين معروفين بالتدليس والتسوية ، فإن روايتهم لا تحمل على الاتصال، إلا إذا تبين من القرائن أنه لم يتم إسقاط راو من السند ، كأن يثبت تصريح الراوي المدلس بالتحديث في طبقة شيوخه أو الطبقة التي فوقها ، إن كان موصوفاً بتدليس التسوية ، أو غير ذلك في القرائن .
وأما إذا قالوا في أحد الموضعين من الإسناد : (قال فلان) ، أو (عن فلان) فلا تحمل روايتهم على الاتصال ، لاحتمال أن يكون منقطعاً ، وهذا الانقطاع يكون أكثر غموضاً من جميع أنواع الانقطاع السابق ذكرها . وكان ينبغي له أن يقول في حال إسقاط شيخه : (أخبرت عن فلان) أو (نبئت عن فلان) ونحوهما من العبارات التي تدل على انقطاع السند .
ومن أنواع تدليس الإسناد (تدليس العطف) ؛ كأن يقول الراوي : (حدثنا فلان وفلان) وهو لم يسمع من الثاني المعطوف ، وممن يعمل ذلك هشيم بن بشير .
ومنها : (تدليس السكوت) كأن يقول الراوي : (حدثنا) ، أو (سمعت) ثم يسكت ، فيذكر اسم شيخه ، وهو لم يسمع منه ذلك الحديث الذي رواه .
وممن أتهم بذلك عمر بن عبيد الطنافسي وكان يقول : (حدثنا) ثم يسكت ، وينوي القطع ، ثم يقول : (هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة) (2) .
وإن كان الحديث المدلس لا يخرج من كونه منقطعاً في ضوء ما سبق ، لكن لا يعني بالضرورة احتمال الانقطاع في كل ما رواه مدلس بالعنعنة أو نحوها ، وذلك لأن بعض الرواة قد يوصف بالتدليس لكونه قد سمع بعض الأحاديث من شيخه ، وأخذ الباقي من الكتاب وجادة ، ثم حين يروي عن شيخه هذا لا يكون صريحاً في كيفية تلقيه منه الحديث ، ولا يفرق في الرواية بين ما سمعه منه مباشرة ، وبين ما أخذه من الكتاب وجادة ، لذا فإن الحديث الذي روى عنه بالعنعنة يحتمل أن يكون مما سمعه منه مباشرة ، أو مما أخذه من الكتاب وجادة .
وما أخذه من الكتاب وجادة دون سماعه من شيخه قد يكون مصحفاً ، فإذا وافقه غيره في الحديث من القثات زال ما يخالف في حديثه من تحريف وتصحيف ، وشأنه في ذلك شأن شيء الحفظ سواء بسواء .
وممن يعرف بذلك أبو الزبير المكي ، وذلك في حديثه عن جابر ، وكذا عمرو بن شعيب فيما يخص حديثه عن أبيه(3) .
أما القسم الثاني – وهو تدليس الشيوخ – فيذكر الراوي شيخه بما لم يشتهر به ، اسماً كان أو كنية أو لقباً . مثاله ما قال الإمام أحمد :
بلغني أن عطية العوفي يأتي الكلبي فيأخذ عنه التفسير ، وكان يكنيه بأبي سعيد فيقول : قال أبو سعيد قال أبو سعيد . والكلبي غير مشهور بهذه الكنية ، والذي أشتهر بها هو الصحابي الجليل أبو سعيد الخدري ، ويتوهم من قوله : (قال أبو سعيد) أنه سعيد الخدري ، لكنه يريد الكلبي(4) .
وأطلق التدليس على هذا لمجرد وجود إيهام فيه أنه شخص آخر(5) .
__________
(1) عن أبي زرعة الدمشقي يقول : كان صفوان بن صالح ومحمد بن مصفى يسويان الحديث ، قال الحافظ ابن حجر : يعني يدلسان التسوية . (التهذيب 4/374) .
ومثاله : ما رواه أحمد والطبراني من طريق أبي بكر بن عياش عن الأعمش عن عطاء عن ابن عمر ، ورواه أحمد وأبو داود من طريق عطاء الخراساني عن نافع عن ابن عمر وقال الحافظ في بلوغ المرام : ورجاله ثقات ، وقال في التلخيص : الأعمش مدلس ولم يذكر سماعه من عطاء ، وعطاء يحتمل أن يكون هو عطاء الخرساني ، فيكون فيه تدليس التسوية بإسقاط نافع بين عطاء وابن عمر انتهى. (انظر : التخليص الحبير 3/19 ، ونيل الأوطار 5/318) ، وبالنسبة إلى رواية الأعمش عن عطاء يقال تدليس إذا حذف فعلاً شيخه فيه ، وكان بين الأعمش وعطاء معاصرة ، أو لقاء وسماع .
ومثال آخر للتدليس : ما رواه عبد الصمد بن عبد الوارث عن أبيه عن الحسن بن ذكوان عن حبيب بن أبي ثابت عن عاصم بن ضمرة عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الميتة . وهذا الحديث لم يسمعه الحسن بن ذكوان من حبيب بن أبي ثابت ، إذ رواه أبو معمر : حدثني عبد الوارث عن الحسن بن ذكوان عن عمرو بن خالد عن حبيب بن أبي ثابت ، وعمرو هذا منكر الحديث، فدلسه الحسن عنه . (معرفة علوم الحديث ص109 ، بتصرف) .
وقد نرى بعض المعاصرين يعلقون على مثل هذا الحديث بأنه يحتمل أن الحسن بن ذكوان له إسنادان: أحدهما عال والثاني نزال !
(2) انظر : فتح المغيث 1/173 للسخاوي .
(3) انظر : معرفة علوم الحديث للحاكم ص104 ، ففيه أسماء أخرى لمن وصف بهذا النوع من التدليس.
(4) هذا بالنسبة إلى التفاسير التي يرويها عطية عن الكلبي ، دون الأحاديث . (أنظر : شرح العلل لابن رجب الحنبلي ص475) .
(5) ومن الرواة المتأخرين – أصحاب النسخ – من يذكر شيوخه بأوصاف متنوعة على سبيل التنوع .(1/82)
كيف يعرف التدليس ؟
للعلماء النقاد طرق مختلفة في الكشف عن التدليس بجميع أنواعه ، ومعظم هذه الوسائل ترجع إلى المعرفة والحفظ والفهم والخبرة ، ولم يتوقف ذلك على ظاهر ما يعبر به الراوي عن كيفية تحمله للحديث . ومما تذكره كتب المصطلح من الوسائل ما يلي :
ذكر الواسطة بين الراويين في رواية أخرى صحيحة(1) .
تصريح المدلس بعدم سماعه ذلك الحديث ممن عنعن عنه .
أن يقول في بعض الروايات : (نبئت عن فلان) ، أو (أخبرت عن فلان) .
اتفاق جميع الرواة على عنعنة المدلس .
وإذا لم يصرح المدلس بسماعه ، بل قال : (قال فلان) أو (عن فلان) ونحوها من صيغ التلقي التي لا تدل على السماع ، وتبين للناقد من خلال القرائن – وهي كثيرة(2) – أن الراوي قد استعمل هذه العبارة فيما لم يسمعه ممن رواه عنه ، فيعتبر الحديث منقطعاً .
__________
(1) انظر : هذا الموضوع في مبحث (المزيد في متصل الإسناد) من هذا الكتاب .
(2) منها شهرة الحديث عن مصدره المعروف ، ثم إذا جاء هذا الحديث من طريق آخر منسوباً إلى من فوقه يكون ذلك دليلاً على إسقاط ذلك المصدر المعروف من السند .(1/83)
التدليس ليس جرحاً
لم يعد المحدثون التدليس جرحاً للراوي من حيث العدالة الدينية ، لأنه ليس كذباً في الحقيقة . وإن كان فيهم من يبالغ في ذم التدليس ، فإنهم جميعاً يسمعون من المدلس أحاديثه ، ويقبلونها حين يصرح بالسماع ، أو تدل القرائن على عدم احتمال تدليسه(1) .
وهذا الإمام شعبة بن الحجاج ، الذي بالغ في ذم التدليس قد قبل من قتادة وغيره من المدلسين أحاديثهم ، لكن فقط حين صرحوا بالسماع .
__________
(1) للمدلسين أحوال مختلفة باختلاف شيوخهم واختلاف تلاميذهم ، بين قبول العنعنة وعدم قبولها، (راجع هذا الموضوع في كتاب الموازنة للمؤلف ، ص274 – 277) .(1/84)
أثر انقطاع السند في صحة الحديث
إن جميع هذه المصطلحات - المنقطع والبلاغات والمعضل والمرسل والمدلس - وإن كانت تعاريفها مختلفة ، فإنها جميعاً مشتركة في معنى الانقطاع ، غير أن آثار الانقطاع فيها تتفاوت درجتها وخطورتها ، فمراسيل كبار التابعين ، يكون أثر الانقطاع فيها أخف بالنسبة إلى بقية أنواع الانقطاع ، نظراً لأن أغلب روايتهم تكون عن الصاحبة ، وبالتالي يكون الصحابي هو الذي سقط من السند في مراسيل كبار التابعين في أغلب الاحتمال(1) .
وإن كانت هذه الأنواع كلها منقطعة فمجال البحث عن حديث ذلك الراوي المبهم ، والتأكد من ثبوته عنده ، ثم مدى إتقان الراوي فيما روى عنه مجال كل ذلك منعدم تماماً، فإذا استطاع الناقد معرفة ذلك الراوي المبهم ، من خلال تتبع أحاديث الثقات ، وأنه قد وافقهم فيما حدث به ، يعد حديثه صحيحاً .
أما إذا توبع الحديث المنقطع من قبل الضعفاء غير المتروكين ، بالشروط التي سبق ذكرها في مستهل هذا المبحث فيكون حسناً ، ومصطلحات الناقد في ذلك متنوعة ، كقولهم : (هذا حسن) و (لا بأس به) و (جيد) و (مقبول) و (صالح) وغيرها من الألفاظ ، وتتفق كلها على دلالتها على أن الحديث مقبول عموماً .
ولكن تختلف درجة القبول باختلاف القرائن التي تتوفر لدى الناقد ، وقد يقرب ذلك الحديث من درجة الصحيح ، ومع ذلك لا يستطيع الناقد الجزم بصحته ، ولكن إذا وجد الناقد معارضاً يفرط في رده فإنه يبالغ في التعبير ويقول (صحيح) كردة فعل ، ولا يريد به مناه المشهور(2). أو قد يقترب من المعلول ، لكن لا يقدر الجزم بذلك ، وإذا بالغ أحد في قبوله ، يشدد الناقد في رده ويطلق بأنه غير صحيح .
وعليه فإن الحديث الذي يقال فيه : (حسن) تكون درجته متوسطة بين الصحيح والضعيف مع تفاوتها ، ومن هنا نجد شيئاً من الاضطراب في مواقف النقاد حين تطبيقهم لهذا المصطلح ، كما اضطرب المتأخرون في صياغة تعريف جامع له .
قال ابن دقيق العيد : "وفي تحقيق معناه اضطراب"(3) .
وقال الذهبي : "ثم لا تطمع بأن للحسن قاعدة تندرج جميع الأحاديث الحسان فيها، فأنا على إياس من ذلك ، فكم من حديث تردد فيه الحفاظ هل هو حسن ، أو ضعيف ؟ أو صحيح ؟ بل الحافظ الواحد يتغير اجتهاده في الحديث الواحد ، فيوماً يصفه بالصحة ويوماً يصفه بالحسن، ولربما استضعفه"(4) .
__________
(1) ومن هنا تساهل بعض الأئمة في الاحتجاج بالمرسل من غير شروط . بينما وضع الإمام الشافعي في قبول المرسل شروطاً ، وهي كما يلي :
أن يكون المرسل من كبار التابعين .
وأن يروي من وجه آخر مسنداً .
أو أن يوافقه مرسل آخر ، أرسله من أخذ العلم عن غير رجال المرسل الأول .
أو أن يعضده قول بعض الصحابة .
أو أن يعضده جمع من أهل العلم .
لأنه إذا توافرت هذه الشروط في المرسل تدل على تعدد المصادر بحيث يطمئن الناقد بوجود أصل يصح الاعتماد عليه وبصحة مخرجه .
(2) وفي كتاب العلل للخلال أن أحمد سئل عن هذا الحديث (يعني : حديث : "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ..") فقيل له : كأنه موضوع ؟ فقال : لا هو صحيح ، فقيل له : ممن سمعته ؟ فقال : من غير واحد ، قيل : من هم ؟ قال : حدثني به مسكين إلا أنه يقول عن معان عن القاسم بن عبد الرحمن، ومعان لا بأس به . انتهى (تدريب الراوي 1/302) .
(3) الاقتراح في بيان الاصطلاح ، ص162 .
(4) الموقظة ، ص27 .(1/85)
النصوص الواردة في مصطلح الحسن
يقول الترمذي رحمه الله تعالى :
" وما قلنا في كتابنا حديث حسن فإنما أردنا به حسن إسناده عندنا ، كل حديث يروى لا يكون في إسناده من يتهم بالكذب ، ولا يكون الحديث شاذاً ويروي من غير وجه نحو ذاك فهو عندنا حديث حسن"(1) .
يقول الخطابي رحمه الله تعالى :
" الحسن ما عرف مخرجه واشتهر رجاله ، قال : وعليه مدار أكثر الحديث ، وهو الذي
يقبله أكثر العلماء ويستعمله عامة الفقهاء"(2) .
ويقول ابن الجوزي رحمه الله تعالى :
" الحديث الذي فيه ضعف قريب محتمل هو الحديث الحسن ويصلح البناء عليه واعمل به"(3) .
إن كانت هذه النصوص مختلفة لكن بينها تشابه وتقارب في المعنى الرئيس ، وهو أن يوجد خلل في رواية الحديث ثم ينجبر ذلك الخلل بوجه من الوجوه ، لكنه لم يرتق إلى الصحيح ولم يتأكد ثبوته .
غير أنه يلاحظ في قول الإمام الترمذي نوع من التوسع في التحسين ، حيث يشمل جميع الأنواع من الأحاديث التي لم يكن روايها متروكاً ، ولم يكن متنها شاذاً غريباً .
ولا صلة لذلك بمنهج المحدثين في تحسين الحديث بشكل عام ، والاحتجاج به ، لكونه منهجاً خاصاً بكتابه السنن ، والواقع أن قول الإمام الترمذي لم يكن تعريفاً عاماً للحسن كمصطلح ، كما عرفه الخطابي وابن الجوزي ، ولذا فإن قول الترمذي لا يعتبر مناقضاً لما ذكره الخطابي وابن الجوزي ولا لمنهج النقاد عموماً .
وهنا عدة أمور ينبغي التركيز عليها ، وهي :
أولاً : إن مفاد قول الإمام الترمذي - كما هو ملخص في آخر قوله - أن الحسن هو الحديث الذي ليس في رواته متروك ، ومع ذلك لم يكن شاذاً غريباً ، بل روي من جهات أخرى ما يؤيده ، فأما إذا كان الحديث من رواية متروك أو أصبح متن الحديث شاذاً غريباً - يعني لم يرد من جهات أخرى ما يؤيد معناه من حديث أو عمل الصحابة بمقتضاه أو عمل بعضهم - فلا يعده الترمذي حسناً .
لهذا قد تراه في سننه يحسن الحديث المعلول الذي أخطأ فيه الراوي بمجرد أنه ليس من رواية المتروكين ، وأنه قد عمل به بعض الصحابة ، وقد لا يحكم على هذا النوع بالحسن بل يكتفي بذكر علله فقط ، ومقصوده من التحسين في مثل هذه المناسبات أن متنه كان معمولاً به ولم يكن غريباً شاذاً ، ولا يعني بذلك با،ه ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا هو أسلوبه في كتابه السنن .
وهذا - كما ترى - فيه توسع كبير من الإمام الترمذي في تحسين الأحاديث ؛ لهذا قال الحافظ ابن حجر : " إن تحسين الترمذي لا يلزم منه الاحتجاج" ، وإن كان الحديث الحسن مما يحتج به كما صرح بذلك الخطابي آنفاً .
ثانياً : إن كلمة الشذوذ الواردة في نصوص الإمام الترمذي لا يعني بها معناها الاصطلاحي الذي استقر عند المتأخرين ، وهو ما رواه الثقة مخالفاً للثقات ؛ لأنه في صدد ذكر حديث الضعفاء غير المتروكين ، دون الثقات ؛ لذا يتعين حمل كلمة الشذوذ هنا في نص الإمام الترمذي على ما شرحه هو آخر كلامه ، حيث قال : "وأن يروى من غير وجه نحو ذلك" وحرف الواو في هذه الجملة تكون عطف تفسير لما قبلها من جملة "ولا يكون الحديث شاذاً".
ثالثاً : ذكر الخطابي في تعريف الحسن ما يصدق ظاهره على الصحيح أيضاً ، لكنه لم يقصد ذلك ، وإنما مراده ما يكون بمقابل الصحيح ، حيث إنه فرق بين الصحيح والحسن والسقيم ثم بين الصحيح والحسن ، وقال في الصحيح :
" ما اتصل سنده وعدلت نقلته " .
وقال في الحسن : " ما عرف مخرجه واشتهر رجاله" .
وبين هذين التعبيرين فرق واضح كما ترى ، وإن لم يكن ما ذكره الخطابي تعريفاً صحيحاً حسب منهج المتأخرين في التعريفات ، لكونه مبهماً غير واضح ، فإنه رحمه الله تعالى قد عبر عن مفهومي الصحيح والحسن بما يعرفه المخاطب من مناسبة تقسيمه للحديث إلى ثلاثة أقسام ، وتمييز كل منها عن الآخر ، حيث إن المتقدمين لم يتقيدوا بشروط التعريفات عند المتأخرين .
وكان قصد الإمام الخطابي بما ذكر في الحسن غير الذي قصده في الصحيح ؛ لذا جاء تعبيره في تعريف الحسن على شكل آخر ليفهم منه التغاير بينهما .
وعلى سبيل المثال ، إذا روى الحديث راو ضعيف ينبغي البحث عن بصحة مخرجه ؛ فإذا شاركه ضعيف آخر غير متروك ، أو جاء من وجوه أخرى ما يؤيد معناه ، من شاهد أو عمل الصحابة بمقتضاه ، أو عمل بعضهم أو فتواهم بمعناه ، يعرف بذلك أن للحديث مخرجاً وأصلاً، بشرط أن يكون رواية مشهوراً بطلب العلم ورواية الحديث ، وإن لم يكن متقناً فيما يرويه من الأحاديث وضابطاً له .
وكذا إذا كان الحديث مرسلاً أو منقطعاً يجب البحث عن مخارجه ؛ فإذا عرفت وكان رواته مشهورين صار الحديث المنقطع حسناً لأنه عرف مخرجه من جهة أخرى وكان رواته قد اشتهروا بحفظ الحديث وطلبه وروايته ، وأما إذا رواه الثقة واتصال سنده وأتقن حديثه فإن مخرجه يصبح معروفاً لذاته بحيث يصح القول : "إنه اتصل سنده وعدلت نقلته" .
وأما إذا كان الراوي متروكاً أو مجهولاً فلا يرتقي الحديث إلى الحسن حسب قول الخطابي .
رابعاً : يفيد ظاهر قول الإمام ابن الجوزي أن الحديث الضعيف الذي ضعفه يسير ومحتمل يعد حسنا وإن لم يتابعه ، ولهذا يكون ما ذكره ابن الجوزي أضيق التعريفات ، ويختلف عن قول الخطابي .
خامساً : اعتراض الإمام ابن الصلاح على هذه النصوص التي وردت في الحديث الحسن بأنها مبهمة لا تشفى الغليل ، ذلك لأن التعريفات يجب أن تكون جامعة ومانعة وواضحة وموجزة، وهذا طبعاً حسب صناعة التعريف ، ولهذا قال ابن الصلاح ما يلي :
" وكل هذا مستبهم لا يشفي الغليل ، وليس فيما ذكره الترمذي والخطابي ما يفصل الحسن عن الصحي . وقد أمعنت النظر في ذلك والبحث فتنقح لي واتضح أن الحديث الحسن قسمان :
أحدهما : الحديث الذي لا يخلو رجال إسناده من مستور لم تتحقق أهليته غير أنه ليس مغفلاً كثير الخطأ فيما يرويه ، ولا هو مهتم بالكذب في الحديث ولا سبب آخر مفسق ويكون الحديث مع ذلك قد عرف بأن روي مثله أو نحوه من وجه آخر أو أكثر حتى اعتضد بمتابعة من تابع روايه على مثله ، أو بما له من شاهد ، وهو ورود حديث آخر بنحوه ، فيجرج بذلك عن أن يكون شاذاً أو منكراً ، وكلام الترمذي على هذا القسم يتنزل .
والثاني : أن يكون روايه من المشهورين بالصدق والأمانة غير أنه لم يبلغ درجة رجال الصحيح لكونه يقصر عنهم في الحفظ والإتقان ، وهو مع ذلك يرتفع عن حال من يعد ما ينفرد به منكراً ويعتبر في كل هذا مع سلامة الحديث من أن يكون شاذاً ومنكراً سلامته من أن يكون معللاً ، وعلى هذا القسم يتنزل كلام الخطابي(4) .
خلاصة هذا التقسيم : أن ما رواه الضعيف غير المتروك يكون حسناً لغيره إذا توبع أو جاء من طريق أخرى ما يشهده له من الأحاديث ، ويكون ما رواه الصدوق - وهو أعلى من الضعيف ودون الثقة - حسناً لذاته إذا لم يكن شاذاً ومنكراً ومعلولاً .
وقد سبق أن قلنا : إن الإمام الترمذي لم يقصد بقوله سوى بيان أسلوب كتابه في استخدام مصطلح الحسن ، غير أن الإمام ابن الصلاح اعتبر ذلك تعريفاً لمصطلح الحسن؛ لذا جاء تعليقه على تقسيم الحسن إلى قسمين سماهما المتأخرون حسناً لغير وحسناً لذاته .
مما يلاحظ أن الإمام ابن الصلاح رحمه الله تعالى يقول : "ويعتبر في كل هذا مع سلامة الحديث من أن يكون شاذاً ومنكراً سلامته من أن يكون معللاً" .
والواقع أن الحديث إذا سلم من الشذوذ والنكارة والعلة وتأكد ذلك أصبح الحديث صحيحاً ومعتمداً عليه ، وإن كان راويه ضعيفاً ، كما سبق تفصيل ذلك في الموضع الأول من الوحدة الأولى .
ومصادر هذه الأنواع من الأحاديث التي تعتبر حسنة ومقبولة هي كتب السنن والمصنفات والمسانيد وغيرها من الكتب التي يدونها المحدثون دون غيرهم كالمفسرين والإخباريين، لكون المحدثين يمتنعون عن رواية أحاديث الكذابين والمتروكين عموماً ، لكن قد يرد في بعضها بعض ما يقال إنه موضع ، وذلك على سبيل الندرة والتساهل والغفلة .
__________
(1) 5/758 (قسم العلل) .
(2) معالم السنن 1/11 (مختصر سنن أبي داود) .
(3) الموضوعات لابن الجوزي 1/35 .
(4) المقدمة ص33 - 34 .(1/86)
قول الإمام الترمذي هذا حديث (حسن صحيح)
لقد أثار المتأخرون إشكالاً حول قول الترمذي : (هذا حديث صحيح) في ضوء ما ذكره من تعريف (الصحيح) و (الحسن) ، وخلاصة هذا الإشكال : إن كان الصحيح غير الحسن فكيف ساغ إطلاق الحسن والصحيح على حديث واحد ؟ وفيه جمع بين المتغايرين . والواقع أن مصدر الإشكال هو خلط بين منج المتقدمين ومنهج المتأخرين في المصطلحات وتعاريفها.
وإذا نظرت في مصطلح الإمام الترمذي (حسن صحيح) حسب منهجه الذي سبق شرحه لا يوجد فيه خلل لغوي ولا اصطلاحي ، فإن منهجهم قائم على التوسع في مضامين المصطلحات، وقد سبق أن ذكرت أنهم قسموا الحديث إلى ثلاثة أقسام وثلاث مراتب من غير تسميتها بمصطلح خاص ، ولذا قد يطلقون لفظه (صحيح) على المرتبة الثانية ، وبالعكس أيضاً ، وتارة يجمعون بينهما ويطلقون على الصحيح (هذا حديث حسن صحيح) .
وأما توضيح الإمام الترمذي فيما يخص مصطلح (الحسن) فهو إذا ذكر (هذا حسن) مجرد عن الصحيح ، ولهذا قلنا : إن الإمام الترمذي لم يعرف الحسن كمصطلح ، بل شرح قصده به في كتابه السنن .
هذا الذي ذكرناه من أهم الفوائد التي تتحقق لنا في دراستنا المعتمدة أساساً على التفريق بين المنهجين المختلفين للمتقدمين والمتأخرين . والله الحمد والشكر .
بما أن المتأخرين قد نظروا إلى أسلوب الإمام الترمذي في إطلاقه (حسن صحيح) من زاوية منهجهم المتمثل في التفريق بين المصطلحات وتحديدها وضبط معانيها بحيث لا يسوغ استعمال بعضها على بعض استشكل ذلك عليهم ، ثم أجابوا عن هذا الإشكال بوجوه كثيرة، وفي معظمها نظر .
لقد قال الحافظ الذهبي : "وقول الترمذي هذا حديث حسن صحيح عليه إشكال الحسن قاصر عن الصحيح ، ففي الجمع بين السمتين لحديث واحد مجاذبة ، وأجيب عن هذا بشيء لا ينهض أبداً "(1)
__________
(1) الموقظة ص29 .(1/87)