عبقرية الإمام مسلم في ترتيب أحاديث مسنده الصحيح
عَبْقَرِيَّةُ الإِمَام مُسْلِم
في ترتيب
أحاديث مسنده الصحيح
دراسة تحليلية
تأليف الدكتور
حمزة بن عبد الله المليباري
ملتقى أهل الحديث
www.ahlalhdeeth.com(1/1)
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة :
إن الحمد لله نحمد ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وأمينه على وحيه وخاتم رسله . اللهم صل على محمد وآله كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما بارك على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد ، أما بعد :(1/2)
التمهيد
ضمن سلسلة أبحاثنا الموجهة للمشتغلين بعلوم الحديث عموماً وطلبة قسم الكتاب والسنة خصوصاً نقدم لهم اليوم بحثاً جديداً بعنوان (عبقرية الإمام مسلم في ترتيب أحاديث مسنده الصحيح) بعد أن كنا وضعنا بين أيديهم عدداً من البحوث بالعناوين التالية:
(الحديث المعلول قواعد وضوابط).
(الموازنة بين المتقدمين والمتأخرين في تصحيح الأحاديث وتعليلها).
(نظرات جديدة في علوم الحديث).
(تصحيح الحديث عند ابن الصلاح).
وهذه الأبحاث عبارة عن دراسات نقدية تهدف جميعها إلى إحياء منهج المحدثين النقاد، وإبراز أساليبهم في تناول المسائل الإسنادية والقضايا النقدية التي لا تزال محل مخالفة وغموض لدى بعض العلماء المتأخرين لا سيما المعاصرين بسبب بعدهم عن أسس ذلك المنهج وحيثياته.
يعد صحيح مسلم - الذي هو موضوع دراستنا اليوم - مصدراً رئيسياً للحديث وعلومه، ويزخر بفوائد علمية جمة تستوجب منا نظراً تحليلياً ونقداً دقيقاً يقومان على أساس الفهم والمعرفة والخبرة لاستخراج تلك الفوائد التي يظل شرحها في كتب المصطلح بشكل نظري ومعزول عن واقعها التطبيقي، مما أحدث في أذهان عدد كبير من المتأخرين، لا سيما المعاصرين، كثيراً من التساؤلات المحيرة والشبهات المعقدة حول أهم قضايا علوم الحديث، بل أوقعهم ذلك في كثير من التناقضات، إذ لم يتدربوا على تطبيق ما درسوا من المصطلحات وتوظيف مضامينها في ميدان دراستهم الحديثية ولا أنهم حاولوا معرفة مدى تطابق مدلولات هذه المصطلحات مع الواقع العملي لدى نقاد الحديث الذي يتمثل في نصوصهم وكتبهم، ومن ثمة أصبحت نصوص النقاد فيما يخص نقد الأحاديث غامضة وغير مفهومة فصعب عليهم تفسيرها وتحليلها.
لذلك فإن الغايات العلمية التي نتوخاها من دراسة المصطلحات الحديثية لن تتحقق إلا بتدقيق النظر وتوسيعه في مختلف مصادر الحديث الرئيسية التي هي الميدان الواقع لتطبيق معاني تلك المصطلحات، مثل الكتب الستة وكتب العلل.
وإن كانت كتب الأحاديث قد حظيت بدراستها من الناحية الفقهية بشكل واسع ومعمق، كما تدل على ذلك الشروح والتعليقات والحواشي التي ظهرت بأساليب متنوعة، فإن القضايا النقدية والمنهجية التي بموجبها انتخب النقاد تلك الأحاديث وصححوها في كتبهم لم تلق من الشراح والباحثين ما تستحق من العناية والدراسة، ونذكر هنا على سبيل المثال مسألة شروط الكتب الستة، فإن كل ما كتب فيها عبارة عن تلخيص وتهذيب ما ذكره المقدسي والحازمي، ولم يخطر قط على بال أحد من الباحثين أن هذه المسألة من المسائل التي يكتنفها غموض يجب إزالته من خلال دراسة معمقة تقوم على الاستقراء والتحليل والمقارنة، ولا يوجد بحث في هذه الجوانب إلا على مبدأ التقديس والتسليم بما أثر عن السابقين.
لذا وجب علينا بذل مزيد من الجهد في سبيل دراسة كتب الأحاديث من الزاوية النقدية والمنهجية، حتى نجد القواعد النقدية التي تتناولها كتب المصطلح بشكل نظري ماثلة أمام أعيننا، وبهذا الأسلوب الذي يجمع بين النظري والتطبيقي يزل كل الغموض العالق بمباحث علوم الحديث ومصطلحاتها وتتضح معالمه وحقائقه بشكل صحيح.
وتتمحور فصول هذا البحث حول منهج الأمام مسلم في ترتيب أحاديث مسنده الصحيح بتقديم الأصح فالأصح، والذي نص عليه الإمام مسلم نفسه في مقدمته للصحيح بعباراته الموجزة. وأثناء دراستنا لأحاديثه دراسة تحليلية وقفنا على مدى التزامه بذلك الترتيب في معظم أبواب الكتاب، مبرهناً بذلك على إمامته في حفظ الأحاديث وعبقريته في نقد المرويات، كما وجدنا في ذلك حلولاً علمية مقنعة لعديد من المسائل الحديثية المعقدة التي لا تزال تشكل في أذهان المشتغلين بعلوم الحديث خصوصاً والدارسين لصحيح مسلم بصورة أخص إحساساً عميقاً بالتناقضات والإشكالات التي تظل تدفعهم إلى متاهات يسود فيها الخيال والأوهام.
ولما كانت أحاديث (المسند الصحيح) مرتبة حسب الخصائص الإسنادية التي تتوافر فيها، حيث التزم الإمام مسلم بتقديم الأصح فالأصح في معظم الأبواب، فمن واجبنا النظر والبحث في تلك الخصائص جليها وخفيها، محددين أنواعها ومقيِّمين آثارها في التصحيح والتعليل والترجيح، بيد أنه من الصعب تحقيق ذلك إلا بالنظر التحليلي الأصيل والمؤسس على دعائم الفهم والمعرفة والخبرة الطويلة في علوم الحديث. وأما إذا درسنا أحاديث صحيح مسلم بشكل سطحي وتقليدي فإن الدراسة تظل عاجزة عن استخراج ما أودعه الإمام مسلم في ترتيب أحاديثه من الفوائد الإسنادية، بل إن مثل هذه الدراسة تؤدي إلى انحراف صاحبها عن جادة الحق والصواب.
وأوضح مثل يذكر في هذا الصدد ما كتبه أحد الأفاضل تحت عنوان: (منهج الإمام مسلم في ترتيب كتابه الصحيح ودحض شبهات حوله)، وهو مطبوع نشر في السعودية، فقد ارتكز هو في جميع مباحثه على ظاهر الإسناد وترجمة الرواة وتحديد رتبهم وطبقاتهم من خلال كتاب (تقريب التهذيب) الذي لا يفي بالغرض في هذا المجال، ولا غيره من كتب التراجم التي اعتمدها بقادرة على أن تفي بذلك، ولذا أصبح الأستاذ في دراسته هذه متشبثاً بالأمور السطحية وصارت نتائجها عديمة الجدوى، بل زادت القضايا العلمية التي أودعها الإمام مسلم في صحيحه خفاء وغموضاً.
وبما أن المؤلف الفاضل جعل ظواهر الإسناد مرتكزاً أساسياً للتصحيح والتضعيف والترجيح أثناء دراسته حول منهج الإمام مسلم في ترتيب الأحاديث، فإن الخصائص الإسنادية التي كان يستخلصها في كل مناسبة مستنداً إلى بعض كتب التراجم، خاصة كتاب تقريب التهذيب، ثم يبني عليها الترجيح في كل حديث لم تكن في الواقع سوى جزءاً قليلاً من الخصائص الإسنادية التي كان النقاد يعتمدون عليها في نقهم للأحاديث، ومن هنا فإن مواطن الخلل والتقصير في كتابه تبدو واضحة وجلية لمن يمعن النظر فيه، حيث يُعلم بديهياً أن عوامل الترجيح بين الروايات غير محصورة وغير مطردة وأنها تختلف من حديث لآخر، وأن معرفتها تتطلب ذوقاً حديثياً، ولذلك فما اعتبره المؤلف ضابطاً في إسناد حديث ما قد لا يكون صالحاً على الشكل الذي اعتبره، كما لا يلزم أن يكون ذلك الضابط بعينه صالحاً في غيره من الأحاديث.
وإن كان ما ذكره المؤلف الفاضل في ترجيحه لحديث وجعله صالحاً في كافة المناسبات الحديثية لا يستوعب عوامل الترجيح التي لا يعرف صلاحيتها لذلك سوى صاحب الذوق الحديثي وصاحب الملكة الحديثية فاعتبار بعض هذه الأسباب الظاهرة في الترجيح والتصحيح بوجه شكلي دون اعتبار بقيتها أسلوب مرفوض لا يقره الواقع الحديثي النقدي.
ويتقيد الأستاذ أثناء دراسته لمنهج مسلم بأسلوبه هذا لم يحقق سوى أن يبعد الناس عن الفوائد العلمية النفيسة التي أبدعها الإمام مسلم في صحيحه، وبرهن بها على عبقريته في ترتيب الأحاديث بتقديم الأصح فالأصح، حيث كان الأستاذ ينهي دراسته دائماً بإنكاره وجود منهج خاص للإمام مسلم في صحيحه من حيث الترتيب.
فقد عقد الأستاذ المؤلف في كتابه فصلاً خاصاً لدراسة بعض النماذج من أحاديث صحيح مسلم، وهي عبارة عن عشرين حديثاً، درسها الأستاذ على النحو الذي أوضحناه آنفاً فإذا هو يتخبط في الأخطاء والأوهام.
يتداخل عليه راوٍ فيقول عن ثقة: هذا راوٍ ضعيف، قدم الإمام مسلم حديثه، وهذا ثقة أخر مسلم حديثه، ثم يتساءل: أين الترتيب المزعوم؟
وتراه يأتي بأحاديث من وسط الباب أو من آخره مع جملة من الأحاديث من أول الباب الذي يليه، ثم يقول: هذه مجموعة من الأحاديث لم يراع فيها مسلم الترتيب، فأين الترتيب؟
وتراه يخلط بين أبواب مختلفة ويجعلها باباً واحداً، ثم يقول: هذه الأحاديث لم يرتبها فأين الترتيب؟
وتراه أيضاً يخلط بين مختلف المناهج، فيجعل منهج الحافظ ابن حجر في التقريب من تقسيم الرواة حسب الجرح والتعديل معياراً وحيداً لمعرفة مراتبهم جرحاً وتعديلاً عند الإمام مسلم في صحيحه، ومعلوم أن الحافظ ابن حجر لم يكن يعتمد فيه على مذهب الإمام مسلم، ويقول: هذا راوٍ قال فيه الحافظ: "ثقة"، أخر حديثه، فأين الترتيب؟ وما إلى ذلك من الأمور العجيبة والغريبة، ستقف عليها في المحور الثالث الذي خصصناه لدراسة الأحاديث التي تعلق بها الأستاذ المؤلف ليبرر إنكار ذلك المنهج العلمي الذي أشاد به العلماء طوال القرون الماضية.
ولما اطلعت على كتابه هذا ورأيت فيه ألواناً أخرى من الخطأ والوهم، شعرت أن من واجبي نحو منهج المحدثين في النقد عموماً، ومنهج الإمام مسلم في صحيحه خاصة، إزالة تلك الشبهات المثارة حوله، والتي من شأنها أن تسلخ جهود النقاد من التاريخ الإسلامي المجيد وتطمس معالم منهجهم عن آخرها.
وهذه هي المناسبة العلمية التي دعتني بإلحاح إلى إعداد هذا البحث بعنوان (عبقرية الإمام مسلم في ترتيب أحاديث مسنده الصحيح) ومن هنا جاءت مباحثه لا سيما مباحث المحور الثالث على شكل حوار مع الأستاذ المؤلف، منتقداً لآرائه ومفنداً لشبهاته وأوهامه.
وعلى الرغم من تأثرنا العميق بما شحن به كتابه من افتراء الكذب وتوجيه التهم والتجريح والطعن في النية والإخلاص فإننا قد بذلنا جهداً كبيراً في صياغة فصول هذا البحث وفق منهج علمي نزيه، بعيداً عن الانفعالات النفسية التي آلمني الأستاذ بها، لئلا تضيع الفائدة العلمية التي نصبو إليها من وراء هذا البحث.
ولئن أفضنا في مسألة الترتيب بعض الشيء، فذلك لقناعتنا بأهميتها ومدى عناية الإمام مسلم بها، ولضرورة إقناع القارىء المصنف بما يحمله الترتيب من دقائق الفهم ومبادىء النقد حتى لا يؤدي تجاهل الباحثين حولها وتغاضيهم عنها إلى طمس هذه الفوائد العلمية التي تجسدت بشكل واضح وجلي في جميع صور الترتيب في صحيح مسلم.
وإلى جانب مسألة الترتيب، عالجنا في غضون هذا البحث موضوعاً آخر يتعلق بالأحاديث التي شرحها الإمام مسلم في كتابه الصحيح على سبيل الاستطراد والندرة لمناسبة دعته، لا لغرض أصلي، لأن قصده الأصلي من تأليف الصحيح هو جمع الأحاديث الصحيحة وتنسيقها حسب مواضيعها وترتيبها حسب قوتها وصحتها.
فمنذ أن أكد القاضي عياض رحمه الله على أن مسلماً قد أتى في صحيحه بما وعد في مقدمته من شرح العلل في مواضعها، كان هذا الأمر وفاق بين جميع العلماء، بناءً على دقة نظر القاضي عياض وسلامة رأيه وقوة أدلته المتمثلة في ذات نصوص الإمام مسلم في مقدمته وما يصدقها من الأمثلة التطبيقية لها في بعض أبواب مسنده الصحيح، غير أن فضيلة المؤلف رأى أن ما ذكره القاضي محض ادعاء ولا يوجد له مثال في صحيح مسلم، وجعل القول به مجرد هواء وادعاء على الإمام مسلم رحمه الله، متحدياً القاضي عياض وغيره ممن يوافقه أن يأتي بمثال واحد من الصحيح يكون موضعاً لبيان العلل، ومن الغريب المضحك أن هذا الإنكار والتحدي لم يكن منه إلا بعد أن اتخذ من دعوى القاضي وأدلته عليها أسس رسالته للماجستير واستفاد منها في إعدادها للنشر.
وانتصاراً لهذا الرأي الذي لا يقوم على أساس صحيح ولا دليل صريح، راح الأستاذ يكلف نفسه عناء تأويل كلمة "العلة" الواردة في سياق كلام الإمام مسلم حول منهجه في الصحيح، على أنها مجرد اختلاف في ألفاظ المتون وصيغ التلقي، علماً أن هذا المعنى لم يقل به عالم معتبر من قبل ولم يطلق أحد العلة عليه.(1/3)
ولما أحس الأستاذ بأنه سيصطدم بالواقع من أجل إنكاره وجود الأخبار المعللة وشرح علتها وإيضاحها في الصحيح ظل يصحح تلك الأحاديث المعلولة التي اتفق النقاد على علتها والتي هي محل بيان العلل في صحيح مسلم ضارباً اتفاقهم عرض الحائط. وهذا الموقف منه طبيعي إذا علمنا طريقة دراسته التي أساسها ترجمة الرواة وتحديد مراتبهم، وليس بخاف على أحد من طلبة الحديث أن العلة أمر خفي لا يدرك من ظاهر السند فإن ظاهره يكون سليماً.
وهذا النوع من البحث الذي يرتكز على ظواهر الإسناد من غير بحث عن القرائن التي تحف به لن تكون نتائجه إلا خاطئة، وبذلك أصبح هو مخالفاً للإمام مسلم نفسه وغيره من الأئمة النقاد.
وإذا عرفنا طريقة الإمام مسلم في شرح العلل في صحيحه فإن الشبهات التي أثارها الأستاذ سرعان ما تتبدد، وشأن هذه الأحاديث المعلولة هو شأن الموقوفات والمراسيل والمعلقات التي وقعت في الصحيحين سواء بسواء، حيث لم يلحظ في ذكر هذه الأنواع من الأحاديث في الصحيحين شيء من التناقض لكونها واردة خارج أصولهما وتبعاً لمناسبات خاصة اقتضت منهما فعل ذلك.
ومن الجدير بالذكر أن شرح العلل وبيانها في المسند الصحيح على الوجه المذكور لا يعد من خصائص منهج الإمام مسلم دون غيره وإنما ذلك من عادة الأئمة النقاد في تصانيفهم كالصحاح والسنن.
وكنت قد صرحت له من قبل في شتى المناسبات بأن بيان العلل في صحيح مسلم إنما يكون على سبيل الاستطراد وبذكر وجوه الاختلاف وليس بترتيب الأحاديث، وأن ترتيب الأحاديث أمر لا صلة له بشرح العلل أصلاً، فإنهما مسألتان مختلفتان ولا تلازم بينهما ولكل منهما مجال خاص.
بيد أن الإمام مسلماً إذا أراد أن يوضح العلل في موضع ما من الصحيح لوجود مناسبة دعته إليه لن يكون منه ذلك الإيضاح إلا بذكر وجوه الاختلاف في آخر الباب في الغالب، ولا يفهم من هذا أبداً أن كل حديث متأخر في أي باب من الأبواب يكون معلولاً، فإن الإمام مسلماً التزم صحة الأحاديث في كتابه كله، ولهذا أصبح الكتاب من الصحاح، وأما إذا استدعى السياق منه إيضاح علة لحقت بإحدى الروايات فلا يمنعه ذلك الالتزام من أن يأتي بها ويشرحها.
وعلى الرغم من ذلك كله فإن الأستاذ المؤلف أبى إلا أن يخلط بين المسألتين المنفصلتين، ثم يقول: "إن المليباري يدعي أن الإمام مسلماً التزم في صحيحه بيان العلل، وأن البيان يتمثل في ترتيب أحاديثه في الصحيح"، وبنى كتابه "منهج مسلم" على هذين الأمرين الخياليين، ولم أقل أبداً إنه التزم بيان العلة في صحيحه، وإنما قلت إنه أحيانًا يبين العلة على سبيل الاستطراد، وكذلك لم أقل إن شرح العلة إنما هو عن طريق ترتيب الأحاديث، ثم أبرز الأستاذ مهارته العجيبة في تلاعبه بنصوصي وعباراتي الواضحة في فصل المسألتين وكيفية شرح العلة، حتى يتمكن له من توجيه التهم صوب عقيدتي التي أنعم الله علي بسلفيتها، كما سيأتي الحديث عن ذلك بشيء من التفصيل في الملحق الخاص في آخر هذا البحث إن شاء الله تعالى.
وجدير بالذكر أن الإمام مسلماً لا يورد في صحيحه حديثاً معلولاً إلا على سبيل الاحتياط أو الاستئناس، أو التتبع وبيان العلة، أو الاستشهاد من الحديث بما لم تؤثر فيه علته، ولا يذكر – رحمه الله – ذلك النوع المعلول من الأحاديث في أصل الموضوع ولا في أول الباب ثم يعتمد عليه، وبالمثال يتضح المقال.
مثاله: حديث سالم عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من ابتاع نخلاً بعد أن تؤبر فثمرتها للذي باعها إلا أن يشترط المبتاع، ومن ابتاع عبداً فماله للذي باعه إلا أن يشترط المبتاع". أورده الإمام مسلم – رحمه الله – في آخر باب "من باع نخلاً عليها تمر" من كتاب البيوع (10/191) من عدة طرق تدور كلها على الإمام الزهري عن سالم به.
مسألة العبد في هذا الحديث اختلف فيها سالم ونافع رفعاً ووقفاً، رفعها سالم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ووقفها نافع على عمر وجعلها قولاً له. يقول الحافظ ابن حجر وغيره من الأئمة – رحمهم الله -: "جزم مسلم وغيره بترجيح رواية نافع على رواية سالم" (1).
وعلى هذا فرواية سالم برفع مسألة العبد في هذا الحديث معلولة وغير ثابت عند الإمام مسلم. فإيراد مسلم – رحمه الله – هذا الحديث المعلول في صحيحه لم يكن إلا على سبيل الاستئناس أو الاحتياط، أو الاستشهاد بطرفه الأول الذي لم تؤثر فيه علته، ومما يلاحظ أن الإمام مسلماً لم يذكر حديث سالم في أول الباب، ولم يعتمد عليه، وإنما جعل في أصل الموضوع حديث نافع عن ابن عمر، الذي لم يختلف الأئمة في صحته، وصدر به الباب لكونه أصح ما ورد فيه من الروايات عنده.
ومما يؤيد ذلك - أي استشهاده بالطرف الأول من الحديث - أن مسالة العبد التي هي الجزء الأخير منه لا علاقة لها بموضوع الباب الذي ساقها فيه ولا بالمواضع التي قبله أو بعده، لأنها كلها في بيع الثمار وما يتعلق به من المحاقلة والمزابنة، والله أعلم.
وهذا مثال آخر: روى الإمام مسلم - رحمه الله - بسنده عن سعيد بن عبيد حدثنا بشير بن يسار الأنصاري عن سهل بن أبي حَثْمة الأنصاري أنه أخبره أن نفراً منهم انطلقوا إلى خيبر فتفرقوا فيها فوجدوا أحدهم قتيلاً، - وساق الحديث، وفيه: "فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبطل دمه فوَداهُ مائة من إبل الصدقة". (كتاب القسامة 11/151 مع شرح النووي).
وحديث سعيد بن عبيد هذا أعله الإمام مسلم في كتابه "التمييز" ص:144، لقد قال فيه:
"هذا خبر لم يحفظه سعيد بن عبيد على صحته ودخله الوهم حتى أغفل موضع حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم على جهته".
وقال - أيضاً - بعد أن ساق جميع ما رواه مسلم هنا في صحيح من الروايات عن يحيى بن سعيد، عن بشير بن يسار وغيرهما:
"وليس في شيء من أخبارهم أن النبي صلى الله عليه وسلم سألهم البينة، إلا ما ذكر سعيد بن عبيد في خبره، وترك سعيد القسامة في الخبر فلم يذكره، وتواطؤ هذه الأخبار التي ذكرناها بخلاف رواية سعيد يقضي على سعيد بالغلط والوهم في خبر القسامة" (التمييز، ص:146).
والإمام مسلم إذ رواه من طريق سعيد بن عبيد في صحيحه لم يقصد إلا الاستشهاد بجزء الحديث الذي لم تضره المخالفة، ولهذا قال- رحمه الله – في صحيحه:
"وساق الحديث، وقال فيه: فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبطل دمه فوداه مائة من إبل الصدقة".
وهذا الجزء من الحديث ثبت من رواية يحيى بن سعيد، ولهذا أيضاً لم يسق لفظه بكامله، ولم يحله إلى حديث يحيى بن سعيد الذي ذكره مسلم قبله وصدر به الباب، بل اكتفى بقوله: "وساق الحديث"، دون قوله: "مثله" أو "نحوه".
ولم يجعل حديث سعيد بن عبيد المعلول في أصل الموضوع، ولم يصدر به الباب، وإنما ذكره بعد الروايات الصحيحة النظيفة عن بشير بن يسار.
ومن المناسبة أننا نجد الإمام مسلماً يصرح في كتابه التمييز، ص:146: "رواية بشير بن يسار أصح الروايتين" ثم يختم كلامه بما نصه: "وحديث بشير بن يسار في القسامة أقوى الأحاديث وأصحها". يعني أقوى وأصح من رواية أبي ليلى، عبد الله بن عبد الرحمن، عن سهل بن أبي حثمة، ولهذا قدم مسلم في صحيحه رواية بشير بن يسار، وصدر به الباب، وأخر رواية أبي ليلى.
وفي ضوء هذين المثالين والأمثلة التي سنذكرها إن شاء الله نقول: إن الإمام مسلماً قد يورد في صحيحه حديثاً معلولاً لكن لم يكن ذلك منه إلا على سبيل الاحتياط أو الاستئناس أو التتبع وشرح العلة أو الاستشهاد من الحديث بما لم تؤثر فيه علته، وأما أن يورد ذلك النوع المعلول من الأحاديث في أصل الموضوع معتمداً عليه فلا.
ولقد جعلت هذا البحث في ثلاثة محاور وخاتمة: المحور الأول في نصوص الإمام مسلم الواردة في صدد بيان منهجه في ترتيب أحاديث كتابه الصحيح وشرح العلل، والمحور الثاني في سرد آراء العلماء حول ذلك المنهج، والمحور الثالث في دراسة مجموعة من الأحاديث التي استدل بها الأستاذ لإنكار منهج خاص للإمام مسلم في الترتيب، وأما الخاتمة فلتلخيص أهم نتائج البحث.
وما أخصه هنا بالذكر أنني – بفضل الله تعالى – قد عالجت في بحثنا هذا القضايا العلمية التي ذكرتها آنفاً، بعيداً عن أسلوب الأخذ والرد مع الأستاذ الفاضل لكي لا يزج بنا في متاهات الجدل العقيم، ولكي نحقق الغاية العلمية المرجوة من إعداد البحث، ولم نكن نقصد وراء هذا البحث تقليل شأن الأستاذ ولا النيل من شخصيته، غير أننا قد جعلنا في آخر هذا البحث ملحقاً لبيان صنيع الأستاذ في كتابه، وذلك في سبيل الدفاع عن أعراضنا التي أهدرها هو لا لشيء سوى لأني بينت له خطأه، ورغم ذلك فإن الأستاذ يظل محترماً لدي.
وفي الختام أقدم شكري الجزيل إلى كل من ساعدني في إخراج هذا البحث في صورته الحالية. والله تعالى أسأل أن يجعل عملي هذا خالصاً لوجهه الكريم وأن ينفعني وإخواني المسلمين بما فيه من صواب ويقيني وإياهم شر ما فيه من خطأ وهو على كل شيء قدير، نعم المولى ونعم النصير.
__________
(1) انظر فتح الباري 4/402، ومقدمته "الهدى" ص: 361، وفتح المغيث للسخاوي 1/212، وشرح الزرقاني للموطأ 3/253، وسنن البيهقي 5/325، والتهذيب لابن القيم 5/79.(1/4)
المحور الأول في ترتيب الإمام مسلم أحاديث صحيحه
يرتب الإمام مسلم - رحمه الله تعالى - الأحاديث في معظم أبواب كتابه "المسند الصحيح" ترتيباً علمياً، حسب الخصائص الإسنادية والحديثية التي تتوافر في كل حديث منها، سالكاً في ذلك منهجاً علمياً فريداً، يمتاز به كتابه الصحيح عن سائر الكتب الحديثية، حتى عن صحيح الإمام البخاري، ولهذا مال بعض الأئمة إلى ترجيح صحيح مسلم على صحيح البخاري.
فلما كانت الخصائص الإسنادية التي تجعل الأحاديث أصح وأسلم كثيرة فقد اختصرت على ذكر الأشهر والأهم منها.
منها: أن يكون رواة الحديث كلهم من أهل الإتقان والضبط، فتقدم أحاديثهم على أحاديث من دونهم منزلة، سواء أكان هؤلاء من الرواة من أهل الطبقة الأولى أم من أهل الطبقة الثانية (1). ومن البدهي أن الثقات تتفاوت مراتبهم وأحوالهم باختلاف الشيوخ والأماكن والأوقات.
ومنها: الشهرة، فيفضل الحديث الذي اشتهر بين الثقات على الحديث الذي لم يشتهر، وإن كان هذا الحديث الذي لم يشتهر من رواية الأوثق والأثبت.
ومنها: العلو (2)، فيقدم الحديث العالي على الحديث النازل.
ومنها: التسلسل، كأن يكون رواة الحديث كلهم من أهل بلد واحد، أو قبيلة واحدة، فيقدم الحديث الذي تسلسل بها على غيره، أو أن يكون الرواة كلهم ممن اشتهر بحفظ الحديث وفقهه، فيقدم أحاديثهم المسلسلة بذلك على غيرها.
ومنها: كون الحديث خالياً من جميع الأمور التي تعكر صفاء صحته، فيقدم الحديث الصحيح الخالي من العلة على الحديث الذي اختلف في صحته، أو الحديث المعلول (3).
فإذا استوفى حديث من الأحاديث هذه الخصائص الإسنادية وغيرها من المرجحات التي لا تحصى فيكون ذلك الحديث أسلم وأنقى من غيره، وترتيب الإمام مسلم للأحاديث مبني على مدى تميزها بالخصائص الإسنادية والحديثية، ولا يعني هذا أن الإمام مسلماً يذكر في كل باب من أبواب مسنده الصحيح عدة أحاديث ثم يرتبها، بل إنما يكون ذلك في أغلب الأبواب؛ لأن في الكتاب مجموعة من الأبواب لم يذكر فيها سوى حديث واحد وبالتالي لا يكون فيها مجال للترتيب.
فمن درس منهج الإمام مسلم في الترتيب دراسة تحليلية مع درايته التامة بطريقة المحدثين، ودقق النظر فيه يمكنه الاطلاع على كثير من الفوائد العلمية الحديثية التي أودعها مسلم في ترتيبه للأحاديث.
وبجانب ذلك يشرح الإمام مسلم علل الحديث في بعض مواضعها من مسنده الصحيح بشكل استطرادي ذاكراً وجوه الاختلاف في آخر الباب غالباً، وجدير بالذكر أن شرح العلل استطرادياً هو من عادة المحدثين عموماً في مؤلفاتهم الحديثية(4) صحاحاً كانت أم سنناً.
ولتحرير هاتين القضيتين أذكر ثلاث نقاط. أما النقطة الأولى فهي ما صرح به الإمام مسلم في مقدمة صحيحه(5) حيث قال:
" أما بعد، فإنك- يرحمك الله - بتوفيق خالقك، ذكرتَ أنك هممتَ بالفحص عن تَعرُّف جملة الأخبار المأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنن الدين وأحكامه وما كان منها في الثواب والعقاب والترغيب والترهيب وغير ذلك من صنوف الأشياء، بالأسانيد التي بها نُقِلت، وتداولها أهل العلم فيما بينهم، فأردتَ - أرشدك الله - أن تُوقَّفَ على جملتها مؤلَّفة محصاة، وسألتني أن أُلخصها لك في التأليف بلا تكرار يكثر، فإن ذلك زعمت مما يَشْغَلك عما له قصدتَ من التفهم فيها، والاستنباط منها".
"وللذي سألتَ - أكرمك الله - حين رجعتُ إلى تدبره، وما تؤول به الحال - إن شاء الله - عاقبة محدودة، ومنفعة موجودة، وظننتُ حين سألتني تجشم ذلك أنْ لو عُزِم لي عليه، وقُضِي لي تمامُه كان أول من يصيبه نفع ذلك إياي خاصة قبل غيري من الناس، لأسباب كثيرة يطول بذكرها الوصف. إلا أن جملة ذلك أن ضبط القليل من هذا الشأن وإتقانه أيسر على المرء من معالجة الكثير منه، ولا سيما عند من لا تمييز عنده من العوام إلا بأن يوقفه على التمييز غيره، فإذا كان الأمر في هذا كما وصفنا فالقصد منه إلى الصحيح القليل أولى بهم من ازدياد السقيم، وإنما يرجى بعض المنفعة في الاستكثار من هذا الشأن، وجمع المكررات منه لخاصة من الناس ممن رزق فيه بعض التيقظ والمعرفة بأسبابه وعلله".
"فلذلك - إن شاء الله - يَهْجُم بما أوتي من ذلك على الفائدة في الاستكثار من جمعه، فأما عوام الناس الذين هم بخلاف معاني الخاص من أهل التيقظ والمعرفة فلا معنى لهم في طلب الكثير، وقد عجزوا عن معرفة القليل".
"ثم إنا - إن شاء الله - مبتدؤون في تخريج ما سألت وتأليفه على شريطةٍ سوف أذكرها لك، وهو إنا نَعْمِد إلى جملة ما أسند من الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنَقسِمها على ثلاثة أقسام، وثلاث طبقات من الناس، على غير تكرار إلا أن يأتي موضع لا يستغنى فيه عن ترداد حديث فيه زيادة معنىً، أو إسناد يقع إلى جنب إسناد لعلة تكون هناك، لأن المعنى الزائد في الحديث المحتاج إليه يقوم مقام حديث تام، فلا بد من إعادة الحديث الذي فيه ما وصفنا من الزيادة أو أن يُفصَّل ذلك المعنى من جملة الحديث على اختصاره إذا أمكن، ولكن تفصيله ربما عَسُر من جملته فإعادته بهيئته إذا ضاق ذلك أسلم، فأما ما وجدنا بدًّا من إعادته بجملته من غير حاجة منا إليه فلا نتولى فعله إن شاء الله".
"فأما القسم الأول فإنا نتوخى أن نقدم الأخبار التي هي أسلم من العيوب من غيرها وأنقى من أن يكون ناقلوها أهل استقامة في الحديث وإتقانٍ لما نقلوا لم يوجد في روايتهم اختلاف شديد، ولا تخليط فاحش كما قد عُثِر فيه على كثير من المحدثين، وبان ذلك في حديثهم".
"فإذا نحن تقصَّينا أخبار هذا الصنف من الناس أتبعناها أخباراً يقع في أسانيدها بعض من ليس بالموصوف بالحفظ والإتقان كالصنف المقدم قبلهم، على أنهم - وإن كانوا فيما وصفنا دونهم - فإن اسم أبي زياد، وليث بن أبي سليم، وأضرابهم من حُمَّال الآثار، ونُقَّال الأخبار، فهم - وإن كانوا بما وصفنا من العلم والسِّتر عند أهل العلم معروفين - فغيرهم من أقرانهم ممن عندهم ما ذكرنا من الإتقان والاستقامة في الرواية يفضلونهم في الحال والمرتبة.
لأن هذا عند أهل العلم درجة رفيعة، وخصلة سنية، ألا ترى أنك إذا وازنت هؤلاء الثلاثة الذين سميناهم عطاء ويزيد وليثاً، بمنصور بن المعتمر وسليمان الأعمش وإسماعيل بن أبي خالد في إتقان الحديث والاستقامة فيه وجدتهم مباينين لهم لا يدانونهم، لا شك عند أهل العلم بالحديث في ذلك للذي استفاض عندهم من صحة حفظ منصور والأعمش وإسماعيل، وإتقانهم لحديثهم، وأنهم لم يعرفوا مثل ذلك من عطاء ويزيد وليث، وفي مثل مجرى هؤلاء إذا وازنت بين الأقران كابن عون وأيوب السختياني مع عوف بن أبي جميلة وأشعث الحمراني وهما صاحبا الحسن وابن سيرين كما أن ابن عون وأيوب صاحباهما إلا أن البون بينهما وبين هذين بعيد في كمال الفضل وصحة النقل، وإن كان عوف وأشعث غير مدفوعين عن صدق وأمانة عند أهل العلم، ولكن الحال ما وصفنا من المنزلة عند أهل العلم".
"وإنما مثلنا هؤلاء في التسمية ليكون تمثيلهم سمة يصدر عن فهمها من غبي عليه طريق أهل العلم من ترتيب أهله فلا يقصَّر بالرجل العالي القدر عن درجته، ولا يرفع متضع القدر في العلم فوق منزلته ويعطي كل ذي حق فيه حقه، وينزَّل منزلته. وقد ذكر عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننزل الناس منازلهم" مع ما نطق به القرآن من قول الله تعالى: (وفوق كل ذي علم عليم)، فعلى نحو ما ذكرنا من الوجوه نؤلف ما سألت من الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم".
__________
(1) سيأتي أن الإمام مسلماً يقسم الرواة على ثلاث طبقات، الأولى: طبقة الثقات، على اختلاف درجاتهم، لأنها تشتمل على الأوثق، والثقة والصدوق أيضاً، فحين يسوق مسلم أحاديث الطبقة الأولى يقدم الأوثق فالأوثق، إن لم يكن الثاني يحتوي على خصائص إسنادية أخرى تجعله أصح من الأول. والطبقة الثانية: الضعفاء الذين يصلحون للمتابعة وقد يذكر - رحمه الله - أحاديثهم على سبيل المتابعة. والطبقة الثالثة: طبقة المتروكين، ومراتبهم مختلفة أيضاً، ولا يذكر فيه من أحاديثهم شيئاً.
(2) ذكر الخليلي في كتابه الإرشاد 1/177 - 181 كلاماً نفيساً فيما يخص مسألة العلو وها أنا أنقله بحروفه، قال: "واعلموا أن عوالي الأسانيد مما ينبغي أن يحتشد طالب هذا الشأن لتحصيله، ولا يعرفه إلا خواص الناس، والعوام يظنون أنه بقرب الإسناد وببعده وبقلة العدد وكثرتهم، وأن الإسنادين يتساويان في العدد وأحدهما أعلى، بأن يكون رواته علماء وحفاظاً.
روي لنا أن وكيع بن الجراح قال لتلامذته: أيهما أحب إليكم أن أحدثكم عن سليمان الأعمش، عن أبي وائل، عن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ أو أحدثكم عن سفيان الثوري، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله بن مسعود؟ قالوا: =
= نحب الأعمش، فإنه أقرب إسناداً، قال: ويحكم، الأعمش شيخ عالم وأبو وائل شيخ، ولكن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، فقيه عن فقيه عن فقيه.
وقد يكون الإسناد يعلو على غيره بتقدم موت راويه، وإن كانا متساويين في العدد، مثاله: أن علي بن أحمد بن صالح حدثنا عن محمد بن مسعود الأسدي، عن سهل بن زنجلة، عن وكيع، وحدثنا محمد بن إسحاق، عن أبيه، عن علي بن حرب، عن وكيع.
فسهل أعلى من علي بن حرب؛ لأنه مات قبل علي بن حرب بعشرين سنة، ومن ذلك أن رجلين يرويان عن أحد الأئمة، ثم يكون أحدهما أعلى، فإن قتيبة بن سعيد يروي عن مالك، ومات سنة اثنتين وأربعين ومائتين، ويروي عن مالك عبد الله بن وهب، ومات سنة ثمان وتسعين ومائة فهما سواء في مالك، لكن ابن وهب لقدم موته وجلالته لا يوازيه قتيبة مع توثيقه وصلاحه".
ففي العلو ما ظاهر جلي، وما هو غامض خفي، وليس بمقدور الجميع إدراكه، وأجمع أهل النقل على طلبهم العلو، وتفضيله على النزول.
ومن الجدير بالذكر أن العلو يختلف باختلاف الرواة، وإنه أمر نسبي وإن كان الحديث الذي رواه شخص عالياً فلا يلزم أن يكون ذلك بالنسبة إلى شخص آخر. مثلاً يكون الحديث عالياً عند الإمام مسلم غير أن علوه قد لا يتحقق للإمام البخاري، أو يتحقق بطريق آخر أو باعتبار آخر. ومن هنا إذا رأى الإمام مسلم حديثاً أصح فلا يلزم من ذلك أن يكون أصح عند الإمام البخاري.
(3) ربما يذكر الإمام مسلم الحديث المعلول لأغراض علمية ثانوية، منها الاحتياط ومنها الاستئناس، ومنها التنبيه إلى الاختلاف أو العلة.
(4) سنن الترمذي مليء به، ومع ذلك فلم يصفه أحد بـ"سنن معللة" أما صحيح البخاري وصحيح ابن خزيمة ونحوهما من المصادر الحديثية فظاهر لكل من يشتغل بها. راجع قول الحافظ ابن حجر في كتاب النكت على كتاب ابن الصلاح: 1/362 - 363.
(5) 1/45-59 ( شرح النووي ) .(1/5)
"فأما ما كان منها عن قوم هم عند أهل الحديث متهمون، أو عند الأكثر منهم فلسنا نتشاغل بتخريج حديثهم كعبد الله بن ميسور أبي جعفر المدائني، وعمرو بن خالد، وعبد القدوس الشامي، ومحمد بن سعيد المصلوب، وغياث بن إبراهيم، وسليمان بن عمرو بن أبي داود النخعي، وأشباههم ممن اتهم بوضع الأحاديث وتوليد الأخبار، وكذلك من الغالب على حديثه المنكر أو الغلط، أمسكنا أيضاً عن حديثهم، وعلامة المنكر في حديث المحدث إذا ما عرضت روايته للحديث على رواية غيره من أهل الحفظ والرضى خالفت روايته روايتهم، أو لم تكد توافقها، فإذا كان الأغلب من حديثه كذلك كان مهجور الحديث غير مقبوله ولا مستعمله".
"فمن هذا الضرب من المحدثين عبد الله بن مُحَرَّر، ويحيى بن أبي أُنيسة، والجرَّاح بن المنهال أبو العَطُوف، وعباد بن كثير، وحسين بن عبد الله بن ضُمَيرة، وعمر بن صُهْبان، ومن نحا نحوهم في رواية المنكر من الحديث فلسنا نعرج على حديثهم ولا نتشاغل به، لأن حكم أهل العلم والذي نعرف من مذهبهم في قبول ما يتفرد به المحدث من الحديث أن يكون قد شارك الثقات من أهل العلم والحفظ في بعض ما رووا وأمعن في ذلك على الموافقة لهم، فإذا وجد كذلك ثم زاد شيئاً ليس عند أصحابه قبلت زيادته".
"فأما من تراه يعمد لمثل الزهري في جلالته وكثرة أصحابه الحفاظ المتقنين لحديثه وحديث غيره، أو لمثل هشام بن عروة، وحديثهما عند أهل العلم مبسوط مشترك قد نقل أصحابهما عنهما حديثهما على الاتفاق منهم في أكثره، فيروى عنهما، أو عن أحدهما العددَ من الحديث مما لا يعرفه أحد من أصحابهما، وليس ممن قد شاركهم في الصحيح مما عندهم فغير جائز قبول حديث هذا الضرب من الناس، والله أعلم".
"قد شرحنا من مذهب الحديث وأهله بعض ما يتوجه به من أراد سبيل القوم ووفق لها، وسنزيد إن شاء الله تعالى شرحاً وإيضاحاً في مواضع من الكتاب عند ذكر الأخبار المعللة إذ أتينا عليها في الأماكن التي يليق بها الشرح والإيضاح إن شاء الله تعالى". انتهى كلام الإمام مسلم.
فهذا ما صرح به الإمام مسلم حول منهجه الذي يتبعه في كتابه الصحيح، ونلخصه في الأمور الآتية:
1 – بين موضوع الكتاب، وهو الأحاديث الصحيحة المسندة، دون استيعاب.
2 – قسم الأحاديث المرفوعة ثلاثة أقسام، وثلاث طبقات من رواتها.
3 – بين الأقسام الثلاثة من الأخبار، والطبقات الثلاث من الرواة، أما الطبقة الأولى فهم أهل الإتقان والاستقامة في الرواية، يعني لم يوجد في رواياتهم وَهْمٌ ولا تخليط إلا نادراً.
والطبقة الثانية هم أهل الستر والصدق، يعني الضعفاء الذين لم يبلغ ضعفهم حد الترك والنكارة بأن يكونوا متهمين بالكذب أو الفسق أو غير ذلك، أو بأن يكونوا كثيري الغلط، أو فاحشي الخطأ، ومثل لهم بعطاء بن السائب، وليث بن أبي سليم ويزيد بن أبي زياد، وأضرابهم من الضعفاء الذين يصلحون للمتابعة والاعتبار.
والطبقة الثالثة هم المتهمون بالكذب، أو الفسق، أو الذين يخطئون خطأ فاحشاً، ومثل لهم بعبد الله بن المسور وغياث بن إبراهيم وسليمان بن عمرو وأشباههم.
وأما الأقسام الثلاثة من الأخبار فالأول ما رواه أهل الطبقة الأولى،
والثاني ما رواه أهل الطبقة الثانية،
والقسم الثالث ما رواه أهل الطبقة الثالثة.
وجدير بالذكر أن هذا القسم هو المشهور والمعروف عند الأئمة النقدة، ويشمل ذلك كل أصناف الرواة أعلاهم وأدناهم مرتبة، وتكون الطبقة الأولى الثقات، على اختلاف مستواهم في الإتقان والإمامة، والطبقة الثانية الضعفاء الذين يصلحون للاعتبار والمتابعة على اختلاف درجتهم في الحفظ والضبط أو في الخطأ والوهم، والطبقة الثالثة المتروكون الذين لا يصلحون للاعتماد ولا للاعتبار.
وعن عبد الرحمن بن مهدي: "الناس ثلاثة:
رجل حافظ متقن فهذا لا يختلف فيه،
وآخر يهم والغالب على حديثه الصحة، فهذا لا يترك حديثه،
وآخر يهم والغالب على حديثه الوهم فهذا يترك حديثه" (1).
وقد قسم الإمام الترمذي – رحمه الله – أيضاً الرواة على هذا النحو، غير أنه جعل طبقة المتروكين على قسمين:
المتروكين بتهمة الكذب،
والمتروكين بغلبة النكارة على أحاديثهم،
وقد جعلهما الإمام مسلم – رحمه الله – كما ترى قسماً واحداً؛ لأن حكمهما واحد، وهو الترك (2).
بيد أن المتأخرين من الأئمة قسموا الرواة إلى أكثر من ثلاثة أقسام، حتى إن بعضهم جعلوهم في اثنتي عشر مرتبة، وذلك نظراً إلى أن الثقات ينقسمون إلى أقسام حسب تفاوتهم في حالة الإتقان والضبط. وكذا الضعفاء تتنوع مراتبهم. ولكن على ضوء تقسيم الأئمة النقاد لرواة الحديث فإن الطبقة الأولى منهم تشمل جميع أصناف الثقات، لأنهم جميعاً في مرتبة الاحتجاج.
هذا بالنسبة إلى تقسيم عام للرواة، أما تصنيف الرواة على شكل مفصل وفي ضوء صلتهم بالمدارس الحديثية – كالإمام الزهري وقتادة وغيرهما – فإنه يمكن تقسيمهم إلى أكثر من ثلاث مراتب، كما ورد ذلك عن علي بن المديني وغيره من النقاد، حيث قسم علي بن المديني رواة نافع إلى اثنتي عشر صنفاً.
وما لاحظناه أثناء مقارنتنا بين المتقدمين والمتأخرين في تقسيم الرواة أن صنيع المتقدمين هو الأنسب للواقع من تقسيم المتأخرين، لأننا إذا نظرنا في الرواة بشكل عام من غير تقييدهم بشيوخهم نجد صعوبة كبيرة في تطبيق ما وقع في تقسيم المتأخرين من المراتب على آحاد الرواة، وذلك لأن ألفاظ التوثيق تختلف من ناقد لآخر ولا تتفق عادة، فقد نجدهم يطلقون على راو بصيغ مختلفة مثل كلمة "أوثق الناس" وكلمة "ثقة" و "صدوق" و "ثبت" و "حجة" إضافة إلى ألوان أخرى من الاختلاف، فالسؤال الذي يطرح هنا ما هي الصيغة المعتبرة في تصنيف ذلك الراوي؟ هل هي صيغة "أوثق الناس" أو صيغة "ثقة" أو "صدوق" أو "ثبت" أو "حجة"؟ وفي الواقع أن النقاد في مثل هذه المناسبة لا يقصدون بإطلاق صيغهم مخالفة غيرهم، فإن كلمة "الثقة" تفيد معنى كلمة "أوثق الناس"، كما تفيد "الحُجة" و "الثبت"، وكل ذلك تبعاً لمناسبة توثيقهم للرواة، وبالتالي فإن تقسيم الرواة بشكل عام من غير نظر إلى شيوخهم لا يستقيم إلا على الشكل الذي قسمه نقاد الحديث، ولا أظن أن هذا الأمر بحاجة إلى استدلال بسرد الأمثلة.
4 – كان – رحمه الله تعالى – يتوخى تقديم أسلم الأحاديث وأصحها، ثم يتبعها بأدناها سلامة وصحة وذلك حين يضم الباب أحاديث الطبقة الأولى والطبقة الثانية، وكذلك إذا ذكر في الباب أحاديث الطبقة الأولى وحدها فإنه يتحرى أيضاً تقديم الأصح فالأصح، كما يتجلى ذلك لمن دقق النظر والبحث في تضاعيف كتابه الصحيح.
فهذا هو الترتيب العلمي والمبني على الخصائص الإسنادية، والميزات العلمية التي تكمن في رواة الحديث وفي كيفية روايتهم له، أو في سياق المتن، كما سيأتي نماذجه – إن شاء الله تعالى -.
5 – يتجنب – رحمه الله تعالى – تخريج أحاديث الطبقة الثالثة، واشتغاله بها في صحيحه وفي غيره، وهم الذي تعتبر أحاديثهم متروكة أو واهية.
6 – يتناول الإمام مسلم بيان العلل في مواضع من الكتاب حسب المناسبة، وعلى سبيل التبع، وأن العلل على معناها المعروف عند المحدثين دون سواهم.
7 – ولا يكرر – رحمه الله – ذكر الأحاديث إلا لضرورة، كأن يكون الحديث قصيراً ومشتملاً على أكثر من موضوع، وقد صعب عليه تقطيعه وتجزئته حسب موضوعاته التي احتوى الحديث عليها، أو أن يكون في إسناد الحديث أمر يقتضي منه إعادة حديث سابق بسنده ومتنه حلاًّ لما وقع في ذلك الإسناد من علة أو تحقيقاً لفائدة اسنادية أو غرض علمي.
وهذه الأمور التي لخصناها من كلام الإمام مسلم – رحمه الله – كلها واضحة وجلية بيد أننا بمسيس الحاجة إلى توضيح هذه الأمور وبيان ملابساتها فنقول:
أولاً: إن موضوع صحيح الإمام مسلم هو الأحاديث الصحيحة المسندة، دون استيعابها، وعليه فإن الآثار الموقوفة، والأحاديث المرسلة والمنقطعة والمعلولة والضعيفة جميع هذه الأنواع منافية لموضوع الكتاب، وإذا تطرق فيه صاحبه لشيء منها يعد ذلك خرقاً لموضوعه وإخلالاً بشرطه فيه، وبالتالي لا يصنف الكتاب ضمن الصحيح، بل يعد من المصنفات مثل مصنف ابن أبي شيبة وغيره، هذا فقط إذا أورد الإمام مسلم هذه الأنواع في أصول الكتاب، وأما إذا ذكرها خارج الأصول على سبيل الاستطراد والندرة ولغرض جانبي فلا يشكل ذلك خرقاً لموضوع الكتاب أبداً، ومع ذلك يظل الكتاب متبوئاً مرتبته من الصحاح.
يقول الحافظ ابن حجر – رحمه الله -: ". . . بل جمع مسلم الطرق كلها في مكان واحد، واقتصر على الأحاديث، دون الموقوفات فلم يعرج عليها إلا في بعض المواضع على سبيل الندرة تبعاً لا مقصودا " (3).
ولا أظن أحداً يفهم من قول الحافظ بن حجر هذا أن موضوع صحيح الإمام مسلم ليس الأحاديث المرفوعة فحسب، بل هي والآثار الموقوفة أيضاً، كما لا يفهم أحد من ذلك أن الحافظ بن حجر يدعي بأن الإمام مسلماً قد أخل بشرطه في صحيحه، وأنه ألحقه في صنف المصنفات، كلا، لأنه قال: لم يعرج الإمام مسلم على الموقوفات إلا في بعض المواضع على سبيل الندرة تبعاً لا مقصوداً.
ونحن نريد بهذا الاستطراد أن نلفت الانتباه إلى ما أكّده علماؤنا سابقاً أن الصحيحين يضمان الأصول والمتابعات، أو بعبارة أخرى المقاصد وخارجها، وأن الإمامين قد يأتيان في المتابعات بما لم تتوافر فيه شروط الصحيح لأغراض علمية ثانوية، ونعرض هنا على سبيل المثال لا على سبيل الحصر ما صرح به أئمتنا في هذا الصدد .
يقول الإمام ابن الصلاح: "الثاني أن يكون ذلك واقعاً في الشواهد والمتابعات، لا في الأصول، وذلك بأن يذكر الحديث أولاً بإسناد نظيف رجاله ثقات، ويجعله أصلاً، ثم يتبع ذلك بإسناد آخر. . .".
ومن هنا قال متحفظاً: "جميع ما حكم مسلم بصحته من هذا الكتاب فهو مقطوع بصحته" (4)، يعني جميع ما ذكره في الأصل محكوم بصحته، ولم يقل – رحمه الله – جميع ما ذكره في الصحيح فهو مقطوع بصحته بل قال: جميع ما حكم مسلم بصحته من هذا الكتاب فهو مقطوع بصحته. والله أعلم.
ويقول أيضاً: "القول بأن ما انفرد به البخاري أو مسلم مندرج في قبيل ما يقطع بصحته، لتلقي الأمة كل واحد من كتابيهما بالقبول على الوجه الذي فصلناه من حالهما فيما سبق، سوى أحرف يسيرة تكلم عليها بعض أهل النقد من الحفاظ، كالدارقطني وغيره، وهي معروفة عند أهل هذا الشأن (5)، والله أعلم".
ويقول أيضاً: "ثم إن ما يتقاعد من ذلك عن شرط الصحيح قليل، يوجد في كتاب البخاري في مواضع من تراجم الأبواب دون مقاصد الكتاب وموضوعه، الذي يشعر به اسمه الذي سماه به، وهو "الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه".
__________
(1) شرح العلل، لابن رجب الحنبلي ص: 93 وما قبلها. وكتاب التمييز للإمام مسلم ص: 132.
(2) المصدرين السابقين .
(3) الساري مقدمة فتح الباري للحافظ ابن حجر ، ص :12.
(4) صيانة صحيح مسلم ص :195 .
(5) علوم الحديث المشهور بمقدمة ابن الصلاح ص :5.(1/6)
"وإلى الخصوص الذي بيناه يرجع مطلق قوله – يعني الإمام البخاري -: "ما أدخلت في كتاب الجامع إلا ما صح"، وكذلك مطلق قول الحافظ أبي نصر الوايلي السجزي: "أجمع أهل العلم – الفقهاء وغيرهم – على أن رجلاً لو حلف بالطلاق: أن جميع ما في كتاب البخاري مما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قد صح عنه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاله لا شك فيه، أنه لا يحنث، والمرأة بحالها في حبالتها".
"وكذلك ما ذكره أبو عبد الله الحميدي في كتابه (الجمع بين الصحيحين) من قوله: "لم نجد من الأئمة الماضين رضي الله عنهم أجمعين من أفصح لنا في جميع ما جمعه بالصحة إلا هذين الإمامين"، التراجم ونحوها لأن في بعضها ما ليس من ذلك قطعاً. مثل قول البخاري "باب ما يذكر في الفخذ، ويروى عن ابن عباس وجرهد ومحمد بن جحش، عن النبي صلى الله عليه وسلم: الفخذ عورة "، وقوله في أول باب من أبواب الغسل: "وقال بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم: الله أحق أن يستحى منه"، فهذا قطعاً ليس من شروطه، ولذلك لم يورده الحميدي في (جمعه بين الصحيحين) فاعلم ذلك فإنه مهم خاف (1)، والله أعلم".
ويقول الإمام النووي: "وهذا الاستدراك فاسد؛ لأن مسلماً لم يذكره متأصلاً، وإنما ذكره متابعة للطرق الصحيحة السابقة، وقد سبق أن المتابعات يحتمل فيها الضعف، لأن الاعتماد على ما قبلها، وقد سبق ذكر مسلم لهذه المسألة في أول خطبة كتابه وشرحناه هناك، وأنه يذكر بعض الأحاديث الضعيفة متابعة للصحيح (2). فوجدنا الإمام النووي يقر بوجود الأحاديث الضعيفة في صحيح مسلم، ويبرر وجود ذلك بأنها قد أوردها الإمام مسلم خارج الأصول وعلى سبيل القلة، ولم يوردها اعتماداً عليها.
ويقول أيضاً في 2/111: "ومع هذا فمسلم – رحمه الله – لم يذكر هذا الإسناد معتمداً عليه، إنما ذكره متابعة"، إلى أن قال: "وأما رواية الأوزاعي فذكرها متابعة، وقد تقرر عندهم أن المتابعات يحتمل فيها ما فيه نوع ضعف، لا لكونها الاعتماد عليها، وإنما هي لمجرد الاستئناس".
ويقول أيضاً في 18/22: "لا استدراك على مسلم في هذه؛ لأنه ذكر الحديث بحروفه في الطريق الأول من رواية علي بن رباح متصلاً، وإنما ذكر الثاني متابعة، وقد سبق أنه يحتمل في المتابعة ما لا يحتمل في الأصول، وقد تكرر مثل هذا في مواضع كثيرة من شرحه". انظر مثلاً في 3/89 و 6/42 و 11/140.
وإليه مال الحافظ ابن حجر، حين قال في الهدي ص246: "وقبل الخوض فيه ينبغي لكل منصف أن يعلم أن هذه الأحاديث، وإن كان أكثرها لا يقدح في أصل موضوع الكتاب فإن جميعها وارد من جهة أخرى".
ويقول في موضع آخر من الهدي: 359: "وبينت أن لا يلحق الشيخين في ذكرهما لطريق أبي خالد لوم لأن البخاري علقه بصيغة تشير إلى الوهم فيه، وأما مسلم فأخرجه مقتصراً على إسناده دون سياق متنه".
ويقول أيضاً في ص19: "فحينئذٍ ينبغي أن يقال: جميع ما يورد فيه إما أن يكون مما ترجم به أو مما ترجم له، فالمقصود من هذا التصنيف بالذات هو الأحاديث الصحيحة المسندة، وهي التي ترجم لها. والمذكور بالعرض والتبع الآثار الموقوفة والأحاديث المعلقة، نعم والآيات المكرمة، جميع ذلك مترجم به، إلا أنها إذا اعتبرت بعضها مع بعض، منها مفسر، ومنها غير مفسر، فيكون بعضها كالمترجم له باعتبار، ولكن المقصود بالذات هو الأصل، فافهم هذا فإنه ملخص ما يندفع به اعتراض كثير عما أورده المؤلف من هذا القبيل. والله الموفق".
فالبخاري – رحمه الله – جعل في الصحيح أصولاً وهي التي لا يذكر فيها سوى الأحاديث الصحيحة، وهي أصل موضوع كتابه، غير أنه يأتي خارج الأصول بأشياء لا تستوفي شروط الصحيح على سبيل التبع والاستطراد، ولهذا قال الحافظ ابن حجر موجها ما قاله البخاري: "إنه لا يورد فيه إلا حديثاً صحيحاً": "هذا أصل موضوعه لأنه يوجد في الصحيح تراجم وتعاليق، وفيها ما هو ضعيف، فكيف يصح قول البخاري أنه لا يورد فيه إلا حديثاً صحيحاً".
فهؤلاء بعض الأئمة الذين يقرون بوجود الأصول والمتابعات في الصحيحين، وأن المتابعات يجوز فيها التساهل بذكر الموقوف والمنقطع وغيره دون أن يكون مؤثراً في موضوع الكتاب، وناقضاً لالتزاماته.
على أن العلماء عموماً غير المحدثين المتقدمين يسمحون في مؤلفاتهم بذكر الأحاديث الضعيفة حتى الإسرائيليات والموضوعات وغيرها بعد أن اعتمدوا على ما يحتج به في الموضوع، إذا كان موافقاً له، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – في هذه المناسبة (الرد على البكري ص152):
". . . كما أنه إذا ذُكر حكم بدليل معلوم ذُكر ما يوافقه من الآثار والمراسيل وأقوال العلماء وغير ذلك لما في ذلك من الاعتضاد والمعاونة، لا لأن الواحد من ذلك يعتمد عليه في حكم شرعي، ولهذا كان العلماء متفقين على جواز الاعتضاد والترجيح بما لا يصلح أن يكون هو العمدة من الأخبار التي تكلم في بعض رواتها لسوء حفظ أو نحو ذلك وبآثار الصحابة والتابعين، بل بأقوال المشايخ والإسرائيليات، والمنامات مما يصلح للاعتضاد، فما يصلح للاعتضاد نوع وما يصلح للاعتماد نوع".
وبعد أن تبين لنا أن صحيح الإمام مسلم يضم أصولاً ومتابعات، كما هو شأن صحيح الإمام البخاري، وأن القضايا العلمية التي لا تتناسب مع طبيعة موضوع الصحيحين إنما يتطرق لها كل منهما في قسم المتابعات يعني خارج الأصول، ومن جملة تلك القضايا شرح العلل، وبذلك تزول جميع الشبهات التي أثارها الأستاذ الفاضل حول موقفنا المستمد من نص الإمام مسلم وواقع عمله في الصحيح، والمتمثل في قولنا بأنه يرتب أحاديثه فيه حسب القوة والسلامة في معظم أبواب كتابه الصحيح، وأنه أحياناً يشرح العلل على سبيل التبع والاستطراد.
ولا تختلف مهمة شرح العلل على النحو الذي فصلناه عن الآثار الموقوفة والأحاديث المنقطعة التي تذكر في الصحيحين على سبيل العرض، فإنها جميعاً لا تتناسب مع موضوعهما، وإن لم يكن حرج أو تناقض في ذكر هذه الموقوفات والمنقطعات في كتابٍ موضوعه "الأحاديث الصحيحة المسندة" لورودها خارج الأصول لأغراض ثانوية فلا حرج كذلك في شرح العلل على ذلك الوجه.
إن كتب العلل – وإن كان موضوعها الأحاديث المعلولة – فإن الأحاديث الصحيحة تذكر فيها بشكل مكثف تأكيداً بصحتها وخطأ تلك الأحاديث المعلولة، ومع ذلك فكتب العلل تظل في مسمياتها، لأن الأحاديث الصحيحة إنما تذكر فيها لغرض ثانوي، وكذلك كتب الصحاح وغيرها فإن تطرقها لبعض القضايا العلمية التي لا تتناسب مع طبيعة موضوعها لا يشكل خللاً في مدى التزام أصحابها بشروطها المعلنة، لكون ذلك على سبيل الاستطراد ولأغراض جانبية.
ثانياً: أن الإمام مسلماً قسم الأحاديث المرفوعة ثلاثة أقسام وثلاث طبقات من الرواة – يعني بذلك أنه يختار أولاً من جملة الأحاديث المسندة ما ثبت لديه وصح، كما يختار من جملة ما صح من الأحاديث ما رواه الثقات المعروفون، أو ما يعده أسلم وأصح، فيقدمه في الباب، ويجعله أصلاً في الموضوع، ثم يتبعه بما هو دونه صحة.
فلم يكن الإمام مسلم – رحمه الله – ممن يسوق الأحاديث من دون تمييز بين ما صح منها وما لم يصح، كما أنه لم يكن ممن يذكر الأحاديث الصحيحة دون ترتيبها حسب صحتها وقوتها، كما هو واضح من قوله: "ثم إنا إن شاء الله مبتدؤون في تخريج ما سألت، وتأليفه على شريطة سوف أذكرها لك"، مؤكداً عليه بقوله: "فعلى نحو ما ذكرنا من الوجوه نؤلف ما سألت من الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم".
ومن تلك الوجوه: أنه يتوخى أن يقدم أسلم وأصح، ثم يتبعه بما هو دونه سلامة وصحة.
ولهذا قال الإمام ابن الصلاح: "وذلك بأن يذكر الحديث أولاً بإسناد نظيف رجاله ثقات، ويجعله أصلاً، ثم يتبع ذلك بإسناد آخر. . ." (صيانة صحيح مسلم ص195).
ثالثاً: أن الإمام مسلماً يشرح العلل في مواضع من الكتاب على سبيل الاستطراد وتبعاً للموضوع، وليس مقصوداً بذاته، فقد قال مسلم: "وسنزيد – إن شاء الله تعالى – شرحاً وإيضاحاً في مواضع من الكتاب عند ذكر الأخبار المعللة إذا أتينا عليها في الأماكن التي يليق بها الشرح والإيضاح، إن شاء الله تعالى".
والمقصود بالكتاب الذي ورد ذكره في النص هو كتابه الصحيح، لأنه هو المعهود من سياق الكلام الذي بصدد بيان منهجه فيه، وإذا ثبت أنه – رحمه الله – يشرح العلل في بعض مواضع من الصحيح على سبيل الاستطراد بنص كلامه السابق فماذا يعني بالعلل في قوله: "عند ذكر الأخبار المعللة"؟ هذا ما سأبينه في الفقرات التالية.
إن العلل التي يتولى الإمام مسلم شرحها في مواضع من الصحيح هي على اصطلاحها المعروف عند المحدثين النقاد دون غيرهم من متأخري علماء الأصول والفقه، وهي عندهم عبارة عن خطأ الراوي سواء كان ثقة أم ضعيفاً، وهذا المعنى هو الذي يقتنع به كل من يتتبع كتبهم في العلل ونصوصهم في مجال النقد كما يدل عليه سياق كلام الإمام مسلم الذي بصدد شرح المنكر وعلامته وما يخص بالزيادة والمخالفة، والذي أنهى شرحه بقوله: "وسنزيد إن شاء الله شرحاً وإيضاحاً في مواضع من الكتاب عند ذكر الأخبار المعللة. . ."، وهذا السياق أوضح دليل على أن المقصود بالعلل التي تولى شرحها في مواضع من الكتاب هو خطأ الراوي ووهمه في الرواية، سواء أطلق عليه المنكر أو الزيادة أو العلة.
وكلمة (العلة) كبقية المصطلحات ينبغي أن تفسر وتؤوَّل وفق المنهج المعروف لدى قائليها، لا سيما إذا فهم المعنى من سياق كلامهم، ولا ينبغي تأويلها على منهج غير معهود لدى القائلين بها، وإلا فإن ذلك يؤدي إلى شبهات وتناقضات أكثر تعقيداً حول تلك المصطلحات ومضامينها. والإمام مسلم استعمل كلمة (العلة) وأراد بها ما هو معروف لدى المتقدمين، ألا وهو الخطأ والوهم في الرواية.
وأما الحافظ أبو يعلي الخليلي فقد قسم (العلة) إلى قادحة وغير قادحة، وكان – رحمه الله – يمثل للثانية كأن يروي الثقات حديثاً مرسلاً وينفرد به ثقة مسنداً فالمسند صحيح وحجة ولا تضره علة الإرسال(3)، وذلك بناءً على بعض المعطيات العلمية الواقعية، كأن يروي الشيخ حديثاً فيسنده، وإذا طرأ له أدنى شك حول ذلك الحديث الذي أسنده فإنه يحتاط في المرة الثانية ويرويه متحفظاً بإسقاط ذلك الذي وقع له فيه شيء من الشك أو أدنى تردد، وذلك من عادات كبار الثقات، كالإمام مالك وأيوب وحماد بن زيد، ونصوص الإمام الشافعي في ذلك مشهورة، ومن ثم يقع الحديث متصلاً عند البعض من أصحابهم ومرسلاً عند الآخر، وكذلك الأمر إذا أعاد الشيخ حديثه في المجلس، إذ يشعر المحدثون بضيق شديد في حالة ما إذا ألح عليهم إعادة حديث في مجالسهم، ويدفعهم ذلك الشعور إلى اختصار ما يعيده ونقصه، إما في السند وإما في المتن، وبالتالي يكون الحديث الذي أعاده في المجلس ناقصاً.
وعن قتادة: إعادة الحديث في المجلس يذهب بنوره، وما قلت لمحدث قط أعد علي، وما سمعت أذناي شيئاً قط إلا وعاه قلبي (4).
__________
(1) مقدمة ابن الصلاح ، ص : 16-17 .
(2) في شرحه على صحيح مسلم 11/112 .
(3) الإرشاد للحافظ العلائي 1/187 .
(4) تهذيب الكمال للحافظ المزي 23/512 .(1/7)
وعن قتادة أيضاً: إعادة الحديث أشد من ثقل الصخر (1)، وهذا أيضاً يتسبب لوقوع الاختلاف بين الرواة إرسالاً ووصلاً أو زيادة ونقصاً.
ونظراً لهذه الحقيقة العلمية قال الحافظ الخليلي: لا يقدح إرسال في ما وصله الثقة، وليس ذلك على مبدأ أن زيادة الثقة مقبولة عنده مطلقاً.
وهذا الذي بنى عليه الحافظ الخليلي في اعتبار المخالفة بين رواة الحديث – زيادة ونقصاً – علة غير قادحة كقاعدة مقبول جداً، لكن لا ينبغي تطبيقها في كافة المناسبات التي يظهر فيها الاختلاف – إرسالاً ووصلاً – ولا يقال إن راوي الحديث حدث على الوجهين جميعاً، إلا إذا دلت القرينة على ذلك، إذ أنه لا يدري أن هذا النوع من الخلاف ناتج عن السبب الذي أوضحناه آنفاً، أما إذا علم أن هذا الشيخ قد حدث مرتين مرة وصله وفي أخرى نقصه لما طرأ له شيء من الشك حول الذي نقصه أو أعاده ناقصاً فلا علة فيه أصلاً حتى يقال علة غير قادحة، أما رد الخلاف بين الرواة الثقات – زيادة ونقصاً – إلى ذلك السبب بدون قرينة تؤيد ذلك فغير مقبول عقلاً ولا واقعاً، فإن الحكم في المسألة إنما يتوقف على القرائن والمناسبات.
والذي نلاحظه في كلام الحافظ الخليلي هو إطلاق الحكم بصحة ما وصله ثقة مخالفاً لغيره الذي رواه مرسلاً، أو بصحة ما زاده مخالفاً لغيره الذي نقصه من الحديث من غير استناد إلى القرائن التي تفصل الأمر فيها، وهذا بعينه تبناه الفقهاء وغيرهم كمبدأ مسلم وكقاعدة مطردة، أعني بها قبول زيادة الثقة على الإطلاق، لأنهم يعتبرون الإسناد الذي وصله الثقة الضابط زيادة منه على من أرسله، وكذا المخالفة في رفع الحديث ووقفه، كما قبلوا زيادة الثقة في المتن، وعلى هذه القاعدة مشى الإمام النووي في معظم المواضع من شرحه لصحيح مسلم.
وهذه القاعدة لم يقبلها المحدثون على إطلاقها، فقد كانوا في هذه المسألة على دقة متناهية، وتحفظ بالغ، كما يتبين ذلك جلياً لمن يتتبع نصوصهم وعملهم، وتثبتهم في مثل هذه الأمور لم يكن منهم إلا بنظرهم في القرائن والمناسبات التي تحف بالحديث وروايته، وقبولهم وردهم إنما يتمان حسب دلالة تلك القرائن، وذلك هو الذي أكد عليه بعض المحققين من المتأخرين.
يقول الحافظ ابن حجر في نكته: 2/687: "والذي يجري على قواعد المحدثين أنهم لا يحكمون عليه بحكم مستقل من القبول والرد، بل يرجحون بالقرائن".
ولم أعرف أحداً من المحدثين، قديماً وحديثاً، يطلق العلة على كل اختلاف وقع بين الرواة في ألفاظ الحديث وعباراته، حتى وإن لم يؤثر ذلك الاختلاف في معنى الحديث ولا في فقهه، حتى جاء الأستاذ صاحب كتاب (منهج مسلم في الصحيح) وتجرأ على تفسير العلة في كلام الإمام مسلم حسب رأيه الخاص كي يخرج سالماً وفاضلاً من المأزق العلمي الذي أوقع نفسه فيه بسبب موقفه الغريب ويقول: "إن المراد بالعلة التي وعد مسلم بشرحها في صحيحه هو اختلاف الرواة في ألفاظ الحديث وعباراته، وصيغ تحمله".
ومن أين له هذا المعنى؟ وهل أطلق أحد كلمة العلة على هذا المعنى؟ كلا. والذي وقع في كلام بعض الأئمة خلافاً للمشهور هو إطلاق العلة على سبب ظاهر يقدح في صحة الإسناد، كضعف الراوي، أو كذبه، أو الانقطاع الظاهر، أو غير ذلك مما يمنع صحة الإسناد، كما وقع إطلاقها في نصوص الإمام الترمذي على نسخ الحكم. وأما إطلاقها على مجرد الاختلاف في ألفاظ المتن وعباراته اختلافاً لا يؤثر في معنى الحديث وفقهه، أو على مجرد التفاوت في صيغ التحمل والأداء الذي لا يؤثر في اتصال الإسناد، (كحدثنا) و (أخبرنا) و (أنبأنا) ونحوها فلم يعرف ذلك عن أحد من المحدثين أو غيرهم.
وهل في قول مسلم وسياقه ما يدل على ذلك؟ كلا، انظر إلى ما قاله الإمام مسلم وتأمل في سياقه.
يقول مسلم: "قد شرحنا من مذهب الحديث وأهله بعض ما يتوجه به من أراد سبيل القوم ووفق لها، وسنزيد إن شاء الله تعالى شرحاً وإيضاحاً في مواضع من الكتاب عند ذكر الأخبار المعللة إذا أتينا عليها في الأماكن التي يليق بها الشرح والإيضاح إن شاء الله تعالى".
فما الذي شرحه من مذهب أهل الحديث؟ الجواب واضح لمن يراجعه بالوعي، المنكر وعلامته والزيادة والمخالفة هي جميع ما شرحه من مذهب المحدثين مما يدل بكل وضوح على أنه يريد بالعلة ما يتصل بالمنكر، وخلاصته: ما يكون سبباً يدل على وهم الراوي وخطئه.
ثم إن المواضع من الصحيح التي شرح الإمام مسلم العلة فيها توضح بجلاء أن مقصوده بالعلة هي الخطأ والوهم، مثلاً يقول الإمام مسلم في باب كراهية الشروع في النافلة بعد شروع المؤذن في الإقامة:
"قال القعنبي: عبد الله بن مالك ابن بحينة عن أبيه، وقوله: "عن أبيه" في هذا الحديث خطأ (2).
هذا مثال واضح لشرح العلة التي هي عبارة عن خطأ الراوي ووهمه، وبيانها في صحيح مسلم لم يكن منه إلا على استطراد كما تراه، لأن مسلماً أورد في هذا الموضوع – كراهية الشروع في النافلة بعد شروع المؤذن في الإقامة – أحاديث صحيحة عن أبي هريرة وعبد الله بن مالك بن بحينة ولما أورد مسلم حديث عبد الله بن مالك بن بحينة بإسناده الصحيح ناسبه أن يبين الخطأ الذي وقع من القعنبي في روايته له، وقال: "قال القعنبي: عبد الله بن مالك ابن بحينة عن أبيه، وقوله عن أبيه في هذا الحديث خطأ".
والذي دل على خطئه هو مخالفته لجماعة من الرواة الثقات، وبعبارة أخرى: مخالفته للواقع الحديثي المعروف عن عبد الله بن مالك ، حيث زاد القعنبي في إسناده قوله: "عن أبيه"، فهذه المخالفة أصبحت علة مؤثرة في صحة قول القعنبي: "عن أبيه" (3).
ونسوق مثالاً آخر، يقول الإمام مسلم في كتاب الصلاة، في موضوع الجهر بالقراءة في الصبح:
"وحدثنيه علي بن حجر السعدي، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن داود بهذا الإسناد إلى قوله: "وآثار نيرانهم"،
قال الشعبي: "وسألوه الزاد، وكانوا من جن الجزيرة. . . إلى آخر الحديث من قول الشعبي مفصلاً من حديث عبد الله،
وحدثناه أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا عبد الله بن إدريس، عن داود، عن الشعبي، عن علقمة ، عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم إلى قوله: "وآثار نيرانه" ولم يذكر ما بعده" (4).
هذا مثال واضح لبيان العلة وشرحها في صحيح مسلم، لقد شرح الإمام مسلم قضية الإدراج فيما رواه عبد الأعلى، عن داود، عن الشعبي، عن علقمة، عن عبد الله بن مسعود، وصورة الإدراج هنا أن عبد الأعلى أدرج في حديث عبد الله بن مسعود قول الشعبي، وجعله من حديث عبد الله من غير أن يفصل بين حديث عبد الله وقول الشعبي، بل ساقهما بسياق واحد (5).
ويتجلى خطؤه في ضمه قول الشعبي إلى حديث عبد الله بحيث يفهم القارىء أنه من حديث عبد الله، والواقع أن عبد الله لم يحدث به أصلاً، وإنما أضاف إليه عبد الأعلى وجعله من حديث عبد الله وهماً وخطأ، وعرف ذلك من خلال المقارنة بين رواية عبد الأعلى وبين رواية غيره من الجماعة الذين شاركوه في روايته عن داود، عن الشعبي، عن علقمة، عن ابن مسعود، إذ كان عبد الأعلى هو الوحيد الذي يروي عن داود، عن الشعبي، عن علقمة، عن عبد الله بن مسعود قصة الجن بتمامها ويسوقها بسياق واحد، بينما يرويها عن داود جماعة من الثقات مفرقين بين ما حدث به ابن مسعود، وبين قول الشعبي، ولم يسوقوها بسياق واحد، فمعناه أن عبد الأعلى أدرج في حديث ابن مسعود قول الشعبي، وخلط بينهما وهماً منه أو خطأً دون أن يبينه.
هذا هو الذي قال الإمام مسلم – بعد حديث عبد الأعلى الذي أدرج فيه قول الشعبي، وجعله من حديث عبد الله -:
"وحدثنيه علي بن حجر، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن داود بهذا الإسناد (يعني عن الشعبي، عن علقمة، عن ابن مسعود) إلى قوله: "وآثار نيرانهم"، قال الشعبي: وسألوه الزاد، وكانوا من جن الجزيرة إلى آخر الحديث من قول الشعبي، مفصلاً من حديث عبد الله".
يعني أن إسماعيل بن إبراهيم – المعروف بابن علية – في روايته عن داود، ذكر قول الشعبي منفصلاً من حديث ابن مسعود، حيث قال ابن علية أثناء الحديث: "قال الشعبي".
فالإدراج الذي وقع في رواية عبد الأعلى علة قادحة أي أن عبد الأعلى أخطأ في جعل الطرف الأخير من المتن مما حدث به عبد الله بن مسعود، ولم يحدث به عبد الله، بل إنه من قول الشعبي، ولعله سمعه من مصدر آخر. لقد شرح وأوضح الإمام مسلم هذه العلة في صحيحه مستطرداً بعد ذكره لحديث ابن عباس في صدر الباب واعتماده عليه، إذ أن حديث ابن مسعود لم يحتو على موضوع القراءة في الصلوات، بل احتوى على مجرد قراءته صلى الله عليه وسلم على الجن، ولما أورد مسلم حديث ابن مسعود متابعاً لحديث ابن عباس أراد أن يبين الإدراج الذي وقع من عبد الأعلى خطأ، فبينه وأوضحه على سبيل الاستطراد.
هذا هو معنى العلة التي تولى الإمام مسلم شرحها في مواضع الصحيح، ويتم الشرح والإيضاح بأساليب متنوعة، وهذا أسلوب منها.
وهناك مثال آخر لبيان العلة التي تدل على وهم الراوي وخطئه، يقول مسلم – رحمه الله – في كتاب الرضاع 10/69، في باب طلاق الحائض:
"وحدثنيه محمد بن رافع حدثنا عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع عبد الرحمن بن أيمن مولى عروة يسأل ابن عمر. . ." قال مسلم: "أخطأ حيث قال "عروة" إنما هو مولى "عزة".
فبين مسلم هنا التصحيف الذي وقع في رواية محمد بن رافع، عن عبد الرزاق خطأ من أحدهما، وشرحه على سبيل التبع والاستطراد كما هو جلي لكل من تأمل في الأحاديث التي أوردها مسلم في موضوع منع طلاق الحائض. والتصحيف علة قادحة أي خطأ من الراوي ووهمه، كما عبر به الإمام مسلم.
__________
(1) المصدر السابق .
(2) انظر صحيح مسلم مع شرح النووي 5/222 .
(3) ويستفاد منه أيضاً أن قبول ما زاده الثقة ليس على إطلاقه عند مسلم وغيره من المحدثين، لأنهم لم يقبلوا ما زاده القعنبي الثقة، بل حكموا بأنه خطأ.
(4) انظر صحيح مسلم مع شرح النووي : 4/167-171.
(5) الحديث الذي رواه عبد الأعلى – كما عند مسلم -: ". . . فقال علقمة أنا سألت ابن مسعود فقلت: هل شهد أحد منكم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن.
قال: لا، ولكنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ففقدناه فالتمسناه في الأودية والشعاب، فقلنا استطير أو اغتيل قال: فبتنا بشرِّ ليلة بات بها قوم، فقال: أتاني داعي الجن فذهبت معه فقرأت عليهم القرآن قال: فانطلق بنا، فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم وسألوه الزاد.
فقال: لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحماً، وكل بعرة علف دوابكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم".
ولم يفرق عبد الأعلى هنا بين حديث ابن مسعود وبين قول الشعبي، بل خلط بينهما، قال الدارقطني: "انتهى حديث ابن مسعود عن قوله: "فأرانا آثار نيرانهم"، وما بعده من قول الشعبي كذا رواه أصحاب داود الراوي عن الشعبي: ابن علية وابن زريع وابن أبي زائدة وابن إدريس وغيرهم". (راجع شرح النووي: 4/170).(1/8)
فالعلة التي وعد الإمام مسلم بيانها وشرحها في بعض المواضع من الكتاب حسب المناسبة وعلى سبيل التبع والاستطراد هي على اصطلاحها المعروف لدى المحدثين النقاد، ولا يترتب على بيانها في صحيح مسلم على هذا النحو أي تناقض لمقصود الكتاب وموضوعه، وقد بينا من قبل أن الخروج من موضوع الكتاب إلى أمر خارج تبعاً له أمر عادي، ومألوف لدى الجميع.
أما حمل كلمة "العلة" على مجرد الفروق التي تقع بين رواة الحديث ولو كانت تافهة فأمر في غاية الغرابة، لأنه لم يعرف عن أحد من المحدثين – قديماً وحديثاً – إطلاقها عليه، ثم إن كلام الإمام مسلم: "وسنزيد إن شاء الله شرحاً وإيضاحاً في مواضع من الكتاب عند ذكر الأخبار المعللة إذا أتينا عليها في الأماكن التي يليق بها الشرح والإيضاح" يقتضي أن بيان العلة وشرحها يكون على سبيل الندرة، والأمر كذلك في واقع صحيح مسلم، فأما إذا حملت لفظه العلة وبيانها على ذكر الفروق التي تقع بين الرواة في ألفاظ الحديث وعباراتها، والتي لا تؤثر في معناه وفقهه فينافي ذلك كلام الإمام مسلم وواقع صحيحه، لأنه لا تكاد تخلو صفحة من صفحات الصحيح من بيان هذه الفروق التي تقع في الرواية.
وبيان الفروق في الرواية أمر تعود عليه الثقات المتقنون، وذلك إذا جمعوا بين شيوخهم، وساقوا رواياتهم المختلفة بسياق واحد، أشاروا إلى ذلك الاختلاف، فإنهم لا يجمعون بين الروايات وبين الشيوخ إلا إذا بينوا ما بينها من الفروق والاختلاف حتى ولو كانت تافهة، ومن هنا نجد الإمام مسلماً وأمثاله من المحدثين يشيرون دائماً إلى جميع أنواع الاختلاف بكل دقة إذ جمعوا بين الروايات المتفاوتة لفظاً أو سياقاً، لأن الرواية أمانة يجب نقلها عن صاحبها دون أدنى تصرف فيها، وفي حالة ما إذا تصرف فيها أحد ينبغي الإعلان عنه إما صراحة أو تلميحاً.
وبناء على هذا فإذا روى أحد الثقات جمعاً بين شيوخه، وساقوا رواياتهم مساقاً واحداً، ولم يبين اختلافهم فيها، فمعنى ذلك أن رواياتهم كلها متفقة لفظاً ومعنى، بخلاف الضعفاء فإنهم يتساهلون في رصد الفروق بين الروايات التي يجمعونها – حتى ولو كان بينها من الخلاف ما يؤثر في صحتها – ويعد المفسرون والمؤرخون من الرواة من أشهر الناس تساهلاً في هذا الجانب.
ولهذا فإن علماء الجرح والتعديل لا يحتجون بأمثال هؤلاء إذا رووا جمعاً بين شيوخهم، وساقوا حديثهم بسياق واحد، إذ لا يطمئن القلب بأحاديثهم المروية على هذا الشكل، لاحتمال وقوع الاختلاف المؤثر في صحة الحديث بينها.
وهذا معنى قولهم: "فلان لا يحتج به إذا جمع، ويحتج به إذا أفرد". وقد تكلم بهذا النوع من التساهيل في عدد من الرواة كعطاء بن السائب، وليث بن أبي سليم، وجابر الجعفي، وابن إسحاق، وحماد بن سلمة، والواقدي، وعوف الأعرابي، وعبد الرحمن بن عبد الله العمري، وأبي بكر بن أبي مريم (1).
وبعد هذا أصبح الأمر واضحاً وجلياً أن شرح العلة الذي وعده الإمام مسلم – رحمه الله – شيء، وبيان الفروق التي قد ترد في العبارات وفي الروايات الصحيحة شيء آخر، وأن ما قاله الأستاذ الفاضل من أن العلة هي بيان الفروق في العبارات غير صحيح على الإطلاق.
وفي الأخير لقد تجلى – بحمد الله – مما صرح الإمام مسلم في مقدمته أنه يرتب الأحاديث حسبما تتوافر فيها الخصائص الإسنادية والحديثية، وذلك بتقديم أصح الأحاديث ثم أصحها عنده، كما أنه يبين العلة في مواضع من الكتاب بذكر وجوه الاختلاف فقط على سبيل الاستطراد لا أصالة ولا مقصوداً بذاته. وأنه لا يلزم من ذلك شيء يحط الكتاب من مرتبته، بل إن ذلك يؤكد على أنه من أصح الكتب، كما يؤكد على عبقرية صاحبه الإمام مسلم بن الحجاج النيسابوري في معرفة صحيح الحديث وسقيمه، وعلى دقته المتناهية في التزامه بصحة الأحاديث في كتابه كله. وتقديم الأصح منها ثم الأصح.
وطبيعي جداً أن يطرح هنا سؤال: إن كان الإمام مسلم يبين العلل على سبيل الاستطراد حسب ما أعلنه في مقدمة كتابه فما وجه الانتقادات الموجهة نحوه من قبل الإمام أبي مسعود الدمشقي والإمام الدارقطني وغيرهما من الأئمة؟ حيث إن الانتقاد لن يكون منهم إلا على أساس خرق الإمام مسلم لمنهجه إذ اشترط فيه صحة الأحاديث في كتابه كله، ولو كانت تلك الأحاديث المنتقدة لم يذكرها مسلم إلا لشرح عللها لما وجد وجه للانتقاد والطعن إذن.
أقول: هذا سؤال وجيه وجدير بالإجابة، وقد ألف الإمام الدارقطني كتاباً أسماه "التتبع" وأوضح فيه موضوعه ومضمونه، يقول الدارقطني في مستهل كتابه التتبع:
"ابتداء ذكر أحاديث معلولة اشتمل عليها كتاب البخاري ومسلم أو أحدهما بينت عللها والصواب منها"(2).
وهذا النص واضح جداً في موضوع هذا الكتاب هو ذكر أحاديث معلولة اشتمل عليها كتاب البخاري ومسلم أو أحدهما مع بيان عللها والصواب منها، وأنه لم يلمح فيه إلى أن الانتقاد سوف يوجه صوب صنيع الشيخين في صحيحيهما على أساس أن كلاً منهما قد أخلا بشروط كتابيهما، لأنه قال: "اشتمل عليها" ولم يوضح على أي وجه اشتمل عليها، وهو شامل لجميع أنواع الأحاديث، سواء اشتمل عليها على وجه الاحتجاج أم على وجه الاستئناس والاحتياط والاستشهاد أم على وجه التتبع وشرح العلل، ولم يقل – رحمه الله – "ذكر أحاديث معلولة احتج بها كل منهما في أصولهما".
والذي يبدو بوضوح من محتوى كتاب التتبع وإمعان النظر في عمل الدارقطني فيه أن الأحاديث التي بين عللها تصنف على أنواع:
منها: الأحاديث التي احتج بها البخاري ومسلم.
ومنها: ما أورده كل منهما في المتابعات.
ومنها: ما أورده كل منهما على سبيل الاحتياط أو الاستئناس.
ومنها: ما أورده كل منهما على سبيل التتبع وبيان العلل.
ومنها: ما ذكره مسلم في المقدمة.
أما النوع الأول فعدده قليل جداً بالنسبة إلى الأنواع الأخرى إلا النوع الأخير، والذي يصلح فيه القول أن الشيخين قد أخلا فيه بشروطهما والتزامهما بها هو النوع الأول دون سواه، فإن الأنواع الأخرى كلها تكون خارج الأصول، ولم يذكرا شيئاً منها إلا على سبيل الاعتضاد أو الاحتياط أو الاستئناس أو التتبع وشرح العلة، وغاية ما يقال بالنسبة إلى هذه الأنواع أن الإمام الدارقطني أوضح السبب الذي كان يدفع كلاً من البخاري ومسلم إلى أن يذكرا الأحاديث على ذلك النحو هو وجود علة فيها، وفي نفس الوقت فإن الإمام الدارقطني يفيدنا أيضاً من خلال تتبعه لأحاديث الصحيحين دقة الشيخين في تصحيح الأحاديث وتعليلها ووضعها في مواضعها اللائقة من الصحيح. أما البخاري فكثيراً ما يرويها معلقة بينما يوردها مسلم في أواخر الباب.
وعندما نلفي الإمام الدارقطني يؤيد أحياناً صنيع الشيخين في التصحيح أو التعليل أثناء التتبع، أو نلفي الإمام أبا مسعود الدمشقي يصرح في بعض المواضع من التتبع أن الإمام مسلماً إنما أراد تبيين الخلاف لا أنه يثبت الحديث (3)، يمكننا أن نقول: إن هؤلاء الأئمة لم يقصدوا بتتبعهم لأحاديث الشيخين توجيه الطعن نحوهما لسبب إخلالهما بشروط الصحيح وعدم التزامهما بها، وإنما أرادوا أن يبرزوا الفوائد النقدية التي تكمن في صنيعهما والتي تحتاج إلى توضيحها، كما أرادوا أن يؤكدوا بأن الكتابين من أصح ما صنفه البشر على الإطلاق، حيث إنهم لم يتحصلوا من خلال تتبعهم على جانب الإخلال إلا في عدد قليل جداً من جملة الأحاديث التي تربو على سبعة آلاف حديث، وهو أمر طبيعي جداً لا غرابة فيه.
ونستخلص من هذه اللفتة الاستدراكية أن النتائج التي أسفر عنها تتبع الأئمة لأحاديث الشيخين هي الفوائد النقدية والمسائل الإسنادية التي يضمها الصحيحان لا أنهما قد أخلا بشروطهما في أحاديثهما.
ومن هنا نجد شراح الصحيحين ممن تولى الإجابة على الدارقطني في انتقاداته يقولون: هذا الانتقاد لا يضر في أصل الحديث، وإنما ذكره الشيخان في المتابعة، ويسع فيها ما لا يسع في الأصول، أو لم يذكره الشيخان إلا لبيان الاختلاف. وليس بخاف على أحد أن الإمام الدارقطني على علم تام بأن الشيخين لم يذكرا معظم الأحاديث المعللة على سبيل الاحتجاج.
ثم إني أعيد وأكرر بأنني لم أدَّع بعد أن الإمام مسلماً التزم بيان العلل في صحيحه، وأن هذا البيان هو ترتيبه للأحاديث، وأنا بريء من هذه الدعاوى كل البراءة.
وإنما الذي أقول هو ما قاله الإمام مسلم في مقدمته، وفهمه منه العلماء قديماً وحديثاً، أنه يشرح العلل في مواضع من الصحيح على سبيل الاستطراد، وأنه يرتب أحاديثه بتقديم الأصح فالأصح، وأن الإمام مسلماً التزم الصحة في كتابه كله.
وبعد فلننتقل إلى المحور الثاني لننظر هل من الأئمة من فهم واقتنع بأن الإمام مسلماً يرتب أحاديثه في الصحيح على النحو الذي رأيناه، وأنه يشرح العلل حسب المناسبات العلمية في مواضع من الصحيح بشكل استطرادي، ولنؤكد ما فهمناه من نص الإمام مسلم حتى نفند ما يدعيه الأستاذ المؤلف من "أن هذه الفكرة لم تكن معروفة من قبل، وهي فكرة غريبة وخطيرة تستهدف هدم السنَّة بأكملها". سبحان الله، ولله في خلقه شؤون.
__________
(1) راجع شرح العلل لابن رجب الحنبلي ص : 358-360 .
(2) الإلزامات والتتبع للإمام الدارقطني، ص : 120 .
(3) انظر على سبيل المثال ص : 61 من هذا البحث .(1/9)
المحور الثاني آراء العلماء في مقصود الإمام مسلم في مقدمته
أسوق فيه آراء طائفة من العلماء في مقصود الإمام مسلم بما ذكر في مقدمته حول منهجه في الصحيح، ومدى مقدار تطبيقه في تضاعيف كتابه.
يمكن حصر الآراء في قضيتين كما بينته سابقاً، وهما:
... 1 - قضية ترتيب الأحاديث في صحيح الإمام مسلم ترتيباً علمياً يقوم على الأمور العلمية، والخصائص الإسنادية التي يتميز بها كل حديث منها.
2 - وقضية بيان العلل في مواضع من الصحيح على سبيل الندرة، تبعاً لا مقصوداً.
وينبغي أن نلاحظ: أنه لم يصلنا عن أحد من العلماء بعد تأليف الإمام مسلم كتابه "المسند الصحيح" إلى عصر الحاكم نص في تأويل ما قاله مسلم في مقدمته، وبيان مقصوده منه، وكما أنه لم ينقل عن أحد منهم خلاف حول هذين الأمرين، وعليه فيتعين علينا أن نتركهم جميعاً دون أن ندعي عليهم بهذا أو ذاك.
إن أول من فسر قول الإمام مسلم في المقدمة هو الإمام الحاكم، لكن القاضي عياض - أحد شراح صحيح مسلم - لم يرتض رأيه فناقشه وعارضه مستدلاً بواقع الصحيح، ثم تعرض لهذا الأمر كل من جاء بعده من شراح الصحيح وغيرهم، موافقين للقاضي، مسجلين ذلك في كتبهم.
وقد فهم الحاكم من قول مسلم في مقدمته ما يلي:
"أنه يفرد لكل طبقة كتاباً، ويأتي بأحاديثها خاصة مفردة، وأن المنية اخترمته قبل إخراج القسم الثاني، وأنه إنما ذكر القسم الأول"، ووافقه تلميذه الحافظ البيهقي (1).
ومن يتأمل في نصوص الإمام مسلم وسياقها يستبعد صحة ما فهمه الحاكم منها، لأنه لا يصح أن يقال: "إن مسلماً يفرد لكل طبقة كتاباً"، ومسلم يصرح بأنه يترك أحاديث الطبقة الثالثة، ولا يتشاغل بتخريجها، فكيف يتصور أنه يفرد لكل طبقة كتاباً، ومنها الطبقة الثالثة؟
ولا يقال: إنه يعني بقوله: "ولا يتشاغل بتخريجها" ترك الاشتغال بها في الصحيح. لأن مفهومه أنه يتشاغل بتخريج أحاديث الطبقة الثانية فيه، فبقبول هذا المفهوم ينتهي الخلاف بين القاضي والحاكم، حيث وافقا على أن الصحيح يضم أحاديث الطبقتين الأوليين، بغض النظر عما إذا كانت أحاديث الطبقة الثانية تذكر فيه باستيعاب أو بالندرة.
على أنه ليس في قول الحاكم ما ينفي وجود شيء من أحاديث الطبقة الثانية في الصحيح على سبيل الندرة تبعاً للقسم الأول، ولعل الحافظ ابن الصلاح لهذا علق على تفسيري الحاكم والقاضي بقوله: "كلام مسلم محتمل لما قاله عياض ولما قاله غيره"(2).
غير أن ابن الصلاح استبعد صحة قول الحاكم حين قال: "ما روي عن إبراهيم بن محمد بن سفيان أنه قال: أخرج مسلم ثلاث كتب من المسندات، واحد الذي قرأه على الناس، والثاني يدخل فيه عكرمة، ومحمد بن إسحاق صاحب المغازي وضُرباءهُما، والثالث يدخل فيه من الضعفاء، وهذا مخالف لما قاله الحاكم (3). والله أعلم.
وأما ما روي عن إبراهيم - إن صح - فلا صلة له بمنهج مسلم في الصحيح، إلا أن فيه ما ينقض دعوى الحاكم من أنه يفرد لكل طبقة كتاباً - وأن المنية اخترمته قبل إخراج القسم الثاني، حيث يدعي إبراهيم بأنه تم إخراج ثلاث كتب من المسندات.
وناقشه القاضي عياض - رحمه الله - مناقشة علمية، معتمداً على الأدلة الحسية، ورضي قوله هذا كل من جاء بعده من شراح الصحيح وغيرهم.
__________
(1) نقله القاضي في شرحه لصحيح مسلم ( الإكمال ) 1/19/1 .
(2) صيانة حديث مسلم لابن الحجاج ص : 90 .
(3) المصدر السابق .(1/10)
يقول القاضي عياض:
"هذا الذي تأوله عبد الله الحاكم على مسلم من اخترام المنية قبل استيفاء غرضه مما قبله الشيوخ، وتابعه عليه الناس في أنه لم يكمل غرضه إلا من الطبقة الأولى، ولا أدخل في تأليفه سواها".
"وأنا أقول: إن هذا غير مسلّم لمن حقق نظره ولم يتقيد بتقليد ما سمعه، فإنك إذا نظرت تقسيم مسلم في كتابه الحديث كما قال على ثلاث طبقات من الناس، فذكر أن القسم الأول حديث الحفاظ، ثم قال بأنه إذا تقصى هذا أتبعه بأحاديث من لم يوصف بالحذق والإتقان مع كونهم من أهل الستر والصدق وتعاطي العلم وذكر أنهم لاحقون بالطبقة الأولى، وسمى أسماء من كل طبقة من الطبقتين المذكورتين، ثم أشار إلى ترك حديث من أجمع أو اتفق الأكثر على تهمته، وبقي من اتهمهم بعضهم وصححه بعضهم فلم يذكره هنا".
"ووجدته - رحمه الله - قد ذكر في أبواب كتابه وتصنيف أحاديثه، حديث الطبقتين الأوليين التي ذكر في أبوابه وجاء بأسانيد الطبقة الثانية التي سماها وحديثها كما جاء بالأولى على طريق الاتباع لأحاديث الأولى والاستشهاد بها، أو حيث لم يجد في الكتاب للأولى شيئاً، وذكر أقواماً تكلم قوم فيهم وزكاهم آخرون وخرج حديثهم ممن ضعف أو اتُّهم ببدعة، وكذلك فعل البخاري رحمه الله".
"فعندي أنه - رحمه الله - قد أتى بطبقاته الثلاث في كتابه على ما ذكر، ورتب في كتابه وبينه في تقسيمه، وطرح الرابعة كما نص عليه، فتأول الحاكم أنه إنما أراد أن يفرد لكل طبقة كتاباً ويأتي بأحاديثها خاصة مفردة، وليس ذلك مراده، بل إنما أراد بما ظهر من تأليفه وبان من غرضه أن يجمع ذلك في الأبواب، ويأتي بأحاديث الطبقتين، فيبدأ بالأولى ثم يأتي بالثانية على طريقة الاستشهاد والاتباع، حتى استوفى جميع الأقسام الثلاثة، ويحتمل أن يكون أراد الطبقات الثلاث من الناس الحفاظ ثم الذين يلونهم والثالثة هي التي طرحها، والله أعلم بمراده".
"وكذلك أيضاً علل الحديث التي ذكر ووعد أنه يأتي بها قد جاء بها في مواضعها من الأبواب، من اختلافهم في الأسانيد، والإرسال والإسناد والزيادة والنقص وذكر تصاحيف المصحفين، وهذا يدل على استيفائه غرضه في تأليفه وإدخاله في كتابه كما وعد به".
"وقد فاوضت في تأويلي هذا ورأيي فيه من يفهم هذا الباب فما وجدت منصفاً إلا صوبه وبان له ما ذكرت، وهو ظاهر لمن تأمل الكتاب وطالع مجموع الأبواب والله الموفق للصواب".
"ولا يعترض على هذا ما نقلت عن ابن سفيان من أن مسلماً خرج بثلاث كتب، فإنك إذا تأملت ما ذكر ابن سفيان لم يطابق الغرض الذي أشار إليه الحاكم مما ذكر مسلم في صدر كتابه، فتأمله تجده كذلك إن شاء الله"(1) اهـ.
ثم قال - شارحاً لقول مسلم: "وسنزيد إن شاء الله شرحاً وإيضاحاً. . ." -:
"قيل هذا الكلام الذي وعد به ليس منه شيء في الكتاب وأنه مما اخترمته المنية قبل جمعه، إذ ما أدخله في كتابه من الصحيح المتفق عليه ليس يحتاج إلى شيء من الكلام عليه، لعلوِّ رتبته، وقلة غلط رواته، وحفظهم وإتقانهم، وقد قدمنا الكلام عليه، وأنه قد ذكره في أبواب"(2).
فالقاضي عياض صريح في رأيه، واضح في نظره، قوي الحجة في مناقشته وبيَّنها مع الحاكم، ولتوضيح ذلك أقول:
يعتقد القاضي أن الإمام مسلماً استوفى كل ما وعده في مقدمته، فرتب الأحاديث مقدماً أحاديث الطبقة الأولى ومُتْبعاً بأحاديث الطبقة الثانية، وبين العلل في مواضع من الكتاب، وأن العلل هي التي يعرفها أصحاب الحديث من الاختلاف الوارد في الحديث كالإرسال والإسناد، والرفع والوقف، كالزيادة والنقص والتصحيفات، ثم أعاد وأكد حين شرح قول مسلم: "وسنزيد إن شاء الله شرحاً وإيضاحاً. . ." وقال: " وقد قدمنا الكلام عليه وأنه قد ذكره في أبوابه"، وأن دعوى الحاكم لا يوافقه فيها أحد حقق نظره ولم يتقيد بالتقليد، بل أقر ما قاله القاضي عياض كل من يفهم هذا الشأن، وصوبه كل منصف تأمل الكتاب وطالع مجموع الأبواب.
لكن في كلامه ما ينبغي التحقيق فيه، يقول: "فعندي أنه أتى بطبقاته الثلاث في كتابه على ما ذكر ورتب في كتابه، وبينه في تقسيمه وطرح الرابعة، ويحتمل أن يكون أراد بالطبقات الثلاث: الحفاظ ثم الذين يلونهم والثالثة هي التي طرحها".
والذي نلاحظه ههنا هو مخالفته لنص الإمام مسلم من أنه قسم الرواة ثلاثة أقسام وثلاث طبقات، وطرح أحاديث الثالثة، كما في الاحتمال الثاني الذي ذكره القاضي.
ويمكن توجيه ما قاله القاضي بأن تقسيم الإمام مسلم للرواة كان تقسيماً عاماً وشاملاً، غير أن القاضي عياضاً جعل تقسيم الإمام غير شامل للقسم الذي استدركه عليه ولهذا قال: "وبقي من اتهمهم بعضهم وصححه بعضهم فلم يذكره هنا"، ومن هنا قال القاضي عياض - رحمه الله -: "أتى بطبقاته الثلاث في كتابه"، ولم يرد به القاضي جماعة المتهمين بالكذب ولا الذين يغلطون في الحديث غلطاً فاحشاً، بل أراد بالقسم الثالث الذين أدخل حديثهم مسلم في الصحيح ممن اتهمهم بعضهم وصحح أحاديثهم بعضهم، وعلى هذا فليس في كلامه ما يخالف نص الإمام مسلم، والله أعلم.
فوجدنا بين الحاكم وبين القاضي عياض - رحمهما الله - خلافاً في تحديد مقصود الإمام مسلم بقوله في المقدمة، إذ قال الحاكم: "إنما أراد أن يفرد لكل طبقة كتاباً ويأتي بأحاديثها خاصة مفردة، ولم يخرج مسلم إلا أحاديث القسم الأول، فلما حدث بها اخترمته المنية قبل إخراج القسمين الأخيرين"، بينما قال القاضي عياض: "أخرج مسلم أحاديث القسمين الأولين، وترك أحاديث القسم الثالث" غير أن الحافظ ابن حجر - رحمه الله - حاول التوفيق بينهما، فقال:
"وإنما اشتبه الأمر على القاضي عياض ومن تبعه بأن الرواية عن أهل القسم الثاني موجودة في صحيحه، لكن فرض المسألة هل احتج بهم كما احتج بأهل القسم الأول أم لا؟ والحق أنه لم يخرج شيئاً مما انفرد به الواحد منهم، وإنما احتج بأهل القسم الأول، سواء تفردوا أم لا؟ ويخرج من أحاديث أهل القسم الثاني ما يرفع به التفرد عن أحاديث أهل القسم الأول، وكذلك إذا كان لحديث أهل القسم الثاني طرق كثيرة يعضد بعضها بعضاً فإنه قد يخرج ذلك".
"وهذا ظاهر بيِّن في كتابه، ولو كان يخرج جميع أحاديث أهل القسم الثاني في الأصول بل وفي المتابعات لكان كتابه أضعاف ما هو عليه".
"ألا تراه أخرج لعطاء بن السائب في المتابعات وهو من المكثرين، ومع ذلك فما له عنده سوى مواضع يسيرة، وكذا محمد بن إسحاق وهو من بحور الحديث وليس له عنده في المتابعات إلا ستة أو سبعة، ولم يخرج لليث بن أبي سليم ولا ليزيد بن أبي زياد ولا لمجالد بن سعيد إلا مقروناً"(3) اهـ.
يعني به الحافظ ابن حجر - رحمه الله - أن الذي ذهب إليه الحاكم هو مسألة الاحتجاج بأحاديث القسم الثاني، وهي غير واردة في الصحيح، فإن الإمام مسلماً لم يحتج بأحاديث تفرد بها أهل القسم الثاني، وإنما أخرج منها ما شاركه فيه أهل القسم الأول من غير استيعاب، وهو أمر مسلم بوجود أحاديث القسم الثاني في الصحيح، فناقش الحاكم على أساس أنه يدعي بعدم ذكر أحاديث أهل القسم الثاني فيه أصلاً، كما هو الظاهر من كلام الحاكم، وقال: "إن مسلماً أخرج أحاديث القسمين الأولين ولم يخرج شيئاً من أحاديث القسم الثالث".
وإن كان مراد الحاكم هو مسألة الاحتجاج في صحيح مسلم بأحاديث القسم الثاني مثل أحاديث القسم الأول فالأمر كما قال، ولن يكون للقاضي اعتراض في ذلك، ولكن مما يستبعد أن يفهم هذا المعنى من سياق كلام الحاكم، لأن الحاكم قال: "أراد مسلم أن يفرد لكل طبقة كتاباً خاصاً وأن يأتي بأحاديثها مفردة خاصة". والله أعلم.
وأما إذا كان محل الخلاف هو هل أخرج مسلم في صحيحه من أحاديث القسم الثاني على غير استيعاب فالأمر كما حرره القاضي عياض على ضوء الأدلة المادية الملموسة في تضاعيف صحيح مسلم.
ولم يكتف القاضي عياض بالنظريات، بل بدأ يطبقها مفصلاً ومجملاً، مثلاً: يقول في حديث أخرجه مسلم من رواية الأعمش، وأعله الإمام الدارقطني:
"وهذا الإسناد من الأحاديث المعللة في كتاب مسلم التي يبين مسلم علتها كما في خطبته، وذكر الاختلاف فيه"(4).
وقال القاضي في حديث أخرجه مسلم في الوصية وأعله الدارقطني:
"وهذا وشبهه من العلل التي وعد مسلم في خطبة كتابه أنه يذكرها في موضعها، فظن ظانون أنه يأتي بها مفردة وأنه توفي قبل ذكرها، والصواب أنه ذكرها في تضاعيف كتابه كما أوضحناه في أول هذا الشرح" (5).
يتضح من هذا أن الرأي الصحيح الذي قبله من القاضي عياض كل منصف حقق نظره وراجع أبواب الصحيح هو أن الإمام مسلماً أراد بكلامه في المقدمة التزامه في تضاعيف كتابه بترتيب الأحاديث حسب القوم والسلامة، وبشرح العلل في مواضع منه على سبيل التبع لا أصالة ولا مقصوداً، وأنه طبقه في كتابه وهذا بعينه الذي فهمناه وحررناه من قبل.
__________
(1) الإكمال 1/19/1 - نسخة مخطوطة - .
(2) الإكمال1/30/1 .
(3) النكت على ابن الصلاح ، للحافظ ابن حجر 1/433-434 .
(4) نقله الإمام النووي في شرحه لصحيح مسلم . 4/26 .
(5) نقل ذلك النووي في شرحه 11/81 .(1/11)
ابن الصلاح :
يقول ابن الصلاح - رحمه الله - في كتابه صيانة صحيح مسلم، ص: 90: "ذكر مسلم - رحمه الله - أولاً أنه يقسم الأخبار ثلاثة أقسام، الأول ما رواه الحفاظ المتقنون، والثاني ما رواه المستورون المتوسطون في الحفظ والإتقان، والثالث ما رواه الضعفاء والمتروكون (1)، فإذا فرغ من القسم الأول أتبعه بذكر القسم الثاني، وأما الثالث فلا يعرج عليه، فذكر الحاكم وصاحبه البيهقي: أن المنية اخترمته قبل إخراج القسم الثاني، وذكر القاضي الحافظ عياض من المغاربة أن ذلك مما قبله الشيوخ. . .".
ثم علق عليه ابن الصلاح - رحمه الله - بقوله:
" كلام مسلم محتمل لما قاله عياض ولما قاله غيره، نعم روى بالتصريح عن إبراهيم بن محمد بن سفيان أنه قال: "أخرج مسلم ثلاث كتب من المسندات، واحد الذي قرأه على الناس، والثاني يدخل فيه عكرمة ومحمد بن إسحاق صاحب المغازي وضرباؤهما، والثالث يدخل فيه من الضعفاء وهذا مخالف لما قاله الحاكم(2). والله أعلم ".
وهذا الاستدراك يدل على ميله إلى ما قاله القاضي، هذا وقد ذكر في مواضع أخرى ما يؤيد القاضي، مثلاً يقول ابن الصلاح في ص: 95 من صيانة صحيح مسلم:
" الثاني أن يكون ذلك واقعاً في الشواهد والمتابعات لا في الأصول، وذلك بأن يذكر الحديث أولاً بإسناد نظيف رجاله ثقات ويجعله أصلاً، ثم يتبع ذلك بإسناد آخر أو أسانيد فيها بعض الضعفاء على وجه التأكيد بالمتابعة أو لزيادة فيه تنبيه على فائدة فيما قدمه ".
فهذا كلام صريح بأن الإمام مسلماً يورد في صحيحه أحاديث الثقات متأصلاً بها، وأحاديث الضعفاء تابعاً لها، وأنه يرتبها حينئذ، فيذكر حديث الثقة أولاً ثم يذكر حديث الضعيف ثانياً، هذا هو الترتيب الذي بينه الإمام مسلم في المقدمة، وحرره القاضي قبله.
وقال أيضاً في ص: 97 من صيانة صحيح مسلم: "أن يعلو بالشخص الضعيف إسناده، وهو عنده برواية الثقات نازل، فيذكر العالي ولا يطول بإضافة النازل إليه، مكتفياً بمعرفة أهل الشأن بذلك، وهذا العذر قد رويناه عنه تنصيصاً، وهو على خلاف حاله فيما رواه أولاً عن الثقات ثم أتبعه بالمتابعة عمن هو دونهم، وكان ذلك وقع منه على حسب حضور باعث النشاط وغيبته. . .".
أشار ابن الصلاح أثناء كلامه إلى أن عادة الإمام مسلم في صحيحه هي ترتيب الأحاديث حسب القوة والسلامة إذ قال:
" وهو على خلاف حاله فيما رواه أولاً عن الثقات، ثم أتبعه بالمتابعة عمن هو دونهم. . .".
__________
(1) إن كانت الواو في قوله: (والمتروكون) للعطف على قوله (الضعفاء) ففيه نظر لأن الضعفاء غير المتروكين لم يطرح الإمام مسلم أحاديثهم، ولعل الصواب أن الواو للتفسير، والله أعلم .
(2) صيانة حديث مسلم لابن الصلاح ص : 90 .(1/12)
الإمام النووي:
يقول الإمام النووي - رحمه الله - معلقاً على ما قاله القاضي عياض مما سبق نقله بتمامه: " وهذا الذي اختاره ظاهر جداً "، ثم أكده بقوله الرائع:
" ومن حقق نظره في صحيح مسلم - رحمه الله - واطلع على ما أودعه في أسانيده وترتيبه وحسن سياقته وبديع طريقته من نفائس التحقيق وجواهر التدقيق وأنواع الورع والاحتياط والتحري في الرواية وتلخيص طرقه واختصارها وضبط متفرقها وانتشارها وكثرة اطلاعه واتساع روايته وغير ذلك مما فيه من المحاسن والأعجوبات واللطائف الظاهرات والخفيات علم أنه أمام لا يلحقه من بعد عصره، وقل من يساويه، بل يدانيه من أهل وقته ودهره، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم " (1).
فهكذا يقول الإمام النووي قولاً رائعاً وبليغاً واضحاً يعكس فيه واقع صحيح مسلم بصورته الحقيقية، وهو قول أقره العلماء الذين جاؤوا من بعده إذ أن فيهم من نقله، وفيهم من اختصره في كتبهم.
ويضيف الإمام النووي قائلاً:
"ومن ذلك احتياطه في تلخيص الطرق وتحول الأسانيد مع إيجاز العبارة وكمال حسنها، ومن ذلك حسن ترتيبه وترصيفه الأحاديث على نسق يقتضيه تحقيقه وكمال معرفته بمواقع الخطاب ودقائق العلم وأصول القواعد وخفيات علم الأسانيد ومراتب الرواة وغير ذلك " (2).
ولم يكتف النووي - رحمه الله - بتقرير المسألة نظرياً، بل كان واقعياً في بعض المواضع من شرحه، إذ قال النووي في حديث تتبعه الدارقطني:
"وذكر مسلم في الباب اختلاف طرق هذا الحديث، فرواه أولاً من رواية الأكثرين عن الأعمش، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، ثم رواه عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن أبي يحيى مولى آل جعدة، عن أبي هريرة. ولهذه العلة لم يذكر البخاري حديث أبي معاوية، ولا خرجه من طريقه، بل خرجه من طريق آخر، وعلى كل حال فالمتن صحيح لا مطعن فيه" اهـ بتصرف(3)،
وقال أيضاً:
"فهذه الرواية مرسلة والأولى متصلة لأن أولاد سعد تابعون، وإنما ذكر مسلم هذه الرواية المختلفة في وصله وإرساله ليبين اختلاف الرواة في ذلك " (4).
ثم استدرك قائلاً:
"ولا يقدح هذا الخلاف في صحة هذه الرواية ولا في صحة أصل الحديث، لأن أصل الحديث ثابت من طرق من غير جهة حميد من أولاد سعد، وثبت وصله عنهم في بعض الطرق التي ذكرها مسلم، وقد قدمنا في أول هذا الشرح أن الحديث إذا روي متصلاً ومرسلاً فالصحيح الذي عليه المحققون أنه محكوم باتصاله لأنها زيادة ثقة، وقد عرض الدارقطني بتضعيف هذه الرواية، وقد سبق الجواب عن اعتراضه الآن وفي مواضع نحو هذا " (5) .
يعني أن المتن صحيح، وقد أخرجه مسلم أولاً بأسانيد نظيفة خالية عن الاختلاف، قصد اعتماده عليها، ثم أورده من طريق حميد بن عبد الرحمن المعلول، مبيناً الاختلاف الذي وقع بين رواته في الإرسال والوصل.
والأمر واضح جداً أن الإمام النووي صرح بأن الإمام مسلماً أورد هذه الطرق المعلولة في صحيحه ليبين الاختلاف في الوصل والإرسال، ولم يوردها للاعتماد عليها، بل كان قد اعتمد على الحديث الذي ساقه بأسانيد صحيحة في صدر الباب، وإن كان الإمام النووي قد أجاب الدارقطني عن انتقاده لها مستنداً إلى القاعدة المعروفة عند الفقهاء والأصوليين، ألا وهي قبول زيادة الثقة فإنه - رحمه الله - قد أقر بأن الإمام مسلماً قد يذكر الأحاديث المعلولة ليبين علتها.
وقال أيضاً:
" وهذا الذي ذكره الإمام الدارقطني من استدراكه هذا على مسلم فاسد؛ لأن مسلماً - رحمه الله - قد بين اختلاف الرواة في وصله وإرساله، ومذهبه ومذهب الفقهاء والأصوليين ومحققي المحدثين أن الحديث إذا روي متصلاً ومرسلاً حكم بالاتصال، وجب العمل به لأنها زيادة ثقة، وهي مقبولة عند الجماهير فلا يصح استدراك الدارقطني والله أعلم " (6).
قلت: إن قضية قبول الزيادة من الثقة ليست على إطلاقها عند المحدثين، فإنهم يعتمدون على القرائن، ويقبلون ما دلت عليه القرائن.
يقول الحافظ ابن رجب في شرح العلل ص: 246 - 247:
"وليس ذلك - يعني قبول زيادة الثقة - قول مسلم ولا قول أئمة الحفاظ".
ويقول الحافظ ابن حجر في الفتح 12/312:
"والتحقيق أن الشيخين ليس لهما في تقديم الوصل عمل مطرد بل هو دائر مع القرائن مهما ترجح بها اعتمداه".
ومن تتبع كتاب التمييز للإمام مسلم يفهم ذلك بوضوح.
وقال الإمام النووي أيضاً في باب مواقيت الحج 8/81:
"ذكر مسلم في الباب ثلاثة أحاديث، حديث ابن عباس أكملها لأنه صرح فيه بنقله المواقيت الأربعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلهذا ذكره مسلم في أول الباب، ثم حديث ابن عمر لأنه لم يحفظ ميقات أهل اليمن، بل بلغه بلاغاً، ثم حديث جابر لأن أبا الزبير قال: "أحسب جابراً رفعه"، وهذا لا يقتضي ثبوته مرفوعاً".
انظر كيف يحقق الإمام النووي قضية الترتيب في صحيح مسلم من خلال تحليله صنيع الإمام مسلم في تلك الأحاديث، فبذلك ظهر لنا جلياً أن الإمام النووي أيضاً يقر بأن مسلماً يشرح العلة في مواضعها من الصحيح، وأنه يرتب الأحاديث حسب القوة والسلامة وحسب الخصائص الإسنادية والحديثية، كما أقر بها القاضي عياض، وابن الصلاح سابقاً، رحمهم الله جميعاً.
__________
(1) شرح مسلم للنووي 1/23 .
(2) شرح مسلم 1/23 .
(3) المصدر نفسه 14/26 .
(4) المصدر نفسه 11/81 .
(5) شرح مسلم للنووي 11/81 .
(6) المصدر نفسه 10/43 .(1/13)
الحافظ العراقي:
يقول الحافظ العراقي - رحمه الله - في شرحه على ألفيته 1/72:
"وفيه - أي صحيح مسلم - مواضع يسيرة رواها بإسناده المتصل ثم قال: رواه فلان، وهذا ليس من باب التعليق، وإنما أراد ذكر من تابع رواية الذي أسنده من طريقه عليه، أو أراد بيان الخلاف في السند كما يفعل أهل الحديث، ويدل على أنه ليس مقصوده بهذا إدخاله في كتابه أنه يقع في بعض أسانيد ذلك من ليس هو شرط مسلم كعبد الرحمن بن خالد بن مسافر".
فبهذا أصبح الحافظ العراقي يقر بأن مسلماً يبين الخلاف في السند، بعد الاحتجاج بالحديث الصحيح، وليس ذلك إلا على سبيل الاستطراد، وفي نفس الوقت لم يكن ذلك غريباً من الإمام مسلم، بل يفعل ذلك أهل الحديث أيضاً.
ابن رشيد الفهري:
يقول ابن رشيد الفهري - رحمه الله - في كتابه (السنن الأبين)، ص: 87:
"وأما أنت فظهر من فعلك في كتابك أنك لم يصفُ عندك كدر الإشكال في هذا الحديث، فأوردت في كتابك حديث مالك مصدراً بها بناءً على اعتقادك فيه الاتصال وفي غيره الانقطاع، فقلتَ: حدثنا يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عمرة، عن عائشة قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف يدني إليَّ رأسه فأُرجِّله. . .، ثم أتبعته باختلاف الرواة فيه على شرطك من أنك لا تكرر إلا لزيادة معنى أو إسناد يقع إلى جنب إسناد لعلة تكون هناك، فقلت حدثنا قتيبة بن سعيد قال: حدثنا ليث - ح - وحدثنا محمد بن رمح قال: أخبرنا الليث عن ابن شهاب، عن عروة وعمرة ابنة عبد الرحمن أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم. . ." الحديث.
فابن رشيد الفهري فهم من منهج مسلم الذي أعلنه في المقدمة أن الإمام مسلماً إنما قدم حديث مالك، عن الزهري وصدر به الباب لكونه سليماً لا إشكال فيه، ثم أتبعه بحديث الليث عن الزهري لأنه لم يسلم من الانقطاع في رأيه، ولم يصف عنده كدر الإشكال فيه.
وهذا هو الترتيب العلمي الذي فهم منه ابن رشيد أن حديث مالك أصح وأسلم من حديث الليث، ويلاحظ أن هذا ترتيب أحاديث أهل الاستقامة والإتقان فيما بينهم.(1/14)
الحافظ ابن حجر:
ويقول الحافظ - رحمه الله - في هدي الساري ص: 13: ". . . فهذا محمول على حسن الوضع وجودة الترتيب". يوجه به الحافظ رأي مسلم بن القاسم القرطبي في تفضيل صحيح مسلم على صحيح البخاري.
يعني: يتميز صحيح مسلم بجودة الترتيب وحسن الوضع عن سائر الكتب الحديثية، ولذا فضله القرطبي على صحيح البخاري.
وهذا الترتيب لن يكون إلا ترتيب الأحاديث بتقديم الأصح فالأصح لأن الترتيب الفقهي لم ينفرد به الإمام مسلم، بل يشاركه فيه البخاري وأصحاب السنن وغيرهم، بل اتفق الجميع على أن الإمام البخاري قد فاق الأئمة في الصناعة الفقهية، ولذا فإنه لم يكن قصده بالترتيب الذي ميز كتاب مسلم سوى الترتيب العلمي الذي يكون بتقديم الأصح فالأصح.
ويقول الحافظ في تلخيص الحبير 3/31:
"وقد بينت في المدرج أن هذه الجملة "أرأيت إذا منع الله الثمر فبم يستحل أحدكم مال أخيه"؟ موقوفة من قول أنس، وأن رفعها وهم وبيانها عند مسلم".
ولتوضيح المسألة أقول:
قال مسلم في كتاب المساقاة باب وضع الجوارح 10/216 (شرح النووي) - بعد أن صدر الباب بحديث جابر -:
"حدثنا يحيى بن أيوب وقتيبة وعلي بن حجر قالوا: حدثنا إسماعيل بن جعفر، عن حميد، عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع ثَمَر النخل حتى تَزْهو.
فقلنا لأنس: "ما زَهْوُها"؟ قال: "تَحْمَرُّ وتَصْفَرُّ، أرأيتك إن منع الله الثمرة بم تستحل مال أخيك؟".
"حدثني أبو الطاهر أخبرنا ابن وهب أخبرني مالك، عن حميد الطويل، عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمرة حتى تُزْهي، قالوا: وما تزهي؟ قال: تَحْمَرُّ، فقال: "إذا منع الله الثمرة فبم تستحل مال أخيك؟".
"حدثني محمد بن عباد حدثنا عبد العزيز بن محمد، عن حميد، عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن لم يُثْمرها الله فبم يستحل أحدكم مال أخيه".
نرى الإمام مسلماً هنا يشرح العلة في حديث أنس ويوضح من خلال رواية حديث أنس من طرقه المختلفة أن الصواب في الجملة الأخيرة "إن لم يثمرها الله فبم يستحل أحدكم مال أخيه" هو وقفها على أنس، وأما رفعها إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما عمل محمد بن عباد فوهم، وهذا ظاهر وجلي من خلال مقارنة بين هذه الروايات التي أوردها مسلم هنا.
وهذا الذي رأينا هنا هو قصد الحافظ ابن حجر بقوله: "وبيان الوهم في رفعها عند مسلم".
ولما تتبع الدارقطني هذا الحديث لم يعمل إلا أن أوضح علته التي شرحها مسلم هنا كما بين علته كل من أبي زرعة وأبي حاتم (1).
فاتضح به اعتقاد الحافظ بأن مسلماً يشرح في صحيحه العلل على هذا النحو الذي لمسناه آنفاً، علماً أن الإمام مسلماً صدر الباب بحديث جابر ثم أتبعه بحديث أنس وذكر فيه الروايات المختلفة وقفاً ورفعاً.
ولما أعلن القاضي عياض في شرحه لصحيح مسلم في مناسبة حديث تتبعه الإمام الدارقطني:
"بأنه من الأحاديث المعللة التي ذكرها مسلم في خطبة كتابه أنه يوردها ويبين علتها".
لم يصدر عن الحافظ ابن حجر أي اعتراض حول موقفه هذا، بل أقره، مما يؤكد على أن القاضي قد أصاب في رأيه، في الوقت الذي اعترض الحافظ على القاضي في موافقته مع الدارقطني في كون الحديث معلولاً، إذ قال الحافظ معلقاً عليه:
"كذا قال".
يعني كذا قال القاضي، لأن الحديث ليس معلولاً، حيث إن أبا معاوية جمع بين الوجهين، وأبو معاوية أحفظ الناس في حديث الأعمش.
وهذا الذي قاله الحافظ وجيه، إلا إذا لم يكن هناك سبب لترجيح رواية الجماعة. والله أعلم.
وعلى كل فالذي يعنينا هنا هو أن الحافظ ابن حجر - رحمه الله - أيضاً ممن يقتنع بأن مسلماً له منهج خاص في ترتيب الأحاديث في صحيحه، كما أنه يبين العلل في بعض المواضع من الصحيح تبعاً لا أصالة.
__________
(1) التتبع ص : 361 وعلل أبي حاتم 1/378 .(1/15)
أبو مسعود الدمشقي:
يقول أبو مسعود الدمشقي - أحد نقاد الحديث الذين تتبعوا أحاديث كتاب الصحيح كالإمام الدارقطني - (1):
"وإنما أراد مسلم بإخراج حديث التيمي تبيين الخلاف في الحديث على قتادة، لا أنه يثبته، ولا ينقطع بقوله عن الجماعة الذين خالفوا التيمي، قدم حديثهم ثم أتبعه بهذا". وتوضيح ذلك كما يلي،
قال الإمام مسلم - رحمه الله - (2):
" حدثنا سعيد بن منصور وقتيبة بن سعيد وأبو كامل الجَحْدَري ومحمد بن عبد الملك الأموي ، واللفظ لأبي كامل ، قالوا : حدثنا أبو عوانة، عن قتادة، عن يونس بن جبير، عن حِطَّان بن عبد الله الرَّقاشي. . . " - ذكر الحديث عن أبي موسى الأشعري -.
" حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو أسامة حدثنا سعيد بن أبي عروبة - ح - وحدثنا إسحاق بن إبراهيم أخبرنا جرير، عن سليمان التيمي كل هؤلاء عن قتادة في هذا الإسناد بمثله".
" وفي حديث جرير عن سليمان، عن قتادة من الزيادة:
" وإذا قرأ فأنصتوا ".
وليس في حديث أحد منهم:
" فإن الله قال على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم: سمع الله لمن حمده" إلا في رواية أبي كامل وحده عن أبي عوانة ".
" قال أبو إسحاق:
" قال أبو بكر ابن أخت أبي النضر: في هذا الحديث،
فقال مسلم: " تريد أحفظ من سليمان ".
" فقال له أبو بكر: "فحديث أبي هريرة"؟".
"فقال: "هو صحيح". - يعني "وإذا قرأ فأنصتوا" -.
فقال: هو عندي صحيح".
فقال: "لِمَ لم تضعه ههنا؟".
قال: "ليس كل شيء عندي صحيح وضعته ههنا إنما وضعت ههنا ما أجمعوا عليه"".
"حدثنا إسحاق بن إبراهيم وابن أبي عمر عن عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة بهذا الإسناد. وقال في الحديث: "فإن الله عز وجل قضى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم سمع الله لمن حمده" اهـ.
أقول وبالله التوفيق-: هنا أمر يدعو إلى التأمل لنستبين مغزى قول أبي مسعود الدمشقي ومدى صوابه- حكى أبو إسحاق ما جرى بين الإمام مسلم وبين تلميذه أبي بكر ابن أخت أبي النضر من حوار قصير حول كلمة:" وإذا قرأ فأنصتوا " التي زادها سليمان التيمي في حديثه عن قتادة، وتفرد بها دون الآخرين من الثقات، وحول حديث أبي هريرة في نفس الموضوع.
لقد فسر الإمام النووي- رحمه الله - هذا الحوار وقال:
" قال أبو بكر في هذا الحديث، يعني طعن فيه وقدح في صحته، فقال له مسلم: أتريد أحفظ من سليمان؟ يعني أن سليمان كامل الحفظ والضبط فلا تضر مخالفة غيره، وقوله: فقال أبو بكر: فحديث أبي هريرة؟ قال: هو صحيح، يعني "وإذا قرأ فأنصتوا" قال أبو بكر: لم لم تضعه ههنا في صحيحك؟ فقال مسلم: ليس هذا مجمعاً على صحته، ولكن هو صحيح عندي، وليس كل صحيح عندي وضعته في هذا الكتاب، إنما وضعته فيه ما أجمعوا عليه".
"ويقال: قد وضع أحاديث كثيرة غير مجمع عليها؟ وجوابه: أنها عند مسلم بصفة المجمع عليه ولا يلزم تقليد غيره في ذلك وقد ذكرنا في مقدمة هذا الشرح هذا السؤال وجوابه. . ." اهـ.
هكذا فسره الإمام النووي - رحمه الله - وخلاصته: أن الإمام مسلماً يريد أن يصحح ما زاده سليمان التيمي، وأنه لا يرى في مخالفته جماعة من الثقات في ذلك شيئاً يعكر صفاء صحته؛ لأن سليمان التيمي كامل الحفظ والضبط.
وبهذا التفسير يصبح الإمام مسلم مخالفاً لمعظم نقاد الحديث مثل يحيى بن معين وأبي حاتم وأبي داود والدارقطني وغيرهم حيث اتفقوا على أن هذه الزيادة التي تفرد بها سليمان التيمي غير محفوظة عن قتادة وأنها غير صحيحة.
وفي الواقع أن صنيع الإمام مسلم هنا في رواية حديث سليمان التيمي وتنبيهه إلى ما زاده سليمان فيه مخالفاً لكبار الثقات من أصحاب قتادة يوحيان بأنه - رحمه الله - لا يرى صحة تلك الزيادة بل يريد فقط بيان الخلاف بين سليمان وبين غيره من الثقات ، وسنذكر لكم أموراً تؤكد لنا ذلك.
أولاً: أن الإمام مسلماً ليس ممن يقبل زيادة الثقة مطلقاً، كما زعم الإمام النووي، وذلك واضح وجلي من خلال نصوصه وتعامله مع زيادات الثقة في كتابه (التمييز).
فقد قال الإمام مسلم في كتابه التمييز ص: (124 - 126):
" فاعلم - أرشدك الله - إن الذي يدور به معرفة الخطأ في رواية ناقل الحديث، إذا هم اختلفوا فيه، من جهتين:
أحدهما: أن ينقل الناقل (حديثاً) بإسناد فينسب رجلاً مشهوراً بنسب في إسناد خبره خلاف نسبته التي هي نسبته، أو يسميه باسم سوى اسمه، فيكون خطأ ذلك غير خفي على أهل العلم حين يرد عليهم. . .".
أورد فيه أمثلة لأوهام كبار الثقات، ثم قال:
" فهذه الجهة التي وصفنا من خطأ الإسناد ومتن الحديث هي أظهر الجهتين خطأ، وعارفوه في الناس أكثر".
" والجهة الأخرى أن يروي نفر من حفاظ الناس حديثاً عن مثل الزهري أو غيره من الأئمة بإسناد واحد ومتن واحد مجتمعون على روايته في الإسناد والمتن، لا يختلفون فيه في معنى، فيرويه آخر سواهم عمن حدث عنه النفر الذين وصفناهم بعينه، فيخالفهم في الإسناد أو يقلب المتن فيجعله بخلاف ما حكى مَنْ وصفنا من الحفاظ، دون الواحد المنفرد، وإن كان حافظاً، على هذا المذهب رأينا أهل العلم بالحديث يحكمون في الحديث، مثل شعبة وسفيان بن عيينة ويحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي وغيرهم من أئمة أهل العلم".
"وسنذكر من مذاهبهم وأقوالهم في حفظ الحفاظ وخطأ المحدثين في الروايات ما يستدل به على تحقيق ما فسرت لك - إن شاء الله -".
ويشمل قول الإمام مسلم جميع صور المخالفة بين واحد وجماعة، لا سيما الزيادة والنقص، يزيدها راوٍ دون الثقات، لأنها أوضح صور الاختلاف بين رواة الحديث وأكثرها وقوعاً وقد مثل بذلك الإمام الشافعي لبيان المخالفة، ومن زاد كلمة في الحديث يصبح مخالفاً لمن أسقطها منه ، يقول الحافظ بن حجر:
"واشتهر عن جمع من العلماء القول بقبول الزيادة مطلقاً من غير تفصيل، ولا يتأتى ذلك على طريق المحدثين الذين يشترطون في الصحيح والحسن أن لا يكون شاذاً ثم يفسرون الشذوذ بمخالفة الثقة من هو أوثق منه ، والمنقول عن أئمة المحدثين المتقدمين- كابن مهدي ويحيى القطان وأحمد وابن معين وابن المديني والبخاري وأبي زرعة وأبي حاتم والنسائي والدارقطني وغيرهم - اعتبار الترجيح فيما يتعلق بالزيادة وغيرها ولا يعرف عن أحد منهم إطلاق قبول الزيادة ، وأعجب من ذلك إطلاق كثير من الشافعية القول بقبول زيادة الثقة مع أن نص الشافعي يدل على غير ذلك . اهـ (3).
ومن خلال هذا القول علمنا أن زيادة الثقة قد تكون صورة من صور المخالفة التي هي مناط الحديث المعلول، والتي يتعين فيها اعتبار الترجيح على مذهب أئمة الحديث، كما لاحظنا في ختام النص أن كثيراً من الشافعية يطلقون القول بقبول زيادة الثقة، وفيه تلميح إلى موقف الإمام النووي، وقولهم هذا لا ينسجم مع رأي الإمام الشافعي في هذه المسألة.
ولقد رأينا الإمام مسلماً يصرح بمذهبه في مثل هذه المخالفة التي تكون بين الرواة زيادة ونقصاً أو قلباً لسياق المتن أو غير ذلك من وجوه الخلاف هو أن يرفض الحديث الذي خالف فيه راويه - وإن كان حافظاً - جماعة من الثقات، معلناً بأن ذلك هو مذهب نقاد الحديث.
والذي يجب أن أذكر القارىء به في هذه المناسبة أن المعنى الذي يتعين استخلاصه من هذه النصوص التي قرأناها للإمام مسلم آنفاً وفي ضوء تعامله وغيره من أئمة النقد مع الزيادات أن سبب الرد يقتنع بأن ذلك هو الواقع الحديثي إلا حفاظ الحديث ونقاده، حيث إنهم يعلمون ذلك الواقع برواية أوثق الناس به أو بشهرته لدى جماعة من الثقات أو برواية ثقة أو غير ذلك من المرجحات التي تحف بالحديث، ولا ينبغي أن تكون طبيعة الحكم في مثل هذه المسائل ما يشبه (العملية الحسابية)، مثلاً إذا خالف الثقة لثقتين أو ثلاثة أو أكثر فحديثه مردود دائماً، بل يجب فيها اعتبار أسباب الترجيح التي لا تكون مطردة، بل تختلف من حديث لآخر.
وإذا تتبعت كتاب (التمييز) للإمام مسلم وجدت فيه أمثلة كثيرة يطبق فيها الإمام مسلم ما أعلن عنه آنفاً، وأنواعاً كثيرة من زيادة الثقات التي كان يردها تبعاً للقرائن التي تدل على خطئها، سواء أكانت الزيادة في الإسناد أم في المتن، ومن أظهر أمثلة الزيادات التي ردها الإمام مسلم ما زاده الإمام مالك مخالفاً لغيره من أصحاب هشام، حين قال الإمام مالك:
"عن هشام، عن أبيه، عن عبد الله بن عامر"،
وقال الآخرون من أصحاب هشام:
"عن هشام أخبرني عبد الله بن عامر بن ربيعة"،
وأسقطوا فيه "عن أبيه"،
فرد الإمام مسلم زيادة إمام مشهور من أئمة الحديث قائلاً:
"فهؤلاء عدة من أصحاب هشام كلهم قد أجمعوا في هذا الإسناد على خلاف مالك والصواب ما قالوا دون مالك " (4).
ومنها أيضاً ما زاده سعيد بن عبيد - أحد الثقات - في حديث القسامة، ورده الإمام مسلم قائلاً:
"وليس في شيء من أخبارهم أن النبي صلى الله عليه وسلم سألهم البينة إلا ما ذكر سعيد بن عبيد في خبره، وترك سعيد القسامة في الخبر فلم يذكره، وتواطؤ هذه الأخبار التي ذكرناها بخلاف رواية سعيد يقضي على سعيد بالغلط والوهم في خبر القسامة " (5).
والإمام مسلم لا يختلف عن النقاد في مسألة زيادة الثقة، ومذهبهم فيه واحد، وهو أن يتوقف القبول والرد على دلالة القرائن التي تحف بالحديث، أما قبولها مطلقاً أو ردها مطلقاً فليس من مذهبهم بشيء.
ولهذا قال الحافظ ابن رجب الحنبلي :
"وليس ذلك - يعني قبول زيادة الثقة - قول مسلم ولا قول أئمة الحافظ".
وقال الحافظ ابن حجر(6):
"والتحقيق أن الشيخين ليس لهما في تقديم الوصل عمل مطرد بل هو دائر مع القرائن مهما ترجح بها اعتمداه".
قال الحافظ ابن حجر (7):"والذي يجري على قواعد المحدثين أنهم لا يحكمون عليه - أي ما زاده الثقة - بحكم مستقل من القبول والرد بل يرجحون بالقرائن".
وبهذا نستطيع الجزم بأن الإمام مسلماً لا يقبل زيادة الثقة مطلقاً.
ثانياً: أن هذه الكلمة التي زادها سليمان التيمي قد أوردها مسلم في صحيحه على الشكل الذي يوحي بعدم صحتها، لأنها ذُكِرت لبيان وجه الخلاف بين سليمان التيمي وغيره من الثقات، ولم تُذكر على سبيل الاعتماد عليها.
ويؤيده أن الإمام مسلماً لم يضع كلمة "وإذا قرأ فأنصتوا" التي زادها سليمان التيمي في حديثه عن قتادة في باب (النهي عن القراءة خلف الإمام) ولا حديثاً آخر في معناه، حتى لا يبرر تركه لحديث سليمان بأنه لم يلتزم باستيعاب الأحاديث الصحيحة في كل موضوع من الموضوعات.
ولو كان مسلم يرى صحة ما زاده سليمان التيمي لأعاده في بابه، بل إنه أفاد بصنيعه وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة مطلقاً، وترك الجهر بقراءة السور خلف الإمام وذلك في أبواب القراءة في الصلاة قبل حديث سليمان بأبواب.
__________
(1) نقله فضيلة الشيخ مقبل بن هادي في تحقيقه لكتاب التتبع ص : 213.
(2) كتاب الصلاة ، باب التشهد في الصلاة ، مع شرح النووي 4/119 .
(3) النكت 2/692 ،والنخبة ص : 13 .
(4) كتاب التمييز ص : 172-173 .
(5) المصدر السابق ص: 146، راجع شرح السنة للإمام البغوي 10/ 219، وفتح الباري للحافظ ابن حجر 12/234، 236.
(6) الفتح 12/312 .
(7) النكت 2/687 .(1/16)
وكذلك لما أورد الإمام مسلم حديث ابن عباس في تفسير الآية "لا تحرك به لسانك" من كتاب الصلاة بعدة أبواب، والذي عنون له الإمام النووي بـ(باب الاستماع للقراءة) لم يُعِد – رحمه الله – كلمة "وإذا قرأ فأنصتوا" من حديث سليمان التيمي، إما بتقطيع الحديث أو بكامله، ولو رأى صحتها لأعادها، فقد وعد بإعادة الحديث الذي يتضمن أكثر من موضوع في أبواب تحتاج إليه إما بتقطيعه إن أمكن، أو بكامله. والمعنى الزائد المحتاج إليه يقوم مقام حديث تام حسب رأيه.
أما الباب الذي أورد الإمام مسلم فيه حديث سليمان التيمي فهو موضوع التشهد في الصلاة، ولا صلة له بما زاد سليمان التيمي "وإذا قرأ فأنصتوا" فاتضح الأمر جلياً أن مسلماً لم يكن يريد الاحتجاج به إذ ذكره في موضوع التشهد، وإنما كان غرضه من ذكره هو البيان بأن سليمان التيمي قد تفرد بزيادته مخالفاً لكبار الثقات من أصحاب قتادة.
ثالثاً: لو كانت هذه الكلمة التي زادها سليمان التيمي صحيحة عند الإمام لأورد ما يزيل الإشكال الذي نبهه بقوله - رحمه الله -: "وفي حديث جرير عن سليمان، عن قتادة من الزيادة: "وإذا قرأ فأنصتوا"" من مخالفة سليمان لغيره من الثقات وتفرده بها عن قتادة، في الوقت الذي أزال فيه الإشكال الذي أثاره حول زيادة أبي عوانة: "فإن الله قال على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم: سمع الله لمن حمده"، حين قال الإمام مسلم:
"حدثنا إسحاق بن إبراهيم وابن أبي عمر، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة بهذا الإسناد وقال في الحديث: "فإن الله عز وجل قضى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم سمع الله لمن حمده".
مما يعلم به أن زيادة أبي عوانة لها أصل صحيح عن قتادة وأين هذا بالنسبة لزيادة سليمان؟
وهذه أمور مهمة تعطينا صورة صحيحة عن موقف الإمام مسلم من زيادة سليمان التيمي التي أوردها عرضاً.
ونعود بعد هذا الاستدراك إلى تفسير الإمام النووي ونتساءل: لماذا فسره الإمام النووي على ذلك الوجه الذي يجعل الإمام مسلماً يصحح تلك الزيادة ويتجه نحو قبول زيادة الثقة مطلقاً؟ وهل يدل السياق على ذلك؟
يبدو أن الإمام النووي مال إلى هذا التفسير لدافع مذهبي، حيث كان ينتصر لقبول زيادة الثقة ويجعل الإمام مسلماً من ضمن القائلين به، ولذا قام بتأويل ذلك الحوار على الشكل الذي يجعل نصوصه فيما يخص زيادة الثقة منسجمة لهذا المذهب.
وإن كان الإمام النووي قد فهم من صنيع الإمام مسلم وطبيعة حواره مع أبي بكر ابن أخت أبي النضر أن زيادة سليمان التيمي صحيحة عنده وأنه أراد الدفاع عن صحتها وثبوتها من خلال إجابته على سؤال أبي بكر فإن الإمام أبا مسعود الدمشقي أحد نقاد الحديث الذين تتبعوا أحاديث الصحيحين يرى عكس ذلك، حيث يقول: "لم يرد مسلم بذكر زيادة سليمان التيمي هنا تصحيحها ولا تثبيتها وإنما أراد بيان الخلاف".
ونحن عندما نمعن النظر في قول مسلم ومناسبة حواره مع أبي بكر حول حديث سليمان وحديث أبي هريرة ونقارن بين رأي الإمام النووي ورأي الإمام الدمشقي وعرض كل منهما على الواقع الملموس هنا نجد أنفسنا تميل إلى موقف الإمام الدمشقي ونطمئن بصواب قوله، وذلك لأمور آتية:
أولاً: إن النتيجة التي تمخض عنها تفسير الإمام النووي تخالف مذهب الإمام مسلم في قبول زيادة الثقة.
ثانياً: يلزم من تفسير النووي تناقض بين تصرف مسلم في صحيحه وبين تصريحه في آخر الحوار، وذلك أن الإمام مسلماً أورد زيادة سليمان التيمي في صحيحه على سبيل الاحتجاج – حسب موقف النووي – مع كونها محل خلاف بين الرواة بل تفرد بها سليمان مخالفاً للثقات لا سيما سعيد بن أبي عروبة وهشام الدستوائي وأبا عوانة، ومعلوم أن هؤلاء من أثبت أصحاب قتادة وأحفظهم وأتقنهم، وفي نفس الوقت يعلن منهجه في الصحيح بالحرف الواحد أنه لا يذكر في صحيحه إلا ما أجمعوا عليه من الأحاديث، وعلى هذا الأساس ترك الإمام مسلم حديث أبي هريرة الذي اختلف عليه الرواة، وهذا كما ترى تناقض واضح بين منهجه وتطبيقه.
وأما ما ذكره الإمام النووي – "ويقال: قد وضع أحاديث كثيرة غير مجمع عليها؟ وجوابه: أنها عند مسلم بصفة المجمع عليه ولا يلزم تقليد غيره في ذلك. . ." – فلا ينطبق هنا في هذه الزيادة، فإن الإمام مسلماً قد صرح بأن هذه الزيادة قد خالف فيها جماعة كبيرة من الثقات مع سليمان، ولا يصلح هنا القول إنها عند مسلم بصفة المجمع عليه.
ثالثاً: يمكن لنا أن نفسر هذا الحوار على وجه صحيح ينسجم مع مذهبه في مسألة زيادة الثقة ومنهجه في الصحيح، ونقول:
قال أبو بكر: " في هذا الحديث " ؟ يظهر معناه من المناسبة العلمية التي ترك الإمام مسلم تلميذه أبا بكر فيها، وهي مناسبة بيان الإشكال فيما زاده سليمان التيمي وتفرد به مخالفاً لجماعة من الثقات، ومنهم سعيد بن أبي عروبة وهشام الدستوائي، وهما من أحفظهم وأثبتهم لأحاديث قتادة، وهذا البيان يثير تساؤلاً عن مدى تأثير هذه المخالفة في صحة هذا الحديث "وإذا قرأ فأنصتوا"، ثم إن أبا بكر لم يجد الإمام مسلماً بعد ذلك يتطرق لما يزيل ذلك الإشكال، مثل ما عمل فيما يخص زيادة أبي عوانة، حيث ذكر رواية أخرى في آخر الباب مما يزيل اللبس المترتب عن تفرده.
هذه المناسبة العلمية هي التي جعلت أبا بكر يريد أن يستفسر عن حقيقة الأمر في هذه الزيادة، حتى يقتنع بضعفها المبين من طرف الإمام مسلم فقال مخاطباً للإمام مسلم: في هذا الحديث؟ يعني ما الأمر إذاً في هذا الحديث؟ وهل تضر هذه المخالفة التي بينتها في صحته؟
فأجاب الإمام مسلم وقال: "تريد أحفظ من سلمان". يعني عليك أن تبحث أحفظ من سليمان، فإنه ليس من أتقن الناس ولا أحفظهم خاصة في حديث قتادة، بل هو مضطرب في حديثه عنه، فكيف يصح الاعتماد على مثله في الوقت الذي يخالفه كبار الثقات من أصحاب قتادة؟
وبعد أن تأكد بضعف زيادة سليمان استفسر أبو بكر عن حديث أبي هريرة الوارد في هذا الموضوع، فقال له أبو بكر: فحديث أبي هريرة؟ فقال: هو صحيح، ولم يقل الإمام مسلم: هو صحيح أيضاً، وعلى تأويل الإمام النووي كان المفروض أن يقول: هو صحيح أيضاً.
ثم سأله لِمَ لم تضعه ههنا – إن كان صحيحاً –؟ قال: ليس كل شيء عندي صحيح وضعته ههنا إنما وضعت ههنا ما أجمعوا عليه. ويعلم أبو بكر أن الإمام مسلماً لم يستوعب في صحيحه جميع الأحاديث الصحيحة ومع ذلك سأله عن عدم ذكر حديث أبي هريرة، لأنه وجد الكتاب قد خلى عن الحديث في هذا الباب، وهذه الزيادة التي نحن بصددها لم يذكرها مسلم على سبيل الاحتجاج، ولهذا لم يعدها مرة أخرى على الرغم من وجود مناسبات تدعو إلى إعادتها، حيث إنه وعد بإعادة الحديث كلما دعته المناسبة إلى ذلكن ومن هنا جاء سؤاله: لم لم تضع حديث أبي هريرة ههنا؟
وعلى هذا أصبح الإمام مسلم موافقاً لنقاد الحديث في عدم تصحيح ما زاده سليمان التيمي، وصارت نصوصه التي وردت هنا موافقة لمذهبه في مسألة زيادة الثقة، وكما سلمت من التناقض الذي يظهر من تفسير الإمام النووي.
وفي ضوء ذلك فإننا نجد الإمام أبا مسعود الدمشقي مصيباً في فهمه من صنيع الإمام مسلم في زيادة سليمان التيمي، وأصبح قوله صحيحاً ومقبولاً، وعليه فإن الذين يردون ما قاله الإمام أبو مسعود الدمشقي لم يحللوا نصه في ضوء الواقع الملموس في نصوص الإمام مسلم وسياقها، وإنما قلدوا الإمام النووي في رأيه الذي وقفنا عليه أثناء تفسيره للحوار.
ومنهم فضيلة الشيخ الدكتور/ مقبل بن هادي، يقول:
"قول أبي مسعود الدمشقي: "إن مسلماً لم يثبته" يرده قول مسلم لأبي بكر عند أن راجعه من أجل هذا الحديث "تريد أحفظ من سليمان؟" وعذر مسلم – رحمه الله – أنه في المتابعات، إلا هذه الزيادة فإن الأمر كما يقول الحافظ فيها. . .(1) ".
قلت: إذا كان حديث سليمان التيمي عن قتادة موافقاً لما رواه عنه الثقات فإنه لا يدعو إلى الاعتذار عن الإمام مسلم بأنه في المتابعات، بل إنه في الأصول، وأما الزيادة التي زادها سليمان التيمي فهي التي تحتاج إلى الاعتذار عن الإمام مسلم إن كان يصححها، نظراً لآراء النقاد المتفقة على عدم صحتها. ثم إن اعتراض فضيلة الشيخ على أبي مسعود مستمد من تفسير الإمام النووي.
ومنهم الأستاذ المؤلف الذي نحن بصدد تفنيد شبهاته حول منهج الإمام مسلم لم يترك هذا الموضوع من صحيح مسلم دون أن يعلق عليه، فقال:
"فلما عارضه أبو بكر ابن أخت أبي النضر في إحدى الزيادتين، وهي"وإذا قرأ فأنصتوا"، وطعن فيها بأن سليمان التيمي قد انفرد بها عن كل أصحاب قتادة أجابه بقوله: "تريد أحفظ من سليمان" أي أن سليمان ثقة حافظ فتفرده لا يضر وعدم ذكر أصحاب قتادة لها لا يقدح فيها ولأنه مثبت، وهم غير نافين لها فلا شك في صحتها عنده وعلى مذهبه، ولم يعبأ بمخالفة غيره وطعنه فيها لا سيما وقد وافقه أئمة في تصحيحها كأحمد بن حنبل – رحمه الله – ثم إنه قد أشار في مقدمته إلى قبول الزيادة بقوله: "لأن المعنى الزائد في الحديث المحتاج إليه يقوم مقام حديث تام".
"فهذه الزيادة في حديث أبي موسى هنا قائمة في نظره مقام حديث تام كأن سليمان التيمي استقل به فلا يضره سكوت غيره عنه، ثم سأله أبو بكر ليلزمه ويقيم عليه الحجة فقال: فحديث أبي هريرة فقال مسلم: هو عندي صحيح، فقال أبو بكر: لم لم تضعه ههنا؟ قال مسلم مبيناً منهجه وشرطه فيما يرويه في هذا الكتاب العظيم: ليس كل شيء عندي صحيح وضعته ههنا، إنما وضعت ههنا ما أجمعوا عليه. . ." إلى آخر كلامه.
"ثم قال: ثم لو كان مسلم التزم بيان العلل القادحة وشرحها لقال لأبي بكر: إني ما أوردت رواية سليمان التيمي إلا لبيان العلة القادحة فيه، ولو كان شرحه لها يتمثل في ترتيب الأحاديث ويقدم ما حقه أن يؤخر ويؤخر ما حقه أن يقدم لقال: يا أبا بكر ألا تراني أخرت رواية سليمان التيمي فإني ما أخرتها إلا لبيان علتها".
قلت: إن قوله:
"فلما عارضه أبو بكر ابن أخت أبي النضر في إحدى الزيادتين، - وهي: "وإذا قرأ فأنصتوا" – وطعن فيها بأن سليمان التيمي قد انفرد بها عن كل أصحاب قتادة".
يبدو من هذا القول أن أبا بكر هو الذي كان يُذكِّر الإمام مسلماً بأن سليمان التيمي قد انفرد بتلك الزيادة وأنه قد خالف فيها بقية الثقات! وكأن الإمام مسلماً لم يتطرق لذلك! وفي الواقع أن الإمام مسلماً هو الذي أوضح هذه الحقيقة التي تكمن في رواية سليمان وزيادته وهي مخالفته لكبار الثقات.
والذي أدهشني هو: كيف يفهم الأستاذ هذا كله من قول أبي إسحاق: "قال أبو بكر في هذا الحديث"؟ وهذا كما ترى كلمة موجزة لا تحمل شيئاً مما ذكره، ولا يفهم ذلك من قول الإمام مسلم مع أنه صريح في ذلك.
ثم إن قبول زيادة الثقة وعدمه عند الإمام مسلم وغيره من النقاد إنما هو بحسب وجود القرائن، لا على الإطلاق، كما حررنا ذلك من قبل أكثر من مرة.
أما الذي فهمه الأستاذ من قول الإمام مسلم – رحمه الله تعالى – "المعنى الزائد في الحديث المحتاج إليه يقوم مقام حديث تام" من أن زيادة الثقة مقبولة عنده، وأنها تقوم مقام حديث تام، فليس بصحيح، وإنما المعنى:
أن الحديث الصحيح إذا تضمن أكثر من موضوع فتقطيعه حسب تلك الموضوعات أمر جائز لأن كل موضوع من موضوعاته يقوم مقام حديث تام.
__________
(1) هامش كتاب ( الإلزامات التتبع ) للدارقطني ص : 171 .(1/17)
وفي الواقع ليس في هذا الحوار معارضة ولا طعن ولا إلزام ولا إقامة حجة كما يزعم الأستاذ، وإنما هو استفسار تلميذ عما بينه شيخه الإمام مسلم من تفرد سليمان بزيادته التي زادها مخالفاً فيها لكبار الثقات من أصحاب قتادة.
ومن الذي قال: إن أبا بكر طعن في الحديث؟ حتى يقال: "ثم لو كان مسلم التزم بيان العلل القادحة وشرحها لقال لأبي بكر إني ما أوردت رواية سليمان التيمي إلا لبيان العلة القادحة فيه" وهذا كله خيال لا يعتمد عليه.
ولو كان هذا الحوار حوار معارضة وطعن وخصومة لألزم أبو بكر شيخه مسلماً، وأقام عليه الحجة، وقال له: "أنت تزعم أنك لا تضع في صحيحك من الأحاديث الصحيحة إلا ما أجمعوا عليه، فكيف وضعت هنا حديث سليمان التيمي عن قتادة: "وإذا قرأ فأنصتوا" وهو حديث اتفق الأئمة على تعليله؟ لم يسأله ذلك لأن المجال مجال استفسار واستفادة وزيادة تأكيد، وأنه على بينة أن شيخه لم ير صحة ما زاده سليمان التيمي، لأن سليمان تفرد بها مخالفاً للجماعة من أصحاب قتادة كأبي عوانة وسعيد بن أبي عروبة وهشام الدستوائي وغيرهم، وهؤلاء أحفظ وأثبت وأعلم بأحاديث قتادة، وسليمان دونهم، بل إنه مضطرب في حديثه عن قتادة.
ولهذا السبب لم يسقها مسلم مسندة، ولم يؤصل بها، ولم يعتمد عليها، ولم يضعها في بابها، وإنما ذكرها عرضاً حين جمع بين الروايات عن قتادة، ليشير إلى أن سليمان زاد فيه كلمة لم يقلها أحد غيره من أصحاب قتادة، وبهذا نصل إلى أن قول أبي مسعود الدمشقي:
"وإنما أراد مسلم بإخراج حديث التيمي تبيين الخلاف في الحديث على قتادة لا أنه يثبته" سديد ومقبول لا غبار عليه، وهو دليل على أنه فهم من الحوار كما فسرنا.
فالمعنى الذي بينه الأستاذ بعيد عن واقع الحوار، بل يلزم منه تناقض غريب بين كلام مسلم وبين تطبيقه ومخالفة في مذهبه، كما أوضحنا ذلك سابقاً، فالذي يتعين هنا أن يفسر الحوار بما يوافق مذهب الإمام مسلم بدون تكلف. والله أعلم.
وعلى كل حال فالذي يهمنا هنا هو أن الإمام أبا مسعود الدمشقي أيضاً ممن يعتقد بترتيب الأحاديث في صحيح مسلم وبيان الخلاف والعلة أحياناً، إذ قال:
"إنما أراد مسلم بإخراج حديث التيمي تبيين الخلاف لا أنه يثبته، ولا ينقطع بقوله عن الجماعة الذين خالفوا التيمي، قدم حديثهم ثم أتبعه بهذا".(1/18)
القسطلاني:
ويقول القسطلاني - رحمه الله -:
" (ذلك) فيما يرجع إلى حسن السياقة وجودة الوضع والترتيب(1)" ، يوجه به رأي من يرجح صحيح مسلم على صحيح البخاري. ولا يشك أحد أن المراد بالترتيب هو الترتيب العلمي، لأن الإمام مسلماً صرح بأنه يتوخى تقديم أسلم الأحاديث وأنقاها على غيره، وليس المراد به الترتيب الفقهي، لأنه ليس من خاصية الإمام مسلم، بل هو من الأمور المشتركة بين البخاري ومسلم.
__________
(1) في مقدمة شرحه لصحيح البخاري 1/20 .(1/19)
السيوطي:
وأقر السيوطي - رحمه الله - قول القاضي عياض في مقصود الإمام مسلم بما ذكره في المقدمة، إذ نقله عنه في كتابه "تدريب الراوي" دون أن يعترض عليه.(1/20)
الشيخ العلامة عبد الرحمن المعلمي:
يقول العلامة المعلمي - رحمه الله -: "عادة مسلم أن يرتب روايات الحديث بحسب قوتها يقدم الأصح فالأصح، قوله صلى الله عليه وسلم في حديث طلحة: "ما أظن يغني ذلك شيئاً. . ." الحديث، وذلك كما أشار إليه مسلم أصح مما في رواية حماد لأن حماداً كان يخطىء"(1).
وهذا العالم الجليل المشهور بذكائه وفهمه وتضلعه في الحديث وعلومه، وفقه الرجال، يعتقد أيضاً بترتيب مسلم أحاديث الباب بحسب القوة والسلامة.
__________
(1) في كتاب الأنوار الكاشفة ص : 29.(1/21)
طاهر الجزائري:
ويقول طاهر الجزائري - رحمه الله -:
"ومن ذلك ترتيبه للأحاديث على نسق يشعر بكمال معرفته بدقائق هذا العلم ووقوفه على أسراره، وهو أمر لا يشعر به إلا من أمعن النظر في كتابه مع معرفته بأنواع العلوم التي يفتقر إليها صاحب الصناعة، كأصول الدين وأصول التفسير وأصول الفقه - ونحو أصول الفقهِ الفقهُ - وعلوم العربية وأسماء الرجال ودقائق علم الإسناد والتاريخ مع الذكاء المفرط وجودة الفكر ومداومة الاشتغال به ومذاكرة المشتغلين به متحرياً للإنصاف قاصداً للاستفادة والإفادة"(1).
وهذا كلام نفيس، وتعبير دقيق عن واقع صحيح مسلم، غير أن الاطلاع على فوائد إسنادية في صحيح مسلم لا يمكن إلا لمن توفرت فيه العناصر التي بينها طاهر الجزائري والإمام النووي قبله.
هذا وقد نقل طاهر الجزائري عن القاضي عياض قوله، معلقاً عليه بقوله:
"وعلى هذا ينبغي لمن يشتغل بصحيح مسلم أن يتنبه إلى ذلك ليكون على بصيرة في أمره" (2).
__________
(1) في كتابه توجيه النظر ص : 321 .
(2) المصدر السابق ص :336 .(1/22)
المباركفوري:
ويقول المباركفوري - رحمه الله -:
"الوجه الخامس: أخرج مسلم عن بعض الضعفاء ولا يضره ذلك، فإنه يذكر أولاً الحديث بأسانيد نظيفة ويجعله أصلاً، ثم يتبعه بإسناد أو أسانيد فيها بعض الضعفاء على وجه التأكيد" (1).
فالمباركفوري أيضاً يعتقد أن مسلماً يرتب الأحاديث بحسب القوة والسلامة، حيث يقول: "فإنه يذكر أولاً الحديث بأسانيد نظيفة ويجعله أصلاً. . ." إلى آخر كلامه.
__________
(1) في مقدمة تحفة الأحوذي : 81 .(1/23)
عبد الحق الدهلوي:
ويقول - رحمه الله -:
"والجمهور يقولون أن هذا فيما يرجع إلى حسن البيان وجودة الوضع والترتيب ورعاية دقائق الإشارات ومحاسن الثقات في الأسانيد. . ."(1).
__________
(1) نقله المباركفوري في مقدمته ص : 67 .(1/24)
الشيخ مقبل بن هادي:
وأخيراً في عصرنا فضيلة الدكتور مقبل بن هادي - حفظه الله - يقول في مواضع كثيرة من تحقيقه لكتاب الإمام الدارقطني (الإلزامات والتتبع) ما يفيد اعتقاده بأن الإمام مسلماً يبين العلة في صحيحه، ومن أقواله قوله في ص: 351 الطبعة الثانية:
"والذي يظهر أن مسلماً - رحمه الله - ما ذكره إلا ليبين علته"،
ومنها قوله في ص: 366:
"والظاهر أن مسلماً أخرجه ليبين علته لأنه قد ذكره"،
وكذا في ص: 145:
"فذكرها مسلم ليبين علتها كما قال القاضي عياض، وأقره النووي وهو الأقرب"،
وفي ص: 147:
"لعل مسلماً - رحمه الله تعالى - أخرجه ليبين علته كما وعد بذلك في المقدمة"،
وهكذا في مواضع أخرى من الكتاب.
وكذلك الأستاذ المؤلف اتجه نحوه في رسالته (بين الإمامين) فأجاب على الوجه الذي رأيناه عند الشيخ مقبل عن استدراكات الدارقطني في مواضع كثيرة من رسالته، تبلغ حوالي 22 موضعاً:
منها ص: 286: يقول فيها:
"وهذا انتقاد في محله فإن مقصود مسلم بإخراجه التنبيه على هذا الاختلاف، وهذا دأبه في كتابه، فهو يسير على منهج معين وخطة واضحة التزمها في مقدمته".
ويقول في ص: 287:
"ولم يخرجه مسلم في نظري إلا ليبين ما فيه من علة".
وفي ص: 531:
"أورده لبيان هذا الاختلاف، ولينبه على ما في إسناد يونس من علة كما وعد بمثل هذا في مقدمته، وصرح هنا بالتنبيه فعلاً كما رأيت".
وفي ص: 532:
"وليس على مسلم أي مؤاخذة في رواية هذا الحديث لأنه بين الاختلاف صراحة والراجح لديه رواية مالك ومعمر".
ويقول أيضاً في ص: 608:
"وهذا لم يفت الإمام مسلماً فقد نبه على الاختلاف موفياً بذلك شرطه الذي التزمه من التنبيه على الخلاف وشرح العلل".
وفي ص: 502:
"والذي يظهر لي من صنيع مسلم في سياقه طرق حديث أنس أنه لم يذكر هذه الجملة الزائدة في حديث طلحة بن يحيى. . . إلا ليبين علتها، وليفت النظر إلى مخالفتها لأصحاب يونس الحفاظ"، وأعاده قائلاً:
"فالظاهر - والله أعلم - أن مسلماً لا يريد من وراء كل هذا التصرف إلا التنبيه على ما في هذه الزيادة من علة".
ثم أعاده أيضاً في ص: 507:
"أما مسلم فلا مؤاخذة عليه في إيرادها في صحيحه لأن تصرفه يوحي بأنه لم يوردها إلا لينبه على مخالفتها لرواية الحفاظ من أصحاب يونس، والزهري، وليلفت النظر إلى هذه العلة".
وهكذا كان الأستاذ يقرر منهج الإمام مسلم في بيان العلل، مستمداً مما صرح به الإمام مسلم في المقدمه، وكن يعتقد أن العلة التي بينها مسلم في الصحيح هي في معناها المعروف عند المحدثين، إذ أنه كان يناقش الإمام الدارقطني في تتبعه لأحاديث مسلم المعلولة، حتى إن الأستاذ كان يثني على القاضي عياض الذي حرر منهج الإمام مسلم في بيان العلة وشرحها في مواضع من الصحيح حين قال الأستاذ في ص: 394 من رسالته (بين الإمامين):
"وما ذكره القاضي عياض - رحمه الله - من أن مسلماً أدخل هذه الروايات ليبين الخلاف فيها وأنها وشبهه من العلل التي وعد مسلم بذكرها في مواضعها قول سديد وربط بين منهج مسلم الذي التزمه وبين عمله في الصحيح".
غير أن الأستاذ تراجع عن هذا كله في رسالته الجديدة - منهج الإمام مسلم في ترتيب كتابه الصحيح ودحض شبهات حوله - ونفض يديه عن آثاره ولا أدري أمكرهاً فعل ذلك أم طائعاً؟ ولكن يمكن للقارىء أن يفهم شيئاً من الحقيقة من شرح المناسبة التي دفعته إلى التراجع عن رأيه.
وكان عليه أن يظهر التراجع علناً نظراً لأهمية الموضوع الذي ينتهي به البحث والدراسة في أماكن كثيرة من رسالته التي يفتخر بها والتي حظيت بالتقدير والاحترام في الأوساط العلمية - على حد تعبيره - والتي تحصل من خلال إعدادها على درجة الماجستير من جامعة أم القرى، حتى يبتعد أصحابه عن خطورة اعتقاد ذلك المنهج في صحيح مسلم، كما نصحني بالابتعاد عنه لبالغ لطفه؟
ولا تعجب حين تسمع الأستاذ الذي أثنى على القاضي قبل فترة من الزمن يتحداه اليوم ويقول في ص: 6:
"ولا يستطيع القاضي عياض ولا غيره أن يأتي بحجة واضحة صريحة من صحيح مسلم على تطبيق هذا الشرك الذي زعمه القاضي عياض".
أما عن المناسبة التي تراجع فيها الأستاذ فجأة عن رأيه الذي كان عليه زمناً طويلاً، فهي أنني بعثت له نقداً علمياً حررت فيه أموراً تقنع المنصفين بإصابة الأئمة - البخاري والنسائي والدارقطني وغيرهم - في تعليل حديث ابن عمر في فضيلة الصلاة في المسجد النبوي، وخطأ الأستاذ في معارضته لهم فيه، ووهمه في تصحيح ذلك الحديث لكون الإمام مسلم قد أورده في الصحيح.
وفي ضمن ما كتبته له أن الإمام مسلماً وضع في كتابه منهجاً علمياً إذ يذكر فيه الأحاديث على ترتيب علمي، ويقدم في صدر الباب أصح الأحاديث وأسلمها ثم يذكر ما دونه سلامة وصحة، وأنه يبين أحياناً العلة في مواضعها المناسبة من الصحيح.
وإذا نظرنا إلى ما أورده مسلم في موضوع فضل الصلاة في المسجد النبوي من أحاديث أبي هريرة وابن عمر وميمونة، بهذا الاعتبار نفهم أن أصح الأحاديث عنده في هذا الموضوع هو حديث أبي هريرة لأنه ذكره في صدر الباب، وأن حديث ابن عمر وميمونة دونه لأنه أوردهما في آخر الباب.
فبما أن حديث ابن عمر معلول أراد الإمام مسلم بيانه بذكر جميع وجوه الاختلاف خارج الأصل والموضوع، وبه تحققت الموافقة بين الإمام مسلم وغيره من جهابذة النقاد، فمنهجه أوضح دليل على إدراكه لهذا الاختلاف والعلة في حديث ابن عمر كما أدركها غيره من الناقدين.
فلما قرأ الأستاذ الفاضل ذلك النقد الذي كتبته له متخلقاً بأدب واحترام أصابه غضب شديد، وما قبله مني، والله وحده يعلم سر ذلك، وليس أمامه للخروج من هذا المأزق العلمي الذي أقلقه، إلا إنكار منهج الإمام مسلم في ترتيب الأحاديث بحسب القوة والسلامة، وشرح العلل وبيانها، إذ أنه لو يقبل هذا المنهج الذي صرح به الإمام مسلم للزمه القبول بأن حديث أبي هريرة أصح وأسلم في هذا الباب، وأن حديث ابن عمر دونه، وهو مما يناقض اعتقاده بأن حديث ابن عمر هو الأصح من حديث أبي هريرة.
وكتبت له أنك كنت تحقق منهج الإمام مسلم في شرح العلل وبيانها في صحيحه، في رسالتك - بين الإمامين - وذكرت فيه أمثلة كثيرة فأجاب بما يلي: "رابعاً: قد صرحت بتراجعي عن هذا الفهم، وكل ما يهمني أن أكون صادقاً في هذا التراجع مخلصاً فيه لله، ولي سلف صالح في الرجوع عن الخطأ إلى الحق من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهم من أئمة الإسلام. . .".
فهذه هي المناسبة التي تراجع فيها الأستاذ، وعسى أن يكون القارىء قد فهم حقيقة تراجعه عنه هل كان مكرهاً أم طائعاً.
فمن خلال قراءتنا لآراء العلماء السابقة تأكد لنا صحة ما قاله القاضي عياض - رحمه الله - "وقد فاوضت في تأويلي هذا ورأيي فيه من يفهم هذا الباب، فما وجدت منصفاً إلا صوبه، وبان له ما ذكرت وهو ظاهر لمن تأمل الكتاب وطالع مجموع الأبواب".
فإننا لم نسمع عن أحد من العلماء الذي جاءوا بعد القاضي عياض، ونقلوا عنه ذلك التأويل في كتبهم إلا قد وافقوه عليه أو أقروا له به، وليس فيهم من سجل الاعتراض عليه. ولا مبرر للأستاذ في الرجوع عن رأيه الأول، اللهم إلا الهوى والركون إلى حظ النفس.
فمنهج الإمام مسلم في ترتيب الأحاديث بحسب القوة والسلامة وفي شرح العلل وبيانها على سبيل التتبع لا أصالة، أمر واقع أقره العلماء كما وضعه الإمام مسلم كمنهج في كتابه، ولله الحمد، وهو الموفق.
ولبيان ذلك نشرع في المحور الثالث الذي خصصناه لدراسة الأمثلة التي ذكرها الأستاذ مستدلاً بها لإنكار المنهج، دراسة علمية تبرز من خلالها الأمور العلمية واللطائف الإسنادية التي راعاها الإمام مسلم في ترتيب الأحاديث في صحيحه.
يلاحظ أن الأستاذ حصر تلك الأمثلة في أربعة أنواع:
النوع الأول: مثل له بأبواب افتتحها مسلم بأحاديث رجال الطبقة الثانية وختمها بأحاديث رجال الطبقة الأولى - حسب زعمه - وجملتها اثنا عشر مثالاً.
والنوع الثاني: لأبواب روى فيها مسلم الأحاديث يوافق فيها البخاري، ويزعم أنها غير مرتبة، وجملتها خمسة أمثلة.
والنوع الثالث :لأبواب يزعم الأستاذ أن مسلماً افتتحها بأحاديث الطبقة الأولى وختمها بأحاديث كذلك متفق عليها دون ترتيبها، وجملتها ثلاثة أمثلة.
والنوع الرابع: لأبواب صدرها مسلم بإسناد أعله غيره، ذكر فيه مثالين:
وها نحن ندرسها في المحور الآتي دراسة مفصلة وعلمية، والله ولي التوفيق.(1/25)
المحور الثالث في الأمثلة التي ضربها من نفى أهمية ترتيب الإمام مسلم لصحيحه
وينحصر البحث في هذا المحور في دراسة جميع أنواع الأمثلة التي استدل بها الأستاذ لإنكار منهج مسلم في الترتيب، وهي أربعة أنواع؛النوع الأول فيه اثنا عشر مثالاً، أما(1/26)
النوع الأول من الأمثلة :
المثال الأول فهو ما يلي:
قال الإمام مسلم - رحمه الله -(1):
1 - "حدثنا محمد بن عبد الله بن نُمَيْر الهَمْداني، حدثنا أبو خالد - يعني سليمان بن حَيَّان الأحْمر - عن أبي مالك الأشجعي، عن سعد بن عبيدة، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بُنِيَ الإسلام على خمسة على أن يُوَحَّد الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، والحج".
"فقال رجل: (الحج وصيام رمضان)، قال: "لا، (صيام رمضان والحج)، هكذا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم".
2 - "وحدثنا سهل بن عثمان العَسْكري، حدثنا يحيى بن زكريا، حدثنا سعد بن طارق، قال: حدثني سعد بن عُبيدة السُّلمي عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بني الإسلام على خمس على أن يعبد الله ويكفر بما دونه، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان".
3 - "حدثنا عبيد الله بن معاذ، حدثنا أبي، حدثنا عاصم - وهو ابن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر - عن أبيه، قال عبد الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان".
4 - "وحدثني ابن نُمَير حدثنا أبي حدثنا حنظلة قال: سمعت عكرمة بن خالد يحدث طاوساً أن رجلاً قال لعبد الله بن عمر: "ألا تغزو"؟ فقال: "إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الإسلام بني على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وحج البيت".
ذكر الأستاذ هذه الأحاديث تحت عنوان: (أمثلة لأبواب افتتحها مسلم بأحاديث، أسانيدها من رجال الطبقة الثانية، ويختم بعضها برجال من الطبقة الأولى، وتكون من الأحاديث التي اتفق عليها الشيخان). ثم درسها دراسة سطحية معتمداً على كتاب (التقريب) للحافظ ابن حجر - رحمه الله - فجاء كلامه كما يلي:
"وأبو خالد الأحمر من رجال الطبقة الثانية، قال الحافظ: "صدوق يخطىء"، ثم عقبه بإسناد من الطبقة الأولى، وهو من الأحاديث التي اتفق عليها الشيخان، فمسلم أخرجه من طريق ابن نمير: حدثنا أبي، حدثنا حنظلة قال: سمعت عكرمة بن خالد. . . عن عبد الله بن عمر. والبخاري أخرجه في باب "دعاؤكم إيمانكم" من كتاب الإيمان، قال: حدثنا عبيد الله بن موسى قال: أخبرنا حنظلة به" اهـ.
أقول: هذه دراسة سطحية مبنية على نظره المجرد إلى أحوال رواة الحديث، أدَّت إلى ذهول صاحبها عن الخصائص الإسنادية التي راعاها الإمام مسلم في ترتيب الأحاديث، وعلى دراسته عدة مؤاخذات علمية أذكرها - إن شاء الله - بعد بيان الخصائص الإسنادية التي بنى عليها مسلم ترتيبه لها.
فقد أورد الإمام مسلم في هذا الموضوع حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - من ثلاث طرق: طريق أبي مالك الأشجعي كما في رقم 1، 2، وطريق عاصم بن محمد بن يزيد بن عبد الله بن عمر، كما في رقم 3، وطريق حنظلة كما في رقم 4، وهي كلها ثابتة وصحيحة ومذكورة في الأصول.
إلا أنه رتب بينها إذ بدأ بحديث أبي مالك الأشجعي، وثَنَّى بحديث عاصم، ثم بحديث حنظلة بحسب الخصائص الإسنادية والحديثية، ذلك أن حديث أبي مالك الأشجعي الكوفي أكثر شهرة من غيره فقد تناقله أهل بلده وغيرهم، وسمعه الإمام مسلم من محمد بن عبد الله بن نمير الكوفي، ومن سهل بن عثمان العسكري من الأهواز بهذا العلو.
وأما حديث عاصم المدني فلم يجده الإمام مسلم عالياً عند أحد من شيوخه المدنيين، وإنما وجده عند غيرهم، فرواه عن معاذ العنبري البصري وكذلك لم يجد حديث حنظلة المكي يتناقله المكيون من شيوخه ويروونه وإنما وجده عالياً عند غيرهم فرواه عن الكوفي محمد بن عبد الله بن نمير.
على أن رواية أبي مالك الأشجعي أجود ما في هذا الباب سياقاً تدل على دقته البالغة وضبطه الكامل، ذلك أنه حكى ما جرى بين ابن عمر والراوي عنه، من تصحيح الحديث الذي سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم لمن أخطأ فيه بتقديم وتأخير(2)، وعليه فمن روى هذا الحديث عن ابن عمر مخالفاً لهذا السياق فتعتبر روايته رواية بالمعنى على القول الراجح(3). والله أعلم.
فحديث أبي مالك الأشجعي أصح إسناداً وسياقاً، والحديث الذي وجده الإمام مسلم في بلد راويه وخارجها عالياً أولى من غيره وأرجح، لذلك قدمه على غيره فيما يبدو لي، وهذه الميزة تعتبر من أهم الخصائص الإسنادية عند المحدثين.
ونلاحظ أنه رتب أيضاً في حديث أبي مالك الأشجعي، إذ قدم حديث محمد بن عبد الله بن نمير على حديث سهل بن عثمان العسكري؛ لأن الأول مسلسل بالكوفيين إلا ابن عمر، والثاني إسناده كوفي ثم عسكري، على أن محمد بن عبد الله بن نمير من أشهر شيوخه الثقات، وأما سهل بن عثمان فدونه، وهذا يدل على دقة مسلم وتيقظه في الاختيار بين الروايات تقديماً وتأخيراً.
وقدم حديث عاصم على حديث حنظلة لأنه أتم سياقاً منه، ذلك أنه ذكر الشهادتين جميعاً، وأما حنظلة فحديثه الذي سمعه مسلم كان ناقصاً لم يذكر فيه إلا الشهادة الأولى.
على أن رواية عكرمة عن ابن عمر سمعها حنظلة منه دون أن يكون مقصوداً بالتحديث كما أفصح عنه سياق مسلم، وإن كانت هذه الرواية تفيد الاتصال دون أدنى تردد إلا أنها ليست مثل الرواية المقصود فيها الراوي عنه بالتحديث، من هنا فقد فرقوا بين صيغة (حدثني) وبين (سمعت) فإن الأولى صريحة في القصد بالتحديث دون الثانية، ومما يستفاد من مجموع الروايات أن المراد بقوله: "أن يوحد الله" هو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
بهذا يتبين لنا أن الأحاديث مرتبة ترتيباً علمياً روعيت فيه الخصائص الإسنادية والحديثية جميعاً.
وأما ما قاله الأستاذ الفاضل: "وأبو خالد الأحمر من رجال الطبقة الثانية، قال الحافظ: "صدوق يخطىء" - مستدلاً به على أن أبا خالد الأحمر من رجال الطبقة الثانية عند الإمام مسلم - فهو قول غريب لأن الحافظ ابن حجر - رحمه الله - لم يصرح أنه يبين طبقات الرواة في كتابه "التقريب" على منهج الإمام مسلم في تقسيم الرواة، حتى يكون قوله دليلاً على رأي مسلم ومذهبه في الرواة، بل كان الحافظ يلخص من آراء النقاد جميعاً حسب ما فهم هو.
ثم إن الحافظ ابن حجر قسم الرواة في التقريب على اثنتي عشرة طبقة، والإمام مسلم قسمهم على ثلاث طبقات فقط، كما مضى مفصلاً (4)، فأبو خالد الأحمر في الطبقة الخامسة على تقسيم الحافظ، وليس من الطبقة الثانية كما زعمها الأستاذ، والحق أنه هو في الطبقة الأولى عند الإمام مسلم وكذا عند الإمام البخاري كما يدل عليه صنيعهما في صحيحيهما.
وقد احتج به مسلم والبخاري في صحيحيهما في الأصول إذا لم ينفرد بحديث، انظر مثلاً صحيح البخاري في كتاب الصلاة، باب الصلاة في مواضع الإبل 1/527 (فتح الباري) فقد أخرج حديثه بدون ذكر المتابعة، معتمداً عليه، لكن الحديث لم ينفرد به أبو خالد بل مما تابعه معمر، وأورد حديثه في باب الصلاة إلى الراحلة. . . 1/580.
وقال الإمام المنذري في مختصره لسنن أبي داود: إن أبا خالد الأحمر من الثقات الذين احتج بهم البخاري ومسلم(5).
وأبو خالد وثقه ابن المديني وابن سعد والعجلي وابن حبان فماذا يمنع من أن يكون ثقة عند الإمام مسلم - وقد دل على ذلك صنيعه في صحيحه_؟
ويقول النسائي وابن معين في رواية عثمان الدارمي: "لا بأس به". ويقول الخطيب: "كان سفيان يعيب أبا خالد لخروجه مع إبراهيم بن عبد الله بن حسن، وأما أمر الحديث فلم يكن يطعن عليه فيه".
ويقول أبو هشام الرفاعي: "حدثنا أبو خالد الأحمر الثقة الأمين"، إلا أن أبا حاتم قال فيه: "صدوق".
وقال ابن معين: "صدوق وليس بحجة".
وقال ابن عدي: "إنما أتى من سوء حفظه فيغلط ويخطىء".
هذا وقد دافع الحافظ الذهبي في السير عن ثقته فقال معلقاً على ما قاله ابن عدي: "تابع ابنُ عدي ابنَ معين، فكان موصوفاً بالخير والدين وله هفوة وهي خروجه مع إبراهيم بن عبد الله بن حسن وحديثه محتج به في سائر الأصول".
وأبو خالد الأحمر من رجال الأصول عند الإمام مسلم والبخاري ومن شروطهما، وليس هو كما يقول الأستاذ، بل هو من الطبقة الأولى حسب تقسيم الإمام مسلم للرواة، وإن لم يكن في أعلى درجة الثقة(6).
أما إذا كان الحديث متفقاً عليه فليس بلازم أن يكون في أعلى درجة من الصحة مطلقاً، لأنه قد يكون الحديث الذي انفرد به أحدهما أعلى درجة من المتفق عليه لأسباب أخرى مثل الشهرة ونحوها كما حرره الأئمة من المتأخرين.
يقول الحافظ ابن حجر في النكت 1/365:
"نعم قد يكون في ذلك الجانب أيضاً قوة من جهة أخرى وهو أن المتن الذي تتعدد طرقه أقوى من المتن الذي ليس له إلا طريق واحدة، فالذي يظهر من هذا أن لا يحكم لأحد الجانبين بحكم كلي، بل قد يكون ما اتفقا عليه من حديث صحابي واحد إذا لم يكن فرداً غريباً أقوى مما أخرجه أحدهما من حديث صحابي غير الصحابي الذي أخرجه الآخر، وقد يكون العكس إذا كان ما اتفقا عليه من صحابي واحد فرداً غريباً فيكون ذلك أقوى منه" اهـ.
على أن الاعتبار بأن الحديث متفق عليه، فهو بالنسبة إلينا، أما بالنسبة إلى الإمام مسلم فليس بشيء فإنه مجتهد، له رأي في الحكم بأصحية حديث، وعلى كل فقد وجدنا في حديث أبي مالك الأشجعي الذي صدر به الإمام مسلم هذا الباب من الخصائص الإسنادية ما يجعله أسلم أحاديث الباب وأصحها عنده. والله أعلم.
__________
(1) ب الإيمان 1/176 من شرح النووي - باب أركان الإسلام - الطبعة الثانية 1392هـ - نشر دار إحياء التراث العربي - بيروت.
(2) انظر كتاب التمييز للإمام مسلم ، ص : 127 .
(3) انظر فتح الباري 1/50 ، والنكت 2/799 .
(4) راجع ص : 28 من هذا البحث .
(5) مختصر كتاب سنن أبي داود ، للمنذري 1/313 .
(6) راجع ترجمته في سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي 9/19، والتهذيب للحافظ ابن حجر 4/181، وهدي الساري، للحافظ ابن حجر ص: 407.(1/27)
المثال الثاني:
قال الإمام مسلم - رحمه الله -:(1)
1 - "حدثني حرملة بن يحيى، أنبأنا ابن وهب قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليُكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه".
2 - "حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو الأحوص، عن أبي حَصين، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليَسْكُت".
3 - "وحدثنا إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا عيسى بن يونس، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمثل حديث أبي حَصين غير أنه قال: "فليُحْسن إلى جاره".
4 - حدثنا زهير بن حرب ومحمد بن عبد الله بن نُمير جميعاً عن ابن عيينة، قال ابن نمير: حدثنا سفيان، عن عمرو أنه سمع نافع بن جُبَيْر يخبر عن أبي شُرَيْح الخُزاعي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليَسْكُت" اهـ.
يقول الأستاذ: "وحرملة بن يحيى قال فيه الحافظ: "صدوق" فهو من الطبقة الثانية، ثم أتبعه بحديث أبي هريرة وهو متفق عليه، أخرجه البخاري برقم 6475، ثم ختم الباب بحديث أبي شريح الخزاعي، قال: حدثنا زهير بن حرب ومحمد بن عبد الله. . . ذكر الأستاذ كما في رقم 4 ورجاله من الطبقة الأولى وهو متفق عليه، أخرجه البخاري - رحمه الله - في كتاب الرقائق (حديث 6476) اهـ.
أقول: إن هذه الأحاديث جميعاً مرتبة ترتيباً علمياً بتقديم ما هو أسلم على غيره، كما وعد به مسلم في المقدمة، أورد الإمام مسلم هنا أربعة أحاديث: ثلاثة منها عن أبي هريرة، والرابع عن أبي شريح، وهذه الأحاديث كلها صحيحة وثابتة، واتفق البخاري على تخريج حديث الزهري وحديث أبي حصين في مواضع من صحيحه دون حديث الأعمش الذي في رقم 3، وحديث نافع بن جبير الذي في رقم 4، فإنهما مما انفرد به مسلم دون البخاري.
وحديث أبي شريح الذي ختم به مسلم الباب، لم يخرجه البخاري من طريق نافع بن جبير، وإنما أخرجه من طريق سعيد المقبري عن أبي شريح، وكذلك أخرجه مسلم في موضع آخر من الصحيح، وهو في كتاب اللقطة.
إلا أن بين هذه الأحاديث تفاضلاً علمياً يتضح لنا بالمقارنة بين الروايات،
أولاً: المقارنة بين حديث أبي هريرة وحديث أبي شريح.
ثانياً: المقارنة بين الروايات عن أبي هريرة.
قدم الإمام مسلم في هذا الباب حديث أبي هريرة، مصدراً به الباب، وختمه بحديث أبي شريح، وذلك لأن الأول اشتهر من طريق أبي سلمة وطريق أبي صالح اللتين ذكرهما مسلم في الأرقام التالية: 1، 2، 3 ثم اشتهر كل منهما، فاشتهر حديث أبي سلمة برواية الإمام الزهري عنه إذ رواه عنه إبراهيم بن سعد ومعمر ويونس وغيرهم، كما اشتهر حديث أبي صالح برواية أبي حصين والأعمش، ثم رواه عنهما عدد من الرواة(2).
أما حديث أبي شريح فلم يشتهر من طريق نافع بن جبير الذي ذكره مسلم في آخر الباب، وإنما اشتهر من طريق سعيد المقبري، الذي اتفق البخاري ومسلم على روايته، ولم يورده مسلم هنا لكن أورده في كتاب اللقطة.
وطريق نافع بن جبير لم يعرف إلا برواية عمرو بن دينار عنه، ولم يروه عن عمرو بن دينار إلا سفيان بن عيينة، ثم اشتهر عنه بين شيوخ مسلم، كما يبدو من التتبع، والله أعلم (3).
فبهذا عرفنا أن الشهرة هي التي جعلت حديث أبي هريرة أصح وأقوى من حديث أبي شريح الذي ذكره مسلم من طريق نافع بن جبير، من هنا قدم مسلم حديث أبي هريرة، وصدر به الباب. على أن حديثه مما اتفق البخاري معه على روايته من طريق الزهري الذي بدأ به مسلم الباب ومن طريق أبي حصين الذي ثنى به. من هنا صح القول أن الإسناد الذي اتفق عليه الشيخان أولى من الإسناد الذي انفرد به مسلم دون الآخر، لأننا لم نجد في حديث نافع عن أبي شريح من الأمور العلمية ما يجعله أصح من حديث أبي هريرة.
أما الروايات عن أبي هريرة فمرتبة أيضاً ترتيباً علمياً بتقديم حديث الزهري عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، ثم بحديث أبي حَصين عن أبي صالح عنه، وبعدهما حديث الأعمش عن أبي صالح عنه. ذلك بمقتضى الخصائص الإسنادية، وهي كما نلاحظها عند المقارنة بين أبي سلمة وأبي صالح، والمقارنة بين رواية أبي حصين والأعمش على النحو التالي - حيث إن أبا سلمة وأبا صالح هما الراويان عن أبي هريرة، وأبو حصين والأعمش هما الراويان عن أبي صالح -:
حديث أبي سلمة عرف في بلده المدينة، حيث رواه عنه الإمام الزهري الذي تدور عليه أحاديث الحجاز، وهو أجلُّ من أبي حصين والأعمش، لأنه إمام محدث فقيه، وكذلك أبو سلمة بن عبد الرحمن شيخ الزهري في هذا الحديث محدث وفقيه.
وأما حديث أبي صالح فقد عرف في خارج بلده الكوفة، فقد رواه عنه أبو حَصين والأعمش الكوفيان، وأبو صالح هو ذكوان مدني.
قدم حديث أبي حصين على حديث الأعمش لأنه تسلسل إلى مسلم بالكوفيين - أبو بكر بن أبي شيبة وأبو الأحوص وأبو حصين جميعهم كوفيون، على أنه اشتهر فقد رواه عنه عدد من الرواة مثل أبي بكر بن أبي شيبة وقتيبة وسفيان، كما يبدو من التخريج والله أعلم. أما رواية الأعمش فليس كذلك، سمعه الإمام مسلم من إسحاق بن إبراهيم الحنظلي المروزي، وبه فات له أن يكون إسناد الأعمش مسلسلاً بالكوفيين بل أصبح مدنياً ثم كوفياً ثم مروزياً.
فهذه الخصائص الإسنادية لاحظناها عند المقارنة بين حديث أبي هريرة وأبي شريح، وبين الروايات عن أبي هريرة، وعرفنا أن هذه الأحاديث كلها مرتبة ترتيباً علمياً بتقديم الأصح فالأصح، ولم يكن فيها شيء مما زعمه الأستاذ الفاضل.
أما قوله: "وحرملة بن يحيى قال فيه الحافظ: "صدوق" فهو من الطبقة الثانية"، فقول غريب عجيب، كيف يصح أن يقول هذا؟ وقد سبق قوله: "أبو خالد الأحمر الذي قال فيه الحافظ: "صدوق يخطىء" من الطبقة الثانية" كيف يتساوى من يخطىء ومن لا يخطىء؟ فهذا لا يصح على رأي الحافظ ولا على رأي مسلم.
أما الحافظ فيرى أن "صدوق يخطىء" ضعيف يصلح للاعتبار، و"صدوق" يحتج به فليسا متساويين. والإمام مسلم أدخل في الطبقة الثانية أمثال ليث بن أبي سليم وعطاء بن السائب ويزيد بن أبي زياد من الضعفاء الذين يصلحون للاعتبار لكونهم معروفين بالصدق والستر وتعاطي العلم، ولم يكن حرملة بن يحيى في درجة ليث بن أبي سليم ولا درجة عطاء بن السائب ويزيد بن أبي زياد عند الإمام مسلم، لأنه كان يحتج به في الأصول، ويصدر به الأبواب، فكيف يصح أن يقال: "إن حرملة في الطبقة الثانية عند مسلم"؟
هذا وحرملة بن يحيى المصري من أعلم الناس بحديث ابن وهب، يقدم على غيره في حديثه عن ابن وهب، وقد صرح ابن عدي بأنه جَرَّب حديثه وفتش الكثير منه ولم يجد فيه ما يجب أن يضعف من أجله.
أما كثرة الغرائب في رواياته عن ابن وهب فهي أمر طبيعي لملازمته ابن وهب ملازمة طويلة جعلته يكتب ويحفظ جميع أحاديثه، ولذا لم يعتبر أحد من الأئمة ما تفرد به عن ابن وهب منكراً، وإن قال فيه أبو حاتم: "يكتب حديثه ولا يحتج به"، فإنه لم يوافقه أحد من الأئمة، بل وثقه العقيلي وابن حبان، وقال ابن معين: "شيخ لمصر يقال له حرملة كان أعلم الناس بابن وهب".
وقد وقع بينه وبين معاصره أحمد بن صالح المصري شيء من العداوة، فتكلم أحمد بن صالح فيه بما لم يدل على ضعفه، ولعل أبا حاتم بالغ في أمره، لكثرة غرائبه، والله أعلم.
فحرملة بن يحيى المصري ثقة في الطبقة الأولى، وأعلم الناس بحديث ابن وهب، كما يدل عليه صنيع الإمام مسلم في الصحيح، وليس كما زعمه الأستاذ الفاضل.
وأما قوله: " ثم أتبعه بحديث أبي هريرة وهو متفق عليه ثم ختم بحديث أبي شريح ورجاله من الطبقة الأولى وهو متفق عليه" فهو أعجب وأغرب مما سبق، لأن ظاهره أنه لم يكن حديث الزهري الذي قدمه مسلم وصدر به الباب مخرجاً في صحيح البخاري، وأن حديث أبي شريح الذي رواه نافع بن جبير مخرج في صحيح البخاري، وقد بينا سابقاً بعكس ما قاله. فالذي أخرجه البخاري في صحيحه هو حديث الزهري وحديث أبي حصين، أما حديث الأعمش وحديث نافع بن جبير لم يخرجا فيه.
__________
(1) كتاب الإيمان باب الحث على إكرام الجار والضيف : 2/18 من شرح النووي .
(2) انظر : البخاري مع شرحه فتح الباري : 11/308 ، 10/533 .
(3) انظر رسالة " حق الجار " للحافظ الذهبي ص :12-15 .(1/28)
المثال الثالث:
قال الإمام مسلم - رحمه الله -:(1)
1 - "وحدثنا يحيى بن يحيى ومحمد بن رُمْح قالا: أخبرنا الليث ح وحدثنا قتيبة، حدثنا الليث عن أبي الزبير، عن جابر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنه نهى أن يبال في الماء الراكد".
2 - "وحدثنا زُهير بن حرب، حدثنا جرير، عن هشام، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يبولن أحدكم في الماء الراكد ثم يغتسل منه".
3 - "وحدثنا محمد بن رافع، حدثنا عبد الرزاق، حدثنا مَعْمَر، عن هَمَّام بن مُنَبِّه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة عن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أحاديث منها: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تبل في الماء الدائم الذي لا يجري ثم تغتسل منه".
يقول الأستاذ: "افتتح مسلم هذا الباب بحديث جابر بإسناد فيه أبو الزبير وهو من الدرجة الثانية، عن جابر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يبال في الماء الراكد، ثم عقبه بحديث أبي هريرة ساقه مسلم من طريقين من رجال الدرجة الأولى وهو متفق عليه، أخرجه البخاري في الوضوء".
أقول: هذه الأحاديث الثلاث رتبها مسلم ترتيباً علمياً، إذ قدم حديث جابر على حديث أبي هريرة، ذلك أن حديث جابر سنده عالٍ، وحديث أبي هريرة نازل بالنسبة إلى حديث جابر، إذ توسط بين الإمام مسلم وبين النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جابر أربع رواة، وأما في حديث أبي هريرة فخمس، والعُلُوُّ من أهم الخصائص الإسنادية عند المحدثين.
على أن رواية الليث عن أبي الزبير رواية نظيفة وصحيحة وكان الإمام مسلم - رحمه الله - يعتمد عليها في الأصول، وقد اشتهرت رواية الليث عنه لهذا الحديث في بلده وخارجه، وسمعها مسلم من شيخه محمد بن رمح المصري، بلدي الليث، ويحيى بن يحيى النيسابوري، وقتيبة بن سعيد البصري.
وحديث جابر الذي صدر به الباب يحتوي على الخصائص الإسنادية من علو إسناده واشتهاره في بلد الليث بن سعد الذي يدور عليه هذا الحديث، وخارج بلده، وأما حديث أبي هريرة فدونه إذ أن الإمام مسلماً سمعه بالنزول، وأن الإسناد بصري ثم كوفي ثم بغدادي، وكذلك الحديث الثالث.
أما ترتيبه لأحاديث أبي هريرة فظاهر لأن حديث ابن سيرين الذي قدمه على حديث همام مشهور، فقد رواه عن ابن سيرين غير واحد من الرواة، وليس كذلك حديث همام لأنه لم يروه عنه إلا معمر، ولم يرو عن معمر إلا عبد الرزاق، ثم اشتهر الحديث عن عبد الرزاق، وللغرابة كان مسلم دائماً يورده في آخر الباب، ولا يصدر به الباب إلا إذا لم يوجد في الباب أصح منه، ولا يعني هذا أنه ليس بصحيح بل هو على شرط مسلم والبخاري، والغرابة لا تزول بمجرد ذكره في صحيح البخاري، وقد تقرر سابقاً أن الحديث المشهور - وإن انفرد به مسلم - أصح من الغريب - وإن اتفق على هذا الغريب البخاري ومسلم_.
وأما ما قاله الأستاذ: "افتتح مسلم هذا الباب بإسناد فيه أبو الزبير وهو من الدرجة الثانية"، فقول غير سليم، لا يصح أن يقال إنه من الدرجة الثانية عند الإمام مسلم؛ لأنه كان يحتج به ويجعل حديثه في الأصول، بل في صدر الباب حين يرويه عنه الليث بن سعد، لأن الليث بن سعد لم يحمل عن أبي الزبير إلا ما سمعه أبو الزبير من جابر، العيب الوحيد الذي قيل فيه هو التدليس، وقد زال برواية الليث عنه، وأما ترك شعبة لأبي الزبير فلأمر خارج لا صلة له بالحديث وحفظه وضبطه، كما يتضح ذلك من ترجمته، فمن أين للأستاذ أنه يجعله في الدرجة الثانية مخالفاً صنيع الإمام مسلم في صحيحه الذي يدل على أنه من الطبقة الأولى، إذ رواه عنه الليث بن سعد؟
__________
(1) كتاب الطهارة ، باب النهي عن البول في الماء الراكد 3/187 ( شرح النووي ) .(1/29)
المثال الرابع:
قال الإمام مسلم - رحمه الله -:(1)
1 - حدثني أبو كُريب محمد بن العلاء الهمداني، حدثنا خالد - يعني ابن مَخْلَد - عن محمد بن جعفر، حدثنا هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت: "كان ابن أم مكتوم يُؤذِّن لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أعمى".
2 - وحدثنا محمد بن سلمة المرادي، حدثنا عبد الله بن وهب، عن يحيى بن عبد الله، وسعيد بن عبد الرحمن، عن هشام بهذا الإسناد مثله.
يقول الأستاذ: "افتتح مسلم هذا الباب بحديث عائشة - رضي الله عنها - وفي إسناده خالد بن مَخْلَد القَطَواني، صدوق يتشيع فهو من رجال الطبقة الثانية، ثم أتبعه بإسناد آخر فيه اثنان من الطبقة الثانية، وهما يحيى بن عبد الله بن سالم المدني صدوق، وسعيد بن عبد الرحمن الجمحي صدوق له أوهام. وقد قرن بينهما مسلم - رحمه الله - فالإسنادان يشد بعضهما بعضاً ويرتفعان بالحديث إلى درجة الصحة فيكون صحيحاً لغيره، وهو مثال لأبواب يكون كل رجالها من الطبقة الثانية".
أقول: إن الإمام مسلماً ذكر هنا حديثاً صحيحاً عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة من رواية محمد بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري، ويحيى بن عبد الله وسعيد بن عبد الرحمن عنه، مقدماً رواية محمد بن جعفر بن أبي كثير، متبعاً لها برواية يحيى بن عبد الله ورواية سعيد بن عبد الرحمن.
فإذا وازنت بين هؤلاء الثلاثة وجدت محمد بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري أوثق من يحيى بن عبد الله وسعيد بن عبد الرحمن، فقد وثق محمد بن جعفر كل من ابن معين وابن حبان والعجلي، وقال النسائي: "صالح ومستقيم الحديث"، وقال ابن المديني: "معروف"، واعتمد عليه الشيخان واحتجا به في الأصول فهو من الطبقة الأولى.
وأما يحيى بن عبد الله فهو ابن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب القرشي المدني، قال فيه النسائي: "مستقيم الحديث"، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: "ربما أغرب"، وعن ابن معين: "صدوق ضعيف الحديث"، وقال الدارقطني: "ثقة حدث بمصر ولم يرو له البخاري".
وسعيد بن عبد الرحمن الجُمَحي المدني قال فيه أحمد في رواية صالح: "ليس به بأس وحديثه مقارب"، وعن ابن معين: "ثقة"، وقال يعقوب بن سفيان: "لين الحديث"، قال أبو حاتم: "صالح"، وقال النسائي: "لا بأس به"، قال ابن عدي: "له غرائب حِسان، وأرجو أنها مستقيمة، وإنما يَهِمُ في الشيء بعد الشيء فيرفع موقوفاً ويصل مرسلاً لا عن تعمد"، هذا وقد وثقه ابن نمير وموسى بن هارون والعجلي والحاكم غير أن ابن حبان بالغ في أمره فقال: "يروي عن عبد الله بن عمر وغيره من الثقات أشياء موضوعة يتخايل إلى من سمعها أنه كان المعتمد لها"، ولم يحتج به الإمام البخاري في صحيحه.
ومهما يكن من أمر فإن سعيد بن عبد الرحمن إذا تفرد بشيء يتوقف فيه، وأما إذا شاركه غيره في حديثه ووافقه فلا حرج في تصحيح حديثه والاعتماد عليه، وفي رأي ابن عدي أن ما تفرد به يعتبر حسناً إلا إذا خالفه غيره، وفي رأي ابن حبان فيعتبر منكراً.
فبهذه الموازنة بين هؤلاء الثلاثة عرفنا أن محمد بن جعفر بن أبي كثير أوثق بالنسبة إلى الآخرين، فأصبح حديثه الذي صدر به الباب أحسن ما أورده فيه وأصح.
ثم إن الراوي عن محمد بن جعفر - هو خالد بن عبد الرحمن القَطَواني - غالب رواياته عن المدنيين، وإن اعتبر بعضهم ما تفرد به منكراً فإن الشيخين اعتمدا عليه، حتى إن البخاري قد احتج بما تفرد به في صحيحه مثل حديث "من عادى لي ولياً. . ." الحديث، فلا يبعد أن يكون في الطبقة الأولى حسب تقسيم الإمام مسلم للرواة، وعلى التسليم بأنه من الطبقة الثانية فلا يؤثر ذلك لأن الإمام مسلماً رتب الأحاديث في هذا الباب اعتباراً بأحوال الرواة.
والذي يستخلص من ترجمته ومن صنيع الأئمة أنه إن تفرد بحديث لا يتصل بمذهب الشيعة فلا يعد حديثه منكراً مردوداً بل يكون مقبولاً، وإن كان الحديث الذي تفرد به متعلقاً بمذهب الشيعة فلا يقبل منه؛ لأنه كان متشيعاً مفرطاً فيه، بل متهماً بالغلو فيه، وأما إذا شاركه غيره فيعتبر حديثه من الصحاح كما يدل عليه صنيع الشيخين في صحيحيهما. والله أعلم.
__________
(1) الحديث في صحيح مسلم ، كتاب الصلاة ، باب جواز أذان الأعمى 4/83 .(1/30)
المثال الخامس:
قال الإمام مسلم - رحمه الله -(1):
1 - وحدثني حَرْملة بن يحيى أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وسعيد بن المسيب، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "نحن أحق بالشك من إبراهيم صلى الله عليه وسلم إذ قال: "رب أرني كيف تحيي الموتى، قال: أو لم تؤمن؟ قال: بلى، ولكن ليطمئن قلبي"، قال: ويرحم الله لوطاً لقد كان يأوي إلى ركن شديد، ولو لَبِثْتُ في السجن طول لبث يوسف لأجبتُ الداعي".
2 - وحدثني به - إن شاء الله - عبد الله بن محمد بن أسماء الضُّبَعي، حدثنا جويرية، عن مالك، عن الزهري أن سعيد بن المسيب وأبا عبيد أخبراه عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل حديث يونس عن الزهري، وفي حديث مالك: "ولكن ليطمئن قلبي، قال: ثم قرأ هذه الآية حتى جازها".
3 - حدثنا عبد بن حُميد قال: حدثني يعقوب - يعني ابن إبراهيم بن سعد - حدثنا أبو أُوَيْس، عن الزهري كرواية مالك بإسناده، وقال: ثم قرأ هذه الآية حتى أنجزها".
يقول الأستاذ: "وحرملة من الثانية، ثم عقبه بإسناد فيه جويرية بن أسماء، عن مالك، عن الزهري به، قال الحافظ فيه: "صدوق" فهو من الطبقة الثانية، ثم ختم الباب بإسناد فيه أبو أويس، عبد الله بن عبد الله بن أويس عن الزهري قال فيه الحافظ:" صدوق يهم ".
ثم يتساءل الأستاذ ويقول:
فإن قلت:" كيف يروي في هذا الباب الخطير بمثل هذه الأسانيد؟ قلت: لأن بعضها يقوي بعضاً فترتقي إلى درجة الصحة، فقد وفَّى مسلم بوعده بالصحة، ثم إن الحديث ثابت وله إسناد صحيح على شرط البخاري من الدرجة الأولى، وقد أخرجه البخاري فقال: حدثنا أحمد بن صالح، ثنا ابن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة وسعيد، عن أبي هريرة".
"ومسلم يعرف هذا - والله أعلم - ولكنه لغرض من أغراض المحدثين كالعُلو، يعدل عن إخراج الحديث من الدرجة الأولى إلى دونها أو لسبب آخر، وهو أنه لم يخرج لأحمد بن صالح لكلام فيه لم يثبت، كما تحاشى حديث عكرمة وغيره ممن تكلم فيه بكلام لا يثبت، فتركهم مسلم تورعاً كما يترك البخاري بعض رجال مسلم ممن تكلم فيه بكلام لم يثبت تورعاً" انتهى كلام الأستاذ.
أقول: إن الأستاذ لم يقرر هنا أن مسلماً لم يرتب الأحاديث بل أراد أن يبين أنه لم يذكر في هذا الباب حديث الطبقة الأولى، وليس هذا من موضوعنا في شيء، لكن ثمة هفوات علمية أذكرها معلقاً عليها بعد ذكر كيفية الترتيب بين هذه الأحاديث.
أورد الإمام مسلم هنا حديث الزهري من ثلاث طرق، هي طريق يونس الأيلي وطريق مالك وطريق أبي أويس، كلها صحيحة وثابتة، وقد اتفق البخاري على تخريجه من طريق ابن وهب عن يونس، عن الزهري به(2)، ومن طريق عبد الله بن محمد بن أسماء، عن جويرية، عن مالك، عن الزهري به (3)، ومن طريق عمرو بن الحارث، عن يونس، عن الزهري به نازلاً (4).
قدم مسلم حديث يونس في أول الباب، ثم ذكر حديث مالك، ثم حديث أبي أويس لأن حديث يونس أصح وأسلم من غيره، إذ أنه اشتهر برواية الثقات من المصريين له، أما حديث مالك فقد رواه عنه جويرية بن أسماء البصري، وتفرد به عنه، ولهذا أورده الدارقطني في غرائب مالك، يعني الأحاديث التي لم تشتهر عن مالك ولم يرد في موطئه (5).
وقال مالك في إسناد الزهري: "عن أبي عبيد وسعيد" بدل "أبي سلمة"، وتابعه أبو أويس، وحديث أبي أويس الذي ختم به مسلم دون حديث مالك في الزهري، ولم يخرجه البخاري من طريقه.
فهذه الأحاديث مرتبة حسب الخصائص الإسنادية، ذلك أن حديث يونس مشهور من رواية الثقات المصريين، وحديث مالك لم يشتهر، وختم الباب بحديث أبي أويس لأنه جون مالك في الإتقان والضبط.
أما ما قاله الأستاذ من أن الرواة في الطبقة الثانية فقد بينت سابقاً أن حرملة ثقة في الطبقة الأولى عند الإمام مسلم فقد اتفقوا على أنه أعلم الناس بأحاديث ابن وهب.
قال أحمد بن صالح معاصره وبلديُّه: "إن حرملة عنده جميع أحاديث ابن وهب، وعندي نصفها فقط"، ولما اختلفا وتنافرا امتنع كل منهما عن أن يحدث شخصاً سمع من الآخر من الوافدين، من هنا فات لكثير من هؤلاء الوافدين إلى مصر أن يجمعوا بينهما في السماع(6).
ولعل الإمام مسلماً سمع من حرملة أولاً فامتنع أحمد بن صالح من تحديثه لذلك، فلم يحدث عن أحمد بن صالح في صحيحه وليس لكلام قيل فيه، ومن هنا يبعد أن يقال: "ترك مسلم أحمد بن صالح لكلام فيه لم يثبت تورعاً"، وأحمد بن صالح ثقة اعتمد عليه البخاري في صحيحه، وتركه النسائي لما نشأ بينهما من العداوة الشخصية، وحاول النسائي أن يجمع ما غلط فيه أحمد بن صالح من الأحاديث، فلم يتجاوز ما وجده من الأخطاء القدر المعتاد من الثقات.
وعلى كل فالحديث صحيح وثابت عن الإمام الزهري من ثلاث طرق، أصحها ما صدر به الإمام مسلم هذا الباب، فكانت هذه الأحاديث الصحيحة النظيفة مرتبة ترتيباً علمياً، وبهذا ثبت أن ما طرحه الأستاذ من تساؤل في غير موضعه.
__________
(1) في كتاب الإيمان ، باب زيادة طمأنينة القلب بتظاهر الأدلة - من شرح النووي -2/183 .
(2) صحيح البخاري مع الفتح 6/10-411 .
(3) المصدر السابق 6/418و 12/381 .
(4) المصدر السابق 8/366 .
(5) قال الحافظ: هو من الأحاديث التي حدث بها خارج الموطأ، واشتهر أن جويرية تفرد به عنه، لكن تابعه سعيد بن داود عن مالك أخرجه الدارقطني في غرائبه من طريقه. (الفتح: 6/411).
(6) راجع ترجمة حرملة في الكامل لابن عدي 2/863 ، والتهذيب 2/229 .(1/31)
المثال السادس:
قال الإمام مسلم - رحمه الله - في كتاب الحيض باب استحباب استعمال المغتسلة من الحيض فرصة من مسك 4/13 (شرح النووي):
1 - حدثنا عمرو بن محمد الناقد وابن أبي عمر جميعاً، عن ابن عيينة، قال عمرو "وحدثنا سفيان"، عن منصور بن صفية، عن أمه، عن عائشة قالت: سألت امرأة النبي صلى الله عليه وسلم: كيف تغتسل من حيضتها؟ قال: فذكرت أنه علَّمها كيف تغتسل، ثم تأخذ فِرْصَة من مسك فتَطَهَّر بها، قالت: كيف أتطهر بها؟ قال: تطهري بها، سبحان الله! واستتر - وأشار لنا سفيان بن عيينة بيده على وجهه - قال قالت عائشة: "واجتذبتها إلي، وعرفت ما أراد النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: "تتبعي بها أثر الدم"، وقال ابن أبي عمر في روايته: فقلت: تتبعي بها آثار الدم.
2 - وحدثني أحمد بن سعيد الدارمي، حدثنا حبَّان، حدثنا وُهيب، حدثنا منصور، عن أمه، عن عائشة أن امرأة سألت النبي صلى الله عليه وسلم: كيف أغتسل عند الطهر؟ فقال: خذي فرصة ممسكة فتوضئي بها، ثم ذكر نحو حديث سفيان.
3 - حدثنا محمد بن المُثنى وابن بشار، قال ابن المثنى: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن إبراهيم بن المهاجر قال: سمعت صفية تحدث عن عائشة أن أسماء سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن غسل المحيض. . . (ساق مسلم الحديث).
4 - وحدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا شعبة في هذا الإسناد نحوه، وقال: قال: "سبحان الله! تطهري بها" واستتر.
5 - وحدثنا يحيى بن يحيى وأبو بكر بن أبي شيبة كلاهما عن أبي الأحوص عن إبراهيم بن مهاجر، عن صفية بنت شيبة، عن عائشة قالت: دخلت أسماء بنت شَكَل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، كيف تغتسل إحدانا إذا طهرت من الحيض؟ - وساق الحديث - ولم يذكر فيه "غسل الجنابة".
يقول الأستاذ: "صدر مسلم هذا الباب بإسناد فيه منصور بن صفيه، عن أمه، عن عائشة، ومنصور هو ابن عبد الرحمن الغَدَّاني صدوق يهم، ثم عقبه بإسناد آخر، فيه منصور أيضاً، ثم عقب ذلك بثلاث طرق مدارها على إبراهيم بن مهاجر البَجَلي، صدوق ليِّن الحفظ، فالحديث صحيح لغيره، فقد تحقق هدف مسلم برجال الطبقة الثانية، حيث لم يجد في الباب من رجال الطبقة الأولى".
أقول: إن الإمام مسلماً أورد هنا حديثاً صحيحاً وثابتاً عن صفية، عن عائشة من طريقين: طريق ابنها منصور، وطريق إبراهيم بن مهاجر، ورتب بينهما، فقدم طريق منصور على طريق إبراهيم بن مهاجر لأن منصوراً من رجال الطبقة الأولى، وإبراهيم من رجال الطبقة الثانية كما وعد في المقدمة.
منصور بن صفية الذي رواه عن صفية هو ابن عبد الرحمن بن طلحة بن الحارث بن طلحة بن أبي طلحة بن عبد العزى القرشي العبدري المكي، رجل ثقة من رجال الشيخين، ومن الطبقة الأولى عند الإمام مسلم، والغداني الذي فهمه الأستاذ غيره.
ولما تسرع الأستاذ في الدراسة تداخل عليه الرواة، فجعل الراوي الضعيف مكان الراوي الثقة ووهم في دعواه: إن مسلماً صدر هذا الباب بإسناد فيه منصور بن صفية وهو ابن عبد الرحمن الغدَّاني، صدوق يهم، وكان الأولى به أن يتثبَّت في الحكم، وإلا فالسنة ليست بحاجة إلى مثل هذه الدراسة السطحية.
وأما إبراهيم الذي ختم الباب بحديثه فهو ضعيف في الطبقة الثانية، وهو مثل عطاء بن السائب، غير أن إبراهيم أصاب في حديثه عن صفية، ولم يخطىء؛ لأنه وافقه منصور بن عبد الرحمن، ولهذا حدث عنه شعبة هنا مع غمزه إبراهيم، فإن شعبة لا يروي عن شيخ حديثاً إلا إذا تأكد أنه أصاب فيه.
وحديث منصور هذا مما اتفق معه البخاري على روايته في مواضع من صحيحه معتمداً عليه ومحتجاً به (1).
ثم إنه - رحمه الله - رتب حديث منصور فذكر أولاً حديث ابن عيينة ثم ثانياً حديث وهيب، لأن الأول عال، تسلسل بالمكيين إلى الإمام مسلم، ابن أبي عمر وابن عيينة ومنصور كلهم مكيون، ولم تكن لحديث وهيب شيء من هذه الخصائص الإسنادية، لأنه تنازل ووهيب مصري.
كذلك رتب مسلم أحاديث إبراهيم، فقد حديث شعبة على حديث أبي الأحوص لأن شعبة أوثق منه، ثم رتب أيضاً أحاديث شعبة فقدم حديث محمد بن جعفر، عن شعبة على حديث معاذ العنبري، عن شعبة لأن الأول عال والثاني نازل. والله هو الموفق.
__________
(1) انظر صحيح البخاري مع الفتح 1/414، 416، 13/330، والحديث فيه من طريق ابن عيينة ووهيب.(1/32)
المثال السابع:
قال الإمام مسلم - رحمه الله - في كتاب الطهارة، باب الاستطابة، وباب آداب قضاء الحاجة 3/151 - 153 (شرح النووي).
1 - حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو معاوية ووكيع، عن الأعمش ح، وحدثنا يحيى بن يحيى واللفظ له، أخبرنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن سليمان قال: قيل له: "قد علمكم نبيكم صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى الخِراءَة" قال: فقال: "أجل لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول أو أن نستنجي باليمين أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار أو أن نستنجي برجيع أو بعظم".
2 - حدثنا محمد بن المثني، حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان، عن الأعمش ومنصور، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن سلمان قال: قال لنا المشركون: "إني أرى صاحبكم يعلمكم حتى يعلمكم الخراءة"، فقال: "أجل، إنه نهانا أن يستنجي أحدنا بيمينه أو يستقبل القبلة، ونهى عن الرَّوث والعظام، وقال: "لا يستنجي أحدكم بدون ثلاثة أحجار".
3 - حدثنا زهير بن حرب، حدثنا روح بن عبادة، حدثنا زكريا بن إسحاق، حدثنا أبو الزبير أنه سمع جابراً يقول: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُتمسَّح بعظم أو ببعر.
4 - وحدثنا زهير بن حرب وابن نمير قالا: حدثنا سفيان بن عيينة ح قال: وحدثنا يحيى بن يحيى، واللفظ له، قال: قلت لسفيان بن عيينة: "سمعت الزهري يذكر عن عطاء بن يزيد الليثي، عن أبي أيوب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ببول ولا غائط، ولكن شرِّقوا أو غرِّبوا" قال أبو أيوب: "فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بُنيت قِبَل القبلة فننحرف عنها ونستغفر الله؟ قال: نعم (1).
5 - وحدثنا أحمد بن الحسن بن خِراش، حدثنا عمر بن عبد الوهاب، حدثنا يزيد - يعني ابن زُريع - حدثنا روح عن سهيل، عن القعقاء، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا جلس أحدكم على حاجته فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها".
6 - حدثنا عبد الله بن مسلمة بن قَعْنَب حدثنا سليمان - يعني ابن بلال - عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن يحيى، عن عمه واسع بن حبان قال: كنت أصلي في المسجد، وعبد الله بن عمر مسندٌ ظهره إلى القبلة، فلما قضيت صلاتي انصرفت إليه من شقي، فقال عبد الله: "يقول ناس إذا قعدت للحاجة تكون لك فلا تقعد مستقبل القبلة ولا بيت المقدس"، قال عبد الله: "ولقد رقيتُ على ظهر بيت حفصة، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعداً على لبنتين مستقبلاً بيت المقدس لحاجته".
7 - حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا محمد بن بشر العبدي، حدثنا عبيد الله بن عمر، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن عمه واسع بن حبان، عن ابن عمر قال: "رقيت على بيت أختى حفصة فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعداً لحاجته مستقبل الشام مستدبر القبلة.
هذه مجموعة من الأحاديث تضمنت موضوعات مختلفة، جمعها مسلم حسب الموضوعات، دون أن يبوب لها كعادته في صحيحه، أما ما نراه من تراجم الأبواب فصنع الشراح تسهيلاً لهم وللقارىء على الفهم ولهذا اختلفت عباراتهم من شارح لآخر.
وعليه فليس من المنطقي أن يعتمد في معرفة وضع الأحاديث وتنسيقها وترتيبها في صحيح مسلم على الأبواب والعناوين التي وضعها الشراح في شروحهم له، والذي يتعين في ذلك هو النظر في موضوع الحديث.
وإذا نظرنا إلى مفردات هذه المجموعة تبين لنا أن الصواب تفريقها بالعناوين حسب الموضوعات التي تحتويها، كما فعل ذلك الأئمة المعاصرون لمسلم، كالإمام البخاري والنسائي والترمذي وأبي داود وابن ماجه، وكما يقتضي ذلك الترتيب الخاص للإمام مسلم في صحيحه بحسب الخصائص الإسنادية.
هذا وقد وضع الإمام النووي لهذه المجموعة من الأحاديث ثلاثة عناوين: الاستطابة، وآداب قضاء الحاجة، وآداب الاستنجاء وكراهة استقبال القبلة وقت قضاء الحاجة، كما في شرح النووي بطبعته القديمة، الطبعة الثانية 1392هـ - 1972م، ناشرها دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان.
إلا أن الطبعة الجديدة المرقمة، ناشرها دار القلم، بيروت، لبنان، خلت عن تلك العناوين، إلا عنوان الاستطابة، فاعتمد عليها الأستاذ، وخلط بين هذه الأحاديث وجعلها تحت باب واحد، أي باب الاستطابة، فقال ما يلي:
"صدر مسلم هذا الباب - باب الاستطابة - بحديث سلمان. . . أخرجه من طريقين من الدرجة الأولى مدارهما على الأعمش ومنصور ثم عقبه بحديث جابر من طريق فيها أبو الزبير من الدرجة الثانية 4، 5 أخرجه من حديث أبي أيوب من طريقين من الدرجة الأولى مدارهما على سفيان عن الزهري، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - وهو حديث متفق عليه، أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان به، وأخرجه في الوضوء قال: حدثنا آدم حدثنا ابن أبي ذئب، عن الزهري به".
"ثم أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة من طريق سهيل بن أبي صالح، ثم ختم مسلم الباب بحديث ابن عمر من طريقين من الطبقة الأولى وهو من الأحاديث المتفق عليها، ولفظه: "ارتقيت على بيت حفصة فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته. . ." الحديث. أخرجه البخاري في الوضوء، ويلتقي مسلم والبخاري فيه في يحيى بن سعيد، عن محمد بن حبان، عن واسع بن حبان، عن عبد الله بن عمر".
"وحديث 148 ويلتقي مسلم والبخاري في عبيد الله بن عمر، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن واسع بن حبان، عن عبد الله بن عمر، ثم أخرجه البخاري رقم 149 قال: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا يزيد بن هارون قال: أخبر (؟) يحيى عن محمد بن حبان به".
"فهل نقول: ما أخره مسلم وهو مستحق أن يقدم إلا أنه أدرك فيه علة؟ أو نطرح بهذا القول الفارغ وراء الدنيا، ومن المناسبات أن هذا الأخير المتفق عليه من حديث عبيد الله، والحمد لله الذي يدافع عن دينه وعن سنة نبيه الصادق الأمين بفضح مثل هذه الترهات" اهـ.
أقول: إن الأستاذ جعل هذه الأحاديث تحت باب عام، لأنه لم يكن ذا بصيرة بفقه الحديث واستنباطات فقهاء المحدثين من الحديث، أو ربما لتقليده الخطأ الذي وقع في شرح النووي، بطبعته الجديدة تقليداً أعمى - كأنه من عند الإمام مسلم - أدى به إلى ما وقع فيه من الوهم، إلا أن من ينظر في الأحاديث بإمعان يتبين له أنها مفرقة بحسب الموضوعات التي اشتملت عليها كما سنوضحه.
وعجباً كيف لم يدرك الأستاذ ذلك فنراه يتساءل بكل جرأة واغترار قائلاً: "فهل نقول ما أخره مسلم وهو مستحق أن يقدم إلا لأنه أدرك فيه علة؟ أو نطرح بهذا القول الفارغ وراء الدنيا؟ ومن المناسبات أن هذا الأخير المتفق عليه من حديث عبيد الله، والحمد لله الذي يدافع عن دينه وعن سنة نبيه الصادق الأمين بفضح مثل هذه الترهات".
وللإجابة عن هذا أقول - ولله الفضل كله - لا أستحسن أن تجعل هذه الأحاديث كلها تحت عنوان (الاستطابة)؛ ذلك لأن الأحاديث من رقم 4 إلى رقم 7 لا تحتوي على ما يتعلق بالاستطابة والاستنجاء، وإنما يحتوي على آداب قضاء الحاجة، والنهي عن استقبال القبلة واستدبارها وقت قضاء الحاجة، والرخصة فيها.
والذي يناسب هنا أن يبوب لهذه الأحاديث تبويباً مناسباً لكل منها، فالحديث الأول والثاني يناسب أن يبوب لهما "باب النهي عن الاكتفاء في الاستطابة بأقل من ثلاثة أحجار" كما بوب له الإمام النسائي، أو بعنوان آخر يناسب محتواه.
وحديث جابر يناسب أن يبوب له باب ما ينهي أن يستنجي به، كما بوَّب له به الإمام أبو داود، وكذا الإمام الترمذي، لأنه أشار إلى هذا الحديث بقوله: "وفي الباب" تحت عنوان: باب كراهية ما يستنجي به.
وأما الحديثان الرابع والخامس فيبوب لهما "باب النهي عن استقبال القبلة بغائط أو بول" كما بوب به الإمام البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجه.
والحديث السادس والسابع يعنون لهما بعنوان "الرخصة في الاستقبال" كما عنون به الإمام الترمذي والنسائي وأبو داود وابن ماجه.
ويؤيد ذلك ما سنلمسه في هذه المجموعة من ترتيب الإمام مسلم لها حسب الخصائص الإسنادية، فذكر في الباب الأول حديث سلمان من طريق أبي معاوية ووكيع وسفيان جميعهم رووه عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن سلمان، ولسفيان في هذا الحديث شيخ آخر، وهو منصور، وجمع الإمام مسلم بين هذه الطرق ورتبها، إذ قدم رواية أبي معاوية ووكيع على رواية سفيان لعلُّوها وتسلسلها بالكوفيين، وشهرتها في بلد صاحب الحديث وخارجه، يعني الكوفة وخارجها.
أما العُلو فإن ما بين الأعمش صاحب الحديث وبين مسلم في الطريق الأولى راويان، وفي الثانية ثلاثة رواه، والحديث العالي أولى وأصح وأسلم من الحديث النازل إذا كان العالي بإسناد صحيح.
والتسلسل بالكوفيين فلأن رواة الأولى جميعهم كوفيون، دون الثانية فإنهم كوفيون وبصريون، والشهرة في الكوفة وخارجها فلأن مسلماً سمعه من أبي بكر بن أبي شيبة الكوفي، ويحيى بن يحيى النيسابوري، وليس الأمر كذلك في الثانية.
وعليه فأحاديث الباب الأول مرتبة ترتيباً علمياً بحسب الخصائص الإسنادية مع كونها صحيحة وسليمة، ومتأصلاً بها في الباب.
والباب الثاني أورد فيه مسلم حديثاً واحداً عن جابر بإسناد نظيف وصحيح، وقد تبين مما سبق أن أبا الزبير من رجال الطبقة الأولى عند الإمام مسلم، وأما احتمال أن يكون دلس عن جابر فقد زال هنا بتصريحه أنه سمعه منه.
والباب الثالث أورد فيه حديث أبي أيوب أولاً، وحديث أبي هريرة ثانياً لما في الأول من الأمور العلمية والميزات الإسنادية ما يجعله أسلم وأصح من الثاني، مثل الشهرة والعلو.
أما الشهرة فإن حديث أبي أيوب اشتهر برواية الزهري، واتفق على تخريجه الإمام البخاري من طريقين عن الزهري، على أن مسلماً سمعه من شيوخه المعروفين زهير بن حرب وابن نمير ويحيى بن يحيى، وليس الأمر كذلك في حديث أبي هريرة.
وأما العلو فباعتبارين، أحدهما اعتبار قلة العدد من الرواة بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين مسلم في حديث أبي أيوب فإنهم خمسة رواة، وعددهم في الحديث الثاني ثمانية.
والثاني اعتبار ما بين مسلم والزهري الذي يدور عليه الحديث من قرب، لأنه يتوسط بينهما في أغلب الأحيان أكثر من راويين، بخلاف الإمام البخاري فإن بينه وبين الزهري راويان في الأعم فتساويا هنا في القرب عن الزهري.
هذه الخصائص الإسنادية تجعل حديث أبي أيوب أسلم وأصح من حديث أبي هريرة، ومن هنا تبرز الدقائق العلمية التي أودعها مسلم في ترتيبه بينهما، تلك هي الحقيقة الثابتة في صحيح مسلم، بها تتحطم الترهات، ويصدع الحقُّ فيدمغه.
والباب الرابع ذكر فيه مسلم حديث عبد الله بن عمر من طريقين: طريق يحيى بن سعيد وطريق عبيد الله بن عمر، مراعياً الترتيب العلمي إذ قدم حديث يحيى بن سعيد على حديث عبيد الله بن عمر، ذلك لأن الإسناد الأول مسلسل بالحجازيين، دون الثاني فإنه حجازي ثم كوفي، فالحديث الذي تناقله الحجازيون أولى من غيره عند المحدثين.
__________
(1) يعني قال الزهري: نعم، أنا سمعته، وهو جواب لسؤال سفيان بن عيينة، قوله: "واللفظ له" يعني أن الحديث الذي يذكره مسلم هو بلفظ يحيى بن يحيى، احتاج إلى هذا التنبيه لأنه جمع بين شيوخه زهير بن حرب وابن نمير ويحيى بن يحيى.(1/33)
يتضح من هذا أن هذه الأحاديث كلها مرتبة ترتيباً علمياً كما وعد الإمام مسلم، لكن الأستاذ لم ينتبه إلى أنه جمع بين المفترق، فوقع في الوهم، ولو تنبه لسلم، والحمد لله الذي يدافع عن دينه وعن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم بفضح الترهات والأباطيل.(1/34)
المثال الثامن:
قال الإمام مسلم - رحمه الله - في كتاب الحيض، باب بيان أن الجماع كان في أول الإسلام لا يوجب الغسل إلا أن ينزل المني، وبيان نسخه وأن الغسل يجب بالجماع 4/36 - 39 (شرح النووي).
1 - وحدثنا يحيى بن يحيى ويحيى بن أيوب وقُتيبة وابن حجر، قال يحيى بن يحيى أخبرنا، وقال الآخرون حدثنا (1) إسماعيل - وهو ابن جعفر - عن شريك - يعني ابن أبي نَمر - عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخُدْري عن أبيه قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الإثنين إلى قُباء، حتى إذا كنا في بني سالم وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على باب عِتْبانَ فصرخَ به، فخرج يجُرُّ إزاره فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعجلنا الرجل"، فقال عتبان: "يا رسول الله أرأيت الرجل يُعْجَل عن امرأته ولم يُمن ماذا عليه"؟ قال رسول الله صلى الله عليه: "إنما الماء من الماء".
2 - حدثنا عبيد الله بن معاذ العَنْبري حدثنا المعتمر، حدثنا أبي، حدثنا أبو العلاء بن الشِّخِّير قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَنْسخ حديثُه حديثَه بعضُه بعضاً، كما ينسخ القرآن بعضُه بعضاً.
3 - حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا غُنْدَر، عن شعبة ح، وحدثنا محمد بن المثنى وابن بشار، قالا: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن الحكم، عن ذكوان، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ على رجل من الأنصار فأرسل إليه فخرج ورأسه يَقْطُر، فقال: "لعلنا أعجلناك"؟ قال: "نعم، يا رسول الله" قال: إذا. . . (ساق الإمام الحديث).
4 - حدثنا أبو الربيع الزهراني، حدثنا حماد، حدثنا هشام بن عروة ح، وحدثنا أبو كُريب، محمد بن العلاء واللفظ له، حدثنا أبو معاوية، حدثنا هشام، عن أبيه، عن أبي أيوب، عن أبي بن كعب، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يصيب من المرأة يُكْسِل، فقال: "يغسل ما أصابه من المرأة ثم يتوضأ ويصلي".
5 - وحدثنا محمد بن المثنى، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن هشام بن عروة، حدثني أبي عن المَليِّ، عن المّلِيِّ يعني بقوله: "الملي عن الملي" أبو أيوب عن أبي بن كعب، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في الرجل يأتي أهله ثم لا يُنْزِل، قال: "يغسل ذكره ويتوضأ".
6 - حدثنا هارون بن سعيد الأيْلي، حدثنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن ابن شهاب، حدثنا أن أبا سلمة بن عبد الرحمن حدثه عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنما الماء من الماء".
7 - وحدثني زهير بن حرب وعبد بن حميد قالا: حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث ح وحدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد - واللفظ له - حدثني أبي عن جدي، عن الحسين بن ذكوان، عن يحيى بن أبي كثير أخبرني أبو سلمة أن عطاء بن يسار أخبره أن زيد بن خالد الجهني أخبره أنه سأل عثمان بن عفان قال: قلت: أرأيت إذا جامع الرجل امرأته ولم يُمْنِ؟ قال عثمان: "يتوضأ كما يتوضأ للصلاة ويغسل ذكره"، قال عثمان: سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
8 - وحدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد، حدثني أبي عن جدي، عن الحسين، قال يحيى: وأخبرني أبو سلمة أن عروة بن الزبير أخبره أن أبا أيوب أخبره أنه سمع ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أورد الإمام مسلم - رحمه الله - في هذا الباب مجموعة من الأحاديث التي تتفق كلها في الموضوع، وهي سبعة أحاديث عن أربع من الصحابة - هم أبو سعيد الخدري وأبي بن كعب وعثمان وأبو أيوب - مرتباً لها حسب الخصائص الإسنادية وفاء لوعده الذي قطعه على نفسه، مبيناً ما في بعضها من خلاف، بعد اعتماده على ما أورد أول الباب من الأحاديث الصحيحة النظيفة.
لكن الأستاذ غفل عن إدراكه ذلك، فقال:
"صدر مسلم هذا الباب بحديث أبي سعيد الخدري، وفي إسناده شريك بن عبد الله بن أبي نَمِر، قال فيه الحافظ: "صدوق يخطىء" ثم أورده عن أبي سعيد بإسناد رجاله من الدرجة الأولى، ثم أورده من طريقين رجالهما من الدرجة الأولى، مدارهما على شعبة، عن الحكم، عن ذكوان، عن أبي سعيد وهو متفق عليه من طريق شعبة به، أخرجه البخاري في الوضوء برقم 180".
"ثم أورده من حديث أبي بن كعب من طريقين من الدرجة الأولى ثم أورده من حديث عثمان برجال من الدرجة الأولى غير عبد الصمد بن عبد الوارث، قال الذهبي فيه: "حجة" وقال الحافظ: "صدوق ثبتٌ في شعبة" وهو من الأحاديث المتفق عليها، أخرجه البخاري في الوضوء، حديث 179، وفي الغسل حديث 292 أخرجاه من طرق مدارهما على يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن عطاء بن يسار، عن زيد بن خالد الجهني، عن عثمان، فأين الترتيب والدقائق العلمية أي الأدواء القتالة التي أودعها مسلم في كتابه الصحيح؟ أي كتاب العلل على منهج المليباري".
أقول: إن قوله: "أي الأدواء القتالة. . ." إن دل على شيء فإنما يدل على شدة جهله بالعلة، وبعده عن منهج المحدثين.
إن الإمام مسلماً رتب هذه المجموعة من الأحاديث التي تتفق في المعنى الفقهي - وهو عدم وجوب الغسل بالجماع على من لم ينزل - فذكر حديث أبي سعيد أولاً، ثم حديث أبي بن كعب وأورد بعدهما الأحاديث الباقية لبيان الخلاف على أبي سلمة، فإن حديث أبي سعيد أصح وأسلم من حديث أبي بن كعب، ذلك أنه معروف من طريقين - طريق ابنه عبد الرحمن وطريق ذكوان - أما حديث أبي بن كعب فلم يعرف إلا عن طريق هشام بن عروة، فالحديث الذي روي من طريقين في أول الإسناد، وعرف بهما، ثم اشتهر في آخره أولى من الحديث الذي له طريق واحد، ثم اشتهر في آخره، من هنا كان تقديم مسلم لحديث أبي سعيد وتأخيره لحديث أبي بن كعب.
ثم رتب بين رواية عبد الرحمن بن أبي سعيد ورواية ذكوان اعتباراً منه لمرجحات التقديم وهي كثيرة.
منها: أن رواية عبد الرحمن بن أبي سعيد عالية، والأخرى نازلة، لأن الرواة في الأولى خمسة، وفي الثانية ستة،
ومنها: أن الأولى رواتها مدنيون إلى شيوخ مسلم، دون الثانية، فإن الذي سمعه من ذكوان أبي صالح المدني هو الحكم بن عتيبة الكوفي، ثم تسلسل بالكوفيين.
ومنها: أن رواية عبد الرحمن بن أبي سعيد الأولى اشتهرت في بلاد مختلفة، فقد سمعها مسلم في بلده وخارجه، ورواها عن يحيى بن يحيى النيسابوري، وقتيبة بن سعيد البغدادي، وعلي بن حُجْر البصري فما سمعه عالياً من عدة شيوخ مسلسلاً بالمدنيين أحق بالتقديم، وهذه هي الدقائق العلمية التي أودعها الإمام مسلم في ترتيب الأحاديث في صحيحه - ولله الحمد والفضل -.
أما الأحاديث الثلاثة في آخر الباب فأراد بذكرها بيان الخلاف على أبي سلمة، إذ قال الزهري عنه: "عن أبي سعيد"، وقال يحيى بن أبي كثير عنه: "عن عطاء بن يسار، عن زيد بن خالد، عن عثمان"، وفي رواية أخرى عنه عن عروة، عن أبي أيوب، والواقع أن مسلماً لم يعتمد على هذه الروايات، فرأيناه يؤخر رواية أبي سلمة عن أبي سعيد، ويفصل بين الروايات عن أبي سعيد على خلاف عادته إذ كان يجمع الطرق، وهذا يدل على أنه إنما فعل ذلك لينبه إلى الخلاف في رواية أبي سلمة.
فبين أن الرواة مختلفون على أبي سلمة: أَرَوَى الحديث عن أبي سعيد مباشرة، أم عن أبي أيوب بواسطة، أم عن عثمان بينهما راويان؟ فبَيَّن خلاف الرواة عن أبي سلمة بعد ذكره الأحاديث الصحيحة بأسانيد نظيفة، يعني أن الإمام الزهري خالفه فيه يحيى بن أبي كثير وهما إمامان، ويدور عليهما أحاديث أهل الحجاز.
وكشف لنا الإمام مسلم بصنيعه أن في الحديث علة، كما ذهب إليه غير واحد من أهل الحديث.
هذا الإمام أحمد يقول: "حديث عثمان معلول".
وقال علي بن المديني: "شاذ"،
وقال الدارقطني: "وهم، لأن عثمان وغيره قد ثبت عنهم الفتوى بإيجاب الغسل إذا لم ينزل عند الجماع".
وقال الدارقطني في حديث أبي أيوب الأخير: "إنه وهم أيضاً وإنما سمعه أبو أيوب من أبي بن كعب".
وأما قول الأستاذ: "شريك بن عبد الله بن أبي نمر قال فيه الحافظ: صدوق يخطىء" فيريد به أن الرجل في الدرجة الثانية، إلا أن صنيع الإمام مسلم والبخاري في صحيحيهما يدل على أنه في طبقة الاحتجاج، ومن شروطهما في الأصول؛ لأنهما احتجا به واعتمدا عليه.
قال الحافظ في الهدى: "وثقه ابن سعد وأبو داود وكذا ابن معين، وقال النسائي: "لا بأس به"، ومرة قال: "ليس بالقوي"، وكذا قال ابن الجارود، وكان يحيى بن سعيد القطان لا يحدث عنه، وقال الساجي: "كان يرمي بالقدر"، وقال ابن عدي: "إذا روى عنه ثقة فلا بأس بروايته احتج به الجماعة إلا أن في روايته عن أنس لحديث الإسراء مواضع شاذة".
وقال ابن عدي: "وشريك رجل مشهور من أهل المدينة حدث عنه مالك وغير مالك من الثقات، وحديثه إذا روى عنه ثقة فإنه لا بأس بروايته إلا أن يروي عنه ضعيف".
يتضح من هذا أن الرجل ثقة، وأما ما أخذ عليه فبعض أخطاء في روايته عن أنس، والقول بالقدر، وليس في حديث الباب عنه شيء من ذلك، وأما ترك يحيى بن سعيد القطان له فلأنه كان معروفاً بالتشدد، يترك الرجل لخطأ يسير، وأياً ما كان فلا يمكننا أن نحكم على مسلم بحكم أصدره الحافظ في التقريب، وخالفه في الهدى مقرراً أنه من رجال الشيخين، صالح للاحتجاج به عندهما، وكما لا يمكننا أن نترك ما يدل عليه صنيعه في صحيحه إذ أنه كان يقدم حديثه، ويصدر به الباب. وبهذا تبطل الدعوى وتثبت الحجة.
__________
(1) لما جمع مسلم بين شيوخه ووقع بينهم خلاف في صيغ التلقي أراد أن يبينه إلى ذلك الاختلاف فقال: قال يحيى بن يحيى: أخبرنا، وقال الآخرون: حدثنا.(1/35)
المثال التاسع:
قال الإمام مسلم - رحمه الله - في كتاب الطهارة، باب وجوب غسل الرجلين بكمالهما 3/127 - 131 (شرح النووي).
1 - حدثنا هارون بن سعيد الأيلي، وأبو الطاهر وأحمد بن عيسى، قالوا: أخبرنا عبد الله بن وهب، عن مَخْرَمة بن بُكَيْر، عن أبيه، عن سالم مولى شدَّاد قال: دخلت على عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم يوم توفي سعد بن أبي وقاص، فدخل عبد الرحمن بن أبي بكر فتوضأ عندها، فقالت: "يا عبد الرحمن أسبغ الوضوء، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ويل للأعقاب من النار"".
2 - وحدثني حرملة بن يحيى، حدثنا ابن وهب، أخبرني حَيْوَة، أخبرني محمد بن عبد الرحمن أن أبا عبد الله مولى شدَّاد بن الهاد حدثه أنه دخل على عائشة، فذكر عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله.
3 - وحدثني محمد بن حاتم وأبو مَعْن الرَّقاشي، قالا: حدثنا عمر بن يونس، حدثنا عكرمة بن عمار، حدثني يحيى بن أبي كثير قال: حدثني، أو حدثنا أبو سلمة بن عبد الرحمن، حدثني سالم مولى المَهْرِي قال: خرجت أنا وعبد الرحمن بن أبي بكر في جنازة سعد بن أبي وقاص فمررنا على باب حُجرة عائشة فذكر عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.
4 - حدثني سلمة بن شَبيب، حدثنا الحسن بن أعْين، حدثنا فُلَيْح، حدثني نُعَيْم بن عبد الله، عن سالم مولى شداد بن الهاد قال: كنت أنا مع عائشة - رضي الله عنها - فذكر عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله.
5 - وحدثني زهير بن حرب، حدثنا جرير ح، وحدثنا إسحاق، أخبرنا جرير، عن منصور، عن هلال بن يساف، عن أبي يحيى، عن عبد الله بن عمرو قال: رجعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة حتى إذا كنا بماءٍ بالطريق تعَجَّل قوم عند العصر فتوضؤوا وهم عِجالٌ فانتهينا إليهم وأعقاب تلوح لم يمسَّها الماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ويل للأعقاب من النار، أسبغوا الوضوء".
6 - وحدثناه أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا وكيع، عن سفيان ح، وحدثنا ابن المثنى وابن بشار، قالا: حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثنا شعبة كلاهما عن منصور بهذا الإسناد، وليس في حديث شعبة "أسبغوا الوضوء"، وفي حديثه: "عن ابن يحيى الأعرج".
7 - حدثنا شَيْبان بن فرُّوخ وأبو كامل الجَحْدَري جميعاً عن أبي عوانة، قال أبو كامل: حدثنا أبو عوانة، عن أبي بِشْر، عن يوسف بن ماهَكَ، عن عبد الله بن عمرو قال: تخلف عنا النبي صلى الله عليه وسلم في سفر سافرناه فأدرَكَنا وقد حضرت صلاة العصر فجعلنا نمسح على أرجلنا فنادى: "ويل للأعقاب من النار".
8 - حدثنا عبد الرحمن بن سلاَّم الجُمحي، حدثنا الربيع - يعني ابن مسلم - عن محمد - وهو ابن زياد - عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً لم يغسل عقبيه فقال: "ويل للأعقاب من النار".
9 - حدثنا قتيبة وأبو بكر بن أبي شيبة، وأبو كريب فقالوا: حدثنا وكيع عن شعبة، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة أنه رأى قوماً يتوضؤون من المِطْهَرة، فقال: "أسبغوا الوضوء" فإني سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول: "ويل للأعقاب من النار".
10 - حدثني زهير بن حرب، حدثنا جرير عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ويل للأعقاب من النار".
هذه مجموعة من الأحاديث تتفق في الموضوع، تدور على ثلاث روايات: رواية عائشة ورواية عبد الله بن عمرو ورواية أبي هريرة، مرتب بينها على ما قرره مسلم فيما سبق، إذ قدم حديث عائشة وصدر به الباب، ثم أتبعه بحديث عبد الله بن عمرو، ثم بحديث أبي هريرة، وعليه فحديث عائشة أصح وأسلم، ويليه حديث عبد الله بن عمرو، فحديث أبي هريرة.
لكن من اكتفى بكتاب تقريب التهذيب ومثله، ولم ينظر في الأحاديث نظرة نقدية متبحرة فلا يجوز له أن يصدر الأحكام بشكل قطعي، بل الأجدر به أن يقول: لم أقف على سر تقديم حديث وتأخير غيره وإلا جاءت أحكامه موافقة لهواه وبعيدة عن الصواب، انظر إليه يقول:
"صدر مسلم هذا الباب بحديث عائشة - رضي الله عنها - من طريق مخرمة بن بكير، عن أبيه، عن سالم مولى شداد. . . ومخرمة من رجال الدرجة الثانية، قال الحافظ فيه: "صدوق"، روايته عن أبيه وجادة من كتابه، قاله أحمد وابن معين وغيرهما، وقال ابن المديني: سمع من أبيه قليلاً، وفيه سالم مولى شداد "صدوق" كما قال الحافظ، فهو من الثانية، ثم أورده من طريق ثالث فيها عكرمة بن عمار بن يحيى بن أبي كثير، وعكرمة بن عمار صدوق يغلط، وفي روايته عن يحيى بن أبي كثير اضطراب، وفيها سالم مولى المَهْريين، وهو الأول مولى شداد".
"ثم أورده من طريق رابع فيه الحسن بن محمد بن أعين، صدوق، وفيه فليح بن سليمان الخزاعي صدوق كثير الخطأ، عن سالم مولى شداد، ثم أورده مسلم - رحمه الله - من ثلاث طرق مدارها على مصدع الأعرج، قال فيه الحافظ: "مقبول"، وقال الذهبي في الكاشف: "صدوق".
"ثم أورده من طريق رجالها من الدرجة الأولى، وهم شيبان بن فروخ وأبو كامل الجحدري، عن أبي عوانة، عن أبي بشر جعفر بن إياس (ثقة)، عن يوسف بن ماهك، عن عبد الله بن عمرو بن العاص بلفظ: "ويل للأعقاب من النار" وهو حديث متفق عليه أخرجه البخاري في الوضوء، وقال: حدثنا موسى عن أبي عوانة، عن أبي بشر به".
"ثم أورده من طريقين في أولاهما عبد الرحمن بن سلام الجمحي، قال الحافظ فيه: "صدوق" وسكت عنه الذهبي. وثانيهما رجالهما من الطبقة الأولى، قتيبة وأبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب قالوا: حدثنا وكيع عن شعبة، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة بلفظ: "ويل للأعقاب من النار"، وهو من الأحاديث المتفق عليها، أخرجه البخاري عن آدم بن أبي إياس، عن شعبة به، وبهذه السياقة لهذا الحديث وأمثاله تبخرت أسطورة الترتيب والأرقام وتبددت الخرافات والأوهام".
"ثم ختم الباب بحديث أبي هريرة هذا من طريق سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة، وهل ضر ذلك مسلماً أو أخل بشرطه؟ كلا، إن أصل أحاديث الباب حديثا عبد الله بن عمرو وحديث أبي هريرة اللذين رويا برجال من الطبقة الأولى وما عداهما من الأحاديث التي رويت من طريق رجالهما من الطبقة الثانية إلا ليزداد الحديث قوة خصوصاً وهو من المتفق عليه، فيصل بهذه الطرق إلى الشهرة القريبة من التواتر، هكذا يجب أن نفهم ولا يجوز أن نقول: قدم الأول لأنه أصح الطرق وأسلمها وما أخر البقية إلا لأنه أدرك فيها شيئاً أو علة أو لسبب آخر". انتهى قول الأستاذ.
أقول: إن تعجب فعجب قوله هذا، وأعجب منه أنه لم يأت عليه بدليل ملزم، وذلك إن دل على شيء فإنما يدل على مدى اغتراره بنفسه وعلمه وبحثه.
إلا أنه ينبغي علينا أن نكشف الخصائص الإسنادية التي راعاها مسلم في ترتيب الأحاديث فإنه جدير بالكشف حقيق بالبيان ليعيه أصحاب العقول السليمة، ويعتبر به المشتغلون في علم الرجال.
فحديث عائشة الذي قدمه مسلم، وصدر به الباب، كان أشهر الأحاديث التي أوردها في هذا الباب. قد اشتهر عن سالم مولى شداد المدني إذ رواه عنه جماعة من المدنيين مثل بكير الأشج وحميد بن عبد الرحمن، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، ونعيم بن عبد الله، ثم اشتهر عنهم برواية المصريين وغيرهم.
وقد أورد الإمام مسلم هذه الروايات كلها حسب الترتيب العلمي كما سنبينه فيما بعد - إن شاء الله تعالى - ولم نجد في هذا الباب حديثاً اشتهر برواية المدنيين له عن المدني بعد الصحابي إلا حديث عائشة الذي صدر به مسلم هذا الباب، على أن الرواة عن سالم مولى شداد لم يقع بينهم اختلاف في سياق الحديث، كما وجدنا في رواية عبد الله بن عمرو من ذكر كلمة "وأسبغوا الوضوء" من قول النبي صلى الله عليه وسلم تارة وبدونها تارة أخرى.
أما حديث عبد الله بن عمرو فقد أخذه عنه أبو يحيى الأعرج ويوسف بن ماهك، وهما حجازيان لكن الحديث لم يشتهر عنهما شهرة حديث عائشة، إذ روى عن أبي يحيى الأعرج المدني هلال بن يساف الكوفي، وكذا حديث يوسف بن ماهك الذي شاركه أبو يحيى الأعرج فقد سمعه منه أبو بشر البصري، بيد أن حديث عبد الله بن عمرو اشتهر في الطبقات المتأخرة، وجمع الإمام مسلم بين رواية جرير وشعبة من حديث عبد الله بن عمرو مراعياً فيها الترتيب العلمي.
وحديث أبي هريرة الذي ثلث به مسلم فلم يشتهر عنه شهرة حديث عائشة، وقد رواه عنه محمد بن زياد وأبو صالح - هما مدنيان - غير أنه لم يكن مشهوراً عنهما في المدينة، كما اشتهر حديث سالم عن عائشة الذي صدر به الباب، وروى عن محمد بن زياد كل من الربيع بن مسلم وشعبة البصريان، وروى عن أبي صالح ابنه سهيل - وهو مدني - ورواه عنه جرير الكوفي.
والذي يتبلور من هذه المقارنة بين أحاديث عائشة وعبد الله بن عمرو وأبي هريرة أن حديث عائشة هو الذي اشتهر برواية المدنيين ثم برواية المصريين وغيرهم من شيوخ الإمام مسلم مما يجعله أصح وأسلم أحاديث الباب، ومن هنا نقف على أمور علمية غامضة كان يراعيها الإمام مسلم في الترتيب.
أما الترتيب في الروايات عن عائشة التي جمع الإمام مسلم بينها فهو بتقديم حديث بكير ثم بحديث محمد بن عبد الرحمن بعدهما حديث أبي سلمة وحديث نعيم بن عبد الله، مراعياً فيه اللطائف الإسنادية، والميزات العلمية التي تبرز بالمقارنة بينها.
فحديث بكير الذي في أول الباب هو أشهر بالنسبة إلى بقية الروايات وأقواها، لأن رواية أبي سلمة بن عبد الرحمن ونعيم بن عبد الله جاءتا من طريق عكرمة بن عمار وفليح بن سليمان وهما ممن تكلم فيهم العلماء الناقدون.
ومع ذلك فإن إسناد بكير إسناد مدني ثم مصري وكذا الإسناد الثاني، وأما إسناد أبي سلمة بن عبد الرحمن فهو إسناد مدني ثم يمامي ثم عراقي، وإسناد نعيم بن عبد الله فمدني ثم حراني ثم نيسابوري، فثبت به أيضاً أن حديث بكير أولى من غيره، كل هذا يدل على عظيم دقة الإمام مسلم وبالغ تيقظه في الرواية.
أما الترتيب في الروايات عن عبد الله بن عمرو فظاهر بالمقارنة بينها، لقد قدم مسلم رواية أبي يحيى الأعرج على رواية يوسف بن ماهك لأنها أشهر من الثانية، فقد جاء حديثه من طريق جرير وسفيان وشعبة، وإن كانت رواية يوسف بن ماهك عالية.
ثم رتب بين أحاديث أبي يحيى الأعرج، فذكر حديث جرير أولاً ثم حديث سفيان، بعده حديث شعبة لفوائد إسنادية، فحديث جرير عالٍ، حيث كان بين مسلم وبين منصور الذي تدور عليه الطرق راويان، دون حديث سفيان وشعبة، فإنهما نازلان، إذ أن بين مسلم وبين منصور في هاتين الروايتين ثلاثة رواه، وقدم حديث سفيان على حديث شعبة لأن الأول مسلسل بالكوفيين - منصور وسفيان ووكيع وأبو بكر بن أبي شيبة كلهم كوفيون - وأما الثاني فإسناده كوفي ثم بصري.
وأما حديث يوسف بن ماهك فهو أقل شهرة من حديث أبي يحيى الأعرج فرواه عن يوسف بن ماهك أبو بِشْر جعفر بن إياس البصري، ثم رواه عنه أبو عوانة الواسطي، ثم رواه عنه شيبان بن فروخ الأيلي - وهو بمصر - وأبو كامل الجحدري البصري، فأصبح الإسناد مدنياً ثم بصرياً ثم واسطياً ثم مصرياً وبصرياً، ومن هنا أخره مسلم.(1/36)
وبقي لنا في هذا الباب حديث أبي هريرة الذي ذكره آخر الباب، وهو معروف برواية محمد بن زياد ورواية أبي صالح، وراعى الإمام مسلم هنا أيضاً أموراً علمية للترتيب، فقدم مسلم رواية محمد بن زياد على رواية أبي صالح لأن الأولى أشهر بالنسبة إلى الثانية فقد رواها عنه الربيع بن مسلم وشعبة بن الحجاج، أما الثانية فقد رواها عنه سهيل.
ثم إنه رتب أيضاً أحاديث محمد بن زياد فقدم حديث الربيع بن مسلم لأنه عال باعتبارين، الاعتبار الأول هو قلة العدد لأن الرواة فيه أربعة، أما إسناد البقية فنازل لأن الرواة فيه خمسة، والاعتبار الثاني هو القرب إلى محمد بن زياد الذي يدور عليه الحديث الأول والثاني، برقم 8، 9، فإن الأول قرب فيه الإمام مسلم إلى محمد بن زياد بواسطتين، أما الثاني ففيه ثلاثة من الرواة شعبة ووكيع وشيوخ مسلم.
فهذه هي الخصائص الإسنادية التي وجدناها في هذه المجموعة من الأحاديث، وتدل على أن مسلماً - رحمه الله - رتبها مراعياً فيه لتلك الخصائص الإسنادية.
أما ما قاله الأستاذ: "صدر مسلم هذا الباب بحديث عائشة - رضي الله عنها - من طريق مخرمة، ومخرمة من رجال الدرجة الثانية قال الحافظ فيه: صدوق روايته عن أبيه وجادة من كتابه، قاله أحمد وابن معين وغيرهما، وقال ابن المديني سمع من أبيه قليلاً"، فأقول: هذا الإطلاق مقيد بما فصله ابن عدي: "عند ابن وهب وغيره عنه أحاديث حسان مستقيمة"، ولهذه الحقيقة اختار مسلم ما رواه ابن وهب عنه، وبما أن مسلماً كان يختار رواية صحيحة وسليمة من العلل، فمثل الكلام الذي أرسله الأستاذ لا بد أن يطرح.
وقول الحافظ بأنه صدوق، لا يدل على أنه من الدرجة الثانية عند مسلم كما سبق تحريره، بل إنه ثقة من الطبقة الأولى حسب تقسيمه للرواة، كما يدل عليه صنيعه في الصحيح، هذا وقد وثقه أحمد ومالك وعلي بن المديني، بل سوى بينه وبين يحيى بن سعيد، وكذا وثقه أحمد بن صالح وابن سعد، ولا يوجد في مروياته ما يجعله في الدرجة الثانية سوى ما قالوا في روايته عن أبيه، وغايته أنها وجادة، وقد صحح ابن عدي وغيره أحاديثه التي رواها ابن وهب وغيره، وماذا يمنع أن يكون الرجل عند مسلم ثقة؟
وقول الأستاذ: "وفيه سالم مولى شداد، صدوق، كما قال الحافظ، فهو من الثانية" كالسابق، كالسابق لأنه ثقة عند الإمام مسلم كما يدل عليه صنيعه، وقد وثقه ابن حبان والعجلي.
ثم قال الأستاذ: "ثم أورده من طريق ثالث فيها عكرمة بن عمار، عن يحيى بن أبي كثير وعكرمة صدوق يغلط، وفي روايته عن يحيى بن أبي كثير اضطراب، ثم أورده من طريق رابع فيه الحسن بن محمد بن أعين صدوق، وفيه فليح بن سليمان الخزاعي صدوق كثير الخطأ" قلت: وضعه مسلم في مكانه الذي يستحق كما بينت.(1/37)
المثال العاشر:
قال الإمام مسلم - رحمه الله - في كتاب الصلاة، باب فضل الأذان وهرب الشيطان عند سماعه 4/89 - 92 (شرح النووي).
1 - حدثنا محمد بن عبد الله بن نُمير، حدثنا عبدة، عن طلحة بن يحيى، عن عمه قال: كنت عند معاوية بن أبي سفيان فجاءه المؤذن يدعوه إلى الصلاة، فقال معاوية: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "المؤذنون أطول الناس أعناقاً يوم القيامة".
2 - وحدثنيه إسحاق بن منصور، أخبرنا أبو عامر، حدثنا سفيان، عن طلحة بن يحيى، عن عيسى بن طلحة قال: سمعت معاوية يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمثله.
3 - حدثنا قتيبة بن سعيد وعثمان بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم، قال إسحاق: أخبرنا، وقال الآخران: حدثنا جرير، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الشيطان إذا سمع النداء بالصلاة ذهب حتى يكون مكان الروحاء" قال سليمان: فسألته عن الروحاء، فقال: "هي من المدينة ستة وثلاثون ميلاً".
4 - وحدثناه أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب قالا: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش بهذا الإسناد.
5 - حدثنا قتيبة بن سعيد وزهير بن حرب وإسحاق بن إبراهيم، واللفظ لقتيبة، قال إسحاق: "أخبرنا" وقال الآخران: حدثنا جرير، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال. . . (فذكر الحديث بكامله).
6 - حدثني عبد الحميد بن بيان الواسطي، حدثنا خالد - يعني ابن عبد الله - عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . (فذكر الحديث باختصار).
7 - حدثني أمية بن بِسْطام، حدثنا يزيد - يعني ابن زريع - حدثنا روح، عن سهيل قال: أرسلني أبي إلى بني حارثة، قال: ومعي غلام لنا أو صاحب لنا، فناداه منادٍ من حائط باسمه، قال: وأشرف الذي معي على الحائط فلم ير شيئاً، فذكرت ذلك لأبي، فقال: "لو شعرتُ أنك تلقى هذا لم أرسلك، ولكن إذا سمعت صوتاً فناد بالصلاة، فإني سمعت أبا هريرة يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . (فذكر الحديث باختصار).
8 - حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا المغيرة - يعني الحزامي - عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال. . . (فذكر الحديث).
9 - حدثنا محمد بن رافع، حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن همام بن منبه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله. . . (ذكر مسلم الفروق اللفظية).
يقول الأستاذ: صدر مسلم هذا الباب بحديث معاوية بإسنادين مدارهما على طلحة بن يحيى التيمي من الطبقة الثانية. قال الحافظ: "صدوق يخطىء"، ثم عقبه بحديث جابر - رضي الله عنه - بإسنادين مدارهما على أبي سفيان طلحة بن نافع، صدوق أي أنه من الثانية، ثم أتبعه بحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - بإسنادين أولهما من الطبقة الأولى، والثاني فيه سهيل من الثانية، وعبد الحميد بن بيان من الثانية أيضاً، ولفظه (. . .) وهو حديث اتفق على إخراجه الشيخان (. . .) فأيهما أسلم من العيوب وأنقى؛ حديث معاوية وجابر المقدمين أو حديث أبي هريرة المؤخر؟ وأيهما أصل الباب؟ ثم أورده بإسناد رجاله من الطبقة الأولى عن أبي الزناد، عن الأعرج، وهو متفق عليه، أخرجه البخاري من طريق أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة. . . ثم أخرجه بإسناد من الطبقة الأولى: محمد بن رافع عن عبد الرزاق، عن معمر، عن همام، عن أبي هريرة. انتهى كلام الشيخ.
أقول: إن هذه الأحاديث أوردها الإمام مسلم في موضوعين: موضوع فضل الأذان، وموضوع هرب الشيطان عند سماعه، مرتباً فيها بحسب الأصح فالأصح.
أما الموضوع الأول، أو الباب الأول ففيه حديث معاوية بن أبي سفيان من طريقين، كما في الرقمين الأول والثاني، وهما يدوران على طلحة بن يحيى.
وأما الباب الثاني ففيه حديث جابر من طريقين كما في الرقمين الثالث والرابع، وحديث أبي هريرة من خمس طرق كما في الأرقام 5، 6، 7، 8، 9.
أما حديث معاوية الذي أورده مسلم في الباب - باب فضل الأذان - فذكر له طريقين: طريق عبدة، عن طلحة بن يحيى، وطريق سفيان الثوري عنه، مرتباً فيهما بتقديم طريق عبدة على طريق سفيان، ذلك لأن الأول عال ومسلسل بالكوفيين.
أما العلو فلأنه توسط راويان بين طلحة ومسلم - عبدة ومحمد بن عبد الله بن نمير - والتسلسل فلأن طلحة ومن بعده من الرواة إلى الإمام مسلم جميعهم كوفيون.
وليس الأمر كذلك في الطريق الثاني، إذ كان الرواة بينهما ثلاثة، سفيان الثوري كوفي، وتلميذه أبو عامر العقدي بصري، والراوي عنه إسحاق بن منصور نيسابوري.
وأما الباب الثاني فذكر فيه حديث جابر وحديث أبي هريرة وإذا وازنت بينهما بأن لك أن حديث جابر الذي صدر به الإمام مسلم الباب أقوى وأصح لكونه مشهوراً.
فقد اشتهر في بلد صاحبه وخارجه، وصاحب الحديث هنا الأعمش الكوفي، لأنه تدور عليه طرق الحديث، وسمعه الإمام مسلم من شيوخه الكوفيين وغيرهم - عثمان بن أبي شيبة وأبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب كلهم كوفيون، وقتيبة بن سعيد وإسحاق بن إبراهيم خراسانيان -.
أما حديث أبي هريرة الذي ختم به الباب فلم يشتهر ولم يعرف في بلد صاحبه، بل اشتهر خارجها، فقد روى عن أبي هريرة أبو صالح والأعرج وهمام، كلهم مدنيون، أما أبو صالح فقد أخذ عنه الأعمش وسهيل، الأول كوفي والثاني مدني، وسمع الإمام مسلم حديث الأعمش من غير الكوفيين، قتيبة بن سعيد وإسحاق بن إبراهيم من خراسان، وزهير بن حرب من بغداد.
ورواية همام التي ختم بها الباب لم تشتهر إلا عن عبد الرزاق اليمني، وقبله فرد. فحديث جابر هو الذي اشتهر في بلد صاحبه وخارجه دون حديث أبي هريرة، فإنه لم يشتهر في بلد صاحبه المدينة، وإن كان له طرق متعددة.
وإذا نظرنا إلى طرق الحديث عن جابر وقفنا على الخصائص الإسنادية التي راعاها مسلم في الترتيب بينها. الأعمش هو صاحب الحديث ومداره، روى عنه جرير وأبو معاوية، كما في الرقم الثالث والرابع، فقدم حديث جرير على حديث أبي معاوية، لأنه عرف داخل الكوفة وخارجها، حتى سمعه الإمام مسلم بالعلو من عثمان بن أبي شيبة الكوفي وقتيبة وإسحاق بن إبراهيم الخراسانيين، أما حديث أبي معاوية فإنما عرف داخل بلده، وهو كوفي، وسمعه مسلم بالعلو من أبي بكر بن أبي شيبة وأبي كريب الكوفيين.
أما حديث أبي هريرة فأورده مسلم من عدة طرق، وهي مرتبة أيضاً بحسب الخصائص الإسنادية التي تتجلى عند الموازنة بينها. قدم رواية أبي صالح عن أبي هريرة على رواية الأعرج وهمام، لأنه أشهر من غيره، فقد اشتهر حديث أبي صالح برواية الأعمش على رواية سهيل لأن الأعمش أجَلُّ من سهيل.
ثم أورد رواية سهيل من طريقين على الترتيب، فقدم حديث خالد بن عبد الله، عن سهيل على حديث روح عنه - كما في رقم 6، 7 - لأن الأول عال والثاني نازل.
أما حديث الأعرج عن أبي هريرة فتناقله المدنيون، إلا أن مسلماً لم يسمعه بالعلو من أهل المدينة، وأورده هنا عن قتيبة الخراساني.
وحديث معمر عن أبي هريرة لم يشتهر إلا عن عبد الرزاق، وهو حديث صحيح غريب معتمد عليه، ولغرابته كان الإمام مسلم يؤخره في آخر الباب، وهو الذي عرف بصحيفة همام، ولم تشتهر إلا برواية عبد الرزاق عن معمر عنه، والله أعلم.
أما قول الأستاذ في طلحة بن يحيى المدني: إنه من الدرجة الثانية فليس له دليل فيه، وقد وثقه ابن معين ويعقوب بن شيبة وابن حبان والدارقطني وابن سعد، وإن تكلم فيه بعضهم، ولعل ذلك لرواية حديث "عصفور من عصافير الجنة" ومن الجدير بالذكر أن حديثه في باب مستقل كما سبق.(1/38)
المثال الحادي عشر:
كان علي أن أذكر مجموعة من الأحاديث الطوال التي أوردها الإمام مسلم في أواخر كتاب الإيمان 3/39 - 77 (شرح النووي) يبلغ عددها ستة وثلاثين حديثاً، يبوب لها بأبواب محتلفة بحسب موضوعاتها، لكنني تركت ذكرها اختصاراً، بناءً على أنني سأشير إلى آحادها حين أجيب.
فإن الأستاذ خلط بين هذه الأحاديث فأتى بأحاديث من آخر باب ضم إليها مجموعة من الأحاديث من باب بعده، ثم درسها دراسة هامشية دون أن يتأمل مضمون الأحاديث، مستدلاً بهذا على كونها غير مرتبة، حيث كانت أحاديث الطبقة الثانية مقدمة وأحاديث الطبقة الأولى مؤخرة بزعمه.
ومن تأمل مضمون هذه الأحاديث يتبين له وهم الأستاذ، وعدم مراعاة الدقة في تبويب الأحاديث التي اختلفت عليها نسخ شرح النووي في طبيعته.
ذلك أننا بمراجعة الطبعة الثانية، لدار إحياء التراث العربي - 1392هـ 1972م - نتبين أن الأحاديث لباب "آخر أهل النار خروجاً. . . فكان ذاك أدنى أهل الجنة منزلة" وتنتهي بحديث جابر بن عبد الله (3/39 - 47) بلغ عددها تسعة أحاديث.
والأحاديث التي بعده إلى حديث أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يخرج من النار أربعة فيُعرَضون على الله. . ." جاءت تحت باب: "خروج عصاة المؤمنين من النار" (3/49 - 53) وعددها أربعة أحاديث.
وما بعده من الأحاديث إلى حديث جابر "لكل نبي دعوة قد دعا بها في أمته وخبأتُ دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة" في باب (الشفاعة) (3/53 - 77) وعددها واحد وعشرون حديثاً.
ونلاحظ عناوين أخرى مضمنة أثناء الشرح لبعض منها مثل "المقام المحمود" 3/51 "وما جاء في عصمة الأنبياء - عليهم السلام - 3/53. لكن في الطبعة الجديدة المرقمة لدار القلم، أحاديث باب "آخر أهل النار خروجاً" تبدأ بحديث عبد الله بن مسعود كما في الطبعة الثانية، لكن تنتهي بحديث أنس عن عبد الله بن مسعود وهو حديث ثالث من أول الباب 3/41 - 44.
والأحاديث التي بعده إلى حديث أبي هريرة وحذيفة "يجمع الله - تبارك وتعالى - الناس فيقوم المؤمنون حتى تُزْلَف لهم الجنة. . ." في باب "أدنى أهل الجنة منزلة فيها" 3/45 - 70، وعددها سبعة عشر حديثاً.
وعليه فأي التسمية أطلقها النووي على هذه الأبواب؟ وأي الأحاديث يلحق بكل منها؟ رجح الأستاذ بغير مرجح ما جاء موافقاً للطبعة الجديدة المرقمة، فقال:
"وفي باب "أدنى أهل الجنة منزلة فيها" من كتاب الإيمان حديث (188 - 195)، (1/175) في صدر الباب، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا يحيى بن أبي بكير، حدثنا زهير بن محمد، عن سهيل بن أبي صالح، (وهو من الثانية)، عن النعمان بن أبي عياش، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أدنى أهل الجنة منزلة رجل صرف الله وجهه عن النار قبل الجنة. . ." الحديث. ...
1 - ثم عقبه بحديث المغيرة بن شعبة من طرق من الدرجة الأولى ثم عقبه بحديث أبي ذر من طرق رجالها من الطبقة الأولى، مدارها على الأعمش، عن المغرور بن سويد، عن أبي ذر مرفوعاً.
2 - ثم أتبعه بحديث (191) عن أبي الزبير، (عن) جابر مرفوعاً، وأبو الزبير من الدرجة الثانية.
3، 4 - ثم ساقه من طريقين من الدرجة العليا عن عمرو بن دينار، عن جابر، ثم ساقه من طريقين مدارهما على (يزيد) الفقير - ثقة - عن جابر، والطريق الأولى من الطبقة الأولى، وفي الطريق الثانية أبو عاصم محمد بن أبي أيوب، قال فيه الحافظ: صدوق، فهو من الثانية.
5 - ثم أورده من طريق حماد بن سلمة، عن أبي عمران وثابت، عن أنس ويمكن أن نعد هذا الإسناد من الدرجة الأولى؛ لأن حماد بن سلمة أثبت الناس في ثابت.
6 - ثم أورده من طريقين من الدرجة الأولى مدارهما على قتادة عن أنس، وأورده البخاري مختصراً في كتاب التوحيد رقم 7516.
7 - ثم أورده من طريق معاذ بن هشام وهو كما قال الحافظ صدوق ربما وهم، فهو من الطبقة الثانية.
8 - ثم أورده من طريق من الدرجة الأولى عن قتادة به، ثم أورده من طريقين من الدرجة الأولى مدارهما على معبد بن هلال العنزي (وهو ثقة) عن أنس بسياق طويل، وهو حديث متفق عليه، رواه مسلم عن أبي الربيع العتكي وسعيد بن منصور، حدثنا حماد بن زيد، حدثنا سعيد بن هلال العنزي، عن أنس مرفوعاً، ورواه البخاري، كتاب التوحيد، باب كلام الرب - عز وجل - يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم.
9 - ثم أورده مسلم من طريق أبي بكر بن أبي شيبة، ومحمد بن عبد الله بن نمير، قالا: حدثنا محمد بن بشر (ثقة)، حدثنا أبو حيان (ثقة عابد)، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة بسياق طويل مرفوعاً رجاله من الدرجة الأولى وهو مما اتفق عليه الشيخان، أخرجه البخاري في الأنبياء، حديث 3340.
10 - ثم ساقه بلفظ أخضر من طريق رجاله من الدرجة الأولى إلى أبي هريرة، وأخرجه البخاري في التفسير حديث (4712).
11 - ثم أورده من طريق فيها محمد بن فضيل، عن أبي مالك، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، فهل أخر مسلم هذه الأحاديث المتفق عليها لأنه أدرك فيها شيئاً؟ وهل ضرَّها أن تأتي في الترتيب برقم 9، 10؟ وهل الإسناد الأول أقوى وأنظف من هذه الأسانيد المتأخرة في الترتيب؟ وهل ذلك يخرجها عن كونها هي الأصول وهي عمدة الباب؟ كلا، ثم كلا. انتهى كلام الأستاذ.
هيهات هيهات أن يكون ما اختاره الأستاذ حقاً، يدلك على ذلك تخبطه السيء، ولو أنه تأمل قليلاً فيما أورده مسلم لنجا وسلم.
إن الأحاديث التي رواها أنس بن مالك وأبو هريرة من رقم 6 إلى رقم 11 حسب ترقيم الأستاذ في الشفاعة، وليس في باب "أدنى أهل الجنة منزلة فيه"، لكن آثر أن يأخذ مجموعة من الأحاديث من وسط الباب ليضم إليها مجموعة من أول الباب الذي يليه، وكأنه بهذا الصنيع يلفق ليستدل لرأيه، مغتراً بدراسته السطحية، فيتساءل متبجحاً:
"فهل أخر مسلم هذه الأحاديث المتفق عليها لأنه أدرك فيها شيئاً؟ وهل ضرَّها أن تأتي في الترتيب برقم 9، 10؟ وهل الإسناد الأول أقوى وأنظف من هذه الأسانيد المتأخرة في الترتيب؟ وهل ذلك يخرجها عن كونها هي الأصول وهي عمدة الباب؟؟ كلا ثم كلا".
إن مسلماً لم يؤخر ولم يقدم، ولكنك اخترت مما أخره في باب فقدمته، ومما قدمه في باب آخر فأخرته، فوازنت ورجحت، ولو أنصفت ما فعلت، فإن المتأمل في الطبعة الثانية لشرح النووي يتبين له أن الذي جعله الأستاذ في صدر الباب "باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها" والذي رواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن يحيى بن أبي بكير، عن زهير بن محمد، عن سهيل بن أبي صالح، عن النعمان بن أبي عياش، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أدنى أهل الجنة منزلة. . ." الحديث هو الحديث الرابع في باب "آخر أهل النار خروجاً".
بينما الأحاديث التي رواها الإمام مسلم من حديث أنس وأبي هريرة والتي جعلها الأستاذ في آخر باب "أدنى أهل الجنة منزلة فيها" هي من باب "الشفاعة" فجعل الجميع في باب واحد، فسهل عليه إيقاع القارىء في اللبس وإيهامه أن الإمام مسلماً لم يراع في الصحيح ترتيباً علمياً حيث كانت الأحاديث لأهل القسم الثاني مقدمة وأحاديث الطبقة الأولى مؤخرة، فانجلى الأمر وبان الحق بإرجاع الأحاديث كل إلى بابه وتأكد (أن الذي تحته حمار ليس بفرس).
هذا وقد وقع في حديث معبد بن هلال العنزي (3/60 - 62) ما يؤيد التبويب بالشفاعة من قول معبد: "انطلقنا إلى أنس بن مالك وتشفعنا بثابت. . . يا أبا حمزة إن إخوانك من أهل البصرة يسألونك أن تحدثهم حديث الشفاعة. . .".
وعلى كل فالتبويب المناسب لوضع الأحاديث، ودقة ترتيبها وجودة تنسيقها التي اهتم بها الإمام مسلم - فيما أرى - على النحو التالي:
أما المجموعة الأولى من الأحاديث التي تبدأ بحديث عبد الله بن مسعود مرفوعاً "إني لأعلم آخر أهل النار خروجاً. . . فكان يقال: ذاك أدنى أهل الجنة منزلة" وتنتهي بحديث المغيرة بن شعبة "يقول على المنبر إن موسى - عليه السلام - سأل الله - عز وجل - عن أخَسِّ أهل الجنة منها حظاً، وساق الحديث بنحوه" فيبوب لها "باب آخر أهل النار خروجاً"، أو "باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها".
والمجموعة الثانية التي تبدأ بحديث أبي ذر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لأعلم آخر أهل الجنة دخولاً فيها، وآخر أهل النار خروجاً منها، رجل يؤتى به يوم القيامة فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه وارفعوا عنه كبارها، فتُعرض عليه صغار ذنوبه فيقال: عملتَ يوم كذا وكذا، كذا وكذا فتُعْرَض عليه صغارُ ذنوبه فيقول: نعم، لا يستطيع أن ينكر، وهو مشفق من كبار ذنوبه أن تعرض عليه، فيقال له: فإن لك مكان كل سيئة حسنة، فيقول: ربِّ قد عملت أشياء لا أراها ههنا، فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه"، وتنتهي بحديث أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يُخرج من النار أربعة فيعرضون على الله فيلتفت أحدهم فيقول: أي ربِّ إذ أخرجتني منها فلا تُعدني فيها، فينجيه الله منها" (3/47 - 52) فيبوب لها "باب خروج عصاة المؤمنين من النار" حيث إن مضمون هذه الأحاديث يختلف عن مضمون المجموعة الأولى.
والمجموعة الثالثة التي أولها حديث أنس بن مالك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يجمع الله الناس يوم القيامة. . ." الحديث الطويل، وآخرها حديث أبي هريرة وحذيفة مرفوعاً "يجمع الله - تبارك وتعالى - الناس فيقوم المؤمنون. . ." إلى آخر الحديث (3/53 - 70) وعددها سبعة أحاديث، فيبوب لها "باب الشفاعة".
وبعدها "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا أول الناس يشفع في الجنة"، وفيه أربعة أحاديث، وبعدها "باب اختباء النبي صلى الله عليه وسلم دعوة الشفاعة لأمته" وفيه عشرة أحاديث، أوله حديث أبي هريرة، وآخره حديث جابر (3/73 - 77).
فإن التبويب لهذه المجموعة بعناوين تناسب موضوعاتها هو الأولى، وقد صرح في مقدمته بأنه يعيد الأحاديث لزيادة معنى فيها لأن المعنى الزائد في الحديث المحتاج إليه يقوم مقام حديث تام.
وبعد هذا فنخوض في بيان كيفية الترتيب بين هذه الأحاديث، فأقول: أما الباب الأول ففيه ثلاث أحاديث:
حديث عبد الله بن مسعود.
وحديث أبي سعيد الخدري.
وحديث المغيرة.
وأوردها مسلم بالترتيب بينها إذ قدم حديث عبد الله بن مسعود، وثنى بحديث أبي سعيد، وثلث بحديث المغيرة بحسب القوة والسلامة، فإن حديث ابن مسعود اشتهر بروايته عند الأئمة المعروفين.
وحديث عبد الله بن مسعود حديث كوفي، اشتهر في داخل الكوفة وخارجها حتى سمعه الإمام مسلم من شيوخه الكوفيين وغيرهم، ولم يكن كذلك حديث أبي سعيد الخدري الذي ثنى به مسلم، ولا حديث المغيرة الذي ثلث به، على أن مسلماً بيَّن الاختلاف الذي وقع بين أصحاب ابن عيينة في حديث المغيرة، ووافقه الدارقطني ببيانه في كتابه "التتبع"، وهو من المواضع التي بين فيها مسلم العلة والاختلاف، ويأتي تفصيل ذلك عند بيان كيفية الترتيب في طرق حديث المغيرة - إن شاء الله تعالى -.
وساق هنا عدة طرق لحديث ابن مسعود، وهي:
طريق منصور، عن إبراهيم، عن عبيدة، عن ابن مسعود.
وطريق الأعمش، عن إبراهيم به.
وطريق حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، عن ابن مسعود.(1/39)
ورتبها ترتيباً علمياً إذ قدم حديث منصور وثنى بحديث الأعمش، وثلث بحديث حماد بن سلمة.
فإذا قارنا بين حديث إبراهيم عن عبيدة، عن ابن مسعود وبين حديث حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، عن ابن مسعود نتبين أن حديث إبراهيم أصح من حديث حماد بن سلمة لأنه مسلسل بالفقهاء المحدثين الكوفيين، واشتهر برواية منصور والأعمش، وهما أوثق الناس في إبراهيم، وأين هذا في رواية حماد بن سلمة؟
ثم إنه قدم حديث منصور على حديث الأعمش لأن الأول أوثق وأثبت من الثاني بالنسبة إلى إبراهيم، ثم إنه تسلسل بالكوفيين حتى سمعه مسلم من شيخه عثمان بن أبي شيبة الكوفي، ومن إسحاق بن إبراهيم المروزي مما يدل على أن حديث منصور معروف لدى أهل بلده وغيرهم.
وأما حديث الأعمش فقد سمعه مسلم من الكوفيَّيْن، وهما أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب، وأما حديث حماد بن سلمة فهو وإن كان من الدرجة الأولى لم يكن إسناده مسلسلاً بالكوفيين كما في حديث منصور والأعمش، فإنه كوفي ثم بصري ثم كوفي.
ولا شك أن الحديث صحيح وثابت من طريق منصور والأعمش وحماد بن سلمة، لكن بينها تفاضل حسب الخصائص الإسنادية كما رأينا، ومن هنا أصبح حديث منصور أصح وأسلم في هذا الباب عند الإمام مسلم، والله أعلم.
وأما حديث أبي سعيد الخدري فلم يشتهر شهرة حديث ابن مسعود مع أن إسناده مدني ثم خراساني ثم كوفي، وحديث المغيرة بن شعبة ثلَّث مسلم به لأنه وقع بين أصحاب ابن عيينة خلاف في وقفه ورفعه، وأراد مسلم بيانه، وقد بينه الدارقطني في التتبع بكل ما ذكره مسلم هنا من الوجوه.
وأخرجه الترمذي ثم أشار إلى هذا الاختلاف، إذ قال: "هذا حديث حسن صحيح، روى بعضهم هذا الحديث عن الشعبي عن المغيرة ولم يرفعه، والمرفوع أصح".
ويقول الدارقطني في التتبع ص: 217 - 218: "وأخرج مسلم حديث ابن عيينة عن مُطرِّف وابن ابجر، عن الشعبي، عن المغيرة، موقوفاً في صفة أهل الجنة، وقد اختلف على ابن عيينة فقيل عنه رفعه أحدهما، ومنهم من قال عنه رواية، ومنهم من وقفه، ورواه الأشجعي عن ابن أبجر موقوفاً".
فظاهر أن حديث المغيرة ليس في درجة حديث عبد الله بن مسعود وحديث أبي سعيد، وقد ذكره مسلم في آخر الباب لبيان الخلاف الذي وقع في رواية ابن عيينة، فهل بعد هذا جودة في الترتيب والتنسيق أيها القارىء الكريم؟
وأما الباب الثاني - هو باب "خروج عصاة المؤمنين بعد رفع الذنوب عنهم"، ففيه حديثان:
حديث أبي ذر.
وحديث جابر.
فحديث أبي ذر صدر به الإمام مسلم الباب لما فيه من الخصائص الإسنادية ما يجعله أصح من حديث جابر.
ذلك أن حديث أبي ذر تسلسل بالكوفيين، وله طرق ذكرها مسلم مرتباً لها، وهي كلها تدور على الأعمش عن المَعْرور بن سويد، عن أبي ذر، ثم اشتهر عن الأعمش برواية أصحابه الثقات من الكوفيين إذ رواه عنه عبد الله بن نمير وأبو معاوية ووكيع، ثم رواه عنهم الكوفيون أيضاً، فتسلسل الإسناد بالكوفيين.
ورتب الإمام مسلم هذه الروايات أيضاً، إذ قدم رواية ابن نمير على رواية وكيع وأبي معاوية لأن الأولى تناقلها أفراد أسرة واحدة.
ثم أورد حديث جابر من عدة طرق، وهي طريق أبي الزبير وطريق عمرو بن دينار وطريق يزيد الفقير، أبو الزبير وعمرو بن دينار مكيان، ويزيد الفقير كوفي.
فقد رواية المكِّيِّين - وهما أبو الزبير وعمرو بن دينار - على رواية الكوفي - وهو يزيد الفقير -، ولما صرح أبو الزبير سماعه من جابر، وكان سياقه أتم فقدم رواية ذات السياق الأتم، وأتبعها برواية عمرو بن دينار مستدلاً على أنه حديث مرفوع إذ لم يصرح أبو الزبير برفعه، وحديث عمرو بن دينار مختصر من حديث أبي الزبير.
يقول القاضي عياض - رحمه الله -: "ثم إن هذا الحديث جاء كله من كلام جابر موقوفاً عليه، وليس هذا من شرط مسلم، إذ ليس فيه ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما ذكره مسلم وأدخله في المسند لأنه روى مسنداً من غير هذا الطريق، فذكر ابن أبي خثيمة، عن ابن جريج برفعه بعد قوله: "يضحك" قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: فينطلق بهم".
"وقد نبه على هذا مسلم بعد هذا في حديث أبي شيبة وغيره في الشفاعة، وإخراج من يخرج من النار، وذكر إسناده وسماعه من النبي صلى الله عليه وسلم بمعنى بعض ما في الحديث والله أعلم" انتهى كلام القاضي عياض.
ومن هنا عرفنا أن حديث أبي ذر أسلم وأصح، وحديث جابر دونه، على أن حديث جابر لم يشتهر في بلد راويه - وهي مكة - بل اشتهر خارجها، حتى لم يسمعه مسلم من شيوخه المكيين بالعلو، ورواه مسلم عن غير المكيين، وكذا رواية يزيد الفقير عن جابر، فإنه يقال عنها إسناد مكي ثم كوفي ثم بصري، ولا شك أن الحديث الذي عرف في بلد صاحبه أولى من غيره.
ثم ذكر في آخر الباب حديث أنس ذلك لأن حماد بن سلمة وإن كان أوثق الناس في ثابت فإنه جمع بين شيخيه أبي عمران الجَوني وثابت، وذلك مما يستدعي التأمل فيه، إذ أن حماد بن سلمة تكلم فيه من أجل أنه يجمع بين الشيوخ ويسوق أحاديثهم بسياق واحد دون أن ينبه ما بينهم من خلاف، وقد أشرت إلى ذلك فيما سبق، فبهذا عرفنا أن حديث حماد بن سلمة ليس في مستوى حديث أبي ذر ولا حديث جابر من الصحة بل دونهما، والله أعلم.
وأما الباب الثالث - وهو باب الشفاعة - ففيه حديث أنس وحديث أبي هريرة من طرق عديدة، ورتبها الإمام مسلم ترتيباً رائعاً حسب الخصائص الإسنادية. فإذا قارنا بينه وبين حديث أبي هريرة نجد أن حديث أنس اشتهر برواية قتادة عنه، إذ روى عن قتادة أصحابه المعروفون الذين يقال فيهم: هم أثبت الناس في قتادة، كأبي عوانة وسعيد وهشام الدستوائي، ثم إن قتادة تابعه فيه معبد بن هلال العنزي.
فذكر مسلم هنا طريق قتادة عن أنس أولاً، وطريق معبد بن هلال العنزي ثانياً؛ لأن قتادة أجلُّ من معبد، ثم إن رواية قتادة اشتهرت برواية أصحابه الثقات المعروفين، ولم يكن كذلك حديث أبي هريرة.
ورتب أيضاً بين طرق قتادة إذ ذكر مسلم طريق أبي عوانة أولاً، وطريق سعيد وهشام ثانياً لأنه عال، بين مسلم وقتادة راويان فقط، أما حديث سعيد وهشام فهما نازلان إذ توسط بينهما ثلاثة رواة، رغم كونهما بصريا الإسناد.
ثم ذكر ثانياً حديث أبي هريرة من طريقين، وهما طريق أبي زرعة وطريق أبي حازم، فقد حديث أبي زرعة لأن له طرقاً متعددة فقد رواه عن أبي حازم أبو حيان وعمارة بن القعقاء، وحديث أبي حازم لم يتعدد فإنه رواه عنه أبو مالك الأشجعي، وعنه محمد بن فضيل.
فقدم حديث أبي حيان عن أبي زرعة على حديث عمارة بن القعقاء لأن الأول إسناد كوفي سمعه الإمام مسلم من شيوخه الكوفيين وأما الثاني فهو كوفي ثم بغدادي. فالإمام مسلم كان يرتب الأحاديث في هذه الأبواب ترتيباً علمياً رائعاً الذي أوهم الأستاذ الفاضل القارىء بأنها غير مرتبة بعد أن خلط بين هذه الأحاديث، فأتى من وسط الباب الأول جملة من الأحاديث مضمومة إلى جملة من الأحاديث التي في باب الشفاعة.(1/40)
المثال الثاني عشر:
قال الإمام مسلم - رحمه الله - في كتاب الطهارة، باب وجوب الطهارة للصلاة 3/102 (شرح النووي).
1 - حدثنا سعيد بن منصور وقتيبة بن سعيد وأبو كامل الجحدري، واللفظ لسعيد، قالوا: حدثنا أبو عوانة عن سماك بن حرب، عن مصعب بن سعد قال: دخل عبد الله بن عمر على ابن عامر يعوده، وهو مريض، فقال: "ألا تدعو الله لي يا ابن عمر"؟ قال: "إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تقبل صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول" وكنتَ على البصرة".
2 - حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار قال: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة ح وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا حسين بن علي، عن زائدة قال أبو بكر ووكيع عن إسرائيل كلهم عن سماك بن حرب بهذا الإسناد عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله.
3 - حدثنا محمد بن رافع، حدثنا عبد الرزاق بن همَّام حدثنا معمر بن راشد، عن همام بن منبه أخي وهب بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة عن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أحاديث منها، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقبل صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ".
يقول الأستاذ: في صدر الباب قال الإمام مسلم - رحمه الله -: حدثنا سعيد بن منصور وقتيبة بن سعيد وأبو كامل الجحدري. . . (إلى آخر ما نقلته من الصحيح) ثم ساق من طريقين مدارهما على سماك، ثم أخرجه من حديث أبي هريرة من طريق محمد بن رافع حدثنا عبد الرزاق. . . عن أبي هريرة مرفوعاً، وهذا الإسناد من الدرجة الأولى، وأخرجه البخاري في الوضوء. . . اهـ.
أقول: إن الإمام الترمذي يقول في سننه: "حديث ابن عمر أصح في الباب وأحسن، وحديث أبي هريرة حسن صحيح غريب" هذا هو الفرق الواضح بين الدراسة العلمية النزيهة وبين الدراسة السطحية، وفي قول الترمذي إشارة علمية دقيقة إلى الميزة العلمية الإسنادية التي جعلت حديث ابن عمر أصح في الباب وأحسن، ألا وهي الشهرة في حديث ابن عمر والغرابة في حديث أبي هريرة.
وتلك التي تتبلور عند الموازنة بينهما، إذ أن ما رواه ابن عمر اشتهر عن طريق سماك بن حرب، فقد رواه عن سماك أبو عوانة وشعبة وزائدة وإسرائيل وغيرهم من الكوفيين وغيرهم.
أما حديث أبي هريرة فهي صحيفة معروفة، تفرد بها عن أبي هريرة همام بن منبه، وتفرد بروايتها عنه معمر، وتفرد عنه عبد الرزاق ثم اشتهر عنه الحديث، وهذا ما قاله الترمذي: " حديث أبي هريرة حسن صحيح غريب" ولا يختلف اثنان أن الحديث الذي اشتهر برواية الأئمة المعروفين أولى من غيره.
اتفاق الشيخين على رواية الحديث الغريب لا يخرجه من غرابته، ومن هنا قالوا: إن الحديث الذي انفرد بن أحد الشيخين ربما يكون أصح وأحسن من المتفق عليه لأمور علمية منها التواتر، والشهرة كما سبق.
والذي ينظر إلى ظاهر الإسناد يتصور أن حديث أبي هريرة المتفق عليه هو الأصح، ولهذا اعترض على الإمام الترمذي كل من المباركفوري والشيخ أحمد شاكر - رحمهما الله تعالى -.
فقد الإمام مسلم حديث ابن عمر، وصدر به الباب لأنه مشهور، وأخر حديث أبي هريرة لكونه غريباً، وهو الترتيب العلمي الذي ميز صحيح مسلم عن صحيح البخاري. وسماك بن حرب الذي دار عليه حديث ابن عمر ثقة من رجال الطبقة الأولى، ولم يضره اختلاطه لأن روايته قبل الاختلاط معروفة فقد سمع منه قبل الاختلاط شعبة وسفيان وأمثالهما، وقد تكلم فيه بعض الأئمة نظراً لما رواه بعد الاختلاط، راجع ترجمته في كتب التراجم.
هذا وقد أورد مسلم حديث ابن عمر من عدة طرق، مراعياً فيها الترتيب العلمي، فقد حديث أبي عوانة عن سماك على غيره لعلوه، حيث قرب مسلم من سماك براويين، بينما في الثاني بثلاثة رواة. والله أعلم.(1/41)
النوع الثاني من الأمثلة
المثال الأول:
لما فرغ الأستاذ من عرض الأمثلة لأبواب قدم فيها مسلم أحاديث الطبقة الثانية، على أحاديث الطبقة الأولى - حسب زعمه - بدأ بذكر أمثلة أخرى لأبواب ذكر فيها أحاديث كلها متفق عليها، زاعماً به على أن الإمام مسلماً لم يهتم بترتيب الأحاديث الأصح فالأصح، فقال:
"أمثلة لأبواب متفق عليها":
" أولاً: كتاب الطهارة، باب حكم بول الطفل الرضيع (1؟237 - 238) افتتح مسلم هذا الباب بحديث عائشة 1، 2، 3، أخرجه من ثلاث طرق مدارها على هشام بن عروة، عن أبيه، وكلها من الطبقة الأولى".
4، 5، 6 - ثم أخرجه من حديث أم قيس بنت محصن من طريقين رجالهما من الطبقة الأولى، مدارهما على الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن أم قيس، والثالثة فيها حرملة بن يحيى من الطبقة الثانية، والحديثان - أعني حديث عائشة وأم قيس - متفق عليهما، أخرجه البخاري حديث عائشة في أربعة مواضع. . . وأخرج حديث أم قيس في الباب نفسه رقم 221".
قلت: ذكر الإمام مسلم في موضوع حكم بول الطفل الرضيع، حديث عائشة - والحديث في شرح النووي 3/193 - 194 - من ثلاث طرق تدور على هشام بن عروة، وحديث أم قيس من ثلاث طرق أيضاً، تدور على الإمام الزهري، وهما مدنيان، ومن هنا يقال: هذا حديث مدني.
فقدم مسلم حديث عائشة على حديث أم قيس لأمور علمية إسنادية تتضح جلياً عند الموازنة بينهما، ذلك أن حديث عائشة اشتهر عن هشام بن عروة الذي دار عليه حديث عائشة برواية الكوفيين، مثل عبد الله بن نمير وجرير وعيسى بن يونس، ثم اشتهر عنهم داخل الكوفة وخارجها، وسمعه الإمام مسلم من شيوخه الكوفيين وغيرهم بالعلو، إذ كان بين مسلم وهشام بن عروة راويان، ولهذا قدم الإمام مسلم حديث عائشة وصدر به الباب.
أما حديث أم قيس فقد اشتهر عن الإمام الزهري الذي دار عليه هذا الحديث برواية المصريين، كالإمام الليث ويونس، وبرواية المكي كسفيان بن عيينة، لكن حديث المصريين اشتهر داخل مصر، وحديث سفيان بن عيينة المكي اشتهر خارج مكة، مثل زهير بن حرب وعمرو الناقد وأبي بكر بن أبي شيبة ويحيى بن يحيى، وليس فيهم مكي.
ولا شك أن الحديث الذي سمعه مسلم من بلد الراوي وخارجه بالعلو أولى بالتقديم من غيره.
أما طرق حديث هشام الثلاث فهي مرتبة ترتيباً علمياً بتقديم طريق عبد الله بن نمير، على طريق جرير وعيسى بن يونس، لأن حديثه عرف في بلده، بل عرف خارجه فأصبح الإسناد مدنياً ثم كوفياً ثم بغدادياً، وكذا طريق عيسى بن يونس فإسناده مدني ثم كوفي ثم مروزي.
وكذلك رتب الإمام مسلم طرق حديث أم قيس، إذ قدم طريق الليث لأنه عرف حديثه في بلده، وسمعه مسلم من شيوخه المصريين بالعلو فالإسناد مدني ثم مصري، وحديث ابن عيينة الذي ثنى به لم يروه مسلم هنا عن أحد من شيوخه المكيين، بل رواه عن الكوفيين بالعلو، فالإسناد مدني ثم مكي ثم كوفي، وأما حديث يونس الذي ختم به الباب فهو نازل إذ أن الرواة بينه وبين الإمام الزهري ثلاثة، والله أعلم.(1/43)
المثال الثاني:
يقول الأستاذ:
"ثانياً: 3 - كتاب الحيض، باب تستر المغتسل بثوب، (1/265) صدر مسلم هذا الباب بحديث أم هانىء - رضي الله عنها - ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدته يغتسل وفاطمة ابنته تستره بثوب، رقم (236).
1، 2 - ساقه من طريقين رجالهما من الطبقة الأولى، وهو متفق عليه، أخرجه البخاري في الغسل حديث 276.
3 - ثم أورده من حديثها بإسناد فيه الوليد بن كثير.
4 - ثم ختم الباب بحديث ابن عباس عن ميمونة - رضي الله عنها - بلفظ: "وضعت للنبي صلى الله عليه وسلم ماء، وسترته"، وفي إسناده موسى بن عيسى القارىء، قال الحافظ فيه: "صدوق"، وقال في تهذيب التهذيب (10/365) ذكره ابن حبان في الثقات، وقال مطين: وكان ثقة، له في الصحيح حديث واحد، لكن حديثه هذا متفق عليه، أخرجه مسلم عن إسحاق بن راهويه، عن موسى القارىء، عن زائدة، عن الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن كريب، عن ابن عباس، وأخرجه مسلم والبخاري عن عبدان، عن أبي حمزة، عن الأعمش، عن سالم به، في الغسل، باب نقض اليدين من الغسل من الجنابة، حديث (272)". انتهى كلام الأستاذ.
قلت: أورد الإمام مسلم في موضوع (تستر المغتسل) (كتاب الحيض 4/28 - 29 من شرح النووي) حديث أم هانىء أولاً وحديث ميمونة ثانياً، مراعياً فيه الترتيب العلمي، ذلك أن حديث أم هانىء اشتهر بعدة روايات حتى عرف في النيسابور ومصر والكوفة، وسمعه الإمام مسلم من هذه البلدان بالعلو، أما حديث ميمونة فلم يشتهر كشهرة حديث أم هانىء، مع كونه نازلاً؛ لأن الرواة فيه تسعة. والمعروف عند المحدثين أن العالي أصح من النازل.
وذكر حديث أم هانىء من طريقين، وهما:
طريق أبي النضر، عن أبي مرة مولى أم هانىء، عن أم هانىء، وطريق سعيد بن أبي هند عن أبي مرة، عنها،
وهما مرتبان ترتيباً علمياً لأن الأول عال بالنسبة إلى كل ما أورده مسلم من الروايات في هذا الموضوع، لأن بين مسلم وبين أبي مرة الذي دار عليه حديث أم هانىء ثلاثة رواة.
والثاني ذكره مسلم من طريقين:
طريق يزيد بن أبي حبيب، عن سعيد بن أبي هند به،
وطريق الوليد بن كثير، عن سعيد بن أبي هند،
وهما نازلان بالنسبة إلى الأول، وعاليان بالنسبة إلى حديث ميمونة.(1/44)
المثال الثالث:
ويقول الأستاذ:
"ثالثاً: كتاب اللباس، باب كراهة ما زاد على الحاجة من الفراش واللباس (3/1651 - 1653) أخرج مسلم حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -: "لا ينظر الله إلى من جر ثوبه خيلاء"، من طرق كثيرة، وهو من الأحاديث المتفق عليها، ثم أخرجه في آخر الباب من طريق شعبة، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - وهو حديث متفق عليه. أخرجه البخاري في اللباس، باب من جر ثوبه من الخيلاء، من طريق مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - وكم من حديث أخَّره مسلم وهو من رجال الدرجة الأولى وكم من حديث قدمه وإسناده من رجال الثانية مما يدل أنه لا يبني شيئاً على التقديم والتأخير".
قلت: "أورد مسلم هنا في باب تحريم جر الثوب خيلاء، من كتاب اللباس (14/60 - 63) اثني عشر حديثاً، معظمه عن ابن عمر، والباقي عن أبي هريرة، وكله مرتب بحسب القوة والسلامة فذكر حديث ابن عمر أولاً، وثنى بحديث أبي هريرة؛ لأن حديث ابن عمر أشهر من حديث أبي هريرة كما يبدو ذلك جلياً من التخريج مع كونه عالياً، إذ أن الرواة في حديث ابن عمر أربعة.
وذكر مسلم حديث ابن عمر من عدة طرق، وهي كلها مرتبة، فقد قدم طريق مالك، عن نافع وعبد الله بن دينار وزيد بن أسلم جميعهم عن ابن عمر، على غيره لعلوه وشهرة راويه نافع، وجلالة مالك، ثم أتبعها برواية عبد الله بن نمير وأبي أسامة وأيوب والليث، لأن هؤلاء كلهم دون مالك، ومن هنا تعرف شهرة حديث نافع دون غيره.
ثم ذكر الإمام مسلم رواية مسلم بن يَنَّاق، فرواية مسلم بن يسار، وبعدهما حديث عبد الله بن واقد، لأن هؤلاء جميعاً دون مالك في حديث نافع.
ومن هنا قدم حديث ابن عمر على حديث أبي هريرة، وحديث نافع على غيره من أصحاب ابن عمر، وحديث مالك على غيره من أصحاب نافع، فأصبحت هذه الطرق كلها مرتبة بتقديم الأصح فالأصح، واتضح بطلان القول: بأن مسلماً لا يبني شيئاً على التقديم والتأخير.(1/45)
المثال الرابع:
ويقول الأستاذ:
"رابعاً: كتاب الطهارة، باب السواك، افتتحه مسلم بحديث أبي هريرة بلفظ: "لولا أن أشقَّ على أمتي لأمرتهم بالسواك" وهو حديث متفق عليه، أخرجه البخاري في الجمعة، حديث (847).
2 - ثم عقبه بحديث عائشة: "كان إذا دخل بيته بدأ بالسواك" بإسناد من رجال الطبقة الأولى.
3 - ثم عقبهما بحديث أبي موسى: "دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وطرف السواك على لسانه" رجاله من الطبقة الأولى، وهو حديث متفق عليه، أخرجه البخاري في الوضوء، حديث (241).
4، 5 - ثم عقبه بحديث حذيفة - رضي الله عنه - من طريقين من رجال الطبقة الأولى، وهو متفق عليه، أخرجه البخاري في الوضوء، حديث (242). وفي الجمعة، باب السواك يوم الجمعة حديث (849).
6 - ثم عقبه بحديث ابن عباس بإسناد رجاله من الطبقة الأولى وهو متفق عليه، أخرجه البخاري في التفسير، باب (إن في خلق السماوات والأرض) حديث (4569 - 4572)".
قلت: أورد الإمام مسلم(1) ثمانية أحاديث تختلف في الموضوع، حيث إن حديث أبي هريرة في موضوع السواك عند كل صلاة وحديث عائشة وأبي موسى في موضوع السواك عند دخول البيت وحديث حذيفة وابن عباس في موضوع السواك عند القيام من الليل، وعليه فالأولى أن توضع العناوين لكل حديث بحسب مضمونه، كما فعل الإمام النسائي وأبو داود وغيرهما.
أما الموضوع الأول ففيه حديث واحد، وهو حديث مشهور عن أبي هريرة كما صرح به الإمام الترمذي (2)، وأما الموضوع الثاني ففيه ثلاثة أحاديث، اثنان عن عائشة، والثالث عن أبي موسى، قدم مسلم حديث عائشة على حديث أبي موسى لأنه اشتهر عن المقدام بن شريح الكوفي عند الكوفيين وغيرهم برواية مسعر وسفيان وغيرهما، عن المقدام، وحديث أبي موسى لم يشتهر مثله.
ورتب أيضاً بين حديث مسعر وحديث سفيان، قدم الأول لتسلسله بالكوفيين، وأما الثاني فإسناده كوفي ثم بصري.
وأما الموضوع الثالث ففيه حديث حذيفة وحديث ابن عباس، قدم الأول لشهرته بطرق متعددة، ومنها طريق حصين بن عبد الرحمن ومنصور، والأعمش، أما حديث ابن عباس الذي ختم به الموضوع فلم يشتهر من طريق أبي المتوكل، بل اشتهر من طريق كريب مولى ابن عباس، عنه، ومن طريقه أخرجه البخاري في مواضع من التفسير (8/235 - 237 مع الفتح).
ورتب أحاديث حذيفة إذ قدم حديث حصين بن عبد الرحمن، عن أبي وائل، عن حذيفة على حديث منصور والأعمش لعلوه اعتباراً لكونه أكبر من منصور والأعمش، وكان حصين مُعمِّراً بدون أن يقع في حفظه ضعف واختلاط، حتى يقال عنه "مصحف" لقلة خطئه، ومع ذلك فقد روى عنه هشيم بن بشير أثبت الناس في حصين وأعلمهم بأحاديثه، وكان لفظه أوضح حين قال: "ليتهجَّد".
فلا يقال هنا: "إن هشيماً مدلس، وذكره الحافظ في الطبقة الثالثة من المدلسين، فحديثه دون حديث منصور والأعمش"، لأنه لا يدلس عن حصين بن عبد الرحمن خاصة، حيث لم يفت له شيء من أحاديثه لطول صحبته معه وكثرة ملازمته إياه، ومن هنا قالوا: هو أعلم الناس بأحاديث حصين بن عبد الرحمن وأثبتهم، ولذا قال الإمام أحمد: "هشيم لا يكاد يدلس عن حصين"(3).
__________
(1) انظر شرح النووي ، كتاب الطهارة ، باب السواك ، 3/143-145.
(2) سنن الترمذي 1/34 - تحقيق أحمد شاكر .
(3) شرح العلل لابن رجب ، ص : 389 .(1/46)
المثال الخامس:
يقول الأستاذ:
"خامساً: كتاب الحيض، باب صفة غسل الجنابة، افتتح مسلم هذا الباب بحديث عائشة: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل يبدأ فيغسل يديه. . ." حديث (316) ساقه من ثلاث طرق برجال كلهم من الطبقة الأولى.
ثم عقبه بحديث ابن عباس عن ميمونة: "أدنيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم غسله من الجنابة فغسل كفيه مرتين أو ثلاثاً. . ." الحديث (317).
"ثم عقبه بطرق مدارها على الأعمش كلهم من رجال الطبقة الأولى، وهو حديث متفق عليه أخرجه البخاري في الغسل، حديث رقم 246، 254، 256، 257".
"ثم ختمه بحديث عائشة بلفظ: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة دعا بشيء نحو الحِلاب" وهو حديث متفق عليه أخرجه البخاري برقم 255، فهذا الباب كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها وفيه شرح لبعض الألفاظ، وكم في أبوابه من هذا النوع" انتهى كلام الشيخ.
قلت: أورد الإمام مسلم في صفة غسل الجنابة من كتاب الحيض 3/228 - 233 (شرح النووي) ثمانية أحاديث، بعضها عن عائشة، وأخرى عن ميمونة.
حديث عائشة يدور على هشام بن عروة، عن أبيه عنها، وحديث ميمونة مداره على الأعمش، عن سالم، عن كريب، عن ابن عباس عنها، ورواه عن عائشة أيضاً القاسم.
ومن الخصائص الإسنادية التي راعاها الإمام مسلم في تقديم حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة على غيره الشهرةُ والعلو والجودة في سياق الحديث.
أما الشهرة فقد اشتهر الحديث عن هشام بن عروة برواية أبي معاوية وجرير وعلي بن مسهر وعبد الله بن نمير ووكيع وزائدة، وهؤلاء جميعهم من الأئمة الكوفيين، ثم اشتهر عنهم داخل بلدهم وخارجها.
وأما العلو فعدد الرواة فيه خمسة، وفي حديث ميمونة فسبعة، وأما جودة السياق فكان لفظه تاماً.
وأما حديث ميمونه - وإن كان مشهوراً عن الأعمش - فإنه نازل ولفظه ناقص، وقد أشار مسلم إلى النقص في لفظه، وحديث حنظلة عن القاسم، عن عائشة - وإن كان عالياً - فلم يشتهر عن القاسم حسب تتبعي - وكان لفظه ناقصاً أيضاً.
وساق الإمام مسلم حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة من خمس طرق مرتباً بينها، فصدر الباب بحديث أبي معاوية لأن لفظه تام، وأما الألفاظ الأخرى فهي ناقصة، وأشار إليها مسلم، ثم ذكر طريق زائدة في الأخير لأنه نازل بالنسبة إلى الروايات السابقة.
وكذا ساق الإمام مسلم أحاديث الأعمش مرتباً لها بتقديم حديث عيسى بن يونس على غيره لأن لفظه كان تاماً، والأخرى كلها ناقصة كما أشار إليه الإمام مسلم، وأخَّر حديث عبد الله بن إدريس لأنه مختصر. . .
وبهذا اتضحت الحقائق العلمية التي تمير صحيح مسلم عن المصادر الحديثية كما حرر ذلك الأئمة المحدثون، ولله الحمد.(1/47)
النوع الثالث من الأمثلة
المثال الأول:
وبعد فراغه من عرض هذه الأمثلة ذكر أمثلة أخرى لأبواب افتتحت بأسانيد من الطبقة الأولى وختمت بأسانيد كذلك متفق عليها ليوهم القارىء بأن مسلماً لم يهتم بترتيب الأحاديث بحسب القوة والسلامة، ولم يبذل فيه أبي جهد، بل اهتم بذكر الأحاديث الصحيحة فقط، فقال ما يلي:
"أولاً: كتاب الحيض، باب جواز نوم الجنب واستحباب الوضوء له، افتتح مسلم هذا الباب بحديث عائشة - رضي الله عنها - رقم 305، إسناده رجاله من الطبقة الأولى، وعطف عليه بإسنادين كذلك ثم أورده من حديث ابن عمر رقم 306 بالأسانيد التالية:"
"فقال: وحدثني محمد بن أبي بكر المُقدَّمي وزهير بن حرب قالا: حدثنا يحيى - وهو ابن سعيد - عن عبيد الله ح وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وابن نمير، واللفظ لهما، قال ابن نمير: حدثنا أبي، وقال أبو بكر: حدثنا أبو أسامة، قال: حدثنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر أن عمر قال: "يا رسول الله أيرقد أحدنا وهو جنب"؟ قال: "نعم، إذا توضأ".
"وحدثنا محمد بن رافع، حدثنا عبد الرزاق، عن ابن جريج أخبرني نافع، عن ابن عمر مرفوعاً، وحدثني يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، وهذه الأسانيد من الطبقة الأولى، والحديث متفق عليه أخرجه البخاري من طريق قتيبة عن الليث، عن نافع به، حديث 283، ومن طريق جويرية، عن نافع به رقم 285، ومن طريق مالك، عن نافع به رقم 286، وهذه الإحالات على طبعة البخاري نشر دار القلم".
"ثم أورد حديثاً عن أبي سعيد من ثلاث طرق، مدارها على عاصم الأحول، عن أبي المتوكل الناجي، عن أبي سعيد الخدري بلفظ: "إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود فليتوضأ"، ورجاله من الطبقة الأولى".
ثم أخرجه عن أنس بإسناد من الدرجة الثانية بلفظ: "إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطوف على نسائه بغسل واحد".
"لكن الحديث متفق عليه، أخرجه البخاري في مواضع، منها في الغسل، باب إذا جامع ثم عاد، وفي باب الجنب يخرج ويمشي في السوق، وغيره من طريق قتادة عن أنس".
"وبهذا التصرف يعرف مدى التزام مسلم بالصحة، وأنه لا دخل للترتيب والحسابات والتقديم والتأخير فهذا الحديث جاء في آخر الباب أي أن ترتيبه الثالث عشر في كتاب مسلم، ولكنه في واقع أمره متفق عليه، ويسبق الحديث الأول إلى الدرجة الأولى أو يزاحمه إن كان الأول من المتفق عليه". انتهى.
قلت: إن المتأمل في هذه الأحاديث يتبين له أنها في ثلاث موضوعات مختلفة:
الموضوع الأول: استحباب الوضوء للجنب إذا أراد النوم أو الأكل.
والثاني: جواز النوم قبل الغسل والغسل بعد النوم".
والثالث: استحباب الوضوء لمن أراد أن يعود إلى الجماع.
كما صنع الإمام أبو داود في سننه، حيث إنه وضع العنوان لحديث ابن عمر "باب في الجنب ينام"، ووضع لحديث عائشة الذي صدر به الإمام مسلم به الباب هنا "باب من قال يتوضأ الجنب"، ووضع لحديث أبي سعيد "باب الوضوء لمن أراد أن يعود"، ووضع لحديث عائشة الأخير "باب يؤخر الجنب الغسل".
وكذا الإمام البخاري لما أورد هذه الأحاديث في صحيحه وضع لكل منها عناوين خاصة، فعنون لحديث ابن عمر "باب نوم الجنب" ولحديث عائشة "باب كَيْنونَةِ الجنب في البيت إذا توضأ قبل أن يغتسل" ثم أعاد حديث عائشة وابن عمر من طريق آخر تحت باب "الجنب يتوضأ ثم ينام".
هذا وقد عنون النووي أثناء شرحه لهذه المجموعة من الأحاديث: "استحباب الوضوء للجنب إذا أراد أن يأكل أو ينام أو يجامع"(1)، مضمناً ثلاث موضوعات.
بناء على ما سبق فالأحاديث في الموضوع الأول هي عن عائشة،
وفي الموضوع الثاني عن ابن عمر وعائشة،
وفي الموضوع الثالث عن أبي سعيد وأنس.
أما أحاديث الموضوع الأول فمرتبة بتقديم حديث الزهري عن أبي سلمة، عن عائشة، على حديث إبراهيم، عن الأسود عنها لعُلوه إذ أن الرواة فيه خمسة، وفي الثاني سبعة.
وأحاديث الموضوع الثاني فرتبها بحسب الخصائص الإسنادية،
ذلك أن الإمام مسلماً قدم حديث ابن عمر على حديث عائشة لأنه أشهر حديث في هذا الموضوع ولهذا قال الإمام الترمذي في سننه (1/207):
"حديث ابن عمر أحسن شيء في هذا الباب وأصح" واشار إلى أحاديث الباب بقوله: "وفي الباب عن عمار، وعائشة وجابر وأبي سعيد وأم سلمة".
ومن الجدير بالذكر أن المراد بحديث عائشة الذي أشار إليه الترمذي هنا هو ما روي عن طريق معاوية بن صالح، كما في صحيح مسلم، وعن طريق غضيف بن الحارث عنها، كما في سنن البيهقي، ذلك لأن حديث عائشة الذي رواه الأسود عنها أورده الترمذي قبل هذا الباب مباشرة في باب "الجنب ينام قبل أن يغتسل".
كما أنه لم يقصد بحديث أبي سعيد الحديث الذي جاء من طريق أبي المتوكل عن أبي سعيد مرفوعاً "إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود فليتوضأ" لأنه لا صلة له بالباب الذي ذكره الترمذي، بل أراد به حديث أبي سعيد الذي جاء عن طريق عبد الله بن خَبَّاب عنه "أنه كان تصيبه الجناية بالليل فيريد أن ينام فأمره صلى الله عليه وسلم أن يتوضأ ثم ينام" كما عند ابن ماجه في باب "من قال لا ينام الجنب حتى يتوضأ وضوءه للصلاة" (1/193). والله أعلم.
وأما حديث عائشة الذي أورده مسلم من طريق معاوية بن صالح لم يشتهر كشهرة حديث ابن عمر، ثم إن معاوية الذي دارت عليه الطرق دون رواة الأول في الضبط والإتقان.
ورتب مسلم الروايات عن ابن عمر إذ قدم رواية نافع عن ابن عمر على رواية عبد الله بن دينار عنه لكونها أشهر، فقد روى عن نافع عبيد الله وابن جريج وغيرهما، وأما رواية عبد الله بن دينار فلم تعرف إلا عن طريق مالك كما يظهر من خلال التخريج، على أن نافعاً أجلُّ من ابن دينار.
ورتب ايضاً الروايات عن نافع حين قدم رواية عبيد الله عنه على رواية ابن جريج لأنها أشهر مع أن عبيد الله أجل من ابن جريج بالنسبة إلى أحاديث نافع.
وأما الروايات عن معاوية بن صالح، عن عبد الله بن أبي قيس، عن عائشة فقد رتبها أيضاً إذ قدم رواية الليث عنه على رواية عبد الرحمن بن مهدي وعبد الله بن وهب لأن الليث أقدم منهما فيعتبر حديثه عالياً. والله أعلم.
وأما الموضوع الثالث فأحاديثه مرتبة ترتيباً علمياً إذ قدم فيه حديث أبي سعيد على حديث أنس لشهرته، فقد اشتهر عن عاصم عن أبي المتوكل عن أبي سعيد، برواية حفص بن غياث وابن أبي زائدة ومروان بن معاوية الفزاري.
أما حديث أنس الذي أورده مسلم من طريق هشام بن زيد عنه فلم يشتهر، ولم يخرجه البخاري، وإنما اشتهر عن أنس ما رواه قتادة عنه، كما عند البخاري بلفظ: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يدور على نسائه في الساعة الواحدة من الليل والنهار وهن إحدى عشرة. . ." ولم يرد فيه شيء عن الوضوء أو الغسل.
وأما لفظ أنس الذي عند مسلم من طريق هشام بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطوف على نسائه بغسل واحد.
وبه اتضح جلياً أن قول الأستاذ: "وأنه لا دخل للترتيب والحسابات والتقديم والتأخير، فهذا الحديث جاء في آخر الباب أي أن ترتيبه الثالث عشر في كتاب مسلم، ولكنه في واقع أمره متفق عليه، ويسبق الحديث الأول إلى الدرجة الأولى، أو يزاحمه إن كان الأول من المتفق عليه" مما أرسله الأستاذ جزافاً، وحديث أنس الذي أورده مسلم لم يخرجه البخاري، وهو موضوع آخر ولا صلة له بموضوع حديث عائشة الذي أورده مسلم عن طريق الزهري عن أبي سلمة وهو حديث أخرجه البخاري عن طريق يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة عنها.
__________
(1) شرح النووي 3/215/217 .(1/49)
المثال الثاني:
يقول الأستاذ:
"ثانياً: كتاب الحيض، باب القدر المستحب من الماء في غسل الجنابة (1/255 - 258) افتتحه مسلم بحديث عائشة: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل في القدح" ساقه من ثلاث طرق من الدرجة الأولى، مدارها على الزهري".
"ثم عقبه بحديثها بإسناد رجاله من الدرجة الأولى عن أبي سلمة بن عبد الرحمن "أنه سألها عن غسل النبي صلى الله عليه وسلم فدعت بإناء قدر الصاع. . ." الحديث".
"ثم أورده بإسناد فيه مخرمة بن بكير، عن أبيه فهو من الثانية ثم إن أحاديث عائشة من المتفق عليها".
"ثم ساقه بإسناد رجاله من الدرجة الأولى عن حفصة بنت سيرين، عنها".
"ثم ساقه بإسناد رجاله من الدرجة الأولى عن القاسم، عنها".
"ثم ساقه بإسناد رجاله من الدرجة الأولى عن معاذة، عنها".
"ثم أورد حديث ميمونة من طريقين مدارهما على ابن عباس، عنها من الدرجة الأولى، وهو حديث متفق عليه، أخرجه البخاري من طريق ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس، وأخرجه مسلم بهذا الإسناد وبإسناد آخر عن ابن جريج أخبرني عمرو بن دينار".
"ثم أخرجه مسلم من حديث أم سلمة برجال من الدرجة الأولى إلى زينب بنت أم سلمة، عنها، وهو من الأحاديث التي اتفق عليها الشيخان".
"ثم أخرجه من حديث أنس - رضي الله عنه - من طريقين مدارهما على شعبة، عن عبد الله بن عبد الله بن جبر، عن أنس بلفظ: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل بخمسة مكاكيك، ويتوضأ بمكوك".
"ومن طريق ثالث عن قتيبة، حدثنا وكيع عن معمر، عن ابن جبر وهذا الإسناد من الطبقة الأولى، وهو حديث اتفق عليه الشيخان أخرجه البخاري في الوضوء، باب الوضوء بالمد (15 - 16)".
"ثم أخرجه من حديث سفينة بإسنادين مدارهما على أبي ريحانة، عن سفينة بلفظ: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل بالصاع ويتوضأ بالمد" انظر حديث ميمونة وقد جاء التاسع والعاشر في الترتيب، وهو من الأحاديث المتفق عليها".
"وحديث أم سلمة الحادي عشر في الترتيب وهو متفق عليه وحديث أنس جاء في الترتيب 12، 13، 14، والإسناد الرابع عشر متفق عليه، وحديث سفينة جاء ترتيبه 15، 16، وليس فيه علة والحمد لله، فأين هي العلل والاختلافات والاضطرابات التي يسميها المليباري بالدقائق العلمية، والتي يدعي أن مسلماً أودعها في هذا الترتيب". انتهى كلام الأستاذ.
قلت: إن الأحاديث التي عرضها الأستاذ هي في مواضيع مختلفة وليست في موضوع واحد، كما سنوضحها عند الإجابة، ولهذا قال الإمام النووي في شرحه لها كعنوان: "باب القدر المستحب من الماء في غسل الجنابة، وغسل الرجل والمرأة في إناء واحد في حالة واحدة، وغسل أحدهما بفضل الآخر" وهذا العنوان تضمن موضوعات مختلفة.
وهذا الشارح الأُبي أفرد بعض الأحاديث منها بعناوين خاصة مثل "أحاديث قدر الإناء الذي يغتسل منه"، وأحاديث "صفة غسل المرأة من الجنابة والحيض".
لكن الشيخ الفاضل أدمج جميع هذه الأحاديث التي تبلغ أربعة عشر حديثاً، والتي تختلف في الموضوعات ضمن باب واحد، ثم قام كعادته بالدراسة السطحية فوجدها غير مرتبة، ثم يتساءل مغتراً ببحثه: "فأين هي العلل والاختلافات والاضطرابات التي يسميها المليباري بالدقائق العلمية، والتي يدعي أن مسلماً أودعها في هذا الترتيب".
أما موضوعات هذه المجموعة من الأحاديث فهي على النحو التالي:
أولاً: قدر الإناء الذي اغتسل منه صلى الله عليه وسلم،
ثانياً: غسل الرجل والمرأة في إناء واحد،
ثالثاً: الاغتسال بالصاع والوضوء بالمد.
أما الموضوع الأول ففيه حديث عائشة من ثلاث طرق، رتبها الإمام مسلم بتقديم رواية عروة، على طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن وطريق حفصة بنت عبد الرحمن، لكونه مشهوراً عن الإمام الزهري عن عروة برواية كبار الثقات من أصحاب الزهري عنه، مثل مالك والليث وسفيان بن عيينة، على أن الروايات التي ساقها مسلم كلها متميزة بعلو أسانيدها.
أما طريق أبي سلمة عنها فلم ينل شهرة حديث الزهري مع كون الإسناد نازل، لأن فيها خمسة رواة، وطريق حفصة الذي ثلث بها هي أنزل باعتبارين:
الأول: بعد الإمام مسلم عن الليث براويين، يقول الإمام مسلم: "وحدثني محمد بن رافع، حدثنا شبابة، حدثنا الليث. . ." يعتبر هذا نازلاً، وأما إذا قال حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا الليث فيعتبر عالياً كما وقع له في الحديث الثاني في هذا الباب.
والثاني: كثرة العدد في رواته؛ لأنهم فيه سبعة.
وكذا ساق الإمام مسلم الروايات عن الزهري منسقة وفق فوائدها الإسنادية، فقدم رواية مالك عن الزهري على رواية الليث وسفيان لأن مالكاً أجل، وأن مسلماً سمعه من أوثق شيوخه يحيى بن يحيى النيسابوري.
كما رتب أحاديث أبي سلمة بتقديم حديث أبي بكر بن حفص على حديث مخرمة بن بكير، لأن رواية مخرمة عن أبيه ليست مرتبة رواية شعبة عن أبي بكر بن حفص، وأين مخرمة عن مكانة شعبة وجلالته.
وأما أحاديث الموضوع الثاني فمنظمة أيضاً حسب الخصائص الإسنادية، فقدم حديث عائشة على حديث أم سلمة وميمونة، لكونه معروفاً في المدينة وخارجها، إذ روى عنها القاسم بن محمد أحد فقهاء المدينة السبعة، ومعاذة البصرية، وثبت عنهما الرواية بدون أي خلاف بين الرواة.
وثنى بحديث ميمونة لأنه وقع خلاف بين أصحاب عمرو بن دينار حوله، فقد قال ابن عيينة المكي عن عمرو بن دينار عن أبي الشعثاء، عن ابن عباس، عن ميمونة، بينما يقول ابن جريج المكي عنه، عن أبي الشعثاء، عن ابن عباس، يعني جعله ابن جريج من مسند ابن عباس.
وثلث بحديث أم سلمة لنزوله بكثرة العدد في رواته ولعدم شهرته مثل شهرة حديث عائشة، هذا وقد رتب بين حديث القاسم بن محمد، عن عائشة وبين حديث معاذة البصرية، قدم حديث القاسم لعلوه وتسلسله بالمدنيين، على أن عبد الله بن مسلمة بن قعنب يعتبر أقدم شيوخ مسلم على الإطلاق، وأن القاسم بن محمد أشهر فقهاً وحديثاً عن معاذة البصرية.
وأما الموضوع الثالث ففيه أربعة أحاديث، هي عن أنس وسفينة، قدم حديث أنس على حديث سفينة نطراً إلى أحوال الرواة عنهما أبو ريحانة الراوي، عن سفينة دون مرتبة الراوي عن أنس، كما يدل عليه ما ورد في سياق مسلم: "وقد كان كبر وما كنت أثق بحديثه"، يعني كبر أبو ريحانة وخلط، ولا يوثق بحديثه، هذا حسب تأويل الحافظ بن حجر، أما الإمام النووي فله رأي آخر حول تلك الجملة، وهو: الذي كبر هو سفينة، وعلى كل إن الإمام مسلماً لم يسق حديث سفينة معتمداً عليه، بل ذكره متابعة.
والذي قاله الحافظ هو أقرب للصواب، لأن ابن خلفون قال في ثقاته: إنه - يعني أبا ريحانة - تغير، وأن من سمع منه قديماً فحديثه صالح، وعلى هذا فرواية بشر بن المفضل صالحة لأنه سمعه قديماً، ومهما يكن من الأمر فحديث سفينة دون حديث أنس لأن حديث أنس مما تداوله الثقات الأجلاء. وبه تبين لنا أن الأحاديث كلها مذكورة على نسق علمي واضح حسب مقتضى خصائصها الإسنادية. والله أعلم.(1/50)
المثال الثالث:
يقول الأستاذ:
"ثالثاً: كتاب اللباس والزينة، باب تحريم خاتم الذهب على الرجال (3/1654) افتتح هذا الباب بحديث أبي هريرة مرفوعاً بلفظ: نهى عن خاتم الذهب، ورجاله من الطبقة الأولى، ثم أردفه بحديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى خاتماً من ذهب في يد رجل فنزعه فطرحه. . . الحديث، ورجاله من الطبقة الأولى".
"ثم ثلث بحديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اصطنع خاتماً من ذهب وكان يجعل فصه في باطن كفه إذا لبسه فصنع الناس. . . الحديث، ساقه من طريقين من الطبقة الأولى مدارهما على الليث بن سعد، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - مرفوعاً".
"ثم ساقه من طرق من الطبقة الأولى مدارها على عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعاً، وفي الرواة عن عبيد الله بن يحيى بن سعيد القطان ومحمد بن بشر وخالد بن الحارث، وعقبة بن خالد، وحديث عبيد الله متفق عليه. أخرجه البخاري، كتاب اللباس، باب خواتم الذهب، حديث (5865)، وباب خاتم الفضة حديث (566) ثم ساقه من أربع طرق إلى أيوب وموسى بن عقبة وأسامة بن زيد الليثي جماعتهم عن نافع، عن ابن عمر مرفوعاً" انتهى كلام الأستاذ.
(هذه الأحاديث في صحيح مسلم مع شرح النووي 14/65 - 67).
قلت: هذه الأحاديث الستة في موضوعين:
موضوع تحريم خاتم الذهب على الرجال،
وموضوع نسخ ما كان من إباحته في أول الإسلام.
ولهذا بوب النووي بقوله: باب تحريم خاتم الذهب على الرجال، ونسخ ما كان من إباحته في أول الإسلام، لكن الأستاذ جعل هذه الأحاديث تحت موضوع واحد أو باب واحد، ودرسها دراسة سطحية، وفاته الاطلاع على الدقائق العلمية التي أودعها الإمام مسلم في ترتيبه لها.
أما الموضوع الأول فأورد فيه الإمام مسلم حديث أبي هريرة وحديث ابن عباس مراعياً فيه الترتيب العلمي، بتقديم حديث أبي هريرة على حديث ابن عباس لأنه أشهر من الثاني، وأن رجاله مشهورون بكثرة الرواية والإمامة في الحديث، وأنه تسلسل بالكوفيين.
وإذا وازنت بين شيوخ مسلم وجدت تفاضلاً بين عبيد الله بن معاذ ومحمد بن المثنى ومحمد بن بشار وبين محمد بن سهل التميمي، وأنهم فوق الأخير في المرتبة.
أما حديث ابن عباس - وإن كان عالياً باعتبار عدد رواته - فلم يتصف بما اتصف به الحديث الأول من الخصائص الإسنادية التي بيناها، والله أعلم.
وأما الموضوع الثاني فساق الإمام مسلم فيه حديث ابن عمر من عدة طرق ملتزماً بترتيبها بحسب الخصائص الإسنادية التي تتبين عند الموازنة بينها.
تدور جميع الطرق التي ساقها مسلم على نافع، عن ابن عمر، إذ روى عن نافع كل من الليث وعبيد الله، وأيوب وموسى بن عقبة وأسامة، فقدم رواية الليث لأن الإمام مسلماً سمعها بالعلو من بلده وخارجه، يحيى بن يحيى التميمي نيسابوري، ومحمد بن رمح مصري، وقتيبة بن سعيد بلخي، ثم إن رواية مسلم عن الليث بواسطة راوٍ تعتبر عالية بالنسبة إليه.
أما رواية عبيد الله - وإن كان عبيد الله أجل من غيره - فلم يسمعها الإمام مسلم من بلد عبيد الله المدينة، بل سمعها من خارجها بالنزول إذ الرواة فيه بين مسلم ونافع ثلاثة، بينما في حديث الليث راويان فقط، وشيوخ الإمام مسلم في حديث عبيد الله أبو بكر بن أبي شيبة كوفي، وزهير بن حرب بغدادي، ومحمد بن المثنى بصري، وسهل بن عثمان عسكري، وكذا رواية أيوب وموسى بن عقبة وأسامة جميعهم عن نافع سمعها مسلم بالنزول، وإذا وازنت بين شيوخ مسلم في أحاديث هؤلاء، وبين شيوخه في الحديثين السابقين تجد شيوخه في الأخير دون شيوخه في الأول والثاني.
فبهذه الدراسات المتواضعة حول جميع الأمثلة التي عرضها الشيخ أصبحنا مطلعين على بعض الدقائق العلمية التي أودعها مسلم في ترتيب الأحاديث وتنسيقها في صحيحه، مما يدل على إمامته ودقته وتيقظه وجلالته، ويجعل صحيحه متميزاً عن سائر المصادر الحديثية بذلك المنهج العلمي الرائع، والله أعلم، وله الحمد والشكر.(1/51)
النوع الرابع من الأمثلة
المثال الأول :
قال الأستاذ:
"مثالان لإسنادين صدر بهما مسلم بابيهما وأعلهما غيره.
أولاً: كتاب الطهارة، باب فضل الوضوء، فيه حديث واحد (1/203) قال مسلم - رحمه الله -: حدثنا إسحاق بن منصور، حدثنا حبان بن هلال، حدثنا أبان، حدثنا يحيى أن زيداً حدثه أن أبا سلام حدثه عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان. . ." الحديث".
درسه الأستاذ كعادته فقال:
"إن مسلماً أورده مصدراً به هذا الكتاب، لأنه يعتقد صحته كما يعتقد صحة كل ما يورده في كتابه والحديث من الأحاديث التي انتقدها الدارقطني، ووفقه ابن القطان وابن رجب، وادعوا أن فيه انقطاعاً بين أبي سلام وأبي مالك الأشعري، وتبين بالدراسة وبالرجوع إلى تاريخ الرجال، أن أبا سلام لم يدرك أبا مالك الأشعري، حيث توفي أبو مالك قبل أن يولد أبو سلام.
وليس عندي من المجازفة والمكابرة ما عند بعض الناس، فلم يسعني إلا موافقة الدارقطني ومن تبعه، وقد اعتذر الإمام النووي عن الإمام مسلم - رحمه الله - بأن الظاهر من حال مسلم أنه علم سماع أبي سلام لهذا الحديث عن أبي مالك فيكون أبو سلام سمعه من أبي مالك وسمعه أيضاً من عبد الرحمن بن غنم".
"ولقناعتي بانقطاع إسناد هذا الحديث، حيث تبين لي أن أبا سلام لم يدرك أبا مالك رجحت الانقطاع بينهما استسلاماً للحق، ثم شمرت عن ساعد الجد أبحث عن متابعات وشواهد للحديث، فوجدت - ولله الحمد - طرقاً تقويه تصل إلى درجة الصحيح، ثم اعتذرت عن مسلم بأنه ظن أبا سلام قد عاصر أبا مالك فحكم بصحته بناء على مذهبه في الاكتفاء بمطلق المعاصرة بين الراوي وشيخه مع إمكان اللقاء، ولو أن رجلاً مخلصاً أعلمه يستطيع أن يثبت لقاء أبي سلام لأبي مالك لشددت إليه الرحال لآخذ منه هذه الفائدة، ولقبلت رأسه".
"وهكذا أقول في الأحاديث القليلة التي رجحت فيها جانب الدارقطني، أتمنى بفارغ الصبر من يناقشني فيها وسوف أشد الرحال إلى من يقوم بذلك لأشكره ولأقبل رأسه فرحاً بهذا العمل الجليل، وليعلم القارىء أنني كنت إذا رجحت رأي الدارقطني على رأي مسلم فإنما هو من باب القيام بالقسط في نظري وفي حدود علمي مع إحساسي بالمرارة والأسى".
"ثم أشمر عن ساعد الجد في البحث عما يقوي ذلك الحديث وينهض به، لذا تراني في عملي قد ركزت على الشواهد والمتابعات حتى أصل بالحديث إلى درجة تقر بها عيني وعين كل محب للسنة إن وجدت لذلك سبيلاً، ثم أقول الآن: أين الترتيب الذي يستدل به المليباري؟ وإذا كان من منهج مسلم أنه إذا أدرك في الحديث شيئاً أخره فلماذا لم يؤخره مسلم إلى آخر الكتاب بناء على هذا الزعم". انتهى كلام الأستاذ.
قلت: نلاحظ في كلامه أموراً لا بد من مناقشتها.
أولاً: إننا في صدد مناقشة الأمثلة الحديثية التي لها صلة وثيقة بمنهج الإمام مسلم في ترتيب أحاديثه في الصحيح، وقد نبهنا في مستهل هذا البحث بأن ذلك الترتيب إنما يكون في الأبواب التي تضم أكثر من حديث، ولذا تستثنى من ذلك الأبواب التي لم يرد فيها سوى حديث واحد إذ أنه لا مجال فيها للترتيب أصلاً.
وعلى هذا فصنيع الأستاذ الذي لمسناه في هذا النوع يبدو غريباً لا ينسجم مع طبيعة بحثه التي تنكر وجود منهج للإمام مسلم في ترتيب أحاديث الأبواب؟
ولو كان بحثه يتمحور حول التزام مسلم بالصحيح لكان مثل هذا النموذج جديراً بالطرح والمناقشة! لماذا؟ لأن الإمام مسلماً أورد في هذا الباب حديثاً واحداً على سبيل تصحيحه والاحتجاج به من غير متابعة ولا شاهد، وذلك مما انتقده الدارقطني. وعلى هذا الأساس يعالج هذا الحديث كي يدفع الاعتراض عن الإمام مسلم في تصحيحه والاحتجاج به، وليس من أجل إثبات ترتيب الأحاديث.
ثانياً: جزم الأستاذ في مستهل كلامه بأن "الإمام مسلماً يعتقد صحة هذا الحديث ولهذا صدر الكتاب به"، ثم اختتمه قائلاً: "وإذا كان من منهج مسلم أنه إذا أدرك في الحديث شيئاً أخره، فلماذا لم يؤخره مسلم إلى آخر الكتاب بناء على هذا الزعم".
يبدو من هذا الكلام أننا في مناسبة البحث عن ترتيب أحاديث الكتب في الصحيح، وليس الأمر كذلك؛ بل نحن بصدد البحث عن ترتيب الأحاديث في أبواب الصحيح، وكلامه هذا لا يستقيم إلا إذا قلنا إن أحاديث الكتب هي محل الترتيب في صحيح مسلم، كما لا ينسجم مع عنوانه: "مثالان لإسنادين صدر بهما مسلم بابيهما وأعلهما غيره"، حيث كان مضمون الكلام خاصاً في ترتيب أحاديث كتاب الطهارة، وليس في أحاديث أبوابه.
ثالثاً: اعتذاره عن الإمام مسلم بقوله: "إنه ظن أن أبا سلام قد عاصر أبا مالك فحكم بصحته بناء على مذهبه في الاكتفاء بمطلق المعاصرة بين الراوي وشيخه مع إمكان اللقاء".
أهكذا تورد يا سعد الإبل؟ وهل تثبت المعاصرة عند الإمام مسلم بمجرد الظن، دون رجوعه إلى التاريخ والمعرفة أو الشهرة؟ ثم يحكم بصحة الحديث بناء على ذلك الظن؟ كلا، ثم كلا، الأمر الذي اعتمد عليه مسلم في تصحيحه شيء آخر، كما سنبينه عن قريب - إن شاء الله تعالى - ولو اعتذر الأستاذ عن الإمام مسلم بما اعتذر به الإمام النووي لسلم عن هذه الهفوة الشنيعة.
رابعاً: اهتمامه البالغ بالبحث عما يقوي ذلك الحديث وينهض به من الشواهد والمتابعات. . . حيث قال: "شمرت عن ساعد الجد أبحث عن متابعات وشواهد للحديث، فوجدت - ولله الحمد - طرقاً تقويه تصل إلى درجة الصحيح".
يفهم منه أن الإمام الدارقطني طعن في الحديث وضعفه بالانقطاع وقال: إنه لا يعرف إلا من هذا الطريق المنقطع، وليس الأمر كذلك، وكأن الأستاذ لم يفهم من قول الدارقطني قصده، ومتى كان الحديث ضعيفاً؟ حتى يساعد الأستاذ على ترقيته إلى درجة تقر بها عينه وعين كل محب للسنة!
والحديث لم يطعن فيه أحد، بل ظل صحيحاً عند كل محب للسنة، ولتوضيح قول الإمام الدارقطني أنقله هنا بنصه:
قال الإمام الدارقطني:
"وأخرج مسلم عن إسحاق بن منصور، عن حبان بن هلال، عن أبان، عن يحيى، عن زيد بن سلام، عن أبي سلام، عن أبي مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "الطهور شطر الإيمان والحمد لله تملأ الميزان". وفيه: "الصلاة نور والقرآن حجة" وخالفه معاوية بن سلام رواه عن أخيه زيد، عن أبي سلام، عن عبد الرحمن بن غنم أن أبا مالك حدثهم بهذا" اهـ.
يعني به: أن يحيى خالفه معاوية بن سلام، إذ قال يحيى: عن زيد بن سلام، عن أبي سلام، عن أبي مالك الأشعري بينما كان قول معاوية: عن زيد بن سلام، عن أبي سلام، عن عبد الرحمن بن غنم، عن أبي مالك الأشعري.
فغرض الدارقطني - كما هو واضح من سياق كلامه - بيان المخالفة بين يحيى ومعاوية في ذكر الواسطة بين أبي سلام وأبي مالك الأشعري وعدمه، من غير إشارة إلى أن رواية مسلم منقطعة أو متصلة، ولم يعلق الإمام الدارقطني على هذه المخالفة بشيء.
يعني ماذا قال زيد بن سلام؟ هل قال عن أبي سلام، عن أبي مالك مباشرة؟ أم عن أبي سلام، عن عبد الرحمن بن غنم، عن أبي مالك؟ أم قال على الوجهين جميعاً؟
وليس مقصود الإمام الدارقطني - رحمه الله تعالى - هنا بيان الانقطاع في رواية يحيى التي أوردها مسلم - رحمه الله تعالى - في صحيحه، ولو كان الأمر كذلك لصرح بانقطاعه كعادته في التتبع، ولو فرضنا أنه يريد بيان الانقطاع في رواية يحيى لكانت الرواية التي أوردها الدارقطني عاضداً لها، حيث إن الواسطة المبهمة في رواية يحيى أصبحت معلومة من خلال رواية معاوية التي ذكرها الدارقطني، وهي عبد الرحمن بن غنم، وبذلك ينجبر الانقطاع، وعندئذ لا يكون قول الإمام الدارقطني - رحمه الله تعالى - طعناً في الحديث بل يكون مقوياً له.
إن الموازنة العلمية بين جهابذة المحدثين في آرائهم النقدية تتوقف أساساً على إحاطة شاملة بجميع أسرار منهجهم في التصحيح والتعليل واطلاع واسع يساعد الباحث على فهم مصطلحاتهم النقدية وحل ألغازها، وإلا تتحول علمية الموازنة إلى عبث وجدال ودعاوى فارغة.
إن البحث عن الشواهد والمتابعات القاصرة تتبلور أهميته إذا طعن في الأحاديث ببطلانها أو بوضعها، ولم يقع في التتبع الدارقطني شيء من هذا القبيل.
أما إذا تكلم في الإسناد بمخالفة راويه لغيره أو تفرده بروايته عمن فوقه فدور الباحث أن يبحث عن المتابعات التامة والثابتة التي تزول بها حالة التفرد، أو عن القرائن التي تزول بها المخالفة والتي تدل على أن الراوي قد حفظ الحديث عن شيخه، وحدث كما سمعه منه، وإلا - أي وإن لم توجد المتابعات التامة أو القرائن - فقول الناقد بالمخالفة أو التفرد يبقى سليماً، ولا يرده الشواهد والمتابعات القاصرة التي يشمر الأستاذ عن ساعد الجد في جمعها.
وفي هذا الحديث تكلم الدارقطني بالمخالفة بين يحيى بن أبي كثير ومعاوية بن سلام وليس بانقطاع الإسناد ولا بضعف الحديث ووهنه، بل يفيد صجته ويؤكد ثبوته ما أورده الإمام الدارقطني هنا من رواية معاوية التي تذكر الواسطة، وينجبر بها الانقطاع. وعليه فإن جهد الأستاذ في سبيل بحثه عن الشواهد والمتابعات القاصرة أمر لم يطلبه دور الإجابة على نقد الدارقطني، وإن كان قصد الإمام الدارقطني هو توهين الحديث بانقطاع سنده فإن رواية معاوية لن تكون إلا متابعة لرواية يحيى وتقوية لها.
ومما يعين عليه - كباحث - أن يبحث عن القرائن التي تدل على أن أبا سلام قد حدث على الوجه الذي رواه عنه يحيى بن أبي كثير وعلى الوجه الذي روى عنه معاوية بن سلام، يعني حدث أبو سلام مرة عن أبي مالك الأشعري مباشرة، وأخرى عنه بالواسطة، وبذلك تزول المخالفة التي صرح بها الإمام الدارقطني، ثم يجب عليه أن ينظر في إسناد يحيى بن أبي كثير أمنقطع هو أم متصل؟
أما لو تكلم الدارقطني في هذا الحديث بأنه منقطع، ولا يعرف المتن إلا من هذا الطريق المنقطع فعلى الموازن أن يبحث عن شواهد لأنها تزيل الشبهة التي أثارها الناقد بقوله: إن المتن لا يعرف إلا من هذا الطريق المنقطع، أو عن المتابعات التي ينجبر بها الانقطاع الذي أشار إليه الناقد. ولم يتكلم الدارقطني بذلك في هذا الحديث، وإنما تكلم بالمخالفة بين يحيى ومعاوية عن زيد بن سلام.
فإذا ثبت أن أبا سلام قال على الوجهين جميعاً فلا بد من البحث عن اتصال سند يحيى، لأن ورود واسطة بين أبي سلام وأبي مالك في رواية أبي معاوية لا يعني بالضرورة أن إسناد يحيى منقطع، لاحتمال أن يكون أبو سلام قد سمع أولاً من أبي مالك، ثم سمعه أيضاً من عبد الرحمن بن غنم عن أبي مالك، وأبو سلام حدث مرة هكذا وأخرى هكذا.
وأما في حالة ثبوت أن أبا سلام لم يحدث عن أبي مالك مباشرة وإنما حدث بواسطة عبد الرحمن بن غنم فمعناه أن يحيى بن أبي كثير تصرف في الرواية، وأسقط منها الواسطة التي ذكرها أبو سلام، وفي هذه الحالة يظهر انقطاع السند، وأن هذا الانقطاع لا يضره لمعرفة الواسطة، وهي عبد الرحمن بن غنم.
وأما إن كان القول الثابت هو قول يحيى بن أبي كثير فإن في رواية معاوية خللاً يتمثل في زيادة راوٍ بين أبي سلام وأبي مالك، دون أن يذكره أبو سلام، وعليه فإن أبا سلام لا يكون له علاقة بما حدث في السند من ذكر الواسطة، ثم تأتي أهمية البحث عن مدى الاتصال في سند يحيى هل سمعه أبو سلام من أبي مالك أم لا؟(1/53)
أما أن نفهم من قول الدارقطني في كتابه التتبع أن الإسناد منقطع فهماً مباشراً فأمر غير سليم في ضوء الواقع النقدي.
ويبدو من صنيع الإمام مسلم أنه يرى صحة رواية يحيى وأنها متصلة، وأن رواية معاوية بن سلام لم تعد مخالفة لها حيث إن زيد بن سلام حدث على الوجهين جميعاً، ولهذا ذكر هذا الحديث من طريق يحيى على سبيل الاعتماد والاحتجاج دون أن يذكر له متابعاً ولا شاهداً.
وعلى كل حال فالذي يهمنا هنا هو النظر في إسناد هذا الحديث أمتصل هو أم منقطع؟ وقد ذهب كثير من المتأخرين، مثل الحافظ العلائي، وابن رجب الحنبلي، والنووي، وابن القطان الفاسي وغيرهم، إلى أن سند يحيى منقطع، بناءً على ما قاله الإمام الدارقطني في كتابه التتبع والذي سبق نقله بنصه.
وقد أوضحنا سابقاً أن قول الإمام الدارقطني هذا مبهم في إفادة الانقطاع وصريح في دلالته على وجود مخالفة بين يحيى بن أبي كثير ومعاوية بن سلام في ذكر الواسطة بين أبي سلام وبين أبي مالك الأشعري، يعني ماذا قال أبو سلام هل قال عن أبي مالك مباشرة؟ أم عن عبد الرحمن بن غنم عن أبي مالك بواسطة؟
وهنا لم يرجح الإمام الدارقطني هذا ولا ذاك، فمقصوده بهذا بيان المخالفة بين يحيى بن أبي كثير ومعاوية بن سلام، لا بيان الانقطاع، ولا يعرف الانقطاع إلا ببحث مستقل كما أشرنا إليه سابقاً.
ومن المتأخرين من أيد الانقطاع بأن أبا مالك الأشعري قديم الوفاة، لم يلقه أبو سلام الشامي، وتوفي أبو مالك الأشعري في عهد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كما ذكره الإسناد.
لكن يظهر من صنيع الإمام مسلم أنه يرى صحة السند وأنه لا يشوبه شيء من الانقطاع، وقد أورد مسلم بهذا السند حديثين صحيحين، أحدهما هذا الحديث، والثاني حديث: "أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن، الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم. . ." في كتاب الجنائز 6/235 (شرح النووي).
وإسناد الحديث الثاني كان صريحاً في سماع أبي سلام من أبي مالك الأشعري، حيث قال مسلم:
"حدثنا أبو أبكر بن أبي شيبة، حدثنا عفان، حدثنا أبان بن يزيد ح، وحدثني إسحاق بن منصور - واللفظ له - أخبرنا حبان بن هلال، حدثنا أبان، حدثنا يحيى أن زيداً حدثه، أن أبا سلام حدثه، أن أبا مالك الأشعري حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال. . .".
وهذا الحديث لم ينتقده أحد من النقاد، بل هو صحيح صححه الإمام البغوي في شرح السنة 1/319 و 5/436. وبه يحتج على سماع أبي سلام من أبي مالك الأشعري.
وعليه فأبو مالك الأشعري اثنان أحدهما متقدم والآخر متأخر، وإليه ذهب بعض الأئمة، ويرى بعضهم أن أبا مالك صاحب أبي سلام اسمه الحارث بن الحارث الأشعري.
قال الحافظ في تهذيبه: "أبو مالك الأشعري الذي روى عنه أبو سلام وشهر بن حوشب ومن في طبقتيهما هو الحارث بن الحارث الأشعري وتأخرت وفاته، وأما أبو مالك الأشعري فهو آخر قديم الوفاة، مات في خلافة عمر - رضي الله عنه. وذهب أبو نعيم إلى أنهما واحد إذ أنه ذكر في الرواة عن الحارث الأشعري جماعة ممن يروي عن أبي مالك الأشعري، إلا أن ابن الأثير قال: والصواب أنه غيره، وأكثر ما يرد غير مكنى، وقد فرق بينهما كثير من العلماء، منهم أبو حاتم وابن معين وغيرهما، وعلى هذا فيرد على المزي كونه لم يذكر أن مسلماً روى للحارث بن الحارث هذا".
قلت: إن الطبراني أيضاً ذهب إلى أنهما واحد، وأن اسمه الحارث بن الحارث الأشعري، إذ أورد الإمام الطبراني في معجمه الكبير 3/284 حديث: "الطهور شطر الإيمان" من طريق يحيى بن أبي كثير ومعاوية بن سلام تحت ترجمة الحارث بن الحارث الأشعري، بينما يرى الدارقطني خلافه، لأنه ذكر الحارث بن الحارث في أسماء الصحابة الذين لم يورد لهم مسلم أحاديثهم (انظر الإلزامات ص: 100).
والصواب الذي نجزم به هو أنهما اثنان بناء على الحديث الصحيح الذي ذكرناه آنفاً، سواء أقلنا: إن أبا مالك الذي روى عنه أبو سلام اسمه الحارث أم أنه لا يعرف اسمه. وذكر الإمام مسلم لهذا الحديث على سبيل الاحتجاج لم يكن منه إلا على أساس ثبوت سماع أبي سلام من أبي مالك الأشعري عنده من خلال تصريح أبي سلام بذلك في حديثه الثاني.
وأما ما رواه معاوية بن سلام بذكر الواسطة بين أبي سلام وأبي مالك الأشعري فيحمل على أن أبا سلام سمعه من أبي مالك مباشرة، ثم سمعه من عبد الرحمن بن غنم، عنه، كما ذهب إليه الإمام النووي. والله أعلم.(1/54)
المثال الثاني:
أما المثال الثاني فهو حديث المغيرة بن شعبة في مسح الناصية والعمامة والخفين، ذكره الأستاذ ليوضح أن مسلماً بدأ هذا الباب بحديث معلول أعله الدارقطني، وختمه بحديث رجاله من الطبقة الأولى مما يدل على أنه لم يعط للترتيب اهتماماً.
فأقول: أورد مسلم في موضوع المسح على مقدم الرأس، وعلى العمامة والخفين أربعة أحاديث، ثلاثة منها عن المغيرة، والرابع عن بلال، فقد حديث المغيرة على حديث بلال لأنه أصح، مع أن حديث بلال قد ورد فيه خلاف كثير ذكره الدارقطني في العلل، وساق حديث المغيرة من طريقين: طريق حميد، وسليمان، وأورد حديث سليمان من طريقين: طريق المعتمر ويحيى بن سعيد.
فذكر أولاً حديث حميد الطويل، ثم حديث المعتمر، وبعدهما حديث يحيى بن سعيد، مراعياً في ذلك الترتيب العلمي بحسب الخصائص الإسنادية، منها العلو والنزول، وجودة السياق، أما العلو والزول فإن حديث حميد والمعتمر عاليان، وحديث البقية نازل، وأما جودة السياق فكان لفظ حميد تاماً، والأحاديث الأخرى فمختصرة جداً.
يلاحظ فيما ساقه مسلم ثلاثة أمور، هي:
أولاً: وقع في حديث حميد الطويل (عروة بن المغيرة) مصرحاً باسمه، بينما هو في الروايات الأخرى (ابن المغيرة) مبهماً.
ثانياً: تلتقي جميع الطرق عند بكر بن عبد الله.
ثالثاً: روى بكر بن عبد الله عن ابن المغيرة مباشرة، وعن الحسن عن ابن المغيرة بالواسطة.
وهذان الإسنادان ليس فيهما كلام، وهما ثابتان، لأنه قد صرح بكر بن عبد الله أنه سمعه من ابن المغيرة، فالحسن في الرواية الأخيرة مزيد في متصل الأسانيد على اصطلاح المحدثين.
خلاصة ما في الأمر الأول، أن بكر بن عبد الله لم يحدث عن عروة بن المغيرة هذا الحديث، وإنما حدث عن ابن المغيرة، واسمه حمزة، فذكر عروة في حديث بكر وهم وخطأ، كما صرح به النقاد، لكنهم اختلفوا من الخاطىء فيه، يرى بعضهم أنه مسلم، ويرى الآخر أنه شيخه محمد بن عبد الله بن بزيغ.
والصواب - فيما أرى - أن الخطأ وقع من الإمام مسلم، ولعله سبق لسان منه دون أن يشعر به، لأنه كان يحفظ حديث بكر بن عبد الله كما يحفظه الآخرون، وسمعه من شيخه محمد بن عبد الله بن بزيغ على الصواب عن ابن المغيرة، وليس عن عروة بن المغيرة.
والدليل على ذلك ما ساقه مسلم في كتابه التمييز ص: 154 - 156 من الروايات العديدة عن المغيرة، وقد استوعب فيه أكثر مما أورده هنا في الصحيح ليشرح العلة التي وقعت في المتن، ومن جملة الروايات رواية بكر بن عبد الله التي نحن بصدد تحقيقها، أطلق فيها مسلم بقوله: "وبكر عبد الله عن ابن المغيرة، عن المغيرة، وسليمان التيمي، عن بكر، عن الحسن، عن ابن المغيرة بن شعبة، عن أبيه".
ذلك لأنه لو كان يحفظ هذا الحديث عن شيخه محمد بن عبد الله بن بزيغ مخالفاً للناس في قوله: "عروة بن المغيرة" بدل "ابن المغيرة" لما أطلق القول هكذا "وبكر بن عبد الله، عن ابن المغيرة"، بل ساقه كما سمعه من شيخه محمد بن عبد الله بن بزيغ، وما سمعه من غيره، ليشرح ما بينهما من خلاف، ألا تراه يشرح ما في حديث بكر بن عبد الله من ذكر الواسطة وعدمها؟
يعني هذا أنه كان يحفظ من شيخه محمد حديث بكر كما يحفظه الناس على الصواب، لكن حين روى هذا الحديث في الصحيح كأن لسانه سبق إلى "عروة" بدل أن يقول "ابن المغيرة"، دون أن يشعر به، كما وقع ذلك في حديث "سبعة يظلهم الله"، إذ ذكر فيه: "حتى لا تعلم ما تنفق شماله" بدل أن يقول: "حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه".
وعلى ذلك فإن الإمام مسلم لم يقدم حديث حميد الطويل مع علمه بالخطأ الذي وقع منه، بل صدر به الباب معتقداً بأنه على الصواب، وبهذا يتضح فساد قول الأستاذ "أورد مسلم في أول الباب حديثاً أعله غيره من لانقاد ولو كان مسلم - رحمه الله - أعطى للترتيب هذا الاهتمام لعاتب هؤلاء المحدثون" ولا يستقيم له هذا إلا إذا أثبت أن الإمام مسلماً أعله أيضاً، والله أعلى وأعلم، والحمد لله رب العالمين.(1/55)
الخاتمة
في ختام دراستنا هذه يجدر بنا أن نستخلص أهم النقاط العلمية التي حققناها أثناء هذا البحث:
أولاً: أن الإمام مسلماً وضع في كتابه الصحيح منهجاً علمياً فريداً من نوعه إذا ركز فيه على ترتيب الأحاديث في جميع أبوابها التي تضم أكثر من حديث، وذلك وفق مقتضى الخصائص الإسنادية والفوائد الحديثية التي تتوافر في كل حديث من تلك الأحاديث، فيصدر الأبواب بأصح ما عنده من أحاديثها.
وإن كنا قد وجدناه في مقدمته يصرح بتقديم أحاديث الطبقة الأولى على أحاديث الطبقة الثانية فإن ذلك لم يكن منه إلا على سبيل المثال، وإلا فقد تأكدنا أثناء دراستنا لأحاديثه على أن ترتيب الأحاديث غير مقصور على تلك الصورة التي صرح بها، بل الترتيب كان يشمل جميع أصناف الأحاديث التي يوردها في الأبواب حتى وإن كانت كلها من أحاديث الطبقة الأولى.
لقد رأيناه - رحمه الله - يرتب أحاديث الباب على مراحل، فإن كانت أحاديثه مروية عن غير واحد من الصحابة فيتم الترتيب أولاً بين الصحابة، ثم إن كان حديث كل منهم مذكوراً بأكثر من طريق فالترتيب يكون بين رواته الذين تدور عليهم تلك الطرق، ثم إذا أتى بأحاديث هؤلاء الرواة من طرق متعددة فلا يكون ذلك إلا على الترتيب بينها أيضاً، وهكذا كلما يذكر الإمام مسلم حديثاً في باب من الأبواب بطرق متعددة فإن الترتيب يكون على مراحل متفاوتة طبق ما بيَّنا.
ومن أهم الخصائص العلمية التي لاحظنا الإمام مسلماً يعتمد عليها كثيراً عند الترتيب هو شهرة الحديث بين ثقات الرواة وعلو إسناده عنده بكافة معاييره التي لا يطلع على كثير منها إلا نقاد الحديث، وينبغي اعتبار الأصحية والأفضلية التي يوصف بها الحديث هنا أمراً نسبياً لا مطلقاً، فقد يكون الحديث عند مسلم أصح باعتبار خاص له ولا يكون كذلك عند الإمام البخاري أو غيره من الأئمة.
ومن جملة الخصائص الإسنادية التي لفتت انتباهنا كثيراً لدى شرح كيفية ترتيب الأحاديث في صحيح مسلم هو تسلسل الإسناد بأشكال متنوعة، وأما جودة المتن وكما سياقه فيعتبران من أهم أسباب التفاضل بين الروايات أيضاً في حالة ما إذا صح ذلك المتن، وقد وجدنا لها أمثلة أثناء الدراسة، وهناك أسباب كثيرة للتفضيل والترجيح بين المرويات يتوقف استجلاؤها والاقتناع بوجاهتها على إحاطة شاملة بجميع أسرار النقد ومنهج المحدثين النقاد في ترجيح الروايات وتصحيحها وتعليلها.
ومما ينبغي أن نشير إليه في هذه المناسبة أن ما كان يقدمه الإمام مسلم في الأبواب من الأحاديث ويُصدرها بها فقد نصادف الإمام مسلماً ينص بأصحيته في موضع آخر مثل كتابه "التمييز" كما نصادف غيره من الأئمة يصرح بأصحيته، وهذا كله يزيد نتائج دراستنا قوة وقبولاً واعتماداً، انظر على سبيل المثال الصفحات التالية من هذا البحث.
ولئن كان موضوع الترتيب قد استبان بوضوح من خلال دراستنا فإن موضوع بيان العلل في صحيح مسلم على سبيل الاستطراد، والذي لا يعتبر من خصائص منهج الإمام مسلم لكون ذلك من عادة الجميع من المؤلفين المحدثين، يعد ذلك نتيجة أخرى قد حققناها من خلال الدراسة.
ثانياً: أننا استدللنا لهذا المنهج بما صرح به الإمام مسلم في مقدمته للصحيح، وبأقوال العلماء الكثيرين - مثل القاضي عياض، وأبي مسعود الدمشقي، وابن الصلاح، والنووي، وابن حجر، وابن رشيد الفهري، والسيوطي، والقسطلاني، وطاهر الجزائري، والمباركفوري وغيرهم - وإن كانت نصوصهم في هذا الصدد على شكل مجمل فإننا قد وجدنا ذلك المنهج بوضوح ومفصل أثناء دراستنا لجميع الأمثلة الحديثية التي اعتمد عليها الأستاذ لإنكار ذلك المنهج.
ثالثاً: أن الأستاذ قد افترأ عليَّ أمرين، قد استجلينا حقيقتهما من غير مساس لكرامته، وهما:
1 - أن الإمام مسلماً التزم بيان العلل في صحيحه،
2 - وأن بيانه يتم عن طريق ترتيب الأحاديث.
ولم أقل - والله - شيئاً منهما على هذا الشكل، والذي قلته هو أن الإمام مسلماً يرتب الأحاديث بتقديم الأصح فالأصح، وأنه يبين العلل في بعض المواضع من كتابه الصحيح على سبيل الاستطراد والندرة وليس مقصوداً بذاته.
ومن هنا نستبين أن ذينك الأمرين هما أساس كل التهم التي أجاد الأستاذ في إلصاقها بعقيدتي وأبدى مهارته الفائقة في إضفاء الشرعية لسعيه في سبيل ذلك، وفي كتابه بعض أساليب التجريح ومصطلحات السب والشتم لم أكن أعلم بها من قبل، وإني أسمعها - لسوء حظي - لأول مرة من الأستاذ، وقد تغاضينا عنها كلها في هذا البحث وصبرنا عليها وتحملنا آثارها المؤلمة إيماناً واحتساباً واحتراماً لعلمية الموضوع وإبقاء على صفائه ورجاء لنتفاع القارىء به. وهذا لم يمنعني أن أستفيد من جميع أخطائه وشبهاته في سبيل توضيح منهج النقد عند المحدثين وبلورة معالم علوم الحديث رواية ودراية من غير مساس لكرامته وتقليل لشأنه. وذلك أبلغ في البيان، ولله الفضل والمنة.
وكثير من المسائل العلمية التي حققناها في عديد من المناسبات العلمية التي مرت علينا في هذا المبحث لم تكن بارزة لعدم اهتمامي بتنويع العناوين وتفخيمها، ولهذا وضعنا فهارس مفصلة لمحتوى هذا البحث.
وزيادة الثقة وموقف المحدثين النقاد تجاهها من أهم تلك المسائل العلمية التي أوضحنا حقائقها بفضل الله تعالى، وله الحمد والشكر دائماً وأبداً.
ولولا رغبتي في تحريك همم طلبة الحديث نحو تعميقهم في فهم هذا العلم العظيم الذي دافع به سلفنا الصالح عن السنة النبوية - المصدر الثاني للشريعة الإسلامية - لما كتبت هذا البحث. والله أسأل أن يجعل هذا البحث عملاً صالحاً ينفعني والمسلمين، وأن يتقبله مني قبولاً حسناً، وأن يتجاوز عني فيما أخطأت.
ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم.
والله من وراء القصد وهو ولي التوفيق، والحمد لله رب العالمين.(1/56)
ملحق خاص بالرد على الشيخ ربيع المدخلي
لقد صدر في عام 1408 هـ عن مكتبة الدار بالمدينة المنورة كتاب تحت عنوان (( منهج الإمام مسلم في ترتيب كتابه الصحيح ودحض شبهات حوله )) لأحد أساتذة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة .
ويحمل هذا الكتاب في طيّاته ردوداً منفعلة ضمن سلسلة حوار تحريري دار بيني وبينه حول بعض أهم القضايا الإسنادية وأدقها وأغمضها ، لقد بدأ الحوار من نقطة علمية بسيطة تتمثل في حديث ورد عن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ في فضيلة الصلاة في المسجد النبوي ـ على صاحبه أزكى الصلاة والتسليم ـ .
وذلك حين أوقفته على أخطاء علمية فادحة وقعت منه أثناء دراسته لهذا الحديث ، في رسالته للماجستير ، التي طبعت بالهند بعنوان (( بين الإمامين مسلم والدارقطني )) والتي وصفها بنفسه بأنها مناقشة علمية قائمة على الحجج القوية ، وحظيت بالتقدير والاحترام في الأوساط العلمية ( ؟ ) .
ذلك أن الأستاذ همّ بدراسة هذا الحديث ضمن مجموعة من الأحاديث من صحيح مسلم المعلولة من قبل الإمام الدارقطني أحد أئمة الحديث و النقد ، لنيل درجة التخصص الأولى ـ الماجستير ـ في قسم الكتاب والسنة ، بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية ، بجامعة الملك عبد العزيز بمكة المكرمة سابقاً .
وبعد قضاء الليالي والأيام في دراسة الحديث وتخريجة وترجمة رواته توصل الأستاذ إلى نتيجة تُرضي العقلاء ! ـ على حدّ تعبيره ـ من تصحيح ذلك الحديث المعلول ، مخالفاً فيه لجمع من الأئمة النقدة الذين أعلوه .
تلك هي النتيجة التي كان الأستاذ معجباً بها ، إذ قال في نقده الأول ص : 58 : (( ولو درس أبو حاتم وغيره من الأئمة حتى البخاري دراسة وافية لما تجاوزا في نظري النتائج التي وصلتُ إليها ، لأنني بحمد الله طبّقتُ قواعد المحدثين بكل دقّة ، ولم آل في ذلك جهداً )).
ولما قلتُ له : (( هذا كلامٌ مرفوض وخطير )) قال : (( نعم أنا قلتُ هذا وهو منطق إسلامي به أخذ المسلمون وأعطوا وقبلوا وردوا )) [ منهج الإمام مسلم ص 134 ] .
وأثناء تحضيري لرسالة الدكتوراه في قسم الكتاب والسنة بجامعة أم القرى بمكة المكرمة عام 1407 هـ مَرّ بي هذا الحديث عن ابن عمر ، وصادفتني رسالته للماجستير (( بين الإمامين )) وطالعت فيه ما بحثه حول هذا الحديث المعلول ونتائجه التي توصّل إليها قصد وقوفي على أمور قد تساعدني على معرفة الأمر الذي الواقع الذي من أجله أعله جكع من النقاد .
فإذا هو يتجرأ على مخافة الأئمة ، وتخطئتهم فيه ، دون أن يكون بيده دليل ترد به آراؤهم رداً موضوعياً ومنهجياً بل جُل ما لديه من الأدلة على النحو التالي :
إنه لم يقف على الأمور الغامضة التي من أجلها أعلوه .
وإن الإمام مسلماً أورد في صحيحة هذا الحديث .
وإن ظاهر الإسناد سليم .
واستوقفني أسلوبه في الدراسة ، وسطحيته في النظر ، فدفعني لتتبع الموضوع بدقة ، فتبين لي جلياً ـ بفضل الله تعالى ـ أن الأئمة إنما أعلوه لوجود علة في إسناده ، وتتسم هي بغاية من الدقة ، ثم سجلتُ ذلك في وُريقات على أسلوب علمي وبتواضع ، إذ أنني لم أصرح فيها بتخطئته بشكل يثير الإنفعال ، ثم بعثتها له قبل أن يطلع عليه أحد من أساتذتي وزملائي سوى زميلي وأخي الشيخ سيف الرحمن مصطفى ـ رحمه الله تعالى وأدخله في فسيح جنانه ـ .
وأوضحت فيها أن الأستاذ لم يكن لديه أي دليل يبرر مخالفته للأئمة النقدة في تصحيح ذلك الحديث الذي أعله النقاد ، أضف إلى ذلك أن ذكر الإمام مسلم لم يكن فيه دليل قطعي على صحة الحديث عنده ، ذلك أنه رسم في صحيحه منهجاً علمياً رائعاً كما بينه مفصلاً في مقدمته ، من ترتيب الأحاديث حسب القوة والسلامة ومن شرح العلل في بعض المواضع منه حسب المناسبة ، وقد ذكر مسلم حديث ابن عمر في آخر الباب بعد أن اعتمد على حديث أبي هريرة في فضل الصلاة في المسجد النبوي بتقديمه من مقدمة الباب ، و الذي لم يختلف في صحته أحد من النقاد .
فمنهج الإمام مسلم في صحيحه كافٍ لفهم مدى إدراكه العلة التي تكمن في حديث ابن عمر ، كما أدركها الجهابذة في مختلف العصور ، لأن هذا الترتيب يدل على أن حديث ابن عمر دون حديث أبي هريرة في السلامة والقوة عند الإمام مسلم ، وأنه بيان ما فيه من علة بذكر وجوه الاختلاف فيه .
إلا أن الأستاذ لم يرض ذلك مني ، بل تسبب لانفجار غضبه وغيضه وإشعال نار الثورة في أعصابه ، فواجهني بأساليب لا تليق إلا بمن أخذته العزة بالإثم فتطور الحوار ، فجائت رسالته (( منهج الإمام مسلم في ترتيب كتابه الصحيح ودحض شبهات حوله )) رداً ثانياً منفعلاً سارع إلى طبعه ونشره لغرض أراده ، فالله يحاسبه عليه ويجازيه حسب نيته .
يؤسفني أن أقول إن الأستاذ لم يكن موضوعياً ، ولا متبعا ً منهجاً علمياً واضحاً متأثراً من بداية الرسالة إلى آخرها ، فقد ظهر من خلالها رجلاً غاضباً متأثراً بغيظه بحيث لا يشعر بخطورة ما يتناثر من قلمه من تلفيق بين نصوصي وتأويلها بما يحلو له من المعاني الغربية التي لم أقصدها وتقوّله على بما لم أقله ، يقذفني بوابل من التهم الخطيرة التي أنا برئ منها جميعها ويصب علىَّ جام غضبه .
وعجباً لأستاذ مشارك ورئيس شعبة السنة بالدراسات العليا بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة لا يكون موضوعياً في نقده ، وقد وقف القارئ فيما سبق على نوعية أسلوبه في مواجهة نقده لأئمة من أسلافنا البررة ، والمحرمين لدى الأئمة فكيف يكون أسلوبه حين يواجه طالباً وافداً يدرس في (( عقر داره )) ونبه على خطئه العلمي الفادح ! .
ولقد حاول الأستاذ في رسالته (( منهج الإمام مسلم )) أن يهيئ لنفسه جواً ملائماً لانكار أمر واقع صرح به الإمام في مقدمته للصحيح ، وطبقه في تضاعيف كتابه بصورة واضحة ، من ترتيب الأحاديث حسب القوة والسلامة ومن بيان العلل وشرحها في بعض المواضع من الكتاب حسب المناسبة تبعاً كما هي العادة عند كثير من الأئمة المحدثين في مصنفاتهم ، ثم أقره الأئمة ممن شرحوا له وغيرهم .
فقد أورد الأستاذ فيها عشرين مثالاً من أحاديث صحيح مسلم التي تربوا على العشرة آلاف حديث ، ودرسها دراسة سطحية على عجل ، بعيداً عن منهج المحدثين وقواعدهم ، مكتفياً من النظر قي أحوال رواة الحديث بما في (( التقريب )) ، فأوقع نفسه في عديد من الأخطاء والأوهام .
ذلك أنه تداخل عليه راوٍ فيقول عن ثقة ، هذا راوٍ ضعيف قدم الإمام مسلم حديثه ، وهذا ثقة أخّر مسلم حديثه ، فأين الترتيب المزعوم ؟
وتراه يأتي بأحاديث من وسط الباب أو من آخره مع جملة من الأحاديث من أول الباب الذي يليه ، ثم يقول : (( هذه مجموعة من الأحاديث لم يراع فيها مسلم الترتيب ، فأين الترتيب المزعوم )) ؟ .
ونراه يخلط بين أبواب مختلفة ويجعلها باباً واحداً ، ثم يقول هذه أحاديث لم يرتبها فأين الترتيب ؟ ونراه أيضاً يخلط بين مناهج المحدثين ، فيجعل منهج الحافظ بن حجر في التقريب من تقسيم الرواة حسب الجرح والتعديل معياراً وحيداً لمعرفة مراتبهم جرحاً وتعديلاً عند الإمام مسلم في صحيحه ، ـ ومعلوم أن الحافظ بن حجر لم يكن يعتمد فيه على مذهب الإمام مسلم ـ ويقول : هذا راوٍ قال فيه الحافظ : (( صدوق )) قدم مسلم حديثه ، وهذا راوٍ قال فيه الحفظ : (( ثقة )) أخّر حديثه ، فأين الترتيب ؟
وما إلى ذلك من الأمور العجيبة الغريبة ، وقفنا عليها أثناء مباحثنا الإسنادية في المحور الثالث لدراسة الأحاديث التي تعلق بها الأستاذ ليبرر إنكار ذلك المنهج العلمي الفيد الذي أعلن عنه الإمام مسلم في مقدمته وطبقته في تضاعيف كتابه الصحيح .
وسعى الشيخ فيها سعياً حثيثاً لإيجاد فُرَص تتيح له إهدار عرضي دون أي خجل ول ورع ، من خلال تصرفاته المُدهشة ، لعب بها في نصوصي بالتلفيق بينها ، ثم بالتأويل بما لم يخطر ببالي ، ثم بالتقول عليَّ بما لم أقله زوراً وبهتاناً .
فمثلاً أنه ينسب إليَّ دعوى أن الإمام مسلم التزم بيان العلل في صحيحه وأن شرح العلل هو بتقديم الأحاديث وتأخيرها ، وأن كل حديث يُذكر في آخر الباب من الصحيح معلول ، وهذه أمور لم أقلها أبداً ، ولم أتصورها يوماً ، بل كان الأستاذ الفاضل يكرر ذلك في مواضع كثيرة من الرسالة ليقذفني بوابل من التهم ، ويصبَّ علي َّ غضبه ، ويثير الشكوك في ديني وعقيدتي ليخفي وراءه ما وقع فيه من الأخطاء العلمية الفادحة ، ويستجلب إليه عواطف القراء ويبقى الأستاذ عندهم رجلاً فاضلاً محققاً مدققاً ، ومحترماً لا يُخطئ ولا يغفل .
ومن هنا تهيأ الجو لأن يقول : (( وإن مقتضى هذه الدعوة ـ يعني بيان العلل بالتقديم والتأخير ـ أن ما ساقه مسلم في أول كل باب فهو صحيح وأن ما أخّره ولو جاء من طرق فهو مُعلّ بحيث لا يصلح في المتابعات وما هذا الباب إلى مثالاً لتطبيق هذه القاعدة ، فناقشته في أمر لا يُطاق ، فأي مسلم يعرف مكانة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يهون عليه أن يرى من يقعد من لا يدري أو يدري لنسف ثاني أصح الكتب بعد كتاب الله بحيث لا يستثني هذه القاعدة إلا في الأحاديث الأوائل ، كما يحاول قذف قنبلة هيروشيما على مدينة من أرقى المدن ، ويقول في هدوء ورفق لا تخافوا من تدمير هذه القنبلة ، فإنها سوف تبقى في كل بيت وأسرة أوائلها وأقوى وأصح أفرادها ثم يصرّ على قذفها ، واجهت هذا الإتجاه الخطير بصبر ، وناقشته في هذه القاعدة التي يدعي جهلاً على أحسن أحواله ... )) .
ويقول أيضاً : (( قد يقول قائل شددت على هذا المسكين الضعيف ، فأقول : إن الخطب جلل ، فما رأيت أحداً من خصوم السنة يقعد لنسف كتاب عظيم ترتيبه الثاني في طليعة دواوين الإسلام مثله ، وأتمثل بقول الشاعر :
ولا تحقرنّ كيد الضعيف فربما تموتُ الأفاعي من سموم العقاربِ
فقد هدّ قدما عرش بلقيس هدهد وخرّب فار قبل ذا سدّ مأرب
ولقد وجدتُ آثار عقارب وفئران شاركت في بناية المتهاوي الذي حطَمَتْه بفضل الله معاول الحق والصدق ، ولقد رد الله كيده في نحره ، ألا ترى حماية الله لهذا الكتاب العظيم أو المدينة الراقية التي عاش هذا المسكين كالفأرة الملساء فتسلق جدرانها وطاف بقصورها الشامخة ، وتسلل من تحت أبوابها وصعد وهبط وشرق وغرب ، فوجدها كلها ثابتة القواعد شامخة الجدران محكمة البنيان ، فلم يجد فيها أي ثغرة ، وتحطمت مخالبه وأسنانه ، فلم يستطع بحمد الله أن يأتي بلبنة واحدة من لبنات تلك المدينة الزاهية الفولاذية اللبنات ، ولو حاول طول عمره وساندته الفئران والعقارب فلن يستطيعوا أن يبرهنوا على تلك القاعدة الباطلة المخترعة من الهوى )) .
هكذا نجد الأستاذ ورئيس شعبة السنة بالدراسات العليا بالجامعة الإسلامية بالمدينة النورة يرسل عنان لسانه ، ويطول سنان قلمه في إهدار عرض أخ مسلم برئ كل البراءة مما قاله من التهم والأهواء إلى حدّ أنه لم يستح من هتك عرض الأساتذة بجامعة أم القرى الذين كنت أراجعهم في مجال البحث العلمي .
سامحك الله أيها الأستاذ ، وأين أنت من قوله تعالى :
(( والذين يُؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً )) [ الأحزاب : 58 ] .
ومن قول النبي صلى الله عليه وسلم :
(( المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره )) .
ومن قوله صلى الله عليه وسلم :(1/57)
(( بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم ، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه )) .
ومن حديث أخرجه الإمام أحمد وغيره :
(( ألا أنبئكم بشراركم ؟ قالوا بلى يا رسول الله ، قال : المشاؤون بالنميمة المفرقون بين الأحبة الباغون للبراء العيب )) .
ومن حديث النفاق الذي فيه :
(( وإذا خاصم فجر )) فنعوذ بالله دائماً من الأخلاق الدنيئة .
فما الذي جعل الأستاذ منفعلاً بهذا القدر ؟ وما الذي دفعه اعتماد المنهج الرديء من الشتم والسب والكذب والتهم الذي ميّز رسالته من أولها إلى آخرها ؟ أغيْرته الشديدة على الإسلام وعلى سنته وعلى الأمانة العلمية ؟ أم غيرته على شخصيته المرموقة ؟ أم خوفه من انهيار قصوره الخيالية الشامخة التي تَوَهّمها في مُخيلته ؟ أم ماذا ؟ الله وحده يعلم ما تنطوي عليه القلوب .
ما نقلته هنا إلى قليلاً من كثير ، وثمة أمور كثيرة خطيرة تأسفتُ لها كثيراً وكثيراً ، ولا أحب أن أتابعها هنا في هذا الملحق ، لأنها نتنة ، بل أتركها كلها إلى المحاكمة يوم الحساب أما رب العالمين .
وهل كان الأستاذ يظن أن له الحق أن يتكلم ويكتب ما يشاء دون تحفّظ وورع في حق امرئ مسلم بريء ، ثم لينشره ليكسب كسباً مادياً ، ثم لا يُحاسب عليه يوم القيامة .
ولم يتوقف الأستاذ إلى هذا الحَدّ ، بل كتب إلى رئيس جامعة أم القرى رسالة سرّية ـ ونُسْختها ما زالت محفوظة لدي ـ يُحبّذ فيها بطريقته الخاصة معاقبتي وفصلي منها وأنا على وشك النهاية من إعداد رسالتي الدكتوراه ، ولولا عناية ربي جلّ جلاله وحفظه لي لكان الأمر سيئاً جداً ، ولله الحمد والشكر دائماً وأبداً .
ومن تلك العناية الربانية التي لا أنساها أبداً أن تناقش رسالتي بشكل عادي ثم أكون مُرشحاً إلى وظيفة التدريس في قسم الكتاب والسنة بجامعة أم القرى من قِبَل عمادة كلية أصول الدين بالجامعة ، رغم اتصالاته السرية بالمسؤولين بالجامعة لتعكير الجو حتى يتراجعوا عن التعاقد ، وهذه نعمة كبيرة من الله سبحانه أذكرها في سبيل حمده وثنائه .
وأما الأمر التي بنى علها جميع التهم والانفعالات فصُنْعُ يده وليست مما قلته ، ولم تكن نصوصي ليفهم منها ذلك أبداً ، هذه هي نصوصي كنت أكررها في عدة مناسبات من مقدي الذي بعثته له سابقاً :
(( إن ترتيب الإمام مسلم ـ رحمه الله ـ لطرق الحديث في كتابه الصحيح قائم على منهج علمي إذ أنه أودع في ترتيبه دقائق علمية لا يطلّع عليها إلى الحفّاظ الذين لإذا سمعوا الحديث يُسْتَحضر في قلوبهم كل الوجوه التي وردت في رواية ذلك الحديث واختلافها ، وذلك تطبيقاً لما وعده في مقدمته ، حيث قال : إنا نعمد إلى جملة ما أسند من الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فنقسمها إلى ثلاثة أقسام وثلاث طبقات من الناس على غير تكرار ...فأما القسم الأول فإنا نتوخى أن نقدم الأخبار التي هي أسلم من العيوب من غيرها ، وأنقى من أن يكون ناقلوها أهل استقامة في الحديث وإتقان لما نقلوا ... فإذا نحن تقصينا أخبار هذا الصنف من الناس أتبعناها أخباراً يقع في أسانيدها من ليس بموصوف بالحفظ والإتقان كالصنف المقدم قبلهم ، وإن كانوا فيما وصفنا دونهم فإن اسم الستر والصدق وتعاطي العلم يشملهم ... )) .
(( وهذا يُفيد أن ترتيبه للأحاديث قائم على منهج علمي ، وهو مُراعاته ذلك الترتيب في أحاديث أبواب كتابه الصحيح ، فإذا ذكر طريقاً من طرق الحديث في أول الباب فمعناه أنه أسلم من العيوب وأنقى عنده ويجمع تارة الطرق في أول الباب لكونها على مستوى واحد من سلامتها من العيوب ، ثم إذا أتبعها بطرق أخرى لذلك الحديث وقد تكون هي طرق مُسْتقلة عن الصحابي الذي قدم حديثه ، فمعناه أنها ليست في مستوى تلك لكون راويها من أهل القسم الثاني أو لسبب آخر ، وعلى هذا فإذا قدم ما هو مُسْتحق أن يُؤخره وإذا أخّر ما هو مستحق أن يقدمه فمعناه أنه أدرك فيه شيئاً جعله يتصرف كذلك )) انتهى كلامي .
فالخلاصة : التزم مسلم بترتيب الأحاديث حسب القوة والسلامة حين قال أنه يتوخى تقديم ما هو أسلم وأنقى ، ثم يتبعه بأخبار يقع في أسانيدها رُواة لم يبلغوا مراتب الثقات في الحفظ والإتقان ، وعليه فالحديث الذي صدر به الباب أسلم وأنقى من الحديث الذي بعده ، فإذا وجد في الترتيب خلاف لعادته فمعناه أنه أدرك فيه شيئاً جعله يتصرف كذلك .
جاء الأستاذ ليُعلّق على قولي (( إذ أنه أودع في ترتيبه دقائق علمية لا يطلع عليها إلا الحفاظ الذين إذا سمعوا الحديث يستحضر في قلوبهم كل الوجوه التي وردت في رواية ذلك الحديث واختلافها )) بما يلي :
(( أنظر كيف يُصوّر منهج مسلم ، وأنه يُودع ترتيبه للأحاديث دقائق علمية لا يدركها إلا الحفاظ الذين إذا سمعوا الحديث يستحضر في قلوبهم كل الوجوه التي وردت في رواية ذلك الحديث واختلافها ، كأن الإمام مسلماً من كبار علماء أهل الباطن ـ أعاذه وأعاذ علماء المسلمين من أساليبهم الماكرة ـ ، وما هي وجوه الاختلاف التي وردت في رواة الحديث وما أثرها ؟ إن وجوه الاختلاف تدل على الاضطراب والعلل كما سيأتي في كلامه ، فهذا هو المنهج العلمي في نظر الأستاذ المليباري ، فإذا وقف الحفاظ على ذلك الترتيب هجمت على قلوبهم وثارت في وجوههم زوابع الاختلاف والاضطراب )) .
ويتابع الأستاذ فيقول : (( ومسلم يقول عن أهل الاستقامة والإتقان لم يوجد في وايته اختلاف شديد ولا تخليط فاحش ، فكيف يُودع في ترتيب الأحاديث دقائق علمية لا يطلع عليها إلا الحفاظ الذين إذا سمعوا الحديث يستحضر في قلوبهم كل الوجوه التي وردت في رواية ذلك الحديث واختلافها ، كيف يُصرّح بتجنب هذا النوع والابتعاد عنه ، ثم يُحاول في خِلْسة أن يدسّ كل الوجوه التي وردت في رواية ذلك الحديث ( أي حديث في أي باب ) واختلافها ؟ فهل يستجيز هذا الأسلوب أحد يُؤمن بالله ويحترم نفسه ودينه وصدقه وأمانته ونُصْحه )) اهـ .
قلتُ : يُؤسفني أن أقرأ هذا التعليق من الأستاذ الفاضل الذي قضى حياته في جوٍّ علمي جامعي حتى أصبح أستاذاً مشاركاً ورئيس شعبة السنة بالدراسات العليا بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة ؛ مما يمكن الإنسان عادةً استفادة علمية حديثية ، واطلاع واسع على الحقائق الإسنادية والأمور التي تحف برواية الحديث ، وعلى كل حال يذكرني هذا كان هو يُردده :
وللحديث رجال يُعرفون به وللدواوين حسُاب وكُتّاب
وبيتاً آخر :
وكم من عائبٍ قولاً صحيحاً وآفته من الفهم السقيم
فاعلم أيها الأستاذ مهما خفي عليك الموضوع ، ومهما كنت بعيداً عن منهج المحدثين ، فإن الخصائص الاسنادية والدقائق العلمية التي تحفّ بالروايات تتبلور من منهج الإمام مسلم في صحيحه لكل من له ممارسة حديثية ودراية تامة عن مناهج المحدثين النّقاد ، دون من تدربوا في دراستهم الحديثية على نظر سطحي قائم على صفحات كتاب التقريب ، وإن كانوا من حملة شهادة الدكتوراه في الحديث فشتان بينهم وبين الإطلاع على شي من تلك الحقائق العلمية ، وتظل المسائل الإسنادية والدقائق النقدية قضايا باطنية بالنسبة إليهم ، ولا يكون الوقوف عليه أمراً ميسراً لهم فالإمام مسلم لا يكون من أهل الباطن إن خفي عليهم شي من الخصائص الإسنادية التي راعاها مسلم في ترتيب الأحاديث في الصحيح .
يقول الإمام النووي ـ رحمه الله ـ :
(( ومن حقق نظره في صحيح مسلم ـ رحمه الله ـ واطلع على ما أودعه في أسانيده وترتيبه وحسن سياقه وبديع طريقته من نفائس التحقيق وجواهر التدقيق وأنواع الورع والاحتياط والتحرّي في الرواية وتلخيص الطرق واختصارها وضبط متفرقها وانتشارها وكثرة اطلاعه واتساع روايته وغير ذلك مما فيه من المحاسن والأعجوبات واللطائف الظاهرات والخفيات علم أنه إمام لا يلحقه من بعد عصره وقلّ من يساويه بل يدانيه من أهل وقته ودهره ، وذلك فضل الله يُؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم )) [ شرح النووي : 1 / 23 ] .
وهذا هو رأي غيره من العلماء الفاهمين المهتمين بالحديث ، ولم يكن قولي إلا اختصاراً لأقوالهم بعد قناعتي بصوابها ووجاهتها ، إلا أن الأستاذ يفهم من قولي شيئاً غريباً ، ثم يتساءل (( كأن الإمام مسلم من كبار أهل الباطن ؟ وما هي وجوه الاختلاف التي وردت في رواية ذلك الحديث ؟ وما أثرها ؟ إن وجوه الاختلاف تدل على الاضطراب والعلل ...)) وإن دلَّ هذا على شي فإنه يدل على مدى بُعْده عن هذا العلم العظيم .
ومن ثَمَّ خلط الأمور تخليطاً فاحشاً ، إذ جعل الاختلاف فيما اختاره الإمام مسلم في صحيحه من الروايات الصحيحة الثابتة ، وهو تخليط فاحش بل تحريف كلامي عن ظاهره ، لأنني لم أقل إن الوجوه والاختلافات التي يستحضرها الحفاظ هي ذات ما أورده مسلم في الصحيح من الروايات الصحيحة ، وإنما جعلتها في رواية الحديث عموماً ، حيث قلت : (( ... الحفاظ الذين إذا سمعوا ذلك الحديث يستحضر في قلوبهم كل الوجوه التي وردت في رواية ذلك الحديث واختلافها )) .
وأنت خبير أن الإمام مسلماً وغيره من أصحاب الصحاح يختارون روايات الثقات ويصنّفوها على اختلاف مناهجهم .
وللتوضيح أقول : إن الرواة في غالب الأوقات لا يتفقون عند روايتهم للأحاديث إلا إذا كانوا ثقات متقنين ، وأما الرواة الضعفاء فعندما يُشاركون الثقات في الرواية يوافقونهم أو يخالفونهم حسب الخلل في ضبطهم ، وأما المتروكون فدائماً يُخالفونهم اللهم إلا نادراً .
فهذا هو السر في تقسيم الإمام مسلم للأحاديث ورواتها على ثلاثة أقسام ، واختياره منها ما تناقله الثقات ، ومن دونهم إذا لم ينفردوا به ، وتجنب المتروكين ، كما يأتي بيانه مُفصلاً إن شاء الله تعالى .
فالحديث عندما يشترك في روايته الثقاة والضعفاء والمتروكون فيندر الاتفاق بينهم فيه ، إذ أن المتروكين لا يضبطون أحاديثهم سنداً ومتناً ، ولا يتقنون ما سمعوه من شيوخهم من الروايات ، فيتخبطون عند التحديث بها ، ويقبلون الإسناد بإضافة الحديث لغير راويه ، أو يتداخل عليهم الأسانيد وما إلى ذلك من الأوهام ، وأما الثقات فيضبطون الحديث وويتقنون روايته كما سمعوا من شيوخهم إلا نادراً ، والضعفاء الثقة ثقة والضعيف ضعيفاً والمتروكون متروكاً .
فشأن الحديث حين يصل إلى الطبقات المتأخرة من الرواة الذين تدور عليهم الأحاديث أن يتكون منه تاريخ ذو أبعاد ، يستفيد منه جهابذة المحدثين أموراً علمية ، وثروات من المعلومات التي تتعلق بأحوال الرواة والمرويان .
وعلى سبيل المثال أذكر حديث عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم (( إنما الأعمال بالنيات )) وهو من الأحاديث المشهورة الصحيحة ، فلما وصل هذا الحديث إلى يحي بن سعيد بدأ يشتهر في مُختلف البلدان ، وتتعدد الطرق عنه ، لكنه قبل رواية يحي بن سعيد فردٌ غريب ، ولم يروه عن محمد بن إبراهيم إلا يحي بن سعيد ، ولم يروه عن علقمة إلا محمد بن إبراهيم ، ولم يروه عن عمر إلا علقمة ، كما قرره الناقدون .(1/58)
ويحي بن سعيد الأنصاري إمام الأئمة المشهورين بالمدينة حفظاً وجمعاً واتقاناً ، يجتمع في حلقته جمع كبير من طلبة الحديث من مختلف البلدان ليسمعوا منه الأحاديث ، ومن المُسْتحيل عُرْفاً أن يكون هؤلاء الرواة كلهم في حالة واحدة من الضبط وقوة الذاكرة والحفظ والإتقان والاهتمام والتركيز والنشاط ، فإن فيهم الثقات من أهل المدينة وغيرها ،وفيهم الضعفاء والمتروكون ، كما هو واضح من تقسيم الأئمة أصحاب الزهري وغيره من حُفّاظ الحديث الذين تدور عليهم الأحاديث ، وإذا أردتَ المزيد من التفصيل فعليك أن تراجع الصفحات التالية من كتاب (( شرح العلل )) لابن رجب الحنبلي ( تحقيق صبحي السامرائي ـ 230 ـ 233 ـ 261 ـ 307 ) .
فحين روى الضعيف أو المتروك هذا الحديث عن يحي أو عن أحد من الصحابة بدأيتخبط فيه وينقلب عليه الإسناد ، ويُضيف الحديث إلى غير عمر ، أو يُغيّر ما سمعه منه إما تعمّداً أو خطأ ، كما وقع ذلك فِعْلاً في رواية هذا الحديث ، فقد نسبه نسبه بعضهم إلى أبي سعيد ، وآخر إلى علي بن أبي طالب ، وآخر إلى أنس ، وآخر إلى أبي هريرة ، وأما الثقاة فيحفظونه ويضبطونه ويتقنونه ثم يحدثون به عن يحي بن سعيد كما سمعوا منه غالباً .
فهذا الحديث المشهور أورده الإمام البخاري والإمام مسلم في صحيحيهما من طرق صحيحة ، بعد اختيارهما لها من مجموعة كبيرة من الروايات ، ثم أجاد الإمام مسلم بترتيبها حسب الأصح فالأصح ، كما وعد به في المقدمة .
والحافظ المُتأخر الذي حفظ هذا الحديث من جميع طرقه حين يراه في الصحيح ـ مثلاً ـ يستطيع استحضار جميع الوجوه التي وردت في روايته واختلافها عموماً ، لأنه يحفظه كذلك ، هذا هو الذي قلت : ... الحفاظ الذين إذا سمعوا الحديث يستحضرون في قلوبهم كل الوجوه التي وردت في رواية ذلك الحديث واختلافها .
فجاء الأستاذ هنا ليفهم منه ما يفهمه الصبيان ، ثم بدأ يتخبط ، ويخلط هذه الأمور الواقعة تخليطاً فاحشاً ، ويجعل الاختلاف والاضطراب فيما أورده مسلم أو فيما اختاره في صحيحه مرويات أهل الاستقامة ، ثم يتساءل : (( وما هي وجوه الاختلاف التي وردت رواية ذلك الحديث وما أثرها ؟ إن وجوه الاختلاف تدل على الاضطراب ، ومسلم يقول عن أهل الاستقامة لم يوجد في روايتهم اختلاف شديد ، فكيف يُصرّح بتجنب هذا النوع والابتعاد عنه ثم يُحاول في خلسة ... إلى آخر كلامه ، وقد صدق الشاعر إذ قال :
وكم من عائبٍ قولاً صحيحاً وآفته من الفهم السقيم
ونعود بعد هذا الاستدراك إلى ما كتبته له فيما يختص النقطة الثانية ، وهذا نصه :
(( ومع ذلك له تصرّف علمي آخر في صحيحه ، وهو بيان العلة في بعض المواضع منه ، وذلك بعد أن أخرج الحديث من طرق صحيح في الأصول ، وإن كان لذلك الحديث عِلّة من بعض الطرق فيبين العلة إذا كان المكان مناسباً للبيان ، وذلك بذكر طرقه المعللة خارج الأصول ومقصود الكتاب وموضوعه ، وهذا البيان ليس بمقصود أصلي صنف وجمع لأجله هذا الكتاب الصحيح ، بل إنما هو لغرض استطرادي تعرض لبيانه للمناسبة بذلك المقام ، وبناء على ما وعده في مقدمة صحيحه ، وهو يقول : وسنزيد إن شاء الله شرحاً وإيضاحاً في مواضع من الكتاب عند ذكر الأخبار المعللة إذا أتينا عليها في الأمان التي يليقُ بها الشرح والإيضاح إن شاء الله تعالى )) .
وخلاصته : يشرح الإمام مسلم العلل في بعض مواضع من الكتاب حسب المناسبة والمُقتضى ، وهو تصرّف علمي آخر لا علاقة له بالترتيب كما هو مُعتاد عند المحدثين في مُصنّفاتهم كالصحاح والسنن والمسانيد والمصنّفات ، وبيان العلل إنما هو بذكر وجوه الاختلاف وليس بالتقديم والتأخير كما فهمه الأستاذ .
فهذا كلامي واضح وبَيّن وجليّ في تقرير ما صرّح به الإمام مسلم في مقدمته من ترتيب الأحاديث حسب القوة والسلامة ، ومن بيان العلل في بعض المواضع من الصحيح التي تقتضيه ، ويكون ذلك البيان بذكر وجوه الاختلاف خارج الأصول ، فأين يكمن الخطر الذي أثار الغيرة عند الأستاذ الغيور ؟ وأنني لم أقل إلا بما صرّح به الإمام مسلم في مقدمته ، فاتضح الأمر أنني لم أجعله قاعدة جديدة ، ولم يكن سياق نصوصي بحيث يُفهم منه ما فهمه الأستاذ ، بل كان ذلك مما صنع الأستاذ بيديه ليثور إليَّ على حساب الدين والعقيدة.
ومن هنا كان يُلفّق بين نصوصي الواردة في تحرير هاتين المسألتين المُسْتقِلّتَين ، ثم أخذ يُفسّرها بما يهدئ أعصابه المتوترة ، ويطيب به نفسه لكي يدعي عليَّ أن الإمام مسلماً يلتزم بيان العلل في صحيحه وأن ذلك البيان إنما يكون بالتقديم والتأخير ، أليس هذا افتراء علَي ؟
استمع إلى الأستاذ يقول :
(( ثم اعلم أخي أن الرجل يؤمن بقضية الترتيب والتقديم والتأخير في صحيح الإمام مسلم ، وأن بيان مسلم للعلل إنما يأتي من خلال هذا الترتيب والتقديم والتأخير ، يؤمن بذلك إيماناً أعمى ، وقد أعاد هذه الفكرة وأبداها وطبقها فِعْلاً على حديث عبد الله بن عمر ، وهو بمقتضى تقريره تنطبق على أحاديث كل الأبواب من صحيح مسلم ما عدا الحديث الأول منها ، ثم حِين يُدرك خطورة هذه الفكرة وأنها تُؤدي إلى هدم صحيح مسلم ، وفي الوقت نفسه لا تسمح له نفسه بالتخلي عنها والرجوع عنها ويُدرك أن هناك من سوف يكشف خطورة هذا الإتجاه يجعل لنفسه خطوط رجعة كما يقال ويجعل لنفسه مخارج للهروب منها إذا أجبر على التأخير أو الخروج )) .
(( وليس هذا مِنّي من باب سوء الظن ولا من باب الاتهامات التي تسندها الأدلة ، بل هذا من صريح كلامه ومن مواقفه ومن رفضه التخلي عن هذا الفكر الخطير ، وذلك أن قوله وأحياناً يبين العلل وأمثاله من التعبيرات يكون لغواً مائة في المائة ، ولا مجال له أبداً مع إصراره على هذه الفكرة وإلحاحه عليها وترديده لها وسعيه جاهداً بكل ما عنده من طاقة لإقناع غيره بها بحيث لم يترك مجالاً لحسن الظن به )) .
(( فمن هنا اعتبرت تلك العبارات الاستثنائية لغواً ومخارج للتهرّب عند اللزوم وأنه يستحيل مع قوله بالترتيب والتقديم والتأخير على الوجه الذي فصّله ، وأسهب فيه تطبيق تلك الاستثناءات ، وأنها لا تتأتى إلى مع رفض هذه الفكرة الخطيرة والتخلّي عنها ، وهذا أمر واضح جداً عند من يعقل ويفهم ويتحلّى بالعدل والإنصاف )) .
(( لذا لم أقم وزناً لهذا اللون من التحايل والتهرّب ، وأدنته وحاسبته على تلك الفكرة التي اعتقد أنها قد سَيْطرت على عقله تغلغلت في دماغه وكيانه فدفعته إلى التعسّف والتهوّر فلا يقولنّ القارئ أنه استثنى وأنه قال وقال ، بل عليه بالتعقل والتأمل ، وسيدرك أن الجمع بينها وبين هذه الاستثناءات كالجمع بين الضب والنون ، وأنها تغلق الأبواب والنوافذ في وجه أي استثناء ، فإذا أدرك القارئ هذا أدرك أنني على حقّ إن شاء الله فيما أدنته به ، وأني وضعت الأمور في نصابها )) .
(( وأن أساليب الصوفية وما تتذرّع به من تقية ومثلها الألاعيب السياسية تحتاج إلى ذكاء وفطنة وحذر ، ويجب أن يكون أن يكون التعامل معها على هذا الأساس ، وأن وضع حسن الظن في غير موضعه يجافي الحكمة والشرع والعقل )) ، انتهى كلام الأستاذ الفاضل . [ منهج الإمام مسلم ص : 19 ، 21 ] .
فهذا التحايل أصبح الأستاذ الفاضل حكيماً شرعياً عاقلاً فَذّاً ، إذ أنه وضعه الأمور الغيبية في نصابها ، لأنه كان يُدرك ويحس بحكمته وعقله أسرار كلامي التي لم أكن أتصورها .
بالله عليك ! أهذا تعامل شرعي عقلي حكيم ؟ أم تصرّف جاهلي باطني مذموم ؟ ترفض النصوص الصريحة الواضحة المؤكدة بتكريرها في مواضع عديدة من بحثي ونقدي ، قائلاً : (( إنها كلها لغو مائة في المائة لأنه يريد التهرب عن الحاجة )) ، وتقبل الباطن ؟
وهل لهذا نظير في المكابرات والمغلطات والمجازفات ؟ وبما أن العقل السليم والأدب الشرعي الإسلامي والخلق الحسن يجعلني أرفض هذا التطفّل فإنني لا أحب مواجهته بمثله ، بل أدعو له بالإفاقة والهداية والرشد .
وهذه الأمور وأساليبه في الشتم والاتهام لم أكن أعرفها من قبل ، ولسوء حظّي أني أسمعها لأول مرّة في حياتي ومن أستاذ جامعي أيضاً .
فأعيد وأكرر بأنني لم أقل إلا بما التزمه الإمام مسلم في مقدمته ، وطبّقه في تضاعيف كتابه (( الصحيح المسند )) كما أقرّه العلماء وأنني لم أفسر ما قاله مسلم في المقدمة إلا بواقع كتابه (( المسند الصحيح )) حسب فهمي ومعرفتي ، وخلاصته : أن الإمام مسلماً يُرتب الأحاديث في الصحيح بحسب القوة السلامة ، وأنه يشرح العلة بذكر وجوه الاختلاف على سبيل التبع والاستطراد وذلك في بعض المواضع من الصحيح ، ولم أدع بعد ذلك أن التقديم والتأخير في الأحاديث هو وسيلة لبيان العلة فيه ، بل هو من افتراءاته علي . والله المستعان .
من أغرب ما رأيته في رسالته (( منهج الإمام مسلم )) وأخطره ازدواجية الأسلوب ، إذ يقول مُعقّباً على ما ناقشت به الحافظ المِزّي ـ رحمه الله ـ فيما يخص تحقيقه لبعض النصوص في صحيح مسلم ، مناقشة علمية قائمة عديد من الأدلة القوية ، ومُعتمِداً فيها آراء الأئمة ـ يقول الأستاذ مُعقّباً عليه ـ : إنه يتلاعب بكلام الأئمة ، ويحطهم عن منزلتهم ويجعل كلامهم مثل كلام الأطفال والجهلة البلهاء )) .
وأما حِين أؤيّد الأئمة النقاد في مجال تخصصهم النقدي والقضايا العلمية على ضوء الأدلة والبراهين ، فهو يتّهمني (( بالغلو والإطراء فيهم والإفراط في تقديسي الأشخاص بحيث أجعلهم يحيطون بكل شيء علماً ويحصون كل شيء عدداً )) .
يا سبحان الله ! كيف يكون الإنسان سلِيماً في نظره إذا كان هذا هو أسلوبه ومنهجه ونظره ؟ حتى إن الأستاذ نفسه لم يسلم من الاتهام نفسه إذ أنه لا يخلو إما أن يكون ممن تلاعب بكلام الأئمة ، وحطّهم عن منزلتهم وجعل كلامهم مثل كلام الأطفال والجهلة والبلهاء ، بل يكون هو أولى وأحقّ بأن يكون كذلك ، فإنه يتّخذ النسيان والغفلة اللتين جُبِلَ عليهما البشر ذريعة لتخطئة الأئمة النقّاد ، دون أن يكون لديه أدنى قرينة تدل على نسيان وقع منهم جميعاً في مُختلف عصورهم ، ولم يقف عند هذا الحدّ واللعب بل تجاوز فقال : إنّه منطق إسلامي ومنهج سلفي .
وإما أن يكون من الصوفيين الغالين الذين يفرطون في تقديس الأشخاص ، وإنزالهم في منزلة الإله الذي لا ينسى ولا يخطئ ، فإنه بما مال إليه الحافظ المِزّي من رأي لم يكن مُصِيباً فيه ، رغم وقوف الأستاذ على أدلة واضحة تدل على خطأ ذلك الرأي ، لأنه يستبعد الخطأ والنسيان في حقّ الحافظ المِزّي .
فإن كان الأستاذ يبرّر هذه التصرفات في حقه زاعماً وجود الأدلة لديه ، فكيف لا تكون الأدلة التي بَيّنْتها له مُبررة لي في المُخالفة أو الموافقة ؟ هذا وقد كتبت له بكل صراحة ما نصه :(1/59)
(( وينبغي لنا أن نعرف جيّداً أن الأئمة النقدة خاصّة الإمام البخاري وأمثاله لا يخوضون في هذا الميدان ولا يتولون تلك المهمة الخطيرة للغاية إلا بعدما جمع طرق الحديث ، ونظر فيها وفحصها ، وإذا لم يستطيعوا الجمع والنظر لا يُعلّون الأحاديث ، ولا يحكمون بأنه لا يصح ، لأنهم مُدركون خطورة هذه الأمانة العلمية ،ة وأين نحن منهم ؟ ولا يعْني هذا أنهم معصومون ولا يخطئون في أحكامهم كلا ثم كلا ، بل يعني أنهم لا يقصرون في جمع الطرق والنظر فيها ، ولا يُعلّون الأحاديث جُزافاً )) [ ص 31 من نقدي الأول ] ، إذن لم أكن رجلاً صوفياً غالياً مفرطاً ، فالاتهام بالغلو والصوفية وتقديس والأشخاص والإطراء فيهم زور وبهتان .
فعسى أن يكون الأستاذ مُتأملاً فيما قاله : (( ولو درس أبو حاتم وغيره من الأئمة ، حتى البخاري دراسة وافية لما تجاوز ـ في نظري ـ النتائج التي تَوصّلتُ إليها ، لأنني بحمد الله طبّقتُ قواعد المحدثين بكل دِقّة ولم آل في ذلك جهداً )) .
(( رحم الله امرءاً عرف قدر نفسه )) .
ومَن المُحدثون عنده بعد هؤلاء الأئمة يل ترى ؟
وقد أثّرت رسالته (( منج الإمام مسلم )) في نفوس بعض الأخوة فاتهموني احتراماً للأستاذ ، لكن من الصالحين من دافع عني وعن عقيدتي وسلوكي ، وعِرْضي وبراءتي ، فداروا مع الحق ، فجزاهم الله خير الجزاء وتقبله منهم قبولاً حسناً .
وإنني قد وجدت الأستاذ في رسالته رجلاً يسعى جاهداً وراء السراب يتناول القضايا العلمية الدقيقة بدون نظر وتأمل وفهم ، ثم يعطي لها تفاسير خاصة من عنده محتكماً فيه إلى عقله ، دون أن يرجع إلى منهج المحدثين الناقدين الذي هو إرث حضاري عظيم فريد ، تعتز به الأمة الإسلامية جمعاء ، فقد أعجز المستشرقين عن التشكيك في السنة النبوية ، بل جعلهم منبهرين أمام ذلك المنهج قائلين : كفى للأمة الإسلامية فخراً هذا العلم وهذا النقد.
فتبين للقارئ الكريم أن الأمور التي تعلق بها الأستاذ عبر رسالته (( منهج الإمام مسلم )) في الشتم والسب والتهم وإثارة الشكوك في ديني وسلوكي وعقيدتي كلها سراب محض لا وجود له ، والحمد لله رب العالمين .
فرسالة (( منهج الإمام مسلم )) استهدف بها صاحبها أن صاحبها أن ينتقدني في عديد من القضايا العلمية والاسنادية ولم تنل من العنوان إلا حظاً ضئيلاً نسبياً ، حيث إنه تناول القضايا التي تتعلق بالعنوان في أربعة وثمانين صفحة من ستة ومائتين صفة ، وما بقي فلا علاقة له .
وأود أن يكون بحثي هذا مُخصّصاً لتحرير منهج الإمام مسلم في صحيحه وأما بقية القضايا التي تناولها الأستاذ في رسالته (( منهج الإمام مسلم )) فأفردتُ لها بحثاً آخر تحت عنوان (( حوار بين طالب وأستاذ )) وسيُطْبع عقب هذا إن شاء الله ، والفضل كله بيد الله وإليه فوضت كل أمري ، وهو ولي التوفيق .
وأدعو الله مُخلصاً أن يتقبله مني قبولاً حسناً ، وأن ينفع به المسلمين وأن يتجاوز عني فيما أخطأت ، فإنني ـ بفضل الله ـ لم أتعمّد ولا تلبّستُ بالكذب والتدليس ، بل تناولت في القضايا العلمية مُقرراً ومحرراً مُجتهداً في البحث والدراسة ، فإن أصبتُ فمن الله تعالى ، وإن أخطأتُ فحسبي أنني حاولتُ واستقصيتُ متضرعاً إلى الله أن يلهمني الصواب .
ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبّت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين ، ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غِلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم . آمين .(1/60)