طبقات المكثرين من رواية الحديث
عادل بن عبد الشكور الزرقي
قال ابن المَديني :
(( التَّفقه في معاد الحديث نصف العلم،
ومعرفة الرجال نصف العلم ))
تقديم
فضيلة الشيخ المحدِّث
عبد الله بن عبد الرحمن السعد
التقديم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه. من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فإن علم الرجال من أهم علوم السُنة النبوية. فبه يُعرف الصحيح من الضعيف. والمحفوظ من المعلول والقوي من السقيم. وتعلمه من فروض الكفايات التي تجب على الأمة.
أخرج أبو محمد الرامهرمزي في كتابه المحدث الفاصل 320 وأبو بكر الخطيب البغدادي في الجامع 2/211 كلاهما من طريق البخاري قال: سمعت علي بن المديني يقول: "التفقه في مُعاد (1) الحديث نصف العلم ومعرفة الرجال نصف العلم" .
ومعنى كلام ابن المديني رحمه الله تعالى: أن النصوص الشرعية نُقلت إلينا بواسطة الرجال ولا يمكن العمل بأي نص حتى تُعرف ثقة الناقل. فعلى هذا يكون معرفة الرجال نصف العلم والنصف الآخر هو: متون النصوص الشرعية المنقولة إلينا بالأسانيد.
قال عبد الرحمن بن أبي حاتم في مقدمة الجرح والتعديل 1/5: "فلما لم نجد سبيلاً إلى معرفة شيء من معاني كتاب الله ولا من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من جهة النقل والرواية وجب أن نميز بين عدول الناقلة والرواة وثقاتهم وأهل الحفظ والثبت والإتقان منهم . وبين أهل الغفلة والوهم وسوء الحفظ والكذب واختراع الأحاديث الكاذبة" أ.هـ
ولأجل هذه الأهمية لعلم الرجال، اهتم أهل العلم بذلك وألّفوا فيه المؤلفات الكثيرة كما هو معلوم.
ولابد لمن أراد أن يتمكن في عمل الحديث أن يعرف هذا العلم وأن يحيط بجملة كبيرة من الرجال الذين رويت من خلالهم الأحاديث.
وهناك طريقتان لمعرفة الرجال وحفظهم:
__________
(1) من الإعادة وهي تكرار الحديث.(1/1)
الأولى: وهي الأساس والأهم أن يقرأ في كتب الحديث المسندة وإذا مرّ عليه إسناد يراجع رجاله في كتب التراجم.
وأما الثانية: فيعرف الرجال ويحفظهم من خلال الرجوع إلى كتب الرجال مباشرة كالقراءة في كتاب التاريخ الكبير للبخاري والجرح والتعديل لابن أبي حاتم والثقات لابن حبان وغيرها.
والطريقة الأولى أولى ؛ لأن مراجعة ترجمة الرجل بعد مروره عليه في الإسناد أدعى إلى حفظه ومعرفة طبقته ومن هو شيخه وتلميذه الراوي عنه.
ويُحبّذ له أن يقرأ في كتاب الموطأ وذلك لقصر أسانيده ولشهرة رجاله وثقتهم.
فرجاله ممن تدور عليهم كثير من الأسانيد الصحيحة. ومن أتى من بعده كأصحاب الكتب الستة وأحمد وغيرهم يروون من طريقه أو من طريق شيوخه فلذلك البداية به أولى فيما يتعلق بهذا الأمر ثم بعد ذلك أسانيد البخاري ومسلم ثم باقي كتب السنن . والطريقة الثانية لابد منها أيضاً لمن أراد أن يتمكن في هذا الفن فعليه أن يدمن النظر في كتب الجرح والتعديل حتى يعرف مناهجهم ومصطلحاتهم ومن هو المعتدل من المتشدد والمتساهل إلى غير ذلك من الفوائد والدقائق التي لا تحصل إلا بهذا، وبالله التوفيق.
ومما ينبغي أن يلحظ أن هناك جمعاً من الرواة تدور عليهم الأسانيد ويتكرر ذكرهم في كتب الحديث ودواوين الإسلام.
قال علي بن المديني رحمه الله تعالى في كتابه العلل ص36: "نظرتُ فإذا الإسناد (1) يدور على ستة : فلأهل المدينة: ابن شهاب ولأهل مكة : عمرو بن دينار ولأهل البصرة: قتادة بن دعامة ويحيى بن أبي كثير ولأهل الكوفة: أبو إسحاق عمرو بن عبد الله (2) وسليمان بن مهران (3) ثم صار علم هؤلاء الستة إلى أصحاب الأصناف ممن صنّف.
__________
(1) قال الذهبي في التذكرة 1/360: يعني معظم الصحاح.
(2) هو السبيعي.
(3) هو الأعمش.(1/2)
فلأهل المدينة: مالك بن أنس ومحمد بن إسحاق ومن أهل مكة: عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج وسفيان بن عيينة ومن أهل البصرة: سعيد بن أبي عروبة وحماد بن سلمة (1) وأبو عوانة وشعبة بن الحجاج ومعمر بن راشد ومن أهل الكوفة: سفيان الثوري ومن أهل الشام: عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي ومن أهل واسط: هشيم بن بشير ثم انتهى علم الاثني (2) عشر إلى ستة:
يحيى بن سعيد القطان ويحيى بن زكريا بن أبي زائدة ووكيع بن الجراح (3) وعبد الله بن المبارك (4) وعبد الرحمن بن مهدي ويحيى بن آدم" . أ.هـ (5)
وقال أبو عبد الله الحاكم في معرفة علوم الحديث ص297 مبيناً الرواة المشاهير الذين تدور عليهم الأسانيد وأن هذا يعتبر نوعاً من أنواع علوم الحديث التي ينبغي أن يهتم طالب الحديث به فقال : ذكر النوع التاسع والأربعين من معرفة علوم الحديث :
ثم قال : هذا النوع من هذه العلوم معرفة الأئمة الثقات المشهورين من التابعين وأتباعهم ممن يجمع حديثهم للحفظ والمذاكرة والتبرك بهم وبذكرهم من الشرق إلى الغرب.
__________
(1) قال الذهبي في التذكرة 1/360: نسي حماد بن زيد.
(2) في المطبوعة: ثم انتهى علم هؤلاء الثلاثة من أهل البصرة وعلم الإثني عشر ... وهذا خطأ لأنه ذكر خمسة من أهل البصرة وسبعة من غيره فيكون المجموع: 12 وقد ذكر ابن أبي حاتم هذا الكلام عن ابن المديني في مقدمة الجرح والتعديل ص 252 وفي غير هذا الموضع عن ابن البراء راوي العلل عن ابن المديني عنه ومنه نقلت التصويب وذكره الذهبي في التذكرة 1/360 كما عند ابن أبي حاتم.
(3) وقع في تذكرة الحفاظ بعد أن ذكر القطان وابن أبي زائدة ووكيع: ثم انتهى علم هؤلاء الثلاثة إلى ابن المبارك وابن مهدي ويحيى بن آدم. أ.هـ والأول أصوب.
(4) في الأصل : إلى ابن المبارك. والتصويب من مقدمة الجرح والتعديل.
(5) ورواه الخطيب في تاريخه 14/178 عن يحيى بنحو ما تقدم وزاد: ثم انتهى علم هؤلاء إلى يحيى بن معين.(1/3)
ثم ذكر من كان على الصفة التي ذكرها من الثقة (1) والشهرة بحمل العلم والرواية من أهل المدينة ثم من أهل مكة ثم من أهل مصر والشام واليمن واليمامة والكوفة والجزيرة والبصرة وواسط وخراسان، وقد ذكر جمعاً كثيراً من الرواة الذين يُستحسن معرفتهم والعلم بهم.
وقال أبو بكر الخطيب في كتابه الجامع 2/293: معرفة الشيوخ الذين تدور الأسانيد عليهم.
ثم بعد أن ذكر هذا العنوان روى من طريق أحمد بن عبده سمعت أبا داود الطيالسي يقول: وجدنا الحديث عند أربعة: الزهري وقتادة والأعمش وأبي إسحاق (2) . قال: وكان قتادة أعلمهم بالاختلاف وكان الزهري أعلمهم بالإسناد وكان أبو إسحاق أعلمهم بحديث علي وكان عند الأعمش من كل هذا ولم يكن عند واحد هؤلاء إلا ألفين ألفين. ا.هـ.
قلت: وبمعرفة هؤلاء الأربعة وأحاديثهم يحيط الشخص بجملة كبيرة من الحديث. وهذا معنى قوله: وجدنا الحديث عند أربعة.
ثم قال أبو بكر الخطيب بعدما تقدم: ذكر الرجال الذين يُعتنى بجمع حديثهم ثم روى عن الإمام أحمد أنه قال: مالك بن أنس وزائدة (3) وزهير والثوري وشعبة هؤلاء أئمة.
ثم روى عن عثمان بن سعيد الدارمي أنه قال: يقال من لم يجمع حديث هؤلاء الخمسة فهو مفلس في الحديث: سفيان وشعبة ومالك بن أنس وحماد بن زيد وابن عيينة، وهم أصول الدين.
ثم ذكر (4) أبو بكر الخطيب جمعاً من الرواة المشاهرة الذين يجمع حديثهم.
__________
(1) وقد ذكر أيضاً جمعاً ممن ليس كذلك. ممن هو قليل الحديث أو فيه ضعف.
(2) هو السبيعي.
(3) هو ابن قدامة وزهير هو : ابن معاوية الجعفي.
(4) وقد ذكر أيضاً من كان مشهوراً بالفتوى من الصحابة وأصحابهم الذين رووا عنهم وأصحاب أصحابهم، فقال في الجامع 2/288: "معرفة الشيوخ الذين تروى عليهم الأحاديث الحكمية والمسائل الفقهية". ثم ذكر ما تقدم.(1/4)
فتبين مما تقدم اعتناء أهل العلم بالمشهورين من الرواة وأن هذا يعتبر نوعاً من أنواع علوم الحديث وأن على طالب هذا العلم أن يعرف هؤلاء الرواة حتى يعرف هذا الأمر ويُحسِن هذا العلم.
ومما يقرب هذا الأمر ويسهله –بتوفيق الله تعالى- على مريد هذا الفن أنه ينبغي له أولاً أن يعرف المكثرين من الصحابة رضي الله عنهم.
فمن المعروف أن الصحابة رضي الله عنهم منهم من روى آلاف الأحاديث ومنهم من روى المئات إلى من روى الحديث الواحد.
والمكثرون من الصحابة جمع وعلى رأسهم أصحاب الألوف وهم سبعة:
أبو هريرة وبلغت (1) مروياته 5374 حديثاً –ثم عبد الله بن عمر وبلغت مروياته 2630 حديثاً –ثم أنس بن مالك وبلغت مروياته 2286 حديثاً –ثم عائشة أم المؤمنين وبلغت مروياتها 2210 أحاديث –ثم عبد الله بن العباس وبلغت مروياته 1660 حديثاً –ثم جابر بن عبد الله وبلغت مروياته 1540 حديثاً –ثم أبو سعيد الخدري وبلغت مروياته 1170 حديثاً.
ثم أصحاب المئين وهم كثر وعلى رأسهم عبد الله بن مسعود وبلغت مروياته 848 حديثاً، ثم عبد الله بن عمرو بن العاص وبلغت مروياته 700 حديث، ثم علي بن أبي طالب وبلغت مروياته 537 حديثاً. وغيرهم رضي الله عنهم. وهؤلاء العشرة أكثر الصحابة رواية للحديث.
ولأبي محمد بن حزم رحمه الله رسالة في أسماء الصحابة الذين رووا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وما لكل واحد منهم من الحديث. ومنه أخذت ما تقدم. وقد أخذ ذلك من مسند بقي بن مخلد.
ثم ينبغي بعد ذلك معرفة من أكثر عن هؤلاء من التابعين.
فأبو هريرة مثلاً روى عنه جمع كبير. حتى قال البخاري: روى عنه نحو من ثمان مائة رجل أو أكثر من أهل العلم من الصحابة والتابعين وغيرهم. ا.هـ. من الاستيعاب وتهذيب الكمال وهذا لفظ الأخير.
لكن المكثرين منهم عنه نحو العشرة فينبغي معرفة هؤلاء .
__________
(1) وهذا المكرر ويدخل فيه أيضاً ما لم يثبت عنهم .(1/5)
قال أبو داود: سألت ابن معين من كان الثبت في أبي هريرة ؟ فقال: ابن المسيب وأبو صالح وابن سيرين والمقبري والأعرج وأبو رافع. ا.هـ. من التهذيب.
وأكثر هؤلاء رواية عنه أو من أكثرهم: أبو صالح ذكوان السمان وهو أيضاً روى عنه جمع وعلى رأسهم الأعمش سليمان بن مهران فقد سمع منه ألف (1) حديث .
وبمعرفة هذه السلسلة وهي الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة - وهي من أصح السلاسل –يحيط طالب العلم بكم كبير من الأحاديث قد تبلغ ألف حديث كما تقدم.
وهكذا مثلاً أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة ومعمر عن همام عن ابي هريرة. ومالك عن نافع عن ابن عمر. والزهري عن سالم عن ابن عمر. ومالك عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر. وحماد بن سلمة عن ثابت البناني عن أنس. وشعبة أو سعيد بن أبي عروبة أو هشام الدستوائي عن قتادة عن أنس. ومالك عن الزهري أو إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة كليهما عن أنس. وهشام بن عروة أو الزهري كلاهما عن عروة بن الزبير عن عائشة . وإبراهيم النخعي عن الأسود عن عائشة وعبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة.
وغيرها من الأسانيد الصحيحة المشهورة. وهذه الأسانيد رُوي فيها آلاف (2) الأحاديث وبهذا يُحاط بآلاف الأحاديث بأسانيد قليلة.
أما لو بدأ طالب العلم بشيوخ أصحاب الكتب الستة ثم من بعدهم فسوف يطول عليه الأمر جداً إلى أن يصل إلى الصحابي. والله تعالى أعلم.
وقد بيَّن أهل العلم بالحديث أهمية هذه السلاسل الحديثة.
قال أبو بكر الخطيب في كتابه الجامع 2/299: جمع التراجم:
__________
(1) رواه البغوي في مسند علي بن الجعد 791 –ولفظه : كتبت عن أبي صالح ألف حديث .
(2) فمثلاً: سلسلة (هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة) رُوي بها في الكتب الستة 585 حديثاً كما في أطراف المزي وهذا بالمكرر ويدخل فيه أيضاً ما لا يثبت عن هشام.(1/6)
ثم قال: ويجمعون أيضاً تراجم تلحق بدواوين الشيوخ الذين تقدمت أسماؤهم وذلك مثل ترجمة: مالك عن نافع عن ابن عمر. وعبيد الله بن عمر عن القاسم عن عائشة. وسهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة. وأيوب عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة. ومعمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة. وأيوب عن عكرمة عن ابن عباس. والأعمش عن أبي وائل عن ابن مسعود. وجعفر بن محمد بن علي عن أبيه عن جابر . وهشام بن عروة عن أبيه عن عائشة. وأفلح بن حميد عن القاسم عن عائشة . وإبراهيم النخعي عن الأسود عن عائشة.
ولأجل ما تقدم ألَّف الشيخ عادل بن عبد الشكور الزُّرَقي –وفقه الله تعالى وسدده- هذه الرسالة وهي : (طبقات المكثرين من رواية الحديث) حتى تكون مقدمة للمبتدئ والمشتغل بهذا الفن وأصلاً له في حفظ الرجال ومعرفة الأسانيد.
وقد ذكر في هذا المختصر (200) مائتين من الرواة الذين أكثروا من الرواية وعليهم تدور الأسانيد وقد ابتدأ بالمكثرين من الصحابة رضي الله عنهم، وذكر بعض أصحابهم الذين أكثروا (1) عنهم.
وبعض من ذكرهم أو من لم يذكرهم قد يخالفه غيره في ذلك فيرى عدم ذكرهم فيمن ذُكَر أو يرى ذكرهم فيمن لم يذكر، لأن هذه المسألة اجتهادية كما هو معلوم ولكن جُلَّ من ذكرهم يتفق معه غيره في أنهم من المكثرين من الرواية وعليهم تدور الأسانيد الصحيحة، وقد ذكر أيضاً بعض من تُكلِّم فيه كسماك بن حرب وشريك القاضي وابن لهيعة وذلك لإكثارهم من الرواية.
وليعلم أن هذا المختصر إنما هو مقدمة للمبتدئ والمشتغل بهذا الفن حتى يتدرج في هذا العلم ويتمكن ولا يكفي وحده في الحكم على الأسانيد ومعرفة الصحيح من السقيم والمقبول من المردود والمحفوظ من المعلول لأن هذا يحتاج إلى مقدمات طويلة وشروط كثيرة كما لا يخفى .
__________
(1) وذكر أيضاً بعض أصحاب المكثرين من غير الصحابة .(1/7)
وإنما المقصود –كما تقدم- ليكون مقدمة للمبتدئ وللمشتغل أيضاً بالعلم عموماً لأن هؤلاء الرواة يكثر ذكرهم أو بعضهم في كتب العلم على وجه العموم وفي كتب الحديث على وجه الخصوص، وأكثرهم من علماء المسلمين والسلف الماضين. فيستحسن للمشتغل بالعلم أن يكون على معرفة بهم ومُطَّلِعاً على أحوالهم.
وبالله التوفيق .
وكتب/
عبد الله بن عبد الرحمن السعد
3/1422هـ(1/8)