ضرورة الاستفادة من جهود المتقدمين والمتأخرين
في مجال علوم الحديث
د. حمزة عبدالله المليباري
كلية الدراسات الإسلامية والعربية بدبي
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، وتركهم على محجة بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
اللهم صل وسلم وبارك على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم اجعلنا ممن يتبعهم بإحسان.
أما بعد:
فموضوع مداخلتي في هذه الندوة: ((ضرورة الاستفادة من جهود المتقدمين والمتأخرين في علوم الحديث دون خلط بين مناهجهم المختلفة)).
تعد علوم الحديث من أهم مقررات كلية الشريعة، وكانت تدرس في بعض الكليات في أكثر من مستوى، إلى جانب دورات علمية خاصة تعقد لتدريسها في مناسبات شتى، وكان إقبال الطلبة على دراسة هذا العلم بتزايد مستمر، ومع هذا الاهتمام البالغ بتدريس علوم الحديث من جهات مختلفة منذ سنوات عديدة فإننا نلمس في الساحة العلمية شيئا يدعونا إلى أهمية المراجعة في أسلوب تدريس علوم الحديث، والتباحث في مدى فاعلية هذا الأسلوب، وتحديد الخلل في ذلك.
ماذا يجري في الساحة العلمية؟(1/1)
من تتبع الأبحاث والدراسات التي تغص بها الأسواق اليوم في مجال السنة وعلومها، وتأمل فيها بإمعان وإنصاف، بعيدا عن التعصب والتقديس، وجد كثيرا منها غير منضبطة بقواعد علوم الحديث؛ إذ يتعامل فيها أصحابها مع نصوص المحدثين النقاد ومصطلحاتهم العلمية بصورة غير منهجية، ويحملونها على غير محملها، فيطلقون ما هو مقيد، أو يقيدون ما كان مطلقا، ومن هنا وقع في تلك الأبحاث خلط وازدواجية بين مناهج مختلفة، سواء أ كان ذلك في تنظير القواعد أو ترجيح المسائل، حتى أصبحت ظاهرة التعقيب على نقاد الحديث أمرا مألوفا لدى المعاصرين لا لخطأ اكتشفوه، ولا لوهم وجدوه، بل غرورا بما لديهم من تصورات سطحية حول مبادئ علوم الحديث فيطلقون القاعدة التي تكون لها استثناءات يجب أخذها بعين الاعتبار، كقولهم تعقيبا على الحديث الذي أعله النقاد بتفرد راويه:
((لا يضر تفرده لأنه ثقة))أو ((زيادة الثقة مقبولة كما هو مقرر في كتب المصطلح)) .
وقولهم فيما صححه النقاد:
((هذا إسناد منقطع لعنعنة المدلس، وهو في الطبقة الثالثة من التدليس)) .
وقولهم في الحديث الذي ثبت انقطاعه:
((الإسناد متصل لوجود معاصرة بين الرواة))أو ((هذا الراوي من الطبقة الثانية من التدليس فعنعنته مقبولة ومحمولة على الاتصال)) .
وقال أحد الباحثين - وهو في معرض رده على الإمام أبي حاتم -:
((لو درس أبو حاتم أو غيره من الأئمة حتى البخاري دراسة وافية لما تجاوزوا النتائج التي توصلت إليها، والحمد لله إني طبقت قواعد المحدثين)) .
وقال باحث آخر، وهو يعقب على حديث أعله الإمام ابن المديني:
((هكذا تعل الحديث يا ابن المديني!)) .
وغير ذلك من التعقيب بما لا يخفى على الطلبة المبتدئين، فضلا عن المحدثين النقاد.(1/2)
أما تصحيح الأحاديث وتضعيفها وتحسينها فعندهم على طريقة سهلة لم تكن مألوفة لدى النقاد من قبل، وهي النظر في ترجمة رواة الحديث من خلال كتب التراجم، لا سيما كتاب التقريب للحافظ ابن حجر؛ فإذا وجدوا الرواة كلهم ثقات صححوا الحديث، حتى وإن أعله النقاد، وإن كان فيهم صدوق أصبح الحديث حسنا لذاته، وإن كان فيهم ضعيف فالحديث ضعيف، وإذا جاء من طريق آخر فحسن لغيره، وهكذا يطلقون الحكم فيما هو مقيد، ويقيدون فيما من شأنه الإطلاق.
وبهذا النوع الجديد من الدراسات يكون الباحث المعاصر قد ألغى - من غير أن يشعر - كثيرا من مصطلحات الحديث، لا سيما الشاذ والمعلول والمنكر.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى أننا نشاهد بعض الكتاب والأساتذة الجامعيين يسيئون فهمهم لمنهج المحدثين النقاد في تصحيح الحديث وتعليله، ويتهمونهم بقلة الفقه، وكثرة النظر في الشكليات وظواهر السند، وأنهم لا يجدون حرجا أمام طلبتهم في إنكار بعض الأحاديث التي اتفق العلماء على صحتها طوال القرون الماضية، وحجتهم في ذلك أن تلك الأحاديث تتعارض مع ما فهموا من القرآن أو أنها لم تخضع لعقولهم.
والجدير بالذكر أن هؤلاء الباحثين والكتاب والأساتذة جميعا قد درسوا في الماضي كتب المصطلح ضمن مقررات الجامعة أو مقررات المعهد أو غيرها.
هذه الظاهرة لا يشك عالم منصف غيور على السنة النبوية في خطورة نتائجها على المدى البعيد.
إلى متى يقف الغيورون على السنة مكتوفي الأيدي - وهم يشاهدون هذه الظاهرة الخطيرة تنتشر في أوساط الباحثين المبتدئين-؟ وكيف يحلو لهم التساهل في مواجهتها، والبحث عن سبل علاجها؟.
هنا يجب علينا أن نتساءل:
ما قيمة تدريسنا لمقررات الحديث وعلومه في الجامعات والمعاهد إذا لم يعالج ذلك الخلل، ويصلح الفساد، ويصحح المفاهيم؟
كم يبذل في تدريس هذه المقررات من جهد ووقت ومال؟
كيف انتشرت اليوم هذه الظاهرة الخطيرة بين الباحثين ؟
ماذا يستفيد الطلبة من هذه المقررات؟(1/3)
هل الهدف من تدريس كتب المصطلح مجرد التعرف على المصطلحات دون فقه لما تتضمنه من القضايا الجوهرية ؟
أم الهدف من ذلك هو التعرف على منهج المحدثين النقاد في التصحيح والتضعيف، وفقه مصطلحاتهم النقدية ؟.
في الواقع إن كتب المصطلح إذ تجمع نصوص النقاد ومصطلحاتهم العلمية وتشرح مضامينها فإنها تقدم من خلال ذلك منهج المحدثين النقاد في نقد الأحاديث، ومنهج المتأخرين في حفظ دواوينها من التحريف والتصحيف والانتحال، لذلك فإن مرجع الخلل في تعامل كثير من الباحثين مع السنة النبوية هو عدم استيعابهم لقواعد علوم الحديث، وله أسباب عدة، لعل الأساتذة المشاركين في هذه الندوة قد أشاروا إليها في ضوء تجاربهم، كل حسب رأيه واجتهاده.
غير أني أود أن أركز هنا على بعض أهم الأسباب التي تقف وراء صعوبة هذا المقرر، وهو:
1 - عدم ترتيب المصطلحات وموضوعاتها ترتيبا موضوعيا.
2 - عدم استخدام الأمثلة الواقعية التي يعيشها الطالب.
3 - الخلط بين جهود المحدثين المتقدمين والمتأخرين في علوم الحديث ومناهجهم المختلفة في تطبيقها، وتفسير مصطلحات النقاد بما تعارف عليه المتأخرون، أو تفسير نصوص المتأخرين بما اصطلح عليه المتقدمون، لذا آثرت أن يكون بحثي تحت عنوان »ضرورة الاستفادة من جهود المحدثين النقاد المتقدمين والمتأخرين في مجال علم الحديث«.
مصدر الخلل:
إن الكتب والمصطلحات تعد أوعية العلوم في كل زمان ومكان، وعن طريقها تنتقل العلوم من جيل إلى جيل، وبقدر الاحتفاظ بأصالتها، وبقدر الدقة في عزوها إلى أصحابها المبدعين، وحفظها بعيدا عن التغيير والتبديل، تبقى العلوم حية وجلية تعطي أكلها كل حين بإذن ربها.(1/4)
كما تشكل هذه الكتب والمصطلحات مرآة ناصعة تعكس جهود أصحابها في مجال العلم والثقافة والإبداع، ومدى تخصصهم في الموضوع الذي تناولوه، وطبيعة تكوينهم وتفكيرهم واهتمامهم وما يتصل بمحيطهم العلمي عموما. لذلك يكون ما تركوه للأجيال من الانتاج العلمي مصدرا رئيسا لتدوين تاريخهم في جميع مجالات العلم والإبداع.
وبقدر إدراك الباحث أو الدارس لهذه الحقيقة، تتحقق الفائدة العلمية المرجوة من دراسة تلك الكتب والمصطلحات، وإلا سيكون تحصيله العلمي عقيما لا يساعده على الاستنتاج والنهوض بما يقتضيه محيطه العلمي من الإصلاح والإبداع والتجديد في العلوم وطرق تدريسها.
التفاوت المعرفي بين الأئمة وبعض نماذجه:
أذكر هنا على سبيل المثال لمزيد من التوضيح مجالين واسعين يبرز فيهما تفاوت معرفي ومنهجي بين المتقدمين والمتأخرين في خدمة الحديث وعلومه، وآثار هذا التفاوت في كتب المصطلح عموما، وهما:
1 - طريقة نقل الحديث.
2 - الحكم على الحديث.
أما المجال الأول فإذا كان المتقدمون يعتمدون الأسانيد والرواية المباشرة في نقل الأحاديث حديثا حديثا، فإن المتأخرين اعتمدوا الكتب والدواوين، بعد أن أخذت الأحاديث تستقر في بطونها، وأصبح الإسناد الذي تداوله المتقدمون في عصور الرواية غير مألوف في عمل المتأخرين، بل اكتفوا من الإسناد بقدر ما يكفل لهم حفظ تلك الكتب وحمايتها من وقوع تحريف وتصحيف وانتحال، حتى إذا استخدم أحدهم إسنادا في رواية حديث بخلاف العرف العلمي السائد في عصره، وحتى في أواخر عصر الرواية، فإن هذه الرواية لم تعد مما يعول عليه، وإنما يكون إسناد المتقدمين المثبت في كتبهم هو المعتمد في ذلك أولا وأخيرا، وهذا ليس عيبا في عمل المتأخرين ولا طعنا فيهم ولا تقليلا من شأنهم، بل ذلك الذي نهضوا به في سبيل حماية السنة هو الواجب عليهم.(1/5)
هذه بعض النصوص تدل على ذلك بجلاء؛ يقول الإمام البيهقي - وهو في أواخر عصر الرواية الذي تعود فيه العلماء على الأسانيد والروايات المباشرة -:
((توسع من توسع في السماع من بعض محدثي زمانه الذين لا يحفظون حديثهم ولا يحسنون قراءته من كتبهم ولا يعرفون ما يقرأ عليهم بعد أن تكون القراءة عليهم من أصل سماعهم، ووُجِّه ذلك بأن الأحاديث التي قد صحت أو وقفت بين الصحة والسقم قد دونت وكتبت في الجوامع التي جمعها أئمة الحديث ولا يجوز أن يذهب شيء منها على جميعهم وإن جاز أن يذهب على بعضهم لضمان صاحب الشريعة حفظها. قال البيهقي: فمن جاء اليوم بحديث لا يوجد عند جميعهم لم يقبل منه ومن جاء بحديث معروف عندهم فالذي يرويه لا ينفرد بروايته والحجة قائمة بحديثه برواية غيره والقصد من روايته والسماع منه أن يصير الحديث مسلسلا بحدثنا وأخبرنا وتبقى هذه الكرامة التي خصت بها هذه الأمة شرفا لنبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم. والله أعلم)) (1) .
ولما جاء عصر ابن الصلاح تجلى فيه ما ذكره البيهقي بصورة أوضح وأوسع، وقال في مقدمته:
((أعرض الناس في هذه الأعصار المتأخرة عن اعتبار مجموع ما بينا من الشروط في رواة الحديث ومشايخه فلم يتقيدوا بها في رواياتهم لتعذر الوفاء بذلك على نحو ما تقدم، وكان عليه من تقدم)) .
((ووجه ذلك ما قدمناه في أول كتابنا هذا من كون المقصود آل آخرا إلى المحافظة على خصيصة هذه الأمة في الأسانيد والمحاذرة من انقطاع سلسلتها، فليعتبر من الشروط المذكورة ما يليق بهذا الغرض على تجرده، وليكتف في أهلية الشيخ بكونه مسلما بالغا عاقلا غير متظاهر بالفسق والسخف، وفي ضبطه بوجود سماعه مثبتا بخط غير متهم، وبروايته من أصل موافق لأصل شيخه)) (2) .
__________
(1) نقله ابن الصلاح في مقدمته ص:120.
(2) المصدر السابق.(1/6)
لذلك فكتاب رياض الصالحين للإمام النووي - مثلا - لا يعد مصدرا أصيلا في الحديث، لأنه مجرد أحاديث مختارة من كتب المتقدمين، ولا يعد ذلك طعنا في الإمام النووي، أما كتاب المسند للإمام أحمد - مثلا - فإنه يعد أصيلا في الحديث ويعتمد في التخريج، وهذا التفاوت يكون طبيعيا إذا تأملنا ما ورد في سياق كلام البيهقي، وتكمن فائدة الفصل بينهما في ضرورة توثيق المعلومات وتحقيقها، وذلك بإعادة النظر فيما يشكل مصدرا مساعدا، ومقارنته مع مصدره الأصيل؛ ومن لا يفرق بينهما يجهل أهمية عرض الفرع على الأصل، بل يجعلهما أصلا، وبالتالي لا ينتبه إلى آثار ذلك في تكوينه وتفكيره.
الآثار المترتبة على هذا التفاوت المنهجي بين الأئمة:
هذا التباين المنهجي بين المتقدمين والمتأخرين في طريقة نقل الحديث وروايته أدى إلى استخدام المتأخرين مصطلحات جديدة، أو توسيع معانيها بحيث يتناسب مع أعرافهم العلمية في طريقة التلقي والتحمل؛ فمصطلح المسند (بكسر النون) و(الحاكم) و(طباق السماعات)، و(الحافظ)، و(المحدث)، و(الحجة) تعد أمثلة لذلك.
أما المسنِد - بكسر النون - فمصطلح جديد لم يطلق في عصر الرواية، والمصطلح المشهور سابقا في عصر الرواية هو ((الراوي))، ولم يطلق مصطلح ((المسنِد)) إلا في عصر ما بعد الرواية، ليكون معناه من يروي الحديث بإسناده في الوقت الذي انقطع فيه الإسناد والرواية المباشرة، يقال: ((فلان مسنِد)) إذا كان متميزا برواية الأحاديث في عصر ما بعد الرواية، دون أن يطلق عليه (راوي الحديث)، وذلك للفصل بين عصرين مختلفين: ((عصر الرواية)) و((عصر ما بعد الرواية)).
وكذلك مصطلح (الحاكم) جعله المحدثون في عصر ما بعد الرواية لقبا للمحدث الذي أحاط علما بجميع الأحاديث حتى لا يفوته منها إلا اليسير. وهذا المصطلح ليس له وجود في لغة المحدثين النقاد، لا سيما صيغ الجرح والتعديل.(1/7)
أما (المحدث) فمصطلح قديم، لكن تغير معناه في عصر ما بعد الرواية، وصار المحدث لقبا خاصا بمن اشتغل بالحديث رواية ودراية، واطلع على كثير من الرواة والروايات في عصره، وتميز في ذلك حتى عرف فيه خطه، واشتهر فيه ضبطه، وقيل: ((المحدث من تحمل الحديث رواية واعتنى به دراية))، وقيل غير ذلك من المعاني، غير أن ذلك كله يفيد معنى واحدا مختلفا تماما عن معنى مصطلح (المحدث) في عصر الرواية، وهو كل من يهتم بالأحاديث سماعا ورواية وكتابة - سواء أ كانت له دراية أم لا، سواء كان متقنا ضابطا لما يرويه أم لا - ويتجلى ذلك من خلال تتبع ألفاظ الجرح والتعديل.
كذلك كل من مصطلحي (الحافظ) و (الحجة)، فقد استحدث معناهما حسب العرف الجديد في عصر ما بعد الرواية؛ فصار معنى (الحافظ) من توسع في الحديث وفنونه، بحيث يكون ما يعرفه من الأحاديث وعللها أكثر مما لا يعرفه. وقيل غير ذلك من المعاني، لكن لم يكن مصطلح (الحافظ) في عصر الرواية معهودا بشيء مما ذكر من المعاني، بل يطلق على الثقة والضعيف، والمحدث والناقد، ودون تحديد عدد الأحاديث التي ينبغي حفظها لِيُعَدَّ الراوي حافظا.
كما أن كلمة (الحجة) أصبحت في عصر ما بعد الرواية لقبا خاصا بالحافظ الذي وعى أكثر من مائة ألف، وأصبح ما يحيط به ثلاث مائة ألف حديث مسندة، وأما في عصر الرواية فلم يشترط فيه ذلك، فكل من كان متميزا بالإتقان والضبط وندرة الخطأ فيما يرويه يعد حجة، سواء أ حفظ ذلك العدد من الأحاديث أم لا، وسواء أ كان فقيها أم لا، وسواء اعتمد على الحفظ أم على الكتاب. وتعد كلمة (الثقة) مرادفة لكلمة (الحجة).(1/8)
كذلك المصطلحات التي تشكل نقاطا جوهرية في مسائل علوم الحديث تغيرت في استعمال المتأخرين ؛ كالصحيح، والحسن، والمعلول، والشاذ، والمنكر، والمحفوظ، والمعروف، وغيرها، فإنهم ربطوا معانيها بأحوال الرواة؛ فالصحيح عندهم لا يطلق إلا على مرويات الثقات أو الصدوق، والمعلول والشاذ مقيدان أيضا بها، والمنكر لا يطلق إلا فيما رواه الضعيف مخالفا للثقة، بينما المحدثون النقاد في عصر الرواية لم يتقيدوا بذلك ؛ بل كانوا يطلقونها على مرويات الثقات والضعفاء في حالة ما إذا أصابوا فيها.
وهذه الأمور من أهم فوائد ربط منهج المحدثين بمبادئ مصطلحات الحديث وتعريفاتها.
وأما القواعد التي تتصل بضبط الكتب وكتابتها وروايتها، ومقابلة النسخة الفرعية بالأصل، وحلقات السماع والطباق، وما استخدِم فيها من المصطلحات فلم تظهر بصورتها الكاملة إلا في عصر ما بعد الرواية.
أما المجال الثاني للتفاوت المنهجي بين المتقدمين والمتأخرين - وهو الحكم على الحديث- فإذا كان المتأخرون عموما يعتمدون الأسانيد وأحوال رواتها في الحكم على الحديث، ويفصلون بينهما، ويجعلون الأحكام تابعة لأحوال الرواة، فإن المتقدمين النقاد يعتمدون فيه على مدى خلو الحديث من شذوذ وعلة، وإذا حال الأمر دون معرفة ذلك يكون ظاهر السند وأحوال الرواة هو المعول عليه في التصحيح والتضعيف.
يقول ابن دقيق العيد واصفا منهج الفقهاء والأصوليين المتأخرين:
((ومداره (يعني الصحيح) بمقتضى أصول الفقهاء والأصوليين على صفة عدالة الراوي في الأفعال مع التيقظ، العدالة المشترطة في قبول الشهادة، على ما قرر في الفقه، فمن لم يقبل المرسل منهم زاد في ذلك أن يكون مسندا)) (1) .
__________
(1) الاقتراح في بيان الاصطلاح ص: 186 (تحقيق د. عامر صبري، ط: 1، سنة 1417، دار البشائر الإسلامية، بيروت).(1/9)
كما بينه أيضا في شرح الإلمام: ((إن لكل من أئمة الفقه والحديث طريقا غير طريق الآخر، فإن الذي تقتضيه قواعد الأصول والفقه أن العمدة في تصحيح الحديث عدالة الراوي وجزمه بالرواية، ونظرهم يميل إلى اعتبار التجويز الذي يمكن معه صدق الراوي وعدم غلطه، فمتى حصل ذلك، وجاز ألا يكون غلطا، وأمكن الجمع بين روايته ورواية من خالفه بوجه من الوجوه الجائزة، لم يترك حديثه)) .
وقال الصنعاني معقبا عليه:
((وهو صريح في اختلاف الاصطلاحين في مسمى الصحيح من الحديث كما قررناه)) (1) .
وهذا التباين المنهجي في التصحيح والتضعيف متفق عليه بين الأئمة.
لذلك فإن معظم المتأخرين ممن تكلم في الحديث كان يقول: ((إسناده صحيح))،وقلما يقول:((حديث صحيح))، بخلاف النقاد القدامى، فإنهم يقولون: ((حديث صحيح)) وبين القولين فرق واضح، إذ معنى الأول: رواته ثقات، وظاهر السند متصل، ومعنى الثاني أن الراوي لم يخطئ في نقل الحديث عمن فوقه.
وأنت إذا تتبعت كتاب (الأحاديث المختارة) للحافظ المقدسي - على سبيل المثال - وجدته لا يكاد يصحح الحديث إلا بقوله: (إسناد صحيح)، ولا يقول (حديث صحيح). والباحث المعاصر لا يفرق بينهما، ويجعل تصحيح المتأخرين مثل تصحيح المتقدمين النقاد، بل يرد به على النقاد لغروره بظاهر السند.
__________
(1) توضيح الأفكار 1/23.(1/10)
من هنا جاء في كتب المصطلح بيان هذه النقطة المهمة للغاية لكيلا يقع لدينا خلط بين أسلوب المتقدمين النقاد وبين أسلوب المتأخرين عموما في التصحيح والتضعيف والمصطلحات التي يستخدمونها في ذلك ؛ يقول ابن الصلاح: قولهم حديث صحيح الإسناد أو حسن، دون قولهم: هذا حديث صحيح أو حديث حسن، لأنه قد يقال هذا حديث صحيح الإسناد ولا يصح لكونه شاذا أو معللا، غير أن المصنف المعتمد منهم إذا اقتصر على قوله إنه صحيح الإسناد ولم يذكر له علة ولم يقدح فيه فالظاهر منه الحكم له بأنه صحيح في نفسه لأن عدم العلة والقادح هو الأصل والظاهر (1) .
يفيد هذا النص وجود خلاف بين القولين: (حديث صحيح)، و(إسناده صحيح)، وإذا تتبعنا كتب السابقين وجدنا النقاد المتقدمين يتعودون على اللفظ الأول، والمتأخرين على الثاني. وبالتالي فإن التمييز بين القولين في المعنى، وحمل كل منهما على محمله الحقيقي هو عين الإنصاف، وأما غير ذلك فيعد انحرافا خطيرا يجب على العلماء إصلاحه.
__________
(1) التقييد والإيضاح ص: 58، انظر تعليق الحافظ السخاوي على هذا النص، إذ قال: ((وأما من لم يتوقف من المحدثين (يعني المتأخرين) والفقهاء في تسمية ما يجمع الشروط الثلاثة (وهي العدالة والضبط والاتصال) صحيحا، ثم إن ظهر شذوذ أو علة رده، فشاذ، وهو استرواح، حيث يحكم على الحديث بالصحة قبل الإمعان في الفحص وتتبع طرقه التي يعلم بها الشذوذ والعلة نفيا وإثباتا فضلا عن أحاديث الباب كله التي ربما احتيج إليها في ذلك، وربما تطرق إلى التصحيح متمسكا بذلك من لا يحسن، فالأحسن سد هذا الباب وإن أشعر تعليل ابن الصلاح ظهور الحكم بصحة المتن من إطلاق الإمام المعتمد صحة الإسناد بجواز الحكم قبل التفتيش؛ حيث قال: لأن عدم العلة والقادح هو الأصل الظاهر فتصريحه بالاشتراط يدفعه، مع أن قصر الحكم على الإسناد - وإن كان أحق - لا يسلم من الفقهاء)) انتهى. يعني بهم الفقهاء المتأخرين بدون شك.(1/11)
من بين أنواع علوم الحديث ما هو أكثر تأثرا بمستجدات عصر ما بعد الرواية، وهو الجرح والتعديل وطرق التحمل والأداء، لذا تجد هذين النوعين في كتب المصطلح مدخلا واسعا لدخول علماء الفقه والأصول، بل تلحظ المتأخرين يميلون إلى ترجيح بعض أقوالهم، وذلك نظرا لكون هذين الموضوعين مما تناولوه وانشغلوا به نظريا وعمليا.
أما الجرح والتعديل فمن باب مسألة الشهادة التي انشغل المتأخرون من الفقهاء وأئمة الأصول بتحرير ما يتصل بعدالة الشاهد وما يضرها من خلل سلوكي وعقدي، وأما طرق التحمل والأداء فمن خلال تطبيقهم لها في نظمهم التعليمية التي تطورت في عصرهم، حتى وقع لهم فيها تساهل في تطبيق شروط النقاد في أسانيد الكتب كما سبق ذلك عن الإمام البيهقي وغيره.
وفي ضوء هذا الواقع فإن كتب الحديث والمصطلح، تحمل في طياتها جهود المحدثين في مجال علوم الحديث، مع تحديد دقيق لأطوار هذه الجهود المرحلية، وعوامل تطورها وتجددها، وآثارها في تكوينهم وتفكيرهم وانشغالاتهم العلمية، لكن يتوقف معرفة ذلك كله على دراسة تحليلية ومنهجية لتلك الكتب والمصطلحات، بعيدا عن العواطف وظواهر التقديس التي يتقيد بها كثير من الباحثين في هذا العصر؛ إما لضيق وقتهم بسبب الانشغال بأمور أخرى، أو لاقتناعهم بأن هذا العلم قد نضج واحترق ولم يترك السابق للاحقه شيئا، أو لأنهم لم يستوعبوا علوم الحديث كما ينبغي، بحيث يتخيل إليهم أن كل ما تضمه كتب المصطلح من القضايا مسلمة لدى المحدثين النقاد.
من خلال قراءة منهجية لكتب المتقدمين والمتأخرين في مجال الحديث وعلومه تتبين الأمور الآتية:
1 - أن المتأخرين أبدعوا في حفظ كتب المتقدمين ودواوينهم، وحمايتها من جميع أنواع التحريف والتصحيف والانتحال، وأما المتقدمون فانصبت عنايتهم على رواية الحديث، وأبدع نقادهم في جانب النقد وكشف أخطاء الرواة وأوهامهم. وأن الجميع قاموا بحفظ السنة والذب عنها، كل حسب مستجدات عصره.(1/12)
2 - ظهرت بعض المصطلحات في عصر المتأخرين، وتغيرت معاني بعضها. وعليه فلا ينبغي الخلط بين المناهج، بل لا بد من حمل كل مصطلح على منهج قائله.
3 - أسفرت جهود المتأخرين عن ظهور منهج علمي رائع في تحقيق المخطوطات وضبطها وتصحيحها، كما أسفرت جهود المتقدمين عن منهج علمي عظيم في نقد المرويات. ونحن في هذه المرحلة الزمنية بحاجة ملحة إلى معرفة هذين المنهجين.
أما ما تعاني منه الساحة العلمية اليوم من عدم الانضباط بقواعد المحدثين النقاد في النقد، وقواعد المتأخرين في تحقيق التراث فسببه الرئيس الخلط بين جهود هؤلاء الأئمة، واعتبار المتأخرين مصادر أصيلة فيما أبدع فيه المتقدمون، وحمل نصوص بعضهم ومصطلحاته على ما قصده غيره، وإذا أردنا خدمة السنة النبوية وعلومها فإنه لا ينبغي أن نضيع الأوقات في الاهتمام بالسطحيات والشكليات التي لا تزيدنا إلا بعدا عن الحقيقة وتعقيدا في المنهج وغموضا في الفهم، بل يجب علينا التباحث حول حقيقة أسباب الخلل والتقصير، ولذا أقترح ما يأتي (والله تعالى الموفق):
الحل المقترح:
إن كان بحثي مرتكزا على بيان الخلط بين مناهج مختلفة ومصادر أصيلة ومساعدة في فهم مصطلحات الحديث وقواعد علوم الحديث لكونه من أهم أسباب وقوع الخلل في التصحيح والتعليل والجرح والتعديل، فإني لا أقتصر هنا على ذكر ما يتصل بذلك فحسب بل أقترح ما يكون حلا شاملا.
وإذ أشكر السابقين والمعاصرين، وأقدر جهودهم في سبل تسهيل علوم الحديث على الطلبة المبتدئين، دون استثناء أحد منهم، فإني لا أعتقد أن هذه المجهودات كانت متكاملة وصالحة في كل الأعراف العلمية التي تتغير وتتطور بتغير الزمن، لذلك أقترح ما يأتي، دون أن أقصد بذلك طعنا ولا تقليلا من شأنهم.
وفيما يأتي ذكر المواصفات التي ينبغي أن يتضمنها الكتاب المقرر في علوم الحديث.(1/13)
أولا: وضع تمهيد أو مدخل لتوعية الطلاب بأهمية التعرف على مصادر علوم الحديث الأصيلة وتمييزها عن المصادر المساعدة لها، وضرورة اعتماد الأصيل عند الاختلاف. بهذا نتجنب منهج التبرير الذي كثيرا ما يأتي استجابة للأهواء، وهو بالتأكيد منهج لا يتناسب مع البحث العلمي في العلوم الإسلامية.
ثانيا: ترتيب المصطلحات حسب وحداتها الموضوعية.
ثالثا: استخدام الأمثلة الواقعية لشرح مواضيع علوم الحديث ومصطلحاتها.
رابعا: ضرورة العمل على ربط منهج المحدثين النقاد في التصحيح والتضعيف والجرح والتعديل بمبادئ مصطلح الحديث.
خامسا: التركيز على بلورة منهج المحدثين النقاد في التصحيح والتعليل والجرح والتعديل كما ينبغي التركيز على عنايتهم بالجوانب الفقهية.
بهذا نستطيع الاستفادة مما تركه لنا الأئمة المتقدمون والمتأخرون؛ نستفيد من المتقدمين منهجهم في نقد المنقولات، ومن المتأخرين منهجهم في تحقيق التراث.
وتفاصيل هذه النقاط كالآتي:
أما النقطة الأولى فينبغي التركيز على توعية الطلاب بأهمية التعرف على المصادر الأصيلة التي انبثقت منها قواعد علوم الحديث، والمصادر المساعدة الفرعية التي يتمثل دورها في جمع ما تناثر في المصادر الأصيلة، إلى جانب نصوص الفقهاء وعلماء الأصول, لا سيما في مباحث الجرح والتعديل وطرق التحمل والأداء، وذلك ليتم الترجيح بالرجوع إلى المصدر الأصيل حين وقوع خلاف أو غموض أو شبهة حول مصطلح من المصطلحات.
إن كانت هذه النقطة قد تفهم من بعض كتب المصطلح بعد دراسة مقارنة وقراءة تحليلية، بعيدا عن القراءة العاطفية والتقديسية، فإن المؤلفين المعاصرين لم يولوها اهتماما ولم يتطرقوا إلى إبرازها من خلال وضع عنوان مستقل لها، بل كان أسلوبهم في كتب المصطلح يخلط بين مصادرها الأصيلة والمساعدة، لذا نرى بعض الباحثين في معرض الرد على النقاد الذين يعدون مصادر أصيلة في علوم الحديث يقول:(1/14)
((زيادة الثقة مقبولة كما هو مقرر في كتب المصطلح)).
يقول باحث آخر: ((لو درس أبو حاتم وغيره من الأئمة وحتى الإمام البخاري دراسة وافية لما تجاوزوا النتائج التي توصلت إليها، وإني بحمد الله طبقت منهج المحدثين)) يقصد بالمنهج الذي طبقه هو ما تقرر في كتب المصطلح.
أما النقطة الثانية - وهي ترتيب المصطلحات حسب وحداتها الموضوعية - فيمكن توزيع أنواع علوم الحديث جميعها تحت أربع وحدات موضوعية رئيسة، وهي كما يلي:
1- علم الرواية.
2- قواعد التصحيح والتعليل.
3- علم الجرح والتعديل.
4- فقه الحديث.
فبتنسيق أنواع علوم الحديث على هذا النمط، من غير تفريق بين المصطلحات التي تشترك في المعنى والحكم، أو ذكر بعضها في موضع، وآخر في موضع قد يكونان متباعدين، كما هو الحال في كتب المصطلح عموما، فإن كثيرا من العقد والشبه التي تكتنف هذا العلم تتبدد تلقائيا، ويصبح منهج المحدثين في نقد الأحاديث واضح المعالم لدى الجميع.
الوحدة الأولى:
تحوي هذه الوحدة ـ وهي علم الرواية ـ المسائل التالية:
معرفة آداب المحدث، ومعرفة آداب طالب الحديث، وطرق تحمل الحديث، وكتابة الحديث، وضبط الكتاب، ورواية الحديث وشروطها، ومعرفة علو الإسناد ونزوله. مع لفت الانتباه إلى ما استحدث فيها في عصر ما بعد الرواية من مصطلح وحكم.
وتحتل هذه الوحدة مكانة رفيعة عند المحدثين وغيرهم من أهل العلم، وذلك لأن نظمهم في التعليم قائمة على مراعاة أنواعها، وظهور التأليف مبكرا ومستقلا في هذه الوحدة من وحدات علوم الحديث - مثل كتاب الرامهرمزي (المحدث الفاصل بين الراوي والواعي) - دليل واضح على مدى اهتمامهم بهذا الجانب التربوي.(1/15)
وإن كان كثير من مواضيع هذه الوحدة ـ مثل طرق التحمل والأداء وكتابة الحديث وضبط الكتاب ومعرفة علو الإسناد ونزوله ـ يغلب عليها الجانب التاريخي، ولا يوجد في دراستها اليوم كبير فائدة إذا نظرنا في مدى إمكانية تطبيقها في نظمنا في التعليم، لكنها تلقي أضواء كاشفة على كثير من الحيثيات التي يعتمد عليها نقاد الحديث في التصحيح والتعليل والجرح والتعديل، ومن هذه الجهة تظهر الأهمية الكبيرة في دراستها االيوم ضمن مادة علوم الحديث.
الوحدة الثانية:
تحوي هذه الوحدة ـ وهي قواعد التصحيح والتضعيف ـ الأنواع الآتية:
الصحيح، والحسن، والضعيف، والمدلَّس، والمرسل، والمنقطع، والمعلق، والمعضل، وزيادة الثقة، والعلة، والشاذ، والمنكر، والمقلوب، والمدرج، والمصحف، والمضطرب، والموضوع.
إذا نظرنا في منهج المحدثين النقاد في التصحيح والتعليل، القائم أساسا على مدى موافقة الراوي للواقع ومخالفته له وتفرده بما له أصل أو بما ليس له أصل، بعبارة أخرى: على مدى خلو الحديث من شذوذ وعلة (1) وجدنا هذه الأنواع تنقسم إلى ثلاثة موضوعات على الشكل الآتي:
1 ـ الحديث الذي ثبتت صحته.
2 ـ الحديث الذي ثبت خطؤه.
3 ـ الحديث الذي لم يثبت فيه هذا ولا ذاك.
وفيما يلي بيان ذلك:
أما الموضوع الأول فيطلق عليه عادة مصطلح ((صحيح))، وقد يطلق عليه مصطلح ((حسن)) (2) ، بينما يصطلح عليه بعضهم كلمة ((حسن صحيح)).
__________
(1) من الجدير بالذكر أن كتب المصطلح عموما تعتمد في تقسيم الحديث ثلاثيا على أحوال الرواة، وإن كان هذا الأمر واقعيا في بعض الأحوال فإنه لا يمكن اعتباره أمرا مطردا، لذا يتعين لفت انتباه الطلبة إلى ذلك.
(2) يقول الحافظ الذهبي: إنهم قد يقولون فيما صح: هذا حديث حسن. وانظر كتاب (نظرات جديدة) ص: (23 - 26) للباحث، ففيه أمثلة تطبيقية من نصوص النقاد.(1/16)
وأما الموضوع الثاني فيطلق عليه: (ضعيف)، (معلول)، (شاذ)، (منكر)، (مقلوب)، (مدرج)، (مصحف)، (مضطرب)، (موضوع). وإلى جانبها ألفاظ صريحة يستعملها النقاد كثيرا؛ وهي:
(حديث غريب)، (غير محفوظ)، (باطل)،(وهم)، (خطأ) (تفرد به فلان)، (لا يشبه حديث فلان) (لا يجيء) وغيرها من العبارات الصريحة التي تزخر بها كتب العلل وكتب الضعفاء وغيرها.
والموضوع الثالث يقال فيه: (ضعيف (1) ، (مرسل)، (مدلس)، (منقطع)، (معضل)، (معلق) وإذا تقوى نوع من هذه الأنواع بعواضد بالشروط التي سيأتي ذكرها، ولم يصل إلى حد شعور الناقد بأنه ثابت، يقال: (حسن)، (جيد)، (لا بأس به)، وقد يطلق عليه أيضا (صحيح) تجوُّزا، ولا يريد به الموضوع الأول (2) .
وجه تقسيم هذه الأنواع تقسيما ثلاثيا:
لقد قسمنا هذه المصطلحات على ثلاثة أقسام - كما رأيت آنفا -، وذلك حسب شعور النقاد تجاه الحديث. وإلا ففي الواقع لا ينقسم الحديث سوى قسمين:
صحيح وخطأ.
لكن لن يكون بمقدور الناقد أن يعرف دوما ماذا في الواقع، خطأ أو صواب، لأنه قد لا يتوافر لديه من المعلومات ما يساعده على معرفة ذلك؛ فإذا علم الناقد صحة الحديث يعبر عن ذلك بما يدل عليه من الألفاظ، وإذا علم خطأه يعبر عنه بما يدل عليه من العبارات، وإذا لم يعلم هذا ولا ذاك فتعبيره عن ذلك يكون بقدر شعوره تجاه الحديث.
وعليه فإن الحديث ينقسم إلى ثلاثة أقسام بالنسبة إلى شعور الناقد، وأما في واقع الأمر فلا يكون له إلا قسمان: خطأ، وصواب.
__________
(1) مصطلح (ضعيف) يطلق على كل أنواع الضعيف.
(2) سبق شرح هذا الموضوع بالأمثلة في كتاب (نظرات جديدة في علوم الحديث) للباحث، ومما ينبغي لفت النظر إليه أن فهم ذلك التفاوت بين المصطلحات، ومقصود الناقد بها يتوقف بقدر كبير على خبرة واسعة، ودراية بمنهجهم، وفقه مناسبة استعمالهم لها، ولا يصلح في ذلك اعتماد كتب المصطلح اعتمادا كليا، فإنها تذكر لك من المعاني ما هو الأغلب استعمالا.(1/17)
وإذا رجعنا إلى أنفسنا نجد هذا التقسيم واقعيا، إذ الخبر الذي نسمعه لا يكون في الواقع إلا صوابا، أو خطأ، لكن ليس بمقدورنا أن نعرف هذا الواقع دائما، وبالتالي ينقسم هذا الخبر بالنسبة إلى شعور المخاطب إلى تلك الأقسام الثلاثة؛ لأنه قد يعرف أن الخبر صواب، أو أنه خطأ، أو لا يعرف شيئا، وإن كان يتنوع ما يعبر به المخاطب عما يجول في خلده تجاه الخبر الذي سمعه، بيد أنه لا يخرج عن قسم من هذه الأقسام.
وإذا كان الموضوع الأول يضم جميع المسائل المتعلقة بمعرفة صحة الحديث وثبوته، فإن الموضوع الثاني باعتباره مقابل الأول يشمل جميع الأنواع التي تكون لها صلة بمعرفة الخطأ في الحديث ـ سواء أ كان الراوي متعمدا في خطئه أم غير متعمد ـ والأنواع هي:
العلة، والشاذ، والمنكر، والمقلوب، والمدرج، والمصحف، والمضطرب، والموضوع. غير أن نوع (الموضوع) يجب أن يذكر في باب خاص، لكون راويه كذابا ووضاعا. ويلحق به ما رواه المتروك بسبب فسقه، لأنه مثل الوضاع في عدم جواز الرواية عنه.
ومن الجدير بالذكر أن مصطلح (العلة) أو (المعلول) يشكل موضوعا عاما يندرج تحته بقية الأنواع المذكورة، وليس نوعا قسيما، وهي: الشاذ، والمنكر، والمقلوب، والمدرج، والمصحف، والمضطرب.
وأما الموضوع الثالث فيمثل درجة متوسطة بين هذين الموضوعين، وعريضة، إذ يجذبها أحيانا أحد الطرفين: الصحيح أو المعلول، بقدر ما تتوافر في الحديث من العواضد الخارجية، غير أنه لا يرتقي إلى الصحيح، كما لا ينزل إلى الضعيف الذي تبين خطؤه. ومن هنا قد يكون موقف النقاد تجاه الحديث الذي يندرج تحت هذا النوع مضطربا، كما اضطرب المتأخرون في تحديد معنى مصطلح (الحسن) الذي يكون أساسه هذه الدرجة المتوسطة.
والعنوان الذي يطابق هذا الموضوع هو»الضعيف المنجبر«، ويشمل الأنواع التالية:(1/18)
المرسل، والمعلق، والمدلس، والمنقطع، والمعضل، وما رواه الضعيف غير المتروك بشرط أن لا يظهر للناقد ما يدل على صحته ولا خطئه، وأما إذا تقوى نوع من هذه الأنواع بالوجوه التي سيأتي تفصيلها فيقال عنه (حسن) وتستعمل فيه ألفاظ أخرى، مثل (جيد) و(لا بأس به) و(صالح) و(مقبول).
وبقي لنا تصنيف مسألة زيادة الثقة، فإن زيادة الثقة من حيث كونها مسألة لا تشكل نوعا خاصا مستقلا عن مسائل الصحيح والحسن والمعلول، ولا خارجة من حدودها؛ إما أن تكون صحيحة، أو حسنة، أو معلولة، ويكون كل ذلك تبعا لدلالة القرائن المحتفة بها. وأما من حيث كونها كلمة اصطلاحية فتظل نوعا يحتاج إلى تعريف، ولتوضيح ذلك سنخصص لها فصلا خاصا.
الوحدة الثالثة:
تضم الوحدة الثالثة ـ وهي علم الجرح والتعديل ـ ما يلي:
رواة الحديث، وطبقاتهم، والصحابة، والتابعون، وأتباع التابعين، وشروط قبول الرواية: العدالة، والضبط، وما يختل به كل من العدالة والضبط، والبدعة وأثرها في العدالة، والجهالة، وأثرها في رد الحديث، والكذب، وأثره في العدالة، وصيغ الجرح والتعديل، وتعارض الجرح والتعديل، وأسباب ذلك، وعلماء الجرح والتعديل، ومصادر هذا العلم.
وتجدر الإشارة إلى أن علم الجرح والتعديل من أهم النتائج التي تمخض عنها جهد المحدثين في نقد الأحاديث، تصحيحا وتعليلا.
الوحدة الرابعة:
تضم الوحدة الرابعة ما يلي:
معرفة الناسخ والمنسوخ في الحديث، ومشكل الحديث ومحكمه، وغريب الحديث، ومعرفة مناسبة الحديث وأسباب وروده.
وهذه المسائل التي طبقها المحدثون لمعرفة فقه الحديث ينبغي أن ندمجها في مفردات علوم الحديث، حتى يترسخ في ذهن الطالب مدى اهتمام المحدثين النقاد بالجوانب الفقهية للأحاديث، وهي التي تطورت فيما بعد حتى استقلت بعلم أصول الفقه.(1/19)
وأما النقطة الثالثة - وهي استخدام الأمثلة الواقعية لشرح مواضيع علوم الحديث ومصطلحاتها - فأنقل هنا من كتاب (علوم الحديث في ضوء تطبيقات المحدثين النقاد) نموذجا لذلك، وهو ((الحديث الصحيح)) .
قبل شرح هذا الموضوع يكون من الأفضل أن يتأمل القارئ في أسلوبه الشخصي في معالجة الخبر الذي يسمعه، سواء أ كان ذلك عبر وسائل الإعلام، أم عن طريق فردي، وذلك ليتضح ما يلي:
* معنى الصحيح عموما.
* طريقته في معرفة صحة الخبر الذي يعالجه، أو خطئه.
* حاجة ذلك إلى خلفية علمية، أو تخصص علمي في موضوع ذلك الخبر، أو في ملابساته.
وأما الشخص الجاهل فلا يكون من عادته إلا تقليد من ينقل إليه الخبر، وبالتالي يكون بعيدا عن معرفة صوابه وخطئه، واعتداله في ذلك.
كما لا ينسى القارئ أن يطرح أسئلة على نفسه:
* هل يصدق أحدنا الأخبار كلها دائما؟
* هل يكذبها دائما؟
* أ لا يُكذب حينا، ويُصدق حينا آخر، أو لا يعلم هذا ولا ذاك حينا ثالثا؟
* وما معيار ذلك إذن؟
* ألا يكون معيار ذلك هو: اعتماده على مدى:
أ - موافقة الخبر للواقع الذي يعرفه أو يعرف ملابساته.
ب - أو مخالفته له.
ج - أو التفرد بما له أصل، أو بما ليس له أصل.
د - أو اعتماد الحالة العامة لذلك الرجل الناقل، إذا لم يتبين له شيء من ملابسات ذلك الخبر ؟
* ألا تعتقد جازما أن الذي يكون بمقدوره معرفة صحة الخبر وخطئه هو من لديه خلفية علمية حول موضوع الخبر أو ملابساته ؟ أما غيره فليس له ناقة في ذلك ولا جمل ؟.
* ألا يمكن أن نقتنع بعد هذا التأمل بأن التصحيح لم يكن تابعا لأحوال الناقلين فقط؟.
وفي ضوء ذلك نشرح معنى قولهم (حديث صحيح) فنقول:
إذا تبين للناقد أنه تم نقل الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره، من غير خطأ ولا وهم، فإنه يعبر عنه غالبا بأنه (صحيح)، وقد يعبر عنه بأنه (حسن)، بينما يستعمل الإمام الترمذي في ذلك لفظة (حسن صحيح).(1/20)
وبقدر ما يتوافر لدى الناقد من القرائن يتقوى شعوره، حتى يصل إلى العلم بأن الحديث ثابت عن مصدره، وأنه تم نقله عنه عبر رواته من غير وهم ولا خطأ، مع كونه من خبر الآحاد، ولا يتوقف الجزم بذلك أبدا على تواتره، كما هو الشائع لدى كثير من المثقفين الذين ينظرون في الحديث من زاوية ثقافتهم، دون احترام أهله من النقاد القدامى، ودون اعتبار شعورهم تجاه الحديث.
وبما أن هذا الأمر من علم الخاصة؛ فإنه لا يمكن أن يكون للجميع شعور النقاد وإحساسهم تجاه الحديث ومدى إفادته اليقين والعلم، ولذا يتعين على غيرهم التسليم بذلك، سواء أفاد ذلك عنده الظن أم لا.
وأما النقطة الرابعة - وهي ضرورة العمل على ربط منهج المحدثين النقاد في التصحيح والتضعيف، والجرح والتعديل، بتعريف مصطلح الحديث ومبادئه - ففي غاية الأهمية، لأنها تساعد الطلبة على استيعاب علوم الحديث واستقامة التعامل مع مصطلحات القوم؛ إذ الهدف من دراسة علوم الحديث هو معرفة منهج المحدثين في التصحيح والتعليل من خلال فهم مصطلحاتهم ومعانيها التي اطلقوها عليها، حتى لا تحمل على غير محملها.
وهناك أمثلة كثيرة من المصطلحات، قد يتخيل إلى دارسها أن معانيها عند النقاد مقيدة بما ورد في التعريفات، ومن خلال دراسات مستقلة قام بها بعض طلاب الدراسات العليا حول أهم المصطلحات، كالمنكر، والشاذ، والحسن، والصحيح، والمضطرب، والمجهول، والثقة، والصدوق تبين خلاف ذلك.
ونذكر هنا مثالا واحدا؛ إذا كان مصطلح (المنكر) استقر معناه في كتب المصطلح، واشتهر تعريفه بمخالفة الضعيف لمن هو أوثق منه، أو بتفرد الضعيف، لكن النقاد أطلقوه على ما رواه الثقة والصدوق والضعيف والواهي إذا خالف الراجح، أو تفرد بما ليس له أصل، دون أن يتقيدوا بمرويات الضعفاء، وعلى الرغم من وضوح ذلك فكثير من الباحثين اليوم لا يزالون متقيدين بما استقر في كتب المصطلح، ويحملون عليه كلام النقاد.(1/21)
لذلك فإن العمل على ربط المصطلحات وتعريفاتها بمنهج النقاد في استخدامها أمر في غاية الأهمية، وإلا بقى الطالب على تخبطه وخلطه وخروجه عن المنهج السليم.
وأما النقطة الخامسة - وهي التركيز على بلورة منهج المحدثين النقاد في التصحيح والتعليل والجرح والتعديل كما ينبغي التركيز على عنايتهم بالجوانب الفقهية - فإنها تساعد الطلبة على تصحيح المواقف تجاه المحدثين النقاد، واحترام آرائهم في الحديث وفقهه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين(1/22)