بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين
الحمد لله الذي صحح كلامه القديم، الذي هو أحسن الحديث فرعاً وأصلاً، وضعَّف أجر قارئه في كل حرف منه عشر حسنات، وزاد لبعضهم عدلاً وفضلاً، وجعل تالي كلامه كلام رسوله، كإطاعته إطاعةً نوعاً وفصلاً، والصلاة والسلام على من تواترت سوابق دلالات معجزاته، واشتهرت لواحق خوارق عاداته، بأسانيد مرفوعة متصلة بعنوان كراماته، وموصولة بتبيان آيات كمالاته، أعني سيد الأنبياء، وسند الأصفياء، محمد المصطفى، وأحمد المرتضى، ومحمود المجتبى، وعلى آله وأصحابه الذين أدركوا أسراره، وشاهدوا آثاره، وأخبروا أخباره، واتبعوا أنواره.
أما بعد فيقول الأفقر إلى كرم الله الغني الباري، علي بن سلطان محمد الهروي القاري: إن بعض أصحابي ومن هو من جملة أحبابي، طلب مني أن يقرأ عليَّ شرح نخبة الفكر في مصطلحات أهل الأثر، لمولانا(1/117)
وسيدنا، وشيخ مشايخنا وسندنا، عمدة العلماء الأعلام، وزبدة الفضلاء الكرام، ومقتدى الأنام، وشيخ الإسلام ، وخاتمة الحفاظ والمحدثين، ونادرة المحققين والمدققين، العلامة العالم العامل الرباني، الشيخ شهاب الدين أحمد بن حجر العسقلاني، روح روحه، وفتح لنا فتوحه. فسنح بالخاطر الفاتر أن أجمع ما يظهر لي في كلامه، وما أظهره بعض الفضلاء في الدفاتر، ليكون تبصرة لأولي الألباب، وتذكرة للأصحاب والأحباب، فإن آن الورود في المقصود، فأقول بعون الله الملك المعبود: قال الشيخ: (بسم الله الرحمن الرحيم) عملاً بالقرآن المجيد، واقتداءً / بالفرقان الحميد، وتأسيا بالحديث المشهور عند أئمة الأثر: " كل أمر ذي بالٍ لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أبتر "، وإيماء بالاستعانة به تعالى إلى التبري عن(1/118)
الحول والقوة، وإشارة إلى مرتبة جمع الجمع بين الجمع الصرف والتفرقة، لئلا يؤدي إلى / 2 - أ / الغفلة والزندقة، وإشعاراً إلى الرد على المعتزلة والمُرجئة، وإرادة للخلاص عن ضيق رِبقة السمعة والرياء إلى فضاء الإخلاص الذي هو أجل مقام أهل الاختصاص، ولا شك أن هذه المعاني المنطوية في هذه المباني محتاج إليها في أول كل من المتن والشرح في الحال الأول والثاني، وكأن المصنف جمع بينهما لفظاً واكتفى بأحدهما كتابة، أو نزّل المتن والشرح منزلةَ كتاب واحد، وأما ما في بعض النسخ من قوله: (قال الشيخ): إلخ، فالظاهر أنه من كلام بعض التلامذة النقاد، إعلاماً بأنه تصنيف الأستاذ ليصح الإسناد، ويصلح للاعتماد والاستناد، لكنه يُوهم أن الشيخ لم يأت بالبسملة مطلقاً، وهذا لا يظن به حقاً، فكان الواجب أن يأتوا بالبسملة متصلة بالحمدلة على ما في نسخة، لئلا يؤدي إلى تغيير التصنيف، وتحريف التأليف، ويحتمل أن ألفاظ المدح فقط ملحقة. وقدم الشيخ البسملة تعظيماً له تعالى كما فعله شيخ مشايخنا الجزريّ في مقدمته حيث قال بعد البسملة.(1/119)
(يقول راجي عفو رب سامِع ..... محمد بن الجزريّ الشافعي)
(الحمد لله وصلى الله ..... على نبيه ومصطفاه)
ثم المراد من (الشيخ): هو الكامل في فنه ولو شاباً، وأما ما اختاره بعضهم من أنه من خمسين إلى ثمانين، وهو السن الذي يستحب أن يكون إسماع الحديث فيه بلا خلاف، فخلاف الصحيح كما سيأتي في محله، فإن عمر بن عبد العزيز لم يبلغ أربعين، وحدث الإمام مالك حين بلغ عمره عشرين. فالحاصل: أنه يراد به شيخ الإسلام، وهو أن يكون مرجعاً للأحكام، ويدل عليه حديث: (الشيخ في قومه كالنبي في أُمته)
(أسنده الديلمي)
، فالشيخ هو الكبير سِناً، أو رتبةً. وما أحسن قول العباس لما سئل أنت أكبر أو النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: (إنه أكبر، وأنا أَسن).(1/120)
الخطبة على المنبر المتعارفة في زمنه صلى الله عليه وسلم، وأتى بهما في الشرح عملاً بالاستحباب في خطبة الكتاب، لأن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب، والله أعلم بالصواب. (وصلى الله على سّيدنا) الجملة خبرية لفظاً، ودعائية معنىً. والصلاة من الله تعالى: إدرار الرحمة وإظهار المَرْحَمة. وتعديتة بعلى لحصول الاستعلاء، وتوهم بعضهم أن على مطلقاً للضرر، واللام للنفع، وليس كذلك، بل هو مختص بفعل تارةً يتعدى باللام، ومرةً بعلى كدعا له، ودعا عليه، وشهد له، وشهد عليه، وحكم له، وحكم عليه، لا يقال: صلى بمعنى دعا، فإنه لا يلزم توافق المترادفين في التعدية، ألا ترى أنه لا يقال: صلى له مع أن الصلاة إنما وردت بمعنى الدعاء بخير، فزال الإشكال من أصله. (محمد) هو في أصله اسمُ مفعول من حُمِّد بالتشديد مبالغة حَمِد بالتخفيف، سمي به رجاءَ أن يكون يحمده الأولون والآخرون: {{وكان أمر الله قدرا مقدورا}}. ولذا قيل: الأسماء تتنزل من السماء، فنُقل من الوصفية إلى العلمية. (الذي أرسله) أي جعله رسولاً بعدما صيّره نبياً.(1/121)
الراوي: ناقل الحديث بالإسناد. والمحدث من تحمل الحديث رواية، واعتنى به دِراية. والحافظ: من روى ما يصل / إليه ووعى ما يحتاج لديه. وقال العراقي: المحدث في عرف المحدثين: من يكون له كتب، وقرأ، وسمع، ووعى، ورحل إلى المدائن والقرى، وحصل أصولاً من متون الأحاديث، وفروعاً من كتب المسانيد، والعلل، والتواريخ التي تقرب من ألف تصنيف انتهى. وكأنه تعريف المنتهي !. وقال ميرك شاه رحمه الله تعالى: المراد به حافظ الحديث لا القرآن قلت: ولا بدع أن يكون حافظاً للكتاب والسنة، وإنساناً كاملاً من بين الأمة. وكان يقول شيخ مشايخنا العارف الرباني مولانا إسماعيل الشرواني لبعض تلاميذه: أنا وأنت إنسان كامل، فإنك تحفظ القرآن ومبناه، وأنا أعرف تفسيره ومعناه. (وحيد دهره وأوانه) الإضافة بمعنى في، والمعنى: نادرة زمانه، ومنفردُ أوانه. (وفريد عصره وزمانه) أي لا نظير له في شأنه، عطف تفسير، أو الأول: لخصوص مصره، والثاني: لعموم عصره.(1/122)
(شهاب الملة والدين) أي نجمهما الذي يستضيئان بنوره، وينكشفان بحضوره، وأهلهما يستنيران به حين حياته، ويستفيدان بكتبه بعد مماته، والظاهر أن المراد بالملة: هو طريق التوحيد الإيماني، ويشير إليه قوله تعالى: {{اتبع ملة إبراهيم حنيفا}} وسمي ملة من حيث إنه يُملى على الأمة. وبالدين: أحكام الإسلام، ويومئ إليه قوله تعالى: {{إن الدين عند الله الإسلام}} وسمي به من حيث إنه يتدين به، وينقاد إليه، ويجازى عليه. (أبو الفضل) كنيته، وهو يحتمل أن يكون له ولد مسمى بالفضل، أو المراد به أنه صاحب الفضل والزيادة من الأموال الدنيوية، أو ذو الفضيلة من العلوم الأخروية، ومنه قوله تعالى: (ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة) والمراد به الصديق الأكبر رضي الله عنه. وهذا الذي اخترناه أولى مما ذكره صاحب الجلالين من العطف التفسيري، فإن التأسيس مهما أمكن فهو أولى من التأكيد. (أحمد بن علي العَسقلاني) بفتح العين، وسكون السين المهملتين، وفتح القاف نسبة إلى بلد بساحل الشام. (الشهير) أي المشهور (بابن حجر) قال السيد أصيل الدين: هو لقب الشيخ ، وإن كان بصيغة الكنية، وذلك شائع / 3 - أ /، ووجه تلقيبه بذلك كثرة(1/123)
ماله وضياعه، والمراد بالحجر: الذهب والفضة. انتهى. ويحتمل أنه كانت له جواهر كثيرة فسمي به، وقيل: لُقب بذلك لجودة ذهنه، وصلابة رأيه بحيث يردُ اعتراض كل معترض، ولا يتصرف فيه أحد من أقرانه، ولذا قال بعض الظرفاء في حقه: رَجح بنا ابن حجر يقرأ طرداً وعكساً كقوله تعالى: {{كل في فلك}}. وقيل: سُمي به لكونه اسم أبيه الخامس، لأنه كان حامل الحجر، (أثابه) أي الله تعالى - وكان الأولى ذكره كما في نسخة، وإن كان في الذهن مذكوراً - (الجنة) أي جازاه أعلى درجاتها، وأعلى مقاماتها (بفضله وكرمه) أي زيادة على عدله بمقابلة عمله وعلمه. (الحمد لله) جوز في لام التعريف أن تكون للجنس، أو الاستغراق، أو العهد. وقد سأل الشيخ أبو / العباس المرسي ابن النحاس النحوي عن الألف واللام في الحمد لله، أجنسية هي، أم عهدية؟ فقال: يا سيدي قالوا: إنها جنسية، فقال له: الذي أقول: إنها عهدية، وذلك أن الله تعالى لما علم عجز خلقه عن كنه حمده وحقه، حمد نفسه بنفسه في أزله نيابة عن خلقه قبل أن يحمدوه، فقال(1/124)
(ابن النحاس): أشهدك أنها للعهد. انتهى. وكأنه أراد أن العبرة بذلك الحمد، لا أنه منحصر فيه. ويشير إلى العهد أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: (ولا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك) لكن قول الشيخ: نيابة عن خلقه لما علم عجزهم، غير محتاج إليه لأن عند الصوفية لا يعول عليه إذ الحمد ثابت له أزلا وأبداً، فكأن الشيخ تنزل عن مقاماته وحالاته من آثار المحو، إلى مقام ابن النحاس المقيد بالنحو، لما ورد: " كلم الناس على قدر عقولهم وقال تعالى:: {{قد علم كل أناس مشربهم}}. والأظهر عندي أن اللام للاستغراق الحقيقي دون العُرفي، كما قيل به، فالمعنى: أن كل حمد صدر من كل حامد، فهو لله تعالى حقيقة، وإن كان بعض أفراده لغيره تعالى صورة، بل المصدر بالمعنى الأعم من الفاعلية والمفعولية، فيفيد أن الله تعالى هو الحامد وهو المحمود، سوى الله - والله - ما في الوجود. ومنه قول شيخ مشايخنا: استغفر الله مما سوى الله، ومنه قول العارف ابن الفارض:(1/125)
(ولو خطرت لي في سواك إرادة ..... على خاطري سهوا حكمت بردتي)
ومنه حديث (أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد: " ألا كل شيء ما خلا الله باطل ". وإليه الإيماء بقوله تعالى 8 (كُل شيءٍ هالِك إلا وَجههُ) 8. نعم أظهر مظاهر محمدة الحق هو المحمود، المسمى بمحمد المنعوت بأحمد الخلق، أو المعنى / 3 - ب /: جنس الحمد مستحق له تعالى سواء حُمد أو لم يُحمد، ويشير إليه: يا الله المحمود في كل فِعَاله، وقال تعالى: {{وهو الولي الحميد}}. وأما ما قيل: إذا كان اللام للجنس، فإفادته قاصرة إذ لا يلزم من إثبات الجنس لأحد إحاطة أفراد له، فمدفوع هنا بأن لام لله للاختصاص، فلا يخرج فرد من هذا المقام الخاص، فيرجع معناه إلى الاستغراق. وقول صاحب المدارك: واللام فيه للاستغراق عندنا خلافاً للمعتزلة، يريد به أن المعتزلة لا يجوزونه بناء على مسألة خلق الأفعال، وليس معناه أن كونها للجنس هو مذهب المعتزلة فقط كما تُوهم، فإن البيضاوي وغيره من المحققين جوزوا الجنس، بل رجحوه، وقدموه على الاستغراق لأنه الأصل في التعريف.(1/126)
ثم المشهور أن جملة الحمدلة مبناها إخبارية، ومعناها إنشائية. وسئل ابن الهُمَام عنها فأجاب: بأنها إنشائية فقيل: بل خبرية، قال فحينئذ: ليس لنا حامدون. فقيل: فإذاً ليس لله حقيقة الحمد ثابتة. انتهى ومعنى كلام ابن الهُمَام أنه حينئذ لا نكون حامدين مع أنه يقال لقائلها: حامداً، ولو كانت خبرية معنى لم يُسَمُ إلا مخبراً، لأن من المعلوم أنه لا يُشتق للمخبر عن شيء اسمُ فاعل من ذلك الشيء، إذ لا يقال لمن قال: الضرب مؤلمُ ضارب، لكن يمكن دفعه بأنه جاز أن يَعدٌ الشرع المخبر / بثبوت الحمد لله تعالى حامداً. ثم الشيخ رحمه الله تعالى أتى بالحمدلة بعد البسملة تخلقاً بالأخلاق الربانية، وتعلقاً بالكلمات السبحانية، وجمعاً بين الأخبار النبوية والآثار المصطفوية حيث قال: " كُل أمر ذي بالٍ لم يُبدأ فيه بالحمد لله فهو أبتر " وفي رواية: (بحمد لله) وفي رواية: (بالحمد فهو أقطع) وفي رواية: (أجذم). أي مقطوع البركة.
ثم الابتداء وإن كان يحصل بكل من البسملة والحمدلة لما في رواية: (لا يُبدأ فيه بذكر الله) إلا أن الجمع بينهما أفضل، وثوابهما أكمل. ثم الابتداء عرفي(1/127)
يمتد إلى الشروع في المقصود، والأول حقيقي، والثاني إضافي، والأول أولى بالحقيقي، فإن الثاني بمنزلة الشكر على توفيق الذكر الإلهي المقتضي لتصحيح النية، والباعث على ملاحظة المنة، ومطالبة المعونة، والتبري من الحول والقوة. (الذي لم يزل عالماً قديراً) كان الأولى مبنى ومعنى أن يقول: عليماً قديراً ليدل على كثرة العلم، وسعة القدرة. وأما ما قيل: لو قال: ولا يزال ليصرح بأن علمه تعالى وقدرته أبدي كما أنّ كلا منها أزلي لكان أحسن، فيجاب عنه: بأن ما ثبت قدمه استحال عدمه / 4 - أ /، وهو أحد الأجوبة عن قوله تعالى:: {{إنه كان عليما قديرا}}. (حياً قيوماً) فيعول: من القيام أي القائم بذاته المقيم لغيره قيل: لما ذكر في المتن أنه تعالى متصف بالعلم والقدرة أزلاً نبه في الشرح على أنه لا يزال كذلك سرمداً بقوله: حياً قيوماً، لأن معناه دائم البقاء. ونوقش بأنه إنما يدل على أنّ ذاته أبدية، ودَفعُهُ ظاهر لأن الصفات الذاتية لا تنفك عن الذات الإلهية. : {{سميعا بصيرا}} قيل: اللائق أن يزيد مريداً متكلماً، لتكون الصفات الذاتية بتمامها مذكورة. وأجيب: بأن القدرة تستلزم الإرادة، والتكلم. وأغرب محشٍّ جميل،(1/128)
فقال: إنما لم يقل متكلماً لأن التكلم مشكل، وقال الشارح وجيه: قيل: اللائق ذكر جميع الصفات الذاتية وسكت على الجواب بالكلية، ولعل الشيخ اكتفى بالوصفين السابقين في المتن إشعاراً بأن العلم لشموله الجزئيات والكليات يتضمن المسموعات، والمبصَرات، وأن القدرة تستلزم بقية الصفات. (وأشهد) أُورِد عليه أنه عطف الفعلية الإنشائية على الاسمية الإخبارية، ودُفعَ بأن الحمدلة - كما تقدم - في المعنى إنشائية، وبأن أصله: حمدت الله، أو أحمده حمداً، فكان في المعنى فعلية. وهذا إنما هو بناء على الكلام في الاعتبارات الرسمية، وإلا فلا منع من عطف الاسمية على الخبرية، وعكسه كما ورد في كلام أهل العربية. ثم معنى أشهد: أُقِرّ عن صميم قلب، وأخبر عن علم يقين فلا يشكل قوله تعالى:: {{والله يشهد إن المنافقين لكاذبون}} بعد قوله عز وجل:: {{إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله}} ولذا قدم دفع الوهم بقوله عز وجل:: {{والله يعلم إنك لرسوله}}. (أنْ) مخففة من الثقيلة أي أنه (لا إله إلا الله) المشهور: أن خبر لا محذوف، وهو: موجود. وقال صاحب الكشاف: يجوز أن يكون لا إله إلا الله جملة تامة. من غير تقدير حذف الخبر، يعني لا إله: مبتدأ، وإلا الله: خبره، قيل:(1/129)
يلزم / أن يكون المبتدأ نكرة، والخبر معرفة، قال: ليس الأمر كما قيل، لأن أصل الكلام في التقدير: الله إله، قُدم الخبر دفعاً لإنكار المنكِرِ، فصار: إلهُ الله، ثم أُريد نفيُ الآلهة، وإثباته قطعاً. فدخل في صدر الكلام من الجملة حرف " لا " وفي وسطها " إلا " ليحصل غرضهم، فصار لا إله إلا الله. انتهى. والمشهور: أن رفع الجلالة على البدلية من الضمير المستتر في الخبر المقدر، وجُوِّز نصبها على الاستثناء من الضمير المذكور. قيل: هذه / 4 - ب / الكلمة كلمة توحيد إجماعاً، ولا يستقيم ذلك ما لم يكن صدر الكلام نفياً لكل معبود بحق. والله: اسم للمعبود بالحق، ومثله يكون تناقضاً في القول، وهو محال في كلمة التوحيد المجمَع على صحتها. وأجيب بأن المنفي في صدر الكلام مفهوم كلي كالإله، والمأخوذ من مدلول الجلالة فرد خاص من مفهوم الإله بمعنى أن لفظة " الله " علم للمعبود بالحق الموجود الخالق للعالم، لا أنه اسم لذلك المفهوم الكلي كالإله. وقال السيوطي في الإتقان: وقد توجب الصناعة النحوية التقدير، وإن كان المعنى غير متوقف عليه، فقالوا في: لا إله إلا الله: إن الخبر محذوف، أي موجود. وقد أنكره الإمام الرازي وقال: هذا كلام لا يحتاج إلى تقدير، وتقدير النحاة فاسد، لأن نفي الحقيقة مطلقةً أتمُّ من نفيها مقيدةً بقيد مخصوص، فإنها إذا انتفت مطلقة كان ذلك دليلاً على سلب الماهية مع القيد،(1/130)
وإذا انتفت مقيدة بقيد مخصوص لم يلزم نفيها مع قيد آخر. ورد بأن تقديرهم " موجود " يستلزم نفي كل إله غير الله قطعاً، فإن العدم لا كلام فيه، فهو في الحقيقة نفي للحقيقة مطلقة لا مقيدة، ثم لا بد من تقدير خبر لاستحالة مبتدأ بلا خبر ظاهر أو مقدر، وإنما يقدر النحوي ليعطي القواعد حقها، وإن كان المعنى مفهوماً. انتهى. وفيه بحثان: الأول: أن كلام الإمام تحقيق وتدقيق في المرام ورده مصادرة، بل مكابرة بلا نظام. والثاني: أن كلامه لا يدل على نفي القواعد النحوية بالكلية، بل ذهب إلى مسلك " الكشاف " في عدم الحاجة إلى تقدير كلمة تكون مرفوعة بالخبرية، وعلى تقدير التقدير ينبغي أن يقدر " لنا " لئلا يَرِد شيء من عدم التحقيق علينا مراعاة للجانبين، ومحافظة للمذهبين. وكأن الجمهور نظروا إلى أن المعدوم لظهور حدوثه لا يصلح للألوهية، فلا يحتاج إلى نفيه، أو نفيه يُفَهم بالبرهان الأولى، أو أرادوا بموجود أعم من أن يكون موجوداً في الحال والاستقبال، والله أعلم بالمآل. (وحدَه) حال على مذهب الكوفيين، وتقديره متوحداً ومنفرداً على مذهب البصري وهو حال مؤكدة، (لا شريك له) المراد بالأولى: وحدته في الذات، وبالثانية: وحدته في الصفات. (وأُكبِّره) أي أُعَظمُه وأعتقد أنه أكبر من أنْ يُحاط بكُنه كبريائه، (تكبيراً) أي تكبيراً كثيراً. (وأشهد أن محمداً عبدُه ورسُوله) كذا في نسخة مصححة. والظاهر أنها(1/131)
مُلحَقَة من الناسخ لعدم إتيان الشيخ بما يناسب المقام من السجع كما هو دأب أرباب الكلام / 5 - أ /، ولا يلائم أن يكون ما بعده من المتن متمماً له لوجود وَاوِ الفصل / لكن يُشكل بأن الخطبة لا تتم بدون تلك الزيادة، اللهم إلا أن يُتكَلَّف بأن يقال: قوله: وصلى الله... الخ قام مقامها. ثم قيل: أورد المصنف الشهادة في الخطبة عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: " كل خُطبة ليس فيها تشهّد فهي كاليد الجذماء "
(رواه أبو داود والترمذي في جامعه)
، ونوقش بأنه كان عليه أن يوردها في خطبة المتن أيضاً، ودُفع بأنه لم يُوردها في المتن إشارة إلى أن الحديث ضعيف، فلم يجب العمل به وأوردها في خطبة الشرح إيماءً إلى أن الحديث الوارد في فضائل الأعمال يُستحسن العمل به، وإن كان ضعيفاً. والأظهر أن يقال: صرَّح بلفظ الشهادتين في الشرح عملاً بظاهر الحديث، وأتى في المتن بمعناهما كما قيل به في تأويل الحديث على ما نقل من التُّوَّرِبِشْتيّ وغيره مراعاة للإيجاز والإطناب بحسب ما يليق بكل بابٍ من الكتاب، ويمكن أن يقال: إنما ترك الشهادتين في المتن بناء على أن المراد بالخُطبة(1/132)
الخطبة على المنبر المتعارفة في زمنه صلى الله عليه وسلم، وأتى بهما في الشرح عملاً بالاستحباب في خطبة الكتاب، لأن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب، والله أعلم بالصواب. (وصلى الله على سّيدنا) الجملة خبرية لفظاً، ودعائية معنىً. والصلاة من الله تعالى: إدرار الرحمة وإظهار المَرْحَمة. وتعديتة بعلى لحصول الاستعلاء، وتوهم بعضهم أن على مطلقاً للضرر، واللام للنفع، وليس كذلك، بل هو مختص بفعل تارةً يتعدى باللام، ومرةً بعلى كدعا له، ودعا عليه، وشهد له، وشهد عليه، وحكم له، وحكم عليه، لا يقال: صلى بمعنى دعا، فإنه لا يلزم توافق المترادفين في التعدية، ألا ترى أنه لا يقال: صلى له مع أن الصلاة إنما وردت بمعنى الدعاء بخير، فزال الإشكال من أصله. (محمد) هو في أصله اسمُ مفعول من حُمِّد بالتشديد مبالغة حَمِد بالتخفيف، سمي به رجاءَ أن يكون يحمده الأولون والآخرون: {{وكان أمر الله قدرا مقدورا}}. ولذا قيل: الأسماء تتنزل من السماء، فنُقل من الوصفية إلى العلمية. (الذي أرسله) أي جعله رسولاً بعدما صيّره نبياً.(1/133)
(للناس) أي لأجل نفعهم، فالمراد بالناس المؤمنون، فإنهم المنتفعون كما قيل في قوله تعالى:: {{هدى للمتقين}} أو عام لقيام الحجة عليهم كما قيل في قوله تعالى:: {{هدى للناس}} والجِنّ تابع لهم، أو يطلق الناس عليهم، ويحتمل أن تكون اللام بمعنى إلى، كما تدل / 5 - ب / عليه نسخة، وقيل: بُعث إلى الخلق جميعاً حتى الجن، والحيوانات، والجمادات. (كافّةً) هي من الشرح قيل: إرسالاً كافةً بمعنى عامة لهم، فهي مفعول مطلق. أو جامعاً لهم في الإبلاغ، فهي حال من الضمير المنصوب في أرسله، والتاء للمبالغة، والأظهر: أنها في هذا المقام حال من الناس، وإنما قال البيضاوي في قوله تعالى:: {{وما أرسلناك إلا كافة للناس}} لا يجوز جعلها حالاً من الناس على المختار، لأن تقدم حال المجرور عليه كتقدم المجرور على الجار. قال أبو حيان: هذا مذهب الجمهور. وذهب أبو علي، وابن كَيْسَان، وابن برهان، وابن مالك إلى جوازه، وهو الصحيح. (بشيراً) أي مبشراً للمؤمنين بالجنة، (ونذيراً) / أي منذراً ومخوفاً للكافرين بالنار. وحذف مفعولاهما لوضوحهما وليذهب الوهم كل مذهب، وإيماء إلى أنه لا يمكن بيانهما.(1/134)
(وعلى آل محمد) أي أقاربه وأتباعه، فالأول - من جهة النّسب -: ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: " هم أولادُ عليّ، وجعفَر، وعقيل، والعباس ". ومن جهة الدين: ما روي عنه صلى الله عليه وسلم: " آلُ محمدٍ كلُّ تقي "
(رواه الطبراني)
في الأوسط عن أنس. ويمكن حمل الحديث على العموم، ويحتمل أن يكون الثاني تقييداً للأول فتأمل، فإنه المعقول بقرينة قوله: (وصحبه) لأن الأصل في العطف التغاير، وإن احتمل التخصيص بعد التعميم بناء على الثاني. وفي ذكرهما إيماء إلى ردّ الخوارج والروافض، وهو اسم جمع. وقيل: جمع وسيأتي معناه المصطلح. (وسَلَّم) بفتح اللام عطف على صلى، وجمع بينهما لقوله تعالى:: {{صلوا عليه وسلموا تسليما}} والمراد بإيراد: (تسليماً) إظهار زيادة التعظيم، وإفادة التكثير. كما أشار إليه بقوله: (كثيراً) وقد ورد: " أَكْثِرُوا الصلاةَ عليّ، فإنّ صلاتكم عليَّ مغفرةٌ لذنوبكم " وفي حديث قدسي: " مَنْ صلّى عليك صليتُ عليه، ومَنْ سلّم عليك(1/135)
سلَّمتُ عليه ". ثم هذا الذي فعله من ذكر الصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم بعد الحمدِ له تعالى هو عادة العلماء على ما قاله النووي. وعن مجاهد في قوله تعالى: : {{ورفعنا لك ذكرك}} قال: " لا أُذكُر إلا ذُكِرتَ معي ". (أما بعد) أي بعد ما ذُكر، ولما كانت أمّا متضمنةً لمعنى الشرط كما هو مقرر، أتى بالفاء الجزائية في قوله: (فإنّ) وقيل: لدفع توهم الإضافة، وقوله: (التصانيف) جمع تصنيف مأخوذ من الصِنف، لأن المؤلف يجمع بين أنواع الكلام ويجعلها صنفاً صنفاً لتمام النظام. (في اصطلاح أهل الحديث) أي في عرفهم، وهو: توافقهم على استعمال ألفاظ مخصوصة يتداولونها على وجه التعارف فيما بينهم كما اصطلحوا عليها. (قد كَثُرت) أي / 6 - أ / التصانيف، (للأئمة) حال من ضمير كثرت، (في القديم والحديث) أي في قديم الزمان، وجديده فيما بين المتقدمين والمتأخرين، فممن صنف، وفي نسخة:(1/136)
(بدء التصنيف في علوم الحديث)
(فمن أوّل مَن صَنّف في ذلك)، أي في اصطلاح أهل الحديث، (القاضي أبو محمد) أي الحسن بن عبد الرحمن بن خَلاَّد، (الرَّامَهُرْمُزي) بفتح الميم الأولى، وضم الهاء، وسكون الراء، وضم الميم الثانية، بعدها زاي معجمة بلد بِخُوْزِسْتَان. وفي الكلام إشعار بوجود تعدد التصنيف في قرن القاضي، وعدم تحقق الأولية وبيانه: أنَّ " من " للتبعيض، و " أول " اسم التفضيل بمعنى الجماعة، فإن أفعل التفضيل المستعمل بالإضافة يجوز فيه الإفراد والمطابقة لمن هُوَ له، فالمعنى: من أوائل المصنفين في ذلك القاضي. كأنّ جماعة في عصر واحد صنفوا ولم يسبقهم أحد في التصنيف، والمصنف لم يعلم أوَّلهم بالحقيقة، فأورد هذه العبارة، وإلا فحقه أن يقول: فأول مَن صنف، بياناً لأول المتقدمين، فإن أمر إضافي. (كتابَه) بالنصب لفعل مقدر كأنه قيل: أي شيء صنف؟ فقال: صنف كتابه، أو أعني بما صنف كتابه. ولا يصح نصبّ ب: صَنَّفَ المذكور لأن " مَن " في " مَن صنف " قوم من جملتهم القاضي كما سبق وتوضيحه: أن فاعل صنف المذكور ضمير مَن، ولم / يصنف هذا الكتاب إلا واحد منهم لا جميعهم، ثم أبدل عن كتابه بقوله: (المحدِّث) بتشديد الدال المكسورة، أي الراوي، والواعي مجازاً، (الفَاصِل) بالصاد، أي الفارق بينهما، أو بين طرق الحديث وإسناده، (لكنه) أي القاضي، أو كتابه، (لم يستوعب) أي الفنون بأجمعها، من جميع المراد(1/137)
وجميع المواد. (والحاكم) - عطف على القاضي - (أبو عبد الله النَيْسابُوريّ) بفتح النون، والسين المهملة، نسبة إلى بلد مشهور بخُرَاسَان، (لكنه) أي الحاكم، وإن استوعب، (لم يهذُب) أي بالتنقيح والتصحيح، (ولم يرتِّب)، أي لم يجعل الأشياء في مراتبها على وَفق مآربها كما ينبغي عند الفصيح والنصيح. (وتلاه) أي تبع الحاكَم في ترتيبه وفي عدم تهذيبه، أو جاء بعده، (أبو نُعَيم) بضم النون، وفتح العين، (الأصفهاني) بكسر همزة وبفتح، وبفاء مفتوحة في لغة أهل الشرق، وبموحدة في الغرب. (فعمل) أي أبو نعيم (على كتابه) أي معترضاً على كتاب الحاكم، أو على منوال كتابه، وأما ما قيل: ولك أن تقول: أي قرأ كتابه، لكن يأباه قوله: على كتابه، فإن الأنسب حينئذ أن / 6 - ب / يقول: " عليه " مكان " على كتابه "، فكلام غير موجه فإن قوله: على كتابه متعلق ب: عمل لا ب: تلاه، مع أنه لا تستعمل التلاوة بمعنى القراءة في غير القرآن، ثم قوله: (مُسْتَخْرِجاً) بكسر الراء حال من فاعل عمل المنزل منزلة اللازم. يقال: كتب فلان مستخرجا على الصحيحين أي جاعلاً الزيادة عليهما، أي مستدركاً عليهما. والفرق بين الاستخراج والاستدراك أن الزوائد في المستخرَج بالفتح - من(1/138)
المستخرج - بالكسر - بخلاف المستدرك فالتعبير هنا بالمستخرج أولى من المستدرك وقيل: الظاهر أن معناه: زاد أبو نُعَيم على كتاب الحاكم أشياء، واستدرك عليه ما فاته وحينئذ يكون قوله: مستخرجاً على بناء المفعول مفعول عَمِل. وقوله: على كتابه متعلق بقوله: مستخرجاً وتفسير محشٍ الاستخراج بالاختصار غير ملائم للمقام مع معارضة بنقله. يقال: كتب فلان مستخرجاً على الصحيحين أي معترضاً. (وأبقى) أي ومع ذلك ترك (أشياء) أي كثيرة (للمتعقِّب) أي للذي جاء بعد زمانه، أو للمعترض، ولو في أوانه. (ثم جاء) أي بمهلة (بعدهم) أي بعد القاضي، والحاكم، وأبي نُعَيم المتقدمين، (الخطيب) فهو أول المتأخرين، أو آخر المتقدمين، وهو صاحب المنهل، (أبو بكر البغدادي) يجوز إهمال الدالين، وإعجامهما،، وإعجام الأول، وإهمال الثاني، وعكسه، وهو الأفصح المروي عن الشاطِبي. (فصنف في قوانين الرواية) أي أصولها وقواعدها الكلية المشتملة على المسائل الجزئية. (كتاباً) أي كافياً وافياً (سمّاه الكفاية) في قوانين الرواية كما أشار إليه، (وفي آدابها) أي وصنف في آداب تحمُّل الرواية وآدابها، (كتاباً) أي حافلاً كاملاً، (سمّاه الجامع لآداب الشيخ) أي في الأداء (والسامع) أي في التحمل، وأخّره لمراعاة التجمع، أو قدم الشيخ لتعظيمه ولا منع من الجمع، (وقلّ فنٌّ من فنون الحديث)(1/139)
وهي خمس وستون فناً تقريباً على ما ذكره النووي / في " التقريب "، (إلا وقد صنف) استثناء من أعم الأحوال. والقلة بمعنى النُّدْرَة، أو النفي والعدم. أي لا يوجد فن من فنون الحديث بوصف من الأوصاف إلا حال كونه متصفاً بهذه الصفة، أي بأنْ صنف (فيه) أي في ذلك الفن، (كتاباً مفرداً) كالمستدَركات، والمستخرَجات والمؤتِلف. (فكان) أي الخطيب، (كما قال) أي في حقه (الحافظ أبو بكر بن نُقْطَة): - بضم النون، وسكون القاف، بعدها طاء مهملة، وهاء تأنيث - اسم / 7 - أ / جارية ربَّت جدته أم أبيه عُرِف بها. (كلُّ مَن أنصف) من الإنصاف، وهو العدل، (عَلِمَ أنّ المحدثين) أي من الأصوليين، (بعد الخطيب) أي بعد تصانيفه، (عِيَالُ) عِيَالُ الرجل بكسر العين: مَن يَعُولُه ذلك الرجل أي يقوته، وينفق عليه. والمعنى عيال له، مُعْتَمِدُون (على كتبه)(1/140)
يأخذون منها نصيباً وهذا نظير قول الشافعي رحمه الله تعالى: الخلق كلهم عِيالُ أبي حنيفة في الفقه. وبيانه: ما حكي أن الشافعي سمع رجلاً يقع في أبي حنيفة، فدعاه وقال: يا هذا أتقع في رجل سَلَّم له جميع الناس ثلاثة أرباع الفقه، وهو لا يُسَلَّم لهم الربع قال: وكيف ذلك قال: الفقه سؤال وجواب، وهو الذي تفرد بوضع الأسئلة فسُلِّمَ له نصف العلم، ثم أجاب عن الكل، وخصومه لا يقولون إنه أخطأ في الكل، فإذا جعل ما وافقوا فيه مقابلاً لما خالفوا فيه سُلِّم له ثلاثة أرباع العلم، وبقي الربع مشتركاً بين الناس. وبهذا نتبين الفرق بين المعلِّمين والعِيَالِين، ولهذا قيّد بقوله: بعد الخطيب، ثم أشار بقوله: على كتبه، لا كلامه، أن الفَضل للمتقدمين وأنه ما زاد عليه أحد من المتأخرين. (ثم جاء) أي بعدهم، (بعضُ مَنْ تأخَّر عن الخطيب) أي من المحدثين، (فأخذ من هذا العلم) أي علم أصول الحديث، أو من هذا العلم المذكور في كتب الخطيب، (بنصيب) أي حظ عظيم بفهم قويم، والباء زائدة، (فجمع القاضي عياض) أي من بعض من تأخر وأخذ الحظ الأوفر، (كتاباً لطيفاً) أي موجزاً ظريفاً (سماه الإلماع) بكسرة الهمزة من لمع البرق وأضاء كاللمع، وكأن فيه إشارات كاللمَعَات إلى المرادات.(1/141)
(وأبو حفص المَيَّانِجي) بفتح الميم قبل التحتية، وكسر النون، والجيم بلدة من أذربيجان على مسيرة يومين من مَرَاغَة، وهو معرّب مَيَانَه. أي جمع (جزأَ) أي رسالة مختصرة، سماه أي ذلك الجزء، (مالا يسع) أي الشيء الذي لا يطيق (المحدثُ جهله) وفي نسخة بنصب المحدث، ورفع(1/142)
جهله أي ما لا ينبغي للمحدث جهله. (وأمثال ذلك) أي هذا وأمثال ذلك على أن العطف على سبيل المعنى أي التصانيف الكثيرة ما ذكر وأمثال ذلك. وقيل: التقدير، وأمثال ذلك كثيرة على أنه مبتدأ خبره محذوف وهو الأظهر. قيل: ويجوز أن يكون عطفاً بحذف المعطوف كقوله تعالى (والذين تَبَوَّؤُا الدَّارَ والإيمان) وأخلصوه ومنه قولهم: عَلَفَهُ تِبناً، وماءً بارداً، أي وجَمع أمثال ذلك، أو صنف / 7 - ب / ذلك وأمثال ذلك. (من التصانيف التي اشتُهرت وبُسطت) بصيغة المجهول أي جعلت التصانيف المجملة في المتن، المفصلة / في الجملة في الشرح مبسوطة تارة، (ليتوفر) أي ليتكثر (علمها) بسبب كثرة ألفاظها، فإن الغالب دلالة زيادة المباني على إفادة المعاني، ولأن البسط غالباً يكون بالإيضاح وحينئذ يتعلق به علم كل أحد، فيكثر بخلاف الإيجاز، والإجمال، والإشارة، والإيماء، فإن كل أحد لا يدركه، فيقلّ العلم به. (واختصرت) أي مع هذا أيضاً تارة (ليتيسر فهمها) الظاهر أن يقول: حفظها، لكن لما كان الاختصار سبباً لتيسير الحفظ، وهو يستلزم تيسير الفهم غالباً - لأن التطويل يشتِّت الفكر، ويُصَعِّب فهمَ المراد. والمقصود الحقيقي هو(1/143)
الفهم - وُضِع مَوْضِع الحفظ. قال مُلاّ قاسم الحنفي تلميذ المصنف: أوردت عن المصنف أن الاختصار لتيسير الحفظ لا لتيسير الفهم، فأفاد أن المراد فهم متين لا يزول سريعاً، فإنها إذا اختُصِرت سَهُل حفظها، وحينئذ يسهل فهمها بسبب حفظها، ولا كذلك المبسوطة، فإنه إذا وصل إلى الآخر قد يفضل على الأول. وقوله: (إلى أن جاء) متعلق بمقدر، أي واستمر الأمر على ما ذكر من الكثرة، والبسط، والاختصار إلى أن جاء أي ظهر (الحافظ) أي للسنة، (الفقيه) أي للشريعة، (تقيّ الدين) أي المتقي في دينه، (أبو عمرو عثمان بن الصَّلاَح) أي صلاح الدين، وهو لقب لأبيه، (عبد الرحمن الشَهْرَزُورِيّ) بفتح المعجمة، وسكون الهاء، وفتح الراء، وضم الزاي، - مدينة ببلاد المَرَاغَة بين الموصل وهَمَذَان بناها زُور بن الضحَّاك - (نزيل دِمَشْق) بكسر الدال، وفتح الميم، وتكسر على ما في القاموس، مدينة عظيمة بالشام شهيرة بالشام، أي نازل مسكنه فيه. (فجمع) أي ابن الصلاح (لمّا وُلَي) بضم الواو وتشديد اللام المكسورة، أي حين أُعطي (تدريس الحديث) أي علم الحديث: أصوله، وفروعه (بالمدرسة)(1/144)
أي التي في دمشق، والباء بمعنى في، (الأشْرَفِية) أي التي درَّس فيها النووي، (كتابه) مفعول جمع (المشهور) أي بمقدمة ابن الصلاح (فهذَّب) أي نَقَّح (فنونه) أي أصناف أصول علم الحديث، (وأملاه) بالألف وفي نسخة صحيحة: فأملاه أي كتابه، (شيئاً) حال من المنصوب، (بعد شيء) صفة، أي واقعاً بعده. والمعنى: قرره وحرره كما مست الحاجة إليه، وحملت الداعية عليه، والمراد بالبعدية البعدية العرفية، فإن الفتور يؤدي إلى القصور، والتعطيل يُنسي التحصيل، فاندفع قول المحشي: كل إملاء شيء بعد / 8 - أ / شيء، وامتنع كلام شارح على أي ترتيب وقع، ويؤيد ما ذكرنا قوله: (فلهذا) أي لأجل أنه لم يخيّل الفنون في خاطره، ولم يرتبها إجمالاً في ذهنه كما هو شأن المصنفين، ودأب المؤلفين، (لم يحصل ترتيبه) أي ترتيب ابن(1/145)
الصلاح، أو ترتيب كتابه، (على الوضع المتناسب) أي بين الفنون، (واعتنى) أي اهتم الحافظ (بتصانيف الخطيب) أي بجمعها، (المتفرقة) أي في الفنون، وفي نسخة صحيحة المفرقة، " فجمع " أي الحافظ. (شَتَات مقاصدها) بفتح الشين، والتاء المخففة، أي متفرقات مقاصد تصانيف الخطيب. والشتات والتشتيت / مصدران بمعنى التفريق والافتراق، (وضم إليها) أي إلى التصانيف المذكورة أو المقاصد المسطورة (من غيرها) أي من غير تصانيف الخطيب، (نُخَبَ فوائدها) بضم النون، وفتح الخاء، جمع نُخْبَة، وهي خيار الشيء، منصوب على أنه مفعول ضمَ، وضمير فوائدها للغير، والتأنيث باعتبار كونه عبارةً عن التصانيف الباقية، أو باعتبار المضاف إليه كقوله:
(وما حُبُّ الدِّيَارِ شَغفْنَ قَلبي ..... )
وجُوِّز رجعُ الضمير إلى تصانيف الخطيب، أي الفوائد المتعلقة بها. وقال شارح: أي خيار فوائد فنون الحديث، فكأنه أراد أنها المفهوم من سياق الكلام كما هو معلوم. (فاجتمع في كتابه) أي كتاب ابن الصلاح (ما تفرق) أي من الفنون (في غيره) أي في غير كتابه من كتب الخطيب وغيره. (فلهذا) أي للاجتماع المذكور في كتابه، (عكف الناس عليه) أي أقبل(1/146)
المحدثون الذين في الحقيقة هم الناس، أو زُبدة الناس على كتابه، وتوجهوا إليه من كل بابه. فإنَّ العَكْفَ والعُكُوف: إقبال الإنسان على الشيء مُلازماً له، بحيث لا يصرف وجهه. ومنه أُخِذَ الاعتكاف في المسجد. (وساروا بِسَيْره) بفتح السين، وسكون الياء، أي ذهبوا مذهَبَه، وأخذوا مَشْرَبَه، ويحتمل أن يكون بكسر السين، وفتح الياء، أي بطرقه المرضية في جمع متفرقات الفنون الحديثية. (فلا يحصى)، أي لا يُعَدّ، ولا يُحَدّ (كم ناظمٌ له) أي لمضمون كتابه: كالعراقي والقاضي شهاب الحُدُلي، (ومختصِر)، بكسر الصاد، كالنووي، وابن كثير والبَاجي، (ومستدرِك) بكسر الراء، أي زائد (عليه) ما فاته، كالبُلقِيني، ومُغُلْطَاي، (ومقتصر) ككثير من العلماء أي تارك منه ما زاده. فالاختصار: الإِتيان بالمقصود كله بلفظ أقل من الأول، والاقتصار / 8 - ب /: هو الإتيان ببعض المقاصد (ومعارض له)، أي كابن أبي الدَّم بإتيان كتابٍ مثل كتابه، أو بالاعتراض في ألفاظه ومعانيه، وترتيب أبوابه، وهو الأظهر لمقابلة قوله: (ومنتصر) أي ناصر لكتابه - بإظهار لُبَابه، وكشف نِقَابه، ومنتقم ممن لم يتأدب بآدابه - كالمصنف، وشيخه.(1/147)
(الداعي لتصنيف الكتا)
(فسألني بعض الإخوان) وفي نسخة: بعض إخواني، أي في الدين أو في هذا الفن. ويحتمل الحقيقة، وقيل: هو عز الدين بن جماعة. وقيل: هو الشيخ شمس الدين محمد بن محمد الزركشي بعض الفضلاء من أهل الأدب المطارحين للمؤلف وغيره. والفاء تعقيبية، وقيل: للسببية، لأنه لما كانت التصانيف بعضها مبسوطة، وبعضها مختصرة، ولم يكن شيء منها ملخصا صار سببا لسؤاله. (أن ألخص له) أي لذلك البعض، وأفرد باعتبار لفظه مع احتمال إفراده حقيقة، وفي نسخة: لهم، باعتبار معنى البعض ويحتمل التغليب، أي أبين له ولغيره (المهم) أي الأمر المقصود، فإن التلخيص تبيين المراد لأنه في الأصل إزالة اللخص بفتحتين، أي القذى من العين على ما في الصحاح، وقد يستعمل في الاختصار لأنه حذف الزوائد، والاكتفاء بالمقاصد. (من ذلك) أي مما ذكر من التصانيف في الاصطلاح أو مما ذكر في كتاب ابن الصلاح، (فلخصته) أي المهم، وهو الأمر الذي يوقع صاحبه في هم تحصيله، (في أوراق لطيفة) أي قليلة يسيرة (سميتها) أي تلك الأوراق بإعتبار ما فيها من الألفاظ ومعانيها (نخبة الفكر) بكسر الفاء، وفتح الكاف، جمع الفكر. والنخبة بالضم: فعلة بمعنى المفعول، أي ما ينتخب ويختار. والحاصل خيار ما حصل من الأفكار في علم الأخبار. (في مصطلح أهل الأثر) أي أهل الحديث والخبر. قال السخاوي: الأثر لغة: البقية، واصطلاحا: الأحاديث مرفوعة كانت أو موقوفة(1/148)
على القول المعتمد، وإن قصره بعض الفقهاء على الموقوف، ويمكن أن يراد بأهل الأثر من يتتبع أثر النبي
علما، وعملا، وقالا، وحالا. (على ترتيب)، أي عجيب متعلق بلخصته، وجملة سميتها معترضة. (ابتكرته) أي اخترعته ولم أسبق بمثله. يقال: ابتكر الشيء إذا أخذ باكورته، وهي أوله. (وسبيل) أي وعلى طريق غريب (انتهجته) أي جعله منهاجا أي سبيلا واسعا، وطريقاً واضحاً. يقال: انتهج الطريقة استبانها. (مع ما ضممت إليه) أي من عندي، وهو حال من مفعول لخصته، أي مقرونا ذلك المهم الملخص مع مسائل ضممتها إليه وزدتها عليه، وبين المضموم بقوله: (من شوارد الفوائد) بإضافة الصفة إلى الموصوف، أي النفائس الحسنة والنكت المستحسنة الصعبة الوصول إليها، النافرة عن الذهن لدقة الحصول لديها. وفرائد الدُّرر: كبارُها، جمع فريدة، والشوارد جمع شاردة من شرد البعير إذا نفر. عبّر عنها بالشوارد لأنها لكثرتها وعدم انضباطها شاردة عن الذهن (وزوائد الفوائد) ظاهره أنه عطف تفسير، والتحقيق أن المراد بالأولى: ما يتعلق بكلام القوم من النّكت والمعاني اللطيفة، والمباحث الشريفة، وبالثانية: زوائد المسائل التي فاتت المتقدمين، أو حدثت عند المتأخرين. (فرغب) ذلك البعض من الإخوان بعد تكميل المتن، مائلا (إلي ثانيا) أي بعد طلبه المتن أولا، (أن أضع) أي في وضعي (عليها) أي على النخبة،(1/149)
(شرحاً يَحُلّ رُمُوزَها) أي المتعلقة بمبانيها، (ويفتح كنوزها) أي المنوطَة بمعانيها، (ويوضِح) بالتخفيف ويحتمل التشديد، وهو تفسير للجملتين المتقدمتين، أي يُظهر (ما خفي على المبتدي من ذلك) أي مما ذكر من الرموز، والكنوز، وإنما قيده بالمبتدي، لأن المنتهي يفهم ذلك من المتن. ولذا قيل: العلم نقطة كَثْرها الجاهلون، أي صاروا سبباً للتكثير لحصول التيسير. ومن ثمة احتاج الشرح إلى الشرح، وهَلُمَّ جَرَّاً. (فأجبته) أي سائل المتن (إلى سؤاله) أي متوجهاً إلى مسؤله، ومائلاً إلى مأموله، (رجاءَ الاندراج)، أي لرجاء اندراجي، أو راجياً اندراجي، ودخولي (في تلك المسالك) أي مسالك المصنفين، ومقاصد المؤلفين لتحصيل الثناء في الدنيا، والجزاء في العقبى. وقيل: أي راجياً اندراجَ الطالبين لذلك الملخص في معرفة اصطلاحات المحدثين. وقيل: راجياً اندراجَ هذا الكتاب في سلك / كتب الأئمة بأن ينفع به كما نفع بتلك الكتب، وهو قصدّ لطيف ومَلْحَظ شريف. (فبالغت) الفاء للتعقيب، أي بعد ما فرغت من متنها شرعت على وجه المبالغة، أو على طريق بليغ، إجابةً لمرغوبه ثانياً (في شرحها) وهو ظرف وقوله: (في الإيضاح) متعلق بالفعل، أي في إيضاح لفظها، (والتوجيه) أي في توجيه معناها. وقال تلميذ الشيخ: الفاء في فبالغت تفسير لقوله: فأجبته، وفاء فأجبته تعقيبية للشرح دون المتن خلاف ما اخترناه، فلاح له في ذلك تنكيت: وهو أنّ عبارة المتن - بحسب ما شرحت - تفيد أنه كتب بعض المتن بعد الشرح.(1/150)
(ونبهت على خبايا)، جمع خبيةٍ، وهي ما سُتر، (زواياها) جمع زاوية، أي نُكَت من المعاني الشريفة كانت مخفية تحت أستار ألفاظها / 9 - ب / اللطيفة ؛ (لأن صاحب البيت أدرى بما فيه) وفي نسخة: بالذي فيه، أي أعلم بتفاصيل ما في بيته من الأمور الحسية، أو في شعره من الأمور المعنوية، وهو حكم غالبي، وإلا فكم من شارح أظهر من المعاني ما لم يخطر ببال صاحب المباني. (وظهر لي) أي عند إرادة شرحي، (أنّ إيراده) أي الشرح، (على صورة البسط أليق) أي أكثر ملائمة كما يدل عليه لفظ الشرح، بل البسط متعين، وكأنه أراد زيادة البسط على أقلّ ما يمكن. (ودَمْجهَا) بالنصب للعطف على إيراده، والضمير راجع إلى الملخص المسمى بالنُخبَة، (ضمن توضيحها) بحيث لا يتميز المتن من الشرح. و " ضمنَ " منصوبُ بنزع الخافض، (أوفق) أي أكثر وفاقاً، وأظهر اتفاقاً، فإن الدمج: هو الدخول في الشيء. يقال: دمجِ الشيء في الشيء دموجاً إذا دخل في الشيء واستتر فيه، فالمعنى أن كونها داخلاً في ضمن موضحها وشرحها بحيث يكون المجموع كتاباً واحداً غير متروك من المتن شيء، ولا منفصل بعضه عن بعض كما في أكثر الشروح، أولى وأحق. قيل: فيه تفكيك الضمير لأن ضمير إيراده راجح إلى الشرح، وضميرَ دمجها إلى النُّخبة، وهو مردود إذ محله أن يكون الضميران لمذكر أو مؤنث ومرجعهما مختلف، ومع هذا، فالمعتمد جوازه عند وجود القرينة كما في قوله تعالى:: {{أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم}} وقوله تعالى (فأنزل الله سكينته عليه وأيده(1/151)
بجنود لم تروها) نعم هذا يرد في الجملة على قوله السابق: فأجبته، فإنه بظاهره في المتن جواب السؤال الأول، وفي الشرح جواب السؤال الثاني، وأيضاً كثر في هذا الكتاب باعتبار مزجه أنه جُعل لفظاً مُعْرَباً بإعراب في المتن، وإعراب آخر في الشرح، وأمثال ذلك. وهذا عيب خفي كما هو ظاهر، إذ الأحسن في المزج أن لا يتغير إعراب المتن ويتبين الأصل من الفرع، وما قيل من أنّ الصواب ههنا: الإدماج أي الإدراج، فليس بشيء لأنهما في اللغة مترادفان، والإدماج بمعنى الإدراج خاص بنوع من الحديث كما سيأتي. (فسلكت هذه الطريقة) أي المسمّاة بالدمج، (القليلة السالك)، أي مطلقاً، أو في دياره، أو فيما بين المحدثين. (فأقول) الفاء جزائية، أي إذا كان الأمر كذلك فأقول: / ويمكن أن تكون عاطفة، والعدول إلى المضارع لاستحضار الحال الماضية. (طالباً) أي حال كوني سائلاً (من الله تعالى التوفيق) وهو جعل الشيء مطابقاً للمراد، وموافقاً للإمداد. (فيما هنالك) أي في بيان ما في المتن، واختيار هنالك بعدَ مراعاة السجع للإيماء / 10 - أ / إلى بُعد زمان تصنيف الشرح عن زمان تحرير المتن بمراحل، أو إلى رفعه مرتبةٍ كما يدل عليه قوله: فرغب إليّ، بعد قوله: فسألني. وكما قيل في قوله تعالى: (الم ذلك الكتاب) كذا قيل. والأنسب بقاعدة المزج ومطالبة التوفيق أن تكون الإشارة إلى مجموع المتن والشرح.(1/152)
(تعريف الخبر والحديث والأثر)
(الخبر عند علماء هذا الفن) أي عند جمهورهم بدليل قوله بعد قيل: وقيل، وفيه إشارة إلى المبالغة في تضعيف القولين الأخيرين، قيل: وهذا إذا جعل القائل في قيل من علماء هذا الفن، وأما لو جعل من غيرهم فلا حاجة إلى التفسير بالجمهور. (مرادف) خبرُ للخبر. وقيل: الأولى أن يبين معنى الحديث، ثم يقول: والخبر يرادفه، ويمكن دفعه بأن المفاعلة للمشاركة، فبينهما ملازمة. وتُرك التعريف للوضوح، أو اعتماداً على ما يُفهم من المتن، فكأنه قال: الخبر الآتي مرادف (للحديث) وهو في اللغة ضد القديم ويُستعمل في قليل الكلام وكثيره، قال تعالى:: {{فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين}} وفي اصطلاحهم: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفعله، وتقريره، وصفته حتى في الحركات، والسَّكَنَات، في اليقظة، والمنام ذكره السخاوي، وفي " الخلاصة ": أو الصحابي، أو التابعي.... إلخ. ويرادفه السُّنة عند الأكثر. وأما الأثر: فمن اصطلاح الفقهاء: فإنهم يستعملونه في كلام السلف، والخبر في حديث الرسول عليه الصلاة والسلام. وقيل: الخبر والحديث: ما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام. والأثر: أعم منهما، وهو الأظهر.(1/153)
(وقيل: الحديث ما جاء) أي كلام جاءنا منقولاً. أو ما نقل (عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) فيشمل الموضوع. واندفع ما قيل: الأولى ما نسب، أو هو ما صدر، وظهر عنه عليه الصلاة والسلام قولاً، وفعلاً، أو تقريراً، ووصفاً خَلْقياً، أو نعتاً خُلقياً. (والخبر ما جاء عن غيره) أو موقوفاً عليه لا مرفوعاً إليه صلى الله عليه وسلم، فهما متباينان. (ومن ثمة) أي ومن أجل هذا التعريف، أو من جهة الفرق، (قيل) أي يقال (لمن يشتغل بالتواريخ) جمع التاريخ: وهو الإعلام بالوقت الذي يُضبط به الوفَيات، والمواليد، ويُعلم به ما يُلحق بذلك من الحوادث والوقائع التي من أفرادها الولايات، كالخلافة والتملك ونحوه، كالاستيلاء على البلاد واستخلاصها، والطواعين، والغلاء، والمعاملات، والأمور العجيبة، والأحوال الغريبة. (وماشاكلها) أي من أخبار أهل الكتاب من القصص، وحكايات الملوك، وغيرهم (الإخباري، ولمن يشتغل بالسنة النبوية / 10 - ب: المحدِّث) فيه أن مقتضى المقابلة أن يكون المحدث مختصاً بروايات الأحاديث المرفوعة، والحال أنه أعم لشموله رواية الصحابي، والتابعي، ولعله على التغليب. (وقيل: بينهما عموم وخصوص مطلق) فالخبر / أعم من الحديث حيث(1/154)
يصدُق على كل ما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام وغيره، بخلاف الحديث، فإنه يختص بالنبي عليه الصلاة والسلام، وبيانُه قوله: (فكل حديث خبر) إذا الخبر ما جاء عنه عليه الصلاة والسلام، وعن غيره، (من غير عكس) أي لا كل خبر حديث، لاختصاص الحديث به عليه الصلاة والسلام، وفيه مناقشة، لأن الخبر يعم خبر غيره عليه الصلاة والسلام مطلقاً، بل ينحصر عند المحدثين في الصحابي، والتابعي ؛ ولذا قيل: الفاء للتعليل لا للتفريع، لعدم ظهور أعمية الخبر مما ذُكر مطلقاً حقيقياً بل اصطلاحياً إضافياً وبهذا تندفع المناقشة. وقيل: الفاء للتفصيل، فإنه لمِّا قيل بينهما عموم وخصوص مطلق، واحتمل عموم أحدهما فصُله بقوله: فكل حديث... إلخ وأغرب محشٍ هنا وقال: وفيه أن الحديث قد يكون إنشاء، فكيف يَصدُق كل حديث خبر ! فإن الظاهر أن المراد بالخبر ما يحتمل الصدق والكذب، فبينهما عموم من وجه. انتهى. ووجه غرابته مما لا يخفى. ثم أعلم أن علم الحديث علم يُعْرف به حال الراوي والمروي من حيث القبول والرد. وموضوعه: الراوي والمروي من حيث ذلك. وغايته ما يُقبل، وما يُرَدّ من ذلك. ومسائله: ما يذكر في كتبه من المقاصد، كذا ذكره الشيخ زكريا في " شرح ألفية العراقي ". وقال الجلال السيوطي في ألفيته:
(علمُ الحديث ذو قُواَنينَ يُحد ..... يُدرَى بها أحوالُ متنٍ وسَند)
(فَذانِكَ الموضُوعُ والمقصُودُ ..... أن يُعَرفَ المقبول والمَرْدُودُ)(1/155)
وقيل: علم الحديث حدّه أنه علم يشتمل على نقل ما أضيف إلى النبي عليه الصلاة والسلام، قيل: وإلى الصحابي، والتابعي من قول، أو فعل، أو تقرير، أو صفة وموضوعه: ذاتُ النبي عليه الصلاة والسلام، وغايته: الفوز بسعادة الدارين، فدخل فيه الأحاديث المتعلقة بصفاته عليه الصلاة والسلام، فإنها أحاديث مرفوعة بإجماع المحدثين، وَهَمُّهُ كحديث أنه عليه الصلاة والسلام همُ بقلب الرّداء في الاستسقاء، فإنه داخل في قسم الفعل، فإن الهَمّ فِعلُ القلب. (وعَبر) المؤلف (هنا) أي في المتن، (بالخبر) أي دون الحديث، جواب سؤال مقدّر، وهو أن الحديث خاص به عليه الصلاة والسلام على جميع الأقوال، فهو أولى أن يكون معرفاً في علم الحديث، فأجاب بأنه عبر عنه بالخبر (ليكون أشمل) أي على القول الأخير حتى يكون ما ذكره بعده من الأحكام يتناول خبر الرسول / 11 - أ / عليه الصلاة والسلام وغيره، وقال تلميذ المصنف: لأنه يتناول المرفوع عند الجمهور باعتبار الترادف، ويتناول الموقوف، والمنقطع عند من عدا الجمهور. وقال المصنف: قولي ليكون أشمل باعتبار الأقوال، فأما على الأول، فواضح. وأما على الثالث، فلأن الخبر أعم مطلقاً، فكلما ثبت الأعم ثبت الأخص. وأما على الثاني، فلأنه إذا اعُتبرت هذه الأمور في الخبر الذي هو وارد من غير النبي صلى الله عليه وسلم، فلأن يعتبر ذلك فيما ورد عنه وهو الحديث من بابِ الأولى، بخلاف ما إذا اعتبرت في الحديث، فإنه لا يلزم اعتبارها في الخبر لأنه(1/156)
أدون رتبةً من هذا الحديث على هذا القول قال التلميذ: / ما ذكرته أولى، إذ في هذا التقرير ما لا يصح، وهو قوله: فكلما ثبت الأعم ثبت الأخص مع الإطناب المُخِل. انتهى. ويمكن دفعه بأن مراده خصوص هذا المقام لا مطلق العام، لكن يرد على تعليله للثاني أن الأمور المعتبرة ما عدا المتواتر غير معتبرة في الخبر الذي ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام، فإن المشهور، والعزيز، والغريب، وما يترتب عليها كلها من أفراد الحديث المصطلح دون غيره.
(الخبر من حيث تعدد طرقه وفردها)
(فهو) أي الخبر (باعتبار وصوله إلينا) أي لا باعتبار أوصافه من الصحة، والحس، والضعف، وغيرها ولا من كونه مرفوعاً، وموقوفاً، ومقطوعاً، ونحوها. (إما أن يكون) أي يوجد (له طرق) جمع طريق بمعنى سبيل، وهو ما يوصل إلى المقصود الحِسي. استعير للموصل إلى المطلوب المعنوي، ولذا قال: (أي أسانيد) وهو جمع إسناد، والمراد به رجال الحديث، فإنهم يُسندُون الخبر إلى ما ينتهي إليه السند، فمدار صحته وغيرها عليهم، فالإسناد بمعنى السند الذي عليه الاعتماد. ولذا قال ابن المبارك: الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال مَن شاء ما شاء.(1/157)
وقال ابن سيرين: إن هذا الأمر دين، فانظروا عمَّن تأخذون دينكم. وقال أبو نَصْر بن سَلاَم: ليس شيء أثقل على أهل الإلحاد ولا أبغض إليهم من سماع الحديث، وروايته، وإسناده. كذا ذكره في " الخلاصة "، واستشكل بأن القرآن ينبغي أن يكون أبغض إليهم، أو مساوياً للحديث في الأبغضية. وأجيب بأنه إنما حكم بذلك بناء على أن الحديث مفسِّر للقرآن وقاضٍ عليه، وأما قول بعض الصوفية: حَدثنا، بابُ من أبواب الدنيا، فمراده لمَن غرضه غرض من أغراضها، أو لمن افتخر بعلو سنده لحصول غَرض من أغراضها. (كثيرة) صفة أسانيد، ولمّا لم يلزم من وجود أصل الجمع الكثرةُ الزائدة على أقل الجمع علَّله بقوله: (لأن طرقاً جمع طريق) وهذا واضح، وإنما ذكره لأنه / 11 - ب / توطئة، أو لأنه دليل لتفسير الطرق بالأسانيد.(1/158)
(وفعيل) أي ما يكون على وزن فعيل من الأسماء المفردة (في الكثرة) أي في حال إرادة الكثرة به، وهي ما فوق العشرة إلى ما لا نهاية له، (يُجمَع على فُعُل بضمتين) كما فعل هنا، فدل على إفادة زيادة الكثرة على أصل الجمع، وبه تمَّ التعليل، لكن تبرع بزيادة إفادةِ قاعدة فقال: (وفي القلَّة) أي وفي حال إرادة القلة وهي ثلاثة وعشرة وما بينهما يُجمع (على أَفْعِله) بفتح الهمزة، وسكون الفاء، وكسر العين، كأطْرِقَة، ورغيف وأَرْغِفَة، ثم جملة وفَعِيل... إلخ حالية، وقوله: (والمراد بالطُرق الأسانيد) عطف على قوله: طرقاً، فيكون من تتمة تعليل تفسير الطرق بالأسانيد الكثيرة. لكن الأنسب حينئذٍ أن يقول: والمراد بالطريق الإسناد، أي إنما فَسّر الطرق بالأسانيد، لأن مرادهم بالطريق إنما هو الإسناد، كذا قال محشٍ، وتوضيحه ما قال شارح: وإنما قال: والمراد بالطرق الأسانيد، وإن كان ما سبق مغنياً عنه للتنبيه على أنّ ما ذكره من التفسير ليس مدلولاً حقيقياً للطرق، وإنما استعارة عن السبل. انتهى. ولما خفي هذا الإدراك على التلميذ قال قوله: / والمراد بالطرق الأسانيد، مُستدرك أي لما عُلم من كلامه أوّلاً (والإسناد: حكاية طريق المتن) قال التلميذ: صار الحاصل: أن الطريق حكاية الطريق، ولما طرق المصنف هذا الاعتراض قال: التحقيق أن تكون الإضافة بيانية في قوله: حكاية طريق المتن. فقلت: التحقيق خلاف هذا التحقيق، لأن الحكاية فِعلُ، والطريق أسماء(1/159)
الرواة، فلا يصح أن يكون أحدهما عين الآخر. انتهى. وقيل: يمكن أن تُوجه العبارة بأن تُجعَل من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي الإسناد هو الطريق المحكي للمتن، والمتن - كما سيجيء - غايةُ ما ينتهي إليه الإسناد، فيوافق - ما سيأتي عنه في مبحث المرفوع والموقوف - تعريف الإسناد بنفس الطريق على أنه عرَّف الإسناد بما هو تعريف للسند، قيل: ذكر الطيبي: أن السند إخبار عن طريق المتن، والإسناد رفع الحديث إلى قائله. وأجيب بأنه مبني على اختلاف واقع بينهم، والظاهر أن مؤداهما واحد. وقد قال السخاوي في " شرح تذكرة ابن المُلقن ": الإسناد والسند هو الطريق الموصل للمتن، والمتن هو الغاية التي ينتهي إليها. وقيل معناه. أن الإسناد تبيين طريق المتن أنه متواتر أو آحاد. ويؤيده ما في بعض النسخ، والإسناد حكاية عن طريق المتن. وقيل: المراد بالطريق، ما يوصل إلى / 12 - أ / المتن، فلا دور، ووجهه أن الإشكال إنما نشأ من حمل الطريق على المعنى الاصطلاحي، وأما إذا حمل على المعنى اللغوي فيستقيم التعريف، كما قيل في قول الصرفيين: الماضي فِعْلٌ(1/160)
وُجدَ في الماضي.
1 (المُتَوَاتِر)
(وتلك الكثرة) أي المذكورة في ضمن أسانيد كثيرة (أحد شروط التواتر) أي الخمسة، أو الأربعة على ما سيأتي. واعترض عليه بأنه لم يعين معنى الكثرة، فإنه يصح أن يكون مع الحصر وبدونه، فكيف يقول: وتلك الكثرة أحد شروط التواتر؟ ودُفع بأن معناه أن تلك الكثرة إنما تكون شرط التواتر إذا كانت بلا حصر عدد معين، وكأن المعترض غَفَل عن قوله: (إذا وردت) أي الكثرة، أو الأسانيد (بلا حَصْر عَدَدٍ مُعَين) بإضافة الحصر الذي هو من جملة الشرح إلى عدد الذي هو من جملة المتن، وهو مزج غريب كما سبق الإشارة إليه، والاعتراض عليه، وزاد السخاوي: ولا تقييد بعدالة ولا إسلام. وتركه الشيخ هنا لأن المتواتر لا يُسأل عن أحوال رجاله كما سيأتي، ثم التقدير بلا اعتبار حصرِ عددٍ معين، إذ المراد أنه ليس للتعيين فيه مدخل، ولا يكون الملحوظ في كثرته عدد. والحاصل: أنه لا يؤخذ في عدده التعيين لا أن يؤخذ عدم التعيين فتأمل، فإنه محل زلل. قال الشارح: فيه احتراز عن خبر قوم محصورين، وإشارة إلى أنه لا يشترط في التواتر عدد معين كما هو مذهب البعض. انتهى. ولا يخفى ما فيه(1/161)
من المناقضة بين علامية وعدوله عن المذهب المختار. قيل: وفيه أنه ليس للحصر في عدد معين مدخل في المشهور مثلاً، فإنه قد يرد بلا حصر كما سيجيء، فمعنى قوله الآتي: أو مع حصر بما فوق الاثنين أنه قد يكون كذلك، ففي العطف نوع خَدْشه، وأيضاً في العطف نظر لأن المتواتر والمشهور / كليهما مشتركان في أنهما مع الحصر بما فوق الاثنين، وليس للتعيين مدخل فيهما، نعم بينهما فرق، وهو أن تحصل الشهرة في أي مرتبة من مراتب ما فوق الاثنين، بخلاف التواتر، فإنه يُعتبر في جميع مراتب المتواتر. والحق أنه لا يستفاد تعريف المتواتر بكماله من المتن، فيتعين أن يكون قوله في الشرح: (بل تكون العادة) تفسيراً لقوله: بلا حصر عدد، بل تجعل بل للانتقال، فإنه لو أراد التفسير لقال: بأن تكون العادة (قد أحالت) أي عُدت وجُعِلت محالاً، (تواطؤَهُم) أي توافقهم قصداً، سواء تواطؤا فيما بينهم أم لا، (على الكَذِب) بفتح الكاف، وكسر الذال، هو اللغة الفصحى الواردة في القرآن، ويجوز كسر الكاف، وسكون الذال، وقيل: الأخير مستحسن إذا ذكر في مقابلة الصدق / 12 - ب / لحسن المقابلة الوزنية. قال السيد أصيل الدين: وفي الطوالع: يَجْزم العقل بامتناع تواطئهم على الكذب، وكلاهما صحيح، لأن جزم العقل بواسطة العادة والتكرار، والتعبير بالعادة أولى، للإشعار بموجب جزم العقل.(1/162)
(وكذا وقوعه) أي وكذا أحالت العادة وقوع الكذب (منهم اتفاقاً) أي غلطاً، أو سهواً قاله السخاوي. فقوله (من غير قصد) تأكيد، ولذا قال التلميذ: قوله اتفاقاً: يغني عن قوله: من غير قصد. وخلاصة الكلام: أن التواتر لا يُحصر عدده، ويكون ذلك العدد الذي لا يحصر بحيث لا يمكن عادة تواطؤهم على الكذب. وكذا وقوع الكذب منهم اتفاقاً من غير قصد، حتى لو أخبر جمع غير محصور بما يجوز توافقهم على الكذب عليه لغرض من الأغراض، أو اتفاق الكذب منهم عليه لا يكون متواتراً فيتحصل: أن الكثرة هي الشرط الأول، وإحالة العادة هي الشرط الثاني، والشروط خمسة على مقتضى كلام المصنف حيث قال: فيما سيأتي. فإذا جمع هذه الشروط الأربعة، ولا يتصور كونها أربعة بدون جعل هذا ثانياً، والمحققون على أنه تفسير للكثرة. وعدم الحصر بمعنى أن المعتبر في كثرة المخبرين بلوغُهم حداً يمتنع عند العقل تواطؤهم على الكذب، لا أن لا يدخل تحت الضبط كما سبق تحقيقه، فالشروط عندهم أربعة لا خمسة ؛ فعلى هذا لو أخبر بخبرٍ جمعُ غيرُ محصور يحيل العقل تواطؤهم على الكذب يكون متواتراً. ثم إذا كان حَدّ التواتر ما ذكر (فلا معنى لتعيين العدد). قال الأصيلي: وإنما الضابط حصول العلم، فمتى أخبر هذا الجمع وأفاد خبرهم العلمَ عَلمنا أنه متواتر، وإلا فلا.(1/163)
وقال ابن الهُمَام: التواتر: خبرُ جِماعة يفيد العلم لا بالقرائن المنفصلة بل بنفسه. وقال ابن المَلَك في " شرح المنار ": عرّفه المحققون بأنه خبر جماعة يفيد بنفسه العلم بصدقه. فقوله: بنفسه، يخرج خبر جماعة أفاد العلم بالقرائن الزائدة عن الخبر، ك: شَقّ الجيوب، والتفجّع في الخبر بموت ولده. (على الصحيح) أي الذي عليه الجمهور، وهو مقابل للأقوال الآتية في قوله: (ومنهم) أي من المحدثين، أو من علماء أصول الحديث، أو أصول الفقه /، (مَن عَيّنه) أي عدد المتواتر. (في الأربعة) اعتباراً بأربعة شهداء، ورُدّ بأنهم لو شهدوا بالزنا لا يفيد قولُهم العلمَ لاحتياجهم إلى التزكية. وتوقف القاضي أبو بكر البَاقِلاّني في الخمسة (وقيل: في الخمسة) اعتباراً بعدد اللَّعان. (وقيل: في السبعة. وقيل: في العشرة) قال الإصْطَخَرِيّ: أقلّ عدد الجمع الذي يفيد خبره العلم عشرة، لأن ما دونها آحاد. (وقيل: في الاثني عشر) كعدد النقباء في قوله تعالى: (وَبَعَثْنَا منهم اثْنَيْ(1/164)
عَشَرَ نَقِيباً) / 13 - أ / بُعِثوا - كما قال أهل التفسير - للكنعانيين بالشام طليعة لبني إسرائيل المأمورين بجهادهم ليخبروهم بحالهم، فكونهم على هذا العدد ليس إلا لأنه أقل ما يفيد العلم المطلوب في مثل ذلك. (وقيل: في الأربعين) لأن الله تعالى قال: (يا أَيُها النَّبيُّ حَسْبُكَ الله ومَن اتَّبَعَكَ من المؤمنين) وكانوا كما قال أهل التفسير: أربعين رجلاً كَمّلهم عمر رضي الله تعالى عنه بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم، فإخبار الله عنهم بأنهم كافؤوا نبيهم صلى الله عليه وسلم يستدعي إخبارهم عن أنفسهم بذلك له ليطمئن قلبه، فكونهم على هذا العدد ليس إلا لأنه أقل ما يفيد العلم المطلوب في مثل ذلك. (وقيل: في السبعين) لأن الله تعالى قال: (واخْتَارَ موسى قَوْمَه سبعين رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا) أي للاعتذار إلى الله تعالى من عبادة العجل، ولسماعهم كلامَه تعالى من أمر ونهي ليخبروا قومهم بما يسمعونه، فكونهم على هذا العدد ليس إلا لأنه أقل ما يفيد العلم المطلوب في ذلك. (وقيل: غير ذلك) فقيل: أقله عشرون لأنه تعالى قال: (إنْ يَكُن مِنكُم عشْرُون صَابرون يَغْلبُوا مائتين) فيتوقف بعث عشرين لمئتين على إخبارهم(1/165)
بصبرهم، فكونهم على هذا العدد ليس إلا لأنه أقل ما يفيد العلم المطلوب في ذلك. وقيل: أقله ثلاث مئة وبضعة عشر، عدد أهل غزوة بدر، وعبارة إمام الحرمين وغيره: وثلاثة عشر وهي البطشة الكبرى التي بها أعزّ الله تعالى الإسلام. وهذا لاقتضاء زيادة احترامهم يستدعي التنقيب عنهم ليعرفوا، وإنما يعرفون بأخبارهم، فكونهم على هذا العدد المذكور ليس إلا لأنه أقل ما يفيد العلم المطلوب في مثل ذلك. قال المَحَلَّيّ في " شرح جمع الجوامع " وأُجيبَ عن الجميع بمنع اللّيْسِية في الجميع، ثم قال: والأصح أنه لا يشترط في التواتر إسلام في رواية، ولا عدم احتواء بلد عليهم، فيجوز أن يكونوا كفاراً وأن يحويهم بلد، كأن يُخبر أهل قُسْطَنْطِينِيّة بقتل ملِكِهم، لأن الكثرة مانعة من التواطىء على الكذب، وقيل: لا يجوز ذلك لجواز تواطئ الكفار، وأهل بلد على الكذب، فلا يفيد خبرهم العلم. (وتمسك كل قاتل بدليل) أي بآية أو حديث. وقول الشارح: أي بخبر، صدر من غير خبر (جاء فيه) أي ورد في خصوص ذلك الدليل، ذكر ذلك العدد) كما بَّينا بعض أدلتهم، (فأفاد) أي ذلك العدد، (العلم) أي بالنسبة إلى ذلك(1/166)
الدليل، والحال أنه (وليس بلازم أن يطرد) أي ذلك العدد بإفادته العلم في خصوص ذلك الدليل، (في غيره) أي في غير ذلك الدليل. والحاصل / 13 - ب /: أنه لا يجب أن يفيد ذلك العدد في كل موضع /، وكذا لا يجب أن يفيد أقل منه في غير ذلك الموضع، وأغرب المحشي فقال: ولا مرجع لضمير غيره ظاهراً ! (لاحتمال الاختصاص) أي اختصاص إفادة العلم في الأمر الذي ورد فيه عدد معين لذلك الأمر دون غيره. وأبعد الشارح حيث قال في حاشيته: أي لاحتمال اختصاص هؤلاء المعدودين دون غيرهم من حيث الفقه، والضبط، و الحفظ، والعدالة، وسائر أسباب القبول والترجيح. وقال التلميذ: لم ترد الأربعة، والخمسة والسبعة، والعشرة، والأربعون في دليل أفاد العلم أصلاً، فلا يصح أن يقال في هذه: وليس بلازم أن يطرد في غيره. انتهى. وأنت علمت ما تقدم من استدلال كل بدليل يفيد العلم في الجملة، نعم يمكن أن يقال: لا يفيد العلم اليقيني، وعليه فكلام المصنف يحمل على التنزل مع أنه يحتمل اختلاف الإفادة باختلاف الأشخاص. قال الجزري: قد يكون التواتر نسبياً، فيتواتر عند قوم دون آخرين كما يصح الخبر عند جماعة دون آخرين. (فإذا ورد الخبر كذلك) أي كما ذكر من الكثرة التي هي غير محصورة على وجه الإحالة المذكورة. (وانضاف إليه) أي انضم إلى وروده كذلك، أو إلى الخبر. أي يشترط(1/167)
(أن يستوي الأمر) أي أمر الخبر. (في الكثرة) وفي نسخة: أن يستوي فيه أي في الخبر الكثرة، وهو ظاهر. وفي نسخة: أن يستوي الأمر فيه في الكثرة. (المذكورة) أي مع الإحالة المسطورة. (من ابتدائه) أي الخبر. (إلى انتهائه) كخبرنا عن نبينا صلى الله عليه وسلم، فإنه يُشترط أن يستوي الكثرة والإحالة في الابتداء، والأثناء إلى الانتهاء، وهذا إذا كان له ابتداء وانتهاء. وأما إذا لم يكن له ذلك، فالاستواء ليس بشرط بل غير ممكن كما إذا سُمِع من الصحابة على وجه التواتر، وهذا ثالث الشروط على مقتضى كلام المصنف، وبه يخرج الخبر الذي رواه أولاً أقل من عدد التواتر، ثم زاد حتى وصل إلى عدد التواتر بعده ويدوم ذلك، فإنه لا يطلق عليه التواتر. (والمراد بالاستواء أن لا تنقص الكثرة المذكورة في بعض المواضع) أي عن العدد الذي أحالت العادة... إلخ، كما صرح به في " الخلاصة ". وليس المعنى أنه لو كان العدد أولاً ألفاً مثلاً، ثم نقص واحد منهم مثلاً لم يبق متواتراً كما يوهمه ظاهر العبارة. (لا أن لا تزيد) أي الكثرة. (إذ الزيادة ههنا) أي في باب الخبر، ولو تواتراً.(1/168)
(مطلوبة) لزيادة الدلالة اليقينية لقوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام: : {{ولكن ليطمئن قلبي}}. (من باب / 14 - أ / الأولى) لأن العلم إذا حصل بدون الزيادة فمعها لا شك أنه أولى بالحصول، وأحرى بالوصول، وأقوى للقبول. (وأن يكون) عطف على أن يستوي. (مستنَدُ انتهائه) بفتح النون، أي محل استناد انتهاء الخبر، وموضع اعتماد الأثر (الأمر المشاهَد) أي المرئيّ المحقَّق. (أو المسموع) أي يكون آخر ما يؤول إليه الطريق، ويتم عنده الإسناد، مثل: رأيت، أو: سمعت من فلان. قيل: خصُهما بالذكر اعتباراً للغالب، وإلا فالشرط انتهاؤه إلى مطلق الحس الشامل للحواس الخمس / الظاهرة من: الذوق، واللمس، والشم، والسمع، والبصر، كما يشعر به الكلام المصنف فيما بعد. وقيل: خصهما لأن البحث في المتواتر من قوله صلى الله عليه وسلم، وفعله، وتقريره، لا في مطلق المتواتر، والأول من المسموعات، والثاني والثالث من المبصَرات، أو ترك غيرهما للمقايسة عليهما. وقيل: المراد بالمشاهدة ما يقابل الغَيبة، فيتناول مطلق الإحساس. فقوله: أو المسموع، تخصيص بعد تعميم لتعلق أكثر الأخبار به، وهذا هو الشرط الرابع. والمراد أنّ ما سُوِّغ نقله عنه صلى الله عليه وسلم يشترط أن ينتهي إلى الحِس(1/169)
(لا ما ثبت بقضية العقل الصّرف) كوجود الصانع وقِدَمِه، وقِدمِ صفاته، وحدوث العالم، ومفرداته ومركباته، وكزيادة عدد الاثنين بالنسبة إلى الواحد. (فإذا جَمَع) أي الخيرُ. (هذه الشروط الأربعة) قيل: هذا إلى قوله: انتهائهم الحس، مفسِّر لقوله السابق: فإذا ورد الخبر، فكانا متحدين. وقوله الآتي: فهذا هو المتواتر، جزاء لأحدهما حال كونه مقيداً بقوله: وانضاف... إلخ ونظيره قوله تعالى: {{ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به}} حيث قيل: إن جواب لمَّا الأولى دل عليه جواب الثانية، فظهر ضعف ما قيل: من أن قوله: فهذا، جزاء لقوله: فإذا جمع، وهو مع جزائه جزاءُ قوله: فإذا ورد، لما فيه من عدم رابطة لفظية ووجود زَكَاكَةٍ معنوية. (وهي) أي الأربعة أحدها، أو منها: (عدد كثير) وثانيها المستفاد من قوله: بلا عدد.(1/170)
(أحالت العادة) قيل لو قال: أحال العقل لم يحتج إلى الشرط الخامس، وهو أن يصحب خبرهم إفادة العلم لسامعه، وأما حينئذٍ فلا بد منه لأن إحالة العادة شيء لا يستلزم إحالة العقل إياه، فلا يكون مستلزماً لحصول العلم اليقيني. (تواطؤهم) أي (وتوافقهم) نقل عن المصنف أنه قال في الفرق بينهما: إن التواطؤ: هو أن يتفق قوم على اختراع / 14 - ب / معين بعد المشاورة والتقرير بأن لا يقول أحد خلافَ صاحبه. والتوافق: حصول هذا الاختراع من غير مشاورة بينهم ولا اتفاق، يعني سواء يكون عن سهو، وغلط، أو عن قصد. (على الكذب) قيل: تَرَك قوله: وقوعه منهم اتفاقاً اعتماداً على ما ذُكر فتأمل وثالثها: (رَوَوْا ذلك عن مثلهم من الابتداء إلى الانتهاء) قال المصنف في تقرير هذا المحل: المراد مثلهم في كون العادة تحيل تواطؤهم على الكذب، وإن لم يبلغوا عددهم، فالسبعة العدول ظاهراً وباطناً مثل العشرة العدول في الظاهر فقط مثلاً، فإن الصفات تقُوم مَقام الذوات، بل قد يفيد قول سبعة صلحاء العلمَ، ولا يفيده قول عشرة دونهم في الصلاح، فالمراد حينئذ المماثلة في إفادة العلم لا في العدد قال التلميذ: الكلام الأول هو الصحيح، وقوله: فالسبعة... إلخ ليس(1/171)
بشيء إذ لا دخل لصفات المخبرين في باب التواتر، والمقام مستغن عن هذا كله انتهى. وهو ظاهر قولهم من أن المتواتر لا يبحث فيه عن رجاله، لكن التحقيق أن الإحالة العادية قد تكون من حيثية الكثرة / من غير ملاحظة الوصفية، وقد تكون بانضمامها كما إذا رَوَى عن العشرة المبشرة مثلاً عشرون من التابعين، فإنه لا شك أن العادة تُحيل اتفاق الأولين على الكذب، ولا تحيل اتفاق العشرة من التابعين عليه، ولو كانوا عدولاً، وكذا إذا نقل عشرون من المفتين والمدرسين مسألة يحصل العلم بهم ما لا يحصل بما ينقل عشرون من الطلبة أو خمسون من غيرهم. فالمدار الأصلي في باب التواتر على الإحالة والإفادة دون اعتبار العدد والعدالة. نعم، قد ينضاف إلى العدد وصف يقوم به الإحالة، فتحصل به الإفادة، فالحاصل: عدم اشتراط معرفة الرجال عند حصول الإكثار، لا اشتراط عدم اعتبارهم في الأخبار: {{فاعتبروا يا أولي الأبصار}} ورابعها: (وكان) أتى بالواو هنا مع أنه ذَكَر ما سبق بطريق التعداد إشارة إلى أن ما ذكر هو في قوة العطف. (مستندُ انتهائهم الحسّ) أي من مشاهدة أو سماع، لأن ما لا يكون كذلك يحتمل دخول الغلط فيه. كما اتفق أن سائلاً سأل مولى أبي عَوَانة بمِنَىً، فلم يعطه شيئاً فلما وَلى لحقه أبو عَوَانة، فأعطاه ديناراً، فقال له السائل: واللهِ(1/172)
لأنفعنَّك بها يا أبا عَوَانة، فلما أصبحوا وأرادوا الدفع من المُزْدَلِفَة وقف ذلك السائل على طريق الناس، وجعل ينادي، إذا رأى رِفقةً من أهل العِراق: يا أيها / 15 - أ / الناس اشكروا يزيدَ بِنَ عَطَاء الليثي، يعني مولى أبي عَوَانَة، فإنه تقرب إلى الله تعالى اليوم بأبي عَوَانة، فأعتقه، فجعل الناس يمرون فوجاً فوجاً إلى يزيد يشكرون له ذلك، وهو يُنكره، فلما كثر هذا الصنيع منهم قال / ومَن يقدر على ردِّ هؤلاء كلهم، أذهب أنت حر، كذا ذكره السخاوي في " شرح ألفية العراقي ". (وانضاف) أي انضم (إلى ذلك) أي إلى ما ذكر من الشروط الأربعة، (أن يصحب خبرهم) بالنصب على المفعولية، والفاعل قوله: (إفادةُ العلم لسامعه) وهذا معنى قول بعضهم: إن هذا هو الشرط الخامس. والمراد بالعلم هنا الضروري، وهو الذي يضطر إليه كما سيجيء سواء كان نظرياً أولاً، يعني عقلياً، أو نقلياً قال شارح: ولا يشترط تقدم العلم بالشرائط عندنا خلافاً لمن زعم أن العلم الحاصل عقيب التواتر نظري، بل الضابط حصول العلم بصدقه. (فهذا) أي الخبر الجامع للشروط المتقدمة مع الانضياف المذكور. (هو المتواتر، وما) موصوفة، أو موصولة، أي والخبر الذي (تخلفت إفادة العلم عنه) أي مع وجود الشرائط المتقدمة. (كان مشهوراً فقط) قال التلميذ: لا بد أن يزيد: مما روي بلا حصر عدد، وإلا لصدق المشهور على جميع المتواتر. انتهى. والظاهر أن يقول: لَصَدَق المتواتر على جميع المشهور. قال: وهذا ينافيه قوله بعد هذا: إنّ المشهور ما روي(1/173)
مع حصر عدد بما فوق الاثنين. انتهى ويُدفع كلامه بأن هذه الزيادة ملحوظة في كلام الشيخ كما قررناه بقولنا: هذا الخبر الجامع للشروط السابقة، لأن من جملتها أن يُروى بلا حصر عدد. قيل: ولعله أراد بالمشهور المعنى اللغويَّ لا الاصطلاحي. ولهذا قال محشٍ في قوله: (فكل متواتر مشهور) أي لا بالمعنى المقابل للمتواتر. قلت: / الظاهر المتبادر أنه أراد المعنى المصطَلَح عليه، فإنّ مرجع البحث إليه، لكن لا بد من زيادة قيد دل عليه المقام بأنْ يقال: فكل متواتر تخلّف عنه العلم مشهور، وحينئذ يظهر صحة قوله: (من غير عكس) وهو أن لا يكون كل مشهور متواتراً بالمعنى المصطَلَح الجامع للشروط المنضم إليه انضياف إفادة العلم، وبه يندفع ما قال التلميذ: هذا إذا أخذ الجنس من غير فصل، وهو تخلف إفادة العلم، وخطأ هذا مبّين في بحث المباح في الأصول.(1/174)
(وقد يقال: إنّ الشروط الأربعة إذا حصلت استلزمت حصول العلم) قيل: الرابع من الشروط: هو حصول العلم، فكيف تكون أربعة بدونه حتى تستلزمه؟ / 15 - ب / فالأولى أن يقال: الثلاثة. وقد أجاب بعضهم بما ينبئ أن العدد الكثير شرط، وإحالة العادة تواطؤَهم شرطٌ آخر كما حررناه سابقاً وعلى هذا فبانضياف الاستواء والاستناد إليهما تصير أربعة بدون حصول العلم. وهذا الجواب معتمدٌ على ما ذكره بعض المنطقيين في بحث الدلالات من أن الوصف في التعريف بمنزلة المعطوف. (وهو) أي الاستلزام المذكور على الوجه المسطور. (كذلك في الغالب) أي في غالب الأخبار، وأكثر الآثار، قيل: فالمراد من الاستلزام الاستتباع كما هو مصطلح أهل العربية، لا امتناع الانفكاك كما هو اصطلاح المعقول، لأن لا يقبل التجزي والغلبة. ثم صرح بما علم ضِمنا بقوله: (لكن قد يتخلف) أي حصول العلم، (عن البعض) أي بعض الأخبار. (لمانع) قيل كغبَاوة السامع، وفيه أنه لا عبرة به لأنه بمنزلة الحيوان، أو الأصم. ووجد بخط السِّخاوي: ككونه عالماً لم يقف على بعض الشروط، وفيه أنه تقدم أنه لا يشترط تقدم العلم بل المعتبر حصول العلم. لكن قد يقال: إن حصول العلم قد يتوقف على معرفة الشروط. وقيل: كأن يروى خبران متناقضان قد جمعا الشروط، ففي هذا يتخلف حصول العلم، وفيه أن تواتر النقيضين محالٌ عادة(1/175)
(وقد وضح) أي ظهر (بهذا) أي بما قدمناه من التقرير، (تعريف المتواتر) ولما تُوُهّم من المتن أن كل ما يرد بلا حصر فهو متواتر، دفعه بقوله: (وخلافه) أي غير المتواتر، وهو المشهور، (قد يرد بلا حصر أيضاً) قال التلميذ: يقال عليه: فماذا يسمى؟ انتهى. قيل: وكأنه سمى هذا باسم المشهور الذي يطلق على ما اشتهر على الألسنة. قلت: بل الصواب أنه يسمى المشهور على ما سبق تقريره، وتقدم تحريره، ويدل عليه قوله: (لكن مع فقْد بعض الشروط) وهو أنْ لا يستوي طرفاه، أو لا يكون منتهياً إلى الحس، أو تتخلف عنه إفادة العلم. وأغرب التلميذ حيث قال: هذه زيادة زادها الشارح تبعاً لرأي مَنْ لا رأي له في الفن إذ يغني عنها قوله: ما لم تجتمع شروط التواتر. انتهى. وفيه أن هذه الزيادة مع عدم الحصر، وقيدِ ما لم تجتمع شروط التواتر مع الحصر فتدبر وتأدب، فإن صاحب هذه المقالة إمامٌ في هذا الفن لا محالة /. ثم قيل: هذا يدل على أن عدم اجتماع شروط التواتر شرط في المشهور، فيكونان متباينين، وما ذكره أولاً من قوله: فكل متواتر مشهور يدل على أن بينهما عموماً وخصوصاً مطلقاً وقد يجاب بأن المقصود من التقسيم بيان / 16 - أ / ما هو غير المتواتر من المشهور، لا ما هو أعم من التواتر وغيره، فإن المتواتر داخل في عموم المشهور.(1/176)
(أو مع حصر) قيل: عطف على قوله: إما أن يكون... الخ، والظاهر أنه عطف على بلا حصر. (بما فوق الاثنين) أي حصر واقع بعدد كائن أكثرَ من اثنين كما قال: (أي بثلاثة فصاعداً)، وقوله: (ما لم تجتمع شروط التواتر) مستغنى عنه، لأنه إذا كان مع الحصر، فلم يجتمع فيه شروط التواتر، لكن قد يقال: إنه قيدٌ لقوله: فصاعداً، إذ قد يصل إلى كثرة تفيد التواتر. (أو بهما أي باثنين فقط أو بواحد فقط) قيل: العطف بحسب المعنى. والحاصل: أن الخبر إما أن يرد بطرق بلا حصر، أو مع حصر بما فوق الاثنين، أو بالاثنين، أو بواحد أو عطف على قوله: أن يكون، لكن باعتبار حذف العامل أي الخبر. إما أن يكون له طرق بلا حصر، أو يكون له طرق مع حصر، أو يرد باثنين، أو بواحد كما يدل عليه قوله: (والمراد بقولنا: أن يرد باثنين أن لا يرد بأقل منهما) فاندفع ما قيل: إن التقسيم فاسد لفظاً ومعنى، أما لفظاً، فلأن كلمة إما بقيت بلا أخت، حيث لم يعطف على يكون شيء لا بأو، ولا بأمّا، وأما معنىً، فلأن تقرير الكلام هكذا: أو يكون له طرق مع الحصر بواحد، ولا يخفى فساده. وقد أجيب أيضاً بأنه لعله أراد بالطرق الجنس مجازاً، والجنس يطلق على الواحد والاثنين. وأما تفسيره(1/177)
بأسانيد كثيرة، فباعتبار أكثر الأقسام، ثم قيل: الأولى أن يقول: أن يرد بهما فقط في بعض المواضع، لا في الجميع، ولا يرد بأقل منهما في موضع. (فإن ورد) أي الخبر. (بأكثر) أي برواية أكثر من اثنين. وفيه أنّ هذا القول لا يجري في قوله: بواحد، مع أنه مطلوب فيه أيضاً، اللهم إلا أن يُتَكَلّف ويُقال: المراد بأكثر من اثنين أو واحد. (في بعض المواضع من السند) بيان للبعض. (الواحد) احتراز من السند المتعدد. وقيل: الأحسن أن يقول: من السندين ؛ لأن الكلام فيه يعم حكم السند الواحد، وكذا قوله: يقضي على الأكثر. (لا يضرّ) أي ورود الكثرة، أو الأكثرية. (إذ الأقل في هذا) أي في هذا الباب، أو الفن، وفي بعض النسخ: في هذا العلم. (يقضي) أي يحكم ويغلب. (على الأكثر)، يعني الأقل هو الحكم والمعتبر في السند، حتى إذا وجد في بعض الطبقات ما ينقص عن الشروط، خرج عن المشروط. (فالأول المتواتر) قيل: فيه نظر، لأن الأول، وهو ماله طرق بلا حصر،(1/178)
ليس / 16 - ب / بمتواتر، فإنه إذا لم تحصل الشروط المذكورة لا يسمى متواتراً، كما صرح به المصنف في الشرح، (وهو) إشارة إلى أنّ ما بعده خبر لا صفة (المفيد للعلم اليقيني) أي الضروري، والحصر إضافي، يعني أن المتواتر هو المفيد للعلم / اليقيني، أي الذي يضطر الإنسان إليه، بحيث لا يمكن دفعه كما يحققه بُعيد ذلك. (فأخرج) أي التقييد باليقيني. (النظريِّ) أي الخبر المفيد للعلم النظري عن مفاد المتواتر. (على ما يأتي تقريره بشروطه التي تقدمت) قيل: قوله: بشروطه لغو، لأنه داخل في مفهوم المتواتر. وأجيب بأنه متعلق بالأول، لا بالمفيد كما ذكره شارح، أي الأول مع شروطه هو المتواتر، وبهذا يندفع النظر السابق. (واليقين) أي علمه. (هو الاعتقاد) وهو شامل لجميع التصديقات، وبه خرج الشك، وأخرج بقوله: (الجازم) المراد به القاطع الجازم صاحبه به، الظنِّ: وهو ترجيح أحد طرفي(1/179)
الحكم، مع تجويز الجانب الآخر، ويقابله الوهم، وأخرج بقوله: (المطابق) أي للواقع، الجهل المركب. وقيل: لو قال: والثابت، لخرج اعتقاد المقلد - لأنه يزول بتشكيك المشكك - لكان أولى. ودُفع بأن المتبادر من إطلاق الجازم أنه لموجب، أي الجزم ناشيء عن سبب، فيخرج التقليد. وحاصله: أن مراد المصنف بالجازم هو الجازم الذي لا يقبل التشكيك. (وهذا) أي كون المتواتر مفيداً للعلم اليقيني، (هو المعتمد، أن الخبر المتواتر) أي في أنه (يفيد) وقيل: أنَّ، بيانٌ لقوله: هذا، أي من أن الخبر يفيد (العلم الضروري، وهو) أي العلم الضروري (الذي يضطر الإنسان إليه) أي إلى العلم به، والتيقن عليه، (بحيث لا يمكن دفعه) أي دفع علمه عن نفسه. قيل: الضروري كما يطلق مقابلاً للنظري، يطلق لهذا المعنى أيضاً، وليس المراد ههنا هو المقابل للنظري، ليرد ما قيل: من أنه ليس كل ضروري كذلك، وأنه قد يكون النظري الحاصل بالبرهان كذلك أيضاً، فلا يصح تعريفاً له، فالوجه أن يقال: إنه بيان أن المراد بالضروري هو هذا القسم. قال الإمام الغزالي رحمه الله:(1/180)
الحاصل بالمتواتر ليس بنظري، ولا ضروري، بل هو واسطة بينهما. وتوقف الآمِدِي فيه. (وقيل لا يفيد) أي المتواتر. (العلم إلا نظرياً) أي لا ضرورياً، ولا ما بينهما على ما تقدم. والقائل به إمام الحرمين من الأشاعرة، وأبو الحسين البصري، والكعبي من المعتزلة. (وليس هذا) أي هذا القول (بشيء) أي معتدٍ به، (لأن العلم) / 17 - أ / أي الذي هو حاصل (بالتواتر) الأولى بالمتواتر أي بسبب (حاصل لمن ليس له أهليه النظر - كالعامي -) منسوب إلى العام ضد الخاص. (إذ النظر: ترتيب أمور معلومة) كقولنا: العالم متغير، وكل متغير حادث، فالعالم حادث. (أو مظنونة) كقولنا: الجدار مائل، وكل مائل طائح. (يتوصل بها) أي بالأمور المعلومة، أو المظنونة.(1/181)
(إلى معلوم، أو مظنون) نشر مرتب. قيل: إن كان المراد من العلم اليقين كما تقتضيه المقابلة، يُخرِج الأفكار الواقعة في التصورات، والتصديقات الجِبِلِّية، فإنها ليست عن ترتيب أمور معلومة. ومع هذا يضطر الإنسان إليه بحيث لا يمكنه دفعه، وإن كان المراد منه التصور والتصديق النفسي معاً. وصرح بهذا الاصطلاح الموافق برد الاعتراض الثاني دون الأول / على ما قيل سابقاً، وإن كان المراد به المعنى العام يلزم استدراك قوله: مظنونة. (وليس في العامي أهلية ذلك) قيل: ولهذا لم يستفسر النبي صلى الله عليه وسلم والصحابةُ، وسائر العلماء العوامَ عن الدلائل الدالة على الصانع، وصفاته، حين قرروهم على إيمانهم إذ علموا أنهم لا يعلمونها قطعاً. وأجيب عنه: بأنهم كانوا يعلمون أنهم يعلمون الأدلة إجمالاً، كما قال الأعرابي: العبرة تدل على البعير، وأثر القدم على المسير، أفسماء ذات أبراج، وأرض ذات فِجاج، لا تدل على الصانع اللطيف الخبير؟ وقد قال تعالى:: {{ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله}}. غاية ما في الباب أنهم قصروا(1/182)
عن تفصيل الدلائل الدالة عليه، ولذا قال بعضهم: والأظهر أن يقول الشيخ: كالصبي الذي لا اهتداء له إلى النظر، إذ العامي كثيراً ما يكون فَطِناً، بل كل عامي يحصل له العلم بالاستدلال، فإنه يستدل بطلوع الشمس على وجود النهار، وبوصول الشمس إلى موضع كذا على وقت الظهر، وغير ذلك. (فلو كان) أي إفادة المتواتر. (نظرياً لما حصل لهم) أي للعوام المدلول عليه بالعامِيّ (ولاح) أي تبين (بهذا التقرير) أي المتقدم، (الفرق بين العلم الضروري، والعلم النظري، إذا الضروري يفيد العلم بلا استدلال) قال التلميذ: الضروري هنا صفة العلم، فيصير معنى التركيب: إذ العلم الضروري يفيد العلم بلا استدلال ولا يخفى ما فيه. انتهى. ويمكن دفعه بأن التقدير: الطريق الضروري، فكان الأظهر، والأخصر أن يقول: إذ الضروري يحصل بلا استدلال. (والنظري يفيده) أي العلم. (لكن مع الاستدلال / 17 - ب / على الإفادة) أي على طريقها، أو على ما يستفاد به المطلوب من الأدلة. هذا، وقيل فيه: إنه يستلزم اختصاص النظري بالتصديق. و إنه قد يكون الضروري مفيداً للعلم بالاستدلال، وقد(1/183)
يكون النظري مفيداً للعلم لا مع الاستدلال، فالوجه أن يقال: معناه أن كل ضروري خاص، يفيد علماً عاماً في ضمنه بدون الاستدلال عليه، وأن كل نظري خاص، يفيد علماً عاماً في ضمنه مع الاستدلال عليه. والحاصل: أن الضروري هو الحاصل بدون الاستدلال، والنظري هو الحاصل بالاستدلال. والمراد من الاستدلال هو الكسب، لئلا يختص بالتصديق. ولو ترك قوله: يفيد، وأتى بدل الاستدلال الكس أولى. وقيل: أقام الإفادة مُقَام الاستفادة تسامحاً، لأن الإفادة سبب الاستفادة، ومفضية إليها. وهذا كما قيل في قوله تعالى: {{ما منعك ألا تسجد}} أن المعنى: ما دعاك إلى ترك السجود؟ لأن المنع عن السجود داع إلى نقيضه. فإن قلت: يرد عليه أن ما ذكر هو الضروري بالمعنى المقابل للنظري، لا بالمعنى المذكور، قلت: قوله: يفيد العلم، ليس تعريفاً بل هو حكم. (وأن الضروري) عطف على إذ الضروري، فإن في معنى لأن الضروري. (يحصل لكل سامع، والنظري لا يحصل إلا لمن فيه) وفي نسخة: إلا لمن له (أهلية النظر)(1/184)
(وإنما أبهَمْتُ) أي أنا. (شروط المتواتر) وفي نسخة: التواتر، وهي الشروط الأربعة المنضافة إلى الخامس (في الأصل) أي في المتن، وبينتها في الشرح. وأغرب شارح حيث قال: بأن لم يبين أحوال تلك الكثرة من العدالة وغيرها. (لأنه) أي المتواتر. (على هذه الكيفية) أي المذكورة في الشرح. وقول شارح: أي أحوال الكثرة، غير مستقيم. (ليس من مباحث علم الإسناد)، في الجواهر: أصول الحديث علم بأصولٍ تعرف بها أحوال حديث الرسول صلى الله عليه وسلم من حيث صحةُ النقلِ عنه، وضعفه، والتحمل، والأداء. (إذ علم الإسناد يُبْحَثُ فيه عن صحة الحديث) المرادُ من الصحة هنا: معناها اللغوي ليشمل الحسن أيضاً، فإن الحسن بالاصطلاح منافٍ للصحة (أو ضَعْفه ليُعْمَل به) أي في غير الضعيف. (أو يترك) أي العمل به في الضعيف إلا في الفضائل (من حيث) متعلق ب: يبحث.(1/185)
(صفاتُ الرِّجال) أي رجال إسناد الحديث من العدالة والضبط وغيرهما. (وصِيَغ الأداء) بكسر الصاد وفتح التحتية، جمع صيغة، وهي: سمعت، وحدثنا، وأخبرنا، ونحوها.
(المتواتر: لا يبحث عن رجاله)
(والمتواتر لا يُبْحثُ عن رجاله) أي عن صفاتهم. (بل يجب العمل به من غير بحث) لإيجابه اليقينَ، وإن ورد عن الفسَّاق بل عن / 18 - أ / الفكرة، فلا يَرِدُ ما قال محشِ فيه: إن رجاله يجب أن يكون بحيث أحالت العادة... الخ فيبحث عن رجاله أيضاً قال التلميذ: هذا يؤيد ما قلناه من أنه لا دخل لصفات المخبرين في باب التواتر، فاحفظ، فسيأتي ما يُحال به علينا. (فائدة): أي هذه فائدة عظيمة يجب أن تحفظ ليتميز المتواتر عن غيره. (ذكر ابن الصلاح) وهو الإمام الجليل المتفَق على جلالته في هذا الفن. (أن مثال المتواتر على التفسير المتقدم) أي المذكور في ضمن المتن والشرح. (يَعِزّ وجودهُ) أي يَقِلُّ بحيث لا يكاد يوجد. (إلا أن يُدعَى) بصيغة المجهول. (ذلك) أي المتواتر. وقيل: يَعِزّ بمعنى يعدم، فالاستثناء منقطع، أي لكن ادعاء التواتر(1/186)
ممكن. (في حديث " مَنْ كَذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ") لرواية أزيد من مئة صحابي له، وفيهم العشرة المبشرة، ثم لم تزل رواته في أزدياد مع اجتماع الشروط فيه. (وما ادعاه) أي ابن الصلاح (من العزة) أي القلة، ومن: بيان ل: ما (ممنوع، وكذا ما ادعاه غيره) كابن حبان والحَازِمي. (من العدم لأن ذلك) أي كلاً من الادعائين (نشأ عن قِلّة الاطلاع على كثرة الطرق، وأحوال الرجال وصفاتهم) عطف تفسير. قال التلميذ: تقدم أن التواتر ليس من مباحث علم الإسناد، وأنه لا يُبْحَث عن رجاله، وحينئذ فلو سُلم قِلةُ اطلاعِ مَن ذكرهم المصنف على أحوال الرجال، وصفاتهم، لم يوجب ما ذكره بقوله: (المقتضية لإبعاد العادة) الأولى لإحالة العادة. (أن يتواطؤا على الكذب أو) أن. (يحصل) أي الكذب. (1/187)
(منهم اتفاقاً) وقد أجيب بأنّ ذلك إنما ذُكر لتأكيد عدم تواطئهم على الكذب، وليس بشرط في المتواتر. كذا في " التلويح ". فقوله: / المقتضية صفة لكلٍ من كثرة الطرق، وأحوال الرجال. والأظهر: أن صفات الرجال عنده أيضاً قد تؤثر في حصول التواتر، فإنها كثرة معنوية كما سبق عنه أن الصفات قد تقوم مقام الذات (ومن أحسن ما يُقَرَّر به كونُ المتواتر موجوداً وجودَ كثرةٍ في الأحاديث) أي وجوداً كثيراً، بإضافة الموصوف إلى الصفة، مفعول مطلق لموجود. (أن الكتب المشهورة) بفتح أن، مبتدأ خبره ومن أحسن. (المتداولة بأيدي أهل العلم شرقاً وغرباً) قال التلميذ: لقائل أن يقول: البحث في وجود المتواتر لا في إمكان وجوده (المقطوعَ)، بالنصب (عندهم بصحة نسبتها إلى مصنفيها) قال التلميذ: إنْ سَلُمَ القطع فهو بنفس النسبة / 18 - ب / لا بصحتها على ما لا يَخفَى. أقول: وفيه أيضاً أن هذا إنما يُثبِتُ التواتر المعنوي، لا اللفظي، والكلام فيه. وغاية ما يفيد بوجود التواتر اللفظي بالنسبة إلى صاحب الكتاب، كالبخاري مثلاً لا ما بعده إلى النبي صلى الله عليه وسلم، بل ومَن حدث من غالب المصنفين لا يبلغ مبلغاً تحيل العادة تواطؤهم على الكذب. (1/188)
(إذا) خبرُ أنّ. (اجتمعت) أي الكتب. (على إخراج حديث وتعددت طرقه تعدداً تُحِيل العادةُ تواطؤهم على الكذب... إلى آخر الشروط، أفاد) أي الاجتماع المفهوم من قوله: إذا اجتمعت. (العلمَ اليقينيّ بصحة نسبته إلى قائله). قال التلميذ : دعوى مجردة، فلا تفيد في محل النزاع. (ومثل ذلك في الكتب المشهورة كثير) قال السخاوي: ذكر شيخنا من الأحاديث التي وُصِفَتْ بالتواتر: حديثَ " الشفاعة "، " والحوض "، وأنّ عدد رواتهما من الصحابة زاد على الأربعين. وممن وصفهما بذلك عِياض في " الشفا ". وحديث: " مَنْ بنى لله مسجداً "، " ورؤية الله في الآخرة " (1/189)
و " الأئمة من قريش "، وكذا ذَكَر عِياض في " الشفا " حديث " حَنين الجِذْع ". وابن حَزْم: حديث: " النهي عن الصلاة في مَعَاطِن الإِبل "، و " عن اتخاذ القبور مساجد ". وابن عبد البرّ: حديث " اهْتَزّ العرش لموت سَعْد بن مُعَاذ "، وغيره، وحديث: " انشِقَاق القمر ". والنُّزُول. وابن (1/190)
بَطّال: حديث: " النهي عن الصلاة بعد الصبح، وبعد العصر " والشيخ أبو إسحاق الشِّيرَازِي قال بعد ذكر الأحاديث المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم في غسل الرجلين لا يقال إنها أخبار آحاد لأن مجموعها أفاد تواتر معناه. وكذا ذكر غيره في التواتر المعنوي: " كشجاعة عليّ " و " جُود حَاتِم "، و " أخبار الدجّال ". انتهى. وفيه: أنّ المانعين إنما منعوا التواتر اللفظي، والمثْبِتين جَوّزوا التواتر المعنوي، فالخلاف لفظي والله أعلم. وبه اندفع مدافعة التلميذ للشيخ. ثم جملة الفائدة وقعت معترضة بين المتعاطفين حيث قال: (والثاني:) أي من الأقسام الأربعة
1 (الآحاد)
(وهو أول أقسام الآحاد) أي المقابلة للمتواتر، (ما) موصولة، أو موصوفة. أي حديث (له طرق محصورة) أي أسانيد معينة. (بأكثر من اثنين) بأن يروي جماعة: ثلاثة أو أكثر عن جماعة، يعني كلّ منهم عن شيخه. وقال السخاوي: أي عن بعض رواته، أو في جميع / طبقاته (1/191)
(المشهور والمستفيض)
(وهو المشهور) قيل جملة: وهو أول أقسام الآحاد، لا تحمل على الثاني، فالأولى أن يقال: والثاني ماله طرقٌ محصورة بأكثر من اثنين، وهو أول أقسام الآحاد، ويترك الواو من قوله: وهو المشهور. وأجيب بأن قوله: ماله طرق... الخ، خبر لقوله: والثاني، وإن كان الخبر في المتن هو قوله : المشهور. وقوله 19 - أ /: وهو أول أقسام الآحاد، جملة معترضة بين المبتدأ والخبر، فظهر حسن الواو في قوله: وهو المشهور. والأظهر أنّ الثاني مبتدأ خبره المشهور على ما في المتن، وهو أول... الخ جملة معترضة، وما له طرق بدلّ من: أول أقسام، وأعاد وهو، لطول الفصل. (عند المحدثين) احتراز عن المشهور على ألسنة العامة. (سُمِّي بذلك لوضوحه) أي شهرته لكون رواته أكثر من اثنين. (وهو المستفيض على رأي جماعة) لفظه رأي في المتن منِّونٌ، وفي الشرح مضاف، وهو غير مُستحسن في المزج، لكن لمّا كان الكتابان بمنزلة واحدة (1/192)
ساغ، ومع هذا كان الأولى أن يقول: لجماعة. (من أئمة الفقهاء) من تبعيضية، أو بيانية. والمراد من أئمة الفقهاء: الأصوليون في الفقه منهم كما يُستفاد من إضافة الأئمة إلى الفقهاء المقصود بهم علماء الفروع، فالإضافة بمعنى اللام. (سُمِّي) أي النوع الثاني وهو المشهور (بذلك) أي بالمستفيض (لانتشاره) أي اشتهاره بين الرواة، (من فاض الماء) أي كثُر حتى سال على طرف الوادي. (يفيض فيضاً) قال في " شمس العلوم ": أي زاد حتى خرج من جوانب الإناء. وفي " التاج ": استفاض الخبر أي شاع، واستفاض الوادي شجراً إذا اتسع وكثر شجره. (ومنهم) أي من أئمة الفقهاء، أو من المحدثين، أو من مجموعهم. (من غَايَرَ) أي أظهر المغايرة. (بين المستفيض، والمشهور بأنّ المستفيضَ يكون) أي انحصار كثرة طرقه. (في ابتدائه وانتهائه) وزاد السخاوي: وفي ما بينهما، فكان الأولى أن يقول المصنف: من ابتدائه إلى انتهائه. (سواءً، والمشهور أعمّ من ذلك) أي مما ذكر وغيره، بحيث يشمل ما كان أوله منقولاً عن الواحد كحديث " إنّما الأعمال ". وإن انتقد ابن الصلاح في التمثيل به، ولا انتقاد بالنظر لما اقتصر عليه في تعريفه، إذ الشهرة فيه نِسبية. وقد ثبت عن أبي إسماعيل الهَرَويّ أنه كتبه عن سبع مئة رجل عن يحيى بن سعيد. واعتنى الحافظ أبو القاسم بن مَنْدَه بجمعهم وترتيبهم بحيث جمع نحو النصف من ذلك ذكره السخاوي. (1/193)
(ومنهم مَن غاير على كيفية أخرى) وهي أن المستفيض: ما تلَّقته الأمّة دون اعتبار عدد، ولذا قال أبو بكر الصيرفي: إنه هو والمتواتر بمعنى واحد. قال السخاوي: ونحوه قول شيخنا في المستفيض. (وليس) أي المستفيض. (من مباحث هذا الفن) يعني كما في المتواتر لما مر أنه لا يُبْحَث فيه عن صحة الرجال، وضعفهم، بخلاف المشهور، فإنه قد اعتُبر فيه هذا العدد المخصوص. والأظهر أن ما تلقاه علماء الأمة بالقَبول، كحديث البخاري، وهو أعم من المتواتر وغيره. (ثم المشهور يُطْلَق)، أي كثيراً (على ما حُرِّر)، أي ذُكِر وقُرِّر. (ههنا) / 19 - ب / وفي نسخة: هنا، بدون هاء التنبيه. (وعلى ما اشتهر) / أي وقد يطلق أيضاً على حديث اشتهر (على الألسنة) أي ألسنةِ العوام. (فيشتمل) أي الحديث بالإطلاق الثاني (على ماله) وفي نسخة صحيحة: فيشمل ماله (إسناد واحد فصاعداً) أي ما لم يجتمع فيه شروط المتواتر والمشهور عند الخَواص. (بل) يُطَلق أي كثيراً بالإطلاق الثاني (على ما لا يوجد له) (1/194)
وفي نسخة صحيحة: بل مالا يوجد له. (إسناد) أي ثابت سواء كان له إسناد موضوع، أو لا يكون له أصل. (أصلاً)، مثل السخاوي: ب " علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل " و " وُلِدْتُ في زمن الملك العَادل كِسرى ". و " تسليم الغزالة فقد اشتهر على الألسنة في " (1/195)
المدائح النبوية. انتهى. وقد جمعت غالبه في جزء مما اتفق عليه الحفاظ على أنه موضوع أو لا أصل له، ومنه ما اشتهر على ألسنة العلماء، وتنازع في معناه الفضلاء: " حُبَّ الهِرَّة من الإيمان ". وأما حديث " الغزالة " فقد تَبع السخاويُّ ابنَ كثير في أنه لا أصل له، والصحيح أنه ثابت لأنه رواه البيهقي من طرق، وضعفه جماعة من الأئمة لكن طرقه يقوي بعضها بعضاً، وذكره القاضي (1/196)
عِياض أيضاً في الشفا، ورواه أبو نُعَيم في الدلائل، لكن بإسناد فيه مجاهيل، وبالجملة فهو ضعيف أو حسن لا موضوع، ولا مما لا أصل له. وقد نقل القسطلاني عن السخاوي أيضاً أنه قال: لكنه ورد في الجملة في عدة أحاديث يَتَقوى بعضها ببعض، أوردها شيخ الإسلام ابن حجر العسقلاني والله سبحانه وتعالى أعلم.
(العزيز)
(والثالث: العزيز، وهو أن لا يرويه) الأظهر هو ما لا يرويه. (أقل من اثنين عن اثنين) قال السخاوي: فيشمل ما وجد في بعض طبقاته ثلاثة فأكثر انتهى. لأنّ تواليَ رواية اثنين فقط عن اثنين فقط لا تكاد توجد، ولذا نوقش في عبارة الشرح فقيل: الأولى أن يقول: وهو ما يرد باثنين في بعض المواضع، ولا يرد بأقل في موضع حتى لا يصدق على المتواتر والمشهور. وأيضاً يرد على ما قال: أنه يُتَوهَّم منه أنّ اثنينية المروي عنه شرط، وينبغي أن لا يرد، فلو قال: أقل من اثنين عن أقل من اثنين لم يلزم ذلك. (1/197)
ثم أعلم أنّ العزيز اختُلف في تفسيره فقال ابن مَنْدَه - وقرره ابن الصلاح والنووي -: أنه ما يرويه اثنان، أو ثلاثة، فعلى هذا يكون بينه وبين المشهور عموم وخصوص من وجه، وخَص بعضهم المشهور بالثلاثة، والعزيز بالاثنين، واختاره المصنف، ولذا قال فيما سبق: أو بهما فقط. (وسُمِّي) أي الحديث المذكور (بذلك) أي بالعزيز (إما لقلّة وجوده) فإنه يقال: عَزّ الشيء يعِزُّ بكسر العين في المضارع عِزّاً وعزازة إذا قلّ / 20 - أ / بحيث لا يكاد يوجد. (وإما لكونه عَزّ) من قولهم: عَزّ يَعزُّ بفتح العين في المضارع عِزاً وعَزازة أيضاً، إذا اشتد وقوي، ومنه قوله تعالى: {{فعززنا بثالث}} أي قويناهما به. (أي قوي) أي الحديث، (لمجيئه) بلام العلة، وفي نسخة: بمجيئه أي بسبب ورود ذلك الحديث بعينه (من طريق) أي إسناد (آخر) وفي نسخة: أخرى، بناء على أنّ الطريق كالسبيل يذكَّر ويؤنثُ على ما في كتب اللغة (وليس) أي وكون الحديث عزيزاً ليس (شرطاً للصحيح) إذِ الصحيح / ما وُجِد له إسناد صحيح، ولو واحداً على الصحيح. (خلافاً لمَن زعمه وهو) أي مَن زعمه (أبو علي الجُبَّائي) بضم الجيم، وتشديد الموحدة، وهمزة قبل ياء النسبة (من المعتزلة) أي من جملتهم، بل من أئمتهم. (وإليه) أي إلى هذا القول، (يوْمئ) - بسكون الواو، وهمزة في آخره (1/198)
ويدلّ أي يشير (كلام الحاكم أبي عبد الله في " علوم الحديث ") اسم كتاب له، (حيث قال:) أي فيه (الصحيح هو الذي يرويه) وفي نسخة: الصحيح أن يرويه (الصحابي) أراد به الجنس. ولذا قال: (الزائل عنه) أي المرتفع عن الصحابي (اسم الجهالة) أراد بها ضد المعرفة التامّة المعتبرة في حد الصحيح، (بأن يكون له) أي للصحابي. وقيل: للحديث الذي رواه الصحابي، (راويان ثم يتداوله) أي يتناوبه في الرواية عنه (أهل الحديث) أي الحُذّاق من المحدثين (إلى وقتنا) أي في كل طبقة وهو يؤيد أنّ ضمير له للحديث، كما يقوِّيه قوله: (كالشهادة على الشهادة) أي كتداول الشهادة على الشهادة، بأن يكون لكل شاهدِ أصلٍ شَاهِدَا فرعٍ، فإنه يجب في الشهادة على الشهادة بأن يكون لكلٍ من الشاهدين شاهدان على شهادته. ومما يؤيد أن ضمير له للصحابي، أنّ قوله: بأن يكون تفسيرٌ لقوله: الزائل عنه اسم الجهالة، ثم إذا كان ضمير له للصحابي كما (1/199)
هو الظاهر فلا تكون اثنينية الصحابي معتبرة في الصحيح، فُيشْكِل الاعتذار الآتي عن تفرُّد عمر في الجواب وإن جعل للحديث على ما قيل دفعاً لهذا الإيراد فلم يظهر وجه تخصيص السؤال بتفرد عَلْقَمَةَ عن عمر، لكن الأمر يسهل. وسيجيء لهذا مزيد تحقيق، ومزية تدقيق، وقد أشار المصنف إلى ضعف احتمال الضمير للحديث بقوله: وإليه يومئ كلام الحاكم، وتوضيحه أنّ كلام الحاكم يحتمل احتمالين. أحدهما: أن يكون الضمير في قوله: أن يكون له راويان راجعان إلى الحديث، ويكون الباء في قوله: بأن يكون بمعنى مع، فعلى هذا: الصحيح الذي رواه عن الصحابي المشهور بالرواية راويان، ورواه عن هذين الروايين أربعة وهَلُمّ جَرّاً، ولا يخفي بُعْدُهُ. وثانيهما: أن يكون الضمير راجعاً إلى الصحابي، فعلى هذا: الصحيح الذي / 20 - ب / رواه الصحابي المشهور بأن يكون له راويان وإن كان يروي الحديث عنه أحدهما، وكذا لكلِّ مَن يروي عنه راويان، وإن كان يروي الحديث عنه أحدهما. ويكون الغرض من هذا الشرط تزكية الراويين، واشتهار ذلك الحديث بصدوره عن قوم مشهورين بالحديث والرواية عن مشهورين بهما. وهذا هو الظاهر، وهو المعتمد عند أهل الحديث على الصحيح.(1/200)
(وصرّح القاضي أبو بكر بن العربي في " شرح البخاري " بأنّ ذلك) أي كون الحديث له راويان، (شرط البخاري) أي تصحيحه، أو في صحيحه. (وأجاب) أي القاضي (عمَا) أي عن اعتراض (أُورِد عليه) أي على البخاري بفرض صحته، أو على القاضي لتصريحه بذلك (من ذلك) أي من أجل هذا الاشتراط (بجواب) متعلق ب: أجاب، (فيه) أي / في جوابه (نظر) أي تأمل وبحث، (لأنه) أي القاضي (قال) أي في جوابه عما يَرِد عليه. (فإن قيل: حديث " الأعمال بالنيات ") أي مع كونه صحيحاً بلا نزاع. (فردٌ) أي منفرد في طبقة الصحابة، والتابعين. وبيَّنه بقوله: (لم يروه) أي ذلك الحديث (عن عمر) رضي الله تعالى عنه. (إلا عَلْقَمَة ! قال: قلنا: قد خطب به عمر على المنبر بحضرة الصحابة) أي بحضورهم عند منبره، (فلولا أنهم يعرفونه) أي الحديث (لأنكروه) فيه: أنه لا يلزم من سكوتهم وعدم إنكارهم وجود سماعهم، وعدم تفرد عمر كما لا يخفى، مع أنه لو سُلِّم أنه يلزم من سكوتهم عدم تفرد عمر لا نُسَلِّم أنه يلزم عدم تفرد علقمة كما هو ظاهر. ولذا، قال التلميذ: حاصل السؤال: أنه لم يروه عن عمر إلا واحد(1/201)
وحاصل الجواب: أنه قد رواه عمر وغيره، فلا يحسن هذا الجواب للسؤال بوجه. قلت: قد يُوَجَّه بأن خُطبة عمر رضي الله تعالى عنه ما كانت خاليةً عن حضور التابعين، فبالنسبة إلى التابعي بل إلى صحابي لم يسمع من النبي عليه الصلاة والسلام يخرج عَلْقَمَة عن التفرد، وبالنسبة إلى الصحابة الذي سمعوه من النبي عليه الصلاة والسلام على تقدير سماعهم يخرج عمر عن التفرد. ولعله خاطبهم وقال: أما سمعتموه، أو وقد سمعتم رسول الله عليه الصلاة والسلام، قال كذا، فحينئذ عدم إنكارهم معرفةٌ بالحديث وتصريح بالمقصود، هذا ما خطر لي بالخاطر الفاتر والله أعلم بالسرائر والظواهر. فيكون حاصل كلام القاضي: جواباً عن سؤالين: أحدهما مذكور والآخر مقدر. بل يمكن أن السؤال يتوجه على وجه يَرِد على تفرُّدِ عمر وعلقمة جميعاً بأن يقال: المراد من قوله: فردٌ أنه فرد بالنسبة إلى راويه الأول، وهو عمر، ومن قوله: لم يروه، أنه فرد بالنسبة إلى علقمة، نعم، يبقى / 21 - أ / عليه تفرد مَن بعد علقمة ؛ ولذا قال المصنف: (كذا قال) أي القاضي في الجواب عن السؤال الوارد عليه. (وتُعُقِّب) بصيغة المجهول أي اعترض عليه، مِن تَعَقَّبْتُ الرجل إذا أخذته بذنبٍ صَدَرَ منه. وقيل التعُّقب إبطال الكلام، مِن تَعَقَّب على فلان إذا مشى على ممشاه، وجعل عَقِبه موضوع عَقِبه كأنه أخْرَبَ أَثَر مشيه في طريقه، أي وأبطل جوابه. (1/202)
(بأنه لا يلزم من كونهم سكتوا عنه أن يكونوا سمعوه من غيره) وقد سبق ما يفيده. (وبأنَّ هذا لو سُلِّم في تفرُّد عمر رضي الله تعالى عنه مُنِع في تفرد عَلْقَمَة عنه) يعني لو سُلِّم أنّ هذا الجواب يمنع تفرد عمر، لكن لا يمنع تفرد علقمة. وليس معناه أن التفرد ممنوع كما يُتَوَهّم من ظاهر العبارة. وقال التلميذ: ظاهر التعقب أنه على اشتراط التعدد في الصحابي. وظاهر كلام الحاكم، وابن العربي أنه لا يشترط التعدد في الصحابي، وإنما يشترط في مَن بعده. أقول: قد خفت المؤنة وحَقّتْ المعونة. (ثم تفرد محمد بن إبراهيم) أي ثم منع في تفرده. (به) أي بهذا الحديث (عن علقمة، ثم تفرد يحيى بن سعيد) أي منع في تفرده. (به) أي بالحديث. (عن محمد) أي ابن إبراهيم، ثم اشتهر عن يحيى / حتى كتبه عنه سبع مئة. (على ما هو) أي المنع المذكور، أو التفرد المسطور بناء على ما هو (الصحيح المعروف) أي المشهور. (عند المحدثين) ولعله أراد به الجمهور. قال الحاكم: لم يصح هذا الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام إلا من رواية عمر رضي الله تعالى عنه، ولا عن عمر إلا من رواية علقمة، ولا عن علقمة إلا من رواية محمد بن إبراهيم، ولا عن محمد إلا من رواية يحيى بن سعيد الأنصاري، وعن يحيى انتشر. وروى عنه أكثر من مئتي إنسان أكثرهم أئمة. فلذا قال الأئمة: ليس هو (1/203)
متواتر، وإن كان مشهوراً عند الخاصة والعامة، لأن فَقَدَ شرطً التواتر في أوله كذا في " شرح مسلم ". قلت: وكذا فَقَدَ شرط المشهور المصطَلَحِ في أوله كما سبق. قال البِقَاعي في " النُكَت الوَفِيّة بما في شرح الألفية ": قوله: وتعقب... الخ، غير مصيب للمِحَزِّ أي المِقْطَع من الحَزِّ، وهو القطع. والصواب في تعقبه أن يقال: أنت فرضت أن المعترض أورد عليك تفرُّد علقمة به عن عمر رضي الله تعالى عنه، ثم أجبت بما ظننت أنه ينفي تفرُّد عمر به، فلا أنت أجبت عما أورده السائل، ولا أصبت فيما ظننت، فإن سكوت المُخْبَر عند إخبار مخبِره له لقَبُول للخبر، لا لكونه شاركه في روايته عمن رواه عنه. انتهى. وقد عرفتَ ما فيه، ودُفع ما ينافيه. ثم لما أحسَّ المصنف بما قد يرد عليه من سؤال متضمن لاعتراض بأن يقال: إنّ الحديث روي عن غير علقمة، ومنه غير محمد، ومنه غير يحيى، فلا يكونون متفردين فأجاب / 21 - ب / بقوله: (وقد وردت لهم) أي للمتفردين في ذلك الحديث. (متابَعَات) بفتح الموحدة، وهي جمع المتابَعَة، ويأتي معناها في محلها إن شاء الله تعالى. (لا يعتبر) أي الحديث (بها) أي بتلك المتابَعات. قال التلميذ: أفاد المصنف في تقريره هذا بأن هذا إشارة إلى أن المتابعات التي وردت لهذا الحديث لا تُخْرِجه (1/204)
عن كونه فرداً. (لضعفها، وكذا نُسَلِّم) يحتمل أن يكون من تتمة كلام المتعقب، أو من زيادة إفادة المؤلف. (جوابَه) أي جواب القاضي. (في غير حديث عمر رضي الله تعالى عنه) أي في الأحاديث التي تفرَّد بها غير عمر من الصحابة، وغير علقمة من التابعين وأتباعهم مما أورده البخاري وغيره من أرباب الصحاح. (قال ابن رُشَيد:) بصيغة التصغير. (ولقد كان يكفي القاضي) منصوب على أنه مفعوله. (في بطلان ما ادّعى، أنه) أي عدم التفرد أو العزيز وهو بدل من ما. (شرط البخاري) أي كما قيل. (أول حديث) مرفوع على أنه فاعل يكفي. (مذكور فيه) أي في البخاري يعني فإنه مروي بالآحاد، وهو حديث: " الأعمال بالنيات " فإنه من أوائل حديث البخاري وليس المراد أنه أول حقيقي، فإنه هو حديث بدء الوحي. قال البِقاعي: وكذا آخر حديث مذكور فيه وهو: " كلمتان خفيفتان على اللسان ". فإن أبا هريرة تفرد به عن النبي صلى الله عليه وسلم. وتفرد به عنه أبو زُرْعَة، وتفرد به عنه عُمَارة بن القَعْقَاع، وتفرد به عنه محمد بن الفُضَيل، وعنه انتشر فرواه عنه إشْكَاب، وغيره. (1/205)
(وادَّعى ابن حِبّان) بكسر الحاء، وتشديد الموحدة (نقيض دعواه) أي ضد دعوى القاضي (فقال) أي ابن حِبّان: (إن رواية اثنين عن اثنين) أي وهكذا (إلى أن ينتهي) أي إسناد الحديث. (لا توجد) أي تلك الرواية في الحديث الصحيح، أو في مطلق الحديث (أصلاً) أي لا قليلة، ولا كثيرة. (قلت:) قائله المصنف (إن أراد) أي ابنُ حِبّان (أن رواية اثنين فقط عن اثنين فقط لا توجد أصلاً، فيمكن) أي عقلاً، ونقلاً (أنْ يُسَلّم) أي ما أراد به. (وأما صورة العزيز التي حررناها) أي ذكرنا حدّها، وقررناها. (فموجودة بأن لا يرويه أقلّ من اثنين) عمن أقل وفي نسخة: (عن أقل من اثنين) حقّ العبارة تأخير قوله: فموجودة إلى هنا، وأما على كلامه فتقديره: فهي موجودة، وهي جملة معترضة بين المبيِّن، والمبين. (ومثاله:) أي مثال العزيز على ما قررناه، أو مثال ما حررناه. والمراد بالمثال الصورة الجزئية التي هي فرد من مفهوم القاعدة الكلية. (ما رواه الشيخان) أي البخاريُّ، ومسلم كلاهما. (من حديث أَنس والبخاري) أي وحده / 22 - أ /. (من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يُؤْمِن أَحَدُكُم ") أي حقيقة الإيمان، أو كماله. (1/206)
(حتى أكونَ أحَبّ إليه من وَالدِهِ وَوَلَدِه ") أي حباً اختيارياً مستنداً إلى الإيمان الحاصلِ من الاعتقاد، لا حُبَّاً طبعياً، لأن حُبّ الإنسان نفسَه ووالدَه وولدَه مركوزٌ في الطبع خارجٌ عن حد الاستطاعة. والمعنى لا يصدّق بي حتى يُفدي في طاعتي نفسَه، ويُؤثِر على هواه رضائي، وإن كان فيه هلاكُهُ (الحديث) بتثليث المثلثة. وتمامه: " والناسِ أجمعين ". (ورواه) أي الحديث كما في الصحيحين (عن أنس رضي الله عنه، قتادَة وعبد العزيز بن صُهَيب) بالتصغير. (ورواه عن قَتَادة شُعبة، وسعيد، ورواه عن عبد العزيز إسماعيل بن عُلَيّة) بضم العين، وفتح اللام، وتشديد التحية (وعبدُ الوَارِث). (ورواه عن كلٍ) أي كل من الراويين المذكورَين. (جماعة) أي أكثر من اثنين. هذا، وكأنه لم يذكر رواة أبي هريرة اكتفاءً بما ذكر من رواة أنس، أو لعدم تعدد رواته فحينئذ يقال: إنْ كان المعتبر في العِزّة اثنينية الصحابي، وأن يكون لكل منهما راويان وهكذا، ينبغي أن يبين راوي أبي هريرة أيضاُ. وإن لم تعتبر فما (1/207)
الحاجة إلى ذكر أبي هريرة رضي الله عنه؟ والظاهر: أنّ تعدد الصحابي غير معتبر في العِزّة ؛ لأنّ هذا الحديث عزيزٌ عند مسلم مع أن صحابيه واحد.
(الغري)
(والرابع الغريب وهو ما) أي حديث بحسب إسناده. (يتفرد بروايته شخص واحد) أي عن كل واحد من الثقات، وغيرهم. (في أي موضع وقع التفرد به من السند) أي من مواضع السند. وفي نسخة: في السند أي في طُرُق السند الذي فيه الصحابي أو التابعي، أو في أثنائه. (على ما سيُقَسَّم إليه) أي في بحث الغَرابة. (الغريب المطلق) خبر مبتدأ محذوف. (والغريب النِسْبيّ) بكسر النون، وسكون السين، عطف عليه. والجملة بيان لما سيُقَسَّم، / وفاعله عائد إلى الغريب. ولو قال: من الغريب... الخ لكان أوضح، وفي بعض النسخ: على ما سيُقَسَّم إلى الغريب المطلق... الخ فما مصدرية. (1/208)
(وكلها أي الأقسام الأربعة المذكورة) وهي المتواتر، والمشهور، والعزيز، والغريب. (سوى الأول) أي القسم الأول. (وهو المتواتر آحاد) بهمزة ممدودة أي يسمى آحاداً، جمع أحد، ففي القاموس الأحَدُ بمعنى الواحد، جمعه آحاد، أو ليس له جمع. ويقال: ليس للواحد تثنية، ولا للاثنين واحد من جنسه وذكر الطِّيبي عن الأزهري أنه قال: سئل أحمد بن يحيى عن الآحاد أنه جمع أَحَد فقال: معاذ الله ليس للأحد جمع / 22 - ب /. ولا يَبْعُد أن يقال: إنه جمع واحد، كالأشهاد جمع شاهد. (ويقال لكلِّ منها) أي من الآحاد. (خبر واحد) بالإضافة بقرينة خبر الواحد، فيكون حمل الآحاد على نفس الأقسام الثلاثة بالتسامح، فإنّ الآحادَ الرواةُ لا المروي، ويحتمل أن يقال: المضاف محذوف في الكلام أي خبر آحاد.
(تعريف الآحاد وأقسامه)
(وخبر الواحد في اللغة: ما يرويه شخص واحد، وفي الاصطلاح) أي اصطلاح المحدِّثين: (ما لم يَجْمَع شروطَ التواتر) وفي نسخة: المتواتر أي كل خبر لم ينته إلى التواتر سواء رواه واحد، أو اثنان، أو جماعة. ويسمّى أيضاً خبرَ الواحد باعتبار أقلّ المراتب، أو اعتبار اشتمال ما في المراتب على الواحد، أو باعتبار إفادته الظنّ (1/209)
كخبر الواحد. أو تسمية الكل بخبر الآحاد باعتبار البعض، أو سُمِّي الغريب خبرَ الواحد لوحدة راويه في بعض المواضع. وأما المشهور، والعزيز فإنما سُمِّيا به لمشابهتهما الغريب في عدم شروط التواتر. قال التلميذ: الذي تحصّل أن الخَبر ينقسم إلى متواتر، وآحاد. وأنّ الآحاد: مشهور، وعزيز، وغريب. وأنّ المشهور: ما روي مع حصر عدد بما فوق الاثنين. وأنّ العزيز: هو الذي لا يرويه أقل من اثنين. وأنّ الغريب: هو الذي يتفرد به شخص واحد في أيّ موضعٍ وقع التفرد به. وقد تقدم أنّ خلاف المتواتر قد يَرِدُ بلا حصر عدد، فهو خارج عن الأقسام غيرُ معروف الاسم. انتهى. والظاهر: أنه يسمّى بالمشهور الذي هو فردٌ من أفراد الآحاد لقولهم: الآحاد ما لم ينته إلى التواتر. غايته أن يكون مشهوراً لغوياً، ولقلته ونُدرته لم يوضع له اسم على حِدة، فالمناقشة لفظية لا حقيقتة. (وفيها أي في الآحاد) أي في جملتها خاصة إذ لا شك في قبول التواتر (المقبول) وهو ما يوجد فيه صفة القبول من عدالة الراوي وضبطه. (وهو ما يجب العمل به) قال التلميذ: هذا حكم المقبول، وهو أثره المترتب عليه، فلا يصح تعريفه به بل هو الذي ترجّح صدقُ المخبِر به، لقوله في المردود: هو الذي لم يَرْجُح... الخ وهو يشمل المستور، والمختلَفَ فيه بلا ترجيح، فاحفظ هذا فربما يأتي ما يخالفه. قلت: هذا تعريف بالخاصة فهو رَسْمٌ. وقوله: (عند الجمهور) احتراز عن المعتزلة، فإنهم أنكروا وجوبَ العمل (1/210)
بالآحاد، وكذا القَاشَانِي، والرافضة، وابن داود. وقولهم مردود، لإجماع الصحابة والتابعين على وجوبِ العمل بالآحاد بدليل ما نُقل عنهم من الاستدلال / بخبر الواحد، وعملهم به في الوقائع المختلفة التي لا تكاد تُحصى. وقد تكرر ذلك مرة بعد أخرى وشاع وذاع بينهم ولم يُنكِر عليهم أحد، وإلا لَنُقِلَ، وذلك يوجب العلم / 23 - أ / العادي باتفاقهم كالقول الصريح.
(تعريف المردود)
(و فيها) أي في الآحاد. (المردود: وهو الذي لم يَرْجُح صدقُ المخبِر) بكسر الباء (به) أي بالخبر سواء رجح كذبه بأن غلب على الظن كذبه، أو لم يرجح صدقه ولا كذبه، فكلُّ منهما مردود، أما الأول: فظاهر. وأما الثاني: فلأنه في حكم المردود كما سيجيء. (لتوقف الاستدلال بها) أي بالآحاد. (على البحث عن أحوال رواتها) من العدالة، والضبط ونحوهما. (دون الأول) أي القسم الأول. (وهو المتواتر) لعدم توقف الاستدلال به على البحث المذكور، لأن مداره على التكثير غير المحصور، وإذا كان الأمر كذلك (فكله) ضميره راجع إلى المتواتر لأنه أقرب، أو إلى الأول لأن الأصل. أي فجميع أفراده أو أنواعه. (مقبول) أي قَبولاً قطعياً لا ظنياً . (لإفادته) أي الخبر المتواتر. (القطع) أي الجزم. (بصدق مخبره) أي مخبِر المتواتر. وكأن توحيد المخبر باعتبار القوم، أو الحزب، أو الجمع، أو على أن الإضافة جنسية (بخلاف غيره) أي غير خبر المتواتر. (من أخبار الآحاد) من بيانية أي بخلاف غير المتواتر الذي هو خبر الآحاد، (1/211)
فإنه يتوقف الاستدلال به على البحث عن أحوال رواته فحينئذٍ يُقبل بعضه، ويُردُّ بعضه على ما سبق من وصف المقبول والمردود. قيل: إنْ جُعل قوله: لِتَوقُف علةً للانحصار المفهوم من تقديم فيها على ما هو الظاهر، يكون قوله: دون الأول قيداً للتوقف بحذف المضاف، أي دون الاستدلال بالأول. وعلى هذا ينبغي أن يؤخر قوله: فكله مقبول، عن قوله: لإفادته، لأنه تعليل لعدم توقف الاستدلال بالمتواتر على البحث المذكور. ومقبولية كله مترتبة على هذه الإفادة، وإن جُعل علة لانقسام الآحاد إلى المقبول والمردود لا للانحصار، كان قوله: دون، قيداً ل: فيها أي لا ينقسم الأول. وعلى هذا يحتمل الفاء في قوله: فكله مقبول أن يكون تفسيراً لهذا الحكم وتعليله. وعلى هذا قوله: لإفادته تعليل للقَبول لكن لا يظهر لتقديم الخبر أي فيها فائدة إذ قصد الاهتمام غير مناسب بالمقام كما لا يخفى على ذوي الأفهام. وأيضاً لم يكن على هذا تعرض لعلة عدم انقسام المتواتر. انتهى ونسب إلى التلميذ، لكن ما وجدناه في حاشيته المؤلَّفَة. وقد علمت أن الأول هو المختار كما أشرنا إليه في أثناء حل كلام الشيخ. (لكن إنمّا وَجَبَ العمل) أي دون الاعتقاد. (بالمقبول منها) أي من الآحاد. (لأنها) تعليل لما يُفهم من قوله: ولكن إنما وجب العمل بالمقبول مِن انقسام الآحاد إلى المقبول وغيره، على وجه يكون إشارة إلى وجه علة توقف الاستدلال بها / 23 - ب / على البحث للانقسام، أو الانحصار على ما وقع في المتن إشارة إلى وجه وجوب العمل بالمقبول منها، وهو أنّ الآحاد. (1/212)
(إما إن يوجد فيها) إي في رجالها /. (أصل صفة القبول، وهو) أي الأصل المذكور. (ثبوت صدق الناقل) المراد ثبوت صدقه مطلقا لا بالنظر إلى خصوص هذا الخبر، وإلا لكان صدق الخبر مجزوما به، وكذا الكلام في ثبوت الكذب. (أو أصل صفة الرد، وهو ثبوت كذب الناقل) قال التلميذ: هذا يخالف ما في تفسير المردود، أي حيث يشمل القسمين. (أو لا) أي لا يوجد أحد من الثبوتين. (فالأول:) أي ثبوت صدق الناقل (يغلب) بتشديد اللام، وفاعله راجع إلى المبتدأ، ويجوز فتح الياء مع تخفيف اللام. والعائد إلى المبتدأ محذوف أي يغلب به. (على الظن ثبوت صدق الخبر) أي صدقه فهو من باب وضع الظاهر موضع الضمير. (لثبوت صدق نافله فيؤخذ به) أي يعمل به، ويقبل خبر ناقله. وإنما قال: يغلب لأن ثبوت صدق الناقل من حيث هو لا يستلزم صدقه في الخصوص. (والثاني:) أي ثبوت كذب الناقل (يغلب على الظن) ثبوت (كذب الخبر لثبوت كذب ناقله، فيطرح) أي الخبر عن العمل، ومرتبة القبول. (1/213)
(والثالث:) وهو عدم وجود أحد الثبوتين. (إن وُجِدت) فيه (قرينة) أي حالية، أو دلالة خارجية (تُلْحِقُه) بضم التاء وكسر الحاء أي: توصله. (بأحد القسمين) أي: المقبول والمردود. (التحق) أي بأحدهما، (وإلا) أي وإن لم توجد قرينة تلحقه بأحدهما، (فيُتوقف) بضم الياء (فيه) أي في شأنه من العمل به، أو الترك، أو من القَبول، والرّد. ويؤيد الأول قوله: (وإذا توقف عن العمل به صار كالمردود) أي مشابهاً للمردود لعدم العمل به، والقبول له لكن (لا لثبوت صفة الرد) لما تقدم أنه مما لم يوجد فيه أحد الثبوتين. (بل لكونه لم توجد فيه صفة توجب القبول) وبه يندفع ما قيل: تعريف المردود: وهو الذي لم يَرْجُح صدق المخبِر به، صادق عليه فيما يفيد التشبيه لأن المراد من المردود ما وجد فيه صفة الرد لا معناه الاصطلاحي. (والله أعلم). قال التلميذ: ظاهر سَوْق كلام الشيخ أنّ قوله: لأنها... الخ، دليل وجوب العمل بالمقبول، وليس كذلك، وإنما هو دليل انقسامها إلى المقبول، والمردود. ولو كان لي من الأمر شيء لقلت بعد قوله: " الأول ": فإنْ وجِد فيهم ما يغلب ظن صدقهم، فالأول، وإلا فإن ترجح عدم الصدق، فالثاني، وإن تساوي الطرفان، فالثالث. قلت: قال الله تعالى: (ليس لكَ من الأمرِ شيء) فلو قال كما (1/214)
قلت / 24 - أ / لفاتنا ما ذكره من الفوائد المنطوية تحت عبارته، والفرائد المحتوية لمسالك إشارته. (وقد يقع فيها، أي في أخبار الآحاد) أي المفيدة للِظنّ. (المنقسمة إلى مشهور، وعزيز، وغريب ما يفيد العلم) قال القاضي في " شرح مختصر ابن الحَاجِب ": اختلف في خبر الواحد العدل، والمختار أنه يفيد العلم بانضمام القرائن. وقال قوم: يحصل بالقرائن، وبغيرها أيضاً، ويطّرد أي كلما حصل خبر الواحد حصل العلم. وقال قوم: لا يطرِد، أي قد يحصل العلم به لكن ليس كلما حصل، حصل العلم به. وقال الأكثر: لا يحصل العلم به لا بقرينة، ولا بغير قرينة. انتهى. / والمراد به العلم اليقيني. والوجه المختار أنه إذا أَخبَر ملك بموت ولد له مشرفٍ على الموت، فانضم إليه القرائن من صراخ، وجنازة، وخروج المُخَدَّرَات على حال منكرة غير معتادة دون موت مثله، كذا خروج الملك، وأكابر مملكته، فإنّا نقطع بصحة ذلك الخبر ونعلم به موت الولد نجد ذلك من أنفسنا وجداناً ضرورياً لا يتطرق إليه الشك. واعترض عليه بأنّ العلم ثَمّة لا يحصل بالخبر بل بالقرائن كالعِلم بخَجَل الخَجِل، بكسر الجيم وبفتح الخاء والجيم، ووَجَل الوَجِل (1/215)
وأجيب بأنه حصل بالخبر بضميمة القرائن، إذ لولا الخبر لجوَّزنا موت شخص آخر، وفيه أنه لولا القرائن لما حصل العلم بمجرد الخبر، بل لو قامت القرائن على خلاف الخبر كأنّ قال ملك: مات ولدي، ولم يكن له ولد مريض ولم يدخل عليه طبيب، ولم يظهر آثار الحزن، وأصوات البكاء على ما جرى به العادة، ولم تخرج جنازته، وأمثال ذلك، فإنّ القرائن تنقلب حينئذٍ وتصير سبباً لتكذيبه. ووجه قول الأكثرين أنه لا يفيد العلم مطلقاً، وإنما يفيد الظن، وإن دليلكم على امتناع إفادة العلم بلا قرينة هو لزوم تناقض المعلومين إذا أخبر شخصان بأمرين متناقضين يأبى كونه مفيداً له بقرينة لزوم تناقض المعلومين هنا أيضاً وأجيب بأنه لا ينافي الخبر مع القرائن لأن ذلك إذا حصل في قضية امتنع عادة أن يحصل مثله في نقضها، وفيه أن الكلام في الخبر مع قطع النظر عن القرائن وجوداً وعدماً. ولا شك أن يفيد العلم الظني، والله تعالى أعلم. (النظري) قيل في إسناد النظري إليه مسامحة، فإن الحاصل بالنظر إنما هو خبر آخر، وهو أنّ هذا واقع، وصادق لأنه أخبر به صادق عن صدوق وما هو كذلك، فهو واقع. وفيه أن المتواتر أيضاً يفيد العلم النظري بهذا المعنى. (بالقرائن) متعلق ب: يفيد. (على المختار) أي بناء على القول الذي اختاره المحققون كما تقدم. (خلافاً لمن أَبَى ذلك) أي ما ذكر من / 24 - ب / المختار ممن سبق ذكرهم. وقال تلميذه: المختار خلاف هذا المختار كما سيأتي بيانه. قلت: ولما سبق عنوانه. (1/216)
(والخلاف) أي الاختلاف السابق. (في التحقيق) أي في النظر الدقيق. (لفظي) قال تلميذه: التحقيق خلاف هذا التحقيق كما سيأتي بيانه. قلت: ولما سبق برهانه. قال الشيخ بعد تسليمه: أنّ الاتفاق حاصل على أنّ الآحاد إنما يفيد الظن لا اليقين. (لأن من جَوّز إطلاق العلم) أي على المعنى العام المتناول للظن قال غير متواتر مفيد للعلم ولكن (قَيَّدَهُ بكونه نظرياً) وفيه أنه يوهم أن للتقييد دخلاً في كون النزاع لفظياً. (وهو) أي النظري هو (الحاصل عن الاستدلال) وهو عنده لا يفيد إلا الظن، والقرائن مقوية مؤكدة للظن، ولا ترقّيه إلى مرتبة القطع، فالعلم النظري هو الظن القوي أطلق عليه العلم النظري. (ومن أبى الإطلاق) أي إطلاق العلم عليه. (خص لفظ العلم) أي المطلق المنصرف إلى الفرد الأكمل وهو اليقيني القطعي. (بالمتواتر، وما عداه) أي غير المتواتر كله (عنده) أي الآبي / (ظني) فالنزاع عائد إلى الإرادة من لفظ العلم لكن الأولى للمصنف أن يقول: وما عداه لا يسميه بالعلم حتى يظهر كون النزاع لفظياً. (لكنه) أي من أبى، (لا ينفي) أي لا يمنع (أنّ ما احتُفّ) بضم التاء وتشديد الفاء، أي خبر اقترن، (بالقرائن) الباء مثل الباء في قولك: ضرب زيد بعمرو، فإن القرائن فاعل معنىً بقرينة قوله فيما بعد: احتف به قرائن، ولأن الخبر أصل، والقرائن عوارض فهو بسبب حصولها (أرجح) أي أقوى. (1/217)
(مما خلا عنها) أي عن القرائن. وحاصل كلامه: أنّ مَن قال: بأن خبر الواحد يفيد العلم أراد أنه يفيد العلم النظري المستفادَ بالنظر في القرائن لا بنفس خبر الآحاد بدون النظر في القرائن. ومَن قال: بأنه لا يفيد العلم إلا المتواتر، وخبر الواحد لا يفيد إلا الظن أراد أنه بدون القرائن لا يفيد إلا الظن. ولا ينفي أن ما احتف بالقرائن أرجح مما عداه بحيث يترقى عن مرتبة إفادة الظن إلى إفادة العلم، فيكون الخلاف لفظياً. وأنت قد علمت مذهب كل من الفريقين ودليلهم، وهو يدل على أنّ النزاع بينهم معنوي، وهو الحق لأنهم قالوا: إن خبر الواحد قد يفيد اليقين فلا يبعد أن يفيد القطع. ومن أبى الإطلاق صرح بأنّ ما عدا المتواتر عنده ظنّي، فالخلاف تحقيقي. ولهذا قال تلميذه: نعم، ومع كونه أرجح لا يفيد العلم. فالحاصل عند من يقول: الآحاد لا يفيد العلم: أنّ الدليل الظني على طبقات، وليس منها ما يفيد. انتهى يعني والقرائن الخارجة لا دخل لها في نفس الخبر إذ يختلف الحكم باختلافها على ما قدمناه. / 25 - أ /.
(أنواع الخبر المُحْتفِّ بالقرائن)
(والخبر المحتفّ بالقرائن أنواع:) أي باختلاف مراتب القرائن لصحته (منها:) أي من جملة أنواعه (ما أخرجه الشيخان،) أي كلاهما (في صحيحيهما) احتراز من غيرهما من كتبهما (مما لم يبلغ حد التواتر) أي على تقدير (1/218)
أن يوجد فيهما ما يصل إلى حد التواتر. فمِن تبعيضية، ويُحتمل أن تكون بيانية ل: ما. (فإنه احتف به) أي بما أخرجه الشيخان (قرائن) أي مقويات خارجية مع قطع النظر عن تصحيحهما. (منها:) أي من القرائن. (جلالتهما) أي عظمة مرتبتهما بكمال احتياطهما في شروطهما، والتزامهما الصحة في كتابيهما (في هذا الشأن) أي في هذا الفن، (وتقدمهما) أي ومنها تقدمهما (في تمييز الصحيح) أي من غيره (على غيرهما) أي من أصحاب الصحاح متعلق ب: تقدمهما (وتلقي العلماء) أي ومنها تلقيهم، وتَلَقُّنهم، وأخذهم (لكتابَيْهما بالقَبول) أي اعتقاداً، أو عملاً. (وهذا التلقي وحده) أي بانفراده من بين القرائن (أقوى في إفادة العلم) أي النظري. (من مجرد كثرة الطرق) أي من غيرهما. (القاصرة عن التواتر) أي لم تبلغ حد التواتر. قال ابن الصلاح: ما أخرجه الشيخان مقطوع بصحته: والعلم اليقيني النظري واقع به خلافاً لمن نفى ذلك محتجاً بأنه لا يفيد بأصله إلا الظن. وإنما تلقته الأمة بالقَبول لأنه يجب عليهم العمل بالظن، والظن قد يخطئ وقد كنت أميل إلى هذا وأحسبه قوياً ثم بَانَ لي أنّ المذهب الذي / اخترناه أولاً (1/219)
هو الصحيح، لأن ظن مَن هو معصوم من الخطأ لا يخطئ. والأمة في إجماعها معصومة من الخطأ، ولهذا كان الإجماع المبني على الاجتهاد أي الذي مستنده القياس حجةً مقطوعة بها، وأكثر إجماعات العلماء كذلك. قال النووي: ما ذكره ابن الصلاح خلاف ما قاله المحققون والأكثرون، فإنهم قالوا: أحاديث الصحيحين التي ليست بمتواترة إنما تفيد الظن، فإنها آحاد، والآحاد إنما يفيد الظنّ على ما تقرر. ولا فرق بين البخاري، ومسلم وغيرهما في ذلك وتلقي الأمة إنما أفاد وجوب العمل بما فيهما من غير توقف على النظر فيه بخلاف غيرهما. فلا يعمل به حتى ينظر ويوجد فيه شرط الصحيح. ولا يلزم من إجماع العلماء على العمل بما فيها إجماعهم على القطع بأنه كلام النبي عليه الصلاة والسلام. وحكي تغليظ مقالة ابن الصلاح، عن ابن بَرْهان، وكذا عابه ابن عبد السلام. وسيأتي في كلام ابن الهُمَام ما يَرُدُّ عليه. وانتصَرَ لابن الصلاح (1/220)
المصنف، ومن قبله شيخُهُ البُلقيني تبعاً لابن تَيْميَّة. وحينئذ فيُفرّق بين المتواتر، والآحاد بأنّ العلم في ذلك ضروري يشترك فيه / 25 - ب / العالم وغيره، وفي هذا نظري لا يحصل إلا للعالم بالحديث المتبحِّر فيه، العالم بأحوال الرواة، المطلع على العلل، وكون غيره لا يحصل له العلم بصدق ذلك لا ينفي حصوله، كذا قيل. وفيه أنه لو كان كذلك لما وقع الاختلاف بين المجتهدين مع أن كثيراً من الأحاديث فيهما ممّا يقتضي التناقض، فكيف يفيد العلم القطعي؟ ولما استشعر المصنف اعتراضاً بأنه قد يوجد الحديث الضعيف فيهما قال: (إلا أنّ هذا) أي ما ذكر من كون التلقي قرينة، وكونه أقوى من مجرد كثرة الطرق. (يختص بما لم ينتقده) أي لم يزيفه، مِن نَقَدْتُ الدراهم، وانتقدتها إذا أخرجتُ منها الزَّيفَ، والمعنى: لم يعترض عليه. (أحد من الحفاظ) كالدَّارَ قُطْنِي وغيره. (مما في الكتابين) لفقد الإجماع على التلقي. قال تلميذه: وفيه إشارة إلى أن العلماء لم يتلقوا كل ما في الكتابين بالقَبول. انتهى. وهذا كما استثناه ابن الصلاح حيث قال: سِوى أحرفٍ يسيرةٍ تكلم عليها الحفاظ وهي معروفة. قال السخاوي: وتزيد على مئتي حديث. قال النووي: إنه أجاب عنها آخرون. قال السخاوي: يعني كما أفرده العراقي في تأليف عدمت مُسَوَّدَتُه قبل أن يبيضها. (1/221)
وتكفل شيخنا في مقدمة " شرح البخاري " بما فيه من ذلك. والمولى العراقي بما في " مسلم ". وقال البِقَاعي: في " النكت الوفية ": قال شيخنا الدارقطني: ضُعّف من أحاديثهما مئتين وعشرة، يختص البخاري بثمانين، واشتركا في ثلاثين، وانفرد مسلم بمئة. قال: وقد ضعف غيره أيضاً غير هذه الأحاديث. وقال النووي في خطبة " شرح صحيح البخاري ": إنّ ما ضُعّف من أحاديثهما مبني على علل ليست بقادحة. قال: فكأنه مال إلى أنه ليس فيهما ضعيف. وكلامه في خطبة " شرح مسلم " يقتضي تقرير قول من ضعف. قال شيخنا: وأظن هذا بالنسبة إلى مقام الرجلين، وأن الشيخ يرفع عن البخاري، ويقرر على مسلم انتهى. وبالجملة هذا مستثنى من التلقي / لاختلاف العلماء فيه. ويفيد أنه لا بد من النظر للمجتهد في رجالهما حتى يظهر المعلول من غيره. وهذا يُعَكر على ما قال النووي عن الأكثرين: أن تلقي الأمة إنما أفاد وجوب العمل بما فيهما من غير توقف على النظر فيهما بخلاف غيرهما، فلا يُعمل به حتى ينظر، ويوجد فيه شرط الصحيح انتهى. وهو بظاهره غير مستقيم، لأن مراده إن كان أعم من المجتهد وغيره، ففيه أنَّ المجتهد لا يجب عليه أنْ يقلّد غيره. وإن كان مقصوده المقلد، فليس له إلا أن يتبع مجتهده، اللهم إلا أن يقال: مراده المقلد المجتهد في(1/222)
المذهب، فإنه إذا لَم يَرَ نَصّاً عن إمامه / 26 - أ / فله أن يقلد الشيخين في تصحيحهما، ويبني عليه مسألة فرعية. (وبما) أي ويختص أيضاً بما. (لم يقع التجاذب) أي التخالف كما في نسخة، والمراد التعارض. (بين مدلوليه مما وقع في الكتابين) قال تلميذه: لقائل أن يقول: لا حاجة إلى هذا لأن الكلام في إفادة العلم بالخبر لا في إفادة العلم بمضمونه. انتهى. والظاهر أنه إنما احتاج إلى استثناء ذلك لأنه لمّا ادَّعى أنّ العلم اليقيني يحصل بما في الكتابين ولا شك أنّ فيهما ما يوجب التناقص، فاضطر إلى هذا القول ليتمّ مقصوده. لكن بقي شيء، وهو أنه إذا كان مدلول ما في الكتابين مخالفاً لما ذكره غيرهما من الخبر المحتفّ بالقرائن ينبغي أنّ لا يفيد شيء منهما العلم. ولم يتعرض المصنف لذلك، ويمكن أن يتكلف، ويحمل كلامه على ما يشمله بأدنى اعتناء ويشير إليه قوله: (حيث لا ترجيح) بأن يكون أحدهما ناسخاً، والآخر منسوخاً، أو بأن يكون لأحد مدلولية تقوّ بمدلول حديث آخر. (لا لاستحالة أن يفيد المتناقضان العلم بصدقهما من غير ترجيح لأحدهما على الآخر) أي فإذا رُجح أحدهما كان الراجح هو المفيد للظن القوي لا غير. (وما عدا ذلك) أي ما ذكر من الاستثنائين. (فالإجماع حاصل على تسليم صحته) أي وكونه أرجحَ في إفادة العلم. (1/223)
(فإن قيل: إنّما اتفقوا على وجوب العمل به) أي بما في الكتابين. (لا على صحته) قال تلميذه: وحاصل السؤال أنهم اتفقوا على وجوب العمل، وهو لا يستلزم صحة الجميع بالمعنى المصطلحِ عليه، لأن العمل يجب بالحَسَن كما يجب بالصحيح، فحينئذ لا يلزم أن يكون الاتفاق على الصحة. انتهى. وبالجملة نقضّ تفصيلي أي دليلك لا يثبت المدّعَى، فإنه إنما يدل على وجوب العمل، وذلك غير مستلزِم للصحة، ولا يدل دليلك على الصحة. ومعنى قوله: (منعناه) أي منعنا عدم دلالته على الصحة. وقال تلميذه أي منعنا قوله: لا على صحته. وحاصل ما ذكره من السند الآتي: أنّ معنى تلقِّي العلماء بالقَبول مزيتهما باعتبار الصحة. وقال بعض الفضلاء: هذا السؤال معارضة، وبيانها أنّ الشارح استدل على أن الإجماع حاصل على تسليم صحة ما عدا المذكور بثلاثة أدلة: التلقي وأخَوَيْه، واستدل المعارض بأنهم لم يتفقوا إلا على قبوله ووجوب العمل به، وما يجب العمل به لا يجب أن يكون صحيحاً. وهذه المقدمة مطوية، والمنع راجع إلى المقدمة الأولى باعتبار حصرها، وهذا هو الأقرب. وقيل: هذا السؤال / منع للمقدمة القائلة: الإجماع حاصل على تسليم صحة ما عدا المذكور، أي لا نسلم ذلك لأنه ليس الإجماع إلا على وجوب / 26 - ب / العمل به. وقوله: منعناه منع لهذا السند الذي ذكره المانع بلا (1/224)
حاجة إليه، وأنت تعلم أنّ هذا المنع لا يجدي بطائل، فالأولى أن يترك قوله: منعناه، ويذكر سنده إثباتاً للمقدمة الممنوعة مع أنّ فيه نظراً، لأن قوله: الإجماع حاصل على صحته نتيجةٌ، والمنع إنما يكون على الدليل. قال المصنف: (وسند المنع أنهم متفقون على وجوب العمل بكل ما صح، ولو لم يخرجه الشيخان، فلم يبق) هذا إنما يتفرع بملاحظة مقدمة أخرى، وهي أن الإجماع حاصل على أن لهما مزية. (للصحيحين في هذا مزية، والإجماع) الأظهر أن يقول: فالإجماع. (حاصل على أنّ لهما مزيةً فيما يرجع إلى نفس الصحة) قيل فيه : إنه لا يلزم من ذلك الاتفاق الإجماع على صحة ما في الكتابين، فإنه يجوز أن يتفق الجميع على وجوب العمل بالصحيح، ولا يكون جميع ما في الصحيحين صحيحاً، وتكون المزية باعتبار وجوب العمل بجميع ما فيهما صحيحاً أو غيره. وقال التلميذ: وحاصل الجواب: أنّ للشيخين مزيةً فيما خرَّجاه وما حَسُن أو صح وجب العمل به وإن لم يكن من مرويهما، فيلزم أنّ ما أخرجاه أعلى الحَسَن، وأعلى الصحيح، فيلزم من الاتفاق على وجوب العمل بما فيهما مع مزيتهما الاتفاق على صحته. هذا ما أمكنني في تقرير هذا المحل. وأما العبارة، فإذا نظرت إليها تجدها تنبئ عن ملائمة الطبع السليم. انتهى. فالمنع بمعنى الدفع محمول على معناه اللغوي لا على ما هو المصطلح عند أرباب (1/225)
المناظرة، وهو طلب الدليل إذ المنعُ لا يتوجّه على المنع. (وممن صرَّح بإفادة ما خرجه) بتشديد الراء، أي أخرجه، وذكره (الشيخان العلم النظري) أي المستلزم أن يكون صحيحاً. (الأُسْتَاذُ) بضم الهمزة بالذال المعجمة مُعَرَّبُ المهملة، وكأنه مَأخوذ من قول العرب: اسْتَادُوا بني فلان: قتلوا سيدهم، فيرجع إلى ما معنى السيد (أبو إسحاق) أي إبراهيم بن محمد بن إبراهيم. (الإسْفَرَايِيني) نسبة إلى إسفراين، بكسر الهمزة، وسكون السين المهملة، وفتح الفاء والراء، وكسر الياء التحتية، وبعدها نون، بلدة بخُرَاسَان بنواحي نَيْسَابور في منتصف الطريق إلى جُرْجَان. وهو من أئمة المتكلمين كما في نسخة. (ومن أئمة الحديث أبو عبد الله) وفي نسخة: عبد الله. (الحُمَيْدِي) بالتصغير نسبة إلى جده الأعلى، وهو الأندَلُسِيّ القُرْطُبِي. (وأبو الفضل بن طاهر، وغيرهما) بل ألحق ابن طاهر بذلك ما كان على شرطهما. قيل فيه: إنه لما ذكر أن الإجماع حاصل على وجوب العمل بهما لا فائدة في عدد معين ممن صرح بذلك. والأظهر أنه إشارة إلى ما جوز إطلاق العلم النظري على ما أخرجه الشيخان، فيفيد بالضرورة / 27 - أ / القول بصحته كما سبق الإيماء منا إليه. (1/226)
(ويحتمل أن يقال: المزية المذكورة كون أحاديثهما أصح الصحيح) كان حقه أن يُفَرِّع ذلك على قوله: فيما يرجع إلى نفس الصحة، ويُقدِّم على قوله: وممن صرح. / وترك الاحتمال، ويقول: فيكون المزية المذكورة... الخ ولك أن تقول: معنى قوله: مزية فيما يرجع إلى نفس الصحة، أن لهما مزيةً من حيث الصحة. (ومنها) أي من أنواع الخبر المحتفّ بالقرائن. (المشهور) أي الحديث المشهور عند علماء الحديث، لا المشتهر على ألسنة العامة، ولذا قال: (إذا كانت له طُرُق،) أي أسانيد (مُتَبَايِنةٌ) أي متغايرة (سَالمِةٌ من ضعف الرواة، والعِلل) أي القادحة خفيةً كانت، أو غيرَها. (وممن صرَّح بإفادته) أي المشهور المذكور (العلم النظري) بالنصب على المفعولية (الأستاذ أبو منصور البغداذي) بالدال المهملة أولاً، والمعجَمة ثانياً، وهو أفصح من عكسه، ومن المهملتين، والمعجمتين، (والأستاذ أبو بكر بن فُورَك) بضم الفاء، وفتح الراء (وغيرهما) قال المصنف فُورَك ممنوع الصرف، فإنهم يُدخلون الكاف عوض ياء التصغير. ومثله زيرك. قال تلميذه: هذا ليس علة منع الصرف على ما عُرف في العربية. قلت: هذا غفلة من التلميذ لأنّ مراد الشيخ بضمير قوله: فإنهم الأعجام. وبهذا يُعلم أنّ علة منع الصرف هي العُجْمَة مع العلمية المعلومة من المقام. (1/227)
(ومنها: المسلسل بالأئمة الحُفَّاظِ المُتْقنِين) أي المحققين بأن يكون رجال إسناده الأئمة لا يزال يرويه إمام عن إمام. وكأنه مأخوذ من سَلْسَلْتُ الماء في حلقه أي صببته، لأنّ كل شيخ بإلقائه إلى تلميذه كأنه يصبه في جوفه. والظاهر أنه يريد بالمسلسل المعنى اللغوي، لا الاصطِلاحي، ولذا قال: (حيث لا يكون) أي الحديث. (غريباً) أي لا يكون غرابةٌ، وتفردٌ في سنده ومراده أن يكون عزيزاً لما تقدم من ذكر المتواتر والمشهور، ولقوله: (كالحديث الذي يرويه أحمد بن حنبل مثلاً، ويشاركه) أي أحمد (فيه) أي في ذلك الحديث من جهة الرواية (غيرهُ) أي غير أحمد سواء يكون في مرتبته أو ممن هو دونه (عن الشافعي) أي مثلاً: (ويشاركه) أي الشافعي (فيه غيره عن مالك بن أنس) أي مثلاً عن نافع، عن ابن عمر مثلاً ولعل تركَ مشارك مالك لظهوره مما هنالك. ولذا قيل: حدثنا مالك من زينة الدنيا. وكذا مشارك نافع على خلاف سبق في اعتبار مشارِك الصحابي. (فإنه) أي الحديث حينئذ (يفيد العلم) أي النظري (عند سامعه) أي الحديث (1/228)
مع إسناده الواصل إليه برجالٍ ثقات / 27 - ب / على نحو ما تقدم (بالاستدلال) متعلق بالعلم (من جهة جلالة رواته) متعلق ب: يفيد. (فإن فيهم) أي ومن جهة أنّ فيهم أي في الرواة من الأئمة. (من الصفات اللائقة الموجبة للقبول) أي لكمالهِ من ظهور العدالة، والضبط، والاتقان، والفهم، وغيرها. (ما يقوم مقام العدد الكثير من غيرهم) ولذا يسمى مثل هذا الإمام: أمة. قال الله تعالى:: {{إن إبراهيم كان أمة}} لأنه يجتمع فيه مِن الكمالات ما لا يوجد متفرقة إلا في جماعة. ولذا قال الشاعر:
(وليس مِن الله بمُسْتَنْكَرٍ ..... أنْ يَجْمَعَ العَالمَ في واحدٍ)
وقد قيل في الحديث / المشهور: " عليكم بالسوادٍ الأعظم " أي الأروع الأعلم. وقد أقام النبي صلى الله عليه وسلم شهادة صحابي عن اثنين لكنّ البحث في إفادة العلم اليقيني، وأما العلم الظني، فهو حاصل بظاهر العدالة، والضبط.(1/229)
(ولا يتشكك) أي لا يتردد، والظاهر أنه استعمل الشك في المعنى اللغوي، ومراده أنه لا يتوهم. (ومَن له أدنى ممارسة بالعلم) أي بعلم الحديث، (وأخبار الناس) أي من المحدثين وأرباب التواريخ، وغيرهم، (أنّ مالكاً مثلاً لو شافهه) أي واجهه ورواه بغير واسطة (بخبر) أي بحديث من الأحاديث (أنه) أي في أن مالكاً (صادق فيه) أي في إخباره به. قال تلميذه: إنّ أرادَ أنه لم يتعمد الكذب، فليس محل النزاع، وإن أراد أنه لا يجوز عليه السهو، والغلط ففيه الكلام. أقول: وإن أراد أنه يغلب عليه الصدق ولا عبرة بالنّدرة فمُسَلِّم، لكن لا يفيد العلم. (فإذا انضاف) أي انضم (إليه) أي إلى مالك (أيضاً) مستدرِك مستغنَىً عنه (مَن هو في تلك الدرجة) يُفهم منه أنّ الغير المشارك أيضاً إمام في الجملة (ازداد) أي الخبر أو المخبِر (قوة) أي في العلم أو في أنّ مالكاً صادق (وبَعُدَ) أي الخبر، أو مالك (عما يخشى عليه) أو على خبره (من السهو) وفيه أنّ البعد من السهو لا يستلزم القرب من العلم بل من الصدق، وليس الكلام فيه. (وهذه الأنواع) أي الثلاثة (التي ذكرناها) أي مما احتف به القرائن (لا يحصل العلم بصدق الخبر) الأظهر بصدق المخبر. (منها) أي من جهتها وبسببها(1/230)
(إلا للعالم بالحديث) أي بأصول الحديث، وفروعه (المتبحر فيه) يقال: تبحر في العلم وغيره، أي تعمق وتوسع، والمراد الحاذق في علم الحديث. (العارف بأحوال الرواة) من العدالة، والضبط، والحفظ. (المطَّلع) أي المشرف. (على العِلل،) أي القادحة فيه، خفية كانت، أو جلية كما سيأتي بيانها. (وكون غيره) أي غير المتبحر. (لا يحصل له العلم بصدق ذلك) الخبر، أو المخبِر. (لقصوره) أي / 28 - أ / لعجزه (عن الأوصاف المذكورة) أي عن معرفتها. (لا ينفي حصول العلم للمتبحر المذكور) أي بسبب حصولها له. قال تلميذه: يقال عليه: لو سُلم حصول ما ذكر لم يكن محل النزاع إذ الكلام فيما هو سبب العلم للخلق، والله أعلم. (ومحصل الأنواع الثلاثة التي ذكرناها) أي مما احتف به القرائن. (أنّ الأول:) أي النوع الأول منها. (مختص بالصحيحين) أي مما هو مصحح فيهما جميعاً. (والثاني:) أي النوع الثاني مختص. (بما له طرق متعددة) أي من الحديث المشهور.(1/231)
(والثالث:) أي النوع الثالث مختص (بما رواه الأئمة) أي بعضهم من بعض على ما تقدم. (ويمكن) أي عقلاً، ونقلاً (اجتماع الثلاثة) أي أنواعها (في حديث واحد، فلا يَبْعُد) هذا قريب من الحق (حينئذٍ) أي حال اجتماع الأنواع (القطع بصدقه) وفيه بحث سبق مراراً. (والله أعلم) والتفويض / إليه أسلم، والتعلق بقول الجمهور أتمّ، وفي " الفتاوى الظهيرية " أن الأخبار المروية عن رسول صلى الله عليه وسلم على ثلاث مراتب: متواتر: فمن أنكره كفر. ومشهور: فمن أنكره كفر عند الكل، إلا عند عيسى بن أَبان، فإنه يُضَلِّل، ولا يُكْفَر، وهو الصحيح وخبر الواحد: فلا يكفر جاحده غير أنه يأثم بترك القبول. ومن سمع حديثاً فقال: سمعناه كثيراً بطريق الاستخفاف كفر.
1 (أقسام الغري)
(ثم الغَرابة) هذا انعطاف لما سبق له من أن الحديث إما متواتر، أو مشهور، أو عزيز، أو غريب. وما بينهما جُمَلٌ معترضة، والمعنى: بعدما عرفت (1/232)
تعريفَ كلٍ منها وما يترتب عليها من أحكامها، اعلم أنّ الغرابة: (إما أنْ تكون في أصل السند) قال تلميذه: قال المصنف في تقريره: أصل السند، وأوله ومنشؤه، وآخره ونحو ذلك يطلق ويراد به من جهة الصحابي، ويراد به الطرف الآخر بحسب المقام. انتهى. وكأنه أراد بالطرف الآخر من جهة الشيخ كالبخاري، ومسلم. وكأن الشيخ اختار الطرف الأول، ولذا قال: (أي في الموضع الذي يدور الإسناد) أي الإسناد الذي فيه الغرابة. (عليه) أي على ذلك الموضع من حيث كلُه، فإن الفرد النّسْبِي يدور فيه الإسناد على مَن تفرد به لكن بعضه لا كله. (ويرجع) أي الإسناد. (ولو تعددت الطرق) أي الأسانيد. (إليه) أي ذلك الموضع. (وهو) أي ذلك الموضع (طَرَفُهُ) أي طرف الإسناد (الذي فيه الصحابي) وكون الغرابة في هذا الطرف هو أن يروي تابعي واحد عن صحابي، ولا يتابعه غيره في روايته عن ذلك الصحابي، سواء تعدد الصحابي في تلك الرواية أو لا. وأما انفراد الصحابي عن النبي صلى الله عليه وسلم، فليس غرابة إذ ليس في الصحابة ما يوجب قدحاً / 28 - ب /، فانفراد الصحابي يوجب تعادل تعدد غيره، بل يكون أرجح. قال تلميذه: قوله: وهو طرفه الذي فيه الصحابي. قال المصنف: أي الذي يروي عن الصحابي، وهو التابعي، وإنما لم يتكلم في الصحابي، لأن المقصود ما يترتب عليه من القبول والرد. والصحابة كلهم عدول.(1/233)
وهذا بخلاف ما تقدم في حد العزيز، والمشهور حيث قالوا: إن العزيز لا بد فيه أن لا ينقص عن اثنين من الأول إلى الآخر، فإذا إطلاقه يتناول ذلك، ووجهه أن الكلام هناك في وصف السند. والكلام هنا فيما يتعلق بالقبول والرد. انتهى. وفيه ما لا يحتاج إليه في هذا المقام. تم كلام التلميذ. لكنه ناقص إذ التحقيق أن عبارة الشيخ في هذا المقام تدل على أن وحدة الصحابي لا تصير سببا للغرابة. وعبارته سابقا تدل على أن الوحدة في أي موضوع كان فهو غريب. وعبارة ابن الصلاح تدل على أن وحدة الصحابي لا تدل على الغرابة، حيث قال: الغريب كحديث الزهري، وغيره من الأئمة ممن يجمع على حديثهم إذا انفرد الرجل عنهم بالحديث يسمى غريباٌ، فإذا روى عنهم رجلان أو ثلاثة يسمى عزيزاٌ، وإذا روى جماعة يسمى مشهوراٌ، فانظر فيه حيث يدل / على أن اثنينية الإمام فضلا عن اثنينيه الصحابي ليست معتبرة في العزيز. ووحدة الصحابي تجامع المشهور. وحاصل الكلام: أنه إن كان المعتبر في تقسيم الغريب تفرد التابعي ومن دونه مع قطع النظر عن حال الصحابي، فالذي تفرد به الصحابي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقع التفرد في شيء من المراتب بعده إن كان غريباً يلزم أن لا ينحصر الغريب في القسمين الآتيين، وإن لم يكن غريبا، فقد يصدق عليه تعريفه، فلا يكون مانعا، وحينئذ يجب أن يكون داخلا في ما سوى الغريب من الآحاد، ولا يصدق تعريف شيء مما سواه عليه فلا يكون جامعا، اللهم إلا أن يخص الكلام بما سوى الصحابي في التقسيم، والتعريفات الخارجة منه. فقوله: طرفه أراد به التابعي، وأما الصحابي وإن كان من رجال الإسناد، إلا أن المحدثين لم يعدوه منهم لأن كلهم عدول على الإطلاق من خالط الفتن وغيرهم (1/234)
لإطلاق قوله تعالى:: {{وكذلك جعلناكم أمة وسطا}} أي عدولا، وقول النبي عليه الصلاة والسلام: " خير القرون قرني ". ولإجماع من يعتد به في الإجماع من الأئمة على ذلك. وحكى الآمِدي، وابن الحاجب قولا أنهم كغيرهم في لزوم البحث عن عدالتهم مطلقا. وقيل: إنهم عدول إلى وقوع الفتن، فأما بعد ذلك فلا بد من البحث عمن ليس ظاهر العدالة. فقوله: فيه الصحابي، أي في ذلك الطرف، مسامحة أي، ينتهي ذلك / 29 - أ / الطرف إلى الصحابي، ويتصل به. (أو لا تكون) أي الغرابة (كذلك) أي في أصل السند (بأن يكون التفرد في أثنائه) أي لا يكون في طرفة الذي فيه الصحابي. (كأن يرويه عن الصحابي أكثر من واحد ثم يتفرد بروايته عن واحد منهم) أي من التابعين. وفي نسخة بروايته منهم. (شخص واحد) قال المصنف: إن روى عن الصحابي تابعي واحد، فهو الفرد المطلق سواء استمر التفرد أم لا، بأن رواه عنه جماعة. وإن رواه عن الصحابي أكثر من واحد، ثم تفرد عن أحدهم واحد فهو الفرد النسبي، (1/235)
ويسمى مشهوراً، فالمدار على أصله. قال تلميذه: يُستفاد من هذا أن قوله فيما تقدم: أو مع حصر عدد بما فوق الاثنين ليس بلازم في الصحابي. (فالأول) وهو الذي تكون الغرابة في اصل السند: (الفرد المطلق) لإطلاقه الشامل أن يستمر التفرد في اثنائه أم لا. (كحديث: " النهي عن بيع الوَلاء) بفتح الواو أي ولاء العتق. (وعن هِبَتِه ") أي الولاء وهو ما ورد مرفوعا: " الولاء لحمة كلحمة النسب لا يباع ولا يُوهَبُ ولا يورث ". واللحمة بالضم، أي الاختلاط في الولاء، كالاختلاط في النسب. فإنها تجري مجرى النسب في الميراث. (تفرد به) أي بالحديث في إسناده. (عبد الله بن دينار) تابعي جليل. (عن ابن عمر) بدون الواو رضي الله عنهما (وقد يتفرد به راو) أي راوٍ آخر. (عن ذلك المُتَفرد كحديث: شعب الإيمان) وهو: " الإيمان بضع وسبعون شُعْبَة: فأفضلها قول لا إله إلا الله، / وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة (1/236)
من الإيمان " والبِضْعُ: ما بين الثلاث إلى التسع، وإماطة الأذى: إزالة ما يؤذي من نحو شَوْكِ، وحَجَر، وشَجَرٍ عن طريق المسلمين. قيل: المراد الكثرة لا خصوص هذا العدد، لكن يأباه ذكر البِضْعِ، فالتفويض أسلم، والله أعلم (تفرد به أبو صالح) تابعي. (عن أبي هريرة، وتَفَرَّد به عبد الله بن دينار، عن أبي صالح) فهو من رواية الأقران. (وقد يستمر التفرد في جميع رواته، أو أكثرهم وفي " مسند البزَّاز ") بتشديد الزاء (و " المعجم الأوسط للطبراني ") وكذا " الصغير " للطبراني. (أمثلة كثيرة لذلك) أي لاستمرار التفرد في جميع رواته، أو أكثرهم، أو لمطلق التفرد. والله أعلم. قال السخاوي: بل للدارقطني " الأفراد " في مئة جزء سمعنا كثيراً، وكذا، خرّجها ابن شاهين وآخرون. (والثاني:) وهو أن تكون الغرابة في أثناء السند. (الفرد النِّسْبيّ) بكسر النون، وسكون السين، وياء مشددة في آخره. (سُمي) أي الثاني (نِسْبِيّاً لكون التفرد فيه) أي في سنده (1/237)
(حصل بالنسبة إلى شخص معيّن، وإن كان الحديث في نفسه مشهوراً) / 29 - ب / بأن يكون من أوجه أُخر لم يتفرد فيها راوٍ. ومثاله: أنْ يروي مالك، عن نافع عن ابن عمر حديثاً، ثم يروي واحد عن مالك ذلك الحديث متفرِّداً ولم يتابعه غيره في روايته عن مالك، وكان الراوي عن نافع جماعة، فإن فرد بالنسبة إلى الراوي عن مالك، وإن كان مشهوراً بالنسبة إلى الرواة عن نافع، عن ابن عمر، وإلى الرواة عنهم إلينا. وقد يشتهر الحديث بأن يروي عن ذلك المتفرد كثيرون كحديث " إنما الأعمال بالنيات " وحاصله: أنه إنما سُمّي نسبياً لأن التفرد إنما حصل فيه بالنسبة إلى شخص معيّن من طريق واحد، وإن كان مشهوراً في نفسه لكونه مروياً من طرق أخرى، ففرديتُه بالنسبة إلى الطريق الأولى، ومشهوريته باعتبار الطريق الأخرى. ولذا قال بعضهم: الغريب من الحديث على وِزَان الغريب من الناس، فكما أن غرابة الإنسان في البلد تكون حقيقة بحيث لا يعرفه فيها أحد بالكلية وتكون إضافية بأن يعرفَه البعض دون البعض، وقد يصير مشهوراً بأن يكون أشهر من بعض أهل البلد أو كلهم. (ويقلّ إطلاق الفرد) وفي نسخة: الفردية، وفيها تسامح لأنه اعتبر الحيثية (عليه) أي على الفرد النِّسبيّ، بل يقال له: الغريب غالباً. وإنما جاز إطلاق الفرد (1/238)
- الموضوع للفرد المُطلق لا المقيد - على الفرد النسبي. (لأن الغريب والفرد مترادفان) وبما قدرنا وقررنا يندفع كلام محشٍ قوله: لأن... الخ هذا غير مستحسن والدليل إنما هو ما بعد إلا. انتهى. والمعنى أن معناهما واحد. (لغة واصطلاحاً) قيل فيه بحث: لأن الأول ممنوع، والثاني يأباه قوله: (إلا أن أهل الاصطلاح)، ودفع بأن المراد: غير أنّ أهل الاصطلاح. (غايروا بينهما من حيث كثرةُ الاستعمال وقِلّته) وقول تلميذه: الله أعلم بمن حكى هذا الترادف، محمول على منعه الترادف اللغوي ؛ لقوله: وقد قال ابن فَاِرس في " مُجْمَلِ اللغة ": غَرَبَ بَعُد، والغُرْبَة / الاغتراب عن الوطن. والفرد الوتر، والفرد المنفرد. انتهى والظاهر بأن مراد الشيخ أنهما مترادفان في مآل المعنى اللغوي لهما. ويلائمه ما في القاموس: فَرْدٌ أي منفرد. وشجرة فَارِد: مُتَنَحِّيَة، وظبية فَارِد: منفردةَ عن القطيع. واستفرد فلاناً: أخرجه من بين أصحابه. والغَرْب الذهاب والتنحي، وبالضم النزوح عن الوطن كالغُرْبَة، والاغتراب، والتّغَرُّب. قيل: حق العبارة أن يقال: لأن أهل الاصطلاح (1/239)
غايروا بين الغريب والفرد، وإن كانا مترادفين، اللهم إلا أن يقال قوله: ويقل... الخ في قوة، ويصح إطلاق الفردية عليه من حيث العِلّة، وهذا تكلُّف مستَغنىً عنه كما لا يخفى. (فالفرد أكثر ما يطلقونه) أي أهل / 30 - أ / الحديث. (على الفرد المطلق) لأن إطلاقه عليه أولى وأحق، و " ما " في: ما يطلقونه، مصدرية. وقوله: على الفرد خبر قوله: فالفرد أكثر. والجملة خبر المبتدأ. أي فالفرد أكثر إطلاقهم إياه واقع على الفرد المطلق. (والغريب أكثر ما يطلقونه على الفرد النسبي) لأن انفراده أغرب، فهو بهذا الاسم أنسب (وهذا) أي التفصيل الذي ذكرناه عنهم (من حيث إطلاقُ الاسم) وفي نسخة: الاسمية. وفيها مسامحة أيضاً كما في الفردية. (عليهما) أي على نوعي الفردين. (وأما من حيث استعمالُهم) أي المحدثين (الفعل المشتق) أي من أصل هذه المادة. (فلا يفرِّقون) أي بينهما. (فيقولون) أي من غير فرق (في المطلق) أي في الفرد المطلق (والنسبي:) أي في كل منهم. (تفرد به فلان، أو أغرب به فلان) أي على حد سواء، لأن معنى الثاني (1/240)
يرجع إلى الأول، فكأنه تفرد عن وطنه وأقاربه. (وقريب من هذا) أي الاختلاف (اختلافهم) أي المحدثين (في المنقطع، والمرسل هل هما متغايران) أي بأنّ المنقطع: ما سقط من إسناده راوٍ واحد غير الصحابي، والمرسل ما سقط من رواته الصحابي فقط. (أَو لا؟) أي لا يتغايران بالكلية، بل يتحدان في بعض الصور، بأن المرسل ما سقط راوٍ من إسناده. (فأكثر المحدثين على التغاير،) في أي موضع كان، فالمرسل أعم من المنقطع. (لكنه) أي التغاير (عند إطلاق الاسم) لأن حال تقييد كل منهما بأن يقال: مرسل الصحابي، أو التابعي، أو مَن بعده فينصرف إليه، أو المراد بإطلاق الاسم استعمال الوصف الذي هو إيراد اسم المفعول في المرسل، واسم الفاعل في المنقطع، وهذا هو الظاهر لقوله: (وأما عند استعمال الفعل المشتق) أي من مصدرهما وهو الإرسال، والانقطاع. وحذف المشتق كان أحق وأدق (فيستعملون الإرسال) أي فعله (فقط) أي فحسب (فيقولون: أرسله) أي الحديث (فلان) أي من الرواة (سواء كان ذلك) أي الحديث (مرسلاً، أو منقطعاً،) أي على تقدير التغاير بينهما. (1/241)
(ومِن ثَمَّة) أي ومن جهة استعمال الإرسال بالفعل على وجه الإطلاق. (أطلق غير واحد) أي كثيرون. (ممن لم يلاحظ مواقع استعمالهم) أي جميع مواضع استعمال المحدثين، ليعرف اصطلاحهم الفارق بين الوصف والفعل. أطلق من غير فرق. (على كثير من المحدثين) أي الذين قالوا: بتغايرهما / أي نقل غير واحد عن كثير منهم (أنهم لا يغايرون بين المرسل والمنقطع) أي مطلقاً (وليس 30 - أ / كذلك) أي وليس الأمر على إطلاقه كما ظنوا. (لما حررناه) أي قررنا أن الأكثرين غايروا في إطلاق الاسم، وإنما لم يغايروا في استعمال المشتق. (وقل من نَبَّه) بصيغة الفاعل. (على النكتة في ذلك) أي على ما ذكرنا من اختلاف التغاير. قيل: يستعمل " قل " في هذا الفن في النفي الكلّي، فالمعنى: لم ينبه أحد على النكتة المذكورة في تفاوت الاستعمال بين الاسم والفعل، مع تحقق الفرق بينهما في نفسه، ويحتمل أن يكون نبّه مبنياً للمفعول، أي قل مَن علم ذلك وإني من القليل المُنَبّهِينَ على ذلك. وأمّا ما في بعض النسخ: وقَل من يتنبه على ذلك فهو سهو من قلم الناسخ، لأن التنبه لا يتعدى ب: على، بل باللام. إلا أنْ يقال: إنها بمعناها كما قيل في قوله تعالى:: {{ولتكبروا الله على ما هداكم}}. والله أعلم. (1/242)
(الصحيح لذاته)
(وخبر الآحاد) وهو ما عدا المتواتر. وخُصّ لأنه المنقسم إلى الصحيح والحسن، والضعيف، فهو بالنظر إلى ما استقر الأمر عليه ؛ إذ جمهور المتقدمين لم يذكروا الثاني على ذكره السخاوي فهو إذا كان مروياً. (بنقل عَدْلٍ) أي برواية ثقة، فخرج من عُرف ضعفه، أو جهل عينه، أو حاله كما سيجيء بيانها. والمراد عدل الرواية لا عدل الشهادة، فلا يختص بالذكر... الخ (تام الضبط) أي كاملة، حَالَتي التحمل والأداء، من غير حصول قصور في ضبطه، وعروض عارض في حفظه، فخرج المغفل كثير الخطأ، بأن لا يميز الصواب من غيره، فيرفع الموقوف، ويصل المرسل، ويُصَحِّف الرواة وهو لا يشعر، وكذا قليل الضبط: وهو ما يسمى ضبطاً مما هو المعتبر في الحسن لذاته، وبهذا يندفع ما قال تلميذه: الله أعلم بمعنى تمام الضبط ! مدّعياً أنه لا معنى له ظاهراً والله أعلم. (متصل السند) بالنصب على الحال من النقل، فإنه مفعول في المعنى على ما أشرنا إليه، أو من المبتدأ، وهو خبر الآحاد على القول بجوازه كما هو رأي سيبويه. وقيل: صفةٌ إنْ جُوزَ تقديرُ المتعلق معرفة، ولكن منعه الأكثرون، فخرج المرسل، والمنقطع، والمعضل، والمعلق الصادر ممن لم يشترط الصحة. وأما من اشترطها كالبخاري، فإن تعاليقه المجزومة المُسْتَجْمِعَة للشرائط. (1/243)
فيمن يَعُد المعلّق عنه لها حكم الاتصال، وإن لم نقف من طريق المعلق عنه فهو لقصورنا. (غير معلل) بالتشديد، أي معلول، حال أخرى متداخلة، أو مترادفة، فخرج ما فيه علة من العلل جَلِيّها أو خَفِيّها كما سيأتي. (ولا شاذ) بالجر عطفاً على معلل، ولا حاجة إلى زيادة قيد: ولا منكر، لأنه عند من يسوي بينه وبين الشاذ فظاهر، لأنه استغنى بأحدهما عن الآخر، وأما / 31 - أ / على ما سيحرره بعد، وهو أن المنكر ما يخالف فيه الجمهور وهو أعم من أن يكون راوية ثقة أَوْلا، فقد خرج بقيد العدالة، وتام الضبط. (هو الصحيح) هو ضمير فصل، أو مبتدأ ثانٍ (لذاته) احتراز عن الصحيح لغيره كما سيأتي بيانه. وحاصله: أن الصحيح لذاته، وكذا لغيره / ما سَلِم من الطعن في إسناده، ومتنه. (وهذا أول تقسيم المقبول) أي الصحيح لذاته أول أقسام حصلت من تقسيم المقبول، أو هذا الكلام أول تقسيم المقبول، وسيجيء له تقسيم آخر بقوله: ثم المقبول إن سَلِم من المعارضة... الخ. وحاصله: أن المقبول ينقسم (إلى أربعة أنواع لأنه) أي الحديث. (إما أنه يشتمل من صفات القبول) كالعدل، والضبط. (على أعلاها) أي أعلى مراتب صفاته، وأراد به حالة نوعيةً متشعبة يجري فيها التفاوت، لا حالة مخصوصة لا يجري فيها التفاوت، فلا يناقض قوله الآتي: وتتفاوت رُتَبُه بسبب تفاوت هذه الأوصاف. (أوْ لا) أي لا يشتمل من صفات القبول على أعلاها، بل على أوسطها، أو (1/244)
أدناها، فخرج ما لا يشتمل على شيء من الأوصاف، فإنه ضعيف غير داخل في تقسيم المقبول. (فالأول:) أي المشتمل على أعلاها (هو الصحيح لذاته)
(الصحيح لغيره) (والثاني:) أي المشتمل على الأوسط، والأدنى (إن وجد) بصيغة المجهول أي علم فيه. ويمكن أن يكون بصيغة الفاعل على النسبة المجازية أي إن صادف. (ما يجبر) أي يُعَوّض (ذلك القصور) أي عن مرتبة العُلوّ (ككثرة الطرق) أي الأسانيد (فهو الصحيح أيضاً) أي في المعنى المقتضي للصحة مع قطع النظر عن إسناده بالخصوص لحصول أصل المقصود وهو الصحة سواء كان بإسناد واحد، أو بأسانيد متعددة متقوية بعضها ببعض. (لكن لا لذاته) أي لا من حيثية إسناده خصوصاً.
(الحَسَنُ لذاته)
(وحيث لا جُبْرَان) أي لا مجابرة لذلك القصور، وهو مصدر جَبَرَ اللازم، وأما المتعدي، فمصدره الجَبْر على وزن النَّصْر. (فهو) أي الحديث حينئذ (الحسن لذاته). (1/245)
(الحَسنُ لغيره)
(وإن قامت قرينة ترجح) أي تلك القرينة أو القرائن: (جانب قَبول ما يُتَوقف فيه) بصيغة المجهور، أي تقوي طرف قَبول حديث يتوقف المحدثون في قَبوله من جهة إسناده، بأن يكون ضعيفاً في نفسه، لكن كثرت طرقه، أو اعتضد بحديث صحيح. (فهو الحسن أيضاً، لكن لا لذاته) بل لقيام قرينة خارجة عن حُسْنِهِ. قال السخاوي: بأن يكون في الإسناد مستورّ لم تتحقق أهليته، ولكن بالنظر لما ظهر غير مغفل ولا كثير الخطأ في روايته، ولا متهم بتعمِد الكذب فيها، ولا ينسب إلى مُفَسق آخر، واعتضد بمتابع، أو شاهد. (وقدم الكلام على الصحيح لذاته) أي دون غيره من الحسن، وغيره. (لعلو رتبته) أي لوقوع / 31 - ب / الصحيح بالذات في أعلى مراتب الصفات. وعلى متعلق ب: قدّم لا بالكلام ليحتاج أن يقال: التقدير: مشتملاً، أو كائناً، أو الكلام المشتمل على بيان الصحيح، ويتعقب أنه لو قال: " في " مكان (1/246)
" على " لكان أظهر. كما مشى عليه المحشي وغيره، لأن ما قدمناه أظهر سواء يقرأ " قدم " بصيغة المفعول، أو الفاعل. والأوّل أولى.
(تعريف العَدل)
(والمراد) أي عند المحدثين (بالعدل) أي المذكور في تعريف الصحيح. (مَنْ) على أن العدل بمعنى العادل، أو ذي العدل، أو على طريق المبالغة كرجل عدل. (له مَلَكَة) بفتحتين، أي قوة باطنة ناشئة عن معرفة الله / تعالى. وقيل: هي الكيفية الراسخة من الصفات النفسانية، فإن لم تكن راسخة، فهي الحال. والظاهر أنها تقبل الشدة، والضعف. ثم هل يجب حصول المَلَكَة حالة الأداء فقط؟ أو حالة التحمُّل إلى حالة الأداء؟ أو حالة التحمل والأداء، والأظهر: الأول. (تَحْملُهُ) أي تحثه المَلَكَة (على ملازمة التقوى) وهي على مراتب: أدناها التقوى عن الشّرك. ومنها ارتكاب الأوامر، واجتناب الزواجر. ومنها: ترك الشُّبه والمكروهات. ومنها: ترك الشهوات من المباحات. ومنها: ترك الغَفْلَة في جميع الحالات ومجملها الاحتراز عما يُذم شرعاً. (والمُرُوءة) أي وعلى ملازمة المُرُوءة بضم الميم والراء، بعدها واوٌ ساكنة، ثم همزة، وقد تبدل وتدغم، وهو كمال الإنسان من صدق اللسان، واحتمال عَثَرَات الإخوان، وبذل الإحسان إلى أهل الزمان، وكَفّ الأذى عن الجيران. (1/247)
وقيل المروءة: التخلق بأخلاق أمثاله، وأقرانه وولدانه في لبسه، ومشيه وحركاته، وسكناته، وسائر صفاته. وفي " المفاتيح ": خوارم المروءة كالدباغة، والحِجَامة، والحِيَاكة، ممن لا يليق به من غير ضرورة، وكالبول في الطريق وصحبة الأراذل، واللعب بالحَمَام، وأمثال ذلك. ومجملها: الاحتراز عما يُذَمّ عُرْفاً (والمراد بالتقوى) أي ههنا (اجتناب الأعمال السيئة من شِرْك) أي جلّي، أو خَفِي (أو فسق) أي بترك واجب، أو بفعل حرام. (أو بدعة) أي مُكَفرة، أو داعية من صاحبها إلى مذهبه الفاسد، وإلا فقد يوجد مَن رُمي بالرفض، أو النصب في رجال الصحيح.
(تعريف الضَّبْطِ وتَقْسِيْمُه)
(والضبط:) أي ضبطان، والمراد بالضبط: (ضبط صَدْرٍ) أي إتقان قلب وحِفظ. (وهو) أي ضبط الصدر. (أن يُثْبِت) أي الراوي في صدره (ما سمعه) أي من الحديث ورواته (بحيث يتمكن) أي يقتدر (من استحضاره) أي مسموعه (متى شاء) الأظهر: إذا شاء، أي حين أراد أن يحدث به. (1/248)
(وضبط كتاب) وفي نسخة: أو ضبط كتاب، والنسبة مجازية، والإضافة بمعنى اللام، أو في (وهو) أي ضبط الكتاب (صيانته) أي حفظ الكتاب. (لديه) أي عنده من غير / 32 - أ / أن يغيره، حيث لا أمْنَ من تغيير المستعير فلا يضر وضعه أمانة عند غيره. (مذ) وفي نسخة: منذ (سمع فيه) أي من ابتداء زمان سَمِعَ في ذلك الكتاب (وصححه) حتى لا يتطرق الخلل إليه. (إلى أن يؤدي) أي الحديث (منه) أي من الكتاب قال السخاوي: وإن منع بعضهم الرواية من الكتاب (وقيد) أي التعريف (بالتام إشارة إلى الرتبة العُليَا) أي لا إلى أنّ الصحيح لا يوجد بدونه، فلا يَرِدُ ما أوْرَد تلميذه على قوله: كرواية بُرَيْد بن عبد الله كما سيأتي. (في ذلك) أي ضبط الصدر، والمعنى أنه لا يكتفى في الصحيح لذاته بمسمّى الضبط على ما هو المعتبر في الحسن لذاته، وكذا في الصحيح لغيره يكتفى فيه بمجرد الضبط. وأما ضبط الكتاب فالظاهر: أنّ كله تام لا يُتَصَوَّر فيه النقصان، ولهذا لا يقسم الحديث باعتباره، وإن كان يختلف ضبط الكتاب باختلاف الكُتّاب. قال تلميذه: / إن كان هذا هو التام فلا تتحقق المراتب، فإن لم تكن له هذه الحيثية فهو سيء الحفظ، أو ضعيفة، وليس حديثه بالصحيح، ثم الضبط بالكتاب لا يتصور فيه تمام وقصور. وبالجملة: ففي التعريف تجهيل قلت: (1/249)
أما الأول: فقد تقدم الجواب عنه بأنّ المراد بالمرتبة العُليا: الحالة النوعية لا الحالة المخصوصة. وأما الثاني: فقد تقدم الإشارة إليه بأنه يحتمل أن يكون مرجع ذلك هو المذكور بعيداً كما هو مقتضى ذلك، فيكون راجعاً إلى ضبط الصدر و يحتمل أن يكون راجعاً إلى ما ذكر من الضبطين ولا شك في تصور تمام ضبط الكتاب وقصوره، بل في تحقق وقوعه كما هو مشاهد في الكتب المصححة المقروءة على المشايخ، فالتجهيل منصرف عن أرباب التكميل إلى أصحاب التحصيل، وهو حسبي ونِعم الوكيل.
(تعريف المُتَّصِل)
(والمتصل: ما سَلِم إسناده من سقوط) أي سقوط راوٍ (فيه) أي في أثنائه فيشمل المرفوع، والموقوف. (بحيث يكون كلّ من رجاله) أي من رجال إسناده (سمع ذلك المروي) أي مشافهة، ومن غير واسطة (من شيخه) أو ممن أخذ عنه إجازةً على المعتمد، ذكره السخاوي وغيره. (والسند تقدم تعريفه) أي في ضمن الإسناد عند قوله: طرق كثيرة، (1/250)
بناء على أنَّ السند والإسناد واحد، أو عند قوله: في أصل السند. وفي " المنهل " السند: الإخبار عن طريق المتن وهو مأخوذ إمّا: من السند وهو ما ارتفع وعلا عن سفح الجبل، لأن المسند يرفعه إلى قائله. أو من قولهم: فلان سندٌ أي معتمد، فسُمي الإخبار عن طريق المتن سنداً لاعتماد الحفاظ في صحة الحديث وضعفه عليه. وأما الإسناد فهو رفع الحديث إلى قائله. والمحدثون يستعملون السند والإسناد لشيء واحد. انتهى. وقد صَرح السخاوي بتغايرهما / 32 - ب / لكن مآلهما واحد.
(تعريف المُعَلَّل لُغةً واصطلاحاً)
(والمُعَلَّل لغة:) أي من جهة اللغة. (ما فيه عِلّة) أي حرف من حروف العِلّة، والأنسب أن يقال: ما نُسِب إلى عِلّة لتحصل المناسبة المطلوبة بين عموم المعنى اللغوي والاصطلاحي، كما هو معتبر في نظائره من الحج، والصوم، والتصريف، وأمثال ذلك. (واصطلاحاً: ما) فيه أي حديث (فيه) أي وفي إسناده (علة) وهي كما (1/251)
سيجيء: عبارة عن عيب خفي غامضٍ طرأ على الحديث، وقَدَح في صحته مع أن الظاهر السلامة منه. وتُدرَك العِلّة بتفرد الراوي بذلك الحديث، وعدم المتابعة، وبمخالفة غيره مع قرائن تنبه العارف على وَهم بإرسال في موصول، أو وقف في مرفوع، أو دخول حديث في حديث كما سيأتي في بحث المعلل. فقوله: (خَفِية قَادِحَة) صفتان كاشفتان لأن كلّ عِلّة خفية حيث اعتبر الغموضة في تعريف العلة لكن لا لإخراج الظاهرة، لأن الخفية إذا أثرَت فالجلية أولى ولهذا لم يقيد بها ابن الصلاح، وقيد بها في " الخلاصة ". وإنما قيد بذلك لأن الظاهرة راجعة إلى ضعف الراوي، أو عدم اتصال السند، وهو محتَرزٌ عنه بما تقدم. وكذا قوله: قادحة، أي في صحة الحديث مانعة عن العمل به. وقال الطيبي: ويُطِلق بعضهم اسم العلة على مخالفة لا تَقْدَح، كإرسال ما وصله الثقة الضابط، حتى قال: من الصحيح ما هو صحيح معلل.
1 (تعريف الشَّاذِّ لغةً واصطلاحاً)
(والشاذ لغة: / الفرد) أي بمعنى المنفرد. (واصطلاحاً: ما يخالف فيه الراوي مَن هو أرجح منه) أي في الضبط، أو العدد مخالفةً لم يمكن الجمع بينهما. قال تلميذه: يدخل في تعريفه المنكر. (1/252)
فالصواب أن يقول: ما يخالف فيه الثقة مَن هو أرجح منه. قلت: يدل عليه قوله: أرجح، فتدبر، مع أن بعضهم قالوا: الشاذ والمنكر واحد، والفارقون بينهما قالوا: المنكَر ما يخالف فيه الجمهور، وهو أعم من أن يكون ثقة أم لا. (وله تفسير آخر سيأتي) وهو قوله: ثم سُوء الحفظ إن كان لازماً للراوي في جميع حالاته، فهو الشاذ على رأي، وهو بهذا التفسير غير مراد هنا لأن قوله: تام الضبط، يغني عن الاحتراز عنه. قال المحشي: بل له تفسيران آخران كما سيأتي: أحدهما: ما رواه المقبول مخالفاً لما هو أولى منه. والمقبول أعم من أن يكون ثقة، أو صدوقاً، وهو دون الثقة. وثانيهما: ما رواه الثقة مخالفاً لما رواه من هو أوثق منه. والثالث: أخصّ من الثاني، كما أن الثاني أخص من الأول. وله تفسير رابع: وهو ما يكون سوء الحفظ لازماً لراويه في جميع حالاته وله تفسير خامس: وهو ما يتفرد به شيخ. وله تفسير سادس: وهو ما يتفرد / 33 - أ / به نفسه ولا يكون له مُتَابِع وله تفسير سابع: ذكره الشافعي رحمه الله تعالى وهو: ما رواه الثقة مخالفاً لما رواه الفاسق بالمقايَسَة. فإنّ كل قيدٍ احتراز عن نقيضه حذراً عن تطويل الكلام فقوله: تام الضبط، احتراز عن الساهي والمغفل، سواء عُلِم ضبطه أو لا. والمراد بالعدل: هو العدل في نفس الأمر سواء عُلِم عدالته أم لا، فهو احتراز عن غير العدل في نفس الأمر، أي الفاسق كما تُشْعِر به عبارة الشيخ، وإن كان المراد (1/253)
تعريف ما يعلم صحته، فالمراد بالعدل ما تعلم عدالته أو لم تعلم، كما تُشعِر به عبارة " الخلاصة ". وقوله: متصل السند، احتراز عن المرسَل والمنقطع، والمُعْضَل. وقوله: غير المعلل، احتراز عما فيه علة قادحة وسيجيء بيان المعلل، وهو تفصيل حسن فتأمل. (تنبيه:) أي هذا تنبيه لك أيها الطالب على ما قد يخفى عليك من فوائد قيود التعريف مما أُلقيَ إليك. (قوله:) أي قول الماتِن وهو المصنف الشارح. (وخبر الآحاد) أي من تعريف الصحيح (كالجنس) أي يشمل الصحيح وغيره، وإنما جعله كالجنس مع أنه هو المعرف بحسب الظاهر، لأن في الحقيقة الصحيحَ هو خبرُ الآحاد، فهذه العبارة مثل أن يقال: الحيوان الناطق هو الإنسان، فالمعرّف هو الصحيح لذاته والتعريف هو خبر الواحد كما نبّه عليه بالإشارة إليه. فقوله: لذاته من أجزاء المعرّف لا من أجزاء التعريف كما يُوهِم. ولعل النكتة في قضية عكس التعريف الإيماء " إلى الانحصار "، كما يقال: في الفرق بين زيد هو المنطلق، بين المنطلق هو زيد (وباقي قيوده) أي قيود الماتن، أو التعريف. (كالفَصْل) يخرج ما عدا الصحيح. وإنما قال: كالجنس وكالفصل، لأن الصحيح ليس من الماهيّات الحقيقية حتى يكون له الجنس والفصل الحقيقيان.(1/254)
(وقوله: بنقل عدل، احتراز عما ينقله غير العدل) وهو مَن عُرِف / ضعفه، أو جُهِلَتْ عينُه، أو حاله، فالمراد بالعدل مشهور العدالةِ لا مستورها. واحترز بالضبط عما في سنده مغفل كثير الخطأ، وأن عرف بالصدق، والعدالةِ لعدم ضبطه. (وقوله: " هو " يُسَمَّى فصلاً) إما مبالغة كرجل عدل، أو بمعنى الفاصِل (يتوسط) استئناف فيه سائبة تعليل، أي لكونه يتوسط (بين المبتدأ والخبر يُؤذِن) بهمزة ساكنة، ويجوز إبدالها، وهو استئناف آخر، أو حال، أي يُعْلِم (بأنّ ما بعده) أي بعد هو (خبر عمّا قَبْلَه، وليس) أي هو (بنعت له) أي لما قبله. قال شارح: ولا يلزم الفصل بين النعت والمنعوت بأجنبي، وفيه بحث لا يخفى وتقدم وجه آخر أنه مبتدأ ثان، والجملة خبر المبتدأ الأول. (وقوله: لذاته، يخرج ما يسمى صحيحاً بأمر خارج) أي عنه ويسمى صحيحاً لغيره / 33 - ب /. (كما تقدم) أي تحقيقه في الشرح. (وتتفاوت رُتَبُهُ) جمع رتبة (أي) رُتَب (الصحيح) أي مراتبه: الأعلى، والأوسط، والأدنى. (بسبب تفاوت هذه الأوصاف)، أشار المصنف بأن الباء في المتن للسببية، في نسخة: بتفاوت هذه الأوصاف، على أن الباء متن داخلة علبى هذه، والمضاف الذي هو " تفاوت " مقدَّر بينهما، وهذا مَزْجٌ غير ممدوح، فكان الأولى (1/255)
أن يأتي بالمتن ويقول: بتفاوت هذه الأوصاف، ثم يقول: أي بسببها، أو يقول: بهذه الأوصاف، ثم يقول: أي بتفاوتها، وهذا أمر سهل. والمراد بالأوصاف: العدالة، والضبط، وغيرهما. (المقتضية للتصحيح في القوة) متعلق بالتفاوت. قال المحشي: ظاهر كلامه مشعر بأن كل واحد من هذا الأوصاف قابل للقوة والضعف، وفي كون تام الضبط وعدم الشذوذ كذلك نظر يعرف بالتأمل. وقال التلميذ: لا أعلم بعد التمام رتبة، ودون التمام لم يوجد الحد، فليُطْلَب لتصوير هذه الأوصَاف، وكيف تتفاوت. قلت: قد تقدم أن المراد بالتمام تمامٌ نوعيٌ لا شخصي، ولذا يقال: هذا أتمُّ من ذلك سواء يطلق هذا حقيقة، أو مجازاً. ولا شك في تحقق تفاوت مراتب العدالة، والضبط بين أفراد نوع الإنسان من العدول، والضابطين من الصحابة، والتابعين، وبقية السلف، والخلف من العلماء العاملين رضوان الله تعالى عليهم أجمعين بل صار كالبديهي التفاوت بين البخاري وابن ماجه مثلاُ في الضبط وبين مالك والنسائي في ظهور العدالة. (فإنها) أي الأوصاف . (لما كانت) أي بنفسها. (مفيدةً لغلبة الظن الذي عليه) أي على الظن. (مدار الصحة) نقل تلميذه أن المصنف قال: الغلبة ليست بقيد، وإنما أردت دفع توهم إرادة الشك لو عبرت بالظن. انتهى. ولا شك أنّ الغلبة قيدٌ معتبر لكنه من مفهوم الظن إذ لا يطلق غالباً إلا على الطرف الراجح باعتبار معناه الحقيقي، ولكن قد يُطلَق مجازاً ويراد به(1/256)
الشك كما في قوله تعالى:: {{إن الظن لا يغني من الحق شيئا}} وقد يطلق ويراد به اليقين كقوله تعالى (الذينَ يَظُنُّونَ أنَّهم مُلاَقُوا ربِّهم) فذكر الغلبة لدفع المجاز. (اقتضت) أي الأوصاف المختلفة المراتب، أو الإفادة التي لها التفاوت (أن يكون لها) أي للصحة. / (درجات) أي مراتب عَلِيِّة كقوله تعالى: : {{هم درجات عند الله}} والدَّرَكَات ضِدها، وهي المستعملة في المراتب السُّفْلِيَّة، ولذا قال دفعاً لإرادة المجاز: (بعضها فوق بعض بحسب الأمور المقوية) أي لأصل الصحة كما أن دَرجات الجنة بحسب تفاوت أعمال أصحابها، ودرجات النبوة / 34 - أ / مختلفة بحسب مقامات أربابها كما قال تعالى:: {{تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض}} مع وجود المشاركة في أصل النبوة، ومعنى الرسالة، وموافقة الكل في دخول الجنة ووصول نعيمها، فلينظر التلميذ، والمحشي فيما حققناه ليظهر لهما تحقيق كلام الشيخ وتحقق مقامه، وحصول مرامه. والحاصل: أنه لما كان بناء صحة الحديث على الظن الحاصل من الصفات المشروطة المتفاوتة في إفادة الظن، لزمت أن تكون للصحة مراتب متفاوتة فاندفعت المناقشة في اللزوم والمفهوم من قوله: اقتضت. (وإذا كان) أي الأمر (كذلك) أي كما قدمناه من التفاوت في مراتب الصحة المترتب على التفاوت في الأوصاف. (فما يكون رواته في الدرجة العليا) (1/257)
أي الحقيقة، أو الإضافية. والمراد به العلو الصنفي، لا النوعي المعتبر في أصل الصحيح (من العدالة، والضبط، وسائر الصفات التي توجب الترجيح) أي بعد تحقق التصحيح. (كان أصح مما دونه) أي مما لم يكن رواته كذلك. قال تلميذه: هذا شيء لا ينضبط ولم يعتبروه في الصحابة. قلت: أما عدم الانضباط، فلا يضر، فإن فوق كل ذي علم عليم. وأما دعواه أنهم لم يعتبروه في الصحابة، فإن أراد أنه في نفس الصحة فمسلم، إذ الصحابة كلهم عدول على الصحيح، وإن أراد أنه لا فرق بين الخلفاء الأربعة، وبين غيرهم من الأصحاب كالأعراب الذين كانوا يغفلون عن غسل الأعقاب حتى قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: " ويل للأعقاب من النار " فهو خارج عن الصواب عند أولي الألباب. (فمن المرتبة العليا) أي التي ذكرناها. (في ذلك) أي باب الصحيح، أو في هذا الفن. (ما) أي إسناد (أطلق عليه بعض الأئمة) أي بعض أئمة المحدثين. (1/258)
(أصح الأسانيد)
(أنه أصح الأسانيد: كالزهري) قال المحشي: قوله: " فمن المرتبة العليا " ظاهره أن كلمة " من " تبعيضية، ويأباه قوله فيما بعده حيث قال: والمرتبة الأولى هي التي أطلق عليها الأئمة... الخ. قلت: لا يأباه لأنها من جملة أفراده، ويشير إليه عطف ما بعده عليه، ثم تكلف، بل تعسف حيث قال: ويمكن أن يجعل قوله: " ما أطلق " مبتدأ. وقوله: كالزهري خبراً عنه، وقوله: من المرتبة العليا بيانا لقوله: ما أطلق، ويجوز إطلاق المرتبة على الإسناد بمعنى ذي المرتبة، أو من زائدة. انتهى كلامه. والزهري: هو ابن شهاب القرشي المدني إمام تابعي جليل. (عن سالم بن عبد الله بن عمر) أي ابن الخطاب. (عن أبيه) أي عبد الله بن عمر. وفي بعض النسخ: عن سالم، عن عبد الله وحينئذ لا حاجة إلى قوله: عن أبيه بل يجب تركه، ولا يجوز أن يرجع إلى عبد الله لأنه لم يرد هذا الحديث عن / 34 - ب / عمر رضي الله تعالى عنه. والمعنى أصح / الأسانيد المنتهية إلى ابن عمر هو هذا عند بعض كإسحاق بن راهويه، و أحمد بن حنبل، وكذا قوله: (وكمحمد بن سيرين) أي الأنصاري، البصري، التابعي الشهير بكثرة الحفظ، والإتقان، وتعبير الرؤيا. (عن عبيدة) بفتح العين، وكسر الموحدة. (ابن (1/259)
عمرو) بالواو في آخره. (السلماني) بسكون اللام على الصحيح نسبة إلى سلمان، حي من مراد، الكوفي التابعي، فهو من رواية الأقران بعضهم عن بعض. (عن علي) أي ابن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه. قال علي بن المديني، وعمرو بن علي القلانسي، وغيرهما: أنه أصح الأسانيد. (وكإبراهيم النَخعي) بفتح النون، والخاء المعجمة نسبة إلى نخع قبيلة. (عن علقمة) أي ابن قيس راهب أهل الكوفة. (عن ابن مسعود) رضي الله تعالى عنه، وهذا قول النسائي وٍٍ يحيى بن معين. وعن البخاري أنه قال: أصح الأسانيد كلها: مالك عن نافع، عن ابن عمر، وعن أبي بكر بن أبي شيبة، عن الزهري، عن علي بن الحسين، عن أبيه، عن علي رضي الله تعالى عنه. (ودونها في الرتبة) أي دون الرتبة العليا. (كرواية بريد) بضم الموحدة مصغرا. (ابن عبد الله بن أبي بردة) بضم الموحدة. (عن جده) أي عن جد بريد. وفي كلام السيوطي: عن أبيه، عن جده، وهو أبو بردة. (عن أبيه) أي أبي جده (أبي موسى) عطف بيان لأبيه، وهو (1/260)
الأشعري رضي الله تعالى عنه، قال التلميذ: لقائل أن يقول: إن كان بُرَيْد بن عبد الله تامَ الضبط، فلا يصح جعله في الرتبة الدنيا، وإن لم يكن تامَ الضبط، فليس حديثه بصحيح، فلم يدخل في أصل المَقْسَم. قلت: هو تامّ وغيره أتم وأصرح، ولذا يصح: الصحيح وأصح. (وكحَمَّاد) بتشديد الميم. (ابن سَلَمَة، عن ثابت، عن أنس. ودونها) الظاهر ودونه أي دون دونها. (في الرتبة: كسُهَيْل) بالتصغير. (ابن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة. وكالعَلاء) بفتح العين. (ابن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة) ومعرفة مراتبهم موقوفة على معرفة أسماء الرجال وطبقاتهم، وتفصيلِ فضائلهم وصفاتهم. (فإنّ الجميع) أي جميع من ذكر ممن هو في أعلى المراتب، ومَن هو في دونها، وأدونها وغيرهم. (يشملهم اسم العدالة، والضبط) أي أصلهما الكافيين في أصل الصحة. والمراد بالضبط: تمام الضبط، واللام للعهد لما صرح فيما سبق، فلا يرد ما قال تلميذه: هذا ظاهر في أن المعتبر في حَدِّ الصحيح مطلق الضبط لا الموصوف بالتمام. (إلا أنّ في المرتبة الأولى) أي المشتملة على الطرق العليا فيهم (من (1/261)
الصفات المرجِّحة) يعرفها المحدثون الحُذاق. (ما يقتضي تقديم روايتهم) أي المذكورين / 35 - أ / في الطبقة العليا. (على التي تليها، وفي التي تليها،) أي تلي التي تليها. (من قوة الضبط) أي وغيره من الصفات. (ما يقتضي تقديمها على الثالثة) أي على المرتبة الثالثة وطبقتها من الرجال.
(مناظرة أبي حنيفة مع الأوزاعي)
قال تلميذه: ومناظرة أبي حنيفة مع الأوْزَاعي معروفة رواها الحَازِميّ قلت: إنها لا تنافي ما ذكره الشيخ من التفضيل على وجه التفصيل / بين العدول من الرواة. غايته أن الإمام اختار الترجيح بالفقه الذي هو استناد الاعتماد والأوزاعي اختار علو الإسناد وقد ذكرها ابن الهُمَام. وهي أنَّ الإمام أبا حنيفة اجتمع مع الأوْزَاعِيّ بمكة في دار الحَنَّاطين، فقال الأوْزَاعِيّ: ما لكم لا ترفعون الأيدي عند الركوع، والرفْعِ منه؟ فقال: لأجل أنه لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه شيء - أي مما يوجب العمل به بأن لا يكون له معارِض أرجح منه، أطلق لأنه أدْعى إلى إلزام الخصم - فقال الأوْزَاعِيّ: كيف لم يصح وقد حدثني الزُّهْرِيّ، عن سَالِم، عن أبيه - أي ابن عُمَر - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة، وعند (1/262)
الركوع، وعند الرفع منه. فقال أبو حنيفة: حدثنا حمّاد عن إبراهيم، عن عَلْقَمَة والأسْود، عن عبد الله بن مسعود: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يرفع يديه إلا عند افتتاح الصلاة، ثم لا يعود لشيء من ذلك.... فقال الأوزاعي: أُحَدِّثُك عن الزُّهري، عن سالم، عن أبيه، وتقول: حدثني حَمَّاد، عن إبراهيم فقال أبو حنيفة رحمه الله: كان حَمَّاد أفقه من الزُّهري، وكان إبراهيم أفقه من سَالم، وعلْقَمَة ليس بدون ابن عمر في الفقه، وإن كانت لابن عمر صحبة، وإن كان له فضل صحبة، فالأسود له فضل كثير، وعبدُ الله عبدُ الله، فرجَّح بفقه الرواة كما رجح الأوزاعي بعلو الإسناد، وهو - أي الترجيح بالفقه - المذهبُ المنصور عندنا. انتهى كلام المحقّق. وبقية هذا البحث حررناها في " شرح المشكاة ". (وهي) أي المرتبة الثالثة. (مقدمة على رواية مَن يُعَدّ) بصيغة المجهول. (ما يتفرد) أي هو (به) راجع إلى ما. (حَسَناً) مفعول ثانٍ، أي يُعَدُّ حسناً لذاته لأن مرتبة الصحيح فوق مرتبة الحسن، بل مُقَدمَّة أيضاً على رواية مَن يُعدّ ما يتفرد به صحيحاً لغيره. (كمحمد) أي مَن يعد المذكور كمحمد (ابن إسحاق، عن عاصم بن عمر،) بلا واو. (عن جابر، وعمرو) بالواو وكعمرو. (ابن شُعَيْب) أي ابن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص. (عن أبيه،) أي شُعَيْب، أو محمد. (1/263)
(عن جَدِّه) أي جَدّ عمرو، أو جد شعيب. والجد محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص كذا في " المُظْهِر ". وقيل: جد عمرو بن شعيب هو عبد الله بن عمرو بن العاص، وأبوه محمد. والمراد من الجد الجد الأعلى وهو الصحابي، لكن فيه أن عمرو بن العاص أيضاً صحابي، ويندفع / 35 - ب / بأنه معلوم من الخارج أنه لم يدركه. قال الزَّعْفَرَاني شارح " المصابيح " اختلف أنّ شعيباً سمع من جده عبد الله بن عمرو أم لا، ولذا لم يخرِّج الشيخان الحديث الذي رواه عمرو عن جده. (وقِسْ على هذه المراتب) أي العليا، والوسطى، والسُّفْلَى. (ما يشبهها) أي من اتفاق الشيخين، وأفراد البخاري، وأفراد مسلم. أو المعنى: قِسْ على هذه المراتب الثلاثة المذكورة المرتبة ما يشبهها من أمثلة أخرى في الصفات المرجِّحة (والمرتبة الأولى هي التي أطْلَقَ عليها بعض الأئمة أنها أصح الأسانيد) إنما أعادها ليرتبط بها قوله: (والمعتمد عدم الإطلاق / لترجمة معينة) كأن يقال: للزُّهْرِي، عن سالم... الخ مثلاً إنه أصح الأسانيد على الإطلاق من جميع أسانيد الصحابة وهذا معنى قول الجَزَرِيّ: ولم أرَ مَن عمَّمَه، وهذا يؤيد مخاصمة أبي حنيفة للأوزَاعي. (منها) أي من التراجم بدلالة ترجمة، أو من المرتبة الأولى يعني من تراجمها. (1/264)
والحاصل: أنّ القول المختار أنه لا يُطْلقُ على إسناد معيَّن بأنه أصح الأسانيد مطلقاً، لأن تفاوت مراتب الصحة مترتب على تمكن الإسناد من شرط الصحة، ويَعِزّ وجود أعلى درجات القبول في كل فرد فرد من ترجمة واحدة بالنسبة لجميع الرواة، كذا حققه العراقي، وصرَّح به غير واحد من المحدثين، وقال النووي: إنه المختار. لأن الإطلاق يتوقف على وجود أعلى درجات القبول من الضبط، والعدالة، ونحوهما في كل فرد من رواة السند المحكومِ له بالنسبة لجميع الرواة الموجودين في عصره، وَيعِزّ اجتماع سلسلة كذلك. إذ لا يعلم، أو يظن أن هذا الراوي حاز أعلى الصفات حتى لا يوازى بينه وبين كل فرد فرد من جميع مَن عاصره، فإن كان لا بُدّ من الإطلاق، فيقيّد كل ترجمة بصحابيّها، أو بالبلد التي منها أصحاب تلك الترجمة بأن يقال: أصح أسانيد فلان أو فلانين، فإن أقل انتشاراً وأقرب إلى الحصر، بخلاف الأول، فإنه حصر باب واسع جداً شديد الانتشار، فظهر أن إطلاقهم لا يُستفاد منه أَصَحِّيَة الإسناد المعين. (نعم، يُستفاد من مجموع ما أطلق الأئمة عليه ذلك) أي ما (1/265)
ذُكِر من كونه أصح الأسانيد، وليس المراد المجموع من حيث المجموع (أَرْجَحِيته) أي يُستفاد منه أنّ ما أطلقوا عليه ذلك من الأسانيد أرجح (على ما لم يطلقوه) أي لا على عموم الأسانيد، ومطلقها. (ويلتحق بهذا التفاضل) أي الذي عليه مدار علو الإسناد (ما اتفق الشيخان على تخريجه) ويقال له: المتفق عليه، أي ما / 36 - أ / أودعه الشيخان البخاري ومسلم، في صحيحيهما - الذي أولهما أصحهما - لا كل الأمة، وإن تضمن اتفاقهما لتلقِّيها لهما إلا ما عُلِّلَ مما أجيب عنه بالقَبول. قال السخاوي: بل ما فيهما - إلا ما استُثْني - قطعي، دون مطلق الصحيح فنظري، ثم إنه على مراتب: فأعلاها ما اتفق على تواتره، وإن اشترك مع ما عداه في مسمّى إفادة العلم، ثم المشهور. (بالنسبة إلى ما انفرد به أحدهما، وما انفرد به البخاري بالنسبة إلى ما انفردَ به مسلمٌ لاتفاق العلماء بعدهما على تلقّي كتابَيْهما) أي على أخذهما، والإقبال عليهما. (بالقَبول) أي علماً، وعملاً. (واختلاف بعضهم) أي ولوقوع اختلاف بعضهم. (1/266)
(في أيهما أرجح) قيل: الصواب: في أنّ أيهما أرجح فإن حرف الجر لا يدخل الجملة، وهذا الاختلاف لا يوجب عدم تفاضل ما اتفقا على غيره. قال المصنف: ما انفرد به البخاري راجحٌ أيضاً لترجيح أفضليته، فإنهم إذا قَصَرُوا اختلافهم عليهما استفيدَ مرجوحية غيرهما، وترجيحهما، أي البخاري ومسلم إذا اتفقا: أفاد تصريح الجمهور بتقديم البخاري. قال تلميذه: ليس في هذا أكثر مما في الشرح في المعنى لكن في اللفظ قلت: زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، فأقل ما يكون أنه أوضَحَ ما أُغْلِق في الشرح.
(المفاضلة بين الصحيحين)
(فما اتفقا عليه أرجح من هذه الحيثية مما لم يتفقا عليه) قال المصنف: أي من حيث تلقي كتابَيْهما بالقَبول، وقد يعرض عليه عارض يجعل المَفُوقَ فائقاً. قال تلميذه: فيكون من حيثية أخرى وهو المفهوم من الحيثية (وقد صرَّح الجمهور بتقديم " صحيح البخاري " في الصحة) إشارة إلى (1/267)
دليل تقديم ما انفرد به البخاري على ما انفرد به مسلم. (ولم يوجد عن أحد التصريح بنقيضه) أي بتقديم مسلم على البخاري ويطلق عليه النقيض في العُرْف ولم يُرْوَ عدم تقديم البخاري على مسلم كما هو متعارَف أهل الاصطلاح، يدل عليه قوله الآتي: فلم يصرح بكونه أصح من صحيح البخاري. فإن قيل: اختلاف بعضهم في أيِّهما أرجح يُشْعِر بقول بعضهم في أرجحية مسلم، فهذا تصريح بنقيضه. قلنا: لعلَّ ما ذكره من اختلافهم مبنيّ على إطلاقاتهم وما يفهم من كلامهم، ولا يكون منهم تصريح بذلك، وما نُقِل عن الشافعي من قوله: ما أعلم بعد كتاب الله عز وجل أصح من موطأ مالك، فقبل وجود الكتابين، كذا في الجواهر. (وأما ما نُقِل عن أبي علي النَيْسابُورِيّ) بفتح النون، وسكون الياء، بعدها سين مهملة. (أنه قال: ما تحت أديم السماء) أي على ظاهرها، أو جِرْمِها.(1/268)
(أصح من " كتاب مسلم "، فلم يصرِّح) فاعله عائد إلى " ما نُقِل "، والإسناد مجازي أو إلى أبي عليّ، فجواب أمّا محذوف / 36 - ب / وهذا تعليل للجواب، والمعنى: وأما ما نقل فلا ينافي ما ذكر لأنّ ذلك الناقل، أو المنقول عنه لم يصرح (بكونه) أي كتاب مسلم. (أصح من " صحيح البخاري "، لأنه إنما نفى وجود كتابٍ أصح من " كتاب مسلم " ؛ إذ المنفي إنما هو ما تقتضيه صيغة أفعل من زيادة صحة في كتاب شارَك " كتاب مسلم " في الصحة يمتاز) أي ذلك الكتاب. (بتلك الزيادة عليه) أي على " كتاب مسلم ". (ولم يَنْفِ المساواة) فإن قلت هذا إنما هو بحسب اللغة، وأما بحس العُرْفِ فلا. والمعتبر هو المفهوم العُرْفيّ كما حُقِّق في حديث: " ما رأيتُ أحْسَنَ مِن رسول صلى الله عليه وسلم " وقد صرَّح السيد في " شرح المفتاح " وغيره بأن المقصود من مثل هذا التركيب نفي الأفضلية والمساواة معاً، وذلك لأنه المتبادَر من الكلام. قلت: فلا يكون صريحاً بأن مسلماً أصح من البخاري لاحتمال أنْ يراد المعنى لغة، ولذا قال: فلم يصرح، فيه أنه نقيض ما قالوا من أن البخاري أصح من مسلم سواء أراد به نفي الأفضلية، أو نفيها مع نفي المساواة. (1/269)
قال المصنف: فإن قيل: العرف يقضي في قولنا: ما في البلد أعلم من زيد، بنفي من يساويه أيضاً، قلنا: لا نُسَلِّم، أنّ عرفهم كذلك. قال تلميذه: يرد هذا قول النسفي في " العمدة " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما طَلَعَتْ شَمْسٌ ولا غَرَبَتْ بعد النبيين على أحدٍ / أفضل من أبي بكر ". قال النسفي: فهذا يقتضي أن أبا بكر أفضل من كل من ليس بنبي. انتهى. قال المصنف: سَلّمْنَا، لكن يجوز إطلاق مثل هذه العبارة، وإن وجد مساوٍ، إذ هو مقام مدح ومبالغة، وهو يحتمل مثل ذلك. قال تلميذه: فتفوت فائدة اختصاصه بالذكر، وهو خلاف القصد. انتهى وهو غريب لأنّ كلام الشيخ أن الفائدة قد تكون المبالغة، ولهذا صرح العلماء: بأنه ليس نصّ في أفضلية الصِّدِّيق وعلي رضي الله تعالى عنهما. قال ابن القَطَّان: ذهب مَن لا يعرف معنى الكلام إلى أنّ مثل قوله صلى الله عليه وسلم: " ما أَقَلّتْ الغَبْرَاءُ، ولا أَظَلَّتْ الخَضْرَاءُ أصدقَ لَهْجَةُ من أبي ذَرّ " مقتضاه أن يكون أبو ذر صدق العالَم أجمع. قال: وليس المعنى كذلك (1/270)
وإنما نفى أن يكون أحد أعلى رتبة منه في الصدق، ولم ينف أن يكون في الناس مثله في الصدق، وإلا لكان أصدق من الصِّديق رضي الله عنه، وليس كذلك بل قُصارى أمره المساواة له. ولو أراد صلى الله عليه وسلم ما ذهبوا إليه لقال: أبو ذر أصدق من كل ما أقَلّتْ... وأما قول شارح: ويمكن أنْ يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم أورد كلامه على اللغة لا العُرْف، وإلا لكان أبو ذر أصدق من النبي صلى الله عليه وسلم وكذا من الصديق، فغفلة عظيمة، بل زلة جسيمة / 37 - أ / لأن أبا ذرّ لا يصح أن يساوي صدقه صدقَ النبي صلى الله عليه وسلم بالإجماع، فهو وسائر الأنبياء مستثنى عقلاً وشرعاً، ويراد الحديث أنه أصدق مِن أقرانه كما أنّ كلام الله تعالى مستثنى في كلام النيسابوري، وإلا فيلزم المساواة قطعاً وهو خلاف الإجماع. وقال البِقَاعي: الحق أن هذه الصيغة تارة تُستعمل على مقتضى أصل اللغة، فتنفي الزيادة فقط، وتارة على مقتضى ما شاع من العرف فتنفي المساواة. ومثل قول عليه الصلاة والسلام: " ما طَلَعَتْ شمسٌ، ولا غَرَبَتْ على أَحَدٍ... " الحديث، وإن كان ظاهره نفي أفضلية الغير لكنه إنما ينساق لإثبات أفضلية المذكور. والسِّرُّ في ذلك أنّ الغالب في كل اثنين هو التفاضل دون التساوي، فإذا نُفي أفضلية أحدهما ثبت أفضلية الآخر. وبمثل هذا ينحلُّ الإشكال المشهور على قوله صلى الله عليه وسلم: " مَنْ قال حينَ يُصْبحُ، وحين يُمْسِي: سُبْحَاَن اللهِ (1/271)
وبحمده مئةً مرة لم يأتِ أحدٌ يوم القيامة بأفضل مما جاء به، إلا أحدٌ قال مِثْلَ ذلك، أو زَادَ عليه ". فالاستثناء بظاهره من النفي، وبالتحقيق من الإثبات ويصير ذلك كالحديث الذي روي عن أبي المُنْذِر قال: قلت يا نبيّ الله: عَلِّمني أفضل الكلام قال: " يا أبا المُنْذِر، قل: لا إله إلا الله وحدَه لا شَرِيكَ له، لهُ المُلْكُ، وله الحمدُ، يحيي ويُمِيتُ بيدِه الخيرُ وهو على كل شيءٍ قدير، مئةَ مرة في كل يوم، فإنك يؤمئذ أفضل الناس عملاً إلا مَن قال مثلَ ما قلت ". انتهى والحاصل: أن الحمل على المعنى اللغوي كافٍ لنفي التصريح ومنعه (وكذلك) أي ومثل ما تقدم في عدم إفادة تصريح تقديم صحيح مسلم من جميع الوجوه. (ما نُقلِ عن بعض المغاربة أنّه) أفرد الضمير باعتبار / لفظ البعض، والمراد أنّ جمعاً منهم. (فضَّل " صحيح مسلم " على " صحيح البخاري ") لكن أوَّله الجمهور وقالوا: إنْ صَحّ. (فذلك) أي فترجيح مُسْلِم مُسَلَّم (فيما يرجع إلى حسن السِّياق) أي بين الأحاديث (وجَوْدَة الوضع) أي في الثبوت (والترتيب) فإنه يبدأ بالمجمل، والمُشْكِل والمنسوخ، والمُعَنْعَن، والمُبْهَم ثم يُردِف بالمبين، (1/272)
والناسِخ، والمصرِّح، والمعين، والمنسوب. كذا نقله البعض عن شرح السخاوي " للتبصرة والتذكرة ". وقد اختص مسلم في كتابه أيضاً بجمع طرق الحديث في مكان واحد لُيُسَهِّل الكشف منه بخلاف البخاري كما في " شرح التقريب ". (ولم يُفْصِح) أي لم يبين، ولم يُصَرِّح. (أحدٌ منهم) أي من المغاربة، وغيرهم من المحدثين (بأن ذلك) أي التفضيل (راجع إلى الأصَحِّية) أي أصَحِّية مسلم من البخاري. (ولو أفصحوا به) أي ولو أوضحوا بكونه أصح. (لرده) أي إفصاحهم (عليهم شاهد / 37 - ب / الوجود) الإضافة للبيان، يعني إن أظهروا رجوع التفضيل إلى الأصَحِّية لرَدّ شاهدُ الوجود - الذي إنكاره مكابرة - ذلك الرجوع عليهم، ودفعه إليهم لأنه خلاف ما عليه الوجود. (فالصفات التي تدور عليها الصحة) أي من العدالة، وتمام الضبط، وغيرهما من وجود الاتصال، وعدم الشذوذ (في كتاب " البخاري " أتم منها) أي من تلك الصفات الواقعة (في " كتاب مسلم " وأسدُّ) بِفتح السين المهملة، وتشديد الدال المهملة، أي أكثر سداداً، وأظهر صواباً. (1/273)
(شرط البخاري ومسلم)
(وشرطه) أي البخاري بحسب ما تُتُبع في صنيعه (فيها) أي في الصحة (أقوى وأشد وأمّا رجحانه من حيث الاتصال) أي اتصال السند. (فلاشتراطه) أي البخاري. (أن يكون الراوي قد ثبت له لِقَاء مَن روى عنه ولو مرةً) يعني وإذا ثبت اللقِيّ، فكل ما روي عنه محمول على أنه سمع منه بلا واسطة، فهذا كمال ما يمكن أن يقال في الاتصال. (واكتفى مسلم بمطلق المعاصرة) أي وإمكان اللقِيّ فحُسْنُ الظن حَمْلُ الرواية على الاتصال، فاندفع بهذا ما ذكره محشٍ. فإن قلت: كيف يكفي ذلك مع أن كتابه صحيح ولا بد فيه من الاتصال؟ قلت: لعله جاء هذا الحديث في كتابه في موضع آخر متصلاً لو كان اتصاله بمَن روى عنه مشهوراً، فالمراد بمَن روى عنه من روى عنه ظاهراً ولو كان بالواسطة. انتهى. وفيه أنه لو كان كذلك لكان الاختلاف لفظياً. والصواب: كون الخلاف حقيقياً وأنّ هذا تفصيل لمجمل ما سبق من قوله: فالصفات... الخ. وحاصله: أنّ البخاري أشد اتصالاً من كتاب مسلم لأن مسلماً كان مذهبه أنّ الإسناد المعنعن له حكم الاتصال إذا تعاصر المُعَنْعِن والمُعَنْعِن عنه، وأمكن (1/274)
اجتماعهما، والبخاري لم يحمله على الاتصال حتى يثبت اجتماعهما ولو مرة واحدة. ولهذا قال النووي: وهذا المذهب يرجِّح كتاب البخاري. (وألزم) أي مسلم (البخاريّ بأنه يحتاج) البخاري (إلى أن لا يقبل العنعنة) وهي مصدر مصنوع مأخوذ من روى فلان، عن فلان، / على طريقة البسملة، والحمدلة، وغيرهما. قال العراقي: العنعنة مصدر عنعن الحديث إذا رواه بلفظ من غير بيان للتحديث، أو الإخبار، أو السماع. (أصلاً) أي سواء كانت عنعنة معاصر، أو عنعنة مُلاقٍ، لأن المقصود من اشتراط اللقاء السماع. والعنعنة تحتمل عدم السماع. فما باله يقبل عنعنة الملاقي؟ ! (وما ألزمه) أي مسلم البخاريّ (به ليس بلازم لأن الراوي إذا ثبت له اللقاء مرة، فلا يجري في روايته احتمال أن لا يكون قد سمع منه) ومراده أن / 38 - أ / احتمال عدم السماع بعيد جداً، فوقع النفي على وجه الإطلاق لإرادة المبالغة. ويدل عليه تعليله بقوله: (لأنه يلزم من جريانه) أي جريان الاحتمال على تقدير وقوعه. (أن يكون) (1/275)
أي الراوي. (مدلساً) بتشديد اللام المكسورة. وهو: مَن يروي الحديث عن معاصره وملاقيه، والحال: أنه ليس له سماع عنه. (والمسألة) أي التي نحن فيها (مفروضة في غير المدلس) على ما سيأتي أنّ عنعنة المعاصر محمولة على السماع، إلا مِن المدلِّس. وبما حررنا اندفع قول تلميذه اعتراضاً على المصنف في قوله: فلا يجري في روايته احتمال، بأنه إن أراد عقلاً فممنوع، وإن أراد اللازم المذكور، فِمثله عن عنعنة المعاصر الذي لم يثبت عدم لقائه لَمن عاصره على ما لا يخفى عن ذوي النهى. إذ حاصل كلام الشيخ: أنّ العنعنة وإن كانت تحتمل عدَم السماع، إلا أنها لا تحتمل هنا غير السماع، وإلا يلزم أن يكون الراوي مدلساً، والمسألة مفروضة في غير المدلس لأن الكلام في الصحيح الذي هو من أقسام المقبول، والمدلس من أقسام المردود كما سيجيء وقال محشٍ: قوله وألزم البخاري: إشارة إلى اعتراض مسلم على البخاري، وهو أنه يلزم من اشتراط اللقاء أن لا يَقبل المُعَنْعَن، مع أنه كثير في كتابه، وهو الذي يقال في سنده: فلان، عن فلان، وذلك لأن المُعَنْعَن إما مرسَل كما هو قول الجمهور، وهو قول التابعي: قال رسول صلى الله عليه وسلم: كذا. أو منقطع، وهو الذي لم يتصل سنده، وإذا ثبت لقاء الراوي والمروي عنه، وقال الراوي: عن فلان، فالمتبادر أنه سمعه منه، فيكون تدليساً وهو مذموم. وفيه نظر من وجهين: الوجه الأول: أنه يلزم مُسْلِماً أيضاً أن لا يقبل المعنعن، وقد كثُر في كتابه لأنه إذا ثَبَت المعاصرة، وقال الراوي: عن فلان، عن فلان، فالمتبادر أنه سمعه. (1/276)
منه، فيكون تدليساً مذموماً، فإن التدليس في الإسناد قسمان: أحدهما: أنْ يَرْوي عمَّن لَقِيَهُ ما لم يَسْمَعْ منه مُوهِمَاً أنه سَمِعَه منه. والثاني: أنْ يروي عمَّن عاصره ما لم يَسْمَع منه مُوهِمَاً أنه لقيه وسمعه منه. والوجه الثاني: أنَّ المُعَنْعَن بهذا المعنى لا يقبله لا مسلم، ولا البخاري، ولا دَخَلَ في عدم قَبوله، وقَبوله لاشتراط اللقاء وعدمه، فإن سبَب عدمِ قَبوله عدم الاتصال. . وحاصل الجواب: أنّ المُعَنْعَن متصل إذا أمكن لقاء الراوي والمروي عنه، / مع براءتهما عن التدليس كما صرّح به في " الخلاصة ". وقد برئ البخاري منه، ولما أودع المُعَنْعَن في كتابه ظهر أن لاشتراط اللقاء دخل في قبول المُعَنْعَن لا في عدم قبوله.
(عدد رجال البخاري ومسلم الذين تُكُلِّم فيهم)
(وأما / 38 - ب / رجحانه) أي كتاب البخاري (من حيث العدالة، والضبط فلأن الرجال الذين تُكُلِّم) بصيغة الماضي المجهول، أي طُعِن (فيهم من رجال مسلم أكثر عدداً من الرجال الذين تُكُلم فيهم من رجال البخاري) فإن الذين (1/277)
انفرد البخاري بهم: أربع مئة وخمسة وثلاثون رجلاً، والمتكلّم فيه منهم بالضعف نحو من ثمانين رجلاً. والذين انفرد بهم مسلم ست مئة وعشرون رجلاً، والمتكلم فيه منهم مئة وستون رجلاً على الضعف. كذا ذكره السخاوي في " شرح ألفية العراقي ". قال تلميذه: إن أراد الذين أخرج عنهم مسلم في غير المتابَعَات، ومَن ليس مقروناً بغيره فممنوع، بل هما سواء لمَن تتبع ما في الكتابين مطلقاً، ولا شك أنّ التخريج عمن لم يُتَكَلّم فيه أصلاً أولى من التخريج عمن تُكُلّم فيه. (مع أن البخاري لم يُكْثِر) بضم الياء. (من إخراج حديثهم) أي حديث الرجال الذين تُكُلِّم فيهم. والمعنى: أنّ الذين انفرد بهم البخاري ممن تُكُلِّم فيه لم يُكْثِر من تخريج أحاديثهم. (بل غالبهم من شيوخه) أي من مشايخ البخاري. قال تلميذه: خرج المصنف في المقدمة بخلافه. (الذين أخذ عنهم، ومارس حديثهم بخلاف مسلم في الأمرين) قال السخاوي: الذين انفرد بهم البخاري وهم ممن تُكُلِّم فيه أكثرهم من شيوخه لقِيَهم، وخَبَرَهم، وخَبر حديثهم بخلاف مسلم، فأكثر مَن أنفرد به ممّنْ تُكُلِّم فيه من المتقدمين، ولا شك أن المرء أعرف بحديث شيوخه من حديث غيرهم ممن تقدم عنه. انتهى. فرجاله أقلّ احتمالاً للتكلم من رجال مسلم. وأيضاً أَكْثرَ مسلم من إخراج أحاديث الذين انفرد بهم ممن تُكُلم فيه. فقوله: غالبهم مبتدأ، ومن شيوخه خبره. (1/278)
(الأحاديث المنتقدة على البخاري أقل عدداً ممّا انتقد على مسلم)
(وأما رُجْحَانُه من حيث عدمُ الشذوذ والإعلال) بفتح الهمزة جمع العِلل جمع العِلّة، أو بكسرها مصدر أعَلّ. (فلأن ما انتقد) بصيغة المجهول. (على البخاري من الأحاديث). بيان ل: " ما " (أقل عدداً مما انتقد على مسلم) فإن الأحاديث التي انتُقدتْ عليهما بلغت مئتي حديث وعشرة أحاديث اختص البخاري منها بأقل من ثمانين. ويشتركان في اثنين وثلاثين، وباقيها مختص بمسلم كذا في المقدمة. قال تلميذه: النقد غير مسلم في نفسه، ثم إنّه ليس كله من الحيثيتين. (هذا) أي خذ هذا. (مع اتفاق العلماء على أن البخاري كان أجل من مسلم في العلوم) أي عموماً. (وأعرف بصِناعِة الحديث) بكسر الصاد. (منه) أي من مسلم خصوصاً. (وأنّ) أي وعلى أن (مسلماً تلميذه، وخريجهُ) بكسر الخاء المعجمة، والراء المشددة، أي معلم أدبه كذا في " المفيد ". وفي " القاموس ". الخِرّيج كعنين بمعنى مفعول. ويقال: خَرج الرجل أصحابه / 39 - أ / علمهم، وأخرجهم من الجهل (ولم يزل) أي مسلم (يستفيد) أي العلوم (منه) أي البخاري (ويتبِع آثاره) / أي في تقريره، وتحريره، ويتردد إليه، ويُقبل يديه لوصول فوائده، وحصول عوائده. (حتى قال الدارقُطْنيُّ:) بفتح الراء، وضم القاف، وسكون الطاء، نسبة (1/279)
إلى محلة ببغداد، وهو إمام جليل في فن الحديث. (لولا البخاري) أي وُجُودهُ وُجُودهُ. (لما راح مسلم، ولا جاء) أي ما ظهر في هذا الفن، ولم يضع فيه القدم بناء على أن الفضل لمن تقدم والله أعلم قيل: ما سبق دليل تفصيلي وهذا دليل إجمالي، واعترض عليه بأنه لا يلزم من ذلك أَرْجَحِيّة المصنف بالفتح، كما أنه لا يلزم مرجُوحِيتهُ. وأجاب عنه السخاوي: بأنه الأصل، وهذا القدر كاف في المطلوب الظني، وفي حاشية تلميذه تحت قوله: وأما ما نقل عن أبي علي النيسابوري، وإنما أخرته إلى هنا لأن كلامه ينجر إلى آخر المبحث. قال المصنف: وفي العبارة إشارة إلى التنكيت على ابن الصلاح من وجهين: أحدهما: أنّ ابن الصلاح بعد أن ساق كلام أبي عليّ قال: وهذا قول من فضل مِن شيوخ الحديث كتاب مسلم على كتاب البخاري، إن كان المراد به أن كتاب مسلم يترجّح بأنه لم يمازجه غير الصحيح فلا بأس به، ولا يلزم أن يكون أرجح فيما يرجع إلى نفس الصحيح. وإن كان المراد به أنّه أصح صحيح، فهذا مردود على قائله، فجمع - أي ابن الصلاح - بين كلامي أبي علي وبعض أهل (1/280)
الغرب، ولم يذكر بعدهما ما يكون جواباً عنهما، بل إنما ذكر ما يكون جواباً عن كلام بعض أهل الغرب فقط. وصار كلام أبي علي غير معلوم الجواب. أقول: يُعلم جوابه على تقدير تسليم ظاهره الموافق لكلام أهل الغرب غايته: أنه ما التفت إلى تأويل المصنف لِمَا تقدم فيه من الاحتمال، والقيل والقال. قال المصنف: الثاني: أن قوله: فهذا مردود على مَن يقوله، لم يبين وجه الرد فيه. أقول: كأنه اكتفى بالظهور عند أصحابه، والوضوح عند أربابه. قال المصنف: وقد بينته بقولي: فالصفات التي تدور عليها الصحة إلى ما حُكي عن الدارقطني، أن هذا الكلام يتضمن أرجحية البخاري على كتاب مسلم في كلٍ من شروط الصحة التي هي: الاتصال، والعدالة، والضبط، وعدم العلة، والشذوذ. (ومن ثَمَّةَ) في " القاموس ": إن ثمة بالفتح اسم يُشَار به للمكان بمعنى هنالك للبعيد، ظرف لا يتصرف. فقول مَن أعربه مفعولاً لرأيت في قوله تعالى: : {{وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا}} وَهَمٌ (أي ومن هذه الجهة وهي أرجحية شرط البخاري على غيره) إشارة إلى (1/281)
ما ذكر من / 39 - ب / أنّ تفاوت مراتب الصحيح بحسب تفاوت الأوصاف. ولمّا كان هو الحجة في تقديم البخاري من الأرجحية المذكورة، فسَّر الجهة بما فسَّر، فاندفع ما قيل: من أنّه جعل ثمةَ إشارة إلى أرجحية شرط البخاري، ولم تُذْكَرْ في المتن، بل في الشرح، والأنسب بعبارة المتن، أن يقال في تفسير ثمة: أي من جهة أن تفاوت صحة الحديث بتفاوت الشروط. ولك أن تقول: ثمة في المتن كان إشارة إلى التفاوت المذكور، وبعد ما صير المتن والشرح كتاباً واحداً، فجعل ثمة / إشارة إلى ما ذكر في الشرح فإنه أقرب. (قُدم " صحيح البخاري " على غيره من الكتب المصنفة في الحديث) أي قبله " كالموطأ "، وبعده كبقية الصَحاح، والسنن، والمسانيد. (ثم صحيحُ) بالرفع. (مسلم) بالجر عطف على البخاري، بحذف المضاف في المتن. وقد صرح في الشرح بهذا المحذوف. (لمشاركته) أي مسلم (للبخاري في اتفاق العلماء على تلقي كتابه) أي مسلم (بالقبول أيضاً سِوَى ما عُلِّل) أي من الأحاديث المنتقدة المارِّ ذكرُها آنفاً، وتلك الأحاديث المنتقدة وإن كانت في البخاري أيضاً لكن لمّا كانت قليلةً بالنسبة إلى ما في مسلم لم يتعرض لها. ويمكن أن يكون قيداً للتقديم، فيشمل ما فيهما. والمراد من التعليل اللغوي ليشمل الشاذ، فلو قال: سِوَى ما انتقدَ، لكان أولى. (1/282)
(ثم) أي بعد الصحيحين. (يقدم في الأرجحية من حيث الأصَحِّيّة) أي لا من حيث اتفاق الأئمة على التلقي لأنه مختص بهما. (ما وافقه شرطهما) قال محشٍ: يجوز جعل شرطهما مفعولاً ل: وافق. قلت لا يجوز لوجود الضمير الراجع إلى المفعول، وليوافق المتنَ أيضاً، فإنه معطوف على صحيح البخاري، وهو مرفوع بنيابة الفاعل ل: قدم كما هو الظاهر المتبادر. لكن التحقيق أن قوله: ثم مسلم، وكذا قوله: وثم شرطهما بتقدير الفعل معطوف على مجموع الجملة مع القيد، أعني على مجموع: من ثَمَّة قُدِّم صحيح البخاري، لا على جملة، قدم صحيح البخاري، فلا يرد ما قيل في بعض الحواشي: إن قوله: " صحيح مسلم " عطف على " صحيح البخاري "، فيلزم تقديم مسلم، وغيره من هذه الجهة. والحال أنّه ليس كذلك على ما لا يخفى. (لأن المراد به) أي بشرطهما. (رواتهما مع باقي شروط الصحيح) قال النووي: المراد بقولهم: على شرطهما أن يكون رجال إسناده في كتابيْهما مع بقاء شروط الصحة من الضبط، والعدالة، ونحوهما، وهما لم يخرجاه لأنه ليس لهما شرط في كتابيهما، ولا في غيرهما كذا نقله عن العراقي، ومشى عليه ابن دَقيق العِيد، والذهبي والمصنف. وقال محمد بن طاهر في كتابه / 40 - أ / في شروط الأئمة: إنّ المراد به أن يخرجا الحديث المجمع على ثقة نقلته إلى الصحابي المشهور. قال العراقي: وهذا ليس بجيد لأن النسائي ضعف جماعة أخرج لهم - أي لحديثهم - الشيخان(1/283)
أو أحدهما. وقال الحَازِميّ في شروط الأئمة ما حاصله: أن شرط البخاري أن يخرج ما اتصل إسناده مع كون رواته ثقات متقنين ملازِمين لمن أخذوا عنه ملازمةً طويلة في السفر وفي الحَضَر. وأنه قد يخرج أحياناً عن أعيان الطبقة التي تلي هذه في الإتقان والملازمة لمَن رَوَوْا عنه، فلم يلازمه إلا ملازمة يسيرة. وإن شرط مسلم أن يخرج حديث هذه الطبقة الثانية، وقد يخرج حديث مَن لم يسْلم من غوائل الجرح إذا كان طويل الملازمة لمن أخذ عنه كحماد بن سَلَمَة، وثابت البُنَاني، وأيوب. (ورواتهما قد حصل الاتفاق على القول بتعديلهم) أي بكونهم عدولاً وضابطاً، وغيرهما / من أوصاف الصحة غالباً. (بطريق اللزوم) أي قولاً ملتبسَاً بطريق هذا اللزوم، أي قولاً لازماً مجزوماً به كذا قاله محشٍ. والأظهر: أن المراد باللزوم الالتزام بمعنى أن العلماء لما تلقوا كتابيهما بالقبول لزم أن يكون رجالهما على وصف العدول. (فهم) أي البخاري، ومسلم وصاحب شرطهما، أو رجالهما. (مقدمون على غيرهم في رواياتهم) أي عند الترجيح بعلو الإسناد، وأصحية الكتب، وأرجحية الرجال. (1/284)
(وهذا) أي ما ذُكر من التقديم على الترتيب المذكور. (أصل) أي ضابط كلي عن من يقول به. (لا يُخْرج،) بصيغة المجهول أي لا يُعْدل (عنه إلا بدليل) أي خارجي يصرفه عنه فإن كان الخبر على شرطهما معاً كان دونَ ما أخرجهُ مسلم) قال تلميذه الذي يقتضيه النظر أن ما كان شرطهما وليس له علة مقدم على ما أخرجه مسلم وحدهَ، لأن قوة الحديث إنما هي بالنظر إلى رجاله لا بالنظر إلى كونه في كتاب كذا، وما ذكره المصنف شأن المقلد في الصناعة لا شأن العالم بها ! (أو مثله) قال المصنف: وإنما قلت: مثله لأن الحديث الذي يُروَى وليس عندهما جهة ترجيح على ما كان عند مسلم، وما عند مسلم جهة ترجيح من حيث إنه في الكتاب المذكور فتعادلاً، فلذا قلت: أو مثله. قال تلميذه: هذا بناء على ما تقدم من أن كون الحديث في كتاب فلانٍ يقتضي ترجيحه على ما روي برجاله، وتقدم ما فيه. انتهى. (1/285)
وقال شارح: تردد المصنف في أنه مثله، أو دونه. وجزم غيره بأنه دونه ولعل وجه الجزم فوت تلقي الأئمة بالقبول. ووجه تردده أنّ الدليل على تقديم كتاب مسلم تلقي الأئمة بالقبول، وقد قابله / 40 - ب / مجيئه على شرط البخاري فتردد نظراً إلى الوجهين. انتهى. وهو يرجع إلى كلام المصنف. وقال محشٍ: أو للتنويع، أو للترديد. وفيه أنه تردد ههنا في التأخير عن مسلم، والمساواة به. وجزم في المتن بالتأخير عن البخاري ومسلم. وقيل: جَعَل ما هو على شرطهما معاً مؤخراً عما أخرجه البخاري قطعاً، وتردد في تأخيره عما أخرجه مسلم، وهذا غير معقول بل الظاهر تقديمه على كل منهما منفرداً، بل مساواته بما اتفقا عليه، وتأخيره عما اتفقا عليه لكونه فرعاً له. وأجيب بأن تفحصهما في هذا العلم غاية التفحص يقتضي أن يُحْكَم بأنّ ما لم يخرجاه قد وَجَدا فيه شيئاً من العلل الخفية التي لم يطلع عليها غيرهما، وإن كان على شرطهما ظاهراً، وأما أنه يجوز أن يوجد حديث لم يسمعاه، فَحُسْنُ الظن بهما يأباه، وفيه أنه ينفي أن يكون مثل البخاري، أو دونه. (وإن كان) أي الخبر (على شرط أحدهما، فيُقَدم شرط البخاري وحدَه على شرط مسلمٍ وحدَه تبعاً لأصلِ كل منهما) قال المحقق ابن الهُمَام في " شرح (1/286)
الهداية ": وقول مَن قال: أصح الأحاديث ما في الصحيحين، ثم انفرد به البخاري، ثم ما انفرد به مسلم، ثم ما اشتمل على شرطهما، ثم ما اشتمل على شرط أحدهما تحكم لا يجوز التقليد فيه، إذ الأصحيةُ ليس / إلا لاشتمال رواتهما على الشروط التي اعتبراها فإذا فرض وجود تلك الشروط في رواة حديث في غير الكتابين أفلا يكون الحكُم بأصحية ما في الكتابين عين التحكُم؟ ثم حكمهما، أو أحدهما بأنّ الراوي المعين مُجتمع تلك الشروط ليس مما يُقْطَعُ فيه بمطابقة الواقع، فيجوز كون الواقع خلافه. وقد أخرج مسلم عن كثيرٍ في كتابه عمن لم يسْلَم عن غَوائل الجرح، وكذا في البخاري جماعة تُكُلم فيهم. فدار الأمر في الرواة على اجتهاد العلماء فيهم، وكذا في الشروط حتى إن من اعتبر شرطاً وألغاه آخر يكون ما رواه الآخر مما ليس فيه ذلك الشرط عنده مكافئاً لمعارضته المشتمل على ذلك الشرط، وكذا فيمن ضعَّف راوياً ووثقه الآخر. نعم، تسكن نفس غير المجتهد، ومَن لم يَخْبُر أمر الراوي بنفسه إلى ما اجتمع عليه الأكثر، أما المجتهد في اعتبار الشرط وعدمه، والذي خَبَر الراوي فلا يرجع إلا إلى رأي نفسه، فإذا صح الحديث في غير الكتابين يُعارِض ما فيهما. (فخرج) أي ظهر (لنا من هذا) أي الذي ذكر من قوله: يتفاوت إلى هنا (ستة أقسام): (1/287)
أحدها: ما أخرجه البخاري، ومسلم، وهو الذي يعبر عنه بالمتفق عليه. وثانيها: ما انفرد به البخاري وحده. وثالثها: ما انفرد به مسلم. ورابعها: ما هو على شرطهما ولم / 41 - أ / يخرجه واحد منهما. وخامسها: ما هو على شرط البخاري وحده. وسادسها: ما هو على شرط مسلم وحده. ثلاثة منها أصول، وثلاثة منها فروع. (تتفاوت درجاتها في الصحة) على ترتيب سبق، وتهذيب تحقق. (وثمة) أي هناك، وهو مقام تحقيق الأقسام. (قسم سابع: وهو ما) أي حديث صحيح كما في السنن الأربعة، وصححه أحدهم، أو غيرهم من المصححين. (ليس على شرطهما اجتماعا وانفرادا) أي مرفوض الشقين ذو(1/288)
اجتماع، وافتراق. والحاصل: أن ما هو صحيح عند غيرهما من الأئمة المعتَبرين، وليس على شرطهما، ولا على شرط أحدهما بأن لا يخرجه من شيوخهما الذين اتفقا فيه، ولا من شيوخهما الذين اختلفا فيه كصحيح ابن خزَيْمَة، ثم ابن حِبان، ثم الحاكم، وترتيب هذه الثلاثة في الأرجَحِية هكذا. قال السخاوي: وتظهر فائدة التقسيم عند التعارض بتقديم مراتب التفاوت. (وهذا التفاوت) أي المذكور في تقسيم المسطور. (إنما هو بالنظر إلى الحيثية المذكورة) قال السخاوي: أي بالنظر للتمييز بالشرط، إلا فقد يعرض للمَفُوق ما يُصَيُرهُ فائقاً، وهذا معنى قوله: (أما لو رَجحَ قِسمٌ) أي من الأقسام المذكورة. (على ما هو فوقه) أي في المراتب المسطورة. (بأمور أخرى) أي بسبب أسباب أُخر من غير ما قدَّمناه. (تقتضي الترجيح) أي في التصحيح. (فإنه يقدّم) أي ذلك المرجح. (على ما فوقه) بأن يعمل به، ويترك الآخر. فلا يرد أن الجزاء عينُ الشرط (إذ قد يعرض) بفتح الياء، وكسر الراء، أي يظهر. (للمفُوق) أي للمَرجُوح، مِن فاق الرجل أصحابه يَفُوق، أي علاهم بالشرف. (ما يجعله / فائقاً) من الأمور المرجحة. (كما لو كان الحديث عند مسلم مثلاً وهو) أي والحال أنَّ(1/289)
الحديث (مشهور قاصِرٌ عن درجة التواتر) صفة موضحة. (لكن خَفته) بتشديد الفاء أي أحاطته (قرينه) أو قرائن (صار) أي الحديث (بها) أي بالقرينة كأن يوافقه على تخريجه مشترطوا الصحة. (يفيد العلم) أي الظن. (فإنه) أي حديث مسلم حينئذ (يقدم على الحديث الذي خرجه البخاري) بل على ما خرجاه كما صرح به السخاوي. (إذا كان) أي حديث البخاري (فرداً) قيل: اعْتَبَرَ الشهرة في حديث مسلم المحتف بالقرائن، والفردية في حديث البخاري لأنّ تقديم الأول على الثاني في هذه الصورة مُتيقن بخلاف ما إذا كان الأول عزيزاً، أو غريباً أو كان الثاني عزيزاً، أو مشهوراً. والحاصل: أنه إنما جزم بتقديم حديث مسلم إذا كان في المرتبة العليا من جميع / 41 - ب / الجهات على حديث البخاري إذا كان في المرتبة السُّفلى من جميع الجهات، وباقي المراتب لا يجزم منها بالتقديم، بل إما التقديم، أو المساواة، أو العكس في التقديم. وقوله: (مطلقاً) بيان للإطلاق، وليس المراد منه الفرد المطلق المقابل للنسبي كما يتبادر إلى الفهم، فكان الأولى تركه لأنه يُوهِم خلاف المقصود. (1/290)
(سلسلة الذهب)
(وكما لة كان الحديث الذي لم يخرجاه من تَرجَمة) بفتح الجيم، أي بعض ترجمة (وُصفَت بكونها أصح الأسانيد كمالك، عن نافع، عن ابن عمر) ويسمى سلسلة الذهب. قال ابن مَهْدي: لا أقدم أحداً على مالك في صحة الحديث. وقيل: روى أحمد، عن الشافعي، عن مالك، عن نافع عن ابن عمر أصح الحديث في الدنيا. (فإنه) أي الحديث الموصوف بكونه أصح. (يقدم على ما انفرد به أحدهما مثلاً) أي فضلاً عن غيرهما، وتوضيحه أنه يريد به أنه مقدم على ما انفرد به غيرهما أيضاً كالتّرْمِذي، والنسائي وغيرهما. ولم يرد أنه مقدم على ما اتفق عليه الشيخان حتى يقال: يجوز أن يكون في الاتفاق ما يعادل هذا، ففيه أنه لا حاجة إلى ذكر قوله: مثلاُ لأنه يلزم التقديم على ما انفرد به غيرهما بطريق الأولى. (لا سيما) أي خصوصاً. (إذا كان في إسناده) أي إسناد ما انفرد به أحدهما. (مَن فيه مَقَال) أي مَطْعَن، وإن كان عنه جواب، لأن من تُكُلّم فيه في الجملة ليس كمن لم يُتَكَلِّم فيه أصلاً. (فإن خَفَ الضّبْط) عطف على ما سبق بالمعنى، لأن تقدير الكلام أن الصحيح ما تم ضبط راويه مع سائر شروطه، فمفهومه أنه إذا لم يكن الضبط تاماً لا(1/291)
يكون الحديث صحيحاً، وهو يحتمل أنه حينئذ حسنُ، أو ضعيف، فبينه أنه حسن بقوله: فإن خف الضبط أي ضبط الراوي المستلزمُ لضبط المرويّ. قيل: بأن كان راوي الحديث متأخراً تأخراً يسيراً عن درجة الحافظ الضابط. ولم يبلغ إلى مرتبة الراوي الضعيف الفاحش الخطأ. وناقش تلميذه بقوله: لم يحصل بهذا تمييز الحسن لأنّ الخِفة المذكورة غير منضبطة ! انتهى. ويمكن دفعه بأنّ انضباطه مبني على العُرف، أو على المشهور والمستور، كما قالوا في العدالة، أو على / العلم بالتتبع في رواياته، ويدل عليه قوله: (أي قل) أي ظهر قِلَّة ضبطه. ولمَّا كان استعمال الخِفة بضد الثّقَل مشهوراً، وبمعنى القِلة قليل الوجود احتاج إلى بيان فقال: (يقال: خَفّ القومُ خُفوقاً: قَلّوا) ويؤيده ما في " القاموس ": الخِف بالكسر الخفيف، والجماعة القليلة. وكأن الخِفة استعملت في الكيفية، والكمية. (والمراد) أي من خفة الضبط المستلزمة لفقد تمام الضبط الذي هو أحد شروط الصحيح. (مع بقية الشروط) أي مع وجود البقية، أو مع بقاء الشروط (المتقدمة في حَدّ الصحيح) أي من / 42 - أ / اتصال السند، والعدالة، وعدم (1/292)
الشذوذ، والعلة ومع عدم كثرة الطرق أيضاً كما سيجيء في كلامه. إن شاء الله تعالى وذلك ليخرج الصحيح لغيره. . والحاصل: أن ما كان إسناده ولو في بعض رواته دون الصحيح في الضبط والاتفاق. (فهو) زاد في الشرح ضمير الفصل، أي فذلك الخبر هو.
(الحسن لذاته)
(الحسن لذاته) إذ هو والصحيح سواء إلا في تمام الضبط. وأفاد فائدة الفصل بقوله: (لا لشيء خارج) أي يصير به حسناً لغيره. (وهو) أي الحسن لأمرٍ خارج. (الذي يكون حُسنُه) أي مع كونه ضعيفاً في نفسه (بسبب الاعتضَاد) أي باشتداده لكثرة إسناده (نحو حديث المَسْتُور) أي الراوي الذي لم يتحقق عدالته، ولا جرحه، قال السخاوي: المستور من لم يُنقَل فيه جرح ولا تعديل، وكذا إذا نُقلا ولم يترجح أحدهما. وفي حاشية تلميذه قال المصنف: الراوي إذا لم يُسَمّ كَرجُل يُسَمى مُبْهَمَاً، وإِنْ ذُكِر مع عدم تمييز فهو المُهْمَل، وإن مُيزَ ولم يَروِ عنه إلا واحد فمجهول، وإلا فمستور. انتهى (1/293)
والحاصل: أن الراوي الذي لم يتحقق أهليته المكتفى فيها بغلبة الظن، وكذا ما كان ضعفه لسوء حفظ راويه مع كونه عدلاً، حديثه ضعيف بالنظر إلى ذاته لكنه قد يصير حسناً لغيره. (إذا تعددت طرقه) فإن حديث المستور مما يُتوقف فيه، وتعدد طرقه قرينة ترجح جانب قَبوله، فهو حسن لا لذاته. فكل من الحَسَن لا لذاته والصحيح لا لذاته إنما يحصل بكثرة الطرق، إلا أن راوي الصحيح ظاهر العدالة، وراوي الحسن مستور العدالة. ويُشْكِل على هذا قول النووي: حديث " من حَفِظَ على أُمّتي أربعينَ حديثاً " ورد من طرق كثيرات بروايات متنوعات، واتفق الحفاظ على أنه حديث ضعيف وإن كَثُرَت طرقه، ويؤيده ما قال الحافظ المُنْذري: إنه ليس في جميع طرقه ما يَقْوَى ويقوم به الحُجة إذ لا تخلو طريق منها أن يكون فيها مجهول، أو معروف مشهور بالضعف. نعم، قال الحافظ أبو طاهر السلفي في أربعينه: إنه روي من طرق، وتقوى بها وركنوا إليها، وعرفوا صحتها، وعولوا عليها. وأجاب عنه (1/294)
المنذِرِي بأنه يمكن أن يكون سلك في ذلك سلوك من رأى أن الأحاديث الضعيفة إذا انضم بعضها إلى بعض أحدث قوة، فظهر أن المسألة مختلف فيها، إما في نفسها أو في اختلاف الضعف من الخفة والشدة / ولذا قال السبكي وغيره: الحديث إذا اشتد ضعفه لا يُعْمَل به، ولا في الفضائل. وكأن المراد بالشديد الضعف أن / 42 - ب / لا يخلو طريق من طرقه عن كذاب، أو مُتهم بالكذب. ويدل عليه وَضْعُ المصنف المسألة في نحو المستور والله أعلم. (وخرج باشتراط باقي الأوصاف الضعيف) أي وخرج بقيد بقية الشروط الضعيف، وهو ما لم يَجمع شروط الصحيح، أو الحَسَن، ولو بفقد شرط واحد مما يرجع لطعن في الراوي، ولو بالمخالفة، أو سقط في السند. ويتفاوت ضعفه. (1/295)
كتفاوت صحة الصحيح، وحُسنِ الحَسَن، فأعلى مراتبه بالنظر لطعن الراوي: ما انفرد به الوضاع، ثم المتهم به، ثم الكذاب، ثم المتهم به، ثم الفاسق، ثم فاحش الغَلَط، ثم فاحش المخالفة، ثم المختلِط، ثم المبتدع الداعي، ثم مجهول العين، أو الحال. وبالنظر للسقط: المعلق بحذف السند كله من غير ملَتزم الصحة كالبخاري ثم المُعْضَل، ثم المنقطع، ثم المرسل الجَليّ، ثم الخَفي، ثم المدلَّس ولا انحصار له في هذه، فتعريف الحسن لذاته: خبر الواحد بنقل عدلٍ خفيف الضبط متصل السند غير معلل، ولا شاذّ به. ثم الضعيف ما ليس بصحيح، ولا حَسَن. (وهذا القسم من الحسن) أي الحسن لذاته (مشارِكٌ) بكسر الراء. (للصحيح في الاحتجاج به) أي في أصل الاستدلال، والعمل به. ولذا أدْرَجَتْه طائفة من المحدثين في نوع الصحيح. (وإن كان) أي الحسن، (دونه) أي دون الصحيح في الرتبة والقوة كما عُرِف مِن حديهما، (ومشابِه له) أي للصحيح، (في انقسامه إلى مراتب بعضها فوق بعض، وبكثرة طرقه) أي أسانيد الحسن. (يصحّح) بتشديد الحاء الأولى المفتوحة، أي يُنسب إلى الصحة ويُحْكَم عليه بأنه صحيح. قال السَّخاوي: وإنما تُعْتَبرُ الكثيرة، والجَمعيّة في الطُرق (1/296)
المنحطة، أما عند التساوي أو الرجحان فمجيئه ومن وجه آخر يكفي. وحاصله: أنّ الحديث الحسن لذاته إذا رُويَ من غير وجهٍ حيث كانت رواته منحطة عن مرتبة رواة الأول، أو من وجه واحدٍ مساوٍ له، أو أرجح، يرتفع عن درجة الحسن إلى درجة الصحيح، وصار ثاني قسمي الصحيح المسمى بالصحيح لغيره وهو غير صحيح لذاته. (وإنما يُحْكَمُ له بالصحة عند تعدد الطرق) أي أو طريق واحد مساوٍ له، أو أرجح. (لأن للصورة المجموعة قوة تَجْبُر) بفتح الفوقية، وضم الموحدة، أي تُصْلِح وتُعَوض. (القَدْرَ الذي قصُر) بضم الصاد من القصور المأخوذة من القصر. (به) أي بسبب ذلك القدر. (ضَبْطُ راوي الحسن عن راوي الصحيح) ذكر تلميذه أنه قال المصنف في تقريره: يُشْتَرطُ في التابع أي إذا كان واحداً أن يكون أقوى أو مساوياً حتى لو كان / 43 - أ / الحسن لذاته يُروى من وجه آخر حَسَنٍ لغيره لم يُحْكَمْ له بالصحة. قلت: هذا معنى قوله: (1/297)
(ومن ثَمَة تُطْلقُ الصحة على الإسناد الذي يكون حسناً لذاته لو تفرد) أي ذلك الإسناد سواء كان التعدد بمجيئه من وجه واحد آخر عند التساوي، أو الرجحان، / أو أكثر عند عدمهما. وقوله: (إذا تعدد) ظرف لقوله: يطلق. (وهذا) أي ما مر من قوله: وخبر الآحاد إلى هنا. أو الحكم بكون الحديث صحيحاً أو حسناً بالقطع. (حيث ينفرد الوصف) أي وصف الصحة والحسن. وأما إذا جُمِعَا فلا حكم بالقطع لا بالصحة، ولا بالحسن. (فإن جُمِعَا) بصيغة المجهول، (أي الصحيح والحسن في وصف واحد) بأن جمع بينهما في إطلاقهما على حديث واحد، (كقول التّرمِذي) أي في " جامعه ". (وغيره:) كالبخاري على ما نقله السخاوي، وكيعقوبَ بن شَيْبَة، فإنه جمع بين الصحة، والحسن، والغرابة في مواضع من كتابه. وكأبي علي. (1/298)
الطوسِيّ، فإنه جمع بين الصحة، والحسن في مواضع من كتابه المسمى " بالأحكام " على ما ذكره التلميذ. (حديث حسن صحيح) وقد يزيد لفظ غريب ولم يذكره الشيخ لكون الغرابة لا تنافي الحسن والصحة (فللتَّرَدُّد) أي فالجمع بينهما لعدم القطع بالتردد. (الحاصل من المجتهد) قيل فيه: إنه ينافي ما يأتي في محصل الجواب حيث جعل فاعل التردد هو الأئمة، ويمكن أن يُؤَوَّل بأن المراد بالتردد الحاصل من أئمة الحديث للمجتهد، فإنّ ترددهم إنما هو من أجل المجتهد يعني لو قالوا: صحيح لاستدل المجتهد به مثل استدلاله بالصحيح، وكذا لو قالوا: حسن فترددوا لئلا يجزم المجتهدُ بأحدهما ولا يُجريه مجرى الصحيح أو مجرى الحسن. انتهى. وفيه أنه حينئذ يلزم أن يكون المجتهد مقلّداً ! والظاهر: أنه لم يُرِد بالمجتهد المجتهد المطلق فقط، بل أراد به هو وغيره من أئمة الحديث ممن يُفتش عن حال الأحاديث، ويحقق أنّ كلا منها من أي قسم من الأقسام المتفاوتة في وجوب العمل ليفعل بكل منها ما ينبغي أن يُفعل به، لأن الاجتهاد غير محصور، وبأنه غير مسدود، وفضله واسع ممدود وكل أحد من عباده يؤجر على قدر اجتهاده. ويدلُّ على ما قلنا تقدم المجتهدين على المُصَحِّحِين. (في الناقل) أي في حق الراوي، واختلاف حاله وصفاته. (هل اجتمعت فيه) أي في الناقل، أو منقوله. (شروط الصحة أو قصر) أي الراوي، أو المرويّ (عنها) أي عن شروط (1/299)
الصحة؟ والمراد بالناقل ناقل المقبول كما يدل عليه قوله: فإن جُمِعَا، فلا يَرِدُ أنه عند عدم شروط الصحة ليس مخصوصاً بالحَسَن، / 43 - ب / بل حَسَن أو ضعيف وقد أجاب بعض عن أصل السؤال بأن المراد: حسن لذاته صحيح لغيره، وقيل: حسن لفظاً، أو لغة صحيح إسناداً أو صِنَاعَةً (وهذا) أي وهذا الجواب ونحوه، (حيث) أي في موضع، (يحصل منه) أي من المجتهد، وقول شارح: أي من الناقل، بعيدٌ مُوهِمٌ. ولعل هذا منشأ اعتراض التلميذ حيث قال: يِرِدُ على هذا ما إذا كان المتفرد قد جمع شروط الصحة عندهم، (التفرد) أي الانفراد، (بتلك الرواية) بأن ليس للحديث عنده إلا إسناد واحد. وقال فيه: حسن صحيح، وإلا فسيأتي جوابه. (وعُرِف بهذا) أي بما ذكرناه من مُرَاد / الترمذي، وغيره، (جواب من استشكل الجمع بين الوصفين) أي المتغايرين على موصوف واحد، (فقال:) أي معترضاً، (الحسن قاصر عن الصحيح) أي في مرتبته المترتبة على تعريفه وصفته. (ففي الجمع بين الوَصْفَيْن إثبات لذلك القُصًورِ ونفيه) أي ونفي له وكان الأنسب أن يقول: إثبات ذلك القصور ونفيه، أو التقدير إثبات لنفيه أي لنفي ذلك القصور. وفي حاشية تلميذه: قال المصنف في تقريره: استُشْكِل الجمع بين (1/300)
الصحة والحسن، فأجيب بأنه بحسب إسنادَين، فأورِدَ أنه يقول: حسن صحيح لا نعرفه إلا من هذا الوجه، فأجيب بما ذُكِر. ومنهم مَن أجاب بالترادف في المعنى، يعني أنه يصح الاستدلال بكل منهما ويحسن العمل بهما. فقيل: ليس بشيء لأنه خلاف المتعارَف. وقيل: يَردُ بأصل التشبيه.
(الكلام حول قولهم: حسن صحيح)
(ومحصل الجواب) أي المتقدم: (أن تَرَدُّد أئمة الحديث) أي اختلاف حُذاقِهم، ونُقادِهم العارفين بالجرح والتعديل، (في حال ناقله) أي أحد رواته حيث يُرَقيه بعضهم إلى مرتبة الصحة. ويحط بعضهم عنها إلى مرتبة الحسن، (اقتضى للمجتهد) أي كالترمذي، وأمثاله، (أنْ لا يصفه بأحد الوصفين) أي فحسب لما حصل له من التردد الحاصل من اختلافهم، (فيقل) الأظهر فيقول (فيه: حسن باعتبار وصفه) أي وصف الحُسن، (عند قوم) أي من الحُذّاق، (صحيح باعتبار وصفه) أي صحيح. (عند قوم) أي آخرين منهم. وفيه: أنه يلزم أن يكون الترمذي، بل البخاري مقلداً في التصحيح، والتحسين. والمفهوم من الجواب: أولاً هو أنّ الجمع بين الوصفين إنما هو لحصول التردد الناشيء من المجتهد كالبخاري، والترمذي مثلاً في حق الراوي، ولم يَقُم عنده ما يُرَجّح أحدهما على الآخر، وإلا فالصحة عند (1/301)
قوم تجامع الحسن عند قوم آخرين، فالأظهر أن يجعل ذلك جواباً آخر ويقال: معنى قولهم حسن صحيح أنه حسن عند قوم صحيح عند آخرين. (وغاية ما فيه) أي في الجواب ونهاية ما فيه من الاضطراب (أنه حذف منه حرف التردد) وفي / 44 - أ / نسخة: أنه حذف أي المجتهد حرف التردد مع أنّ كُلاً من النسختين صحيح ومؤداهما واحد سواء قرئ حَذَف بالبناء للفاعل، أو المفعول بأدنى اعتناء. والمراد بحرف التردد حرف الشك، أو التنويع وهو أو. (لأنّ حقه أن يقول: حسن أو صحيح) ففي الرّضِي وقد يحذف واو العطف. قال أبو علي: في قوله تعالى:: {{ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت}} أي وقلت. وحكى أبو زيد: أكلت سمكاً، لَبَناً، تمراً. وقد يحذف أو كما تقول: لمن قال: آكلُ السمك، واللبن؟ كُلْ سمكاً لَبَناً أي أو لبناً. وذلك لقيام قرينة دالة على أنّ المراد أحدهما. (وهذا) أي هذا الحذف. (كما حذف حرف العطف من الذي يُعَدُّ) بضم التحتية، وفتح العين وتشديد الدال، مضارع مجهول من عَده. قال شارح: أي كما حذف من الخبر. (1/302)
المتعدد نحو: زيد عالم جاهل والأظهر كما قال محشٍ: كما يقال: دارٌ، غلامٌ جاريةٌ، ثوبٌ. / وفيه أنهم قالوا: ليس في التعداد تركيب. وهذا يدل على أنه فيه تركيب وعامل. وفي نسخة: من الذي بعده، أي من المعطوف الواقع بعد حرف العطف. وقيل: المعنى كما يحذف حرف العطف من القسم الثاني الذي يجيء بعده، أي بعد هذا القسم، وهو ما يذكر فيه الوصفان باعتبار إسنادين. وفيه موافقة لقول ابن مالك حيث اقتصر ابن مالك على الواو فقط، فَيَتعين كون هذا تنظيراً للحذف السابق. (وعلى هذا) أي ما ذُكر من الجواب، (فما قيل فيه: حسن صحيح) مبتدأ خبره، (دون ما قيل فيه: صحيح ؛ لأنّ الجزم أقوى من التردد، وهذا) أي ما ذكرنا من الجواب بالتردد، (من حيث التفرُد،) أي للإسناد دون التعدد. (وإلا) أي (إذا لم يحصل التفرد) بأن ثبت التعدد. والأحسن أن يقدر هكذا وأن لا يحصل، فإنه حذف الفعل، وقلب النون لاماً وأدغم فصار وإلا، (فإطلاق الوصفين) أي المتباينين، (معاً) أي مُجْتَمَعيْن، (على الحديث) أي الواحد، (يكون) أي يصح، ويجوز أن يكون إطلاقهما (باعتبار إسنادين) أي مختلفين لا أنه (1/303)
يجب، لجواز أن لا يلزم صحة شيء من الإسنادين في بعض المواد، فحينئذ يجري فيه التوجيه الأول دون الثاني. وبما قررنا اندفع ما قال تلميذه: يرد على هذا ما إذا كان كِلا الإسنادين على شرط الصحيح. ومَن تَتبع وَجَد صِدق ما قلته فيهما. (أحدهما صحيح والآخر حسن وعلى هذا) أي الجواب ، أو التقدير والتقرير. (فما قيل فيه: حسن صحيح، فوق ما قيل فيه: صحيح فقط، إذا كان) أي الصحيح (فرداً) وإنما قيده بذلك لأنه لو لم يكن فرداً بل كان مشهوراً / 44 - ب / مثلاً لم يصح الجزم بفوقية ما قيل فيه: حسن صحيح على إطلاقه، بل إنما يصح بالنسبة إلى أحد قِسْمَيْة. وهو ما يكون الصحيح في كِلاَ الموضعين فيه مشتهراً. والدليل عليه تعليله بقوله: (لأنّ كثرة الطرق تُقَوي) أي الحديث من مرتبة الصحيح إلى مرتبة الأصح (فإن قيل: قد صرح الترمذي) بكسر المثناة والميم، وقيل: بضمهما، وقيل: بفتح ثم كسر. وكلها بإعجام الذال نسبة لمدينة قديمة على طرف جيُحون نهر بَلْح كذا ذكره السخاوي وغيره. (بأنّ شرط الحسن أنْ يُرْوى من غير وجهٍ) أي من غير طريق واحد، فأقله أن يكون من إسنادَين. (1/304)
(فكيف يقول في بعض الأحاديث: حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه؟ !) فإن هذا يقتضي أن يُروى بوجه واحد فقط كما هو شرط الغريب. (فالجواب: أن الترمذي لم يُعَرف الحسن مطلقاً) أي بهذا التعريف (وإنما عَرف بنوع خاص منه وقع في كتابه) الظاهر أن يقول: وإنما عرفه... الخ أو عرف نوعاً خاصاً منه، وقال شارح: الظاهر أن يقال: لنوع باللام إلا أنهم يتسامحون بناءً على جواز الاستعارة في الحرف، فيستعيرون بعض الحروف لبعضٍ آخر. انتهى. وحاصله: أن الباء بمعنى اللام، وهي للعلة أي لأجل نوع، / ويمكن أن يقال: إن الباء للسببية، وهي تفيد العلية، فلا يُحتاج إلى العارية. وحذف المفعول شائع وسائغ في العربية. وقال محشٍ: أي عرفه مقيداً بنوع خاص منه ولك أن تجعله منزلاً منزلة اللازم أي أوقع التعريف بنوع خاص، ولو حكم بزيادة الباء يردُ عليه أنها في غير الخبر في النفي سماعي. انتهى ويَرِدُ عليه أن زيادة الباء (1/305)
في الخبر سواء يكون نفياً أو إثباتاً جائزٌ من غير توقف على السماع على ما هو المفهوم من المعنى كقوله تعالى:: {{وهزي إليك بجذع النخلة}}. (ومَن يُرِدْ في بإلحاد).: {{ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة}} وأمثالها. قوله:
(وكفى بنا فضلاً على من غيرنا ..... حُب النبي محمدٍ إيانا)
وفي " القاموس ": الباء للتوكيد وهي الزائدة، وتكون زيادة واجبة في: أَحْسِنْ بزيد، وغالبة وهي فاعل: {{كفى بالله شهيدا}} (وهو) أي ذلك النوع المعرف، (ما يقول فيه: حسن من غير صفة أخرى) أي مضمومة إليه من صحيح أو غريب، (وذلك) أي دليله، أو تفصيله، (أنه يقول) أي الترمذي، (في بعض الأحاديث:) أي من جامعة: (حسن) أي فقط، (وفي بعضها: صحيح) كذلك، (وفي بعضها: غريب) كذلك، (وفي بعضها: حسن صحيح، وفي بعضها: حسن غريب، وفي بعضها: صحيح غريب) بالجمع بينهما، (وفي بعضها: حسن صحيح غريب) بالجمع بين الثلاثة. (وتعريفه) أي المذكور أولاً / 45 - أ / (إنما وقع على الأول) أي على(1/306)
النوع الأول، وهو حسن، (فقط) أي دون سائر الأنواع، (وعبارته) أي الترمذي، (ترشد إلى ذلك) أي تَدُل على ما ذكرنه من أن تعريفه إنما وقع على الأول فقط. (حيث قال) ظرف لعبارته، (في آخر كتابه) أي " الجامع ":، (وما قلنا في كتابنا: حديث حسن، فإنما أردنا به) أي بالحسن، (حَسَنٌ إسناده عندنا) ضبط: بفتح الحاء، والسين على أنه صفة مُشبهة، فالنون منون. وبضم السين، وفتح النون على أنه فعل ماضي، وعليهما إسناده مرفوع بالفاعلية. وبضم الحاء، وسكون السين على أنه مصدر منصوب على المفعولية مضاف إلى إسناده. وأعلم أنه لم يصرح في تعريف الحسن بنفي العلل، ولا باتصال السند، ولا بخفة الضبط كما ذكره الشيخ سابقاً، وزاد الرواية من غير وجه. ولعل هذا اصطلاح آخر بينهما عموم من وجه. (فكل حديث يُرْوَى ولا يكون راويه متهماً بالكذب، ويُروَى من غير وجه) أي لم يكن فرداً بل جاء من وجه آخر فأكثر. (نحو ذلك) بالجر صفة غير، بالنصب حال منه، ومعناه: أنه لا يكون راوي الطريق الثاني مُتّهَمَاً بكذب. قال السخاوي: أي يكون الراوي فوقه، أو مثله لا. (1/307)
دونه ليترجح به أحد الاحتمالين لأن سيئ الحفظ مثلاً حيث يَروِي يحتمل أن يكون ضبط المرويّ، ويحتمل أن لا يكون ضبطه، فإذا أورد مثل ما رواه، أو معناه من وجه آخر غلب على الظن أنه ضبطه، وكلما كَثُرَ المتابع قَوِيَ الظن. انتهى. وجواز كونه فوقه يُعْلَم بالأولى. (ولا يكون شاذاً، فهو عندنا حديث حسن) انتهى كلام الترمذي. ولا (1/308)
يخفى أن بعض أفراد الصحيح بالمعنى المتعارف عند أهل الحديث داخلٌ في تعريف الحسن على هذا التقرير، فينبغي أن يُعرف الصحيح بنوع آخر. قال الشيخ: (فُعرِفَ بهذا أنه إنما عَرف الذي يقول فيه:) أي في حقه. حسن فقط. وأما ما يقول فيه: حسن صحيح، أو حسن غريب) بالجمع بينهما. (أو حسن صحيح غريب) بالجمع بين الكل. (فلم يعرج) بتشديد الراء المكسورة من التعريج على الشيء، وهو الإقامة عليه أي فلم يُعَوّل (على تعريفه كما لم يُعَرّج على تعريف ما يقول فيه: صحيح فقط، أو غريب فقط، وكأنه ترك ذلك استغناءً لشهرته عند أهل الفن). قال البِقَاعي: استعمل الترمذي الحسن لذاته، في المواضع التي يقول فيها: حسن غريب ونحو ذلك. وعَرّف ما رأى أنه يُشْكِل لأنه يُخَرج الحديث أحياناً ويقول: فلان ضعيف في سنده ثم يقول: هذا حديث حسن، فخشي أن يُشَكَ ذلك على الناظر فيعترض (1/309)
عليه بأنه: / 45 - ب / كيف يُحَسن ما يصرح بضعف راويه أو انقطاعه ونحو ذلك؟ ! فعرفه أنه إنما حَسنة لكونه اعتضد بتعدد طرقه. انتهى. وهو يفيد جواز أنْ يراد بقوله: نحو ذلك، ما يشمل دونه أيضاً. واستفيد منه أنه أراد بالحسن المطلق الحسنَ لغيره وهذا معنى قوله: (واقتصر على تعريف ما يقول فيه) أي في حقه، (في كتابه) أي الجامع، (حَسَن فقط إما لغموضه) أي لخفائه كما أشرنا إليه، وبينا الكلامَ عليه. وقال شارح: لعل وجهه أنهم حَدوه ولم يحصل به حَدّ. فقال الخَطّابيّ: ما عُرفَ مَخْرَجهُ، واشتهر رجاله. والمَخْرج: الموضِع الذي خرج منه الحديث، وهو كونه شامياً، عراقياً، مكياً، كوفياً كأن يكون الحديث من رواية راوٍ، وقد اشتهر برواية حديث أهل بلده كقتادة ونحوه في البصريين، فإن حديث البصريين إذا جاء عن قتادة ونحوه كان مخرجه معروفاً بخلافه عن غيرهم. وذلك كناية عن الاتصال، إذ المرسَل، والمنقطع والمعضل، لعدم ظهور حالها لا يُعْلم مخرج الحديث. والمراد بالشهرة: الشهرة بالعدالة، والضبط. قال ابن دقيق العيد: ليس في عبارة الخطابي كثير تلخيص، فإن الصحيح أيضاً ما عُرِف مخرجه، فيدخل الصحيح في حَد الحسن. وقال ابن الجَوزي: ما فيه ضعف قريب مُحْتمل، واعترض ابن دقيق العيد على هذا الحدّ أيضاً بأنه ليس مضبوطاً بضابط يتميز به القدر المحتمل على (1/310)
غيره. وإذا اضطرب هذا الوصف لم يحصل التعريف المميز للحقيقة. وأيضاً يشمل تعريف الترمذي ما إذا كان بعض رواته سيئ الحفظ ممن وُصِف بالغلط، والخطأ غير فاحش، أو مستوراً لم ينقل فيه جرح ولا تعديل وكذا إذا نقل ولم يترجح أحدهما على الآخر، أو مدلساً بالعنعنة لعدم منافاتها نفي اشتراط الكذب. قال ابن الصلاح بعد ذكره هذه الحدود الثلاثة: كل هذا مُسْتبهم لا يشفي العليل، وليس في كلام / الترمذي، والخطابي ما يفصل الحَسَن عن الصحيح. ويقال: إن الحسن لذاته إذا عارض الصحيح كان مرجوحاً فضعفه بالنسبة إلى ما هو أرجح منه. وهذا الذي ذكرناه ذكره السخاوي ثم قال: ومع ما تكلفنا في توجيه الأقوال الثلاثة ما حصل بها حد جامع للحسن، بل هو مُستبهم لا يشفي العليل لعدم ضبط القدر المُحْتمل من غيره لضابط في آخر الأقوال، وكذا الشهرة في أولها، ولغير ذلك فيهما وفي تعريف الترمذي الذي زعمه بعض الحفاظ أنه أجودها. (وأما لأنه اصطلاح جديد) أي خاصة له، ولا مُشَاحةً فيه جزم ابن سيد(1/311)
الناس بالثاني خاصة، بل خص هذا الاصطلاح بجامعه. وتردد المصنف في سبب اقتصاره، ورجح هنا الثاني بقوله: (ولذلك) أي للتعليل الثاني، (قيدهُ) أي التعريف، (بقوله: عندنا / 46 - أ / ولم ينسبه) بفتح الياء، وكسر السين أي لم يُسْنده (إلى أهل الحديث) أي صريحاً. (كما فعل الخطابي) بفتح الخاء المعجمة، وتشديد الطاء المهلمة، هو أبو سليمان حَمَدَ بن محمد بن إبراهيم بن خَطاب، نُسِبَ إلى جَده. ويقال: إنه من سلالة زيد بن الخَطاب، كان تفقه على القفال، و ابن أبي هريرة، وغيرهما كذا في " المقتفى ". قال السخاوي: ويتأيد الأول بقول المصنف في " الكبير " الظاهر أنه لم يرد بقوله: عندنا حكاية اصطلاحه مع نفسه، وإنما أراد عند أهل الحديث. كقول الشافعي: وإرسال ابن المسيب عندنا أي أهل الحديث فإنه كالمتفق عليه بينهم. ويبعده قوله: وما قلنا، وكذا قوله: فإنما أردنا فحينئذ النون لإظهار نعمة التلبس بالعلم المتأكد تعظيم أهله عملاً بقوله تعالى:: {{وأما بنعمة ربك فحدث}} مع الأمن من الإعجاب، ونحوه المذموم معه مثل هذا. (وبهذا التقرير) وهو اعتبار تعدد الطرق في الحسن والتفصيل في الجواب فيما له إسناد واحد، وفيما له إسنادان... الخ (1/312)
(يندفع كثير من الإيرادات التي طال البحث فيها) وهي التي أوردها في " الخلاصة ". (ولم يُسْفر) بضم التحتية، وكسر الفاء، أي لم ينكشِف (وجهُ توجيهها) من أسْفر وجهه أي أشرق، ومنه قوله تعالى:: {{وجوه يومئذ مسفرة}} أي مضيئة. (فلله الحمد على ما ألهم) أي بغير واسطة، (وعَلّم) بالمعنى الأعم ومجمل الإيرادات على الواردات أن ابن الصلاح قال: إن ذلك الاختلاف راجح إلى الإسناد، فإذا رُوى الحديث بإسنادين: أحدهما حسن، والآخر صحيح استقام أن يقال: إنه حديث حسن صحيح، أي إنه حسن بالنسبة إلى إسناد، صحيح بالنسبة إلى إسناد آخر على أنه غير مستنكرٍ أن يراد بالحسن معناه اللغوي، وهو ما يميل إليه النفس ولا يأباه القلب دون المعنى الاصطلاحي الذي نحن بصدده. قال ابن دقيق العيد: يَردُ عليه الأحاديث التي قيل فيها: حسن صحيح لا نعرفه إلا من هذا الوجه، ويلزم عليه أن يطلق على الحديث الموضوع إذا كان حسن اللفظ أنه حسن، ثم أجاب عن الاستشسكال المذكور بعد رد الجوابين بأن الحسن لا يشترط فيه القصور عن الصحة إلا حيث انفرد الحسن، فيراد بالحسن / حينئذ معناه الاصطلاحي. (1/313)
وأما أن الحسن في درجة الصحة، فالحسن حاصل لا محالة تبعاً للصحة لأن وجود الدرجة العليا، وهي الحفظ، والإتقان لا ينافي وجود المرتبة الدنيا، فيصح أن يقال: حسن باعتبار الصفة الدنيا، صحيح باعتبار الصفة العليا. قال: ويلزم على هذا أن يكون كل صحيح حسناً. قال ابن المَواقِ: كل صحيح عند الترمذي حسن، وليس كل حسن صحيحاً. قال ابن / 46 - ب / سيد الناس: قد بقي عليه أنه اشترط في الحسن أن يُروى نحوه من وجه آخر ولم يشترط ذلك في الصحيح: فانتفى أن يكون كل صحيح حسناً، فالأفراد الصحيحة ليست بحسنة عند الترمذي كحديث: " إنما الأعمال بالنيات. وأجاب عنه العراقي: بأن الترمذي يشترط في الحديث الحسن مجيئه من وجه آخر إذا لم يبلغ مرتبة الصحيح، فإذا بلغها لم يشترط ذلك بدليل قوله في مواضع: هذا حديث حسن صحيح غريب. قال السخاوي: لكنه منتقدٌ من جهة أخرى. انتهى. ووجههُ بأنهما أي الحسن، والصحيح متباينان وليس بينهما عموم وخصوص مطلقاً، فالضبط الذي في الحسن غير الضبط الذي في الصحيح، وهو المفهوم من كلام الشيخ على ما تحرر في حده من التصريح.(1/314)
(زيادة الثقة)
(وزيادة راويهما) وفي نسخة: رواتهما، (أي الصحيح والحسن، مقبولة) إذ ليس فيها سبب الردّ. وأضاف الراوي إليهما لأن الكلام في الثقة، فزيادة غيرهما بل رواته مطلقاً غير مقبولة، (ما لم تقع) أي الزيادة (منافية لرواية مَن) أشار في الشرح إلى تقدير مضاف في المتن. (هو أوثق) أي من راويهما فمن التفضيلية مقدرة مع مدخولها وبين من بقوله: (ممن لم يذكر تلك الزيادة) نوقش بأنه لو وقعت الزيادة منافية لرواية من هو مساو له في الوثوق لا يُقْبل بل يتوقف فيها مع أنه يصدق عليها، لأنها لم تقع منافية لرواية من هو أوثق، ودُفع بأن المراد من قوله: مقبولة، غير مردودة قطعاً فيصدق على ما وقعت الزيادة منافية للمساوي في الثقة أنها غير مردودة قطعاً. والأظهر في الجواب: أن التوقف يقتضي عدم العمل لا الرد ألا ترى إلى ما سيأتي من تقسيم المقبول إلى معمولٍ به. وغير معمول به؟ (1/315)
(لأن الزيادة إما أن تكون لا تنافي) أي لا تَعَارُض (بينها) أي بين رواية من ذكر الزيادة (وبين راوية من لم يذكرها، فهذه) أي الزيادة، (تُقبل مطلقاً) أي سواء كانت في اللفظ، أم في المعنى، تعلق بها حكم شرعي، أم لا، غيرت الحكم الثابت أم لا، أوجبت نقصاً من أحكام ثبتت بخبر آخر أم لا، علم اتحاد المجلس أم لا، كثر الساكتون عنها أم لا. ذكره السخاوي. وزاد العراقي بقوله: سواء كان ذلك من شخص واحدٍ بأن رواه مرة ناقصاً ومرةً بتلك الزيادة، أو كانت الزيادة من غير من رواه ناقصاً. (لأنها أي الزيادة) حينئذ (في حكم الحديث المستقل الذي ينفرد به) أي بروايته (الثقة) أي المعتمد في الضبط والعدالة، (ولا يرويه عن شيخه غيره) عطف تفسير للتفرد. (وإما أن تكون) أي الزيادة، (منافية) / بأن تُعارِضَ روايةُ من ذكر الزيادة رواية من لم يذكرها تعارضاً لا يمكن الجمع بينهما أصلاً (بحيث يلزم من قبولها) أي الزيادة (رد الرواية الأخرى) كما أنه يلزم من قبول الرواية الأخرى رد الزيادة / 47 - أ / عليها. (1/316)
(فهذه هي التي يقع الترجيح بينها وبين معارضها) يعني أن هذه الزيادة قد يقع الترجيح بينها وبين منافيها. (فيقبل الراجح) لكون راوية أوثق، أو شيء آخر فيما إذا كانت منافية لرواية من هو مساو. (ويردُ المرجوح) سواء كان المرجح في جانب راوي الزيادة، أو غيره. وهذا إذا وجد المرجح، وأما إذا لم يوجد كما إذا كان زيادة الراوي منافية رواية من هو مثله في جميع الجهات لا أدنى منه ولا أوثق، فلا يقع الترجيح هناك بل يُتَوقف فيهما كما قررناه فيما سبق. ثم هذا الذي حررناه يشمل ما إذا كان قوله: لأن الزيادة... إلخ تقسيماً للزيادة، أو تعليلاً لما في المتن. فقول تلميذه: هذا تقسيم للزيادة لا تعليل لما وقع في المتن، هذا هو الظاهر من السوق، فإن اعتبره المصنف تعليلاً فهو أعم مما في المتن. انتهى مناقشة في غير محله، فإن اعتبار الأعم لا شك أنه أتم، مع أنه قد تقدم أن الشيخ رحمه الله تعالى جعل متنه وشرحه ككتاب واحدٍ بالضم ثم قول التلميذ: وكان اللائق بالتعليل أن يقول: لأن المنافية لرواية من هو أوثق معارضة بأرجح، فلم تقبل والتي لم تناف بمنزلة حديث مستقل، ويفهم منه ما نافى وليس بأوثق أنه يقدم. انتهى. غير لائق لما تقرر أنه أتى بعبارة شاملة للتعليل والزيادة. (1/317)
مع زيادات من الإفادة الدالة على أن ما نافى وليس بأوثق باحتماليه غير مقدم على ما تحقق. وأعلم أن معرفة زيادة الثقة فن لطيف يستحسن العناية لما يستفاد بالزيادة من الأحكام، وتقييد الإطلاق وإيضاح المعاني وغير ذلك، وإنما يُعْرف بجمع الطرق الأبواب، وقد كان إمام الأئمة ابن خزيمة لجمعه بين الفقه والحديث مشاراً إليه بحيث قال تلميذه ابن حبان: ما رأيت على أديم الأرض من يحفظ الصحاح بألفاظها، ويقوم بزيادة كل لفظة: زاد في الخبر ثقة ما غيره، حتى كأن السنن نُصبَ عينيه. (واشتهر عن جمع من العلماء) أي جمهور الفقهاء وأصحاب الحديث كما حكاه الخطيب عنهم. (القول بقبول الزيادة مطلقاً) أي على ما سبق معنى الإطلاق. (من غير تفصيل) أي بين زيادة وزيادة، وبين حكم وحكم، وبين شخص و شخص. وقيل: لا يقبل مطلقاً ممن رواه ناقصاً ويقبل من غيره من الثقات لإشعاره بخلل في ضبطه وحفظه. وقسمها ابن الصلاح إلى ثلاثة أقسام: أحدها: ما يقع مخالفاً منافياً لما رواه سائر الثقات، فهذا حكمه الرد. الثاني: ما لا مخالفة فيه أصلاً فيقبَل. (1/318)
الثالث: ما يقع بين هاتين المرتبين، وهي / 47 - ب / زيادة لفظة في الحديث لم يذكرها سائر رواته كحديث: " جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ". تفرد أبو مالك الأشجعي عن سائر رواته فقال: " وجعلت تربتها طهورا " فهذا القسم يشبه الأول لمنافاته لظاهر ما أتى به الجمهور، ويشبه الثاني لكونه بالجمع أي بالتوفيقٍ بينهما صار / كالواحد وزال التنافي. انتهى كلام ابن الصلاح. ولم يفصح بحكم هذا القسم. (1/319)
قال النووي: والصحيح قبول هذا الأخير، يعني وهو ما يمكن الجمع بينهما بأن يقال مثلا: مراده بالتربة الأرض، وهي: الصعيد المطابق للآية والحديث الوارد فيه بهذا اللفظ الموافق لمذهب الإمام الأعظم ومن تبعه، لا بأن يقال: المراد بالأرض التربة كما اختاره الشافعي وأتباعه رضي الله تعالى عنهم، بناء على أن المطلق يقيد، فإن رد رواية المنفرد إلى رواية الجمهور أولى من عكسه، مع احتمال أنه نقل بالمعنى، واختار المصنف تقسيم ابن الصلاح وأدرج الثالث في القسم الأول وأورد الإشكال على الجمهور بقوله: (ولا يتأتي ذلك) أي لا يستقيم ما ذكروه من الإطلاق من غير تفصيل. (على طريق المحدثين) أي بأجمعهم، أو الصرحين بالحدود، ويؤيده قوله: (الذين يشترطون في الصحيح أن لا يكون) أي الحديث أو راويه. (شاذا) فإنه على تقدير قبول الزيادة مطلقا يلزم رد الصحيح مع أن المحدثين يعرفون به الصحيح. (ثم يفسرون الشذوذ بمخالفة الثقة من هو أوثق منه) فيه أن مطلق الشذوذ ليس منافيا للصحة كما سبق إليه الإشارة. قيل مجرد اشتراط عدم الشذوذ المفسر (1/320)
بما ذكر في الصحيح لا ينافي قبول الزيادة مطلقا لعدم انحصار المقبول في الصحيح بل منه الحسن، وإنما المنافي له اشتراطه في الصحيح والحسن جميعا. وأجيب بأن اشتراطه في الحسن أيضا مراده يدل عليه قوله الآتي: وكذا الحسن. وفي حاشية التلميذ عند قوله: ولا يتأتى ذلك... الخ قال المصنف في تقريره: لأن المخالفة تصدق على زيادة لا تنافيها فلا يحسن الإطلاق وليس في الشاذ ما يخالف، فلذلك قيدت بقولي: ما لم يقع منافيه، قلت: ليس في هذا زيادة فائدة وما في الشرح غني عن هذا. انتهى. (والعجب ممن أغفل ذلك) أي الشرط الذي ذكره المحدثون في الصحيح أن لا يكون شاذا بأن أهمله ولم يذكره. يقال: أغفل الشيء إذا تركه على ذكر منه، كذا في " شمس العلوم "، فلا يرد أنه لا مؤاخذة على الغفلة. (منهم) أي من المحدثين بيان لمن أغفل، وغفل شارح هنا عن المعنى المراد بذلك فقال: أي ترك قبول الزيادة مطلقا. انتهى. ويبطله قول الشيخ: (مع اعترافه) أي المغفل منهم في موضع آخر. (باشتراط انتفاء الشذوذ في حد الحديث الصحيح) أي تعريفه. (1/321)
(وكذا) وفي نسخة صحيحة: وكذلك. (الحسن) بالجر على أنه عطف على الصحيح، وبالرفع وهو الصحيح على أنه مبتدأ قدم خبره. أي وحد الحسن مشروط بانتفاء الشذوذ كانتفائه في حد الصحيح. قال التلميذ: قال المصنف: أعاده أي الصحيح لأجل ذكر الحسن فإنه أولى أن يشترط في الصحيح. انتهى. وحاصل الكلام: أن الملائم لمذهب من يقول بالزيادة مطلقا مع اعترافه باشتراط انتقاء الشذوذ مطلقا أن يفصل أو يفضل. (والمنقول عن أئمة الحديث المتقدمين، كعبد الرحمن بن مهدي) بفتح الميم، وسكون الهاء، وتشديد / التحتية. (ويحيى القطان) بفتح القاف، وتشديد الطاء. (وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين) بفتح ميم، وكسر عين. (وعلي بن المديني) بكسر الدال، بعدها ياء ساكنة، منسوب إلى المدينة المطهرة على الصحيح. (والبخاري، وأبي زرعة) بضم زاي، وسكون راء، الرازي. (وأبي حاتم) بكسر الفوقية، والعوام يفتحونها. (1/322)
(والنسائي) بالمد والقصر منسوب إلى نسا، بفتح النون، والأعجام يكسرونها، بلد مشهور في خراسان. (والدار قطني) بفتح الراء، وضم القاف، وسكون الطاء نسبة إلى محلة ببغداد. (وغيرهم) أي غير المذكورين المستفاد من قوله: كعبد الرحمن، فهو للتأكد، أو المغايرة باعتبار أن غيرهم ليسوا في مرتبتهم كما قيل في قول الصرفيين: من نحو حسب يحسب وأخواته. (اعتبار الترجيح) بالرفع على أنه خبر المنقول، والجملة حالية. (فيما يتعلق) يتعلق بالاعتبار ، أو الترجيح أي في حكم يتعلق. (بالزيادة) أي إذا كانت منافية. (وغيرها) مما يعارض كما سبق. (ولا يعرف) بالبناء للمجهول، وضمنه معنى النقل أي ولا ينقل. (عن أحد منهم إطلاق قبول الزيادة) أي لو سمع منهم لنقل عنهم، وفيه من اللطافة أن زيادة الثقة مقبولة، فإن الإطلاق أمر زائد على التقييد الذي هو اعتبار الترجيح. (1/323)
(وأعجب من ذلك) أي من ذلك العجب. (إطلاق كثير من الشافعية) أي التابعين للشافعي المنسوب إلى جده شافع، (القول:) بالنصب. (بقبول زيادة الثقة) المنافية لتفسير المحدثين الشذوذ بمخالفة الثقة من هو أوثق، اللازم منه أنه لا يقبل زيادة هذا الفرد من الثقة. (مع أن نص الشافعي يدل على غير ذلك) أي على عدم إطلاق القول بقبولها. قيل: وجه الأعجبية أن في كلام الشافعي وجد التصريح، وهناك لم يصرح به، بل لزم مما اعترف به. قال التلميذ: ليس هذا محل ما ذكره إمامهم، لأنه فيمن يختبر ضبطه، وكلامهم في الثقة، وهو عندهم العدل الضابط فلا تعجب (فإنه) أي الشافعي / 48 - ب / رحمه الله تعالى (قال في أثناء كلام هعلى ما يعتبر به حال الراوي) على متعلق بكلامه (في الضبط) متعلق ب: يعتبر. (ما نصه:) بالرفع أي ما هو كلام الشافعي بلفظه، أو ما هذا نصه، وهو تأكيد لما سبق وهو مقول قال، وما بعده بدل عنه، وفائدته أن لا يتوهم أنه نقل بالمعنى. وقال محش: كلمة ما في: ما نصه، مفعول قال، ونصه مبتدأ وخبره ما بعده أي قوله: ويكون... الخ. والجملة صلة ما أو صفة. (1/324)
والمعنى: أن الشافعي قال كلاما نصه ومعناه القطعي قولنا: ويكون... الخ. وعلى هذا فالمنقول ليس عبارة الشافعي بل محصلها، وإن حمل على أنه عبارته لا يخلو الكلام من استدراك. وهو قوله: ما نصه بل الأولى تركه لإيهام خلاف المقصود. قلت: وفيه انه كان يفوت المقصود كما قدمناه مع أنه لو لم يقل: ما نصه، لكان نصه لقوله السابق: مع / أن نص الشافعي، ولقوله اللاحق. انتهى كلامه، فتدبر وتأمل. والحاصل: أن الإمام قال: (ويكون) أي الراوي (إذا شرك) بكسر الراء، (أحداً من الحفاظ لم يخالفه) أي حقه أن لا يخالفه الراوي لا بالزيادة ولا بالنقصان. وقيل: معناه إذا شركه لم يكن مخالفا له إذ المراد بالشركة هي الشركة في التمام. (فإن خالفه) أي الراوي حافظا ولم يراع ما هو حقه بل خالفه بعد شركته في أصل الرواية، فالمخالفة بالنقصان مقبولة، وبالزيادة مردودة، وهذا معنى قوله: (فوجد) بالفاء التعقيبية، أو التفصيلية (حديثه) أي الراوي (أنقص) أي من رواية الحافظ (كان في ذلك) أي وجدان المخالفة بالنقصان. (دليل على صحة مخرج حديثه) بفتح الميم والراء، أي خروجه وظهوره، أو(1/325)
سند. وضبط في بعض الشروح بضم الميم، وتشديد الراء، وفسره بالراوي. وفيه أن الحكم عام والمخرج خاص كالبخاري ونحوه من المصنفين مع أنه لا يقال: دال على صحة الراوي، وإنما كان النقص دليلا على صحة حديثه لاحتياط في روايته. قيل: هذا إذا لم يكن النقصان منافيا لما رواه الحافظ، وأما إذا كان منافيا لما رواه الحافظ ومخلا لمقصود الحافظ فيضر ذلك بحديثه. (ومتى خالف) أي الراوي، (ما وصفت) أي ما ذكرته من وجدان حديثه أنقص بأن يكون زائدا، وكذا ما يكون ناقصا كما سبق. ويشير إليه قول الشيخ فيما بعد: فدخلت... الخ، فإنه يدل على أن المضر ليس منحصرا في الزيادة. (أضر ذلك) أي ما ذكره من المخالفة بالزيادة. (بحديثه) وفيه أنه يوهم أن الزيادة على الحافظ مطلقا غير مقبولة، مع أن المضر إنما هو الزائد المنافي للأوثق. (انتهى كلامه). قيل حاصل كلامه رضي الله تعالى عنه: أن العدل الذي لم يعرف ضبطه إذا عرض حديثه على حديث من شاركه من الحفاظ فلم يخالفه كان ضابطا وتبين أنه ثقة، لأنه جمع مع العدالة / 49 - أ / الضبط، وإن خالف تبين أنه غير ضابط، فليس بثقة لأن توهيمه أولى من توهيم الحفاظ. وإذا كان كلامه رضي الله تعالى عنه فيما لم يعرف ضبطه فلا ينافيه إطلاق أصحابه قبول (1/326)
زيادة الثقة والله أعلم. (ومقتضاه) أي ما يقتضيه كلام الإمام، (أنه) أي الراوي، (إذا خالف) أي أحدا من الحفاظ، (فوجد حديثه) أي حديث الراوي، (أزيد) أي من حديث الحافظ، (أضر ذلك) أي وجدان المخالفة بالزيادة (بحديثه) أي بحديث الراوي، (فدل) أي كلام الإمام، (على أن زيادة العدل عنده) أي في مذهبه. (لا يلزم قبولها مطلقا) وفيه أنه بإطلاقه ينافي ما اختاره الشيخ من أن الزيادة مقبولة ما لم تقع منافية لمن هو أوثق. ويخالف القاعدة المشهورة من أن المثبت مقدم على النافي، فكيف على الساكت؟ فإن من حفظ حجة على من لم يحفظ. (وإنما تقبل من الحافظ) يعني يشترط في / قبول الزيادة كون من رواه حافظا. قال العراقي: شرط أبو بكر الصيرفي من الشافعية، وكذا الخطيب في قبول الزيادة كون من رواها حافظا. انتهى. وهذا لا ينافي إطلاق أصحاب القول بقبول الزيادة، فإن الخلاف عندهم في قبول زيادة من لم يعرف بالحفظ، وأما من عرف بالحفظ، وهو المراد بكونه ثقة أي عدلا ضابطا، فلا خلاف عندهم في (1/327)
قبول زيادته مع احتمال الإطلاق والتقييد بكونه لا يخالف من هو أوثق منه، وهذا ما سنح ببالي والله أعلم بحالي ومالي. قال محش: فإن قلت: كيف جعله من مدلول كلام الشافعي مع أنه لم يذكره؟ وكيف جعله فصلا بين الدليل ومدعاة؟ قلت: هو من مدلوله باعتبار أنه لما خص الضرر بمخالفة الراوي للحافظ، فقد دل على أن زيادة الحافظ مقبولة. فإن قلت: إن كان المراد أن الزيادة مطلقا تقبل من الحافظ، يرد عليه أن زيادة الحافظ إذا كانت منافية لحافظ آخر يلزم أن لا تقبل؟ وإن أراد أن يقبل في الجملة من الحافظ، يرد عليه أن زيادة الثقة على ثقة آخر دونها مقبولة، فلا يستقيم الحصر؟ قلت: يمكن المراد من حصر قبول الزيادة حصر عدم ردها عليه، لكن هذا الجواب إنما يتم إذا أدعي أن حافظا لا يكون أوثق من حافظ مع أنه يتفاوت حال الحفاظ، والزيادة المنافية من المرجوح مردودة. (فإنه) أي الشافعي، وهو دليل لقوله: لا يلزم قبولها مطلقا. (اعتبر أن يكون حديث هذا المخالف أنقص من حديث من خالفه من الحفاظ) الظاهر أن من بيان من، وفيه أن هذا ميل من الشيخ إلى مذهبه من التقييد في المخالفة المردودة بالأوثق، وإلا فلا دلالة في كلام الشافعي على / 49 - ب / ذلك، بل قوله: إذا شرك أحداً من الحفاظ صريح على خلافه ! فيتعين أن تكون من تبعيضية.(1/328)
(وجعل) أي الشافعي رضي الله عنه (نقصان هذا الراوي من الحديث دليلا على صحته) أي صحة حديثه، وكمال ضبطه، (لأنه) أي نقصان حديثه. (يدل على تحريه) بتشديد الراء، أي طلبه الأولى والأحرى. قال تلميذه: لم لا يجوز أن يكون نقصانه عن الحافظ دليلا على نقصان حفظه؟ انتهى. والجواب: إن هذا فيمن لم يعرف بالحفظ فإنه لما نقص من الحديث علم أنه تحرى واجتهد، فيكون نقصانه بالاجتهاد فيقبل، فلا يخالف قولهم: من حفظ حجة على من لم يحفظ، أي من حفظ من الحفاظ المعروفين بالحفظ، أو فيمن خالف من هو أثق منه. (وجعل) أي الشافعي (ما عدا ذلك) أي النقصان (مضرا بحديثه فدخلت فيه) أي في ما عدا ذلك (الزيادة) وإنما قال: دخلت الزيادة لأن النقصان أيضا يكون مضرا كما ذكر، (فلو كانت) أي الزيادة (عنده) أي عند الشافعي، (مقبولة مطلقا) أي أعم من أن يكون الراوي مخالفا للحافظ، أو لمن هو أوثق، أو لمثله، علم ضبطه، أو لا، (لم تكن) أي الزيادة المذكورة، (مضرة بحديث صاحبها) بجعلها دالة على ضعف مخرج حديثه. (والله / سبحانه أعلم) قال تلميذه: إذا حمل كلام الإمام على ما نحن فيه (1/329)
فظاهره قبول منع الزيادة مطلقا، لا على التفصيل المذكور. ويتبادر من سوق الكلام في قوله: زيادة راويهما إلى هنا، أن المخالفة من حيث الزيادة أن يزيد الثقة مخالفاً لمن هو أوثق منه، أو يزيد الضعيف مخالفا للثقة. والواقع أن المراد مجرد المخالفة. انتهى. والظاهر: أن كلام الإمام يدل على نوع الثاني، وهو أن يزيد الضعيف مخالفا للثقة، ويفهم منه مخالفة الأوثق بالأولى، ويخرج منه مخالفة الثقة للثقة، فمن أطلق قبول زيادة الثقة فقد خالف الإمام، وكذا من قيده بالنوع الأول فتأمل، فإنه موضع زلل.
(المحفوظ والشاذ)
(فإن خولف) أي الراوي - والمراد راوي الصحيح والحسن - بالزيادة، أو النقص في السند، أو المتن على ما ذكره السخاوي. (بأرجح) أي بسبب وجود راو أرجح حالة المخالفة. (منه) أي من الراوي المخالف المرجوح، فخرج المساوي لما فيه من التوقف. (لمزيد ضبط) متعلق ب: أرجح. (أو كثرة عدد) وإن كان كل منهم دونه في الحفظ والإتقان، لأن العدد الكثير أولى بالحفظ من الواحد. وتطرق الخطأ للواحد أكثر منه للجماعة. (1/330)
(أو غير ذلك من وجوه الترجيحات) التي سيأتي ذكرها ومن جملتها: فقه الراوي، وعلو سنده، وكونه في كتاب تلقاه الأمة بالقبول للتلازم. (فالراجح) / 50 - أ / أي من المحدثين المتخالفين، (يقال له:) أي في عرف المحدثين، (المحفوظ) لأن الغالب أنه محفوظ عن الخطأ، (ومقابله) بكسر الباء أي نقيضه، (وهو المرجوح يقال له: الشاذ) لأنه انفرد عن رواية بقية الرواة، وبعد عن أسباب الترجيح. (مثال ذلك:) أي مثال الشذوذ في السند. (ما رواه الترمذي، والنسائي، وابن ماجه، من طريق ابن عيينة) بضم (1/331)
العين، وفتح التحتية الأولى، وهو سفيان، وكان إماما جليلا، ودفن بالمعلى. (عن عمرو بن دينار عن عوسجة) بفتح مهملة وسكون واو، وفتح مهملة، وجيم، (عن ابن عباس رضي الله عنهما: " أن رجلا توفي) بضمتين، وتشديد الفاء المكسورة، وفتح التحتية أي مات (على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم،) أي في زمانه، (ولم يدع) أي ولم يترك (وارثا إلى مولى) أي معتقا بالفتح (وهو) أي الرجل (أعتقه...) أي ذلك المولى، وترك مالا. (الحديث) يجوز إعرابه مثلثا. وتمامه: فقال صلى الله عليه وسلم: " هل له أحد؟ " قالوا: لا إلا غلاما كان اعتقه، فجعل صلى الله عليه وسلم ميراثه له، كذا في فرائض المشكاة. (وتابع ابن عيينة) بالنصب على أنه مفعول مقدم (على وصله) أي وصل هذا الحديث إلى ابن عباس رضي الله عنهما (ابن جريج) بالجيمين مصغرا. ورفع ابن على أنه فاعل (وغيره) عطف عليه، (وخالفهم) أي أبن عيينة، وابن جريج، وغيره (حماد بن زيد /، فرواه) أي مرسلا. (1/332)
(عن عمرو بن دينار، عن عوسجة، ولم يذكر ابن عباس رضي الله عنهما. قال أبو حاتم: المحفوظ حديث ابن عيينة) يفهم منه أن الحديث يطلق على مجموع كلام الراوي المركب من الرواة وكلامه صلى الله عليه وسلم. (انتهى) أي كلامه كما في نسخة، والضمير راجع إلى أبي حاتم. (فحماد بن زيد من أهل العدالة والضبط، ومع ذلك رجح أبو حاتم رواية من) موصولة صلتها (هو) أفرد . باعتبار لفظ من. وفي نسخة: من هم رعاية لمعنى من، وهو مبتدأ خبره: (أكثر عددا منه) أي من حماد. وقال التلميذ: الأولى في المثال أن يكون: بمتن خالف فيه الثقة غيره، لأن هذه الأنواع من الشذوذ ونحوها إنما هي واقعة بالذات على المتن لما فيه، أو في طريقه ما يقتضيها. انتهى. ويمكن دفعه بأن تعدد المثال غير لازم وبأنه من باب الاكتفاء،(1/333)
وبأنه إذا كانت المخالفة في السند، فهذا حكمه، فكيف إذا كان في المتن؟ وبأن المخالفة في المتن نادرة، وبأن يدركها كل أحد، وبأنها فهمت من بحث زيادة الثقة. ثم مثاله في المتن: زيادة " يوم عرفة " في حديث: " أيام التشريق أيام أكل وشرب " فإن الحديث من جميع طرقه / 50 - ب / بدونها. وإنما جاء بها موسى بن علي بن رباح، عن أبيه، عن عقبة بن عامر كما أشار إليه ابن عبد البر فإنه قال: الأحاديث إذا كثرت كانت أثبت من الواحد الشاذ، وقد يهم الحافظ أحيانا، على أنه قد صحح حديث موسى ابن خزيمة، وابن حبان والحاكم وقال: إنه على شرط مسلم. وقال الترمذي: إنه حسن صحيح. قلت: لعلهم غفلوا عن شذوذ المتن ونظروا إلى الإسناد فقط فحكموا عليه بما حكموا. ومثل ذا يقع كثيرا من أهل العربية أنهم يأتون بوجه صحيح من الإعراب لكنه إذا لوحظ المعنى تبين أنه على خلاف الصواب. (1/334)
وقال السخاوي: وكأن ذلك لأنها زيادة ثقة غير منافية لإمكان حملها على حاضري عرفة. انتهى. ويرد إن الصوم لهم مكروه، ولغيرهم مسنون ولا يخفى بعد توجيهه من وجوه: الأول: إطلاق يوم عرفة. والثاني: أن الكراهة مختصة بمن عجز عن الذكر والدعاء: وبمن لم يكن عليه صوم القران والتمتع. والثالث: أن الكراهية في يوم عرفة تنزيهية بالاتفاق، والصوم في أيام التشريق حرام بالإجماع فلا مناسة لذكره معها. (وعرف) أي علم علما جزئيا، ولذا لا يقال: الله عارف. (من هذا التقرير) أي المفهوم في ضمن التحرير. وأراد به تقرير المتن حيث فرع قوله: فإن خولف على قوله: وزيادة راويهما أي الحسن والصحيح، فعلم أن فاعله إنما هو راوي الحسن والصحيح، وهو مقبول لا من تقرير الشرح لأن الحكم بكون راو في مثال مخصوص ثقة ومقبولا لا يدل على وجوب كونه مقبولا في جميع الصور، وكذا الحكم بكون راو شاذا في حديث لا يلزم منه كونه غير مقبول في جميع الأحوال ؛ / ولذا قال فيما سبق: فحماد بن زيد من أهل العدالة والضبط... الخ. (1/335)
والحاصل: أنه تحقق مما ذكرنا: (أن الشاذ: ما رواه المقبول مخالفا) أي في نفس المتن، أو في سنده بالزيادة أو النقص. (لمن هو أولى منه) أي في الضبط حقيقة، أو حكما كما في التعدد، وفي كلام الشرح إشارة إلى ذلك حيث قال: بأرجح منه، إذ يفهم منه أن المخالف ينبغي أن يكون له رجحان ما من الجهات المذكورة. والمراد بالمقيول أعم من أن يكون ثقة أو صدوقا. والشاذ بالمعنى المذكور هنا اخص مما ذكر في تعريف الصحيح. قيل: هذا مناف لما سبق من حصر المقبول في أربعة أقسام: الصحيح، والحسن بقسميهما مع نفي الشذوذ بالمعنى الأعم في تعريفها، وأجيب بأنه حصر فيما سبق المروي المقبول فيها، وههنا جعل راوي الشاذ أي الزائد على الحسن أو الصحيح بسب المخالفة لمن هو أوثق مقبولا، ولا يلزم من مقبولية الراوي مقبولية المروي، فلا تنافي. (وهذا) أي الذي / 51 - أ / قررنا، (وهو المعتمد في تعريف الشاذ بحسب الاصطلاح) أي المطابق للمعنى اللغوي الذي هو المتفرد. وبه عرف الشافعي، وأهل الحجاز. وقال الخليلي - وعليه حفاظ الحديث -: الشاذ ما ليس له إلا إسناد واحد (1/336)
يشذ به شيخ ثقة أو غيره، فما كان عن غير ثقة متروك ولا يقبل، وما كان عن ثقة يوقف ولا يحتج به. فلم يعتبر المخالفة ولا اقتصر على الثقة. وقال الحاكم: الشاذ: هو الحديث الذي يتفرد به ثقة من الثقات وليس له أصل بمتابع لذلك الثقة، فلم يعتبر المخالفة ولكن قيده بالثقة. قال ابن الصلاح: وأما ما حكم الشافعي عليه بالشذوذ فلا إشكال فيه وأما ما ذكراه أي الخليلي والحاكم فمشكل بما يتفرد به العدل الحافظ الضابط كحديث: " إنما الأعمال بالنيات " وحديث " النهي عن بيع الولاء وهبته ".
1 (المعروف والمنكر)
(وإن وقعت المخالفة) كذا في نسخة مصححة، وفي نسخة: الواو متن والباقي شرح. (مع الضعف) بأن كان الراوي المخالف ضعيفا لسوء حفظه أو جهالته، أو نحوهما. وهل الشاذ ضعيف أم لا؟ والظاهر: أن الشاذ والمنكر كلاهما ضعيف، لكن الشاذ راويه قد يكون مقبولا، والمنكر راويه ضعيف. (1/337)
(فالراجح) أي الحديثين (يقال له:) أي عند المحدثين (المعروف) لكونه معروفا عندهم، (ومقابله) أي ضده، (يقال له:) أي عندهم: (المنكر) لأنهم أنكروه. قال السخاوي: فالمنكر ما رواه الضعيف مخالفا. (مثاله:) أي المنكر (ما رواه ابن أبي حاتم من طريق حبيب) بضم حاء مهملة، وفتح موحدة، وتشديد تحتية مكسورة (ابن حبيب) بفتح، فكسر، (وهو أخو حمزة بن حبيب) وفي نسخة: بضم الخاء المعجمة، وفتح الموحدة، وسكون الياء في الثلاثة. والظاهر: أنه سهو قلم، (الزيات) بتشديد التحتية، بائع الزيت أو صانعه (المقرئ) بضم ميم، وسكون قاف، وهمزة في آخره يبدل على مذهبه وقفا، وهو إمام القراء من أتباع التابعين. عرض عليه تلميذ له ماء في يوم حار فأبى تورعا قال: أنا لا آخذ أجرا على القرآن، أرجو بذلك الفردوس. قرأ / على جعفر الصادق بإسناد المسمى بسلسلة الذهب، وعلى جماعة آخرين رضي الله تعالى عنهم أجمعين. (1/338)
والحاصل: أن أخاه روى (عن أبي إسحاق) أي السبيعي بفتح مهملة، وكسر موحدة، بعدها ياء ساكنة، ثم عين مهملة. (عن العيزار) بفتح مهملة، وسكون تحتية، وألف بين زاي وراء. (ابن حريث) بضم مهملة وراء مفتوحة، وياء ساكنة بعدها مثلثة. (عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من أقام الصلاة) أي المكتوبة (وآتى) أي أعطى / 15 - ب /، (الزكاة) أي المفروضة، (وحج) أي بيت الله الحرام، وفق بالمشاعر العظام، (وصام) أي شهر رمضان بالتمام، (وقرى الضيف) بفتح القاف والراء، أي أطعمه إذا وجب عليه الإطعام (دخل الجنة ") أي دخولا أوليا بسلام. (قال أبو حاتم:) أي مخرجه، (هو) أي الحديث المذكور، (منكر) أي بسبب إسناده، وإن كان معناه صحيحا، (لأن غيره) أي غير حبيب، (من الثقات) أي الذي رووا هذا الحديث، (رواه) أفرده باعتبار لفظ غير. (عن أبي إسحاق موقوفا) أي على ابن عباس، وقد رواه حبيب مرفوعا. (1/339)
(وهو) أي وغير حبيب. (المعروف) أي ضد المنكر، وفي تعليله نظر، لأنه لا يدل على أن الضعيف معتبر في المنكر. قال ابن الصلاح: المنكر قسمان: الأول: الفرد المخالف لما رواه الثقات. والثاني: الفرد الذي ليس في راويه من الثقة والإتقان ما يحتمل معه تفرده. وقال التلميذ: هذا خلاف ما قدمه عن الشافعي، لأن النقصان أضر بحديثه، ولم يكن ذلك دليل تحريه، وبه عرف أن المراد ما قلته، لا ما فهمه المصنف. انتهى. ويمكن دفعه بأن كلامه هناك مبني على زيادة الثقة في المتن، وهنا على زيادته في الإسناد، مع أن الظاهر من كلام الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه أراد به من لم يعرف كونه ثقة كما أشبعنا الكلام فيه، والله أعلم. (وعرف بهذا) أي بما ذكرناه من التقرير الدال على الفرق بين الشاذ والمنكر. (أن بين الشاذ والمنكر عموما وخصوصا من وجه) أي بحسب المفهوم، وهو أن يعتبر في كل منها شيء لا يعتبر في الآخر، ويعتبر في كليهما شيء آخر حيث اعتبر في كليهما مخالفة الأرجح، وفي الشاذ مقبولية الراوي، وفي المنكر ضعفه، وأما بحسب الصدق فبينهما مباينة كلية، فاندفع اعتراض تلميذه بأنه يشترط في العموم والخصوص من وجه، أن يكون بين المذكورين مادة اجتماع، يصدق (1/340)
فيها كل منها، وليس المذكور هنا كذلك. وما ذكره في توجيهه ليس على حده عند القوم. انتهى. وبيان الدفع أن النسبة تعتبر تارة بحسب الصدق وتارة بحسب الوجود كما في القضايا، وتارة بحسب المفهوم، كما يقال: المفهومان إن لم يتشاركا في ذاتي فمتباينان، وإلا فإن تشاركا في جميع الذاتيات فمتساويان كالحد والمحدود، وإن شارك أحدهما الآخر في ذاتيات دون العكس، فبينهما عموم وخصوص مطلقا، وإن تشاركا في بعضها فبينهما عموم وخصوص من وجه كذا في " شرح المطالع " للأبهري. وعلى الاصطلاح الأخير ينزل / كلام المصنف. أو يقال: أراد أن بينهما عموما وخصوصا من وجه لغة، بمعنى اجتماعهما من وجه، وافتراقهما من وجه، ويؤيده قوله: (لأن بينهما اجتماعا في اشتراط المخالفة، وافتراقا في أن / 52 - أ / الشاذ رواية ثقة) بالإضافة. وفي نسخة: راويه ثقة. (أو صدوق) بالجر والرفع، أي لم ينقل عنه كذب لكنه غير ضابط. (والمنكر رواية ضعيف) بالإضافة، وفي نسخة: راويه ضعيف أي لسوء حفظه أو جهالته أو نحو ذلك على ما ذكره السخاوي. وقيل: ليس ثقة ولا صدوقا. (1/341)
(وقد غَفَل) أي عن هذا الاصطلاح، أو عن هذا التحقيق (من سوىّ بينهما)، أراد به ابن الصلاح، فإنه سّوى بينهما حيث لم يُمّيز بينهما وقال: المنكر بمعنى الشاذ. قال التلميذ: وقد أطلقوا في غير موضع النكارة على رواية الثقة مخالفاً لغيره، ومن ذلك حديث: " نزع الخاتم " حيث قال أبو داود: هذا حديث منكر مع أنه راوية هّمّام بن يحيى، وهو ثقة، احتج به أهل الصحيح. قلت العبرة في الاصطلاح للأغلب، فإذا جاء خلافه يؤول مع أنه يحتمل أن لا يكون هَمَّام ثقة عند أبي داود لأنه مجتهد لا يجب عليه تقليد غيره. ثم قال: وفي عبارة النسائي ما يفيد في هذا الحديث بعينه أنه يقابل المحفوظ، وكأن المحفوظ والمعروف ليسا بنوعين حقيقين تحتهما أفراد مخصوصة عندهم، وإنما هي ألفاظ تستعمل في التضعيف. (والله أعلم) فجعلها المصنف أنواعاً، فلم توافق ما عندهم. انتهى. وفيه أنه تتبع منقولاتهم، وبنى اصطلاحه على أكثر استعمالاتهم، فيكون مذهبه التحقيق، وبالله التوفيق. (1/342)
1 (المُتَابِع ومراتبه)
(وما تقدم ذكره من الفرد) الواو عاطفة للمتن على المتن، وللشرح على الشرح، فباعتبار المتن يرفع الفرد، وباعتبار الشرح يخفض. ومثل هذا المزج لا يستحسنه المحققون لكنه لما غلب الشرح على المتن، وجعله ككتاب واحد، ساغ له ذلك، ولو قال: والمتقدم ذكره، وهو الفرد لكان أولى. وقوله: (النِسبي) بكسر النون، وسكون السين، نسبة إلى النسبة المقابلة للحقيقة التي يُعَبِّر عنها المحدثون بالفرد المطلق. (إن) شرطية دخلت على الشرح والمتن. (وجد بعد ظن كونه فرداً) أي فرداً نسبياً، فإن الفرد المطلق لو تابعه راو يخرج عن كونه فرداً، كذا قيل، وفيه بحث يأتي. (قد) للتحقيق (وافقه) أي تابع راويه (غيره) أي غير راويه، فذلك الغير هو راو آخر يدل عليه قوله فيما بعد: متابعاً، وهو عبد الله. (فهو) أي ذلك الغير (المُتابع) أي متابعه أو المتابع له أي للحديث. (1/343)
(بكسر الموحدة) وفي نسخة: الباء الموحدة وهو مستدرك. فإن قلت: لِم لَمْ يجعل هو راجعاً إلى الفرد؟ ويكون المتابعُ حينئذ بفتح الباء كما يقتضيه سوق الكلام سابقاً، حيث يعود الضمير إلى الفرد، ولاحقاً حيث جعل الشاهد / 52 - ب / صفة الحديث لا الراوي. ويجوز أن يجعل ضمير فهو عائداً إلى ما يرويه ذلك الغير. والشاهد والمتابع صفة الحديث لا الراوي. قلت: لعله مجرد اصطلاح، فإن قيل: لِمَ قيد الفرد بالنسبي / مع أن المتابع بهذا المعنى يوجد للفرد المطلق أيضاً؟ فإنه إن كان وجد للراوي عن صحابي - بعد ظن انفراده - شريكٌ عن ذلك الصحابي فهو المتابع، وإن كان عن صحابي آخر فهو الشاهد. يقال: سلّمنا ذلك، ولعله بناء على الاصطلاح، فإنه في اصطلاحهم مختص بالفرد النسبي. (والمتابعة على مراتب:) وإن كان مآلها إلى مرتبتين لأنها، (إن حصلت للراوي نفسه) أي دون شيخه، فضلاً عن أن يكون مع شيخه، (فهي) أي المتابعة (التامة) أي الكاملة المختصة بالتسمية. (وإن حصلت) أي المتابعة (لشيخه) أي دون الراوي نفسه، (فَمن فوقه) أي فوق شيخ من مشايخه، (فهي القاصرة) وحاصل كلامه: أن الراوي المتفرد(1/344)
في أثناء السند إن شورك من راوٍ، فرواه، عن شيخه، أو شورك شيخه فمن فوقه إلى آخر السند، فهو المتابع. فالأول: هو المتابعة التامة: ولا بد في كونها تامة من اتفاقهما في السند إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإن توبع وفارقه ولو في الصحابي، فلا تكون تامة. والثاني: القاصرة. وكلما قربت منها كانت أتم من التي بعدها، وقد يسمى الآخر شاهداً، لكن تسميته تابعاً أكثر. (ويستفاد منها) أي من المتابعة تامة كانت، أو قاصرة، (التقوية) أي للمتابَع بفتح الباء. (مثال المتابعة:) أي الشاملة للتامة والقاصرة، (ما رواه الشافعي في " الأم ") اسم كتاب له. (عن مالك، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر رضي الله عنهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم) أي من أن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو بيان لما رواه، ويجوز أن يجعل أن النبي بدلاً لما رواه. (1/345)
(قال: " الشهر ") أي جنسه تارة، أو أقله (تِسْعٌ وعِشْرون) وهذا محقق، وفيه حثِّ على طلب الهلال ليلة الثلاثين، إذ قد يكون الشهر ثلاثين، وقد لا يكون، فإذا كان الأمر كذلك، (فلا تصوموا) أي رمضان (حتى تَرَوْا) أي تعلموا، ولو برؤية عدل، (الهلال) أي هلال رمضان، فاللام للعهد، (ولا تُفْطِرُوا) أي لا تدخلوا في إفطار رمضان، بأن تتركوا صيامه، وتصلوا صلاة عيد الفطر، ونحو ذلك، (حتى تَرَوْه) أي الهلال. والمراد هلال شوال، (فإن غُمَّ) بضم الغين، وتشديد الميم، أي خفي هلال رمضان، (عليكم) أي على جميعكم بغيم ونحوه، (فأكملوا العدة) أي أتموا عدد أيام شهر شعبان (ثلاثين) أي يوماً. (فهذا) وفي نسخة: وهذا (الحديث بهذا اللفظ) أي الذي تقدم، / 53 - أ /، (ظن قوم) أي وهموا، (أن الشافعي تفرد به) أي بلفظه (عن مالك، فعدوه) أي فجعل القوم الحديث المذكور معدوداً (في غرائبه،) أي غرائب الشافعي، جمع غريب، وهو الحديث الذي يتفرد به بعض الرواة، أو الحديث الذي ينفرد فيه بعضهم، بأمر لا يذكر فيه غيره، إما في متنه، أو في إسناده. ثم إنما ظنوا هذا الظن بالشافعي، (لأن أصحاب مالك) أي بقيتهم، (رَوَوْه) أي الحديث المذكور (عنه) أي عن مالك، (بهذا الإسناد) أي الذي أسنده الشافعي إلى / النبي صلى الله عليه وسلم. (1/346)
(بلفظ: " فإن غُمّ عليكم ") أي هلال رمضان، (فاقْدِرُوا) بضم الدال، وكسرها وقيل: الضم خطأ. يقال: قَدر الشيء قَدْراً بالتخفيف أو قدّرَه بالتشديد قال تعالى: : {{فقدرنا فنعم القادرون}} كذا في " شمس العلوم ". فالمعنى: قدَّروا (له) - أي لأجل تحقيق هلال رمضان - عَدد أيام شهر شعبان، حتى تكملوه ثلاثين يوماً، ثم صوموا لرمضان ولو لم تروا هلاله حينئذ بغيم ونحوه. إذ المقصود من الرؤية العلم اليقيني، وهو إما برؤية الهلال عند نقصان الشهر، وإما بحصول كمال الشهر. وحاصل معناه: أتموا شهر شعبان ثلاثين، فيوافق قوله صلى الله عليه وسلم: " فأكملوا العِدَّةَ ثلاثين " في المعنى. وقيل معناه قدِّروا له منازل القمر، فإنه يدُلكم على أن الشهر تسع وعشرون، أو ثلاثون. قال ابن شُرَيْح: هذا خطاب لمن خصه الله تعالى بهذا العلم، وقوله: " فأكملوا العدة " خطاب للعامة التي لم تُعنَ به، كذا في " النهاية " ونقله عنه محش. أقول: قول ابن شُرَيْح ومن سبقه وتبعه باطلٌ، لمخالفة الإجماع على عدم الاعتماد بقول المنجمين ولو اتفقوا على أنه يرى، لقوله تعالى مخاطباً لخير أمة أخرجت للناس خطاباً عاماً:: {{فمن شهد منكم الشهر فليصمه}} ولقوله عليه (1/347)
الصلاة والسلام بالخطاب العام: " صُومُوا لِرُؤْيَتِه وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِه " ولما في نفس هذا الحديث: " لا تصوموا حتى تَرَوُا الهلال، ولا تُفْطِرُوا حتى تَرَوْه " ولقوله صلى الله عليه وسلم " إنّا أُمهٌ أُميّةٌ، لا نَكْتُبُ ولا نَحْسُبُ ". قال الطبيي: دل على أن معرفة الشهر ليست إلى الكُتّاب والحُسّاب، كما يزعمه أهل النجوم. انتهى. وأقول: لو صام المنجم عن رمضان قَبْلَ رؤيته بناء على معرفته يكون عاصياً، ولا يُحسب عن صومه، ولو جَعل عيد الفطر بناء على زعمه يكون فاسقاً، وتجب عليه الكفارة في فعله، وإن عَدّ الإفطار حلالاً، فضلاً عن عدة واجباً صار كافراً ومن الغريب أنه جعل المنجم من الخواص، والبقية عامة لم تُعْنَ به ! وأغرب منه نقل صاحب " النهاية " قوله / 53 - ب / وسكوتُهُ عليه الموهم (1/348)
منه قبولّهُ، فإنه لا يحل لأحد نقل كلامه إلا بنية الرد عليه، وأما ما ذكره بعض علمائنا عن محمد بن مُقَاتِل أنه كان يسأل المنجمين، ويعتمد على قولهم بعد أن يتفق على ذلك جماعة منهم، فلعله محمول على ما يكون الأحوط فيه اعتباراً بغلبة الظن. ولذا ذكر السّرَخْسِيّ في كتاب الصوم قول من قال: يُرجع إلى قول أهل الحساب عند الاشتباه وهذا بعيد، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " مَنْ أَتَى كَاهِناً أو عَرَّافاً، فَصدّقَهُ بما يقول فقد كَفَر بما أَنْزلَ الله تعالى على مُحمّدٍ صلى الله عليه وسلم. " وقال في " التهذيب " يجب صوم رمضان برؤية الهلال، أو باستكمال شعبان ثلاثين يوماً، ولا يجوز تقليد المنجم في حسابه، لا في الصوم ولا في الإفطار. وأما ما نقل عن " التاتارخانية ": هل للمنجم أن يعمل بحساب نفسه؟ ففيه وجهان: أحدهما: / أنه يجوز والثاني لا يجوز. (1/349)
أقول: الصحيح أن الأول لا يجوز للحديث السابق، فإنه إذا كان كاذباً لا يجوز تصديقه في حق غيره، فكذا يكون كاذباً في حق نفسه بتكذيب الشارع إياه، والله سبحانه أعلم. هذا، وتدل المطابقة في اللفظ على عدم صحة رواية الحديث بالمعنى إلا حالة الضرورة، ثم هذا الانفراد وإن كان ثابتاً باعتبار هذا الإسناد (لكن وجدنا للشافعي متابعاً) بكسر الباء (وهو عبد الله بن مَسْلَمَة) بفتح وسكون، ثم فتحات، (القَعْنَبي) بفتح قاف، وسكون مهملة، وفتح نون. (كذلك) أي مثل ذلك اللفظ الذي رواه الشافعي. (أخرجه البخاري) أي إسناده بلفظه. (عنه) أي عن عبد الله المذكور إلى آخر السند. (عن مالك) قال الشيخ زكريا: فدل أن على أن مالكاً رواه عن عبد الله بن دينار باللفظين. (فهذه) وفي نسخة: وهذه أي المتابعة المتقدمة. (متابعة تامة، ووجدنا له) أي للشافعي. رضي الله تعالى عنه. (1/350)
(أيضاً) هو موهم أن يكون لغيره أيضاً، فكان حقه أن يذكر أيضاً قبل قوله: له أو بعد قوله: (متابعة قاصرة في " صحيح ابن خُزَيْمَة ") بضم الحاء، وفتح الزاي، متعلق ب: وجدنا لقوله: (من رواية عاصم بن محمد، عن أبيه محمد بن زيد، عن جده عبد الله بن عمر بلفظ: " فكمِّلوا ثلاثين ". وفي " صحيح مسلم " من رواية عُبَيْدِ الله بن عُمَر، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهم بلفظ: " فاقْدِرُوا ثلاثين ". قال السخاوي: فقد توبع عبد الله بن دينار من وجهين: عن ابن عمر رضي الله عنهما، ثم لما استشعر المصنف مناقشة في كون المُتَابَعَتين الأخيرتين متابعةً بناء على تفاوت الألفاظ حيث وقع في الأولى منهما: " فكمِّلوا ثلاثين " بدل قوله: " فأكملوا العدة ثلاثين ". وفي الثانية منها: " فاقِدرُوا ثلاثين " بدله، / 45 - أ / دفعها بقوله: (1/351)
(ولا اقصار في هذه المتابعة) الأوْلَى حذف " هذه "، لعموم قوله: (- سواء كانت) أي المتابعة (تامة، أم قاصرة - على اللفظ) متعلق ب: لا اقتصار، (بل لو جاءت) أي المتابعة مطلقاً، (بالمعنى لكفى لكنها) أي المتابعة مطلقاُ، (مختصة بكونها من رواية ذلك الصحابي).
(الشَّاهِد)
(وإن وجد متن) أي من الفرد النسبي كما سبق. (يُروَى من حديث صحابي آخر يشبهه) أي يماثل حديث الصحابي ذلك الفرد النسبي، ولولا جُعل المتن والشرح كشيء واحد لاخْتَلَّ معنى المتن فتأمل. (في اللفظ والمعنى) أي جميعاً. (أو في المعنى فقط) لا يقال: لِم لَم يعتبر المتابعة في اللفظ فقط؟ مع أنه قد يتصور بأن يَكون جميع ألفاظ الحديث مشتركة، أريد بها في أحدهما معانٍ، وفي الآخر معانٍ، لأن مثل ذلك لا يسمى شاهداً، لأن العبرة للمعنى، لا سيما وأنه نادر أو غير موجود. (1/352)
(فهو) أي فالمشابه لذلك المتن هو: (الشاهد). والمصنف أطلق المسألة، وهم قيدوها فقالوا: ثم بعد فَقْد المتابعات على الوجه المشروح إذا وجد متن آخر في الباب عن صحابي آخر يشبهه فهو الشاهد. / فلو قال: ثم إن وُجِدَ، لكان توضيحاً. ولو قال: فإن وُجِدَ، لكان تلويحاً إلى كلام القوم، وتخليصاً من مخالفتهم. (ومثاله) أي الشاهد بقسميه. (في الحديث الذي قدمناه) أي عن الشافعي وغيره، عن ابن عمر. (ما رواه النسائي من رواية محمد بن حُنَيْن) بضم الحاء المهملة، وفتح، فسكون (عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكر) أي النسائي، أو محمد بن حُنْين، وهو أقرب، وبالمقام أنسب. (مثل حديث عبد الله بن دينار، عن ابن عمر رضي الله عنهم سَواء) بفتح السين وهو منصوب على الحالية أي مستويين، فإنه مصدر في الأصل بمعنى الاستواء، أريد به معنى الفاعل. (فهذا) أي الشاهد، أو فهذا الذي ذكرنا من الشهادة. (باللفظ) ويلرم من المعنى. (1/353)
(وأما) أي وأما الشاهد (بالمعنى) أي فقط. (فهو ما رواه البخاري من رواية محمد بن زياد) بكسر الزاي، وبعدها تحتية. (عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: " فإن غُمَّ عليكم ") وفي نسخة: غُمِّي بتشديد الميم. وكان أصله غَمَم وهو بمعنى الأول، ففي " النهاية ": غُمّ علينا الهلال وغُمِّي وأُغْمِيَ: حالَ دون رؤيته غيم أو نحوه. (فأكملوا عدة شعبان ثلاثين) أي يوماً (وخص قوم المتابعة بما حصل باللفظ، سواء كان من رواية ذلك الصحابي، أم لا، والشاهد) بالنصب عطف على المتابعة أي وخص قوم، أو ذلك القوم الشاهد. (بما حصل بالمعنى كذلك) قال المصنف: أي سواء / 54 - ب / كان من رواية ذلك الصحابي أم لا، قال تلميذه: وهو ظاهر. انتهى. وهذا الاصطلاح مذكور في " الخلاصة " ويناسبه عبارة المتن. (1/354)
(وقد تطلق المتابعة) فيه مسامحة والمراد المتابع ليلائم المقابلة بإطلاقه. (على الشاهد، وبالعكس) أي وقد يطلق الشاهد على المتابع، فلا فرق بينهما إلا بغلبة استعمال الشاهد في أحد معنييه عند قوم، وكثرة استعمال المتابع عند آخرين، فالخلاف لفظي لا حقيقي. (والأمر فيه) أي في مثله (سهل) إذ المقصود الذي هو التقوية حاصل بكل منهما، سواء سًمّي متابعاً أو شاهداً. والبخاري يأتي بمتابعة صحابي أو غيره، ومن الفرد المطلق على ما هو كلام غيره، بل صريحه. قال العراقي: الاعتبار أن يأتي إلى حديث لبعض الرواة فتعتبره بروايات غيره من الرواة، بِسَبرِ طرق الحديث لتعرف هل شاركه في ذلك الحديث راوٍ غيره، فرواه عن شيخه أم لا؟ فإن يكن شاركه أحد ممن يعتبر بحديثه، أي يصلح أن يخرج حديثه للاعتبار به والاستشهاد به، فيسمى حديث هذا الذي شاركه تابعاً. وسيأتي بيان من يُعتبر بحديثه في مراتب الجرح والتعديل، وإن لم تجد أحداً تابعه عليه عن شيخه، فانظر هل تابع أحد شيخَ شيخه عليه، فرواه متابعاً له أم لا؟ فإن وجدت أحداً تابع شيخَ شيخه عليه فرواه كما رواه فسمه أيضاً تابعاً. وقد يسمونه شاهداً وإن لم تجد لأحد ممن فوقه متابعاً عليه، فانظر هل أتى بمعناه حديث آخر في الباب أم لا؟ فإن أتى بمعناه حديث آخر، فَسم ذلك. (1/355)
الحديث شاهداً، فإن لم تجد حديثاً آخر يؤدي معناه، فقد عُدِمت المتابعات، والشواهد، فالحديث إذاً فرد. انتهى كلامه. ويستفاد من إطلاقه أن الاعتبار يكون للفرد مطلقاً، يستوي فيه المطلق والنسبي. وصنيع المصنف حيث جعل الفرد النسبي مَوْرِد القسمة يؤذن بأن الاعتبار إنما يكون للفرد النسبي فقط، فتأمل حق تأمل.
(الاعتِبَار)
(واعلم أنّ تَتَبعَ الطُّرُق) قيل: تقديره أنه، أو رُفِعَ ما بعده على الإلغاء. كقوله تعالى:: {{إن هذان}} فلا قدح في المزج. وقد ذكر مراراً أنه جعل الشرح مع المتن كتاباً واحداً، فلا يَرُد عليه أن لفظ تتبع الطرق ينبغي أن يكون مرفوعاً بالمتن، ومنصوباً بالشرح، فيقرأ بالنصب، فكان الشرح الذي بعد المتن ناسخاً لإعرابه. (من الجوامع) أي الكتب التي جمع فيها الأحاديث على ترتيب أبواب الكتب الفقهية، كالكتب الستة، أو ترتيب الحروف الهجائية في أوائل المُعَنْوَنِ عنه، ككتاب الإيمان، وكتاب البِرِّ، وكتاب التوبة، وكتاب الثواب، وهكذا إلى آخر الحروف، كما فعله صاحب " جامع الأصول "، أو باعتبار رعاية الحروف في أوائل ألفاظ الحديث، كما فعله شيخ مشايخنا / 55 - أ / الحافظ السيوطي في " الجامع الصغير ". (والمسانيد) أي الكتب التي جُمع فيها مسند كل صحابي على حدة على (1/356)
اختلاف في مراتب الصحابة وطبقاتهم، والتزم نقل جميع مروياتهم صحيحاً كان الحديث أو ضعيفاً. وجمع السيوطي في " جامعه الكبير " بين الأمرين، فجعل القسم القولي على ترتيب الحروف، والقسم الفعلي على ترتيب المسانيد. (والأجزاء) وهي ما دُون فيه حديث شخص واحد، أو أحاديث جماعة في مادة واحدة. . (لذلك الحديث) متعلق ب: التتبع، أي لأجل معرفة حال الحديث. (الذي يُظن أنه فرد،) ظاهره الإطلاق الشامل للنسبي وغيره. (ليُعْلَم هل له) أي لراويه. (متابع أم لا)؟ وكذا هل له شاهد أم لا؟ كما سبق، وكما سيرشدك إلى ذلك قوله: بل هو هيئة التوصل إليهما. (هو) أي التتبع المذكور هو (الاعتبار) كما تقدم في كلام العراقي (1/357)
مفصلا (وقول ابن الصلاح) مبتدأ، ومقوله: (معرفة الاعتبار، والمتابِعات) بكسر الموحدة، ويجوز فتحها (والشواهد) أي إلى آخره، والخبر (قد يوهم) أي قول ابن الصلاح، (أن الاعتبار قسيم لهما) أي حيث أضيفت المعرفة إلى الاعتبار وما بعده. وكان حق العبارة أن يقول: التتبع هو اعتبار المتابعات، والشواهد. (وليس كذلك) أي في الواقع لأن الاعتبار هو نفس معرفة القسمين، أو علة لمعرفتهما، فليس قسيما لهما لعدم اندراج الثلاثة تحت أمر واحد. فإن التقسيم هو ضم القيود المتباينة، أو المتخالفة إلى المَقْسَمِ، وهنا ليس كذلك (بل هو) أي الاعتبار، (هيئة التوصل) أي كيفية التوصل. (إليهما) أي المتابع والشاهد، فكيف يكون قسيماً لهما ! وأغرب تلميذه حيث قال: ما قاله ابن الصلاح صحيح لأن هيئةَ التوصل إلى الشيء غيرُ الشيء انتهى. وفيه أنه ليس كُل مغاير للشيء قسيماً له، فمراده أنه ليس نوعاً على حدة قسيماً لهما فتدبر، ثم تعقب، / وإلا فتأدب، فإن الأدب خير من الذهب. (1/358)
(وجميع ما تقدم من أقسام المقبول، تحصل فائدة تقسيمه باعتبار مراتبه عند المعارضة والله أعلم) أي فيقدّم ما هو أعلى مرتبة على ما هو دونه وهكذا، وهكذا قال المصنف: يعني إذا تعارض حديثان: صحيحٌ لذاته ولغيره، وحسنٌ لذاته ولغيره، قُدم الذي لذاته على الذي لغيره. وقال تلميذه: لم يراعوا في ترجيحاتهم هذا الاعتبار، ويُعرف هذا من صنيع البيهقي، والغزالي في " تحصين المأخذ " انتهى. وفيه أنه على تقدير ثبوت عدم اعتبار / 55 - ب / هذه المراعاة منهما، لا يلزم عدم اعتبار غيرهما. وغايته أن المسألة تكون خلافية، ولعل الشيخ أطلق إشارة إلى ضعف قولهما، فإن الترجيح أمر معتبر في جميع مراتب الحديث: من الضعيف، والحسن، والصحيح، فلو لم يكن الاعتبارُ معتبراً لكان أمراً عبثا، ولم يقل به عاقل.
(المُحْكَم)
(ثم المقبول) هذا تقسيم ثانٍ للمقبول كما أشار إليه بقوله: (ينقسم أيضاً إلى معمول به، وغير معمول به) أي الانقسام منحصر فيهما. (لأنه إن سَلِم) أي الحديث، (من المعارضة) أي من معارضة حديث آخر يناقضه في المعنى، وقوله: (1/359)
(أي لم يأت خبر يُضَاده) حاصل المعنى: فلا يرد عليه ما قال تلميذه المعارضة مصدرّ، والخبر الذي لم يضاده اسمُ فاعل، ولا حاصل على هذا الاستعمال مع تيسير استعمال الحقيقة. وفيه أن تيسير استعمالها إذا كان متضمناً لتفسير معناها يجوز العدول إلى بيان حاصلها ومبناها. (فهو) أي المقبول السالم هو (المحكم) أي الذي يُعْمَل به بلا شبهة. (وأمثلته كثيرة،) أورد الحاكم منها في مسند عائشة رضي الله عنها: " إن أَشَدَّ " الناسِ عذاباً يوم القيامة الذين يُشَبِّهُونَ بخلْقِ الله ". وجاءت امرأة رِفاعة فقالت: " إن رِفَاعَةَ طَلّقني، فَتَزَوّجَتُ بعده عبدَ الرحمن بن الزُّبَيْر. ذكره السخاوي. (وإن عُورض) أي ناقضه حديث آخر في المعنى، (فلا يخلو) أي الحال من أحد الشيئين، (إما أن يكون معارِضه) بكسر الراء، وهو الحديث الآخر (مقبولاً) بأن يكون صحيحاً أو حسناً. (مثله) فيه إشكال وهو أنه إن أريد به أن يكون المعارِض مساوياً للمعارَض (1/360)
في الصحة أو الحسن، كما هو المتبادر، فَيرِد عليه أنه تقدم أن الأصح يقدم على الصحيح، ويقدم الصحيح على الحسن، وإن أريد به أن يكون مثله في القبول، فلا حاجة إلى ذكره لدلالة قوله: (أو يكون مردوداً) عليه، ويرد حينئذ على انحصاره المعارضة في الصورتين لأن المعارضة بين الصحيح والحسن ثابتةٌ أيضاً على ما اختاره تبعاً لبعضهم، وقد ذكر تلميذه أنه قال المصنف في تقريره: المراد به أصل القَبول لا التساوي فيه، حتى يكون القوي ناسخاً للأقوى، بل الحسن يكون ناسخاً للصحيح لوجود أصل القبول. قال تلميذه: في هذا مخالفة لما تقدم من قوله: يحصل فائدة تقسيمه باعتبار مراتبه عند المعارضة. قال قائل: هذا أمر وقع في أَثناء التقرير، فلا يبحث فيه. قلت: فقوله: لا يخلو إما أن يكون / معارضهٌ مقبولاً مثلَه، أو يكون مردوداً، تقسيم غير حاصر، لأنه جاز أن يكون معارضه دونه في القبول، وليس بمردود، / 56 - أ / والله أعلم. انتهى. والذي سنح بالبال، والله أعلم بالحال: أنه لما قسَّم المقبول أولاً، وذكر ما يتعلق به من المعارضة وغيره، ذكر هنا تقسيماً آخر باعتبار أصل القَبول ومقابله، وذكر ما يتعلق به من المعارضة المختصة به، أو لَمَّا كانت تلك المعارضة مختلَفاً فيها، أعرض عنها وذكر المعارضةَ المتفق عليها، وهذا بمذهبنا المنصور أحق، وما سبق بمختار مذهبه أوفق. (والثاني:) أي المردود. (1/361)
(لا أثر له) أي لا تأثير له في أن يكون مقابلاً، فضلاً عن أن يكون معارضاً ومناقضاً. (لأن القوي) أعم من أن يكون صحيحاً أو حسناً. (لا يؤثر فيه مخالفةُ الضعيف) لعدم العمل به إلا إذا لم يوجد هناك حديث قوي فيقدم على الرأي كما هو مذهبنا. أو إذا كان في فضائل الأعمال بشرط أن لا يكون مدافعاً لأصل من الأصول .
(مُخْتَلِفُ الحَدِيث)
(وإن كانت المعارضة) أي معارضة حديث، (بمثله) أي بمقبول آخر، (فلا يخلو) أي حينئذ من أمرين: (إما أن يمكن الجمع) أي بتأويل، أو تقييد، أو تخصيص (بين مدلوليهما) أي معنييهما، (بغير تعسف) متعلق بالجمع، والتعسف: أزْيَد من التكلف، لأنه خروج عن الجَادَّة. قال المصنف: لأن ما كان بتعسف فللخصم أن يَرُدَّه، وينتقل إلى ما بعده من المراتب، نقله تلميذه. (أوْ لا) أي لا يمكن الجمع مطلقاً، أو يمكن، ولكنه بتعسف. (فإن أمكن الجمع) أي بتكلف من غير تعسف، كما سيأتي بيانه في أمثلته، (فهو) أي فقِسْم الحديث المعارض للغير الممكن الجمع بينهما، (النوع) أي أحد(1/362)
أنواعه، (المُسَمَّى) أي المذكور في حقه أنه (مُخْتَلِف الحديث) بكسر اللام أي مختلف مدلول حديثه، ويناسبه ما يقابله: فهو الناسخ. وضَبَطه بعضهم بفتح اللام على أنه مصدر ميمي، ويلائمه قوله فيما بعد: فالترجيح وقال محشٍ: صححه الشيخ الجَزَرِي على صيغة اسم الفاعل وبعضهم على صيغة اسم المفعول. هذا، والطيبي جعل الناسخ والمنسوخ، وما عمل فيه بالترجيح داخلة في مختلف الحديث، وأمَّا " مُخْتَلِفُ " فلم يختلفوا في رفعه، لأنه في المتن خبر المبتدأ، وإن كان ظاهرُ الشرح يقتضيه أن يكون منصوباً على أنه مفعول ثانٍ للمسمى، وقد أشرنا إلى دفعه. وتكلف بل تعسف بعضهم فقال: أي المسمى مختلف الحديث إياه. وغيّره بعضهم بقوله: بمختلف الحديث بأنْ تكون الباء متعلقاً بالمسمى، على أنه قد سبق مراراً أن المصنف جعل كتابيه واحداً، فمن قرأ المتن، فيتعين عليه مراعاة المتن، ومن قرأ الشرح يلزمه إعراب الشرح. وهذا إذا لم يمكن الجمع بينهما ولو بتأويل، فلو قال: هو النوع الذي يقال / 56 - ب / له: مختلف الحديث، لَحَسُنَ المَزْجُ، لكان أحسن. (1/363)
ثم المراد بالاختلاف اختلاف مدلوله ظاهراً، هو من أهم الأنواع يضطر إليه جميع الطوائف من العلماء، وإنما تكفل به الجامعون بين التفسير، والحديث / والفقه، والأصول. وأول مَن تكلم فيه الإمام الشافعي رحمه الله، وله فيه مجلد جليل من جملة كتب " الأم ". (ومثّل له) أي لهذا النوع (ابنُ الصلاح بحديث " لا عَدوى ") بفتح وسكون المهملتين وألفٍ مقصورة بعد واو، اسم من الإعداء كالدعوى والتقوى من والأدعاء والاتقاء، وهو ما يعدي من جَرَب أو نحوه، وإعداؤه مجاوزته مِن صاحبه إلى غيره بمجاورته. وفي " النهاية ": أعداه الداءُ يعديه إعداد، وهو أن يصيبه مثل ما لصاحب الداء. (ولا طِيَرَة ") وهي: التشاؤم بالشيء على ما كان في عادة الجاهلية، من أنهم توجّهوا إلى جهةٍ ورأوا طيراً طار إلى يمينهم تفاءلوا به وقالوا: إنه مبارك، وإن طار إلى يسارهم تشاءموا ورجعوا إلى بيوتهم. ومنه أصحاب المشأمة في مقابلة أصحاب الميمنة. والتشاؤم قد يكون بغير الطير، كمقابَلَة كلب، أو حمار، أو كافر، أو فاجر. وقد يكون بالقول كما إذا سمع يا حيران، أو لفظَ شَرّ، أو نفي خير، فالتطير غلب في التشاؤم. أما الفأل الحسن فأخذه مستَحْسَن كما إذا سمع يا سعيد، يا (1/364)
رشيد، يا أفلح، يا منصور، وأمثال ذلك. والفأل بالمصحف ما صدر عن السلف، واختلف فيه المتأخرون، ولا شك أن التشاؤم بما فيه مكروه، سواء بالحروف، أو بالمعنى. وأما التفاؤل بالمعنى أو بظهور بسملة ونحوها فلا بأس به، وأما الحروف فلا دلالة لها على القبح والحسن أبداً، ثم الطِيَرة مصدر كالخِيَرة، ولا ثالث لهما كذا في " النهاية ". وفي " الصحاح ": تطيرت من الشيء، وبالشيء، والاسم منه: الطِيَرَة على وزن العِنَبَة، وهي ما يُتَشَاءَم به من الفأل الرديء. قال النووي: هي بكسر الطاء، وفتح الياء على وزن العِنَبَة، هذا هو الصحيح المعروف في رواية الحديث وكتبِ اللغة، وحكى القاضي، وابنُ الأثير أن منهم من سكَّن الياء. وتمام الحديث: " ولا هَامَةَ ولا صَفَر، ولا غُولَ ". والهامة: بتخفيف الميم، من طير الليل. وقيل هي البُوم، وكانت العرب تزعم أن روح القتيل الذي لا يُدرِك ثأره تصير هامة فتقول: اسقوني اسقوني، فإذا أدرك ثأره طارت. وكانوا يزعمون أن صَفَر حية في البطن، والذي يجده الإنسان عند جوعه من عضِّه. وقيل: كانوا يتشاءمون بَصَفر ويقولون: تكثر فيه الفتن. والغُول: أحد الغيلان، وهم جنس من الجِن / 57 - أ / كانت العرب تزعم أنها تتراءى للناس في الفلاة فتتلَوَّن في صور شتى، فَتغُولُهم أي تُضِلُّهم عن الطريق وتهلكهم، (1/365)
فنفاه صلى الله عليه وسلم وليس هو نفياً لوجوده لقوله تعالى:: {{كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران}} الآية. بل إبطال زعمهم في تَلوُّنه بالصور المختلفة. وأما ما ذكره في " مختصر النهاية " أن معنى لا غُول، أي لا يستطيع أن يضِل أحداً، فليس على ظاهره، لمخالفته الآية المذكورة. (مع حديث: " فِرَّ ") بكسر الفاء، وتشديد الراء المفتوحة، ويجوز كسرها. (مع المَجْذُومِ) وهو الذي أصابه الجُذَام. وكأنه جُذِم أي قُطِع. قال في " القاموس ": الجُذَام كغُرَاب، علة تَحْدُث من انتشار السوداء في البدن كله، فيَفْسُدُ مزاج الأعضاء وهيئاتها، وربما / انتهى إلى تَأكُّلِ الأعضاء وسقوطها عن تقرح. (فراركَ) بالنصب أي كفرارك (من الأسَد ") ونحوه مما هو ظاهر الضرر، أي فراراً شديداً، أو فراراً على قدر توكلك على الذي بيده الأمر. وكذا مع حديث: " لا يُورِدُ مُمْرِضٌ على مُصِحّ ". (وكلاهما في الصحيح) أي معدودان فيه، أما الأول: فرواه أحمد ومسلم عن جابر رضي الله عنه على ما في " الجامع الصغير " للسيوطي. (1/366)
وأما الثاني: فقال الزَّرْكَشي: رواه الشيخان، فأراد المصنف أنهما في مرتبة واحدة من الصحة مع قطع النظر أن أحدهما أصح من الآخر كما تقرر. (وظاهرهما التعارض) في المعنى المدلول بهما ؛ إذا الأول يدل على نفي الإعداءِ مطلقاً، والثاني على إثباته المؤكد بالأمر للجزم المشبهِ بالحتم (ووجه الجمع بينهما) أي بين الحديثين، (أن هذه الأمراض) أي من الجذام، والبَرَص، وغيرهما، (لا تُعدي بطبعها) أي كما يقول به الطَّبْعِيَّة (ل، كن الله سبحانه وتعالى جعل مخالطةَ المريض بها) أي بهذه الأمراض، (للصحيح) مفعول ثان للمخالطة، واللام للتقوية، (سبباً) مفعول ثان ل: جعل، (لإعدائه) بكسر الهمزة، (مَرَضَه) أي لإعدائه تعالى مرض المريض إلى الصحيح، (ثم قد يتخلف ذلك) أي الإعداء (عن سببه) وهو المخالطة، (كما في غيره من الأسباب) حيث يتخلف السبب، كعدم الشِبع بالأكل لمن له جوع البقر، وعدم الري بالشرب لمن له الاستسقاء. (1/367)
(كذا جمع بينهما ابن الصلاح تبعاً لغيره) وحاصله: أن النفي في قوله صلى الله عليه وسلم لِما كان يعتقده أهل الجاهلية وبعضُ الحكماء الفلسفية، وأرباب العلوم الرياضية والطبيعية، من أن هذه الأمراض من الجُذَام والبَرَص تُعدي بالطبع، / 75 - ب / كما زعموا أن الماء بالطبع يُغرِق، والنار بالطبع يُحرق. وقد ردهما الله عز وجل بكتابه أبلغ رد في قصة إبراهيم وموسى عليهما السلام، وأن الإثبات في الحديث الثاني باعتبار السبب العادي في جعل ذلك، ولكونه صلى الله عليه وسلم رحمه للعالمين حذَّر أمته المرحومة من الضرر الذي يوجد عنده عادة بفعل الله تعالى. وفي التشبيه بالأسد إيماء إلى ذلك. وقد يقال: الجمع بينهما بأن النفي للاعتقاد، والأمرَ بالفرار للفعل، كما نَهى صلى الله عليه وسلم عن الدخول في بلدِ الطاعون مع أن المعتقد أنْ لا تأثير لغير الله تعالى، وأنه:: {{إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون}} والظاهر أن الأمر بالفرار رخصة للضعفاء، ولذا خصه بالمخاطب. وأما الكاملون المتوكلون، فلا حَرج في حقهم إذ صح أنه صلى الله عليه وسلم أكل مع مجذوم وقال: " باسم الله، ثقةً بالله وتوكلاً عليه " رواه أبو داود وغيره. وأما ما ورد(1/368)
من أنه صلى الله عليه وسلم قال لمجذوم جاء ليبايعه، فلم يمدّ يده إليه وقال: " وقد بايعت " فمحمول على بيان الجواز، أو على اختلاف الحال. ففي الأول نَظَرَ إلى المسبِّب المناسب لمقام الجمع، وفي الثاني: نَظَرَ إلى السبب الملائم لمقام التفرقة، وبين أن كُلاّ من المقامين حق. (والأولى) أي عند المصنف، (في الجمع بينهما أن يقال: / إن نفيه صلى الله عليه وسلم باقٍ للعدوى على عمومه) وفيه أنه على تقدير الأول أيضاً باقٍ على عمومه، لأن كلام ابن الصلاح ليس تخصيصاً، بل هو تأويل وصرف عن ظاهره، ضرورة الجمع بينه وبين معارضه، لكن المفهومَ من كلامه الآتي أنه أراد بقوله: على عمومه، ظاهَره العام، أي لا وجود للعدوى أصلاً لا بالطبع، ولا بالسبب. (وقد صح قوله صلى الله عليه وسلم: " لا يُعْدي شيءً شيئاً ") أراد به أنه مُؤيد لبقائه على عمومه. وفيه أنه لا فرق بين هذا الحديث وحديث: " لا عدوى " بل هو أبلغ من هذا. قال محشٍ: فإن قلت: هذا أيضاً يقبل تأويلَ ابن الصلاح، قلت: سلمناه، لكّن تعدد عباراتِ الحديث وتكررَها يدل على أن المراد بها ما يتبادر منها، (1/369)
انتهى. وفيه أن ابن الصلاح يُسَلَّم هذا، لكنْ صَرَفه عن ظاهره لحديث آخر يعارضه بحسب الظاهر، ويؤيده مشاهدة التأثير السببي في الغالب، فيتعين أن يُحمل النفي على الطبع والحقيقة، والإثباتُ على السبب والمجاز، كما جمعوا في قوله تعالى: (وما رَمَيْتَ إذ رَمَيْتَ) أي ما رميت خلْقاً إذ رميت كسبْاً. وكذا قوله تعالى: {{فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم}} أي ما قتلتموهم حقيقة بل صورةً، ولكن الله قتلهم حقيقة. (وقوله): أي وقد صح قوله (صلى الله عليه وسلم) أي مؤيد أيضاً / 58 - أ / لبقائه على عمومه (لمن عارضه،) أي بحسب الظاهر، وإلا فمعارضة النبي صلى الله عليه وسلم كفر على الحقيقة، فتحمل المعارضة على المعارضة اللغوية لا الاصطلاحية، فالمعنى: استشكله وسأله وقابل كلامه (بأن البعير الأجرب يكون في الإبل الصحيحة) أي فيما بينها، فقوله: (فيخالطها) مستغنى عنه، (فتجرب) بفتح الفوقية، وسكون الجيم، وفتح الراء، وفي نسخة: بضم الفوقية، وسكون الجيم أي فتصير الإبل جرباء (حيث رد عليه) أي حين رد على معارضته ومقابلته لقوله صلى الله عليه وسلم " لا يُعدِي (1/370)
شيء شيئاً " بما ذكر، (بقوله:) مستغنى عنه ب: " قولُهُ " سابقاً. وأما قول شارح: وقوله صلى الله عليه وسلم ذلك الحديث لا يَدفع الإيراد. فيرِدُ عليه أنه يحتاج إلى العلم بوقوع حديث: " لا يُعْدي شيء شيئاً "، وَوَرَدَ مرتين، الثانية لدفع المعارضة، فتأمل. ثم رأيت محشياً قال عند قوله: حيث رد عليه بقوله: الأولى ترك ذلك ليكون قوله: " فمن أعدى " بدلاً مما سبق من لفظ قوله صلى الله عليه وسلم إن كان قوله بمعنى مقوله، أو مقولاً له إن كان بمعناه المصدري. وتوجيهه: أن قوله صلى الله عليه وسلم في وقت الردّ حاصل بهذا الحديث وهو: " فمن أعدى... "، أو نقول: التقدير وقد صح قوله صلى الله عليه وسلم الدال على عدم الإعداء. وقوله: " حيث " علة لذلك. (" فمن أعدى الأول ") ظاهره أنه أراد صلى الله تعالى عليه وسلم بهذا الكلام أن وقوع الجرب - بناء على السبب - لا ينافي نفي الإعداء بالطبع المركوز في طباع الجاهلية، وإلا فلو حمل الإعداء على الطبع فقط، فَمَن أعدى الأول؟ إذ لا فرق بين طبع إبل وطبع إبل، ومقصود الشارع صلى الله عليه وسلم إخراجه (1/371)
من فساد عقيدته / وإيصاله إلى لب توحيده وحقيقته. والتعبير بالإعداء للمشاكلة. ولذا قال النووي رضي الله تعالى عنه: معنى الحديث أن البعير الأول الذي جَرب من أجربه؟. أقول: ولعل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عَلِمَ بنور النبوة أن المعارِض جعله مُعدياً بطبعه، فردّهُ عليه بقوله: " فمن أعدى الأول ". (يعني أن الله تعالى ابتدأ ذلك) أي الإعداء (في الثاني كما ابتدأ)) أي مثل ابتدائه (في الأول) وفيه نظر ؛ إذ الثاني يحتمل أن يكون بسبب، وأن لا يكون بسبب، وحديث: " فر من المجذوم " وتأثير المخالطة بحسب المشاهدة، وحديث " امتناعه صلى الله تعالى عليه وسلم مبايعةَ المجذوم باليد " ظاهر في أن الثاني ليس كالأول، فتأمل، فإنه ليس بمعنى: " فمن أعدى الأول "، بل هو من باب إرخاء العِنَان للخصم، أي سَلَّمْنَا أن البعير أعدى الإبل بمخالطته، فمن أعدى البعير؟ وإنما عدل عن البعير إلى الأول لأنه قد يقال: ذلك البعير خالط أجربَ آخر، وهَلُمّ جَرَّاً، فدفع / 85 - ب / كلامهم بالأول، وعبّر ب: مَن إشارة إلى أن هذا إنما هو فعلُ الفاعل الحقيقي. (وأما الأمر بالفِرار من الجذوم، فمن باب سَدّ الذرائع) أي الوسائل إلى (1/372)
الرذائل، كسوء الاعتقاد، أي من باب سدِّ توهمها ؛ (لئلا يتفق)، كان الأظهر أن يقول: لأنه إن اتفق. (للشخص الذي يخالطه) أي المجذوم، (شيء) فاعل يتفق، (من ذلك) أي الجذام الذي يدل عليه المجذوم، (بتقدير الله تعالى ابتداءً) أي اتفاقاً (لا بالعدوى المنفية) توكيد لقوله: ابتداء (فيظنَ) بالنصب عطف على جواب النفي، (أن ذلك،) أي حصول الجذام (بسبب مخالطته) أي الشخص للمجذوم، (فيعتقد صحة العدوى، فيقع في الحرج) أي في الإثم. فيه أنه إذا ظن أن الجذام حصل بسبب المخالطة، واعتقد صحةَ العدوى بالتأثير السببي لا حرج فيه، وإن أراد به أنه بسبب الخلطة يعتقد صحة العدوى بالطبع، فيرد عليه: أنه حينئذ يجب على كل أحد أن يجتنب ما يتعلق بالأسباب، كالمعالجة بالأدوية، بل مزاولة الأطعمة والأشربة، حيث يحتمل أنه يظن أنه الأدوية ونحوها لها تأثير بطبعها، فيعتقد اعتقاد الطبعية، فيخرج عن المِلَّة الحنيفية. (فأمر بتَجَنُّبِه) أي المجذوم وهو إعادة للمدعى بعبارة أخصر ؛ (حسماً للمادة) (1/373)
ويَرِدُ عليه اجتنابه صلى الله تعالى عليه وسلم عن المجذوم عند إرادة المبايعة، مع أن منصب النبوة بعيدٌ من أن يُورِدُ لحسم مادة ظن العدوى كلاماً يكون مادة لظنها أيضاً. فإن الأمر بالتجنب أظهرُ في فتح مادة ظن أن العدوى لها تأثير بالطبع، وعلى كل تقدير، فلا دلالة أصلاً على نفي العدوى سبباً. وللشيخ التُّورِبشتي هنا كلام دقيق على وجه التحقيق ذكرته في شرح المشكاة والله ولي التوفيق. (والله أعلم) وكان مأخذ كلامه قول صاحِب " النهاية " تحت حديث: " لا يُوْرِدُ مُمرِض على مُصِح ": كأنه كره ذلك مَخَافة أن يظهر بمالِ المُصِحّ ما ظَهَر بمالِ المُمْرِض، فيظن أنها أعدتها فيأثم بذلك. انتهى. يعني فيظن أنه أعدتها بطبعها لقوله: فيأثم بذلك، لأنه لو ظن أنها أعدتها / بسببها، فلا يأثم بذلك، فيكون من باب " إذا سًمِعْتُم بأرضٍ فيها طَاعُون فلا تَدْخُلوهَا " (وقد صنف) وفي نسخة: صنع (في هذا النوع الإمام الشافعي رحمه الله تعالى كتاب " اختلاف الحديث "، لكنه لم يقصد استيعابه) كناية عن عدم استيعابه، وإلا فمن أين يعلم قصده؟ لكن يشير إليه أنه لم يفرده بالتأليف، بل (1/374)
جعله جزءً من كتابه " الأم ". وأقول: بل لا يمكن الاستيعاب لاختلاف فهوم أولى الألباب، وإنما أظهر الإمام في " الأم " طريق الجمع في بعض الأحاديث / 59 - أ /، ليعلم كيفية أنواع الجمع، ولا يلزم بَعْدَ ضبط القواعد الأصولية استيعا الأمثلة الجزئية، وحاصله: أنه ذكر جملة إجمالية تُنبه العارفَ على طريقة الجمع التفصيلية. (وقد صنف فيه) أي في هذا النوع (بعده) أي بعد الشافعي (ابن قُتَيبة) بضم القاف، وفتح الفوقية، وباء ساكنة، وهو شيخ الشيخين وقد أجاد. (والطحاوي) وهو إمام جليل من علماء الحنفية، واسم كتابه، " مشكل الأخبار ومعاني الآثار " وقد أفاد. (وغيرهما) قال ابن خُزَيْمَة: لا أعرف حديثين صحيحين متضادين، فمَن كان عنده شيء فليأتني به لأؤلف بينهما. (وإن لم يمكن الجمعُ) أي بغير تعسف، (فلا يخلو) أي الحديث من أحد الأمرين: (إما أن يُعرف التاريخ) أي تاريخ الحديثين، (أوْ لا) فيه حَزَازَة فإنه جعله متناً مقابلاً لقوله في المتن: فإن أمكن... وحق العبارة أن يقابله بقوله: وإلا، ولهذا غير الأسلوب في الشرح وجُعل مقابلاً لقوله: وإن لم يمكن، وجعل قوله: أوْ لا مقابلاً لقوله: إما أن يعرف. ويمكن (1/375)
أن يجعل قوله في المتن: أو لا " على " أمكن "، أي أوْ لا يمكن الجمع، ويجعل الواو في: وَثَبتَ، للحال، بتقدير قد، لا للعطف ليحتاج إلى تقدير المعطوف عليه، وهذا باعتبار حل المتن بانفراده، وقد تقدم أنه جعل المتن جزء من الشرح، فعليه يتعين أن يكون معنى أوْ لا، أي أوْ لا يعرف تاريخهما
(الناسخ والمنسوخ)
(فإن عرف) أي تاريخهما، (وثبت) يحتمل العطف والحال، (المتأخر) أي المتأخر منهما، فإنه محط المقصود، لأنه إذا علم المتأخر، فلا يحتاج حينئذ إلى تاريخ المتقدم. والمراد أنه ثبت تأخر أحدهما (به) أي بالتاريخ، (أو بأصرحَ منه) أي من التاريخ كنصه صلى الله عليه وسلم على نسخ أحد الخبرين، أو نص صحابي، كما سيأتيان، (فهو) أي المتأخر، (الناسخ، والآخر) أي المتقدم، المنسوخ. في " الخلاصة ": الناسخ: كل حديث دلَّ على رفع حكم شرعي سابق، ومنسوخه كل حديث رُفع حكمه الشرعي بدليل شرعي متأخر عنه. وهو فن مهم (1/376)
صعب يغتفرُ إليه. وعلمه فرض كفاية أعيا الفقهاء، وأعجز العلماء. قال حذيفة: إنما يفتي من عرفه. فقيل له: من يعرفه؟ قال: عمر رضي الله تعالى عنه. (والنسخ: رفعُ تعلق حكم شرع) أي قطع تعلقه بالمكلفين. والحكم: إسناد أمر إلى آخر. باعتبار توصيفه بشرعي أريد به الخطاب المتعلق بأفعال العباد. (بدليل شرعي متأخر عنه). / وإنما قال: تعلق حكم، لأن نفس الحكم قديم لا يرتفع، لأنه خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المُكلفين. قال: شارح: وخرج به المباح بحكم الأصل، فإنه ليس بحكم شرعي. وفيه بحث ؛ لأن حكم إباحة الأشياء إنما عُلم بالشرع كقوله تعالى:: {{هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا}} / 59 - ب / ونحوه من قوله: {{وكلوا واشربوا}}: {{وجعلنا نومكم سباتا وجعلنا الليل لباسا وجعلنا النهار معاشا}}. قال ثم خرج الرفع بالموت، والنوم، والغفلة، والجنون مما ليس بدليل شرعي، وفيه نظر ؛ لأن مالها كلها إلى دليل شرعي. قال: وكذا بيان المجمل والاستثناء والشرط، ونحوها مما هو متصل بالحكم مبين لغايته، أو منفصل عنه، مخصص لعموم، أو مقيد لإطلاق إذ لا تأخر فيها، وخرج أيضاً قول بعض الصحابة: خبر كذا ناسخ. انتهى. (1/377)
والمجمل ما لم يتضح دلالته مثل: بيان الخيط الأبيض بالفجر، عند من جعله من قبيل المجمل، ومِن العام الذي يراد به الخاص، مثل ما وقع من الشرط في صلح الحديبية عند قولهم: ومَن جاءكم منّا رددتموه علينا، فإن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إنما أراد الرجال. ذكره البِقَاعِي. قال التلميذ: نظر البيضاوي في هذا التعريف، فإن الحادث ضد السابق، وليس رفع الحادث للسابق وبأولى من رفع السابق للحادث، وهذا أحد الوجوه التي رد القاضي بها هذا التعريف. (والناسخ: ما دل) وفي نسخة: ما يدل (على الرفع المذكور، وتسميته) أي الرفع، (ناسخاً مجاز) من باب إضافة الفعل إلى السبب والدليل. (لأن الناسخ في الحقيقة هو الله سبحانه وتعالى) لقوله تعالى:: {{ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها}} فإطلاقه على الرفع المراد به الدال عليه أعم من أن يكون آية أو حديثاً، فالناسخ هو الله سبحانه وتعالى، وإن كان يُجْرِي النسخ على لسان نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم. (وتعريف النسخ بأمور:) أي ثلاثة بحسب ما ذكرها المصنف. (أصرحها:) أي أولها وأوضحها (ما ورد في النص) أي من كتابٍ، أو (1/378)
سنة، (كحديث بُريَدْة) بضم موحدة، وفتح راء، وسكون ياء، (في " صحيح مسلم ": كنت نهيتكم) أي أولاً، (عن زيارة القبور ألا)، بتخفيف اللام، للتنبيه. (فزوروها) أي القبور ؛ (فإنها) أي الزيارة المفهومة من الفعل، أو القبور، أي رؤيتها، (تُذَكر الآخرة) وتذكر الآخرة: تعين على استعداد الزاد للرحلة إليها، وتُزَهد في الدنيا وما عليها، وتُقلّ طول الأمل، وتُحَسِّن العلم والعمل، وترحم على الأحياء والأموات، وغيرها من الفوائد الزاخرة، والعوائد الفاخرة. وهذا الحديث من غرائب الناسخ والمنسوخ حيث يشملهما. والغالب أن يكونا حديثين بينهما فصل ما، ونحوه حديث " رَجْمُ مَاعِزٍ دون جَلدٍ " بعد قوله: " الَّثِّيب بالَّثِّيب جلد مئة ورَجْم بالحجارة ". وبيان أنواع الناسخ والمنسوخ ليس هذا محله. (ومنها) أي من الأمور التي يعرف بها النسخ الدال على الناسخ، (ما يَجْزِم) (1/379)
أي الحديث الذي يجزم (فيه الصحابي بأنه) أي الناسخ، أو أحد الحديثين، (متأخر). قال محشٍ: فيه تساهل وكذا / في قوله الآتي. ويمكن / 60 - أ / توجيه كلام الشارح بأن تجعل ما مصدرية، ويجعل ضمير بأن عائد إلى الحديث (كقول جابر رضي الله عنه: " كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ترك الوُضوء)، بالرفع على أنه اسم كان، خبره آخر الأمرين، أو بالعكس والوُضوء بضم الواو، أي ترك التوضي، (مما مَستِ النار) أي طبخته. (أخرجه أصحاب السنن) أي الأربعة. (ومنها ما يعرف بالتاريخ، وهو) أي مثاله (كثير) أي لا يحتاج إلى ذكره، كحديث شَداد بن أَوْس وغيره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أفطر الحَاجِم والمحْجُوم "، وحديث ابن عباس رضي الله عنهما: " أن النبي صلى الله تعالى عليه (1/380)
وسلم احتجم وهو صائم "، فقد بينَ الشافعي أن الثاني ناسخ للأول، لأنه كان في سنة عشر، والأول في سنة ثمان، كذا في " الخلاصة ". (وليس منها) أي من الأمور التي يعرف بها النسخ (ما يرويه الصحابي المتأخر الإسلام معارِضاً) بكسر الراء، (للمتقدم عليه) أي لما يرويه صحابي آخر متقدم عليه ؛ (لاحتمال أن يكون المتأخر (سمعه) أي ما يرويه (من صحابي آخر أقوم من المتقدم المذكور، أو مثله) بالنصب، (فأرسله) أي أسند المتأخر مَرْوِيه إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وحذف ذكر الصحابي الذي رواه عنه اختصاراً. ويسمّى هذا مرسل الصحابي، وهو غير مرسل التابعي، وسيجيء حكمهما. قال مُحَشٍ: فيه أنه يمكن أن يكون سماعه مِنْ أقدم من متقدم الإسلام، أو مثله، ومع هذا يكون حديث متأخر الإسلام متأخراً، أو يمكن أن يقال: إذا تطرق إليه الاحتمال لا يكون معارضاً، فارتفع الإشكال. (لكن إن وقع التصريح بسماعه) أي الصحابي، (له) أي لمَرْويه (من النبي صلى الله عليه وسلم (1/381)
فيتّجه) بتشديد التاء، أي فيتوجه ويتعيَّن. (أن يكون) أي مروية (ناسخاً بشرط أن يكون لم يتحمل عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم شيئاً قبل إسلامه) فإنه لو تحمل عنه قبل إسلامه، ورواه بعد إسلامه جاز. قال محشي: وفيه أن عدم تحمل متأخرِ الإسلام شيئاً من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قبل إسلامه، لا يوجب تأخر مرويه من متقدم الإسلام، لجواز أن يسمع المتأخر عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قبل أن يسمع متقدم الإسلام شيئاً آخر. فالصواب أن يقول: بشرط عدم تحمله شيئاً منه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قبل إسلامه، مع موت متقدم الإسلام قبل إسلام المتأخر، أو مع العلم بأن المتقدم لم يسمع شيئاً بعد إسلام المتأخر تأمل. انتهى. ويمكن أن يقال: اكتفى المصنف عن ذكرهما لوضوح اعتبارهما. (وأما الإجماع) أي على حكم شرعي معارض لحكم آخر شرعي متقدم (فليس بناسخ) أي له بمجرده / 60 - ب / لا حقيقة ولا مجازاً، لأن الإجماع هو إجماع الأمة. و الأمة لا تنسخ حكماً أتى به رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، كذا قيل، وقيل لأنه لا ينعقد إلا بعد وفاة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وبعدها ارتفع النسخ. (1/382)
(بل يدل على ذلك) أي على وجود ناسخ غيره / يعني: بالإجماع يُستدل على وجود خبر معه يقع به النسخ، كذا ذكره السخاوي. وحاصله: أن الإجماع بذاته لا يصلح أن يكون ناسخاً، لا في حياته صلى الله تعالى عليه وسلم ولا بعد مماته، بل إذا تعارض حديثان، والإجماعُ على حديث يدل على أن السند الذي عمل به الإجماع ناسخ للأول ؛ إذ الإجماع لا بد أن يكون مستنداً إلى سند نص من الكتاب أو السنة. وإنما هو أقوى منهما كما ذكروه، لأن الكتاب والسنة يجري فيهما احتمال المعاني، والمتقدم، والتأخر، والتخصيص، والتعميم ونحو ذلك، بخلاف الإجماع، فإنه نص في المقصود. ثم مستند الإجماع قد يكون قياساً، ومستند القياس النص، فيرجع إليهما. هذا، وفي كلام الشيخ إشارة لطيفة إلى اعتراضٍ فِعْليّ على صاحب " الخلاصة " حيث قال: وهذا النوع منه ما عرف بنص النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، ومنه ما عرف بقول الصحابي، ومنه ما عرف بالتاريخ، ومنه ما عرف بالإجماع، كحديث " قتل شارب الخمر في الرابعة " عُرِفَ نسخه بالإجماع (1/383)
على خلافِه، والإجماع لا يَنْسَخ، وإنما يدل على النسخ. انتهى ولا شك أن صنيع صاحب " الخلاصة " أظهرُ، فإنه لا يلزم من علمنا وبالإجماع، علمنا بمستندهم من حديث أو غيره، فيصدق عليه أنه مما يعرف به الناسخ، فلا وجه لعدول المصنف عن ذلك. (وإن لم يعرف التاريخ) أي تاريخ تأخر أحدهما، (فلا يخلو) أي الحال عن أحد الأمرين: (إما أن يمكن ترجيح أحدهما على الآخر بوجه من وجوه الترجيح)، الترجيح في اللغة: جعل الشيء راجحاً. وفي الاصطلاح: اقتران الأمارة بما يتقوى به على معارضها. وقد سرد منها الحازمي في كتابه " الناسخ والمنسوخ " خمسين، مع إشارته إلى زيادتها، وبلغ بها غيره زيادة على مئة. (المتعلقة بالمتن) ككونه متناً اتفق عليه الشيخان مثلاً. وهذا عن الشافعي وأتباعه، وكأن يكون مدلوله الحظر على ما مدلوله الإباحة للاحتياط. وهذا عند أبي حنيفة وأصحابه. (أو بالإسناد أوْ لا) ككونه بإسناد اتصف بالأصحية مثلاً، وكون أحدهما سماعاً أو عَرْضاً، والآخر كتابةً أو وِجادة أو مناولة، وكون راوي أحد الحديثين أكثر عدداً من الآخر ، أوْ لَهُ زيادة ثقة، أو فِطنة دون / 61 - أ / الآخر. كذا قالوا. وفي بعضها خلافٌ كما تقدَّم من أن المذهب المنصور عند (1/384)
علمائنا الحنفية الأفقهية دون الأكثرية، والأضحية. قال تلميذه: قد يقال: هذا مما لا معنى له، لأن ركن المعارضة تساوي الحجتين، في الثبوت، فإذا كان أحد السندين أرجحَ لم تتحقق المعارضة. انتهى. وأيضاً يناقض كلامَه ما قال في تقرير المقبول، حيث جعله مقسَماً ثانياً، أن المراد به أصل القبول لا التساوي فيه، حتى يكون القوي ناسخاً للأقوى، بل الحسن يكون ناسخاً للصحيح، لوجود أصل القبول، فتدبر، فإن العقل يتحير. (فإن أمكن الترجيح تعين المصير إليه) أي بالرجوع إليه والاعتماد عليه، (وإلا) معناه باعتبار المتن، وإلا ثبت المتأخر، ويأتي جوابه، وباعتبار الشرح وإن لم يمكن الترجيح، (فلا) أي فلم يتعين المصيرُ إليه بل / يتوقف الحكم لا له، ولا عليه. (فصار ما ظاهره التعارض) قيد بما ظاهره التعارض، إذ لا يتعارض (1/385)
النصان في الواقع، ولا يقع متناقضان شرعيان في نفس الأمر (واقعاً على هذا الترتيب). قال تلميذه: مقتضى النظر طلبُ التاريخ أولاً لتنتفي المعارضة إن وجد، ثم إذا لم يوجد، (الجمعُ إن أمكن) برفع الجمع، على أنه خبر مبتدأ محذوف وقوله: (فاعتبار الناسخ والمنسوخ) عطف عليه، والجملة تفسير الترتيب، وإنما عدلنا عن الجر على سبيل البدلية والبيان، مع أنه استعمالُ الأكثرِ المختار في الحديث والقرآن كقوله تعالى:: {{الحمد لله رب العالمين}} وكقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: " بني الإسلام على خمس: شهادِة أن لا إله إلا الله... " ليوافق قوله: (فالترجيح) فإنه يتعين أن يكون بالرفع بناء على المتن، (إن تعين) أي المصير إليه بعد أنْ أمكن، (ثم التوقف عن العمل بأحد الحديثين) حتى يظهر حكمه، ويتبينَ أمره. وقيل: يُهْجَم فٌ يْفَتى بواحد منهما، أو يُفْتَى بهذا في وقت، وبهذا في آخر، كما يفعل أحمد، وذلك غالباً بسبب اختلاف روايات أصحابه عنه، كذا ذكره السخاوي، وكذا صنيع مالك وأحمد في سلام السهو. (1/386)
(والتعبير التوقف أولى من التعبير بالتساقط) على ما اشتهر على الألسنة من أن الدليلين إذا تعارضا تساقطا، أي تساقط حكمهما، وهو يوهم الاستمرار مع أن الأمر ليس كذلك، لأن سقوط حكمهما إنما هو لعدم ظهور ترجيح أحدهما حينئذ. ولا يلزم منه استمرار التساقط، مع أن إطلاق التساقط على الأدلة الشرعية خارج عن سنن الآداب السنية وبما ذكرنا ظهر وجه التعليل بقوله: (لأن خفاء ترجيح أحدهما على الآخر إنما هو بالنسبة للمعتبر) قيل الأولى إلى المعتبر (في الحالة الراهنة) أي الثابتة / 61 - ب / الموجودة. ففي " الصحاح " يقال: رهن: دام وثبت. وقيل: أي الحاصرة سميت بها، لأن الرهن هو الحبس في اللغة، والمرهون محبوس فيها لا فيما قبلها، ولا فيما بعدها. (مع احتمال أن يظهر لغيره ما خفي عليه) قال تعالى: {{وفوق كل ذي علم عليم}}. (والله أعلم). (1/387)
(أقسام المردود)
(ثم المردود) لما فرغ لما من أقسام المقبول شرع في أقسام المردود. (وموجب الرد) أي مقتضاه، وهو حرمة العمل به، أي المردود، وحكمه المترتب عليه، كلاهما لجهة واحدة. (إما أن يكون) أي المردود يعني رده، أو موجب رده، فاندفع ما قال تلميذه: يقال على هذا: إن الشرح غير معنى الأصل. انتهى. إذ كان ظاهر مراعاة الجانبين أن يقول بدون العطف: موجب رده إما أن يكون بسببه، والظاهر أنه اسم مفعول من الإيجاب، أي ما أوجب رده، أي واجب الرد، إما أن يكون: (لسقط) باللام وفي نسخة: بالموحدة، وتثليث السين، والفتح هنا أظهر أي لسقوطه بحذف المضاف إن كان السقط بمعنى ما يسقط، كما يشعر به قوله فيما بعد: إن كان باثنين. وإن كان بمعنى السقوط، فلا حاجة إليه. في المغرب: السقط بالحركات الثلاث، ولد سقط قبل تمامه. وكذلك سقط النار: ما يسقط منها عند القدح، فإن أريد / بالسقط ففيه التجريد، وإن كان بمعنى السقوط فلا حاجة إليه. (1/388)
قال محشي: ويجوز أن يقرأ على صيغة اسم الفاعل كما صحح في بعض النسخ، أي ما أوجب رد نفسه، وذلك باعتبار اشتماله على السقوط، أو باعتبار اشتماله على كونه مقرونا بالطعن. وهذا معنى قوله: لسقط أو طعن، وعلى التقديرين قوله: موجب الرد، عطف تفسيري للمردود. ولك أن تقول: الموجب بالفتح مصدر ميمي، أي وجوب الرد إما أن يكون لسقط أو طعن، وفيه أنه حينئذ يبقى المردود. أو يقول: اللام في السقط زائدة، والمعنى موجب الرد بالكسر، إما السقط وإما الطعن، وفيه ما ذكر. انتهى. وفيه أن مصدر الموجب هو الإيجاب لا الوجوب، وأن خبر المردود على كل حال: إما أن يكون. وحاصل الكلام: أن ما يجب الرد بسببه، وهو فوات صفة القبول - أعني العدالة والضبط وغيرهما - إما أن يكون لأجل سقوط، أو سببه حذف. (من إسناد) أي على اختلاف أنواع الحذف، كما سيأتي. (أو طعن في راو) أي من رواة إسناده، (على اختلاف وجوه الطعن) مما سيأتي (أعم من أن يكون) أي الطعن على اختلاف الوجوه. (لأمر يرجع إلى ديانة الراوي، أو إلى ضبطه). فيه أن قوله: أعم... الخ مغن عن قوله: على اختلاف وجوه الطعن، (1/389)
لكن إغناء الثاني عن الأول مما يتسامح فيه، بخلاف / 62 - أ / العكس، فتأمل. (فالسقط) أي الحذف، (إما أن يكون من مبادىء السند) أي أوائله. (من تصرف مصنف)، فمن الأولى: للتبعيض، والثانية: ابتدائية. وأشار المصنف في الشرح إلى تقدير مضاف، والمعنى أنه نشأ من تصرف مصنف، أعم من أن يكون مخرجا أو غيره، وسواء كان السقوط من الابتداء فقط، كما في الصورة الثالثة من الصور المذكورة للمعلق كما سيأتي. أو منها مبدوء بالسقوط من الأوسط، كما في الصورة الثانية، أو من الآخر أيضا كما في الصورة الأولى. (أو من آخره أي الإسناد) والأولى أي السند، فكأنه أشار إلى أن المعتمد اتحاد الإسناد والسند. والمراد أن يكون السقوط من آخر السند فقط، بقرينة المقابلة، أو يقال: المراد من مبادئ السند، ما يقال له المبادئ عرفا، فتكون جمعية المبادئ مع وحدة الآخر كذلك. (بعد التابعي) قيد للآخر، (أو غير ذلك) أي من غير شرط الأولية والآخرية، أو من غير ذلك المذكور من المبادىء المقيدة والآخر. (1/390)
(الحديث المعلق)
(فالأول) وهو ما يكون الحذف من مبتدأ السند، ويعزى الحديث إلى من فوقه (المعلق سواء كان الساقط) أي المحذوف، (واحدا أم أكثر) وفي نسخة: أو أكثر أي على التوالي، والأكثر أعم من أن يكون كل السند أو بعضه، كقول البخاري: وقال يحيى بن كثير، عن عمر بن الحكم بن ثوبان، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: " إذا قاء فلا يفطر ". حكاه ابن الصلاح عن بعضهم، وأقره فقال: إن لفظ التعليق وجدته مستعملا فيما حذف من مبتدأ إسناده واحد أو أكثر، حتى إن بعضهم استعمله في حذف كل الإسناد /. انتهى. ولم يذكر المزي هذا في كتابه " الأطراف " في التعليق، بل ولا ما اقتصر فيه على الصحابي أيضا، مع كونه مرفوعا، ولم يشترط صيغة الجزم. ولعله اختار مذهب من تأخر عن ابن الصلاح، كالنووي، والمزي، فالتعليق عندهم يكون بصيغة الجزم، ك: قال فلان، وروى فلان، وبصيغة التمريض، ك: يروى، ويذكر. (1/391)
قال ابن الصلاح: ولم أجد لفظ التعليق مستعملا فيما سقط منه بعض رجال الإسناد من وسطه، ولا فيما آخره، ولا فيما ليس فيه جزم ك: يروى، ويذكر. قال: كأن التعليق مأخوذ من تعليق الجدار، وتعليق الطلاق ونحوهما، لما يشترك الجميع فيه من قطع الاتصال. واستبعد المصنف أخذه من تعليق الجدار، ولعل وجهه أن الطرفين أو أحدهما في تعليق الجدار باقٍ على حاله غيرُ ساقط، بخلاف تعليق الحديث. والله أعلم. (وبينه) أي المعلق (وبين المُغْضَل الآتي ذكره، عموم وخصوص من وجه) / 62 - ب / فيه نظر، لأن المعضل قسم من القسم الثالث المقابل للمعلق، فيكونان متباينين، اللهم إلا أن يقال: المراد من قوله السابق: أو غير ذلك، إنما هو المغايرة مطلقاً لا المباينة، والتقسيم اعتباري لا حقيقي، والأقسام متصادقة. ولو قيل: المراد هو العموم بحسب المفهوم، دُفع بأنه يأباه. قوله: مع بعض صور المعلق، والظاهر أنه أراد بالعموم والخصوص من وجه مجردَ الاجتماع في وصف، والافتراق في آخر كما سبق، وبيانه قوله: (فمن حيث تعريفُ المُعْضَل بأنه سَقَطَ منه) أي من إسناده. (اثنان فصاعداً) أي على التوالي من أي موضعٍ كان، (يجتمع مع بعض صور المُعَلَّق) وهو فيما (1/392)
إذا كان الساقط اثنين فصاعداً من مبادئ السند وتوضيحه: أنهما مجتمعان حيث أسقط مصنف من مبادئ السند أكثر من واحد على التوالي. ويصدق المُعَلّق بدون المعضل، حيث أسقط مصنف من مبادئ السند واحداً أو أكثر لا على التوالي، وبالعكس حيث أسقط مصنف اثنين فصاعداً على التوالي من الأوسط لا من المبادئ، أو أسقطهما منها غير المصنف، وهذا معنى قوله: (ومن حيث تقييدُ المعلق بأنه من تصرف المصنف) أي جنسه. (من مبادئ السند يفترق) المعضل (منه) أي يصدق المُعْضَل بدون المعلق هذا ويصدق المُعلق بدون المُعْضَل في صورة يكون الساقط واحداً كما علم من قوله: سواء كان، ولذا تركه ولم يذكر صدق المُعلق بدون المُعْضَل، وإن احتيج إليه في ثبوت العموم من وجه. قال تلميذه: لا يقع الافتراق بهذا، وإنما يقع من حيث صدقُ المعلق بحذف واحد كما في الصورة التي اختُلف فيها ونحوها، والله أعلم. (إذ هو) أي المُعْضَل (أعم من ذلك) لجواز أن يكون الساقط من أواسط السند أو من مباديه، لأن تصرفُ منصفٍ. (1/393)
(ومن صور المعلق: أن يحذف جميع السند، ويقال مثلاً: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) أو يقال: فعل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، أو فُعِل بحضرته صلى الله تعالى عليه وسلم، أو نحو ذلك. (ومنها أن يحذِف) بصيغة الفاعل أي المصنف، أو بصيغة المفعول، أي يسقط جميع السند، (إلا الصحابي) بالنصب أو الرفع، (أو إلا الصحابي والتابعي معاً) / أي مجتمعين. قيل: ولم يستثن التابعي فقط، مع أنه لم يشترط التوالي في المعلق، فيصدق ظاهراً تعريفه على هذه الصورة التي حذف آخره، أي الصحابي، وأوله أيضاً بناءً على أن معنى المرسَل ما سقط من آخره ما بعد التابعي، أي يذكر التابعي، ويحذف ما بعده، فينبغي أن لا يكون المعلق كذلك، بقرينة المقابلة. وفيه أن المرسل هو ما / 63 - أ / سقط من آخره فقط كما مر، فلا يشمل المرسل هذه الصورة التي حذف آخره وأوله، فتكون داخلة في المعلق. (ومنها أنْ يَحذف) أي مصنف، (منْ حدثه ويضيفه) أي ينسبه (إلى مَن فوقه، فإن كان مَن فوقه شيخاً لذلك المصنف) احترازاً مما إذا كان شيخاً له، فإنه تعليق اتفاقاً، فيصح عَدهُ من صور التعليق بلا خلاف. (1/394)
(فقد اختلف فيه) أي في أنه (هل يُسَمى تعليقاً أو لا؟ والصحيح في هذا) - قال تلميذه: أي في محل الخلاف أنه هل يسمى تعليقاً أم لا - (التفصيل) وهو هذا: (فإن عرف بالنص) أي نص إمام مِن أئمة الحديث، قاله التلميذ. (أو الاستقراء) أي بالتتبع التام، (أن فاعل ذلك) أي الحذف، (مدلس) بتشديد اللام المكسورة، وهو الذي يفعل ذلك ترويجاً لحديثه، (قُضي به) بصيغة المجهول، أي حُكم بتدليسه (وإلا) أي وإن لم يُعرف بأحدهما أنه مدلس، (فتعليق) أي فعله وحديثه مُعَلَّق، وهذا يدل على مباينة المعلق للمدلس. وفيه أنه يصدق تعريفه عليه، فينبغي أن يقيد تعريف المعلَّق، بأن يكون سقوط شيء من الإسناد واضحاً لا خفياً، حتى يخرج المدلس (وإنما ذُكِر التعليق في قسم المردود) أي مع أن بعض أقسامه مقبول يعمل به، (للجهل بحال المحذوف) أي لكون الراوي المحذوف غير معلوم بالعدالة والضبط. (وقد يحكم بصحته) أي المعلق أو المحذوف، وهو أقرب لقوله: (إن عرف) أي المحذوف بالعدالة والضبط، (بأن يجيء مسمى) أي موصوفاً باسمه ونسبه، أو كنيته ولقبه، (من وجه آخر) أي من طريق آخر، فلا يصح جعل المعلَّق قسماً من (1/395)
المردود عند الجميع (فإن قال) أي راوي المعلق: (جميع من أحذفه ثقات، جاءت) أي حصلت (مسألة التعديل على الإبهام) كأن يقول الراوي: أخبرني الثقة، وفي نسخة: بنصب المسألة أي كانت هذه المقالة والمسألة. فكلمة جاء هذه ناقصة مثلها في: ما جاءت حاجتك. (وعند الجمهور) ومنهم: الخطيب، والفقيه وأبو بكر الصيرفي، (لا يُقبل) أي المبهم، (حتى يسمى) ؛ لاحتمال أن يكون ثقة عنده دون غيره، فإذا ذكر يعلم حاله. قال التلميذ: وليس هذا بشيء، لأنه تقديم للجرح المتوهم على التعديل الصريح. وفيه أن التعديل الصريح على المبهم المجهول كَلاَ تعديل (لكن قال ابن الصلاح هنا:) أي في هذا المبحث (إن وقع الحذف في كتاب التزمت صحة " كالبخاري ") ومثله مسلم، (فما أتى) أي الكتاب أو صاحبه (فيه) أي في التعليق، (بالجزم) أي بصيغة الجزم، ك: ذَكَرَ، وزادَ، ورَوَى فلان، وقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، (دل) أي / إتيانه بالوصف المذكور (على أنه) أي الشأن، (ثبت إسناده) أي المُعَلَّق / 63 - ب / (عنده، وإنما حُذِف لغرض من الأغراض) كالاقتصار، أو خوف التكرار، أو بأن أسند معناه في الباب ولو من طريق آخر، فنبه بالتعليق عليه، أو أنه لم يسمعه ممن يثق به، بقيد العلو، أو (1/396)
سمعه في حال المذاكرة فقصد بذلك الفرق بين ما حدثه عن مشايخه في حالتي التحديث والمذاكرة، وأحاديثُ المذاكرة قلما يحتجون بها، أو نبه بذلك على موضع يوهم تعليل الرواية التي على شرطه، أو غير ذلك من الأسباب التي يصحبها خلل الانقطاع، كأن يكون الراوي ليس على شرطه، وإن كان مقبولاً، ونحو ذلك. (وما أتى فيه بغير الجزم) مثل أن يقول: يُذْكَر، أو يُرْوى مجهولاً، (ففيه مقال) أي قول كثير أو مجال اختلاف أقوال. (وقد أوضحت أمثلة ذلك) أي أوردتها واضحة. وقيل حق العبارة: أوضحت ذلك بأمثلة واضحة، (في " النُكَت ") بضم النون، وفتح الكاف اسم كتاب للمصنف مشتمل على اعتراضات أوردها (على ابن الصلاح) قلت هذا إيضاح (1/397)
في غاية مِن الإبهام، مع أنه لم يظهر وجه الاستدراك. فإن الجمهور: إذا لم يقبلوا تصريح راوي المعلق: بأن جميع من أحذفه... وكذا قول من يقول: حدثني الثقة، كيف يقبلون من التزم صحة كتابه، ويذكر فيه تعليقات، ولم يصرح بأن تعليقه صحيح أم لا؟ فإنه لو صرح به لكان من قبيل ما سبق. والحال أنه يحتمل أنه حذفه لغرض من الأغراض، سواء ذُكر بصيغة الجزم أو بصيغة التمريض. نعم صيغة المجهول أبعدُ من المعلوم في كونه مقبولاً ثم رأيت بعض متأخري المغاربة قال: إنه قسم ثانٍ من التعليق، وأضاف إليه قول (1/398)
البخاري في غير موضع من كتابه: وقال لي فلان، وزادنا فلان فَوَسَمَ كل ذلك بالتعليق المتصل من حيث الظاهرُ المنفصل بحسب المعنى. وقال: إذا قال قال لي، أو قال لنا: فاعلم أنه ذكره للاشتهاد لا للاحتجاج. قال: وكثيراً ما يعبر المحدثون بهذا اللفظ عما جرى بينهم في المذاكرات والمناظرات. وأحاديث المذاكرات قلمّا يحتجون بها، ورد ابن الصلاح هذا القول، من حيث إنه مخالف لما قاله أبو جَعفر بن أحمد النيسابوري أنه قال: كلما قال البخاري: قال لي، أو قال لنا، فهو عَرْضٌ ومناولة، وذلك أن أبا جعفر أقدمُ منه وأعرف بالبخاري، وفيه بحث ظاهر.
(المُرْسَل)
(والثاني) أي من أقسام السقط، (وهو ما سقط من آخره) أي آخر إسناده (مَن) بفتح الميم، أي صحابي كائن، (بعد التابعي) وإنما قيدته بصحابي، فإن الحديث الذي حذف منه الصحابي (هو المرسَل) وهو مأخوذ من الإرسال بمعنى الإطلاق، وعدم المنع كقوله تعالى: (إنا أرْسَلْنا الشياطين على (1/399)
الكافرين) فكأن المرسِل / 64 - أ / أطلق الإسناد ولم يقيده براوٍ معروف، أو مِن قولهم: ناقة مِرسال، أي سريعة السير. كأن المُرسل أسرع فيه، فحذف بعض إسناده، أو من قولهم: جاء القوم أرسالاً أي متفرقين، لأن بعض الإٍ سناد منقطع من بقيته. (وصورته أن يقول التابعي، سواء كان كبيراً) بأن لقي كثيراً من الصحابة / وجالسهم، وكانت جُلّ روايته عنهم، كقيس بن أبي حَازِم، وسعيد بن المسيب، (أم صغيراً) وفي نسخة: أو صغيراً، بأن لم يلق من الصحابة إلا العدد اليسير، أو لقي جماعة مع كون جل روايته عن التابعين، كيحيى بن سعيد الأنصاري. ذكره السخاوي. (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، أو فعل كذا، أو فُعِل) بصيغة المجهول (بحضرته كذا، أو نحو ذلك) أي مما يضاف إليه صلى الله تعالى عليه وسلم من الرواية، والسماعِ، والحُكْمِ، والجوابِ، والإجابِة، والأمر، والنهي، وغيرِ ذلك مما يشمل الحِلية ونحوها. وهذا هو المعتمد، وقيده بعضهم بالكبير. وقالوا: لا يكون حديث صغار التابعين مرسلاً، بل منقطعاً، لأنهم لم يلقوا مِن الصحابة إلا الواحد أو الاثنين، فأكثر روايتهم عن التابعين، وإلى هذا الاختلاف أشار ابن الصلاح بقوله: وصورته التي لا خلاف فيها حديث التابعي الكبير. (1/400)
وقال المصنف: لم أر التقييد بالكبير صريحاً عن أحد، نعم قيد الشافعي رضي الله عنه المرسل الذي يُقبل إذا اعتضد، بأن يكون من رواية التابعي الكبير، ولا يلزم من ذلك أن لا يُسمى ما رواه التابعي الصغير مرسلا وأطلقه الفقهاء والأصوليون على قول مَن دون التابعي، منقطعاً كان أو معضلاً: قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، ولذلك قال ابن الحاجب في " مختصره ". المرسل قول غير الصحابي: قال رسول الله تعالى عليه وسلم. انتهى. وإليه ذهب الخطيب، لكن قال: إن أكثر ما يوصف بالإرسال من حيث الاستعمال رواية التابعي عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم. وقال الحاكم وغيره من المحدثين: المرسل مختص بالتابعي عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. وفي " الخلاصة ": التحقيق أن المرسل في اصطلاح (1/401)
المحدثين أن يترك التابعي الواسطة بينه وبين رسول الله تعالى عليه وسلم، فإن ترك الراوي واسطة بين الراويين، فهذا يسمى منقطعاً، وإن ترك أكثر من واحد، فهو المسمى بالمُعضل عندهم، والكل يسمى مرسلاً عند الفقهاء والأصوليين. وفي " الجواهر ": وأما قول الزهري وغيره من التابعي الصغير قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فالمشهور عند من خصه بالتابعي أنه مرسَل كالتابعي الكبير، وقيل: بل منقطع. انتهى. ومنه يعلم أن التابعي إذا لم تكن له رواية عن الصحابة مطلقاً وأرسل الحديث، فينبغي أن لا يكون الخلاف في كونه منقطعاً، كما أشار / 64 - ب / إليه السيد جمال الدين المحدث في " حاشية المشكاة " عند قوله: وعن الأعمش قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " آفة العلم النسيان " الحديث. رواه الدارِمي مرسلاً، حيث قال: المراد بالإرسال هنا المعنى اللغوي، وهو الانقطاع، لأن الأعمش لم يسمع من أحد من الصحابة، وإن ثبت سماعه من أنس، فالمرسل بالمعنى الاصطلاحي. انتهى وتوضيحه: أن منشأ اختلافهم في التابعي الصغير، هو أن روايته عن الصحابي قليلة نادرة، والحكم إنما يكون مبنياً على الغالب، فإذا تحقق عدم روايته عن الصحابي، فلا وجه للاختلاف في كون حديثه مرسلاً / بل يكون منقطعاً قطعاً، والله أعلم. (1/402)
(وإنما ذكر) أي المرسل، (في قسم المردود) مع أن المعتمد عند المحدثين أنه ما حُذف منه الصحابي وهو - لا شك - أنه ثقة. ولذا قال جمهور العلماء: إن المرسل حجة مطلقاً بناء على الظاهر من حاله، وحسن الظن به أنه ما يروي حديثه إلا عن الصحابي. وإنما حذفه لسبب من الأسباب، كما إذا كان يروي ذلك الحديث عن جماعة من الصحابة، كما ذكر عن الحسن البصري أنه قال: إنما أطلقته إذا سمعته من سبعين من الصحابة، وكان قد يحذف اسم علي رضي الله تعالى عنه بالخصوص أيضاً لخوف الفتنة (للجهل بحال المحذوف) أي في الجملة ؛ (لأنه يحتمل أن يكون) أي المحذوف ؛ (صحابياً، ويحتمل) أي احتمالاً بعيداً، ولذا ما اعتبره الجمهور من الأصوليين، (أن يكون تابعياً) بأن تابع مذهب الفقهاء وغيرهم، أو لعدم تقيدهم بالرواية عن الصحابة. (1/403)
(وعلى الثاني يحتمل أن يكون ضعيفاً، ويحتمل أن يكون ثقة) لعدم تقيدهم بالرواية عن الثقات. وأما على الأول: فثقة جزماً لأن الصحابة كلهم عدول. (وعلى الثاني) أي على تقدير كون التابعي ثقة، (يحتمل أن يكون حَمَل) أي أخذ وتحمل (عن صحابي، ويحتمل أن يكون حَمَل عن تابعي آخر) وعلى الأول أيضاً يحتملها، لكن المراد بيان سبب ذكره في المردود، وعلى الأول ظهر المردود به فلا حاجة إلى بيان الاحتمالات فيه. (وعلى الثاني) وهو احتمال كون الثاني حاملاً عن تابعي آخر، (فيعود) أي يرجع (الاحتمال السابق) وهو احتمال كون التابعي ضعيفاً، أو ثقة. وإلفاء إما لتقدير أما أو لتوهمها. (ويتعدد) أي ويحتمل تعدداً آخر ويرتقي احتماله، (أما بالتجويز العقلي في احتمال التعدد، فإلى ما لا نهاية له) أي مع قطع النظر عن الدليل النقلي الخارجي، فاندفع ما قال تلميذه: محال عند العقل، أن يجوز بين التابعي والنبي صلى الله عليه وسلم من لا يتناهى. كيف وقد وقع التناهي في الوجود (1/404)
الخارجي بذكر النبي صلى الله عليه وسلم. انتهى. والظاهر أنه أراد الكثرة وأتى بما لا نهاية له مبالغة، إذ من المعلوم عند العقلاء أن الانتساب إلى آدم عليه السلام / 65 - أ / أمر متناه، فكيف إلى نبينا صلى الله عليه وسلم، فمراده أنه يتعدد، أما بالتجويز العقلي إلى أتباع غير محصورة عندهم، بقرينة المقابلة بقوله: (وأما بالاستقراء) أي بالتتبع الحاصل بالدليل النقلي (فإلى) أي فينتهي التعدد إلى (ستة أو سبعة). قال محشٍ: " أو " للترديد، أو بمعنى بل، ثم كتب في حاشيته أن " أو " هذه تحتملهما، وحاصلهما: اختياره أن أو بمعنى بل لكن نقل التلميذ عن المصنف أنه قال: " أو " هنا للشك لأن السند الذي ورد فيه سبعة أنفس اختلفوا في واحدهم هل هو صحابي أو تابعي، فإن ثبت صحبته فإن التابعين ستة، وإلا فسبعة. (وهو) أي هذا العدد، (أكثر ما وجد من رواية بعض التابعين، عن بعض). واعلم أن كون المرسل حديثاً ضعيفاً لا يحتج به، إنما هو اختيار جماعة من المحدثين، وهو قول الشافعي رضي الله عنه، وطائفة من الفقهاء، (1/405)
وأصحاب الأصول. وقال مالك في المشهور عنه، وأبو حنيفة، وأصحابه، وغيرهم من أئمة / العلماء كأحمد في المشهور عنه: أنه صحيح يحتج به، بل حكى ابن جرير إجماع التابعين بأسرهم على قبوله، وأنه لم يأت عن أحد منهم إنكاره، ولا عن أحد من الأئمة بعدهم، إلى رأس المئتين الذين هم من القرون الفاضلة، المشهود لها من الشارع صلى الله تعالى عليه وسلم بالخيرية. وبالغ بعض القائلين بقوله، فقواه على المسند معللاً: بأن من أسند فقد أحالك، ومن أرسل فقد تكفل لك، وهذا إذا لم يعرف حاله. (فإنْ عُرِف من عادة التابعي أنه لا يرسل إلا عن ثقة، فذهب جمهور المحدثين) أي على زعمه، (إلى التوقف) أي في قبوله ورده. ويرد على المصنف أنه حينئذ لا يصح جعله قسماً من أقسام المردود القطعي على مذهبهم (لبقاء الاحتمال) إذ يجوز أن يكون ثقة عنده لا في نفس الأمر كذا قيل. (1/406)
وهو غير صحيح ؛ إذ الكلام مبني على فرض أنه لا يرسل إلا عن ثقة. وعلم هذا من دأبه بالتتبع في نقله، لا بناءً على قوله. فالصواب أن يقال: لبقاء احتمال أن يكون هذا الإرسال بخصوصه من غير عادته. وقال شارح: إلى التوقف، وأنه لا يقبل. وظاهره مناف للتوقف إنْ قُرئ بفتح أنه، وأما إذا قرئ بكسر إنه، فله وجه، وهو: أن التعليل إنما هو لعدم القبول المستلزم لعلة عدم الرد، وهو بقاء الاحتمال، إذ لا يصح الاستدلال مع وجود الاحتمال نفياً وإثباتاً. (وهو أحد قولي أحمد) أي غير المشهور عنه. (وثانيهما: وهو قول المالكيين والكوفيين) فيرد على المصنف أنه لا يصح جعله قسماً من المردود بناء على جميع المذاهب. (يقبل) أي المرسل، (مطلقاً) . قال / 65 - ب / تلميذه: الأولى تركه، أو تأخير قول المالكيين والكوفيين عن قول الشافعي، إذ يوهم الإطلاق أنه سواء عُرِفَ من عادته ما ذُكرَ أوْ لا، فيخالف ما عند الكوفيين والمالكيين. انتهى. والظاهر أنه أراد بقوله: مطلقاً سواء اعتضد بمجيئه من وجه آخر، أو لم يعتضد بمجيئه بدليل قوله: (وقال الشافعي: يقبل) أي لا مطلقاً بل فيه تفصيل. (إن اعتضد) على بناء المجهول، (بمجيئه من وجه آخر) أي إسناد آخر (يباين) أي يغاير (1/407)
(الطريق الأولى) وفي نسخة: الأول لأن الطريق يؤنث ويذكر (مسنداً كان) أي الثاني، (أو مرسلا) وسواء كان الثاني صحيحا، أو حسناً، أو ضعيفا، ذكره الشيخ زكريا. (ليترجح احتمال كون المحذوف) أي في الإسناد الأول. (ثقة في نفس الأمر). وفيه بحثان: الأول: إنه إذا كان الثاني مرسلا أيضا لا يظهر وجه الترجيح، إذ الضعيف لا يقوي الضعيف، نعم، كثرة الطرق الضعيفة قد تقويه وتخرجه إلى حد الحسن لغيره. والثاني: أنه إذا اعتضد بمسند، فالمسند هو المعتمد، ولا حاجة إلى المرسل، اللهم إلا أن يقال: المسند قد يكون ضعيفا وبان به قوة الساقط وصلاحيته للاحتجاج، وقد يقال: إنهما دليلان إذ المسند دليل برأسه، والمرسل يعتضد به ويصير دليلا أخر، فيرجح بهما الخبر عند معارضة خبر ليس له طريق سوى مسنده /. (ونقل أبو بكر الرازي) صاحب شرعة الإسلام (من الحنفية، وأبو الوليد (1/408)
الباجي) بالموحدة، والجيم نسبة إلى باجة، بلد بإفريقية، منه أبو الوليد سليمان بن خلف الإمام المصنف، ذكره " القاموس ". (من المالكية: أن الراوي إذا كان يرسل عن الثقات) أي تارة، (وغيرهم) أخرى. (لا يقبل مرسله اتفاقا) أي إذا عرف من حاله أنه غير ملتزم بأن يرسله عن ثقة، فلا يقبل مرسله، وأما إذا لم يعلم حاله، فمرسله مقبول إتفاقا عند الحنيفة والمالكية.
(المعضل)
(والقسم الثالث) أشار الشارح إلى أن الثالث صفة لموصوف محذوف هو المبتدأ. وقوله: (من أقسام السقط) أي الحذف. (من الإسناد) صفة أخرى، والخبر قوله: (إن كان) أي السقط، (باثنين) أي حاصلا بهما (فصاعدا) أي فكذا ما يكون زائدا عليهما، (مع التوالي) أي لكن بشرط الموالاة في موضع السقوط، (فهو (1/409)
المعضل) أي فالقسم الذي يكون في إسناده ذلك هو المسمى بالمعضل، من أعضله أي أعياه، فهو معضل به، أو فيه أي معنى، فكأن المحدث الذي حدث به أعضله وأعياه، فلم ينتفع من يرويه عنه. قال السخاوي في " شرح الألفية "، هو بفتح المعجمة، من الرباعي المعتدي: يقال: أعضله، / 66 - أ / فهو معضل وعضيل، كما سمع في أعقدت العسل، فهو عقيد، بمعنى معقد، وأعله المرض، فهو عليل، بمعنى مُعل، وفعيل بمعنى مُفعل، إنما يستعمل في المتعدي. والعضيل: المستغلق الشديد، ففي حديث: " أن عبدا من عباد الله قال يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، فأعضلت بالملكين، فلم يدريا كيف يكتبان... " الحديث. كما قال أبو عبيد: هو من العضال، الأمر الشديد الذي لا يقوم له صاحبه. انتهى. فكأن المحدث الذي حدث به أعضله، حيث ضيق المجال من يؤديه إليه، وحال بينه وبين معرفة رواته بالتعديل أو الجرح، وشدد عليه الحال، (1/410)
ويكون ذلك الحديث معضلا لإعضال الراوي له، تم كلامه. قال الشيخ زكريا: وأعلم أن المعضل يقال للمشكل أيضا، وهو بكسر الضاد أو بفتحها على أنه مشترك، نبه عليه شيخنا. انتهى. وقال ابن الصلاح: أصحاب الحديث يقولون: أعضله فهو معضل بفتح الضاد، وهو اصطلاح مشكل المأخذ - ووجه بأن مفعلا بفتح العين، لا يكون إلا من ثلاثي لازم، عدي بالهمزة، وهذا لازم معها - وقال: بحثت فوجدت له من قولهم: أمر عضيل، أي مستغلق شديد، فهو فعيل بمعنى فاعل يدل على الثلاثي. انتهى. وقد يقال: إن أعضل بمعنى استغلق لازم، وأما المتعدي بمعنى أعيا، فإشكال المأخذ باق غير مندفع، فالأولى أن يقال: إنه من أعضله بمعنى أعياه، ففي " القاموس ": عضل عليه ضيق، وبه الأمر: اشتد كأعضل وأعضله، وتعضل الداء الأطباء وأعضلهم ". هذا، وفي " الخلاصة ": المعضل: ما سقط من سنده اثنان فصاعدا. انتهى كلامه. ولم يعتبر فيه التوالي، ولا عدم كونه من المبادىء، ولا أن لا يكون من مصنف، وكذا في " التحقيق ". وفي " الجواهر " قيل: قول الراوي: بلغني، كقول(1/411)
مالك: بلغني عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كذا / يسمى مغضلا عند أصحاب الحديث. انتهى. فالأولى أن يجعل المعضل من أقسام المردود، لا من أقسام السقط، فتدبر وتأمل.
(المنُقطع)
(وإلا) أي وإن لم يكن كذلك، أعني إن لم يحصل مجموع ما ذكر في المعضل، (بأن كان السقط اثنين غير متواليين في موضعين) مجرد تأكيد، وإلا فغير المتواليين لا يكون إلا في الموضعين، (مثلا فهو المنقطع) والأنسب تأخير قوله: فهو المنقطع عن قوله: (وكذا إن سقط واحد فقط، أو أكثر من اثنين، لكن بشرط عدم التوالي)، قال المصنف: ويسمى ما سقط منه واحد منقطعا في موضع، وما سقط منه اثنان بالشرط منقطعا في موضعين، وهكذا ؛ إن في ثلاثة، ففي / 66 - ب / ثلاثة، وإن في أربعة، ففي أربعة، نقله التلميذ. قيل: وانتفاء ذلك المجموع إما بانتفاء (1/412)
الأثنينية فصاعدا، بأن يكون واحدا، أو بانتفاء التوالي من اثنين، أو من أكثر من اثنين كذلك، فذكر الأوسط وتقيده ب: مثلا ليكون إشارة إلى الطرفين، ثم ذكر الطرفين بعد قوله: فهو المنقطع، لا يخلو عن غلق. وما قيل: من أن النفي الحاصل في " إلا " متوجه إلى قيد التوالي، كما يقال في العربية: إن النفي يرجع إلى القيد، وإذا فسره به وعطف عليه بقوله: وكذا، إشارة إلى قصور عبارة المتن، مردود، بأنه على تقدير تسليم ذلك في أمثال هذه المواضع، ينبغي أن يدرج الأكثر من اثنين بلا توال في التفسير، ويعطف عليه الواحد فقط بقوله: وكذا... الخ. هذا، والصحيح الذي ذهب إليه الجمهور، ومنهم الخطيب، وابن عبد البر، وغيرهما من المحدثين: أن المنقطع ما لم يتصل إسناده على أي وجه كان انقطاعه، سواء ترك ذكر الراوي من أول الإسناد، أو وسطه، أو آخره بحيث يشمل المرسل، والمعضل، والمعلق، إلا أن أكثر ما يوصف بالانقطاع في الاستعمال رواية من دون التابعي عن الصحابي، كمالك عن ابن عمر رضي الله عنهما. وقال الحاكم: هو ما اختل فيه قبل الوصول إلى التابعي رجل، سواء كان (1/413)
محذوفا، أو مذكوراً مبهما كمالك، عن رجل، عن ابن عمر. هذا زبدة ما في " الخلاصة ". وقيل هو ما روي عن تابعي أو من دونه قولاً له أو فعلا. قال النووي: وهذا غريب ضعيف بعيد، فإن هذا هو المقطوع لا المنقطع. (ثم) تقسيم ثانٍ للسقط بل للمردود باعتبار القسط، (إن القسط) " إن " من الشرح زيادة ضرر، لأنه سبب تغيير إعراب المتن من الرفع إلى النصب، إلا بتكلف، بل بتعسف كما سبق، والمعنى أن الحذف (من الإسناد قد يكون واضحاً يحصل الاشتراك) أي بين الحذاق وغيرهم، (في معرفته) أي يعرفه كل أحد، (بكون الراوي) بالباء السببيه، وفي نسخة: باللام الأجلية، (مثلا لم يعاصر من روى عنه) أي لم يدرك عصره. وقوله: مثلا: قيدُ لم يعاصر، يفيد أنه كذلك إذا أدرك عصره، لكنه ما اجتمع به. ولذا قال التلميذ: قوله: يحصل... الخ، مع قوله يدرك... الخ تكرار. انتهى. وفيه أن الشرح يقتضي الوضوح، مع أن الكلام في الواضح. (أو يكون) كان / الأظهر أن يقول: وقد يكون (خفياً فلا يدركه إلا الأئمة الحُذاق) بضم مهملة، وتشديد معجمة، أي المهرة، (المطلعون على طرق (1/414)
الحديث) أي تفاصيل معرفة رجاله، بكونهم ثقة وضبطا وغير ذلك. (وعلل الأسانيد) أي من الاتصال، والانقطاع، ونحوهما من العلل القادحة في السند. (فالأول:) أي / 67 - أ / من نوعي السقط (وهو الواضح يُدرك) أي يعلم (بعدم التلاقي) أي الاجتماع، (بين الراوي وشيخه) أي على زعمه (لكونه) علة للإدراك، أي لكون الراوي (لم يدرك عصره) أي عصر شيخه (أو أدركه) أي عصره (لكن لم يجتمعا). (وليست له منه) أي والحال أنه ليس للراوي من شيخه على تقدير إدراك عصره، (إجازة، ولا وجادة) كما سيجيء تفصيلهما. وأما إذا ثبت إجازة أو وجادة على تقدير عدم الاجتماع، فإن يثبت حينئذ تلاق معنوي، فنفيهما معتبر في عدم التلاقي، لكن عده من الواضح لا يخلو عن خفاء، فكأنه أمر إضافي. (ومن ثمة) أي ومن أجل أن الإدراك المذكور لم يحصل لكل أحد على الوجه المسطور، (احتيج) أي في هذا الفن (إلى التأريخ) بالهمز ويبدل، وسيأتي (1/415)
معناه. (لتضمنه تحرير مواليد الرواة) جمع مولد، وهو زمان الولادة، (ووفياتهم) بكسر الفاء، وتشديد التحتية، أي انتهاء حياتهم، وكذلك أمكنة حياتهم، ومماتهم (وأوقات طلبهم) أي الحديث، (وارتحالهم) أي للسماع. (وقد افتضح أقوام أدعو الرواية عن شيوخ) أي كثيرين (ظهر بالتأريخ كذب دعواهم)، استئناف وقوع جوابا للسؤال عن كيفية الافتضاح وسببه، ويحتمل أن يكون صفة للشيوخ، بتقدير ضمير أي كذب دعواهم بالسماع منهم، أي من الشيوخ.
(المدلس)
(والقسم الثاني: وهو الخفي) الظاهر: ما فيه السقط الخفي، (المدلس بفتح اللام). قال تلميذه: المقسم السقط، والمدلس الإسناد الذي وقع فيه السقط، فلا يكون الحمل حقيقيا. انتهى. وهو أحد نوعي المدلس، وهو ما يقع في الإسناد. (1/416)
والنوع الآخر ما يقع في الشيوخ، وهو أن يروي عن شيخ سمعه فيسميه، أو يكنيه، أو ينسبه، أو يصفه بما لا يعرف به، كي لا يعرف. والنوع الأول مكروه جدا، وكأنه لذلك اقتصر عليه. هذا، وقيل: تعريفه الخارج من التقسيم يصدق على الأقسام الحاصلة من التقسيم الأول. بناء على ظاهره، فإما أن يلتزم التصادق، ويدعى أن التغاير اعتباري، أو يقيد كل منهما بما لا يوجد في الآخر لتباين الأقسام. (سمي) أي القسم الثاني، (بذلك) أي بالمدلس، (لكون الراوي لم يسم من حدثه، وأوهم سماعه للحديث ممن لم يحدثه) أي (به). ومنه التدليس في البيع، يقال: دلس فلان على فلان، أي ستر عنه العيب الذي في متاعه، كأنه أظلم عليه الأمر. وهو في الاصطلاح راجع إلى ذلك من حيث إن من أسقط من الإسناد شيئا، فقد غطى ذلك الذي أسقطه، وزاد في التغطية لإتيانه بعبارة موهمه، وكذا تدليس / 67 - ب / / الشيوخ، فإن الراوي يغطي الوصف الذي به يعرف الشيخ، أو يغطي الشيخ بوصفه بغير ما اشتهر به، كذا حققه البقاعي، وبه يتضح قول المصنف. (واشتقاقه) أي أخذ المدلس (من الدلس - بالتحريك -) أي بتحريك الأولين، (وهو اختلاط الظلام أي (بالنور) كما يكون في أول(1/417)
الليل، (سمي بذلك) أي سمي المدلس بالمعنى الاصطلاحي ؛ (لاشتراكهما) أي المحذوف والنور (في الخفاء) وهذه التسمية من تتمه وجه التسمية الأولى، كما لا يخفى. (ويرد) أي وحقه أن يرد (المدلس) بفتح اللام، (بصيغة من صيغ الأداء) أي بلفظ من ألفاظ ما يؤدي به الإسناد، ك: أنبأنا، وحديثا، (تحتمل) أي الصيغة، (وقوع اللقاء) بكسر اللام ممدودا، وفي نسخة: بضم اللام، وفي آخره ياء مشددة، (بين المدلس) بكسر اللام، (ومن أسند) أي وبين من روي (عنه) قال التلميذ: الأولى أن يقال: يحتمل السماع، كما صرح به النووي وغيره. انتهى. وقال السخاوي: كنى شيخنا باللقاء عن السماع لتصريح غير واحد من الأئمة في تعريفه بالسماع. قيل: والأولى أن يقول: وقوع السماع، لأن أداء الحديث على وجه مشعر على بأنه سمعه ممن روى عنه، موجب لكون الراوي مدلسا. ويرشدك إليه قوله: أوهم سماعه. وأما أداؤه على وجه مشعر باللقاء، فلا يوجب، لأن اللقاء معتبر في المدلس، كما صرح به في الشرح، وأوهم به المتن. (ك: عن) أي فلان (وكذا قال) أي فلان لئلا يكون كذباً، ولفظ كذا من الشرح مستغنى عنه بالعطف. (ومتى) أي وإنما قلنا: حقه أن يرد المدلس.. الخ لأنه متى (وقع) أي (1/418)
الحديث، (بصيغة صريحة لا يجوز فيها) أي في السماع، وهي لفظة: أخبرني أو حدثني، أو سمعته، والحال أنه ثبت عدم السماع، (كان) أي الراوي، (كاذبا) وليس بمدلس أصلا، وفي نسخة: كان كذبا، أي الحديث يكون حينئذ لا تدليسا. وحاصله: أنه متى وقع الحديث المدلس بلفظ صريح، فهو كذب أما إذا وقع من المدلس، أي ممن وقع منه التدليس في بعض الصور حديث بلفظ صريح، فإنه مقبول إذا كان المدلس عدلاً كما يجيء فيه حديثه، وهذا معنى قوله: (وحكم من ثبت عنه التدليس) أي إيراد الإسناد بصيغةٍ تحتمل السماع (إذا كان عدلاً) والحكم مبتدأ خبره (أن لا يُقْبَل): أي الحديث، (منه) أي من المدلس، أو من أجل تدليسه، (إلا إذا صرح فيه بالتحديث) أي بين السماع فيه، بحيث زال احتمال الانقطاع، وأتى بلفظ مبين للاتصال، وصرح فيه ك: سمعت، وحدثنا وأخبرنا، فهو مقبول محتج به (على الأصح) لأن التدليس ليس كذباً، وإنما هو تحسين لظاهر الإسناد / 68 - أ وضَرب من الإبهام بلفظ محتمل، فإذا صرح بوصله، وزال الإبهام قُبِلَ، وقيد بقوله: عدلاً لأنه إذا لم يكن عدلاً، فلا يقبل منه أصلاً. (1/419)
وقال فريق من المحدثين والفقهاء: مَن عُرِف بارتكاب / التدليس ولو مرة صار مجروحاً مردوداً في الرواية، وإنْ بين السماع وأتى بصيغة صريحة في هذا الحديث، أو في غيره من أحاديثه. قال الشيخ شمس الدين محمد الجَزرِي: التدليس قسمان: تدليس الإسناد، وتدليس الشيوخ أمّا تدليس الإسناد فهو أن يروي عمن لقيه أو عاصره ما لم يسمع منه، مُوهِماً أنه سمعه منه، ولا يقول: أخبرنا وما في معناه، بل يقول: قال فلان، أو عن فلان وإنّ فلاناً قال، وما أشبه ذلك. ثم قد يكون بينهما واحدٌ أو قد يكون أكثر، وربما لم يُسقط المدلس شيخه، لكن يُسقط من بعده رجلاً ضعيفاً أو صغير السن، يُحَسِّنُ الحديث بذلك. وكان الأعمش، والثوري، وابن عُيينة، وابن إسحاق وغيرهم يفعلون هذا النوع. ومن ذلك ما حكى ابن خشرم: كنا يوماً عند سفيان بن عُيينة فقال: عن الزُّهري فقيل له: حدثك الزهري؟ فسكت، ثم قال: قال الزهري. فقيل له أسمعته من الزهري؟ فقال: لم أسمعه من الزهري، ولا ممن سمعه من الزهري حدثني عبد الرزاق عن معْمَر، عن الزهري. وهذا القسم من التدليس مكروه جداً، وفاعله مذموم عند أكثر العلماء. ومَن عُرِف به فهو (1/420)
مجروح عند جماعة لا تقبل روايته بين السماع أو لم يبنيه. والصحيح التفصيل فيما بين فيه الاتصال، ك: سمعت، وحدثنا، ونحو ذلك مقبول، ففي الصحيحين وغيرهما منه كثير. قال النووي: ذلك لأن هذا التدليس ليس كذباً، بل لم يبين فيه الاتصال، فلفظه محتمل، وحكمه حكم المرسَل وأنواعه. وأجرى الشافعي هذا الحكم فيمن دلس مرة. وأما تدليس الشيوخ: وهو أن يسمي شيخاً سمع منه بغير اسمه المعروف، أو ينسبه، أو يصفه بما لا يشتهر كيلا يعرف. وهذا أخف من الأول، ويختلف الحال في كراهته بحسب اختلاف القصد الحامل عليه، وهو إما لكونه ضعيفاً، أو صغيراً، أو متأخر الوفاة، أو لكونه مكثراً عنه، أو شاركه في السماع عنه جماعة دونه. وتَسَمَّح به جماعة من المصنفين، كالخطيب، وقد أكثر منه. ومنه قول ابن مُجَاهد المُقْرِئ: حدثنا عبد الله بن أبي عبد الله، يريد أبا بكر عبد الله بن أبي داود السجستاني. وقوله: حدثنا محمد بن سَند، يعني أبا بكر محمد بن الحسن النقاش، نسبة إلى جد له. قلت: هو محمد بن حسن بن زياد بن / 68 - ب / هارون بن جعفر بن سَنَد. انتهى. وقيل: المُدلَّس ثلاثة أقسام: أحدها: ما ذكره المصنف: وهو أن يُسقط اسم شيخه الذي سمع منه،(1/421)
ويرتقي إلى شيخ شيخه، أو مَن فوقه، فيسند ذلك بلفظ لا يقتضي الاتصال، بل بلفظ موهمِ له، ك: عن فلان أو قال فلان. وإنما يكون تدليساً إذا كان المدلس لَقِيه ولم يسمع منه، أو سمعه ولم يسمع منه ذلك الحديث. مثال ذلك: ما روي عن علي بن خَشْرم قال: كنا يوماً عند ابن عُيينة... الخ، وثانيها: أن يصف المدلس شيخه بوصف لا يُعرف به، من اسم، أو كنية، أو نسبة إلى قبيلة، أو صفة، أو بلدٍ، أو نحو ذلك، كي يُوعر الطريق / إلى السماع له، كقول ابن مجاهد - أحد القُراء -: حدثنا عبد الله بن أبي عبد الله، يريد به عبد الله بن أبي داود السِّجِسْتاني صاحب " السنن " وثالثها: تدليس التسوية: وصورته أن يروي حديثاً عن شيخ ثقة، وذلك الثقة يرويه عن ضعيف عن ثقة فيأتي المدلس الذي سمع الحديث من الثقة الأول، فيسقط الضعيف الذي في السند، ويجعل الحديث عن شيخه الثقة عن الثقة الثاني، فيسوي الإسناد كله ثقات. فهذا أشر أقسام التدليس، لأن الثقة الأول قد لا يكون معروفاً بالتدليس، ويجده الواقف على السند كذلك بعد التسوية قد رواه عن ثقة آخر، فيحكم له بالصحة، وهذا غرور شديد. وأما القسم الأول: فمكروه جداً ذمه أكثر العلماء، وكان شُعبة أشدهم ذماً(1/422)
فروى الشافعي، عن شعبة قال: التدليس أخو الكذب. وقال لأن أزني أحب إليّ مِن أن أدلس، قال: وهذا من شعبة محمول على الزجر والتنفير. والقسم الثاني أمره أخف وفيه تضييع للمروي عنه والمروي، وتوعير لطريق معرفته على من يطلب الوقوف على حاله.
(المُرسْلُ الخَفِي)
(وكذا) أي مثل المدلس في الرد (المرسل الخفي) قيل: الظاهر أنه عطف على قوله: المدلس. وأدخل كذا لطول العهد، أي الثاني هو المدلس، والمرسل الخفي، أي منقسم إليهما. ثم اعلم أنه ليس المراد بالإرسال هنا ما سقط من سنده الصحابي، كما هو المشهور في حد المرسل، وإنما المراد هنا مطلق الانقطاع. ثم الإرسال بهذا المعنى على نوعين: ظاهر، وخفي فالظاهر: هو أن يروي الرجل عمن لم يعاصره، أي لم تثبت معاصرته أصلاً بحيث لا يشتبه إرساله باتصاله على أهل الحديث، كأن يرويَ مالك مثلاً عن سعيد بن المسيب.(1/423)
الخفي: هو أن يروي عمن سمع منه ما لم يسمع منه، أو عمن لقيه ولم يسمع منه، أو عمن عاصره ولم يلقه، فهذا قد يخفى على كثير من أهل الحديث لكونهما قد جمعهما عصر واحد، وهذا أشبه بروايات المُدلِّسين، وكذا حققه / 69 - أ / العراقي. (إذا صدر من معاصر لم يلق) قيد اتفاقي لا احترازي، وكان الأنسب أن يقول: وهو الصادرِ مِن معاصر. ولذا قال تلميذه: هذا الشرط يوهم أنّ له مفهوماً، وليس كذلك ؛ إذ ليس لنا مرسل خفي إلا ما صدر عن معاصر لم يلق. انتهى. وفيه أن الحصر غير صحيح لما تقدم من الصور، ومن جملتها معاصر لم يلق (من حدث عنه) كان الظاهر أن يقول: لم يُعرف لقاؤه، كما صرح به فيما سيأتي. (بل بينه) أي المعاصر، (وبينه) أي المُحدثِ عنه، (واسطة). ظاهر كلامه أن " بل " للإضراب، تأكيداً على وجه الانتقال، ويمكن أن يكون بل للإبطال، عدولاً عن الحصر المفهوم من الأول. وإفادة للعموم المستفاد من الثاني، فإنه يشعر أنه نفى الواسطة مع تحققها. وهذا أعم من أن يكون معاصراً له، أو لم يكن، فيشمل جميع الصور السابقة. (والفرق بين المدلس والمرسل الخفي دقيق) أي وبالبيان حقيق (يحصل) (1/424)
وفي نسخة: حصل (تحريره بما ذُكر هنا) أي بما ذكر / بعده من تقريره، كما يدل عليه قوله: (وهو أن التدليس يختص بمَن روى عمن عُرف لقاؤه إياه) أي والمرسل الخفي يختص بمن روى عمن عاصره، ولم يُعَرف أنه لقيه على ما ذكره السخاوي، وهو معنى قوله: (فأما إنْ عاصره ولم يُعرف أنه لقيه، فهو المرسَل الخفي). قيل: الأظهر في العبارة أن يقول: بما يذكر ؛ مقيداً ب: الآن أو غير مقيد. ويجوز أي حينئذ أن يراد به التقرير السابق في تقسيم السقْط إلى الواضح والخفي، حيث اعتبر في الأول عدم التلاقي، فعلم أن التلاقي معتبر في الباقي الذي هو المدلس بقرينة المقابلة، والمرسل الخفي من الأول، كما يدل عليه قوله: من معاصرٍ لم يلق فعُلِم من مجموع ما سبق الفرقُ بينهما. وهذا إنما يتأتى إذا لم يجعل المرسَل الخفي قسماً من الثاني. (ومن أدخل) كصاحب " الخلاصة " (في تعريف التدليس المعاصرة ولو بغير لُقي) كالنووي، والعراقي (لزِمه دخول المرسَل الخفي في تعريفه) أي (1/425)
تعريف التدليس. (والصواب: التفرقة بينهما) وفيه أنه لا منع من أن يكون بينهما عموماً خصوصاً. (ويدل على أن اعتبار اللُقِيّ في التدليس دون المعاصرة وحدها لا بد منه) خبر أن مقدم على قوله: دون المعاصرة، وفاعل يدل قوله: (إطباق أهل العلم بالحديث) متعلق بالعلم، أي اتفاقهم (على أن رواية المُخَضْرمِين) جمع المُخَضْرَم بالخاء والضاد المعجمتين، وفتح الراء. يقال: خُضْرِم عما أدركه: قُطِعَ، وهو الذي أدرك الجاهلية وزَمنَ النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولم يره. وسيأتي الخلاف في أنهم هل هم معدودون / 69 - ب / من الصحابة، أم من كبار التابعين؟ كما هو الصحيح، وعَدهُم مسلم عشرين نفساً (كأبي عثمان النَّهْديَ) بفتح نون، وسكون هاء (وقيس بن أبي حَازِم عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ومن قبيل الإرسال) أي الخفي (لا من قبيل التدليس، ولو كان مجرد المعاصرة يُكْتَفى به في التدليس، لكان هؤلاء مدلسين، لأنهم عاصروا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قطعاً، ولكن لم يعرف هل لَقَوْهُ أم لا). (1/426)
والظاهر أن المُخَضْرَم مَن عُرف عدم لُقِيّه، لا مَن لم يعرف أنه لقيه، وبينهما فرق كما لا يخفى، فيكون حديثهم من المرسل الجلي قريب من مراسيل الصحابة رضي الله تعالى عنهم. (وممن قال باشتراط اللقي في التدليس: الإمام الشافعي، وأبو بكر البزار) بتشديد الزاي، في آخره راء. (وكلام الحديث في " الكفاية " يقتضيه، وهو المعتمد، ويعرف عدم المُلاَقَاة بإخباره) أي المدلس (عن نفسه بذلك) كما أخبر ابن عُيَيْنَة على ما روى عنه علي بن خَشْرَم وقد تقدم. (أو بجزم إمام مِطَّلع) أي بذلك وهو عدم الملاقاة، وإنما يعلم ذلك بالتاريخ كحديث العَوَّام - بفتح مهملة وتشديد واو - ابن حَوْشَب، عن عبد الله بن أبي أوفى: " كان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إذا قال بلال: قد قامِت الصلاة نهض وكبّر ". وقال الإمام أحمد: العَوَّام لم يُدْرِك ابن أبي أوفى. (ولا يكفي) أي في عدم الملاقاة، (أن يقع في بعض / الطرق زيادة راوٍ) أو أكثر، كما قال بعضهم، (بينهما لاحتمال أن يكون) أي هذه الزيادة أو هذا الزائد، (من المزيد) وهو أن يزيد الراوي في إسناد واحدٍ رجلاً، أو أكثر وَهْماً منه وغلطاً (1/427)
وحاصله: أنه لا يكفي للحكم بالتدليس وقوع زيادة راوٍ بينَ مَن روى بصيغة تحتمل السماع، وبين المروي عنه في بعض الطرق، فلا يُحكم بمجرد هذه الزيادة بالتدليس لاحتمال أن يكون هذا الزائد من المزيد في متصل الأسانيد. وسيجيء تفسيره في المخالفة. (ولا يُحكم) بصيغة المجهول، (في هذه الصورة) أي التي وقعت في بعض طرقها زيادةُ راوٍ (بحكم كليّ) أي قطعي في أحد الجانبين، (لتعارض احتمال الاتصال والانقطاع) وعدم مرجح لأحدهما. (وقد صنف فيه الخطي أي في بيان ما ذكر من المُدلَّس، والمُرْسَل الخفي، والمزيد، والفرق بينهما، فصنف في خفي الإرسال كتاباً سماه: (كتاب " التفصيل) بمعنى التبيين، (لمبهم المراسيل "). (وكتاب " المزيد) أي وصنف في مزيد الإسناد كتاباً سماه: تمييز المزيد في (في مُتَّصِل الأسانيد ") أي واستوعب فيهما مسائل الصورتين. (وانتهت هنا أحكام الساقط) وفي / 70 - أ / نسخة: حكم الساقط (مِن الإسناد) أي وعُرِف حكم المحذوف. قيل: الأنسب تقديم الحكم على الأقسام، إذ الأقسام للساقط، والأحكام للأقسام، بأن يقول: وانتهى هنا أحكام أقسام الساقط، بل حق العبارة أن يقال: وانتهت هنا أقسام المردود، والقسط وأحكامه. (1/428)
(الطعن وأسبابه)
(ثم الطعن) أي في رجال الإسناد، (يكون بعشرة أشياء) كما سيجيء مجملاً ومفصلاً (بعضها يكون أشد في القدح) أي في الطعن والجرح (من بعضٍ: خمسةٌ منها) أي من العشرة، (تتعلق بالعدالة) وهي الكذب، والتهمة، والفسق والجهالة، والبدعة. (وخمسة تتعلق بالضبط،) وهي الخمسة الباقية. (ولم يحصل الاعتناء) أي الاهتمام (بتمييز أحد القسمين من الآخر) أي بأن يبين جميع ما يتعلق بالعدالة على حدة، ثم يبين جميع ما يتعلق بالضبط، بل بيّنها مختلطة، (لمصلحة اقتضت ذلك) أي عدم الحصول المذكور. (وهي) أي المصلحة، (ترتيبها) أي العشرة (على الأشد فالأشد في موجَب الرد) بفتح الجيم في إيجاب الرد، (على سبيل التدلي) أي التنزل من الأعلى في الشدة إلى الأدنى فيها، عكس طريق الترقي من الأدنى إلى الأعلى، كما فعل في تسميتهما لفاً ونشراً مرتباً. قيل: وهذا لا يخلو من استدراك لانفهامه من الأشد فالأشد. وفيه أن العبارة محتملة لأن يكون للترقي وللتدلي، بل الأول هو المتبادر إلى الذهن. يكون للترقّي وللتدلي، بل الأول هو المتبادر إلى الذهن. (1/429)
وحاصله: أنه أراد تقرب أحدها إلى الآخر في الأشدية فإن بعض أقسام أحد القسمين يترتب في الأشدية على بعض أقسام الآخر دون أقسام الآخر قيل: الأوضح في العبارة: مكانها بحسب الشدة والضعف، إذ لا أشدية للأخير ويُدفع بأن هذه عبارة / مشهورة بين البلغاء، وقد ورد في الحديث الشريف أيضاً: " أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثلُ، فالأمثل ". رواه البخاري وغيره. ويوجَّه بأنه لو كان هناك سبب آخر للطعن كان الأخير أشد منه، وإنما انحصر الطعن في العشرة. (لأن الطعن إما أن يكون لكَذِب الراوي) بفتح الكاف، وكسر الذال، أفصح من كسر أوله، وسكون ثانيه. ويرد على المتن أن الكذب فرد من أنواع الفسق، ولهذا فيده في الشرح بقوله: (في الحديث النبوي، بأن يروي عنه صلى الله عليه وسلم ما لم يَقُلْهُ متعمداً لذلك) أي بخلاف ما رَوَى ساهياً، فالمراد بالكذب في المتن الكذب على سبيل العمد. فلو قال بدله: الافتراء وهو الكذب عن عمدٍ لكان أولى. ثم لما كان هذا الكذب الخاص / 70 - ب / أشد أنواع الفسق، وأقبح أسباب الطعن، حتى قيل بكفر المفتري عليه صلى الله تعالى عليه وسلم، أفرده وجعله كأنه جنس آخر، وقدمه على الكل. وأما قول محشٍ: وإنما قدّم الأول لكون (1/430)
الطعن به أشد في هذا الفن، وإن كان الفسق بالفعل أشد من الكل، فمردود بما ذكرنا. (أو تهمته) أي الراوي، (بذلك) أي الكذب المذكور، (بأن لا يروي ذلك الحديث) أي المطعون. والأظهر أن يقول: بأن لا يروي الحديث (إلا من جهته) أي الراوي المُتَّهَم، (ويكون) أي ذلك الحديث، (مخالفاً للقواعد،) أي قواعد الدين (المعلومة) أي من الشريعة بالضرورة. والعطف للتفسير والبيان، وسيجيء ما يشعر بأن هذا من الأول، حيث عدّ كونه مناقضاً لنص القرآن من قرائن كونه موضوعاً. (وكذا مَن عُرف بالكذب في كلامه، وإن لم يظهر منه وقوع ذلك في الحديث النبوي) قلت: هذا داخل في الفسق القولي، وجَعْلُه داخلاً في التُهمة غير مستبعد، (وهذا دون الأول). قال تلميذه: قوله: وهذا دون الأول مستغنى عنه. انتهى وكأنه فهم أن هذا إشارة إلى التهمة، والمراد بالأول الحقيقي. والصواب جعله إشارة إلى قوله: وكذا مَن عرف... الخ. وجعل الأول إضافياً، وهو ما أشار إليه بقوله: أو تهمته بذلك، ثم وَجْهُ تقديم الثاني على ما بعده من الفسق وغيره، أَنَّ كون كلٍ من العشرة مُوجِبة للرد، وإنما هو من جهة إيجابها بحسب ظن الكذب في الرواية، وهذا هو وجه تقديم النوعين اللذين يليانه على الفسق. (1/431)
(أو فُحْش غلطه أي كثرته) بأن يكون خطؤه أكثر من صوابه، أو يتساويان إذ لا يخلو الإنسان من الغلط والنسيان. (أو غفلته) أي ذُهُوله (عن الإتقان) أي الحفظ والإيقان. والظاهر: أنه عطف على غلطه، لا على الفحش. والمعنى: أو فُحش غفلته، أي كثرة غفلته، لأن الظاهر أن مجرد الغفلة ليس سبباً للطعن لقلة من يعافيه الله منها. ويدل عليه قوله فيما بعد: أو كَثُرَت غفلته. (أو فسقه) قيل المراد به ظهوره، لأن جعله موجباً للطعن إنما هو بعد العلم به وظهوره، كما سيصرح به. وفيه أنه لا تخصيص له بذلك، بل الجميع كذلك (أي بالفعل أو القول) والمراد بالفعل أعم من عمل الظاهر والباطن (مما لم يبلغ الكفر) أي من / فعله أو قوله. وأما الكفر، فهو خارج عن المبحث، لأن الكلام في الراوي المسلم، وبه يظهر فساد قول شارح: فإن ما يبلغ الكفر داخل في الفسق بالمُعْتَقَد، وهي البدعة. انتهى. مع ما فيه أن كل ما يبلغ الكفر لا يسمى بدعة، بل من البدع ما يبلغ الكفر، فتأمل / 71 - أ / حق التأمل. (وبَيْنَه) أي الفسق، (وبين الأول) أي كذب الراوي، (عموم) أي وخصوص مطلقاً، فالأول أخص، والثاني أعم، لأن الفسق يصدق على كل ما صدق عليه الكذب، دون العكس، وأما بينه وبين الثاني، فعموم من وجه. (وإنما أفرد الأول) مع كونه داخلاً في العام، (لكون القدح به أشد في هذا الفن) وقدَّمنا ما يزيد به التحقيق.(1/432)
(وأما الفسق بالمعتقد) أي بالاعتقاد، أو بسبب معتقد السوء، (فسيأتي بيانه) أنه نوع خاص يسمى بالبدعة. (أو وهمه: بأن يروي على سبيل التوهم) أي بناء على الطرف المرجوح من الشك. (أو مخالفته أي للثقات) أو لمن هو أوثق منه، وفي تأخيرهما عن الفسق نظر ظاهر، فإنهما أكثر مناسبة للكذب من الفسق بالفعل. (أو جَهالته) بفتح الجيم، (بأن لا يُعرَف فيه تعديل ولا تجريح معَّين)، إشارة إلى أنه لو جُرِحَ فيه جَرْحٌ مُجَرَّد، لا يكون في هذه المرتبة، إذ التجريح لا يُقبل ما لم يبين وجهه، بخلاف التعديل، فإنه يكفي فيه أن يقول: عدل أو ثقة مثلاً. (أو بدعته). اعلم أن البدعة أضعف من مقدمة ومؤخرة، لأن اعتقاد خلاف المعروف إنما هو بناء على دليل لاح عليه، فلا يؤثر مثل ما سِوَاهُ في عدم الاعتماد ؛ ولذا قد يوجد في الصحيح ما يكون رافضياً، أو خارجياً، أو معتزلياً. وغيرهم في رجال الإسناد. (وهي اعتقاد ما أُحدث) أي جُدِّد واختُرع (على خلاف المعروف) متعلق ب: أُحْدِث، (عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم) متعلق بالمعروف، وكذا عن أصحابه رضي الله تعالى عنهم لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: " مَن أحدث(1/433)
في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ " (لا بمعاندة) فإن ما يكون بمعاندة كفر، (بل بنوع شبهة) أي دليل باطل سُمِّي بها، لأنه يشبه الثابت وليس بثابت، لأن أدلة المبتدعة كلها مدخول فيها، وإن كان الكل يستدلون بالقرآن، لكنْ كما قال تعالى:: {{يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا}}. (أو سوء حفظه وهي:) أنّثَ باعتبار الخبر، وهو قوله: (عبارة عن أن لا يكون) بصيغة النفي هو الصواب خلافاً لما في بعض النسخ، وسيأتي تفصيله في التفصيل. (غلطه أقل من إصابته) سواء كان مساوياً، أو أكثر، وأما إذا كان غلطه أقل من الإصابة، أو قليلاً بالنسبة إليها، فهو مقبول. ويَرِدُ على المصنف أنه لا يظهر الفرق بين الغفلة والوهم، وكذا بين فحش الغلط، وسوء الحفظ. وإن حمل فحش الغلط على كثرته في نفس الأمر، وسوء الحفظ على أن لا يكون الغلط أقل من الإصابة / 71 - ب /، بقرينة المقابلة، لم يكن لتأخر سوء الحفظ - أي ما يكون الغلط مساوياً للإصابة، أو أكثر منها عن(1/434)
فحش الغلط - وَجْهٌ أصلاً.
(الموضوع)
(فالقسم الأول وهو / الطعن بكذب الراوي في الحديث النبوي هو الموضوع) وفيه مسامحة، لأن الموضوع هو الحديث الذي فيه الطعن بكذب الراوي، لا نفس الطعن به، وأما ما قيل: من أن المراد بالطعن المطعون، فخلاف ظاهر المَقْسَم كما تقدم. ثم يقال له أيضاً: المُخْتَلَق بقاف بعد لام مفتوحة، المصنوع، لأن واضعه اختلقه، أي افتراه، وصنعه، أي من عنده. (والحكم عليه) أي على الحديث، (بالوضع) أي بكونه موضوعاً، أو بوضع الواضع إياه، (إنما هو) أي الحكم عليه (بطريق الظن الغالب) صفة كاشفة للتأكيد، إذ قد يطلق الظن بمعنى العلم، كقوله تعالى: (الذين يَظُنُّون أَنَّهم مُلاقُوا رَبِّهِم)، (لا بالقطع) وهو تصريح بما علم ضمناً، مبالغة في التأكيد. (إذ قد يصدق الكذوب) كما أن الصدوق قد يكذب. ومنه قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: " كفى بالمرء كذِباً أن يُحدِّث بكلٍ ما سمع " رواه مسلم. (1/435)
(لكن لأهل العلم بالحديث مَلَكَة) أي مهارة علمية وحَذاقة (قوية يميزون بها ذلك) أي الموضوع من غيره، والكَذب من الصدق. (وإنما يقوم بذلك) أي الحكم على الحديث بأنه موضوع، (منهم) أي من المحدثين، بيان مقدم على قوله: (مَن يكون اطلاعه تاماً) أي كاملاً في معرفة الأسانيد، ومعرفة رجال الحديث، (وذهنه ثاقباً) أي مضيئاً بتنوير قلبه، وشرح صدره، (وفهمه قوياً) أي مستقيماً، (ومعرفته بالقرائن الدالة على ذلك) أي كون الحديث موضوعاً، (متمكنة) أي ثابتة راسخة. قال الدَّارقُطْنِيُّ: يا أهل بغداد لا تظنوا أن أحداً يقدر أن يكذب على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأنا حيّ، ذكره السخاوي. وقال الربيع بن خُثَيْم: إن للحديث ضوءً كضوء النهار تعرفه، وظلمة كظلمة الليل تنكره. وقال ابن الجَوْزِي: إن الحديث المنكر يَقْشَعِرُّ له جلد طالب العلم، وينكسر منه قلبه في الغالب(1/436)
(طرق معرفة الوضْع)
(وقد يعرف الوضع: بإقرار واضعه) أي واضع الحديث المتفرد به كقول عمر بن صبيح: أنا وضعت خطبة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، أي التي نسبها إليه. وكالحديث الطويل عن أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه في فضائل سور القرآن، اعترف راويه / 72 - أ / بالوضع، وأُنكِر على الثعلبي، البيضاوي، وغيرهما من المفسرين الذين ذكروه في تفاسيرهم، من غير بيان وضعه. قال شارح: ويُنزَّل منزلة الإقرار أن يُعَيِّن المنفردُ به تاريخَ مولده، بما لا يمكن معه الأخذ عن شيخه. انتهى. وفيه أنه مع احتمال التدليس كيف يحكم عليه بالوضع؟ (قال ابن دقيق العيد: لكن) أي مع هذا، (لا يقطع بذلك) أي بالوضع، لأنه ليس بقاطع في كونه موضوعاً. قيل: لا يحصل القطع من القرائن الأُخر أيضاً، فما الوجه في تخصيص الاستدراك به؟ أجيب بأنه قد يُتوهم حصول القطع به لكونه أقرب من سائر القرائن. (لاحتمال أن يكون كَذَب في ذلك الإقرار. انتهى) يعني ولاحتمال أن يكون صادقاً فيه، ولو رُجِّح الثاني، / لأنه يبعد عادة أن يَنْسِب إلى نفسه مثل هذا الأمر الشنيع من غير باعث ديني، أو دنيوي. (1/437)
والغالب أن الداعي إليه إنما هو التوبة، وحينئذ يبعد أن يكون كذباً، لكن لاحتمال جرأته على الله تعالى، وقلة حيائه من الخلق، أو قَصْدِ فساده في الرواية، وعدم العمل بها لا يقطع بالوضع إلا إذا دل دليلٌ على صدقه، على ما ذكره في " المنهل "، فإنه إذا تواردت الأدلة على شيء يُقْطَع به. (وفهم منه) أي من كلامه هذا، (بعضهم) أي كابن الجزري على ما ذكره السخاوي، أنه أي مراده (أنه لا يُعْمَل بذلك الإقرار أصلاً) أي لا قطعاً ولا ظناً، لاحتمال كونه كاذباً. ورَدّ عليه المصنف وقال: (وليس ذلك) أي عدم العمل به، (مراده) أي مقصود ابن دقيق العيد. (وإنما نفى القطع) أي الجزم واليقين في كونه موضوعاً، (بذلك) أي بذلك الإقرار ؛ لما فيه من الاحتمال، ولا يلزم من نفي القطع نفي الحكم، أي نفي الإقرار نَفْسِهِ الذي هو الحكم بالوضع، كذا قال شارح. والصواب: أنه لا يلزم من نفي القطع بقوله نفي الحكم مطلقاً، أي لا قطعاً ولا ظناً. (لأن الحكم) أي الشرعيّ (يقع) أي غالباً (بالظن الغالب وهو) أي إقراره (ههنا) أي في هذا المحل (كذلك) أي مما يُحْكَم عليه بالظن. فإنا (1/438)
نحكم بالظاهر، والله أعلم بالسرائر. (ولولا ذلك) أي جواز الحكم بالظن، (لما ساغ) أي لما جاز (قتل المُقِرّ بالقتل ولا) زائدة للتأكيد، أي وَلَمَا جاز (رجم المعترف بالزنا، لاحتمال أن يكونا كاذبينِ فيما اعترفا به). قال الحنفي: وفيه خفاء، لأن غاية ما في الباب أنه وقع منه خبران متناقضان، فكيف يغلب الظن بكذب الأول؟ انتهى. ويُردُّ قوله بما أشرنا إليه سابقاً، من أن أحداً من المسلمين إذا أسند إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حديثاً، ثم اعترف أنه كذب، فلا شك أنه يغلب على الظن صدقه في الثاني، وكذبه في الأول، إذ لا يجترئ مؤمن على نسبة مثل هذا القبيح الشنيع - الذي اتفق العلماء / 72 - ب / على أنه كبيرة، بل قال بعضهم: إنه كفر - إلى نفسه، على أن الأصل في خبر المؤمن الصدق بمقتضى حسن الظن به، ولذا يُقْبَلُ خبر واحد في الديانات، وإن كان الخبر من حيث هو يحتمل الصدق والكذب بالتجويز العقلي، ولذا لا يُقْطَعُ به ولا يُحْزَمُ بمضمونه، إلا إذا أحال العقل كذبه عادة، فصح قياس الشيخ اعترافه بإقرار القاتل، واعتراف الزاني على ما ورد بهما الشرع، مع أن الحكم عام، سواء أنكر أو لا، فمع ظهور الأمر غاية الظهور والجلاء لا معنى لقوله: فيه خفاء. (ومن القرائن التي يُدْرَك بها الوضْع) أي وضعه، أو يعرف بها الموضوع (ما (1/439)
يؤخذ من حال الراوي) كالتقرب للخلفاء، والأمراء بوضع ما يوافق فعلهم ورأيهم، وغير ذلك. (كما وقع للمأمون بن أحمد أنه ذُكِرَ بحضرته الخلاف في كون الحسن) أي البصري، (سمع من أبي هريرة أوْ لا / فساق) أي مأمون، (في الحال إسناداً إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال:) قال محشِ: إنه بدلٌ من " إسناداً ". وقال شارح: التقدير قائلاً فيه أنه قال. وقيل: إسناداً ثابتاً على أنه قال. والظاهر أن التقدير إسناداً متصلاً إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، مذكوراً فيه أنه - أي الراوي - قال: (" سمع الحسن من أبي هريرة رضي الله عنهما ") أي إلى آخر ما ذكره، رواه البيهقي في " المدخل "، ونحوه: أن عبد العزيز بن الحارث التميمي سئل عن فتح مكة، فقال عَنْوَة، فطولب بالحجة فقال: حدثنا ابن الصواف: حدثنا عبد الله بن أحمد: حدثنا أبي: حدثنا عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن الزُّهري، عن أنس: (1/440)
أن الصحابة اختلفوا في فتح مكة، أكان صلحاً أو عَنْوَةً، فسألوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: " كان عَنْوة ". هذا، مع أنه اعترف أنه صنعه في الحال ليندفع به الخصم. (وكما وقع لِغيَاث بن إبراهيم) أي النَخَعي، (حيث دخل على المَهْديّ) بفتح ميم، وسكون هاء، وتشديد ياء، وهو محمد بن المنصور عبد الله العباسي، والد هارون الرشيد، وهو الباني للمسجد الحرام سابقاً بناءً مسقفاً، خلاف ما بناه بنو عثمان مقبباً لاحقاً. (فوجده) أي فصادف غياثُ المهدي حال كونه (يلعب بالحمام) جنس واحدته حمامة، (فساق في الحال) أي لِطَمعِ المال، (إسناداً إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: " لا سَبْق) بفتح فسكون، مصدر سبقت أسبِق، وبفتح الباء ما يجعل من المال رهناً على المسابقة. والمعنى: لا يحل أخذ المال بالمسابقة إلا في هذه الثلاثة. وقال الخطابي: الرواية الصحيحة بفتح الباء، كذا في " النهاية ". (إلا في نَصلٍ) وهو حديدة السهم، (أو خُفِّ) وهو للإبل، (أو حافرٍ) وهو للخيل، (أو جناح ") بفتح الجيم أي ريش وهو للطائر، أي إلا في ذوات هذه الأشياء / 73 - أ / من السهام، والإبل، والخيل. (1/441)
(فزاد في الحديث) أي الثابت، على ما في " الجامع الصغير " بلفظ: " لا سَبَقَ إلا في خُف، أو حافر، أو نَصْل " رواه أحمد، وأصحاب السنن الأربعة عن أبي هريرة رضي الله عنه. (" أو جَناح ") أي هذا اللفظ. (فعرف المهديّ) أي من كمال عقله (أنه كَذَب) أي في الزيادة، (لأجله، فأمر بذبح الحَمَام). قال السخاوي: فأمر له بِبَدْرَة: يعني عشرة آلاف درهم، فلما قَفَى قال: أشهد على قفاك أنه قفا كذاب، ثم ترك الحمام، بل أمر بذبحها، وقال. أنا حملته على ذلك. انتهى. والأظهر ما روي أن المهديّ استحسنه أولاً، وأعطاه عشرة آلاف درهم، فلما أدبر أُلقيَ في قلب المهدي أنه كَذَب لأجله، فأمر بذبح الحمام، لكونه سبباً لوضع الحديث وكذب على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، لكن لم يتعرض له، ولم يأخذ ما أعطاه، فهذا الحديث مأخوذ باعتبار جزئه الأخير، بخلاف السابق، فإنه موضوع بتمامه. (1/442)
(ومنها) أي من القرائن، (ما يؤخذ من حال المروي، كأن يكون مناقضاً لنص القرآن) كالتجسيم، (والسنة المتواترة) بخلاف المشهورات وغيرها من الآحاد، (أو / الإجماع القطعي) كالإجماع الغير السكوتي، المنقول بطريق التواتر، بخلاف الإجماع السكوتي والمنقول بطريق الآحاد. قيل: تقييد الإجماع بالقطعي يدل على أن الإجماع الظني - مثل الذي يثبت بخبر الواحد - لا يجعل الخبر المناقض له موضوعاً. (أو صريح العقل) لم يذكر القياس صريحاً، فأما أن يدرج في صريحٍ العقل، أو يجعل ما لا يدل مناقضة الحديث إياه على كونه موضوعاً، كالإجماع الظني، وما عدا المتواتر من السنن. (حيث لا يَقبل شيء من ذلك) أي مما ذكر من النصين، والإجماع، والعقل، (والتأويل) وكذا إن لم يحتمل سقوط شيء منه على بعض رواته يزول به ذلك. وإليه أشار ابن السبكي في " جمع الجوامع " فقال: وكل خبر أوْهَمَ باطلاً (1/443)
ولم يَقْبَل التأويل، فمكذوب، أو نقص منه ما يزيل به الوهم. قال شارحه: وقد يُمَثَّلُ له برواية: " لا يبقى على ظهر الأرض بعد مئة سنة نَفْسٌ مَنْفُوسَةٌ " لعدم مطابقتها الواقع حيث سقط على راويها: " منكم " وكَرِكَّةٍ اللفظ، إن وقع التصريح بأنه لفظ النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، ولم يُروَ بالمعنى، وربما تجتمع ركّة اللفظ والمعنى، وذلك أبلغ، بل ركاكة المعنى كافية في الدلالة على الوضع وفساد معناه، وكالمجازفة في الوعد والوعيد، ومخالفته الشرع. (ثم المروي تارة يخترعه الواضع) أي يكون المروي كلاماً لنفس الواضع، وهو أكثر، كما يذكره أهل التعاويذ في / 73 - ب / إسناد الدعاء. (وتارة يأخذه من كلام غيره، كبعض السلف الصالح) منها كلمات علي رضي الله تعالى عنه، ومنها موقوفات الحسن، حيث قيل في حقه: كلامه يشبه كلام الأنبياء، ونحو كلام مالك بن دينار، وفُضَيْل بن عياض، ومعارف الجُنيْد وغيرهم.(1/444)
(أو قدماء الحكماء) كالحارث بن كَلَدَة، وبقراط، وأفلاطون. (أو الإسرائيليات) أي أقاويل بني إسرائيل مما ذكر في التوراة، أو أخذ من علمائهم ومشايخهم. والظاهر أن يقدَّر المضاف في الأولين، أي كلام بعض السلف، أو كلام قدماء الحكماء. (أو يأخذ) كان حقه أن يقول: وتارة يأخذ (حديثاً ضعيف الإسناد، فيُركب له إسناداً صحيحاً ليروج) بتشديد الواو المكسورة أي الإسناد، أو المفتوحة أي الحديث، فهذا الحديث موضوع الإسناد لا المتن. وقد يذكر كلاماً ليس له أصل، كما يذكره أهل التعاويذ في إسناد دعاء القِدْح ونحوه، فيذكر له إسناداً جل رجاله من أعاظم المحدثين، منتهياً إليه صلى الله تعالى عليه وسلم، أو إلى أحد من أكابر أمته كالخَضِر، والحسن البصري، والإمام جعفر الصادق، وقد يذكر في آخره أنّ مَن شكَّ في هذا اكفر.
(أسباب الوضع)
(والحامل للواضع) أي السبب الباعث (على الوضع إما عدم الدِّين كالزنادقة)، تمثيل للواضع لا للحامل، أو المضاف محذوف، وكذا(1/445)
البواقي وهم المبطنون للكفر المظهرون للإسلام، أو الذين لا يتدينون بدين. يفعلون ذلك أي كوضع الزنادقة استخفافاً بالدين ليضلوا به الناس، فقد قال حمّاد بن زيد / فيما أخرجه العُقَيلي: إنهم وضعوا أربعة عشر ألف حديث. وقال المهدي: أقرّ عندي رجل من الزنادقة بوضع مئة حديث، وهي تجول في أيدي الناس. ذكره السخاوي. وقال ابن عَدِيّ: لَمَّا أُخِذَ عبد الكريم بن أبي العوجاء، - الذي أمر بضرب عنقه محمد بن سليمان بن عليّ - لُيضْرَبَ عنقه قال: لقد وضعت فيكم أربعة آلاف حديث، أُحَرِّم فيها وأُحَلِّل. ومنهم: الحارث الكذَّاب الذي ادعى النبوة، وأمثاله وضعوا جُمَلاً بل ألوفاً من الحديث استخفافاً بالدين، وتلبيساً على المسلمين. فبين نقاد الحديث أمرها في ذلك كله، ولم يَخْفَ عنهم من شأنها ما خفي على غيرهم بحيث لما قيل لابن المبارك: هذه الأحاديث الموضوعة ! قال: يعيش لها الجهابذة أي نقاد الحديث، وحذاقهم، قال الله تعالى: {{إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}} انتهى. وكأنه أراد أنه من جملة حفظ لفظ الذكر حفظُ معناه (1/446)
ومن جملة معانيه: الأحاديث النبوية الدالة على توضيح مبانيه، كما قال تعالى: : {{لتبين للناس ما نزل إليهم}} / 74 - أ / ففي الحقيقة تكفّل الله تعالى بحفظ الكتاب والسنة، بأن يقيم من عباده مَنْ يُجدِّدُ أمر دينهم في كل قرن، بل في كل زمان والمظانّ للموضوعات كثيرة: منها الكتب المؤلفة في الضعفاء، " كالكامل " لابن عَدِيّ، بل أُفرِدَت بالتأليف كتصنيف ابن الجوزي في " الموضوعات "، ولكن تعقبه العلماء في كثير من الأحاديث التي ذكرها في كتابه وقد جمع شيخ مشايخنا السيوطي، والسخاويّ، بعد الزَّرْكَشي وغيره الأحاديث المشتهرة على الألسنة، وبينوها بياناً شافياً، وأظهروا مخرجيها وحكموا ببطلان بعضها نقلاً وافياً. وقد اقتصرت في كراسة على أحاديث اتفقوا على وضعها وبطلان أصلها وسميته: " المصنوع في معرفة الموضوع " لا يستغني الطالب عنه. (أو غلبة الجهل، كبعض المتعبدين) أي المنتسبين إلى العبادة والزَّهَادة، وضعوا أحاديث في الفضائل والرغائب، كصلاة ليلة نصف شعبان، وليلة الرغائب ونحوهما. ويتدينون في ذلك في زعمهم وجهلهم، وهم أعظم الأصناف ضرراً على أنفسهم وغيرهم، لأنهم يَرونه قُربة، ويرجون عليه المثوبة، فلا يمكن تركهم لذلك، والناس يعتمدون عليهم، ويركنون إليهم، لِمَا نُسبوا إليه من الزهد والصلاح، ويقتدون بأفعالهم، ويعتنون بنقل أقوالهم، حتى قد يخفى على (1/447)
بعض علماء الأمة وأكابرِهم، ثقةً واعتماداً على ما نقلوه، فيقَعون فيما وقعوا فيه. ومثال ذلك: ما روي عن أبي عِصْمَة نوح بن أبي مريم المَرْوَزِي، قاضي مَرْو فيما رواه الحاكم بسنده إلى أبي عمار المروزي، أنه قيل لأبي عصمة: من أين لك عن عكرمة عن ابن عباس في فضائل القرآن سورة سورة، وليس عند أصحاب عِكرمة هذا؟ فقال: إني رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن، واشتغلوا بفقه أبي حنيفة، ومغازي محمد بن إسحاق، فوضعت هذا حُسبةً (أو فَرْط العصبية): أي إفراطها، وشدة التعصب / لمذهبهم. وقد روى ابن أبي حاتِم عن شيخ من الخوارج أنه كان يقول بعد ما تاب: انظروا عمن تأخذون دينكم، فإنا كنا إذا هوينا أمراً صيَّرناه حديثاً. زاد غيره في رواية: ونحتسب الخير في إضلالكم. ذكره السخاوي، وقال الجزري: وقوم وضعوها تعصباً وهوى، كمأمون ابن أحمد الهَروي في وضعه حديثاً: " يكون في أمتي رجلٍ " يقال له: محمد بن إدريس، يكون أضرَّ على أمتي من إبليس " ولقد رأيت رجلاً قام يوم جُمعة والناس مجتمعون قبل الصلاة، فابتدأ ليورده، فسقط من قامته مغشياً عليه. (كبعض / 74 - ب / المقلدين) كما ذكر الواحدي حديث أُبَيِّ بن كعب (1/448)
الطويل في فضائل السور، سورة فسورة تبعاً للثعلبي في تفسيره، وقلده غيره في ذكرها في تفاسيرهم، كالزَّمَخْشرِي، والبيضاويّ وكلهم أخطؤا، ولا ينافي ذلك ما ورد في فضائل كثير من السور، مما هو صحيح، أو حسن، أو ضعيف. وتكفل بإيراده العماد بن كثير في " تفسيره "، والجلال السيوطي في كتابه المسمى " بالدر المنثور في التفسير المأثور ". (أو اتباع هوى لبعض الرؤساء) كما ذكر مثاله في كلام الجزري، وكحديث " أبي حنيفة سراج أمتي "، وكزيادة: " الجِنَاح " فيما تقدم. (أو الإغراب) أي الإتيان بحديث غريب يرغب الناس فيه، (لقصد الاشتهار) أي ليشتهر عند العامة أنهم من العلماء الكبار، أو ليشتهر ذلك الحديث في أهل الديار. وذُكر في " خلاصةِ الطيبي ": أن مِن الواضعين قوماً من السُّؤَّال والشحاذين، يقفون في الأسواق والمساجد، فيضعون على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أحاديث بأسانيد صحيحة قد حفظوها، فيذكرون الموضوعات بتلك الأسانيد. قال جعفر بن محمد الطَيَالسي: صلى أحمد بن حنبل، ويحيى بن مَعِين في مسجد الرُّصَافة فقام بين أيديهما قاصُّ فقال: حدثنا أحمد بن حنبل ويحيى بن مَعِين (1/449)
قالا: حدثنا عبد الرزاق قال: حدثنا مَعْمَر، عن قَتَادة، عن أنسٍ رضي الله عنه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: مَن قال لا إله إلا الله يَخلق الله من كل كلمةٍ منها طائر، منقاره من ذهب، وريشه من مَرْجان، وأخذ في قصته من نحو عشرين ورقة، فجعل أحمد ينظر إلى يحيى، ويحيى ينظر إلى أحمد فقال: أنت حدثته بهذا ! فقال: والله ما سمعت به إلا هذه الساعة، قال فسكتا جميعاً حتى فرغ فقال: أي أشار يحيى بيده أنْ تعال، فجاءه متوهماً لنوال الخير فقال له يحيى: مَن حدثك بهذا؟ فقال: أحمد بن حنبل، ويحيى بن مَعين، فقال: أنا ابن معين، هذا أحمد بن حنبل، ما سمعنا بهذا قط في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كان ولا بد من الكذب فعلى غيرنا، فقال له: أنت ابن معين قال: نعم قال: لم أزل أسمع أن ابن معين أحمق، وما علمته إلا هذه الساعة، قال يحيى: وكيف علمت أني أحمق؟ قال: كأنه ليس في الدنيا يحيى بن معين، وأحمد بن حنبل غيركما، كتبت عن سبعةً عشر أحمد بن حنبل غير هذا، قال: / فوضع أحمد بن حنبل كفه على وجهه، وقال: دعه يقوم، فقام كالمستهزئ بهما. (وكل ذلك حرام بإجماع مَن يعتد به) أي يعتبر بقوله (إلا أنّ بعض الكرَّامية) بتشديد الراء على اللغة المشهورة، ذكره السخاوي. قيل وهم فرقة من المشبهة نسبت إلى عبد الله / 75 - أ / بن كرَّام، وهو الذي صرَّح بأن معبوده على العرش، وأطلق اسم الجوهر عليه تعالى، وهم يدَّعون زيادة الورع، والتقوى، والمعرفة (1/450)
التامة. (وبعض المتصوفة) أي منهم أو من غيرهم، (نُقِل عنهم إباحة الوضع في الترغيب) أي في الطاعة والعبادة، (والترهيب) أي التخويف عن المعصية والبَطَالة. وحاصله: أن بعضهم جوزوا وضع الأحاديث فيما يتعلق به حكم من الثواب والعقاب وترغيباً للناس في الحسنات، وزجراً لهم عن السيئات، واستدلوا بما في بعض الروايات: " مَن كذب عليّ متعمداً لُيضِلَّ به الناس، فليتبوأ مقعده من النار ". وأخذوا بمفهومه جواز الكذب عليه صلى الله تعالى عليه وسلم لقصد اهتداء الناس. وقالوا في الحديث المشهور بدون زيادة " ليضل به الناس " أنّ " عَلَيَّ للضرر، ونحن إنما نكذب له، وحمل بعضهم على أن المراد به مَنْ قال في حقه صلى الله تعالى عليه وسلم: ساحرٌ، أو مجنون، أو شاعر، وأمثال ذلك. (وهو خطأ من فاعله نشأ عن جهل) لِمّا ذكرنا من الحديث الدال على العموم. وأما ما ذكروه، فهو من التأويلات الفاسدة، بناء على غفلتهم عن القواعد الدينية. (لأن الترغيب والترهيب من جملة الأحكام الشرعية) وإن كان بينهما وبين (1/451)
سائر الأحكام الشرعية فرق من حيث إن الضعيف معتبر فيهما دون سائر الأحكام مع أنه يُقَدم على الرأي أيضاً عند فَقْدِ بقية الأدلة. (واتفقوا) أي علماء الإسلام من المحدثين وأرباب الكلام، (على أن تعمد الكذب على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من الكبائر) أي من أكبرها بعد الكفر بالله تعالى، وهذا دليل آخر على كون إباحة الوضع في الترغيب والترهيب خطأ، أو من تتمة الدليل الأول، بأن يكون الاتفاق على أنّ تعمدَ الكذب من الكبائر في الأحكام الشرعية. ففي " الجواهر " قال الذهبي: إنْ كان في الحلال والحرام يكفر إجماعاً، وإنْ كان في الترغيب والترهيب لا يكفر عند الجمهور. (وبالغ أبو محمد الجُوَيني) نسبة إلى جُوَين، كزُبَير، كُوْرَة بخُرَاسَان، (فكفَّر) بالتشديد أي نسب إلى الكفر (من تعمّد الكذب) أي مطلقاً، (على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم) وهو يحتمل أن يكون زجراً لهم، ويدل عليه قول المصنف: وبالغ، ويحتمل أن يكون اجتهاداً منه، وهو يحتمل الخطأ والمجاوزة عن الحد في المبالغة، لا سيما مع مخالفة الإجماع. ولذا قال ولده إمام الحرمين: هذا زلة من الشيخ. (1/452)
(واتفقوا على تحريم رواية الموضوع) أي إذا عُلِم أنه موضوع، (إلا مقروناً ببيانه) أي إلا نقلاً متصلاً ببيان كونه موضوعاً. (لقوله صلى / الله تعالى عليه وسلم: من حدَّث عنّي بحديث) يستوي فيه الترغيب والترهيب وغيرهما، (يُرَى) بفتح الياء، أي يعتقد، أو بضمها وهو أبلغ أي يظن (أنه كَذِب) بفتح أو كسر، يعني ولم يبين أنه كذب، (فهو أحد الكَاذِبين ") ضُبِطَ بصيغة الجمع، والتثنية. (أخرجه مسلم) وأفاد أن غيره من الأحاديث الضعيفة التي يحتمل صدقها تجوز روايتها في الترغيب، والترهيب، والفضائل، من غير بيان ضعفه.
(المتروك)
(والقسم الثاني من أقسام المردود، وهو ما يكون بسبب تهمة الراوي بالكذب هو المتروك) جعله قسما مستقلا، وسماه متروكا، لأن اتهام الراوي بالكذب مع تفرده لا يسوغ الحكم بالوضع. (1/453)
(المُنْكَر)
(والثالث:) لف يجيء نبشره، (المنكر على رأي) بالتنوين في المتن، وبتركه في الشرح لإضافته إلى (مَنْ لا يشترِط في المنكر قيد المخالفة) وأما المنكر الذي فيما سبق في مقابلة المعروف، فإنه على رأي مَن شرط المخالفة. وحاصله: أن ما يكون الطعن فيه سبب كثرة الغلط، لا يكون منكراً أي على ذلك الراوي إلا على رأي من لا يشترط في المنكر مخالفة الثقة للضعيف كما تقدم، وأما من يشترط فيه ذلك، فلا. (وكذا) أي على ذلك الرأي (الرابع والخامس، فمَن فحُش غلطه)، نشر مرتب، ومَن تعليلية، فهو راجع إلى الثالث. (أو كَثُرَت غفلته) إلى الرابع. (أو ظهر فسقه،) إلى الخامس وفيه أن الظهور معتبر في الجميع، فلا وجه للتخصيص. (فحديثه منكر). (1/454)
(الوهم في الإسناد والمتن)
(ثم الوهم) أي رواية الحديث على سبيل التوهم، وذلك قد يقع في الإسناد وهو الأكثر، وقد يقع في المتن، مثل إدخال حديثٍ في حديث آخر. والأول قد يقدح في صحة الإسناد والمتن جميعاً، لِمَا في التعليل بالإرسال واشتباه الضعيف بالثقة. مثل أن يجيء الحديث بإسناد موصول، ويجيء أيضاً بإسناد منقطع أقوى من الإسناد الموصول. وقد يقدح في صحة الإسناد خاصة من غير قدح في صحة المتن. ومثاله: ما رواه الثقات كيَعْلى بن عُبَيْد، عن سفيان الثوري، عن عمرو بن دينار عن ابن عمر، / 75 - ب / عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: " البيِّعان " بالخيار... " الحديث، فهذا إسنادٌ متصل بنقل العدل عن العدل، وهو مُعَلَّل غير صحيح، والمتن على كل حال صحيح. والعلة في قوله: عن عمرو بن دينار، يَعْلَى بن عُبَيْد، وَعَدَلَ عن عبد الله بن دينار الموافق له في اسم أبيه إلى عمرو بن دينار، وكلاهما ثقة. (وهو القسم السادس، وإنما أفصح به) أي عبر عنه باسمه الصريح، ولم يقل:(1/455)
والسادس ؛ (لطول الفصل) أي بابِهِ، والبحث فيه، وهو مقتض للاهتمام به كما في الأقسام الآتية، ولذا أيضاً عطف ب: ثُمَّ الدال على التراخي، إشارة إلى أن التراخي بحسب الرتبة فاندفع ما قيل: إن طول الفصل إنما هو في الشرح، لا في المتن، وأيضاً يندفع بأنه قد يُعد ما في المتن طولاً أيضاً، فالمراد بالفصل، الفاصلة بين قوله فيما سبقْ: أو وهمه، وبين قوله: (إن اطلع) بصيغة المجهول، (عليه أي على الوهم)، وأما إن لم يُطلع عليهِ، فهو المقبول. وفيه أن جميع أسباب الطعن مشتركة في أنه متى ما لم يطلع عليه، فهو مقبول. فبالاطلاع يجعل موجباً للطعن، فلا وجه لاختصاص الاطلاع بالسادس. (بالقرائن الدالة على وَهْمِ راويه) المنبهَة للعارف عليه، بحيث يغلب على ظنه، فيحكم بعدم صحة الحديث لذلك اكتفاء بغلبة الظن، أو يتردد لعدم ترجيح أحد الطرفين، فيتوقف في الحكم بالصحة وعدمها. وأما إذا لم يطلع عليه بما ذكر من القرائن، فالظاهر السلامة من الجرح، فهو من أقسام المقبول. (مِنْ وَصْل مُرْسَل) من بيانية للقرائن. (أو منقطع) عطف على مرسل (أو إدخالِ حديث في حديث) عطف على وصل، وكذا (أو نحو ذلك من الأشياء (1/456)
القادحة) كإرسال موصول، أو وقف مرفوع. قال السخاوي: كإبدال راوٍ ضعيف بثقة، كما اتفق لابن مَرْدُويَه في حديث موسى بن عُقْبَة، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر رفعه: " إن اللهَ أذهب عنكم عُبَّية الجاهلية " فإنه قال: إن راويه غَلِظَ في تسميته موسى بن عُقْبَة، وإنما هو موسى بن عُبَيْدة، وذاك ثقة، وابن عُبَيْدَة ضعيف. انتهى. وعُبية الجاهلية: بضم مهملة وكسرها، وتشديد موحدة، ثم ياء مشددة، فُعُّولة أو فُعَّيْلَة، وهي: الكِبْر على ما في " النهاية ". وقال شارح: مثاله ما انفرد به مسلم في " صحيحه " من رواية الوليد بن مسلم: حدثنا الأَوْزَاعِيّ، عن قتادة: أنّه كتب إليه يخبره عن أنس بن مالك: أنّه حدثه قال: " صليت خلف النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأبي بكر، وعمر وعثمان رضي الله تعالى عنهم، فكانوا يستفتحون / 76 - أ " بالحمد لله رب العالمين، لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول قراءة ولا في آخرها " ثم رواه من رواية الوليد، عن الأوزاعي: أخبرني إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة: أنّه سمع أنس بن مالك يذكر ذلك. وروى في " الموطأ " عن حُميد، (1/457)
عن أنس رضي الله عنه قال: " صليت وراء أبي بكر، وعمر، وعثمان - رضي الله تعالى عنهم، وعن سائر الصحابة أجمعين - فكلهم لا يقرؤن: بسم الله الرحمن الرحيم ". وزاد الوليد بن مسلم عن مالك به: " صليت خلف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم... ". قال ابن عبد البَرّ: وهو عندهم خطأ. وحديث أنس قد أعلّه الشافعي فيما ذكره البيهقي في " المعرفة ". (وتحصل معرفة ذلك) أي الوهم، (بكثرة التتبع) أي النظر في رجال الأسانيد، واختلافات المتون. (وجمع الطرق) أي الأسانيد المشتملة على المتون، واستقصائها من المَجاَمِع والمسانيد، والنظر في اختلاف رواة كل حديث، وضبطهم، وإتقانهم - ليحصل الترجيح بذلك، ويُعْلم أنه موصول، أو مرسل، أو نحوهما - ورواية غيرهم على سبيل التوهم، فقد روي عن علي بن المَديني أنه قال: الباب إذا لم تُجْمَعْ طرقه لم يتبين خطؤه.
(المعَلَّل)
(فهذا / هو المعَلَّل) فيه مسامحة، فإن ما فيه الوهم هو المعَلَّل، وقد (1/458)
وقع في عبارة كثير من المحدثين، كالبخاري، والترمذي، وابن عَدي والدارقطني، وكذا في عبارة المتكلمين والأصوليين تسميته بالمعلول. ورده ابن الصلاح بأن ذلك مرذول عند أهل العربية واللغة، لأن المعلول من: عَلَّهُ بالشراب، أي سقاه مرة بعد أخرى، وهو غير ملائم، وسماه مُعَلَّلاً. قال العراقي: الأجود في تسميته: المعلل، وكذا وقع هو في عبارة بعضهم، وأكثر عباراتهم في الفعل، أعله فلان بكذا، وقياسه مُعَلّ قال الجوهري: لا أَعَلكَ الله بعلته، أي ما أصابك بمصيبته. وأما عَلَّلَهُ، فإنما يستعمله أهل اللغة بمعنى ألهاه بالشيء وشغله به، من تعليل الصبي بالطعام. قال السخاوي: وما يقع من استعمال أهل الحديث له حيث يقولون: علله فلان، فعلى طريق الاستعارة. انتهى. وكأن وجه الشبه الشغل، فإن المحدث يشتغل بما فيه من العلل. هذا، والعلة عبارة عن أسباب خفية غامضة قادحة في صحة الحديث. فالحديث (1/459)
المعلل هو الذي اطلع على علة تقدح في صحته، مع أن ظاهره السلامة، ليس للجرح مدخل فيها، لكونه ظاهر السلامة. (وهو) أي هذا النوع (من أغمض أنواع علوم الحديث وأدقها) عطف تفسير أي أخفاها دركاً، وأدقها إدراكاً. قيل: ومِن أشرفها، حتى قال ابن المَهْدي: لأن أعرف علةَ حديث واحدٍ أحبّ إليّ من أن أكتب عشرين حديثاً / 76 - ب / ليس عندي. (ولا يقوم به) أي بعلم هذا الفن الغامض حقَّ القيام به، (إلا مَن رزقه الله تعالى فهماً ثاقباً) أي مضيئاً مُدْرِكاً، (وحفظاً واسعاً) أي شاملاً للأسانيد والمتون، (ومَلَكَة قوية) أي مهارة راسخة، وحذاقة ثابتة (بالأسانيد والمتون) أي باختلافهما، واستيفاء العلم بهما، واستقصائهما. (ولهذا) أي ولكون هذا الفن أغمض الأنواع، أو لعدم القيام به إلا مَن رزقه الله تعالى ووفقه، وقليل ما هم. (لم يتكلم فيه إلا قليل من أهل هذا الشأن) أي مع أن شأنهم كلهم أن يتكلموا فيه، ويحكموا بما يقتضيه. (كعلي بن المَديني) بالياء (وأحمد ) بن حنبل، والبخاري (1/460)
ويعقوب بن شَيْبَة، وأبي حَاتِم) وفي نسخة بزيادة: الرازي، (وأبي زُرْعة) بضم الزاي (والدارقُطْني) ومر ضبطه. (وقد) للتعليل، (تقصر عبارة المعلل) بكسر اللام، أي الناقد الناظر في علة الحديث المعلل، (عن إقامة الحجة على دعواه) بأن يعلم أن في الحديث قصورا، لكن لا يقدر على بيانه. (كالصيرفي في نقد الدينار والدرهم). قال ابن مهدي: إنه إلهام، لو قلت له: من أين قلت هذا؟ لم تكن له حجة. وكم ممن لا يهتدي لذلك. هذا، وأعلم أن بعضهم يطلق العلة على غير المعنى المذكور، ككذب الراوي، وفسقه، وغفلته، وسوء حفظه، ونحوه من أسباب تضعيف الحديث كالتدليس. والترمذي / سمى النسخ علة. قال السخاوي: فكأنه أراد علة مانعة من العمل لا الاصطلاحية. (1/461)
(المُدْرَجُ وأقسامه)
(ثم المخالفة، وهو القسم السابع، إن كانت واقعة)، إشارة إلى أن خبر كان مُقَدَّر في المتن، كما أشار إلى أن الباء في المتن سببيّة في قوله: (بسبب) تغيير السياق، أي سياق الإسناد)، إشارة إلى أن اللام للعهد، أو بدل من المضاف إليه، كقوله تعالى:: {{فإن الجنة هي المأوى}}. ثم اعتُرض بأنه إنْ أُرِيدَ بتغيير سياق الإسناد تغييره باعتبار نفسه لا في المتن، يلزم أن لا يندرج فيه القسم الرابع، والشق الثاني من القسم الثالث، وإن أُرِيدَ تغييره أعم من أن يكون باعتبار نفسه أو باعتبار مُتَعَلّقه، وهو المتن والحديث، يتدرج فيه مُدْرَجُ المتن أيضاً. ودفع بأن يقال: أراد بمدرج المتن ما يكون التغيير في المتن فقط. أو يقال: ما يكون في إسناده ومتنه تغيير، فهو باعتبار الأول مدرج الإسناد، وباعتبار الثاني مدرج المتن. (فالواقع) أي الحديث الثابت، (فيه ذلك التغيير)، وبه تندفع المسامحة الواقعة في المتن، (هو) على ما في نسخة، (مُدْرَج الإسناد) وإنما (1/462)
سمي به، لأن المغير أدخل / 77 - أ / خللاً في الإسناد، فالإسناد مُدْخَلٌ فيه. وأعلم أن تفسير مدرج الإسناد بظاهره يشمل مقابلاته الآتية، غير ما يليه من التقديم، والتأخير، وزيادة الراوي، وإبداله، وتغيير حرف، أو حروف، فلا تصح المقابلة، كما يدل عليه لفظه، أو اللهم إلا أن يختص هذا التغير على وجه لا يشملها باستعانة السياق. (وهو أقسام:) أي أقسام أربعة، وهو لا ينحصر عقلاً فيها، فانحصاره فيها استقرائي، والاستقراء غير معلوم. (الأول: أن يروي جماعة الحديث) فيه مسامحة إذ حق العبارة: ما يرويه جماعة (بأسانيد مختلفة) وكذا في الباقي. (فرويه عنهم راو) أي مطعون بالمخالفة، (فيجمع) أي الراوي، (الكل) أي كلهم يعني جميع تلك الجماعة، (على إسناد واحد من تلك الأسانيد، ولا يبين الاختلاف) أي اختلاف الأسانيد. وحاصله: أنه يسمع الراوي حديثاً عن جماعة مختلفين في إسناده، فيرويه عنهم باتفاق، ولم يبين الاختلاف. مثاله: حديث رواه الترمذي: عن بنْدَارٍ عن عبد الرحمن بن مَهدي، عن سفيان الثَّوْري، عن وَاصِلٍ، ومنصور، والأعمَش، عن أبي وائل، عن عمرو بن شُرَحْبِيل قال: قلت يا رسول الله: " أي الذنب (1/463)
أعظم... "؟ الحديث. هكذا رواه محمد بن كثير العَبْدِي، عن سفيان، فرواية وَاصِل هذه مُدْرَجة على رواية منصور والأعمش، لأن واصلاً لم يَذكر فيه عمراً، بل رواه عن أبي وائل، عن عبد الله. وإنما ذكره فيه منصور والأعمش، فوافق روايته بروايتهما، وقد بين الإسنادين معاً يحيى بن القَطان في رواية عن سفيان، وفَصَلَ أحدهما عن الآخر. كما رواه البخاري في " صحيحه " في كتاب المحاربين عن عمرو بن علي، عن يحيى، عن سفيان، عن منصور والأعمش، كلاهما عن أبي وائل، عن عمرو. وعن / سفيان، عن واصل، عن أبي وائل، عن عبد الله من غير ذكر عمرو بن شُرَحْبيل. (الثاني: أن يكون المتن عند راوٍ) أي بإسناد واحد، كما يدل عليه بُعَيْدَ هذا بالإسناد الأول، فيصح الاستثناء بقوله: (إلا طرفاً)، أي بعضاً (منه، فإنه) أي الطرف (عنده بإسناد آخر، فيرويه راوٍ عنه تاماً بالإسناد الأول) وهذا هو المطعون بالمخالفة للثقات. مثاله: حديث رواه أبو داود من رواية زائدة، وشَريك، ورواه النسائي من رواية سفيان بن عُيَيْنَة، (1/464)
كلهم عن عاصم بن كُلَيْب، عن أبيه، عن وائل بن حُجْر في صفة صلاة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وقال فيه: " ثم جئت بعد ذلك في زمان برد شديد، فرأيت الناس عليهم جُل الثياب، تُحَرك أيديهم تحت الثياب ". قال موسى بن هارون: وذلك عندنا وهم. فقوله: " ثم جئت " / 77 - ب / ليس هو بهذا الإسناد، وإنما هو أُدرِج عليه عن عاصم، عن عبد الجبار بن وائل، عن بعض أهله، عن وائل، وهكذا رواه مُبَيَّناً زهير بن معاوية، وأبو بدر شجاع بن الوليد، فَميَّزا قصة تحريك الأيدي من تحت الثياب، وفصلاها من الحديث، وذكرا إسنادها كما ذكرنا. (ومنه) أي من قبيل القسم الثاني، (أن يَسْمَع الحديث من شيخه) أي بلا واسطة، كما هو المتبادر من العبارة، (إلا طرفاً منه، فَيَسْمَعه عن شيخه بواسطة) الأظهر أن يقول بدل فيسمعه: عن مَن سمعه من شيخه، (فيرويه) أي الحديث، راوٍ عنه) أي عن شيخه، (تاماً) أي من غير استثناء الطرف، (بحذف الواسطة) مع أنه لم يسمع الطرف إلا بواسطة، وهذا هو المطعون بالمخالفة. (الثالث: أن يكون عند الراوي متنان مختلفان بإسنادين مختلفين) إما عن صحابِيين، أو عن واحد فقط، (فيرويهما) معاً كاملين، أو مختصرين أو أحدهما (1/465)
مختصراً دون الأول، (راو عنه مقتصراً على أحد الإسنادين) هذا هو المطعون بالمخالفة. (أو يروي) أي راوٍ، (أحد الحديثين) أي المختلفين ليظهر الفرق بين هذا الوجه والوجه الثاني، فاللام للعهد. (بإسناده الخاص به، لكن يزيد فيه) أي في أحد الحديثين، (مِن المتن الآخر) أي وله إسناد آخر، (ما ليس في الأول) أي في الحديث الأول، أو المتن الأول، وهو المذكور بقوله: أحد الحديثين، فهو مِن وَضْع الظاهر موضع ضميره. ومثاله: حديث رواه سعيد بن أبي مريم، عن مالك، عن الزُّهْرِي، عن أنس أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: " لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تَدَابَرُوا، ولا تنافسوا... " الحديث. فقوله: " ولا تنافسوا " مدرجة في الحديث أدرجها ابن أبي مريم من حديثٍ آخر لمالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنهم عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: " إياكم والظن، فإن الظن أكذبُ الحديث، ولا تَجَسَّسُوا ولا تَحَسَّسُوا ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا ". وكلا الحديثين متفق عليه من طريق مالك. وليس (1/466)
في الأول: " ولا تنافسوا "، وإنما هو في الحديث الثاني. (الرابع: أن يسوق) أي / راو، أو محدث (الإسناد) أي إسناد حديث فقط، (فيَعْرض له عارض) أي فلا يذكر متن الحديث لما يقطعه عنه قاطع، (فيقول كلاماً من قِبَل نفسه، فيظن بعض مَنْ سمعه) أي ذلك الراوي، وهو المطعون بالمخالفة، (أن الكلام هو متن ذلك الإسناد، فيرويه عنه كذلك) أي على أنه متن ذلك الإسناد. وبهذا التقرير الموافق لتحرير السخاوي يظهر منه أنه لا ذكر لمتن الحديث في القسم الرابع من مدرج الإسناد، فلا / 87 - أ / يصدق تعريف مدرج المتن عليه، فلا يرد عليه ما قيل: من أن تعريف مدرج المتن غيرُ مانع لدخول القسم الرابع من مدرج الإسناد فيه. (هذه) أي الوجوه الأربعة، (أقسام مُدْرَج الإسناد) أما الثلاثة الأول، فظاهر، وأما الأخير، فتغيير السياق باعتبار أن سياق الإسناد يقتضي أن يذكر الحديث بعده، لا كلاماً مِن قِبَل نفسه. (وأما مدرج المتن: فهو أن يقع في المتن كلام) أي وليس له إسناد، (ليس منه) أي ليس ذلك الكلام من جملة ذلك المتن. وحاصله: أن يذكر الراوي - صحابياً أو غيره - كلاماً لنفسه أو غيره، فيرويه مَنْ بَعْدَهُ متصلاً بالحديث من غير فصل يتميز عنه، بأن يعزوه لقائله صريحاً أو كنايه، فَيَتوَهَّم مَنْ لا يعرف حقيقة الحال أنه من الحديث. وحقيقته على ما صرح به (1/467)
السخاوي: إضافة الشيء لغير قائله. قال محشي: هذا التعريف لمدرج المتن أعم من تعريفه الخارج من عبارة المتن. إذ قوله: كلام ليس منه، أعم من أن يكون من كلام نفسه أو غيره، من الصحابة ومن بعدهم، إلا أن يُخَصّ بكلام غيره، وإنما ذكر هذا الكلام لُيفَرَّقَ بين مدرج المتن ومدرج الإسناد من القسم الرابع. وحاصله: أن القسم الرابع من مدرج الإسناد يكون بتمامه مما يظُن أنه حديث مستقل. وأما مدرج المتن فيظن أنه جزء من الحديث. (فتارة يكون) أي إدراج المتن (في أوله) مثاله: ما رواه الخطيب من رواية أبي قطَن وشَبَابَة، فروياً عن شعبة، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: " أَسْبِغُوا الوضوء، ويل للأعقاب من النار ". فقوله: أسبغوا الوضوء، من قول أبي هريرة، وَصِلَ بالحديث في أوله، كذلك ورواه البخاري في " صحيحه " عن آدم بن إياس، عن شعبة، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أسبغوا الوضوء، فإن أبا القاسم صلى الله عليه وسلم قال: " ويل للأعقاب من النار ". قال الخطيب: وهِمَ أبو قطنٍ وشَبَابَة في روايتهما هذا الحديث عن شعبة على ما سقنا، وذلك أن قوله: أسبغوا، من كلام أبي هريرة، وقوله: " ويل للأعقاب من النار " من كلام النبي صلى الله تعالى عليه وسلم. (1/468)
(وتارة في أثنائه)، مثاله: ما رواه الدارقطني في " سننه " من رواية عبد الحميد بن جعفر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن بُسْرَة بنت صفوان قالت: سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: " مَنْ مَسَّ ذَكَرَه أو أُنَثَيْيه أو رُفْغَيْه فليتوضأ ". قال الدارقطني: كذا رواه عبد الحميد، عن هشام، ووهم في ذكر الأنْثَيَيْنِ والرُفْغ / وإدراجه ذلك في حديث بُسْرَة. قال: والمحفوظ أن ذلك من قول عروة. انتهى. وفي " النهاية ": من السنة نتف الرُّفغين، أي الإبطين. وإذا التقى الرفغان وجب الغسل، أي أصول الفخذين / 78 - ب / والراء تضم وتفتح. انتهى. والظاهر أن المعنى الثاني هو المراد هنا. (وتارة في آخره) مثاله: ما روى أبو خَيْثَمَة زهيرُ بن معاوية، عن الحسن بن الحُرّ، عن القاسم بن مُخَيْمِرَة عن علقمة، عن عبد الله بن مسعود: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم علَّمه التشهد في الصلاة فقال: " قل: التحيات لله " فذكر حين قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله: فإذا قلت هذا، فقد قضيت صلاتك، إن شئت أن تقوم فقم، وإن شئت أن تقعد فاقعد. كذا رواه أبو خَيْثَمة، فأدرج في الحديث قوله: فإذا قلت... الخ (1/469)
وإنما هو من كلام ابن مسعود لا من كلام النبي صلى الله تعالى عليه وسلم. ومن الدليل عليه أن الثقة عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان رواه عن ابن الحًرِّ المذكور هكذا. واتفق حسين الجعفي، وابن عجلان وغيرهما في روايتهم عن الحسن بن الحًرِّ على ترك هذا الكلام في آخر الحديث، مع اتفاق كل من روى التشهد عن علقمة وغيره عن ابن مسعود على ذلك. ورواه شَبَابة عن أبي خيثمة فوصله أيضاً. (وهو) أي ما يقع في الآخر هو (الأكثر) وقوعاً أو استعمالاً، فيكون بمعنى الأشهَر، (لأنه يقع بعطف جملة على جملة) يعني وهو حينئذ يكون غالبا في الآخر، وبه اندفع ما قال محشي: وفيه أن الظاهر أنه دليل لقوله: أكثر، ويرد عليه أنه لا نسلم أن الآخر دائما يكون بعطف كلام مستقل على آخر مثله، بل ربما يكون بعطف مفرد على مفرد، بل بلا عطف، ولو سلم أن الأخير يقع بعطف الجملة على الجملة ولا يقع بعطف المفرد أو بدون العطف، فلا نسلم أن الواقع بعطف الجملة على الجملة يدل إلى الأكثرية، مع أن الأول والثاني يقعان بعطف الجملة أيضاَ. انتهى. وإنما قلنا: بوقوع العطف حسب الغالب في الواقع، لأنه حينئذ يمكن استقلاله عن اللفظ السابق، فيتميز من لفظ الحديث، بخلاف ما إذا كان بغير جملة. ولهذا قال ابن دقيق العيد: إنما يكون الإدراج بلفظ تابع يمكن استقلاله (1/470)
عن اللفظ السابق، واستشكل - أي ابن دقيق العيد - على الأولين فقال: ومما يضعف أن يكون مدرجا في أثناء لفظ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لا سيما إن كان مقدَّماً على اللفظ المروي، أو معطوفاً عليه بواو العطف، كما لو قال: " مَن مس أُنْثَييه وذَكَرَه فليتوضأ "، بتقديم لفظ: " الأنثيين " على " الذَكَر "، فههنا يضعف الإدراج لما فيه من اتصال هذه اللفظة بالعامل الذي هو من لفظ رسول الله تعالى عليه وسلم. وقال المصنف: لا مانع من الحكم على ما في الأول، والآخر، أو الوسط بالإدراج، إذا قام / 79 - أ / الدليل المؤثر غلبة الظن. (أو بدَمج موقوف) أي أو كانت المخالفة بسبب دمج، وأظهر لفظة كانت / في الشرح في الأقسام الآتية دون هذا لطول العهد هناك. في " القاموس " درج: مشى، والمَدْرَج: المَسلَك، ودَمَجَ: دخل في الشيء واستحكم فيه. انتهى. والظاهر أنه تفنن في العبارة، والتحقيق أن الدَّمج أدخل في الخفاء من الدرْج، كما أن المزج أَدْخَلُ منهما في المخالطة، بحيث يصير المازج والممزوج كشيء واحد، بحيث لا يمكن التفرقة بينهما أصلا. (من كلام الصحابة،) من بيانية لموقوف، (أو من بعدهم) بفتح الميم، عطفاً على الصحابة، وفيه تسامح من باب عموم المجاز، وإلا، فالموقوف هو ما يُروى(1/471)
عن الصحابة لا من بعدهم، فإنْ قلت: قد يطلق الموقوف إلى ما يُروى عن غير الصحابة، قلت: إنما يطلق عليه مقيداً، فيقال: حديث كذا، وقفه فلان على عطاء، أو على طاووس، وإما إذا أطلق، فيختص بالصحابة. (بمرفوع) متعلق بدمج، (من كلام النبي،) أي من حديثه، (صلى الله تعالى عليه وسلم،) أي قولاً أو فعلاً، (من غير فصل) أي تمييز وتفرقة بين الموقوف، والمرفوع، بما يدل على مغايرتهما. قال المصنف: الباء يُحْتَمَل أن تكون بمعنى من، أو بمعنى مع، وقال تلميذه: أما استعمالها بمعنى مع، فورد نحو:: {{اهبط بسلام}}،: {{وقد دخلوا بالكفر}} وأما بمعنى من، فلم أقف عليه. قلت: قد ورد في قوله تعالى: : {{يشرب بها عباد الله}} وقد جعلها صاحب " القاموس " بمعنى التبعيض ؛ وكذا ذكره المغني، لكن الأظهر أن الباء هنا " في " لما في " القاموس " من أن الدُّمُوج هو الدخول في الشيء. (فهذا هو مدرج المتن) سُمّي به لأنه أدرج في المتن شيء، فهو مُدْرَج فيه، ثم حذف الجار، وأوصل الفعل، ويدل عليه قوله فيما بعد: مما أُدرِج فيه. (ويُدْرَك الإدراج) أي يعرف، بأربعة أشياء: (1/472)
(بورود رواية مفصِّلة) بكسر الصاد، أي مبينة (للقدر المدرج مما) أي من حديث (أدرج فيه) أي المدرج، أو فيه نائب الفاعل، ومثاله: ما ذكر آنفا أي من أن شَبَابَة رواه عن أبي خيثمة ففصله. (أو بالتنصيص) أي بالتصريح (على ذلك) أي الإدراج أو المدرج، (من الراوي)، أي نفسه كحديث ابن مسعود: سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: " من جعل لله نداً دخل النار " وقال: وأخرى أقولها ولم أسمعها منه، " من مات لا يجعل لله نداً دخل الجنة ". (أو من بعض الأئمة المطلعين) أي على ذلك كحديث التشهد. (أو باستحالة كون النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يقول ذلك) وهو أعلاها ك: " وَدِدْتُ أني شجرة تُعضَد "، والذي نفسي بيده لولا الجهادُ في سبيل الله، وبِرُّ أمي، (1/473)
لأحببت أن أموت / 79 - ب / وأنا مملوك ". وأعلم أن ما ذكر من الوجوه الأربعة لمعرفة الإدراج، غير مختص بإدراج المتن إلا الرابع، كما لا يخفى على المتأمل الكامل في كلامه. (وقد صنف الخطيب في المدرج كتابا) أي عظيماً شهيراً سماه " الفَصْل للوَصْلِ المدرج في النقل "، (ولخصته) أي اختصرته بحذف الزوائد، مرتباً على الأبواب مع زيادة علل وغيره، (وزدت عليه) أي على الملخص، وهو خلاصة الفوائد (قدر ما ذكر مرتين، أو) / أي بل (أكثر) وسماه " تقريب المنهج بترتيب المُدْرَجِ ". (ولله الحمد.) أي على هذه الزيادة طلباً للمزيد، واعلم أنهم قالوا: الإدراج بأقسامه حرام، لما فيه من التلبيس، والتدليس، وإن كان بعضه أخف من بعض، كتفسير لفظه غريبة مثل المُزَابَنَة، والمُخَابَرَة، والعَرايَا ونحوها مما (1/474)
فعله الزهري، وغيره من الأئمة، بل لا يظهر التحريم في مثله، لا سيما في المتفق عليه، وقول ابن السمعاني وغيره: والمتعمد له ساقط العدالة، وممن يحرِّف الكَلِمَ عن مواضعه، وهو ملحق بالكذابين، يحمل على ما عداه، وقد ذكرنا من المصنف، ومن ابن دقيق العيد ما يدل على جوازه في الجملة. (أو إن كانت المخالفة بتقديم وتأخير، أي في الأسماء) أي غالباً لقوله بُعيد هذا: وقد يقع القلب في المتن أيضاً، وأما ما قاله شارح: لعله قيّد به لِمَا أنه بصدد بيان الطعن في الراوي، فغير صحيح لأن الطعن في المروي طعن في الراوي، والطعن في الراوي طعن في المروي، بل هذا دون ذاك ؛ إذ قد يوجد المروي صحيحاً مع كون الراوي مطعوناً (كمرة بن كعب، وكعب بن مُرة) بضم ميمٍ، وتشديد راء، أراد مثلاً يكون الواقع في الإسناد كعب بن مرة، فيغلط الراوي ويقول بدله: مُرَّة بن كعب، فهو سهو وغلط من الراوي، وإنما نشأ هذا الوهم منه ؛ (لأن اسم أحدهما اسم أبي الآخر).
(المقلو)
(فهذا) أي ما وجد فيه ذلك التقديم والتأخير (وهو المقلوب) أي قسم من (1/475)
أقسامه، وأما ما قال شارح: من أن المقلوب ما يكون اسم أحد الروايين، اسم أبي الآخر مع كونهما من طبقة واحدة، فيجعل الراوي سهواً، ما هو لأحدهما لآخر كذا ذكره السخاوي في " شرح التقريب "، فالمصنف ترك قيدَ طبقة واحدة، وقيدَ السَّهو، فاعتراضه مدفوع، لأنه أراد ما يعمهما، فالترك أولى كما لا يخفى، ويحمل كلام السخاوي على قسم مِن أقسامه لا أنّ المقلوب منحصر فيه، لظهور بطلانه كما سيأتي من بيانه. (وللخطيب فيه) أي في هذا النوع المسمى بالمقلوب، (كتابُ) بغير تنوين مضاف إليه، (" رافعِ الارتياب) في المقلوب من الأسماء والأنساب " وهو اسم كتاب للخطيب ذكره الجزري، وأما ما ذكره / 80 - أ / شارح في قوله: كتاب - أي - سماه - مفخم، فمبني على أنه منون، وأن التنوين للتعظيم، وقد عرفت ما فيه. للمقلوب أقسام أُخر أُدرج بعضها في قسم الإبدال كما سيأتي لما أنه أنسب به. قال شارح: وبيَّن بعضها في ضمن بيانه، وترك بعضها، وهو أن يكون الحديث مشهوراً بِرَاوٍ، فيجعل مكانه راوٍ آخر في طبقته ليصير بذلك غريباً مرغوباً فيه، كحديث مشهور بسالم، فجعل مكانه نافع، وممن كان يفعل ذلك من الوضَّاعين: حمَّاد بن عَمرو النصِيبي، وإسماعيل بن أبي حية اليسع، وبُهلُول بن عُبَيْد الكندي، قلت: كل الصيد في جوف الفَرَا، فإنه يصدق عليه الإبدال مع اختلاف (1/476)
الأغراض. (وقد يقع القلب في المتن) أي في نفسه وأثنائه (أيضاً كحديث أبي هريرة رضي الله عنه عند مسلم) فمسلم رواه عن أبي هريرة رضي الله عنه مقلوباً، وعن غيره على الأصل / ولو قال: في بعض طرق مسلم لكان أوضح، (في السبعة) أي في شأنهم (الذين يُظُّلهم الله في ظِلِّ عرشه، ففيه) أي ففي ذلك الحديث باعتبار بعض ألفاظه، أو في مسلم باعتبار بعض طرقه. (" ورجل تصدَّق بصدقة أخفاها حتى لا تعلم يمينُه ما تنفق شِماله "، فهذا) أي هذا الحديث، (مما انقلب) أي متنه (على أحد الرواة، وإنما هو) أي المتن الصحيح: (" حتى لا تعلم شماله) أي يسار المنفق، على إرادة غاية المبالغة في الإخفاء، أو المراد به مَنْ على شماله، بذكر المحل وإرادة الحال تجوزاً، كقوله تعالى:: {{تجري من تحتها الأنهار}} في وجه. (ما تنفق يمينه ") إذ المعلوم من السُّنَّة إضافة الإعطاء إلى اليمنى (كما في الصحيحين) أي كما في طرق البخاري، وبعض طرق مسلم فلا ينافي ما سبق أنه عند مسلم. (1/477)
(المَزيد في مُتَّصِل الأسانيد)
(أو أن كانت المخالفة بزيادة راوٍ في أثناء الإسناد، ومَن لم يَزِدْها أتقنُ ممن زادها) قوله: أتقن، من الإتقان، كأفيدُ من الإفادة، وأبلغ من المبالغة، أي أكثر إتقاناً وإفادة ومبالغة، وأفعل التفضيل مما ماضيه على أربعة أحرف عند سيبويه قياس، وعند غيره سماع، كذا في " الموشّح ". (فهذا هو المزيد في متصل الأسانيد) وهو أن يزيد الراوي في إسناد حديثٍ رجلاً أو أكثر وهْماً منه وغَلَطاً، مثاله: ما روي عن عبد الله بن المبارك قال: حدثنا سفيان عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر قال: حدثني بٌ سْر بن عبيد الله (1/478)
قال: سمعت أبا إدريس يقول: سمعت واثِلَة بن الأسْقَع يقول: سمعت أبا مَرْثَد الغَنَويّ يقول: سمعت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: " لا تجلسوا على القبور، ولا تُصَلُّوا إليها " فذكرُ سفيانَ وأبي إدريس في هذا زيادة ووَهَم، أمّا أبو إدريس، فَنَسَبَ الوهم فيه إلى ابن المبارك ؛ / 80 - ب / لأن جماعة من الثقات رَوَوْه عن ابن جابر، عن بُسْر، عن وَاثِلة، ولم يذكروا أبا إدريس بين بُسْر ووَاثِلَة، وصرَح بعضهم بسماع بُسْر من وَاثِلة. قال أبو حاتِم الرازي: كثيراً ما يحدث بُسْر عن أبي إدريس، فوَهِم ابن المبارك وظن أن هذا مما رواه عنه وَاثِلة، وليس كذلك، بل هو مما سمعه بُسْر من وَاثِلة. وأما سفيان فوهم فيه من دون ابن المبارك لأن جماعة ثقاتٍ رَوَوْه عن ابن المبارك، عن ابن جابر بلا واسطة، وصرّح بعضهم بلفظ الإخبار بينهما. (وشرطه أن يقعَ التصريحُ بالسماع) أي في رواية مَن لم يزدها، (في موضع الزيادة) لكن ترجح جانب الحذف بقرينة دالة على الوهم كما ذكره ابن (1/479)
الصلاح في " المقدمة "، والجزري في " الهداية "، فاندفع ما قال بعضهم فيه: إنه على تقدير التصريح بالسماع، لا يتعين المزيد، لجواز أن يكون الراوي سمع من رجل، وهو من شخص، ثم سمع ذلك الراوي من ذلك الشخص نفسه. وأما قول شارح: هو أن يجيء رواية بواسطة راويين اثنين، وأخرى بحذفه مع التصريح في كل منهما بالسماع، فغير صحيح لما سبق. (وإلاّ) أي وإن لم يقع التصريح بالسماع / المذكور، (فمتى كان مُعَنْعناً) بصيغة المفعول، وهي صيغة مصنوعة لا موضوعة كالبسملة والحمدلة، أي فمتى كان الإسناد بلفظ عن فلان عن فلان (مثلاً) أي ونحوه مما يحتمل عدم الاتصال، (ترجحت الزيادة) فعلم أن حديث الثقة كان منقطعاً لا متصلاً، وإن كان محتملاً قبل هذه الزيادة. فإن قيل: إن كان السند الخالي عن الزائد بلفظ: عن، احتمل أن يكون مرسلاً، وإن كان بلفظ السماع ونحوه، احتمل أن يكون سَمِعَه مرةً عن رجل عنه، ثم سمعه منه، فلا يتحقق الوهم ! فالجواب: أنّ الظاهر من مثل هذا أن يَذْكُر السَماعَين، فلمّا لم يذكرهما، حُمِل على الزيادة. وأيضاً قد يوجد قرينة تدل على أنه وَهْم كما ذكرناه عن أبي حَاتِم وهو المفهوم من " المقدمة "، فالزيادة حينئذ مرادف الغلط، والسهو خارج عما يقال من أنّ زيادة الثقة مقبولة، وأما قول شارح: ترجحت الزيادة ويعمل بالإسناد المثبت، ويجعل الآخر منقطعاً أو مرسلاً، أو نحو ذلك لأن زيادة الثقة مقبولة كما سبق، فمردود. (1/480)
(المُضْطَرِ)
(أو إن كانت المخالفة بإبداله، أو الراوي) أشار إلى أن الإبدال مضاف إلى الفاعل، والمفعول محذوف، أي الشيخ المروي عنه، أو بعضاً من المروي، فيكون شاملاً لمضطرب المتن أيضاً. قال تلميذه: أي بإبدال الشيخ المروي عنه، كأن يروي اثنان حديثاً فيرويه أحدهما عن شيخ، والآخر / 81 - أ / عن آخر، ويتفقا فيما بعد ذلك الشيخ. وقال السخاوي: كأن يروي اثنان أو أكثر، رواية واحدة مرة على وجه، وأخرى على آخر مخالف له. (ولا مرجِّح لإحدى الروايتين على الأخرى) وأما إن ترجحت إحداهما بأن يكون راويهما أحفظ، أو أكثر صحبة للمروي عنه، أو غير ذلك، فالحكم للراجحة ولا يكون حينئذ مضطرباً. (فهذا) أي ما وقع فيه ذلك، (هو المضطرِب) بكسر الراء اسم فاعل من اضطرب كما ذكره السخاوي. (وهو) أي الاضطراب، (يقع في الإسناد غالباً) ويلزم منه أن يكون الحديث ضعيفاً، لإشعاره بأن لم يُضْبَط على ما ذكره الجزري (1/481)
(وقد) للتقليل، (يقع في المتن) أي فقط. (لكنْ قلّ أن يَحكم المحدثُ على الحديث بالاضطراب بالنسبة إلى الاختلاف في المتن دون الإسناد) استدراك عما يُتَوَهَّم أنه يجوز أن يكون قليلاً في نفسه، وكثيراً باعتبار حكم المحدث به، فاندفع ما قيل: إن التقليل يفهم من قوله: غالباً، وكذا من قد في قوله: وقد يقع في المتن، فلا يحسن استعماله، قال التلميذ: قوله: قلّ أن يحكم المحدث... الخ ؛ لأن تلك وظيفة المجتهد في الحكم. انتهى. وفيه أن المحدث من جملة المجتهدين بل ربما يعتمد بعض المجتهدين على حكم المحدث في الحديث بالصحة وعدمها. هذا، ومثال المضطرب في الإسناد ما رويناه في سنن أبي داود وابن ماجه، من رواية إسماعيل بن أُميَّة، عن أبي عَمرو بن محمد بن حُرَيْثٍ، عن جَدِّه حُرَيْث، عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: " إذا صلى أحدُكُم / فليجعل تلقاء وجهه شيئاً " الحديث. وفيه: " فإذا لم يَجدْ عصاً ينْصِبُها بين يديه، فليخُطَّ خَطّاً ". قد اخُتلِف فيه على إسماعيل اختلافاً كثيراً، فرواه بِشْر بن المُفَضَّل، (1/482)
ورَوْح بن القاسم عن إسماعيل هكذا، ورواه سُفيان الثوري عنه، عن أبي عَمرو بن حُرَيث عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه، ورواه حُمَيْد بن الأَسْوَد عن إسماعيل، عن أبي عَمرو بن محمد بن حُرَيث بن سُلَيم، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه. ورواه وُهَيْب بن خالد وعبد الوارث عن إسماعيل، عن أبي عمرو بن حُريث عن جَدِّه حُرَيث. وقال عبد الرزاق: عن ابن جُريج سمع إسماعيل بن أمية عن حُريث بن عمّار، عن أبي هريرة، وفيه من الاضطراب أكثر من هذا. قال ابن عيينة: لم نجِدْ شيئاً نشد به هذا الحديث. ومثال المضطرب في المتن، حديث فاطمة بنت قَيْس، قالت: سألت أو سئل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عن الزكاة، فقال: " إن في المال لحقاً سوى الزكاة ". فهذا الحديث قد اضطرب لفظه ومعناه، فرواه الترمذي هكذا من رواية شريك عن أبي حَمْزَة عن الشَّعْبي عن فاطمة، ورواه ابن ماجه من / 18 - ب / هذا الوجه بلفظ: " ليس في المال حق سوى الزكاة ". فهذا (1/483)
الاضطراب لا يحتمل التأويل، وقول البيهقي: لا يَحْفَظُ لهذا اللفظ الثاني إسناداً، مردود بما رواه ابن ماجه هكذا ذكره الجزري. لكن قوله لا يَحتمل التأويل، فيه بحث، إذ يمكن حمل النفي على الحق الواجب الشرعي، والإثبات على الوجوب العرفي من الضيافة، وإعارة الماعون، والمال في النفي يراد به المعهود الذي يجب فيه الزكاة، وفي الإثبات جنس المال الذي يجب فيه نفقة ذوي الأرحام ونحوها ، مع أن القاعدة المقرَّرَة أن الإثبات مُقَدِّمٌ على النفي عند المعارضة. ويَقْرب منه قوله تعالى:: {{وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة}} قال البيضاوي: يحتمل أن يكون المقصود منه، ومن قوله:: {{وآتى المال}} الزكاة المفروضة، ولكن الفرض من الأول بيان مصارفها، ومن الثاني أداؤها، والحث عليها، ويحتمل أن يكون المراد بالأول، نوافلَ الصدقات، أو حقوقاً كانت في المال سوى الزكاة. انتهى. ويؤيد الأخير ما روى ابن أبي حاتم أنه قال عليه الصلاة والسلام: " في المال حق سوى الزكاة، ثم قرأ: {{ليس البر}} " إلى قوله:: {{وفي الرقاب}}. وقد قال ابن الصلاح: وقد يقع الاضطراب في المتن، وهو ما اختلف الروايات فيه، فيرويه بعضهم على وجه، وبعضهم على وجه آخر مخالف له، ولا (1/484)
يترجح إحدى الروايتين على الأخرى، ولا يمكن الجمع بينهما، فإن ترجحت، بأن يكون راويها أحفظ، أو أكثر صحبة للمروي عنه لا سيما إذا كان ولدهَ أو قريبَه، أو مولاه أو بلِديّه، أو غير ذلك من وجوه الترجيح المعتمد، ككونه حين التحمل بالغاً، أو سماعه من لفظ شيخه، فالحكم للراجح ولا يكون الحديث حينئذ / مضطرباً، وكذا إن أمكن الجمع بحيث يمكن أن يكون المتكلم معبِّراً باللفظين فأكثر عن معنى واحدٍ، أو يحمل كل منهما على حالة لا تنافي الأخرى وإنما كان الاضطراب موجباً لضعف الحديث لإشعاره بعدم ضبط الراوي، أو رواته الذي هو شَرْط القبول، وهو محمول على وقوع الإبدال في السند، أو المتن منه سهواً أو خطأ. (وقد يقع الإبدال عمداً لمن يُرَاد اختبار حفظه) الظاهر أنه صلة للامتحان الذي هو علة تعمُّد الإبدال، فكان حقه تأخره عن قوله: (امتحاناً) أي لمن يراد امتحانه امتحاناً (من فاعله) أي فاعل الإبدال، جعله المصنف من أقسام الإبدال وإن جعله غيره من أقسام القلب، لقلة مناسبته بالقلب، كذا قاله شارح، والأظهر عندي أنّ مناسبته بالقلب أقوى / 82 - أ /، فإنه يفيد العكس بخلاف الإبدال، كما يظهر وجهه في المثال، ولذا جعله السخاوي من أقسام المركب، وهو ما رُكِّب متنه لإسناد آخر لم يكن له، لأن المقصود بالذات هنا تركيب إسناد متن لمتن آخر، لا إبدال إسناد بإسناد آخر من غير أن (1/485)
يلاحظ تركيبه. قلت: ومع هذا، يلاحظ في القلب معنى زائد على هذا و هو تركيب متن آخر لإسناد آخر، فاندفع ما قال الشارح: إنّ الأنسب ما فعله السخاوي. وأما قول الشارح: مثاله حديث رواه جرير بن حَازِم عن ثابت البُنَانّي عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: " إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تَرَوْني "، فهذا حديث انقلب إسناده على جرير بن حَازِم لأن هذا الحديث مشهور ليحيى بن كثيرٍ عن عبد الله بن أبي قَتَادة، عن أبيه، عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فخطأ فاحش من الشارح، لأن الكلام في الإبدال عمداً امتحاناً، ولذا قال المصنف: (كما وقع للبخاري والعُقَيْلي) بضم عين، وفتح قاف، (وغيرهما) أي ممن وقع الإبدال عمداً في حقهم امتحاناً لمعرفة ضبطهم وحفظهم، أما البخاري، فقد روي أنه لما أتى بغداد، سمع به أصحاب الحديث، فاجتمعوا وعَمَدوا إلى مئة حديث فقلبوا متونها وأسانيدها، وجعلوا متن هذا الإسناد لإسناد آخر، وإسناد هذا المتن لمتن آخر، وانتخبوا عشرة من الرجال ودفعوا لكل منهم عشرةً منها وتواعدوا كلهم على الحضور بمجلس البخاري، فلما حضروا واطمأن المجلس بأهله البغداديين ومَن انضم إليهم من الغرباء من أهل خراسان وغيرهم، تقدم إليه واحد من العشرة وسأله من أحاديثه واحداً واحداً، البخاري يقول له في (1/486)
كل منها: لا أعرفه، وفعل الثاني كذلك إلى أن استوفى العشرةُ المئة ؛ وهو لا يزيد في كل منها على قوله: لا أعرفه. وكان الفقهاء ممن حضر، يلتفت بعضهم إلى بعض ويقولون: فَهِم الرجل، ومن كان منهم غير ذلك يقضي عليه بالعجز، والتقصير، وقِلة الفهم لكونه عنده - لمقتضى عدم تمييزه - حيث لم يعرف واحداً من مئة، ولما فهم البخاري رحمه الله من قرينة الحال / انتهاءهم من مسألتهم، التفت إلى السائل الأول وقال له: سألت عن حديث كذا، وصوابه كذا، إلى آخر أحاديثه، وهكذا الباقي فردّ المئة إلى حكمها المعتبر قبل القل، فأقرَّ له الناس بالحفظ، وأذعَنُوا له بالفضل، وعُلُو المحل والمنزلة في هذا الشأن. وأما العُقَيلي، فذكر مَسلَمة بن القاسم في ترجمته أنه كان لا يُخْرجُ أصله لمن يجيئه من أصحاب الحديث بل يقول له: اقرأ في كتابك، فأنكرنا أهل الحديث - ذلك فيما بيننا عليه وقلنا: إما أن يكون من أحفظ / 82 - ب / الناس، أو من أكذبهم، ثم عَمَدنا إلى كتابةِ أحاديث من روايته، بعد أن بدّلنا منها ألفاظاً، وزدنا فيها ألفاظاً، وتركنا منها أحاديث صحيحة، وآتيناه بها، والتمسنا منه سماعها، فقال لي: اقرأ، فقرأتها عليه، فلما انتهيت إلى الزيادة والنقصان، فَطِن وأخذ مني الكتاب، فألحق فيه بخطه النقص، وضرب على الزيادة وصححها كما كانت. ثم قرأها علينا فانصرفنا وقد طابت أنفسنا،(1/487)
وعلمنا أنه من أحفظ الناس، ذكره السخاوي. (وشرطه) أي الإبدال عمداً، (أن لا يستمر عليه) أي لا يبقى المبدَلُ على صورته لئلا يُظَن أنه ورد كذلك عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. (بل ينتهي) أي بقاء الإبدال (بانتهاء الحاجة) وهي الامتحان، (فلو وقع الإبدالُ عمداً لا لمصلحةٍ) أي معتبرة كالامتحان، (بل للإغراب مثلاً) أي ونحوه مما ليس فيه مصلحة شرعية، (فهو من أقسام الموضوع، ولو وقع غلطاً، فهو من المقلوب أو المُعَلّل) أي ما وقع فيه ذلك الإبدال من أقسامه. وقال السخاوي: بل كالموضوع، وصاحب الخلاصة جعله من أقسام المقلوب حيث قال: هو نحو حديث مشهور عن سالم، جُعل عن نافع، ليصير بذلك غريباً مرغوباً فيه. وهذا يدل على أن المقلوب لا يختص بما فيه التقديم والتأخير، فاللاحق ينافي السابق إلا أن يكون للمقلوب معنيان.
(المُصَحَّف والمُحَرَّف)
(أو إن كانت المخالفة بتغيير حرف) أي بسبب التلفظ بتغيير حرف، (أو (1/488)
حروف) أي اثنين فصاعداً (مع بقاء صورة الخط في السِّياق) أي سياق اللفظ، وأبعد محشٍ حيث قال: أي سياق الإسناد. وقال التلميذ: لا يظهر لهذا السياق كثير معنى. انتهى. ثم تغيير الحروف إما حقيقة، كما في تغيير النُقْط، أو مجازاً، كما في تغيير الشَّكْل، فإن المغير حقيقة إنما هو ذلك العارض، فاندفع ما قال التلميذ ويخرج من الشرح نظره في المتن، لأن صريح الشرح أن المحذوف ما وقع التغيير فيه بالنسبة إلى حركة الحروف، وصريح المتن، أن يكون بتغيير الحروف، وليس كذلك، فالباء باء، سواء كانت مضمومة أو مفتوحة أو مكسورة، إن كان المراد أعم من تغيير الذات والهيئة، فما وجهه، انتهى. ووجهه ما بينا، مع ما تقدم من أن المتن والشرح جعلا مؤلفاً واحداً، فلا مغايرة بينهما، بل يتحد مآلهما ولو تعدد حالهما . (فإن كان ذلك) أي التغيير (بالنسبة إلى النقطة) وفي نسخة: إلى النَّقط من نَقَطْتُّ الكتاب نَقْطَاً / وَضَعْتُ عليه النُّقْطَة. (فالمُصَحِّف) اسم مفعول من التصحيف، وهو أعم من أن يكون معه تغيير(1/489)
إعراب أم لا. (وإن كان) أي ذلك التغيير، (بالنسبة إلى الشكل) أي الحركات / 83 - أ / والسكنات، من شَكَلْت الكتاب، قيدته بالإعراب. (فالمُحَرَّف) ومنه قوله تعالى:: {{يحرفون الكلم عن مواضعه}} وفي آية: {{من بعد مواضعه}}، أي مراتبه اللائقة به. فمثال المُصَحَّف: حديث: " من صام رمضان، وأَتْبَعهُ سِتاً من شوال " صحفه أبو بكر الصُّوليّ فقال: " شيئاً " بالشين المعجمة والياء. ومثال المحرِّف: كحديث جابر رضي الله عنه: " رُمِيَ أُبَيٌّ يوم الأحزاب على أَكْحَلِه فكواه رسول الله صلى الله عليه وسلم "، صحّفه غُنْدَر وقال فيه: أَبِي، بالإضافة، وإنما هو أُبيّ بن كعب. وأبو جابر كان قد استشهد قبل ذلك بأحُد، كذا ذكره الجزري. وجعل صاحب الخلاصة المُصَحَّف أقساماً: منها ما يكون محسوساً بالبصر، إما في الإسناد، كما صحّف يحيى بن معين مُرَاجِم بالراء المهملة، والجيم، بمزَاحم، بالزاي والحاء المهملة. أو في المتن، كما صحف أبو بكر (1/490)
الصُّوليّ ستاً بشيئاً. ومنها ما يكون محسوساً بالسمع. أما في الإسناد، كتصحيف عَاصِم الأحول بِوَاصل الأحدب. قال الرازي: ظني أن هذا من تصحيف السمع لا من تصحيف البصر، لعدم الاشتباه بالكتابة، وأما في المتن، كتصحيف الدَّجاجة بالدال بالزُّجَاجَة بالزاي. ومنها ما يكون معنىً، كما تُوُهِّم مما ثبت في الصحيح " أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم صّلى إلى عَنَزَة "، وهي حَرْبة تُنصَب بين يديه أنه صلى الله عليه وسلم صلّى إلى قبيلة بني عنزة. انتهى. وابن الصلاح وغيره سمّى القسمين محرّفاً، ولا مُشَاحَّة في الاصطلاح. والفرق أدق عند أرباب الفلاح. (ومعرفة هذا النوع) أي من التغيير المشتمل على القسمين. وقال التلميذ: قوله: ومعرفة هذا النوع: أي المصحف والمحرف. انتهى. وفيه من المسامحة ما لا يخفى.(1/491)
(مهمَّة) أي أمر مهم أوقع العلماء في الاهتمام به، (وقد صنف فيه العَسْكَرِيّ والدَّارَقُطْنِيّ وغيرهما) كالخطابي، وابن الجوزي، (وأكثر ما يقع) ما مصدرية، أي أكثر وقوعه كائن (في المتون، وقد يقع في الأسماء التي في الأسانيد) أي من أسماء رجال طرق المتون، وألقابهم وأنسابهم. (ولا يجوز تعمُّد تغيير صورة المتن) المقصود ببيان حال التصحيف والتحريف، وأما النقص والإبدال، فاستطرادي (مطلقاً) أي سواء في المفردات أو المُرَكّبات، قاله التلميذ. والأظهر أن المراد بقوله مطلقاً، أي لا بتقديم ولا بتأخير، ولا بزيادة، ولا نقص بحرف فأكثر، ولا بإبدال حرف فأكثر بغيره، ولا مشدَّد بمخفَّف، أو عكسه. (ولا الاختصار منه بالنقص، ولا إبدال اللفظ المرادِف باللفظ المرادِف له). لا يخفى أن المرادف في المتن عطف على النقص، ولكن باعتبار حذف المضاف وهو الإتيان، وفي الشرح صفة اللفظ / 83 - ب / المقدَّر، فأسلوب عبارة المتن يدل على أن النقص، وإتيان المرادف، تفصيل / لتغيير المتن، والمعنى: لا يجوز تعمد تغيير المتن بشيء من هذين الوجهين. (إلا لعالم)... الخ، وقد غَيَّر الأسلوب في الشرح، حيث زاد قوله: مطلقاً، وزاد قوله: ولا الاختصار منه، بين قوله: مطلقاً وبين قوله: بالنقص فاحتاج حينئذ إلى تقدير: لا إبدال اللفظ، ليكون عطفاً على الاختصار، فصار المعنى: لا يجوز تعمُّد (1/492)
تغيير صورة المتن مطلقاً، أي أصلاً لا لعالم ولا لغيره، ولا يجوز الاختصار بالنقص ولا الإبدال بالمرادف إلا لعالم. فينبغي أن يراد بتغيير صورة المتن معنى لا يشمل الاختصار بالنقص، ولا الإبدال بالمرادف، مثل تغيير الحروف بالنقط، وتغيير حركاتها، وسكناتها كما مَّر في التصحيف والتحريف. ومَثَّل التغيير بزيادة لفظ أجنبي في أثناء المتن، ومَثَّلَ إبدال اللفظ باللفظ الأجنبي الغير المرادف. والحاصل، أنه لا يجوز ما ذكر إلا لعالم (بمدلولات الألفاظ) أي معانيها اللغوية (وبما يُحِيل) من أحاله غيره، أي بما يُغيَّر (المعاني) كأنه عطف تفسير، لذا أتى بالواو العاطفة في الشرح. (على الصحيح في المسألتين) أي مسألة اختصار الحديث، ومسألة الرواية بالمعنى، فإنهما جائزتان للعالم المذكور بناء على القول الصحيح، خلافاً لمن خالف فيهما. وأما غير العالم، فلا يجوز له ذلك باتفاق العلماء. روي أنّ بعض أصحاب الحديث رُئي في المنام وكأنه قُدَّ من شفته أو لسانه بشيء، فقيل له في ذلك؟ فقال: لفظةٌ من حديث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم غيَّرتُها ففُعِل بي هذا. قال: وكثيراً ما يقع ما يتوهَّمُه كثير من أهل العلم خطأ، وربما غيّره ويكون صحيحاً، وإن خَفي وجههُ، واستُغرب وقوعه، لا سيما فيما يُنكَر من حيث العربية، (1/493)
وذلك لتشعُّب لغاتها.
(اختصار الحديث)
(أما اختصار الحديث)... الخ مع قوله: وأما الرواية بالمعنى... الخ، تفصيل للمسألتين، وكونهما جائزتين في الصحيح كما ذكرنا. (فالأكثرون على جوازه بشرط أن يكونَ الذي يختصرهُ عالماً) اختلف العلماء في جواز الاقتصار على بعض الحديث، وحذف بعضه على أقوال: أحدها: المنع مطلقاً، بناء على معنى الرواية بالمعنى، لما فيه من التصرف في الجملة. وثانيها: الجواز مطلقاً. وثالثها: أنه إن لم يكن رَواه هو أو غيره على التمام مرّة أخرى لم يجز، وإلا جاز، وسيجيء بيانه. ورابعها: وهو الصحيح الذي ذهب إليه الأكثرون، واختاره ابن الصلاح، والتفصيلُ، وهو منع الجواز من غير العالم، والجواز منه سواء جوَّزنا الرواية بالمعنى أم لا، وسواء رواه هو أو غيره على التمام مرة أخرى أم لا. (1/494)
(لأن العالم لا يَنْقص من الحديث إلا ما لا تعلُّق له) أي / 84 - أ / للمنقوص والمحذوف (بما يُبْقيه) بالتخفيف، ويُشَدَّد أي بما يترك (منه) أي من الحديث، (بحيث لا تختلف الدلالة ولا يختل البيان) أي الحكم، (حتى يكون) أي لا يختلف، حتى لو اختلف لكان (المذكور والمحذوف بمنزلة خبرين) أي منفصلين. (أو يدل / ما ذَكَرَه على ما حَذَفه) ليس عطفاً على " ما " في حَيِّز حتى كما لا يخفى، بل هو عطف بحسب المعنى على حَيِّز " إلا " في قوله: إلا ما لا تعلق... الخ، والمعنى: أن العالم لا يُنقِص إلا إذا لا يتعلق المحذوف بما يبقيه، أو إلا إذا يدل... الخ، ويجوز أن يكون قوله: أو يدل، عطفاً على قوله: لا تعلق له... الخ، عطف الفعلية على الاسمية، ويكون قوله: ما حذفه، من وضع الظاهر موضع الضمير العائد إلى " ما " المقدرة قبل قوله: يدل. (بخلاف الجاهِل) حيث لا يجوز له اختصار ؛ (فإنه) أي الجاهل، (قد يُنْقِص ما له تعلُّق) أي ضروري يفسد بتركه المعنى. (كتركه الاستثناء) أي في نحو قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: " لا يباع الذهب بالذهب إلا سَوَاءً بسَواء "، فإنه لا يجوز حذفه بلا خلاف، وفي معناه ترك (1/495)
الغاية نحو قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: " لا تُبَاعُ الثَّمَرَةُ حتى تُزْهِيَ ". قيل: وهذا الجواز للعالم إنما هو إذا ارتفعت منزلته عن التُهَمَة، فأما من رَوَاه تامّاً فخاف إن رواه ثانياً ناقصاً، أن يُتَّهم بزيادة فيما رواه أولاً، أو بنسيانٍ لغفلته وقلةِ ضبطه فيما رواه ثانياً، فلا يجوز له النقصان ثانياً، وكذا لا يجوز للمتهم ابتداءً الاقتصارُ على بعضه، إذا كان قد تعيَّن عليه أداؤه بتمامه، لئلا يخرج بذلك عن حَيَّز الاحتجاج. وأما تقطيع مصنف الحديث الواحدّ، وتفريقه في الأبواب للاحتجاج به في المحال المتفرقة المتنوعة، فهو إلى الجواز أقرب، وقد فعله الأئمة: كمالكٍ، وأحمد، وأبي داود، والنسائي، وغيرهم. وحكى الخَلاَّل عن أحمد أنه ينبغي أن لا يفعل، وكذا حكى عنه أنه قال: ينبغي أن يحدث بالحديث ولا يغيِّره. وقال ابن الصلاح: لا يخلو ذلك عن كراهة. قال ابن الجوزي: وفي قوله نظر، ولعل وجهه أنه لا فرق بين الرواية والاحتجاج كما يُشْعِر به كلام السخاوي في شرح التقريب، وهذا احتجاج، والاحتجاج ببعض الحديث جائز ؛ لدلالته على الحكم المستقل. (1/496)
(الرواية بالمعنى)
(وأما الرواية بالمعنى) إشارة إلى إبدال اللفظ بمرادفة، (فالخلاف فيها شهير، والأكثر) أي من أهل الحديث والفقه والأصول، ومنهم الأئمة الأربعة، (على الجواز) أي بالشرط المذكور (أيضاً) أي كما في اختصار الحديث. (ومن أقوى حججهم) أي أدلتهم، (الإجماع على جواز شرح الشريعة) أي أحكامها من الكتاب والسنة، (للعجم) وهم ما عدا / 84 - ب / العرب (بلسانهم) أي بلغاتهم المختلفة من الفارسية، والتركية، والهندية، لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: " بلِّغوا عني " و " ليُبلِّغ الشاهدُ منكم الغائبَ ". (للعارف به) أي بما ذكر من اللِّسَانين. (فإذا جاز الإبدال بلغة أخرى، فجوازه باللغة العربية أولى) أي وبالقبول أحْرى، فيه أنه يجوز، بل يجب أن يكون الإبدال بلغة للضرورة ولا ضرورة (1/497)
هنا، وأما ما قال شارح من أن الإبدال بلغة أخرى قد يكون بدون الضرورة، كالتفاسير الفارسية، تؤلف لمن يُحسن العربية وغيرها، فغير مقبول، إذ أصل وضع كتب الشريعة بلسان العجمية، إنما / هو لتفهيم من لا يحسن العربية، وإلا فلا وجه للعدول عنها وقد ورد النهي عن التكلم بغير العربية لمن يُحسِنها، إلا على سبيل الضرورة. وأما قوله: وقد رُوي عن غير واحد من الصحابة التصريح بذلك، أي بأن الإبدال بلغة أخرى بدون الضرورة جائز، فممنوع ومحتاج إلى بيان ذلك. وأما قوله: ويدل عليه أيضاً رواية الصحابة ومن بعدهم القصة الواحدة بألفاظ مختلفة، فمدفوع بأنه إما محمول على تعدد الواقعة، أو على نقل المعنى بالضرورة. وقد ورد في المسألة التصريح بأن التغيير لا يجوز إلا للضرورة، وهو ما رواه ابن مَنْدَه في " معرفة الصحابة "، من حديث عبد الله بن سليمان الليثي قال: قلت: يا رسول الله إني أسمع منك الحديث لا أستطيع أن أؤديه كما أسمعُ منك، أُزِيدُ حرفاً أو أُنِقص حرفاً، فقال صلى الله عليه وسلم: " إذا لم تُحِلوا حراماً، ولم تحرموا حلالاً، وأصبتم المعنى، فلا بأس ". فذكر ذلك للحسن فقال: لولا هذا ما حدثنا. (1/498)
ومن الغريب أن الشارح جعل هذا الحديث مُتَمَسَّكاً لِمُدَّعَاه، وغَفَل عن القيود من عدم الاستطاعة، ووجود الإصابة، وما في معناه، ثم مع هذا قال: " فلا بأس "، فتأمل هذا مع قوله صلى الله تعالى عليه وسلم " نَضَّر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها، وأداها كما سَمِعها ". وقد قلَّ رواية المتورعين من الصحابة كالصَّديق، وعن التابعين كإمامنا الأعظم، ومن الأتباع كبعض المشايخ، خوفاً من وعيد: " من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعدَه من النار ". (وقيل: إنما يجوز في المفردات) أي لظهور ترادفها، فتغييره يسير، (دون المركَّبات) أي لاحتياجها إلى زيادة تغيير. (وقيل: إنما يجوز لِمَن يستحضُر اللفظ، ليتمكن من التصرف فيه) وضَعْفه ظاهر. (وقيل: إنما يجوزُ لمن كان يحفظ الحديث فنسِي لفظَه، وبقيَ معناهُ مرتسِماً) أي منتقِشاً (في ذِهنه، فله أن يرويه بالمعنى، لمصلحة تحصيل الحُكم (1/499)
منه) لو قيل: فعليه أن يرويه، لا يبعد، خصوصاً إذا كانت الرواية / 85 - أ / منحصرة فيه. (بخلاف مَن كان مستحضِراً للفظهِ) أي للفظ الحديث الصادر من مِشكاة صدر النبوة، المنعوت بأنه لا ينطق عن الهوى، وهذا القول عندي هو الأوْلَى، حتى من الأوْلى، لأن المرء ولو كان في غاية من الفصاحة والبلاغة، لا ينهض إلى التعبير عن ألفاظ من أوتي جوامع الكَلِم بما يؤدي معانيها أجمع، بحيث لا يزيد ولا ينقص، بل لا يتصور أن يكون مساوياً لها في الجلاء والخفاء، لا سيما وهو مفوتٌ للتبرُّك بألفاظ صاحب الشريعة، ومُفتحٌ لأبواب الشك والشُّبهة في موارد السُّنة. ولذا ذهب قوم من أهل الحديث والأصول إلى أنه لا تجوز الرواية إلا بلفظه، فهو المروي عن ابن سيرين وغيره من المحتاطين في دين الله، ممن يشترطه، بل رواه ابن السَّمعاني عن ابن عمر. وقيل: لا يجوز في حديث النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، ولا يجوز في حديث غيره، وهو مروي عن مالك، ولعله رأى التهوين في ذلك / قيدهُ بعضهم بما إذا لم يكن مما تُعُبِّد بلفظه، ولا هو من جوامع الكَلِم. (وجميع ما تقدم يتعلق بالجواز وعدمهِ) وهذا توطئة لقوله: (ولا شكَّ أنّ (1/500)
الأولى إيراد الحديث) أي مطلقاً (بألفاظهِ دونَ التصرُّف فيه) أي في الحديث، كما قاله الحسن وغيره ؛ ولذا كان ابن مَهْدي كما حكاه عنه أحمد، أنه يتوقى كثيراً ويحبُّ أن يحدث بالألفاظ فقط. وقال القاضي عياض: الذي استمر عليه أكثر المشايخ أن ينقلوا الرواية كما وصلت، ولا يغيروها في كتبهم. (قال القاضي عياض: ينبغي) يكون بمعنى يجب، (سدّ باب الرواية بالمعنى) أي مطلقاً، أو بلا ضرورة، ويؤيد الأول قوله: (لئلا يتسلّط) أي يجترئ. (من لا يحسنُ) أي العربية وصحة البدلية (ممن يَظُنّ) بصيغة الفاعل أي يغلب على ظنه (أنه يًحْسِن). قال تلميذه: أي يِرِى نفسه أنه يُحسن، وليس كذلك، أي والحال أنه ليس كذلك. وقال محشٍ: قوله: ممن يظن... الخ بيان لقوله: لمن لا يحسن، ولفظ يُظن مجهول، أي من لا يُحسن في الواقع حال كونه ممن يَظنه الناسُ أنه يُحسن، بخلاف مَن ليس للناس في شأنه حُسن ظن، إذ لا يَقبل الناس روايته، ولا يلتفتون إلى نقله، فلا يؤثر تغييره زيادة فساد، ولا يقع له تسلط. انتهى. وتكلفه مما لا يخفى، والأول أولى لما فيه من إشارة لطيفة إلى جرأة التغيير إنما هو ممن يكون جهلُه مركباً، ولا يُفَرِّق بين لفظهِ ولفظ صاحب الوحي، بل يلزم منه أنه فضَّل كلامَه على كلامه، وهذا غاية الحماقة، بل خارج عن حَيِّز (1/501)
الدِّيانة. / 85 - ب / (كما وقَع لكثيرٍ من الرواة قديماً وحديثاً) أي من الأزمنة المتقدمة، والمتأخرة. قال السخاوي: ولكنْ كادَ الجوازُ أن يكون إجماعاً ! قلت: فليحملْ على محلِّ الضرورة جمعا بين الأدلة، وتوفيقاً بين كلام النَقَلة. (والله الموفِّق).
(غريب الحديث)
(فإنْ خَفَي المعنى) أي معنى الألفاظ الموضوعة، وذِكْر هذا الكلام استطرادي بأدنى مناسبة. والخفاءُ: تارة باعتبار لفظ الحديث مفرَداً، وتارةً باعتباره مركباً وسيأتي بيان الثاني وبيانُ الأول قوله: (بأن كان اللفظ مستعملا بقِلّة) أراد به غريب الحديث، وهو ما جاء في المتن من لفظ غامض بعيدٍ عن الفهم لِقِلّة استعمال ه، (احتيج إلى الكتب المصنفة في شرح الغريب)، وهو فنٌ مهم يَقبح جهلُه للمحدثين خصوصاً، وللعلماء عموماً، ويجب أن يُتَثَّبتَ فيه ويُتَحَرَّى. سئل الإمام أحمد عن حرف من غريب الحديث، قال: سلوا أصحاب الغريب، فإني أكره أن أتكلَّم في قول رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بالظن. ونظيره ما روي عن إبراهيم التَّيمِيّ: أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه سُئل عن قوله تعالى:: {{وفاكهة وأبا}} فقال: " أيّ سماءٍ (1/502)
تُظِلُّني وأيّ أرض تُقِلُّني إذا قلت في كتاب الله تعالى ما لا أعلم ". (ككتاب أبي عُبيد) بالتصغير، (القاسم بن سلاَّم) بفتح مهملة، وتشديد لام، توفي سنة أربع وعشرين ومئتين. (وهو) أي كتابه مع أنه تعب / فيه جداً، فإنه أقام فيه أربعين سنة، بحيث استقصى وأجاد بالنسبة لمن قَبْله. (غير مرتَّب) لكن وقع من أهل العلم بموقع جليل، وصار قدوةً في هذا الشأن. ولم يزل الناس ينتفعون بكتابه. وعمل أبو سعيد الضريرُ كتاباً في التعقب عليه. (وقد رتبه الشيخ موفق الدِّين بن قُدَامَة) بضم قاف، وتخفيف دال مهملة، (على الحروف) أي على ترتيب الحروف كما في الصِّحاح وغيره، (وأجمعُ منه) أي من كتاب ابن سَلاّم، وهو أنسب، أو من كتاب ابن قدامة، وهو أقرب، (كتاب أبي عُبيد الهَرَويّ) أي الحنبليّ، (وقد اعتنى به) أي بكتاب الهَرَويّ، (الحافظُ أبو موسى المَدِيني) بفتح فكسر، (فنقب) بتشديد القاف، أي فتش (عليه) متعلق ب: معترضاً، على سبيل التضمين لأن التنقيب يتعدى بفي. قال تعالى:: {{فنقبوا في البلاد}} وأصل التنقيب: التفتيش عن الشيء، والبحث عنه. (1/503)
(واستدرك) أي زاد عليه بأشياء. (وللزمخشري كتاب اسمه " الفائق "، حسن الترتيب) قال محش: فيه ما فيه، لكن يحتاج فيه إلى التنبيه. (ثم جمع الجميع ابن الأثير في " النهاية "، وكتابه أسهل الكتب تناولا) أي أخذا واستنباطا في المعنى المقصود لما يذكر / 86 - أ / فيه لفظ الحديث غالبا، (مع إعواز قليل فيه) مصدر أعوزه، أي أحوجه يعني: مع فقدان استيفاء في مواضع قليلة، وقد لخصه شيخ مشايخنا الجلال السيوطي رحمه الله تعالى وزاد أشياء، وسماه " الدر النثير في تلخيص نهاية ابن الأثير ". وهو كتاب لا يستغني عنه الطالب. (وإن كان اللفظ مستعملا بكثرة لكن في مدلوله) أي معناه المقصود في الدلالة على المطلوب، وهو المستفاد من مدلوله التركيبي، (دقة) أي خفاء، (احتيج إلى الكتب المصنفة في شرح معاني الأخبار) بفتح الهمزة، (وبيان المشكل) عطف على " شرح الريب " متنا، وعلى " شرح " شرحا، وقوله: (منها) أي من الأخبار أو معانيها. (وقد أكثر الأئمة من التصانيف في ذلك كالطحاوي) من الحنفية، (1/504)
(والخطابي، وابن عبد البر) من المالكية، (وغيرهم) وقد سبق أن الإمام الشافعي قد سبقهم، وذكر جملة منها في جزء في كتابه " الأم ".
(الجهالة وسببها)
(ثم الجهالة بالراوي) أي بذاته أو صفاته، (وهي) أي الجهالة، (السبب الثامن في الطعن) أي من أسباب الطعن في الرواة. (وسببها) الأظهر ترك الواو، ليكون على وفق قوله فيما سبق: ثم المخالفة... الخ، وفيما سيأتي: ثم سوء الحفظ، ويمكن أن يكون الواو شرحا، ومزجها الكتاب بمتن الكتاب، لعدم التمييز بينهما على وجه الصواب. (أمران): (أحدهما أن الراوي) قال محش: في الحمل مسامحة، وفيه أن المطابقة ظاهره. (قد تكثر نعوته) كأنه أراد بالنعوت ما يدل على الذات، سواء كان باعتبار معنى أو لا، ولذا قال: (من اسم أو كنية، أو لقب، أو صفته أو حرفة نسبة) وفي نسخة: أو نسب، وسيجيء تفصيله، وأو هذه / مانعة الخلو، فاندفع ما قيل: إن الأصوب هو الواو ليكون المجموع بيان النعوت، لأنها بأنواعها بيان لها، وقيل: المراد من أسماء أو كنى وألقاب... الخ، ويرد عليه أنه يخرج ما إذا كان له اسم واحد، وكنية واحدة، ولقب واحد، مع وجود الجهالة هناك، فلا ينحصر سبب الجهالة في الأمرين. ويرد على الوجهين، أنه لا يجوز عد الاسم نعتا إلا بأن (1/505)
يقال: المراد مسمى بالاسم. (فيشتهر) أي الراوي، (بشيء منها) أي من النعوت، (فيذكر) أي الراوي، (بغير ما اشتهر به) أي من النعوت مما يعلم به، فيخرج عن التدليس، (لغرض) متعلق ب: يذكر، (من الأعراض) أي لأي غرض منها ككونه مكثرا للحديث عنه مثلا. (فيظن) بصيغة المعلوم أي الظان أو بصيغة المجهول وهو الأظهر، أي فيظن الراوي (أنه آخر) أي غيره من الرواة، (فيحصل الجهل بحاله) وبعد هذا ما تنتفي / 86 - ب / جهالته. (وصنفوا فيه أي في هذا النوع) أي في بيان هذا النوع، وقيل: أي في شأن إزالة هذا النوع، وبعده لا يخفى، (الموضح) بالتخفيف ويجوز تشديده (لأوهام الجمع والتفريق) من إضافة المصدر إلى المفعول، أي جمع الصفات في رجل وتفريقها بحيث يوجد كل منها في رجل آخر، والمراد بالموضح اسم جنس لكلّ ما صُنِّف في هذا النوع، أي ما يوضح أوهاماً ناشئة من اجتماع التفريق فيه، وذكرِ حال واحد منها، فلا يرد ما وهم محشٍ حيث قال: الموضح اسم كتاب (1/506)
ولفظ صنفوا لا يلائمه، والأظهر صنف، ويؤيد ما قلنا غير لفظ صنفوا قوله: (أجاد) أي أحسن (فيه) أي في بيان هذا النوع المسمى بالموضح، (الخطيب وسبقه إليه) إلخ لعدم إمكان سبق اثنين في اسم كتاب لواحد، ثم هو يحتمل السبق الزماني والرتبي. (عبد الغني) قال التلميذ: هو ابن سعيد المِصْري انتهى. وفي نسخة: (ابن سعيد المصري وهو الأزديّ). قيل: سمى كتابه " إيضاح الإشكال "، وهو لا يفيد الإشكال، لأنه ما خرج عن كونه موضحاً، لأنه مصدر بمعنى الفاعل، أو أريد به المبالغة، كرجل عدل، (ثم الصُّورِيّ) وقال التلميذ: هو تلميذ عبد الغني. وشيخ الخطيب. انتهى. قيل: لكن ما أجاد فيه كالخطيب، وهو ظاهر، لأن هذا دأب المتأخرين لكن الفضل للمتقدم، ولعل الشيخ أشار بهذا إلى أن الكل صنفوا فيه " الموَضَّح " ، وإن كان هذا الاسم لكتاب الخطيب، كما حكي أن بعض العلماء صنف كتاباً في ثلاثين سنة، ثم أحد من تلاميذه هذبه ورتبه، في ثلاث سنين، فصار أحسن، فأراد به الاستحسان من أهل مجلس عَرَض عليهم الكتابين، فقال له بعض الظرفاء: إنما صنّفت أنت هذا الكتاب في ثلاث وثلاثين سنة، فلولا مصنفه لما بَلَغْته. (ومن أمثلته:) أي هذا النوع: (محمد بن السائب بن بِشْر) بكسر موحدة، فسكون معجمة، (الكَلْبي) اشتهر بهذا الاسم والنسب لكنه (نسبه بعضهم) أي الرواة (إلى جدّه فقال: محمد بن بِشْر / وسماه بعضهم حمّاد بن السائب) أي بناء (1/507)
على أن له اسمين، أو على أن الحَماد لقب له. (وكنَّاه) بالتشديد، (بعضهم: أبا النَّصر) بالصاد المهملة، (وبعضهم: أبا سعيد وبعضهم: أبا هشام) بناء على إضافة إلى أحد أولاده. (فصار يظُن) بصيغة المجهول، (أنه) أي ما ذكر باعتبار ما صدق عليه، (جماعة وهو واحد) أي والحال أنه واحد. (ومن لا يعرف حقيقة الأمر فيه) أي في حال المسمى بهذه الأسماء. قال التلميذ: وهو أن هذه مسميات لمسمى واحد (لا يعرف شيئاً من ذلك) أي المذكور من الأسماء غير الأول المشتهر به، فيلتبس عليه الحال.
(الوُحْدَانِ)
(والأمر الثاني: أن الراوي / 87 - أ / قد يكون مُقِلاً من الحديث) أي من روايته أو من التحديث به، (فلا يَكْثُرُ الأخذ) أي أخذ الحديث (عنه) أي عن الراوي فيصير مجهول الذات. (وقد صنفوا فيه) أي في هذا النوع، أو فيمن قَلَّ الأخذ عنه، (الوُحْدَانِ) (1/508)
بضم الواو، وسكون المهملة، جمع الواحد والمراد من الوُحْدَانِ، المؤلفات التي في شأن المُقلِّ من الحديث. وهذا يؤيد ما ذكرناه في المُوضِح، كما يقوّيه المُبهمات. (وهو) أي المقل، وأغرب شارح حيث قال: أي هذا النوع (من لم يَروِ عنه إلا واحد) أي من الصحابة والتابعين، ومنَ بعدهم. قيل: فُسِّرَ المُقِلّ بمن لم يرو... الخ، وإن كان بينهما عموم من وجه بحسب الظاهر لاجتماعهما فيما كان حديث الراوي واحداً لم يرو عنه إلا واحد، وصدق مُقِل الحديث بدون الثاني فيما إذا كان الحديث واحداً رواه كثيرون عنه، وصدق الثاني بدون المُقِل، فيما إذا كان الحديث كثيراً والراوي واحداً، لأن إقلالَ الحديث يُعَد سبباً للجهالة، وهي إنما تحصل بتفرد الراوي، سواء كثر الحديث أم لا، ولا تحصل مع كثرة الرواة، وإن كان الحديث واحداً. وفي " المقدمة ": بلغني عن يوسف بن عبد الله الأندلسي وِجَادةً قال: كل من لم يروِ عنه إلا رجل واحد، فهو عندهم مجهول، إلا أن يكون رجلاً مشهوراً في غير حمل العلم، كاشتهار مالك بن دينار بالزُّهد، وعَمرو بن مَعْدِي كَرِب بالنجدة، أي الشجاعة، (ولو سمي) قيد لقوله: قد يكون مُقِلاً. (فمِمَن جمعه مسلم) أي في كتابه المسمى كتاب " المُنْفَرِدات والوُحدان " (والحسن بن سُفيان وغيرهما). واعلم أن المقلّ قد يكون مسمى أو غير مسمى (1/509)
ويفهم ذلك من لو الوصلية الدالة على أنّ الجزاء الأول بنقيض الشرط، فيجب أن يحمل قوله: (أوْ لا يسمّى) على مَن لا يكون مُقِلاً، ويجعل عطفاً على قوله: قد يكون مقلاً ؛ لئلا يصير لغواً مستدركاً، ثم هو على بناء المجهول ونائب الفاعل قوله: (الراوي) وكان الأنسب أن يقول: أو الراوي لا يسمى. بتقدير الراوي قبل قوله: لا يسمى كما قال فيما قيل: الراوي قد يكون مُقِلاً، وليصير أبعد من العطف على قوله: سُمَّي، والأمر فيه سهل، (اختصاراً) علة (من الراوي) متعلق به. (عنه) أي عن الراوي الأول، (كقوله: أخبرني فلان أو شيخ، أو رجلُ، أو بعضهم، أو ابن فلان) وهذا للعلم من الخارج بأن شيخ المبهم مثلاً ليس إلا واحد. (ويستدل / على معرفة اسم المبهم بوروده من طريق آخر مسمى) هذا يدل على أنَّ من لا يسمى مجهول، وإن لم يُقِل، فهذا دليل آخر على أنه لا يجوز عطف قوله: لا يسمى، على قوله سُمَّي، فإنه يلزم تخصيصه بالمقلّ حينئذ، / 87 - ب / وحاصل ما تقتضي عبارة الشرح والمتن، أن تكون موجبات الجهالة أربعة، لا اثنان، الأول: كثرة النعوت، والثاني: الإقلال، أي عدم الرواية، إلا واحد. والثالث: عدم التسمية. والرابع: أن يروي عنه اثنان فصاعداً، ولم يوثق ولم نجد لعبارته تأويلاً. (1/510)
(المُبهم)
(وصنفوا فيه) قال تلميذه: أي فيمن أُبِهم. (المبهمات) أي المصنفات التي صنفوها فيمن لا يسمى، أو أبهم في الحديث إسناداً أو متناً من الرجال والنساء، وهو فن جليل ألَّف فيه غير واحد من الحفاظ، وكتاب أبي القاسم بن بَشْكُوال أجمع مصنف فيه. (ولا يقبل حديث المبهم ما لم يسم) أي من طريق آخر ؛ (لأنّ شرط قبول الخبر عدالة رواته) وكذا ضبطهم. (1/511)
ومن أبهم اسمه) أي وصفه، (لا تعرف عينه) أي ذاته، (فكيف عدالته؟ !) أي فلا يعرف كونه ثقة. (وكذا لا يقبل خبره) أي حديثه، وهو تفنن في العبارة حيث قال مرة: حديثه، ومرة: خبره. (ولو أبهم) على بناء المجهول، (بلفظ التعديل، كأن يقول الراوي عنه:) أي عن المجهول: (أخبرني الثقة ؛ لأنه) تعليل لقوله: لا يقبل، أي لأن المجهول المروي عنه، (قد يكون ثقة عنده، مجروحا عند غيره) قال التلميذ: يلزم من هذا، تقديم الجرح المتوهم على التعديل الثابت، وهو خلاف النظر، وقد تقدم على أنه لو عرف جرح فيه كان مختلفا فيه، ليس بمردود. انتهى. قلت: الاختلاف فرع معرفته، والكلام هنا إنما هو في المجهول، والحكم على المجهول بكونه عدلا أيضا مجهول، فلهذا خبره غير مقبول، فتأمل فإن كلامه مدخول. فإن قلت: الظاهر من عبارة المتن أن الواو هو الداخلة (1/512)
على لو الوصلية، فما وجه جعل لو شرطية بحذف الجزاء، وجعل المجموع عطفا على ما قبله؟ قلت: لعل وجهه أن الحكم الأول: - أي عدم قبول حديث المبهم، إذا لم يكن بلفظ التعديل - اتفاقي. والثاني: - أي عدم قبول حديث المبهم بلفظ التعديل - اختلافي. وقوله: على الأصح، قيد له، فلو أبقى عبارة المتن على ظاهره، توهم أن المجموع اختلافي. وقوله: على الأصح قيد لهما، ولهذا قال: (وهذا) أي الحكم الثاني، (على الأصح في المسألة) أي مسألة حديث المبهم. (ولهذا النكتة) وهي العلة المتقدمة، (لم يقبل المرسل ولو أرسله العدل) وصلية، (جازما به) أو حال كون العدل قاطعا بإرساله في أنه في حكم إيصاله. (لهذا الاحتمال بعينه) أي لهذه النكتة الموجبة لعدم قبول خبر المبهم بلفظ التعديل، وهو احتمال أن يكون مجروحا، وذكره تأكيد، وإلا فيغني عنه قوله فيما قبل: ولهذا النكتة. (وقيل: يقبل تمسكا بالظاهر، إذ الجرح على خلاف الأصل، وقيل: إن كان القائل عالما) أي مجتهدا، كمالك، والشافعي، ونحوهما ممن يميز بين / الثقة / 88 - أ / وغيره. قال التلميذ: مثل قول الشافعي: أخبرني الثقة. (أجزأ ذلك في حق من يوافقه في مذهبه) أي كفى هذا التعديل في حق (1/513)
مقلديه في مذهبه، وعلله ابن الصلاح بأنه لا يورد ذلك احتجاجا بالخبر على غيره، بل يذكر لأصحابه قيام الحجة عنده على الحكم، وقد عرف من روى عنه واختاره إمام الحرمين، ورجحه الرافعي في " شرح المسند ". (وهذا) أي القول الأخير، (ليس من مباحث علوم الحديث) أي وإنما ذكره استطرادا، وموافقة للمقام استشهادا. (والله الموفق).
(مجهول العين)
(فإن سمي الراوي) أي ووثقه، (وانفراد راو واحد بالرواية عنه، فهو مجهول العين) وهذا أحد قسمي المقل من الحديث الذي أشار إليه هناك بقوله: ولو سمي. وإنما ذكره هنا توطئة لقوله الآتي: أو اثنان، وإلا فيكفيه أن يقول فيما قبل: وقد يكون مقلا، وهو مجهول العين. وتسمية الراوي المنفرد المسمى بالمجهول العين مجرد اصطلاح. قال التلميذ: في مجهول العين خمسة أقوال صحح بعضهم عدم القبول. (1/514)
انتهى. وقال الجزري: مجهول العين: كل من لم يعرفه العلماء، ولم يعرف حديثه إلا من جهة راو واحد قاله الخطيب. وقال ابن عبد البر: كل من لم يرو عنه إلا واحد، فهو مجهول عندهم، إلا أن يكون مشهورا بغير حمل العلم، كمالك بن دينار في الزهد، وعمرو بن معدي كرب في النجدة. قال الخطيب: وأقل ما يرفع الجهالة أن يروي عن الرجل اثنان فصاعدا من المشهورين بالعلم. قال الحافظ أبو عمرو - يعني ابن الصلاح - معترضا عليهما: قد خرج البخاري عن مرداس بن مالك الأسلمي، ولم يرو عنه إلا قيس بن أبي حازم، وخرج مسلم عن ربيعة بن كعب، ولم يرو عنه غير أبي سلمة، فدل على خروجه من الجهالة برواية واحد. وأجيب بأن مرداسا وربيعة صحابيان، والصحابة كلهم عدول، فلا يضر الجهل بأعيانهم، وبأن الخطيب شرط في الجهالة عدم معرفة العلماء، وهذان مشهوران عند أهل العلم، فلم يخالف البخاري، ومسلم نقل الخطيب. انتهى. والمرداس من أهل بيعة الرضوان، وربيعة من أهل الصفة على ما في " الخلاصة ". ولعل المصنف اختار قول ابن عبد البر، لما أنه لا يتوهم فيه الإشكال حتى يحتاج إلى دفع السؤال. (1/515)
(كالمبهم) أي في الحكم، يعني: فلا يقبل حديث مجهول العين كالمبهم، (إلا أن يوثقه) بالتشديد، أي يزكيه أحد من أئمة الجرح والتعديل، (غير من ينفرد عنه على الأصح، كذا) أي الحكم على الأصح إذا زكاه (من ينفرد) وفي نسخة: من انفرد (عنه). قال التلميذ: هذا اختيار ابن القطان، وقيد الموثق بكونه من أئمة الجرح و / 88 - ب / التعديل، وقد أهمله المصنف، ثم يقال: إن كان الذي انفرد عنه راو واحد من التابعين، ينبغي أن يقبل خبره، ولا يضره ما ذكر ؛ لأنهم قبلوا المبهم من الصحابة، وقبلوا مرسل الصحابي، وقالوا: كلهم عدول. واستدل الخطيب في " الكفاية " على ذلك بحديث: " خير القرون قرني ثم الذين يلونهم " وهذا الدليل بعينه جار في التابعي، فيكون / الأصل العدالة إلى أن يقوم دليل الجرح، والأصل لا يترك للاحتمال، والله سبحانه وتعالى أعلم. (إذا كان متأهلا لذلك) أي لتزكيته، فحينئذ يخرج عن اسم الجهالة، وهو مختار أبي الحسن بن القطان كما سبق. قال التلميذ: وقد يقال ما الفرق بين من ينفرد عنه، وبين غيره حتى يشترط تأهل غير المنفرد للتوثيق دون المنفرد؟ ! انتهى. والصحيح الذي عليه أكثر العلماء من أهل الحديث وغيرهم، أنه لا يقبل مطلقا، وقيل: يقبل مطلقا، وقيل: إن كان المنفرد بالرواية عنه لا يروي إلا عن عدل، كابن (1/516)
مهدي، ويحيى بن سعيد، قبل وإلا فلا، وقيل: إن كان مشهورا في غير العلم كالزهد، والشجاعة، يخرج عن اسم الجهالة، ويقبل حديثه وإلا فلا.
(مجهول الحال = المستور)
هذا، (أو إن روى عنه اثنان فصاعدا ولم يوثق)، قال التلميذ: قيدهما ابن الصلاح بكونهما عدلين، حيث قال: ومن روى عنه عدلان وعيناه فقد ارتفعت عنه هذه الجهالة، أعني جهالة العين. وقال الخطيب: أقل ما يرفع الجهالة عنه رواية اثنين مشهورين بالعلم، والمصنف أهمل ذلك. انتهى. ثم الظاهر من إظهار " إن "، أنه معطوف على: سمى، فلا يظهر اعتبار التسمية ههنا لا وجود ولا عدما، بل الظاهر حينئذ هو الإطلاق، ويحتمل أن يجعل عطفا على قوله: انفرد، بأن يقدر لفظة روى، كما هو ظاهر عبارة المتن، فيكون التقدير: أو إن سمي وروي عنه اثنان، بدون كلمة " إن "، فيلزم اعتبار التسمية فيه أيضا، وهذا مما يدل على اعتبار التسمية، فيه أن مطلق الراوي المنفرد مجهول العين، سمي أو لم يسم، فذكر التسمية فيه مشعر باعتباره فيما هو توطئة له، لكن لا يعلم حال: " اثنان فصاعدا، و لم يوثق " مع تسميتها. (1/517)
(فهو مجهول الحال) أي من العدالة وضدها، مع عرفان عينه برواية عدلين عنه، ذكره السخاوي. وحاصله: أن جهالة العين ارتفعت برواية اثنين، لأنه ما لم يوثق به يبقى مجهول الحال. (وهو المستور) الظاهر أنه أدرج فيه قسمي مجهول الحال، وسمى كلا منهما مستورا، وإن كان ابن الصلاح وغيره سمى الأخير مستورا لوجود الستر في كل منهما وهما مجهول العدالة الظاهرة، والبطانة. ومجهول العدالة الباطنة دون الظاهرة. والمراد بالباطنة ما في نفس الأمر، وهي التي ترجع إلى أقوال المزكين، وبالظاهرة ما يعلم من ظاهر الحال. (وقد قبل روايته) أي المستور، (جماعة) منهم أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه، (بغير قيد) يعني بعصر دون عصر ذكره السخاوي. وقيل: أي بغير قيد التوثيق وعدمه، وفيه أنه إذا وثق خرج عن كونه مستورا، فلا يتجه قوله: بغير قيد. واختار هذا القول، ابن حبان تبعا للإمام الأعظم ؛ إذا العدل عنده: من لا يعرف فيه الجرح، قال: والناس في أحوالهم على الصلاح والعدالة حتى يتبين منهم ما يوجب القدح، ولم يكلف الناس ما غاب عنهم، وإنما كلفوا الحكم للظاهر، قال تعالى: : {{ولا تجسسوا}} ولأن أمر الأخبار مبني على الظن، و (إن بعض الظن (1/518)
إثم)، ولأنه يكون غالبا عند من يتعذر عليه معرفة العدالة في الباطن، فاقتصر فيها على معرفة ذلك في الظاهر، وتفارق الشهادة، فإنها تكون عند الحكام ولا يتعذر عليهم ذلك فاعتبر فيها العدالة في الظاهر / والباطن. قال ابن الصلاح: يشبه أن يكون العمل على هذا الرأي، في كثير من كتب الحديث المشهورة، في غير واحد من الرواة الذين تقادم العهد بهم، وتعذرت الخبرة الباطنة بهم، فاكتفي بظاهرهم، وقيل: إنما قبل أبو حنيفة رحمه الله في صدر الإسلام حيث كان الغالب على الناس العدالة، فأما اليوم فلا بد من التركيز لغلبة الفسق، وبه قال صاحباه أبو يوسف، ومحمد. وحاصل الخلاف: أن المستور من الصحابة، والتابعين وأتباعهم، يقبل بشهادته صلى الله تعالى عليه وسلم لهم بقوله: " خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم " وغيرهم لا يقبل إلا بتوثيق، وهو تفصيل حسن. (وردها) أي رواية المستور، (الجمهور) وقالوا: لا تقبل رواية المستور، للإجماع على أن الفسق يمنع القبول، فلا بد من ظن عدمه وكونه عدلا، وذلك مغيب عنا، وقيل: إن كان الراويان أو الرواة عنه ممن لا يروي عن غير عدل قبل، وإلا فلا. (1/519)
(والتحقيق أن رواية المستور، ونحوه) أي من المبهم ومجهول العين (مما فيه الاحتمال) أي احتمال العدالة وضدها، (لا يطلق القول بردها ولا بقبولها) ولعل هذا مقيد بما عدا السلف، (بل هي) أي روايته، (موقوفة) أي عن الحكم بها. (إلى استبانة حاله) أي ظهورها من التوثيق وغيره، (كما جزم) أي بالوقف (إمام الحرمين) ورأى أنا إذا كنا نعتقد على شيء، يعني مما لا دليل فيه بخصوصه، بل للجري على الإباحة الأصلية، فروى لنا مستور تحريمه، أنه يجب الانكفاف عما كنا نستحله إلى تمام البحث عن حال الراوي، قال: وهذا هو المعروف من عادتهم وشيمهم، وليس ذلك حكما منهم بالحظر المرتب على الرواية، وإنما هو توقف في الأمر، فالتوقف عن الإباحة يتضمن الانحجاز، وهو في معنى الحظر، وذلك مأخوذ من قاعدة في التشريعة ممهدة وهي: التوقف عند بدو ظهور الأمر إلى استبانتها، فإذا ثبتت العدالة، فالحكم بالرواية / 89 - ب / إذ ذاك، ولو فرض فارض التباس حال الراوي، واليأس عن البحث عنها بأن يروي مجهول ثم يدخل في غمار الناس، ويعز العثور عليه، فهو مسالة اجتهادية عندي، والظاهر أن الأمر إذا انتهى إلى اليأس لم يجب الانكفاف، وانقلبت الإباحة كراهية،، كذا ذكره السخاوي. (1/520)
(ونحوه) مبتدأ أي نحو القول بالوقف ؛ (قول ابن الصلاح فيمن جرح بجرح غير مفسر) أي غير معين ومبين، بأن لم يذكر سببه، بل اقتصر فيه على مجرد فلان ضعيف، او نحوه، وأنت خبير بأن هذا إنما يكون فيما يبنى على اليقين لا على الظن الغالب، وهذا مما يبنى على الظن كما مر.
(البدعة ورواية المبتدعه)
(ثم البدعة، وهي السبب التاسع من أسباب الطعن في الراوي وهي) أي البدعة، (إما أن تكون بمكفر) ضبط بالتشديد أي بما ينسب صاحبه إلى الفكر، وفي / " تحقيق الحسامي ": قولهم: يكفر جاحده، بإسكان الكاف أي ينسب إلى الكفر، من أكفره إذا دعاه كفراً، ومنه " لا تكفروا أهل قبلتكم "، وأما بالتشديد، فغير ثابت رواية، وإن كان جائزا لغة، قال الكميت يخاطب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وأهل بيته:
(وطائفة قد أكفروني بحبكم ..... وطائفة قالوا: مسيء ومذنب)
(ومالي إلا آل أحمد شيعة ..... ومالي إلا مشعب الحق مشعب)(1/521)
كذا في " المغرب ". (كأن يعتقد ما يستلزم الكفر) وهو بظاهره أعم مما اتفق على التكفير بها كالقول بحلول الإلهية في علي ونحوه، أو اختلف في التفكير بها كالقول بخلق القرآن، قال التلميذ: في التكفير باللازم كلام لأهل العلم، وقد قال الشيخ محي الدين في " التقريب والتيسير ": من كفر ببدعة، لم يحتج به بالاتفاق، ومن لم يكفر قيل: لا يحتج به مطلقا، وقيل يحتج به إن لم يكن ممن يستحيل الكذب في نصرة مذهبه، أو لأهل مذهبه، وحكي هذا عن الشافعي، وقيل: يحتج به إن لم يكن داعية إلى بدعته، ولا يحتج به إن كان داعية، وهذا هو الأظهر الأعدل، وقول الكثير أو الأكثر. وضعف الأول باحتجاج صاحبي الصحيحين، وغيرهم بكثير من المبتدعة غير الدعاة. (أو بمفسق) أراد بالفسق غير الكفر بقرينة المقابلة، وإلا فالفسق أعم، والمعنى أن بدعته تنسبه إلى الفسق، وهو الخروج عن الطاعة بالاعتقاد الفاسد. (فالأول) وهو من تقتضي بدعته التكفير، (لا يقبل صاحبها الجمهور) قدم المفعول اهتماما بشأنه، إذ المقصود عدم مقبوليته من أي شخص كان. (1/522)
(وقيل: يقبل) بصيغة المفعول، (مطلقا) أي سواء اعتقد حل الكذب لنصرته أو لا، وكان الأولى تأخير هذا القول عن قوله: (وقيل: إن كان لا يعتقد حل الكذب لنصرة مقالته) / 90 - أ / أي الاعتقادية في مذهبه، (قبل) يعني وإن استحله كالخطابية لم يقبل، وهم قوم ينسون إلى أبي الخطاب، وهو رجل كان بالكوفة يعتقد أن عليا الإله الأكبر، وجعفر الصادق الإله الأصغر، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا، وأخذه الله نكال الآخرة والأولى، كذا في " مشكلات القدوري ". هذا، ولم يحك ابن الصلاح فيه خلافا، وصرح بعدم الخلاف النووي وغيره، والخطيب يحكي الخلاف عن جماعة من أهل العقل، والمتكلمين. قال الجزري: لا تقبل رواية المبتدع ببدعة مكفرة بالاتفاق، وأما المبتدع بغيرها، ففيه ثلاثة، أقوال. انتهى. وهو الصحيح. (والتحقيق أنه لا يرد كل مكفر ببدعة، لأن كل طائفة تدعي أن مخالفيها مبتدعة، وقد تبالغ فتكفر مخالفيها، فلو أخذ ذلك) أي الرد، (على الإطلاق) بأن يراد كل ما يكفر، (لاستلزم تكفير جميع الطوائف) وفيه أنه لا يلزم ذلك إلا (1/523)
في وقت المبالغة، فهذا أيضا ليس على الإطلاق. وقال شارح: وأنت خبير بأن المعتبر ما هو في نفس الأمر من البدعة المكفرة، لا عند المخالف، فلا يلزم تكفير أهل الحق، ولا رد روايتهم. انتهى. والأصوب أن / يقول: لا يستلزم رد جميع الطوائف، إذ هو المترتب على أخذ الرد على الإطلاق لا ما ذكره، وأيضا هو المقصود من سوق الكلام وحينئذ، لا يترتب محذور، ولا يتأتى محظور، فلا يقبل قول جميع المبتدعة، كما لا يقبل خبر الفسقة، بل هم أولى بعدم القبول، لأن فسقهم أقبح، وتعصبهم أوضح. (فالمعتمد) أي فالقول المعتمد، (أن الذي ترد روايته، من أنكر) أي الرد القطعي الذي موجبه البدعة، ليس إلا لمن أنكر (أمرا متواترا من الشرع معلوما من الدين بالضرورة) أي مما يعلم بطريق اليقين، لاشتهاره بكونه من الدين، كالصلوات الخمس، والحج، لأنه يعلم ببديهة العقل، كما تقرر في علم الكلام. وإنما قيدنا الرد بالقيود المتقدمة، لأنه الرد ليس بمنحصر فيما ذكر، وقولنا: القطعي، إشارة إلى أن من لم ينكر ما تواتر من الشرع - إذا لم يكن ضابطا ورعا - يرد أيضا، كما يدل عليه قوله الآتي: فأما من لم يكن... إلخ. (وكذا من اعتقد عكسه) أي من لم يكتف بمجرد الإنكار بل اعتقد عكسه، (1/524)
فإنه أولى بالرد كما لا يخفى، وأما قول محش: فإن الإنكار المذكور، والاعتقاد المذكور، متلازمان لأن إنكار أمر يستلزم اعتقاد نقيضه، وبالعكس، فممنوع، إذ يحتمل التوقف والتفصيل، والاعتقادُ الثالث خارج عنهما. (فأما من لم يكن بهذه الصفة) أي المذكورة من البدعة التي تَردُّ روايته لإنكاره المعلوم من الدين بالضرورة. (وانضم إلى ذلك) / 90 - ب / أي ما ذكر من عدم الرد، (ضبطُه لما يرويه مع ورعه) الأولى ترك ذكر ورعه، فإنه لا يشترط في القبول، فيحمل عبارته على العطف التفسيري. (وتقواه، فلا مانع من قبوله) أي مع مجرد كونه من أهل البدع، وفيه أنه فسر التقوى في بيان تعريف الصحيح، بالاجتناب من الأعمال السيئة من شرك أو فسق أو بدعة، فلا يجتمع التقوى مع الكفر والبدعة. ويمكن أن يكون المراد بالتقوى المعنى، العرفي منه، أي الاجتناب عن الأفعال السيئة الظاهرة، ولا منافاة بينه وبين البدعة في الاعتقاد، أو يقال: المراد بالتقوى ما عدا البدعة، بقرينة السياق، فإن الكلام في البدعة. (والثاني وهو) أي صاحبه، (من لا تقتضي بدعته التكفير أصلاً) أي لا اتفاقاً ولا اختلافاً، (وقد اختُلَف أيضاً في قبوله ورده) أي على ثلاثة أقاويل. (1/525)
(فقيل: يُردُّ مطلقاً) أي سواء كان داعياً إلى بدعته أوْ لا، وسواء كان معتقداً حل الكذب لنصرة مقالته أم لا. وهذا القول محكي عن مالك وغيره، لأنه فاسق ببدعته. واتفقوا على رد الفاسق بغير تأويل، فيلحق به المتأوِّل إذ لا ينفعه التأويل. (وهو بعيد) قال ابن الصلاح: وهو بعيد مباعد للشائع عن أئمة الحديث، فإن كتبهم طافحة بالرواية عن المبتدعة غير الدعاة. وفي الصحيحين كثير من أحاديثهم في الشواهد والأصول. انتهى. ولا يبعد عدم اطلاع المحدثين على بدعتهم وهم معذورون في ذلك لخفاء ما في الباطن من اعتقاد السوء، والحكم بالظاهر من ملازمة التقوى. / (وأكثر ما عُلِّلَ به) أي أكثر ما يقال في تعليله والاستدلالِ عليه، (أن في الرواية عنه) أي عن المبتدع، (ترويجاً لأمره وتنويهاً) أي تفخيماً (بذكره) أي وهو واجب الإهانة، واعتُرض عليه بأن هذا دليلٌ واحد، فما معنى كثرته فضلاً عن أكثريته؟ ! وأجيب بأن أكثريته باعتبار كثرة المستدلين، وكثرة استدلالاتهم وتلفظهم فيما بينهم، فلو قال: - بدل قوله: أكثر - أقوى، لكان أولى (وعلى هذا) إشارة إلى الاعتراض على ما علل. (فينبغي أن لا يُروى عن مبتدع شيء يشاركه فيه غير مبتدع) وفيه أن هذا قد يجوز لأجل التقوية كما في التوابع والشواهد، ولعل ما وقع في الصحيحين وغيرهما من هذا القبيل، بخلاف غيره. (1/526)
وحاصله: أن المراد بالترويج والتنويه فيما إذا لم يشاركه غير مبتدع أكثر وأشد مما إذا شاركه، وهذه المرتبة من الترويج والتنويه قبيح ينبغي أن لا يفعل، لا مطلق الترويج والتنويه قبيح، وهي المراد في الدليل. / 91 - أ / (وقيل تقبل مطلقاً) أي سواء كان داعياً أم لا، لكن بشرط أن يكون متقياً، لأن تدينه وصدق لهجته الذي عليه مدار الرواية يمنعه عن الكذب. (إلا أن) وفي نسخة: إذا (اعتقد حِلّ الكذب كما تقدم) أي فحينئذ لا يقبل، وهو ظاهر، لأن حِلّ الكذب ينافي قبول الرواية، وعزاه بعضهم إلى الإمام الشافعي لقوله: أقبل شهادة أهل الأهواء إلا الخَطَّابِية، لأنهم يَرَوْن الشهادة بالزور لموافقيهم، وفيه أنه إذا اعتقد حل الكذب صار كافراً، والمفروض أن بدعته ليس مما يقتضي الكفر. هذا، وقال الحافظ السيوطي في " الدراية شرح النقاية ": إن المبتدع إنْ كُفِر فواضح أن لا يقبل، إن لم يُكْفر قُبِل، وإلا لأدى إلى رد كثير من أحاديث الأحكام مما رواه الشيعة والقَدَرِيَّة وغيرهم، وفي الصحيحين من روايتهم ما لا يحصى، ولأن بدعتهم مقرونةٌ بالتأويل مع ما هم عليه من الديانة والصيانة، والتحرز عن الخيانة، نعم، سابّ الشيخين والرافضةُ لا يُقبَلون كما جزم به الذهبي (1/527)
في أول الميزان، قال: مع أنه لا يعرف منهم صادق بل الكذب شعارهم، والتقية والنفاق دِثَارُهُم. (وقيل: يقبل مَن لم يكن داعية) أي داعياً (إلى بدعته) والتاء للنقل من الوصفية إلى الاسمية، لأنه جُعِل فيما بينهم اسماً لمن يدعو إلى بدعته، وتعديته ب: " إلى " باعتبار معناه الأصلي، وقيل: يمكن أن تكون التاء للمبالغة، والمراد المعنى الوصفي وحينئذ لا إشكال في تعلق إلى، لكن يرد عليه أن ذلك مخصوص بصيغة المبالغة مثل علاَّمة. ويمكن أن يقال: إن الداعية مصدر كالطاغية، وإن المبالغة مستفادة من (1/528)
الحمل كرجل عدل، مع زيادة تاء الداعية إلى ذلك، وإنما قيد بالمبالغة لأن كل صاحب بدعة يدعو بلسان الحال إلى بدعته. والمراد هنا مَنْ يُظهِره بلسان القال فهو مبالغ بالنسبة إلى غيره. (لأن) هذا تعليل لما يتضمنه الكلام المذكور من أنه لا يقبل من كان داعية ؛ / لأن (تزيين بدعته) ورغبته في اتباع الناس لأهويته، (قد يحمله) أي يبعثه (على تحريف الروايات) أي في اللفظ، (وتسويتها على ما يقتضيه مذهبه) أي في المعنى، وقد ورد: " حُبُّكَ الشيء يُعمِي ويُصِمّ " وفيه: أنه إنما يفيد التعليل المذكور عدم قبول من كان داعية إذا روى ما يقوي مذهَبه، والمقصود أنه مردود مطلقاً، وإلا، فغير الداعية من المبتدعة إذا روى ما يقوِّي مذهبه يرد، كما سيذكره بعيد ذلك، ولو أُريد بما يقتضي مذهبه / 91 - ب / ما لا ينافيه لا يدفع الشبهة. (1/529)
(وهذا) أي القول الأخير في الشرح، وهو المذكور في المتن لا غير (في الأصح). قال ابن الصلاح: وهذا المذهب أعدل المذاهب وأولاها، وهو قول الأكثر من العلماء. وقال الجرزي: قيل إن كان داعية لمذهبه لم يقبل وإلا قبل، وهذا الذي عليه الأكثر وهو المختار، ونقل ابن حِبَّان اتفاقهم عليه. (وأغرب ابن حبَّان) أي أتى بقول غريب، (فادّعى الاتفاق على قبول غير الداعية). قال محشِ: وهذا الكلام متعلق بما قبله وما بعده، فإنّ معنى قوله: (من غير تفصيل) بين أن يكون داعياً أم لا، وبين أن يكون راوياً لما يقوي مذهبه أوْلا. انتهى. وهو غير صحيح لما تقدم عنه من نقل الجرزي، فالصواب أن معنى قوله: من غير تفصيل: بين ما يقوى بدعته، وما لا يقوي. (نعم، الأكثر على قبول غير الداعي) أي مطلقاً فيحمل اتفاقُهم في قوله، على اتفاق الأكثر. (إلا إن رَوَى) أي من لم يكن داعية، نظراً إلى المتن، أو غير الداعي، نظراً إلى الشرح ومآلهما واحد، (ما يقوي) بالتشديد أي يؤيد (بدعته، فَيُرَدُّ) أي حينئذ (على المذهب المختار). قال ابن حبان في ترجمة جعفر بن سليمان الضُّبَعي من ثقاته: ليس بين (1/530)
أهل الحديث من أئمتنا خلافٌ أن الصدوق المتقن إذا كان فيه بدعة، ولم يكن يدعو إليها أن الاحتجاج بأخباره جائز، فإذا دَعَى إليه سقط الاحتجاج بأخباره. وليس صريحاً في الاتفاق لا مطلقاً، ولا بخصوص الشافعية، ولكن الذي اقتصر عليه ابن الصلاح في العزوِ له الشق الثاني، فقال: قال ابن حبان: الداعية إلى البدع، لا يجوز الاحتجاج به عند أئمتنا قاطبة، لا أعلم بينهم فيه اختلافاً، على أنه محتمل أيضاً لإرادة الشافعية على ما ذكره السخاوي (وبه) أي بهذا المذهب المختار، (صرح الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب الجُوزَجَاني) بضم جيم، وسكون واو، وفتح زاي، (شيخ أبي داود والنسَائي) والأولى إلحاق أبي داود في الشرح بعد تمام المتن، ولعله قُدِّم لتقدم رتبته (في كتابه) أي الجُوزَجاني، وفي نسخة في كتاب (" معرفة الرجال ") قال محشٍ اسم كتاب. انتهى. وهو أنه يحتمل الجر على البدلية، والرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، والنصب، بتقدير أعني، أو يعني، وهو يؤيد نسخة في كتابه بالإضافة إلى / الضمير. (فقال في وصف الرواة: فمنهم) أي الرواة غير الكفرة والداعية (زائغ) أي مبتدع مائل (عن الحق - أي عن السنة -) أي عن الحق المفهوم من السنة، وإنما (1/531)
قيده بها لأن أكثر زيغهم لأجل عدولهم عن السنة المبينة لما في الكتاب. (صادق اللهجة) أي اللسان أو الكلام، والمراد بها / 92 - أ /. قال السخاوي: قد جرى في الناس حديثه لكنه مخذول في بدعته، مأمون في روايته. (فليس فيه) أي في حقه وفي شأن روايته إذا كان عدلاً، (حيلة) أو ليس في دفعه علاج، (إلا أن يؤخذ من حديثه ما لا يكون منكراً) وقد تقدم تعريفه، (إذا لم يقو) أي لم يؤيد (به) أي بنقله (بدعته) وأما إذا كان يقويها به فلا، لأنا لا نأمن عليه من غلبة الهوى. (انتهى). قال التلميذ: ظاهر هذا قبول رواية المبتدع إذا كان ورعا فيما عدا البدعة، ضابطا صادقا سواء كان داعية أو غير داعية، إلا فيما يتعلق ببدعته. (وما قاله) أي الجوزجاني، (متجه) بتشديد الفوقية، أي حسن متوجه مقبول، (لأن العلة التي بها يرد حديث الداعية) وهي أن تزيين بدعته يحمله على تحريف الروايات، وتسويتها على ما يقتضي مذهبه، (واردة فيما إذا كان ظاهر المروي يوافق مذهب المبتدع، ولو لم يكن داعية، والله سبحانه أعلم). (1/532)
(سوء الحفظ)
(ثم سوء الحفظ، وهو السبب العاشر من أسباب الطعن، والمراد به) أي بسوء الحفظ، (من) وفي نسخة: ما، فالضمير في " به " راجع إلى سوء الحفظ، (لم يرجح) بتثبيت الجيم أي لم يغل (جانب إصابته على جانب خطئه). قال محش: هذا تكرير لما سبق من قوله: وهي عبارة عن أن لا يكون غلطه أقل من صوابه. انتهى. يعني بل يكون غلطه أكثر أو مساويا لصوابه، وإنما أعاده مع تفننه في العبارة لطول الفصل. قال التلميذ: هذا ينافي ما تقدم من قوله: أو سوء حفظه، وهي عبارة عمن يكون غلطه أقل من إصابته، وقد أصلحته بلفظ: نحواً من إصابته، والله سبحانه أعلم. وقال المصنف: وفهم من " من لم يرجح " إما بأن يرجح جانب خطئه أو استويا. قلت: وهذا يؤيد أن قوله فيما تقدم في حده سوء الحفظ: وهي عبارة عمن يكون خطؤه كإصابته، من النسخ الصحيحة، بخلاف أقل من إصابته فإنها مخالفة لما هنا، وليست بصحيحة من جهة المعنى ؛ لأن الإنسان ليس بمعصوم من الخطأ، فلا يقال فيمن وقع له الخطأ مرة أو مرتين: إنه سيئ الحفظ، وإن كان يصدق عليه أن خطأه أقل من إصابته، لأنه لم يصدق عليه أنه لم ترجح إصابته انتهى كلامه. (1/533)
وهذا الخطأ مبني على خطأ النسخة التي اعتمد عليها التلميذ، وإلا فالنسخة الصحيحة المعتمدة فيما تقدم: وهي عبارة عن أن لا يكون غلطه من إصابته، بصيغة النفي، وهو المطابق لما هنا من حيث المعنى أنه سواء كان مساويا، أو أكثر، ويدل على أنه إذا كان غلطه أقل من الإصابة / أو قليلا بالنسبة إليها، فهو مقبول. وقال الشارح وجيه الدين الهندي: اعترض عليه أستاذي مولانا أبو البركات بأنه قال: أولا في الإجمال، وهي / 92 - ب / عبارة عمن يكون غلطه أقل من إصابته، كلاميه تدافع إلا أن يكون لفظ " لم " هنا وقع تصحيفا من الناسخ، أو زلة من القلم، قال: ثم أخبرني بعض إخواني أنه سأل السخاوي عنه فقال: وقع لفظة " لم " غلطا من الناسخ، وأخرج نسخة من عنده، وليس فيه لفظة لم. انتهى. وفيه أبحاث: أما أولاً: فلأنه بهذا لم يندفع التدافع لما عرفت من كلام التلميذ فيه، ولكونه ليس نسخة صحيحة كما قررناه، وعلى تقدير صحتها وصحة معناها، فلا تطابق ما سبق، كما حررناه. وأما ثانيا: فلأنه لو كان التعريف هنا بدون " لم " لم يصح كلام المصنف هنا على ما نقله تلميذه عنه: إما بأن يرجح جانب خطئه أو استويا. وأما ثالثا: فقوله تصحيفا من الناسخ، فلا يصح إطلاق التصحيف على زيادة (1/534)
" لم " لا لغة، ولا اصطلاحا، وقوله: أو زلة من القلم، أي قلم المصنف خطأ أيضا، فإن الكلام بوجود " لم " صحيح أيضا كما قدمنا، وكلام المصنف قد أيد ما قررنا. وإنما الخطأ من الناسخ لو ثبت في نسخة معتمدة في الإجمال بترك " لا " فلا تعجل وتأمل، فإنه محل الزلل، وموقع الخطل، والله الموفق للعلم والعمل.
(الشاذ)
(وهو) أي سوء الحفظ (على قسمين): (إن كان لازما) أي دائما غير منفك (للراوي في جميع حالاته) أي من غير عروض سبب لسوء حفظه في بعض أوقاته، (فهو) أي الراوي المذكور بل حديثه، (الشاذ)، وفيه أن المختلط صفة الراوي على ما يقتضيه كثرة قولهم: اختلط فلان، وهذا المعنى غير المعاني المذكورة للشاذ، ولذا قال: (على رأي) وهو بالتنوين، نظرا إلى المتن، وبتركه نظراً إلى الشرح، فإنه مضاف إلى (بعض أهل الحديث) وكأنهم أرادوا بالشاذ المنفرد بصفة.
1 (المختلط)
(أو إن كان سوء الحفظ طارئاً) أي حادثا متجددا (على الراوي) أي بأن صار (1/535)
سيئ الحفظ، (إما لكبره) أي لطول عمره، (أو لذهاب بصره) وقد كان متعودا بعود النظر في محفوظه إلى أصله، فلا يرد أن ذهاب البصر مما يقوي الحفظ لسلامة الخواطر الحادثة من النواظر. (أو لاحتراق كتبه) أو اغتراقها أو استراقها. فقوله (أو عدمها) تعميم بعد تخصيص كقوله تعالى:: {{فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير}} " فاندفع ما قال محش: الظاهر أنه مغن عن قوله: أو لاحتراق كتبه. انتهى. وفيه أن الأول إذا كان مغنيا عن الثاني قد يعد عيبا في التعريفات، لا العكس، وأما في غير التعريف فيجوز التخصيص بعد التعميم أيضا كقوله تعالى: : {{وملائكته ورسله وجبريل وميكال}}. ويريد بالعدم فقدان الكتب بمعنى أنه كان حاصلا له، فصار معدوما، لا بمعنى أنه معدوماً مطلقا، فيصح قوله: (بأن كان / 93 - أ / يعتمدها فيرجع إلى حفظه فساء) أي حفظه وهو علة لكون ذهب البصر / واحتراق الكتب، وعدمها سبب لطريان سوء الحفظ. (فهذا) أي الراوي الطارئ عليه سوء الحفظ، (هو) ضمير فصل أو مبتدأ ثان، (المختلط) بكسر اللام، وحقيقته: فساد العقل، وعدم انتظام الفعل (1/536)
والقول، إما بخرف أو ضرر أو مرض، أو عرض من موت ابن، أو سرقة مال كالمسعودي، أو ذهاب كتب كابن لهيعة، أو احتراقها كابن الملقن. قال ابن الصلاح: وهذا فن عظيم مهم، لا أعلم أحدا أفرده بالتصنيف واعتنى به مع كونه حقيقاً بذلك جدا انتهى. قال السخاوي: وأفرد للمختلطين كتابا الحافظ أبو بكر الحازمي حسبما ذكره في تصنيفه " تحفة المستفيد ". ولم يقف عليه ابن الصلاح. قال: وفائدة ضبطهم، تمييز المقبول من غيره. (والحكم فيه) أي في المختلط أو في حديثه، (أن ما حدث به قبل الاختلاط إذا تميز) أي لنا بأن علمنا أنه قبل الاختلاط، وإلا فهو متميز في نفسه ، فالمعنى أنه إذا تميز عند المجتهد عما حدث بعد الاختلاط، (قبل، وإذا لم يتميز) أي ما حدث به، (توقف) بصيغة المجهول، (فيه) أي في حديثه بأن لا يقبل ولا يرد. (وكذا من اشتبه الأمر فيه) أي اشتبه أنه مختلط أم لا، أو لم يدر أحدث قبل الاختلاط أو بعده. قال التلميذ: هذا اللفظ فيه إيهام، لأن ظاهر السوق أنه لحديث (1/537)
المختلط ولفظة " من " لمن يعقل، فلا يصلح للحديث، وإن استعملها فيمن يعقل، فيكون قد انتقل من الحديث إلى الراوي، فليس بظاهر، والله سبحانه أعلم. قلت: هذا أمر سهل ومناقشة غير مرضية خصوصا من التلميذ بالنسبة إلى الأستاذ، إذ يمكن أن يقال: التقدير وكذا من اشتبه الأمر فيه يتوقف في حديثه على أن: من اشتبه، مبتدأ، خبره محذوف، أو يقدر مضاف، أي وكذا حديث من اشتبه الأمر فيه يتوقف فيه. (وإنما يعرف ذلك،) أي ما ذكر من الاختلاط والتمييز والاشتباه، (باعتبار الآخذين) أي تتبع المتحملين (عنه) أي عن المختلط بلا واسطة، ليعلم أنهم متى أخذوا، وأين أخذوا، وكيف أخذوا، فبالإضافة إلى المفعول، فمنهم من سمع قبل الاختلاط فقط، ومنهم من سمع بعده، ومنهم من سمع في الحالين مع التمييز، بأن قال: سماعي بعدما اختلط أو قبله كما قاله الخليلي وغيره، فممن اختلط في آخره عطاء، ومن سمع منه قبل الاختلاط شعبة وسفيان الثوري، وممن سمع منه بعد الاختلاط جرير بن عبد الحميد، وممن سمع منه في الحالتين معا أبو عوانة، فلم يحتج بحديثه. (ومتى توبع السيئ الحفظ بمعتبر) أي براو معتبر بفتح الموحدة وكسرها على أنه اسم مفعول أو فاعل، (كأن يكون فوقه أو مثله لا دونه) قال المصنف: إذا تابع / 93 - ب / السيئ الحفظ شخص فوقه انتقال بسبب ذلك إلى درجة ذلك الشخص، وينتقل ذلك الشخص إلى أعلى من درجة نفسه التي كان فيها، حتى (1/538)
يترجح على مساويه من غير متابعة من دونه. قال تلميذه: المراد بقوله: فوقه أو مثله في الدرجة من السند، لا في الصفة. انتهى. وقد تقدم معنى / الاعتبار وما يتعلق به، والظاهر أن المراد بالفوقية والمثلية هنا في الصفة لا في السند ؛ لأنه على تقدير ما يقوله التلميذ، لا يصح كلام الشيخ، انتقل بسبب ذلك إلى درجة ذلك الشخص، فتدبر مع أنه لا منع من الجمع. (وكذا المختلط الذي لا يتميز) أي ما حدث به. (و كذا المستور) كان حقه في الشرح أن يقول بعد المستور: وكذا المختلط الذي لا يتميز كما هو ظاهر، ثم في عطفه على السيئ الحفظ نظر ؛ لأن المختلط قسم منه كما مر قبيل ذلك، وإن أريد بالسيئ الحفظ القسم الأول فقط، فهو تكلف غير متبادر، قيل: إن المراد من السيئ الحفظ المعنى اللغوي. وفيه أنه أيضاً أعم من المختلط، فلا وجه للعطف مع أنه أيضاً غير متبادر، ويمكن أن يقال إن المختلط الذي تميز لا يحتاج في قبوله إلى متابعة، فلا يجوز إجراء السيئ الحفظ في المتن على إطلاقه، فعطفَ الشارحُ عليه المختلط المذكور ليعلم أن المراد بالسيئ الحفظ القسم الأول. (والإسناد المرسل) بكسر السين وقيل بفتحها، (وكذا المدلِّس) بكسر اللام (1/539)
أو بفتحها (إذا لم يُعرَف المحذوف منه) واعلم أنه إن كان المرسَل والمدلس على صيغة المفعول، ليكون صفة الإسناد كما فعل الشارح حيث صرح بقوله: والإسناد... يحتاج قوله: (صار حديثهم) إلى تكلف بأن يقال: معناه حديث المختلط والمستور، وحديث راوي المرسل والمدلس، وإن كانا على صيغة اسم الفاعل ليكونا صفتي الراوي، لم يحتج قوله: حديثهم... إلى تكلف. قال التلميذ: الأولى أن يقول: صار الحديث، لأن الضمير للمختلط والمستور والإسناد، فعلى ما قال يكون على وجه التغليب أو تقرير مضاف، وعلى ما قلت لا يحتاج لذلك، والله سبحانه أعلم. قلت لا يخفى عن الاحتياج لذلك كذلك، لأن الألِف واللام حينئذٍ إما بدل عن المضاف إليه، وإما للعهد، فيدخل المذكور تحت الملاحظة، فيرجع الإشكال بعينه مع أن عادة المحشي والشارح إصلاحُ كلام الماتن، لا أنه يأتي بعبارة أخرى، ويقول هذه أحسن منه، لأنه لا يرد عليها ما يرد عليه. وحاصل الكلام: أنه قد صار حديثهم بعد حصول المتابعة المعتبرة (حسناً) أي لغيره، (لا لذاته بل وَصَفَهُ بذلك باعتبار المجموع من المتابع) بكسر الموحدة، (1/540)
(والمتابَع) بفتحها ؛ (لأن / 94 - أ / كل واحد منهم احتمال كون روايته صواباً أو غير صواب) قوله احتمال: مبتدأ وقوله: (على حد سواء) خبره والجملة خبر أنّ، ولك أن تجعل احتمال منصوباً بدلاً من كل واحد، أو منصوباً على نزع الخافض، أي في احتمال كونه كما في نسخة، ورأيت في نسخة: احتمال بصيغة الماضي، فلا إشكال (فإذا جاءت من المعتبِرين) على صيغة اسم فاعل، أو مفعول، (روايةٌ) فاعل جاءت، (موافقة لأحدهم رجح) بصيغة المفعول، (أحد الجانبين من الاحتمالين المذكورين) أي كونهما صواباً أو غير صواب. (ودلّ ذلك) أي الترجيح، (على أن الحديث) على تقدير كونه صواباً، (محفوظ، / فارتقى من درجة التوقف إلى درجة القبول، والله سبحانه أعلم). قيل: يُشعر كلامه بأن الأنواع المذكورة كلّها متوقفٌ فيها، وكذا قوله فيما تقدم: لأن كل واحد منهم... الخ، صريحٌ في ذلك، وفيه تأمل، لأن بعض أقسام السِّيئ الحفظ مقبول لا توقف فيه. انتهى. ولك أن تقول: المراد من السيئ الحفظ، هو القسم الأول كما سبق فتأمل.
(الحسن لغيره)
(مع ارتقائه إلى درجة القَبول) أي وأقل درجاته مرتبة الحسن إذِ الضعيف (1/541)
خارج عن درجة القبول. (فهو منحط عن رتبة الحسن لذاته) أي فيكون حسناً لغيره. (وربما توقف بعضهم عن إطلاق اسم الحسن عليه) لأنه ليس بحسن حقيقة، ولأن الحسن إذا أطلق ينصرف إلى الحسن لذاته، ولأنه يلزم مِن إطلاق الحسن عليه الاحتجاج به عند الفقهاء، وهو محل خلاف، ولهذا وقع الإشارة في الحسن الذاتي إلى أنه المحتج به بعبارة تفيد الحصر، فتذكّر وتدبر. قال التلميذ: مقتضى النظر أنه أرجح من الحسن لذاته، لأن المتابع، بكسر الباء، وإذا كان معتبراً، فحديثه حسن، وقد انضم إليه المتابع بالفتح، والله سبحانه أعلم. قلت: إنما الكلام فيه مع قطع النظر عن غيره، فهو لا شك أنه حسن لغيره، وهو دون الحسن لذاته، وأما مع الانضمام فلا أحد يشك أن الحديث الذي ورد من طريقين. أحدهما حسن لذاته، والآخر حسن لغيره، يرجح على معارِض له طريق واحد يكون حسناً في ذاته، والله سبحانه أعلم. (وقد انقضى) أي تمَّ وانتهى (ما يتعلق بالمتن من حيث القَبولُ والردُّ) وبقي ما يتعلق بالإسناد من حيث إنه ينتهي إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، والصحابي أو غيره. ولما كان ما يتعلق بالمتن مقدَّم على ما يتعلق بالإسناد، فإنه المقصود بالذات، والإسناد إنما هو وسيلة إليه قال: (1/542)
(تعريف الإسناد والمتن)
(ثم الإسناد) إشارة إلى تأخر رتبته معنى، وإن كان مقدَّماً على المتن لفظاً. (وهو الطريق الموصلة إلى المتن، والمتن: هو / 94 - ب / غاية ما ينتهي إليه الإسناد من الكلام)، فيه شائبة من الدَّوْرِ، ويُدفع بأن المراد بالطريق حكايته على حذف مضاف، أو بأنه أشار إلى أنه يطلق على المحكي أيضاً، والأظهر أن يقال: المراد بالطريق المعنى اللغوي، وبالإسناد المعنى الاصطلاحي، فلا دور كما قيل في قول صاحب الزنجاني: أما الماضي فهو الفعل الذي دل على معنى وُجد في الزمان الماضي . والمراد بالطريق هنا رجال الإسناد. وقيل: التعريفان لفظيان، فلا يلزم من أخذ كلِّ من المتن والإسناد في تعريف الآخر دور. واعلم أنه بين تعريف الإسناد ههنا وبين التعريف الذي مر في صدر الكتاب، وهو حكاية طريق المتن، تلازمٌ قال التلميذ: لفظ " غاية " زائد مغيرٌ للمعنى لأن لفظ ما عبارة عن الكلام كما(1/543)
فسره بقوله: من الكلام، فيصير التقدير: المتن غاية كلام ينتهي إليه الإسناد، فعلى هذا، المَتْنُ حَرْفُ اللاَّمِ، من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: " من جاء منكم جمعة فليغتسل ". انتهى. ودفعه ظاهر بأن يقال: إن هذه الإضافة من قبيل خاتِم فضة، كما قيل في قول ابن الحاجب في الكافية: إذا كان وصفه لغرض / المعنى، أن إضافة الغرض إلى المعنى بيانية. أي المتن غاية السند وهو كلام ينتهي إليه الإسناد. نعم الأولى ترك لفظ الغاية، أو الاختصار عليه لأن المتن هو ما ينتهي إليه الإسناد من قول رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، أو فعلهِ، أو من قول الصحابي: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كذا، أو فعل كذا، وهو غاية الإسناد لا غاية ما ينتهي إليه الإسناد. فإن هذه إنما هي آخر المتن، اللهم إلا أن يقال: المراد بالغاية الغرض والمقصود، ومنه العلة الغائية، أي المتن هو مطلوب ما ينتهي إليه الإسناد الذي بمنزلة الوسيلة، وفيه إشارة لطيفة إلى أن المراد بما ينتهي إليه الإسناد هو الجانب الذي وقع فيه متن الحديث، وإلا فما ينتهي إليه الإسناد قد يصدق على جانب المخرج أيضاً، ولذا بيّنه بقوله: من الكلام، أي سواء كان كلام الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم والصحابي، أو مَن بعده ويدخل فيه فعل الرسول رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، وتَقْرِيُرهُ لأنهما وإن لم يكونا قول(1/544)
الرسول صلى الله عليه وسلم لكنهما قول الصحابي أو مَن بعده. وفي الخلاصة: اختلف في متن الحديث أهو قول الصحابي عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كذا و كذا، أو هو مقول الرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فحسب؟ والأول أظهر لما تقرر من أن السَّنة إما قول، أو فعل، أو تقرير، والسلف أطلقوا الحديث على أقوال الصحابة والتابعين وآثارهم وفتاويهم.
(المرفوع تصريحاً أو حكماً)
(وهو) أي الإسناد، (إما أن ينتهي إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ويقتضي لَفْظُهُ) أي تلفظ الحديث، والمراد متنه. قال محشٍ: هو عطف تفسير لقوله: / 95 - أ / ينتهي إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وضمير لفظه عائد إلى الإسناد، ولو لم يذكره ويقول: يقتضي أي الإسناد، لكان صحيحاً. انتهى وضعفه لا يخفى لأن الانتهاء لا يتنوع بالتصريح والحكم، بل تلفظ المتن يدل على عليهما كما سيأتي في كلام الشيخ صريحاً في بيان قوله: تصريحاً أو حكماً، ولذا تدارك المتن بقوله في الشرح: ويقتضي لفظه، وأما جعلهما متعلقين بما بعدهما على ما تكلَّف له المحشي، فيدل على بُعْدِه. (إما تصريحاً أو حُكماً) حالان أو تمييزان، (أن المنقول) مفعول يقتضي، فلا يصح ما في نسخة: لأن المنقول، اللهم إلا أن يجعل تصريحاً أو حكماً مفعولاً به(1/545)
ليقتضي، فحينئذٍ يصح التعليل بقوله: لأن المنقول (بذلك الإسناد) أي إسناد ذلك اللفظ الذي هو المتن، وقال المحشي: وهو من وضع الظاهر موضع الضمير انتهى. وهو ماشٍ على طريقته. (من قوله) أي من جنس قول (صلى الله تعالى عليه وسلم أو من فعله، أو من تقريره) قال شارح: والظاهر قوله بدون " من " انتهى. وكأنه بدلٌ من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، ومن للتبعيض، أو تمييزٌ من النبي عليه الصلاة والسلام، مثل قولهم: لله دَرُّهُ مِن فارس، وعَزَّ مِن قائل. و: " أو " للتنويع، وهذا باعتبار المتن، وأما باعتبار الشرح، فالأمر ظاهر لأنه خبر لأن. هذا، وقد أشار المصنف إلى تعريف المرفوع بحيث لا يشذ شيء من أقسامه مما ذكره غيره في المرفوع. قال الجمهور: المرفوع ما أضيف / إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قولاً، أو فعلاً، وقيل تقريراً أو همّة، سواء أضافه صحابي أو تابعي، أو من بعده حتى يدخل فيه قول المخرج ولو تأخر: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. وقال الخطيب: هو ما أخبر فيه الصحابي عن قول النبي عليه الصلاة والسلام، أو فعله، فأخرج ما يضيفه التابعي فمن بعده إلى النبي عليه الصلاة والسلام، لكن المشهور هو القول الأول، واختاره المصنف وزاد قيد التقرير كما هو مذهب البعض، وترك قيد الهِمَّة، إذ الهمة خفية لا يُطَّلع عليها إلا بقول، أو فعل. (مثال المرفوع من القول تصريحاً: أن يقول الصحابي) فيه مسامحة، ولو (1/546)
قال: ما يقول كما قال في بعض ما يجيء، لم تكن مسامحة كذا قاله محشٍ، وإذا قلنا: أن يقول بمعنى القول، وهو بمعنى المقول يرجع إلى ما يقول، فلم تكن فيه مسامحة. (سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول كذا، أو حدثنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بكذا) إشارة إلى أنواع التحديث. (أو يقول هو) أي الصحابي، (أو غيره) أي من التابعي أو مَن دونه: (قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كذا) أي بلفظ لا يحتمل التدليس. (أو عن رسول الله / 95 - ب / صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال كذا) أي بلفظ يحتمله، (ونحو ذلك) أي من ألفاظ التحديث المحتمل وغيره. (ومثال المرفوع من الفعل تصريحاً، أن يقول الصحابي: رأيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فعل كذا) ومنه قول الصحابي: " كان آخرُ الأمرين من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم تَرْكَ الوضوء مما مسته النار ". (أو يقول هو) أي الصحابي (أو غيره) كالتابعي: (كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يفعل كذا) أو يترك كذا. (1/547)
(ومثال المرفوع من التقرير تصريحاً، أن يقول الصحابي: فَعَلْتُ) أي أنا، وفي معناه: فَعَلَ فلان، (بحضرة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كذا) ومنه قول الصحابي: " أُكَلِ الضَّبُّ على مائدة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم " (أو يقول هو أو غيره) كان الأولى أن يقول بدون هو، (فعل فلان بحضرة النبي عليه الصلاة والسلام كذا، ولا يَذكر) أي الصحابي أو غيره (إنكارَه) أي إنكار النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (لذلك) أي الفعل الذي فُعِل بحضرته من فعل المتكلم، أو غيره، سواء قرره صريحاً أو حكماً بأن سكت عليه. قال محشٍ: ولا يذكر معروف أو مجهول، وهو أولى لإفادته نفي العام. انتهى. وفيه أن إفادة نفي العام مستفادة من عموم فاعل يذكر، وهو الصحابي، أو غيره. (ومثال المرفوع من القول حكماً لا تصريحاً:) تصريحٌ بما عُلِمَ ضمناً في قوله: حكماً، فهو تأكيد لا تقييد، (ما يقول الصحابي) قيل " ما " مصدرية، والأظهر أن " ما " موصولة أو موصوفة، أي الحديث الذي يقوله الصحابي، أو حديث يقول فيه الصحابي (الذي لم يأخذ عن الإسرائيليات) أي من كتب بني إسرائيل، أو من (1/548)
أفواههم، وهو احتراز عن الصحابي الذي عُرِفَ بالنظر في الإسرائيليات، كعبد الله بن سلام، وكعبد الله بن عمرو بن العاص، فإنه كان حصل له في وقعة / اليرموك كتب كثيرة من كتب أهل الكتاب، وكان يخبر بما فيها من الأمور المغيبة، حتى كان بعض أصحابه ربما قال: حدِّثنا عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولا تحدِّثنا من الصحيفة، ذكر السخاوي. فقوله لا يكون من المرفوع حكماً لقوة الاحتمال، ثم قيد بقيد آخر وهو: (ما لا مجال للاجتهاد فيه) ومحله النصب على المفعولية ل: يقول، وقال محشٍ: يمكن أن يتنازع يقول، ولم يأخذ فيه، وفيه أنه يجوز لفظاً لكنه يفسد معنى. قال السخاوي: مثل حديث: " منْ أتى ساحراً أو عرّافاً، فقد كفر بما أُنْزِلَ على محمد صلى الله تعالى عليه وسلم " رواه ابن مسعود. ومن أمثلة ذلك أيضاً قول أبي هريرة: " وَمَنْ لم يُجِبِ الدعوة، فقد عصى الله ورسوله ". وقول عمَّار بن ياسر " منْ صام اليوم الذي يشَكّ فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله تعالى عليه وسلم ". لكن قد جوزّ شيخنا في ذلك وما يشبهه / 96 - أ / احتمال إحالة الإثم على ما ظهر من القواعد، بل يمكن أن يقال ذلك أيضاً في الحديث الأول، أما الساحر، (1/549)
فلقوله تعالى:: {{وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله}}. قلت: الأولى أن يقول: لقوله تعالى:: {{واتبعوا ما تتلوا الشياطين}} أو لقوله:: {{ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر}}، أو لقوله:: {{وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر}} أو لقوله:: {{ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم}}. وأما قوله تعالى:: {{وما هم بضارين}} الخ، فإخبار من الله تعالى بأنه لا يقع شيء إلا بأمره وإرادته، ولا دلالة له على حِلِّية شيء، ولا حرمته. قال: وأما العرَّاف، وهو المنجم، فلقوله تعالى:: {{قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله}} قال شيخنا: لكن الأول يعني الحكم لها بالرفع أظهر. انتهى. على أن حديث ابن مسعود، وإن جاء من وجه آخر عنه بصورة الموقوف، فقد جاء من بعضها بالتصريح بالرفع، بل في " صحيح مسلم " من حديث صَفية عن بعض أزواج النبي عليه الصلاة والسلام قال: " مَن أتى عَرّافاً، فسأله عن شيء لم تُقْبَلْ له صلاةُ أربعين ليلة ". ومن الأدلة للأظهر أن أبا هريرة رضي الله تعالى عنه حدث كعب الأحبار بحَدَّيث: " فُقِدت أُمَّةٌ من بني إسرائيل لا يُدرى ما فَعَلت، فقال له كعب: أنت سمعت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يقوله؟ (1/550)
فقال له أبو هريرة: نعم، وتكرر ذلك مراراً، فقال له أبو هريرة أفأقرأ التوراة "؟ قال شيخنا: فيه أن أبا هريرة لم يكن يأخذ من أهل الكتاب، وأن الصحابي الذي يكون كذلك إذا أخبر بما لا مجال للرأي والمجتهد فيه يكون للحديث حكم الرفع. وهذا، ولا بد من قيد آخر عدمي، وهو قوله: (ولا له) أي للحديث أو للراوي، (تعلق ببيان لغة): أي ضبطه، (أو شرح غريب) أي تفسير، (كالأحبار) بكسر الهمزة، (عن الأمور) أي الأحوال (الماضية) أي المتقدمة (من بَدء الخلق) أي عما خلق أولاً قبلٍ خلق السماء والأرض، كقوله صلى الله تعالى عليه وسلم حين سئل عنه: " كان الله ولم يكن شيءٌ قَبْلَه، وكان عرشه على الماء ثم خلق السماوات / والأرض، والأرض، وكتب في الذكر كلّ شيء " انتهى لفظ الحديث. فالعرش والماء خلقا قبل السماوات والأَرضِين. فالعرش على الماء، والماء على متن الريح، والريح قائمة بقدرته الكاملة، والذكر عبارة عن اللوح المحفوظ (وأخبار الأنبياء) بفتح الهمزة أي وكقصص الأنبياء (عليهم الصلاة والسلام) وأقوالهم، وأفعالهم وأحوالهم. (أو الآتية) أي الأمور المستقبلة، (كالمَلاَحِم) بفتح الميم، جمع المَلْحَم، وهو المَقْتَل، والمراد بها الحروب / 96 - ب / لاشتباك الناس فيها كالسَّدى واللُّحْمة، أو لكثرة لحوم القتلى فيها، (والفتن) جمع الفتنة وهي أعم مما قبله (1/551)
من الأمور الواقعة في أحوال الدنيا (وأحوال يوم القيامة) أي مواقفها وأهوالها، (وكذا الإخبار) بكسرة الهمزة، (عما يحصل بفعله ثواب مخصوص، أو عقاب مخصوص) قيَّد به لأن مطلق الثواب والعقاب على الخير والشر، للاجتهاد فيه مدخل، بخلاف التحديد فيها، فإن ذلك إنما يُعْلَم بالوحي. (وإنما كان له) أي للحديث (حكم المرفوع لأن إخباره) أي الصحابي (بذلك) أي الخبر، (يقتضي مُخْبِراً له) بكسر الموحدة. قيل: كان عليه أن يعمه بحيث يشمل صورته الاجتهادية أيضاً، ليكون أعم من المُوقِف بأن يقول: لأن إخباره بشيء يقتضي إما كونه من عند نفسه، أو من مخبِر وحِينئذٍ لم يستدرك قوله: (وما لا مجال للاجتهاد فيه يقتضي مُوقِفاً) بضم ميم، وسكون واو وكسر قاف مخففة، أو مشددة أي: مُعْلِماً أو مُطْلعاً (للقائل به) قال محشٍ: الباء متعلق بالقائل، فلو قال: لقائله، لكان أولى، ويحتمل أن يتعلق بقوله مُوقفاً. انتهى. وهو في غاية من البعد لفظاً ومعنى. لأنه يقال: قال به، ولا يقال: أُوقِف به، بل يقال أوقفه. (1/552)
(ولا مُوقِف للصحابة) وفي نسخة: للصحابي والمراد به الجنس. (إلا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم) وأما الكشف والإلهام، فخارجان عن المبحث لاحتمال الغلط فيهما. (أو بعض مَن يخبر عن الكتب القديمة) وفي نسخة: المتقدمة وهي الإسرائيلية. (فلهذا) أي لكون حصر المُوقِف في هذين القسمين من النوعين المذكورين، (وقع الاحتراز) أي فيما سبق، (عن القسم الثاني) أي بقوله: لم يأخذ عن الإسرائيليات، فاختص بالقسم الأول، وهو النبي صلى الله تعالى عليه وسلم. قال التلميذ: قوله عن القسم الثاني: هو بعض من يخبر عن الكتب المتقدمة، وقع الاحتراز عنه بقوله فيما تقدم: ما يقول الصحابي الذي لم يأخذ عن الإسرائيليات. انتهى. وهو واضح. (وإذا كان) أي الأمر، (كذلك) أي على نحو ما ذكر من الشرط في الصحابي، (فله) أي فلحديثه الموقوف (حكم ما لو قال: قال: رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فهو مرفوع) أي حكماً، (سواء كان مما سمعه منه) أي بغير واسطة، (أو عنه بواسطة) كلمة مِن للاتصال، وكلمة عن للانقطاع، فإذا قيل سمعت منه يكون سماعه بلا واسطة، وإذا قيل عنه يكون بواسطة، ويحتمل أن يكون بلا واسطة ولذا قيده بقوله: عنه بواسطة. وحاصله: أنه لا يضره صيغة التدليس لأن الصحابي عدل ثقة محفوظ (1/553)
خصوصاً / 97 - أ / في الرواية ومثال / المرفوع من الفعل حكماً: أن يفعل الصحابي ما لا مجال للاجتهاد فيه أي من الفعل، (فينزَّل) بتشديد الزاي المفتوحة أي فيحمل (على أن ذلك) أي الفعل، (عنده) أي الصحابي (عن النبي عليه الصلاة والسلام) أي مستفاداً منه بأي وجه كان تحسيناً للظن بالصحابة. واستشكل شارح بأنه يجوز فعل الصحابي ما لا مجال للاجتهاد فيه لسماعه منه صلى الله تعالى عليه وسلم، لا لأنه عليه الصلاة والسلام فعله، فلا يكون من مرفوع الفعل. انتهى وهو مدفوع بأن المراد من المثال أن يكون فعل الصحابي له حكم المرفوعٍ، بأن لا يكون من تلقاء نفسه لاشتراط ما لا مجال للاجتهاد فيه، بل يكون مأخوذاً منه عليه الصلاة والسلام، وهو أعم من أن يكون مستفاداً من قوله، أو فعله، أو تقريره صلى الله تعالى عليه وسلم كما أشرنا إليه (كما قال الشافعي رحمه الله تعالى في صلاة عليِّ كرم الله وجهه في الكسوف) أي في صلاته (في كل ركعة أكثر من ركوعين) ولعل هذا قولٌ في مذهبه، وإلا فالمشهور من مذهبه، وهو قول مالك وأحمد في كل ركعة ركوعان، وعند أبي حنيفة رحمه الله ركوع واحد، فمعنى قوله: أكثر من ركوعين غير ظاهر، قال في " الأنوار " وهو كتاب مشهور في مذهب الشافعي: أقل صلاة الخسوف والكسوف (1/554)
ركعتان، في كل ركعة قيامان وركوعان، ولا يزاد ولا ينقص، ولو زيد أو نقص عامداً بطلت، وناسياً يُتَدَارَك انتهى. ولعل معناه: أن الشافعي حمل فعل عليّ كرم الله تعالى وجهه على أنه في حكم المرفوع، ثم رَجَّح غيره من الأدلة المقتصرة على ركوعين على فعله رضي الله عنه. (ومثال المرفوع من التقرير حكماً، أن يُخبر الصحابي أنهم كانوا) أي الصحابة، (يفعلون في زمان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كذا) أي بالإضافة إلى زمنه عليه الصلاة والسلام، لا إلى حضرته عليه الصلاة والسلام كقوله: " كنا نأكل لحوم الأضاحي على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ". وكقول جابر: " كنا نعزل والقرآن يَنْزِل "، أو " كنا نأكل لحوم الخيل على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم "، فالصحيح الذي عليه(1/555)
الاعتماد وبه قَطَع الحاكم وغيره من أئمة الحديث، أنه مرفوع. وقال الإسماعيلي: إنه موقوف، والصواب الأول. (فإنه يكون له حكم المرفوع من جهة أن الظاهر اطلاعه صلى الله تعالى عليه وسلم على ذلك) أي على ما فعله أصحابه في زمانه، (لتوفر دواعيهم) أي لتكثر بواعث الصحابة (على سؤاله) من الإضافة إلى المفعول، وفي نسخة: على السؤال، (عن أمور دينهم، ولأن ذلك الزمان زمان نزول الوحي) أي الجلي، وحصول الوحي الخفي. وفي نسخة: زمان تواتر الوحي أي تتابعه وتعاقبه، والمراد / 97 - ب / عدم انقطاعه. (فلا يقع من الصحابة فعل شيء) بفتح الفاء ويجوز كسرها، وهو مضاف إلى مفعوله، / (ويستمرون عليه) أي على ذلك الفعل، وفيه إشارة إلى عدم نُدْرَة وقوعه المحتمل عدَم اطلاعه صلى الله تعالى عليه وسلم. (إلا) والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال، (وهو) أي ذلك الشيء، (غير منوع الفعل). (وقد استدل جابر وأبو سعيد رضي الله تعالى عنهما على جواز العَزْل) أي في الأمَة وإن لم يستأذن، وفي الزوجة بإذنها.(1/556)
(بأنهم كانوا يفعلونه والقرآن ينزل، ولو كان) أي العزل أي بذاته، (مما يُنهى عنه لَنَهَى عنه القرآن) وفيه إشارة لطيفة إلى أن هذا كأنه تقرير رباني، وإيماء إلى أن فعلهم مرضي سبحاني، فإن الله سبحانه وتعالى حَبَّبَ إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم، وكرَّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان، ولأن الله تعالى ارتضاهم لصحبة نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم، واختارهم لتقوية دينه وجعلهم خير أمّة أُخرجت للناس يأمرون بالمعروف، وينهَون عن المنكر، ولذا قال صلى الله تعالى عليه وسلم: " خير القرون قرني " وقال عليه الصلاة والسلام: " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ". (ويلتحق بقولي) أي في المتن، (حكماً) أي قولٌ حكمي وهو (ما ورد (1/557)
بصيغة الكناية في موضع الصيغ) جمع الصيغة أي الكلمة (الصريحة بالنسبة إليه عليه الصلاة والسلام) يعني ما ورد بالصيغ التي كنّى بها أصحاب الحديث عن قولهم: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو إما لكونه رواه بالمعنى، أو اختصاراً، أو غير ذلك. قال ابن الصلاح: وحكم ذلك عند أهل العلم حكم المرفوع، ومقتضاه الاتفاق. وقد صرح به النووي. (كقول التابعي عن الصحابي: يرفع الحديث) أو رفعه أو مرفوعاً، كحديث سعيد بن جُبَير عن ابن عباس: " الشفاء في ثلاث: شَرْبَة عَسَلٍ، وشَرطَةِ مِحْجَمٍ، وكَيَّةِ نارٍ، وأنْهى أُمُتي عن الكي " رفع الحديث. (أو يرويه أو ينْمِيه) بفتح أوله، وسكون النون، وكسر الميم، أي ينسبه ويسنده. يقال: نَمَيْتُ الحديث إلى غيري نَمْياً، إذا أسندته أو رفعته، كحديث مالك عن أبي حَازِمٍ عن سهل بن سعد قال: " كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل يده اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة ". قال أبو حَازِم لا أعلم إلا أنه ينمي ذلك. (أو روايةً) بالنصب على المصدرية كحديث سفيان عن الزُّهري عن سعيد بن (1/558)
المسيّب عن أبي هريرة رواية: " الفِطْرَةُ خمْس " (أو يَبْلُغ به) كحديث مسلم عن أبي الزِّناد عن الأعرج عن أبي هريرة يَبْلُغُ به: " الناس تَبَعٌ لقريش " وبه عن أبي هريرة رواية: " تُقَاتِلون قوماً / 98 - أ / صِغارٍ الأعْيُن ". (أو رواه) أي بصيغة الماضي، وكأنه أقلّ استعمالاً من المضارع، والمصدر ولذا أخره عنهما والله سبحانه أعلم. (وقد يقتصرون) أي المحدثون (على القول مع حذف القائل) أي اختصاراً بناء على الوضوح، (ويريدون به) أي بالقائل، (النبي صلى الله تعالى عليه (1/559)
وسلم كقول ابن سيرين عن أبي هريرة قال:) أي أبو هريرة، (قال) أي النبي عليه الصلاة والسلام: (" تقاتلون قوماً... " الحديث) تمامه " صغار الأعين، تسوقونهم ثلاث مرات حتى تُلحِقُوهم بجزيرة العرب، فأما في السِّيَاقة / الأولى، فينجو من هرب " منهم، وأما في الثانية فينجو بعض، ويَهْلِك بعض، وأما وفي الثالثة فيَصْطَلِمُون "، أو كما قال. انتهى. وصغار الأعين: الترك، وجزيرة العرب: ما أحاط بها بحر الحبشة، وبحر فارس، ودجلة والفرات، واصطلم: أي هلك. (وفي كلام الخطيب أنه) أي الاقتصار على القول مع حذف القائل، (اصطلاح خاص بأهل البصرة) أي منهم ابن سيرين وغيره، وتحقيقه ما قال ابن سيرين: كل شيء حَدَّثْتُ به عن أبي هريرة فهو مرفوع. وقال الخطيب عقبه: قلت للبرْقَاني: أحْسَب أن موسى غَنَى بهذا القول أحاديث ابن سيرين خاصه، فقال: كذا تَحْسِب؟. (ومن الصيغ المحتملة) أي لأن يكون مرفوعاً أو موقوفاً، (قول الصحابي: من السنة كذا) كقول علي كرم الله وجهه: " مِن السنَّه وضع الكف على الكف في (1/560)
الصلاة تحت السرة ". ذكره السخاوي. قال التلميذ: قال المصنف: ومن الوجوه المرجِّحة بأنها سنةُ النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، إذا قالها كبراء الصحابة كأبي بكر رضي الله تعالى عنه مثلاً، إذ ليس قبله إلا سنَّه النبي عليه الصلاة والسلام، ومنها أن يورده في مقام الاحتجاج لأن الصحابة مجتهدون، والمجتهد لا يقلِّد مجتهداً آخر، فَصُرِف إلى سنَّة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم. (فالأكثر) أي الجمهور من المحدثين والعلماء على (أن ذلك) أي قوله: من السنَّة كذا، (مرفوع) أي حكماً. (ونقل ابن عَبْدِ البَر فيه) أي في قول الصحابي المذكور. (الاتفاق) وأطلق الحاكم، والبيهقي اتفاق أهل النقل على الرفع. قال السخاوي: وخص ابن الأثير نفيَ الخلاف بأبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه خاصةً، إذا لم يتأمَّر عليه أحد غير النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، بخلاف غيره، فقد تأمر عليهم أبو بكر رضي الله عنه وغيره، (قال:) أي ابن عبد البَر في مسألة التابعي: (1/561)
(وإذا قالها) أي الجملة المذكورة الشاملة للسنة، وهو قوله: من السنَّة كذا، أو السنَّة المطلقة، (غير الصحابي) أي التابعي، (فكذلك) أي مرفوع حكماً بالاتفاق. قال التلميذ: قوله: إذا قالها غير التابعي / 98 - ب /، فكذلك، يظهر منه أن هذا من التنبيه بالأدنى على الأعلى، فإذا قالها التابعي، فهو من باب أولى انتهى. وهو مخالف للنُسخ المتعمدة والله أعلم. (ما لم يضفها) أي ينسبها (إلى صاحبها) أي السنَّة، (كسنَّة العمرين) أي أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما، وغُلِّب عمر لكونه أخفِّ وأخصر، ولتقابله بالقمرين لفظاً، وإن كان تغليب القمر على الشمس لكونه مذكراً لفظاً. وأما ما اشتهر على ألسنة العامة من قولهم: " اللهم أيِّدِ الإسلام بأحد العُمرَين " المراد بهما عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعمرو بن هشام المكنَّى بأبي الحكم في الجاهلية، وكناه صلى الله تعالى عليه وسلم بأبي جهل في الإسلام، فلا أصل له بهذا اللفظ . نعم روى أحمد والترمذي وغيرهما بلفظ: " اللهم أيد الإسلام بأحبّ هذين الرجلين إليك: بأبي جهل، (1/562)
أو بعمر بن الخطاب ". وروى الحاكم عن عائشة بلفظ: " اللهم أعزَّ الإسلام بعمر بن الخطاب ". قال ابن عساكر في الجمع بين اللفظين: إنه صلى الله تعالى عليه وسلم دعا بالأول، فلما أوحي إليه أن أبا جهل لن يسلم خص عمر بدعائه فأجيب فيه. (ففي نقل الاتفاق نظر) أي فإن الخلاف موجود: (فعن الشافعي) هو وجه النظر، فالفاء للتعليل أي لأن عنده (في أصل المسألة قولان)، ففي القديم أن ذلك مرفوع إذا صدر من الصحابي أو التابعي، ثم رجع عنه وقال في الجديد: ليس بمرفوع. (وذهب إلى أنه غير مرفوع أبو بكر الصيرفي) صاحب " الدلائل " (من الشافعية، وأبو بكر الرازي) صاحب " شرعة الإسلام " (من الحنفية، وابن حَزْم) بفتح مهملة وسكون زاي (من أهل الظاهر)، هم جماعة كبيرهم داود الظاهري، وهم الذين لا يُؤِّلون الأحاديث بل يُجرُونَها على ظاهرها. قال محش: وفي كثير من النسخ: أهل النظر، وفيه نظر، لأنه ما رأينا نسخة واحدة، وهو مع مخالفته للرواية غير موافق للدراية. (1/563)
واحتجوا أي المانعون من كونه مرفوعا لوجود الاحتمال (بأن السنَّة تتردَّدُ بين النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وبين غيره) أي من الخلفاء الراشدين، فقد سماها النبي صلى الله تعالى عليه وسلم سنةً في قوله عليه الصلاة والسلام: " عليكم بسنتي وسنَّة الخلفاء الراشدين بعدي "، واندفع بتقريرنا هذا ما قال محش: هذا الدليل إنما يدل على بطلان ما ادعى الخصم من الجزم بالرفع، ولا يدل على مدعاهم من الجزم بعدم الرفع. انتهى. وبيانه أنه إذا دل على بطلان ما ادعى الخصم من الجزم بالرفع، حصل مدعاهم من الجزم بعد الرفع، لأن العدم هو الأصل، ومع وجود الاحتمال لا يحتمل الاستدلال، مع أنهم ما يدعون / 99 - أ / الجزم بعدم الرفع، بل يقولون: حيث تُرَدَّد السَّنة بأن تطلق تارة على سنته صلى الله تعالى عليه وسلم، وتارة على سنَّة غيره، لا نقول بأنه في حكم المرفوع لاحتمال أن يكون موقوفاً. والمسألة ظنية لا يقينية حتى يقول أحدهم بالجزم، والقطع، ولذا قال: (وأُجيبوا: بأن احتمال إرادة غير النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بعيد) يعني وغلبة الظن كافية في المسألة. قال محش: أي أجيب اعتراضهم، فالإسناد مجاز، فالأظهر أجيب أو أجابوا، وهو غريب لأنهم إذا أجابوا، فهم أجيبوا. وأغرب شارح (1/564)
وقال: فكثيراً ما يعبرون به عن سنَّة الخلفاء الراشدين، وقد يطلقونه ويريدون به سنَّة البلد، وهذا الاحتمال وإن قيل به في الصحابي، فهو في التابعي أقوى، فلذلك اختلف الحكم في الموضعين. انتهى ووجه غرابته إطلاق السنَّة على سنَّة البلد، فإنه مع عدم صحته، إلا على زعمه في بلده، خارج عما نحن فيه بصدده مع أنّ قوله: فلذلك اختلف الحكم في الموضعين، غير صحيح لما سبق من أنه لا فرق بينهما في اختلاف الحكم. (وقد روى البخاري في " صحيحه ") بمنزلة التعليل لقوله: بَعيدٌ المتضمن لدليل الأكثرين، (في حديث ابن شهاب) هو الزهري من صغار / التابعين، (عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه قصته) أي ابن عمر أو سالم (مع الحجاج) بفتح أوَّله، أي كثير الحُجَّة، وهو ابن يوسف أمير أمراء عبد الملك بن مروان، قيل: قَتَلَ مئةً وعشرين ألفاً من الصحابة والتابعين والسادات والصالحين صبراً، غير ما قتل منهم في المحاربة، (حيث قال) أي سالم حقيقةً، وابن عمر حكماً، (له:) أي للحجاج: (" إن كنت تريدُ السنة فهَجِّر) بتشديد الجيم المكسورة أي بادر (الصلاة ") (1/565)
أي إليها، إذ التهجير التبكير إلى كل صلاة، كذا في " التاج ". والقضية على ما نقله السخاوي عن البخاري، أن الحجَّاج عامَ نزل بابن الزبير سأل عبد الله، يعني ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ؛ كيف تصنع في الموقف يوم عرفة؟ فقال سالم: " إن كنت تريد السنَّة فهجر بالصلاة يوم عرفة ". فقال ابن عمر: " صدق إنهم كانوا يجمعون بين الظهر والعصر في السنَّة ". انتهى. وفي كلام ابن عمر زيادة إفادة أنّ هذه سنَّة واظب عليها النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابُه، لكن لما كان موهماً أن يكون سنَّة الخلفاء فقط (قال ابن شهاب: فقلت لسالم: أفَعَله) أي التهجير، (رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال:) أي سالم: (وهل يعنون) أي السلف هو استفهام إنكار، أي لا يريدون (بذلك) أي بإطلاق / 99 - ب / السنة، (إلا سنته) أي سنة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم !) أي غالباً. (فنقل سالم - وهو) أي والحال أن سالماً (أحد الفقهاء السبعة) وهم: ابن(1/566)
المسَّيب - ب /، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وعروة بن الزُّبير، وخَارِجَة بن زيد، وسليمان بن يَسَار، وعبد الله بن عُتْبَة بن مسعود، والسابع أبو سَلَمَة بن عبد الرحمن بن عوف. وقال ابن المبارك: سالم بن عبد الله بن عمر. وقال أبو الزِّناد: أبو بكر بن عبد الرحمن بن حارث بن هشام، فهؤلاء الفقهاء السبعة. (من أهل المدينة) الذين يصدرون عن رأيهم وعلمهم، واشتهروا في الآفاق، ولعلهم المعنيون بقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: " يوشك أن يَضربَ الناس أكباد الإبل يطلبون العلم لا يجدون أحداً أعلمَ من عالم المدينة " ورواه الترمذي. والحاصل: أن نقله وهو أحد الفقهاء على خلاف. (وأحد الحفاظ من التابعين -) بالاتفاق. (عن الصحابة: أنهم إذا أطلقوا السنَّة لا يريدون بذلك إلا سنَّة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم) لأنّ مقصودهم بيانُ الشرع، ولأن السنِّة لا تنصرف بظاهرها حقيقةً إلا إلى الشارع فإنه الفرد الأكمل، ولأنه أصل، وسنَّة غيره وإنما هو تبع في كلامهم فحَمْل كلامهم على الأصل أولى. (وأما قول بعضهم:) أي الخلف، (إن كان) أي الحديث الذي عبِّر عنه بالسنَّة (1/567)
(مرفوعاً فلِمَ لا يقولون) أي السلف (فيه: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم؟) أي لو كان، لقالوا فيه: قال. (فجوابه: أنهم) أي السلف، (تركوا الجزم بذلك) أي بذلك القول وعبروا عنه بالصيغة التي ذكرها الصحابي (تورعاً واحتياطاً) في الرواية . (ومن هذا) أي مما تُرِك الجزم فيه / تورعاً: (قول أبي قِلابة) بكسر القاف (عن أنسٍ: " من السنَّة إذا تزوج) أي أحد، (البِكر على الثِّيب أقام عندها سبعاً ". أخرجاه) أي الشيخان (في الصحيح) أي كل واحد منهما في صحيحه لا في غيره من كتبه إشارة إلى كمال صحته. (قال أبو قِلابة: لو شئتُ لقلتُ: إن أنساً رفعه إلى النبي عليه الصلاة والسلام، أي لو قلت لم أكذب) بالتحفيف أي لست كاذباً، وقيل: بالتشديد (1/568)
مجهولاً، أي لم أنسب إلى الكذب ؛ (لأن قوله: من السنَّة، هذا) أي الرفع (معناه، لكن إيراده بالصيغة التي ذكرها الصحابي أولى) أي كما لا يخفى. (ومن ذلك) أي من الصيغ المحتملة للرفع والوقف. وقال محش: أي ومما تُرك فيه الجزم تورعاً انتهى. وهو غير صحيح ؛ لأنه (قول الصحابي: أُمرنا بكذا، أو نُهينا عن كذا،) بالبناء للمفعول فيهما، كقول أمِّ عَطِيَّة: " أَمَرَنَا أنْ نُخْرِج في العيدين / 100 - أ / العَوَاتِق وذوات الخُدور، وأَمَر الحُيَّضِ - بضم الحاء، تشديد الياء جمع حائض - أن يَعْتَزِلْنَ مُصَلَّى المسلمين ". " ونُهِينا عن اتِّباع الجَنائز ". (فالخلاف فيه) أي في هذا (كالخلاف في الذي قبله) أي في قوله: من السنَّة كذا، وهو أن الوقف مذهب البعض، والرفعَ مذهب الأكثر الذي هو الصحيح. (لأن مطلق ذلك) أي ما ذكر من الأمر والنهي، (ينصرف بظاهره إلى مَن له الأمر والنهي، وهو الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم). (1/569)
(وخالف) وفي نسخة: وخالفهم (في ذلك) أي في كونه مرفوعاً وحكموا بأنه موقوف، (طائفة) منهم الإسماعيلي، (وتمسكوا باحتمال أن يكون المراد غيره) أي غير النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (كأمر القرآن أو الإجماع) بنسبة الأمر المجازي إليها. أو بعض الخلفاء، وفي معناهم بعض الأمراء (أو الاستنباط) أي الاجتهاد. (وأجيبوا: بأن الأصل) أي في الأمر (هو الأول) وهو أمره صلى الله تعالى عليه وسلم لأنه حقيقة، (وما عداه محتمل لكنه) أي المحتمل (بالنسبة إليه) أي إلى الأصل الذي هو الأول، (مرجوح) لكونه إما مجازاً، أو لأنه تبع، ولا اعتبار للفرع مع وجود الأصل. (وأيضاً) جعله وجهاً آخر في الجواب، وهو ظاهر، ويمكن تقريره بوجه يكون دليلاً على ما ذُكر في الجواب من كون الأول راجحاً، والثاني مرجوحاً. (فمن كان في طاعة رئيس) وهو مرجع أهلِ بلدٍ في الأمر والنهي، (إذا (قال:) فاعله ضمير مَن (أُمِرْتُ، لا يفهم عنه) أي عن قوله: أن آمرِه) بصيغة الفاعل (ليس إلا رئيسه) أي غير رئيسه الذي هو الأصل في البلد، ومدار الأمر والنهي عليه، فإلا بمعنى غير، على ما هو مذهب البعض فيما إذا لم تكن " إلا " تابعة لجمع منكور غير محصور، وحق العبارة أن يقول: لا يُفْهَم إلا أَنَّ (1/570)
آمره رئيسه، بتقديم إلا، أو: لا يُفْهم آمره إلا رئيسه بحَذف أن، أي لا يفهم آمره على صفة إلا على صِفة كونه رئيساً له، أو يفهم أن آمره ليس إلا رئيسه، والأظهر أن يقال: لا يفهم منه إلا أن آمره لا يكون / إلا رئيسه، وحاصل معنى كلامه: أنه لا يفهم منه أن آمره غير رئيسه بل يفهم منه أنه رئيسه. (وأما قول من يقول:) أي تمسكاً على عدم الرفع، (يحتمل أن يظن) أي الراوي، (ما ليس بأمر أمراً) أي قال في نفس الأمر، فلا يصح أن يقول: أمرنا (فلا اختصاص) أي فجوابه أنه لا اختصاص (له) أي لاحتمال الظن حينئذ (بهذه المسألة، بل هو مذكور) الأولى متصوَّر (فيما لو صرح) أي الراوي، (فقال: أمرنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بكذا) أي أيضاً (وهو) أي احتمال الظن (احتمال ضعيف) أي / 100 - ب / في: أُمِرنا مجهولاً، وفي: أَمَرنا معلوماً أضعف وأضعف. (لأن الصحابي عَدْلٌ) تمنعه عدالته أن يعبر بالأمر بناء على ظنٍ ضعيف، (عارفٌ باللسان) أي بلسان العرب حقيقة، ومجازاً، وصحةً وجوازاً، (فلا يُطْلِق) أي الصحابي (ذلك) أي الأمر، (إلا بعد التحقيق) أي بعد تحقيق الأمر، وتثبيت جواز إطلاقه. (1/571)
(ومن ذلك قوله:) أي الصحابي: (كنا نفعل كذا) أي في زمن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، أي مما يَحْتَمِل المرفوع وهذا مثل ما تقدم مثالاً للمرفوع من التقرير حكماً قول الصحابي: إنهم كانوا يفعلون في زمان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كذا، وإليه أشار المصنف بقوله: (فله حكم الرفع أيضاً كما تقدم) فيكون هذا تنظيراً لا تمثيلاً، فلم يرد عليه أنَّ عَدَّ هذا من الصيغ المحتملة - وذلك من المرفوع حكماً - لا يخلوا من تحكم. قال محشٍ: ولعلهم يفرقون بين: " كنّا نفعل "، وبين: " كنا نفعل في زمن النبي عليه الصلاة والسلام ". ثم رأيت التلميذ ذكر في حاشيته أنه قال المصنف: كنا نفعل كذا، أحطّ رتبة من قولهم: " كنا نفعل في عهد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم "، لأن هذا وإن أورده محتجاً به يحتمل أن يريد الإجماع، أو تقرير النبي عليه الصلاة والسلام، فالاحتجاج صحيح. وفي كونه من التقرير التردد. انتهى. ولهذا له حكم الرفع عند الحاكم، والإمام فخر الدين الرازي، وموقوف عند جمهور من المحدثين، وأصحاب الفقه والأصول، وكذا عند ابن الصلاح والخطيب. (ومن ذلك أن يحكم الصحابي على فعل من الأفعال بأنه طاعة لله أو لرسوله، (1/572)
أو معصية) هذا قريب مما مر من الإخبار عما يحصل بفعله ثواب مخصوص أو عقاب مخصوص، لكن ذَكَرَ هنا الطاعة والمعصية اللتان تفضيان في الجملة إليهما بدلهما، ولم يعتبر قيد الخصوص، فهما متغايران. (كقول عَمَّار:) بفتح مهملة، وتشديد ميم، (" مَن صام اليوم الذي يُشَكّ) بصيغة المجهول، (فيه) أي في أنه ظن شعبان، أو رمضان، (فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم ") كنيته صلى الله تعالى عليه وسلم باسم ولده القاسم. (فلهذا) أي فلهذا النوع، (حكم الرفع أيضاً) أي مما تقدم ؛ (لأن الظاهر أن ذلك مما تلقَّاهُ) أخذه الصحابي (عنه عليه الصلاة والسلام).
(الموقوف)
(أو ينتهي غاية الإسناد) أي يبلغ آخره الذي هو الغرض الأعلى والغاية القصوى، فاندفعت المناقشة المذكورة، والمسامحة المسطورة (إلى الصحابي) / أي واحد من الصحابة كالمهاجري والأنصاري، (كذلك، أي مثل ما تقدم في كون اللفظ) أي لفظ الحديث، (يقتضي التصريح) جعل التصريح هنا مفعول يقتضي وقوله: (بأن المنقول هو / 101 - أ / من قول (1/573)
الصحابي، أو من فعله، أو من تقريره) متعلق بالتصريح بخلافه هناك، فإن التصريح هناك حال، أو تمييز، وأنْ مع مدخوله مفعول ل: يقتضي، ومآل المعنى واحد. (ولا يجيء فيه) أي في هذا المقام، (جمع ما تقدم) لعدم شموله لما ثبت حكماً أنه قول الصحابي، أو فعله أو تقريره. ولِمَا ذَكَرَ أخراً وهو: أن يحكم الصحابي على فعل من الأفعال بأنه طاعة لله ورسوله أو معصية. (بل معظمه) أي أكثره وهو التصريح، فإذا قيل: عن الصحابي عند ذكر الحديث: يرفعه أو نحوه، فهو مرفوع أيضاً كما إذا قيل عن الصحابي، صرح بذلك النووي. (والتشبيه لا تشترط فيه المساواة من كل جهة) وفي نسخة: من كل وجه، أي بل فيما يقصد. (ولمّا كان هذا المختصر شاملاً لجميع أنواع علوم الحديث)، الإضافة بيانية، أي ومن علوم الحديث معرفة الرواة، (استطردت منه إلى تعريف (1/574)
الصحابي) قيل هذه العبارة غير ظاهرةِ المعنى، والأحسن أن يقول بدلها: أوردت تعريف الصحابي بالاستطراد. (مَن هو) الظاهر ما هو، لأن كلمة ما للسؤال عن الماهية دون مَنْ والأحسن أن يقول: إنه هو على أن يكون بدلاً من تعريف الصحابي، والحاصل: أني عرّفت الصحابي من هو ليحصل معرفة الصحابة كمعرفة غيرهم من الرواة، وإلا فالتعريف من المبادئ لا من المسائل، ولذا قيل: الملازمة غير ظاهرة وكان الأولى أن يقول: ولَمَّا أنْجَرَّ الكلام إلى ذكر الصحابي، فعرفته، وكذا الحال في التابعي، (فقلت):
(تعريف الصحابي)
(وهو) أي الصحابي، (مَن لَقِي) بكسر القاف، أي رأى (النبي عليه الصلاة والسلام) أو رآه النبي عليه الصلاة والسلام حال كونه (مؤمِناً به) أي بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وبما جاء به من عند الله تعالى قال السخاوي: دخل فيه من رآه وآمن به من الجن لأنه عليه الصلاة (1/575)
السلام بُعِثَ إليهم قطعاً، وهم مكلَّفون، وفيهم العصاة والطائعون، ولذا قال ابن حَزْم في الأقضية من المُحَلَّى: قد أعلمنا الله تعالى أنّ نفراً من الجن آمنوا واستمعوا القرآن من النبي عليه والصلاة والسلام، فهم صحابة فضلاء، وحينئذ يتعين ذكر من عُرِف منهم في الصحابة، ولا التفات لإنكار ابن الأثير على أبي موسى المَديني تخريجه في الصحابة لبعض من عَرَفه منهم، فإنه لم يستند فيه إلى حجة. (ومات على الإسلام) أي إجماعاً، (ولو تخللت) وصلية، (رِدَّة) أي ارتداد وكفر (في الأصح) أي على مقتضى مذهب الشافعي، ومن تبعه من أن الارتداد لا يبطل الأعمال إلا بموته على الكفر. وأما في مذهبنا المقرر من أن الردة تبطل ثواب جميع الأعمال ولو رجع إلى / 101 - ب / الإسلام، وأنه يجب عليه إعادة الحج فإنه فرض عمري، فتبطل صحبته بالردة، فلا يكون صحابياً إلا أن حصلت له رؤية ثانية، وعليه الإمام مالك وسيأتي زيادة بيان لهذا، / والعجب من شارح حنفي مشهور بأنه عَلاَّمة حيث لم يعرف مذهبه، وقال: أي على الأصح الذي ذهب إليه الجمهور من المحدثين والأصوليين وغيرهم. قال: وقد ذكر المصنف قيداً لا بد منه ولم يذكره الجمهور وهو قوله: " مات على الإسلام " لئلا يلزم أن يكون من مات على الرَّدة معدوداً من الصحابة. (1/576)
قلت: وإنما تركه الجمهور لكمال الظهور، بل في الحقيقة إنما ذكره ليترتب عليه: ولو تخللت رِدَّة على الأصح، لكنه موهم أن يكون على الأصح قيداً للمسألتين، فدفعته بقولي في الأول: أي إجماعاً. (والمراد باللقاء) أي الملاقاة، (ما هو أعم من المجالسة والمماشاة) وكذا من المكالمة والمبايعة (ووصول أحدهما إلى الآخر وإن لم يكالمه) أي أحدهما الآخر. (ويدخل فيه) أي في اللُّقِيّ بالمعنى الأعم الشامل للوصول، أو في التعريف، (رؤية أحدهما الآخر) ولو لحظة لشرف منزلة مطالعة طلعة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم الذي هو أفضل من الكبريت الأحمر في التأثير، فكأنه كما صرح به بعضهم إذا رآه مسلم، أو رأى مسلماً لحظة طُبع قلبه على الاستقامة في الدين لأنه بإسلامه متهيئ للقبول، فإذا قابل ذلك النور العظيم أشرق عليه فظهر أثره على قلبه وجوارحه، والمراد رؤيته في حال حياته وإلا فلو رآه بعد موته قبل دفنه ففيه خلاف. (سواء كان ذلك) أي الوصول، أو ما ذكر من الرؤية، (بنفسه أو بغيره) أي سواء كان بالاستقلال بأن يقصد رؤيته على حدة، أو بالتبعية ووسيلة الغير وسواء كان ينظر إليه قصداً، أو قصد رؤية غيره ورآه تبعاً بوقوع نظره (1/577)
عليه اتفاقاً من غير قصد، وإلا فالرؤية بالغير مما لا معنى له، أو يقال معناه: سواء كان رؤية أحدهما للآخر بنفسه بأن يكون هو نفسه باعثاً على الرؤية، أو كان بغيره بأن يكون الباعث ذلك الغير. قال التلميذ: قوله: بغيره أي بأن يكون صغيراً فيحمل إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم. (والتعبير " باللُّقِي " أولى من قول بعضهم: " الصحابي من رأى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ") وإنما قال: أولى لأنه يمكن أن يراد بالرؤية في قول بعضهم بناء على الغالب، أو يقال: المراد بالرؤية الملاقاة، بحيث لو كان له بصر لرآه كما هو المستعمل في العرف. وبعضهم هو: أبو عمرو بن الصلاح على ما قاله التلميذ، وقال العراقي: هكذا أطلقه كثير من أهل / 102 - أ / الحديث، ومرادهم بذلك مع زوال المانع من الرؤية كالعمى. انتهى. وعلى كل تقدير فتعريف المصنف أولى (لأنه) أي قول بعضهم (يُخرج) أي بناء على الظاهر، (ابن أم مكتوم) أي الأعمى الذي نزل في حقه: {{عبس وتولى}}، قيل: يخرج إما من الإخراج، فالابن منصوب، أو من الخروج والابن مرفوع، ولكن لفظة " به " أي بهذا القول مقدر حينئذٍ فالأوّل أولى. (ونحوه ومن العُميان،) بضم العين، (وهم) أي والحال أنهم (صحابة بلا تردد) أي بلا خلاف وشك. (1/578)
قال المصنف: الذي اخترته أخيراً أن / قول مَن قال: رأى النبي عليه الصلاة والسلام لا يَرِدُ عليه الأعمى لأن المراد بالرؤية ما هو أعم من الرؤية بالقوة أو بالفعل، والأعمى في قوة مَن يرى بالفعل، وإن عرض مانع من الرؤية بالفعل وهو العمى. قال تلميذه: اختيار مجاز بلا قرينة لا عبرة به. قلت: العرف قرينة معروفة، بل قيل: المجاز المستعمل أولى من الحقيقة اللغوية، ويمكن أن ينزل الفعل المتعدي منزلة اللازم، ويقال: المراد بَمن رأى النبي عليه الصلاة والسلام مَن حصل له رؤية النبي عليه الصلاة والسلام، وهو يشمل الطرفين وإنما اختاروا لفظ من رأى النبي عليه الصلاة والسلام دون من رآه النبيُّ عليه الصلاة والسلام لأنه الأغلب، وهو الأنسب بالأدب، والأقرب إلى الطلب، ولهذا قال صلى الله تعالى عليه وسلم: " طُوْبَى لِمَنْ رآني وآمن بي، وطُوْبَى لَمَن رأى من رآني " فاكتفى صلى الله تعالى عليه وسلم بمجرد الرؤية من غير اعتبار التمييز والصحبة والرواية كما قال بعضهم. (واللُّقِيّ في هذا التعريف كالجنس) إنما قال كالجنس، وكالفصل لكونهما من (1/579)
الأعراض العامة، فيشمل المحدود وغيره، (وقولي: " مؤمناً به " كالفصل) أي باعتبار جزئه الأول. (يُخْرجُ من حصل له اللقاء المذكور لكن في حال كونه كافراً،) أي لم يؤمن بأحد من الأنبياء كالمشركين، وكان الأولى أن يترك قوله: " به " لقوله: (وقولي " به "، فصل ثان يُخرح من لقيه مؤمناً، لكن بغيره مِن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام) أي كأهل الكتاب. قال التلميذ: إن كان المراد بقوله: مؤمناً بغيره أنه مؤمن بأن ذلك الغير نبي، ولم يؤمن بما جاء به كأهل الكتاب من اليهود اليوم، فهذا لا يقال له مؤمن، فلم يدخل في الجنس، فيحتاج إلى إخراجه بفصل وحينئذ لا يصح أن يكون هذا فصلاً، وإنما هو لبيان متعلق الإيمان، وإن كان المراد مؤمناً بما جاء به غيره من الأنبياء، فذلك مؤمن به إن كان لقاؤه بعد البعثة، وإن كان قبلها فهو مؤمن بأنه سيبعث، فلا يصح أن يكون فصلاً لما ذكره بعد هذا. قلت: نختار شِقاً آخر وهو أن المراد به مَن آمن بغيره من الأنبياء مجملاً، ولم يطلع على ما جاء به الأنبياء مفصلاً كأكثر أهل الكتاب جهلاً، وأما غيرهم ممن يكون كفرهم به صلى الله تعالى عليه وسلم عِناداً، فقد خرج بالفصل / 102 - ب / الأول، وهو قوله: مؤمناً. (1/580)
(لكن هل يخرج) أي الفصل الثاني، (مَن لَقِيه مؤمناً بأنه سيبعث ولم يدرك البِعثة؟) بكسر الموحدة كَبحِيْرى الراهب؟ (فيه نظر) أي تردد كما صرح به النووي، فمن أراد اللقاء حال نبوته حتى لا يكون مثله صحابياً عنده يخرج عنه، ومن أراد أعم من ذلك يدخل ولا وجه لإخراجه كما ذهب إليه البعض، واعترض عليه بأن هذا الشخص غير داخل في الجنس فكيف يخرجه؟ وأجيب بأن هذا إنما يصح إذا أريد بالنبي النبي من حيث إنه نبي، وأما إذا أريد ذاته، فلا يصح بالنسبة إلى من رأى ذاته قبل البعثة ولم يره بعد البعثة، نعم يصح بالنسبة إلى المصدق به ولم ير ذاته / أصلا. قال التلميذ: قوله: فيه نظر، أي محل تأمل. قال المصنف: قلت مرجحا أحد جانبي هذا التردد: أن الصحبة وعدمها من الأحكام الظاهرة، فلا تحصل إلا عند حصول مقتضيها في الظاهر، وحصوله في الظاهر يتوقف على البعثة. انتهى. وهو معنى ما قيل في وجه النظر لأن المؤمن في العرف لا يطلق على من يصدق بأنه سيبعث ولم يؤمن به حال البعثة، لكن فيه بحث لأن كلامنا بالنسبة إلى المصدق بأنه سيبعث ومات قبل البعثة. (وقولي: " ومات على الإسلام " فصل ثالث يخرج من ارتد بعد أن لقيه مؤمنا، ومات على الردة كعبيد الله) بالتصغير (ابن جحش) بفتح جيم، وسكون مهملة، (وابن خطل) بفتح معجمة، فمهملة، قتل وهو متعلق بأستار الكعبة. قال (1/581)
السخاوي: ومقيس بن صبابة، بفتح المهملة، وفي حاشية التلميذ: قال المصنف: وكذا من روي عنه ثم مات مرتدا بعد وفاته كربيعة بن أمية بن خلف، فإنه لقيه مؤمنا وروى عنه واستمر إلى خلافة عمر وارتد ومات على الردة. انتهى. قال السخاوي: وما وقع لأحمد في مسنده من ذكره حديث ربيعة بن أمية بن خلف الجمحي، وهو ممن أسلم في الفتح وشهد مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حجة الوداع، وحدث عنه بعد موته ثم لحقه الخذلان، فلحق في خلافة عمر بالروم وتنصر بسبب شيء أغضبه، يمكن توجيهه بعدم الوقوف على قصة ارتداده. وقد قال شيخنا ما نصه: وإخراج حديث مثل هذا يعني مطلقا في المسانيد وغيرها مشكل، ولعل من أخرجه لم يقف على قصة ارتداده. (وقولي: " ولو تخللت ردة ") مبتدأ وخبره قوله: (أي بين لقيه) أي قوله: لو تخللت ردة مفسر بقولنا: لو تخللت ردة بين لقيه (وله مؤمناً به، وبين موته على الإسلام) وتصحف قوله: على الإسلام على / 103 - أ / شارح بقوله: عليه السلام، فقال: بل بعده أيضاً كما يشعر به قوله: أم بعده. (فإن اسم الصحبة باق له) أي غير باطل عند الشافعية خلافاً للحنفية، (سواء رجع إلى الإسلام في حياته) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، (أم بعد موته، سواء لَقيه ثانياً) حيث يعود له اسم الصحبة بالتجدد اتفاقاً (أم لا) خلافاً (1/582)
لنا، وأغرب محشٍ مع كونه حنفياً فاصلاً حيث قال: قوله: لقيه ثانياً أم لا مما لا حاجة إليه لفهمه من قوله: أم بعد موته. انتهى ووجه الغرابة مع قطع النظر عن معرفة المذهب في الردة أنه لا يفهم من قوله: أم بعد مماته أنه لقيه ثانياً أم لا في حال حياته. (وقولي: " في الأصح " إشارة إلى الخلاف في المسألة،) قال تلميذه: أي في مسألة الارتداد. انتهى. وسيجيء بيانه. وأغرب شارح وجعل المراد بالمسألة مسألة تعريف الصحابة، ويدل على بطلان قوله قولُه: (ويدل على رجحان الأول) أي المفهوم من الأصح المقابل للصحيح، أو الضعيف الذي هو الثاني، وهو الأصح عنده، (قصة الأشْعَث بن قيس، فإنه كان ممن ارتد وأُتِي) أي جيء (به إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه أسيراً) أي / مأسوراً مقيداً، (فعاد إلى الإسلام فَقَبِل) أي أبو بكر (منه ذلك) أي الإسلام (وَزَوَّجَهُ) أي أبو بكر. (أخته) أي لِمَا رأى مِن حُسن إسلامه. (ولم يتخلف أحد عن ذكره) أي الأشعث (في الصحابة، ولا عن تخريج (1/583)
أحاديثه في المسانيد وغيرها). فيه أنه كان ينبغي أن لا يكون في المسألة خلاف مع أنه خلاف ذلك، فلعل من ذكره في الصحابة غَفَل عن ارتداده، أو لكونه في طبقة الصحابة. ومن خرّج حديثه فيحتمل أن يكون عن جهل بحاله، أو روى حديثه الذي نُقل عن غيره من الصحابة، أو على قول مَن يجوز التحمل في الكفر والأداء في الإسلام، وإلا فقد صرح في شهادات " الوَلْوَالِجيَّة " من كتب الحنفية: أنه يبطل ما رواه المرتد لغيره من الحديث، فلا يجوز للسامع منه أن يرويَه عنه بعد رِدته. وقال الحلبي في " حاشية شفاء القاضي ": أخرج للأشْعَث هذا الأئمة الستة وأحمد في المسند، وقد صرح بأنه صحابي، وهذا إنما يتمشى عند من يقول: إن الرِّدة إنما تُحبط بشرط أن تتصل بالموت، أما مَن يقول: إن الرِّدة تُبطل وإن لم تتصل بالموت فلا يعدو هذا القول قول أبي حنيفة، وفي عبارة الشافعي ما يدل على هذا، كذا قاله بعض مشايخي، لكن الذي حكاه الرافعي عن الشافعي: إنها إنما تُحبط بشرط اتصالها للموت والله سبحانه أعلم. هذا، وقد بقي قيود أخر لا بد من بيانها، وتصدى السخاوي للتعرض بشأنها حيث قال - ولو أطال -: وهل يدخل / 103 - ب / من رآه ميتاً قبل أن يدفن كما وقع لأبي ذُؤَيب الهُذَلي الشاعر إن صح؟ قال العز بن جَمَاعَة: لا على المشهور. وقال شيخنا: إنه محل نظر والراجح عدم الدخول، وإلا يُعَدّ من اتفق أن (1/584)
يرى جسده المكرم وهو في قبره المعظم، ولو في هذه الأعصار، كذلك من كُشِف له عنه من الأولياء فرآه كذلك على طريق الكرامة، إذ حجة من أثبت الصحبة لمَن رآه قبل دفنه أنه مستمر الحياة، وهذه الحياة ليست دنيوية وإنما هي أخروية لا تتعلق بها أحكام الدنيا، فإن الشهداء أحياء، ومع ذلك الأحكام المتعلقة بهم بعد القتل جارية لهم على سَنَن غيرهم من الموتى. انتهى. قال العلائي: إنه لا يبعد أن يُعطى حكم الصحبة لشرف ما حصل له من رؤيته صلى الله تعالى عليه وسلم قبل دفنه وصلاته عليه، قال: وهو أقرب من عدّ المعاصر الذي لم يره أصلاً فيهم، أو الصغير الذي وُلد في حياته. وقال البدر الزركشي: ظاهر كلام ابن عبد البر يعمّ، لأنه أثبت الصحبة لمن أسلم في حياته وإن لم يره، يعني فيكون مَن رآه قبل الدفن أولى. وجزم البُلْقِيني بأنه يعد صحابياً لحصول شرف الرؤية له وإن فاته السماع، قال: وقد ذكره في الصحابة الذهبي في " التجريد "، وما جنح إليه شيخنا من ترجيح عدم دخوله قد سبقه إليه الزركشي، فقال: الظاهر أنه غير صحابي. انتهى. وعلى هذا فيزاد في التعريف: " قبل انتقاله من الدنيا "، وكذلك لا يدخل من رآه في / المنام كما جزم به البُلْقِيني، ثم شيخنا، وإن كان قد رآه حقاً، فذلك فيما يرجع إلى الأمور المعنوية لا الأحكام الدنيوية حتى لا يجب أن يعمل بما أمره به في تلك الحالة. بل جزم البُلْقِيني بعدم دخول مَن رآه ليلة الإسراء، يعني من الأنبياء والملائكة. (1/585)
عليهم السلام ممن لم يبرز إلى عالم الدنيا، وبهذا القيد دخل فيهم عيسى بن مريم عليه السلام ولذا ذكر الذهبي في تجريده، وتبعه شيخنا وَوَجَّهَهُ باختصاصه عن غيره من الأنبياء بكونه رُفع على أحد القولين حياً، وبكونه ينزل إلى الأرض فيقتل الدجال ويحكم بشريعة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، فبهذه الثلاثة يدخل في تعريف الصحابة. قلت: ولذا قيل: في الصحابة رجل شاب أفضل من الشيخين وغيرهما. قال: وجعل بعضهم دخول الملائكة فيهم، وهو مبني على أنه هل كان مبعوثاً إليهم أم لا؟ وعلى الثاني مشى الحَلِيمي، وأقرّه البيهقي في الشُّعب، بل نقل الفخر الرازي في " أسرار التنزيل " الإجماع عليه قال شيخنا: وفي صحة بناء دخولهم في الصحابة على هذا الأصل نظر لا يخفى. وما قاله ظاهر، لكن خالفه في الفتح حيث مشى على البناء المشار إليه / 104 - أ /. وهل يدخل من رآه من مؤمني أهل الكتاب قبل البعثة الشريفة كزيد بن عمرو بن نُفيل الذي قال فيه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: " إنه يُبعَث أمةً وحده " الظاهر: لا، وبه جزم شيخنا في مقدمة الإصابة، وزاد في التعريف الماضي " به " ليخرجه، فإنه ممن لقيه مؤمناً بغيره، على أن لقائلٍ ادعاء الاستغناء عن التقييد " به " بإطلاق وصف النبوة، إذ المُطْلَق يحمل على الكامل. (1/586)
هذا، مع أنّ شيخنا قد ترجم له في إصابته تبعاً للبَغَويّ وابن مَنَده وغيرهما. وترجم ابن الأثير للقاسم ابن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ؛ بل وللطاهر وعبد الله أخويه في القسم الثاني من الإصابة، ومقتضاه أن يكون لهم رؤية، لكنه ذكر أخاهم الطِّيب في الثالث منها، وفيه نظر خصوصاً وقد جزم هشام بن الكلبي بأن عبد الله والطاهر والطيب واحد اسمه عبد الله، والطاهر والطيب لقبان، ثم هل يشترط في كونه مؤمناً به أن تقع رؤية له بعد البعثة، فيؤمن به حين يراه؟ أو يكفي كونه مؤمناً به أنه سيبعث كما في بَحِيرَى الراهب وغيره ممن مات قبل أن يدعو النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إلى الإسلام. قال شيخنا: إنه محل احتمال، وذَكَرِ بَحِيرى في القسم الرابع من الإصابة لكونه كان قبل البعثة، وأما وَرَقة فذكره في القسم الأول لكونه كان بعدها قبل الدعوة، مع أنه لم يجزم بصحبته بل قال: وفي إثباتها نظر، على أن " شرح النخبة " ظاهرها اختصاص التوقف بمَن لم يُدرك البعثة، فإنه قال: وقولي: " به " هل يخرج مَن لَقِيَه مؤمناً بأنه سيبعث ولم يُدرك البعثة؟ فيه نظر. (تنبيهان) أي هذان قولان مُنبهان لمن غَفَل عنهما (أحدهما: لاخفاء) أي (1/587)
لكمال ظهوره، لا شك (في رجحان رتبة من لازمه صلى الله عليه وسلم وقاتل) الأظهر أن يقول: أو قاتل (معه) / أي حقيقة أو حكما. (أو قتل) أي معه، أو في عصره، وأو للتنويع، أو بمعنى بل، (تحت رايته) أي عَلَم نصرته ولواء مِلته (على مَن لم يلازمه،) أي أصلاً. (أو لم يَحْضُر معه مشهداً) أي من مشاهد الغزو، (وعلى مَن كلّمه يسيراً) أي زمناً يسيراً، أو كلاماً قليلاً، (أو ماشاه قليلاً،) أي من المماشاة، (أو رآه على بُعد) أي على مسافة بعيدة، (أو في حال الطفولية،) أي الخارجة عن حد التمييز والمعرفة، (وإن كان شرف الصحبة حاصلاً للجميع) أي في الجملة، وإن وصلية.
(مُرْسَلُ الصَّحَابي)
(ومَن ليس له منهم) أي من الصحابة بيان لمَن، (سماع منه) أي من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، (فحديثه مرسل من حيث الرواية)، قال المصنف: هو مقبول بلا خلاف، والفرق بينه وبين التابعي - حيث اختُلف فيه مع اشتراكهما في احتمال الرواية عن التابعين - أن احتمال رواية / 104 - ب / الصحابي عن التابعي بعيدة بخلاف احتمال رواية التابعي عن التابعي فإنها ليست بعيدة. قال التلميذ: قال المصنف: ويُلْغَز به فيقال: حديث مرسل يحتج به بالاتفاق. (1/588)
(مفهوم الصحبة)
(وَهُمْ مع ذلك معدودون في الصحابة لما نالوه) أي حصل لهم (من شرف الرؤية) الأولى: من شرف اللُّقِيِّ على ما تقدم. ثم اعلم أن المسألة خلافية، فقال أحمد بن حنبل، ومثله للبخاري في صحيحه: مَن صحبه عليه الصلاة والسلام سَنَةً أو شهراً، أو يوماً، أو ساعةً، أو رآه، فهو من الصحابة، ولا يدخل فيه الأعمى الذي جاء إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مسلماً ولم يصحبه ولم يجالسه. وقال أصحاب الأصول: هو مَن طالت مجالسته له على طريق التبع له والأخذ عنه، فلا يدخل مَن وَفَدَ عليه وانصرف بدون مُكْث، وقال الآمِدي: الأشبه أن الصحابي من رآه، وحكاه عن أحمد بن حنبل، وأكثر أصحابنا، واختاره ابن الحاجب لأن الصحبة نعم القليل والكثير. قال أبو بكر بن الطيب الباقلاني: لا خلاف بين أهل اللغة أن الصحابي مشتق من الصُّحبة، جارٍ على كل مَن صَحِب غَيره قليلاً أو كثيراً، وهذا يوجب في حكم اللغة أجزاءه على من صحب النبي عليه الصلاة والسلام ولو ساعة، قال: ومع هذا فقد تقرر للأمة عرفٌ في أنهم لا يستعملونه إلا فيمن كُثَرت صُحْبته، وكذا قال الخطيب أيضاً: لا خلاف بين أهل اللغة أن الصُّحبة التي اشْتُقِّ منها الصحابي لا تحدّ بزمن، بل تشمل صُحْبَةَ سنة، وصُحْبَة ساعة. (1/589)
وقال النووي في مقدمة " شرح مسلم " عقيب كلام القاضي أبي بكر: وبه يُستدل على ترجيح مذهب المحدثين، فإن هذا الإمام قد نقل عن أهل اللغة أن الاسم يتناول صُحبة ساعة، وأكثر أهل الحديث قد نقلوا الاستعمال في الشرع، والعرف على وَفق اللغة، فوجب المصير إليه. قال السخاوي: إلا أن الإسلام لا يُشْتَرط في اللغة، والكفار لا يدخلون في اسم الصحبة بالاتفاق، ويمكن أن يقال: إن مراده بالنقل على وَفق اللغة بحسب القلة والكثرة، لا بحسب جميع ما هو المعتبر في اللغة. وحكي عن سعيد بن المسيب / أنه لا يَعُد صحابياً إلا مَن أقام مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم سنة، أو سنتين أو غزا معه غزوة أو غزوتين. ووجهه، أن لصحبته صلى الله تعالى عليه وسلم شرفاً عظيماً، فلا يُنال إلا باجتماع يظهر فيه الخُلق المطبوع عليه الشخص كالغزو المشتمل على السفر الذي هو قطعة من سقر، والسَنة المشتملة على الفصول الأربعة التي بها يختلف المِزاج، وعورض بأنه عليه الصلاة والسلام لشرف منزلته أعطي كلُ مَن رآه حكم الصحبة، وأيضاً يلزم أن لا يُعدّ جرير بن عبد الله ونحوه صحابياً، ولا خلاف / 105 - أ / في أنه صحابي
(طرق معرفة الصحبة)
(ثانيهما: يعرف كونه صحابياً بالتواتر) كأبي بكر الصديق المَعْني بقوله (1/590)
تعالى:: {{إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا}} وسائر العشَرة، ذكره السخاوي. لكن الفرق بين الصَّديق وغيره أن من أنكر صحبة الصديق كَفر لاستلزام إنكار صحبته إنكار نص القرآن المجمع على أنه هو المراد به، بخلاف مَن أنكر صحبة غيره، فإنه لا يكفر. (أو الاستفاضة) ذَكَره لما سبق من الفرق بين المستفيض والمتواتر، والمراد بها هنا فوق الشهرة ولذا قال: (أو الشهرة،) بناء على أن المغايرة بينهما بأن المستفيض يكون في ابتدائه وانتهائه سواء، والمشهور أعم من ذلك. قال السخاوي: أي الشهرة القاصرة عن التواتر، وهي الاستفاضة على رأي، كعُكاشة بن مِحْصن، وضِمَام بن ثَعْلبَة، وغيرهما. انتهى. وكأنه أراد بالشهرة الشهرة عند المحدثين (أو بإخبار بعض الصحابة) أي بأنه صحابي كشهادة أبي موسى الأشعري لَحَمَمَة لما مات مبطوناً بأن النبي عليه الصلاة والسلام حكم له بالشهادة، كذا قاله شارح. انتهى. وفيه نظر لاحتمال أن يكون الضميرُ له، أو لمن مات مبطوناً على ما ورد في الخبر من عمومه. (1/591)
(أو بعض ثقات التابعين،) أي بذكر عدول التَّبَع إياه في الصحابة روايةً أو كتابةً. (أو بإخباره عن نفسه بأنه صحابي،) قال التلميذ: قيده ابن الصلاح بأن يكون معروف العدالة، وكذا ابن الحاجب، وغيره. (إذا كان دعواه ذلك،) منصوب على المفعولية أي ادِّعاء ما ذكر من كونه من الصحابة، لا أنه مرفوع على البدلية لأنه حينئذٍ كان يناسب أن يقول: إذا كانت دعواه تلك، أي تلك الدعوى (تدخل تحت الإمكان). قال السخاوي: يرد عليه أن دعواه حينئذ قادحة في عدالته. اللهم إلا أن يقال: يجوز أن يكون مستند دعواه غلبة ظنه في المرئي، وقد أطلق ابن الصلاح والخطيب، وقال العراقي: لا بد من التقييد بما يدخل تحت الإمكان، فإنه لو ادعاه بعد مضي مئة سنة من حين وفاته صلى الله تعالى عليه وسلم، فإنه لا يُقبل وإن كان قد ثبتت عدالته قَبْلَ ذلك، لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: أَرأيتكم ليلتكُم هذه؟ فإنه على رأس مئة سنة لا يبقى أحد ممن على ظهر الأرض " يريد انخرام ذلك القرن قال ذلك صلى الله تعالى عليه وسلم في سنة وفاته. قالوا: وهو واضح جلي (1/592)
(نهاية زمن الصحابة)
قال السخاوي: / ونحوه قول شيخنا: وأما الشرط الثاني: وهو المعاصرة، فيعتبر بمضي مئة سنة وعشر سنين من هجرة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لقوله صلى الله عليه وسلم / 105 - ب / في آخر عمره لأصحابه: " أَرَأَيْتَكم ليلتكم هذه؟ فإنه على رأس مئة سنة منها، لا يبقى على وجه الأرض - ممن هو اليوم عليها - أحد " رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر، وزاد مسلم من حديث جابر أن ذلك كان قبل موته صلى الله تعالى عليه وسلم بشهر: " أقسِم بالله ما على وجه الأرض مِن نَفْس مَنْفُوسَةٍ اليوم تأتي عليها مئة سنة وهي حية يومئذ " قال: ولهذه النكتة لم يصدق الأئمة أحداً أدعى الصحبة بعد الغاية المذكورة، وقد ادعاها جماعة، فكذبوا وكان آخرهم رتَن الهندي، لأن الظاهر كذبهم في (1/593)
دعواهم. قال السخاوي: قيل فيه دلالة على موت خضر عليه السلام، وأجيب عنه بأن الخَضِر كان حينئذ من ساكني البحر، فلم يدخل في العموم. وقيل معنى الحديث: لا يبقى ممن ترونه أو تعرفونه، فهو عام أريد به الخصوص. وقالوا خرج عنه عيسى عليه السلام مع كونه حياً لأنه في السماء لا في الأرض. (وقد استشْكَل هذا الأخير) وهو إخباره عن نفسه بأنه صحابي، (جماعة) أي من المحدثين، (من حيث إن دعواه ذلك) أي كونه صحابياً، (نظير دعوى من قال: أنا عدل، ويحتاج) أي جواز مثل هذا الذي يقتضي الدور، (إلى تأمل) أو يحتاج جواب هذا الاستشكال إلى تأمل أي نظر دقيق، وفكر عميق لأنه لا يظهر في بادئ الرأي. وأغرب شارح حيث قال: وهذا الاستشكال غير ظاهر بل يحتاج إلى تأمل. انتهى. لكن أقول: محل هذا الاستشكال إذا كان المدعي مجهول الحال، وأما إذا كان ظاهر العدالة قَبْل الدعوى فلا إشكال، فكما يُقبل خبر العدل في روايته، يقبل قوله في ادعاء رؤيته، والله أعلم بحقيقته.
(التابعي)
(أو ينتهي) بالنصب، (غاية الإسناد) فيه المسامحة السابقة قال التلميذ لفظ (1/594)
غاية زائدة كما تقدم، (إلى التابعي، وهو: مَن لِقي الصحابي كذلك) أي لَقي الصحابي لُقِياً مثل اللقي المذكور، والمعنى أن التابعي هو من لقي الصحابي مؤمناً بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم، ولو تخللت رِدّة في الأصح، ولما كان قول؟؟: كذلك متعلقاً بقوله: مؤمناً أيضاً، قال: (وهذا) أي المشار إليه بذلك، (متعلق باللُّقي وما ذكر معه) أي من القيود المذكورة في تعريف الصحابي، (إلا قيد الإيمان به) أي بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم حال لقيه، فلو رأى التابعي - وهو كافر - صحابياً ثم أسلم ومات على الإسلام يكون تابعياً، كذا قيل، ويأباه ظاهر قوله: (وذلك) أي الإيمان، (خاص بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم،) وحاصل كلامه: أن لفظ كذلك، لا يراد به التشبيه في اللقي فقط، بل في اللقي وما ذكر معه سوى قيد الإيمان، لأن الإيمان مما يختص به دون غيره لأنه / 106 - أ / أحد ركني الإيمان، فلو أراد المعنى الأول لقال: / ذلك أي قيد الإيمان خاص بالنسبة إلى الصحابي فتأمل. وتوضيحه أنه إن أراد أن الإيمان بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم ليس بشرط في التابعي حين ملاقاته للصحابي، فذلك غير ظاهر، وإن أراد أن (1/595)
الإيمان ليس بشرط، فذلك ظاهر بل لا يجوز أن يقال ذلك لكن لا يلزم من اعتبار قوله: مؤمناً به المذكور في تعريف الصحابي أن لا اعتبار للإيمان بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم في التابعي. هذا، وقال التلميذ: قوله: وذلك خاص، خصوصية بالعقل لا باللفظ، قلت خصوصية باللفظ أيضاً عقلاً ونقلاً. (وهذا) أي التعريف للتابعي، (هو المختار). قال العراقي: وعليه عمل الأكثرين. وقد أشار النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إلى الصحابة والتابعين بقوله: " طوبى لمن رآني وآمن بي، وطُوبى لمن رأى من رآني " الحديث، فاكتفى فيهما بمجرد الرؤية. قلت: وبه يندرج الإمام الأعظم في سلك التابعين، فإنه قد رأى أنس بن مالك، وغيره من الصحابة على ما ذكره الشيخ الجزري في " أسماء رجال القراء "، والإمام التُّوربِشتي في " تحفة المسترشدين "، وصاحب " كشف الكشاف " في سورة المؤمنين، وصاحب " مرآة الجنان "، وغيرهم من العلماء المتبحرين، فمن نفى أنه تابعي، فإما من التتبع القاصر، أو التعصب الفاتر. (خلافاً لمن اشترط في التابعي طول الملازمة،) أي الغالبة منها السماع كالخطيب، فإنه قال: التابعي من صحب الصحابي. قال ابن الصلاح: ومطلقه مخصوص بالتابعي بإحسان. انتهى. والظاهر منه طول الملازمة، إذ الاتباع بإحسان لا يكون بدونه. (1/596)
(أو صحبة السماعٍ،) أي صحبة مصحوبة بالسماع، فلو صَحِبَهُ ولم يسمع منه الحديث لا يكون تابعياً، وتصحف الصحبة بالصحة على شارح فقال: كابن حبان فإنه اشترط أن يكون رآه في سن من يحفظ عنه، فإن كان صغيراً لم يحفظ عنه، فلا عبرة لرؤيته كخلف بن خليفة، فإنه عدّه في اتباع التابعين، وإن كان رأى عمرو بن حُريث لكونه صغيراً. انتهى. ومحل هذا الكلام كله بعد قوله: (أو التمييز) أي سِن التمييز وهو: الأربعة أو الخمسة مما قيل فيه: إنه أقل سِنِي صحة السماع، وأما قول الشارح: أن يكون من المتميزين الذين تصح نسبة الرؤية إليهم، فغير ظاهر. . هذا، والمفهوم من كلام العراقي أن المخالف للجمهور اثنان حيث قال في المتن:
(والتَّابِعُ اللاَّقِي لِمَنْ قَدْ صَحِبا ..... وللخَطِيب حَدِّهُ: أنْ يَصْحَبَا)
وقال في الشرح: التابعي من رأى الصحابي، لكن ابن حِبان يشترط / 106 - ب / أن يكون رآه في سن من يحفظ عنه إلى آخر ما ذكرناه سابقاً فعلى هذا مآل صحبة السماع والتمييز واحد، ولم يُفْهَم منه شرط صحبة السماع، بل مطلقه ومطلق التمييز أيضاً، فتأمل.
(المُخَضْرمَون)
(وبقي بين الصحابة والتابعين طبقة) أي جماعة متفقة في عصر واحد من(1/597)
المسلمين، (اختلف) أي اختلف علماء أسماء الرجال (في إلحاقهم بأي القسمين) أي قسمي الصحابة والتابعين، يعني بذكرهم مع هؤلاء /، (وهم): (المخضرمون) بالخاء والضاد المعجمتين، وفتح الراء على أنه اسم مفعول من خُضِرم عما أدركه أي قطع، وقيل: بكسر الراء من خضرم آذان الإبل قطعها، كما حكى الحاكم عن بعض مشايخه، وذلك أن أهل الجاهلية ممن أسلم كانوا يُخَضرِمون آذان الإبل ليكون علامة لإسلامهم إن أُغير عليهم، أو حوربوا. قال السخاوي: وهذا محتمل للكسر من أجل أنهم خضرموا آذان الإبل، وللفتح من أجل أنهم خضرموا أي قطعوا عن نظائرهم، أي من المسلمين حيث عاصروا الصحابة، ولم يحصل لهم رؤية النبي صلى الله تعالى عليه وسلم واقتصر ابن خَلِّكَان على كسر الراء لكن مع إهمال الحاء، وأغرب في ذلك، ونصه: قد سُمِع: مُخضْرِم، بالحاء المهملة وكسر الراء. انتهى. (الذين أدركوا الجاهلية) صغاراً كانوا أو كباراً في حياة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. والجاهلية ما قبل البعثة، سُمُّوا بذلك لكثرة جهالتهم، وقيل: ما قبل فتح مكة لزوال أمر الجاهلية حين خطب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يوم الفتح وأبطل أمور الجاهلية، إلا ما كان من سقاية الحاج، وسدانة الكعبة. (والإسلام) أي في حياته صلى الله تعالى عليه وسلم، أو بعده. وخصهم ابن قتُيبة بمن أدرك الإسلام في الكَبر ثم أسلم بعد النبي عليه (1/598)
الصلاة والسلام كجُبير بن نُفَير، فإنه أسلم وهو بالغ في خلافة أبي بكر رضي الله تعالى عنه، وبعضهم بمن اسلم في حياته صلى الله تعالى عليه وسلم كزيد بن وهبٍ، فإنه رحل إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقبض النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وهو في الطريق، وكذا وقع لقيس بن أبي حازم، وأبي مسلم الخولاني، وأبي عبد الله الصنَابحي، مات النبي عليه الصلاة والسلام قبل قدومهم بليال، وأقرب من هؤلاء سُويد بن غَفلة قدم حين نُفضَت الأيدي من دفنه صلى الله تعالى عليه وسلم على الأصح في الأخيرين. ذكره السخاوي. (ولم يروا النبي عليه الصلاة والسلام) أو رأوه لكن الإسلام، وقد عد المخضْرمين مسلم عشرين نفساً، قال النووي: وهم أكثر. هذا ولا يخفى أن المخضرمين من التابعين / 107 - أ / وليسوا من الصحابة قطعاً لأنهم لم يروه، فقوله: " بينهما طبقة " باعتبار العصر والزمان لا باختلاف الرتبة والشأن، فالذي ألحقهم بالصحابة نَظَر إلى أنهم كانوا في عصرهم، ومدار الطبقة عليه، والذي ألحقهم بالتابعين نظر إلى أنهم في رتبتهم، وإن كانوا متقدمين على طبقتهم. وأما قول محشٍ: كون المخضرمين بين الصحابي والتابعي إنما هو عند القوم نظراً إلى اختلافهم في تفسير الصحابة والتابعين، وأما بالنظر إلى تعريف الشيخ لهما، فهم من التابعين، فمردود لما عرفت أن الاختلاف في اشتراط رؤيته صلى الله تعالى عليه وسلم للصحابي وإنما الاختلاف في اشتراط طول الملازمة، وحضور المقاتلة، ولذا قيل: إن اشتقاق المخضرمين / من قولهم: لَحْمٌ مُخَضْرم لا يُدْرَى ذكر أو أنثى، لترددهم بين الطبقتين أي الصحابة (1/599)
للمعاصرة، وبين التابعين لعدم الرؤية. إذا عرفت ذلك (فَعدهم) أي ذكرهم (ابن عبد البر في الصحابة) أي في طبقتهم، وفي أثناء ترجمتهم مع أنهم ليسوا منهم، ولما كانت عبارة المصنف مُوهِمَة قال تلميذه: الأولى أنْ يقول: فعدّهم معهم لما سيأتي من أنه لم يَعُدهم منهم. انتهى وفيه أنه لا فرق في الإيهام بين عدهم فيهم، وبين عدهم معهم كما لا يخفى (وادعى عِياضٌ وغيره أنّ ابن عبد البر يقول: إنهم صحابة) لأنه لمّا عدهم فيما بين الصحابة توهَّموا منه أنه جعلهم صحابة. (وفيه) أي في ادعائه (نَظر) قال تلميذه: لقائل أنْ يقول: أنت صرحت بأنه عدهم فيهم، فما ورد على عياض فهو واردٌ على ظاهر عبارتك، فكان الأولى ما قلنا: انتهى. وقلنا: إن ما قلت مثل عبارة المصنف، وإن كلا منهما يوهم خلاف المقصود، ولكن الظاهر من عدهم فيهم أو معهم المغايرة بينهم، فأين هذا التوهم الناشئ من العبارة من ادعاء عياض صراحةً كونهم من الصحابة حتى يَرِدَ على عبارة المصنف ما يرد على ادعاء عياض؟ (لأنه) أي ابن عبد البر، (أفصح) أي صرّح وأوضح، (في خطبة كتابه) أي معتذراً عن ذلك، (بأنه إنما أوردهم) أي المُخضرمين في طبقة الصحابة، وذكرهم (1/600)
معهم، (ليكون كتابه جامعاً) أي حاوياً لهم ولأشباههم لا لكونهم صحابة، (مستوعباً لأهل القرن الأول) أي من أهل الإسلام، أي سواء تشرفوا برؤيته عليه الصلاة والسلام كالصحابة، أو حُرِموا من هذه السعادة كالمُخَضْرمين. فالصواب أنّهم من التابعين، وإنما الخلاف في أنهم معدودون من كبار التابعين / 107 - ب / أو من صغارهم بناءً على الاكتفاء برؤية الصحابي، أو على طول الملازمة. (والصحيح أنهم معدودون في كبار التابعين،) أي مطلقاً لإدراك شرف زمانه صلى الله تعالى عليه وسلم ولِكبر سنهم المقتضي أن يكونوا من الكبراء بخلاف صغار التابعين، فإنهم ليسوا على مِنْوال ذلك والظاهر أنهم كلهم أدركوا الصحابة، ولذا جزم المصنف بما ذكره، فاندفع ما قال محشٍ فيه: إنه يحتمل أن يكون بعض المخضرمين لم يلق صحابياً أصلاً، فلا يصدق عليه تعريف التابعي كما لا يصدق عليه تعريف الصحابي. انتهى. وقد علمتَ أن هذا مجرد احتمال عقلي. (سواء عُرِفَ) أي اشتهر، (أن الواحد) أي، (منهم كان مسلماً في زمن النبي عليه الصلاة والسلام كالنجاشي) بفتح النون، وتخفيف الياء على الأصح، وكأويس (1/601)
القَرني، فإنه سيد التابعين على ما ورد في حقه. (أو لا) أي أو لم يعرف أنه كان مسلماً في زمنه عليه الصلاة والسلام، بمعنى لم يشتهر لكنه كان مسلماً في نفس الأمر، وإنما قلنا هذا ليصح كونه من المخضرمين لا من الصحابة، ولا التابعين، فإنه بالإسلام السابق يتميز عن التابعي، وبعدم الرؤية ينحط عن مرتبة الصحابي فتأمل، فإنه محل زلل. (لكن) استدراك من قوله: والصحيح... الخ، (إن ثبت أن / النبي عليه الصلاة والسلام ليلة الإسراء كشف له عن جميع من في الأرض فرآهم) أي تفصيلاً لا مجملاً. قال التلميذ: قيل: إن الذي ذكره المصنف فيما تقدم من أن الصحبة من الأحكام الظاهرة يدل على أنه لو ثبت لا بدل على الصحبة، لأن ما في عالم الغيب لا يكون حكمه حكم ما في عالم الشهادة. قلت: الحق أن الأمور الحاصلة له صلى الله تعالى عليه وسلم بالكشف حكمها حكم الأمور الحاصلة له بالعيان، ولا علاقة لما ذكره في الصحبة بهذا لأن ذلك في الظاهر الذي يقابل الاعتقاد والله سبحانه أعلم. (فينبغي أن يُعَدَّ مَن كان مؤمناً به) أي منهم، (في حياته صلى الله تعالى عليه وسلم إذ ذاك) أي وقت الإسراء وهو ظرف لقوله: مؤمناً به، وغَفَل عن هذا القيد محشٍ حيث قال: الواجب أن يعد في الصحابة من كان مؤمناً به في هذه الليلة لا في حياته مطلقاً، لجواز أن يكون إيمانه بعد هذه الليلة ولم يلاق النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فلا تكون الرؤية حال كونه مؤمناً به فلا يكون صحابياً، (1/602)
ولجواز أن يموت مؤمناً غير ملاقٍ له قبل تلك الليلة. انتهى. ولعل قوله: إذ ذاك لم يكن في نسخة كما وجدنا بعض النسخ / 108 - أ / خالياً منه، وهو ملحق في أصلنا مصحح عليه، وعلى كل تقدير، فهو المراد سواء يكون مذكوراً أو مقدراً. (وإن لم يلاقه) أي في عالم الدنيا، (في الصحابة) أي في جملتهم معدودين منهم حقيقة ولا يخفى أن القيد الأخير مُسْتَدْرَك، إذ الكلام في مَن لم يلاقه، والأظهر أنه أراد: وإن لم تقع الملاقاة والرؤية من جانب ذلك الواحد على ما هو الأصل من نسبة الملاقاة للأدنى إلى الأعلى، وإنما وقع الملاقاة هنا ابتداء من جانبه صلى الله تعالى عليه وسلم فقط، كما هو ظاهر بمعاونة مقام الإسراء ولذا قال: (لحصول الرؤية من جانبه عليه الصلاة والسلام) وإنما يلزم من لُقِيّ أحدهما لُقِي الآخر بأن يكونا كلاهما في عالم المُلك والملكوت، وبهذا يندفع قول التلميذ قوله: وإن لم يلاقه ليس بجيد، لأنه تقدم له أن اللُّقيّ يصدق برؤية أحدهما الآخر، فكان الأولى أن يقول: وإن لم يجتمع معه. انتهى. وأنت تعلم أن الاجتماع يرفع مادة النزاع.
(تلخيص المرفوع، والموقوف، والمقطوع)
(فالقسم الأول مما تقدم ذكره من الأقسام الثلاثة وهو) أي القسم الأول، (ما ينتهي) أي حديث يصل، (إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم غاية الإسناد) أي نهاية إسناد رجال ذلك الحديث، وفي نسخة: إليه وهو تكرير وتوكيد لقوله: إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم. (1/603)
(وهو المرفوع)، قال محشٍ: إن هذا هو قسم الإسناد لا المتن، فقوله: غاية الإسناد من وضع الظاهر موضع الضمير، ويشعر بذلك قوله فيما بعد: ما ينتهي إلى الصحابي. ما ينتهي إلى التابعي. انتهى. وفيه أن المرفوع، والموقوف، والمقطوع من أوصاف متن الحديث لا إسناده، فيتعين ما حررناه. غايته أنه أورد فيما سبق لفظ الغاية في الأخيرين، وترك في الأول، وهناك ترك في الأخيرين وذكر / في الأول تفننا، وقال التلميذ: لفظ غاية زائد كما تقدم انتهى. وتعدد منه هذا الاعتراض وهو مدفوع بما ذكرنا هنا، وبما تقدم والله سبحانه أعلم. ويؤيد ما ذكرناه من أن المراد به ههنا أقسام المتن الحاصل من أقسام الإسناد قوله: (سواء كان ذلك الانتهاء) أي انتهاء إسناد ذلك الحديث، (بإسناد متصل) وهو أعم من أن يكون مرفوعاً، أو موقوفاً، (أوْ لا) بأن يكون منقطعاً، كما أن المرفوع أعم من أن يكون أضافه إليه صحابي، أو تابعي، أو من بعدهما حتى يدخل فيه قول المصنفين ولو تأخروا: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، على ما ذكره السخاوي. . فهذا دليل صريح على أن المرفوع حقيقة نعت متن الحديث، / 108 - ب / (1/604)
وقد يطلق على مجموع المتن والإسناد أو على الأخير مجازاً، فبطل قول المحشي في العبارة مسامحة، فإنّ هذه الأسماء إنما هي للمتن وقد جعله للإسناد. انتهى وبأن المسميات الثلاث ينظر فيها إلى ما يُشْعر به أسماؤها، فالمرفوع إلى الإضافة الشريفة خاصة، والمتصل إلى الاتصال، والمسند إليهما معاً. (والثاني الموقوف، وهو ما ينتهي) أي حديث ينتهي إسناده (إلى الصحابي) متصلاً كان أو منقطعاً. (والثالث المقطوع، وهو) عند الإطلاق (ما ينتهي إلى التابعي ومَن دون التابعي من أتباع التابعين فمن بعدهم، فيه أي في التسمية) أي في اشتراك التسمية (مثله) بالرفع على أنه خبر الموصول، (أي مثل ما ينتهي إلى التابعي). (1/605)
قال التلميذ: في هذا صرف الضمير إلى خلاف من هو له، فإنه في قوله: فيه للمقطوع، وفي: مثله للتابعي لا للمقطوع، فعلى ظاهره يصير أن من دون التابعين مثل المقطوع، ولا يخفى ما فيه، فكان الأولى أن يقول: فيه أي في المقطوع مثله أي مثل التابعي في أنّ ما ينتهي إليه يسمى مقطوعاً. انتهى. وفيه أنّ معنى كلام المصنف: حديث من دون التابعي مثل المقطوع، وهو حديث التابعي في التسمية، ولا محذور فيه أصلاً لا لفظاً ولا معنى، وتقدير المضاف كثير لصحة المبنى، يدل على ما ذكرناه قوله: (في تسمية جميع ذلك مقطوعاً) حيث أعاد ذلك توضيحاً، وإلى المقصود تلويحاً، وحاصله أن قوله: مثل ما ينتهي إلى التابعي تفسير لقوله: فيه مثله، لا لمثله فقط لأنه ذكر في التفسير قوله: في تسمية جميع ذلك مقطوعاً، نعم بظاهره يلزم تشبيه من دون التابعي بالإسناد المنتهي إلى التابعي، ويندفع بالمضاف المقدر، فكان الأولى رجع الضمير في مثله إلى التابعي، أو يقول من أول الأمر: وما ينتهي إلى مَنْ دون التابعي مثله، أي مثل ما ينتهي إلى التابعي. هذا ورجع الضمير المذكور في قوله: " فيه " إلى التسمية، إما بتأويل الإطلاق، أو باعتبار التسمية بمعنى المسمى مصدراً ميمياً، أو لأن المصدر يذكر ويؤنث. (وإن شئت قلت) أي في التابعين ومن دونه، (موقوفُ على فلان) مثل: وَقَفَهُ مَعْمَر على همّام، وَوَقَفَهُ مالك على نافع. / في الخلاصة: المرفوع ما أضيف إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم خاصة من قول، أو فعل، أو تقرير، سواء كان متصلاً أو منقطعاً، هذا هو المشهور. وفي " الجواهر ": قيل هو ما (1/606)
أُخَبر به الصحابة خاصة عن فعله صلى الله تعالى عليه وسلم، أو قوله. وأيضاً في " الخلاصة ": الموقوف عند الإطلاق ما روي عن الصحابي من قول أو فعل أو نحو ذلك، متصلاً أو منقطعاً. وقد يستعمل في / 109 - أ / غير الصحابي مقيداً مثل: وقفه معمر على همام والمقطوع ما جاء من التابعين من أقوالهم وأفعالهم موقوفاً عليهم، واستعمله الشافعي، وأبو القاسم الطبراني في المنقطع. والمنقطع: هو الذي لم يتصل إسناده على أي وجه كان، سواء تُرِك الراوي من أول الإسناد، أو وسطه أو آخره، إلا أنه أكثر ما يوصف بالانقطاع رواية من دون التابعي عن الصحابي. انتهى كلامه. وقد خصه المصنف فيما سبق بما يكون الترك في آخر إسناده بشرط عدم التوالي، وحاصل كلامه هنا: أنك إن استعملت الموقوف فيما جاء عن التابعين، ومن بعدهم، فقيده بهم فقل: موقوف على عطاء، أو على طاووس أو نحو ذلك.
(فحصلت التفرقة في الاصطلاح بين المقطوع، والمنقطع)
تفريع على قوله: والثالث المقطوع... الخ والفرق بينهما باعتبار ما ذكر في هذا الكتاب، وإنما هو المباينة كما هو الظاهر من ظاهر العبارة، وأما باعتبار ما ذكر في الخلاصة، فعموم من وجه، فإن المقطوع ما ينتهي إلى التابعي سواء سقط من إسناده شيء أم لا، والمنقطع ما سقط من إسناده شيء، انتهى إلى التابعي أم لا، وحاصل كلامه أنه حصل التفرقة في الاصطلاح المعتبر عنده مما ذُكر هنا من تعريف المقطوع، ومن (1/607)
أنه من مباحث المتن مع ما ذكر سابقا في مباحث الإسناد من تعريف المنقطع، وأنه من مباحث الإسناد. (فالمنقطع من مباحث الإسناد كما تقدم) وفيه نظر لأن ما تقدم أن المنقطع هو المتن الذي سقط من أخر إسناده بشرط عدم التوالي، فما ظهر من عبارة المصنف عكس ما ادعاه، حيث ظهر منها فيما سبق أن المنقطع من مباحث المتن، وظهر هنا أن المقطوع من مباحث الإسناد لكنه مسامحة كما تقدم. (والمقطوع من مباحث المتن كما ترى) بالخطاب على صيغة المعلوم أو بالغيبة على صيغة المجهول، يعني أنه يقال: سند منقطع، وحديث مقطوع. (وقد أطلق بعضهم هذا في موضع هذا) أي المقطوع في موضع المنقطع، (وبالعكس) أي في بعض أخر بعكسه، (تجوزا عن الاصطلاح) أي تجاوزا عنه إلى إرادة المعنى اللغوي. (ويقال) أي قليلا (للأخيرين، أي الموقوف والمقطوع: الأثر). واعلم أن الفقهاء يستعملون الأثر في كلام السلف، والخبر في حديث الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، وقيل: الخبر والحديث ما جاء عن النبي صلى الله تعالى (1/608)
عليه وسلم، والأثر أعم منهما، وهو الأظهر.
(المسند)
(والمسند / 109 - ب /) اسم مفعول من الإسناد (في قول أهل الحديث:) أي في إطلاقهم، (هذا حديث مسند هو) ضمير فصل / (مرفوع صحابي) مرفوع مضاف على الخبرية، (بسند ظاهره الاتصال). (فقولي: " مرفوع " كالجنس) أي يشمل المحدود وغيره. (وقولي: " صحابي " كالفصل يخرج) بضم الياء، وكسر الراء، (ما رفعه التابعي) بأن قول: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، (فإنه مرسل، أو من دونه) أي دون التابعي (فإنه معضل) أراد بكونه مرفوع الصحابي أن لا يترك الصحابي في الإسناد واحدا، وبمرفوع التابعي أن يترك التابعي الصحابي من الوسط، وبمرفوع من دون التابعي أن يترك هو التابعي والصحابي أيضا من الوسط. (أو معلق) قيل: أو لمنع الخلو، وإلا فقد مر أنه يمكن اجتماعهما، وقيل: إنه معضل أن كان الساقط اثنين فصاعدا مع التوالي، ومعلق إن كان الساقط من مبادئ السند، يعني رفعه صنف من المصنفين الذي منه مبدأ الإسناد. هذا، والأولى أن يذكر المنقطع أيضا. (1/609)
(وقولي: " ظاهره الاتصال " يخرح ما ظاهره الانقطاع) كالمرسل الجلي، و كذا يخرج ما يساوي احتمال الاتصال والانقطاع بحسب الظهور والخفاء، (ويدخل) من الإدخال، (ما فيه الاحتمال) أي احتمال الاتصال والانقطاع، كالمرسل الخفي لكن ينبغي أن يكون الاتصال أرجح ليصدق التعريف. (وما يوجد) أي يدخل أيضا ما يوجد (فيه حقيقة الاتصال من باب الأولى) يعني إذا كان ما ظاهره متصلا داخلا في التعريف، فما كان في الحقيقة متصلا كان دخوله في التعريف أولى، وليس المراد أن ما توجد فيه حقيقة الاتصال داخل فيما ظاهره الاتصال، لأن ما يكون متصلا حقيقة يمكن أن يكون منقطعا ظاهرا، وأنت خبير بأن دخول بعض الأفراد في التعريف بطريق الأولوية غير مستحسن. (ويفهم من التقييد بالظهور، أن الانقطاع الخفي كعنعنة المدلس، والمعاصر الذي لم يثبت لقبه) وهو المرسل الخفي. قال السخاوي: وغيرهما مما ظاهره الاتصال، وقد يفتش فيوجد منقطعا. (لا يخرج الحديث عن كونه مسندا لإطباق الأئمة) أي اتفاق أئمة الحديث (الذي خرجوا) بتشديد الراء بمعنى أخرجوا، (المسانيد) أي أحاديثها (على ذلك) أي على ما ذكرناه مفصلا. واعلم أنه قال الخطيب: المسند ما اتصال سنده (1/610)
من رواته إلى منتهاه، وأكثر ما يستعمل في ما جاء عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم دون غيره. وقال الحاكم: هو ما اتصل سندا مرفوعا إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم. وقال ابن عبد البر: هو ما رفع إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم متصلا كان أو منقطعا. فهذه / 110 - أ / ثلاثة أقوال، وعلى كل قول منها فالمسند ينقسم إلى صحيح، وحسن، وضعيف. ذكره ابن جماعة في " منهل الروي في أصول الحديث النبوي ". (وهذا التعريف موافق لقول الحاكم: المسند ما رواه المحدث عن شيخ يظهر سماعه منه، وكذا شيخه عن شيخه متصلا إلى صحابي إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) وفيه أنه إن أريد بقيد ظهور السماع ما يتبادر منه، وهو أنه يسمع منه ويكون سماعه منه ظاهرا، فالتعريف مخصوص بمتصل السند، فلا يدخل فيه ما فيه الاحتمال والمدلس والمرسل الخفي، فينبغي أن يراد بالموافقة بينه وبين تعريف الحاكم الموافقة في الجملة بالإضافة إلى التعريفين، فإن أوفقيته بالنسبة إلى تعريف ابن / عبد البر أظهر من أن يخفي. (1/611)
وأما بالنسبة إلى تعريف الخطيب، فلأن في تعريفه ما في تعريف الحاكم من جهة المخالفة مع أمر أخر، وهو صدقه على الموقوف، فهو ليس بجامع، وهذا أي تعريف الحاكم مانع ولكنه ليس بجامع، وإن أريد ما يكون ظاهره السماع على قياس قوله: ظاهر الاتصال، فالتعريفان متساويان ومتوافقان، لكنه إنما يظهر دلالة قوله: " يظهر سماعه " على الأول. (وأما الخطيب) وهو الحافظ أبو بكر البغدادي (فقال: " المسند المتصل ". فعلى هذا أي على تعريفه، (الموقوف إذا جاء بسند متصل يسمى عنده مسندا) فيشمل المرفوع، والموقوف، بل المقطوع أيضا. (لكنه قال: " إن ذلك) أي الموقوف المتصل السند، (قد يأتي بقلة ") وأكثر ما يستعمل فيما جاء عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، نوقش في العبارة بأن قوله: بقلة مستدرك، لكون " قد " مفيدا للقلة، ودفع بأنه ذكر تأكيدا ؛ واستشكل بما في بعض النسخ: قد يأتي لكن بقلة، فإن لكن إنما تكون لدفع التوهم الناشئ مما قبله، وأجيب: بأن " قد " هنا للتحقيق الصرف، فإن " قد " في الحال إنما تكون للتحقيق فقط لا للتقليل كما صرح به " اللب " في قوله تعالى:: {{قد يعلم ما أنتم عليه}} انتهى. والتحقيق أن قد في الآية لتقليل متعلقه، والمعنى أن:: {{ما أنتم عليه}} هو أقل معلوماته وقيل: المراد بالقلة المذكورة بعد لكن إنما هي نهاية القلة، بقرينة التنوين. هذا، وقال التلميذ: قوله: وأما الخطيب... الخ فيه نظر من وجهين: الأول: أن الخطيب لم يذكر للمسند تعريفا من قبل نفسه ليلزمه ما ذكر. (1/612)
قلت: يدفعه ما تقدم من نقل المنهل. الثاني: أن قوله: لكن قال: إن ذلك قد يأتي بقلة ليس بظاهر المراد، فإن الظاهر أن / 110 - ب / ترجع الإشارة إلى مجيء الموقوف بسند متصل، وليس بمراد، وإنما المراد استعمالهم المسند في كل ما اتصل إسناده موقوفا كان أو مرفوعا، وبيان ذلك أن لفظ الخطيب: وصفهم الحديث بأنه مسند يرون أن إسناده متصل بين راويه، وبين من أسند عنه إلا أن أكثر استعمالهم هذه العبارة هو فيما أسند عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم خاصة. انتهى. ويدفع بأن الشيخ نقل حاصل المعنى وأسند التعريف إلى الخطيب لكونه ذكره واختاره، والظاهر أنه لا اعتراض على الخطيب، فإنه أشار إلى أن الاصطلاح المذكور لأكثر المحدثين إنما هو غالبي وأكثري، لا كلي جامعي، ومانعي. (وأبعد ابن عبد البر حيث قال: " المستند المرفوع ") وهو ما جاء عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم خاصة، (ولم يتعرض للإسناد) أي بالاتصال والانقطاع وغيرهما، وفيه أنه قد سبق منه أنه عمم بقوله: متصلا كان أو منقطعا، ولو لم يتعرض له لكان أهون بأن يقول: اللام للعهد وهو المتصل. (فإنه يصدق على المرسل، والمعضل، والمنقطع) هو كالمعضل إلا أنه يشترط فيه عدم التوالي، وكذا يصدق على المعلق (إذا كان المتن مرفوعا، ولا قائل به) وحاصله أن هذا التعريف أبعد من تعريف / الخطيب، لأن تعريف (1/613)
الخطيب لا يصدق على شيء من أغيار المحدود إلا على الموقوف المتصل، وهو مما يقال بدخوله في المحدود، وهذا التعريف يصدق على أنواع متعددة من أغيار المحدود، ولم يقل بدخولها في المحدود أحد أصلا.
(العالي)
(فإن قل عدده، أي عدد رجال السند) يعني بالنسبة إلى عدد رجال سند آخر، (فإما أن ينتهي) أي السند (القليل بالنسبة) متعلق بالقليل، (إلى سند أخر يرد به) صفة سند، أي يجيء بسند أخر، (ذلك الحديث بعينه بعدد كثير). قال السخاوي: تارة يكون بالنظر إلى سائر الأسانيد، وتارة بالنسبة إلى سند أخر... الخ (أو ينتهي) أي ذلك السند (إلى إمام من أئمة الحديث) أي سواء يكون من أثمه الفقه وغيره أم لا، وسواء يكون تابعيا أو دونه، كما يعلم من التمثيل الآتي، وأما أنه هل يشمل الصحابي أم لا، ففيه تردد. (1/614)
(ذي صفة علية) أي رفيعة، وهو صفة كاشفة للإمام، (كالحفظ والفقه) وفي نسخة: التيقظ بدل الفقه، (والضبط والتصنيف وغير ذلك من الصفات) أي العلية (المقتضية للترجيح) أي على / 111 - أ / أقرانه في تلك الصفة. (كشعبة ومالك، والثوري، والشافعي، والبخاري ومسلم ونحوهم) أي من الليث، ابن عيينة، وهشيم وغيرهم. ذكره السخاوي.
(العلو المطلق)
(فالأول: وهو ما ينتهي إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم) أي على النهج المذكور والوصف المستور، (العو) ل بضمتين فتشديد (المطلق) أي على الإطلاق لا بالنسبة إلى شخص من رجال السند دون شخص، وإن كان أصل النسبة إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم موجودة. (1/615)
(فإن اتفق) أي الحديث المذكور (أن يكون سنده صحيحا، كان الغاية القصوى) لجمعه بين الصحة والرواية العليا، (وإلا فصورة العلو فيه) أي في سنده (موجودة) وهي في الجملة مطلوبة (ما لم يكن) أي الحديث أو إسناده، (موضوعا فهو) أي الموضوع، (كالعدم) دفع لسؤال مقدر تقديره أن يقال: قلة العدد قد توجد في الموضوع ولا يقال له: العلو، فكيف قال: فالأول أي قليل العدد المنتهي إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم العلو المطلق؟ والجواب أن الموضوع مثل المعدوم، فلا يدخل في قليل العدد، فلا توجد فيه صورة العلو أيضا، ثم الشيخ قيد وجود صورة العلو بما إذا لم يكن موضوعا، وقيده غيره بما إذا لم يكن ضعيفا كالحاكم، والعراقي، والنووي بما إذا لم يكن ضعيفا حتى إذا كان قرب الإسناد مع ضعف بعض الرواة فلا التفات إلى هذا العلو، لا سيما إذا كان فيه بعض الكذابين. قال شارح: وهو الظاهر لأن الغرض من العلو كما سيجيء كونه أقرب إلى الصحة، فلا بد من التقييد حتى لا يندرج فيه ما يكون رواية ضعيفة. أقول الخلاف لفظي في التحقيق، لأن الشيخ لما اعتبر صورة العلو فلا شك أنها موجودة في / الحديث الضعيف، بل لا تتصور الصورة في غيره، وأن الباقين لما أرادوا حقيقة العلو مع اعتبار مراتب الصحة والحسن أخرجوا الضعيف. (1/616)
ثم اعلم أن أصل الإسناد خصيصة فاضلة من خصائص هذه الأمة، وسنة بالغة من السنن المؤكدة، بل من فروض الكفاية. قال ابن المبارك: الإسناد من الدين لولا الإسناد لقال من شاء ما شاء. قال الثوري: الإسناد سلاح المؤمن، فإذا لم يكن معه سلاح لم يقدر أن يقاتل. وقال بقية: ذاكرت حماد بن زيد بأحاديث فقال: ما أجودها لو كان لها أجنحة، يعني الأسانيد. وقال مطر: في قوله تعالى: {{أو أثارة من علم}} أي إسناد الحديث. ثم طلب العلو أمر مطلوب، وشأن مرغوب. قال أحمد بن حنبل: طلب الإسناد العالي سنة عمن سلف. / 111 - ب / وعن ابن معين لما قيل له في مرضه الذي مات فيه: ما تشتهي؟ قال: بيت خال، وإسناد عال. وقال أحمد بن أسلم: قرب الإسناد قرب، أو قربة إلى الله عز وجل. قال ابن الصلاح: لأن قرب الإسناد إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قرب إليه، والقرب إليه قرب إلى الله عز وحل. وقال الحاكم: طلب الإسناد العالي سنة صحيحة، فذكر حديث أنس في مجيء الأعرابي وقوله: يا محمد أتانا رسولك فزعم كذا... الحديث، قال: ولو كان طلب العلو في الإسناد غير مستحب لأنكر عليه سؤاله عما أخبره رسوله عنه ولأمر بالاقتصار على ما أخبره الرسول عنه. قال الجزري: وقد رحل جابر بن (1/617)
عبد الله الأنصاري من المدينة إلى مصر في طلب حديث واحد. انتهى. وأما ما قاله بعض أكابر الصوفية من أن حدثنا، باب من أبواب الدنيا، فمحله إذا كان الغرض منه حصول غرض دني أو غرض دنيوي. قال محمد بن حاتم: إن الله تعالى قد أكرم هذه الأمة بالإسناد، وليس لأحد من الأمم إسناد، إنما هو صحف في أيديهم وقد خلطوا بكتبهم أخبارهم، فليس عندهم تمييز بين ما نزل من التوراة والإنجيل، وبين ما ألحقوه بكتبهم من الأخبار التي أخذوها عن غير الثقات. وهذه الأمة إنما تنص الحديث عن الثقة المعروف في زمانه المشهور بالصدق والأمانة عن مثله، حتى تتناهى أخبارهم، ثم يبحثون أشد البحث حتى يعرفوا الأحفظ فالأحفظ، والأضبط فالأضبط، والأطول مجالسة لمن كان فوقه ممن كان أقل مجالسة، ثم يكتبون الحديث من عشرين وجها أو أكثر حتى يهذبوه من الغلط، ويضبطوا حروفه، ويعدوه عدا، فهذا من أفضل نعم الله تعالى على هذه الأمة.
(العلو النسبي)
(والثاني: العلو النسبي) بكسر النون، وسكون السين، نسبة إلى النسبة سمي به لكونه بالنسبة إلى شخص من رجال السند دون شخص. (وهو) أي الثاني (ما يقل العدد فيه) أي في إسناد الحديث (إلى ذلك الإمام ولو كان العدد من ذلك الإمام إلى منتهاه كثيرا) لأن الحديث بوجود ذلك الإمام في (1/618)
رجاله تحصل له رفعه واضحة ومزية واضحة بالنسبة إلى سند لم يوجد فيه إمام، ولم تضره الكثرة المتأخرة، إذ الغالب أن مشايخ الإمام ثقات / عظام. (وقد عظمت رغبة المتأخرين) أي زيادة على المتقدمين، (فيه) أي في تحصيل علو الإسناد مطلقا، (حتى غلب ذلك) أي ما ذكر من الرغبة والميل إلى العلو (على كثير منهم) أي من المتأخرين. (بحيث أهملوا الاشتعال بما هو أهم منه) أي من العلو، وهو الحفظ والإتقان، والعفة والإحسان / 112 - أ /، وأنواع علوم القرآن، وتحصيل الأخلاق الحسان. (وإنما كان العلو مرغوبا فيه) سواء كان مطلقا أو نسبيا، (لكونه أقرب إلى الصحة، وقلة الخطأ، لأنه، ما من راو من رجال الإسناد إلا والخطأ جائز عليه، فكلما كثرت الوسائط وطال السند) أي رجاله، وهو عطف تفسير، (كثرت مظان التجويز،) أي تجويز الخطأ. (وكلما قلت) أي الوسائط، (قلت) أي المظان، منها الثلاثيات للبخاري، وغيره، والثنائيات في موطأ الإمام مالك، والوحدان في حديث الإمام (1/619)
أبي حنيفة. قال السخاوي: لكن الأخير بسند غير مقبول إذ المعتمد أنه لا رواية له عن أحد من الصحابة. يعني لصغره زمن إدراكه إياهم. (فإن كان في النزول) هو مقابل للعلو كما سيجيء، (مزية ليست في العلو) وإنما ذكره وإن علم ذلك من قوله: مزية للتصريح بأن المقصود هو المزية بالنسبة إلى العلو. (كأن يكون رجاله أوثق منه) أي من رجاله بحذف المضاف، (أو أحفظ، أو رفقه، أو الاتصال) أي كأن يكون الاتصال (فيه) أي في إسناده (أظهر، فلا تردد) أي لا شك (في أن النزول حينئذ أولى). قال تلميذه: لأنه ترجيح بأمر معنوي، (1/620)
فكان أولى. انتهى. وقد قيل:
(إنَّ الرِّوايَة بالنُّزُو ..... لِ عن الثِّقاتٍ الأعْدّلِينا)
(خير مِن العالي عن الـ ..... ـجُهال والمسْتَضْعَفِينَا)
(وأما من رجح النزول مطلقاً واحتج) أي استدل (بأن كثرة البحث) أي التفحص عن رجال الإسناد، (يقتضي المشقة) أي الزائدة، (فيعظم الأجر)، فإن الأجر على قدر المشقة لما روي: " أفضل العبادات أحْمزها " أي أصعبها. وحاصل كلامه إشارة إلى ما حكى ابن خلاَّد عن بعض أهل النظر: أن التنزل في الإسناد أفضل وأرحتج، وأحتج بأنه يجب على الراوي أي يجتهد في معرفة جرح مَن يروي عنه، وتعديله، والاجتهاد في أحوال رواة النازل أكثر، فكان الثواب فيه أوفر. قال ابن الصلاح: وهو مذهب ضعيف الحجة. ووَجَّهَ ما ذكره المصنف بقوله:(1/621)
(فذلك ترجيح بأمر أجنبي عما يتعلق بالتصحيح والتضعيف) أي كثرة المشقة ليست مطلوبة لنفسها، ومراعاة المعنى المقصود من الرواية، وهو الصحة الأولى، وهذا بمثابة من يقصد المسجد للجماعة فيسلك الطريق البعيدة لتكثير الخُطا رغبة في تكثير الأجر، وإن أدى سلوكُها إلى فوات الجماعة التي هي المقصودة، وذلك أن المقصود من الحديث التوصلُ إلى صحته، وبُعْدُ الوهم وكلما كثر رجال الإسناد تطرق إليه احتمال الخطأ والخلل، / 112 - ب / وكلما قصر السند كان أسلم والله أعلم. كذا حققه السخاوي ثم قال تحت قول العراقي: " عُلُوِّ نِسبيّ بِنسبَةٍ للكتب الستة " أي التي هي / الصحيحان، والسنن الأربعة خاصة. لا مطلق الكتب على ما هو الأغلب من استعمالهم، ولذا لم يقيده ابن الصلاح بها لكنه قيده بالصحيحين، وغيرهما من الكتب المعروفة المعتمدة، وهو الذي مشى عليه الجمال بن الظاهري، وغيره من المتأخرين حيث استعملوه بالنسبة لمسند أحمد ولا مُشَاحَّة فيه.
(المُوَافَقَه)
(وفيه) أي في جملته والأظهر منه، (أي العلو النسبي، الموافقة: هي الوصول إلى شيخ أحد المصنفين) أي مصنفي الكتب الستة، أو غيرهم كما سبق. (1/622)
وهل يجب كون الوصول إلى شيخ المصنف في الموافقة، أو يكفي الوصول إلى شيخ إمامٍ معتبر من أئمة أهل الحديث؟ فيه تردد، والعبارة صريحة في الأول، وكذا الكلام في الأقسام الثلاثة الباقية. (من غير طريقه) أي من غير طريق ذلك المصنف إلى ذلك الشيخ، بأن لا يكون المصنف فيه، ويشترط في الموافقة أن يكون العدد فيه أقل من العدد في الطريق الذي يوجد ذلك المصنف فيه، صرح بذلك ابن الصلاح، ويفهم من كلام الشارح في التمثيل. (أي الطريق التي تصل إلى ذلك المصنف المعين) فسره به لأن المتبادر من هذه الإضافة أن يراد بها طريق المصنف المعين إلى شيخه. ولا معنى له ههنا تأمل. . والحاصل: أن الموافقة هي أن يروي الراوي حديثاً في أحد الكتب الستة بإسنادٍ لنفسه من غير طريقها، بحيث يجتمع مع أحد الستة في شيخه، مع علو هذا الطريق الذي رواه على ما لو رواه من طريق أحد الكتب الستة، ولو اجتمع مع أحد الستة في شيخ شيخه مع علو طريقه، فهو البدل كما سيأتي. (مثاله: روى البخاري) أي في صحيحه كما في نسخة، (عن قُتيبة) بالتصغير وهو شيخه، (عن مالك حديثا، فلو رويناه) أي ذلك الحديث وهو بالبناء للمجهول وقيل للمعلوم، (من طريقه) أي طريق البخاري، (كان بيننا وبين قُتَيْبة ثمانية،) أي (1/623)
من رجال الإسناد. (ولو روينا ذلك الحديث بعينه من طريق أبي العباس) أي من طريق يصل إلى أبي العباس (السرَّاج) بتشديد الراء، بايع السَّرْج أو صانعه، وهو إمام جليل كان مستجاب الدعوة، ولادته في سنة ثمان عشرة ومئتين، ومات في سنة ثلاث عشرة وثلاث مئة. كان تلميذ البخاري، وقد روى البخاري عنه ومسلم، وعاش بعد البخاري سبعاً وخمسين سنة، فإن البخاري مات سنة ست وخمسين ومئتين. / 113 - أ /. (عن قتيبة مثلاً يعني أو غيره من مشايخ البخاري (لكان بيننا وبين قُتيبة فيه) أي في إسناده، (سبعة، فقد حصلت لنا الموافقة مع البخاري في شيخه بعينه مع علو الإسناد) أي لقلة العدد بدرجة، (على الإسناد إليه) أي إلى البخاري.
(البدل)
(وفيه أي العلو النسبي البدل:) سمي بدلاً لوقوعه في طريق راوٍ بدل الراوي الذي أورده أحد أصحاب الستة من جهته. (وهو) أي البدل، (الوصول إلى شيخ شيخه) أي أحد المصنفين كمالك مثلاً (1/624)
(كذلك). / قال السخاوي: أي مع علو بدرجة فأكثر. وقال التلميذ: أي من غير طريق ذلك المصنف المعين، بل بطريق آخر أقل عدداً منه. (كأن يقع لنا) الظاهر منه أنه مجرد تقدير دون الأول، كذا قال محشٍ، والأظهر أن كليهما تقديري، (ذلك الإسناد بعينه). قال محشٍ: كون الإسناد بعينه في ذلك الإسناد مع كون طريق أخرى محل تأمل. وقال التلميذ: صوابه ذلك الحديث. أقول: الأصوب أن المراد بذلك الإسناد إسناد أبي العباس المتقدم مثلاً، والمقصود (من طريق أخرى) إسناد آخر لأبي العباس غير إسناده الأول المنتهي إلى قتيبة بل المنتهي (إلى القَعْنبي) وهو بفتح القاف. وسكون العين المهملة، وفتح النون بعده موحدة ثم ياء نسبة. (عن مالك، فيكون القعنبي بدلاً فيه) أي في الإسناد، (من قتيبة) والقعنبي ليس شيخاً للبخاري، فحصلت الموافقة مع شيخ شيخه وهو مالك. (وأكثر ما يعتبرون الموافقة والبدل) مبتدأ خبره، (إذا قارنا العلو) إما بنفسه إن قُدر الكلام هكذا: أكثر أوقات اعتبار الموافقة والبدل وقت مقارنتهما للعلو، (1/625)
أو باعتبار أنه ظرف حاصل إن لم يقدَّر الوقت، ويقدر الكلام هكذا: أكثر اعتبارهما حاصل وقت مقارنتهما العلو. (وإلا فاسم الموافقة والبدل واقع بدونه) أي وإن لم يكن الحكم بكونهما في العلو باعتبار الأكثرية بل بمعنى حصرهما فيه كما هو المتبادر، فهو باطل لأن اسم الموافقة... الخ، فقوله: اسم، دليل للملازمة، والجزاء محذوف، وأمثال هذا كثيرة. وحاصل المعنى: أن أكثر استعمالهم الموافقة والبدل في صورة العلو لقصد بعث الطالبين وتحريضهم على سماعه والاعتبار به، وإن كان التساوي في الطريقين بل النزول في طريقك لا يمنع التسمية، وقد يطلق بدونه أيضاً. قال العراقي: وفي كلام غير ابن الصلاح إطلاق اسم الموافقة والبدل مع / 113 - ب / عدم العلو، فإن علا قالوا: موافقة عالية، وبدلاً عالياً، وقيد ابن الصلاح إطلاقهما بالعلو، ولو لم يكن عالياً، فهو أيضاً موافقة وبدل، لكن لا يطلق عليهما اسم الموافقة والبدل لعدم الالتفات إليه.
(المساواة)
(وفيه أي في العلو النسبي المساواة) قال تلميذه: تقدم أن العلو النسبي أن ينتهي الإسناد إلى إمام ذي صفة عَليّة، وهذه المساواة ليست كذلك أي بالتفسير والتمثيل الآتيين، فحقها أن تكون من أفراد العلو المطلق. (1/626)
(وهي) أي المساواة، (استواء عدد الإسناد) أي رجاله، (من الراوي إلى آخره، أي الإسناد مع إسناد أحد المصنفين) أي مع عدد رجاله بينه وبين النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، أو بينه وبين صحابي أو تابعي أو مَن دونه، صرح بهذا التعميم ابنُ الصلاح في " المقدمة "، لكن لا يخفى على الأذهان أن هذه المساواة مفقودة في هذه الأزمان. (كأنَ يَروي النِّسائي مثلاً حديثاً يقع بينه وبين النبي عليه الصلاة والسلام فيه أحدَ عشر نفْساً) أي ولو روينا ذلك الحديث بإسناد / النسائي يقع بيننا وبينه عليه الصلاة والسلام أكثر من أحد عشر نفساً. (فيقع لنا ذلك الحديث بعينه بإسناد آخر إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يقع بيننا فيه وبين النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أحد عشر نفساً، فنساوي النسائي من حيث العدد مع قطع النظر عن ملاحظة ذلك الإسناد الخاص) أي وكونهم في أعلى الرتبة. (1/627)
(المُصَافَحَة)
(وفيه أي العلو النسبي أيضاً المصافحة: وهي الاستواء مع تلميذ ذلك المصنف على الوجه المشروح أولاً) قال تلميذه: أي في المساواة انتهى، يعني في تصوير رواية النسائي مثلاً. قال السخاوي: وهي أي المصافحة مفقودة في هذه الأزمان. وقال التلميذ: إذ كانت المصافحة ما ذكر فلَمْ تدخل في تعريف العلو النسبي كما تقدم في المساواة. انتهى. وتوضيح المسألتين على ما ذكره ابن الصلاح وغيره، أن المساواة أن يَقل عدد إسنادك إلى الصحابي، أو من قاربه كالتابعي، بل ربما كان إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بحيث يقع بينك وبين الصحابي، أو التابعي، أو النبي عليه الصلاة والسلام من العدد مِثْلُ ما وقع بين مسلم مثلاً وبينه، والمصافحة أن يَقل عدد إسنادك إلى الصحابي، أو مَن قاربه، وربما كان إلى الرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بحيث يكون الإسناد من الراوي إلى آخره مساوياً لإسناد أحد المصنفين مع تلميذ / 114 - أ / ذلك المصنف، فيعلو طريق أحد الكتب الستة عن المساواة بدرجة، فيكون الراوي كأنه سمع الحديث من النسائي مثلاً وصافحه، ثم قال ابن الصلاح: ولا يخفى على المتأمل أن في المساواة والمصافحة الواقعتين لك لا يلتقي إسنادك وإسناد مسلم أو النسائي إلا بعيداً عن شيخهما، فيلتقيان في الصحابي أو قريباً منه. انتهى. فالقلة معتبرة في المساواة بالنسبة إلى رواية أحد المصنفين، أو تلميذه، ولا يعتبر بحيث ينتهي إليه. (1/628)
(وسُمّيت مصافحة لأن العادة جرت في الغالب) أي في غالب الناس، أي في أكثر البلدان، وكأنه باعتبار سابق الزمان، (بالمصافحة بين مَن تلاقيا) بصيغة الماضي من باب التفاعل، ومن مفرد اللفظ جمع المعنى كما في قوله تعالى:: {{من آمن منهم}} والتثنية في معنى الجمع، ووقع في نسخة محشٍ بلفظ: تلاقينا بصيغة المضارع من الملاقاة، قال المحشي الأظهر بيننا وبين من يلاقينا أي من تلميذ النسائي مثلاً. انتهى. وهو تكلفُّ لفظاً، وتعسفٌ معنى، والظاهر أنه تصحيف. (ونحن في هذه الصورة) أي في صورة استوائنا مع تلميذ النسائي (كأنا لقينا النسائي) قال محش: أي تلميذه. والظاهر أن لا يحتاج لهذا الإضمار، (فكأنما صافحناه.)
(النَّازِل)
(ويقابل) بكسر الموحدة، (العلو) مفعول مقدم، (بأقسامه المذكورة: النزول) قيل: وهو شؤم. وقال ابن مَعِين: إنه قَرحَةٌ في الوجه. (1/629)
(فيكون كل قسم من أقسام العلو يقابله قسم من أقسام النزول) أي وتفصيلها يُعْلَم من تفصيل أقسام العلو، فإن العلو المطلق يقابله النزول / المطلق لأن سنده إن كان ثلاثاً كان سندُ النزول المطلق أربعاً، وكذا التقابل بين الأقسام الباقية. قال محشٍ: لكن صرْح ابن الصلاح في " المقدمة " بأن العلو المقابل للنزول إنما هو العلو النسبي. ويمكن أن يكون قول الشارح (خلافاً لمن زعم أن العلو قد يقع غير تابع لنزوله) إشارة إلى ذلك، فيكون حينئذ بالنسبة إلى أفراد الراوي. وفي قوله: غير تابع إشارة إلى اعتبار معنى التبعية في أصل المُدَّعى، وإلا كان الأنسب أن يقول: غير مناسب لنزوله، والصحيح أن المراد بالزاعم هو الحاكم كما سيجيء بيانه. وقال التلميذ: وهو أي الزاعم الشيخ زين الدين العراقي، فإنه نازع في ذلك الشيخ تقي الدين ابن الصلاح ذكره في شرح الألفية. انتهى. وهو غير صحيح، فإن ما ذكره العراقي في شرح ألفيته ما نصه: وأما أقسام النزول فهي خمسة أيضاً، فإن كل قسم / 114 - أ / من أقسام العلو ضده قسم من أقسام النزول، كما قال ابن الصلاح، وقال الحاكم في علوم الحديث: لعل (1/630)
قائلاً يقول: النزول ضد العلو، فمن عرف العلو فقد عرف ضده، وليس كذلك، فإن للنزول مراتب لا يعرفها إلا أهل الصنعة. قال ابن الصلاح: هذا ليس نفياً لكون النزول ضد العلو على الوجه الذي ذكرته بل نفياً لكونه يعرف بمعرفة العلو، قال: وذلك يليق بما ذكره هو في معرفة العلو، فإنه قصر في بيانه وتفصيله، وليس كذلك ما ذكرناه، فإنه مفصل تفصيلاً مُفْهِمَاً لمراتب النزول. قال العراقي: ثم إن النزول حيث ذمَة ذام، فهو محمول على ما إذا لم يكن مع النزول ما يجبره، كزيادة الثقة في رجاله على العالي، أو كونهم أحفظ، أو أفقه، أو كونه متصلاً بالسماع، وفي العالي حضور، أو إجازة، أو مناولة ونحو ذلك، فإن العدول حينئذ إلى النزول ليس بمذموم ولا مفضول. روينا عن ابن المبارك قال: ليس جودة الحديث قرب الإسناد، بل جودة الحديث صحة الرجال. وروينا عن السِّلَفي قال: الأصل الأخذ عن العلماء، فنزولهم أولى من العلو بالأخذ عن الجهلة على مذهب المحققين من النقلة، والنازل حينئذ هو العالي في المعنى عند النظر والتحقيق. كما روينا عن نظام الملك قال: عندي أن الحديث العالي ما صح عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وإن بلغت رواته مئة. قال ابن الصلاح: هذا ليس من قبيل العلو المتعارف عند إطلاقه بين أهل الحديث، وإنما هو علو من حيث المعنى فحسب. انتهى كلامه. قال (1/631)
السخاوي: وأنزل ما في الصحيحين مما وقفت عليه ما بينهما وبين النبي عليه الصلاة والسلام فيه ثمانية. وذلك في غير ما حديث كحديث توبة كعب في تفسير براءة، وحديث بَعْث أبي بكر لأبي هريرة في الحج في براءة أيضاً، وحديث: " مَن أعتق رقبة في الكفارات... " تلو الأيمان و النذور في باب قول الله عز وجل:: {{أو تحرير رقبة}} وحديث: " أنه صلى الله تعالى عليه وسلم، طرق علياً وفاطمة... " في المشيئة والإرادة من التوحيد، وأربعتها في البخاري، وحديث النعمان: " الحَلال بَيِّن... "، وحديث عَدِيّ بن كعب " لا يَحْنَكِرُ إلا خاطئ... " وهما في مسلم، بل فيهما / التساعيات. انتهى. وهذا يؤيد من قال: إن الاعتبار بالعلو المعنوي، وهو قوة الراوي، ولهذا يقدم حديث الشيخين بل أحدهما مطلقاً على حديث الموطأ، مع أن أحاديثه ثنائيات / 115 - أ / وثلاثيات. (1/632)
(رواية الأقران)
(فإن تشارك الراوي ومَن روى عنه) تقسيم للرواية باعتبار طريقها، (في أمر من الأمور المتعلقة بالرواية مثل السِّن) أي العمر، وفي معناه العِلم (واللُّقِيّ) أي أو اللقي كما صرح به السخاوي، ولعله أتى بالواو نظراً للغالب، وإلا فلربما يُكْتَفى باللقي، (وهو الأخذ عن المشايخ). قال ابن الصلاح: وربما يكتفي الحاكم بالتقارب في الإسناد أي الأخذ من المشايخ، وإن لم يوجد التقارب في السن. والمراد بالتشارك في السِّن واللُّقي: المقارنة كما قال: إنما القرينان إذا قارب سنهما وإسنادهما. (فهو) أي التشارك المذكور هو (النوع الذي يقال له: رواية الأقران) هذا من المزج الغير المستحسن إلا على ما اخترعه الشيخ من جعل الكتابين واحداً، لأن الأقران مرفوع باعتبار المتن مجرور باعتبار الشرح، غايته أن المضاف مقدر في المتن لتصحيح الحمل. (1/633)
(لأنه) سمي بالأقران لأن الراوي (حينئذٍ) أي وقت التشارك، (يكون راوياً عن قرينه) وهو نوع مهم، وفائدة ضبطه: الأمْنُ من الزيادة في الإسناد، أو إبدال الواو بعن إن كان بالعنعنة، ذكره السخاوي. وقال: مثاله رواية سليمان التيمي عن مِسْعَر، فقد قال الحاكم: لا أحفظ لمِسْعَر عن التيمي رواية، على أن غيره توقف في كون التيمي من أقران مِسْعر، بل هو أكبر منه كما صرح به المُزَني وغيره. نعم روى كلٌ من الثوري ومالك بن مِغْول عن مِسْعَر وهم أقران.
(المُدَبَّج)
(وإن روى كلِّ منهما أي من القرينين عن الآخر فهو) الفاءُ متن، " وهو " شرحُ، (المدَّبج) بفتح الموحدة المشددة، (وهو أخص من الأول) أي رواية الأقران. (فكل مدبج أقران، وليس كل أقران مدبجاً) تفريع ظاهرٌ مفهوم من (1/634)
الأخص. قال الجزري: مثاله في الصحابة: عائشة، وأبو هريرة رضي الله عنهما، روى كل واحد عن الآخر، وفي التابعين: الزُّهري، عن عمر بن عبد العزيز، وهو عنه، وفي أتباع التابعين: مالك عن الأوزاعي، وهو عنه، وفي أتباع الأتباع: أحمد بن حنبل عن علي بن المَديني، وهو عنه. (وقد صنف الدارقطني في ذلك) أي في المدبج كتاباً حافلاً في مجلد وسماه به. (وصنفّ أبو الشيخ الأصفهاني) وفي نسخة بالفاء، وتقدم ضبطه، (في الذي قبله) أي في الأقران. (وإذا روى الشيخ عن تلميذه صدق أن كلاً منهما يروي عن الآخر، فهل يسمى مدمجاً؟) أي في الاصطلاح؟ (فيه بحث) أي تردد أو فحص وتفتيش، إذ يحتاج أن يكون المصطلح أخص من عموم مفهوم / 115 - ب / اللغة، أو مساوياً له. (والظاهر:) أي من المادة اللغوية، (لا) أي لا يسمى كما سيأتي (لأنه) أي رواية الشيخ عن تلميذه (من رواية الأكابر عن الأصاغر) أي فينازع الاصطلاح أيضاً إذ لم يبق حينئذ ما به / الامتياز بينهما. (1/635)
(والتَّدبٍ يج مأخوذ) دائرة الأخذ أوسع من الاشتقاق كما هو معلوم (من دِيبَاجتي الوجه) بكسر الدال أي صفحتيه، وهما متساويتان خِلقةً وصورة، والخَدَّان يقال لهما: الديباجتان على ما في " الصحاح "، " والمحكم " وغيرهما. (فيقتضي أن يكون ذلك) أي المدبج، وقول محشٍ هنا: أو التدبيج، حشو لعدم صحة الحمل. (مستوياً من الجانبين) أي مستوياً جانباه لأن المعنى اللغوي لا بد من أن يُرَاعى في المعنى الاصطلاحي. (فلا يجيء فيه) أي فيما ذكر من الشيخ مع تلميذه (هذا) أي التدبيج أو المُدَبَّجَ.
(رواية الأكابر عن الأصاغر)
(وإن رَوَى الراوي عمن هو دونه في السَّن، أو في اللُّقي، أو في المِقْدَار). وحاصله: أن هذا النوع أقسام: أحدها: أن يكون الراوي أكبر سِناً، وأقدم طبقة كالزُّهرِي، ويحيى بن سعيد عن مالك. (1/636)
ثانيها: أن يكون أكبر قدراً في الحفظ والعلم، كمالك عن عبد الله بن دينار، وأحمد وإسحاق عن عُبَيْد الله بن موسى. ثالثها: أنْ يكون أكبر من الجهتين كرواية العبادلة عن كعب، وكرواية كثير من العلماء عن تلاميذهم. (فهذا النوع هو رواية الأكابر) فيه ما سبق، (عن الأصاغر) هو نوع مهم تدعو لفعله الهمم العليَّة، والأنفس الزكية، ولذا قيل: لا يكون الرجل محدثاً حتى يأخذ عمن فَوقَه، ومثله ودونه. وفائدة ضبطه: الخوف من ظَن الانقلاب في السند مع ما فيه من العمل بقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: " أنْزِلُوا الناس منازِلَهم "، وإلى ذلك أشار ابن الصلاح بقوله: ومن الفائدة فيه أنْ لا يتوهم كون المروي عنه أكبر أو أفضل، نظراً إلى أن الأغلب كون المروي عنه كذلك، فتُجْهَل بذلك منزلتهما، والأصل فيه رواية النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حديث الجَسَّاسة عن تميمٍ الدَّاري، كما في صحيح مسلم، وقوله عليه الصلاة والسلام في كتابه إلى اليمن: " وإنّ مالكاً، يعني ابن مَرَارَة، حدثني بكذا، وذكر (1/637)
شيئاً "، أخرجه ابن مُنْدَه، وقوله أيضاً: " حدثني عمر أنه ما سابق أبا بكر إلى خير قط إلا سبقه " أخرجه الخطيب في تاريخه ذكره السخاوي.
(الآباء عن الأبناء)
(ومنه، أي من جملة هذا النوع - وهو أخصّ منْ مطلقة - رواية الآباء) فيه ما تقدم (عن الأبناء) وفائدة ضبطه الأمن من التحريف الناشئ عن كون الابن أباً في: " عن أبيه " مثلاً، / 116 - أ / وفيه أمثلة كثيرة كقول أنس: حدثتني ابنتي أُمَيْنَة: أنه دُفن لصُلبي إلى مقدم الحَجاجِ البصرةَ بضع وعشرون ومئة "، وكروايته أيضاً عن ابنه ولم يسمه، وكرواية عمر بن الخطاب عن ابنه عبد الله، وكرواية العباس عمَ النبي عليه الصلاة والسلام عن ابنه الفَصْل حديث " الجمع بين (1/638)
الصلاتين بالمُزدَلفة "، وكروايته أيضاً عن ولده البحر عبد الله ذكره السخاوي. (والصحابة) أي ومنه رواية الصحابة (عن التابعين) كرواية أنس عن كعب الأخبار. (والشيخ عن تلميذه) كرواية البخاري عن أبي العباس السَّرَّاج. (ونحو ذلك) كرواية التابعين عن الأتباع كالزُّهري عن مالك. (وفي عكسه) أي / رواية الراوي عمن فوقه في السِّن، أو اللُّقي، أو المقدار، وهو المعبر عنه برواية الأصاغر عن الأكابر، (كثرة) مِنْ كثرتها لا يُحْتَاج إلى بيان أمثلتها ؛ (لأنه) أي هذا الطريق في الإسناد، (هو الجادة) بتشديد الدال، أي الطريق المستوية المستقيمة، وفي " الصحاح " هي معظم الطريق (المسلوكة الغالبة، وفائدة معرفة ذلك)، أي رواية الأكابر عن الأصاغر، (التمييز بين مراتبهم). أي الرواة (وتنزيل الناس منازلَهم) وهو مرتب على ما قبله وقد سبق بيانه. (1/639)
(وقد صنف الخطيب في رواية الآباء عن الأبناء تصنيفاً، وأفرد جزء لطيفاً في رواية الصحابة عن التابعين، ومنه) أي من العكس (من روى عن أبيه عن جده) فالظاهر أن قوله: عن جده قيد واقعي لا احترازي، لأنه بدونه يصدق عليه العكس. ثم اعلم أن قوله: و " منه "... الخ، غير مذكور في بعض النسخ، وفي بعضها مسطور بعد قوله: " كثرة " على ما نقله تلميذه، ثم قال: ينبغي تأخير " ومنه مَن روى عن أبيه عن جده "، عن قوله: " لأنه هو الجادة المسلوكة الغالبة "... الخ. انتهى. (وجَمَعَ الحافظ صلاح الدين العلائي) منسوب إلى العَلاء بفتح المهملة (من المتأخرين مجلداً كبيراً في معرفة من روى عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم) كبهز بن حكيم عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فحكيم هو ابن معاوية بن حَيدة القُشيري، فالصحابي هو معاوية، وهو جَدُّ بهز. (وقسمه) أي ذلك النوع، (أقساماً: فمنه) أي من ذلك النوع (ما يعود (1/640)
الضمير في قوله: عن جده على الراوي) كما سبق. (ومنه ما يعود الضمير فيه على أبيه) ومنه ما يحتمل ذا وذا كما سيأتي، (وبين) أي أوضح (ذلك) أي النوع، (وحققه وخَرَّج في كل ترجمة حديثاً من مَرْوِيّه). اعلم / 116 - ب / أن مِن أفراد هذا النوع - مما كثر وقوعه في كتب الحديث حتى عند المتأخرين، كصاحب المشكاة، وغيره - حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، فمعرفته مهمة، وبه يظهر لك فائدة علم هذا النوع، وقد قال شيخ مشايخنا ميركشاه رحمه الله تعالى: هو عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن (1/641)
عمرو بن العاص، أبو عبد الله على الصحيح، أحد علماء زمانه. روي عن البخاري أن أحمد وجماعةً يحتجون بحديث عمرو، لكن البخاري ما احتج به في جامعه، وقال أبو زُرعة: إنما أنكروا حديثه لكثرة روايته، وإنما سمع أحاديث بُسْرة، وأخذ صحيفة كانت عندها فرواها ، وشعيب لا نعرفه ولكن ما علمت أحداً وثقة، بل ذكره ابن حبان في تاريخ الثقات. وقال ابن عَدِي: عمرو بن شعيب ثقة إلا أنه إذا روى عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يكون مرسلاً، قلت: قد ثبت سماعُه عن عبد الله، وهو الذي رباه حتى قيل: إن محمداً مات في حياة أبيه عبد الله وكَفِلَ شعيباً جده عبد الله، كذا في الميزان للذهبي، وقال بعض المحققين: الصحيح أن الضمير في جده راجع إلى شعيب، وكثيراً ما وقع في رواية أبي داود / والنسائي، غيرهما بلفظ عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص، فحديثه لا طعن فيه. وقال النووي: أنكر بعضهم حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده باعتبار أن شعيباً سمع من محمد لا عن جده عبد الله، فيكون حديثه مرسلاً، لكن الصحيح أنه سمع من جده عبد الله، فحديثه بهذا الطريق متصل لكن لاحتمال أن يراد بجده في الإسناد محمد لا عبد الله لم يدخل حديثه بهذا الإسناد في الصحاح. وقال المصنف في شرح البخاري: ترجمة عمرو قوية على المختار حيث لا يعارض. (1/642)
(وقد لخصت كتابه المذكور) أي ذكرت خلاصته، (وزدت عليه) أي على تراجم كتابه، (تراجم كثيرة جِداً) بكسر الجيم وتشديد الدال مبالغة في الكثرة. قال تلميذه: طالعت التلخيص المذكور من خط المصنف، وأظهرت فيه ست تراجم لا وجود لها في الوجود وهي: حَمَّاد بن عيسى الجُهَنّي، عن أبيه عن جده عَبِيْدة بنِ صَيفي، وعبد الله بن عبد الحكم عن أمه أُميمة، عن أمها رُقَيْقة، وعبد الله بن معاذ بن عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن جده، وبشير بن النعمان بن بشير بن النعمان بن بشير، عن أبيه، عن النعمان بن بشير، وخالد بن موسى بن زياد بن جهور عن أبيه، عن جده جهور. ولما رأيت هذا وضعت كتاباً في هذا النوع وبينت فيه ما كان متصلاً بالآباء مما فيه انقطاع الآباء، وفصّلت كل قسم على حدته، وخَرجتُ في كل ترجمة / 117 - أ / حديثاً إلا ما كان في أحد الكتب الستة، وما كان في بعض الكتب التي لم تكن تحضرني الآن إذ ذاك فنسبته إليها، والله سبحانه أعلم. (1/643)
(وأكثر ما وقع فيه ما تسلسلت فيه) أي من هذا النوع، (الرواية) أي رواية الأبناء (عن الآباء) عن الأجداد، (بأربعة عشر أباً) أي جداً، أُطلق عليه مجازاً، وهو ما رواه الحافظ السَّمْعَاني في الذيل، قال: أخبرنا أبو شجاع عمر بن أبي الحسن البسطامي الإمام بقراءتي، وأبو بكر محمد بن علي بن ياسر الجِياني من لفظه، قالا: حدثنا السيد أبو محمد الحسين بن علي بن أبي طالب من لفظه ببلخ قال: حدثني سيدي ووالدي أبو الحسن علي بن أبي طالب سنة ست وستين وأربع مئة، قال: حدثني أبي أبو طالب الحسن بن عبيد الله سنة أربع وثلاثين وأربع مئة، قال: حدثني والدي أبو علي عبيد الله بن محمد قال: حدثني أبي محمد بن عبيد الله قال: حدثني أبي عبيد الله بن علي، قال: حدثني أبي علي بن الحسن، قال: حدثني أبي الحسن بن الحسين، قال: حدثني أبي الحسين بن جعفر وهو أول من دخل بلخ من هذه الطائفة، قال: حدثني أبي جعفر الملقب بالحجة، قال: حدثني أبي عبيد الله، قال حدثني أبي الحسين الأصغر، قال: حدثني أبي زين العابدين علي بن الحسين بن (1/644)
علي، عن أبيه عن جده علي رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول صلى الله تعالى عليه وسلم: " ليس الخبرُ كالمُعَاينَةَ ".
(السابق واللاحق)
(وإن اشترك اثنان) أي في الرواية، (عن شيخ، وتقدم موت أحدهما) أي أحد الراويين، (على الآخر فهو السابق) /، أي باعتبار أحدهما، (واللاحق) باعتبار الأخر 0 والمراد أن هذا النوع يسمى السابق واللاحق، والتقدير ذو السابق واللاحق. قال السخاوي: وهو نوع ظريف سماه بذلك الخطيب. وأما ابن الصلاح، فإنه قال: معرفة من اشترك في الرواية عنه راويان متقدم ومتأخر. وقال الجزري: السابق واللاحق عبارة عمن أشترك في الرواية عنه متقدم، ومتأخر، تباين وقت وفاتهما تباينا شديدا، فحصل بينهما أد بعيد، وإن كان المتأخر غير معدود من معاصري الأول ومن الأول طبقته. (1/645)
ومن فوائد هذا النوع تقرير حلاوة الإسناد في القلوب، وقال السخاوي وفائدة ضبطه: الأمن من ظن سقوط شيء في إسناد المتأخر، وتفقه الطالب أي تفهمه في معرفة العالي والنازل، والأقدم من الرواة عن الشيخ، ومن به ختم حديثه، أي حديث الشيخ. (وأكثر ما) أي زمان، (وقفنا عليه من ذلك) أي من تقدم موت أحدهما على الآخر، أو مما ذكر من السابق و / 117 - ب / اللاحق، أي مما بينهما وكلمة من بيانية ل: " ما "، أو من التباعد بين وفاتهما (ما) قيل زائدة، والأظهر أنها موصلة، أي صفة ما في فوله: ما وقفنا، أي التباعد الذي (بين الراويين فيه) أي في الزمان (في الوفاة) أي لأجل الموت وفي حقه، (مئة) أي هذا الأمد وهو مئة (وخمسون سنة) وحاصل التركيب أن " ما " عبارة عن الزمان، و " أكثر " مبتدأ، وما في " ما بين " خبره، ومئة مبتدأ، وخبره الظرف المقدم عليه، والجملة صلة ما، أو الصلة هي الظروف، ومئة فاعله، وعلى التقديرين العائد ضمير فيه، وكلمة ما في الموضعين عبارة عن الزمان، ولو ترك قوله: ما بين الروايين فيه في الوفاة، وجعل مئة خير أكثر لكان أحسن كما أشرنا إليه. (وذلك) أي تقريره وبيانه وتحريره، (أن الحافظ) أي في الحديث، (السُلفي) بكسر السين المهملة، وفتح اللام، وبالفاء، منسوب إلى سَلفَه بعض أجداده، ومعناه: مقطوع الشفة. (سمع منه) أي من تلميذه الذي هو السَّلَفي، (أبو علي (1/646)
البَرداني) بفتح موحدة وسكون راء، (أحد مشايخه) أي مشايخ السلفي، (حديثاً) فهو من رواية الأكابر عن الأصاغر. (ورواه) أي البرداني ذلك الحديث، (عنه) أي عن السلفي، (ومات) أي البرداني (على رأس الخمس مئة). (ثم كان آخر أصحاب السلفي بالسماع) قيد للآخر، (سِبطه) مرفوع على أنه اسم كان أي ولد ولده، (أبو القاسم عبد الرحمن بن مكي، وكانت وفاته) أي السّبط، (سنة خمسين وست مئة). (ومن قديم ذلك) أي هذا النوع إذ السُّلفي متأخر عن البخاري، (أن البخاري حدث عن تلميذه أبي العباس السراج) مر ذكره، (أشياء) أي أحاديث وغيرها في (التاريخ وغيره، ومات) أي البخاري (سنة ست وخمسين ومئتين، وآخر مَن حدث عن السَراج بالسماع أبو الحسين) أي أحمد بن أبي نصر محمد بن أحمد بن عمر النيسابوري الزاهد (الخفاف) بفتح / المعجمة وتشديد الفاء صانع الخُف أو بائعه، (ومات) أي الخَفاف (سنة ثلاث وتسعين وثلاث مئة) (1/647)
فيكون بين وفاة البخاري والخفاف مئة وسبعة وثلاثون سنة. (وغالب ما يقع من ذلك) لأن أعمار هذه الأمة كانت بين الستين والسبعين، فالزايد على المقدار هنا قليل. (أن المسموع منه) أي الشيخ، (قد يتأخر بعد موت أحد الراويين عنه) أي الذي سمع عنه عند تقدم سنه حال كون المُسْمِع في ابتداء أمره (زمانا حتى يسمع منه) أي عند تقدم سنه، (بعض الأحداث) جمع حدث بالفتح / 118 - أ / وهو حديث السن. (ويعيش بعد السماع منه دهراً طويلاً، فيحصل من مجموع ذلك) أي تأخر الشيخ بعد الراويين زماناً، ويعيش التلميذ بعد السماع منه، (نحو هذه المدة) أي المديدة التي تقدمت من مئة وخمسين سنة ونحوها.
(الرواية عن مُتفقي الاسم)
(وإن روى الراوي عن اثنين متفقي الاسم) بكسر الفاء، ثم لا بد من تقدير " فقط "، ليصح العطف عليه في قوله: (أو مع اسم الأب، أو مع اسم الجد) عطف على قوله: مع اسم الأب، فلا (1/648)
يلزم الاتفاق في الاسم و اسم الأب، أو على " فقط " المقدر بعد قوله: مع اسم الأب، فيلزم الاتفاق في الاسم، واسم الأب والجد وكذا الحال في قوله: (أو مع النسبة، ولم يتميزا بما يَخُصُّ كلا منهما) أي ببعض خواصهما التي يحصل بها التمييز بينهما. (فإن كانا ثقتين لم يضر) يحتمل الوجوه الثلاثة من الحركات، والمعنى لم يضر لحصول المقصود، وهو كونه ثقة. قال التلميذ: فُهم منه أنهما إذا كانا غير ثقتين، فإنه يضر، وهو الصحيح، قال: والفرق بين المُبْهَم والمُهْمَل، أن المبهم لم يذكر له اسم، والمهمل ذُكِر اسمه مع الاشتباه. (ومن ذلك) أي مما اتفقا في الاسم فقط، (ما وقع في البخاري في روايته عن أحمد غير منسوب) أي لم يذكر معه ما يتميز به، (عن ابن وَهْب، فإنه) أي أحمد المذكور، (إما أحمد بن صالح، أو أحمد بن عيسى، أو عن محمد) أي أو عن روايته عن محمد (غير منسوب عن أهل العراق، فإنه إما محمد بن سلام) بفتح مهملة، ولام مخففة، (أو محمد بن يحيى الذُّهَلي) بضم المعجمة، وفتح الهاء. (1/649)
هذا، ومثال ما اتفق أسماؤهم، وأسماء آباءهم الخليل بن أحمد. الأول: هو الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم النَّحْوِي، صاحب العَرُوض، روى عن عاصم الأحول، ذكره ابن حبان في الثقات، والثاني: خليل بن أحمد أبو بِشْر المُزَني روى عن المستنير. ومثال ما اتفق أسماؤهم وأسماء آبائهم، وأجدادهم، أحمد بن جعفر بن حمدان أربعة متعاصرون في طبقة واحدة. فالأول: أحمد بن جعفر بن حمدان بن مالك البغدادي. والثاني: أحمد بن جعفر بن حمدان بن عيسى السَّقطي البصري. والثالث: أحمد بن جعفر بن حمدان الدينوري. والرابع: أحمد بن جعفر بن حمدان الطَّرطُوسي. ومثال ما اتفق أسماؤهم / وأسماء آباءهم ونسبهم محمد بن عبد الله الأنصاري، الأول: القاضي أبو عبد الله / 118 - ب / محمد بن عبد الله بن المُثنى الأنصاري البصري شيخ البخاري، والثاني: أبو سلمة محمد بن عبد الله بن زياد الأنصاري. (وقد استوعبت) أي فصلت (ذلك) أي النوع، (في " مقدمة شرح البخاري ") أي المسمى " بفتح الباري ". (ومن أراد لذلك ضابطاً كلياً يمتاز به أحدهما عن الآخر، فباختصاصه) أي (1/650)
فعليه بمعرفة اختصاصه، وهذا مُخل باعتبار الشرح، أما باعتبار المتن فواضح، والأوضح أن يقال: التقدير فلْيُعْلم أنه باختصاصه. (أي الراوي). (بأحدهما) أي الشيخين، (يتبين المهمل) وبيانه أن يكون تلميذ أحدهما دون الآخر، أو يكون تلميذاً لهما لكن له بأحدهما زيادة اختصاص، كملازمة أو بلدٍ أو قرية ليس للآخر. قال التلميذ: قوله: فباختصاصه، هذا الضمير يرجع إلى غير مذكور، وتقدم ذكر الراوي، فيوهم عوده إليه، فصار المحل قلقاً، فكان حقه أن يقول: فباختصاص أحدهما بالآخر يتبين المهمل. (ومتى لم يتبين ذلك) بأن لم يختص بأحدهما، (أو كان مختصاً بهما معاً فإشكاله شديد)، أي صعب ومع ذلك، (فيرجع) على بناء المجهول، أي فيُرَد الأمر (فيه) أي في هذا الإشكال (إلى القرائن، والظن الغالب) أي الناشئ منها، والوصف بياني أي ظن غالبي، وقال ابن الصلاح: وربما قيل: بظن لا يقوى.
(إنكار الراوي لحديثه)
(وإن روى عن شيخ) أي ثقة عن ثقة، (حديثاً فجحد الشيخ مَرْوية) أي نفاه، (فإن كان) أي جحدُه، (جزماً) هو باعتبار المتن تمييز، وباعتبار الشرح خبر كان، ومعناه: على سبيل الجزم. (1/651)
(كأنْ يقول) أي الشيخ: (كذب عليَّ، أو ما رويت هذا، ونحو ذلك) أي ليس هذا من حديثي، أو ما رويت له هذا، أو ما رويت هذا. (فإن وقع) أعاد الشرط للتأكيد، فقول تلميذه: " هذا " حشو لا محل له، وكأنه تبعه شارح وأسقطه (منه) أي من الشيخ (ذلك) أي الجحد أو الجزم، أو الجحد على سبيل الجزم، (رد ذلك الخبر) أي المروي على المختار، وهو محكي عن الشافعي، وبعضهم بالغ في ذلك فنقل الإجماع عليه (لِكَذب واحد منهما لا بعينه). قال تلميذه: أي لكذب الأصل في قوله: كذب علي، أو ما رويت، إن كان الفرع صادقاً، ولِكَذب الفرع في الرواية إن كان الأصل صادقاً في قوله: كذب علي، وما رويت، إلا أن عدالة الأصل تمنع كذبه، فيجوز النسيان على الفرع، وعدالة الفرع تمنع كذبه، فيجوز النسيان على الأصل، ولم يتبين مطابقة الواقع مع أيهما، فلذلك / 119 - أ / لا يكون قادحاً. انتهى. فإن قيل كَذِبُ الشيخ مستلزم لصحة الحديث لا لرده، فإنه إذا كان الشيخ كاذباً في قوله: كذب علي، فكان التلميذ صادقاً، فيكون الحديث صحيحاً، أُجيب بأنا سلَّمنا ذلك لكنه إذا ظهر منه الكذب، فلا يُعتمد على قوله، والله سبحانه أعلم. (ولا يكون) أي رد (ذلك الخبر قادحاً، في واحد / منهما) أي من الشيخ والتلميذ ، وأغرب شارح فقال: أي في شيء منهما، (للتعارض) ؛ إذ(1/652)
ليس أحدهما أولى بقبول ما تضمن الجرح من الآخر، فلا يكون رد الحديث المروي بخصوصه قادحاً في عموم الروايات الباقية عنهما. (أو كان جحده احتمالاً) أي على سبيل الاحتمال (كأن يقول: ما أذكر هذا) أي الحديث، (أو: لا أعرفه) أي الراوي، أو نحوه، ك: لا أذكر أني حدثته، مما يقتضي جواز أن يكون نسيه. (قُبل ذلك الحديث في الأصح) وهو مذهب جمهور أهل الحديث، وأكثر الفقهاء والمتكلمين. (لأنّ ذلك يُحمل على نسيان الشيخ) والحكم للذاكر إذ المُثْبِت الجازِم مقدم على النافي المتردد. (وقيل:) القائل به بعض أصحاب أبي حنيفة (لا يُقْبَلُ لأن الفرع تبع للأصل في إثبات الحديث) أي مطلقاً، (بحيث إذا أثبت الأصل الحديث تثبت رواية الفرع، وكذلك ينبغي أن يكون) أي حديثه أو روايته (فرعاً عليه، وتبعاً له في النفي) وفي كثير من النسخ: في التحقيق، ولعل التقدير: في تحقيق النفي، يعني وقد (1/653)
أنكره أصله، فلا يقبل حديثه. (وهذا) أي القول، (مُتَعقبُ) أي معترض، (فإن عدالة الفرع تقتضي صدقه، وعدم علم الأصل لا ينافيه) أي صدقه وهو مُثْبِتٌ جَازِم. (فالمثبِت مقدم على النافي) يعني المثبت الجازم مقدم على النافي المتردد كما سبق قبيل ذلك، وأبعد التلميذ حيث قال: هذا ليس بجيد، لأن في مسألة تكذيب الأصل جزماً الأصل نافٍ، والفرع مثبت، وليس الحكم فيها للمثبت، فالأولى أن يقول: لأن المحقق مقدم على المظنون، والجزم مقدم على الترديد. (وأما قياس ذلك بالشهادة) أي على الشهادة بأنّ تكذيب الأصل للفرع جرح للفرع في الشهادة، فكذا في الرواية، (ففاسد) لأنه قياس مع الفارق، قال التلميذ: ظاهره أنه جواب سؤال مقدر، وحاصله: جواب بالفارق وهو لا يؤثر حتى يكون وارداً على العلة الجامعة، وهنا ليس كذلك. انتهى. ثم بين الفارق بقوله: (لأن شهادة الفرع لا تُسْمَع) أي اتفاقاً (مع القدرة / 119 - ب / على شهادة الأصل، بخلاف الرواية) فإنما تُقْبَل - مع القدرة على رواية الشيخ، وهو الأصل - رواية التلميذ وهو الفرع اتفاقاً (فافترقا) أي فرقاً مؤثراً فيما نحن فيه، على أن بعض المتأخرين(1/654)
أجرى الوجهين في الشهادة على الشهادة إذاً ظهر توقف الأصل دون إنكاره. (وفيه، أي في هذا النوع صنف الدارقطني كتاب) بالنصب مضافاً إلى قوله المرفوع محلاً باعتبار المتن (من حدث ونسي). والحاصل أنه اسم لكتابه، فما ذكره شارح عطفاً على الدارقطني بل غير واحد من الأئمة غير صحيح. (وفيه) أي في كتاب من حدث، (ما يدل على تقوية المذهب الصحيح) أي الذي عبَّر عنه المصنف بالأصح، (لكون كثير منهم) أي من المحدثين، (حدثوا بأحاديث، فلما عُرِضت) أي الأحاديث، (عليهم) / أي على محدثيها، (لم يتذكروها) أي وما أنكروها بل ترددوا فيها. (لكنهم لاعتمادهم على الرواة عنهم) من جهة العدالة، والضبط باعتبار حسن الظن الغالب عليهم، (صاروا يَرْووُنَها) أي تلك الأحاديث، (عن الذين رَوَوْهَا عنهم عن أنفسهم) ليس تأكيداً لقوله: عنهم، بل لسوق الإسناد عن تلك الرواة إلى أنفسهم، ولا يفيد " عنهم " إلا تعيين الرواة، كذا قاله محشٍ. وقال شارح: أي ينتهي إلى أنفسهم، والأظهر أن يقال: " عنهم " متعلق(1/655)
ب: رَوَوْها، و " عن أنفسهم " متعلق ب: يَرْوُوَنَها، والمعنى عن قِبَلِ أنفسهم. (كحديث سُهيل بن أبي صالح، عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعاً في قصة الشاهد واليمين) وهو أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قضى بالشاهد واليمين، وبهذا أخذ الشافعي أنه إذا كان للمدعي شاهد واحد يحلِف المدعي، فيكون حلفه بمنزلة شاهد آخر. (قال عبد العزيز بن محمد الدَّرَاوردي:) بفتح أوله بعده راء، فألف، فواو مفتوحة، فراء ساكنة بعده دال، فياء نسبة (حدثني به ربيعة بن عبد الرحمن) وفي نسخة: أبي عبد الرحمن، (عن سهيل)، أي المذكور إلى آخر السند (قال:) أي الدَّرَاوردي: (فلقيت سُهَيْلاً، فسألته) أي سُهَيْلاً، (عنه) أي عن الحديث، (فلم يعرفه) أي ولم ينكره بل تردد فيه. (فقلت: إن ربيعة حدثني عنك بكذا، فكان سُهَيْل بعد ذلك يقول: حدثني ربيعة عني) أو وهو ثقة عندي، (أني حدثته عن أبي به) أي بالحديث المذكور ولا(1/656)
أحفظه، قال التلميذ: إن كان هذا لفظ القصة من غير تصرف، فكان حق سُهَيْل أن يقول: حدثني الدَّرَاوردي عن ربيعة عني أني حدثته عن أبي. انتهى. والظاهر أن فيه تصرفاً، والأصل فلقي سهيل ربيعة وذكر / 120 - أ / أنه حدثه، وإلا فالإسناد يصير منقطعاً. (ونظائره كثيرة) ويدل عليه قوله: لكون كثير منهم.
(المُسَلْسَل)
(وإن اتفق الرواة) أي: (في إسناد من الأسانيد في صيغ الأداء) لمَّا كان المتن والشرح متغايرين في الحقيقة، وإن جُعلا كتاباً واحداً في الحكم جاز تعلق الجَارين في معنى واحد بقوله: اتفق، مع أنه يمكن أن يكون الثاني بدل البعض من الكل بإعادة الجار. (ك: سمعتُ فلاناً قال: سمعت فلاناً، أو: حدثنا فلان قال: حدثنا فلان، وغير ذلك) بالجر عطفاً على محل سمعت، أي وغير ما ذكر من الصيغتين (من الصيغ) أي من صيغ الأداء أي التي مثلهما في اتفاق الرواة باعتبار الإسناد، (أو غيرها) أي غير صيغ الأداء (من الحالات القولية) أي فقط (ك: سمعت فلاناً يقول: أشهد بالله لقد حدثني فلان إلى آخره) أي آخر السند. . (1/657)
قال السخاوي: وكحديث أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال لمُعاذ رضي الله تعالى عنه: " إني أحبك، فَقُلْ في دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرِك وشُكرِك " الحديث، فقد تسلسل، لنا بقول كلٍ من رواته: وأنا أحبك / فَقُلْ (أو الفعلية) أي فقط (كقوله:) أي الراوي: (دخلنا على فلان فأطعمنا تمرا... الخ، أو القولية والفعلية معا كقوله: حديثي فلان وهو آخذ بلحيته قال: آمنت بالقدر... إلى أخره). قال السخاوي: وذلك في حديث واحد كحديث أنس مرفوعا: " لا يجد العبد حلاوة الإيمان حتى يؤمن بالقدر خيره وشره، وحلوه ومره، قال: وقبض رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على لحيته وقال: آمنت بالقدر ". فقط تسلسل لنا أن يقبض كل واحد من رواته على لحيته مع قوله: آمنت الخ انتهى. وتفصيل إسناد هذا الحديث ذكره العراقي بإسناده، وهو شيخ العسقلاني شيخ السخاوي، ولعل أخذ اللحية إشارة إلى أن الأمر بيد الغير، وإيماء إلى التسليم والانقياد له، ولذا يقال في الأمثال: لحية فلان بيدي، أو هو (1/658)
مغلوبي، وتحت تصرفي أتصرف فيه كيف أشاء، ومنه قوله تعالى: (وما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها). (فهو المسلسل) بفتح السين، وهو في اللغة اتصال الشيء بعضه ببعض، ومنه سلسلة الحديد. قال السخاوي: ومن فضيلة التسلسل الاقتداء بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم فعلا ونحوه، والاشتمال على مزيد الضبط من الرواة. (وهو) أي المسلسل، (من صفات الإسناد) أي فقط بخلاف المرفوع ونحوه، فإنه من صفات المتن، وبخلاف الصحيح ونحوه، فإنه من صفاتهما، ثم الأصل أن يقع التسلسل من أول الإسناد إلى أخره كما تقدم. / 120 - ب / (وقد يقع التسلسل في معظم الإسناد) أي أكثره، (كحديث المسلسل بالأولية) أي المنسوب بالأول، وهو الحديث المسلسل بأول حديث سمعه كل واحد منهم من شيخه. (1/659)
وإنما قال: في معظمه (لأن السلسلة تنتهي فيه) أي في إسناده (إلى سفيان بن عيينة،) وفي نسخة: (فقط)، وهو يفيد التوكيد للاستغناء عنه بالانتهاء يعني ثم انقطع فيمن فوقه. (ومن رواه مسلسلا إلى منتهاه) أي الإسناد، وهو الصحابي الراوي هذا الحديث، (فقد وهم)، بكسر الهاء أي غلط. قال السخاوي: ومن المسلسل ما هو ناقص التسلسل، إما في أوله أو وسطه أو آخره، وله أمثلة: كحديث عبد الله بن عمرو بن العاص: " الراحمون يرحمهم الرحمن " المسلسل بأولية وقعت لجل رواته حيث كان أول حديث سمعه كل واحد منهم من شيخه، فإنه إنما يصح التسلسل فيه إلى ابن عيينة خاصة، وانقطع فيمن فوقه على القول المعتمد. انتهى. والحاصل: أن المسلسل من الحديث ما توارد رجال إسناده واحدا فواحدا على حالة واحدة، سواء كانت تلك الصفة للرواة أو للإسناد، وسواء ما وقع فيه الإسناد متعلقا بصيغ الأداء، أو متعلقا بزمن الرواية أو مكانها، وسواء كانت صفة الرواة قولا، أو فعلا، أو قولا وفعلا معا كما سبق، وهذا ما عليه الأكثرون. وقال الحاكم: ومن أنواعها أن تكون ألفاظ الأداء في جميع الرواة دالة على الاتصال، وإن اختلفت بأن قال بعضهم: سمعت، وبعضهم: أخبرنا، وبعضهم: (1/660)
حدثنا. هذا، ومثال التسلسل بالزمان حديث تسلسل " قص الأظافير " بيوم الخميس، ومثال التسلسل بالمكان، الحديث / المسلسل " بإجابة الدعاء في الملتزم "، وقد قال ابن الجزري في الحصن: قد روينا في استجابة الدعاء في الملتزم حديثا مسلسلا من طريق أهل مكة.
(صيغ الأداء)
(وصيغ الأداء) أي أداء الرواية في الإسناد (المشار إليها) أي بقوله سابقا في صيغ الأداء، (على ثمان مراتب) أي أنواع مرتبة لكل منها رتبة. (الأولى): أي المرتبة الأولى: (سمعت وحدثني) أي وأن كان فرقا بينهما كما سيأتي، وفي الترتيب الذكري، إيماء إليه، وكذا الكلام في قوله: (ثم أخبرني، وقرأت عليه، وهي المرتبة الثانية). والحاصل أنه إنما كان (1/661)
سمعت وحدثني في المرتبة الأولى لأن السماع عن الشيخ أعلى المراتب، ثم القراءة على الشيخ دون قراءة الشيخ على خلاف مشهور فيه، ولأن الإخبار يحتمل الإشارة والكتابة، ولعدم حصره في المشافهة. (ثم قرئ عليه وأنا أسمع، وهي الثالثة) لعدم / 121 - أ / المخاطبة ففيه عدم احتمال التثبت والغفلة. (ثم أنبأني، وهي الرابعة) لأنها تحتمل الإجازة لأنها في عرف المتقدمين بمعنى الإخبار، وفي عرف المتأخرين للإجازة. (ثم ناولني، وهي الخامسة) لما سيأتي أنها أرفع أنواع الإجازة لما فيها من التعيين والتشخيص، والإجازة دون السماع. (ثم شافهني أي بالإجازة، وهي السادسة) لأن مطلق الإجازة المتلفظ بها دون المناولة. (ثم كتب إلي، أي بالإجازة وهي السابعة) لأن الإجازة المكتوب بها دون المتلفظ بها. هذا مجمل المراتب، وتفصيلها مع تعليلها أن وجه تقديم سمعت على حدثني، وهو أن الثاني يحتمل الواسطة كما يذكره المصنف، ووجه تقديم حدثني على أخبرني، ما يذكره، أو كون أخبرني مأخوذا من الخبر وهو أعم من (1/662)
الحديث، ووجه تقديمه على قرأت عليه، مع أن كلا منهما لا يحتمل الواسطة، احتمال الغفلة، حتى لم يجعل بعضهم قرأت من وجوه التحمل. هذا، وسيأتي ما يقوي تقديم قرأت على أخبرني في: قرأت عليه، ووجه تقديم " قرأت عليه " على " قُرِئ عليه وأنا أسمع " تأكيد من الغفلة باعتبار الشيخ والراوي، ووجه تقديمه على أنبأني إنما هو بالاصطلاح حيث جعله المتأخرون للإجازة، ووجه تقديمه على ناولني أنه ليس في المناولة تحديث أصلاً، بل هو أن يعطيه الشيخ كتابه ويأذنه بالرواية لأن مطلق الإجازة المتلفظ بها دون المناولة، ووجه تقديمه على الإجازة بالمشافهة أنه أقوى منها، ووجه تقديمها على الإجازة بالكتابة إليه أنه لا مشافهة فيها. (ثم " عن " ونحوُها) بالرفع، (من الصيغ المحتملة للسماع والإجازة ولعدم السماع) أي والمحتملة لعدمه (أيضاً) وهو الإجازة فقط بالمشافهة أو المكاتبة. (وهذا) أي نحوها (مثل: قال، وذكر، وروى) بالصيغ المعلومة وفاعلها فلان، وهذا إذا كان بدون الجار والمجرور، وأما معهما مثل قال لي فلان، فمثل حدثنا في أنه متصل، لكنهم كثيراً ما يستعملونها بها فيما سمعوه حال المذاكرة دون التحديد بخلاف حدثنا. (1/663)
(طرق التحمل والأداء)
(فاللفظان الأوّلان) أشار في الشرح إلى أن المتن وقع فيه الوصف / لموصوف محذوف، وكان الأنسب أن يقول: الأوليَان أي الكلمتان الأوليان، أو الصيغتان (من صيغ الأداء، وهما: " سمعت وحدثني " صالحان) الأولَى ثابتان (لمن سمع وحده من لفظ الشيخ). (وتخصيص التحديث بما سُمِع من لفظ الشيخ) وكذا الإخبار بالقراءة على / 121 - ب / الشيخ، (هو الشائع بين أهل الحديث اصطلاحاً) أي وإن كان لا تساعده اللغة كما قال: (ولا فرق بين التحديث والإخبار من حيث اللغة، وفي ادعاء الفرق بينهما) أي لغةً، (تكلُّفّ شديد) ولعل التكلف هو أن الإخبار مأخوذ من الخِبرةَ، وهو الاختيار، وفي القراءة على الشيخ بمعنى الامتحان موجود، وهو أنه هل يُقَرره أم لا؟ قال ابن الصلاح: الفرق بينهما هو الشائع الغالب على أهل الحديث، والاحتجاج لذلك من حيث اللغة عناء وتكلُّفّ، وخير ما يقال فيه: أي أحسن ما يوجه به: أنه اصطلاح منهم أرادوا به التمييز بين النوعين. (لكن لما تقرر الاصطلاح صار ذلك حقيقة عرفية، فتُقدم على الحقيقة اللغوية). ذكر السخاوي في " شرح الألفية ": أن التمييز بين أخبرنا، وحدثنا استشهد (1/664)
له بعض الأئمة بأنه لو قال: مَن أخبرني بكذا، فهو حر، ولا نية له فأخبره بذلك بعض أرقائه بكتاب، أو رسول أو كلام، عَتَق، بخلاف ما لو قال: مَنْ حدثني بكذا، فإنه لا يعتق إلا إن شافهه، زاد بعضهم: والبشارة مثل الخبر: انتهى. والظاهر أن مبنى الأيمان على عُرف أهل الزمان، ثم إنه يحتمل أن يكون عرفاً خاصاً، وأن يكون عاماً، ثم المحققون فرقوا بين التبشير والإخبار بأن الأول هو الخبر السابق الذي أَثُرهُ يظهر على بشرته، فلو قال لعبيده: من بشرني بكذا، فهو حُر، فالمُخبِر الأول يعتق لا غير، ولو قال: مَن أخبرني، يعتق كل من أخبره منهم. وقال ابن دقيق العيد: " حدثنا " يعني في العرض بعيد من الوضع اللغوي بخلاف أخبرنا، فهو صالح لما حدّث به الشيخ، ولما قرئ عليه فأقرّ به، فلفظ الإخبار أعم من التحديث، فكل تحديث إخبار، ولا ينعكس. وحاصل كلام الشيخ أنّ العُرف مُقَدم على اللغة كما هو مُقَرر، فإذا قال المحدث: " حدّثنا " يُحمل على السماع من الشيخ، وإذا قال: " أخبرنا " يُحمل على سماع الشيخ. (مع أن هذا الاصطلاح) وهو الفرق، (إنما شاع عند المشارقة) أي جُلَّهم (ومن تبعهم) وهو مذهب الأوْزَاعيّ، وابن جُرَيج، والإمام الشافعي، ومسلم، بل قيل: إنه مذهب أكثر المحدثين منهم ابن وَهْبٍ المصري، والنسائي. (وأما غالب المغاربة) أي ومَن تبعهم. (1/665)
(فلم يستعملوا هذا الاصطلاح ، بل الإخبار والتحديثُ عندهم بمعنى واحد) وهو جواز إطلاقهما في القراءة على الشيخ معاً. وقد قيل: إن هذا مذهب الحجازيين، والكوفيين، وقولِ الزُّهري، ومالك، وسُفيان بن عُيينَة، ويحيى بن سعيد / 122 - أ / في آخرين من المتقدمين، وهو مذهب البخاري وجماعة إجلاء من المحدثين. (فإن جمع الراوي) أي ضمير المتكلم في الأولين بقرينة ما تقدم من قوله: فالأولان. (أي أتى بصيغة الجمع / في الصيغة الأولى) أي بصيغة المرتبة الأولى وهي " سمعت وحدثني "، ولو كان بالتوصيف لاختص ب سمعت. وفي بعض النسخ بصيغة الأول، وكأنَّ المراد جنس الأول، فيشمل الأولان جميعاً. (كأنْ) والأظهر بأن (يقول: حدثنا فلان، أو سمعنا فلاناً يقول) أي كذا، (فهو دليل على أنه سمعه منه مع غيره) أعم من أن يكون ذلك الغير واحداً، أو(1/666)
اثنين، مذكراً أو مؤنثاً. (وقد تكون النون) أي في المتكلم (للعظمة) أي للمُعَظم نَفْسَه نحو:: {{إنا فتحنا لك فتحا مبينا}} و: {{إنا أعطيناك الكوثر}} وهو كثير في القرآن (لكن بقلَّة) أي يوجد بوصف قِلة في الإسناد وغيره، إذ أكثر ما يقول المنفرد: حدّثني وأخبرني. (وأولها) أي الحقيقي وهو " سمعت " بخصوصه دون سمعت مع حدثني، ويدل عليه قوله الآتي: " لأن حدثني... " إلخ، فالأظهر تفسير كِلاَ الضميرين بصيغ الأداء، وتفسير الأول بصيغ الأداء، والثاني بالمراتب الثمانية على عكس ما فعله المصنف حيث قال: (أي صيغ المراتب، أصرحها، أي أصرح صيغ الأداء) ؛ لأن أول المراتب هو مجموع " سمعت "، و " حدثني " لا سمعت وحده الذي هو المراد ههنا، ثم إنّ أولها وهو " سمعت " أصرحها (في سماع قائلها لأنها لا تحتمل الواسطة) أي بخلاف حدثني، وما بعده. ومثاله: قول الحسن البصري: حدثنا ابن عباس على متن البصرة، أي ظهرها، فإنه لم يسمع من ابن عباس. (ولأن حدّثني قد يطلق في الإجازة تدليساً) أي وسمعتُ لا يكاد يطلق فيها.(1/667)
في حاشية التلميذ: قال المصنف في تقريره: فهذا يدل عليه ما روى مسلم في قِصة الرجل الذي يقتله الدجال ثم يُحييه، فيقول عند ذلك: " أشهد أنك الرجل الذي حدثنا عنك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ". ومِنَ المعلوم أن هذا الرجل لم يسمع من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وإنما يريد ب: " حدثنا " جماعةَ المسلمين. انتهى. قلت: هذا يدل على جواز الإطلاق لا على الإطلاق تدليساً المستشْهَدِ عليه. تَمَّ كلامُهُ. وإنما نشأ هذا الاعتراض من سوء ظنه بشيخه، وقلة فهمه، وزعمه بنفسه حيث جعل قوله: " فهذا " راجعاً إلى الإطلاق في الإجازة، وإنما هو عائد إلى ما قبله، فإنّ مثل هذا لا يخفى على مَنْ له أدنى مُسْكَة من العقل / 122 - ب / والإلمام، فكيف يخفى على شيخ الإسلام الذي هو خاتمة المحدثين، ومرجع هذا الفن عند الأنام؟ ! وإنما أتى بهذا القول بعد تمام الكلام، وفوض الأمر إلى ذوي الإفهام، إن صح أنه قَرَّرَ ما حُرِّر في هذا المقام، والله سبحانه أعلم بالمرام. والحاصل: أن " حدثني وسمعت " من أول المراتب، وهو السماع من الشيخ كما سبق، وههنا أشار إلى التفاوت بينهما فقال: أولها أصرحها، وقد اختلفَ في أنّ أيَّهما أصرح، فاختار الخطيبُ وتَبِعه المصنف أنَّ أولها " سمعت "، ثم " حدّثني " لِمَا سبق (1/668)
من الأدلة، وقال بعضهم: " حدثني " لدلالته على أن الشيخ رواه إياه بخلاف سمعت، والأول أصح. هذا، ومما يدل على / بطلان كلام التلميذ أن ابن القطان قال: وأنا أعلم أن حدثنا ليس بنص في أن قائلها سمع، ففي مسلم حديث الذي يقتله الدجّال... الخ، قال: ومعلوم أن ذلك الرجل متأخر الميقات، فيكون مراده حديث أمته. هذا، إن لم يكن ذلك الرجل الخَضِر عليه السلام. (وأرفعها) مبتدأ، وقوله: (مقداراً) تمييز أي أعلى صيغ الأداء في كل مرتبة، (ما يقع في الإملاء لما فيه) أي في الإملاء، (من التثبت والتحفظ) يعني أن السماع من لفظ الشيخ إما إملاءً على الطالب وهو يكتب، وإما سرداً، والأول هو الأرفع، وأعلى أقسامه لما فيه من تثبت الشيخ في الإملاء، والطالب في الكتاب فَهُما لذلك أبعدُ من الغفلة، وأقرب إلى التحقيق، وتمييز الألفاظ. مثلاً في المرتبة الأولى إذا قال: حدثني الشيخ إملاء، فهذه أرفع مرتبة من أن يقول: سمعت الشيخ. وبهذا يتبين لك أن الأولى تقديم قوله: وأرفعها على قوله: أَوَّلُها، أو تأخيره عن قوله: كالخامس ؛ لأنه يتعلق بمطلق الصيغ أولاً كان أو غيره، ولَمّا عُلِم حكم الأول والثاني قال: (1/669)
(والثالث) أي من صيغ الأداء، (وهو " أخبرني "). (والرابع وهو " قرأت عليه " لمن قرأ بنفسه على الشيخ، فإن جمع) أي الراوي اللفظين، (كأن يقول: أخبرنا أو قرأنا عليه) وفي نسخة صحيحة: بالواو ولكنها بمعنى أو، (فهو كالخامس، وهو " قرئ عليه وأنا أسمع ") أي منه يعني أن أخبرنا ونحوه يقال فيما قرئ على الشيخ، وهو يسمع. (وعُرِف من هذا) أي مما ذكر من أن " أخبرني وقرأت عليه " لمن قر بنفسه، (أن التعبير ب: قَرَأتُ لمن قرأ خير من التعبير بالإخبار) حيث يفهم من تعبيره بعنوان القراءة أن المقصود من هاتين الصيغتين بيان قراءته، ولا شك أن " قرأت " / 123 - أ / في إفادة ذلك المقصود أصرح، وأظهر من " أخبرني " كما صرح به بقوله: (لأنه أفصح بصورة الحال) فالتعبير بقوله: قرأت على فلان خير، وقوله: لأنه أفصح علة العلة. (1/670)
(تنبيه:) أي هذا تنبيه محتاج إلى تأمل فيما اخْتُلِفَ فيه. (القراءة على الشيخ أحد وجوه التحمل) أي أحد أنواع أخذ العلم (عند الجمهور) أي من المحدثين. (وأُبْعَدَ مَنْ أَبَى ذلك) أي جواز التحمل بالقراءة على الشيخ (من أهل العراق) وهم شِر ذمة قليلة. (وقد اشتد إنكار الإمام مالك وغيره من المدنيين) أي الذين هم معْدن العلم، (عليهم) أي على العراقيين (بذلك) أي بسبب ذلك القول، أو الإباء وفي نسخة: في ذلك (حتى بالغ بعضهم) أي بعض المدنيين، أو بعض العلماء، وهو الأظهر، (فرجحها) أي القراءة على الشيخ، (على السماع من لفظ الشيخ) وهو مذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى على ما ذكره العراقي. (وذهب جمع جمّ) أي كثير، (منهم البخاري - وحكاه) أي البخاري أي ذلك المذهب (في أوائل صحيحة عن جماعة من الأئمة -) فإنه قال في كتاب العلم في الباب السادس: / سمعت أبا عاصم يقول: عن مالك، وسفيان: أن القراءة على العالم وقراءته سواء، فذهب جمع وهو معهم. (إلى أن السماع من لفظ الشيخ والقراءة) بالنصب، (عليه) أي على الشيخ، (يعني في الصحة، والقوة سواء،) (1/671)
تفسير لما بعده وهو قوله: سواء، وكان الأولى أن يقول أولاً: سواء، ثم يقول: أي في الصحة والقوة. (والله سبحانه أعلم). والحاصل: أن القراءة من الطالب على الشيخ، وهو ساكت يسمع - ويسميها أكثر المحدثين من أهل المشرق وخُرَاسان عرضاً لكون القارئ يعرض على المحدث مَرويه، سواء قرأ هو، أو قرأ غيره وهو يسمع، وسواء قرأ مِن كتاب أو حِفظٍ، وسواء حفظ الشيخ أم لا إذا أمسك أصله هو أو ثقةُ من السامعين - أحدُ وجوه التحمل، وروايته صحيحة عند الجمهور بل عند الكل على ما ذكره العراقي قال: والمخالف لا يُعْتد به في نقض الإجماع من السلف كأبي عاصمٍ النبيل، فيما حكاه الرَّامَهُرْمُزِي عنه. ووكيعٌ قال: ما أُحَدثُ حديثا قط عَرْضَاً. (وعن محمد بن سَلاَم: أنه أدرك الإمام مالك بن أنس والناس يقرؤون عليه، فلم يسمع منه لذلك، وكذلك عبد الرحمن بن سَلاَم الجُمَحِي لم يكتف بذلك فقال مالك: أخرجوه عني، وكان مالك يأبى هذه المقالة أشد الإباء، ويقول: كيف لا يجري العرض في الحديث، ويجري في القرآن وهو أعظم، واستدل جماعة منهم أبو سعيد الحَدَّاد فيما / 123 - ب / حكاه البخاري وأقره للمُعْتَمِد بقصة ضَمام، وأن قوله للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم: آللهُ أَمَرَك بهذا؟ وقال (1/672)
له: نعم، قراءة على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، ثم أخبر قومه فأجازوه أي قبلوه. هذا، ووجه التسوية أن لكل منهما جهة أرجحية ومرجوحية، فتعادلا، أما العَرْض، فلتمكن المحدث بإنصاته وإقباله من الرد، وعدم تمكن الطالب منه إما لهيبته، أو طنه خطأ ما عنده، أو صحتهما معاً، ولهذا قال ابن فارس: السامع أربط جأشاً، وأوعى قلباً، وَتَوزُّعُ الفكر إلى القارئ أسرع، وأما اللفظ فلعدم تقليد غيره، ومزيد إقباله الذي لا يتهيأ له التشاغل عنه إلا بقطع ما هو فيه، ثم الآن العمل على الأول، وعليه المعوّل، فإنه بالتحقيق أكمل. (والإنباء من حيث اللغة) أي مطلقاً، (واصطلاح المتقدمين)، أي من المحدثين، (بمعنى الإخبار إلا في عرف المتأخرين فهو) أي الإنباء (للإجازة ك: عن ؛ لأنها)، أي عن (في عرف المتأخرين للإجازة). قال تلميذه: المقام مقام الإضمار لتقدم ذكرهم، وهو أخصر. قلت: عَدَل عن الإضمار إلى الإظهار دفعاً لوهم العود إلى المتقدمين. قال المصنف والطبقة المتوسطة بين المتقدمين والمتأخرين لا يذكرون الإنباء إلا مقيداً بالإجازة، فلما كثر واشتهر استغنى المتأخرون عن ذِكره التلميذ.(1/673)
(المعنعن)
(وعنعنة المعاصر) سواء ثبت اللُّقي بينهما أم لا، عند الجمهور والبخاري يشترط اللقي كما سيأتي، (محمولة على / السماع، بخلاف غير المعاصر فإنها) أي عنعنته، (تكون مُرْسَلة) أي إن كان تابعياً، (أو منقطعة) إن كان من بعده (فشرط حملها على السماع ثبوت المعاصرة). قال تلميذه: هذه زيادة مستغنى عنها، وإنما ذكرت لأجل الاستثناء الذي في المتن مع تقدم قوله: بخلاف غير المعاصر، فلو أُخِّرِ كان أولى يعني لاتصاله بقوله: (إلا من المُدَلِّس فإنها) أي العنعنة منه ولو كان معاصراً، (ليست محمولة على السماع)، أي لاتهامه بالتدليس في روايته إلا إذا صرح بالتحديث والسماع كما سبق. (وقيل: يشترط في حمل عنعنة المعاصر على السماع، ثبوت لقائهما أي الشيخ والراوي عنه، ولو مرة واحدة)، تأكيد، تقدم في كلام المصنف: أن الراوي إذا ثبت له اللُّقيّ ولو مرة لا يجري في رواياته احتمال أنْ لا يكون قد سمع، لأنه يلزم من جريانه أن يكون مُدّلساً، والمسألة مفروضة في غير المُدلِّس ولذا قال: (1/674)
(ليحصل الأمن) أي بسبب اللُّقي مرة المحمول على السماع بحسب حسن الظن بالمسلم، (في باقي مُعَنْعَنهِ عن كونه من المُرسَل الخفي) / 124 - أ / فإن التدليس مختص بمن روى عمن عُرف لقاؤه إياه، فأما إن عاصره ولم يعرف أنه لَقِيهُ، فهو المُرٍ سل الخفي كما سبق، قال تلميذه: تقدم ما فيه فراجعه (وهو)، أي هذا القيل أو الاشتراط هو (المختار) أي عند جماعة أو عنده (تبعاً لعلي بن المديني والبخاري وغيرهما من النقاد) بضم النون، وتشديد القاف أي حُذاق المحدثين ومحققيهم. اعلم أن العنعنة مصدر مصنوع كالبسملة، والحمدلة، من عَنْعَنْتُ الحديث إذا رويته بلفظِ عن، من غير بيان التحديث والإخبار والسماع، واختلفوا في حكم الإسناد المعنعن، فالصحيح الذي عليه العمل، وذهب إليه الجماهير من أئمة الحديث: أنه من قبيل الإسناد المتصل، ومحمول على السماع بشرط سلامة الراوي الذي رواه بالعنعنة من التدليس، ويشترط ثبوت الملاقاة لما رواه عنه بالعنعنة. قال ابن الصلاح: كاد ابن عبد البر يدعي إجماع أئمة الحديث على ذلك. قال العراقي: وما ذكرنا من اشتراط ثبوت اللقاء هو مذهب أبي علي المديني، (1/675)
والبخاري، وغيرهما من أئمة الحديث. وأنكر مسلم في خطبة صحيحة اشتراط ذلك، وإن القول الشائع المتفق عليه بين أهل العلم بالأخبار قديماً وحديثاً أنه يكفي في ذلك أن يثبت كونهما في عصر واحد، ولم يأت في خبر واحد أنهما اجتمعا أو تشافها. واختار المصنف ما قاله مسلم، ولذا عبَّر عن اشتراط ثبوت اللقاء ب: قيل، ويمكن أنه اختار قول البخاري ولذا أطلق قوله: وهو المختار، وإنما عبّر عنه ب: قيل أولاً إشارة إلى أنه قول شِرذَمَة قليلة في مقابلة قول الجمهور، وهو لا ينافي كونه مختاراً عنده وعند غيره، وقد قال ابن الصلاح: وفيما قاله مسلم نظر. قال: وهذا الحكم لا أراه يستمر بعد المتقدمين فيما وجد من المصنفين، واشتراط / أبو مظفر السَّمْعَاني طول الصحبة مع اللقاء، وأبو عمرو الدَّاني أن يكون معروف الرواية عنه، وذهب بعضهم إلى أن الإسناد المعنعن من قبيل المنقطع والمرسل، حتى يتبين اتصاله، والله سبحانه أعلم. (1/676)
(أحكام طرق التَّحَمُّل والأداء)
(المُشافَهَة والمُكَاتَبَة)
(وأطلقوا) أي المحدثون، (المشافهة في الإجازة المُتَلفّظِ بها)، أي استعملوا " شافهني " بالإجازة، الموضوع ل: أجزتُ لك، في أجزت لفلان، من طريق الاستعارة حيث استعمل ما وُضِع لإجازة الحاضر في إجازة الغائب بعلاقة الإذن، وهذا / 124 - ب / معنى قوله في الشرح: (تَجوُّزاً). (و) أي وأطلقوا، (كذا)، أي المشافهة تجوزاً، (المكاتبة في الإجازة المكتوب بها). اعلم أن الإجازة مصدر أجاز، ولها معان ينطبق الاصطلاح منها على الإباحة، وحقيقتها الإذن في الرواية لفظاً أو كتابة، تفيد الإخبار الإجمالى عرفاً، ولهذا كانت متأخرة عن التي قبلها إذ الإخبار فيها تفصيلي. وأركان الإجازة كما صرح به مع حقيقتها الكمال الشُّمُني - أحد أئمة الحديث - أربعةٌ: المجيز، والمجاز له والمجاز به، ولفظ الإجازة، ولا يشترط القبول فيها كما قاله البُلقيني. وقال أبو الحسن بن فارس: الإجازة مأخوذة من جواز الماء الذي(1/677)
يُسْقَاه المال من الماشية والحَرث، يقال منه: استجزت فلاناً فأجازني إذا سقاك ماءً لماشيتك، أو أرضك، فكذا طالب العلم يستجيز العالم عِلْمَهُ، فيجيزه له إياه، فعلى هذا يجوز أن يعدّى بغير حرف جر، ولا ذكر رواية فيقول: أجزت فلاناً مسموعاتي. وقيل: الإجازة إذن فَعَلى هذا يقول له: أجزت له رواية مسموعاتي، وإذا قال له: أجزت له مسموعاتي، فهو على حَذف المضاف. انتهى. واستعملوا في الأول شافهني فلان، وأنا مشافِهُهُ مجازاً، لأن المشافهة في اللغة المخاطبة من فيك إلى فيهِ لا التلفظ بالإجازة فقط، وفي الثاني كتب لي أو إلي فلان: أخبرنا كتابةً في كتابه مجازاً، لأن الكتابة عام يتناول الإجازة وغيرها. (وهو)، أي المكاتبة (موجود في عبارة كثير من المتأخرين) أي سواء كتب الشيخ إلى الطالب حديثاً أم لا. (بخلاف المتقدمين فإنهم إنما يطلقونها)، أي المكاتبة، (فيما كتبه الشيخ من الحديث إلى الطالب، سواء أَذِنَ) أي الشيخ (له)، أي للطالب (في روايته)، يحتمل إضافته إلى الفاعل والمفعول، (أم لا)، يعني سواء انضم إليه الإجازة أم لا. (لا)، أي لا يُطلق المتقدمون المكاتبة (فيما إذا كتب إليه بالإجازة فقط)، وصورة انضمام الإجازة أن يكتب الشيخ شيئاً من حديثه بخطه، أو يأمر غيره، فيكتب عنه بإذنه، سواء كَتَبَ أو كُتِبَ عنه إلى غائب، أو حاضر عنده ويقول: أجزت لك ما كتبته لك، ونحو ذلك وهي شبيهة بالمناولة المقترنة بالإجازة في الصحة والقوة. (1/678)
(المُناولة)
(واشترطوا في صحة الرواية) أي بطريق الأرفعية به (بالمناوَلَة) لا يخفى أن المتن في صحة المناولة وأن الباء من الشرح متعلقة بالرواية، (اقترانها)، مفعول اشترطوا، أي اقتران المناولة (بالإذن بالرواية)، متعلق بالإذن. (وهي)، أي المناولة، (إذا / حصل هذا الشرط)، أي الاقتران، (أرفع أنواع الإجازة لما فيها)، أي في المناولة، (من التعيين)، أي تعيين المجاز (والتشخيص)، أي باستحضاره / 125 - أ / المُشَخص. (وصورتها)، أي المناولة، (أن يدفع الشيخ أصله أو ما قام مقامه)، أي المنقول من أصله وهو الفرع المُقَابَل بأَصله المقابلة المعتبرة. (للطالب)، متعلق ب: يدفع. (أو يحضر الطالب أصل الشيخ)، من الإحضار، أي يأتي به فيعرضه عليه، وسماه غير واحد من الأئمة عرضاً. قال النووي: وهذا عرض المناولة، وما تقدم عرض القراءة ليتميز أحدهما عن الآخر، فإذا، عرض الطالب الكتاب على الشيخ تأمله الشيخ، وهو عارف متيقظ ليعلم صحته، وعدم الزيادة فيه، أو (1/679)
النقص منه أو يترك تحت يده فيمرّ عليه بالمقابلة ونحوها، إن لم يكن عارفاً متيقظاً، وكل ذلك كما صرح به الخطيب على سبيل الوجوب. (ويقول)، أي الشيخ (له) أي الطالب (في الصورتين) أي صورتي الدفع والإحضار: (هذه)، أي هذا الكتاب، وأنث لتأنيث الخبر وهو قوله: (روايتي عن فلان)، أو سماعي عن فلان، فاروه عني، أو أجزت لك روايته عني. (وشرطه) بصيغة المصدر مرفوع على الابتدائية، والضمير إلى الأرفع، وفي نسخة: شُرِط بصيغة المجهول، (أيضاً)، أي مع ما تقدم، (أن يمكنه)، بتشديد الكاف أي يجعله متمكناً (منه)، أي من الأصل. والمعنى كما يشترط اقترانها بالإذن بالرواية يشترط أن يمكن الشيخُ الطالب من أصله، أو فرعه القائم مقامه، بأن يقدر على الانتفاع به. (إما بالتمليك)، وهو أعلى، وفي معناه الوَقف عليه، أو على العام والنظر له، (أو بالعارية لينقل منه)، أي ينسخه منه بنفسه، أو بغيره، (ويقابل عليه)، أي مقابلة مُصححة، (وإلا)، أي وإن لم يمكنه منه بأحدهما (بأن ناوله) وأجاز له روايته (واسترده في الحال)، فقوله: أن ناوله بدلٌ من إلا، وكان الظاهر أن يقول: كما أشرنا إليه، أو يقول: فإن ناوله واسترده في الحال، (فلا تتبين) أَرْفَعِيَّته لعدم احتواء (1/680)
الطالب عليه وغيبته عنه إلا أنها صحيحة. وتجوز للطالب روايته إذا وَجَدَ ذلك الأصل، أو مُقَابَلاً به، وغلب على ظنه سلامته من تغيير. هذا، وفي نسخة: وأما إن ناوله... الخ وهو ظاهر، وإن شرطية وأما ترديد شارح بقوله: الظاهر أنَّ إنْ شرطية، فالصواب " إن " بالفاء، وأيضاً يلزم الاستدراك، وإن قرئ بالفتح - على أنها مصدرية أي بأن ناوله لم يَتَوجه ما ذكر إلا أنه غير ظاهر، والأولى بدون الفاء - فغير ظاهر، والظاهر من كلامه أنه ضبط و " إما " بكسر الهمزة فوقع فيما وقع. والله سبحانه أعلم. / 125 - ب / لكن (لها) أي لهذه الصورة من صور المناولة (زيادة مَزِنّة)، بفتح الميم، وكسر الزاي، وتشديد التحتية أي مرتبة من الرجحان (على الإجازة المُعَينة)، أي عند أهل الحديث قديماً وحديثاً خلافاً لجماعة من المحققين من الفقهاء، والأصوليين، فإنهم قالوا: لا فائدة في هذه المناولة ولا تأثير لها. (وهي)، أي الإجازة المعينة (أن يجيزه / الشيخ برواية كتاب معين)، أي من التصانيف المشهورة، أو بالأحاديث المعروفة المعينة المسطورة، وقال ابن كثير: إنها في الكتاب الشهير كأن يقول: أجزت لك رواية البخاري عني. (ويُعَيِّن) أي الشيخ (له) أي للطالب (كيفية روايته) أي الشيخ (له) أي للكتاب بأن يبين له أن رِوَايتي هذا الكتاب عن العسقلاني مثلاً إجازةً، أو سماعاً، أو قراءة. قال شارح: وأما ما في نسخة: فلا يتبين لها زيادة مزية على الإجازة (1/681)
المعينة... الخ، فمبينة على ما لابن الصلاح وسَبَقه القاضي عياض، وهو أنه لا يكاد يظهر في هذه المناولة حصول مزية على الإجازة المجردة الواقعة في كتاب معين. وإذا خلت المناولة) أي تجردت (عن الإذن) أي بأن يناوله الكتاب ويقول: هذا من حديثي، أو من سماعي، ولا يقول له: أروِ عني، أو أجزت لك روايته عني ونحو ذلك (لم يُعْتَبَرْ) أي لا تجوز الرواية (بها عند الجمهور) أي من الفقهاء، والأصوليين. وطائفة من أهل العلم صححوها وأجازوا الرواية بها، قال ابن الصلاح هذه إجازة مُخْتَلِّة لا تجوز الرواية بها، قال: وعابها غير واحد من الفقهاء والأصوليين على المحدثين الذين أجازوها وسوّغوا الرواية بها. (وجنَحَ) بفتح جيم، ونون مخففة، وحاء مهملة، أي مال، وفي نسخة: واحتج أي استدل (مَنْ اعتبرها) أي المناولة المجردة، (إلى) متعلق ب: جَنَحَ على الأصح، ومتعلق بمقدر على نسخة: احتج أي استدل في اعتباره إياها حال كونه منتهياً ومائلاً إلى (أنّ مناولته إياه) أي مناولة الشيخ الطالب (تقوم مقام إرساله) أي تُنَزَّل منزلة إرساله (إليه بالكتاب) أي كالبخاري أو أصلٍ من الأصول، أو حديث من الأحاديث (من بلد إلى بلد) متعلق ب: إرساله. (1/682)
وفي حاشية التلميذ: قال المصنف: أي ما كتبه الشيخ وأرسله إلى الطالب، والمراد بالكتاب الشيء المكتوب وهو المعبر عنه بالكتاب أي كما سيأتي. (وقد ذهب إلى صحة الرواية بالكتابة المجَّردة) بأن يكتب إليه ولا يقول: / 126 - أ / أجزت لك ما كتبته لك، أو نحو ذلك، (جماعة من الأئمة) بل كثير من المتقدمين والمتأخرين منهم: أيوب السِّختياني، ومنصور، والليث بن سعد، وغيرهم وهو والصحيح المشهور بين أهل الحديث. (ولو لم يقترن ذلك بالإذن بالرواية)، لو وصلية فلا يحتاج إلى الجواب، (كأنهم)، أي الجماعة (اكتفوا في ذلك بالقرينة)، وهي أنه لا فائدة في إرسال الكتاب سوى الإذن بالرواية، وكما صحت الرواية بالكتابة المجردة صح بهذا قال الشيخ: (ولم يظهر لي فرق قوي) أي عَيِّن بَيِّن (بين مناولة الشيخ الكتاب من يده للطالب، وبين إرساله إليه بالكتاب من موضع إلى موضع آخر إذا خلا كل منهما عن الإذن) أي لم يتبين لي صحة الرواية في أحدهما دون الآخر (1/683)
لأن الظاهر أن فائدة الإرسال والمناولة هو الإذن بالرواية، لا مجرد إعطاء الكتاب، لكن قد يقال: في كتابة الشيخ وإرساله إلى الطالب قرينة قوية على الإذن، بخلاف مناولته الكتاب وهو في بلده. والله سبحانه أعلم.
(الوجَادَة)
(وكذا اشترطوا الإذن) بالرواية وهو الإجازة (في الوِجادة) هي مصدر مولد ل: وجد يجد غير مسموع من العرب العرباء نشأ من المولدين في تفريقهم بين مصادر وجد، للتمييز بين المعاني المختلفة ك: وجد الضالة وجدانا، ومطلوبه وجودا، فولدوا هذا المصدر الخاص لهذا المعنى المصطلح. (وهي أن يجد) أي الطلب (بخط) أي لأحد من المشايخ أحاديث يرويها، أو كتابا صنفه، (يعرف كاتبه) بصيغة المعروف أو المجهول، أي بغلبة الظن من غير اشتراط البينة، ومن غير أن يرويه الواجد عن ذي الخط، لا بالسماع ولا بالإجازة، ولا بنحو ذلك، بل قد لا يكون الواجد أدركه أصلا. (فيقول: وجدت بخط فلان) أي من المحدثين، أو قرأت بخط فلان، أو في كتاب فلان بخطه: حدثنا فلان... ويسوق باقي الإسناد والمتن، أو يقول: قرأت أو وجدت بخط فلان عن فلان ويذكر الباقين، وهذا الذي عليه العمل قديماً (1/684)
وحديثا، وهو من باب المنقطع، أو المرسل لكن فيه شَوْب الاتصال للارتباط المفيد ثبوتَ النسبة في الجملة، وإن لم يكن كافياً لمن شرط الاتصال على وجه الكمال كالصحيحين، ونحوهما. وربما دلّس بعضهم، فذكر الذي وَجَدَ خَطَّهُ وقال فيه: عن فلان أو: قال فلان، وذلك تدليس قبيح إن أوهم سماعه عنه، وأبطله قوم، فلم يجُوزُوا الاعتماد على الخط، واشترطوا البينة على الكاتب برؤيته / 126 - ب / وهو يكتب ذلك، أو بالشهادة عليه أنه خطه، أو بمعرفته للاشتباه في الخطوط بحيث لا يتميز أحد الكاتبين عن الآخر. قال ابن الصلاح: إنه غير مرض لنُدرة اللبسٍ. انتهى. ولكون باب الرواية أوسع من الشهادة. (و لا يسوغ) أي لا يجوز (فيه) أي في الوجادة، أو في هذا النوع، (إطلاق " أخبرني " بمجرد ذلك) أي ما ذكر من الوجادة، (إلاّ إذا كان له) أي للواجِد (منه)، أي من ذي الخط (إذن بالرواية عنه). (وأطلق قوم ذلك) أي أخبرني ونحوه، (فغلّطوا)، بتشديد اللام أي نُسِبوا إلى الغلط. قال ابن الصلاح: وجازف بعضهم فأطلق فيه حدثنا، وأخبرنا فأُنكر ذلك على فاعله. (1/685)
(الوَصِية بالكتا)
(وكذا الوصية بالكتاب) أي كما اشترطوا الأذن في الوِجادة اشترطوا في الوصية بالكتاب، وكان الأولى أن يقول: في الوصية، مراعاة للسابق واللاحق. (وهي) أي الوصية (أن يوصي) بالتخفيف، أو التشديد، (عند موته أو سفره)، إلحاقاً له بالموت، (لشخص معين بأصله أو بأصوله) أي من كتب الحديث. (فقد قال قوم من الأئمة المتقدمين: يجوز له أن يروي تلك الأصول عنه بمجرد هذه الوصية) لأن في دفعه له نوعاً من الإذن، وشَبَهاً من العرض والمناولة ورد عليهم الخطيب بل نقله عن كافة العلماء، وذلك أنه لا فرق بالوصية بها وإتباعها بعد موته في عدم جواز الرواية إلا على سبيل الوجادة. قال: وعلى ذلك أدركنا كافة أهل العلم، وتَعَقب المصنف - تبعاً لابن الأثير - حَمْلَ الرواية بالوصية على الوِجادة وقال: هو غلط ظاهر إذ الرواية بالوجادة لم يُختلف في بطلانها، بخلاف الوصية فهي على هذا أرفع رتبة من الوجادة بلا خلاف، واستشكله السخاوي بأنه قد عملَ بالوجادة جماعة من المتقدمين. (1/686)
(وأبى ذلك) أي ما ذُكر من الوصية المجردة، (الجمهور إلا إن كان له منه إجازة) لأنها / ليست بتحديث لا إجمالاً ولا تفصيلاً، ولا تتضمن إعلاماً لا صريحاً ولا كناية.
(الإعْلام)
(وكذا اشترطوا الإذن) أي الإجازة (بالرواية في الإعلام) بكسر الهمزة بمعنى الإخبار، (وهو أن يُعلم الشيخ أحدَ الطلبة) أي مثلاً، (بأنني أروي الكتاب الفلاني) كالبخاري، (عن فلان) كالعسقلاني مقتصراً على ذلك. (فإن كان له) أي الطالب، (منه) أي من الشيخ (إجازة) أي نوعاً من الإجازات (اعتُبِرَ) أي ذلك الإعلام. (وإلا) أي وإن لم تكن له إجازة منه، (فلا عبرة / 127 - أ / بذلك) أي بذلك الإعلام. اعلم أنهم اختلفوا في جواز الرواية بمجرد الإعلام فجوز الرواية به كثير من المحدثين والفقهاء، والأصوليين، منهم: ابن جُريج، وابن الصباغ، والصحيح أنه لا تجوز الرواية بمجرد الإعلام، وبه قطع الشافعية واختاره المحققون لأنه قد يكون سمعه ولا يأذن له في الرواية لخلل يعرفه. (1/687)
(الإجازة العَامة)
(كالإجازة العامة) أي كعدم اعتبار الإجازة العامة. وقيده شارح بقوله: على الأصح، وفيه بحث. (في المجاز له) أي الذي أجيز له وهو التلميذ، (لا في المجاز به) وهو الحديث، أي عدم الاعتبار في الإعلام والإجازة العامة خاصٌ في المجاز له، أما المجاز به فلا شك في اعتباره وجوازه سواء كان عامة أو خاصة، فإن نَفي النفي يفيد الإثبات. وغفل عن ذلك شارح فقال: لا في المُجاز به فإنه لا غبرة له في غير الأصح، مثل أن يقول: أجرت جميع مسموعاتي، أو رواية هذا الكتاب لفلان، وأما مثال المجاز له بطريق العموم سواء يكون المجاز به خاصاً أو عاماً ما بينه المصنف بقوله: (كأن يقول: أجزت لجميع المسلمين، أو لمن أدرك حياتي، أو لأهل الإقليم) بكسرتين (الفلاني) كأهل خُرَاسَان، (أو لأهل البلدة الفلانية) كبخارى، (وهو) أي الأخير أعني لأهل البلدة الفلانية، (أقرب إلى الصحة لقرب الانحصار). (1/688)
فإن قُرِن بوصف خاصٍ كالمسلمين، أو العلماء من أهل الثغر الإسكندراني قال ابن الصلاح: ومثله القاضي عياض بقوله: أجزت لمن هو الآن من طلبة العلم ببلد كذا، أو لمن قرأ عليّ قبل هذا، وقال: فما أحسبهم اختلفوا في جوازه ممن تصح عنده الإجازة، ولا رأيت مَنْعَهُ لأحد لأنه موصوف محصور كقوله: لأولاد فلان، أو إخوة فلان، كذا ذكره العراقي.
(الإجازة للمجهول)
(وكذا الإجازة) أي لا تُعْتَبرُ (للمجهول) أو بالمجهول فالأول كقوله: أجزت لجماعة من الناس مسموعاتي، والثاني كقوله: أجزت لك بعض مسموعاتي (كأن يكون) أي المُجاز له أو المجاز به (مُبْهَمَاً، أو مُهْمَلاً) قال التلميذ: تقدم أن المبهم مَنْ لم يُسمَّ، والمهمل مَنْ سُمَّي ولم يتميز. انتهى. قال العراقي: ومِن أمثلة هذا النوع أن يُسمي شخصاً وقد تسمَّى به غير واحد في ذلك الوقت ك: أجزتُ لمحمد بن خالد الدمشقي مثلاً، أو يُسمِّي كتباً كنحو أجزت لك أن تروي عني كتاب السنن، وهو يروي عدةً من السنن المعروفة بذلك، ولم يتضح، مراده في المسألتين، فإن هذه الإجازة غير صحيحة. أما إذا اتضح مراده في / 127 - ب / قرينة بأن قيل له: أجزتَ لمحمد بن خالد بن علي بن محمود الدمشقي مثلاً بحيث لا يلتبس، فقال: (1/689)
أجزت لمحمد بن خالد / الدمشقي، أو قيل: له أجزت لي رواية كتاب السنن لأبي داود مثلا فقال: أجزت لك رواية السنن، فالظاهر صحة هذا الإجازة، وأن الجواب خرج على المسؤول عنه.
(الإجازة للمعدوم)
(وكذا الإجازة) أي لا تعتبر (للمعدوم، كأن يقول: أجزت لمن سيولد لفلان). قال ابن الصلاح: وهو الصحيح الذي لا ينبغي غيره، لأن الإجازة في حكم الإخبار، فكما لا يصح الإخبار للمعدوم لا تصح الإجازة. (وقد قيل:) والقائل أبو بكر بن أبي داود السجستاني، وأبو عبد الله بن منده. (إن عطفه على موجود صح، كأن يقول: أجزت لك ولمن سيولد لك) وكقوله: أجزت لفلان ولولده ولعقبه ما تناسلوا. قال النووي وغيره: الأقرب الجواز، وقد شبه بالوقف على المعدوم أيضاً، إذ قد يفتقر تبعا ما لا يفتقر استقلالا، وقال المصنف: (والأقرب عدم الصحة أيضاً) ولعل وجهه ما ذكره ابن الصلاح من أن الإجازة في حكم الإخبار، سواء عطف على موجود أم لا. (وكذا) أي لا تعتبر (الإجازة لموجود أو معدوم علقت) من التعليق أي (1/690)
علقت تلك الإجازة (بشرط مشيئة الغير) بالهمزة، والإدغام أي بإرادته (كأن يقول: أجرت لك إن شاء فلان، أو أجرت لمن شاء فلان) الظاهر أجرت لمن سيولد إن شاء فلان، ليكون مثالا لمعدوم علقت إجازته بمشيئة الغير. وأما الذي ذكره الشيخ فالظاهر أنه مثال للمبهم الذي هو الأعم لا للمعدوم ! فتأمل. وكذا إن علقت بمشيئة المجاز له مبهما، كقوله: من شاء أن أجيز له، فقد أجزت له، أو أجزت لمن شاء، فهو كتعليقها بمشيئة الغير. قال ابن الصلاح: بل هذا أكثر جهالة وانتشارا من حيث إنها معلقة بمشيئة من لا يحصر عددهم، وأما إن علقت بمشيئة المجاز له معينا، فهي صحيحة لانتفاء الجهالة والانتشار وإلى هذا أشار المصنف بقوله: (إلا أن يقول: أجزت لك) وفي نسخة صحيحة: لا أن يقول، ومؤداهما واحد. (إن شئت) أي على القول المعتمد كما ذكره العراقي، وإن علقت الرواية لا الإجازة، كقوله: أجزت لمن شاء الرواية عني، قال ابن الصلاح، هذا أولى بالجواز من حيث إن مقتضى كل إجازة تفويض الرواية بها إلى مشيئة المجاز له، فكان هذا مع كونه بصيغة التعليق تصريحا بما يقتضيه الإطلاق، وحكاية للحال لا تعليقا في الحقيقة. (وهذا)، أي ما ذكر من عدم / 128 - أ / اعتبار الإجازات المذكورة مبني (على الأصح في جميع ذلك). (1/691)
(وقد جوز الرواية بجميع ذلك - سوى المجهول ما لم يتبين المراد منه -) أي من المجهول. (الخطيب) فاعل جوز ومرجع ضمير قوله: (وحكاه عن جماعة من مشايخه) قال المصنف: (واستعمل الإجازة للمعدوم من القدماء أبو بكر بن أبي داود، وأبو عبد الله بن منده) بفتح الميم وسكون نون، وحكاه القاضي عياض عن معظم الشيوخ المتأخرين لأنها إذن في الرواية لا محالة، حتى لا يصح للمعدوم. (واستعمل المعلقة) أي بمشيئة الغير (منهم) أي من القدماء / (أيضا أبو بكر بن أبي خيثمة) بفتح معجمة، وسكون تحتية، وفتح مثلثة. (وروى بالإجازة العامة جمع كثير جمعهم بعض الحفاظ في كتاب) أي تصنيف على حدة (ورتبهم على حروف المعجم) أي على ترتيب حروف التهجي، بأن قال مثلا: باب الألف: أحمد بن حنبل. (لكثرتهم) متعلق ب: جمعهم ورتبهم، على طريق التنازع. (1/692)
(وكل ذلك) مبتدأ، أي وجميع، ذكر من التجويزات (كما قال ابن الصلاح) الأولى تأخيره عن قوله: (توسع غير مرضي) فإنه خبر، والقول لا يكون إلا جملة، فبعد تحققه يصح التشبيه، ثم يعلل بقوله: (لأن الإجازة الخاصة المعينة) أي بلا قراءة شيء على المجيز. (مختلف في صحتها اختلافا قويا عند القدماء، وإن كان العمل استقر على اعتبارها) أي الإجازة الخاصة. (عند المتأخرين) ترغيبا في تحصيل الرواية، وحفظا لسلسلة الإسناد الذي عليه مدار الرواية. (فهي بدون السماع بالاتفاق) لأن المقصود الحقيقي، والطريق اليقيني، والإجازة بأنواعها إنما هي وسيلة إليه، ومرتبة وطية لديه. (فكيف إذا حصل فيها) أي في الإجازة (الاسترسال المذكور) أي التوسع المسطور من الوصية، والوجادة، والإعدام، والإجازة. (فإنها تزداد ضعفا) أي على ضعف (لكنها) أي الإجازة الخاصة، أو مطلقا لقوله: (في الجملة) لكونه في الحكم منقطعا أو مرسلا، أو متصلا. (خير من (1/693)
إيراد الحديث معضلا) وهو حذف الرواة متواصلا. (والله سبحانه أعلم) قال شارح: وفي نقل الاتفاق نظر، فإن بقي بن مخلد، وتبعه ابنه وحفيده ابن عبد الرحمن فيما حكاه ابن عات عنهم، قالوا: هما سواء. ونحوه قول أبي طلحة منصور بن محمد المروزي الفقيه: سألت أبا بكر بن خُزيمة الإجازة لِمَا بقي عليّ من تصانيفه فأجازها لي وقال / 128 - ب /: الإجازة، والمناولة عندي سماع على الصحيح. كذا ذكره السخاوي في " شرح الألفية ". انتهى. عندي أن قوله: سماع، من التشبيه البليغ، وهو حذف الآلة أي كالسماع، وإلا فلا شك أنها دون السماع باتفاق أرباب العقول، وأصحاب النقول. والله أعلم. (وإلى) أي من أول المبحث إلى (هنا انتهى الكلام في أقسام صيغ الأداء).
(المتفق والمفترف)
(ثم الرواة إن اتفقت أسماؤهم، وأسماء آبائهم) كمحمد بن محمد بن محمد الغزالي، وكذا الجزري (فصاعدا)، أي فزائدا باتفاق أسماء أجدادهم أيضاً (واختلفت أشخاصهم) قال بعض من ادعى الفضل في هذه الصناعة: قوله: واختلفت أشخاصهم حشو زائد لا فائدة فيه، لأن أشخاصهم لا (1/694)
تكون إلا مختلفة، فحذفه أولى. قلت: هذا التعليل لا معنى له، والصواب أن يقال: لأن لفظ الرواة إن اتفقت أسماؤهم يعني عنه، ويمكن أن يقال في جوابه: إن هذا بيان الواقع، وكثيراً ما يقع ذلك للبلغاء كذا ذكره التلميذ، وفيه أن تعليل المعترض هو عين الصواب، وقوله: حذفه أولى يدفع الجواب، والبلاغة إنما هي مطابقة المقام للإيجاز والإطناب. والتحقيق أن الإيراد / ممنوع كما أن الدفع مدفوع، فإن المراد بالرواة جنس راوي الحديث، وهو من حيث هو يحتمل اتحاد الشخصية واختلافها، كما أشرنا إليه في المثال، وتوضيحه أن الراوي اتفق اسمه واسم أبيه إذا تكرر في إسنادين، فتارةً تتحد ذاته بأن يكون هو عين الأول، وتارة تختلف بأن يراد بالثاني غير الأول، فإذا اتحدت فلا إشكال، وإذا اختلفت فهو من هذا النوع. نعم، اختلاف الشخص باعتبار التكرار في إسناد واحد غير متصور، من هنا وقع المعترض ومجيبه فيما وقعا، والله سبحانه أعلم. (سواء اتفق في ذلك اثنان منهم أو أكثر) قيل: فالمراد بالجمع ما فوق الواحد في قوله: ثم الرواة، وأنت قد علمت أن المراد به الجنس، وهو شامل للجمع وغيره. فمثال ما اتفق أسماؤهم وأسماءُ آبائهم: الخليل بن أحمد ستة رجال: الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم النحوي، صاحب العروض البصري، روى عن عاصم الأحول. والثاني: الخليل بن أحمد أبو بشر المزني. (1/695)
والثالث: الخليل بن أحمد البصري أيضاً روى عن عكرمة. والرابع: الخليل بن أحمد أبو سعيد السجزي، الفقيه الحنفي قاضي سمرقند. والخامس: الخليل بن أحمد أبو سعيد البستي، القاضي المهلبي. والسادس: الخليل بن أحمد بن عبد الله بن أحمد الشافعي. ومثال ما اتفق أسماؤهم وأسماء آبائهم وأجدادهم: محمد بن يعقوب بن / 129 - أ / يوسف النيسابوري، اثنان في عصر واحد روى عنهما الحاكم أحدهما: أبو العباس الأصم، والثاني: أبو عبد الله بن الأخرم الحافظ الشهير. (وكذلك) أي الحكم (إذا اتفق اثنان فصاعداً في الكنية) كما تقدم في ضمن الأمثلة السابقة من اتفاق أبي سعيد (والنسبة) كما تقدم في ضمنها من اتفاق البصري للخليلين، ومثال الجميع بينهما أبو عمران الجَوْني بفتح الجيم، وسكون الواو، ثم نون. أحدهما: عبد الملك بن حبيب التابعي، والثاني: موسى بن سهل البصري. ومن أقسامه أيضاً من اتفق أسماؤهم وأسماء آبائهم وأنسابهم كمحمد بن عبد الله الأنصاري، أوَّلهم: القاضي المشهور ممن روى عنه البخاري، والثاني: أبو سلمة ضعيف، وكذا من اتفق في الاسم وكنية الأب كصالح بن أبي (1/696)
صالح، أربعة: مولى التوأمة، والذي أبوه صالح السمان، والسَّدُوسِي، ومولى عمرو بن حُرَيْث. (فهو النوع الذي يقال له: المتفق والمفترق) بالكسر فيهما أي المتفق من وجه وهو اللفظ، والمفترق من وجه وهو المعنى المراد، ومن أقسامه أن يتفق الاسم فقط، أو يقع في السند ذكر الاسم فقط مهملاً من ذكر أبيه، أو نسبةٍ تميزه، مثاله: أن يطلق حماد من غير أن ينسب هل هو ابن زيد، أو ابن عمرو، وكذلك أن يتفق الكنية فقط ويذكر بها في الإسناد من غير تمييز يفسرها. ومثله ابن الصلاح بأبي حمزة قال: وذكر بعض الحفاظ أن شعبة روى عن سبعة كلهم أبو حمزة عن ابن عباس، وكلهم بالحاء و الزاي إلا واحداً، فإنه بالجيم والراء وهو: أبو جمرة نصر بن عمران الضُّبَعِي. (وفائدة معرفته خشية أن يظن الشخصان) برفع الخشية على الخبرية / أي إزالة خوف أن يظن ظانٌ الشخصين (شخصاً واحداً) وحاصله: أنّ نتيجة معرفة هذا النوع وثمرته الأمن من اللُّبْس، فربما يظن الأشخاص شخصاً واحداً كما (1/697)
وقع بجماعة من الأكابر هذا الوهم، وربما يكون أحد المشتركين ثقة والآخر ضعيفاً، فيُضَعِّف ما هو صحيح، أو يُصَحِّح ما هو ضعيف. (وقد صنف فيه) أي في هذا النوع (الخطيب كتابا) سماه " الموضِّح لأوهام الجميع والتفريق " (حافلاً) أي جامعاً، ومع هذا فاته بعض تراجم كان ينبغي له ذكرها، وذكر أشياء لا تتعلق ضرورة بإيرادها. ولذا قال المصنف: (وقد لخصته) أي حذفت الزوائد، وأتيت بخلاصة الفوائد (وزدت عليه شيئاً كثيراً) أي من مهمات الفوائد. قال السخاوي: وهو نوع جليل يعظم الانتفاع به، صنف فيه الخطيب كتاباً نفيساً شرع شيخنا في تلخيصه فكتب منه - حسبما / 129 - ب / وقفت عليه - شيئا يسيراً مع قوله في " شرح النخبة ": إنه لخصه، وزاد شيئا كثيراً ! ! وقد شرعت في تكملته مع استدراك أشياء فاتته. (وهذا) أي النوع المذكور. (عكس ما تقدم من النوع المسمى بالمهمل) أي المذكور بنعوت متعددة من غير تمييز. (لأنه يخشى فيه) أي في ذلك النوع (أن يُظَنَّ الواحد اثنين، وهذا) أي النوع (يخشى منه أن يظن الاثنان واحداً) وهذا توضيح لتصوير العكس كما هو ظاهر. (1/698)
(المُؤْتَلِف والمُخْتَلِف)
(وإن اتفقت الأسماء) أي أسماء الرواة مطلقا، شاملاً للآباء والأجداد، كذا للألقاب والكنى والأنساب (خَطَّأ) أي من جهة الكتابة (واختلفت نُطْقَاً) أي من جهة الرواية (سواء كان مرجع الاختلاف النقط) أي وجوداً أو عدماً وزيادةً ونقصاناً (أو الشَّكْل) أو إعراباً وبناء (فهو) أي هذا النوع (المؤتلف والمختلف) بالكسر فيهما أي المسمى بهذا، والائتلاف باعتبار الخط، والاختلاف باعتبار النُّطْق. (ومعرفته من مُهِمَّات هذا الفن) أي مما بالغوا في الاهتمام به (حتى قال علي بن المَدِيني: أشد التصحيف) أي أصعبه أو أضره. (ما يقع في الأسماء) أي أسماء الرواة. (ووجهه) أي قوله هذا. (بعضهم بأنه) أي التصحيف الذي يوجد في اسم الراوي (شيء لا يدخله القياس) أي قياس العربية. (1/699)
(ولا قبله شيء،) أي من المعنى. (يدل عليه) أي على المقصود منه. (ولا بعده) فيكون أشدَّ أنواع التصحيف حيث لا تخليص عنه بالعقل، ولهذا وَهَم كثير من الناس في الأسماء لأجل الالتباس، بخلاف التصحيف الذي يوجد في متن الحديث، فإن الذوق المعنوي يدل عليه، وكذا سَابِقُه ولا حقه غالباً يشير إليه. (وقد صنف فيه) أي في نوع المؤتلف والمختلف. (أبو أحمد العسكري، لكنه أضافه إلى كتاب التصحيف له) الموضوع لا بالمعنى الأعم، ولم يجعل تصنيفه مختصاً بتصحيف الأسماء، ولهذا صار سبباً لإفراد غيره إياه بالتصنيف كما سيأتي. قال التلميذ: قوله: فيه، أي المؤتلف، وفيه تنبيه على خلاف ما اشتهر أن أول مَنْ صنف فيه عبد الغني، ووجه ما اشتهر أن عبد الغني أول مَن صنف / فيه مفرداً. انتهى. وفيه أن التنبيه غير مفهوم من عبارة المصنف فيه. نعم، يستفاد صريحاً من قوله: (ثم أفرده) أي تصحيف الأسماء. (بالتأليف عبد الغني بن سعيد، فجمع فيه) أي في تأليفه. (كتابين:) أي مما يصلح أن يكون تصنيفين، أو أراد بالكتابين النوعين، والقسمين / 130 - أ / من مجموع تأليفه وهو الأظهر لقوله: كتاب، خبر مبتدأ محذوف، أي أحدهما. (كتابٌ في مشتبِه الأسماء) بكسر الموحدة، (وكتابٌ) أي ثانيهما أو الآخر (1/700)
كتاب (في مشتبه النسبة) ويصح أن يقدر المبتدأ " هما "، ويلاحظ الربط بعد العطف. (وجمع شيخُه) أي شيخ عبد الغني (الدارقُطْني) والظاهر أنه بعده، فكان الأولى أن يقول فجمع، ولعل إيراد الواو إشارة إلى وقوع الجمع قبل الافتراق بالموت، ونظيره ما وقع لصاحب المشكاة أنه لمَّا صنفه، شَرَحَهُ شيخه الطِّيبِي. (في ذلك) أي في استيفاء هذا النوع. (كتاباً حافلاً،) أي جامعاً شاملاً. (ثم جمع الخطيب ذيلا) أي مفرداً بأن استدرك ما فاته، أو أتى بما وقع بعده. (ثم جمع الجميع) أي جميع ما ذكر من الذيل وما قبله. (أبو نَصْرِ بن مَاكُولا) بألفٍ بعد الميم، وضم كاف، وسكون الواو، ثم لام بعده ألف مقصورة، وهو حافظ جليل (في كتابه الإكمال) بكسر الهمزة. (واستدرك عليهم) على جميع مَن ذُكِر (في كتاب آخر جمع فيه أوهامَهم وبينها) أي ذكر بيان أوهامهم وعِللها. (وكتابه) أي هذا وهو مبتدأ خبره. (مِن أجمع ما جُمع في ذلك) أي الباب أو النوع. (وهو عمدة كلِّ محدث) أي محل اعتماد كل محدث جاء (بعده وقد (1/701)
استدرك عليه) أي على أبي نصر (أبو بكر بن نُقْطَه) بضم نون، وسكون قاف، بعده طاء مهملة، اسم جارية رَبَّت جدته أم أبيه عُرِف بها، واسمه محمد بن عبد الغني بن أبي بكر، وهو الحافظ الشهير. (ما فاته) مفعول استدرك، أي أتى بما فات أبا نصر، وأما تفسير محشٍ استدرك بمعنى اعترض، فغير صحيح بظاهره. (أو تجدد) عطف على فاته، أي أو ما تجدد. (بعده) من الأسماء وأو لمنع الخُلُوّ. (في مجلد) متعلق ب: استدرك (ضخم) أي عظيم الجثة. (ثم ذيَّل) بتشديد الياء، أي كتب ذيلا ملحقاً (عليه) أي على مستدرك أبي بكر، وفاعله (منصور بن سَليم - بفتح السين - في مجلد لطيف) متعلق ب: ذَيَّل. (وكذلك) وفي نسخة صحيحة: وكذا، أي ذيَّل على أبي بكر، أو على منصور، أو عليهما، وهو الأظهر. (أبو حامد بن الصَّابُوني، وجمع الذهبي في ذلك) أي النوع والفن. (كتاباً مختصراً جداً) أي مبالغاً في اختصار لفظه، وسببه أنه: (اعتمد فيه) أي في تصنيفه (على الضبط بالقلم) أي بمجرد كتابة القلم لا بيانه بالقلم. (فكَثُرَ فيه الغلط والتصحيف) أي من النساخ بعده والكُتَّاب. (المباين) أي المفارق المغاير المضاد. (لموضوع الكتاب) وهو إزالة (1/702)
الغلط / 130 - ب / والتصحيف، وبيان الصواب وقال المصنف: (وقد يسر الله تعالى) أي وفق وسَهَّل (بتوضيحه) أي بتوضيح كتاب الذهبي (بكتاب) أي بتأليف مُصَنَّف / (سميته ب: تبصير المُنْتَبِه) اسم فاعل من الانتباه، وكان الأنسب أن يقول ب: تقرير المشتبه، رعاية لقوله: (بتحرير المُشْتَبِه وهو مجلد واحد) أي ضخم. (وضَبطُّتهُ بالحروف على الطريقة المرضية) وهو أن يكتُبَ مثلاً بالحاء المهملة، أو بالخاء المعجمة مع كَتْبِ الحركات والسكنات أيضاً، بخلاف ضبط القلم الذي هو غير مرضي ! لأنه يجر إلى الالتباس، وهو أن بكتب الخاء مثلاً بالنقطة، والحاء بدونها مع الحركات أيضاً بمجرد القلم، من دون بيان فتح، وضم، وكسر، وسكون، وفيه تعريض لا يخفى. (وزدت عليه) أي على الذهبي. (شيئاً كثيراً مما أهمله) ولذا قيل: كم ترك الأول للآخر، ولكنّ الفضل للمتقدم. (أو لم يقف عليه) لعله مُقَيَّدٌ بما وقع بعده، وإلا فكيف وقف على أنه ما وقف عليه؟ (ولله الحمد على ذلك) أي على هذا الجمع، وعلى جميع النعم مما هنالك.(1/703)
(المُتَشَابِه)
(وإن اتفقت الأسماء) أي أسماء الرواة (خَطَّاً ونُطْقَاً) أي معاً، (واختلفت الآباء) أي أسماء آباء الرواة (نطقاً) تمييز عن النسبة. (مع ائتلافها) أي اتفاق الآباء (خَطَّاً كمحمد بن عَقيل - بفتح العين -) أي المهملة بعدها قاف. (ومحمد بن عُقَيْل - بضمها -) وهما راويان متفارقان بالنسبة. (الأول: نَيْسَابوريّ) بفتح نون، وسكون تحتية، وسين مهملة. (والثاني: فِرْيابي) بكسر فاء، وسكون راء، وتحتية بعدها ألف، فموحدة بعدها ياء النسبة، منسوب إلى فِيْريَاب مدينة ببلاد التُّرْك، بحذف الياء الأولى فيقال: فريابي، وقد ينسب إليها بإثباتها يعني بإثبات الياء الأولى، فيقال: فِيريابي، كذا في جامع الأصول. وأما قول محشٍ: بحذف إحدى ياء النسبة وبإثباتها، كذا في جامع الأصول فخطأ فاحش، لِمَا عرفت المفهوم من جامع الأصول، ولأن ياء النسبة تكون مشددة لا مكررة. نعم، قد تخفف ولكنه غير مراد هنا. (وهما) أي الراويان المذكوران. (مشهوران) أي معروفان بنسبتهما أو بصحة روايتهما. (وطبقتهما متقاربة) أي بقرب عصرهما وسيجيء معنى الطبقة. (1/704)
(أو بالعكس) أي أو كان الأمر بعكس ما ذكر. (كأن تختلف الأسماء نطقاً وتأتلف خطاً) أي فقط. (وتتفق الآباء خطَّاً ونطقاً) أي معاً، وبه تبين فساد قول محش في قول المصنف: أو بالعكس فيه مسامحة، فإن عكس ما ذكر اختلافُ الأسماء خطَّاً ونطقاً، واتفاق الآباء نطقاً، لا ما ذكره، تأمل انتهى. (كشُرَيْح بن النُّعمان) بضم النون. (وسُرَيج بن النُّعمان) كذلك / 131 - أ /، وسريج في الصورتين بالتصغير. (الأول - بالشين المعجمة، والحاء المهملة - وهو تابعي يروي عن علي كرم الله وجهه، والثاني - بالسين المهملة، والجيم - وهو من شيوخ البخاري، فهو) أي ما ذكر من الاتفاق المسطور وعكسه هو: (النوع الذي يقال له: المُتَشَابِه) أي في الرسم. (وقد صنف فيه الخطيب كتاباً جليلاً) أي عظيماً في الكمية، أو الكيفية. (1/705)
(سَمَّاه " تلخيص المُتَشابِه ") أي تهذيبه وتلخيصه، وأغرب شارح حيث قال: وهو أحسن كتبه، لكنه لم يُعرف باسمه الذي سمّاه به انتهى. وغرابته / لا تخفى (ثم ذيّل عليه أيضاً) أي بنفسه. (بما فاته أولاً، وهو كثير الفائدة) أي وشهير العائدة، ثم في بعض النسخ هنا في المتن عبارة زائد وقعت في نسخة بعد قوله: المتشابه وهي. (وكذا) أي يكون من نوع المتشابه. (إن وقع) ذلك أي: (الاتفاق) كما في نسخة، يعني نقطاً وخطاً. (في الاسم، واسم الأب، والاختلاف) بالرفع أي وقع الاختلاف. (بالنسبة) أي في النسبة كما في نسخة أخرى. انتهى. (ويتركب منه) أي من نوع المتشابه (ومما قبله) أي من نوع المؤتلف والمختلف. (أنواع) أي أصناف أخر سيأتي تفصيلها، وقال شارح: يعني أن المتشابه مركب من المؤتلف والمختلف ومما قبله، أعني المتفق والمفترق حيث اعتبر فيه اتفاق الأسماء خطاً، واختلافها نطقاً مع ائتلافها خطاً، فيتركب منها. قال ابن الصلاح وغيره: هذا النوع يتركب من النوعين اللَّذَين قبله وهما: المتفق والمفترِق، والمؤتلِف والمختلِف. انتهى. وهو خطأ فاحش يظهر لمن تأمل (1/706)
فيه وفيما قبله، وأما نَسْبُه إلى ابن الصلاح وغيره، فما أظنه صحيحاً. ثم قال: في قوله: أنواع، أي المتشابه أنواع. انتهى. وقد تبين لك من تقريرنا أن قوله: أنواع، فاعل ل: يتركب، وكأنه وَهِمَ أن قوله: يتركب على بناء المجهول، فبنى عليه كلامه ولم يعرف غرض المصنف ومَرَامَه. (منها:) أي من جملة الأنواع. (أن يحصل الاتفاق) أي في الخط والنطق. (و الاشتباه) أي فيهما بحرف، أو حرفين، فأكثر لا بالتقديم والتأخير، فقوله الآتي: أو بالتقديم أو التأخير، عطف بحسب المعنى، وفي نسخة: أو الاشتباه، فأو لمنع الخُلُوّ. (في الاسم) أي اسم الراوي. (واسم الأب) أي أبيه. (مثلاً) والجار متعلق بالمصدرين لَفَّاً ونشراً مرتباً، أو متعلق بالأخير منهما، والتقدير: الاشتباه في جميع ألفاظ الاسمين. (إلا في حرف، أو حرفين فأكثر) أي من حرفين. (من أحدهما) أي أحد الاسمين من اسم الراوي واسم الأب، أو شبهه من نسبه أو كنيته، (أو منهما) أي جميعاً. (وهو / 131 - ب /) أي هذا النوع. (على قسمين:) لأنه (إما أن يكون الاختلاف بالتغيير مع أن عدد الحروف ثابتة) الظاهر ثابتاً، ولعله اكتسب التأنيث من المضاف إليه. (في الجهتين) أي(1/707)
في جهتي اسم الراويين. (أو يكون الاختلاف بالتغيير مع نقصان بعض الأسماء عن بعض) أي في عدد الحروف. (فمن أمثلة الأول:) أي من القسمين: (محمد بن سِنَان - بكسر السين المهملة، ونونين بينهما ألف -) قد ضبط بالانصراف وعدمه. (وهم) أي المُسَمَّون بهذا الاسم، أعني محمد بن سِنَان. (جماعة) أي كثيرة. (منهم: العَوَقي - بفتح العين) أي المهملة (والواو) عطف على العين. (ثم القاف -) عطف على الفتح، أي بعده ياء النسبة، نَزَل في العَوَقَة، بطن من عبد القيس، فنُسِب إليها. (شيخ البخاري) بالإضافة ومحمد بن سَيَّار - بفتح السين المهملة، وتشديد الياء التحتانية، وبعد الألف راء -) قال محش: فيه أن الياء مشددة فليسا متساويين في العدد انتهى. وهو خطأ، إذا الياء المشددة ما تعد اثنين بخلاف المدغمة ! مع أن التساوي في عدد الرسم صادق عليه. (وهم) أي المُسمَّون به. (أيضاً جماعة) أي كثيرة. (1/708)
(منهم: اليَمَاميّ) بفتح / أوله منسوب إلى اليمامة. (شيخ عمر بن يونس) والحاصل أنه اتفق على الاسم وهو محمد، واختلف واشتبه اسم الأب نطقاً مع ائتلافه خطاً، إلا في حرف وهو النون حيث كان مكانه الراء، وعلى هذا فقس غيره من الأمثلة. (ومنها:) أي ومن أمثلة الأول. (محمد بن حُنَين - بضم الحاء المهملة، ونونين الأولى مفتوحة، بينهما ياء تحتية -) أي ساكنة. (تابعي يروي عن ابن عباس وغيره، ومحمد بن خُبَير - بالجيم) أي المضمونة. (بعدها باء موحدة) أي مفتوحة. (وآخره راء -) أي بعد ياء ساكنة (وهو محمد بن خُبيْر بن مُطْعِم تابعي مشهور أيضاً. ومن ذلك) أي من القسم الأول، أو مما ذكر من أمثلة الأول. (مُعَرِّف بن وَاصِل) بضم ميم، وتشديد راء مكسورة. (كوفي مشهور، ومُطَرِّف بن وَاصِل - بالطاء بدل العين - شيخ آخر يَروي عنه أبو حُذَيفَة النَّهْدِي) أي بفتح النون، وسكون الهاء. (1/709)
(ومنه) أي ومن ذلك. (أيضاً: أحمد بن الحسين صاحب إبراهيم بن سعد وآخرون) عطفٌ على صاحب، أي المسمون بأحمد بن الحسين غير صاحب إبراهيم. (وأَحْيَد بن الحسين مثله) أي مثل أحمد بن الحسين. (لكن بدل الميم ياء تحتانية، وهو شيخ بخاري) بالوصف (يَروِي عنه عبد الله بن محمد البِيكَنْدِي،) بكسر الموحدة، وسكون المثناة التحتية، ثم كاف مفتوحة، ونون ساكنة، بعدها دال، ذكره السخاوي. (ومن ذلك أيضاً أي / 132 - أ / القسم الأول. (خَص بن مَيْسَرَة) بفتح ميم، وسكون تحتية، وفتح سين مهملة، وراء بعدها هاء. (شيخ مشهور من طبقة مالك، وجَعْفَر بن مَيْسَرَة، شيخ لعبيد الله بن موسى الكوفي، الأول: بالحاء المهملة) أي المفتوحة (والفاء) أي الساكنة. (وبعدها صاد مهملة، والثاني: بالجيم) أي المفتوحة (والعين المهملة) أي الساكنة. (1/710)
(وبعدها فاء ثم راء) قال محشٍ: فيه أنّ جعفر زائد على حفص. وقال التلميذ: لا يصح أنْ يكون منه، لأنّ عدد الحروف منه لم تكن ثابتة في الجهتين. وقال شارح: والصواب أنه من أمثله القسم الثاني كما صرح به السخاوي في " شرح الألفية " انتهى. (والتحقيق أنّ عدد الحروف في صورة الخط ثابت في الجهتين، وإن كان غيرَ ثابت باعتبار النُّطق بحقيقة الحرفين، فكأن الشيخ رحمه الله تعالى نظر إلى التصحيف الناشئ عن الخط كما وقع لكثير منهم، فعده من القسم الأول فتأمل. (ومن أمثلة الثاني:) أي القسم الثاني مما يكون الاختلاف بالتغيير مع نقصان بعض الأسماء عن بعض في عدد الحروف. (عبد الله بن زيد، جماعة) أي هم جماعة وهم المسمون به. (منهم في الصحابة: صاحب الأذان) أي الذي رأى كيفية الأذان في المنام، وذكرها له صلى الله تعالى عليه وسلم فَقَرَّرَهُ في تحصيل المرام (واسم جده) أي جد صاحب الأذان. (عبدُ رَبِّه) بإضافة العبد إلى ربه. (وراوي حديث) (1/711)
الوضوء، واسم جده ثَعْلَبَة) وفي نسخة صحيحة: عَاصِم. (وهما،) أي صاحب الأذان وراوي حديث الوضوء (أنصاريان) أي منسوبان إلى الأنصار. (وعبد الله بن يزِيد / بزيادة ياء) أي تحتية مفتوحة (في أول اسم الأب، والزاي مكسورة -) أي في اسم الأب هنا، وكانت مفتوحة فيما سبق. (وهم أيضاً) أي المسمون به. (جماعة منهم في الصحابة: الخَطْمِي) أي بفتح الخاء المعجمة وسكون (1/712)
الطاء المهملة، وبميم، نِسْبَةً لخَطْمَة، بطن من الأوس، صحابي صغير وَلِيَ لكوفة لابن الزُّبير، كذا ذكره شارح. وقال صاحب المشكاة في أسماء رجاله: وهو الخَطْمِي الأنصاري شهد الحُدَيبية، وهو ابن سبع عشرة سنة. (يُكَنِّى) بالتشديد والتخفيف. (أبا موسى وحديثه في الصحيحين) أي مذكور في رجالهما. (والقاريُّ) أي بتشديد الياء من غير همزة، منسوب إلى قَارةَ، وهو اسم رجل أبي قبيلة. (له) أي للقَارِي (ذِكْرُ في حديث عائشة رضي الله عنها، وقد زعم بعضهم أنه) أي القاري هو: (الخَطْمِي) أي لاشتباه الاسم واسم الأب، وصَرَفَهُ إلى الأكمل / 132 - ب /، وهو الكبير المذكور المشهور بين الكُمَّلِ. (وفيه نظر) ذكر التلميذ أن المصنف قال في تقرير هذا: تَمَسَّك مَن زعم أن القارِيَّ هو الخَطْمي، بأن القاري كان صغيراً في زمن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فكيف يكون مذكوراً؟ وَوَجْهُ النظر أنه لو كان صغيراً لما ذكر في حديث عائشة في الصحيح وهو: أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم سمعه في الليل وهو يقرأ فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: " لقد ذكَّرني آية " كنت أُنْسِيتُها " أو كما قال عليه الصلاة والسلام، هكذا ذُكِر. قال بعض مَن يَدَّعي علم هذا الفن: قد يقال: لا منافاة بين كونه صغيراً، وهو (1/713)
مذكور لأمر ما، ولو قُرر وجه النظر بهذا لكان أولى، إذ لا يلزم من ذكره أن لا يكون صغيراً. انتهى. قلت: الظاهر أنّ مَن قال صغيراً إنما أراد أنه لم يكن بحيث يحضر النَّبي عليه الصلاة والسلام، ومَن أجاب أنه لو كان صغيراً يعني بالحيثية المذكورة لما كان له ذكر على هذا الوجه، وهو أنه يقرأ القرآن في الليل... إلخ انتهى. يعني فتثبت المنافاة في الجملة بين كونه صغيراً، وبين كونه مذكوراً. (ومنها:) أي ومن أمثلة الثاني. (عبد الله بن يحيى وَهُم جماعة، وعبد الله بن نُجيّ - بضم النون، وفتح الجيم، وتشديد الياء - تابعي معروف يروي عن علي كرم الله وجهه) وفيه إشارة إلى ما ذكرنا من أن العبرة بصورة الخط فإن يحيى يزيدُ على نُجَيّ في الرسم لا في عدد الحروف الملفوظة، فإنهما فيه سواء.
(المُتَشَابِه المَقْلُو)
(أو يحصل الاتفاق في الخط والنطق) أي بالنسبة إلى الاسمين. (1/714)
(لكن يحصل الاختلاف والاشتباه) عطف تفسير وفي بعض النسخ: أو الاشتباه، ولا وجه له إلا أن يقال: الاختلاف باعتبار النطق، والاشتباه باعتبار الخط والذهن، ف " أو " للتنويع، فيندفع اعتراض شارح بأن الاختلاف جعل فيما سَبَقَ أحد أجزاء ماهية المتشابه، فليس أمر آخر غير الاشتباه حتى يعطف بأو. (بالتقديم والتأخير، أما في الاسمين جملة) أي جميعاً ويسمى المشتبه المقلوب، وللخطيب فيه: " رافع الارتياب في المقلوب من الأسماء والأنساب "، وفائدة ضبطه الأمن من توهّم القلب، وهذا النوع مما يقع الاشتباه في الذهن لا في صورة الخط، وذلك / أن يكون اسم أحد الراويين كاسم أبي الآخر خطاً ولفظاً، واسم الآخر كاسم أبي الأول، فينقلب على بعض أهل الحديث كما انقلب على البخاري ترجمة مسلم بن الوليد، فيجعل الوليد بن مسلم كالوليد بن مسلم الدمشقي المشهور. (أو نحو ذلك، كأن يقع التقديم والتأخير في الاسم الواحد في بعض حروفه بالنسبة إلى ما يشتبه به، مثال / 133 - أ / الأول:) أي التقديم والتأخير في الاسمين. (الأسود بن يَزِيد، ويَزيد بن الأسود، وهو ظاهر) فالأول: الأسود بن يزيد. (1/715)
النَّخَعِي التابعي، والثاني اثنان: يزيد بن الأسود الصحابي الخُزَاعِي، ويزيد بن الأسود الجُرَشي المخضرم. (ومنه:) أي من هذا القبيل، وفيه أنه لم يظهر وجه الفصل عنه حتى يقال: ومنه ! (عبد الله بن يزيد) وهو الخَطْمي. (ويزيد بن عبد الله) لم يحضرني الآن ما يتميز به عن غيره. (ومثال الثاني:) أي التقديم والتأخير في الاسم الواحد. (أيوب بن سَيّار) بفتح سين مهملة، وتشديد تحتية، وآخره راء. (أيوب بن يسار) بفتح تحتية، وسين مهملة مخففة (الأول مدني مشهور) أي معروف. (ليس بالقوي) أي في الرواية، فحديثه ضعيف. (والآخر مجهول) فحديثه غير مقبول، والله سبحانه أعلم.
1 (خاتمة)
أي هذه المسائل الآتية المهمة في الرواية والدراية خاتمة يختم بها مسائل (1/716)
الكتاب بعون الله الملك الوهاب، وقد أشار إلى كثرتها واختصاره على ذكر ضرورياتها بقوله:
(طبقات الرُّوَاة)
(ومن المهم عند المحدثين) أي النقاد الذين لهم همة في معرفة الإسناد (معرفة طبقات الرواة) أي مراتب متفرقة، وأصناف مختلفة للرواة باعتبارات متعددة. (وفائدته) أي هذا النوع من المعرفة. (الأمن من تداخل المشتبهَين) بالتثنية، ويحتمل الجمع، قال السخاوي: كالمتفقين في اسم، أو كنية أو نحو ذلك كما في المتفِق والمفترِق (وإمكان الاطلاع) بالرفع عطف على الأمن، أي وفائدته إمكان الوقوف. (على تبيين التدليس من إضافة المصدر إلى مفعوله. (والوقوف) بالجر عطف (1/717)
على الاطلاع، وهو بمعناه لكن اختار التفنن، وإلا لو اكتفى بقوله: (على حقيقة المراد) بواو العطف لكفى (من العنعنة) وهو الاتصال وعدمه. قال التلميذ: يعني هل هي محمولة على السماع، أو مُرْسَلة أو منقطعة؟ (والطبقة) وهي في اللغة: القوم المتشابهون على ما ذكره السخاوي (في اصطلاحهم) أي المحدثين وغيرهم. (عبارة عن جماعة) أي من أهل زمان (اشتركوا في السِّن) أي ولو تقريباً كما صرح به السخاوي. (ولقاء المشايخ) أي الأخذ عنهم، وربما اكتفوا بالاشتراك في التلاقي وهو غالباً لازم للاشتراك في السن نبه عليه السخاوي، وربما يكون أحدهما شيخاً للآخر. (وقد يكون الشخص الواحد من طبقتين باعتبارين) أي بناء على حيثيتين مختلفتين كالمخضرمين. (كأنس بن مالك / 133 - ب /) أي الأنصاري، جاء إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وعمره عشر سنين، وخدمه عشر سنين، / وكغيره من أصاغر الصحابة. (فإنه) أي أنساً. (من حيث ثبوتُ صحبته للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم يُعَدُّ) أي يُحْسَب. (في طبقة العشرة) أي المبشرة وغيرهم، من أكابر الصحابة كابن مسعود (مثلاً) قيدٌ للمعدود والمعدود فيه. (ومن حيث صِغَرٌ السن يعدّ) أي أنس أيضاً مثلاً (في طبقةٍ مَن بعدهم) أي غير العشرة من أصاغر الصحابة كابن عباس، وابن عمر، وابن الزَّبير. (1/718)
(فمن نظر إلى الصحابة باعتبار الصحبة) أي مطلقاً (جعل الجميع) أي جميعهم من الصغير والكبير. (طبقة واحدة كما صنع ابن حِبَّان وغيرُه) فعلى هذا يكون الصحابة بأسرهم طبقة أولى، والتابعون طبقة ثانية، وأتباع التابعين طبقة ثالثة، وهَلُمَّ جَرَّاً. وهذا هو المستفاد من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: " خير القرون قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم " الحديث. (ومن نظر إليهم) أي إلى الصحابة (باعتبار قدر زائد) أي مرتبة وفضيلة زائدة لبعضهم. (كالسَّبْق إلى الإسلام) أو إلى الهجرة. (أو شهود المشاهِد) عطف على السَّبْق. (الفاضلة) كبدرٍ، وأُحُدٍ، وبيعة الرِّضوان. (جعلهم طبقات) بحسب ما يقتضيهم من درجات. (وإلى ذلك) أي لا إلى غيره. (جنح) أي مالَ، وذهب. (صاحب الطبقات) أي المشهورة. (أبو عبد الله محمد بن سعدٍ البغدادي، وكتابه أجمع ما جُمِعَ) أي من الكتب. (في ذلك) أي في ذلك الباب من استيعاب الأصحاب، فجعلهم خمس (1/719)
طبقات، والحاكم أثنى عشر طبقة: الذين أسلموا بمكة كالخلفاء الأربعة، ثم أصحاب دار الندوة، ثم مهاجِرة الحبشة، ثم أصحاب العقبة الأولى، ثم الثانية - وأكثرهم من الأنصار - ثم أول المهاجرين الذين لَقَوْه لُقِيَّاً قبل دخول مكة، ثم أهل بدر، ثم المهاجرين بين بدر والحديبية، ثم أصحاب بيعة الرضوان، ثم مَن هاجر بين الحديبية وفتح مكة، كخالد بن الوليد، ثم مُسلِمة الفتح كمعاوية وأبيه، ثم الصبيان والأطفال الذين رأوه صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، وفي حجة الوداع، وغيرهم كالسائب بن يزيد وأبي الطُّفَيْل. (قال السخاوي: ومنهم من يجعل - كما قال ابن كثير - كل طبقة أربعين سنة، وقد يَسْتَشهِد له بِما يروى أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: " طبقات أمتي خمس طبقات، كل طبقة منهم أربعون سنة، فطبقتي وطبقة أصحابي أهل العلم والإيمان، والذين يلونهم إلى الثمانين أهل البِّر والتقوى، والذين يلونهم إلى العشرين ومئة أهل التراحم والتواصل، والذين يلونهم / 134 - أ / إلى الستين - يعني ومئة - أهل التقاطع والتدابر، والذين يلونهم إلى المئتين أهل الهَرْجِ والحرب ". رواه يزيد الرَّقَّاشي، وأبو مَعْن، وكلاهما في ابن ماجه. (وكذلك مَن جاء بعد الصحابة وهم التابعون، مَن نظر إليهم) أي التابعين. (1/720)
(باعتبار الأخذ عن بعض الصحابة فقد جعل الجميع) أي جميع التابعين. (طبقة واحدة كما صنع ابن حِبَّان أيضاً) أي كما جعل الصحابة / جميعهم طبقة واحدة. (ومن نظر إليهم باعتبار اللقاء) أي من حيث كثرته وقلته، وأخذه عن بعضهم وعدمه. (قسمهم) بتخفيف السين، أي جعلهم منقسمين إلى طبقات. (كما فعل محمد بن سعد) أي أيضاً حيث جعلهم ثلاث طبقات، وكذا مسلم في كتاب الطبقات، وربما بلغ بهم أربع طبقات، وقال الحاكم في علوم الحديث: هم خمس عشرة طبقة، آخرهم من لقي أنسَ بن مالك من أهل البصرة، ومن لقي عبد الله بن أبي أوفى من أهل الكوفة، ومن لقي السائب بنَ يزيد من أهل المدينة، والطبقة الأولى مَن روى عن العشرة المبشرة بالسماع منهم. (ولكلَّ منهما) أي من الناظرين، أو النَظَرين، أو الاعتبارين. (وجه) أي وجيه، وتوجيه نبيه. (1/721)
(التاريخ)
(ومن المهم أيضاً معرفة مواليدهم) جمع الميلاد كمِفْتَاح ومفاتيح، وهو كالمَوْلِد بمعنى وقت الولادة. (ووَفِيَّاتهم) بفتح الواو، وكسر الفاء، وتشديد الياء التحتية، وهي ما قَبْلَهُ فَرْدَانِ من التاريخ، إذ حقيقته الإعلام بالوقت الذي يُضبط به الوفيات والمواليد، ويعلم منه المعمَّر من الكهل، والكهل من الشاب وما يلحق بذلك من الحوادث والوقائِع التي مِن أفرادها الولايات كالخلافة، والتملك ونحوه، كالاستيلاء على البلاد والعباد. (لأن بمعرفتها يحصل الأمن من دعوى المدعي لِلِقَاءِ بعضهم) أي من الصحابة، أو التابعين. (وهو في نفس الأمر ليس كذلك) أي كما ادعاه، وقد ادعى قوم الرواية عن قوم، فَنَظَر المحققون في التاريخ، فظهر أنهم زعموا الرواية عنهم بعد وَفاتهم، وأيضاً بهذه المعرفة والمعرفةِ السابقة يعرف المُرْسَل والمنقطع من المتصل. (1/722)
(أوطان الرُّوَاة)
(ومن المهم أيضاً معرفة بُلدانهم) بضم أوله جمع بلد. (وأوطانهم) جمع وطن، وهو أعم من الأول. (وفائدته الأمن من تداخل الاسمين إذا اتفقا) أي لفظاً وخطاً. (لكن افترقا في النَسَب) بفتحتين، وفي نسخة: بالنَّسب، ويمكن أن يكون بكَسر أوله جمع نسبة، ويؤيده ما في نسخة: بالنسبة، أي بنسبتهما / 134 - ب / إلى بلديهما المختلفين يحصل التمييز بين الراويين.
(معرفة الثِّقَات والضُّعَفَاء)
(ومن المهم أيضاً معرفة أحوالهم تعديلاً) هو وما بعده منصوبان على التمييز أي تزكية. (وتجريحاً) وفي نسخة: جرحاً بفتح الجيم، (وجهالة) بفتح أوله (1/723)
والانحصار على الثلاثة، (لأن الراوي إمّا أن تُعْرفَ عدالته، أو يُعْرَف فِسقه) بأن يكون مشهوراً بالديانة، أو مشهوراً بالفسق والخيانة، (أو لا يعرف فيه شيء من ذلك) أي مما ذكره من العدالة والفسق حيث لم يكن مشهوراً بأحدهما، فيكون مجهول الحال، (ومن أهم ذلك) أي مما ذكر من المهمات (بعد الاطلاع) أي الوقوف على الحالات، ومنها الاطلاع على نفس الجرح. (معرفة مراتب الجرح) أي ثُمَّ (والتعديل) بهذا يعلم أن الجرح مقدم على التعديل كما سيجيء التصريح بذلك، وإنما يحتاج إلى معرفتهما (لأنهم) / أي المحدثين من غير حذاقهم، (قد يُجَرِّحون) بتشديد الراء، أي ينسبون إلى الجرح، (الشخصَ) وفي نسخة: يَجْرَحون بسكون الجيم، وفتح الراء، أي يجعلونه مجروحاً ومعيوباً، (بما) أي بشيء من عيوب، (لا يستلزم رد حديثه) أي مرويَّ الشخص، (كله) بل يستلزم رد بعضه، أو لا يستلزم شيئاً من رده ! (وقد بينا) أي ذكرنا مفصلاً ومبيناً (أسباب ذلك) أي الجرح (فيما مضى) أي من الكلام في صدر الكتاب. (وحصرناها) أي الأسباب (في عشرة) أي من المراتب. (وتقدم شرحها مفصلاً). (1/724)
(والغرض) أي المقصود من ذكره. (هنا ذكر الألفاظ الدالة في اصطلاحهم على تلك المراتب) أي المذكورة هناك، وفي كلامه تنبيه على أن دلالة هذه الألفاظ بعضها على أعلى المراتب، وبعضها على الأدنى. وبعضها على ما بينهما على ما سنبينها فيما سيأتي، إنما هي بحسب اصطلاحهم، وإلا فمن حيث اللغةُ لا يكون في أكثرها دلالة على ترتيب المراتب.
(مراتب الجرح)
(وللجرح مراتب) أي ثلاثةٌ أصالة، وكثير تبعاً وتفريعاً (أسؤها) أي أقبحها: (الوصف بما دل على المبالغة فيه) ولا شك أنه يتفاوت باختلاف مراتب المبالغة، ولذا قال: (وأصْرَح ذلك) أي ما ذكر من الأسوء (التعبير ب: أَفْعَل) الموضوع للتفضيل (ك: أَكْذَب الناس) بكسر الباء على العمل، وبضمها على الحكاية، وفي معناه بل أشد منه قولهم: أشد الناس كذباً. (وكذا قولهم: إليه المنتهى) أي النهاية (في الوضع) أي في افتراء الكذب، بل هذا أشد مما قبله. (أو هو) أي وكذا قولهم: هو أي فلان الراوي. (ركن الكذب، ونحو ذلك) كمَنْيعَ الكذب، ومَعْدِنه. (ثم دجال) بالرفع، وجُوِّز جره. قال محشٍ: الدجال الكذّاب، ولذا سمي (1/725)
الدجال / 135 - أ / المسيح دجالاً، وفي القاموس: دَجَلَ البعيرَ: طلاه بالدُّجَيل كزُبَير، وهو القَطِران، أو أعمّ جسمه بالهِنَاء، ومنه الدجَّال المسيح لأنه يعم الأرض، أو من دَجَل كَذَب وأَحرق، وجَمَع وقطع نواحي الأرض سيراً، أو من دجّل تدجيلاً غُطِّي وطُلي بالذهب لتمويهه بالباطل، أو من الدُّجَّال للذهب لأن الكنوز تَتْبَعُهُ، أو من الدَّجَال، كسحاب للسَّرْجِين، لأنه ينجِّس وجه الأرض (أو وَضَّاع، أو كَذَّاب) بتشديد العين فيهما على صيغة المبالغة، لكنها دون أفعل في المرتبة. (لأنها) أي هذه الكلمات، (وإن كان فيها نوع مبالغة لكنها) أي مبالغتها، (دون التي قبلها) أي دون مرتبة ما قبلها في المبالغة، لكن في دجّال نظر، فإنه إن أريد به الدجَّالُ المعروف حَمْلاً عليه مبالغة، أو على التشبيه البليغ، فإن لم يكن فوق التي قبلها، فلا أقل أن يكون مثلها ! (وأسهلها، أي الألفاظ الدالة على الجرح قولهم): (فلان) على ما في نسخة (لَيَّنٌ) بفتح اللام وتشديد التحتية المكسورة، وَرَجْعُ الضمير في أسهلها إلى الألفاظ، بناء على أنه يصح حمل قوله: لَيِّن، ومثله على / المرتبة، ويمكن أن يكون الضمير عائداً إلى المراتب كما هو مقتضى سوق (1/726)
الكلام، بأن يقال: أسهل المراتب ما يقال فيه: لَيِّنٌ أي له لِينة في الرواية، وليس له قوة في الديانة. (أو سيء الحفظ، أو فيه أدنى مقال) أي مَطْعَن، وفي جعل سيء الحفظ في مرتبة طرفيه لا يخلو من إشكال، فإن الدَّارَقُطْنِي قال: إذا قيل: لَيِّن لم يكن ساقطاً، ولكنه مجروح بشيء لا يسقطه عن عدم العدالة ونحو ذلك. (وبين أسوء الجرح وأسهله مراتب لا تخفى) أي على أرباب معرفة المراتب. (فقولهم:) أي المحدثين (متروك، أو ساقط، أو فاحش الغلط، أو منكر الحديث، أشدُّ من قولهم: ضعيف، أو ليس بالقويّ، أو فيه مَقَال) قيل: فالمرتبة الثالثة: فلان متهم بالكذب، أو الوضع، وفلان ساقط، أو هالك، أو ذاهب، أو ذاهب الحديث، وفلان متروك، أو متروك الحديث، أو تركوه، وفلان فيه نظر، وفلان سكتوا عنه، وفلان لا يُعْتَبَرُ به، أو لا يعتبر بحديثه، وفلان ليس بثقة، أو غير ثقة، أو غير مأمون، ونحو ذلك. والمرتبة الرابعة: فلان فيه مقال، وفلان ضعيف، أو فيه ضعف أو في حديثه ضعف، وفلان يعرف وينكر، وفلان ليس بذلك أو بذاك القوي، أو ليس بالمتين، وليس بالقوي، وليس بحجة، وليس بعمدة، وليس بالمرضي، وفلان (1/727)
للضعف ما هو، وفيه خُلف، وطعنوا فيه، أو مطعون فيه، وسيء / 135 - ب / الحفظ، وليّن الحديث، أو فيه لين، أو تكلموا فيه، ونحو ذلك، فكلُّ مَن قيل فيه هذه المراتب الأربعة بل الخمسة لا يُحتجّ به، ولا يستشهد به، ولا يُكتب حديثه أصلاً انتهى. وهذا الترتي يحتاج إلى التهذيب كما لا يخفى على اللبيب.
(مراتب التعديل)
(ومن المهم أيضاً معرفة مراتب التعديل، وأرفعُها) بالرفع أي أرفع مراتبه (الوصف أيضاً) أي كما سبق (بما دل على المبالغة فيه، وأصرح ذلك التعبير ب: أفعل، ك: أوثق الناس) أي أكثرهم اعتماداً، أو ما في معناه أعدل الناس. (أو أثبت الناس) أي حفظاً، وعدالة. (أو إليه المنتهى في التَّثَبُّتِ) أي التيقظ، والاحتياط في الديانة، والرواية، وفي معناه: فلان لا يُسْأَلُ عنه. (ثم ما) أي بلفظ (تأَكَّدَ بصفة من الصفات الدالة على التعديل) بأن تكرر بعينه. (أو صفتين) أي متغايرتين، فمثال الأول: (كِثقَةٍ ثِقة) بكسر المثلثة فيهما، وحذف الواو منهما، كَعِدَةٍ ودِيَة من الوثوق، وهو الاعتماد، والحمل للمبالغة كرجل عَدل، أو بحذف مضاف أي ذو ثقة، والتكرار للتأكيد. (أو ثَبْت ثبت) قال السخاوي: بسكون الموحدة: الثابت القلبِ، واللسانِ، (1/728)
والكتابِ، الحجةُ، وأما بالفتح فما يُثبِت فيه المحدث مسموعَة مع أسماء المشاركين له فيه، لأنه كالحجة عند الشخص لسماعه، وسماع غيره، ومن صيغ هذه المرتبة: كأنه مُصْحَف، ومثال الثاني قوله: (أو ثقة حافظ، أو عدل ضابط، أو نحو ذلك) كثقة ثَبْت، وعكسه، والحاصل: أن التأكيد الحاصل بالتكرار فيه زيادة على الكلام الخالي منه، وعلى هذا، فما زاد فيه على مرتين مثلاً / تكون أعلى منها كقول ابن سعد في شُعبة: ثقة مأمون، ثَبْتٌ حجة، صاحب حديث. قال السخاوي: وأكثر ما وقفنا عليه من ذلك قول ابن عُيَيْنَة: حدثنا عمرو بن دينار وكان ثقةً ثقة تسع مرات، وكأنه سكت لانقطاع نَفَسِه. انتهى. يعني أراد التكثير والتأكيد دون الحصر والتحديد. (وأدناها) أي أقل مراتب التعديل، (ما أشعر) أي وصفٌ أشار (بالقرب) أي بكونه قريباً، (من أسهل التجريح) وفي نسخة: من أهل التجريح، والظاهر أنه تصحيف، فإن الأشياء تتبين بأضدادها. (ك: شيخٌ) بالرفع أي هو شيخ، ويجوز جره أي شيخ من قولهم: فلان شيخ. (ويُرْوِى حديثُه، ويُعْتَبرُ به) أي وكهذين (ونحو ذلك) أي ما ذكر من العبارات كشيخ وسط، أو صالح، أو مقارب الحديث بفتح الراء، وكسرها ، أو جيد الحديث، أو صُوَيْلِح بالتصغير، أو صدوق إن شاء الله تعالى، أي مقيداً بالاستثناء. (وبين ذلك) أي المذكور من الأرفع والأدنى. (مراتب) كقبولٍ (1/729)
ونحوه / 136 - أ / (لا تخفى) قيل: فالمرتبة الثالثة بل الرابعة، ما أُفرِد بصفة لم تؤكَّد كثقة، أو حافظ، أو حجة، أو ضابط. والرابعة، قولهم: لا بأس به، أو ليس به بأس، أو صدوق، أو مأمون، أو خيَار، فكل مَن قيل فيه المراتب الثلاث الأوَل يُحتج بحديثه، ومَن قيل فيه الرابعة والخامسة يُكْتَبُ حديثه وينظر فيه، قال ابن الصلاح: لأن هذه العبارات لا تُشْعِر بشريطة الضبط، فينظر في حديثه، ويُختبر حتى يُعرف ضبطه. واعلم أنه جعل المصنف هنا المرتبة الأولى ما ذكر فيه أفعل، وهم لم يتعرضوا لذلك بل جعلوا المرتبة الأولى هنا ما أُفرِد بصفة كثقة، أو ثَبْت، وفي مراتب الجرح ما جعله ثانية، وأيضاً وقع منهم اختلاف، بعضهم جعلوا ما هو في المرتبة الثالثة مرتبة ثانية، وبعضهم عكسوا في المقال، والله سبحانه أعلم بحقيقة الحال.
(أحكام الجرح والتعديل)
(وهذه) المسائل الآتية بعد ذلك، وهي: قَبول التزكية من عارف بأسبابها الخ (أحكام تتعلق بذلك) أي بما ذكر من مسائل الجرح والتعديل، وأنواعها (وذكرتها) أي المسائل الآتية. (هنا) أي بعد مسائل الجرح والتعديل. (لتكملة الفائدة) أي لتكميل (1/730)
الفائدة المتعلقة لأحدهما بالأخرى. (فأقول:) أي في المتن. (وتقبل) بالتذكير والتأنيث وفي نسخة صحيحة: ويقبل (التزكية من عارف بأسبابها) أي بأسباب التزكية من مراتب الجرح والتعديل. (لا من غير عارف) تصريح بما عُلِمَ ضِمناً، وأعاده لِيُنَاطَ به قوله: (لئلا يزكي) أي غير العارف. (بمجرد ما يظهر له ابتداء من غير ممارسة) من بيان ما. (واختبار) بالموحدة، وعطفه للتفسير، أي امتحان في الراوي، وكذا الحكم في التجريح، ولعله سكت عنه لما أنه هو الأصل في باب الرواية، وإن كان الأصل في باب الشهادة عكسَ ذلك. (ولو) وصلية أي (ولو كانت التزكية صادرة) (من) (مزك) (واحد) أشار الشارح إلى أنه صفة موصوف محذوف. (على الأصح) أي بناء على القول الأصح، إشارة إلى ما قيل: إن الشهادة تقبل / بمزك واحد إلحاقاً لها بالتزكية في الرواية، ويدخل فيه تعديل المرأة العدل، والعبد العدل، وقد اختلفوا في تعديل المرأة، فحكى القاضي أبو بكر عن أكثر الفقهاء من أهل المدينة وغيرهم أنه لا يقبل تعديل النساء لا في الرواية ولا في الشهادة، واختار القاضي أنه يقبل تزكية المرأة مطلقاً في الرواية (1/731)
والشهادة، وأما تزكية العبد فقد قال القاضي أبو بكر: يجب قَبولها دون الشهادة، لأن خبرَه مقبول، وشهادته غيرُ مقبولة. (خلافاً لمن شرط أنها) أي التزكية (لا تقبل إلا مِن اثنين) أي مُزْكِّيَين (إلحاقاً لها) أي للرواية، أو للتزكية، وهو ظاهر / 136 - ب / عبارته. فقوله: (بالشهادة) أي بالتزكية في الشهادة كما في كلام ابن الصلاح وغيره. (في الأصح أيضاً) فإن الأصح أن مُعَدِّل الشاهد يجب أن يكون اثنين، وقال بعضهم: يكفي معدٌ ل واحد، ونُقِل عن أبي حنيفة وأبي يوسف الاكتفاء بالواحد في التزكية في الشهادة، وكذا في الرواية، ، وإنما اكتفَوا بالواحد لأنه إن كان المزكي للراوي ناقلاً عن غيره، فهو من جملة الأخبار، وإن كان اجتهاداً من قِبِل نفسه، فهو بمنزلة الحاكم، وفي الحالتين لا يشترط التعدد. (والفرق بينهما) أي بين مزكي الراوي و مزكي الشاهد. (أنّ التزكية تُنَزَّل) بتشديد الزاي المفتوحة. (منزلة الحُكم) بالنصب على المصدرية. (فلا يشترط فيها العدد) إذ لا يحصل بها عدالة الراوي، ولا يحتاج فيها إلى حكم أحد. (والشهادة تقع من الشاهد عند الحاكم فافترقا) وحاصل الفرق: أن (1/732)
تزكية الراوي حكمٌ بزكاته، وتزكية الشاهد شهادةٌ على زكاته، فلا بد من العدد في الأخير دون الأول فتأمل. ثم أشار الشيخ إلى ما اتَّجَهَ عنده من تخصيص محل الخلاف بما إذا كانت التزكية مستنده إلى النقل فقال: (ولو قيل: يُفَصَّل) بالتخفيف، أو التشديد، أي يُفَرَّق ويُمَيز (بين ما إذا كانت التزكية في الراوي مستندة) بكسر النون أو فتحها. (من المزكي إلى اجتهاده، أو إلى النقل) أي الرواية (عن غيره، لكان مُتَّجهاً) بضم ميم، وتشديد التاء، وكسر الجيم، أي متوجهاً ومُوَجَّهاً، وفي نسخة: متخرّجاً بصيغة اسم الفاعل من باب التفعيل من الخروج، وتكلف محشٍ في معناه بناءً على أنها أصله وقال: التخرج بالخاء المعجمة، وبالجيم رَسِيدَنْ بعلم يعني: الوصول إلى العلم، والظاهر أنه تصحيف، وفي تصحيحه تكلف. (لأنه) أي التزكية، وذَكَّرَ لأنها بمعنى التعديل. (إن كان) أي التعديل، (الأول) أي القسم الأول، وهو المستندِ إلى الاجتهاد. (فلا يشترط العدد) أي فيه (أصلاً لأنه حينئذٍ يكون بمنزلة الحاكم) حيث يحكم باجتهاده، ورأُيه لا ينقله عن أحد فلا يحتاج إلى عدد (1/733)
(وإن كان) أي التعديل. (الثاني) أي القسم الثاني، وهو المستنِد إلى التقليد (فيجري فيه الخلاف) أي المذكور فيما سبق. (وتبين) أي ظهر من الفرق المذكور. (أنه) أي الثاني. (أيضاً) أي كالأول. (لا يشترط العدد) أي فيه. (لأن أصل النقل) أي في الرواية، ويؤيده كلام محش أي نقل الحديث وقال السخاوي: أي سواء كان في الرواية، أو التزكية. (لا يشترط / فيه) أي في. المزكي. (العدد، فكذا) أي لا يشترط العدد (فيما تفرّع عنه) أي فيما / 137 - أ / يترتب عليه من التزكية، أو النقل الخاص، وحاصله أنه لا يشترط العدد في قَبول الخبر، فلم يُشترط في جرح راويه وتعديله بخلاف الشهادة. (والله سبحانه أعلم) ويفهم من قوله: وتبين الخ أنّ قوله: لكان مُتِّجِهاً ليس بمرضي عنده، بل المرضي عنده أن الواحد يكفي في الاجتهاد والنقل، والله سبحانه أعلم. (وينبغي) أي يجب (أن لا يُقْبَلَ الجرح) أي التجريح. (والتعديل) أي تجريح أحد وتعديله. (وإلا مِن عدل متيقِظ) اسم فاعل من اليقظة، من باب التفعيل، أي من مُسْتَحْضِرٍ ذي يقظة تحمِلُه على التحري، والضبط فيما يصدر عنه. (1/734)
(فلا يقبل) بصيغة المفعول. (جرحُ مَن أفرط) من إضافة المصدر إلى المفعول، ولو جعل الضمير في قوله: (فيه) راجعاً إلى الراوي المذكور ضِمناً، وجعل قوله: (فَجَرحَ) مِن وضع الظاهر موضَع الضمير العائد إلى مَن، لكان من إضافة المصدر إلى الفاعل، وهو الأولى لسياق الكلام مِن سباقه ولحاقه. وقوله: (بما لا يقتضي) متعلق ب: أفرط، والمعنى لا يُقبل جرحُ مَن تعدّى في جرح راو ممن يدّعي أنه مجرح بجرح لا يقتضي (رداً) أي نوعاً من الرد (لحديث المحدِّث، كما لا تقبل تزكية من أخذ بمجرد الظاهر، فأطلق التزكية) من غير تيقظ، وتحرٍ ، وتحفظ، والقائم بهذا المنصب العظيم فائزٌ بالثواب الجسيم، والمقام الكريم. قال السخاوي: رأى رجلٌ عند موت يحيى بن مَعين النبي صلى الله تعالى عليه وأصحابه مجتمعين، فسألهم عن سبب اجتماعهم أي في المنام، فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: جئت لأصلي على هذا الرجل، فإنه كان يذُب الكذب عن حديثي، ونودي بين نعشه: هذا الذي كان ينفي الكذب عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ثم رؤي في المنام فقيل له: ما فعل الله تعالى بك؟ قال: غفر الله لي، وأعطاني، وحيّاني، وزوجني حوراً وأدخلني عليه مرتين، وقيل فيه شعر:
(ذَهَبَ العليمُ بعيبِ كُلِّ مُحَدِّثٍ ..... وبكلِّ مُخْتَلِفٍ من الإِسْنَادٍ)
(وبِكُلِّ وَهْمٍ في الحديث ومُشْكِلٍ ..... يُعْنَى بهِ عُلمَاءُ كُل بِلادِ)(1/735)
انتهى. وهو الذي وقع له أنه حين لَقَّنُوه لا إله إلا الله حدّث بحديث: " من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة " وقبض روُحه حين وصوله: إلا الله، ووقع له أنه غُسِّل على السرير الذي غُسِّل عليه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فهنيئاً له ثم هنيئاً له. (وقال الذهبي - وهو) أي الذهبي (مِن أهل الاستقراء التام) أي التتبع الكامل (في نقد الرجال -:) أي خصوصاً، وقد قال: (لم يجتمع اثنان) أي عدلان متيقظان (من علماء هذا الشأن قط على توثيق ضعيف) أي ممَن أشتهر ضعفه، فإن لم يوجد اثنان اتفقا على توثيقه بل واحد، أو لم يوجد أصلاً. (ولا) أي ولا / 137 - ب / اجتمع اثنان كما ذكرنا. (على تضعيف ثقة. انتهى) في حاشية التلميذ: قال المصنف في تقريره: يعني يكون سبب ضعفه شيئين مختلفين، وكذا عكسه. (1/736)
قلت: لم يقع المصنف على علم ذلك، ولم يفهم المراد من قَبِل هذا من المصنف، وإنما معناه أن اثنين لم يتفقاً في شخص على خلاف الواقع في الواقع، بل لا يتفقان إلا على مَن فيه شائبةٌ مما اتفقا عليه انتهى. والأظهر أن معناه لم يتفق اثنان من أهل الجرح والتعديل غالباً على توثيق ضعيف وعكسه، بل إن كان أحدهما ضَعَّفَهُ، وثَّقَهُ الآخر، أو ثقة أحدهما ضَعَّفَهُ الآخر، بسبب الاختلاف ما قرره المصنف بأن يكون سببُ ضعفٍ الراوي شيئين مختلفين عند العلماء في صلاحية الضعف وعدمه فكل واحد منهما تعلق بسبب فنشأ الخلاف، فعلم من هذا التقرير أن التلميذ لم يُصِب في التحرير، ولم يُفهم المراد مع أنه المطابِق لما ذكره في المال، والمُفَاد.
(عِبَاراتُنَا شَتَّى وحُسْنُكَ وَاحِدٌ ..... فَكُلَّ إلى ذَاك الجَمَالِ يُشِيرُ)
وهذا المعنى هو المناسب لتعليله بقوله: (ولهذا كان مذهب النسائي أنْ لا يُتْرَكَ حديثُ الرجل حتى يجتمع الجميع) أي الأكثر. (على تركه) فإن التعارض، يوجب التساقط، وكأن النسائي ذهب إلى أن العدالة مقدمةٌ على الجرح عند التعارض، بناء على أن الأصل هو العدالة بخلاف الجمهور كما سيجيء، وبهذا يندفع ما قال محشِ اعتراضاً على التعليل: فيه أن ما يتفرع على قول الذهبي إنما هو هذا: لا يترك حديث الرجل حتى يجتمع على تركه اثنان، أو: يترك حديث الرجل إذا اجتمع على تركه اثنان، لا ما ذكره من قوله:(1/737)
يجتمع الجميع على تركه انتهى. وقد ذكر شارح هنا ما لا طائل تحته، ولما كان منشأ تضعيفٍ الثقة، وتوثيق الضعيف، إنما هو التساهل في تحقيق سببه، وإلا لما وقع الخلاف فيما يتعلق به قال: (ولْيَحْذرِ المتكلم) أي من أهل الجرح والتعديل. (في هذا الفن) أي فن الحديث. (من التساهل ) أي من تساهله، وعدم تحقيقه. (في الجرح والتعديل) أي لأحد من الرواة. (فإنه) أي المتكلم. (إن عدّل) بالتشديد أي نسب راوياً إلى العدالة. (بغير تثبت) أي بغير دليل، وبرهان، وتعليل وبيان. (كان) أي المتكلم. (كالمُثْبِت حكماً ليس بثابت) وإنما قال: كالمثبت لأنه بنى حكمه على سبب، لكنه تساهل فيه. (فيُخشى عليه أن يدخل في زُمْرِة " مَن رَوَى حديثاً وهو يَظُنُّ أَنَّهُ كَذِب ") لأنه مع التساهل فيه لم تحصل له غلبة الظن على عدالته، فيصدق عليه / 138 - / أنه ظن أنه كذب، وإنما هو تَوَهَّمَ أنه صدق، فلا ينفعه حينئذ، فإن بعض الظن إثم. (وإن جرّح) بالتشديد أي نسب راوياً إلى الحرج. (بغير تَحَرُّزٍ) تَفَعُّل من(1/738)
الحِرز بتأخير الزاي عن الراء وهو التخمين، والظن الغالب، أو معناه بغير احتراز واحتياط، أو معناه بغير تحفظ، فإنه يقال: تَحَرَّز نفسه، أي جعله في حرز، وأما قول محشٍ: هو بالراء المهملة والزاي المعجمة أي الحِرز، فهو حاصل المعنى لا واصل المبنى. (أَقْدَمَ) أي دخل بجرأة (على الطعن) أي القدح. (في مسلم بريء) يحتمل أن يكون صفة مشبَّهة على زِنَة فعيل، وأن يكون فعلاً ماضياً بكسر الراء، أي متنزه أو تنزه. (من ذلك) أي في نفس الأمر، أو باعتبار غلبة الظن. (ووسَمَه) عطف على أقدم / أو حال مِن فاعله، أي أعلمه وشَهَّرَهُ، وفضحه. (بِمِيسَمِ سوءٍ) أي بِعلامة مذمومة، والمِيسم بكسر الميم آلة الكي، أريد بها العلامة الحاصلة بها مجازاً. (يبقى عليه) أي حال حياته ومماته على أَتباعه وذرياته. (عَارُهُ) أي ما يُعيَّر به. (أبداً) أي دائماً بحسب الظاهر عند الناس، وإن كان مبرأً في الحقيقة عند الله عز وجل، وكذا عند العارفين بحاله وحسن فِعاله. (والآفات) أي الكثيرة. (تدخل في هذا) أي هذا الباب من هذه الوتيرة. (تارة من الهوى) أي هوى النفس من الحسد والغِل والغِش الكائنة في الباطن. (والغرض الفاسد) من العداوة والتعصب المذهبي والرياء والسمعة مما يتضمن من تزكية النفس كما هو المشاهد في كثير من المتأخرين (وكلامُ المتقدمين) أي من السلف والخلف الصالحين. (سالم من هذا غالباً) أي (1/739)
مع احتمال غيره نادراً. (وتارة من المخالفة في العقائد) فإن بعض أهل السنة يطعنون في الراوي إذا كان رافضياً، أو خارجياً، أو غيرهما مع كونه ظاهر العدالة نظراً إلى بدعته، وأما الروافض والنواصب فعلماؤهم ما يعتبِرُون رواة أهل السنة بالكلية، بل لا يقولون بعدالة أكثر الصحابة فضلاً عن غيرهم، ولذا لم يلتفتوا إلى حديث الشيخين وغيرهم، وأما جَهَلَتُهم فيكفِّرون أهل السنة إما في اعتقادهم، وإما في ارتكاب الكبائر على مقتضى مذهبهم. (وهو) أي ما ذكر من أن الطعن في الراوي تارة يكون لمخالفة العقيدة. (موجود كثيراً قديماً وحديثاً) أي في كلام المتقدمين والمتأخرين، وإن كان في الحديث حَدَث أكثر. (ولا ينبغي) أي لا يجوز (إطلاق الجرح بذلك / 138 - ب /) أي بما ذكرناه من مخالفة العقيدة، فإنه يختل به الدراية لانسداد باب الرواية، ولذا وُجِد الشيعي والناصبي في رجال الشيخين. (فقد قدمنا تحقيق الحال) أي وبسط المقال. (في العمل برواية المبتدعة) أي وإن كانوا هم أهل الجهالة والضلالة. قال ابن دقيق العيد: الوجوه التي تدخل منها الآفة خمسة. (1/740)
أحدها: الهوى والغرض، وهو شرها، وفي تواريخ المتأخرين كثيرة. والثاني: المخالفة في العقائد. والثالث: الاختلاف بين المتصوفة وأصحاب العلوم الظاهرة، فوقع تنافر أوجب كلام بعضهم في بعض. والرابع: الكلام بسبب الجهل بمراتب العلوم، وأكثر ذلك في المتأخرين لاشتغالهم بعلوم الأوائل، وفيها الحقُّ كالحساب، والهندسة، والطب، وفيها الباطل كالطبيعيات، وكثير من الإلهيات، وأحكام النجوم. والخامس: الأخذ بالذم مع عدم الورع. وقد عقد ابن عَبْد البَرّ في كتاب العلم باباً للأقران والمتعاصرين بعضهم في بعض، ورأى أن أهل العلم لا يقبل جرحهم إلا ببيان واضح.
(تقديم الجرح على التعديل)
(والجرح) بفتح الجيم بمعنى التجريح. (مُقَدم على التعديل) أي عند التعارض، وإلا فالأصل أن يكون الراوي عدلاً تحسيناً للظن بالمسلم. (وأطلق ذلك) أي التقديم المقيد بوقت التعارض (جماعةٌ) من الأصوليين لأن مع الجارح زيادة علم لم يطَّلِع عليه المُعَدل ولأن الجارح / مُصدِّق للمُعَدِّل فيما أخبر به عن ظاهر الحال، وهو يخبر عن أمر باطن خَفي عن الآخر. نعم إن عين سبباً نفاه المعدل فلا يعتبر، فإنهما متعارضان. (ولكن محله) أي محل تقديم الجرح على التعديل ثابت عند المحققين على(1/741)
وجه التفصيل وهو أنه: (إن صدر) أي الجرح. (مبيَّناً) أي مفسراً. (من عارف بأسبابه) أي الجرح. (لأنه إن كان غير مفسّر لم يقدح فيمن ثبتت عدالته) أي وإن كان يقدح فيمن لم يعرف حاله كما سيأتي في كلامه، وإنما لم يقدح من غير بيان في ثابت العدالة لأن الناس يختلفون فيما يَجرح وما لا يَجرح بناء على أمر اعتقده جرحاً، والحال أنه ليس بجرح في نفس الأمر فلا بد من بيان سببه. (وإن صدر) أي الجرح (من غير عارف بالأسباب لم يعتبر) أي جرحه (به) أي بالإجمال من غير تفسير (أيضاً) أي كما لم يعتبر من العارف بها بل هذا بالأولى كما لا يخفى. (فإن خلا المجروح عن التعديل) وفي نسخة صحيحة: عن تعديل. (قُبِل الجرح فيه مُجملاً غير مُبَيَّنِ السبب) بأن يقول: / 139 - أ / متروك، أو ليس بالقوي ونحوهما. (إذا صدر عن عارف) احتراز من غيره. (على المختار). (لأنه إذا لم يكن فيه) أي في الراوي (تعديل) أي ما يُعَدَّلُ به. (كان) وفي نسخة: كأنه، وفي نسخة: فهو، كان (في حيز المجهول) والأظهر أن يقال:(1/742)
في حيز الجهالة، أو كان مجهولاً (وإعمال قول المجرَّح) أي اعتباره حينئذ (أولى من إهماله) أي تركه بخلاف ما تقدم من أن إهماله أولى من إعماله في حق ثابت العدالة لما سبق من العلة. (ومال ابن الصلاح في مثل هذا إلى التوقف فيه) أي فيكون متوقفاً في هذا أيضاً، أو " المثل " زائد كما زيد في أمثاله، فيكون إشارة إلى أنه غير المختار.
(فصل)
(الأسمَاء والكُنَى)
أي هذا المبحث الآتي نوع من جنس هذا الباب مفصول عما قبله لمغايرة ما بينه وبينه، أو لطول الفصل عن ذكر المهم وهو أظهر، وإلا فما بعده عطف على ما قبله متناً وشرحاً كما أشار إليه بقوله: (ومن المهم في هذا الفن معرفة كُنَى المسمين) بضم الكاف، وفتح النون جمع كنية، وهي ما صُدِّرَتْ بأبٍ أو أمٍ. والمسمين جمع المسمى بفتح الميم المشددة. (1/743)
(ممن) أي من جملة مَن (اشتهر باسمه وله كنية لا يُؤمن) الخ، صفة أخرى لِمن (أنْ يأتي) أي المشتهر. (في بعض الروايات مكنى) بصيغة اسم المفعول أي بكنية. (لئلا يُظن أنه آخر) علة لكون معرفتها من المهم. قيل: ومثاله حديث رواه الحاكم من رواية أبي يوسف، عن أبي حنيفة، عن موسى بن أبي عائشة، عن عبد الله بن شَداد، عن أبي الوليد، عن جابر مرفوعاً: " مَن صلى خلف الإمام فإن قراءته له قراءة ". قال الحاكم: عبد الله بن شَداد هو بنفسه أبو الوليد، بينه عليّ بن المديني. قال الحاكم: ومَنْ تهاون بمعرفة الأسامي أورثه مثل هذا الوهم. قلت: يمكن / دفعه بأن يقال: إنّ " عن " زائدة من سهو قلم الناسخ، أو وهم بعض الرواة منهم الحاكم فإنه كثير الوهم على ما ذكروه عنه، وهذا على تقدير تسليم أن يكون المراد بأبي الوليد بأبي هو نفس شداد، وإلا فلا محظور أن يكون شداد مكنى بأبي الوليد، ويروي عن غيره المكنى بأبي الوليد، وعلى تقدير وجود " عن " عدم مغايرتهما يمكن أن يكون بدلاً عن شداد بإعادة الجار لزيادة البيان، والعجب(1/744)
من شارح حنفي ذكر هذا المثال بصيغة الجزم، وسكت عن جوابه وتحصيل صوابه. (ومعرفة أسماء المُكَنين) أي المشتهرين بالكنية. (وهو عكس الذي قبله) واعلم أن العَلَم ما يعرف به مَنْ جعل علامة عليه من الأسماء، والكنى، والألقاب فالاسم: ما وضع علامة على المسمى. / 139 - ب /. والكنية: ما صُدِّر بأبٍ أو أم. واللقب: ما دل على رِفعة المسمى أو ضَعَتِهِ، وهذا على ما اختاره السيد الشريف. وأما ما ذكره العلامة التَّفْتَازَاني، فالاسم أعم من اللقب والكنية، وهو الذي يوافق قوله: (ومعرفة مَن اسمه كنيته) كأبي بلال، وأبي حَصين بفتح الحاء. (وهو) أي هذا النوع، أو من اسمه كنيته (قليل) وفي نسخة صحيحة: وهم بناء على أنَّ " مَنْ " جمع المعنى مُفْرَدُ اللفظ وقليل، أما بناء على لفظه، أو لكونه فعيلاً يستوى فيه المفرد والجمع، وإن كان قد يقال: قليلون وهو ضربان: الأول: من لا كنية له غير الكنية التي هي اسمه كأبي بلال الأشعري الراوي عن شَرِيك وغيره، وكأبي حَصين بفتح الحاء المهملة، ثم مهملة مكسورة، الراوي عن أبي حاتِم الرازي. فقال كل واحد: ليس لي اسم، اسمي (1/745)
وكنيتي واحدٌ. والثاني: مَنْ له كنية أخرى غير الكنية التي نُزِّلت منزلة الاسم وصارت الثانية كنية لها. ولذا قال ابن الصلاح كأن للكنية كنية أخرى. ومثاله: أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري فقيل: اسمه أبو بكر، وكنيته أبو محمد، ونحوه أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث أحد الفقهاء السبعة، اسمه أبو بكر، وكنيته أبو عبد الرحمن على ما قاله ابن الصلاح. وذكر الخطيب لا يضر لهذين الاسمين في تسميته بلفظ الكنية مع كنية أخرى. قال ابن الصلاح: وقد قيل: لا كنية لابن حزم غير الكنية التي هي اسمه. انتهى. وكذا ضعّفه العراقي فهو من قبيل مَن اسمه كنيته، وبه جزم ابن أبي حاتِم، وابن حِبّان، وأبو جعفر الطَبَرِي، وصححه المِزِّي. وقيل: اسمه محمد أو المغيرة، وكنيته أبو بكر. (ومعرفة من اختلف في كنيته) أي دون اسمه بأن قيل: كنيته كذا، وقيل كنيته غير ذلك. (وَهُم) بصيغة الجمع هنا (كثير) فاجتمع له من الاختلاف كنيتان فأكثر. قال ابن الصلاح: ولعبد الله بن عطاء الإبراهيمي الهروي من المتأخرين فيه مختصر وذلك كأسامة بن زيد الحِبّ، فلا خلاف في اسمه، واختلف في كنيته فقيل: أبو زيد، وقيل: أبو محمد، وقيل: أبو خَارِجَة. وكأُبيّ بن كعب أبي المنذر، وقيل أبي الطُّفَيْل / وكذا مَنْ اخْتُلِفَ في اسمه دون كنيته وهو عكسه كأبي بَصْرَة الغفاري: (1/746)
اسمه: حُمَيْل بضم الحاء المهملة مصغراً على الأصح، وقيل: زيد وقيل: بصرة بن أبي بصرة. (ومعرفة مَنْ كَثُرَتْ كُنَاه) جمع كنية مضاف إلى الضمير، أي له كنيتان أو أكثر (كابن جُرَيج) بالجيمين وراء بينهما مصغراً. (له كنيتان: أبو الوليد، وأبو خالد،) وهو عبد الملك بن عبد العزيز، وكمنصور / 140 - أ / بن عبد المنعم الفَرَاوي بفتح الفاء على المشهور. وقال ابن السَّمْعَاني وغيره: بضمها نسبة لبلده من ثغر خُرَاسَان، له كُنَىً ثلاث: أبو بكر، وأبو الفتح، وأبو القاسم حتى يقال له: ذو الكنى. أقول: لو قيل له: أبو الكنى لكان باللطافة أولى. (أو كثرت نعوته وألقابه) أي ومن المهم معرفة ألقاب المحدثين إذ ربما وهم العاطل من معرفة الألقاب، فجعل الرجل الواحد اثنين لأنه قد يكون ذكره مرة باسمه، ومرة بلقبه، فالمراد بالنعوت الألقاب، كذا قيل. والظاهر أن النعوت (1/747)
أعم من الألقاب، فيشمل النسبة إلى القبيلة، والبلد، والصنعة وقد وقع ذلك الوهم لجماعة من الحفاظ، كعلي بن المَديني، وعبد الرحمن بن يوسف بن خِرَاش فرقوا بين عبد الله بن أبي صالح أخي سهيل، وبين عباد بن أبي صالح فجعلوهما اثنين. وقال الخطيب في الموضح: وعبد الله بن أبي صالح كان يلقب عَبَّاداً وليس عَبَّاد بأخ له، اتفق على ذلك أحمد بن حنبل وغيره. ثم الألقاب بالمعنى الأعم ينقسم إلى ما يجوز ذكره في الرواية وغيرها، سواء عرف بغيره أم لا، وهو إما لا يكرهه صاحبه، كأبي تراب لقب علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه لقَّبه به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على سبيل الملاطفة لَمَّا خرج من عند فاطمة غضبان، ورقد في موضع على التراب فقال له: " قم أبا تراب " وما كان له رضي الله تعالى عنه اسم أحب إليه منه مع أنه من ألقابه أبو الحسن أبو الحسين. وإلى ما لا يجوز ذكره إن كان معروفاً بغيره، ويجوز إن لم يعرف بدونه للضرورة وبقدر الحاجة كالأعمش، والأعرج، وكمعاوية بن عبد الكريم أحد أكابر المحدثين قيل له: الضال لأنه ضل في طريق مكة. ثم الألقاب أيضاً قد يعرف سبب التلقيب بها، وقد لا يعرف. (ومعرفة من وافقت كنيته) وهي ما صُدِّر بالأب ونحوه. (اسمَ أبيه) أي موافقة جزئية. (كأبي إسحاق إبراهيم بن إسحاق المدَني) بفتح الدال قال المصنف: المديني نسبة إلى مدينةٍ ما، والمدني نسبة إلى مدينة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ولم يَشذّ مِن هذا إلا علي بن المديني، فإن والده من أهل المدينة. نقله التلميذ. (أحد أتباع التابعين) بالجر بدل من أبي إسحاق، ويجوز الرفع والنصب فيه (1/748)
كما هو الظاهر ومذكور في أمثاله. (وفائدة معرفته) أي معرفة الموافق المذكور أو معرفة هذا النوع المسطور. (نفي الغلط عمن نَسَبه) الحديث، أو الراوي. (إلى أبيه) أي أبي / الراوي. (فقال:) أي مَن نَسَبَهُ. (أخبرنا ابن إسحاق فنُسِب) بصيغة المجهول، أي فَنَسَبَ الجاهلُ بمعرفته الناسبَ العَالِمَ بمعرفته (إلى التصحيف / 140 - ب /) الأظهر التحريف. (وأَنَّ) أي وإلى القول بأن (الصواب:) إي أن يقال: (أخبرنا أبو إسحاق) والحال أن كلاهما صواب، ولا تحريف في الانتساب. (أو بالعكس، كإسحاق بن أبي إسحاق) وفائدته الأمن من القلب والتبديل، وكأنه اكتفى عن ذكر التعليل بإشارة العكس. (السَّبِيعي) بفتح السين المهملة، وكسر الموحدة، وبعدها تحتية، فعين مهملة، منسوب إلى قبيلة من اليمن سكنوا الكوفة. (أو وافقت كنيته كنية زوجته، كأبي أيوب الأنصاري، وأم أيوب صحابيان مشهوران) فإنه يخاف من التحريف، أو التبديل. (أو وافق اسم شيخه اسم أبيه) أي أبي الراوي. (كالربيع بن أنس، عن أنس (1/749)
هكذا يأتي الروايات فيظن) أي الظان (أنه يروي عن أبيه كما وقع في الصحيح عن عامر بن سعد، عن سعد أي ابن مالك أبي وَقاص. (وهو) أي سعد. (أبوه) أي أبو عامر. (وليس) أي ولكن، أو الحال أنه ليس. (أنسٌ شيخُ الربيع) بالرفع على أنه بدل، أو عطف بيان. (والَده) بالنصب خبر ليس (بل أبوه) أي أنس المذكور. (بَكْري) بفتح موحدة، وسكون كاف منسوب إلى بكر بن وائل. (وشيخه أنصاري، وهو) أي شيخه. (أنس بن مالك الأنصاري) المشهور) أي بأنه خادم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. (وليس الربيع المذكور من أولاده) أي من أولاد أنس المشهور، ومنه ما يظنه الجهلة بمعرفة الرجال أن مالك بن أنس صاحب المذهب هو ابن أنس بن مالك، وليس كذلك.
(المَنْسُوبُون لغير آبائهم)
(ومعرفة مَنْ نُسِبَ إلى غير أبيه) أي أجنبي بسبب. (كالمِقدَاد) (1/750)
بكسر الميم. (ابن الأسود نسب إلى الأسود) أي ابن عبد يَغُوث (الزُّهْرِي) أي القُرشي. (لكونه) وفي نسخة: لأنه (تبنّاه) تفعّل مصنوع من الابن. قال محش، وكذا شارح: لأنه كان المِقْدادُ ولد زوجة الأسود. انتهى. وفيه أن مثله يقال له: الرَّبيب، وأما التبني إنما يستعمل في الولد الأجنبي يجعله ابناً له كما وقع له صلى الله تعالى عليه وسلم بالنسبة إلى زيد والقضية مشهورة، والآيات في القصة مسطورة. (وإنما هو) أي المقداد بن الأسود في الحقيقة. (المِقْدَاد بن عمرو) أي ابن ثَعْلَبَة الكِندي من أهل اليمن. قال المصنف: وقد نسب عمرو إلى كندة وليس منها وإنما هو نزل كِنده فنسب إليها فاتفق له ما اتفق لولده، نقله التلميذ. (أو نُسِبَ إلى أُمّه كابن عُلَية) بضم مهملة، وفتح لام، وتشديد تحتية. (وهو) أي ابن عُلَيَّة. (إسماعيل بن إبراهيم بن مِقْسم) بكسر أوله، وسكون القاف، وفتح المهملة. (أحد الثقات) ذكره / 141 - أ / على سبيل الاستطراد، وإلا فلا دخل له في المراد. (وعلية اسم أمِّهُ) وقيل: (اشتهر بها وكان) أي مع اشتهاره المستلزم لذكره. (يجب أن لا يقال وفي نسخة: لا يحب أن يقال (1/751)
(له: ابن عُلَيَّة) ولعله لذكر أمه، فإنه مكروه طبعاً، ومروءةً، وعادة، أو لكون النسبة إليها موهم لخلل نَسَبِهِ، وعلى التقديرين يشكل تعليله بقوله: (ولهذا كان يقول الشافعي: أخبرنا إسماعيل الذي يقال له: ابن عُلَيَّة) أي بصيغة غير الجزم. والظاهر أن يقال: ولهذا أي ولكونه اشتهر بها، وكان لا يحب أن يقال له: كان يعبر الشافعي عنه بنسبة التلقيب إلى غيره براءة لذمته وإيضاحاً لروايته. هذا، وجعل ابن الصلاح والنووي مَن نُسِبَ إلى غير أبيه شاملاً للأقسام الأربعة: اثنان ما ذكره المصنف، والآخران: مَن نسب إلى جَده، ومَن نسب إلى جدته، فالأول كأبي عُبيدَه بن الجَراح، والثاني كيعْلَى بن مُنْيَة بضم ميم، وسكون نون، وتحتية مفتوحة على وزن رُكْبَة، وهي أم أبيه، وكأَنَّ المصنف اقتصر على القسمين وجعل القسم الثالث داخلاً في مَن نُسب إلى غير ما يسبق إلى الفهم، وبقي القسم الرابع مهملاً كذا قاله شارح، والصواب: أنه جعل القسمين الأخيرين داخلين في قوله:
(نسَبٌ على خلاف ظاهرها)
(أو نُسب إلى غير ما يسبِق) بفتح أوله وكسر ثالثه أي يتبادر (إلى الفهم) أي منه بأن نُسب إلى نسبة من بلد، أو وقعة، أو قبيلة، أو صنعة، (1/752)
وليس الظاهر الذي يسبق إلى الفهم مراداً منه، بل نسب إلى غير المتبادر لعارض عرض من نزوله في ذلك المكان، أو تلك القبيلة، أو نحو ذلك. (كالحَذّاء) بفتح المهملة، وتشديد الذال المعجمة، الذي يحذو النعل. (ظاهره أنه منسوب إلى صناعتها) أي صناعة الحِذَاء بالكسر، وهو النعل، والضمير يرجع إليه باعتبار أنه مفهوم من الحذاء، وأنَّثه بالنظر إلى معناه الأصلي، وهو النعل لأنه مؤنث سماعي، وأما قول شارح: أنثه بتأويل الصنعة فغير صحيح، لأنه يصير التقدير صناعة الصنعة (أو بيعها) أي بيع الحذاء، وهي نعال، فإنه فعّال للنسبة، كَتَمّار ولَبّان. (وليس) أي الحذّاء هذا (كذلك) أي في نفس الأمر. (وإنما كان يجالسهم) أي الحذائيين، بدلالة الحذَّاء. (فنُسب إليهم) أي المنسوبين إلى صناعتها أو بيعها. (وكسليمان التيمي) بفتح الفوقية، وسكون التحتية، منسوب إلى قبيلة بني تَيْم، وهو الذي قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم - في النوم وقد سئل: مَنْ السواد الأعظم؟ مشيراً إليه -: إنه هو السواد الأعظم. (لم يكن من بني / 141 - ب / التَّيْم) أي حقيقة. (ولكن نزل فيهم) أي وسكن عندهم، فنسب إليهم مجازاً. (وكذا مَن نُسب إلى جده، فلا يُؤمَن التباسُه بَمن وافق اسمُهُ) أي اسم المنسوب (واسم أبيه) أي أبي الموافق. (اسم الجد المذكور) قال المصنف: (1/753)
كمحمد بن بِشر، ومحمد بن السائب بن بشر. الأول ثقة، والثاني ضعيف، وينسب إلى جده فيحصل اللبس، وقد وقع ذلك في الصحيح نقله التلميذ. وكذا من نسب إلى جدته، فإنه يصدق عليه أنه نسب إلى غير ما يسبق إلى الفهم، وقد قدمنا الإشارة إليه، ومِن فوائده معرفة: الأمور على وجهها، وإنزالُ الشخص منزلتهُ، / وربما ينشأ عنه الترجيح عند التعارض، والجمع عند من أثبت تلك النسبة ونفاه، ودَفَعَ تَوَهُّم العدد. (ومعرفة مَن اتفق اسمه واسم أبيه وجده) أي واسم جده. (كالحسن بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم) وكذا محمد بن محمد بن محمد الغزالي، وكذا محمد بن محمد بن محمد الجزري. (وقد يقع) أي التوافق. (أكثر من ذلك) أي مما ذكر من الثلاث (وهو من فروع المسلسل) أي من أنواعه، وهو أن يكون يروي الحسن عن الحسن وهكذا، ويقرب منه ما روى السيوطي عن الحسن - أي البصري - عن الحسن - أي ابن عليّ - عن أبي الحسن عن جد الحسن " أن أحسن الحسن الخلق الحسن ". أو يروي الراوي عن أبيه عن جده وهَلُمَّ جَراً، وقد تقدم في كلام المصنف مَن روى عن أبيه عن جده، وإنّ أكثر ما وقع فيه ما تسلسلت الرواية فيه عن الآباء بأربعة عشر أباً، وقدمنا مثاله المنتهي إلى: حدثني أبي الحسين (1/754)
الأصغر. قال حدثني أبي عليّ بن الحسين بن علي، عن أبيه، عن جده علي رضي الله تعالى عنهم قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: " ليس الخبر كالمعاينة "، وبهذا يظهر بطلانُ قول محشٍ هنا: لم يظهر معناه، أو أنصف وأراد بالنسبة إلى مبناه. (وقد يتفق الاسم) أي اسم الراوي (واسم الأب) أي أبيه. (مع الاسم) أي اسم الجد: كما في نسخة صحيحة. (واسم الأب) أي أبيه: كما في نسخة مصححة أي أبي الجد. والحاصل: أنه يتفق اسمه مع اسم جده، ويتفق اسم أبيه مع اسم جده. (فصاعداً) أي فقد يكون الاتفاق زائداً على ذلك، ومثال ما قبله. (كأبي اليمن الكندي) بكسر الكاف، وسكون النون. (وهو زيد بن الحسن بن زيد بن الحسن بن زيد بن الحسن) فكان الأنسبُ تقديم المثال على قوله: فصاعداً. (أو اتفق) اسم الراوي، واسم شيخه، وشيخ وشيخه، فصاعداً، كعمران عن عمران عن عمران الأول: يعرف بالقصير، والثاني: أبو رجاء العُطَارِديّ) (1/755)
بضم أوله. (والثالث: ابن حُصَين) بضم المهملة الأولى، / 142 - أ / وفتح الثانية مصغراً. (الصحابي رضي الله تعالى عنه، وكسليمان، عن سليمان، عن سليمان، الأول: ابن أحمد بن أيوب الطبراني، والثاني: ابن أحمد الواسطي، والثالث: ابن عبد الرحمن الدمَشقي) بكسر أوله، وفتح الميم، وكسره أي الشامي. (المعروف بابن بنت شُرحْبِيل) بضم الشين المعجمة، وفتح الراء، وسكون الحاء المهملة، وبعدها موحدة مكسورة فتحتية ساكنة. (وقد يقع ذلك) أي التوافق المفهوم من " اتفق "، أو ما ذكر من الموافقة. (للراوي وشيخه معاً) أي لاسْمَيْهِما جميعاً، أو يقع اتفاق اسمه، واسم أبيه، وجده، وقال محشٍ: أي وقد يقع اتفاق الاسم اسمِ الجِدّ، واسم الأب اسم أب الجد، ثم قال: وكان الصواب إيرادَ ذلك مقدَّماً على قوله: أو اسم الراوي انتهى. وهو مخطئ في تخطئته، فإن المثال الآتي شامل للصور غيرُ مختص بما ذكر. (كأبي العَلاء) بفتح المهملة. (الهَمَذَاني) / قال المصنف: هو بالتحريك، والميم والذال المعجمة نسبة إلى البلدة، وبسكونها، وإهمال الدال نسبة إلى (1/756)
القبيلة، ومِن أوله ما في الكتاب نقله تلميذه. (العَطار) أي بائع العطر والطيب، أو صانعه. (مشهور بالرواية عن أبي علي الأصْفَهَاني) تقدم ضبطه. (الحدَّاد) أي صانع الحديد. (وكل منهما) أي من الراوي والشيخ. (اسمه الحسن بن أحمد بن الحسن بن أحمد بن الحسن بن أحمد فاتفقا في ذلك وافترقا في الكنية) فإن أحدهما أبو العلاء، والآخر أبو علي. (والنسبة إلى البلد) أي أصفهان وهمذان. (والصناعة) لكون أحدهما حداداً، الأخر عطاراً. (وصنف فيه) أي في هذا النوع. (أبو موسى المَديني) بالياء. (جزء) أي كُراساً أو مجلداً. (حافلاً) أي جامعاً لأمثلة هذا النوع. (ومعرفة من اتفق اسم شيخه، والراوي) أي اسم الراوي. (عنه) أي عَمَّنْ (1/757)
اتفق، والمراد شيخه وفيه مساهلة لا تخفى. (وهو نوع لطيف لم يتعرض له ابن الصلاح) أي وكان ينبغي له أن يتعرضه، وكأنه للطفه خفي عليه، فما التفت إليه. (وفائدته رفع اللَّبْس) بفتح اللام، أي الخلط والاشتباه. (عمن يظن أن فيه تَكراراً) بفتح أوله. (أو انقلاباً،) فإذا قال مثلاً: عن تلميذ مسلم عن البخاري عن مسلم، فيظن فيه التكرار بأن يكون المراد من المسلمين واحداً، والانقلاب باعتبار أن التلميذ كيف يكون شيخاً. (فمن أمثلته:) أي أمثلة هذا النوع. (البخاري روى عن مسلم، وروى عنه) أي عن البخاري (مسلم، فشيخه) أي شيخ البخاري. (مسلم بن إبراهيم / 142 - ب / الفِرَاديسي)، بكسر الفاء، ثم راء بعده ألف، ثم دال (1/758)
مهملة، ثم تحتية ساكنة، فسين مهملة، فياء النسبة. (البصري) بفتح الموحدة وكسرها. (والراوي عنه) أي عن البخاري. (مسلم بن الحجاج) بفتح أوله، وتشديد الجيم الأولى. (القُشَيْري) بالتصغير نسبة لقُشَيْر، وهو أبو قبيلة (صاحب الصحيح،) أي المشهور وهو أحد الصحيحين، أي من جملة الصحاح الست. (وكذا وقع ذلك) أي وقع مثل ذلك من اشتراك الاسمين المخصوصين بالمسلمين، واختلاف الجسمين. (لعبد بن حُمَيد) بالتصغير أحد المخرجين (أيضاً) أي كما وقع للبخاري. (روى) أي ابن حُميد (عن مسلم بن إبراهيم، وروى عنه) أي عن ابن حُميد (مسلم بن الحجاج في صحيحه حديثاً بهذه الترجمة بعينها) كحدثنا عَبْد بن حُمَيْد عن مسلم. (ومنها:) أي ومن أمثلته (يحيى بن أبي كثير، روى عن هشام، وروى عنه هشام) أي وهما متغايران. (فشيخه هشام بن عروة، وهو من أقرانه) أي من طبقته. (1/759)
(والراوي عنه هشام بن أبي عبد الله الدَّسْتوائي) بفتح الدال، وسكون السين المهملتين، وفتح الفوقية، ثم واو بعدها ألف ممدود، وياء للنسبة. (ومنها: ابن جُريج) بالجيمين مصغراً، والأظهر أن يقول: وكذا وقع ذلك لابن جُرَيْج. (روى عن هشام، وروى عنه هشام، فالأعلى) أي شيخه (ابن عُرْوَة، / والأدنى) أي تلميذه. (ابن يوسف الصَّنْعَاني) بفتح الصاد، المهملة، وسكون النون الأولى، فعين مهملة. (ومنها الحَكَم) بفتحتين. (بنُ عُتَيبة روى عن ابن أبي ليلى، وعنه) وفي نسخة: وروى عنه (ابن أبي ليلى، فالأعلى عبد الرحمن، والأدنى محمد بن عبد الرحمن المذكور) أي الموصوف بالأعلى. (وأمثلته) أي أمثلة هذا النوع. (كثيرة) وفيما ذكرناه كفاية.
(الثقات والضعفاء)
(ومن المهم في هذا الفن معرفة الأسماء المُجَرَّدة) أي من الكُنَى، والألقاب، أعم من أن يكون أصحابها ثقاتٍ، أو ضعافاً مذكورة في كتاب دون كتاب، وبهذا اندفع اعتراض التلميذ بقوله: إن كان المراد بالمجردة التي لا تُقَيد (1/760)
بكونهم ثقات، أو ضعفاء، أو رجال كتاب مخصوص، فلا يظهر معنى قوله: فمنهم من جمعها بغير قيد انتهى، لكن لا يخفى أن الدفع إنما يتم لو ثبت أن جمع الأئمة مختص بمَن لم يكن له كنية، أو لقب، أو بمَن لم يشتهر بأحدهما، والظاهر أن جمعهم أجمع وأعم، والله تعالى أعلم . (وقد جمعها) أي الأسماء المجردة كلها. (جماعة من الأئمة) أي من علماء الرجال لكن باختلاف / 143 - أ / في جمعهم. (فمنهم من جمعها بغير قيد) أي بكونها ثقاتٍ، أو ضعفاء. (كابن سعد في الطبقات، وابن أبي خَيْثَمَة) بفتح الخاء المعجمة، وسكون التحتية، وفتح المثلثة. (والبخاري في تاريخهما) أي تاريخي: ابن سعد، والبخاري. (وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل) اسم كتاب له، فإنهم ذكروا الأسماء كلها في تصانيفهم من غير تفرقة بين ثقتهم وضعيفهم. (ومنهم) أي من الأئمة التي جمع الأسماء المجردة. (مَنْ أفْرَدَ الثقات) أي بالتصنيف لأنهم المقصود، وهم الأصل في الوجود. (كالعِجْلي) بكسر المهملة، وسكون الجيم. (وابن حِبّان) بكسر المهملة، وتشديد الموحدة. (وابن شاهِين) بكسر الهاء. (1/761)
(ومنهم مَنْ أَفْرَدَ المجروحين) لأنهم أقلُ، وضَبْطُهم أَتَمَّ، ومعرفتهم أَهَمّ (كابن عَديّ، وابن حبان أيضاً). (ومنهم مَنْ تَقيَّد بكتاب مخصوص) أي فذكر أسماء رجال ذلك الكتاب. (كرجال البخاري لأبي نَصْرٍ الكَلاَبَاذِي) بفتح أوله. (ورجال مسلم لأبي بكر بن منجُويَه) بفتح ميم، وسكون نون، ثم جيم مضمومة، بعدها واو ساكنة، فتحتية، فتاء تأنيث مفتوحة. (ورجالهما) أي وكرجال الشيخين. (معاً) أي جميعاً. (لأبي الفضل بن طاهر، ورجال أبي داود لأبي علي الجَيَّاني) بفتح الجيم، وتشديد التحتية بعدها ألف، ونون، وياء النسبة. (وكذا رجال الترمذي ورجال النسائي لجماعة من المغاربة) قال التلميذ مِنْ هذه الجماعة: الحافظ أبو محمد الدّوْرَقي له لكل منهما كتاب مفرد انتهى. وكذا " رجال مشكاة المصابيح " لمصنفه. (ورجال الستة: الصحيحين) إلخ بدل مما بعده. (وأبي داود ، (1/762)
والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، لعبد الغني المَقْدسي) بفتح الميم، وسكون القاف، وكسر الدال. (في كتاب " الكمال ") وفي نسخة: في كتابه الكمال، أي المسمى بالكمال في معرفة أسماء الرجال. (ثم هَذبَه) / أي لخصه بحذف الزوائد (المِزي) نسبة إلى مِزّة بكسر ميم، وتشديد زاي، بلد بالشام. (في " تهذيب الكمال ") اسم كتابه. (وقد لخصته) أي زيادة على تلخيصه، (وزدت عليه أشياء كثيرة) أي من الأمور المهمة المتعلقة بضبط الأسماء، ومعرفة الرجال، (وسميته: " تهذيب التهذيب "، وجاء) أي من كمال اقتصاره، (مع ما اشتمل عليه من الزيادات قدر ثلث الأصل) أي أصل الأول، وهو الظاهر، أو الأصل الثاني، وهو بعيد لأنه وإن لخصه زاد عليه، فلا يظهر وجهُ نقصانه عنه بهذا المقدار.
(الأسماءُ المُفْردَة)
(ومن المهم أيضاً معرفة الأسماء المفردة) قال تلميذه: وهي التي لم يُشَارِكْ مَن تسمى بشيء منها غيره فيها. (1/763)
(وقد صنف فيها) أي بخصوصها، وإلا فالظاهر أن الجوامع المتقدمة / 143 - ب / شاملةٌ للأسماء المفردة. (الحافظ أبو بكر أحمد بن هارون البَرْدِيجي) بفتح موحدة، وسكون راء وكسر دال مهملة، وسكون تحتية، فجيم، فياء نسبة. (فذكر أشياء) أي كثيرةً كما في نسخة. (تَعَقبُوا) أي اعترض النقاد. (عليه) أي على الحافظ المذكور، أو تصنيفه المسطور. (بعضَها) أي في بعض الأشياء. (من ذلك) أي من جملته، (قوله: صُغْديّ بن سِنان) بكسر أوله، (أحد الضعفاء) خبر مبتدأ مقدم، (وهو بضم الصاد المهملة، وقد تُبْدَل سِيناً مهملة، وسكون الغين المعجمة، بعدها دال مهملة، ثم ياء كياء النسبِ، وهو اسم علم بلفظ النسب) أي أصله صغدوي. (وليس هو فرداً) أي شخصاً واحداً بل هو نوع من أنواع العَلَمِ (1/764)
تحته أفراد، فإطلاق الضعف عليه غير صحيح، ولذا تعقبوا عليه، وقد قال ابن الصلاح: إن الحاكم فيه على خطر من الخطأ، والانتقاض، فإنه حُصِرَ في باب واسع شديد الانتشار. (ففي الجرح والتعديل لابن أبي حاتِم: صُغْدي الكوفي وثَقة) بتشديد المثلثة أي زكاه، (ابن مَعين) بفتح الميم أحد الأئمة النقادين، (وفرّق) بالتشديد، أو التخفيف أي ميز، (بينه) أي بين صغدي هذا، (وبين الذي قبله) أي المذكور في المتن، (فضعفه) أي حكم عليه بالضعيف. قال التلميذ: يعني ابن أبي حاتم انتهى، والظاهر أن الضمير راجع إلى ابن مَعين على طبق فرق فتأمل، فإنه تعالى معين. (وفي تاريخ العُقَيْلي:) بالتصغير. (صُغْدِي بن عبد الله يروي عن قتادة، قال العُقيلي: حديثه غير محفوظ. انتهى) أي كلام العُقيْلي. (وأظنه) أي صغدي بن عبد الله، (هو الذي ذكره ابن أبي حاتم) يعني ووثقه، قال التلميذ: يعني صغدي الكوفي انتهى. وهو ظاهر لأن ما قبله هو(1/765)
صُغدي بن سِنَان، فتعين الكوفي وتبين أنه مختَلَف في ضعفه، لكن تعقبه الشيخ بقوله: (وأما كون العُقَيْلي ذكره) أي صغدي الكوفي، (في الضعفاء) أي مع توثيق ابن مَعين، وتقرير ابن أبي حاتم، (فإنما هو) أي ضعفه نشأ للعُقَيلي، (للحديث الذي ذكره) أي ذكره العقيلي عنه، (وليست الآفة) أي آفة الضعف وعلته وسببه (منه) أي مع الصُغدي، (بل هي) أي الآفة، (من الراوي عنه) أي عن الصغدي، ويعني بالراوي / (عَنْبَسة) بفتح مهملة، وسكون نون، وفتح موحدة، (ابن عبد الرحمن، والله سبحانه أعلم) أي بحقيقة الأقوياء والضعفاء. (ومن ذلك:) أي ومن جملة ذلك. (سَنْدَر - بالمهملة والنون بوزن جَعْفَر - وهو مولى زِنباع) بكسر زاي، وسكون نون، فموحدة (الجُذامي) بضم الجيم. (له) أي لِسَنْدر، (صحبة ورواية) أي عن النبي صلى صلى الله عليه وسلم، وجمع بينهما لأنه لا يلزم من الصحبة الرواية. (والمشهور أنه يُكنى) بصيغة المجهول مشدداً، أو مخففاً أي يسمى باسم(1/766)
الكنية (أبا عبد الله، وهو اسم فرد) بالوصف، (لم يَتسمّ) بفتح / 144 - أ / حرف المضارعة، وتشديد الميم، وفي نسخة بتشديد التاء، وكسر السين، أي لم يتصف (به غيره فيما نعلم) أي والله سبحانه أعلم بما لا نعلم. (لكن ذكر أبو موسى في " الذيل ") أي في كتابه المسمى بالذيل (على معرفة الصحابة) كتاب (لابن منده:) بفتح ميم، وسكون نون، (سَنْدَر) وفي نسخة وسندر، (أبو الأسود، وروى) أي أبو موسى (له) أي لسندر، (حديثاً، وتُعُقِّب) بالبناء للمجهول أي اعترض (عليه ذلك) أي ذلك المذكور، (بأنه) أي بأن سندراً هذا، (هو الذي ذكره ابن منده وقد ذكر الحديث المذكور) أي الذي رواه أبو موسى، (محمد بن الرَّبيع) بفتح الراء، وكسر الموحدة، (الجيزي) بكسر الجيم، وسكون التحتية، بعدها زاي، منسوب إلى الجِيزة موضع معروف بمصر (في " تاريخ الصحابة الذين نزلوا مصر " في ترجمة سَنْدَر مولى زِنْبَاع، وقد حررت) أي بينت (ذلك في كتابي في الصحابة) أي في معرفتهم.(1/767)
(الكُنَى والألقا)
(وكذا معرفة الكُنى المجردة) المفردة كأبي العُبيدين بالتصغير والتثنية، واسمه مُعاوية بن سُبرة بضم المهملة، وفتح الموحدة والراء. (والألقاب) مثل: " الضعيف " لُقب به عبد الله بن محمد لأنه كان ضعيفاً في جسمه، ومثل: " القوي " لُقب به الحسن بن يزيد ، لقب بذلك لقوته على العبادة، والطَّواف حتى قيل: إنه بكى حتى عمي، وصلى حتى حَدِبَ، وطاف حتى أُقْعِد، كان يطوف كل يوم سبعين أسبوعاً ذُكره السخاوي. (وهي) أي الألقاب (تارة تكون بلفظ الاسم) كأنْف النَّاقة وأشهَب، وكَسَفينة بمهملة، وفاء كمدينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقَّبه بذلك لكثرة ما حمل في بعض الغزوات من سيف، وترس، وغيرهما، مما يعجز رفقته عن حمله، واسمه مَهْرَان. (وتارة بلفظ الكُنْية) وإنما تقع بلفظ الكنية لمشابهتها اللقب في المعنى من أجل الرفعة، والضعَة، كأبي بطن، وأبي تراب. (وتقع) أي الألقاب مرة. (بسبب عاهة) أي آفة كالأعمش من العَمَش، وهو ضعف البصر في العين مع سَيَلان الدمع في أكثر أوقاتها، كالأعرج، والأعْشى.(1/768)
(أو حِرفة) كالبزاز، والعَطار. (أو صناعة) كالخياط، والصَبَّاغ، وفيه: أن كلاً من الاسم والكنية واللقب قسيمُ الآخر، وتقدم جوابه، فتدبر وتذكر.
(الأنسا)
(وكذا معرفة الأنساب، وهي تارة تقع إلى القبائل) جمع قبيلة، وهم بنو أبٍ واحد. (وهو) وفي نسخة: وهذا إلى الانتساب، وفي نسخة: وهي أي الأنساب إلى القبائل. (في المتقدمين أكثر) وفي بعض النسخ: أَكثْرِيّ / أي منسوب إلى الأكثر. (بالنسبة إلى المتأخرين) قال المصنف: لأن المتقدمين كانوا يعتنون بحفظ أنسابهم، ولا يَسكنون المدنَ والقرى غالباً، بخلاف المتأخرين، نقله التلميذ. (وتارة إلى الأوطان) جمع وطن، وهو محل الإنسان / 144 - ب / من بلدة، أو ضيعة، أو سكة، ولا فرق فيمن ينتسب إلى محل بين أن يكون أصلياً منه، أو نازلاً فيه، ومجاوراً له ، ولذلك تتعدد النسبة إليه بحسب الانتقال، ولا حَد للإقامة المُسوِّغة للنسبة بزمن، وإن ضبطه ابن المبارك بأربع سنين، فقد(1/769)
وتوقف فيه ابن كثير. (وهذا) أي الأنساب إلى الأوطان لحصول التميز بين الأقران. (في المتأخرين أكثري بالنسبة إلى المتقدمين،) وهذا الفن مما يفتقر إليه حفاظ الحديث في تصرفاتهم، ومصنفاتهم، فإنه قد يتعين به المهمل، ويتبين به المجمل، ويظهر الراوي المدلس، ويعلم منه التلاقي بين الراويين، وغير ذلك من مظان الطبقات، تواريخ البلدان، ومعرفة الأنساب، وفيها تصانيف كثيرة، وقد كان العرب تنسب إلى قبائلها غالبا، فيقال: القرشي البكري، فلما جاء الإسلام، وغلب عليهم سكنى القرى، والمدائن، وضاع كثير من أنسابهم، فلم يبق لهم غير الانتساب إلى البلدان انتسبوا إليها، ثم منهم من كان نقله من بلد إلى بلد فأريد الانتساب إليهما، فيقال: المصري الدمشقي، والأحسن أن يقال: ثم الدمشقي لمراعاة الترتيب. ومن كان من أهل قرية من قرى بلدة يجوز أن ينسب إلى القرية فقط، أو الى بلدة تلك القرية، أو إلى ناحيتها، أو إلى إقليمها، وله الجمع فيبدأ بالأعم وهو الإقليم، ثم الناحية، ثم البلدة، ثم القرية، فيقال: المصري الصعيدي، المناوي، الخصوصي، فالاخصوص قرية، والمنية بلدة، والصعيد ناحية المنية، ويجوز العكس إذا المقصود التعريف والتمييز، وهو حاصل، وكذا في النسب إلى القبائل يبدأ بالعام، ثم بالخاص ليحصل بالثاني فائدة لم تكن لازمة من الأول فيقال: القرشي ثم الهاشمي دون العكس، لعدم الفائدة حينئذ لاستلزام الهاشمي القرشي، فإن قيل: فكان ينبغي أن لا يذكر الأعم بل يقتصر على(1/770)
الأخص. فالجواب: أنه قد يخفي على الناس كون الهاشمي قرشيا، كذا قاله الشارح، وهو منقوض بعدم جواز العكس فالصواب في الجواب أن يقال: يستفاد بذكر الأعم معنى عام، ثم ذكر الأخص يفيد زيادة لم فائدة تكن مستفادة من الأعم على وجه الإجمال والتبيين الذي هو أوقع في النفس، وليس كذلك ذكر الأعم بعد ذكر الأخص إلا بالنسبة إلى الجاهل بقضية الأعمية والأخصية، ولا عبرة به عند أهل العلم. نعم، قد يظهر هذا الخفاء في البطن الخفي كالأشهلي من الأنصاري، ومع هذا قد يقتصرون على العام، وقد يقتصرون على الخاص وهو قليل. (والنسبة إلى الوطن أعم من أن يكون) بصيغة التذكير في النسخ الصحيحة بناء على أن النسبة مصدر يستوي فيه المذكور والمؤنث، أو بتأويل الانتساب، ولا يبعد أن يكون الضمير راجعا إلى الوطن. (بلادا) جمع بلد. (أو ضياعا / 145 - أ /) بكسر الضاد، جمع ضيعة بفتحها، وهي المزرعة /. (أو سككا) بكسر السين المهملة، وفتح الكاف جمع سكة وهي: المحلة والطريق، لكنه أوسع من الزقاق، وكان الأولى ذكر هذه الأشياء بصيغة الإفراد لمناسبة الوطن ولمراعاة قوله: (أو مجاورة) وهي كما قبلها منصوبة على التمييز، ويمكن أن تكون خبر يكون بتقدير مضاف، أي نسبة بلاد الخ، لكن يشكل أن المجاورة مقابلة(1/771)
للتوطن. اللهم إلا أن يراد به المعنى اللغوي، والأظهر أن المنصوبات تمييز من الأوطان، أي تقع الأنساب تارة إلى الأوطان من جهة توطن البلاد، أو الضياع، والسكك، أو من جهة المجاورة في أحدها، لكن اختل الكلام بمزج الشرح في المرام، وإنما جمع الأوطان لإدارة الأنواع، ومقابلة الجمع بالجمع وإلا فلا ينسب أحد إلى الأوطان إلا نادرا وكذا قوله: (وتقع) أي تارة (إلى الصنائع) والصناعة بالفتح أخص من الحرفة، لأن الصناعة لا بد من المباشرة فيها بخلاف الحرفة كذا قيل، وأما بالكسر فهو بمعنى الاصطلاح الناشئ عن الصنعة المعنوية من العلوم العقلية، والنقلية. (كالخياط) أي المباشرة الخياطة. (والحرف) بكسر ففتح، جمع حرفة. (كالبزاز) أي بائع البز من غير مباشرة في تحصيل وجوده من الغزل، والنسج. (ويقع فيها) أي في الأنساب المنسوبة إلى القبائل، والأوطان، والصنائع، والحرف، أو في النسبة إلى هذه الأشياء، وفي نسخة: ويقع فيه أي في الانتساب المذكور. (الاتفاق) أي خطأ كالقريشي والقرشي.(1/772)
(والاشتباه) أي لفظا، فإن أحدهما بضم القاف، وفتح الراء، نسبة إلى قريش، والآخر بفتح فسكون، نسبة إلى موضع من بلاد ما وراء النهر، وهذا الوقوع كثير في الصنائع، والحرف كالصباغ، والصياغ، فالأول بالموحدة، والثاني بالتحتية والبزار في آخره راء، والبزاز في آخره زاي، والجمال والحمال بالجيم والحاء. (كالأسماء) أي كوقوعهما في الأسماء على ما تقدم. هذا ما ظهر لي من المرام في حل الكلام، وقال الشارح: بناء على أن أصله بلفظ فيه، كما في نسخة عندنا. أي يقع للراويين وأكثر اشتباههم في النسب كما يقع الأسماء، وذلك كالنسائي بفتح النون والسين، وبعد الألف همزة، نسبة لمدينة بخراسان يقال لها: نساء وهم جماعة: منهم صاحب السنن انتهى. وبعده من المعنى لا يخفي. (وقد تقع الأنساب) أشار إلى أن ضمير تقع راجع إليها فيتعين التأثير فما في بعض النسخ المصححة بالتذكير، فأما سهو وغفلة، وأما بناء على أن المتن والشرح كمصنف واحد، وأنت تعلم أن هذا مما لا ضرورة إليه، ولا مما يوجد باعث عليه. (ألقابا) أي قد يقع / 145 - ب / اللقب بصيغة النسبة. (كخالد بن مخلد) بفتح ميم، وسكون معجمة. (القطواني) بفتح القاف، والطاء المهملة. (كان كوفيا ويلقب بالقطواني) وهو فعلان بالتحريك، صفة مأخوذة من (1/773)
القطوان، وهو مقاربة الخطو مع النشاط كذا ذكره محش، وهو غير صحيح لأن مقتضى الفعلان كون النون زائدة، ومقتضى الفعول كونها أصلية فاختلفت مادتهما، وفي حاشية: / منسوب إلى بلد، وهو على تقدير صحته غير مناسب للمقام اللهم إلا أن يقال: إنه كان كوفيا وكان ينسب إلى غير بلده، أو إلى بلد مذموم. (وكان يغضب منها) أي من تلك النسبة، وذكر في المغني نقلا عن مقدمة العسقلاني أنه لم يرد منسوبا فيه، ورأيت في تحرير المشتبه له: بواو وفتح الطاء المهملة، خالد بن مخلد القطواني شيخ البخاري، ومحمد بن أبي الحسن القطواني شيخ لابن عقدة، وكذا عثمان بن عمر القطواني، وهذا منسوب إلى قطوان من قرى سمرقند، والله سبحانه أعلم. وفي القاموس: قطا: ثقل مشيه، والماشي قارب في مشيه، فهو قطوان، ويحرك، وهو موضع، والطويل الرجلين المتقارب الخطو، وقطوان محركة موضع بالكوفة منه الأكسية، وقال محش: نسبة لقطوان بالفتح موضع بالكوفة انتهى. فالوجه ما بيناه والله سبحانه أعلم. (و) (من المهم أيضا معرفة أسباب ذلك) أي ما ذكر. (أي الألقاب) يعني أسباب أنساب الألقاب، كالضال اسم فاعل من ضل، والضعيف ضد القوي كما تقدم ذكرهما، وتبين وجههما، وكصاعقة،(1/774)
وهو أبو يحيى أحد شيوخ البخاري لقب بذلك لشدة حفظه. (والنسب) بكسر ففتح، جمع نسبة أي أسباب النسب (التي باطنها على خلاف ظاهرها) كمحمد بن سنان العوقي بفتح العين، والواو، وبالقاف باهلي نزل في العوقة: بطن من عبد القيس، فنسب إليها، وكأبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري البدري، لم يشهد بدرا في قول الأكثرين بل نزل بها، أو سكنها فنسب إليها.
(الموالي)
(ومعرفة الموالي) أي ومن المهم معرفة الموالي من العلماء والرواة، وهي جمع المولى وهو أعم من أن يكون من ولاء العتاقة والمعاقدة والإسلام، ويطلق المولى على معان غير مرادة، وهنا يطلق على كل من طرفيه لذا بينه بقوله: (من الأعلى) كالمعتق بالبكسر، والمحالف بالفتح. (والأسفل) كالمعتق بالفتح، والمحالف بالكسر. (بالرق) أي سبب الرق الذي نشأ منه الإعتاق، وفيه أن الرق إنما ينسب إلى الأسفل، والملك إلى الأعلى، فكان الأولى أن يقول: بالإعتاق ليشمل الأسفل والأعلى كما لا يخفى. (1/775)
(أو بالحلف) بكسر وسكون، وأصله المعاقدة / 146 - أ / والمعاهدة على التعاضد و التساعد، وفيه قوله تعالى:: {{والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم}} (أو بالإسلام) كأبي علي الحسن بن عيسى، كان نصرانيا وأسلم على يد ابن المبارك، فقيل له: مولى ابن المبارك. (لأن كل ذلك) أي جميع ما ذكر من كونه أعلى وأسفل بالرق، والحلف، والإسلام، وغيره كمولى القبيلة. (يطلق عليه مولى، ولا يعرف تمييز ذلك) أي من الآخر، (إلا بالتنصيص) أي في رواية، أو من إمام معتمد. (عليه) أي على ما يتميز به أحدهما عن الآخر، وأهم ذلك ما ينسب إلى القبيلة مع إطلاق النسب كفلان القريشي، ومنهم ياقوت الشيبي، ومثقال الحسيني، وياقوت الكيزواني، وعنبر الشريفي، و إنما هم موال لهم بمعنى المعتوقين، فربما ظن أنه منهم / صليبة بحكم ظاهر الإطلاق، وربما وقع من ذلك خلل في الحكام الشرعية في الأمور المشروطة فيها النسب كالإمامة العظمى، والكفاءة في النكاح، ونحو ذلك من التوارث، والتقديم في الصلاة وغيرها. مما وقع من ذلك في زماننا أن أدعى واحد من أهل اليمن أنه من بني شيبة، وهو المحالبي، وكان يقال له: الشيبي أيضا في بلاده، وهو يحتمل أن نسبته صليبة حقيقية، ويحتمل أنها إضافية مجازية بعلاقة عتاقة أو خدمة، ويحتمل أنها نسبة إلى (1/776)
شيب أو شيبة غير جد بني شيبة، فأثبت عند بعض قضاة السوء بجماعة شهدوا أنه شيبي في تصوير دعوى أمانة له عند غيره، وإبائه دفع الأمانة إلا بعد ثبوت نسبه أنه شيبي، فاعتمد القاضي بناء على صحة دعوى ثبوت النسب بالسماع على مجرد قول الشهود: إنه شيبي، من غير تحقيق أنه من نسل شيبة الحجبي، وحكم بأنه شيبي وأثبت أنه أكبر من أولاد بني شيبة الموجودين بمكة المكرمة أصحاب مفتاح الكعبة المعظمة، وكانت العادة القديمة فيما بينهم أن المفتاح يكون لأكبرهم لا لأفضلهم، ولا لأصلحهم، فأخذ المفتاح ولم يستح من الفتاح، لكن مات قبل يرى الفلاح، ورجع الأمر بعد الفساد إلى الصلاح، وكان هذا نتيجة قوله عليه الصلاة والسلام لجد بني شيبة حين دفع المفتاح إليه: " خذوها خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا يد ظالم " فحقق الله ذلك الاستثناء بمقتضى صورة ما جرى على لسان سيد الأنبياء صلى الله عليه وسلم. هذا، وقد صنف في الموالي أبو عمر الكندي، ولكن بالنسبة إلى المصريين لا مطلقا، ثم الموالي المنسوبون إلى القبائل منهم من يكون المراد به مولى العتاقة، وهذا هو الأغلب كأبي البختري الطائي، ومنهم من يكون المراد به ولاء الحلف كالإمام مالك بن أنس هو أصبحي صليبة، وقيل له: / 146 - ب / التيمي أيضا لأن نفرا من أصبح موالي تيم قريش بالحلف(1/777)
ومنهم من يراد به ولاء الإسلام كالإمام محمد بن إسماعيل البخاري، وقيل له: الجعفي بضم الجيم، فسكون عين مهملة، ففاء لأن جده كان مجوسيا فأسلم على يد اليمان بن أخنس الجعفي.
(الإخوة والأخوات)
(ومعرفة الإخوة) بكسر الهمزة، (والأخوات) أي ومن المهم معرفة الإخوة والأخوات من العلماء، والرواة. مثاله في الصحابة: عبد الله، وعتبة ابنا مسعود، وفي التابعين: عمرو وأرقم ابنا شرحبيل وهما من أفاضل أصحاب ابن مسعود، وفائدته دفع توهم اتحاد المتعدد بظن الغلط حيث يكون البعض مشهورا دون غيره، ومنها دفع ظن من ليس بأخ أخا لاشتراك أبويهما في الاسم كأحمد بن إشكاب بكسر همزة، وتفتح، وسكون معجمة، وبكاف، وموحدة في آخرها من غير انصراف، وقيل: منصرف على ما ذكره الكرماني، وفي مقدمة المصنف بضم أوله، وعلي بن إشكاب، ومحمد بن إشكاب، فالأول حضرمي على ما ذكره في " المغني "، والآخران غيره. (وقد صنف فيه) أي في هذا النوع (القدماء) جمع قديم أي بعض المتقدمين، (كعلي بن المديني).(1/778)
(آداب الشيخ والطال)
(ومن المهم أيضا معرفة آداب الشيخ والطالب) وذلك أن علم / الحديث علم شريف لكونه مضافا إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فيناسب صاحبه وطالبه أن يكون موسوما بمكارم الأخلاق، ومحاسن الشيم. (ويشتركان في تصحيح النية) أي تجريدها عن الرياء والسمعة، وإخلاصها لابتغاء الرضا والقربة بالتوجه إلى المراتب العليا بسبب تحصيل العلم، والعمل، وتكميل التعليم في حصول العقبى. قال سفيان الثوري: قلت لحبيب بن أبي ثابت: حدثنا قال: حتى تجيء النية. وقد ورد: " من تعلم علما مما يبتغي به وجه الله عز وجل لا يتعلمه إلا ليصيب به غرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة أي ريحها "، والحال أن ريحها توجد من مسيرة خمس مئة سنة. (والتطهير) أي تطهير القلب (من أعراض الدنيا) أي ن المال والجاه، واتباع الهوى. (1/779)
(وتحسين الخلق) بضمتين، وبضم فسكون وهو القيام بمعاشرة الخلق ومتابعة الحق. قال تعالى في حق النبي الكريم صلى الله عليه وسلم:: {{وإنك لعلى خلق عظيم}} وسئلت عائشة رضي الله عنها عن خلقه صلى الله تعالى عليه وسلم فقالت: " كان خلقه القرآن " وأشار الشاطبي رحمه الله إلى معنى الحديث بقوله في وصف ما قال فيهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: " أهل القرآن أهل الله وخاصته "، ويؤخذ منه أن أهل الحديث أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفوته:
(أولو البر والإحسان والصبر والتقى ..... حلاهم بها جاء القرآن مفصلا)
ثم قال:
(عليك بها ما عشت فيها منافسا ..... وبع نفسك الدنيا بأنفاسها العلا)
(وينفرد الشيخ بأن يسمع) بضم أوله وكسر ثالثه أي الطالب الحديث، (إذا احتيج إليه) أي إلى الشيخ، أو إلى حديثه.(1/780)
والحاصل: أن من آداب الشيخ خاصة أنه متى احتيج إلى ما عنده جلس للإسماع وجوبا إن تعين عليه، أو استحبابا، إن كان ثم مثله، وهو الصحيح فقد جلس الإمام مالك للناس وهو ابن نيف وعشرين سنة، والناس متوفرون وشيوخه أحياء، وكذا جلس الإمام الشافعي وأخذ عنه العلم في سن الحداثة بحيث حمل عنهما بعض شيوخهما، ومن أسن منهما وأقدم عليهما، وممن أنكر التقييد بسن مخصوص القاضي عياض وبين أنه كم من السلف فمن بعدهم من لم ينته إلى هذا السن ونشر من الحديث ما لا يحصى. وقال ابن خلاد: يتصدى للإسماع إذا بلغ الخمسين لأنها انتهاء الكهولة، وفيها مجتمع الأشد، قال: ولا ينكر عند الأربعين لأنها حد الاستواء ومنتهى الكمال، وعندها ينتهي عزم الإنسان وقوته ويتوفر عقله. وجمع ابن الصلاح بينهما بأن قال: ما قاله ابن خلاد محله في المسندين غير البارعين في العلم، فإنه لا يحتاج إليهم إلا عند السن المعين ونحوه. ومن نقل عنه التصدي في الحداثة فهم البارعون الذين احتيج لما عندهم. (ولا يحدث) أي ولا ينبغي أن يحدث (ببلد فيه أولى منه) بأن يكون مرتبته(1/781)
في الإسناد أعلى، أو في معنى الحديث وحَلّه أحرى. وقيل: لِسِنّه أو زهذه وغير ذلك من وجوه ترجيحه، (بل يُرشِد) أي أي يدل الطالب (إليه) أي إلى الأولى منه إن اطلع عليه، فإنّ الدين النصيحة، بالأولى أن لا يحدث بحضرة من هو أولى منه بالتحديث. (ولا يَتْرُك إسماع أحد لنية فاسدة) أي لا يمنع من / تحديث أحد لكونه غير صحيح النية، فإنه قد يُرجى له صحتها بعدُ لما قال بعض السلف: طلبنا العلم لغير الله فأبى العلم أن يكون إلا لله. وهذا هو الغالب في علم الكتاب والسنّة بأن مآلهما ونتيجتهما لصاحبهما أن يحسن حاله، ويختم بالحسنى مآله. (وأن يتطهر) طهارة كاملة من غسل أو وضوء، ويتسوك، ويتطيب، ويُسَرِّح لحيته، ويتوب إليه سبحانه، ويتضرع لربه. (ويجلس) أي متمكناً على صدر فراشه، (بوَقَار) أي بسكون وهيبة . (ولا يُحَدثُ قائماً) أي إلا لضرورة. (ولا عَجِلاً) بفتح فكسر أي: مستعجلاً في تلفظ الحديث بحيث يمنع السامع فهمَ بعضه، فإن كلامه عليه الصلاة والسلام كان فَصْلا، بل كان أحياناً يكرره ثلاثاً فقد روي عن عائشة رضي الله عنها: " لم يكن النبي عليه الصلاة والسلام يسرد الحديث كسردكم، إنما / 147 - ب / كان يحدث حديثاً لو عدَّه العَادُّ لأحصاه ". أو (1/782)
المعنى ولا يحدث حال كونه متعجلاً في أمر من أموره، فإنه حينئذ يكون مشغول البال فربما يقع له خلل في المقال. (ولا في الطريق) بأن يقعد فيه، أو يقف أو يمر. (إلا أن اضطُر) بضم الطاء، ويجوز كسر النون وضمه. (إلى ذلك) أي ما ذكر من المنهيات. سواء تكون الضرورة شرعية أو عرفية. قال الكازَرُوني شارح البخاري: فقد روي عن مالك بن أنس: كان إذا أراد أن يحدث توضأ وجلس على صدر فراشه، وسرَّح لحيته، وتمكن في جلوسه بَوقَار وهيبة، وحدث ؛ فقيل له في ذلك؟ فقال أُحِبًّ أن أعظِّم حديث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولا أحدث إلا على طهارة كاملة. وكان يكره أن يحدث في الطريق أو هو قائم أو مستعجل. وقال: أحب أن أتفهم ما أُحَدِّث به عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. وروي عنه أيضاً أنه كان يغتسل لذلك ويتبخر، ويتطيب فإن رفع أحد صوته زجره وقال: قال الله تعالى:: {{يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي}} الآية. (وأن يُمْسِك) أي يمتنع (عن التحديث إذا خشي التغيير) أي في لسانه (أو النسيان) أي في حفظه وضبطه (لمرض) أي يختل به مزاجه وعقله، وإلا فقد تقدم أن ابن معَين حدَّث عند نزعه وقال: " مَن كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة "، وقبض روحه قبل قوله: " دخل الجنة " (1/783)
(أو هَرَم) بفتحتين أي كِبَرِ سِنِّ مؤدٍ إلى خرف قال تعالى:: {{ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا}} لكن قارئ القرآن محفوظ عنه، وكذا المحدث غالباً، والناس في بلوغ هذا السن متفاوتون بحسب اختلاف أحوالهم. وضبط ابن خَلاَّد سِن الهَرَم بالثمانين، قال: والتسبيح والذكر وتلاوة القرآن أولى بأبناء الثمانين، فإن كان عقله ثابتاً، ورأيه مجتمعاً يَعْرِفُ حديثَه ويقوم به و تَحرَّى أن يحدث احتساباً، رجوت له خيراً كثيراً كالحضرمي و موسى و عبدان. فقد حدث بعدها، بل حدث بعد المئة جماعة من الصحابة والتابعين فمن بعدهم قلت: قد حدث شيخي المُعْتَمَد في السنَد زبدة الأولياء، وعمدة العلماء السيد زكريا ويقول: عمري مئة وعشرون سنة، " فطُوَبى لمن طال عمره، وحَسُنَ عمله " كما ورد في السنَّة، ثم الأولى / للمحدث أن يتخذ مجلساً لإملاء الحديث، فإنه أعلى مراتب الرواية عند الجمهور، بأن يكون التحديث بلفظ الشيخ مع تحريه وتدبره، وكون الطالب يتلقنه منه مع تيقظه وضبطه، وتحققه ما يسمعه ويكتبه، وأيضاً الإملاء في الفائدة أتم ولتحصيل الطالبين أعم / 148 - أ / أي (وإذا اتخذ مجلس الإملاء أن يكون له) كان حقه أن يقول: وأن يكون له الخ إذا اتخذ مجلس الإملاء (1/784)
ثم قوله: (مُسْتَملٍ) اسم فاعل من الاستملاء، وفي نسخة: بتشديد اللام من الاستملال، فإن الإملاء والإملال بمعنى واحد. قيل: وهو أول من يطلب الحديث من تلامذة الشيخ. وقيل: هو مَن يكتب أسامي حضّار المجلس، والصواب: أن المراد به المبلغ للحديث إذا كثر الجمع، وعند تكاثر الجمع بحيث لا يكتفى بمستمل واحد اتخذ مستمليين فأكثر. وقوله: (يقظ) بفتح فكسر أي: متيقظ حاضر القلب، حافظ لفظ الحديث من غير تغيُّر في بنائه وإعرابه عما سمع من ممليه، وينبغي أن يكون المستملي عند كثرة الناس على موضع مرتفع من كرسي أو نحو ذلك، وإلا فقائماً على قدميه ليكون أبلغ للسامعين، وعلى المستملي أن يبلِّغ لفظ المملي وإفهام مَن بلغه على بُعْدٍ ولم يتفهمه، إلا أنّ من يسمع لفظ المستملي لا تجوز له الرواية عن المملي إلا أن يبين الحال على وَجْهِ أن سماعه لذلك الحديث أو لبعض ألفاظه من المستملي كما فعله الإمام أبو بكر بن خُزَيْمَة، وغيره من الأئمة، وهذا هو الأحوط، وإلا فالذي عليه العمل أن مَن سمع المستملي دون سماع المملي جاز أن يرويه عن المملي كالعرض سواء، لأن المستملي في حكم من يقرأ على الشيخ ويعرض حديثه، لكن يشترط أن يسمع الشيخُ المملي لفظ المستملي كالقارئ عليه، ومع هذا فليس لمن لم يسمع لفظ المملي أن يقول: سمعت فلاناً يقول. واستحسنوا افتتاح مجلس الإملاء بقراءة قارئ من القرآن العظيم آية أو سورة تبركاً بالفرقان الكريم، فإذا فرغ القارئ استنصت المستملي أهل المجلس إذا (1/785)
احتيج إليه لقوله عليه الصلاة والسلام " يا جَريرُ استنصِتِ الناس ". ثم بَسْمَلَ وصلى على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ثم أقبل على الشيخ المحدث قائلاً: مَن ذَكَرْتَ أي من الشيوخ أو: ما ذكَرْتَ أي من الأحاديث رحمك الله أو غفر الله لك؟ وإذا انتهى المستملي في الإسناد أو في الحديث إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم اسْتُحِب له الصلاة عليه رافعاً صوته، وإذا انتهى إلى ذكر الصحابة قال رضي الله عنهم، أو رضوان الله تعالى عليهم، وأن يفتتح الشيخ مجلسه ويختتمه بتحميد الله تعالى والصلاة والسلام على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، والدعاء بما يليق بالحال. (وينفرد الطالب بأن يوقر الشيخ) أي يعظم مَن سمع منه الحديث وأخذ منه العلم لما روي مرفوعاً ليس مِنا مَن لم يبَجِّل كبيرنا، ولم يرحم صغيرنا، ولم يعرف لعالمنا حقه ". (ولا يُضجره) بضم أوله أي لا يوقعه في الضجر والملالة / 148 - ب / بأن يطوِّل عليه بل ينبغي للطالب أن لا يتعدى القدر الذي يشير الشيخ إليه صريحاً، أو كناية أو دلالة فربما كان ذلك سبب حرمان / الطالب، ولعله يكون مانعٌ للشيخ من التطويل، فيحصل بسبب اشتغال قلبه خللٌ في التحصيل. وقد قال الزُّهْرِي: إذا طال المجلس كان للشيطان فيه نصيب.(1/786)
(ويرشد) أي وأن يهدي (غيره لما سمعه،) أي من العلم فإن كتمانه لوم من فاعله، ومذموم عليه صاحبه، وقد روي فيه وعيد شديد من النبي المختار صلى الله تعالى عليه وسلم: " من كتم علماً أُلْجِم بِلجَام من نار ". وإنما يقع فيه جهلة الطلبة لظنهم بذلك أنهم ينفردون به عن أضرابهم، ويُرفعون بذلك على أقرانهم وأمثالهم، وقد روي عن ابن عباس رضي تعالى عنهما: " إخواني تناصحوا في العلم، ولا يكتم بعضكم بعضاً، فإن خيانة الرجل في عمله أشدٌ من خيانته في ماله " ورُوِي عن مالك قال: بركة الحديث إفادة بعضهم بعضاَ. ونحوه عن ابن المبارك ويحيى بن مَعِين، فإن الجمع بين الكمال والتكميل بالعلم والتعليم صفة الأولياء والأصفياء، " والعلماء ورثة الأنبياء ". وفي الحديث العيسوي: مَن علم وعمل، وعلم يدعى في الملكوت عظيماً. أقول: ويسمى في الدنيا والآخرة كريماً قال تعالى:: {{ومما رزقناهم ينفقون}} وقال صلى الله عليه وسلم: " إن علماً لا يقال به، ككنز لا يُنفَق منه ". ولا شك أنّ البخيل كل البخيل من لا ينفق مما لا ينقص بالإنفاق بل يزيد فيه وفي غيره بالاتفاق. وما روي أنه فَعَل ذلك جماعة من الأئمة المتقدمين (1/787)
كشُعبة، وسفيان الثوري، وهُشَيْم والليث، وابن جُرَيْج، وسفيان بن عُيَيْنَة، وابن لَهِيْعَة، وعبد الرازق. قال العراقي: فالله سبحانه أعلم بمقاصدهم في ذلك. (ولا يدع الاستفادة) أي و لا يترك طلب العلم وأخذه ممن هو دونه في نسب أو سن أو غيره. (لحياء) فإن الحياء يمنع الرزق، وفي رواية يمنع العلم، وقد قالت عائشة رضي الله عنها مرفوعاً أو موقوفا: " نِعم النساء نساء الأنصار، لم يكن يَمْنَعُهُنَّ الحَياء أن يَتَفَقَّهْنَ في الدين ". (أو تكبر) قال تعالى:: {{سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق}} ولأن من تكبر على نعمة حُرِم خيرَها. وقد ذكر البخاري عن مجاهد قال: لا يتناول العلم مُسْتَحْي، ولا مُسْتَكْبِر. لأن الطالب الصادق كالمُحِبّ العاشق لا يمنعه عن مطلوبه محبوبه عائق. (ويكتب ما سمعه تاماً) أي وأن يكتب جميع ما وقع له من سماع كتاب أو جزء أو حديث طويل مشتمل على فصول من الكلام على / 149 - أ / وجه الكمال والتمام ولا ينتخبه، فإنه نقص في المرام وربما يحتاج إلى رواية شيء منه مما لم يكن فيما انتخبه منه، فيندم حيث لم ينفعه الندم. قال ابن المبارك: ما انتخبتُ عِلْمَ عالم قط إلا ندمت. وقال: ما جاء مِن مُنْتَقٍ خيرٌ قط. وقال ابن مَعِين:(1/788)
صاحب الانتخاب يندم، وصاحب النسخ لا يندم، فإن احتاج إلى الانتخاب لضيق وقته أو لكونه في الرحلة وأجاز الشيخ به تولاه بنفسه إن كان مميزاً عارفاً بما يصلح للانتخاب، وإلا استعان بحافظ متيقظ في هذا الباب. (ويعتني) أي يهتم بإتقان مشكل الأحاديث وإيقان الروايات (بالتقييد) أي بتقييد ما سمعه من بنائه وإعرابه، وبيان حروف هجائه، فإن العلم / صيدٌ والكتابة قيدٌ، ولئلا يقع في التصحيف وينقله على وجه التحريف، فمن كلامهم المشهور: لا تحملوا العلم عن صَحَفي، ولا القرآن عن مُصْحَفي فقيل الصحفي هو: الذي يروي الخطأ على قراءة الصحف باشتباه الأحرف. وقيل: إن أصل هذا أن قوماً كانوا أخذوا العلم من الصحف من غير أن ينقلوا فيه من العلماء، فكان فيما يرويه التغيير، فقيل عندها: قد صحفوا أي روَوْه عن الصحف، فهو مصحّف. وروي عن أبي العَيْنَاء قال: حضرت بعض مشايخ الحديث من المغفلين فقال: عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن جبرائيل عن الله عن رجل ! فنظرت، فقلت: مَن هذا الذي يصلح أن يكون شيخ الله؟ ! فإذا(1/789)
هو قد صحفه، وإذا هو: عز وجل. كذا ذكره الكازَرُوني شارح البخاري، لكن في نظره وتردده أن يكون أحدٌ شيخَ الله نظر ظاهر لا يخفى وروي أنَّ شيخاً بالرَّيّ حدّث فقال: " احتجم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأعطى الحَجَّام آجرة " بالمد، وضم الجيم، وتشديد الراء والمثناة من فوق وإنما هو تصحيفُ " أَجْرَهُ " بسكون الجيم، وبالهاء. وروي أن أمير المؤمنين علياً رضي الله تعالى عنه قال: ألا إنّ خَرَاب بصرتكم هذه يكون بالذبح، فصحفوا وقالوا: بالريح فما أقلعوا عن هذا التصحيف إلا بعد مئتي سنة عند معاينتهم أمر الذبح وروي أن علياً كان رجلاً غَبِيْنَاً بالغين المعجمة، فقرأه بعضهم عِنيناً بالعين المهملة، والنون، وهو خطأ فاحش، والغَبِين وهو الذي يُغْبَن. وقال بعضهم: عبيثاً بكسر المهملة وتشديد الباء الموحدة في الأول، وبالمثلثة في الآخر أي كان يعبث كثيراً أي يمزح، وهذا أقرب معنى من الأول، وهو على وزن سِكِّيت وشريب. وقصد بعض / 149 - ب / أهل الحديث شيخاً ليسمع منه وكان في كتابه أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: (ادهِنوا غِبَّاً) فقال: قال (1/790)
رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اذهَبُوا عَنَّا " بالذال المعجمة والموحدة، وبالعين المهملة بعدها نون، وهو الخطأ المصحف. وصحف بعضهم الحديث المشهور: " زُرْ غِبّاً تَزْدَدْ حُبَّاً " فقال: " زَرْعُنَا تَرَدَّد حِنَّا " ثم قصّ قصة طويلة أن قوماً كانوا لا يؤدون عُشر غلاّتهم، و لا يتصدقون، فصار زرعهم كلهم حِناء. (والضبط) أي يضبط مسموعه بالتكرار والحفظ في صدره، أو تفصيل أسانيده ومتونه في كتابه، فإنّ مَن اعتنى بجمعه دون إهماله يرجى له في مدة قليلة مشاركة أهله، وزيادة أفضاله. وفي كلام الشيخ إشارة لطيفة بأن لا يستعجل في طلب العلم، وأن يحفظ الحديث على التدريج قليلاً قليلاً لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: " مَن طلب العلم جملة فإنه جملة، فإنما يُدرك العلم حديث أو حديثان ". أقول: ولعله مقتبس من قوله تعالى:: {{وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن}} : {{جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا}}، وقوله عز وجل:: {{وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث}}. وقوله سبحانه وتعالى:: {{لا تحرك به لسانك لتعجل به}}. الآيات. (ويذاكر) أي مع واحد من شركائه، أو غيرهم. أو بنفسه بأن يتذكر. (1/791)
(بمحفوظه ليرسَخ) / بفتح السين، أي يثبت . (في ذهنه) أي في فهمه وحفظه من جهة معناه ولفظه، ليكون من الراسخين في العلم، والكاملين في الحلم. وقد روي عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: " تذاكروا هذا الحديث ولا تغفلوا، يُدْرَس ". وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: " تذاكروا الحديث، فإن حياته مذاكرته. انتهى. ومفهومه أن مماته متاركته.
(سِنُّ التَّحَمُّل والأداء)
(ومن المهم أيضاً معرفة سن التحمل) أي سماع الحديث وأخذه سواء كان بنفسه أو غيره. (والأداء) أي سن أداء مسموعه وروايته. واختلف في سن التحمل فقال الجمهور: أقله خمس سنين. وقال جماعة من العلماء: يستحب أن يبتدئ بسماع الحديث بعد ثلاثين سنة. وحكى محمد بن جَلاَّد الرَّامَهُرْمُزِي في كتابه " المُحَدِّث الفاصل: عن أبي عبد الله الزُّبَيْرِي من الشافعية أنه قال: يستحب كَتْب الحديث في العشرين لأنها مجتمع العقل. قال: وأُحِب أن يشتغل دونها بحفظ القرآن والفرائض. وقال الثوري: كان الرجل إذا أراد أن يطلب الحديث تَعبَّد قبل ذلك(1/792)
عشرين سنة. كذا في " المنهل الروي في أصول الحديث النبوي ". وقال موسى بن هارون: إذا فرق بين البقرة والدابة، أي بين الخصوص / 150 - أ / والعموم، والظاهر أنها الناقة وإنما صُحِّفتْ على الناسخ، فالمراد التفرقة بين حيوان وحيوان وهو أدنى مراتب التمييز، وأما معرفة العام والخاص فإنما هي مرتبة الخواص. قال السخاوي: سِن السماع التمييز، كأن يعرف الجمرة من التمرة، ويحصل غالباً في خمسة، وربما يتخلف بل قد يحصل قبلها. وقال الكازَروني شارح البخاري: وبلغنا عن إبراهيم بن سعد الجوهري قال رأيت صبياً في أربع سنين قد حُمِل إلى المأمون وقد قرأ القرآن ونظر في الرأي غير أنه إذا جاع بكى. وقال الحافظ أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن الأصبهاني: حفظت القرآن ولي خمس سنين، وحُمِلْتُ إلى أبي بكر بن المُقْرِي لأسمع منه ولي أربع سنين، فقال بعض الحاضرين: لا تسمعوا له فيما قرأ فإنه صغير. فقال لي ابن المقرِي: اقرأ سورة الكافرون فقرأتها ولم أغلط فيها، فقال ابن المُقْرِي: اسمعوا له والعُهْدةُ عليّ: (والأصح اعتبار سن التحمل بالتمييز) وهو: مَن فهم الخطاب وَرَدَّ الجواب على وجه الصواب. ونحو ذلك، بحيث ارتفع عن حالِ مَن لا يعقل مثله. قال (1/793)
النووي والعراقي: إن فَهِم الخطاب ورد الجواب كان مميزاً صحيح السماع، وإن كان له دون خمس، وإلا فلا يصح سماعه وإن كان ابن خمسين سنة. (هذا في السماع) أي دون الحضور للبركة والإجازة بعد الأهلية. (وقد جرت عادة المحدثين) أي خَلَفاً، وسَلَفاً وقديماً، وحديثاً. (بإحضارهم الأطفال) أي أطفال أنفسهم وغيرهم ممن لم يتأهل للسماع، بقرينة قوله: هذا في السماع. (مجالس الحديث) مفعول فيه أي روايته ودرايته ليحصل لهم من بركاته، فإنه عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة، فكيف عند ذكر الصحابة والتابعين / وأتباعهم من العلماء العاملين، وذكر أحاديث سيد العالمين صلى الله عليه وسلم. (ويكتبون) أي المحدثون (لهم) أي للأطفال، (أنهم حضروا) أي المجلس الفلاني. (ولا بد في مثل ذلك) أي ولا بد من اعتبار الرواية بعد الكِبَرِ لهم في مثل ذلك الحضور حال الطفولية والصغر. (من إجازة المُسْمِع) بكسر الميم، أي الشيخ لهم للأطفال إجازة خاصة أو عامة لأن رواية الحديث لا تصح بدون السماع والإجازة، ولا سماع هنا(1/794)
فلا بد من الإجازة، ومنع قوم رواية الصبي مطلقاً. قال العراقي: وهو خطأ مردود عليهم لأن الحَسَنْينِ وغيرهما ممن تحمل في حال صباه، وقَبِل الناس روايتهم من غير / 150 - ب / فرق بين ما تحملوه قبل البلوغ وبعده، وكذلك كان أهل العلم يُحضرون الصبيان مجالس العلم ويَعْتَدُّون بروايتهم لذلك بعد البلوغ. انتهى. ويفهم منه أن مجرد إحضار العلم للصبيان يستلزم اعتدادهم بروايتهم بعد البلوغ ولو بلا إجازة، لكنه متعقب بأنه يمكن أن يكون الحضور لأجل التمرين والبركة الحاصلة لأهل اليقين. (والأصح في سن الطلب) أي طلب علم الحديث. (بنفسه) بالاشتغال بِكَتْبِه الحديثَ وتحصيله وضبطه، وكذا الرحلة فيه. قال التلميذ: إشارة إلى أن الطالب قد يكون بغيره كالأطفال يُحْضِرُونهم المجالس. (أن يتأهل لذلك) أي يستعد لما ذكرنا من مُتَعَلَّقات الطلب، لا أن يعرف علل الأحاديث والنكات، واختلاف الروايات ولا أن يعقل استنباط المعاني، واستنباط الدلالات، لأن هذا ليس شرط الأداء فضلاً عن الطلب، وذلك يختلف باختلاف الأشخاص، وليس ينحصر في سُن مخصوص. وقال أبو عبد الله بن أحمد الزُّبَيْرِيّ واسمه الزبير بضم الزاي، وهو الذي عليه أهل الكوفة: يستحب كتب الحديث في العشرين، وقال أهل البصرة: في العشرة. وقال أهل الشام: في الثلاثين. (1/795)
(وبصح تحمل الكافر أيضاً، إذا أداه بعد إسلامه) أي كما تُقْبَلُ شهادته ومثاله: حديث جُبير بن مُطْعِم المتفق على صحته " أنه سمع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور " وكان جاء في فداء أُسَارَى بدر قبل أن يُسْلِم، وفي رواية البخاري " وذلك أولَ ما وَقَر الإيمان في قلبي ". (وكذا الفاسق) أي قبول تحمله (من باب الأولى) أي من تَحَمُّل الكافر، (إذا أداه بعد توبته) أي من فسقه، (وثبوت عدالته) أي وبعد ظهورها بظهور علانيته، والله سبحانه أعلم بسريرته ونيته. (وأما الأداء فقد تقدم أنه لا اختصاص له بزمن معين بل يُقَيَّد) زمنُ تَعَيُّنِه، (بالاحتياج) أي باحتياج الناس إليه رواية أو دراية. (والتأهل لذلك) والمدار عليه كما صرح به السيوطي في " الإتقان " في إقراء القرآن ورواية الحديث والإفتاء والتصنيف، أي إنّ من له أهلية ذلك بالاستحقاق التام وقلة خطئه في المرام يجوز له أن يتصدى، وإن لم يكن له إجازة، ومن لم يكن أهلاً لذلك فلا تفيده ولو أَلْفَ إجازة وسماع ورواية. قال / التلميذ: هذه زيادة (1/796)
على ما صححه النووي في التقريب والتيسير حيث قال: إنه متى ما احتيج إلى ما عنده جلس له أي لإسماعه، وتأديته ونشره وجوباً إن تَعَيَّنَ عليه، واستحباباً إن كان ثَمَّ مثله في أي سن كان. (وهو) أي التأهل، (مُختلِف باختلاف الأشخاص) أي فَهْماً وحفظاً / 151 - أ / ونطقاً، فربما يكون صغيراً وفتح الله عليه بفضله علماً كثيراً، وربما يكون كبيراً وأُغْلِقَ عليه شيئاً يسيراً. (وقال ابن خَلاَّد: إذا بلغ الخمسين) أي تأهل لذلك وتصدى للأداء لأنها انتهاء الكهولة، ومجتمع الأشد. (ولا يُنْكَرُ) أي الأداء عليه، (عند الأربعين) لأنها حد الاستواء، ومنتهى الكمال، وعندها ينتهي عزم الإنسان، ويتوفر عقله، ويجوز درايته، وفساده ظاهر عند أهل اليقين. (وتُعُقِّب) أي واعترض عليه في ذلك ونوقض (بَمن حَدَّثَ قبلها) قبل الأربعين، (كمالك) إمام المحدثين من الأئمة المتقدمين قال المصنف: وأجيب عنه بأن مراده إذا لم يكن هناك أمر يقتضي التحديث، كأن لم يكن هناك أمثل منه، وكأن يكون قد صنف كتاباً وأريد سماعه منه. قال التلميذ: فإذا لم يكن هناك ما يوجب التحديث مما ذُكِرَ فالسِّنُّ مُظِنَّةُ التأهل عنده، والله سبحانه أعلم.(1/797)
(كِتَابَة الحديث)
(ومن المهم معرفة صفة كتابة الحديث) اختلفت الصحابة والتابعون في كتابة الحديث، فكَرِهَهُ ابن عمر، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وأبو موسى الأشعري، وأبو سعيد الخُدْرِي وآخرون من الصحابة والتابعين رضي الله تعالى عنهم أجمعين، لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: " لا تكتبوا عني شيئاً إلا القرآن، ومَن كتب عني شيئاً غير القرآن فَلْيَمْحُهُ ". أخرجه مسلم. وجَوَّزَهُ أو فعله جماعة من الصحابة منهم: عمر، وعلي، وابنه الحسن، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأنس، وجابر، وابن عباس، وابن عمر أيضاً وآخرون من السابقين واللاحقين رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: " اكتُبُوا لأبي شاه ". وروى أبو داود من حديث عبد الله بن عمر وقال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فذكر الحديث، وفيه أنه ذُكِر للنبي (1/798)
صلى الله تعالى عليه وسلم فقال له: " اكْتُبْ ". وقد اختلف في الجواب، فقيل: إن حديث أبي سعيد منسوخ بأحاديث الإذن والكتابة، وكان النهي في أول الأمر لخوف اختلاطه بالقرآن، فلما أَمِنَ ذلك أّذنَ فيه، وجمع بعضهم بينهما بأن النهي في حق مَن وُثِقَ بحفظه وخيف اتكاله على خطه إذا كَتَبَ، والإذن في حق من لا يوثق بحفظه كأبي شاهٍ المذكور، وحمل بعضهم النهي على كتابة الحديث مع القرآن في صحيفة واحدة لأنهم كانوا يسمعون تأويل الآية فربما كتبوه معه، فَنُهُوا عن ذلك لخوف الاشتباه. (وهو) أي صفة كتابة الحديث ونعته، (أن يكتبه) أي الحديث، وكذا القرآن وما في معناهما (مُبَيَّناً) بفتح التحتية حال من المفعول، ويمكن كسرها على أنه حال من الفاعل وكذا قوله: (مُفسَّراً) وهو عطف / بيان، أو التبيين بالنسبة إلى جوهر الحروف، والتفسير باعتبار عوارضها / 151 - ب / من الشكل والنقط. قالوا: يستحب إبانة الخط وتحقيقه دون مَشْقِهٍ، وتعليقه، والمَشْق: خفة اليد وإرسالها مع تغيير الحروف، وعدم إقامة الأسنان. والتعليق: هو كما قيل: خط الحروف الذي ينبغي تفرقها، وإذهاب أسنان ما ينبغي إقامة أسنانه، وطمس ما ينبغي إظهار بياضه، لما قد ينشأ عن كل منهما عدم التمكن من قراءته غالباً. (ويَشكُل) بفتح حرف المضارعة، وضم الكاف، أي ويعرف (المُشْكِل) أي المغلَق (منه) وهو الذي لا يفهمه كل أحد، وإنما يدركه العلماء، وفيه إشارة(1/799)
بطريق المفهوم أنه لا يَشَكُل غير المُشكِل لأنه تضييع العمر وتكثير العمل الدال على تقليل العلم. والمراد بالشكل الحركات والسكنات، وهي أعم من الحركات البنائية الصرفية، والإعرابية النحوية، فأو للتنويع في قوله: (أو ينقطه) أي في المُشكِل منه، أو مطلقاً لأن الغالب فيه الإشكال. قالوا: يستحب لطالب العلم ضبط كتابه بالنقط والشكل ليؤديه كما سمعه لقوله صلى الله عليه وسلم: " نَضَّر الله أمرأ سمع مقالتي فوعاها وأداها كما سمعها "، ولما في الخلاصة عن الأصْمَعِي يقول: إن أخوف ما أخاف على طالب العلم إذا لم يعرف النحو أن يدخل في جملة قول النبي عليه الصلاة والسلام : " مَنْ كَذَبَ عليّ متعمداً فليتبوأ " مقعده من النار " لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يَلْحَن، فمهما رويت عنه ولحنت فيه كذبت عليه، ثم الشَّكْلُ: تقييد الإعراب قال الجوهري: شَكَلتُ الكتاب إذا قيدته بالإعراب. ثم اختلفوا هل يقتصر على ضبط المشكل من ألفاظ المتن والإسناد، أو يُضبط هو وغيره؟ فقال علي بن إبراهيم البغدادي في كتاب " سِمات الخط ورقومه ": إن أهل العلم يكرهون الإعجام - بكسر الهمزة - أي النقط والإعراب إلا في الملتبس وقال القاضي عياض: النقط والشكل فيما يشكل ويشتبه. وقال ابن خَلاَّد: قال أصحابنا: أما النقط فلا بد منه لأنه لا يَضبط الأشياء(1/800)
المشكلة إلا به. وقالوا: إنما يَشكُل ما يشكل ولا حاجة إلى الشَكل مع عدم الإشكال. قال: وقال الآخرون: الأولى أن يَشكُل الجميع. قال القاضي عياض: وهذا هو الصواب لا سيما للمبتدئ وغير المتبحر في العلم، فإنه لا يميز ما يُشْكِل، مما لا يُشْكِل، ولا صوابَ وجه الإعراب للكلمة من خطئه. قال أبو إسحاق: أولى الأشياء بالضبط أسماء الناس لأنه لا يدخله القياس، ولا قبله ولا بعده شيء يدل عليه فيرتفع الالتباس. (وأما صورة ضبط المشكل، فقال القاضي عِياض: رَسمُ المشايخ وأهل الضبط في الحروف المشكلة والكلمات المشتبهة إذا ضُبِطَت وصُحِّحَت في الكتاب أن يَرْسُم ذلك الحرف المُشْكِل مفرداً في حاشية الكتاب قُبالَة الحرف / 152 - أ /، وعلل ذلك بأن الانفراد يرفع إشكال الالتباس بضبط ما فوقه وما تحته من السطور، لا سيما مع دقة الكتاب وضيق الأسطر. وذكر ابن الصلاح نَحْوهُ ولم يتعرض لتقطيع حروف الكلمة المشكلة التي تكتب في هامش الكتاب. وقال ابن دقيق العيد: ومن عادة المتقنين أن يبالغوا في إيضاح المشكل، فَيُفَرِّقُوا حروف الكلمة / في الحاشية ويضبطوها حرفاً حرفاً قال العراقي: وهو حسن وفائدته أنه يُظْهِر مشكل الحرف بكتابته مفرداً(1/801)
في بعض الحروف كالنون، والياء المثناة من تحت، بخلاف ما إذا كُتبت الكلمة كلها والحرف المذكور أولها أو وسطها، وأما ضبط الحروف المهملة فقد اختلف فيه. فقيل: يجعل تحت الدال، والراء، والسين، والصاد، والطاء، والعين المهملات النقطة التي فوق المعجَمَات، ولا بد من استثناء الحاء من ذلك لالِتِبَاسها بالجيم. وقيل: يجعل فوق الأحرف المهملات صورة هلال كقُلامة الظفر، مُضْجَعَةً على قفاه، وقيل: يُجعل تحتها حرف صغير مثلها وعليه عمل أهل المشرق والأندلس، ويوجد في كثير من الكتب القديمة فوق الأحرف المهملة خط صغير كفتحة، وربما نشأ عنه التباس حيث قرأ بعضهم رِضْوَان بالفتح أي بفتح الراء، وفي بعض الكتب تحتها مثل الهمزة. (ويكتب) أي وأن يكتب الطالب (الساقط) أي المتروك من أصله (في الحاشية اليمنى ما دام في السطر) أي سطر الساقط (بقية) أي من الكتابة، بأن يكون بعد الساقط كلمة أو أكثر، (وإلا) أي وإن لم يكن بقية، بأن يكون الساقط من آخر السطر. (ففي اليسرى) أي فيكتب في الحاشية اليسرى، ومفهومه أنه لا يكتب بين الأسطر، وهذا الحكم بظاهره عام في الصفحتين ولعله كان دأب المتقدمين أن يجعلوا طرفي الأسطر متساويين في التوسع، وأما على المعتاد في زماننا أن(1/802)
طرف الحاشية اليمنى من الصفحة الأولى أوسع، عكس الصفحة الثانية، فينبغي أن يكون في الحكم تفصيل فتأمل، فإنه موضع زلل، ثم رأيت في كلام القاضي عياض تصريحاً بذلك والحمد لله على ذلك. واعلم أنهم قالوا: إن أهل الحديث، والكتابة يسمون ما سقط من أصل الكتاب، فألحق بالحاشية، أو بين السطور باللّحَق بفتح اللام والحاء المهملة معاً، أَخْذاً من الإلحاق والزيادة، قال الجوهري: اللَّحَق بالتحريك: شيء يُلْحَقُ بالأول. وقال صاحب المُحْكَم: اللَّحق الشيء الزائد. وكيفية كتابة ما سقط من الكتاب: أن يخطّ من موضع سقوطه في السطر خطاً صاعداً معطوفاً إلى فوق، معطوفاً / 152 - ب / بين السطرين عطفةً يسيرة إلى جهة حاشية اللَّحَق، وقيل يمد العطفة من محل السقوط إلى أول اللَّحَق، والأول أولى لئلا يُسَوِّدَ الكتاب، لا سيما عند كثرة الإلحاقات، ثم يكتب الساقط في الحاشية اليمنى إن سقط من وسط السطر لاحتمال أن يطرأ في بقية السطر آخر، فيخرج إلى جهة اليسار، فلو كان خرج الأول إليها أيضاً اشتبه موضع هذا الساقط بموضع الساقط الآخر، وإن خرج للثاني إلى اليمنى تقابل طَرَفاً التخريجين، وربما التقيا لقرب السقطين، فيظن أن ذلك ضَرْبٌ على ما بينهما، وإن سقط بعد تمام السطر يُكتب في اليسرى. قال القاضي عياض، وتبعه ابن الصلاح لا وجه لذلك إلا قُرب التخريج(1/803)
من اللَّحق، وسرعة لحاق النظر به، ولأنه أمنٌ من نقص يحدث بعده فلا / وجه إلى تخريجه إلى اليمين، وهذا أي التخريج لجهة اليسرى فيما إذا كان الساقط من الصفحة اليمنى حيث اتسع هامش اليسار لطريقة المتقدمين في التسوية بين الهامشين، وإلا خَرَّجَه لجهة اليمنى. قال العراقي: وقد رأيت ذلك في خط غير واحد من أهل العلم، ثم الأولى أن يكتب الساقط صاعداً إلى أعلى الورقة من أيّ جهة كان، لا نازلا به إلى أسفلها لاحتمال حدوث سقط آخر، فيكتب إلى أسفل فلو كتب الأول إلى أسفل لم يجد للساقط الثاني موضعاً بقابله في الحاشية خالياً، ويكتب في انتهاء اللَّحق " صح " فقط، وقيل: يكتب مع " صح رجع "، وفيه تطويل، ويكره الخط الدقيق لأنه لا ينتفع به في أحوج ما يكون إليه، وهذا إذا كان بغير عذر، فإن كان بعذر كضيق الوقت أو قلة الرَّق الذي يكتب فيه، أو كان رحّالاً في طلب العلم يريد حمل كتبه معه، فيكون خفيفة الحمل فلا يكره له ذلك. (وصفة عرضه) أي ومن المهم صفة عرضه، (وهو مقابلته) أي مقابلة(1/804)
الطالب، أو مسموعه ولو كان من غيره، (مع الشيخ المُسمِع) أي المحدث سواء يكون معه أصله، وهو الأولى، أو لا يكون معه أصله. أو لا يكون معه أصل أصلاً، وهو حافظ ضابط. (أو مع ثقة غيره) أي غير المُسمع. (أو مع نفسه) أي مع أصل الشيخ في الصورتين. (شيئاً فشيئاً) أي على جهة التدريج للاحتياط في المقابلة، وهو قيد للأخير، أو قيد للكل. واعلم أنّ على الطالب - كما قالوا - مقابلةَ كتابه بكتاب الشيخ الذي يرويه عنه سماعاً، أو إجازة، أو بأصل أصلِ شيخه المقابَلِ به أصلُ شيخه، أو بفرع مقابل بأصل السماع مقابلة معتبرة موثوقاً بها، أو بفرع قوبل كذلك على فرع، ولو كثر العدد بينهما، إذ الغرض المطلوب أن يكون كتاب الطالب مطابِقاً لأصل مَرْوِيَّه، وكتابِ شيخه، قال القاضي عياض: مقابلة النسخة بأصل الشيخ مُتَعَيَّنةٌ لا بد منها، وأفضل العرض / 153 - أ / أن يقابل كتابه بنفسه مع شيخه بكتابه حين سمع من الشيخ، أو قرئ عليه، لما فيه من وجود الاحتياط والاتقان من الجانبين، بمعنى أن كلاً منهما أهل لذلك، فإن لم تجتمع هذه الأوصاف(1/805)
نقص من مرتبته بقدر ما فاته منهما. وقال أبو الفضل الجَارُودي: خير العرض ما كان مع نفسه، يعني حرفاً حرفاً لكونه حينئذ لم يقلد غيره، ولم يجعل بينه وبين كتاب شيخه واسطة، وهو بذلك على ثقة ويقين من مطابقتهما. قال ابن الصلاح: إنه مذهبٌ متروك، وهو من مذاهب أهل التشديد المرفوضة في عصرنا، وصح عدمه لا سيما والفكر يتشعب بالنظر في النسختين بخلاف الأول. قال السخاوي: والحق كما قال ابن دقيق العيد: إن ذلك يختلف، قُربّ مَن عادته - لمزيد يقظته وحفظه - عدم السهو عند نظره فيهما، فهذا مقابلته مع نفسه أولى، أو عادته - لجمود حركته، وقلة حفظه - السهو فهذا مقابلته مع غيره أولى. قلت: وهذا هو الغالب على أكثر الناس في معظم الأحوال. (وصفة سماعه) أي ومن المهم صفة / سماع الطالب، أو سماع الحديث بناء على إضافة المصدر إلى فاعله، أو مفعوله. (بأن لا يتشاغل بما) الباء الأولى بيانية، والثانية سببية متعلقة بالفعل، أي بسبب شيءٍ. (يُخِلُّ به من نَسخ) أي كتابةٍ، و " من " بيان " ما " يعني بحيث يمنع معه فَهْمَهُ لما يقرأ بكماله، حتى يكون الواصل إلى سماعه كأنه صوتٌ غُفْلُ، ويصح إذا كان بحيث لا يمتنع منه الفهم كقصة الدَّارَقَطُني أنه حضر في حَداثته مجلس إسماعيل (1/806)
الصفار، فجلس ينسخ جزأ كان معه، فقال له بعض الحاضرين: لا يصح سماعك، وأنت تنسخ، فقال: فهمي للإملاء خلاف فهمك، ثم قال: تحفظ كم أملى الشيخ من حديث إلى الآن؟ فقال الدَّارَقَطُني: أملى ثمانية عشر حديثاً، فوجدت كما قال، ثم قال: الحديث الأول منها عن فلان عن فلان، ومتنه كذا، ولم يزل يذكر أسانيد الأحاديث على ترتيبها في الإملاء حتى أتى إلى آخرها، فعجب الناس منه. (أو حديث) أي تَكَلُّمٍ بكلام ما، مما يمتنع معه الفهم. (أو نعاس) وهو مقدمة النوم المسمى بالسنة بكسر السين، وهو نوم ضعيف غير مُخِل غالباً، فلا يكون قادحاً من الفَطِن، وهذا التفصيل ذكره ابن الصلاح وذهب الأستاذ أبو إسحاق الأسْفِراييني، وإبراهيم الحَرْبي وغير واحد من الأئمة إلى منع الصحة مطلقاً، وهو الأحوط ويقويه أن الحكم للأكثر والأغلب، وذهب موسى بن هارون الحَمَّال إلى الصحة مطلقاً، وهو بعيد جداً خصوصاً حال النسخ إلا نادراً كما سبق، وقد رأيت بعض مشايخي كان يعلم الصغار، وكانوا قريباً من ثلاثين، وكان يكتب القرآن غيباً، ويُقْرِئهم، ويستمع لهم، وذكر أنه ما وجدَ غلطاً في / 153 - ب / مصحفه المكتوب تلك الحالة من أول القرآن إلى سورة الشعراء. (وصفة إسماعه) أي إسماع الشيخ، أو الحديث للغير. (كذلك) أي بأن لا يتشاغل بما يخل به من نَسْخ، أو حديث، أو نعاس على الاختلاف المذكور حتى لو لم يُجِلَّ به يصح الإسماع كالنعاس الخفيف، ولهذا كان (1/807)
المِزيُّ، والمصنف ينعسان حين إسماعهما، ويَرُدَانِ على القارئ، إذا زَل، وكذا وقع في النسخ منهما. (وإن يكون) أي وصفة الإسماع أيضاً أن يكون (ذلك) أي الإسماع (من أصله) أي الشيخ (الذي سمع) أي الطالب. (فيه أو من فرعٍ قوبل على أصله) مقابلةَ ثقةٍ، وليس له أن يحدَّث من أصل شيخه الذي لم يسمع فيه، أو من نسخة كتبت من نسخة شيخه، ولو سَكَنَت نفسه إليها لأنه قد يكون فيها زوائد ليست في نسخة سماعه إلا أن يكون له إجازة من الشيخ بذلك الكتاب، أو بسائر مروياته، فحينئذ تجوز الرواية إذ ليس في أكثر من رواية تلك الزيادات بالإجازة لا بلفظ أخبرنا، أو حدثنا من غير الإجازة فيها، وهذا معنى قوله: (فإن تعذُّر) أي كلَّ من الأصل، وفرعه المقابل به بأن غاب عنه الكتاب بإعارة، أو ضياع، أو سرقة أو نحو ذلك، فلا بد من الإجازة كما ذكره ابن الصلاح لجواز المخالفة والتغيير فيه. (فَلْيَجْبره) بضم الموحدة أي ليجبر الشيخ نقصان / الطالب. (بالإجازة لِما خالف) أي لشيء خالفه بأن نقل ما ليس من سماعه، أو نقص عنه أو نقل بلفظ آخر (إن خالف) أي الطالب مخالفة ما.(1/808)
(الرَّحْلَة للحديث)
(وصفة الرَّحلة) بكسر الراء (فيه) أي ومن المهم كيفية الارتحال في طلب سماع الحديث، (حيث يبتدئ) أي ينبغي أن يبتدأ (بحديث أهل بلده فيستوعبه) أي فيأخذه جميعاً، ويُحَصِّله بكماله، (ثم يرحل) بفتح الحاء المهملة على سبيل الاستحباب، (فيحصل) بالتشديد (في الرحلة ما ليس عنده) والرحلة: شَدّ الرَّحل لأجل تحصيل ما ليس عنده من الأسانيد، والمتون وغيرهما، فقد رحل جابر بن عبد الله رضي الله عنه مسيرة شهر في حديث واحد، والتخصيص بشد الرحل لما هو الغالب فيها، وللإيماء إلى أن المسافة البعيدة لا تمنعه منها، وإلا فلو تَوجه ماشياً أو في السفينة كان محصلاً لهذه السنة. ففي الحديث عن كثير بن قيس قال: كنت جالساً مع أبي الدرداء في مسجد دمشق فجاءه رجل فقال: يا أبا الدرداء إني جئتك من مدينة الرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، لحديث بلغني أنك تحدثه عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ما جئت لحاجة، قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: " منْ سلك طريقاً يطلب فيه علماً / 154 - أ / سلك الله به طريقاً من طرق الجنة، وإن الملائكة لَتَضعُ أجنحتها رضا لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض، والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يُوَرِّثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما وَرَّثُوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر " رواه أحمد، والترمذي، وأبو داود، وابن ماجه، والدارمي. قال (1/809)
الطيبي: وتحديث أبي الدرداء بما حدثه يحتمل أن يكون مطلوب الرجل بعينه، وأن يكون بياناً أن سعيه مشكور عند الله تعالى، ولم يذكر ههنا ما هو مطلوبه، والأول أغرب وأقرب، والله سبحانه أعلم. (ويكون اعتناؤه) أي وينبغي أن يكون اهتمام الطالب (بتكثير المسموع) أي في الحديث. (أكثر من اعتنائه بتكثير الشيوخ) أي والأسانيد لأن المقصود الأصلي هو الدارية لا مجرد الرواية، نعم قد يحتاج إلى تكثير الرواية لتصحيح الدراية، ومن اقتصر على تكثير الشيوخ دون المسموع محتجاً بما قيل: ضَيَّعْ ورقة ولا تضيع شيخاً، فقد ضيع الأصل، وقد قال العلماء: تحصيل الفُضول تضييع الأصول.
(صفة تصنيف الحديث)
(وصفة تصنيفه) أي ومن المهم معرفة كيفية تصنيف الطالب، أو تصنيف مسموعه، (وذلك) أي التصنيف، (إما على المسانيد) أي ترتيبها. (بأن يجمع مسند كل صحابي على حِدة) بكسر المهملة، وتخفيف الثانية، كعِدة أي منفردة بأن يجمع ما عنده واحداً واحداً من غير نظر لصحة وضعف، ومناسبة باب، وفصل، ومراعاة ترتيب حروف هجاء، وغيرها وإن اختلف(1/810)
أنواع أحاديثه في ذلك كمسند الإمام أحمد، / ومسانيد الإمام أبي حنيفة، ومسند الإمام الشافعي، والدارمي وغيرهم، وهم الأكثرون، ومنهم من يقتصر على الصالح للحجة كالضياء المقدسي. (فإن شاء رتبه) أي مسنده (على سوابقهم) أي مَن سبق من الصحابي في الإسلام، فأولاً يبتدئ بأبي بكر، وعلي، وخديجة وبلال، وهَلُم جَراً، أو في الفضل، فيبدأ بالعشرة المبشرة، ثم بأهل بدر، ثم بأهل الحديبية، ثم بمن أسلم وهاجر بين الحديبية والفتح، ثم بَمن أسلم يوم الفتح، ثم يختم بأصاغر الصحابة سِناً كأبي الطفيل، والسائب بن يزيد، ثم بالنساء. (وإن شاء رتب) أي مسنده (على حروف المعجم) في أسماء الصحابة كأن يبتدئ بالهمزة، ثم ما بعدها على ترتيبها، فيبتدأ بأبي بكر، وأنس ونحوهما، ثم بالبراء بن عازب، وبلال وغيرهما، وأجمع ما صنف فيه كذلك المعجم الكبير للطبراني غير مُتقيدٍ بالمقبول / 154 - ب /، وغيره. قال ابن الصلاح: (وهو اسهل تناولاً) والأول أحسن، ثم شيخ مشايخنا السيوطي رحمه الله تعالى رتب جامعيه: الصغير والكبير على حروف المعجم، باعتبار أوائل الأحاديث القولية كعمل ابن طاهر في أحاديث الكامل لابن عَديّ، وجعل الأحاديث الفعلية في جامعه الكبير مرتبة على الأسانيد، ومنهم من رتب على الكلمات لكنه غير مقيد بحروف المعجم مقتصراً على ألفاظ النبوة فقط، كالشهاب و " المشارق " للصغاني. (1/811)
(أو تصنيفه) بالرفع عطفاً على ذلك (على الأبواب الفقهية) أي الأبواب المشتملة على أحكام الفقه كالمصابيح وفرعه، من غير تقييد في التبويب إلى حروف المعجم، ومنهم من رتب الأبواب على الحروف كجامع الأصول، وتيسير الوصول، وتبعهما شيخناً مولانا علي المتقي، فبوب الجامعين للسيوطي على هذا المنهاج. (أو غيرها) أي غير الأبواب الفقهية كالصحيحين، وكتب السنن وغيرها، (بأن يجمع) أي على التبويبين (في كل باب ما ورد فيه مما يدل على حُكمِهِ إثباباً، أو نفياً) بحيث يتميز ما يدخل في الجهاد مثلاً عما يتعلق بالصيام، وأهل هذه الطريقة منهم من يتقيد بالصحيح كالشيخين، ومنهم من لم يتقيد بذلك كباقي الكتب الستة. (والأولى أن يقتصر على ما صح، أو حسن، فإن جمع الجميع، فَليبين علة الضعيف) أي سبَبه. قال التلميذ: مثل الانقطاع والوقف ونحوها. فقال بعض من يدعي علم هذا الفن: ويبوب عليهما، قلت: ليس هذا من تقرير ما ذكر انتهى. وفيه أنه لا شك أن التبويب عليهما أسهل للوصول إليها، ويعتبر من تقرير ما ذكر استطراداً، فلا تنافي لديهما. (1/812)
(أو تصنيفه) أي في الطريقتين السابقتين كما به النووي. (على العِلل) بكسر العين جمع علة، (فيذكر المتن وطرقه) أي أسانيده. (وبيان اختلاف نَقَلته) بفتحتين جمع ناقل، وكان الأولى أن يقول: ويبين اختلاف نقلته فيه، يعني بحيث يتضح إرسال ما يكون متصلاً، ووقف ما يكون مرفوعاً، وغير ذلك كما فعل يعقوب بن شيبة في مسنده، وهو غاية ما في بابه، لكنه / لم يُكمل ونحوه للدارقطني، كما فعل ابن أبي حاتم في علله المبوبة وهي أعلى مرتبة من كثرة الرواية، فإن معرفة العلل من أجل أنواع علم الحديث حتى قال ابن مهدي: لأنْ أعرف علة حديث هو عندي، أحب إليّ من أن أكتب عشرين حديثاً ليس عندي. (والأحسن أن يرتبها) أي العلل، (على الأبواب لِيسهُلَ تناولها) أي أخذها، وتحصيلها. (أو يجمعه) أي تصنيفه بجمعه (على الأطراف، فيذكر طرف الحديث) أي أول متنه (الدال على بقيته، ويجمع أسانيده) أي ذلك الحديث. (إما مستوعِباً / 155 - أ / بكسر العين أي مستوفياً لتلك الأسانيد، ولم يتقيد (1/813)
بتخريج أسانيده المذكورة في كتب مخصوصة. (وإما متقيداً بكتب مخصوصة) أي غير متقيد بالاستيعاب، والله سبحانه أعلم بالصواب.
(سبب ورود الحديث)
(ومن المهم معرفة سبب الحديث) أي باعث وروده، قال التلميذ: يعني السبب الذي لأجله حدث النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بذلك الحديث كما في سبب نزول القرآن الكريم انتهى. وفيه فوائد كثيرة، وإن كان العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. (وقد صنف فيه بعض شيوخ القاضي أبي يَعلى) بفتح الياء واللام. (ابن الفراء) بفتح الفاء، وتشديد الراء. بائع الفرو، أو صانعه. (الحنبلي) منسوب إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل. (وهو أبو حفص العكبري) بضم المهملة، والموحدة وسكون الكاف فيما بينهما (وقد ذكر الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد: أن بعض أهل عصره شرع في جمع ذلك) أي سبب ورود الحديث، (كأنه ما رأى) أي ابن دقيق العيد، أو بعض أهل عصره، (تصنيف العُكبري مذكور) ويمكن أنه رآه وأراد زيادة(1/814)
على جمعه. (وصنفوا) أي العلماء، (في غالب هذه الأنواع) أي أكثرها، وهي زائدة على الثمانين بل على المئة كما ذكر السخاوي، (على ما أشرنا إليه) أي إلى تصنيفهم. (غالباً وهي أي هذه الأنواع المذكورة في هذه الخاتمة نَقْل مَحْضٌ) بالتوصيف، (ظاهرة التعريف) بالإضافة. (مستغنية عن التمثيل) أي عن إتيان الأمثلة لظهورها، وعدم توقفها على معرفة جزئياتها، وفي نسخة زيادة على المتن. (وحصرها مُتَعسر) أي إحصاء الأمثلة أو الأنواع، (فليراجع) بفتح الجيم (لها) أي للأنواع أو للأمثلة (مبسوطاتها) أي الكتب المبسوطة، (ليحصل الوقوف على حقائقها) أي ويظهر الاطلاع على دقائقها، وقد ذكرنا نُبذة يسيرة مشتملة على فوائد كثيرة، فإن ما لا يدرك كله لا يترك بعضه، بل:
(حُب التناهي غَلَط ..... وخيرٌ الأمور الوسط)
(والله سبحانه الموفق) أي للتحقيق، (والهادي) أي إلى سواء الطريق. (لا إله إلا هو) أي ليس غيره بالألوهية حقيق، (عليه توكلت) أي في قبول(1/815)
عبادتي، (وإليه أنيب) أي أرجع في تقصيري ومعصيتي، (وحسبنا الله) أي كافينا من الشرور، (ونعم الوكيل) / أي هو الموكول إليه الأمور، (والحمد لله رب العالمين) الذي يحب من عباده الشكور، (ولا حول) أي عن معصيته، (ولا قوة) أي على / 155 - ب / طاعته، (إلا بالله) أي بمعونته. (العلي العظيم، وصلى الله تعالى على سيدنا ورسولنا محمد النبي الكريم) وعلى آله وصحبه، وأولاده وأزواجه أجمعين اللهم ارزقنا متابعته في الدنيا، وشفاعته في العُقْبَى، ومرافقته في الرفيق الأعلى على الوجه الأتم، والله تعالى أعلم تم نسخ هذا الكتاب بمكة المكرمة المشرفة المعظمة في سلك شهور سنة ست بعد الألف من هجرة خير الأنام على صاحبها آلاف تحية وألف سلام، على يد مؤلفه علي القاري، المحتاج إلى عفو ربه الباري، غفر ذنوبه وستر عيوبه تم الكتاب ولله الحمد(1/816)