شرح كتاب الموقظة
الحديث الصحيح
تعريف الحديث الصحيح لذاته
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه ، أما بعد:
الشيخ الإمام -العالم العلامة ، الرحلة المحقق ، بحر الفوائد ، ومعدن الفرائض ، وعمدة الحفاظ والمحدثين ، وعدة الأئمة المحققين ، وآخر المجتهدين- شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي الدمشقي -رحمه الله- ، ونفعنا بعلومه وجميع المسلمين-:
الحديث الصحيح: هو ما دار على عدل متقن ، واتصل سنده ، فإن كان مرسلا ففي الاحتجاج به اختلاف ، وزاد أهل الحديث سلامته من الشذوذ والعلة ، وفيه نظر على مقتضى نظر الفقهاء ؛ فإن كثيرا من العلل يأبونها ، فالمجمع على صحته إذن: المتصل السالم من الشذوذ والعلة ، وأن يكون رواته ذوي ضبط وعدالة وعدم تدليس .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
هذا الكتاب: " كتاب الموقظة " للإمام محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي ، المتوفى سنة سبعمائة وثمانية وأربعين ، من هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وهذا الكتاب: متعلق بعلوم الحديث وفي بيان اصطلاح أهل هذا الفن ، وهذا الاصطلاح -اصطلاح أهل الفن-: ينبغي لكل طالب علم أن يعرفه ؛ لأنه ينبني عليه معرفة ما صح من الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما لم يصح .
وهذا الكتاب: " كتاب الموقظة " للإمام الذهبي -رحمه الله- كتاب مختصر نافع مفيد ، وتظهر أهميته في أن الإمام الذهبي -رحمه الله- له تعقبات وتعليقات على من سبقه ، وهذه التعقبات والتعليقات صادرة عن إمام له نفس حديثي ، ليس كغيره ممن سلف .(1/1)
فبعض من تقدم تكلم في هذا الاصطلاح ، إلا أنه غلب عليه الجانب الفقهي ، وأما الإمام الذهبي -رحمه الله- وإن كان قد اختصر هذا الكتاب من كتاب " الافتراق " لشيخه ابن دقيق العيد الذي اختصره من " علوم الحديث " للحافظ ابن الصلاح ؛ إلا أن نفس الإمام الذهبي الحديثي ظهر في هذا الكتاب في تعقباته وتعليقاته .
وكذلك تظهر أهمية هذا الكتاب في بعض المباحث التي أوردها المؤلف -رحمه الله- ولم يسبق إليها ، وبخاصة ما كان منها متعلقا في علم الرجال ، فله مباحث في علم الرجال وفي طبقات الحفاظ لا تجدها في كتاب من كتب مصطلح الحديث إلا في هذا الكتاب ، ووجودها في هذا الكتاب يزداد أهمية لكونها صادرة عن إمام له عناية بعلم الرجال ، وله عناية تامة في هذا ؛ حتى شهد له الأئمة الحفاظ بذلك .
وهذا الكتاب: " كتاب الموقظة " للإمام الحافظ الذهبي -رحمه الله- لا بد أن نعرف هذه اللفظة أو هذه التسمية ؛ لأن معرفة هذه التسمية فيها شحن للهمم في دراسة هذا الفن والاعتناء بهذا الكتاب .
:فـ " الموقظة " الهاء فيها للتأنيث ، وموقظ: اسم فاعل من الإيقاظ وهو الانتباه ، فالاستيقاظ والإيقاظ معناه الانتباه ، فكأن المؤلف -رحمه الله تعالى- يلفت الانتباه -انتباه طالب العلم- إلى الاعتناء بهذا الفن ، أو يلفت الانتباه إلى دراسة هذا الكتاب بخصوصه .
فهو إما لفت الانتباه لدراسة هذا الفن على وجه العموم ، أو لفت الانتباه لدراسة هذا الكتاب على وجه الخصوص ؛ لما حواه من المباحث المهمة التي قل -أو بعضها قل- أن يوجد إلا عند الإمام الذهبي ، ولا شك أن هذه التسمية مطابقة للمسمى الذي اشتمل عليه هذا الكتاب .
وهذا الكتاب على اختصاره -كما تقدم- إلا أن فيه فوائد جليلة ينبغي للمسلم أن يعتني بها وأن يدرسها .(1/2)
ثم بعد ذلك شرع المؤلف -رحمه الله تعالى- في بيان حد الحديث الصحيح ، والمراد بالحديث الصحيح هنا - المعرف في هذا الحديث الصحيح لذاته -: لأنه عند الإطلاق -إذا أطلق الحديث- فإنه ينصرف إلى الحديث الصحيح ، وهذا هو المعروف عند أهل العلم .
فيكون قوله: "الحديث الصحيح " أي: الحديث الصحيح لذاته ؛ لأن العرف جار عند الإطلاق على صرف لفظ كلمة الصحيح إلى الصحيح لذاته ، وكلمة الحديث هذه مبتدأ ، والصحيح صفتها ، والخبر هو الذي يأتي -إن شاء الله- وهو قوله: " ما دار على عدل".
ثم ذكر المؤلف في هذا التعريف خمسة شروط عند أهل الحديث ، وهي ثلاثة شروط عند الفقهاء ، والذي يعنينا في هذا الباب هو اصطلاح أهل الحديث ؛ لأن القاعدة المتقررة: أن كل فن يرجع فيه إلى أهله .
ففي التفسير يرجع إلى أهل التفسير ، وفي أصول الفقه يرجع إلى أهل الأصول ، وفي الفقه يرجع إلى الفقهاء ، وفي اصطلاح أهل الحديث يرجع إلى أهل الحديث ، وهكذا غيرها من الفنون . شروط الحديث الصحيح
وهذه الشروط الخمسة التي اشترطها أهل الحديث ، منها ثلاثة إيجابية أو ثبوتية ، يعني: يجب وجودها أو توافرها في الحديث ؛ ليحكم له بالصحة ، وشرطان منها سلبية أو منفية ، يعني: لا بد من انتفاءها من الحديث ؛ حتى يحكم له بالصحة .
فالشروط الإيجابية الثلاثة الأول:
الشرط الأول: عدالة الراوي ، يعني: لا بد أن يكون كل راوٍ من رواة هذا الإسناد عدلا ، وهو معنى قوله: " هو ما دار على عدله" لكن ما هو العدل ولماذا اشترطت العدالة؟
والعدل لو أخذنا بتعريفات بعض الفقهاء الذين كتبوا في علم الاصطلاح لأشكل علينا كثير من الرواة ، ولكن المعتمد -إن شاء الله- في هذا هو ما ذكره ابن حبان في" صحيحه " في بيان حال العدل .
فذكر: " أن العدل هو من كان أكثر أحواله طاعة الله - عز وجل - " فمن كان أكثر أحواله هي طاعة الله - عز وجل - فهو العدل ، وهو الذي يقبل حديثه .(1/3)
لأننا لو اشترطنا أن يكون كل إنسان يروي لنا الحديث سالما من المعصية ، سالما من صغائر الذنوب وكبائرها ؛ لأدى ذلك إلى أنه لا يكون هناك راو عدل ، أو يقل أو يندر وجود الراوي العدل .
لأن الشيطان له مداخل على بني آدم ، وقل من يسلم ، ولا معصوم من هذه إلا الأنبياء والمرسلون -صلى الله عليهم- .
إذن فصار العدل هو من كان أكثر أحوالهم طاعة الله - عز وجل - ؛ لأننا نجد بعض الرواة وصفوا ببعض المعصية ، ومع ذلك قبل حديثهم ، ولم يطعن في عدالتهم .
فـ شريك " وصف بالتيه والكبر ؛ ومع ذلك قبل جماعة أو كثيرون من العلماء حديثه ، والذين لم يقبلوا حديثه لم يقبلوه من جهة العدالة وإنما من امتنعوا من قبوله من جهة الحفظ ؛ لأنه كان قد تغير حفظه لما ولي القضاء .
فصار هناك علماء أخذت عليهم بعض المآخذ من جهة قيام المعصية بأحدهم ؛ ومع ذلك لم يمنع ذلك من قبول رواياتهم ، وهذا أيضا مثل: " عكرمة مولى ابن عباس " ، ومثل: " شهر بن حوشب " ، وغيرهم .
هؤلاء تكلم فيهم بعض العلماء ، وذكرت عليهم بعض المعاصي التي تظن أنها معاص ، أو يزعم أنها معاص ، أو قد تكون معاصي حقيقة ؛ ومع ذلك لم يطعن أحد في عدالتهم .
لأنه لو طعن في العدالة ؛ لسقطت الرواية مطلقا ، ولم يقبل حديثه أبدا لا في الاعتبار ولا في الشواهد ومتابعاتها .
فصارت العدالة على الحد الذي ذكره ابن حبان ، أو العدل على الذي ذكره ابن حبان -رحمه الله- هو الموافق لصنيع علماء الحديث ، ويزيل كثيرا من الإشكالات .
ولهذا ؛ الإمام الذهبي في كتابه: " الميزان " في ترجمة: " علي بن المديني -رحمه الله- " ذكر أنه ليس من شرط الثقة أن يكون معصوما من الخطأ ولا الخطايا ، يعني: من الخطأ في الرواية ، ولا الخطايا من جهة الدين .(1/4)
فصار المعتبر في العدل أن يكون أكثر أحواله طاعة الله - عز وجل - إذا كان الغالب عليه الطاعة لله - عز وجل - قبل حديثه ؛ وبهذا يسلم لنا كثير من الرواة ، بل من المخرج لهم في الصحيحين ، وهم ممن وصفوا بنوع من أنواع التلبس بالمعصية .
وهذه العدالة اشترطها العلماء من أجل أن يؤمن معها الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأن المقصود من رواية الحديث وصوله إلينا كما قاله - صلى الله عليه وسلم - ؛ ولا سبيل إلى ذلك إلا إذا تحققنا من عدالة الشخص ، وتحققنا من عدالته إذا كان أكثر أحواله طاعة الله - عز وجل - .
الشرط أو بهذا القيد -قيد العدالة- يخرج صنفان من الرواة: صنف تحقق عدم عدالته ، تحققنا أنه ليس بعدل ، وهؤلاء هم: الكذاب والمتهم بالكذب ، وهو الذي يكذب في حديث الناس ، لكن لم يثبت عليه أنه كذب في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - أو تقع له روايات كثيرة يغلب فيها المخالفة ويظن أنه افتعلها ، لكن لا يجزم بذلك ؛ فهذا متهم بالكذب ، وقادح ذلك في العدالة .
وكذلك الذي يسرق الحديث ؛ هذا أيضا خارج من حد العدالة ، وكذلك المتهم في دينه بالفسق وغيره ؛ فهذا خارج من العدالة .
فصار الخارج من الصنف الأول -الخارج من العدالة-: من تحققنا عدم عدالته ، ثبت عندنا أنه ليس بعدل ؛ فهذا يطرح حديثه ، ولا يقبل لا في المتابعات ولا في الشواهد ، ووجود حديثه كعدمه ، لا أثر له في تقوية الأحاديث ، كما أنه ليس صالحا في نفسه .
وأما المبتدع - وهو الذي يحتاج إلى عناية-: فروايته مختلف فيها ، سواء قلنا: إنه عدل ، أو قلنا: إنه غير عدل ، وسيأتي بحث المؤلف -رحمه الله تعالى- في رواية المبتدع ، ويكون هناك التفصيل في هذه المسألة لبيان عمل أئمة الحديث -رحمهم الله- ، والتفريق بين الرواية عن الراوي وبين قبول روايته .(1/5)
والصنف الثاني الذي يخرج بهذا القيد: هو من لم تتحقق عدالته ، القسم الأول: تحققنا عدم عدالته ، والقسم هذا: لم نتحقق العدالة ، ولكن ما تحققنا عدم عدالته .
فهناك تحقق العدالة: هذا هو الذي يدخل في حد الحديث الصحيح ، وتحقق عدم العدالة: يخرج به المرء عن أن يكون من رواة الحديث الصحيح .
وأما من لم تتحقق عدالته: لا ندري هل هو عدل أو غير عدل ؟ فهو أيضا يخرج بهذا القيد ، يخرج بقيد العدالة من لم نتحقق عدالته .
وهذا يشمل المبهم مثل: إذا قال عن رجل أو عن بعض الناس أو عن بعض أصحابنا أو نحو ذلك ؛ هذا يسمى مبهما ، أو كان مجهول العين: وهو -كما ذكره الخطيب- من روى عنه واحد ، ولو يوثق هذا يسمى " مجهول العين " .
وكذلك يخرج به مجهول الحال: وهو من روى عنه اثنان فأكثر ، ولكنه لم يذكر بجرح ولا تعديل ، ويسمى " المستور " .
فهؤلاء الثلاثة يخرجون بقيد العدالة ، لا لطعن في العدالة ، ولكن لعدم تحقق العدالة ، وسبق لنا أن ذكرنا أن شروط الصحيح ، أو أن وجود العدالة شرط ثبوتي ، يعني: لا بد من وجوده في الراوي ؛ حتى يحكم لحديثه بالصحة .
فـ " قيد العدالة " أخرج صنفين: من تحققنا عدم عدالته ، ومن لم نتحقق عدالته أو لم نتحقق أهليته للرواية أو لرواية الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
فإذا جاءنا مجهول أو مبهم: فإننا لا نحكم لحديثه بالصحة ؛ لفقده شرطا من شروط الصحة وهي العدالة ، ولكن المبهم والمستور ومجهول العين: هؤلاء حالهم أخف بكثير من الأولين أو من الصنف الأول ؛ لأن الصنف الأول: وهو الكذاب والسارق والمتروك أو المتهم في دينه أو في حديثه ، هذا لا يقبل حديثه مطلقا لا في الاعتبار ولا في الاحتجاج .
وأما بالنسبة لهذا الصنف الثاني للمجهول والمبهم: فهذا يقبل كثير من أهل العلم ، أو بعض العلماء يقبلون حديثه في المتابعات ، فإذا جاءه راو يتابعه على حديثه قبلوا حديثه ، وإلا لم يقبلوا حديثه .(1/6)
فكان الفرق بين من قدح في عدالته ومن لم نتحقق عدالته: أن الأول متروك أو ساقط الرواية مطلقا ، وأما الثاني فيقبل إذا وجد له متابع عند طائفة من أهل العلم .
وهذه العدالة إذا قلنا: إنه لا بد من وجود العدل ؛ لا بد لنا أن نعرف عبارات أهل العلم في تثبيت العدالة ، كيف نعرف من كلام أهل العلم أن فلانا عدل ؟
وهذه من يعني من المسائل المهمة ؛ لأن كونك تعرف أن العدل من كان أكثر أحواله طاعة الله ، هذا أمر ميسور ، لكن تطبيقه على كلام الأئمة المتكلمين في الرجال هو المهم .
فأحيانا يصف العلماء الراوي بأنه عدل ، وهذا لا إشكال فيه لظهوره ، هذا لا إشكال فيه ؛ لأن كلامهم ظاهر وموافق للفظ المذكور في تعريف الحديث الصحيح ، إذا قالوا: " فلان عدل " يعني: أنه ليس فيه ما يخل بدينه .
وتارة يعبرون عن العدالة بقولهم: " صدوق " إذا قالوا: " صدوق أو صالح " يعبر بها عن العدالة ، فمن قيل فيه ذلك فقد ثبتت عدالته ، والأول من كلمة " عدل " هذه ليست بكثيرة ، والثانية هي التي " صدوق وصالح " هذه أكثر ، هذه أكثر من الأولى .
وأحيانا يصفون حال الراوي وعبادته بما يتبين للمطلع على حاله بأنه عدل في دينه ؛ فتجد في بعض التراجم يقول: فلان كان يصوم النهار ويقوم الليل ، أو كان فلان يصنع كذا وكذا من أنواع الطاعات والعبادات .
فهذه مثبتة لعدالته ما لم يرد ما يناقضها ؛ لأن بعض الناس قد يكون زاهدا ورعا صالحا في نفسه ، ولكن يقع منه كذب يرد به حديثه ، وهذا الكذب إنما فعله لمعنى من المعاني - كما يأتي إن شاء الله - .
فالشاهد: أنه إذا وصف الراوي بالطاعة ، وعرف من حاله قيامه بالواجبات وتركه المحرمات ؛ فهو عدل في دينه ، ولو لم ينص العلماء على أنه عدل أو صدوق أو صالح .(1/7)
وأحيانا -وهو الكثير- تكون هذه الكلمة -أو كلمة العدالة-مجموعة مع كلمة الضبط في كلمة واحدة وهي كلمة: " ثقة " ، فإذا قالوا في راو: " ثقة " فمعناه: أنهم ضمنوا لك حفظه وعدالته ، ضمنوا حفظه وعدالته ، فإذا وجدت في الترجمة " فلان ثقة " ؛ فاعلم أنه عدل وأنه ضابط .
فهذه الأشياء الأربعة تدلك -أو مما يدلك- على عدالة الراوي ، فهذا هو الشرط الأول من شروط صحة الحديث ، وهو عدالة الراوي .
والشرط الثاني وهو الذي أشار إليه بقوله: " متقن وهو ما دار على عدل " ، متقن: هذه اسم فاعل من الإتقان ، والإتقان: معناه معرفة الشيء على وجهه كما قال الله -تعالى-: { صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ } (1) يعرف على وجهه ويقام على وجهه الصحيح ، إذا أتقن الشيء معناه: أنه أقامه على وجهه الصحيح ، أو فعله على وجهه الأمثل .
وهنا المتقن: المراد به هنا الضابط ؛ لأن الذي يروي الحديث يأتي به على وجهه الصحيح أو وجهه الأمثل ، يأتي به على وجهه الصحيح أو على وجهه الأمثل .
فإذا قيل: " متقن " فمعناه هو الضابط ، وهو الذي يعبر عنه عند بعض أهل العلم بـ " تام الضبط " ، فمن هو الضابط ؟ ومن هو المتقن ؟ قلنا: هما بمعنى واحد ، طيب ما حد الضابط ؟ كيف نعرف أن فلانا ضابط للحديث ؟
ضابط الحديث ، أو متقن الحديث: ذكر العلماء -رحمهم الله- هو الراوي الذي تكون السلامة أو تكون أحاديثه أو غالب أحاديثه سالمة صحيحة ، ليس فيها مخالفة لغيره ممن هو أوثق منه .
لكن قد يقع الخطأ والوهم والغلط في روايته ، لكن على وجه القلة والندرة ، ليس على وجه الكثرة .
فمن كان الغالب على حديثه الصحة والسلامة فهو الضابط والمتقن ؛ وإن وقع في روايته بعض الغلط وبعض السهو ، لكن يكون ذلك قليلا ونادرا ؛ لأنه إذا كثر ضعف به الراوي .
__________
(1) - سورة النمل آية : 88.(1/8)
ولهذا ؛ الإمام مسلم -رحمه الله- ذكر في كتابه: " التمييز" أنه ليس من شرط ناقل الخبر أن يكون سالما من الخطأ والسهو، وكأن الإمام مسلم -رحمه الله- أشار في العبارة إلى أنه: لم يسلم أحد من الخطأ لا من الماضين -أو السلف الماضين- إلى زمانه .
بل مع تحريهم وشدة توقيهم وإتقانهم وحفظهم لما يروون ؛ إلا أن السهو والغلط ممكن عليهم ، وهم أئمة حفاظ .
هذا هو الذي ذكره أيضا الإمام الترمذي: بأنه لم يسلم من الخطأ كبير أحد من أئمة الحيث مع حفظهم .
والتطبيق العملي لأئمة الحديث من القديم يشهد بأنه لم يسلم أحد من الأئمة الحفاظ من الغلط ، فكل الحفاظ أو أكثرهم قد أخطأ ولو في حديث واحد .
الشاهد أنه لم يسلم أحد من الخطأ ، وهذا الخطأ القليل أو النادر لا يعني تضعيف حديثه وروايته ؛ ما دام أن الغالب على حديثه هو السلامة .
وقد وقع الوهم والخطأ حتى لأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فعائشة -رضي الله عنها- استدركت على الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم- ، أو على بعض الصحابة ما وهموا وأخطأوا فيه ، وفيه صنف الزركشي كتابه: " الإصابة فيما استدركته عائشة على الصحابة " .
وسعيد بن المسيب -رحمه الله- وهَّم ابن عباس -رضي الله عنهما- في حديثه في قصة تزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ميمونة وهو محرم ، وابن عباس معروف مكانه من الحفظ والإتقان والجلالة ؛ ومع ذلك وهَّمه سعيد بن المسيب في هذا الحديث .
لأن- كما سبق- العصمة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنبياء الله ورسله ، لأنهم هم الذين يسددهم الوحي ، وأما غيرهم فقد يقع منه الخطأ وينبه على ذلك الخطأ وليس منقصة في حقه .
والإمام البخاري وأبو حاتم خطأا معمرا في: "حديث الفأرة " ، وخطأ الإمام مسلم الإمام الزهري -رحمه الله تعالى- وهو من أوسع حفاظ الإسلام وأكثرهم رواية ، خطأه في حديث: " ذي اليدين " .(1/9)
وخطأ الإمام مسلم شعبة -وهو أمير المؤمنين في الحديث- خطأه -رضي الله تعالى عنه- في حديث ، وخطأ الدارقطني والإمام مسلم خطأا الإمام مالكا -رحمه الله- وهو من أحفظ حفاظ الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ومع ذلك خطئوه في بعض الأحاديث .
ومن أراد ذلك فليراجع كتاب: " ما خولف فيه الإمام مالك -رحمه الله- " ففيه بعض الأخطاء التي وهم أو خطأ فيها الإمام الدارقطني الإمام مالكا -رحمه الله- ، وهو قد بلغ في الحفظ والجلالة والإتقان ما جعل كثيرا من العلماء يتهيبون من تخطئته ، أو من توهيمه في بعض الأحاديث .
والشاهد من هذا كله: أن الضبط أو تمام الضبط لا يعني عدم الخطأ: وإنما يعني أن يكون الغالب على حديث الراوي السلامة والصحة ، وإذا وقع خطأ منه فإنه يقع خطأ قليل نادر ليس بكثير ؛ لأنه إذا كثر من الراوي ضعف حديثه به .
والضبط له أقسام ، أو له قسمان ، كل قسم تحته قسمان:القسم الأول باعتبار حال الراوي ، والقسم الثاني باعتبار الإطلاق والتقييد.
أما القسم الأول: فهو باعتبار حال رواية الراوي فهو قسمان أيضا ، وهو ضبط حفظ أو ضبط صدر ، وضبط كتاب .
وهذه العبارة ليست بحادثة ، وإنما ذكرها ابن معين -رحمه الله تعالى- فلما جاء وذكر" عبد الله بن صالح كاتب الليث " قال ابن معين: والثبت ثبتان ثبت حفظ وثبت كتاب ، و " عبد الله بن صالح " ثبت كتاب .
ومعنى ثبت الحفظ أو حفظ الصدر: هو أن يحفظ الراوي الأحاديث عن ظهر قلب ؛ بحيث يستطيع أن يستحضرها متى شاء ، وهذا كان في الأولين ، كثير من الصحابة والتابعين وأتباعهم ؛ لأن الأسانيد كانت قصيرة ، والروايات لم تتشعب ولم تتعدد .
لكن لما طالت الأسانيد وكثرت الروايات ؛ صار الأكثرون أو كثير ممن جاء بعدهم يعتمد على الكتاب ، وإن كان يحفظ هذه الأحاديث في صدره إلا أن العمدة هو كتابه ؛ فإذا وهم في حديث أو أخطأ في حديث راجع كتابه .(1/10)
فالأولون كان الغالب عليهم الحفظ ، ومن جاء من بعد أتباع التابعين الغالب عليهم أنهم يكتبون هذه الأحاديث ، وإن كانوا يحفظونها في صدورهم .
وأما بالنسبة لـ " ضبط الكتاب " فمعناه: أن يحفظ المحدث كتابه الذي سمع فيه من شيخه ، يحفظه من التبديل والتغيير حتى يؤدي منه ؛ فمن كان كذلك فإنه يسمى " ضابط كتاب " .
وقد اشتهر بهذا الأمر حتى بلغ غاية فيه " إبراهيم بن حسين بن جيزين " ، اشتهر بضبط كتابه ؛ فكان بعض أهل العلم يقول: لو روى حديثا فيه لا يؤكل الخبز ؛ لوجد ألا يؤكل ؛ لصحة إسناده .
وهو إنما يعتمد على كتابه فقط ، ولا يعتمد على حفظه ، يعتمد على كتابه ؛ فهذا يدلك على أن ضبط الكتاب معتبر عند أهل العلم ، ولو لم يكن الراوي حافظا لما يرويه في صدره .
وأما إذا دخل الكتاب الرواة الذين ذكر أنهم غيروا في كتبهم أو بدلوا ؛ فهؤلاء يضعف حديثهم ويحكم عليهم بالضعف ، لا لضعف في أنفسهم وإنما لضعف في كتبهم ؛ فهم لم يعتنوا بكتبهم ، ولم يحفظوها من التغيير والتبديل .
فلما وقع فيها التغيير والتبديل ؛ صار كل حديث منها يظن أنه حديث مغير مبدل ، وهذا كما حصل لـ " سفيان بن وكيع بن الجراح " كان عدلا في نفسه ، لكن كان كتابه عند وراقه ، وكان وراق سوء ، كان يدخل عليه بعض الأحاديث .
فترك العلماء حديث سفيان لا طعنا في سفيان ؛ ولكن طعنا في ضبطه لكتابه من جراء وراقه الذي أدخل عليه ما ليس من حديثه ، وهو لم يكن حافظا لحديثه بحيث يميز ما كان من حديثه أو لم يكن ، وإنما كان يعتمد على كتابه .
وأما " أبو زرعة الرازي " فإنه لما كان حافظا لحديثه في صدره وفي كتابه ، لما حاول بعض الناس أن يدخل عليه أحاديث في كتبه ؛ تنبه لذلك وأبطلها -رضي الله تعالى عنه- .(1/11)
والقسم الثاني من أقسام الضبط: هذا باعتبار الإطلاق والتقييد ، فهناك ضابط بإطلاق ، ليس مقيدا ضبطه لا بمكان ولا بزمان ولا بحالة ولا بشيخ ولا بعلم ولا بأهل بلد ، وإنما هو ضابط مطلقا ، فكل حديث يرويه يحكم له بالصحة إلا ما ثبت أنه أخطأ فيه ، وهذا كثير في أئمة الحديث -لا حصر لهم- .
وقسم آخر وهو المهم: هو" الضابط بقيد " يعني: يكون ضبطه محصورا في شيء معين ؛ فهذا القسم يحكم لحديثه بالصحة فيما ضبط فيه ، وما عداه فلا يحكم له بالصحة .
فتارة قيد العلماء الضبط بحالة الراوي يقولون: " إذا حدث من حفظه فهو ضعيف ، وإذا حدث من كتابه فحديثه صحيح " ، وهذا مثل ما قيل في " الداروردي " ذكر هذا فيه -الداروردي- ذكر أنه: " إذا حدث من حفظه فيحكم لحديثه بالضعف ، ولكن إذا حدث من كتابه حكمنا لحديثه بالصحة " .
فإذا أردنا تطبيقه على كلمة " المتقن " في هذا الحديث نقول: هو متقن فيما حدث فيه من كتابه ؛ فإذا حدث من كتابه دخل في حد الحديث الصحيح أو دخلت روايته في حد الحديث الصحيح ، وإذا حدث من غير كتابه -يعني: من حفظه- فحديثه ليس داخلا في حد الصحيح .
لأنه والحالة هذه- ليس بضابط ولا متقن ، ومن شرط الحديث الصحيح أن يكون راويه متقنا ؛ لأننا الآن نذكر حد الحديث الصحيح لا نذكر صفة الرجل ، وهذا الرجل إذا روى من كتابه انطبق عليه أنه متقن وأنه ضابط فدخل في حد الحديث الصحيح ، وإذا حدث من حفظه خرج من هذا أو خرج من حد الحديث الصحيح ؛ لأنه عندئذ لا يكون متقنا ولا ضابطا ، فلا يشمله حد الحديث الصحيح .
وتارة يكون الراوي متقنا في زمان معين ، وهذا في الرواة المختلطين: يذكر أهل العلم أنه إذا حدث قبل اختلاطه فيحكم لحديثه بالصحة ، بل بعضهم حديثه في أعلى مراتب الصحة ، ومخرج له في الصحيحين إذا كان قبل الاختلاط ، وأما بعد الاختلاط فحديثه ضعيف .(1/12)
وهذا كثير أو في جملة كبيرة من العلماء مثل: " الجريري سعيد بن أبي عروبة " ، وجماعة هؤلاء: إذا حدثوا قبل الاختلاط فحديثهم صحيح ؛ فينطبق عليهم أنهم متقنون ، ويشملهم حد الحديث الصحيح ؛ ولهذا خرج حديثهم الذي قبل الاختلاط في الصحيحين .
وأما إذا كان حديثهم بعد الاختلاط فهؤلاء يكون حديثهم ضعيفا ؛ لأنهم عندئذ لا يكونون متقنين ، فليسوا بداخلين في حد الحديث الصحيح .
وتارة يقيد العلماء الضبط والإتقان بمكان ، تارة يقيد بمكان كما إذا قالوا: إذا روى فلان أو حدث فلان في البلد الفلاني فحديثه صحيح ، وإذا حدث في غيره فحديثه ليس بصحيح .
وهذا كما قيل في " معمر ": " معمر حجة بلا نزاع " كما قال العراقي ، ولكن إذا حدث في " اليمن " فحديثه صحيح ، وإذا حدث في" البصرة " فحديثه ضعيف .
وكذلك " المسعودي " إذا حدث في" الكوفة " فحديثه صحيح ، وإذا حدث في " بغداد " فحديثه ضعيف .
فإذا طبقنا تعريف الحديث الصحيح ، واشترطنا أن يكون راويه متقنا ضابطا ؛ وجدنا أن " المسعودي " متقن في روايته بـ " الكوفة " ، غير متقن في روايته بـ " بغداد " أو غير حافظ في روايته بـ " بغداد " ؛ فنحكم على حديثه في هذا المكان في " الكوفة " بأنه صحيح ، وأن الراوي ضابط ونحكم على حديثه بـ " بغداد " بأنه ضعيف ؛ لأنه عند تحديثه في " بغداد " قد فقد شرطا من شروط الصحة وهو: " الإتقان والضبط" .
وتارة يقيد العلماء الضبط بأهل بلد يقولون: إذا روى فلان عن أهل هذا البلد فهو ثقة ، وإذا روى عن غيرهم فهو ضعيف .
وهذا كما قيل في " إسماعيل بن عياش " إذا روى عن الشاميين: إذا كان شيخه شاميا فحديثه صحيح ، وينطبق عليه حد الحديث الصحيح ؛ لأنه حينئذ يكون متقنا ، وشرط الحديث الصحيح أن يكون راويه متقنا ؛ فانطبق عليه هذا الشرط فيما حدث به عن الشاميين .(1/13)
وأما إذا حدث عن غير أهل الشام من الحجازيين والعراقيين وغيرهم ؛ فهذا نحكم لحديثه بالضعف ، لأن حديثه أو لأنه في حديثه عن غير الشاميين لا يضبطه ولا يحفظه ؛ فكان حديثه ضعيفا ، فلا ينطبق عليه شرط الحديث الصحيح وهو: " وجود الإتقان " .
وكذلك أحيانا يقيدون الضبط بشيخ معين يقولون: فلان إذا حدث عن فلان فهو ثقة ، وإذا حدث عن غيره فهو ضعيف .
هذا كما في " عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي روان " ، هذا قال العلماء: إذا حدث عن ابن جريج فهو ثقة وحديثه صحيح ، وإذا حدث عن غير ابن جريج فحديثه ضعيف .
فإذا وجدنا حديثا حدث به " عبد المجيد بن أبي روان " فننظر: هل شيخه ابن جريج أو غير ابن جريج ؟ إذا كان ابن جريج حكمنا لحديثة بالصحة ؛ لأنه ينطبق عليه شرط الصحيح وهو الإتقان .
وأما إذا كان شيخه غير ابن جريج فنحكم على حديثه بالضعف ؛ لأنه لا يكون حافظا عندئذ للحديث ، ومن شرط صحة الحديث أن يكون راويه حافظا أو ضابطا أو متقنا له .
وأحيانا يقيدون الضبط بفن أو بعلم من العلوم: كما ذكر عن ابن إسحاق -صاحب السيرة- فبعض أهل العلم يقول: إذا حدث ، إذا كان حديثه في السير والمغازي فهو ثقة حجة ، وأما في غيرها فهو ضعيف .
فيميزون بحسب العلم ؛ لأن بعض المحدثين أو بعض الرواة يكون له مزيد عناية أو عناية تامة بعلم من العلوم ، يصرف وقته وهمته ونشاطه وحفظه فيه ، كما كان يصنع ابن إسحاق في تتبعه للمغازي والسير ، وأما غيرها فيضعف جانبه فيه .
فمثل هذا إذا جاءنا بحديث بالأحكام قلنا: ضعيف ؛ لأنه ليس بضابط لأحاديث الأحكام ، ومن شرط صحة الحديث أن يكون راويه ضابطا ، وهذا غير ضابط في هذا الفن .
وأما إذا روى في السيرة والمغازي فنقول: حديثه صحيح ؛ لانطباق شرط الصحيح عليه وهو الإتقان .(1/14)
فصار عندنا الضبط لاعتبار الإطلاق والتقييد هو من أهم الأمور التي ينبغي أن يعتني بها دارس هذا الفن ؛ لأننا أحيانا نجد مثل: أن بعض الرواة يذكر-في كتب المختصرات كـ " التقريب " وغيره -أن فلانا ثقة أو ثبت أو حافظ أوغير ذلك من الألفاظ .
فإذا قرأنا في الكتب المطولة وجدنا أن هذا الحكم على سبيل العموم ، لكن في بعض الأحوال يكون حديثه ضعيفا .
نقول أو نجد العكس ، نجد أن الراوي -مثلا- يكون ضعيفا: مثل ما يوصف به -مثلا- " زياد بن عبد الله البكاي " ، يوصف بأنه ضعيف في الكتب المختصرة .
لكن إذا رأيت ترجمته في الكتب المطولة وجدت أن العلماء يثبتون روايته ويجعلونها من أحسن الروايات وأكملها وأثبتها ، بل بعضهم يجعلها أثبتها في روايته للمغازي والسيرة عن " ابن إسحاق " .
فالشاهد من ذلك: أنه ينبغي الاعتناء بالضبط -الضبط المطلق والضبط المقيد- فليس كل ضابط ، يعني: فليس كل ضعيف لا يصح حديثه مطلقا إلا إذا كان ضعيفا مطلقا ، وليس كل ثقة يصح حديثه مطلقا إلا إذا كان حافظا مطلقا لم يقيد بشيء أو براو من الرواة .
وهذا الضبط أو تمام الضبط: يعني كيف نعرفه من كلام أهل العلم ؟ عرفنا أن الضابط -كما تقدم- هو الذي تكون السلامة على حديثه أكثر ، وأن الخطأ إذا وقع منه فلا يقع إلا نادرا أو قليلا .
فكيف نطبق ذلك على الرجال الذين تكلم فيهم أئمة الجرح والتعديل ؟ لأن العلماء لا تجدهم يفصلون لك في الراوي بحسب الاصطلاح المعهود عندنا ؛ لأن هذا الاصطلاح ما هو إلا قواعد كلية تندرج تحتها الأمثلة التي ذكرها الأئمة .
فالضابط أو راوي الحديث الصحيح يعبر عنه بـ " ضابط " ، وهذا ليس بكثير ، قليلا ما تجد أن العلماء يقولون في فلان بأنه " ضابط " ، الكثير تجد " حافظا " ، وتجد أيضا " متقنا " ، لكن كلمة " ضابط " فيها نوع قلة بالنسبة لهذين الأمرين .(1/15)
لكن يستفاد هذا الحكم -أو على الرجل- بتمام الضبط من عبارات أئمة الجرح والتعديل في مراتب التحذير والتوثيق ، وهذه لا تكون إلا بعد -يعني- دراسة .
فهناك مراتب -ذكرها أهل العلم- راويها يكون حديثه صحيحا ، فأحيانا يقال: فلان ثقة حجة متقن ، وأحيانا يقول: إليه المنتهى ، وأحيانا يقول: فلان لا يسأل عنه ، وأحيانا: فلان ثبت ، وغيرها من الأمثلة الكثير .
كلها تدل على ضبط الراوي وتمام ضبطه ، والرواة -حتى الموصوفون بالضبط هؤلاء- يتفاوتون في الضبط ، لكن يجمعهم قاسم مشترك وهو: أن الغالب على حديثهم السلامة والصحة .
وأحيانا يستفاد تمام الضبط من العبارة المركِبة للعدالة وتمام الضبط وهي كلمة " الثقة " ؛ فإذا قالوا في راو بأنه ثقة فمعناه أنه يجمع بين العدالة وتمام الضبط .
فهذه ثلاثة أشياء قد يستعان بها على فهم مراد العلماء من الحديث ، أو من إطلاق العلماء ، أو من معرفة تام الضبط عند علماء هذا الفن ، وهي لا تظهر جليا وواضحا إلا بعد التقصي والدراسة التامة لمراتب الجرح والتعديل والمفاضلة بين الأئمة الحفاظ .
وهذا الضبط الذي ذكره العلماء لا يلزم منه -أن يكون أو- وصف الراوي بأنه ضابط أو تام الضبط ، لا يلزم منه أن يكون عدلا ، كما لا يلزم من وصف الراوي بأنه عدل أن يكون ضابطا .
فالقاعدة: أنه لا تلازم بين العدالة والضبط ، فقد يوصف الراوي بأنه حافظ وثقة ومتقن ، ولكنه ليس بعدل ، وقد يوصف الراوي بأنه عدل في دينه ، ولكنه ليس بحافظ .
ويدلنا على هذا: أن ابن أبي حاتم -رحمه الله- سأل أبا زرعة عن رجل ؟ فقال أبو زرعة: حافظ ، فقال ابن أبي حاتم: أصدوق هو ؟ يعني: أهو عدل في دينه ؟ فلم يكتف ابن أبي حاتم بقوله: ضابط ؛ لأنها لا تدل على التوثيق ، ولا تدل على العدالة ، وإنما تدل على الحفظ .(1/16)
ولهذا ؛ لما سئل وكيع بن الجراح عن رجل قال: " رجل صالح -يعني في دينه- وللحديث أهل " يعني: ليس من أهل الحديث ، بمعنى: أنه لا يضبط الحديث ولا يحفظه ، وإن كان صالحا في دينه .
ولهذا ؛ يحيى بن سعيد القطان يقول: " لن ترى الصالحين في شيء أكذب منهم في الحديث " والمراد هنا: ليس تعمد الكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما المراد: الخطأ والخطأ ، أو كثرة الخطأ في الحديث ، يطلق عليها في لغة العرب " كذبا " كما هي لغة أهل الحجاز .
فقوله: " لن ترى الصالحين في شيء أكذب منهم في الحديث " يعني: أنه يجري الحديث على ألسنتهم -من غير- أو يجري الكذب على ألسنتهم من غير تعمد له .
كما نص على ذلك الإمام مسلم -رحمه الله- في شرحه لعبارة يحيى بن سعيد القطان هذا ، وإلا لا يظن بالصالحين أنهم يكذبون ، وبخاصة في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - .
غير أن بعض من ثبت عليه كذب من الصالحين ، أو قصد الكذب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا له -يعني- محمل ، أو له وجهة عندهم خطأهم فيها العلماء ، وأنهم يكذبون للنبي - صلى الله عليه وسلم - في زعمهم لا عليه ؛ جلبا للقلوب وترغيبا لها في الخير .
وهذا غلط ؛ لأن فيما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - غنية عما لم يصح عنه - صلى الله عليه وسلم - .
ولهذا ؛ الحافظ أبو أيوب سليمان بن داود الشاذكوني كان من أحفظ الحفاظ ، بل فضله بعض العلماء على الإمام أحمد ، وعلى ابن المديني ، وعلى ابن معين في حفظه .
ولكنه كان يكذب فطرح العلماء حديثه كله ؛ حتى قال فيه الإمام البخاري -رحمه الله-: هو أضعف عندي من كل ضعيف لأنه كان يكذب ، فهو حافظ ضابط ، ولكنه ساقط العدالة لكذبه على النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وقد تقدم لنا في العدالة: أن من تحققنا عدم عدالته -وبخاصة في كذبه على النبي صلى الله عليه وسلم- فإنه يطرح حديثه ، ولا يحل إيراده ولا الاستشهاد به ولا الاعتبار به .(1/17)
وهناك كثير من العلماء أو الرواة ممن وصفوا بالصلاح والزهد والعبادة ، ولكنهم كانوا في حفظهم غير مقبولين عند أئمة الحديث مثل: موسى بن عبيدة الربدي ، ومثل: أبان بن أبي عياش ، ومثل: يزيد الرقاشي ، ومثل: الرشتين بن سعد ، وجماعة .
هؤلاء صالحون في أنفسهم ، ولكن غلبت عليهم غفلة الصالحين ؛ فصاروا يخطئون في أحاديثهم ؛ فلهذا رد العلماء حديثهم لا طعنا في عدالتهم وإنما طعنا في حفظهم .
وهذا كله يبين لك أن العدالة والضبط غير متلازمين ، فليس كل عدل حافظا كما أنه ليس كل حافظ عدلا ، وبهذا يتم الشرط الثاني من شروط صحة -أو الحكم على- الحديث بأنه صحيح ، والله أعلم .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد له رب العالمين ، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
في الدرس السابق كان الكلام عن الحديث الصحيح ، قد ذكر المؤلف -رحمه الله تعالى- أن أهل الحديث يشترطون لصحة الحديث خمسة شروط: ثلاثة لا بد من توفرها في الحديث ، واثنان لا بد أن ينتفيا عن الحديث .
وهذه الشروط الخمسة متعلقة بالحديث في متنه وإسناده ، وتقدم الكلام على شرطين منها:
وهو شرط عدالة الراوي ، وأن الأظهر فيه وفي حد العدالة ، أو في صفة الرجل العدل في رواية حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يكون في أكثر أحواله مطيعا لله -تعالى- .
والشرط الثاني ، وهو شرط الإتقان أو الضبط: فرجل الحديث الصحيح لا بد أن يكون متقنا ضابطا لما يروي ، وضبط الحديث سبق أن معناه عند أهل الاصطلاح: أن يكون الغالب على حديث الرجل الصحة والسلامة .
وأن الوهم والخطأ والسهو الذي يقع في الرواية لا يؤثر على ضبط الراوي ، ولا يمنع من إجراء أحاديثه عن الصحة ، إلا ما ثبت أنه أخطأ فيها ، وسبق التمثيل على ذلك .(1/18)
وبقي في هذا الشرط ، أو في هذين الشرطين أن يقال: إن العدالة والضبط الغالب في التعبير عنهما أن يعبر بكلمة ثقة ، وهذا هو المشهور أو الغالب في كلام الأئمة .
وقد يعبر عن العدالة والضبط بصحة الرجل أو بصحة الرجال ، وهذه وردت في كلام ابن المبارك -رحمه الله- فإنه قد قال: " ليس جودة الحديث قرب الإسناد ، ولكن جودة الحديث صحة الرجال " .
يعني: في العدالة والضبط ، فإذا قيل: " رجل صحيح " فمعناه أنه قد استوفى شرطين ، وهما: العدالة والضبط ؛ لأن الحكم ها هنا منصب على الرجال أنفسهم لا على الإسناد بأجمعه .
وبقي أمر آخر في الضبط والعدالة: وهو أن الضبط والعدالة أحيانا يخرج الوصف بهما من إمام واحد ، كأن يصف الإمام أحمد راويا بأنه ثقة ، أو يصفه على بن المديني أو يصفه يحيى بن سعيد أو يصفه ابن مهدي أو غيره من الأئمة يقول: فلان ثقة ، أو فلان عدل ضابط .
فأحيانا عبارة التوثيق تصدر من إمام واحد فحسب ، وأحيانا لا بد للإنسان أن يركب من كلام الأئمة ما يستخرج به هذا الوصف .
فأحيانا يوجد من العلماء من يصف بعض الرواة بما يثبت به العدالة ، أو تثبت به العدالة دون الضبط ، ونجد في كلام الإمام الآخر ما يعطينا الضبط أو الحكم على هذا الراوي من ناحية ضبطه ؛ فنركب من هذين الكلامين حكما وهو: " إثبات ثقة الراوي " .
لكن لا ينسب التوثيق إلى من قال ، أو إلى من وصفه بالعدالة ، كما أنه لا ينسب التوثيق إلى من وصفه بالحفظ والضبط ، وإنما يكون الحكم مستخلصا من كلام الأئمة بشقيه ، ولا ينسب القول لأحدهما ، وإنما ينسب لكل إمام ما قاله في مثل هذه الحالة .
وبهذا ينتهي الشرط الثاني من شروط صحة الحديث وهو: " إتقان الراوي أو ضبطه " .
بقي ها هنا سؤال أورده أحد الإخوة -يوم أمس- وهو: الفرق بين الضابط والحافظ ؟(1/19)
العلماء يعبرون بهما عن الرجل الذي يمثل حديثه الحديث الصحيح ، ولكن كلمة الحافظ أشمل من كلمة الضابط ؛ لأن كلمة الضابط معناها ضبط ما يرويه فقط .
بعض الرواة ليس له إلا خمسة أحاديث أو عشرة أحاديث ، وبعضهم له مائة حديث ، وبعضهم له عشرة آلاف ، وبعضهم له خمسون ألف حديث ؛ فإذا كان ضابطا لهذه الأحاديث التي يرويها فإنه يسمى ضابطا .
وأما الحافظ: فوصف زائد ، أو وصف الراوي بالحفظ فهو زيادة على الضبط ، فالحافظ -على ما يأتي إن شاء الله- عند أهل العلم يكون مشتهرا بطلب الحديث معروفا به ، ويكون ما يعرفه من الأحاديث أكثر مما يجهله ، ويكون له عناية بالحديث من معرفة صحيحه وسقيمه ، و غير ذلك .
فكل حافظ ضابط ولا عكس ، فالضابط لا يطلق عليه حافظ ؛ لأنه إذا كان ضابطا لما يرويه -قد يكون ضابطا لما يروي- ولكنه غير مشتهر بطلب الحديث ، غير معتنِ به من ناحية معرفة صحيحه وضعيفه ورجاله .
فالشاهد: أن كل حافظ ضابط ولا عكس ، فلا يطلق على الضابط حافظا ؛ إلا إذا اجتمعت فيه شروط الحافظ ، ولكن إذا قيل: " حافظ " أو قيل: " ضابط " ؛ صار صاحبه من مرتبة أهل الحديث الصحيح الذين يصحح حديثهم .
ثم -بعد ذلك- ننتقل إلى الشرط الثالث الذي قال المؤلف: " واتصل سنده " ، اتصال السند معناه: أن يكون كل راو من رواة الحديث قد أخذ الحديث عمن فوقه بإحدى طرق التحمل الصحيحة .
والفوقية تكون من جهة الصحابي ؛ فأعلى الإسناد: الصحابي ، ثم دونه: التابعي ، ثم دونه: تابع التابعي ، وهكذا حتى يوصل إلى المصنف .
فكل راو يأخذ ممن فوقه بإحدى طرق التحمل الصحيحة ؛ لأن طرق التحمل التي ذكرها أهل العلم ثمانية:
منها ما هو صحيح مثل السماع والقراءة ، ومنها ما هو فيه خلاف بين أهل العلم مثل الإجازة والمناولة ، ومنها ما هو ضعيف عند أئمة الحديث كالوجادة .(1/20)
فالشاهد: إذا كانت هذه الطريقة التي تحمل بها حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - صحيحة حكمنا على إسناده بأنه متصل .
فإذا روى عن شيخه بالسماع ، سمع من شيخه لفظ الحديث ؛ فهذا يكون إسناده متصلا بشيخه .
وإذا روى عن شيخه عن طريق القراءة ؛ فكذلك يكون إسناده متصلا ، وهكذا بقية طرق التحمل التي صححها أهل العلم .
وأما إذا كانت هذه الطريقة غير صحيحة ، أو طريقة التحمل غير صحيحة ؛ فإنه يحكم للإسناد بالانقطاع ، أو يحكم على الإسناد بأنه إسناد منقطع .
وبهذا القيد: وهو" اتصال السند " يخرج عندنا المنقطع بأنواعه: سواء المرسل أو المدلس أو المعضل أو المنقطع بمعناه الخاص .
فهذه كلها إذا وجدت في الحديث ؛ حصل في السند انقطاع ، فإن الحديث الصحيح يفقد حينئذ شرطا من شروط الصحة ؛ فلا يحكم له بالصحة .
وكذلك يخرج بهذا القيد إذا تحمل الحديث بإحدى طرق التحمل غير الصحيحة مثل: الوصية والوجادة وغيرها .
فهذه مضعفة عند أهل العلم ؛ فلو تحمل بها يعني: وجد كتابا لشيخه فرواه عنه دون أن يسمعه منه ؛ فإنه حينئذ -تكون هذه الطريقة ، أو هذا التحمل- يكون تحملا ضعيفا لا يحكم معه باتصال الإسناد ؛ وبهذا يكون الشرط الثالث من شروط صحة الحديث قد تم .
وننتقل إلى الشرط الرابع ، قلنا: الشرطان الرابع والخامس شرطان يجب انتفاؤهما عن الحديث حتى يحكم له بالصحة .
والشروط الأول الثلاثة هذه متعلقة بالإسناد: فعدالة الراوي وضبطه واتصال الإسناد لا علاقة لها بالمتن ، وإنما الأمر فيها مختص بالإسناد .
والمراد من أنه لا علاقة لها بالمتن يعني: أنها ليست من خصائص المتن ، وإلا من ناحية التأثير لها تأثير على المتن .
فالإسناد الذي يكون فيه راو ضعيف ، أو يكون فيه راو غير عدل ، أو يكون منقطع الإسناد ؛ هذا له أثره في الحكم على الحديث .(1/21)
لأننا نحكم على الحديث حينئذ بأنه حديث ضعيف لا يصح ؛ لفقده شرطا من شروط الصحة ، وإنما المراد: أنه لا علاقة لهذه الأشياء بالمتن ، يعني: أنها ليست من خصائص المتن ، وإنما هي من خصائص الإسناد .
وكذلك الشروط الأول: بعضها إذا فقد من الإسناد ؛ فإنه يطرح الحديث كلية ، ولا يحتج به ، ولا يستشهد به .
وبعضها إذا فقد من الإسناد ؛ فإن الإسناد يعتبر به ، ولو مع فقدها ، على معنى: أنه لا يحتج به استقلالا ، وإنما يصلح في الشواهد والمتابعات .
فالعدالة -كما تقدم- إذا فقد شرط العدالة -شرط العدالة إذا فقد- طرح الحديث بالكلية وكان وجوده كعدمه ، وضبط الراوي إذا لم يفحش فإنه يستشهد به ويكون عاضدا لغيره ، ويعضده أيضا غيره .
واتصال الإسناد إذا فقد كان الحديث ضعيفا ، لكن إذا جاء له طريق آخر من مخرج آخر ؛ فإنه يرقي هذا الحديث -مع انقطاعه- إلى الدرجة التي هي أعلى منه .
وأما بالنسبة بالنسبة للشرطين الآتيين وهما: " الشذوذ والعلة " فهذان الشرطان إذا وجدا في حديث فإنه لا يصلح للاعتبار ولا للاستشهاد .
لأنا إذا حكمنا على حديث بأنه شاذ أو بأنه معل ؛ فإنه حينئذ نحكم بأن هذه الرواية خطأ .
وإذا كانت الرواية خطأ ، ثبت عندنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقلها ثبوتا جازما لحصول الخطأ المتيقن ؛ فلا يصلح حينئذ أن نعضدها .
وأما ما يعضد من الأحاديث فإنه إنما يعضد لأنه متردد الاحتمال ، فيحتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قاله ، ويحتمل أن يكون - صلى الله عليه وسلم - لم يقله .
ونظرا لهذا ؛ إذا جاءنا عن طريق آخر عرضه ورجح لنا أحد الاحتمالين ، وأما إذا جزمنا بأن هذه الرواية خطأ قطعا فلم يقعد هناك إلا احتمال واحد فقط .
وأما الرواية المغلوطة أو الشاذة أو المنكرة: فإن هذه يكون عندئذ وجودها كعدمها ، ولا تصلح للاستشهاد ولا الاعتبار ؛ للاعتقاد الجازم بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقلها .(1/22)
فلم يعد هناك احتمالان يحتاج أحدهما إلى الترجيح ، أو ترجيح أحد الوجهين على الآخر .
فالشاهد من هذا كله: أن الشروط الثلاثة الأول متعلقة بالإسناد ، والشرطان الآتيان يتعلقان بالإسناد والمتن ، يتعلقان بالإسناد والمتن .
والشرطان الآخران أو الآتيان: هذان الشرطان إذا وجدا في الحديث ؛ ضعف جدا ، ولا يقبل أن يكون شاهدا ولا مشهودا له .
وأما الثلاثة الشروط الأول: ففيها ما يصلح أن يكون شاهدا ومشهودا له وفيها ما لا يصلح .
وإذا أردنا أن نفسر كلام المؤلف في معرفة الشاذ ؛ فإن خير ما يفسر به كلامه أن نفسره بكلامه نفسه؛ لأنه لما عرف الشاذ ذكر أن الشاذ هو الذي يخالف راويه الثقات ، أو يكون راويه ممن لا يحتمل تفرده .
والذي لا يحتمل تفرده هو الذي فيه ضعف من جهة حفظه ، هذا لا يحتمل تفرده بالحديث ، يعني: إذا تفرد بالحديث بمفرده ؛ فإنه لا يقبل ، هذا هو الذي يكون في حفظه ضعف .
وهذا الشطر الثاني غير مراد عندنا في الشذوذ المنفي في الحديث الصحيح ؛ لأن الحديث الصحيح يشترط أن يكون راويه ثقة .
وإذا خف ضبط الراوي وهو: الذي لا يحتمل تفرده بالحديث ؛ إذا خف ضبطه ، أو ضعف ضبطه ؛ خرج من حد الحديث الصحيح؛ لأن الراوي أصلا ليس بثقة .
فالجزء الثاني من الشاذ أو من تعريف المؤلف للشاذ: غير مراد عندنا فيما يجب نفيه عن الحديث الصحيح من الشذوذ .
فلم يبق إلا الشطر الأول: وهو الحديث الذي يخالف راويه الثقة ، فكلمة: " راويه " هنا تشمل الثقة وتشمل الضعيف ، فالضعيف إذا خالف الثقات صدق عليه هذا التعريف ، والثقة إذا خالف الثقات صدق عليه هذا التعريف ، لكن المراد ها هنا: أن يخالف الثقة من هو أوثق منه .
أما إذا خالف الضعيف من هو أوثق منه فلا يرد عندنا ها هنا ؛ لأن من شروط صحة الحديث أن يكون راويه ثقة ، فلا مجال لدخول الرجل الضعيف في الحديث الصحيح أصلا ؛ فلا يرد على الحديث الصحيح .(1/23)
فبقي عندنا مخالفة الثقة لمن أوثق منه ؛ فيكون مراد المؤلف بالشاذ هنا: أن يخالف الثقة من هو أوثق منه ، سواء كان في المتن أو في الإسناد ، وسيأتي -إن شاء الله تعالى- في " مبحث الشاذ " ما يبين هذا .
ولكن الذي ينبغي أن يعلم: ألا يكون الحديث شاذا لا في إسناده ولا في متنه ، يعني: لا يأتي الراوي في متن الحديث بما يخالف رواة الحديث الذين هم أوثق منه ، الذين هم أوثق منه .
ولا يخالف في الإسناد بمعنى: أنه إذا روى غيره الحديث مرسلا من الأئمة الثقات ، رواه الرواة مرسلا ، أو رووه موقوفا ؛ فرواه مرفوعا .
فإنه حينئذ لو جاءتنا روايته موصولة أو مرفوعة وهو ثقة ، لكن غيره من الثقات يروي الحديث موقوفا أو مرسل ؛ فإننا نقول: إن حديث هذا الثقة -الذي روى الحديث موصولا أو موقوفا- حديث لم يستكمل شروط الصحة ؛ لوجود الشذوذ فيه وهو: " مخالفته للثقات " .
وكذلك لو جاء بلفظة للحديث لم يأت بها إلا هو من بين الأئمة الحفاظ الذين يشاركونه في رواية الحديث ؛ فإنه حينئذ تعل ، أو يحكم على هذه اللفظة بأنها لفظة شاذة ، بأنها لفظة شاذة ؛ لأنه لم يأت بها إلا هو من بين الأئمة الثقات .
وهذا المبحث سيأتي تفصيله -إن شاء الله تعالى- في " مبحث الشاذ " حين يورده المؤلف .
فالشذوذ يجب أن يكون منتفيا عن الحديث الصحيح ، فالإسناد إذا كان شاذا ؛ فإن الوصف الأول من أوصافه يعني: " الشاذ المنفي عن الحديث الصحيح " ، الشرط الأول: أنه يكون مستوفيا للشروط الثلاثة الأولى .
الإسناد إذا كان شاذا أن يكون مستوفيا للشروط الثلاثة الأولى: يكون رجاله عدولا وضابطين وإسناده متصلا .
فإذا كان الأمر كذلك ؛ فإن ظاهر الإسناد فيمن يطلع عليه لأول وهلة يظن أنه صحيح لعدالة رواته وضبطهم واتصال سنده .
ولكن بعد البحث والتدقيق يتبين أن هذا الراوي خالف في سند الحديث ، خالف في إسناد الحديث ؛ فنحكم على هذا الإسناد الذي يغاير الصحة بأنه " حديث شاذ " .(1/24)
وكذلك النسبة للمتن: بالنسبة للمتن لا يكون شاذا إلا بعد استيفائه الشروط الثلاثة الأول ، وأيضا الشرط الثاني وهو شذوذ المتن: أن يكون سليم الإسناد ، غير شاذ الإسناد ، أن يكون غير شاذ في الإسناد .
فأحيانا يتبادر إلى الإنسان حديث ، أو يأتي الإنسان حديث قد استوفى هذه الشروط: رجاله عدول وضابطون وسنده متصل ، والسند سالم من الشذوذ ، لكن يكون الشذوذ في متنه ؛ لأنه أتى بلفظة لم يأت بها غيره من الحفاظ الذين يشاركونه في رواية الحديث .
والحكم على الشذوذ -الحكم على الإسناد أو المتن بالشذوذ-: لا بد أن يكون فيه الراوي المخالَف ، لا بد أن يكون أقل في الثقة من المخالِف .
فتارة يأتي عندنا راويان: أحدهما أضبط من الآخر ، كلاهما ثقة ولكن أحدهما أضبط من الآخر ؛ فإنه حينئذ يرجح رواية الأضبط ، وإن كانا متساويين في العدل .
وأحيانا يكون عندنا راو ثقة ، وعندنا راويان أو أكثر ثقتان ؛ فإنه حينئذ يرجح رواية الأكثر إذا لم يكن للأقل ، يعني: مزيد فضل من بعض النواحي ، كما سيأتي بيانه -إن شاء الله- .
وبعد ذلك نأتي إلى الشرط الخامس من شروط صحة الحديث وهو: " السلامة من العلة " ، هذان الشرطان أشار إليهما المؤلف في قوله:" وزاد أهل الحديث سلامته من الشذوذ والعلة "
فالشرط الخامس: سلامة الحديث من العلة ، والعلة أيضا: تقع في الإسناد ، وتقع في المتن .
وأيضا إذا أردنا أن نفسر كلام المؤلف في هذه النقطة ؛ لا بد أن نرجع إلى تعريفه للحديث المعل .
فالمؤلف -رحمه الله- لما جاء في الحديث المعل جعله هو والمضطرب بمعنى واحد ؛ فذكرهما سويا ، وعرفهما بتعريف واحد .
فلما جاء قال: المعلل والمضطرب -قال-: هو ما روي على أوجه مختلفة وبكلام المؤلف في ثنايا هذا المبحث ؛ يظهر -والله أعلم- أن قوله: روي على أوجه مختلفة يعني: ولم يكن هناك ثمة مرجح ؛ فيكون على هذا " المعلل أو المعل " في الحديث: المراد نفي الاضطراب عن الحديث .(1/25)
والاضطراب في الحديث معناه: هو رواية الحديث عن شيخ على أوجه مختلفة ، وكل وجه من هذه الوجوه يرويه جماعة ؛ يتعذر معه تخطئة أحد الأوجه وتصحيح أحدها .
والاضطراب في الحديث معناه: هو رواية الحديث عن شيخ على أوجه مختلفة، وكل وجه من هذه الوجوه يرويه جماعة، يتعذر معه تخطئة أحد الأوجه وتصحيح أحدها، فإذا كان عندنا راوٍ، أو عندنا ثقتان -مثلا- يرويان الحديث عن شيخ لهما، على وجه الرفع، وكان هناك ثقتان بمنزلتهما، يرويان هذا الحديث موقوفا وشيخهما ثقة -فهذا الحديث يروى على وجهين: مرفوع وموقوف، وترجيح إحدى الروايتين على الأخرى متعذر، فيحكم على هذا الحديث بالاضطراب، وفي الاضطراب بالذات، الغالب أنه لا ينسب الاضطراب إلى شخص بعينه، وإنما يحكم على الحديث بأنه مضطرب؛ لأن تحميل الثقات بعض الأخطاء، أو أخطاء الحديث، هذا يحتاج إلى دليل وبرهان، لكن في مثل هذا يقال: "هذا حديث مضطرب".
ويقال: "لعل الاضطراب مثلا..." لكن لا يجزم ممن الاضطراب، فإذا كان الشيخ -راوي الحديث الأصلي- إذا كان مضطربا في هذا الحديث -ثبت أنه مضطرب، ما ثبت على وجه واحد، هذا يضعف الحديث؛ لأن الراوي حينئذ يكون غير تام الضبط وسبق لنا في تصحيح الحديث وفي بيان شروط صحة الحديث: أن يكون تام الضبط، سواء كان بإطلاق أو بتقييد، فهذا الراوي قد يكون تام الضبط، لكن في هذه الحالة ضبطه كان غير تام، فنحكم على الحديث بأنه ضعيف؛ لأن هذا الشيخ الذي اضطرب في الحديث، لم يضبط هذا الحديث، ومن شروط صحة الحديث: أن يكون راويه تام الضبط عند روايته للحديث.(1/26)
وإذا قلنا: "إن الخطأ أو الاضطراب ليس ناشئا عنه، وإنما ناشئ عن الرواة عنه" -فإنه حينئذ لا يحكم للحديث بالصحة؛ لأنه لم يتبين لنا أحد الوجهين الصحيحين، والصحة هي حكم على الحديث، لكن هنا محتمل، محتمل أن يكون صحيحا، ومحتمل أن يكون غلطا، فلا يحكم له بأحد الوجهين إلا بمرجح، لكن يكون الظاهر من حال الإسناد أنه مضطرب، وهذا بالنسبة للإسناد، وكذلك بالنسبة للمتن، أحيانا يروى المتن على أوجه مختلفة، يرويه الأئمة الثقات الحفاظ، فلا يدرى أي هذه الأوجه أرجح؟ فيحكم على الحديث بالاضطراب.
والمقصود ها هنا: أن الحديث إذا ورد فيه مثل هذا الاضطراب، أو هذه العلة -فإنه لا يحكم له بالصحة؛ لوجود العلة فيه، وهذا التفسير للعلة بالاضطراب، إنما هو تفسير المؤلف -رحمه الله تعالى- ولكن العلة -كما يأتي في موضعها- هي أعم وأشمل مما ذكره المؤلف.
بقي ها هنا أمر، وهو ما الفرق بين الشذوذ والعلة ؟ فعلى ظاهر كلام المؤلف: "والأخذ بتفسيره في المعل"، الفرق بينهما ظاهر بالتعريف الذي سبق بيانه، لكن إذا أخذنا بأن العلة أعم وأشمل من الشذوذ -فإنه يكون هناك فرق أو فروق بينهما، ستأتي -إن شاء الله- في مظنتها، والشذوذ وإن كان نوعا من أنواع العلة مندرجا في العلة، لكن العلماء -رحمهم الله- يخصونه بالذكر لدقته وعسر أو صعوبة الوصول إليه.(1/27)
ولو قيل: إن الحديث الصحيح افترض فيه السلامة من العلة فقط"، وسكت عن الشذوذ -لكان الأمر يسيرا، وكان الشذوذ مندرجا تحت العلة، لكن يخصون الشذوذ لأنه -في العادة أو في أغلب الأحيان الشذوذ- لا يكون إلا من ثقة، لكن العلة في الحديث -أحيانا- قد تكون من غير الثقة، وأحيانا تكون مع عدم المخالفة، وأحيانا تكون بالمخالفة، وأما الشذوذ فلا يكون إلا بالمخالفة، والشذوذ -غالبا- لا يكون إلا في سند واحد أو متن واحد، وأما العلة فتستفاد، أو تستفاد العلة إما من كتاب الله، أو من النصوص الأخرى لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو من إجماع أهل العلم، أو إجماع أهل السير، أو غيره كما يأتي -إن شاء الله- في بيان المسالك، ومسالك العلة التي يعلل بها الحديث، فنخلص من هذا كله إلى أن الحديث الصحيح -والمراد به الحديث الصحيح لذاته؛ لأنه هو الذي يتوجه لفظه لفظ الصحيح عند الإطلاق- الحديث الصحيح: لا بد أن يكون مستوفيا لهذه الشروط الخمسة.
تعريف الحديث الصحيح لغيره
بقي الحديث الصحيح لغيره، بما أنا تكلمنا عن الحديث الصحيح لذاته، فبقي الصحيح لغيره، وهذا لم يذكره المؤلف -رحمه الله تعالى-، لم يذكره المؤلف في هذا الكتاب، الصحيح لغيره هذا درجة متوسطة بين الحسن والصحيح لذاته، هو درجة متوسطة بين الصحيح لذاته والحسن لذاته، فالصحيح لذاته يعني: إنه يصح دون أن يحتاج إلى غيره من الشواهد والمتابعات.
وأما الصحيح لغيره فمعناه: إنه لا يصح بنفسه وإنما يصح بغيره، لكن الصحيح لغيره في أصله، هو حسن لذاته، في الأصل حسن لذاته، فإذا جاءه طريق أخرى في مرتبته، أو أقوى منه -صار صحيحا لغيره، فهو صحيح لغيره لوروده من طريق أخرى، وأما لو بقي بنفسه لكان حسنا لذاته، لكن لما جاءه طريق أخرى في مثل قوته، أو أقوى منه -رفعته عن هذه المنزلة إلى درجة الصحيح لغيره، وهذا التعريف، أو تعريف الصحيح لغيره، أو التعريف بعمومه ومنه الصحيح لغيره.(1/28)
ذكر الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في كتابه "النكت في مبحث الحديث الحسن"، فإنه ذكر أن الحديث الصحيح لعمومه، يعني: بشموله للقسمين: الصحيح لذاته والصحيح لغيره بأنه: "هو الحديث الذي يتصل إسناده بنقل العدل تام الضبط، أو القاصر عنه إذا اعتذر، عن مثله إلى منتهاه، لا يكون شاذا ولا معلا".
فقوله: "أو القاصر عنه إذا اعترض" هذا هو المتعلق بالصحيح لغيره؛ لأن الصحيح لذاته راويه تام الضبط، أما الصحيح لغيره فإن راويه -في الأصل- لا يكون تام الضبط، وإنما هو خفيف الضبط، وهو صاحب الحديث الحسن لذاته، فإذا اعترض، يعني: جاء من طريق أخرى في مثل قوته أو أقوى منه -ارتقى إلى الصحيح لغيره، وأما بقية الشروط المتعلقة بالصحيح لذاته، فلا بد أن تتوفر في الصحيح لغيره.
فعدالة الرواة لا بد أن تكون في الصحيح لغيره بجميع طرقه، واتصال السند لا بد أن يكون صحيحا لغيره من جميع طرقه، وسلامته من الشذوذ والعلة لا بد أن تكون في الصحيح لغيره بطرقه كلها.
بقي الضبط: فراوي الصحيح لغيره في الأصل قد خف ضبطه؛ ولهذا قال ابن حجر، لما ذكر تعريف الحديث الصحيح الذي تقدم لكم، ذكر أن: "راوي الحديث الصحيح لغيره قاصر" يعني: في الحفظ عن راوي الحديث لذاته، الذي هو تام الضبط، فصار عندنا الحديث الصحيح قسمين:
القسم الأول: الصحيح لذاته.
والقسم الثاني: الصحيح لغيره.
ويشتركان في أربعة شروط إلا في الضبط؛ لأن الصحيح لذاته يكون راويه تام الضبط، وأما الصحيح لغيره -ففي الأصل- يكون راويه خفيف الضبط، لكن هذه الخفة تنجبر بورود الحديث من طريق أخرى، وهذان القسمان موجودان بكثرة في الصحيحين؛ ولهذا تجدون بعض الرواة المخرج لهم في الصحيحين، قد تكلم فيهم من جهة الحفظ، لكن الشيخين في الغالب لا يخرجان لهما إلا في المتابعات، ولا يخرجان لهم على سبيل الاحتجاج، وإنما يذكرون هؤلاء الرواة، الذي قد خف ضبطهم في المتابعات.(1/29)
فإذا اعترض متابع مع متابع مع متابع -ترقى الحديث الصحيح لغيره، صار حديثا صحيحا لغيره.
فالصحيحان مشتملان على هذين القسمين، وإن كان ما في صحيح مسلم من الصحيح لغيره، أكثر مما في صحيح البخاري، فالشيخان يخرجان لمن خف ضبطه، إذا كان عندهم أصل لهذا الحديث، أو كان الحديث، أو ورد الحديث الذي خف ضبط رواته من طرق متعددة، كل هذه الطرق ترفع من مقام الحفظ للراوي الذي خف ضبطه، ترفع من مقامه في هذا الحديث بخصوصه؛ لأننا نشترط تمام الضبط في راوي الصحيح، ليصل إلينا صحيحا سالما.
فإذا تتابع الرواة، ولو مع خفة الضبط على رواية حديث ما -فإنه حينئذ كل واحد منهما يجبر حفظه ما خف من ضبط الآخر في هذا الحديث بخصوصه؛ ولهذا خرج الشيخان الحديث الصحيح لغيره، مع خفة ضبط الرواة، وإنما صنعا ذلك؛ لأن هذه الخفة جاءت بتعدد طرق الحديث.
بقي في هذا أن نذكر التمثيل للحديث الصحيح؛ حتى يتضح تعريفه. فالحديث الصحيح مثاله: ما رواه النسائي في سننه، عن شيخه يحيى بن حبيب بن عربي ،عن حماد بن زيد، عن عطاء بن السائب عن أبيه، عن عمار بن ياسر، في دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - " اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق، أحيني ما كانت الحياة خيرا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي " فهذا الحديث إذا نظرنا في سنده -وجدنا أولا: أن رجاله ثقات وكلهم ثقات، ولا تكلم في أحد منهم، هذا الشرط الأول.
الشرط الثاني: كل راو من هؤلاء الرواة، قد تحمل عن شيخه وثبت سماعه منه. وثالث الشروط هو العدالة: هؤلاء الرواة عدول لا شك فيهم؛ لأنهم داخلون في حد الثقات، والثقة لفظ يطلق على الضابط والعدل.(1/30)
بقي السلامة من الشذوذ والعلة، وهذه لضعفنا القاصر عن إدراك مثل هذه الأشياء ومعرفتها؛ لأنها لا يتأهل لها إلا الأئمة الحفاظ -فإنه من الصعوبة بمكان الجزم بسلامة الحديث من الشذوذ والعلة، لكن انتفاء الشذوذ والعلة قد يدرك من جانب آخر، جانب قد نجزم معه بصحة الحديث وسلامته من الشذوذ والعلة، في جانب آخر قد يكون الأظهر والأرجح السلامة من الشذوذ والعلة، فإذا وجدنا إسنادا ووجدنا من صححه من أئمة الحديث -فإنه حينئذ يكون عندنا نوع من الجزم، يكون عندنا جزم إلى حد ما، بأن هذا الحديث صحيح.
والتصحيح هذا، أو السلامة من الشذوذ والعلة، ليس من قبل أنفسنا، وإنما هذا مستفاد من الأئمة، إذا جاء حديث وصحَّحه الإمام أحمد، أو صححه البخاري قال: "في الصحيح"، أو الدارقطني أو غيرهم، وكشفنا عن السند -وجدنا الإسناد فيما يظهر لنا سالما من هذه الأشياء، فإننا حينئذ يكون عندنا جزم، أو شبه جزم بأن هذا الحديث صحيح، لا اعتمادا على فحصنا وبحثنا، وإنما اعتمادا على كلام الأئمة.
والقسم الثاني الذي هو يكون الأرجح والأظهر: السلامة من الشذوذ، وهذا يكون بعد البحث عن كلام العلماء، فإذا لم نجد فإننا حينئذ نستقصي طرق الحديث وجمعها، وجمع ألفاظها، ومعارضة بعضها على بعض؛ حتى نصل إلى الغاية في جهدنا، وعندئذ يكون الأرجح والأظهر أنه يكون سالما من الشذوذ والعلة، وهذا كما يصنع المجتهد في الترجيح بين مسائل الأحكام، يجتهد في جمع أدلة الأئمة في اختلافهم، ثم يرجح بما ظهر له وإن لم يكن جازما بذلك.(1/31)
وكذلك بالنسبة لهذه الحالة، يستقصي الإنسان ما أمكن، ثم يحكم بعد ذلك بناء على ما ظهر له، ولا يكون فيه جزم، وإنما يكون على سبيل الأرجح والأظهر، لكن إذا كان الأئمة قد حكموا عليه، فإنه حينئذ إن حكموا عليه بالشذوذ أو أعلوه -فإنه لا يتجاسر العبد على مخالفتهم إذا كانوا من أئمة الحديث، وأما إذا كانوا قد حكموا عليه بالصحة -فإن ذلك يتضمن سلامته من الشذوذ والعلة، فحينئذ يكون هذا الحكم مستفادا، أو سلامة الحديث من الشذوذ والعلة مستفادة من كلام الأئمة، وهذا الحديث قد صححه غير واحد من الأئمة، وأورده الإمام النسائي في سننه ولم يعله، والأئمة استشهدوا أو الأئمة احتجوا به وأثبتوا به أحكاما، فالذي يظهر أنهم لم يطلعوا فيه على شذوذ ولا علة؛ فلهذا يحكم عليه بأنه حديث صحيح.
بقي نقطة في هذا الحديث: كما تقدم لنا أن الراوي قد يكون ضابطا ضبطا خاصا، أو ضبطا مقيدا بزمان، وأن هذا يأتي في رواية المختلطين، وهذا ينطبق معنا في هذا الحديث؛ لأن عطاء بن السائب مختلط، وهو ثقة لكنه اختلط، لكن رواية حماد بن زيد عنه قبل الاختلاط؛ فصار عطاء بن السائب في هذا الحديث ضابطا، لكن لو ورد من رواياته بعد الاختلاط لحكمنا عليه بالضعف، لكن ها هنا حكمنا عليه بالصحة لأنه ثقة، وفي هذه الحالة كان ضابطا؛ لأنه قد روى هذا الحديث قبل اختلاطه، وعرفنا ذلك برواية حماد بن زيد عنه،فهذا مثال للحديث الصحيح لذاته.(1/32)
ومثال آخر -أيضا- له: مثاله ما رواه الإمام أحمد عن وكيع، عن الأعمش عن طلحة بن مصرف، عن عبد الرحمن بن عوسج، عن البراء بن عازب، أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: " زينوا القرآن بأصواتكم " هذا الحديث جميع رجاله ثقات، وكل واحد منهم سمع من الآخر، والأعمش وإن كان مدلسا، لكن تدليسه ممن يحتمله الأئمة ويمشونه وإن عنعن، وإن عنعن في مثل هذا الحديث، فالأصل ولو عنعن -كما يأتي -إن شاء الله- في مثل هؤلاء الأئمة- ولو عنعن في الحديث -فحديثه مقبول، إلا لوجود المعارض.
هنا لا وجود لمعارض، بل روايات كثيرة جدا تثبت أن هذا الحديث صحيح، فهذا الحديث يعني ثبتت صحته؛ أولا لأن إسناده -فيما يظهر- مستوف لهذه الشروط ، كما أن متنه لم يعله أحد من العلماء، بل احتجوا به حتى في مسائل الاعتقاد، وهذا يدل على ثبوته عند الأئمة -رحمهم الله- كالبخاري وغيره؛ لأنه احتج به بكتابه "خلق أفعال العباد"، فهذا الحديث -فيما يظهر- إنه حديث صحيح لذاته.
بقي التمثيل للصحيح لغيره، مثاله:
ما رواه الإمام أحمد -رحمه الله- عن محمد بن بشر، عن محمد بن علقمة، عن أبي سلمة عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الحديث لو نظرنا فيه لوجدنا أن رجاله كلهم ثقات، إلا محمد بن عمرو بن علقمة، هذا عدل في دينه، ولكن في حفظه شيء: فهو خفيف الضبط، وهو ممن يمثل بحديثه بأنه حديث حسن، فهذا الحديث إذا حكمنا عليه بهذا الإسناد -حكمنا عليه بأنه حديث حسن لذاته، لماذا؟(1/33)
لأن راويه محمد بن عمرو بن علقمة خفيف الضبط، لكن لما تتبعنا طرق الحديث -وجدنا أنه تابعوا عليه أبا حازم وهو ثقة، فأبو حازم أرفع منزلة من محمد بن عمرو بن علقمة، فمحمد بن عمرو بن علقمة فيه خفة ضبط، لكنه لم يتفرد بهذا الحديث، فجاء أبو حازم فتابعه على هذا الحديث، ورواه عن أبي سلمة عن أبي هريرة - رضي الله عنه - فتبينا بذلك أن هذا الحديث قد ضبطه محمد بن عمرو بن علقمة، فجبرنا خفة ضبطه برواية أبي حازم، وأبو حازم أمثل منه في رواية الحديث، وشرط الترقية عند أهل العلم:
أن يكون الشاهد في منزلة المشهود له، أو أعلى منه منزلة، وها هنا الشاهد أعلى أو المتابع، وهو أبو حازم أعلى منزلة من المتابع، وبهذا ينتهي الكلام عن الحديث الصحيح في إسناده ومتنه، وتبين لكم أن الحديث الصحيح، إذا أطلق يشمل الإسناد والمتن، وإذا حكم على حديث بأنه صحيح -فإن ذلك عائد إلى الإسناد والمتن. إذا قالوا: "هذا حديث صحيح" يعني: حديث صحيح في إسناده صحيح في متنه، وأما إذا قالوا: "صحيح الإسناد" فقد تكفلوا لك بصحة الإسناد، لكن قد يكون المتن معلا، إذا قالوا: "صحيح الإسناد" لا يلزم من الصحة المتن، وأما إذا قالوا: "رجاله ثقات" فمعناه: إن رجاله عدول ضابطون، لكن قد يكون منقطعا، قد يكون الإسناد شاذا، قد يكون الإسناد معلا، قد يكون المتن شاذا، قد يكون المتن معلا، فإذا قالوا: "رجاله ثقات" معناه: تكفلوا لك بأمرين:(1/34)
أحدهما: ضبط الرواة وعدالة الرواة، ومن هنا يخطئ بعض الناس إذا ظن أن قوله: "رجاله ثقات" يعني: تصحيحا للحديث، وهذا غلط، وكذلك إذا قالوا: "رجاله رجال الصحيح" يعني: رجاله مخرج لهم في الصحيح، لكن لا يلزم منه صحة الحديث؛ لكونه يحتمل أن يكون منقطعا، يحتمل أن يكون معلا في سنده أو متنه، أو شاذا في سنده أو متنه، ويحتمل أن يكون رجاله مخرج لهم في الصحيح، لا على سبيل الاحتجاج، وإنما على سبيل في باب المتابعات، ومن رجال الصحيح من هو ممن خرج له الصحيح، وهو مخرج له في المتابعات، قد يكون في حفظه شيء، ويضعف له خارج الصحيح، فهذه الكلمة لا تقتضي تصحيح الحديث، لا في إسناده ولا في متنه، وإنما الذي يقتضي تصحيح الحديث في إسناده ومتنه إذا قالوا: "هذا حديث صحيح". أما صحيح الإسناد فلا تشمل إلا ثلاثة:
لا تشمل إلا عدالة الرواة وضبطهم، واتصال السند، وسلامة السند من الشذوذ والعلة، فلا تعلق له بالمتن، هذا والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
س: كيف يتم معرفة الرواية عن الراوي المختلط من جهة القبول والرد؟
ج: هذا طبعا -إن شاء الله- يأتي في مبحث المختلط، في مبحث المختلط وبيانه على وجه الاختصار، تارة يعرف بتنصيص الأئمة، يقولون: فلان وفلان وفلان رووا عنه قبل الاختلاط، ما جاءنا عن فلان قبل الاختلاط سمع منه، ونعدد هذه الأشخاص ونقول: "هؤلاء سمعوا منه قبل الاختلاط" وهذا ينصص عليه، وأحيانا يقولون: "سمع منه فلان وفلان وفلان بعد الاختلاط" فيستفاد هذا بالنص، وأحيانا يقول بحسب التاريخ.(1/35)
يقال: "من سمع منه قبل سنة كذا فهو صحيح السماع، ومن سمع منه بعد سنة كذا فهو ضعيف السماع". أو يقولون: "اختلط فلان سنة كذا". فأنت بحاجة إلى تتبع رحلات الشيوخ والعلماء والتواريخ، بالنظر متى التقى بهذا العالم، هل التقى به قبل هذا التاريخ؟ أو بعد هذا التاريخ؟ وأحيانا يحددونه بالأمكنة: فلان إذا سمع منه بالكوفة فسماعه صحيح، ومن سمع منه في خرسان ففي سماعه شيء، فهذا ربما أنه، اختلط دخل الكوفة بعد اختلاطه، أو دخل البصرة بعد اختلاطه، هذه الأشياء كلها تحدد الرواية قبل الاختلاط وبعد الاختلاط.
أما السؤال الثاني، مثال الشذوذ في الإسناد: إذا جاءنا معمر، فروى حديثا عن الزهري موصولا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الزهري عن سالم عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الحديث رواه معمر، هكذا معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه، وحديث قصة غيلان، هذا الإسناد إذا نظرنا إليه -بادئ ذي بدء- هذا إسناد في ظاهره الصحة للرجال الثقات، لكن لما بحثنا عن الحديث وجدنا أن الأئمة يخالفون معمرا، وعلى رأسهم الإمام مالك -رحمه الله- فالإمام مالك يجعله عن الزهري، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فرواية الزهري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلة ؛ لأنه لم يدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - وأما لو أخذنا بسند معمر لكان متصلا، سالم عن ابن عمر هذا سند متصل، لكن ها هنا نحكم على رواية معمر بأنها شاذة؛ لأن معمرا خالف الأئمة الثقات، وعلى رأسهم مالك الذين رووه مرسلا، فيكون الصحيح فيها عن الزهري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وهذه الأمثلة -إن شاء الله- تأتي -إن شاء الله- في محلاتها، مثال الصحيح لغيره حديث: " ألا رجل يحملني إلى قومه لأبلغ كلام ربي، فإن قومي قد منعوني " هذا مثال للصحيح لغيره، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
مراتب المجمع عليه من الحديث الصحيح(1/36)
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: فأعلى مراتب المجمع عليه:
مالك عن نافع عن ابن عمر، أو منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله، أو الزهري عن سالم عن أبيه، أو أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة. ثم بعده:
معمر عن همام عن أبي هريرة، أو ابن أبي عروبة عن قتادة عن أنس، أو ابن جريج عن ابن عطاء عن جابر وأمثاله.
ثم بعده في المرتبة: الليث والزهري عن أبي الزبير عن جابر، أو سماك عن عكرمة عن ابن عباس، أو أبو بكر بن عياش عن أبي إسحاق عن البراء، أو العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة، ونحو ذلك من أفراد البخاري أو مسلم . .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
لما تكلم المؤلف المؤلف -رحمه الله- فيما تقدم، عن الشروط التي يجب أن يستوفيها الحديث، حتى يحكم له بالصحة -ذكر في هذا الجزء مراتب المجمع عليه.(1/37)
والمراد: أعلى مراتب المجمع على صحته، وهذه العبارة تعطينا أن الحديث الصحيح: منه ما هو مجمع عليه، ومنه ما هو مختلف فيه، منه ما هو مجمع على صحته بين الأئمة، ومنه ما هو مختلف في تصحيحه بين الأئمة، وهذا الخلاف ليس عائدا إلى ذات الشروط، فهم -كما سلف- أهل الحديث متفقون على الشروط الخمسة السابقة، وأنه لا بد من توافرها في الحديث، حتى يحكم له بالصحة، ولكن المراد، أو اختلاف العلماء في التصحيح، إنما هو عائد إلى تحقق تلك الشروط في ذلك الحديث، فأحيانا بعض أهل العلم لا يحكم على الحديث بضعف أحد رجاله عنده، بينما يصححه عالم آخر؛ لكون هذا الرجل ثقة عنده، أو يصحح بعض العلماء الحديث بناء على أن سنده متصل؛ لصحة سماع فلان أو فلان عنده، ثم يأتي آخر فلا يحكم لهذا الحديث بالصحة؛ لأنه لا يصحح سماع فلان من فلان، فهذه، أو فاختلاف العلماء في تصحيح الأحاديث ليس عائدا إلى الشروط أنفسها، يعني: ليس عائدا إلى اختلاف في هذه الشروط، وإنما هو عائد إلى تحقق هذه الشروط في الحديث الذي يحكم له بالصحة، أو لا يحكم عليه بالصحة، وهذه العبارة -أيضا- تدل على أن الصحيح مراتب، وأن الحديث كما أنه أقسام: صحيح وحسن وضعيف ودون ذلك، فكذلك الصحيح مراتب:
فمنه ما هو أصح الصحيح، ومنه ما هو أدنى الصحيح، وبين هاتين المرتبتين مراتب، وهذا عائد إلى الرجال أنفسهم وقوة ضبطهم. وكما أن الرجال -فيما سبق- يتفاوتون في الضبط، كذلك الأسانيد تختلف في الصحة، بحسب توافر الشروط فيها، وما ذكره المؤلف في هذه المراتب، إنما هو عائد إلى ضبط الرواة، فبعض الرواة يكون أضبط من بعض، فيكون حديث الأضبط أصح، وإن كان الجميع يطلق على حديثهم بأنه حديث صحيح، لكن هذا التمييز بين مراتب الصحيح، يستفاد منه في الترجيح حين الاختلاف بين الأحاديث: فالحديث الذي بلغ الغاية في الصحة، يقدم على ما هو دونه في المنزلة.(1/38)
فمراتب الصحيح، أو الصحيح يختلف فيما بينها، بحسب ضبط الرواة، وهذه المراتب التي ذكرها الإمام الذهبي -رحمه الله- ثلاث مراتب:
فالمرتبة الأولى: هذه مرتبة عليا، الرواة فيها ثقات متقنون، وهي سلاسل معروفة ومشهورة، وتمتاز هذه المرتبة بالنظر في رجالها، أن هؤلاء الرجال جميعهم قد خُرج لهم في الصحيحين، قد خُرج لهم في الصحيحين بهذه السلاسل، بمعنى أنك لو أتيت إلى صحيح البخاري -لوجدت فيه حديث مالك عن نافع عن ابن عمر، ولوجدت فيه حديث منصور بن معتمر، عن إبراهيم بن يزيد النخعي، عن علقمة بن قيس، عن ابن مسعود، ولوجدت فيه حديث الزهري عن سالم عن أبيه، ولوجدت فيه حديث أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة، فهؤلاء الرواة المذكورون موجودون بهذه السلاسل في الصحيحين، وخرجت لهم أحاديث كثيرة بهذه الأسانيد، وتمتاز هذه المرتبة، أو أهل هذه المرتبة بأن هذه السلاسل وصفها، أو أُطلق عليها بأنها أصح الأسانيد؛ لأن بعض أهل العلم يرى أن أصح الأسانيد على الإطلاق:
مالك عن نافع عن ابن عمر، وبعضهم يرى: أنه الزهري عن سالم عن أبيه، وآخر يرى: أنه أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة، أو منصور عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود، وأيضا ذُكر غير هذه السلاسل بما يقارب ثماني عشرة سلسلة، وصفت بأن، أو ورد عن عالم وصف واحدة منها بأنها أصح الأسانيد، وكونها توصف بأصح الأسانيد، هذا دليل على علو منزلتها وتمام ضبط رجالها، وأنهم مقدمون على غيره.
وتمتاز هذه المرتبة أو أهل هذه المرتبة، بأن الرجال المذكورين فيها لم يمس أحد منهم بما يقدح في عدالته أو ضبطه، فصارت هذه المرتبة التي أوردها المؤلف، أو أهل هذه المرتبة التي أوردها المؤلف -رحمه الله- وهي المرتبة الأولى من مراتب الصحيح -يجمع أهلها ثلاثة أوصاف:
الوصف الأول: أنهم قد خرج لهم في الصحيحين بجميعهم، على هذا النسق الذي ذكره المؤلف رحمه الله.(1/39)
والثاني: أن هذه السلسلة، أو هذه السلاسل المذكورة وصفت بأنها أصح الأسانيد. الثالث: أن ما ذكر من هؤلاء الرجال، لم يمس أحد منهم بجرح يقدح في ضبطه، فضلا عن عدالته.
وأما المرتبة الثانية التي ذكرها المؤلف: فهي أقل من هذه المرتبة، وتمتاز بأن رجالها مخرج لهم في الصحيحين، جميع الرجال المذكورين في المرتبة الثانية، هؤلاء مخرج لهم في الصحيحين، والرجل الذي يُخرج له في الصحيحين، يختلف حاله عمن لم يُخرج له في الصحيحين؛ لأن وجوده في الصحيحين دليل على علو منزلته وأنه من الحفاظ؛ ولهذا بعض أهل العلم ذكروا أن من خرج له في الصحيح على سبيل الاحتجاج -فهو قد اجتاز القنطرة، فلا يتكلم في حفظه، فأقل أحواله أن يكون حسن الحديث، وإن لم يوثقه أحد من أئمة العلم، وإنما قالوا ذلك؛ لأن الصحيحين تداولتها أيدي العلماء ونقدوها، وأظهروا ما فيها من العلل، فلم يجدوا إلا شيئا يسيرا لا يكون ظاهرا مع وفرة أحاديث الصحيحين.
وهذه الصفة أو الوصف الأول الذي فازت به هذه المرتبة: إن الحديث من أهلها، إن أهلها مخرج لهم في الصحيحين، والصفة الثانية: إن أهلها لم يمس أحد منهم بقادح ظاهر، وإن كان على بعضهم ملحظ في الرواية، فمثلا: سعيد بن أبي عروبة ثقة فذ، لكن كان يدلس واختلط في آخر عمره، معمر ثقة فذ، لكن كان إذا حدث في البصرة وهِم، وإذا حدث عن بعض شيوخه: كالأعمش وهشام وثابت يخطئ، ليسوا كالرجال المتقدمين في المرتبة الأولى.(1/40)
والصفة الثالثة وهي صفة سلب عنهم: أن هذه السلاسل لم يوصف أحد منها بأنه أصح الأسانيد، كما وصف في المرتبة الأولى، اللهم إلا حديث معمر عن همام عن أبي هريرة، هذا وصف بأنه أصح أسانيد اليمانيين، وهذا وصف مقيد ليس مطلقا، وأما الأولون فكان الوصف لروايتهم وصفا مطلقا، بمعنى أن مالكا -مثلا- عن نافع عن ابن عمر، هذه السلسلة عند بعض أهل العلم أصح الأسانيد مطلقا، فلو جئت بحديث أهل الكوفة،أو بحديث أهل البصرة، أو بحديث أهل خرسان،أو بحديث أهل اليمامة، أو بحديث أهل مكة، أو بحديث أهل المدينة -غير حديث مالك- فهذه السلسلة تفضل على جميعها، وكذلك بالنسبة إلى حديث منصور ومن بعده.
فالشاهد أن هذه السلسة أو هذه المرتبة، لم يوصف أحد من هذه السلاسل الموجودة فيها بأنه أصح الأسانيد مطلقا، فصار التمايز بين هذين المرتبتين ظاهر، في كون أهل المرتبة الأولى ليس عليهم أي ملحظ، أما المرتبة الثانية فعليهم ملحظ وإن لم يكن قادحا، لكن صار عليهم ملحظ، والثاني: أن أهل المرتبة الأولى وصفوا بأن أسانيدهم أصح الأسانيد مطلقا، بخلاف المرتبة الثانية، وبهذا ظهر الفرق بين هاتين المرتبتين، وإن كان كل واحد من أهل...، أو كل سلسلة من هذه السلاسل، إذا خُرج الحديث بها وصف بأنه صحيح، لكن إذا جاءتنا رواية بحديث الزهري عن سالم عن أبيه، وجاءنا في مقابلها حديث سعيد بن أبي عروض عن قتادة عن أنس -فإننا نقول: "الرواية الأولى أرجح". والروايتان كلتاهما صحيحتان، لكن الرواية الأولى أرجح؛ لأنها امتازت على هذه الرواية بوصف أسانيدها، بأنها أصح الأسانيد مطلقا، وبكون أهلها ليس عليهم أي ملحظ، أما الثانية فعليهم ملحظ ليس بقادح في جميع الأحوال.
أما أهل المرتبة الثالثة: فهؤلاء فيهم، أو في ذكرهم، أو فيما ذكره المؤلف في التمثيل في بعض تمثيله لأهل هذه المرتبة، هذا فيه محل نظر، وكونه يدخل في الصحيح أيضا محل نظر، فضلا عن كونه من مراتب الصحيح.(1/41)
هذه الأسانيد المذكورة في هذه المرتبة، تبين أن كلام المؤلف في رواية سماك عن عكرمة عن ابن عباس، وجعلها من الصحيح، هذا مما لا يوافقه عليه الحفاظ، فرواية سماك عن عكرمة أعلها العلماء بالاضطراب، فهي من ضعيف حديث سماك وليست من صحيحه، كما أعلها شعبة وعلي بن النديم و يعقوب بن شيبة وآخرون؛ لأن رواية سماك عن عكرمة عن ابن عباس مضطربة، كان يلقن هذه الرواية فيتلقنها:
إذا قيل له: سماك -وهم يقرءون عليه سماك- عن ابن عباس قال: سماك عن ابن عباس، وإذا قيل: سماك عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال كذلك، فهو لا يثبت على حالة، فكان يلقن فيتلقن؛ ولهذا ضعف أهل العلم هذه الرواية، وإن كان سماك على الصحيح، حسن الحديث في روايته عن غير عكرمة، ولكن كونه يدخل في الصحيح بروايته عن عكرمة، هذا مما لا يوافق الحفاظ عليه الحافظ الذهبي -رحمه الله تعالى- وإذا كان أهل العلم قد وصفوا هذه الرواية بالاضطراب -فمعناه أنها ضعيفة، وبناء على ذلك فإدخاله في مراتب الصحيح، فيه ما فيه على الإمام الذهبي -رحمه الله- اللهم إلا أن يكون مراد الإمام الذهبي: أن يكون هذا الحديث الذي يرويه سماك عن عكرمة عن ابن عباس، من رواية الثوري أو شعبة عن سماك، فإن العلماء ذكروا: "إن الثوري وشعبة، إذا رويا عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس فهذا صحيح، وأما إذا روى غيرهم عن سماك فالرواية مضطربة". فيكون على ذلك كلام المؤلف: إما أن يقيد، يقال: "رواية سماك عن عكرمة عن ابن عباس، فيما رواه عن سماك الثوري وشعبة"، وإما أن يقال: "إدخال هذه السلسلة في هذه المراتب، مخالفة من الذهبي لما اعتمده الحفاظ".
وهذه المرتبة، لو لاحظنا الأوصاف التي تميز بها أهلها -لوجدنا أن الوصف الأول: أنهم مخرج لهم في الصحيح، سواء في الصحيحين، أو في صحيح البخاري، أو في صحيح مسلم، فهم من رجال الصحيح.(1/42)
الثاني: أن كل سلسلة من هذه السلاسل المذكورة، قد قدح في راو منها، لكن هذا القادح، يعني ليس مؤثرا يضعف الراوي، وإنما يحط من رتبته نوعا ما، وهذه -أيضا- فيها وصف سلبي: وهو أنه ليس في هذه السلاسل ما وُصف بأنه أصح الأسانيد، فصارت هذه المرتبة تمتاز أو تتصف بثلاثة أوصاف:
الوصف الأول: أن أهل هذه السلاسل لم توصف منها سلسلة بأنها أصح الأسانيد. والثانية: أن أهلها مخرج لهم في الصحيح.
والثالثة : أن كل سلسلة مشتملة على رجل ممن قد تكلم فيه، أو قُدح فيه، لكن هذا القدح لم يكن مؤثرا تأثيرا بالغا يضعف الرجل، وإنما أثر عليه بتنزيله من المرتبة العليا من مراتب الصحيح، إلى المرتبة الدنيا، والمؤلف في آخر كلامه قال: "وأمثال هذا: مما انفرد به في البخاري ومسلم".
وهذا الكلام إما أن يقال: "إن المراد: مما انفرد به في البخاري ومسلم على سبيل الاجتماع في الأسانيد". بمعنى أنه: لو رأينا رواية الليث عن أبي الزبير عن جابر، أو الزهير عن أبي الزبير عن جابر، وتتبعنا هؤلاء الرجال -لوجدناهم كلهم مخرج لهم في الصحيحين: الليث وزهير احتجاجا في الصحيحين، وأبو الزبير متابعة، وفي مسلم احتجاجا، لكن الشاهد من هذا: أنهم مخرج لهم في الصحيحين، لكن لما ترجع إلى صحيح البخاري -لا تجد أن البخاري يروي حديثا عن الليث عن أبي الزبير، ولا يروي حديثا عن زهير عن أبي الزبير، لا تجد هذا نهائيا، يعني لا تجد في صحيح البخاري الجمع بين هذين الرجلين، بينما إذا فتشت في صحيح مسلم وجدت أنه له روايات كثيرة عن الليث، عن أبي الزبير، الزهير عن الزبير، أما في البخاري فلا تجد، تجد رواية الليث عن شيخ آخر غير أبي الزبير، تجد رواية زهير عن شيخ آخر غير أبي الزبير.(1/43)
إذن هذه الرواية لا يصح أن توصف بأنها جاءت على سبيل الاجتماع في الصحيحين، هذه السلسلة إنما جاء التخريج للرواة فيها على سبيل الانفراد، يعني: خرج الجامع أنه خرج له في الصحيح، لكن هل خرج لليث عن أبي الزبير؟ أو الزهير عن أبي الزبير في البخاري؟ هذا لم يحصل وإنما حصل في صحيح مسلم.
عن الليث والزهير عن أبي الزبير عن جابر أو سماك عن عكرمة عن ابن عباس .
وهذا سماك سبق أنه خالف هنا إما أن يقيد وإما أن يلغى نعم .
والثاني: "أو أبو بكر بن عياش عن أبي إسحاق عن البراء " . هذا أبو بكر بن عياش، لم يخرج له إلا في البخاري ، وأبو إسحاق السبيعي خرج له في الصحيحين، إذن يكون هذه السلسلة مما انفرد به البخاري، أو مما اجتمع عليها الشيخان، هذه السلسلة يكون قد انفرد بها البخاري، فكان الاعتبار هنا راجعا إلى الاجتماع لا إلى الانفراد؛ لأنه لو رجعنا إلى الانفراد لوجدنا أن أبا إسحاق يروى عنه في الصحيحين، لكن مراد المؤلف في هذا الاجتماع ، فهذه السلسلة انفرد بها الإمام البخاري؛ لأنه ليس هناك رواية لأبي بكر بن عياش عن أبي إسحاق في صحيح مسلم، إلا في المقدمة، وهذه لا اعتبار لها ، لكن رواية أبي بكر بن عياش عن أبي إسحاق السبيعي موجودة في صحيح البخاري فكان البخاري منفردا بهذه الترجمة على سبيل الاجتماع .
أو العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة " .(1/44)
العلاء بن بن عبد الرحمن هذا حسن الحديث، وأبوه كذلك، وهو هذه السلسة ممن انفرد الإمام مسلم بإخراج حديث أهلها، يروي كثيرا من هذه الأحاديث، لكن الذي ينبغي التنبه له: أن الإمام مسلم اختار من هذه النسخة، ما تيقن -رحمه الله- أنه ليس فيه علة، فأخرج من هذه السلسلة على سبيل الانتقاء؛ لأن بعض الناس إذا رأى حديثا بهذه السلسة صححه على شرط مسلم، وهذا غلط؛ لأن هناك أحاديث تركها مسلم عمدا لكونها معلولة، وهي تروى بهذا الإسناد، والعلاء بن عبد الرحمن عن أبيه، هذا بعض أهل العلم يصحح هذه الرواية، وبعضهم يحسنها، وبعضهم يضعفها، لكن الأشهر في هذا كله: أن هذه السلسلة دائرة بين الصحة والحسن؛ ولهذا خرج الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- لهذه النسخة أحاديث كثيرة في صحيحه، ولو نظرنا إلى هذه السلسلة لوجدنا أنه قد تكلم في أهلها، وجدنا أن رجالها مخرج لهم في الصحيح وصحيح الإمام مسلم، ثم وجدنا أن هذه السلسلة لم يوصف شيء منها بأنه أصح الأسانيد.
فالشاهد من هذا كله، أن عبارة المؤلف: "انفرد بإخراجه البخاري أو مسلم" هذا فيه تفضيل لما خرج في الصحيحين، وجعله مما خرج في صحيح مسلم، أو في صحيح البخاري على سبيل الانفراد، وجعله مقدما على غيره من الصحيح، وهذا معروف في كلام أهل الاصطلاح، وبهذا يتبين أن الحديث الصحيح على مر(1)، وأن كوننا نفضل مرتبة على مرتبة، لا يعني تضعيف المرتبة الأخرى، وإنما يستفاد منها في الترجيح بين الروايات، وهذا كما يفضل أهل العلم بعض الرواة على بعض، فتفضيلهم للأوثق على الثقة لا يقتضي تضعيف الثقة، وإنما يقتضي التفاضل بينهما حين الاختلاف. نعم.
الحديث الحسن
تعريف الحديث الحسن وأقسامه
وقال المصنف -رحمه الله تعالى-: الحديث الحسن وفي تحرير معناه اضطراب ... .. .
الحديث الحسن: هذا شروع في القسم الثاني من أقسام الحديث، وهو الحسن والحسن قسمان:(1/45)
حسن لذاته وحسن لغيره، ونقل المؤلف -رحمه الله تعالى- تعريفات أهل العلم في ثنايا هذا المبحث، يدل على أنه أراد بالحسن، أو بعنونة هذا المبحث بالحسن، أنه أراد النوعين جميعا: الحسن لذاته والحسن لغيره، لكن الصحيح لما ذكره، إنما عرف الصحيح لذاته، وترك الصحيح لغيره، وتركه للصحيح لغيره لا يعني إهماله، وإنما لكونه يدل عليه الحسن لذاته فيما يأتي، في مبحث الحديث الحسن.
أما الحسن: فإن كلام المؤلف أو نقول نقل المؤلف -رحمه الله- عن الأئمة في تأريخ الحسن، يدل على أنه أراد بهذا العنوان القسمين: لذاته والحسن لغيره.
وقوله: "وفي تحرير معناه اضطراب". هذا إشارة إلى أن أهل العلم لم يصطلحوا على اصطلاح معين للحديث الحسن، كما اصطلحوا على الحديث الصحيح، بل بينهم تفاوت في تعريف الحديث الحسن.
والمؤلف -رحمه الله تعالى- أكد هذا الاضطراب -فيما يأتي إن شاء الله- في قوله: "ثم لا تظن أن للحديث الحسن قاعدة يندرج، أو لا تطمع بأن للحديث الحسن قاعدة تندرج تحتها كل الأحاديث الحسان، فإني على إياس من ذلك". فهذا أيضا تأكيد لقوله:
"وفي معناه اضطراب"؛ لأن المؤلف الذهبي -رحمه الله- لم يتحرر له حتى وبنفسه، معنى الحديث الحسن، وهذا الاختلاف في الحديث الحسن ناشئ عن كونه مترددا بين الصحيح والضعيف، فتارة: يقرب من الصحيح، وتارة: يقرب من الضعيف؛ ولهذا تجد أن الأئمة -رحمهم الله- حتى في أحكامهم على الحديث، في بعض الأحيان يحسن هذا الحديث، ثم يأتي في مرة أخرى ويضعف هذا الحديث بعينه؛ لكون الأمر قريبا بين الضعف والحسن، وأحيانا يضعف الحديث، وفي موضع آخر يصححه؛ لكونه -أيضا- متجاذبا بين الصحيح والحسن، وبناء على هذا الاضطراب فإن المؤلف -رحمه الله- لم يكتف كعادته بذكر تعريف مختصر -كما يصنع في أكثر المباحث- وإنما أورد جملة من التعريفات التي قيلت في الحديث الحسن، وهي قليل من كثير مما ذكر في تعريف الحديث الحسن.
تعريف الخطابي للحديث الحسن(1/46)
فقال الخطابي -رحمه الله-: "وما عرف مخرجه واشتهر رجاله" .
هذا تعريف الحافظ الخطابي لسليمان -رحمه الله- للحديث الحسن في مقدمة "معالم السنن"، هذا التعريف اختلف أهل العلم في فهمه، وبناء على هذا الاختلاف اختلفوا في انتقاده، لكن المشهور في قوله: "ما عرف مخرجه". المراد بالمخرج هنا: الراوي الذي يشتهر برواية حديث أهل بلده؛ لأن الرواة على طبقات: منهم المقل، ومنهم المكثر، ومنهم المشهور، ومنهم والمغمور وإن كان ثقة.
فهناك أئمة حفاظ مشهورون برواية أحاديث البلدان، وقد ألف فيهم الإمام ابن حبان -رحمه الله- كتاب "مشاهير علماء الأمصار"، فهؤلاء المشاهير تجدهم يروون أحاديث بلد، وأحاديث البلدان الأخرى، لكن هذا القول هو أن قولهم: "ما عرف مخرجه، وما عرف الراوي المشتهر برواية حديث البلد في هذا الحديث". فيقول: "إذا جاءنا حديث -مثلا- عن أهل البصرة، عن راو بصري، أو عن راو كوفي، أو عن راو مدني، أو غيرها من البلدان -يقول- ننظر: هل هذا الراوي الذي خرج منه الحديث، مشتهر بالرواية؟ أو غير مشتهر؟
إن كان مشهورا بالرواية، معروفا بها مكثرا -فهذا يتحقق لنا معرفة المخرج، ويتحقق هذا الشرط، فإذا جاءنا حديث -مثلا- مخرجه قتادة، في حديث البصريين، قتادة مشهور بالرواية وهو من أهل البصرة، فإذا خرج الحديث من عند قتادة -رحمه الله- فإننا حينئذ نقول: "هذا حديث مشتهر عرف مخرجه".
وإذا جاءنا حديث من حديث أهل الكوفة، من حديث أبي إسحاق السبيعي نقول: "هذا حديث مشتهر"، وإذا جاءنا حديث اليمن من حديث معمر نقول: "هذا حديث مشتهر"، وإذا جاءنا من أهل مكة، من عطاء بن أبي رباح نقول: "هذا حديث مشتهر"، ولو جاءنا عن أهل البصرة، من حديث حماد بن زيد نقول: "هذا حديث مشتهر"، أو الكوفة من حديث سفيان الثوري، أو اليمامة من حديث + بن كثير أو غيرهم.(1/47)
الشاهد أنه إذا كان هذا الراوي معروف ومشهور برواية أهل بلده، ووجدنا أن الحديث يروى من طريقه -فقد عرفنا مصدر الحديث، كما شرحه غير واحد من أهل العلم، وبعض أهل العلم يفسر هذه اللفظة، بأن قوله: "ما عرف مخرجه". معناه: اتصال السند؛ لأن المنقطع لا يعرف مخرجه، المرسل: أرسله التابعي، لكن التابعي يحتمل أنه رواه عن تابعي عن صحابي.
المدلس: الحديث المدلس فيه انقطاع، فهذا الراوي الذي يروي عنه بالعنعنه، هناك واسطة بين المدلس والمدلس عنه، هناك واسطة بين المدلس وهذا الشيخ الذي يروي عنه بالعنعنة وهو مُسقط، فنحن لا نعرف مخرج الحديث، وكذلك بالنسبة للمعضل والمنقطع وغيره.
فالشاهد أن بعض أهل العلم يقول: "ما عرف مخرجه" أي: ما كان سنده متصلا، ،بقطع النظر عن كون هذا الرجل أو رجاله أو مخرج الحديث، يعني مشتهرا برواية عالم من العلماء. وفيه أقوال أخرى لكن أشهرها في تفسيره هذان القولان.
وقوله: "واشتهر رجاله" قال أهل العلم: "اشتهر رجاله معناه: بالضبط والعدالة". لكن اشتهار دون اشتهار رجال الصحيح، اشتهروا بالضبط والعدالة اشتهارا دون اشتهار رجال الصحيح.
أما الضعيف: فإن رجاله ليسوا مشهورين بالعدل، ليسوا مشهورين بهذين الأمرين، فقد يكون مشهورا بالعدالة، لكن في مقابل أنه غير ضابط، وقد يكون مشهورا بالضبط، ولكن في مقابله غير عدل.
وأما راوي الحديث الحسن فإنه يكون مشتهرا، لكن مشتهرا بالعدالة والضبط، لكن اشتهار دون اشتهار رجال الصحيح، وهذا الكلام فيه ما فيه، وسيأتي -إن شاء الله تعالى- انتقاد المؤلف -رحمه الله- لهذا التعريف.
فالشاهد أن هذا الحد للحديث الحسن .
أولا: هو منصب على الحديث، أو على قسم من أقسام الحسن وهو الحسن لذاته.
وثانيا: إنه فقد بعض الشروط لتحسين الحديث، فكون الحديث يكون شاذا أو معلا، هذا -أيضا- لا بد من توافره في الحديث الحسن لذاته، فهو تعريف ناقص، وتعريف -أيضا- فيه غموض. نعم.(1/48)
وعليه مدار أكثر الحديث، وهو الذي يقبله أكثر العلماء .
قوله: "وعليه مدار أكثر الحديث" هذا قال أهل العلم: "هذا خارج عن حد الحديث الحسن، وإنما هو خبر، مجرد خبر فقط عن حال الحديث الحسن، وهو الذي يقبله أكثر العلماء، ويستعمله عامة الفقهاء، هذا معناه: فيه هناك شيء قبول، وفيه استعمال.
فالاستعمال أخص من القبول، فقد يكون الحديث مقبولا ولكنه غير مستعمل، وهذا في الصحيحين كثير، معنى القبول: هو أن يكون الحديث قد ثبت لدينا وقبلناه، لكن كوننا نعمل به، هذا هو الاستعمال. فالحديث قد نقبله ونعتقد صحته، لكن في المقابل لا نعمل به، لا طعنا فيه وإنما لكونه منسوخا، فهناك قبول وهناك استعمال، فلا يكون الاستعمال إلا بعد القبول، وأما القبول فقد يقع القبول دون الاستعمال. نعم.
وهذه عبارة ليست على صناعة الحدود والتعريفات .
لأن هذه العبارة أو هذا التعريف، ذكر المؤلف أنه: "ليس على صناعة الحدود والتعريفات". بمعنى أنه: ليس جامعا ولا مانعا، ليس جامعا يعني: مستوفيا لشروط الحسن؛ لأنه -كما تقدم- ليس فيه نفي للشذوذ ولا العلة، وكذلك ليس مانعا من دخول غيره؛ لأن رجال الصحيح لو أخذنا بظاهر التاريخ، رجال الصحيح مشتهرون، والحديث الصحيح قد عرف مخرجه، فليس هناك شيء يمنع من دخول هذا الأمر، كذلك بعض أهل العلم يقول: "إن حتى قوله عرف مخرجه، هذا ينطبق حتى على الحديث الضعيف"، وينطبق -أيضا- قوله: "واشتهر رجاله" حتى على الحديث الضعيف؛ لأنه قد يكونون مشتهرين بغير الضبط أو بغير العدالة، لكن هذا الأخير يمنع منه أن المؤلف -رحمه الله تعالى الخطابي- لما ذكر أقسامه في الحديث قسمه إلى ثلاثة أقسام:
الصحيح والحسن والضعيف، وأعطى كل واحدة وصفا معينا فلا يدخل فيه حد، أو لا يدخل الضعيف في هذا الحد. نعم.
إذ الصحيح ينطبق ذلك عليه أيضا، لكن مراده مما لم يبلغ درجة الصحيح .(1/49)
وهذا الكلام كله التماس للخطابي، وإلا ظاهر كلامه غير -يعني غير- موفق بالنسبة لتعريف الحديث الحسن، أو فيه غموض ظاهر. نعم.
تعريف الذهبي للحديث الحسن
فأقول الحسن: ما ارتقى عن درجة الضعيف، ولم يبلغ درجة الصحة .
وهذا الكلام من الحافظ الذهبي -رحمه الله- من أن "الحسن: ما ارتقى عن درجة الضعيف، ولم يبلغ درجة الصحة". هذه العبارة تشمل الحديث الحسن لذاته والحسن لغيره في ظاهرها، ولكن مراد المؤلف به: الحسن لذاته، لا الحسن لغيره كما يأتي في التخيير بعده.
فقوله هنا: "ما ارتفع عن درجة الضعيف، ولم يصل إلى درجة الصحيح". الحديث الحسن لغيره ارتفع بتعدد طرقه عن الضعيف، ولم يبلغ درجة الصحيح، وكذلك الحسن، بخفة ضبط الرجل الذي رواه، نزل عن درجة الصحيح وارتفع عن درجة الضعيف، ولكن المراد بهذه الجملة من المؤلف: ما يبينه بعدها للتخيير بين إطلاق هذا الاسم على أحد المسميين: المذكور هذا، والآتي بعده. نعم.
وإن شئت قلت: "الحسن: ما سلم من ضعف الرواة" فهو حينئذ داخل في قسم الصحيح .
هذا الكلام يبين لك أن المراد بتعريف المؤلف هنا: الحسن لذاته؛ لأن -أصلا- الحسن لغيره في الأصل رواته فيهم ضعف، أو الإسناد فيه ضعف، فقوله: "ما سلم رواته من الضعف" معناه: أنهم ارتقوا عن درجة الضعف، لكنهم لم يبلغوا درجة الصحيح. وهذه صفة الحديث الحسن، فتقوم هذه العبارة بتخيير المؤلف، مبينة أن مراده بهذا الكلام كله في تعريفه للحديث الحسن، في هذا المنهج يكون المراد: الحسن لذاته، فإن الحسن لذاته عند الإمام الذهبي -رحمه الله-: "هو ما ارتفع عن درجة الضعيف ولم يبلغ درجة الصحيح". وهذا -أيضا- غير ظاهر، هذا غير ظاهر. نعم.
وحينئذ يكون الصحيح مراتب كما قدمناه، والحسن ذا رتبة دون تلك المراتب، فجاء الحسن -مثلا- في آخر مراتب الصحيح.(1/50)
يعني هذا الكلام من المؤلف -رحمه الله-: إما أن نقول: "إن الحديث ثلاثة أقسام"، ونجعل الحديث الحسن قسما متوسطا بين الضعيف والصحيح، أو نقول: "إن الحديث قسمان: صحيح وضعيف، والحسن هو المرتبة الدنيا من الصحيح" فيكون عندنا المراتب الثلاث: الأول التي مرت معنا في الحديث الصحيح، نجعل هناك مرتبة دون الثالثة وهي المرتبة الرابعة، والتي سيذكر أمثلتها في الحديث الحسن، هذه نسميها حديثا صحيحا، لكن هو أدنى درجات الصحيح، يكون أدنى درجات الصحيح، فإما أن نجعل الحديث الحسن قسما، وإما يعني قسما من الصحيح، أو نجعله قسيما للصحيح، بمعنى أن نجعله قسما ثالثا من أقسام الأحاديث. نعم.
أول من قسم الحديث بالحسن
وأما الترمذي: فهو أول من خص هذا النوع باسم الحسن .
قوله: "وأما الترمذي فهو أول من خص هذا النوع باسم الحسن". هذه العبارة استدركها أهل العلم، فالترمذي -رحمه الله- لم يكن أول من اخترع هذا الاسم، ولا أول من خصص نوعا من الأنواع بهذا الاسم، بل سبقه إلى ذلك أئمة: كالإمام البخاري، وهذا موجود في كتاب "العلل الكبير"، موجود إطلاق الإمام البخاري على جملة من الأحاديث بأنها حسنة، وكذلك شيخ البخاري علي بن النديم -رحمه الله-، وكذلك يزيد بن هارون، وآخرون من أهل العلم، أطلقوا على بعض الأحاديث بأنها حسنه، فقوله:(1/51)
"أول من خص هذا النوع بهذا الاسم". هذا فيه يعني العبارة فيها نوع تجوز كبير، والعبارة الصحيحة هي عبارة ابن الصلاح، المؤلف اختصر هذا الكتاب من مختصره؛ لأنه -كما تقدم- المؤلف اختصر الكتاب من كتاب "الافتراق" لابن دقيق العيد، وابن دقيق العيد اختصر كتابه "الاصطلاح من علوم الحديث" لابن الصلاح، وعبارة ابن الصلاح أدق وأحسن وأوفق وأسلم من الاعتراض، من عبارة الحافظ الذهبي؛ لأن ابن الصلاح -رحمه الله- ذكر أن أول من نوه بالحديث الحسن أو بهذا الاسم -نوه بهذا الاسم- هو الإمام الترمذي، وذكر أنه يوجد متفرقات من هذا الإطلاق في كلام شيوخ الذهبي، وشيوخ شيوخه.
فكلمة ابن الصلاح: "إن أول من نوه بهذا النوع هو الإمام الترمذي". هي الأدق وهي الأسلم من الاعتراض؛ لأن التنويه معناه: المناداة والرفع. يقال: نوهه أو نوه به، إذا ناداه ورفعه. فكأن الترمذي رفع من هذا الاسم؛ لأن هذا الاسم كان عند أهل العلم مغمورا لم يكن مشتهرا، فالعبارات التي كانت معروفة عند أهل العلم: "صحيح وضعيف ومنكر وباطل وموضوع وكذب وغير محفوظ"، هذه عبارات مشهورة عند الأئمة في الحديث، أما كلمة حسن فهي نادرة؛ ولهذا أهل العلم صاروا يجمعونها جمعا من بطون الكتب لقلتها.
وأما التصحيح كلمة "صحيح"، وكلمة "ضعيف" وغيرها، هذه كثيرة ومنتشرة في كتبهم، لا حاجة لاستقصائها؛ لأنها لو استقصيت لطالت، بخلاف كلمة "الحسن"، فقوله: "إنه أول من نوه". معناها: إنه رفع من هذه الكلمة، فكأنها كانت مغمورة، فهو رفعها وأشهرها بين الناس؛ لكثرة استخدامها له واستعماله إياها في كتابه هذا.
فإذا قلنا: "أول من نوه بهذه الكلمة". فهذه الكلمة لا غبار عليها، فيقول الحافظ الذهبي -رحمه الله-:(1/52)
"إن كان يعتقد أنه أول من خص هذا النوع بهذا الاسم، اعتقادا منه هذا الاعتقاد -لا يوافقه عليه كثير من أهل العلم، منهم: الحافظ ابن رجب، والحافظ ابن حجر وغيرهم، وقد استدلوا على ما ذكروه، وإما أن يكون المؤلف اختصر الكلام، وأراد التعبير عن كلام الحافظ ابن الصلاح -رحمه الله-، ولكن لم يتقن هذه العبارة كما كان ينبغي بل تجوز فيها- فنعود إلى عبارة ابن الصلاح، وهي الأدق والأسلم عن الاعتراض". نعم.
تعريف الحديث الحسن عند الترمذي
وذكر أنه يريد به أن يسلم راويه من أن يكون متهما .
هذا الآن بيان لحد الحديث الحسن عند الإمام الترمذي -رحمه الله-، والإمام الترمذي -رحمه الله- في هذا التعريف هو قال: "والحسن عندنا". وكلمة أو حرف "نا" هذا اختلف أهل العلم في تفسيره، وبناء على هذا الاختلاف اختلفوا في هذا الحديث الحسن، فكلمة "نا" هذه، بعضهم قال: "إنها الترمذي، يقصد بها نفسه لا من باب التعظيم، وإنما من باب إظهار نعمة التلبس بالعلم الشرعي". أو يكون المراد: "يعني: عندنا نحن أهل الحديث". فبعض أهل العلم يقول: "المراد عندنا".
يعني: عند الترمذي، وبعضهم يقول: "عندنا". يعني: عند أهل الحديث؛ لأن هذه الضمائر إذا أطلقت -أحيانا- ترجع إلى أهل الاختصاص، وهنا يرجعها بعض أهل العلم إلى الاختصاص، وبناء على هذا اختلفوا في هذا التعريف الذي ذكره الإمام الترمذي: هل هو خاص بالترمذي في تأليف الحسن؟ أو هو عام للترمذي وغيره من أئمة الحديث؟
ثم ذكر أن الترمذي -رحمه الله- يشترط في الحديث الحسن ثلاثة شروط:(1/53)
الشرط الأول: أن يكون راويه سالما من التهمة. والتهمة هنا، أو عبارة الترمذي في أن المؤلف هنا أوردها بما يقاربها، وعبارة الترمذي: "ألا يكون راويه متهما". والاتهام -كما سبق لنا- اتهام في الدين، واتهام بالكذب، وكلاهما مستعمل عند أهل الحديث، فالراوي المتهم في دينه، هذا يطرح حديثه -كما سبق- ولا يلتفت إليه، والراوي المتهم بالكذب -أيضا- يطرح حديثه ولا يلتفت إليه، فإذا كان الراوي المتهم بالكذب، لا يصلح حديثه في الحسن -فمن باب أولى ألا يصلح حديث الكذاب الذي ثبت كذبه، أو حديث السارق الذي يسرق الحديث، فهذه العبارة إذن عبارة الترمذي: "ألا يكون راويه متهما.." تخرج المتهم في عدالته، أو المطعون في عدالته، وتخرج -أيضا- المتهم بالكذب، وتخرج -أيضا- الكذاب والسارق من باب أولى ، لكن يبقى ما بعد المتهم: يبقى كثير الغلط ، يبقى سيئ الحفظ، يبقى المختلط، وهكذا مما هو دون هذه الأوصاف في الضعف. نعم.
وأن يسلم من الشذوذ .
وهذا هو الشرط الثاني. : ألا يكون شاذا.
الشرط الثاني من شروط تحسين الحديث عند الترمذي: "ألا يكون شاذا" وفي شرح الحديث الصحيح تقدم أن الشاذ: "هو مخالفة الثقة لما هو أوثق منه". فهل يأتي هذا هنا أو لا يأتي؟
فإن كان يأتي فيشكل عليه ألا يكون راويه متهما؛ لأن هذه العبارة لا يستخدمها أهل العلم في الثقات، وإنما يستخدمونها فيمن دون الثقات، وإن كان لا يأتي الثقة هنا، فما معنى الشذوذ ها هنا ؟(1/54)
الشذوذ هنا -الظاهر والله أعلم- أنه يقصد به: مطلق التفرد "مطلق تفرد الضعيف" يعني: ألا يتفرد به ضعيف، على معنى أن هذا الحديث إذا جاءنا راو سيئ الحفظ، فروى لنا حديثا -نقول: "هذا حديث شاذ". لكن إذا تابعه غيره ممن هو في منزلته أو فوقه -نقول: "انتفى الشذوذ". ولو لم يكن مخالفا في هذا الحديث، لا في إسناده ولا في متنه، وهذه العبارة تدلك على أن الشاذ -كما سبق لنا- لا يصلح أن يتابِع ولا يتابَع، بل وجوده كعدمه، لكن على هذا التفسير الظاهر من العبارة، يبقى إشكال آخر في العطف.
الشرط الثالث: فيكون الشرط الثالث إما أن يكون أنه تأكيد لهذا الشرط، يقول: "يبقى أنه يكون الشرط الثالث مؤكد للشرط الثاني". وعليه يصلح أن نقول: "إن الترمذي ما اشترط إلا شرطين"؛ لأن الشرط الثالث ما هو إلا مؤكد للشرط الثاني، فقوله: "يروى من غير وجه نحو ذلك" يعني: أن يكون الحديث، هذا الحسن قد تعددت طرقه، إذا تعددت طرقه زال شذوذه، زال الشذوذ وهو مطلق التفرد.
هذا هو ما يظهر من عبارة الإمام الترمذي -رحمه الله تعالى-، وهذه العبارة أو هذا التعريف، إنما هو منطبق على الحديث الحسن لغيره، ولا يشمل الحسن لذاته، ولعل الإمام الترمذي ممن يجعل الحديث الحسن لذاته قسما من أقسام الصحيح، وفي أدنى مراتب الصحيح، كما يصنعه جملة كبيرة من أهل العلم.
فالشاهد من هذا أن الحديث الحسن، أو كلام الترمذي هذا، متعلق بالحديث الحسن لغيره، وعلى هذا يكون الحديث الحسن لغيره، هوالذي يكون في راويه ضعف، وينجبر بمجيئه من طريق أُخرى.
وقوله: "ويروى من غير وجه ونحو ذلك أو نحوه". وهذه عبارة الترمذي.
النحو هنا يقال: "نحوه في الأحاديث". المراد به المعنى -كما سيأتي إن شاء الله -نحوه: يقصد به المعنى، أما مثله: فيقصد به اللفظ ذاته، أو بلفظ قريب جدا لا يختلف إلا يسيرا، وأما إذا قالوا: "بنحوه أو بمعناه" فمعناهما واحد، كما سيأتي -إن شاء الله- في كلام الحافظ الذهبي في محله.(1/55)
ونذكر لكم من كلام أهل العلم ما يؤيد هذا، مثل: الإمام الحافظ وغيرهم ، وعلى هذا يكون المؤلف قد ذكر لنا ثلاثة تعاريف: تعريفا أو تعريفين أخذهما أو جاء بهما عن غيره، وتعريفا لنفسه هو، والتعريفان متعلقان بالحسن لذاته، وهو تعريف المؤلف، وتعريف الخطابي، وتعريف متعلق بالحديث الحسن لغيره، وهو الذي جاء به عن الإمام الترمذي -رحمه الله تعالى-.
وهذه الإطالة في هذين الموضعين في الحديث الصحيح والحديث الحسن هذه الإطالة لأنهما العمدة؛ لأن الإنسان إذا عرف الحسن والصحيح لم يعد يبقى يعني: كبير شيء بالنسبة للضعيف والمطروح وغيره من أنواع الحديث، ثم إن هذه الإطالة ناتجة عن إطالة الحافظ للذهبي- رحمه الله- نفسه، وهذه المواضع من المباحث المهمة التي ينبغي الاعتناء بها، غير أن هناك مواضع، يعني: ليس لها فائدة كبيرة بالنسبة لنا سيكون- إن شاء الله- الحديث عنها مرورا، والمؤمل بإذنه -تعالى-، يعني: أن يتم شرح هذا الكتاب في هذه الدورة بإذنه -تعالى- والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
قال الإمام الذهبي- رحمه الله تعالى-: وأما الترمذي، فهو أول من خص هذا النوع باسم الحسن، وذكر أنه يريد به: أن يسلم رواية من أن يكون متهما، وأن يسلم من الشذوذ، وأن يروى نحوه من غير وجه.
وهذا مشكل أيضا على ما يقول فيه حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(1/56)
هذا الكلام متعلق بالحديث الحسن الذي سبق بعضه يوم أمس، قد تقدم لنا أن هذا الحديث، أو أن هذا القسم من أقسام الحديث سار المؤلف -رحمه الله- إلى أن في معناه اضطرابا بين أهل العلم، وبناء على ذلك فقد عدد أو ذكر تعريفات عن أهل العلم في هذا القسم، على خلاف ما جرت به العادة من الاختصار في المباحث، وتقدم ما ذكره عن الخطابي، وأن ذلك متعلق بالحديث الحسن.
ثم عرف المؤلف -رحمه الله تعالى- الحسن لذاته بعد أن ذكر تعريف الخطابي المتعلق بالحديث الحسن لذاته، ثم بعد ذلك أورد كلام الترمذي المتعلق بالحديث الحسن لغيره، والحديث الحسن عند الترمذي -كما سبق لنا- هو الحديث الذي تجتمع فيه ثلاثة شروط .
الأول: ألا يكون راويه متهما.
الثاني: ألا يكون شاذا.
الثالث: أن يروى من غير وجه.
وتقدم الكلام على هذه الشروط، واختلاف أهل العلم في شرط أو في تعريف الحديث الحسن عن الترمذي، إنما هو راجع إلى الشرطين الأخيرين، فبعضهم يرى أن قوله" ولا يكون شاذا" هذا محمول على الشذوذ بمعناه المشهور عند الإمام الشافعي، وهو مخالفة الثقة لمن هو أوثق منه.
وهذا الكلام سبق لنا أنه كلام غير صحيح؛ لأن قوله في الأول لا يكون في إسناده من يتهم أن هذه الكلمة إذا قيل فلان لا يتهم، هذه إشارة إلى ضعفه، لكنه لم يبلغ إلى حد الاتهام، وعلى ذلك فلا يكون في هذا مدخل للثقة، وظهر أن هذه الكلمة، كلمة شاذ واشتراط نفي الشذوذ عن هذا الحديث، إما أن المراد أن يكون نفي مطلق التفرد، ومعلوم أن تفرد الضعيف شذوذ ونكارة.(1/57)
وعلى هذا يكون الشرط الثالث مؤكدا للشرط الثاني، وهو قوله: "وأن يروى من غير وجه"، وإما أن يكون المراد بقوله: "ولا يكون شاذا" على معنى ألا تقع مخالفة من الضعيف سواء في متن الحديث أو في إسناده، فيكون قوله: ولا يكون شاذا أي: لا يكون منكرا ، لا في الإسناد ولا في المتن، ثم يأتي بعد ذلك الشرط الثالث: وهو أن يأتي الحديث من طريق أخرى أو يكون للحديث متابع أو شاهد، وبهذا تم كلام الإمام الترمذي- رحمه الله تعالى-.
وبناء على هذا الحد الذي ذكره الإمام الترمذي، وعرف به الحديث الحسن، يرد في كلام الإمام الترمذي- رحمه الله- قوله: حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وهذان لفظان أحدهما حسن، والحسن تقدم لنا اصطلاحا، والثاني غريب، والغرابة المراد بها التفرد، فهو في الحديث اشترط ألا يكون راويه متفردا به، وها هنا جمع في الظاهر بين النقيضين، جمع بين الحسن ومن شرطه ألا يكون فردا، وجاء بكلمة غريب، وهي تدل على التفرد، وأكد بذلك في بعض الأحاديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
ومن ها هنا استشكل المؤلف، ومن جاء قبله من العلماء، ومن لحقه من العلماء، استشكلوا هذا الجمع، وكل له جواب وكل جواب من هذه الأجوبة لا يسلم من الاعتراض، لكن الأظهر -والله أعلم- أن هناك لفظين عند الإمام الترمذي، لفظ مركب، ولفظ مفرد، فلا يحمل اللفظ المركب على اللفظ المفرد، فقوله: حسن هذا لفظ مفرد وقد عرفه الإمام الترمذي، فإذا ورد لنا لفظ حسن صرفناه، أو ورد حكم للترمذي على حديث بأنه حسن صرفناه إلى الشروط الثلاثة التي ذكرها، لكن إذا جاء حسن غريب فلا ينبغي أن يحمل الشطر الأول من هذا التركيب على حد الحسن الذي ذكره الإمام الترمذي- رحمه الله- .(1/58)
بل اللفظ المفرد يفسر بما فسر به الترمذي، فقد فسر الحسن تفسيرا مفردا، وفسر الغريب تفسيرا مفردا، فينبغي إذا ورد لنا كلمة حسن عند الترمذي نحملها على ما استوفى هذه الشروط الثلاثة ،وإذا وردت لفظة غريب مفردة، تحمل على حد الغريب عند الترمذي والتفرد، وإذا وردت لفظة مركبة فلا ينبغي أن يجمع بين هذين المنفردين، ويحمل عليهما هذا اللفظ المركب؛ لاحتمال أن الإمام الترمذي له اصطلاح آخر يتكون من هاتين الجملتين، وهو حسن غريب، وإلا فالمقام مقام استشكال كبير عند أهل العلم، كما ذكره المؤلف- رحمه الله تعالى - . نعم.
تعريف ابن الجوزي للحديث الحسن
وقيل: الحسن ما ضعفه محتمل ويسوغ العمل به .
وهذا التعريف، هو تعريف الحافظ بن الجوزي- رحمه الله- في مقدمة كتابه الموضوعات، وهذا التعريف ينصب على الحديث الحسن لذاته في الظاهر، وهذه الجملة، "ما ضعفه محتمل" هذه تضمنت:
أولا: عدالة الراوي وعدالة راوي الحديث الحسن؛ لأن غير العدل لا يحتمل تفرده .
الثانية: أيضا اشتملت هذه اللفظة على بيان أن راوي الحديث الحسن فيه ضعف، ولكن هذا الضعف لا ينزله إلى درجة الضعيف المطلق، وبالمقابل لا يرفعه إلى درجة، أو بمقابل هذا الضعف غير منزل له للضعف المطلق؛ لأن هذا الضعف ضعف محتمل، لأنه ضعف محتمل، وإلا لو كان ينزله إلى الضعف المطلق لم يكن هذا الضعف محتملا، فكون ضعف الراوي محتملا، هذا يدل على أن هذا الرجل فيه ضبط وضعف، وجانب الضبط أكثر من جانب الضعف، لسوء الحفظ .
لأنه لو كان جانب سوء الحفظ أكثر، لم يكن ضعفه محتملا، كما هو معروف عند أئمة الاصطلاح، فصارت هذه الكلمة جامعة بين شروط العدالة، ومبينة أن الراوي- راوي الحديث الحسن- يكون فيه ضعف، لكن هذا الضعف يكون هذا الضعف محتملا، ليس شديدا ولا كثيرا، وهذه اللفظة تخرج راوي الحديث الصحيح؛ لأنه ثقة ليس فيه ضعف، وبالمقابل تخرج الضعيف من جهة حفظه ضعفا مطلقا؛ لأن ضعفه يكون غير محتمل.(1/59)
وقوله: يصلح للعمل به هذه بعضهم يجعلها من التعريف، وبعضهم يخرجها عن التعريف، ولكن هذه الكلمة، إن أدخلناها في التعريف، فإن هذه العبارة كما ذكر العلماء تقضي الدور؛ لأنه بناء على ذلك لا يكون حسنا إلا إذا صلح العمل به، ولا يصلح العمل به إلا إذا كان حسنا، وهذا لا يستقيم على ما ذكره أهل الحدود والتعاريف، من أنها لا بد أن تكون جامعة مانعة.
وهذا التعريف نلحظ فيه أن المؤلف- رحمه الله- أو ابن الجوزي لم يشترط فيه في الظاهر إلا شرطين: عدالة الرواة، وتغليب جانب الضبط على جانب الضعف، مع أن الأمرين كليهما واردان في الراوي.
وأما بقية الشروط فلم يذكرها، والظاهر- والله أعلم- أنه لم يذكرها؛ لأن هذه الشروط لما كانت لنفي الشذوذ والعلة واتصال السند، لما كانت مشترطة في الحديث الصحيح ورجاله أقوى من رجال الحديث الحسن، كان الأولى أن تكون مشترطة في الحديث الحسن لذاته فتركها للعلم بها، ولكون اشتراطها في الحديث الحسن لذاته أولى من اشتراطها في الصحيح، فلما كانت مشترطة في الصحيح، كان من باب أولى أن تشترط في الحديث الحسن لذاته. نعم.
وهذا أيضا ليس مضبوطا بضابط يتميز به الضعف المحتمل .
وهذا وجه الإشكال عند جميع من عرف الحديث الحسن، أن ليس هناك حد فاصل يستبين به الفرق بين راوي الحديث الحسن، وبين راوي الحديث الصحيح. نعم.
تعريف ابن الصلاح للحديث الحسن
وقال ابن الصلاح- رحمه الله- إن الحسن قسمان: أحدهما: ما لا يخلو سنده من مستور لم تتحقق أهليته .
هذا شروع من المؤلف في بيان اصطلاح الحافظ ابن الصلاح، والاصطلاح الذي ذكره الحافظ ابن الصلاح- رحمه الله- في حد الحديث الحسن، وحد الحديث الحسن عند، أو ابن الصلاح قسم الحديث الحسن إلى قسمين: حسن لغيره، وحسن لذاته، وبدأ بالقسم الأول بالحسن لغيره، وذكر له شروطا ستأتي- إن شاء الله- .
إن "الحسن قسمان: أحدهما ما لا يخلو سنده من مستور لم تتحقق أهليته "(1/60)
المستور هو: مجهول الحال، فالمجهول لم تتحقق أهليته ولم تتحقق عدم أهليته، فهذا الشرط متوجه إلى العدالة، فشرط راوي الحديث الحسن، ألا يكون قد قدح في عدالته، ألا يكون مقدوحا في عدالته، فإذا قدح في عدالته فإن حديثه لا يكون أو لا يصلح للاعتضاد، فإن حديثه لا يصلح أن يكون عاضدا ولا معضودا.
لأنه كما مر معنا، أن القدح في العدالة يوجب سقوط الرواية مطلقا، فهذا الراوي الحديث الحسن لغيره عند ابن الصلاح يكون مستورا، بمعنى أنا لا نعلم حاله هو الظاهر من حاله الإسلام، ولكن لا نعلم هل هو عدل حقيقة؟ ، أو غير عدل، أما لو تحققنا أنه عدم عدل فلا يأتي، كالموصوف بسرقة الحديث، أو الاتهام بالكذب أو الكذاب لا يردون هاهنا، لأنا تحققنا عدم العدالة، والثقة لا يرد هاهنا؛ لأنا تحققنا عدالته فلم يبق إلا من هو بينهما، وهو الراوي الذي لا نعلم عدالته، هل هو من عدل، أو غير عدل لم يظهر لنا أنه غير عدل، كما أنه لم يظهر لنا أنه عدل، وإنما أخذنا بظاهر إسلامه فحسب، وظاهر الإسلام لا يكتفى به في الرواية، بل لا بد من وصف زائد على الإسلام، وهو ثبوت العدالة، وراوي الحديث الحسن لم يتحقق فيه هذا الوصف الزائد، وإنما تحقق فيه الإسلام فقط. نعم.
لكنه غير مغفل ولا خطاء ولا متهم .
الخطَاء: هذه صيغة مبالغة، مثل قتَال شرَاب وغيره، هذه صيغة مبالغة، يعني: كثير الخطأ، وهذه العبارة التي اختصرها المؤلف من كلام ابن الصلاح مشعرة، بأن الخطاء غير المغفل ؛لأنه عطف عليه بالواو، ولكن كلام ابن الصلاح في أصله يدل على أن قوله خطاء هذه، إنما هي بيان لقوله غير مغفل ؛لأن عبارته- عبارة ابن الصلاح- وليس مغفلا كثير الخطأ فيما يرويه فقوله كثير الخطأ، هي بمعنى خطاء هاهنا، لكنها جاءت مبينة ومفسرة لقوله: وليس مغفلا .(1/61)
فإذن فالمغفل ها هنا معناه كثير الخطأ، فهذا أيضا شرط من شروط الحسن لغيره عند الإمام الترمذي، ألا يكون راويه كثير الغلط، ألا يكون راويه كثير الخطأ؛ لأن هناك كثرة غلط وفحشه، وهناك ما هو دون ذلك، فما هو دونها يقبل في المتابعات والشواهد، وأما إذا كثر غلط الراوي وغلب عليه، فهذا لا يصلح لا في الشواهد، ولا في المتابعات، ويعبر عنه بمتروك ويعبر عنه بالمتروك.
فالشرط الثاني: لتحسين الحديث عند ابن الصلاح، ألا يكون راويه كثير الغلط، وهو معنى المغفل، كما سبق من كلام ابن الصلاح وقوله: ولا متهم، يعني: متهم بالكذب، ولا متهم بالكذب، وهذه الكلمة من الحافظ هذا الاختصار من الحافظ الذهبي- رحمه الله- جار على ما هو مشهود عند أهل العلم، أنهم إذا أطلقوا كلمة متهم تنصرف في الأصل إلى المتهم بالكذب .
فالحافظ الذهبي- رحمه الله- حذف كلمة الكذب من كلام ابن الصلاح -رحمه الله تعالى-، حذف هذه الكلمة بناء على ما هو معهود عند أهل العلم، من أن هذه الكلمة إذا أطلقت انصرفت على من كان متهما بالكذب، ويحتمل أن يكون كلام الذهبي هذا، أنه حذف كلمة الكذب من باب تعميم الحكم للمتهم في دينه بالفسق، أو متهم بالكذب ؛لأن الحافظ ابن الصلاح -رحمه الله- ذكر من شروط الحسن يقال له متهم بالكذب، يعني: لم يظهر منه تعمد الكذب ولا بسبب آخر مفسق.(1/62)
فتكون كلمة ولا متهم، يعني: لا متهم بالكذب ولا بسبب آخر مفسق، وهو الاتهام في الدين، فإما أن تكون ولا بسبب مفسق هذه شرط يعني، أو هذه بسبب مفسق موضحة لأمر العدالة، وإما أن تكون هذه الكلمة كلمة متهم شاملة للقسمين، وتكون ولا بسبب معطوفة على كلمة بالكذب، فيكون الكلام ولا متهم يعني: متهم في دينه، يعني: ولا متهم بالكذب، وهذا أمر ظاهر، فالمقصود أن من شرط راوي الحديث الحسن أنا لا نتحقق أهليته بل يكون مستورا، ولا يكون متهما بالكذب ولا بسبب آخر مفسق في دينه، والشرط الثاني ألا يكون كثير الغلط في روايته. نعم.
ويكون المتن مع ذلك عرف مثله أو نحوه بوجه آخر اعتضد به .
يعني: أن: هذا الحديث تتعدد طرقه، إما بالمتابعات، وإما بالشواهد سواء كان ذلك بلفظ الحديث أو بمعناه، وهذا هو الشرط الثالث، فصار الحافظ ابن الصلاح- رحمه الله- يشترط للحديث الحسن لغيره، ثلاثة شروط ، الشرط الأول: ألا يظهر قدح في عدالة راويه ، والشرط الثاني: ألا يكون الراوي للحديث الحسن كثير الغلط ، والشرط الثالث: أن تتعدد طرق الحديث من مجيء الشاهد أو المتابع له.
فهذه ثلاثة شروط، ذكرها الحافظ للحديث الذي يحسن، فإذا استوفى حديث ما هذه الشروط الثلاثة، حكم عليه بأنه حديث حسن لغيره، كما سيأتي- إن شاء الله-. نعم.
وثانيهما أن يكون روايه مشهورا بالصدق والأمانة .
هذا هو القسم الثاني من الحديث الحسن: وهو الحسن لذاته ، وهو أن يكون راويه مشهورا بالصدق والأمانة، وهذا هو معنى العدالة، يعني: لا بد أن تتحقق في الحديث الحسن عدالة الراوي ، وأما في الحديث الحسن لغيره يكون الراوي فيه مجهولا لا تعلم عدالته، لكن لا نتحقق عدم العدالة، وأما في الحسن لذاته، فلا بد أن نتحقق من عدالة الراوي، يعني: يكون مشهورا بالصدق والأمانة. نعم.
لكنه لم يبلغ درجة رجال الصحيح؛ لقصوره عنهم في الحفظ والإتقان .(1/63)
وهذا هو الشرط الثاني من شروط تحسين الحديث لذاته عند ابن الصلاح، وهو أن يكون راويه قد قصر في حفظه وضبطه وإتقانه عن درجة رجال الصحيح، فهو حافظ، لكن حفظه أقل من رجال الصحيح، وفوق راوي الحديث الضعيف. نعم.
وهو مع ذلك يرتفع عن حال من يعد تفرده منكرا مع عدم الشذوذ والعلة .
وهذا هو الشرط الثالث، أو هذان الشرطان الثالث، والرابع، وسلامته من الشذوذ وسلامته من العلة، فالحديث الحسن لذاته عند الحافظ وابن الصلاح لا بد أن تتوافر فيه أربعة شروط: ثبوت عدالة الراوي، وهذا إذا قابلته مع الحسن لغيره.
الحسن لغيره لا يشترط ثبوت عدالة الراوي، لكن يشترط ثبوت ،أو يشترط عدم القدح في عدالة الراوي، التي هي يكون مستورا؛ لأن لم يثبت فيه ما يقدح في عدالته، ولم يثبت فيه ما يرفع عنه الجهالة، وأما الحديث الحسن لذاته، فلا بد أن يتحقق شرط العدالة في راويه، والشرط الثاني: أن يكون راويه موصوفا بالحفظ، لكن حفظه أقل من حفظ رجال الصحيح، يعني: الذين يصحح لهم، أو الذين يصحح حديثهم.
وأما في الحسن لغيره يشترط عدم أو يشترط ألا يكون كثير الغلط، بمعنى أنه لو كان سيئ الحفظ، أو في حديثه نكارة، أو نحو ذلك، هذا يعني: يقبل في الحسن لغيره، لكن لا يقبل في الحسن لذاته، والشرط الثالث: أن يكون سالما من الشذوذ .
والشرط الرابع: أن يكون سالما من العلة، فإذا استوفى هذه الشروط الأربعة، كان الحديث حسنا لذاته عند الحافظ وابن الصلاح، وعلى القسم الأول، وهو الحسن لغيره نزل ابن الصلاح كلام الترمذي، وعلى القسم الثاني وهو الحسن لذاته، نزل الحافظ وابن الصلاح كلام الخطابي ، نعم .
مؤاخذات على تعريف ابن الصلاح للحديث الحسن
فهذا عليه مؤاخذات .(1/64)
وهذه المؤاخذات أو هذا التعريف كسابقيه، أو كالسابق من التعريف كلها عليها مؤاخذات، وقد سبق أن هذه المؤاخذات ناتجة عن تردد الحديث الحسن بين الضعيف والصحيح، وسبق لكم أنه ما من إمام عرف الحديث الحسن إلا وعليه انتقادات كثيرة، وابن الصلاح ممن انتقد عليه هذا التعريف، لكن ومن أرادها فليراجعها في مظانها خشية الإطالة. نعم.
وقد قلت لك: إن الحسن ما قصر سنده قليلا عن رتبة الصحيح .
وهذا تأكيد من المؤلف لما سبق بيانه من حد الحديث الحسن لذاته؛ لأنه كما سبق أنه قال في الحديث: ما سلم من ضعف الرواة، وذكر أيضا: إنه ما ارتقى عن الضعيف، ولم يبلغ درجة الصحيح، وها هنا يؤكد المؤلف هذا المعنى مرة أخرى، وكما أن قوله في هذا: "ما قصر سنده"، المراد ليس السند ها هنا ما يشمل الرجال ويشمل حالة الإسناد من اتصال أو انقطاع، لا إنما مراده- رحمه الله- ما قصر سنده، يعني: ما قصر رجاله من حيث الضبط عن رجال الصحيح فقط، فأطلق السند ها هنا وأراد به رجال الإسناد. نعم.
وسيظهر لك بأمثلة.
وهذه الأمثلة ستأتي -إن شاء الله- في آخر هذا المبحث، وسيوردها المؤلف -رحمه الله تعالى- نعم .
الاضطراب في تعريف الحديث الحسن
ثم لا تطمع في أن للحسن قاعدة تندرج كل الأحاديث الحسان فيها فأنا على إياس، من ذلك .
هذا تأكيد لما سبق أن ذكره في أول المبحث، قال: وفي معناه اضطراب، وهذا الاضطراب أكده المؤلف ها هنا، وأنه ليس هناك تعريف يمكن أن يكون جامعا مانعا، لا من قبل الذهبي نفسه، ولا ممن تقدمه من أهل العلم، نعم .
فكم من حديث تردد حديث تردد فيه الحفاظ، هل هو حسن أو ضعيف أو صحيح؟ بل الحافظ الواحد يتغير اجتهاده في الحديث الواحد، فيوما يصفه بالصحة، ويوما يصفه بالحسن، ولربما استضعفه .(1/65)
هذا أن الأحاديث تارة تتحقق شروط الصحة بلا خلاف بين أهل العلم، فيحكم للحديث بالصحة، وتارة تتحقق فيه شروط الضعف، فيحكم له بالضعف، وتارة يتردد الأمر بين ذلك، وها هنا المرجع إلى اجتهاد الحفاظ .
والحديث الحسن وراويه بالذات، هذا تجد أهل العلم -رحمهم الله تعالى- يضطربون فيه- فيما بينهم-، فمنهم من يصححه ومنهم من يحسنه، ومنهم من يضعفه، وتجد أيضا المجتهد نفسه يضطرب فيه، فمرة يصحح هذا الحديث لظنه أنه قريب من الصحة، أو لكون أمر الصحة قد جذبه إليه ، وتارة يكون العكس من ذلك، فيحسن الحديث، وتارة إذا كان راوي الحديث الحسن فيه ضعف أكثر، فإنه حينئذ يردده بين الحسن والضعيف، فتارة يحكم عليه بأنه ضعيف، وتارة يحكم عليه بأنه حسن.
فراوي الحديث الحسن إذا كان فيه قوة وأهل العلم مختلفون فيه اختلافا قويا ظاهرا، والمرجحات أو الظواهر من الأحوال تغلب جانب الحفظ عليه، هذا تجد الحافظ يتردد في تصحيح حديثه وتحسينه، وإذا كان راوي الحديث الحسن دائرا بين خلاف العلم بين تحسين حديثه وتضعيفه، تجد الحافظ أو العالم إذا اجتهد في حديثه أحيانا يجعله حديثا حسنا، وأحيانا يظهر له أنه حديث ضعيف، فهذا إذا كان في العالم الواحد يختلف فيه اجتهاده، فما الظن بالعلماء المختلفين؟ نعم.
الحديث الحسن يستضعفه الحافظ
وهذا حق فإن الحديث الحسن يستضعفه الحافظ عن أن يرقيه إلى رتبة الصحيح، فبهذا الاعتبار فيه ضعف ما، إذ الحسن لا ينفك عن ضعف ما .
كما تقدم لنا أن راوي الحديث الحسن لذاته فيه ضعف يسير، وراوي الحسن لغيره في أصله فيه ضعف، لكن ينجبر هذا الضعف بمجيئه من طريق أخرى، فالضعف لازم لراوي الحديث الحسن على اختلاف في هذا أو في مقدار هذا الضعف،
ضبط حديث الحسن لذاته والحسن لغيره
ولو انفك عن ذلك لصح باتفاق وقول الترمذي هذا حديث حسن صحيح .(1/66)
إلى ها هنا انتهى المؤلف -رحمه الله- من إيراد كلام العلماء حول حد الحديث الحسن ، والذي تلخص من الكلام السابق وكلام الأئمة: أن الحديث الحسن قسمان: حسن لذاته، وهو: ما استوفى شروط الصحة سوى الضبط، فإن راويه أنزل من راوي الحديث الصحيح وأرفع من راوي الحديث الضعيف، وهذا هو الذي قرره الحافظ ابن حجر ومشى عليه المتأخرون بعده .
وكذلك بالنسبة للحديث الحسن لغيره ، وهو الضعيف الذي ينجبر بوروده من طرق أخرى، إذا تعددت طرق هذا الحديث، فإنه يكون حسنا لغيره، وكلا النوعين تختلف فيهما أنظار الحفاظ، فالحسن لذاته يختلف النظر من جهة قياس ضبط راوي الحديث الحسن لذاته، فمنهم من يرى أن الضعف مؤثر عليه، فلا يحكم له بالحسن، ومنهم من يرى أن هذا الضعف يحط من مرتبته قليلا فيحسن حديثه.
ومنهم من يرى أن هذا الضعف لا يؤثر على مروياته، فيصحح حديثه، وأما بالنسبة للحسن لغيره، فإن نظر العلماء يختلف في نظرهم للجابر، ما هو؟، وفي نظرهم للمجبور، فبالنظر للمجبور ،أو المشهود له أو المعضود أو المتابع، يختلفون في قياس الضعف الذي يتم به الانجبار، فبضع العلماء يقول: إذا لم يكن الراوي متهما، انجبر حديثه بتعدد طرقه، وبعضهم يقول: لا، إن كان كثير الغلط لم ينجبر هذا الحديث بتعدد الطرق، وأما بالنسبة للعاضد أو الشاهد أو المتابع، فهذا يختلف العلماء.
فمنهم أحيانا من يرى أن هذا الحديث يحتاج إلى أو يكفي في ترقيته إلى شاهد أو متابع واحد فقط، ومنهم من يرى أن هذا الشاهد أو المتابع يتقاعد عن أن يجبر هذا المتابع، لحاجة المتابع إلى مزيد مما يجبره ويعضده ليرقيه إلى الحسن لغيره؛ ولهذا يقع الاختلاف بين أهل العلم في هذا القسم، فمنهم من يبقي بعض الأحاديث على أصل ضعفها ولو تعددت طرقها، لاعتقاده وظنه أن هذه الطرق لا تكفي لترقية الحديث.(1/67)
ومنهم من يرى أن هذه الطرق تقوى هذا الحديث وتجبر الضعف الذي فيه فيحسنها، فتجد أن الحديث الحسن لغيره يتردد كلام العلماء فيه، بين تضعيفه وتحسينه تحسينا لغيره، والذي يعني: ينبغي التنبه له والتنبيه عليه هو مقياس ضبط الراوي بالنسبة للحسن لذاته .
ومعرفة هذا المقياس لا يتم إلا بعد ممارسة طويلة لكلام أئمة الجرح والتعديل في الموثقين وفي المضعفين، وفي المحكوم على حديثهم بأنه حديث حسن ؛ لأن الإنسان إذا تمرس في هذه الأشياء الثلاثة، تبين له الوسط منها ،والوسط هو الذي يحكم على حديثه بأنه حديث حسن لذاته، وهناك بعض الضوابط، أو بعض الأمور التي قد يستعين بها الإنسان في بادئ الأمر علي تحديد أو معرفة من يحسن حديثه من العلماء، فمن هذه الأشياء، ما نص الحافظ الذهبي أو الحافظ ابن حجر على أن حديثه حسن.
وهذا نص في الباب؛ لأن الإنسان المطالع إلى تراجم هؤلاء الذي ينص على أن حديثهم حسن يجد فيه اختلافا كبيرا بين التوثيق والتضعيف، فإذا لم يكن لديه أهليته للنظر، احتاج إلى غيره من أئمة الفن، لترجيح أحد الجانبين، وهذا الترجيح يقع من الأئمة الحفاظ، وبخاصة الذهبي وابن حجر؛ لأنهما من المحققين المتأخرين في هذا الفن، فأحيانا الحافظ الذهبي وهو كثير، ينص على أن هذا الرجل حديثه حسن، وكذلك الحافظ ابن حجر- رحمه الله-، وإن كان الحافظ الذهبي أكثر تنصيصا من الحافظ ابن حجر.(1/68)
فإذا جدت رجلا نص الحافظ الذهبي على أن حديثه حسن، وورد عند الإسناد فإنك تحسن حديثه، وكذلك بالنسبة للحافظ ابن حجر- رحمه الله- إذا حكم على رجل بأنه حسن الحديث وكان معك فيه إسناد، فإنك تحسن الإسناد اعتمادا على هذا النص من الحافظ الذهبي، والحافظ ابن حجر- رحمهما الله-، فالحافظ الذهبي مثلا، نص على أن محمد بن عجلان حسن الحديث، فإذا ورد عندك بسند محمد بن عجلان تحسن الحديث بناء على اعتمادك على كلام الحافظ الذهبي، لعدم وجود الأهلية في الترجيح بين أقوال الأئمة المجرحين والمعدلين.
وكذلك الحافظ الذهبي مثلا حسن حديث ابن إسحاق، وكذلك الحافظ ابن حجر حسن حديث ابن إسحاق، ونص على أن حديثه حسن، وكذلك حسن الحافظ ابن حجر- رحمه الله تعالى- حديث شهر بن حوشب حسن حديث أبي محريز وغيرها، نصوا على أن حديثه حسن فإذا ورد عندك هذا الكلام، ووجدته في كلام الحافظين، وأنت غير مؤهل للنظر بين أقوال المجرحين والمعدلين، فإنك تعتمد هذا القول، وإنما اعتمد قول هذين الحافظين، أو اختير قول هذين الحافظين؛ لأنهما من أئمة التحقيق في هذا الشأن المتأخرين.
ولأن لهما أقوالا كثيرة في الرجال، فغيرهما قد يكون له تحسين، ولكن تجده نادرا ليس لهم كلام طويل وكثير في الرجال، وكذلك اختيار كلام الذهبي والحافظ ابن حجر على اعتبار أن اصطلاح الحديث قد استقر عندهما، فهما قد استقر عندهما تعريف الحسن لذاته، وبناء على ذلك ما حكموا على أو أي رجل حكموا بأن حديثه حسن فينزل على تعريفهما للحسن لذاته، وهو ما خف فيه أو قصر فيه ضبط الراوي عن درجة الحفظ والإتقان المعتمدة في رجال الصحيح.(1/69)
فصار كلام الحافظ الذهبي والحافظ ابن حجر في التنصيص على أن هذا الرجل حسن الحديث، يعتمد عند عدم أهليته، وهذا يعني: أحد الأمور التي يعرف بها ضبط الراوي وخفته، فإذا وصفوا رجل بأنه حسن الحديث وصفه الذهبي أو الحافظ ابن حجر، فالمراد أن ضبطه خفيف، أو أن درجته قاصرة عن درجة رجال الصحيح، ومرتفعة عن درجة أو حفظه مرتفع عن حفظ من يضعف حديثه.
والأمر الثاني: ما نص الحافظ ابن حجر على أنه صدوق أو لا بأس به أو ليس به بأس، لأننا نعتمد في هؤلاء المجرحين والمعدلين، يعني: المختلف فيهم على هذه الكتب المختصرة وأقوال العلماء المختصرة، فإذا قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: صدوق أو لا بأس به أو ليس به بأس، فهذا يدل على أن حديثه حسن طيب، هذا الاصطلاح من أين عرفناه، قد يقول قائل: من أين عرف هذا الاصطلاح، وهذا استشكال أورده بعض المعاصرين ،ويرى أن هذا الكلام يحتاج إلى دليل اللي هو إذا قال الحافظ ابن حجر: صدوق أو لا بأس به أو ليس بأس أن هذا حسن الحديث هو يقول يحتاج إلى دليل وهذا دليله ظاهر في ثلاثة أمور .
الأمر الأول: أن الحافظ ابن حجر في مراتب الجرح والتعديل التي ذكرها في أول التقريب، ذكر المرتبة الثالثة، وهو من فيه الثقة ،أو متقن، أو ثبت أو عدل، وهذه الألفاظ كما تقدم لنا، ألفاظ تدل على ضبط الراوي وأنه من رجال الصحيح، أي الرجال الذين يصحح حديثهم، ثم جاء في المرتبة التي تليها، وذكر أن أصحاب هذه المرتبة من قصر عن درجة المرتبة الثالثة.
وذكروا في هذه المرتبة هذه الأوصاف الثلاثة: الصدوق، وليس به بأس، أو لا بأس به، فهذا يدلنا على القاعدة التي ذكرها الحافظ ابن حجر في الحسن لذاته، وهو أنه الذي خف ضبطه عن درجة رجال الصحيح، والمرتبة الثالثة: هم رجال الصحيح بلا كلام بين أهل العلم، فمن قصر عن هذه المرتبة مباشرة هم أصحاب المرتبة الرابعة، ليس بينهم وبين أصحاب المرتبة الثالثة مرتبة أخرى.(1/70)
فها هم قد قصروا عن أصحاب المرتبة الثالثة الذين يصحح حديثهم، إذا لم يبق إلا تحسين حديث أصحاب هذه المرتبة، فهذا كأنه تنصيص من الحافظ ابن حجر- رحمه الله- على أن من قال فيه صدوق، أو لا بأس به، أو ليس به بأس، أنه يحسن حديثه.
والدليل الثاني: أن الحافظ ابن حجر- في النخبة وشرحها- لما ذكر أن زيادة راوي الصحيح والحسن مقبولة، بين أن هذا القبول ما لم تقع هذه الزيادة منافية، ثم بين أن هذه المنافاة أنها إذا وقعت منافية، فإنها تكون شاذة، والشاذ عرفه بأنه رواية المقبول عمن هو أولى منه، وكلمة المقبول هذه بين في أثناء كلامه ،أنها تنطلق على الثقة والصدوق.
فالثقة والصدوق إذا خالفا سميت مخالفتها شاذة؛ لأنه يصدق عليها أنهما مقبول يصدق عليها لفظ المقبول، فإذا ربطته مع أن زيادة راويهما يعني: الحسن والصحيح مقبولة، تبين لك أن كلمة ثقة هذه راجعة إلى راوي الصحيح، وأن كلمة صدوق راجعة إلى راوي الحديث الحسن، فمجموع كلام الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في هذه المسألة في النخبة وشرحها، يبين أن كلمة صدوق عائدة إلى ... ؛ لأنها هذه كلمة صدوق أن من قيل فيه صدوق فهو يحسن حديثه وهو مقبول.
مة ثقة يصحح حديثه، وهو داخل تحت لفظ المقبول، والدليل الثالث: التطبيق العملي لهذه القاعدة من قبل الحافظ ابن حجر نفسه، فهناك أحاديث كثيرة حسنها الحافظ ابن حجر- رحمه الله- ،فإذا فحصت رجالها وجدت أن فيهم من وصفه الحافظ بأحد هذه الأوصاف الثلاثة، فمثلا حديث بريدة وقوله- صلى الله عليه وسلم-: " عليكم هديا قاصدا " .
هذا الحديث حكم عليه الحافظ ابن حجر بأنه حديث حسن، وإذا فتشت عن رجال إسناده وجدت أنهم ثقات، إلا عيينة بن عبد الرحمن بن جوشن الغطفاني، فإن هذا إذا راجعت ترجمته عند الحافظ وجدته يصفه بصدوق، فإذا ربطته بين هذه الكلمة أو بين هذا الرجل ووصف حاله بأنه صدوق، مع تحسين الحافظ ابن حجر للحديث وليس فيه راو غير ثقة إلا هذا الراوي .(1/71)
تبين لك أن كلمة صدوق عند الحافظ أو تدل على أن هذا الرجل حديثه حسن ، وكذلك أيضا حديث معاوية - رضي الله عنه - في تفرق هذه الأمة، هذا الحديث رجاله ثقات إلا الأزهر بن عبد الله الهوزني ،ومع ذلك حكم الحافظ ابن حجر على هذا الحديث بأنه حسن، والتحسين جاء؛ لأن هذا الراوي اللي هو عبد الله بن أزهر ؛ لأن الحافظ ابن حجر وصفه بأنه صدوق، فإذا ربطت صدوق مع تحسين الحديث، ظهر لك أن كلمة صدوق عند الحافظ ابن حجر -رحمه الله- تدل على تحسين حديث هذا الراوي.
وكلمة لا بأس به، أو ليس به بأس، الحافظ ابن حجر جمعها مع كلمة صدوق في هذه المرتبة، فهي والصدوق فكلمة صدوق، ولا بأس به، وليس به بأس، هذه درجة واحدة، فإذا كان يحسن للصدوق فهو أيضا يحسن لمن قيل فيه لا بأس به، أو ليس به بأس، وقد وقع التطبيق العملي لهذا من الحافظ ابن حجر- رحمه الله- في حديث " لعلكم تقرءون والإمام يقرأ "
هذا الحديث رجال إسناده ثقات إلا محمد بن أبي عائشة ،فإن الحافظ ابن حجر قال فيه: ليس به بأس، فهذا تطبيق عملي من الحافظ ابن حجر أيضا هذه المرتبة، أو لهذه اللفظة هي أن لفظة ليس به بأس تعطي تحسين حديث الراوي، وهذه النتيجة أشار إليها باقتضاب ولم يذكر أمثلة عليها الشيخ أحمد شاكر في الباعث الحديث، مال إلى هذا، وإن كان أهل هذه المرتبة وهي الصدوق، أو لا بأس به، أو ليس به بأس أصحابها ممن يعني: يحسن حديثهم، والانتقاد الذي وجه إلى الشيخ أحمد شاكر في استظهاره لهذا الأمر في غير محله، كما تقدم لكم من بيان الأمثلة والتطبيقات العملية للحافظ ابن حجر في هذا الباب كثيرة القيد.(1/72)
والأمر الثالث: مما يستعان به على معرفة من يحسن حديثه الراوي الذي يصفه الحافظ الذهبي بأنه صدوق أو صالح الحديث، فهاتان المرتبتان عند الحافظ الذهبي يحسن حديثهما، لكن ينبغي أن ينتبه في الحافظ ابن حجر والحافظ الذهبي -رحمهما الله- أنا نشترط أن تكون هذه العبارات عبارة الحافظ نفسه، لا منقولة عن غيره، فلو نقل لنا الذهبي عن ابن معين أنه قال: ليس به بأس، أو نقل لنا عن ابن أبي حاتم أنه قال: صدوق أو غيرهما من الأئمة .
فهذه الأحكام المذكورة لا تأتي هنا، وكذلك الحافظ ابن حجر، وإنما يعني: به من تلخص من حاله للحافظ ابن حجر بأنه صدوق، أو لا بأس به، أو ليس به بأس، أو تلخص من حال الرجل للحافظ الذهبي بأنه صدوق، أو صالح الحديث وليس منقولا عن غيرهما من الأئمة الحفاظ والمرتبة أو هذا الكلام اللي هو إن من وصفه الحافظ الذهبي بأنه صدوق أو صالح الحديث هذا التطبيق العملي في كتب الذهبي ظاهر جدا .
فمثلا: يونس بن بكير حكم عليه في موضع أنه صدوق، ثم جاء في الكتاب الآخر وقال: حسن الحديث، فإذا ربطت بين هذه وهذه، تبين لك صدوق هي معنى حسن الحديث، وإذا قال الذهبي حسن الحديث، فإننا نصرفه على ما قرره من خفة ضبط راوي الحسن وتقاعده عن رتبة راوي الصحيح، مع ارتفاعه عن رتبه راوي الحديث الضعيف.
وكذلك في ترجمة الهوزني المتقدمة، ذكر الحافظ الذهبي -رحمه الله- أنه صدوق، ثم جاء في كتاب آخر وقال: إنه حسن الحديث، وفي ترجمة يحيى بن يمان العجلي ذكر في موضع: إنه صالح الحديث، ثم قال في موضع آخر: وحديثه من قبيل الحسن، فهذه التطبيقات العملية وهي كثيرة جدا من الحافظ الذهبي- رحمه الله-، تعطي أن هاتين اللفظين من وصف، أي رجل يصفه الحافظ الذهبي بأحدهم، أو بهما فإن حديثه يكون حسنا، وهذه كما تقدم يستعان بها عند عدم القدرة على الترجيح بين كلام الأئمة .(1/73)
والأمر الرابع: وهو قاعدة ذكرها التهانوي في "علوم الحديث" وعليها تطبيقات لأهل العلم، وهي أن الرجل المختلف فيه، أو الراوي المختلف فيه بين التوثق والتضعيف يحسن حديثه، إذا اختلف في الراوي بين التضعيف والتوثيق، فإنه يحسن حديثه، وهذا الكلام ليس على إطلاقه، لكن ينبغي تقييده بشرطين .
الشرط الأول: أن يكون كل من الجارح والمعدل ممن له اعتبار في هذا الشأن، فإذا قابل قول أبي زرعة يضعف رجلا، وأحمد يوثق رجلا، مثل هذا يحسن حديثه، لكن إذا كان المجرح أو الموثق ليس له اعتبار عند الشأن وخالف الأئمة، فإن قوله يعتبر شاذا، ولا التفات إليه، كما لو وثق الأزدي رجلا قد ضعفه الأئمة، فلا التفات إلى توثيقه، أو ضعف رجلا وثقه الأئمة، كذلك فلا التفات إلى تضعيفه.
لو ثنا يوسف بن عبد الرحمن بن خراش، فإنه لا يلتفت إليه، وكذلك ما يصنعه ابن حزم أحيانا، من أنه يخالف الأئمة فيضعف رجلا اتفقوا على توثيقه، أو العكس فها هنا لا التفات؛ لأنه لا اعتبار لهذه الأقوال أو لأقوال هؤلاء، أو من كان مثلهم مع كلام الأئمة، وإنما المعتبر في هذا الباب كلام الأئمة، فهذا الشرط الأول: أن يكون الجارح والمعدل ممن لهم اعتبار في هذا الباب، ومن أئمة الشأن .
والأمر الثاني: ألا يكون هناك مرجح ظاهر قوي لأحد الجانبين، إما جانب التضعيف أو جانب التوثيق، بل يكون الأمر مترددا ولا مرجح.
أما إذا وجد مرجح لأحد الجانبين، فإنه يحكم للجانب المرجح، أو الجانب الذي جاء له ما يرجحه مجيئا ظاهرا، فمثلا أحمد بن صالح هذا وثقه جمهور العلماء وضعفه النسائي- رحمه الله-، وإذا اطلعت على كلام أهل العلم، وجدت أن كلام الحافظ النسائي فيه تحامل وتعنت على أحمد بن صالح؛ لكونه أبعده من مجلسة، فهنا المرجح الظاهر لكلام الجمهور.
أولا: لأن هذا الرجل واسع الرواية جدا، وبعد سبر مروياته من قبل الأئمة، تبين أن ليس له مناكير تذكر، مع سعة روايته.(1/74)
والثانية: أن الإمام البخاري اعتمده في الصحيح وخرج عنه كثيرا في الاحتجاج.
والثالث: أن كلام الحافظ أو كلام النسائي في هذا الرجل من باب التعنت والتحامل، ولا وجه له، وحينئذ في مثل هذه الحالة ها هنا يرد كلام أهل العلم بمطالبتهم بتفسير الجرح، والحافظ النسائي ليس عنده جرح مفسر ظاهر، ينزل به هذه الرجل عن هذه المرتبة، بل إن العلماء وصفوا هذا الرجل بأنه ثقة حافظ، وهذه من أعلى مراتب التوثيق.
وكذلك مثلا الوليد بن شجاع اختلف الأئمة فيه، ولكن هناك مرجح ظاهر لتوثيقه، وهو أن الحافظ أو الإمام ابن معين- رحمه الله- ذكر: أنه يروي عن شيوخ ثقات مائة ألف حديث، فإذا قرنت هذا، مع قول الذهبي، وقل أن يوجد له حديث منكر مع سعة روايته، دل كذلك على أن كلام من تكلم فيه، فيه تشدد وغلظة ،لا يصلح مع هذا الكلام، وهو كلام الحافظ الذهبي، وتقريره بأنه قل أن يوجد له حديث منكر.
وقد تقدم لنا في الكلام على الثقة أنه، ليس من شرط الثقة ألا يخطئ، بل الثقة يقع منه الخطأ، لكن يكون هذا الخطأ على وجه القلة والندرة ،في المقابل إذا وجدنا في الرجل ما يرجح أنه ضعيف، وكان هذا الترجيح ظاهرا، حكمنا عليه بأنه ضعيف، مثل المؤمل بن إسماعيل هذا اختلف أهل العلم منهم من يوثقه، ومنهم من يضعفه.
لكن إذا نظرنا إلى المرجح الظاهر في تضعيفه لوجدنا أنه مرجح قوي، هذا المرجح ما هو؟ المرجح هو: أن سليمان بن حرب، وهو مشارك له في الطبقة وفي الأخذ عن الشيوخ، ذكر: إن مؤمل بن إسماعيل يروي عن شيوخهم الثقات المناكير، وهذا يدل على أن الكلام، أو أن ضبط المؤمل بن إسماعيل هو الذي حصل فيه أن هذا الخطأ.(1/75)
وهذه المناكير إنما هي من قبل ضبط المؤمل بن إسماعيل، فكان هذا قولا فصلا في حال المؤمل بن إسماعيل ممن عرفه وعرف شيوخه؛ لأن سليمان بن حرب وهو ثقة حافظ يعرف ما يرويه شيوخه، وهؤلاء الشيوخ شيوخ المؤمل بن إسماعيل، فكون المؤمل بن إسماعيل يروي أحاديث مناكير عن هؤلاء الشيوخ لا يرويها إلا هو، يدل على أن ضبطه فيه أو حفظه فيه شيء، وأن رواية هذه المناكير جاءت من قبل سوء حفظه، فترجح فيه جانب الضعف ،فهذا لا يحكم لحديثه بأنه حسن.
وإنما يحكم له بأنه ضعيف، بخلاف المثالين السابقين، يحكم لحديثهما بأنه صحيح ،ولا يقال بأنه حديث حسن، وهذا طبعا الكلام كله باعتبار الناظر في أحوال الرجلين، وليس على سبيل العموم؛ لأنه قد يظهر لأحد الأشخاص أن- مثلا- حديث المؤمل حسن، أو أن حديث الوليد بن شجاع حسن أو غير ذلك، فالشاهد أن هذا الكلام إنما هو باعتبار الناظر في أقوال المجرحين والمعدلين.
فهذه بعض الضوابط التي قد يستعان بها على فهم أو معرفة من خف ضبطه، وهذه القاعدة الرابعة بالذات لها تطبيق عملي كثير عند الذهبي وعند الحافظ ابن حجر، وعند ابن القطان الفاسي وعند الحافظ المنذري وعند البوصيري في" مصباح الزجاجة" ،وقد أكثر من ذلك وعلل كثيرا بالاختلاف، علل تحسين الراوي بكونه مختلفا فيه، ومن أراد أن يطالع" مصباح الزجاجة" يجد ذلك ظاهرا جليا، والله تعالى أعلم.
س: هذا السؤال عن المعنعن، وسيأتي- إن شاء الله- في مبحثه ، هذا السؤال عن الفرق بين الحسن لذاته وبين الصحيح لغيره.
ج: الصحيح لغيره، كما مر معنا التمثيل أنه في أصله حسن لذاته ؛لأن راويه خف ضبطه، فإذا جاء حديث آخر في منزلته يعني: حسن لذاته أو أعلى منه صحيح، فإننا نرقيه إلى الصحيح لغيره، فهذا هو الفرق بينهما.
س: هذا السؤال عن أنه مبتدئ في طلب العلم، أو في طلب علم مصطلح الحديث، فبأي المتون يبدأ ؟
ج: هو جرت العادة أن أهل العلم يبدءون بالبيقونية، ثم بالنخبة مع شرحها النزهة .(1/76)
س: هذا السؤال يقول: هل هناك حديث حسن فقط، أم إن الحديث لا بد أن يكون حسنا لذاته، أو حسنا لغيره ؟
ج: سبق أن الحسن، هذا لفظ عام يشمل الحسن لذاته، ويشمل الحسن لغيره، وإذا أطلقوا حسن، تارة تنصرف إلى الحسن لذاته إذا ما قيدوها، وتارة تنصرف إلى الحسن لغيره، وهذا يظهر بقرائن الأحوال إذا عددوا الطرق وكان فيها ضعف، ثم حكموا عليه بأنه حسن، فهذا يكون حسنا لغيره، وأما إذا أوردوه من طريق أحد وقالوا بأنه حسن انصرف إلى الحسن لذاته .
س: يقول هذا هل يؤخذ جرح البخاري في الإمام أبي حنيفة؟
ج: أولا: الإمام أبو حنيفة- رحمه الله- هو من الفقهاء، وليس من المحدثين، والأئمة أحمد والشافعي ومالك، هؤلاء من فقهاء المحدثين، وإن كان الإمام أحمد والإمام مالك أقرب من الإمام الشافعي، وكلهم محدث وفقيه، وأما الإمام أبو حنيفة -رحمه الله-فهو فقيه وليس بمحدث والأئمة- رحمهم الله-،أو كثير من أئمة الحديث إن لم يكن جملتهم ولم يوثقه إلا ابن معين- رحمه الله- فهو في الحديث ضعيف، في الحديث لا يقبل حديثه إذا تفرد به.
وقد ثبت بالسند الصحيح عنه- رضي الله عنه- عن أبي حنيفة أنه ذكر عن نفسه: أنه لا يضبط الأحاديث ولا يحفظها، والحافظ بن عدي- رحمه الله- ذكر أن الإمام أبا حنيفة يروي ثلاث مائة حديث لم يسلم له منها إلا ثلاثة عشر حديثا هي الصحيحة، ومن كان هذا حاله، فلا شك أن حديثه ضعيف، ولكن هذا لا يقدح في الإمام أبي حنيفة في فقه أبي حنيفة، ومعرفته بالدين والشريعة؛ لأن أهل العلم يرون أن الإمام وإن كان مجتهدا، فيجوز له تقليد غيره في تصحيح الأحاديث وتضعيفها.(1/77)
والأئمة من السابق كانوا يسألون عن صحة الحديث وضعفه، ويسألون عن الرجال ولو نظرتم إلى السؤالات الموجودة، سؤالات أبي داود للإمام أحمد، سؤالات الحاكم للدار قطني، وسؤالات البرقاني للدار قطني وغيرها من السؤالات، كلها سؤالات من أئمة وحفاظ يسألونها، أو يسألون عنها أئمة أيضا حفاظا، ولم يقدح ذلك في مراتبهم، والعلماء جرت طريقتهم على الاتباع في هذا الشأن اتباع الأئمة الحفاظ.
فعلى بن المديني كثيرا ما يتبع شيخه يحيي بن سعيد القطان، وكذلك الإمام البخاري يتبع أحيانا شيخة علي بن المديني، وكذلك أبو داود يتبع شيخه الإمام أحمد وكذلك الترمذي يتبع شيخه الإمام البخاري، يسألونهم عن الأحاديث والرجال، ويأخذون بأحكامهم والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
نقد قول الترمذي حديث حسن صحيح
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين قال الذهبي- رحمه الله تعالى-: وقول الترمذي هذا حديث حسن صحيح عليه إشكال؛ لأن الحسن قاصر عن الصحيح ففي الجمع بين السمتين لحديث واحد وأجيب عن هذا بشيء لا ينهض، وأن ذلك راجع إلى الإسناد، فيكون قد روى بإسناد حسن وبإسناد صحيح، وحينئذ لو قيل حسن صحيح لا نعرفه إلا من هذا الوجه لبطل هذا الجواب، وحقيقة ذلك أن لو كان كذلك أن يقال حديث حسن وصحيح، فكيف العمل في حديث يقول فيه حسن صحيح لا نعرفه إلا من هذا الوجه، فهذا يبطل قول من قال أن يكون ذلك بإسنادين .
بسم الله الرحمن الرحيم(1/78)
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، تقدم فيما مضى اختلاف أهل العلم في حد الحديث الحسن، ومن ضمن الأقوال التي أوردها المؤلف في حد الحديث الحسن، قول الإمام الترمذي- رحمه الله-: وتبين به أنه يشترط ثلاثة شروط في الحديث الحسن، فدل ذلك على أن الحديث الحسن دون الحديث الصحيح ؛لأن الحديث الصحيح كما سبق لنا قد أجمع أهل العلم على أنه لا بد أن تتوافر فيه خمسة شروط.
والترمذي -رحمه الله- -رحمه الله- جاز في الحديث الصحيح على اصطلاح المحدثين، وكونه يشترط شروط للحديث الحسن، يدل على أنه مغاير للحديث الصحيح، وهذه الشروط التي اشترطها في الحديث الحسن تدل على أنه دون الحديث الصحيح، بل دونه بمراحل، ومن هنا استشكل بعض أهل العلم قول الترمذي- رحمه الله- على بعض الأحاديث حسن صحيح؛ لأن كلمة حسن تقتضي أن يزول عن رتبة الصحيح.
وكلمة صحيح فوق كلمة حسن، فهو جمع في هذا الوصف، أو في هذا الحكم بين مرتبتين، أو بين وصفين بينهما اختلاف كبير، أحدهما أدنى والآخر أعلى، وقد تعددت أجوبة أهل العلم عن هذا الجمع بين الحسن والصحة في حديث واحد، وقد ذكر المؤلف- رحمه الله- بعض هذه الأقوال، فأحد هذه الأقوال أن يكون الحديث له إسنادان، إسناد حسن وإسناد صحيح، فهو حسن باعتبار إسناد، وصحيح باعتبار إسناد آخر.
ثم أبطل المؤلف هذه الوجهة؛ لأن هناك أحاديث حكم عليها الترمذي بأنها حسنة صحيحة لا تعرف إلا من هذا الوجه، وقوله: لا تعرف إلا من هذا الوجه عن الحديث، يدل على أنه ليس له إسناد إلا واحد، فإذا قلنا إن الترمذي يحكم على الحديث بكونه حسنا صحيحا باعتبار إسنادين، جاءتنا هذه اللفظة، وهي قوله حسن صحيح لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، ولو كان مراده حسنا بإسناد صحيحا بإسناد، كانت هذه العبارة وهي قوله: لا نعرفه إلا من هذا الوجه مبطلة لهذا الأمر.(1/79)
وإبطال هذه الوجهة بهذا القول فيه ظهور، إلا أن أيضا عليه إشكالا، وهو أن هناك وصفين، حسن صحيح، وحسن صحيح لا نعرفه إلا من هذا الوجه، والذين قالوا: إن قوله حسن صحيح أي بإسناد حسن بإسناد واعتبار بإسناد آخر، قد لا يلزمهم هذا الاعتراض؛ لأن هذه لفظ مركب من شيئين، والآخر لفظ مركب من ثلاثة أشياء، وهم إنما حكموا على ما ركب من شيئين وهو الحسن والصحة .
ويسوغ أن يكون مراده بالحسن المعنى اللغوي لا الاصطلاحي، وهو إقبال النفوس وإصغاء الأسماع إلى حسن متنه وجزالة لفظه، وما فيه من الثواب والخير فكثير من المتون النبوية في هذه المثابة، قال شيخنا: ابن وهب فعلى هذا يلزم إطلاق الحسن على بعض الموضوعات، ولا قائل بهذا .
يعني: أن قوله: حسن صحيح إحداهما أو إحدى هاتين اللفظتين راجعة إلى المتن بمعناها اللغوي، والأخرى راجعة إلى اصطلاح أهل الحديث وهو الصحة، يعني: اختفاء الحديث شروط الصحة، فعلى هذا يكون المراد، يعني: أن الحديث صحيح ومتنه فيه حسن، وجمال باعتبار اللغة ثم نقل عن شيخة ابن دقيق العيد ما يبطل هذا القول، وهو أن بعض الأحاديث الموضوعة يكون في متنها حسن وجمال.
ثم إنه أيضا لو أخذ بهذا الأمر اللغوي، للزم عليه أن تكون كل أحاديث النبي- عليه الصلاة والسلام- توصف بالحسن، فالغريب- مثلا- يكون حسنا على هذا، والصحيح يكون حسنا، ويكون هناك حسن، حسن لأنه حسن بإسناد، وحسن من ناحية اللغة، ثم إن هذا القول خلاف ما يبحث فيه أهل العلم؛ لأن الإمام الترمذي إنما يبحث أو يعلق عليها باصطلاح من اصطلاحات أهل العلم.(1/80)
وهذا الاصطلاح أو هذه اللفظة إطلاقها من الحافظ الترمذي -رحمه الله-، ليس هو أول من قال بها وإنما سبقه غيره، كعلي بن المديني وآخرون، سبقوه إلى إطلاق هذه اللفظة، فيلزم عليه أن أهل الفن يطلقون هذه اللفظة ويريدون بها الحسن اللغوي، وهذا خلاف الظاهر لأن جميع الأحكام التي أوردها الترمذي في صحيحه أو في جامعه، إنما أراد بها اصطلاح أو بيان اصطلاح أهل الفن وأحكامهم على هذه الأحاديث.
والحافظ بن كثير- رحمه الله- يرى أن قوله: حسن صحيح مرتبة متوسطة بين الصحة والحسن، فيكون عنده أو تكون الأحاديث عنده مراتب الصحيح، ثم الحسن الصحيح، ثم الحسن ثم الضعيف، ويكون هذا كقولهم: في المز حامض حلو، فهو مشوب بالحلاوة والحموضة، والحديث الذي يقال فيه حسن صحيح، كأنه جمع بين الحسن من جهة وبين الصحة من جهة فتجاذبه الطرفان.
وهذا الكلام الكلام، كلام غير صحيح، كما نص عليه الحافظ بن رجب- رحمه الله-، أو كلام بعيد؛ لأن هناك أحاديث رويت بأسانيد وصفت بأنها أصح الأسانيد، كمالك عن نافع عن ابن عمر والزهري عن سالم عن أبيه، ومع ذلك قال فيها الترمذي: حسن صحيح، قال عن سندها حسن صحيح، وهذه الأسانيد التي وصفت بأنها أصح الأسانيد، هذه مرتفعة عن رتبة الحسن وبالغة رتبة الصحة، بل بالغة أعلى مراتب الصحة، كما تقدم معنا فليست مشوبة بحسن ،كما ذكرها الحافظ بن كثير- رحمه الله تعالى- .
والحافظ ابن حجر يرى أن قوله: حسن صحيح هذا ينصرف على وجهين: إن كان الإسناد أو الحديث الوارد في السنن له إسناد، فكلمة حسن صحيح راجعة إلى هذين الإسنادين، فيكون إسناد منها حسنا، وإسناد منها صحيحا، وإن لم يكن للحديث إلا إسناد واحد .(1/81)
فيكون المعنى أن الإمام الترمذي- رحمه الله- متردد في الحكم على الحديث، هل هو حسن ؟، أم قد بلغ رتبة الصحة ؟ فقوله: حسن صحيح، هذا إشارة إلى أن هناك اختلافا في هذا الحديث، هل هو يبلغ درجة الصحة؟، أو هو باق على الحسن؟ وهذا كلام كله بعيد، والأظهر ما تقدم لكم أن اصطلاحات الترمذي فيها ما هو مفرد، وفيها ما هو مركب، وفيها ما شرحه المؤلف، وفيها ما لم يشرحه المؤلف.
وسبق لنا أنه بين لنا معنى الحسن ومعنى الغريب، فهذه إذا وردت أو فهذان إذا وردا مفردين، وجب أن نفسرهما بما فسرهما به المؤلف- رحمه الله-، وأما إذا ورد لفظه المركب من هذين اللفظين أو من واحد منهما وغيره من الألفاظ الأخر، فلا ينبغي أن نحمل اللفظ المركب على الألفاظ المفردة التي شرحها المؤلف، ونجزم بأن هذا مراد المؤلف، وهذه المسائل، أو اصطلاحات الإمام الترمذي- رحمه الله- كل من تكلم عليها، وجه باعتراض وانتقاد ونقد لما قال ولم يتحرر منها شيء إلى هذه الساعة .
ثم قال: فأقول لا يشترط في الحسن قيد القصور عن الصحيح، وإنما جاء القصور إذا اقتصر على حديث حسن فالقصور يأتيه من قيد الاقتصار، لا من حيث حقيقتة وذاته .
يعني: أن الحديث إذا وصف بأنه حسن فقط مفردا، ها هنا يأتي القصور، وأما إذا جمع قوله حسن صحيح، فها هنا لا يأتي القصور؛ لأن القصور إنما هو مقيد بلفظ الحسن فحسب كما شرح المؤلف -رحمه الله- الترمذي اصطلاحا. نعم.
ثم قال فللرواة صفات ، تقتضي قبول الرواية ولتلك الصفات درجات بعضها فوق بعض كالتيقظ والحفظ والإتقان فوجود هذه الدرجة الدنيا كالصدق مثلا وعدم التهمة لا ينافيه وجود ما هو أعلى منه من الإتقان والحفظ فإذا وجدت الدرجة العليا لم يناف ذلك وجود الدنيا كالحفظ مع الصدق فصح أن يقال حسن باعتبار الدنيا، صحيح باعتبار العليا ويلزم على ذلك أن يكون كل صحيح حسنا، فيلتزم ذلك وعليه عبارات المتقدمين، فإنهم قد يقولون فيما صح هذا حديث حسن .(1/82)
ها هنا رأى لابن دقيق العيد - رحمه الله- وهو أن من قيل فيه حسن صحيح، هذه اللفظة لها اعتباران، اعتبار الصفة الدنيا في الراوي راوي الحديث المقبول والصفة العليا فيه، وتقدم معنا أن راوي الحديث الحسن- في كلام ابن الصلاح يكون مشهورا بالصدق والأمانة، لكن قد يكون في حفظه شيء، فالراوي الثقة من شروطه أن يكون مشتهرا بالصدق والأمانة، وهى معنى العدالة، لكن كوننا نشترط أنه يكون صادقا أمينا، لا ينافي أن نشترط أن يكون حافظا ضابطا لما يقول، فتجتمع الصفة الدنيا والصفة العليا في هذا الراوي، فيقال حسن صحيح، وهذا الكلام فيه تكلف ظاهر. نعم.
نماذج من مراتب الحديث الحسن
فأعلى مراتب الحسن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، ومحمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة، وابن إسحاق عن محمد بن إبراهيم التيمي وأمثال ذلك .
هذه المراتب من أهم ما يذكر في مبحث الحديث الحسن ،فقد تقدم لنا كلام المؤلف حول مراتب الصحيح، وقد قسمها هناك ثلاثة أقسام، أو رواة الصحيح قسمهم إلى ثلاث مراتب، والمرتبة الثالثة: من مراتب الحديث الصحيح، ذكر أنها تصلح أن تكون المرتبة الأولى من مراتب الحسن.
لكن لما جاء ها هنا في مبحث الحسن، كأن المؤلف استقر اصطلاحه على أن تلك المراتب خاصة بالصحيح، وأن ما كان أدنى من المرتبة الثالثة الذي قد نجعله مرتبة رابعة هو مبتدأ الحديث الحسن، وتردد المؤلف ها هنا إنما جاء لتردده في دخول الحسن في الصحيح ، هل هو آخر مراتب الصحيح ؟، أو هو مرتبة مستقلة كما سبق بيانه، ولو تأملنا في هذه المرتبة التي ذكرها المؤلف- رحمه الله- جعلها من أعلى مراتب الحسن، لوجدنا أن أهل هذه المرتبة ليس فيهم أحد مطعون في عدالته، إلا ابن إسحاق- رحمه الله- .(1/83)
وهذا الطعن الطعن أو الطعن المتجه أو الموجه إلى عدالته من قبل بعض أهل العلم ،هذا غير وجيه، وعبارة الطاعن محتملة؛ لأن هشام بن عروة طعن عليه أو كذبه؛ لأنه كان يزعم أو كان يروي عن امرأته، عن امرأة هشام بن عروة، كان ابن إسحاق يروي عن امرأة هشام بن عروة فكذبه هشام؛ لأنه يظن أنه كيف يروى عن امرأته ولم يرها، وقد رد ذلك أهل العلم من الإمام أحمد ومن بعده؛ لأن الراوية لا يلزم منها الرؤية فلا تلازم بين الرواية والرؤية .
ولهذا كانت عائشة وغيرها من الصحابيات يحدثن أصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم- ومن بعدهم من التابعين من وراء حجاب، فامرأة هشام بن عروة حدثت ابن إسحاق من وراء حجاب، وأما من جاء بعد هشام بن عروة، مثل يحيى بن سعيد والإمام مالك وغيرهم، فهؤلاء تكذيبهم لابن إسحاق ليس مبنيا على دليل ظاهر واضح، إما أن يكون بسبب التحامل والشحناء التي كانت بين الإمام مالك وابن إسحاق ،أو يكون بسبب كثرة مرويات ابن إسحاق عن أهل الكتاب، وهو له حجة فيما يصنع وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - : " حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج " أو لأن ابن إسحاق كان يدلس عن مجهولين ويأتي بغرائب، أو أن من جاء بعد هشام بن عروة قد قلد هشام بن عروة- رحمه الله-.
فالشاهد أن كل أهل هذه الطبقة لم يثبت، أو لم يطعن أحد منهم في عدالته، اللهم إلا ابن إسحاق، والطعن في عدالته مدفوع، ولهذا الخطيب البغدادي- رحمه الله- ذكر أن الصدق عن ابن إسحاق ليس بمدفوع، يعني: أن الصدق ثابت له- رحمه الله-، فالطبقة هذه تشترك في كون أصحابها ذوي عدالة، وهذا هو شرط لا بد من توافره في الحديث الحسن، أو في راوية الحديث الحسن .(1/84)
والشرط الثاني: الذي اشتركت فيه هذه المجموعة، أننا لو اطلعنا على تراجمهم لوجدنا أن كل راو من هؤلاء الرواة الأربعة فيهم اختلاف، بهز فيه خلاف ، عمرو بن شعيب فيه خلاف ، ابن إسحاق فيه خلاف ، محمد بن عمرو بن علقمة فيه خلاف، فهؤلاء كل واحد منهم فيه خلاف.
لكن هذا الخلاف خلاف قوي بين الأئمة، فمنهم الموثوقون، بل بعضهم يوصف بأعلى درجات التوثيق، كما قال شعبة في محمد بن عمرو بن علقمة، ومحمد إسحاق وصف كل واحد منهما بأنه أمير المؤمنين في الحديث، وهناك من ضعفهم، لكن التضعيف الوارد في شأنهم ليس شديدا فهم حالهم دائرة بين التوثيق وبين التضعيف، والتضعيف لم يضعفهم أحد تضعيفا شديدا، وهذه النقطة مهمة؛ لأنه إذا ضعف الراوي تضعيفا شديدا دل على كثرة المناكير في حديثه، وعدم ضبطه وإتقانه.
أما أصحاب هذه المرتبة لم يطعن في أحدهم من جهة حفظه بطعن شديد ، والخلاف -كما سبق- في التوثيق قائم، والمرجحات في جانب التوثيق أقوى، لكن ليس مجزوما بها ، التوثيق أو المرجحات في جانب التوثيق في هؤلاء أقوى، لكن ليست قاطعة، ولو كانت قاطعة لانتقلوا إلى رتبة الثقة، ولو كانت المرجحات إلى جهة الضعف قاطعة، لنزلوا إلى رتبة الضعيف، لكن المرجحات ها هنا ليست قاطعة جازمة لارتقائهم إلى درجة الصحيح.
والمرجحات في جانب التوثيق أقوى ، لكن ليس مجزوما بها، توثيق في جانب أو المرجحات في جانب، التوثيق في هؤلاء أقوى، لكن ليست قاطعة، ولو كانت قاطعة لانتقلوا إلى رتبة الثقة، ولو كانت المرجحات إلى جهة الضعف قاطعة، لنزلوا إلى رتبة الضعيف، لكن المرجحات ها هنا ليست قاطعة جازمة بارتقائهم إلى درجة الصحيح.(1/85)
وبناء على هذا جعلهم المؤلف -رحمه الله- رتبة أولى من مراتب الحديث الحسن لذاته، وهذا قد يمشي على القاعدة الرابعة التي ذكرت يوم أمس، وهو أن الراوي إذا كان مختلفا فيه، قد وثقه أئمة معتبرون، وضعفه آخرون معتبرون، ولم يكن هناك مرجح قوي، فإنه يصار إلى التحسين.
فهذه الأمثلة قد يمثل للقاعدة بها، قد يمثل للقاعدة السابقة بهذه الأمثلة، وهو ظاهر من الاطلاع على أحوال الرواة؛ ولهذا بعض من تقدم ذكرهم من أهل العلم ممن عمل بهذه القاعدة تراهم يحسنون لهؤلاء المذكورين؛ لأنه يتمشى مع هذه القاعدة، قد سبق لنا، تقدم في يوم أمس أن هذه القاعدة يعمل بها الذهبي وابن حجر وابن القطان والبوصيري، ومن المعاصرين الشيخ العلامة ناصر الدين الألباني جاء في حديث عبد الله محمد بن عقيل فقال حسن للاختلاف في عبد الله بن محمد بن عقيل.
الشاهد أن هذه القاعدة معمول بها في الماضي وفي الحاضر، وهي مع عدم المرجح القاطع لأحد الوجهين، تعمل أقوال الأئمة كلهم، وردُّ بعض الأقوال بدون دليل خطأ، كما أن رد التضعيف أو رد التوثيق بدون دليل هذا خطأ، وكذلك عدم اعتبار أقوال الأئمة بدون دليل ظاهر -أيضا- يعتبر إهمالا وتقصيرا.
فهذه المرتبة يظهر أنها تصلح أو أهلها يصلحون أن يمثل لهم أو أن ينزلوا على المرتبة أو على الضابط أو الأمر الرابع الذي ذكرناه يوم أمس، فأهل هذه المرتبة يقاس عليهم من كان مثلهم، ممن جمع هذه الأوصاف وهي: سلامة العدالة، واختلاف أهل العلم في تضعيفهم وتوثيقهم مع سلامتهم من الوصف بالضعف الشديد، وكون القائلين بالتوثيق جماعة من الحفاظ المعتبرين، والقائلين بالتضعيف جماعة من الحفاظ المعتبرين، وهؤلاء أيضا، أهل هذه المرتبة لو تتبعنا تراجمهم لوجدنا بعض أهل العلم يجعلهم في مرتبة وسط، لا ضعاف ولا ثقة، وهذه حال الحسن.(1/86)
وأهل هذه المرتبة أيضا لو اطلع على حالهم في تراجمهم لوجدنا أن الأئمة الحفاظ ... تجد لبعض النقاد من أئمة الجرح والتعديل تجد له قولين في الرجل؛ تارة يضعفه وتارة يصحح حديثه، فمثلا: محمد بن عمرو بن علقمة ترك يحيى بن سعيد القطان الرواية عنه، لظهور ضعفه عنده أولا، ثم عاد فروى عنه، ويحيى بن سعيد لم يعد للرواية إلا لأنه كان له وجهة أخرى فيه، والإمام أحمد -رحمه الله- لما جاء في حديث عمرو بن شعيب قال كانوا -يعني: أهل الحديث- إذا شاءوا أخذوا بروايته، وإذا شاءوا تركوا؛ وهذه المشيئة ليست مفوضة إلى اختيار الإنسان وهواه، وإنما مراد الإمام أحمد -رحمه الله- أن أهل الحديث تارة يظهر لهم أن هذه الرواية صحيحة، فيعملون بها، وتارة يظهر لهم أن هذه الرواية غير صحيحة، فلا يعملون بها فهم مترددون فيها.
وهذا كما سبق لنا أن الحسن من شأنه أن يتردد فيه الحافظ، وأن يتردد فيه أيضا الحفاظ؛ يتردد فيه الحافظ في نفسه ويتردد فيه الحفاظ فيما بينهم، وهذه التراجم من اطلع عليها وجد أنها، أن سمات الحديث الحسن لذاته وأوصافه التي ذكرها أهل العلم -غالبا- أو تنطبق على هذه التراجم على هذه التراجم التي أوردها المؤلف، نعم .
وهو قسم متجاذب بين الصحة والحسن، فإن عدة من الحفاظ يصححون هذه الطرق، وينعتونها بأنها من أدنى مراتب الصحيح .
فقوله: متجاذب بين الحسن والصحيح، هذا فيه يعني: باعتبار الأغلب، وإلا هي -أيضا كما سبق- متجاذبة بين التصحيح والتحسين والتضعيف، لكن لما كان التضعيف ليس جديدا، وأمر الرجل مقوم من جمع من الحفاظ، ووصف بأنه... أو وصف بالمرتبة الوسطى بين المرتبتين صح أن يطلق مثل هذا الاعتبار مثل هذا القول على اعتبار المرتبة التي سيوردها المؤلف بعد ذلك، نعم .
نماذج للحديث الحسن المتنازع فيها
ثم بعد ذلك أمثلة كثيرة يتنازع فيها بعضهم يحسنونها، وآخرون يضعفونها .(1/87)
المرتبة الأولى: قال يصححونها ويحسنونها، ولم يرد كلمة يضعفونها، وهذه المرتبة بالتحسين والتضعيف هذه المرتبة الأولى تجاذب بين التصحيح والتحسين، والمرتبة هذه التي أدنى منها تجاذب بين التحسين والتضعيف، ولا شك أن الرجل إذا تجاذبه التصحيح أو التحسين فمعناه أنه مقبول، لكن أي درجة يبلغ؟ هذا ما تحدده الترجيح، أما المرتبة الثانية في مسألة قبول وعدم قبول هل نقبل هذا الرجل أو لا نقبله؟ فلهذا كانت أدنى من المرتبة الأولى، فإذا قبلناه في المرتبة الأولى هو على كل حال مقبول، وأمره منته .
فأقل أحواله أن يكون حسن الحديث، لكن قد نرفعه عن هذه الرتبة. أما في المرتبة الثانية التي أوردها المؤلف، فهذا الرجل أو أهل هذه المرتبة إما أن نحكم بأنه ضعيف، أو نحكم بأنه حسن الحديث؛ فتارة قد يقبل وتارة قد يرد، نعم .
كحديث الحارث بن عبد الله ...
الحارث بن عبد الله الأعور الراوي عن علي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه- هذا جمهور العلماء على تضعيفه، ولم ينقل توثيقه إلا عن يحيى بن معين، فالجمهور متفقون على التضعيف، لكن درجة التضعيف ما هي؟ درجة التضعيف ما هي؟ هل هو ضعيف ضعفا شديدا؟ أو هو ضعيف أو هو كذاب؟.(1/88)
الجمهور على هذا، الجمهور على أنه ضعيف، والذي يظهر من حاله أنه ضعيف جدا، وأن الكذب هو ليس كذابا، وإن كان متهما، لكن لم يثبت عليه الكذب صراحة، وإن رماه الشعبي به؛ لأن أهل العلم يطلقون الكذب على الخطأ، والرجل عنده أخطاء كثيرة جدا في حديثه، وبخاصة عن علي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه- وعن ابن مسعود، فإن ابن عدي وهو من أهل الاستقراء ذكر أن عامة حديثه عن علي وعن ابن مسعود غير محفوظة، وهذا يعطيك أن الرجل رجل ضعيف في حفظه، وهذا الضعف شديد، ومن هنا أطلق أو كذبه بعض أهل العلم على أنه يأتي بأحاديث مناكير، وأحاديث يخالف فيها الثقات الأثبات؛ فمن هنا أطلق عليه الكذب، ولو لم يتعمد، والأظهر في حاله أنه ضعيف جدا، وكلام أهل العلم يدل عليه، والتمثيل به ها هنا كان الأولى العدول عنه والتمثيل بمن هو أولى منه. كما يأتي -إن شاء الله- في مبحث الضعيف الذي يلي هذا مثل لابن لهيعة، وابن لهيعة لو جاء به ها هنا أو جاء بفرج بن فضالة، ومثل لهم بالضعيف، لو جاء بهم ها هنا بدل الحارث الأعور لكان أولى وأسلم، نعم .
وعاصم بن ضمرة .
عاصم بن ضمْرة، وضمرة هذه كثير أو بعض الناس يخطئ في ضبطها ويقول ضمُرة، وإذا أراد الإنسان أن يعرف ضبطها ويتقنه فالعلماء يقولون هي على وزن جَمْرة وتمرة، فهو عاصم بن ضمرة على وزن تمرة وجمرة، فعاصم بن ضمرة ها هنا لم يقدح أحد في عدالته كما قدح في الحارث، وإنما الكلام متوجه إلى حفظه، والنقاد في حفظه على ثلاث مراتب، النقاد في حفظه على ثلاث مراتب:
منهم من يجعله كالحارث الأعور في فحش الغلط، ومنهم من يوثقه، ومنهم من يتوسط في أمره، نعم .
وحجاج بن أرطاة ...(1/89)
وحجاج بن أرطاة، أرطاة هذه مسهلة الهمزة ما ينطق فيه همزة في الوصل ما يقال أرطأة، أرطاة، فحجاج بن أرطاة هذا لم -يعني- يضعفه أحد في عدالته من جهة عدالته، وإنما جاء التضعيف فيه على ثلاث مراتب: التوثيق، والتوسط، والتضعيف، ولم يضعفه أحد تضعيفا شديدا، لم يضعفه أحد تضعيفا شديدا، فالناس فيه ثلاثة مذاهب:
التوثيق، والتحسين، والتضعيف، والذي يتجاذبه في الأقوى أمران: التوثيق، والتضعيف، نعم .
وخصيف .
وخصيف بن عبد الرحمن الجزري هذا العلماء فيه التوثيق، والتوسط والتضعيف، فهو ومن قبله والحجاج بن أعور لم يضعف فيه أحد منهم تضعيفا شديدا، ولم يقدح في عدالة واحد منهم، نعم .
ودراج أبي السمح وخلق سواهم .
ودراج بن سمعان أبو السمح هذا للعلماء فيه ثلاثة مذاهب: التوثيق، والتضعيف، والتضعيف الشديد، ولكن لم يطعن أحد في عدالته، فهذه المرتبة -أهل هذه المرتبة- لو لاحظنا الأوصاف التي يشتركون فيها لوجدنا أنهم يشتركون في أن كل واحد منهم موثق ومضعف، والتوثيق والتضعيف متقابلان على معنى أن الوسطية فيهم قليلة أن التوسط في أمرهم قليل، وأن الأكثر إما التضعيف وإما التوثيق، لكن... في هؤلاء المذكورين المضعفون أكثر لهم من الموثقين، المضعفون أكثر لهم من الموثقين، فوصف أهل هذه المرتبة غير الحارث الأعور، الحارث الأعور -كما قلنا- يستثنى من هذه المرتبة، وينزل إلى مرتبة الضعيف أو من دونه، وبقية أهل هذه المرتبة الوصف الجامع لهم سلامة العدالة، وأنهم يشتركون في أن كل واحد منهم ضعف ووثق، وأن جانب التضعيف أكثر، والمضعفون جدا منهم إذا قابلتها مع التضعيف وجدت أن كلمة التضعيف بغير شدة هي الأكثر من الأئمة.
لمهمة هي أن يضبط عليهم ما لم يذكر من الرواة، فيصير عندنا أهل هذه المرتبة موصوفون بسلامة العدالة، ويستثنى منهم الحارث الأعور، لا يورد على أهل هذه المرتبة؛ لأن إيراده في هذه المرتبة -يعني- فيه ما فيه، هذا واحد.(1/90)
والأمر الثاني: أن العلماء مختلفون في توثيقهم وتضعيفهم والكثرة على التضعيف. والثالثة أن التضعيف، أي تضعيف بعضهم ليس بشديد ومن ضعف منهم تضعيفا شديدا، فهو مقابل بتضعيف مطلق غير شديد، والأكثر على التضعيف المطلق غير الشديد. فكان أهل هذه المرتبة يجمعون هذه الأوصاف، ويقاس عليهم ما عداهم كما أن أهل المرتبة الأولى جمعت أوصافا إذا تحققت في أحد الرواة فإنه يلحق بهؤلاء، نعم .
وقال المصنف -رحمه الله تعالى-: الحديث الضعيف
بقي في الحديث الحسن قبل الشروع في الحديث الضعيف إن الحديث الحسن أو المؤلف مثل لنا بالأسماء، وما مثل لنا بالأحاديث في الحديث الحسن كما مثل في الضعيف، ولبيان صورة الحديث الحسن بقسميه نأخذ هذا مثالين:
فالحديث الحسن لذاته مر معنا، في الحديث الصحيح لغيره حديث محمد بن بشر، عن محمد بن عمرو بن علقمة، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " نزل القرآن على سبعة أحرف " .
قلنا: هذا الحديث أصله حديث حسن لحال محمد بن عمرو بن علقمة، وهو الذي مثل له المؤلف ها هنا، لحال محمد بن عمرو بن علقمة، ومثله حديث: " ألا رجل يحملني " من حديث جابر هذا أيضًا حديث حسن في سنده محمد بن كثير، وهو على الراجح حسن الحديث، ومثله حديث أم سلمة -رضي الله عنها- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: " اللهم يا مقلب القلوب " هذا حديث حسن؛ لأنه يوجد في السند شهر بن حوشب وهو حسن الحديث.(1/91)
فإذا تأملت أسانيد تلك الأحاديث وجدت أسانيدها ورجالها ثقات، وسالمة من الشذوذ والعلة، ووجدت أن الكلام منحصر في الراوي هذا الخفيف الضبط؛ ففي حديث أم سلمة شهر بن حوشب في ضبطه خفة، وإن كان الراوي عنه عبد الحميد بن بهرام، وهو تكلم فيه، لكن الصحيح أنه ثقة، فلا يؤثر علينا ها هنا، فشهر بن حوشب تكلم فيه من جهة حفظه، وهو ملحق بأهل المرتبة الأولى من مراتب، من هاتين المرتبتين اللتين ذكرهما الحافظ الذهبي -رحمه الله- .
الحسن لغيره فستأتي -إن شاء الله تعالى- أمثلته، وأحدها سيأتي بعد قليل في حديث ضعيف، والأمثلة الأخرى ستأتي -إن شاء الله- في مباحثها؛ في مبحث المرسل وفي مبحث المدلس ومبحث المنقطع وغيرها، نعم .
الحديث الضعيف
تعريف الحديث الضعيف
الحديث الضعيف: ما نقص عن درجة الحسن قليلا..
هذا شروع في بيان القسم الثالث، وهو الحديث الضعيف، وقوله: "وهو ما نزل عن درجة الحديث الحسن قليلا" هذا إنما هو خاص براوي الحديث فقط، خاص براوي الحديث فقط، وكأنه يقيد الضعيف بما توجه الكلام في راويه إلى الضعف في الحكم فقط، وأما لو فقد شرطا من اتصال السند أو وجود الشذوذ أو العلة أو فقدان العدالة، فهذا له أسماء أخر ستأتي، فمن فقد العدالة؛ إما أن يكون حديثه مطروحا أو موضوعا، من كثر غلطه وفحش، هذا أيضا يسمى حديثه مطروحا، أيضا من كان مشتملا على علة فيسمى معللا، وهذه كلها مباحث ستأتي، وهكذا بالنسبة للشاذ، فهو إذًا حصر الضعيف ها هنا أو الضعيف حصره ها هنا في من قصر حفظ راويه، عن درجة من يحسن حديثه، فمن يحسن حديثه، يقصر حفظه عمن يصحح حديثه، ومن يضعف حديثه يقصر حفظه قليلا عمن يحسن حديثه .(1/92)
وهنا إذا قصر عن الحسن أو عمن يحسن حديثه أو قصر حفظه عن الخفة، فإنه ينزل إلى الضعف فيكون هذا الراوي ضعيفا في حفظه، فإذا اشتد ضعفه كان للحديث اسم آخر، إما متروك وإما مطروح أو غيره، وإذا ارتفع عن شدة الضعف لم يكثر خطؤه، فيكون حديثه ضعيفا هكذا ضعفا -يعني- أو يوصف بكلمة ضعيف ضعفا مطلقا، وأما اتصال السند وغيره، فكأن المؤلف -رحمه الله- لم يدخله في حد الضعيف، وإن كان -يعني- بالفعل يدخل في حد الضعيف، إلا أنه لم يدخله؛ لأن فقدان أو من فقد شرطا من شروط الصحة، فلحديثه اسم سيأتي إيراده في المباحث التالية لهذا المبحث -بإذن الله تعالى-، نعم.
التردد في الحديث بين الحسن والضعف
ومن ثم تردد في حديث أناس هل بلغ حديثهم إلى درجة الحسن أم لا .
لأن حديثهم يقل قليلا أو ضبطهم، أو لأن حفظهم يقل قليلا عن درجة رجال الحسن، فأحيانا الحافظ يترجح لديه جانب الحفظ، فيقويه، ويحسن حديثه، وأحيانا يترجح له جانب الضعف فيلحقه بالضعفاء، لكن ليس ضعفه شديدا في هذه الحالة، نعم .
آخر مراتب الحديث الحسن وأول مراتب الضعيف
وبلا ريب فخلق كثير من المتوسطين في الرواية بهذه المثابة فآخر مراتب الحسن هي أول مراتب الضعيف، أعني الضعيف الذي في السنن، وفي كتب الفقهاء ورواته ليسوا بالمتروكين .
يعني: المتروكين، يعني: يراد بهم الرواة الذين اشتد ضعفهم، وكثرت أغلاطهم، واشتدت غفلتهم هؤلاء يكونون متروكين، ويضعف حديثهم جدا، فلا يدخلون في حد الضعيف الذي أراده المؤلف ها هنا، وإنما لحديثهم اسم خاص سيأتي إن شاء الله، نعم .
ذكر بعض ضعفاء الحديث غير المتروكين
كابن لهيعة .(1/93)
ابن لهيعة: العلماء وجمهور الأئمة على تضعيفه، جمهور الأئمة وأهل العلم على تضعيفه، وقد حكى البيهقي إجماع أهل العلم على أنه ضعيف، لكن حكاية الإجماع مدخولة، والشاهد أن الذي استقر عليه العمل كما ذكر الحافظ الذهبي هو تضعيف حديث ابن لهيعة، سواء حديثه الأول قبل اختلاطه أو بعد اختلاطه فهو ضعيف الحديث، هو ضعيف الحديث، فهذا يصلح مثالا لراوي الحديث الضعيف، فإذا ورد لنا حديث فيه ابن لهيعة يقال: هذا حديث ضعيف لضعف ابن لهيعة، وهو عند بعض أهل العلم -يعني- يحسن أو يرفع ويقوي أمره وخاصة من رواية العبادلة عنه ويقوي حديثه، وعليه فكان الأولى أن يذكر بدلا عن الحارث الأعور، إذا كان لا بد من ذكر شخص آخر في المرتبة التي قبله، فهو أولى بالذكر من الحارث الأعور لكون ضعفه أقل بكثير من الحارث الأعور . نعم.
وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم .
عبد الرحمن بن زيد بن أسلم هذا العلماء مجموعون على أنه ضعيف، ولم يوثقه أحد من أهل العلم، وكلام أهل العلم دائر بين التضعيف والتضعيف الشديد، والرجل له مناكير كثيرة، وحديثه عامتها فيها أخطاء وأغلاط، فالرجل ضعيف جدا، أو ضعيف عند طائفة من أهل العلم، فهو متجاذب أمره بين التضعيف والتضعيف جدا، ولم يوثقه ولم يحسن حديثه أحد من العلماء، ولا توسط أحد من أهل العلم في أمره، بل كلهم يصفون حديثه بأنه حديث متروك، أو منكر أو نحو ذلك من العبارات الدالة على ضعف الرجل ضعفا بينا، نعم .
وأبي بكر بن أبي مريم الحمصي .
وهذا أيضا أبو بكر بن أبي مريم، قال: أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم غساني حمصي، هذا أيضا العلماء أيضا متفقون على ضعفه، متفقون على أنه ضعيف، نعم .
وفرج بن فضالة .(1/94)
فرج بن فضالة هذا لم يجمع العلماء على ضعفه، لكن جمهور العلماء على أنه ضعيف، وبخاصة في روايته عن أهل الحجاز، وأما الإمام أحمد فيصحح أو فيوثقه فيما رواه عن أهل الشام، لكنه أضعف من إسماعيل بن عياش؛ وإسماعيل بن عياش إذا روى عن الشاميين صحح حديثه، إذا روى عن غيرهم ضعف، وأما هذا فهو إن كان يصحح حديثه عن الشاميين إلا أنه في الجملة أضعف من إسماعيل بن عياش، وعليه فقد يكون -يعني- إيراده في هذا المبحث، إما أن يقيد أو إنه يقيد بروايته عن أهل الحجاز أو بروايته عن غير أهل الشام، أو إنه على رأي جمهور أهل العلم الذين يضعفونه مطلقا، لكن الرجل ليس كسابقه، الرجل فيه اختلاف؛ فيصلح أن يكون بدلا عن الحارث الأعور في المرتبة الأولى، فجنسه من جنس أهل المرتبة الأولى .
لكن أهل المرتبة الأولى كما سبق أن -يعني- اختيار المؤلف لهم جاء بناء على ترجيحاته هو -رحمه الله تعالى-، نعم .
ورشدين وخلق كثير .
ورشدين هذا ابن سعد متفق على ضعفه، اتفق أهل العلم على أنه ضعيف، وحاله دائر بين الضعف الشديد والضعف، بين الضعف الشديد والضعف، نعم .
وقال المصنف -رحمه الله-..(1/95)
فهؤلاء أهل هذه المرتبة والضعيف أوردهم المؤلف -رحمه الله تعالى- أهل هذه المرتبة لم يذكر الحافظ الذهبي أنهم متجاذبون بين الحسن والتضعيف، وإنما ذكر أنهم ضعاف، وهؤلاء يكونون في المرتبة التي تلي المرتبة الثانية من مراتب الحديث الحسن؛ لأن أولئك متجاذبون بين التحسين والتضعيف، وهؤلاء في كلام المؤلف -رحمه الله- مضعفون وحديثهم ضعيف، وليس أمرهم متجاذبا بين التحسين والتضعيف على حسب استقرار أهل العلم، والحديث الضعيف بإطلاق على رأي المؤلف إذا كان الضعف يسيرا في الراوي أنزله عن رتبة الحسن، فهذا إذا ورد له متابع أو شاهد، رقاه إلى الحسن لغيره، إذا ورد له شاهد أو متابع رقاه إلى الحسن لغيره؛ لأن الضعف الذي في الراوي، ينجبر ويرتفع، فالضعف الذي يكون في الراوي يسدد براو آخر، إذا جاءنا راو أو حديث آخر مثل حديث هذا الراوي أو أحسن منه حالا فإننا نحسن حديث هذا الراوي، ونجعله من باب الحسن لغيره.
ومثل لذلك بحديث أفضل الصدقة إصلاح ذات البين حديث عبد الله بن عمرو، هذا الحديث في سنده عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي وهو ضعيف من جهة حفظه، لا من جهة عدالته، فهو بمنزلة أو مقارب لمن ذكرهم المؤلف في أهل هذه المرتبة، وهي مرتبة الضعيف .
هذا الحديث بمفرده ضعيف لو جاءنا هكذا بدون شواهد ولا متابعات فإننا نقول: هذا حديث ضعيف لوجود عبد الرحمن بن زياد فيه، وهو ضعيف، لكن لما ورد له شاهد من حديث أبي الدرداء - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " ألا أخبركم بأفضل الصدقة ؟ بأفضل من درجة الصيام والصدقة والصلاة ؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال: إصلاح ذات البين " .(1/96)
فهذا الحديث رجاله ثقات، ويصلح أن يكون شاهدا للحديث المتقدم؛ حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، فيرتقي حديث عبد الله بن عمرو بن العاص إلى الحسن لغيره، بحديث أبي الدرداء فهذا الحديث عاضد لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص، وبناء عليه يكون حديث عبد الله بن عمرو بن العاص إذا كان مفردا يصلح مثالا للضعيف، وإذا ضممنا إليه الشاهد -حديث أبي الدرداء- صلح أن نمثل به للحديث الحسن لغيره، كما تقدم، والله أعلم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد .
س: هذا سؤال هل غدا ستقام الدورة ؟ .
ج: ستقام بإذن الله سوى الجمعة .
س: هذا سؤال يقول: سبق أن رجال الصحيح الذي هو أعلى المراتب قد خرج لأهله في الصحيحين، فهل المعنى خرج لهم بنفس السلسلة أما بغيرها ؟ .
ج: خرج لهم بنفس السلسلة بنفس السلاسل التي أوردها المؤلف -رحمه الله-، نفس السلاسل التي أوردها المؤلف -رحمه الله- وجعلها أعلى مراتب الصحيح، هذه كلها مخرجة في الصحيحين، خرجت أحاديث كثيرة بهذه السلاسل خاصة: مالك عن نافع عن ابن عمر، والزهري عن سالم عن أبيه، وهي بكثرة موجودة في الصحيحين والكل موجود، لكن هذه بكثرة ظاهرة .
س: وهذا سؤال: لماذا اهتم العلماء بعبارات الإمام الترمذي، أي أكثر من غيره، مع أن لهم كلاما في هذا الشأن ؟.
ج: هو الأئمة -رحمهم الله- لهم كلام، لكن كلامهم مبثوث ومتفرق، مبثوث ومتفرق في السؤالات والمسائل وكتب العلل وغيرها من المصنفات فهو كلام متفرق مبثوث ليس بمجتمع، ليس بمجتمع هذا أمر، والترمذي جمع أو أغلب كلامه مجتمع في كتابيه الجامع والعلل الكبير؛ ولهذا صار بين يدي أهل العلم، وخاصة أن هذا الكتاب من كتب السنة المنشورة التي اعتنى بها العلماء وتداولوها في المشرق وفي المغرب، وشرحوها، وتكلموا على أحاديثها، فالعلماء بهم عناية، بخلاف غيره من كتب قد لا يكون لأهل العلم بها عناية؛ لكونها ليست كتبا مشهورة .(1/97)
والثانية: أن العلماء، أو أن الترمذي -رحمه الله- هذه المصطلحات التي ذكرها لها أمثلة كثيرة في كتابه، فكلمة حسن غريب لا تجدها في موضع ولا في موضعين ولا في ثلاثة بل في مواضع كثيرة، ومثلها حسن صحيح، ومثلها حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، ومثلها حسن صحيح غريب، وغيرها من العبارات، المؤلف أورد أو حكم على أحاديث بهذه الاصطلاحات، يعني حكم عليها -يعني- وانطوى تحتها أو انطوى جملة كثيرة، أو انطوى تحت كل واحدة من هذه الاصطلاحات جملة كثيرة من الأحاديث، فكان بين يدي العالم أمثلة كثيرة يستطيع أن ينزل عليها أو أن ينزلها على الاصطلاح الذي ذكره الحافظ الترمذي -رحمه الله تعالى- .
س: هذا يقول هل هناك شروح للموقظة، وما أفضلها ؟.
ج: طيب، الموقظة ليس لها شرح فيما أعلم .
س: إذا كان الشاهد أو المتابع للضعيف ضعيفا فما الحكم ؟.
ج: قضية الشاهد أو المتابع من أخطر القضايا؛ لأنه يتعلق بها التصحيح والتضعيف، يتعلق بها التصحيح والتحسين .(1/98)
التابع في تقوية الحديث أقوى من الشاهد، التابع في الحديث أقوى في تقوية الحديث أقوى من الشاهد؛ لأن التابع معناه اشتراك الراوي أو اشتراك الراويين في الرواية عن شيخ اشتراك الراويين في الرواية عن شيخ، فإذا كان مثلا عندنا الزهري هذا شيخ يروي عنه مالك وابن عيينة، فمالك إذا جاء معه ابن عيينة روى معه الحديث عن الزهري، سمَّينا مالكا متابِعًا، وابن عيينة متابَعًا، فالمتابعة تكون في نفس الحديث الواحد، واشتراك رجلين أو أكثر في الرواية عن شيخ، يكون كل واحد متابع للآخر، وهذا يدل على أن الحديث محفوظ من حديث هذا الشيخ، وأكثر علماء الحديث المتقدمون أكثر ما يطلقون كلمة المتابعة، يقولون: فلان لا يتابع على حديثه، يعني تفرد عن الشيوخ، ليس معنى أنه لا يأتي بالشاهد، لا يضعفون حديث... لو عندنا مثلا الأعمش، وله رواة، فإذا أكثر راو في التفرد عن الأعمش ضعف حديث هذا الراوي، وإن كان الحديث محفوظا من حديث آخر، وإن كان محفوظا من حديث آخر، لكن يضعف لعدم وجود المتابع، ولهذا هم يقيسون ضبط الراوي بالمتابعة، إذا كان متابعا على حديثه يمشون الحديث، يمشون الراوي، إذا كان لا يتابع على الحديث، وإن كان للحديث أصول من أحاديث أخرى، فلا يمشون حديثه، بل يضعفونه، فكثرة التفرد تدل على أن هذا الراوي ليس بضابط لما يرويه.(1/99)
وأما الشاهد فأكثر من استعمله المتأخرون، أكثر من استعمله المتأخرون، يقوون به الحديث، والشاهد معناه أن يرد عندنا حديث لابن عمر، ويأتي حديث آخر لابن عباس معناهما واحد، فنقوي هذا بهذا، يكون سند هذا ضعيفا، وسند هذا ضعيف فنقوي هذا بهذا، مثل حديث في كفارة الظهار سلمة بن صخر وابن عباس، هذا يقوي هذا، كلاهما فيه ضعف، لكن هذا يقوي هذا، ومثله حديث ابن عباس - رضي الله عنه - المرسل الصحيح أنه مرسل عن عكرمة - رضي الله عنه - في رؤية هلال رمضان اعتبارا بشاهد واحد، هذا حديث ضعيف لإرساله، لكن جاء له شاهد من حديث ابن عمر فتقوى به، فكان حسنا لغيره، وهذا حديث وذاك حديث، ولكن هذا يقوي هذا، فالأصل في تقوية الأحاديث أن يصار إلى المتابعة أولا، فإن لم يوجد متابعة فيلجأ إلى الشاهد، فيصار إلى الشاهد... . وهذا هو الترتيب الأكمل في تقوية الأحاديث .
بقي أمر مهم وهو في الشاهد والمتابع، وهو في المتابع، المتابع لا بد أن يكون الإسناد مقبولا إلى المتابِع، لا بد أن يكون الإسناد مقبولا إلى المتابِع، فإذا كان ضعيفا إلى المتابع، يعني ما صح الإسناد إلى المتابع فلا يصح أن يكون هذا الراوي متابعا لذلك، فلو فرضنا أن عندنا حديثا عند البيهقي، يرويه مثلا من طريق يونس بن بكير، فإذا أردنا أن نجعل حديث يونس بن بكير متابعا، يعني: جعلنا يونس بن بكير متابعا، فلا بد أن نثبت الإسناد من البيهقي إلى يونس بن بكير، لكن لو ضعف الإسناد لا يصلح أن يكون هذا متابعا؛ لأنه إذا ضعف الوصول إلى المتابع فلا اعتبار به، وهذه يعني: ينبغي الاهتمام بها؛ لأن أكثر الغلط في تقوية الأحاديث يأتي من هذه النقطة، والله أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
الحديث المطروح
تعريف الحديث المطروح وأمثلته(1/100)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، قال الإمام الذهبي -رحمه الله تعالى-: الحديث المطروح ما انحط عن رتبة الضعيف، ويروى في بعض المسانيد الطوال وفي الأجزاء، بل وفي سنن ابن ماجه وجامع أبي عيسى مثل: عمرو بن شمر عن جابر الجعفي، عن الحارث عن علي، وكصدقة الدقيق عن فرقد السبقي عن مرة الطيب عن أبي بكر، وجويبر عن الضحاك عن ابن عباس، وحفص بن عمر العدني عن الحكم بن أبان عن عكرمة، وأشباه ذلك من المتروكين والهلكى وبعضهم أفضل من بعض .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، هذا شروع في النوع الرابع من أنواع الأحاديث المضافة إلى لنبي - صلى الله عليه وسلم - بحسب قوتها، فهذه المرتبة الرابعة، فالأول الصحيح ثم الحسن، ثم الضعيف، ثم يأتي بعده المطروح؛ والمراد بالمطروح هو الحديث الضعيف جدا، ويدل على هذا أن المؤلف -رحمه الله- ذكره مرتبة بين الضعيف وبين الموضوع، وهذه صفة الحديث الضعيف جدا، ويعبر عن المطروح بالمطَّرَح والمتروك والهالك، قد يعبر عنه أيضا بالساقط، وقد يعبر عنه أيضا بالباطل في بعض الأحيان، وهذا الحديث المطروح صفته تتعلق بالراوي، ولكن من الجهة الأعم؛ بمعنى الجهة التي تشمل العدالة أو الضبط، فالحديث الضعيف الذي قبل هذا كان متعلقا بضبط الراوي إذا نزل عن مرتبة راوي الحديث الحسن.
وأما ها هنا فالمطروح له تعلق بالعدالة من جهة، وله تعلق بالضبط من جهة أخرى، فإذا اتهم الراوي في عدالته ولم يثبت القدح فيها ثبوتا بينا، فإن كثيرا من أهل العلم لا يحكمون عليه إلا بالضعف الشديد أو بالأوصاف التي تؤدي هذا المعنى، كأن يقال هذا إسناد واه بمرة أو هذا إسناد واه جدا، أو ساقط أو هالك أو نحو ذلك من العبارات التي تشعر بضعف الحديث جدا.(1/101)
على أن بعض أهل العلم كما سيأتينا إن شاء الله في الحديث الموضوع قد يطلق الموضوع على ما هو أدنى من هذا، خاصة مع تفرد الراوي بمتن الحديث الأصلي، والمطروح أيضا له تعلق آخر من جهة الضبط، وذلك أن الراوي إذا كثر خطؤه وفحش، وغلب على صوابه حكم على حديثه بأنه متروك، أو بأنه مطروح أو مطرح أو نحو ذلك من العبارات التي تشعر بالضعف الشديد، ومقياس هذا الذي يتبين به أو يحكم به على الحديث بأنه مطروح متعلق بمراتب الجرح، فإذا كان هذا الراوي في المرتبة التي لا يعتبر من أهلها، ولكنها دون الكذب، فهذا حديثه يسمى مطروحا أو يكون ضعيفا جدا، فإذا ورد عليك رجل في إسناد ما، فإن كان في إحدى المراتب التي ينص أهل العلم أنه لا يعتبر بحديث أهلها، فإنه حينئذ يكون حديثه مطروحا، ما لم يكن هذا الرجل موصوفا بالكذب أو وضع الحديث أو اختلاقه وافتعاله، فهذا هو الضابط، أو الحد الذي يمكن معه معرفة الحديث المطروح .
والمؤلف -رحمه الله تعالى- ها هنا ذكر أن هذا النوع قد انحط عن رتبة الضعيف، وهذا الانحطاط لم يبين المؤلف -رحمه الله تعالى- مقداره، وإنما هو مطلق، وإنما قال ذلك؛ لأنه جمع أو جاء بهذا النوع بين حديثين الضعيف الذي انحط قليلا وقصر قليلا عن رتبة الحسن وبين الموضوع، والرواة حتى الضعفاء جدا متفاوتون بينهم في الضعف، فمنهم من يكون قريبا من الضعيف، ومنهم من يكون قريبا من الكذاب، فهم مراتب متفاوتون؛ ولهذا أطلق المؤلف -رحمه الله- انحطاطه عن رتبة الحديث الضعيف.
لكن ينبغي التفريق بينه وبين الذي قبله، أن الذي قبله الحكم فيه عائد إلى ضبط الراوي فقط، وأما هذا فالحكم تارة مقرون أو ناتج عن العدالة، وتارة ناتج عن الضبط، فإذا فحش الخطأ وكثر غلب على الصواب حكم على حديثه بأنه مطروح أو ضعيف جدا، وإذا اتهم في عدالته ولم يقطع بها حكم على حديثه بأنه متهم بأنه ضعيف جدا أو هالك أو غير ذلك من العبارات.(1/102)
والحد المعتبر الحد الذي يمكن القياس معه أو قياس راوي الحديث المطروح معه هو الرجوع إلى مراتب الجرح، فإذا قيل: كان في المرتبة التي لا يعتبر بأهلها، ولكنه لم يوصف بالكذب فهذا يكون حديثه مطروحا، أما إذا كان من المراتب التي يعتبر بأهلها، فهذا يعتبر حديثه ضعيفا؛ يصلح أن يكون شاهدا، يصلح للشواهد والمتابعات، وأما إذا كان لا يعتبر به فلا يصلح لا في الشواهد ولا في المتابعات.
ثم ذكر المؤلف أن هذا النوع يوجد في المسانيد والأجزاء، المسانيد هي الكتب المصنفة بحسب الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم-، فيجمع فيها كل حديث صحابي على حدة هذا تسمى المسانيد مثل مسند الإمام أحمد، ففيه أحاديث أبي بكر مجموعة، ثم أحاديث عمر، ثم عثمان، ثم علي، ثم بقية العشرة، ثم آل البيت وهكذا، ثم بقية الصحابة، كل صحابي تورد أحاديثه بقطع النظر عن موضوعها.
وأما بالنسبة للأجزاء فهي يراد بها الأحاديث التي يذكرها المحدث في كتابه، وهي متعلقة إما برجل أو متعلقة بموضوع، متعلقة برجل مثل جزء نافع بن أبي نعيم، مثل جزء الأشيب، مثل جزء ابن عيينة، مثل جزء ابن جريج، هذه تسمى أجزاء؛ لأنها متعلقة بأشخاص فيجمع ما توافر لديه من حديث هؤلاء الرواة .
وأما الموضوعات فمثل جزء القراءة خلف الإمام، وجزء رفع اليدين للبخاري، هذا جمع فيه أحاديث متعلقة بموضوع واحد، ووقوع هذا النوع في الأجزاء ظاهر، وخاصة في الأجزاء المتأخرة، وأما في المسانيد فأيضا هذا موجود، الأحاديث الواهية موجودة حتى في مسند الإمام أحمد -رحمه الله تعالى-.(1/103)
ومسند الإمام أحمد قيل: إن فيه أحاديث موضوعة، عن النبي -عليه الصلاة والسلام-، ولكنها قليلة والعلماء في هذه المسألة في وجود الأحاديث الموضوعة في مسند الإمام أحمد متخالفون فمنهم من ينفي أن تكون من المسند، وإنما هي زوائد القطيعي على المسند، فهي ليست من صنيع الإمام أحمد -رحمه الله-، وهذا هو الذي ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في منهاج السنة.
وبعض أهل العلم يرى أنها من المسند، ولكنها ليست موضوعة وإنما هي واهية، وهذه طريقة بعض أهل العلم، ولكن الحافظ ابن حجر في كتابه القول المسدد في الذب عن مسند الإمام أحمد بعد دراسته لهذه الأحاديث تبين له أن فيها ما هو هالك فيها ما هو أرفع من ذلك، حتى بعضها يبلغ رتبة الحسن مما وصف بأنه موضوع، وبخاصة ما وصفه ابن الجوزي -رحمه الله- فإنه أدخل ثمانية وثلاثين حديثا من المسند في كتابه الموضوعات.
فالشاهد أن وجود الأحاديث الواهية في المسانيد موجودة في مسند الإمام أحمد، في مسند البزار، في مسند أبي يعلى، ولكنها قليلة بجانب ضخامة هذه المسانيد، وبخاصة مسند الإمام أحمد؛ ولهذا الحافظ الذهبي -رحمه الله- في السير ذكر أن مسند الإمام أحمد يوجد فيه من الأحاديث ما هو شبيه بالموضوع، قال: ولكنها قطرة من بحر، فهي مغمورة على قلتها بجانب ما حواه المسند مما يزيد على حوالي ثلاثين ألف حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
فلو كان فيها عشرة ، أو خمسة عشر أو عشرون أو ثلاثون أو خمسون أو مائة أو مائتا حديث أو خمسمائة حديث واهية كانت قليلة بجانب هذا العدد الضخم من روايات الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
الأولون لا يقدح إيرادهم لهذا الحديث فيهم؛ لأنهم يسندون هذه الأحاديث وهم قد صنفوها لأهل الحديث، فالبصير بالحديث يتبين له من قراءة الإسناد أن هذا صحيح أو غير صحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .(1/104)
ثم إن المؤلف -رحمه الله- قد مثل بهذه النسخ من الرجال في هذا النوع من الحديث، وهو الحديث المطروح، وهؤلاء المذكورون في هذه الأسانيد ذكرهم الحافظ أو الحاكم في معرفة علوم الحديث ذكر أن هذه وصف هذه الأسانيد بأنها من أوهى الأسانيد، فأحدها أوهى أسانيد آل البيت حديث علي ، والآخر أوهى أسانيد أبي بكر وأوهى أسانيد عمر، وأما جويبر عن الضحاك عن ابن عباس فلم يورده الحاكم.
فهذه أسانيد واهية معروفة عند أهل العلم، وأصحابها قد تكلم في ضبطهم تكلما شديدا، وتكلم في عدالتهم، وليس المراد كل السلسلة، وإنما المراد الراوي الأول المذكور منهم، وأما البقية فمنهم الثقة، ومنهم من هو دون ذلك، وبقطع النظر أيضا عن العلل الأخرى الموجودة في مثل هذه الأسانيد فمرة الطيب روايته عن أبي بكر - رضي الله عنه - مرسلة لكن ليست هي المقصودة، وإنما المقصود بالذات بالراوي الراوي الأعلى أو الراوي الأدنى الذي ذكره المؤلف، وهو الذي افتتح به الإسناد.
فهؤلاء المذكورون كلهم قد تكلم فيهم كلاما شديدا، حتى إن بعضهم قد كذب، لكن بما أنه لم يقطع بالكذب، لذلك كان حديثهم حديثا ضعيفا جدا، ووجود مثل هؤلاء الرواة في الأسانيد يوهيها ويضعفها جدا. والمؤلف -رحمه الله- اقتصر على جزئية متعلقة بضعف الحديث جدا، وهي إذا كان الكلام للراوي، ولكن عمل العلماء من القديم على أن الحديث يكون واهيا بأمور أكثر من هذا.
فمن الأمور التي ذكرها أهل العلم: الأمر الأول: إذا كان في الحديث راو ضعيف جدا، وهو الذي ذكره المؤلف ها هنا .
فمثلا: حديث أبي أمامة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ترك الموقين على خفيه في غزوة تبوك ثلاثا، هذا حديث يصلح مثالا للمطروح ؛ لأن في إسناده جعفر بن الزبير الحنفي، وهو متروك، وهو من رجال ابن ماجه، ورجال ابن ماجه، أو سنن ابن ماجه هي من أضعف الكتب الستة، بل هي أضعف الكتب الستة، وخاصة فيما تفرد به ابن ماجه -رحمه الله-.(1/105)
فالذهبي -رحمه الله- ذكر أن فيها نحواً من ألف حديث ليست بحجة، والحافظ المزي -رحمه الله- ذكر أن غالب أحاديث ابن ماجه أو التي تفرد بها ابن ماجه غالبها ضعيف، وسنن ابن ماجه فيها الواهيات وفيها بعض الموضوعات ولكنها قليلة كما نص على ذلك أهل العلم.
وأما بالنسبة للترمذي، وهو الذي قرنه المؤلف معه في هذا، فالترمذي جامعه ذكر الذهبي أن فيه الواهيات، وفيه أيضا الموضوع، لكن هذا الكلام من الذهبي -يعني- يرده كلام الحافظ ابن رجب، وهو أدرى بهذا الكتاب؛ لأنه شرحه، وتكلم عليه في أسانيده ومتونه فذكر أن الترمذي -رحمه الله-، لم ينفرد أو لم يخرج لواحد من هؤلاء المتهمين بالكذب باتفاق، لم يخرج له إسنادا مفردا، وإنما خرج حديثه لكونه قد وقع الاختلاف في سند هذا الحديث، وهذا ضمن المختلف، أو مذكور ضمن هؤلاء المختلفين، أو يكون العمدة ليس على هذا الإسناد، وإنما يورد إسناد هذا المتهم، ويورد معه إسنادا آخر، وكلام الحافظ ابن رجب هو الأليق؛ لأن الحافظ ابن رجب أدرى بهذا الكتاب من الإمام الذهبي -رحمه الله-.
وكتاب الترمذي ما حط من قدره عند أهل العلم إلا لأنه صحح لرجال أحاديث، وهم ضعفاء جدا، بل مرميون بالكذب، وصحح حديث كثير بن عبد الله المزني، عن أبيه، عن جده، وهذه النسخة وصفها بعض العلماء بأنها نسخة موضوعة كالإمام الشافعي -رحمه الله-. والترمذي لم يكتف بالتخريج، وإنما صحح حديث كثير بن عبد الله " الصلح جائز بين المسلمين " من هنا ذكر الذهبي في الميزان في ترجمة كثير هذا، قال: إنه لما خرج لكثير، وصحح حديثه هذا: "الصلح"... قال: من هنا لم يعتمد أهل العلم على تصحيح الإمام الترمذي.
والشاهد من هذا أن الترمذي في كتابه جملة من المتهمين بالكذب مثل: محمد بن سعيد المصلوب، ومثل كثير بن عبد الله المزني، وجماعة آخرون، فهو لا -يعني- فهو مظنة لوجود الحديث الضعيف جدا، كما أن ابن ماجه أو كتاب ابن ماجه مظنة لوجود الحديث الضعيف جدا.(1/106)
والمثال الذي سبق، سبق أن ذكرنا لكم أن فيه جعفر بن الزبير الحنفي، وهو ضعيف جدا متروك، بل طعن حتى في، طعن بعضهم حتى في عدالته من جهة الرواية.
وأيضا هناك مثال آخر، وهو حديث ابن عباس " أن عثمان سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن " بسم الله الرحمن الرحيم " فقال: هي اسم الله الأعظم " وهذا الحديث رواه، تفرد به سلام بن وهب الجندي، وهذا سلام ليس له إلا حديث واحد فقط، ومع ذلك لا يتابع عليه، فمثل هذا الرجل، يكون حديثه مطروحا، وإن لم يكن له إلا حديث واحد؛ لأنه لما اعتبره أهل العلم وجدوا أنه قد تفرد به، وهذه الطريقة طريقة أهل العلم إذا كان الراوي تفرد بحديث ولا يتابع عليه، فيحكمون على هذا الحديث بأنه منكر، بل أعلى من المنكر، بل يحكم كما حكم بعض أهل العلم على هذا الحديث بأنه حديث كذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - .(1/107)
ومثل على ما يأتي -إن شاء الله- عند بعض أهل العلم في تفرد المجهول بما لا يتابع على أصله يعتبر عندهم من الأحاديث الموضوعة، ولا يقبلونه، وإن كانوا لا يصفون الرجل بالكذب، هذا يعني أمر من الأمور التي يحكم على الحديث فيها بأنه مطروح، وإذا كان فيه راو ضعيف جدا، كما نص عليه، أو كما هو الظاهر من صنيع المؤلف ها هنا، ويحكمون على الحديث أيضا بأنه مطروح إذا توالت فيه العلل، إذا رواه تسلسلت فيه رواية مجهولين مثلا، أو تسلسلت فيه رواية الضعفاء، وإن كان كل واحد منهم ليس ضعفه شديدا، أو توالت فيه علل مختلفة يكون فيه انقطاع من جهة، وضعف راو من جهة، وجهالة راو من جهة أخرى، وإرسال من جهة أخرى، فإذا كثرت العلل في الحديث هذا مما يؤدي إلى ضعف الحديث، وإن كانت كل علة منها ليست مضعفة بمفردها للحديث ضعفا شديدا، وهذه المسألة حرية بالاهتمام؛ لأن كثيرا من الناس ما يخطئ في ترقية الأحاديث، فإذا كان الحديث فيه علل كثيرة رقاه، لأنه يرى كل علة بمفردها ولا يرى المجموع، لكن الاعتبار عند أهل العلم بمجموع هذه العلل، فإذا كانت مجتمعة أثرت على الحديث، لكن لو انفردت واحدة منها بنفسها، وكانت في الحديث لا يشركها غيرها، فإن الحديث يترقى معها، أما إذا كثرت وتوالت وتتابعت، وإن كانت كل واحدة منها لا تقدح في الحديث قدحا شديدا إذا انفردت، فإنها إذا اجتمعت تقدح في الحديث قدحا شديدا، ولا يترقى معها الحديث.(1/108)
وهناك أيضا أمر آخر وهو الإتيان بالحديث على خلاف المحفوظ، فإن غير المحفوظ يوصف بالضعف الشديد والاطراح والسقوط، وهذا شاهده ما صنعه الإمام مسلم -رحمه الله- في كتابه التمييز، فإنه لما جاء إلى حديث رواه ابن إسحاق، عن أبي هند، عن رجل، عن أبيه في أن من أدرك عرفة قبل طلوع الشمس، ليس قبل طلوع الفجر قبل طلوع الشمس، فإنه يكون مدركا لعرفة، هذا الحديث ذكر الإمام مسلم -رحمه الله- أنه ساقط مطرح؛ لأن الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تواطأت على خلافه، حديث عبد الرحمن بن يعمر، بأنه مقيدة للإدراك بأن يدرك الحاج عرفة قبل طلوع الفجر، وليس قبل طلوع الشمس، ثم إن عمل الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم- والمأثور عنهم في هذا كما وردت به سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وكذلك الفقهاء من بعدهم لم يقل أحد ما دل عليه مضمون حديث محمد بن إسحاق، فهذه إذا جمعت مع جهالة الراوي، ومخالفته للمحفوظ كان حديثه ساقطا مطرحا؛ ولهذا الإمام مسلم -رحمه الله- حكم على هذا الحديث بأنه مطروح أو مطرح ساقط.(1/109)
والحديث الضعيف جدا، هذا كما سبق لا يترقى ولا يرقي غيره، بمعنى: أنه إذا اجتمع عندنا حديث ضعيف جدا مع حديث ضعيف جدا مثله، فإننا لا نرقي هذا بهذا كما نرقي الضعيف بالضعيف، وإنما إذا كان هذا ضعيفا جدا، والآخر ضعيفا جدا، فالحديث ضعيف يعتبر ضعيفا جدا، وإن كثرت، فلو كان عندنا عشرة طرق أو خمسة عشر طريقا كلها في أسانيدها من هو ضعيف جدا، فإن هذه لا يرقي بعضها بعضا، بل يحكم عليها بأنها أحاديث ضعيفة جدا، أو بأنه حديث ضعيف جدا، وكذلك لو كان الحديث ضعيفا جدا، وجاءه حديث صحيح، فإنه لا يرقيه، ولو جاءه حديث حسن، فإنه لا يرقيه، ولهذا أهل العلم تراهم يقولون: هذا الحديث بهذا الإسناد هالك أو ساقط أو مطرح أو واه، فيقيدونه بهذا الإسناد لوروده بأسانيد أخرى صحيحة، وهذا كما يوجد في علل ابن أبي حاتم وعلل الدارقطني ترى أحاديث متونها صحيحة ثابتة في الصحيحين، ولكن الأسانيد المذكورة في كتب هذه العلل غير الأسانيد الموجودة في الصحيحين، ولهذا يحكمون على الحديث بأنه باطل أو مطروح، ولا يرقونه بالأحاديث الأخرى الموجودة بأسانيد صحيحة، بل قد يكون بعضها، قد بلغ الغاية في الصحة.
فالحديث الضعيف جدا مهما تعددت الطرق، ومهما صحت الطرق، ومهما بلغت ما بلغت، فإنه يبقى على ضعفه جدا ولا يترقى، فإنه يبقى على ضعفه ولا يترقى، وأما بالنسبة لمن هو أرفع منه من الضعيف فما فوقه، فهذا يترقى إذا ورد له، ورد حديث مساو له في القوة أو أقوى منه.(1/110)
مثلة على ما لا يترقى حديث ابن عمر الذي أخرجه أبو نعيم في الحلية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا تتكلموا في القدر، فإنه سر الله " هذا الحديث في سنده هيثم بن جماز وهو ضعيف جدا، وورد لهذا الحديث شاهد من حديث عائشة -رضي الله عنها- عند ابن عدي في الكامل، لكن الحديث هذا فيه يحيى بن أبي أنيسة وهو ضعيف، فحديث عائشة لا يرقي حديث ابن عمر، فيبقى حديث ابن عمر ضعيفا جدا، كما أن حديث ابن عمر لو أردناه أن يرقي حديث عائشة -رضي الله عنها-، فإنه لا يرقيه فيبقى حديث عائشة ضعيفا .
فالمقصود من هذا كله أن الحديث الضعيف جدا حديث لا يترقى ولا يرقي غيره، ولا يشهد لغيره، ولا يشهد له غيره، ولا يصلح أن يكون راويه متابِعا ولا متابَعا، بل هو حديث مطرح .
وسيأتي -إن شاء الله تعالى- مبحث العلة ومبحث الشذوذ ومبحث الموضوع ما يبين أن هذه الأحاديث الشاذة والمنكرة والمعلولة، أنها كلها لا تصلح أن تكون شواهد ولا متابعات؛ لأنها أغلاط مجذوم بغلط أهلها وأصحابها، فالخطأ وجوده، أو الحديث غير الصحيح أو الحديث الثابت أنه شاذ أو معل، هذا لا يترقى ولا يُرقى فهو من الحديث الضعيف جدا، ويصلح أن يقال في الرواية الشاذة أو الراوية المعلولة أو المضطربة: إنها رواية مطرحة أو شاذة أو هذا حديث مطروح، وسيأتي -إن شاء الله- ذكر أمثلته من كلام أهل العلم، رحمهم الله تعالى.
هذا هو الحديث المطروح أو المطرح، أو المتروك أو الساقط أو الباطل، في اصطلاح في إطلاقات بعض أهل العلم، هذا هو حقيقته، وهذه أمثلته، وهذا هو حكمه، وفي الأنواع الأخر المحكوم عليها بالضعف الشديد فيما يستقبل من المباحث -إن شاء الله- زيادة تمثيل وبيان لهذا النوع، ونظرا لطول الحديث الموضوع وحاجته إلى درس كامل نكتفي بهذا القدر .
س: ما سبب تصحيح رواية إسماعيل بن عياش عن الشاميين وتضعيفها عن الحجازيين ؟.(1/111)
ج: هو بعض أهل العلم أو بعض الرواة إذا انتقل من بلد إلى بلد فإنه لا يحمل كتبه معه، ويكون حفظه من كتابه، أو يكون اعتناؤه بحديث أهل بلده أشد، أو يكون قد سمع حديث أهل بلده، وهو في الصغر، وكان حفظه لها أتقن، فهذه وجود الشيوخ في بلده وسماعه الحديث ربما أكثر من مرة، بل بعضهم كما ذكر عن بعض أهل العلم أنه ما من حديث قيده في كتابه إلا وقد سمعه من شيخه أربعمائة مرة، فوجود الشيوخ في البلد، وكون الراوي أول ما يروي في صغره عن أهل بلده وجود الحفظ -يعني- مرحلة الحفظ قوية مع حضور مشائخ بلده هذه كلها تعطي الراوي حفظا أكثر .
لكن إذا خرج عن أهل بلده، إذا خرج قد يصيبه نوع من الخطأ، والعلماء لما سبروا مرويات إسماعيل بن عياش وجدوه يخالف في الروايات التي يرويها عن غير أهل بلده، التي يرويها عن غير أهل بلده مثله مثل بقية -رحمه الله-، إذا خرج عن أهل بلده، فإنه يضعف حديثه، ويخالف غيره من الأئمة الذين يروون هذه الأحاديث عن هؤلاء الشيوخ الذين ليسوا من بلده، ولما سبروا أحاديثه عن أهل بلده وجودها صحيحة يوافق فيها الثقات الأثبات فلهذا مايزوا بين هذه الروايات .
س: والثاني الصحابي الذي مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعمره قرابة عشر سنوات هل حديثه يكون مرفوعا أو مرسلا ؟.(1/112)
ج: هذا حديثه يكون مرفوعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ومتصلا كما هي حال عبد الله بن الزبير -رضي الله تعالى عنه- والحسين بن علي كان دون ذلك والحسن بن علي - رضي الله عنه - كان قريبا من هذا، ومع ذلك صحح أهل العلم أحاديثهم، لكن بعضهم قد يجعلها من باب المرسل صورة لا حقيقة، صورة لا حقيقة بمعنى أن الحكم: الصحة يحكم عليها بأنها صحيحة، وإن كانت صورتها صورة المرسل، لعدم الإدراك البين وخاصة -مثلا- لو حدثنا عبد الله بن الزبير عما جرى في غزوة بدر أو في أحد، مما نقطع بأنه لم -يعني- يدركها إدراكا بينا، فإن هذا صورته صورة المرسل، ولكن حكمه حكم المتصل.
وهذا مثل ابن عباس -رضي الله تعالى عنه- له رواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كثيرة، لكن ذُكر أنه لم يسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا أربعين حديثا ومع ذلك يصحح أهل العلم حديثه، ولم يقدح أحد فيهم في صحة الحديث، ولم يفتشوا عما بينه وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأن رواية الصحابي تكون عن صحابي مثله، وبخاصة إذا كان هذا الراوي من كبار الصحابة كابن عباس وابن الزبير وابن عمر وابن عمرو ونحوهم .
س: هذا صحة عبارة: "إذا تفرد ابن ماجه ففتش" .
ج: الكاتب ضبط الهاء بالسكون، وهذا هو الصحيح ذكر ابن خلكان أنها تكتب بالهاء وصلا ووقفا، روى ابن ماجه في سننه وصلا، وإذا وقفت كلها بالهاء ليس فيها التاء، هذا هو المعروف عند أهل العلم كما نص عليه ابن ماجه -رحمه الله-، والكاتب وضع عليها سكون بدون نقط وهذا صحيح .(1/113)
إذا تفرد ابن ماجه ففتش: هذا كما سبق لنا من كلام المزي وكلام الحافظ الذهبي -رحمهما الله- لا بد من التفتيش فيما تفرد به ابن ماجه، وسنن ابن ماجه هذه قد يقول قائل: ما دام إن أكثر ما تفرد به ابن ماجه الغالب عليه الضعف فلماذا أدرجوها ضمن الحديث ضمن الكتب الستة مع أن الموطأ أمثل منها وأكمل، بل بعض أهل العلم يعتبره أصح كتاب بعد كتاب الله وهذا جوابه كما ذكر أهل العلم أن العلماء في السابق كان يدرجون الموطأ ولا يذكرون ابن ماجه حتى جاء ابن طاهر المقدسي، فأدرج في شروط الأئمة وفي الأطراف ومن بعده تتابع العلماء على إدخال ابن ماجه وإخراج الموطأ، وإدخال ابن ماجه في الكتب الستة وإخراج الموطأ نظرا؛ لأن جُل أحاديث الموطأ موجودة في الكتب الخمسة، موجودة في هذه الكتب موجودة في الصحيحين، موجودة في أبي داود، موجودة في النسائي وفي الترمذي، وغالبا ما يدخلون من طريق الإمام مالك -رحمه الله- .
فنظرا لقلة الأحاديث التي تفرد بها مالك عن هذه الكتب، وفي المقابل كثرة الأحاديث التي تفرد بها ابن ماجه عن هذه الكتب وحاجتهم إليه خاصة في أحاديث الأحكام جاءوا بسنن ابن ماجه بدلا عن موطأ الإمام مالك -رحمه الله-.
س: هذا يقول: جمهور العلماء على تضعيف ابن لهيعة والذهبي على تضعيفه، وهناك قول وهو أن ابن لهيعة أحاديثه صحيحة، ولكن بعدما احترقت كتبه أصبحت أحاديثه ضعيفة؛ لأنه كان يحدث الناس بحفظه وهو سيئ الحفظ، وقبل احتراق كتبه أحاديثه صحيحة.(1/114)
ج: هذا كما قال الإمام أحمد في ابن لهيعة لما سئل عنه قال: ما زال مخلطا قبل الاحتراق وبعد الاحتراق، لكن عبارة أهل العلم أو أكثر أهل العلم الذين تكلموا في ابن لهيعة قالوا: حديثه قبل الاحتراق أصح، وهناك فرق بين صحيح وأصح، يعني: أنه قد يكون ضعيفا قبل الاحتراق وازداد ضعفه لما احترقت كتبه، ولا يلزم من قوله: هذا أصح من هذا أن يكون ما جاء قبل صيغة التفضيل صحيحا. لأ. قد يكون أصح على معنى أعلى، وإن كان الكل يشترك في أنه ضعيف كما يقال: أصح ما في الباب أو حديث فلان أصح من حديث فلان ليس معناه أن الكل صحيح، بل أحيانا يكون أحدهما، وضاعا والآخر ضعيفا جدا، فيقال: حديث فلان الذي هو ضعيف جدا أصح من حديث فلان الذي هو الكذّاب ولا يلزم من صحة الحديث .
وكذلك ابن لهيعة كثير من عبارات أهل العلم يقولون: حديثه قبل الاحتراق أصح، وهذه العبارة لا تقتضي صحة حديثه قبل الاحتراق، وسبق لنا أن الذهبي -رحمه الله- حكى استقرار عمل العلماء على تضعيف حديث ابن لهيعة الأول والآخر، وسبق أن الحافظ البيهقي -رحمه الله- حكى إجماع أهل العلم على ضعف حديث ابن لهيعة، لكن هذا الحديث مدخول كما ذكره ابن الملقن في البدر المنير.
س: عبد الرحمن بن أسلم، وفرج بن فضالة ورشدين بن سعد ماذا قال عنهم الحافظ ابن كثير ؟.
ج: الحافظ ابن كثير ليس له كتاب كالذهبي وابن حجر يرجع إليه، تحتاج للرجوع لكلامه في التفسير والبداية وأنا لا أذكر شيئا من هذا .
س: هذا يقول: لو تعاد الأمور التي يعرف بها الحديث المتروك.(1/115)
ج: الحافظ المطروح يعرف بأمر واحد وهو: النظر في حال الراوي هذا من جهة الحفظ، يعرف بأمر واحد، وهو من جهة الحفظ والعدالة على ما ذكره المؤلف في المطروح يُنظر إلى جهة درجة الراوي في مراتب الجرح؛ فإن كان من المراتب التي لا يعتبر بأهلها، ولكنه لم يبلغ درجة الكذاب، فهذا يسمى حديثه مطروحا، هذا بالنظر إلى كلام المؤلف، لكن هناك إطلاقات لأهل العلم للمطروح يطلقونه على الحديث الذي تفرد به الضعيف جدا -كما سبق-، ويطلقونه على خلاف المحفوظ كما سيأتي -إن شاء الله- في مبحث الشاذ، ويزداد ضعفا إذا كان هذا المتفرد مجهولا أو ضعيفا وقد خالف، فإنه يزداد ضعفه، ويكون الحديث منكرا مطرحا بهذا، وسيأتي -إن شاء الله- في مبحث المنكر وفي مبحث الشاذ من هذا ما يبين هذا الأمر .
س: إذا اجتمع في الراوي قَدْح في العدالة، مع قدح في الضبط، هل يكون مطروحا؟
ج: أصلا إذا قُدِح في العدالة، وقدح بما يدل على الكذب، فهذا مُطَّرَح أصلا، إن قُدِح في عدالته بما يدل على الاتهام فهذا مطرح.
فالقدح في العدالة إما اتهام في الدين، أو اتهام في الرواية، وكلاهما يكون معه حديث الراوي مطروحا، بقطع النظر عن الضبط، بقطع النظر عن الضبط.
فمثلا: كما سبق لكم أن سليمان بن داود الشاذكوني حافظ، ولكنه متهم بالكذب؛ فلذلك حديثه يسمى حديثا مطروحا، بقطع النظر عن درجة حفظه.
بالمقابل: قد يكون هناك شخص اجتمع فيه هذان الأمران، فيزداد حاله سوءا، إذا اجتمع الكذب مع عدم الحفظ فيزداد حاله سوءا، أو اجتمع له الاتهام في العدالة، والقدح في الضبط.
س: هل يوافق الذهبي -رحمه الله- على قوله: لم يعتمد العلماء على تصحيح الترمذي؟
ج: هذا الكلام -إن شاء الله- سيُعْرَض لك في أواخر، في تقريبا السدس الخامس من الموقظة سيتعرض إلى تصحيح الترمذي، وكلام المؤلف أن من صحح له مثل الترمذي وابن خزيمة، فإنه أولا يُحَسَّن حديثهم، أو يكون إسنادهم جيدا .. سيأتي الكلام عليه .(1/116)
س: ما معنى قولهم: مخرج الحديث؟
ج: مخرج الحديث هذا بعضهم يقولها كناية عن اتصال السند، والأظهر -عند أهل العلم- أن المراد به مدار الحديث الذي يخرج منه الإسناد، فملتقى الطرق، أو ملتقى الرواية هو الرجل الذي تخرج منه الطرق، وتتعدد عنه الرواة، هذا هو الذي يسمى مخرج الحديث؛ لأن الحديث خرج من عنده.
س: يقول هذا: قلت: إن المتابعة هي أن يروي عن الشيخ راويان ضعيفان، فإذا كان أحدهما ثقة والآخر ضعيفا، فما الحكم ؟
ج: أولا لا يشترط في المُتابِع والمُتابَع أن يكونا ضعيفين؛ بل قد يكونان ثقتين، فكثيرا ما تجد أهل العلم يقولون في الثقات: فلان تابَع فلانا، وكلاهما ثقة. هذا الأول.
والثاني: أن الضعيف إذا تابعه الثقة ترقَّى حديثه وارتفع عن حيز الضعف، فبعض العلماء يجعل إذا تابعه الثقة يجعله صحيحا، وبعضهم يجعله حسنا.
س: هذا ما الفرق بين الحفظ والضبط ؟
ج: الحفظ يُعَبِّر عنه العلماء بالضبط، ويعبرون عن الضبط بالحفظ، وإنما الفرق بين الحافظ والضابط ، الفرق بين الحافظ والضابط، فالضابط لا يشترط أن يكون حافظا، وأما الحافظ فلا بد أن يكون ضابطا.
فالضابط، أحيانا بعض الرواة يكون له عشرة أحاديث، أو يكون له حديثان، يكون ضابطا لهذين الحديثين، فهذا نسميه ضابطا، ونصحح حديثه .
وأما بالنسبة للحافظ فإن هذا وصف على من كثرت روايته، مع ضبطهما وإتقانها، وكونه مشتغلا بعلم الحديث، ومعرفة الصحيح من السقيم.
ولهذا -يعني- كانت هذه العبارة في الأول قليلة، فلما تجوَّز الناس صارت الآن في القرون المتأخرة تطلق كثيرا، أو يُفَتّش في تراجم ذكرها في السير، أو في غيرها من الكتب المتأخرة، يوجد فلان الحافظ الإمام الكذا، وهو يمكن -يعني- ما يبلغ ولا معشار ما ذُكِر عنه.
لكن تجوَّز الناس فيها على اعتبار أن صارت الرواية بالإجازة، وضبط الأمور في الحديث بالإجازة سهل؛ لأنه عبارة عن كتاب مُجَاز.(1/117)
س: ما هي الطريقة المثلى في دراسة الأسانيد؟ وما هي الكتب القيمة في هذا الباب؟
ج: أولا دراسة الأسانيد مرحلة تأتي بعد مرحلتين: مرحلة دراسة المصطلح، وإتقان اصطلاحات أهل العلم، ثم تأتي مرحلة بعد التخريج، معرفة كيف يُخَرَّج حديث النبي -صلى الله عليه وسلم.
لكن قد الإنسان يدرس بعض الأسانيد، وهو -يعني- ليس لديه قدرة في تخريج الحديث، على سبيل التدرب على كلام أهل العلم، فإذا درس -مثلا- الحديث الصحيح أو الحسن أو غيره، يطبق هذا، يأخذ حديثا من سنن أبي داود، وحديثا من سنن الترمذي، وحديثا من سنن النسائي، ثم ينظر فيها، ويحاول يطبق القواعد المدروسة في مصطلح الحديث على هذه الأشياء، فهذا طيب للتمرن .
لكن للحكم على الأحاديث، ومعرفتها وإتقانها، لا يأتي إلا بعد دراسة المصطلح وكلام الأئمة، ثم معرفة كيف يعثر على الأحاديث من مظانّها، وهو التخريج؛ لأن دراسة الإسناد ودراسة الحديث والحكم عليه لا تكون بالاقتصار على سند واحد، وإنما يبذل الدارس جهده ووسعه في استخراج الحديث، والنظر في أسانيدها وطرقها، وعللها ومتونها، وكلام أهل العلم عليها، حتى يخرج بنتيجة حول هذا الحديث، تكون -يعني- ناشئة عن اجتهاد قد يخطئ صاحبه، فيكون له أجر، وقد يصيب، فيكون له أجران، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد .
الحديث الموضوع
تعريف الحديث الموضوع
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال الإمام الذهبي -رحمه الله تعالى-:
الحديث الموضوع ما كان متنه مخالفا للقواعد، وراويه كذابا، كالأربعين الودعانية، وكنسخة علي الرضا المكذوبة عليه .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدالله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فهذا شروع في النوع الخامس من أنواع الأحاديث، وهو الحديث الموضوع.(1/118)
والحديث الموضوع: هو الحديث المكذوب على النبي - صلى الله عليه وسلم - .
ويعبر عنه العلماء كثيرا بالحديث الباطل، وبالكذب، ويقولون أيضا في شأنه: لا أصل له.
وهذه الكلمة: "لا أصله له" ينبغي أن يُفَرِّق الإنسان بين ورودها، أو إذا وردت في الحديث المرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فتارة يقولون: هذا الحديث لا أصل له. يعنون أنه كذب باطل مطلقا، وتارة يعنون أنه لا أصل له، أي: أنه لا تصح نسبته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد تصح نسبته إلى أحد الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم- كما في حديث عمار: " من صام اليوم الذي يُشَكُّ فيه فقد عصى أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم - " .
فهذا الحديث قال بعض العلماء: لا أصل له. وليس معناه أنه لا يُعْرَف حتى عن عمار؛ وإنما معناه أنه لا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أو لا أصل له من حديثه - صلى الله عليه وسلم - .
والحديث الموضوع ذكر المؤلف ها هنا له وصفين: الوصف الأول: أن يكون متنه مخالفا للقواعد، والمراد بالقواعد هي القواعد الكلية في الشريعة، المبنية على نصوص الكتاب والسنة.
والشرط الثاني: أو الوصف الثاني: أن يكون راويه كَذَّابا.
فهذان الوصفان إذا تحققا في حديث ما وُصِفَ بأنه حديث موضوع، لكن هل يشترط توافر هذين الشرطين في كل حديث موضوع؟ أو لو جاءنا حديث بإسناد فيه راوٍ كذاب -وإن كان متنه لا يخالف القواعد- فهل نحكم عليه بأنه موضوع؟
وكذلك لو جاءنا حديث متنه مخالف للقواعد، إلا أن إسناده قوي، أو دون الوضع، فهل يُحْكَم له بأنه موضوع؟
لا شك أن كل حديث توفرت فيه أحد هاتين الصفتين -ولو منفردة- يُسَمَّى حديثا موضوعا، وإنما ذكر المؤلف ها هنا أعلى مراتب، أو الوصف الأعلى لمراتب الموضوع، فالحديث الذي يكون متنه مخالفا للقواعد، وراويه كذابا، هذا هو يكون أسوأ الموضوعات؛ لأنه جمع بين وضع المتن ووضع الإسناد.(1/119)
وأما إذا توافرت فيه صفة من هاتين الصفتين فيحكم له -أيضا- بالوضع، وسيأتي في كلام المؤلف -رحمه الله- ما يدل على هذا.
فلا يُفْهَم من قول المؤلف: أن يكون متنه منافيا للقواعد، وأن يكون راويه كذابا، لا يُفْهَم من هذا أنه لا بد من اجتماع الصفتين للحكم على الحديث بأنه موضوع، بل يكفي وجود إحدى الصفتين.
ومَثَّل المؤلف بالأربعين الودعانية، نسخة علي أبي موسى الرضا عن آبائه.
أما الأربعون الودعانية، فهذه افتعلها رجل يقال له: زيد بن رفاعة الهاشمي، وهذا مُتَرْجَمٌ له في اللسان في موضعين: في زيد، وفي رفاعة، وفي الميزان.
هذا زيد بن رفاعة جاء إلى أسانيد صحيحة، ورَكَّبَ عليها متونا كَذَبها على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأودعها أربعين خطبة زعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قالها، وجاء عليها بأسانيد صحيحة.
ثم سرقها منه القاضي حاكم الموصل أبو نصر بن ودعان، سرقها ونسبها إلى نفسه، فهذه الودعانية أحاديث مسروقة عن أحاديث موضوعة، فهي سوء على سوء.
والأحاديث التي فيها كلها لا تصح، بل مكذوبة على النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يسلم منها إلا نذر يسير، أكثره لا يتم إلا بعد التتبع والتقصي، وقد تكلم على هذه النسخة أبو طاهر السلفي، والحافظ المزي، وجماعة آخرون، وبَيَّنُوا بطلان نسبتها إلى النبي -صلى الله عليه وسلم.
وأما النسخة -نسخة علي الرضا عن آبائه- فهذه يرويها عبد الله بن أحمد بن عامر، عن أبيه، وهذا عبد الله توفي سنة ثلاثمائة وأربع وعشرين من هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذه النسخة يرويها عبد الله بن أحمد بن عامر، عن أبيه، عن علي بن موسى الرضا، عن آبائه من آل البيت.
وهذه -أيضا- نسخة كذب، والكاذب فيها إما عبد الله بن أحمد بن عامر، وإما أبوه.
الشاهد من هذا أن هذه نسخة أوردها العلماء في كتب الموضوعات، وبَيَّنوا أن كل حديث يُنْسَب إليها فهو مكذوب على النبي -صلى الله عليه وسلم. نعم.(1/120)
مراتب الحديث الموضوع
وهو مراتب منه: ما اتفقوا على أنه كذب، ويُعْرَف ذلك بإقرار واضعه، وبتجربة الكذب منه ونحو ذلك .
فكما أن الحديث الصحيح مراتب، والحسن مراتب، والضعيف مراتب، فكذلك الموضوع مراتب، كذلك الموضوع مراتب: فأشد هذه المراتب ما اتفق العلماء على أنه حديث مكذوب على النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن اتفاق أهل العلم يقوِّي اليقين بالكذب على النبي -صلى الله عليه وسلم.
وهذا الكذب ذكر المؤلف -رحمه الله- أنه يُعْرَف بإقرار واضعه، يعني: يُقِرّ الكاذب بأنه قد كذب هذه الأحاديث، واختلقها وافتعلها، كما حصل من محمد بن السائب الكلبي حينما قال: ما حدثتكم عن أبي صالح عن ابن عباس فهو كذب، فلا ترووه.
فهذا اعتراف من الكلبي أن الأحاديث التي يرويها عن أبي صالح هي أحاديث مكذوبة.
وعليه: فكل حديث جاءنا من حديث الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، فنحكم له بالكذب.
وكذلك ما جاء عن ميسرة بن عبد ربه الفارسي حين اعترف بأنه وضع الأحاديث الواردة في فضائل القرآن، كذلك عمر بن صبح اعترف بوضعه خطبة للنبي -صلى الله عليه وسلم.
فها هنا الراوي أقر بأنه وضع وكذب الحديث على النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن هذا الباب عرفنا أن هذا الحديث مكذوب عليه -صلى الله عليه وسلم.
ويعرف -أيضا كما ذكر المؤلف- يعرف الوضع في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - بإقرار الرواي -كما ذكر المؤلف-، والعلماء يُنَزِّلُون ما يتنزل منزلة الإقرار.
فكل ما صح أن يكون بمنزلة الإقرار فإنه يأخذ حكم الإقرار، أو يأخذ حكما مقاربا للإقرار.
ويمثلون لهذا بأن أحمد بن عبد الله الجُوَيْبَاري اختلف في مجلسه هل سمع الحسن من أبي هريرة أو لم يسمع؟ فساق بإسناده إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "سمع الحسن من أبي هريرة" فهذا بمنزلة الإقرار بالوضع؛ لأن القرينة قاضية بأن هذا كذب عليه -صلى الله عليه وسلم .(1/121)
ومما يُعْرَف -أيضا- به الوضع أن يكون الحديث مناقضا للكتاب والسنة الصحيحة عنه - صلى الله عليه وسلم - وهذا مثل الحديث: "لا نبي بعدي إلا أن يشاء الله" هذا مناقض للقرآن، ومناقض للسنة فكلمة: "إلا أن يشاء الله" هذه موضوعة ولا شك؛ لأنه ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو خاتم النبيين، والله -تعالى- يقول: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } (1) .
فهذا يشهد بأن هذه اللفظة موضوعة على النبي -صلى الله عليه وسلم.
ومثله أيضا حديث: "لو أن أحدكم أحسن ظنه بحجر لنفعه الله به".
قال العلماء: هذا ينافي الآيات والأحاديث الدالة على وجوب إخلاص التوحيد لله، وأن النفع والضر إنما هو بيد الله وحده لا شريك له.
فكون هذا يناقض صريح الكتاب والسنة، فإنه يُحْكَم عليه بالبطلان من خلال متنه، وإن لم ينظر إلى سنده قبل ذلك.
وها هنا مسألة ذكرها ابن الجوزي -رحمه الله- ينبغي التنبه لها، وتبعه عليها كثير ممن كتب في اصطلاح أهل الحديث من المتأخرين، وهو أن الحديث إذا كان ينافي العقل الصريح فهو مكذوب، وهذا كلام صحيح على وجه، باطل من وجه آخر.
أما كونه صحيحا من وجه، فهذا إذا كان الحديث إسناده مكذوب، يعني: فيه راوٍ كذاب، أو متهم بالكذب، وكان المتن يخالف صريح العقل، فهذا لا شك في كذبه، وهذه المقالة على هذا الوجه تعتبر صحيحة.
وأما إذا كان الإسناد صحيحا وثابتا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يخالف النصوص الأخرى، وكان لا يوافق العقل فيما يزعم، فإن هذا هو كلام أهل البدع والضلالة، أما أهل السنة والجماعة فيقدِّمون نصوص الوحي على العقل، وأما غيرهم من أهل البدع فيقدمون العقل على النقل.
فهذه المقالة لها وجه صحيح، ووجه باطل، فلا ينبغي الأخذ بها مطلقا.
__________
(1) - سورة المائدة آية : 3.(1/122)
ولهذا لم يرد عن سلف هذه الأمة -الذين تكلموا عن الأحاديث وبينوا ما فيها- لم يرد عنهم أنهم حكموا على حديث بأنه حديث باطل أو موضوع لكونه يخالف العقل؛ وإنما حكمواعليه بالبطلان والوضع لكونه يخالف كتاب الله، وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - أو لكون راويه كذابا، أو متهما بالكذب عند بعض أهل العلم. نعم.
"وبتجربة الكذب" هذه إذا كان الرواي معروفا بالكذب، فينبني على هذا أن كل حديث ورد هذا الراوي في إسناده، فيحكم له بالكذب والوضع والبطلان.
هذا مثل حديث عائشة: "سبع ما تركهن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حضر ولا سفر: المشط، والمكحلة، والسواك" ... إلى آخر الحديث.
هذا حديث حكم عليه أبو حاتم بأنه حديث موضوع، قال وذكر علة ذلك بأن فيه يعقوب بن الوليد، قال: وكان مكذبا. فلما كان هذا الرجل مجربا عليه الكذب حُكِمَ على هذا الحديث بأنه حديث موضوع لوجود هذا الرجل في سنده .
وقول المؤلف: أو نحو ذلك ما تقدم لنا مما ينزل منزلة الإقرار، أو يكون مناقضا لصريح الكتاب والسنة. نعم.
ومنه: ما الأكثرون على أنه موضوع، والآخرون يقولون: هو حديث ساقط مطروح، ولا نجسر أن نسميه موضوعا .
هذا الاختلاف بين أهل العلم في الحكم على الأحاديث؛ هل هي موضوعة، أو دون الوضع، يعني: تكون منكرة ساقطة مطروحة، هذا الاختلاف ناتج عن الاختلاف في تحقق شرط الموضوع في الحديث المذكور.
فبعض أهل العلم يرى أن هذا الراوي كذابا، فيَجْعَل حديثه موضوعا، وبعضهم يرى أن هذا الحديث أن هذا الراوي لم يبلغ درجة الكذب، وإنما كان متهما أو متروكا، فيَحْكُم على حديثه بأنه حديث دون الوضع، إما يصفه بالنكارة، أو السقوط، أو كونه مطروحا.
وهذه الجملة تفيدنا في الحديث المطروح، وهو أن الحديث المطروح دون الحديث الموضوع كما سبق لنا، وتفيدنا -أيضا- في الحديث المطروح بأنه يطلق عليه حديث ساقط، كما تقدم لنا في بحث الحديث المطروح .(1/123)
فالشاهد من هذا أن الحديث الموضوع قد يختلف العلماء فيه؛ فمنهم من يجعله موضوعا، ومنهم من لا يجعله موضوعا، وهذا -أحيانا- يقع للعلماء بعضهم مع بعض، وقد يقع للعالم الواحد فيتردد في الحديث، فيتردد في الحديث: هل هو حديث مكذوب أو غير مكذوب؟.
ولهذا لمَّا حديث جابر - رضي الله عنه - مرفوعا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "من صلى بالليل حَسُنَ وجهه بالنهار" هذا الحديث ابن نمير يرى أنه حديث منكر، وأبو حاتم حكم عليه بأنه حديث موضوع لاختلاف تحقق شرط الوضع في هذا الحديث بالنسبة إليهما.
كذلك الأئمة نظرا لـ أحيانا يحكمون على حديث، العالم الواحد أحيانا يقول: هذا حديث منكر ثم يقول: موضوع، وأحيانا يتردد، أو لا يجزم بوضعه، فيقف فيقول: كأنه موضوع، أو شبه موضوع، وهذا حصل من الإمام البخاري -رحمه الله- ما في "العلل الكبير" للترمذي، وأبو حاتم قال ذلك أيضا، والإمام أحمد -رحمه الله- قال ذلك، فكلهم قال في بعض الأحاديث: هذا كأنه موضوع؛ لأنه لم يتحقق الوضع بتمامه، لكنه يميل إلى أنه قريب من الموضوع.
طرق كشف ونقد الحديث الموضوع
ومنه: ما الجمهور على وهنه وسقوطه، والبعض على أنه كذب. ولهم في نقد ذلك طرق متعددة، وإدراك قوي تضيق عنه عباراتهم من جنس ما يؤتاه الصيرفي الجهبذ في نقد الذهب والفضة . أو الجوهري لنقد الجواهر والفصوص لتقويمها، فلكثرة ممارساتهم للألفاظ النبوية إذا جاءهم لفظ ركيك.
العلماء -رحمهم الله- لهم طرق في فحص الحديث الموضوع وبيانه، وهم يتفاوتون بينهم بحسب تفاوتهم في الحفظ والمنزلة والعلم، لكن منهم من هو متشدد في هذا الباب، فيحكم بالوضع لأدنى ملابسة، ومنهم من هو يحتاط، فلا يحكم بالوضع إلا بعد التحقق التام.(1/124)
فالإمام أبو حاتم -رحمه الله- عنده نوع من التشدد في مسألة الحكم بالوضع، فهو يحكم أحيانا على الحديث الذي تفرد به المجهول، أو تفرد به المستور، أو تفرد به الضعيف، أو تفرد به منكر الحديث، أو تفرد به المتروك، يحكم عليه بأنه حديث موضوع.
وأما غيره من الأئمة أو أكثرهم فلا يحكمون بالوضع إلا بعد تحقق الكذب، أو بعد تحقق كذب الراوي، وأما أبو حاتم فإذا رأى حديثا تفرد به أحد هؤلاء -وبخاصة إذا كان منكرا في إسناده أو متنه- فإنه يبادر إلى الحكم عليه بالوضع، وإن كان في بعض الأحيان يتردد بالحكم لقيام ما يمنع من الجزم بالحكم على الحديث بأنه موضوع.
فالشاهد أن أهل العلم يتفاوتون في طرق معرفة، أو في فحص الحديث والحكم عليه بالوضع، كما أنهم يتفاوتون في الحفظ والإتقان. نعم.
فلكثرة ممارساتهم للألفاظ النبوية إذا جاءهم لفظ ركيك، أعني: مخالفا للقواعد أو فيه مجازفة في الترغيب أو الترهيب أو الفضائل .
ها هنا المؤلف فسر اللفظ الركيك بقوله: "أعني مخالفا للقواعد"، وهذا تفسير فيه نظر ظاهر؛ لأن اللفظ الركيك هو اللفظ الضعيف، وقد يكون الحديث ركيكا في لفظه، ولكنه لا يخالف القواعد.
فهذه العبارة لعل فيها شيئا، إما من المؤلف، أو من النساخ، لعل هناك كلاما ساقطا من النساخ، لكن هذه العبارة -يعني في الظاهر- النظر ظاهر جدا؛ لأنه لا يقتضي ركاكة اللفظ، لا تقتضي أن يكون الحديث مخالفا للقواعد، كما أنه تارة يكون مخالفا للقواعد ولفظه غير ركيك، فتفسير ركاكة اللفظ بأنه مخالفة القواعد هذا فيه نظر ظاهر. نعم.
وكان بإسناد مظلم، أو إسناد مضيء كالشمس في أثنائه .
هذا وقوله: "وكان بإسناد مضيء كالشمس". هذه الكلمة، أو قبل ذلك اللفظ الركيك إذا اجتمع معه الإسناد المظلم، أو اللفظ الذي فيه مجازفة، في الترغيب والترهيب، وفضائل الأعمال في وجودها إذا اجتمع مع الإسناد المظلم، حُكِمَ عليه بأنه حديث موضوع.(1/125)
والإسناد المظلم هو الإسناد الهالك الضعيف جدا، ودون الموضوع هذا يطلق عليه إسناد مظلم، فإذا جاءنا إسناد ضعيف جدا، والمتن في لفظه ركاكة، أو في معناه ركاكة، فإننا نحكم، أو يُحْكَم عليه بأنه حديث موضوع، فإذا جمع هذين الوصفين حُكِمَ عليه بأنه حديث موضوع، وإن لم يكن فيه راوٍ كذاب.
فلو كان عندنا حديث في إسناده متهم، أو توالت العلل الكثيرة في إسناده، أو كان في إسناده من هو ضعيف جدا في حفظه، وجمع -مع ذلك- ركاكة اللفظ أو المعنى، فإنه يُحْكَم عليه بأنه حديث موضوع.
وأما الشطر الثاني، قال: "أو كان بإسناد مضيء". فهذه اللفظة تحتمل أن تكون معطوفة على الجملة التي قبلها، وهو قوله: "وكان بإسناد مظلم، أو كان بإسناد مضيء في أثنائه رجل كذاب أو وضاع". فيكون المعنى: إذا جاءهم لفظ ركيك بإسناد مضيء في أثنائه رجل كذاب أو وضَّاع، حكموا عليه بأنه حديث موضوع.
فعليه لا بد أن يستوفي شيئين: ركاكة اللفظ أو المعنى، وكون هذا الإسناد الذي جملة أهله ثقات، وظاهره فيه الصحة، إلا في رجل كذاب أو وضاع، فإذا اجتمع فيه هذان الشرطان حُكِمَ عليه بأنه حديث موضوع.
ويحتمل أن يكون قوله: بإسناد مضيء أن تكون معطوفة على "أو جاءهم لفظ ركيك وإسناد مضيء كالشمس في أثنائه رجل كذاب".
فعليه: إذا حصل عندنا إسناد فيه راوٍ كذاب بقطع النظر عن متنه، حكمنا عليه بأنه حديث موضوع مكذوب على النبي -صلى الله عليه وسلم.
وإذا قلنا بهذا كان كلام المؤلف في الأول، أو كان هذا الكلام شارحا لكلام المؤلف في الأول في بيانه حد الحديث الموضوع ، وأنه لا يشترط فيه أن يتوافر فيه الصفتان اللتان هما: مخالفة المتن للقواعد ، وكون الإسناد فيه كذاب. نعم.
أو إسناد مضيء كالشمس في أثنائه رجل كذاب أو وضاع .(1/126)
لأن قوله: "أو إسناد" هذه تحتمل أن تكون مجرورة كما سبق، وتحتمل أن تكون مرفوعة، تحتمل أن تكون مجرورة، وتحتمل أن تكون مرفوعة، فشكلها من المحقق بالكسرتين وبالجر هذا فيه نظر. نعم.
فيحكمون بأن هذا مختلق، ما قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتتواطأ أقوالهم فيه على شيء واحد ، وقال شيخنا ابن دقيق العبد: إقرار الراوي بالوضع في رده ليس بقاطع في كونه موضوعا، لجواز أن يكذب في الإقرار .
يعني: أن الراوي إذا قال: أنا كذبت هذا الحديث على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: هذا ليس قاطعا في الحكم على الحديث بأنه مكذوب؛ لأنه قد يكون كاذبا في هذا الإقرار، فكما أنه كان كاذبا في الحديث يحتمل أنه كان كاذبا في هذا الإقرار، فيحتمل أن الحديث صحيح أو ثابت، ويرويه هو على وجهه، لكنه كذب في ذات الإقرار، وإلا فالأصل فالحديث صحيح. نعم.
قلت: هذا فيه بعض ما فيه، ونحن لو افتتحنا باب التجويز والاحتمال البعيد لوقعنا في الوسوسة والسفسطة .
يعني: وقعنا في الوسوسة، كل حديث جاءنا يصير عندنا وسواس من الحكم عليه بالوضع، وكذلك يكون فيه سفسطة، وهي المغالطة والمشاغبة والمخادعة، وهذه كلمة منطقية يونانية وكلام المؤلف -رحمه الله- ظاهر، وجواب ابن حجر -رحمه الله- وتكلُّفه في النكت وفي شرح النخبة في رد كلام الحافظ الذهبي فيه تكلف ظاهر. نعم.
نعم كثير من الأحاديث التي وسمت بالوضع لا دليل على وضعها، كما أن كثيرا من الموضوعات لا نرتاب في كونها موضوعة .
الشطر الأول من هذا الكلام، وهو: أن كثير من الأحاديث الموضوعة ليس هناك دليل على وضعها ، أو دليل صحيح على وضعها، هذا متعلق ببعض الأحاديث التي حكم عليها العلماء بأنها أحاديث موضوعة، وهي لم تبلغ رتبة الوضع، بل هي دون ذلك.(1/127)
فهناك أحاديث حكم عليها العلماء بالوضع، وهم منازعون في الحكم، بل بعضها يصل إلى الحسن، بل بعضها صحيح، فالحكم عليها بالوضع مع عدم قيام الدليل الصحيح الظاهر، هذا فيه جملة كثيرة من الأحاديث.
كما أن هناك أحاديث كثيرة حُكِمَ عليها بالوضع وهي متحققة فيها هذه الشروط، تحققت فيها شروط الوضع، فالشطر الأول هو الذي ينبغي الاعتناء بفهمه، وأن المؤلف يقصد بهذا الالتفات إلى بعض أهل العلم الذين ضعفوا بعض الأحاديث، أو حكموا على بعض الأحاديث بالكذب، وهي لم تبلغ هذه الدرجة لعدم استيفائها شروط الحكم على الحديث بالوضع.
والحديث الموضوع تارة يُحْكَم عليه بالوضع من أجل راويه، وتارة يحكم عليه بالوضع لمتنه، ولكن راويه لا يوصف بأنه كذاب، فالمتن قد يكون موضوعا والراوي غير كذاب، كما في حديث جابر -رضي الله تعالى عنه- الذي مرّ معنا: "من صلى بالليل حسن وجهه بالنهار".
هذا الحديث رواه ثابت بن موسى عن شريك، وثابت هذا ما وصف بالكذب؛ وإنما أخطأ في هذا الحديث، ولهذا ابن نمير قال: ثابت بن موسى لا بأس به، والحديث منكر.
فأحيانا الحديث يكون موضوعا، والراوي لا يكون كذابا، فهذا الوصف يكون عندئذٍ متعلقا بالمتن، يكون الوصف متعلقا بالمتن، وهذا -كما مر معنا في كلام أبي حاتم- أنه يُسَمِّي الحديث موضوعا، مع أنه من رواية المجهول، أو الضعيف، أو المستور، أو غيرها ممن لم يبلغوا درجة الكذب، وهذا يدل على أن الحديث قد يوسم بأنه موضوع، ولكن الراوي لا يكون موصوفا بأنه راوٍ كذاب.
وأيضا الراوي قد يخطئ في الرواية، فتوصف روايته بأنها كذب، وإن كان ثقة في نفسه، لكن توصف هذه الرواية بعينها بأنها كذب، فهذا لا يقدح في الراوي؛ وإنما يقدح في روايته هذه، كما توصف بعض الأحاديث بأن هذا حديث أخطأ فيه فلان، أو هذا حديث معلول تفرد به فلان.(1/128)
فكونهم يقولون: هذا كذب والراوي ثقة، لا يعنون به الكذب الاصطلاحي، وأن الراوي قد تلبَّسَ به؛ لأنه لو تلبس به -وهو متعمد للكذب- لسقطت كل رواياته، ولكن المراد في مثل هذه الحالة أن هذه الرواية كذب، وإن كان الراوي ثقة، ومعلوم أن المقالة قد تكون كذبا، والقائل لا يكون كاذبا كما هو معروف عند أهل العلم .
وهذا مثل ما روى أو جاء أبو جزيّ نصر بن طريف إلى جرير بن حازم ليشفع برجل لكي يحدثه جرير، فحدثه جرير بحديث قال: حدثنا قتادة، عن أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .. وساق الحديث، فأنكره أبو جزي، وقال: كذب.
فهو لم يقصد تكذيب جرير بن حازم، وإنما قصد أن جرير بن حازم أخطأ في سند هذا الحديث.
وأقر الإمام أحمد -رحمه الله- أبا جزيّ على هذا الكلام، أقره على تخطئة جرير بن حازم، وهذا نصر بن طريف أبو جزيّ قد وصف هذا القول، أو هذه الرواية، أو هذا الخطأ من جرير بن حازم بأنه كذب، وهذا لم يقدح في جرير بن حازم، بل هو من ثقات المُخَرَّج لهم في الصحيح، وإلا لو كان يقتضي الكذب، أو يقتضي أن يكون هذا الراوي موصوفا بالكذب، لسقطت روايات جرير بن حازم بأكملها .
فإذا وجدت مثل هذا فلا تحكم على الراوي لأول وهلة، لا تحكم عليه بأنه كذاب. نعم.
الحديث المرسل
تعريف الحديث المرسل
وقال المصنف -رحمه الله تعالى-: الحديث المرسل: عَلَمٌ على ما سقط ذِكْر الصحابي في إسناده، فيقول التابعي: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
هذا شروع في نوع من أنواع الحديث، وهو المرسل، وهو قسم من أقسام الحديث الضعيف، ولكن لما كان له اسم خاص جعلوه نوعا منفردا لكثرة أنواع الأحاديث الضعيفة، والكلام السابق في المطروح، وفي الموضوع، وفي الضعيف، قلنا: إنه متعلق بجهة ثقة الراوي، إما في ضبطه، أو في عدالته، أو فيهما معا.(1/129)
وأما ها هنا فهو متعلق بجزءٍ آخر من الإسناد، وهو اتصال السند، فالمرسل ينافي اتصال الإسناد، فالمرسل ينافي ما كان متصلا إسناده، فقد تقدم لنا في الصحيح: أن الحديث الصحيح لا يُحكم له بالصحة إلا إذا كان إسناده متصلا.
وها هنا المرسل إسناده منقطع، وجهة الانقطاع بين التابعي وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - لكن هل الساقط هو الصحابي، أو غير الصحابي؟
اف التابعي الحديث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنا لا ندري من الساقط، هل هو الصحابي، أو غير الصحابي؟ فلو كنا نجزم أن الساقط هو الصحابي لكان هذا الحديث من الصحاح، وليس من الضعاف؛ لأن الصحابة -رضي الله عنهم- كلهم عدول، لا يُسأل عن عدالتهم، ولا يحتاج إلى البحث عن أحوالهم -رضي الله تعالى عنهم.
وعليه: فكلام المؤلف ها هنا في تعريف المرسل بأنه ما سقط من إسناده الصحابي، هذا التعريف عارضه فيه أهل العلم، وهو مقلد أو تابع لشيخه في كتابه "الاقتراح"، تابع للتعريف بهذا التعريف لشيخه في الاقتراح.
والصواب أن يقال في الحديث المرسل: هو ما أضافه التابعي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه حينئذ يصح أن يكون من أنواع، أو جزءا من الأحاديث الضعاف، ويصح أن يكون تعليل العلماء للأحاديث بأنها مرسلة ، يصح أن يكون تعليلا صحيحا، وإلا لو أن ما سقط من إسناده الصحابي لكان هذا نوعا من أنواع الصحيح، ثم لئن كان -أيضا- يكون مثله مثل مراسيل الصحابة.
والعلماء -رحمهم الله تعالى- لم يتكلموا على مراسيل الصحابة، ويعِلُّوا بها الأحاديث لثبوتها عندهم لكون الصحابة لا يسأل عنهم.(1/130)
فابن عباس وابن الزبير وابن عمرو وغيرهم رووا عن الصحابة ولم يسموا، وإنما أسندوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - مباشرةً فقالوا: عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يبحث العلماء فيما بين هذا الصحابي وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - لجزمهم يقينا أن بعض الصحابة لا تبلغ روايته عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما ثبت عنه أنه رواه عنه -صلى الله عليه وسلم.
كما عن ابن عباس قال: إنه لم يثبت سماعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا في أربعين حديثا أو أكثر من ذلك، ولكنها لا تبلغ عدد الأحاديث التي أثبت العلماء أنه رواها عن النبي -صلى الله عليه وسلم .
وبناء على هذا يكون ابن عباس قد أخذ هذه الأحاديث عن غيره من الصحابة، ولم يُنْقَل عن أهل العلم أن أحدا منهم أعَلَّ أحاديث ابن عباس لكونه لم يسمعها من النبي - صلى الله عليه وسلم - مباشرةً.
فإذا قلنا في الحديث المرسل بأنه: ما سقط منه الصحابي. لزم عليه أن نبحث في مراسيل الصحابة أيضا، كما نبحث في المرسل ها هنا، أو نجعل المرسل نوعا من أنواع الصحيح ، ولا نبحث فيه ، ولا نجعله من أنواع الضعيف، وهذا يخالف ما عليه العلماء من الإعلال بالإرسال، من الإعلال بالإرسال.
إذن، فيكون التعريف الأنسب ما أضافه التابعي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وسيأتينا في الأمثلة الآتية -إن شاء الله- أن بعض التابعين يكون بينه وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - اثنان، وبعضهم يكون بينه وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة، وبعضهم لا يكون بينهم وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا واحد.(1/131)
فهؤلاء إذا قلنا ما سقط منه الصحابي، تتعارض مع الأمثلة التي أوردها المؤلف -رحمه الله تعالى-، التي أوردها المؤلف -رحمه الله-، فيقول المؤلف قد ذكر هذا التعريف تبعا لصاحب الأصل وهو كتاب الاقتراح، وهذه التبعية جعلها أهل العلم محل نظر في صياغة التعريف، وأن الأنسب في التعريف الذي يوافق كلام أهل العلم وعملهم، ويوافق ما أورده المؤلف ها هنا من أمثلة أن يقال ما أضافه التابعي للنبي -صلى الله عليه وسلم.
والمرسل هذا هو المعنى الاصطلاحي الأعم، هذا هو المعنى الاصطلاحي المشهور، وأيضا هناك معنًى آخر عند أهل العلم وأهل الحديث هو معنى المرسل يطلقونه على المنقطع، يطلقونه عن المنقطع، فأي انقطاع في جهة الإسناد يسمونه المرسل.
وهذا -كما يقولون إبراهيم بن يزيد النخعي عن عمر- مرسل، فإبراهيم ما أضاف الحديث إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-، وإنما الذي رفعه عمر، لكن الانقطاع بين إبراهيم وبين عمر، فإبراهيم لم يسمع من عمر -رضي الله تعالى عنه.
وكما -أيضا- الحسن عن أبي هريرة؛ فالحسن لم يسمع من أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه-، لكن الحسن لم يضف الحديث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما أضافه أبو هريرة، والانقطاع إنما هو بين الحسن وبين أبي هريرة.
ومع ذلك يقول العلماء: هذا حديث مرسل. وهذا موجود في المراسيل لابن أبي حاتم بكثرة ظاهرة، وأيضا استعمله جمع من الأئمة كبير، كالبيهقي والدارقطني، وأحمد والترمذي، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وأبو داود، كل هؤلاء استعملوا أو أطلقوا على الانقطاع أو على المنقطع بأنه مرسل بأنه مرسل.
بقي نوع -يعني- ننبه عليه أن بعض أهل العلم يطلق على، أو جعل إطلاق لفظة المرسل على المجهول، إذا كان في حديث إسناد مجهول، راوٍ مجهول، فهذا يطلق عليه بأنه مرسل، وهذا الإرسال -يعني ظهوره واضح من جهة؛ لأن هذا الراوي المجهول، قالوا الرجل عن فلان مجهول.(1/132)
فهذا الرجل لا يُدْرَى هل سمع من فلان، أو لم يسمع من فلان، فهو في حكم المرسل، وهذه استخدمها الإمام البخاري في كتابه "الكنى" وشيخه علي بن المديني كما سيأتي معنا -إن شاء الله- استعمل كلمة المنقطع في إطلاقها على المجهول، أطلق كلمة المنقطع وليس المرسل على ما في إسناده راوٍ مجهول، ووجه الإطلاق -كما سبق- أن هذا الراوي لا يُدْرَى هل سمع أو لم يسمع ممن قبله؟ أو هل أدركه أو لم يدركه؟
فالشاهد من هذا أن المعنى الغالب والمشهور هو إطلاق على ما أضافه التابعي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بقطع النظر عن كَمْ بين التابعي وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأنفس.
ويطلق -أيضا- على المنقطع وقرينة الحال تبين الفرق بينهما، فإذا جاء الصحابي وأسند الحديث، وقالوا: هذا مرسل. إذا رفع الصحابي الحديث للنبي - صلى الله عليه وسلم - قالوا: هذا مرسل، يعني: منقطع، وإذا رفعه التابعي وقالوا: مرسل، فمعناه المرسل الذي عرفه المعلق ها هنا. نعم.
والصورة الثالثة قليلة، بس نبهنا عليها لأن بعض الناس قد يستشكلها في بعض المواضع. نعم.
وجود الحديث المرسل في أنواع الحديث الأخرى
ويقع في المراسيل الأنواع الخمسة الماضية.
يعني: أن في الحديث المُرْسَل قد يكون صحيحا إلى المُرْسِل، صحيحا إلى المرسل، ليس صحيحا في نفسه، ولكن صحيح إلى المُرْسِل، بمعنى لو أرسل سعيد بن المُسيب حديثا، قال: قال - صلى الله عليه وسلم - فإن هذه الأحكام الخمسة ، أو الأنواع الخمسة تبتدئ من مبتدأ الإسناد إلى سعيد بن المسيب فقط، أما ما بين سعيد وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو خارج عن ما ذكره المؤلف، بمعنى أن الحديث نقول: صحيح مرسل. يعني: صحيح إلى سعيد بن المسيب، لكن بين سعيد وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - منقطع.(1/133)
وقد يكون ضعيفا بين صاحب الكتاب أو راوي الحديث وبين سعيد بن المسيب، يكون فيه راوٍ ضعيف، أو يكون إسناده منقطعا، وقد يكون ضعيفا جدا، يعني: مطروحا، وقد يكون حسنا، وقد يكون موضوعا.
وقد يكون بين سعيد بن المسيب وبين الراوي، قد يكون بينهم راوٍ كذاب، فنقول: هذا مرسل موضوع، هذا مرسل حسن، هذا مرسل ضعيف، هذا مرسل ضعيف جدا، هذا مرسل صحيح، أي: صحيح إلى المُرْسِل فقط، أما ما بين المرسل وهو التابعي والنبي -عليه الصلاة والسلام- فهذا خارج عن الحكم، هذا خارج عن الحكم.
فينبغي الاهتمام بهذا، فليس كل ما فيه مرسل صحيح ومرسل حسن أنه يكون المراد الحكم عن الإسناد بأجمعه، وإنما المراد الحكم إلى المرسل.
هذا كما يأتي الحديث عن أبي هريرة، ويضيفه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - نقول: هذا حديث صحيح حتى أبي هريرة، وما بين أبي هريرة وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - صحيح جزما بلا ريب.
يأتي الثاني ويقول: حسن ما بين الراوي وبين أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه-، وأما ما بين أبي هريرة وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو صحيح جزما.
وكذلك بالنسبة لـ نقول: هذا حديث ضعيف. فإذا بحثنا في الإسناد نبحث من بين الراوي إلى أن نصل إلى أبي هريرة، فإذا وصلنا إلى أبي هريرة وقفنا، لجزمنا بصحة ما بين أبي هريرة وبين النبي -صلى الله عليه وسلم.
وكذلك يأتي الموضوع، وكذلك يأتي الضعيف جدا، والمرسل كذلك، نبحث إلى المُرْسِل، فإذا بحثنا إليه جاءت فيه الأنواع الخمسة المذكورة الثابتة: وهي الصحيح، والحسن، والضعيف، والضعيف جدا، والموضوع. نعم.
فمن صحاح المراسيل: مُرسَل سعيد بن المسيب، ومرسل مسروق، ومرسل الصنابحي، ومرسل قيس بن أبي حازم، ونحو ذلك، فإنَّ المرسل إذا صحّ إلى تابعي كبير فهو حجة عند خلق من الفقهاء .(1/134)
التابعي الكبير يطلق على المخضرم، وهو من أدرك زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وآمن به، ولكن لم يره، أو لم يلقه، فهذا يسمى أو يدخل في حد التابع الكبير.
ويطلق أيضا التابعي الكبير على من كانت جملة أو غالب رواياته عن صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهذا يسمى تابعيا كبيرا، فالتابعي الكبير مثل سعيد بن المسيب، فإن جل روايته -رضي الله تعالى عنه ورحمه- عن صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
ومسروق آمن في عهد النبي -عليه الصلاة والسلام-، وكان باليمن، ولكنه لم يَرَ النبي -عليه الصلاة والسلام-، بل هو أكبر من بعض الصحابة سنا، لكنه لم يَرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - فلهذا يسمى مخضرما، وهو قسم من أقسام التابعي الكبير.
فإذا أرسل أحد هؤلاء التابعين حديثا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصح الإسناد إليه، فإن هذا يكون من أقوى المراسيل، وإن كان ضعيفا، كان فيه نوع ضعف، لكنه يعتبر من أقوى المراسيل، فإذا اجتمع مع مرسل آخر حكمنا عليه بأن هذا أقوى، فهي في الدرجة العليا.
كما أن فيما سبق ذكرنا أن الحديث أو الضعاف، الرجال الضعاف في الأسانيد يتفاوتون بينهم في الضعف، وكذلك الضعاف جدا، وكذلك في الموضوع يتفاوت فيما بينه، فكذلك أيضا المراسيل فيما بينها، فمنها القوي في إلى -يعني- قوة بين المُرسِل والنبي - صلى الله عليه وسلم - فيه قوة كبيرة وما هو دون ذلك.
فكبار التابعين إذا أرسلوا حديثا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ففيه من القوة ما ليس لغيرهم من المراسيل، وإن كانت كلها منقطعة، ويشملها الحكم عليها بالضعف، لكن هذا الضعف يختلف باختلاف قوة المرُسْلِ، فإذا كان من كبار التابعين قَوِيَ تصحيح الحديث.(1/135)
وهذا الأمر يحتاج إليه حين تقوية الأحاديث، فالحديث القوي المرسل -يعني- لا يحتاج إلى كبير أو إلى مزيد من البحث عن الشواهد والمتابعات له، بخلاف ما قصر عنه، فإنه كلما قصر فإنه يحتاج إلى مزيد من المتابعات والشواهد لتقويته، ثم إنه استفاد منه حين التعارض، فلو جاءنا مرسلان: أحدهما ينفي حكما، والآخر يسند حكما، فإننا نرجح الأقوى منهما، فإذا كان من رواية كبار التابعين قُدِّمَ على غيره، ولكن لا يعني هذا أن نحكم له بأنه حديث صحيح ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عند أكثر أهل العلم.
غير أن بعض أهل العلم يرى أن المراسيل كبار التابعين -رضي الله تعالى عنه-، وبخاصة مراسيل سعيد بن المسيب، هذه يرى أنها صحيحة؛ لأن الغلبة في حديثه بعد الصبر وجدوه أنه لا يُرسل إلا عن صحابة رسول الله، أو لا يرسل الحديث إلا سمعه عن صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو من ثقة معتبر.
فلذلك بعض أهل العلم يصحح مراسيل سعيد بن المسيب، ويحتج بها، ليس بأنه من كبار التابعين فحسب؛ وإنما أيضا لأمر آخر.
وبعض أهل العلم صحح حديث كبار التابعين مطلقا دون النظر إلى القرائن بالأخرى، والثاني أضعف من الأول، والأشهر أن مراسيل التابعين -ولو كانوا كبارا- فهي داخلة في الضعف، ولكنه ضعف يسير، ولكنه ضعف يسير. نعم.
فإن كان في الرواة ضعيف إلى مثل ابن المسيب ضعف الحديث من قبل ذلك الرجل .
يعني: إلى مثل ابن المسيب، يعني: إلى مثل الحديث الذي يرسله ابن المسيب. نعم .
وإن كان متروكا أو ساقطا وهن الحديث وطُرِح.(1/136)
وهذه العبارة قوله: إذا كان الحديث متروكا أنه وهن وسقط وطُرح، وهذا يستفاد منه في المطروح، وهو أن المطروح يطلق عليه حديث ساقط، وأيضا المطروح ما كان يرويه راوٍ متروك، الحديث الذي يرويه راو متروك هذا يسمى حديثا ساقطا ومطروحا، كما سبق لنا، فهذا يضم مع المطروح، ويستفاد منه في تعريف الحديث المطروح، وبيان صفة راوي الحديث المطروح، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
نماذج من المراسيل الجيدة والضعيفة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال الإمام الذهبي -رحمه الله تعالى-: ويوجد في المراسيل موضوعات.
نعم وإن صح الإسناد إلى تابعي متوسط الطبقة، كمراسيل مجاهد، وإبراهيم، والشعبي، فهو مرسل جيد لا بأس به، يقبله قوم ويرده آخرون.
ومن أوهَى المراسيل عندهم مراسيل الحسن.
وأوهى من ذلك مراسيل الزهري وقتادة وحميد الطويل من صغار التابعين.
وغالب المحققين يعدون مراسيل هؤلاء معضلات ومنقطعات؛ فإن غالب روايات هؤلاء عن تابعي كبير، عن صحابي، قد ظنوا بمرسله أنه أسقط من إسناده اثنين .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
هذا تمام للكلام على الحديث المرسل الذي سبق الابتداء به يوم أمس، وسبق أن الحديث المرسل هو ما أضافه التابعي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - على اختلاف طبقات التابعين، فمنهم التابعي الكبير، ومنهم التابعي المتوسط، ومنهم التابعي الصغير، فكبار التابعين هذا يشمل المخضرمين، ويشمل من كان جل روايتهم عن أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم.
والمتوسطة أو متوسط التابعين، أو الطبقة المتوسطة منهم، وهم من كانوا لهم رواية عن جملة من الصحابة، وعن جملة من التابعين.
ثم الطبقة الصغرى، وهي التي ليس لها إلا رواية قليلة عن الصحابة، والأكثر أن تكون روايتها عن التابعين .(1/137)
وتقدم أن مراسيل كبار الصحابة كبار التابعين هذه يصححها جماعة من أهل العلم، ويردها آخرون؛ لأنها فيها انقطاع.
ومَثَّل المؤلف -رحمه الله- للطبقة الكبيرة من التابعين: سعيد بن المسيب، وقيس بن أبي حازم الصنابحي، وهذا التمثيل شامل لطبقة المخضرمين، ولكبار التابعين الذين جل روايتهم عن أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم.
وإذا احتَفَّتْ برواية التابعي الكبير قرائن فإنها تقوِّيه، ويكون أقوى من غيره، ثم بعد ذلك تأتي الطبقة المتوسطة، وهي الطبقة التي تروي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أنها تروي عنه بواسطة جمع من الصحابة، أو بواسطة جمع من التابعين، وهذه الطبقة مثل لها المؤلف بمجاهد، إبراهيم بن يزيد النخعي، عامر الشعبي، وهؤلاء الخلاف في قبول مراسيلهم أشد.
وأقوى هذه المراسيل الثلاثة مرسل مجاهد -رحمه الله- لأنه كان يتحرى، وأما الشعبي فمراسيله فيها نظر؛ لأنه -كما ذكر بعض العلماء- روى عمن، لأنه ضعّف أقواما ثم روى عنهم، فيحتمل أن تكون هذه المراسيل من قبل هذه الأقوام.
وإبراهيم بن يزيد النخعي مراسيله دون مجاهد؛ لأنه كانت رواياته في جملتها عن بعض، أو عن الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم-، وأما روايته عن كبار الصحابة، كأبي بكر وعمر وعلي، فهذه منقطعة .
والخلاف في مراسيل إبراهيم أشد من الخلاف في مراسيل مجاهد، والخلاف في مرسل الشعبي أشد من الخلاف في هذين المرسلين، والمؤلف -رحمه الله- إنما جاء بهم على سبيل التمثيل.
فهؤلاء إذا تفرد أو روى أحد حديثا مرسلا فقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيأتي خلاف بين أهل العلم في قبوله أو رده .
وهذا الحكم لهذه المراسيل الجيدة ، هذا حكم خاص بالذهبي -رحمه الله تعالى- قد يوافقه، أو قد يكون هو موافقا لغيره، وقد يكون مخالفا كما سبق أن أصل المسألة فيها خلاف، وعليه فكل حديث مرسل يكون حكمه مُخْتَلَفا فيه .(1/138)
ثم ذكر الطبقة الثالثة، والذين جل روايتهم عن غير الصحابة، ليس لهم إلا رواية قليلة عن الصحابة.
بل يحيى بن أبي كثير هذا رأى أنس بن مالك -رضي الله تعالى عنه-، ولم يصح أنه سمع منه، ولم يصح أنه سمع من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لكنه ملحق بهذه الطبقة باعتبار أنه رأى أنس بن مالك.
والزهري له راويه عن بعض الصحابة، وكذلك قتادة -رضي الله تعالى عنه-، وخاصة صغار أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم.
والخلاف في هذه الطبقة أشد من الخلاف في الطبقة الأولى؛ لأن هذه الطبقة جُلّ روايتها عن التابعين، فالغالب على المراسيل أن يكون الساقط منها اثنين، أن يكون الساقط منها اثنين: الصحابي، والتابعي.
أما متوسط الصحابة فالاحتمال وارد، وأما كبار أما كبار التابعين، الطبقة المتوسطة من التابعين فيحتمل سقوط الواحد، ويحتمل سقوط الاثنين بلا ترجيح.
وأما الطبقة الكبرى من التابعين فهذه الغالب أنه لا يكون الساقط إلا الصحابي، ولهذا صححها من صححها من أهل العلم.
وأما بالنسبة لمراسيل الزهري وقتادة والحافظ بن أبي كثير، فهذه كثير من أهل العلم يرون أنها لا شيء، وأنها ضعاف؛ لأن الزهري وقتادة كانا حافظين، وكان أحدهما إذا سمع شيئا علق في ذهنه.
فمن هذه الباده خُشِيَ أن يكون قد علق في أذهانهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء مما سمعا وهو لم يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فأسنداه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا السماع، وهذا الكلام فيه -يعني- نظر، وإن كان الإمام يحيى بن سعيد القطان قال، لكن الأصوب من ذلك هو قول يحيى بن سعيد في الرواية الثانية: إن الزهري وقتادة إمامان حافظان.
فكونهما يتركان التصريح باسم الواسطة التي بينهم وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - مع تمام حفظهما وإتقانهما، فيدل على أن هذا الرجل قد لا يكون مرضيا عندهما، ولو كان مرضيا عندهما لصرخوا به صراخا، وأعلنوا اسمه كما يعلنون بقية الأسماء .(1/139)
وأما حُمَيد الطويل فهذا مرسله أيضا -يعني- فيه ضعف؛ لأن جل روايته، أو كثير من روايته عن الحسن البصري، وعن قتادة، فله رواية عنهما، وبخاصة عن الحسن، وقد أخذ كتب الحسن فنسخها لنفسه، ثم أعادها إلى الحسن.
فيحتمل أن هذه المراسيل هي مراسيل الحسن -رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
فالشاهد أن هذه المراسيل التي في الطبقة الثالثة، هذه أضعف من الطبقة الثانية، والتي في الطبقة الثانية أضعف من التي في طبقة كبار التابعين .
والحسن البصري هذا أيضا فيه اختلاف شديد بالنسبة لقبول مراسيله، فبعضهم يرى المراسيل الصحيحة؛ لأنها لما سُبِرَتْ وجدوا أنه لم يتصل منها إلا أربعة، وبعض أهل العلم ضعف المراسيل؛ لأن الحسن البصري يروي عن من أقبل وأدبر من الرواة، سواء كان ضعيفا أو صفة، فيحتمل أن يكون قد أرسل عن بعض الضعاف.
ولكن ها هنا هذا الكلام المذكور في هذا الباب كله من اختيار المؤلف -رحمه الله تعالى.
ثم ذكر -رحمه الله- أن مراسيل الطبقة الصغرى من التابعين هذه أكثرها فيها إعضال وانقطاع:
أما الإعضال فظاهر؛ لأن السقط من الإسناد اثنان على التوالي، وكذلك الانقطاع سقط فيها اثنان أو أكثر، وسيأتي -إن شاء الله- في المبحث الذي يليه ما يبين هذا، ولكن الشاهد أن يُرْبَط هذا الكلام منه فيها معضلات ومنقطعات، أو معضلات ومنقطعات، وهذا يُربط بالتعريف الذي يريده المؤلف -رحمه الله تعالى- في المعضل والمنقطع، وهو المبحث الذي يلي هذا .
والشاهد من هذا كله أن كل مرسل فهو ضعيف على الأشهر عند أهل العلم أن المراسيل ضعاف ، لكن بعضها أقوى من بعض، ولكن بعضها أقوى من بعض، فإذا كانت مراسيل كبار التابعين تتقوى ببعض الأحاديث، فقد لا تتقوى بها مراسيل الطبقة الوسطى ولا الطبقة الصغرى. نعم.(1/140)
قبل الشروع في المعضل في المبحث الذي قبله ذكر المؤلف البلاغات للإمام مالك -رحمه الله-، وهي التي يقول فيها: بلغني عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أو بلغني عن عمر، أو بلغني عن الشعبي، أو غيرها، هذه تسمى بلاغات، بلاغات، وهذه البلاغات المؤلف ها هنا يرى أنها أقوى من مراسيل الحميد الطويل وقتادة؛ لأن الإمام مالك فيه من التحري والتدقيق في الرجال والأسانيد ما يجعل بلاغته قد تكون أقوى من مراسيل قتادة وحميد الطويل؛ لأنها فيها إعضال ظاهر.
وقتادة وحميد الطويل لم يُذكر أنهما يتحريان كما يتحرى الإمام مالك، وإن كان الإمام مالك متأخرا عنهما في الطبقة، لكن قد تكون بلاغاته أقوى.
وهذه البلاغات وصلها ابن عبد البر في "التمهيد" إلا أربعة، ثم جاء من بعده ابن الصلاح، فوصل هذه الأربعة وفي كتاب مطبوع من أمدٍ ليس بقريب.
والمرسل حُكمه الضعف، لكن إذا جاءه ما يجبره من مُرسل آخر عن تابعي آخر؛ كأن جاءنا حديث يرويه سعيد بن المسيب، حديث قصة عتاق الأعبد الستة، رواه سعيد بن المسيب، فهذا مرسل، ضعيف للانقطاع بين سعيد والنبي - صلى الله عليه وسلم - لكن عرضه مرسل آخر، وهو مرسل ابن سيرين بمثل هذا الحديث.
فهذا المرسل مع هذا المرسل مما يجعل الحديث يرتقي إلى الحسن بغيره؛ لأن الانقطاع اللي فيه حديث سعيد بن المسيب جُبِرَ بحديث ابن سيرين -رضي الله تعالى عنه-، وإن كان مرسلا، لكن المراسيل يقوي بعضها بعضا، خاصة إذا كانت من مراسيل كبار التابعين.
وكذلك لو جاءه حديث مسند، ولو كان في هذا المسند ضعف يسير، فإنه حينئذ يترقى هذا المرسل إلى الحسن لغيره، مثل حديث سعيد بن المسيب: " لا صلاة بعد فجر إلا ركعة الفجر " .(1/141)
هذا حديث مرسل، لكن جاءه حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، وفي سنده ضعف من قبل عبد الرحمن بن زياد الإفريقي، لكن هذا الضعف اليسير في حديث عبد الرحمن مع هذا الإسناد في حديث سعيد بن المسيب ينجبر، فيرتقي حديث سعيد بن المسيب إلى الحسن بغيره؛ لأن هذا يجبر النقص الحاصل في حديث سعيد بن المسيب -رضي الله تعالى عنه. نعم.
تعريف الحديث المعضل والمنقطع والفرق بينهما
وقال المصنف -رحمه الله تعالى-: الحديث المعضل هو ما سقط من إسناده اثنان فصاعدا
وكذلك المنقطع، وهذا النوع قَلَّ من احتج به، وأجود ذلك ما قال فيه مالك: بلغني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال كذا وكذا، فإن مالكا متثبت، فلعل بلاغته أقوى من مراسيل مثل حميد وقتادة .
هذا الكلام الأخير كان الأولى تقديمه، ولهذا شُرح مقدما لارتباطه بالمراسيل، لكن لما كان له وجه -أيضا- في المعضل على ما يأتي -إن شاء الله- أرجأه إلى المعضل، ويصلح أن يقدم للمراسيل، ويحال عليه في بعض المعضل.
هذا النوع، أو المؤلف ذكر ها هنا نوعين من أنواع الحديث وهما: المعضل والمنقطع، وجعلهما اسمين لمسمى واحد، فحقيقتهما عند المؤلف واحدة، كل حديث سقط من إسناده اثنان فهو معضل أو منقطع، ويجوز أن تسميه معضلا، ويجوز أن تسميه منقطعا على كلام الحافظ الذهبي ها هنا .
ولكن هذا الكلام لا يوافقه عليه جل أهل العلم، لا يوافقونه عليه، وإنما يجعلون المعضل اسما لحقيقة، والمنقطع اسما لمعنى آخر، وإن كان كلاهما يشملهما الاشتراك في شيء واحد، وهو الانقطاع، بينهما قاسم مشترك وهو الانقطاع، لكن المؤلف جعل الانقطاع ها هنا بسقوط اثنين فأكثر هو المعضل وهو المنقطع .
فأولا: المؤلف -رحمه الله- لم يميز بين النوعين، وقد غاير العلماء بينهما.(1/142)
والثاني: أن ذكر أن المنقطع والمعضل ما سقط من إسناد أحدهما راويان فأكثر، وهذا يصلح للمعضل، ولكنه لا يصلح للمنقطع؛ لأن الحديث الذي فيه عدم اتصال يعتبر منقطعا، سواءً كان الراوي الساقط واحدا أو أكثر، وقد عبر أهل العلم كثيرا بالانقطاع عما سقط من إسناده راو واحد.
فكون المؤلف يقصر المنقطع على ما سقط من إسناده اثنان فأكثر، هذا -أيضا- لا يوافقه عليه أهل العلم.
وكذلك المؤلف ها هنا لم يحدد موضع السقوط في كل واحد منهما، وقد حدده الحافظ العراقي، ومن بعده تلميذه ابن حجر، فذكروا أن المعضل يكون السقط فيه على التوالي، في موضع واحد، معنى يسقط تابعي، أو تابع التابعي، أو التابعي والصحابي.
فهذا يسمى معضلا، يكون الساقط اثنين متواليين، يكون الساقط اثنين متواليين .
وأما إذا سقط اثنان ولكن من موضعين مختلفين، أحدهما -مثلا- في مبتدأ الإسناد، والآخر في وسطه، فهذا يسمى منقطعا، ولا يسمى معضلا؛ لفقده شرط التوالي.
وكذلك لو سقط من إسناده راوٍ واحد من أي جهة من الإسناد، فإن الحافظ ابن حجر والعراقي يسميانه منقطعا.
إذن، يكون كلام المؤلف في المعضل: ما سقط من إسناده اثنان فأكثر على التوالي، تُقيد بأنها تكون على التوالي، يعني: يكون السقط متواليا، وهذا هو الذي يوافق أحكام الأئمة، هذا هو الذي يوافق أحكام الأئمة، هذه الأحاديث بالإعضال، إذا سقط اثنان متواليان حُكم عليه بأنه مُعضل، كما جاء ذلك عن علي بن المديني، وفي سنن أبي داود شيء من ذلك، وعند الحاكم -أيضا- في المستدرك، حكموا على أسانيده بأنها معضلة لسقوط راويين متواليين.
ولكنهم إذا سقط راوٍ واحد بين رجلين، فإنهما يسميانه مرسلا، فإنهم يسمون هذا مرسلا في الغالب، وقد يسمونه منقطعا، قد يسمى منقطعا كما مر معنا يوم أمس في أن كثيرا من أهل العلم الحديث يسمون، أو يطلقون المرسل على المنقطع، ولو في وسط الإسناد، ولو في وسط الإسناد.(1/143)
ولكن لما كان ثبت عليهم الحكم على المعضل، أو الحكم على بعض الأحاديث التي سقط فيها راويان فأكثر، حكموا عليها بأنها معضلة، كان هذا موافقا لكلام العراقي، وكلام الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى.
وأما بالنسبة للمنقطع، فالتعبير به في كلام العلماء، يعني: ليس بكثرة التعبير بالمرسل، ليس بكثرة التعبير بالمرسل.
فالانقطاع هو منافٍ للاتصال، فيصدق على أي جزء من الإسناد سقط فيه راوٍ، أو سقط راويان في موضعين مختلفين، يصدق عليه أن يكون منقطعا.
وكذلك لو سقط راويان فأكثر متواليان يصدق أن يكون منقطعا، ولكن لمَّا كان العلماء اصطلحوا على تسميته بالمعضل فينبغي الاتباع في هذا.
فصار عندنا -مما يتعلق بانقطاع الإسناد- ثلاثة أنواع؛ كان عندنا المرسل، وعندنا المعضل، وعندنا المنقطع، فهذه ثلاثة أنواع ذكرها المؤلف -رحمه الله تعالى-، وسيأتي لها مزيد من الأنواع، لكن هذه الثلاثة كلها تشترك في منافاتها الاتصال، في أنها منافية للاتصال.
ويشترك المرسل مع المعضل فيما لو سقط من الإسناد الصحابي والتابعي، هذا يصدق عليه أن يسمى مرسلا ومعضلا، بمعنى: إذا سقط اثنان بين التابعي والنبي -عليه الصلاة والسلام- يسمى مرسلا ومعضلا، فقد يروي الحديث راوٍ من الطبقة المتوسطة، أو الطبقة الصغرى من التابعين، وهذه قد يكون بينها وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - اثنان، قد يكون بينها وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - راويان.
فإذا -مثلا- روى لنا حميد الطويل أو قتادة حديثا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا يصلح أن يكون مرسلا، ويصلح أن يكون معضلا، لكن الإعضال ليس جزما، لكن الإعضال ليس جزما، لكن يحيى بن أبي كثير إذا روى لنا حديثا سبق عنه أنه تابعي من صغار التابعين، فإذا روى لنا حديثا جزمنا بأنه حديث مرسل معضل، يصلح أن يكون مرسلا معضلا لجزمنا بأن بينه وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - روايين.(1/144)
لكن يحيى بن أبي كثير إذا روى لنا حديثًا، سبق أنه تابعي من صغار التابعين، فإذا روى لنا حديثًا جزمنا بأنه حديث مرسل معضل، يصلح أن يكون مرسلًا معضلًا لجَزَمْنَا بأن بينه وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - راويين، فيشتركان ها هنا، أو في مثل هذه الحالة.
ولكن إذا كان التوالي من وسط الإسناد، أو من مبتدأ الإسناد، فهذا يسمى معضلًا، ولا يسمى مرسلًا.
وأما بالنسبة للمنقطع فهو يشترك مع المرسل فيما إذا كان الساقط بين التابعي والنبي - صلى الله عليه وسلم - واحدًا، إذا كان الساقط واحدًا بين التابعي والنبي - صلى الله عليه وسلم - فيصلح أن يكون مسمى مرسلًا، ويسمى منقطعًا، ولكن العبارة الحديثية المستخدمة عند أهل الحديث هو أن يطلق عليه مرسلا، لكن يجوز أن يقال منقطع، يعني بين التابعي والنبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا يكون خاصة في مراسيل كبار التابعين.
إذا روى سعيد بن المسيب حديثًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلح أن تطلق عليه مرسلًا، ويصلح أن تطلق عليه منقطعًا، وإن كانت العبارة الأولى في الإطلاق أن يسمى مرسلًا، لاصطلاح عامة أهل الأثر على هذا، وتسميتهم مثل هذا الحديث بالمرسل.
وينفرد المنقطع عن المرسل إذا كان الانقطاع في وسط الإسناد، أو في مبتدأ الإسناد؛ لأن هذا يسمى منقطعًا، ولا يسمى مرسلًا.
وها هنا مسألة -يعني- قد ترد، وهي كيف نحدد عدد الساقط؟ تارة يكون الساقط واحدا، وتارة يكون الساقط اثنين، وتارة يكون الساقط ثلاثة، فكيف نحدد هذا، وما ضابط التحديد؟
أولًا: طبعًا التحديد هذا -في كثير من أحواله- ليس جزمًا؛ إنما هو من باب غلبة الظن، وأحيانًا يرد ما يبين عدد الساقط.(1/145)
فأحيانًا يأتي لنا إسناد، فنتبين من الرواية الأخرى لهذا الحديث بأن هذا الإسناد فيه إعضال، وهذا كما في سنن ابن ماجه، من حديث عبد الله بن عبد الرحمن بن ثابت بن الصامت، قال: جاءنا النبي - صلى الله عليه وسلم - فهذا فيه انقطاع بين الراوي عبد الله، وبين النبي -عليه الصلاة والسلام-، لكن جاء في رواية أخرى عند ابن ماجه نفسه ما يبين عدد الساقط بين هذا الراوي وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - فجاء في الرواية الأخرى أنه روى هذا الحديث عن أبيه، عن جده، فكان الساقط عندنا بهذه الرواية تبين لنا أن الساقط اثنان: الأب، والجد.
فيكون هذا الحديث معضلًا، فتبينا الساقط وعدد الساقط من الرواية الأخرى.
وأحيانًا يكون المعهود بين الراوي والنبي - صلى الله عليه وسلم - راويين، وهذا كما في بعض الأحاديث التي يرويها عمرو بن شعيب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مباشرة، دون أن يذكر اسم أبيه أو جده.
فالمعهود من رواية عمرو بن شعيب إنما هي عن أبيه، عن جده، فإذا وجدنا حديث عمرو بن شعيب ظهر لنا عمرو بن شعيب، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مباشرة، ظهر لنا أن الساقط اثنان فأكثر، فيكون هذا الإسناد معضلًا.
وأحيانًا يحتمل الأمرين: يحتمل الأمرين، فإذا جاءنا راوٍ من كبار التابعين، فإنه قد يكون راويه عن التابعي، ولكن المُغَلَّب في هذا الجانب أن يكون رواه عن صحابي، المغلب في هذا الجانب أن يكون الساقط بينه وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - راويًا واحدًا فقط.
وإذا جاء من صغار التابعين، فالغالب أن يكون الساقط بينه وبين النبي -صلى الله عليه وسلم راويين- اثنين، وإذا كان من الطبقة المتوسطة ففيه تردد.(1/146)
ولهذا، الحافظ ابن حجر وجماعة من العلماء في بعض الأحاديث قالوا: هذا مرسل أو معضل. كما في حديث رواه الزهري، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ابن حجر: مرسل أو معضل. لأن الزهري له رواية عن بعض الصحابة -رضي الله تعالى عنهم-، وكذلك له رواية عن جماعة كثيرة من التابعين، فإن كان هذا الحديث من روايته عن التابعين ، فإن كان يحتمل هذا الحديث أن يكون معضلًا بسقوط التابعي والصحابي، ويحتمل أن يكون حديثًا مرسلًا لسقوط رجل واحد بينه وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو الصحابي.
فلذلك الحافظ ابن حجر في بعض المواضع من "الفتح"، وكذلك الزيلعي يقول: مرسل أو معضل. لا يجزمون، لاحتمال أن يكون مرسلًا، واحتمال أن يكون معضلًا، وهذا يفيد حين تقوية الأحاديث.
فالرجل الذي يحتمل أن يكون بينه وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - راويان في الغالب، هذا يكون حديثه، أو يتطلب شاهدًا ومتابعًا أقوى ممن يكون الغالب على حديثه أن يكون بينه وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - راوٍ واحد وهو الصحابي.
فهنا مسألة تختلف، ويحتاج إليها حين تقوية الأحاديث، فالشاهد من هذا أن إدراك عدد الساقط -أحيانًا- يكون بجزم، وأحيانًا يكون بغلبة ظن فقط.
والمعضل -يعني- تعبيراته في كلام أئمة الحديث المتقدمين، تعبيرات بهما يعني قليلة، ليست كثيرة ولا مشتهرة، شهرة التعبير بالمرسل.
ولهم في ذلك -يعني الإعضال أو المعضل- يطلقونه على أشياء، ولكن الأكثر إطلاقه على ما سقط من إسناد راويين فأكثر، وقد يطلقونه على الشاذ والمنكر كما صنع ابن عدي في بعض المواضع من "الكامل"، وابن عبد البر في كتابه "التمهيد"، وقد يطلقونه على الغلط في الرواية، وقد يطلقونه على نكارة المتن والإسناد معًا، وهذه استخدمها ابن عدي في "الكامل".(1/147)
فالشاهد من هذا كله أنه -يعني- إذا حكم على حديث بأنه معضل من قبل المتقدمين، فلا يظن أن في إسناده سقطًا لراويين فأكثر، وإنما يتأمل في الإسناد، فإن كان فيه سقط راويين يُحْمَل على هذا، وإن لم يكن فيه سقط فينظر جهة الوصف بالمعضل، جهة الوصف بالإعضال.
وكذلك بالنسبة للمنقطع، بالنسبة للانقطاع، فالإمام البخاري -ومن قبله شيخه علي بن المديني- يطلقونه على ما في سنده راو مجهول، وإن لم يكن فيه انقطاع، لكن الغالب إطلاق الانقطاع على ما سقط من إسناده راوٍ، أو راويان في موضعين مختلفين، وهذا هو الذي صار عمدة عند المتأخرين.
ولكن هذه الأحكام من حيث الإعضال والانقطاع -يعني- لا ينبغي صرفها على هذا إلا بعد النظر في الإسناد، والتحقق من وقوع السقط في الإسناد، والمعضل والمنقطع -أيضًا- فيهما ضعف من جهة اتصال السند، فهما منافيان لصحة الحديث، لكن إذا جاءت لهما شواهد ومتابعات تقويهما، فإنهما يرتقيان إلى الحسن لغيره، لكن ينبغي أن يقال: إن المعضل إذا سقط منه اثنان فهو أشد أضعفًا من المنقطع الذي سقط راوٍ واحد.
وأحيانًا يكون المنقطع أشد، فلو سقط عندنا ثلاثة من الإسناد في مواضع مختلفة سميناه منقطعًا، فهو أشد من المعضل الذي سقط منه اثنان فقط، فالاختلاف في ترقية هذه الأحاديث وتوصيلها إلى الحسن يختلف بحسب اختلاف عدد الساقط، فكلما كثر عدد الساقط ضعف الحديث عن الانجبار.
فالذي يسقط منه اثنان أقوى حالًا من الذي يسقط منه ثلاثة، والذي يسقط منه واحد أقوى حالًا من الذي يسقط منه اثنان، وإذا سقط التابعي -لو استدركوا فيه ساقط تابعي- هذا أقوى من الذي يسقط فيه رجل قبل التابعي؛ لأن الطبقات -أيضًا- معتبرة ها هنا.
والشاهد أن المنقطع والمعضل في الجملة يترقيان إلى الحسن لغيره إذا وجد لهما من المتابعات ما يرقيهما. نعم.
تعريف الحديث الموقوف
الحديث الموقوف هو ما أُسْنِدَ إلى صحابي من قوله أو فعله .(1/148)
هذا الحديث الموقوف، أو الوصف للحديث بأنه موقوف هذا لا تعلق له بالصحة والضعف، وإنما وصف لحالة المتن، هل هو، أو هذا المتن من هو كلامه، أو من هو فعله؟.
فذكر المؤلف ها هنا الموقوف، وابتدأ به، وقدمه على المرفوع، وهو خلاف المصطلح عليه، فإن المصطلح أن يقدم المرفوع؛ لأنه أعلى منزلة لكونه منسوبًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم يُثَنَّى بالموقوف، ثم يُثَنَّى بالمقطوع، وهو الموقوف على التابعي، أو يثلث بالمقطوع؛ لأنه موقوف على التابعي، فبحسب من يُضاف إليه يُقَدَّم، فأشرفهم نبينا - صلى الله عليه وسلم - ثم أصحابه، ثم التابعون.
فالمؤلف ها هنا خالف -يعني- غالب ما يصنعه أهل الاصطلاح، وهذا الموقوف هو ما أُسْنِد إلى الصحابي، يعني: أُضيف إلى الصحابي، سواء كان من قوله أو فعله، فكل ما كان ذلك -أو بهذا الشأن- فإنه يسمى موقوفًا، مثل حديث علي: " لو كان الدين بالرأي لكان مسح أسفل الخف أولى من أعلاه " .
هذا يسمى موقوفًا؛ لأن القائل هو علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وهو صحابي.
كذلك الفعل مثل ما كان ابن عمر -رضي الله تعالى عنه- يغتسل لصلاة العيد، هذا فعل ابن عمر -رضي الله تعالى- عنه، من فعل ابن عمر، فهذه مضافة إلى الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم- فهذه تسمى موقوفة على الصحابة.
فإذا قال العلماء: رواه فلان موقوفًا، ورواه فلان مرفوعًا، فينصرف الذهن إلى الموقوف إلى ما أُضيف إلى الصحابي، يعني: قاله الصحابي.
لكن هذا الوقف -أحيانًا- يكون هو قول من قول الصحابي، ولكن له حكم الرفع مثل إذا ما قال الصحابي: "من السنة"، فالنطق والقول ها هنا من الصحابي، ولكن الحكم هذا مرفوع.
وكذلك في قوله: أُمِرْنا أو نُهينا، هذا الآمر والناهي هو النبي - صلى الله عليه وسلم - فاللفظ ظاهرًا هو للصحابي، ولكنه في الحكم والحقيقة هو مسند إلى النبي -صلى الله عليه وسلم.(1/149)
فيعني: بعضها يكون موقوفًا صريحًا على الصحابي، وبعضها يكون موقوفًا في اللفظ على الصحابي، ولكنه في الحكم مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - والثاني أقوى من الأول بكثير عند الاحتجاج؛ لأن الثاني له حكم الرفع، ويُعْمَل به، وهو من سنته - صلى الله عليه وسلم - أما الأول فهذا الاحتجاج بقول الصحابي، هذا فيه اختلاف بين أهل العلم، وبخاصة حين يعارضه بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - . نعم.
تعريف الحديث المرفوع
ومقابله المرفوع، وهو ما نُسِبَ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من قوله أو فعله .
المرفوع: هو ما أضيف إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ولو اقتُصِر على هذه العبارة لشمل جميع ما يضاف إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من القول، أو الفعل، أو التقرير، أو الصفة الخلْقية أو الخلُقية، كل هذا من المرفوع، لكن لما قيد هنا بالقول والفعل لم يستتم المعنى؛ لأن إقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا يعتبر من المرفوع.
ولهذا أورده أصحاب الصحاح في كتبهم؛ لأنها كتب متصلة مسندة، والمسند يجمع بين الرفع والاتصال، أو يجمع بين الرفع ورواية الحديث بالسند على ما يأتي، ففيه الشاهد أن في الإسناد رفع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأهل هذه الصحاح كتبهم مسندة، ولهذا أدخلوا ما كان من باب التقرير، وما كان من باب الصفة الخلْقية والخلُقية له - صلى الله عليه وسلم - .
أما الأحاديث القولية المسندة للنبي - صلى الله عليه وسلم - فهي كثيرة جدًا، وكذلك الأحاديث الفعلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - إذا حكى الصحابي فعلا، كما حكى الصحابي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يشير بيده إذا سلم عليه أحد وهو في الصلاة، هذه حكاية فعل من النبي -عليه الصلاة والسلام.
أو كان إذا دخل عليه علي - رضي الله عنه - يصلي تنحنح، هذه حكاية فعل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي تسمى حديثًا مرفوعًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - .(1/150)
والتقرير: مثل إقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - أكل الضب على مائدته، هذا لو كان حرامًا لنهى عنه -صلى الله عليه وسلم.
وأيضًا الصفة الخلْقية لحديث أنس: " كان صلى الله عليه وسلم- ربعة من الرجال ليس بالطويل ولا بالقصير " .
هذا صفة لخلْق النبي -عليه الصلاة والسلام.
فهو داخل في المرفوع، ولهذا أورده أصحاب الصحاح، وكتبهم مسندة مشتملة على المرفوع.
وكذلك حديث عائشة: " كان خلقه القرآن " .
هذا متعلق بالصفة الخلُقية له - صلى الله عليه وسلم - فهو مرفوع.
فصار الفارق بين المرفوع والموقوف أن المرفوع لا يطلق إلا على ما أضيف إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأما الموقوف فهو يطلق على ما أضيف إلى الصحابي.
فإذا قالوا: موقوف. فالمراد به إضافته إلى الصحابي، لكن إذا أرادوا التابعي قالوا: موقوف على فلان، موقوف على الشعبي، يصح أن يطلق عليه موقوف، فهو موقوف على الشعبي، موقوف على الزهري، موقوف على قتادة، موقوف على ابن سيرين، هذا يسمى موقوفًا، لكنه مقيد باسم التابعي.
فالموقوف إذا أطلق ينصرف إلى الوقف على الصحابي، وإذا أريد وقفه على التابعي فإنه يقيد بذكر التابعي.
وأما المقطوع فإن المؤلف له يورده هذا، وقد أورده ابن الصلاح، وهو أصل الكتاب، وأورده مختصرا في الكتاب لابن دقيق في الاقتراح، والمؤلف ها هنا اختصر الاقتراح، ولكنه لم يذكر المقطوع؛ لأن الظاهر أن كتابه هذا كتاب مختصر، فلعدم شدة الحاجة إلى المقطوع لم يذكره ها هنا؛ لأن دائمًا الاختلاف بين الأحاديث إنما هي في جهة الوقف والرفع، الاختلاف في جهة الوقف والرفع، أما من جهة القطع والرفع فهي أقل.
فنظرا لكثرة الحاجة إلى هذين النوعين عرفهما المؤلف، ولما كان كتابه مختصرًا لعله لم يذكر المقطوع ها هنا ، لعدم شدة الحاجة إليه كما تشتد الحاجة إلى المرفوع، ثم إلى الموقوف على الصحابي.(1/151)
فتبين بذلك أن عندنا ثلاثة أنواع مما يتعلق بمتن المرفوع والموقوف والمقطوع الذي لم يذكره المؤلف.
وهذه الثلاثة أشياء إذا أردنا أن نربطها بما تقدم من الأنواع، فالمرفوع تأتي عليه الأنواع السابقة كلها، ففيه مرفوع صحيح، فيه مرفوع حسن، فيه مرفوع ضعيف، فيه مرفوع ضعيف جدًا، وفيه موضوع، وفيه -أيضًا- مطروح اللي هو الضعيف جدًا، وفيه أيضًا مرسل؛ لأنه ليس من شرط الحديث المرفوع أن يكون الرافع ،أو المضيف، أو الذي أضاف هذا الحديث، ليس من شرطه أن يكون الصحابي؛ بل إذا أضاف التابعي أو تابع التابعي الحديث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنا نسميه مرفوعًا.
فإذا أضاف الشعبي حديثًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فهذا نسميه مرسلًا مرفوعًا، مرسلا باعتبار الانقطاع بين الصحابي والنبي - صلى الله عليه وسلم - ومرفوعًا باعتبار إضافته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وأحيانًا يكون معضلًا، فإذا قال ابن جريج: قال - صلى الله عليه وسلم - هذا نسميه مرفوعًا، لوجود الإضافة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ونسميه معضلًا؛ لأن هناك راويين ساقطين بين ابن جريج والنبي - صلى الله عليه وسلم - فهو معضل مرسل، وكذلك بالنسبة للمنقطع.
وكذلك أيضًا بالنسبة للموقوف، الموقوف تدخل فيه هذه الأنواع كلها، إلا المرسل، أو إلا المعضل -على رأي جماعة من أهل العلم- أنه لا يكون إلا سقوط الصحابي والتابعي، فالمرسل ها هنا هل يدخل مع الموقوف؟
لا، لأن المرسل هو ما أضافه التابعي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فلو أضاف التابعي الذي لم يدرك الصحابي، لو قال إبراهيم النخعي: قال علي بن أبي طالب، فهذا ما نسميه مرسلًا، نسميه منقطعًا لانقطاع بين إبراهيم.(1/152)
إذن هؤلاء لا يدخل المرسل لا يكون -يعني- الموقوف مرسلًا، يكون منقطعًا، ويكون معضلا على رأي جماعة كبيرة من أهل العلم، وتشمله الأنواع السابقة من الصحة والضعف، والحسن والضعف الشديد، والموضوع، فقد يكون موقوفًا موضوعًا، وقد يكون صحيحًا، وقد يكون ما بين ذلك.
وأما المقطوع فهو أيضًا مثل الموقوف في شمول هذه الأنواع له وعدم شمولها، فما ينطبق على الموقوف من هذه الأنواع، أو يجامع الموقوف من هذه الأنواع، فهو يجامع المقطوع، وما ينافيه أو لا يجتمع معه فإنه لا يجتمع الموقوف، فإنه كذلك لا يجتمع مع المقطوع، وبهذا تمت هذه الأنواع، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
تعريف الحديث المتصل
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال الإمام الذهبي -رحمه الله تعالى-: الحديث المتصل هو ما اتصل سنده، وسلم من الانقطاع، ويصدق ذلك على المرفوع والموقوف .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
هذا نوع من أنواع الحديث، وهو الحديث المتصل أو الموصول، وهذا النوع متعلق بالإسناد، وقد ذكر المؤلف -رحمه الله- أن المتصل ما سلم من الانقطاع، فكل حديث منقطع فهو منافٍ الاتصال، سواء كان الانقطاع من مبتدأ الإسناد، أو من منتهاه، أو ما بين ذلك.
فالمعلق هو الذي سقط من مبتدأ إسناده راوٍ فأكثر، هذا ليس متصلًا، وإنما هو منقطع.
وكذلك بالنسبة للمعضل، هو منقطع، وليس بمتصل، كذلك بالنسبة للمنقطع بمعناه الخاص الذي تقدم، هذا ليس بمتصل.
وكذلك الحديث المرسل، سواء كان إرسالًا خفيًا، أو إرسالًا ظاهرًا، وكذلك المدلس، أو من لم يثبت -أيضًا- سماعه عن فلان - على رأي جمهور أهل الحديث.
وكذلك ينافي الاتصال إذا كان الراوي قد تَحَمَّل الحديث من شيخه بإحدى طرق التحمل الضعيفة، فهذه لها حكم المنقطع، وليست بمتصلة.(1/153)
فكل واحد من هذه الأنواع السابقة لم يسلم من الانقطاع، فلهذا لا يكون حديثًا متصلًا، قد تقدم لنا أن الاتصال، أو اتصال السند شرط من شروط صحة الحديث أو حسنه لذاته، وأنه لا يتم الحكم بذلك إلا بعد أن يكون رجال الإسناد كلهم واحدا أخذ عمن فوقه بإحدى طرق التحمل الصحيحة، فإذا لم يتحقق هذا كان الإسناد منقطعًا وليس بمتصل.
والمتصل هذا -كما سبق- متعلق بالإسناد، وليس له تعلق بالمتن، على معنى أن الاتصال من خصائص الإسناد.
ولهذا يصلح أن تقول: هذا حديث متصل، وهو مرفوع إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-، ويصلح أن تطلق المتصل على الموقوف على الصحابي، ويصلح أن تطلقه على الموقوف على التابعي.
فإذا جاءنا إسناد متصل عن الزهري، لكنه منقطع بينه وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - فتقول: هذا إسناده متصل إلى الزهري، أو هذا أو جاءنا شيء من كلام موقوف على الزهري من كلامه - رضي الله عنه - فيصح أن تقول: هذا موقوف متصل، كما أنه يصح أن نقول: موقوف، أو متصل مرفوع.
فالمقصود من هذا أن الاتصال ليس متعلقًا، لا بالرفع ولا بالوقف؛ بل الحديث المرفوع يكون متصلًا، ويكون منقطعًا.
وكذلك الموقوف، سواء على التابعي أو على الصحابي، يكون متصلًا، ويكون منقطعًا أو مرسلًا، فصار الاتصال هذا من خصائص الإسناد.
ثم إذا نظرنا إلى الاتصال -مع ما تقدم من المباحث السابقة، أو الأنواع السابقة لعلوم الحديث- فأحيانًا يكون الحديث متصلًا صحيحًا، لاستيفائه جميع شروط الصحة، وأحيانًا يكون متصلًا حسنًا، بمعنى أنه استوفى شروط الصحة، إلا ضبط الرجال؛ فإن ضبطهم يكون قد خف.(1/154)
وأحيانًا يكون متصلًا، ولكنه ضعيف، ليس ضعيفًا من جهة الاتصال، يعني: منقطع، ولكنه ضعيف من جهة أخرى، إما أن يكون لضعف الراوي، أو للشذوذ، أو العلة، أو نحو ذلك، فيكون متصلًا ضعيفًا، ويكون متصلًا -أيضًا- مطروحًا؛ لكون أحد رجاله فيه ضعف ضعفًا شديدًا. وقد يكون متصلًا -أيضًا- وهو موضوع، مكذوب على النبي -صلى الله عليه وسلم.
وأما الإرسال والإعضال والانقطاع، فلا تجتمع مع الاتصال، فصارت من الأنواع السابقة يجتمع مع الاتصال، قد يجتمع معه أحد خمسة أشياء.
وأما الإرسال والانقطاع والإعضال، فهذه لا تجتمع مع الاتصال لمنافاتها الاتصال، فلا يقال هذا حديث متصل مرسل، ولا حديث متصل منقطع، ولا حديث متصل معضل، لا يقال هذا؛ لكن يقال: متصل صحيح: متصل حسن، متصل ضعيف، متصل ضعيف جدًا، متصل موضوع.
وهذا الاتصال في الحديث تارة يؤخذ من أحكام الأئمة على الأحاديث، فإذا حكموا على حديث بأنه -مثلًا- صحيح، فإن هذا يستفاد منه أن الإسناد متصل، وإذا حكموا على حديث بأنه حسن لذاته استفدنا من هذا الحكم اتصال الإسناد، وأن كل راوٍ من هؤلاء الرواة الموجودين في الإسناد قد تحمل عمن فوقه بإحدى طرق التحمل الصحيحة.
وتارة ينص العلماء على أن فلانًا سمع من فلان، وهذا يفيدنا في باب الاتصال.
وتارة نجد هذا الحديث في مصنف اشترط صاحبه الصحة، ووفق على ذلك كالشيخين، إذا وجدنا حديثًا في البخاري أو في مسلم، هذا نحكم له باتصال السند مباشرة؛ لأن من لازمه تصحيح الحديث أن يكون قبل ذلك إسناده متصلًا، أن يكون إسناده متصلًا، فهذا ما يتعلق بالمتصل. نعم.
تعريف الحديث المسند
الحديث المسند: هو ما اتصل سنده بذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقيل: يدخل في المسند كل ما ذكر فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن كان في أثناء سنده انقطاع .(1/155)
هذا نوع آخر من أنواع الحديث، وهو الحديث المسند، وهذا له اتصال بالمتن من جهة، واتصال بالإسناد من جهة، فهو يجمع بين نوعين مما تقدم، يجمع نوعين مما تقدم؛ يجمع المتصل والمرفوع.
فالمتصل والمرفوع إذا اجتمعا في إسناد واحد حُكِمَ عيه بأنه مسند، فإذا روى لنا الزهري، عن سالم، عن أبيهن عن عبد الله بن عمرو، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا إسناد متصل؛ لصحة سماع كل واحد منهما من الآخر.
ثم هو -أيضًا- مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أو مضاف إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فهذا إذا كان بهذه الصفة نسمية مسندًا، فكان المسند يجمع نوعين: يجمع المتصل مع المرفوع، كلاهما يطلق عليهما الحديث المسند.
طيب، فالحديث المسند هو ما اجتمع فيه شرطان:
الشرط الأول: إضافته إلى النبي -صلى الله عليه وسلم.
والثاني: أن يكون بإسناد متصل ليس فيه انقطاع.
فإذا جاءنا حديث متصل الإسناد، مثلًا: عن أبي هريرة من قول أبي هريرة، هذا لا نسميه مسندًا؛ لفقده شرطًا من شروط وصف الحديث بالمسند، وهو أنه ليس بمرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما هو مضاف إلى الصحابي.
وكذلك لو جاءنا حديث متصل، أو أثر متصل الإسناد إلى سالم بن عبد الله بن عمر، فسالم تابعي، وحديثه يسمى موقوفًا أو مقطوعًا، فهذا لو جاءنا إسناد متصل إلى سالم، من قول سالم أو فعله، لا نحكم عليه بأنه مسند؛ لفقده شرطًا، وهو شرط الرفع.
وبالعكس، لو جاءنا حديث مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ومضاف إليه، لكن وجدنا في أثناء الإسناد انقطاعًا، فهذا لا نقول إنه مسند؛ لفقده شرطًا من شروط المسند، وهو اتصال السند.
ولو جاءنا حديث موقوف على الصحابي، موقوف على ابن عمر - رضي الله عنه - من قوله، وفي أثناء الإسناد انقطاع، فهذا -أيضًا- لا يسمى مسندًا؛ لفقده الشرطين معًا.(1/156)
إذن، فعلى هذا إذا أردنا أن ننظر بين المرفوع والمتصل والمسند، فنقول: كل مسند فهو متصل مرفوع، وليس كل متصل مسندًا، وليس كل مرفوع مسندًا.
فهذا هو المرفوع على المعنى، أو المسند على المعنى، الذي اختاره المؤلف -رحمه الله.
ثم ذكر تعريفًا آخر بصيغة التمرير، وهو: أن كل ما أضيف إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يسمى مسندًا، سواء اتصل إسناده أو انقطع، فالمقصود فيه الإضافة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ويكون على هذا المسند والمرفوع بمعنى واحد، يكون المسند والمرفوع بمعنى واحد، والأول هو الأشهر الذي استقر عليه الاصطلاح، أن المسند يجمع بين أمرين: اتصال السند، مع رفعه أو إضافته إلى النبي -صلى الله عليه وسلم.
لكن ها هنا إشكال على هذا التعريف؛ وهو أن كبار الأئمة الذين صنفوا مسندات، هي مرفوعة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا شك، هذه المسانيد الأحاديث اللي فيها مرفوعة، ومضافة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليست هي محلًا لرواية الموقوفات ولا المقطوعات.
لكن أحيانًا هذه المرفوعات يكون في أسانيدها انقطاع؛ إما تدليس الراوي، أو كون الحديث فيه إرسال خفي، أو كونه فيه -يعني- نوع من أنواع الانقطاع السابقة التي تقدمت معنا، فالشاهد هل ينطبق عليها، أو لا ينطبق؟
الظاهر -والله أعلم- أن اعتبار التسمية بالأغلب، أو على اعتبار أن الإسناد، أو هذه الأحاديث المروية في هذه المسانيد الغالب عليها أنها متصلة الأسانيد، أو في ظاهرها أنها متصلة، وإن لم تكن في الباطن متصلة، ففي الظاهر كأنها متصلة.
وعلى هذا يكون كل حديث رُوِي لنا بإسناد مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن وقع في أثنائه انقطاع، ولكنه انقطاع ليس بظاهر يدرك من كل أحد- فإنه يكون على هذا مسندًا. نعم.
تعريف الحديث الشاذ والمنكر
الحديث الشاذ: هو ما خالف راويه الثقات، أو ما انفرد به من لا يحتمل حاله قبول تفرده .(1/157)
المنكر: وهو ما انفرد الراوي الضعيف به، وقد يُعَدّ مفرد الصدوق منكرًا .
هذان نوعان من أنواع علوم الحديث، من أهم ما في مصطلح الحديث، من أولى الأبواب بالدراسة والعناية، والنظر والتأمل والتدقيق؛ لأنها لها ارتباط بتعليل الحديث؛ لأن لها ارتباطًا بعلة الحديث، فالشاذ، معرفة الشاذ، ومعرفة المنكر، ومعرفة المدلس، ومعرفة المرسل إرسالًا خفيًا، ومعرفة المضطرب، ومعرفة المُعَل، هذه هي في الغالب لب علم الحديث، أو علم مصطلح الحديث.
فلذلك هذان النوعان ينبغي -يعني- دراستهما جيدًا وضطبهما، حتى يكون الإنسان عنده دراسة في الحديث المعل، فَاقِهًا لما يُذْكَر فيه.
أكثر علماء الحديث المتقدمين يعبرون بكلمة "منكر"، وكلمة "شاذ" موجودة، ولكنها أقل بكثير من كلمة منكر، والمؤلف ها هنا ذكر هذين النوعين، وهما متعلقان بالمتن، ومتعلقان بالإسناد، وهما من أنوع الحديث الضعيف على التعريف الذي ذكره واختاره المؤلف -رحمه الله تعالى.
وهذا الضعف ناشئ إما من مطلق التفرد، وإما من المخالفة، الحديث الشاذ أو المنكر الضعيف فيهما ناشئ إما من مطلق التفرد، وإما من المخالفة.
التفرد والمخالفة ينشأ عنهما الشذوذ أو النكارة، وهذان نوعان من أنواع الحديث الضعيف.
فالأول: الشاذ، والشاذ ذكر المؤلف له جزأين:
الجزء الأول: هو ما خالف راويه الثقات، أو خالف راويه الثقات، كلاهما جائز، فما خالف راويه الثقات، يعني: بالراوي ها هنا -والله أعلم- إما الثقة وإما الصدوق، إما الثقة أو الصدوق، إما الثقة وإما الصدوق.
وقوله في الجزء الثاني: أو ما انفرد به من لا يحتمل حاله قبول تفرده، فهذا أيضًا نوع من الشاذ، فهما على هذا نوعان:
النوع الأول: مخالفة الثقة أو الصدوق لمن هو أوثق.
والثاني: تفرد الضعيف، ولو مع عدم المخالفة، تفرد الضعيف أو المجهول، ولو مع عدم المخالفة، فإذا خالف المجهول أو الضعيف فهو أشد شذوذًا، فصار الشاذ يطلق على شيئين:(1/158)
الشيء الأول: اللي هو مخالفة الثقة أو الصدوق لمن هو أوثق منه.
والثاني: مجرد تفرد الضعيف، فالضعيف إذا روى لنا حديثًا تفرد به، ولم يتابعه عليه أحد، فهذا يسمى شاذًا، فإن تفرد بحديث، وخالف فيه فهو منكر وشاذ بمرة؛ لأنه أشد شذوذًا مما قبله، أشد شذوذًا من مخالفة الثقة، لمن هو أوثق منه، أو الصدوق لمن هو أوثق منه.
فهذا هو الشاذ، وأما المنكر فهو تفرد الضعيف، ولو مع عدم المخالفة يسمى منكرًا، فإذا روى لنا الراوي الضعيف حديثًا، ولم يتابعه عليه أحد، حكمنا عليه بأنه منكر، وهذا جارٍ جريانًا واسعًا على اصطلاح أهل الحديث.
وذكر المؤلف -أيضًا- أن من المنكر، قال: "وقد يعد تفرد الصدوق منكرًا". والصدوق -كما تقدم- هو الذي يحسَّن حديثه، فإذا تفرد بحديث، قد يعده بعض العلماء حديثًا منكرًا، وإن لم يخالف فيه أحدًا، بل يعد كثير من أهل العلم تفرد الثقة بالحديث الذي لا يتابع عليه منكرًا، ولا يعمل به، كما هو شأن الإمام أحمد وغيره من جماعة الحفاظ، يعدون مجرد التفرد إذا روى الثقة حديثًا لا يشاركه فيه غيره يعدونه منكرًا لا يعمل به، وبعضهم يسميه منكرًا من باب التسمية، وأما في الحكم فإنه يُعْمَل به.
والشاهد من هذا قضية تفرد الثقة هذه لها مبحث كبير جدًا، فيُتْرَك ويؤخذ بالاصطلاح المتأخر، نجري على الاصطلاح المتأخر، وهو الذي اعتمده الشيخان في الصحيح، أن تفرد الثقة لا يعد نكارة؛ وإنما يعد النكارة من تفرد الضعيف يعد نكارة، وقد يعد تفرد الصدوق منكرًا إذا احتفَّتْ به بعض القرائن.
وسيأتي -إن شاء الله- أن الثقات الأئمة الأثبات يروي أحدهم مائتي ألف حديث، ولا يتفرد إلا، أو لا يوجد له تفرد إلا بحديثين أو ثلاثة، كما سيورد المؤلف -إن شاء الله تعالى.(1/159)
الشاهد أن قضية التفرد هذه قضية متعلقة بالنكارة والشذوذ، فإذا كان المتفرد ضعيفًا بحديث لا يتابع عليه، فهو حديث منكر، وهذا مما يضعف به، ومما يكون سببًا لتضعيف الراوي، وعدم اعتبار أحاديثه الأخرى إذا كثر منه رواية مثل هذه المناكير والشواذ.
فصار عندنا المنكر والشاذ يشتركان في تفرد الضعيف، سواء وقعت معه المخالفة أو لم تقع، فإذا تفرد الضعيف بحديث، سواء خالف أو لم يخالف، فإنا نقول: هذا حديث منكر، ونسميه أيضًا حديثًا شاذًا، ولكن إذا خالف تزداد النكارة، ويزداد الشذوذ.
فإذا روى الضعيف حديثًا، وخالف فيه الثقات، هذا نسميه يطلق عليه منكرا، وبعض العلماء يقول منكر جدًا؛ لأنه هنا ضعيف وخالف، ويسمى -أيضًا- شاذا وشاذا بمرة.
وينفرد الشاذ بمسألة الثقة والصدوق إذا خالف، إذا خالف الثقة أو الصدوق من هو أوثق منهما، هذا نسميه شاذًا، ولا نسميه منكرًا على ما ذكر المؤلف، هذا نسميه شاذًا، ولا نسميه منكرًا.
وإذا تفرد الصدوق بحديث ولم يُخالِف، فإننا قد نسميه منكرًا، ولكن لا نسميه شاذًا على كلام المؤلف -رحمه الله- وإن وقع تسميته شاذًا ومنكرًا عند جمع من أهل العلم المتقدمين.
أو نطبق هذا على بعض الأمثلة فيستبين به الأمر، فالحديث، عندنا حديث أورده ابن الصلاح بَيَّن به أنه تفرد، اللي هو حديث عائشة -رضي الله عنها- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرفوعا: " كلوا البلح بالتمر " .
هذا الحديث ذكره ابن الصلاح مثالًا للراوي الذي لا يحتمل تفرده.
فهذا الحديث رواه أبو زكير، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة.
أبو ذكير هذا ضعيف من جهة حفظه، فكونه يتفرد بهذا الحديث، ولا يتابعه عليه أحد، هذا يعتبر شذوذًا؛ لأنه تفرد من لا يحتمل حاله قبول تفرده، ويعتبر -أيضًا- منكرًا، ويعتبر منكرًا لأنه ضعيف وتفرد.(1/160)
ولكن في مثل هذه الصورة أيضًا، مثل هذا الحديث قد يُحْكَم عليه بالنكارة جدًا؛ لأن هشام بن عروة شيخه ممن يُجْمَع حديثه، وإذا كان الشيخ راويا مكثرا مشتهرا بين الأئمة يُعْتَنَى بحديثه، وتفرد عنه مثل هذا الضعيف، فإنه يحكم عليه بأنه منكر جدًا، أو شاذ بمرة لوجود القرينة الدالة على ذلك، وهو أن شيخه هشام بن عروة ممن يُجْمَع حديثه.
إذن فهذا الحديث فيه راوٍ، وهو أبو ذكير تفرد بهذا الحديث، وأبو ذكير ضعيف لا يحتمل تفرده، فنحكم على هذا الحديث بأنه حديث شاذ؛ لأنه يصدق عليه الجزء الثاني مما ذكره المؤلف في تعريف الشاذ، ونسميه -أيضًا- منكرًا؛ لأنه يصدق عليه الجزء الأول من الحد الذي ذكره المؤلف في المنكر.
ومثال آخر اللي هو حديث الحارث بن شبل، عن النعمان، عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه سلم- قال: " يأتي الناس السائلُ، ما هم بجن ولا إنس، ولكنهم من الملائكة، من ملائكة الرحمن، يأتون يختبرون الناس في أرزاقهم " .
هذا الحديث ذكر أهل العلم أنه لا يروَى إلا من حديث الحارث بن شبل، هو الذي تفرد بهذا الحديث، والحارث هذا ضعيف، والحارث هذا -الحارث بن شبل- راوٍ ضعيف، فيصدق عليه أنه تفرد بحديث لا يحتمل تفرده فيه؛ لأنه راوٍ لا يحتمل تفرده، لكونه ضعيفًا، فيكون على هذا الحديث شاذًا، وأيضًا يصدق عليه الجزء الأول من المنكر؛ لأنه تفرد بهذا الحديث وهو ضعيف لم يتابعه عليه غيره، فيكون هذا الحديث منكرًا، ويكون شاذًا، يكون منكرًا، نسميه منكرًا، ونسميه شاذًا.
وأيضًا هناك حديث، وهو حديث أنس: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سُئل: من آلك؟ قال: كل مؤمن تقي " " سئل النبي صلى الله عليه وسلم- من آلك قال: كل مؤمن تقي " .(1/161)
هذا الحديث تفرد به نافع بن هرمز، وهو ضعيف جدًا، فيكون على هذا منكر هنا يصلح أن يكون منكرًا، ويصلح لأن الراوي ضعيف قد تفرد بهذا الحديث، ويصلح أن يطلق عليه شاذا؛ لأن نافع بن هرمز من الرواة الذين لا يحتمل تفردهم إذا رووا حديثًا.
وهذا المثال -يعني- من المنكر جدًا، ومن الشاذ بمرة؛ لأن نافع هذا ضعيف جدًا، فيتبين به أن المنكر والشذوذ أيضًا درجات، فيه منكر وفيه منكر جدًا، فيه شاذ وفيه شاذ بمرة، فإذا ضعف الراوي كلما ازداد ضعف الراوي ازدادت النكارة، وكلما ازداد ضعف الراوي ازداد الشذوذ.
وكذلك عندنا حديث: " إن لكل شيء قلبا وإن قلب القرآن يس " .
هذا الحديث حديث شاذ، وأيضًا حديث منكر.
أما وجه الشذوذ، فلكون المتفرد به -وهو هارون أبو محمد هذا- راوٍ مجهول، لا يُعرف، فكونه يتفرد بهذا الحديث وهو لا يعرف، هذا يكون الراوي فيه، الراوي الذي لا يعرف، هذا ممن لا يحتمل تفرده، فيكون على هذا شاذًا.
وأيضًا هو حديث منكر، لتفرد هذا المجهول به، وهذا المجهول له حكم الضعيف، يأخذ حكم الرجل الضعيف، هذا المجهول له حكم الرجل الضعيف.
فمثل هذه الأمثلة يتبين بها أن مجرد تفرد الراوي بالحديث يسمى شاذًا أو منكرًا، إذا تفرد به راوٍ ضعيف، أو راوٍ مجهول.
أما إذا تفرد به راوٍ صدوق، فهذا ذكر المؤلف أن بعض أهل العلم يعده منكرًا، فهذه النكارة جاءت من حيث خفة الضبط، فالصدوق قد اهتز ضبطه نوعًا ما عن الثقة، فكونه يتفرد بحديث، هذا قد يشعر بأن هذا الحديث مما أخطأ فيه، فقد يتفرد بحديث يكون قد أخطأ في إسناده، ولكن لا تظهر لنا العلة، لعدم الوقوف على طرق الحديث.
فقد يكون هذا الصدوق قد تفرد بهذا الحديث، ولا يشاركه فيه غيره، وهو -في الحقيقة- ليس تفردًا على ظاهره، وإنما هو خطأ في الرواية، وهذا مما جعل بعض أهل العلم يحكم على تفرده بأنه منكر، يحكم على تفرد الصدوق بأنه منكر.(1/162)
وهذا كما حكم الحاكم في "المستدرك" على حديث جعفر بن برقان، عن ميمون، عن ابن عمر - رضي الله عنه - في الرجل الذي سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة في السفينة.
فهذا الحديث ذكر أن شرطه صحيح على شرط مسلم، هذا الحديث ذكر الحاكم أنه صحيح على شرط مسلم، ولكن قال: هو شاذ بمرة. لأن جعفر بن برقان -وإن كان من رجال مسلم- لكن حاله لا تحتمل التفرد بمثل هذا عند الحاكم، لا تحتمل التفرد بمثل هذا الحديث؛ لأن في حفظه شيئا، فهو صدوق له أوهام، وعنده بعض الأخطاء، وبخاصة في روايته عن الزهري، وإن كان يضبط رواية ميمون بن مهران، إلا أن مثل تفرد هؤلاء الثقات -يعني- مثل هؤلاء الذين تُكلم في حفظهم يحتاج إلى توقف، ولهذا الحاكم في المستدرك أعلَّ هذا الحديث بأنه حديث شاذ بمرة، وليس شاذًا؛ وإنما شاذ بمرة لتفرد جعفر بن برقان بهذا الحديث.
فتبين بذلك أن الشاذ والمنكر على درجات: منه ما هو منكر جدًا، ومنه ما هو منكر، ومنه ما هو شاذ بمرة، ومنه ما هو شاذ، وهذا باختلاف القرائن.
فمثلًا: صلاة التسبيح -يعني- في إسنادها موسى بن عبد العزيز، فهذا يصلح أن يكون شاذًا، ويصلح أن يكون منكرًا؛ لأن موسى بن عبد العزيز لا تحتمل حاله التفرد.
لكن لما رأى بعض العلماء أن هذه الصلاة مخالفة لهيئة الصلوات الأخرى قالوا: هذه قرينة على نكارة هذا الحديث وشدة شذوذه، فكون هذه الصلاة أربع ركعات، يُقرأ في الأولى الفاتحة وسورة من القرآن، ثم يسبح الله تعالى، ثم يركع ويسبح الله -تعالى- بتسبيح خاص، ويرفع ويسبح الله -تعالى- بتسبيح خاص، ثم يسجد ويسبح الله بتسبيح، كلها تسبيح واحد، ويجلس بين السجدتين يسبح الله بتسبيح.(1/163)
هذا كله منافٍ للمعروف بين عموم الصلوات، فكونه خالف ما عهد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلواته، ويتفرد بها مثل هذا الراوي، وإن قواه بعض العلماء، لكن يتفرد بهذا الحديث، هذا يدل على أنه لم يضبط هذا الحديث، وأن هذا حديث منكر من الحديث وشاذ، وأنه حديث شاذ لوجود القرنية.
فصار الشذوذ والنكارة على مراتب، صار الشذوذ والنكارة يطلقان على ما تفرد به الراوي الذي لا يحتمل تفرده، مع عدم المخالفة، وينفرد المنكر بأن الصدوق إذا تفرد بحديث، ولو لم يخالف فيه، فإنه قد يحكم على حديثه بأنه منكر، والشاذ ينفرد فيه الثقة أو ينفرد به الثقة والصدوق إذا خالفا من هم أوثق منهما.
والثقة قد يخالف من هو أوثق منه؛ سواء كان ذلك في سند الحديث، أو في متنه.
فمثلًا: حماد بن سلمة ثقة، فجاء إلى حديث، فرواه عن عمرو بن دينار، عن نافع بن جبير، عن أبيه جبير بن مطعم، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في نزول الله -تعالى- في الثلث الآخر من الليل.
فحماد بن سلمة ثقة، الذي يحكم على هذا الحديث في الظاهر بهذا الإسناد يحكم أنه حديث صحيح؛ لأن حماد بن سلمة ثقة، وشيخه عمرو بن دينار من الأئمة الثقات، ونافع بن جبير أيضًا ثقة، وأبوه جبير بن مطعم - رضي الله عنه - صحابي،.
فهذا ظاهر الإسناد صحيح، لكن العلماء يعلونه؛ يقولون: هذا حديث شاذ. لماذا؟
قالوا: لأن حماد بن سلمة خالف سفيان بن عيينة، فسفيان هو أوثق الناس في عمرو بن دينار، وأوثق من حماد بن سلمة -رحمه الله.
فرواح سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار، شيخهما واحد، عن نافع بن جبير، وشيخ الشيخ واحد، لكن عن رجل من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم.
فرواية حماد بن سلمة ظاهرها الصحة، لكن لما اطلعنا على حديث سفيان بن عيينة وجدنا أن رواية حماد هذه شاذة، شاذة لماذا؟
لأن حماد ثقة، وخالف سفيان بن عيينة وهو أوثق منه.(1/164)
وفي هذا المثال قد يقول قائل: رجل من الصحابة واللا جبير، كلاهما واحد؛ لأن الصحابة ثقات؟ لكن هنا تظهر فائدة، وهو أن نافع بن جبير هذا إذا قال عن رجل من الصحابة غير إذا قال عن أبيه؛ لأن روايته عن أبيه ثابتة، لكن قال عن رجل من الصحابة، وما قال: حدثني، ولا قال: سمعت.
فكلمة "عن" ها هنا على رأي من يشترط ثبوت السماع في الجملة ها هنا يتوقف فيها، أما على رأي مسلم يعتبر صحيحًا، أما على رأي الأئمة الكبار هذه يتوقف فيها هذه الرواية اللي عن رجل، قد لا يحكم لها بالضعف، لكن يتوقف فيها؛ لأن هذا الرجل يحتمل أن يكون نافع بن جبير قد روى عنه وأدركه، ويحتمل ألا يكون قد أدركه.
فهنا تبين، العلماء حين يعلون حديث حماد بن سلمة ، حماد بن سلمة حين يعلونه برواية سفيان بن عيينة، هذا يتبين أن هذا الإعلال ليس إعلالًا صوريًا، وإنما هو إعلال حقيقي، وليس صوريًا في الصورة فقط، وإنما هو إعلال حقيقي؛ لأن له أثرًا على الحكم على الحديث.
بخلاف هذا ما يصنعه بعض الناس إذا جاء إلى حديث مثل هذا قال: الراوي المبهم في حديث سفيان بن عيينة بينته رواية حماد بن سلمة، هذا خطأ عند أهل الحديث، هذا خطأ؛ لأن كلمة رجل تختلف عن كلمة جبير بن مطعم -رضي الله تعالى عنه.
ومثل هذا أيضًا حديث ربعي بن إبراهيم ابن عُلية، هو يروي حديثا عن عوف بن أبي جميلة، عن قسامة بن زهير، عن أبي موسى - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " أهبط الله آدم من الجنة، وعلمه صنعة كل شيء " .
فهذا الحديث إذا نظرنا في إسناده، إسناده ظاهره الصحة، وهو مسند، وكل رجاله ثقات، ولكن العلماء يقولون: هذا حديث شاذ.(1/165)
فإذا نظرنا إلى وجه الشذوذ نلحظ أن ربعي بن إبراهيم ابن عُلية هذا ثقة من الثقات، لكن الثقات الآخرون يروون هذا الحديث عن شيخهم جميعًا عوف بن أبي جميلة، عن قسامة بن زهير، عن أبي موسى، موقوفًا على أبي موسى من قوله، موقوفا على أبي موسى، يعني: عن أبي موسى أنه قال: أهبط الله آدم.
وهذا الحكم ها هنا حكم المرفوع يغاير الموقوف ولا شك للفرق بين من أسند إليه الحديث، فإذا أُسند إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يغاير ما إذا أسند إلى الصحابي، فربعي هنا ثقة، ورفع الحديث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - .
لكن نأتي إلى الرواة، عن عوف بن أبي جميلة، الرواة الثقات، عبد الوهاب الثقفي وغندر وغيرهم، نجدهم يروون هذا الحديث عن عوف بن أبي جميلة، عن قسامة، عن أبي موسى الأشعري من قوله.
فتصير رواية ربعي شاذة، هو ثقة، ولكنه خالف الثقات في إسناد هذا الحديث، فرواه مرفوعًا، وغيره من الأئمة يروونه موقوفًا، فصارت رواية ربعي هنا رواية شاذة.
وأيضًا مثل حديث حفص بن غياث، عن الأعمش، عن أبي إسحاق الأغر، عن أبي سعيد وأبي هريرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن الله تعالى- يمهل حتى إذا مضى شطر الليل الأول أمر مناديًا ينادي: هل من داعٍ فيستجاب له " .
هذا الحديث -لو نظرنا فيه- رجاله ثقات ما فيهم كلام، رجاله كلهم ثقات، لكن هذا الحديث قال العلماء: حديث شاذ.
السند ما فيه شذوذ، الشذوذ وين؟ في المتن، الشذوذ في المتن؛ لأن المحفوظ من حديث الأعمش إنما هو الحديث المشهور المعروف المُخَرَّج في الصحاح: " ينزل الله -تعالى- كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: هل من داعٍ فأستجيب " .(1/166)
المتن هذا يفارق المتن الآخر، الأول: الله -تعالى- ليس فيه نزول الله، وفيه أيضًا ليس فيه إثبات صفة الكلام لله أو النداء، وإنما فيه أنه يأمر مناديًا، وهذا هو الذي يستدل به بعض أهل البدع على أن الله -تعالى- في ثلث الليل الآخر لا ينزل، وإنما ينزل أمره.
فلذلك المعنى هذا الحديث مخالف لمعنى الحديث الآخر، حديث حفص بن غياث مخالف؛ لأن ليس فيه -أولًا- إثبات النزول، وليس فيه إثبات صفة النداء لله تعالى.
أما الأحاديث المحفوظة من حديث الأعمش، هذه كلها في إثبات النزول لله، وفي إثبات صفة النداء لله جل جلاله، فهما حديثان، فصار حديث حفص بن غياث شاذ في متنه.
عرفنا هذا الشذوذ، رأينا رجلًا هو مالك بن سعير يروي هذا الحديث عن الأعمش، عن أبي إسحاق، بالحديث بالرواية المشهورة للحديث، بالرواية المشهورة المعروفة للحديث التي فيها إثبات صفة النزول، وإثبات صفة النداء لله تعالى.
وهذا مالك بن سعير -وإن كان أقل من حفص بن غياث في الحفظ- ولكن لما كان أصل الحديث، يعني: الرواة الآخرون يشاركون الأعمش اللي هي المتابعة، يسمى متابعة قاصرة، يشاركون الأعمش في الرواية عن أبي إسحاق شعبة والثوري وغيرهم، يروون الحديث أيضًا عن أبي إسحاق بالرواية المشهورة المعروفة، دلنا ذلك على أن حفص بن غياث -وإن كان ثقة- إلا أنه شذ بمتن هذا الحديث.
فهذا الحديث شاذ في متنه، هذا حديث شاذ في متنه وإن كان إسناده صحيحًا.
فحفص بن غياث ما خالف الثقات في إسناده، كلهم يروون الحديث عن أبي إسحاق، عن الأغر، عن أبي سعيد وأبي هريرة - رضي الله عنه - .
ولم يخالف حفص بن غياث أيضًا مالك بن سعير؛ لأن مالك بن سعير يروي هذا الحديث بهذا الإسناد نفسه عن الأعمش، عن أبي إسحاق إلى آخره.
فحفص بن غياث ما شذ في إسناده، وإنما شذ بمتنه، فهذا حديث نعتبره شاذا في المتن لمخالفة حفص بن غياث للثقات الذين يروون الحديث بلفظ آخر، فهذا حديث شاذ.(1/167)
أحيانًا الراوي يشذ بمتن الحديث وإسناده، كما في حديث معمر عن الزهري -رحمه الله-، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا وقعت الفأرة في السمن فإن كان جامدًا فألقوها وما حولها، وإن كان مائعًا فلا تقربوه "
هذا الحديث يرويه معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، هكذا.
لكن الإمام البخاري، وأبا حاتم، وغيرهما من الحفاظ يقولون: هذا حديث، هذا الحديث يحكمون عليه بأنه حديث ليس بصحيح، وإنما هو خطأ من معمر.
ومعمر ها هنا ثقة، فتفرد وخالف في المتن، فيعتبر حديثه حديثًا شاذًا في متنه، شاذًا في إسناده.
أما شذوذه في المتن، فإن الرواة عن الزهري مالك وغيره يروون الحديث عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة، وهو المخرج في الصحيح.
يروونه عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة. فهذا إسناده مغاير لإسناد معمر، هذا من جهة الإسناد.
من جهة المتن، الحديث الذي رواه الحفاظ عن الزهري ليس فيه هذا التفصيل المذكور في حديث معمر، وإنما " سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن فأرة وقعت في السمن، فقال: ألقوها وما حولها وكلوه " .
لم يفصل في الجامد والمائع، لم يفصّل بينهما.
فدلنا هذا على أن معمرًا أخطأ في هذا الحديث؛ لمخالفته للثقات الأثبات الذين يروونه عن الزهري بهذا الإسناد وهذا المتن، فصار حديث معمر السابق حديثًا شاذًا في إسناده، شاذًا في متنه، فمعمر ثقة، ولكنه خالف الثقات في المتن والإسناد، فحكمنا على حديثه بأنه حديث شاذ.
وهذا الحديث -كما سبق- أن الشاذ هو إذا خالف الثقة من هو أوثق منه، سواء كانت هذه المخالفة في المتن، أو في الإسناد، ولهذا المؤلف قال: ما خالف راويه الثقات. خالفهم في ماذا؟
أطلق، فتارة يخالفهم في الإسناد، ويوافقهم في المتن، كما في حديث حفص بن غياث.(1/168)
وتارة يخالفهم، آسف! تارة يخالفهم في الإسناد، كما تقدم في الحديثين السابقين الأولين، وتارة يخالفهم في المتن كما في حديث حفص، وتارة يخالفهم في المتن والإسناد معًا، كما في حديث معمر الذي معنا.
فيُحكم على حديثه: تارة بأنه شاذ سندًا، تارة بأنه شاذ متنًا، وتارة يجمع بن الشذوذين، وقد سبق لنا أن العلماء دائمًا ينبهون على هذا الشذوذ في مثل رواية الثقات؛ لأن أو تحذيرًا من الأخذ بظواهر بعض الأسانيد؛ لأن الآن لو لم نقف إلا على رواية معمر، يعني لو أتينا إلى رواية معمر هذه، ونظرنا إلى إسنادها، لحكمنا عليه بأنه حديث صحيح على شرط الشيخين في الظاهر، ولكنه في حقيقته حديث شاذ معل، قد أخطأ فيه معمر.
فالعلماء ينبهون على مثل هذا الشذوذ؛ لئلا يعتمد على ظواهر بعض الأسانيد، وسيأتي -إن شاء الله- بيان ذلك في الحديث المعل.
بقي عندنا تفرد الصدوق، وهذا تقدم إذا لم يكن مع المخالفة، قلنا جعفر بن برقان، الحديث اللي في الحاكم يصلح أن يكون لهذا.
وقد يتفرد الصدوق مع المخالفة؛ فتارة يخالف في المتن، وتارة يخالف في الإسناد، وتارة يخالف فيهما، ولذلك أمثلة.
وأيضًا الضعيف قد يتفرد بالحديث مخالفًا غيره، فنحكم عليه بأنه منكر، أو منكر جدًا، أو شاذ، أو شاذ بمرة.
أما بالنسبة للصدوق فأمثلته -يعني- لتعددها لا تكفي لهذا الدرس، نأخذ مثالًا لتفرد الضعيف مع المخالفة، وغدًا نتحدث عن تفرد الصدوق لدقته قليلًا.
فتفرد الضعيف مع المخالفة هذا يمثل له أهل العلم بحديث هشام بن سعد، عن الزهري، عن أبي سلمةن عن أبي هريرة - رضي الله عنه - في قصة الذي جامع أهله في نهار رمضان، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - أمره بالكفارة، وهذه الكفارة جاءت في الأحاديث كلها، لكن جاء في حديث هشام بن سعد هذا اللي معنا زيادة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: " صم يوما مكانه واستغفر الله " .(1/169)
فهذه الجملة "صم يومًا مكانه" لم يروها عن الزهري إلا هشام بن سعد، كل الرواة الحفاظ -كمالك ومن نحا نحوه- كلهم يروون عن الزهري، ولم يذكر منهم أحد "صم يومًا واستغفر الله مكانه" إلا هشام بن سعد.
وهشام بن سعد هذا -وإن خرج له في الصحيح- إلا أن جمهور الأئمة على أنه ضعيف، ومخرج له في البخاري، ولكن جمهور العلماء على أن فيه ضعف، وأحسنهم حالًا من يجعله في مرتبة الصدوق.
فالشاهد أن العلماء يعلون، أو يجعلون هذا الحديث حديثًا منكرًا أو شاذًا؛ لأن هشام بن سعد تفرد بهذا الحديث مع المخالفة، فكان ضعيفًا، وكان مخالفًا، فهذا يصلح أن نطلق عليه شاذا باعتبار أنه خالف راويه الثقات، وقلنا راويه يحتمل يكون معهم الضعيف، ويحتمل لكن الأظهر أن الضعيف هنا ليس مرادًا، أو يمكن إدخالها في أن هذا تفرد، ولم يحتمل تفرده مع ضميمة المخالفة، فيكون شاذًا من جهة عند بعض أهل العلم، أو نطلق عليه شاذًا بمرة، أو نقول: هذا حديث منكر؛ لأن راويه ضعيف، وقد خالف فيه الثقات.
فهذا المثال صادق على المنكر، صادق على الشاذ، على اختلاف أهل العلم في حقائق، أو في حقيقة كل منهما، لكن المعتبر ها هنا أن الأئمة يخطئون مثل هذه الرواية، وهذا تنبيه؛ لأن بعض الناس إذا تفرد أحد الرواة بزيادة، وإن كان -يعني- ليس من الكبار، فإنه يصحح هذه الزيادة أو يحسنها، كما يصنع بعضهم في حديث هشام بن سعد هذا.
وهذا خلاف عمل الأئمة الذين يُخَطِّئون هذه الرواية، ويُخَطِّئُون راويها، ويعتبرون تفرده هذا تفردًا ليس بصحيح، وإن شاء الله يأتي تفرد الصدوق يوم غد.
فهذه بعض الأمثلة تصلح -إن شاء الله- في مبحث العلة، ويضاف عليها في مبحث العلة أشياء أخرى، وهي متعلقة بالشذوذ؛ لأن الشذوذ والنكارة من مباحث علة الحديث، يعني: على الحديث إذا اطُّلِع فيها على العلة صار المعلول شاذًا، صار المعلول منكرًا.(1/170)
لكن العلماء يفردون كلًا منهما بمبحث؛ لأن الشاذ والمنكر يلتقيان مع المعل في بعض الأشياء، ويختلفان معه في بعضها، فالتفرد الضعيف المطلق هذا بعض أهل العلم لا يسميه معللًا لظهور ضعفه، لظهور الضعف، لكون ضعفه ظاهرًا، فلا يسمى معللا.
لكن إذا تفرد الثقة مع المخالفة، أو تفرد الصدوق مع المخالفة، فإن هذا يأتي في مبحث الإعلال، والله أعلم. وصل الله وسلم على نبينا محمد.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
في الدرس الماضي كان الكلام على الحديث الشاذ والمنكر، وتقدم لنا أن الشاذ -كما ذكره المؤلف- إما مخالفة الراوي الثقة أو الصدوق لمن هو أوثق منهما، أو هو مطلق تفرد الراوي الضعيف، سواء خالف أو لم يخالف، وأنه يجتمع مع المنكر في الحد الذي ذكره المؤلف، يجتمع الشاذ والمنكر في تفرد الراوي، إذا تفرد راوٍ ضعيف بحديث، فإنه يطلق عليه منكر، ويطلق عليه شاذ كما ذكر المؤلف.
ويفارق المنكر الشاذ بأن تفردات، أو بعض التفردات -ممن هم دون الثقة وفوق الضعيف- أن هذه قد تكون منكرة عند بعض العلماء، بل بعض أحاديث الثقات الذين تفردوا بها قد تكون منكرة عند بعض العلماء.
وتقدم التمثيل لهذه الأشياء سوى الصدوق، والصدوق ها هنا هو الذي يروي أو يحسَّن حديثه، هذا ينبغي الاعتناء بشأنه، وبخاصة في زياداته وتفرداته، فإذا كان الراوي الثقة لا تقبل زيادته إلا بشروط، فإن من دونه أولى ألا تقبل زيادته إلا بشروط أقوى من الشروط المشترطة في تفرد الثقة.
وإذا كان تفرد الثقة يعد أحيانًا، أو مخالفة الثقة تعد شاذة، فأيضًا مخالفة الصدوق -إذا خالف الثقات- فإنها تعد أشد شذوذًا من مخالفة الثقة للثقات ، وأما إذا خالف الصدوق من هو قريب منه في المنزلة، فهذا يعتبر شذوذًا.(1/171)
ومن أمثلة تفرد الصدوق إذا خالف: الحديث الذي يرويه الحارث بن عبد الرحمن بن أبي ذباب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لما خلق الله آدم ونفخ فيه الروح عطس " .
فالحارث هذا صدوق، وروى هذا الحديث بهذا الإسناد، وجعله من مسند أبي هريرة، وقد خالفه محمد بن عجلان، ومحمد هذا أرفع حالًا من الحارث بن أبي ذباب؛ ابن عجلان بعض أهل العلم يوثقه مطلقًا، وبعضهم يحسن حديثه، وهو بكل حال لا ينحط حديثه عن درجة الحسن، بل هو من أرفع مراتب الحسن، أو من أهل الصحة، والمقصود أنه أرفع حالًا وأحسن حالًا من الحارث بن أبي ذباب، وإن كان الحارث صدوقًا يحسن حديثه، فالحارث خالف ابن عجلان.
ابن عجلان روى هذا الحديث عن المقبري، عن أبيه، عن عبد الله بن سلام - رضي الله عنه - موقوفًا عليه من قوله.
فالأول: الحارث جعله عن المقبري، عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- مرفوعًا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم.
فأخطأ في الإسناد، وأخطأ في إضافة الحديث.
وابن عجلان خالفه؛ فروى هذا الحديث بسند آخر، أو بسياق آخر مغاير لسياق الحارث، وجعله موقوفًا على عبد الله بن سلام -رضي الله تعالى عنه- فصارت رواية الحارث رواية شاذة؛ لمخالفته من هو أوثق منه، وهو ابن عجلان.
ولهذا النسائي -رحمه الله- في الكبرى خطَّأ رواية الحارث، وصوَّب رواية ابن عجلان.
ومثال آخر: وهو حديث أنس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما مر بأبي عياش الزرقي - رضي الله عنه - وهو يصلي ويقول في دعائه: يا حنان، يا منان، يا بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام " .
هذا الحديث هكذا يرويه الحفاظ من أصحاب أنس - رضي الله عنه - أنس بن سيرين يرويه عن أنس بن مالك هكذا، إبراهيم بن عبيدة بن رفاعة وغيرهما يروون الحديث هكذا، بهذا اللفظ، فجاء حفص بن عمر -وهو صدوق- فرواه عن أنس، وزاد قوله: " يا حي يا قيوم " .(1/172)
فهذه اللفظة شاذة من قبل حفص بن عمر، وهذه لها تعلق بالحكم، أو لها أثر في الحديث؛ لأنها إذا أُثْبِتَتْ فهي تدل، أو تكون دليلًا لمن قال: إن الحي القيوم هو اسم الله الأعظم.
لكن إذا حذفت، وجاء في آخر الحديث، هذا الحديث لقد دعا الله باسمه الأعظم، وليس فيه يا حي يا قيوم، فهذا -أيضًا- يشكل على من قال، أو يرد مذهب من قال: إن الحي القيوم هو اسم الله الأعظم.
فهذه لها تعلق بالحكم، ولهذا تفرد بها حفص بن عمر، فصارت لفظة شاذة؛ لأنه صدوق خالف الثقات، وقلنا: الصدوق إذا خالف الثقات يكون حديثه أشد شذوذًا من الثقة الذي خالف الثقات؛ لأنه كلما عظم شأن المخالفين، وضعف شأن المُخالَف، كان الشذوذ أشد، ولهذا إذا خالف الضعيف كان الشذوذ أشد، والنكارة أقوى في الحديث.
بخلاف ما إذا جاء الصدوق، فإن النكارة أو الشذوذ يخف، وكذلك إذا خالف الثقة، فإن الشذوذ يخف.
وأيضًا مثله حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - في قصة بني قريظة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
" لقد حكمت فيهم بحكم الله " .
لسعد بن معاذ: " لقد حكمتَ فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات " .
وأيضا مثل حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - في قصة بني قريظة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " لقد حَكَمْتَ فيهم بحكم الله " قال في سعد بن معاذ: " لقد حَكَمْتَ فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات " .
فهذا الحديث رواه محمد بن صالح التمار، عن سعد بن إبراهيم، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه -رضي الله عنه.
هذا الحديث إذا نظرنا إليه لأول وهلة بهذا الإسناد يصلح أن يُحَسَّن الحديث؛ لأن الرجال ثقات إلا محمد بن صالح التمار، فهو صدوق، ولكن إذا جُمِعَتْ طرق الحديث تبين أن هذا الحديث شاذ، شاذ في سنده، وفي متنه زيادة لم تأتِ في الحديث الآخر.(1/173)
فقد روى الحديث شعبة، وبينه وبين التمار مراحل كثيرة، رواه عن سعد بن إبراهيم، عن أبي أمامة سهل بن حنيف، عن أبي سعيد الخدري، فصار شعبة يرويه بسند آخر، عن سعد بن إبراهيم، مغاير لرواية التمار.
فالتمار هذا، تكون رواية التمار هذه رواية شاذة، بل هي فيها شذوذ كبير؛ لأن المُخالِف -وهو التمار- صدوق، والمُخالَف موصوف، أو موصوف بأن -وهو شعبة- موصوف بأعلى مراتب التوثيق، هو من الذين يوصفون بأن لهم المنتهى، وأنه أمير المؤمنين في الحديث، وأنه حجة ثَبْت ثقة إمام، كل هذه الأوصاف في شعبة.
والآخر "محمد بن صالح التمار" مُخْتَلَف في حاله، والأظهر أنه صدوق، حسن الحديث، فإذا خالف التمار مثل شعبة فإن روايته يكون الشذوذ فيها كبيرا جدا.
أما في الأمثلة السابقة، في مخالفة ابن أبي ذباب لابن عجلان، هذه الشذوذ فيها خفيف، أخف من هذه؛ لأن الرجلين -يعني- بينهما تقارب، وكذلك حديث أبي عياش الزرقي، الرواة بينهما -يعني- ليس بينهما، أو ليس بينهما فرق كبير.
فتبين بهذه الأمثلة أن رواية الصدوق إذا خالف فيها الثقات، سواء في الإسناد أو في المتن، فإنها تعتبر رواية شاذة.
وعلى ما تقدم كله يظهر أن الشاذ والمنكر متقاربان ومتداخلان في بعض النقاط، مختلفان في نقاط أخرى، وهذا هو الذي، التعريف هو الذي ذكره المؤلف -رحمه الله-، غير أن الحافظ ابن حجر فَرَّقَ بينهما بأن الشاذ يُشترط في راويه أن يكون؛ إما ثقة، وإما صدوقا، ويشترط المخالفة.
فهو يشترط فيه شرطان: أن يكون الراوي ثقة أو صدوقا، وأن يكون مخالفا لمن هو أوثق منه.
وأما المنكر عنده لا بد أن يكون المتفرد به، أن يتفرد به ضعيف ويخالف، فرواية الضعيف إذا وقعت مخالفة فإن الحافظ ابن حجر يسميها رواية منكرة، والثقة أو الصدوق إذا خالف يسميها شذوذا، وهذا الكلام -يعني- لا يرجع إلى الأحكام، وإنما يرجع إلى الألفاظ، والأمر فيها يسير.(1/174)
لكن الذين جاءوا من بعد الحافظ ابن حجر -أو غالبهم- مشى على ما قرره وقَعَّدَه الحافظ ابن حجر -رحمه الله- نعم.
الحديث الغريب
تعريف الحديث الغريب ووقوعه في المتن والسند
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال الإمام الذهبي -رحمه الله تعالى-: الحديث الغريب ضد المشهور، فتارة ترجع غرابته إلى المتن وتارة إلى السند .
هذا نوع من أنواع الحديث مرتبط بالشاذ والمنكر، ولا يقل أهمية عنهما؛ لأن هذا النوع من الحديث ليس وصفا مجردا للأسانيد، وإنما هو متضمن للأحكام عليها، هذا متضمن، وأهل العلم أطلقوا هذا اللفظ، وبخاصة الترمذي، فقد أكثر منه في سننه كثيرا، وأيضا فهذا اللفظ -أو ما دل عليه لهذا اللفظ من حكم- استعمله العلماء كثيرا، وهذا اللفظ لفظ غريب، أو الغريب هذا يطلق عليه الغريب، ويطلق عليه الفرد، كلاهما اسمان لمسمى واحد، اسمان لحقيقة واحدة، فالغريب والفرد معناهما واحد في الجملة، إلا في صورة واحدة -كما سيأتي.
فالغريب والفرد في الاصطلاح يطلقان على تفرد الراوي، على تفرد الراوي، سواء بسند، أو ببعض سند، أو بمتن، أو ببعض متن، كل هذا يسمى غريبا، ويسمى تفردا أو فردا.
لكن ذكر الحافظ ابن حجر أن الفرد غالبا ما يطلق على الفرد المطلق، وهو الذي يكون التفرد فيه ناشئا من قبل التابعي، ولو امتد إلى من دونه، يعني: إذا تفرد تابعي عن صحابي بحديث، ولم يروِ هذا الحديث عن الصحابي إلا هذا التابعي، فهو يسمى فردا مطلقا، وغالبا إذا أطلقوا الفرد ينصرف إلى هذا، إذا قالوا: حديث فرد، فالغالب أنه ينصرف إلى هذا، يعني: يكون هذا الحديث رواه صحابي، وتفرد بالرواية عنه راوٍ واحد، وتفرد بالرواية عنه راوٍ واحد.
وهذا التفرد قد يمتد إلى من دون التابعي، فيمثلون لهذا بحديث عبد الله بن دينار، عن ابن عمر أنه - صلى الله عليه وسلم - " نهى عن بيع الولاء وهبته " .(1/175)
فعبد الله بن دينار تابعي تفرد بهذا الحديث عن ابن عمر، لم يشاركه أحد في هذه الرواية، لم يشاركه أحد في رواية الحديث عن ابن عمر، لكن رواه عن عبد الله بن دينار جماعة من العلماء.
فهو يعتبر فردا مطلقا لتفرد عبد الله بن دينار به عن ابن عمر - رضي الله عنه - فهذا تفرد في أصل الإسناد، يقصدون أصل الإسناد التابعي الذي يروي عن الصحابي.
وأحيانا يمتد هذا التفرد، مثل الحديث المشهور، حديث: " إنما الأعمال بالنيات " هذا يرويه عمر، ويرويه عن عمر علقمة بن وقاص، فعلقمة بن وقاص روايته عن عمر هذه تسمى فردا، أو فردا مطلقا، أقول: هذه هو التفرد المطلق هكذا.
لكن هذا التفرد -أيضا- امتد، فامتداده لا يضر، فرواه عن علقمة التيمي، محمد بن إبراهيم التيمي، ورواه عن التيمي يحيى بن سعيد، ومن بعد يحيى بن سعيد اشتهر هذا الحديث، وأما من قبل يحيى بن سعيد فما فوقه هذا يعتبر فردا، يعتبر فردا، فالفرد هنا، التفرد امتد إلى من دون التابعي.
وكذلك حديث أنس - رضي الله عنه - عنه -صلى الله وسلم- " أنه دخل مكة وعلى رأسه المغفر "
هذا حديث رواه الزهري عن أنس - رضي الله عنه - ولم يشارك الزهري أحد من التابعين في هذه الرواية، ما أحد من التابعين رواه عن أنس، ما رواه إلا الزهري، وما رواه عن الزهري إلا مالك بن أنس - رضي الله عنه - فهذا يعتبر فردا مطلقا؛ لتفرد الزهري به عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - وامتد هذا التفرد إلى الراوي عن الزهري، وهو مالك بن أنس -رضي الله تعالى عنه.
فصار التفرد، أو الفرد إذا أطلق غالبا، هذا في غالب الاستعمال ينصرف إلى الفرد المطلق، وأما الغريب فهو ينصرف إلى الفرد النسبي، وهو الذي تكون فرديته منسوبة إلى شيء معين، تفرد به عن فلان، لم يروه ثقة إلا فلان، تفرد به أهل البلد الفلاني، هذا كله تفرد نسبي، غالبا ما إذا أطلق كلمة غريب، غالبا ما تتوجه إلى هذا الفرد النسبي.(1/176)
فهو عند الحافظ ابن حجر -رحمه الله- إنما هو من حيث الاستعمال، إنما هو من حيث كثرة الاستعمال وقلته، هذا في الاسم، يعني: كلمة الفرق كلمة الغريب.
أما من حيث الفعل؛ تفرد به فلان، أو أغرب به فلان، فكلاهما بمعنى واحدن لكن الأكثر في استعمال أهل الحديث "تفرد به فلان"، أو "لم يروه إلا فلان"، أو "لا نعلم رواه إلا فلان"، هذا هو الأكثر لاستعمال أهل.
وكلمة "أغرب به" هذه استعملها مثل الإمام الدارقطني في "العلل"، واستعملها أيضا الخطيب في "التاريخ"، وغيرهم الجماعة استعملوا هذه اللفظة، فهي لفظة أقل من لفظة "تفرد به"، أقل من لفظة "تفرد به".
هذا من حيث الفعل، أما من حيث الاسم كما تقدم.
لكن السخاوي - رضي الله عنه - في توضيح الأظهر، ذكر أن هناك -يعني- صورة من الصور يصح، أو يطلق عليها تفردا، ولا يطلق عليها غريبا، وهي إذا تفرد بالحديث أهل بلد عن راوٍ ، فإن هذا يسمى تفردا، ولا يسمى غريبا.
فإذا كان عندنا -مثلا- أنس بن مالك روى عنه أهل البصرة -مثل قتادة وثابت وغيرهم- حديثا، تفردوا به، لم يروه عن أنس أحد غير أهل البصرة، هذا لا يسمى غريبا، وإنما يسمى فردا، يسمى فردا ولا يسمى غريبا.
وهذا دائما يطلقه أهل العلم، "تفرد به أهل كذا عن فلان"، تفرد به أهل كذا عن التابعي أو الصحابي أو الراوي الفلاني، فهم يطلقون لفظ التفرد.
إذن فالصورة التي يختلف فيها ويتميز فيها الفرد عن الغريب هو في رواية أهل البلد عن راوٍ إذا تعدد أهل البلد في الرواية، إذا كان أهل البلد اثنين فأكثر، ورووا عن راوٍ، وتفردوا بالرواية عنه، فإن هذا الحديث يسمى فردا، ولا يسمى غريبا، يسمى فردا ولا يسمى غريبا.(1/177)
وعليه يكون كل غريب فهو فرد، وليس كل فرد غريبا؛ لأن هؤلاء الذين يتفردون من أهل البلد عن الراوي بهذا الحديث هو جماعة لا يطلق عليهم غريبا، وإنما يطلق عليهم على روايتهم تفردا، وإنما يطلق على روايتهم أنها من باب التفرد لا من باب الغرابة، والمعنى المتقارب.
والذي يدلنا على أن الغرابة والتفرد معناهما واحد، ما وقع في كلام الترمذي -رحمه الله- فإنه لما خَرَّج حديثا للوليد بن مسلم، قال: غريب من حديث الوليد بن مسلم، رواه رجل واحد من أصحاب الوليد، يعني به: الوليد بن شجاع.
فهو قال: هو شيء غريب، ثم قال: رواه رجل واحد. رواه رجل واحد هذا هو التفرد، وأطلق الاصطلاح الأول كلمة غريب، فدل على أن الغرابة معناها التفرد، وأن الغريب والفرد اسمان لحقيقة واحدة.
ثم ذكر المؤلف أن الغرابة تارة ترجع إلى المتن، وتارة ترجع إلى السند، أما رجوع الغرابة إلى المتن فتارة يكون المتن غريبا بكله، يعني: يكون المتن كله غريبا، وتارة يكون بعض المتن غريبا وبعضه ليس بغريب.
ومعنى "أن يكون المتن غريبا" يعني: أن هذا المتن لا يرويه إلا راو واحد، لا يرويه إلا راوٍ واحد فقط، فهذا يسمى متنا غريبا.
والمتن الغريب، المتن إذا كان غريبا فإنه لا بد أن يكون إسناده غريبا، لا بد أن يكون إسناده غريبا؛ لأنه لو كان له أسانيد، أو لو كان المتن مشتهرا للزم منه تعدد الأسانيد.
ولهذا قرر الحافظ ابن الصلاح أنه لا يوجد متن غريب إلا وإسناده غريب؛ لأن لو كان المتن مشتهرا للزم منه تعدد الأسانيد، وزالت غرابة الإسناد، وزالت الغرابة، وهي مطلق التفرد.
وهذا له مثال سبق لنا في مبحث الشاذ، فالشاذ سبق لنا أنه تفرد، يطلق على التفرد الضعيف، والمنكر كذلك يطلق على التفرد الضعيف.(1/178)
فسبق لنا حديث أبي زكير عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: " كلوا البلح بالتمر " هذا الحديث غريب، هذا الحديث حديث غريب في متنه، وتفرد به أبو زكير، تفرد بهذا الإسناد أبو زكير، والمتن لا يعرف إلا من حديث أبي زكير. فهذا متن غريب.
ومثله حديث حماد بن سلمة، عن أبي العشراء، عن أبيه " لما سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أما تكون الذكاة إلا في اللبة والحلق؟ فقال - صلى الله عليه وسلم - لو طعنت في فخذها لأجزأ عنك " .
هذا الحديث لا يُعْرَف إلا من حديث أبي العشراء عن أبيه، لا يعرف إلا بهذا الإسناد، تفرد به حماد، عن أبي العشراء، عن أبيه.
فهذا المتن لا يرد إلا بهذا الإسناد، كما أن هذا الإسناد لا يُعْرَف إلا بهذا المتن، فهذا إسناده غريب، ومتنه غريب.
وأما الأول -حديث أبي زكير- هذا الغرابة في متنه فقط، في متنه فقط، الغرابة في المتن، والغرابة في الإسناد، لكن الغرابة ليست كغرابة حديث حماد بن سلمة عن أبي العشراء؛ لأن حديث أبي العشراء هذه غرابة -يعني- غرابة تامة جدا؛ لأن هذا سند لا يُرْوَى إلا بهذا الحديث، وهذا الحديث لا يُرْوَى إلا بهذا الإسناد.
أما حديث أبي زكير فإن هذا الإسناد بالنسبة لهذا الحديث غريب، هذا الإسناد غريب، لكن رواية هشام، رواية أبي زكير، كلها معروفة في أحاديث أخرى، لكن في هذا الحديث، هذا سند شاذ تفرد به أبو زكير، وروى به هذا الحديث.
فهذا يسمى فيه غرابة متن، هذا فيه غرابة متن وفيه غرابة إسناد؛ لأن أبا زكير لم يشاركه أحد في هذه الرواية، فهو تفرد مطلق.(1/179)
وقد تكون الغرابة في بعض المتن، وهذا كما سبق لنا في بعض التفردات التي ذُكِرَتْ في الشاذ والمنكر، ذُكِرَتْ في الشاذ والمنكر، فحديث -مثلا- معمر اللي مر يوم أمس في تفصيل في الفأرة، هذا حديث غريب، يطلق عليه غريبا لتفرد معمر به، فهو تفرد في المتن، تفرد بالمتن معمر، ولكن هذا تفرد بالمتن والزيادة فيه بالتفصيل، فأصله ثابت، لكن التفصيل الوارد فيه غير ثابت.
مثله حديث مالك في زكاة الفطر، عن نافع، عن ابن عمر، زيادة لفظة "من المسلمين"، هذه عند بعض أهل العلم تفرد بها مالك، فهي غريبة من حديث نافع، فهي غريبة عندهم من حديث نافع، والحفاظ يروون عن نافع بدون هذه الزيادة، لكن سبق أن هذه الزيادة الصحيحة ثابتة لأوجه كثيرة، وأنه لم يتفرد بها، لكن بعضهم يستدل بزيادة "من المسلمين" على تفرد مالك، فهذا تفرد ببعض المتن، وليس بالمتن كله؛ لأنهم متفقون على المتن اللي هو: " . فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر صاعا من تمر، أو صاعا من شعير، على الحر والعبد، والذكر والأنثى، والصغير والكبير " .
لكن بقي كلمة "من المسلمين"، هذه هي التي يقال إن مالكا تفرد بها، فهي غرابة في بعض المتن.
ومثله الحديث اللي سبق قريبا، اللي فيه أبي عياش، في حديث أنس عن أبي عياش كلمة: "يا حي، يا قيوم"، هذه أيضا تفرد من الراوي، فأصل الحديث متفق عليه، يعني: أصل الحديث متفق عليه بين الرواة، ولكن كلمة "يا حي، يا قيوم"، هذه هي التي تفرد بها أحد الرواة كما سبق، فهي إذن فرد، أو بعض المتن فرد، وبعض المتن غريب، بعضه غريب، وليس المتن كله غريبا.
إذن، فصار الغرابة الراجعة للمتن تارة ترجع إلى جميع المتن، وهذه لا بد أن يكون الإسناد معها غريبا، وتارة تعود إلى بعض المتن فقط.
فما مر من الأمثلة التي فيها تفرد بعض المتن الرواة متفقون على الإسناد، لا خلاف بينهم في ذلك، فالإسناد ما فيه غرابة، إنما الغرابة في جزئية من أجزاء المتن.(1/180)
فالتفرد بالمتن كله هذا يرجع إلى الشذوذ والنكارة، يعني: مرتبط بالشذوذ والنكارة، وله ارتباط بالصحيح والحسن، وأيضا بالضعيف.
وأما باالنسبة لغرابة بعض المتن، فهذا له ارتباط بالشاذ والمنكر وزيادة الثقة، وأما بالنسبة لرجوعه إلى الإسناد، الغرابة إلى الإسناد، فهذه هي الأكثر، أو أكثر ما يقع في الأحاديث في الغرابة في الإسناد.
والغرابة في الإسناد تارة يكون الحديث غريبا في أصل الإسناد، ويكون فردا مطلقا، ومر التمثيل، وتارة يكون في أثناء الإسناد، أو تارة يكون فردا مطلقا، وتارة يكون فردا نسبيا، ومعنى النسبي: أنه يكون في التفرد ليس مطلقا، وإنما بالنسبة إلى شيء، إنما يكون التفرد بالنسبة إلى شيء.
فهناك -أحيانا- يكون متن الحديث مشهورا معروفا، يرويه جمع من الصحابة، ثم يأتي الحديث بإسناد يَحكم عليه العلماء بأنه غريب، فالمتن مشهور، لكن أحد الأسانيد الموصولة إلى هذا المتن غريبة.
وهذا مثل ما حكم البخاري وأحمد وأبو حاتم وجماعة على الحديث الذي رواه الإمام مسلم، من حديث أبي كريب، عن أبي أسامة، عن بريد بن عبد الله بن أبي بردة، عن أبيه، عن جده أبي بردة، عن أبي موسى الأشعري: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " الكافر يأكل في سبعة أمعاء والمؤمن يأكل في مِعًى واحد " .
هذا الحديث ثابت من حديث أبي هريرة وحديث ابن عمر، لكن من حديث أبي موسى استغربه العلماء، واستغرابهم هذا ناتج عن تفرد أبي كريب محمد بن علاء بهذا الحديث عن أبي أسامة ، فهو غريب من حديث أبي موسى، مشهور من حديث أبي هريرة وحديث ابن عمر.
إذن، فهنا الغرابة ليست مطلقة، إنما هي غرابة نسبية،فهو غريب بالنسبة أو سنده بالنسبة إلى الطرق الأخرى.(1/181)
أيضا تكون -أحيانا- الغرابة بالنسبة إلى راوٍ، كما يقال: لم يروه عن فلان إلا فلان، فهذا التفرد مقيد برواية فلان عن فلان، وهذا يمثلون له برواية سفيان بن عيينة، عن وائل بن داود، عن ابنه بكر بن وائل، هنا الأب يروي عن الابن، فهذا من رواية الآباء عن الأبناء، فوائل بن داود يروي عن ابنه بكر بن وائل، عن الزهري، عن أنس: " أن النبي -صلى الله عليه وسلم أَوْلَمَ على صفية بسويق من تمر " .
فهذا الحديث نص العلماء -كابن طاهر وغيره- أنه لم يروه عن وائل بن داود إلا سفيان بن عيينة، إذن فهو حديث غريب من حديث وائل بن داود، تفرد به سفيان بن عيينة.
ومثله أيضا الحديث الذي رواه الترمذي، حديث أنس: " . أن رجلا قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - أعقلها وأتوكل، أو أطلقها وأتوكل؟ فقال - صلى الله عليه وسلم - اعقلها وتوكل " .
هذا الحديث غريب من حديث المغيرة أبي قرة السدوسي، عن أنس - رضي الله عنه - يعني ما رواه عن أنس إلا المغيرة أبو قرة السدوسي، لم يروه عن أنس إلا أبو قرة السدوسي.
فهذا تفرد بالنسبة إلى أنس، لكن الحديث ثابت من غير حديث أنس -رضي الله تعالى عنه.
وأيضا أحيانا يكون التفرد بالنسبة إلى الثقة، يقولون: هذا الحديث لم يروه ثقة إلا فلان، أو تفرد به فلان وهو ثقة، فهذا تفرد بالنسبة إلى وصف، وهو وصف الثقة، إلى وصف الثقة، وهذا يمثلون له بحديث ضمرة بن سعيد المازني، عن عبيد الله بن عبد الله، عن أبي واقد الليثي، في قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - لسورة "ق" و"اقتربت" في صلاتي الفطر والأضحى، فهذا قالوا: لم يروه ثقة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا المازني هذا.(1/182)
وأما الحديث، فقد جاء من، أو له طريق أخرى ، لكنها ضعيفة ، من حديث عائشة لكنه ضعيف، فلا يصح الحديث، أو لا يرويه ثقة إلا، أو لا يُرْوَى عن طريق ثقة إلا في هذا الحديث، فهو مقيد بثقة،وأحيانا يقيدونه بأهل بلده، يقولون: تفرد به أهل كذا عن فلان، مثل ما في حديث القضاة الثلاثة، قالوا: تفرد به أهل مرو، عن عبد الله بن بريدة ، عن أبيه بريدة بن حصين. فهذا تفرد عن أهل مرو عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه.
ومثله حديث زيد بن خالد الجهني، حديث اللقطة، هذا تفرد به أهل المدينة عن يزيد بن المنبعث مولى ابن المنبعث، عن زيد بن خالد الجهني، فهذا يسمى حديثا مدينيا، والآخر وذاك يسمى حديث أهل مرو، ومثله جميع الأحاديث التي يتفرد بها أهل بلد عن راوٍ، هذا تفرد بالنسبة.
فصار هناك تفرد بالنسبة، وهناك تفرد مطلق، أو هناك غرابة مطلقة وهناك غرابة مقيدة، لعلها اتضحت بالأمثلة السابقة. نعم.
وصف الحديث بالغريب صحيحا أو غير صحيح
والغريب صادق على ما صح وعلى ما لم يصح .
يعني: أن الغريب منه ما هو صحيح ومخرج في هذا الصحاح، ولهذا يقال: غرائب الصحاح، مثل حديث عبد الله بن دينار عن عمر اللي تقدم، هذا من غرائب الصحاح ، مخرج في الصحيحين وهو غريب، كذلك عمر في النية هذا هذا حديث غريب، فهذه تسمى غرائب الصحاح، فهي صحيحة، ولكنها غريبة.
إذن، فالغرابة لا تنافي الصحة مطلقا، فأحيانا يكون الحديث غريبا وهو صحيح، وأحيانا يكون غريبا وهو حسن، وأحيانا يكون غريبا وهو ضعيف، لكن ما نشأ عن غرابته شذوذ أو نكارة، فإن هذا يُحْكَم بضعفه، ما نشأ عن غرابته شذوذ أو نكارة حُكِمَ بضعفه، أما إذا لم ينشأ عنه شيء من ذلك فيُنْظَر في حال الإسناد، إن كان صحيحا فهو صحيح، وإن كان حسنا فهو حسن، وإن كان ضعيفا أو دون ذلك فهو ضعيف أو دونه.
فالشاهد أنه إذا كان ينشأ عنه التفرد أو الغرابة شذوذ أو نكارة فهو ضعيف، وإن لم ينشأ عنه ذلك فالنظر في حال الإسناد .(1/183)
وبهذا يتبين ارتباط الشاذ بالغريب، وارتباط المنكر بالغريب ، وارتباط زيادة الثقة بالغريب، فالشاذ إذا كان فيه مخالفة يسمى شاذا وغريبا، الغريب إذا كان فيه مخالفة يسمى شاذا وغريبا، وإذا كان مع ضعف الراوي يسمى غريبا وشاذا ومنكرا، إذا كان الغريب فيه مخالفة، وكان راويه ثقة أو صدوقا يسمى شاذا وغريبا، وإذا كان راويه ضعيفا وخالف أو لم يخالف، فإنه يسمى شاذا ومنكرا وغريبا.
وأما إذا لم، وكان الراوي ثقة أو صدوقا ولم يخالف فإنه يسمى غريبا فقط، وقد يسمى غريبا ومنكرا، كما سبق أن المنكر يطلق على تفرد الصدوق، فهذا ترابط أو اشتراك بين النكارة والشذوذ والغرابة في بعض الأوجه، وانفراج كل واحد منها بوجه يختص به عن الآخر. نعم.
تفرد الرواي في الحديث إسنادا ومتنا وشيخا
والتفرد يكون لمن فَرَدَ به الراوي إسنادا أو متنا .
وهذا تقدم التمثيل عليه ، وكلمة "والتفرد" ها هنا هذا إشعار من المؤلف -والله أعلم- إلى أن الغرابة هي التفرد، ولا يقصد بذلك أن التفرد -يعني- نوع آخر؛ لأنه لو كان نوعا آخر لطابق العنوان المضمون، لقيل الغريب والفرد، لكن لما قال: الغريب، ثم تحدث عنه، دَلّ على أن ما تضمنه هذا البحث -سواء أطلق عليه لفظ التفرد أو لفظ الغرابة- فإنه يراد به الغريب. نعم.
ويكون لما تفرد به عن شيخ معين، كما يقال: لم يروه عن سفيان إلا ابن مهدي، ولم يروه عن ابن جريج إلا ابن المبارك .
هذا الجزء الأخير كما سبق متعلق بالتفرد النسبي، فيقال: لم يروه عن سفيان إلا ابن مهدي. يعني: إن هذا فرد بالنسبة إلى سفيان، بالنسبة إلى حديث سفيان، يعني: غريب من حديث سفيان، أو فرد من حديث سفيان، وكذلك في حديث ابن جريج، لكن لم يروه إلا ابن المبارك، هذا يقال: تفرد به بن المبارك عن ابن جريج، أو غريب من حديث ابن جريج.(1/184)
وهذه العبارة التي أوردها المؤلف كثيرا ما يستخدمها الإمام الطبراني في كتابيه "الأوسط" و"الصغير"، والعلماء -كما سلف لنا- لهم عبارات في ما يُشْعِر بهذا النوع من أنواع الحديث.
فإذا قالوا: تفرد به فلان. فهذا يأتي في هذا النوع الغريب.
وإذا قالوا: لا نعلم رواه عن فلان إلا فلان. فهذا أيضا داخل في هذا النوع الذي معنا.
وإذا قالوا: لم يروه عن فلان إلا فلان. فهذا أيضا داخل معنا.
لكن أق العبارات هي التي يستخدمها البزار، لا نعلم رواه عن فلان إلا فلان؛ لأنه قد قد لا يعلمه هو، ويأتي من يعلمه، أو يكون غيره يعلم من شارك هذا الراوي في الرواية.
ولهذا كثيرا ما يُنْتَقَد على بعض العلماء الذين يجزمون بأنه لم يروه عن فلان إلا فلان، يُنتقد عليهم بأنه رواه أحيانا يروي الحديث جمع غفير من العلماء يروون هذا الحديث، لكن هذا العالم قال: لم يروه، طبعا بحسب اقتناعه هو، والعبارة الأدق هي العبارة التي يستخدمها مثل البزار رحمه الله. نعم.
تعريف الحديث المسلسل ومراتبه
الحديث المسلسل: ما كان سنده على صفة واحدة في طبقاته، كما سُلسِل بسمعت، أو كما سلسل بالأولية إلى سفيان، وعامة المسلسلات واهية، وأكثرها باطلة لكذب رواتها، وأقواها المسلسل في قراءة سورة الصف، والمسلسل بالدمشقيين، والمسلسل بالمصريين، والمسلسل بالمحمديين إلى ابن شهاب .
هذا نوع من أنواع علوم الحديث، وهو علم وصفي لا حكمي، هذا القسم أو هذا النوع -يعني- هو وصف لحال الرواية أو حال الراوي فقط، لكن لا تعلق له بالحكم على الحديث، ولهذا ذكر المؤلف أن أكثر هذا النوع من الواهيات، لكن يستفاد من إيراده ها هنا أننا إذا وجدنا حديثا مسلسلا على صفة معينة، فينبغي لنا التثبت فيه؛ لأن أكثر هذه الأحاديث المسلسلة، أكثرها -كما ذكر المؤلف- من الواهيات والمنكرات.
إذن، إذا جاءنا حديث مسلسل فإننا ينبغي أن نتنبه له.(1/185)
المسلسل معناه أن يكون الحديث في روايته صفة اشترك الرواة كلهم فيها، أو كانت الرواة صفة اتصفوا بها، أو كانت الرواية، أو كانت الرواية على حالة تناقلها رواة هذه الحالة.
فمثلا: حديث أبي هريرة أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " شبك بيدي أبو القاسم - صلى الله عليه وسلم - وقال: خلق الله السماوات يوم السبت " .
فهذا الحديث كل راوٍ يرويه يأخذ بيدي من روى عنه ويشبكها، ثم يحدثه بهذا الحديث، فكل شيخ يأخذ بيدي تلميذه ويشبكها، ثم يحدثه بهذا الحديث، فهذه حالة في الرواية، تتابع رواة الحديث على صنعها على صنعها، وهذا من باب الاقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا من فوائد الحديث المسلسل، في نوع اقتداء في بعض الحالات.
ومثله قول النبي - صلى الله عليه وسلم - " . لا يجد أحد طعم الإيمان حتى يؤمن بالقدر خيره وشره، حلوه ومره، ثم قبض - صلى الله عليه وسلم - على لحيته " .
فالرواة كل واحد منهم إذا حَدّث بهذا الحديث قبض على لحيته، فهذا القبض إنما هي حالة للرواية، وكذلك لفظ الحديث، يعني: جمعوا بين اللفظ والقول في هذا الحديث، ورووا الحديث علي -يعني- حالة معينة، فهذا تسلسل من الرواة، يعني: تتابع من الرواة على نقل هذه الحالة.
وأحيانا يكون صفة في الرواية، في الإسناد، يكون السند من مبتدئه إلى منتهاه كل راوٍ يقول: سمعت، سمعت، سمعت. وأو يقول كل راو منهم: أخبرنا، أو يقول كل راو منهم: حدثنا، أو يقول كل راو منهم: عن فلان، أو قال فلان.
فإذا كان كل راوٍ يأخذ عمن فوقه بصيغة واحدة يسمى هذا مسلسلا، يسمى هذا حديثا مسلسلا لتتابع الرواة على نقل الحديث بصفة معينة للرواية، وهي إما لفظ السماع، أو الإخبار، أو الإنباء، أو نحو ذلك.(1/186)
لكن لو قال بعض الرواة: سمعت فلانا، ثم قال الآخر: عن فلان. ثم قال الآخر: حدثنا فلان، في سند واحد، فهذا لا يسمى مسلسلا، لعدم تتابع الرواة على صفة معينة في هذا الإسناد، لعدم تتابع الرواة على هذه الصفة.
وأحيانا يكون التفرد هذا أو التسلسل راجعا إلى ذات الرواة ، يكون -مثلا- أسماء الرواة محمد، كل الرواة في الإسناد أسماؤهم محمد، أو يكون مثلا كلهم من أهل المدينة ، أو من أهل الكوفة، أو يكون -مثلا- كل منهم قريبا للآخر، فهذا يسمى إما مسلسلا بالأقربين، أو مسلسلا بالمدنيين، أو مسلسلا بالكوفيين، أو مسلسلا بالمحمديين، أو غيرها من الوسائل.
إذن، إذا كان يجمع أهل الإسناد، أو رواة الإسناد صفة واحدة يشتركون فيها، فإن الإسناد يكون مسلسلا لهذه الصفة.
ثم ذكر المؤلف أقوى هذه المسلسلات، أو من أقوى هذه المسلسلات، ذكر الحديث المسلسل بقراءة الصف، وهو الحديث الذي نزلت فيه الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- حديث ابن سلام، " سألنا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أفضل الأعمال ، فنزلت سورة الصف " .
فعبد الله بن سلام لما حدث بهذا الحديث قال: فقرأها علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو سلمة لما روى هذا عن عبد الله بن سلام قال: فقرأها -يعني سورة الصف- علينا عبد الله بن سلام، ثم جاء يحيى بن كثير، فلما رواه عن أبي سلمة قال: فقرأها علينا أبو سلمة، إلى تتابع الرواة، فكل الرواة تتابعوا على قولهم: فقرأها علينا. ثم ذكروا من حدثهم بهذا.
وذكر -أيضا- الحديث المسلسل بالدمشقيين، وهو الحديث القدسي، حديث أبي ذر - رضي الله عنه - الحديث المشهور: " يا عبادي، إني حرَّمْتُ الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما " .
هذا الحديث رواته شاميون، وهو أشرف حديث لأهل الشام كما ذكر ذلك الإمام أحمد -رحمه الله-، هو يسمى حديث الشاميين؛ لأن رواته شاميون.
والحديث المسلسل بالمصريين هو حديث البطاقة المعروف، اللي ألف فيه الكناني جزء البطاقة.(1/187)
ثم بعد ذلك الحديث بالمحمديين، هذا الحديث كل رواته مسلسلون بالمحمديين، ابتداء من الزهري -رحمه الله- إلى آخر الإسناد.
فهذه المسلسلات، طبعا كل واحد، أو تختلف في القوة بعضها عن بعض، لكن المؤلف ذكر منها أقواها لماذا ؟ لأن جملة الأحاديث المسلسلة بالأولين، جملة الأحاديث المسلسلة جملتها أحاديث فيها ضعف؛ فلذلك -يعني- ننبه إلى أن هذا الحكم مهما تسلسل في الأوصاف فيه -سواء في الرواية، أو في المروي، أو في حالة الرواية- فلا ذلك متعلقا بتصحيح الحديث ولا تضعيفه، وإنما هذا هو وصف للرواية، وصف للمروي، وصف لحالة الرواية، لا أكثر من ذلك.
قد يكون مسلسلا صحيحا، قد يكون مسلسلا ضعيفا، فلا تعلق له بالحكم على الحديث، والله أعلم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
الحديث المعنعن
تعريف الحديث المعنعن وشرطه
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال الإمام الذهبي -رحمه الله تعالى-: الحديث المعنعن: هو ما إسناده فلان عن فلان. فمن الناس من قال: لا يثبت حتى يصح لقاء الراوي بشيخه يوم ما.
ومنهم من اكتفى بمجرد إمكان اللقي، وهو مذهب مسلم، وقد بالغ في الرد على مخالفه.
ثم بتقدير تيقن اللقاء يشترط ألا يكون الراوي عن شيخه مدلسا، فإن لم يكن حملناه على الاتصال، فإن كان مدلسا فالأظهر أنه لا يحمل على السماع، ثم إن كان المدلس عن شيخه ذا تدليس عن الثقات فلا بأس، وإن كان ذا تدليس عن الضعفاء فمردود.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فهذا نوع آخر متعلق بسند الحديث، وليس له تعلق بمتن الحديث، وإنما اختصاصه بالإسناد، فالمعنعن المراد به الإسناد المعنعن.
والمعنعن: هو رواية الراوي عن شيخه بصيغة "عن"، أو ما في حكمه على ما يأتي إن شاء الله.(1/188)
فإذا روى الراوي عن شيخه بكلمة "عن" هذا يسمى معنعنا؛ لأن صيغ الأداء منها ما يدل على الاتصال كـ"سمعت"، و"حدثنا"، و"أخبرنا"، ومنها ما لا يدل على ذلك، ومنه صيغة "عن" هذه.
ويعبر بهذه الكلمة، أو يقال بالإسناد المعنعن، وإن كان يشمل أيضا ما قال فيه الراوي: قال فلان ، أو ذكر فلان ، أو نحو هذا من العبارات؛ لأن أكثر إطلاقات العلماء بالأسانيد إنما يعبرون بـ"عن" ، إنما يعبرون بكلمة "عن".
والإسناد المعنعن له علاقة باتصال السند وانقطاعه، فتارة كلمة "عن" هذه تُحْمَل على الاتصال، وتارة تحمل على الانقطاع، وتارة تكون مما تردد فيه العلماء، أو اختلف فيه العلماء هل هي قاضية بالاتصال، أو دالة على الانقطاع؟.
وهذه المسألة فيها مواضع اتفق عليها أهل الحديث، وموضع واحد اختلف فيه أهل الحديث، فهناك حالة لهذه الكلمة -كلمة "عن"- تحمل فيها "عن" على الانقطاع، تكون فيها "عن"، أو تفيد "عن" الانقطاع بين الراوي ومن روى عنه، وهذه الأحوال في صور منها، أو هذه الصور:
أن يكون الراوي ليس معاصرا لمن روى عنه، فإذا لم يكن معاصرا له، كقتادة عن أبي بكر - رضي الله عنه - هذا وإذا قال قتادة عن أبي بكر، هذه الكلمة محمولة على الانقطاع جزما؛ لأن قتادة لم يدرك أبا بكر، ولم يعاصره، فـ"عن" ها هنا في هذه الحالة محمولة على الانقطاع.
والصورة الثانية: أن يكون الراوي معاصرا لمن روى عنه، ولكن يثبت أنه لم يسمع منه، هو معاصر له، وربما كان في بلده، ولكن ثبت أنه لم يسمع منه شيئا. فكلمة عن ها هنا تحمل على الانقطاع بلا خلاف بين أهل الحديث.
وهذا أو ثبوت أن فلانا لم يسمع فلان له طرائق متعددة عند أهل العلم، منها: أن ينص الرواي نفسه على أنه لم يسمع من فلان شيئا، كما ذكر جميل بن زيد أنه لم يسمع من ابن عمر شيئا.(1/189)
فإذا جاءنا حديث فيه جميل بن زيد عن ابن عمر، نقول: "عن" هذه منقطعة؛ لأن جميلا لم يسمع من ابن عمر، دليل أنه لم يسمع من ابن عمر أنه نص هو بنفسه على أنه لم يسمع، وكذلك مثل الحجاج بن أرطاة عن الزهري، هذا الحجاج ذكر أنه لم يسمع من الزهري شيئا، وكذلك أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود ذكر أنه لم يسمع من أبيه.
فإذا ورد مثل هذا الإسناد وفيه كلمة "عن"، نحكم عليها جزما بالانقطاع باتفاق أهل الحديث، أو نَصَّ إمام من الأئمة أو أكثر على أن فلانا لم يسمع من فلان، فهذه -وإن تعاصرا، وأمكن اللقاء بينهما، ولو كانا في بلد واحد، وذكر الأئمة أن فلانا لم يسمع عن فلان- فهذا محمول، تُحمل كلمة "عن" فيه على الانقطاع.
كما ذكر غير واحد من الأئمة أن أبا سلمة بن عبد الرحمن بن عوف لم يسمع من أبيه، فإذا جاءنا حديث فيه أبو سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه، نقول: "عن" هذه منقطعة؛ لأن أبا سلمة ثبت جزما -بكلام الإمام أحمد وابن المديني وابن معين وابن زرعة- أنه لم يسمع من أبيه.
إذن، إذا ثبت أن الراوي لم يسمع ممن روى عنه -ولو كان معاصرا له- فإن كلمة "عن" هذه تُحمل على الانقطاع، وهذا باتفاق أهل الحديث.
الصورة الثالثة: أن تكون هناك قرينة قوية دالة على أن هذا الراوي لم يسمع من روَى عنه بالعنعنة، وهذه المرتبة دون المرتبة التي قبلها؛ لأن الأولى ثبت أنه لم يسمع، وها هنا إنما هو عن قريب القرينة القوية الدالة على أنه لم يسمع.
وهذه القرينة يشترك في اعتبارها أئمة الحديث، حتى الإمام مسلم الذي يخالف مذهب جمهور العلماء -كما سيأتي إن شاء الله- يوافق أئمة الحديث على هذا؛ فإنه ذكر في مقدمة الصحيح أن: رواية الراوي عمن عاصره محمولة على السماع أبدا إلا إذا قامت بينة تمنع من هذا، وها هنا إذا قامت قرينة قوية فهي بينة دالة على عدم السماع.(1/190)
والإمام مسلم في تطبيق لهذا القاعدة لما جاء في كتابه "التمييز" لحديث محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، عن جده عبد الله بن عباس، ذكر الإمام مسلم أن هذا منقطع، مع أن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس لما توفي جده عبد الله كان له من العمر ثمان إلى عشر سنوات، فهو قد عاصر جده وأدركه، ومع ذلك حكم الإمام مسلم على هذه الرواية بالانقطاع، وقال: لا يُعلم له سماع من ابن عباس، ولا أنه رآه، ولا لقيه.
لماذا قال مسلم هذا الكلام، مع أن عند مسلم المعاصرة تكفي؟
قال مسلم: لأن محمد بن علي هذا معروف بالرواية عن أبيه، عن جده عبد الله بن عباس، فهو دائما يروي عن أبيه علي بن عبد الله، عن جده عبد الله بن عباس.
فإذا جاء في إسناد بإسقاط، فيه إسقاط أبيه -اللي هو علي- دَلَّ هذا على أن هناك انقطاعا بين محمد وبين جده، وهذا -طبعا- كلام إنما هو لأن محمد بن علي لم يُعلم له سماع، ولم يثبت سماعه من جده.
فكونه في بعض الأسانيد يكون بينه وبين جده واسطة وهو أبوه، هذا يدل، وهذا قرينة قوية على أن هذا السماع لم يثبت بين الراوي ومن روى عنه بالعنعنة.
وهذه القاعدة، أو ذكر الحافظ ابن رجب -رحمه الله- قاعدة توافق ما عمل به مسلم، وهو: أن من -القرائن الدالة على الانقطاع أن يكون الراوي معروفا بالرواية بواسطة عنه هذا الشيخ الذي يروي عنه بالعنعنة، يكون دائما يروي، أو روايته عنه بواسطة.
فإذا جاء في وقت، فوجدنا هذه الواسطة مسقطة، فإن هذه قرينة دالة على الانقطاع ما بين الراوي ومن روى عنه، وهذه مَثَّلَ لها بما جاء من الإمام أحمد -رحمه الله- أنه سئل عن عبد الله بن البهي عن عائشة -رضي الله عنها-، فقال: ما أراه سمع، يعني: ما أعلمه سمع منها -من عائشة- إنما يروي عن عروة عن عائشة.(1/191)
فاستدل الإمام أحمد بأن هذا الراوي لم يروِ عن عائشة -رضي الله تعالى عنها- أو لأنه -أولا- لم يثبت أنه سمع منها في خبر ما، والثانية وجود الواسطة المعروفة في بقية الأسانيد، فكونه دائما يروي بواسطة، ثم يأتي في رواية أخرى ويحذف هذه الواسطة، أو تُحذف هذه الواسطة، مع أنه لا يعلم له سماع ممن روى عنه، فهذا يدل على الانقطاع.
والصورة الرابعة: أن يكون الراوي المعنعِن قد عاصر المعنعن، وسمع -يعني: المعنعَن عنه- وسمع منه، لكنه موصوف بالتدليس، فإذا حدث بصيغة عن فإنها تُحمل على الانقطاع في الجملة، ليس في جميع المدلسين، وإنما هذا هو الأصل.
وبعض المدلسين -كما سيأتي إن شاء الله- تحمل "عن" على الاتصال وإن كان مدلسا.
فهذه -أيضا- يشترك فيها الأئمة كلهم، هذه الصورة الرابعة يشترك فيها الأئمة كلهم، يحكمون على عن ها هنا بالانقطاع، فصار الأئمة يشتركون في هذه الحالة، أن الراوي، أو في حالة أن الراوي في إحدى هذه الصور الأربع يحكم على عنعنته بالانقطاع، ولا يجري فيها الخلاف بين أهل الحديث.
الحالة الثانية: أن يُعْلَم أنه سمع منه، أن يُعْلَم أن هذا الراوي قد سمع ذاك الشيخ الذي عنعن عنه، ولم يكن موصوفا بالتدليس، فإذا حدث عنه في بعض الأحاديث بصيغة "عن"، فهو قد سمع منه في الجملة ثبت هذا السماع، فإنها تحمل عن هذه على الاتصال عند المحدثين كلهم، يحملون عن على الاتصال، بمعنى أنها إذا جاءت في حديث وقال: حدثنا فلان، فهذا فيه إثبات السماع سماعه من فلان في الجملة، فإذا جاء في حديث آخر وقال: عن فلان، "عن" هذه تحمل على الاتصال شريطة ألا يكون هذا الراوي موصوفا بالتدليس، شريطة ألا يكون موصوفا بالتدليس.
فهذه الصورة تُحْمَل على الاتصال، فيها "عن" بالاتفاق، تحمل "عن" فيها على الاتصال باتفاق. فهذه أيضا مسألة اتفاقية.
بقي الحالة الثالثة: وهي ألا يُعْلَم هل لهذا الراوي سماع لمن عاصره، أو ليس له سماع؟(1/192)
لا يُدْرَى، لم يثبت أنه سمع، ولم يثبت أنه لم يسمع، ثم روى عن شيخه بـ"عن"، هذه المسألة هي التي أشار المؤلف إلى الخلاف فيها بين العلماء، الاختلاف في هذه المسألة، فإذا كان عندنا راوٍ معاصر لمن روى عنه، يعيشون في عصر واحد، يعيشون في عصر واحد، ولم يمنع مانع من السماع، ولم يثبت أنه لم يسمع منه، ولم يثبت أنه سمع منه.
فها هنا لأهل الحديث مذهبان، وهو الذي أشار إليه المؤلف، المسألة فيها حوالي تسعة أقوال، لكن ليست من مذاهب أهل الحديث، مذهب أهل الحديث أهل الحديث لهم فيها مذهبان مشهوران:
مذهب جمهور أئمة الحديث؛ أحمد والبخاري وأبي زرعة وأبي حاكم وغيرهم وعلي بن المديني، يقولون: لا بد من ثبوت اللقاء أو السماع، فإذا لم يثبت أنه لقيه أو سمع منه، فجميع ما رواه بالعنعنة مردود؛ لأنه أحاديثه أصلا كلها بالعنعنة، لأنه لو حدث يوما بكلمة "حدثنا" أو "سمعت" حُملت بقية أحاديثه على الاتصال إن لم يكن مدلسا، لكن إذا روى لنا بالعنعنة ننظر في هذا الراوي.
فعلى مذهب جمهور أهل الحديث يقولون: لا يُحكم له بالاتصال، لا يحكم لهذا الحديث بالاتصال لعدم العلم بالسماع، وهذا المذهب هو الذي عليه جمهور أئمة أهل الحديث كما سبق، فمنهم من الجمهور من يشترط اللقاء، مجرد اللقاء، يعني: ثبت أنهما التقيا، كالبخاري وابن المديني، ومنهم من يشترط وصفا زائدا يقول: لا بد من ثبوت السماع.
يعني: لو جاءنا خبر أن فلان التقى مع فلان، هذا لا يكفي عند الإمام أحمد ولا أبي زرعة ولا أبي حاتم، بل لا بد أن يثبت أنه قد سمع منه حديثا أو أكثر.
أما البخاري وعلي بن المديني فيقولان: يكفي ثبوت اللقاء، يكفي ثبوت اللقاء بينهما، فإذا ثبت اللقاء أو ثبت السماع حُملت "عن" هذه على الاتصال.(1/193)
وأما الإمام مسلم، وهو الذي ذكره في مقدمة الصحيح أنه يكتفي بالمعاصرة فقط، فإذا عاصر الراوي راويا آخر، ولم يقم مانع يمنع من السماع، فإنه حينئذ يَحكم له بالاتصال، وهذا هو الذي عليه جمهور المتأخرين، هو على هذا.
وذكر الحافظ ابن كثير أنها محمولة على الاتصال، والعمل قد استقر على ذلك، العمل عند المتأخرين استقر على أنها محمولة على الاتصال.
والكلام في "عن" هذه والخلاف ناتج عن أن كلمة "عن" هذه أصلا بذاتها لا تفيد لا اتصالا ولا انقطاعا، فلا يُفهم منها لا الاتصال ولا الانقطاع.
فهناك ألفاظ يستفاد منها الانقطاع، وهناك ألفاظ يستفاد منها الاتصال، فكلمة "سمعت" أو "حدثنا" أو "أخبرنا" أو "أنبأنا" هذه تفيد السماع أو القراءة، أو الإجازة من الراوي، لكن كلمة "نُبِّئْتُ عن فلان" هذه تفيد الانقطاع، أو "أُخْبِرْتُ عن فلان"، أو "ذُكِرَ لي عن فلان" هذه تفيد بذاتها الانقطاع.
أما مثل كلمة "قال" أو كلمة "عن"، فهذه لا تفيد اتصالا ولا انقطاعا بذاتها، ومن ها هنا جاء اختلاف العلماء رحمهم الله تعالى.
فالشاهد من هذا أن الراوي إذا روى حديثا بالعنعنة، ولم يكن مشهورا بالتدليس، وكان معاصرا لمن روى عنه، ولم يثبت سماعه لمن روى عنه، فعلى رأي البخاري وعلي ومن معهما أن هذه الكلمة لا تفيد الاتصال، وإنما يُحْكم عليها بانقطاع، أو يقال: لا يعلم لفلان سماع من فلان. وأما على رأي الإمام مسلم فإنها تحمل على الاتصال.
وهذا الكلام له علاقة بشرط من شروط صحة الحديث، وهو اتصال الإسناد، وله علاقة بالتدليس، وهو المبحث الذي بعده إن شاء الله. نعم.
أمثلة لبعض من عرف بالتدليس(1/194)
فإذا قال الوليد أو بقية عن الأوزاعي فواهٍ؛ فإنهما يدلسان كثيرا عن الهلكى، ولهذا يتقي أصحاب الصحاح حديث الوليد، فما جاء إسناده بصيغة عن ابن جريج، أو عن الأوزاعي تجنبوه، وهذا في زماننا يعثر نقده على المحدث، فإن أولئك الأئمة كالبخاري وأبي حاتم وأبي داود عاينوا الأصول، وعرفوا عللها، وأما نحن فطالت علينا الأسانيد، وفُقدت العبارات المتيقنة، وبمثل هذا ونحوه دخلوا على الحاكم في تصرفه في المستدرك .
هذا الكلام يفيد أن الراوي إذا كان مكثرا عن التدليس عن الضعفاء والمجاهيل، فإنه يُتوقف في عنعنته، وإن كان من الأئمة الثقات المكثرين في الرواية، فقبل هذه الجملة ذكر أن الراوي إذا كان لا يدلس إلا عن الثقات، فهنا بعض أهل العلم يُمشِّي العنعنة، ولا يحكم لها بالانقطاع، وبعضهم يتوقف فيها.
وأما إذا كان يدلس عن الهلكى والضعفاء والمجاهيل، مثل الوليد بن مسلم، وبقية بن الوليد، فإنه يتوقف بهذه العنعنة، ولا يحكم لها بالاتصال خشية أن يكون الساقط بين الوليد وشيخه، أو بين بقية وشيخه خشية أن يكون أحد هؤلاء المجاهيل أو الهلكى.
وها هنا المؤلف -رحمه الله- ذكر عن رواية الوليد عن الأوزاعي في الصحيح أنهم يتجنبون ما عنعن فيه، أما بالنسبة للإمام مسلم -رحمه الله- فلم يخرج للوليد بن مسلم عن الأوزاعي إلا حديثا صرح فيه بالسماع عن الأوزاعي، أو حديثا تُوبِعَ عليه الوليد، إذا كان الوليد حديثه بالعنعنة لم يخرج له إلا حديثا متابعا عليه.
وهذا الكلام -كلام المؤلف في مسلم- سليم، وأما بالنسبة للبخاري فقد خرّج عن الوليد بن مسلم عن الأوزاعي بصيغة العنعنة على سبيل الاحتجاج، وليس له متابعة، وهذا يفيدنا في قاعدة من قواعد العلماء في التدليس على ما يأتي -إن شاء الله- في ضابط رواية من تقبل عنعنته من المدلسين، أن الراوي إذا كانت له رواية كثيرة عن شيخه، وكان هذا الراوي موصوفا بالتدليس، فإن كلمة "عن" تُحْمَل على الاتصال.(1/195)
لكن الشاهد أن البخاري خَرَّج في صحيحه على سبيل الاحتجاج ما رواه الوليد عن شيخه الأوزاعي بصيغة العنعنة، خلافا لما ذكره المؤلف ها هنا. نعم.
الحديث المدلس
تعريف الحديث المدلس
وقَالَ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: المدلس: هو ما رواه الرجل عن آخر، ولم يسمعه منه، أو لم يدركه .
هذا نوع في الحديث المُدَلَّس، والحديث المدلس له تعلق باتصال السند وانقطاعه، وله علاقة بالعنعنة، فالحديث المدلس ها هنا، أو كلام المؤلف في حده، هذا الحد هو حَدٌّ لتدليس الإسناد؛ لأن التدليس أنواع، فهذا النوع من أنواع التدليس، وهو تدليس الإسناد.
والنقطة الثانية في كلام المؤلف -رحمه الله تعالى- أن كلمة "أو لم يدركه" هذه عليها مؤاخذه من جهتين:
الجهة الأولى: أن ابن الصلاح، ثم مختصره ابن دقيق في الاقتراح لم يذكرا هذه اللفظة أو لم يدركه، فهذه زيادة من المؤلف ليست في موضعها.
والثانية: أن كلمة "أو لم يدركه" هذه متعلقة بالإرسال الظاهر؛ لأن الراوي إذا لم يدرك من روى عنه هذا لا يسمى تدليسا؛ لأن التدليس فيه نوع إيهام، لكن إذا قال لنا الزهري عن أبي بكر، هذا جزمًا أنه منقطع أو مرسل، فهذا ليس فيه إيهام نهائيا.
والتدليس لا من اشتقاقه اللغوي، ولا من حيث عمل الأئمة أو صنيعهم أو تعريفهم للتدليس، هذا لا -يعني- ينافي كلمة أو لم يدركه.
إذن، فكلمة أو لم يدركه في غير موضعه؛ لأنها تعطي أن الإرسال الظاهر داخل في التدليس، وهذا خلاف ما عليه أهل الحديث.
إذن، فكلمة "أو لم يدركه" هذه الأولَى حذفها من التعريف.
وقوله: "ما رواه"، يعني: في حد التدليس، ما رواه الرجل عن آخر لم يسمعه منه، معنى هذا الكلام، أو هذا الكلام يشتمل على أمرين:(1/196)
يشتمل على رواية الراوي عمن عاصره ولم يسمع منه نهائيا، يعني: يكون عندنا شخص بالبصرة، وشخص بالمدينة، فنرى هذا الذي في البصرة يقول: عن فلان، عن فلان، عن فلان. فهذا يسمى تدليسا؛ لأن الذي في البصرة قد عاصر من كان بالمدينة، أو يكونان مجتمعان حتى في بلد واحد، يكون قد عاصره، لكن ثبت أنه لم يسمع منه، فهذا يسمى تدليسا عند الأئمة.
كما ذكروا أن سعيد بن أبي عروبة مدلس؛ لأنه روى عن زيد بن أسلم، يعني: روى عنه بـ"عن"، حكم العلماء على أنها تدليس، مع أنه قد عاصره.
وتشمل هذه العبارة -أيضا- رواية الراوي عمن لقيه وسمع منه، لكن لم يسمع منه هذا الحديث الذي دلسه، يعني: يكون له سماع من شيخه في الجملة، ثم يأتي إلى حديث آخر، فيرويه عنه بالعنعنة لكونه لم يسمعه منه، وهذا نمثل له بمثال حاضر تقريبا للأفهام:
لو أن إنسانا يحضر حلقات الشيخ محمد بن عثيمين، وملازم لهذه الحلقات، ثم في يوم غاب عن هذه الحلقة، فهذا إذا قال: حدثنا الشيخ ابن عثيمين. لا إشكال فيه؛ لكن لو في هذا اليوم الذي غاب عن حضور الدرس فيه حدثه أحد زملائه عن الشيخ، فقال: حدثنا الشيخ -مثلا- يوم أمس أو في حال غيابك بكذا وكذا، ثم جاءنا هذا الراوي وقال: عن الشيخ ابن عثيمين.
هذه إذا لم يكن هذا الراوي موصوفا بالتدليس، هذه ظاهرة في الاتصال؛ لأنه سمع من شيخه في الجملة، لكن صنيعه هذا إذا أسقط الواسطة بينه وبين الشيخ، هذا هو الذي يسمى تدليسا، هذا يسمى تدليسا، أو نوعا من أنواع التدليس أو نوعا من أنواع التدليس.
كان عندنا واحد هنا في الرياض، أو -مثلا- في منطقة غير الرياض، لم يذهب إليها الشيخ ابن عثيمين، وهذا لم يذهب إلى الشيخ، ولم يثبت أنهما التقيا في الحرمين أو في مكان آخر، أو كان -مثلا- هذا الراوي لم ينتقل من بلده نهائيا، والشيخ لم يأتِ إلى هذه المنطقة، فهذا يسمى رواية الراوي عمن عاصره ولم يسمع منه.(1/197)
لكن إذا سمع منه بعض الأشياء، ثم روى عنه أحاديث أخرى لم يسمعها منه إلا بواسطة، فهذا هو الذي يسمى فهذا يسمى تدليسا، أو قسما من أقسام تدليس الإسناد.
فصار تدليس الإسناد يطلق على رواية الراوي عمن عاصره ولم يسمع منه، أو عمن سمع منه ما لم يسمعه منه، أو عمن سمع منه ما لم يسمع منه، وهذا هو المشهور في كلام أئمة الحديث.
غير أن بعض المتأخرين -ممن كتب في الاصطلاح- يجعل القسم الأول يسميه إرسالا خفيا، والقسم الثاني يسميه تدليسا، لكن ما ذكره المؤلف هو الذي دَرَجَ عليه أئمة الحديث في تطبيقاتهم العملية.
وكلمة "الإرسال الخفي" لم تكن معروفة عند السلف والمحدثين؛ إنما كانوا يطلقون كلمة "الإرسال"، وكلمة "التدليس"، والتدليس يشمل هذين النوعين.
فهذا هو تدليس الإسناد، وهو المقصود بهذا التعريف، وأكثر العلماء إنما يعرفون هذا النوع؛ لأنه هو الذي تدور حوله الإشكالات، وتقع بسببه الانقطاعات الموهمة، أو تصحح حديث وفيها علة من باب التدليس. نعم.
قال الراوي في الحديث المدلس حدثنا وهو لم يسمع
فإن صرح الاتصال وقال:حدثنا ، فهو كذاب .
يعني: أن الراوي إذا ثبت أنه لم يسمع هذا الحديث من شيخه، أو كان معاصرا للشيخ، ولم يثبت أنه سمع منه وقال: حدثنا أو سمعت. هذا هو الكذاب، إلا كلمة "حدثنا" أو "أخبرنا"، يُستثنَى فيها -كما سيأتي إن شاء الله تعالى- إذا صدرت من أحد الأئمة.
فالشاهد أن الراوي في الحديث المدلس إذا قال: حدثنا -وهو لم يسمع- كان كذابا.
فمثلا: الأعمش روى مرة عن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن أبي ذر، فسئل سأله: هل سمعته من إبراهيم التيمي؟ قال: لا.
قال: ثم ذكر رجلا ضعيفا أنه سمع من حكيم بن جبير، عن إبراهيم التيمي.(1/198)
فالأعمش يروي شيخه إبراهيم التيمي يروي عنه رواية في الصحيحين وفي السنن، معروفة رواية الأعمش عن إبراهيم التيمي، ولكن في هذا الحديث، هذا الحديث دلسه الأعمش، لم يسمعه من التيمي، وإنما سمعه بواسطة راوٍ ضعيف، وهو حكيم بن جبير سمعه.
فلو قال الأعمش: حدثنا إبراهيم التيمي. لكان كذابا، لكن ما جاء بكلمة "حدثنا"، قال: عن إبراهيم التيمي، فكلمة "عن" هذه محتملة للسماع، وتحتمل الاتصال والانقطاع، فهي لفظة موهمة، لكن لو قال: حدثنا -وهو لم يسمعه- صار كذابا. نعم.
كيفية كشف الحديث المدلس
وإن قال: عن، احتُمِلَ ذلك .
وإن قال: عن، احتَمَل، وإن قال: عن، احتمل أحسن من احتُمِلَ، وإن قال: عن، احتمل ذلك، يعني: احتمل السماع وعدم السماع، إذا قلنا: احتمل، يعني: احتمل أن يكون سمع، واحتمل ألا يكون سمع، وإذا قلت: احتُمِلَ، يعني: احتمل فعله هذا؛ لأجل أن هذه الكلمة تحتمل الاتصال، وتحتمل الانقطاع، يعني: يكون فعله محتملا ، لأن هذه الكلمة لا تدل، لا على الاتصال، ولا على الانقطاع.
أو احتمل ذلك، يعني: احتمل أنه سمع، واحتمل أنه غير سمع. نعم.
ونظر في طبقته هل يدرك من هو فوقه؟ فإن كان لقيه فقد قررناه، وإن لم يكن لقيه فأمكن أن يكون معاصره ، فهو محل تردد ، وإن لم يمكن فمنقطع ، كقتادة عن أبي هريرة .
هذا مَرَّ معنا في أحوال العنعنة، إذا كان الراوي مدلسا وروى بالعنعنة، فإن كان معاصرا ولم يسمع هذه الكلمة، إذا كان مدلسا وهو معاصر لذلك الشيخ، هذه العنعنة تُحْمَل على الانقطاع؛ لأنه من أجل وصفه بالتدليس.
وإذا كان عنعنة -وهو معاصر- ولم يُعْلَم هل سمع أو لم يسمع؟ هذه فيها المذهبان السابقان.
وإذا قال: "عن"، وهو لم يعاصر، أو لم يدرك من روى عنه، فهذه محمولة على الانقطاع.(1/199)
وهذا المثال الذي ذكره المؤلف: قتادة عن أبي هريرة، هذا دليل على الانقطاع، وأن المؤلف يقرر ما ذكره سابقا في حد التدليس، وأن من ضمن حده إذا كان الراوي لم يدرك من روى عنه.
فقتادة وُلِدَ سنة ستين، وأبو هريرة توفي سنة ثمان وخمسين أو سبع وخمسين، فقطعا قتادة لم يدرك أبا هريرة، فكلمة "عن" في هذا، إذا قال: قتادة عن أبي هريرة، هذه محمولة على الانقطاع جزما. نعم.
التدليس عن الضعفاء جناية على السنة
وحكم "قال": حكم "عن"، ولهم في ذلك أغراض:
هذه حكم "قال" حكم "عن" كلمة "قال" وكلمة "عن" وذكر؛ هذه كلها لها حكم واحد في اللي تقدم معنا في أحوال العنعنة، فما ينطبق على أحوال العنعنة ينطبق على "قال"، و"ذكر فلان" ينطبق عليها.
بقي كلمة "أَنَّ"، كلمة "أن" هل هي مثل "عن"، أو ليست مثل "عن"؟
فإذا قال الراوي -مثلا- قال نافع: إن ابن عمر قال.
فكلمة "إن" هذه خبرها قول، وهي واقعة بين الراوي ومن روى عنه، إذا كان خبرها قولا فإنها تُحمل على ما تُحمل عليه "عن"، إن كان الراوي أدرك من روى عنه، وعاصره وسمع منه، ولم يكن مدلسا، حُكم لها بالاتصال، وإلا إذا لم يكن معاصرا، إذا كان معاصرا له ولم يسمع منه، أو كان سمع منه وهو مدلس، فإنها تحمل على الانقطاع على ما مر في أحوال العنعنة.
إذن، إذا كان خبرها قولا، مثل هذا الآن: عن نافع أن ابن عمر قال. فمثلا هذا يُحمل على، أو يُعطَى حكم عن.
وأما إذا كان خبرها فعلا، مثل لو روى سالم قال سالم: إن ابن عمر دخل على النبي -صلى الله عليه وسلم.
ففي هذه الصورة يقال: هذه منقطعة؛ لأن سالما لم يدرك الحادثة، لم يشاهد الحادثة، لم يشاهد هذه الحادثة ولم يدركها.
فإذا كان الخبر فعلا، وكان هذا الراوي لم يدرك هذه الحادثة أو القصة، فيُحْمَل على الانقطاع،(1/200)
مثل ما إذا قال عروة: أن عائشة دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - فهذا محمول على الانقطاع؛ لأن عروة تابعي لم يدرك هذه الحادثة جزما، فيُحْمَل على الانقطاع ، فتحمل على الانقطاع. نعم.
لكان خبرها قولا مثل هذا الآن: "عن نافع أن ابن عمر قال"، فمثل هذا يحمل على -أو يُعطى حكم- "عن"، وأما إذا كان خبرها فعلا مثل لو روى سالم، قال سالم: "إن ابن عمر دخل على النبي -صلى الله عليه وسلم-"، ففي هذه الصورة يُقال: هذه منقطعة؛ لأن سالما لم يدرك الحادثة، لم يشاهد الحادثة، لم يشاهد هذه الحادثة ولم يدركها.
فإذا كان الخبر فعلا، وكان هذا الراوي لم يدرك هذه الحادثة أو القصة، فيُحمل على الانقطاع، مثلما إذا قال عروة: إن عائشة دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - فهذا محمول على الانقطاع؛ لأن عروة تابعي لم يدرك هذه الحادثة جزما؛ فيُحمل على الانقطاع. نعم.
فإن كان لو صرَّح بمن حدثه عن المسمَّى لعُرف ضعفه، فهذا غرض مذموم وجناية على السنة، ومن يعاني ذلك جُرح به؛ فإن الدين النصيحة .
يعني: إذا أسقط الراوي المدلِّس ضعيفا، كان شيخه ضعيفا فأسقطه، إذا كان شيخه ضعيفا فأسقطه، فإن كان أسقطه -وهو عالم بضعفه متيقن من ذلك- هذه فيها مفسدة من حيث الحكم على حديث، وأيضا هذا من ثبت أنه صنع ذلك لا لسبب، فإنه يكون هذا من باب الجرح فيه؛ لأن فيه غشًّا للمسلمين.
بقي أن يقال: هناك أئمة دلسوا عن ضعاف، وهم من كبار الأئمة الثقات: سفيان الثوري، الأعمش، والشافعي، وغيرهم دلسوا عن الثقات، فهل يقال: إن هذا جرح فيهم؟
أئمة الحديث متفقون على قبول روايتهم، وأن هذا ليس بجرح، أن التدليس نفسه ليس بجرح في الراوي، لكن صنيعهم هذا محمول، له محامل كثيرة، وأحسنها، ومن أمثلها: أن هذا الراوي حين أسقط ذلك الضعيف لم يسقطه لأنه ضعيف عنده -وهو إن كان ضعيفا عند غيره لكنه ليس ضعيفا عنده- فأسقطه لكونه ثقة عنده، وإن كان ضعيفا عند غيره.(1/201)
إذن هذا الإسقاط لا لأجل أنه ضعيف ويعتقد ضعفه، وإنما أسقطه لأجل أنه ثقة عنده، أو أسقطه وهو ضعيف عنده أيضا، ولكن روى من أحاديثه ما ميزها وعلم أنها صحيحة.
الحالة الأولى: هو ثقة عند هذا المدلِّس ضعيف عند غيره، وهذا محمل حسن، والمحمل الآخر أن يكون ضعيفا عنده -هو يعتقد أنه ضعيف-، ولكن الأحاديث التي دلسها عنه هو يعتقد صحتها؛ لأنه ميزها من أحاديثه؛ لأن الأئمة عادتهم جارية أنهم يميزون بين أحاديث الراوي، وإن كان الراوي في نفسه ضعيفا.
فسفيان بن عيينة مثلا إذا روى عن إبراهيم الهجري صار الحديث صحيحا، وإذا روى عن الهجري غير سفيان بن عيينة صار الحديث ضعيفا؛ لضعف الهجري، وإنما صُحح حديث سفيان عن الهجري؛ لأن سفيان ذكر أنه ميز أحاديثه، ميز أحاديث الهجري.
فهؤلاء الرواة المدلسون -وهم من الثقات الأثبات- إنما أسقطوا هؤلاء الضعفاء؛ لظنهم إما أنهم باعتقادهم أنهم ثقات وإن كانوا ضعفاء غيرهم، أو لأنهم خرَّجوا من أحاديثهم التي أسقطوهم فيها ما يعتقدون أنه صحيح، وصنعوا ذلك لئلا يُردَّ حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - صنعوا ذلك حفاظا على السُنة؛ لأنهم لو أبرزوا هذا الراوي الضعيف وغيرهم لا يعلم بحاله لضعَّف الحديث بسببه، فهم يسقطون هذا الراوي من باب المحافظة على السنة وإظهارها.
ولهذا ذكر بعض العلماء أن هؤلاء الأئمة الثقات ما فعلوا هذا التدليس إلا نصحا للأمة من هذا الباب، وبعض العلماء -يعني- تجوَّز في الرواية أو إسقاط الضعفاء لأعذار -يعني- ليست مثل هذه الأعذار، وإن كانت في ذاتها -يعني- خطأ، لكنها تزيل عنه تهمة التلبيس.(1/202)
فمثلا ابن جُرَيج كان يدلس عن شيخه الأوزاعي، يسقطه، يدلس تدليسا، في تدليس التسوية، يسقط الراوي بين الأوزاعي وبين شيخه، وإذا سئل عن ذلك قال: أُنبل الأوزاعي أن يروي عن الضعفاء، فهذا -يعني- تصرُّف من ابن جُريج اجتهد فيه، وإن كان لا يوافَق عليه في الجملة، لكن هذا يذب عنه قضية الإيهام وغش المسلمين. نعم
مقاصد التدليس
وإن فعله طلبا للعلو فقط .
يعني: طلب العلوِّ، الحديث الذي يكون بين الراوي وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - أربعة أنفس، إذا أسقط منها شيخا واحدا صار بينه وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أنفس، فهذا يطلب العلو ظاهرا، وأما في الباطن فبينهما أربعة. نعم.
أو إيهاما بتكثير الشيوخ .
"أو إيهاما بتكثير الشيوخ"، هذا يأتي في تدليس الشيوخ، وتدليس الشيوخ معناه أن يذكر الراوي شيخه بأسماء وأوصاف وألقاب متعددة، وهذا مثلما جاء عن الحارث بن أبي أسامة أنه كان يروي عن ابن أبي الدنيا، فتارة يقول: حدثنا عبيد الله بن عبيد وهو ابن أبي الدنيا، وتارة يقول: حدثنا أبو بكر الأموي وهو ابن أبي الدنيا، وتارة حدثنا أبو بكر القرشي وهو ابن أبي الدنيا، هذه كلها أسماء وألقاب وكنى لابن أبي الدنيا، وتارة يقول: حدثنا أبو بكر بن سفيان؛ لأن جد ابن أبي الدنيا سفيان، وتارة يقول: حدثنا عبيد الله بن سفيان، فهو يغيِّر، أو يذكر شيخه بأسماء وألقاب ونعوت مختلفة، لكن طبعا هذه الأسماء كلها موجودة في ابن أبي الدنيا.
ذكر بعض أهل العلم أن الحارث إنما صنع ذلك لأن ابن أبي الدنيا أصغر منه، فهو صغير السن -ابن أبي الدنيا-، فكأن الحارث لصغر سن ابن أبي الدنيا يعني: سماه بأسماء مختلفة، أو لقبه بألقاب مختلفة حياء من الرواية عن الصغير، هكذا قيل، هكذا ذكر بعض العلماء، والله أعلم بذلك.(1/203)
لكن قد يكون ابن أبي الدنيا مشهورا بهذه الألقاب كلها معروفا، كلما أطلق عليه اسم منها كان معروفا به، وحَمْله على أنه يستحيي من شيخه هذا بعيد في حق العلماء، بعيد في حق العلماء، فهذا يسمى تدليس الشيوخ.
وتدليس الشيوخ أخف بمراحل كثيرة من تدليس الإسناد؛ لأنه ليس فيه إسقاط، وإنما فيه إيهام وتوعير للأسانيد فقط، يعني: لأن الراوي أحيانا يطَّلع مثلا إذا قال: "أبو بكر الأموي"، يبحث، ما يدري من أبو بكر الأموي هذا؟ فربما ضُعِّف الحديث لاعتقاد الجهالة في هذا الراوي، وهو في نفس الوقت ليس ضعيفا ولا مجهولا، بل هو معروف، فمن هذا الباب كره العلماء تدليس الشيوخ، وهو ليس فيه إسقاط. نعم.
أو إيهاما بتكثير الشيوخ بأن يسمي الشيخ مرة ويكنيه أخرى، وينسبه إلى صنعة أو بلد لا يكاد يُعرف به .
وهذا "لينسب إلى بلد": هذا يطلق عليه بعض العلماء تدليس البلدان، أو تدليس البلدان باعتبار الوصف القائم بالرجل، باعتبار الوصف، فإذا قال مثلا: حدثني النهرواني ينصرف إلى النهروان التي قامت عليها المعركة، ينصرف إليها، فهو وصف للشخص بما يعود إلى البلد، فهذا تارة يدخل في تدليس الشيوخ، وتارة يدخل في تدليس البلدان.
يدخل في تدليس الشيوخ على اعتبار أن هذا لقب، وهذا جاء بلقب لا يُعرف به، ويدخل في تدليس البلدان باعتبار أنه وصفه، أو جعل فيه وصفا قائما عائدا إلى بلد معينة، فيتوهم السامع أنه حدثه بتلك البلاد. نعم.
وأمثال ذلك كما تقول: حدثنا البخاري وتقصد به من يبخر الناس، أو حدثنا علي بما وراء النهر وتعني به نهرا .(1/204)
يعني: بلاد ما وراء النهر معروفة خلف العراق، فهذه معروفة أنها بلاد ما وراء النهر، فإذا مثلا صرت مثلا في بلد من البلدان غير تلك البلاد، أو كان حدثك شيخ مثلا في بلادك، أو في بلد أخرى فيها نهر -ولو كان صغيرا-، حدثك خلف النهر، قلت: حدثنا بما وراء النهر، فهذا الظاهر من العبارة، أو المشتهر عند العلماء بلاد ما وراء النهر معروفة، فينصرف الإطلاق أنك رحلت إلى بلاد ما وراء النهر، وأنت لم ترحل أصلا.
وهذه الفائدة، قد يقول قائل -يعني-: ما الفائدة من هذا؟ هناك فائدة، وهي أن هذا يعرف إذا قال: حدثني بالبلاد الفلانية والبلاد الفلانية، وانصرفت إلى الأشهَر، هذا يستفاد منه في باب الرحلة في طلب الحديث.
ويستفاد منه في باب التدليس والعنعنة؛ لأنه مثلا إذا قلت: حدثنا بما وراء النهر، ثم وجدنا هناك شيخا بما وراء النهر، وأنت معاصر له عند الإمام مسلم، هنا أمكن اللقاء، ولا فيه إشكال في صحة السماع.
ما فيه إشكال في صحة السماع على قاعدة الإمام مسلم، وأنت تروي عنه بالعنعنة، وكان من بلاد ما وراء النهر، لكن لو عُلم أنك تقصد النهر الذي في بلدك، أو النهر غير ذلك النهر، لم تحمل روايتك على الاتصال؛ لعدم إمكان اللقاء. نعم.
أو حدثنا بزبيد وتريد موضعا بقوص .
يعني: زبيد معروفة أنها باليمن، فإذا قال: حدثنا بزبيد، وهو يقصد بلد بقوص من جهة الشمال من جهة الشام، هذا أيضا فيه تدليس؛ لأن الاعتبار بإطلاق اللفظ على المشتهر لا على المغمور، وإن كان لم يثبت في هذا، هو ما كذب، ولكن أوهم، والتدليس كله مبني على الإيهام. نعم.
أمثلة للتدليس الحديث
أو حدثنا بحرَّان وتريد قرية المرج، فهذا محتمل، والورع تركه.
ومن أمثلة التدليس: الحسن عن أبي هريرة، وجمهورهم على أنه منقطع لم يلقه، وقد روي عن الحسن قال: "حدثنا أبو هريرة"، فقيل: عنى بـ "حدثنا": أهل بلده .(1/205)
هذا مثال للتدليس، فقول الحسن: "عن أبي هريرة"، الحسن عاصر أبا هريرة - رضي الله عنه - لكن اختلف العلماء: هل سمع من أبي هريرة أو لم يسمع؟ فمن العلماء من قال: إنه لم يسمع من أبي هريرة مطلقا، كما هو رأي أبي زرعة وأبي حاتم وجماعة، قالوا: لم يسمع من أبي هريرة، فكل -إذن- إسناد يقول فيه الحسن: "عن أبي هريرة" هذا إسنادٌ منقطع؛ لأنه لم يسمع منه، والحسن موصوف بالتدليس.
وبعض أهل العلم يرى أنه سمع منه، يرى أنه قد سمع من أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه-، ويستدل بما جاء في بعض الروايات أنه قال: "حدثنا أبو هريرة"، غير أن أبا حاتم وأبا زرعة ومن نحا نحوهما يقولون: إن الروايات التي هي "حدثنا أبو هريرة" كلها أغلاط وأوهام من الرواة، أغلاط وأوهام وتفرُّدات لا عبرة بها، وهذا مثال للاختلاف أو للتفرد إذا كان بالصيغة.
تفرد بالصيغة كما سبق يوم أمس، له اعتبار في عمل الأئمة، فهؤلاء المتفردون بهذه الصيغة لم يُلتفت إلى تفردهم؛ لكونهم خالفوا غيرهم ممن هو أوثق، فروى ما رووه بصيغة "حدثنا"، رواه بصيغة "عن"، وبعض العلماء الذين يحكمون على رواية الحسن بالانقطاع عن أبي هريرة يقولون: كلمة "حدثنا" هذه يعني: حدث أهل البلد لا أنه حدث الحسن بخصوصه.
وهؤلاء لهم دليل في السنة، وهو في قصة الدجال: أن الرجل الصالح الذي يأتيه الدجال ويقول: " أشهد أنك الدجال الذي حدثنا حديثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " فهذا الرجل في آخر الزمان، وهو -جزما- لم يدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - ومع ذلك قال: حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدل على أن كلمة "حدثنا" لا تقتضي أن يكون هو قد سمع، وإنما لو سمع أهل بلده لكفى.(1/206)
وأيضا دليل آخر من السنة، وهو قول أبي هريرة - رضي الله عنه - افتتحنا خيبر، أو: فلما غزونا خيبر، وطبعا أبو هريرة أسلم بعد فتح خيبر، ما حضر الفتح -رضي الله تعالى عنه-، ومع ذلك قال: افتتحنا، يقصد المسلمين، فيدلنا هذا على أن استعمال كلمة "حدثنا" وإضافتها إلى ضمير الجمع لا تقتضي تحديث الشخص بخصوصه، وإنما يكفي فيها سماع أهل البلد، وإن لم يكن قد سمع معهم.
وهذه العبارة "حدثنا" ليست خاصة بالحسن، فقد جاءت عن ثابت البُنَاني، وعن قتادة، وعن مجاهد، وغيرهم أنهم قالوا: "حدثنا" فيما لم يسمعوا، ولم يُحمل ذلك على الكذب؛ لأن كلمة "حدثنا" تحتمل: "حدَّث أهل البلد"، لكن لم يرد عن أحدهم أنه قال: حدثني أو سمعت أو أخبرني؛ لأن هذه تقتضي الإخبار الشخصي له، أو حضوره الشخصي، تقتضي حضوره الشخصي، وسماعه الشخصي، لا سماع أهل البلد، بخلاف كلمة "حدثنا" أو "أخبرنا". نعم.
تدليس الأسماء يؤدي إلى جهالة الراوي الثقة
وقد يؤدي تدليس الأسماء إلى جهالة الراوي الثقة .
تدليس الأسماء متعلق بتدليس الشيوخ، يعني: تبديل الأسماء كما مر. نعم.
فيرد خبره الصحيح فهذه مفسدة .
يعني: تدليس الشيوخ -أو أسماء الشيوخ كما مر- أنه قد يؤدي إلى رد الحديث، قد يؤدي إلى رد حديث الثقة، أو قبول حديث غير الثقة؛ لأنه لو كَنَّى شخصا برجل، أو أعطاه كنية غير مشهور بها، وكانت هذه الكنية توافق كنية رجل ثقة، واتفق الشيوخ والتلاميذ، فإنه قد يصحَّح هذا الحديث، وهو ليس جديرا بالتصحيح، أو على العكس من ذلك، يكني رجلا بكنية رجل ضعيف، أو يكنيه ثم لا يُعرف، فإنه ينبني على ذلك أن يرد حديثه، وهذا مفسدة من المفاسد. نعم.
وقوع التدليس للأسماء في صحيح البخاري
ولكنها في غير جامع البخاري ونحوه.
يعني: أن هذه التدليسات -الشيوخ والأسماء- لتضييع الرواية فيها، أو تضييع المروي هذا ليست شاملة لما في الصحيح، وسيذكر الآن. نعم.(1/207)
الذي تقرر أن موضوعه للصحاح، فإن الرجل قد قال في جامعه: حدثنا عبد الله، وأراد به ابن صالح المصري.
هذا وجه التدليس ها هنا، أو وصف البخاري بالتدليس -رحمه الله- أن البخاري يروي لشيوخ كُثُر، كل منهم يسمى عبد الله، فعنده عبد الله بن الزبير الحميدي، عبد الله بن أبي شيبة، عبد الله بن مسلمة القعنبي، عبد الله بن صالح العجلي، وآخرون كلهم يسمى عبد الله، فهؤلاء شيوخ ثقات، وعبد الله بن صالح -هذا- المصري اختلف أهل العلم فيه، فمنهم مَن يُضعفه، ومنهم من يصحِّح حديثه، لكن أولئك ثقات أثبات معروفون.
فكونه يقول: عبد الله في -تقريبا- تسعة مواضع من الصحيح، هذا ذكر بعض العلماء أن هذا تدليس من الإمام البخاري، لكن لا يشمله ما تقدم في تدليس الشيوخ. نعم.
وقال: حدثنا يعقوب، وأراد به ابن كاسب.
يعقوب بن كاسب بن حُميد هذا -يعني:- في حديثه ضعف، والبخاري جاء في بعض مواضع وقال: حدثنا يعقوب، فكلمة "وهو" وجه التدليس أن البخاري له شيوخ غير هذا يسمى كل واحد منهم يعقوب، فعنده يعقوب بن إبراهيم الدورقي وهو ثقة، وعنده يعقوب بن إبراهيم بن سعد، هذان ثقتان، فكونه يقول يعقوب وهو يقصد ابن كاسب ولا يُسميه، فهذا يكون من باب تدليس الشيوخ. نعم.
وفيهما لين... .
لكن البخاري -رحمه الله تعالى- لا يُظن به هذا، إنما البخاري قال: يعقوب، وقال: عبد الله؛ لأن هذا الكتاب -كتاب الصحيح- يطَّلع عليه العلماء ويعرفونه، والعلماء لهم خبرة في تمييز الروايات، يعرفون أن هذا من حديث عبد الله بن صالح، خاصة أن عبد الله بن صالح ويعقوب هذا من الرواة المشهورين -وإن كان فيهم ضعف-، لكن مشهورين، وتُجمع أحاديثهم، ويُعتنى بها.
فقول خبرة العلماء في حديث هذين لعله لم يصرح باسم المميز لهما. نعم.
تدليس التسوية والصيغة
وبكل حال التدليس منافٍ للإخلاص لما فيه من التزين.(1/208)
هذا يعني: أن التدليس في الغالب أنه يأتي من باب التزين، إما بإيهام علو الإسناد، أو كثرة الشيوخ، أو الرحلة في طلب الحديث، أو غير ذلك من الأشياء، وهذا كما في الحديث الصحيح: " المتشبع بما لم يُعط كلابس ثوبي زور " وبهذا انتهى كلام المؤلف على التدليس، وبقي نوعان من التدليس لم يذكرهما المؤلف، وهما جديران بالذكر.
الأول: هو تدليس التسوية، ويسميه العلماء المتقدمون: التسوية، بدون كلمات التدليس، وهذا التدليس -تدليس التسوية- هو أن يسقط الراوي شيخا، أن يسقط الراوي -أو هذا المدلس- أن يسقط المدلس راويا بين راويين حصل السماع بينهما، وهذا يوضحه المثال.
المثال عندنا هُشيم روى حديثا: هُشيم بن بشير، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن الزهري، هكذا هُشيم أسقط راويا بين يحيى بن سعيد والزهري، وهذا الراوي هو الإمام مالك، فصحة الإسناد: هُشيم، عن يحيى، عن مالك، عن الزهري، هكذا صحة الإسناد، لكن هُشيم بن بشير معروف بتدليس التسوية، أسقط مالكا بين يحيى والزهري، وسوَّى الإسناد.
هنا الانقطاع لا يظهر، الانقطاع هنا لا يظهر، لماذا؟ لأن يحيى بن سعيد أصلا يروي عن الزهري، يحيى بن سعيد أصلا له رواية عن الزهري، ويحيى بن سعيد ليس مُدلسا، فجاء هشيم فأسقط مالكا، وقال: يحيى بن سعيد عن الزهري.
فالذي ينظر في هذا الإسناد: يحيى بن سعيد الأنصاري.
أولا: ثبت سماعه من الزهري.
وثانيا: أنه ليس بمدلس، فعنعنته على الاتصال، لكن تبين بعد ذلك بجمع طرق الحديث أن هشيم دلس هذا الحديث، وهذا يسمى تدليس تسوية، إذن هُشيم بن بشير ما أسقط شيخه، وإنما أسقط شيخ شيخه، وهذا ينطبق على شيخ شيخه فمن فوقه، إذن هذا هو يسمى تدليس التسوية، وهذا شر التدليس؛ لأنه لا يستبين لكل أحد، وبخاصة إذا كان الرواي المُسقَط ضعيفا.(1/209)
والثاني: هو تدليس الصيغة، يعني: يدلس صيغة الأداء، فمثلا أبو نُعيم صاحب الحلية قال فيما سمعه بالإجازة: "أخبرنا"، والمشتهر عند المتأخرين أن كلمة "أنبأنا" إنما هي خاصة بالإجازة، لكن أبا نُعيم يقول: "أخبرنا" وهو يروي بالإجازة.
فكلمة "أخبرنا" عند العلماء معروفة أنها للقراءة على الشيخ، لما تُحمِّل على الشيخ عن طريق القراءة، فيظن السامع أو القارئ لكلام أبي نُعيم أنه رواه عن شيخه بالقراءة، وهذا يسميه بعض العلماء تدليسا، وأُدخل ضمن المدلسين من أجل هذا.
بقي أمر آخر، وهو أن رواية المدلِّس، أو الحديث المدلَّس هذا من الأحاديث إذا رواه المدلس بالعنعنة وثبت تدليسه فإنها محمولة على الانقطاع، إلا في الأئمة المعروفين المشهورين.
فإن كلمة "عن" لا تُحمل على الانقطاع إلا في حالة واحدة، لا يحكم لها بالانقطاع إلا في حالة واحدة، وهي إذا ما ورد في هذا الحديث نكارةٌ في إسناده أو متنه، وهذا الشيخ يرويه بـ "عن"، فإنه يقال: هذا مما دلسه الشيخ، وتحمل النكارة على هذا الراوي المسقَط، لا على هذا الإمام، لا على الإمام، وهذا هو صنيع الأئمة، سواء في قتادة، في الحسن البصري، في غيره يعملون بهذا.
ومر معكم أن البخاري أخرج للوليد عن الأوزاعي، الوليد معروف بالتدليس، مشهور به، أخرج عنه صيغة العنعنة؛ لأنه أولا: مكثر على شيخه، وثانيا: هو من الأئمة الثقات، والحديث ليس فيه نكارة؛ فلذلك يمشُّون الأحاديث، وهذا هو عمل الحافظ ابن كثير -رحمه الله- من المتأخرين.
إذن الحديث المدلَّس يحكم له بالانقطاع، أو الراوي المدلِّس إذا رواه بالعنعنة يحكم له بالانقطاع، إذا كان الراوي إما ضعيفا مدلِّسا، ضعيفا أو مدلِّسا، ليس من الأئمة الثقات المعروفين المشهورين، فهذا يحكم لحديثه بالانقطاع.(1/210)
أما إذا كان من الأئمة المكثرين من الرواية، الواسعي الرواية، مثل أبي إسحاق، ومثل أبي الزبير، ومثل قتادة، ومثل الثوري وغيرهم، فهؤلاء الأصل في حديث عنعنتهم حملها على الاتصال، وبخاصة عن شيوخهم الذين أكثروا عنهم في الرواية.
فمثلا الأعمش، ذكر الذهبي في ترجمته في الميزان أن الراوي إذا كان مكثرا عن شيخه -ولو كان مدلسا- فإنه تحمل عنعنته على الاتصال، فإذا كان هذا الراوي من الأئمة المكثرين، ودلس أو روى بالعنعنة، فالأصل حمل عنعنته على الاتصال -وإن كان موصوفا بالتدليس- إلا إذا قام قائم يمنع منها، وهو وجود النكارة في الإسناد أو المتن، فيحمل على الراوي المسقَط لا على هذا الإمام، وهذا هو عمل الأئمة؛ ولهذا تسلم من كثير من الإشكالات المورَدة على الصحيحين.
اُعترِض على الصحيحين بأن خُرِّج لهم أو خرَّجوا أحاديث أناس موصوفين بالتدليس، وروى الحديث بصيغة العنعنة، وتكلف العلماء في الجواب، لكن عمل الأئمة المنطبق الموافق لما في الصحيحين أن هؤلاء الأئمة عنعنتهم محمولة على الاتصال، أو كان هذا الراوي مكثرا عن شيخه، إذا كان شيخه مكثرا عنه الرواية وكان مدلسا تحمل العنعنة على الاتصال؛ من أجل كثرة الرواية عن شيخه.
وبهذين الأمرين يسلم لنا أو تسلم لنا كثير من الاعتراضات على الصحيحين؛ ولهذا الدارقطني في التتبع ما جاء بهذه التعليلات التي أُعِلَّت فيها في الصحيحين، يعني: لو مشينا، لو أخذ بها الدارقطني في التتبع لبلغ ما تتبعه الدارقطني عليهما شيئا كثيرا، لكن لما كانت القاعدة واضحة عندهم، والبخاري ومسلم من أئمة هذا الفن، وعملهما موافق لأئمة هذا الشأن؛ فإن الأحاديث المخرجة عندهما من رواية المدلسين منطبق على عمل جمهور أئمة العلماء.(1/211)
والحديث المدلس هو إذا ثبت التدليس يكون حديثا منقطعا، فإذا كنا لا نعلم حال المنقطع، ما ندري من الساقط في الإسناد؟ فهذا إذا جاءه طريق أخرى أو طرق أخرى فإنها تقويه، وترفعه للحسن لغيره، وأما إذا عرفنا الساقط فإن هذا الساقط يعامل بحاله إن كان متروكا فلا يجبر حديثه، وإن كان ضعيفا أو مجهولا فإنه ينجبر حديثه، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
الحديث المضطرب والمعلل
تعريف الحديث المضطرب والمعلل
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، قال الإمام الذهبي -رحمه الله تعالى-: الحديث المضطرب والمعلل هو ما روي على أوجه مختلفة فيعتل الحديث .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد..
فهذان نوعان من أنواع الحديث الضعيف، وهذا النوع ينشأ عن حفظ الراوي، فإذا كان حفظ الراوي فيه ضعف -إما مطلقا أو في حالة من الأحوال- فإنه حينئذ ينشأ عنه الاضطراب، أو إعلال حديثه.
وجرت العادة في مباحث مصطلح الحديث أن يُفصَل بين هذين النوعين، ويأخذ كل واحد منها تعريفا خاصّا به؛ لأن المعَلَّ أشمل من المضطرب، فالاضطراب ما هو إلا جزء من الحديث المُعَل، والمؤلف ها هنا جمع بينهما، وأصله الاقتراح، لم يُرد فيه الحديث المُعَل اكتفاء بما تقدم في شذوذ النكارة والتدليس، وأيضا في الاغتراب الذي أورده، هذه كلها داخلة تحت الحديث المعل، فالشاذ معل، والمنكر معل، والمضطرب معل، والمدلس معل.
وأما الحافظ ابن الصلاح فقد ذكر هذين النوعين، والشاهد من هذا أن المؤلف جمع بينهما، وحدَّهما بحد واحد، فذكر أن المضطرب والمعل هو ما روي عن أوجه مختلفة فيعتل الحديث.(1/212)
فقوله: "ما روي على أوجه مختلفة" هذا هو الحقيقة، وقوله: "فيعتل الحديث" هذا هو النتيجة، فالحديث إذا رُوِي على أوجه مختلفة: تارة روي مرسلا، وتارة روي موصولا، أو تارة روي مرفوعا، وتارة روي موقوفا، أو تارة روي بذكر رجل مبهم، وتارة روي بتسمية ذلك المبهم، أو تارة روي متنه على لفظ، وتارة روي على لفظ آخر، فهذا إن لم يترجَّح أحد الأوجه بأن تساوى الحفاظ الراوون لهذين النوعين -أو لهذين الوجهين- تساووا في الحفظ، ولم يكن ثمة مرجح.
فإن هذا هو الذي يسمى مضطربا، فهو مروي على أوجه مختلفة، فإذا لم يمكن الترجيح، أو تعذر الترجيح بين هذه الأوجه جاء الاضطراب، فإن أمكن الترجيح بين أحد هذه الأوجه فإن المرجوح هو المعل والراجح هو المحفوظ.
فصار كلام المؤلف: "ما روي على أوجه مختلفة فيعتل الحديث" هذا شامل للمضطرب وشامل للمعل إن لم يمكن الترجيح بين الأوجه، كان مضطربا؛ فيعتل الحديث لأن الاضطراب علة في الحديث، وإن رُجح أحد الوجهين كان المرجوح معتلا، فالاعتلال باعتبار الطرف الآخر أو الوجه الآخر غير المحفوظ، فصار كلام المؤلف موافقا لأهل الاصطلاح، فكان المضطرب عنده بناء على هذا هو الحديث الذي يروى على أوجه مختلفة، ويتعذر معها الترجيح، فيكون مضطربا -الحديث-.
وأما المعل فهو الحديث الذي روي على أوجه مختلفة وكان أحدها راجحا، فالمرجوح هو المُعَل، فيكون المرجوح هو المعل، إذن صارت العلة لا تستفاد إلا بعد رواية الحديث على أوجه؛ لأنها لا يمكن استخراجها إلا بعد جمع طرق الحديث، وهذا في الجملة.(1/213)
وكذلك الاضطراب لا يكون إلا إذا تعددت طرق الحديث، إذا تعددت طرق الحديث فإنه يأتي الاضطراب، أما إذا كان الحديث ليس له إلا طريق واحد فها هنا يأتي الاضطراب الخاص، وهو اضطراب الراوي نفسه؛ لأن الراوي أحيانا يضطرب، فيروي الحديث على أوجه مختلفة، وهذا الاضطراب إنما هو منه نفسه، كما حصل لعلي بن زيد بن جُدعان، روى حديثا حديث البراء بن عازب: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع يديه للتكبير إذا افتتح الصلاة ثم لا يعود " فهذه الراوي عنه سفيان بن عيينة.
ذكر سفيان بن عيينة أن عليَّ بن زيد بن جُدعان كان يقول في حديث البراء: " أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع يديه للتكبير إذا افتتح الصلاة " هذا في الأول، ثم لما دخل الكوفة جاء بهذه الزيادة: " ثم لا يعود " فهذه الزيادة مؤثرة تأثيرا في الحكم، وتأثيرها كبير؛ لأنها تنفي أن يكون - صلى الله عليه وسلم - رفع يديه في مواطن أخرى.
فعلي بن زيد بن جدعان هنا مختلف عليه، إنما هو الذي اضطرب بنفسه، ومقصودهم بالاضطراب الذي معنا: هو الاضطراب الناشئ عن الاختلاف على الراوي، فهذا هو معنى الاضطراب والإعلال. نعم.
كون العلة غير مؤثرة في الحديث المعلول
فإن كانت العلة غير مؤثرة بأن يرويه الثبت على وجه ويخالفه واهٍ فليس بمعلول .
هذا تقدم لنا في بحث الشاذ والمنكر، أن من الشذوذ أو من النكارة أن يروي الضعيف حديثا يخالف فيه من هو أوثق منه من الثقات، فإذا روى الضعيف حديثا يخالف الثقات -أو لثقة- فإن الحكم لهذا الثقة، ولا يلتفت إلى رواية الضعيف؛ لأن العبرة بالحفظ، فمن كان أحفظ فروايته هي المقدَّمة.
وقد دل على هذا أن ابن أبي حاتم سئل عن حديث رواه حفص بن غياث، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة.
ورواه يزيد بن عبد العزيز، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد.(1/214)
فهذا اختلاف على الأعمش، هذا يجعله عن أبي صالح عن أبي هريرة، من مسند أبي هريرة، والآخر يجعله من مسند أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - فهذا اختلاف، فهل نقول: ها هنا اضطراب للاختلاف على الراوي؟
لا، هنا ليس فيه اضطراب، وإنما فيه أحد الوجهين خطأ أو معل، والثاني هو الصحيح، فرواية حفص هي الصحيحة، وقد علل أبو حاتم التصحيح بأن حفص بن غياث أحفظ، سئل أيهما أصح؟ قال: حفص بن غياث أحفظ، فهذا يدل على أن الأحفظ هو الذي تقدَّم روايته، وهو يدل على أنه ليس كل اختلاف يورث الاضطراب، وإنما الاضطراب مع تعذر الترجيح، وها هنا الترجيح غير متعذر؛ لأن حفص بن غياث أوثق من يزيد بن عبد العزيز. نعم.
وقد ساق الدارقطني كثيرا من هذا النمط في كتاب العلل، فلم يصب لأن الحكم للثبت. .
يعني: أن الدارقطني عارض رواية الثقات بالضعفاء، وهذا الكلام من المؤلف -يعني- يحتاج إلى تأمل؛ لأن الدارقطني غالبا ما يورد رواية الضعفاء مقرونة بالثقات، فيقول مثلا: روى هذا الحديث فلان وفلان وفلان، يعدد، قد يكونون جميعا ثقات، وقد يكون فيهم الثقة وفيهم الضعيف، فتكون رواية الضعيف تابعة لرواية الثقة، تكون رواية الضعيف مقرونة برواية الثقة، ليست مستقلة بذاتها، وهذا هو ظاهر في كتاب الدارقطني، وهذا لا غبار عليه، ولا كلام فيه؛ لأنه ليس العبرة بهذه الرواية.
والثاني: أن إخراج أو معارضة الدارقطني للضعفاء -أو بأحاديث الضعفاء- للثقات هذا إما أن يكون هذا الراوي الموصوف بالضعف ضعيفا عند غير الدارقطني، ثقة عند الدارقطني.
قد يكون عند غير الدارقطني ضعيفا، ولكنه عند الدارقطني ثقة، فها هنا أيضا إيراد المؤلف، واعتراض المؤلف في غير محله إذا كان على هذا الوجه؛ لأن الدارقطني ما أوله+ اجتهاده في الرجال، فلا يُحكم عليه بقول غيره.(1/215)
وإما أن يكون هذا الراوي الذي ظهر في الذهبي أنه ضعيف يكون ليس للدارقطني كلام فيه، وهذا إما أن يكون مجمعا على ضعفه، أو يكون مختلفا فيه، فإن كان مختلفا فيه فيمكن أن يكون الدارقطني مع من يرى أنه ثقة، وأما إن كان مجمعا على ضعفه، أو ثبت أنه ضعيف عند الدارقطني، فإن إثبات هذا في علل الدارقطني يعني: يحتاج إلى مزيد نظر للتأكد من صحة ما أورده المؤلف ها هنا.
ثم إن العلماء حتى لو ثبت أن هذا الراوي ضعيف عند الدارقطني، العلماء أحيانا يوردون في كتب العلل أحاديث الرجال الضعفاء -ولو مع عدم المخالفة- كما يصنع ابن أبي حاتم، يورد ويسأل أباه عن مجموعة من الأحاديث التي يتفرد بها ضعفاء ومجاهيل، فكون الدارقطني يورد حديث هؤلاء مع زيادة وجه آخر من التضعيف -وهو المخالفة- هذا ليس بدعا من الدارقطني، وقد سبقه غيره من أئمة هذا الشأن.
الشاهد أن قوله: "فلم يصب" يعني: يحتاج إلى نظر طويل. نعم.
الحديث المعلول إذا رفعه راو ضعيف ووصله راو ثقة
فإن كان الثبت أرسله مثلا والواهي وصله فلا عبرة بوصله لأمرين: لضعف راويه، ولأنه معلول بإرسال الثبت له. .
يعني: أن الحديث إذا رفعه راو ضعيف، ووصله راو ثقة، أو أرسله راو ضعيف، ووصله راو ثقة، أو العكس؛ فإن العبرة برواية الثقة؛ لأن الثقة إذا خالف مَن هو أوثق منه فهذا يعتبر شذوذا، يحكم على روايته بالخطأ.
فمن باب أولى أن يُحْكَم بالضعف على رواية الواهي أو الضعيف إذا خالف الثقة؛ لأن الثقة إذا خالف مَن هو أوثق منه إنما جَمَع أو إنما يعني: صار في حاله أمر واحد، وهو المخالفة مع ثقته، وأما إذا كان ضعيفا وخالف فقد اجتمع له أمران: الضعف والمخالفة، وقد سبق أن الحديث كلما تعددت فيه العلل وأنواع الضعف فإنه يزداد ضعفا إلى ضعفه.
فرواية الضعيف المخالف للثقة هذه أشد من تفرد الضعيف، وتفرد الضعيف أشد من تفرد الضعيف جدّا وهكذا.(1/216)
فالشاهد أن مخالفة الضعيف -كما سبق لنا- هذه توصف بأنها شاذة بمرة+ شاذة جدّا أو منكرة. نعم.
المخالفات إذا كثرت من الراوي ضعفت حديثه
ثم اعلم أن أكثر المتكلَّم فيهم ما ضعفهم الحفاظ إلا لمخالفتهم للأثبات .
يعني: أن العلماء -رحمهم الله- كانوا إذا أرادوا معرفة ضبط الراوي عرضوا أحاديثه على أحاديث الثقات، فينظرون هل يوافقهم أو يخالفهم؟ إن كان يخالفهم كثيرا حكموا عليه بضعف روايته، وإن كان يوافقهم حكموا بثقته، وإن كان عنده خطأ قليل فهذه القلة إما أن تبقيه على أصل الثقة، وإما أن تنزله قليلا عنها.
فهذه المخالفات التي من وصل مرسل، أو إرسال موصول، أو وقف مرفوع، أو زيادة في الحديث، أو تسمية راوٍ مبهم أو نحو ذلك، هذه كلها إذا كثرت من الراوي ضعَّفت حديثه. نعم.
توثيق الراوي
وإن كان الحديث قد رواه الثبت بإسناد أو وقفه أو أرسله، ورفقاؤه الأثبات يخالفونه، فالعبرة بما اجتمع عليه الثقات، فإن الواحد قد يغلط، وهنا قد ترجح ظهور غلطه، فلا تعليل، والعبرة بالجماعة .
توثيق الراوي، إذا وثقوا راويا من الرواة فليس معناه أنه يكون معصوما من الخطأ، ولكن معناه أن جملة أحاديثه صحيحة، وسالمة من الأخطاء، فإذا وجد احتمال الخطأ في رواية الراوي، وهو الثقة؛ لأننا نحتمل الخطأ في روايته، لكن على قلة، وتأكدنا من هذا الخطأ لمخالفته للثقات، فإننا نحكم على روايته حينئذ بالضعف لهذا الحديث، فيكون ضبطه في هذه الحالة قد ضعف، وعرفنا أن ضبطه قد ضعف لمخالفته الثقات الأثبات، وقد تقدم مثال ذلك وبيانه في الشذوذ والنكارة. نعم.
تصحيح الوجهين المرويين عن الراوي
وإن تساوى العدد واختلف الحافظان ولم يترجح الحكم لأحدهما على الآخر، فهذا الضرب يسوق البخاري ومسلم الوجهين -منه- في كتابيهما، وبالأولى سوقهما لما اختلفا في لفظه إذا أمكن جمع معناه .(1/217)
هذه مسألة في تصحيح الوجهين المرويين عن الراوي، سبق في المقدمة أن الراوي إذا رُوِي الحديث عنه على أوجه مختلفة، ولم يمكن الجمع بينها، ولم يمكن الترجيح بينها، فإنه حينئذ يحكم بالاضطراب، فإن أمكن الترجيح فالمرجوح هو المعلول، والراجح هو المحفوظ.
ها هنا أحيانا يروي الراوي الحديث على وجهين، أو يُروى الحديث عنه على وجهين، ويصحح الوجهان عنه، ويقال: كلاهما صحيح، وذكر المؤلف أنه وقع في الصحيحين شيء من ذلك، فمن ذلك أن الإمام البخاري ومسلم خرَّجا حديث سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن سعيد بن المسيَّب، عن أبي هريرة -الحديث القدسي-: " يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر " .
فهذا الحديث يرويه سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، ويوافقه مَعْمر في صحيح مسلم، فصار عندنا سفيان هذا روايته في الصحيحين على هذا الوجه.
وخرَّج هذا الحديث أيضا الشيخان عن يونس بن يزيد، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، فهنا اختلف شيخ الزهري، يونس يجعله أبا سلمة، وسفيان بن عيينة ومعمر يجعلانه سعيد بن المسيب، والبخاري ومسلم صححا هذين الوجهين، وصححهما أيضا النسائي، وابن عبد البر، وآخرون صححوا هذين الوجهين.
ومثله أيضا الإمام مسلم خرَّج حديث: " من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خِداج " خرَّجه الإمام مسلم -رحمه الله- من حديث سفيان بن عيينة، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، وخرجه من حديث مالِك، عن العلاء، عن السائب مولى هشام بن زهرة، عن أبي هريرة.
فالعلاء في حديث سفيان شيخه أبوه، وفي حديث مالك شيخه السائب، فهذا في الظاهر اختلاف على العلاء بن عبد الرحمن، لكن الإمام مسلما صحَّح الوجهين، وصحَّحهما أيضا غيره كأبي زُرعة.(1/218)
هذا التصحيح -الوجهين- ليس خاصّا بالشيخين، وإنما ورد تصحيح الوجهين في أحاديث كثيرة لأبي حاتم وأبي زرعة، والترمذي في جامعه نصَّ في بعض المواضع -ثم تَبِعهم العلماء مِن بعدهم- على ذلك، والإمام البخاري في خارج الصحيح أيضا صنع ذلك.
لكن هذا التصحيح ليس دائما، تصحيح الوجهين ليس دائما، والذي يظهر -والله أعلم- أن التصحيح -تصحيح الوجهين- هذا إذا كان الشيخ واسع الرواية كالزُّهْرِي، الزهري واسع الرواية، إما أن يكون الشيخ واسع الرواية فمثل هؤلاء يكون له مشائِخ كثيرون، ويكون يروي الحديث من طرق مختلفة، فلا ضرر أن يصحَّح له الوجهان للاحتمال القوي.
ولهذا الإمام الزهري -رحمه الله- ذَكَر مسلم في الصحيح أنه يتفرَّد بسبعين حديثا، أو بتسعين حديثا لا يشارِكُه أحد فيها، هذا لسعة روايته -رحمه الله-.
فإذا كان الراوي واسع الرواية، فإنه إذا روي الحديث عنه على أوجه مختلفة، وكان الرواة ثقات أثبات، ولا تعارض بينها، يمكن أن يحمل على وجه لا يورث الاضطراب ولا التعسف كما في هذا، يحمل أن له شيخين، فإنه حينئذ يُصحِّح الوجهين كما صنع البخاري ومسلم.
ولهذا أبو حاتم -رحمه الله- لما سُئل عن حديث لأبي إسحاق في العلل يروى عنه على وجهين أو أكثر صحح الوجهين قال: كلاهما صحيح، ثمَّ علل هذا التصحيح بقوله: وكان أبو إسحاق واسع الرواية.
إذن فسَعَة رواية الراوي من مبرِّرات تصحيح الوجهين عنه، وعدم وصف روايته بالاضطراب، أو تخطئة الرواة عنه.
أحيانا يُصحَّح الوجهان لمزيدِ وصف في الرواة الذين يروون عن هذا الشيخ واسع الرواية، مثل الرواية التي تقدمت، فسفيان بن عيينة، ويونس بن يزيد، ومَعْمر، هؤلاء كلهم من الأثبات في الزهري، هؤلاء أثبات في الزهري، فإذا كانوا من الأثبات في الزهري، وكان شيخهم واسع الرواية، هذا أيضا مما يزيد تبرير تصحيح الوجهين عنهما.(1/219)
وأيضا تصحَّح الرواية على الوجهين إذا اختُلف على الراوي، أو ذُكر الحديث عن الراوي على وجهين منفصلين، ثم ذكره راوٍ آخر، أو ذكر هذين الوجهين مجموعين معا، وهذا كما في الحديث الذي تقدم -حديث الفاتحة- هذا يرويه سفيان عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة، ويرويه مالك عن العلاء عن السائب عن أبي هريرة، هذا يرويه على وجه، ومالك يرويه على وجه.
فجاءت رواية عبد الله بن أبي أويس خارج الصحيح، وقد قَرَن عبد الله بين الاثنين، يعني: رواه عن العلاء عن أبيه، وعن السائب عن أبي هريرة، فهذه الرواية الثالثة تبين أن الروايتين المتقدمتين كلاهما صحيح، أو كلتاهما صحيح، لم يخطئ فيها أحد من الرواة، ولهذا صحَّح أبو زُرعة -رحمه الله- الوجهين، وصححه مسلم كما في الصحيح، فالشاهد أن الوجهين قد يصحَّحان أحيانا وليس مطلقا.
وهنا قاعدة مهمة ينبغي ملاحظتها عند الحكم على الأحاديث، وهو أن إنكار رواية الوجهين غلط، إنكار رواية الوجهين مطلقا غلط، كما أن تصحيح الحديث على الوجهين مطلقا غير صحيح، يعني: غير جارٍ على عمل أهل الحديث.
فليس كل راوٍ يروي الحديث على وجهين يُصحح، يقال: هذان الوجهان صحيحان كما يصنعه الفقهاء، لا، هذا على اصطلاح المحدثين غلط؛ ولهذا يُعِلُّون أحاديث كثيرة.
وكذلك إن إنكار أن يكون الراوي سمع الحديث على الوجهين، ويرويه على الوجهين دائما، كما يصنعه بعض الناس كلما رأى اختلافا على الراوي غلَّط أحد الوجهين ولم يصحح الوجهين، وعن هذا أيضا غلط؛ لأن الراوي قد يحدث بهذا الحديث على هذا الوجه، ثم يسمعه على وجه آخر.
وهذا أقرب مثال له: عبد الله بن أحمد في المسند في بعض الأحاديث يقول: حدثني أبي عن عبد الرحمن بن مهدي، ثم سمعته مرة أخرى من ابن مهدي، فلو روى راوٍ عن عبد الله بن أحمد عن أبيه عن ابن مهدي، ثم جاء آخر فرواه عن عبد الله عن ابن مهدي، هذا لا يقال خطأ؛ لأن عبد الله بن أحمد ثبت أنه يروي هكذا وهكذا.(1/220)
فإذا كان هذا معروفا عند أهل الحديث: الرواية مرة يرويه مباشرة، ومرة بواسطة، وإذا كان الراوي أحيانا يقع الحديث له عن شيخين فأكثر، إذا كان هذا واقع عند أهل الحديث، فلا يحكم دائما على كل حديث حصل فيه مثل هذا الاختلاف بأنه غلط.
إذن فإنكار رواية الراوي ذات الوجهين مطلقا غلط، كما أن تصحيح الوجهين مطلقا غلط، يعني: كلاهما على هذه الحالة ليس جاريا على اصطلاح أهل الحديث، وعمل أهل الحديث يبين هذا. نعم.
ومن أمثلة اختلاف الحافظَيْن: أن يسمي أحدهما في الإسناد ثقة.
يعني ومن أمثلة اختلاف الحافظَيْن، إذا اختلف عندنا حافظان بشرط ألا يمكن الترجيح، أن يكون الترجيح متعذرا، لا بد أن يقيَّد هذا بأن الترجيح متعذر، لكن لو رجَّحنا إحدى الروايتين على الأخرى بواحد من المرجِّحات المعروفة فإنه حينئذ لا يرد مثل هذا الكلام، إذن هذا يقيد، هذا الكلام يقيد. نعم.
ويبدله الآخر بثقة آخر، أو يقول أحدهما: عن رجل، ويقول الآخر: عن فلان، فيسمي ذلك المبهم، فهذا لا يضر في الصحة .
هذا إذا وقع في الإسناد أحد الرواة الثقات قال: حدثني فلان عن رجل، وقال الآخر: حدثني فلان عن فلان، وسمَّاه وهو ثقة، فإن كلمة رجل ها هنا ننظر فيها، ما يقال -وقد سُمِّي هذا المبهم في رواية أخرى- ويحكم بالتصحيح لا، يقال: يُنظر في هذا القائل.
إذا كان القائل هو الأوثق -القائل هو الرجل- فتصحح روايته، وتصير الرواية التي فيها هذا المسمَّى غلطا، فيكون الحديث فيه راوٍ مبهم، ولو سُمِّي في رواية أخرى إذا كان راوي الحديث الذي فيه الراوي المسمى أقل حفظا من الراوي الذي روى الرواية فيها الراوي المبهَم أو المجهول.
وأما إذا كان الراوي الذي روى الرواية التي فيها الراوي مسمَّى هو الأحفظ فهذا تقدم روايته.(1/221)
وأما إذا استوى الحافظان، كان أحدهما يرويه عن رجل، والآخر يرويه عن ثقة مسمى، فإنه حينئذ يؤخذ بالزيادة، أو بالبيان الذي جاء في حديث الرجل الآخر، فيحمل المبهم هذا على الراوي المسمى في الرواية الأخرى.
وأما حمل هذا على هذا مطلقا فهذا خطأ، دائما خطأ، إنما يحمل أو تكون الرواية التي يسمى فيها الراوي مبينة للرواية الأخرى إذا كان راويها أحفظ، أو استوى الإسنادان: الإسناد الذي فيه الراوي المبهم، والإسناد الذي فيه الراوي المسمى، وتقدم لنا فيما سبق شيء من ذلك، وهو حديث جبير بن مطعم في نزول الله تعالى. نعم.
اختلاف الجماعة في إسناد الحديث
إذا اختلف جماعة فيه، وأتوا به على أقوال عدة، فهذا يوهن الحديث، ويدل على أن راويه لم يتقنه .
هذا هو الحديث المضطرب، ما سبق إنما هو متعلق بالعلة، وهذا هو الحديث المضطرب، والاضطراب -كما سبق- نوع من العلة، فإذا روي الحديث على أوجه مختلفة، تعذر معها الترجيح، فإنه يُحكم على هذه الرواية بالاضطراب كما في حديث: " من ترك الكذب بُني له بيت في ربض الجنة " .
فهذا الحديث يرويه سلمة بن وردان عن أنس بن مالك، ويرويه أيضا مرة أخرى عن مالك بن أوس بن الحَدَثان، فالراويان عنه ثقتان، الراويان عنه هذين الوجهين ثقتان، لا يمكن أن يُحمل الخطأ على أحدهما.
لا يمكن أن نحمل الخطأ على أحدهما، فمحمد بن أبي فديك يرويه عن سلمة بن وردان عن أنس، وأنس بن عياض يرويه عن سلمة بن وردان عن مالك بن أوس بن الحدثان.(1/222)
فهذا -سلمة بن وردان- اضطرب في هذا الحديث، فأنس وابن أبي فديك ثقات، تعذر الترجيح بين الروايتين، وبخاصة أن سلمة بن وردان ضعيف، فيُحمّل هو الخطأ؛ لأن قاعدة أهل الحديث أن الخطأ في الرواية يُحمَّل على أضعف من في الإسناد، فسلمة في حفظه شيء وفيه ضعف؛ فلذلك يكون اضطرب في هذا الحديث، فلا ندري الآن أيهما أصح هذا أو هذا؟ لا ندري أي روايتيه أصح، أما إذا كان الراوي ثقة -يعني شيخهما ثقة-، ويُروى عنه على أوجه، تعذر الترجيح، فهو أيضا يعتبر مضطربا. نعم.
نعم لو حدث به على ثلاثة أوجه ترجع إلى وجه واحد فهذا ليس بمعتل كأن يقول مالك: عن الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة. ويقول عقيل: عن الزهري عن أبي سلمة. ويرويه ابن عيينة عن الزهري عن سعيد وأبي سلمة معا .
هذا تقدم مثالة في قراءة الفاتحة الذي سبق، وأبو حاتم -رحمه الله- لما سُئل في العلل عن حديث اختلف فيه على الراوي، فرواه مالك وسفيان عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة، ورواه سليمان بن كثير عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: كلاهما صحيح.
ثم علّل هذا التصحيح للوجهين بقوله: وعقيل يرويه عن الزهري عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة عن أبي هريرة، فقوله: "وعقيل" هذا تعليل لتصحيح الوجهين، فدلَّ على أن الحديث إذا كان مرويا عن الراوي على وجهين، ثم جاءت رواية أخرى تجمع بين الوجهين، فيكون هذا الحديث صحيحا عن هذا الراوي على الوجهين، وأنه لم يقع خطأ في الوجهين، لم يقع خطأ في أحد الوجهين؛ فلا يعلل أحدهما بالآخر. نعم.
طيب، قبل الشروع في الحديث المدرج، هو الحديث المعل، يعني: من أهم أنواع علوم الاصطلاح وأدقها، وهو شامل لأنواع كثيرة من علوم مصطلح الحديث، ومن الأنواع الدقيقة بالذات فيه، فرواية المدلس إذا روى الحديث عن شيخٍ، ثم اكتشفنا أنه قد دلس -وبخاصة في تدليس التسوية- يكون ما دلسه معلَّا، وكذلك الحديث الشاذ تكون الرواية شاذة معلة.(1/223)
وكذلك في المنكر، الرواية المنكرة معلة، وفي الاضطراب يكون هناك تعليل، وهذا التعليل أحيانا -يكون إعلال الحديث أحيانا- يكون في دائرة الحديث نفسه، بمعنى أن في حديث واحد يمكن لنا بجمع طُرقه أن نكتشف الخطأ الذي يقع فيه، وأحيانا لا يمكن أن نطلع على العلة من خلال الحديث نفسه، بل تكون أسانيده صحيحة ثابتة، وإنما تعرف هذه العلة من أمر خارج عن الحديث نفسه.
وهذه الأمور الخارجة ذكرها العلماء متناثرة، ومنها أن يكون متن الحديث مخالفا للقرآن وإن صح السند، وهذا كما في حديث أبي هريرة الذي في مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " خلق الله التربة يوم السبت، ووضع الجبال فيها يوم الأحد.. " إلى أن قال: " وخلق آدم في آخر العصر من يوم الجمعة " .
فإذا حسبت من السبت إلى الجمعة سبعة أيام، الخلق تم في سبعة أيام، والله تعالى يقول: { إِن رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } (1) هذا مخالف للقرآن وإن صح إسناده؛ ولهذا الإمام البخاري -رحمه الله- وغيره من الحفاظ ينكرون هذا الحديث لكونه مخالفا للقرآن، وإلا سنده صحيح، لكن لكونه مخالفا للقرآن أنكره البخاري وغيره.
إذن فلا يلزم من صحة السند أن يكون المتن صحيحا، أو لا يلزم من أننا لا نطلع على إعلال الحديث -من الحديث ذاته أو من طرق الحديث- ألا يكون الحديث معلا بأمر خارج، فهنا أُعلَّ بالقرآن.
أحيانا يكون متن الحديث عندنا ظاهره أنه ثابت، ولكن تأتي نصوص أخرى من السنة تعل متن هذا الحديث، وهذا كما في حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه: " إذا انتصف شعبان فلا تصوموا " .
__________
(1) - سورة الأعراف آية : 54.(1/224)
هذا الحديث يصححه الحاكم وغيره على شرط مسلم، وصححه جماعة من العلماء، لكن التصحيح غلط؛ لأن هذا الحديث يخالف الأحاديث الأخرى، يخالف حديث أبي هريرة إذا تقدم رمضان بصوم يومين، يخالف حديث عمران بن حصين: " هل صمت من سرر هذا الشهر؟ " يخالف حديث عائشة وابن عباس: " أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم أكثر شعبان " .
فهذا الحديث لمخالفته هذه الأحاديث أعله الأئمة الكبار: ابن معين وابن مهدي والأثرم وغيرهم أعلوا هذا الحديث؛ لأن متنه منكر يخالف الأحاديث الأخرى، ونص الإمام أحمد -رحمه الله- في مسائل أبي داود على أن هذا الحديث منكر لمخالفته الأحاديث الأخرى.
فمثل هذا الحديث -لو اطلعنا على إسناده- هذا من الأحاديث التي ذَكَر المؤلف إمَّا أن تكون من أنزَل درجات الصحيح، أو على درجات الحسن، ويصححه بعضهم على شرط الإمام مسلم؛ لأن هذه النسخة موجودة في مسلم، لكن لكونه يعارض الأحاديث الأخرى في متنه فقد حكم الأئمة الكبار عليه بأنه حديث منكر وإن صح إسناده.
ولهذا الإمام مسلم كان يخرِّج أو خرَّج لهذه النسخة -نسخة العلاء- خرج كثيرا منها في الصحيح، لكن لما جاء عند هذا الحديث لم يخرج هذا الحديث، وهو موجود في هذه النسخة، والظاهر -والله أعلم- لعلمه بأن متنه منكر.
أحيانا يعِلُّ العلماء الحديث لأنه ثبت عن الراوي خلافه، ثبت عن الراوي خلاف هذا الحديث، يعني: يكون حكم الراوي مخالفا، أو رأي الراوي الصحابي مخالفا لهذا الحديث؛ لأنهم يقولون: إن الراوي لا يمكن أن يروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة الصحابة لأنهم لا يظن بهم إلا الخير؛ لا يروي هذا الحديث ثم يخالفه، ثم يقع منه مخالفة، وخاصة إذا كانت على سبيل الإفتاء أو الإخبار، ليست على سبيل العمل.(1/225)
وهذا استعمله الإمام مسلم -رحمه الله- في كتابه التمييز، جاء لحديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في إثبات المسح على الخفين، فأنكر هذا الحديث، وذكر أنه حديث لا يصح، وهذا -عدم تصحيحه- لأن أبا هريرة -رضي الله تعالى عنه- ثبت عنه أنه كان ينكر المسح على الخفين، فكيف ينكر المسح على الخفين وهو يروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه مسح على الخفين؟ هذا لا يكون من أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه-.
ولهذا حكم الإمام مسلم على أن الحديث الذي فيه إثبات المسح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - رواية أبي هريرة حكم عليها أنها غلط، لكن هذا -والله أعلم- أن رواية الراوي، رأي الراوي يقدم على روايته، أو تُعارَض به روايته إذا اجتمع فيه شرطان:
الشرط الأول: أن يكون المنقول من رأيه أقوى من المنقول عنه للرواية، يعني: إذا كان إسناد ما نُقِل عنه من رأيه أصح فإنه يقدم، وأما إذا كان ما نُقل عنه من روايته هو أصح فإنه يقدم أيضا، يقدم من روايته إذا كان هو الأصح إسنادا هذا شرط.
والشرط الثاني: ألا يمكن الجمع بين الرواية والرأي، فإذا أمكن الجمع بين الرواية والرأي بوجه صحيح فإنه لا يحكم على حديثه بالنكارة، ولا على رأيه -أو على ما نقل عن رأيه- بالغلط.
إذن فهذا ينبغي -والله أعلم- أن يقيد بهذين الشرطين، أن يقيد هذا الأمر بهذين الشرطين.
وأيضا مما يُعَلُّ به الحديث من أمر خارج: إجماع العلماء على خِلاف الحديث، فإذا أجْمَع العلماء، أو ذكر بعض العلماء أن الإجماع إذا انعقد على خلاف حديث، فهذا دليل على أن الحديث معل، دليل على إعلال الحديث، وإلى هذه الساعة لم أر حديثا ثبت وصح إسناده ولم يقل به أحد من العلماء، أو العلماء مجمعون على خلافه، وإنما هناك أحاديث ضعيفة في أصلها انعقد الإجماع على خلافها، لكن انعقاد الإجماع على خلافها هذا ممَّا يزيدها ضعفا إلى ضعفها.(1/226)
وتقدم لنا حديث محمد بن إسحاق، عن ابن أبي هند، عن رجل، عن أبيه في قصة: أن "مَن أدرك عَرَفة قبل طلوع الشمس فقد أدرك الحج" ، ذكرنا هناك أن الإمام مسلم -رحمه الله- أعل هذا الحديث أولا بأنه يخالف أحاديث ثابتة أن إدراك الوقوف بعرفة لا يكون بعد طلوع الفجر، إنما يكون قبل طلوع الفجر، وذكر الإمام مسلم أن العلماء وأهل الآثار وأئمة الفقهاء مجمعون على خلافه؛ فهذا يزيده نكارة مع نكارته، وشذوذا إلى شذوذه .
ومثله أيضا الحديث الذي يروى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأم سلمة: "تسلبي ثلاثا ثم اصنعي ما بدا لك" يعني: في إحدادها أنها تحد على زوجها ثلاثا كسائر القريبات، ثم بعد ذلك تصنع ما شاءت، يعني تخرج من الحداد، فهذا الحديث مخالف للأحاديث الأخرى الصحيحة الثابتة من أحاديث سبيعة، مخالف لنص القرآن الكريم قبل ذلك، وأيضا ذكر العلماء أن العلماء مجمعون على خلافه، فهذا يزيده ضعفا إلى ضعفه، ونكارة إلى نكارته؛ ولهذا قال الإمام أحمد: هذا حديث شاذ مطَّرح.
فالشاهد أن بعض العلماء يقول: إن إجماع أئمة العلماء على خلاف حديث هذا يُعل هذا الحديث، لكن -كما سبق- ليس هناك حديث ثبت إسناده، وأجمع العلماء على خلافه إجماعا لا خلاف فيه مطلقا؛ ولهذا الإمام الترمذي لما ذكر أن هناك حديثين، أو ذكر أن كل ما أخرجه في سننه هو معمول به عند الفقهاء إلا حديثين، فإن الفقهاء لم يعملوا بهما، ذكر الحافظ ابن رجب في أول شرح العلل من عمل بهما من الفقهاء.
ولهذا ابن القيم -رحمه الله- في آخِر كتابِه الروح ذكر أنه ما من حديث صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا وقد عَمِل به عامل، لكن قد يصل إلينا هذا العالم، يعني: قد يصل إلينا عمل هذا العالم بهذا الحديث وقد لا يصل، والشاهد أنه، الظاهر أنه لا يثبت حديث وقد أجمع العلماء على خلافه، وإنما يجمع العلماء غالبا على خلاف أحاديث هي في أصلها ضعيفة، فإجماعهم يزيدها وهنا إلى وهنها.(1/227)
أيضا مما يعل به الحديث من أمر خارج: ألا يكون الحديث في كتاب الراوي، يعني: إذا كان الراوي له كتاب مشهور عند الناس، كسعيد بن أبي عروبة، كان من أول مَن صنف، ثم جاءنا راوٍ فروى حديثا لم نجده في كتاب ابن أبي عروبة، هذا نحكم عليه بأنه هذا حديث مُعَلٌّ.
وقد أعل ابن أبي حاتم حديثا وقال: ليس في كتب -أو ليس في كتاب- ابن أبي عروبة، وهذا -طبعا- الأخير له تعلُّق بالإسناد، ويمكن إلحاقه بمخالفة الثقة لمَن هو أوثق، أو الضعيف لمن هو أوثق؛ لأن كتاب سعيد بن أبي عروبة قد روي عنه واشتهر، فاشتهاره عن ابن أبي عروبة يُنزَّل منزلة رواية الثقات عنه لهذا الكتاب، هذه أهم مباحث الحديث المعل والمضطرب.
الحديث المضطرب إذا جاء له شاهد فلا يرقِّيه، إذا جاء له شاهد ما يرقَّى المضطرب، ما يرقى لأننا إذا رقيناه -يعني- معناه قد صححنا أحد الوجوه، ونحن لا ندري أي الوجوه أصح؟
وكذلك الحديث المعل أيضا، ثبت العلة، فالطرف الذي تثبت فيه العلة هذا أيضا لا يُرَقِّى غيره، ولا يُرَقِّيه غيره؛ لأن هذه الرواية المعلة خطأ، لأن هذه الرواية المعلة تعتبر غلطا.
لكن في المضطرب إذا كان الحديث يروى على أوجه مختلفة، وليس فيها راوٍ ضعيف -يعني ضعيف جدا-، أو راوٍ مجهول، أو راوٍ -يعني- فيه جهالة عين ظاهرة، فإن بعض أهل العلم يُرقِّيه؛ لأنه لو أخذنا بأضعف الاحتمالات، وهو وجود الراوي الضعيف أو مجهول مثلا، الحال في إسناده لو أخذناه فإنه يعتبر من الأحاديث الضعاف التي ترقَّى، فإذا جمعتها مع الحديث الآخر ترقى. والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
الحديث المدرج
تعريف الحديث المدرج
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال الإمام الذهبي -رحمه الله تعالى-:(1/228)
المُدرج هي ألفاظ تقع من بعض الرواة متصلة بالمتن، لا يبين للسامع، إلا أنها من صلب الحديث، ويدل دليل على أنها من لفظ الراوي بأن يأتي الحديث من بعض الطرق بعبارة تفصل هذا من هذا .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
هذا النوع من الحديث مما يتعلق بالإدراج في المتن، والإدراج في المتن نوع من أنواع العلة في الحديث، لا يكتشف إلا بعد النظر في متونه وجمع طرقه.
وعرَّف المؤلف هذا النوع بتعريف بيَّن فيه أن الإدراج عبارة عن ألفاظ، وهذه الألفاظ هي الأقوال، فدل ذلك على أن الإدراج لا يكون في الأفعال، إنما هو خاص بالأقوال، ثم ذكر أن هذه الألفاظ يضيفها بعض الرواة.
والرواة ها هنا يشمل الصحابي فمن دونه، فإذا أضاف الصحابي قولا له، أو أضيف إلى الحديث شيء من قول الصحابي، أضيف إلى الحديث المرفوع شيء من قول الصحابي فهو مدرج، وإن أضيف إلى الحديث شيء من قول التابعي فهو مُدْرَج، وإن أضيف شيء من قول أتباع التابعين إلى الحديث فهو مُدْرَج، وكذلك لو أضيف شيء من قول التابعي إلى قول الصحابي، أو من قول أتباع التابعين إلى قول التابعي.
فهذا كله يعتبر من الإدراج الذي يضيفه بعض الرواة، والإدراج من بعض الرواة -كما سلف- يشمل الصحابي فمَن دونه فمثلا.
والإدراج من بعض الرواة -كما سلف- يشمل الصحابي فمن دونه، فمثلا: حديث أبي هريرة: " من كان مصليا منكم بعد الجمعة فليصل أربعًا، فإن كان له شغل صلى في بيته ركعتين، وفي المسجد ركعتين " .(1/229)
هذا الحديث إذا نظر إليه الناظر، ظنَّ أنه من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - كله، بينما التابعي أدرج في هذا الحديث، التابعي الذي هو أبو صالح عن أبي هريرة، أدرج في هذا الحديث، أو تبين ليس هو المدرِج، وإنما أدرج بعض الرواة، لكن تبين أن قوله: " فإن كان له شغل صلى " أن هذا من كلام أبي صالح، فهذا من الكلام المدرج من بعض الرواة، الذي هو التابعي، إلى كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - .
ومثله حديث الزهري عن أنس - رضي الله عنه - " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دَخَل مكة وعلى رأسه المِغْفَر، وهو غير محرم، فقيل له: إن ابن خطل المتعلق بأستار الكعبة. فقال: اقتلوه "
فقوله: " وهو غير محرم " هذا إدراج في وسط المتن، وهذه الكلمة إنما هي من كلام الزهري، أو من كلام مالك بن أنس الراوي عن الزهري، فهو إدراج من كلام التابعي، أو من كلام تابع التابعي، وهذا إدراج في وسط المتن، حديث أبي صالح الذي تقدم: إدراج في آخر المتن، ومثله -أيضًا- الصحابي: إذا أدرج من كلامه شيئا في كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا ستأتي أمثلته -إن شاء الله- في بعض ما يأتي.
فالشاهد أن: بعض رواة هذه الكلمة، تشمل الصحابي فمن دونه، فإذا أُضيف شيء ليس من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المرفوع -فهذا يسمى مدرَجًا، وإذا أُضيف إلى الموقوف ما ليس من كلام الصحابي -فهو يسمى مدرَجًا، وكل من أُضيف على كلامه كلام، ليس من كلامه-فيعتبر إدراجًا في كلامه.
وقوله: "متصلة بالمتن". هذا قوله: "متصلة"، سواءً كان هذا الاتصال في أول الحديث، أو في وسطه، أو في آخره. وقوله: "متصلة بالمتن". المتن هذا -أيضًا- يشمل الموقوف والمرفوع، فإذا أُضيف إلى المرفوع شيء سُمِّي المضاف إدراجًا، وإذا أضيف إلى الموقوف شيء سمي المضاف مدرَجًا.(1/230)
فمثلًا: حديثُ عائشة -رضي الله عنها- أنها كانت قالت: " يكون علَيَّ أيامٌ من رمضان فلا أقضيها إلا في شعبان؛ للشغل برسول الله - صلى الله عليه وسلم - "
هذا كلام عائشة -رضي الله تعالى عنها- موقوف.
فقولها أو ما ورد في هذا الأثر، "للشغل برسول الله -صلى الله عليه وسلم-". هذا ليس من كلام عائشة وإنما هو مدرَج، وإنما هو من كلام يحيي بن سعيد الأنصاري، إن هذا الحديث جاء من رواية -يعني متصلًا بالإدراج من رواية- زهير عن يحيي بن سعيد، عن أبي سلمه عن عائشة -رضي الله عنها-، لكن بينت رواية ابن جريج عن يحيي بن سعيد، أن هذا من كلام يحيي بن سعيد؛ لأنه جاء في الحديث: قال يحيي بن سعيد: "فما ظننت إلا أن ذلك لمكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها".
فهذا إدراج على كلام عائشة، وسمَّاه العلماء مدرَجًا، كما سمَّوا ما أُدْرِج على كلام النبي -صلى الله عليه سلم- مدرجًا، وقد يأتي -أيضًا- ذلك حتى في غير الموقوف على الصحابة، بل على مَن دونهم، وهذا كما في كتاب عمر بن عبد العزيز، لما كتب إلى أبي بكر بن حزم: يأمره بأن يكتب حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ وقال: "خشيت من دروس العلم وذهاب العلماء". الإمام البخاري - رحمه الله - ذكر هذا الكلام ثم أدرج، أو قال كلامًا من نفسه مدرجا: "ولا تنقل إلا حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولتفتشوا العلم، ولتجلسوا حتى يعلم مَن لا يعلم".
فقوله: "ولا تنقل إلا حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-". هذا ليس من كلام عمر بن عبد العزيز، وإنما هو مدرج من كلام البخاري -رحمه الله- على كلام عمر بن عبد العزيز، قد بين هذا الإدراج الإسماعيلي في مستخرجه، والبخاري في...، وابن حجر في "تغليق التعليق".(1/231)
ذكروا: "أن هذا من كلام البخاري"، فهو إدراج على كلام عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - وليس هو صحابيًّا، فدل ذلك على أن الإدراج يشمل الجميع. وقوله: "لا يبين إلا أنها من صلب الحديث". هذا يدل على شدَّة اتصال اللفظة المدرجة بالحديث، على معنى أن النَّاظر في هذا الحديث، يظن أنه مرفوع، وهذا الظن، أو هذا النظر، أو هذا الحكم إنما هو ابتداءً، إذا نَظَر إلى الحديث ابتداء ظن أنه كله حديث واحد، بينما هو فيه شيء من كلامه - صلى الله عليه وسلم - أو من كلام الصحابي أو من دونه، وشيء من كلام الراوي.
ثم ذكر المؤلف -رحمه الله - ما يُستدل به على الإدراج، أو ما يعرف به الإدراج، فذكر أمرًا واحدًا: وهو أن الحديث يأتي من طريق آخر، هذه الطريق الأخرى تفصل، أو فيها تفصيل بين المرفوع، أو بين ما هو من صلب المتن وبين ما هو مدرج فيه، وهذه الأكثر عند أهل العلم أنهم يستدلون بهذا: إذا جاء الحديث من طريق بحثوا عن طُرقه الأخرى، فتتبين لهم بعد البحث أن هذه الطريق، أو هذه اللفظة التي بذلك الطريق، إنما هي مدرجة.
هذا هو الأكثر في معرفة النوع المدرج، فمثلًا: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - " أسبغوا الوضوء، ويلٌ للأعقاب من النار " .
حديث أبي هريرة مرفوع عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " أسبغوا الوضوء؛ ويل للأعقاب من النار " وهذا الحديث الناظر فيه لأول وهلة، يظن أنه كله من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - لكن بعد تتبع العلماء لهذا الحديث، وجدوا أنه على شقَّين:
الشق الأول: هذا من كلام الصحابي، من كلام أبي هريرة -رضي الله عنه-الذي هو: " أسبغوا الوضوء " وقوله: " وويل للأعقاب من النار " هذا هو المرفوع، هذا هو المرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - .(1/232)
فأبو قَطَن وشَبَابة بن سوَّار، رويا هذا الحديث عن شعبة، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " أسبغوا الوضوء، ويل للأعقاب من النار " فلو لم يرد إلا من هذا الطريق -لكان مرفوعًا بجميعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لكن لما نظر في طرق الحديث تبين أن أصحاب شعبة وعامتهم، يروون هذا الحديث عن شعبة، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة، أنه قال -يعني أبا هريرة-: " أسبغوا الوضوء؛ فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ويل للأعقاب من النار " .
فهذه الرواية فصَلت ما كان مرفوعًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - عما كان من كلام الصحابي، فدل ذلك على أن قوله: " أسبغوا الوضوء " هذه مدرَجة من بعض الرواة، أضافوها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وليست مضافةً إليه من حديث أبي هريرة، ومثل هذا الوهم غالبا ما ينشأ، إذا كان الحديث، أو إذا كان المتن، أو جزء من المتن، هذا إذا كان واردًا في أحاديث أخرى مثل حديثنا هذا، حديث: " أسبغوا الوضوء " .
جاء فيه أو صح من حديث آخر غير حديث أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه -، لكن الإدراج إنما جاء في حديث أبي هريرة، فبعض الرواة قد يكن عنده ذلك الحديث، فيتوهم ويدخل عليه حديث في حديث آخر.
وأيضًا الإدراج يُعرف -كما ذكر العلماء- بأمر آخَر وهو: أن يكون هذا الكلام المذكور في متن الحديث من النبي - صلى الله عليه وسلم - يستحيل أن يقوله النبي - صلى الله عليه وسلم - أو يمتنع أن يقوله النبي-صلى الله عليه وسلم-، وهذا الامتناع مستفاد من نصوص الشريعة العامة، وأحواله - صلى الله عليه وسلم - فيمثلون لذلك بحديث أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " للعبد المملوك الصالح أجران، والذي نفسي بيده لولا الجهاد في سبيل الله، والحج، وبرُّ أمي، لوددت أن أموت وأنا مملوك " .(1/233)
فهذا الحديث ذكر العلماء أنه يمتنع أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قد قاله، يعني قد قال قوله: "والذي نفسي بيده..." إلى آخره، وهذا الامتناع جاء من جهتين:
الجهة الأولى: أن جهة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يُمكن أن يتمنى لنفسه أن يكون مملوكًا، وهو قد أكرمه الله -تعالى- بأعلى المنازل، وهي منزلة النبوة والرسالة.
والثاني: قوله في الحديث، جاء القول الثاني في الحديث: "بر أمي". وأم النبي - صلى الله عليه وسلم - قد توفيت وهو صغير، فصار قطعًا من لفظ الحديث، ليس هذا مسلم، أو ليس من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - فصار كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث: " للعبد المملوك الصالح أجران " أما قوله: "والذي نفسي بيده..." إلى آخره.
هذا إنما هو من كلام أبي هريرة، أدرجه بعض الرواة في هذا الحديث، على أن الحديث -أصلًا- يتبين من طرقه أن هذا الكلام ذكر...، جاء في بعض طرق الحديث، قال أبو هريرة: "والذي نفسي بيده". ففصل في بعض الطرق ورد هكذا، لكن هذا يعني: كل هذه الأشياء تجعل الإدراج مجزومًا به مقطوعًا به، ولو لم يرد في الطرق الأخرى أن أبا هريرة - رضي الله عنه - قال هذه المقولة.
ويمثلون لها-أيضًا- بحديث ابن مسعود: " الطيرة شرك، وما منا إلا، ولكن الله يذهبه بالتوكل " هذا إدراج في وسط المتن، وهو قوله: "ما منا إلا". يعني: وما منا إلا وله نصيب من الطيرة، أو يعتريه شيء من التطير. فهذه الكلمة قال العلماء: "هذه مدرجة جزمًا؛ لأنه يستحيل أن يضيف النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى نفسه شيئًا من الشرك؛ لأن في أول الحديث: " الطيرة شرك وما منا إلا " .
يعني: له نصيب أو شيء من هذه الطيرة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يستحيل أن يضيف النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى نفسه شيئًا من الشرك. قالوا: "فهذه اللفظة إنما هي من حديث...، من كلام ابن مسعود -رضي الله عنه-"، وهذا إدراج في وسط المتن.(1/234)
وأيضًا هذا الحديث، أصلًا هذه اللفظة جاءت في بعض طرق الحديث، وفي بعضها ليست فيه، وهذا مما يقوي الإدراج، وأيضًا من طرق، أو الطرق التي ذكرها العلماء لمعرفة الإدراج: أن ينص الصحابي على الإدراج.
وهذا مثل حديث ابن مسعود: " من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة، ومن مات يشرك به شيئًا دخل النار " فهكذا الحديث جاء في بعض رواياته مرفوعًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بأجمعه، لكنَّ الروايات الأخرى بيَّنت أن قوله: " مَن مات يشرك بالله شيئًا دخل النار " هذا هو كلامُ النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم قال ابن مسعود: " وأخرى أقولها ولم أسمعها من النبي - صلى الله عليه وسلم - مَن مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة " .
فاللفظة الثانية والجزء الثاني من الحديث، إنما هو من كلام ابن مسعود، وقد نص ابن مسعود على أنه من كلامه، فتبين بذلك أن رفع الحديث كلِّه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما هو إدراج من بعض الرواة في قوله: " من مات لا يشرك به شيئًا دخل الجنة " .
هذه هي الطرق التي ذكرها أهل العلم لمعرفة الإدراج، هذه هي الطرق التي ذكرها العلماء -رحمهم الله- لمعرفة الإدراج، والمؤلف ذكر واحدًا منها، وينبغي أن يطرح سؤال هنا:
ما الفرق بين الإدراج وزيادة الثقة؟ وما الفرق بين الشذوذ والنكارة والإدراج؟ وهذه الأمور لا بد من الربط بين موضوعات مصطلح الحديث بعضها مع بعض؛ لأن أحيانا يكون بينها اشتراك في بعض المواضع، وأحيانا يكون بينها اختلاف في بعض المواضع، فزيادة الثقة هي عبارة عن كلمة، أو جملة يضيفها الراوي إلى متن الحديث، وكلامنا الآن متعلق بالمتن، فهذه الزيادة من الراوي الثقة، ما الفرق بينها وبين الإدراج؟(1/235)
الإدراج هنا في المتن هو إضافة، الفرق بينهما أن: إذا تتبعنا روايات الحديث، فلم نجد فيه ما يفصل كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - عن غيره، لم نجد فيه ما يفصله عن غيره، فهذا يُسمَّى...، تأتي زيادة الثقة، أي ما في طرق الحديث ما يبين أن هذا من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - أو من كلام غيره، وكان كله جزءًا واحدًا، وفي بعض طرقه زيادة في اللفظ، أوردها بعض الرواة، هنا تأتي -وكان هذا الراوي ثقة- هنا تأتي زيادة الثقة، أما إذا تبين أنها من كلام بعض الرواة، فهنا يأتي الإدراج.
إذن إذا صارت الكلمة ليس عليها دليل يبين أنها مدرجة، وكان الراوي ثقة -فهذه زيادة ثقة، وإذا دل الدليل علي أنها متدرجة -انتفت زيادة الثقة، وأما الإدراج مع الشذوذ والنَّكارة فنقول: "إن الحديث إذا كان يرويه جماعة من الحفَّاظ، فجاء أحد الرواة بلفظةٍ -وكان هذا الراوي ضعيفًا- فهذه اللفظة: إما أن تكون مدرجة ونعلم إدراجها بتتبُّع طرق الحديث -كما سبق- يعني: إذا تبين لنا أنها بطرق الحديث: أن هذا كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا الكلام غيره، فهنا يأتي الإدراج من هذا الراوي الضعيف، فإذا لم نقف على دليل يدل على الإدراج -فيكون هذا الراوي بهذه الزيادة، أو تكون رواية، هذا الراوي الضعيف بهذه الزيادة شاذَّة أو منكَرة، كما سبق معنا في الشاذ والمنكر". نعم.
قلة إدراج الحديث في وسط المتن
وهذا طريق ظني، فإن ضعف توقفنا أو رجحنا إنها من المدح، ويبعد الإدراج في وسط المتن، كما لو قال: "من مس أنثييه وذكره فليتوضأ" .
يعني: أن هذه الطريقة التي أوردها المؤلف في معرفة الإدراج، وهو أن يأتي الحديث من رواية راوٍ آخر ليس فيه، أو يفصل المدرج، أو اللفظة المدرجة عن غيرها، هذا يقول المؤلف: "هو دليل ظني وليس قطعيًّا".(1/236)
وهذا الدليل الظني: تارة يكون ظاهر الرجحان، كما إذا تكاثر الرواة على الفصل بين اللفظة المدرجة والمتن، كلهم يرويها بالفصل بين هذه وهذه، ثم جاءنا راوٍ -ولو كان ثِقَة- فرواها متصلة بالمتن، فهنا جانب الثقات يغلَّب ، وجانب الظن يَقْوَى، وأحيانا يتردَّد الناظر بينهما لتقاربِ الطرفين، قد تكون مدرجة وقد تكون غير مدرجة، استواء أو تقارب رواة الإدراج، وترك الإدراج في الحفظ، وتارة يترجح أنها من المتن، تارة تترجح أنها من المتن لكون مثلًا: من فصل أضعف، من فصل بين الإدراج والحديث، كونه أضعف ممن رواه متصلًا بالمتن، فحينئذٍ يقوى جانب... أو يضعف جانب الإدراج، فحينئذٍ يضعف جانب الإدراج، لكن يظهر من كلام المؤلف: أنه إذا استوى الطرفان بعضهم يرويها بالإدراج، وبعضهم يرويها بغير الإدراج، إذا استوى الطرفان فإننا نرجع إلى الأصل، وهو عدم الإدراج، فيكون الأصل مقويًّا للطرف الذي لم يفصل فيه الأدراج، أو مقويًا للطرف الذي ورد فيه هذه اللفظة، أو وردت فيه هذه اللفظة متصلة بالمتن.
وذكر المؤلف: "إن الإدراج إذا كان في وسط المتن، وفي أثنائه فهذا استخراجه فيه نوع عسر، بخلاف ما إذا كان في أوله أو في آخره، فإن الأمر فيه أيسر"، ومثل على ذلك بحديث بُسرة بن صفوان: " من مس ذكره وأنثييه فليتوضأ " وفي رواية: " من مس ذكره وأنثييه ورُفْغيه " الرفغ: هي المغابل، فهذا اللفظ في حديث بسرة المشهور فيه: " من مس ذكره فليتوضأ " فقوله: "أنثييه" وزيادة "رُفغيه" في بعض الروايات، هذه إنما هي من كلام هشام بن عروة؛ لأن هذا الحديث يرويه جماعة كثيرون عن هشام بن عروة ،عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها.
وعن بسرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " من مسَّ ذكره فليتوضأ " فجاء عبد الحميد بن جعفر -فيه ضعف- فجاء بهذه اللفظة: " من مس ذكره وأنثييه " وفي رواية: " رفغيه فليتوضأ " .(1/237)
قال العلماء: "هنا أخطأ؛ لأنه الرواة يروونه: " من مس ذكره فليتوضأ " ثم جاء عن هشام بن عروة أنه قال -مِن قول هشام قال-: "وأنا أقول من مسَّ أنثييه ورفغيه فليتوضأ". فهو من كلام هشام رحمه الله.
فالشاهد أن المؤلِّف يذكر أن الكلمة إذا وردت أثناء، أو في وسط...، الكلمة المُدْرَجة إذا وردت في أثناء الحديث أو في وسطه -فإنه -يعني- يكون في استخراجها عُسْر أشد، مما لو كانت في أول المتن أو في آخره. نعم.
تصنيف الخطيب في الحديث المدرج
وقد صنف فيه الخطيب تصنيفا، و كثير منه غير مسلم له إدراجه .
هذا التصنيف هو كتاب مطبوع: "الفصل للوصل في المدرج من النقل". هذا الكتاب للخطيب البغدادي، العلماء منهم من يذكر أن فيه إعوازًا، ومنهم من يرى أنه قد بلغ -يعني- درجة رفيعة من الإتقان؛ ولهذا ابن الصلاح يقول: "قسمنا فيه وكفى، فشفى وكفى، أو فكفى وشفى".
فالشاهد أن هذا الكتاب على كلٍ، هو أول ما صنف في هذا النوع من أنواع مصطلح...، من أنواع... في هذه النوع وهو النوع المدرج، وفيه ما يزيد أو ما يقارب مائة وعشر حديثا، ذكر المؤلف أن فيها إدراجًا، وبين هذا الإدراج بالروايات الأخرى، ثم بعد ذلك تتابع العلماء في التصنيف، وبخاصة الحافظ ابن حجر، فإنه صنَّف كتابًا لم يبيضه، وزاد على الخطيب البغدادي، وحرَّر شيئًا مما ذكره الخطيب البغدادي وهذَّبه، ثم جاء السيوطي فاستفاد من كتابه المطبوع: "المَدرج إلى المُدرج" استفاد من الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في هذا الكتاب، مع شيء من التلخيص. نعم.
ألفاظ الأداء
معنى ألفاظ الأداء
قَالَ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-:"ألفاظ الأداء: كـ "حدثنا" و"سمعت" لما سمع من لفظ الشيخ، واصطلح على أن "حدثني" على ما سمعت منه وحدك، و"حدثنا" لما سمعته مع غيرك، وبعضهم سوَّغ "حدثنا" فيما قرأه على الشيخ.(1/238)
فهذه تسمى "صيغ الأداء" أو "صيغ التحديث"، هذه صيغ الأداء أو صيغ التحديث، فالراوي له حالان: حال تحمُّل وهو قراءته على الشيخ، أو إسماعه منه، أو روايته عنه بالإجازة، أو بالكتابة أو بالمناوَلة أو غيرها من... فهذه تسمى طرق التحمل، هذه الحالة تسمى طرق التحمل، يعني: الطريقة التي تحمل بها الحديث، التي تحملها قراءة على الشيخ، يعني: يقرأ على الشيخ في كتاب، أو سماعا من لفظ الشيخ، يعني: الشيخ يحدثه وهو يسمع ويكتب عن شيخه، أو إجازة: بأن يجيز الشيخ رواية مروياته، أو مناولة: بأن يعطيه الشيخ مروياته ويقول: "اروِ هذا عني" أو نحو ذلك، فهذه يعني هي أشهر طرق التحمُّل مع الكتابة، يكتب للشيخ سواءً هذا يحدثك بهذا الحديث، أو يحدثك بهذا الجزء، أو بهذا السماع أو نحو ذلك، فيسمي كتابة.
فالشاهد أن هذه الأشياء، المؤلف -طبعا- ما أورد الكتاب، لكن أورد هذه الأشياء الأربعة وهي: السماع والقراءة والإجازة والمناولة في ثنايا الكلام، فهذه الأشياء تسمى طرق التحمُّل، وهي الطرق التي تحمَّل الراوي من خلالها الحديث عن شيخه، هذه الطرق لها ألفاظ، فالسَّماع يعبَّر عنه حين التأدية، التي هي الحالة الثانية التأدية، يعبر في حال التأدية، أو في حال الأداء بألفاظ، هذه الألفاظ تعبر عن طريقة التحمل.(1/239)
فإذا قال الراوي: "حدثنا" فهذه تدل على أنه سمع من شيخه سماعا، وهذا السماع معه آخرون، ليس منفردًا بالشيخ، وإذا قال: "حدثني" معناه: أنه حدثه عن طريق السماع، يعني سمع من شيخه من لفظ شيخه، ثم إنه قد حدثه لوحده ليس معه غيره، وكذلك بالنسبة لـ"سمعت"، سمعت هذه تعبر عن السماع، وهي ظاهرة في السماع، هي ظاهرة جدًا في السماع ليست كحدثنا، فإنها ليست في الظهور مثل كلمة: "سمعت"، وإن كانت كلمة "حدثنا" -في الغالب- لا تُستعمل إلا فيما سُمع من لفظ الشيخ، وأيضا يعبر عن السماع بقوله: "أخبرنا" ولكن على قلة، هي أقل من حدثنا بكثير، وبعض أهل العلم لا يجيزها، يقول: "ما سمع لا يعبر عنه بـ"أخبرنا"، إنما يعبر عنه بـ"حدثنا"، أو بـ"حدثني"، أو بـ"سمعت". نعم.
من ألفاظ الأداء قوله أخبرنا
أما أخبرنا فصادقة على ما سمع من لفظ الشيخ، أو قرأه هو...
يعني: "أخبرنا" صادقةً لما سمعه من لفظ الشيخ، هذا عند طائفة من العلماء، فإذا سَمع من لفظ الشيخ جاز له أن يعبِّر عند بعض العلماء بقوله: "أخبرنا"، وكذلك هذه العبارة في أصلها، يعبر بها عند أكثر العلماء عما قرأه على الشيء، أو قُرِئ على الشيخ وهو حاضر، فإذا كانوا -مثلا- يقرءون على الإمام مالك، مثلا لو فرضنا:
قرأ عليه يحيي بن يحيي الليثي، كان يقرأ على الإمام مالك الموطأ، يحيي معه الموطأ والإمام مالك يستمع إليه القراءة، فالشيخ مالك والقارئ يحيي بن يحيي الليثي، فإذا كان هناك حضور غير يحيي -فهذا يعبر يحيي بقوله: "أخبرنا". فقوله: "أخبرنا" تعبر على القراءة على الشيخ؛ لأن الشيخ لم يحدِّد ويُسمع لفظه، وإنما يقرأ عليه فيقر كأنه يقال: "هذا الحديث ترويه". فيقول: "فإقراره كافٍ" فإذا أخطأ الراوي رد عليه، إذا أخطأ القارئ الذي يقرأ عليه كتابه رد عليه.(1/240)
فهنا "أخبرنا" تدل على القراءة، وتدل على أن هناك عددًا حاضرين مع القارئ، مع القارئ الذي هو يحيي بن يحيي الليثي، وأحيانًا يكون...، لو فرضنا أن يحيي مستمع وليس بقارئ، وأن القارئ أبو مصعب، فأبو مصعب إذا قرأ على مالك، وسمع يحيي بن يحيي الليثي -جاز ليحيي أن يقول:"أخبرنا". يعني: أخبرنا مالك، وإن لم يكن هو القارئ فنستفيد من قوله "أخبرنا مالك" يعني: نستفيد أن طريقة التحمل كانت عن طريق القراءة والعرض، كلاهما بمعنًى واحد، وأن هناك حضورا، قد يكون هذا هو القارئ، وقد يكون غيره القارئ، لكن الشيخ لم يسمع لفظه أو لم يتكلم.
وإذا قال: "أخبرني" فهذه يكون قد قرأ على الشيخ وحده، فإذا قرأ يحيي بن يحيي على مالك، وليس هناك حضور فإنه يعبر عنه بقوله: "أخبرني"، فأخبرني ها هنا تدل على أن طريقة التحمل كانت عرضًا أو قراءة، وأن هذا المتحمل أو هذا الراوي كان قد قرأ على الشيخ وحده، ولم يكن هناك حضور، هذا يعني في الغالب. نعم.
وأما "أخبرنا" فصادقة على ما سمع من لفظ الشيخ، أو قرأه هو أو قرأه آخر على الشيخ وهو يسمع، فلفظ الإخبار أعم من التحديث، و"أخبرني" للمنفرد .
يعني: أن كلمة "حدثنا" هذه عند أكثر العلماء خاصة بالسماع، مما سمع من لفظ الشيخ، ولا تطلق على القراءة، فما كان عن طريق القراءة فلا يقال فيه "حدثنا"، وإنما يقال: "أخبرنا"، وما كان عن طريق السماع وعن طريق القراءة، فيعبر عنه بـ"أخبرنا"، و"أخبرنا" هذه حتى من حيث اللغة هي أعم من "حدثنا"، لا نقول: "لقد أخبرنا الله في كتابه".(1/241)
فقوله: "أخبرنا الله في كتابه"، هذه ليس سماعًا لكلام الله مباشرة، إنما هو سماع بواسطة جبريل، ثم بواسطة النبي - صلى الله عليه وسلم - فهناك واسطة بيننا وبين الله لم نسمعه، لم نسمع كلامه مشافهة؛ ولذلك نقول: "أخبرنا"، ولا نقول: "حدثنا"، وإنما نقول" "أخبرنا" فهي أعم،ُّ وقد نصَّ على هذا التفريق ابن قتيبة في كتابه: "المسائل والأجوبة" نصَّ على هذا التفريق، لكن هذا التفريق -أيضا- يعني كلمة "حدثنا" تطلق -أيضا- ولو لم نسمع شفاهًا، كما مر معنا في قصة الرجل الصالح الذي يقول للدجال:
"أنت الدجال الذي حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثه". وهذا الرجل الصالح في آخِر الزمان، لم يسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - شفاهًا، ولكن اصطلاح العلماء -في الأغلب- جارٍ على أن "حدثنا" للسماع، وأن "أخبرنا" جملة من العلماء شاملة للسماع، أو لم تحمل عن طريق السماع من لفظ الشيخ، أو من عن طريق القراءة عن الشيخ. نعم.
التسوية فيما تحمله الراوي عن طريق السماع
وسوى المحققون: كمالك والبخاري بين "حدثنا" و"أخبرنا" و"سمعت".
يعني: سووا بينها في السماع، سووا بينها إذا ما تحمل عن طريق السماع، لكن الذي تحمل فيه عن طريق القراءة ما يقال فيه سمعت؛ لأنك مثلا لو فرضنا: يحيي بن يحيي يقرأ على مالك، ثم جاء راوٍ وقال: "سمعت مالكًا" فهذا غلط؛ لأن الإمام مالكًا لم يسمع لفظه، وإنما قرأ عليه كتابه فأقرَّه، فلا يقل في القراءة: "سمعت مالكًا".
فقول المؤلف: "وسوَّى المحققون". هذا راجع إلى السماع، يعني: سوَّى المحققون فيما تحمله الراوي عن طريق السماع، بين "سمعت" و"حدثنا" و"أخبرنا"، وليس المراد: التسوية المطلقة الشاملة لنوعي التحمُّل والسَّماع والعرْض. نعم.
ما تحمل بالإجازة ثم عبر عنه بأخبرنا
وأما "أنبأنا" و"أنا" فكذلك...(1/242)
"فأما أنبأنا و"أنا""، هذه "أنا" هي "أخبرنا"، ولكن العلماء يختصرون فـ"أنا" الاختصار لأخبرنا، كما أنهم يختصرونها في بعض الأحيان على قلة "أرنا"، وكما يختصرون حدثنا بـ "ثنا"، و"نا" كلمة "نا"، أو أحيانًا يقولون: "ثنا"، وعلى قلة يقولون: "دثنا" بدون الحاء، قلة قليلة جدًا لكن الأكثر أن يكتبونها: إما "ثنا" ثاء نون ألف، أو نون ألف، يعني: "نا" أو "ثنا"، وهنا قال: "أنا"، يعني: أخبرنا، يعني: يعبر عما تعمل به الإجازة "أنبأنا" أو "أخبرنا"، أما "أنبأنا" فهي كانت تطلق حتى على ما تحمل عن طريق القراءة والسماع على قلة.
وجاء المتأخرون فاشتهرت هذه اللفظة، أو هذه الكلمة عما تُحمِّل عن طريق الإجازة؛ لأن الإجازة في المتأخرين كثرت جدًّا، وأما عن المتقدمين فكانت قليلة الإجازة، الأكثر: السماع والعرض. والإجازة والمناولة والكتابة كانت قليلة في المتقدمين، أما المتأخرون: فلكون الكتب قد اشتهرت وتناولها العلماء، فصاروا يهتمون بمسألة الإجازة، أو كانت أكثر الروايات بالإجازة، من باب الإبقاء على سلسلة الإسناد المتصلة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - .
فهذه العبارة: "أنبأنا"، عند المتأخرين يطلقونها -غالبا- فيما يتحملوه عن طريق الإجازة، وكلمة "أخبرنا" -أيضا- يطلقونها عما تحملوه عن طريق الإجازة غير أنها قليلة.
وبعض العلماء يرى أن ما تحمل بالإجازة، ثم عُبِّر عنه بأخبرنا، أن هذا من باب التدليس، أنه هذا من باب التدليس وخاصَّة في المتأخرين. نعم.
التعبير بالإنباء عن التحديث وعن الإخبار
لكنها غلبت في عرف المتأخرين على الإجازة وقوله تعالى: { قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) } (1) دال على التساوي، والحديث والخبر والنبأ مترادفات .
__________
(1) - سورة التحريم آية : 3.(1/243)
يعني أن هذه الآية في التحريم، أن معني قوله: قالت من أولها { وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ } (1) هنا نبأت { فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ } (2) فنبأها وأنبأت.
الإنباء: هو في لغة العرب يطلق على الإخبار والتحديث. فكان التعبير بالإنباء عن التحديث وعن الإخبار، يعني ليس فيه شيء، من جهة ما دلت عليه لغة العرب؛ لتساوي هذه الألفاظ في المعنى، فبأيها عُبِّر كان المعنى متساويًا. نعم.
إطلاق المغاربة لفظ أخبرنا على ما هو إجازة
وأما المغاربة فيطلقون "أخبرنا" على ما هو إجازة، حتى أن بعضهم يطلقون في الإجازة "حدثنا" .
إذن هذا الكلام -بعض المغاربة، ألفاظ بعض المغاربة- هذا يُشْكِل على الأول؛ لأن في الأول ذكر أن: "أنبأنا" و"أنا" يعني تطلق على ما تُحِمِّل عن طريق الإجازة. ثم تخصيص المغاربة "بأخبرنا"، هذا يُشْعِر -والله أعلم- أن قوله: "أنا" و"أخبرنا" أن هذه اللفظة يحتمل أن تكون مقحمة في الكلام، من النساخ في كلام المؤلف، وإن كان سبق لنا عند بيانها أن "أخبرنا" هذه تطلق قد أطلقها جمع من العلماء على "الإجازة" كما صنع ابن نعيم، ولكن سبق -أيضًا- قول قلنا:" إن هذا بعض العلماء يعده من باب التدليس"، يعني: يعده من باب التدليس في الصيغة، فالشاهد أن هذه الكلمة تُلْحَظ مع قوله في أول الكلام، تعبير بكلمة "أنا عن" ، وبـ"أخبرنا عن" الإجازة. نعم.
التعبير بأخبرني وحدثني مناولة
ومن الناس من عد "قال لنا" إجازة ومناولة، ومن التدليس أن يقول المحدث عن ...
__________
(1) - سورة التحريم آية : 3.
(2) - سورة التحريم آية : 3.(1/244)
يعني: أن ما تحمله الراوي عن طريق الإجازة والمناولة، يعبر فيه: "قال لنا"، لكن في المناولة والإجازة، أو في المناولة بالذات، يعني -غالبا- توجد التعبيرات: "حدثني مناولة"، "أخبرني مناولة"، "ناولني مسموعات" وهكذا.
فالشاهد قال: "قال لنا"، هذه تحتمل أن تكون من باب المناولة؛ لأن كلمة "قال" يعني ليست جزما بالسماع. نعم.
صورة من التدليس للدارقطني وأبو نعيم الأصبهاني
ومن التدليس أن يقول المحدث عن الشيخ الذي سمعه، في أماكن لم يسمعها، قُرِئ على فلان، أخبرك فلان، فربما فعل ذلك الدارقطني: قُرِأ على أبي القاسم البغوي .
يعني هذا سبق لنا أن من أقسام التدليس، أو التدليس يطلق على شيئين: أحدهما عن الشيخ الذي سمع منه ما لم يسمعه منه، فهنا الدارقطني مكثر عن البغوي، ولكن في بعض مجالس البغوي فاتته هذه المجالس، فلم يسمع من البغوي مباشرة، وإنما سمع بواسطة عن البغوي، فهذا الصنيع ما قال فيه الدارقطني عن البغوي -كما هي عادة مَن يدلس- ولم يقل: "حدثنا أو سمعت"؛ لأنه لو قال ذلك، وهو لم يسمع -لكان كاذبًا، ولكنه عبر بهذه الصيغة:"قُرِئ على أبي القاسم البغوي".
وهو صادق فيما قال "قُرِئَ على أبي القاسم البغوي"، وظاهر هذه اللفظة يدل على أن الدارقطني قد سمع، أو حضر القراءة على شيخه البغوي؛ لأنه معروف بالرواية عنه، وهذا يقول المؤلف: "يُعد من التدليس" يُعد من باب التدليس؛ لأن هذه اللفظة لفظة موهمة، ذكرنا في التدليس: أن التدليس يؤتى فيه بصيغة موهمة وليست نصًا. نعم.
وقال أبو نعيم: "قُرِئَ على عبد الله بن جعفر بن فارس، حدثنا هارون بن سليمان".
وهذا عمل ابن نعيم، مثل عمل الدارقطني. نعم.
من صورالتدليس القول بأخبرنا فلان من كتابه
ومن ذلك: "أخبرنا فلان من كتابه" .
"ومن ذلك" يعني: ومن التدليس، يعني: ومن التدليس. نعم.
ومن ذلك: "أخبرنا فلان من كتابه"، ورأيت ابن المسيب يفعله وهذا لا ينبغي؛ فإنه تدليس، والصواب قولك: "في كتابه" .(1/245)
يعني: أن الراوي إن تحمل عن شيخه بالإجازة أو المناولة، فإنه إن عبر بقوله: "أخبرنا من كتابه" -فهذا فيه نوع تدليس؛ لأن هذه الكلمة عادة لا تطلق إلا على ما سمع من لفظ الشيخ، إذا جيء أو ذُكر فيها حرف "مِن": "أخبرنا مِن"، فهي "من" هذه مشعرة بأنه حدثه، ومن الكتاب بنص الكتاب، أخبره بنص الكتاب في سماع من لفظ الشيخ، لكن إذا تحمله إجازة أو مناولة -فلا ينبغي له أن يقول: "أخبرنا من كتابه"؛ لأنه في الحقيقة لم يتلفظ، ولم يسمع لفظ الشيخ، وإنما أخبرك في الكتاب الذي أجاز لك روايته، أو ناولك، أو ناولكه لترويه عنه، فهو أخبرك في الكتاب، كما تقول:
"الآن أخبرني في الرسالة التي تُرسل إليك". ولا تقول: "أخبرني من الرسالة"؛ لأنه ما قرأ عليك، ما أسمعك اللفظ، وإنما أخبرك في هذه الرسالة.
إذن فإذا كان من باب الإجازة و المناولة، فلا يقال: "أخبرنا في كتابه". فمن صنع ذلك فقد صار عنده نوع من التدليس، من باب تدليس الصيغة، وهذا ذكره ابن المسيب -محمد بن المسيب- المتأخر. نعم.
تعبير من هو دون الإجازة بقوله أنبأنا فلان
ومن التدليس أن يكون قد حضر طفلًا على الشيخ، وهو ابن سنتين أو ثلاث، فيقول: "أنبأنا فلان"، ولم يقل: "وأنا حاضر". فهذا الحضور العري عن إذن المسمع لا يفيد اتصالا، بل هو دون الإجازة، فإن الإجازة نوع اتصال عند أئمة...(1/246)
يعني: إن من لم يكن من أهل التحمل لحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - وحضر مجلسًا لعالم يحدث فيه بالحديث -فهذا غير المؤهل، والطفل إذا حَضَر المجلس حضورًا، ولم يقترن هذا الحضور بإجازة الشيخ -فإنه إذا عبر بعد ذلك بما سمعه في هذا المجلس، أو بالأحاديث التي حضرها، عبر عنها بقوله: "أنبأنا". فهذا فيه نوع تدليس؛ لأن هذه العبارة -كما سَبَق- في الغالب لا تطلق إلا على ما أجازه الشيخ، وهذا ليس عنده إجازة من الشيخ، وإنما هو مجرد حضور، فمن باب السماع، فإذا حدثنا الشيخ فهذا سماعه، فهذا الطفل -مثل هذا الطفل- لا يصح له سماع؛ لأنه غير متأهلٍ للسماع، ولا يدرك الألفاظ على حقيقتها.
فلو عبَّر عن ذلك بقوله: "أنبأنا". هذا من باب الإجازة، وهو ليس عنده إجازة، ولو عبر عنه بـ"سمعت"، فهو ليس من أهل التحمُّل في تلك الفترة، فهذا يصير فيه نوع من باب التدليس، لكن العبارة الصحيحة أن يقول: "حضرت مجلس فلان". "حضرت" هذه العبارة أصح؛ لأن هناك حضورا لمجلس الشيخ، وهناك إذن بالرواية، فإذا أذن أو أجاز بالرواية، فإذا أجاز الشيخ الرواية قال جميع من في المجلس: "أجزتهم رواية حديثي هذا".
فهذا الحديث، هذا الإجازة الشاملة للجميع، تشمل الصغيرة والكبيرة، فإذا عبَّر عنها بعد ذلك في الأداء عبَّر عنها: بـ"أنبأنا" لم يكن متدلِّسًا، وإن لم يكن عنده إجازة من الشيخ -فإنه نوع تدليس في الصيغة. نعم.
وحضور ابن عامٍ أو عامين إذا لم يقترن بإجازة كلا شيء .
لأن هذا صغير ليس من أهل التحمل. نعم.
إلا أن يكون حضوره على شيخٍ حافظ أو محدثٍ وهو يفهم ما يحدثه، فيكون إقراره بكتابة اسم الطفل، بمنزلة الإذن منه له في الرواية.(1/247)
جرت العادة أن العلماء يكتبون أسماء الذين ينقلون عنهم، ويروون عنهم، تسجل أسماؤهم، فإذا لم يأذن الشيخ، وإنما أضيف اسم هذا الطفل إلى السامعين والحاضرين في المجلس -فهذا دون الإجازة وفوق الحضور؛ لأن هذا حضور مع إثبات، وإذا اجتمع حضور وإثبات وإذن بالرواية -فهذا أعلى. نعم.
صور الأداء
ومن صور الأداء: حدثنا حجاج بن محمد قال: "قال ابن جريج" فصيغة "قال" لا تدل على اتصال.
وقد تقدم الكلام على قال عند كلام عن "عن". نعم.
وقد اغتفر في الصحابة، كقول الصحابي: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" فحكمها الاتصال، إذا كان ممن تيقن سماعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
يعني: إن كلمة "قال" -كما سبق لنا- هي في حكم "عن"، فإذا كان الراوي مدلسًا وقال: "قال" -فهذا لا يقبل، وإذا لم يكن مدلسًا، وثبت سماعه في الجملة -هذا صار متصلًا بالاتفاق، وإذا كان الراوي قال هذه المقولة، التي هي "قال"، وهو لم يثبت له سماع من شيخه -فهذه -وكان معاصرًا لشيخه فهذه- فيها قولان:
البخاري ومن معه، ومسلم ومن معه، وتقدم ذلك، لكن من الصحابة لا يأتي مثل هذا الاختلاف بين العلماء، بل كل "قال" يقولها أحد الصحابة، فهي محمولة على الاتصال والسماع من النبي - صلى الله عليه وسلم - وقبول ذلك؛ لأن الصحابي -عادة- لا يروي إلا عن صحابي، فالجانب الذي يُخشى منه، وهو الضعف الناشئ عن الانقطاع، أو ضعف الراوي بينه وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - قد زال في حق الصحابة، وسبق لنا أن بعض الصحابة له روايات كثيرة، لكن لم يسمعوا من النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا بعضها، والبعض الآخر سمعوه بواسطة بعض الصحابة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
إذن فهذه الكلمة اغتفرت في حق الصحابة، ولم يفصل فيها كما يفصل في غيرهم من الرواة؛ لأن عادة الصحابي لا يروي إلا عن صحابي، والأمن من الضعف ظاهر في حق الصحابة. نعم.(1/248)
فإن كان لم يكن له إلا مجرد الرؤية، فقوله: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم". محمول عن الإرسال، كمحمود بن الربيع، وأبي أمامة بن سهل، وأبي الطفيل ومروان.
يعني: هذا يسمي من باب الإرسال، والصحابة الذين... أو من رأوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو صغير لا يدرك، بعض العلماء يجعله صحابيًا، وبعض العلماء لا يجعله صحابيًا، بعض لا يجعله صحابيا، لكن الجمهور على أن مثل هذه الأحاديث -يعني- مراسيل مقبولة، يعني غالب هؤلاء ما يأخذونها إلا عن الصحابة؛ لأن آباءهم، يعني غالب من يحيط بهم، إنما هو من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - . نعم.
وكذلك "قال" من التابعي المعروف بلقاء ذلك، كالصحابي، كقول عروة: "قالت عائشة"، كقول ابن سيرين: "قال أبى هريرة".
يعني: معروف بلقاء ذلك الصحابي، مع السلامة من وصمة التدليس، وهذا سبق في "المعنعن". نعم.
فحكمه الاتصال، وأرفع من لفظة "قال" لفظة "عن"، وأرفع من "عن" "أخبرنا" و"ذكر لنا".
لأن كلمة "عن" كانت أرفع من كلمة "قال"؛ لأنها عبر بها كثيرًا، وصل التحمل فيه عن طريق السماع والقراءة، وأما كلمة "قال" فهي أضعف من كلمة "عن"؛ لأن القول إنما هو مجرد كلام، لكن كلمة "عن" هذه تحمل يعني شيئًا، أو كأنها تحمل شيئًا زائدًا، وبخاصة مع إطلاق هذه اللفظة وتكاثرها في كلام الرواة، والتعبير بها عمَّا تحمِّل بالسماع. نعم.
وأرفع من "عن" "أخبرنا" و"ذكر لنا" و"أنبأنا"، وأرفع من ذلك "حدثنا" و"سمعت"، وأما في اصطلاح المتأخرين، فـ"أنبأنا" و"عن" و"كتب إلينا" واحد.(1/249)
يعني: لأن المتأخرين صارت كل رواياتهم عن طريق الإجازة، وما يوجد في كتبهم إنما هو أحاديث كتب قد اشتهرت وتداولتها الأمة، فمثلا: البيهقي غالبا- يدخل عن طريق أصحاب الكتاب، عن طريق أبي داود، عن طريق مسلم، عن طريق...، وغيرهما من أصحاب المصنفات، فأكثر العلماء المتأخرين يدخلون عن طريق مصنفات مشتهرة ومتداولة بين الأئمة، فما جاء عندهم أو ذكر لنا، أو نحوها من العبارات، أو "أنبأنا"، هذه الألفاظ يعني لا يشدد فيها لأن هذه الأسانيد المتأخرة يعني ليس لها اعتبار الأسانيد المتقدمة؛ لأن هؤلاء أصحاب هذه المصنفات، غالبًا ما يدخلون عن طريق الكتب التي صنفها العلماء، وتداولت واشتهرت ولها رواة كثيرون. نعم.
الحديث المقلوب
تعربف الحديث المقلوب
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. قال الإمام الذهبي - رحمه الله تعالى-: "الحديث المقلوب: وهو ما رواه الشيخ بإسناد لم يكن كذلك، فينقلب عليه، وينوط من إسناد حديث إلى متن آخر بعده، أو ينقلب عليه اسم راوٍ، مثل: "مرة بن كعب"، بـ"كعب بن مرة"، و"سعد بن سنان"، بـ"سنان بن سعد".
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(1/250)
هذا نوع من أنواع الحديث، وهو النوع: الحديث المقلوب، والقلب له اتصال بتعليل الحديث وشذوذه، فإنْ وقع القلب من ضعيف فهو منكَر، وإن وقع من ثقة خالف غيره فهو شاذ،وإذا وقع من ثقة -كما تقدم- فخالف من هو أوثق منه فهو شاذ، وسبق لنا الشذوذ والنكارة من أنواع العلة، فصار المقلوب داخلا في الحديث المعَلِّ؛ لأن الرواية التي وقع فيها القلب هي رواية معلة، ثبت أن الراوي قد أخطأ فيها، فإذا قلب اسمًا، أو جاء بإسناد لمتن ليس هذا الإسناد له -كان هذا نوعا من أنواع التعليل، فالمقلوب نوع من أنواع الأحاديث الضعيفة المعللة؛ ولهذا يحتاج في معرفة المقلوب إلى تتبع رواياته، والنظر في متونه والمقارنة بينها، حتى يتبين: هل هذا الحديث سالم من القلب في متنه وسنده أو لا؟
فإن لم يكن سالمًا، فإن الرواية التي تخالف الروايات تعتبر رواية معلة لشذوذها أو نكارتها، والمقلوب نوعان:
النوع الأول: وهو النوع الذي ابتدأ به المصنف -رحمه الله-، والنوع المتعلق بالقلب في الإسناد، وهناك مقلوب في الإسناد، وهناك مقلوب في المتن.
المقلوب الذي في الإسناد: هو تغيير إسناد متنٍ بالكلية، أو تغيير بعضه، سواء كان ذلك على سبيل الوهم، أو كان ذلك قصدًا، سواء كان عن سبيل التوهم من الراوي -أخطأ فيه الراوي-، أو كان ذلك عن سبيل القصد، بأن قصد الراوي أن يأتي بهذا المتن بإسناد آخر، فهذا الإسناد ليس إسنادًا له، أو غير أثناء الإسناد، فكل هذا من المقلوب في الإسناد.
فمثلا: الحديث الذي رواه مصعب بن المقدام، عن الثوري عن ابن الزبير عن جابر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا لقيتم المشركين في طريق فلا تبدءوهم بالسلام "(1/251)
هذا الحديث حصل في إسناده قلب من قِبَل المصعب بن المقدام، فمصعب هذا وَهِم في هذا الحديث، ولم يصنع ذلك قصدًا، ولهذا لما أعل أبو حاتم هذا الحديث قال: "وَهِم فيه". ولم يقل: "سرقه" أو عبارة نحوها، مما تُشعر أنه قَصَد هذا الصنيع، وإنما حَصَل منه ذلك على سبيل الخطأ، وقد استبين خطأه، بأن الحديث يرويه الحفاظ عن الثوري بإسناد آخر غير هذا الإسناد.
عن الثوري، عن هشام بن يحيي بن أبي كثير، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبي قتادة - رضي الله عنه - والمتن أنا أخطئه من إيراد المتن، هو قوله: " إن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى مس الرجل ذكره بيمينه " .
نعم، نهى أن يمس الرجل ذكره بيمينه، المتن الأول من باب الخطأ؛ لأنه إسناد لحديث آخر. فالشاهد أن المتن هو:: " إن النبي -صلي الله عليه وسلم- نهى أن يمسَّ الرجل ذكره بيمينه " فالحديث مشهور ومحفوظ في الصحيح بهذا، من حديث أبي قتادة، فجاء المصعب بن المقدام فأخطأ على الثوري، فرواه بإسناد آخر، فهذا الإسناد الذي في حديث مصعب، هذا إسناد مقلوب، مقلوب على الثوري، فليس الثوري يرويه هكذا، وأيضا هناك قلب آخر، هو الحديث الذي سبق، والقلب في الإسناد أيضا، الحديث الذي سبق:
إذا رأيتم المشركين، أو " إذا لقيتم المشركين في طريق " هذا فيه قلب سيأتي -إن شاء الله-، وهو قلب في الإسناد، ولكنه على سبيل القصد ليس على سبيل التوهم، وسيأتي إن شاء الله.
أن حديث ابن المصعب هذا، حديث قلب المصعب إسنادَه، وهذا القلب وقع منه على سبيل الخطأ.
ومثله أيضا: الحديث الذي يرويه الإمام مالك، وهو حديث: " الصلاة في مسجدي هذا، خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام " هذا الحديث رواه محمد بن مسلمة المخزومي، عن مالك عن الزهري عن أنس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " صلاة في مسجدي " إلى آخر الحديث.(1/252)
فهذا الإسناد، العلماء... نص ابن عبد البر في "التمهيد": "إنه إسنادٌ مقلوب". وجه القلب فيه: أن الرواة عن مالك قد اتفقوا على روايته عن مالك، بإسناد آخر غير هذا الإسناد، وهو أن مالك يرويه عن زيد بن رباح، عن عبيد الله بن أبي عبد الله الأغر، عن عبد الله الأغر، عن أبي هريرة رضي الله تعالي عنه.
فمحمد بن مسلمة المخزومي أخطأ في إسناد هذا الحديث، فبدلا من أن يجعله عن زيد بن رباح، جاء له بإسناد آخر، وهذا الإسناد الآخر يروي بين الإمام مالك، الذي هو الزهري عن أنس، يروي الإمام مالك أحاديث كثيرة، فالراوي محمد بن مسلمة مشى على الجادة، فرواه عن الزهري عن أنس وهو غلط، والصواب: أن الرواة الحفاظ عن الإمام مالك متفقون على روايته عن الإمام مالك، عن زياد بن رباح، وعبيد الله بن أبي عبد الله الأغر، عن أبي هريرة، فهذا -أيضا- نوع من القلب في الإسناد، فهذا إسناد مقلوب، وإن كان المتن ثابتا وصحيحًا من الطريق الأخرى، ولكنه من حديث أنس - رضي الله عنه - في الموطأ، هذا حديث يعتبر حديثًا مقلوبا في إسناده.
فهذا كما ذكر المؤلف -رحمه الله-: "إن الراوي يروي الحديث فينتقل أو يذهب". وهو معنى قوله "فينطّ"ُ يعني: يذهب إلى إسناد متنٍ آخر، فيحمل هذا المتن على هذا الإسناد أو ذاك الإسناد، يأتي له بمتن آخر، وهذا غالبًا ما يقع عند النَّقل من الكتب، سواء من الأصول أو من غيرها، إذا جاء ينقل في تحاويل التخريجات، إذا جاء ينقل يشتبه عليه، أحيانا يزوغ بصره فيخطئ في نقل سطرين متواليين، ينقل إسناد الأول، ثم يرجع إلى السطر الذي كان فيه فينقل المتن، فيحصل ها هنا غلط، أكثر ما يقع عند النقل من الأصول، وإلى التخريجات والتحاويل، هذا أكثر ما يقع من غير الذين يقصدون القلب بأنفسهم، أما من كان يقصد القلب فهذا له موضع آخر، وهو الذي سيشير إليه المؤلف رحمه الله.(1/253)
وهناك -أيضا- يحصل -أحيانا- خطأ أشار إليه المؤلف في بعض الأسماء، فيجعل بدل كعب بن مرة، مرة بن كعب، أو يجعل -مثلا- بدل الطفيل بن عبد الله، عبد الله بن الطفيل، أو بدلا من عدي بن نوفل، نوفل بن عدي، وهذه يقع حتى فيها بعض كبار المحدثين، خاصة إذا كان هذا الراوي ليس من حملة العلم المشهورين بالرواية، فإنه قد يقع شيء من ذلك: يجعل اسم الأب اسما للابن وبالعكس أيضا.
فهذا النوع هو نوع من القلب في الإسناد؛ لأنه تغيير للاسم، وهذا أشار إليه المؤلف، فصار القلب في الإسناد: تارة يكون قلبا لجميع الإسناد، وتارة يكون تغييرا في بعض الإسناد، أحيانا يكون مع القصد، وأحيانا يكون من باب الوهم والخطأ في الرواية، نعم،
في المتن يأتي في الإسناد يشير إليهم بأسماء، استبق إليها المؤلف.
الراوي لم يتهم بشيء من الكذب ولا بسرقة الحديث
فمن يعد ذلك خطأ فقريب.
من فعل ذلك خطأ فقريب". اقرأ كلام المحقق.
وقعت العبارة في دال وباء نعم. كمل اقرأ.
فمن يعد ذلك خطأ فقريب وصورتها كما ترى.
هنا النسختان اللتان اعتمد عليهما المحقق، كلتاهما متفقتان على اللفظ الذي ذكره المؤلف في الأسفل، وعدله في الأعلى، ولكن من كلمة التي في الأسفل، هذه كلمة صحيحة، فتغييرها غلط، فالتعرض لها لا سيما مع اتفاق النسختين غلط، والمعنى ولو كان المعنى فيه نوع، لكن ما دام العبارة مثبتة واتفقت عليها النسختان، فالتعرض لها بالتغيير مع كونها صحيحة هنا، ولو على بعد -هذا غلط، فيكون المعنى... فمن أيش؟
"فمن يعد ذلك -يشير بالعبارة" فيها تقدير- فمن يعد ذلك الفعل منه خطأ فقريب، يعني: إننا إذا نظرنا في إسناد، ووجدنا الراوي لم يتهم بشيء من الكذب، ولا بسرقة الحديث، فإننا إذا نظرنا إلى ذلك، عددنا هذا من الخطأ في الرواية، ولا نجعل ذلك من تعمد هذا الراوي، إذن فمن يعد ذلك، يعد الناظر في ذلك الحديث، فمن يعد ذلك الفعل فقريب محتمل. نعم.(1/254)
فمن يعد ذلك، إيش تصير؟ تصير العبارة: فمن يعد ذلك الفعل صحت، فمن يعد ذلك -والتقدير فيه شيء مقدر- فمن يعد ذلك الفعل منه خطأ فقريب. يعني: إن الناظر إذا نظر في هذا الإسناد أو المتن، ولم يتبين له أن الراوي تعمَّد هذا الفعل، فيكون صنيع الراوي هذا قريب، ومعني قريب يعني: يسير على الراوي، لا يقدح في الراوي قدحًا يعني مؤثرًا، إلا إذا كثر ذلك منه، أما لو كان وقع منه على سبيل...، وقع منه في بعض المواضع قل في الأسانيد، فإن هذا يحتمل منه، والشاهد من تغيير العبارة: ما يصلح مع احتمال وجه ولو بعيد. نعم.
يرجعوها على أصلها، وهذا غلط، تغييرها غلط.
ركب متنا على إسناد ليس له متعمدا
ومن تعمد ذلك، وركب متنًا على إسناد ليس له -فهو سارق الحديث.
الراوي إذا روى حديثا فحصل منه قلب، فينظر في هذا الراوي: إن كان لم يتعمد هذا القلب، فهذا أمره قريب لا يقدح في الراوي قدحًا بيِّنًا، وإن كان إذا كثر منه بعث بسببه، لكن إذا لم يكن على سبيل القصد، وخالف بعض الأسانيد لا على سبيل القصد، وإن ضعفنا الحديث إلا أنها إذا لم تكثر منه -فإننا نستشهد به ونعتبر بحديثه، وأما إذا كثرت منه وفحشت فإننا نردُّ حديثه، ولا نستشهد به، ولا نعتبر به، وأما إذا وقع ذلك منه على سبيل القصد -فإن هذا يعتبر سرقة للحديث.
فمثلا: في المثال الأول -وأظنه مرَّ معنا في القسم الأول-:
أن ثابت بن موسى دخل على شريف بن عبد الله، وهو يحدث عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر، فكان بدخول ثابت بن موسى، كان شريف قد توقف وسكت عن الإملاء حتى يكتب المستملي، فلما دخل ورآه شريف قال: "من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار".(1/255)
فثابت بن موسى قد سمع الإسناد، ويعتقد أن هذا هو الحديث، فصار يروي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو من كلام شريف، فصار عندنا متن رُكِّب على إسناد ليس له، وإنما هو من كلام شريف، فثابت بن موسى هنا لم يصفه العلماء بسرقة الحديث؛ لأنه لم يتعمَّد هذا الفعل، لكن جاء بعض السُّرَّاق فسرقوا الحديث من ثابت بن موسى، صاروا يروونه عن شريف عن الأعمش، عن أبي سفيان عن جابر، عن ابن مسلمة، قال: "ثم يروون هذا الحديث المكذوب أو هذا الحديث الخطأ".
فالرواة الآخرون سرقوا من ثابت بن موسى، لكن ثابت بن موسى لم توصف روايته بأنها رواية مسروقة، ولم يوصف ثابت بن موسى بأنه يسرق الحديث؛ لأن هذا وقع منه لا على سبيل العمد. وصحة الحديث عن أبي سفيان عن جابر عن ابن مسلمة، قال: " يعقد الشيطان على قافية أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد " هذا هو متن الحديث، لكن ثابت بن موسى ظن أن متن الحديث هو قول الشريف له: "مَن كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار"، فهذا مع عدم التعمد، يعني أمره يسير لكنه يقدح في الرواية، هذا يقدح في الرواية، أما في الراوي فأمره يسير إذا لم يكثر من الراوي، أما إن كثر منه وفحش رد حديثه، أما إذا لم يفحش فهو يكون من الأخطاء التي تقع من الرواة، وهذا -أيضا- قد يقع لبعض العلماء كما مر معنا في مباحث الشذوذ والنكارة، قد يقع منه لكن لم يوصف بسرقة الحديث؛ لأنهم لم يتعمدوا هذا الفعل.
وأما من وقع منه هذا الفعل تعمُّدًا، فهذا يسمَّى سارقًا للحديث، هذا هو سارق، سارق الحديث هو الذي يأتي إلى المتن ويركب له إسنادًا، أو يأتي إلى شخص قد روى هذا الحديث، فيسرق الحديث منه بإسناده. نعم.
وهو الذي يقال في حقه: "فلان يسرق الحديث". ومن ذلك: أن يسرق حديثًا ما سمعه.(1/256)
وسارق الحديث -كما مر معنا- مقدوح في عدالته، وإذا ثبت أنه يسرق الحديث فلا يحتج به، ولا يستشهد بحديثه ولا يعتبر، بل هو حديث متروك لا يجوز حتى في باب فضائل الأعمال++ غيرها، + في عدالة الراوي. نعم.
ومن ذلك: أن يسرق حديثا ما سمعه، ويدعي سماعه من رجل. وإن سرق فأتى بإسناد، فمن فعل ذلك خطأ فقريب، ومن تعمد ذلك وركب متنًا على إسناد ليس له... .
ركَّب متنًا على إسناد ليس له بقصد، فهذا هو الذي يسمى سارق الحديث، وهذا -كما مر معنا في "الأربعين الودعانية" التي مرت في الحديث الموضوع، أن المؤلف الأصلي الذي هو زيد بن رفاعة الهاشمي، أو رفاعة الهاشمي عن اختلاف فيه، جاء إلى أسانيد صحيحة، أو أكثرها صحيح ركب عليها متونا- هذا يسمى سارقًا للحديث، ثم جاء من بعده ابن ودعان فسرق هذه النسخة منه، فهذا يسمى سارق الحديث.
ومثله ما صنعه أبو الصلت في حديث: "أنا مدينة العلم وعلي بابها". هذا الحديث رواه أبو الصلت عن أبي معاوية، عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس، هذا سند صحيح، لكن أبا الصلت جاء بهذا المتن على هذا الإسناد، فهذا يعتبر من سرقة الحديث. نعم.
قلب متن الحديث
وهو الذي يقال في حقه: "فلان يسرق الحديث"، ومن ذلك: أن يسرق حديثا ما سمعه، فيدعي سماعه من رجل.
فهذا مثل عندنا حديث أبي هريرة: " لا يبولن أحدكم في الماء السائل، ثم يتوضأ منه أو يغتسل " هذا الحديث معروف أنه من رواية ابن علية، عن يحيى بن عتيق عن ابن سيرين عن أبي هريرة.
هكذا ما يرويه عن ابن علية، إلا واحد وهو يعقوب بن إبراهيم الدورقي، فهذا الحديث من رواه عن ابن علية غير الدورقي -فهو سارق له؛ لأنه لا يعرف إلا من جهة يعقوب بن إبراهيم الدورقي، فجاء علي بن عبدة فسرقه، كيف سرق؟(1/257)
قال: "حدثنا ابن علية ... " وساق الإسناد، والحديث إنما هو محفوظ ليعقوب بن إبراهيم الدورقي، فهذا ما وضع إسنادًا جديدًا، إنما سرق الحديث من صاحبه، لكن لو جاب لفظ "عن" أو "قال" كان ما وصف بالسرقة، لكن لما جاء بـ"حدثنا" هذه، أو بـ"سمعت"، أو بنحوها من العبارات المقتضية للسماع من الشيخ، لمَّا صنع ذلك عُدَّ سارقًا للحديث، وسرقة الحديث على هذا من القلب؛ لأن الراوي الذي يسرق الحديث، هذا يغيِّر في الأسانيد أو في المتون، وهذا في ثنايا هذا الكلام.
أشار المؤلف إلى نوع من أنواع القلب: وهو "القلب في المتن"، على بعد في الإشارة إليه، فالقلب في المتن هو النوع الثاني من أنواع الحديث المقلوب.
والقلب في المتن معناه: تغيير متن الحديث، إمَّا بمعنًى مغاير، وإمَّا بمعنى يقتضي نوعًا من التخصيص أو التقييم، ويمثلون لهذا بحديث: " إن بلالا، أو إن ابن أم مكتوم يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن بلال " هكذا الحديث ورد هذا مقلوبا.
ويمثلون لهذا بحديث: " إن ابن مكتوم يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن بلال " هكذا الحديث ورد، هذا مقلوب، هذا يسمى مقلوبا في المتن؛ لأن الثابت عند ابن سلم من حديث ابن عمر وعائشة في الصحيحين " إن بلالًا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم " فجاء في الحديث الآخر: " إن ابن أم مكتوم يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن بلال " فهذا الثاني يعتبر متنًا مقلوبًا جاء على خلاف المتن الأول، ومثل حديث: " سبعةٌ يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله " وذكر: " رجلٌ تصدق بصدقة أخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه "(1/258)
هذا الثابت في الصحيحين، جاء في رواية في الصحيح: " حتَّى لا تعلم يمينُه ما تنفِقُ شمالُه " وهذه الرواية الثانية: " حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه " هذه الرواية حكم بها العلماء عليها بأنها مقلوبة، وهذا من باب القلب في المتن، ومثله أيضًا حديث الذي رواه أشعث بن سوار عن نافع عن ابن عمر " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى المهاجرين أن يصبغوا ثيابهم بالورس والزعفران عند الإحرام " فهذا حكم عليه ابن حبان -رحمه الله- في المجروحين بأنه حديث مقلوب، وجهة القلب فيه أن هذا الحكم جعله أشعث بن سوار مخصصًا بالمهاجرين فقط، مخصصًا أو خاصًا بالمهاجرين فقط .
وهذا ينافي الروايات الصحيحة الثابتة من حديث ابن عمر " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل ما يلبس المحرم؟ قال: لا يلبس ... " ثم ذكر الأشياء التي لا يلبسها .
فقوله: سئل ما يلبس المحرم ؟ هذا في عموم المحرمين سواء كان من المهاجرين أو من الأنصار أو من غيرهم، كلهم يُطْلَق عليهم المحرم، فهذا عام في المحرم، فجاء أشعث بن سوار، ورواه عن نافع فخصَّصه بالمهاجرين، هذا ذكره ابن حبان بأنه مقلوب، وذكر أن هذا الراوي أشعث بن سوَّار يحتمل أنه أراد رواية الحديث بالمعنى ضعيف، لكن الذي في حديث عائشة، في -حديث يعني- حديث عائشة وابن عمر في الأذان، وحديث أبي هريرة في السبعة هذه ثابتة في الصحيحين، لكن وقع في رواية السبعة خطأ رواه مسلم في الصحيح، روى الروايتين، روى الشمال واليمين، كلتاهما رواهما الإمام مسلم لكن إحداهما مقلوبة، اللي هي " حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه " والثاني حديث الأذان، الرواية المقلوبة خارج الصحيح، الرواية المقلوبة خارج الصحيح حديث " ما يلبس المحرم ؟ قال: لا يلبس القمص ولا العمائم " هذا حديث ثابت في الصحيحين، لكن الرواية رواية أشعث بن سوار هذه ليست في الصحيح، فهذا نوع من القلب في المتن، فهذا نوع من باب القلب في المتن .(1/259)
المؤلف -رحمه الله- ذَكَر في أثناء كلامه أن هذا القلب تارة يقع بالقصد، وتارة مع غير القصد، فالقصد يقع على وجهين: إما على أن الراوي يريد أن يغرب، أن الراوي يريد أن يغرب بأسانيد لا يشاركه فيها غيره، وهذا غالبًا ما يصنَعُه إلا إنسان موصوف بالكذب والوضع، أو على الأقل أنه متهم بالكذب، لا يصنع هذه الأشياء؛ لأنه يختلق، أو يأتي بأسانيد أو يغير في بعض الأسانيد من أجل أن يكون مغربًا في الرواية، لا يشاركه أحد في الرواية. وهذا مثل ما صنع، مثلوا له بحديث حماد بن عمرو النصيبي عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عنه - صلى الله عليه وسلم - " إذا لقيتم المشركين " الحديث اللي مر متنه قبل قليل، فهذا الحديث لا يعرف من حديث الأعمش، والأعمش من الأئمة الكبار الذين تجمع أحاديثهم، فجاء حماد هذا، فرواه عن الأعمش، وحماد هذا موصوف بأنه يضع الحديث .
فالحديث إنما هو من حديث سُهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - هكذا الحديث يروى، فجاء حماد فسرقه من حديث سُهيل، وجعل الأعمش بدلًا من سهيل، وروى الحديث، فهذا محفوظ من رواية أبي صالح عن أبي هريرة، لكن من رواية الأعمش عن أبي صالح هذه لا تعرف إلا من حديث حماد بن عمرو النصيبي الذي هو موصوف بالوضع، فكونه موصوفًا بالوضع في الحديث، وجاء بهذه الرواية الغريبة على حديث الأعمش، هذا يدلُّ على أنه سارق لهذا الحديث .
والثاني يقع في القصد، مع القصد يقع عند امتحان، إذا أرادوا أن يمتحنوا إنسانًا في الأحاديث ويختبروه فيها جاءوا له بأحاديث غرائب، أو أحاديث مقلوبة يضعون له متن على إسناد حديث آخر، ويأتون بإسناد حديث آخر، ويركبون عليه متن حديث آخر؛ ليختبروا هذا العالم، بعض أهل العلم يجيزه، وبعضهم يمنعه من العلماء، إذا كان على قصد الاختبار .(1/260)
قال: كما صنعوا للإمام البخاري لمَّا قدم إلى بغداد عرضوا عليه مائة حديث مقلوبة الأسانيد، جعلوا كل حديث له، كل إسناد له متن حديث آخر، وعرضوها على الإمام البخاري، فأجاب عن كلها بأنه لا يعرفها، ثم أعادها عليهم على الوجه الصحيح كل سند بمتنه، ومثل ما صنع تلاميذ الحافظ أبي جعفر العقيلي حينما رأوه يحدث من حفظه، ولا يرجع إلى كتابه أرادوا اختباره، فقلبوا عليه أحاديث فصححها لهم، فعرف أنها مقلوبة فصححها لهم، فهذا من باب اختبار، وكذلك ما صنع يحيى بن معين مع أبي نعيم الفضل بن دكين عرض عليه ثلاثين حديثًا ضمَّنها ثلاثة أحاديث مقلوبة ليرى قدرة أبي نعيم على معرفتها فصححها أبو نعيم، صححها، صحح هذه المقلوبة أبو نعيم، وتوقف عندها لما أوردها عليه يحيى بن معين، فهذا إذا كان على قصد الاختبار .
بعض العلماء منعه؛ لأنه قد إن الراوي فقد يكون هناك أحاديث، يسمع هذا، وهو يعرض هذه الأحاديث، فيظن أنها صحيحة، فيرويها على الوجه الذي ذكره، وهي مقلوبة، وبعض العلماء يجيزها؛ لأن المقصود منها مقصد حسن، وهو معرفة ضبط الراوي، وعلى كل الأمر في الثاني يسير، أما الأمر في الأولى فهو فيه تشديد، أما الثاني، أما الأمر الثاني فهو ما يقع من بعض الرواة وهمًا لا على سبيل القصد، وهذا أمر معنا مثاله، مر معنا المثال عليه، يقع من بعض الرواة من باب الوهم، لا من باب قصد القلب في الأسانيد . نعم .
سرقة الحديث
وإن سرق فأتى بإسناد ضعيف لمتن لم يثبت سنده.
يعني هنا الراوي إذا سرق فأتى بإسناد ضعيف لمتن لم يثبت إسناده يكون سَرَق الإسناد، وهذا الإسناد الذي سرقه لا يثبت، هذا الإسناد الذي سرقه لا يثبت . نعم .
فهو أخف جرمًا ممن سرق حديثًا لم يصح متنه، وركب له إسنادًا صحيحًا.(1/261)
يعني هذا إذا جاء -إلى مثلًا الراوي- إلى سند صحيح من الأسانيد الصحيحة، وركَّب عليه متنًا كما مر معنا في الأربعين... وركب علينا متنًا، فهذا خطره أعظم؛ لأن الناظر قد يظن أنه إذا رأى هذا الإسناد الصحيح، وعليه هذا المتن، قد يعتقد أن هذا المتن متن صحيح، فيصحح الحديث بناء على صحة الإسناد، أما إذا كان المتن لا يثبت، وهذا قد سرق إسنادًا ضعيفًا، فالأمر فيه أيسر إن كان فعله لا يجوز، لكن الأمر فيه أيسر؛ لأن على كلا الوجهين يكون الحديث غير ثابت، يكون الحديث غير ثابت، أما في الصورة الثانية فيتصحح، قد يتصحح الحديث لمن لم يعرف، ولا يميز إذا رأى هذا الإسناد المشهور الصحيح . نعم .
فإن هذا نوع من الوضع والافتراء، فإن كان ذلك في متن الحلال والحرام فهو أعظم إثمًا وقد تبوأ بيتًا في جهنم.
هذا قد تبوأ بيتًا في جهنم إشارة إلى حديث: " من كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار " وفي رواية: " فليتبوأ بيتًا في جهنم " هذه إشارة إلى ذلك الحديث، وفضائل الأعمال والحلال والحرام، والمسائل العلمية الاعتقادية هذه متفاوتة فيما بينها، فسرقة الحديث لا تحل، لا في فضائل الأعمال، أحاديث فضائل الأعمال ولا في الحلال والحرام، ولا في الأمور العلمية، الأمور العلمية، لكن إذا سرق إسنادًا صحيحًا، إذا ركب متنًا على إسناد صحيح، فإن هذا إذا كان في باب الاعتقاد أو في باب الحلال والحرام فجرمه أعظم مما لو وضعه في فضائل الأعمال، فجرمه أعظم، إن كان في كلا الأمرين فعله مذموم، وهو آثم، وهو من الكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - لكن يكون فعله في مسائل الحلال والحرام والمسائل العلمية الاعتقادية يكون فعله أعظم وأشد خطرًا . نعم .
سرقة السماع
وأما سرقة السماع وادعاء ما لم يسمع من الكتب والأجزاء، فهذا كذب مجرد.(1/262)
يعني يقول: سمعت الجزء الفلاني، ما يخصص، أنا قد سمعت هذا الجزء من فلان، وسمعت مثلًا صحيح البخاري وسمعت صحيح مسلم، وسمعت سنن أبي داود، سمعت . يذكر بعض أشياء وأنه يرددها بسنده فهذا، يعني هو من السرقة، ولكنه ليس كالأنواع السابقة، لكنه ليس كالأنواع السابقة . نعم .
الأجزاء أصلًا معروفة بدونه، لأن هذه الأجزاء يعني معروفة وهذه الكتب بدون هذا الراوي، فكونه ينسبها، روايتها إليه وأنه يروي هذه الأحاديث هذه الأجزاء أو هذه الكتب هذا لا أثر له على هذه الأجزاء من حيث صحتها وضعفها، لكن مجرد النسبة هو الذي فيه كذب، وهذا يوصف بأنه من السرقة، من السرقة لكن ليس كالأنواع السابقة . نعم .
العدالة في الراوي
اشتراط العدالة حالة التحمل
فهذا كذب مجرَّد ليس من الكذب على الرسول - صلى الله عليه وسلم - بل من الكذب على الشيوخ، ولن يفلح من تعاناه وقل من ستر الله عليه منهم، فمنهم من يفتضح في حياته، ومنهم من يفتضح بعد وفاته، فنسأل الله الستر والعفو.
وقال-رحمه الله تعالى- فصل: لا تشترط العدالة حالة التحمل، بل حالة الأداء، فيصح سماعه كافرًا وفاجرًا وصبيًا، فقد روى جبير بن مطعم - رضي الله عنه - أنه " سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في المغرب بالطور " فسمع ذلك حال شركه ورواه مؤمنًا .(1/263)
هذا الكلام متعلق برواية أو بصفة الراوي الذي يروي الحديث، فهناك الراوي الذي يروي حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - المعتبر فيه حالة الأدَاء، المعتبر فيه، في العدالة حالة الأداء، يعتبر فيه حالة الأداء، يعتبر فيه عدالته أن يكون عدلًا حال الأداء، لكن إذا تحمَّل الحديث، وهو غير عدْل أو لم تتحقق فيه الشروط، العدالة، فإنه حينئذ... ثم روى الحديث بعد أن صار عدلًا فهذا حديث مقبول، فالكافر إذا تحمل حديثًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حال كفره، ثم روى هذا الحديث بعد إسلامه، فلا نقول: ما تحمله حال كفره لا يقبل، نقول: مقبول لأن الاعتبار حال الأداء، لأن الاعتبار حال الأداء، وهو حين أدى هذا الحديث كان مسلمًا، وهذا مثل حديث جبير بن مطعم، جبير بن مطعم سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ سورة الطور في المغرب، وكان جبير يوم ذاك كافرًا، فلما أسلم جبير روى هذه الحادثة، فقبل من جبير بن مطعم، فقبل هذا الحديث من جبير، روى ابن مطعم ولم يقل: إنه تحمله وهو كافر فلا يقبل منه لا، العبرة به عند الأداء، فهو عند الأداء عدل إذًا تقبل روايته .(1/264)
وكذلك لو كان فاسقًا، وتحمَّل ثم تاب من فسقه، وصار عدلًا، ثم حَدَّث بهذا الحديث، فإن كان حال الأداء عدلًا، فإن حديثه يكون مقبولا؛ لأنه إذا قبل الكافر أو رواية أو قبلت رواية من تحمل، وهو كافر، فإنه من باب أولى أن تقبل رواية من تحمل وهو فاسق، وكذلك بالنسبة للصغير إذا تحمَّل، ثم أدى، وهو صغير السن، ثم أدى بعد أن كبرت سنه، فهذا أيضًا يقبل، وهذا كثير من صغار أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا كثير من صغار أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - تحملوا، وهم صغار، عبد الله بن الزبير، الحسن بن علي، النعمان بن بشير، السائب بين يزيد، وغيرهم كثير من صغار الصحابة تحمَّلوا، وهم صغار، وأدَّوا وهم كبار، فلم يشترط أن يكون تحملهم في الوقت الذي يجوز أو تتحقق لهم فيه، أو يعني لم يشترط في حديثهم أن يكون تحملوه كبارًا، بل حُمِل وهم صغار، ولكنهم أدوه -رضي الله تعالى عنهم- بعد أن كبروا . نعم .
سماع رواية ابن خمس سنين
واصطلح المحدثون على جعلهم سماع ابن خمس سنين.
وقوله: واصطلح المحدثون يعني: المتأخرين، يعني بهم المتأخرين، واصطلح المتحدثون المتأخرين . نعم .
واصطلح المحدثون على جعلهم سماع ابن خمس سنين سماعًا، وما دونها حضورًا، ... .
يعني إذا حضر مجلس الشيخ فينتظرون، إن كان قبل خمس سنوات فهذا يسمَّى حضورًا، بمعنى أنه لا يقول: حدثنا، ولا سمعتُ ولا أخبرنا، إنما يقول: حضرت، أو حدَّث فلان، وأنا حاضر، إلا إذا أجَازه الشيخ، كما تقدم، إذا أجازه الشيخ جاز له أن يقول: أخبرنا على ضعف في ذلك، وجاز له أن يقول: أنبأنا، لكن إذا حضر ولم يكن هناك إجازة من الشيخ لم يصح له أن يقول: حدثنا أو سمعت أو أخبرنا، بل يقول: يقيد ذلك، أخبرنا وأنا حاضر، فالحضور غير، وإثبات السماع غير . نعم .(1/265)
فإذا حضر، وأثبتنا أنه قبل خمس سنين لا يكون إلا حاضرًا، لم تصح رواياته عن الشيخ الذي حضر مجلسه، وهو دون خمس سنوات، ولم يجزه الشيخ في هذه الروايات، فلو فرضنا أن عالمًا دخل بلدًا في سنة من السنوات وحددت مدة إقامته، ثم رأينا راويًا يروي عنه من أهل تلك البلد، ونظرنا في تاريخ ميلاد هذا الراوي فوجدناه حال دخول ذلك الشيخ البلد كان عمره أربع سنوات، فعلى الاصطلاح الذي اتفق عليه المتأخرون، واستقرُّوا عليه أن هذا الراوي لا يعتبر سماعه صحيحًا، بمعنى: لو روى حديثًا في... عن هذا المجلس، أو عن هذا العالِم لا يعتبر له سماع صحيح، فيكون سماعه ضعيفًا، ويكون حديثه بناء على هذا حديثًا ضعيفًا؛ لأن ليس له إلا الحضور فقط، إلا إذا أذن أو أجاز الشيخ برواية هذا الحديث لمن كان في مجلسه، فهذا يكون معه تحديث بالإجازة لا بالسماع . نعم .
واستأنسوا بأن محمودًا عقل مجة، ولا دليل فيه والمعتبر فيه إنما هو أهلية الفهم والتمييز.(1/266)
يعني: إن أهل الحديث المتأخرين اصطلحوا على أن الراوي إذا كان دون خمس سنوات فهذا يعتبر حضورًا لا سماعًا، واستدلوا بحديث محمود بن الربيع: أنه عقل مجة مجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وجهه، المجة: هو دفع الماء بقوة من الفم، قال: وأنا ابن خمس سنين، فقالوا: لما عقل محمود، وهو ابن خمس سنين، فهذا يدل على صحة سماع الراوي إذا بلغ خمس سنوات، وهذا كما ذكر المؤلف كلام فيه ضعف، كلام فيه ضعف؛ لأن أولًا كونه يعقل المجة لا يلزم منها أن يعقل الحديث؛ لأن المجة أمرها يسير، والثانية أنَّ قد يكون هناك شخص دون هذا السن، فيعقل ما لا يعقله ابن خمس سنين، فيعقل ما لا يعقله ابن خمس سنين، فكلام محمود بن الربيع لا مفهوم له، لا يفهم منه أنه إذا كان دون خمس سنين لا يصح له سماع، ثم بين المؤلف -رحمه الله- أن المعتبر إنما هو حالة الفهم، والتميز، فإذا كان ... فالناس يختلفون، منهم من يكبر في السن، ولا عنده قدرة على التمييز والفهم، ومنهم من يكون دونه وعنده قدرة على الفهم على الفهم والتمييز، فالاعتبار إنما هو بالفهم، وهذا يدل عليه، يدل على كلام المؤلف في وجهه .(1/267)
إنه فيه تضعيف اللي استدل بحديث محمود بن الربيع وفي الاعتبار، إن الاعتبار إنما هو الفهم، يدل عليه ما ثبت في الصحيح عن عبد الله بن الزبير - رضي الله عنه - أنه كان قال: كنت أنا وعمر بن أبي سلمة يوم الأحزاب في النساء، يعني: ممن جعلوا مع النساء يوم الأحزاب، ولم يخرجوا مع المقاتلة، قال: فرأيت الزبير يختلف إلى بني قريظة، فسأل عبد الله أباه الزبير عن اختلافه لبني قريظة فقال: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " من يأتي بني قريظة فيأتينا بخبرهم ؟ " فعبد الله بن الزبير - رضي الله عنه - ولد سنة، في السنة الأولى من الهجرة، أو في السنة الثانية على اختلافٍ، وغزوة الأحزاب كانت في السنة الرابعة أو في الخامسة على اختلافٍ أيضًا في ذلك، والمقصود أن الاستدلال به واضح على ما ذكره المؤلف لو أخذنا بأن المؤلف، بأن الزبير وُلِد في السنة الأولى والأحزاب في السنة الخامسة، هذا يكون عمره مقارب، إما أربع سنوات أو خمس احتمال يكون ولد في آخر السَّنة الأولى .
وإذا قلنا: إن غزوة الأحزاب في السنة الثانية في السنة الرابعة، وابن الزبير ولد في السنة الثانية، هذا يكون عمره ثلاث سنوات، وإذا قلنا: إن ابن الزبير ولد في السنة الأولى وغزوة الأحزاب في السنة الرابعة على اختيار الإمام البخاري، يكون عمره أربع سنوات، يكون عمره أربع سنوات، فهذا يصلح دليل للمؤلف على هذا الوجه بأن الخمس سنوات ليست حدًّا، -يعني- لا يصح السماع دونه. نعم .
التصرف في الإسناد بالمعنى
وقال -رحمه الله-: مسألة يسوغ التصرف في الإسناد بالمعنى إلى صاحب الكتاب أو الجزء.(1/268)
يعني: أن الإنسان إذا كان مثلًا يروي صحيح البخاري بإسناده، فيجوز لك أن تتصرف في الإسناد بالمعنى من نفسك إلى أن تصل إلى صاحب الكتاب، وهو الإمام البخاري، فإذا وصلت إلى صاحب الكتاب فلا تتصرف في الأسانيد بين صاحب الكتاب وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - لكن فيما قبلها يجوز لك التصرف فيها بذكر اسم الشيخ كاملًا، إذا كان عندك الاسم غير كامل، يجوز لك أن تكمل هذا الإسناد أو مثلًا في بعض العبارات تكون ناقصة فتتممها هذا جائز لك . نعم .
وكره بعضهم أن يزيد في ألفاظ الرواة في ذلك، وأن يزيد تاريخ سماعهم، وبقراءة مَن... .
يعني إذا كان مثلًا عندنا في الإسناد مثلًا جاءنا، في الإسناد وجدنا أبو القاسم، هكذا، وأن تروي الحديث مثلًا ترويه الطبراني بإسنادك، فقال أبو القاسم، فأبو القاسم هذا ما يصلح أن تَقول: البغوي عند هذه الطائفة، يكرهون هذا؛ لأن الإسناد مكتوب فيه أبو القاسم، فأنت تمشي على ما في الإسناد، لا تزيد لا في لقب، ولا في كنية ولا غيرها. نعم.
مثلًا يكون يعلم أن هذا الشيخ أو هذا الراوي قد سمع من ذلك الشيخ في سنة من السنوات، وهذا السماع أو هذا التاريخ ليس مذكورًا في الإسناد الذي تروي به الجزء أو الكتاب، فإنه حينئذ لا يجوز أو يكره لك على هذا الرأي أن تضيف إليه تاريخ السماع، فلا تقول: فلان عن فلان سنة كذا . نعم .
لأنه قدر زائد على المعنى، ولا يسوغ إذا وصلت إلى الكتاب أو الجزء أن تتصرف في تغيير أسانيده ومتونه.
يعني: إذا وصلت إلى الإمام البخاري مثلًا أو إلى أبي داود أو إلى الطبراني وغيرهم، فإنه حينئذ لا يصلح لك أن تتصرف في الأسانيد ولا في المتن فيما بين صاحب الكتاب، وبين النَّبي - صلى الله عليه وسلم - فلا تغير شيئًا، بل تتركه على حاله . نعم .
ولهذا قال شيخنا ابن وهب ينبغي أن يُنْظر فيه، هل يجب ؟ أو هو مستحسَن،... .(1/269)
يعني هل يجب عدم التغيير ويلزم، أو أن هذا من باب الاستحسان فقط ؟ المسألة خلاف . نعم .
وقوَى بعضهم الوجوب مع تجويزهم الرواية بالمعنى وقالوا: ما له أن يغير التصنيف، وهذا كلام فيه ضعف، أما إذا نقلنا من الجزء شيئًا إلى تصانيفنا وتخاريجنا، فإنه ليس في ذلك تغيير للتصنيف الأول .
يعني: أن التصنيف إذا كنت ترويه بسندك، فلا يجوز التغيير؛ لأن هذا، لا يجوز التغيير عن طائفة من العلماء، لأن هذا أصل أو منقول عن أصل مسموع معتبر، فالإضافات التي توجد منك على هذا الأصل، هذه الإضافات زائدة على الأسانيد أو المتون، فيجوز لك أن تتصرف بما لا يخل بالمعنى، من -مثلًا- اختصار الأحاديث، كاختصار -مثلًا- الحديث، يجوز لك أن تختصر الحديث وتقطعه، أو تختصر الأسانيد أو تتصرف في الأسانيد على طريقة التحويل كل هذا جائز لك إذا كنت تنقله إلى تصنيفك للكتاب الذي تصنفه، أو إلى التخاريج، والتخريج أو التخاريج، كتب التخاريج أو طريقة التخاريج هذه كثيرة عند أهل الحديث، والمراد بها هنا، والله أعلم، أنها المراد بالتخاريج هي ما يسمعه بعضُ أهل العلم من رواية أحاديث بعضِ الكتب إليها .
مثلا: يأتي الحافظ ابن حجر في الأذكار فيخرِّج حديثًا في الأذكار النووية فيروي الحديث بإسناده إلى البخاري، أو بإسناده إلى مسلم، أو بإسناده إلى أبي داود، فهذا يسمى، يسمى في اصطلاح أهل الحديث تخريجًا، فيجوز مثلًا لابن حجر في هذه الحالة أن يتصرف في بعض الأسانيد مثلًا إذا كان الإمام البخاري يروي حديثًا عن شيخه -مثلًا- أبي نعيم الفضل بن دكين، أو شيخ آخر، يجوز للمؤلف إذا كان عنده الإسناد، قد تقدم يجوز له إذا وصل إلى أبي نعيم وحدثه رواه من طريق البخاري عن أبي نعيم، ويحيل على الإسناد السابق الذي يوجد في الحديث الذي قبله، وإن كان في صحيح البخاري يوجد الإسناد كاملًا من البخاري إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - .(1/270)
فالشاهد أنه قد يعبر، قد يعبر بالتخاريج ببعض الاصطلاحات المعروفة عند أهل الحديث، إما مثلًا يقول: بنحوه أو بمثله في المتون، أو بإسناد، بالإسناد السابق أو به تشمل المعنى، تشمل الحديث، تشمل متن الحديث، وتشمل إسناده أو به ويقصد بها الإسناد، ولو لم يسق الإسناد، وإن كان الإسناد أو المتن مسوقًا في الصحيح، فهذا من باب التصرف في الأسانيد والمتون بما لا يخل، فهذا جائز إذا أخرجت من أصولها إلى التصانيف والتخاريج. نعم .
قلت: ولا يسوغ تغيير ذلك إلا في تقطيع حديث .
يعني قد يكون الحديث مشتملًا على -مثلًا على- معاني كثيرة، وأنت تريد الاستدلال على موضوع معين أو على عنوان معين، فإنه يجوز لك حينئذٍ الاجتزاء بقطعة من الحديث ما لم تكن مرتبطة بما بعدها أو بما قبلها ارتباطًا يُخل، يؤثر حذفه على المعنى .
فمثلا: لو واحد أراد الاستدلال بحديث: " والصلاة نور، والصدقة برهان، والقرآن حجة لك أو عليك " فلو أراد استشهاد به في القرآن قال: كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " القرآن حجة لك أو عليك " هذا جائز، هذا من باب تقطيع الحديث هذا جائز له؛ لأن ما بعدها وما قبلها لا ارتباط له بهذه الجملة، فما بعدها: " فكل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها " فهذا كلمة " والقرآن حجة لك أو عليك " هذا ليس له ارتباط بما قبله وما بعده ارتباطًا يخل الحذف أو تقطيع الحديث بالمعنى . نعم .
ولا يسوغ تغيير ذلك إلا في تقطيع حديث أو في جمع أحاديث مفرقة إسنادها واحد.(1/271)
يعني: يكون عندنا حديث من الأحاديث الهامة الأحاديث كثيرة، كثيرة عن أبي هريرة سردها الإمام أحمد -رحمه الله- في المسند جميعًا، وهي نسخة طويلة جدًّا، فمثل هذه يجوز أنك ما تكرر الإسناد فيها، بل تجمع هذه الأحاديث كلها أو تجمع بعضها الذي تختاره، وتضع لها إسنادًا واحدًا تقول: رواه -مثلًا- مسلم عن طريق همام، أو رواه مسلم من طريق همام عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم تسرد ما تختاره من هذه الأحاديث . نعم .
فيقال فيه: وبه إلى النبي، - صلى الله عليه وسلم - .
يعني: وبالإسناد إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- ثم يذكر المتن . نعم .
وهذا صنعه -يعني: في غير التخاريج صنعه- الإمام أحمد في المسند كله، وبه وبه يعني بالإسناد السابق لهمام عن أبي هريرة . نعم .
قول المحدث سمعت فلانًا فيما قرأه علي
وقَالَ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: مسألة: تسمح بعضهم أن يقول: سمعت فلانًا فيما قرأه عليه، أو يقرؤه عليه الغير، وهذا خلاف الاصطلاح أو من باب الرواية بالمعنى، ومنه قول: المؤرخين سمع فلانًا وفلانا .
يعني أن الراوي إذا كان تحمله عن طريق القراءة، فإن إذا جاء بصيغة "سمعتُ"، فهذه يعني فيها نوع من التجاوز قليلًا كما مرَّ معنا يوم أمس؛ لأني سمعت هذه ظاهرة جدًّا في السماع من لفظ الشيخ، وهذا الذي قرئ على الشيخ، وهو حاضر، أو قرأه على الشيخ، ولم يسمع لفظ الشيخ، لكن هذه كلمة سمعت جوزها بعض العلماء حتى في القراءة على الشيخ، كما مر معنا أمس، وهو مروي أو يروى عن الإمام مالك والله أعلم . نعم .
إفراد المحدث حديثا من نسخة تجمع أحاديث بسند واحد
وقَالَ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: مسألة: إذا أفرد حديثًا من مثل نسخة همام أو نسخة أبي مسهر، فإن حافظ على العبارة جاز وفاقًا كما يقول: مسلم ... فذكر أحاديث منها، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإلا فالمحققون على الترخيص في التصريف السائغ.(1/272)
يعني إن إذا كان الحديث يروَى من النُّسَخ الحديثية، فهذه النسخة ينبغي أن يقال كما كان الإمام مسلم يصنع فيها: لا يكتفي بإيراد الحديث الذي يريده من هذه النسخة دون الإشارة إلى الأحاديث الأخرى، بل يشير إلى الأحاديث الأخرى، فإذا روى الحديث من طريق همام عن أبي هريرة قال: وذكر أحاديث، وهذه إشارة إلى الأحاديث التي لم يذكرها الإمام مسلم، ثم ذكر الحديث الذي يريد أن يختاره من هذه النسخة أو يريد إيراده من هذه النسخة، هذا هو الأكمل؛ لأن فيه إشارة إلى المحذوف؛ لأن هذه نسخة واحدة تروى بها مجموعة من الأحاديث. نعم.
اختصار الحديث وتقطيعه
وقَالَ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: مسألة اختصار الحديث وتقطيعه جائز إذا لم يخل معنى، ومن الترخيص تقديم متن سمعه على الإسناد.
يعني أن الحديث إذا كان حذفه لا يؤثر على المعنى جاز كما مر معنا في الحديث السابق، فإذا كان لا يؤثر، بحيث كان ليس له تعلق وثيق بما قبله ولا بما بعده جاز اختصار الحديث، جاز اختصار الحديث. والأولى في مثل هذا أن يشار الاختصار إما أن يقال: مختصرًا أو يقال: ...الحديث، أو جزء من حديث فلان أو نحو ذلك مما يشعر بالاختصار، مما يعطي الاختصار، ويدل على الاختصار، لكن إذا كان له تعلق، فلا يجوز حذفه مثل: " لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين إلا رجل كان يصوم صومه فليصمه " فقوله: "إلا رجل" هذا ما يجوز حذفه لأجل التعلق بما قبله في الحكم، فهنا لا يجوز حذف هذا، لا يقال: "قدموا رمضان بصوم يوم أو يومين".
ثم يقال: هذا مختصر، هذا غلط؛ لأنه يقتضي التعميم في جميع الناس، وهذا غلط، الحديث استثنى " إلا رجل كان يصوم صومه فليصمه " .
فإن كان له ارتباط يؤثر في المعنى، سواء بما قبله أو بما بعده لم يحذف، أو لم يجز اختصار الحديث. نعم .
ومن الترخيص تقديم متن سمعه على الإسناد وبالعكس كأن يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " الندم توبة " . .(1/273)
يعني هذا الكلام من اختصار الحديث أنك تورد الحديث أولًا المتن، ثم تورد إسناده بعد ذلك، ثم تورد إسناده بعد ذلك، فتقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم تقول: حدثناه فلان وفلان إلى أن تأتي إلى الصحابي، إلى أن تأتي إلى الصحابي، أو بالعكس، أو بالعكس، تورد الإسناد ثم المتن . نعم .
متى يقول في الحديث يسوقه بعد الحديث مثله أو نحوه
قَالَ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: مسألة إذا ساق حديثًا بإسناد، ثم أتبعه بإسناد آخر، وقال: مثله، فهذا يجوز للحافظ المميز بالألفاظ، فإن اختلف اللفظ قال: نحوه أو قال: بمعناه أو بنحو منه.
هذا متعلق بالإحالة، بإحالة المتن إن كان عندك حديث له إسنادان، فهذا الحديث إما أن يكون لفظ الطريقين واحدا، فهذا إما أن تقول: بمثله أو بلفظه، وإذا كان اللفظ مختلفًا، والمعنى واحد، فإنه يعبر عند العلماء بقولهم: بنحوه أو بمعناه، يجوز أن تقول: بنحوه أو بمعناه، فكلمة نحوه هي قول: معناه، هي تفيد، تعطي أن هذا الحديث يروى بالمعنى .
أما بمثله أو بلفظه فهذا تعطي أن اللفظ واحد، لكن مثلًا بمثله أو بلفظه لا يقتضي أنه ما يتغير بعض الحروف أو بعض الكلمات، لكن في جملته واحد، اللفظ واحد، لكن المعنى تكون الألفاظ أكثرها مختلف والمعاني واحدة، فهذا يعبر عنه بمعناه أو بلفظه، وهذا يستفاد منه في صحيح الإمام مسلم، يكثر منها الإمام مسلم -رحمه الله- . نعم .(1/274)
والعلماء في مثل هذا لا يدققون إلا، يدققون تدقيقًا، إلا في مواطن الإعلال، في مواطن الإعلال؛ ولهذا أهل التخاريج غالبًا ما يذكرون بنحوه لا بلفظه فتجد مثلًا ابن حجر والعراقي وغيره يوردون الأسانيد، فإن كان في المتن شيء أو لفظة معلَّة فإنهم حينئذ يتكلمون، يوردون الألفاظ، أما إذا لم يقل، فأحيانًا يقولون: بمثله أو بنحوه أو بمعناه، وأحيانًا لا يذكرون ذلك، وهو الغالب أنه الغالب لا يذكر، أنه الغالب لا يذكر، لكن يأتي التدقيق فيها في مسألة الإعلال، إذا وجد فيه علة في المتن . نعم .
تحمل الحديث من طريق المذاكرة
وقَالَ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: مسألة إذا قال حدثنا فلان مذاكرة دل على وهم ما إذ المذاكرة يتسمح فيها، ...
المذاكرة هو تذاكر الحديث لا على سبيل التحديث يجتمع، كانوا يجتمعون فيذاكر أحدهم الآخر، يقول: ماذا عندك من حديث مثلًا أبي إسحاق ؟ فيسرد له حديث من يحفظ حديث أبي إسحاق، يستذكرون، ففي مثل هذه الحالة، في مثل هذه الحالة، يعني: قد يتجاوز بعض العلماء في التعبير، في بعض الأحاديث، يتجاوز حال المذاكرة، فالتحمل هي تحمل من حال المذاكرة، يعني: يضعف الأمر، ويضعف التحمل، ولا ينبغي الاعتماد على وسائل التحديث المذكورة في باب المذاكرة؛ لأنهم يتسامحون فيها، ولا يدققون، لكن إذا أراد المحدثون من يحدث راجع كتابه وأصله، ثم حدث بحسب ما سمع، لكن على سبيل المذاكرة لا يدققون في ذلك؛ لأن المقصود مذاكرة الأحاديث وحفظها وبيان ما فيها من العلل المؤثرة . نعم .
ومن التساهل السماع في غير مقابلة، فإن كان كثير الغلط لم يجز، وإن جوزنا ذلك فيصح فيما صح من الغلط دون المغلوط، وإن ندر الغلط فمحتمل، لكن لا يجوز له فيما بعد أن يحدث من أصل شيخه.(1/275)
يعني: أن الراوي إذا روى أو إذا أراد أن يحدث عن شيخه، فلا يحدث عنه إلا بعد مقابلة أصله بأصل شيخه للتأكد من سلامة ما سمعه من شيخه، لكن لو حدث قبل المقابلة فما صح من هذه الأشياء من الغلط، يعني رواه على وجهه الصحيح هذا يقبل، وأما ما وقع من الغلط والأشياء المغلوطة في الرواية، فإنها لا تكون صحيحة، فإنها لا تكون صحيحة . نعم .
آداب المحدث
تصحيح النية من طالب العلم متعين
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، قال الإمام الذهبي -رحمه الله تعالى: آداب المحدث: تصحيح النية من طالب العلم متعين، فمن طلب الحديث للمكاثرة أو المفاخرة أو ليرغي أو ليتناول الوظائف أو ليثني عليه وعلى معرفته فقد خسر، وإن طلبه لله وللعمل به وللقربة بكثرة الصلاة على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - ولنفع الناس، فقد فاز، وإن كانت النية ممزوجة بالأمرين، فالحكم للغالب، وإن كان طلبه لفرط المحبة فيه، مع قطع النظر عن الأجر وعن بني آدم فهذا كثيرًا ما يعتري طلبة العلوم، فلعل النية أن يرزقها الله بعد، وأيضًا فمن طلب العلم للآخرة كساه العلم خشية لله، واستكان وتواضع، ومن طلبه للدنيا تكبر به وتكثر وتجبر وازدرى بالمسلمين العامة، وكان عاقبة أمره إلى سِفالة وحقارة، فليحتسب المحدث بحديثه رجاء الدخول في قوله: - صلى الله عليه وسلم - " نضَّر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها، ثم أداها إلى من لم يسمعها " .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. :
فهذا أدب من آداب المحدِّث هو تصحيح النية في طلب العلم لله؛ لأن العلم عبادة، كل عبادة يجب صرفها لله، وإخلاص النية لله -تعالى- هذا أمرٌ عزيز، ولكن على المسلم أن يجاهد نفسه في تحصيلها؛ لهذا كان العلماء حريصين عليها، ولما قِيل لبعضهم: حدِّثنا قال: حتى تجيء النية .(1/276)
لأنهم يطلبون بهذا التحديث الأجر والثواب من عند الله -تعالى-، ومع عدم حضور النية وصحتها لا يكون هناك أجرٌ للعبد، والناس على ثلاثة أقسام: قسم صحَّت نيته لله -تعالى-، وهذا قلة قليلة، وقسم يجاهد نفسه في تصحيح النية، وهذا الشأن في كل مسلم، أن يجاهد نفسه في تصحيح النية، تصحيح النية في طلب العلم معناه أن يطلب العلم ابتغاء رضوان الله، وأن يطلبه رجاء أن ينتفع به في عبادته، وأن ينفع به غيرَه من إخوانه المسلمين، وأن ينتفع بما يحتفُّ بهذا العلم من صلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - وذِكْرٍ لله -تعالى-، وقسم ثالث: وهو مَن لم تكن له نية أصلًا، وإنما طلب العلم رغبة في العلم وحده، فهذا كما ذكر المؤلف لعله من تأتيه النية الصحيحة بعد ذلك لفراغ قلبه من النية بخلاف مَن كان قلبه مشربًا بغير النية الصحيحة، وهناك قسمٌ، وهو مَن ترددت نيته بين هذا وهذا، فالحكم للأغلب كما قرره المؤلف ها هنا، قرره الحافظ ابن رجب في غير موضع أن النية باعتبار الأغلب، فمن كان غالب نيته لله فهو لله، وإن لم يكن غالب نيته لله فهو لغير الله تعالى .
وهنا كلمة ذكرها المؤلف، وغيَّرها المحقق، وتغييرها غلط، وتغييرها غلط، والصواب ذكرها وهو قوله: "وكساهُ العلم خشيةً لله" هذا، هذه الكلمة جاء بها المحقِّق بدلًا من الكلمة الأصلية الموجودة، وهي: "وكسرَهُ العلم وخَشَع لله" وهذه عبارة صحيحة، ومعنى كسره العلم، يعني: غلبه العلم حتى تلبَّس به، وأورثَه الخشوع لله -تعالى-، فهذه العبارة: " كَسَره العلم وخشع لله" . هذه عبارة صحيحة فاستبدالها غير صواب، فاستبدالها غير صواب، بل تبقى كما كانت في أصلها تقول: "كسره" يعني كما هو معروف في لغة العرب يعني غلبه، غلبه العلم، والعبد إذا غلبه العلم، وكان الغالب على حاله العلم، فإن هذا يورث الخشوع والخشية لله تعالى . نعم .
لزوم المحدث الإمساك عن التحديث عند الهرم وتغير الذهن(1/277)
وليبذل نفسه للطلبة الأخيار لا سيما إذا تفرَّد، وليمتنع مع الهَرَم، وتغيير الذهن، وليعهد إلى أهله وإخوانه حال صحته أنكم متى رأيتموني تغيرتُ فامنعوني من الرواية، فمن تغير بسوء حفظ، وله أحاديثُ معدودة، قد أتقن روايتها فلا بأس بتحديثه بها زمن تغيره، ولا بأس بأن يُجيز مروياته حَال تغيُّره، فإن أصوله مضبوطة ما تغيرت، وهو فقد وعي ما أجاز.
يعني أن الراوي إذا...، أو هذا هو الحد الذي ينبغي للمحدث أن يقف عنده عن التحديث، وهو إذا تغيَّر، كَبِرت سِنُّه، فإن العادة أن الحفظ يضعف، فينبغي له التوقف، فالمؤلف ها هنا لا يرى سِنًّا معينة للتوقف عن التحديث، بل يرى أنه متى أحس من نفسه تغيُّرًا فإنه ينبغي له التوقف عن التحديث خشيةَ أن يقع في الأغلاط والأوهام كما حصل من بعض الرواة الذين تغيَّر حفظهم، فحدثوا فأخطئوا كثيرًا، ولهذا توجد في بعض التراجم: تغير حفظه بآخرة. أو نحو ذلك، ويجعلون رواية من روي عنه بعد التغير رواية ضعيفة، وإن كان الراوي هذا في أصله من ثقات الأثبات، فالمقصود أنه إذا رأى من نفسه تغيُّرًا في الحفظ، فإنه ينبغي له أن يمسك عن التحديث .
وقال المؤلف أيضًا: ينبغي له أن يوصي أهله أن يمنعوه من التحديث أو يمنعوه من الدخول عليه بسماع الحديث إذا كبر، إذا تغير؛ لأنه قد يكون التغير مفاجئًا أو طارئًا، فإذا حصل التغير، أو ينبغي للمحدث أن يوصي أهله بذلك، حتى لا يسمع منه حال تحديثه وهذا التغيُّر، وهذا التغيُّر تجوز معه الإجازة، يعني: التحديث باللفظ هذا ينبغي الإمساك عنه، لكن إذا كانت أصوله عنده فإنه...، وأجاز غيره إجازة، وأذن له في رواية هذه الأحديث، فإن هذه الإجازة تعتبر صحيحة ما لم يكن هناك تغير فاحش. نعم.
وليبذل نفسه للطلبة الأخيار، ولا سيما إذا تفرد .(1/278)
يعني أن المحدث ينبغي له أن يبذل نفسه للطلبة الذين يطلبون العلم، وهذه صفة الأخيار، وهذه الصفة الغالبة على طلبة العلم الشرعي، طالب العلم الشرعي الأصل فيه أن يكون من الأخيار، وهذه الصفة غالبة، يعني الأخيار الطلبة الأخيار صفة غالبة، وهذا البذل يزداد تأكيدًا حين يكون متفردًا بالرواية؛ لأن بعض الرواة، بعض المحدثين يتفرد لا يشاركه فيها غيره أو يكون معمَّرًا في السن، فيكون هو الباقي من الطبقة التي يعيش فيها، يكون قد أدرك مشايخ لا يشاركه في الرواية عنهم أحدٌ من أهل عصره، وهكذا بالنسبة لسائر الفنون، إذا كان عِنْده علم، متخصِّص في العلم، لا يشاركه أحد فيه، فإنه يزداد تأكدا أو تأكيدا بذله لطلبة العلم . نعم .
وليمتنع مع الهَرَم وتغيير الذِّهن، وليعهد إلى أهله وإخوانه حال صحَّته أنكم متى رأيتموني تغيرت فامنعوني من الرواية، فمن تغيَّر بسوء حفظ، وله أحاديث معدودة قد أتقن روايتها، فلا بأس بتحديثه بها زمن تغيره .
رسم في الأصل هكذا قد أدمن في دربتها .
هذه العبارة اللي في الحاشية صحيحة، تغييرها غلط، تغييرها من الأصل غلط أيضًا من المحقق، الصحيح ما في الحاشية، أما المتن فهو غلط؛ لأن هناك أئمة كانوا حفَّاظًا متقنين لروايتهم فتغيروا، فتغيروا، فإذا أخذ بكلام المؤلف تعارض مع هذا، والثاني أن العبارة الموجودة أصلًا صحيحة، تغييرها غلط، القول: أدمن على روايتها، يعني: وأدمن على دُرْبَتِهَا يعني: واظب عليها حتى كثر علمه بها، واتسع علمه فيها، فتكون مظنَّة الغلط حتى بعد التغير يعني: ضعيفة، تكون مظنَّة الغلط بعد التغير ضعيفة، وإلا فكثير من الرواة كانوا يضبطون مروياتهم، فلما تغيروا أخطئوا، لكن إذا كان مدمنًا، يعني: مواظبًا بكثرة على هذه الأحاديث والنظر فيها وتردادها والتوسع في شأنها، فإنه يكون ضابطًا لها غالبًا، حتى ولو تغير حفظه .(1/279)
وأدمَن في لغة العرب: تتعدَّى بنفسها، تتعدى بعلى، أدمن على الشيء ، وتتعدى بنفسها، أدمن الشيء .
وهنا في الحاشية تعدت بفي، أدمن في دربتها، وفي هنا تُستعمل أو يكون معناها "في" بمعنى الاستعلاء بمعنى الاستعلاء، وهو من معاني "في" في لغة العرب، فتكون موافقة لـ "على" في دلالتها على الاستعلاء، فيكون الكلام مستقيمًا، فيكون الكلام اللي في الحاشية مستقيمًا، وتغييره من الأصل بدون برهان هذا غَلَط . نعم .
فمن تغير بسوء حفظ، وله أحاديث معدودة، قد أتقن روايتها، فلا بأس بتحديثه بها زمن تغيره، ولا بأس بأن يجيز مروياته حال تغيره، فإن أصوله مضبوطة ما تغيرت، وهو فقد وعى ما أجاز.
يعني: المتغيِّر له حالان، حال تأدية باللفظ أو بالقراءة عليه، وهذا غالبًا إذا تغير حفظه يخطئ لا يُتْقِن هذه المرويات، لكن بالنسبة للأصول، وإن تغيَّر حفظه، الأصول التي كتبها وحفظها حتى، ولو تغير حفظه في ذهنه، فإنه يبقى أو تبقى هذه الأصول لم يَمْسَسها شيء، فكونه يجيزها إلى شخص آخر، ولو في حال التغير، هذا يعني جائز سائغ لا بأس به.
وهذا مثله مثل اللي لا يحفظ الحديث أصلًا، هناك بعض العلماء لا يحفظون الحديث أصلًا، وإنما يكتبون كتابةً، فهؤلاء إذا كَتَبوا في أصولهم وحافَظوا عليها قبلت روايتهم كما تقدم معنا، فإذا أجازوا غيرهم بهذه الرواية صحت إجازتهم، وإن كانوا لا يحفظون أصلًا ما أودعوه في كتبهم، فهذا المتغيِّر مثله مثلهم إذا تغير حفظه في ذهنه، فإنه تبقى أصوله صحيحة مضبوطة، فإذا أجازها لغيره كانت إجازته صحيحة لا غُبَار عليها. نعم.
الامتناع من أخذ الإجازة من المحدث
فإن اختلط وخرف امتنع من أخذ الإجازة منه .(1/280)
هذا هناك تغيُّر، وهناك اختلاط، الاختلاط هو فساد العقل وذهابه، وعدم انتظام الأقوال والأفعال، هذا غالبًا يحصل مع كبار السن أو لسبب عارض، يعني إذا -يعني إذا- اختلط معناه صارت أحاديثه لا تتميز ولا يميز أحاديثه، إذا قيل: هذا من حديثك لا يدري هل هو من حديثه أو لا، أو يقال: هذا من حديثك فيقول: نعم، وهو ليس من حديثه، فهذا يسمى مختلطًا .
وأما التغيُّر فهو درجات تغير قليل، وتغير متوسط، وتغير كثير، وتغير كثير، فالمتغير تغيُّرًا فاحشًا هذا هو والمختلط سواء، هو والمختلط سواء، ولهذا يعبر عن بعض المختلطين بأنه تغير، يعبر عنه دائمًا في اصطلاح أئمة الجَرْح والتعديل، يعبرون بالاختلاط والتغير أو يطلقون الاختلاط والتغير علي شيء واحد، لكن التغير أعم من الاختلاط، التغير أعم من الاختلاط، التغير أحيانًا لا يؤثر علي الرواية مطلقًا ليكون التغير؛ لكونه تغيرًا قليلًا .
أما إذا كثر التغير ولم يبلغ حد ... ، أما إذا زاد عن القلة ولم يبلغ حد الكثرة فهذا يسمي تغيرًا، ويقع من الراوي أخطاء فيه، لكن لا تكون كثيرة ولا فاحشة، أما إذا كثرت أخطاؤه بعد أن كان ضابطًا، فهذا يسمي متغيرًا، ويسمي مختلطًا، ويسمي مختلطا .
فالمتغير المتغير إذا كان تغيره غير فاحش، فكما مر حكمه قبل قليل، أما إذا كان تغيرًا فاحشًا أو كان مختلطًا، فحكمهما سواء، فحكمهما سواء، يمتنع الراوي أن يأخذ منه؛ لأنه في هذه الحالة يكون حديثه ضعيفًا لا صحيحًا، يكون حديثه ضعيفًا لا صحيحًا . نعم .
تحديث المحدث مع وجود من هو أولى منه
ومن الأدب ألا يحدث مع وجود من هو أولى منه لسنِّه وإتقانه، وألا يحدث بشيء يرويه غيره أعلى منه.(1/281)
يعني لا يحدث مع سنه وإتقانه، يعني مع عدم الحاجة إليه، مع عدم الحاجة إليه، وإلا النبي -عليه الصلاة والسلام- بعث معاذ وغيره لتعليم الناس، وفيه من هو أولى منه في السن والإتقان فيه أبو بكر، وفيه عمر، لكن بعث معاذا للحاجة، فمع الحاجة، وهذه كلها آداب ليست على سبيل الوجوب والاستحباب، وإنما من باب الآداب . نعم .
بذل النصيحة
وألا يَغُشَّ المبتدئين، بل يدلهم على المهم فالدين النصيحة .
يعني: ألا يَغُشَّ المبتدئين في العلم، لا يغش المبتدئين في العلم، فينصح لهم كما ينصح لنفسه في العلم، يرشدهم إلى ما هو أقوم وأهدى، ويوجههم إليه، هذا هو حال المحدث مع الرواة عنه . نعم .
فإن دلَّهم على معمَّرٍ عامي وعلم قصورهم فيه قامت مرويات العامي نصحهم ودلهم على عارف، يسمعون بقراءته أو حضر مع العاميِّ، وروى بنزول جمعًا بين الفوائد .
هناك معمَّرون يعيشون طويلًا، وهم من عامة الناس، ولكن عندهم مرويات، ولكن عندهم مرويات، وليسوا بعلماء، فهؤلاء ذكر المؤلِّف أنه ينبغي للمحدث إذا دلَّ الرواة على الرواية عن ذاك المعمَّر، إما أن يدلهم على عارف آخر، يعني: عالم يروي الأحاديث التي يرويها المعمر، فيسمعونها من الجهتين، يسمعونها من المعمَّر طلبًا لعلوِّ الإسناد، ويسمعونها من العارف تأكيدًا لصحة ما رواه المعمَّر، أو يحضر معهم فيسمعون من هذا المعمَّر، فما أصاب فيه هذا المعمَّر ووافق الرواية الصحيحة بين لهم، وما أخطأ فيه المعمر، فإنه كذلك يبين لهم هذا المحدث ما أخطأ فيه المعمر.
فحضوره معهم عند المعمر إنَّما هو من جهة تقويم رواية المعمر، فإذا رووا عن المعمَّر حصل لهم علو الإسناد، وبحضور هذا العالِم أو هذا المحدِّث يحصل لهم ضمان السلامة من الوقوع... أو اتباع المعمر فيما أخطأ فيه من الرواية نعم.
التهيؤ للتحديث(1/282)
وروى أن مالكا -رحمه الله- كان يغتسل للتحديث، ويتبخر ويتطيب ويلبس ثيابه الحسنة، ويلزم الوقار والسكينة، ويزجُر من يرفع صوته ويرتل الحديث.
هذا فيه شيء من الآداب التي يستحب أن يفعلها كما كان الإمام مالك -رحمه الله- يفعل ذلك، وهذه الآداب إنما جاءت من جهة أن العلم عبادة، هناك عبادات، خاصة كانوا يحدثون في المساجد، هذه العبادات مقيوسة، أو لها قياس على الصلاة، فالصلاة ينبغي لها أخذ الزينة، ينبغي لها الوضوء، إذا كان يوم الجمعة الاغتسال، وفي العيدين الاغتسال على سُنَّة ابن عمر -رضي الله عنهما- وهذا، ويأتي إلى الصلاة بسكينة ووقار، فالعلم هو عبادة، فضَّله بعض العلماء على نَوَافِل...، أو كثير من أهل العلم على نوافل العبادات البدنية، فهذا العلم من بابِ القياس على...، لكونه عبادة، قاسوه على... أو قِيس على الصلاة، قيس على الصلاة هذا من جهة .
والجهة الثانية أن هذا من باب التَّعظيم لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقوله: "إن الإمام مالك كان يزجر من رفع صوته" يعني ينهره، ويزجره هذا من باب تعظيم النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن كان ميتًا؛ لأن الإمام مالك كان يحدث في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة .
والله جل جلاله قال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ } (1) فيستدل بها بعض العلماء على أنه لا يرفع الصوت حتى عند قبره - صلى الله عليه وسلم - والمسجد بجوار القبر أو القبر داخل المسجد . نعم .
ذم القراءة السريعة
وقد تسمَّح الناس في هذه الأعصار بالإسراع المذموم الذي يخفى معه بعض الألفاظ، والسماع هكذا لا ميزة له على الإجازة، بل الإجازة صدق، وقولك سمعتُ أو قرأت هذا الجزء كله مع التمتمة ودمج بعض الكلمات كَذِبٌ.
__________
(1) - سورة الحجرات آية : 2.(1/283)
يعنى: أن في الأعصار المتأخرة لعصر المؤلف وما قبله خاصة بعد كثرة الإجازة، هذه صارت القراءة فيه مجرد تمتمة أو بعضها فيه تمتمة ودمج الكلمات، يعني: التمتمة ما تظهر الكلمات على وجهها التصحيح؛ لأنه ليس المقصود بها السماع، إنما المقصود الإجازة، فالراوي على كلام المؤلِّف إذا سَمِع على هذا الوجه، وقال: سمعت من فلان، هذا كأن المؤلف يقول: فيه كذب؛ لأن هناك بعض الكلمات التي دُمِجت مع غيرها أو بعض الكلمات التي تُمْتِم حين إلقائها، هذه الأشياء، أو هذه إذا قال معها الراوي: سمعت، فإنه يكون فيه نوع كذب؛ لأنه يقول: سمعت لشيء لم يسمعه، أو لم يتقين من سماعه، لكن لو قال: أخذها من باب الإجازة، وقال: أجازني أو أنبأنا إجازة أو نحو ذلك، فإن هذا أسلم له، فإن هذا أسلم له وأحسن . نعم .
شرح المحدث لبعض الكلمات الغريبة الواردة في متون الأحاديث
وقد قال النسائي في عدة أماكن من صحيحه وذكر كلمة معناها كذا وكذا .
هذه الجملة، الكلام اللي ذكره المؤلف، يعني لم يظهر لي وجهه، ولكن يحتمل، إما أن يكون المؤلف أراد أن الإمام النسائي -رحمه الله- كان يفسر الكلمات الغريبة، وهذا واقع في سنن النسائي، لكن على قلة أيضًا، وغيره قد - أيضًا - شرح بعض الكلمات الغريبة، وبعضه قد شرح، بعض العلماء أو بعض المؤلفين كأبي داود وغيره شرحوا بعض الكلمات الغريبة التي ترد في متون الأحاديث، فلا مَزِيَّة على هذا التفسير للنسائي على غيره، فلا مَزِيَّة إذا فسرنا هذا الكلام على هذا الوجه، فلا مَزِيَّة للنسائي؛ لأنه يشاركه فيه غيره، وإما أن يكون مراده أن النسائي -رحمه الله- كان يقول كذا وكذا للكلمة التي لم يتيقن النسائي من سماعها على وجهها الصحيح، وهذا يعني لم أجد له مثالًا في السُّنَن لا الكبرى ولا الصغرى، والله أعلم بمراد المؤلف . نعم .
عقد مجالس الإملاء(1/284)
وكان الحُفَّاظ يعقدون مجالس للإملاء، وهذا قد عُدِم اليوم، والسماع بالإملاء يكون محققًا ببيان الألفاظ للمسْمِع والسامِع .
يعني: إن كانت هناك مجالس للإملاء، كانت هناك مجالس للإملاء، يجلس المحدث فيملي الأحاديث التي يحفظها أو يقرؤها من كتابه، فيكتبون عنه، فكان هناك هذا يسمى المملي، وهناك المستملِي الذي ينقل، ينقل هذا الإملاء عن الشيخ، ويبلِّغه بصوته .
وبعض العلماء الذين كانوا يروون الأحاديث، ويحدثون بها، كان صوته لا يبلغ إلى نهاية الحاضرين لكثرتهم جدًّا، فكان هناك، يكون هناك مستملي أو اثنان أو ثلاثة أو أكثر من ذلك يبلغون ما يقوله: بمنزلة يعني كأنَّهم -يعني- أجهزة للتبليغ عن هذا المحدث للتبليغ، فهذا يسمى مستملي، والمجلس يسمى مجلس إملاء .
وهذا كان حتى الحافظ ابن حجر له الإملاء، والعراقي له الإملاء، يعقدون مجالس الإملاء، فنتائج الأفكار هذه إملاءات، الحافظ ابن حجر، هناك العراقي أماليه على المستدرَك للحاكم .
هناك أمالي الخلال، وهو متقبل، فهناك مجموعة من الأمالي تعقد لها مجالس فيمليها الشيخ، وتُروى عنه هذا يسمى، تُسمى مجالس الإملاء، نعم .
تجنب رواية المشكلات
وليتجنب رواية المشكلات مما لا تحمله قلوب العامة، فإن روى ذلك فليكن في مجالسَ خاصة .
يعني: أن هناك أشياء لا ينبغي التحديثُ بها إلا لخاصَّة الناس الذين يفقهون، فالأصل أنه يخاطَب كلُّ إنسان بما يدركه عقله، ويفقهه؛ لأنه إذا خوطب بغير ما يفقه قد يكون عليه أو يكون ذلك سببًا لنقصه لا زيادته، لكن إذا كان هناك أشياء مشكِلة، فإنها تُعْرَض على الخاصة الذين يفقهون، ويدركون ما يقول، ويدركون ما يقول، وهذا كما قال عليُّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - "حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يُكَذَّب اللهُ ورسولُه" - صلى الله عليه وسلم - ؟! نعم .
رواية الحديث الموضوع أو المطروح
ويحرم عليه رواية المرفوع ورواية المطروح إلا ليبينه للناس ليحذروه .(1/285)
يعني: أن المحدث سواء كان في العصور المتقدمة أو المتأخرة لا يحل له أن يروي الحديث الموضوع أو المطروح، وهو الضعيف جدًا كما تقدم إلا من باب بيان أنه ضعيف، فيقول: يُنْسَب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال كذا، وهو حديث ضعيف جدًّا، لا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يجوز نسبته إليه، أو يقول: هذا حديث موضوع لم يقله - صلى الله عليه وسلم - فإذا كان على سبيل البيان وإظهار حقيقة هذا الحديث، فهذا لا بأس به، يعني كما صنع المتقدمون الأولون في ذِكْرِ بعض الأحاديث في كتب العِلَل يوردونها لبيان ضعفها وعدم جواز نسبتها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وكما صنع المتأخرون في التأليف في الأحاديث الضعيفة والموضوعة، هذا ليس تأليفهم لها من أجل نسبتها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - والعمل بها إنما من أجل تحذير الناس من الاعتماد عليها وروايتها والعمل بمقتضاها. نعم.
تعريف الثقة
وقَالَ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: الثقة: تشترط العدالة في الراوي كالشاهد، ويمتاز الثقة بالضبط والإتقان، فإن انضاف إلى ذلك المعرفة والإكثار فهو حافظ .
هذا التعريف من المؤلف للثقة، من هو الثقة ؟ فالثقة كما سبق هو من جمع بين العدالة والضبط، فإذا تحقق فيه هذان الوصفان سمي ثقة، وسيأتي -إن شاء الله- في كلام المؤلف أنه ليس من شرط الثقة أن يسلم من خطأ، وسيأتي أيضا للمؤلف تعريف آخر للثقة، وهو من وثَّقه كثير، ولم يضعَّف.(1/286)
فالشاهد أن الثقة هنا ذكر المؤلف أنه من جمع بين الوصفين: بين الثقة، بين العدالة والضبط، يأتي بعده أو أعلى منه منزلة الحافظ، إذا كان ثقة حافظا فهو أعلى منزلة من الثقة؛ لأن الثقة الحافظ معناه، كما نص المؤلف هنا يجمع بين ثلاثة أمور العدالة والضَّبْط، هذه واحدة، وسعة الرواية، والمعرفة بما يروي، المعرفة بما يروى، يعني يميز الأحاديث التي يرويها، يميز صحيحها، يميز صحيحها من سقيمها، فإذا جمع هذه الثلاثة الأشياء سُمِّي حافظًا، وهو الذي نصَّ عليه الحافظ في النُّكَت.
فإذا كان الراوي يجمع هذه الثلاثة الأشياء، يعني اللي هي العدالة والضبط والمعرفة التامة بمروياته، والتمييز الصحيح بينها وبين السقيم وسعة الرواية وكثرتها، فهذا يسمى حديثه حديثا، أو يسمى هذا الرجل الذي يروي هذه الأحاديث يسمى ثقة حافظا. نعم .
طبقات الحفاظ
الطبقة في عرف المحدثين
والحفاظ طبقات .
يعني: أن الحفاظ مراتب، الحفاظ مراتب، وهذه المراتب سيوردها المؤلف بعد قليل، هذه الطبقات، وهذه الطبقة أو يطلقون الطبقة في عرف المحدثين على الجماعة الذين اشتركوا، اتحدوا في السِّن، أو اتحدوا في الإسناد بحيث كان شيوخهم، إما اشتركوا في الرواية عن شيوخ معيَّنين، أو كان شيوخهم متقاربين في... أو كان شيوخهم من طبقة واحدة .
فمثلًا: بعض الرواة قد يروي عن عشرة من المشايخ، ثم يأتي راوٍ آخر فيروي عن عشرة آخرين، ليسوا هؤلاء، فإذا كان الشيوخ في طبقة واحدة، يعني سنُّهم متقارب، سنُّهم متقارب فهذا يسمى طبقة، وإن لم يشتركوا في الرواية عن شيوخ معينين، وأحيانًا يشتركون في الرواية عن شيوخ، أو عن جماعة من الشيوخ المعينين فأيضًا هؤلاء يسمون طبقة.(1/287)
فالطبقة هي التقارب في الإسناد أو في الإسناد أو في السن أو في السن، التقارب في الإسناد أو في السن؛ لأنه قد يكون الراوي عمره تسعين سنة، ويكون آخر عمره سبعين سنة، ويكونون في طبقة واحدة لاشتراكهم في الرواية عن شيوخ متقاربين في السن، أو لكون أسانيدهم قريبة من حيث العلو، من حيث العلو كأن تكون أسانيدهم مثلا ثلاثية أو رباعية في الغالب . نعم .
أبو هريرة أحفظ من روى الحديث في دهره
والحفَّاظ طبقات في ذروتها أبو هريرة - رضي الله عنه - .
وأبو هريرة كما قال الشافعي: أحفظ من روى الحديث في دهره، وهذا ببركة دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - له لأنه كان يروي حديثا، شكا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يروي أحاديث كثيرة فيُنَسَّاه، فدعا له النبي - صلى الله عليه وسلم - قال أبو هريرة: "فما نسيت شيئا بعده"؛ ولهذا الإمام الشافعي -رحمه الله- لما جاء في حديث أبي هريرة في الغَسْل من ولوغِ الكلب، في حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- أن التعفير بالتراب يكون في المرة السابعة، يكون في السابعة، أو في إحداهن من السبع غسلات، وجاء في حديث عبد الله بن المغفل: " عفروه الثامنة بالتراب " وهذا في صحيح مسلم، لكن قال الإمام الشافعي -رحمه الله- فيما نقله البيهقي في المتن قال: وأبو هريرة أحفظ من روى الحديث في دهره، فهذا إشارة منه إلى ترجيح حديث أبي هريرة على حديث عبد الله بن المغفل. نعم.
الحفاظ من التابعين ومن بعدهم
وفي التابعين كابن المسيب وفي صغارهم كالزهري، وفي أتباعهم كسيفان وشعبة ومالك، ثم ابن المبارك ويحيي بن سعيد ووكيع وابن مهدي، ثم كأصحاب هؤلاء كابن المديني وابن معين وأحمد وإسحاق وخلق، ثم البخاري وأبي زُرعة وأبي حاتم وأبي داود ومسلم، ثم النسائي وموسى بن هارون وصالح جزرة وابن خزيمة، ثم ابن الشرقي .
وممن يوصف بالحفظ والإتقان جماعةٌ من الصحابة والتابعين، ثم عبيد بن الله بن عمر وابن عون ومسعر ثم...(1/288)
هذا من طبقة مالك لكن وقع في النسخ كهذا فالترتيب ها هنا ثم، هي الظاهر أنها على التراخي لكن، يلتمس لها وجها في لغة العرب، ثم بمعنى الواو، تأتي لكن ضعيفة . نعم.
ثم زائدة والليث وحماد بن زيد
هذا من المتقدمين، نعم .
ثم يزيد بن هارون وأبو أسامة وابن وهب
هذا من شيوخ أحمد المفروض أنه يأتي قبل طبقة أحمد، نعم .
ثم أبو خيثمة وأبو بكر بن أبي شيبة وابن نمير وأحمد بن صالح ثم عباس
وهذا من طبقة مثلها مثل: يزيد بن هارون، لكن تأخر، نعم .
ثم عبباس الدوري
وهذا عباس من طبقة الإمام أحمد، المفروض يأتي في طبقة أحمد، نعم .
وابن وارة والترمذي وأحمد بن أبي خيثمة وعبد الله بن أحمد
انتظر، عباس من طبقة تلاميذ أحمد، نعم.
ثم ابن صاعد وابن زياد النيسابوري وابن جوقى وابن الأخرم، ثم أبو بكر الإسماعيلي
وهذا من طبقة ابن خزيمة المفروض يأتي مع ابن خزيمة، نعم .
وابن عدي وأبو أحمد الحاكم، ثم ابن منده ونحوه، ثم البرقاني وأبو حازم العبدوي، ثم البيهقي وابن عبد البر، ثم الحميدي وابن طاهر، ثم السِّلَفي وابن السمعاني، ثم عبد القادر والحازمي، ثم الحافظ السباع وابن سيد الناس خطيب تونس، ثم حفيده حافظ وقته أبو الفتح، وممن تقدم من الحفاظ في الطبقة الثالثة عدد من الصحابة وخلق من التابعين وتابعيهم .
هؤلاءالمذكورون يجمعهم وصف سعة الرواية لا شك، سعة الرواية والشهرة بها، والشهرة بها، لكن من حيث تمييز الأحاديث الصحيح من السقيم، هذه تأتي في غير مرتبة الصحابة، وقد تكون غير مشتهِرَة في مرتبة كبار التابعين، لكن كلما تأخرنا قليلا، كلما جاء وتحقق الوصف الآخر وهو التمييز، بخاصة في طبقة الإمام فمَن دونه، من طبقة الإمام مالك فمن دونه، هؤلاء صار عندهم كثرة في تمييز الأحاديث؛ لأن الأسانيد قد طالت، كلما طالت الأسانيد احتاج الناس إلى تمييزها، لكن في الأول سعيد بن المسيب رواياته جلها عن أصحاب النبي -عليه الصلاة والسلام-، فليس بحاجة إلى تمييز.(1/289)
أبو هريرة يروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أو بواسطة بعض الصحابة، فليس هناك حاجة إلى التمييز، لكن كلما بعد السند أو طال السند كلما احتاج الناس إلى التمييز. وأحسن ما وقع فيه التمييز بين الروايات من عصر الإمام مالك - يعني على كثرتها - حتى عصر الإمام الدارقطني، إلى الدارقطني، هذا صار فيه التمييز قويا للأحاديث، وإن كان طبقة الإمام أحمد، والطبقة التي قبلها، والتي قبلها أيضا التي اللي فيها شعبة كثر فيها التمييز جدًّا، وطبقة أيضا تلاميذ أحمد وطبقة تلاميذ تلاميذه، هؤلاء صار تمييزهم للأحاديث فيه، يجمع بين نوعين الكثرة والقوة، الكثرة والقوة في التمييز؛ ولهذا كانت ألفاظهم دقيقة في التمييز.
يعني: الآن المتأخرون لما يُنْظَر في أحوال الرجال المتأخرين تجد غالبا الإمام الصدوق الثقة هذه عبارات مكررة، لكن عند الإمام أحمد وعلي بن المديني وغيره تأتي عبارات دقيقة، عندهم عبارات دقيقة: يهم، له مناكير، أخطأ في عشرة أحاديث، فعندهم دقة في وصف حال الرجل بخلاف المتأخرين، فإن العبارات أصبحت عبارات واسعة، أصبح مدلولها يعني: في التوسع، فيه توسع ظاهر.
فالشاهد أن هذه الطبقة اللي ذكرها المؤلف هؤلاء جمعوا بين وصف، عندهم عدالة، العدالة لا شك، والثانية عندهم ضبط، وهذا لا شك. والثالثة عندهم سعة حفظ.
والرابعة الغالب على الطبقة هؤلاء التمييز بين الصحيح والسقيم، ومن ترك التمييز؛ فهذا لأنه لا يحتاج إليه، لا يحتاج إليه كالصحابة والتابعين. نعم .
فمثل: يحيى القطان يقال فيه: إمام وحجة وثبت وجِهْبذ، وثقة ثقة، ثم ثقة حافظ، ثم ثقة متقن، ثم ثقة عارف، وحافظ صدوق ونحو ذلك .(1/290)
يعني: أن هؤلاء المذكورين في طبقات الحفاظ ممن ذكرهم المؤلف أو من يقاس عليهم ومن هو بمنزلتهم، هؤلاء أيضا مختلفون فيما بينهم من حيث الحفظ والإتقان، فكما أنهم طبقات بالنسبة للزمن، كذلك هم طبقات أو مراتب بالنسبة للفوارق بينهم من حيث الحفظ والتمييز، لكن يجمعهم كلهم صفة الحافظ . نعم .
تفرد الثقات من التابعين بالحديث
فهؤلاء الحفاظ الثقات إذا انفرد الرجل منهم من التابعين فحديثه صحيح .
يعني: مثلا: سعيد بن المسيب إذا تفرد بحديث أبي هريرة يسمى هذا الحديث حديثا صحيحا، نعم.
تفرد أتباع التابعين بالحديث
وإن كان من الأتباع قيل: صحيح غريب .
يعني: كان من أتباع التابعين، كان من أتباع التابعين يسمى صحيحا غريبا، فإذا روى شعبة عن الزهري عن أنس حديثا تفرد به شعبة عن الزهري هذا يسمى صحيحًا غريبًا لغرابته لتفرد شعبة به عن الزهري، فشعبة من أتباع التابعين، الزهري تابعي، وأنس صحابي، وشعبة من أتباع التابعين، فإذا جاءنا حديث تفرد به شعبة عن الزهري يسمى صحيحا غريبا، نعم .
تفرد أصحاب الأتباع بالحديث
وإن كان من أصحاب الأتباع قيل: غريب فرد .
يعني: إذا كان من أتباع الأتباع هذا يسمى غريبًا فردًا، وغريب فرد: هذه كلمة، هذه الكلمة ليست مستعملة في اصطلاح المتقدمين، لكنها استعملها الذهبي في مواضع من كتبه، واستعملها أيضا الحافظ ابن حجر، وهذه العبارة إنما هي -والله أعلم هي- صفة هي الغالب أنها صفة لا حكم، الغالب أنها صفة لا حكم، أما الأولون فكانوا إذا قالوا: غريب، يقصدون معنى من المعاني الحكمية .
أما كلام الحافظ الذهبي فهذا الظاهر أنه وصف لا حُكْم. والدليل أنه جاء هذا الوصف في، أو متعلق بطبقات الحُفَّاظ ، فهو وصف لرواية، فهو وصف للرواية .
وإن كان من أصحاب الأتباع قيل غريب فرد(1/291)
يعني: إذا كان من أتباع الأتباع هذا يسمى غريبًا فردًا، وغريب فرد: هذه كلمة هذه الكلمة ليست مستعملة في اصطلاح المتقدمين، لكنها استعملها الذهبي في مواضع من كتبه، واستعملها أيضا الحافظ ابن حجر، وهذه العبارة إنما هي- والله أعلم هي- صفة، هي الغالب أنها صفة لا حكم، الغالب أنها صفة لا حكم، أما الأولون فكانوا إذا قالوا: غريب يقصدون معنى من المعاني الحكمية، أما كلام الحافظ الذهبي فهذا الظاهر أنه وصف لا حكم، والدليل أنه جاء هذا الوصف في... أو متعلق بطبقات الحفاظ، فهو وصف للرواية، فإذا جاءنا -مثلا- عبد الله بن وهب، فروى عن مالك عن الزهري، عن أنس، أنس صحابي، والزهري تابعي، ومالك من أتباع التابعين، وعبد الله بن وهب من أصحاب التابعين، من أصحاب أتباع التابعين، هذا يسمى حديثه حديثا صحيحا غريبا فردا، غريبا؛ لكون الإمام مالك تفرد به، وهو من أتباع التابعين، وفردا لكون ابن وهب تفرد به من بين أصحاب الإمام مالك، نعم .
ويندر تفردهم، فتجد الإمام منهم عنده مائة ألف حديث لا يكاد ينفرد بحديثين، ثلاثة .
يعني: أن هؤلاء الحفاظ مع سعة روايتهم وكثرتها، قلَّ ما يتفردون بأحاديث، يعني: قل أن يروي حديثا، لا يرويه أحد معه، وإنما لا يروي إلا حديثا يشاركه فيه غيره، وهذه هي طريقة الحفاظ، طريقة الحفاظ أنهم كانوا يسمعون أحاديث كثيرة، ولكن ليس كل ما سمعوه حدثوا به، وإنما يحدثون بالأحاديث المعروفة، أما الأحاديث الغريبة، والتي لا يشاركهم فيها غيرهم، فكثير من الحفاظ يمتنعون من روايتها، وبعضهم إذا روى منها يخصُّ بها بعض تلاميذه، ولا يكثر من روايتها .(1/292)
وهذا الإمام الزهري مع سعة روايته وكثرتها جدًّا ذكر الإمام مسلم في الصحيح أنه تفرد بتسعين حديثا كلها بأسانيد جياد، كلها - كما قال الإمام مسلم - بأسانيد جياد، فكون الزهري مع جلالته وسعة روايته لا يتفرد إلا بتسعين حديثا، وهو من أيضا طبقة التابعين، صغار التابعين، فهذا يدل على أنَّ غيره ممن لم يبلغ حفظه إذا زاد عن نسبة الزهري يكون محل ضعف؛ ولهذا العلماء -رحمهم الله- يختبرون الراوي بالأحاديث التي يرويها من الغرائب، فإذا أكثر من الغرائب ضعف حديثه، وبخاصة إذا لم يكن من المكثرين من الرواية، ولو كان ثقة، ولو كان في أصله ثقة، إذا كثرت غرائبه ضعف، ولهذا لما الحسن بن علي المعمري له رواية واسعة جدًّا، موصوف بسعة الرواية جدًّا؛ لأنه كان من أحد المستملين للشيوخ، وكان في ذات الوقت من الرواة، كان تفرد مع سعة روايته بثلاثين أو عشرين حديثا، وضعفه بعض العلماء من أجل هذا، تفرد بثلاثين أو عشرين حديثا على سعة روايته .
ومع ذلك جاء بعض أهل العلم فضعفه، لكن رد عليهم البرديدي بأن مثل الحسن بن علي المعمري مع سعة روايته ينبغي له أن يتفرد بعشرين أو ثلاثين يعني: ما تضره إذا تفرد بعشرين أو ثلاثين حديثا، والمعمري نفسه بين أن هذا مما خصه به الشيوخ هذه الأحاديث الغرائب التي يرويها .
فالشاهد أنه مع سعة روايته ضعفه بعض العلماء لتفرده بعشرين أو ثلاثين حديثا. نعم .
ومن كان بعدهم، فأين ما ينفرد به؟ ما علمته وقد يوجد .
هكذا وقعت العبارة في الأصل فأين ما ينفرد به ؟ ولعل الصواب فقل ما ينفرد(1/293)
الصحيح فأين ما ينفرد به ؟ الصحيح تبقونها كما كانت، فأين ما ينفرد به ؟ والحاشية والتعليق غلط والتعليق غلط؛ أولا لأنه جاء بقوله ما علمته، وهذا جواب للاستفهام، فأين ما ينفرد به ؟ وهذا الاستفهام استفهام للاستبعاد، يعني: يستبعد أن يوجد أحد من الرواة بهذه الصفة؛ ولهذا قال بعد ذلك: وقل ما يوجد، وقل ما يوجد فتصير عبارة المؤلف: فأين ما ينفرد به ؟ يوضع بعدها علامة استفهام، والجواب: ما علمته، ما علمت أحد بهذه الصفة، وقد يوجد يعني: على قلة، وهذا من باب التقرير، يعني: قد يوجد لكن لم يطلع عليه الذهبي، أما إذا قلنا: فقل ما ينفرد به يكون السياق: فقل ما ينفرد به ما علمته يكون السياق ركيكا، يكون السياق ركيكا .
فالصواب ما ذكر في المتن ولا غبار عليه، وهذا واضح جدًّا، ما فيه إشكال . نعم.
ثم تنتقل إلى اليقظ الثقة المتوقظ ...
وعلى كل فإذا ما علمته هذه عبارة أو نحو هذه العبارة يستخدمها الذهبي في كتبه، وهي مشهورة، وهي مشهورة. والمقصود بها الاستفهام الاستبعادي، استبعاد الوجود، استبعاد وجود الشيء. نعم. وهي حتى مستعملة عند غير الإمام الذهبي، رحمه الله. نعم.
ما علمته هذا نفي . نفي أن يكون عالمًا، فأين ما علمته ؟ يعني: ما علمته، ما أعلم، ما أعلم أحدًا تفرد، ماشي، وقد يوجد من تفرد، أو من كان على هذه الصفة. نعم.
الراوي الثقة المتوسط المعرفة والطلب
ثم ننتقل إلى اليقظ الثقة المتوسط المعرفة والطلب، فهو الذي يطلق عليه أنه ثقة، وهم جمهور رجال الصحيحين فتابعيُّهم...
يعني: يكون هذا الراوي عدلًا في دينه ضابطا لما يرويه، ولكن ليس عنده سعة في الرواية، وليس عنده شهرة في طلب الحديث كشهرة المتقدمين، ولا المعرفة التامة بالأحاديث كمعرفة المتقدمين من الطَّبقات الذين ذكرهم المؤلف، فهو دونهم .(1/294)
وهذه السِّمة هي غالب الرواة؛ ولهذا تميز الحفاظ، تميز الحفاظ من بينهم، فغالب أو جمهرة رجال الصحيحين ممن صفوا بالثقة والعدالة والضبط، هؤلاء لا يبلغون درجة الحفاظ الكبار الذين مر ذكرهم في الطبقات السابقة، وهذا واضح . نعم .
ثم ننتقل إلى اليقظ الثقة المتوسط المعرفة والطلب، فهو الذي يطلق عليه أنه ثقة، وهم جمهور رجال الصحيحين فتابعيهم، إذا انفرد بالمتن خرج حديثه ذلك في الصحاح .
يعني: إنه مثلا سالم بن أبي الجعد هذا الثقة الضابط، لكن ليس بمنزلة من تقدم، فمثل هذا إذا روى عن ثوبان أو عن أبي هريرة أو غيره هذا يسمى حديثه صحيحًا نعم .
إطلاق الغرابة مع الصحة في حديث أتباع الثقات
وقد يتوقف كثير من النقاد في إطلاق الغرابة مع الصحة في حديث أتباع الثقات، وقد يوجد بعض ذلك في الصحاح دون بعض .
يعني: أن قوله: في أتباع الثقات، يعني: في أتباع التابعي الثقة، والثقات يقصد بهم التابعين الثقات الذين مر وصفهم قبل هذه الجملة يعني: المتوسطين في المعرفة والطلب، وعندهم يقظة هؤلاء هو المراد بهم بقوله: الثقات، هم الثقات يعني: فأتباع التابعين الثقات، الثقات صفة لموصوف محذوف، صفة لموصوف محذوف، أتباع التابعين الثقات، فإذا روى عن هذا التابعي الثقة روى عنه أحد أتباع التابعين، فيسمى حديثه، أو يتردد بعض العلماء في إطلاق الغرابة مع الصحة عليه.
فإذا جاءنا حديث، فإذا جاءنا حديث يرويه تابعيٌّ ثقة لم يبلغ درجة الثقات الكبار، لم يبلغ درجة الثقات الكبار، ثم روى عنه هذا الحديث أحد أتباع التابعين، فإننا قد نقول: صحيح غريب، وقد نقول: صحيح. نعم .
تسمية الحديث الذي ينفرد به مثل هشيم وحفص بن غياث منكرا
وقد يسمي جماعة من الحفاظ الحديث الذي ينفرد به مثل هشيم وحفص بن غياث منكرا.(1/295)
يعني بهم طبقة شيوخ شيوخ الأئمة، كشيوخ البخاري ومسلم غيرهم . هذا قد يطلق عليه بأنه حديث منكر فهشيم مثلًا إذا جاء حديث مثلًا عن... روى لنا حديثا عن أبي الزبير عن جابر، أو روى لنا حديثا عن حميد الطويل، عن أنس هذا بعض العلماء يسمي هذه الرواية رواية منكرة، هشيم ثقة ثبت، لكن نسمي هذه الرواية منكرة، فهل قوله: منكرة من باب الحكم أو من باب الصفة ؟ من باب الحكم أو من باب الصفة، هذه المسألة مختلَف فيها بين أهل العلم: بعضهم يقول: منكر هذا إنما هو وصف، لا حكم بمعنى أنه صفة هذه الرواية أنها تفرُّد بس، ولكن يميزونها عن الأولى أو عن الطبقات بأن كلمة منكرة، وتكون منكرة على هذا المعنى من باب الوصف لا من باب الحكم، يعني: كأنه يقول: رواية منفردة، وبعض العلماء يقول: هذا من باب الحكم، وإذا كان من باب الحكم معناه: أننا نتوقف في قبول حديثه حتى يأتيه متابع، وهذا الكلام في هذه الطبقة، والطبقة التي ستأتي إن شاء الله .(1/296)
والعلماء كلما ابتعدت الطبقة أو تباعد الناس أو زاد رجال الإسناد كلما دقَّقوا في مسألة التفرد، يعني: مثلًا الصحابي قد لا يحدث الحديث إلا راويًا واحد من التابعين، فكونه قد يسمع حديثًا واحدًا من النبي - صلى الله عليه وسلم - أو يرى فعلًا أو نحو ذلك، فيحدث به، فلا ينقله إلا واحد، التابعي إذا تفرد عنه أحد أتباع التابعين تكون المسألة أدق، فبعض العلماء يشدد فيها، لا بد من متابع، بعض العلماء يمشيها؛ لأنه غالبًا يعني: التابعين قد يكون التابعي مثلًا سمع صحابيًّا يروي حديثًا واحدًا أو اثنين أو ثلاثة، ولم يتهيأ أن يسمعه منه إلا راوٍ واحد، لكن كلما بعدت الطبقة زاد رجال الإسناد، كلما بدءوا في التثبت؛ لأن الرجال كلما ابتعدوا زاد الرواة، زاد الرواة كثرة في الرواية عنهم؛ ولهذا كلما تأخر الإسناد كلما صار التفرد، صار التفرد محل نظر عند العلماء، فبعض العلماء يطلق حتى على رواية هشيم، ورواية حفص بن غياث، وإن كانوا ثقات يطلق عليها رواية منكرة، يطلق عليها رواية منكرة من باب الحكم، من باب الحكم، يعني: لا بد من أن يكون هناك متابع، يعني: لا بد من أن يكون هناك متابع، وهذا معروف عن الإمام أحمد وغيره من الحفاظ، نعم.
إطلاق النكارة على الحديث الذي ينفرد به إمام
فإن كان المنفرد من طبقة مشيخة الأئمة أطلقوا النكارة على ما انفرد به، مثل: عثمان بن أبي شيبة وأبي سلمة التبوذكي، ..
فمحمد بن أبي شيبة عثمان، هذا من شيوخ البخاري ومسلم، وأبو سلمة أيضًا التبوذكي، موسى بن سلمة المنقري هذا من شيوخ البخاري ومسلم، فهذه الطبقة بعض العلماء يرى أن تفردها بالحديث يوجب التوقف، يوجب التوقف كالطبقة التي تليها، كالطبقة التي قبلها، يوجب التوقف في الرواية حتى يأتي ما يرفع هذا التفرد، وهو وجود المتابع وبعضهم يجعلها من باب الصفة يعني: يطلق عليه منكر، ولكن صفة لا حكما . نعم.
الإمام إذا أكثر من الأفراد المنكرة(1/297)
فإن روى أحاديث من الأفراد المنكرة غمزوه، وليَّنوا حديثه .
فلو -مثلًا- تفرد عثمان بن أبي شيبة عن هشيم، أو -مثلًا- أبو سلمة التبوذكي عن حماد بن سلمة، هذا عند بعض العلماء يتوقف فيه، ولا يحكم له بالصحة؛ لأنه يعتبره منكرًا، يعتبر هذه التفردات منكرة؛ لأن الطبقة متأخرة، فيقول: أين بقية الرواة عن هذه الرواية، لماذا تفرَّد بها فلان ؟ ألم يسمعها من هذا الشيخ غير فلان ؟ ولماذا لم تُروَ ؟ .
هناك أسئلة تطرح تقتضي أن يتوقف في مثل رواية هؤلاء عند بعض العلماء، وهذا هو مسلك الإمام أحمد، لكن الشيخين البخاري ومسلم كما حكاه بعض أهل العلم هم على الطريقة الأولى يرون أن تفرد مثل هؤلاء صحيح، وأن حديثهم مخرج في الصحاح، ومن أطلق النكارة، فإنما إنما أراد النكارة من باب الصفة لا من باب الحكم. نعم .
فإذا روى أحاديث من الأفراد المنكرة غمزوه، ولينوا حديثه، وتوقفوا في توثيقه.
يعني: إذا تفرد بحديث ينكر عليه أو بجملة أحاديث، فإن هذا مما يكون سببًا في الطعن في الراوي يكون سببًا في الطعن في الراوي وتضعيف روايته وتضعيف روايته . نعم .
الراوي إذا أخطأ في أحاديث أو تفرد بها ثم رجع عنها
فإن رجع عنها وامتنع من روايتها، وجوز على نفسه الوهم، فهو خير له، وأرجح لعدالته.
يعني: أن الراوي إذا أخطأ في أحاديث أو تفرد بأحاديث، ثم رجع عنها، وقال أخطأت، أو غلطت، أو وهمت، وتراجع عما أخطأ فيه بعد تنبيهه على خطئه، فهذا يبقى على أصل الثقة، يبقى على أصل الثقة، وقد نص على ذلك الخطيب البغدادي في كتابه الجامع .
نص على أن الراوي إذا أخطأ في أحاديث، ولم يتراجع فإنه يتوقف عن الاحتجاج بحديثه، يتوقف عن الاحتجاج بحديثه، يعني: يكون مطعونا فيه، ولا يجوز أيضًا الرواية عنه، ومن روى عنه أحاديث يعتبر يعني: بهذه الرواية ونسبتها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يعتبر آثمًا؛ لأن هذا الراوي صار في حيز الضعفاء أو في جملة الضعفاء .(1/298)
ولهذا ابن خزيمة -رحمه الله- لما سئل: لماذا تروي عن أحمد بن عبد الرحمن بن وهب ابن أخي عبد الله بن وهب، وتترك الرواية عن سفيان بن وكيع ؟. فذكر -رحمه الله- أن أحمد بن عبد الرحمن أخطأ في أحاديث، ثم رجع عنها، وأما سفيان فلم يرجع؛ فلذلك روى ابن خزيمة عن أحمد بن عبد الرحمن، وترك الرواية عن سفيان بن وكيع، والحسن بن علي المعمري اللي تقدم أيضًا، هذا لما أخطأ في بعض الأحاديث رجع عنها؛ فلذلك وثقه العلماء أو صار أمره إلى التوثيق، صار أمره إلى التوثيق بعد تراجعه عن جملة من الأحاديث التي أخطأ في روايتها، وكان سفيان الثوري يخطئ فينبه، فيتراجع في يومه، كان شعبه يخطئ فينبه فيتراجع، وهكذا كان شأن العلماء ، إذا نبه على خطئه راجع الأصول التي عنده، فإن رأى نفسه مخطئًا أظهر خطأه، وتراجع عنه، وإن كان مصيبًا بين صواب نفسه، لكن إذا ثبت أنه مخطئ، ولم يتراجع عن الخطأ، فهذا مما يضعف حديثه، ويكون سببًا للطعن في روايته، ضعفهم خفيف هؤلاء .
إذا أخطأ في الرواية صار ضعيفًا من جملة الضعفاء ، إذا جاء بأحاديث ما يرقيه ترقى . نعم .
ليس من حد الثقة ألا يغلط
وليس من حد الثقة أنه لا يغلط ولا يخطئ فمن الذي يسلم من ذلك غير المعصوم الذي لا يُقَر على خطأ .(1/299)
تقدم لنا أن المؤلف أيضًا ذكر مثل هذا الكلام في الميزان عند ترجمة علي بن المديني، قال: إنه ليس من شرط الثقة ألا يقع منه خطأ ولا خطيئة، الخطيئة في الدِّين، والخطأ في الرواية، وهذا موافق لكلامه هناك بالنسبة للخطأ في الرواية، وتقدم لنا أن الرواة يخطئون ومر قبل قليل شعبة وسفيان كانوا يخطئون في الرواية، ولم يسلم أحد من الرواة حتى من أئمة الجرح والتعديل، مثل: يحيى بن سعيد انتقد عليه حديث مع تشدده في الجرح والتعديل، لكن الشاهد لم يسلم أحد من الخطأ، ولو قيل: إن الثقة لا يخطئ، أو يشترط في الثقة ألا يخطئ لم يسلم راو واحد؛ لأن العصمة من الخطأ في التبليغ إنما هي لأنبياء الله ورسله -صلوات الله وسلامه عليهم-، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد .
تعريف الثقة
تعريف الثقة باعتبار النظر في أقوال العلماء
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال الإمام الذهبي -رحمه الله تعالى-: فصل: الثقة: من وثقه كثير، ولم يضعف.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فتقدم لنا يوم أمس في كلام المؤلف أن الثقة مَن جمع بين العدالة في الدين والضبط في الرواية، وها هنا ذكر المؤلف أن الثقة من وثَّقة كثير، ولم يضعف، فتعريف الثقة الأول، هذا باعتبار ماهية الثقة، ما هو الثقة ؟ أو من هو الرجل الذي يطلق عليه ثقة في عرف المحدثين ؟ .(1/300)
هو من جمع الوصفين العدالة في الدين والضبط في الرواية، وأما ها هنا، فالثقة أو فتعريف الثقة ها هنا هو ... إنما هو باعتبار النظر في أقوال العلماء، النظر في اعتبار أقوال، النظر في أقوال العلماء، تعريف الثقة ها هنا باعتبار النظر في أقوال العلماء، مَن هو الثقة ؟ إذا نظرنا في كلام العلماء، الثقة يكون من وثقة كثير، ولم يضعف على كلام المؤلف -رحمه الله-، فقوله: "من وثقه كثير"، كلمة كثيرهذه لا مفهوم لها، كلمة كثير لا مفهوم لها، وإنما جاءت باعتبار الغالب، فكثير من الرواة أو أكثر الرواة الموثقون عادة يوجد جماعة من العلماء وثقوهم، لكن هناك بعض الرواة لم يوثقهم إلا إمام واحد، وبعضهم لم يوثق إلا من اثنين، فهذا أيضًا داخل في حد الثقة، ولكن جاءت كلمة كثير على معنى أن الغالب أو أكثر الرواة الثقات وثقوا من جماعة من الأئمة، فتكون هذه الكلمة كلمة كثير هذه لا مفهوم لها، لا يفهم أن من لم يوثقه كثير فليس بثقة، لا يفهم منها أن من وثقة واحد أو اثنان ليس بثقة، وإنما هذا باعتبار الغالب، فهذه باعتبار كلمة كثير هذه جاءت باعتبار الغالب .
والثاني أنه لم يضعف، الثاني أنه لم يضعف، المراد لم يضعف من قبل إمام معتبر، ولم يضعف بجرح صحيح، لم يضعف، بجرح صحيح، فإذا كان عندنا راو وثقه جماعة من أهل العلم، ثم جاء آخرون، فطعنوا فيه، فينظر في هؤلاء الطاعنين: هل قولهم يعتبر في الجرح والتعديل مع مقابلة كلام الأئمة أو لا ؟ .(1/301)
فإن كان كلامهم لا يعتبر مثل الأسدي وابن خراش ومسلمة وغيرهم، هؤلاء إذا خالفوا الأئمة، فإن قولهم يطرح مع كلام الأئمة لا اعتبار له، أو كان الجرح غير صحيح، إما لكون هذا الجرح لم يثبت عن الجارح، يعني: يكون النقل عن الطاعن فيه ليس بصحيح، أو يكون هذا الجرح غير متحقق، في المجروح هذا، أو في هذا العالم الموثق، إذا كان الجرح غير متحقق فيه أو لم يثبت عن الجارح ثابت، الجرح هذا ثابت عن الجارح، لكنه لم يتحقق من المجروح، أو لم يكن جارحًا على الحقيقة، لم يكن من الجروح التي تقدح في الراوي كما يصنعه بعض المتشددين من علماء الحديث حيث يطعنون في الراوي لأدنى شيء، فإذا كان هذا الراوي راوي الحديث لم يضعف من عالم معتبر، ولم -أيضًا- يضعف بجرح صحيح، فإنه حينئذ يكون هذا هو الثقة، كما ذكره المؤلف -رحمه الله-، فكلامه هذا المطلق يحتاج إلى تقييد، والمفهوم الذي في قوله: "كثير"، هذا لا يعمل به هذا مفهوم ملغي، نعم .
إخراج حديث من دون الثقة في الصحيحين
الثقة من وثقه كثير ولم يضعف، ودونه من لم يوثق، ولا ضعف، فإن خرج حديث هذا في الصحيحين، فهو موثق بذلك .
يعني: أن الراوي إذا جاءنا راوٍ ليس فيه توثيق ولا تضعيف، ليس فيه توثيق ولا تضعيف، وقد خرج له الشيخان أو أحدهما في الصحيح، إذا خرج حديثه في الصحيح، فإنه حينئذ يكون هذا الرجل ثقة، لأن الشيخين -رحمهما الله- اشتراطا الصحة فيما يرويانه، ومن لازم الصحة أن يكون رجال الإسناد ثقات فعلى هذا إذا خرجوا حديثا في الصحيح فقد حكموا له عليه بالصحة. ومن مقتضيات الصحة أن يكون الرجال ثقات كما سبق لنا في تعريف الحديث الصحيح، لكن كلام المؤلف هنا يحتاج إلى تقييد، وقد قيده في الفصل الآتي، وهو المراد من خرج له في الصحيح على سبيل الاحتجاج، يعني: الرواة الذين يخرج لهم في الصحيح منهم من يخرج لهم في الأصول احتجاجًا، هذا هو الذي يريده المؤلف ها هنا .(1/302)
فإذا كان عندنا راو خرج له البخاري أو مسلم أو كلاهما في الأصول على سبيل الاحتجاج، ولم يكن فيه طعن من أحد ولا توثيق، فهذا يكون ثقة، فهذا يكون ثقة؛ لأن الشيخين التزما الصحة خاصة في الأصول، فكل حديث حكما عليه، خرجاه في الصحيح على سبيل الاحتجاج، فهو محكوم عليه بالصحة من قبلهما، وهذا متضمن للحكم بتوثيق رجال الإسناد كلهم، ومن نازع الشيخين أو حكم بالجهالة على من خرجا له في الاحتجاج، فهذا يحتاج أو يكون قد نازع الشيخين في الحكم، يكون قد نازع الشيخين في الحكم، لأنهما حكما بصحة الحديث، وحكمهما على صحة الحديث يعني: التوثيق للرواة، فمن قال: إن هذا الراوي مجهول، فقد خالف الشيخين في حكمهما عليه بالعدالة والرضا عن حفظه، الرضا عن حفظه، فإذا نازعهما يحتاج إلى دليل منازعة، يحتاج إلى دليل منازعة؛ لأنهما مثبتان العدالة له، وهو ناف لهذه العدالة، فيحتاج إلى ما ينفى هذه العدالة عنهما بشيء صريح .
إذًا كلام المؤلف ها هنا يريد أن الحديث أو أن الراوي الذي لم يكن فيه طعن ولا تعديل، وكان مخرجًا له في الصحيح على سبيل الاحتجاج، فإن هذا يكون ثقة .
لكن هذا الكلام إذا صرنا إلى الواقع العملي للحافظ الذهبي ولابن حجر فهذا غير مطبَّق بتمامه، فمثلًا: مسلم أخرج عن شيخه أحمد بن جعفر المعافري حديثين، أحدهما في الأصول والآخر في الشواهد، وهذا ليس فيه كلام لأئمة الجرح لا بطعن فيه ولا بتوثيق له، فمسلم خرَّج له احتجاجًا واستشهادًا في موضوعين، فابن حجر وضعه في مرتبة مقبول يعني: إن حديثه إذا جاءه متابع فإنه يمشي، وإن لم يكن له متابع، فيكون لين الحديث .
والذهبي في الكاشف سكت، سكت عنه، فهذا خروج عن هذه القاعدة .(1/303)
ومثله أيضًا معن بن محمد بن أبي نضلة، خرج له البخاري في الصحيح احتجاجًا، وإن كان لحديثه بعض الشواهد، لكن قد خرج له في الاحتجاج، ومع ذلك ذكره الحافظ ابن حجر بأنه مقبول والحافظ الذهبي أيضًا سكت عنه ما تكلم عليه بشيء في الكاشف، وهذا يدل على، أو هذا دليل على الخروج على هذه القاعدة .
والإمام مسلم خرج عن خيرة أم الحسن البصري حديثين أحدهما في الأصول والآخر في المتابعات ومع ذلك - وذكرها ابن حبان في الثقات - ومع ذلك ذكر ابن حجر عليها بأنها مقبولة، والحافظ في الكاشف سكت عنها، فهذا خروج عن القاعدة هذه ؛ لأن هذه القاعدة التي ذكرها المؤلف ها هنا أيده عليها الحافظ ابن حجر في كتابه هدي الساري، فهذا التأييد من ابن حجر لكلام الحافظ الذهبي هذا لا ينطبق على بعض التراجم في الكاشف والتقريب، فصنيعهم خروج، فصنيعهما خروج على هذه القاعدة، نعم .
من دون الثقة إذا صحح له مثل الترمذي وابن خزيمة
وإن صحح له مثل الترمذي وابن خزيمة فجيد أيضًا .
يعني: أن الراوي إذا لم يكن فيه توثيق ولا تجريح وصحح له ابن خزيمة والترمذي، فحديثه أو هذا الرجل يقال له: جيد التوثيق، وحديثه جيد، وكلمة جيد هذه اللي قالوا: جيد الحديث أو جيد، قالوا: جيد الحديث معناه أن حديثه في نظر العالم ارتفع عن درجة الحسن، يعني: أرفع من راوي الحسن، لكنه تردد في بلوغه مرتبة راوي الحديث الصحيح، فلم يجزم بوصوله إلى الصحة، لكنه يعتبره قد ارتفع عن درجة من يحسن حديثه، إذن يكون في منزلة بين من يحسن حديثه وبين من يصحح حديثه، وكذلك إذا قالوا: حديث جيد مرادهم ارتفاعه عن درجة الحسن ونزوله عن درجة الصحيح، فالراوي الذي لا يكون فيه جرح ولا تعديل، ويصحح له مثل الترمذي أو ابن خزيمة، على كلام المؤلف فحديثه جيد، أو هو جيد الحديث .(1/304)
وأما بالنسبة للترمذي فهذا الكلام من الحافظ الذهبي غير سائغ لا على كلام الذهبي ولا على كلام غيره من العلماء؛ لأن الذهبي كما سيأتينا -إن شاء الله- جعل الترمذي من المتساهلين في باب الجرح والتعديل، وعلى ذلك هو يوثق من لم يبلغ درجة التوثيق، من لم يبلغ درجة التوثيق، الإمام الترمذي فعلى هذا إذا صحح لنا حديثًا، إذا قلنا: إن الترمذي إذا صحح لرجل حديثًا فيكون إسناده جيدًا، أو يكون هذا الرجل جيد الحديث، يكون قد اعتبرنا تصحيح الترمذي، وهو من المتساهلين، وهذا لا يتمشى على قواعد أهل الحديث، إذا كان العالم من المتساهلين، فإن كل رجل يصحح له أو يوثقه، فإنه مظنة لأن يكون هذا الرجل غير أهل للأخذ عنه أو الرواية عنه أو تصحيح حديثه، ثم إن الترمذي كما سبق لنا صحح من لا يصحح حديثه بإجماع العلماء، وهو كثير بن عبد الله المزني صحح حديثه .
والحافظ الذهبي نفسه في الميزان ذكر أن العلماء لما صحح الترمذي حديث كثير بن عبد الله: " الصلح جائز بين المسلمين " قال: ولهذا لم يعتمد العلماء على تصحيح الترمذي، فإذا كان العلماء لا يعتمدون على تصحيح الترمذي، فمن لازم ذلك أنهم لا يعتمدون على توثيقه لبعض الرجال، وإذا كانوا لا يعتمدون على تصحيح الترمذي، فهم لا يعتمدون على توثيقه؛ لأن تصحيح الحديث يقتضي أمورًا: منها توثيق الرجال، فإذا لم يعتبروا تصحيحه فمعناه أن هؤلاء الرجال الذين تضمنهم هذا الحديث المصحَّح، أو الذي لا يعتمد العلماء تصحيحه يتضمن رجالًا يخالف العلماء في الحكم عليهم .
فالشاهد أن هذا الكلام من الحافظ الذهبي غير مقبول لا على ما ذكره هو، ولا على ما ذكره غيره فيكون من صححه الترمذي، ولم نجد لأحد فيه طعنا من الأئمة ولا تعديلًا، فهذا يقوي أمره، لكن كونه يصحح حديثه، أو يحسَّن هذا محل نظر؛ لأن الترمذي معروف بالتساهل .(1/305)
وأما بالنسبة لابن خزيمة فأيضًا كلام الحافظ الذهبي، يحتاج إلى مزيد تأمل؛ لأن ابن خزيمة صحح أيضا لمن لم يقبل العلماء حديثه بالإجماع، صحح لمن لم يقبل العلماء حديثه بالإجماع، صحح لعمر بن عبد الله بن أبي خثعم، وهذا العلماء يقولون: منكر الحديث، وعلى رأسهم الإمام البخاري وأبو زرعة يقول: له ثلاثة أحاديث لو كانت في خمسمائة حديث لأفسدتها يعني: لقوة، أو لشدة النكارة فيها، لشدة النكارة فيها، لهذا الرجل عمر بن عبد الله بن أبي خثعم صحح الترمذي له حديث: " من صلى بعد المغرب ست ركعات، لم يتكلم بينهن بسوء عدلن له بعبادة ثنتي عشرة سنة " فهذا الحديث في سنده عمر بن عبد الله بن أبي خثعم، ومع ذلك صححه ابن خزيمة .
والعلماء متفقون على ضعف عمر بن عبد الله بن أبي خثعم، بل في عبارات شديدة في الجرح، وهذا يدلنا على تساهل ابن خزيمة، فإذا جاءنا راو لا نعلم عدالته، ولا نعلم أنه طعن فيه، فهذا الرجل يحتمل أنه رجل حاله سيئة كحال من صحح له ابن خزيمة .
وهنا تنبيه وهو أن بعض المعاصرين ذكر أن ابن خزيمة صحح حديث كثير بن عبد الله المزني في تفسير قوله -تعالى-: { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) } (1) لكن هذا الكلام ونسبته إلى ابن خزيمة هذا غير صحيح؛ لأن ما خرجه ابن خزيمة في الصحيح لا يكون على شرطه إلا إذا لم يتعقبه بشيء، إذا لم يتعقب ابن خزيمة ما ذكره في الصحيح بشيء، ولم يتكلم على الحديث أو الإسناد بشيء، فهذا هو الذي يكون صحيحًا على شرط ابن خزيمة .
__________
(1) - سورة الأعلى آية : 14.(1/306)
أما ما تعقبه أو تكلم عليه أو شكك في ثبوته، فهذا خارج عن تصحيح ابن خزيمة، فحديث كثير بن عبد الله المزني هذا قال فيه ابن خزيمة: حديث غريب غريب، قال فيه حديث غريب غريب، فهذا خارج عن شرط ابن خزيمة، فلا ينسب له تصحيح حديث كثير بن عبد الله المزني، والمقصود من هذا أنه لما ثبت أن ابن خزيمة متساهل أيضًا في تصحيح لبعض من لا يصحح حديثه بالإجماع فهذا يعني: يكون كلام الحافظ الذهبي أيضًا، يعني: يحتاج إلى وقفة وتأمل كبير، نعم .
من دون الثقة إذا صحح له مثل الدارقطني والحاكم
وإن صحح له كالدارقطني والحاكم فأقل أحواله حسن حديثه .
يعني: أن الراوي إذا لم يكن مطعونًا فيه ولا موثقًا من أحد من الأئمة، وصحح له مثل الحاكم أو الدارقطني، فهذا أقل أحواله أن يكون حديثه حسنًا بمعنى: أننا إذا رأينا إسنادًا حسنه، صححه الدارقطني وفي رجال هؤلاء الإسناد رجل لم نطلع على توثيق فيه من الأئمة ولا تضعيف، فإننا نحكم على هذا الرجل بأنه يكون أقل أحواله حسن الحديث، وهذا أخذًا بالاحتياط .(1/307)
أما بالنسبة للدارقطني فأمره غريب، لأن الدارقطني من المعتدلين كما سيأتي في كلام المؤلف، من المعتدلين في غالب الأوقات، وأما بالنسبة للحاكم فهذا الحكم على الرجل الذي صحح له الحاكم بأنه أقل أحواله بأنه حسن الحديث هذا أيضًا لا يوافَق عليه الإمام الذهبي، لا بتصرفات الذهبي نفسه ولا بأحكام غيره، فالعلماء ذكروا عن الحاكم أنه يصحح أحاديث لرجال ضعفاء ومجهولين ومتروكين ومتهمين بالكذب وبالكذابين صحح لهم، ثبت أنه صحح لهم في المستدرك أحاديث، وهم متهمون بالكذب، بل كما ذكر الذهبي أن الحاكم صحح إسناد حديث فيه رجل قد كذبه الحاكم نفسه، وهو حديث سهل بن عمار العتكي، هذا سهل بن عمار العتكي ذكر الحاكم في التاريخ أنه كذاب، ثم جاء في المستدرك فصحح له حديثًا، فهذا غاية في التساهل؛ ولهذا الحافظ الذهبي وقف عند هذا الحديث في " تلخيص المستدرك " وقال: مخاطبًا الحاكم فأين الدين ؟ لأنه كذبه في التاريخ وصحح له، وصحح له في المستدرك، فهذا التساهل الشديد من الحاكم في التصحيح للضعفاء والمتروكين والمتهمين والكذابين، هذا يجعل التوقف متعينًا وعدم إطلاق الحكم على تحسين حديث من خرج له، من صحح له الحاكم، ولم يطعن فيه لا بجرح ولا، ولم يطعن فيه بجرح ولم يوثق .
فهذا يجعل لا بد من التوقف، والعلماء الذين درسوا المستدرك، مثل الزيلعي في " نصب الراية " والذهبي في مواطن من كتبه يعني: ذكروا شدة تساهل الحافظ، وأنه يصحح أحاديث واهيات، بل قريبة من الموضوعات، بل قريبة من الموضوعات أو بعضها موضوع، ويصححها الحاكم، وهذا كله يجعل أن حكمه على الحديث غير معتبر عند الأئمة، ثم يترتب على هذا أنه إذا صحح إسنادًا، فيجب أن نتوقف فيه وألا نطلق على أحد الرجال الذين صحح لهم حديثًا، لا نطلق عليه بأنه حسن الحديث، وهذا ظاهر من كلام الأئمة في تصحيح الحاكم، وهذا كلام ظاهر في تصحيح الحاكم نعم .
الفرق بين الثقة والمستور(1/308)
وقد اشتهر عند طوائف من المتأخرين إطلاق اسم الثقة على من لم يجرح مع ارتفاع الجهالة عنه، وهذا يسمى مستورًا، ويسمى محله الصدق، ويقال فيه: شيخ .
يعني: أن الراوي إذا ارتفعت جهالة عينه برواية اثنين فأكثر عند المتأخرين متأثر بمحمد بن الذهلي، فهذا إذا ارتفعت جهالة عينه يعني: روى عنه اثنان فأكثر، فإنه إن لم يرد فيه جرح ولا تعديل، فبعض المتأخرين يقول: هذا ثقة، وهذا الكلام مشهور عن ابن حبان، وتبعه عليه غيره، لكن جمهور الأئمة يخالفونه في ذلك، وأن العدالة والتوثيق أمر، أمر ليس يكفي فيه مجرد الإسلام وعدم نقل الطعن في العدالة يعني: ابن حبان يقول: إذا كان مسلمًا، ولم ينقل الطعن في عدالته، فالأصل فيه أن يكون، أن يكون عدلًا، جمهور العلماء الأئمة يقولون: العدالة شيء، التوثيق شيء زائد عن الإسلام، ولهذا حتى في الشهود، وهم أدنى من الرواة لا يكتفى فيهم بالإسلام، بل لا بد من التعديل لهم بأمر زائد عن الإسلام، فكذلك رواة الحديث لا بد من التعديل لهم بأمر زائد عن الإسلام، زائد عن الإسلام، وهو تحقق العدالة والضبط، تحقق العدالة المقابلة للفسق، وتحقق الضبط المقابل لعدم الضبط، هكذا يقول جمهور العلماء .
أما ابن حبان ومن تبعه فيقولون: إذا جاءنا رجل ولم نجد فيه جرحًا ولا تعديلًا من العلماء، لم نجد فيه جرحًا ولا تعديلًا من أهل العلم، فالأصل السلامة، فالأصل السلامة من الفسق لثبوت الإسلام له، لثبوت الإسلام له؛ ولهذا ابن حبان في كتابه الثقات أورد أناسًا وترجم لهم بأن لا يعرف هذا الرجل ولا يعرف أباه، وإنما أخذ بظاهر الإسلام، وهذا لا يوافق عليه من قبل جمهور العلماء، ثم ذكر المؤلف أن هذا يعبر عنه بأنه مجهول، بأنه مستور، ومحله الصدق وشيخ، وهذه العبارات إطلاقاتها يتفاوت فيها العلماء، يتفاوت فيها العلماء، فهذا الرجل يعرف بأنه مستور، أو يعرف بأنه مجهول الحال، وبأنه محله الصدق وبأنه شيخ. نعم.
جهالة الراوي(1/309)
وقولهم: مجهول لا يلزم منه جهالة عينه فإن جهل عينه وحاله فأولى ألا يحتجوا به .
يعني: أن الراوي أو أن الجهالة قسمان: جهالة عين، وجهالة حال، فجهالة العين هو ألا يروي عن الراوي إلا راوٍ واحد فقط . إذا لم يرو عنه إلا راو هذا يسمى مجهول عين، وإذا روى عنه اثنان فأكثر، لكن لم يرد فيه جرح ولا تعديل، فهذا يسمى مجهول الحال، فجهالة العين ترتفع برواية اثنين، وجهالة الحال لا ترتفع إلا برواية اثنين مع توثيق من معتبر أو برواية واحد مع توثيق إمام كبير من الأئمة أو مع توثيق واحد، وثقه واحد من الأئمة الكبار .
وروى عنه واحد من المشهورين، هذا ترتفع جهالة حاله، ومجهول العين أشد من مجهول الحال، ولهذا مجهول العين كثير من الأئمة لا يرقون حديثه، لكن مجهول الحال جملة كبيرة يرقون حديثه إذا جاء له ما يعضده .
إذًا فمجهول الحال هو من روى عنه اثنان فأكثر مع وجود التوثيق من أحد الأئمة، ومجهول العين من روى عنه واحد ولم يوثقه أحد من الأئمة كما أن مجهول الحال أيضًا يطلقه العلماء على من روى عن واحد من المشهورين، ووثقه إمام من الأئمة . نعم .
انفراد الثقة الكبير ببعض الأحاديث
وإن كان المنفرد عنه من كبار الأثبات فأقوى لحاله، ويحتج بمثله جماعة كالنسائي وابن حبان .(1/310)
يعني: إذا كان رجل ليس فيه جرح ولا تعديل، ووجدنا أنه يروي عنه أحد الأئمة الأثبات، أحد الأئمة الأثبات، فهذا مما يقوي أمره، والأثبات منهم من نص على أنه لا يروي إلا عن ثقة، فبعض الأئمة مثل يحيى بن سعيد قال: كل من رويت لكم عنه فهو ثقة، فهذا إذا روى الرجل الذي لا يعرف لا بجرح ولا تعديل إذا روى عنه يحيى بن سعيد، فهذا يقوى أمره جدًّا، ودونه في القوة من عرف من حال الإمام أنه لا يروي إلا عن ثقة، كالإمام مالك -رحمه الله-، الإمام مالك -رحمه الله- معروف بأنه لا يروي إلا عن ثقة وابن مهدي معروف أنه لا يروي إلا عن ثقة، فمثل هذين الإمامين إذا رويا عن رجل فهذا أيضًا يعني: في رجل لم تثبت فيه جرح ولا تعديل، فهذا أيضًا يقوى أمره .
وهذان الصنفان أو هاتان الحالتان عمل بهما جماعة كبيرة من الأئمة كأبي زرعة وأبي حاتم وغيرهما وغيرهما من الأئمة يعملون بهذا .
المرتبة الثالثة: وهي دون المرتبتين الأوليين من روى عن ثقة من الأثبات، وكلمة أثبات مرحلة زائدة عن الثقة؛ لأن فيه جمهور ثقة جمهور الثقات، هؤلاء يشملهم لفظ الثقة، لكن فيه من أعلى، وهم الأثبات المتقنين الذين لا يروون عن كل أحد، فإذا روى عن... من الأثبات أحد من الأثبات، فإن هذا أيضًا يقوي أمره، لكن دون المرتبتين الأوليين، لكن إذا روى عن غير الأثبات ممن يشملهم اسم الصدق أو الثقة، فإن هذا لا يتقوى أمره على حسب مفهوم كلام المؤلف -رحمه الله- .
وذكر المؤلف أن النسائي ممن يعمل بهذا يعني: أن الراوي إذا كان مجهولًا أو غير معروف بتوثيق ولا تعديل، ثم روى عنه أحد الأثبات فعلى مذهب النسائي -رحمه الله- أن هذا يعتبر حديثه حديثًا قويًّا؛ لأن الأثبات غالبًا لا يروون إلا عن المعروفين الذين يضبطون مروياتهم، وهذا الكلام يعني: ليس على إطلاقه مطلقًا، لكن إذا كانت هناك قرائن تحتف بالشخص، فإنه حينئذ يأتي هذا الكلام .(1/311)
إذًا فكلام الإمام الذهبي ها هنا يحتاج إلى تقييد، يحتاج إلى تقييد، ما عزاه إلى النسائي وغيره يحتاج إلى تقييد، وهذا التقييد المؤلف -رحمه الله- ذكره في الميزان، في ترجمة مالك بن الخير المصري، ذكر أيضا لم يذكره ها هنا هنا، ذكر أن الراوي غير المعروف بتوثيق ولا تضعيف إذا روى عنه أحد الأثبات، فإنه يحتج به، لكن هذا الكلام لا بد أن يضاف إليه قيد آخر، وهو أن يكون حديث هذا الرجل مستقيمًا ليس فيه، أو لم يأت بما ينكر عليه .
وهذا القيد المؤلف -رحمه الله- ذكره في الميزان بترجمة مالك بن خير المصري قال: الراوي إذا روى عنه ثبت من الأثبات، ولم يأت بخبر منكر، بل كانت أحاديثه مستقيمة، فإن على مذهب النسائي -رحمه الله- أن هذا يحتج بحديثه، أن هذا ممن يحتج بحديثه، أما هكذا بإطلاق من روى عن ثبت من الأثبات، فإنه يحتج بحديثه فهذا يعني: فيه ضعف، فهذا فيه ضعف، لأن بعض الأثبات رووا عن أقوام هلكى لم يعلموا بهم، لم يعلموا بحالهم .
وهذا كما حصل للإمام مالك -رحمه الله-، هو لا يروي إلا عن ثقة، لكنه روى عن عبد الكريم بن أبي أمية المعروف بابن أبي المخارق، وهذا رجل أجمع العلماء على أنه ضعيف، على أنه ضعيف، لكن الإمام مالك روى عنه لجهله بحاله، لجهله بحاله، فهذا يدلنا على أن ليس كل ثبت روى عن راو غير معروف بعدالة ولا تضعيف أنه يكون توثيقًا له مطلقًا، وإنما يكون توثيقا له إذا كان حديثه مستقيما .
والعلماء الأولون يعرفون استقامة حديث الراوي بعرض مروياته على مرويات الثقات، فإذا وافقها حكموا باستقامة حديثه، وإذا خالفهم أو إذا خالفهم كثيرًا حكموا عليه بأنه ضعيف، وإن لم ينقل لهم في هذا الراوي جرح ولا تعديل على معنى أن الراوي إذا جاءهم مجرد، إذا جاءهم الراوي أو وقفوا على راوٍ ليس فيه جرح ولا تعديل .(1/312)
جمعوا أحاديثه، ثم عرضوها على روايات الثقات، فإذا وافقهم حكموا عليه بالثقة، وإذا خالفهم في كثير من الأحاديث أو في جملة كثيرة حكموا عليه بالضعف، ثم يحكمون على هذا الراوي بحسب ما ظهر لهم من حاله، فأحيانا يحكمون عليه بأنه كذَّاب أو بأنه متَّهم أو بأنه يروي ما لا يتابع عليه، هذا إذا تفرد عن الثقات بما لا يعرف عن الثقات، يعني: لا يشاركه غيره في الرواية عنهم .
لكن بالنسبة لنا نحن المتأخرين لعدم الأهلية، لعدم الأهلية، فإننا إذا وجدنا روايا لم يتكلم العلماء فيه بجرح ولا تعديل، وأردنا يعني: سلوك سبيل الأولين، فلا بد أولًا أن نعرف كم عدد أحاديث هذا الراوي ؟ بتنصيص الأئمة، إذا نصوا على عشرة أحاديث أو خمسة أحاديث أو سبعة أحاديث، أو ليس له إلا حديثان أو نحو ذلك، فهذا إذا نصوا على هذا، فإننا نجمع هذه الأحاديث أولًا، ثم نعرضها على أحاديث غيره إذا وافقها قبلناه، وإذا خالفها رددنا حديثه؛ لأنه بهذا تتبين استقامة الحديث من عدمه .
وهذا مثل عبيد الله بن عبد الله بن رافع بن خديج هذا ذكر العلماء أن له حديثين اثنين، هو حديثه عن أبي سعيد في بئر بضاعة، وحديثه في إحياء الموات " من أحيا أرضا ميتة فله فيها أجر " هذان، هذا نص العلماء على أنه له حديثان، فنحن نرى أن عبيد الله هذا ليس فيه جرح ولا تعديل من الأئمة، الأئمة ساكتون عنه .
ولهذا ابن القطان وغيره يقولون: هذا لا يعرف حاله، لكن إذا عرض هذان الحديثان على رواية الأثبات وجد أنه لا يخالفه، فحديث بئر بضاعة له شواهد، له شواهد يصح بها الحديث وحديث: " من أحيا أرضًا " قد توبع عليه هذا عبيد الله، تابعه وهب بن كيسان وأبو الزبير .(1/313)
فمثل هذا عبيد الله، هذا ممن يصحح حديثه، ويحكم له بأنه ثقة، ولهذا الإمام أحمد -رحمه الله- صحح له حديث بئر بضاعة، وابن معين صحح له حديث بئر بضاعة، والظاهر -والله أعلم- أنه أخذ من هذا الباب، يعني: أن هذا الرجل لما لم يتفرد بما ينكر عليه، وبخاصة أنه من التابعين صحح أو صححت أحاديثه أو صحح له حديث بئر بضاعة .
فالشاهد أن هذه القاعدة التي ذكرها الإمام الترمذي يعني: تحتاج إلى... يعني: هذه يستخدمها المتقدمون، أما المتأخرون فهي عسرة لضعف الأهلية، نعم .
ينبوع معرفة الثقات
وينبوع معرفة الثقات تاريخ البخاري وابن أبي حاتم وابن حبان وكتاب تهذيب الكمال .
يعني: أن هذه الكتب التي ذكرها -رحمه الله- هذه يوجد فيها ثقات على مستوى كبير، يعني: يجمعون، هذه الكتب يجمع منها بين الثقات والضعفاء لكن في الجملة، إذا خرج الراوي عن هذه الكتب لم يذكر بجرح ولا تعديل، فإنه غالبًا، يعني: إذا كان من أهل الطبقات الذين تناولهم هؤلاء الأئمة في كتبهم .
فإنه غالبًا يعني: لا يخرج أحد عن هذه الكتب سواء كان ثقة أو ضعيفًا أو مجهولًا لا يخرج عن هذه الكتب الأربعة التي ذكرها المؤلف -رحمه الله تعالى- إذا كان من أهل هذه الطبقات أو من أهل الطبقات الذين تناولهم هؤلاء الأئمة بالجرح والتعديل، فإذا كان عندك، جاءك رجل تريد معرفته، وهو من أهل هذه الطبقات تراجع مثل هذه الكتب، فهذه الكتب حوت كثيرًا ممن حكم العلماء عليهم بأنهم ثقات، وليس معنى قولهم أن هذه الكتب خاصة بالثقات، لا، ليست خاصة بالثقات، ولكن كثير منها أو فيها جملة كبيرة من الرواة الذين وصفوا بأنهم ثقات. نعم .
أقسام من أخرج له الشيخان
وقَالَ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: فصل: من أخرج له الشيخان أو أحدهما على قسمين: أحدهما ما احتجا به في الأصول، وثانيهما من خرج له متابعة وشهادة واعتبارًا .(1/314)
هذا أولًا قوله: "ما احتجا به" هذا تعبير عن العاقل بـ " ما " وهذا ضعيف في لغة العرب، يعني: الأولى أن يُقال من، ولعل هذا من النساخ، يقال: " مَن " ما يقال: " ما " للعاقل في العرب، ما يقال: ما؛ ولهذا المؤلف في الأول قال: من وبعدها قال: من تعبير صحيح أما " ما " فهذه يعبر بها عن غير العاقل والرواة عقلاء، والرواة عقلاء، فكان الأحسن أن يعبر بـ " من " ولعل هذا من النساخ أو من الطباعة، في اللغة الشائعة تعتبر ضعيفة، التعبير بما عن العقلاء ضعيفة، وردت في القرآن مجموعة، ما يخالف، { فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ } (1) أيوه { فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ } (2) كم.. لا، خرجوها، خرجوها، خرجت هذه، لا هذا ضعيف لا لا، فيه تخريج آخر، باعتبار الصفة، فلعل هذا باعتبار الصفة يا سيدي، باعتبار الصفة، لكن المشهور والمعروف والغالب أنها يعبر بها عن غير العاقل، وإذا وردت مثل هذا يعبر بها عن، المراد الصفات، المراد الصفات الأعراض القائمة .
نعم ... هذا عائد إلى ما، عائدة للعقلاء ولاَّ غير العقلاء، عائدة للعمل، إلى عمل، لا شيء ها تمشي مع صلة الموصول لا لا، طيب، ما هذه يا شيخ عائدة للعمل، ما هذه مصدرية، وما تفعلوا وفعلكم ماشي، مصدرية تؤول وما بعدها مصدر، طيب هذا من احتج به الشيخان على قسمين: قسم احتج به الشيخان، ولم يذكر بجَرح ولا تعديل وهذا تقدم قبل قليل، هذا كما قال المؤلف في الفصل السابق، ذكره المؤلف -رحمه الله- أن هذا حديثهم، يعتبر حديثهم أو يعتبر الراوي ثقة .
وهنا ذكر أن حديثهم قوي، وهناك قلنا: لا بد من تقييد كلام المؤلف، وهذا القيد أورده المؤلف ها هنا، وهو من احتجا بحديثه، هذا واحد، والثانية أن قوله: اعتبارًا واستشهادًا ومتابعة هذه تحتاج إلى إيضاح؛ لأن بعض الناس قد لا يعرفها.
__________
(1) - سورة النساء آية : 3.
(2) - سورة النساء آية : 3.(1/315)
الاعتبار يقولون: هي عبارة عن العملية التي يتوصل بها الشواهد والمتابعات هي نفس أو الهيئة التي يتوصل بها إلى الاعتبار والشواهد والمتابعات تسمى اعتبارًا، لكن هذا الكلام فيه نوع بعد .
والظاهر -والله أعلم- أن اعتبارًا دي يعبر بها عن المتابعات؛ ولهذا يقال: يعتبر بحديثه، يعتبر يعني: إذا جاء في المتابعات يمشي حديث، والمراد أن يعبر بها، الاعتبار يعبر به عن المتابعات .
فالمتابعة معناه هو أن يتابع أو يروي راو حديثًا يشارك فيه غيره في الرواية عن شيخه. مثل: إذا جاءنا عبد الله بن وهب يروي عن الإمام مالك، الشيخ مالك، وعبد الله بن وهب يروي عن مالك، هذا، رواية عبد الله بن وهب تسمى فردا، لكن إذا وجدنا شخصًا آخر يتابع عبد الله بن وهب، لو جاء التنيسي فروي عن مالك نقول: التنيسي تابع ابن وهب، فشيخهما واحد وحديثهما واحد، فهذا يسمى متابعة تامة، لاشتراكها في شيخ واحد، لكن لو جاء ابن وهب، وتفرد بحديث عن مالك، ولم نجد أحدًا من الرواة يرويه عن مالك إلا ابن وهب، لكن وجدنا راويا آخر يرويه عن شيخ مالك، لو كان شيخ مالك الزهري، وجدنا راويا آخر مثل: ابن عيينة يرويه عن الزهري نقول: هذه متابعة قاصرة لرواية عبد الله بن وهب، اللي يشترك مع عبد الله بن وهب في شيخه نسميه متابعة تامة، إذا اشترك معه في شيخ شيخه نسميه متابعة قاصرة، هذه هي المتابعة .
أما بالنسبة لـ يعني: تطبيقها مثلًا، حديث يرويه أبان بن صمعة عن أبي الوازع عن أبي برزة في صحيح مسلم، أبان هذا تكلم العلماء فيه، لكن الإمام مسلم ساق الحديث من طريق أخرى إلى راوٍ آخر، وهو شعيب بن الحبحاب عن أبي الوازع عن أبي برزة، فشعيب هذا تابع، تابع أبان بن صمعة، فهذا إذا وجدناه في صحيح مسلم، أو في البخاري على هذه الشاكلة .(1/316)
نقول: متابعة، نسميها متابعة، وفيه لفظة أخرى تذكر دائمًا وهي كلمة: ومقرون، روى له مسلم مقرونا بغيره، هذه معنى مقرون يعني: أن الإمام مسلمًا يسوق سندًا واحدًا يجتمع فيه راويان، أو يقرن فيه بين راويين، وهذا يوضحه المثال مثل: روايته لابن لهيعة، وساق سندًا عن عبد الله بن وهب، من طريق عبد الله بن وهب عن ابن لهيعة وعمرو بن الحارث، فهنا جمعهما في إسناد واحد جمع ابن لهيعة مع عمرو بن الحارث، عن يزيد بن أبي حبيب فهذه الرواية إذا وجدناها بهذه الصورة في مسلم نسميها، هذه إذا قالوا: روى له مسلم مقرونًا، فابن لهيعة روى له مسلم مقرونا، هذا معنى القرن بين رواية الراوي مقرونة، فالمقرون يأتي يكون في المتابعة التامة فقط، في المتابعة التامة، أما إذا كانت متابعة قاصرة، فلا يأتي، فلا يقال: روى له مسلم مقرونا، إذن إذا قالوا روى مسلم متابعة تحتمل إما أن يكون مقرونا، اللي هي المتابعة التامة أو متابعة قاصرة وأما إذا قالوا روى له مقرونًا فلا ينصرف إلا إلى المتابعة التامة .
والمتابعة التامة تكون في الشيخ الذي يظهر أنه تفرد بهذا الحديث . ثم نعود إلى كلام المؤلف، وهو ما احتج به الشيخان هذا فيمن لم يوثق، هذا فيمن لم يوثق من العلماء، لكن هناك من احتج به الشيخان، ولم يطعن فيه ولم يتكلم فيه، وقد وثقه الأئمة فهذا ليس داخلًا ها هنا . وإنما الذي يدخل عندنا من احتج به الشيخان، ولم يطعن ولم يوثق فهذا هو الذي، فهذا الذي يكون حديثه قويا أو يكون ثقة كما سبق، فهذا يحال على ما سبق في الفصل السابق .
أما القسم الثاني فسيورده المؤلف -رحمه الله-. نعم.(1/317)
الشاهد معناه: هو أن يأتي الحديث بلفظه أو بمعناه من طريق صحابي آخر، إذا كان عندك حديث لأبي هريرة، وجاء حديث بمعناه أو بلفظه من حديث مثلًا أنس أو من حديث ابن عمر، فهذا يسمى شاهدًا، فالشرط في الشاهد أن يكون الصحابي مختلفًا والشرط في المتابع أن يكون الصحابي واحدًا والشرط الصحابي أن يكون التابعي واحدًا .
وأما المتن فسواء كان باللفظ أو بالمعنى سواء كان باللفظ أو بالمعنى في كلا سواء يعني: صحيح في، سواء كان متابعة أو شاهدًا، نعم .
من أخرج له الشيخان أو أحدهما على قسمين: أحدهما ما احتجا به في الأصول، وثانيها من خرجا له متابعة وشهادة واعتبارًا، فمن احتجا به أو أحدهما ولم يوثق ولا غمز فهو ثقة، حديثه قوي، ومن احتجا به أو أحدهما، وتكلم فيه فتارة يكون الكلام فيه تعنتا ... .
هذا الفصل مكمل للفصل السابق، مكمل للفصل السابق، يعتبر مكملًا للفصل السابق، أو مرتبطًا بالفصل السابق؛ لأن المؤلف أعاد القسم الأول منه، لكن بقي قسم آخر ما ذكره المؤلف، وهو من احتج به الشيخان أو أحدهما، وهم موثقون ليس فيهم تجريح مطلقًا، فهذا يعتبر قسمًا ثالثًا لم يذكره المؤلف، ولم يذكره المؤلف ها هنا؛ لأن هذا القسم واضح وظاهر جدًّا ما يحتاج إلى يعني: ذكر، نعم .
فتارة يكون الكلام فيه تعنت والجمهور على توثيقه فهذا حديثه قوي أيضًا.(1/318)
يعني: أن أحد رجال الصحيح الذين احتج بهم البخاري أو مسلم، احتج بهم الشيخان البخاري أو مسلم، إذا كان الجمهور يوثقون هذا الراوي، ثم جاء أحد المجرحين فجرحه، فجرحه، وكذا ظهر لنا أن هذا التجريح فيه تشدد وغلظة، كما يصنع أبو حاتم أو يحيى بن سعيد أو غيرهم من المتعنتين والمتشددين في باب الجرح، فإذا ظهر لنا ذلك فإننا لا نضعف حديث الراوي، بل يكون حديثه قويًّا صحيحًا، بل يكون حديثه صحيحًا، ففعل هذا المتعنت، وهو المتشدد أو هذا الجرح الذي فيه تعنت، وهو التشدد هذا لا يلتفت إليه، بل يوثق، بل يوثق هذا الراوي، وهذا كما حصل في عكرمة وابن عباس وابن خالد الحذاء وإبراهيم بن طهمان وغيرهم .
هؤلاء ثقات، وثقهم جمهور العلماء، وطعن فيهم تعنتًا، إما بطعون الأصل لا تثبت، أو بطعون ظهر من خلال الدراسة أن فيها تعنتا، وفيها تشدد في كونه قدحوا فيما لا يقدح في الراوي، أو بما لا يثبت في الراوي أو بما لا يثبت في الراوي، فمثل هؤلاء لا يلتفت إلى تجريحهم، بل يصحح حديث الراوي كما صنع الشيخان، نعم .
وتارة يكون الكلام في تليينه وحفظه له اعتبار، فهذا حديثه لا ينحط عن رتبة الحسن التي قد نسميها من أدنى درجات الصحيح .(1/319)
وهذا تقدم معنا في الحديث الحسن، ذكرنا أن الراوي إذا عدله أئمة ووثقه آخرون، وضعفه آخرون، ولم يكن ثمة مرجح، فإن هذا قد يحسن، قد يكون حديثه حسنًا، ولعل هذا الكلام كلام الذهبي يضاف إلى ما سبق، فهو وإن لم يكن صريحًا، لكن فيه دلالة؛ لأنه يقول: أقل أحواله أن يكون الحديث حسنًا، وأيضًا لو كان الراوي وثقه أئمة، وتكلم فيه آخرون، وهذا الكلام اللي ذكره ليس فيه تعنت، لكنه لا يدل على التضعيف المطلق، لا يدل على التضعيف المطلق أو لا يقتضي التضعيف المطلق، إما بنفسه أو بمقارنته مع كلام الأئمة، فهذا أقل أحواله أن يكون هذا الراوي ممن يحسن حديثه إذا كان البخاري ومسلم قد احتجا به، وهذا مثل خالد بن مخلد القطواني هذا خرج له الشيخان وثقه جماعة من العلماء، وطعن فيه جماعة لوقوع النكارة في بعض حديثه، فمثل هذا لا يقل حديثه أن يكون حسنًا على مانع، أننا إذا وجدنا لهذا الراوي حديثًا خارج الصحيح، وهذا خالد بن مخلد في إسناده، فإننا نقول: أقل ما نقول في هذا الحديث: إنه حسن؛ لأن خالد بن مخلد هذا حسن الحديث أو نصحح حديثه إذا ملنا إلى تصحيح حديثه، لقيام القرائن الدالة على التصحيح .
ومثله سهيل بن أبي صالح احتج به الإمام مسلم، وخرج له البخاري متابعة، مثل هذا إذا جاءنا في إسناد، فبعض العلماء يصحح حديثه كالذهبي، وبعض العلماء يحسن حديثه كالحافظ ابن حجر، فأقل أحواله أن يكون حديثه حسنًا؛ لأنه قد احتج به الإمام مسلم، وقد قواه جماعة من العلماء، وضعفه آخرون، لكن هذا التضعيف مع احتجاج مسلم به يجعل هذا التضعيف ليس شديدًا، نعم.
فما في الكتابين بحمد الله رجل احتج به البخاري أو مسلم في الوصول ورواياته ضعيفة، بل حسنة أو صحيحة.
إذًا إذا جاءنا راوٍ احتج به البخاري أو مسلم، فأقل أحواله أن يكون حديثه حسنًا، لكن هذا الاحتجاج يكون في الأصول لا في الشواهد والمتابعات، يكون هذا التخريج لحديثه في الأصول . نعم .(1/320)
ومن خرج له البخاري أو مسلم في الشواهد والمتابعات ففيهم من في حفظه شيء وفي توثيقه تردد .
يعني: هذا مثل هشام بن سعد خرج له مسلم متابعة، والبخاري تعليقًا، وهذا جمهور العلماء على تضعيفه، جمهور العلماء على تضعيفه، فهذا في حفظه شيء، وإن خرج له مسلم، فهو رجل إذا جاءنا في إسناد، وحكمنا عليه بأنه ضعيف هذا يعتبر حكما يعني: لا مذمة فيه، يعتبر حكم ماشي، كذلك مثل عبد الملك بن أعين هذا خرج له الشيخان متابعة، خرج له الشيخان متابعة، وهو قد تكلم فيه، فمثل هذا جعله الحافظ ابن حجر والذهبي ممن يحسن حديثه في مرتبة صدوق، وهو الذي يحسن حديثه فهذا فيه العلماء مترددون، منهم من يصحح حديثه، ومنهم يضعف حديثه، واختار الحافظان التوسط في شأنه .
ومثله أيضًا أبي بن عباس بن سهل بن سعد، هذا فيه ضعف من جهة حفظه، خرج له البخاري متابعة، فمثل هذا لو جاءنا بسند خارج الصحيح حكمنا على السند بأنه ضعيف، فهذا لوجود أبي بن سعد بن عباس بن سعد فيه، هذا لا غضاضة فيه، لا يقال هذا من رجال الشيخين، لأ، يقال: هذا موجود في الصحيح، موجود في صحيح البخاري، وله رواية واحدة، ولكن لا على سبيل الاحتجاج، لكن من احتج به ينبغي التثبت في أمره، نعم.
فكل من خرج له في الصحيحين فقد قفز القنطرة.
يعني: على سبيل الاحتجاج لا على سبيل الاعتبار والشواهد، هذا ينبغي تقييده، فكلمة " كل " عامة لكن هذه عامة المراد بها شيء خاص، وهو من خرج، أو من خرج لهم الشيخان أو أحدهما على سبيل، على سبيل الاحتجاج وسياق كلام المؤلف، والسياق يقتضي هذا التخصيص، نعم .
فلا نعدل عنه إلا ببرهان بين.
يعني: فلا نعدل عمن احتج به الشيخان، عمن احتج بهم الشيخان أو أحدهما إلا ببرهان، يعني: لا ينقلون من المرتبة التي وضعت لهما وخرج بناء عليها احتجاجًا لهما إلا ببرهان بين واضح لا التباس به ولا غموض، نعم .
طبقات الثقات(1/321)
نعم الصحيح مراتب، والثقات طبقات، فليس من توثق مطلقا كمن تكلم فيه ...
يعني: هناك من وثقوا مطلقًا ما أحد تكلم فيهم بجرح نهائيًا، فمثل هؤلاء أعلى حالًا ممن تكلم فيهم بكلام له وجاهته . نعم ...
وليس من تكلم من سوء حفظه واجتهاده في الطلب كمن ضعفوه، ولا من ضعفوه ورووا له كمن تركوه، ولا من تركوه كمن اتهموه وكذبوه، فالترجيح يدخل عند تعارض الروايات وحصر الثقات في مصنف كالمتعذر.
يعني: أن كما سبق لنا كثيرًا في الكلام على الصحيح والحسن والضعيف والمطروح قلنا: إن هذه رواتهم طبقات، فالصحيح كما أن رواته طبقات، هو كذلك في نفسه طبقات، وكذلك الحسن وكذلك الضعيف وكذلك المطروح، فليست على حد سواء، وإن كان يشملها مثلًا، يشملهم لفظ الثقة أو لفظ الصحيح أو لفظ الحسن ولفظ الصدوق أو لفظ الضعيف وهكذا، ويشملهم لفظ عام، لكن هم متفاوتون في هذا اللفظ، متفاوتون في هذا اللفظ، نعم .
كما يقال: إنسان وهم متفاوتون في الطول والقصر وغيرها من الأوصاف، كلهم يسمى إنسانا، لكنهم متفاوتون فيما بينهم، نعم .
وضبط عدد المجهولين مستحيل، فأما من ضعف أو قيل فيه أدنى شيء، فهذا قد ألفت فيه مختصرًا أسميته بالمغني، وبسطت فيهم مؤلفًا سميته بالميزان.(1/322)
وهذا الكلام المؤلف ذكر أن يعني: ضبط ومعرفة الثقات وحصرهم في كتاب هذا متعذر لكثرتهم والعلماء أو العالم مهما كان عنده من العلم والحفظ، لكن قد يفوته شيء من الرجال، وقد حصل، وقد حصل لمن ألف في هؤلاء من فاته شيء من الثقات لم يذكروا في كتبهم، وكذلك بالنسبة للمجاهيل ضبطهم أيضًا يتعذر في، يتعذر في كتاب بخاصة المتأخرون، بخاصة المتأخرون، هؤلاء يعسر ضبطهم وجمعهم لاتساع الرواية وكثرتها وتوزع الرواة في أماكن مختلفة من البلاد، فكان من العسير ضبطهم وجمعهم في كتاب واحد؛ لأن العالم قد يعلم أو قد يكون عنده دراية من خلال الكتب التي يقرؤها عمن سبق في بعض المجاهيل، وقد يحيط ببعض أهل عصره، لكن لا يحيط بهم أجمعهم، لا يحيط بهم أجمعهم، وكذلك بالنسبة لكتاب اللي ذكره المؤلف عن الضعفاء، أو من تكلم فيه بشيء ذكره فيه كتابيه المغني مختصرًا، وعلي سبيل البسط في كتابه الميزان.
وقد فات المؤلف -رحمه الله تعالى- أيضًا جماعة ممن ضعفوا، ولم يذكرهم في الميزان، وقد استدرك عليه أو ذيل عليه الحافظ العراقي، ثم استدرك أو أضاف عليهما الحافظ الذهبي في لسان الميزان، وهذا الميزان ليس كل من ذكر فيه هو والمغني أن يكون ضعيفًا، لكنه ذكر من ضعف، فهذا التضعيف أحيانًا يكون له وجه، أحيانًا يكون الراوي مترددًا بين التضعيف، الحافظ ابن حجر، لأ، لسان الميزان لابن حجر طبعًا لسان الميزان للحافظ ابن حجر .(1/323)
الميزان اعتمد فيه المؤلف على كتاب الكامل للحافظ ابن عدي، وهو من أوسع الكتب المؤلفة في الضعفاء، ومن أجمعها ومن أدقها، وبخاصة أن الحافظ ابن عدي معروف على ما يأتينا بالاعتدال في أحكامه على الرواة، من الناس المعروفين بالاعتدال، ثم إنه من أهل الاستقراء التام، يعني: دائما يستقرئ مرويات العلماء، ثم يخرج بنتيجة؛ ولهذا لما تكلم العلماء في حرملة بن يحيى تلميذ ابن وهب، وشيخ الإمام مسلم -رحمه الله- ذكر قال: تبحرت حديثه فلم أجد له حديثا منكرا. وهذا حرملة بن يحيى ذكر العلماء في ترجمته أنه يروي عن ابن وهب وحده خمسين ألف حديث، فابن عدي، قطعا اطلع على أكثر من خمسين ألف حديث لحرملة بن يحيى، ثم خلص إلى حكم فيه، فكان حكمه هو المعتمد في هذا، وهو توثيق حرملة بن يحيى.
ومسلم قد خرج له في الصحيح على سبيل الاحتجاج، فالحافظ اعتمد على كتاب الكامل، وأضاف إليه مجموعة ممن لم يذكرهم ابن عدي في الكامل، وخاصة المتأخرين، وذكر في كتابه جملة من الأئمة مثل علي بن المديني والبخاري وغيرهم ممن طعن فيهم، أو ذكروا في من قبله في كتب الضعفاء .(1/324)
مثل: علي بن المديني ذكره العقيلي في كتاب الضعفاء، فالمؤلف يذكر مثل هؤلاء الأئمة لا يذكرهم؛ لأنهم ضعفاء، وإنما يذكرهم للدفاع عنهم، يذكرهم في هذا الكتاب مدافعة عنهم، لا إقرارا بأنهم ضعفاء، أو إقرارا بأن هذا الجرح يؤثر، وجملة كبيرة منهم ثقات تكلم فيهم، لكن ليسوا من الأئمة الكبار، وهؤلاء أيضا يرمز لهم يضع أمامهم علامة صح؛ إشارة إلى أن حديثهم قد صح، وأن الجرح الذي فيهم ليس بمعتبر، وقسم تردد العلماء فيما بينهم، والقولان متقاربان أو متكافئان في الجرح والتعديل، هذه غالبا يصدره بقوله: صدوق أو حسن الحديث، وقسم آخر يرسل خلاف العلماء فيما بينهم، وآخر يؤيد الإمام في الضعف، قسم آخر يؤيد صاحب الميزان، يؤيد كلام من ضعفهم، وقسم آخر لا تجد فيه حكما إلا للحافظ الذهبي وحده، وبخاصة من المتأخرين، والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد .
الثقات الذين لم يخرج لهم في الصحيحين
الحمد لله رب العالمين، الصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين قال الإمام الذهبي -رحمه الله تعالى-: فصل: "ومن الثقات الذين لم يخرج لهم في الصحيحين خلق منهم من صحح لهم الترمذي وابن خزيمة ، ثم من روى لهم النسائي وابن حبان وغيرهما، ثم لم يضعفهم أحد، واحتج هؤلاء المصنفون برواياتهم . وقد قيل في بعضهم: فلان ثقة، فلان صدوق، فلان لا بأس به، فلان ليس به بأس، فلان محله الصدق، فلان شيخ، فلان مستور، فلان روى عنه شعبة، أو مالك أو يحيى، وأمثال ذلك كفلان حسن الحديث فلان صالح الحديث، فلان صدوق -إن شاء الله-، فهذه العبارات كلها جيدة .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد:(1/325)
فهذا فصل عقده المؤلف؛ لبيان أن هناك رجالا ثقات قد خرج لهم خارج الصحيح، وهم خلق كثير، فليس كل من لم يخرج له البخاري أو مسلم لا يكون ثقة، بل هناك ثقات كثيرون قد خرج لهم خارج الصحيح، ثم ذكر من أقسام هؤلاء الثقات من صحح له الترمذي وابن خزيمة، مع شرط ألا يكون مضعفا من قبل أحد من العلماء، وشرط ثالث: وهو أن يكون هذا الرجل قد قيل فيه: إحدى عبارات التعديل التي ساقها المؤلف، إما أن يقال فيه ثقة، أو صدوق، أو لا بأس به، أو مستور، أو حسن الحديث، أو نحو ذلك من العبارات التي ذكرها المؤلف، أو ما كان في معناها مما هو معروف عند علماء الجرح والتعديل، فمن صحح له الترمذي وابن خزيمة، ولم يكن مضعفا من قبل أحد، وقيلت فيه إحدى عبارات التعديل، فهو يعتبر من الثقات عند المؤلف -رحمه الله-، فإذا جاءنا رجل وصفه أحد علماء الجرح بأنه مستور، أو قال: روى عنه يحيى، أو مالك أو شعبة من الذين لا يروون إلا عن الثقات، إذا جاءنا مثل هذا، وكان قد صحح له الترمذي أو ابن خزيمة، ولم نجد أحدا من العلماء قد ضعف هذا الرجل، فإنه يكون هذا الرجل ثقة على ما ذكر المؤلف.
وأيضا من احتج به النسائي وابن حبان من احتج به أحدهما أو غيرهما ممن هو على طريقتهما إذا احتجا برواية رجل، وهذا الرجل لم يضعفه أحد من العلماء، وقد قيلت فيه إحدى عبارات التعديل التي أوردها المؤلف، فهذا أيضا يكون من الثقات عند المؤلف، وإن كان الثقات متفاوتين، لكن يشمله اسم الثقة، فهذه المرتبة وهذا الفصل يغاير أو يفترق عن الفصل السابق الذي مر معنا .
مر معنا أن الرجل إذا لم يكن فيه جرح ولا تعديل، وصحح له مثل الترمذي فإن حديثه... أو يكون هذا الرجل جيد الحديث، هناك الرجل ليس فيه تضعيف ولا توثيق، لا تعديل ولا تضعيف، وقد صحح له الترمذي، أو صحح له ابن خزيمة، أما في هذا الفصل فلا بد من اجتماع ثلاثة شروط:(1/326)
الشرط الأول: التصحيح من الترمذي أو ابن خزيمة، أو أن يكون مخرجا له على سبيل، قد احتج به النسائي أو ابن حبان .
والشرط الثاني: ألا يكون في التضعيف .
والشرط الثالث: أن تقال فيه إحدى عبارات التعديل التي ذكرها المؤلف، أو عبارة نحو هذه العبارات مما يماثلها، فصار هنا الفرق بين ما في هذا الفصل، وبين ما أورده المؤلف في الفصل ما قبل السابق أن هناك الرجل ليس فيه أي عبارة تعديل، أما هنا فيزيد أن فيه عبارة تعديل؛ ولهذا هنا يكون ثقة، وهناك يكون جيد الحديث، أو حسن الحديث على حسب المراتب التي ذكرها المؤلف، فصار الفرق بينهما في شرط واحد، وهذا الكلام يعني: الشروط هذا هو الذي يظهر من كلام المؤلف -رحمه الله- وإن كانت عبارته فيها يعني: نوع من القلق وعدم الوضوح جيدا، لكن هذا هو الذي يظهر من كلام المؤلف -رحمه الله تعالى- . نعم.
فهذه العبارات كلها جيدة، ليست مضعفة لحال الشيخ، نعم. ولا مرقية لحديثه إلى درجة الصحة الكاملة المتفق عليها، لكن كثير ممن ذكرنا متجاذب بين الاحتجاج به وعدمه.
يعني: أن الراوي أو أن العبارات التي أوردها المؤلف -رحمه الله- قبل قليل هذه ليست مضعفة لحال الرجل، وليست مرقية له إلى درجة الصحة الكاملة، فكأن المؤلف -رحمه الله- يعني: يشير إلى أن غالب هؤلاء المذكورين هم ممن يحسن حديثهم؛ لأن الذي يحسن حديثه الذي لا تبلغ درجته، أو تبلغ رتبته رتبة درجة من يروي الحديث الصحيح، وهذا الكلام فهذه العبارات كلها هذه كلها يشملها كلام المؤلف هنا إلا اللفظة الأولى وهي قوله: ثقة، هذه ليست مترددة هي تعتبر، أو من قيلت هذه اللفظة لفظة ثقة، هذا يعتبر من رجال أو يعتبر من أهل الصحيح، فليست متجاذبة، أما ما بعدها من: صدوق، أو لا بأس به أو ليس به بأس، أو مستور، أو شيخ، أو محله الصدق، أو صدوق إن شاء الله، أو حسن الحديث .(1/327)
هذه العبارات كلها متجاذبة بين العلماء، منهم من يرقي الحديث يعني: يرفع من شأنه، ومنهم من يجعل هذه المرتبة مرتبة تعديل، لكن لا يلزم منها حصول الضبط التام، أو حصول الضبط دون التام أيضا . نعم .
احتجاجهم بجماعات قيل فيهم ليس بالقوي
وقد قيل في جماعات: ليس بالقوي واحتج به، وهذا النسائي قد قال في عدة: ليس بالقوي، ويخرج لهم في كتابه، فإن قولنا: ليس بالقوي ليس بجرح مفسد .
هذا شرح لعبارة: ليس بقوي عند علماء الجرح والتعديل، فهنا شرح لنا عبارة النسائي، وشرح قبلها هذه العبارة على سبيل العموم، ثم سيأتي -إن شاء الله- بعد قليل شرح المؤلف لهذه العبارة عند أبي حاتم وعند البخاري، وهذه العبارة: "ليس بالقوي" هذه ليست من ألفاظ الجرح الشديدة، لكنها تستخدم عند العلماء تارة على اعتبار أن تستخدم هذه العبارة بأن هذا الرجل لم يبلغ الدرجة الكاملة من الثقة و الإتقان، وبعضهم يستعملها في التضعيف، إذا قال: ليس بالقوي يعني: أنه ضعيف، لكن هذا الضعف يعني: ضعف يسير، هذا الضعف ضعف يسير، وبعضهم يستخدمها على اعتبار أن الراوي لم يبلغ درجة الإتقان والثقة الكاملة، هذا هو يعني مجموع الذي يشير إليه كلام المؤلف هنا، وما يأتي إن شاء الله .
فهذه العبارة بين المؤلف أيضا أن النسائي -رحمه الله- يطلق هذه العبارة على أقوام، ثم بعد ذلك يخرج حديثهم، ثم يخرج بعد ذلك حديثهم، فهذا دليل على أن هذه الرواية أو هذه اللفظة ليست بجرح عند الإمام النسائي، وليست مضعفة للرجل، والمؤلف قد أكد هذا المعنى أن هذه العبارة ليست دالة على التضعيف عند النسائي أنه لما جاء في ترجمة سلم بن جرير في كتاب من تكلم فيه، وهو موثق قال: وضعفه ابن معين فقط، وقال النسائي: ليس بقوي .(1/328)
فقوله: قال النسائي بعد قوله: وضعفه ابن معين فقط يدل على أن هذه الكلمة ليست كلمة تضعيف عند النسائي، وإنما هي إشارة إلى خفة الحفظ والضبط، وقوله هنا: إن النسائي أخرج له يقول في الرجل: ليس بالقوي، ثم يخرج له هذا مر معنا فيما سبق أن المؤلف ذكر أن النسائي أو سمى سنن النسائي سماها بصحيح النسائي، وفي مقدمته في ترجمته ليحيى بن أبي كثير في تذكرة الحفاظ أيضا سمى هذا الكتاب سمى سنن النسائي، سماها صحيح النسائي، فإذا ربطت بين هذا بين تسميته لصحيح النسائي وبين قوله هنا: قال فيه: ليس بقوي .
وأخرج له، يعني: أنه ما دام أنه أخرج له، وسننه صحيحة، إذاً فهذا الرجل ليس بضعيف، والمؤلف قد سبقه جماعة كثيرون من أئمة الحديث يطلقون على سنن النسائي صحيح النسائي، وخاصة "المجتبى" السنن الصغرى، أطلق ذلك الدارقطني وابن عدي والحاكم وأبو علي النيسابوري وابن السكن وعبد الغني بن السعيد المصري جماعة كثيرون أطلقوا عليها "صحيح النسائي" والمؤلف وافقهم بأن هذا يعتبر صحيحا، فإذا ربطته مع هذا الكلام مع قوله: "صحيح النسائي" تبين لك أن هذه اللفظة: "ليس بقوي" ليست مضعفة للرجل؛ لأنه لو كان ضعيفا لم يخرج له في سننه التي هي تعتبر صحيحة عند أهل العلم، تعتبر صحيحة عند بعض أهل العلم في الأحاديث التي لم يعلها الإمام النسائي، الأحاديث التي أعلها خارجة من هذا الحكم، والتي ما علها ولا علق عليها بشيء خرجها في الاحتجاج هذا يعتبر عندهم صحيحا، هذا من جهة النسائي .(1/329)
والثانية: أن المؤلف يؤيد صنيع النسائي أو سبق في صنيع النسائي بصنيع العلماء أنه ذكر في الأول أن من قيل فيه: ليس بقوي أن هناك عبارات أو رجالا أطلق عليهم بأنهم ليسوا بأقوياء، ومع ذلك احتج بهم، فهذا يعتبر الحكم العام شارحا لصنيع الإمام النسائي -رحمه الله-، فهناك رجال وصفوا بأنهم ليسوا بأقوياء، ومع ذلك خرج لهم في الصحيحين، احتج بهم الإمام النسائي، فحاتم بن إسماعيل مثلا المدني، هذا أخرج له الشيخان وأصحاب السنن، ومن ضمنهم النسائي، وخرجوا له في الاحتجاج، مع أن النسائي قال: ليس بالقوي، وكثير بن شنظير أخرج له البخاري ومسلم والنسائي احتجاجا، ومع ذلك النسائي يقول: ليس بالقوي .
وإبراهيم بن يوسف بن أبي إسحاق السبيعي خرج له البخاري ومسلم والنسائي، ومع ذلك قال فيه النسائي: ليس بالقوي، فهذه عبارة النسائي: "ليس بالقوي ". وقد احتج به أصحاب الصحاح، واحتج به النسائي نفسه، هذه الأمثلة الواردة هذه تصلح مثالا لمن قيل فيه: إنه ليس بالقوي، واحتج به سواء عند النسائي، أو عند غيره، وبخاصة أصحاب الصحاح، فصار كلام المؤلف يعني: مشعرا بأن كلمة: "ليس بالقوي" عند الإمام النسائي يعني: أنها بين مرتبة التوثيق ومرتبة التضعيف التي قد يسميها أنها الحديث الحسن لذاته.
لكن كلام المؤلف هذا فيه إشكال: وهو أن الإمام النسائي في كتابه الضعفاء أطلق هذه اللفظة على كثير من الضعفاء ليس بالقوي، ليس بالقوي، هذا يدل على أن كلمة ليس بالقوي تضعيف عند الإمام النسائي، لكنها تضعيف ليس يعني تضعيفا شديدا ولا قويا، ليست كمن يقال فيه: منكر الحديث، ولا من يقال فيه: متروك أو غير ذلك من العبارات الشديدة، إنما هو تضعيف خفيف . نعم .
الورع لمن يتصدر للجرح والتعديل
والكلام في الرواة يحتاج إلى ورع تام، وبراءة من الهوى والميل، وخبرة كاملة بالحديث وعلله ورجاله .(1/330)
يعني: أن الإمام الذي يتصدر للجرح والتعديل لا بد أن يجتمع فيه الورع التام؛ لأن الورع يمنعه ورعه من إطلاق الأحكام جزافا بدون ترو ولا تمعن، ويمنعه ورعه من أن يكون له هوى يضعف من أجله راويا، أو يعدل من أجله راويا، وأيضا ورعه يجعله ناصحا لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - وللمسلمين فيما يقوله من عبارات الجرح والتعديل، وكذلك ورعه يمنعه من إطلاق ألفاظ الجرح والتعديل بالأمور الظنية، لا بالأمور المعلومة لديه، لا بالأمور المعلومة لديه، فهذا كله يجعل الرجل يتكلم أو إمام الجرح والتعديل إذا تكلم في الراوي تكلم فيه بصدق وأمانة؛ ولهذا علماء الجرح والتعديل الذين كانوا ورعين فيما يقولون، منهم من ضعف ابنه مثل أبي داود ضعف ابنه، وعلي بن المديني ضعف أباه، وزيد بن أبي أنيسة كذب أخاه يحيى، وهذا كله من باب الورع والديانة والصدق في القول.
ولهذا جاء عن أبي زرعة -رحمه الله- ذكر أبو زرعة -رحمه الله- أن الإمام مالكا والإمام الثوري لما تكلما في الناس بالديانة نفذت أقوالهما، أما من تكلم بغير ديانة، فإن مصيره إلى العطب، ثم إن أيضا على الناظر أو على المتكلم في الجرح والتعديل، أو من شرطه أن يكون له خبرة بالحديث وعلومه ورجاله وعلله؛ لأنه يحتاج إلى ذلك، فلا يمكن أن يقطع بضبط راو، ولا يقطع بضعفه في حفظه إلا إذا كان من أهل هذا الشأن الذين يعرفونه ويفهمونه؛ لأنه يحتاج إلى عرض الروايات على روايات الحفاظ، ويحتاج إلى معرفة العلل ليرى أحاديثها التي أخطأ فيها والتي وهم فيها، فهذا كله يحتاج إليه الذي يتكلم في الجرح والتعديل، إذًا فلا بد أن يكون من أئمة الجرح، أو من أئمة الحديث الذين يعرفون الحديث، ويفقهونه في علله وصحيحه وسقيمه . نعم .
تحرير عبارات التعديل والجرح(1/331)
ثم نحن نفتقر إلى تحرير عبارات التعديل والجرح وما بين ذلك من العبارات المتجاذبة، ثم أهم من ذلك أن نعلم بالاستقراء التام عرف ذلك الإمام الجهبذ، واصطلاحه ومقاصده بعباراته الكثيرة .
يعني: أن المؤلف أشار في هذا الكلام إلى أن هناك عبارات في التعديل، متفق عليها، وهناك عبارات في التضعيف متفق عليها، لكن هناك عبارات متوسطة بين هذين الأمرين، وهذه العبارات المتجاذبة هي التي تحتاج إلى تحرير، تحتاج إلى تحرير في بيان معانيها ومدلولاتها، ثم تنزيل كلام العلماء عليها، فأيضا وأشار أيضا بكلامه إلى أنه لا بد أن نفهم اصطلاح كل إمام؛ لأن هناك ألفاظا مشتركة بين الأئمة يطلقونها، وهي متداولة معروفة عليهم، وهناك اصطلاحات خاصة، فإذا مثلا قال أبو حاتم في رجل: صدوق أو لا بأس به، فهذا لا يحسن حديثه، ولا يصح حديثه، هذا يضعف حديثه؛ لأن اصطلاح أبي حاتم في مثل هذا أنه يكون الراوي، هذا ممن يعتبر بحديثه، يعني: يكون ضعيفا يعتبر بحديثه، أما لو جاءت كلمة: لا بأس به عند ابن معين، فهي تعني ثقة، فلا نحمل كلام أبي حاتم على كلام ابن معين، ولا نحمل كلام ابن معين على كلام أبي حاتم، فالشاهد أن لكل إمام أو لبعض الأئمة اصطلاحات خاصة، اصطلاحات خاصة، وهناك اصطلاحات عامة مشتركة بين الأئمة، فالاصطلاح العام أو أكثرها الاصطلاحات العامة في المسائل المتفق عليها، إما بالتضعيف أو بالتعديل .
وأما المسائل المتجاذبة بينهما أو الألقاب أو الأوصاف التي بين ألفاظ التعديل وألفاظ التضعيف فهذه -المتجاذبة فهذه- يقع فيها غالبا، أو كثيرا ما يقع فيها اصطلاحات خاصة لبعض الأئمة، فلا ينبغي حمل هذا على هذا . نعم .
أما قول البخاري: سكتوا عنه فظاهرها أنهم ما تعرضوا له بجرح ولا تعديل، وعلمنا مقصده بها بالاستقراء أنها بمعنى تركوه.
يعني: أن الراوي إذا أن الإمام البخاري إذا قال في الراوي: سكتوا عنه فمعناه أنه تركوه ومعنى ذلك أن حديثه حديث ضعيف جدا. نعم.(1/332)
وكذا عادته إذا قال: فيه نظر بمعنى أنه متهم، أو ليس بثقة فهو عنده أسوأ حالا من الضعيف.
يعني: أن من قال فيه البخاري: فيه نظر فهذا حديثه حديث ضعيف جدا؛ لأن كلمة ليس بثقة أو كلمة متهم هذه تقال في حق من يضعف حديثه تضعيفا شديدا، وهذه العبارة: "فيه نظر" يعني: بعض العلماء فيه نظر لا تدل عنده على الضعف الشديد، أما الإمام البخاري فهي إذا استخدمها، وقالها في رجل بحسب الاستقراء الذي ذكره الإمام الذهبي، والإمام الذهبي كما وصفه غير واحد من العلماء بأنه في علم الرجال من أهل الاستقراء التام، فالمؤلف استقرأ كلام البخاري، فتبين له أن كلمة: فيه نظر هذه لمن يكون متهما أو يقولها فيمن ليس بثقة، وكلاهما حديثهما ضعيف جدا. نعم.
وبالاستقراء إذا قال أبو حاتم: ليس بالقوي يريد بها أن هذا الشيخ لم يبلغ درجة القوي الثبت، والبخاري قد يطلق على الشيخ ليس بالقوي ويريد أنه ضعيف .
وهذه تقدم عند الكلام الذي أورده المؤلف في الأول في الكلام أو تفسير كلمة: "ليس بالقوي" عند علماء هذا الشأن، فهذه تربط مع تلك. نعم.
حكاية الجرح والتعديل كما صدرت من قائلها
ومن ثم قيل: تجب حكاية الجرح والتعديل .
يعني لما كنا نفتقر إلى تحرير هذه العبارات قيل: يجب حكاية الجرح والتعديل. نعم.
مناهج العلماء في الجرح والتعديل
فمنهم من نفسه حاد في الجرح، ومنهم من هو معتدل، ومنهم من هو متساهل، فالحاد فيهم يحيى بن سعيد وابن معين وأبو حاتم وابن خراش وغيرهم .(1/333)
يعني: أن هناك من أئمة الجرح والتعديل، أو من كان نفسه حادا في الجرح والتعديل لا يعدل بيسر، وإذا جرح جرح بأدنى شيء، وهذا وهؤلاء يعبر عنهم بعض العلماء بأنهم المتشددون، أو المتعنتون، وهؤلاء ذكر المؤلف منهم جملة، وترك ذكر النسائي، والنسائي معروف بأنه من المتشددين، وأيضا شعبة من المتشددين، فهذه الطائفة كما بين المؤلف في كتابه ذكر من يعتمد قوله في الجرح والتعديل، ذكر أن هذا الحاد من كان حادا من هؤلاء الأئمة متشددا متعنتا، هؤلاء إذا رأوا على الراوي غلطتين أو ثلاثا جرحوه بسبب ذلك، جرحوه بسبب ذلك، لكننا لنا فائدة في معرفة هؤلاء المتشددين .
الفائدة: أن الرجل إذا وثقه جمهور العلماء، وضعفه أحد المتشددين بدون أن يفسر هذا الجرح، فإننا نوثق هذا الرجل مع الجمهور، ولا نلتفت إلى هذا التضعيف؛ لأنه من المتعنتين المتشددين، فيحتمل أن هذا الرجل أخطأ خطأين أو ثلاثة في جملة أحاديث كثيرة، فحكم عليه هذا الراوي بالضعف، فلا بد أن يكون جرحه والحالة هذه مفسرا، أما إذا وثق هذا المتعنت رجلا، فهذا كما ذكر العلماء يتمسك بهذا التوثيق، ولا يترك إلا ببرهان.(1/334)
فلو جاء عندنا -مثلا- يحيى بن سعيد، فوثق رجلا، ثم رأينا أبا زرعة قد ضعف ذلك الرجل، فإننا نتمسك بقول يحيى بن سعيد؛ لأن مثل يحيى أو مثل شعبة وغيره لا يمر الرجل إلى مرحلة العدالة عندهم إلا بصعوبة شديدة، بعد اختبار دقيق، وعدم تساهل في عدد الأخطاء، بخلاف غيرهم، فإن عندهم إما نوع اعتدال أو تساهل، أما هذا الصنف فهم متشددون، فإذا وثقوا رجلا وجب ألا ينتقل عن هذا إلا ببرهان واضح، وهذه فائدة معرفة هذا الصنف، أما إذا ضعفوا رجلا، ولم يكن لأحدهم كلام فيه غير كلامهم، فهذا يصير ضعيفا، فهذا يصير ضعيفا إذا لم يكن لأحد من الأئمة المعتدلين كلام فيه، فإن هذا يكون الرجل ضعيفا، وكذلك إذا وثقوا رجلا ليس لأحد فيه كلام، فهذا من أعلى مراتب الثقات، لكن إذا وثقوا مع تضعيف غيرهم، فيتمسك بتوثيقهم، وإذا ضعفوا مع توثيق غيرهم من المعتدلين فلا يقبل تضعيفهم إلا إذا كان الجرح مفسرا، وهذا الكلام ذكره المؤلف في كتابه ذكر من يعتمد قوله في الجرح والتعديل. نعم.
والمعتدل فيهم أحمد بن حنبل والبخاري وأبو زرعة.
إذًا يضاف إلى هؤلاء المعتدلين ابن عدي، ابن عدي من المعتدلين، وإن وصفه بعض متعصبة الأحناف بأنه من المتعنتين، لكن ابن عدي من المعتدلين؛ ولهذا هذه الطبقة طبقة المعتدلين دائما أقوالهم، أو في غالب الأحيان أقوالهم في الجرح والتعديل متقارب ليس بينهم تفاوت كبير في الجرح والتعديل، إما أن يتفقوا في الغالب، أو إذا صار بينهم اختلاف في الرجل، يعني: بعضهم مثلا يقول: ثقة، وبعضهم يقول: لا بأس به، بعضهم ثقة، وبعضهم صدوق إن شاء الله، بعضهم يقول: ثقة، وبعضهم صالح الحديث، بعضهم يقول مثلا: صالح الحديث، وبعضهم يقول: لين الحديث .(1/335)
المهم أن العبارات بينها فجوة كبيرة، و هذا في الغالب، لكن أحيانا مثلا يوثق أحمد وهو من المعلين الرجل، ويضعفه أبو زرعة وهو من المعتدلين، لكن في الغالب أن أقوال هؤلاء متقاربة، وبخاصة الإمام أحمد وابن عدي، الإمام أحمد وابن عدي غالبا غالبا في أحكامهم على الرجال تكون متفقة وقريبة إلى نوع ما. نعم.
والمتساهل كالترمذي والحاكم والدارقطني في بعض الأوقات.
والدارقطني المشهور أنه من المعتدلين، المشهور أنه من المعتدلين، وإن حصل تساهل في بعض الأوقات، فهذا لا يقدح في أن يكون معتدلا في الجملة، فالأولى به أن يضاف إلى المرتبة التي قبلها؛ لأن الغالب الغالب عليه الاعتدال؛ ولهذا قال المؤلف: من المتساهلين في بعض الأوقات، في بعض الأوقات، ليس في كل الأوقات، أما في جملة الأوقات فهو -رحمه الله- من المعتدلين، فكان الأولى أن يضاف إلى المرتبة التي قبل.
وأما الحاكم والترمذي فهذان من المتساهلين، وقد مر معنا يوم أمس أنهما يصححان لمن اتفق العلماء على ضعفهم؛ فلذلك كانا من المتساهلين .نعم .
نعم. هذا كلام الذهبي الحافظ الذهبي .. لا والعلماء يوافقونه على الجملة، العلماء في الحافظ ابن حجر يوافقونه على الجملة. نعم.
وقد يكون نفس الإمام -فيما وافق مذهبه أو في حال شيخه- ألطف منه فيما كان بخلاف ذلك.
يعني أن هذا راجع إلى الورع، راجع إلى الورع، فعبارة الجرح والتعديل، ينبغي أن تقال في الرجل سواء كان شيخا أو على المذهب أو على غير المذهب، تقال ديانة لله بحسب الورع يقال... لكن بعض العلماء الكبار إذا ضعف شيخه؛ لأنه يرى له الفضل، أو أنه يرى أن هذا الشيخ يعني لا يعطيه عبارة كبيرة في التضعيف؛ لأنه يرى أنه لم يبلغ هذا الحد، وهذا هو المظنون بأئمة الحديث. نعم.
والعصمة للأنبياء والصديقين وحكام القسط .(1/336)
وهذا الكلام غلط، إنما العصمة للأنبياء، وقد أجمع أهل السنة والجماعة أن العصمة لا تكون إلا للأنبياء، أما غيرهم فهذا محل نظر، والعصمة للأنبياء فقط، أما غيرهم من الصالحين والأولياء وحكام القسط هؤلاء ليسوا من المعصومين، ولهذا الإمام الذهبي في خطبة الميزان ذكر أن العصمة لا تكون إلا للأنبياء فقط، وأيضا ذكر في السير في بعض المواضع أن العصمة إنما هي للأنبياء فقط، إذًا فهذه الكلمة إنما هي: "للأنبياء والصديقين" كلمة: والصديقين وحكام القسط .
هذه الظاهر -والله أعلم- أنها من تصرف النساخ، ليست تضاف إلى الإمام الذهبي؛ لما علم من كلامه في مواضع كثيرة أنه يقول: العصمة للأنبياء فقط، فهذه تعتبر من زيادات النساخ على كلام الإمام الذهبي -رحمه الله- وهذا الكلام أيضا يخالف إذا قيل: والصديقين وحكام القسط يخالف ما عليه أهل السنة والجماعة. نعم.
علماء الدين لا يجتمعون على ضلالة لا عمدا ولا خطأ
ولكن هذا الدين مؤيد محفوظ من الله -تعالى-، لم يجتمع علماؤه على ضلالة لا عمدا ولا خطأ، فلا يجتمع اثنان على توثيق ضعيف ولا على تضعيف ثقة، وإنما يقع اختلافهم في مراتب القوة، أو مراتب الضعف، والحاكم منهم يتكلم بحسب اجتهاده وقوة معارفه.
يعني أن ليس هناك ثقة هو في نفس الوقت ثقة، وقد أجمع العلماء على ضعفه، كما أنه ليس هناك رجل ضعيف وقد أجمع العلماء على توثيقه، بل إما أن يتفقوا على توثيق الثقة، أو على تضعيف الضعيف، أو على الاختلاف فيه يكون بعضهم يوثقه، وبعضهم يضعفه، فقوله: لم يجتمع اثنان يعني لم يجتمع فريقان، يدل عليه أنه عبر في الأول قال: "علماؤه" هذا جمع، ثم بعد ذلك عبر أيضا بعد هذه الجملة بواو الجماعة، فهذا يدل على أنه أراد لم يجتمع اثنان يعني لم يجتمع علماء هذه الأمة، وهذه الاثنان يقصد بهم الفريقان فريق التعديل وفريق التجريح. نعم.
فإن قدر خطؤه في نقده فله أجر واحد والله الموفق.(1/337)
هنا المحقق علق على أيش ؟ قال فإن قدر أيش قال ...
وقعت العبارة في الأصل فإن بدر خطؤه ..، بدأ ولا بدر ؟ .. بدر هذا الكلام صحيح، فإن بدر صحيح، التعليق محل نظر، التعليق محل نظر، والصواب أنها: "فإن بدر "، الصواب: "فإن بدر خطؤه " بدر تأتي بمعنى تم، يقال: بدر الغلام إذا تم، فكلمة بدر معناها تم، والمراد هنا إذا حصل، إذا حصل الخطأ، يعني حصل خطأ في تضعيف الثقة، أو توثيق الضعيف بعد الاجتهاد في شأنه، فهذا معفو عنه، لأن من اجتهد فأصاب فله أجران، ومن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد بنص حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - إذاً فكلمة فإن قدر هذه في غير مكانها، الصواب ما في الأصل "فإن بدر". نعم.
مراتب الرواة أصحاب البدع والأهواء
وهذا فيما إذا تكلموا في نقد شيخ ورد شيء في حفظه وغلطه، فإن كان كلامهم فيه من جهة معتقده، فهو على مراتب، فمنهم من بدعته غليظة، ومنهم من بدعته دون ذلك، ومنه الداعي إلى بدعته، ومنهم الكاف وما بين ذلك، فمتى جمع الغلظ والدعوة تجنب الأخذ عنه، ومتى جمع الخفة والكف أخذوا عنه وقبلوه، فالغلظ كغلاة الخوارج والجهمية والرافضة، والخفة كالتشيع والإرجاء، وأما من استحل الكذب؛ نصرا لرأيه كالخطابية فبالأولى رد حديثه.
هذا الكلام في رواية أهل البدع، حكم رواية البدع هل هي تصحح أو تضعف ؟ ذكر المؤلف أن طائفة من أهل البدع، وهم الخطابية من الروافض نسبة إلى ابن خطاب الأسدي هذه الطائفة من مذهبها استحلال الكذب تجويز الكذب ، فهذه الطائفة إذا روى أحد المنتسبين إليها حديثا، فهذا حديثه لا يقبل، لا يقبل؛ لأنه يكون الحديث هذا يعني فيه مظنة كبيرة أنه يكون هذا الرجل قد كذبه على النبي، - صلى الله عليه وسلم - .(1/338)
وأما بقية أهل البدع فالمؤلف قسم البدعة إلى بدعة غليظة وبدعة خفيفة، وفي الميزان قسمها إلى بدعة صغري وبدعة كبرى، فالبدعة الصغرى هي البدعة الخفيفة مثل الإرجاء والتشيع الخفيف هذا التشيع هذا يسمى بدعة صغرى، أو بدعة خفيفة، فهذه راويها مقبول الرواية، وأما البدعة الغليظة، وهي البدعة الكبرى مثل: التجهم ويطلق على الذين يقولون بخلق القرآن وعلى الخوارج الذين ينقمون على علي للجوئه للتحكيم، أو الرافضة .
والرافضة في عرف السلف هم الذين يحطون من شأن أبي بكر وعمر -رضي الله تعالى عنهما- ويتبرءون منهما، ويكفرون من حارب عليا كالزبير وطلحة ومعاوية هؤلاء يسمون رافضة في عرف السلف، يسمون رافضة .
أما الشيعي يسمى الشيعة التشيع الخفيف جدا هذا هو تقديم علي على عثمان - رضي الله عنه - وأعلى منه التشيع الغالي وهو الذي يقدم عليا على الصحابة -رضوان الله عليهم- ويتكلم في عثمان بن عفان - رضي الله عنه - أو يتكلم فيمن حارب عليا، لكن لا يكفرهم، هؤلاء يسمى شيعيا غاليا، يسمى شيعيا غاليا، الشيعي الغالي أو الشيعي غير الغالي هذا تعتبر بدعته من البدع الصغرى ليست من البدع الكبرى، فهؤلاء يقبلون .
أما الرافضي فجملة من السلف لا يقبلون حديثهم، الرافضة والجهمية والخوارج جملة من السلف لا يقبلون حديثهم، وبعض السلف يقبل حديثهم، وبعض السلف يفصل فيهم فيقبلهم إن لم يكن من الدعاة، ولم يرووا ما يؤيد البدعة، ويمنعهم ويمنع قبول روايتهم إذا كانوا من الدعاة، أو كانوا يروون ما يؤيد بدعتهم.(1/339)
لكن الأظهر والمعمول به في الصحيحين أن المبتدع، وإن كان داعيا إلى بدعته، فإن روايته مقبولة إذا كان معروفا بالصدق والأمانة، معروفا بالصدق والأمانة لم يظهر عليه، ولم يكن من مذهبه استحلال الكذب، فهذا تقبل روايته كما خرج الشيخان لمثل هذه الطائفة، لكن إذا روى ما يؤيد بدعته، ولو كان مقبول الرواية في العموم، فإن أكثر العلماء يتوقفون في هذا الحديث بخصوصه، يتوقفون في هذا الحديث بخصوصه، فإن صار له تفردات فيما يؤيد بدعته لا يشاركه فيها غيره، فهذا قاض أو يقضون عليه بذلك بأنه من المفترين الكذابين .
فالشاهد أن من رمي ببدعة إن كان ممن يستحل أو إن كان ينتسب إلى نحلة تستحل الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهذا يرد حديثه مطلقا، أما إذا كان مبتدعا، سواء كان بدعة صغرى أو كبرى، فإنه تقبل روايته، ولو كان من الدعاة إلى بدعته إذا عرف بالصدق والأمانة، وقد تقدم لنا في مبحث العدالة أن العدالة إنما اشترطت لأجل أن نأمن الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأهل هذه النحل لهم شبه قامت فوقعوا فيما وقعوا فيه من البدع، والظاهر من حال جملتهم أنهم لا يروون ما يؤيد بدعهم ولا يكذبون على النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما كثير منهم معروف بالصدق والأمانة والورع والعبادة إلا فيما يختص بهذه البدعة لقيام الشبهة عنده، ولو رددنا كل صاحب بدعة لكان رددنا شيئا كثيرا.(1/340)
ولهذا الإمام الذهبي -رحمه الله- في تقدمة الميزان طرح سؤالا كيف يقبل صاحب البدعة مع أن البدعة منافية للعدالة ؟ وأجاب أن العلماء قبلوا صاحب البدعة تحصيلا للمصلحة ودرءا للمفسدة؛ لأننا أحيانا لا نجد الحديث إلا عند هذا الراوي الفلاني المبتدع، أو نحتاج إليه أحيانا في تقوية بعض الأحاديث، فمن أجل هذه المصلحة أي مصلحة الإبقاء على أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أهل العلم رواية المبتدع، ولهذا علي بن المديني قال: لو تركت حديث أهل البصرة للقدر وحديث أهل الكوفة للتشيع لخربت الكتب، لم يبق يعني كبير حديث للنبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن هذين المصرين كانا مشهورين بالعلم .
فالشاهد أن تحصيل المصالح أمر مطلوب شرعا إذا لم يقم قائم أو معارض راجح، والعلماء الأولون لما تكلموا عن أهل البدع أكثرهم لم يتكلم في ذات الرواية، وإنما حذر من الأخذ عن المبتدع، وهناك فرق بين التحذير عن الأخذ عن المبتدع وبين تصحيح رواية المبتدع أو تضعيفها، فكلام السلف أو أكثر السلف حذروا من الرواية عن المبتدع، وتحذيرهم من الرواية عن المبتدع جاء من باب هجر أهل البدع، لعله يرتدع، والثاني من باب أن يكون هذا الراوي المبتدع مغمورا لا يعرف لئلا يشتهر أمره بين الناس فتنتشر بدعته خاصة عند جهلة الناس، ونهوا عن الأخذ عنه أيضا لئلا يتأثر الآخذ به، فهذه أشياء نهى السلف عن أن يؤخذ عن صاحب البدعة، ثم إنهم نهوا عن ذلك؛ لأن هناك من أهل السنة من كان يروي هذه الأحاديث التي يرويها أهل البدعة فلا حاجة في ذلك الوقت إلى روايتهم، لكن بعد أن دونت الكتب وانتهى أمرها، وانقطعت الأسانيد احتاج الناس إلى رواية أهل البدع؛ لأن أحيانا تكون رواية من كان موصوفا بالسنة بهذا الحديث الذي ... لم يصل إلينا، فللحاجة إلى رواية المبتدعة والمصلحة المترتبة قبلها العلماء، قبلها أهل العلم. نعم.(1/341)
قال شيخنا ابن وهب: العقائد أوجبت تكفير البعض للبعض أو التبديع، وأوجبت العصبية، ونشأ من ذلك الطعن في التكفير والتبديع، وهو كثير في الطبقة المتوسطة من المتقدمين.
يعني بالعقائد الأهواء، لما كثرت الأهواء صارت فيه الخوارج صارت فيه المرجئة صارت فيه الجهمية صارت فيه القدرية صار فيه رافضة إلى غيرها من النحل لما كثرت هذه الاعتقادات صارت هذه الطوائف يتكلم بعضها في بعض. نعم.
والذي تقرر عندنا أنه لا تعتبر المذاهب في الرواية ولا نكفر أهل القبلة ...
يعني يقصد المؤلف: لا تعتبر يعني أننا إذا كان الراوي موصوفا ببدعة فإننا لا ننظر إلى هذه البدعة؛ وبأن المقصود باشتراط العدالة في الحديث إنما هو معرفة صدق الراوي، وهذا الراوي إذا كان من أهل البدع ومعروف بالصدق والضبط، فتم المراد، فقد تم المراد. نعم.
ولا نكفر أهل القبلة إلا بإنكار متواتر من الشريعة،...
يعني لا يكفر المؤلف ... أو ابن دقيق العيد لا يكفر من أهل الأهواء أو من أهل البدع والضلالات إلا من كان تكفيره معلوما بالضرورة من دين الإسلام، إما جحد لما هو معلوم من الدين بالضرورة كالمتواترات، أو ترك ما يجب فعله، ويترتب على تركه كفر مما هو معلوم من الدين بالضرورة كترك التوحيد. نعم.
آراء العلماء في قبول رواية المبتدع
فإذا اعتبرنا ذلك، وانضم إليه الورع والضبط والتقوى فقد حصل معتمد الرواية، وهذا مذهب الشافعي - رضي الله عنه - حيث يقول: أقبل شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية من الروافض . قال شيخنا: وهل تقبل رواية المبتدع فيما يؤيد به مذهبه؟ فمن رأى رد الشهادة في التهمة لم يقبل، ومن كان داعية مجاهرا ببدعته هل يترك إهانة له وإخمادا لمذهبه، اللهم إلا أن يكون عنده أثر تفرد فنقدم سماعه منه.(1/342)
يعني المؤلف أنه لما ذكر أنه لا ينظر إلى معتقد الراوي، وإنما ينظر إلى صدقه وضبطه استثنى من ذلك هذه الصورة التي ذكر فيها الخلاف، واستثنى منها أيضا صورة أخرى، وهي أنه إذا كان يترتب على ترك الرواية عنه إخماده، إخماد فتنة هذا الراوي وتأثر الناس به، فإنه تترك الرواية عنه إلا في حالة واحدة: وهي إذا ضاق مخرج الحديث فلم يوجد إلا عند هذا الراوي فإنها تقبل روايته. نعم.
وجوب تفقد حال الجارح مع من تكلم فيه
ينبغي أن تُتَفَقَّد حالُ الجارح مع من تكلم فيه باعتبار الأهواء، فإن لاح لك انحراف الجارح، ووجدت توثيق المجروح من جهة أخرى فلا تحفل بالمنحرف وبغمزه المبهم وإن لم تجد توثيق المغموز فتأنَّ وترفق.
يعني المؤلف: أننا إذا وجدنا راويا جرح راويا، وهما مختلفان في الأهواء كأن يكون ناصبيا فيطعن في الشيعي، فإنه يقول: يتوقف في هذا، يتوقف في هذا لا سيما إذا كان هذا الرجل فيه قول مقابل لهذا الطاعن، لهذا الطاعن فيه، إذا كان هناك قول مقابل إذا كان هذا الناصبي مثلا يطعن في الشيعي، وكان هذا الشيعي موثقا من غير هذا الناصبي، فلا يلتفت إلى قول الناصبي، وهذا كما يقال في الجوزجاني: هو متهم بالنصب، يعني بغض علي -رضي الله تعالى عنه- هو متهم بذلك، فمن هذا الباب نبه ابن حجر وردد كثيرا في كتبه أنه لا يعتمد قوله في أهل الكوفة؛ لأن الكوفة معروفون بالتشيع لعلي بن أبي طالب، فإذا ضعف رجلا من أهل الكوفة، فهذا يتوقف فيه، يتوقف في تضعيف الجوزجاني ، فإذا جاءنا رجل من أهل الكوفة فضعفه الجوزجاني، وكان غيره موثقا لهذا الرجل فيتوقف في شأن الجوزجاني .(1/343)
غير أن هذا الكلام يعني فيه ما فيه يعني بالنسبة للجوزجاني فيه ما فيه، وقد تكلم عليه المعلمي في التنكيل؛ لأنه وثق أو قبل رواية مجموعة من كبار الموصوفين بالتشيع من أهل الكوفة كالأعمش وأبي إسحاق السبيعي وغيرهم. قبل روايتهم قبل روايتهم. نعم، لكن عباراته زائغ عن السنة، وكذا هذه لا تقتضي التضعيف، لا تقتضي تضعيف الرواية إذا قال: زائغ عن السنة، لا تقتضي تضعيف الرواية، ومثله أيضا الدولابي لما تكلم في نعيم بن حماد، الدولابي ينتمي إلى مذهب أبي حنيفة، ونعيم بن حماد من أهل الآثار من أهل الأثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من المتمسكين بالسنة، فلما طعن الدولابي في نعيم بن حماد طعنه يتوقف فيه ولا يلتفت إليه؛ لمخالفته؛ لأن الدولابي من الأحناف، وهذا من أهل الأثر المعروفين بالتمسك .
والدولابي من الأحناف أهل الرأي، ينتمي إلى أهل الرأي، فلا ينبغي اعتماد قول الدولابي في نعيم بن حماد - رحمه الله -، فإذا اختلفت الأهواء وجب التوقف، لكن إذا طعن صاحب السنة المعروف بالسنة طعن في أهل الأهواء هذا مقبول طعنه. نعم.
الاختلاف الواقع بين المتصوفة وأهل العلم
قال شيخنا ابن وهب -رحمه الله تعالى-: ومن ذلك الاختلاف الواقع بين المتصوفة وأهل العلم الظاهر، فقد وقع بينهم تنافر أوجب كلام بعضهم في بعض، وهذه غمرة لا يخلص منها إلا العالم الوافي بشواهد الشريعة، ولا أحصر ذلك في العلم بالفروع، فإن كثيرا من أحوال المحقين من الصوفية لا يفي بتمييز حقه من باطله علم الفروع .
بل لا بد من معرفة القواعد الأصولية والتمييز بين الواجب والجائز والمستحيل عقلا والمستحيل عادة .
وهو مقام خطر، إذ القادح في محق الصوفية داخل في حديث: " من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة " والتارك لإنكار الباطل مما سمعه من بعضهم تارك للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.(1/344)
هذا الكلام كلام فاسد ناشئ عن تصوف ابن دقيق العيد، فابن دقيق العيد عنده نزعة صوفية ظاهرة، وهذا الكلام فاسد؛ لأن علم الشريعة وعلم فروع الشريعة يفي بالحكم على أفعال البشر، فالمؤلف قسم قال: الخلاف الحاصل بين علماء الصوفية وأهل العلم الظاهر يقصد بأهل العلم الظاهر العلماء علماء الشريعة، وأهل العلم الباطن أو الصوفية يقصد أنهم أهل العلم الباطن، وهذا كلام كله باطل وفاسد لا يصح،هذا الكلام كله فاسد لا يصح .
الأعمال قسمان: عمل باطن الأعمال أعمال باطنية وأعمال ظاهرية، وقد بينها النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث جبريل فيه عمل القلب، وفيه عمل الجوارح، هذا لا إشكال فيه .
أما العلم فعلم فعلم الشريعة علم واحد، وأحكام الشريعة تجرى على الناس بما ظهر من أحوالهم، وفروع الشريعة كافية للحكم على جميع الناس بمختلف مستوياتهم وطبقاتهم. لا من يزعم أنهم عندهم علم باطن، وأن ما في باطنهم يخالف ما يظهر على جوارحهم، ولا من علماء الظاهر، فالشريعة مبينة لذلك كما قال -تعالى-: { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89) } (1) { مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ } (2) { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } (3) .
__________
(1) - سورة النحل آية : 89.
(2) - سورة الأنعام آية : 38.
(3) - سورة المائدة آية : 3.(1/345)
فكل هذه تدل على أن أحكام الشريعة تجرى على الناس، وتقاس أعمالهم أو ما ظهر من أعمالهم بمقياس الشريعة، الواحد الذي لا يختلف، ولكن مراد المؤلف أن هنا إذا -مثلا- صدر من أهل الباطن تصرف مخالف للشرع في الظاهر فلا يحكم عليه بظواهر النصوص الشرعية، وهذا غلط ولا يجوز، فإذا -مثلا- كان هناك رجل من أهل الباطن من الصوفية فزنى أو سرق أو عمل منكرا من المنكرات فهذا المنكر لا يفسر بظاهره؛ لأن هذا الصوفي ما في باطنه يخالف ما في هذا الظاهر لشدة محبته لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - وهذا كله غلط وفساد، كان الأولى أن يتعقبه الذهبي، لكن الذهبي عنده - يعني رغم أنه من أهل السنة والجماعة - لكن عنده بعض الأغلاط .
ويروى أنه لبس خرقة الصوفية، والله أعلم بصحة ذلك، فالشاهد أنه يعني كان الأولى ألا يأتي بهذا الكلام أو أن يعلق عليه، وكان الأجدر بمحقق الكتاب أنه يصنع ذلك، لكن ما صنع لأمور معروفة. نعم.
والولي في دين الله بينه الله -تعالى- ما فيه مجال، { أَلَا إِن أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) } (1) { الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) } (2) يعني: أبو بكر ليس وليا لله، عمر ليس وليا لله، علي ليس وليا لله، عثمان ليس وليا لله هؤلاء أولياء الله ولَّا لا ؟. فهل أعمالهم الظاهرة فسرت بشيء لا يوافق الظاهر ولا أخذت بظاهرها؟ أخذت بالظاهر إذا عثمان - رضي الله عنه - لما ولى بعض أقربائه انتقده بعض الناس، أخذ بالظاهر ولا في باطن عثمان شيء يخالف هذا، أخذ بالظاهر عثمان - رضي الله عنه - أخذ بالباطن، وهذا الكلام علم الباطن وعلم الظاهر ما جاء إلا متأخرا. نعم.
الجهل بمراتب العلوم وقع بسببه الجرح
__________
(1) - سورة يونس آية : 62-63.
(2) - سورة يونس آية : 63.(1/346)
ومن ذلك الكلام بسبب الجهل بمراتب العلوم، فيُحتاج إليه في المتأخرين أكثر فقد انتشرت علوم للأوائل، وفيها حق كالحساب والهندسة والطب، وباطل كالقول في الطبيعيات وكثير من الإلهيات وأحكام النجوم.
يعني: أنه إذا كان عندنا راو مشتهر بعلم من العلوم، كان عندنا راو، وهذا الراوي قد اشتهر بعلم من العلوم، فإنه لا يحكم على هذا الراوي بحسب العلم الذي انتمى له إلا بعد معرفة هذا العلم، هل هو حق أو باطل. فمن -مثلا-انتمى إلى الفلاسفة هذا يعتبر لأن عندهم كلامهم باطل في جملته، فهذا يعتبر هذا الراوي بانتمائه إلى أهل الباطل هذا يعتبر مبتدعا بدعة كبرى، فلا تقبل روايته. نعم.
فيحتاج القادح أن يكون مميزا بين الحق والباطل، فلا يكفر من ليس بكافر، أو يقبل رواية الكافر.
لأن من هذه العلوم ما يكفر صاحبها، ويُكفر صاحبها، مثل بعض أقسام علم التنجيم أو بعض أقسام السحر، أو بعض ما يتعلق بعلم الطبيعيات والفلسفة؛ لأن بعضها يخالف القرآن والسنة مخالفة لا شك فيها. نعم.
فقد الورع في بعض الناقدين أورث جروحا خطيرة
ومنه الخلل الواقع بسبب عدم الورع والأخذ بالتوهم والقرائن التي قد تتخلف، قال - صلى الله عليه وسلم - " الظن أكذب الحديث " فلا بد من العلم والتقوى في الجرح، فلصعوبة اجتماع هذه الشرائط في المزكين عظم خطر الجرح والتعديل .
تقدم أن المؤلف ذكر أنه لا بد أن يكون ورعا تام الورع، الذي يتكلم في الرجال، وتقدم لنا أن من تمام ورعه ألا يحكم على الراوي بمجرد الظن، لا يحكم عليه إلا بالعلم الصحيح .
أولا: بإثبات أن هذا الجرح الذي جرحه به جارح أو يعتبر جارحا، ثم تحقق هذا الجرح في المجروح، لا بد أن يتحقق وجود هذا الجرح في المجروح، ولا يبني على الظن، لا بد أن يثبت من وجود هذا الجرح في الرجل المجروح. نعم.
المؤتلف والمختلف
وقال رحمه الله تعالى-: المؤتلف والمختلف فن واسع مهم وأهمه ما تكرر وكثر .(1/347)
يعني المؤلف أن هذا النوع من أنواع علوم الحديث، وهو المؤتلف والمختلف، وهذا له فائدة نطقية وفائدة حكمية، فائدته النطقية هي ضبط أسماء الرجال ومعرفتها على وجهها؛ لأن غالب الأسماء لا مدخل للقياس فيها.
والثانية: الفائدة الحكمية: أن هؤلاء الرجال غالبا يشتبهون على بعض الناس، وغالبا ما تشتبه مثل هذه الأسماء على بعض الناس، فإذا اشتبهت ربما بحث عن هذا الاسم فلم يجده، أو بحث عن اسم موافق له في الصورة في الرسم الظاهري وجده موافقا له، ولكنه يختلف عنه في الضبط بالشكل أو بالحروف، فنقل الحكم من هذا الراوي إلى هذا الراوي فقد يكون الراوي أحدهما ضعيفا والآخر ثقة، فينقل حكم هذا إلى هذا أو يكون العكس. نعم.
وقد يندر كأجمد بن عجيان وآبي اللحم .
يعني أجمد بن عجيان كلمة: "أجمد" هذه لو نظرت إليها مع كلمة أحمد دع عنك النقاط والشكل هذه لا يلتفت إليها في هذا الباب، إنما الحروف، الحروف الموجودة إذا جردت أجمد إذا أزلت النقطة من تحت الجيم صار أحمد، فالناظر هنا مثلا تبحث عن رجل، ولا تعلم أن هناك شيئا في المؤتلف والمختلف، يمكن تبحث الاسم أجمد هذا مستنكر، فتبحث في أحمد ما تجد أحمد تحكم على هذا الراوي بأنه مجهول أو غير موجود، أو أحيانا العكس، يكون عندك مكتوب أحمد، وهو في الحقيقة أجمد تبحث في مبحث أحمد ما تجده فتحكم عليه بالجهالة، فالشاهد أن المؤتلف والمختلف معناه هو اشتراك الأسماء في الحروف أو في الصورة أو في الرسم الاشتراك تشترك في الأسماء مع الاختلاف بينها في النطق، إما عن طريق الشكل أو عن طريق النَّقط أو النُقط، فمثلا أجمد هذا إذا حذفت الجيم صار مؤتلف مع أحمد، فإذا أضفنا إليه النقطة صار مختلفا، صار مختلفا. نعم.
"آبي" لو تشيل المدة اللي على الألف يطلع لك "أبي"، يصير لك "أبي" فهنا اختلاف في الشكل، ليس في النقط، فإذا شلت المدة صار "أبي"، صارت مؤتلفة مع "أبي"، فإذا أعدت المدة إليها صارت مختلفة. نعم.(1/348)
وابن أَتَشٍ الصنعاني.
وابن أتَش الصنعاني هنا ما جاء بالاسم الأول؛ لأن ابن أتش اثنان محمد وعلي وهما أخوان، "ابن أتش": كلمة: "أتش" هذه اللي فيها الحكم، فأتش إذا جردتها من هذه النقط، وأتيت بكلمة: "أنس" وجردتها أزلت النقط التي عليها صارت صورتهما واحدة في الحروف ، فإذا أضفت النقطة إلى أنس صارت أنس، فإذا أضفت نقطتين إلى التاء وثلاثا على الشين صارت "أتش".
فهنا إذا أزلت النقط صار مؤتلفا، وإذا أضفت النقط صار مختلفا. نعم.
ومحمد بن عبادة الواسطي العجلي .
"محمد بن عبادة" كلمة: "عبادة" هذه إذا نظرت إليها تصلح بدون شكل تصلح أن تكون عُبادة وعِبادة وعَبَّادة ، وكلها أسماء معروفة، "عَبَّادة" "وعِبَادة" "وعُبَادة" "وعَبَادة" إذا أزلت الشكل صار مؤتلفا، فإذا أرجعت الشكل صار مختلفا، وأيضا يصلح أن تكون عيادة، إذا أزلت النقط التأمت مع عيادة، فإذا أرجعت النقط اختلفت اختلف الاسم. نعم.
ومحمد بن حُبَّان الباهلي .
"حبان" هذه كلمة: "حبان" إذا هي تشكل، الرواة فيه "حَبان" "وحُبان" "وحِبان"، فالحاء مثلثة، لكن بحسب الرواة، ففيه محمد بن حَبان، وفيه ابن حبان، وفيه ابن حُبان، فإذا أزلت الشكل صارت مؤتلفة، فإذا أرجعت الشكل صارت مختلفة، وكذلك تشتبه مع حيان، إذا أزلت النقط صارت مؤتلفة مع حبان وحيان مؤتلفان، فإذا أعدت النقط صارت مختلفة. نعم.
وشعيث بن محرر.(1/349)
هذا شعيث ليس ابن مُحَرَّر غلط، شعيث بن مُحْرِز ليس محرر، شعيث بن محرز، فتشكيل المحقق لها مُحَرَّر غلط، هذا غلط هو ابن محرز، هكذا نص عليه الدارقطني وابن ماكولا والحافظ ابن حجر وغيرهم، أنه ابن محرز، وليس ابن محرر، فكلمة: "شعيث" هذه إذا أزلت النقط من على الثاء، وأزلت نقطة الباء من شعيب صارت مؤتلفة، فإذا أعدت النقط إليها صارت هذه مختلفة، صارت هذه شعيث، وهذه شعيب، كلمة محرز ومحرر هذه أيضا يحصل بينها اختلاف، لكن المثال هنا لا يصلح يعني في هذه الحالة لا يصلح، لأن مراد المؤلف شعيث ليس مراده محرر، والمعروف من الرواة شعيث بن محرز، فشكل المؤلف له ابن محرر هذا غلط .
لكن فيه رواة محرر يصلح أن تكون محرر، ومحرز باعتبار إضافة النقط والشكل يصبح محرر، ومحرز هذه لو في غير هذا المثال .نعم . وبهذا يتم الكتاب فنسأل الله جل جلاله أن يغفر لمؤلفه، وأن يبارك لنا في هذا الكتاب، وأن ينفعنا بما تعلمنا، وأن يجعله نافعا لنا ورحمة منه جل جلاله، ونسأله جل وعلا أن يعفو عن الخطأ والتقصير والزلل، ونسأله بمنه وكرمه أن يجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، وأن يوفقنا للعمل الصالح الذي يحبه ويرضاه إنه على كل شيء قدير، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد .
س: يقول: هل هناك كتاب جامع في بيان مراد الأئمة من اصطلاحاتهم وعباراتهم في الجرح والتعديل.(1/350)
ج: هذا كتاب لم يكن بعد إلى الآن ما في كتاب بهذا، فيه محاولات، ولكنها محاولات ضعيفة؛ لأن الذي سيبحث عن هذه المصطلحات لا بد أن يأخذ كل إمام، يأخذ مصطلح كل إمام ويدرسه دراسة وافية في جميع موارده، ثم يطبق على كلام العلماء مقارنة، وهذا فيه صعوبة، فيه بعض الناس كتب في مستقيم الحديث عند مثلا ابن حبان أو في اصطلاحات بعض العلماء أو مثلا في كلمة سكتوا عنه عند البخاري، أو كلمة فيه نظر عند البخاري، اجتهادات، وهي اجتهادات بعضها فيه استقراء تام وبعضها استقراؤه ناقص، لكن كتاب يجمع ما في .
وكتب مصطلح الحديث فيها تفسيرات، لكنها يعني تفسيرات ليست دقيقة، لكن مثل هذه الاصطلاحات إذا اجتمعت في راو ينظر إليها باعتبار المجموع، فإذا وجدنا راويا وثقه الأئمة، وجاءنا إمام وقال: ليس بالقوي تحمل ليس بالقوي على أنه لم يبلغ الدرجة العليا من الحفظ والإتقان، وإذا جاءنا مثلا رجل ضعفه العلماء، وقال فيه أحد العلماء: هذا ليس بقوي تحمل كلمة ليس بقوي على الضعف، هكذا إذا جاءنا كلمة صدوق عند راو وثقه العلماء، وجاء أحد الرواة قال: صدوق ما نقول: هذه نتردد فيها، نقول: هذا صدوق، يعني باعتبار دينه، فهو صدوق في عدالته ودينه .
إذا جاء في راو ضعيف نفس القضية ما نقول: صدوق لنرفعه بها لا، نقول: هذا رجل ضعيف، وكلمة صدوق هذه تدل على الصلاح في الدين، فهكذا المقصود أن عبارات الجرح والتعديل أو الأئمة عباراتهم في كل راو غالبا إذا نظر إليه إنسان بنظر دقيق يستطيع بإذن الله أن يخلص إلى نتيجة مقاربة باعتبار المجموع، باعتبار مجموع كلام العلماء في الرجل .
س: يقول: نقترح أن يكون الدرس غدا -إن شاء الله- نبذة مختصرة عن كيفية التخريج عن طريق الكتب المشهورة كالمعجم والتحفة والله يرعاكم .
ج: والله فيما سبق جربنا في ست محاضرات ليس في محاضرة دراسة التخريج فوجدناه غير مجد نهائيا؛ لأنه نحتاج نأتي بكتب واطلاع وهذه عسرة ما تكفيها محاضرة .(1/351)
س: وقع في الأصل في نقد ...أيش؟
ج: والله هذه يا أخي على كلٍ هي تحتمل ما ذكرت من الكلام، لكن يعني أنا ما راجعتها، فلذلك ما أجزم فيها بشيء، الأخ اللي كتب يعني تعليقا للمحقق عند قوله: في نقد شيخ ورد شيء في حفظه، الأخ يقول: إنه في الهامش " في نقد شيخ وردية في حفظه وغلطه "، هذه العبارة صحيحة لكن تحتاج إلى يعني مزيد تثبت خاصة ما ورد منها في الأصل .
س: يقول: ذكر في الحاشية التهانوي فمن هو ؟ .
ج: التهانوي هذا من علماء الهند المتأخرين، توفي بعد ... تسعين للهجرة، وهو حنفي صوفي ماتريدي، عنده ضلالات وبدع، ومن بدعه العظيمة وضلالاته الخطيرة التي نقلها المحقق أبو غدة في إحدى حواشيه على الكتب، قال: نقل عن التهانوي، وأقره على هذا الكلام اللي لا يرضاه الله ولا رسوله ولا المؤمنون قال: فما وجد في الإسلام أيمن ولا أسعد بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - من أبي حنيفة، فأين أبو بكر؟ أين عمر؟ أين علي؟ أين عثمان؟ أين العشرة؟ أين بقية الصحابة؟ أين خير القرون ؟ .(1/352)
هكذا وأقره المحقق، وعلى كل، محقق الكتاب معظِّم لأهل البدع، وهو من أهل البدع نفسه، وهو من أهل البدع والضلالة، قد تكلم عليه الشيخ بكر أبو زيد في كتابه تحريف النصوص، ونقل في كتابه براءة أهل السنة عن سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -غفر الله له- ذكر أن الشيخ عبد العزيز نصحه، فلم يستجب للنصيحة، ثم ذكر أن الشيخ عبد العزيز بن باز قال: كفى الله المسلمين شره، وهو في كلامه لا يصرح إنما ينقل نقولات، ويدس بها على الناس حتى لا تنسب إليه هو ينقلها، ويقرها ساكتا عليها، وقد لمز الإمام البخاري في مواضع كثيرة؛ لأن الإمام البخاري لا يخرج في صحيحه عن المرجئة وهو من المرجئة، هو أشعري مرجئ، ومعظم لصاحب الضلالة الكبير اللي هو الكوثري شيخه الكوثري هذا من أصحاب الضلالة، قدح في صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو من أهل التصوف القبورية، ومع ذلك يعظم، ويبجل في هذا الشيخ الضال، والمحقق ذكر عن بعضهم أنه قال في الإمام بن القيم -رحمه الله- قال: وله عقائد فاسدة، يعني لابن القيم، وما تعقبه المؤلف في شيء، معناه أن المؤلف أو المحقق هنا يخالف ابن القيم في عقيدته، معناه أن المحقق يخالف ابن القيم -رحمه الله- في عقيدته؛ لأن الكلام اللي ما يناسبه يعلق عليه؛ ولهذا إذا جاء في الأحناف كلام في بعض الأحناف رد، ومن هنا تلاحظون أنه في حاشيته هنا ذكر كلاما أن الذهبي محب للصوفية والكلام هذا؛ لأن هذا الكلام قد راق له، فالشاهد أن المحقق يعني - نسأل الله العافية والسلامة - ليس على سنة .
ما يلزم هذه طريقة أهل البدع، أهل البدع لا يوالون ولا يعادون في الله إنما يوالون للأهواء، فأي كلمة تناسبه يذكرها، يقول: شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- الإمام العالم الجهبذ الذي الذي يذكر فيه من الأوصاف حتى يصل إلى مأرب لهذا الناظر تحريف النصوص، الشيخ أبو زيد قال: ... جاء بكلمات حرفها عن أهل العلم ، حتى تناسب ما عليه من البدعة .(1/353)
إي في كتاب براءة أهل السنة أيضا جمعها الشيخ، جمعها في كتابه الردود، هذه مجموعة كتب جمعها في كتابه الردود . الكوثري اللي يقرأ مقدمة نصب الراية يعلم، ومؤلفاته الكثيرة اللي أعيد تصويرها في مصر في السنوات الأخيرة تبنتها إحدى مكتبات النشر، ضلال كله ضلال، نسأل الله العافية، واللي يقرأ كتاب التنكيل، يعني يتهم علماء الإسلام باللواط والفواحش، ويتهم الصحابة، ويتهم أنسا - رضي الله عنه - بالكذب يعني، وهو يعظم شيخه ما تبرأ منه، إبراهيم -عليه السلام- قال الله في شأنه: { فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) } (1) هذه سنن الأنبياء والمرسلين التبرؤ، اللي يكون على بدعة وضلالة، ويتوب إلى الله لازم يعلن عند أهل السنة، لازم يقول: أنا أخطأت وضللت في كذا، وأستغفر الله مما جرى، هذا هو التوبة الصحيحة .
س: هل الإدراج لا يقع في السند ؟ .
ج: الإدراج ذكره العلماء وطبقه الخطيب البغدادي يقع في الإسناد، الإدراج يقع في الإسناد، فالراوي مثلا إذا كان عنده حديث من رواية صحابيين، فساق لفظ الحديث لفظا واحدا، وجعله من رواية صحابي واحد، هذا يسمى مدرجا في الإسناد، وكذلك أحيانا يقول: الراوي يروي عن صحابيين اثنين، ويجمع حديث هذا مع حديث هذا، ولا يميز بينهما هذا إدراج من حديث فلان على حديث فلان، وإدخال لحديث على حديث، فالشاهد أن الإدراج يأتي في السند، ويأتي في المتن، لكن اشتهاره في المتن كبير؛ ولهذا المؤلف لما اختصر حذف مدرج الإسناد؛ لأن ذلك يعني الإدراج في الإسناد يدخل تحت مباحث أو يمكن إدخاله تحت مباحث أخرى .
__________
(1) - سورة التوبة آية : 114.(1/354)
هذا مثل ما يوصفه ابن إسحاق يجمع الروايات، ويسوقها مساقا واحدا، يدخل حديث هذا على هذا يسمى إدراجا، أو يكون عند الراوي حديث يرويه عن صحابيين متن عن صحابيين بينهما تمايز في المتون، فيجمعها ويجعلها من متن صحابي واحد، يسندها إلى صحابي واحد .
لا التحويل غيره يا شيخ، التحويل غير إذا اتفق المعنى، وحول في الأسانيد مجرد تحويل الأسانيد، والمعنى واحد ما في زيادة؛ ولهذا مسلم إذا حول في الأسانيد ينص يقول: وزاد فلان كذا، وعند فلان لفظة كذا، الألفاظ اللي يعني لها أثر، وأحيانا حتى أشياء يعني ما يظهر أن لها أثرا كبيرا، ومع ذلك ينص عليها فيحول في الأول في الأسانيد: ح وحدثنا ح وحدثنا، ثم إذا انتهى من التحويل ساق الحديث ثم قال: زاد فلان، ماشي، أو لفظ فلان كذا .
س: يقول: في سنن أبي داود تختلف النسخ فبعض الأحاديث يكون فيها: أنبأنا وبعض النسخ: حدثنا وأخبرنا ؟ .
ج: هو أبو داود يرويه عنه رواة كثيرون، ونسخه يعني فيها اختلاف، اختلاف في عدد الأحاديث وزياداتها، فرواية ابن العبد تزيد على ابن داسة بمجموعة كبيرة من الأحاديث .
فالشاهد أن مثل هذه بحسب النقلة على أبي داود، ثم إن النساخ أيضا قد يكون بعضهم ما عنده خبرة في النسخ يعني خبرة كافية في النسخ فالأولون كانوا يعبرون عن هذه المصطلحات بالأحرف اليسيرة، حدثنا يضعون في بعضها إذا قال: قال: حدثنا وضعوا لها " قاف ثنا قثنا "، كما اللي يريد مشاهدته في فضائل الصحابة لعبد الله بن أحمد، في مسند القضاعي مكتوبة هكذا .
فبعض النساخ ما يكون عنده خبرة، فيحتمل أنه مثلا رآها نا اعتقد أنها أنبأنا وهكذا، أو كان إسناد قبله فدخل عليه إسناد في إسناد هذه احتمالات كلها .
س: هذا يقول: ورد في مسند أبي عوانة وكشف الأسفار وغيره لفظ أبنا بتقديم الباء على النون فهل ...
ج: هذه اختصار: أنبأنا أبنا يعبر بها عن أخبرنا، يعبر بها عن أخبرنا .(1/355)
س: هذا يقول: اذكر لنا أهم كتب المصطلح، وما رأيك في كتاب المقنع لابن الملقن ؟ .
ج: أما بالنسبة لكتب المصطلح فطبعا من أهمها النزهة وشرحها، من أهمها النزهة وشرحها النخبة، والموقظة، هذه في المختصرات، وأيضا تدريب الراوي، وفتح المغيث، وهناك مختصر صغير أعتقد أنه جيد يعني اللي هو مختصر ابن الملقن التذكرة اللي شرحه السخاوي في التوضيح الأبهر هذا لطيف وجيد، طبعا المتوسع فيه البحر الذي ذخر، والمقنع لابن الملقن هو مطبوع من أربع سنوات، لكن ما عندي خبرة كبيرة فيه، وابن الملقن كما وصفه ابن حجر، يعني هو من المتمكنين من أهل العلم المتمكنين، وهو يعني يجمع وينقل، لكن ليس من أهل العلم المتمكنين لا يقارن لا بالعراقي ولا بالبلقيني، يعني اللي من طبقته لا يقارن لا بالعراقي ولا بالبلقيني ولا بالذهبي ولا حتى بابن حجر نفسه، يعني ليس من المتمكنين في العلم كتمكن ابن حجر أو العراقي أو غيرهم .
س: هل من الممكن إعادة الفرق بين زيادة ثقة والشاذ والمنكر في الإدراج ؟ .
ج: نقول: الإدراج اللفظة إذا وردت علينا في حديث ما، فإننا ننظر في روايات الحديث، فإذا كانت هذه اللفظة جاءت الروايات ما يفصلها عن كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - ويجعلها من كلام غيره، فهذه لفظة مدرجة سواء كان الذي جاء بها ثقة أو ضعيفا، وأما إذا لم نجد في الطرق ما نستدل به على أن هذه اللفظة من كلام أحد الرواة، فإنه حينئذ ننظر إن كان الراوي ثقة حافظا أحفظ ممن لم يروها، أو أحفظ ممن لم يأت بها، أو كان مماثلا له، أو كان له مزيد اختصاص بشيخه، فهذا من باب زيادة الثقة المقبولة، وأما إن لم يكن كذلك أو كان ضعيفا، فإن هذا من الشذوذ والنكارة، فإن هذا يعتبر من باب الشذوذ والنكارة .(1/356)