شرح طارق عوض على الباعث
--------------------------------------------------------------------------------
الدرس الأول
التعريف بالكتاب، ومقدمات في علم الحديث
بسم الله الرحمن الرحيم. والصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- عليه وعلى آله وصحبه وسلم وبعد:
إخواني الكرام، نحن بإذن الله - تعالى- ابتداءً من هذا اللقاء سنتناول
شرحاً لكتاب اختصار علوم الحديث للحافظ ابن كثير - رحمه الله تعالى-
وهذا الكتاب هو من الكتب المفيدة جداً في هذا العلم الشريف، وهو يعتبر
حلقة من حلقات التأليف في هذا العلم فكما يعرف من عنوانه هو اختصار
لعلوم الحديث، أي اختصار لكتاب يسمى "علوم الحديث" أي كتاب الحافظ أبي
عمرو بن الصلاح -رحمه الله تعالى- المسمى بعلوم الحديث والذي يشار إليه
كثيراً بمقدمة ابن الصلاح، وهذا الكتاب إخوني الكرام - أعني كتاب ابن
الصلاح- هو من أشهر كتب هذا الفن، وهذا العلم الشريف حتى إن العلماء
-رحمهم الله تعالى- من بعد ابن الصلاح اعتنو بهذا الكتاب غاية العناية،
فنجد من أهل العلم من اختصره ونجد منهم من نظمه في أبيات كالحافظ
العراقي وكالحافظ السيوطي -رحمهما الله تعالى- ونجد أيضاً طائفة من أهل
العلم من اشتغل بالتعليق على هذا الكتاب، وتقييد الفوائد في أثناء
مباحثه، المهم أن هذا الكتاب يعتبر عمدة المتأخرين في هذا الفن الشري0ف
"كتاب علوم الحديث لابن الصلاح"، وهناك طائفة من أهل العلم من اختصر
هذا الكتاب كالإمام النووي -رحمه الله تعالى- وكذلك الحافظ ابن كثير في
كتابنا الذي هو بين أيدينا الآن.
الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى- هو من حفاظ الحديث المعروفين، له
مصنفات كثيرة في علوم الحديث المختلفة، ولد - رحمه الله تعالى- في سنة
إحدى وسبعمائة بدمشق، وتوفي في سنة أربع وسبعين وسبعمائة، وكان من أشهر
مشايخه شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى- وكذلك الإمام الذهبي،(1/1)
والإمام المزي، وهؤلاء أعلام هذا الزمان.
من أشهر مؤلفات هذا الحافظ الكبير تفسير القرآن العظيم - وهو المعروف
لدينا بتفسير ابن كثير- وكذلك كتاب البداية والنهاية، وأيضاً له الكتب
الكثيرة في الحديث وعلومها.
هذا المختصر الذي بين أيدينا - إخواني الكرام- وصفه الحافظ العراقي في
تقييده على كتاب ابن الصلاح بأنه كتاب قد اشتمل على فوائد - أي فوائد
زائدة على ما اشتمل عليه كتاب ابن الصلاح - ومن هنا يتجلى لنا أهمية
هذا الكتاب؛ لأنه جمع لنا علم الحافظ ابن الصلاح الذي تلقاه الناس
بالقبول من بعده، ثم زاد عليه فوائد استقاها -رحمه الله تعالى- من كتب
القوم، ومن أشهر من استفاد منهم الحافظ ابن كثير الإمام البيهقي كما
أشار هو إلى ذلك في مقدمة كتابه.
إخواني الكرام هذا العلم الذي نحن ندرسه يعتبر من أصول العلم وليس من
فروعه، وإنما هو من العلوم التي تحتاج إليها سائر العلوم، كما يشير إلى
ذلك أسماءه المتعددة، فمن العلماء من يسمي هذا العلم بأصول الحديث أو
بأصول الرواية أو بعلم الحديث، أو بعلوم الحديث كما فعل ابن الصلاح
وغيره، ومن أهل العلم من يسميه بعلم مصطلح الحديث؛ وما ذلك إلا لأن هذا
العلم - إخواني الكرام- تفتقر إليه سائر العلوم، فالفقيه يحتاج إلى
الحديث والمفسر يحتاج إلى الحديث، وكذلك المؤرخ يحتاج إلى الحديث، كل
من له اشتغال ببابٍ من أبواب العلم الشرعي هو في حاجة ماسة إلى علم
الحديث، بل العلوم الأخرى يحتاج أصحابها فيها إلى علم الحديث؛ ولذلك
استفاد كثير من الأدباء وكثير من المؤرخين مما قيده علماء الحديث
-رحمهم الله تعالى- في هذا العلم من قواعد وضوابط استفادوا بها في
علومهم.
ذلك أن هذا العلم الذي على أساسه تضبط المنقولات - تضبط الأخبار
والروايات - فما من خبر يأتيك وما من رواية تصلك وما من حكاية تسمعها -
تقدمت هذه الحكاية أو تأخرت - أنت في حاجة إلى أصول علم الحديث لتميز(1/2)
بين ما يثبت منها وما لم يثبت، لتميز بين الصحيح منها من غير الصحيح،
وما ذلك إلا من خلال هذا العلم الشريف الذي يميز لك صحيح المنقولات من
غير صحيحها.
هذا العلم - إخواني الكرام كما أشرنا سابقًا - يعبر عنه أصحابه بأكثر
من اسم، وما من اسم من تلك الأسماء إلا وله دلالة ومعنى، هذا المعنى
نلاحظه في جنبات هذا العلم، فمثلاً العلماء الذين أطلقوا على هذا العلم
بعلم مصطلح الحديث كالإمام ابن دقيق العيد، وكالحافظ ابن حجر العسقلاني
هذان العالمان من أشهر من سمى هذا العلم بعلم مصطلح الحديث، فما هو
المصطلح وما معنى المصطلح وما فائدة معرفتنا بالاصطلاحات؟
المصطلح في الواقع ليس هو من خصوصيات هذا العلم ولكنه لفظ يستعمل في
سائر العلوم فما من علم إلا وله اصطلاحات يستعملها أصحاب هذا العلم
وهذه الاصطلاحات عبارة عن أسماء وألفاظ ورموز يعبر بها أصحاب كل علم عن
المعاني التي يريدون أن يتناولوها أو يتحدثوا عنها من خلال علمهم.
ولهذا يعرف العلماء الاصطلاح بأنه اتفاق طائفة ما على شيء ما، فكل
طائفة من الناس اتفقت فيما بينها على معنى من المعاني أو على أمر من
الأمور فقد اصطلحوا عليه، أي اتفقوا عليه وهذا المعنى هو ما نلاحظه في
هذا العلم الشريف، فحينما نسمي هذا العلم بعلم مصطلح الحديث نقصد: أن
علماء الحديث - رحمهم الله تعالى- تعارفوا فيما بينهم على أن يسموا هذه
المعاني بهذه الألفاظ.
فنجدهم -رحمهم الله تعالى- يقولون: الحديث إذا تحقق فيه أوصاف معينة أو
معان معينة فنحن نسميه بالحديث الصحيح أو اتصف بصفات أخرى أو اشتمل على
معان أخرى فنحن نسميه بالحديث الضعيف فهذا معنى من المعاني اختصروه في
هذا المصطلح الذي لا يتعدي هذه الأحرف القليلة، فأنت إذا ما سمعت محدث
يقول: هذا حديث صحيح فأنت تعرف المعنى الذي يقصده، أو سمعته يقول هذا
حديث ضعيف فأنت أيضاً تعرف المعنى الذي يقصده من خلال هذا المصطلح أو(1/3)
هذا الاسم أو الكلمة أو الرمز الذي يشار به إلى معنى ما، ثم هذا
المصطلح من هذا اللفظ ليس بالضرورة أن يكون من خصوصيات هذا العلم بل قد
يشترك أكثر من علم في استعمال مصطلح واحد إلا أن كل علم من تلك العلوم
يعنى فيه بهذه المصطلح معنى غير الذي يُعنى به في سائر العلوم.
اللفظ قد يكون واحداً إلا أن المعنى الذي يقصد منها يختلف من علم إلى
علم، فمثلاً إذا جئنا إلى مصطلح الخبر - كلمة الخبر هذا مصطلح - وهذا
المصطلح موجود مستعمل في أكثر من علم، وليس هو من خصوصيات علم الحديث،
فأنت إذا نظرت إلى المحدثين أو فتحت كتب علوم الحديث أو غيرها من كتب
الحديث تجد كثيراً ما يستعمل المحدثون هذا المصطلح مصطلح الخبر، وأيضاً
تجد علماء النحو يستعملون الخبر في الجملة الاسمية يقولون: المبتدأ
والخبر، ويعرفون الخبر بأنه الجزء المتمم للفائدة في الجملة الاسمية،
فهل يا ترى الخبر الذي يستعمله علماء النحو هو نفسه الخبر الذي يستعمله
علماء الحديث؟
لا..، اللفظ من حيث هو، قد وقع مشتركاً لفظياً في أكثر من علم ولكنه
يُعنى به في علم النحو غير ما يُعنى به في علم الحديث؛ ولهذا نجد عبارة
مستعملة في كتب العلم عموماً حيث يأتي العلماء فيقولون: لكل علم
اصطلاحه، لا يقصدون من قولهم لكل علم اصطلاحه أن لكل علمٍ ألفاظاً لا
توجد في غير هذا العلم من العلوم، لا يقصدون هذا المعنى، وإلا فقد
رأينا هذا اللفظ وهذا المصطلح وهو الخبر مستعملاً في أكثر من علم،
وإنما يقصدون أن لكل علمٍ معنىً يختص به من الألفاظ التي تستعمل في
غيره أيضاً من العلوم.
وأيضاً نجد في العلم الواحد اللفظ الواحد أحياناً يستعمله أهل العلم
الواحد تارةً في معنىً وتارةً في معنىً آخر، وهذا إنما يكون؛ لأن اللفظ
عبارة عن قالب هذا القالب من الممكن لك أن تُحَمِله أكثر من معنى، وكم
في اللغة العربية من قوالب ومن ألفاظ يمكن وتصلح لأن تحمل أكثر من(1/4)
معنى، وكم رأينا في القرآن من ألفاظ، وفي الأحاديث أيضاً من ألفاظ لها
في سياق معنى وفي سياق آخر معنى آخر، وهذا أمر معروفٌ ومتداولٌ عند أهل
العلم.
كذلك في علم الحديث اللفظ الواحد تارة يكون مستعملاً على إرادة معنى
ما، وتارة يكون مستعملاً على إرادة معنى آخر؛ وذلك أحياناً يكون
لاختلاف القائلين، فالعالم الفلاني إذا قال هذا اللفظ هو يعني به معنى
ما، والعالم الآخر إذا قال اللفظ نفسه فهو يريد معنى آخر، أو اختلاف
الزمان أو اختلاف المكان فالمصطلح في عصر من العصور كان دلالةً معينةً
ومعنىً ما ثم تطورت هذه المعاني وتلك الدلالات فتغير معنى المصطلح من
زمن إلى زمن أو من مكان إلى مكان.
- مثلاً من المصطلحات الدارجة والكثيرة الاستعمال في هذا العلم الشريف
مصطلح الثقة، ونجد العلماء يعبرون عن أحكامهم على بعض الرواة بأنهم
ثقات أو بأن فلاناً ثقة، هذا مصطلح كثير الاستعمال عند علماء الحديث -
رحمهم الله تعالى- فهل يا ترى هذا المصطلح حيث يستعمله علماء الحديث هل
يقصدون به معنىً واحداً، أم تارة يقصدون به معنى وتارة أخرى يقصدون به
معنى آخر؟
الواقع أنهم يقصدون به أكثر من معنى، من أشهر معاني هذا المصطلح أن
الراوي الذي منحوه ذلك الوصف أي قالوا فيه ثقة هو عندهم أو عند من وصفه
بذلك الوصف يكون موصوفاً بوصفين:
الوصف الأول: العدالة. أي العدالة في الدين، أي عدم تعمد الكذب.
الوصف الآخر: الضبط والإتقان والتثبت؛ لأن الرواية تحتاج إلى الأمرين
معاً، فلا يقبل الخبر إلا من كان ديِّنَاً تقياً لا يتعمد الكذب ولا
يتعمد الإخبار بخلاف الواقع، وأيضاًَ مع ذلك يكون متثبتاً فيما ينقل.
فقد يكون غير متعمد للكذب ولا مجترئٍ عليه ولكنه ليس ممن يحفظ الحديث
على وجهه ولا ممن يتقن حفظ الحديث كما ينبغي فيخطئ عن غير قصد؛ فلهذا
اشترط المحدثون -رحمهم الله - لقبول الحديث من الراوي أن يكون موصوفاً
بهذين الوصفين معاً:
الوصف الأول: العدالة.(1/5)
والوصف الآخر: الضبط والإتقان والتثبت.
هذان الوصفان يختصرهما علماء الحديث - في هذه العبارة، في هذه الكلمة،
في هذا المصطلح- فيقولون: فلان ثقة. فإذا ما قال الواحد منهم ثقة، فكما
أنه قال لك هو عدل وضابط. فبدلاً من أن يذكر لك هذه العبارات التي تدل
على العدالة وتلك العبارات التي تدل على الضبط اختصر لك ذلك كله في تلك
الكلمة الوجيزة، وقال لك: هو ثقة، فنحن كمتخصصين ومشتغلين بهذا العلم
نفهم من عبارة ذلك العالم حيث قال في العالم إنه ثقة أنه يصفه بالعدالة
والضبط، فهذا من أشهر معاني هذه الكلمة، لكن ليس هو المعنى الوحيد الذي
يطلقه أو يريده المحدثون من وراء هذا المصطلح، فأحيانا يطلقون نفس
المصطلح على معنىً آخر، وهو معنى العدالة في الدين العدالة الدينية
بصرف النظر عن الحفظ والضبط والإتقان والتثبت.
فنجد مثلاً بعض أهل العلم يصف الراوي بأنه ثقة ثم يتبين لنا من خلال
معرفتنا بمنهج هذا العالم أو من خلال متابعة أقواله واستقراءها
ومقارنتها بأقول العلماء الآخرين أو بأقوال هذا العالم الأخرى يتبين
لنا أنه لم يقصد المعنى الأول إنما قصد أن الراوي عدلٌ في دينه فقط وإن
لم يكن موصوفًا بالعدل والإتقان والتثبت.
فإذن هذا مصطلح واحد، لفظ واحد تارة يريد به علماء الحديث معنى، وتارة
أخرى يريدون به معنى آخر، فمن هذه الحيثية يجب على طالب العلم أن يعرف
المعاني المتعددة للمصطلح الواحد ولا يكتفي بمعنى واحد؛ لأنه إن فعل
ذلك سيقع في الحيرة؛ وسيكون بإزائه لفظ واحد مصطلح واحد يقصد به تارة
معنى وتارة معنى آخر فإذا لم يعرف من هذه المعاني إلا معنىً واحداً ثم
قابله ذلك المصطلح في كتاب من كتب الحديث فلن يفهمه إلا على هذا الوجه
الذي عرفه فلربما قصد قائله معنى آخر غير المعنى الذي يعرفه ذلك
الطالب.
ولهذا نجد أحياناً في كتب الحديث هذا المصطلح يقرن بما يتنافى مع(1/6)
الإتقان والتثبت فنجد مثلاً العالم يسأل عن بعض الرواة فيقول: هو ثقة
ضعيف الحديث. كيف يكون ضعيف الحديث وهو ثقة؟ نفهم من ذلك أنه أراد
بقوله ثقة أي عدل دَيِّن وإن لم يكن موصوفاً بالإتقان والتثبت والحفظ.
نجد أحياناً الإمام يقول في الراوي: ثقة لا يحتج بحديثه. فنحن نفهم من
خلال هذه التركيبة أن هذا الراوي ليس عند هذا العالم موصوف بالضبط بل
هو عنده فقط موصوف بالعدالة وليس موصوفاً بالضبط، وإن وصفه بالثقة
فإنما أراد بالثقة حيث أطلقها عليه أنه دَيِّن عدل وليس متثبتاً
متقناً.
- مصطلح آخر من تلك المصطلحات التي يكثر استعمال أهل العلم لها، وتارة
يقصدون بها معنىً، وتارة يقصدون بها معنى آخر، مصطلح الحسن.
- نحن نعلم أن الأحاديث تنقسم عموماً إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: الصحيح.
القسم الثاني: الحسن.
القسم الثالث: الضعيف.
وكما سنعلم - إن شاء الله تعالى- نعلم أن الحديث الصحيح والحديث الحسن
كلاهما من الأحاديث المقبولة المحتج بها بخلاف الحديث الضعيف فإنه حديث
غير محتج وليس هو من المقبول بل هو من المردود.
هذا المصطلح - الذي هو الحسن- تارةً يطلقه العلماء على معنىً وأحياناً
على معانٍ أخرى، من أشهر معاني هذا المصطلح معنيان هذان المعنيان لا
تجد كتاباً من كتب علوم الحديث إلا وهو مسطور فيه هذين المعنيين.
المعنى الأول: أنه الحديث الذي قارب الصحيح فليس هو صحيحاً أي لم يبلغ
إلى درجة الصحة التي هي أعلى درجات القبول ولكنه قارب هذه المنزلة، أي
راوي الحديث الذي وصفناه بالحسن هو من العدول الضابطين لكنه لم يبلغ في
الضبط والإتقان أعلى الدرجات، كما وصل إلى ذلك راوي الحديث الصحيح فهذا
الراوي نسمي حديثه حسناً ونجعله من قسم المقبول؛ لأن القبول درجات.
المعنى الثاني: نجد في علوم الحديث نوعاً آخر من الحسن وهو الحديث الذي
في أصله ضعف لا يحتج به. لماذا؟ لكون إسناده مشتملاً على ما يمنع من(1/7)
الاحتجاج به - موانع الاحتجاج سيأتي بيانها بعد ذلك إن شاء الله تعالى-
ولكن هذا النوع من الحديث قد انضم إليه واقترن به بعض الروايات أو بعض
الشواهد والمتابعات أو بعض القرائن التي تجعل أهل الحديث يترجح لديهم
أن هذا الراوي الذي روى هذا الحديث قد أصاب فيه ولم يخطيء، فحينئذٍ
يرتقي هذا الحديث من درجة الضعف إلى درجة الحسن أي النوع الآخر من
الحسن ويكون حينئذٍ أيضاً محتجاً به.
فهناك نوعان - كما ترون- من الحسن لكن هذا له معنى وهذا له معنى، اللفظ
واحد فتجد العالم الواحد يقول على النوع الأول بأنه حسن وعلى النوع
الآخر بأنه حسن فهذا حسن وهذا حسن، ولكن هذا توصلنا إلى كونه حسناً
بطريق ما، وذاك توصلنا إلى كونه حسناً بطريقٍ أخرى، فإذن صار الحسن
يطلق على معنيين.
المعنى الثالث: بل من أهل العلم - وهذا النوع الثالث - من يطلق الحسن
على الحديث الصحيح الذي هو في أعلى درجات القبول بناءً على إرادة
المعنى العام أي جنس القبول فكل ما كان مقبولاً عنده يسميه حسناً كما
أن بعض أهل العلم كل ما كان مقبولاً عنده يسميه صحيحاً وهذا من باب
التوسع في الاصطلاح.
مايتعلق بالاصطلاح: هناك أمر آخر متعلق بالاصطلاح وهو في غاية الأهمية
وهو ما يمكن أن نعبر عنه بطرفي الاصطلاح بمعنى كل مصطلح من المصطلحات
يتناوله علماء الحديث من جهتين وليس من جهة واحدة أنت إذا تصفحت أي
كتاب من كتب علوم الحديث وإذا ما فتحت أي نوع من أنواع الحديث تجد
علماء الحديث في كلامهم حول هذا النوع لا يتقيدون بجانب واحد متعلق
بهذا النوع بل كلامهم يدور في فلكين وليس في فلك واحدٍ.
الفلك الأول أو الجهة الأولى: معنى هذا النوع أو هذا المصطلح عند علماء
الحديث - وهذا ما تكلمنا عليه آنفا- بمعنى إذا ما فتحنا نوع الحديث
الضعيف أو نوع الحديث الحسن أو نوع الحديث الصحيح نجد علماء الحديث في
هذه المباحث يتكلمون عن ماذا؟ أول شيء يتكلمون عنه معنى قول المحدثين(1/8)
هذا حديث صحيح معنى قول المحدثين هذا حديث حسن معنى قول المحدثين هذا
حديث ضعيف إذن علماء الحديث -رحمهم الله تعالى- يشتغلون في كل نوع من
الأنواع ببيان معناه عن أهل الاختصاص فهذا طرف في المسألة.
الفلك الآخر أو الجهة الأخرى: طرف آخر يتعلق بحكم هذا النوع من الحديث
عند علماء الحديث فهمنا وعرفنا معنى هذا المصطلح عند علماء الحديث
فهمنا وعرفنا معنى هذا المصطلح عند المحدثين فهل هو من النوع الذي يحتج
به أو ليس مما يحتج به هل هو من المقبول أم من المردود فعلماء الحديث
في كتب علوم الحديث بعد أن يبينوا المعنى الذي يقصده علماء الحديث من
هذا النوع يذكرون ما يتعلق بمنزلة هذا النوع من الحديث هل هو مندرج في
حيز القبول أم في حيز الرد وبطبيعة الحال نحن هنا إذا عرفنا أن هذا
النوع من الحديث أو هذا المصطلح الحديثي يستعلم تارة على معنى وتارة
آخرى على معنى آخر كما أشرنا إلى ذلك في مصطلح الثقة وفي المصطلح الحسن
إذا كان هذا النوع من هذه المصطلحات التي تطلق على أكثر من معنى فلابد
لنا أن نعرف حكم علماء الحديث على كل نوع من تلك الأنواع باختلاف
معانيه، مثلاً نحن عرفنا أن مصطلح الثقة يطلق تارة على من كان موصوفاً
بالعدالة والضبط وتارة أخرى يطلق على من كان موصوفاً بالعدالة فقط دون
الضبط فنحن عرفنا أن الراوي لكي يكون مقبول الرواية لابد وأن يكون
موصوفاً بالوصفين معاً العدالة والضبط وليس العدالة فحسب فهذا الراوي
الذي يقال فيه ثقة لابد أن نفهم مراده أولا: ماذا أراد من قوله في هذا
الراوي هو ثقة؟ فإن عرفنا من كلامه أنه أراد بالثقة أنه عدل ضابط
حينئذٍ سيكون حديث هذا الراوي من قسم المقبول، أما إن فهمنا من سياق
الكلام أو بمعرفنا بمنهج ذلك الإمام أنه حينما قال في هذا الراوي هو
ثقة أراد العدالة فقط دون الضبط فحينئذٍ لن يكون هذا الراوي ممن يقبل
حديثه بل سيكون مردود الحديث؛ لأنه ليس ضابطاً والرواي لا يكون مقبول(1/9)
الحديث إذا لم يكن ضابطاً.
إذن رغم أنه وصف بالثقة كما أن الأول وصف بالثقة إلا أن ثقة الأول
مقبول الرواية والآخر ليس مقبول الرواية لماذا؟ لأننا أولاًُ: فهمنا
المصطلح على وجهه وأن قائله أراد حيث وصف به الرواي الأول أراد به
العدالة والضبط ومن كان موصوفاً بالعدالة أو الضبط فهو مقبول الرواية.
وحيث أطلق المصطلح ذاته على راوي آخر ولم يرد بهذا الوصف أو بهذ
المصطلح أن الراوي عدل ضابط وإنما أراد به العدالة فحسب وعرفنا أن من
كان موصوفاً بالعدالة دون الضبط لا يكون مقبول الرواية أدركنا أن هذا
الراوي الآخر وإن كان ثقة إلا أنه ليس ممن يقبل حديثه.
بعد أن عرفنا معنى الثقة في كلام العالم، بعد أن وصفه بها فهذا هو
المعنى الذي نستفيده من اختلاف الاصطلاحات ودلالاتها ومدى تأثير ذلك في
الحكم على الحديث، كذلك مصطلح الحسن عرفنا أن الحسن بأنواعه درجات ومن
أهل العلم من أطلق الحسن كما سمعنا على الحديث الصحيح فهذا الحديث الذي
وصف بأنه حسن هو عندنا أو عند قائله من أعلى درجات الصحة حتى وإن وصفه
بالحسن الذي هو في أصله مرتبة دون الصحيح لكن لما أراد بالحسن هنا معنى
الصحيح عرفنا أن هذا القائل حيث وصف ذلك الحديث بالحسن لم يقصد بالحسن
ها هنا المنزلة المتأخرة عن الصحيح بل أراد بالحسن ها هنا الصحيح نفسه،
فحينئذٍ يكون هذا الحديث مع وصفنا له بأنه حسن من أعلى درجات المقبول
كالصحيح سواءً بسواء، والعالم الآخر الذي أطلق الحسن وأراد به ما هو
قريب من الصحيح وليس في درجته هو أيضاً يقصد أن هذا الحديث من المقبول
ولكنه دون المرتبة الأولى، دون الصحيح الأول فهو صحيح مقبول أو حسن في
حيز المقبول ولكنه ليس في أعلى درجات المقبول، وكذك الحسن حيث أطلقه
بعض أهل العلم على الحديث الضعيف الذي انضم إليه من الشواهد والمتابعات
ما يقويه ويأخذ بيده ويرقيه إلى مصاف الحجة فهو يعتقد أيضاً أن هذا(1/10)
الحديث مقبول وأنه في حيز القبول وأنه يحتج به لكنه مع ذلك يعتقد أنه
دون الصحيح ودون الحسن المذكور أولاً.
ما فائدة معرفة هذه المراتب؟
فائدة معرفتها: أولاً: معرفة درجات الأحاديث من حيث الرواية؛ لأن ذلك
ننتفع به عند وجود التعارض بين الأحاديث فندرس على ذلك علم مختلف
الحديث، وهذا العلم يُعنى بالأحاديث التي هي في حيز المقبول إذا وجدت
متعارضة كيف نوفق بينها أو نجمع بينها ونعرف إن كان بعضها متقدماً أو
متأخراً فأحدهما ناسخ والآخر منسوخ مثلاً، أو أحدهما أخطأ فيه هذا
الراوي وهذا الراوي ثقة أو قريب من الثقة ولكن صادف أن أخطأ في هذه
الرواية واستدللنا على خطئه بمخالفة حديثه بما هو أصح منه وأثبت
فبمعرفتنا بدرجات الأحاديث بأن هذا صحيح وهذا أصح، بأن هذا قوي وهذا
أقوى يعيننا -إن شاء الله تعالى- على معرفة الراجح من المرجوح فيما
اختلفت فيه الأحاديث والروايات.
سبل معرفة معنى المصطلح:
ننتقل إلى بند آخر من الأمور المتعلقة بالمصطلح وهو ما يتعلق بسبل
معرفة معنى المصطلح سبل تفسير المصطلح يسألني بعد طلبة العلم نحن نجد
مصطلح الثقة في الكتب فمن أدرانا أن قائله أراد بالثقة هنا المعنى
الأول أو المعنى الآخر نحن نجد مصطلح الحسن من أدرانا أن قائله أراد
بهذا المصطلح المعنى الأول أو المعنى الآخر أو المعنى الثالث وهكذا كيف
نعرف هذا؟
العلماء يسلكون في فهم المصطلح ومعرفة معناه عند قائله طريقان مشهوران:
الطريق الأول: الاستقراء والتتبع. ما معنى الاستقراء والتتبع؟ يعني أن
يعمد علماء الحديث إلى مواضع استعمال المحدثين لهذا المصطلح من كلامهم
الكثير المسطور في كتبهم والموجود في مصنفاتهم فنجد مثلاً مصطلح الثقة
استعمله الإمام البخاري، واستعمله الإمام مسلم، استعمله الإمام أحمد،
استعمله الإمام الدار قطني، استعمله أبو حاتم، أبو زرعة، أمثال هؤلاء
العلماء الكبار، فيأتي نقاد الحديث والباحثون فيه يجمعون طائفة من كلام(1/11)
أهل العلم مما استعملوا فيه مصطلح الثقة ويحاولون أن يتأملوا سياق
الكلام سياقه وسباقه، يتأملون الكلام ومراد قائله منه فيتبين لهم من
خلال استقراء وتتبع وتفهم هذه المواضع الكثيرة المعنى الذي يقصده علماء
الحديث أو بعضهم من استعماله لهذا المصطلح، وهذا أمر ليس كما ترون من
خصوصيات علم الحديث بل في كل العلوم تستعمل هذه الطريقة.
الطريق الثاني: النص. هذا المصطلح استعمله عالم من علماء الحديث ثم هذا
العالم لم يتركنا هملاً ولم يتركنا عرضة لاختلاف الآراء بل هو نفسه حسم
المادة، فقال: أنا إذا قلت كذا فأنا أقصد كذا فانتهت المسألة، فهذا نص
من ذلك الإمام شرح به مراده من كلامه.
- مثلاً الإمام الترمذي -رحمه الله تعالى- صاحب الجامع الكبير المعروف
بجامع الترمذي وهو أحد الكتب الستة الأصول نجده -رحمه الله تعالى-
يستعمل كثيراً في كتابه الجامع مصطلح الحسن تارة، يقول: هذا حديث حسن،
تارة أخرى يقول: هذا حديث حسن صحيح، أحياناً يقول: هذا حديث حسن غريب،
أحياناً يقول: هذا حديث حسن صحيح غريب، فالمصطلح عند هذا العالم مستعمل
بكثرة في كتابه الجامع حتى إن بعض أهل العلم ذكر إن الترمذي هو الذي
شَهَّرَ هذا المصطلح وأكثر من استعماله، ومع ذلك فهذا الإمام قد شرح
لنا مراده من هذا المصطلح - كما قلت لم يتركنا هملاً - فبعد أن انتهى
من تصنيف كتابه كتب فصلاً في آخر كتابه الجامع سماه باب العلل، هذ
الفصل بَيَّن فيه كثيراً من مناهج المحدثين في هذا العلم الشريف، منها:
أنه شرح مراده من قوله حسن فذكر -رحمه الله تعالى- في أثناء هذا الفصل
هذه العبارة حيث قال: "وما ذكرنا في هذا الكتاب حديث حسن فإنما أردنا
به حسن إسناده عندنا، كل حديث يروى لا يكون في إسناده من يتهم بالكذب
ولا يكون الحديث شاذاً ويروى من غير وجه نحو ذاك، فهو عندنا حديث حسن"
فهكذا الإمام قد شرح لنا مراده من كلامه ومن مصطلحه الذي أكثر من(1/12)
استعماله، فهذا نص من ذلك الإمام يستفاد به لمعرفة معنى الحسن عنده
وعند غيره من علماء الحديث.
- نجد مثلاً إماماً كالإمام مسلم -رحمه الله تعالى- صاحب الصحيح
المعروف مسلم بن الحجاج أبو الحسين النيسابوري، صحيحه معروف لديكم، هذا
الكتاب قد صنع له مؤلفه الإمام مسلم بن الحجاج مقدمة في غاية الجودة
والإتقان وهي مليئة بأصول هذا العلم الشريف هذه المقدمة قد شرح فيها
الإمام مصطلحاً أيضاً من المصطلحات التي يكثر استعمال أهل العلم لها
ألا وهو مصطلح المنكر، الحديث المنكر - وسيأتي في أنواع علوم الحديث إن
شاء الله تعالى- فقال - رحمه الله تعالى- "وعلامة المنكر في حديث
المحدث إذا ما عرضت روايته للحديث على رواية غيره من أهل الحفظ والرضى
إذا خالفت روايته روايتهم أو لم تكد توافقها - فإذا كان الأغلب من
حديثه كذلك - كان مهجور الحديث غير مقبوله ولا مستعمله" فهكذا شرح لنا
الإمام معنى قول المحدثين حديث منكر بل وتناول كلامه أيضاً شرح قول
المحدثين في بعض الرواة: فلان متروك الحديث أو مهجور الحديث كما قال في
آخر كلامه، فإذا كان الأغلب من حديثه كذلك - أي أغلب أحاديثه مناكير
وأخطأء وأوهام- كان مهجور الحديث غير مقبوله ولا مستعمله.
وبطبيعة الحال فإن مصطلح الحديث إنما ينبغي أن يؤخذ من أهل الاختصاص في
الحديث كما أن المصطلح اللغوي يؤخذ من أهل الاختصاص في اللغة والمصطلح
الفقهي يؤخذ من أهل الاختصاص في الفقه، وهكذا ينبغي أن يؤخذ العلم من
أهله المختصين به الذين أفنو أعمارهم فيه وليس ممن عنده فيه ثقافة
عامة؛ فلربما لم يدرك ضمن إدراكاته بعض ما يدركه المختص بهذا العلم أو
ذاك؛ فلهذا كان ينبغي على طالب العلم دائماً وأبداً أن يرجع إلى أهل
الاختصاص في كل علم فيأخذ عنهم العلم الذي اختصوا به ولا يأخذ العلم من
غير العلماء الذين اختصوا به الذين هم أهله، نسأل الله تعالى التيسير(1/13)
والتوفيق ونبدأ -إن شاء الله تعالى- في قراءة المقدمة والوقوف عند ما
فيها من فوائد.
قال المصنف الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى- ( الحمد لله وسلام على
عباده الذين اصطفى أما بعد: فإن علم الحديث النبوي على قائله أفضل
الصلاة والسلام قد اعتنى بالكلام فيه جماعة من الحفاظ قديماً وحديثاً
كالحاكم والخطيب ومن قبلهما من الأئمة ومن بعدهما من حفاظ الأمة ولما
كان من أهم العلوم وأنفعها أحببت أن أعلق فيه مختصراً نافعاً جامعاً
لمقاصد الفوائد ومانعاً من مشكلات المسائل الفرائد ولما كان الكتاب
الذي اعتنى بتهذيبه الشيخ الإمام العلامة أبو عمرو ابن الصلاح تغمده
الله برحمته من مشاهير المصنفات في ذلك بين الطلبة لهذا الشأن وربما
عني بحفظه بعض المهرة من الشبان سلكت وراءه واحتذيت حذاءه واختصرت ما
بسطه ونظمت ما فرطه وقد ذكر من أنواع الحديث خمسة وستين وتبع في ذلك
الحاكم أبا عبد الله الحافظ النيسابوري شيخ المحدثين وأنا بعون الله
أذكر جميع ذلك مع ما أضيف إليه من الفوائد الملتقطة من كتاب الحافظ
الكبير أبي بكرٍ البيهقي المسمى بالمدخل إلى كتاب السنن وقد اختصرته
أيضاً بنحو من هذا النمط من غير وكس ولا شطط والله المستعان وعليه
التكلان).
طبعاً هذا القدر من المقدمة أتينا عليه في أثناء كلامنا فالمهم أن تقرأ
الفصل الذي عقده في آخر المقدمة مما يتعلق بتعداد علوم الحديث.
قال المصنف - رحمه الله تعالى- (ذكر تعداد أنواع الحديث: صحيح، حسن،
ضعيف، مسند، متصل، مرفوع، موقوف، مقطوع، مرسل، منقطع، معضل، مدلس، شاذ،
منكر، ما له شاهد، زيادة الثقة، الأفراد، المعلل، المضطرب، المدرج،
الموضوع، المقلوب، معرفة من تقبل روايته، معرفة كيفية سماع الحديث
وإسماعه، وأنواع التحمل من إجازة وغيرها، معرفة كتابة الحديث وضبطه،
وكيفية رواية الحديث، وشرط أداءه، آداب المحدث، آداب الطالب، معرفة(1/14)
العالي والنازل، المشهور، الغريب، العزيز، غريب الحديث ولغته، المسلسل،
ناسخ الحديث ومنسوخه، المصحف إسناداً ومتناً، مختلف الحديث، المزيد في
الأسانيد، خفي المرسل، معرفة الصحابة، معرفة التابعين، رواية الأكابر
عن الأصاغر، المدبج، ورواية الأقران، معرفة الإخوة والأخوات، رواية
الآباء عن الآبناء، عكسه، من روى عنه اثنان متقدم ومتأخر، من لم يرو
عنه إلا واحد، من له أسماء ونعوت متعددة، المفردات من الأسماء، معرفة
الأسماء والكنى، من عرف باسمه دون كنيته، معرفة الألقاب، المؤتلف
والمختلف، المتفق والمفترق، نوع مركب من الذين قبله، نوع آخر من ذلك،
من نسب إلى غير أبيه، معرفة الأنساب التي يختلف ظاهرها وباطنها، معرفة
المبهمات، تواريخ الوفيات، معرفة الثقات والضعفاء، من خلط في آخر عمره،
معرفة الطبقات، معرفة الموالي من العلماء والروات، معرفة بلدانهم
وأوطانهم.
فهذا تنويع الشيخ أبو عمرو وتركيبه -رحمه الله تعالى- قال: وليس بآخر
الممكن في ذلك، فإنه قابل للتنويع إلى ما لا يحصى إذ لا تنحصر أحوال
الرواة وصفاتهم وأحوال متون الحديث وصفاتها.
قلت: وفي هذا كله نظر، بل في بسطه هذه الأنواع إلى هذا العدد نظر إذ
يمكن إدماج بعضها في بعض، وكان أليق مما ذكره، ثم إنه قد فرق بين
متماثلات منها، بعضها عن بعض، وكان اللائق ذكر كل نوع إلى جانب ما
يناسبه، ونحن نرتب ما نذكره على ما هو الأنسب، وربما أدمجنا بعضها في
بعض طلباً للاختصار والمناسبة، وننبه على مناقشات لابد منها -إن شاء
الله تعالى).
طبعاً هذه المقدمة اشتملت على هذا الفصل الذي عقده الحافظ ابن كثير
-رحمه الله تعالى- في بيان تعداد أنواع علوم الحديث، وهذا الفصل قد
سبقه إليه صاحب الأصل الحافظ أبو عمرو ابن الصلاح في كتابه علوم
الحديث، وعدد أيضاً أنواع الحديث في المقدمة، وهي التي ستأتي تفصيلها
بعد ذلك -إن شاء الله تعالى- في أثناء الكتاب وكما ترون الحافظ ابن(1/15)
كثير اعترض على ابن الصلاح في هذا التعداد من حيث أن هذه الأنواع
المتعددة هي في الواقع صور متعددة لنوع أو نوعين أو ثلاثة أو أكثر أو
أقل بمعنى أن هذه الأنواع أشبه بالمسائل الفرعية وليست بالأنواع
المستقلة، ولكن ملحظ الحافظ ابن الصلاح من تعداد هذه الأنواع هو: أنه
أراد أن يبين من خلال هذا التعداد العلوم المتنوعة الذي يقوم عليها ذلك
العلم الشريف، ولعله لذلك سمى كتابه بعلوم الحديث هكذا بالجمع ولم يقل
علم الحديث وقد سبقه إلى ذلك الإمام أبو عبد الله الحاكم النيسابوري في
كتابه معرفة علوم الحديث.
أيضاً نوع علوم الحديث كمثل ما فعل الحافظ أبي عمرو ابن الصلاح، لماذا
هذا التنويع قلنا: لأن هذا العلم مشتمل على علوم، وهذه العلوم يتشكل
منها ذلك العلم الشريف؛ لأن علماء الحديث -رحمهم الله تعالى- نظروا في
الرواية، فوجدوا أن الرواية لابد وأن تأتي من قبل راوٍ، فما من رواية
إلا ولها راوٍ رواها ونقلها إلينا، ولا يمكن لك بحال من الأحوال أن تجد
روايةً بلا راوٍ فصار الراوي هو عمود هذا العلم، ونحن إنما نأخذ من هذا
الراوي سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التي ينقلها سواء عن رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- مباشرةً إذا كان هذا الراوي صحابياً، أو عمن
حدثه بها عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وعلماء الحديث يدركون إدراكاً لا ينقصه شيء أن هذا الراوي بشر من
البشر، هو عرضة للخطأ والنسيان؛ لأنه إنسان فهو عرضة للخطأ فمن الممكن
أن ينقل الرواية لا كما سمعها، أن يخطيء حيث رواها، بل ربما يخطيء وقت
تحمله لها، فيسمع الرواية أو يتحملها على وجه غير معتبر، وعلى طريقة
غير معتدٍ بها عند العلماء، فإذا بعلماء الحديث -عليهم رحمة الله
تعالى- قد توسعوا في تعداد هذه العلوم وتنويعها وغرضهم من ذلك واضح وهو
أن يضيقوا الخناق على كل باب وكل وسيلة من الممكن أن يتسرب من خلالها(1/16)
الخلل إلى الرواية حتى تصل إلينا الرواية سالمةً من الخطأ وسالمةً من
الخلل.
- فمثلاً نحن نجد في هذه العلوم التي سمعنا أسماءها نجد علوماً تختص
بمعرفة عين الراوي نفسه، هو راوي نحن نجد في الإسناد مثلاً محمد بن عبد
الله، من محمد بن عبد الله هذا؟ هناك مئات من الناس من يسمون بمحمد بن
عبد الله إلا أن علماء الحديث -عليهم رحمة الله- وضعوا لنا علوماً
تعالج هذا الجانب فقط فذكروا لنا من هذه العلوم ما يسمى عندهم بالمتفق
والمفترق، أي الرواة الذين يسمون بأسماء واحدة ولكنهم في حقيقة الأمر
ليسوا راوياً واحداً بل هم أكثر من راوٍ، وهذا العلم علم على حدة وله
مصنفات خاصة، وألف فيه علماء تخصصوا فيه وأفنو فيه أعمارهم، هذا علم
واحد من تلك العلوم حتى إن الإمام الحاكم-رحمه الله تعالى- يقول: إن
علم الحديث مشتملٌ على أكثر من مائة علم لو أفنى الواحد في كل علم منها
عمره لما كفاه، فعلم المتفق والمفترق هذا علم على حدة وظيفته أن يميز
لنا من محمد بن عبد الله؟ حيث يذكر في الإسناد هل هو فلان أم فلان أم
فلان؟ هذا الراوي قد يخطيء عن طريق التصحيف؛ لأنه يعتمد على كتابه
أحياناً والكتاب عرضة للخطأ والتصحيف والتحريف فكيف يأمن المحدثون
ويسلموا من أثر التصحيف والتحريف الذي ربما يقع من بعض الرواة في بعض
الأحاديث، فإذا بنا نجد علماء الحديث قد ألفوا وصنفوا كتباً تختص بهذا
الجانب من العلم واعتبروه علماً مستقلاً علم التصحيف والتحريف وله
مصفات تختص به، كل ذلك سيأتي في موضعه -إن شاء الله تعالى-.
- أحياناً الراوي نفسه أو أسماء الرواة يشتبه بعضها ببعض من حيث الرسم
الإملائي فنجد مثلاً راوٍ اسمه أنس وآخر اسمه أتش هذا يسهل على الناسخ
أن يخطيء حيث ينسخ، فبينما في الكتاب أتش يظنه أنس فيصل إليك الإسناد
برواة غير الرواة الذين رووه، فنجد علماء الحديث قد أفردوا لهذا الجانب(1/17)
ما يعالجون به الخلل الذي قد يتسرب إلى الرواية من جهته فألفوا كتباً
تسمى بكتب المؤتلف والمختلف، هناك رواة كثيرون اسمهم أحمد وهناك راوٍ
واحد اسمه أدمد فأنت قد يكون حديث من رواية أدمد هذا فتظنه أحمد فيتصحف
عليك اسم فإذا بهذا العلم علم المؤتلف والمختلف يبين لك العلماء من
خلاله هل المذكور في هذا الإسناد المعين هو أنس أم هو أتش هو أحمد أم
هو أدمد وهكذا.
- وأيضا نجد بعد أن عرفنا هذا الراوي عرفنا أنه المعروف أنه فلان بن
فلان فكيف حاله؟ هل هو ثقة أم ضعيف هل يحتج بحديثه أم لا يحتج بحديثه
هل هو مقبول الرواية أم ليس مقبول الرواية؟ وما ضوابط ذلك وما قواعده
وما أصوله؟ فنجد نوعاً من أنواع الحديث يختص بهذا الجانب وهو نوع يسمى
بصفة من تقبل روايته ومن ترد روايته من رواة الحديث، فهذا يعالج هذا
الجانب فقط.
- هذا الراوي نريد أن نعرف علاقته بشيخه قد يكون هو ثقة وشيخه أيضاً
ثقة ولكنه لم يسمع منه، ولم يلتق به فلربما أخذ الحديث عن رجل عن هذا
الشيخ ثم أسقطه وارتقى بالحديث إلى هذا الشيخ المذكور، فإذن سيكون في
الحديث سبب من الأسباب التي يتسلل الخلل من جهتها وهو أن يكون هناك
راوٍ قد سقط لم يذكر في الإسناد فلا نعرف أهو من الثقات أم من غير
الثقات، فنجد أنواعاً تعالج لنا هذا الجانب مثل المرسل مثل المنقطع مثل
المعضل وأمثال هذه الأنواع.
إذن كل نوع من أنواع علوم الحديث في الواقع هو في غاية الأهمية، وهو
يعالج جانباً من جوانب الرواية ويسد باباً من الأبواب التي قد يأتي
الخلل من جهته إلى الرواية حتى تصل الرواية إلينا غضةً طريةً سالمةً من
أي خلل أو أي خطأ.
ونكتفي بهذا القدر وإن كان هناك أي استفسار من الإخوة الكرام أو أي
سؤال نسأل الله تعالى أن يعيننا على الإجابة عليه.
يقول: ماذا تقولون في كتاب الباعث الحثيث وهل دراسته تغني عن دراسة
اختصار علوم الحديث وهل يغني دراسة الاختصار عن كتاب علوم الحديث لابن
الصلاح؟(1/18)
أولا: كتاب الباعث الحثيث هو شرح موسع للشيخ أحمد شاكر -رحمه الله
تعالى- المحدث المصري المعروف وهو من شروحه الجيدة والمستفيضة على كتاب
علوم الحديث لابن كثير فبطبيعة الحال الكتاب شرح الشيخ أحمد شاكر مرتبط
بأصل، فمن أراد الانتفاع بالأصل فلابد له أن يقرأ شرح الشيخ أحمد شاكر
-رحمه الله تعالى- فلا يستغني بالشرح عن الأصل ولا بالأصل عن الشرح.
ثانيا: الجزء الثاني من السؤال وهل يغني دراسة الاختصار عن كتاب علوم
الحديث لابن الصلاح؟
ليس هناك كتاب يغني عن كتاب، طالب العلم - ونحن دائماً وأبدا نذكر
بأننا ندرس علماً من علوم الأصول فطالب العلم الذي يريد أن يتعلم
الأصول - لا يستغني بكتاب عن كتاب بل لابد له أن يقرأ كل كتاب من كتب
علوم الحديث صغيراً كان أو كبيراً متقدماً كان أو متأخراً.
يقول: نسمع كثيراً عن منهج المتقدمين والمتأخرين فما هي هذه القضية
وجزاكم الله خير
هذا سؤال أنا أرى أنه خارج عن موضوع الحلقة وإن شاء الله تعالى لعلنا
نتناول ذلك في لقاء يأتي بإذن الله تعالى.
أسأل عن الضبط هل هو ملكة أو يمكن الإنسان يكتسبه اكتساب؟
لاشك أن الضبط هو في أصله ملكة، ولكن هذه الملكة لكي تنمى لابد من أن
يستعان بما يعينك على تنميتها، وإنما ذلك يكون بمدارسة العلم والتعايش
مع أهله كما يقول الإمام ابن رجب الحنبلي -عليه رحمة الله تبارك
وتعالى- "إن من أراد أن يحصل هذا العلم ينبغي عليه أن يدمن النظر في
كتب أهل العلم المختصين به وأن يتأمل أقوالهم وأن ينظر فيها حتى يكتسب
تلك الملكة التي تعينه على مزيد من الضبط ومزيد من الفهم لهذا العلم".
يقول: سؤاله الأول: كيف يصبح طالب العلم متقدم في علوم الحديث وما هي
الطريق التي ينيغي له أن يسلكها في ذلك؟
أولا: لابد عليه أن يتقن أصول هذا العلم، كثير من طلبة العلم يتعجلون
يريدون أن يصلوا إلى مرحلة النظر في الأسانيد ومسألة النظر في المتون(1/19)
وتحقيق الأحاديث وتمييز صحيحها من سقيمها من قبل أن يثقلوا أنفهسم
ومعرفتهم بمعرفة أصول هذا العلم، كما قلت لابد لك من أن تقرأ بل أن
تدرس كل كتاب كتب في هذا العلم الشريف حتى إذا ما استطعت وتمكنت من
معرفة مناهج المحدثين وتوسعت في ذلك فحينئذٍ يسهل عليك - إن شاء الله
تعالى- تحقيق الأحاديث وتمييز ما صح منها من غير ما يصح طبعاً في كل
ذلك لابد أن تكون مسترشداً بكلام أهل العلم ولست مستقلاً عنهم أو
خارجاً عن هديهم.
سؤاله الثاني فضيلة الشيخ هل ينبغي على الطالب أن يتبع مسألة التدرج
في هذا العلم بحيث وجد من يدرس فقط كتاباً مختصراً جداً في علوم الحديث
ثم ينتقل إلى كتب الرجال والكتب التي تتحدث عن العلل ما قولكم يا شيخ
في هذه المسالة؟
هذا طبعاً تابع لما قلناه من أنه لا ينبغي له أن يتطرق إلى كتب الجرح
والتعديل أو كتب علل الأحاديث إلا بعد أن ينتهي من دراسة أصول هذا
العلم وقواعده حتى تكون استفادته من تلك الكتب كما ينبغي فيقف على أرض
صلبة أولا: ثم بعد ذلك يتوسع إن شاء.
هل الواجب على طالب العلم الشرعي أن يكون متقناً لهذا الفن من العلوم
وإن كان يتخصص في علم آخر أو في فن آخر فما هو الواجب عليه تجاه هذا
الفن؟
طبعاً إذا لم يرد أن يتخصص في هذا العلم من العلوم فينبغي له أن يعرف
منه القدر الذي ينفي عنه الجهل به، حتى يستطيع أن يستفيد من الكتب التي
تنقل عن المحدثين، أن تستفيد من علماء الحديث مثلاً إذا كنت مشتغلاً
بالفقه، فأنت بطبيعة الحال تقرأ في كتب الفقه فإذا ما قرأت في كتب
الفقه ستجد علماء الفقه أنفسهم ينقلون عن المحدثين أحكامهم على
الأحاديث هذا حديث صحيح هذا حديث ضعيف هذا مرسل هذا معضل هذا مقلوب،
فإن أنت لم تفهم هذه المصطلحات ولم تعرف دلالاتها عند المحدثين ولا ما
يقصده المحدثون منها فكيف ستستفيد من الفقه نفسه؟ وكما قلنا في بداية
الحلقة إن هذا العلم يحتاجه كل مشتغلٍ بكل علم من العلوم الشرعية.(1/20)
ذكر الشيخ أن الإمام مسلم ذكر معنى الحديث المنكر في مقدمة كتابه
الصحيح فهل هذا المعنى خاص بالإمام مسلم أم أنه عام لجميع المحدثين؟
هذا المعنى الذي قاله الإمام مسلم في تعريف الحديث المنكر ليس مما يختص
به الإمام مسلم وإنما هو أصل عند جميع المحدثين، فما من إمام من علماء
الحديث إلا ويستدل على نكارة الحديث بما ذكره الإمام مسلم بن الحجاج -
عليه رحمة الله تعالى - ليست بالضرورة أن ينص كل إمامٍ على ذلك، وإنما
يعرف ذلك من حقيقته في تناول الأسانيد والروايات فنعرف من خلال كلامهم
الأسس التي على أساسها يحكمون على هذه الروايات لكونها منكرة أو ليست
منكرة ومن تتبع كلام القوم ونظر فيه تبين أنهم -رحمهم الله تعالى- إنما
يستذكرون الحديث على الحديث الذي ذكره الإمام مسلم في كلامه.
ذكرتم أن كل فن أو كل اصطلاح يؤخذ من أهل الفن، سؤالي: لماذا يوجد في
كتب المصطلح أقوال للفقهاء والأصوليين فيكثر في هذا الخلاف إضافة إلى
وجود بعض المباحث في كتب مصطلح الحديث حجية خبر الآحاد والاحتجاج
بالمرسل ونحو ذلك من المباحث التي في أصلها ليست من علوم الحديث؟
الأمر الثاني:
ذكرتم تعريف اصطلاح الترمذي للحسن فأنا سؤالي: هل يختص
تعريف اصطلاح الترمذي الحسن في الحديث الحسن لذاته أي الحديث الذي يقول
عنه حديث الترمذي حديث حسن أو يشمل ما قاله الترمذي حديث حسن غريب أو
صحيح بإضافة أي نوع من أنواع الحديث الحسن؟
لاشك أن هذا العلم الشريف علم الحديث وجدت فيه أقوال أو في بعض كتبه
هذه الأقوال بالتتبع لها يتبين أنها ليست أقوالاً لعلماء الحديث
المختصين في هذا العلم الشريف كما أنها في أغلب الأحوال تشتمل على
أقوال المحدثين المختصين بهذا العلم الشريف، ونحن نقول: ما كان من هذه
الأقوال أعني التي صدرت عن غير المختصين موافقاً لما عليه علماء الحديث
فنحن نقبلها لأنها موافقة لأهل الاختصاص ولا نرفض قولاً بمجرد أن قوله(1/21)
ليس من أهل الاختصاص إلا إذا قال قولاً يتعارض مع ما قرره علماء الحديث
المختصون في هذا العلم الشريف.
وبعض المصنفين في علوم الحديث أراد أن يتوسع في ذكر بعض المباحث التي
ليس من عادة المحدثين أن يذكروها في كتب المصطلح فعمد إلى كتب أصول
الفقه مثلاً ونظر في بعض كلام علماء الأصول فاستقى من كلامهم ما رأى أن
الراوي في حاجة إليه أو أن المشتغلون بالرواية في حاجة إليه، كما فعل
الإمام الخطيب البغدادي -رحمه الله تعالى- في كتابه الكفاية حيث ذكر في
كتابه هذا مبحث الحديث المتواتر، ولم يسبق الإمام الخطيب البغدادي، ثم
تبعه على ذلك الحافظ ابن الصلاح في علوم الحديث، ثم من جاء بعد ابن
الصلاح وقد بيَّن ابن الصلاح -رحمه الله تعالى- بأنه إنما أدخل هذا
النوع في علوم الحديث اقتداءً بالإمام بالخطيب البغدادي، وأن الخطيب
إنما أخذه من الأصوليين ولم يأخذه من المحدثين، في الواقع أن هذا النوع
مثلاً من أنواع الحديث وإن كان المحدثون لا يعبرون عنه بهذا المصطلح
الخاص فقلما تجد محدثاً يقول: إن المتواتر نوعٌ مستقل من أنواع الحديث
ولكن المحدثين يعبرون عن هذا المعنى الذي هو التواتر نفسه وسيأتي شرحه
في موضعه - إن شاء الله تعالى - يعبرون عنه بألفاظ أخرى فأحياناً
يقولون: مشهور وأحياناً يقولون: مستفيض ويقصدون ما يقصده الأصوليون
بالتواتر، فمن هذه الحيثية لا يدرون أن نعرف معنى هذا النوع الذي زاده
الخطيب وتبعه عليه ابن الصلاح بل هو فيه مزيد فائدة من جهة.
من جهة أخرى أننا في حاجة إلى معرفة درجات الروايات ومراتبها، كما
ذكرنا أن الحسن منه ما هو صحيح ومنه ما هو قريب من الصحيح ومنه ما هو
دون ذلك، وكل ذلك يسمى حسناً فكل الروايات حينما نعرف أن بعضها وصل إلى
إفادة العلم اليقيني وهو الذي يعبر عنه بالمتواتر أو بعض صور المتواتر
حينما نعرف أن هذا الحديث بهذه المرتبة العالية فنحن نتعامل معه بما(1/22)
عرفنا من تلك المنزلة ولا نعاملهم معاملة حديث الآخر يرويه راوٍ يحتمل
فيه الخطأ والإصابة إذا وجدنا حديثاً متواتراً يرويه بعض الرواة الذين
يكونون مقبولين من حيث الأصل لكن إذا خالف ما هو متواتر أو متقرر أو
مفروغ من ثبوته فحينئذٍ نحن إذا لم نستطع الجمع بين روايته والرواية
القوية التي هي متواترة أو هي مفيدة للعلم فنلجأ إلى الترجيح ولا شك أن
مرتبة الحديث تفيدنا في الترجيح فإذا عرفنا أن ذلك متواتر وذاك ليس
متواتراً فنستفيد ذلك في الترجيح فنرجح المتواتر على من ليس بمتواتر.
كان يسأل عن تعريف الإمام الترمذي للحديث الحسن وإضافته لبعض
المصطلحات الأخرى ؟
كأنه كان يسأل عن تعريف الإمام الترمذي للحديث الحسن هل هو من خصوصيات
الإمام الترمذي أم هو تعريف عام عند علماء الحديث؟ الإمام الترمذي
-رحمه الله تعالى- ذكر الحسن وأراد بالحسن معنى هو مذكور بوضوح في
كلامه وما ذكرنا في هذ الكتاب حديث حسن فإنما أردنا به حسن إسناده
عندنا، كل حديث يروى لا يكون في إسناده من يتهم بالكذب ولا يكون الحديث
شاذاً ويروى من غير وجه نحو ذلك فهو عندنا حديث حسن، فهذا الحديث
المشتمل على هذه الأوصاف الثلاثة هو عند الإمام الترمذي حديث حسن. هل
هو الحسن لذاته الذي هو قريب من الصحيح أم الحسن لغيره الذي هو دون
ذلك؟ أكثر أهل العلم أن الترمذي قصد من هذا الحسن لغيره، أي الحسن الذي
هو أدنى درجات الحسن، الحسن الذي هو ضعيف في أصله ثم ارتقى بانضمام
أمور أخرى إليه، روايات أخرى إليه وما يعبر عنه الحافظ ابن حجر
العسقلاني بالحسن لغيره وإن كان هذا الكلام ليس مسلماً بل سيتبين لنا
إن شاء الله تعالى عندما نصل إلى الحديث الحسن أن الترمذي يطلق الحسن
تارة على الحسن لغيره، وتارة على ما يصدق عليه الحسن لذاته بل على
الصحيح أيضاً والله أعلم.
عندنا سؤالان:
السؤال الأول: اذكر سبل معرفة معنى المصطلح الحديثي؟(1/23)
السؤال الثاني: اذكر ثلاثة من أشهر أنواع الحديث التي تدل على ثبوت
الحديث أو ضعفه؟
أعلى الصفحة
الرئيسة ????? ?????????? ????? ???? ?????????? ?????? ???????
???? ?????? - ??????? ??????
المؤلف: ????? ?????/ ???? ?? ??? ????
الوصف: ?????? ??????? ????? ???? ?????? -??????? ?????? - ??? ?????? ???? ?????? ?????? ??? ????
ارسل الصفحة لصديق
معاينة طباعة الصفحة
رؤية مكبرة
--------------------------------------------------------------------------------
الدرس الثاني: الحديث الصحيح
إن الحمد لله تعالى نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات
أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد ألا إله إلا الله
وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وبعد:
من هذا اللقاء - إن شاء الله تعالى- سنبدأ في شرح أنواع علوم الحديث من خلال كتاب
الحافظ ابن كثير اختصار علوم الحديث.
في اللقاء الماضي كما عرفنا جميعا الحافظ ابن كثير سرد أنواع الحديث مجملةً اقتداءً
بأصله كتاب ابن الصلاح، ومن اليوم -إن شاء الله تعالى- سنأتي على كل نوع ونتناول
المسائل والمباحث التي اعتاد علماء الحديث -رحمهم الله تعالى- في كل نوع من تلك
الأنواع.
فأول هذه الأنواع وهو أعلاها وأقواها الحديث الصحيح فنقرأ -إن شاء الله تعالى- ما
يتعلق بهذا النوع أو بأول مسألة فيه، ثم نسأل الله تعالى التوفيق والتيسير لشرح ما
قاله الإمام.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: ( الأول: الصحيح، قال: اعلم علمك الله وإياي أن
الحديث عند أهله ينقسم إلى صحيحٍ وحسنٍ وضعيفٍ قلت: هذا التقسيم إن كان بالنسبة إلى
ما في نفس الأمر فليس إلا صحيح أو ضعيف، وإن كان بالنسبة إلى اصطلاح المحدثين
فالحديث ينقسم عندهم إلى أكثر من ذلك كما ذكره آنفا هو وغيره أيضاً.)(1/24)
المسألة الأولى: من المسائل التي تناولها الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى- متعلقة
بتقسيم الحديث هل الحديث ينقسم إلى القسمة الثنائية صحيح وضعيف؟ أم ينقسم إلى
القسمة الثلاثية صحيح وحسن وضعيف؟ هذه من المسائل التي تكلم فيها أهل العلم
وتناولوها بالبحث، ولقد ذكر الإمام العراقي -رحمه الله تعالى- في تقييده على كتاب
ابن الصلاح أن أول من قسم الحديث إلى القسمة الثلاثية هو الإمام أبو سليمان الخطابي
في معالم السنن فذكر الخطابي -رحمه الله تعالى- أن الحديث ينقسم عند أهله إلى ثلاثة
أنواع:
النوع الأول: الصحيح.
النوع الثاني: الحسن.
النوع الثالث: السقيم وهو الضعيف.
والحافظ ابن الصلاح -رحمه الله تعالى- في كتابه علوم الحديث إنما اقتدى في ذلك بأبي
سليمان الخطابي حيث ذكر في صدر هذا النوع أن الحديث عند أهله ينقسم إلى صحيح وحسن
وضعيف.
بطبيعة الحال نحن في اللقاء الماضي عرفنا أن أنواع الحديث كثيرة جداً فهي في تعداد
ابن الصلاح وكذلك ابن كثير تفوق الستين نوعاً، وذكرنا عن الإمام الحازمي -رحمه الله
تعالى- أنها أكثر من مائة نوع فما معنى ما نجده الآن من كلام أهل العلم من أن
الحديث ينقسم إلى صحيح وضعيف وحسن، أو إلى صحيح وضعيف فقط؟ فأين تذهب بقية الأنواع
التي سمعنا عنها في اللقاء الماضي والتي ستأتي تباعاً في هذا الكتاب المبارك - إن
شاء الله -؟
أقول إن علماء الحديث - عليهم رحمة الله تعالى - إنما يقصدون بهذه التقسيمة سواء
منها ما كانت قسمة ثلاثية أو ثنائية يقصدون الأقسام التي تندرج تحتها أنواع كثيرة
من أنواع علوم الحديث، فيرى أهل العلم أن هذه الأنواع كلها سوءً منها ما فاق الستين
أو ما فاق المائة، هذه الأنواع كلها إنما هي صور متعددة لثلاثة أنواع أو نوعين فقط،
فما من نوع من تلك الأنواع إلا وهو مندرج تحت الأنواع الثلاثة أو هذين النوعين،(1/25)
فمثلاً نجد من أنواع الحديث: المرسل والمعضل والمعلق والمنقطع والمقلوب والمضطرب
والمدرج والمصحف والمحرف إلى غير ذلك من الأنواع، فهذه الأنواع كلها هي في الواقع
هي صور متعددة لنوع الحديث الضعيف، ونجد الحديث الصحيح والحديث الحسن، والصحيح
درجات والحسن درجات.
إذن ما من نوع من هذه الأنواع كلها إلا وهو في واقع الأمر يندرج تحت هذه الأنواع
الثلاثة أو هذين النوعين بحسب اختلاف أهل العلم، أهل العلم -رحمهم الله تعالى-
عندما تكلموا في هذه المسألة تناولوها من عدة جهات:
المسألة الأولى: ذكرنا آنفا أن الحافظ العراقي -رحمه الله تعالى- ذكر أن أول من ذهب
إلى تلك القسمة الثلاثية هو الإمام أبو سليمان الخطابي في معالم السنن، بينما نجد
أئمة آخرين كشيخ الإسلام ابن تيمية والإمام وابن القيم وابن رجب -رحمهم الله تعالى-
يرون أن أول من ذهب إلى هذه القسمة الثلاثية هو الإمام الترمذي صاحب الجامع
المعروف.
إذن هذه القسمة الثلاثية هي متقدمة بحيث أنها قد وردت عن الإمام الترمذي في اجتهاد
ونظر هؤلاء الأئمة الثلاثة، بينما هي في نظر الحافظ العراقي لم تكن معروفة عند
الترمذي، إنما وجدت بعد ذلك في كلام الإمام أبي سليمان الخطابي في القرن الرابع،
فما هو الصواب في ذلك؟ هل فعلاً الإمام الترمذي -رحمه الله تعالى- وُجِدَ في كلامه
أو في صنيعه ما يفهم منه أن الحديث عنده ينقسم إلى ثلاثة أقسام؟
وأُذَكِّر دائماً وأبداً بأمر في غاية الأهمية نحن الآن لا ننازع في أن الصحيح
والضعيف والحسن كل هذه الأنوع هي من أنواع الحديث المعروفة المتداولة عند أهل العلم
ليس عند الترمذي فقط بل قبل الإمام الترمذي -عليه رحمة الله- فما من إمام من الأئمة
الذين كانوا قبل الترمذي أو في زمن الترمذي أو بعد الإمام الترمذي إلا وقد استمعمل
هذه المصطلحات، هؤلاء الأئمة جميعاً وجد في كلامهم الحديث الصحيح، ووجد في كلامهم(1/26)
الحديث الحسن، ووجد أيضاً في كلامهم الحديث الضعيف، فضلاً عن بقية الأنواع التي
ستأتي إن شاء الله تعالى، لكن محل البحث ها هنا ليس في مناقشة هل هذه الأنواع كانت
موجودة في عرف هؤلاء العلماء أم لا ؟ وإنما النقاش هل كان العلماء حيث يستعملون هذه
المصطلحات يتعاملون معها على أنها أقسام على حدة، أم أنها تندرج تحت أنواع من أنواع
الحديث الأخرى؟
لا خلاف بين أهل العلم أن الصحيح يعتبر قسماً على حدة، وإن الحديث الضعيف يعتبر
قسماً على حدة، بحيث أنك إذا قلت صحيح فنحن نفهم أنك لم تقصد الضعيف، وإذا قلت ضعيف
فنحن نفهم أنك لم تقصد الصحيح؛ لأن هذا يقابل هذا فلا يجتمع الصحيح مع الضعيف أبدا
ولا يجتمع الضعيف مع الصحيح أبداً، من أجل هذا كان كل منهما قسماً على حدة، لكن
الحديث الحسن هو الذي كان موضع الخلاف بين أهل العلم، ليس الخلاف - كما قلت- وجوده
عندهم، وليس الخلاف في كونه من المصطلحات المستعملة لديهم، وإنما الخلاف هل هو قسم
على حدة بحيث إذا قلنا حسن فنفهم أنه غير الصحيح وغير الضعيف، أم أنه مندرج تحت نوع
من أنواع الصحيح مندرج تحت مراتب الصحيح أو مندرج تحت مراتب الضعيف؟ هذا هو محل
البحث لدى أهل العلم في هذه المسألة.
فكما قلت: الإمام الخطابي -رحمه الله تعالى- صرح بأن الحديث عند أهله ينقسم إلى
ثلاثة أقسام فذكر الأقسام الثلاثة، بينما الإمام الترمذي لم يصرح بأن الحسن قسم
مستقلٌ من أقسام الصحيح أو قسم مستقل من أقسام الحديث، فقط كما ذكرنا في اللقاء
الماضي من أن الإمام الترمذي -رحمه الله تعالى- أكثر من استعمال الحديث الحسن في
كلامه، وفي أحكامه على الأحاديث في كتابه الجامع فتارة يقول: هذا حديث حسن، وتارة
يقول: حسن صحيح، وتارة يقول: حسن غريب، وتارة يقول: حسن صحيح غريب، فالحسن موجود،
ليس هذا فقط بل إنه -رحمه الله تعالى- بين لنا مراده من الحسن كما ذكرنا أيضاً ذلك(1/27)
في اللقاء الماضي من قوله "وما ذكرنا في هذا الكتاب حديث حسن فإنما أردنا به حسن
إسناده عندنا، كل حديث يروى لا يكون في إسناده من يتهم بالكذب ولا يكون الحديث
شاذاً ويروى من غير وجه نحو ذلك فهو عندنا حديث حسن".
إذن الحسن وجد بكثرة في كلام الإمام الترمذي -رحمه الله تعالى- وكما قلت: بل وجد
مثل ذلك في كلام الإمام أحمد، وفي كلام الإمام البخاري، وكلام الشافعي وغيره من
العلماء، حيث استعملوا الحسن في كلامهم وفي أحكامهم على الأحاديث، نحن لا نكاد نفهم
من صنيع الإمام الترمذي ولا من كلامه أنه يتعامل مع الحسن كما لو أنه قِسمٌ مستقلٌ
من أقسام الحديث، نعم وجد في كلامه وفي أحكامه على الأحاديث، لكن ليس في تعريفه
للحسن ولا في صنيعه في كتابه الجامع ما يدل على أن الحسن عنده قسمٌ مستقلٌ من أقسام
الحديث، بل هو إما عنده مندرج تحت أقسام الصحيح وهذا ما نميل إليه ونرجه أو هو
مندرج تحت أقسام الضعيف كما يميل إلى ذلك بعض أهل العلم، كما سيأتي ذلك إن شاء
الله.
قد يقول قائل: أليس الترمذي -رحمه الله تعالى- قد أكثر من استعمال هذا المصطلح، وهل
يكثر من استعماله إلا إذا كان عنده نوعاً مستقلاً أو نوعاً على حدة، نقول: هذا ليس
باللازم؛ فإنه -رحمه الله تعالى- مثلاً أكثر من استعمال مصلطح الغريب فهو كثيراً ما
يقول: حسن غريب، صحيح غريب أو غريب فقط، أو حسن صحيح غريب؛ ولذلك وجد في كلامه
وبكثرة، ومع ذلك فلم يجعل أهل العلم الغريب قسماً مستقلاً عند الإمام الترمذي، ولم
يفهموا من الترمذي - حيث أكثر من استعمال هذا المصطلح- أنه يجعله قسماً على حدة، بل
اعتبروه مصطلحاً حديثياً ونوعاً من أنواع الحديث، ولكنه مندرج تحت أحد القسمين.
قد يقول: إن الترمذي قد عرف الحسن وتفرغ لذلك وخصه بذلك التعريف ولا يكون ذلك إلا
لأنه يرى أنه قسم على حدة وهذا القسم ينعزل عن الصحيح كما ينعزل عن الضعيف فنقول(1/28)
أيضًا: الغريب قد عرفه الإمام الترمذي -عليه رحمة الله تعالى- فإنه في كتاب العل في
آخر الجامع بعد أن فرغ من تعريف الحديث الحسن، قال وقولنا حديث غريب فإن الغرابة
تطلق عند أهل العلم على معاني، فذكر عدة معانٍ من المعاني التي يطلق عليه العلماء
مصطلح الغريب، ثم مثل لكل معنى من تلك المعاني بأمثلة، فهذا الحديث الغريب أولاًً
أكثر من استعماله كما أكثر من استعمال الحديث الحسن، وكذلك عرفه كما عرف الحديث
الحسن، ومع ذلك لم يفهم أحد من العلماء عن الترمذي أن الحسن عنده قسم على حدة ينفصل
عن الصحيح وينفصل أيضاً عن الضعيف، وإنما فهموا أن الغريب عند الإمام الترمذي هو
نوع من أنواع الحديث يندرج تحت القسمين الرئيسيين.
أيضًا: إن مجرد الإكثار من استعمال مصطلح لا يدل على كونه قسماً على حدة نجد مثلاً
من المصطلحات الدارجة والكثيرة الاستعمال عند علماء الحديث "مصطلح الموضوع" وهناك
من العلماء كابن الجوزي -رحمه الله تعالى- من أفرد الموضوع بمصنف فهذا إمام من أئمة
الحديث قد فرغ هذا الكتاب وأفرد هذا الكتاب لهذا النوع من أنواع علوم الحديث، ومع
ذلك لم يقل أحد لابن الجوزي ولا غيره من العلماء إن الحديث ينقسم إلى تلك القسمة
الرباعية فيقول: هو صحيح وحسن وضعيف وموضوع، لم نجد إماماً من الأئمة يفعل ذلك،
وإنما قالوا الموضوع هو موجود وموجود بكثرة، وابن الجوزي -رحمه الله تعالى- استعمله
كثيراً في كتابه هذا، وما من إمامٍ إلا وقد استعمله في كلامه إلا أنهم مع ذلك
يقولون: إن الموضوع إنما هو درجةٌ من درجات الحديث الضعيف، فلم يجعلوه نوعاً على
حدة، ولا قسماً مستقلاً بل جعلوه مندرجاً تحت أقسام الضعيف.
إذن الذي نميل إليه: أن الحديث الحسن هو في واقع الأمر مندرج تحت القسمين الرئيسيين
وهذا ما تفيده عبارة الإمام ابن كثير -رحمه الله تعالى- حيث قال هذا التقسيم أي(1/29)
القسمة الثلاثية إن كان بالنسبة إلى ما في الأمر أي في حقيقة الأمر فليس إلا صحيح
أو ضعيف؛ لأن الحديث إما أن يكون مقبولاً وإما أن يكون مردوداً، إما أن يكون ثابتاً
وإما أن يكون غير ثابت، وليس هناك مرتبة وسط، فالحسن إما أن يكون مندرجاً تحت غير
المقبول، تحت الثابت أو تحت غير الثابت لا نستطيع أن نجعله على حدة.
إذن الذي نميل إليه هو أن الحسن يندرج تحت أحد هذين القسمين يقول ابن كثير: (وإن
كان بالنسبة إلى اصطلاح المحدثين فالحديث عندهم ينقسم إلى أكثر من ذلك) على نحو ما
بينا في اللقاء الماضي وعلى نحو ما سيأتي تباعاً في هذه الأنواع كلها.
عرفنا أن الحديث الحسن ليس نوعاً مستقلاً وإن كان موجوداً وبكثرة ومستعملاً عند أهل
العلم، وما من إمامٍ من أئمةٍ العلم إلا وقد ورد في كلامه، منهم المقل ومنهم
المكثر، فهل يا ترى الحسن يندرج تحت قسم المقبول أي الصحيح أم يندرج تحت قسم
المردود أي الضعيف؟
نلاحظ - إخواني الكرام- أن هناك عبارات وردت عن بعض أهل العلم في ذلك، وهذه
العبارات ساء فهم بعض الناس لها فوضعوها في غير موضعها وحَمَّلُوها ما لا تتحمله من
المعاني، فنجد بعض أهل العلم ورد في كلامه ما يشعر بأن الحسن ليس من المقبول بل هو
من المردود، فعمد بعض بسطاء العلم إلى هذه الكلمات المتناثرة في بطون الكتب مما وجد
في كلام بعض أهل العلم وتعلقوا بها للطعن في الاحتجاج بالحديث الحسن، وليس الأمر
كذلك، وأنا حرصت على أن أسوق كلمات العلماء بحروفها سواء العلماء الذين ورد كلامهم
صريحاً في أن الحسن من قسم الصحيح أو العلماء الآخرون الذين ورد في كلامهم ما يشعر
من أنه ليس من قسم الصحيح، لنفهم مراد هؤلاء العلماء من عباراتهم تلك، فنجد مثلاً
الإمام الذهبي -رحمه الله تعالى- في أكثر من موضع من كتبه يتعرض لهذه المسألة،
مسألة تقسم الحديث: هل ينقسم إلى القسمة الثنائية أم القسمة الثلاثية؟ ويميل ويرجح(1/30)
- كما رجحنا - أن الحديث إنما ينقسم إلى القسمة الثنائية لا الثلاثية، يقول -رحمه
الله تعالى-: حد الحسن باصطلاحنا المُوَّلد الحادث - أي المتأخر- هو في عرف السلف -
أي المتقدمين - يعود إلى قسم من أقسام الصحيح.
إذن الحسن ما هو إلا صورة من صور الحديث الصحيح، كما ذكرنا آنفا أن الصحيح درجات
ومراتب، كما أن الضعيف درجات ومراتب، فأعلى درجات الصحيح هو ما يعرفه الإمام في هذا
الباب، وهو ما يسمى عند الحافظ ابن حجر العسقلاني بالصحيح لذاته، وأدنى درجات
الصحيح هو ما سيأتي في النوع الذي بعد ذلك، وهو نوع الحسن، وهو النوع الذي يسميه
الحافظ ابن حجر أيضاً بالحسن لغيره، فكل ذلك وما بينه إنما يدخل عند علماء الحديث
في أقسام الصحيح، ومراتب الصحيح.
يقول: "وهو في عرف السلف يعود إلى قسم من أقسام الصحيح الذي يجب العمل به عند جمهور
العلماء أو الذي يرغب عنه أبو عبد الله البخاري ويمشيه مسلم وبالعكس فهو داخل في
أدنى مراتب الصحة".
إذن هو وإن كان من أدنى مراتب الصحة إلا أنه يشمله اسم الصحيح، ويقول أيضًا: في
ترجمة محمد بن طلحة من سير أعلام النبلاء "ويجيء حديثه من أدنى مراتب الصحيح ومن
أجود الحسن" فهو من أدنى مراتب الصحيح ومن أفضل مراتب الحديث الحسن، يقول الذهبي
-رحمه الله تعالى-: "وبهذا يظهر لك أن الصحيحين فيهما الصحيح وما هو أصح منه، وإن
شئت قلت فيهما الصحيح الذي لا نزاع فيه، والصحيح الذي هو حسن، وبهذا يظهر لك أن
الحسن قسم داخل في الصحيح، وأن الحديث النبوي قسمان ليس إلا صحيح وهو على مراتب،
وضعيف وهو على مراتب".
فهذه عبارة الإمام الذهبي -رحمه الله تعالى- واضحة بجلاء أن الحسن إنما هو قسم من
أقسام الحديث الصحيح، فاستفدنا من هذه العبارة أن الحسن عنده ليس قسماً على حدة
واستفدنا منها أن الحسن يندرج تحت أنواع الصحيح، وليس تحت أنواع الحديث الضعيف، ثم(1/31)
نجد في المقابل عبارات لبعض العلماء كشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-
والإمام ابن القيم أيضاً وكذلك للإمام ابن رجب الحنبلي قد يفهم من ظاهرها خلاف ما
دل عليه الإمام الذهبي -رحمه الله تعالى- يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع
الفتاوى: "وأما قسمة الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف فهذا أول من عرف عنه أنه قسمه هذه
القسمة أبو عيسى الترمذي كما أشرنا إلى ذلك قريباً، ولم تعرف هذه القسمة عن أحد
قبله، ولا ينفي وجود الحسن عند من قبل الإمام الترمذي -عليه رحمة الله تعالى- وكيف
يغفل عن الإمام أحمد والإمام البخاري والإمام الشافعي قد استعملوا الحسن هذا لا
يمكن أن يخفى على مثل الإمام ابن تيمة -عليه رحمة الله تعالى- في سعة اطلاعه، وإنما
هو ينفي أن يكون هؤلاء العلماء حيث استعملوا الحسن استعملوه بناءً على أنه عندهم
قسم على حدة، وإنما تعاملوا معه كما يتعاملون مع بقية الأنواع من أنه نوعٌ من أنواع
الحديث، وهو عندهم مندرجٌ تحت أحد القسمين.
يقول: "وأما من قبل الترمذي من العلماء فما عرف عنهم هذا التقسيم الثلاثي لكن كانوا
يقسمونه إلى صحيح وضعيف، والضعيف عندهم نوعان:
- ضعيف ضعفاً لا يمتنع العمل به وهو الضعيف المنجبر، وهو الشبيه بالحسن عند
الترمذي؛ لأن الحسن عند الترمذي - كما أشرنا إلى ذلك آنفا- ما هو إلا ضعيفاً انجبر
بغيره من الروايات، ضعيف ضعفاً لا يمتنع العمل به وهو يشبه الحسن في اصطلاح
الترمذي.
- وضعيف ضعفاً يوجب تركه وهو الواهي وهو الضعيف جداً الذي يرويه الكذاب أو المتهم
بالكذب أو شديد الغفلة والخطأ.
ويقول الإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى-: "وليس الضعيف في اصطلاح أحمد هو الضعيف
في اصطلاح المتأخرين، بل هو والمتقدمون يقسمون الحديث إلى صحيح وضعيف من حيث القسمة
فهي عندهم ثنائية والحسن مندرج تحت أحد القسمين".
يقول: "والحسن عندهم داخل في الضعيف بحسب مراتيه كما أشرنا إلى ذلك من أن الضعيف(1/32)
مراتب ودرجات، وأول من عرف عنه أنه قسمه إلى ثلاثة أقسام أبو عيسى الترمذي، ثم
الناس تبعٌ له بعد"، وكذلك يقول الإمام ابن رجب الحنبلي نحواً من هذا الكلام في شرح
علل الترمذي له.
نلاحظ أن شيخ الإسلام ابن تيمية و الإمام ابن القيم وكذلك ابن رجب الحنبلي يظهر من
كلامهم أن الحديث الحسن هو داخل في الضعيف عند الإمام أحمد والمتقدمين من أهل العلم
فهل معنى ذلك أن الحديث الحسن في نظر شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وفي نظر
العلماء المتقدمين ليس محتجاً به عندهم؟ لا.. ؛ لأن هذا الأمر - كما قلت آنفا -
لابد أن نفهمه على وجهه، وآفة هذا العلم أن كثيراً من المشتغلين به يفهمون من كلام
أهل العلم ما لا يقصدوه من كلامهم فإذا بالواحد يعمد إلى عبارة مجملة من عبارات أهل
العلم أو يجتزء على جملة من خلال سياق فإذا به يفهم مراد الإمام على غير ما أراد
فينزل كلامه غير منزله ويحمله على غير محمله، والواقع أننا حينما نريد أن نفهم هذا
الكلام لابد وأن نفهم أن:
منهج الإمام أحمد والمتقدمين ثم منهج شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم فنحن نعلم
علم اليقين أن الإمام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- كثيراً ما يعمد إلى أحاديث يحتج
بها ويسميها بالحسن، فنحن إذا تصفحنا كتبه وكلامه في العلم نجده كثيراً ما يصف
الحديث بالحسن ويقول: هو حجة بل ويسوقه مساق الاحتحاج. فكيف نفهم من كلامه هنا أن
الحسن مندرج تحت الضعيف؟ وكذلك الإمام ابن القيم وابن رجب فكيف يستقيم ما نعرفه من
صنيع هؤلاء العلماء مع ما قد توهمه تلك العبارات؟
أقول إن كلام هؤلاء العلماء ها هنا محمولٌ على النظر إلى الرواية الضعيفة من حيث
النظرة الذاتية يعني الحديث الضعيف إذا نظرنا إليه نظرة مجردة من غير اعتبار أمور
أخرى تنضم إليه فهو حديث ضعيف، وإنما ارتقى إلى مرتبة الحسن وارتفع إلى مصاف الحجة
بما انضم إليه من الشواهد والمتابعات والروايات الأخرى، فمن هذه الحيثية كان حجة(1/33)
فحينما يأت الإمام أحمد أو شيخ الإسلام ابن تيمية ويصف الحديث الحسن بأنه قسم من
الضعيف، وأنه جزء من الضعيف، يقصد أصله ويقصد من غير اعتبارٍ أموراً أخرى، أما إذا
انضم إلى هذا الضعيف ما يقويه ويرقيه ويأخذ بيده ويرفعه إلى مصاف الحجة فهو حينئذ
محتج به وإن سميناه ضعيفاً؛ ولهذا نجد الإمام أحمد -عليه رحمة الله تعالى- كثيراً
ما يسمي الحديث بالضعيف في الوقت الذي يحتج هو به، كما فعل في حديث التسمية على
الوضوء وغيره من الأحاديث، هذا الحديث حديث التسمية قد تواتر عن الإمام أحمد أنه
ضعفه من خلال النظرة الإسنادية ففي بعض الروايات قال: لا يثبت فيه حديث، أو لا يصح
فيه حديث أو نحو ذلك من العبارات التي تفيد التضعيف، ثم وجدناه هو نفسه في مذهبه له
روايتان، رواية باستحباب التسمية، ورواية أخرى بالوجوب. فكيف يستقيم مع ما عرفناه
من مذهب الإمام أحمد في هذه المسألة مع ما جاء عنه من تضعيف لهذا الحديث؟
شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- شرح هذا في بعض المواضع بأن الإمام أحمد
-عليه رحمة الله تعالى- حينما قال: هو ضعيف أو لا يصح فيه حديث أو لا يثبت فيه حديث
أو نحو هذه العبارات، إنما قصد كل رواية على حدة، أي كل رواية من تلك الروايات لم
تظهر فيها علامات الصحة، ولم تجتمع فيها شرائط الصحة، فهي من حيث النظرة الجزئية
المتلعقة بكل رواية على حدة ليست مما تسمى حسنة أو صحيحة.
وإنما جاءت الحجة باعتبار المجموع، مجموع هذه الروايات مع ما وجد من شواهد لهذا
المتن تدل عليه، وتدل على صحة معناه، فمجموع ذلك جعل الحديث حجة عند الإمام أحمد،
حينئذٍ حينما جعل الحسن من الضعيف إنما قصد أنه في أصله أي في أصل روايته، وأنها
رواية لا يعتمد عليها، وإنما ارتقى إلى مصاف الحجة لما انضم إليه ما انضم.
ونلاحظ أن كلام الذهبي في الحسن كأنه يدور حول الحسن الذاتي، الحسن الذي يكون فيه(1/34)
الحديث مبنياً على رواية حدة، وهو الذي أشرنا إليه في اللقاء الماضي بما هو قريب من
الصحيح، أي أن راويه لم يبلغ إلى الدرجة العليا من الوثاقة والحفظ والإتقان، ولكنه
عنده بعض الحفظ وبعض الإتقان فهو من جملة الثقات، ولا يخرج عن مجموع الثقات ولكنه
ليس من أعلى درجات الثقات؛ فلهذا نزلت مرتبته أو مرتبة حديثه من الصحيح إلى الحسن،
وهذا موجود في صحيح البخاري وفي صحيح مسلم.
فنجد في الصحيحين أحاديث لرواة من هذا النوع - أي الرواة الذين لم يبلغوا في الحفظ
والإتقان المرتبة العليا- ومع ذلك نجد البخاري ومسلم - رحمهما الله تعالى-
يُخَّرِجَان لمثل هؤلاء الرواة، فما معنى تخريج البخاري ومسلم لمثل هؤلاء الرواة في
الصحيحين، وحديثهم إنما هو في منزلة دون منزلة الحديث الصحيح؟
هذا ينجلي لنا ويتضح بمعرفة منهج هؤلاء العلماء في اختيار الأحاديث التي يودعوها
كتب الصحاح، فإن العلماء -عليهم رحمة الله تعالى- لهم مع هذه الأحاديث شأن عظيم
وتفصيل ودقة متناهية، فليس الأمر عندهم عبارة عن قوالب كلما كان الرواي ثقة فحديثه
صحيح كلما كان الرواي صدوقا أو نازل عن مرتبة الثقة فحديثه حسن، ليس الأمر عندهم
بهذا الجمود، بل عندهم فقه ومعرفة بهذا الفقه، والمعرفة يعرفون إن كان هذا الحديث
يستحق أن يدخل في جملة الأحاديث الصحيحة أم لا.
وخلاصة ما ذكره العلماء من مناهج المحدثين في ذلك: الذين قصدوا إلى الصحيح أن هؤلاء
العلماء -عليه رحمة الله تعالى- يدرسون أحاديث الراوي حديثاً حديثاً، ومن خلال هذه
الدراسة يتبين لهم أن هذا الراوي أكثر ما يروي قد حفظه وأتقنه لماذا؟ كيف عرفوا
ذلك؟ عرفوا ذلك بعرض رواياته على رواية غيره من الثقات، جاء إسماعيل بن علية وهو من
الثقات المعروفين إلى الإمام يحيى بن معين وهو من أئمة هذا العلم الكبار، وقال له
يا أبا زكريا، أبو زكريا هو يحيى بن معين، يا أبا زكريا كيف حال حديثي؟ تأمل - أخي(1/35)
الكريم- هذا الراوي يذهب إلى هذا الإمام ليسأله عن أحاديث نفسه، وهذا إن دل على شيء
إنما يدل على أن هؤلاء الرواة كانوا يعرفون أقدار نقاد الحديث، ويعرفون أنهم هم
الذين يعرفون تمييز الأحاديث الصحيحة من غيرها.
فذهب ابن علية إلى يحيى بن معين فقال له: يا أبا زكريا كيف حال حديثي؟ فقال أنت
مستقيم الحديث فتعجب ابن علية، وقال له: وكيف عرفتم ذاك! قال: عارضنا بها أحاديث
الناس فوجدناها مستقيمة، عارضنا به أحاديث الناس أي نظرنا في أحاديثك وقابلناها بما
رواه غيرك فوجدنا أن أكثر أحاديثك موافقة لأحاديث غيرك من الثقات فعرفنا أنك ثقة
كما أنهم ثقات. هذا ما يسمى عند المحدثين بميزان الاعتبار وهذا سيفرده الإمام بفصل
على حدة يسمى بالاعتبار والشواهد والمتابعات، وسنفصل القول فيه هناك - إن شاء الله
تعالى - ماذا فَعَلَ هذا الإمام؟ هذا الإمام أراد أن يعرف هذا الراوي هل هو من
الثقات أم ليس من الثقات، فعمد إلى أحاديثه ودرسها واستقرأها وتتبعها وقابلها
بأحاديث غيرها من الثقات الذين لا شك في ثقتهم وأحاديثهم وحفظهم وإتقانهم وتثبتهم،
فتبين له أنه كثيراً ما يوافق الثقات فاستدل بذلك على أن هذا الرواي ثقة؛ لأن من
شأن الثقة أن يوافق الثقات، كما أن من شأن غير الثقات أن يخالف الثقات، لعلكم
تذكرون ما قلناه في اللقاء الماضي عندما ذكرنا كلمة الإمام مسلم -رحمه الله تعالى-
عندما تكلم عن الحديث المنكر وَبَيَّنَ أن من دلائل المنكر عند المحدثين أن يخالف
الراوي رواية أهل الحفظ والرضى، حيث قال: " وعلامة المنكر في حديث المحدث إذا ما
عرضت روايته على رواية غيره من أهل الحفظ والرضى خالفت روايته روايتهم أو لم تكد
توافقها، فإذا كان الأغلب من حديثه كذلك كان مهجور الحديث غير مقبوله ولا مستعمله،
فكما أن الثقة نعرف ثقته من خلال مقارنة أحاديه بأحاديث الثقات فنجده دائماً أو(1/36)
غالباً يوافق الثقات، فنستدل بذلك على أنه ثقة، وكذلك الضعيف نستدل على ضعفه
بمقابلة أحاديثه بأحاديث الثقات، أيضاً فنجده يخالف الثقات كثيراً فنستدل بذلك على
أنه سيء الحفظ ضعيفاً هذا هو الميزان الذي يعرف به الأئمة كون هذا الراوي من الثقات
أم من الضعفاء".
طيب، هذا الثقة ليس من شأنه دائماً وأبداً أن يصيب، لابد وأن يخطيء كما أشرنا إلى
ذلك في اللقاء الماضي؛ لأنه ليس معصوماً من الخطأ، فيأتي العلماء - عليهم رحمة الله
تبارك وتعالى- فيصنعون مقارنةً، هذا الراوي مثلاً روى مائتي حديث، تتبع العلماء
أحاديثه تلك فوجدوا أن إصاباته كثيراً، يخطيء في الحديث والحديثين يخطيء في الكلمة
والكلمتين فهذا يُحتمل من مثله، ولا يكون قادحاً في ثقته، ولا منزلاً له عن مرتبة
الثقة، لكن راوٍ كثرت الأخطاء نسبياً في أحاديثه فينزل في الدرجة من درجة الثقات
إلى درجة من يُسَّمَون بأهل الصدق أو الصدوق يعبر عن هؤلاء العلماء بأنهم "صدوقون"
ونجد الحافظ ابن حجر -عليه رحمة الله تعالى- كثيراً ما يقول في الراوي صدوق،
وكثيراً ما نجد غيره من العلماء يقول: صدوق، من معاني صدوق أنه دون الثقة دون
الحفاظ.
كيف نتعامل مع حديث هذا الرجل؟ هذا الرجل روى مثلاً مائة حديث أخطأ في عشرة فنزلت
مرتبته عن مرتبة من يصح حديثه. في الأصل هل هذه العشرة الأحاديث التي أخطأ فيها
تكون قادحة في حفظه بحيث يدعونا ذلك إلى عدم الاعتداد بروايته أصالة أبداً؟ هذا
ظلم، هل نقبل كل ما يجيء به من الأحاديث سواءً مما أصاب فيه أو مما أخطأ فيه؟ هذا
أيضاً سيجرنا إلى قبول أحاديث وقع فيها أخطاء، فندخل حينئذٍ في الصحيح ما ليس منه،
ماذا نفعل؟! العلماء -عليهم رحمة الله تعالى- يفعلون مع هؤلاء الرواة ما يسمونه
بالانتقاء، الانتقاء ما هو؟ الانتقاء يعني يعمدون إلى أحاديث الراوي فما ترجح لديهم
أنه أصاب فيه فهو عندهم من جملة الصحيح، وما ترجح لديهم أنه أخطأ فيه فهو عندهم من(1/37)
قسم الضعيف، فصار بعض حديث الراوي نفسه صحيح، وبعض حديثه ضعيف، لكن هل يمكن أن نقول
ما المانع أن نقول كل ما يرويه ذلك الراوي نسميه حسناً، ونقول هو حجة؟
هذا بطبيعة الحال سيؤدي إلى دخول خلل في الحديث الحسن؛ لأن هذه الأحاديث التي أخطأ
فيها وإن كانت قلية إن سميناها حسنة وجعلناها من قسم المقبول المحتج به حينئذٍ
سندخل أحاديث في الصحيح أو في الحسن المحتج به وهي ليست جديرة بذلك بل العلماء
-عليهم رحمة الله تعالى- ينتقون من أحاديث هؤلاء، ومعنى قولهم: "إن هذا الراوي يحسن
حديثه" أي في الأصل إجمالاً هذا حكم الإجمال، أما من حيث التفصيل فلا، بل لابد أن
نتتبع كل رواية من روايات هذا الراوي لنميز هل هو مما أصاب فيه أم مما أخطأ فيه،
فإن كان مما أصاب فيه فهو صحيح، بل هو من أعلى درجات الصحيح؛ لأنه قد ترجح أنه أصاب
فيه، وإن كان مما أخطأ فيه فهو من الضعيف ولا يحسن بحال من الأحوال؛ لأنه كما سيأتي
الحسن لابد أن يكون سالماً من الشذوذ والعلة، كما أن الصحيح أيضاً لابد أن يكون
سالماً من الشذوذ والعلة.
إذن البخاري ومسلم - رحمهما الله تعالى- حينما يدخلان في أحاديث هذا النوع من
الرواة في كتاب الصحيح إنما ينتقيان من حديث هذا الراوي، فما ترجح لديهم أنه أصاب
فيه يجعلونه من الصحيح ويعاملونه معاملة الصحيح، وما ترجح لديهم أنه أخطأ فيه
حينئذٍ لا يدخلونه في الصحيح أبداً.
وبهذا يظهر لنا المعنى الذي قصده شيخ الإسلام ابن تيمية و الإمام ابن القيم -رحمهما
الله تعالى- من أن الحسن عند الإمام أحمد والمتقدمين هو قسم من الضعيف، أو داخل في
الضعيف إلا أنه من الضعيف المعمول به والمحتج به وأنهما إنما قصدا من هذا الكلام
أنه في أصله من حيث النظر في راويه من حيث النظر في إسناده هو كذلك ولكنه باعتبار
الأمور الأخرى من الشواهد والمتابعات والقرائن المحتفة بالرواية صار الحديث حينئذ
مرتفعا إلى درجة الحسن المحتج به.(1/38)
نكتفي بهذا القدر مما يتعلق بالنقطة الأولى ننتقل إلى المبحث الثاني من مباحث هذا
النوع.
قال المصنف -رحمه الله تعالى- (تعريف الحديث الصحيح: قال أما الحديث الصحيح فهو
الحديث المسند الذي يتصل إسناده بنقل العدل الضابط عن العدل الضابط إلى منتهاه ولا
يكون شاذاً ولا معلل)
هذا هو تعريف الحديث الصحيح يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: إن الحديث الصحيح ينبغي
أن يكون مشتملاً على أوصاف، هذه الأوصاف إذا اجتمعت في الحديث كان الحديث صحيحاً،
أما إذا لم تجتمع فلا يستحق الحديث حينئذٍ أن يوصف بالصحة، وهذه الأوصاف كما يلي:
الوصف الأول: أن يكون مسنداً.
الوصف الثاني: أن يكون متصل الإسناد.
الوصف الثالث: أن ينقله الراوي العدل الضابط عن مثله إلى منتهاه، ثم يكون سالماً من
الشذوذ، وأيضاً سالماً من العلة.
ما هو المسند؟
المسند -سيأتي بإذن الله تعالى في موضعه وسيتبين لنا من خلال النظر في بابه- يطلق
على ثلاثة معان:
- المعنى الأول: هو مرفوع صحابي بسندٍ ظاهره الاتصال. أي هو الحديث الذي اتصف
بوصفين:
- الوصف الأول أن يكون مرفوعاً.
والمرفوع: هو المضاف إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلا يكون موقوفاً؛ لأن
الموقوف لم يضف إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إنما أضيف إلى أحد الصحابة
الكرام.
- الوصف الثاني: أن يكون متصلاً.
بمعنى أن يكون مرفوعاً إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بإسناد متصل إلى الصحابي
الذي رفعه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. هذا تعريف الحاكم النيسابوري،
واختاره الحافظ ابن حجر العسقلاني.
- المعنى الثاني: أن الحديث المسند: هو المتصل سواء كان مرفوعاً أو ليس مرفوعاً،
وصاحبه هو الإمام الخطيب البغدادي.
- المعنى الثالث: أنه المرفوع سواء اتصل أم لم يتصل وهو تعريف الإمام ابن عبد البر.
فلما وقع الخلاف بين أهل العلم في تعريف الحديث المسند احتاج صاحب الكتاب أن(1/39)
يُبَيِّنَ أنه يقصد بهذا المسند نوعاً معيناً، وليس أي مسند، فقال: ( الذي يتصل
سنده) يعني أنه يقصد بالمسند حيث ذكره هنا في تعريف الصحيح: الحديث المرفوع
بالإسناد المتصل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو المتصل إسناده إلى من انتهى
إليه الخبر، سواء كان انتهى إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو إلى أحد سواه،
المهم أن يكون إسناده متصلاً إلى من انتهى عليه الخبر.
ما معنى اتصال الإسناد؟
اتصال الإسناد: عرفه بعض أهل العلم بأن يكون كل راوٍ من رواة الحديث قد سمع الحديث
من شيخه الذي حدث بالحديث عنه. وهذا تعريفٌ صحيحٌ، ولكنه ناقص؛ لأن قول المُعَّرِف
للاتصال أن يكون كل راو من رواة الحديث "سمع" ونحن نعلم - كما سيأتي- في طرق تحمل
الحديث أن السماع إنما هو إحدى طرق تحمل الحديث، وهناك طرق أخرى لتحمل الحديث هي
موضع اعتبار واعتداد عند أهل العلم، كالعرض أو القراءة، وهي معتد بها عند أهل العلم
وليس العرض سماعاً، وإن كان له حكم السماع، وكذلك المناولة وهي عمدة وحجة عند أكثر
أهل العلم، وكذلك الوجادة، وكذلك بعض صور الوجادة - كل ذلك سيأتي في موضعه - مما
يعتد به ويحتج به وهو ليس سماعاً، فهل هذه الأسانيد التي تأتي بهذه الطريقة محكوم
باتصالها أم لا؟ هي محكوم باتصالها إذا كانت قد وقعت بطريق من طرق التحمل المعتبرة،
فحينئذٍ لا نقول أن يكون كل راوٍ قد أخذ أو سمع الحديث من شيخه، وإنما نقول: قد
تحمل الحديث عن شيخه بطريق من الطرق المعتبرة أو المعتد بها في تحمل الحديث.
(بنقل العدل) والعدالة - سيأتي تفصيلها إن شاء الله تعالى في صفة من تقبل روايته
ومن ترد - وهنا إجمالاً نقول: العدل من يجتنب الكبائر ويتقي في الغالب الصغائر،
الضابط: الراوي الضابط إنما يوصف بالضبط إذا كان هذا الراوي قد تحمل الحديث بطريق
معتبر وأداه كما سمعه أو كما تحمله، أما إذا تحمل الحديث على وجه غير معتبر أو أداه(1/40)
بطريقة غير متعد بها أو وقع الخلل في أثناء هذه المدة فلا يوصف الراوي حينئذٍ بكونه
ضابطاً.
ويقسم العلماء الضبط إلى نوعين بحسب تحمل الراوي فيقولون: الضبط ضبطان: ضبط صدر
وضبط كتاب يقول: الإمام يحيى بن معين عندما سئل عن أبي صالح كاتب الليث قال: الثبت
ثبتان: ثبت صدر وثبت كتاب، وأبو صالح كاتب الليث ثبت كتاب؛ لأنه هناك بعض الرواة من
عنده ملكة الحفظ فيحفظ الحديث، ومن ليس عنده تلك الملكة، وإنما يعتمد على كتابه
وكتاب مصححٍ سالمٍ من التصحيف والتحريف، فمن تحمل حفظاً فله أن يروي من حفظه، ومن
تحمل كتاباً فله أن يروي من كتابه، وبطبيعية الحال من جمع بين الطريقتين فهو يحفظ
ما في كتابه فهذا بطبيعة الحال له أن يروي من حفظه وله أن يروي من كتابه، وإن كان
روايته من كتابه أفضل؛ لأن الحفظ يخون كما كان الإمام أحمد -رحمه الله تبارك
وتعالى- مع كونه حافظاً من كبار حفاظ الحديث مع ذلك كان لا يحدث إلا من كتاب وكان
علي بن المديني -رحمه الله تعالى- يقول: أمرني سيدي أحمد بن حنبل ألا أحدث إلا من
كتاب، وهذا من مزيد إتقانهم وتثبتهم -رحمهم الله تعالى- .
قال المصنف: (ولا يكون شاذاً ولا معلل) الشذوذ والعلة: هما طريقان يدرك بهما
الخلل الذي ربما يقع في الرواية من قبل الراوي؛ لأن الراوي -كما قلنا- هو عرضة
للخطأ، كيف نستدل على كونه أخطأ؟ كيف نستدل على كونه روى الرواية لا على غير وجهها؟
عن طريق معرفتنا بالشذوذ وكيفية إثباتها، وبعض أهل العلم يرى الشذوذ والعلة سواء،
وبعضهم يرى الشذوذ شيئاً والعلة شيئاً آخر، وكل ذلك إن شاء الله سيأتي تفصيله في
موضعه عندما نأتي لشرح كل نوع من تلك الأنواع.
قال المصنف -رحمه الله تعالى- (ثم أخذ يبيين فوائده وما احترز بها عن المرسل
والمنقطع والمعضل والشاذ وما فيه علة قادحة وما في راويه نوع جرح، قال: وهذا هو
الحديث الذي يحكم له بالصحة بلا خلاف بين أهل الحديث وقد يختلفون في بعض الأحاديث؛(1/41)
لاختلافهم في وجود هذه الأوصاف أو في اشتراط بعضها كما في المرسل قلت: حاصل حد
الصحيح: أنه المتصل سنده بنقل العدل الضابط عن مثله حتى ينتهي إلى رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- أو إلى منتهاه من صحابي أو من دونه ولا يكون شاذاً ولا مردوداً ولا
معللاً بعلة قادحة، وقد يكون مشهوراً أو غريباً وهو متفاوت في نظر الحفاظ في
محاله)
هذا الفصل من كلام الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى- قد أتينا في أثناء كلامنا على
ما اشتمل عليه من المعاني وقوله: (وقد يختلفون في بعض الأحاديث؛ لاختلافهم في وجود
هذه الأوصاف أو في اشتراط بعضها كما في المرسل)، اختلافهم في وجود هذه الأوصاف
يعني: أن علماء الحديث -رحمهم الله تعالى- قد يختلفون في الحكم على حديث بعينه هل
قد تحققت فيه واشتمل على أوصاف الحديث الصحيح أم لا؟ فبعض أهل العلم يرى ذلك، وبعض
أهل العلم الآخرين لا يرى أن الحديث قد اشتمل على ذلك؛ فلهذا لا يحكم على الحديث
بالصحة، فهذا موضع اجتهاد العلماء - عليهم رحمة الله تبارك وتعالى-.
واختلافهم في الحكم على حديث بعينه هل هو صحيح أو ليس صحيحاً؟ ليس معناه أنهم
يختلفون في القاعدة التي على أساسها يحكم على الحديث بأنه صحيح، وإنما هذا اختلاف
جزئي متعلق بحديث بعينه، بعض أهل العلم: يرى أن شرائط الصحة تحققت فيه فيصححه،
والبعض الآخر: يرى أن شرائط الصحة لم تتحقق فيه فلم يصححه، ولم يختلفوا في أصل
القاعدة إنما اختلفوا في بعض تطبيقاتها والله أعلم.
كان السؤال الأول: اذكر سبل معرفة معنى المصطلح الحديثي؟
وكانت الإجابة هناك سبيلان لمعرفة معنى المصطلح الحديثي هما:
الأول: عن طريق التتبع والاستقراء، وهو أن يعمد علماء الحديث إلى مواضع استعمال
المصطلح فيجمعون طائفة من كلام علماء الحديث الذين أطلقوا هذا المصطلح ليعلموا
مرادهم، حيث أن الكلام سباق وسياق فمثلاً مصطلح الحسن قد يقصد به إرادة الجنس العام(1/42)
للحديث المقبول، وبهذا يكون معنى الحسن الحديث الصحيح، وقد يقصد به ما هو دون
الصحيح أو الذي قارب الحديث الصحيح، وقد يقصد به الحديث الذي في أصله ضعف أي الذي
لا يحتج به، ولكن هذا الحديث قد اقترن به بعض الروايات التي تقويه.
الثاني: فهو عن طريق النص. وهو قول العالم أي ما نص عليه الإمام وأراد به شرح مراده
مثل ما فعل الإمام الترمذي -رحمه الله تعالى- فإنه جعل في جامعه باباً سماه باب
العلل، قال فيه: "وما ذكرنا في هذا الباب حديث حسن قصدنا به حسن إسناده عندنا" وكما
ذكر الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في مقدمته الحديث المنكر وعلامة المنكر
إجابة صحيحة بارك الله فيه.
السؤال الثاني: اذكر ثلاثة من أشهر أنواع الحديث التي تدل على ثبوت الحديث أو
ضعفه؟
وكانت الإجابة: النوع الأول: الحديث الصحيح، وهو ما اتصل سنده برواية الثقة عن
الثقة.
النوع الثاني: الحديث الحسن، وهو الحديث الصحيح إلا أن في سنده راوٍ صدوق
النوع الثالث: الحديث المنقطع، وهو حديث ضعيف حيث حصل في سنده انقطاع بأن يروي راوٍ
عن ما قبله وهو لم يسمع منه
الإجابة صحيحة بطبيعة الحال ولكن ما ذكره الأخ الفاضل مما يتعلق بتعريف كل نوع من
تلك الأنواع إنما تصدق على بعض صوره وليس على كل صوره وهذا سنفصله -إن شاء الله
تعالى- في موضعه.
أنا سألت سؤال الحلقة الماضية وأسيء فهمه أنا قصدي من السؤال الماضي أن الإمام
الترمذي في بعض الأحاديث يقول عنها: هذا حديث حسن، وبعضها يقول حسن غريب، وحسن
صحيح، أو حسن صحيح غريب، تعريف الإمام الترمذي للحسن في آخر الجامع هل يقصد بالحديث
الذي يقول عنه حديث حسن فقط أم يشمل كل حديث فيه لفظ حسن فيشمل حسن غريب، حسن صحيح،
حسن صحيح غريب؟
السؤال الثاني: رجحتم حفظكم الله أن الحسن عند الترمذي يندرج تحت الحديث الصحيح،
فأنا أسأل هل يطلق أبو عيسى الترمذي الحديث الحسن فيقول: هذا حديث حسن، ويقصد بعض(1/43)
الأحاديث المعلولة هل وقع هذا في كتاب أبي عيسى الترمذي؟
السؤال الثالث: تعريف الإمام ابن كثير -رحمه الله تعالى- للحديث الصحيح هذا يشمل
الحديث الصحيح لذاته يعني لا يدخل فيه الصحيح لغيره عند المتأخرين مثلاً هل يقال في
تعريف الحديث الصحيح هو ما اتصل سنده بنقل الثقة عن مثله إلى منتهاه ولم يكن شاذاً
ولا معلولاً أو كان حديثاً حسنا واعتضد بمثله أو بمن فوقه فيشمل بهذا التعريف
الحديث الصحيح ويشمل الصحيح لذاته والصحيح لغيره؟
الجزئية الأولى: متعلقة بالحسن عند الإمام الترمذي أخونا يريد أن يقول الترمذي
يستعمل الحسن أحياناً مفرداً وأحياناً مركباً فهو أحياناً يقول حسن فقط، وأحيانا
يقول حسن غريب، حسن صحيح، حسن صحيح غريب، فهل الحسن عنده في هذه المواضع كلها بمعنى
واحد أم أنه لما عرف الحسن في آخر كتابه الجامع قصد الحسن الذي يذكره مفرداً فقط؟
الواقع أن بعض أهل العلم قال ذلك، وهو الحافظ ابن حجر العسقلاني، قال: إن الترمذي
حيث عرف الحسن إنما قصد الحسن حيث يفرده أي الحسن الذي يأتي مجرداً عن أي وصف آخر
فهو يقول: هذا حديث حسن فقط، الحافظ ابن حجر يرى أن هذا التعريف الذي ذكره الإمام
الترمذي في آخر كتاب الجامع إنما يتنزل على هذه الصورة فحسب، استدل على ذلك بأنه لم
يعرف الغريب وعليه فإن الغريب عنده هو الغريب الذي عند أهل العلم، ولو كان الغريب
له فيه معنى خاص لعمد إلى شرحه وبيانه، وهذا الكلام فيه نظر.
أولاً: الترمذي -رحمه الله تعالى- عرف الغريب وليس كما ذكر الحافظ ابن حجر -رحمه
الله تعالى- لم يعرف الغريب لا... عرف الغريب كما أشرت إلى ذلك في أثناء الدرس من
أنه بعد أن انتهى من الحديث الحسن وتعريفه قال: "وقولنا في هذا الكتاب حديث غريب
فإن الغرابة تطلق عند علماء الحديث على معانٍ ثم ذكر أمثلتها وقد شرحها بتفصيل
الحافظ ابن رجب الحنبلي -رحمه الله تعالى- في شرح علل الترمذي فمن هذه الحيثية هو(1/44)
شرح الغريب، ثم هب أنه لم يشرح الغريب فإن هذا لا يكون مستدلاً له على أنه يقصد
بالغريب معنى دون معنى، يعني القانون والأصل في هذه المسألة ليس ما شرحه، فهو يقصد
به معنى خاص، وما لم يشرحه فهو يقصد به معنى عام، هذا أفضل من حيث الأصل غير
مُسَّلم وغير لازم، بل قد يشرح ما قد عرف عند أهل العلم، وقد يسكت عن شرح شيء كما
سكت كثير من أهل العلم عن اصطلاحات وجدت في كلامهم، وإنما عرفها الناس بالاستقراء
والتتبع لها، هذا من ناحية.
ثانياً: من ناحية أخرى تعريف الإمام الترمذي للحسن يصدق أو يمكن لك أن تنزله
وتستطيع بسهولة ويسر أن تنزله على كل مواضع الحسن في كلامك؛ لأنه يصف الحديث الحسن
في كلامه حيث تجتمع فيه أوصاف ثلاثة:
- الوصف الأول: أن يكون الراوي الذي رواه سالماً غير متهم بالكذب.
- الوصف الثاني: أن يكون الحديث شاذاً أي ليس مخالفاً للأحاديث الصحيحة كما ذكر ذلك
شيخ الإسلام ابن تيمية وابن رجب رحمهما الله.
- الوصف الثالث: أن يروى نحوه من غير وجه. وهذا يصدق على الحسن، وعلى الحسن الغريب
أيضاً إذا ما فهمنا معنى الغرابة عند المحدثين على نحو ما بَيَّن الإمام الترمذي
-رحمه الله تعالى- في آخر كتاب الجامع.
وأنا لا أريد أن أستطرد في هذه النقطة؛ لأنها تحتاج إلى محاضرات، توفيق معنى قول
الترمذي حسن غريب؛ لأن بعض أهل العلم قال: إن قول الترمذي حسن غريب أي حسن لذاته
ونحن قلنا في اللقاء الماضي أن الترمذي لا يعرف الحسن لذاته أصلاً، ولم يوجد في
كلامه، وإنما الحسن عنده صفة للحديث الذي اشتمل على هذه الأوصاف الثلاثة، وهذه
الأوصاف الثلاثة لا تجتمع في إسناد على حدة، بل لابد وأن يكون الحديث الذي اتصف بها
له أكثر من إسناد وأكثر من رواية؛ لأنه قال: وأن يروى نحوه من غير وجه فكيف يكون مع
ذلك الحديث حسناً لذاته، ثم قوله: لا يكون في إسناده من يتهم بالكذب يدل بمفهومه أن(1/45)
كل أسانيد هذا الحديث ليس من بينها إسناد واحد مما تقوم به الحجة، فأين هذا الإسناد
الحسن الذاتي الذي يعنيه الإمام الترمذي؟ وهو يقول في وصف راوي هذا الحديث بأنه ليس
متهماً بالكذب ما معنى قول الترمذي حسن غريب، هذا سيأتي -إن شاء الله تعالى- في
موضعه؛ لأنه يحتاج إلى تفصيل وتوضيح أكثر من ذلك.
الحسن عند الترمذي: ما ذكره الإمام ابن كثير -رحمه الله تعالى- في تعريف الحديث
الصحيح إنما يتنزل على نوع من أنواع الصحيح، وهو الصحيح لذاته، فأين الصحيح لغيره؟
لأنه - كما سيأتي- في نوع الحسن أن الحديث الذي يرويه الراوي، الذي يُحَسَّن حديثه
لكونه مثلاً صدوق مرتبته دون مرتبة راوي الحديث الصحيح، هذا الحيث إن انضم إليه
يعني هو في حد ذاته حسن لذاته، ولكن مع ذلك انضم إليه ما يقويه ويرفعه إلى مرتبة
أعلى، فيعود ثانية إلى مرتبة الحديث الصحيح، فهذا نوع آخر من الصحيح أو صورة أخرى
من الحديث الصحيح يسميها الحافظ ابن حجر العسقلاني أيضاً بالصحيح لغيره، وهذا طبعاً
لم نتكلم عليه هنا سنتكلم عليه في نوع الحسن -إن شاء الله تعالى- ولكني أشرت إليه
لعل الفطن الذكي يفهم هذا لأنني ذكرت في أثناء كلامي أن العلماء عليهم رحمة الله
تبارك وتعالى كالبخاري ومسلم مثلاً إذا ما رأيا الراوي متكلماًَ فيه أو فيه نوع ضعف
بما ينزل حديثه عن مرتبة الصحيح إلى مرتبة الحسن؛ فإن علماء الحديث ينتقون من حديث
هذا الراوي ما ترجح لديهم أنه أصاب فيه وعلى ضوء هذا نجد هؤلاء العلماء يدخلون حديث
ذلك الراوي في جملة الأحاديث الصحيحة، وإنما يكون صحيحاً بهذا المعنى أي صحيحاً
لغيره لأنه ليست صحته ناشئة من ذاته وإنما هي ناشئة من انضمام شيء آخر إليه والله
أعلم.
يقول: هل الحديث الحسن لا يمكن الاستدلال به؟
كيف؟ وهو كالصحيح من حيث المرتبة فإذا كنا نستدل بالحديث الصحيح فنستدل بالحديث(1/46)
الحسن ونحن قلنا في اللقاء الماضي أن مراتب القبول درجات بعضها فوق بعض، وإن كان
الكل يشمله اسم الصحة أو القبول، فالحسن مندرج تحت اسم القبول الحسن مندرج تحت اسم
القبول فهو مقبول عند أهل العلم، ولكن هو مرتبة متدنية؛ لأن القبول له مرتبة عليا
ومرتبة دنيا وما كان داخلاً في هذه المراتب فهو محتج به معمول به.
ذكر الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى- أن العلماء قد يختلفون في بعض الأحاديث
وأوضحتم فضيلتكم أن هذا الاختلاف لا يكون في القاعدة، وإنما يكون في الحكم على حديث
بعينه، فما الواجب على طالب العلم المبتديء إذا اختلف عالمان عرفاً وشهد لهما
بالاجتهاد والعلم في ترجيح هذا الحديث؟
هذا السؤال أجاب عنه الإمام البيهقي -رحمه الله تعالى- وأخذ ذلك عنه الحافظ ابن حجر
العسقلاني في نكته على كتاب ابن الصلاح واعتمده بل ساقه مساق المُسَّلَمَات. يقول
الإمام البيهقي في رسالته إلى الإمام الجهيني، وكذلك في مقدمة كتابه السنن والآثار
يقول -رحمه الله تعالى- الحديث ينقسم إلى ثلاثة أنواع:
النوع الأول: صحيح متفق على صحته.
النوع الثاني: ضعيف متفق على ضعفه.
النوع الثالث: ما اختلف فيه أهل العلم فمنهم من صححه ومنهم من ضعفه.
يقول الإمام البيهقي وهذا النوع - يعني الثالث- الذي وقع فيه الاختلاف وهذا النوع
يجب على من جاء بعدهم ممن اكتملت عنده الآلة والأهلية أن ينظر في كلامهم وأن يتأمله
وأن يرجح ما يدل الدليل على رجحانه فإن ترجح كون الحديث صحيحاً صححه أو ترجح كون
الحديث ضعيفاً ضعفه" ساق الحافظ ابن ججر هذه العبارة مستدلاً بها على أن الحديث عند
المتقدمين إنما هو قسمان لا قسم واحد؛ لأنه قال: "إن الحديث إما صحيح متفق على صحته
أو ضعيف متفق على ضعفه أو مختلف فيه وهذا المختلف فيه إما أن يترجح فيه الصحة وإما
أن يترجح فيه الضعف فصار الحديث من هذه الحيثية قسمين قسم صحيح إما متفق عليه أو(1/47)
مختلف فيه وقسم ضعيف إما متفق على ضعفه أو مختلف في ضعفه" المهم أنه يؤول في
النهاية على كونه قسمين، وهذا هو جواب سؤالك أنك إن كنت أهلاً للترجيح وعرفت مناهج
العلماء ومسالكهم في النظر في الأسانيد والرواة فلك أن تنظر في دليل هذا العالم،
وهذا العالم الآخر الذي خالفه وترجح، فإن ترجح لديك الصحة فبها ونعمت، وإن ترجح لك
الضعف فلتقل بالضعيف وما وسع العلماء يسعنا نحن أيضًا، لكن إن كنت لست من أهل
الاجتهاد فليس أمامك إلا أن تأخذ بقول أهل الاجتهاد ممن تعتقد فيه العلم والمعرفة
فضلاً عن الصلاح والدين.
عندنا سؤالان:
السؤال الأول: الحديث الحسن هل هو مندرج تحت نوع الصحيح أم الضعيف.
السؤال الثاني: هل هناك فرق بين الشاذ والمعلول؟ وإن كان فما هو؟ ونحن أشرنا إلى
هذه المسألة من غير أن نسهب فيها وهذا الغرض منه أن ننشط إخواننا إلى الرجوع إلى
المصادر لمعرفة الجواب عن هذا السؤال والله أعلم.
--------------------------------------------------------------------------------
الدرس الثالث: مسائل في الحديث الصحيح
إن الحمد لله تعالى نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وبعد:
إن شاء الله تعالى في هذا اللقاء سنستكمل المسائل التي تناولها الحافظ بن كثير -رحمه الله تعالى- في نوع الحديث الصحيح من كتابه اختصار علوم الحديث، وأول المسائل التي سنتناولها - إن شاء الله تعالى- ما يتعلق بأصح الأسانيد وأقوال أهل العلم في ذلك:
أصح الأسانيد:(1/48)
قال المصنف -رحمه الله تعالى- (وهو متفاوت في نظر الحفاظ في محاله؛ ولهذا أطلق بعضهم أصح الأسانيد على بعضها، فعن أحمد وإسحاق: أصحها الزهري عن سالم عن أبيه، وقال علي بن المديني والفلاس: أصحها محمد بن سيرين عن عبيدة عن علي، وعن يحي بن معين أصحها: الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود، وعن البخاري:
مالك عن نافع عن ابن عمر، وزاد بعضهم الشافعي عن مالك إذ هو أجَّل من روى عنه).
هذه المسألة المتعلقة بأصح الأسانيد هي مسألة متفرعة عن أصل الصحة، فعلماء الحديث -رحمهم الله تعالى- كما أشرنا إلى ذلك أكثر من مرة يدركون أن الصحيح مراتب ودرجات، بعضها فوق بعض، فكيف يعرف العلماء إن كان هذا الحديث أو ذلك الإسناد من أصح المراتب أو من مرتبة دون ذلك؟
العلماء - عليهم رحمة الله تبارك وتعالى- يعرفون ذلك بالتتبع والسبر، فهم -رحمهم الله تعالى- ينظرون في الروايات والأسانيد وينظرون في رواتها ويعتبرون كل رواية على حدة ويعتبرون أحاديث الراوي ويقارنوها بأحاديث غيره من الرواة، وعلى ضوء ذلك يتبين لهم الثقة والأوثق، الحافظ والأحفظ، الثابت والأثبت، فيعرفون من
خلال ذلك مراتب الرواة.
إذن السبيل إلى معرفة مراتب الرواة والروايات: إنما هو الاعتبار والتتبع والسبر الذي هو الاستقراء، فعلماء الحديث -عليهم رحمة الله تعالى- بعد أن أجرو هذه العمليات الاستقرائية ذكروا لنا نتائج هذه العملية فذكروا لنا أن هناك أسانيد هي عندهم بعد البحث والتتبع تعد من أصح الأسانيد ومن أقوى الأسانيد ومن أقوى
الروايات، فالعلماء جمعوا ذلك، لا شك أن بعض أهل العلم رأى أن هذا الإسناد أصح إسناداً أو من أصح الأسانيد وعالم آخر رأى رأي آخر أن الإسناد الآخر أصح وأرجح أو نحو هذه العبارات التي تفيد معنى الترجيح، فنحن استفدنا من جهود العلماء كلهم، فكل عالم تكلم في هذا الأمر وأفاد أن هناك إسناداً هو من أصح الأسانيد،(1/49)
جمعنا ذلك أو جمعه العلماء -عليهم رحمة الله تعالى- ليستفيد به من يجيء بعدهم عندما يكون بمعرض دراسة رواية من تلك الروايات أو بمعرض ترجيح رواية على أخرى فلا شك أن الرواية التي قيل فيها أنها من أصح الأسانيد هي عند التحقيق تعتبر راجحة على رواية أخرى لم توصف بذلك الوصف.
فلهذا نجد مثلاً أن الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه لهما في هذه المسألة رأي، وابن معين له رأي آخر، وعلي بن المديني له رأي ثالث، وهكذا...، وهذه الآراء ليست من باب الاختلاف الذي يوجب الترجيح وإنما هو من اختلاف التنوع، فكل ذلك صواب وكل ذلك جدير بالاعتبار، فنستفيد بهذه الجهود التي بذلها علماءنا -عليهم رحمة
الله تعالى- حيث استقرأو الروايات وظهر لهم ما هو قوي منها وما هو أقوى، وما هو صحيح وما هو أصح فنستفيد بذلك كله في الترجيح إذا ما احتجنا إليه.
نأتي على الأمثلة التي ذكرها المصنف وهي بطبيعة الحال ليست بآخر الموجود إنما ذكر أشهرها فقال: (فعن أحمد ) وهو الإمام أحمد بن حنبل الإمام المعروف (وإسحاق ) هو ابن راهويه (أصحه) أي أصح الأسانيد (الزهري) أي ما يرويه الزهري وهو الإمام محمد بن شهاب الزهري إمام التابعين عن سالم بن عبد الله بن عمر (عن أبيه)
عبد الله بن عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنهما-.
وقال: (علي بن المديني والفلاس) وهو الإمام عمرو بن علي الفلاس وهو أيضاً من أئمة الجرح والتعديل قال: (أصحه) أي أصح الأسانيد (ما يرويه محمد بن سيرين) وهو من أئمة التابعين أيضاً (عن عبيدة السلماني ) وهو عبيدة بن عمر -رضي الله تعالى عنهما- السلماني (عن علي) وهو ابن أبي طالب -رضي الله تعالى عنهم-.
((1/50)
وعن يحيى بن معين) الإمام يحيى بن معين قرين الإمام أحمد بن حنبل، وأيضاً هو من ائمة هذا العلم الكبار قال: (أصحه) أي أصح الأسانيد (ما يرويه الأعمش) وهو الإمام سليمان بن مهران الأعمش وهو من الأئمة الحفاظ المعروفين (عن إبراهيم بن يزيد النخعي) وهو من أئمة التابعين أيضاً ومن كبارهم (عن علقمة بن قيس عن
ابن مسعود) هو عبد الله بن مسعود الصحابي المعروف -رضي الله تعالى عنه- .
(وعن البخاري -رحمه الله تعالى-) والبخاري كلنا يعرفه ولله الحمد، يرى أن أصح الأسانيد ما يرويه الإمام مالك، مالك بن أنس الإمام المعروف إمام دار الهجرة، عن نافع مولى عبد الله بن عمر، عن ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما-، وزاد بعضهم أي: على الإسناد الذي ذكره البخاري، البخاري ذكر مالكاً عن نافع عن ابن عمر،
وهذه السلسة أو هذا الإسناد يسمى عند العلماء بسلسلة الذهب، وهي من أفضل الأسانيد على سبيل الإطلاق، زاد بعضهم في هذا الإسناد الذي هو سلسلة الذهب أي عن مالك عن نافع عن ابن عمر، الشافعي عن مالك أي ما يرويه الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر هو أصح وأرجح وأفضل ومقدم على ما يرويه غير الشافعي عن مالك عن
نافع عن ابن عمر إذا هو أجَّل من روى عنه.
وزاد أيضاً بعضهم ما يرويه الإمام أحمد عن الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر، على أساس أن الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- من أجَّل من روى عن الإمام الشافعي -رحمهم الله جميعاً- .
هذه أشهر الأمثلة في أصح الأسانيد، قبل أن نتجاوز هذه النقطة لابد لنا من التنبيه على عدة أمور أرى أنها في غاية الأهمية لطالب العلم:(1/51)
الأمر الأول: أن أصح الأسانيد الواردة عن العلماء -عليهم رحمة الله تعالى- إنما نتعامل معها بمبدأ الترجيح يعني نستفيد بما جاء عن أهل العلم من رجحان هذه الروايات على غيرها إذا ما وصلت إلينا بإسناد تقوم به الحجة، أما إذا وصلت إلينا بإسناد لا تقوم به الحجة فلا اعتبار بالإسناد حينئذٍ ولا ينفعنا كون هذا
الإسناد من أصح الأسانيد عند علماء الحديث، بمعنى آخر عندنا الإسناد المشهور مالك عن نافع عن ابن عمر هذا من أصح الأسانيد - كما رأيتم - لكي نستفيد بكون هذا الإسناد من أصح الأسانيد فنقدمه ونرجحه على غيره إذا ما وقع بينه وبين غيره نوع تعارض لابد أن يكون الإسناد من عندنا أو من عند المصنف الذي خَرَّجَ
الحديث إلى أن يصل إلى الإمام مالك بن أنس -رحمه الله تعالى- إسناداً صحيحاً تقوم به الحجة، لكن إذا كان يرويه ضعيف عن مالك عن نافع عن ابن عمر – فهل حينئذٍ يكون هذا الحديث مروياً بإسنادٍ من أصح الأسانيد؟ لا يكون حينئذٍ مروياً بإسناد من أصح الأسانيد، وإن زعم هذا الراوي الذي هو ضعيف، لا يعتمد على ما ادعاه
وزعمه لأنه زعم أن مالكاً حدثه بهذا الحديث عن نافع عن ابن عمر، بينما الثقات لم يقولوا ذلك، عن مالكٍ عن نافعٍ عن ابن عمر، قد يكون رووه عن مالك بغير هذا الإسناد، قد لا يكون أصلاً هو من حديث مالك إنما زعم ذلك الضعيف أنه من حديث مالك وما هو من حديثه.
فلابد إذن من أن يكون الحديث صحيح الإسناد إلى مالكٍ ثم بعد ذلك ننظر فيما رواه مالك هل رواه مالك بإسناد من أصح الأسانيد فحينئذٍ نتعامل مع هذا الحديث على أنه مروي بإسناد هو من أصح الأسانيد.
أما إذا كان الذي يرويه عن مالك ليس ممن يعتمد عليه ولا يحتج بروايته فلا ينفعنا كون هذا الحديث روي عن مالكٍ عن نافعٍ عن ابن عمر.(1/52)
الأمر الثاني: وهو متعلق بهذا الباب حينما نقول أصح الأسانيد، مسألة الترجيح عند العلماء يعبرون عنها بأكثر من عبارة، أحياناً تكون عبارات تدل على الترجيح، وأحياناً تكون عبارات مُنصَّبَة على الإسناد فقط، وأحياناً تكون عبارات مُنصَّبَة على المتن، فنجد في عبارات أهل العلم هذا الإسناد أصح ما في الباب، أو
أصح ما يرويه أهل البصرة أو أصح ما يروى عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- مثلاً، فنجد لفظ الترجيح - كما ترون- متعلقاً بإسنادٍ ما وليس بالمتن.
وأحياناً نجد في عبارات أهل العلم ما يدل على رجحان المتن، فنجد في عبارات بعض أهل العلم «هذا الحديث أصح حديث في الباب»، أو «أحسن حديث في الباب» أو «أثبت حديث في الباب » هكذا نجد عبارات يفهم من النظر فيها أنها تنصب على المتن أي أن هذا المتن الذي روي بهذا الإسناد أو بهذه الأسانيد هو من أرجح المتون في
هذا الباب فإذا ما عارضه حديث آخر فهو المقدم من بينها.
يقول العلماء -عليهم رحمة الله تعالى-: «إن هذه العبارات ليست دائماً تفيد معنى الصحة والثبوت حيث تكون مقيدة بباب من الأبواب » بمعنى لو أننا بصدد أحاديث، تلك الأحاديث يمكن أن تندرج تحت باب ما من الأبواب الفقهية، ليكن أحاديث التسمية على الوضوء أو التكبير في صلاة العيد، وهذه أبواب فيها أحاديث، بعضها
أحاديث صحيحة وبعضها أحاديث غير صحيحة، وربما نجد أبواباً أخرى لا نجد فيها إلا أحاديث كل حديث منها فيه نوع ضعف، فليس من بينها حديث صحيح تقوم به الحجة بانفراده، ومع ذلك نجد علماء الحديث -عليهم رحمة الله تبارك وتعالى - يقولون في مثل ذلك: «هذا الحديث أصح ما في الباب»، أو «أحسن ما في الباب» أو «أثبت ما في(1/53)
الباب» ليس معنى ذلك: أنه صحيح أو ثابت أو حسن، وإنما إذا ما قارناه بغيره من أحاديث الباب فهو المقدم من بينها وهو الأرجح عليها وهو المرجح والمقدم عليها، قد يكون ضعيفاً ولكنه أقل ضعفاً من سائر الأحاديث التي تروى في ذلك الباب، قد يكون في رواته نوع جرح في اتصاله أو نوع انقطاع، ولكنه إذا ما قورن ذلك الضعف
بما في الأحاديث الأخرى التي في الباب فهو أفضل منها؛ لأن في الأحاديث الأخرى قد يكون حديث فيه كذاب، فيه متروك، في متهم، فيه شذوذ، فيه علة قادحة، وكل ذلك يجعله أدنى مرتبة من حديث آخر، قد يكون فيه جرح، أو قد يكون فيه ضعف من جرح راوٍ أو عدم اتصال، ولكنه إذا قورن ذلك الضعف بالضعف الواقع في سائر الروايات
فهو ضعف هين، ضعف خفيف، فقول العلماء حينئذٍ: أصح، أي: أقل ضعفاً، وأرجح، فهو أرجح من غيرها، وليس معناه أنه صحيح في ذاته، وهذا مما ينبغي التنبه له؛ لأن كثيراً من المشتغلين بالعلم يغفلون عن ذلك، فإذا بهم يعمدون إلى هذه العبارات التي تفيد معنى الترجيح والموازنة بين رواية وأخرى ويفهمون منها مطلق الوصل،
فالإمام يقول: هذا أصح من هذا، أي هذا أرجح من هذا، ولا يقصد أن الأول: صحيح، وهذا معروف في لغة العرب، فالعرب يستخدمون أفعل التفضيل على معانٍ، ومن أشهر معانيها أن الموصوفين قد اشتركا في الوصف إلا أن أحدها فاق الآخر فيه، وأحياناً يطلقون أفعل التفضيل، وإن لم يكن الفاضل والمفضول مشترك في أصل الوصف، وإنما
يقصدون بأفعل التفضيل ها هنا عموماً من غير وصف أحد الطرفين بهذا الوصف.
نجد أيضاً من العبارات التي يستعملها علماء الحديث -عليهم رحمة الله تعالى- في هذا الباب أنهم قد يرجحون أحياناً حديثاً من الأحاديث رغم أن الحديث المقدم ليس من الأحاديث الموصوفة بأنه من أصح الأسانيد، بينما الحديث المؤخر موصوف بأنه من أصح الأسانيد، وهذا راجع إلى أن الراجح قد يكون مرجوحاً عند أهل العلم(1/54)
-عليهم رحمة الله تعالى- باعتبار القرائن المحتفة بالرواية، فعندنا أصل القاعدة الأصلية أن ما كان موصوفاً بأصح الأسانيد فهو مقدم على غيره، ولكن نجد العلماء أحياناً يقدمون ماليس موصوفاً بكونه من أصح الأسانيد على ما كان موصوفاً بكونه من أصح الأسانيد لقرينة احتفت بهذا الإسناد الذي ليس من أصح الأسانيد،
فهذا الإسناد مع ما انضم إليه من القرائن كان مقدماً حينئذٍ على ما هو موصوف بكونه من أصح الأسانيد مع أنه لم تحتف به تلك القرائن في هذا الحديث بخصوصه، وإلى هذا يشير الحافظ ابن حجر العسقلاني -رحمه الله تعالى- في "نخبة الفكر" أو "نزهة النظر" بقوله: "وربما يعرض للمفوق ما يجعله فائقاً" أي ربما يعرض للمؤخر
ما يجعله مقدماً على غيره من الروايات، وهذا باب القرائن وباب القرائن باب واسع جداً وسنتناول طرفاً منه -إن شاء الله تعالى- عندما نأتي إلى باب العلة وباب الأفراد .
أول من جمع صحاح الحديث
قال المصنف -رحمه الله تعالى- (أول من جمع صحاح الحديث، فائدة: أول من اعتنى بجمع الصحيح أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، وتلاه صاحبه وتلميذه أبو الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري، فهما أصح كتب الحديث، والبخاري أرجح؛ لأنه اشترط في إخراجه الحديث في كتابه هذا أن يكون الراوي قد عاصر شيخه وثبت عنده
سماعه عنه، ولم يشترط مسلم الثاني، بل اكتفى بمجرد المعاصرة ومن ها هنا ينفصل لك النزاع في ترجيح تصحيح البخاري على مسلم كما هو قول الجمهور خلافاً لأبي علي النيسابوري شيخ الحاكم وطائفةٍ من علماء المغرب).
هذه المسألة من مسائل هذا الباب، متعلقة بالصحيحين خاصة، صحيح الإمام البخاري وصحيح الإمام مسلم -رحمهما الله تعالى- لا شك أن الصحيحين هما أصح الكتب المصنفة في حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهما أصح الكتب بعد كتاب الله عز وجل، وأكثر أهل العلم على أن صحيح البخاري هو أصح من صحيح مسلم - رحمهما الله(1/55)
تعالى-، وعرف العلماء ذلك بدراسة الكتابين، فهم -رحمهم الله تعالى- درسوا صحيح البخاري على حدة، وصحيح مسلم على حدة فتبين لهم رجحان صحيح البخاري على صحيح مسلم، وأنه أصح صحيحاً وأن هذا الكتاب العظيم، كتاب الإمام البخاري بفضل الله - عز وجل - هو محفوظ بحفظ الله - عز وجل - له؛ ولسنة رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- فكان هذا الكتاب مقدماً على صحيح مسلم، والكتابان مقدمان على سائر الكتب المصنفة في حديث رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، أقول إن العلماء تتبعوا الكتابين ودرسوا الكتابين فتبين لهم ذلك. كيف تبين لهم ذلك؟
لو أننا استرجعنا قليلاً ما قلناه في اللقاء الماضي وعرفنا أن الحديث الصحيح إنما يحكم العلماء بكونه صحيحاً بناءً على توفر شروط في الراوي أو الرواية، فهناك الراوي لابد أن يكون عدلاً ضابطاً وأن يكون الإسناد متصلاً كل راوي قد أخذ الحديث عن شيخه بطريقٍ من طرق التحمل المعتبرة، ثم يكون الحديث سالماً من
الشذوذ، سالماً من العلة، وذكرنا على سبيل الإجمال أن الشذوذ والعلة كلاهما طريقان يدرك بهما الخطأ الذي ربما يقع فيه بعض الرواة.
إذن هذه هي شرائط المحدثين لقبول الحديث ولجعله صحيحاً، نظر العلماء في الصحيحين فوجدوا أن هذه الشرائط متحققة في صحيح البخاري بصفة أعلى من تحققها في صحيح مسلم، فمن هذه الحيثية ترجح البخاري على مسلم، ونحن قلنا وما زلنا نذكر بأن الصحيح مراتب ودرجات، وكل ذلك يسمى صحيحاً، فالبخاري -عليه رحمة الله تعالى-
وجدت الأحاديث الصحيحة التي في كتابه أعلى رتبة ومنزلة من الأحاديث التي في صحيح مسلم من حيث الإجمال، بطبيعة الحال وإلا فمن حيث التفصيل فقد اشتركا في إخراج أحاديثَ كثيرة اتفق البخاري ومسلم على إخراجها، وأيضاً الأحاديث التي تفرد بها مسلم بعضها قد انضم إليها من القرائن ما يجعلها مساوية لأحاديث البخاري،(1/56)
وأحياناً قد تكون بعض الأحاديث التي في مسلم مقدمة على أحاديث أخرى في صحيح البخاري على نحو ما ذكرنا قريباً من أن القرائن يعتبرها العلماء في باب الترجيح والتقديم، فمثلاً شرط الاتصال وهذا ما أشار إليه الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى- حيث قال: (البخاري أرجح) وعلل ذلك بقوله: (لأنه اشترط في إخراجه الحديث
في كتابه هذا) أي في الصحيح (أن يكون الراوي قد عاصر شيخه وثبت عنده سماعه منه ولم يشترط مسلم الثاني بل اكتفى بمجرد المعاصرة).
هذه مسألة من المسائل التي اختلفت فيها أنظار العلماء، وستأتي في موضعها -إن شاء الله تعالى- بعد نوع الحديث المعضل، ما هذه المسألة؟ علماء الحديث -رحمهم الله تعالى- متفقون على أن الحديث لكي يكون مقبولاً لابد أن يكون متصل الإسناد، هذا موضع اتفاق عند علماء الحديث، أما المرسل والمنقطع والمعضل وما ليس بمتصل
فهذا غير معتد به في الصحيح عند علماء الحديث، فالمرسل ليس صحيحاً ولا يسمى صحيحاً، وكذلك المنقطع وكذلك المعضل، اللهم إلا أن ينجبر ذلك الضعف بروايات أخرى وباعتبارات أخرى، لكن أصل الانقطاع والإرسال لا يكون من الصحيح أبداً؛ لأن من شرط الصحيح أن يكون إسناد الحديث متصلاً؛ ولهذا الإمام مسلم -رحمه الله
تعالى- في مقدمة كتابه الصحيح، «والمرسل في أصلنا وأصل أهل العلم غير محتج به » لكن اختلف العلماء في بعض الروايات هل هي من قبيل المتصل أم من قبيل المرسل؟ هل هي مما يحكم باتصالها أم مما يتوقف فيها فلا تعطى حكم الاتصال حتى يتبين من حكم آخر، فالاختلاف هنا في صورة من صور المسألة، وليس في أصل المسألة على
نحو ما ذكرنا في لقاء سابق من أن علماء الحديث قد يختلفون في بعض جزئيات القاعدة ولا يختلفون في أصل القاعدة، فيختلفون هل هذا الحديث تحقق فيه شرائط الصحة أم لم تتحقق؟ وإن كانوا هم متفقون على أن الصحيح لابد أن تتحقق فيه تلك الشرائط كلها.(1/57)
فهذه المٍسألة صورتها: أن يروي راوٍ عن معاصرٍ له، المعاصرة متحققة، فعلاً هذا الراوي عاصر هذا الشيخ فترة من الزمن، وهذا الراوي لا يعرف بالتدليس، والتدليس هو إيهام السماع بأن يذكر عبارة توهم السماع ولا تدل على السماع صراحة، وله باب خاص سيأتي -إن شاء الله -.
هذا المعاصر لم يأت في رواية قط ما يدل على أنه سمع من ذلك الشيخ، يعني لم يأت في رواية أنه قال: سمعت فلان ويسمي ذلك الشيخ، لم يأت ذلك إنما عاصره فقد عاش في زمنه وفي عصره، وليس هو مدلساً بحيث يستعمل الألفاظ التي توهم السماع، وليست بدليل أو بواضحة في السماع ثم وجدنا هذا الراوي المعاصر الذي لم يدل دليل
على أنه سمع، يروي عن هذا الشيخ بلفظ عن، أو بلفظ قال، وهو من الألفاظ التي تحتمل السماع وعدمه، كقول الراوي عن فلان، هو لم يقل أنا سمعت، قد يكون سمع وقد لا يكون سمع، فهذا لفظ محتمل لا يدل على السماع صراحة، فكيف تتعامل مع هذه الرواية هل نحكم باتصالها بناءً على أن المعاصرة متحققة أم لا؟
الإمام مسلم يكتفي بهذا، لا سيما إذا انضاف إلى ذلك إمكانية اللقاء أو إمكانية السماع، كأن يكون الرجلين من بلد واحدة، ويكون الشيخ مشهوراً بحيث إن أغلب أهل البلد يحرصون على السماع منه، لا سيما إذا كان الراوي عنه من طلبة العلم المجتهدين الذين سمعوا واجتهدوا في سماع الحديث من المشايخ.
الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- وعلي بن المديني وجمهور أهل العلم ينسب إليهم أنهم لم يكتفوا بهذا، بل اشترطوا أن يعلم السماع أو اللقاء يعلم بدليل من الأدلة، سواءً كان في هذه الرواية أو في رواية أخرى، المهم يثبت ولو مرة أن هذا الراوي التقى بهذا الشيخ وسمع منه قليلاً كان أو كثيراً فإذا كان سالماً من(1/58)
التزييف ثم وجدناه بعد ذلك يروي عن الشيخ بالعنعنة أي يقول: عن من غير أن يصرح بالسماع حملنا عنعنته على السماع أبداً فهذه مسألة اختلف فيها أهل العلم، وبصرف النظر عن الراجح والمرجوح فيها - وسيأتي الكلام فيها في موضعه- لكن لا شك أن شرط البخاري في هذه المسألة أشد من شرط مسلم، فحتى لو كان شرط مسلم كافياً
في الحكم بالصحة فلا شك أن شرط البخاري أوضح وأصرح في السماع، من هذه الحيثية يكون أحاديث البخاري -رحمه الله تعالى- متقدمة وراجحة على صحيح مسلم، هذا وجه، لكن ليس هذا هو الوجه الوحيد في تقديم صحيح البخاري على صحيح مسلم، ذكر العلماء أكثر من وجه وكلها تعود إلى شرائط الصحة.
رواة الصحيحين هؤلاء ثقات، وأولئك أيضاً ثقات، ولكن نظر العلماء فوجدوا أن البخاري ومسلم اشتركا في التخريج عن كثير من الرواة لا سيما المشاهير من رواة الحديث، فهم موجودون في البخاري وأيضاً موجودون في مسلم، فليس للبخاري رواه على حدة وليس لمسلم رواة على حدة بل هناك قدر كبير جداً من الرواة اشترك البخاري
ومسلم في الرواية عنهم، إنما الشأن فيمن تفرد بالإخراج له البخاري أو تفرد بالإخراج له مسلم، ومن هنا تظهر الموازنة.
نظر العلماء في هؤلاء الرواة الذين خرج لهم البخاري دون مسلم، أو مسلم دون البخاري فوجدوا:
- أولاً: أن الرواة الذين خرج لهم البخاري دون مسلم أغلبهم ممن لم يتكلم فيهم ولو كلاما مرجوحاً، بينما رواة مسلم الذين انفرد بهم دون البخاري في بعضهم كلام من قبل أهل العلم، كلام فيه نوع جرح حتى وإن كان هذا الكلام مرجوحاً لكن لا شك أن التخريج عمن لم يتكلم فيه أصلاً أفضل عن من تكلم فيه ولو كان الكلام
مرجوحاً، فمن هذه الحيثية يترجح صحيح البخاري.(1/59)
- زد على هذا أن هؤلاء الرواة الذين تكلم فيهم من رواة البخاري إنما هم من مشايخه الذين عرف حديثهم، وخبر رواياتهم، ودرس مروياتهم بحيث عرف ما أصابوا فيه، وما أخطأوا فيه، بخلاف مسلم فإنه كثيراً من هؤلاء الرواة الذين خرج لهم متفرداً عن البخاري وتكلم فيهم من قبل بعض أهل العلم إنما هم من طبقاتٍ عالية فوق
مشايخه، فمن هذه الحيثية أيضاً يتميز صحيح البخاري على صحيح مسلم
- نجد أن بعض أهل العلم تناول بعض الأحاديث في الصحيحين بالنقد وبالمخالفة كالإمام الدار قطني -عليه رحمة الله تعالى- وكالإمام أبي علي الغساني وأبي مسعود الدمشقي وغيرهم، نظروا في بعض الأحاديث في الصحيحين وانتقدوها واعترضوا على البخاري ومسلم، لكونهما قد خرجا هذه الأحاديث في الصحيح، وكما يقول الحافظ ابن
حجر -رحمه الله تعالى- «إن هذه الاعتراضات قسمان: قسم منها اعتراضات إسنادية بحتة لا تأثير لها في المتون» قد يكون المتن مروياً بأكثر من إسناد فالمتن صحيح لا محالة لا شك في صحته، ولكن البخاري أو مسلم قد يخرجان في الصحيح بعض الأسانيد التي فيها بعض الإشكالات الإسنادية، فيأتي بعض العلماء الذين جاءوا بعدهم
فينقدون هذه الأسانيد التي فيها مثل هذه العلل أو هذه المشاكل، فهذا النقد لو سلمنا بصحته لا يؤثر على المتن الذي روي بغير هذا الإسناد، فالمتن صحيح والإمام الذي اعترض على البخاري لم يقصد المتن إنما قصد الإسناد فحسب.
- ثانياً: أحاديث أخرى انتقد بعض الألفاظ فيها أو بعض المتون، وهذه إنما ساقها البخاري ومسلم -رحمهما الله تعالى- في سياق الشواهد والمتابعات وليس في أصول الأبواب؛ لأن أحاديث الصحيحين مرتبة بترتيب في غاية الأهمية، فالبخاري أو مسلم -رحمهما الله تعالى- في كل باب من الأبواب يعمد إلى أصح ما عنده في الباب(1/60)
فهذا هو ما اعتمد عليه في الباب وخرجه واحتج به، ثم قد يكون هناك بعض الأحاديث التي تؤيد مثل ذلك وتقويه في الأكثر، وتدل على مثل ما دل عليه، فالإمام البخاري أو مسلم يسوقان مثل هذه الأحاديث على سبيل الاستشهاد والاستئناس لا على سبيل الاحتجاج والاعتماد، فيعمد بعض الناس فينتقد على البخاري ومسلم أنهما خرجا
مثل هذه الأحاديث وهي فيها من العلل ما فيها، وإنما خرج البخاري أو مسلم هذه الأحاديث بناءً على أن أصلها صحيح، والمعنى الذي تضمنته معنى صحيح، ثم خرج بعض الأحاديث التي تزيد هذا الحديث صحة وتؤكد كونه صحيحاً ثابتاً؛ ولهذا لما عرض الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- كتابه الصحيح على الإمام أبو زرعة الرازي ليقول
كلمته فيه، فإذا بالإمام أبي زرعة انتقد عليه إخراجه لبعض الرواة المتكلم في حفظهم فماذا كان جواب الإمام مسلم؟ قال -رحمه الله تعالى- إنما قلت: صحيح، وإنما أخرجت من حديث هؤلاء ما قد رواه الثقات. يعني أنا لم أقل إنني لا أخرج للرواة الثقات، وإنما قلت صحيح، يعني أنا أخرج الأحاديث الصحيحة فأنا خرجت الأحاديث
الصحيحة، فقد أضطر لحكمة من الحكم أو لعلة من العلل أو لغاية من غايات التأليف والتصنيف أن أسوق رواية من الروايات التي فيها بعض كلام أو بعض جرح في بعض رواتها بما لا يؤثر على المتن، ولا يقدح فيه على سبيل الاستشهاد والاستئناس، فهذا لا يؤثر في ذلك ولا يقدح في كون الحديث صحيحاً؛ ولهذا قال: إنما قلت صحيح
وإنما أخرجت من حديث هؤلاء أي المتكلم في حفظهم ما قاله الثقات، هذه الأحاديث رواها الثقات كما رواه هؤلاء المتكلم فيهم فلا تعيب علي كوني أخرجت لبعض من تكلم فيه إذا ما كان هذا المتكلم فيه قد وافقه على ما جاء به ورواه أحد الثقات أو عامة الثقات.(1/61)
كما قلنا في اللقاء الماضي إن الإمام من أئمة الحديث قد يخرج الحديث عن بعض الرواة المتكلم فيهم، ويجعله في جملة الأحاديث الصحيحة وذلك في الواقع يدل على انتقاء هؤلاء العلماء -عليهم رحمة الله تعالى- فهم نظروا في أحاديث هؤلاء الرواة الذين فيهم بعض الكلام، فلما وجدوهم قد وافقوا الثقات، عرفوا أنهم حفظوا ما
قد حدثوا به، فاستساغوا حينئذٍ وجوزوا لأنفسهم أن يدخلوا تلك الأحاديث في كتاب الصحيح على أساس أن الروي لم يخطيء فيه فصار صحيحاً من الصحيح.
هل أخرج البخاري ومسلم كل الصحيح في كتابيهما؟
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (ثم إن البخاري ومسلماً لم يلتزما بإخراج جميع ما يحكم بصحته من الأحاديث، فإنهما قد صححا أحاديث ليست في كتابيهما، كما ينقل الترمذي وغيره عن البخاري تصحيح أحاديث ليست عنده، بل في السنن وغيرها ).
عرفنا أن أصح الصحيح: ما قد خرجه الإمام البخاري ومسلم، وأن صحيح البخاري مقدم على صحيح مسلم في ذلك. فهل يا ترى البخاري ومسلم في صحيحيهما استوعبا كل الأحاديث الصحيحة، أم مازال هناك قدر من الأحاديث الصحيحة ليست في الصحيحين؟
لا شك أن البخاري ومسلماً -رحمهما الله تعالى- لم يقصدا إلى حصر الأحاديث الصحيحة، وإنما كتاب البخاري وكتاب مسلم ما هما إلا مختصران، ولهذا سمى الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- كتابه بالمختصر الصحيح، وإنما اشتمل على أصول الأحاديث فما من حديث صحيح عند البخاري أو غيره من أهل العلم وليس في صحيح البخاري إلا
- ولابد في الغالب الأعم- أن تجد له إما نظيراً في كتابه الصحيح أو في صحيح مسلم أو شبيهاً. بمعنى أن يكون هذا المعنى الذي تضمنه ذلك الحديث الصحيح الذي هو خارج الصحيح له ما يشير إليه أو ينبه عليه مما خرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما، بحيث يصعب جداً أن تجد أصلاً من الأصول إلا وله في الصحيح ما يرشد إليه(1/62)
ويدل عليه، والإمام النووي توسع في هذا فقال: «الصحيح أنه لم يفت الكتب الخمسة أو الأصول الخمسة إلا القليل» والأصول الخمسة هي الصحيحان البخاري ومسلم وسنن أبي داود وسنن النسائي وسنن الترمذي فهذه الأصول الخمسة عند علماء الحديث.
طبعاً الأحاديث التي يحكيها الترمذي عن البخاري أنه صححها أو يصححها البخاري -رحمه الله تعالى- في كتبه الأخرى هي وإن كانت صحيحة لكنها دون ما في الصحيح؛ ولهذا يعبر عن ذلك الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى- كثيراً في شرحه لصحيح البخاري "فتح الباري" بأن هذا الحديث وإن كان صحيحاً، إلا أنه ليس من شرط البخاري
في الصحيح، أي هو صحيح ولكنه في مرتبة أدنى من مرتبة الأحاديث التي اختارها البخاري لكتابه الصحيح.
عدد ما في الصحيحين من الحديث
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (عدد ما في الصحيحين من الحديث، قال ابن الصلاح: فجميع ما في البخاري بالمكرر سبعة آلاف حديث ومائتان وخمسة وسبعون حديثاً، وبغير المكرر أربعة ألاف وجميع ما في صحيح مسلم بلا تكرار نحو أربعة آلاف ).
هذه مسألة أخرى من مسائل هذا الباب، وهي متعلقة بعدد أحاديث الصحيحين، اهتم العلماء بهذا الجانب محاولة منهم لمعرفة عدد هذه الأحاديث الصحيحة التي تلقتها الأمة بالقبول، وهي التي اختارها الإمام البخاري والإمام مسلم -رحمهما الله تعالى- في كتابيهما في الصحيح، فيرى الإمام ابن الصلاح تبعاً لما قبله أحاديث
البخاري بالمكررة سبعة آلاف حديث ومائتان وخمسة وسبعون حديثاً؛ لأن البخاري من شأنه أن يكرر، كما يفعل أيضاً هذا مسلم، وإن كان التكرار في مسلم أقل منه في صحيح البخاري وإنما لجأ البخاري إلى التكرار لحاجته إليه؛ ليتناسب الحديث مع أبواب كل باب من كتابه الصحيح، فالحديث قد يكون طويلاً مشتملاً على فقه عظيم(1/63)
وفقه كثير، ويمكن أن يندرج تحت أكثر من باب، فلو أن البخاري -رحمه الله تعالى- خرج الحديث بسياقه الطويل في كل باب من الأبواب فإن ذلك سيكون فيه تكرار واضح جداً، وهذا يعد من عيوب المصنفات، فلجأ البخاري -عليه رحمة الله تعالى- إلى تقطيع الحديث، فالحديث إذا كان مِشتملاً على عدة جمل، مثلاً حديث (لا يبع أحدكم
على بيع أخيه، ولا يخطب أحدكم على خطبة أخيه) هذان حديثان يأتيان كثيراً بسياق واحد في رواية واحدة، ومع ذلك أحياناً بعض الرواة يروي الطرف الأول فقط، والبعض الآخر يروي الطرف الثاني فقط، فالبخاري مثلاً في كتاب البيوع ليس في حاجة إلى الطرف الآخر المتعلق بالخطبة، فيجعل الطرف المتعلق بالبيوع في كتاب البيوع،
والطرف المتعلق بالنكاح في كتاب النكاح، فالعلماء يعتبرون ذلك تكراراً؛ لأن الحديث إنما هو حديث واحد، ولكن هذا التكرار أو تقطيع الحديث جائز عند علماء الحديث -رحمهم الله تعالى- إذا لم يكن التقطيع يؤدي إلى تشتيت المعنى وعدم وضوحه، أما إذا كان كل جملة من تلك الجمل تؤدي معنى مستقلاً لا يتأثر بقية الحديث
بانفصال هذه الجملة منه فحينئذٍ يجوز عند العلماء تقطيع الحديث على هذا النحو، وهذا يصنعه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- وستأتي أيضاً مسألة تقطيع الحديث، ومتى يجوز ذلك، ومتى لا يجوز في أواخر هذا لكتاب في النوع المتعلق برواية الحديث ونقلها.
فالبخاري أكثر فيه التكرار فيقول (هو بالمكرر سبعة آلاف حديث ومائتنان وخمسة وسبعون حديثاً وبغير تكرار أربعة آلاف ).
الحافظ ابن حجر العسقلاني ناقش ابن الصلاح، ومن قبله ومن بعده، ممن عد هذا العدد لا سيما العدد بدون تكرار ناقش ابن حجر العسقلاني هؤلاء العلماء، وذهب إلى أن هذا العد لأحاديث البخاري بغير تكرار عد غير صحيح.(1/64)
والسبب في ذلك: أن هؤلاء العلماء كلما وجدوا الحديث يساق في صحيح البخاري بسياقة غير سياقة الرواية الأخرى يعتبرون ذلك حديثاً على حدة، فمثلاً حينما نلاحظ في كتاب الإيمان في باب كفران العشير وكفر دون كفر، نجد في هذا الباب يخرج البخاري -رحمه الله تعالى- حديث ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- في خسوف الشمس
وصلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- صلاة الخسوف وما قاله في الخطبة في هذه المناسبة، والحديث فيه "خسفت الشمس على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-..." ثم ساق القصة بطولها، فهذا بطبيعة الحال حديث، ثم خرجه البخاري نفسه بعد ذلك ولكنه اجتزأ على قدر منه وهو من خطبة النبي -صلى الله عليه وسلم- التي قالها في
هذه المناسبة حيث قال في هذه الخطبة: (أريت النار فرأيت أكثر أهلها النساء) العادون اعتبروا هذين حديثين، يرى الحافظ ابن حجر أنه حديث واحد، إلا أن البخاري تارة يسوقه بتمامه، وتارة أخرى يسوق قطعة منه ليستشهد بها على هذا الباب، فلأجل هذا قل العدد عند الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى- لأحاديث البخاري بدون
تكرار إلى 2513 حديث، كما ذكر ذلك في مقدمة فتح الباري.
الزيادات على الصحيحين
قال المصنف -رحمه الله تعالى- (الزيادات على الصحيحين: وقد قال الحافظ أبو عبد الله محمد بن يعقوب بن الأخرم: «قل ما يفوت البخاري ومسلماً من الأحاديث الصحيحة »
وقد ناقشه ابن الصلاح في ذلك، فإن الحاكم قد استدرك عليهما أحاديث كثيرة، وإن كان في بعضها مقال، إلا أنه يصفو له شيء كثير.
قلت: في هذا نظر، فإنه يُلْزِمهما بإخراج أحاديث لا تَلزمهما، لضعف رواتها عندهما، أو لتعليلهما ذلك. والله أعلم).(1/65)
بعد أن عرفنا عدد أحاديث الصحيحين أراد العلماء أن ينظروا في الصحيح الذي هو خارج الصحيحين، هل هو كثير أم قليل؟ فأحاديث الصحيحين قد فرغ منها، وتُلقيت بالقبول ولله الحمد، وعرفنا أن البخاري ومسلماً -رحمهما الله تعالى- لم يستوعبا الصحيح، وأن هناك أحاديث صحيحة موجودة خارج الصحيحين، فهل هذا الذي هو خارج
الصحيحين كثير أم قليل؟ ثم من أين نجد هذا القدر من الصحيح؟ ما هي المصنفات التي إذا ما رجعنا إليها نعرف الصحيح الزائد على ما في الصحيحين؟
هنا تكلم العلماء -رحمهم الله تعالى- على الأحاديث الزائدة على الصحيحين، هل هي كثيرة أم قليلة؟ أو بعبارة أخرى ما فات الصحيحين من الأحاديث الصحيحة هل هي كثيرة أم قليلة؟ فالإمام ابن الأخرم -رحمه الله تعالى- ذهب إلى أنها قليلة فقال -رحمه الله تعالى-: «قل ما يفوت البخاري ومسلماً من الصحيح»، وحمل العلماء
ذلك على أنه أراد بالصحيح ها هنا، الصحيح الذي على شرط البخاري ومسلم، أي أعلى درجات الصحيح، لكن لم يقصد كل ما يدخل في جملة الصحيح، كما أشرنا في اللقاء الماضي من أن الصحيح درجات، وأن هناك من أهل العلم من يجعل الحسن من الصحيح، فكل ما كان صحيحاً باختلاف درجاته، وكل ما كان حسناً باختلاف درجاته، هذا يدخل
في إسم الصحيح، ولكن هذا لم يقصده ابن الأخرم، حيث قال: «إن ما فات الصحيحين قليل» إنما قصد ما فات الصحيحين قليل أي مما هو شبيه بما في الصحيحين، أي قريب في المنزلة وفي الدرجة من الأحاديث التي اختارها البخاري ومسلم لأحاديث الصحيحين، أي ما كان من أعلى درجات الصحيح.
واستدلوا على ذلك بعبارات، وإن كانت هذه العباراة غير واضحة؛ ولهذا استشكلها العلماء، وكان العلماء ما بين موافق على ذلك ومخالف، المهم: نريد أن نعرف ما قاله العلماء في ذلك.(1/66)
ورد عن الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- أنه قال: «أحفظ من الصحيح مائة ألف حديث صحيح، ومن غير الصحيح مائتي ألف حديث غير صحيح» قالوا: إذا كان البخاري -رحمه الله تعالى- يحفظ هذا القدر العظيم من الأحاديث الصحيحة، وكتابه لم يشتمل على قريب من ذلك، فإنه حتى بالمكرر سبعة آلاف وكسر، فأين هذا من مائة ألف
حديث، فاستدل بعض أهل العلم على أن ما فات البخاري من الصحيح الكثير بمثل هذه العبارة، ولكن ابن الصلاح قال: «لا..، هذه العبارة ليست صريحة على المراد».. لماذا؟ لأن كلمة حديث عند علماء الحديث تطلق أحياناً على ما كان مرفوعاً أو موقوفاً أو مقطوعاً، وأحياناً المتن الواحد إذا روي بأكثر من إسناد، فكل إسناد من
تلك الأسانيد هو في عرف المحدثين يسمى حديثاً، نحن نعرف أن أشهر معاني كلمة حديث: هو ما أضيف إلى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ولكن هذا المشهور ليس دائماً ما يستعمل عند علماء الحديث، فكثيراً ما يقولون: حديث سواءٌ كان المروي الموصوف بكونه حديثاً عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- أو عن الصحابة أو
عن التابعين، ما كان عن الصحابة نسميه موقوفاً وما كان عن التابعين نسميه مقطوعاً وما كان عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- نسميه مرفوعاً فكلمة حديث تطلق على هذا كله، وأيضاً يطلقون الحديث على المتن، وأحياناً يطلقون الحديث على الإسناد، فلو أن عندنا متن واحد مروي بعشرة أسانيد فبإمكانك أن تسمي كل
إسناد من تلك الأسانيد حديث، فتقول: عندي عشرة أحاديث في المتن الفلاني، كما لو تقول: عند عشرة أسانيد للمتن الفلاني، كما فعل الإمام شعبة بن الحجاج -رحمه الله تعالى- حيث ورد عنه أنه قال: «عندي أربعة عشر حديثاً عن المغيرة بن شعبة في المسح على الخفين» معروف حديث المغيرة بن شعبة في المسح على الخفين، وهو(1/67)
حديث واحد، متن واحد، فهو قال: عندي أربعة عشر حديثاً عن المغيرة بن شعبة، فالصحابي واحد والمتن واحد، ومع ذلك اعتبره أربعة عشر حديثاً أي عنده أربعة عشر إسناداً عن المغيرة في موضوع المسح على الخفين أو في حديث المسح على الخفين أو في متن المسح على الخفين، فاستعمل هنا كلمة حديث على الإسناد، وهذا أمر متداول
عند علماء الحديث، وكما قلنا آنفا ونذكركم دائماً بأن المصطلح الواحد تارة يطلق على معنى، وتارة أخرى يطلق على معنى آخر، وهذا من هذا الباب.
العلماء -رحمهم الله تعالى- نظروا في مستدرك الحاكم، والحاكم في مستدركه عمد إلى أن يخرج أحاديثاً جمعت شرائط الأحاديث الصحيحة، ليس هذا فقط، بل جمعت شرائط الشيخين على الأحاديث، كما قلنا إن البخاري ومسلماً لهما شرائط في الحكم على الحديث بكونه صحيحاً ولإدخاله لمثل هذه الأحاديث في كتابه الصحيح.
الإمام الحاكم النيسابوري أراد أن يستدرك على الصحيحين، فيخرج الأحاديث التي وجدت فيها شرائط الشيخين، ولم يخرج الشيخان هذه الأحاديث في الصحيحين، فصنف كتاباً سماه "المستدرك" على الصحيحين، فهو يخرج في هذا الكتاب الأحاديث التي يرى هو أنها تحققت فيها شرائط البخاري ومسلم أو أحدهما، والبخاري ومسلم لم يخرجا
هذه الأحاديث، فجمع كتاباً كبيراً مطبوع ومتداول، ولكن هذا الكتاب كان موضع نقد العلماء، فالعلماء -رحمهم الله تعالى- اعترضوا على الحاكم كثيراً في هذا الكتاب لأنه تساهل فيه غاية التساهل حتى يقول السيوطي في ألفيته:
وكم به تساهل حتى ورد*****فيه مناكر وموضوع يرد
يعني أن الكتاب مشتمل على أحاديث واهية ومنكرة وموضوعة، فضلاً عن أحاديث أخرى قد تكون بأسانيد أنظف، ولكنها لم تَسلم من علةٍ، سواء كانت علة ظاهرة أو علةً خفية، وأيضاً إنه يستدرك كثيراً من الأحاديث على الصحيحين، مع أنها من الأحاديث التي في البخاري وفي مسلم، وهو قد وَهِمَ في استدراك ذلك عليهما؛ فلهذا لم(1/68)
يقبل العلماء ذلك منه، ولكن ابن الصلاح مع ذلك يقول: "أنه يصفو له من الصحيح كثير على ما وجه له من انتقادات واعتراضات، إلا أنه يصفو له من الصحيح قدر كبير" والحافط ابن حجر لم يوافق ابن الصلاح على هذا، بل ذهب إلى أن هذا القدر الذي يسلم للحاكم في كتابه الصحيح ليس كثيراً ولا يصفو له الشيء الكثير، ثم هذا
القدر الذي يصفو للحاكم مع حكمنا له بالصحة أو بالحسن، إلا أنه لم يتحقق فيه شرط البخاري وشرط مسلم؛ لأن شرط البخاري وشرط مسلم أعلى من شرط الصحيح عموماً، فليس معنى أن الحديث قد سلمنا بصحته أو سلمنا بكونه حسناً محتجاً به أنه قد تحقق فيه شرط البخاري أو شرط مسلم، وهو إنما صنف الكتاب ليستدرك على الشيخين وما
كان على شرطهما، فمن هذه الحيثية لم تتحقق في أحاديث هذا الكتاب الشرط الذي اشترطه المؤلف نفسه، وهو أن يعمد إلى الأحاديث التي تحقق فيها شرط الشيخين فيخرجها في هذا الكتاب.
نكتفي بهذا القدر وننظر في أسئلة الإخوة ونسأل الله التيسير في الجواب عليها.
وردتنا إجابات على أسئلة الحلقة الماضية:
وكان السؤال الأول: هل الحديث الحسن يندرج تحت نوع الصحيح أو الضعيف؟
يقول: للإجابة على هذا السؤال وجهين:
- الوجه الأول: من حيث الحجية والعمل به، الحديث الحسن من هذا الوجه يندرج تحت نوع الحديث الحسن الصحيح المقبول المعمول به.
- الوجه الثاني: وفيه يفرق بين الحسن لذاته، والذي يندرج تحت نوع الصحيح، وبين الحسن لغيره، وبين الذي إذا نظر إليه منفرداً فإنه يندرج تحت نوع الضعيف، إلا أنه بعد جمع شواهده والقرائن، فإنه ينجبر ويرتقي ليصبح حسناً لغيره، ويندرج تحت نوع الصحيح.
في النهاية هو مندرج تحت نوع الصحيح أو المقبول عموماً.
السؤال الثاني: هل هناك فرق بين الحديث الشاذ أو المعلول، وإن كان فما هو؟
وكانت الإجابة: نعم، هناك فرق بين الحديث الشاذ والحديث المعلل:(1/69)
أما الحديث الشاذ: فهو مخالفة الثقة لمن هو أوثق منه. مثال ذلك: ما رواه عبد الرزاق من أصحاب الأعمش: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إذا صلى أحدكم سنة الصبح فليضطج على شقه الأيمن) فقد رواه عبد الرزاق من قول النبي -صلى الله عليه وسلم- وعبد الرزاق من ثقات أصحاب الأعمش، وقد خالف جمهور أصحاب الأعمش
الذين إنما رووه من فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- لا من قوله.
أما الحديث المعلل: فهو الحديث الذي اطلع فيه على علة قادحة في صحته مع أن الظاهر سلامته منها، ويعرف عن طريق جمع الطرق المختلفة في الحديث، ولا يعرفه إلا من كان له دربة وخبرة ودراية، قال عبد الرحمن بن مهدي: «معرفة علل الحديث» إلهام، وقد تكون العلة قادحة في السند فقط دون المتن، مثل حديث (البيعان بالخيار)
الحديث، فقد روي عن سفيان الثوري عن عمرو بن دينار عن ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأن الصواب أنه عن عبد الله بن دينار هكذا رواه الأئمة من أصحاب سفيان، وإن كان أكثر ما تكون العلة قادحة في السند والمتن معاً.
جزاه الله خيراً، أفادنا كثيراً في هذا الجواب، ولكن لم يجب عن السؤال؛ لأن السؤال هل هناك فرق بين الشاذ والمعلول أم لا؟ هو ذكر أن الشاذ والمعلول كلاهما يدرك بالاختلاف بين الرواة، فلم يجد فرقاً، فهل معنى ذلك أن الشاذ والمعلول عندهم سواء؟ إن كان يعتقد أن الشاذ هو والمعلول سواء فهو لم يقل ذلك، هو ذهب إلى
التفرقة وفرق بأن أتى لهذا بأمثلة تدل عليه، وهذا بأمثلة أخرى تدل عليه، فلم يجعل الشاذ معلولاً، ولا المعلول شاذاً، وذكر أن المعلول إنما يدرك بالاختلاف بين الرواة، والمثال الذي ذكره للشاذ أيضاً استدل على كونه شاذاً بالخلاف أيضاً الواقع بين الرواة فلم يفرق مع أنه فرق من حيث الاختيار، لكن الأمثلة لا
تنطبق على اختياره.(1/70)
الواقع أن هذه المسألة مما تكلم فيها العلماء، فمن أهل العلم من يدل صنيعه وكلامه على أن الشاذ والمعلول كلاهما سواء، مثلاً حينما نأتي إلى باب الشاذ نجد الحافظ ابن الصلاح -رحمه الله تعالى- ذكر: أن الشاذ إنما يدرك بطريقين وسبيلين:
- السبيل الأولى: التفرد ممن لا يحتمل تفرده.
- السبيل الثانية: الاختلاف بين الرواة.
فذكر هذين الطريقين لمعرفة كون الحديث شاذاً، ثم وجدناه في باب العلة، ذكر الطريقين، فذكر أن العلة تدرك بالتفرد ممن لا يحتمل تفرده، أو بالاختلاف بين الرواة مع القرائن المحتفة بالاختلاف، أو التفرد مما يستدل به على كون الحديث خطأ، فظاهر صنيع ابن الصلاح في البابين أن الشاذ والمعلول كلاهما عنده سواء؛ لأنه
في كل من النوعين وإن كان أفرد هذا وأفرد هذا فإنه مع ذلك إنما ذكر ما يدل أنهم شيء واحد، كما فعل في الشاذ أيضًا، والمنكر هو وإن كان أفرد هذا عن هذا وجعل لهذا باباً ولهذا باباً آخر إلا أن كلامه في البابين يدل على أنهما عنده سواء، وأنهما بمعنى واحدٍ، ولكن في تعريف الحديث الصحيح: هو اشترط مع ذلك أن يكون
الحديث سالماً من الشذوذ، سالماً من العلة، فاشتراطه في الحديث الصحيح أن يكون سالماً من الشذوذ سالماً من العلة، يدل على أنهما عنده متغايران.
نجد مثلاً الإمام الحاكم النيسابوري يفرق صراحة في كتابه معرفة علوم الحديث بين الشاذ والمعلول، فذكر الحديث الشاذ والحديث المعلول، أفرد لكل منهما باباً، ثم ذكر: «وليس الشاذ كالمعلول» صرح بذلك، فإن الشاذ هو أصل من الأصول ليس له متابع عليه.
أما المعلول: فهو ما يستدل على وقوع العلة فيه أو الخطأ فيه باختلاف الرواة، فإذا روى الأحاديث بعض الرواة موصولاً فخالفه غيرهم فأرسله، فنستدل بهذا الخلاف على خطأ المخطيء وإصابة المصيب، أو إذا روى أحد الرواة الحديث مرفوعاً ووقفه آخر، فنستدل بهذا الخلاف على إصابة المصيب، وخطأ المخطيء.(1/71)
إذن المخطيء سيكون حديثه حينئذٍ خطأً معلولاً، فهذا يدل على أن الشاذ عند الإمام الحاكم النيسابوري بخلاف المعلول، وأن العلة إنما تدرك بالاختلاف، بينما الشذوذ يدرك بالتفرد الذي لا يحتمل ممن جاء به، كأن يكون الراوي ليس من الحفاظ الكبار الذين يعتمد على تفرداتهم، لا سيما إذا تفرد عن بعض الحفاظ الكبار
كالزهري ونحوه، فمثل هذا التفرد يبعد أن يكون محفوظاً أو أن يكون مقبولاً لأدلة كثيرة ولقرائن تحتف بالرواية، وسيأتي بعضها في باب الأفراد -إن شاء الله تعالى-.
السؤال الأول: هل أن الصناعة الحديثية في صحيح مسلم أعلى منها في البخاري؟
السؤال الثاني: هل الأحاديث الواردة في كتاب الأدب المفرد هي أقل درجة مما في صحيح البخاري؟
أريد أن أكمل نقطة أولاً:
فالذي يدل على صنيع العلماء -عليهم رحمة الله تعالى- أن الأصل في العلة هي الخطأ الذي يدرك عن طريق الاختلاف بين الرواة، والأصل في الشذوذ هو الخطأ الذي يستدل عليه من حال الراوي ومدى أهليته لقبول ما يتفرد به، فيكون الراوي ليس أهلاً لذلك، لكونه ليس حافظاً، أو ليس متثبتاً، أو قد تكون الرواية وجد فيها من
المعاني ما يستبعد على مثل هذا الراوي أن يكون حفظها بحيث تخفى على أقرانه الذين لم يروا الحديث أو رووا الحديث على وجه آخر.
فالأصل في الشذوذ هو التفرد الذي لا يحتمل، والأصل في العلة الخطأ المستدل عليه بالاختلاف بين الروايات. وبطبيعة الحال: الشاذ والمعلول كلاهما خطأ، وإنما يفترقان في طريق إثبات الشذوذ أو طريق إثبات العلة.
كان له سؤالان:
السؤال الأول: عن أحاديث الأدب المفرد، هل هي أقل صحة من حديث صحيح البخاري؟(1/72)
لا شك أن أحاديث الأدب المفرد هي أقل صحة من أحاديث صحيح البخاري، بل فيها ما هو ضعيف، ولكن بالنظر في أحاديث الأدب المفرد يتبين لنا أنها على ما فيها من ضعف، أنه من الضعف الهين وليس من الضعف الشديد، وكتاب الأدب المفرد من أفضل الكتب التي ألفت في الرقائق والآداب؛ لأن الضعيف فيها قليل فضلاً عن كونه مع ضعفه
ليس منكراً أو باطلا أو موضوعاً.
السؤال الثاني: يقول: هل الصناعة الحديثية في صحيح مسلم أعلى من الصناعة الحديثية في صحيح البخاري؟
بطبيعة الحال: هذا سؤال تخصصي جداً، ولكي نتكلم فيه نريد شيئاً من الإسهاب؛ لأن هذه مقولة قليت بأن الصناعة الإسنادية هي في صحيح مسلم أقوى من الصناعة الإسنادية في صحيح البخاري، قائل هذه المقولة إنما نظر إلى أن الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- يسوق في كل باب من الأبواب روايات الحديث كلها، ويقدم بعضها على
بعض بحسب الأصحية، ويشير ببعض العبارات أو ببعض التركيبات إلى بعض الأخطاء في الإسناد أو في المسند التي وقعت من قبل الرواة، وهو أشار إلى ذلك إشار لطيفة في مقدمة كتابه، فبطبيعة الحال: هذه فوائد إسنادية وفوائد عللية يعرف قدرها أهل الاختصاص، ولكن هذا أيضاً موجود في صحيح البخاري، فالبخاري -عليه رحمة الله
تعالى- أيضاً يشير إلى ما وقع من قبل بعض الرواة من أخطاء سواء كانت إسنادية أو متنية، وكلها عن سبيل الإشارات، لا يفهمها إلا أهل الاختصاص، وأيضاً هو يرتب أحاديث كل باب ترتيباً في غاية البراعة يقصد منه أيضًا: بيان الراجح والمرجوح عنده، فضلاً عن أن اختياره للحديث في الباب، يكون له فيه كثير من الدلالات،(1/73)
فتجد الحديث الواحد مثلاً يرويه البخاري في باب مطولاً، وفي باب آخر مختصراً، وتارة يرويه بإسناده، وتارة أخرى يرويه بإسناد آخر؛ ليشير إلى نوع اختلاف في القدر الذي يتعلق بهذا الباب، فقد يكون الحديث مشتملاً على عدة جملٍ، فإذا بالبخاري -رحمه الله تعالى- يخرج الحديث في بابه الرئيسي إذا كانت هذه الجملة عنده
صحيحة، ومع ذلك قد تكون بعض جمل الحديث غير صحيحة فلا يختارها لهذا الباب، ومع ذلك يسوقها مع الحديث بناءً على أنه يروي الرواية كما تحملها، حتى لا يقال إن البخاري تصرف فيها، من ذلك: حديث رواه في كتاب المناقب، هذا الحديث الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- يرويه بإسنادين، إسناد صحيح في فضل الخير وأعقبه أو
جاء في ثنايا الإسناد قصة، هذه القصة في إسنادها الحسن بن عمارة وهو متروك الحديث، وفي إسنادها رواية عن مبهمين عن أهل الحي، ومع ذلك خرجه البخاري الإمام الحافظ ابن حجر، بين أن البخاري لم يقصد أن يخرج هذه الرواية التي جاء بها الحسن بن عمارة، وإنما جاء بها ليقارن بينها وبين الرواية التي هي أصل الباب والتي
ذكرها أصالة؛ ليشير إلى نوع من سياق القصة، حتى إذا ما اختصرها مختصر فلربما أوهم خلاف الحقيقة، وهذا من بدائع الإمام البخاري -عليه رحمة الله تعالى- ولكي نتكلم عن البخاري وعن ترتيبه لأحاديث كتابه فإننا نحتاج إلى محاضرة.
السؤال الأول: ما الفرق بين المسند والمرفوع؟
المسند مشتمل على الوصفين، وصف الاتصال ووصف الرفع، فهو مرفوع متصل إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وهناك من أهل العلم - كما ذكرنا آنفا- من يطلق المسند على المرفوع وإن لم يكن متصلاً، ومن يطلق المسند على المتصل وإن لم يكن مرفوعاً، فهنا صار المسند مستعملاً في المعاني الثلاثة، طالب العلم ينبغي(1/74)
عليه أن يعرف هذه المعاني كلها حتى إذا ما وجد إمام يستعمل المسند بمعنى المرفوع وإن لم يكن متصلاً، أو المسند بمعنى المتصل وإن لم يكن مرفوعاً، ينبغي عليه أن يعرف هذه المعاني حتى يفهم كلام كل إمام بحسب مراده، ما دام أن المصطلح من المشترك اللفظي الذي يطلق ويراد به تارة معنى، وتارة معنى آخر.
السؤال الثاني: يقول: ما الثمرة العملية المترتبة على عد الحسن نوع مندرج تحت أحد النوعين أو اعتباره قسماً برأسه؟
العلماء -رحمهم الله تعالى- حينما تكلموا في هذه المسألة، وتناولوها إنما تناولوها؛ لأن في تناولها فائدة عظيمة جداً، نحن قلنا: إن علماء الحديث لهم اصطلاحات، هذه الاصطلاحات يلزم طالب العلم أن يتعلمها وأن يفهمها وأن يتفقه فيها؛ ليفهم كلام القوم كما يريدون، لا كما يريد هو، وإنما كما أرادوا، هم أطلقوا
الحسن واستعملوا الحسن بكثرة في كلامهم، ثم عبروا عن هذا النوع من الحديث وهو الحسن بأنه يحتج به، واحتجوا به فعلاً في كلامهم وفي تعاملهم مع الأحاديث والروايات، ثم وجدنا إماماً كالإمام أحمد يضعف الحديث ثم يحتج به، بعض الأحاديث يضعفها ثم يحتج بها، وإن كان هناك أحاديث ضعيفة أخرى ضعفها ولم يحتج بها.
فعرف العلماء أن هذا الضعيف الذي وصفه بأنه ضعيف ثم احتج به إنما أراد بالضعيف ها هنا ما يقصده الترمذي من قوله حسن، أي الضعيف المنجبر الضعيف المتقوي بغيره، الضعيف الذي يرتقي بمجموع الروايات والشواهد والمتابعات إلى مصاف الحجة؛ فيكون حينئذٍ من الحديث المقبول المحتج به.
أما الحديث الضعيف الذي ضعفه الإمام أحمد ثم لم يحتج به وتركه وأهمله ولم يعرج عليه ولم يلتفت إليه فهذا النوع من الحديث هو من الضعيف جداً عند الإمام أحمد ولا يبني عليه حكماً ولا يستنبط منه معنى.(1/75)
فمعرفة الخلاف بين أهل العلم في هذه المسألة هل القسمة ثنائية أو ثلاثية؟ وهل الحسن مندرج تحت قسم الصحيح أم تحت قسم الضعيف؟ في غاية الأهمية حتى نفهم مراد علماء الحديث على وجهه، فنفهم أن الإمام أحمد حيث قال ضعيف ثم احتج بالحديث أنه لم يقصد بالضعيف ها هنا الضعيف جداً، وإنما الضعيف المنجبر بغيره فهو كمثل
الحسن الذي يحسنه الإمام الترمذي؛ لأنه يعمد إلى الحديث الضعيف فيرقيه إلى مصاف الحجة بالشواهد والمتابعات وبالروايات الأخرى.
أيضًا: من فوائد معرفتة الخلاف لهذه المسألة، محاولة الجمع بين الأقوال التي قد يكون ظاهرها التعارض من أقوال أهل العلم، نجد الحديث الواحد إماماً يصفه بأنه حسن، وإمام آخر يقول: لا يصح في الباب حديث كما جاء عن الإمام أحمد -عليه رحمة الله تعالى- يقول: لا يصح في الباب حديث ثم نجد الترمذي يحسن هذا الحديث،
أو إمام آخر يحسن هذا الحديث الذي قد أثبت الإمام أحمد أنه ليس فيه حديث صحيح، أو لا يثبت بإسناد من الأسانيد، فنجمع بين أقوال العلماء ونقول: ليس هذا الكلام من المتعارض ولا من الأحكام المتعارضة بل هذا صرح بأن الحديث حسن بعد أن نظر في مجموع هذه الروايات، والإمام الآخر إنما حكم على كل رواية على حدة بأنها
رواية لا تصح بمفردها أو لا يحتج بها بمفردها، وإن كان الحديث بمجموعه صالحا للحجة.
السؤال الأول: أيهما أصح صحيح البخاري أو مسلم ولماذا؟
السؤال الثاني: اذكر شرائط الحكم على الحديث بأنه على شرط الشيخين أو أحدهما؟ وهذا أيضاً سؤال لم نذكره في كلامنا، وعلى طالب العلم أن يبحث في كتب العلم وأن يفيدنا بجوابه.
أعلى الصفحة
الرئيسة ????? ?????????? ????? ???? ?????????? ?????? ???????
???? ?????? - ??????? ??????
المؤلف: ????? ?????/ ???? ?? ??? ????
الوصف: ?????? ??????? ????? ???? ?????? -??????? ?????? - ??? ?????? ???? ?????? ?????? ??? ????
ارسل الصفحة لصديق(1/76)
معاينة طباعة الصفحة
رؤية مكبرة
--------------------------------------------------------------------------------
الدرس الرابع: المستخرجات على البخاري ومسلم
إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وبعد:
كان آخر ما تكلمنا فيه في اللقاء الماضي: ما يتعلق بالصحيح الزائد على ما في صحيح البخاري وصحيح مسلم -عليهما رحمة الله تعالى- هل هو كثير أم قليل؟ وذكرنا في غضون ذلك ما ذكره الحافظ أبو عمرو بن الصلاح -رحمه الله تعالى- من أن مستدرك الحاكم على ما فيه من تساهل معروف بحيث اشتمل على أحاديث ضعيفه وموضوعة
ومعلولة إلا أنه مع ذلك في نظر الحافظ ابن الصلاح، يصفوا له قدر كبير من الأحاديث الصحيحة، وتطرقنا في غضون ذلك إلى شرط الحاكم، ومعنى قوله: المستدرك على الصحيحين، ولم نفصل ذلك كما ينبغي فننتهي منه أولاً، ثم نعرج بعد ذلك على بقية مسائل هذا الباب.
الإمام الحاكم النيسابوري -عليه رحمة الله تعالى- ألف كتاب المستدرك، وسماه بالمستدرك على الصحيحين، وشرط الإمام الحاكم النيسابوري في هذا الكتاب: أن يعمد إلى الأحاديث التي تحقق فيها شرط البخاري وشرط مسلم أو شرط أحدهما، ومع ذلك لم يجد البخاري ولا مسلماً قد خرجا هذه الأحاديث، فهو يستدرك عليهما، الصحيح
الذي هو على شرطهما ولم يوجد في كتابيهما، وما غرضه من ذلك إلا أن يشتمل كتابه على البقية الباقية من الأحاديث الصحيحة التي تحقق فيها شرط البخاري وشرط مسلم، فما هو شرط البخاري وما هو شرط مسلم؟(1/77)
بطبيعة الحال فإن ما عرفناه سابقاً من شرط الحديث الصحيح هو شرط البخاري وشرط مسلم، فالإمام ابن الصلاح -رحمه الله تعالى- في أول نوع الصحيح عرف الحديث الصحيح، وتبعه على ذلك الإمام ابن كثير -رحمه الله- فذكر أن الحديث الصحيح هو المسند المتصل إسناده بنقل العدل الضابط عن العدل الضابط إلى منتهاه ولا يكون
شاذاً ولا معلولاً، ونحن شرحنا هذا التعريف في مكانه، فالحديث الصحيح الذي يحكم له بالصحة عند علماء الحديث، هو الحديث المشتمل على هذه الأوصاف كلها، أن يكون إسناده متصلاً بنقل العدول الضابطين، وهم الثقات كما أشرنا إلى ذلك سابقاً، ولا يكون مع ذلك شاذاً ولا معلولاً، أي لا يكون هذا الثقة الذي روى ذلك
الحديث قد أخطأ في هذا الحديث واستدللنا على خطئه إما بشذوذ روايته أو بوقوع علة فيها، كما سيأتي تفصيل ذلك في موضعه في مبحث الشاذ ومبحث المعلول.
فلا شك أن شرط البخاري ومسلم من حيث الأصل هو هذا الشرط: أن يكون الحديث مشتملاً على أوصاف الصحيح التي ذكرناها، إلا أن العلماء - عليهم رحمة الله تبارك وتعالى- عندما يعمدون إلى الحكم على حديث من الأحاديث التي هي خارج الصحيحين بأنه على شرط البخاري أو على شرط مسلم أو على شرط البخاري ومسلم معاً، لا يكتفون
بهذا، لا يكتفون بمجرد تحقق الصحة في هذا الحديث ، بل يشترطون أموراً زائدةً، اعتقاداً منهم بأن الإمام البخاري، والإمام مسلم - عليهما رحمة الله تبارك وتعالى- قد انتقيا كتابيهما، فليس كل صحيح أودعاه هذه الكتاب، فليس كل صحيح في نظر الإمام البخاري أدخله في كتابه الصحيح ولا كل صحيح في نظر الإمام مسلم أدخله(1/78)
أيضاً في كتابه الصحيح، وإنما انتقى جملة من الأحاديث هي من أعلى مراتب الصحة - كما أشرنا إلى ذلك سابقاً- فنحن إن وقفنا على حديث وأردنا أن نعرف هل فعلاً تحقق فيه شرط البخاري أو شرط مسلم أو شرطهما معاً أم لا؟ هل تحقق بالفعل في هذا الحديث أم لا؟ شرط البخاري وحده، أو شرط مسلم وحده، أو شرطهما معا، وهذا
بطبيعة الحال لا يخفي أن يكون الحديث متحققاً قد تحققت فيه شرائط الصحة، بل لابد أن يراعي الأمور التي سيأتي بيانها -إن شاء الله تعالى-.
الحاكم النيسابوري في مقدمة كتابه المستدرك ذكر أن الأحاديث الصحيحة التي في الصحيحين ليست هي بآخر الموجود من الصحيح، بل هناك أحاديث كثيرة صحيحة خارج الصحيحين، وهو يريد أن يستدركها على البخاري وعلى مسلم، وذكر في غضون كلامه أن الإمام البخاري وكذلك مسلماً لا يراعيان سلامة الحديث من العلة، وأنهما لم
يتقيدا بذلك، وهذا كان موضع إنكار العلماء - عليهم رحمة الله تبارك وتعالى- على الحاكم النيسابوري، وبينوا أن البخاري ومسلماً -رحمهما الله- لا يُخَرِجان في الصحيح إلا ما ترجح لديهما أنه سالم من الشذوذ وسالم من العلة، وأن راويه أصاب فيه ولم يخطئ فيه، فهذا يدل على أن الإمام البخاري ومسلماً عند نقاد العلم
إنما اشتراطه في الحديث أن يكون صحيحاً لتلك الشرائط التي سبق بيانها.
عندما نأتي إلى حديث ونقول: هو على شرط البخاري، أي تحقق فيه شرط البخاري، وإن لم يدخله البخاري في صحيحه، أو هو على شرط مسلم، وإن لم يدخله مسلم في صحيحه، نراعي أموراً:
- الشرط الأول: متعلق برواة هذا الإسناد، هذا الحديث الذي جاءنا ونحن نريد أن نحقق، هل هو تحقق فيه شرط البخاري ومسلم أم لا؟ فلابد أن ننظر في هؤلاء الرواة، هل خَرَّج لهم في الصحيحين ولو في موضع من المواضع؟ فإن وجدنا هذا الراوي أو بعض رواة هذا الحديث الذي نحن بصدد الكلام عليه، لم يخرج له في الصحيحين(1/79)
فحيئذٍ لا يكون ذلك الحديث على شرط البخاري ولا على شرط مسلم أبداً.
بل لابد أن يكون كل رواة هذا الإسناد ممن خَرَّجَ له في الصحيحين، أو أحدهما، فحينئذٍ ننظر فيما يأتي من شرائط أخرى، قد يقول قائل: وقفنا على حديث في كتاب متأخرٍ عن البخاري ومسلم، وليكن مستدرك الحاكم، وليكن صحيح ابن خزيمة، وليكن سنن البيهقي مثل هذه الكتب التي أصحابها متأخرون في الطبقة، وفي الزمن عن
البخاري ومسلم، فبالضرورة هناك جملة من الرواة لا يمكن أن يخرج لهم البخاري ومسلم، وقد وجدوا في هذا الحديث فشيخ الحاكم مثلاً هو من طبقة دون طبقة البخاري ودون طبقة مسلم، دون الزمن الذي وجد في البخاري، ودون الزمن الذي وجد فيه مسلم، فكيف نشترط أن يكون رواة هذا الإسناد قد خرج لهم في الصحيحين؟ وهؤلاء لا
يمكن أن يكونوا في الصحيحين؛ لأنهم وجدوا في زمن متأخر عن زمن البخاري وعن زمن مسلم؛ ولهذا يقول العلماء: إن قولنا إنه ينبغي أن يكون هؤلاء الرواة قد خرج لهم في الصحيحين، أي الرواة الذين يمكن للبخاري ويمكن لمسلم أن يرووا عنهم كأن يكونوا من طبقة شيوخ البخاري أو شيوخ شيوخه فصاعدا، ولا يكون من طبقة دون طبقة
البخاري أو زمن البخاري أو مسلم، إنما نكتفي فقط أن يكون إسناد الحاكم إلى طبقة شيوخ البخاري ثقات، أن يكونوا ثقات، يعتمد عليهم ويحتج بروايتهم، فحينئذ نستطيع أن نُثبت بمقتضى هذا الإسناد الصحيح الذي يرويه الثقات إلى طبقة شيوخ البخاري أو شيوخ مسلم، أن هذا الإسناد صح، أن واحدًا من طبقة شيوخ البخاري، أو
واحدًا من طبقة شيوخ مسلم، قد رواه بالفعل، ثم ننظر بعد ذلك في تحقق كون هؤلاء الرواء الذين هم في هذه الطبقات العالية قد وجد حديثهم في الصحيحين أم لا؟(1/80)
إذن الشرط الأول: أن يكون هؤلاء الرواة قد خرج لهم في الصحيحين بالفعل، وليس يكتفى بذلك أن يكون الراوي ثقة، قد يكون ثقة ولكنه لم يخرج له في الصحيحين، فحينئذ نحكم على حديثه بالصحة، لكن لا نقول: إنه على شرط البخاري ولا على شرط مسلم، فثقة هذا الراوي تكفي لأن نحكم على حديثه بأنه من قسم الصحيح المقبول، لكن
أن نصفه بهذا الوصف الزائد، هو أن يكون الحديث من شرط البخاري أو شرط مسلم، فهذا لابد أن يكون الرواة هم الرواة، رواة هذا الإسناد موجودون بالفعل في موضع أو مواضع في صحيح البخاري أو صحيح مسلم.
- الشرط الثاني: أن يكون كل راوٍ من هؤلاء الرواة الذين خرج لهم في الصحيحين، قد خرج لهم في الصحيحين عن شيخه الذي يروي عنه ذلك الحديث الذي نحن بصدده.
الراوي قد يكون له أكثر من شيخ، البخاري أو مسلم قد رووا لهذا الراوي عن بعض مشايخه دون البعض الآخر، وهؤلاء المشايخ الذين لم يروي البخاري أو مسلم لهذا الراوي عنهم قد خرج لهؤلاء المشايخ عن رواة آخرين، من طريق رواة آخرين، فالرواة من حيث الأفراد موجودون في الصحيحين، ولكن هذه التركيبة فلان عن فلان، زيد عن
عمر لم تقع في موضع في صحيح البخاري، ولا في صحيح مسلم.
ولكي نحكم على هذا السند الذي بين أيدينا بأنه على شرط البخاري أو على شرط مسلم، لابد أن يقع الإسناد هكذا، رواية هذا الراوي عن هذا الشيخ على هذه الكيفية، وتلك الصفة في صحيح البخاري أو في صحيح مسلم، حينئذ نقول: إن الحديث على شرط البخاري أو على شرط مسلم.
فمثلاً: هناك الإمام محمد بن شهاب الزهري، وهذا من الثقات الحفاظ الكبار، وهو من رجال البخاري ومن رجال مسلم أيضاً، وهناك راوٍ يروي عن الزهري اسمه سفيان بن حسين، هذا أيضاً من جملة الثقات، وهو مخرج حديثه في الصحيحين، ولكن البخاري ومسلماً لم يخرجا لهذا الراوي عن الزهري خاصة، وإنما خرجا له عن غير الزهري من(1/81)
مشايخه؛ لأن البخاري ومسلماً ينتقيان من حديث الراوي ما ترجح لديهما أنه أصاب فيه ولم يخطئ فيه.
العلماء نظروا في أحاديث سفيان بن حسين، فوجدوه إذا روى عن غير الزهري يصيب، وإذا روى عن الزهري خاصة يخطئ. كيف عرف العلماء ذلك؟
ما أشرنا إليه من كونهم سلكوا مسلك الاعتبار والتتبع، السبق، التفتيش، دراسة الأسانيد، دراسة رواية الراوي روايةً روايةً, وحديثاً حديثاً، فتبين لهم من خلال هذا التتبع والاستقراء، أن هذا الراوي إذا روى عن الزهري يخطئ، أما إذا روى عن غير الزهري فلا يخطئ، فكأنه لم يتقن حفظ حديث الزهري كما ينبغي، فوقعت
الأخطاء والمناكير في حديثه الذي يرويه عن الزهري، سفيان بن حسين مخرج حديثه في الصحيحين، الزهري مخرج أيضاً حديثه في الصحيحين، لكن سفيان بن حسين عن الزهري لم يقع في موضع من المواضع في الكتابين؛ فلهذا يأتي العلماء يقولون: هذا ثقة وهذا ثقة، هذا من رجال البخاري ومسلم، وهذا من رجال البخاري ومسلم، ومع ذلك:
فالحديث ليس على شرط البخاري ولا على شرط مسلم؛ لأن البخاري ومسلماً تجنبا من حديث سفيان بن حصين ما يرويه عن الزهري خاصة، فكيف تعمد أنت إلى ما تجنبه صاحب الصحيح وتدعي أنه على شرط الصحيح.
وقد يكون أحد الراويين من رجال أحد الشيخين، والآخر من رجال الشيخ الآخر، يعني البخاري خرج لبعض الرواة، ولم يخرج لبعض مشايخه، ومسلم خرج للشيخ ولم يخرج للراوي كما وقع لسماك بن حرب فيما يرويه عن عكرمة مولى ابن عباس -رضي الله عنهما-، سماك من جملة الثقات، وعكرمة أيضاً من جملة الثقات، نستطيع إن نظرنا في هذا
الإسناد أن نحكم نظرة سطحية فنقول: إسناد رجاله ثقات، لكن أن يكون صحيحاً شيء آخر، أن يكون على شرط البخاري أو مسلم شيء آخر أيضاً، ما هذا الأمر؟(1/82)
العلماء يقولون: إن سماك بن حرب وإن كان من جملة الثقات، إلا أنه كان يخطئ فيما يرويه عن عكرمة خاصة، فالإمام مسلم -رحمه الله تعالى- خرج في كتابه لعكرمة، ولم يخرج لسماك بن حرب، والبخاري خرج لسماك بن حرب، ولم يخرج لعكرمة، فهل عكرمة من شرط البخاري؟ ليس من شرط البخاري، وإن كان من شرط مسلم، سماك من شرط
البخاري؟ نعم، هو من شرط البخاري، ولكن ليس من شرط مسلم. فإذا عمدنا إلى حديث فوجدناه من رواية سماك بن حرب عن عكرمة فيكون من شرط البخاري أم من شرط مسلم؟
العلماء يقولون: لا يكون لا من شرط البخاري، ولا من شرط مسلم؛ لأن البخاري لم يخرج لسماك عن عكرمة، ومسلم لم يخرج لعكرمة من طريق سماك فهذه التركيبة، رواية هذا الراوي عن ذاك ليست موجودة في موضع من المواضع لا في صحيح البخاري، ولا في صحيح مسلم، وعلى هذا فلا يحكم على الإسناد إذا كانت هذه صفته بأنه على شرط
البخاري ولا على شرط مسلم. أمر أبلغ من هذا: عندنا حديث روي بإسنادين أحد الإسنادين على شرط البخاري، يعني رجاله رجال البخاري بالشرائط المعتبرة، والإسناد الآخر هو على شرط مسلم دون البخاري، رجاله مخرج على الكيفية الموجودة في الإسناد في صحيح مسلم، وليس في صحيح مسلم، إذن عندنا حديث عن المثنى له إسنادان،
أحد الإسنادين تحقق فيه شرط البخاري، والإسناد الآخر تحقق فيه شرط مسلم، فلك أن تقول في الإسناد الأول: إنه على شرط البخاري، وفي الإسناد الآخر: إنه على شرط مسلم، لكن ليس لك أن تقول بناءاً على أن الحديث له إسنادان، أحدهما على شرط البخاري، والآخر على شرط مسلم: إن الحديث حينئذ يكون على شرط البخاري ومسلم،
أو على شرط الشيخين؛ لأن شرط الشيخين أن يكون الحديث قد اشتمل على رواة خرج لهم في الصحيحين معاً، ولم يختص البخاري بهم ولا مسلم بهم.
إذن الشرط الثاني: أن يكون البخاري ومسلم قد خرجا لهذا الراوي على الكيفية الموجودة في هذه الرواية التي بين أيدينا.(1/83)
- الشرط الثالث: أن يكون الحديث سالماً من العلة والشذوذ؛ لأن الشذوذ والعلة لا يمكن أن يكونا موجودين في حديث على شرط البخاري، أو على شرط مسلم؛ لأن البخاري ومسلماً -رحمهما الله تعالى- يشترطان في صحة الحديث أن يكون سالماً من الشذوذ، سالماً من العلة، فكيف أعمد أنا إلى الحديث الشاذ أو الحديث المعلول
فأنسبه إلى شرط البخاري، وأقول هو على شرط البخاري أو على شرط مسلم، أو على شرط الشيخين؟ هذا لا يكون. إنما لابد أن يكون الحديث سالماً من الشذوذ والعلة.
ولهذا نجد العلماء أحياناً يعمدون إلى أحاديث رويت بنفس إسناد الصحيح، ولكنها متون أخرى؛ لأن المتن قد يروى بأكثر من إسناد، والسند قد يروى به جملة كثيرة من الأسانيد، فالمتن قد يختلف والإسناد واحد، راوي عنده جملة أحاديث، نسخة من النسخ، يرويها بإسناد عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذه النسخة مشتملة على
جملة من الأحاديث، فنجد البخاري ومسلماً لا يخرجان كل ما روي بذلك الإسناد، بل ينتقيان -كما أشرنا إلى ذلك آنفا- ينتقيان من هذه النسخة ما أصاب فيه الراوي، ويطرحان ما أخطأ فيه ذلك الراوي، مع أن الإسناد هو الإسناد، والراوي هو الراوي - ولكنه كما قلنا آنفا- يصيب كما يصيب الناس، ويخطئ كما يخطئ الناس، فإذا
أصاب تجد حديثه في الصحيحين -إن شاء الله- وإذا أخطأ يتجنب البخاري ومسلم إخراج حديثه.
هناك مثلاً ترجمة موجودة في صحيح مسلم يحتج بها مسلم في مواضع، وهي عبارة عن نسخة يرويها رجل اسمه أبي العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب عن أبيه عن أبي هريرة عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- هذا الإسناد روى به العلاء بن عبد الرحمن جملة من الأحاديث بهذا الإسناد عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-،(1/84)
نجد الإمام مسلماً -رحمه الله تعالى- في كتاب الصحيح، ينتقي من هذه النسخة الأحاديث الصحيحة التي حفظها الراوي ويتجنب ما أخطأ فيه من المتون؛ ولهذا يقول الإمام أبو يعلى الخليلي -رحمه الله- في كتاب الإرشاد في معرفة علماء البلاد، لما تكلم عن العلاء بن عبد الرحمن، وعن روايته عن أبيه عن أبي هريرة بهذه
النسخة، قال: "إن مسلما احتج بأحاديثه المشاهير، وتجنب من أحاديثه الشواذ". أي: الأخطاء. فالإسناد هو الإسناد يروى به متناً فيكون صواباً، ويروى به متناً آخر فيكون خطأً؛ لأننا - كما قلنا آنفا:- الحديث الذي يرويه الثقة لا يكون صحيحاً إلا إذا سلم من الشذوذ والعلة.
فالثقة إذا جاء بحديث شاذ كان خطأً غير صحيح، أو الثقة إذا جاء بحديث معلول كان خطأ غير صحيح، وعليه فلا يكون من جملة الأحاديث الصحيحة، ولا يكون من الأحاديث المقبولة، فضلاً عن أن يكون في صحيح البخاري أو مسلم أو على شرط البخاري أو على شرط مسلم، لاسيما إذا كان الحديث الذي نحن بصدد الحكم عليه هل تحقق فيه
شرط البخاري ومسلم أم لم يتحقق فيه ذلك؟
وجدنا البخاري نفسه قد أعله، أو مسلما نفسه قد أعله، نجد أحياناً الحاكم النيسابوري -كما أشرنا إلى تساهله في هذا الباب- يعمد إلى أحاديث ليست في البخاري ولا في مسلم، فيستدركها على البخاري وعلى مسلم، ويحكم عليها بأنها قد تحقق فيها شرط البخاري ومسلم، فيقول: صحيح على شرط البخاري ومسلم، وبعد أن ندرس الحديث
وننظر في أقوال أهل العلم يتبين لنا أن البخاري نفسه قد أعله وضعفه، أو أن مسلما نفسه قد أعله وضعفه. فإذا كان البخاري نفسه قد ضعفه، كيف يكون على شرطه؟ إذا كان مسلم نفسه قد ضعفه، كيف يكون على شرطه؟!(1/85)
فهذا مما يؤكد كون البخاري ومسلم إنما تجنبا إخراج هذا الحديث قاصدين لذلك، وأنهما لم يغفلا عنه، ولم يقع ذلك منهما على سبيل السهو والنسيان, إنما هما قصدا قصداً عدم إخراج هذا الحديث في الصحيحين، فكيف أنت تعمد فتستدرك عليهما ذلك الحديث وهما إنما تجنباه عامدين لذلك قاصدين؟
- الشرط الخامس: لكي يكون الحديث موصوفاً بكونه على شرط البخاري أو على شرط مسلم أن يكون رجال هذا الحديث - الذين هم بين أيدينا- ممن تعمد البخاري ومسلم الإخراج عنهما، ولم تقع رواية هؤلاء الرواة في الصحيحين أو أحدهما اتفاقاً وعرضاً لا قصداً، ما هذه القصة؟
هناك جملة من الأحاديث، وهي معروفة لدى أهل الاختصاص، ومواضعها معروفة، وهذا مما يتميز به المتخصص عن غيره، فغير المتخصص يعرف أحاديث الصحيحين، لكن المتخصص يعرف تفصيل أحاديث الصحيحين، ما تعمد البخاري إخراجه، وما قصد إخراجه، وأتى به في هذا الموضع، وما وقع ذلك منه اتفاقاً لا قصداً، وإنما أدخله في كتابه
الصحيح لغرض من أغراض التصنيف.
نضرب مثالاً يوضح المقال: عندنا حديثان كلاهما يرويه الإمام الزهري -رحمه الله تعالى- عندما ندرس هذا العلم ستسمع اسم الزهري كثيراً، وستسمع اسم أحمد بن حنبل كثيراً، ويحيى بن معين كثيراً، والدارقطني كثيراً، وابن عدي كثيراً، وسفيان بن عيينة، وسفيان الثوري كثيراً، هؤلاء أئمة هذا العلم، بقدر معرفتك بهؤلاء
العلماء، وهؤلاء الكبار بقدر ما تحسن فهم هذا العلم، وبقدر معرفتك لمناهجهم وقواعدهم ومسالكهم في معالجة الأساليب والمتون، بقدر ما يفتح الله -تبارك وتعالى- عليك في إدراك غوامض هذا العلم.(1/86)
حديثان يرويهما محمد بن شهاب الزهري، الإمام الزهري كلاهما يرويه عن أبي هريرة، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الزهري من صغار التابعين وهو لم يسمع من أبي هريرة، وإنما أخذ الحديث الأول عن بعض مشايخه الذين يروون عن أبي هريرة من كبار التابعين، والحديث الآخر عن تابعي آخر كبير أيضاً، عن أبي هريرة، عن
رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-.
الحديث الأول: يرويه الزهري عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- أنه قال: (إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم).
الحديث الآخر: يرويه أيضاً الإمام الزهري -رحمه الله تعالى- عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، ابن الصحابي المعروف عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة، عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- أنه قال: (اشتكت النار إلى ربها، فقالت يا رب: أكلت بعضي بعضاً، فأذن لها الله -عز وجل- بنفسين في الصيف وفي الشتاء، فهو
أشد ما تجدون من الحر، وأشد ما تجدون من الزمهرير).
هذان حديثان، كلاهما يرويه الزهري، الحديث الأول: يرويه الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة، عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-. والحديث الآخر: يرويه الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-. فأنت إذا أردت أن تروي ذلك الحديث، عن الزهري ماذا تقول؟ إذا أردت أن تروي الحديث
الأول عن الزهري ستذكره من رواية الزهري عن سعيد عن أبي هريرة وإذا أردت أن تروي الحديث الآخر عن الزهري ترويه عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- لا شك أن سعيداً من الثقات، وأن أبا سلمة من الثقات، بل هما من الحفاظ الكبار، ولكن علماء الحديث يدققون في الأسانيد، من
شيخ الزهري في هذا الحديث؟ ومن شيخه في الحديث الآخر؟(1/87)
هل الزهري رواه عن سعيد أم عن أبي سلمة؟ كل ذلك يدرك أهميته أهل الاختصاص، وتمييزه وتحقيقه في غاية الأهمية عند المتخصصين، إذا أردت أن تجمع الحديثين في سياق واحد، فماذا تقول؟ ستقول: عن الزهري عن أبي سعيد عن أبي هريرة تسوق المتن الأول، ثم عن الزهري عن أبي سعيد عن أبي سلمة عن أبي هريرة ثم تسوق المتن
الثاني، إلا أن بعض الرواة عن الزهري جمع بين المتنين من غير أن يميز شيخ الزهري في المتن الآخر فحمله على المتن الأول، ماذا فعل؟
جاء سفيان بن عيينة -رحمه الله تعالى- وروى الحديثين معاً في سياق واحد، فقال: عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة، فإن شدة الحر من سيح جهنم، واشتكت النار إلى ربها ... ) فساق بقية النص، هذا السياق يفهم منه، أن حديث: (اشتكت
النار إلى ربها) يروى أيضاً عن سعيد بن المسيب، كما يروى بذلك حديث الأمر بالإبراز.
الإمام أحمد بن حنبل، والإمام الدارقطني، وغيرهما، من حفاظ الحديث، قالوا: هذا الحديث أعني حديث: (اشتكت النار إلى ربها) ليس هو من حديث سعيد بن المسيب، إنما هو من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن، وأن ابن عيينة أخطأ على الزهري، حيث دمج الحديثين معاً، من غير أن يميز شيخ الزهري في الحديث الآخر، فأوهم أنه يرويه
أيضاً عن سعيد بن المسيب، كما يروي الحديث الأول، والصواب أنه من حديث الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة.
وجدنا البخاري -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- خرج هذا الحديث في موضعين من صحيحه، هنا يأتي الشاهد:
- الموضع الأول: في كتاب المواقيت، في باب الإبراد لصلاة الظهر، ثم ساق رواية ابن عيينة بتمامها كاملة تامة، يعني ساق حديث الإبراد: (إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم ، واشتكت النار إلى ربها)، نحن نفهم كأهل اختصاص أن البخاري لم يقصد في هذا الموضع إلا الحديث الأول الذي هو موضوع هذا(1/88)
الباب؛ لأنه في باب المواقيت في الإبراد بصلاة الظهر، وهذا يؤخذ من الحديث الأول أم من الحديث الآخر؟ من الحديث الأول, وقد علمت أن الحديث الأول قد أصاب فيه ابن عيينة؛ لأنه رواه عن سعيد، وهو أيضاً عن سعيد، وإنما الخطأ في حديثه الآخر، حيث رواه عن سعيد، وليس هو من حديث سعيد، إنما هو من حديث أبي سلمة بن عبد
الرحمن.
- الموضع الآخر: وجدنا البخاري خرج حديث: (اشتكت النار إلى ربها) من حديث أبي سلمة فقط، في أواخر الكتاب في باب صفة النار، وهذا موضوعه، وهذا موضعه، وهذا الباب الذي يليق به، (اشتكت النار إلى ربها) إلى آخر الحديث.
فنحن كأهل اختصاص نفهم أن البخاري لم يقصد في الموضع الأول أن يسوق رواية: (اشتكت النار إلى ربها)، وإنما جاء ذلك عرضاً عن غير قصد، لما روى ابن عيينة الرواية هكذا مدمجاً الحديثين في سياق واحد، موهماً أن الحديثين من حديث سعيد بن المسيب، بينما الحديث الأول عن سعيد، والآخر عن أبي سلمة، وإنما اعتاد البخاري
في إفهام القارئ بأنه لم يقصد الحديث الآخر بالتبويب؛ لأنه قال: باب الإبراد بصلاة الظهر، وليس في الحديث الآخر ما له علاقة بالإبراد، إنما الإبراد يؤخذ من الحديث الأول.
فنحن نقول: إن البخاري لم يقصد إخراج حديث: (اشتكت النار) في الموضع الأول، إنما قصده قصداً عندما بوبه لصفة النار.
هناك مثال آخر وقع في صحيح البخاري، وهذا كان موضع إشكال عند الشراح، ولكن أبانه وفصله الإمام ابن القطام -رحمه الله- وكذلك الحافظ ابن حجر العسقلاني في شرحه لصحيح البخاري في فتح الباري.
حديث يرويه سفيان بن عيينه، وهذا الحديث يرويه سفيان، عن شبيب بن غرقدة، عن عروة البارقي، سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: (الخير معقود بنواصي الخيل إلى يوم القيامة)(1/89)
أدخل البخاري هذا الحديث في كتاب المناقب، باب فضل الخيل، ولكنه ساق قبل هذا الحديث قصة، وهذه القصة عند أهل الاختصاص ليس هي مقصود البخاري -رحمه الله تعالى- إنما مقصوده ذلك الحديث فقط، وهو الذي يتناسب مع هذا التبويب "فضل الخيل"، ساق قصة طويلة اشتملت على بعض المجاهيل، الرواة الذين ليسوا من المعروفين،
واشتملت على الحسن بن عمارة، وهو متكلم فيه، بل هو متروك الحديث عند علماء الحديث، فبعض الناس قالوا: كيف يروي البخاري لهذا الراوي الضعيف؟ كيف يروي البخاري لهؤلاء المجاهيل؟ وإنما كما قال ابن حجر وابن القطان: لم يقصد البخاري أن يخرج لهؤلاء المجاهيل، ولا للحسن بن عمارة، لما قصد أن يخرج هذا الحديث الصحيح.
ولما كان الحديث الصحيح جاء في سياق قصة، أراد البخاري أن يسوق القصة كما سمعها، متضمنة الحديث الذي هو موضوع الباب حتى لا يعاب عليه، بأنه حذف من الرواية شيئًا ربما يكون ذلك له دلالة عند بعض السامعين.
فهذه هي شرائط الحكم على الحديث بأنه على شرط البخاري، أو على شرط مسلم، أو على شرطهما، ونبدأ في قراءة الكلام الذي قاله الإمام المصنف.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (وقد خرجت كتب كثيرة على الصحيحين، يؤخذ منها زيادات مفيدة، وأسانيد جيدة، كصحيح أبي عوانة، وأبي بكر الإسماعيلي، والبرقاني، وأبي نعيم الأصبهاني وغيرهم).
ما زال المصنف -رحمه الله تبارك وتعالى- يعدد الكتب التي يمكن أن نجد فيها جملة من الأحاديث الصحيحة، والتي ليست في الصحيحين، فذكرنا قبل ذلك المستدرك، ثم يأتي موضوع آخر، أو نوع آخر من المصنفات الحديثية، وهي التي تسمى عند أصحابها بالمستخرجات، ما هي المستخرجات؟
المستدرك: موضوعه أن يستدرك على الصحيحين ما كان على شرطهما، وليس موجوداً فيهما.(1/90)
أما المستَخرِج صاحب المستخرَج: إنما يعمد إلى الأحاديث التي في الصحيحين نفسها، لا يزيد على الصحيحين شيئاً، أو ليس هذا من موضوع كتابه، أن يزيد شيئاً على الصحيحين، وإنما موضوع كتابه أنه يعمد إلى الأحاديث التي هي موجودة بالفعل في الصحيحين، ثم يرويها هو بإسناده الخاص، بإسناد غير إسناد البخاري، وغير إسناد
مسلم، بطبيعة الحال هو في هذا المستخرج إن روى الحديث عن البخاري بإسناده إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو عن مسلم بإسناده إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- لم يأتي بجديد، فالبخاري ومسلم كتابهما موجود ومتداول ومشهور، إنما الشأن عند ذلك المستخرج، أنه يريد أن يزيد بعض ما ينتفع به المحدثون، هو
أن يزيد أسانيد أخرى عما وجد في الصحيحين، لهذه المتون نفسها، فمنهم أي من أصحاب المستخرجات من يعمد إلى هذه الأحاديث التي في الصحيحين، وهو قد سمعها عن مشايخ أخرى من طبقة البخاري مثلاً عن شيخ البخاري أو عن شيخ شيخ البخاري، إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فيخرج هذا الحديث في هذا المستخرج، فصار
عنده إسناد آخر بطبيعة الحال، أضافه إلى الإسناد الذي جاء به البخاري، فأصبح البخاري هنا موافَقَاً من قبل غيره من المشايخ الذين في عصره، والذين روى عنهم صاحب المستخرج، وكذلك الشأن فيمن يستخرج على صحيح مسلم.
لكن غرض هؤلاء المستخرجين فائدة من الفوائد، أو معنى من المعاني الدقيقة عند المحدثين، وهو ما يسمى عندهم بالعلو، العلو بالإسناد، العلو سيفرده المصنف -إن شاء الله تعالى- في أواخر الكتاب العالي والنازل، نوع اسمه العالي والنازل، سنتكلم عن أنواع العلو هناك تفصيلاً -إن شاء الله تعالى-، لكن نريد أن نلفت
النظر إلى المعنى الذي قصده أصحاب المستخرجات، وما العلو الذي أرادوه من وراء تصنيف هذه الكتب؟(1/91)
صاحب المستخرج عنده الحديث الذي عند البخاري مثلاً، عنده الحديث بإسنادين، فإن هو رواه عن البخاري، سيكون بينه وبين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مثلاً عشرة أنفس، أما إن رواه من غير طريق البخاري عن شيخ البخاري، أو عن شيخ شيخ البخاري إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فتقل الوسائط بينه وبين رسول
الله -صلى الله عليه وسلم-، ويكون بينه وبين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مثلاً تسعة، ثمانية، والعلو معنى من المعاني التي يعنى بها علماء الحديث، ورواة الحديث، يهتمون بالعالي من الحديث، كلما كانت الوسائط بينك وبين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أقل، كلما كان ذلك أفضل مما لو كان أكثر، بطبيعة الحال
لابد أن يكون مع صحة الحديث، لكن هب أن الإسناد الذي هو عالي أو الوسائط فيه أقل، إسناده مشتمل على رواة ضعفاء، هل هذا ينفع؟ فالصحيح النازل الذي فيه وسائط أكثر، أفضل من الضعيف العالي الذي فيه وسائط أقل.
هؤلاء المصنفون عمدوا إلى هذه الأحاديث، فوجدوا أن لهم أسانيد لها هي عالية، مقارنة بإسناد البخاري أو بإسناد مسلم، فعمدوا إلى هذه الأسانيد العالية، وخرجوها في هذه الكتب، ليس بالضرورة أن تكون الرواية التي استخرجها صاحب المستخرج هي بلفظها الذي وجدت في صحيح البخاري أو في صحيح مسلم، قد يكون هناك زيادات في
الألفاظ، قد يكون البخاري خرج الرواية مختصرة، وصاحب المستخرج ساقها مطولة، وكما قلنا في لقاء سابق رواة الحديث أحياناً يختصرون الحديث لغرض من أغراض التصنيف، فهذه الزيادات ما حكمها؟ هل تعامل معاملة الأحاديث الصحيحة، وتكون كالأحاديث التي خرجها البخاري ومسلم أم لا؟(1/92)
نعم، إذا خرج المتن الذي خرجه البخاري ومسلم من غير زيادة أو نقصان فلا إشكال ها هنا، إنما الإشكال فيما إذا زاد هذا المستخرج في روايته زيادات في أسماء المتن، أو الإسناد هذه الزيادات ليست في الصحيحين، هل نقبلها على أنها مخرجة على الأصل، وهو الصحيح؟ فإذا كان الأصل صحيحاً فإنها تتبع الأصل في الصحة، أم
لابد من تحقق شرط الصحة فيها؟
لابد من تحقق شرط الصحة فيها، لاسيما في الرواة الذين في الطبقات التي دون طبقة البخاري وطبقة مسلم، فلابد من صحة السند من صاحب المستخرج إلى شيخ البخاري أو إلى شيخ شيخه، ثم بعد ذلك يكون الرواة هم الرواة، أو إن كانوا رواة آخرين فلابد أن يصح السند من بداية صاحب المستخرج إلى أن ينتهي المتن إلى رسول الله
-صلى الله عليه وآله وسلم-؛ لأن بعض أصحاب المستخرجات لم يتقيد بأحاديث الصحيحين، وإنما زاد في أثناء ذلك بعض الزيادات، أو بعض الأحاديث التي ليست هي من أحاديث البخاري ولا من أحاديث مسلم، فلابد لكي نحكم لها بالصحة أو لرواتها بالثقة أن يكون رجال الإسناد ثقات، وأن يكون هؤلاء الرواة موثقين من قبل أهل العلم.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (وكتب أخر التزم أصحابها صحتها، كابن خزيمة، وابن حبان البستي، وهما خير من المستدرك بكثير وأنظف أسانيد ومتون).
أيضاً ما زال المصنف -رحمه الله تعالى- يعدد لنا الكتب التي هي مظنة وقوع الأحاديث الصحيحة فيها، فذكر من هذه الكتب: الكتب الموسومة بالصحاح، كتب الصحاح غير الصحيحين؛ لأن الكتب التي سماها أصحابها الصحاح، واشترطوا فيها الصحة، ليست فقط محصورة في الصحيحين، بل هناك أئمة أخرون صنفوا في الصحيح، كالإمام ابن(1/93)
خزيمة له صحيح ابن خزيمة وهو مطبوع متداول، وكالإمام ابن حبان البستي، أيضاً له صحيحه المسمى بالتقاسيم والأنواع، وترتيبه مطبوع، وأيضاً مستدرك الحاكم وقد تكلمنا عليه كثيراً، فهو صحيح عند صاحبه عند الإمام الحاكم النيسابوري، هذه الكتب مظنة وقوع الأحاديث الصحيحة، فيها زيادة عما وجد في الصحيحين، ولا شك أن
أصح هذه الكتب الثلاثة، كتاب الإمام ابن خزيمة، فإن الأحاديث الصحيحة فيه كثيرة، ومقارنة بصحيح ابن حبان وصحيح الحاكم، أو مستدرك الحاكم، وصحيح ابن حبان أنظف، وأعلى رتبة من مستدرك الحاكم، إلا أنه في مرتبة دون مرتبة صحيح ابن خزيمة، فترتيب هذه الكتب بحسب الأصحية هو: صحيح ابن خزيمة، وهو المقدم، ثم صحيح ابن
حبان، ثم مستدرك الحاكم، فهذا هو ترتيب هذه الكتب، ولكنها في الجملة دون الصحيحين؛ لأن فيها أحاديث أُنكرت على أصحابها، وأخطاء من قبل بعض الرواة، وأحاديث معلولة، وأحاديث فيها بعض الرواة الضعفاء خفيت علتها على ابن خزيمة أو ابن حبان أو الحاكم، فمن هذه الحيثية لم ترتقي هذه الكتب إلى مرتبة الصحيحين، ولكن لا
شك أنه ينتفع بما وقع فيها زائداً من الأحاديث، فمنه قدر لا بأس به من الأحاديث الصحيحة، والتي ليست هي في الصحيحين.
لكن ينبغي أن نلاحظ أمراً يختص بكتاب ابن خزيمة -رحمه الله-، بعض الناس يتصور أن كل حديث أدخله الإمام ابن خزيمة في صحيحه فهو عنده صحيح، وليس هذا كذلك، بل أحياناً ابن خزيمة يشير في صدور الأبواب والعناوين إلى ضعف الحديث، فيخرج الحديث ويقول: باب كذا وكذا وكذا، ثم يقول: إن صح الخبر فإن في القلب منه شيء، إن(1/94)
صح الخبر فإن فلان فيه كذا، إن صح الخبر فإن الصواب فيه الإرسال أو نحو ذلك، فيشير إلى ما وقع في الحديث من خطأ، فهذا لا يكون صحيحاً عند ابن خزيمة، إنما ذكره لينبه عليه، ويلفت القارئ إلى أنه ليس من صحيح الحديث بل من ضعيفه، فإدخاله في الصحيح مع التنبيه على ضعفه يخرجه عن شرطه في الصحيح، كما أشار إلى ذلك
الحافظ ابن حجر في بعض مواضعه.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (وكذلك يوجد في مسند الإمام أحمد من الأسانيد والمتون شيء كثير مما يوازي كثيراً من أحاديث مسلم، بل والبخاري أيضاً، وليست عندهما، ولا عند أحدهما، بل ولم يُخَرِجه أحد من أصحاب الكتب الأربعة، وهم: أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه).
أيضاً ما زال الإمام -رحمه الله تعالى- يعدد لنا الكتب التي يمكن الرجوع إليها، للوقوف على أحاديث صحيحة ليست في الصحيحين، فذكر هنا مسند الإمام أحمد - رحمه الله تعالى-.
الإمام أحمد بن حنبل الإمام المعروف، صاحب المذهب المعروف، إمام أهل السنة والجماعة -رحمه الله وضي عنه-، له كتاب اسمه المسند، وهو كتاب عظيم جدًا كبير للغاية، وهذا الكتاب اشتمل على كثير من الأحاديث الصحيحة، يوجد فيه أحاديث ضعيفة، لكن أغلب الأحاديث الضعيفة التي في مسند الإمام أحمد، ضعفها من الضعف الهين،
فلا هي موضوعة، ولا منكرة، ولا باطلة، قد تكون مشتملة على أخطاء إسنادية، أو أخطاء في بعض الألفاظ في المتن، لكن لا تبلغ إلى حد أن تكون باطلة أو موضوعة؛ ولهذا كان مسند الإمام أحمد -عليه رحمة الله تعالى- من أفضل المسانيد على الإطلاق، وإلا فهناك مسانيد كثيرة صنفها علماء الحديث، إلا أن مسند الإمام أحمد(1/95)
مقدم على سائر المسانيد، بل يرى شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- أن مسند الإمام أحمد أفضل من سنن أبي داود، مع أن سنن أبي داود هي إحدى الكتب الأربعة الأصول مع الصحيحين، فينبغي أن تكون مقدمة، ومع ذلك يرى شيخ الإسلام ابن تيمية ورأيه صواب، يؤيده الواقع وكلام ابن حجر العسقلاني في نكته على كتاب ابن
الصلاح يرشد إليه، ويدل عليه، أن مسند الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- مسند مقدم على سنن أبي داود، يعني أرجح من سنن أبي داود في الأصحية، ولك أن تقول: إنه على الأقل مثله في الصحة، لكن لا يكون أبداً دون السنن الأربعة، وهذا ما أشار إليه الإمام ابن كثير، حيث قارن بين مسند الإمام أحمد والكتب الأربعة.
المحدثون حينما يقولون: الكتب الأربعة يقصدون: السنن الأربعة المضافة إلى الصحيحين، وهي سنن أبي داود، وسنن النسائي، وجامع الترمذي، وسنن ابن ماجة، فهذه هي الأربعة.
فحينما يقولون: "أخرجه الأربعة"، فهؤلاء هم المقصودون، إلا أن يصطلح إمام اصطلاحاً خاصاً به في كتاب يختص به، فهذا شأن آخر لكن عندما تجد في كتب الرجال، أو كتب الجرح والتعديل، أو كتب علل الأحاديث، أو كتب التخاريج، أن هذا الحديث أخرجه الأربعة فهم يقصدون هؤلاء الأربعة، فإذا قالوا: الستة، أضف إليهم،
الصحيحين. فالستة هم: البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه.
إن مسند الإمام أحمد -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- هو من أفضل المسانيد على الإطلاق، وليس فيه إلا الصحيح أو الحسن، أو الضعيف المنجبر، أو الضعيف ضعفاً هيناً، وليس فيه الباطل ولا الموضوع، وإن التقط بعض العلماء بعض أحاديث من المسند، وزعموا أنها موضوعة، إلا أن هذا لم يكن محل قبول أهل العلم، وانتقدوهم في
ذلك أشد الانتقاد، وللحافظ ابن حجر العسقلاني جولات، وجولات في هذا المدمار.
هل مسند الإمام أحمد كله صحيح كما زعم ذلك بعض الناس؟(1/96)
قال بعض الناس: إن مسند الإمام أحمد كله صحيح بغير استثناء، وقال ذلك: الإمام أبو موسى المديني، والإمام أبو العلاء الهمذاني -رحمهما الله تعالى -، ولكن هذا أيضاً كان موضع نقد العلماء، كالإمام ابن الجوزي فرد على أبي العلاء الهمذاني في ذلك، وكذلك رد الإمام ابن القيم على أبي موسى المديني في ذلك، وكذلك
الحافظ ابن حجر، وشيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- ابن تيمية في كتبه عموماً وبخاصة مجموع الفتاوى مباحث في هذا الأمر، ذهب إلى أن الإمام أحمد -عليه رحمة الله تعالى- لا تجد في مسنده الرواية عن كذاب، قد تجد حديثاً أخطأ فيه الثقة، أو أخطأ فيه الصدوق، أو أخطأ فيه من هو سيء الحفظ، فبعض أهل العلم يقولون: هو
باطل أو هو موضوع من حيث النظر في متن الحديث ومعناه، ولكن لا تجد الرواية عن كذاب، أو من يتعمد الكذب على رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (وكذلك يوجد في معجمي الطبراني الكبير والأوسط، ومسندي أبي يعلى والبزار، وغير ذلك من المسانيد والمعاجم والفوائد والأجزاء: ما يتمكن المتبحر في هذا الشأن من الحكم بصحة كثير منه، بعد النظر في حال رجاله وسلامته من التعليل المفسد).
ما زال الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى- يعدد لنا الكتب التي يمكن أن نجد فيها جملة من الأحاديث الصحيحة مما هو زائد على ما في الصحيحين، إلا أن هذه الكتب الأخيرة التي سماها إن وجد فيها الصحيح، فهو في الغالب يكون موجوداً في غيرها، أما ما تفردت به فكما قال الإمام ابن رجب الحنبلي والإمام الزيلعي: إنها
مجمع الغرائب والمناكير، فالأغلب الأعم الذي احتوت عليه، أو تفردت به إنما هي أحاديث ضعيفة ومنكرة وباطلة.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (ويجوز له الإقدام على ذلك، وإن لم ينص على صحته حافظ قبله، موافقة للشيخ أبي زكريا يحيى النووي، وخلافاً للشيخ أبي عمرو).(1/97)
يشير الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى- هنا إلى مسألة حيرت العلماء، وهي: هل يجوز الاستقلال بإدراك الصحيح في العصور المتأخرة أم لا؟
يعني: هل نحن في هذه العصور المتأخرة، يمكن لنا أن ندرك صحة الحديث الصحيح بمجرد النظر في الأسانيد، ودراستها بعد معرفتنا بمناهج المحدثين، وقواعدهم، وأصولهم في هذا الباب؟ هل بإمكاننا أن نتوصل إلى كون ذلك الحديث صحيحاً، أم ليس كذلك، فيما لم نسبق إلى تصحيحه من قبل العلماء المتقدمين؟
الحافظ ابن الصلاح -عليه رحمة الله تعالى- تناول هذه المسألة في كتابه علوم الحديث، الذي هو أصل كتاب الاختصار هذا، وذكر كلاماً فهم منه أنه يغلق باب الاجتهاد، ويرى أن إدراك الصحيح لدى العصور المتأخرة متعذر، بل لابد من الرجوع إلى أحكام الأئمة المتقدمين، وأن الأسانيد وحدها في هذه العصور المتأخرة، لا تكفي
للحكم على الحديث بكونه صحيحاً، فلو أن الإسناد الذي بين يديك إسناد صحيح، أي رجاله ثقات، فلا يتهيأ لك الحكم بأنه حكم صحيح، إلا إذا كنت مسبوقاً من قبل عالم من علماء الحديث، وناقد من نقاد الحديث، وحافظ من حفاظ الحديث.
واعترض على ابن الصلاح جماعة من أهل العلم، كما وافقه آخرون، فممن وافقه: الإمام ابن جماعة -رحمه الله تعالى- في المنهل الروي، وممن خالفه: الإمام النووي، والإمام العراقي، وابن كثير ها هنا، وكذلك الحافظ ابن حجر العسقلاني وآخرون.
وهناك من أهل العلم من حاول التوفيق بين هؤلاء العلماء، كالحافظ السيوطي -رحمه الله- فذهب إلى أن الحافظ ابن الصلاح لم يقصد أن يغلق باب الحكم على الأحاديث عموماً لدى العصور المتأخرة، إنما خص ذلك بالصحيح لذاته لا بالصحيح لغيره، فنسب أو حمل كلام ابن الصلاح على أنه يقصد الصحيح لذاته، أي الصحيح الذي يحكم(1/98)
عليه بمقتضى إسناد واحد، هذا لا يتهيأ للمتأخر أن يتوصل إليه إلا إذا كان مسبوقاً من قبل إمام من أئمة الحديث. أما الصحيح لغيره وهو الحديث الذي في أصله دون الصحيح، ثم ارتقى كما سيأتي في بابه -إن شاء الله- إلى مرتبة الصحيح بكثرة الشواهد والمتابعات والروايات الأخرى، فهذا غير ممتنع، ولا يقصده الحافظ ابن
الصلاح، هكذا يقول: السيوطي جمعاً بين ما نسب إلى الإمام ابن الصلاح -رحمه الله- وما اعترض به العلماء الآخرون.
والواقع أن كلام ابن الصلاح لمن تأمله، يتبين له أنه لم يقصد هذا المعنى، لا إغلاق باب التصحيح لذاته ولا باب التصحيح لغيره، ولم يقصد هذه المسألة بالمرة، إنما قصد -رحمه الله تبارك تعالى- الأحاديث التي تتفرد بها الكتب والأجزاء المتأخرة، والتي لا يكون لها أصل في الكتب المشهورة المتداولة، فإن هذا الحكم
عليه بكونه صحيحاً إنما ينبني على معرفتنا بثقة هؤلاء الرواة.
ونحن أشرنا في أول لقاء أن كلمة الثقة لها معاني متعددة عند العلماء المتقدمين، وكذلك لها معاني عند العلماء المتأخرين، فذكرنا من معانيها عن العلماء المتقدمين: أن الذي يصفوه بأنه ثقة، إنما هو العدل الضابط، أو العدل وإن لم يكن ضابطاً، إلا أن المتأخرين توسعوا في هذا الباب، وساروا يطلقون الثقة على من كان
قد ثبت سماعه للكتاب الذي يرويه، أو لحضوره لمجلس السماع، فهذا هو الذي يسمى عندهم بالثقة، وقد لا يكون عدلاً وضابطاً، وقد يكون عدلاً دون ضابط، فمثل هذا إن وجدنا وصف العالم له بأنه ثقة فليس لنا أن نحتج بحديثه بعد أن عرفنا اصطلاح من وثقه، أنه لا يقصد بالثقة، الثقة الذي يعتمد على حديثه، ويحتج بروايته،(1/99)
إنما قصد الثقة أي هو صادق في ادعائه حضور هذا المجلس، صادق في ادعائه سماع هذا الكتاب من الشيخ؛ لأن المتأخرين إنما كانوا يسمعون كتباً مروية عن أصحابها، ولم يكونوا يسمعون أحاديث مفردة؛ فلهذا لم يكن وصف المتأخر للراوي بأنه ثقة، قاصداً منه أنه حجة فيما تفرد به، والشأن هنا فيما تفرد به من الروايات، لا
فيما كانت روايته موجودة عند علماء الأصول، أو في كتب الأصول التي صنفها العلماء، كالصحيحين وسنن أبي داود والمسند والموطأ، ومثل هذه الكتب، فالحديث إن وجدنا له أصلاً في هذه الكتب، فلا تَعنينا رواية هذا الراوي له، ولا يضرنا إن كان صادقاً أو كاذباً، إن كان متقناً أو غير متقن؛ لأن الحديث ثابت محفوظ، إنما
الشأن فيما إذا تفرد مثل هذا الراوي بحديث، وليس له أصل في الأصول، ولا خرجه إمام معتمد، ولا هو موجود في كتاب من كتب الحديث المشهورة المتداولة، فإننا لا نستطيع أن نعتمد على رواية ذلك الراوي، فنحكم على الحديث بكونه صحيحاً لكون الراوي ثقة؛ لأن هذا الثقة إنما وثقوه على حضوره لمجلس السماع وثبوت ذلك، لا
لأنه وصف بالعدالة والضبط، المشترطان في قبول حديث الراوي، فهذا وجه في الجمع، أسأل الله تعالى أن أكون وفقت إليه، والمسألة ما زالت محل بحث العلماء، فأسأل الله التيسير، ونكتفي بهذا القدر وننظر فيما عند الإخوة الكرام.
إجابة أسئلة الحلقة الماضية:
كان السؤال الأول: أيهما أصح؟ البخاري أو مسلم؟ ولماذا؟
وكانت الإجابة:
أولاً: صحيح البخاري أصح من صحيح مسلم؛ وذلك لأن شروط الصحيح متحققة في البخاري أكثر من مسلم، وقد تكون هناك أحاديث عند مسلم تقدم على أحاديث البخاري.
ثانيًا: أن الرواة الذين خرج لهم البخاري لم يتكلم فيهم بجرح، وأما الرواة الذين خرج لهم مسلم ففيهم كلام مرجوح؛ ولأن البخاري اشترط في إخراج الحديث بأن يكون الراوي عاصر شيخه وثبت عنده سماعه منه، وأما مسلم فاكتفى بمجرد المعاصرة. انتهت الإجابة.(1/100)
بارك الله فيك.
السؤال الثاني: اذكر شرائط الحكم على الحديث، بأنه على شرط الشيخين أو أحدهما؟
وكانت الإجابة:
أن يكون رواة الحديث من رجال الصحيحين أو أحدهما، أن يتحقق فيهم ما اشترطه الشيخان أو أحدهما، أن يكون الإسناد على الصفة التي أخرج بها الشيخان أو أحدهم.
طبعًا نحن فصلنا هذا بفضل الله -عز وجل- في أول الحلقة.
يقول: هل أصحاب الصحاح لهم شروطهم الخاصة لقبول الحديث، وخاصة ابن خزيمة -رحمه الله تعالى-؟.
نحن قلنا في الأصل أن العلماء لا يقبلون الحديث إلا إذا كان صحيحاً، ولا يدخلون الحديث في كتاب وصفوه بأنه صحيح إلا إذا كان الحديث عند ذلك المصنف قد يتحقق فيه شرائط الصحة، إلا أن هذه الشرائط بعض أهل العلم يشترطها كلها، وبعضهم لا يشترطها كلها، والإمام ابن خزيمة -رحمه الله تعالى- ذكر في تعريف كتابه، أو في
اسم كتابه، أو في وقف شرائطه، ما يدل على أنه لم يشترط بعض ما اشترطه غيره من العلماء في صحة الحديث، فلم يرد في تعريفه ما يدل على اشتراطه سلامة الحديث من الشذوذ والعلة، وكما يقول الإمام الحافظ ابن حجر: إن ابن خزيمة وكذلك ابن حبان قد يقع الحديث عندهم سالماً من العلة فيتجنبان إخراج الحديث المعلول، ولكن
لا يشترطان تتبع العلة بحيث يتحقق لديهما أن الحديث لم تقع فيه علة، وفرق بين أن أجد العلة فأتجنبها، وبين أن أبحث عنها خشية أن تكون واقعة في الرواية.
يقول: البخاري هو الصحيح بالإجماع، فما حكم الأحاديث المعلقة الموجودة فيه؟ .
حينما نقول: إن البخاري أحاديثه صحيحة، نقصد الأحاديث التي أسندها في كتابه، أي رواها بإسناده أما المعلقات فليست هي من شرط الصحيح، منها ما هو صحيح، ومنها ما هو حسن، ومنها ما هو ضعيف، إلا أن ضعفها ليس من الضعف الشديد.
يقول: هل يجب على الطالب أن يحفظ متن كتاب الباعث الحثيث؟.(1/101)
ليس بالضرورة أن يحفظ متن الباعث الحثيث، وإنما هناك متون أخرى صنفت لتحفظ منها: كتاب نخبة الفكر للحافظ ابن حجر، هو متن مختصر في هذا العلم، شامل لمسائل العلم، وفي الوقت نفسه مختصر جداً، وهناك منظومات ألفت في هذا العلم أيضاً كأليفة السيوطي، وكأليفة العراقي، هناك من يميل إلى حفظ النظم على النثر، وهناك من
يميل إلى النثر دون النظم، وإن أردت أن تحفظ مختصراً كبيراً ويكون مما كتب نثراً، فعليك بمختصر الإمام النووي لكتاب ابن الصلاح.
يقول: هل إذا صح الحديث في أصل البخاري ومسلم، أمكن تخريجه من طريق ضعيف كالمستدرك؟.
يعني تخريجه وتنسبه للبخاري؟ إن كنت تقصد تخرجه ناسباً إياه للبخاري أو مسلم فهذا خطأ، إنما تقول: أخرجه الحاكم بإسناد ضعيف، وله أصل في الصحيحين، فتميز بين ما أخرجه الحاكم، وبين ما أخرجه الإمام البخاري أو مسلم.
يقول: هل في الصحيحين أحاديث متكلم فيها، بحيث أنه معلول أو ضعيف، نظراً لاشتراط المسلم المعاصرة، وإن لم تثبت اللقية؟
هذه مسألة أشرنا إليها سابقاً؛ لأن أغلب الأحاديث التي خرجها البخاري ومسلم وتكلم فيها، الكلام فيها إنما هو راجع في الأعم الأغلب إلى الصناعة الإسنادية البحتة بما لا تأثير له في المتون، وما سوى ذلك فيعرف من كتب الاختصاص.
يقول: هل تقسيم كتاب الإمام مسلم على طريقة أبواب، هي من تقسيم الإمام النووي، وليست من تقسيم الإمام مسلم؟ وما هي أفضل طبعة تنصحنا باقتنائها لصحيح الإمام مسلم؟.
طبعاً هذه التبويبات هي لشراح صحيح مسلم، وليست هي للإمام مسلم، قد يكون الإمام مسلم له أسماء الكتب، كتاب الصلاة، كتاب الزكاة، كتاب الحج، لكن الأبواب التي هي بين الأحاديث التي تفصل أحاديث عن أخرى هي للشراح، إما للقاضي عياض وإما للنووي وإما لكليهما.
يقول: بالنسبة للمعلقات في صحيح البخاري، هناك كتاب تغليق التعليق، فهل جمع هذا الكتاب غلق جميع المعلقات؟.(1/102)
الحافظ ابن حجر العسقلاني في تغليق التعليق، عمد إلى الأحاديث التي علقها البخاري، وقلنا علقها أي رواها بغير إسنادها، أي لم يسندها إلى قائلها، أو إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، الإمام البخاري حيث علق هذه الأحاديث هي بطبيعة الحال مسموعة لديه، له فيها أسانيد، ولكنه كما أقول لغرض من أغراض
التصنيف لم يسندها في كتابه هذا، وإنما ذكرها معلقة، وبعضها علقها في موضع وأسندها في موضع آخر، بحسب الحاجة، فعمد الحافظ ابن حجر العسقلاني -رحمه الله- إلى هذه الأحاديث التي علقها، وجاء في أسانيدها، وذكر من خرج تلك الأحاديث مسندة من علماء الحديث، وألف كتابه تغليق التعليق.
يقول: ما المقصود أن كتابي ابن خزيمة وابن حبان، هما خير من المستدرك بكثير وأنظف أسانيد ومتوناً، هل هما أصح منه أم ماذا؟ .
هما مقدمان في الصحة على مستدرك الحاكم، أي: أصح صحيحاً من مستدرك الحاكم، فالكتب الثلاثة شرط أصحابها فيها الصحة، ولكن شرط الصحة تحقق في صحيح ابن خزيمة أكثر من تحققه في صحيح ابن حبان، وهو في صحيح ابن خزيمة وابن حبان متحقق أكثر من صحيح ابن خزيمة، فصارت المرتبة أو الأصحية تقديم صحيح ابن خزيمة من حيث
الأصحية، ثم صحيح ابن حبان، فهو دون ابن خزيمة وأعلى من الحاكم، ثم يأتي المستدرك، الحاكم في المؤخرة.
يقول: ذكرت في حكم الزيادة الواردة في المستخرج، هل لنا أن نقول: أن ترك صاحب الصحيح البخاري أو مسلم أو كليهما، لهذه الزيادة دليل على كونها معلولة أو فيها علة؛ لذلك تركها؟.
ليس باللازم، قد يكون هذه الزيادة صحيحة، ولكنه لم يحتج إليها في الصحيح، نحن قلنا هذا الكتاب مختصر فلا يخرج كل شيء يأتي في الأحاديث الصحيحة، ولكن أحيانًا تكون صحيحة، وأحياناً تكون غير صحيحة، أحيانًا تكون محفوظة، وأحياناً تكون شاذة، وهذا كله يدرك بالرجوع إلى كتب التخريج وكتب العلل لنعرف المحفوظ منها،
من غير المحفوظ.(1/103)
يقول: في الشرط الرابع لشرئط تحقق أن يكون الحديث على شرط الشيخين أو كليهما، ذكرت أن يكون رجال هذا الحديث ممن تعمد البخاري ومسلم أو أحدهما الإخراج عنهم، ولم يذكروا اتفاقاً، فذكرت في مثال حديث سفيان بن عيينة رواه عن ابن المسيب عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إذا
اشتد الحر فأبردوا)،
وذكر قصة النار، فذكرت أن البخاري في هذا الحديث ذكر هذا الحديث في آخر قصة معروفة.
الحديث الآخر: حديث عروة البارقي.
حديث عروة البارقي: ذكره البخاري في آخر قصة، ذكرت أن في هذه القصة، رجالها غير معروفين أو موهومين، وبعضهم تُكلم فيهم، بل بعضهم متروك الحديث، فهل هذه القصة في صحيح البخاري تعتبر قصة ضعيفة؟.
لا...؛ لأن هذه القصة هي جزء من الإسناد؛ لأن الإسناد كما يعرفه الحافظ ابن حجر وكذلك الإمام ابن جماعة: حكاية طريق المتن، الإسناد ما هو إلا حكاية، يعني حينما أقول: حدثني فلان، كأنني قلت: إنني ذهبت إلى فلان، فسمعته يحدث بهذا الحديث، فأنا أحكي كيف وصل إلي المتن، فالحكاية قد تكون قصرة، وقد تكون طويلة، وقد
تشتمل على فصول متعددة، في النهاية كل ذلك جزء من الإسناد، وليس هو المتن الذي يقصده المخرج للحديث.
هؤلاء الرجال الذين في إسناد هذه الحكاية، هل هم غير رجال الحديث الخيل؟ وهل هو سياق متصل مع بعضه؟.
أي نعم.
رجال غير رجال؟.
نعم؛ لأن الحسن بن عمارة لم يروي حديث الخيل، إنما هو حديث آخر، ورد ذكره أثناء الإسناد.
أسئلة الحلقة.
السؤال الأول: رتب هذه الكتب بحسب الأصحية: مستدرك الحاكم - صحيح ابن خزيمة - صحيح ابن حبان؟
السؤال الثاني: هل في مسند الإمام أحمد أحاديث موضوعة؟
والله أعلم.
أعلى الصفحة
الرئيسة ????? ?????????? ????? ???? ?????????? ?????? ???????
???? ?????? - ??????? ??????
المؤلف: ????? ?????/ ???? ?? ??? ????(1/104)
الوصف: ?????? ??????? ????? ???? ?????? -??????? ?????? - ??? ?????? ???? ?????? ?????? ??? ????
ارسل الصفحة لصديق
معاينة طباعة الصفحة
رؤية مكبرة
--------------------------------------------------------------------------------
الدرس الخامس
تابع الزيادات على الصحيحين
إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور
أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له،
وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله
وبعد:
سنستكمل في هذا اللقاء -إن شاء الله تعالى- بقية المسائل التي أودعها
الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى- في نوع الحديث الصحيح .
آخر ما تكلمنا فيه أن الإمام ابن كثير -رحمه الله تعالى- بعد أن بيَّن
أن هناك أحاديث صحيحة زائدة على ما في الصحيحين، وأن هذه الأحاديث
الصحيحة من الممكن أن توجد في كتب السنن والمسانيد وغيرها، أخذ يعدد
لنا بعض الكتب المشهورة التي يظن فيها وجود الأحاديث الصحيحة الزائدة
على ما في الصحيحين.
واليوم -إن شاء الله تعالى- سنستكمل مع الحافظ ابن كثير الحديث عن بعض
هذه الكتب التي تضمنت صحيح الأحاديث الزائدة على ما في الصحيحين، فأول
كتاب ذكره -رحمه الله تعالى- كتاب المختارة للضياء المقدسي، فقال -رحمه
الله تعالى-:
(وقد جمع الشيخ ضياء الدين محمد بن عبد الواحد المقدسي في ذلك كتاباً
سماه المختارة ولم يتم، كان بعض الحفاظ من مشايخنا يرجحه على مستدرك
الحاكم والله أعلم).
كتاب المختارة للضياء المقدسي موضوعه مثل موضوع المستدرك للحاكم
النيسابوري فهو أيضاً يستدرك على الشيخين الأحاديث الصحيحة، وهذا
الكتاب في نظر نقاد الحديث هو أعلى رتبة وأفضل وأنظف أسانيد من مستدرك
الحاكم، سبق وأن تكلمنا أن مستدرك الحاكم فيه من الأحاديث الضعيفة
والمعلولة بل والمنكرة والباطلة والموضوعة، ما هو معلوم عند أهل العلم؛(1/105)
ولهذا وجهوا سهام نقدهم على هذا الكتاب، ولم يوافقوا الحاكم فيما ذهب
إليه في كثير من الأحاديث التي أودعها ذلك الكتاب بخلاف المختارة
المقدسي، فالأحاديث التي به هي أفضل وأحسن من حيث الإسناد، وكذلك
المتون والأحاديث المنتقدة عليه قليلة جداً، مقارنة بما انتقد على كتاب
الحاكم.
يقول ابن كثير (كان بعض الحفاظ من مشايخن) يقصد شيخ الإسلام ابن
تيمية، فإنه قال ذلك في بعض كلامه إن كتاب المختارة أحسن وأفضل من
مستدرك الحاكم.
ثم بعد ذلك عاد المصنف -رحمه الله تعالى- إلى الحديث عن مستدرك الحاكم؛
لأن الإمام ابن الصلاح توسط في شأنه ووضع لنا ضابطاً مع كيفية التعامل
مع أحاديث كتابه، فقال:
(وقد تكلم الشيخ أبو عمرو ابن الصلاح على الحاكم في مستدركه، فقال:
وهو واسع الخطو في شرط الصحيح، متساهل بالقضاء به، فالأولى: أن يتوسط
في أمره، فما لم نجد فيه تصحيحاً لغيره من الأئمة، فإن لم يكن صحيحاً
فهو حسن يحتج به، إلا أن تظهر فيه علة توجب ضعفه).
هذا هو ما ذهب إليه الحافظ أبو عمرو ابن الصلاح -رحمه الله تعالى- مع
التوسط في أحاديث الحاكم، وخلاصة قوله في ذلك، أن الحديث الذي يصححه
الحاكم في كتابه المستدرك: إما أن يكون الحاكم قد وافقه غيره من
العلماء على هذا التصحيح أو لا...
- فإن وجدنا العلماء وافقوه على ذلك التصيحيح فهذا مما أصاب فيه الحاكم
ولم يخطيء فيه.
- وإن كان العلماء خالفوه في هذا التصحيح وذهبوا إلى ضعف الحديث لا إلى
صحته، فالقول قول العلماء في ذلك، ويحمل تصحيح الحاكم النيسابوري على
ما عرف من تساهله في باب التصحيح.
يبقى النظر في الأحاديث التي صححها الحاكم، أي أودعها كتابه المستدرك،
الصحيح عنده، ولم نجد إماماً من الأئمة الآخرين موافقاً له أو مخالفاً،
فماذا يكون تعاملنا مع هذا االنوع من الأحاديث؟
يرى الحافظ أبو عمرو ابن الصلاح -رحمه الله تعالى- أن مثل هذه الأحاديث
ينظر فيها، ينظر في إسنادها ومتونها.(1/106)
- فإذا وجد في الإسناد أو في المتن ما يكون سبباً للتضعيف من جرح لبعض
الرواة، أو انقطاع في الإسناد أو نكارة في المتن أو نحو ذلك، فحينئذٍ
نحكم بما تقتضيه الأسانيد والمتون.
- أما إذا لم نجد قادحاً في الإسناد ولا في المتن، فنحن لا نعطيه حكم
الصحيح، بل حكم الحسن فقط، ننزل به من مرتبة الصحيح إلى مرتبة الحسن.
إذن الحديث الذي يصححه الحاكم في المستدرك هو في نظر الحافظ ابن الصلاح
-رحمه الله تعالى-:
- إما أن يكون الحاكم في هذه الأحاديث وافقه العلماء الآخرون على ما
ذهب إليه من تصحيح الحديث، فحينئذٍ نحكم على الحديث بكونه صحيحاً؛ لأن
الحاكم لم يتفرد بما ذهب إليه.
- وإما أن يخالفه الحفاظ الآخرون فيما ذهب إليه من تصحيحهم لهذا
الحديث، فحينئذٍ لا يعرج على قول الحاكم، ونحكم بضعف الحديث اعتماداً
على ما ذكره أهل العلم ونقاده من تضعيف لهذا الحديث، ويحمل صنيع الحاكم
حينئذٍ على تساهله الذي عرف عنه.
ثم يأتي دور الأحاديث التي أدخلها الحاكم في كتابه المستدرك مصححاً
لها، ولم نجد إماماً آخر من الآئمة تكلم فيها لا بتصحيح ولا بتضعيف،
فهذه الأحاديث ننظر في إسنادها ومتنها.
- فإن وجدنا موجباً للقدح فيها أعملنا ذلك، وحكمنا على الرواية بالخطأ
والضعف، وأيضاً حملنا ذلك على أنه من أخطاء الحاكم وتساهله.
- أو لم نجد في الإسناد ما يدعو إلى التصحيح، أو في المتن ما يدعو إلى
الإنكار، فحينئذٍ نقبل من الحاكم حكمه على الحديث، ولكننا لا نوافقه في
إطلاق اسم الصحة على الحديث، بل ننزله إلى أدنى مراتب المقبول، وهو
الحديث الحسن.
لماذا لم يطلق ابن الصلاح -رحمه الله تعالى- في هذه الصورة الأخيرة،
اسم الصحيح على هذا النوع من الأحاديث؟ بناءً على أن الحاكم قد صحح
الحديث، وهو لم يجد فيه ما يدعو إلى التضعيف؟
هذا راجع إلى معرفة العلماء بمنهج الحاكم، نحن ذكرنا في لقاءات سابقة(1/107)
أن هناك من أهل العلم من يسمي كل ما هو مقبول صحيحاً، سواء كان من أعلى
درجات القبول أم من أدناها، ومن هؤلاء العلماء: الحاكم النيسابوري،
وكذلك ابن حبان، وابن خزيمة نسب إلى هؤلاء الثلاثة وإلى غيرهم أيضاً
أنهم كلما جاء الحديث مقبولاً تحقق فيه شرائط القبول سواء كان في أعلى
درجات القبول أم في أدناها، فهم يسمون ذلك صحيحاً، فإذا وجدنا الحاكم
مع ما عرف معه بالتساهل وصف الحديث بأنه صحيح، ولم نجد ما يدعو إلى
تضعيفه، نعم سنقبل منه ذلك الحكم، لكن نجعله في أدنى درجات القبول؛
مصطلح الصحيح في عرف الحاكم متردد بين هذه المراتب.
فقول الحاكم في الحديث: إنه صحيح، لم يبين فيه هل هو من درجة عليا في
الصحة، أم من درجة دنيا في الصحة؟ فالأمر المتيقن لدينا هو أنه داخل في
حد الحسن الذي هو في أدنى درجات القبول، وأما دخوله في درجة الأعلى
فهذا يحتاج إلى دليل آخر يثبت ذلك.
فالذي نتيقنه من تصحيح الحاكم للحديث مع عدم علمنا بما يوجب ضعفه: هو
أنه في حيز القبول، فنعطيه أدنى درجات القبول؛ لأن هذا هو الأمر
المتيقن لدينا الذي نستطيع أن نجزم به، أما إذا أردنا أن نرفعه إلى
أعلى درجات القبول وهو الصحيح، فلابد حينئذٍ من دليل آخر يرشدنا إلى
ذلك ويدفعنا إلى ارتقاء الحديث إلى هذه المرتبة العليا.
هناك من العلماء من انتقد ابن الصلاح في هذا الموضع، وقال: الصواب أنه
ينظر في هذا الحديث، ويتتبع رواياته وأسانيده، ويحكم عليه بما يقتضيه
من صحة أو ضعف أو حسن، وهذا الكلام صحيح، ولكنه لا يتعارض مع ما ذهب
إليه الحافظ أبو عمرو ابن الصلاح -عليه رحمة الله تعالى-؛ لأن أبا عمرو
ابن الصلاح يريد أن يستفيد من هذا الحكم الذي ذهب إليه الحاكم، ويريد
أن يضعه موضع الاعتبار، بطبيعة الحال كل الأحاديث يلزمنا لكي نعرف
صحيحها من سقيمها أن ننظر في أسانيدها، وفي متونها، وأن نعمل قواعد أهل(1/108)
العلم التي درسناها وعرفناها عن المحدثين، وعلى ضوء ذلك يترجح لدينا إن
كان الحديث صحيحاً أم غير صحيح.
هذا القانون يتبع في كل الأحاديث، لكننا الآن بين أيدينا حكم لإمام،
فابن الصلاح -رحمه الله تعالى- لا يريد أن يهمل ذلك الحكم، وإنما يضعه
موضع الاعتبار مع ما احترز منه، من كون الحاكم متساهلاً في التصحيح؛
فلهذا احتاط في هذا، وقال: إذا وجدنا فيه ما يوجب الضعف ضعفناه، مع أن
الحاكم قد صححه، فهو لم يتبع الحاكم فيما ذهب إليه من تصحيح أو تقوية
لهذا الحديث، بل قيَّد ذلك بأن يكون الحديث مع ذلك سالماً من موجب
للضعف، وهذا في قوله: إلا أن تظهر فيه علة توجب ضعفه، وهذا يدل على أن
ابن الصلاح يعمل القواعد، ويعمل الأصول، وينظر في الأسانيد والمتون،
بحيث يتبين له هل الحديث فيه ما يقدح، أم ليس فيه ما يقدح؟ فإذا ترجح
أنه ليس فيه ما يقدح، حينئذٍ استفاد بحكم الحاكم، وحمله على أنه ليس من
باب التساهل، أما إذا كان الحديث متضمناً ما يقدح فيه سواءً في إسناده
أو متنه، ففي هذه الحالة لا يعرج على قول الحاكم، ولا يتبعه في ذلك.
قال المصنف -رحمه الله تعالى- (قلت: في هذا الكتاب أنواع من الحديث
كثيرة، فيه الصحيح المستدرك، وهو قليل، وفيه صحيح قد خرجه البخاري
ومسلم، أو أحدهما لم يعلم به الحاكم. وفيه الحسن والضعيف والموضوع
أيضًا. وقد اختصره شيخنا أبو عبد الله الذهبي، وبيَّن هذا كله، وجمع
منه جزءاً كبيراً مما وقع فيه من الموضوعات، وذلك يقارب مائة حديث.
والله أعلم).
عاد الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى- يقسم لنا أنواع الأحاديث في
كتاب المستدرك، نحن نعلم أن أصل كتاب المستدرك للحاكم النيسابوري،
استدراك الأحاديث التي هي على شرط البخاري ومسلم، وليست هي في
الصحيحين، إذن ينبغي أن تكون الأحاديث التي اشتمل عليها كتاب المستدرك
في الصحة بمنزلة أحاديث الصحيحين؛ لأنها ينبغي أن تتحقق فيها شرائط(1/109)
الصحيحين في صيحيحيهما، إلا أن الحاكم -رحمه الله تعالى- تساهل، وتوسع
في ذلك غاية التوسع، فأدخل في كتابه المستدرك على الصحيحين، أحاديث لا
ينبغي أن تكون في هذا الكتاب، فمن هذه الأحاديث ما هو صحيح على شرط
البخاري ومسلم حقاً، يعني تحقق فيه شرط البخاري، وأصاب الحاكم في إدخال
مثل هذه الأحاديث في كتابه المستدرك، ولكن هذا قليل، في جنب الأحاديث
التي لم يتحقق فيها شرط الشيخين في هذا الكتاب، ونحن تكلمنا في اللقاء
الماضي على شرط الشيخين - شرط البخاري وشرط مسلم - وكيف نحقق ذلك في
الأحاديث؟ يقول: وفيه صحيح قد خرجه البخاري ومسلم، يعني هناك أحاديث
استدركها الحاكم على الشيخين، وأدخلها في كتاب المستدرك على أنها مما
يستدرك على البخاري وعلى مسلم، والواقع أنها لم تفت البخاري ولا مسلم،
وهي موجودة في الصحيحين، فالبخاري قد خرج هذه الأحاديث، وكذلك مسلم،
ولكن الحاكم جاء فاستدركها مع ذلك على البخاري وعلى مسلم، غافلاً عن أن
البخاري ومسلماً قد سبقاه إلى إخراجها، فهذه الأحاديث مما يعاب بها على
الحاكم؛ لأن الحاكم إنما قصد إلى الأحاديث التي ليست في الصحيحين، وقد
تحقق فيها شرط الشخين، أما أن يعمد إلى ما في الصحيحين بالفعل، ثم
يرويها هو مستدركاً إياها على البخاري ومسلم فهذا عيب في كتاب
المستدرك.
يقول: (وفيه الحسن والضعيف) يعني هناك أحاديث في المستدرك لم تبلغ إلى
مرتبة الصحة فضلاً عن أن تكون على شرط البخاري وشرط مسلم، فمنها ما هو
حسن وعرفنا أن الحسن: هو ما كان من جملة الصحيح، إلا أنه من أدنى مراتب
الصحيح، فهي أحاديث حسنة لم تبلغ في القوة إلى مرتبة الصحيح فضلاً عن
أن تكون على شرط البخاري أو شرط مسلم، وفيها ما هو ضعيف إما لجرح في
بعض الرواة، وإما لانقطاع في الإسناد، وإما لعلة خفية ظهرت في الإسناد
أو في المتن، مما يستدل به على كون ذلك الحديث ضعيفاً وليس صحيحاً. بل(1/110)
فيها ما هو موضوع، يعني هذه الأحاديث التي استدركها الحاكم جملة منها -
وهو ذكر أنها - نحو مائة حديث يصح أن توصف بأنها أحاديث موضوعة، إما
لكونها مشتملة على كذاب، أي تفرد بروايتها رجل كذاب يتعمد الكذب على
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإما أنه استدل على كونها موضوعة
بدلالة أخرى مما يعرف ذلك العلماء من خلال النظر في المتون، فهذا تفصيل
أحاديث المستدرك.
موطأ مالك
ثم انتقل بعد ذلك إلى موطأ الإمام مالك، على أساس أنه من الكتب التي
توجد فيه أحاديث صحيحة زائدة عما في الصحيحين.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (موطأ مالك. تنبيه : قول الإمام محمد
بن إدريس الشافعي -رحمه الله تعالى- " لا أعلم كتاباً في العلم أكثر
صواباً من كتاب مالك" ، إنما قاله قبل البخاري ومسلم، وقد كانت كتب
كثيرة مصنفة في ذلك الوقت، في السنن لابن جريج وابن إسحاق - غير
السيرة- ولأبي قرة موسى بن طارق الزبيدي، ومصنف عبد الرزاق بن همام،
وغير ذلك.
وكان كتاب مالك، وهو (
الموطأ )، أجلها وأعظمها نفعاً، وإن كان بعضها
أكبر حجماً منه، وأكثر أحاديث).
تكلم هنا عن موطأ الإمام مالك، وكتاب الموطأ معروف مشهور متداول، وله
روايات عدة عن الإمام مالك -رحمه الله تعالى- وردت كلمة عن الإمام
الشافعي قد يفهم منها أن الموطأ مقدم على الصحيحين، استشكل ذلك البعض
فقال الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى-: «لا أعلم كتاباً في العلم أكثر
صواباً من كتاب مالك» أي من الموطأ، فقد يفهم البعض من ذلك أن الموطأ
مقدم في الصحة على الصحيحين، وليس الأمر كذلك؛ لأن موطأ الإمام مالك
إنما وجد قبل أن يوجد الصحيحان؛ لأن الإمام مالك متقدم في الزمن على
البخاري وعلى مسلم، وكذلك الشافعي، متقدم في الزمن على البخاري وعلى
مسلم، فالشافعي حينما قدَّم كتاب مالك على الكتب الأخرى يقصد بالكتب
الأخرى التي كانت موجودة في عصر مالك، ولم يكن البخاري صنف الصحيح، ولا(1/111)
مسلم صنف الصحيح، بل لم يكن وقتئذٍ البخاري موجوداً، ولا مسلم
موجوداً،ً ولم يقف الشافعي على صحيح البخاري؛ لأن البخاري جاء بعده،
وكذلك لم يقف على صحيح مسلم؛ لأن مسلم جاء بعده، فإنما قصد الإمام
الشافعي -رحمه الله تعالى- بتقديم كتاب مالك على سائر الكتب، أي الكتب
التي كانت موجودة في زمن مالك -رحمه الله تعالى-، أما بعد ذلك فالأمر
كما اتفق عليه المحدثون أن الصحيحين أصح الكتب بعد كتاب الله عز وجل.
قال المصنف -رحمه الله تعالى- ( وقد طلب المنصور من الإمام مالك أن
يجمع الناس على كتابه، فلم يجبه إلى ذلك؛ وذلك من تمام علمه واتصافه
بالإنصاف، وقال: «إن الناس قد جمعوا واطلعوا على أشياء لم نطلع عليها».
وقد اعتنى الناس بكتابه (
الموطأ ) وعلقوا عليه كتباً جمة. ومن أجود ذلك
كتابا "التمهيد"، "الاستذكار" للشيخ أبي عمر ابن عبد البر النمري
القرطبي -رحمه الله -. هذا مع ما فيه من الأحاديث المتصلة الصحيحة
والمرسلة والمنقطعة، والبلاغات التي لا تكاد توجد مسندة إلا على
ندور).
أشار الإمام ابن كثير -رحمه الله تعالى- إلى أنواع الأحاديث التي اشتمل
عليها كتاب الموطأ للإمام مالك -رحمه الله تعالى-، فذكر أن هذه
الأحاديث منها ما هو: أحاديث صحيحة، وهي: المسندة المتصلة إلى رسول
الله -صلى الله عليه وسلم-، ومنها: ما هي مرسلات، نحن نعلم أن المرسل
كما سيأتي -إن شاء الله تعالى- ليس متصلاً، وهو صورة من صور السقط من
الإسناد، فيخصها المحدثون بما يرويه التابعي عن رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- التابعي لم يدرك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم يلتق
به، ولم يسمع منه، فإذا ما روى الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- مباشرة، فلابد أن هناك واسطة أو أكثر بينه وبين رسول الله -صلى
الله عليه وسلم-، هذا يسمى عند المحدثين بالمرسل، والمرسل من أنواع
الحديث الضعيف لعدم تحقق شرط الاتصال فيه.(1/112)
"والمنقطعة"، الانقطاع صورة أخرى من صور عدم الاتصال، ولكن الانقطاع لا
يكون في رواية التابعي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، إنما يكون
ذلك أثناء الإسناد، وهو أن يروي الراوي عن شيخ وهو لم يسمع منه، لم
يسمع الحديث منه بل تكون الرواية حينئذٍ منقطعة، ونستدل بانقطاعها على
أن هناك واسطة سقطت من الوسط، قد تكون واسطة واحدة، أو أكثر، وكل ذلك
يوجب عدم قبول الرواية، وعدم الاحتجاج بها.
"والبلاغات التي لا تكاد توجد مرسلة إلا على ندور"، الإمام مالك -رحمه
الله تعالى- كثيراً في كتابه الموطأ يقول: وبلغني عن فلان أنه قال كذا،
أو بلغني عن فلان عن فلان عن فلان عن رسول الله -صلى الله عليه وآله
وسلم-، والبلاغات شبيهة بالمعلقات التي يعلقها الإمام البخاري -رحمه
الله تعالى- في الصحيح والتي سيأتي الكلام عنها قريباً؛ لهذه الأمور
لما اشتمل كتاب موطأ على ما هو مسند، وعلى ما هو منقطع، وعلى تلك
البلاغات لم ير العلماء جعله من كتب الأصول؛ لأن كتب الأصول المفترض أن
تكون خاصة بالأحاديث المرفوعة المتصلة إلى رسول الله -صلى الله عليه
وآله وسلم-؛ فلهذا رغم أن الأحاديث المسندة التي في الموطأ هي أحاديث
صحيحة، ولكن لما اشتمل الموطأ مع ذلك على هذه البلاغات، وتلك
المنقطعات، وهذه المراسيل، نزل عن رتبة الصحيحين، ولم يدخله العلماء في
كتب الأصول، وإن كان هناك من العلماء من جعله من كتب الأصول، كالإمام
ابن الأثير في كتابه جامع الأصول، فكتاب جامع الأصول أدخل الإمام "ابن
الأثير" الموطأ عوضاً عن سنن ابن ماجة، مع أن غيره أدخل سنن ابن ماجة
بدلاً من الموطأ.
إطلاق اسم الصحيح على الترمذي والنسائي
قال المصنف -رحمه الله تعالى- (إطلاق اسم الصحيح على الترمذي
والنسائي. وكان الحاكم أبو عبد الله، والخطيب البغدادي يسميان كتاب
الترمذي: "الجامع الصحيح" وهذا تساهل منهما. فإن فيه أحاديث كثيرة(1/113)
منكرة. وقول الحافظ أبي علي ابن السكن، وكذا الخطيب البغدادي في كتاب
السنن للنسائي: إنه صحيح، فيه نظر. وإن له شرطاً في الرجال أشد من شرط
مُسلِم غير مُسَلَّم. فإن فيه رجالاً مجهولين: إما عيناً أو حالاً،
وفيهم المجروح، وفيه أحاديث ضعيفة ومعللة ومنكرة، كما نبهنا عليه في
(
الأحكام الكبير ))
يتناول الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى- مسألة ترجع إلى جانب الصلاح،
وجد في استعمال بعض أهل العلم، إطلاق اسم الصحيح على بعض كتب السنن
التي هي مشتملة على الصحيح وغيره، فنحن نعلم أن هذا الوصف - الصحيح-
إذا ما أطلقناه على كتاب من الكتب فإنما نعني صحيح البخاري، أو صحيح
مسلم؛ ولهذا تجد في كلام أهل العلم وهذا حديث مخرج في الصحيح، فإذا ما
وجدت الإمام يقول: في الصحيح، تفهم أنه يقصد إما البخاري، وإما مسلماً،
وهناك علماء - بطبيعة الحال- أفردوا الصحيح أيضاً كابن خزيمة وابن حبان
والحاكم، إلا أن هؤلاء العلماء وجد عنهم بعض التساهل- كما أشرنا إلى
ذلك-، ولكن مع ذلك يصح أن تسمي كتب هؤلاء بالصحيح باعتبار ذلك في نظر
صاحب الكتاب.
لكن مثلاً: السنن الأربعة، سنن الترمذي، سنن النسائي، سنن أبي داود،
وابن ماجة، هذه السنن لم يشترط أصحابها الصحة أصلاً، فهم يخرجون الصحيح
والحسن والضعيف. والترمذي والنسائي وأبو داود وابن ماجة لم يقولوا:
إننا قصدنا إلى الصحيح في هذه الكتب، بل أبو داود -رحمه الله تعالى-
يذكر في رسالته إلى أهل مكة أنه خرج في هذا الكتاب الصحيح وما يشابهه،
ويقاربه، يقول: وما فيه ضعف شديد بينته، وما ليس فيه ضعف شديد سكت عنه،
إذن هو يقر بأن كتابه مشتمل على أحاديث بعضها فيه ضعف شديد، وبعضها فيه
ضعف ولكنه ضعف هين. وهذا الإمام الترمذي -رحمه الله تعالى- كثيراً ما
يعلق على الأحاديث، ويحكم عليها في كتابه الجامع بما يدل على كون
الحديث عنده ضعيفاً، فهو كثيراً ما يخرج الحديث ثم يضعفه، ويبين ما(1/114)
فيها من علة ظاهرة أو خفية، فكيف مع ذلك يأتي هؤلاء العلماء، ويقولون:
إن ذلك الكتاب صحيح، وصاحبه نفسه لم يقل ذلك، بل صنيعه وكلامه يدل على
خلاف ذلك؟! وهكذا الإمام النسائي كثيراً ما يخرج أحاديث في كتابه
السنن، ويبين عللها ويبين ما فيها من ضعف، فكيف ينسب إلى الإمام
النسائي أنه أراد الصحيح في هذا الكتاب ويوصف كتابه ذلك بأنه صحيح؟!
لهذا اعتبر العلماء ذلك من باب التساهل في التسمية، فقول الخطيب
البغدادي أو علي بن السكن، أو الحاكم - في وصف سنن الترمذي أو سنن
النسائي بالصحيح- اعتبر العلماء ذلك تساهلاً منهم، وأن هذه الكتب لا
ينبغي أن توصف بالصحة، بل فيها ما هو صحيح، وفيها ما هو حسن، وفيها ما
هو ضعيف.
ولكن من الممكن أن نتوسط في الأمر، وأن نقول: لعل هؤلاء العلماء حيث
أطلقوا الصحة، أطلقوها من باب التغليب، يعني أغلب الأحاديث التي فيها
صحيحة؛ فلهذا استساغوا أن يطلقوا اسم الصحيح على هذه الكتب، أو أنهم
أرادوا بالصحيح هنا صحة أصولها لا صحة كل حديث على حدة، وهناك فرق بين
صحة الأصول وصحة الحديث، وهذا أمر سيتكلم عليه الإمام قريباً، عندما
يتعرض للكلام على الأصول الخمسة، حيث وصفها بعض أهل العلم بأنها صحيحة،
وسيتبين من ذلك معنى صحة الأصول، فصحة الأصل لا تعني صحة الحديث، وإنما
صحة الأصل معناها: أن الحديث مخرجه ثابت، مخرجه محفوظ، أي الراوي الذي
خرج من عنده الحديث، أضرب لكم مثالاً:
نعود إلى الإمام الزهري مرة أخرى، نحن نعرف الإمام الزهري وهو من
الحفاظ الذين أكثروا من رواية الحديث، والإمام الزهري -عليه رحمة الله
تعالى- كان له تلامذة، وأصحاب، تخصصوا في أحاديثه وحفظوها وأتقنوها،
واعتنوا بها غاية العناية، بحيث لا تكاد تجد حديثاً للزهري إلا وهو عند
أصحاب الزهري، أو بعضهم، فإذا وجدت حديثاً يرويه أصحاب الزهري - الذين
اعتنو بحديث الزهري وتخصصوا فيه ولازموا الزهري ملازمة وثيقة- عن(1/115)
الزهري، فتقول: هذا حديث له أصل من حديث الزهري.
أما إذا وجدت بعض الضعفاء أو بعض من ليس معتنياً بحديث الزهري، يروي
حديثاً عن الزهري، وليس الحديث عند أصحاب الزهري المختصين به العارفين
به، فيقول المحدثون: هذا حديث ليس له أصل من حديث الزهري. يعني: لم
يثبت أن الزهري رواه، لم يثبت أنه من حديث الزهري؛ لأنه إن كان من حديث
الزهري فلابد أنه سيأتي به كبار حفاظه الذين اعتنوا بحديثه وأتقنوا
حفظه، بحيث لا يخفى على مجموعهم، حديث من أحاديث الزهري، وإن جاز أن
يخفى على بعضهم.
مفهوم كلمة أصل: أي أنه يكون ثابت عن هذا الراوي المشهور المعروف الذي
هو مرجع لكثير من الأحاديث، فإذا أثبتنا أصل الحديث عن الزهري، قد يكون
الحديث فيه علة ممن فوق الزهري، قد يكون الزهري إنما رواه عن بعض
الضعفاء، فالحديث حينئذٍ يكون صحيحاً عن رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- أم ضعيفاً؟ لا يكون صحيحاً عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛
لأن شيخ الزهري فيه ضعيف، ولكنه له أصل عن الزهري. يعني: إذا ثبت أن
الزهري روى الحديث فعلاً، وأن هذا من حديثه، فهذا أصل بالنسبة إلى ذلك
الإمام الحافظ، لكن النظر بعد ذلك فيمن فوق الزهري من الإسناد، قد يكون
الزهري رواه عن ضعيف، فالعلة الضعف الذي هو ناشيء عن سوء حفظ ذلك
الراوي الذي هو شيخ الإمام الزهري، قد يكون الزهري رواه مرسلاً عن رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- لم يسمعه ولم يروه عن صحابي عن رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- إنما رواه هكذا عن رسول الله -صلى الله عليه
وسلم-، فنحن نقول: له أصل من حديث الزهري، يعني: ثبت أن الزهري رواه،
ولكن لم يثبت أنه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما في الرواية من
إرسال بين الزهري ورسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-.
وهذا هو المعنى الذي قصده الإمام أبو داود -رحمه الله تعالى- عندما
تكلم عن أحاديث كتابه في رسالته إلى أهل مكة، فقال: «وأحاديث هذا(1/116)
الكتاب» يعني كتاب السنن له «وأحاديث هذا الكتاب أحاديث مشاهير رواها
ناس كثيرون، وحفاظ كثيرون، بحيث تثبت لها أصولها، وأحاديث هذا الكتاب
أحاديث مشاهير، والفخر بها أنها مشاهير » هكذا يقول الإمام أبو داود،
والفخر بها أنها مشاهير، ولا تجد حديثاً غريباً، ولا يحتج بالحديث
الغريب، ولو كان من رواية الثقات من أهل العلم، وإذا وجدت من يحتج
بحديث غريب وجدت من أنكر ذلك عليه، ولا يحتج بالحديث الغريب إذا كان
غريباً شاذاً، يعني: الحديث الغريب الذي يكون فيه نوع شذوذ، ونحن شرحنا
الشذوذ بإجمال وسيأتي تفصليه -إن شاء الله تعالى- وهذه الأحاديث لم تثت
أصولها، يعني لم يصح أنها مثلاً من حديث الزهري، أو من حديث هشام بن
عروة، أو من حديث قتادة بن دعامة السدوسي، فليست ثابتة عمن عرف من
الحفاظ الذين رويت عنهم، أما إذا رواها أصحاب هؤلاء الحفاظ عن هؤلاء
الحفاظ فحينئذٍ تكون ثابتة الأصل. ثم يأتي بعد ذلك النظر في الإسناد
بين هذا الحافظ ورسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإثبات أصل الحديث لا
يستلزم صحته إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولعل هذا هو المقصد
الذي قصده هؤلاء العلماء حيث أطلقوا الصحة على كتاب الترمذي أو على
كتاب النسائي أي قصدوا صحة أصولها، وليس صحة نسبتها إلى رسول الله -صلى
الله عليه وآله وسلم- .
مسند الإمام أحمد
قال المصنف -رحمه الله تعالى- (مسند الإمام أحمد. وأما قول الحافظ أبي
موسى محمد بن أبي بكر المديني عن مسند الإمام أحمد إنه صحيح، فقول
ضعيف؛ فإن فيه أحاديث ضعيفة، بل وموضوعة، كأحاديث فضائل مرو، وعسقلان،
والبرث الأحمر عند حمص، وغير ذلك، كما قد نبه عليه طائفة من الحفاظ.
ثم إن الإمام أحمد قد فاته في كتابه هذا - مع أنه لا يوازيه مسند في
كثرته وحسن سياقته - أحاديث كثيرة جداً، بل قد قيل: إنه لم يقع له
جماعة من الصحابة الذين في الصحيحين قريباً من مائتين )(1/117)
تكلم الإمام ابن كثير -رحمه الله تعالى- عن مسند الإمام أحمد، وبيَّن
أنه ليس كله صحيحاً، كما زعم ذلك أبو موسى المديني، وغيره من أهل
العلم، ونحن تكلمنا عن هذا في اللقاء الماضي، وقلنا: إن الذين ذهبوا
إلى كون مسند الإمام أحمد كله صحيح إنما أخطأوا في ذلك، وأن العلماء
أثبتوا أن فيه أحاديث ضعيفة، بل هناك أحاديث أودعها الإمام أحمد في
كتابه المسند، وهو نفسه قد جاء عنه ما يدل على تضعيفه لها، ولكن كما
قلنا: إنها مع ما فيها من ضعف، إلا أن الإمام أحمد لا يروي في المسند
عن كذاب، وإنه قد يوجد في بعض أحاديث المسند ما هو منكر أو باطل أو
موضوع، ولكن هذا مما يستدل على كونه كذلك بدليل خارج ليس راجعاً إلى
كذب الراوي وتعمده الكذب على رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-،
وإنما هو محمول على خطأ بعض الرواة في الإسناد أو في المتن.
ثم ذكر أن المسند مع ذلك فاتته أحاديث كثيرة، بعضها في الصحيحين، وهذا
فيه نوع مبالغة، كما أشار إلى ذلك الشيخ أحمد شاكر -رحمه الله تعالى-
في تعليقه على هذا الموضع، والواقع أن مسند الإمام أحمد قلما يفوته
حديث في الصحيحين، بل قلما يفوته حديث في كتب الأصول الأخرى، التي هي
السنن الأربعة، بل فيه أحاديث كثيرة زائدة على هذه الكتب، فكثيراً ما
نجد الحديث الذي يخرجه الإمام أحمد نجده متفرداً بإخراجه، فليس هو في
الصحيحين ولا في السنن الأربعة.
قيل لبعض أهل العلم: أتحفظ الكتب الستة قال: «أحفظها ولا أحفظها». فقيل
له: كيف ذلك؟ قال أحفظ المسند للإمام أحمد. وقد اشتمل على الكتب الستة،
ويمتاز المسند بأن الحديث الواحد تجد له أكثر من سند في المسند، بخلاف
هذه الأحاديث حيث توجد في كتب الأصول، فغالباً يخرجون الأسانيد
المشهورة لها بخلاف الإمام أحمد فإنه يخرجه من عدة أسانيد، وهذه فيه
منفعة للباحث المتخصص بطبيعة الحال.
الكتب الخمسة وغيره
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (الكتب الخمسة وغيرها. وهكذا قول(1/118)
الحافظ أبي طاهر السلفي في الأصول الخمسة، يعني البخاري ومسلماً وسنن
أبي داود والترمذي والنسائي إنه اتفق على صحتها علماء المشرق والمغرب:
تساهل منه. وقد أنكره ابن الصلاح وغيره. قال ابن الصلاح: وهي مع ذلك
أعلى رتبة من كتب المسانيد كمسند عبد بن حميد، والدارمي، وأحمد بن
حنبل، وأبي يعلى، والبزار، وأبي داود الطيالسي، والحسن بن سفيان،
وإسحاق بن راهويه، وعبيد الله بن موسى، وغيرهم؛ لأنهم يذكرون عن كل
صحابي ما يقع لهم من حديثه )
تكلم عن بقية كتب الأصول، هل يجوز إطلاق اسم الكتب الستة عليها؟ فذكر
أن الإمام أبا طاهر السلفي سمى الأصول الخمسة، وهي: الصحيحان، وكذلك
أبو داود والترمذي والنسائي، سماها بالصحاح، فقال: إنه اتفق على صحتها
علماء المشرق والمغرب.
ذكر الإمام العراقي في تعليقه على كتاب ابن الصلاح: أن الإمام السلفي
لم يقصد، أو لم يقل بكونها صحيحة هكذا، وإنما ذكر أنها صحيحة الأصول،
على نحو ما شرحنا كلام الخطيب والحاكم، السابقين في إطلاق اسم الصحيح
على الترمذي وعلى النسائي.
وإذا أراد بصحتها صحة الأصول فهو يقول كلامنا فيه كنحو الكلام السابق،
في إطلاق اسم الصحيح على الترمذي وعلى النسائي، وقد بينا أن صحة الأصول
لا تستلزم صحة الأحاديث عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-؛ ولهذا
إذا وجدت إماماً من أئمة الحديث يقول في حديث: وجدت له أصلاً، أو هذا
حديث له أصل، فلا تفهم بذلك أنه يصححه، وإنما يصحح كونه مشهوراً عن
صاحب الحديث الذي تدور عليه الأسانيد كالزهري مثلاً، ولا يلزم من ذلك
صحته عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-؛ فلهذا كان قول المحدثين
في الحديث: له أصل، أو أعلم له أصلاً، أو وجدت له أصلاً، لا يفيد صحة
الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
يقول ابن الصلاح: لكنه بطبيعة الحال أعني تلك الكتب الأصول أفضل وأعلى
مرتبة من كتب المسانيد، إن كان يستثنى من ذلك مسند الإمام أحمد، لما(1/119)
ذكرناه في اللقاء الماضي، من أن شيخ الإسلام ابن تيمية اعتبر مسند
الإمام أحمد أفضل وأجود أحاديث وأسانيد من سنن أبي داود.
بطبيعة الحال إذا قدمها على سنن أبي داود بالضرورة يكون مقدماً على سنن
الترمذي؛ لأن سنن أبي داود أفضل من سنن الترمذي، وأنقى إسناداً،
والنسائي يقارب أبا داود في الأصحية والله أعلم.
التعليقات التي في الصحيحين
قال المصنف -رحمه الله تعالى- (التعليقات التي في الصحيحين. وتكلم
الشيخ أبو عمرو على التعليقات الواقعة في صحيح البخاري، وفي مسلم
أيضًا، لكنها قليلة، قيل إنها أربعة عشر موضعاً.
وحاصل الأمر: أن ما علقه البخاري بصيغة الجزم فصحيح إلى من علقه عنه،
ثم النظر في ما بعد ذلك. وما كان منها بصيغة التمريض فلا يستفاد منها
صحة، ولا تنافيها أيضًا؛ لأنه قد وقع من ذلك كذلك وهو صحيح، وربما رواه
مسلم.
وما كان من التعليقات صحيحاً، فليس من نمط الصحيح المسند فيه؛ لأنه قد
وسم كتابه بالجامع المسند الصحيح المختصر في أمور رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- وسننه وأيامه )
انتقل بنا الإمام ابن كثير إلى مسألة أخرى متعلقة بالمعلقات، الأحاديث
المعلقة في الصحيحين، هي في صحيح مسلم قليلة، وإنما هي كثيرة في صحيح
البخاري، وأغلبها يكون في صدور الأبواب، في فواتح الأبواب، البخاري
-رحمه الله تعالى- يصدر الباب أحياناً بقوله: وقال رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- كذا أو وقال أبو هريرة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
كذا، وقال قتادة عن معاذ كذا وكذا، أو نحو هذه الأشياء من غير أن
يذكرها بإسناد فالمعلقات هي ما حذف من أولها الإسناد.
الخبر المعلق أو الإسناد المعلق ما حذف الإسناد في أوله من المصنف إلى
من علق عنه، فقد يحذف شيخه فقط، ويرتقي بالحديث عن شيخ شيخه، قائلاً
قال فلان، ولا يقول: حدثنا ولا أخبرنا؛ لأنه في هذه الحال يكون كاذباً
ولا يفعل ذلك البخاري بطبيعة الحال، وإنما يقول قال فلان ،وكل الناس(1/120)
يعلمون أنه لم يسمع ذلك الحديث من هذا الشيخ الأعلى، وإنما اختصر
الإسناد وعلقه، وأحياناً يحذف الإسناد كله، يقول: قال رسول الله -صلى
الله عليه وآله وسلم- هكذا من غير أن يذكر سنده إلى رسول الله -صلى
الله عليه وآله وسلم- وهذا كله يسمى معلقاً.
تلك المعلقات هي عند البخاري مسموعة له أسانيد، ولكن كما قلنا في أكثر
من مرة: المصنفون لهم أغراض متعددة ومتنوعة في التصنيف، فتارة يسند
الحديث، وتارة يعلقه، وتارة يسوقه بسياق ما، وكل ذلك يقصد من وراءه
الإشارة إلى معانٍ معينة يحتاجها كتابه المصنف ويفهما أهل الاختصاص.
هذه الأحاديث ليست هي من موضوع كتاب الصحيح، حينما نقول: هذا حديث
أخرجه البخاري، لا نقصد هذا إذا أطلقنا العزو إلى البخاري، وقلنا:
أخرجه البخاري فلا نقصد إلا ما رواه بإسناده في كتابه الصحيح، أما
الأحاديث التي علقها، حاذفاً الإسناد، فهذا لا يجوز لك أن تنسبه إلى
البخاري، وإلى صحيحه من غير تقييد، فلا تقول: وأخرج البخاري في صحيحه
ثم تسوق رواية معلقة في صحيح البخاري. هذا يوهم أن البخاري ساق الحديث
مسنداً في كتابه الصحيح، وليس كذلك، وإنما تقيد فتقول: أخرجه البخاري
معلقاً، وبعض أهل العلم لا يقول أخرجه ولا رواه في مثل هذا، وإنما يقول
ذكره البخاري، أو علقه البخاري، فلا يذكر لفظ التخريج، ولا لفظ
الرواية، حتى لا يقع في الإيهام واللبس.
ما حال هذه الأحاديث؟ حينما نقول أحاديث البخاري صحيحة، نقصد أي
الأحاديث، تلك التي رواها بالأسانيد، أما المعلقات ففيها تفصيل.
العلماء يقولون: الأحاديث التي علقها البخاري -رحمه الله تعالى- في
كتابه الصحيح: إما أن تكون مسندة في موضع آخر من الصحيح أو لا.
بعض الأحاديث علقها البخاري في موضع، وأسندها في موضع آخر، فهذه
الأحاديث تعتبر أحاديث صحيحة، ككل أحاديث الصحيح لماذا؟ لأنها قد
أسندها البخاري بالفعل في موضع آخر من الصحيح، وهو إن كان علقها في(1/121)
موضع آخر فإنما علقها لغرض يختص بهذا الباب الذي وقعت فيها معلقة، لكن
من حيث الصحة هي ثابتة لكونها جاءت مسندة في موضع آخر من كتاب الصحيح.
لماذا يُخَرِج البخاري الحديث مرة معلقاً ومرة مسنداً؟ إنما يفعل ذلك
-رحمه الله تعالى- إما لأنه في الموضع الذي علقه ساق الحديث مختصراً،
فلم يشأ أن يذكره حيث ذكره في الموضع الأول مسنداً فيكون قد وقع تكرار
منه في كتابه الصحيح، فاعتمد على أنه أسنده في موضع، فلما احتاج الحديث
نفسه في موضع آخر ساقه معلقاً حتى لا يكون في كتابه تكرار من غير
فائدة.
وعادة البخاري إذا ما كرر الحديث في أكثر من موضع في كتابه الصحيح تجد
في كل موضع يذكر فيه الحديث فائدة، ليست موجودة في المواضع الأخرى، فإن
كان البخاري أسند هذا الحديث المعلق في موضع آخر من الصحيح، فالحديث
صحيح لا غبار عليه، بل هو حديث كسائر أحاديث الصحيح، وإما أنه لم يسنده
في موضع آخر من كتابه الصحيح، فينظر العلماء في ذلك:
- إن كان البخاري ساقه بصيغة الجزم فهو صحيح إلى من علقه عنه. يعني إذا
قال البخاري: قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- هكذا جازماً
نسبته إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فهو في نظر البخاري
صحيح إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- .
- أما إذا مر ولم يجزم بذلك كأن يقول: يروى عن رسول الله -صلى الله
عليه وسلم-، يحكى عن رسول -صلى الله عليه وسلم-، يذكر عن رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- فحينئذٍ لا يكون الحديث من شرط الصحيح، بل منه ما
هو صحيح، ومنه ما ليس بصحيح.
قد يكون صحيحاً، قد يكون حسناً، قد يكون ضعيفاً، وإنما يعرف ذلك بالنظر
في إسناده، وكما ذكرنا في اللقاء الماضي الحافظ ابن حجر جمع تلك
المعلقات وأسندها، وبيَّن أسانيدها حديثاً حديثاً وألف كتابه تغليق
التعليق.
قال المصنف -رحمه الله تعالى- (فأما إذا قال البخاري: قال لنا، أو قال
لي فلان كذا، أو زادني، ونحو ذلك فهو متصل عند الأكثر)(1/122)
قبل أن نشرح هذه النقطة، هناك نقطة أخرى، متعلقة بالنقطة السابقة، وهي
إن البخاري إذا علق حديثاً عن بعض رواة الإسناد كأن يقول مثلاً: وقال
طاووس عن معاذ عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فالذي نستفيده
من هذا التعليق هو جزم نسبته إلى طاووس فنقول هنا: إنه صح الإسناد عند
البخاري إلى طاووس، لكن يبقى النظر هل طاووس سمع من معاذ أم لم يسمع من
معاذ، فلربما يكون الإسناد بين طاووس ومعاذ منقطعاً. البخاري عندما قال
لك قال طاووس فهو قد أفادك بحال الإسناد الذي حذفه، ويبقى النظر بعد
ذلك في بقية الإسناد الذي ذكره، قد يكون هذا الإسناد فيه نوع علة،
فالعلة قد أبرزها لك بأن سمى لك الرجال الذين روى الحديث فوق من جزم
بنسبة التعليق إليه.
فأما إذا قال البخاري قال لنا، أو قال لنا فلان كذا، أو قال لي فلان
كذا، أو زادني ونحو ذلك، فهو متصل عند الأكثرين، يعني البخاري إذا روى
عن بعض مشايخه الذين يعرفون بكونهم من مشايخ البخاري، والبخاري يروي
عنهم سواءً في الصحيح أو في غير الصحيح، فيأتي البخاري ويقول: قال لنا
فلان، "قال" هذه من ألفاظ التعليق؛ لأن المعلق للحديث البخاري، حيث
يعلق يقول: قال رسول الله، أو قال قتادة، أو قال طاووس، أو قال معاذ،
أو نحو ذلك، فهو لا يقول: حدثنا، ولا أخبرنا، كما قلنا: عادة البخاري
إذا ما روى عن مشايخه يقول: حدثنا وأخبرنا.
لكن البخاري لو قال عن بعض من هو من مشايخه، قال فلان، أو قال لي فلان،
أو زادني فلان، هل هذا يعتبر تعليقاً؟ هو صورة من صور التعليق، ولكن
حكمه: حكم الاتصال؛ لأن البخاري لا يستعمل لفظ قال، كما يستعملها
المدلس، المدلس هو الذي يقول: "قال" فيما لم يسمعه، بينما البخاري سالم
من التدليس، لم يعرف عنه تدليس، وليس هو من المدلسين، فإذا ما قال
البخاري قال فلان، ولو كان فلان هذا من مشايخه فهو قد سمعه منه وأخذه(1/123)
عنه، فعبارة "قال" تحمل على عدم الاتصال أو يتوقف في اتصالها إذا كان
قائلها معروفاً بالتدليس، والبخاري ليس معروفاً بالتدليس.
قال المصنف -رحمه الله تعالى- (وحكى ابن الصلاح عن بعض المغاربة أنه
تعليق أيضًا، يذكره للاستشهاد لا للاعتماد، ويكون قد سمعه في المذاكرة،
وقد رده ابن الصلاح، فإن الحافظ أبا جعفر بن حمدان قال: "إذا قال
البخاري "وقال لي فلان" فهو مما سمعه عرضاً ومناولة" )
هذا استكمال لما قلناه سابقاً فيما يتعلق بقول البخاري "قال لنا" أو
"قال لنا فلان"، فبين بعد ذلك أن بعض أهل العلم ذهب إلى أن ذلك، إنما
تحمله البخاري على سبيل المذاكرة، ومعروف أن المحدثين كانوا في مجالس
مذاكرة يتساهلون في الأسانيد، ولا يضبطونها كما ينبغي؛ فلذلك البخاري
إذا ما تحمل الحديث عن طريق المذاكرة، فأراد أن يدخله في الصحيح لا
يدخله اعتماداً، وأصالة، إنما يستشهد به ويؤكد به صحة ما هو مفروغ من
صحته، هذا قول ذهب إليه بعض أهل العلم، وابن الصلاح عارضه في ذلك، وذهب
إلى أنه كما قال أبو جعفر بن حمدان: "إذا قال البخاري وقال لي فلان فهو
مما سمعه عرضا ومناولة".
ما هو العرض وما هو المناولة؟ سيأتي - إن شاء الله تعالى- طرق تحمل
الحديث وهي كثيرة، من أرفعها وأقواها السماع، يعني أن تسمع من لفظ
الشيخ، الشيخ يحدث وأنت تسمع لفظه، فهذا من أفضل الطرق في تحمل الحديث
عن المشايخ، وهناك طرق آخرى تسمى العرض أو القراءة وهذه الطريقة أنت لا
تستمع الشيخ، بل أن الذي تُسمعه، تجلس بين يدي الشيخ، ومعك الكتاب،
وتقرأ على الشيخ ما في الكتاب، والشيخ يقر قراءتك، كما فعل عبد الرحمن
الآن، فعبد الرحمن يقرأ، وبفضل الله - عز وجل - قراءته في غاية الحسن
والجمال، فهذا يسمى عرضاً، الشيخ لا يقرأ بنفسه، وإنما الطالب هو الذي
يقرأ، والشيخ يقر قراءته، تلك كما يقع في عرض القرآن، فالقاريء للقرآن
يقرأ بين يدي الشيخ، والشيخ يقر قراءته.(1/124)
والمناولة صورة أخرى أيضاً من صور تحمل الحديث ما هذه الصورة؟ أن يأتي
الطالب إلى الشيخ بكتاب، ويقول للشيخ خذ هذا الكتاب، وانظر فيه، فإن
رأيته صحيحاً ائذن لي في روايته عنك، هذه صورة. وهناك صورة أخرى في
المناولة، وهي عكس ذلك أن يأتي الشيخ نفسه بكتاب من كتبه، ويخص به بعض
تلامذته، ويقول له يا فلان خذ هذا الكتاب اروه عني، فيناوله الكتاب
ويعطيه إياه، ويأذن له في روايته عنه، طبعاً لا يكون ذلك إلا بعد أن
يتحقق لدى الشيخ أن هذه الطالب أهل لأن يروي ذلك الكتاب عنه.
قال المصنف -رحمه الله تعالى- (وأنكر ابن الصلاح على ابن حزم رده حديث
الملاهي، حيث قال فيه البخاري: وقال هشام بن عمار، وقال أخطأ ابن حزم
من وجوه، فإنه ثابت من حديث هشام بن عمار.
قلت: وقد رواه أحمد في مسنده، وأبو داود في سننه، وخرجه البرقاني في
صحيحه، وغير واحد مسنداً، متصلاً إلى هشام بن عمار، وشيخه أيضًا، كما
بيناه في كتاب الأحكام ولله الحمد)
حديث المعازف، وهو الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري -رحمه الله تعالى-
في صحيحه (
ليكونن في أمتي قوم يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف)
هذا الحديث يرويه هشام بن عمار عن شيخه صدقة بن خالد، بإسناد إلى رسول
الله -صلى الله عليه وآله وسلم-. ابن حزم شذ في تضعيف ذلك الحديث،
وتعلق بأن البخاري حيث خرجه في كتابه الصحيح قال: وقال هشام بن عمار.
فقال هذا حديث ليس متصلاً ؛ لأن البخاري لم يقل: حدثنا هشام بن عمار،
ولا أخبرنا هشام بن عمار. فرد العلماء عليه ذلك، بأن البخاري ليس
معروفاً بالتدليس، فقال في عرفه كحدثنا وأخبرنا، فالبخاري إذا قال: قال
فلان، كما لو قال: حدثنا فلان، أو أخبرنا فلان، إذا كان فلان هذا من
مشايخه، وهشام بن عمار من شيوخ البخاري، فإذا قال: قال هشام بن عمار
فهذه صيغة اتصال، إذا صدرت من مثل البخاري؛ لأنه لا يستعمل هذه اللفظة(1/125)
إلا فيما كان سماعاً له، كما تقدم، فضلاً عن أن الحديث مشهور محفوظ
ثابت عن هشام بن عمار، وعن شيخه، من غير طريق البخاري. فلو سلمنا بأن
البخاري لم يسمع هذا من هشام بن عمار، فكون الحديث من حديث هشام بن
عمار هذا لا يحتاج إلى رواية البخاري؛ لأن غير االبخاري أيضاً قد رواه
عن هشام بن عمار.
قال المصنف -رحمه الله تعالى- (ثم حكى أن الأمة تلقت هذين الكتابين
بالقبول، سوى أحرف يسيرة إنتقدها بعض الحفاظ كالدار قطني وغيره، ثم
استنبط من ذلك القطع بصحة ما فيهما من الأحاديث؛ لأن الأمة معصومة عن
الخطأ فما ظنت صحته، ووجب عليها العلم به، لابد وأن يكون صحيحاً في نفس
الأمر، وهذا جيد.
وقد خالف في هذه المسألة، الشيخ محي الدين النووي، وقال: لا يستفاد
القطع بالصحة من ذلك.
قلت: وأنا مع ابن الصلاح فيما عول عليه وأرشد إليه. والله أعلم)
أحاديث الصحيحين أحاديث قد تلقتها الأمة بالقبول، ولله الحمد، أي تلقت
صحتها، أما المعاني فقد يختلفون، وهذا وارد، إمام يفهم من الحديث شيء
لا يفهمه إمام آخر، فيختلفون في دلالة هذا الحديث أو ذاك، هذا الخلاف
في معنى الحديث والفقه المستنبط منه، لا يؤثر في الحديث ضعفاً، إنما
الأحاديث كلها صحيحة عند علماء الحديث، وإن كانوا يختلفون أحياناً في
معنى بعض الأحاديث والفقه المستنبط منها، سوى أحرف يسيرة انتقدها بعض
الحفاط كالدار قطني، وأبي علي الغساني، وأبي مسعود الدمشقي، وهذه
الأحاديث - كما قلنا آنفا في لقاء سابق- إن أغلب انتقادات هؤلاء الحفاظ
عليها إنما ترجع إلى الأسانيد إلى الصناعة الإسنادية البحة، ولا تؤثر
في المتون التي اختارها البخاري ومسلم، وما كان من كلام أهل العلم
متوجهاً إلى المتون فغالباً ما تكون هذه المتون إما لها شواهد تغني
عنها، أو يكون البخاري ومسلم لم يقصدا هذا القدر من المتن الذي وقع
عليه الإنكار، أو وقع عليه الاعتراض، وإنما أرادوا بإخراج الحديث أصله،(1/126)
أي أصل الحديث الذي خرجاه في الصحيحين.
المهم أن هذه الأحاديث التي وقع فيها هذا النوع من الانتقاد لا تكون قد
تلقيت بالقبول، وإنما تجوذبت، فمن العلماء من صححها، ومن العلماء من لم
يصححها، فلم يقع عليها الإجماع، وإن كنا نرى: أن الراجح فيها الصحة،
لكن فرق بين أن يكون الراجح فيها الصحة، وبين أن يكون قد اتفق على
صحتها، فالجم الغفير من أحاديث الصحيحين، قد اتفق على كونها أحاديث
صحيحة، وهذا الذي وقع فيه الخلاف من أحاديث الصحيحين.
الراجح في الأعم الأغلب منها أنها صحيحة، ولكن لم يقع عليها الاتفاق،
فهذه الأحاديث التي اتفقت عليها الأمة، وتلقتها بالقبول من أحاديث في
الصحيحين، يرى ابن الصلاح أنها مقطوع بصحتها، أي نجزم جزماً يقينياً
بأنها صحيحة ثابتة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، جزماً لا يحتمل
أدنى شك، هذا هو معنى قول العلماء بالعلم اليقيني، أو العلم الضروري
الذي لا يحتاج منك إلى بحث وإلى تفتيش، وإنما صحتها صارت موضع إجماع،
صحتها صار أمراً مفروغاً منه، هذه منزلة تلك الأحاديث التي تلقاها
الناس بالقبول من أحاديث الصحيحين، طبعاً إذا قلنا الناس، فإنما نقصد
بالناس علماء الحديث -رحمهم الله تعالى- .
الإمام النووي قال: لا..، هذه لا يستفاد منها القطع بالصحة، وإن كان
الظن الغالب أنها صحيحة، والذي عليه جمهور أهل العلم أنها يستفاد منها
القطع بكونها صحيحة، بحيث لا تحتمل شكاً بل لا تحتمل أدنى شك في صحتها،
ونسبتها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (حاشية: ثم وقفت بعد ذلك على كلام
لشيخنا العلامة ابن تيمية مضمونه: أنه نُقل القطع بالحديث الذي تلقته
الأمة بالقبول عن جماعات من الأئمة، منهم القاضي عبد الوهاب المالكي،
والشيخ أبي حامد الإسفراييني، والقاضي أبو الطيب الطبري، والشيخ أبو
إسحاق الشيرازي من الشافعية، وابن حامد، وأبو يعلى بن الفراء، وأبو(1/127)
الخطاب، وابن الزاغوني، وأمثالهم من الحنابلة، وشمس الأئمة السرخسي من
الحنفية. قال: "وهو قول أكثر أهل الكلام من الأشعرية وغيرهم، كأبي
إسحاق الإسفراييني ،وابن فورك، قال: وهو مذهب أهل الحديث قاطبة، ومذهب
السلف عامة" وهو معنى ما ذكره ابن الصلاح استنباطاً فوافق فيه هؤلاء
الأئمة)
هذا بطبيعة الحال نُقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو موجود في بعض
المواضع في مجموع الفتاوي له، وأيضاً نقله الحافظ ابن حجر العسقلاني في
نكته على كتاب ابن الصلاح، وهو يدل على مثل ما دل عليه كلام ابن الصلاح
من أن أحاديث الصحيحين التي تلقيت بالقبول، هذه الأحاديث مقطوع
بنسبتها، وصحتها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهي تفيد العلم
اليقيني، ولا تحتاج بعد ذلك إلى بحث، أو تفتيش أو نظر في الأسانيد،
والله أعلم.
وبهذا نكون بحمد الله تعالى قد انتهينا من نوع الحديث الصحيح، وإن شاء
الله تعالى في اللقاء القادم سيكون كلامنا عن الحديث الحسن، والحديث
الحسن فيه مباحث في غاية الأهمية، وغاية الدقة، فأسأل الله -عز وجل-
التوفيق والسداد.
وردتنا إجابات عدة على أسئلة الحلقة الماضية، وكان السؤال الأول: رتب
هذه الكتب حسب الأصح مستدرك الحاكم، صحيح ابن خزيمة، صحيح ابن حبان؟
وكانت الإجابة أصح هذه الكتب على الترتيب الآتي: صحيح ابن خزيمة، صحيح
ابن حبان، مستدرك الحاكم هذه إجابة صحيحة.
السؤال الثاني: هل يوجد في مسند الإمام أحمد حديث موضوع؟
وكانت الإجابة: لا يوجد في مسند الإمام أحمد حديث موضوع، فأحاديثه بين
الصحيح والحسن، وما كان منه من ضعف فهو من هين الضعف لا شديده، فلم يرو
الإمام أحمد في مسنده عن الكذابين والوضاعين
الإجابة صحيحة، لكنها ناقصة، فنقول: إن كنا نقصد بالموضوع ما يرويه
الكذاب فليس هذا موجوداً في مسند الإمام أحمد، أما إن كانا نقصد
بالموضوع ما ترجح فيه بطلان متنه، فهذا قد يوجد ولكن أيضاً بقلة.(1/128)
سؤال يقول: إذا كان بعض العلماء قد فضل مسند الإمام أحمد على سنن أبي
داود من حيث الصحة فما ترتيبه أو ترتيب السنن معاً، ومع مسند الإمام
أحمد، ومستدرك الحاكم، أو بمعنى آخر: ما هو ترتيب الكتب التسعة من حيث
الصحة؟
نحن نقدم كتب السنن من حيث الإجمال؛ لأن كتب السنن - وهي تسمى
بالمصنفات هذه الكتب- أصل موضوعها أدلة الأحكام، فمن هذه الحيثية كانت
مرجعاً لعلماء الحديث والفقهاء في استنباط الأحكام، ومعرفة أدلتها، فهي
مقدمة من هذه الحيثية، قد يكون مصنفوا الأسنانيد أجل أو أنظف أسانيداً،
فالإمام أحمد من حيث المنزلة فهو أجل من أصحاب السنن، ولكن لما كان
كتابه ليس مرتباً على الأبواب تأخرت منزلته، من هذه الحيثية، ولم ندخله
في الكتب الستة، أو الأصول الخمسة على اختيار بعض أهل العلم، وإن كنا
نعده من كتب الأصول عموماً التي ينبغي أن يرجع إليها لمعرفة صحة الحديث
أو ضعفه.
لم لم يدخل الحافظ أبو طاهر السلفي سنن ابن ماجة في الأصول؟ وذكرتم
فضيلتكم أن صحيح البخاري أحاديثه أصح من مسلم، هل يعني ذلك أن شروط
البخاري أوثق من شروط مسلم، أم طبقات الثقات أعلى عند البخاري من
مسلم؟
بخصوص السؤال الثاني هذا تكلمنا عنه بالتفصيل وذكرنا ما يجعل صحيح
البخاري متميزاً على صحيح مسلم، ومقدماً على صحيح مسلم، وأفردنا لذلك
فصلاً من الكلام طويلاً، لكن السؤال الآخر المتعلق بسنن ابن ماجة لماذا
لم يدخلها أبو طاهر السلفي في كتب الأصول؟ أكثر أهل العلم لا يدخلون
سنن ابن ماجة في كتب الأصول، إنما أول من أدخلها في كتب الأصول الإمام
ابن طاهر، وألف كتاباً في شروط الأئمة الستة، فأدخل في هذا الكتاب سنن
ابن ماجة، وهذا عابه عليه العلماء ورأو أن سنن ابن ماجة ما كان منها
صحيح فهو موجود في بقية الكتب، يعني لم يتفرد بأصل أو بحديث صحيح، ليس
يوجد إلا فيه، إنما ما كان منه في سنن ابن ماجة صحيحاً فلابد أنك تجده(1/129)
إما في الصحيحين، وإما في الكتب الثلاثة الأخرى التي هي السنن الثلاثة،
وما كان منه ضعيف، فالضعيف جداً، فيه من الموضوع، أو الذي يرويه شديد
الضعف، أكثر من الضعيف الموجود في سائر الكتب الأصول؛ فلهذا عاب
العلماء على من أدخل سنن ابن ماجة في كتب الأصول، ورأو أن سنن ابن ماجة
ليست جديرة بذلك، والحافظ ابن حجر العسقلاني في نكته على ابن الصلاح
ذكر من أقوال أهل العلم ما يدل على ذلك، والله أعلم.
علمنا أن ما جاء معلقاً بصيغة الجمع هو صحيح إلى من جزم البخاري إليه،
وإن جاء بصيغة التضعيف، فيبقى النظر، فهل هذه قاعدة، وإن كانت قاعدة
فهل تنطبق على غير البخاري؟
لا.. هذه نعم قاعدة، وهي التي ذكرها العلماء استقراءً لصنيع البخاري،
ولكتابه الصحيح، أما غير البخاري فليس ذلك مطرداً فيه، كما قال السيوطي
في ألفيته:
وما لها لدى سواه ضابط**** فتارة وصل وأخرى ساقط
يعني ليست هي في غير صحيح البخاري تكون مرتبطة بهذه القاعدة، وهذا
الضابط إنما ذلك الضابط مختص بصحيح البخاري خاصة، والله أعلم.
يقول: من المعروف أن لصحيح البخاري رويات كثيرة، فما حكم الحديث إذا
انفردت به نسخة ما؟
أغلب الأحاديث التي في صحيح البخاري هي موجودة في جميع النسخ، ولكن
بعضها تحملها الراوي عن البخاري عن طريق السماع، وبعضها عن طريق
الإجازة، ولكن هي في الجملة تشترك في الأحاديث.
يقول: ما هو رأي فضيلتكم فيما ذهب إليه الشيخ شاكر من أن كل الأحاديث
المرفوعة المسندة في الموطأ كلها صحاح؟
هذا هو الرأي الذي هو أقرب إلى
الصواب، الأحاديث المسندة المتصلة الإسناد إلى رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- في الموطأ فهي كذلك، وأغلبها في الصحيحين.
يقول: ذكر بعض أهل العلم أن في المسند أحاديث أحياناً تكون أصح من
التي في الصحيحين، فما رأيكم في ذلك؟
نحن قلنا إننا حينما نقول إن البخاري ومسلماً أصح الكتب بعد كتاب الله،(1/130)
هذا من حيث الإجمال، إذا نظرنا إلى الصحيح، صحيح البخاري، وإلى صحيح
مسلم، فهذان الكتابان أصح من غيرهما من الكتب، لكن قد يوجد حديث معين
في غير الصحيحين، هذا الحديث قد يكون أصح من حديث معين في صحيح
البخاري، أو في صحيح مسلم، كما قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى-
وربما يعرض للمفوق ما يجعله فائقاً، فيقول السيوطي: وربما يعرض للمفوق
ما يجعله مساوياً أو قدم.
نجد العلماء كثيراً ما يختلفون في كون الحديث على شرط البخاري أو شرط
مسلم أو أحدهما، فكيف نتعامل مع هذا الخلاف
إذا كنت من أهل الترجيح فلك أن تنظر في كلام أهل العلم، وفي الرواية
التي حكموا عليها، واختلفوا فيها، فإن رأيت أنها تحقق فيها شرط البخاري
فاحكم بذلك، أو شرط مسلم، فاحكم بذلك، أو شرط الشيخين فاحكم بذلك، أما
إن كنت من غير أهل الترجيح فأنت تستفيد من اختلافهم أن الحديث صحيح،
إنما اختلفوا في درجة الصحة، لكن هذا الاختلاف لا يؤثر في الحديث
ضعفاً؛ لأنه اختلاف في المرتبة وليس اختلاف في أصل الصحة، هم متفقون
على أن الحديث صحيح، لكن هل هو صحيح على شرط البخاري أم صحيح على شرط
مسلم أم صحيح على شرط الشيخين؟ فهذا الاختلاف لا يضر العامي، إنما
العامي يريد فقط أن يعرف أن الحديث صحيحاً أم ليس صحيح؟
يقول: شرط البخاري في الصحيح هل هو خاص بكتابه الصحيح أم هو شرط في
كتبه الأخرى مثل كتابه الأدب المفرد؟
هو خاص بكتاب الصحيح.
هل هناك أحد من أهل العلم اعتنى بمستدرك الحاكم غير الإمام الذهبي؟
هناك بعض أهل العلم من تكلم عن أحاديث المستدرك في غضون بحوثه، وكلامه
في العلم، لكن لا أذكر أن أحداً غير الذهبي اعتنى به، وعكف عليه وخصه
بالاهتمام.
كنت أريد معرفة المذاكرة، معناها، وهل الأحاديث إذا ثبتت عن إمام أنه
حدث بها في المذاكرة، هل تؤخذ على سبيل الثبوت أم ماذا؟
علماء الحديث - عليهم رحمة الله تعالى- كانت لهم مجالس خاصة يتذاكرون(1/131)
فيها العلم، كما هو شأن أي طلبة يطلبون العلم في أي زمان، وفي أي مكان،
فكانت لهم مجالس يعقدونها في بعض المساجد، أو في بعض البيوت، يجلسون كل
يدلي بدلوه، وكل يذكر ما عنده من العلم، وكانت هذه المجالس، تتسم بنوع
من عدم الدقة في سياقة الأسانيد والمتون، يذكرون طرف المتن، جزءاً منه،
يقول بعضهم لجليسه أو لصاحبه أو لزميله: ماذا عندك في باب كذا من
الأبواب؟ تقول: عندي حديث أبي هريرة فيذكر جزءاً منه، أو عندي حديث،
أرويه عن فلان عن فلان، فيختصر أحياناً الإسناد، ولا يرويه تاماً؛
لأنها مجالس مذاكرة، نوع من الدردشة، وكلهم يعرف مراد صاحبه؛ لأنهم
كلهم أهل اختصاص، فإذا اختصر أحدهم الإسناد، فالآخر يعرف أنه يقصد
الإسناد الفلاني الذي يرويه عن فلان عن فلان عن فلان، فكان يقع نوع من
التساهل في صياغة الأسانيد، وصياغة المتون، في هذه المدارس، بعض
الجالسين ربما يسمع في هذا المجلس حديثاً لم يكن عنده، علم به فيخرج
فيحدث بذلك الحديث عن الشيخ الذي حدث به في هذا المجلس الذي هو أحد
مجالس المذاكرة، حينما تحدث بهذا الحديث عن الشيخ، الشيخ لم يقصد حال
روايته أن يسوق الإسناد بتمامه، والمتن، وإنما وقع فيه نوع تغيير، أو
نوع اختصار، هذا الأمر إذا رويته عن هذا الإمام، لابد أن تقيد ذلك بما
ذكرت، وتقول: أنا سمعت منهم هذا الحديث في مذاكرة، أو هو ذاكرني به،
ولا تقول: حدثنا وأخبرنا في مثل ذلك، لما يوهم أنه قصدك بالرواية، وأنه
حدثك به بدقة أو بنحو ذلك، فالعلماء يحتاطون فيما تحمل عن طريق
المذاكرة، بعض أهل العلم لا سيما نقاد الحديث كانوا يسألون عن بعض
الأحاديث في مثل هذه المجالس، أو بعض الرواة في مثل هذه المجالس، فيأتي
بعض الأئمة مثلاً يسأل شعبة ماذا تقول في جابر الجعفي؟ وجابر الجعفي
هذا ضعيف جداً، فيقول جابر الجعفي، كذاب أو ضعيف، لقد حدثنا جابر عن
فلان عن فلان عن فلان: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: كذا،(1/132)
وهذا حديث باطل، وهذا حديث منكر.
الإمام حيث ساق هذا الحديث في هذا المجلس، هل قصد أن يروي عن جابر
الجعفى، أم أنه ساقه ليستدل به على أنه يأتي بالأحاديث المناكير،
والأباطيل ليضعفه بذلك، ويستدل بذلك على كونه رجل ضعيف، لا يحتج به،
ولا يعتمد عليه، فهو لم يقصد في هذا المجلس أن يحدث عن هذا الرجل،
وإنما ساق هذا الحديث بروايته عنه ليستدل به على ضعفه، فيأتي بعض
الجالسين ويخرج، ويقول: حدثنا شعبة عن جابر الجعفي، عن فلان عن فلان عن
فلان عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فيقولون: كيف يروي شعبة
عن جابر الجعفي، وشعبة من شأنه ألا يروي إلا عن الثقات، فكيف يروي عن
الضعفاء ها هنا؟ وإنما شعبة حيث روى عن هذا الضعيف لم يرو عنه لا على
سبيل الاحتجاج، ولا على سبيل الاستشهاد، وإنما روى عنه حديثاً في مجلس
من تلك المجالس ليستدل به على كونه رجلاً ضعيفاً، لا يستدل على روايته،
ولكن السامع لهذه الرواية عن شبعة، ظن أو فرح بحديث، حدث به شعبة،
فيخرج على الناس، ويحدث بهذا الحديث عن شعبة، موهما أن شعبة إنما حدث
به عن جابر الجعفي، عامداً بذلك، قاصداً، وإنما حدث به شعبة على سبيل
التجريح والإنكار والاستعجاب من جابر الجعفي، ولما يحدث به من الأحاديث
المناكير. والله أعلم.
السؤال الأول: ما معنى تسمية جامع الترمذي وسنن النسائي بالصحيح؟
السؤال الآخر : ما هي الأصول الخمسة؟ والله أعلم.
--------------------------------------------------------------------------------
الدرس السادس
الحديث الحسن
إن الحمد لله تعالى نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور
أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي
له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده
ورسوله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-.
اليوم بإذن الله تعالى موعدنا مع نوع من أنواع علوم الحديث، هو في غاية(1/133)
الأهمية، ألا وهو النوع الثاني - الحديث الحسن- وهذا النوع من أنواع
علوم الحديث يعتبر نوعاً محورياً، فدراسة هذا النوع من أنواع علوم
الحديث والتفقه فيه، ومعرفة مسالك العلماء -رحمهم الله تعالى- في
التعامل مع الروايات التي تندرج تحت هذا النوع في غاية الأهمية، وهو
يعين على تفهم باقي الأنواع، كما سيتبين لنا أيضاً أن باقي الأنواع
التفقه فيها، ومعرفة مناهج العلماء فيها، يعين على التفقه أيضًا، في
هذا النوع من أنواع علوم الحديث.
هذا النوع - كما سيتبين لنا من خلال دراستنا له من خلال كتاب ابن كثير-
هو وسط بين النوع السابق - الحديث الصحيح- والنوع اللاحق وهو - الحديث
الضعيف- وقد تكلمنا في لقاء سابق عن نوع الحسن، وأشرنا إلى ما ورد عن
بعض أهل العلم من اختلاف: هل هو يعد نوعاً مستقلاً أم هو يندرج تحت أحد
النوعين المذكورين الصحيح أو الضعيف؟ وانتهينا بفضل الله تبارك وتعالى
من هذه المسألة.
والآن سنتكلم عن الحديث الحسن، وهذا النوع من أنواع علوم الحديث قد
اشتمل على عدة مسائل، هذه المسائل كان في بعضها اختلاف بين أهل العلم،
ونسأل الله تعالى أن يعيننا على التوفيق بين الأقوال التي ظاهرها
التعارض والاختلاف في هذا الباب، وأن نتفهم مراد كل إمام من أئمة هذا
الشأن في كلامه الذي قاله، ونقله عنه العلماء حول الحديث الحسن.
الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى- ابتدأ ببيان حكم هذا النوع من
الحديث فقال:
قال المصنف -رحمه الله تعالى- (النوع الثاني: الحسن. وهو في الاحتجاج
به كالصحيح عند الجمهور. )
ذكر الإمام الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى- أن الحديث الحسن من حيث
الاحتجاج به هو محتج به كالصحيح سواءً بسواء، فهو داخل في نطاق الحجة،
ونحن ذكرنا في لقاء سابق أن الحجة درجات ومراتب فقلنا:
إن أعلى مراتب الحجة ما يسمى بالحديث الصحيح.
ثم يأتي بعده الحديث القريب من الصحيح: وهو نوع من أنواع الحديث الحسن.(1/134)
ثم يأتي بعد ذلك في الحجة: النوع الآخر من الحديث الحسن، وهو الذي
يسميه بعض أهل العلم بالحسن لغيره، وهو أصلاً حديث كان فيه ضعف في بعض
رواياته وأسانيده، ولكن هذا الضعف انجبر وتقوى بروايات أخرى انضمت إلى
الرواية الأولى، فتشكلت الحجة من مجموع هذه الروايات كلها، فصار من هذه
الحيثية محتجاً به داخلاً في نطاق الحجة، وسميناه أيضاً بالحديث الحسن؛
وإنما سماه من سماه من أهل العلم بالحسن لغيره؛ لأن الحسن لم ينشأ من
ذات الإسناد، وإنما نشأ من انضمام شيء آخر إليه، فلما انضم إليه ما
قواه وأخذ بيده وارتقى به إلى مصاف الحجة، كان من هذه الحيثية حسناً
لغيره.
هذه درجات الحجة عند علماء الحديث -عليهم رحمة الله تبارك وتعالى – فكل
ذلك نقول: يحتج به، وقول المحدثين إنه يحتج به ليس معنى ذلك أنه في
الحجة سواء، أي في مرتبة واحدة، لكن كما قلنا:الحجة لها درجة علينا
ودرجة دنيا، كل ذلك داخل في نطاق الحجة،وإنما ننتفع بمعرفة هذه
الدرجات، وتلك المراتب إذا ما احتجنا إلى الترجيح بين الرويات التي
ظاهرها التعارض، ولم يمكن الجمع ولا التوفيق بينها، فحيئنذٍ نقدم
الأقوى على الأدنى قوة، والأصح على الأدنى صحة، وهكذا - فبطبيعة الحال-
معرفتنا بهذه الدرجات، وتلك المراتب، يعيننا على تقديم ما هو أقوى
وتأخير ما هو أقل قوة.
حينما نقول الحديث الحسن حجة نقصد بالحديث الحسن أي النوعين الذين
ذكرناهما؟
- النوع الأول: ما هو قريب من الصحيح، وهو المسمى بالحسن لذاته.
- النوع الآخر: وهو الضعيف المنجبر والمتقوى برواية أخرى، وهو المسمى
بالحسن لغيره.
فهذان النوعان هما أشهر أنواع الحديث الحسن، والعلماء في كتب علوم
الحديث إذا ما أطلقوا لفظ الحسن أو تكلموا عن الحديث الحسن، فإنما
يقصدون النوع الأول أو النوع الآخر، لا يقصدون شيئاً آخر غير هذين
النوعين، فإذا وجدت إماماً من أئمة علوم الحديث، أو مصطلح الحديث، أو(1/135)
وجدت إماماً من العلماء - الذين يعتنون بالحكم على الحديث صحةً وضعفاً-
قال في كلامه - وهو في صدد أو مناسبة الحكم على الحديث، هل هو من قسم
المقبول أو من قسم المردود، هل هو من الثابت أم من غير الثابت، وقال في
حديث من تلك الأحاديث: إنه حسن. فاعلم أنه يقصد أحد هذين النوعين.
الحسن لذاته، وهو القريب من الصحيح، وسيأتي شرحه ومعرفة ضوابطه،
وشرائطه عند المحدثين - إن شاء الله تعالى- بعد ذلك. والنوع الثاني
أيضاً هو الحسن لغيره. وكما قلت: هو الضعيف الذي يتقوى وينجبر بغيره من
الروايات، فحينئذٍ يكون داخلاً في نطاق الحجة. فإذا ما وجدت إماماً من
الأئمة قال: حسن، وقصد من الحسن، أو من وصف الحديث بكونه حسناً أنه من
قسم المقبول، فاعلم أنه يقصد أحد هذين النوعين.
لكن هناك توسع في استعمال أئمة الحديث -عليهم رحمة الله تعالى- لمصطلح
الحسن، فتجد في كلام علماء الحديث، مثلاً في كتب الرجال، في كتب الجرح
والتعديل، في كتب علل الأحاديث، في كتب التواريخ والسير، تجد العلماء
أحياناً يتوسعون في إطلاق اسم الحسن -مصطلح الحسن- فيطلقونه لا على
هذين المعنيين، فلابد لطالب العلم أن يكون مدركاً لاستعمال علماء
الحديث -عليهم رحمة الله تعالى- لهذا المصطلح، حتى إذا ما كان مطلعاً
في كتاب من تلك الكتب، كتب التواريخ، أو كتب الرجال، أو كتب العلل
مثلاً، فوجد إماماً أطلق الحسن لا على الحسن لذاته، ولا على الحسن
لغيره، لا يستشكل هذا من العلماء، ولا يقضي بأن العالم إنما خرج عن
الاصطلاح العام، فكما قلنا - في اللقاء الأول-: إن معرفة المعاني
المتعددة للمصطلح الواحد مما يعين على تفهم مراد العلماء -عليهم رحمة
الله تعالى- من هذه المصطلحات، حيث يستعملونها على غير المعنى المشهور
المتداول.
من هذه المصطلحات: مصطلح الحسن. علماء الحديث -عليهم رحمة الله تعالى-
استعملوا هذا المصطلح على كل ما يستحسن لشيء ما، أي هو استعمال بمعناه
اللغوي.(1/136)
فالحسن ضد القبيح، كل ما تميل إليه النفس فهو حسن، كل ما تتطلع إليه
النفس فهو حسن، كل ما تروق له الطباع فهو حسن، هذا هو المعنى اللغوي
لكلمة حسن.
وهذا المعنى اللغوي الذي تمنحه اللغة لهذا المصطلح، أو لهذه الكلمة،
مستعمل على ألسنة علماء الحديث -عليهم رحمة الله تعالى- بمعناه، فتجد
بعض علماء الحديث كلما استحسن شيئاً في الرواية سواء كان هذا الشيء
الذي استحسنه في الإسناد معنى إسنادي، وسنذكر أمثلة على المعاني التي
يستحسنها طلبة الحديث، أو المشتغلون بالحديث عموماً، أو معنى في المتن،
كأن يكون المتن مِشتملاً على معانٍ رائقة، وألفاظ حسنة، فتجد النفوس
تميل إلى سماع مثل هذا الكلام، فتجد بناءً على هذا بعض أهل العلم يعبر
عن هذا الحديث بأنه حسن، لا يقصد هذا العالم أو ذاك، من استعمال لفظ
الحسن على هذه الروايات التي وجد فيها المعنى الإسنادي يستحسن، أو معنى
متني يستحسن، لا يقصد الحكم على الحديث، بأنه من قسم المقبول، ولا أنه
محتج به، إنما يقصد أن يعبر عن ذلك المعنى الذي لاحظه ووجده في الرواية
مما يكون في الإسناد أو في المتن، ومما يستحسن مثله في الروايات
عموماً.
من ذلك مثلاً: الأحاديث الغرائب، فيأتي نوع الغريب -إن شاء الله تعالى-
في موضعه، ولكن نريد أن نلفت النظر إلى معنى الغريب عند علماء الحديث،
وما هو الذي يستحسن في الغريب عند المحدثين، الغريب: هو الحديث الذي
يتفرد به راوٍ، فلا يرويه غيره. هذا هو المعنى العام لكلمة غريب،
والغريب له أنواع وصور عند علماء الحديث، سيأتي بيانها في موضعها -إن
شاء الله تعالى-.
درج رواة الحديث عموماً، ونقاد الحديث أيضاً على استحسان الغرائب،
واستحسان سماعها، والشغف بها، والإقبال عليها، والسعي إليها، بحيث كان
الواحد منهم عنده استعداد لأن يسافر البلاد البعيدة من أجل أن يسمع
حديثاً واحداً غريباً؛ لأن الحديث المشهور المتداول الذي يعرفه كل(1/137)
الناس، كل الناس يعرفونه، فهو يريد الجديد، يريد المزيد من الروايات،
فكان بعض الرواة، أو عامة الرواة، يعمدون إلى سماع الأحاديث الغرائب،
وكان هذا بدوره سبباً في دخول الكذب -والعياذ بالله- في الأحاديث،
والمتون، فبعض من رق دينه، كان يتعمد أن يركب الأسانيد، أو يختلق
المتون، ليكون عنده شيء ليس عند غيره، فيرغب طلبة الحديث إلى الرحلة
إليه، ليسمعوا منه ما تفرد به، وليس هو عند غيره من الناس. لكن سماع
الغرائب عامة كانت لها فوائد:
أولاً: طلبة الحديث عموماً - كما قلت- كانوا يقبلون على سماع الغرائب
من الروايات، حتى إن هناك قصة تروى، رواها الإمام مسلم -رحمه الله
تعالى- في مقدمة الصحيح، وكذلك الإمام الترمذي في العلل - الذي هو في
آخر الجامع- أن الإمام أيوب السختياني -رحمه الله تعالى- افتقد يوماً
بعض أصحابه - أي بعض تلامذته- فلم يجده يحضر كما كان يحضر في مجلسه،
فسأل عنه؟ فقيل له: إنه جالس ذلك الرجل - يقصدون عمرو بن عبيد المعتزلي
المبتدع المعروف- يعني ترك مجلس أيوب السختياني، وذهب ليحضر مجلس عمرو
بن عبيد المبتدع، فأنكر ذلك الإمام أيوب السختياني، وفي يوم من الأيام
قابل أيوب السختياني هذا الرجل في الطريق، فقال له أيوب -رحمه الله
تعالى-: لعلك جالست ذلك الرجل؟ يعني عمرو بن عبيد. قال: نعم، إنه
يجيئنا بأحاديث غرائب، يعني أنت لم ترو لنا شيئاً جديداً، أنت لا تروي
إلا ما هو معروف لدى الناس؛ لأن أيوب السختياني لا يروي إلا صحيح
الأحاديث، وغالبا الأحاديث الصحيحة مشهورة متداولة، وهذا موجود في كل
زمان ومكان، تجد الناس يذهبون ليسمعوا ممن يأتيهم بالعجائب والغرائب،
أما الذي يتكلم بالكلام المستقيم الذي يعرفه كل الناس فيقولون: ليس
عنده شيء. ليس عنده جديد. فهم يريدون الجديد دائماً وأبدا، فقال: نعم،
إنه يجيئنا بأحاديث غرائب. فقال أيوب السختياني -رحمه الله تعالى-:(1/138)
إنما نَفْرَق أو نخاف من هذه الغرائب، فهكذا كان عوام طلبة العلم،
يريدون أن يسمعوا الأحاديث الغرائب ليكون عندهم ما ليس عند أقرانهم.
ثانياً: أما نقاد الحديث وأئمتهم -عليهم رحمة الله تعالى- فكانوا أيضاً
يقبلون على سماع الغرائب من الأحاديث، ولكن لهم شأن آخر، وغرض آخر من
سماع تلك الغرائب، كان علماء الحديث -عليهم رحمة الله تعالى- يسمعون
الغرائب ليعرفوها من باب:
عرفت الشر لا للشر، لكن لتوقيه**** ومن لا يعرف الشر -من الناس- يقع
فيه
فكانوا يعرفون الأحاديث الغرائب ويسمعونها، ويرحلون إليها، ليحصلوها،
لماذا؟ ليميزوها عن غيرها، فيعرفون أن هذه أحاديث مكذوبة وغرائب، كما
قال الإمام أحمد: "الغالب الضعف على الغريب، وأغلب الأحاديث الغرائب
إنما هي عن الضعفاء والمتروكين".
فأولاً: يعرفوها ويميزوها عن الصحيح، حتى إذا ما سئلوا عن هذه الأحاديث
يجيبون بما يعرفون، ثم يعرفوا الراوي الذي من شأنه أن يأتي بالغرائب
الكثيرة في رواياته، فيعرفون أنه ذو غرائب، وصاحب غرائب، فيستدلون بذلك
على أنه ضعيف، أو متهم، يتهمونه إذا غلب على ظنهم أنه يفتعل تلك
الغرائب ويخترعها من قبل نفسه، فهم كانوا يجمعون هذه المادة؛ ليميزوها
عن الصحيح وليعرفوا أحوال رواتها.
دخل الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله تعالى- على يحيى بن معين، وهما
بصنعاء، معروف أن أحمد بن حنبل ويحيى بن معين رحلا إلى اليمن معاً،
واليمن كانت وقتئذٍ فيها مشايخ وعلماء ومحدثين كثر، من أشهرهم: عبد
الرزاق بن همام، فلما كان أحمد بن حنبل وابن معين كلاهما في اليمن، دخل
أحمد بن حنبل على يحيى بن معين مرة، فوجد بيده صحيفة ينسخها، فقال له
الإمام أحمد: ماذا تكتب يا أبا زكريا؟ قال: أكتب صحيفة معمر عن أبان عن
أنس. أبان هو ابن أبي عياش، وهذا متروك الحديث ضعيف جداً، فقال له
الإمام أحمد: وأنت تعلم أنها موضوعة مليئة بالأحاديث المكذوبة،(1/139)
والموضوعة، والغرائب والمناكير!! تكتب هذه الصحيفة وأنت تعلم أنها
موضوعة!! قال نعم يا أبا عبد الله، أكتب هذه الصحيفة، وأعلم أنها
موضوعة حتى لا يجيء كذاب، فيجعل مكان أبان ثابت. الصحيفة من رواية معمر
عن أبان عن أنس، معمر يروي عن أبان بن أبي عياش عن أنس بن مالك، أبان
هذا متروك الحديث. ومعمر أيضاً يروي عن ثابت البناني عن أنس أحاديث
أخرى، وثابت البناني من ثقات المحدثين. فيقول ابن معين: إنني كتبت أو
أكتب هذه الأحاديث الموضوعة، وأعلم أنها من أحاديث أبان، حتى إذا ما
جاء كذاب، فجعل ثابتاً مكان أبان فرواها عن معمر عن ثابت عن أنس، فيكون
إسناد ظاهره الصحة؛ لأنه من رواية الثقات المأمونين، فأقول له: كذبت
هذه أحاديث أبان ليست هي أحاديث ثابت.
إذن كان الإمام ابن معين -عليه رحمة الله تعالى- يسمع ويكتب وينسخ هذه
الأحاديث الموضوعة المكذوبة، ويعلم أنها موضوعة، وأنها مكذوبة، لماذا؟
حتى إذا ما جاء الكذابون فأبدلوا راوياً بآخر فجعلوا مكان هذا الضعيف
ثقة يعرف ذلك، ويعرف أن هذا كذب، وأن هذه الأحاديث ليست من أحاديث ثابت
إنما هي من أحاديث أبان الضعيف.
فكان الرواة والنقاد يقبلون على سماع الغرائب، ولكل قصده، فالراوي يريد
الإغراب على أقرانه، والتندر عليهم، والناقد يريد تمييز الصحيح من
غيره، ومعرفة الصدق من الكذب، هذه الأحاديث الغرائب كما ترون من خلال
الحكايات وغيرها، كثير كان الناس يقبلون على سماعها فكانوا يستحسنون
سماعها، ويقبلون على سماعها، وكانوا أحياناً يسمونها بالحسنة، من باب
الاستحسان لها، كما قلت: الحسن هنا ليس بالمعنى الذي عرفناه، أو سنعرفه
تفصيلاً -إن شاء الله تعالى- في هذا النوع، وإنما معنى الحسن هنا معناه
من حيث اللغة، وهو الذي يعبر عنه بالحسن المعنوي.
والحسن المعنوي منه ما هو راجع إلى الإسناد كالغرابة، فالغرابة: قضية
إسنادية، بحث إسنادي، أمر متعلق بالإسناد، وهناك غرابة متنية، سيأتي(1/140)
النظر فيها-إن شاء الله تعالى- .
بعض أهل العلم كان يسمي هذه الأحاديث بالحسان، وورد ذلك في كلامهم في
كتب التواريخ والعلل، وإنما قصد العلماء من تسمية هذه الأشياء بالحسن،
هذا المعنى أي أنها غرائب ومناكير، لا أنها من الصحيح، من المقبول سواء
حسن لذاته، أو حسن لغيره.
من ذلك ما جاء عن إبراهيم بن يزيد النخعي -رحمه الله تعالى- أنه قال:
"كانوا إذا جلسوا كرهوا أن يخرج الرجل حسان حديثه"، وفي رواية: "أحسن
ما عنده" هل يعقل أن يكره العلماء أن يذكر الإنسان الأحاديث الحسنة
المقبولة؟ هل يعقل أن يظن بالعلماء أنهم يكرهون ذكر الأحاديث الحسنة أي
المقبولة المحتج بها؟ لا.. ليس هذا معقولاً، ولا مقبولاً، وإنما أراد
إبراهيم النخعي -رحمه الله تعالى- من هذه العبارة الغرائب التي أشرنا
إليها، فهي التي كانوا -رحمهم الله تعالى- يكرهون أن تذكر في المجالس،
أو أن تساق؛ لأن غالبها أخطاء ومناكير عن الرواة.
كما قال الإمام أحمد -عليه رحمة الله تعالى- في شأن الأحاديث الغرائب:
" إذا سمعت أصحاب الحديث يقولون: هذا حديث غريب أو فائدة - وكانوا
أيضاً يسمونها بالفوائد كما قلت؛ لأن كل من جاء بها يفيد غيره بها؛
لأنها ليست إلا عنده فيفيد الآخرين بها- " إذا سمعت أصحاب الحديث
يقولون: هذا حديث غريب أو فائدة، فاعلم أنه حديث خطأ، أو غلط من
المحدث، أو حديث ليس له إسناد، أو دخل حديث في حديث، ولو كان قد رواه
شعبة وسفيان. وإذا سمعتهم يقولون: هذا حديث لا شيء، فاعلم أنه حديث
صحيح." لم يقصد الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- بقوله: لا شيء، ما يقصده
علماء الجرح والتعديل، حينما يقولون في الراوي هذا: راوي لا شيء، أو
راوي لا يساوي شيئاً، لا يقصد هذا المعنى، وإنما قصد المعنى الذي أشرنا
إليه من أنهم لزهدهم في سماع المشاهير، وإقبالهم على سماع الغرائب، إذا
جاءهم حديث غريب، أقبلوا على سماعه، واهتموا به، واعتنوا به غاية(1/141)
العناية، أما إذا جاءهم الحديث المشهور الذي هو عندهم مروي من أوجه
كثيرة، قالوا لا شيء، يعني عندنا منه الكثير فيزهدون في سماعه، ولا
يقبلون على سماعه، فالإمام إبراهيم النخعي يقول: " كانوا إذا جلسوا
كرهوا أن يخرج الرجل حسان حديثه" أو " أحسن ما عنده"، وإنما قصد بالحسن
ها هنا: الغرائب. كما قلت الغرائب يستحسنونها، ويقبلون على سماعها؛
ولهذا الإمام الخطيب البغدادي -رحمه الله تعالى- لما ذكر كلمة إبراهيم
النخعي هذه - في كتابه المعروف الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع- علق
عليها، وبيَّن مراد الإمام إبراهيم النخعي منها، فقال الإمام الخطيب
البغدادي -رحمه الله تعالى-: عنى إبراهيم بقوله الأحسن، أي الغرائب؛
لأن الغريب غير المألوف يستحسن أكثر من المشهور المعروف، وهذا ما
قلناه.
قال الخطيب البغدادي -رحمه الله تعالى-: " وأصحاب الحديث يعبرون عن
المناكير بهذه العبارة، أي عبارة الحسن، فصار لفظ الحسن ها هنا
مستعملاً بمعنى الغريب".
وأيضاً: هذا ورد على لسان الإمام شعبة بن الحجاج -رحمه الله تعالى- حيث
قيل له مرة: يا أبا بسطام - أبو بسطام: هو شعبة بن الحجاج -رحمه الله
تعالى- وهو من أئمة الحديث الكبار- يا أبا بسطام، لماذا لا تروي عن عبد
الملك بن أبي سليمان العرزمي، وأحاديثه حسان؟! فقال الإمام شعبة: من
حسنها فررت!!. فهل يفر العالم من الأحاديث المقبولة الصحيحة المحتج
بها؟!! أم يفر من الغرائب والمناكير؟ ولهذا فهم العلماء من كلمة شعبة
هذه، أنه لم يقصد الحسن الذي هو موضوع هذا النوع من الحديث، وإنما
الحسن المعنوي الذي هو راجع إلى معنى يستحسن في الإسناد أو في المتن،
فأراد بالحسن ها هنا الغرائب. يعني من غرابتها أفر، كما فر من قبل أيوب
السختياني من الأحاديث الغرائب.
وأيضاً ذكر للإمام شعبة بن الحجاج حديث يرويه راوٍ اسمه أوس بن ضمعج،
وأوس هذا وإن كان من جملة الثقات إلا أن له بعض الأخطاء، وكان شعبة(1/142)
-رحمه الله تعالى- ينكر عليه بعض الأحاديث، فلما سأل عن حديث من
أحاديثه التي تفرد بها، قال -رحمه الله تعالى-: أوس بن ضمعج كأنه شيطان
من حسن حديثه!! وأنكر عليه ذلك الحديث، وهو موجود في علل الرازي، علل
ابن أبي حاتم الرازي، والأفراد والغرائب للدارقطني، وكذلك في الجعديات،
وهذا كله راجع إلى أنه استغرب، واستنكر عليه ذلك الحديث، واستبعد صحته،
ورأى أنه حديث غريب منكر؛ فلهذا عبر عن صاحبه كأنه شيطان يأتي
بالأباطيل، ويأتي بالمناكير، وعلل ذلك بأن أحاديثه حسان، أي غرائب.
فالحسن هنا ليس على المعنى الذي هو موضوع كلامنا في هذا النوع.
لهذا نجد مثلاً الإمام الرامهرمزي -رحمه الله تعالى- في كتابه المحدث
الفاصل وهو من كتب الحديث المعروفة، عقد باباً وسماه باب من كره أن
يروي أحسن ما عنده، فإذا ما قرأت في الباب تجد الإمام الرامهرمزي، ذكر
في هذا الباب، روايات كثيرة عن أهل العلم في كراهية رواية الغرائب
والمناكير، وذكر من جملتها: كلمة إبراهيم النخعي -سابقة الذكر- "كانوا
إذا جلسوا كرهوا أن يخرج الرجل أحسن ما عنده"، فهذا يدل على أن الإمام
الرامهرمزي كان يفهم أن هؤلاء العلماء الذي استعملوا الحسن في هذه
المواضع خاصة، لم يقصدوا الحسن الذي هو مقبول ومحتج به، إنما قصدوا
الحسن من حيث المعنى اللغوي، فطالب العلم لابد أن يميز هذا، وأن يعرف
مراد كل إمام من كل كلام يقوله، حتى لا يفهم كلام الإمام على غير وجهه.
هناك أيضاً أمور متعلقة بالأسانيد، يسميها بعض الباحثين الأفاضل بلطائف
الأسانيد، أي معانٍ توجد في الأسانيد، هي معاني لطيفة، هذه المعاني
اللطيفة كان يعبر عنها علماءنا بالحسن أيضًا، فهي معاني تستحسن، في
الأسانيد منها مثلاً الإسناد العالي، نحن ذكرنا في لقاء سابق إجمالاً
وسيأتي تفصيلاً أيضاً أن هناك العالي والنازل، وأن رواة الحديث كانوا
يقبلون على سماع الأحاديث العالية، ويزهدون في سماع الأحاديث النازلة،(1/143)
والعالية هي التي قلت الوسائط فيها بين الراوي وشيخه، أو بين الراوي
وبعض الأعلام، أو بين الراوي وبين رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-
فكلما قلت الوسائط كلما كان الحديث عالياً، كلما كثرت الوسائط كلما كان
الحديث نازلاً، وهذا المعنى وهو العلو، كان يقبل على تحصيله الرواة،
يحبون سماع العالي من الروايات، يحب أن يسمع الحديث بدون وسائط، فإذا
كان الشيخ حي، فلا يسمع الحديث عن رجل عنه، بل يذهب إليه ليسمعه منه،
ليكون قد حصل علو الإسناد، وهكذا هذا المعنى الذي هو العلو، كان يسمى
بالحسن؛ لأنه معنى يستحسن الحديث من أجله.
وهناك من لطائف الأسانيد ما يسمى عند علماء الحديث بالمدبج، ما هو
المدبج؟ المدبج: معنى في الإسناد يستحسن من أجله، وهناك باب اسمه رواية
الأقران، الأقران: هم المتعاصرون في زمن واحد، وجدت الروايات أن يروي
الراوي عن من عاصره، عن قرين له، عن معاصر له.
والعادة أن يروي الراوي عمن هو أكبر منه، أن يروي عمن هو في سنه، وفي
زمنه، هذا أمر نادر، وهو نوع من النزول، فالعلماء اعتنو برواية الأقران
حتى لا يلتبس على الباحث، فحينما يجد قريناً يروي عن قرينه يظن أن هناك
تكرار في الإسناد، وأن الصواب فلان وفلان، وليس فلان عن فلان، فبين
علماء الحديث رواية الأقران، حتى يزيلوا اللبس عن الباحثين، عن هذه
الأمور، وهذه الأسانيد هناك صورة من رواية الأقران في غاية الحسن
والجمال، يسميها علماء الحديث بالمدبج.
ما هو المدبج؟ أن يروي كل من القرينين عن الآخر. كما ذكروا: مالك يروي
عن الزهري، والزهري روى عن مالك، مع أن الزهري من شيوخ مالك. لكن وجدت
رواية مالك عن الزهري، ورواية الزهري عن مالك، فهذا يسمونه بالمدبج.
بعض أهل العلم يشترط في المدبج أن يكون الراويان من الأقران، وبعضهم لا
يشترط ذلك، المهم أن تقع رواية الراوي عن شيخ، ثم نأتي في رواية أخرى(1/144)
نجد الشيخ هو الذي يروي عن الراوي عنه، وهذا يسمونه بالمدبج، والمدبج
أي المزين، المحسن أصلاً، هذا ما عناه من حيث اللغة، حتى قال السيوطي
في ألفيته
فإن روى كل من القرنين عن**** صاحبه فهو مدبج حسن.
هذا أمر إذا وجد في الأسانيد فهو معنى يستحسن الحديث من أجله، فوجد في
كلام أهل العلم من هذا القبيل، ما يدل على أن علماء الحديث كانوا
أحياناً يسمون هذه الأسانيد بالأسانيد الحسنة، لا يقصدون الحسن هنا
الذي هو نوع من أنواع الحديث المقبول، إنما يقصدون بالحسن فقط هذا
المعنى الإسنادي الذي وجد في الرواية، بصرف النظر عن كون الحديث الذي
وجد فيه هذا المعنى من المقبول أم من المردود.
- من ذلك ما رواه الإمام أبو يعلى الخليلي في الإرشاد، حديثاً من طريق
آدم بن أبي إياس - وهذا من الثقات- عن محمد بن كثير المصيصي، عن ابن
المبارك، عن شعبة، رواه بهذا الإسناد، ثم قال الإمام أبو يعلى معلقاً
على هذا الإسناد: "هذا حديث حسن جداً في رواية الأقران"، ثم بيَّن ذلك،
قال: لأن آدم عن محمد، وهما قرينان، ومحمد يوافق ابن المبارك في شيوخ
الشام، يعني روى عن شيوخه الشاميين، بل أدرك من لم يدركه ابن المبارك،
إذن الحسن هنا راجع إلى كون الحديث عنده من المقبول أم لما اشتمل عليه
من هذا المعنى الذي هو من لطائف الأسانيد، وتستحسن الأسانيد من أجله
وهو رواية الأقران بعضهم عن بعض؟.
- وأيضاً من أمثلة المدبج ما ذكره أيضاً أبو يعلى الخليلي في الإرشاد
عن يونس بن محمد، عن حماد بن زيد، عن سفيان الثوري، عن زيد بن أسلم، عن
عبد الرحمن بن وعلة، عن ابن عباس -رضي الله عنهما-. ثم قال أبو يعلى:
لم يروه عن حماد غير يونس، وهو ثقة من كبار شيوخ بغداد، وهو حسن من
المدبج. فهنا الإمام -عليه رحمة الله تعالى- استعمل الحسن على إرادة
هذا المعنى الذي يستحسن من أجله الحديث، وهو التدبيج، ولم يقصد من(1/145)
كلامه ها هنا أن يعلق على الحديث، أو أن يحكم على الحديث بأنه من نوع
الحسن المحتج به أو لا يحتج به، لم يقصد في كلامه هذا المعنى، ولم يرد
على ذهنه وهو يقول هذا الكلام.
هناك أيضاً معاني أخرى تستحسن الروايات من أجلها، وهي متعلقة بالمتون،
كما ذكرنا المعاني التي تستحسن الرواية من أجلها في الإسناد. هناك
معاني أخرى في المتون فمثلاً:
حينما تجد حديثاً معمولاً به، محكماً غير منسوخ، فكون الحديث محكماً لم
يعارضه حديث آخر، فهذا معنى في المتن يستحسن الحديث من أجله، إذا كان
الحديث مشتملاً على ألفاظ رائقة ومعان جيدة، فهذا معنى يستحسن الحديث
من أجله، لماذا يستحسن الحديث من أجله؟ لم اشتمل عليه من تلك الألفاظ
الرائقة، والمعاني الجيدة التي تقبل على سماعها النفوس، فهذا معنى،
وهذا سبب يدعو الناس إلى استحسان هذه الرواية مثلاً، لا شك أن الرواية
الصحيحة حسنة بهذا الاعتبار، الحديث الصحيح حسن بهذا الاعتبار؛ لأنه
تحقق فيه الإتقان، تحقق فيه الحفظ، تحقق فيه التثبت، وهذا معنى يستحسن
أيضاً الحديث من أجله.
فالحديث الصحيح يصح أن يوصف بكونه حسناً بهذا الاعتبار، وهذا سينفعنا
-إن شاء الله تعالى- عندما نتعرض بعد ذلك لشرح هذه التركيبة، حيث توجد
في كلام بعض أهل العلم كالترمذي مثلاً حيث يقول في بعض الأحاديث: "حسن
صحيح" حيث استشكل ذلك بعض أهل العلم، وسنبين وجه ذلك في موضعه -إن شاء
الله تعالى- لكن هنا نريد أن نفهم طالب العلم أن الحديث الصحيح من
الممكن أن يكون حسناً بهذا الاعتبار، لكونه قد تحققت فيه شرائط الصحة
والقبول، فهذا معنى بطبيعة الحال يستحسن الحديث من أجله، فالإمام
الناقد البصير إذا كان في مسألة من مسائل الفقه، وهو يريد أن يحتج، أو
يجد دليلاً في هذه المسألة يزيل عنه الإشكال، ويرفع الخلاف، فإذا وجد
حديثاً صحيحاً في هذا الباب، واضح الدلالة على مراده، وعلى ترجيح قول(1/146)
من الأقوال، فإنه يستحسن هذا الحديث، ويقبل على سماعه، بل وعلى روايته،
كما جاء عن الإمام مالك -رحمه الله تعالى- أنه سئل عن تخليل الأصابع في
الوضوء فقال: " ليس عندي فيها علم، أو لا أعلم فيها حديث" فحدثه بعض
الجالسين بحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فلما نظر فيه
قال: " هذا حديث حسن" ثم صار بعد يفتي بمقتضاه، فاستحسن الحديث الذي
سمعه لما وجده ثابتاً في نقده ومعرفته، ثم بعد ذلك وجده واضح الدلالة
على المراد، فكان من هذه الحيثية حديثاً حسناً.
وأيضاً هذا النوع من الحسن ليس بالضرورة أن يكون مرتبطاً بالصحة، أو
مرتبطاً بالقبول، فكل ما استحسن في الرواية - أعني في المتن لمعنى من
المعاني- فهو يصدق عليه وصف الحسن، حتى وإن لم يكن الحديث من قسم
المقبول.
ذكروا لذلك أمثلة من ذلك: أن الإمام ابن عبد البر -رحمه الله تعالى- في
كتاب جامع بيان العلم وفضله، ذكر حديثاً طويلاً عن معاذ بن جبل في فضل
العلم وفضل طلبه، والحديث فيه رواة متروكون وضعفاء جداً، وبعضهم من قد
اتهم بالكذب، وهو حديث: (تعلموا العلم، فإن تعلمه لله خشية، وطلبه
عبادة ) حديث طويل الإمام ابن عبد البر بعد أن ساق هذا الحديث ماذا
قال؟ قال -رحمه الله تعالى-: " هذا حديث حسن جداً، ولكن ليس له إسناد
قوي" فالإمام ابن عبد البر هل أراد من الحسن ها هنا معنى القبول، معنى
الاحتجاج، أم أراد من الحسن ما هو راجع للفظ الحديث وإلى المعاني
الحسنة التي وجدت فيه، بصرف النظر عن كونه ثابتاً أم غير ثابت؟ ما أراد
إلا اللفظ، لم يرد أن يحكم على الحديث بأنه من قسم المقبول؛ ولهذا شرح
ذلك الإمام العراقي -رحمه الله تعالى- في كتاب التقييد والإيضاح، شرح
مراد الإمام ابن عبد البر من قوله هذا، فقال أراد ابن عبد البر الحسن
هنا حسن اللفظ قطعاً، وليس الحسن الذي يرجع إلى قبول الحديث.
أيضاً ابن عبد البر وجدت له أمثلة أخرى، استعمل فيها هذا المصطلح على(1/147)
إرادة هذا المعنى، من ذلك: ما ذكره في كتاب التمهيد له، ذكر حديثاً
يرويه بعض الضعفاء، عن الإمام مالك بن أنس، عن نافع، عن ابن عمر، -رضي
الله تعالى عنهما- هذا الإسناد يسمى سلسلة الذهب، وهو من أصح الأسانيد،
وهذا تكلمنا عليه في لقاء سابق، فذهب بعض الضعفاء، فروى الحديث عن مالك
عن نافع عن ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- أنت تنظر إلى الإسناد تقول
ماشاء الله! إسناد من أصح الأسانيد، إنه سلسلة الذهب! ولكن من الذي
رواه عن مالك هل الثقات أم الضعفاء؟ ضعفاء. ونحن قلنا: إن أصح الأسانيد
لا تثبت إلا إذا صح الإسناد إلى صاحب الإسناد، وهو هنا الإمام مالك بن
أنس -رحمه الله تعالى- ورضي عنه، فروى هذا الكذاب حديث مالك عن نافع عن
ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- حديث طويل في عدة ورقات أوله، من قال
في يوم مائة مرة لا إله إلا الله الحق المبين خلق الله له من كل حرف
طائراً، له ألف منقار، كل منقار يستغفر له.... علامات الوضع والكذب
واضحة، وهذه من الأحاديث التي يدسها أعداء الإسلام في الإسلام، ولهم
أغراض كثيرة سيأتي ذلك في نوع الموضوع -إن شاء الله تعالى- هل هذا
الحديث صحيح؟ ليس صحيحاً لا من حيث الإسناد، ولا من حيث المتن،
فالإسناد فيه الضعفاء والكذابون، والمتن واضح النكارة والبطلان.
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منزه عن مثل هذا الباطل، رسول الله
-صلى الله عليه وآله وسلم- كلامه فيه نور، تسمع الكلام تشعر بأنه كلام
النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وكلام آخر تشعر بأنه ليس له علاقة
بالنبي -صلى الله عليه وسلم- فيه تكلف، فيه ركاكة، في سماجة، وهذا
بعيد، كل البعد عن كلام النبوة، كما قال الإمام أبي حاتم الرازي: "
ويعرف سقم الحديث وإنكاره، بأن يكون كلاماً لا يصلح أن يكون من كلام
النبوة" ، بعض الكلام أنت تستحي بنفسك أن تقوله، فكيف برسول الله -صلى
الله عليه وسلم- أنت نفسك تستحي أن تقوله، وإذا قلته تعلم أن الناس(1/148)
سينكرون عليك، فكيف برسول الله -صلى الله عليه وسلم- ؟ بطبيعة الحال
ليس كل ما يستشكله الإنسان من الروايات يبادر إلى إنكاره، وإنما يسأل
أهل العلم، ويرجع إليهم، وإن كان دارساً وعارفاًَ بأصول ذلك، يرجع إلى
القواعد، ويرجع إلى الضوابط، وعلى ضوء ذلك يبني إن كان هذا الاستشكال
له محل، فحينئذٍ يستنكر الحديث، وإلا فلا.
هذا الحديث طويل بعد أن ذكره الإمام ابن عبد البر ماذا قال؟ قال: هذا
الحديث لا يرويه عن مالك من يوثق به، وهو لا يعرف من حديث مالك، يعني
ليس هذا من حديث مالك، بل هو ملفق عليه, ثم قال: " وهو حديث حسن ترجى
بركته -إن شاء الله تعالى-" هو حسن هنا هل هو راجع إلى قبول الحديث، أم
راجع إلى معنى في المتن، يستحسن أو يستغرب، أو من المعاني التي من
الممكن أن يحب أن يسمعها بعض العوام.
إذن لم يقصد الإمام ابن عبد البر من هذا الكلام، أو من قوله ها هنا
الحسن الذي هو حجة، إنما الحسن الذي هو بمعناه اللغوي؛ ولهذا يقول
الإمام الذهبي -رحمه الله تعالى- لما ذكر عن عباس الدوري أنه ذكر شيخه
الأصم فقال: " لم أر في مشايخي أحسن حديثاً منه"، قال الإمام الذهبي
معلقاً على هذه العبارة: يحتمل أنه أراد بحسن الحديث، الإتقان. كما
قلت: إن الحديث الصحيح - بطبيعة الحال- هو حديث حسن بهذا الاعتبار، أو
أنه يتبع المتون المليحة فيرويها، المتون المليحة التي فيها معاني
حسنة، معاني جيدة، أو أنه أراد علو الإسناد، فالعلو معنى يستحسن الحديث
من أجله، أو نظافة الإسناد، أي خلوه من الضعفاء والمجروحين، كل ذلك
معانٍ يستحسن الحديث من أجلها. وتركه رواية الشاذ والمنكر والمنسوخ،
وبطبيعة الحال إذا عمد الراوي، وقصد إلى عدم رواية الشاذ، وعدم رواية
المنكر، فهذا بطبيعة الحال مما يجعل حديثه حسناً، وكذلك المنسوخ مع أن
المنسوخ قد يكون صحيحاً، لكنه غير معمول به، فمن هذه الحيثية إذا ترك(1/149)
الراوي رواية المنسوخ واهتم واعتنى برواية المحكم غير المنسوخ، فحيئنذٍ
يكون لذلك معنى يجعل البصير العارف يسمع منه، ويستحسن سماع حديثه، قال
الإمام الذهبي: " فهذه أمور تقتضي للمحدث إذا لازمها أن يقال في حقه:
ما أحسن حديثه".
إذن ينبغي لطالب العلم أن يعرف هذه الأمور، وأن يتدبر الكلام دائماً
وأبدا، لا سيما إذا كان يقرأ، أو يطالع في غير كتب مصطلح الحديث، أو في
غير الكتب التي تعنى بتمييز الصحيح من الضعيف، ككتب التواريخ، وكتب
الرجال، ونحو ذلك، حتى لا يضع كلام أهل العلم في غير موضعه، ولا يفهمه
على غير مرادهم منه.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (هذا النوع لما كان وسطاً بين الصحيح
والضعيف في نظر الناظر، لا في نفس الأمر، عَسُر التعبير عنه، وضبطه على
كثير من أهل هذه الصناعة. وذلك لأنه أمر نسبي، شيء ينقدح عند الحافظ،
وربما تقصر عبارته عنه).
الإمام ابن كثير -رحمه الله تعالى- يتكلم هنا عن أمر في غاية الأهمية
في هذا النوع، نحن قلنا ابتداءً: إنه وسط بين الصحيح والضعيف، نقصد
الحسن بنوعيه، ما هو قريب من الصحيح، وما هو دون ذلك مما هو داخل في
حيز القبول، أما الحسن المعنوي الآخر فلا شأن لنا به، هذا أمر فرغنا
منه، وعرفناه.
لكن من الآن سنتناول الحسن المحتج به، وكيف نميزه عن غيره؟ وكيف نعرفه
في الرواية؟ هذا النوع من الحسن من الحديث، لما كان وسطاً بين الصحيح
والضعيف، وكل شيء يكون وسطاً غالباً يصعب تحقيقه، وتحريره، وتمييزه عن
غيره؛ لأن له شبه بطرف، وشبه بطرف آخر، فهو فيه ما يجعله من قسم
الصحيح، ولكنه لم يبلغ إلى الصحيح، وفيه ما يجعله من قسم الضعيف، ولكنه
لم ينزل إلى رتبة الضعيف، فهو مشرب بالنوعين يتجاذبه الصحيح، ولكن لم
يبلغ مرتبة الصحيح، يتجاذبه الضعيف، ولكنه لم ينزل إلى الضعيف، هو في
منزلة وسط، وما كان كذلك يصعب تحريره؛ لأنك لا تستطيع أن تجد له حداً(1/150)
جامعاً مانعاً لكل الأحاديث الحسان، بحيث تندرج هذه الأحاديث كلها تحت
هذا الأساس، وتحت هذا التعريف، وهذا الحد، ولكن العلماء -عليهم رحمة
الله تعالى- بينوا ذلك، وبينوا مرادهم من الحسن حيث يستعملونه على
إرادة الحجة، وسيأتي ذلك -إن شاء الله تعالى-.
نحن نقول ها هنا: إن الحديث الحسن مشكلته الأساسية أنه ثمرة بقية أنواع
علوم الحديث، فهذا النوع من الحديث يحتاج إلى كل أنواع الحديث الآتية
بعده، وبطبيعة الحال ليس كل الناس في معرفة هذه الأنواع، وفي معرفة
أمثلتها، ومعرفة كيف يكون تحقيقها، ليس الناس في كل ذلك سواء، ولا في
مرتبة واحدة؛ فلهذا تختلف أنظار العلماء فترى الحديث الواحد بعض
العلماء يقول: حسن، وبعضهم يقول: ضعيف، بعض العلماء يقول: حسن، وبعضهم
يقول: صحيح؛ لأن هذا اطلع على ما لم يطلع عليه غيره، وهذا أدرك ما لم
يدركه غيره؛ لأنه نوع يعد ثمرة معرفتك بعلوم الحديث كلها. كيف هذا؟
سيتبين لنا -إن شاء الله تعالى- من خلال دراستنا لهذا النوع أنه ينقسم
إلى حسن لذاته، وحسن لغيره.
- النوع الأول: الحسن لذاته: هو كالصحيح إلا أن راويه لم يبلغ في الحفظ
والإتقان منزلة راوي الحديث الصحيح، فهو دون ذلك ضبطه أخف نسبياً من
ضبط راوي الحديث الصحيح، كيف نعرف إن كان هذا الراوي ضبطه في درجة راوي
الصحيح أم ضبطه دون ذلك؟ بمعرفة الرجال، بمعرفة الجرح والتعديل، بمعرفة
صفة من تقبل روايته، ومن ترد، بل بمعرفة مراتب الثقات. فكلما كان
الباحث مدركاً لمراتب الثقات، ولدرجات الحفاظ الثقات، كلما كان بإمكانه
أن يعرف إن كان هذا الحديث من الصحيح أم من الحسن أيضًا، الحديث الحسن
يشترط فيه ما يشترط في الصحيح من الاتصال والسلامة من الشذوذ والعلة.
فكلما كان الباحث مدركاً لأنواع الاتصال والانقطاع، عارفاً بمواضع
الانقطاع في الأسانيد، أو الإرسال، كلما كان مدركاً لذلك كلما كان
بإمكانه أن يحقق هذا النوع كما ينبغي.(1/151)
- النوع الآخر: الحسن لغيره، كما قلنا هو حديث فيه ضعف في أساسه، ثم
تقوى بروايات أخرى انضمت إليه، من الضعف ما يكون راجعاً إلى حفظ
الراوي، ليس ضابطاً، ومن الضعف ما يكون راجعاً إلى عدم الاتصال، فكلما
كنت مدركاً بكيفية الانتفاع بالروايات الأخرى التي تجيء لهذه الرواية
فتجبر ذلك الضعف الذي وقع في الرواية الأولى، فإن كان الراوي ضعيفاً
فتعرف أن هذا الضعف ينجبر برواية فلان، ولا ينجبر برواية فلان، ينبجر
بالرواية الفلانية، ولا ينجبر بالرواية الفلانية، كلما كنت متقناً لذلك
كلما كان تحقيقه حسن كما ينبغي.
"علاقة الحديث الحسن بأنواع الحديث الأخرى"
- الإرسال: والإرسال سبب يمنعنا من الاحتاج بالحديث، ولكن هذا الإرسال
أحياناً يتبين بتتبع الروايات، والنظر فيها أنه غير قادح؛ لأن هذه
الرواية المرسلة قد وجدت متصلة من وجه آخر، فبقدر معرفتك بأصول ذلك،
وبكيفية تحقيقه بقدر ما تستطيع أن تحقق الأحاديث الحسان وتميزها عن
غيرها.
لابد أن يكون الحديث الحسن سالماً من الشذوذ، سالماً من العلة، فكلما
كنت عالماً بعلل الأحاديث كلما كنت عالماً بكيفية تمييز المعلول من
غيره، كلما كان تحقيقك للحديث الحسن كما ينبغي.
فمثلاً قد نحتاج في هذا النوع من أنواع الأحاديث، وهو الحديث الحسن إلى
أن نميز بين ما روي بالمعنى وما لم يرو بالمعنى إسناداً أو متناً، هناك
بعض الروايات رويت بالمعنى في الإسناد، أو في المتن، فيغتر بعض الناس،
بعض بسطاء طلبة العلم، إذا ما وجد الرواية رويت مرة هكذا، ومرة هكذا،
يظن أن هاتين الروايتين هما روايتنان، كل رواية منهما مستقلة عن
الأخرى، فيذهب إلى تقوية هذه بتلك، ويقول: هذه رواية ضعيفة؛ ولكن هاتان
الروايتان لما انضم كل منهما إلى الآخر، صار الحديث من نوع الحسن
لغيره. ثم قد يتبين بعد ذلك أن هاتين الروايتين هما في الواقع رواية
واحدة، غاية ما هنالك أنه وقعت رواية بالمعنى أوهمت التعدد، وليس هناك
تعدد.(1/152)
مثلاً هناك راو اسمه داود بن سليمان، وهذا راوي ضعيف، ويسمى بأبي
سليمان النصيبي، ويلقب دويب، إذن اسمه داود، لقبه دويب، وهذا يدل على
أنك لابد أن تكون عارفاً بأسماء الرواة وبكناهم، وبأنسابهم، وبألقابهم،
حتى تُحسن تحقيق هذا النوع من أنواع علوم الحديث.
هذا الراوي روى حديثاً عن أبي إسحاق السبيعي، بإسناده عن رسول الله
-صلى الله عليه وآله وسلم- أنه قال: ( الدنيا دار من لا دار له، ولها
يعمل من لا عقل له ) وهو حديث ضعيف، هذا الحديث رواه بعض الرواة عن
دويب عن أبي إسحاق، راوي آخر رواه عن أبي سليمان النصيبي عن أبي إسحاق،
بعض الباحثين قال: دويب فيه ضعف، ولكن تابعه أبو سليمان النصيبي، إذن
ضعيف مع ضعيف ينجبر هذا بهذا يرتقي الحديث إلى مرتبة الحديث الحسن
لغيره، فتعقب ذلك بأن دويب هو نفسه أبو سليمان النصيبي، هو هو ليس
راوياً آخر، غاية ما هنالك أن الراوي ذكر مرة بلقبه، ومرة أخرى بكنيته
ونسبه، فتوهم ذلك الباحث أنهما رجلان، تابع أحدهما الآخر، فبقدر معرفتك
بأسماء الرواة وأنسابهم وألقابهم، وما يقع في الأسانيد من ذلك، بقدر ما
تستطيع أن تحقق الحسن، هل هذا الحديث مما يستحق أن يكون حسناً أو لا؟
- التصحيف والتحريف: قد يقع تصحيف وتحريف في بعض الروايات، لا سيما في
الأسانيد، فتظنه راوياً آخر بينما هو هو، مثلاً هناك راو اسمه عبيد ابن
القاسم، روى حديثاً عن إسماعيل بن أبي خالد متنه: (الولاء لحمة كلحمة
النسب لا يباع ولا يوخذ)، عبيد بن القاسم هذا متروك الحديث، ضعيف جداً،
ومن أهل العلم من كذبه، فجاء بعض الباحثين قال: لا.. هذا وإن كان
الراوي متكلماً فيه، ولكنه لم يتفرد بل توبع، وتابعه بعض الثقات، إذن
الحديث أصلاً صحيح من هذا الثقة؟ قال: هناك رواية جاء فيها عن عبصر بن
القاسم عن إسماعيل بن أبي خالد، وعبصر بن القاسم هذا راوي ثقة فعلاً،
ولكن قال العلماء كالحافظ ابن حجر وغيره من علماء الحديث، قالوا: هذا(1/153)
مصحف، الصواب عبيد وليس عصفر، فلما تصحف الإسناد في الكتاب، ظن ذلك
الباحث أنه راوٍ آخر تابع الأول، وليس هو راوياً آخر، بل هو هو، غاية
ما هنالك أن الراوي اسمه عبيد، والذي كتبه باسم عبصر أخطأ في ذلك، عبصر
ثقة، وعبيد ضعيف.
وهناك تصحيف أيضاً يقع في المتون، هناك راوي اسمه قبيصة بن عقبة، روى
عن سفيان الثوري، حديثاً من حديث أبي سعيد الخدري، عن رسول الله -صلى
الله عليه وآله وسلم- أنه قال عن الجد : (كنا نورثه على عهد رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم) يعنى الجد، هذا الحديث اغتر بعض الباحثين به،
فقال: هو إسناد حسن، بناءً على ظاهر الإسناد، والواقع أنه ليس حسناً
بالمرة، بل هو حديث معلول، وقعت العلة من جهة التصحيف، والرواية
بالمعنى، أيضاً في متنه، وليس في الإسناد، قال الأئمة: كالإمام مسلم،
وابن حبان، في كتاب التمييز، والإمام أبي حاتم الرازي في العلل،
والإمام ابن رجب الحنبلي، أيضاً في شرح علل الترمذي، قال هؤلاء
العلماء: صواب هذا الحديث: (كنا نؤديه على عهد رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم ) يعني صدقة الفطر، ما الذي حدث في هذا الحديث؟ الحديث أبو
سعيد قال كنا نؤديه على عهد رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- (كنا
نؤديه ) يقصد صدقة الفطر. يعني كان الصحابة يؤدون صدقة الفطر على عهد
النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- هذا هو صحيح الحديث، المعروف المشهور
المتداول، فجاء قبيصة بن عقبة فصحف نؤديه إلى نورثه، وإذا كتبت
الكلمتين تجد أنهما يشتبهان في الخط - نؤديه نورثه- ثم بعد أن روى
الحديث كنا نورثه على عهد رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فروى
بالمعنى بحسب فهمه، فقال: يعني الجد، كنا نورث الجد.
انظر التصحيف ماذا فعل بالرواية؟ نقل الرواية من باب فقهي إلى باب فقهي
آخر، فأنت إذا لم تكن مدركاً لعلل الأحاديث، وما يقع فيها من تصحيف
وتحريف ورواية بالمعنى، ربما لا تستطيع أن تحكم على الحديث بأنه حسن،(1/154)
أو أن تميز الأحاديث الحسان من غيرها.
- المقلوب: وهذا نوع من أنواع الحديث سيأتي -إن شاء الله تعالى- ما هو
المقلوب ؟ القلب هو الإبدال، أن تجعل راوياً مكان راوي، الحديث يكون من
رواية راوي فتجعله أنت من رواية راوي آخر، أو يكون معروفاً بإسناد
فترويه أنت بإسناد آخر، بعض الناس لا يدرك أهمية هذه الأشياء، ونحن
كمتخصصين نعرف أهمية ذلك، لا سيما في مثل هذه المواضع، فبدون معرفتك
بالقلب الذي يقع في الأسانيد والمتون، ربما تشتبه عليك الأحاديث، فلا
تستطيع أن تميز مقبولها من غير مقبولها.
فمثلاً: هناك حديث يرويه عبد الله بن المؤمل، وعبد الله بن المؤمل فيه
ضعف، يرويه عن أبي الزبير، عن جابر، وهو حديث (ماء زمزم لما شرب له)
هذا الحديث العلماء تكلموا فيه كلاماً كثيراً، وبحوثهم موجودة في كتب
العلم، لكن الشاهد ها هنا أن العلماء يقولون: هذا حديث تفرد به عبد
الله بن المؤمل، لم يرويه غيره، عن أبي الزبير، عن جابر، ثم وجدنا بعض
الرواة، رواه عن إبراهيم بن طهمان، عن أبي الزبير، عن جابر، وبعضهم
رواه عن حمزة الزيات، عن أبي الزبير، عن جابر، قال العلماء كالحافظ ابن
حجر في نكته على كتاب ابن الصلاح وغيره: هذه كلها أخطاء الراوي، أبدل
راوياً بآخر، الصواب أنه من حديث عبد الله بن المؤمل، وليس من حديث
هؤلاء الآخرين، الذين ذكروا مكانه، فهذا قلب، فأنت قد تتوهم أن هؤلاء
الرواة كلهم تتابعوا على رواية الحديث، فإن كان في بعضهم بعض الضعف
تقوى بانضمام غيره إليه، لكن بعد معرفتك بهذا تدرك بأن هذا الحديث ليس
من جملة الأحاديث الحسان؛ لأن الراوي المتفرد به حقيقة ليس ممن يحتج
بحديثه.
- المدرج: نوع من أنواع الحديث، سيأتي -إن شاء الله تعالى- من صوره: أن
يكون بعض الكلام منسوباً إلى الراوي، وبعض الكلام الآخر هو من حديث
رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فيأتي بعض الرواة فيجعل ذلك(1/155)
الكلام الذي هو كلام الراوي من جملة كلام النبي -صلى الله عليه وآله
وسلم-، يدرجه، ويدمجه بكلام النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، وعلماء
الحديث يميزون هذا، ويميزون من أصاب في ذلك، ومن أخطأ، فبعض الرواة وهو
عبد الرزاق، روى عن معمر، عن ثابت البناني، وأبان بن أبي عياش. تذكرون
قصة ثابت وأبان قريباً، في قصة ابن معين وأحمد بن حنبل، عن ثابت
البناني، وأبان بن أبي عياش، كلاهما عن أنس بن مالك، أن رسول الله -صلى
الله عليه وآله وسلم- قال (لا شغار في الإسلام)، والشغار: أن يزوج
الرجل الرجل أخته بغير صداق.
العلماء قالوا: هذا الحديث فيه جزء موقوف، وجزء مرفوع، جزء من كلام
النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، وجزء من كلام الراوي، وكلاهما يرويه
من؟ ثابت وأبان. قال العلماء: هذا خطأ. كالإمام أحمد بن حنبل وغيره،
قالوا: هذا خطأ، إنما الذي روى الجزء المرفوع، أي المنسوب إلى رسول
الله -صلى الله عليه وآله وسلم- هو أبان بن أبي عياش، إذن هو صحيح أم
ضعيف؟ ضعيف أما كلام الراوي، وهو: " والشغار أن يزوج الرجل أخته بغير
صداق" هذا هو الذي يرويه ثابت، عن أنس بن مالك، يعني هو من كلام أنس،
وليس من كلام رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- .
- الاضطراب: الراوي الضعيف قد يروي الحديث مرة بإسناد، ومرة بإسناد،
ومرة بإسناد، هو ضعيف، ويروي الحديث بأسانيد متعددة، فأنت تتصور أن
الحديث له أكثر من إسناد، فتقول: ما شاء الله! هذه أسانيد كثيرة في هذا
الحديث، ومهما كان في بعضها من ضعف إلا أن هذا المجموع يقوي الحديث،
ويرقيه إلى الحديث الحسن، وقد يكون ذلك الاضطراب من الراوي الضعيف، حيث
لم يضبط إسناد الحديث، فمرة رواه بوجه، ومرة رواه بوجه آخر، مرة رواه
بإسناد، ومرة رواه بإسناد آخر، ولم يحسن حفظ إسناد ذلك الحديث، فهي
كلها أخطاء الراوي، لم يتقن حفظ إسناد الحديث.
- دخول إسناد في إسناد آخر: أيضاً من القلب ما يسمى عند المحدثين بدخول(1/156)
إسناد في إسناد، أو حديث في حديث، هناك حديث يرويه يحيى بن أبي كثير،
عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبي قتادة الأنصاري، عن رسول الله -صلى
الله عليه وآله وسلم-، وهو حديث صحيح في الصحيحين، أن رسول الله -صلى
الله عليه وآله وسلم- قال: ( إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني)
هذا حديث صحيح جاء راوٍ اسمه جرير بن حازم، فروى المتن نفسه لم يخطيء
في المتن، إنما خطؤه في الإسناد، ماذا قال؟ قال: جرير بن حازم، عن
ثابت، عن أنس، عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- أنه قال: (إذا
أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني) ماذا فعل جرير؟ أبدل إسناد بإسناد.
العلماء قالوا: ليس هذا الحديث مروياً من حديث أنس أصلاً، إنما هو من
حديث أبي قتادة الأنصاري، وجرير بن حازم وإن كان صدوقاً، يعني يحسن
حديثه، إلا أنه أخطأ، فبدون معرفتك بهذه العلة قد تتوهم أن حديث جرير
بن حازم يمكن أن يحسن بمفرده، وليس الأمر كذلك.
هناك راوٍ اسمه محمد بن مصعب القرقصاني، وهذا الراوي روى حديثاً عن
الأوزاعي، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس،
عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: أنه مر بشاة ميتة، فقال: (
للدنيا أهون على الله من هذه على أهلها ) أنت إذا نظرت إلى هذا
الإسناد، تقول: إسناد حسن؛ لأن الراوي محمد بن مصعب فيه بعض الكلام
الذي لا ينزل حديثه عن مرتبة الحسن، لكن علماء علل الأحاديث ميزوا لنا
ذلك، وقالوا: هذا خطأ الراوي دخلت عليه قصة في قصة، حديث في حديث، متن
في متن، ماذا فعل؟ قالوا: صواب هذه الرواية يرويها الثقات، عن الزهري،
عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: (أن
رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- مر بشاة ميتة ) إذن أول القصتين
سواء، وهذا هو سبب اشتباه الحديثين على الراوي (أن رسول الله -صلى الله
عليه وآله وسلم- مر بشاة ميتة، فقال: ألا انتفعتم بإهابها؟) الإهاب(1/157)
الذي هو الجلد، (ألا انتفعتم بإهابها، فقالوا يا رسول الله: إنها ميتة،
فقال: إنما حرم أكلها ).
فلما اشتبه أول القصتين بالآخر، ظن الراوي أن هذا الإسناد يروى به
القصة المتعلقة بالدنيا، وهو انها على الله عز وجل، وإنما هذا الإسناد
هو إسناد الحديث الآخر، المتعلق بالإهاب.
نكتفي بهذا القدر، وأرجوا أن أكون قد وفقت لبيان مدى علاقة هذا النوع،
وهو الحديث الحسن ببقية الأنواع، التي سيأتي دراستها في هذا العلم
الشريف، ومن هنا نعلم أن هذا النوع يعتبر نوعاً محورياً، فلا تظن أنك
تستطيع أن تتفهمه بدون فهمك، واستيعابك لأنواع الحديث كلها، والله
أعلم.
وردتنا إجابات عدة على أسئلة الحلقة الماضية:
كان السؤال الأول: ما معنى تسمية جامع الترمذي، وسنن النسائي، بالصحيح؟
وكانت الإجابة: سمى الخطيب البغدادي وغيره جامع الترمذي وسنن النسائي
بالصحيح، وهذا لا شك تساهل منهما؛ لأن في الكتابين أحاديث كثيرة ليست
صحيحة، بل فيهما الموضوع، ويمكن أن نتوسط في ذلك، فنقول: لعلهم أطلقوها
من باب التغليب، أو أرادوا بالصحة صحة أصولها
هذه إجابة صحيحة بارك الله في الإخوة.
السؤال الثاني ما هي الأصول الخمسة؟ وكانت الإجابة: الأصول الخمسة هي
صحيح البخاري، صحيح مسلم، سنن أبي داود، جامع الترمذي، سنن النسائي.
سؤال: تقول: هل نأخذ الأحاديث فقط من الأحاديث الصحيحة؟
لا.. نأخذ من الصحيح بأنواعه، والحسن بأنواعه، فالحديث الصحيح سواءً
كان صحيحاً لذاته، أو لغيره، أو الحديث الحسن سواء كان حسناً لذاته، أو
لغيره، كل ذلك مأخوذ به، محتج به، عند علماء الحديث.
تقول: ذكرتم الأحاديث الحسنة التي ليس لها معنى القبول، فكيف نميز
مقصد الراوي بهذا اللفظ، هل هو غريب؟ أم منكر؟ أم من لطائف الأسانيد؟
نرجوا التوضيح؟
كلما توسع الإنسان في هذا العلم، وأدمن النظر في كتب أهل العلم، وعرف
مسالك العلماء، يستطيع أن يفهم في كل موضع ماذا أراد العالم من قوله،(1/158)
وذلك يحتاج إلى وقت طويل، ودربة طويلة، ومعايشة للعلم ولأهله، وإلا
فارجع إلى أهل العلم، واسألهم عن مراد كل عالم، في كل كلام قاله.
تقول: ما معنى العلة في الحديث ؟
العلة: أي الخطأ الذي يستدل عليه بدليل خارجي، يعني دليل من الأدلة
التي هي خارج الرواية، يستدل بهذا الدليل على خطأ وقع في تلك الرواية،
وهذا طبعاً لم يتكلم فيه إلا كبار الأئمة النقاد.
تقول: هناك بعض الأحاديث الموضوعة، وبها معاني تدعو لقيم حسنة، هل
توصف بحسنة المتن، ويجوز قولها للعامة من قبل الدعاة؟
لابد أن يرجع إلى أهل العلم؛ لتمييز هذه الأحاديث، هل فعلاً معانيها
حسنة، أم هذا في تصورك أنت؟ قد تظنين أن هذا معنى حسن، بينما هو مخالف
للقرآن، ومخالف للسنة، ومخالف لما عليه العلماء، هذا من ناحية. من
ناحية أخرى، قد يكون هذا المعنى الحسن الموجود في هذه الرواية، هناك في
الأحاديث الصحيحة، بل قد يكون في القرآن، أو في كلام السلف، ما يغني
عنه، وغالب هذه الأحاديث الضعيفة، أو الموضوعة، التي اشتملت على معان
حسنة، إنما قال بهذه المعاني بعض السلف -رضي الله عنهم جميعاً- فحينئذٍ
نقدم كلام السلف على الحديث الموضوع، أو المكذوب على رسول الله -صلى
الله عليه وآله وسلم- وإذا احتجت أن تروي ذلك الحديث، فلابد من بيانه،
كما سيأتي بعد ذلك -إن شاء الله تعالى- بأن الحديث الموضوع لا يجوز
روايته إلا مع البيان، نقول هذا حديث موضوع، فتذكره تحذيراً للناس منه،
بخلاف الحديث الضعيف الذي ضعفه هين، ومع ذلك المعنى الذي تضمنه معنى
مستقيم، مؤيد بشواهد قرآنية، أو حديثية آخرى، أو في كلام السلف، فهذا
فيه تفصيل سيأتي في موضعه -إن شاء الله تعالى- .
ذكرتم أن الحديث الضعيف الذي يجبر بأحاديث أخر، يرتفع إلى الحسن، هل
كل ضعيف يجبر من وجوه؟
طبعاً ليس كل ضعيف ينجبر، فالضعيف جداً أو الموضوع أو المكذوب، هذا لا
ينجبر أصلاً بغيره، لكن حتى الضعيف المنجبر لابد لانجباره شرائط(1/159)
وضوابط، سيأتي ذلك -إن شاء الله تعالى- في موضعه كما سيأتي مثلاً أن
المرسل يتقوى، ولكن كيف يتقوى؟ ما شرائط تقويته؟ ما الأمر التي تنضم
إليه فترقيه إلى مصاف الحجة؟ هذا كله سيأتي شرحه في موضعه -إن شاء الله
تعالى- .
هل في الصحيحين، الحسن علماً أن هذه التسمية لم تكن معروفة آنذاك ؟
من حيث أنها معروفة كانت معروفة قبل البخاري ومسلم، استعمل الحسن
الإمام أحمد، واستعمله الإمام الشافعي، واستعمله الإمام علي بن
المديني، وكل هؤلاء كانوا قبل الإمام البخاري، وقبل الإمام مسلم،
فاستعمال الحديث الحسن، كان موجوداً قبل البخاري، وقبل مسلم، هذا من
ناحية التسمية. أما من ناحية الأصل، أو الصفة، فالحديث الذي صفته حسن،
موجود في الصحيحين، ونحن أشرنا إلى ذلك في لقاء سابق، لما قلنا أن
العلماء البخاري ومسلم -رحمهما الله تعالى- إذا وجد الراوي حديثه، ليس
من درجة الصحيح، وإنما هو دون ذلك، فإنهما ينتقيان من حديثه ما قد
وافقه الثقات عليه، ما ترجح لديهما أنه أصاب فيه ولم يخطيء فيه، وحينئذ
يعدونه من الصحيح، ونحن نسمي هذا النوع بالصحيح لغيره، الحسن الذي
انجبر بغيره.
ذكرتم أن هناك تباين في مقصود أهل العلم الحديث من إطلاقهم لبعض
المصطلحات الحديثية، كلفظ الحسن، فهل هناك مصنفات اهتمت بذكر مقصود كل
عالم، مقصوده من هذه المصطلحات
هذا التعدد في الاستعمال بالمصطلح، الحسن ليس هو من باب التباين، ولا
الاختلاف، وإنما هو من باب التنوع، كما قلنا في لقاء سابق: إن المصطلح
الواحد قد يستعمله الإمام الواحد مرة على وجه، ومرة على وجه آخر، مرة
على إرادة معنى، ومرة على إرادة معنى آخر، طالب العلم يلزمه أن يعرف
هذه المعاني كلها، وأن يعرف كيف يحدد في كل موضع، وفي كل كلمة، قالها
هذا الإمام أو ذاك، هل أراد بالحسن هذا المعنى؟ أو معنى آخر؟ فهذا ليس
من باب الاختلاف الذي يفضي إلى الترجيح، أو يدعو إلى نسبة التباين،(1/160)
وإنما هو من اختلاف التنوع، الذي فيه توسع في استعمال المصطلح، هذا من
ناحية، من ناحية أخرى إذا قرأت في كتب المصطلح المتخصصة، تجد العلماء
يتناولونها، لكن مشكلة بعض طلبة العلم لم يقرأ في المصطلح إلى الكتب
المختصرة، والكتب المختصرة لا تعنى بهذه الدقائق، فإذا بطالب العلم لا
يعرف هذه المصطلحات، وهذه المعاني التي ربما لم ينص عليها في تلك
الكتب، ثم بعد ذلك يجد في كلام أهل العلم من استعمل الحسن على غير
المعنى الذي عرفه من الكتب المختصرة، فيبادر على إنكار ذلك، وعدم
قبوله، وليس هذا صنعاً سليماً، ولما ينبغي عليك أن تتوسع، فتجد مثلاً
ممن ذكر الحسن المعنوي: العراقي في تعليقاته على نكت ابن الصلاح، وهذا
كتاب عظيم جداً يقبح بطالب علم أن لا يطلع عليه، وكذلك الإمام ابن حجر
العسقلاني في نكته على كتاب ابن الصلاح، وهذا أيضاً كتاب عظيم جداً
يقبح بطالب العلم ألا يطلع عليه، وكذلك الزركشي في نكته على كتاب ابن
الصلاح، تعرض لهذه المسألة، ويقبح بطالب العلم بطبيعة الحال أن يخفى
عليه ذلك الكتاب، وألا يطلع عليه، ويستفيد منه، والإمام الرمهرمزي -
كما قلت- في كتاب المحدث الفاصل، والخطيب البغدادي، أيضاً في كتاب
الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، كل هؤلاء العلماء تناولوا هذا
النوع من الحسن، أو هذا الاستعمال لمصطلح الحسن، ليس عليك إلا أن تقرأ
هذه الكتب، وأن تطالع هذه الكتب لتعرف مناهج المحدثين، ومسالكهم
واستعمالهم، لهذا المصطلح أو ذاك، ونحن قلنا في اللقاء الأول: ينبغي
لطالب العلم أن يكون مطلعاً على كل كتاب ألف في علوم الحديث، سواء كان
هذا الحديث قديماً أو حديثاً صغيراً أو كبيراً، فإن أنت فعلت ذلك -إن
شاء الله تعالى- ستجد بغيتك، ولن تحتاج إلى أن تسألني.
بالنسبة لطالب العلم الذي يدرس علم الحديث وهو مبتديء أي الكتب
أفضل؟
الكتب المختصرة كثيرة، وهي لا تخفى على طالب عموماً، فمن أشهرها كتاب(1/161)
الباعث الحثيث، الذي نحن بصدد شرحه، وكتاب الحافظ ابن حجر نخبة الفكر،
أو نزهة النظر، وإذا كان بإمكانك أن تحفظ المتن الذي هو نخبة الفكر،
فهذا شيء طيب، فهذه من المختصرات، وهناك شرح الشيخ محمد محي الدين عبد
الحميد على ألفية السيوطي، وهو شرح ميسر سهل بعبارة عصرية، تستطيع أن
تتفهم من خلاله كثيراً من مسائل هذا العلم الشريف.
السؤال الأول: اذكر مثالاً للحسن المعنوي في الإسناد وآخر في المتن؟
السؤال الثاني: اذكر مثالاً يتضح به حاجة الحسن إلى معرفة علل الحديث؟
أعلى الصفحة
الرئيسة ????? ?????????? ????? ???? ?????????? ?????? ???????
???? ?????? - ??????? ??????
المؤلف: ????? ?????/ ???? ?? ??? ????
الوصف: ?????? ??????? ????? ???? ?????? -??????? ?????? - ??? ?????? ???? ?????? ?????? ??? ????
ارسل الصفحة لصديق
معاينة طباعة الصفحة
رؤية مكبرة
--------------------------------------------------------------------------------
بقية الحديث الحسن
الدرس السابع
إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور
أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي
له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده، لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده
ورسوله أما بعد:
تكلمنا في اللقاء الماضي عن الحديث الحسن، وذكرنا معاني الحسن في
عبارات أئمة الحديث -عليهم رحمة الله تعالى- وتوسعنا في ذلك بما فيه
كفاية -إن شاء الله تعالى-، ثم تطرقنا بعد ذلك لمعرفة حاجة هذا النوع
من أنواع علوم الحديث، وهو الحديث الحسن إلى بقية الأنواع المذكورة في
كتب علوم الحديث، وبينا العلاقة بين هذا النوع وتلك الأنواع، والرابط
الذي يربط هذه الأنواع بعضها ببعض، وكل هذا - بفضل الله تعالى- قد
انتهينا منه، ومن اليوم -إن شاء الله تعالى- سنتناول تعريفات العلماء(1/162)
لهذا النوع من أنوع علوم الحديث، وهو الحديث الحسن، هناك تعريف للإمام
الخطابي، وتعريف آخر للإمام الترمذي، وتعريف ثالث للإمام ابن الجوزي،
وتعريفات أخرى، نحاول جاهدين -إن شاء الله تعالى- أن نتفهم هذه
التعاريف، وما أراد أصحابها منها بإذن الله تعالى.
فأولاً: ذكر الإمام ابن كثير اقتداءً بأصل كتاب ابن الصلاح، ذكر تعريف
الإمام الخطابي فقال:
قال المصنف -رحمه الله تعالى- ( وقد تجشم كثير منهم حده، فقال
الخطابي: « هو ما عرف مخرجه، واشتهر رجاله، قال: وعليه مدار أكثر
الحديث، وهو الذي يقبله أكثر العلماء، ويستعمله عامة الفقهاء.».
قلت: فإن كان المعرف هو قوله: "ما عرف مخرجه واشتهر رجاله، فالحديث
الصحيح كذلك، بل والضعيف. وإن كان بقية الكلام من تمام الحد، فليس هذا
الذي ذكره مُسَّلماً له: أن أكثر الحديث من قبيل الحسان، ولا هو الذي
يقبله أكثر العلماء ويستعمله عامة الفقهاء.)
هذا التعريف الأول لهذا النوع من أنواع علوم الحديث، وهو الحديث الحسن،
ذكره الإمام الخطابي في مقدمة كتابه معالم السنن، في شرح سنن أبي داود،
وهو كتاب معروف متداول مطبوع.
الإمام الخطابي في مقدمة هذا الكتاب ذكر أن الحديث ينقسم عند أهله إلى
ثلاثة أقسام: إلى صحيح وحسن وضعيف. ثم أخذ يعرف هذه الأنواع فذكر أن
الحسن يتصف بهذه الصفات التي ذكرها ابن كثير عنه، بأنه " ما عرف مخرجه،
واشتهر رجاله" ، ثم ذكر بعد ذلك بعض ما يتميز به هذا النوع عن غيره من
أنواع الحديث، فقال: (وعليه مدار أكثر الحديث، وهو الذي يقبله أكثر
العلماء، ويستعمله عامة الفقهاء ) هذا التعريف - كما سيتبين لنا-
الإمام الحافظ ابن الصلاح -رحمه الله تبارك وتعالى - جعله خاصاً بنوع
من أنواع الحديث الحسن، وهو الذي نعرفه بالحديث الحسن لذاته، أي الحديث
الذي نشأ حسنه عن رواية بعينها، هذه الرواية وجد فيها من صفات الرواة(1/163)
ما يجعلها قريبة من الصحيح، ولم تبلغ إلى مرتبة الصحيح، وعلى ضوء هذا
فسر أو فهم كلام الخطابي -رحمه الله تبارك وتعالى - من قوله: "واشتهر
رجاله" بأنهم الذين بلغوا مرتبة الثقة والشهرة بطلب العلم، ولكنهم لم
يبلغوا مع ذلك إلى درجة راوي الحديث الصحيح.
الإمام ابن كثير ها هنا لم ير هذا التعريف فاصلاً بين الحسن والصحيح؛
لأنك إذا تأملت الحديث الصحيح وقد عرفنا تعريفه من قبل، حيث عرفه ابن
الصلاح وغيره من أهل العلم: بأنه "ما يتصل إسناده بنقل العدل الضابط أو
الثقة عن مثله إلى منتهاه من غير شذوذ ولا علة "، إذا تأملت تعريف هذا
النوع من أنواع الحديث وهو الحديث الصحيح، ثم تأملت ما قاله الخطابي
تعريفاً للحديث الحسن، لا تكاد تجد فرقاً في التعريف، فليس في كلام
الخطابي ما يدل أو ما يشعر أو يفيد تمييز الحسن عن الصحيح، بحيث نستطيع
أن نقول إن الحسن ليس هو الصحيح، وقد ذهب الخطابي إلى التفريق بين
الحسن والصحيح؛ لأنه ذهب إلى القسمة الثلاثية، وليس إلى القسمة
الثنائية، فإنه قسم الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف، ثم حينما تعرض لتعريف
الحسن لم يذكر أوصافاً تفصله عن وصف الحديث الصحيح، قال: " ما عرف
مخرجه واشتهر رجاله" وبطبيعة الحال: الحديث الصحيح معروف المخرج،
والحديث الصحيح رواته مشهورون، فهذه الأوصاف تصدق على الحديث الصحيح
كما تصدق على الحديث الحسن، إلا أن العلماء كالحافظ ابن حجر وغيره رأوا
أن الخطابي حينما وصف الحديث الحسن بأنه اشتهر رجاله، أي الشهرة التي
لم تبلغ بهم إلى مرتبة رواة الحديث الصحيح؛ لأن الشهرة عند علماء
الحديث مراتب ودرجات، وهذا سنتناوله -إن شاء الله تعالى- ولكن ما معنى
قولة الإمام الخطابي « ما عرف مخرجه»؟ حينما يتبين لنا معنى كل فقرة من
فقرات هذا التعريف، وكل فصل من تلك الفصول، يتبين لنا مراد الإمام
الخطابي -رحمه الله تعالى- من تعريفه هذا.(1/164)
ما معنى قول المحدثين أو قول الخطابي ها هنا: « إن الحديث الحسن ما عرف
مخرجه؟ » ونجد في كلام أهل العلم كثيراً « هذا الحديث معروف المخرج، أو
ليس له مخرج » الحديث الذي يعرف مخرجه هو ضد الحديث الشاذ والمنكر؛ فإن
الشاذ والمنكر كلاهما ليس لهما مخرج معروف.
ذكرنا في لقاء سابق عندما تعرضنا لمعنى قول المحدثين هذا الحديث له
أصل، أو ليس له أصل، وأخذنا نشرح معنى هذه العبارة في استعمال علماء
الحديث، وقلنا: لو أن حديثاً يروى عن الزهري، الإمام الزهري محمد بن
شهاب الزهري الحافظ الكبير، هذا الحديث لو رواه ثقات أصحاب الزهري عن
الزهري، وصح بالفعل أن الزهري رواه، فنستطيع أن نقول: إن هذا الحديث له
أصل من حديث الزهري، أما إذا رواه عن الزهري بعض الضعفاء أو بعض من لم
يحسن حفظ حديث الزهري، ولم يتقن حفظ أحاديث الزهري، وإنما روى عنه
القليل فلم يعتني بحديث الزهري، كما اعتنى بحديث الزهري غيره، فوقعت
الأخطاء فيما يرويه عن الزهري، فإذا تفرد مثل هذا عن الزهري بحديث،
فنحن نقول: هذا الحديث ليس له أصل عن الزهري، فقول المحدثين: ليس له
أصل، ليس معناه نفي لجنس الإسناد، وإلا فقد روي الحديث بالفعل بهذا
الإسناد الذي بين أيدينا، ولكنهم يقصدون ليس له أصل صحيح، يعتبر به،
ويعتد به، في نسبة الخبر إلى الإمام الزهري -رحمه الله تعالى-.
فالحديث إذا ثبت له أصل، وصح مخرجه، كالزهري مثلاً حينئذٍ نصفه بأنه
حديث معروف، أو حديث محفوظ، أما إذا لم يكن بهذا الوصف، وإنما رواه بعض
الضعفاء، عن الزهري، أو بعض من لا يعتد بتفرده، عن الزهري، فحينئذ لا
نثبت للحديث أصلاً، ونقول: هذا الحديث ليس معروفاً، ونقول فيه: لا أصل
له من حديث الزهري، ونصفه بالشذوذ وبالنكارة، فنقول: هذا شاذ أو منكر.
إذن الحديث إنما يعرف مخرجه بأن يكون محفوظاً عمن دارت عليه الأسانيد،
ورجعت إليه الروايات، وهو الإمام الحافظ الذي يروى الحديث عنه كالزهري(1/165)
مثلاً، ومالك كما قلنا في اللقاء الماضي لما تعرضنا لرواية مالك عن
نافع عن ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- حيث روى الحديث عن مالك بعض
الضعفاء، فقلنا: هذا الحديث ليس له أصل من حديث مالك، وكما قال ابن عبد
البر: « ولا يعرف من حديث مالك »، لماذا هو لا يعرف من حديث مالك؟ لأنه
لم يروه الثقات عن مالك، مع أنه قد روي بالفعل بإسناد ما، ولكنه إسناد
غير معتد به، إسناد غير معتبر به، إسناد لا يعتمد عليه في نسبة الخبر
إلى الإمام مالك؛ فلذلك وصفه الإمام ابن عبد البر بأنه غير معروف من
حديث مالك، هذا الذي قصده الإمام الخطابي -رحمه الله تعالى- من وصف
الحديث الحسن بأن يكون معروف المخرج، ما عرف مخرجه فلا يكون شاذاً، ولا
منكراً، لا يكون باطلاً لا أصل له، وإنما يكون معروفاً محفوظاً عن هذا
الراوي، الذي هو إمام يجمع حديثه ويعتنى بحديثه ورواياته.
قال: (واشتهر رجاله) ما معنى كون الراوي مشهوراً؟ الشهرة عند علماء
الحديث -عليهم رحمة الله تبارك وتعالى - لها معاني ولها درجات ومراتب،
فليس كل من وصف بأنه مشهور يكون بمنزلة واحدة، بل المشهورون عند علماء
الحديث درجات ومراتب، هناك شهرة ترفع عن الراوي الجهالة، هناك جملة من
الرواة يسمون بالمجاهيل، من هؤلاء المجاهيل؟ المجاهيل يعرفون من حيث
الاسم، وقد يكونوا يعرفون من حيث النسب أيضًا، فهم مذكورون في
الأسانيد، ولكنهم مجهولون عند علماء الحديث، ويقسم علماء الحديث
المجاهيل إلى قسمين رئيسيين:
القسم الأول: ما يعبر عنه بمجهول العين. من هو مجهول العين؟ هو الراوي
الذي لم يرو عنه إلا راو واحد. يعني نظرنا في روايات هذا الراوي في
الأسانيد، وفي الكتب المسندة، فلم نجد أحداً يروي عن هذا الراوي إلا
رجلاً واحداً، فقال العلماء: هذا مجهول؛ لأنه لم يرو عنه إلا واحد،
فصار من هذه الحيثية غير معروف، كأن العلماء شكوا في ثبوت هذه الشخصية(1/166)
أصلاً، في وجودها في عالم الواقع، قد يكون هذا الذي روى عنه إنما ركب
اسماً لا حقيقة له، قد يكون هذا الذي روى عنه أخطأ في اسمه، فانقلب اسم
الراوي بينما هو راوٍ آخر، فلما تغير اسمه في هذا الإسناد، صار وكأنه
راوٍ غير الراوي الذي هو حقيقة هذا الراوي؛ فلهذا قالوا: لا نعتمد على
هذا الراوي وحده، ولو كان من الثقات فيما إذا روى عن شيخ لا يعرف، لا
نعتمد في إثبات هذه الشخصية، لابد أن يأتي رجل آخر فيروي عن نفس هذا
الرجل، حتى نستطيع أن نرفع عنه تلك الجهالة، فالراوي المجهول العين، هو
الذي لم يرو عنه إلا واحد. فإذا روى عنه أكثر من واحد، فقد ارتفعت عنه
جهالة العين، وهذا نوع من الشهرة.
- وهو أن يروي عن الراوي أكثر من واحد. فتلك شهرة خاصة بنفي جهالة
العين، فإذا وجدنا الراوي روى عنه اثنان ثلاثة، أربعة، فحينئذ نستطيع
أن نقول: هذا رجل معروف، هذا رجل مشهور، ونجد في عبارات الجرح والتعديل
مثل هذه العبارات، التي تفيد هذا المعنى فيقولون: هذا رجل معروف
الحديث، مشهور الحديث، أو نحو هذه العبارات، يعني أنه قد روى عنه عدد،
بهذا العدد ترتفع عنه جهالة العين فهذا نوع من الشهرة.
طبعاً مجهول العين ومجهول الحال سيأتي الكلام فيهما بتفصيل حينما نتعرض
لأبواب الجرح والتعديل، في نوع صفة من تقبل روايتهم ومن ترد.
- هناك شهرة أخرى: وهو الشهرة بطلب العلم، أن يكون الراوي معروفاً بطلب
العلم، وبالرحلة فيه، كما قال الإمام شعبة -رحمه الله تعالى- شعبة بن
الحجاج خذوا العلم من المعروفين، وكان عبد الله بن عون -رحمه الله
تعالى- يقول: « لا تأخذوا العلم إلا ممن شهد له بالطلب» بطلب العلم
يعني عرف بين الناس أن هذا الرجل كان يحضر مجالس العلم، كان يسمع من
مشايخ أهل زمانه، كان يرحل في طلب العلم، يسمع من القريب والبعيد من
أهل بلده، ومن بلاد الأمصار، إذن عرف بطلب العلم، ولم يخرج على الناس(1/167)
بأحاديث هكذا، من غير أن يكون معروفاً سابقاً بأنه كان ممن يطلب العلم،
هذا نوع من أنواع الشهرة أيضًا، وهي أفضل من الشهرة الأولى.
- هناك شهرة أعلى من ذلك: كشهرة الأئمة الحفاظ الكبار، مثل شهرة الإمام
مالك، الإمام الشافعي، الإمام أحمد بن حنبل، الإمام يحيى بن معين،
الإمام البخاري، الإمام مسلم، فهذه أعلى درجات الشهرة والمعرفة، فهؤلاء
العلماء بلغوا أيضاً في الشهرة إلى مكانة عالية، فهم مشهورون معروفون،
ولكن بطبيعة الحال تلك مرتبة عالية، ومنزلة سامية من منازل الشهرة.
فحينما قال هنا الإمام الخطابي: « واشتهر رجاله » ماذا قصد؟ هل قصد
الشهرة التي نالها راوي الحديث الصحيح؟ الحافظ ابن حجر يقول: « إن
تفريق الإمام الخطابي بين الصحيح والحسن، ثم وصفه لراوي الحديث الحسن
بأنه مشهور، يفهم من ذلك: أن هذه الشهرة دون شهرة راوي الحديث الصحيح.
وقد يقصد الإمام الخطابي بالشهرة: الشهرة المتعلقة بالوصل. أي بمنزلة
الحفظ، أي هو مشهور بالحفظ، بالتثبت، بالإتقان، بالضبط، وليس مجرد
الشهرة التي ترجع إلى معرفة الناس به، وإنما شهرة متعلقة بحاله،
ومنزلته، من حيث الضبط والإتقان، فبطبيعة الحال راوي الحديث الصحيح في
أعلى درجات الضابطين المتقنين، بينما راوي الحديث الحسن دون ذلك، وإن
كان هو داخلاً في جملة أهل الضبط والإتقان.
فهذا هو ما قصده الإمام الخطابي -رحمه الله تبارك وتعالى- من قوله: «
ما عرف مخرجه » ثم من قوله: « واشتهر رجاله ».
الإمام ابن كثير -رحمه الله تبارك وتعالى - استشكل هذا التعريف كما
أشرنا إلى ذلك، وذكر أن ما جاء بعده من كلام، هو قول الخطابي "وعليه
مدار أكثر الحديث، وهو الذي يقبله أكثر العلماء، ويستعمله عامة
الفقهاء". قال: "هذه الأوصاف لا توجد في الحديث الحسن، فليس الحسن أكثر
الأحاديث، ولا هو الذي يستعمله عامة الفقهاء"، وإنما ذهب ابن كثير إلى(1/168)
هذا، ولم يقبل هذا التعريف للخطابي، واستشكله كتعريف للحديث الحسن؛
لأنه تبادر إلى ذهنه أن الخطابي إنما يتكلم عن الحديث الحسن لذاته،
وهذا كما قلنا هو الذي يتبادر من عبارة الإمام الخطابي -رحمه الله
تعالى-، ولكن لو حملنا كلام الخطابي على ما هو أوسع من ذلك، فيتناول
كلامه الحديث الحسن لذاته، ويتناول أيضاً الحديث الحسن لغيره، فحينئذ
نستطيع أن نفهم لماذا قال الإمام الخطابي في هذا النوع من الحديث: إنه
عليه أكثر الأحاديث، أو هو من أكثر الأحاديث، وهو الذي يستعمله عامة
الفقهاء، ويتناوله عامة الفقهاء، فإن أكثر الأحاديث التي يستدل بها في
الفقه عند علماء الفقه -رحمهم الله تبارك وتعالى - من الحسن، سواء كان
حسناً لذاته، أو حسناً لغيره.
الأحاديث الصحيحة مقارنة بمجموعة الأحاديث الحسان بنوعيها هي قليلة
بطبيعة الحال؛ ولهذا احتاج الفقهاء إلى معرفة كيفية تقوية الحديث بعضه
ببعض، وكما سيأتي في كلام الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى- حيث عمد
إلى المرسل، والمرسل في أصله ليس محتجاً به، وإنما بيَّن ضوابط
الاحتجاج به، بشرائط وضوابط سيأتي بيانها، وما ذلك إلا لحاجته، هو
كإمام فقيه إلى هذه الأحاديث التي هي من جملة الأحاديث الحسان، فأنت
إذا جمعت الأحاديث الحسان سواء كان من الحسن لذاته أو الحسن لغيره،
تجدها بطبيعة الحال أكثر من حيث العدد من الحديث الصحيح، فإذا جمعت
الأحاديث كلها التي تدخل تحت حيز القبول سواء كان الصحيح لذاته أو
لغيره أو الحسن لذاته أو لغيره، تكون -إن شاء الله تعالى- قد أتيت على
الأحاديث المقبولة التي يحتج بها العلماء -رحمهم الله تبارك وتعالى-.
انتقل بعد ذلك الإمام ابن كثير إلى تعريف الحديث الحسن عند الإمام
الترمذي -رحمه الله تعالى- فقال:
تعريف الترمذي للحديث الحسن
قال المصنف -رحمه الله تعالى- ( تعريف الترمذي للحديث الحسن: قال ابن(1/169)
الصلاح: وروينا عن الترمذي أنه يريد بالحسن: ألا يكون في إسناده من
يتهم بالكذب، ولا يكون حديثاً شاذاً، ويروى من غير وجه نحو ذلك.
وهذا إذا كان قد روي عن الترمذي أنه قاله ففي أي كتاب له قاله؟ وأين
إسناده عنه؟ وإن كان فهم من اصطلاحه في كتابه الجامع، فليس ذلك بصحيح،
فإنه يقول في كثير من الأحاديث: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا
الوجه).
هذا التعريف الثاني المذكور في هذا النوع من أنواع علوم الحديث، وهو
للإمام أبي عيسى الترمذي -رحمه الله تعالى- صاحب كتاب الجامع المعروف،
تلاحظون أن الإمام ابن كثير شكك في نسبة هذا الكلام للإمام الترمذي،
وهذا التشكيك لا أساس له من الصحة، فإن هذا الذي قاله نسب إلى الإمام
الترمذي قد قاله بالفعل في آخر كتابه الجامع، في الفصل الذي عقده في
علل الأحاديث؛ ولهذا تعقب ابن كثير في ذلك الإمام العراقي، وكذلك
الحافظ ابن حجر -رحمهما الله تعالى-، وذكر أن هذا الكلام موجود في كتاب
الترمذي في آخره، ونص كلام الترمذي هناك أنه قال: « وما ذكرنا في هذا
الكتاب » أي في جامع الترمذي « وما ذكرنا في هذا الكتاب حديث حسن،
فإنما أردنا به حسن إسناده عندنا، كل حديث يروى لا يكون في إسناده من
يتهم بالكذب، ولا يكون الحديث شاذاً، ويروى من غير وجه نحو ذلك، فهو
عندنا حديث حسن ».
فقد نص الإمام الترمذي -عليه رحمة الله تعالى- على هذا التعريف، وبيَّن
أنه هو الحسن الذي يقصده حيث يستعمله في كتابه الجامع.
وهذا التعريف من التعريفات التي كثر كلام أهل العلم -عليهم رحمة الله
تعالى- في شرحه، واختلفوا في فهم كثير من فصوله، بحيث إن بعضهم استشكل
عليه استشكالات كثيرة، سنتناول بعضها الآن؛ لأن الإمام ابن كثير تعرض
لبعضها هنا، وستناول البعض الآخر في آخر الكلام على نوع الحسن؛ لأن ابن
كثير تبعاً لابن الصلاح تكلم عن هذه الاستشكالات الأخرى في آخر الفصل.(1/170)
فأولاً: ماذا أراد الترمذي من تعريفه هذا؟ لقد وصف الحديث الحسن بثلاثة
أوصاف:
- الوصف الأول: لا يكون في إسناده من يتهم بالكذب.
- الوصف الثاني: لا يكون الحديث شاذاً.
- الوصف الثالث: أن يروى نحوه من غير وجه.
فما معنى هذه الفصول التي اشتمل عليها ذلك التعريف؟ ما معنى قول الإمام
الترمذي -رحمه الله تعالى- في تعريف الحديث الحسن لا يكون في إسناده من
يتهم بالكذب؟
- الوصف الأول: ألا يكون في إسناده من يتهم بالكذب.
من هو المتهم بالكذب؟ من هو الراوي المتهم بالكذب؟ هناك الراوي الذي
يكون سيء الحفظ، وسيء الحفظ هذا هو الذي وجد العلماء في أحاديثه أخطاء،
هذه الأخطاء دلت علماء الحديث على أن هذا الراوي غير ضابط، وغير متقن،
فوصفوه بسوء الحفظ وبضعف الضبط.
هناك راوٍ آخر كثرت الأخطاء والمناكير في حديثه جداً، بحيث غلبت
الأخطاء على الإصابات في رواياته، فضعفوه جداً، وهذا الذي يقولون فيه:
إنه متروك الحديث، أو ضعيف جداً، وهو الذي أشار إليه الإمام مسلم -رحمه
الله تعالى- لما تعرض للحديث المنكر ولتعريفه، فقال: " وعلامة المنكر
في حديث المحدث إذا ما عرضت روايته للحديث على رواية غيره من أهل الحفظ
والرضى خالفت روايته روايتهم، أو لم تكد توافقها " هذا هو المنكر. فإذا
جاء الرجل بالمنكر في الشيء بعد الشيء مرة أو مرتين فهذا يستحق أن يكون
ضعيفاً، يقال: إنه ضعيف الحفظ بقدر هذه المناكير التي تقع في روايته.
لكن إذا غلبت المناكير على أحاديثه، وصارت أكثر من إصاباته، فحينئذ
يكون متروك الحديث؛ ولهذا قال الإمام مسلم: « فإذا كان الأغلب من حديثه
كذلك » أي أغلب أحاديثه أخطاء ومناكير، كان مهجور الحديث، غير مقبوله،
ولا مستعمله. يعني الراوي نفسه ينسحب الحكم من الحكم على حديثه، إلى
الحكم فيه هو، فصارت أحاديثه الكثيرة التي وقع فيها المناكير سبباً
لتضعيف العلماء له جداً، وترك حديثه وعدم الاعتبار به ولا الاعتداد به.(1/171)
إذن العلماء يستدلون على سوء حفظ الراوي بماذا؟ بالنظر في رواياته.
وهذه قضية مهمة جداً سنتكلم عنها في باب الاعتبار -إن شاء الله تعالى-
يقول عبد الرحمن بن مهدي -رحمه الله تعالى-: « قلت لشعبة بن الحجاج:
متى يترك حديث الرجل؟ قال: إذا روى عن المشهورين ما لا يعرفه المشهورون
فأكثر، ترك حديثه » أي إذا روى عن العلماء المشهورين كالزهري مثلاً،
كمالك، كقتادة، كهشام بن عروة، إذا جاء عنهم كثيراً بأحاديث أخطاء،
وتلك الأحاديث لا تعرف عند أصحاب هؤلاء الحفاظ المشهورين نستدل بذلك
على كونه متروك الحديث.
إذن كثرة حديث الراوي يستدل بها على ترك حديثه، وعدم الاعتبار به، ولا
التعريج عليه. لكن كثرة الأخطاء أو قلتها هل تدل على التعمد؟
هذا بمفرده لا يدل على التعمد، فقد يكون الراوي من شأنه أن يخطيء الخطأ
الكثير عن غير قصد، لكن أن يتعمد شيء آخر، أن يتعمد اختلاق الروايات
وتلفيق الأسانيد والمتون هذا شيء آخر، فذلك هو الكذاب. فإن ترجح لدى
نقاد الحديث، وغلب على ظنهم أن هذه الأخطاء الكثيرة التي تقع في أحاديث
ذلك الراوي إنما هي مما عملت يداه، وأنه هو الذي تعمد اختلاقها
وافترائها - أنا أقول غلب على ظن علماء الحديث- ليس عندهم دليل قاطع،
وإنما غلبة ظن، فحينئذ يتهمونه بالكذب، فيقولون هذا متهم.
أو إذا وجدوا دليلاً قاطعاً بأنه يكذب، ويتعمد الكذب حينئذٍ يصفوه
بالأوصاف الدالة على ذلك، فيقولون: فلان كذاب، يكذب، يضع الحديث، يلفق
الأحاديث، دجال من الدجاجلة، أو نحو هذه العبارات المعبرة.
فالترمذي هنا يتكلم عمن غلب على ظن العلماء أنه ماذا؟ أنه يلفق
الروايات، أسانيد أو متوناً، فهذا هو الذي يتهم عند علماء الحديث.
فمثل هذا النوع من الرواة لا ينفع حديثهم في هذا الباب، الضعفاء جداً
وليس بالضرورة أن نقف عند حرفية اللفظ ها هنا، وهو أن يكون الراوي
متهماً بالكذب، وإلا فالترمذي قد صرح في مواضع أخرى بأن الذي تكثر عنه(1/172)
الأخطاء في الروايات، ويغلب على أحاديثه الأخطاء والمناكير، فهذا أيضاً
لا يصلح في هذا الباب.
إذن الحد الفاصل بين من يصلح لأن ينتفع بحديثه في باب الحسن، ومن لا
ينتفع بحديثه في هذا الباب، قلة الأخطاء أو كثرتها. فإذا كان الراوي
أخطاءه محدودة قليلة، فحينئذ أغلب الأحاديث التي رواها أصاب فيها،
ولكنه مع ذلك يخطيء في عدد من الأحاديث، فننتفع بروايته عموماً، وننظر
فيها، ونضعها تحت المنظار، وينظر هل هذا الحديث مما أصاب فيه، أم مما
أخطأ فيه؟ فإن ترجح لدى أهل العلم أن هذا مما أصاب فيه، ترقى حينئذٍ
وصار من الحديث الحسن، ويكون حينئذٍ حديثاً محتجاً به. وإذا ترجح لدى
أهل العلم أن هذا الحديث خطأ، وأن هذا من جملة الأخطاء التي وقع فيها
ذلك الراوي، فحينئذٍ لا ينتفع بهذا الحديث، ويكون من قبيل الشاذ،
والمنكر، وما لا أصل له.
إذن: الشرط الأول: أن يكون الراوي سالماً من الضعف الشديد، أو من
التهمة بالكذب. هذا شرط متعلق بالراوي نفسه.
- الوصف الثاني: فقال: " ولا يكون الحديث شاذاً "، وهو متعلق بالرواية.
الشذوذ وصف للراوي أم للرواية؟ للرواية. وليس هو وصفاً للراوي، فقد
يكون الراوي ثقة أو صدوق، ومع ذلك أخطأ في بعض الأحاديث القليلة، فتلك
الأحاديث القليلة التي أخطأ فيها، يعبر عنها العلماء بأنها أحاديث
شاذة.
أذكركم بما قلنا في تعريف الحديث الصحيح، من يذكر لنا تعريف الحديث
الصحيح؟
هو ما اتصل سنده بنقل العدل الضابط عن مثله من أول السند إلى منتهاه
بغير شذوذ ولا علة
أخونا يعرف الحديث الصحيح بأنه من رواية العدل الضابط، أي من رواية
الراوي الثقة، ثم يقول بعد ذلك: ولا يكون شاذاً ولا معلولاً أو معلاً.
إذن نحن نفهم بالضرورة: أن الشذوذ والعلة يقعان في أحاديث الثقات؛ لأن
الشذوذ والعلة إذا لم يقعا في أحاديث الثقات، فلماذا نحترز منهما في
الحديث الصحيح؟ لو كان الشذوذ والعلة لا يقعان في أحاديث الثقات لقلنا(1/173)
هو ما يرويه الثقة بإسناد متصل. واكتفينا بهذا، لكن لما اشترطنا مع ذلك
أن يكون الحديث الذي يرويه ذلك الثقة سالماً من الشذوذ والعلة، نفهم أن
الشذوذ والعلة قد يقعان في أحاديث الثقات.
إذن الثقة إذا ما أخطأ سمينا حديثه شاذاً أو معلولاً، فالإمام الترمذي
-عليه رحمة الله تعالى- بعد أن بيَّن أن الحديث الذي يرويه الراوي الذي
هو ليس متهماً بالكذب، لابد أن يكون مع ذلك الحديث نفسه، سالماً من
الخطأ، هذا الذي ليس متهماً بالكذب من الممكن أن يخطيء أم لا عن غير
قصد؟ من الممكن، كيف نعرف أنه أخطأ أو لم يخطي؟ بنظرنا في الشرط
الثاني، وهو سلامة الحديث من الشذوذ والعلة، هو عبر عن ذلك بالشذوذ،
ونحن قلنا في لقاء سابق، الشذوذ والعلة بابهما واحد.
إذن لكي يكون الحديث من جملة الحديث الحسان، لابد أن يكون مع كون
الراوي ليس متهماً بالكذب، أيضًا يكون الحديث نفسه سالماً من الشذوذ
والعلة.
كيف نعرف أن هذا الحديث سالم من الشذوذ والعلة؟ الشذوذ والعلة كما
يقعان في الأحاديث الصحيحة، أيضاً يقعان في الأحاديث الحسنة، ولابد
لطالب العلم أن يعرف السبيل إلى إدراك كون الحديث سالماً من الشذوذ
والعلة، حتى لا يغتر ببعض الروايات فيذهب إلى تحسينها، وهي ليست جديرة
بذلك.
مثال: هناك حديث يرويه راوي اسمه أحمد بن الأزهر النيسابوري، ويكنى
بأبي الأزهر، وهذا راوي صدوق، روى حديثاً عن عبد الرزاق، عن معمر، عن
الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس -رضي الله
عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- قال لعلي بن أبي طالب
-رضي الله عنه-: (يا علي أنت سيد في الدنيا، سيد في الآخرة، حبيبك
حبيبي، وبغيضك بغيضي، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه) هذا الحديث
مركب من عدة جمل، كل جملة منه وردت في بعض الأحاديث، لكن بهذا السياق،
وبهذا الإسناد، هو عند العلماء خطأ، وله قصة موجودة في كتب التواريخ(1/174)
والعلل، تبين مدى دقة علماء الحديث -عليهم رحمة الله تبارك وتعالى - في
تمييز الأحاديث الشاذة والمنكرة.
هذا الحديث لما حدَّث به أبو الأزهر النيسابوري، وكان ببغداد، وبغداد
وقتئذ كانت مدينة العلم، معقل العلم والعلماء، وكان وقتئذ أحمد بن
حنبل، ويحيى بن معين، وكبار حفاظ الأمة، فلما حدَّث بهذا الحديث أبو
الأزهر ببغداد، بلغ ذلك ابن معين، وابن معين -رحمه الله تعالى- كان
قوالاً بالحق لا يخاف في الله لومة لائم، كان شديداً كلما وجد راوياً
يروي مناكير، أو الأباطيل، أو ما لا أصل له، لا يسكت بل يذهب ويحذر
الناس منه، وله في ذلك قصص في غاية الجودة، وفي غاية الجمال.
من ذلك ما حدث ها هنا، لما بلغ ابن معين هذا الخبر، وأن أحمد بن الأزهر
يرويه، ذهب ووقف على مشهد من الناس، وقال: من الكذاب النيسابوري، الذي
يحدث بهذا الحديث عن عبد الرزاق؟ ليس هناك مداهنة، ما كانوا يحابون
أحداً من الناس، ولو كان أقرب الأقربين إليهم.
الإمام علي بن المديني -رحمه الله تعالى- له أب اسمه علي بن عبد الله
بن جعفر، أبوه كان ضعيف الحديث، فلما سئل علي بن المديني عن أبيه،
فقال: أبي "ضعيف الحديث" ما كان يحابي في ذلك؛ لأنه يسأل عن حديث رسول
الله -صلى الله عليه وآله وسلم-.
فقام الإمام ابن معين فقال: من الكذاب النيسابوري الذي يحدث بهذا
الحديث عن عبد الرزاق؟ هنا سؤال يطرح نفسه من الذي أعلم ابن معين بأن
راوي هذا الحديث نيسابوري؟ وهو يسأل عنه لا يعرفه، ويقول: من الذي يروي
هذا الحديث، من النيسابوري الذي يحدث بهذا الحديث، ثم يصفه بأنه كذاب،
وهو لم يعرفه أصلاً، وإنما استدل على كونه كذاباً أو أنه نيسابوري،
بالنظر في الرواية؛ لأن نيسابور وقتئذ كانت معقل التشيع، والحديث فيه
رائحة التشيع، تشتم منه رائحة التشيع، فعرف أن هذا لا يأتي إلا من هناك
بخبرته ومعرفته. هذا من ناحية.(1/175)
من ناحية أخرى عرف أن هذا الحديث ليس من حديث عبد الرزاق؛ لأنه من أخص
تلاميذ عبد الرزاق الإمام يحيى بن معين، وكذلك أحمد بن حنبل، وهو يعرف
كل أحاديث عبد الرزاق؛ لأنه عكف عند عبد الرزاق، ومكث عنده مدة، وكتب
كل ما عنده.
يُروى في كتب التاريخ أن الإمام يحيى بن معين لما ذهب إلى عبد الرزاق،
كان يكتب من كتب عبد الرزاق، ولا يعتمد على ما يحدث به عبد الرزاق من
حفظه، لدرجة أن عبد الرزاق نفسه، قال: اكتب عني حديثاً من حفظي، هو
طبعاً يعرف قدر ابن معين، ويتمنى أن يكتب عنه ابن معين حديثاً من حفظه؛
لأن هذا فيه تزكية لحفظ عبد الرزاق، اكتب عني حديثاً من حفظي، قال: ولا
نصف حديث، لا أكتب إلا من كتابك؛ لأن كتابك صحيح، أما حفظك فتقع أخطاء
من قبل حفظك.
الشاهد ابن معين عرف أن هذا الحديث مصدره من نيسابور، وأنه لا يأتي إلا
من طريق الكذابين، فوقف أحمد بن الأزهر، وقال: هو أنا ذاك. أنا الذي
أرويه عن عبد الرزاق، فتعجب ابن معين؛ لأن أحمد بن الأزهر صدوق، وليس
كذاباً. فمن أين جاء بهذا الحديث؟ ما مصدره؟ أكيد هناك علة خفية، أمر
غير واضح، فقال: أما أنت فصدوق أمين، وأظن أن البلاء من غيرك.
ثم أخذه وسار معه في الطريق، فقال: كيف سمعت هذا الحديث من عبد الرزاق؟
قال: إن عبد الرزاق كنت أسير معه في بعض طرق صنعاء: فحدثني بهذا
الحديث. أي من حفظه، وهو يمشي في الطريق معه كتاب؟ حدث به من حفظه فعرف
ابن معين منشأ الخطأ في هذا الحديث، هو راجع إلى أن عبد الرزاق حدث به
من حفظه، ولم يحدث به من كتابه، وقد يكون عبد الرزاق سمعه من بعض
الكذابين فدلسه مثلاً، أو نسي اسم شيخه، فرواه عن معمر مباشرة.
ولهذا الإمام الذهبي -رحمه الله تعالى- في تعليقه على كتاب المستدرك
قال: " هذا الحديث علامات الوضع ظاهرة عليه" وإلا يقول الإمام الذهبي:
" فلماذا لم يحدث به عبد الرزاق إلا أبا الأزهر؟ " لماذا لم يحدث به(1/176)
يحيى بن معين، وأحمد بن حنبل؟ يعني لما كانا عنده؟ فهذا يدل على ماذا؟
يدل على أن هناك علل خفية، يستدل بها على كون الرواية شاذة أو منكرة،
فهذا النوع من الروايات، وإن كان إسناده من حيث الظاهر نظيفاً لا ينفع
في هذا الباب.
إذن الشرط الثاني للحديث الحسن عند الإمام الترمذي: أن يكون الحديث
نفسه سالماً من الشذوذ.
- الوصف الثالث: أن يروى نفس هذا الحديث من وجه آخر نحوه.
نحوه: أي أن رواة هذه الروايات الأخرى أيضاً سالمون من أن يكونوا
متهمين بالكذب، وأيضاً هذه الروايات الأخرى التي تنضم للرواية الأولى
فترقيها هي أيضاً ليست روايات شاذة، فإن الشاذ والمنكر لا ينتفع به
أبداً في هذا الباب. كما قال الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله تبارك
وتعالى - " المنكر أبداً منكر". - تكلمنا في اللقاء الماضي عن الغرائب
التي يسميها بعض العلماء الفوائد، وبعضهم يسميها بالحسان- سئل الإمام
أحمد -رحمه الله تعالى- عن الأحاديث الفوائد فقال -رحمه الله تعالى-: "
الحديث عن الضعفاء - أي الراوي الضعيف الذي ضعفه ناشيء عن سوء حفظه،
وليس عن تعمده الكذب، أو عن غفلته الشديدة - قد يحتاج إليه في وقت" أي
هنا في هذا الباب، يعني ينتفع به في تقوية بعضه ببعض، والمنكر أبداً
منكراً، المنكر منكر أبداً لا يمكن أبداً أن يعرج عليه، ولا أن يلتفت
إليه.
والإمام أبو داود الستجستاني - صاحب السنن- يقول في رسالته إلى أهل
مكة: " لا يحتج بحديث غريب" يقصد بالغريب هنا الشاذ - كما سيأتي- " لا
يحتج بحديث غريب ولو كان من رواية مالك، ويحيى بن سعيد، والثقات من
أئمة العلم" ، يعني حتى الثقات إذا ثبت في حديث ما، من أحاديثهم أنه
خطأ فهذا حديث يسمى شاذاً، وحينئذ لا ينتفع به، بل يعامل كما لو أنه لم
يرو أصلاً، " ولا يحتج بحديث غريب ولو كان من رواية مالك، ويحيى بن
سعيد، يعني الأنصاري، والثقات من أئمة العلم، ولو احتج رجل بحديث غريب(1/177)
وجدت من يطعن فيه، ولا يحتج بالحديث الغريب إذا كان غريباً شاذاً ".
فيقصد بالغريب ها هنا كل غريب؟ أم الغريب الذي تبين أنه خطأ؟ وترجح أنه
خطأ؟ وهو الذي يسمى عند علماء الحديث بالشاذ أو بالمنكر؟!.
قول الإمام الترمذي: " ويروى نحوه من غير وجه"، ذكرنا أي نحوه، أي نحو
الرواية الأولى من حيث الراوي، فلا يكون متهماً بالكذب، ونحو الرواية
الأولى أيضاً من حيث سلامتها من الشذوذ.
لكن هل يشترط أن تكون روايات مرفوعة مضافة إلى رسول الله -صلى الله
عليه وآله وسلم-؟ أم من الممكن أن تكون موقوفات على الصحابة أو
التابعين؟ من الممكن، فعلماء الحديث -عليهم رحمة الله تعالى- كما
يعتنون بالأحاديث المرفوعة والمضافة إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله
وسلم-، فكذلك أيضاً يهتمون ويعتنون بالأحاديث الموقوفة، أي المضافة إلى
الصحابة أو التابعين. فإن ذلك كله مما ينتفع به في تقوية المعنى الذي
تضمنه ذلك الحديث، وسيأتي - بإذن الله تعالى- أن الإمام الشافعي لما
تكلم عن المرسل، وعن الاحتجاج به، ذكر -رحمه الله تعالى- أن المرسل
يتقوى بأمور: من هذه الأمور: المسند الصحيح، والمرسل الذي يختلف مخرجه
عن مخرج المرسل الأول، ومن هذه الأمور أيضًا: أن يجيء فتوى بعض الصحابة
موافقة لهذا الحديث، أو فتوى عامة أهل العلم. كل ذلك مما ينتفع به في
تقوية الأحاديث أو المعنى الذي تضمنته تلك الأحاديث.
حينئذٍ كل ذلك مما ينتفع به، والإمام أحمد استعمل ذلك كثيراً، من ذلك
أنه مرة سئل عن دية المعاهد، يعني حكم دية المعاهد، فقال: « على النصف
من دية المسلم » لحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، معروف أن الإمام
أحمد -عليه رحمة الله تعالى- كان يضعف عمرو بن شعيب، ويضعف كثيراً من
الأحاديث التي يرويها بهذا الإسناد، عن أبيه، عن جده، فقيل له: يا إمام
أتحتج بعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، يعني بهذه الصحيفة قال: « ليس(1/178)
بكلها أحتج، وإنما هذا أمر قد أفتى به عثمان بن عفان، وقدماء فقهاء أهل
المدينة » يعني أنه احتج به في هذا الحيدث خاصة لما وافقه فتوى هذا
الصحابي الجليل عثمان بن عفان -رضي الله عنه وأرضاه-، وفتوى كبار
التابعين، كل ذلك جاء موافقاً للحديث، فصار الحديث حينئذٍ حجة عند
الإمام أحمد بن حنبل، وهذا هو الذي نسميه بالحسن لغيره، الذي يتقوى
بمجموع ما ينضم إليه من الروايات.
تعريفات أخرى للحسن
قال المصنف -رحمه الله تعالى- (تعريفات أخرى للحسن، قال الشيخ أبو
عمرو بن الصلاح -رحمه الله تعالى- وقال بعض المتأخرين - هذا المتأخر هو
الإمام ابن الجوزي-: " الحديث الذي فيه ضعف قريب محتمل، هو الحديث
الحسن، ويصلح للعمل به )
هذا بطبيعة الحال قريب من قول الخطابي، وأيضاً قريب من قول الترمذي،
لكنه لم يضع ضابطاً لهذا القرب، قال: (ضعف قريب محتمل) ما هو ضابطه؟
فقد ترى أنت أن هذا الضعف قريب، وقد أرى أنه ضعف شديد. ولكن كما قلنا
آنفا لا شك أن الراوي إذا كان كذاباً أو متهماً بالكذب، أو شديد
الغفلة، فضعفه شديد. الحديث إذا كان شاذاً أو منكراً أو لا أصل له،
فهذا ضعف شديد، فكل ما كان سوى ذلك كأن يكون الضعف راجعاً إلى حفظ
الراوي، لا إلى اتهامه بالكذب، أو يكون حفظه خفيفاً يعني أخطاؤه قليلة
في جنب إصاباته الكثيرة في الروايات، أو أن يكون الحديث مرسلاً، المرسل
يتقوى، ولا شك أن الإرسال منه ما هو صحيح ومنه ما هو ضعيف، ويتبين صحة
المرسل بمعرفة الرواية الأخرى التي تدل على صحة مخرجه، وهذا سنتكلم
عليه تفصيلاً في مبحث المرسل -إن شاء الله تعالى- كل ما كان احتمال
الصواب والخطأ فيه على حد سواء -هذا 50% وهذا 50% - حينئذٍ يصلح في هذا
الباب. فنبحث عن الروايات التي ترجح أحد الجانبين، فإن كانت الرواية
ترجح جانب الإصابة، صار الحديث حينئذٍ حسناً لغيره، وإن دلت الرواية
الأخرى على ترجيح جانب الخطأ كان الحديث حينئذٍ شاذاً ومنكراً ولا أصل(1/179)
له، وحينئذ لا يكون من باب الحسن لغيره. وتفصيل ذلك يطول لكن هذه قاعدة
عامة ذكرها الحافظ ابن حجر العسقلاني في نكته على كتاب ابن الصلاح
وتفصيلاتها تأتي تباعاً في ثنايا الأبواب.
(ثم قال الشيخ: " وكل هذا مستبهم لا يشفي الغليل، وليس فيما ذكره
الترمذي والخطابي ما يفصل الحسن عن الصحيح". وقد أمعنت النظر في ذلك،
والبحث فتنقح لي واتضح أن الحديث الحسن قسمان:
أحدهما: الحديث الذي لا يخلو رجال إسناده من مستور لم تتحقق أهليته،
غير أنه ليس مغفلاً كثير الخطأ، ولا هو متهم بالكذب، ويكون متن الحديث
قد روي مثله أو نحوه من وجه آخر، فيخرج بذلك عن كونه شاذاً أو منكراً.
ثم قال: وكلام الترمذي على هذا القسم يتنزل.
قلت لا يمكن تنزيله لما ذكرناه عنه. والله أعلم )
الإمام ابن الصلاح -رحمه الله تعالى- أراد أن يستفيد من تعريف الخطابي،
وتعريف الإمام الترمذي، فقسم الحسن إلى قسمين:
- قسم الحسن فيه ناشيء -عن ذاته- عن ذات الإسناد.
- قسم الحسن فيه ناشيء - عن المجموع- مجموع الروايات.
وقدم الكلام ها هنا على الحسن الذي يستدل على حسنه بمجموع الرواية، وهو
الحسن لغيره، ونزل كلام الترمذي عليه، فقال -رحمه الله تعالى-: إن
الحديث إذا كان - أي الإسناد الذي بين أيدينا- مشتملاً على راوٍ مستور-
والمستور: هو مجهول الحال- يخرج بذلك عن كونه شاذاً أو منكراً "، ونحن
ذكرنا آنف
الجهالة من المجهول إما أن يكون جهالته عيناً أو حالاً.
- فمجهول العين: هو الذي لم يرو عنه إلا راوٍ واحد. فإذا روى عنه أكثر
من راوٍ فهذا فيه نوع شهرة، أي نوع معرفة.
- ومجهول الحال: - هو الراوي الذي لم نجد فيه جرح أو تعديل- لكن صادف
ذلك أننا لم نجد هذا الراوي لا متكلماً فيه لا بجرح ولا بتعديل. ولم
نجد إماماً تناوله بجرح أو بتعديل، فنقول: هذا مجهول الحال. لا نعرف
حاله هل هو من الثقات أم من الضعفاء؟(1/180)
لكن إن تبين أنه مضعف من قبل أهل العلم، وكلام أهل العلم يدل على أنه
شديد الضعف، وشديد الغفلة، أو متهم بالكذب، فهذا لا يعرج على روايته ها
هنا.
أما إذا كان من المستور - الراوي المستور الذي لم يتكلم فيه لا بجرح
ولا بتعديل- أو كما زاد الحافظ ابن حجر صوراً أخرى من الرواة الذين
يصلح حديثهم في هذا الباب فذكر أن من هؤلاء الرواة:
• الضعيف الذي ضعفه ناشئ عن سوء حفظه بما لم يصل إلى حد التهمة. أو إلى
حد الغفلة- شدة الضعف.
• زاد أيضًا: الراوي المختلط.
الراوي المختلط: هو الراوي الذي تغير حفظه في آخر عمره، لعامل الزمن،
فصار ينسى بعض حديثه، وهذا روايته فيها تفصيل:
- فما حدث به قبل الاختلاط حديثه صحيح، إذا كان من الثقات.
- وما حدث به بعد الاختلاط فحديثه ضعيف؛ لأننا قد تحققنا فيه من أنه قد
أثر عليه اختلاطه.
- أما ما لم يتميز فلم ندري أهو مما حدث به في حال الصحة أم في حال
السقامة، فحينئذ إن وجدنا روايات أخرى تؤيده نرقي حديثه حينئذٍ إلى
مرتبة الحسن لغيره. فالراوي المختلط الذي لم يتميز حديثه، هذا النوع من
الأحاديث إن وجدنا روايات أخرى تقويه وتؤيده فحينئذ يترقى الحديث إلى
مرتبة الحسن لغيره.
• الراوي المدلس: الذي يستعمل العنعنة والألفاظ الموهمة، أو التي ليست
صريحة في السماع في الأحاديث، التي لم يسمعها هذا المدلس، لكن إذا
وجدنا لهذه الرواية التي رواها ما يؤيدها من روايات أخرى فحينئذ نقبل
حديثه ونجعله من الحسن لغيره.
• الحديث المرسل: ما هو الحديث المرسل؟ هو الذي رواه التابعي عن رسول
الله -صلى الله عليه وآله وسلم- مباشرة. ومعلوم أن التابعي لم يدرك
رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ولم يسمع منه، فإذا وجدنا روايات
أخرى تدل على صحة هذا الحديث وتؤيده وتقويه، وتأخذ بيده وترقيه إلى
مصاف الحجة، حينئذٍ يكون الحديث من قسم الحسن لغيره.(1/181)
بطبيعة الحال لابد أن يكون مع ذلك سالماً من الشذوذ سالماً من العلة.
فكل ما كان شاذاً أو منكراً أو معلولاً، لا شأن له في هذا الباب؛ لأن
معنى كونه شاذاً أو منكراً أو معلولاً أي ترجح لدينا كون الراوي أخطأ
في الرواية، ونحن إنما نقبل في هذا الباب ما يحتمل أن يكون صواباً،
ويحتمل أن يكون خطأ، فكل ما كان يحتمل الصواب، ويحتمل الخطأ، فهو يدخل
في هذا الباب، بمقتضى الروايات الأخرى، فإن دلت الروايات الأخرى على
كونه من الصواب عملنا بمقتضى ذلك، وإذا دلت الروايات الأخرى على كونه
خطأ عملنا أيضاً بمقتضى ذلك، أما ما تحققنا بالفعل من أنه خطأ، وأنه من
غلط الراوي فحينئذ لا يكون الحديث مقبولاً، ولا داخلاً في هذا الباب،
لا من قريب ولا من بعيد، بل حتى لو كان الراوي من الثقات.
هناك راوي اسمه الربيع بن يحيى الأشناني، وهذا قال فيه الإمام أبو حاتم
الرازي لما سئل عنه قال: «ثقة ثبت» وهذه مرتبة عالية جداً في التوثيق،
لا سيما إذا قالها مثل الإمام أبي حاتم الرازي؛ لأن الإمام أبي حاتم
الرازي كان من المتشددين في الكلام في الرجال، لا يمنح الراوي وصف
الثقة إلا بندرة متشدد جداً في هذا الباب، فيأتي الإمام أبو حاتم
الرازي، ويمنح هذا الراوي هذا الوصف العالي، فيقول: هو ثقة ثبت، معنى
ذلك أنك إذا نظرت في حديثه تبادر إلى تصحيحه، بل تجعله من أعلى مراتب
الصحيح، ومع ذلك أبو حاتم نفسه، لما سئل عن بعض الأحاديث التي رواها
هذا الراوي، وقد أخطأ فيها إذا بأبي حاتم -رحمه الله تعالى- يبين
بعبارته أن هذا الحديث ضعيف جداً، بل باطل، هذا الراوي روى حديثاً عن
الثوري عن محمد بن المنكدر عن جابر، حديثاً في جمع التقديم في الجمع
بين الصلاتين، عموماً أحاديث الجمع بين الصلاتين معروفة، محفوظة، ولكن
هذا الحديث بخصوصه مما أنكره العلماء، الذي يروى عن جابر بن عبد الله
في هذا الباب هذا الراوي الربيع بن يحيى الأشناني ثقة ثبت، عن سفيان(1/182)
الثوري جبل من جبال الحفظ، إمام عظيم، محمد بن المنكدر إمام كبير، جابر
بن عبد الله، صحابي جليل، إسناد إذا نظرت إليه نظرة سطحية من غير
استعانة بكلام أهل العلم، تقول: هذا حديث صحيح. ومع ذلك أبو حاتم نفسه
لما سئل عن هذا الحديث قال: «هذا الحديث باطل لم يحدث به محمد بن
المنكدر، دخل على الأشناني حديث في حديث » ذكرنا في اللقاء الماضي معنى
كون الراوي دخل عليه حديث في حديث، أو إسناد في إسناد، أي اشتبهت عليه
الأسانيد، فجاء بإسناد لمتن، فجعله إسناداً لمتن آخر، من يعرف هذا؟
الأئمة -رحمه الله تعالى-؛ ولهذا لابد لطالب العلم أن يسترشد بكلام
الأئمة ولا يكتفي بالنظرة السطحية في الأسانيد.
فالإمام أبي حاتم الرازي هو الذي وثق الراوي، ومنحه التوثيق العالي، ثم
هو نفسه يقول هنا: هذا حديث عندي باطل، دخل على الربيع بن يحيى
الأشناني حديث في حديث، ولم أدخله في التصنيف، الإمام أبو حاتم يقول:
وهذا الحديث لم أدخله في التصنيف، المصنفات: هي الكتب المرتبة على
الأبواب، فكل كتاب رتب على الأبواب يسمى مصنفاً، وليس هذا خاصاً بمصنف
عبد الرزاق، ولا مصنف ابن أبي شيبة، بل كتب السنن عموماً، تسمى مصنفات.
فالبخاري يسمى مصنف، ومسلم يسمى مصنف، أبو داود يسمى مصنف، الترمذي
يسمى مصنف، النسائي يسمى مصنف، ابن ماجة يسمى مصنف؛ لأنه مرتب على
الأبواب الفقهية.
وعلماء الحديث حينما يصنفون كتباً من تلك المصنفات التي يرتبونها بحسب
المواضيع، فكل باب من تلك الأبواب التي يعقدونها في هذه الكتب إنما
يذكرون فيها الأحاديث التي هي عندهم حجة، تصلح للاحتجاج، أو تصلح
للاعتبار والتقوية والاستشهاد، فهو عندما يذكر الحديث إما ليحتج به،
وإما ليعتبر به، وليستشهد به وليقوي به رواية أخرى، أما إذا كانت
الرواية لا تصلح لا للاحتجاج ولا للاستشهاد فهل تنفع في كتب مصنفة؟ لا
تنفع في الكتب المصنفة، لا فائدة منها، فهو يقول: ولم أدخله في(1/183)
التصنيف، يعني هذا الحديث عندي باطل، والباطل لا ينفع لا في الاحتجاج،
ولا في الاستشهاد، مع أن الراوي من الثقات، ومع ذلك صرح بأن حديثه هذا
لا يصلح، لا في باب الاحتجاج، ولا في باب الاستشهاد، وهذا معناه أن
الباطل والشاذ والمنكر لا يصلح في باب الحسن لغيره، ولا في باب
الاعتبار والاستشهاد، مع أن الراوي ها هنا ثقة، ليس معنى ذلك: أن كل ما
يرويه الربيع بن يحيى الأشناني يكون موصوفاً بهذا الوصف الباطل، لا..،
لكن ترجح لدى هذا الإمام في هذا الحديث خاصة، وهذا الإمام لم يتفرد
بهذا الحكم، حتى بعض الناس يقول: الإمام أبو حاتم تناقض كيف يقول في
الراوي ثقة ثبت، ثم يأتي، ويقول: في حديثه باطل؟
نحن قلنا أن الثقة قد يكون حديثه شاذاً أم لا؟ أي حديث معين ترجح لدى
النَّقاد أنه خطأ، أخطأ فيه الراوي، وليس كل ما يرويه يكون موصوفاً
بهذا الوصف.
الإمام الدارقطني لما سئل عن نفس الحديث، سأله تلميذه الإمام البرقاني،
فماذا قال الإمام الدار قطني؟ قال الإمام: «هذا الحديث ليس لمحمد بن
المنكدر فيه ناقة ولا جمل» يعني هذا ليس من حديث محمد بن المنكدر
فكلامه مثل الإمام أبي حاتم سواء بسواء.
وسئل مرة أخرى سأله الحاكم النيسابوري- وهو تلميذ الإمام الدارقطني-
سأله عن الربيع نفسه - الربيع بن يحيى الأشناني- فقال: الإمام الدار
قطني-رحمه الله تعالى-:«الربيع بن يحيى الأشناني ليس بقوي، أو ليس
بالقوي في الحديث» لماذا؟ قال:" لأنه روى عن ابن المنكدر حديثاً لو كان
في مائة ألف حديث لأفسدها " يقصد هذا الحديث، فهذا الحديث أثره في
الضعف والنكارة والبطلان كما لو أنه إذا وجد في جملة أحاديث فيفسد هذه
الأحاديث، ويؤثر عليها تأثيراً سلبياً، وهذا يدل على شدة نكارة هذا
الحديث.
إذن المنكر والشاذ لا ينفعان أبداً في هذا الباب، حتى ولو كان هذا
الحديث الذي يرويه ذلك الراوي الذي رواه هو من جملة الثقات بعد أن ترجح
لدينا أنه أخطأ.(1/184)
قيل جيئ إلى الإمام عبد الله بن المبارك، فقيل له: إن من بعض أصحابنا
رجل يسمى حبيب المالكي، وأخذ طلبة ابن المبارك يثنون على هذا الرجل،
وابن المبارك لا يعرفه، ثم قالوا: إنه جاءنا بحديث غريب، فقال ما هو؟
فذكروه له، فقال: هذا الحديث لا يأتي إلا من رجل ضعيف، فقيل يا إمام
هو، وهو، وأخذوا يبالغون في الثناء عليه، فقال ابن المبارك «عافاه الله
من كل مكروه وسوء، إلا في هذا الحديث، فهذا الحديث خطأ لا محالة » فهذا
يدلك على مفهوم أهل العلم، بأن الحديث قد يكون خطأ والراوي ثقة.
الإمام ابن معين -رحمه الله تعالى- قيل له: ماذا تقول في نعيم بن حماد؟
قال هو ثقة. فقيل له فماذا تقول في الحديث الذي يرويه في ذم القياس؟
قال هذا حديث باطل. فقال السائل كيف يجيء ثقة بباطل؟ قال ابن معين:
«شبه عليه». يعني أخطأ عن غير قصد.
وقيل للإمام ابن معين أيضاً -رحمه الله تعالى- ماذا تقول في أصبغ بن
زيد؟ قال: « أصبغ بن زيد، لا بأس به» أي ثقة « أصبغ بن زيد لا بأس به،
ولا أحسب حديث الفتون حقاً » حديث الفتون حديث يرويه أصبغ بن زيد
متفرداً به في قصة طويلة، تشتمل على كل تفاصيل قصة موسى وفرعون، يذكرها
المفسرون عادة، في تفسير قوله تعالى: ? وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا ? [طه: 40] قصة طويلة جداً رواها النسائي في كتاب التفسير من سننه، في نحو
خمسة عشر صفحة، فيها تفاصيل مملة، تفاصيل في غاية التفصيل، متعلقة بهذه
القصة فيرى العلماء أنها خطأ، وأن الصواب أنها من الإسرائيليات، وليست
محفوظة عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، فالإمام وثق الراوي،
ثم قال: ولا أحسب هذا الحديث الذي يرويه صواباً أو حقاً، فرغم أنه وثقه
ضعف هذا الحديث من حديثه.
قال المصنف -رحمه الله تعالى- (قال: القسم الثاني: أن يكون راويه من
المشهورين بالصدق والأمانة. ولم يبلغ درجة رجال الصحيح في الحفظ
والإتقان، ولا يعد ما ينفرد به منكراً ولا يكون المتن شاذاً ولا(1/185)
معللاً. قال: وعلى هذا يتنزل كلام الخطابي، قال: والذي ذكرناه يجمع بين
كلاميهم).
ذكر النوع الثاني الإمام الحافظ ابن الصلاح، ذكر النوع الثاني من
الحسن، وهو الحسن لذاته، وهو الذي يرويه راوٍ صدوق، راوٍ معروف بالصدق
والأمانة، لكنه لم يبلغ في الحفظ والإتقان مبلغ راوي الحديث الصحيح،
فهذا أيضاً يعد حديثه من قسم الحسن، ويكون من النوع المسمى بالحسن
لذاته، فإذا وجدنا مع ذلك روايات أخرى انضمت إلى هذه الرواية، فهي
ترقيه أكثر إلى مرتبة الصحيح، فيكون حينئذٍ من قسم الصحيح لغيره، وكل
ذلك إنما يكون حيث يكون الحديث سالماً من الشذوذ، سالماً من العلة،
سالماً من النكارة، أما إذا كان الراوي صدوقاً، ومع ذلك حديثه خطأ،
شاذ، أو منكراً، أو معلل، فحينئذ لا ينفع هذا الحديث ولا يكون من جنس
الحسن بحال من الأحوال.
قال المصنف -رحمه الله تعالى- (قال الشيخ أبو عمرو: "لا يلزم من ورود
الحديث من طرق متعددة كحديث: (الأذنان من الرأس) أن يكون حسناً؛ لأن
الضعف يتفاوت، فمنه ما لا يزول بالمتابعات، يعني لا يؤثر كونه تابعاً
أو متبوعاً، كرواية الكذابين والمتروكين، ومنه ضعف يزول بالمتابعة كما
إذا كان راويه سيء الحفظ، أو روى الحديث مرسلاً، فإن المتابعة تنفع
حينئذٍ، وترفع الحديث عن حضيض الضعف إلى أوج الحسن أو الصحة. والله
أعلم).
بطبيعة الحال الإمام الحافظ ابن الصلاح لخص ما تضمنه كلام الخطابي
وكلام الترمذي -رحمهما الله تعالى- في تعريفهما للحديث الحسن، وأن ليس
كل رواية تجيء للحديث تنفع الحديث، بل لابد أن تكون هذه الروايات سالمة
من الضعف الشديد، من أن يكون الراوي متهماً بالكذب، أو شديد الغفلة،
وسالمة أيضاً من أن يكون الحديث شاذاً أو منكراً، فإذا كان الحديث
كذلك، أو الرواية كذلك، فانضمام هذه الروايات بعضها إلى بعض، ينفع
الحديث ويرقيه -إن شاء الله تعالى- من الضعف الذي ران على بعض أسانيده(1/186)
إلى الحسن لغيره، الذي هو باب من أبواب الحسن، ويكون من قبيل الحديث
المحتج به حينئذٍ.
هذا الكلام كل حديث من الأحاديث لابد لك أن تحقق فيه هل فعلاً تحقق فيه
الوصف الذي ذكره الأئمة أم لا؟ هل فعلاً الراوي ضعفه شديد أم ليس
شديداً؟ هل الحديث سالم من الشذوذ أم ليس سالماً من الشذوذ؟ وهذا يحتاج
منك الرجوع إلى أهل العلم، والاهتمام بأقوالهم وأحكامهم على الأحاديث،
لتنتفع بذلك في تمييز الأحاديث التي تصلح للحسن والتي لا تصلح. والله
أعلم.
وردتنا إجابات عدة على أسئلة الحلقة الماضية: وكان السؤال الأول: اذكر
مثالاً للحسن المعنوي في الإسناد وآخر في المتن؟
وكانت الإجابة: من أمثلة الحسن المعنوي اللغوي في الإسناد: يطلقونه
أحياناً على الغريب، وهو: ما تفرد به راوٍ لم يروه غيره. ومن هذا قول
إبراهيم بن يزيد النخعي: كانوا إذا جلسوا كرهوا أن يخرج الرجل حسان أو
أحسن ما عنده، يريد بذلك الغرائب لاشتمالها على كثير من الضعيف.
السؤال الثاني: اذكر مثالاً يتضح به حاجة الحسن إلى معرفة علل
الحديث؟
وكانت الإجابة: يجب أن يكون الباحث لمعرفة الحسن عالماً بعلل الحديث من
قلب وتحريف وغيرها، وتتضح تلك الحاجة في حديث: ( كنا نؤديه ) فحرفت إلى
(كنا نورثه) يعني هذه إجابة دالة على المقصود -إن شاء الله تعالى-.
يقول: ذكرتم فضيلتكم في الحلقة الماضية حاجة الحديث الحسن لغيره من
أنواع علوم الحديث، فهل هذا في الحسن فقط، يعني هل يحتاج الصحيح
والضعيف إلى معرفة هذه العلوم أيضاً والعلل؟
بطبيعة الحال العلة حيث تقع أو الشذوذ حيث يقع في الرواية، فهو يقدح في
الرواية سواء كان راويها من رواة الصحيح، أو راويها من رواة الحديث
الحسن، فكل ذلك يؤثر قدحاً في الرواية، وإنما تكلمنا عن الحديث الحسن
بخصوصه، وبيان حاجته إلى هذه الأشياء؛ لأن أكثر الذين يشتغلون بالحديث
الحسن، ويتعرضون للحكم على الأحاديث بكونها حسنة، لا يلتفون إلى تلك(1/187)
العلل الخفية، وما يقدح فيها من شذوذ أو نكارة، أو إعلال؛ فلهذا كان
لابد لنا من الإشارة إلى هذا الأمر، والتنويه عليه، حتى يكون في ذلك
تبصرة لإخواننا من المشتغلين بطلب العلم.
كنت ذكرت في اللقاء الماضي أن كون الحديث الحسن وسطاً بين الضعيف
والصحيح، يصعب من حده وضبطه، ثم شرحتم لنا اليوم عدة تعريفات للحديث
الحسن، هل تجدون فيها اختلافاً مؤثراً بين هذه التعريفات، وإن كان هناك
اختلاف فأي هذه التعريفات تختارونها، كأقرب ما يكون لحد للحديث الحسن
حداً جامعاً مانعاً في نظركم؟
هناك كما سمعنا من أهل العلم من ذهب إلى أن كلام الخطابي يتنزل على نوع
الحسن لذاته، وأن كلام الترمذي إنما يتنزل على نوع الحسن لغيره، لكن
هناك من أهل العلم من رأى أن الحسن سواء كان في كلام الخطابي أو في
كلام الترمذي إنما يتنزل على الحسن لغيره، وليس على الحسن لذاته؛ لأن
قول الإمام الخطابي -رحمه الله تبارك وتعالى - "ما عرف مخرجه".
ونحن بينا أن الذي عرف مخرجه، هو الذي لا يكون شاذاً ولا منكراً، وإنما
ذلك مثل قول الترمذي -رحمه الله تعالى- «ولا يكون الحديث شاذاً»؛ لأن
كون الحديث شاذاً معناه: أنه غير معروف المخرج. فإذا عرف مخرجه فليس هو
بشاذ، فصارت عبارة الترمذي وعبارة الخطابي في هذا الفصل بمعنى واحد،
وإن اختلفت الألفاظ، وقول الإمام الخطابي ما اشتهر رجاله هو مثل قول
الإمام الترمذي -رحمه الله تعالى-: «ألا يكون راويه متهماً بالكذب»
فذهب بعض أهل العلم إلى أن كلام الخطابي وكلام الترمذي -رحمهما الله
تعالى- إنما يصب في مكان واحد، وفي معنى واحد، وهو الذي يتنزل على
الحديث الحسن لغيره، إذن من أين أخذنا الحسن لذاته؟ أخذنا الحسن لذاته
من عبارة الخطابي، وإن وافقت عبارة الترمذي من هذه الحيثية، إلا أنها
أعم، فتشمل الحسن لذاته، وإن كان يصدق عليها ما يصدق على كلام الترمذي
من شمولها للحسن لغيره؛ لأن الراوي الصدوق المعروف بالصدق والأمانة،(1/188)
هذا راوٍ مشهور الحديث، وهو راوٍ معروف، راوٍ اشتهر بين الرواة، ومعروف
أن الحديث الحسن لذاته أيضاً لابد أن يكون معروف المخرج، أي ليس شاذاً
ولا منكراً، ولا معلولاً، فصارت عبارة الخطابي أعم من أن تكون دالة على
ما دل عليه كلام الإمام الترمذي، فهي وإن كانت توافق كلام الترمذي من
جهة، فهي أعم من ذلك فتشمل أيضاً نوع الحسن لذاته هذا من جانب.
من جانب آخر وهو أننا قد عرفنا من قبل أن هناك من أهل العلم من يجعل
الحسن لذاته قسماً من الصحيح، ولا يحتاج إلى تقسيم الحسن إلى نوعين،
فكل ما كان حسناً لذاته، هو يصدق عليه وصف الصحة عنده؛ ولهذا وجدنا في
الصحيحين أحاديث إذا نظرنا إلى إسنادها نظرة مجردة نجدها مشتملة على
راوٍ معروف بالصدق والأمانة، ولم يبلغ في الحفظ والإتقان مبلغ راوي
الحديث الصحيح، ومع ذلك أخرج البخاري ومسلم لهؤلاء الرواة، ما ترجح
لديهما أنه أصاب فيه ولم يخطيء، أي ليس من شاذ حديثه، ولا من مناكير
أحاديثه، ولا من أخطائه التي ربما تكون قد وقعت في بعض الروايات من هذه
الحيثية، من فرق إنما أراد بالحسن حيث يكون الحسن ناشئاً عن انضمام
رواية بعضها إلى بعض، والحسن الذاتي عنده هو داخل في مراتب الصحيح،
ونحن تكلمنا في لقاء ماضٍ بأن كل ذلك يسمى مقبولاً أو يسمى صحيحاً إن
توسعنا في استعمال مصطلح الصحيح وأردنا بالصحيح ها هنا كل ما يصلح
لإقامة الحجة. والله أعلم.
ما السبب في رأيكم الذي أدى إلى التساهل في تحسين الحديث، هل السبب
مثلاً ضعف الاطلاع على كتب العلل أم ماذا؟
التساهل في تحسين الأحاديث، ليس مختصاً بالتحسين الذين يتساهلون
يتساهلون في التصحيح، كما يتساهلون في التحسين، ولكن لماذا كثر التساهل
في التحسين أكثر من التساهل في التصحيح؟ كثر ذلك؛ لأن التحسين كما
عرفنا، وكما ظهر لنا، من خلال هذا الدرس، والدرس الماضي، يتطلب معرفة
كبيرة جداً بخفايا علل الأحاديث لكل رواية من تلك الروايات، التي انضم(1/189)
بعضها إلى بعض، هل هذه الرواية فعلاً تصلح للتقوية أو لا تصلح للتقوية؟
هل تحقق في راويها الوصف الذي ينبغي أن يتحقق في وصف راوي الحديث الذي
يصلح للاعتبار والاستشهاد أم لا؟ هل الحديث سالم من الشذوذ أم ليس سالم
من الشذوذ؟ ومعلوم أن دقائق علل الأحاديث التي نعرف من خلالها إن كان
الحديث شاذاً أو ليس شاذاً، معلولاً أو ليس معلولاً، إنما يختص به
العلماء الكبار النقاد الكبار الحفاظ -رحمهم الله تعالى-، وهؤلاء قلة
في كل زمان ومكان؛ فلهذا تجد أن هذا التساهل في الأعم الأغلب عند من لم
يتوسع في علل الأحاديث، ومن لم يعرف مناهج العلماء، ومسالكهم -رحمهم
الله تعالى- في إداركهم العلة في الروايات، لا سيما العلل الخفية التي
لا يدركها إلا كبار الحفاظ، فلما ضعفت الهمم، وقل العلم بمعرفة أخطاء
الروايات، وصوابها تساهل من تساهل، لما اكتفى بظاهر السند، ينظر في
الإسناد فيقول: هذا إسناد رجاله لا بأس بهم، هذا إسناد ليس فيه ما يدعو
إلى رده، إلا مثلاً سوء حفظ بعض الرواة، أو إرسال وقع في بعض الروايات،
فيعمد إلى جمع روايات من هنا ومن هناك، ليقوي الحديث بمجموع هذه
الروايات، ولا يتأمل هذه الروايات رواية رواية، فقد تكون هذه الروايات
في بعضها ما هو شاذ، في بعضها ما هو منكر، في بعضها ما رواه راو ضعيف
جداً، شديد الضعف، لا يتأمل ذلك، ولا يلاحظه ولا يهتم به، ولا يعتني به
كما ينبغي، فينتج عن ذلك تساهل حيث يقوي هذه الروايات بعضها ببعض، من
غير اعتبار لما قرره علماء المصطلح، من أن الرواية لكي تتقوى لابد أن
يكون ضعفها هيناً سواء كان الضعف متعلقاً بالراوي أو الرواية. والله
أعلم.
السؤال الأول: ما معنى مخرج الحديث، ومتى يكون معروفاً؟
السؤال الثاني: هل الحديث الشاذ يصلح لأن يتقوى بغيره؟
أعلى الصفحة
الرئيسة ????? ?????????? ????? ???? ?????????? ?????? ???????
???? ?????? - ??????? ??????(1/190)
المؤلف: ????? ?????/ ???? ?? ??? ????
الوصف: ?????? ??????? ????? ???? ?????? -??????? ?????? - ??? ?????? ???? ?????? ?????? ??? ????
ارسل الصفحة لصديق
معاينة طباعة الصفحة
رؤية مكبرة
--------------------------------------------------------------------------------
الدرس الثامن
الكتب التي هي من مظنة وجود الحديث الحسن
إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور
أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي
له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده، لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده
ورسوله، وبعد:
ما زلنا مع الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى- في نوع الحديث الحسن،
النوع الثاني من كتاب اختصار علوم الحديث، وتناولنا في اللقائين
السابقين بعض المسائل التي من شأن علماء الحديث أن يذكروها في هذا
النوع، وبقيت عدة مسائل سنتناولها -إن شاء الله تعالى- ونأتي عليها -
بإذن الله تعالى- في هذه المرة، وهذه النتائج الآتية كلها تدور حول
الكتب التي هي من مظنة وجود الحديث الحسن فيها، فيتناول المؤلف كتاباً
كتاباً من هذه الكتب لمعرفة منهج صاحبه، ونوع الحديث فيه، ودرجة
الأحاديث التي أدخلها في كل باب من أبواب كتابه هذا.
وقبل أن نتناول شرح الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى- لهذه المسائل
ألفت نظر الإخوة، أنه في الدرس القبل الماضي ذكرت حديثاً عن الإمام ابن
عبد البر -رحمه الله تعالى- يرويه بعض الضعفاء، عن مالك، عن نافع، عن
ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-
قال: ( من قال في يوم مائة مرة لا إله إلا الله الحق المبين ) ذكرته،
وذكرت أن الإمام ابن عبد البر وصف هذا الحديث بكونه حسناً، مع أنه ضعيف
إسناده، وذكر أنه لم يرويه عن مالك من يوثق به، وليس هو معروفاً من
حديث مالك، وهذا كلام صحيح، وذكرنا في غضون ذلك أن الإمام ابن عبد(1/191)
البر، إنما أطلق الحسن ها هنا على المعنى اللغوي، وليس على المعنى
الاصطلاحي، لكن في غضون ذلك ذكرت بقية متن الحديث، فاشتبه علي متن
بمتن، وإنما متن الحديث على الصواب هو: (من قال في يوم مائة مرة، لا
إله إلا الله، الحق المبين، كان له أماناً من الفقر، وأنساً من وحشة
القبر، واستجلب بها الغنى، واستقرع بها باب الجنة ) أما اللفظ الآخر
الذي سقته وقتئذ فهو في قصة أخرى تروي أو تحكى في مناسبة، وقعت للإمام
أحمد -رحمه الله تعالى- وللإمام يحيى بن معين لعلنا نذكرها - إن شاء
الله تعالى- في أقرب مناسبة، نعود إلى الكتاب بإذن الله تعالى أول فصل
من الفصول المتعلقة بالكتب التي من مظنة وجود الحديث الحسن فيها، وهو
كتاب سنن الترمذي -رحمه الله تبارك وتعالى -.
الترمذي أصل في معرفة الحديث الحسن
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (الترمذي أصل في معرفة الحديث الحسن.
قال: وكتاب الترمذي أصل في معرفة الحديث الحسن، وهو الذي نوه بذكره،
ويوجد في كلام غيره من مشايخه، كأحمد والبخاري، وكذا من بعده
كالدارقطني.)
يشير الإمام ابن كثير -رحمه الله تعالى- في هذا الفصل إلى أن الإمام
الترمذي في كتابه الجامع المعروف أكثر من استعمال الحديث الحسن، فهو
يصف الحديث في كتابه هذا كثيراً ما يقول: "حسن" أو "حسن صحيح" أو "حسن
غريب" أو "حسن صحيح غريب"، فالإمام الترمذي من هذه الحيثية يعد الإمام
الأول الذي شهر هذا النوع من الحديث، وليس هو أول من استعمله، فقد
استعمله علماء قبله، كالإمام أحمد بن حنبل، وكالإمام البخاري -رحمهما
الله تعالى- وغيرهما، من العلماء الذين كانوا قبل الإمام الترمذي،
وأيضاً يوجد في كلام غير هؤلاء، ممن جاء بعد الإمام الترمذي، كالإمام
الدارقطني -رحمه الله تعالى- في كتابه السنن، فكثيراً ما يقول: "هذا
حديث حسن"، لكن ليس كل المواضع التي أطلق فيها هؤلاء العلماء سواء من(1/192)
كان منهم قبل الإمام الترمذي أو من جاء بعد الإمام الترمذي، ليس دائماً
يقصدون بالحسن حيث أطلقوه على بعض الأحاديث، المعنى الاصطلاحي الذي
عرفناه في اللقائين السابقين، أعني الحسن لذاته، أو الحسن لغيره، وإنما
أحياناً يقصدون هذا، الحسن لذاته والحسن لغيره، وأحياناً يريدون الحسن
اللغوي، أو الحسن المعنوي الذي شرحناه في اللقاء قبل الماضي، فليتنبه
لهذا فإن هذا مما يغفل عنه كثير من طلبة العلم.
أبو داود من مظان الحديث الحسن
قال المصنف -رحمه الله تعالى- (أبو داود من مظان الحديث الحسن. قال:
ومن مظانه سنن أبي داود، روينا عنه أنه قال: ذكرت الصحيح وما يشبهه
ويقاربه، وما كان فيه وهم شديد بينته، وما لم أذكر فيه شيء، فهو صالح،
وبعضها أصح من بعض، قال: وروي عنه أنه يذكر في كل باب أصح ما عرفه فيه.
قلت: ويروى عنه أنه قال:
وما سكت عنه فهو حسن)
هذا الفصل من هذا الباب يتناول فيه الإمام ابن كثير -رحمه الله تعالى-
كتاباً آخر من الكتب التي يظن وجود الحديث الحسن فيها أيضاً بكثرة، وهو
كتاب سنن أبي داود -رحمه الله تعالى- بطبيعة الحال يعرف ذلك من تتبع
أحاديث الكتاب، فكثير من الأحاديث التي يخرجها الإمام أبو داود -رحمه
الله تعالى- في هذا الكتاب يصدق عليها وصف الحديث الحسن سواء كان لذاته
أم لغيره، إضافة إلى ما قد روي عن الإمام أبي داود -رحمه الله تعالى-
مما يشير إلى هذا فإنه -رحمه الله تعالى- قال في رسالته إلى أهل مكة
بشأن كتابه السنن: " ذكرت في كتابي هذا الصحيح وما يشبهه ويقاربه" أي
يشابهه ويقاربه، قالوا: الذي يشبه الصحيح هو الحسن؛ لأنه هو القريب من
الصحيح، فمن هذه الحيثية أو من هذه العبارة نستطيع أن نفهم أن كتاب
السنن للإمام أبي داود -رحمه الله تعالى- مشتمل على الأحاديث الحسان،
كما هو مشتمل على الأحاديث الصحيحة، ثم قال: " وما كان فيه وهن شديد(1/193)
بينته، وفي موضع قال: " فما كان منكراً بينته" هاتان العباراتان وردتا
في رسالته إلى أهل مكة.
وما لم أذكر فيه شيئاً، أي وما سكت عنه، ولم يتكلم فيه بتصحيح أو
بتضعيف، بتعديل أو بتجريح، وما سكت عنه فهو صالح، وبعضها أصح من بعض،
يعني أن الإمام أبو داود -عليه رحمة الله تعالى- اشتمل كتابه حينما
نقول: اشتمل كتابه أي كل باب من أبواب كتابه، وليس يقصد من ذلك الكتاب
عموماً، وإنما هو يخرج في كل باب من أبواب كتابه أصح ما عنده كما جاء
في العبارة التي بعد ذلك، حيث روي عنه أنه يذكر في كل باب أصح ما عرف
فيه، فهو يذكر في كل باب من أبواب كتابه التي ترجم بها في الكتاب أصح
ما يجده في هذا الباب، فإن وجد الحديث صحيح فهذا أفضل شيء، فإن لم يجد
الصحيح فالحسن، فإن لم يجد الحسن فالضعيف الذي ضعفه ليس شديداً، لا
سيما إذا كان مؤيداً باتصال عمل، أو بموافقة قياس، أو أخذاً بالاحتياط،
أو نحو ذلك، فكل ذلك يجعل الحديث معمولاً به، وإن لم يكن العمل به
معتمداً على الحديث نفسه، ولكن مجموع ذلك يعطي حجة وقوة للحديث.
وبعض أهل العلم يقوي الحديث كالإمام الشافعي -عليه رحمة الله تعالى-
ويجعله في مصاف الحجة إذا وافقه اتصال علم، إذا وافقه فتوى بعض الصحابة
الكرام، أو عمل عامة أهل العلم، فكل ذلك إذا انضم إلى الحديث فإنما يدل
على صحة المعنى الذي تضمنه ذلك الحديث، حتى وإن كان الحديث نفسه فيه
نوع ضعف مما لا يكون راجعاً إلى كذب الراوي، أو تهمته بالكذب، أو شدة
غفلته، ولا يكون أيضاً راجعاً إلى شذوذ الرواية، أو نكارتها.
فالإمام أبو داود -عليه رحمة الله تعالى- كتابه يشتمل على الصحيح، أو
أبواب كتابه تشتمل على الصحيح، فإن وجد الصحيح فبها ونعمت، أو الحسن،
فإن لم يجد لا صحيحاً ولا حسناً في الباب خرَّج ما هو دون ذلك مما فيه
ضعف هين، فإن لم يجد ذلك فإن ذكر الضعيف جداً بينه، ولا يسكت عنه، بل(1/194)
يذكر عقب الحديث ما فيه من علة قادحة، أو ما فيه من ضعيف شديد يقدح
فيه.
لماذا يذكر الإمام أبو داود -عليه رحمة الله تعالى- تلك الأحاديث شديدة
الضعف، ثم يذهب فيبين ما فيها من ضعف؟ له أغراضه، وهذه الأغراض يعرفها
الممارس للكتاب، من ذلك مثلاً: أن يكون ذلك الحديث قد احتج به بعض أهل
العلم، فهو يذكره حتى لا يقال إنه خفي عليه، أو غفل عنه، أو لم يتنبه
له، فيذكره ثم يذكر ما فيه من ضعف، وعلة قادحة تقدح في صحته، أو تقدح
في الاحتحاج به.
فإذن هذا معنى مفيد أن أذكر الشيء الخطأ، أو الشيء الضعيف، أو الشيء
الذي لا ينبغي أن يحتج به، حيث احتج به بعض الناس فأذكره؛ لأنبه إلى ما
فيه من ضعف، فهذه فائدة. فذكر ذلك مع التنبيه على ضعفه أفضل من السكوت
عنه.
اشتمل كتاب السنن للإمام أبي داود على هذه الأحاديث كلها، وذكر أنه
يتكلم فقط -رحمه الله تعالى- على ما فيه ضعف شديد، فما فيه ضعف شديد
تجد كلام الإمام عليه، فبقية الأحاديث من أي المراتب إذن؟ إن بقية
الأحاديث بعضها صحيح، وبعضها حسن، وبعضها ضعيف منجبر، قد يصل إلى رتبة
الحسن لغيره، أو قد يكون من الضعيف الذي يعمل به عند الإمام أبي داود؛
لأن الإمام أبي داود -عليه رحمة الله تعالى- كشيخه الإمام أحمد ابن
حنبل، كان يعمل بالحديث الضعيف إذا لم يكن في الحديث ما يعارضه، أو
يخالفه مما يكون أقوى منه، وكان يقدم الحديث الضعيف على القياس، كما
جاء عن الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله تعالى- حينما قال لابنه عبد
الله: « يا بني اعرف طريقتي في العلم لست أخالف ما ضعف، إذا لم يكن في
الباب ما يعارضه » وكان -رحمه الله تعالى- من شدة اتباعه للأثر يقول: «
لا تجد أحداً يقول بالرأي، إلا وفي قلبه دغل، ولضعيف الحديث أحب إلي من
رأي الرجال». الإمام أبو داود سلك في ذلك مسلك شيخه الإمام أحمد بن
حنبل -رحمه الله تعالى-، وأنه إذا لم يجد لا صحيحاً في الباب، ولا(1/195)
حسناً، ولا ما يكون منجبراً بالروايات المرفوعة، لكنه وجده حديثاً، قد
يكون ضعيفاً من حيث الإسناد، ولكنه مؤيداً بعمل الصحابة، أو بعمل جمهور
أهل العلم، أو موافق للقياس، أو فيه نوع احتياط، فقد يخرجه استغناءً به
عن أن يلجأ إلى القياس، أو يلجأ إلى الرأي، فكل ذلك داخل عند الإمام
أبي داود في مصاف الحجة.
وهناك من أهل العلم من يعد ذلك أصلاً من الحسن. فيعتبر مثل هذه
الأحاديث نوعاً من أنواع الحسن، يدرج تحت قسم الحسن لغيره، وأشرنا إلى
ذلك في لقاءات سابقة، فما دام أن الإمام أبو داود يسكت عن هذه الأحاديث
كلها، يسكت عن الصحيح، فيخرج الصحيح ساكتاً عليه، يسكت عن الحسن، فهو
يخرج الحسن ساكتاً عليه، يسكت عن الضعيف المنجبر، أو المحتج به، أو
المعمول به ساكتاً عليه، فكيف نفهم مرتبة الحديث عند الإمام أبي داود
من مجرد تخريجه للحديث في الكتاب؟ وهو لا يتكلم أو يذكر الحكم إلا فيما
كان ضعفه شديداً، فإن سكت فبعض ما سكت عنه هو صحيح، وبعض ما سكت عنه هو
حسن، وبعض ما سكت عنه هو من الضعيف المعمول به عند الفقهاء.
فمن أجل هذا وجدنا كلام ابن الصلاح الآتي يبين لنا الطريق إلى معرفة
حكم تلك الأحاديث التي حكم عليها، وخرجها الإمام أبو داود في كتابه
السنن. فقال:
قال المصنف -رحمه الله تعالى- (قال ابن الصلاح: فما وجدناه في كتابه
مذكوراً مطلقاً، وليس في واحد من الصحيحين، ولا نص على صحته أحد، فهو
حسن عند أبي داود)
الإمام ابن الصلاح -رحمه الله تعالى- هنا يتكلم عن معرفة حكم الإمام
أبي دواود على تلك الأحاديث التي أودعها كتابه، ولم يتكلم عليها بجرح
شديد ولا بتضعيف شديد، وقد قلنا: إن بعضها ما هو صحيح، وبعضها ما هو
حسن، وبعضها ما هو دون ذلك، ماذا أراد الإمام أبو داود من هذه
الأحاديث؟ ما هي درجة كل حديث من تلك الأحاديث التي سكت عنها الإمام
أبو داود؟ فقد عرفنا أن بعضها صحيح، وبعضها ما هو حسن، وبعضها ما هو
دون ذلك.(1/196)
ومجرد سكوته لا يشير إلى منزلة الحديث؛ لأنه سكت عن الصحيح والحسن وما
دون الحسن، فالإمام ابن الصلاح -رحمه الله تعالى- يقول: إذا وجدنا
الحديث مذكوراً في سنن أبي داود، ووجدنا في الصحيحين، أو أحدهما، فنعلم
أنه من الصحيح, يعني كأن الإمام ابن الصلاح يسترشد بصنيع العلماء
الآخرين لمعرفة درجة الحديث عند الإمام أبي داود، وهذا مسلك صحيح، فإن
الأصل أن العلماء يتفقون ولا يختلفون، وحمل كلام الأئمة على الاتفاق
أولى من حمله على الاختلاف، ما كان هناك من سبيل إلى ذلك.
فإذا وجدنا الحديث في الصحيحين أو أحدهما، أو أحد من نقاد العلم قد نص
على صحته كالإمام أحمد مثلاً، ابن معين، الدارقطني، هؤلاء الأئمة
الكبار وجدنا من أن هؤلاء العلماء من نص على كون ذلك الحديث صحيحاً
عرفنا أنه من مرتبة الصحيح عند الإمام أبي داود.
لكنه قال: فهو حسن عند أبي داود، ولم يقل فهو صحيح، وإنما قال: فهو
حسن، لماذا قال فهو حسن؟ العلماء قالوا: إنما أراد ابن الصلاح بجعله في
مرتبة الحسن مع أنه قد يكون منه ما هو صحيح، أخذاً بالأحوط، وحكماً
بالمتيقن؛ لأن هذه الأحاديث التي سكت عليها أبو داود -رحمه الله تبارك
وتعالى - منها ما هو صحيح، ومنها ما هو حسن، ومنها ما هو دون الحسن،
فلا نستطيع أن نقول: إن هذا الحديث بعينه عند أبي داود صحيح، قد يكون
حسناً، قد يكون دون الحسن، فاسترشدنا بصنيع الأئمة الآخرين، وحكمنا على
الحديث بالحسن احتياطاً؛ لأن الحسن داخلٌ في الصحيح، وإن كان من أدنى
مراتب الصحيح، فكون الحديث داخلاً في الحديث المقبول، هذا لا غبار
عليه، بدليل أنه قد صححه الأئمة الآخرون.
إذن فهو دخل في حيز القبول، لكن هو من أعلى درجات القبول أم من أدناها؟
أخذنا بالأحوط، وأثبتنا له أدنى درجات القبول، اللهم إلا أن يظهر دليل
آخر، يبين أن هذا الحديث من أعلى درجات المقبول.
وهذا الموضع من المواضع التي أنكر على الإمام ابن الصلاح، وعيب عليه(1/197)
ذلك، بأنه قد يكون هذا الحديث عنده صحيحاً، عند الإمام أبي داود قد
يكون هذا الحديث عنده صحيحاً، ولكن أجاب الحافظ العراقي عن ابن الصلاح
بأنه إنما أخذ بالأحوط، وحكم بالحكم المتيقن، بأن الحسن هو أقل ما يمكن
أن نتيقن من صفة نلصقها بذلك الحديث، فنحن بعد أن عرفنا أن الحديث قد
صححه الأئمة الآخرون، عرفنا أنه داخل في حيز القبول، لكن لا نستطيع أن
نجزم بكونه من أعلى درجات القبول أو من أدناها عند الإمام أبي داود،
فمن أجل هذا أخذنا بالأحوط، وأثبتنا درجة الدنيا، فإن جاء دليل خارج
يبين لنا الدرجة العليا، واشتمال هذا الحديث على الدرجة العليا من
درجات القبول، أخذنا بذلك لا لمجرد سكوت الإمام أبي داود.
أيضاً ينبغي أن يتنبه، ويعرف أن كلام الإمام ها هنا أعني ابن الصلاح
خاص بتحرير معنى ما أراده الإمام أبو داود -عليه رحمة الله تعالى- من
سكوته، حول هذه الأحاديث، لا أن هذا اختيار الإمام ابن الصلاح نفسه،
ابن الصلاح يقصد من هذا أن هذه الأحاديث عندي حسنة، ولم يقصد أنها حسنة
عند أبي داود، فهذا الذي يدل عليه صنيعه ويدل عليه كلامه.
أما درجتها عند ابن الصلاح وغيره من أهل العلم، فهذا أمر آخر، فقد يكون
الحديث حسناً عند أبي داود، صحيحاً عند البخاري، قد يكون حسناً عند أبي
داود، صحيحاً عند الترمذي، وهكذا، فالإمام ابن الصلاح ها هنا لا يذكر
حكماً نهائياً على الحديث، وإنما يحرر الحكم الذي يفهم من صنيع الإمام
أبي داود، وإدخاله لهذا الحديث في هذا الباب، من كتابه، مع ما جاء من
كلامه، أنه يسكت عن الصحيح والحسن، وما هو دون الحسن هنا، نستطيع أن
نقول: هذا الحديث عند الإمام أبي داود حسن، لكن قد يكون صحيحاً لأدلة
أخرى، أو عند غيره من العلماء، وهذا ما أشار إليه الإمام ابن الصلاح
-رحمه الله تعالى- فبعد ما قال ما لخصه الإمام ابن كثير، قال: " وقد
يكون في ذلك ما ليس بحسن عند غيره" يعني قد يكون غيره يرى أن الحديث(1/198)
فوق الحسن، أو دون الحسن، وهذه مسائل اجتهادية، تختلف فيها أنظار
العلماء، "ولا مندرج فيما حققنا ضبط الحسن به على ما سبق".
طبعاً سبق أن الحسن نوعان: حسن لذاته وحسن لغيره، وهذا يؤكد أن الإمام
ابن الصلاح ها هنا يحرر درجة هذه الأحاديث عند أبي داود، وليس كحكم
نهائي على تلك الأحاديث عند أبي داود وغيره من أهل العلم.
قال المصنف -رحمه الله تعالى- ( قلت: الروايات عن أبي داود بكتابه
السنن كثيرة جداً، ويوجد في بعضها من الكلام، بل والأحاديث، ما ليس في
الأخرى. ولأبي عُبيد الآجري عنه أسئلة في الجرح والتعديل، والتصحيح
والتعليل، كتاب مفيد. ومن ذلك أحادث ورجال قد ذكرها في سننه. فقوله:
«وما سكت عليه فهو حسن»:- ما سكت عليه في سننه فقط ؟ أو مطلقاً ؟ هذا
مما ينبغي التنبيه عليه والتيقظ له )
يشير الإمام ابن كثير -رحمه الله تعالى- إلى أن كتاب السنن للإمام أبي
داود، هو روايات، فهذا الكتاب ليس رواية واحدة، عن الإمام أبي داود، بل
روى الكتاب، عن الإمام أبي داود جماعة من أصحاب الإمام أبي داود، وفي
كل رواية من تلك الروايات زيادات لا توجد في بعض الرويات الأخرى، من
أقوال على الأحاديث بالتصحيح والتضعيف، ومن كلام بالجرح والتعديل، بل
وهناك أحاديث أخرى قد تتفرد بها بعض الروايات دون بعض.
فعندما يقول الإمام أبي داود -عليه رحمة الله تعالى-: "ما سكت عنه فهو
حسن" ما سكت عنه في رواية بعينها؟ أم في عموم الروايات؟ بطبيعة الحال
في عموم الروايات. ثم إن هناك أحاديث أخرى سئل عنها الإمام أبي داود
سأله عنها أبو عبيد الآجري - وهي كتاب مطبوع- سأله عن بعض الأحاديث،
وهي في سنن أبي داود، وقد سكت عنها في السنن، بينما أجاب أبوعبيد
الآجري عنها بما يفيد ضعفاً شديداً؛ ولأجل هذا قال العلماء: إننا لا
نستطيع أن نعتمد على مجرد سكوت الإمام أبي داود على الحديث في كتابه
السنن، أولاً؛ لاحتمال أن يكون هذا موجود في رواية دون رواية، قد يكون(1/199)
تكلم في رواية أخرى، فيظهر في الراوية التي لم يتكلم فيها أنه سكت عن
الحديث، ولم يتناوله بضعف، بينما هو قد تناوله بتضعيف سواء في رواية
أخرى من رويات السنن، أو في موضع آخر، حيث سأله بعض أصحابه عن بعض
الأحاديث أو بعض الرجال.
ولهذا وجدنا الإمام الذهبي -رحمه الله تعالى- وكذلك الإمام الحافظ ابن
حجر -رحمهما الله تعالى- قد قسما أحاديث سنن أبي داود إلى أنواع، وهذا
خلاصة ما في البحث:
القسم الأول: أحاديث هي صحيحة من أعلى درجات الصحة، وبعضها يوجد في
الصحيحين أيضاً.
القسم الثاني: ما هو صحيح أي تحقق فيه شرط الصحة، وليس هو في الصحيحين.
القسم الثالث: ما هو من قسم الحديث الحسن، سواء لذاته أو لغيره.
القسم الرابع: ما هو ضعيف، ولكنه معمول به في اجتهاد الإمام أبي داود،
لما انضم إليه من اتصال عمل أو نحو ذلك، كما أشرنا إلى ذلك آنفا.
القسم الخامس: ثم يأتي بعد ذلك الأحاديث الضعيفة جداً. ومنها ما يتكلم
عليه، ويتناوله بالتجريح والتضعيف، كما وعد بذلك هو، ومنها ما يسكت
عليه رغم أنه من الضعيف جداً.
يقول الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى- وكذلك الذهبي، وإنما يسكت عن
هذا النوع من الأحاديث مع كونه من الضعيف جداً، من شديد الضعف، لشهرة
كونه كذلك، كأن الإمام أبو داود يخاطب بهذا الكتاب درجة معينة من
الحفاظ والأئمة، وهو يعلم أن مثل هؤلاء الناس يعرفون هذه الأحاديث،
ويعرفون منزلتها، ومرتبتها، فلم يتكلم عن كل حديث اشتمل على ضعف شديد،
بل سكت عن بعض الأحاديث التي تضمنت أو اشتملت على ضعف شديد؛ لشهرة ذلك
الضعف، أو شهرة هذه الأحاديث بالضعف الشديد، عند الحفاظ، ونقاد العلم؛
فلهذا لا ينبغي أن تغتر بمجرد سكوت الإمام أبي داود -عليه رحمة الله
تعالى- على الحديث في كتابه السنن، فقد يكون من هذه الأحاديث التي سكت
عنها لكون ضعفها الشديد، مشهوراً معلوماً عند علماء الحديث.
كتاب المصابيح للبغوي(1/200)
قال المصنف -رحمه الله تعالى- (كتاب المصابيح للبغوي: قال وما يذكره
البغوي في كتابه المصابيح، من أن الصحيح ما أخرجاه، أو أحدهما، وأن
الحسن ما رواه أبو داود والترمذي وأشباههما، فهو اصطلاح خاص، لا يعرف
إلا له، وقد أنكر عليه النووي ذلك، لما في بعضها من الأحاديث
المنكرة.)
الإمام البغوي -رحمه الله تعالى- له كتاب اسمه مصابيح السنة، هذا
الكتاب في كل باب من أبوابه، تجد الإمام يقسم الأحاديث إلى صحاح وحسان
وغرائب، فيخرج الأحاديث الصحاح أولاً، ثم الحسان، ثم الغرائب.
واصطلح لنفسه أنه إذا قال الصحاح، فيقصد الأحاديث التي هي في الصحيحين
البخاري ومسلم. والحسان هي الأحاديث التي في سنن الترمذي وسنن أبي داود
وأمثالهما، كسنن النسائي مثلاً، فهذه يسميها حسان، أي يجعلها تحت نوع
الحسان. وبالغرائب ما دون ذلك.
وهذا مما عابه عليه بعض أهل العلم؛ لأنه معلوم أن هذه الكتب - أعني كتب
السنن- ليست فقط مشتملة على الحسان، بل مشتملة على الحسان من جهة، وعلى
الضعيف، والضعيف جداً، بل والمنكر أيضاً، فكيف جعل كل ذلك من قسم
الحسان، كيف جعل البغوي -رحمه الله تعالى- كل ذلك من قسم الحسان، فكان
هذا موضع إنكار أهل العلم -رحمهم الله تعالى- على الإمام البغوي.
لكن هناك من أجاب عن صنيع البغوي، بأنه وإن كان فعل ذلك، إلا أنه يميز
الأحاديث، ويبين مرتبتها في كل موضع، فإذا كان الحديث الذي هو من
السنن، فأدخله في قسم الحسان كان حديثاً يستحق الضعف، أو هو من الغريب،
فإنه يعلق على الحديث بما يفيد ذلك، مع أنه جعله من حيث الترتيب،
والتصنيف، جعله من قسم الحسن، فيقول مثلاً بعد أن يخرج حديثاً في
الحسان، وهو عنده حديث غريب، أو ضعيف، فيقول: هو غريب، أو وهو ضعيف،
ويعلق على الحديث بما يميزه عن بقية الأحاديث التي أدخلها مع في القسم.
فمن هذه الحيثية لا يعاب؛ لأنه بين اصطلاحه، ونحن قلنا في لقاءات سابقة(1/201)
"لا مشاحة في الاصطلاح" فإذا اصطلح الإمام لنفسه اصطلاحاً، ولم يَدَعِ
أنه اصطلاح عامة أهل العلم، وإنما هو اصطلاح خاص به، فإذا بيَّن هذا
المصطلح، ووضحه، وذكره، فلا يعاب عليه، إذا ما التزم السير على هذا
الاصطلاح الذي اختاره لنفسه.
مما يلفت النظر في هذا، أنك إذا نظرت إلى الأحاديث التي أدخلها الإمام
البغوي -رحمه الله تعالى- في قسم الحسان أخذاً من كونها في السنن،
لعلنا نلاحظ أن الإمام إنما حكم عليها بالحسن، كحكم تغليبي، يعني أغلب
الأحاديث التي في كتب السنن هذه هي من قسم الحسن، وإن كان مع ذلك قد
اشتملت السنة على أحاديث ضعيفة، وأحاديث غريبة، ومنها ما هو ضعيف جداً،
لكنه لما كان بمعرض التصنيف، أراد أن يميز من حيث الاصطلاح، بين ما في
الصحيحين، وما خارج الصحيحين، فنظر في أحاديث السنن التي هي خارج
الصحيحين، فوجد أنا الغالب عليها أنها من قسم الحسن، فأطلق ذلك الحكم،
ثم بين في كل حديث ما يستحقه ذلك الحديث من حكم، فإن كان من هذه
الحيثية فلا يعاب ذلك على الإمام البغوي -رحمه الله تعالى-.
صحة الإسناد لا يلزم منها صحة الحديث
قال المصنف -رحمه الله تعالى- (صحة الإسناد لا يلزم منها صحة الحديث.
قال: " والحكم بالصحة أو الحسن على الإسناد لا يلزم منه الحكم بذلك على
المتن، إذ قد يكون شاذاً أو معللاً )
نحن ذكرنا في تعريف الحديث الصحيح، أنه المتصل إسناده بنقل العدل
الضابط عن مثله إلى منتهاه من غير شذوذ أو علة، وذكرنا أيضاً في الحسن،
أن يكون سالماً من الشذوذ والعلة، فإذا ما وقفنا على إسناد رجاله ثقات
أو رجاله أهل صدق وأمانة، والإسناد ظاهر الاتصال، كل راوٍ روى عمن له
منه سماع، فالإسناد من حيث الظاهر متصل، والرجال كذلك ثقات، فهذا
الإسناد إن نظرنا إليه هذه النظرة السطحية، فنحن نقول: هذا إسناد صحيح،
أو إسناد حسن، هذا الحكم متعلق بالإسناد، لا بالمتن، لا يكون المتن(1/202)
صحيحاً أو حسناً، إلا إذا سلم الحديث من الشذوذ والعلة؛ لأن الشذوذ،
والعلة، كما يقعان في الأسانيد، أيضاً يقعان في المتون، وما من متن وقع
فيه خطاً، إلا ولابد أن يكون الخطأ ناشئاً عن أحد الرواة الذين روو
الحديث، من أين سيأتي الخطأ؟ لابد أن هناك راوٍ من رواة الحديث، قد
أخطأ في الحديث، أتى به على خلاف الصواب، على خلاف الجادة، أثر في
المتن، فرواه على غير وجهه، رواه على غير الصواب، فمن هذه الحيثية كان
هذا المتن شاذاً أو معللاً.
فيريد الإمام من هذا البحث، أن يبين لك أنك إذا وجدت إماماً يقول في
حديث: هذا إسناد حسن، أو إسناد صحيح، فلا تفهم من ذلك أن الحديث صحيح،
أو حسن، حتى يتحقق لك أن المتن لم يعل من قبل بعض أهل العلم، بما يفضي
إلى كونه شاذاً أو معلولاً، فيكون ذلك قادحاً في المتن.
وبطبيعة الحال هذا يختلف من عالم لآخر، فهناك من أهل العلم من إذا وجد
الحديث سالماً من الشذوذ والعلة إسناداً ومتناً فإنه يسوي بين قوله
إسناد صحيح، وحديث صحيح، وهناك من يفرق، وهو اصطلاح لعامة المتأخرين،
ستجد المتأخرين يفرقون بين الحكم على السند، والحكم على المتنن بخلاف
العلماء المتقدمين، فغالب ما يحكمون به على الإسناد، يكون منسحباً
أيضاً على المتن، كما أشار إلى ذلك الإمام الحافظ ابن حجر -رحمه الله
تعالى- في نكته على كتاب ابن الصلاح، وكما يعرف ذلك من خلال تتبع كلام
العلماء المتقدمين، فإنهم إذا وجدوا الرواية صحيحة ثابتة، إسنادً
ومتناً، استساغوا أن يقولوا: هذا حديث صحيح، أو هذا إسناد صحيح، هذا
حديث حسن، أو هذا إسناد حسن، بخلاف العلماء المتأخرين، فإنهم يفرقون
بين ظاهر الإسناد والمتن، فإذا كان الإسناد رجاله ثقات، والإسناد متصل
فيبادرون إلى الحكم على الإسناد بما ظهر من حاله، فيقولون: هذا إسناد
صحيح، أو هذا إسناد حسن، فإذا تبين لهم مع ذلك أن المتن مشتمل على ما(1/203)
يدعو إلى الحكم عليه بالشذوذ أو بالنكارة، فإنهم لا يمتنعنون مع ذلك،
أن يصفوا هذا المتن الذي إسناده صحيح، بأنه شاذ أو منكر؛ ولهذا تجد في
كلام الخطيب البغدادي، وكلام الإمام الذهبي، وابن كثير، وغيرهم من أهل
العلم، أنهم يجمعون بين الوصفين كثيراً، في بعض الأحاديث أو في الحكم
على بعض الأحاديث.
تجعل مثلاً عالم منهم يقول: هذا متن منكر، مع جودة إسناده، أو هذا
إسناد رجاله ثقات والمتن منكر، أو إسناده صحيح، والمتن منكر، أو إسناده
حسن، والمتن منكر، فيميز بين الحكم على الإسناد، والحكم على المتن،
وليس هذا تعارضاً ولا تناقضاً، بل هذا اصطلاح لهم ومسلك صحيح؛ لأنه كما
يقول ابن الصلاح ها هنا: إن هناك فرقاً بين الحكم على السند، والحكم
على المتن، فمن فرق بين الحكم على السند، والحكم على المتن، فله أن
يجمع بين هذين الوصفين في الحكم على حديث واحد، فيقول إسناد صحيح، أو
إسناد حسن، أو إسناد جيد، أو نحو هذه العبارات التي فيها تقوية للسند
من حيث النظر، في رجال الإسناد واتصاله، ثم إذا كان المتن فيه ما
يستشكل أو يستنكر أو يستغرب، فإنهم يشيرون إلى ذلك بتمام العبارة،
فيقولون: والمتن منكر أو المتن لا يصح، أو نحو هذه العبارات، وهذا
مستعمل لدى أهل العلم .
قول الترمذي حسن صحيح
قال المصنف -رحمه الله تعالى- ( قول الترمذي حسن صحيح، قال: وأما قول
الترمذي "هذا حديث حسن صحيح" فمشكل؛ لأن الجمع بينهما في حديث واحد
كالمتعذر، فمنهم من قال: ذلك باعتبار إسنادين حسن وصحيح.
قلت: وهذا يرده أنه يقول في بعض الأحاديث: "هذا حديث حسن صحيح غريب، لا
نعرفه إلا من هذا الوجه".
ومنهم من يقول: هو حسن باعتبار المتن، صحيح باعتبار الإسناد: وفي هذا
نظر أيضًا، فإنه يقول ذلك في أحاديث مروية في صفة جهنم، وفي الحدود
والقصاص، ونحو ذلك.
والذي يظهر لي: أنه يُشَرَّبُ الحكم بالصحة على الحديث كما يشرب الحسن(1/204)
بالصحة. فعلى هذا يكون ما يقول فيه "حسن صحيح" أعلى رتبةً عنده من
الحسن، ودون الصحيح، ويكون حكمه على الحديث بالصحة المحضة أقوى من حكمه
عليه بالصحة مع الحسن. والله أعلم. )
هذا الفصل من هذا النوع من الفصول التي كانت مسار جدال وكلام طويل بين
أهل العلم -رحمهم الله تعالى-، ذلك أننا عرفنا آنفاً أن الحسن بنوعيه
هو مرتبة دون الصحيح، فالصحيح في أعلى درجات القبول، والحسن في أدنى
درجات القبول، فكيف وجد في كلام بعض أهل العلم كالترمذي في كتاب
الجامع، وغيره أيضًا، يستعمل ذلك في الحكم على بعض الأحاديث؟ وجد ذلك
في كلام الإمام أحمد، وكلام الإمام البخاري، وأيضاً في كلام الإمام
الدارقطني، اي بعد الإمام الترمذي، حيث يصف الحديث الواحد حاكماً عليه
بأنه حسن صحيح، فيصفه بهذين الوصفين، وهذان الوصفان كيف يجتمعان في
الحكم على حديث واحد في آن واحد؟ لأن الحديث إما أن يكون في أعلى درجات
القبول، وإما أن يكون في أدنى درجات القبول، ولا يتصور أن يكون الحديث
الواحد في آن واحد، هو في أعلى درجات القبول، ثم هو في أدنى درجات
القبول، هذا شيء يتنافى مع العقل، ويتنافى مع المقبول، لا يمكن أن
يستقيم ذلك، فكيف جمع الترمذي وغيره من أهل العلم بين الوصف بالحسن
والوصف بالصحة في الحكم على حديث واحد في آن واحد؟ بل وجدنا الترمذي
يكثر من ذلك كثيراً في كتابه الجامع، ولم يستنكر عليه مشايخه، ولا من
كان في عصره، ولا من كان قريباً من عصره، إنما وقع ذلك الإشكال من قبل
العلماء المتأخرين.
فهناك من أجاب من هؤلاء العلماء المتأخرين بأجوبة عن صنيع الترمذي
وغيره، حيث جمع في الحكم على الحديث بين هذين الوصفين (الصحة والحسن).
- فمنهم من قال: لعله أراد وصف إسنادين مختلفين، أحدهما صحيح، والآخر
حسن، فقوله: حسن أي باعتبار إسناد من أسانيد ذلك الحديث، صحيح باعتبار
إسناد آخر من أسانيد هذا الحديث، فإذا كان الحديث مثلاً له إسنادان(1/205)
أحدهما حسن، والآخر صحيح، فيصح أن تقول في هذا الحديث: إنه حسن صحيح،
أي حسن باعتبار إسناد، صحيح باعتبار إسناد آخر.
وهذا القول لم يلق قبولاً عند بعض أهل العلم؛ لأن الترمذي -رحمه الله
تعالى- يقول: هذا الوصف المركب في الحكم على الحديث مع وصفه له بكونه
لا يعرفه إلا من هذا الوجه، فكثيراً ما يقع في كتابه الجامع قوله
تعليقاً على بعض الأحاديث: "هذا حديث حسن صحيح، لا نعرفه إلا من هذا
الوجه" وهذا معناه أن له إسناد واحد، فأين هذان الإسنادان، الذي أحدهما
صحيح والآخر حسن؟ فلأجل هذا استشكل بعض أهل العلم الجواب ولم يقبله من
قائله.
- هناك من ذهب إلى أن الترمذي لعله أراد بالحسن ها هنا الحسن المعنوي
الذي أشرنا إليه في لقاء سابق، وهو الحسن الذي تقتضيه اللغة، كل ما
تميل إليه النفس فهو حسن، كل ما يتعلق به القلب فهو حسن، كل ما تقبله
الطباع فهو حسن، فلعل الترمذي أراد بالحسن ها هنا ما يرجع إلى هذا
المعنى، وهذا أيضاً كان موضع إنكار عند بعض أهل العلم كالإمام ابن دقيق
العيد -رحمه الله تعالى-.
طبعاً ابن دقيق العيد نفى وجود هذا النوع أصلاً في الحديث، وقال: يلزم
منه أن الحديث الموضوع إذا كان حسناً من حيث اللفظ، حسناً من حيث
المعنى، أن يوصف بالحسن في اصطلاح المحدثين، ونحن الآن نعالج مسألة
متعلقة باصطلاح المحدثين، وليس باصطلاحات لغوية، فلم يقبل ذلك ابن دقيق
العيد، وإن كان الإمام العراقي تعقبه في ذلك، فذكر ابن دقيق العيد بعض
الأمثلة التي ذكرناها في لقاء سابق من إطلاق المحدثين الحسن على
الأحاديث المنكرة والموضوعة على إرادة حسن اللفظ، لا الحسن الاصطلاحي.
- من العلماء من قال كابن كثير ها هنا: إنه يشرب طرفاً من الصحيح،
وطرفاً من الحسن، فلا هو حسن خالص، ولا هو صحيح خالص، بل هو يتجاذبه
الصحيح من جهة، والحسن من جهة، فيصح وصفه بهذين الوصفين؛ لأنه مشرب(1/206)
بالوصفين، كالشيء الذي يكون فيه حموضة، وفهي حلاوة، فيصح أن تصفه بأنه
حلو حامض مثلاً، وهذا وصف صحيح؛ لأنه ليس حلواً خالصاً، ولا حامضاً
خالصاً، وإنما هو مشرب بهذا وذاك؛ فلأجل هذا ذهب الإمام ابن كثير بأن
هذه مرتبة أخرى وسط بين الصحيح والحسن، فلا هو حسن على سبيل الإطلاق،
ولا هو صحيح على سبيل الإطلاق، وإنما هو منزلة وسط بين ذلك؛ ولهذا يكون
ما يقول فيه الترمذي: "حسن صحيح"، دون ما يقول فيه: "صحيح" فقط؛ لأن ما
قال فيه: "صحيح" فقط هو حديث صحيح محض، أما ما يقول فيه: "حسن صحيح"
فهو دون هذه المرتبة، وهذا أيضاً مما لم يقبله العلماء، كالإمام
العراقي، والحافظ ابن حجر العسقلاني -رحمهما الله تعالى-؛ لأن ذلك
يستلزم إحداث نوع آخر من أنواع الحديث، لا قائل به من أهل العلم، فضلاً
عن كونه يلزم منه أن يكون هذا النوع الذي يقول فيه الترمذي حسن صحيح،
دون ما يقول فيه صحيح.
والمتتبع لكتاب السنن للإمام الترمذي -عليه رحمة الله- يجده كثيراً ما
يصف الأحاديث بكونها حسنة صحيحة، وقل ما يقول صحيح فقط، قل ما يقول حسن
فقط، بل الأعم الأغلب من أحاديث كتابه يجمع فيها - أو في الحكم عليها-
بين هذين الوصفين، فيقول: "حسن صحيح" فمعنى هذا أن الأحاديث الصحيحة عن
الإمام الترمذي تكون قليلة جداً، الأحاديث الصحيحة ستكون قليلة جداً؛
لأنه قل ما يفرد الصحيح في حكمه على الأحاديث. هذا من ناحية.
من ناحية أخرى: أنك إذا تتبعت جملة من الأحاديث التي يصفها الإمام
الترمذي -رحمه الله تعالى- بأنها حسن صحيح تجد أغلبها من الأحاديث التي
هي في أعلى درجات الصحة، وبعضها في الصحيحين، بل كثير منها ما هو في
الصحيحين من رواية مالك عن نافع عن ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما-، أو
من رواية الزهري عن سالم عن ابن عمر، من أصح الأسانيد، فكيف يكون ذلك
دون الصحيح؟ وكيف يكون الترمذي يخفى على مثله أن هذه الأحاديث من جملة(1/207)
الأحاديث الصحيحة؟ بل من أعلى درجات الصحيح؟ فكان ذلك أيضاً مما يرد
على هذا الجواب، ومما يدعو إلى عدم قبوله.
هناك الإمام ابن دقيق العيد ذهب أو أجاب عن الإشكال بجواب آخر، فقال: "
ليس الحسن عند الإمام الترمذي وصفاً أو حكماً مجرداً عن الصحيح، بحيث
ينبغي ألا يضاف إلى الصحيح في الحكم على حديث واحد. بل الحسن عن الإمام
الترمذي -رحمه الله تعالى- وصف يصدق على الصحيح، ويجتمع بالصحة ".
هناك فرق بين الوصف والحكم، وإن كان الوصف والحكم يستعملان أحياناً
بمعنى واحد، لكن إذا جمعت بينهما فأنت تقصد بالوصف شيئاً، وبالحكم
شيئاً آخر.
الحكم: أي المنزلة والمرتبة التي يستحقها ذلك الحديث من حيث الصحة أو
الضعف، فهذا حكم.
أما الوصف: فهي صفة تقترن بالصحيح أو بغير الصحيح، وتجتمع بالصحيح،
وبغير الصحيح.
تعالوا نضرب أمثلة: قولك في الحديث: "هو صحيح عال، أو هو صحيح نازل"،
هذان وصفان، أحدهما: متعلق بالحكم، والآخر: صفة زائدة عن الحكم. فحينما
تقول: هذا حديث صحيح، فأنت تقصد بالصحة ها هنا الحكم الذي يستحقه،
ودرجة الحكم التي يستحقها هذا الحديث.
لكن وصفه بكونه عالياً أو نازلاً، يتعارض مع الصحة؟ لا..، قد يكون
الصحيح عالياً، وقد يكون نازلاً، فهذا وصف زائد. تقول في الحديث: هذا
الحديث صحيح مرفوع، وصحيح موقوف. كون الحديث صحيحاً هذا متعلق بالحكم
عليه. كونه مرفوعاً أو موقوفاً يؤثر في هذا الحكم؟ لا.. قد يكون الحديث
صحيحاً وهو مرفوع، وقد يكون صحيحاً وهو موقوف، فوصف الحديث الصحيح
بكونه مرفوعاً أو موقوفاً لا يتناقض ولا يتعارض مع كونه صحيحاً. فالصحة
تجتمع مع الوقف والرفع، كما أن الصحة تجتمع مع العلو والنزول، فتلك
أوصاف زائدة على الحكم الذي يستحقه ذلك الحديث.
الإمام ابن دقيق العيد يقول مثل هذا الكلام، يقول: «كل صحيح حسن لا
ينعقد » فإنك إذا وصفت الحديث بأنه صحيح، فإن كنت تذهب بأن الحسن من(1/208)
جملة الصحيح، أو من أدنى درجات الصحيح، فالحسن داخل في الصحيح، ولابد؛
كأنك قلت: إنه حسن وزيادة. ماذا تعني حسن وزيادة؟ لأنك إذا قلت هو
صحيح، فكما لو أنك قلت: إنه اشتمل على كل صفات القبول فهو من أعلى
درجات القبول، فهو شمل الحسن من بابه أولى. كما تقول في حديث هو متواتر
- نحن نعرف أن المتواتر هو من أعلى درجات الصحيح- فإذا قلت "متواتر"
فأنت بالضرورة تعني أنه صحيح، فإذا قلت هذا حديث "صحيح متواتر" فهذا
كلام مستقيم لا غبار عليه.
وكذلك إن كنت ممن يرى أن الحسن وصف زائد على الصحة، فهذا أمر سائغ،
فحين تصف الحديث بأنه صحيح، أي الدرجة التي يستحقها ذلك الحديث من حيث
القبول أو الرد، هو الصحة، فهو حديث ثابت، حديث صحيح، حديث مقبول، ثم
صار الحسن ها هنا وصف زائد يجتمع مع الصحة، ولا يتنافر معها كما لو قلت
مثلاً هذا حديث صحيح معمول به، هذا حديث صحيح منسوخ، فقولك معمول به،
كما لو قلت حسن، حسن أي هذا الحديث من حيث الصحة هو صحيح من حيث
الدرجة، ثم إنه مع ذلك معمول به، محتج به عند أهل العلم، وليس هو من
المنسوخ الذي لا يعمل به؛ ولهذا لعل مما يقوي ذلك القول، وقد ارتضاه
الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى- في نكته على كتاب ابن الصلاح، وإن
كان ارتضى في كتاب النزهة له رأياً آخر سنذكره - إن شاء الله تعالى-
لعل مما يؤيد هذا الكلام، هو أنك لا تجد حديثاً في سنن الترمذي
منسوخاً، فيصفه الإمام الترمذي بأنه حسن، بل هو قال في آخر كتابه في
الباب الذي عقده في العلل الذي في آخر الجامع قال: « وأحايث هذا الكتاب
كلها أحاديث معمول بها سوى حديثين» فذكرهما فلما نظرنا في الحديثين في
موضعهما من الكتاب، لم نجد الإمام وصفهما بأن هذه الأحاديث من الحسان،
مع أنها عندهم من الصحيح، فهي من الصحيح المنسوخ.
الحافظ ابن حجر العسقلاني -رحمه الله تعالى- ارتأى في كتاب - النزهة-
نزهة النظر رأياً آخر، فخروجاً من هذا الخلاف، وخروجاً من هذه(1/209)
الإيرادات التي أوردها البعض على هذه الأجوبة، أو على بعضها، لجأ إلى
قول وسط فقال: نفرق بين ما كان له إسناد، وما كان له أكثر من إسناد.
• فما كان له إسنادٌ واحد فالمعنى فيه: أنه حسن باعتبار حال راويه عند
قومٍ، صحيح باعتبار حال راويه عند قوم آخرين. كأن هذا الراوي الذي روى
ذلك الحديث، ولم يروى إلا بإسناده اختلف فيه أهل العلم.
- فمنهم من أطلق فيه ما يفيد التوثيق، فيكون حديثه من جملة الأحاديث
الصحيحة.
- وبعضهم أطلق فيه ما يفيد أنه في مرتبة دون ذلك. كأن يقول صدوق مثلاً،
فيكون حديثه من جملة الأحاديث الحسنة. فلما اختلف أهل العلم في الدرجة
التي يستحقها راوي ذلك الحديث، رأى الترمذي - هذا طبعاً بحسب كلام ابن
حجر- أن يجمع في حكمه على هذا الحديث ما يشير إلى ذلك الخلاف الواقع في
ذلك الراوي، فيقول: "حسن صحيح" أي حسن باعتبار حال ذلك الراوي عند بعض
أهل العلم، صحيح باعتبار حاله عند بعض أهل العلم الآخرين.
وهذا الجواب أيضاً يرد عليه بعض ما يرد على الأقوال السابقة بل وزيادة
أيضًا؛ لأننا قلنا آنفاً:
- إن الترمذي يكثر من استعمال هذا المصطلح "حسن صحيح" في الأحاديث التي
لا خلاف عليها، بل هي في الصحيحين، وفي الرواة الذين لم يختلف فيهم أهل
العلم. هل اختلف أحد في مالك ونافع وابن عمر؟ هل اختلف أحد في الزهري
وسالم وابن عمر؟ لم يقع في ذلك اختلاف، ومع ذلك نجد الإمام الترمذي
-رحمه الله تعالى- يقول: حسن صحيح في أحاديث من أعلى درجات الصحة، فكيف
بعد ذلك يكون الترمذي حاكياً للخلاف، وليس هناك خلاف أصلاً.
- أمر آخر وهو أن الإمام الترمذي إمام مجتهد، وليس مقلداً لغيره، إنما
يحكم على الحديث بمقتضى ما يؤديه إليه اجتهاده، ولا يعرف أن الترمذي
توقف في الحكم على الأحاديث بمقتضى اختلاف أهل العلم، بل إن وجدهم
اختلفوا في الحكم على الحديث رجح قولاً من تلك الأقوال، وذهب إلى قول(1/210)
يراه صواباً، أو أرجح من القول الآخر، فالإمام الترمذي إمام مجتهد،
وليس إماماً مقلداً؛ ولهذا ينسب العلماء الأقوال التي في الجامع إليه،
ولا ينسبونها إلى غيره من العلماء ممن هم من مشايخه، أو ممن كان قبله،
من أهل العلم.
ثم إن كان الإمام الترمذي -عليه رحمة الله- من شأنه أن يحكي الخلاف
بهذه الطريقة، فيقول: حسن صحيح فيكون مقصوده أنه يحكي الخلاف في حال
الراوي الذي روى ذلك الحديث هل هو مما يستحق أن يحسن حديثه أو يصحح،
فلماذا لا يحكي أيضاً الخلاف فيما هو أشد من ذلك؟ ما وجدناه مرة من
المرات، يقول هذا حديث حسن ضعيف، ولا صحيح ضعيف، لو كان من شأنه أن
يشير إلى الخلاف بمثل هذه الطريقة، لكان يفعل ذلك.
أيضاً فيما وقع فيه خلاف بين أهل العلم في صحته وضعفه، أو في حكمه
وضعفه، بل نجد الإمام الترمذي -عليه رحمة الله- إذا ما أراد أن يذكر
خلافاً بين أهل العلم في الحكم على الحديث، فإنه يذكر عباراتهم من غير
هذه الإشارة الموهمة، بل يقول: " قال البخاري كذا"، أو " قال محمد بن
إسماعيل كذا "، " وقال أحمد كذا "، " وقال الدرامي كذا "، فيسوق أقوال
أهل العلم صريحة في الحكم على الأحاديث.
أيضاً يلزم من هذا أن ما يقول فيه الإمام الترمذي: "صحيح" هو أقوى من
الحديث الذي يقول فيه: "حسن صحيح" ؛ لأن الذي وقع فيه خلاف بطبيعة
الحال دون ما لم يقع فيه خلاف، فإذا كان الحديث الذي يقول فيه صحيح لم
يقع فيه خلاف، والذي قال فيه حسن صحيح وقع خلاف في راويه، فيكون ما قال
فيه حسن صحيح دون ما قال فيه صحيح فقط، وهذا يلزم منه ما يلزم من جواب
الإمام ابن كثير، وقد ذكر العلماء أنه يلزم منه أن يكون ما يقول فيه
حسن صحيح دون ما يقول فيه صحيح، وهذا غير مقبول؛ لأنه يكثر من هذا
المصطلح المركب في وصفه للأحاديث التي هي من أعلى درجات الصحة، بل هي
في الصحيحين.
ثم ذكر الحافظ ابن حجر العسقلاني -رحمه الله تعالى- الجزء الآخر من(1/211)
الجواب، وهو المتعلق بما له أكثر من إسناد، فقال:
• وما كان له أكثر من إسناد ووجدنا الترمذي -رحمه الله تعالى- يصفه
بأنه حسن صحيح، فهذا راجع إلى كونه حسناً باعتبار الإسناد، صحيحاً
باعتبار الإسناد الآخر. وهذا يرد عليه ما أورده العلماء على العلماء
الآخرين الذين أجابوا بمثل هذا الجواب.
وأنا أقول مسترشداً بكلام الإمام ابن رجب الحنبلي -عليه رحمة الله- في
شرح علل الترمذي: إن وصف الترمذي -عليه رحمة الله- للحديث بأنه حسن هو
نفسه قد شرحه وبينه، بيَّن مراده منه، فذكر -رحمه الله تعالى- أن
الحديث الحسن لابد أن يكون متصفاً بأوصاف ثلاث:
1- ألا يكون في إسناده من يتهم بالكذب.
2- ولا يكون الحديث شاذاً.
3-ويروى من غير وجه نحو ذلك.
الإمام الترمذي بيَّن في كلامه أن الحسن ليس راجعاً إلى رواية بعينها،
إنما الحسن في اجتهاده ونظره وصف لمجموع هذه الأمور، حيث ينضم بعضها
إلى بعض، فالترمذي لا يصف إسناداً بعينه بأنه حسن، وإنما الحسن عنده
راجع إلى الحديث المشتمل على هذه الأوصاف جميعها، وهذه الأوصاف إذا
تأملتها تبين لك أنها ليست راجعة إلى إسناد بعينه، وإنما هي راجعة إلى
مجموع روايات؛ لأنه قال: "ويروى نحوه من غير وجه"، فلا يكون الحديث
عنده حسناً أصلاً إلا إذا روي من غير وجه، أما إذا روي من وجه واحد،
فليس حينئذٍ يكون موصوفاً بكونه حسناً عند الإمام الترمذي؛ لأنه اشترط
في الحديث الحسن أن يكون مروياً من غير وجه، ومن هذا يجاب على من ذهب
من أهل العلم على أن الحسن حيث يطلقه الإمام الترمذي، على حديثٍ له
إسنادان، بأنه حسن باعتبار اسناد، صحيح باعتبار إسناد آخر، نقول: أن
هذا الإسناد الذي هو عند الإمام الترمذي حسن، وهو لا يصف الإسناد بأنه
حسن، إنما يصف مجموع هذه الأمور بأنها حسنة. فالحسن عند الإمام الترمذي
راجع إلى اجتماع هذه الروايات بعضها إلى بعض، وليست هناك رواية بعينها(1/212)
تستحق أن توصف عند الإمام الترمذي بأنها حسنة؛ لأنه قال: إن الحسن عندي
لابد أن يكون مروياً من غير وجه، فلا يكون الحديث عنده حسناً بمجرد
رواية بعينها، إنما الحسن صفة لاجتماع هذه الأمور بعضها إلى بعض، فإذا
تأملنا كلام الإمام الترمذي -عليه رحمة الله- يتبين أننا إذا نظرنا إلى
فصول كلامه المتعلقة بتعريف الحديث الحسن عنده، سيتضح هذا الإشكال
ويتضح الجواب عنه؛ لأنه:
أولاً: وصف الحديث الذي يكون عنده حسناً أن يكون راويه ليس متهماً
بالكذب.
من هو الذي لا يتهم بالكذب؟ بطبيعة الحال هناك الضعفاء الذي لم يشتد
ضعفهم، بحيث يبلغوا إلى حد أن يكونوا من المتهمين بالكذب، وهو الذي
يكون ضعفه ناشئاً عن سوء حفظه، وخفة ضبطه، وليس ناشئاً عن دينه
وعدالته، أو غفلته الشديدة، فكل من كان كذلك فهو من الممكن أن يكون
حديثه حسناً عند الإمام الترمذي -رحمه الله تعالى-.
ثم وصف الحديث نفسه بأن يكون سالماً من الشذوذ، وأن يكون مروياً نحوه
من غير وجه، قلنا: إن من يكون ضعفه خفيفاً عند الإمام الترمذي، ولا
يكون متهماً بالكذب، يكون حينئذٍ صالحاً؛ لأن يحسن حديثه عند الإمام
الترمذي.
لكن يرى الإمام ابن رجب أن كلام الترمذي وصنيعه في كتاب الجامع أعم من
ذلك، فيقول: إن قول الترمذي لا يكون في إسناده من يتهم بالكذب، لا يلزم
منه أن يكون الراوي ضعفه ضعفاً هيناً، بل قد يكون ثقةً أو صدوقاً
لماذا؟ الثقة: هل هو متهم بالكذب أم لا؟ ليس متهماً بالكذب. الصدوق
متهم بالكذب؟ ليس متهماً بالكذب. والترمذي قال: " كل من ليس متهماً
بالكذب، فهو عندي حديث حسن " بالشرائط المعتبرة.
إذن يدخل في ذلك من كان ثقةً، أو من كان صدوقاً، أو من كان ضعفه هيناً،
ثم يكون مع ذلك الحديث سالماً من الشذوذ، وأن يروى نحوه من غير وجه،
الشذوذ شرحناه في لقاءات سابقة، أي لا يكون مخالفاً للأحاديث الصحيحة
الثابتة المعروفة، والمحفوظة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كما(1/213)
قال ابن رجب، وكذلك شيخ الإسلام ابن تيمية.
ثم يروى نحوه من غير وجه، كونه يروى من غير وجه لابد أن تكون هذه
الأوجه التي روي الحديث بمعناها مرفوعة إلى رسول الله -صلى الله عليه
وآله وسلم- أم هي ممكن أن تكون موقوفة على الصحابة والتابعين؟ ذكرنا في
لقاء سابق بأن الشواهد والمتابعات التي تنضم للرواية تقويها، ولا يلزم
أن تكون مرفوعةً، منسوبةً، ومضافةً، إلى رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- بل قد تكون مع ذلك موقوفة على الصحابة، أو على التابعين، ونذكركم
بصنيع الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى- في المرسل والاحتجاج به، فإنه
لما ذهب ليحتج بالمرسل وضع لذلك ضوابط وشرائط، من جملة ذلك: أنه ذكر أن
الحديث المرسل الجامع للشرائط الصالحة للاحتجاج، إذا انضم إليه فتوى
بعض الصحابة أو قول عامة أهل العلم، فإن ذلك يجعله حديثاً مقبولاً
محتجاً به عند الإمام الشافعي. وذكرنا أيضاً من صنيع الإمام أحمد ما
يرشد إلى ذلك، لما سئل عن دية المعاهد، قال على النصف من دية المسلم،
لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، فقيل له: يا إمام أتحتج بعمرو بن
شعيب عن أبيه عن جده؟ قال: " ليس بكلها أحتج "، ولكن هذا الأمر - يعني
هذا الحديث أو هذا المعنى- قد أفتى به عثمان بن عفان، وقدماء فقهاء أهل
المدينة، فالإمام أحمد قوى حديث عمرو بن شعيب مع أنه كان لا يحتج بعمرو
بن شعيب، وكان يضعفه، وكان يقول فيه: " إنه منكر الحديث"، وكان يقول:
ربما احتججنا به، وربما وجد في القلب منه شيء، ما معنى احتججنا به؟ أي
حيث ينضم إليه ما يؤكد حفظه للحديث، وعدم خطأه فيه، ويجد في قلبه،
عندما يجده متفرداً بحكم لا يتابعه عليه غيره، ربما احتججنا به، وربما
وجد في القلب منه شيء.
فإذن هذه الموقوفات وتلك الآثار المروية عن الصحابة أو التابعين أو
المرفوعات عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- كلها مما يتقوى بها
الحديث، فيكون حجة حينئذٍ.(1/214)
فإذن لو أننا وجدنا حديثاً يرويه ثقةً، وهذا حديث سالم من الشذوذ، وروي
من غير وجه، هذا حديث صحيح أم لا؟ هو صحيح لتوفر شرائط الصحة فيه، ثم
هو حسن، لماذا هو حسن؟ لأنه تحقق فيه شرائط الحسن التي ذكرها الترمذي؛
لأن الترمذي قال في شرائط الحسن: أن يكون راويه ليس متهماً بالكذب،
والثقة، وألا يكون الحديث شاذاً، وهذا ليس شاذاً، وأن يروى نحوه من غير
وجه، وهذا قد روي نحوه، سواءً في المرفوعات، أو الموقوفات، وذلك يجعله
حسناً مع كونه صحيحاً، فإذا ما وجدنا الترمذي مع ذلك يصف الحديث بأنه
غريب فيقصد بالغرابة هنا، الغرابة النسبية، أي غريب من هذا الوجه، غريب
بهذا الإسناد، غريب بهذا اللفظ، كما وجدنا ذلك في حديث الأعمال
بالنيات.
حديث الأعمال بالنيات، يرويه يحيى الأنصاري، عن محمد بن إبراهيم
التيمي، عن علقمة بن وقاص الليثي، عن عمر بن الخطاب، عن رسول الله -صلى
الله عليه وآله وسلم-، ليس له في الدنيا إسناد صحيح إلا هذا، وجدنا
الترمذي يصفه في كتابه الجامع بأنه حسن صحيح، وقال: لا نعرفه إلا من
هذا الوجه، أي لا نعرفه صحيحاً محفوظاً إلا من هذا الوجه، فهو وصفه
بالصحة؛ لأنه تحققت فيه شرائط الصحة، بل هو في الصحيحين، بل مما تلقته
الأمة بالقبول. ووصفه بالحسن لماذا؟ لأن هناك أحاديث، بل في القرآن
آيات، كل ما جاء فيه معنى الإرادة، فهو يقصد به النية المذكورة في هذا
الحديث، وهناك أحاديث كثيرة يتبين من مجموعها أن قبول الأعمال، أو عدم
قبولها، إنما يتوقف على النية، فهذا المعنى معنى صحيح، بل هذا المعنى
متلقى بالقبول عند العلماء، فصار هذا مما تلقاه الناس بالقبول، فصار
حسناً من هذه الحيثية.
ثم قال: لا نعرفه إلا من هذا الوجه، أي لا نعرفه صحيحاً عن رسول الله
-صلى الله عليه وآله وسلم- بلفظ صحيح عن رسول الله -صلى الله عليه وآله
وسلم- إلا في حديث عمر هذا، فهذه غرابة نسببية، أما المعنى الذي يتضمنه(1/215)
المتن فهو مروي، وله شواهد كثيرة في كتاب الله - عز وجل- وفي سنة رسول
الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وفي كلام أهل العلم -رضي الله عنهم
جميعاً-.
وردتنا إجابات: كان السؤال الأول: ما معنى مخرج الحديث، ومتى يكون
معروفاً ؟
وكانت الإجابة: مخرج الحديث: أي إسناده من الرجال إلى قائله، ويكون
معروفاً، عندما يكون له أصل معتبر، يعتد به في نسبته للقائل، ويوصف
بأنه حديث معروف، أو محفوظ، وهو ضد الحديث الشاذ والمنكر، فإنهما ليس
لهما مخرج معروف
السؤال الثاني: هل الحديث الشاذ يصلح أن يتقوى بغيره ؟
وكانت الإجابة: لا يصلح الشاذ أن يتقوى بغيره، وكما أن الشذوذ والعلة
يشترط نفيهما في الحديث الصحيح، فهما أيضاً يشترط نفيهما في الحديث
الحسن، فالإمام الترمذي اشترط نفي الشذوذ والعلة، عن الرواية التي تدخل
تحت باب الحسن، كما اشترط ذلك أيضاً في الحديث المتابع له، كما في قوله
نحو هذا الحديث، وقال الإمام أحمد الحديث عن الضعفاء قد يحتاج إليه في
وقت، والمنكر أبداً منكراً .
سؤال تقول: نجد في كتاب الترمذي أنه قال حديث ضعيف، وحديث حسن،
فلماذا جمع الإمام الترمذي كل هذه الأحاديث، وكتابه من الكتب التي يحتج
بكل ما فيها من الأحاديث أم ماذا؟
طبعاً كتاب الترمذي لا يحتج بكل ما فيه، إنما الترمذي عمد إلى الأحاديث
التي احتج بها بعض أهل العلم، احتج بها محتج من أئمة العلم سواء كان
مصيباً في هذا الاحتجاج أو ليس مصيباً، فهو جمع تلك الأحاديث كأدلة
الأحكام التي يحتج بها الفقهاء، وبطبيعة الحال بعضها ما هو صحيح،
وبعضها ما هو حسن، وبعضها ما هو ضعيف، وبعضها ما هو ضعفه شديد، فهو
أراد أن يكون كتابه جامعاً لأدلة أصحاب المذاهب المتبعة، فيذكر
الأحاديث، ويذكر ما فيها ويميز الصحيح منها من غير الصحيح؛ ليعرف ذلك،
لكن ليس بالضرورة أن يكون كل ما ذكره صحيحاً؛ لأن هناك من أهل العلم من(1/216)
احتج بالضعيف، وهو أراد أن يكون كتابه جامعاً، فكتاب الترمذي لا يمثل
فيه اختيارات الترمذي، وإنما هو جامع يجمع فيها ما ذهب إليه بعض أهل
العلم في كل باب من أبواب أهل العلم، وليس بالضرورة أن يكون هذا الذي
ذكره هو مذهب الإمام الترمذي، في هذا الأمر، بخلاف مثلاً أبي داود،
فأبو داود: يخرج ما يريه هو أو يرجحه هو في كل باب من أبواب كتابه،
وكذلك ما يفعله الإمام البخاري مثلاً، فهو يخرِّج في كل باب ما يرى
رجحانه في ذلك الباب، وإذا كان المسألة فيها خلاف، ولم يترجح لدى
البخاري فيها قول، فإنه يعلق المسألة، فيُتَرجِمُ بما يفيد أن المسألة
فيها خلاف.
الشاهد: أن الترمذي لا يُخَرِج كل ما يراه هو راجحاً، ولم يخرج كل ما
رأى أن عالما من العلماء احتج به في أبواب العلم. والله أعلم.
قول الترمذي في الحديث الحسن: ويروى من غير وجه، هل يقصد من غير وجه
أي بنفس اللفظ، أو بنفس المعنى؟
وهنا سؤال آخر: الإمام الترمذي لما يقول هذا حديث حسن، هل يقصد الحسن
الذي هو في قسم الاحتجاج، يكون فيه ضعف محتمل، وأن أبو عيسى الترمذي
-عليه رحمة الله- يقول في بعض الأحاديث هذا حديث حسن وإسناده ليس
بقائم، وإسناده ليس بمتصل، إذا كان حسناً فلماذا أعلق؟
وهناك سؤال آخر: وجد في كلام أبو عيسى في بعض الأحيان، يقول: هذا حديث
حسن صحيح، والذي قبله أصح منه، فهل هذا يؤيد رأي ابن كثير -عليه رحمة
الله- في أن الحسن الصحيح هو دون الصحيح الذي في الترمذي؟
سؤاله الأول: كان يسأل عن قول الترمذي في الحسن ويروى من غير وجه، كان
يسأل عن الوجه لفظه هل هو لفظا أم معنى ؟
طبعاً الإمام الترمذي -عليه رحمة الله- عندما قال ويروى نحوه من غير
وجه، لم يقصد أن يروى نحوه بلفظه، وإنما يكتفى في ذلك بالمعنى؛ لأن هذا
حكم متعلق بالمتن، فليس متعلقاً بالإسناد، وغرض هؤلاء العلماء من النظر
في المتون معرفة إن كانت هذه المتون المعاني التي تضمنتها معاني صحيحة(1/217)
مستقيمة محفوظة أم لا ؟ حتى يبنون على ذلك، إن كانت تصلح للاحتجاج أم
لا، تصلح للاحتجاج، والإمام الشافعي -عليه رحمة الله- لما تكلم عن
المرسل ذكر ما يدل على أنه لا يشترط أن يروى المرسل من رواية أخرى، أن
تكون تلك الروايات باللفظ، بل اكتفى أن تكون أيضاً بالمعنى، فالمعنى
يقع بين الروايات على سبيل الاتفاق، ولا يقع اختلاف في المعنى، أما
الألفاظ هذا هي قوالب المعنى، فإذا كانت الألفاظ تؤدي إلى تغيير المعنى
فحينئذ لا يتقوى بهذه الروايات، ولا تنفع. أما إذا كانت الألفاظ غير
مؤثرة في المعنى وغير خارجة له عن المعنى المقصود، فهذا هو موضع
الشواهد، وينتفع العلماء بها.
بل كما قلت: إنهم يقوون بالموقوفات، وبطبيعة الحال لا يشترط في
الموقوفات أن تكون باللفظ، بل غالباً لا تكون باللفظ، فإذا كانوا
يتساهلون في هذا، ويكتفون في الموقوفات في أن تدل على المعنى الذي دل
عليه الحديث المرفوع، فكيف يشترط في الحديث المرفوع نفسه أن يكون بلفظ
الرواية التي نسعى إلى تقويتها؟.
الحديث الحسن الذي يذكره الإمام الترمذي، هل يقصد الترمذي أنه حجة عنده
أم ليس بحجة؟ الذي يدل عليه صنيع الترمذي، وما فهمه العلماء -عليهم
رحمة الله- من صنيعه، ومن أقواله، أن هذه الأحاديث التي يصفها بالحسن
هي داخلة في نطاق الحجة، وكما قلنا في لقاءات سابقة، الحجة مراتب
ودرجات، فليس معنى أننا نقول هو حجة، أنه في أعلى درجات الحجة، بل قد
يكون دون ذلك، فكل ما يصلح أن يحتج به عند العلماء فيصح من هذه
الحيثية، أن يوصف بكونه حسناً، لاشتماله على الأوصاف التي ذكرها الإمام
الترمذي.
أخونا يذكر من بعض المواضع في كتاب الترمذي بأنه يصف بعض الأحاديث بأنه
حسن صحيح، ثم يذكر رواية أخرى للحديث، ويقول هذا أصح، كأني رأيت في بعض
المواضع مثل هذا، ولكن إذا تأملت ستجد أن الأمر لا يخرج عما قلناه؛
لأننا قلنا: إن الصحة هذا هو الحكم على الحديث، فالحسن راجع إلى المتن،(1/218)
وكونه مروياً من أوجه كثيرة، وكونه له من الشواهد ما يؤيد صحة المعنى،
وأن هذا المعنى مستقيم؛ فلهذا وصفه بالحسن؛ لأنه قال: وأن يروى نحوه من
غير وجه، فهذا لا يؤيد أيضاً صنيع الإمام ابن كثير؛ لأننا قلنا: إن
الجمع بين الوصف بالصحة والحسن، وصف صحيح، أو جمع صحيح، إذا حملناه على
هذا النحو، فالراوي الثقة حديثه صحيح أم لا ؟ حديثه صحيح. لماذا؟ نحن
وصفناه بالحسن، لماذا الترمذي وصفه بالحسن؟ وصفه لكونه مروياً من غير
وجه، فلن تجد حديثاً غريباً ليس له روايات أخرى، ثم لم يقل به أحد من
أهل العلم، لا من الصحابة، ولا من التابعين، لم تجد الترمذي يصفه بأنه
حسن؛ لأن الحسن راجع إلى قضية متعلقة بالمعنى الذي تضمنه الحديث، وقد
يكون ترجيح الإمام الترمذي بقوله هذا أصح، أي من حيث إسناد الرواية عن
هذا الصحابي، أصح من الرواية عن هذا الصحابي، أو الرواية عن هذا
التابعي، أصح من الرواية عن هذا التابعي، أو الرواية الإسنادية على هذا
النحو، أصح من الرواية الإسنادية من هذا النحو، كأن يكون الخلاف وقع في
الحديث من حيث الإسناد، بما لا يؤثر في المتن، لكن المتن نفسه اشترك في
الروايتين، الرواية الأولى والرواية الثانية، فوصفها بالحسن؛ لهذا
الأمر، فالصحة راجعة إلى ثبوت الحديث، والحسن من كون الحديث مروياً من
غير وجه، والله أعلم.
أسئلة المحاضرة:
السؤال الأول: اذكر خلاصة الحكم في ما سكت عنه أبو داود؟
السؤال الثاني: ما معنى قول الإمام الترمذي حسن صحيح؟
أعلى الصفحة
الرئيسة ????? ?????????? ????? ???? ?????????? ?????? ???????
???? ?????? - ??????? ??????
المؤلف: ????? ?????/ ???? ?? ??? ????
الوصف: ?????? ??????? ????? ???? ?????? -??????? ?????? - ??? ?????? ???? ?????? ?????? ??? ????
ارسل الصفحة لصديق
معاينة طباعة الصفحة
رؤية مكبرة
--------------------------------------------------------------------------------(1/219)
الدرس التاسع: الحديث الضعيف
إن الحمد لله تعالى نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده، لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. وبعد:
انتهينا بحمد الله تعالى في اللقاء الماضي من النوع الثاني من أنواع علوم الحديث، وهو: الحديث الحسن. والحديث الصحيح والحسن كلاهما يمثلان نوع المقبول في أنواع علوم الحديث، فالحديث المقبول: إما أن يكون صحيحاً، وإما أن يكون حسناً.
ثم بعد ذلك، الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى- أخذ في ذكر بقية الأنواع التي هي أنواع علوم الحديث، فابتدأ بأنواع هي من شأنها أن تكون من قسم المقبول، وإلا فالأنواع الآتية من أنواع علوم الحديث: منها ما يندرج تحت المقبول، ومنها ما يندرج تحت المردود، ولكنه آثر أن يذكر أولاً: الضعيف، وهو أشهر
أنواع المردود؛ ليقابل بينه وبين الصحيح والحسن اللذان هما من أنواع الحديث المقبول.
فنبدأ سوياً النوع الثالث من أنواع علوم الحديث: وهو الحديث الضعيف:
النوع الثالث: الحديث الضعيف
قال المصنف -رحمه الله تعالى- (النوع الثالث: الحديث الضعيف: قال: وهو ما لم يجتمع فيه صفات الصحيح، ولا صفات الحسن المذكورة فيما تقدم.
ثم تكلم عن تعداده، وتنوعه، باعتبار فقده واحدةً من صفات الصحة، أو أكثر، أو جميعها.
فينقسم جنسه إلى: الموضوع، والمقلوب، والشاذ، والمعلل، والمضطرب، والمرسل، والمنقطع، والمعضل، وغير ذللك.)
عرف الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى- الحديث الضعيف بأنه: ما لم تجتمع فيه صفات الحديث الصحيح، ولا صفات الحديث الحسن. عرفنا صفات الحديث الصحيح، والحسن، فالصحيح هو: المسند المتصل بنقل العدل الضابط عن مثله إلى منتهاه من غير شذوذ أو علة. والحسن منه الحسن لذاته والحسن لغيره، فالحسن لذاته قريب(1/220)
من الصحيح، فهو يجتمع مع الصحيح في سائر الشرائط سوى شرط واحد وهو الضبط، فدرجة راوي الحديث الحسن ضبطه أخف نسبياً من راوي الحديث الصحيح. ثم يأتي بعد ذلك نوع الحسن لغيره، فالحافظ ابن كثير تبعاً لابن الصلاح يذكر أن الحديث الضعيف: هو الذي اختل فيه شرط أو أكثر من تلك الشرائط التي ذكرت في الصحيح
أو ذكرت في الحسن.
اعترض العلماء -رحمهم الله تعالى- على هذا التعريف بأنه كان بإمكانه أن يذكر أن الحديث الضعيف: هو ما لم تجتمع فيه شرائط الحديث الحسن فقط؛ لأن الحديث إذا لم تتحقق فيه شرائط الحديث الحسن أو بعضه، فبالضرورة لم يتحقق في الحديث شرائط الحديث الصحيح؛ لأن الصحيح شرطه أشد من شرط الحسن، فإذا فقد
الشرط الأخف، فبالضرورة يكون الشرط الأقوى والأشد مفقود، وهذا مراعاةً لما يراعيه العلماء في الحدود والتعاريف في أن تكون موجزة جامعة مانعة، ولو عبر بالمقبول لكان أولى، كأن يقول: الحديث الضعيف: هو الحديث الذي لم تجتمع فيه شرائط القبول سواء كان في أعلى درجات القبول، أو أدنى درجات القبول، كل
ذلك سائغ وجائز.
ثم إذا نظرنا إلى هذه الشرائط المذكورة في الصحيح، أو في الحسن، لوجدنا هذه الشرائط أو بعضه، فقد في الحديث فكان الحديث حينئذٍ ضعيف، يتولد عن ذلك أنواع من أنواع علوم الحديث، وهي التي تندرج تحت قسم المردود.
فالمردود يتنوع بتنوع العلة، أو الموجب الذي أوجب تضعيف الحديث، وجعله من قسم المردود.
نحن قلنا: إن المردود ما فقد فيه شرط من شرائط الصحة أو الحسن، ونحن عرفنا أن الشرائط بعضها راجع إلى الراوي نفسه بأن يكون عدلاً ضابطاً، وبعضها راجع إلى الاتصال، فالحديث إذا لم يكن متصلاً كان من قسم الضعيف المردود، وبعضها راجع إلى السلامة من الشذوذ والعلة، فالحديث إذا وقع فيه شذوذ أو علة كان(1/221)
حينئذٍ من قسم المردود. وعلى هذا يتنوع الضعيف إلى أنواع كثيرة، بعض هذه الأنواع متعلق بحال الراوي، وبعض هذه الأنواع متعلق باتصال الإسناد، أي حيث لم يتحقق ذلك الشرط في الحديث، وبعض هذه الأنواع متعلق بكون الحديث وقع فيه شذوذ أو علة.
فمثلاً حينما يفقد شرط الاتصال في الحديث:
- يتولد عن ذلك: أن يكون الحديث مثلاً من قسم المرسل، أو من نوع المرسل؛ لأن المرسل نوع من أنواع الحديث غير متصل السند، وستأتي صفته إن شاء الله تعالى .
- يتولد عن ذلك أيضًا: من الأنواع التي ليست متصلة: المنقطع، فالمنقطع صورة من صور عدم اتصال الإسناد. والمعضل أيضاً صورة من صور عدم اتصال الإسناد. وهناك المعلق. وهناك المدلس. وهناك المرسل الخفي. فكل هذه صور متنوعة لعدم اتصال الإسناد.
إذن عدم اتصال الإسناد يتولد عنه صور متعددة، هذه الصور كلها تندرج في عدم الاتصال، وفي كون الإسناد غير متصل.
- الشذوذ والعلة ذكرنا في لقاء سابق أن الشذوذ والعلة إنما هما سبيلان يعرف منهما الخطأ حيث وقع في الرواية من قبل بعض الثقات، فالثقة إذا ما أخطأ يستدل على كونه أخطأ في الإسناد أو في المتن بما يسمى عند العلماء بالشذوذ أو بالعلة، فصار الشذوذ والعلة طريقين من الطرق التي يعرف العلماء من خلالهما
أن الحديث قد وقع فيه خطأ من قبل بعض الرواة، فإذا وقع في الحديث شذوذ أو علة كان الحديث حينئذٍ من قسم المردود.
- يتولد من ذلك: ما يسمى عندهم بالمقلوب، فالمقلوب نوع من أنواع الأخطاء التي تقع في الرويات من قبل بعض الرواة.
- يتولد من ذلك: المدرج، فالمدرج نوع من أنواع الأخطاء التي تقع في الرواية من قبل بعض الرواة.
- يتولد من ذلك: التصحيف والتحريف، التصحيف والتحريف: سببان يؤديان إلى الحكم بكون الرواية وقع فيها خلل في إسنادها أو في متنها.
- الرواية بالمعنى: سبب يؤدي إلى وقوع الراوي في الخطأ في الرواية في إسنادها أو في متنها.(1/222)
- الاضطراب: وسيلة يستدل بها العلماء على كون هذه الرواية وقع فيها خطأ من قبل بعض الرواة في الإسناد أو في المتن.
إذن عدم تحقق سلامة الحديث من الشذوذ والعلة، قد يتولد عنه أنواع كثيرة من أنواع الحديث المردود، وهذه الأنواع هناك ما يربط بعضها ببعض، وليست هي منعزلة عن بعضه، كما يتوهم البعض اغترار، من كون علماء الحديث -عليهم رحمة الله تعالى- فرقوا بين هذه الأنواع، فجعلوا لكل نوع منها باباً مستقل،
فهم وإن جعلوا لكل نوع من تلك الأنواع باباً مستقل، إلا أنهم يفهمون ويدركون أن بين هذه الأنواع علاقات تربط بعضها ببعض.
- فمثلاً عدم اتصال الإسناد: يتولد عنه الأنواع التي سميناه، وهذه الأنواع التي سميناها بينها علاقات، كل نوع له ما يربطه بالآخر، ويفصله عنه، فهناك جوانب مشتركة بين هذه الأنواع بعضها ببعض.
- فمثلاً المرسل سيتبين لنا من خلال كلامنا فيه أنه ما يرويه التابعي مرفوعاً إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-. هذا في أشهر معانيه، أي أن السقط الذي وقع في المرسل هو في هذا الموضع، في موضع الصحابي، أو في موضع من فوق التابعي، حيث يضيف التابعي الخبر إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله
وسلم-.
- الانقطاع: هو في موضع آخر من الإسناد، لكن هذا سقط، وهذا سقط، وإنما السقط الأول في أعلى الإسناد، والآخر في أثناء الإسناد.
- المعضل: سيتبين لنا أنه سقوط أكثر من رجل في موضع واحد من الإسناد، سيشترك مع المرسل والمنقطع في أصل السقط، ولكن يختلف في عدده، المنقطع يختلف عن المرسل في المكان الذي وقع فيه ذلك السقط.
بطبيعة الحال تنويع هذه الأنواع، وتعديد هذه الأنواع، يستفيد به المحدثون؛ لمعرفة درجة كل نوع من أنواع الضعف؛ لأن الضعف درجات، كما أن الصحة درجات، هناك الضعيف والضعيف جد، هناك الضعيف الذي يصلح للاعتبار وللاستشهاد والاستئناس به، وهناك الضعيف الذي يهدر ولا يعرج عليه ولا يلتفت إليه.(1/223)
إذن تنويع علماء الحديث لهذه الأنواع مفيد، وسيتبين لنا وجه ذلك في كل نوع من تلك الأنواع، نجد مثلاً التدليس الإرسال الخفي، التدليس: أن يعمد الراوي إلى رواية الحديث عن شيخ هو لم يسمع الحديث من ذلك الشيخ، إنما سمعه من واسطة أو من رجلٍ آخر عن ذلك الشيخ، فأدى ذلك إلى أن الحديث وقع فيه سقط، وقع
فيه عدم ذكر بعض رواته، فهذه صورة من صور الانقطاع؛ لأن المنقطع هو الذي لم يذكر من أثناء إسناده أحد الرواه، ولكن عرفنا ذلك عن طريق خفية، وهي التي تسمى بالتدليس، فأدركنا الانقطاع الذي حصل في الإسناد عن معرفتنا بمذهب هذا الراوي، أو من عادته في الروايات، بأنه يستعمل أحياناً التدليس؛ لإحداث
السقط في الإسناد.
فنحن لما عرفنا عادة هذا الراوي، وعرفنا أنه يتعاطى هذا التدليس، أدركنا أنه إذا روى بصيغة محتملة للسماع، ليست صريحة في السماع، أنه ربما يكون قد أسقط راوياً من الوسط، فيكون الحديث حينئذٍ منقطع، فاستطعنا بذلك أن نفهم العلاقة بين المنقطع وبين التدليس.
- فالتدليس: وسيلة وقوع الانقطاع، أي وسيلة من الوسائل التي يحدث بها الانقطاع في الإسناد.
- وكذلك الإرسال الخفي: أن يكون الرجل عاصر شيخه، ولكنه لم يسمع منه، فإذا ما روى عنه، يكون هناك عدم اتصال؛ لأن هناك واسطة بينه وبين شيخه.
نعم هو عاش في زمانه، عاصره بطبيعة الحال، ولكنه لم يلتق به، لم يسمع منه حديثاً مباشرة، وإنما أخذ بواسطة عنه، ثم أسقط تلك الواسطة، وارتقى بالحديث إلى ذلك الشيخ الذي قد عاصره، حينئذٍ وقع في الإسناد انقطاع، أليس كذلك؟
لكن نستدل على ذلك الانقطاع بمعرفتنا بالتواريخ، وبأن هذا الراوي لم يلتق بهذا الشيخ، ولم يسمع منه، مع أنه قد عاصره، وعاش معه في زمن واحد، فبمعرفتنا بتاريخ الرواة، ومعرفتنا بكون هذا الراوي إلتقى بهذا الشيخ، أو لم يلتق به، سمع منه، أو لم يسمع منه، عرفنا أن هناك سقطاً وقع في الإسناد، الذي(1/224)
رواه عن الشيخ الذي عاصره ولم يسمع منه، ولم يلتق به، فصار الإرسال الخفي من هذه الحيثية، وسيلة أو دليلاً يستدل به علماء الحديث؛ لمعرفة كون الإسناد قد وقع فيه انقطاع.
إذن بمعرفتنا بتاريخ الرواة، ومعرفتنا بهذه الأنواع يعيننا على معرفة الانقطاع، ومن هنا ندرك العلاقة بين المرسل الخفي والانقطاع، والعلاقة بين التدليس والانقطاع.
فلو فرضنا أن المدلس أسقط بينه وبين من روى عنه رجلين، يصير حديثه مدلساً، ومن جهة أخرى يسمى أيضاً معضلاً. أو الذي أرسل إرسالاً خفياً أسقط بينه وبين من روى عنه رجلين، فيكون حينئذٍ من قبيل المعضل، كما أنه من قبيل المرسل الخفي.
أيضاً حينما نأتي إلى الأبواب التي كلها تندرج تحت باب العلة، أو الخطأ في الروايات من قبل الرواة، فمثلاً عندنا الشاذ، عندنا المعلول، عندنا المضطرب، عندنا المقلوب، عندنا المدرج، إلى غير ذلك...، هذه الأنواع هناك ما يربط بعضها ببعض.
فعلماء الحديث -عليهم رحمة الله تبارك تعالى- يستدلون على كون الراوي أخطأ فيما روى بطريقين:
- الطريق الأول: التفرد الذي لا يحتمل.
- الطريق الأخرى: الاختلاف بين الرواة
فإذا تفرد الراوي برواية لم يحتمل من مثله أن يأتي بمثلها، وانضمت إلى روايته قرائن ترجح لدى الناقدين أن هذا خطأ، وأن هذا الراوي أتى بالحديث على غير الصواب، فإنهم يحكمون على الحديث حينئذٍ بكونه خطأ، وهذا ما يسمى بالشذوذ عندهم، وهو التفرد الذي لا يحتمل.
قد يكون الراوي ممن يحتمل تفرده، لكن لا يحتمل منه اختلافه، فإذا خالف الأكثر عدداً، أو الأقوى حفظاً، وأكثر معرفةً بالأسانيد والمتون، فحينئذٍ نستدل -بخلافه للآخرين- بخلافه للناس على أنه أخطأ فيما روى.
فإذن العلماء يستدلون على خطأ الراوي في روايته: إما بالتفرد الذي لا يحتمل من مثله، أو بالاختلاف بينه وبين سائر الرواة الثقات الحفاظ.(1/225)
فإذا ما أخطأ هو: إما أن يزيد في الرواية، أو ينقص منها، وإما أن يبدل شيئاً بشيء، هذه هي الصور المحتملة لخطأ الراوي إذا ما أخطأ، أي روى الرواية على غير وجهها، على غير الوجه الذي تحمله بها.
- فإما أنه سمع الحديث عن راوٍ معين مثلاً فأبدله براوٍ آخر، سمع الحديث بكلام معين فأبدل كلمة بكلمة، أبدل جملة بجملة، فهذا يسمى إبدال، تغيير، وهو الذي يسمى عند المحدثين بالقلب.
وهو أن يقلب الراوي بعض من جاء في الإسناد، أو بعض ما جاء في المتن، فالحديث مثلاً معروف عن نافع عن ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- فهو يرويه عن سالم عن ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- فهذا قلب، ماذا فعل هذا الراوي؟ إنه بدلاً من أن يرويه -على الصواب- عن نافع عن ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما-
إذا به يرويه عن سالم عن ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- نافع وسالم كلاهما ثقةً، لكن الحديث حديث من منهما؟ هل هو حديث نافع أم حديث سالم؟ فإذا رواه عن سالم عن ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- بينما هو مروي من حديث نافع عن ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- نقول: قد أخطأ ذلك الراوي في إسناد ذلك
الحديث، حيث قلب راوياً براوٍ، والقلب: هو الإبدال، أو فعل ذلك في المتن، أو قدم وأخر، كما في حديث أبي هريرة في السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، ومنهم رجل تصدق بصدقة حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، فقال بعض الرواة: حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله، فهذا قلب في المتن.
إذن عرفنا ذلك القلب عن طريق الاختلاف بين الرواة، فلولا أن هناك من الحفاظ الثقات من روى الحديث على الصواب من غير خطأ في الرواية، لما عرفنا الخطأ الذي وقع فيه ذلك الراوي، فإننا استدللنا على خطأه لما وجدنا غيره من الثقات ممن هم أحفظ منه، أو أكثر عدد منه، يروون الحديث على الوجه الصواب، فظهر(1/226)
من مقارنة رواية هذا برواية الصواب، أن بين الروايات اختلاف، فبالاختلاف استدللنا على خطأ المخطيء وإصابة المصيب.
- كذلك الإدراج: الإدراج نستدل عليه بكون الراوي خالف غيره، حيث جعل بعض الكلام الذي هو من كلام الرواة منسوباً إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- من غير أن يميز كلام النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بكلام غيره، فهذا اسمه إدراج، وهو أن يروي الصحابي الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وآله
وسلم- ثم يقول بعد ذلك كلاماً من قبل نفسه، شرحاً لبعض مفردات الحديث، أو تفريعاً على الحديث، ويذكر حكماً فقهياً مبنياً على ذلك الحديث؛ لأن هؤلاء الصحابة كانوا فقهاء، علماء -رحمهم الله تعالى ورضي عنهم-.
أو قد يقع ذلك من التابعي نفسه، يعني الراوي سواء كان صحابياً أو تابعياً، روى حديثاً عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، ثم بعد أن رواه استنبط منه حكماً فقهي، أو شرح بعض مفردات الحديث، أو بعض كلام النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، وقال ذلك بعقب روايته للحديث، فالمفترض أن الراوي حينما
يروي ذلك عن هذا الصحابي، أو ذاك التابعي، أن يميز كلام النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بكلام غيره -بكلام الراوي- فيقول: عن فلان قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: كذا وكذ، وقال فلان: كذا وكذ، فيميز بين ما قاله النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وبين ما قاله غيره من رواة الحديث، بعض
الرواة أخط، فأدمج كلام -الراوي- الصحابي أو التابعي بكلام النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، استدللنا على ذلك بالخلاف بين الرواة، وعلى هذا فقس.
- التصحيف والتحريف: سببان يؤديان إلى وقوع الخطأ في الرواية. الراوي قد يكون اعتمد على كتاب غير مصحح، غير مقابل، غير منقح، فيقع فيه من التصحيف والتحريف ما شاء الله عز وجل، فحينما يروي يقع في الخط، فيكون التصحيف والتحريف حينئذٍ سبباً في وقوع العلة في الحديث، في وقوع الخطأ في الحديث.(1/227)
إذن هذه الأنواع كلها من هذه الحيثية يكمل بعضها بعض، ويرجح بعضها بعض، ويفسر بعضها بعضاً؛ ولهذا يصح أن تصف الحديث الواحد حيث يقع فيه خطأ من قبل بعض الرواة بأكثر من وصف من تلك الأوصاف، فتقول مثلاً: هذا حديث شاذ مقلوب، أو معلول مقلوب، هذا وصف صحيح، وهذه الأنواع تجتمع ولا تتباعد، أي ولا
تتنافر، بل هي كما قلت يكمل بعضها بعض، فالحديث مثلاً إذا استدللنا على وقوع القلب فيه عن طريق الاختلاف بين الرواة، فالحديث من هذه الحيثية يكون معلولاً؛ لأن العلة يستدل عليها بالاختلاف الواقع بين الرواة -كما سيأتي-، ومن جهة أخرى يصح أن تصفه أيضاً بكونه مقلوباً يعني كأنك تقول هذا الحديث
وقع فيه خط، استدللنا على ذلك الخطأ بالخلاف بين الرواة، فصار الحديث من هذه الحيثية معلولاً؛ لأن العلة تدرك باختلاف الرواة، فيقدم رواية الأقوى على الأدنى، قوة الأحفظ على الأدنى حفظ، وكان الخطأ الذي وقع فيه ذلك الراوي في هذه الرواية هو من قبيل القلب في الرويات؛ لأنه أبدل شيئاً بشيء في
إسناد الرواية، أو في متنه، فمن هذه الحيثية نطلق على الحديث وصف المقلوب؛ فلهذا يصح أن تصف الحديث حينئذٍ بكونه مقلوب، وبكونه أيضاً معلولاً.
- كذلك الحديث الشاذ: بعض أهل العلم يسأل عن حديث فيقول: هذا حديث شاذ، ويأتي إمام آخر يسأل عن الحديث نفسه فيقول: هذا حديث مدرج، و يسأل إماماً عن الحديث فيقول: هذا حديث معلول، والآخر يقول: هذا حديث مقلوب، فيبتادر إلى بعض بسطاء العلم بأن هناك اختلاف بين أهل العلم في وصف علة هذا الحديث، أو في
الحكم على ذلك الحديث، وليس هناك أي اختلاف بالمرة، بل كلام الأئمة -رحمهم الله تعالى- يصب في معنى واحد، غاية ما هنالك أن هناك من الأئمة من ذكر كون الرواية خط، وهناك من بين وجه ذلك الخط، فمن قال: إن الحديث شاذ، أو قال: إنه معلول، أشار بعبارته تلك: أن الحديث وقع فيه خط، ولم يبين في عبارته(1/228)
نوع الخطأ الذي وقع فيه الراوي فقط، هو بين أن الخطأ وقع في الرواية، فقال: هو شاذ أو معلول، بينما الذي قال: مدرج أو مقلوب، أفاد فائدة زائدة حيث بيَّن لنا نوع الخطأ الذي وقع فيه ذلك الراوي، وهو أنه أخطأ حيث قلب شيئاً بشيء في الإسناد، أو في المتن، أخطأ حيث أدرج كلام الراوي بكلام النبي -صلى
الله عليه وآله وسلم-، فالذي قال: هذا شاذ أو معلول فقط، اكتفى بأن أشار إلى أن الحديث وقع فيه خط، لكن لم يذكر لنا نوع ذلك الخط، فإذن الذي قال: هو مقلوب، أو قال: هو مدرج، أفاد فائدة زائدة حيث بيَّن لنا صورة هذا الخط، ونوع ذلك الخطأ الذي وقع فيه ذلك الراوي في هذا الحديث.
ومن هنا نستطيع أن نتفهم كثيراً من أقوال أهل العلم التي ربما يستعصي فهمها على بعض الطلبة المبتدئين، فيظن أن اختلافاً وقع بين أهل العلم، وليس ثمة اختلاف، بل كلام الأئمة يشرح بعضه بعضاً ويوضح بعضه بعضاً.
النوع الرابع: الحديث المسند
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (النوع الرابع. المسند: قال الحاكم: "هو ما اتصل إسناده إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ". وقال الخطيب: "هو ما اتصل إلى منتهاه". وحكى ابن عبد البر: أنه المروي عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، سواء كان متصلاً أو منقطعاً فهذه أقوال ثلاثة.)
النوع الرابع من أنواع علوم الحديث: وهو ما يسمى عندهم بالمسند، والمسند في تعريفه ثلاثة أقوال عند أهل العلم:
- التعريف الأول: وهو تعريف الإمام الحاكم النيسابوري في كتابه علوم الحديث، وهو الذي اختاره الحافظ ابن حجر العسقلاني -رحمه الله تعالى-، فقال: "هو ما اتصل إسناده إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-". فاشترط لوصف الحديث لكونه مسنداً أن يتحقق فيه -أمران- وصفان:
- الوصف الأول: أن يكون إسناده متصلاً.
- الوصف الآخر: أن يكون مضافاً إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أي مرفوعاً.(1/229)
إذن المسند عند الحاكم النيسابوري: "هو المتصل المرفوع" بأن يتحقق هذين الوصفان فيه، وصف الاتصال -أي إسناده يكون متصلاً-، ووصف الرفع والإضافة إلى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-.
الحافظ ابن حجر عرفه بقوله: "مرفوع صحابي بسند ظاهره الاتصال"، وهذا كمثل قول الحافظ النيسابوري -رحمه الله تعالى-، لكنه أفاد بقوله: بسند ظاهره الاتصال، ولم يكن بسند متصل جزماً؛ لأنه وجد في كلام أهل العلم، ووجد في الكتب التي اشترط أصحابها أن يخرجوا المسانيد من الأحاديث، كالإمام أحمد في
مسنده، وجد أنهم يخرجون الحديث الذي يقع فيه الاتصال من حيث الظهور، وليس من حيث التحقق.
فالمرسل الخفي مثلاً: المرسل الخفي -كما سيأتي إن شاء الله تعالى-: هو أن يروي الراوي عمن عاصره، وهو لم يسمع منه. فهذا ليس اسناداً متصلاً؛ لأن المعاصرة لن تستلزم اللقاء ولا السماع، عاش في زمنه ونحن عشنا في زمن مشايخ كثيرين ولم نتلق بهم، فليست المعاصرة وحدها كافية في الحكم باتصال الإسناد، بل
لابد من المعاصرة، مع العلم بالسماع، لا سيما إذا كنا نعلم أن هذا الراوي رغم أنه عاصر شيخه لم يسمع منه، ولم يلتق به، وكان هذا أمراً معروفاً معلوماً لدى أهل العلم، فنقول هذا ليس متصلاً، هو من باب الإرسال الخفي، لكن يدخله العلماء -على سبيل المجاز-فيه.
كما سئل الإمام أبو حاتم الرازي -رحمه الله تعالى- عن مثل هذه الروايات: هل تدخل في المسند؟ قال تدخل في المسند على المجاز. أي من باب التوسع؛ لأنه عاصر شيخه، نعم نحن نعلم أنه لم يسمع منه ولم يلتق به، لكن إذا أردت أن تؤلف كتاباً في المسند فتتسامح في ذلك، فتدخل مثل هذه الروايات.(1/230)
لكن إذا أردت أن تحكم على كل رواية من تلك الروايات، فليس لك إلا أن تحكم بأنها غير متصلة، لكن من حيث التصميم يجوز لك أن تدخلها في كتاب وسمته بالمسند، إذا كنت تشترط فيه أن تخرج الروايات المسانيد، أو الرويات المسندة، وهذا أمر سائغ، ووجد في صنيع أهل العلم، مع جزمهم أنفسهم بأن هؤلاء الرواة لم
يسمعوا من هؤلاء المشايخ الذين روو عنهم عن طريق الإرسال الخفي، ولكنه أمر من حيث التصنيف يجوز.
- التعريف الثاني: هناك من أهل العلم وهو الخطيب البغدادي من اشترط شرطاً واحداً من هذين الشرطين، وهو الاتصال، ولم يشترط كون الحديث مرفوعاً، ومضافاً إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاكتفى في إطلاق لفظ المسند على ما كان إسناده متصلاً إلى ما أضيف إليه، سواء أضيف إلى رسول الله -صلى الله
عليه وآله وسلم-، أو أضيف إلى أحد سواه.
- التعريف الثالث: وهناك من أهل العلم، وهو الإمام ابن عبد البر من اشترط في المسند أن يكون مضافاً إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، اتصل إسناده أو لم يتصل، فالإسناد الذي لم يتصل إسناده مضافاً إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- يصح أن يكون حينئذٍ من قبيل المسند، في عرف واصطلاح
الإمام ابن عبد البر -رحمه الله تعالى-، ومع أن هذا هو المذهب الذي ذهب إليه من ذهب من أهل العلم أن المرسل الخفي يدخل في المسند بهذا الاعتبار من حيث إضافته إلى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، ولو كان إسناده من هذه الحيثية غير متصل.
نحن عرفنا الخلاف في هذا الباب، وكما أشار الإمام ابن كثير قال: فهذه ثلاثة أقوال، ولم يرجح قولاً على آخر.
لماذا لم يرجح الإمام ابن كثير في هذا الباب؟ ذكر الأقوال الثلاثة من غير ترجيح، ومن قبله فعل الإمام ابن الصلاح -رحمه الله تعالى-؛ لأن هذا الباب ليس من باب خلاف التضاد الذي يوجب الترجيح، وإنما هو من خلاف التنوع، الاختلاف في استعمال المصطلح.(1/231)
فبعض أهل العلم يستعمله على معنى، وبعض أهل العلم يستعمله على معنى آخر، والبعض الآخر يستعمله على معنى آخر، وهكذا، فهذا من باب التنوع في استعمال ذلك المصطلح.
ماذا نستفيد من هذا التنوع؟ نستفيد من هذا التنوع: أننا إذا وجدنا إماماً من أئمة العلم استعمل المسند على معنى من هذه المعاني لا يعاب عليه؛ لأنه استعمل المصطلح على معنى معروف منصوص عليه، فإذا قلت: هذا حديث مسند فتقصد كونه مرفوعاً، حتى وإن كان الإسناد غير متصل، فهذا استعمال صحيح من حيث
الاستعمال، لا يعاب عليك، ومن عاب عليك هو الذي يعاب عليه؛ لقول العلماء لا مشاحة في الاصطلاح.
من عمد إلى إسناد متصل فوصفه بكونه مسنداً، وإن لم يكن مرفوعاً مضافاً إلى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- هذا أيضاً أمر سائغ، واستعمال صحيح؛ لأنه موجود عند أهل العلم؛ ولهذا إذا وجدت إماماً من أئمة العلم يحكم على حديث بأنه مسند فلا تبادر فتقول: إذن هو حكم بالاتصال، أو هو حكم بكونه مرفوعاً،
لا تبادر إلى ذلك إلا بعد أن تتدبر كلامه، وتتذوق اصطلاحه، وتعرف قصده، فتفهم على أي معنى يطلق ذلك العالم المسند، هل يطلقه على المرفوع المتصل، أم على المرفوع، وإن لم يكن متصلاً، أم على المتصل، وإن لم يكن مرفوعاً.
فإذا انصرف لفظ المسند حيث أطلق عند علماء الحديث لا يدل على معنى الاتصال والرفع جزماً، وإنما يستدل على ذلك بمعرفتك بمذهب ذلك العالم، أو بتتبع كلامه، وتأمله، فتعرف المعنى الذي أراده من إطلاق ذلك المصطلح.
النوع الخامس: الحديث المتصل
قال المصنف -رحمه الله تعالى-:(النوع الخامس: المتصل: ويقال له: الموصول أيضًا، وهو ينفي الإرسال والانقطاع، ويشمل المرفوع إلى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، والموقوف على الصحابي أو من دونه. )(1/232)
الحديث المتصل: ويسمى أيضاً بالموصول، ووجد في استعمال الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى- أنه استعمله بلفظ المؤتصل، كل ذلك جائز، وكل ذلك مستعمل عند أهل العلم.
وإذا كان الحديث متصلاً فلا يكون قد وقع فيه سقط من إرسال أو انقطاع أو إعضال؛ فلهذا قال: وهو ينفي الإرسال والانقطاع.
والاتصال تعريفه الذي ذكره الخطيب البغدادي -رحمه الله تعالى-: هو أن يكون كل راوٍ قد سمع الحديث ممن روى عنه، وذكرنا في لقاء سابق، وإن كان متصلاً، إلا أنه ليس شاملاً لكل صور الاتصال؛ لأن هناك رواة لم يسمعوا من المشايخ، ومع ذلك حديثهم عنهم متصل؛ لأن السماع طريقة من طرق التحمل عند علماء
الحديث، وليس هي الطريق الواحدة، ليس السماع هو الطريق الوحيدة في تحمل الحديث، بل هناك طرق ثمانية -سيأتي ذكرها إن شاء الله- في موضعها، منها العرض: وهو الذي يسمى بالمقابلة، السماع: أن تسمع لفظ الشيخ، فالشيخ يملي وأنت تسمع؛ فلهذا أنت سمعت منه، أليس كذلك؟ لكن العرض عكس ذلك، أنت الذي تقر،
والشيخ يقر قراءتك، تمسك بالكتاب بين يدي الشيخ، وتقرأ ما في الكتاب، والشيخ يقر لك القراءة، ويصحح لك القراءة، هل أنت سمعت لفظ الشيخ؟ أنت لم تسمع لفظ الشيخ، إنما تحملت عنه عن طريق العرض، كما يعرض القاريء للقرآن على الشيخ الذي يقرئه القرآن، فمن الذي يقرأ الشيخ أم القاريء؟ القاريء هو الذي
يقرأ والشيخ يقر له قراءته.
إذن هذا الذي تحمل عن طريق العرض، أو عن طريق القراءة، هل سمع لفظ الشيخ؟ لم يسمع لفظ الشيخ، إنما الشيخ هو الذي سمع لفظه، وعبارته. ومع ذلك فهذه الطريقة حجة عند أهل العلم، وهي يحكم باتصالها، وهي من أقوى طرق التحمل، من أهل العلم من يقدمها على السماع، ومنهم من يجعلها بمنزلة السماع كالبخاري(1/233)
وغيره. والراجح عند أهل العلم من أن القراءة والسماع سواء من حيث الحكم والمنزلة، فالذي تحمل عن طريق العرض إذا ما روى عن شيخه يكون حديثه متصلاً أم لا؟ متصل. ومع ذلك هو لم يسمع من الشيخ، ومع هذا كان ينبغي أن يعبر عن الاتصال بأن يقال فيه أن يكون كل راوٍ من رواة الإسناد قد تحمل الحديث عن شيخه
بطريق من الطرق المعتبرة، سواء كان سماعاً أو غيره من الطرق التي هي عند أهل العلم، تعتبر متصلة ويحكم باتصالها.
يقول سواء كان ذلك في المرفوع، أو في الموقوف، أو في المقطوع -أي من دون الموقوف- وهو ما يضاف إلى غير الصحابي، وما يضاف إلى التابعي فمن بعده، وهو يسمى عنده بالمقطوع، وهو بخلاف المنقطع الآتي.
يعني وصفك للحديث بكونه متصل، لا يشترط أن يكون مضافاً إلى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، قد يكون مضافاً إلى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وهو متصل، وقد يكون مضافاً إلى الصحابي، وهو أيضاً متصل -أي اتصل الإسناد إلى من انتهى إليه الخبر من صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم-، قد يكون
الإسناد متصلاً إلى التابعي، فتقول: هذا إسناد متصل إلى الحسن البصري، متصل إلى سعيد بن المسيب، ونحو ذلك، فكل ذلك وصفوه بكونه متصلاً.
لكن بعض أهل العلم قال: يجوز لك أن تجمع في الوصف بين الوصل والرفع، تقول: هذا موصول مرفوع، والوصل والوقف، تقول: هذا موصول موقوف، لكن إذا أردت أن تجمع بين الوصل والقطع فلا تفعل؛ لأن القطع بمعناه اللغوي يتنافى مع الوصل، فذهب أهل العلم أنه حينئذٍ لا تستعمل لفظ المقطوع، حتى لا تقع في الوهم
أو تُوقِع في الإيهام، وإنما تقول مثلاً: هذا موصول إلى الحسن البصري، هذا موصول إلى سعيد بن المسيب، هذا متصل إلى محمد بن شهاب الزهري وهكذا، ولا تقول هذا موصول مقطوع لما بين الوصل والقطع من تعارض وتنافٍ.
النوع السادس: الحديث المرفوع(1/234)
قال المصنف -رحمه الله تعالى- (النوع السادس: المرفوع: هو ما أضيف إلى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قولاً أو فعلاً عنه، وسواء كان متصلاً أو منقطعاً أو مرسل، ونفى الخطيب أن يكون مرسل، فقال: هو ما أخبر فيه الصحابي عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- .)
الحديث المرفوع: هو ما أضيف إلى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- من قول، أو فعل، أو تقرير، بمعنى إذا سئل بحضرة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فعل، أو قيل لحضرته -صلى الله عليه وسلم- قول من قبل بعض أصحابه، ولم ينكر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ذلك الفعل، أو ذاك القول، فهذا يعتبر إقراراً
من رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- لهذا الفعل، وذاك القول، فهو يعد من المرفوع أيضً، وبعضهم أدخل ما له تعليق بوصف النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- سواء الخُلُقي أو الخَلْقي؛ لأن ذلك كله يضاف إلى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، كل ذلك داخل في المرفوع.
والعلماء الذين اشترطوا في تصنيفهم أن يخرجوا المرفوعات، أدخلوا كل ذلك، فالإمام البخاري، والإمام مسلم في الصحيحين، عندما يخرجان الأحاديث المرفوعة المضافة إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، أدخلوا كل ما كان قولاً للنبي -صلى الله عليه وسلم- مما هو صحيح عندهم بطبيعة الحال، أدخلوا كل
صحيح عندهم عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- سواء كان قولاً أو فعلاً أو تقريراً أو وصفاً خَلقياً أو خُلقي، فكل ذلك داخل في المرفوع.
يقول: إن الخطيب البغدادي لم يدخل فيه المرسل، فقال: هو ما أخبر فيه الصحابي عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-.(1/235)
معنى أنه أخبر فيه الصحابي عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- إذن ما أخبر فيه التابعي عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، لا يكون حينئذٍ مرفوعاً في نظر الحافظ الخطيب. والواقع أن الخطيب لا يخالف في ذلك، وليس له اصطلاح خاص، وإنما وصف ذلك على سبيل التغليب؛ لأن أغلب الأحاديث المرفوعة
المضافة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إنما تقع من قبل الصحابة، الصحابي هو الذي يضيف ذلك غالباً إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، وإن كان يقع المرسل مضافاً إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، والذي أضافه إلى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- إنما هو تابعي وليس صحابي، وهذا
وإن كان يقع إلا أن ذلك نادرٌ بالنسبة للمرفوعات المضافة من قبل الصحابة إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-.
ثم إن عامة المحدثين يغلب على استعمالهم في المرسل ألا يصفونه بالرفع، فلا يقولون مثلاً: هذا مرسل مرفوع. إنما المرسل يقولون: هذا مرسل. وكلمة مرسل في الاصطلاح تتضمن الرفع، فأنت إذا سمعت المحدث يقول: هذا مرسل. فأنت تفهم تلقائياً أنه مضاف إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-؛ لأن الخطيب
نفسه وغيره من العلماء، عرفوا المرسل: بأنه الذي أضافه التابعي إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، وذكر الخطيب البغدادي أن هذا هو الأكثر في الاستعمال، يعني أكثر ما يستعمل المرسل فيما نسبه أو أضافه التابعي إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، وإن كان المرسل يستعمل بكثرة أيضاً في كل
ما لم يتصل بحال من الأحوال، سواء في وسط الإسناد، أو في نهاية الإسناد، ولكن كما قال الخطيب البغدادي، أو أغلب استعمال الخطيب للمرسل فيما أضافه التابعي إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-.(1/236)
فإذا ما قال: هذا مرسل فأنت تلقائياً تفهم أنه مرفوع، ولا تحتاج إلى أن يوصف بكونه مرفوعاً لتتحقق، هل هو مضاف إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- أم لا؟ بل مجرد وصف المحدث للحديث بأنه مرسل، فأنت تفهم بالضرورة أنه يقصد المرسل إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، أما إذا كان يقصد أنه
مرسل في موضع آخر من الإسناد، فغالباً ما يبينون ذلك، أو يكون الحال مبيناً لذلك؛ لأنه يتكلم مثلاً عن إسناد، ويقول: هذا مرسل، فلان لم يسمع من فلان، فتفهم أنه يقصد بالإرسال هنا الانقطاع، وكما سيأتي أن الإرسال والانقطاع يستعملان كثيراً كل منهما في موضع الآخر.
النوع السابع: الموقوف
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (النوع السابع: الموقوف. ومطلقه يختص بالصحابي، ولا يستعمل في من دونه إلا مقيداً. وقد يكون إسناده متصلاً وغير متصل.)
الموقوف يختلف عن المرفوع، فالمرفوع -كما عرفنا-: هو المضاف إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، أما الموقوف: فهو المضاف إلى واحد من الصحابة الكرام -رضي الله عنهم أجمعين-، فإذا أضيف إلى صحابي من الصحابة قولاً أو فعل، فذلك يعد من الموقوف، نقول فيه: إنه موقوف.- أما إذا كان الحديث
مضافاً إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فذلك المرفوع- كأن الراوي جاء عند الصحابي وأوقف الحديث، ولم يرتق به، ولم يتجاوز به الصحابي، ولم يرتق به إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، فجاء عند الصحابي ووقف، فلذلك سمي موقوف، سواء كان الإسناد متصل، أو غير متصل؛ لأن الرفع والوقف،
إنما هما وصفان للمتن لا للإسناد.
هذا الفعل، هذا القول، هذا الوصف، إلى من أضيف؟ فإن أضيف إلى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فذلك مرفوع. أو أضيف إلى الصحابي فذلك الموقوف. أما الاتصال والانقطاع فهو من مباحث الأسانيد، فلا يؤثر في هذا الوصف الذي أضيف إلى من أضيف إليه.(1/237)
فالموقوف: هو المضاف والمنسوب إلى أحد الصحابة الكرام-رضي الله عنهم وأرضاهم-. سواء كان هذا الحديث متصلاً أو غير متصل.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (وهو الذي يسميه كثير من الفقهاء والمحدثين أيضاً:ً أثراً. وعزاه ابن الصلاح إلى الخُراسانيين: أنهم يسمون الموقوف أثراً.
قال: وبلغنا عن أبي القاسم الفوراني أنه قال: الخبر ما كان عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، الأثر: ما كان عن الصحابي.
قلت: ومن هذا يسمي كثير من العلماء الكتاب الجامع لهذا وهذا (بالسنن والآثار) ككتابي (السنن والآثار) للطحاوي، والبيهقي وغيرهما. والله أعلم.)
بعد أن انتهى من تعريف الحديث الموقوف، ذكر أنه يعبر عنه بألفاظ أخرى، وبأسماء أخرى، فذكر أن ذلك الموقوف، أي المضاف إلى أحد الصحابة الكرام، هو الذي يعبر عنه العلماء بقولهم: أثر.
فالأثر في استعمال العلماء المحدثين والفقهاء: هو المضاف إلى من دون النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، سواء كان هذا صحابي، أو تابعي، فكل ما أضيف إلى غير النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ممن جاء بعد النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يسمى أثراً.
ومن ذلك ما وجد في المصنفات -أي في تسمية بعض المصنفات الحديثية والفقهية- كمعرفة السنن والآثار للبيهقي.
- ويقصد بالسنن: أي المرفوعات المضافة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
- ويقصد بالآثار: ما أضيف إلى غيره من الصحابة أو التابعين.
فمن هذا نأخذ أن الآثار هي المضافة إلى غير رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-.
ونأخذ أيضاً من تسمية الإمام البيهقي لكتابه ذلك: بأن السنن تطلق على المرفوعات، ومعرفة السنن والآثار، فإذا وجدت في كلام أهل العلم مثل هذا التعبير فاعلم أنه يقصد بالسن أي سنة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- المضافة إليه -صلى الله عليه وسلم-.(1/238)
فإذن تكون حينئذٍ كلمة سنة بمعنى مرفوع، وهو الذي يعبر عنه بكلمة حديث، فتقول: الأحاديث والآثار، فالأحاديث: هي المضافة إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، والآثار: المضافة إلى غيره، ممن جاء بعده من الصحابة أو التابعين.
كل ذلك مستعمل في عبارات أهل العلم -رحمهم الله تعالى ورضي عنهم-، وإن كان لفظ الحديث أحياناً يستعمل على أكثر من ذلك، أو على معنى أوسع، ذكرنا في لقاء سابق أن المحدثين يستعملون الحديث على الإسناد نفسه، فيقول الواحد منهم مثلاً: عندي لهذا المتن عشرة أحاديث، أو كما قال شعبة: عندي أربعة عشر
حديثاً عن المغيرة بن شعبة في المسح على الخفين، فالحديث واحد والمتن واحد، ويقصد بالأحاديث هنا: الأسانيد، وكما قال البخاري -رحمه الله تعالى-: " أحفظ من الصحيح مائة ألف حديث صحيح، ومن غير الصحيح مائتي ألف حديث غير صحيح" ، فسره العلماء بأنه يقصد الأسانيد المتعددة للمتن الواحد، وإلا لو جمعت
الأحاديث الصحيحة، والضعيفة، والموضوعة، وما لا أصل له، بل والآثار، لا تبلغ هذا العدد، وهذا الجامع الكبير للسيوطي على توسعه في الجمع، جمع الصحيح، والضعيف، والموضوع، وما لا أصل له، والباطل، والمنكر، وفيه المكرر الكثير، وجمع الموقوفات، سواء عن الصحابة، أو عن التابعين، وكتابه لم يبلغ عدد
الروايات التي فيه خمسين ألف، بل هي ستة وأربعين ألف تقريب، فهذا رغم كثرته في الجمع، وتوسعه في الجمع، لم يبلغ هذا العدد، فكيف يقول البخاري وحده: إنه يحفظ من الصحيح فقط مائة ألف حديث، ومن غير الصحيح مائتي ألف حديث؟!
فالعلماء قالوا: إنما قصد البخاري بالحديث ها هنا الإسناد، فالمتن الواحد إذا كان مرفوعاً أو موقوفاً أو مقطوع، إذا روي بأكثر من إسناد، فكل إسناد من تلك الأسانيد يسمى حديث، وإنما يعرف ذلك من خلال السياق.(1/239)
لفظ السنة وإن أطلقه بعض أهل العلم على الحديث، أو على المرفوع، أو على ما أضيف إلى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، إلا أن بعض أهل العلم يقول: إن هذا الاستعمال من باب التوسع في الاصطلاح، وإلا فأصل السنة ليست هي الحديث نفسه، وليس هو المرفوع نفسه، وإنما السنة: ما دل عليه المرفوع، ما دل عليه
الحديث.
بمعنى عندنا مثلاً حديث عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- أنه كان يرفع يديه في الصلاة، فهذا نسميه حديث الصحابي يحكي فعل النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بأنه كان يرفع يديه في الصلاة، هذا حديث مرفوع أم لا؟ هذا مرفوع، يسمى مرفوعاً؛ لأنه مضاف إلى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- من فعله،
لكن نسميه سنة؟ إن سميته سنة، فتقصد بالسنة هنا الحديث، لكن بعض أهل العلم يقول: لا.. لن أسميه سنة، إنما السنة: هي رفع اليدين، فتقول: من السنة رفع اليدين في الصلاة، أما لفظ الحديث المروي عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فهذا نسميه حديث، ونسميه متن، ونسميه مرفوع، أما إذا أردنا
السنة، فنقول: السنة ما دل عليه ذلك الحديث، من سنية هذا الفعل، وطبعاً هذا اختلاف غير مؤثر في المسألة، ولكن أردت أن أذكره حتى تكون على تبصرة منه.
هناك أيضاً من المصطلحات التي توجد في استعمال أهل العلم: مصطلح الخبر. عرفنا الأثر: هو ما أضيف إلى غير النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- من الصحابة أو التابعين، وعرفنا الحديث، فما هو الخبر؟
الخبر: كل ما يروى من الرويات، سواء عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- أو عن غيره من الرواة. فإذا أضيف الخبر إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فيسمى خبراً؛ لأنه شيء أُخبر به، أَخبر راوٍ من الرواة، نقله ناقل، وإذا أضيف إلى الصحابي، فهذا أيضاً خبر، وإذا أضيف إلى التابعي، فذلك
أيضاً خبر، فكل ما يتناقله الناس من الروايات، والأخبار، يسمى في عرف المحدثين خبراً.(1/240)
وإن كان المحدثين لكثرة اشتغالهم بالحديث المرفوع كثيراً ما يطلقون الخبر على إرادة الحديث المضاف إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-.
هناك أيضاً من المصطلحات الإسرائيليات، يوجد هذا في كتب أهل العلم، والإسرائيليات: هي ما أضيفت إلى بني إسرائيل، سواء عن أفواههم، أو عن كتبهم، والرسول -عليه الصلاة والسلام- صح عنه أنه قال: (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج)، فهذه الإسرائيليات: هي التي أضيفت إلى الكتب القديمة، أو إلى بني إسرائيل،
وهناك من الصحابة من كان إسرائيلي، وكان يهودي، ثم أسلم، فحدثوا ببعض ما عندهم من العلم، وكان الصحابة يتسامحون في نقل ذلك، إذا لم يكن معارضاً لما في شريعة الإسلام، وهذا سيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى في موضعه.
النوع الثامن: المقطوع
قال المصنف -رحمه الله تعالى- (النوع الثامن: المقطوع: وهو الموقوف على التابعين قولاً وفعل، وهو غير المنقطع.
وقد وقع في عبارة الشافعي والطبراني إطلاق المقطوع على منقطع الإسناد غير الموصول .)
المقطوع: هو ما أضيف إلى ما دون الصحابي.
الموقوف: ما أضيف إلى الصحابي.
المرفوع: ما أضيف إلى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-.
المقطوع: ما أضيف إلى التابعي فمن بعده، ويسمى كما يسمى الموقوف: أثراً. فالأثر يشمل الموقوف والمقطوع.
يقول الإمام ابن كثير: هناك من أهل العلم من استعمل المقطوع، أو عبر عن المقطوع بلفظ المنقطع. فقال: هذا حديث منقطع، يقصد كونه مقطوع، أي مضافاً إلى أحد التابعين، لا يقصد أن إسناده لم يتصل، وهذا ما يتوسع فيه الاصطلاح؛ لأن المقطوع والمنقطع كلاهما من حيث اللغة بمعنى واحد.(1/241)
وهناك من عكس الأمر، فوجد في كلام بعض أهل العلم من استعمل المقطوع بمعنى المنقطع، فيقول: هذا إسناد مقطوع، أي لم يتصل إسناده، أي وقع فيه انقطاع، وهذا إنما يعرف المعنى، أو المراد منه من خلال تتبع الرواية، أو سياق الكلام، فنفهم مراد العالم في كل موضع من المواضع.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (وقد تكلم الشيخ أبو عمرو على قول الصحابي: "كنا نفعل" أو "نقول كذا " إن لم يضفه إلى زمان النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فهو من قبيل الموقوف.
وإن أضافه إلى زمان النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فقال أبو بكر البرقاني عن شيخه أبي بكر الإسماعيلي: إنه من قبيل الموقوف، وحكم الحاكم النيسابوري برفعه؛ لأنه يدل على التقرير، ورجحه ابن الصلاح.)
يتكلم الحافظ ابن كثير ها هنا نقلاً عن ابن الصلاح في مسألة المرفوع حكم، ما هو المرفوع حكماً؟ حديث من حيث اللفظ موقوف، إذا نظرنا إلى الرواية نظرة مجردة عن أي اعتبارات أخرى: فهي موقوفة مضافة إلى الصحابي. الصحابي قال قولاً من قبل نفسه، ولم يضفه إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، فمن
هذه الحيثية إذا راعينا اللفظ فقط، فالرواية موقوفة، ومع ذلك يرى أهل العلم -رحمهم الله تعالى- أن هناك من الموقوفات ما انضمت إليها معان معينة -أي قرائن معينة- تلك القرائن سواء كانت قرائن حالية أو لفظية، تدل على أن هذا الحديث، وإن كان من حيث اللفظ مضافاً إلى الصحابي، إلا أنه من حيث الحكم: هو
كالمرفوع سواءً بسواء؛ لأنه مما لا يقوله الصحابي إلا عن طريق الخبر.
لابد للصحابي لكي يقول هذه الأمور أن يكون قد سمعها ممن أخبره بها، سواء كان ذلك رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- أو غيره، فإذا تحققنا أن المخبر بها إنما هو رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- يكون حينئذٍ كالمرفوع سواء بسواء، أما إذا اعترانا الشك هل الصحابي أخذها عن رسول الله -صلى الله(1/242)
عليه وآله وسلم- أو عن غيره؟ كأن يكون مثلاً أخذها عن أهل الكتاب، لما علم من أن الصحابة أو بعض الصحابة كانوا يأخذون عن أهل الكتاب، فحينئذ لا تعطى حكم الرفع.
من ذلك: أن يأتي الصحابي فيقول: "كنا نفعل كذا "، أو "كنا نقول كذا معشر الصحابة" يأتي بعض الصحابة فيقول: كنا نفعل كذا وكذ، فيذكر فعلاً، أو كنا نقول كذا وكذا ويذكر قولاً.
يقول: إن لم يضفه إلى زمان النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- هنا ملاحظة في بعض النسخ عندكم سقط في عبارة الإمام ابن كثير فعندكم: إن لم يضفه إلى زمان النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فقال أبو بكر البرقاني. هناك سقط نحو سطرين لابد منهما لكي يستقيم الكلام، فيصححان على هذا النحو: ( إن لم يضفه إلى
زمان) يزاد هنا (رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فهو من قبيل الموقوف، وإن أضافه إلى زمان النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-) تزاد هذه العبارة حتى يستقيم المعنى.
(إن لم يضفه إلى زمان رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فهو من قبيل الموقوف). يعني إذا قال الصحابي: كنا نقول كذا، أو كنا نفعل كذا، ولم يقل إن ذلك القول أو الفعل كان في حياة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فهذا موقوف؛ لأنه من الممكن أن يكونوا يقولون: هذا القول، أو يفعلون هذا الفعل بعد وفاة
النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، أما إذا أضافه إلى زمان النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فيأتي الخلاف الذي بعده.
فقال: (وإن أضافه إلى زمان النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-). كأن يقول كنا نفعل في حياة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، أو في زمن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أو كنا نقول في زمن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، أو ما يدل على ذلك، كما قال بعض الصحابة: "كنا نعزل والقرآن ينزل"، والقرآن ينزل
في حياة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أم بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-؟ أي في حياة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-.(1/243)
استدل الصحابي على جواز العزل بأن الصحابة -رضي الله عنهم أجمعين - كانوا يعزلون عن نسائهم في الوقت الذي كان ينزل القرآن على رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فيه. كأنه يقول لو كان ممنوع، أو لو كان غير مشروع لنزل تحريم ذلك على رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، فاستدل بسكوت القرآن،
وسكوت الرسول -صلى الله عليه وسلم-، مع كونه كان في حياة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أمراً معروفاً بين الصحابة، استدلوا بذلك على جوازه، إذ لو كان ممنوعاً لنهاهم النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- عنه، وإن أضافه إلى زمان النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فقال الإمام أبو بكر البرقاني عن شيخه
أبو بكر الإسماعيلي: إنه من قبيل الموقوف، يعني رأى أن ذلك من قبيل الموقوف، رغم كونه مضافاً إلى زمان النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فهذا قول ضعيف.
يقول: وحكم الحاكم النيسابوري برفعه. أي أن حكمه حكم الحديث المرفوع، وعمل كما لو أنه حديث عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- من حيث الاحتجاج.
(وحكم الحاكم النيسابوري برفعه؛ لأنه يدل على التقرير، ورجحه الإمام ابن الصلاح)؛ لأنه إذا كان هذا القول، أو ذاك الفعل، كان الصحابة -رضي الله عنهم أجمعين -يفعلونه في حياة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، والنبي -صلى الله عليه وسلم- لا ينكر ذلك، فهذا يفيد التقرير، النبي -صلى الله عليه وآله
وسلم- أقرهم على ذلك، إذ لو كان منهياً عنه لنهاهم النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-؛ لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان لا يسكت عن خطأ يقع في زمانه، أو في حياته، إلا ويبين للناس أمر دينهم.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (قال: ومن هذا القبيل قول الصحابي: " كنا لا نرى بأساً بكذا"، أو "كانوا يفعلون أو يقولون" أو "يقال كذا في عهد رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-": إنه من قبيل المرفوع .)(1/244)
كل ذلك تفريع على الصورة السابقة، ما دام أنه كان في عهد النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وصرح الصحابي بذلك، فحينئذٍ له حكم الرفع.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (وقول الصحابي " أمرنا بكذا " أو "نهينا عن كذا ": مرفوع مسند عند أصحاب الحديث. وهو قول أكثر أهل العلم. وخالف في ذلك فريق، منهم أبو بكر الإسماعيلي.)
هذا أيضاً من قبيل المرفوع حكماً، أن يأتي الصحابي فيقول: "أمرنا بكذا " أو "نهينا عن كذا "؛ لأن الآمر والناهي لهم من هو؟ رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، فإذا قال الصحابي: " أمرنا "، فهو يقصد أمر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أو " نهينا " فيقصد ويعني: نهي النبي -صلى الله عليه وآله
وسلم- هذا في قول جمهور أهل العلم، ومن خالف ذلك، فهو خلاف ضعيف.
وبعض أهل العلم فرق بين أن يقول ذلك أحد من كبار الصحابة، أو من صغارهم، فإن كان من كبار الصحابة، فهو مرفوع يقيناً؛ لأنه مثلاً أبو بكر، أو عمر، من سيأمرهم؟ النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أما إن كان من صغار الصحابة كابن عمر، وابن عباس، وغيرهم، فبعض أهل العلم قال: لا يعطى حكم الرفع؛ لاحتمال
أن يقصد بالأمر والنهي: أي أمر الخلفاء، ولكن هذا قول ضعيف.
قال المصنف -رحمه الله تعالى- (وكذا الكلام على قوله: "من السنة كذا " وقول أنس: (أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة ). )
طبعاً قول أنس: أمر بلال بكذا، فهذا مرفوع لا خلاف فيه؛ لأن بلالاً إنما كان يؤذن للنبي -صلى الله عليه وسلم-، فإذا جاء أنه أمر بكذا، أو نهي عن كذا، يعني أمر بلال، أو نهي بلال، فنفهم ضرورة أن الآمر له، والناهي إنما هو رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، وإن لم يصرح بذكره.(1/245)
ثم قول الصحابي "من السنة كذا " نجد كثيراً في الروايات أن الصحابي يقول: "من السنة كذا وكذا " فيذكر أموراً معينة، أو أحكاماً معينة، جمهور أهل العلم على أن قول الصحابي "من السنة كذا " هو في حكم المرفوع؛ ولأن السنة حيث أطلقها الصحابي فإنما يقصد سنة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، هذا
الذي يتبادر إلى الذهن، وهذا الذي وجد في اصطلاحهم، واستعمالهم، فالصحابي لا يقول سنة، ويقصد مثلاً سنة أبي بكر، ولا سنة عمر، وهذا وإن وجد في مواضع، لكنها قليلة لا تقدح في القاعدة العامة، وهو أيضاً ما يظهر من سياق الكلام، ما يدل على أن السنة ها هن، ليست المضافة إلى رسول الله -صلى الله عليه
وآله وسلم-، لكن في الأعم الأغلب إذا ما أطلق الصحابي السنة، ويقصد سنة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-؛ لأن هذا المصطلح -أعني السنة في هذا الزمان- إنما كان يقصد به فقط، سنة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-.
لكن ماذا إذا قال التابعي من السنة؟ كذا الصحابي إذا قال: من السنة كذا؟ فنحن نفهم أنه يقصد بالسنة سنة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، لكن إذا ما جاء التابعي، فقال: من السنة كذا فما الحكم؟ هل يعامل معاملة المرفوع أم لا؟ التابعي سعيد بن المسيب مثل، الزهري مثل، الحسن البصري مثل، كل
هؤلاء من التابعين، إذا جاء الواحد منهم، فقال: من السنة كذا، فأولاً: لابد أن ينظر هل السنة في عرف التابعين كانت لا تطلق إلا على سنة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- أم لا؟ الواقع: أن كلمة السنة في عرف التابعين، وقع فيها توسع، فصار التابعون، يطلقون السنة بطبيعة الحال على سنة رسول الله
-صلى الله عليه وآله وسلم-، وأحياناً يطلقون السنة على سنة الخلفاء، أو سنة ابي بكر وعمر، فكل ذلك يسمى عندهم سنة، من باب قول النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ).(1/246)
فمصطلح السنة صار في عرف التابعين أوسع منه في عرف الصحابة الكرام -رضي الله عنهم أجمعين-؛ فلأجل هذا كان قول التابعي من السنة كذا أمراً محتملاً هل يقصد سنة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- أم يقصد سنة الخلفاء، أو سنة أبي بكر وعمر؟.
فلما كان مصطلح السنة في هذا الزمان محتملاً للأمرين، لم يكن قول التابعين من السنة كذ، دالاً على الرفع، أو صريحاً في الرفع؛ لما يعتريه من ذلك الاحتمال.
فإذا لم يكن كذلك فماذا نسميه؟ هل نعامله معاملة الموقوف؟ أخذاً بالأحوط؛ لأنه يحتمل أن يكون قاصداً بالسنة سنة الخلفاء، أو سنة الصحابة، أو سنة أبو بكر وعمر، أو سنة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-.
فالأحوط أن نضيفه إلى من نتيقن أنه من الممكن أن يضاف إليه، لا نستطيع أن نجزم بأنه يقصد سنة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، لكن من الممكن أن نقول: لاشك أن إرادته لسنة الخلفاء أو سنة الصحابة، هذا داخل في قوله من السنة؛ فلأجل هذا من الممكن أن تصفه بأنه موقوف بأنه من الموقوف.
الواقع أن الإمام النووي -رحمه الله تعالى-: حكى خلافاً في هذه المسألة، فذكر أن بعض أهل العلم جعله من الموقوف، ذكره من الموقوف بناءً على ما ذكرنا من أن قوله من السنة، يشمل سنة الصحابة، فإذن يكون داخلاً في الموقوف؛ لأن الموقوف ما أضيف إلى الصحابة الكرام.
ومنهم من جعله مرسل، من قبيل المرسل، ومعنى جعلوه من قبيل المرسل، إذن هذا القائل بإرساله، هو يعتقد أنه مضاف إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، فلما ذهب هذا الذاهب إلى أن قول التابعي من السنة كذ، إنما يقصد سنة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، ففهم هذا العالم أن التابعي إذا قال(1/247)
من السنة فهو يقصد سنة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، فاعتبره كما لو أضاف الخبر إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، والتابعي إذا ما أضاف الخبر إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- يكون إضافةً متصلةً أم مرسلة؟ مرسلة فسمى هذا العالم الحديث الذي يقول في التابعي: من السنة كذ،
اعتبره من قبيل المرسل، فمعنى أنهم جعلوه من المرسل أنهم جعلوه من المضاف إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- حكم، ولكن الإمام النووي رجح الوقف في ذلك، وهو الأقرب إلى الاحتياط.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (قال: وما قيل في أن تفسير الصحابي في حكم المرفوع، فإنما ذلك فيما كان سبب نزول أو نحو ذلك)
الآثار المروية عن السلف من الصحابة في تفسير الآيات القرآنية، هل لها حكم الرفع أم لا؟
فمن أهل العلم من جعلها كالمرفوع. الإمام الحاكم النيسابوري في المستدرك كثيراً ما يعد ذلك من المرفوع، مع أنه في غير المستدرك في كتاب المعرفة خص ذلك بما له تعلق بأسباب النزول، يعني أن يقول الصحابي هذه الآية نزلت في المناسبة الفلانية، فإن حكايته لسبب النزول هو إضافةً منه إلى رسول الله -صلى
الله عليه وآله وسلم-؛ لأنه يحكي حال النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، أو الموقوف الذي كان فيه النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، حال نزول هذه الآية عليه -صلى الله عليه وآله وسلم-، فمهما حكى من سبب نزول الآية، فهو يحكي ما كان متعلقاً برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كما قال عمر بن الخطاب
-رضي الله عنه-: لما قال له اليهودي: (عندكم آية في القرآن لو نزلت علينا معشر يهود لاتخذنا هذا اليوم عيداً، قال: ما هو، قال قول الله: ? الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا ? [المائدة: 3 ]، قال: لقد نزلت على رسول الله(1/248)
-صلى الله عليه وآله وسلم- يوم عرفة، وهو واقف على عرفات، وكان يوم جمعة).
فهو حكى الموقف، أو السبب الذي نزلت فيه تلك الآية، فذلك يعد من المرفوع؛ لهذا وجدنا مثل هذا الحديث مخرجاً عند العلماء الذي اشترطوا رواية المرفوع في كتبهم، كالبخاري ومسلم والإمام أحمد في مسنده، فهذا له حكم الرفع، يعامل معاملة المرفوع.
أما الذي يقوله الصحابي من قبل نفسه في تفسير بعض الآيات بمقتضى اللغة، أو بمقتضى معرفته اجتهاداً منه، فهذا لا يعامل معاملة المرفوع، بل هو أثر من الآثار، موقوف على ذلك الصحابي، والصحابة تكلموا في العلم عموماً في تفسير القرآن، وفي غيره، فكل ذلك يعد من قبيل الآثار، منه الصواب، ومنه الخطأ، منه
الراجح، ومنه المرجوح.
قال المصنف -رحمه الله تعالى- (أما إذا قال الراوي عن الصحابي "يرفع الحديث" أو "ينميه" أو "يبلغ به النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-" فهو عند أهل الحديث من قبيل المرفوع الصريح في الرفع. والله أعلم.)
هنا صورة أخرى من صور المرفوع حكماً، وهي: ما ينضم إلى الرواية الموقوفة قرينة لفظية، لفظ معين يستدل به على كون الحديث منسوباً ومضافاً إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-.
- اللفظ الأول: أن يقول الراوي عن الصحابي يرفع الحديث. مثلاً عن أبي هريرة يرفع الحديث، إذا قال الراوي عن الصحابي بأنه يرفع الحديث، فنفهم بالضرورة أنه يضيف الحديث إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، فإذن معنى قول الراوي عن الصحابي أنه يرفع الحديث، أي يرويه عن رسول الله -صلى الله عليه
وآله وسلم-.
- اللفظ الثاني: ومن ذلك قوله ينمه أو ينميه كلاهما وجد في الروايات ينميه أي يرويه. فإذن الصحابي لم يقل القول من قبل نفسه إنما رواه عمن فوقه، والصحابي إنما يروي عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-،(1/249)
- اللفظ الثالث: أو يبلغ به. يأتي الراوي عن الصحابي فيقول: عن الصحابي الفلاني يبلغ به. بطبيعة الحال إذا قال يبلغ به النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فهذا مرفوع صراحة، لكن ليس مراداً هنا؛ ولهذا زيادة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- زيادة غير صحيحة، إما أنها من النساخ أو من الحافظ ابن كثير،
وإلا كتاب الحافظ ابن الصلاح ليس فيه تلك الزيادة، وهي غير مرادة ها هنا؛ لأن الإمام يتكلم عن المرفوع من حيث الحكم، لا من حيث اللفظ، وقول الراوي عن الصحابي يبلغ به النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- هذا مرفوع من حيث اللفظ لا من حيث الحكم فقط. فالصواب أن يقول: هنا يبلغ به فقط؛ لأنه يبلغ به، هل
يبلغ به النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أم غير النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-؟ لهذا دخلت هذه المسألة في هذا الباب، ولكن الذي عرف ابن الصلاح المحدثين، أنه إذا قال الواحد من الرواة يبلغ عن الصحابي يبلغ به فهو يقصد النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، أما إذا صرح بقوله يبلغ به النبي -صلى الله
عليه وآله وسلم- فليس هذا فيه إشكال إن شاء الله.
- كذلك أيضاً من العبارات المستعملة في هذا أن يقول "رواية" يعني الراوي عن الصحابي عن أبي هريرة رواية، أو "رواه" هذه أيضاً عبارات توجد في الأسانيد، يفهم منهما كون هذا الصحابي، إنما يروي الخبر عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، ويقوله من قبل نفسه، فهذا أيضاً كله من المرفوع حكماً، وإن
لم يكن من المرفوع صراحةً.
هناك صور أخرى ذكرها أهل العلم -رحمهم الله تعالى- مما يتعلق بالمرفوع حكماً، ولم يذكرها ابن الصلاح، منها:(1/250)
- أن يقول الراوي عن الصحابي قال: قال يعني مثلاً محمد بن سيرين يقول: عن أبي هريرة، قال: قال: كذا وكذ، بعض من لا يفهم هذا، يتصور أن قال الثانية مكررة، وليس ذلك صحيحاً، بل هي مرادة، قال الأولى الضمير فيها عائد على الصحابي، وقال الثانية الضمير فيها عائد على رسول الله -صلى الله عليه وآله
وسلم-، فهذا أيضاً له حكم الرفع.
- منها: ما يترتب عليه ثواب مخصوص، أو عقاب مخصوص. كما جاء عن أبي هريرة -رضي الله عنه وأرضاه- لما رأى رجل خارج من المسجد بعد الأذان، فقال: أما هذا فقد عصى أبا القاسم. فبطبيعة الحال لا يقول ذلك الصحابي إلا إذا كان عنده علم عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- يتضمن ذلك المعنى.
- أيضاً مما لا مجال للرأي فيه، كأن يخبر الصحابي عن بعض الأمور التي كانت في بدء الخلق، أو ما يتعلق بالأمور السابقة من قصص الأنبياء، وغير ذلك، أو الفتن والملاحم، وعلامات يوم القيامة، وهذا لا يكون فيه مجال للرأي، إلا إذا كان هذا الصحابي، من المعروفين بالأخذ عن أهل الكتاب، فحينئذ لا يحكم
بالرفع لاحتمال أن يكون إنما أخذ ذلك عن أهل الكتاب، وليس عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-.
- التابعي إذا قال يبلغ به، أو ينميه، أو يرفعه، فهذا يكون من قبيل الإرسال؛ لأن التابعي يعني الراوي عن التابعي، راوي عن الحسن البصري، يقول عن البصري يبلغ به، أو عن الحسن يرفعه، فكما لو أنه عن الحسن عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، فيعامل معاملة الحديث المرسل؛ لأن ما رفعه التابعي هو
من قبيل المرسل، وليس من قبيل المتصل.
وردتنا إجابات: كان السؤال الأول: اذكر خلاصة الحكم فيما سكت عنه أبو داود. وكانت الإجابة: ما سكت عنه أبو داود فإذا كان الحديث مذكوراً في الصحيحين، أو أحدهما، أو نص على صحته أحد من الأئمة، فهو صحيح، وما كان غير ذلك، فهو حسن عند أبي داود عملاً بالمتيقن والأحوط(1/251)
هذا بطبيعة الحال يعد جواباً عن رأي أبو داود في هذه الأحاديث، لكن السؤال لم يكن كذلك، إنما السؤال عن هذه الأحاديث، وعن منزلتها وأنواعها، فالإجابة الصحيحة أن تقول في سنن أبي داود ما هو صحيح في أعلى درجات الصحة، وما هو صحيح دون ذلك، وما هو حسن سواء لذاته أو لغيره، وما هو ضعيف، ولكنه عند أبي
داود معمول به، وما هو ضعيف جداً، إما أن يصرح بكونه كذلك، وإما أن يسكت عنه لشهرته؛ ولهذا لا يعتمد على مجرد سكوت أبي داود فلا يحكم على حديث بأنه حسن، أو صالح لمجرد أن أبا داود سكت عنه، مما ذكرناه.
السؤال الثاني: ما معنى قول الترمذي حسن صحيح ؟ كانت الإجابة: على الراجح كما قال ابن رجب الحنبلي في قول الترمذي: حسن صحيح، قال: هو نفسه قد شرحه فذكر أن الحديث الحسن لابد أن يتصف بثلاثة أشياء:
- الأول: ألا يكون في إسناده متهم بالكذب.
- ثانيا: ألا يكون شاذاً.
- ثالثا: أن يروى نحوه من غير وجه، فالحسن عنده راجع إلى اجتماع هذا كله، ولا يقال عن رواية واحدة بعينها أنها حسنة.
أنا أقول الخلاصة، الخلاصة أن الإمام ابن رجب -رحمه الله تعالى- نظر في كلام الترمذي في تعريف الحديث الحسن، فالترمذي قال: في تعريف الحديث الحسن لا يكون راويه متهماً بالكذب، إذن قد يكون ثقةً، قد يكون صدوقاً، قد يكون ضعفه هيناً، وكل هؤلاء لم يتهموا بالكذب، وأن يكون الحديث سالماً من الشذوذ،
وأيضاً أن يروى نحوه من غير وجه، فإن وجدنا حديثاً من الأحاديث راويه ثقةً، فهذا حديث صحيح أم لا ؟ هذا حديث صحيح؛ لأنه حديث يرويه ثقةً، وليس فيه شهود، ثم وجدنا الحديث نفسه مروياً من غير وجه، تحققت فيه شرائط الحسن أم لا؟ تحققت فيه شرائط الحسن. لماذا؟ لأن الترمذي يشترط في الحسن: أن يكون(1/252)
الراوي غير متهم بالكذب، والثقة متهم بالكذب أم لا؟ غير متهم بالكذب. أن يكون الحديث سالماً من الشذوذ، وهذا أيضاً سالماً من الشذوذ. أن يكون مروياً من غير وجه، فكل ما روي من غير وجه، وكان سالماً من الشذوذ وروايه سالم من التهمة بالكذب، فهو عند الترمذي حسن، وهذا الحديث يرويه ثقة، وهو سالم من
الشذوذ، وقد روي من غير وجه، فقد صار من هذه الحيثية حسن أم لا؟ ثم هو صحيح؛ لأنه من رواية الثقات، فصح أن يوصف الحديث حينئذٍ بكونه صحيحاً حسناً؛ لأنه حسن صحيح، حسن لاجتماع شرائط الترمذي في الحسن من كون الراوي، سالم من التهمة بالكذب، ومن كون الحديث شاذاً، ومن كونه مروياً من غير وجه صحيح،
لتحقق شرائط الصحة في الحديث، فمن هذه الحيثية صح أن يوصف هذا الحديث بكونه صحيحاً، وصح أن يوصف بكونه حسناً، ومن هنا زال الإشكال، وأنتم تلاحظون أن هذا الإشكال إنما وجد عند العلماء المتأخرين، بينما المتقدمين سواءٌ من كان في عصر الترمذي، بل من قبل الترمذي، فهذا المصطلح استعمله من هو قبل
الترمذي، واستعمله من هم في زمان الترمذي، واستعمله من هو بعد الترمذي، كالإمام الدارقطني، استعملوا حسن صحيح في كلامهم، ولم يكن ذلك موضع استشكال عندهم، إنما وقع الاستشكال ممن جاء بعد هؤلاء لما اصطلحوا للحسن اصطلاحاً خاصاً، وهذا الاصطلاح يتنافى مع الصحيح أو ليس هو صحيحاً؛ لأن الصحيح في
مرتبة، والحسن في مرتبة؛ فلهذا وقع الإشكال عندهم، بينما في عرف العلماء المتقدمين ليس هذا الأمر مشكلاً والله أعلم.
يقول: هل يختص المرسل الخفي بما إذا كان الراوي قد روى عمن عاصره ولم يسمع منه أم يشمل رواية الراوي عمن عاصره وسمع منه ما لم يسمعه منه، وكيف يعرف ذلك؟(1/253)
من أهل العلم كابن الصلاح وغيره، وهم القول الأشهر، والأكثر استعمالاً، أن المرسل الخفي والتدليس، مستعملان بمعنى واحد، أو بعض صور المرسل الخفي، يصدق على التدليس، وبعض صور التدليس، يصدق على المرسل الخفي، وبعض أهل العلم يرى كابن حجر أن المرسل الخفي، لا يجتمع مع التدليس بحال من الأحوال،
فالتدليس عند الحافظ ابن حجر هو ما يرويه الراوي عمن له منه سماع في الجملة، وهو لم يسمع منه ذلك الحديث بعينه، لكن يشترط أن يكون لهذا الراوي سماع من هذا الشيخ، في غير ذلك الحديث من الأحاديث، حينئذٍ إن روى عن ذلك الشيخ ما لم يسمعه منه يكون على سبيل التدليس.
أما الإرسال الخفي فلابد أن يكون هذا الراوي لم يسمع من الشيخ إلا هذا الحديث ولا غيره، فحينئذ يكون عند الحافظ ابن حجر من قبيل الإرسال الخفي، وليس من قبيل التدليس، بينما ابن الصلاح وغيره من أهل العلم يرون أن كل هذا يسمى تدليساً، ويسمى أيضاً إرسالاً خفياً، وهذا سيأتي تفصيله في موضعه إن شاء
الله .
السؤال الأول: هل يصح وصف الحديث بكونه شاذاً ومقلوباً أم لا؟ علل لجوابك؟ أعني الحديث أي الحديث الواحد.
السؤال الثاني: قول التابعي من السنة كذا، هل له حكم الرفع ؟
الرئيسة ????? ?????????? ????? ???? ?????????? ?????? ???????
???? ?????? - ??????? ??????
المؤلف: ????? ?????/ ???? ?? ??? ????
الوصف: ?????? ??????? ????? ???? ?????? -??????? ?????? - ??? ?????? ???? ?????? ?????? ??? ????
ارسل الصفحة لصديق
معاينة طباعة الصفحة
رؤية مكبرة
--------------------------------------------------------------------------------
الدرس العاشر : الحديث المرسل
إن الحمد لله تعالى نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالن، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد:(1/254)
اليوم بإذن الله –تعالى- سنتناول النوع التاسع من أنواع علوم الحديث، وهو ما يسمى: بالحديث المرسل.
والحديث المرسل: نوع من الأنواع المتعلقة بالسقط من الإسناد. ذكرنا أن الحديث لكي يكون مقبولاً، محتجاً به، لابد وأن يكون متصل الإسناد. وعرفنا معنى الاتصال، عندما تناولنا النوع المتعلق به، ثم ذكرنا أن الحديث إذا لم يكن متصلاً فإنه إما أن يقع السقط في موضع معين من الإسناد، أو بعدد معين من
الساقطين، وعلى ضوء ذلك يختلف نوع السقط واسمه، فكل سقط في الإسناد يختلف اسمه عن اسم السقط الآخر، أو النوع الآخر من أنواع السقط، بحسب موضع ذلك السقط، وبحسب عدد الساقطين.
فسنتناول - بإذن الله تعالى- المرسل، وهو من أشهر أنواع السقط في الإسناد، ويتناول العلماء -رحمهم الله تبارك تعالى- فيه مباحث عدة، هذه المباحث بعضها يختص بالمرسل، وبعضها هو عام في كل ما لا يتصل بحال، فيشمل كل أنواع السقط من الإسناد.
وفي غضون ذلك سنجد -إن شاء الله تعالى- مباحث جيدة، ولطيفة أيضاً متعلقة بعلوم الحديث عموماً.
وهذا المبحث: مبحث الحديث المرسل: اعتاد المؤلفون فيه أن يتناولوه من جهتين رئيسيين:
- الجهة الأولى: ما يتعلق بمعناه وتعريفه، ما معنى قول المحدثين: هذا حديث مرسل.
- الجهة الثانية: ما يتعلق بالاحتجاج بالحديث المرسل.
ويستتبع ذلك الكلام على بعض صور الأسانيد التي اختلف فيها العلماء، هل هي من قبيل المرسل، أم ليست من قبيل المرسل؟ وكل ذلك -إن شاء الله- سنأتي عليه بالشرح بعون الله –تعالى-.
فسنقرأ أولاً: ما يتعلق بتعريف هذا النوع من كتاب الحافظ ابن كثير -رحمه الله-.
النوع التاسع: المرسل(1/255)
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (النوع التاسع: المرسل. قال ابن الصلاح وصورته التي لا خلاف فيها: حديث التابعي الكبير الذي قد أدرك جماعة من الصحابة وجالسهم كعبيد الله بن عدي بن الخيار، ثم سعيد بن المسيب، وأمثالهما إذا قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.).
هذا هو التعريف الأول الوارد عن أهل العلم للحديث المرسل، وكما ترون هذا التعريف مشتمل على تقييد المرسل بأن يكون الذي رواه عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- أحد التابعين الكبار.
فالتابعون طبقات، كما أن الصحابة طبقات، فهناك كبار الصحابة، وهناك صغار الصحابة. وكذلك التابعون: منهم الكبار، ومنهم الصغار. فالصورة التي لا خلاف في أنها من المرسل عند أهل العلم: هي أن يعمد هذا التابعي الكبير، والتابعي الكبير: هو الذي أدرك عددا كبيراً من الصحابة، أو أدرك كبار الصحابة، كقيس
بن أبي حازم، وسعيد بن المسيب، وأمثال هؤلاء من كبار التابعين الذين أدركوا عدداً كبيراً من الصحابة، وأدركوا كبار صحابة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، فهؤلاء هم كبار التابعين. إذا الواحد منهم روى الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- من غير أن يذكر صحابي بينه وبين النبي -صلى
الله عليه وآله وسلم-، بل أضاف الخبر إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- مباشرة، فهذا مرسل. هذا يسمى مرسلاً، إذن يتضمن الإرسال أن يكون صادراً من تابعي أولاً، ثانيًا: أن يكون مضافاً إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، وكما قلنا في اللقاء الماضي: إن وصف المحدثين للحديث بأنه مرسل
يتضمن: الرفع. فإذا كان المحدثون قد وصفوا الحديث بأنه مرسل، فأنت تفهم تلقائياً بأنه عندهم من المرفوع، أي المضاف إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-.(1/256)
هنا الإمام ابن الصلاح -رحمه الله تبارك تعالى- عندما مثل، مثل بأشهر صور المرفوع، وهي المرفوع من قول النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، حيث قال: إذا قال التابعي -الكبير- قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- كذا وكذا. ولا شك أن المرفوع ليس مختصاً بما كان من لفظ النبي -صلى الله عليه وآله
وسلم- بل المرفوع ما أضيف إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- من قوله، أو من فعله، أو من تقريره. فكل ذلك إذا أضافه التابعي إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- يكون من قبيل الإرسال، كما أنه إذا أضافه الصحابي إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- يكون من قبيل المسند المتصل.
هنا تلاحظون في هذا التعريف أنه ذكر أن هذه الصورة، وهي التي لا خلاف فيها، إذا ما كان التابعي من كبار التابعين. وسيأتي أن هذا ليس شرطاً في وصف الحديث بأنه مرسل، أي ليس شرطاً في تسمية الحديث بهذا الاسم وهو المرسل، أن يكون التابعي الذي أضافه إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- من كبار
التابعين، بل سيأتي بعد ذلك أن التابعين جميعاً سواء في ذلك، فكل تابعي أضاف الخبر إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، سواء كان هذا التابعي كبيراً أو صغيراً، كل ذلك من حيث التسمية يسمى مرسلاً.
وإنما ذكر ابن الصلاح -عليه رحمة الله تعالى- أن هذه الصورة هي التي لا خلاف فيها نظراً؛ لأن هناك من أهل العلم من لا يسمي ما أرسله التابعي الصغير مرسلاً، من حيث أن الواسطة بينه وبين رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، في الغالب ما تكون بأكثر من واحد، فالزهري مثلاً من صغار التابعين، والزهري إذا(1/257)
ما روى الخبر عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- في الغالب أن يكون بينه وبين رسول الله -عليه الصلاة والسلام- أكثر من واحد، فغالباً ما يكون أخذ الحديث عن تابعي آخر عن صحابي عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، ثم أسقط من بينه وبين النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، وارتقى بالحديث إلى
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على جهة الإرسال، فنظراً لكثرة الوسائط بين من أرسل، وبين رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، امتنع بعض أهل العلم من تسمية ذلك مرسل، وقالوا: هو بالمعضل أشبه؛ لأن المعضل -كما سيأتي- ما سقط منه اثنان، وبعضهم جعله من قبيل المنقطع، والمنقطع دون المرسل من حيث
الاحتجاج، ومن حيث المنزلة؛ فلهذا امتنع بعض أهل العلم من إطلاق ذلك على هذه الصورة، وصف المرسل أو اسم المرسل نظراً لغلبة الظن، بأن الذي سقط بين هذا التابعي الصغير ورسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- هو أكثر من واسطة بخلاف التابعي الكبير، ففي الغالب أنه سقط بينه وبين رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- صحابي، أو تابعي آخر، وصحابي. ولكن هذا قليل في الوجود، فأغلب مراسيل كبار التابعين: الواسطة تكون من قبل صحابي بينه وبين رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، وإن كان ذلك ليس مضطرداً؛ ولهذا سيأتي في كلام الشافعي ما يجعلنا نحترز مما يخشى أن يكون التابعي الكبير أخذ الحديث عن غير
الصحابي، عن الصحابي، عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (والمشهور: التسوية بين التابعين أجمعين في ذلك. وحكى ابن عبد البر عن بعضهم: أنه لا يعد إرسال صغار التابعين مرسل).(1/258)
أشار الإمام ابن كثير -رحمه الله تبارك تعالى- إلى القول الذي أشرنا إليه في أثناء الشرح من أن هناك من أهل العلم من لا يعد مرسل صغار التابعين مرسلاً؛ لغلبة الظن بأنه قد سقط بينه وبين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أكثر من واحد، بل أحيانًا يكون أكثر من اثنين، كما وقع ذلك في مراسيل قتادة
والزهري، وأحياناً يكون من جملة هؤلاء الساقطين، من هم ضعفاء ممن لا يحتج بهم؛ فلهذا امتنع من امتنع من أهل العلم من أن يعامل مراسيل صغار التابعين معاملة مراسيل كبار التابعين.
لكن قول المؤلف نقلاً عن ابن الصلاح -رحمه الله تعالى- " والمشهور التسوية بين التابعين أجمعين في ذلك. هو راجع إلى الجانب الاصطلاحي، وليس إلى الحكم الذي يستحقه ذلك النوع، يعني من حيث التسمية، من حيث الاصطلاح، فنحن نسمي كل ذلك مرسلاً، فكل ما أضافه التابعي إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله
وسلم- هو من حيث الاسم يصدق عليه اسم المرسل، لكن من حيث الحكم يختلف، من مرسل كبار التابعين، عما إذا كان المرسل من صغار التابعين، وهذا هو الذي ينبغي أن يتنبه إليه طالب العلم؛ لأنه إن لم يتنبه إلى ذلك، ربما وقع في الخلط، وسوء فهم كلام أهل العلم -عليهم رحمة الله تبارك وتعالى-، المتعلق بهذا
الباب خصوصاً، لأن كلام بعض أهل العلم في هذا الباب بعضه يتعلق بالجانب الاصطلاحي -كما قلت في أول الدرس- وبعضه يتعلق بالجانب الحكمي، أي الحكم الذي يستحقه هذا النوع من أنواع الحديث من حيث القبول والرد، فبعض الكلام يتعلق بالجانب الاصطلاحي، والبعض يتعلق بالجانب الحكمي، فبعض طلبة العلم يعمد إلى
ما قاله العلماء مما يتعلق بالجانب الاصطلاحي فينزله على الحكم، أو بعضهم يعمد إلى ما يتعلق بالجانب الحكمي فينزله على الاصطلاح فيقع في الخلط، وسوء فهم كلام أهل العلم.(1/259)
ابن الصلاح قال: والمشهور: التسوية بين التابعين أجمعين في ذلك. إنما قصد الجانب الاصطلاحي، أي أنه من حيث الاصطلاح من حيث استعمال اسم المرسل: فكل ما أضافه التابعي سواء كان التابعي صغيراً أو كبيراً إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-. فهذا من حيث الاسم يسمى مرسلاً، أما من حيث الحكم، ففيه
تفصيل سيأتي بيانه -إن شاء الله تعالى- يتضح منه أن هناك فرقاً بين ما أرسله التابعي الكبير عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، وبين ما أرسله التابعي الصغير عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، بل سيتبين أيضاً من خلال الكلام الآتي قريباً: أن هناك من أهل العلم من يطلق الإرسال على أي
سقط وقع في الإسناد، حتى وإن لم يكن من التابعي، حتى وإن لم يكن مما أضافه التابعي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، بل كل سقط وقع في أول الإسناد، أو في وسط الإسناد، أو في آخر الإسناد، بعض أهل العلم يسمي ذلك إرسالاً أيضًا؛ وإنما سموه بالإرسال من حيث أنه وقع فيه السقط.
وعلماء الحديث عليهم رحمة الله تعالى يعبرون كثيرًا عن السقط الواقع في أي موضع من مواضع الإسناد بهذين الاسمين المشهورين، والمستعملين كثيرًا: المرسل، والمنقطع. فنجد علماء الحديث يعبرون عن المرسل على أي سقط وقع، فمن حيث التسمية: هذا يقصد به جانباً اصطلاحياً، أو يعبرون عنه بالمنقطع.
فالمنقطع نعبر به عن المعضل، وعن المعلق، وعن المدلس، وعن الإرسال الخفي، وعن المرسل أيضًا. وكذلك المرسل يعبر عنه عن هذه الأمور كلها، وهذا من باب التوسع في الاصطلاح، والإمام الشافعي -عليه رحمة الله- في غضون كلامه عن المرسل، وعن الاحتجاج به، وشرائط الاحتجاج به، قال: « والمنقطع مختلف» صدر(1/260)
كلامه بهذه العبارة قال: « والمنقطع مختلف »، ثم أخذ يبين أحكام المرسل، ومتى يكون مقبولاً؟ ومتى لا يكون مقبولاً؟ مع أنه صدر الكلام بالمنقطع، وإنما قصده بالمنقطع في أول كلامه المرسل الذي جاء في أثناء كلامه كما قلت، فهذا من التوسع في الاصطلاح، طالب العلم ينبغي عليه أن يعرف ذلك، وأن يكون
ليناً في التعامل مع هذه المصطلحات، فإذا وجد إماماً يطلق المنقطع على المعضل فلا يستنكر ذلك منه؛ لأن المعضل ما هو إلا منقطع ولكنه صورة من صور الانقطاع، أو وجده يطلق المرسل على المعضل مثل، أو على المنقطع، فكل ذلك من قبيل الإرسال؛ لأنه لم يقع فيه اتصال، وهذا من التوسع في الاصطلاح وإنما
نعرف ونميز بين هذه الاصطلاحات، والمعاني للعلماء التي يقصدونها منها من خلال سياق الكلام، والقرائن المحتفة بالكلام.
هناك تعريفات غير صحيحة في هذا النوع من أنواع علوم الحديث من أشهرها: ما يعبر عنه بعض المصنفين بقولهم: المرسل ما سقط من إسناده الصحابي. وهذا التعريف غير منضبط؛ لأننا إذا تحققنا من أن الساقط بين التابعي ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- إنما هو الصحابي فقط، لما اختلف العلماء في الاحتجاج به؛
لأن الصحابة كلهم عدول، أمناء -رضي الله عنهم أجمعين-، فمعرفتنا بالصحابي، أو عدم معرفتنا به، لا يؤثر في الاحتجاج بالخبر الذي عرفنا أن مخرجه عن الصحابي.
فإذا قلنا في المرسل: إنه ما سقط من إسناده الصحابي. معنى ذلك: أننا قد تحققنا من أن الساقط من هذا المرسل صحابي، وليس راوياً آخر، وعلى هذا: فينبغي أن نحتج به، ولا نختلف في الاحتجاج به؛ لأن الصحابة كلهم عدول -رضي الله عنهم أجمعين-.
ولكن الصواب أن تقول: ما أضافه التابعي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من قول أو فعل أو تقرير. ليشمل هذا التعريف هذه الصورة، أن يكون سقط منه صحابي، أو يكون سقط منه تابعي وصحابي، أو تابعيان وصحابي، وهذا موجود في الأسانيد كثيرًا.(1/261)
أيضاً مما يحترز في تعريف المرسل، نحن دائماً وأبداً نقول: المرسل ما أضافه التابعي إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-؛ لكن قد يرد عليك سؤال، استشكال، فيقال لك: أليس هناك من التابعين من قد سمع من رسول الله -عليه الصلاة والسلام-؟ أليس هناك من التابعين من قد سمع من رسول الله -صلى الله
عليه وآله وسلم-؟
من هو التابعي؟ ومن هو الصحابي؟ الصحابي هو: من لقي النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- مؤمناً به، ومات على الإيمان. إذن هو كان مؤمناً حال لقائه برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ومات على الإيمان، هذا هو الصحابي، لابد أن يتحقق له لقاء بالنبي -عليه الصلاة والسلام-، وأن يكون وقت لقائه بالنبي
مؤمناً بالنبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، وأن يموت على الإيمان.
التابعي: هو من لقي الصحابي مؤمناً -ولو صحابياً واحداً-، فإذا التقى بصحابي وليكن أنس بن مالك -رضي الله عنه- من صغار الصحابة، وهو وقت لقائه بهذا الصحابي كان مؤمناً برسول الله -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- فهذا هو التابعي. فماذا نقول في طائفة من التابعين، أو في بعض التابعين الذين أدركوا
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، والتقوا به، وتحدثوا معه، ولكن ذلك كان في حال كفرهم، ولم يكونوا مؤمنين وقت لقائهم برسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، ثم بعد أن مات رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- أسلم هؤلاء، فهؤلاء يعدون من الصحابة؟ لا..؛ لأنهم لم يكونوا مؤمنين وقت لقائهم برسول
الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فليسوا هم من الصحابة، إنما هم من التابعين، هم التقوا بالصحابة وقت إيمانهم برسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، أما وقت لقائهم برسول الله فلم يكونوا مؤمنين به، فهؤلاء العلماء يعدونهم من التابعين، ولا يعدونهم من الصحابة، ومع ذلك إذا كان هذا الذي التقى برسول(1/262)
الله -صلى الله عليه وسلم- وقت كفره، ثم أسلم بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا روى عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ما قد أخذه يوم أن التقى برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ما أخذه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في هذا اللقاء، يعدون ذلك من المتصل، يعني ليس من المرسل؛ لأن العبرة
في العدالة- عدالة الراوي- وقت أداءه للرواية، وليس وقت تحمله للرواية.
قد يتحمل الراوي الرواية وهو كافر، وهو فاسق، وهو صبي، غير بالغ، فإن روى الرواية حال كفره، أو حال فسقه، أو حال صباه، لم يكن ذلك مقبولاً منه؛ لأنه لم تتحقق فيه العدالة، أما إذا أسلم بعد كفره أو تاب من فسقه، أو كبر من صباه، وصار عدلاً مقبول الرواية، فحدث بما قد تحمله، قبل أن يكون مؤمناً، أو
قبل أن يتوب من فسقه، أو في حال صباه، فإن روايته حينئذ تكون مقبولة. تعرفون قصة أبي سفيان، وما دار بينه وبين ملك هرقل، بشأن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-. وهذه القصة في أول صحيح البخاري، هذه القصة وقعت لأبي سفيان، هو كان وقتئذٍ كافراً، ثم بعد أن أسلم -رضي الله عنه- حدَّث بهذه القصة، فقبل
الناس ذلك منه، واحتجوا به، بل وأدخله الأئمة في كتب الصحاح.
فإذن العدالة لا تشترط وقت التحمل، إنما تشترط وقت الأداء، وهذا الراوي -التابعي- وقت أن التقى برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتحمل عنه الخبر، لم يكن مؤمناً به -عليه الصلاة والسلام-، فلم يكن من هذا الحيثية صحابياً، ولم يتحقق له هذه المنزلة الشريفة المنيفة، وهي منزلة الصحبة، فلم يكن
صحابياً، إنما هو تابعي، فلما أسلم صار يحدث بما قد سمعه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حال كفره، فهذا متصل؛ لأنه سمعه من رسول الله مباشرة، ولكن الراوي ليس صحابياً، بل هو تابعي، فهل هذا يسمى مرسلاً؟ لا يسمى مرسلاً، ولا يوضع في مصاف الأحاديث المرسلة؛ ولهذا وجدنا العلماء الذين صنفوا في(1/263)
المسانيد - والمسند عكس المرسل؛ لأن المسند لا يكون إلا متصلاً- ماذا فعلوا؟ أدخلوا في مسانيدهم مثل هذه الروايات، كالتنوخي رسول هرقل، التنوخي رسول هرقل أرسله هرقل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ودار بينه وبين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حوار وقصة معروفة، أخرجها الإمام أحمد في كتابه
المسند، ومعنى أن الإمام أحمد أخرجها في المسند، أي أنها عنده متصلة وليست مرسلة، مع أن التنوخي إنما أسلم بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يكن معدوداً في الصحابة.
إذن يرى الحافظ ابن حجر -عليه رحمة الله تعالى- أنه ينبغي أن يزاد في تعريف المرسل ما يحترز منه، أو فيه من هذه الصور، فيقال في تعريف المرسل: ما أضافه التابعي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهذا التابعي لم يسمع من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (ثم إن الحاكم يخص المرسل بالتابعين، والجمهور من الفقهاء والأصوليين، يعلمون التابعين وغيرهم).
هذا القول الذي أشرنا إليه في أثناء كلامنا من أن هناك من أهل العلم من يطلق المرسل على أي سقط وقع فيه الإسناد، سواء كان بعد التابعي أو في أثناء الإسناد، وهذا موجود في استعمال علماء الحديث، وإن كان عادة علماء المصطلح أن يعزو هذا القول إلى جمهور الفقهاء، وفي هذا إشارة إلى أنه ليس معروفاً عن
المحدثين، وليس الأمر كذلك، بل المحدثون أيضاً يستعملون ذلك وبكثرة، ككتاب: "المراسيل" للإمام ابن أبي حاتم الرازي، كتاب كامل يتناول الأحاديث المرسلة، واسمه: "المراسيل"، وأنت إذا قرأت في هذا الكتاب، تجد أن الإمام ابن أبي حاتم الرازي يحكي عن أبيه -أبي حاتم الرازي- أو عن أبي زرعة، أو عن غيرهما(1/264)
من أهل العلم، ما لم يتصل من الأسانيد في أي موضع في الإسناد، وبأي عدد من الساقطين، أي كل ما لم يتصل من الأسانيد سواء كان في أول الإسناد، أو في أثناء الإسناد، فكل ذلك عده من قبيل المراسيل في كتابه هذا، وهذا إن دل على شيء إنما يدل على أن المراسيل عندهم كل حديث لم يقع متصلاً سواء في أوله أو
في منتهاه، وإن كان الأعم الأغلب في استعمال المحدثين كما أشار إلى ذلك الخطيب البغدادي -عليه رحمة الله- بأنه ما أضافه التابعي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقول الإمام الخطيب: إنه الأغلب في الاستعمال، فيه إشارة إلى أن الاستعمال الآخر موجود عند علماء الحديث أيضاً.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (قلت: قال أبو عمرو ابن الحاجب في مختصره في أصول الفقه: المرسل قول غير الصحابي: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
هذا ما يتعلق بتصوره عند المحدثين).
هذا التعريف أوسع من التعاريف السابقة؛ لأنه جعل المرسل كل ما أضافه غير الصحابي إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، فيشمل ما أضافه التابعي، سواء كان كبيراً أو صغيراً، أو تابع التابعي، أو من بعده إلى يومنا هذا، فكل ذلك بمقتضى هذا التعريف يسمى: مرسلاً، فيدخل في ذلك المعلقات مثلاً.
وهذا التعريف واسع جداً، وإن حملناه على ما قلناه آنفاً من أن الحدثين يطلقون الإرسال على أي سقط وقع، فيخرج على هذا التعريف، أو على هذا المعنى، لكن المرسل في الواقع الذي تكلم العلماء في الاحتجاج به، خصوصاً هو ذلك الذي يرويه التابعي، عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- كما سيتبين ذلك
عندما نتناول الاحتجاج بالمرسل في كلام أهل العلم.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (وأما كونه حجة في الدين، فذلك يتعلق بعلم الأصول، وقد أشبعنا الكلام في ذلك في كتابنا" "المقدمات".(1/265)
وقد ذكر مسلم في مقدمة كتابه: " أن المرسل في أصل قولنا وقول أهل العلم بالأخبار ليس بحجة"، وكذا حكاه ابن عبد البر عن جماعة أصحاب الحديث.
وقال ابن الصلاح: وما ذكرناه من سقوط الاحتجاج بالمرسل والحكم بضعفه، هو الذي استقر عليه آراء جماعة حفاظ الحديث، ونقاد الأثر، وتداولوه في تصانيفهم.
قال: والاحتجاج به مذهب مالك، وأبي حنيفة، وأصحابهما في طائفة والله أعلم.
قلت: وهو محكي عن الإمام أحمد بن حنبل، في رواية).
من هنا يتكلم الإمام ابن كثير -رحمه الله تعالى- عن الجزء الثاني من أجزاء هذا الباب، وهو ما يتعلق بالاحتجاج بالحديث المرسل. انتهينا من تعريف المرسل، ومن تعاريف المرسل، ومن أقوال أهل العلم في حد الحديث المرسل، ثم بعد ذلك، هل المرسل يحتج به أو لا يحتج به؟
فذكر عن جمهور أهل الحديث: أن المرسل في أصل قول أهل العلم بالأخبار، أو المحدثين، أنه ليس بحجة، وهذا ما قاله الإمام مسلم، وهو المذهب المعروف عن المحدثين، وهو محكي عن يحيى القطامي، وعن غيره من أئمة العلم.
لماذا المرسل لا يحتج به؟ لأن المحدثين لا يشترطون في الحديث لكي يكون مقبولاً ومحتجاً به، أن يكون متصل الإسناد. وعدم اتصاله يوجب التوقف في الاحتجاج بهذا الحديث، والإرسال أمره مغيب، هذا الراوي الذي سقط من الوسط، سقط من أثناء الإسناد، نحن لا نعرف، هل هو من الثقات، أم من غير الثقات؟ قد يكون
ثقة، وقد لا يكون ثقة، وما دام الأمر على الاحتمال، فلا يصح مع هذا أن يستدل بالحديث أو أن يحتج به.
فمن هذه الحيثية علماء الحديث -عليهم رحمة الله تعالى- لم يحتجوا بالحديث المرسل، لكن إذا استطعنا أن نعرف بدليل آخر، أن هذا الذي أرسل الخبر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو عن غيره، المهم إذا استطعنا أن نعرف عين هذا الراوي الذي سقط من أثناء الإسناد، أو حاله، وإن لم نعرف عينه بدليل آخر،(1/266)
أو معرفتنا بعادة الراوي الذي قطع الحديث، أو أرسله، حينئذ يعود الأمر إلى ما كان عليه. فإن كان هذا الراوي الذي سقط من الثقات، فحينئذ قد عرفنا صحة مخرج المرسل، وبناءً على ذلك يحتج بهذا المرسل، أو كان من غير الثقات، فيعامل معاملة الحديث الذي يرويه غير الثقات فلا يكون محتجاً به.
بمعنى أن المرسل -كما ترون- أمره مغيب، نحن لا ندري الذي سقط من الإسناد هل هو من الثقات؟ أم ليس من الثقات؟ ونحن بحاجة إلى معرفة عينه لكي نبحث بعد ذلك عن حاله فنعرف هل هو من الثقات عند علماء الحديث أم ليس من الثقات؟ فإن عرفنا عينه، وبناءً على ذلك: نعرف حاله فسنعامل الرواية معاملة الرواية
المتصلة، فإن كان هذا الذي عرفناه من الثقات بنينا على ذلك أن الحديث محتج به، وأنه متصل، ولا حاجة إلى معاملته معاملة الإرسال، وإن كان من الضعفاء فسيكون رد الحديث حينئذ لضعف هذا الذي عرفنا حاله، وليس لكونه من المرسل.
لكن كثيرًا ما لا يستدل على معرفة عين الراوي الذي سقط، وإنما يستدل عليه أو على حاله بقرائن، هذه القرائن يغلب على ظننا بوجودها أن الذي سقط من الثقات، أو من غير الثقات، فيحكم العلماء بمقتضى ذلك.
من ذلك مثلاً: أن يكون هذا الراوي الذي أرسل الخبر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من التابعين، من شأنه أن لا يروي إلا عن الثقات، عرف العلماء ذلك باستقراء رواياته، ومعرفة عادته في الرواية، فيبنون على ذلك، بأن الظن الغالب أن هذا الراوي حيث أرسل الخبر، إنما أرسله عن الثقات الذين اعتاد أن
يروي عنهم، فيغلب ذلك الظن بأن هذا الذي سقط من الإسناد، بين التابعي ورسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، إما أنه صحابي -والصحابة كلهم عدول- أو تابعي ثقة، يرويه عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، أو أن يجيء لهذا المرسل روايات أخرى تعضده، وتأخذ بيده، وتقويه، وتدل على صحة ما أخرجه، تدل(1/267)
على أن التابعي إنما أسقط بينه وبين رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، إما صحابياً، وإما تابعياً ثقة مع الصحابي، كما جاء عن الإمام الشافعي، وسيأتي قريباً أنه كان يذكر مراسل سعيد بن المسيب، ويقول: إنها حِسان، وفسروا ذلك بأنه إنما وجدها موصولة من أوجه أخرى، أي وجد لها مخارج صحيحة دلت على صحة
مخرج المرسل نفسه، وسنعرف كيف يتحقق ذلك الإمام الشافعي من خلال شرح كلامه المتعلق بالاحتجاج بالحديث المرسل.
جاء مثلاً عن إبراهيم النخعي -عليه رحمة الله تعالى- أنه قال: « إذا قلت لكم حدثنا فلان وفلان وفلان، أو إذا قلت لكم: قال ابن مسعود » هو لم يسمع ابن مسعود. إبراهيم النخعي لم يسمع من ابن مسعود، فروايته عنه غير متصلة، لكنه قال هذا الكلام مبيناً به اصطلاحه، قال: « إذا قلت قال ابن مسعود، فأنا قد
أخذته عن غير واحد عن ابن مسعود. وإذا قلت حدثنا فلان عن ابن مسعود فهو الذي حدثت »، يعني أن ما أخذته عن ذلك الذي حدثت عنه عن ابن مسعود، أما إذا ارتقيت بالحديث إلى ابن مسعود جازمًا بنسبته إليه، فقلت: قال ابن مسعود، فأنا إنما أخذته عن أصحاب ابن مسعود، عن ابن مسعود عن غير واحد من أصحاب ابن
مسعود، عن ابن مسعود، ولهذا كان الإمام أحمد وغير واحد من أهل العلم يحتجون بمراسيل إبراهيم النخعي لهذه الحيثية؛ لأنه عرف أنه أخذ الحديث عن أصحاب ابن مسعود الثقات، عن ابن مسعود، بخلاف ما إذا وصل. بل بعضهم قدم مرسل النخعي على وصله لهذه العلة؛ لأنه إذا أرسل فإنه أخذ من طائفة من أصحاب ابن
مسعود وأغلبهم ثقات، عن ابن مسعود، بينما إذا وصل الحديث فذكر الواسطة بينه وبينه ابن مسعود، فقد يكون هذا الذي حدثه بالخبر عن ابن مسعود من الضعفاء، وليس من الثقات.(1/268)
إذن يستدل العلماء على معرفة مخرج الحديث، أو معرفة الساقط من الرواية، سواء معرفة عينه، أو معرفة حاله، بمثل هذه القرائن التي يعرفونها باستقراء روايات الرواة، ومعرفة إن كان من شأنهم أن يرووا عن الثقات أم هم يروون عن الثقات، وغير الثقات، وهذا يفسر لنا معنى احتجاج مثل الإمام أحمد بن حنبل
-عليه رحمة الله تعالى- بالمرسل، فهو كما يقول ابن رجب وابن تيمية وابن القيم لا يحتج بكل مرسل، وإنما يحتج بالمرسل حيث ينضم إليه ما يقويه، أو يتبين من خلال معرفته بعادة هذا الراوي المرسل، أو بمذهبه في معالجة الروايات، أو بعادته في الرواية حيث يرسل، بأنه لا يرسل إلا عن الثقات، فحينئذ يكون
محتجاً به وإلا....
مثلاً عندنا أبو العالية الرياحي، وهذا من كبار التابعين، روى خبراً مرسلاً: (أن رجلاً صلى خلف النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فضحك في الصلاة، فضحك الناس، فأمرهم النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أن يعيدوا الصلاة والوضوء مع)، هذا الحديث أنكره العلماء، ومن جملة العلماء الذين أنكروه الإمام
أحمد، وكذلك الإمام الشافعي، ولم يحتجوا بهذا المرسل، مع أن الذي أرسله من كبار التابعين؛ لأن أبا العالية الرياحي، وإن كان من كبار التابعين، إلا أنه كان لا ينتقي الشيوخ، وإنما يروي عن الثقات، وغير الثقات، ويرسل عن الثقات، وعن غير الثقات، فلم يكن ممن يختار الشيوخ، وينتقيهم بحيث لا يروي إلا
عن الثقات، حتى قال الإمام الشافعي -عليه رحمة الله تبارك تعالى-: « مراسيل أبي العالية الرياحي رياح ». يقصد هذا المرسل خصوص، يعني أنها كالريح، لا تساوي شيئاً؛ لأنه كان من شأنه أن يروي عن الثقات، وعن غير الثقات، فمن يعزوا إلى الإمام أحمد مثلاً أن يقبل المرسل مطلقاً هكذا من غير قيد أو شرط
هذا خطأ، وقد بيَّن وجه هذا الخطأابتداءً من شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وابن رجب وكذلك الحافظ ابن حجر -عليه رحمة الله تبارك تعالى-.(1/269)
ثم سيأتي بعد ذلك ما يتعلق بتفصيل الإمام الشافعي -عليه رحمة الله تعالى- في الاحتجاج بالمرسل، فقد وضع لنا ضوابط، نعرف بها متى يكون المرسل محتجاً به، ومتى لا يكون محتجاً به، وهذه الضوابط، وإن نص عليها الشافعي إلا أنها ليس مما يختص به الشافعي، بل ما من إمام ممن يحتج بالمرسل كالإمام أحمد
مثلاً إلا وهو يسلك هذا المسلك، ويتبع هذه الضوابط، وإن لم ينص على ذلك في كلامه، كما قلنا آنفاً، بعض أهل العلم قد يتبع القاعدة ولا ينص عليها، والبعض الآخر ينص على القاعدة وإنما نعرف أن هذا الإمام يسلك هذه القاعدة التي نص عليها غيره باستقراء سامعه في العلم، وبتتبع أحكامه في الروايات
والأسانيد، فنعرف أنها يراعي في معالجته للأسانيد، وفي تعامله مع الروايات، هذه الضوابط التي ذكرها غيره من أهل العلم، فكلام أهل العلم في ذلك متفق، وليس مختلفاً.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (وأما الشافعي فنص على أن مرسلات سعيد بن المسيب: حِسان، قالوا؛ لأنه تتبعها فوجدها مسندة. والله أعلم.
والذي عَوَّلَ عليه كلامه في الرسالة: "أن مراسيل كبار التابعين حجة إن جاءت من وجه آخر ولو مرسلة، أو اعتضدت بقول صحابي، أو أكثر العلماء، أو كان المُرسِل لو سَمى لا يُسمي إلا ثقة، فحينئذٍ يكون مرسله حجة، ولا ينتهض إلى رتبة المتصل".
قال الشافعي: وأما مراسيل غير كبار التابعين فلا أعلم أحداً قبله).
الشافعي -عليه رحمة الله تبارك تعالى- فصل في كتابه الرسالة، وهو مطبوع متداول، شرائط قبول المرسل، والاحتجاج به، وكلامه -رحمه الله تعالى- دار في فلكين:
الفلك الأول: يتعلق بالرواية المرسلة، متى تكون صالحة للاعتضاد بغيرها؟
الفلك الآخر: ما يتعلق بهذه العواضد، التي تنضم إلى ذلك المرسل الجامع لشروط المرسل الذي يصلح للاعتضاد، وبيان أنواع هذه العواضد.(1/270)
إذن لكي نعرف متى يكون المرسل محتجاً به، أو ليس محتجاً به، لابد أن نفهم كلام العلماء على هذا النحو، بعضه تعلق بالرواية المرسلة نفسها، متى تكون صالحة للاعتضاد بغيرها، أو غير صالحة للاعتضاد بغيرها؟ ثم إذا كانت صالحة للاعتضاد فهذا وحده لا يكفي الاحتجاج بها، بل لابد مع ذلك أن ينضم إليها ما
يعضدها، وما يقويها، وما يأخذ بيدها.
وحينما نتكلم عن عواضد المرسل، أو عن المرسل الصالح للاحتجاج به، فنحن نعلم أن المرسل من أخف أنواع الضعيف ضعفاً، لماذا المرسل من أخف أنواع الضعيف ضعفاً؛ لأن الموضع الذي يخشى من ورود الخلل من جهته في الرواية هو في الطبقات العليا، وكلما كان الخلل الذي يحتمل وقوعه في الرواية مصدره في الطبقة
العليا، كلما كان أثره في الرواية سلباً، أقل مما لو كان نفس السبب في طبقة دنيا، وسنشرح ذلك، وإنما أقول هذا لماذا؟
أقول هذا لأننا إذا رأينا هذه الاحترازات الشديدة التي سيأتي بيانها، وهذه الضوابط التي وضعها الإمام الشافعي -عليه رحمة الله تعالى- للحديث المرسل، لكي يكون صالحاً للاحتجاج به، مع أن المرسل من أخف أنواع الضعيف ضعفاً، فما بالك بغيره من أنواع الضعيف، الذي هو بالضرورة أشد من المرسل من حيث
الضعف، فإذا كان هذا الذي ضعفه خفيف يحترز فيه الشافعي غاية الاحتراز كما سيأتي، فمن باب أولى أن يحترز لمثل ذلك، أو أشد في ما كان الضعف فيه ناشئاً عن غير الإرسال من أنواع الضعف.
أنا دائماً وأبداً أشبه الإسناد بالبناية، بناية، عبارة عن عدة طوابق، هذا إسناد، طبقة بعدها طبقة، مرتبة فوقها مرتبة، راوٍ يروي عنه آخر، وهذا الراوي يروي عمن فوقه، وهكذا حتى ينتهي الخبر، أو الإسناد إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهو أشبه بالطوابق. وأنت إذا نظرت إلى بناية مثلاً من عدة(1/271)
طوابق، لو أن خللاً في هذه البناية في الطابق الأول، أثره يكون على البناية أشد، أم إذا كان في الطابق الخامس؟ أم إذا كان في الطابق الأخير؟ كلما كان الخلل في هذه البناية في الطوابق النازلة، في الطوابق السفلى، كلما كان أثره، وضرر البناية به، أشد مما لو كان هذا الضرر، أو هذا الخلل في طبقة
عليا، أو في دور أعلى، فإذا كان مثلاً هناك خلل في البناية في الدور الأخير، فهذا إن أثر في البناية فسيؤثر في هذا الدور فقط، وإذا كان الخلل في وسط البناية، فسيؤثر سلباً على البناية، سيؤثر في هذا الدور، وما فوقه من أدوار، وإذا كان هذا الخلل موجوداً في الطبقة السفلى فإن أثره يكون على البناية
كلها.
وهكذا الشأن في الإسناد، كلما كان الخلل أو الموضع الذي يخشى من ورود الخلل فيه من جهته في الرواية في طبقة نازلة، كلما كان أثره سلباً على الرواية أكثر مما لو كان في الطبقة العليا؛ ولهذا نجد علماء الحديث -عليه رحمة الله تبارك تعالى- يعاملون الخلل حيث يقع في الرواية، أو ما كان مظنة لورود
الخلل في الرواية، يعاملون هذا النوع من الخلل بميزان مختلف؛ لاختلاف موضعه في الإسناد.
فمثلاً التفرد: تفرد الراوي بالرواية، إذا تفرد الصحابي فحديثه صحيح، إذا تفرد التابعي فحديثه أيضاً صحيح، ثم يأتي بعد ذلك تفرد التابعي، أو تفرد أتباع التابعين، أو تفرد من بعدهم، يتبين من خلال كلام أهل العلم، ومن خلال تعاملهم مع الأساليب، أن هذا التفرد في الطبقات التي دون طبقات التابعين،
كلما نزلنا بالإسناد، كلما كان احتمال قبول التفرد أبعد، وكلما علونا بالإسناد، كلما كان احتمال قبول التفرد أقرب، ولهذا نجد الإمام الذهبي -عليه رحمة الله- في كتابه: "الموقظة" المعروف، لما ساق طبقات الحفاظ من الصحابة إلى طبقة مشايخه، طبقة طبقة، إنما ساق الحفاظ الثقات، ولم يذكر الضعفاء، فبعد(1/272)
أن سمى هؤلاء الحفاظ من زمن الصحابة إلى طبقة مشايخه، قال هذه العبارات، قال -رحمه الله-: « فهؤلاء الحفاظ الثقات إذا تفرد الواحد منهم في طبقة التابعين، فحديثه صحيح، وإذا تفرد الواحد منهم في طبقة أتباع التابعين، قيل: صحيح غريب ».
انظر العبارة تغيرت، قيل: « صحيح غريب، وإذا كان التفرد في طبقة أتباع أو تبع أتباع التابعين، قيل: غريب فرد » ، لم يقل صحيح ها هنا، ثم قال: « ويندر تفردهم » أي في هذه الطبقة، أي تبع أتباع التابعين، قال: « ويندر تفردهم، فتجد الواحد منهم عنده مائة ألف حديث، لا يكاد ينفرد بحديثين أو ثلاثة » ثم
قال: « وأما من بعدهم فأين ما ينفرد به؟! ما علمته فقد يوجد ». ومعلوم أن الذهبي من أهل الاستقراء التام، كما وصفه بذلك الحافظ ابن حجر العسقلاني -رحمه الله تعالى-.
ثم قال بعد ذلك: « وإذا كان منفرد من طبقة مشايخ الأئمة » أي طبقة مشايخ البخاري ومشايخ ومسلم، وأمثال هؤلاء، قيل: « فيما يتفرد به منكر » انظر أخي الكريم: التفرد هو التفرد، لكن هذا التفرد في طبقة عليا كان صحيحاً، ثم كلما نزلنا في طبقة كلما كان قبول هذا التفرد أبعد عنه في الطبقة العليا، وكلما
نزلنا بالطبقة، كلما ضعف قبول التفرد، وهذا له تحليلات وتعليلات عند أهل العلم ليس هذا موضع بيانها.
كذلك نقول مثلاً: الانقطاع، أو عدم الاتصال: إذا كان في طبقة التابعين فهو أخف ضرراً للرواية، مما وقع مما كان ذلك في طبقة دنيا، أو طبقة متأخرة، لماذا؟ لأن التابعين في الأعم الأغلب لاسيما إذا كانوا من كبار التابعين إنما أخذوا الخبر عن الصحابي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وإن كان يحتمل(1/273)
أن يكونوا إنما أخذوا الخبر عن تابعي آخر، عن صحابي، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فالأعم الأغلب في التابعين: هو الصدق والديانة والأمانة، والأسانيد قصيرة، يسهل حفظها، والخلل قليل، بل يقول الإمام الذهبي -عليه رحمة الله تبارك تعالى-: " إنه لا يكاد يوجد في طبقة التابعين من الضعفاء إلا
القليل النادر "، كيف يكون ضعيف، والإسناد بينه وبين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليس إلا صحابي، أو تابعي آخر وصحابي، فوسائل حفظ الإسناد سهلة، يصعب أن يغفل عن حفظه، من عرف بالثقة، أو عرف بالضبط والإتقان، ولا يخطئ في هذه الطبقة إلا من كان مغفل، أو لا يحسن حفظ الأسانيد أو المتون؛
ولهذا وجدنا الشافعي -عليه رحمة الله- كما سيأتي يشترط في قبول المرسل: أن يكون الذي أرسله من كبار التابعين، وهو قال في غضون كلامه: « ومن نظر في العلم بخبرة، وقلة غفلة، استوحش من مرسل كل من دون كبار التابعين، بدلائل ظاهرة فيها » ثم شرح ذلك وشرحها من بعده العلماء، ولكن نحن نريد الآن أن نذكر
خلاصة ما قاله الإمام الشافعي، ونعرف فقه الإمام الشافعي في التعامل مع المرسل، والتمييز، بينما يحتج به من المراسيل، وما لا يُحتج به.
إن المرسل لكي يكون صالحاً للاعتبار لابد أن تتحقق فيه هو شرائط:
- الشرط الأول: أن يصح السند إلى من أرسل الخبر. حينما نقول: هذا مرسل أي أرسله ذلك التابعي، لابد أن يكون هذا التابعي صح السند إليه، أنه روى الرواية مرسلة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، لكن إذا روى عن المرسل أحد الضعفاء الحديث مرسلاً، فهل نستطيع أن نقول: إن هذا التابعي أرسل الخبر أو لم(1/274)
يرسله؟ لا نستطيع؛ لأنه ما بني على خطأ فهو خطأ، فنحن لا نستطيع أن نجزم بنسبة الخبر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا إذا رواه الثقات، فكيف جزمنا بأن هذا التابعي أرسل الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والسند إليه لم يصح، فلابد من صحة الإسناد إلى ذلك التابعي الذي روى الخبر
مرسلاً عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهذا الشرط نص عليه عدد من أهل العلم، وهو مفهوم من كلام الشافعي في الرسالة، ونص عليه الإمام الذهبي، وكذلك الحافظ ابن حجر العسقلاني، وكذلك الزركشي أيضاً في نكته على كتاب ابن الصلاح.
- الشرط الثاني: أن يكون هذا التابعي نفسه من الثقات، وليس من الضعفاء؛ لأنه إن كان من الضعفاء، فلربما التبست عليه بعض الروايات، جاء لبعض الموقوفات فنسبها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأرسل الخبر، خطأً منه، بل لابد أن يكون من الثقات كما يصفه الإمام الشافعي -عليه رحمة الله- في الرسالة،
بأن يكون من الثقات المأمونين، فأما إذا لم يكن ثقة فهذا مرسله وعدمه سواء.
- الشرط الثالث: أن يكون هذا التابعي لا يروي إلا عن الثقات. ليس معروفاً بأخذ العلم عن الضعفاء، وإنما لا يروي إلا عن الثقات، ولم يتحمل العلم إلا عمن يوثق به، فأما إذا كان من شأنه أن يروي الحديث، أو يسمع الحديث، أو تحمل الحديث عن الضعفاء والمجهولين، والثقات أيضًا، وكان حديثه فيه خليط مما
تحمله عن الثقات وتحمله عن الضعفاء والمجاهيل، فحينئذ لا يكون مرسله صالحاً للاعتبار أصلاً؛ لاحتمال أن يكون مخرج المرسل عن هؤلاء الضعفاء، أو عن بعضهم.
- الشرط الرابع: أن يكون هذا التابعي من كبار التابعين، وليس من صغار التابعين. والشافعي أكد هذا المعنى، وذكر في عبارته ما يؤكده وأعاد ذلك في أكثر من موضع في كتابه الرسالة، وقال في ضمن ما قال: « ومن نظر في العلم بخبرة، وقلة غفلة، استوحش من مرسل كل من دون كبار التابعين بدلائل ظاهرة فيها »(1/275)
وقال أيضاً في غضون كلامه -رحمه الله تعالى-: « وأما مراسيل غير كبار التابعين فلا أعلم أحداً قبلها »، والشافعي حينما يقول: « لا أعلم أحداً قبلها » فهو إنما يحكي عن أقرانه، أو من تقدم عليه من أهل العلم، والشافعي من أهل الاستقراء، وهو حجة فيما ينقله عن غيره من أهل العلم -رحمه الله تعالى-.
فهذه الشرائط صلاحية المرسل للاعتبار، لكن إذا تحققت في الرواية المرسلة، هل هذا يكفي للاحتجاج بالرواية المرسلة؟ لا..، هذا وحده. وإنما هذا معناه، أن هذه الرواية المرسلة صارت صالحة لتلقي هذه العواضد، صارت أرضاً خصبة، أرضاً طيبة تصلح لتقبل العواضد التي تقويها وتأخذ بيدها حتى يرتقي الحديث
حينئذ إلى مصاف الحجة.
فما هذه العوضد؟
- العاضد الأول: أن يسنده الحفاظ المأمونون، وهذه عبارة الشافعي -رحمه الله- أن يسنده الحفاظ المأمونون إما باللفظ، وإما بالمعنى عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، يعني أن يجيء إسناد صحيح متصل إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- بمثل معنى ذلك المرسل، فحينئذ نستدل بهذا المسند الصحيح
على صحية مخرج المرسل.
نحن قلنا: إن الشافعي إنما يبحث ها هنا في معرفة هذا الذي أمره مغيب من المرسل، نحن نخاف أن يكون المرسل أخذ الحديث عن بعض الضعفاء، فهو يضع هذه الضوابط ليتأكد أو يغلب على ظنه بأن الذي سقط بين المرسل ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- إما أنه صحابي، أو تابعي ثقة، وصحابي عن رسول الله -صلى الله
عليه وآله وسلم-. فأولاً: هذا المرسل إن انضم إليه مسند صحيح فحينئذ يستدل بذلك على أن المرسِل الأول -صاحب الرواية المرسلة- إنما أخذ الحديث عن تابعي ثقة، وليس عن تابعي ضعيف، بعد أن تحققنا من أن الرواية لها أصل صحيح عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-. بعض أهل العلم قال: إن هذا المسند لا(1/276)
يشترط أن يكون صحيحاً، بل من الممكن أن يكون مسنداً لا تقوم به الحجة بانفراده، وهذا القول لم يلقَ قبولاً عند جمهور أهل العلم:
أولاً: لمخالفته لظاهر نص كلام الشافعي؛ لأنه قال: أن يسنده الحفاظ المأمونون.
ثانيًا: وهو أن الشافعي -رحمه الله- لا يقوي الرواية المرسلة بالرواية المسندة، بحيث يكون النتيجة المنضمة من اجتماع المرسل بالمسند مما يحتج به، وإنما يستدل بهذا المسند على أن المرسل نفسه كان مخرجه عن ثقة، فيكون حينئذ -ذلك المرسل- صحيحاً لذاته، بعد أن عرفنا أو غلب على ظننا بأن مخرجه عن
الثقات، وليس عن الضعفاء.
ويعبر عن ذلك الإمام ابن الصلاح، وكذلك الإمام النووي في مختصره لكتاب ابن الصلاح، وكذلك في مقدمة المجموع بقوله -رحمه الله تعالى-: « فإذا انضم لهذا المرسل مسند صحيح أو مرسل، أرسله من أخذ العلم عن غير رجال الأول كان صحيحاً » يعني صار المرسل الأول بعد أن عرفنا مخرجه بعد أن استدللنا على ثقة
الراوي الذي سقط من الرواية المرسلة بما انضم إلى الرواية المرسلة من المسند الصحيح، الذي تأكدنا به أن مخرج هذه الرواية المرسلة عن الثقات، وليس عن الضعفاء، صار هذا المرسل نفسه صحيحاً، كما أنه لو صار صحيحاً لذاته، يقول: « فيصير في المسألة حديثان صحيحان »، هذه عبارة النووي، « فيصير في المسألة
حديثان صحيحان » أي المرسل بعد أن عرفنا صحة مخرجه، والمسند الصحيح يقول: « حتى لو عارضهما صحيح من وجه آخر »، أي صحيح لذاته، قدمناهما عليه إذا تعذر الجمع، معنى هذا أن هذا المرسل انضم إليه مسند صحيح أم لا؟
عندنا مرسل ومسند ضعيف، إذا اجتمع يتولد منهما حسن لغيره، ومعلوم أن الحسن لغيره دون الصحيح لذاته في المنزلة، فكيف قدم الإمام النووي المرسل مع ما انضم إليه من المسند على ذلك الصحيح لذاته، إنما قدمه؛ لأنه يتعامل مع ذلك المسند الصحيح، فهو استدل أولاً بهذا المسند الصحيح على صحة مخرج المرسل، ثم(1/277)
صار في المسألة حديثان: مسند عرفنا صحة مخرجة فصار صحيحاً لذاته، وهذا المسند الصحيح، فيصير في المسألة حديثان صحيحان إذا عارضهما صحيح لذاته، بطبيعة الحال: يقدم الوجه الذي فيه حديثان صحيحان على الوجه الذي فيه حديث واحد صحيح.
- العاضد الثاني: مرسل آخر. يعني يأتي مرسل آخر أرسله تابعي آخر أيضاً عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، وهذا المرسل الآخر أي بمثل معنى المرسل الأول، وهذا المرسل الآخر لابد أن يتحقق فيه:
أولاً: كل الشرائط التي تحققت في المرسل الأول، من صحة الإسناد إلى من أرسله، وأن يكون هذا الذي أرسله من الثقات، وليس من الضعفاء، وأن لا يكون معروفاً بأخذ العلم عن الضعفاء، وأن يكون من كبار التابعين، وليس من صغارهم؛ لأن الرواية إنما تتقوى بما هو مثلها أو أقوى منها، وليس بما دونها.
ثانيًا: أن لا يكون كل من التابعيين المرسلين قد أخذ العلم عن شيوخ الآخر. يعني هذا التابعي الأول -صاحب المرسل الأول- شيوخه الذين تلقى عنهم العلم غير شيوخ المرسل الثاني، لنطمئن إلى تعدد المخارج، وأن الحديث لا يعود إلى شيخ واحد، لاحتمال أن يكون إذا اشترك عن أخذ العلم عن بعض الشيوخ، أن يكون
إنما أخذ المرسل الأول والمرسل الثاني كلاهما أخذ الحديث عن بعض الشيوخ ممن اشترك في أخذ العلم عنه، فيرجع حينئذ الحديث إلى كونه من رواية واحدة، فكيف نقوي الرواية بنفسها، هل الرواية تتقوى بنفسها أم تتقوى بغيرها؟! تتقوى بغيرها؛ فلهذا يشترط ذلك، وبالضرورة مفهوم ضمنا أنه إذا كان يشترط أن يكون
كل من التابعيين قد أخذ العلم عن غير شيوخ التابعي الآخر، فمن باب أولى أن لا يكون أحدهما أخذ العلم عن الآخر، وقد أرسلهما هذا الحديث الواحد، فالذي يغلب على الظن أن أحدهما أخذ الحديث من الآخر، ثم أسقطه وارتقى بالحديث إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-.(1/278)
- العاضد الثالث من عواضد المرسل: أن يكون هذا المرسل قد جاء بموافقته قول بعض الصحابة الكرام -رضي الله عنهم-.
- العاضد الرابع: أن يكون هذا المرسل قد قال بمعناه عامة أهل العلم، وبطبيعة الحال يشترط صحة الرواية إلى الصحابي، أو إلى هؤلاء التابعين مثلاً الذين وردت عنهم تلك الأقوال الموافقة لذلك المرسل هذه من جهة. من جهة أخرى: أن نتحقق من تعدد المخارج. فقد يكون الحديث مما اختلف فيه الرواة، فبعضهم رواه
مرسلاً، وبعضه رواه موقوفاً، والحديث هو الحديث، مخرجه واحد اختلف فيه الرواة، لكن بعضهم رواه مرسلاً عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وبعضهم رواه موقوفاً عن صحابي، فأنت تأتي وتقول: هذا مرسل قد وافقه قول هذا الصحابي، إذن يتقوى به. نقول: لا؛ لأن هذا مخرج واحد، فلابد أن تتعدد المخارج، فيكون
مخرج المرسل يختلف عن مخرج الموقوف، بحيث يغلب على ظننا بأن هذا الموقوف الذي على هذا الصحابي حينما قاله، قاله من غير أن يكون عنده علم بهذا المرسل، أو لم يخطئ بعض الرواة، فعمد إلى قول الصحابي فأخطأ، ونسبه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على جهة الإرسال، فحينئذ لا يكون هناك من فائدة. هذا
خلاصة ما قاله الشافعي -رحمه الله تعالى- في هذا الأمر.
مراسيل الصحابة
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (قال ابن الصلاح: وأما مراسيل الصحابة، كابن عباس وأمثاله، ففي حكم الموصول؛ لأنهم إنما يروون عن الصحابة، وكلهم عدول، فجهالتهم لا تضر. والله أعلم.
قلت: وقد حكى بعضهم الإجماع، على قبول مراسيل الصحابة، وذكر ابن الأثير وغيره في ذلك خلافاً. ويُحكى هذا المذهب عن الأستاذ أبي إسحاق الإسفرايئني، لاحتمال تلقيهم عن بعض التابعين. وقد وقع رواية الأكابر عن الأصاغر، والآباء عن الأبناء، كما سيأتي -إن شاء الله تعالى-.).(1/279)
هذه مسألة أخرى من المسائل التي يتناولها علماء الحديث، وأيضاً علماء الأصول، وهي ما تسمى عندهم بمراسيل الصحابة. ما معنى مراسيل الصحابة؟ وكيف يكون مرسلاً، ويضاف إلى الصحابي؟ أي ما لم يسمعه الصحابي من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وإنما أخذه عن صحابي آخر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-،
وهذا عادة ما يكون من صغار الصحابة، الذين لم يدركوا البعثة، وصاروا يحدثون بأخبار، نعلم بالضرورة أنهم لم يدركوا زمانها، فهم إما أنهم أخذوها عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وإما أنهم أخذوها عن صحابي آخر من كبار الصحابة عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، كما قال أبو الدرداء -رضي الله
عنه-: « ليس كل ما نحدثكم به، أخذناه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، كان بعضنا يحدث بعض، ويصدق بعضنا بعضاً »؛ لأنهم -رضي الله عنهم جميعاً- كانوا كلهم عدولاً أمناء -رضي الله عنهم أجمعين-، فهذا وإن سميناه مرسلاً إلا أننا نعطيه حكم الاتصال، ونعامله معاملة الاتصال من حيث الحكم، وأما
وصفه بكونه مرسلاً أي من حيث التسمية والاصطلاح، لأننا نعلم أنه ليس متصلاً؛ لأن هذا الصحابي لم يسمع هذا الخبر من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، بينه وبين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واسطة، لكن لما تحققنا من أن الواسطة عن صحابي، والصحابة كلهم عدول، فمعرفتنا بهذه الواسطة أو عدم معرفتنا
غير مؤثر في الحكم.
فمن هذه الحيثية صار الحكم سواء، سواء هذا الصحابي أخذ الخبر عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- مباشرة، أم أخذه عن صحابي آخر، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ونقول: إننا نعامله معاملة المتصل، أو نحكم باتصاله، ولا نقول: إنه متصل حقيقة؛ لأنه لم يتصل حقيقة؛ ولهذا وصفوه بأنه مرسل.(1/280)
بعض الباحثين ممن لم يعرف الفرق بين هذه الاصطلاحات يخلط، فيعمد إلى بعض ما وصفه العلماء من هذا الباب بأنه مرسل، يقول: لا، هذا مرسل صحابي، ومرسل الصحابي حجة، والإمام لم يقصد أنه ليس بحجة، إنما يقصد أنه من حيث التسمية هو مرسل، وإن كان من حيث الحكم كالمتصل سواءً بسواء.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (تنبيه: والحافظ البيهقي في كتابه: "السنن الكبير" وغيره، يسمي ما رواه التابعي عن رجل من الصحابة مرسلاً. فإن كان يذهب مع هذا إلى أنه ليس بحجة، فيلزمه أن يكون مرسل الصحابة، أيضاً ليس بحجة. والله أعلم).
- التابعي أحيانًا يقول: عن رجل من الصحابة، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولم يسمي ذلك الصحابي، فبعض أهل العلم يعد ذلك من المرسل، كالبيهقي. والواقع أن البيهقي ليس متفرداً بهذ، وإنما موجود في كلام غيره من أهل العلم، ولكن من يتأمل صنيع البيهقي في كتابه: "السنن الكبير" و"المعرفة"
أيضاً، يتبين أن البيهقي لا يعل الحديث بالإرسال إذا كان على هذه الصفة، إلا حيث يعرض ما هو أقوى منه، بل هو نص في بعض مواضع حيث رد بعض ما كان من هذا القبيل، وعلل ذلك بأنه إنما يقبله، إذا لم يكن عارضه ما هو أصح منه، هذا من ناحية. من ناحية أخرى: لابد أن يكون هذا التابعي هو الذي وصف ذلك بأنه
صحابي، يعني التابعي هو الذي يقول عن رجل من الصحابة، لكن لو أن التابعي قال: عن رجل، ثم قال من بعد التابعي، فوصف ذلك الرجل بكونه صحابي، فحينئذ لا يعترض على مثل البيهقي؛ لأن غير التابعي قد يصف الرجل بالصحبة، وهو ليس صحابي، أو يتنازع في كونه صحابي، أما التابعي ففي الغالب أنه أخذ ذلك عنه.(1/281)
- بعض أهل العلم فرق بين ما إذا صرح التابعي بسماعه لذلك الصحابي، أو لم يصرح، وهذا كلام متجه وكلام صحيح؛ لأنه هب أنه سمى هذا التابعي ولم يسمع منه؟ أليس هناك من التابعين من قد حدث عن بعض الصحابة من غير سماع، وروايتهم عنهم من قبيل الإرسال، كالزهري يحدث عن بعض الصحابة الذين لم يسمع منهم، مع
أنه قد سماهم، فإذا قال الزهري عن رجل من الصحابة، هل هذا يلزم منه اتصال؟ قد يكون هذا من جملة الصحابة الذين ليس له منهم سماع؛ فلهذا اشترط بعض أهل العلم كالصيرفي وغيره، أن يصرح بالسماع، ونجد بعض أهل العلم كالبخاري، والإمام الحاكم النيسابوري وغيرهم، يعدون ذلك من المنقطع على هذه الحيثية، يعني
أنه لم يتصل بين هذا التابعي والصحابي، لا أنه ينازع في كونه صحابياً.
وكذلك إذا ورد في أثناء الإسناد عن رجل عن فلان، فبعض أهل العلم يجعله من المتصل، ويقول: هو متصل في إسناده مجهول. والبعض الآخر: جعلوه من المنقطع. والبعض الآخر: جعلوه من المرسل.
والواقع أن هذا اختلاف لفظي، فالكل متفق على كونه ليس محتجاً به، إنما اختلفوا هل يسمى منقطعاً؟ أم مرسلاً؟ أم هو متصل والعلة الجهالة، وليس الإرسال أو الانقطاع؟ هذا اختلاف لفظي، لكن على جميع الأقوال هو غير محتج به.
إجابات الحلقة الماضية.
كان السؤال الأول: قول التابعي: من السنة كذا هل هو من قبيل المرفوع؟
وكانت الإجابة: قول التابعي: من السنة كذا، فيه خلاف بين أهل العلم، لكن الصحيح أنه موقوف. والله أعلم. نعم، هذا هو الراجح في المسألة.
السؤال الثاني: هل يصح وصف الحديث بكونه شاذاً ومقلوباً علل؟
وكانت الإجابة: نعم، يصح وصفه بكونه مقلوباً، بين فيه وجه الخطأ، أن كونه شاذاً أفاد أن الحديث وقع فيه خطأ، ولم يبين نوع الخطأ الذي وقع فيه الراوي. والله أعلم.(1/282)
يعني من قال من أهل العلم في الحديث: إنه شاذ، أو وصفه بأنه وقع فيه خطأ من غير أن يبين نوع ذلك الخطأ. أما من قال: إنه مقلوب، فقد زاد فائدة وهي: أن هذا الخطأ هو من قبيل القلب في الروايات، والله أعلم.
تقول: هل الإمام أحمد محدثاً أم فقيهاً؟.
هو محدث فقيه، وإمام أهل السنة والجماعة، رحمه الله ورضي عنه.
تقول: لماذا لم يأخذ بعض الفقهاء بمرسل الصحابي، مع علمنا أن الذي لا شك فيه بعدالته؟.
لا..، ليس الشأن في عدالة الصحابي، لا يختلف في ذلك أهل السنة، وإنما الشأن في سماع التابعي لذلك الحديث من ذلك الصحابي؛ لأنه لم يسمي ذلك الصحابي، ونحن نريد أن نعرف، هل هذا التابعي أخذ الحديث عن هذا الصحابي، أم بلغ به عن هذا الصحابي الذي أبهم اسمه؟ هو صحابي من حيث الصحبة، لم يراجع في ذلك،
إنما الذين توقفوا في الاحتجاج بذلك، ووصفوه بالإرسال، أي أننا لا نعرف هذا التابعي سمع من هذا الصحابي، أم لم يسمع من ذلك الصحابي. والتابعون كانوا يرسلون الأحاديث عن الصحابي الذي يسمونه في الأسانيد، كما أن الزهري يحدث عن بعض الصحابة الذين ليس له منهم سماع، فإذا جاء الزهري، وقال: عن رجل من
الصحابة، فلعل هذا الصحابي الذي أبهم اسمه هو من جملة الصحابة الذين ليس له منهم سماع، ليس ذلك طعناً في الصحابة، وإنما راجع إلى مسألة الاتصال وعدمه. والله أعلم.
يقول: أولها: التابعي الذي رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- كافراً ثم أسلم بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكرتم أن روايته مقبولة متصلة، فهل ذلك يقبل منه سواء تحققنا أنه حضر هذا الحدث أم لا يستويان؟.(1/283)
أنا تكلمت في كونه يسمى مرسلاً أم لا؟ نحن اشترطنا في المرسل: أن يكون الذي رواه عن الرسول تابعي، وهذا تابعي، وقد سمع من الرسول، فلماذا لم يعده العلماء من المرسل، فنحن نقول: لم يعده العلماء من المرسل؛ لكون هذا التابعي إنما أخذه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مباشرة، وإن كان وقت أن تحمله
من النبي ليس مؤمناً، لكن لما حدث به بعد أن آمن وأسلم قُبِلَ ذلك منه، فلم يعامل معاملة المرسل من هذه الحيثية، فهذا من حيث التعريف، وليس يهتم بمثل هذه التفريعات.
يقول: السؤال الأول: هل مقطوع التابعي الذي لا مجال فيه للرأي يكون له حكم الرفع؟ كقول سعيد بن جبير: (من قطع تميمة من إنسان كان كعدل رقبة). ألا يكون هذا من قبيل المرفوع الذي لا مجال فيه للرأي؟ السؤال الثاني: عندما يحدث اختلاف في بعض الأحاديث كالرفع والوقف، يقول بعض الأئمة، يفترض فيه الوقف،
هل يلزم من هذا قول: الصواب فيه الوقف، هل يلزم أن صحة الإسناد إلى الصحابي؟ أو هو وصف للرواية؟ قد يصح إلى الصحابي وقد لا يصح؟ يعني: إذا قال بعض الأئمة في بعض الأحاديث المختلف في رفعها ووقفها قال: أن هذا صحة الإسناد إلى الصحابي، أو هو وصف بأن المحفوظ في الرواية هو الوصف؟
المسألة الثانية هذه من خصوصيات علم العلل، نحن نتكلم عن مسألة على فرض أن الرواية صحت بالفعل، لكن كيف تصح هذا مما نعالجه في أبواب علل الأحاديث، ليس هذا موضع بيان هذا، لكن نتكلم إذا كان الحديث اختلف فيه الرواة، فبعضهم رواه مرسلاً، وبعضهم رواه موقوفاً، والحديث واحد، وإنما ذلك من اختلاف
الرواة، فالمخرج واحد، فهي تعامل على أنها رواية واحدة، إما أن يصح فيها الإرسال فيعامل معاملة المرسل، وإما أن يصح فيها الوقف فيعامل معاملة الموقوف،أما كيف نحقق ذلك هذا موضوع في علم علل الأحاديث -إن شاء الله تعالى-.(1/284)
إجابة السؤال الأول: إذا قال التابعي قولاً مما لا يقال بالرأي، هل يعامل معاملة المرسل أم لا؟ هذا إن كان إخباراً عن الغيبيات، فقد يكون إنما أخذه عن أهل الكتاب، أما إذا عبر بأن هذا مما يترتب عليه ثواب معين أو عقاب معين، فقد يكون ذلك من قبيل المرسل؛ لأنه في الغالب أنه أخذه بحديث المتصل إلى
رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كما ذكر الحاكم النيسابوري في مبحث المعضل، بأن من صور المعضل: أن يقول التابعي قولاً من قبل نفسه مما لا يقال بالرأي، ويكون ذلك القول مسنداً متصلاً إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، من وجه آخر فيكون معضلاً من هذه الحيثية، ومعنى كونه معضلاً من هذه الحيثية،
أنه عامله معاملة المرفوع المضاف إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه قول قاله التابعي، فكيف يوصف بكونه معضل، إلا إذا كان هذا التابعي يسنده عمن فوقه؟ وإذا وصفناه بالإعضال، فالغالب أنه يرويه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهذا ما استحسنه الإمام ابن الصلاح، وسيأتي في نوع المعضل
-إن شاء الله-.
يقول: إذا علمنا أن الصحابي هو الذي سقط، والصحابة كلهم ثقات، فهل نحكم على هذا الحديث بالصحة؟.
إذا تيقنا من أن الساقط صحابي، فالحديث صحيح متصل لا غبار عليه.
يقول: نرجو توضيح قول الحافظ البيهقي في سننه عن المرسل؟.
الإمام البيهقي -عليه رحمة الله تعالى- تعرض في كتابه: السنن الكبير وغيره، إلى الروايات التي يقع فيها كثيرًا عن التابعي، عن رجل من الصحابة، من غير أن يسميه، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فيصفها كثيرًا بأنها مرسلة. فبعضهم قال: إنما سماها مرسلة، ومع ذلك هو يحتج بها، فهو من باب تسمية(1/285)
مرسل الصحابي مرسل، مع أنه حجة عند علماء الحديث عموماً، وإنما سماها مرسلة من حيث أن الصحابي لم يذكر اسمه فيها، وهو نص على أنه يحتج به، في مواضع، ونص على أنه لا يحتج بها إلا إذا حيث عارضها ما هو أقوى منها، وأنا أقول: إن الإرسال في هذه المواضع في الغالب يكون من باب غلبة ظن الناقد، بأن
هذا التابعي، وإلا سمى من أو وصف من روى عنه بأنه صحابي، إلا أنه قد يكون لم يسمع منه، فيكون من باب الانقطاع، من عدم الاتصال، وليس بالإرسال، الذي نحن بصدد الكلام فيه، يعني أنه منقطع بين التابعي وذلك الصحابي، فهو صحابي لا ينازع في صحبته، إنما ينازع في سماع ذلك التابعي منه في هذا الحديث.
والله أعلم.
فضيلة الشيخ هلا تفضلتم بطرح أسئلة هذه المحاضرة مشكوراً؟.
السؤال الأول: اذكر أجمع تعريف للحديث المرسل؟
السؤال الثاني: اذكر شرائط الاحتجاج بالحديث المرسل؟
الرئيسة ????? ?????????? ????? ???? ?????????? ?????? ???????
???? ?????? - ??????? ??????
المؤلف: ????? ?????/ ???? ?? ??? ????
الوصف: ?????? ??????? ????? ???? ?????? -??????? ?????? - ??? ?????? ???? ?????? ?????? ??? ????
ارسل الصفحة لصديق
معاينة طباعة الصفحة
رؤية مكبرة
--------------------------------------------------------------------------------
الدرس الحادى عشر
الحديث المنقطع
إن الحمد لله تعالى نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وبعد:(1/286)
لقاؤنا اليوم -إن شاء الله تعالى- مع النوع العاشر من أنواع علوم الحديث: وهو نوع الحديث المنقطع. وكما قلنا آنفاً أن الإرسال والانقطاع والإعضال والتدليس كل هذه الأنواع وما كان بسببها إنما هي صور من صور السقط في الإسناد، وإنما يعد العلماء هذه الأنواع ويسمون كل نوع منها باسم يختص به بحسب موضع
السقط في الإسناد، وعدد الساقطين أيضًا، فنقرأ -إن شاء الله تعالى- ما قاله الشيخ الإمام ابن كثير -رحمه الله تعالى- مما يتعلق بهذا النوع:
النوع العاشر: المنقطع
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (النوع العاشر: المنقطع. قال ابن الصلاح: وفيه وفي الفرق بينه وبين المرسل مذاهب.
قلت: فمنهم من قال: هو أن يسقط من الإسناد رجل، أو يذكر فيه رجل مبهم.
ومثل ابن الصلاح للأول: بما رواه عبد الرزاق عن الثوري عن أبي إسحاق عن زيد بن يثيع عن حذيفة مرفوعاً: ( إن وليتموها أبا بكر فقوي أمين...)، الحديث، قال: ففيه انقطاع في موضعين:
أحدهما: أن عبد الرزاق لم يسمعه من الثوري، إنما رواه عن النعمان بن أبي شيبة الجندي عنه. والثاني: أن الثوري لم يسمعه من أبي إسحاق إنما رواه عن شريك عنه .)
الحديث المنقطع كالحديث المرسل كلاهما من أنواع السقط في الإسناد، إلا أن علماء الحديث -عليهم رحمة الله تعالى- تارة يطلقون هذين المصطلحين -المرسل والمنقطع- بمعنى واحد، فيعبرون عن أي سقط يقع في الإسناد في أي موضع منه، وعلى أي صفة كانت بأنه مرسل، أو بأنه منقطع، وهذا -كما قلنا في اللقاء
الماضي- من باب التوسع في الاصطلاح، فكلما وجد في الإسناد سقط سواء كان في أعلى الإسناد، أو في نهاية الإسناد، أو في أثناء الإسناد، وسواء كان عدد الساقطين واحداً أو أكثر، فكل ذلك يصدق عليه اسم الإرسال، ويصدق عليه اسم الانقطاع أيضًا، إلا أن المحدثين -عليهم رحمة الله تعالى- من حيث الاستعمال(1/287)
الأغلب والأشهر يخصون المرسل بصورة، ويخصون المنقطع بصورة أخرى، فحيث أطلق المرسل فيعنى به: ما رفعه التابعي إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- من غير أن يذكر الوسائط بينه وبين النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-. أما الانقطاع فأشهر معانيه، وأكثر استعمال أهل العلم له، ما كان السقط في أثناء
الإسناد، وليس في أحد طرفيه، فإذا سقط راوٍ من الوسط، أي: راوٍ روى عن شيخ وهو لم يسمع من ذلك الشيخ، إنما سمع الخبر من رجل آخر عن ذلك الشيخ، ثم أسقط ذلك الآخر، وارتقى بالحديث إلى ذلك الشيخ، إذن هناك واسطة سقطت من الوسط، فهذا الذي يكثر تسميته بالمنقطع في اصطلاح علماء الحديث.
وأشار المؤلف ها هنا إلى صورة أخرى من صور المنقطع: وذلك حيث يكون في الإسناد إبهام الراوي، -إبهام أحد الرواة- فيأتي في الإسناد مثلاً: قول بعض الرواة: حدثني رجل عن فلان، أو عن رجل عن فلان، أو شيخ عن فلان، وهو لا يسمي ذلك الرجل، ولا ذلك الشيخ، إنما يشير إليه هكذا مبهماً غير مذكور باسمه، فهذا
أيضاً عده بعض أهل العلم -كالإمام الحاكم النيسابوري رحمه الله تعالى- من قبيل المنقطع، وبعضهم اعتبره من قبيل المرسل، وأشرنا في اللقاء الماضي أن من أهل العلم من جعله من قبيل المتصل حتى قال قائلهم:
وقولهم عن رجل متصل لكن في إسناده من يجهل
بمعنى أنه متصل من حيث أن كل راوٍ مذكور، سواء ذكر باسمه، أو ذكر مبهماً غير مسمى في الإسناد، لكنه مذكور، فاعتبر هذا القائل أن ذلك يعد من المتصل، ولكن العلة التي ينبغي أن يعلل الحديث بها لا الإنقطاع ولا الإرسال، إنما هي جهالة ذلك الراوي، وعدم معرفتنا به، وهذا القول ضعيف، وإن عزاه بعض
المتأخرين إلى الأكثر من أهل العلم، وليس كذلك، فليس هو عند الأكثر من أهل العلم، كذلك بل الأكثر من أهل العلم يعدون ذلك: إما من المرسل، وإما من المنقطع.(1/288)
وجد ذلك في كلام كثير من أهل العلم كالبخاري وعلي بن المديني وأبو بكر الأثرم والإمام النسائي وغيرهم من أهل العلم. والعلة في ذلك واضحة في كون هذا الراوي روى عمن لم يسمه، فإذا روى عمن لم يسمه فهو كما لو سماه، وعرفنا أنه لم يسمع منه، فلو أن راوياً روى عمن سماه فعلاً، قال: عن فلان، وذكره
باسمه، ثم تبينا أنه لم يسمع من ذلك المذكورفي الإسناد، أكنا نحكم للحديث بالانقطاع أم لا؟ كنا سنحكم على الحديث بالانقطاع، لكوننا قد عرفنا وعلمنا أن هذا الراوي ليس له من الشيخ المذكور في الرواية سماع، فإذا قال هذا الراوي نفسه: حدثني شيخ، أو عن شيخ وهو لم يذكره باسمه، عن فلان فهو كما لو أنه
حدث عن فلان، هذا وهو لم يسمع منه، فحيث تحققنا من أنه لم يسمع من شيخه الذي روى عنه وسماه، فنحن نؤمن بالضرورة، أن هناك واسطة بينه وبين ذلك الذي سماه؛ لأننا تحققنا من أنه لم يسمع منه مباشرة. فإذا جاء هو نفسه في رواية أخرى، وقال: عن شيخ عن فلان، فهو لم يزد شيئاً، هو أكد المعنى الذي كنا
متحققين منه؛ لأنه حينما روى عن شيخه، وهو لم يسمع منه، كنا قد علمنا بذلك أن بينه وبين ذلك الشيخ واسطة، فإذا جاء في موضع آخر وبَيَّن هذه الواسطة ولم يسمها، هل أفادنا شيئاً جديداً؟ً لم يفدنا شيئاً جديداً؛ لأننا متحققين من عدم اتصال الرواية. فإذا جاء هو في رواية أخرى وبَيَّن أن هناك بينه
وبين شيخه المذكور باسمه واسطة، وهو لم يسم تلك الواسطة، فهو أكد لنا المعنى الذي كنا متحققين منه، وهو أنه لم يسمع ذلك من شيخه الذي سماه؛ فلهذا لا نحكم على هذه الرواية بالاتصال، وإنما العلة كما ذهب إلى ذلك جمهور أهل العلم، إنما هي الانقطاع أو الإرسال.
وحينما نقول الانقطاع أو الإرسال بناءً على أن الانقطاع والإرسال يعبر بكل منهما عن الآخر، فإذا سمعنا مثل هذا مرسلاً أو منقطعاً، فهو من جهة واحدة، أما إذا قلنا أنه متصل فهذا أمر آخر.(1/289)
واعلم أن ألفاظ الرواية تختلف دلالاتها من لفظ إلى آخر:
- فهناك ألفاظ صريحة في السماع: كسمعت وحدثني وأخبرني، ومثل هذه الألفاظ التي تفيد الاتصال، وتفيد معنى السماع.
- وهناك ألفاظ صريحة في عدم السماع: كقول الراوي: حدثت عن فلان، أخبرت عن فلان، نبئت عن فلان، بلغني عن فلان، ومثل هذه العبارات فهذه صريحة في عدم السماع؛ لأنها تتضمن أن هناك مخبراً أخبر ذلك الراوي بهذه الراوية، وهو ليس مسمى في الرواية، فنحن نفهم من قول الراوي بلغني عن فلان: أن هناك مبلغ،
وهذا المبلغ غير مذكور في الإسناد، فحينئذ هذه اللفظة يفهم منها: أن الانقطاع صراحة، وليس الأمر على الاحتمال.
- وهناك ألفاظ تحتمل السماع وعدمه: كالعنعنة، كقول الراوي: عن فلان، أو قال فلان، أو روى فلان، أو حكى فلان، أو ذكر فلان، فهذه الألفاظ لا نستطيع أن نفهم منها سماعاً كما لا نستطيع أن نفهم منها عدم سماع؛ لأنها تحتمل المعنيين جميعاً، فقول الراوي: قال فلان، قد يكون سمع منه ذلك القول، فهو يحكيه
عنه، وقد يكون إنما أخبر بذلك القول عن ذلك القائل، فهو حينما يقول قال من غير أن يبين أنه قال له مباشرة، أو ما يفيد هذا المعنى، فنحن حينئذٍ لا نستطيع أن نجزم بأن هذا اللفظ دال على السماع، كما أننا لا نستطيع أن نفهم منه عدم السماع أيضًا؛ لاحتماله للمعنيين معاً، بخلاف الألفاظ الأخرى التي تدل
على عدم الاتصال صراحة، كمثل قول الراوي فيما ذكرنا بلغني أو حدثت أو أخبرت أو أنبئت أو مثل هذه العبارات.
وقول الراوي "عن شيخ" هو من هذا القبيل- قول الراوي عن شيخ أو عن رجل- فهذا يفهم منه أن بينه وبين من سماه في الرواية واسطة، فهو كمثل قوله: بلغني عن فلان، أو حدثت عن فلان، أو أخبرت عن فلان، وهذا يفيد الانقطاع إفادة واضحة صريحة لا تحتمل أدنى شك.
هنا الإمام ابن الصلاح -عليه رحمة الله تبارك وتعالى - ذكر أمثلة للصورتين التي ذكرهما للحديث المنقطع:(1/290)
الصورة الأولى: أن يسقط من الإسناد رجل بالفعل.
الصورة الثانية: أن يذكر فيه رجل مبهم غير مسمى.
فهاتان صورتان، فمثل للصورة الأولى وهي أن يسقط من الإسناد رجل، ذكر مثالاً سقط منه رجلان ولم يسقط منه رجل واحد، لكن تلاحظون أن الرجلين الذين سقطا إنما سقطا من موضعين مختلفين في الإسناد، وليس من موضع واحد، يعني لم يسقط الراوي وشيخه، إنما سقط راوٍ من مكان، وراوٍ آخر من مكان آخر؛ ولهذا يذكر
العلماء أن المنقطع قد يكون بسقط رجل واحد من الإسناد، وقد يكون أيضاً بإسقاط رجلين بشرط عدم التوالي، أن يكون السقط لهذين الراويين من موضعين مختلفين في الإسناد، أما إذا سقط الراوي وشيخه، أو التابعي والصحابي، فحينئذ يكون من قبيل المعضل كما سيأتي.
فالفرق بين المعضل والمنقطع هو هذا كما سيأتي في موضعه في الحديث المعضل -إن شاء الله تعالى- هذا من ناحية.
من ناحية أخرى: أنكم تلاحظون أن السقط وقع في الموضعين بطريق التدليس كما سيأتي في نوع التدليس، أن الراوي المدلس إنما يعمد إلى أحاديث أخذها عن رجل عن شيخ، وهو قد سمع من الشيخ الأعلى غير هذا الحديث، أو غير هذه الأحاديث، ثم يأتي إلى تلك الأحاديث التي أخذها عن هذا الشيخ بواسطة، فيسقط تلك
الواسطة، ويرتقي بالحديث إلى شيخه الذي له منه سماع في الجملة، ولكن ليس له سماع منه في هذا الحديث خاصة، فهذا من صور التدليس.
فحينما ننظر عبد الرزاق أسقط بينه وبين الثوري رجلاً أليس كذلك؟. عبد الرزاق له سماع من الثوري في الجملة، ولكنه لم يسمع منه ذلك الحديث خاصة، وعبد الرزاق موصوف بالتدليس، فعليه يكون ذلك من قبيل التدليس، وليس من قبيل المنقطع.(1/291)
كذلك الموضع الآخر: الثوري لم يسمع ذلك الحديث من أبي إسحاق السبيعي، وإنما أسقط بينه وبينه واسطة كما علمتم، والثوري أيضاً موصوف بالتدليس، سفيان بن سعيد الثوري -رحمه الله تعالى ورضي عنه- أيضاً موصوف بالتدليس، فحينئذ هذا يدخل تحت التدليس؛ لأن الثوري له سماع من أبي إسحاق في الجملة، أي سمع منه
غير ذلك الحديث، فتبين لنا من ذكر هذا المثال أن الموضعين الذين وقعا فيهما السقط إنما وقع السقط على سبيل التدليس.
ولهذا اعترض على ابن الصلاح بعض أهل العلم، وهو الحافظ ابن ججر العسقلاني -رحمه الله تعالى- فذكر أن هذا المثال يصلح للمدلس، ولا يصلح للمنقطع، بناءً على أن المنقطع لابد أن يكون السقط فيه ناتجاً عن أن الراوي لم يسمع من شيخه أصلاً، بمعنى أن يعرف من خلال التاريخ، بأن هذا الراوي لم يلتق بهذا
الشيخ، ولم يسمع منه لا قليلاً ولا كثيراً.
وما صنعه ابن الصلاح صواب، ولا يتعارض مع ما قاله الحافظ ابن حجر -عليه رحمة الله-؛ لأن التدليس ليس نوعاً معيناً مستقلاً من أنواع السقط في الإسناد، وإنما هو كما ذكرنا في لقاء سابق عبارة عن وسيلة، يسلكها الراوي لإحداث السقط في الرواية، فالتدليس ليس نوعاً مستقلاً من أنواع السقط، وإنما هو
وسيلة إحداث السقط في الرواية، فالراوي الذي سمع من بعض المشايخ بعض الأحاديث، ثم هناك أحاديث أخرى لهؤلاء المشايخ لم يأخذها عنهم مباشرة، إنما أخذها عنهم بواسطة، ثم لما روى هذه الأحاديث عن هؤلاء المشايخ، أسقط الوسائط التي بينه وبين هؤلاء المشايخ، وارتقى بالأحاديث عن المشايخ مباشرة، موهماً
السماع، هذا هو التدليس.(1/292)
ماذا فعل هذا الراوي؟ إنه استعمل التدليس كوسيلة لإحداث السقط في الرواية، فإذا تبين أن هذه الرواية مدلسة، وأن الراوي سلك هذا المسلك لإحداث السقط في الرواية، فإذا كان الساقط الذي بينه وبين شيخه الذي دلس الخبر عنه واحداً، فماذا نسمي هذه الرواية؟ نسميها منقطعة؛ لأن هذا التدليس آل به الأمر إلى
إحداث الانقطاع في الرواية، فصار التدليس وسيلة لإحداث الانقطاع في الرواية، لو أنه أسقط ذلك المدلس بينه وبين شيخه رجلين، فمن أي الأنواع ستكون هذه الرواية؟ ستكون من نوع المعضل، لماذا سميناها معضلة؟ لأن عدد الساقطين في موضع واحد، ماذا فعل المدلس؟ استعمل هذه الوسيلة وهي التدليس؛ لإحداث
الإعضال في الرواية.
إذن التدليس ليس نوعاً من أنواع السقط، وإنما هو وسيلة يتبعها أو يسلكها الراوي؛ لإحداث السقط في الرواية، فإذا تبين أن الساقط رجل واحد كان الحديث حينئذٍ منقطعاً، أو تبين لنا أن الساقط رجلان كان الحديث حينئذٍ معضلاً، وهكذا فلا تعارض بين كلام الحافظ ابن الصلاح ولا بين كلام الحافظ ابن حجر
العسقلاني، إذا فهمنا الأمر على هذا النحو.
ولهذا نجد أن ابن الصلاح نفسه ذكر هذا المثال بعينه في نوع المرسل الخفي، ومثل له بالإرسال الخفي، والإرسال الخفي -كما ذكرنا في لقاء سابق- والتدليس يجتمعان في صورة متعددة بل من أهل العلم من يطلق على كل ذلك مصطلح التدليس، كل ما يندرج تحت الإرسال الخفي أو تحت التدليس يسميه بعض أهل العلم بأنه
من التدليس، بل أكثر أهل العلم يعتبرون الإرسال الخفي صورة من صور التدليس، وهذا أيضاً إذا فهمناه على هذا النحو نفهم لماذا جعل ابن الصلاح ذلك أيضاً مثالاً للإرسال الخفي؛ لأن هذا الراوي وهو عبد الرزاق مثلاً قد عاصر الثوري والتقى به، بل سمع منه بعض الأحاديث، فعلى قول من يقول إن الإرسال الخفي(1/293)
والتدليس بمعنى واحدٍ، أو أن الإرسال الخفي صورة من صور التدليس، فمن هذه الحيثية قد تحقق في هذا المثال صورة الإرسال الخفي؛ لأنه طريق توصلنا به إلى كون هذه الرواية غير متصلة، ولكنها طريق خفية غير واضحة، لتعاصر كل من الراوي وشيخه، بل ثبوت لقاءهم بعضهم ببعض، بل ثبوت السماع أيضاً في الجملة.
فلما كان ذلك كذلك، ؟؟ استدللنا على الانقطاع -أو عدم الاتصال- الواقع في هذه الرواية بدليل آخر، دليل خارج لم يتبين لنا ذلك، قلنا إن ذلك خفي، كما نقول في العلة بأنها خفية؛ لأنه يتوصل إليها بطريق خفي وطرق دقيقة جداً وغامضة، لا يطلع عليها إلا أهل الاختصاص.
لكن لو أن عبد الرزاق لم يعاصر الثوري أصلاً، ولم يقع بينهما لقاء بالمرة، أو معاصرة بالمرة، هل يكون ذلك خفياً؟ فهذا يعرفه عامة الطلبة؛ لأن التواريخ تثبت أن هذا الرجل لم يكن موجوداً في هذا الزمان الذي فيه ذلك الشيخ، فلم يكن خفياً من هذه الحيثية.
لكن إذا ثبت أن هذا الراوي لم يسمع ذلك الحديث، أو لم يلتق بهذا الراوي ولا الشيخ، وأثبتنا ذلك عن طريق قواعد الإرسال الخفي، يؤول بعد ذلك الأمر إلى أن الحديث: إما منقطع، وإما معضل، فيتبين أن بينه وبين شيخه انقطاع -أي سقوط رجل واحد- فيكون حينئذٍ منقطعاً، أو تبين أن الساقط بينه وبين شيخه أكثر
من راوٍ يكون من هذه الحيثية معضلاً، ويكون حينئذٍ الإرسال الخفي وسيلة استدللنا بها على ما وقع من سقط في هذه الرواية.
قال المصنف -رحمه الله تعالى- ( ومثل الثاني: بما رواه أبو العلاء ابن عبد الله بن الشخير عن رجلين عن شداد بن أوس، حديث ( اللهم إني أسألك الثبات في الأمر ) .)(1/294)
هذا مثال آخر لصورة أخرى من الانقطاع هو: أن يكون في الإسناد رجل مبهم لم يسم في الإسناد. ونحن أشرنا إلى هذا الأمر، لكن تلاحظون قوله: عن رجلين، معنى ذلك: أن ابن الشخير بينه وبين شداد رجلان، وليس رجل واحد، ومع ذلك جعله مثالاً للمنقطع، ولم يجعله مثالاً للمعضل الآتي ذكره، والذي سيتبين من خلال
بحثنا فيه: أنه ما سقط من أثناء إسناده في موضع واحد أكثر من راوٍ. وهنا سقط أكثر من راوٍ لقوله عن رجلين.
لماذا أدخله الإمام المصنف ابن الصلاح -رحمه الله تعالى- في نوع المنقطع؟ ثم لماذا تبعه على ذلك الحافظ ابن كثير-رحمه الله تعالى- ولم يتعقبه في ذلك ؟
هناك جوابان:
الأمر الأول: إما أن يكون سماه منقطعاً بناءً على القاعدة العامة، إذ أن المنقطع والمرسل -كما قلنا آنفاً- يعبر بهما عن أي سقط يقع في الإسناد، فكأنه أشار ها هنا إلى المعنى العام.
الأمر الثاني: أن قوله: عن رجلين يحتمل أن هذين الرجلين لم يروي كل منهما عن الآخر، وإنما قرن أحدهما بالآخر، أي تابع أحدهما الآخر، كما تقول مثلاً: حدثني فلان وفلان عن فلان، فهذه واسطة في الواقع، وليست واسطتان، ولكن هذا الذي حدثك أكثر من واحد، ولكنهم كلهم في طبقة واحدة، لم يرو كل منهما عن
الآخر، وإنما كلهم حدثوك، وكلهم حدثوا عن الشيخ المذكور فوقهم، فمن هذه الحيثية يكون أيضاً منقطعاً.
أمر آخر: لو فرضنا أن الرواية أصلها: عن رجل عن رجل عن شداد بن أوس، يعني أبو العلاء ابن الشخير يقول: عن رجل عن رجل عن شداد بن أوس، فمن هذه الحيثية تكون معضلة وليست منقطعة. لكن من الممكن أن يقال في مثل ذلك: إن عدم معرفتنا بالمبهم الأول، يجعلنا لا نعتمد عليه فيما يرويه من الروايات، فلو أن(1/295)
الضعيف قال: حدثني فلان، هو ضعيف أم لا ؟ فهل بإمكانك أن تثبت الرواية عن شيخ ذلك الضعيف، والضعيف بينك وبينه؟ لا تستطيع أن تقول: إن هذا الشيخ الذي هو شيخ للضعيف -فيما زعم ذلك الضعيف- إنه حدث بحديث كما حدثك به عنه ذلك الراوي الضعيف؛ لأن ضعف هذا الراوي يجعلنا في ريبة فيما نسبه إلى مشايخه، فلو
أن هذا المبهم الأول الذي يروي عنه أبو العلاء ابن الشخير قال: عن شيخ أو عن رجل عن شداد بن أوس، فلنا أن نقول: إن هذا مبهم غير معروف، فلا نعتمد على ما ينقله من روايات، فلا نثبت -بمقتضى روايته- أن هناك مبهم آخر بينه وبين أبو العلاء ابن الشخير، وإن كان هذا ضعيفاً ها هنا، ولكن قد نحتاج إليه في
بعض الروايات.
قال المصنف -رحمه الله تعالى- (ومنهم من قال: المنقطع مثل المرسل، وهو كل ما لا يتصل إسناده، غير أن المرسل أكثر ما يطلق على ما رواه التابعي عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-.
قال ابن الصلاح: وهذا أقرب، وهو الذي صار إليه طوائف من الفقهاء وغيرهم، وهو الذي ذكره الخطيب البغدادي في كفايته ).
هذا ما أشرنا إليه سابقاً، من أن المرسل والمنقطع كلاهما يطلقان بكثرة على كل ما لم يتصل، على أي وجه كان، وفي أي موضع كان، وبأي عدد من الساقطين كان، هذا من ناحية، إلا أن المرسل في أكثر استعمال أهل العلم أنه يختص بما يرفعه التابعي إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-.
قال المصنف -رحمه الله تعالى- (قال: وحكى الخطيب عن بعضهم: أن المنقطع ما روي عن التابعي فمن دونه موقوفاً عليه، من قوله أو فعله، وهذا بعيد غريب والله أعلم .)
حكى الخطيب البغدادي في كفايته -رحمه الله تعالى-: أن المنقطع: هو ما كان موقوفاً على التابعين من أقوالهم أو أفعالهم، ونحن سبق وأن ذكرنا أن هذا يعد من المقطوع، وليس من المنقطع؛ ولهذا استغرب ابن الصلاح هذا القول، واعتبره بعيداً عن الصواب.(1/296)
والواقع أن هذا راجع إلى جانب اصطلاحي، سبق وأن تكلمنا في المقطوع، قلنا: إن هناك من أهل العلم من يطلق المنقطع على إرادة المقطوع، ومنهم من يطلق المقطوع على إرادة المنقطع، وهناك حكى الإمام الحافظ ابن الصلاح -عليه رحمة الله- عن الشافي والطبراني وغيرهما أن هؤلاء العلماء -رحمهم الله تعالى-
يستعملون المقطوع بمعنى المنقطع.
فإذا كان هذا سائغاً هناك فما الذي يجعله بعيداً ها هنا، وغريباً عن الصواب؟ فمن الممكن أن يكون ذلك محمولاً على جانب اصطلاحي، ونحن قلنا المنقطع والمقطوع كلاهما من حيث اللغة سواء، فهذا يعد من إطلاق أحدهما على الآخر، وإنما يستدل على المعنى الذي أراده هذا القائل أو ذاك من خلال السياق وتأمُل
الكلام.
وسيأتي في المعضل: أن من صور المعضل عند المحدثين: أن يقول التابعي قولاً من قبل نفسه، ثم يتبين لنا أن هذا القول له رواية أخرى مسندة مرفوعةً إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، جعل ذلك الحاكم النيسابوري من صور المعضل، أن يكون الكلام من كلام التابعي، إذن هذا مقطوع؛ لأنه موقوف على
التابعي. ثم نجده من وجه آخر مروياً عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- بإسناد متصل، فالإمام الحاكم النيسابوري جعل ذلك من صورة المعضل، واستحسن ذلك الاصطلاح الإمام ابن الصلاح، فبعد أن ذكر كلام الحاكم والمثال الذي ذكره، قال وهذا جيد حسن، لماذا؟ قال: لأن سقوط الصحابي مع وقفه على التابعي
يكون بمنزلة لو أنه سقط من إسناده رجلان فيصح وصفه بالمعضل لهذه الحيثية، وهذا كلام صحيح، لكن ليس هذا قريب من هذا الكلام!! فلو أن التابعي قال كلاماً من قبل نفسه، وكان هذا الكلام مروياً عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- من وجه آخر، فما المانع أن نسميه منقطعاً، وقد سماه الحاكم النيسابوري(1/297)
معضلاً، والمعضل بطبيعة الحال أشد من المنقطع، وقد استحسن ذلك منه الإمام ابن الصلاح -رحمه الله تعالى-؟!! فأنا لا أرى أن هذا القول غريباً ولا بعيداً عن الصواب، بل هو جارٍ على مقتضى الاصطلاح.
أيضاً سيتبين لنا حينما نتناول هذه المسألة في المعضل: أن ذلك إنما يكون فيما لا يقال بالرأي، وإلا فما المانع أن يقول التابعي قولاً من قبل نفسه، ويكون ذلك القول مروياً عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، فنحن حينئذٍ نعامل المرفوع معاملة المرفوع، والمقطوع معاملة المقطوع، فنقول هذا مرفوع،
وهو حجة، وقد قال بمثله هذا التابعي، أو ذاك الصحابي، أو نحو ذلك، وكل ذلك لا يمنع من أن يكون ذلك مروياً عن ذلك التابعي، وأننا نعامله معاملة المقطوع، أي الموقوف على التابعي، والله أعلم.
حكم المنقطع:
طبعاً حينما نتكلم عن المنقطع يحسن بنا أن نذكر حكمه، ذكرنا حكم الحديث المرسل، فبالضرورة يستحب هنا أن نذكر حكم الحديث المنقطع.
جاء عن الإمام الجوزقاني في كتاب الأباطيل والمناكير له، أنه قال: "المعضل أسوأ حالاً من المنقطع، والمنقطع أسوأ حالاً من المرسل، والمرسل لا يحتج به"، وساق عنه هذه العبارة الإمام الحافظ ابن حجر في نكته على كتاب ابن الصلاح واستحسنها أيضًا، وهذا كلام صحيح، وذكرنا في المرسل أنه يحتج به بشرائط،
فهذه الشراط من يريد أن يقوي المنقطع ويحتج به، ينبغي عليه على الأقل أن يراعي ما اعتبره العلماء في تقوية الحديث المرسل، كما ذكرنا في اللقاء الماضي من أن المرسل أخف ضعفاً من غيره من أنواع الحديث الضعيف، فالمرسل أحسن حالاً من المنقطع، فإذا كان الأئمة يشترطون في الاحتجاج بالمرسل شرائط، وقد(1/298)
ذكرناها في اللقاء الماضي، فمن أراد أن يحتج بالمنقطع يلزمه أن يحقق هذه الشرائط أيضاً في الحديث المنقطع، وتحقيقها بطبيعة الحال يصعب جداً، لا سيما وأن من شرائط المرسل -أو الاحتجاج به-: أن يكون الذي أرسله من كبار التابعين؛ لنطمئن إلى أنه في الأعم الأغلب لم يأخذ ذلك إلا عن صحابي، أو تابعي
كبير، فإذا أردنا أن نقيس على ذلك في المنقطع فنقول: إن المنقطع يحتج به إذا انضم إليه غيره، فلا أقل من أن نطمئن إلى أن الواسطة بين من انقطع عنده الحديث وشيخه واحد، وليس أكثر، ثم أن يكون أيضاً من الثقات، وأن يكون قد صح الإسناد إليه، وأن يكون ممن لا يعرف عنه الرواية عن الضعفاء والمجروحين،
وهذا أمر يصعب تحقيقه لا سيما في الطبقات النازلة والله أعلم.
النوع الحادي عشر: المعضل
قال المصنف -رحمه الله تعالى- (النوع الحادي عشر: المعضل: وهو ما سقط من إسناده اثنان فصاعداً.)
هذا هو تعريف الحديث المعضل هو: ما سقط من إسناده اثنان فصاعداً، ولكن مع شرط التوالي، أن يكون الراوي وشيخه أو الصحابي والتابعي كلاهما سقط ذكره من الإسناد، أما إذا سقط أكثر من راوٍ من أكثر من موضع في الإسناد فهذا لا يخرج عن كونه منقطعاً، كما سبق في نوع الحديث المنقطع.
قال المصنف -رحمه الله تعالى- (ومنه ما يرسله تابع التابعي.)
يعني تابع التابعي يروي الخبر عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، إذن بينه وبين رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- في أقل تقدير رجلان، وقد يكون الساقطون أكثر؛ ولهذا ذهب من ذهب من أهل العلم بأن صغار التابعين مراسيلهم عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- هي من قبيل المنقطعات أو
المعضلات؛ لغلبة الظن بأن هذا التابعي الصغير إنما أسقط بينه وبين رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- رجلان أو أكثر.
قال المصنف -رحمه الله تعالى- (قال ابن الصلاح : ومنه قول المصنفين من الفقهاء: قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- .)(1/299)
قول المصنفين من الفقهاء: قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- اعتبر ذلك من المعضل والحافظ ابن حجر اعتبره من المعلق، وليس من المعضل، والواقع أن بين الإعضال والانقطاع عموم وخصوص، فيشتركان في بعض الصور، ولا يشتركان في بعض الصور الأخرى. والملاحظ أن التعليق إنما يختص بالمصنفات، وليس
بالروايات المجردة، يعني لا تأتي إلى حديث مثلاً رواه إمام من الأئمة فأسقط بينه وبين من حدث عنه رجلين، فتقول هذا معلق، إنما هذا بالمعضل أشبه.
المعلق إذا جاء بعض الأئمة فصنف كتاباً من الكتب، وفي هذا الكتاب ذكر متون بغير إسناد، أو حاذفاً من الإسناد بينه وبين من علق الخبر عنه، فهذا هو التعليق، فقد يسمى معضلاً من هذه الحيثية، ولكن عادة المحدثين أن يسموا ذلك تعليقاً، ويخصون التعليق بالمصنفات، أما الرواية المجردة فإنما تكون إذا وقع
في أثناءها سقوط أكثر من رجل، سواء كان هذا السقوط من وسط الإسناد، أم بداية الإسناد، أو آخر الإسناد، فهذا باصطلاح المعضل أشبه، أما إذا كان في مصنف البخاري مثلاً يصنف كتاباً، وفي الكتاب يقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، أو قال أبو هريرة: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-
يقول كذا وكذا، أو نحو هذه العبارات، فهذا بالتعليق أشبه، ويعبر عن ذلك الحافظ ابن حجر بقوله في تعريف المعلق "من تصرف مصنف"، وهذا القيد ذكره في نزهة النظر، وكذلك ذكره في مقدمة تغليق التعليق له.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (وقد سماه الخطيب في بعض مصنفاته: مرسلاً، وذلك على مذهب من يسمي كل ما لا يتصل إسناده مرسلاً.)
هنا الخطيب يستعمل المعضل، ويقول فيه: مرسل، وخرجه الإمام ابن الصلاح على القاعدة التي ذكرناها أكثر من مرة، من أن المرسل كالمنقطع أيضًا، كلاهما يستعملان على أي سقط وقع في الإسناد، مهما كان موضعه، ومهما كانت صفته، ومهما كان عدد السقط.(1/300)
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (قال ابن الصلاح: وقد روى الأعمش عن الشعبي، قال: (ويقال للرجل يوم القيامة: عملت كذا وكذا؟ فيقول: لا.. فيختم على فيه ...) الحديث، قال: فقد أعضله الأعمش؛ لأن الشعبي يرويه عن أنس عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، قال: فقد أسقط منه الأعمش أنساً والنبي -صلى
الله عليه وسلم-، فناسب أن يسمى معضلاً .)
هنا ذكر الإمام ابن الصلاح، وعنه الحافظ ابن كثير -رحمهما الله تعالى- الصورة الثانية من صور المعضل: وهو أن يكون كلام قاله التابعي من قبل نفسه، ثم يتبين لنا من خلال تتبع الروايات أن هذا الكلام مروي عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- بإسناد متصل، فهذا المقطوع الموقوف على التابعي يمكن لك
أن تسميه معضلاً، وبعد أن عرفت أن هذا التابعي لم يقل القول من قبل نفسه، إنما له أصل أخذه عنه، وأنه عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-. فمن هذه الحيثية إذا نظرنا إلى الرواية نجد أنه قد سقط ذكر الصحابي، ثم هذا التابعي أوقفه على نفسه، فمن هذه الحيثية كان كما لو أنه أسقط بينه وبين النبي
-صلى الله عليه وآله وسلم- رجلين، أو أنه لما كان كذلك كما لو أنه أسقط ذكر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، لكن لا أذكر أن عبارة ابن الصلاح هكذا، وإنما تصرف الحافظ ابن كثير فيها، وإنما الحافظ ابن الصلاح إنما أراد أن تسمية ذلك بالإعضال بناءً على الوقف مصحوباً معه سقوط ذكر الصحابي. ونحن
نلاحظ أن المثال الذي ذكره الحاكم النيسابوري، وتبعه عليه الإمام الحافظ ابن الصلاح -عليه رحمة الله- نلاحظ أنه مما لا يقال بالرأي، ( يقال للرجل يوم القيامة: عملت كذا وكذا؟ فيقول: لا.. ، فيختم على فيه... ) وهذا من الأمور الغيبية التي لا تدرك عن طريق الاجتهاد والنظر، إنما هو مما لا مجال للرأي(1/301)
فيه، فمن هذه الحيثية نحن على يقين بأن هذا التابعي لم يقله من قبل نفسه، وإنما أخبر به، فلما وجدناه مروياً عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- من وجه آخر مسنداً عنه، متصلاً بالإسناد إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، عرفنا أن هذا هو مأخذ التابعي، وأن التابعي إنما أخذه من تلك
الرواية المتصلة المسندة، ثم قال الكلام الذي تضمنته تلك الرواية، قاله من غير أن ينسبه إلى أحد، والواقع أنها منسوبةً، ومضافةً إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، فمن هذه الحيثية كانت معضلةً.
هناك استعمال آخر لمصطلح المعضل: وهو استعمال غير مشهور، لكنه موجود في كلام أهل العلم، وأشار إليه، بل مثل له وذكر وتوسع فيه الحافظ ابن حجر العسقلاني في كتابه النكت على كتاب ابن الصلاح، وهو أن يأتي المعضل بما لا تعلق له بالاتصال والانقطاع أصلاً، وإنما يأتي المعضل بمعنى المنكر، أو المستغلق
الشديد، فقد وجد في كلام أهل العلم كابن عدي وغيره، والإمام الجوزقاني وغيره أيضًا: أنهم يصفون بعض الأحاديث بأنها معضلة، يقولون: "هذا حديث معضل، الصواب فيه الوقف" "هذا حديث معضل لا يصح من هذا الوجه" "هذا حديث معضل ليس له أصل من حديث فلان" هل هذا له تعلق بالاتصال والانقطاع؟ لا.. قد تكون
الرواية متصلة مسندة إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، ولكن يقصد بالمعضل هنا المنكر، ومثل له الحافظ ابن حجر العسقلاني، وله أمثلة موجودة في كتب العلل، وكتب الجرح والتعديل، وكتب التواريخ أيضًا، بعد ذلك سينتقل بنا المؤلف إلى مسائل ذكرها ابن الصلاح -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- بعد هذا
النوع من أنواع الحديث، بعد المعضل، وإنما هذه المسائل ليست مختصة بالمعضل، وإنما مختصة بكل ما يتعلق بالسقط من الإسناد، من أول هذه المسائل مسألة الإسناد المعنعن فماذا قال؟
الإسناد المعنعن(1/302)
قال المصنف -رحمه الله تعالى- (قال: وقد حاول بعضهم أن يطلق على الإسناد المعنعن اسم الإرسال أو الانقطاع.
قال: والصحيح الذي عليه العمل: أنه متصل محمول على السماع، إذا تعاصروا مع البراءة من وصمة التدليس.
وقد ادعى الشيخ أبو عمرو الداني المقريء إجماع أهل النقل على ذلك، وكاد ابن عبد البر أن يدعي ذلك أيضاً.)
ما معنى الإسناد المعنعن؟ بعض الناس عندما يفسر الإسناد المعنعن، يقول: الإسناد المعنعن هو قول الراوي: عن فلان عن فلان كما قال البيقوني:
معنعن كعن سعيد عن كرم
وليس هذا هو المقصود من هذه المسألة، وإنما المقصود بالعنعنة، أو بالإسناد المعنعن هو: العنعة حيث تقع في حديث راوٍ من الرواة عاصر شيخه الذي عنعن الحديث عنه، ولم يثبت في لقاء، أو في رواية، أنه التقى به، أو أنه سمع منه. فلم يقصد العلماء من قولهم مسألة العنعنة، كل ما يجيء في الأسانيد من عن وعن
وعن...، وإنما قصدوا ذلك حيث يستعمل العنعنة بعض الرواة الذين عاصروا من حدثوا عنه، أو من عنعنوا عنهم، ولم يثبت في لقاء واحد، أنهم سمعوا من هؤلاء المشايخ، أو التقوا بهم، بشرط أن يكون أيضاً سالمين من وصمة التدليس، فلا يكونوا معروفين بالتدليس في الروايات، هذه هي المسألة.
حينما تقول مسألة العنعنة فتقصد هذه الصورة من العنعنة، وليس كل ما يجيء من الأسانيد من عن وعن وعن هذا من ناحية.
من ناحية أخرى: ما معنى المعاصرة؟ نقول عنعنة المعاصر، ما معنى المعاصرة؟ يعني لو أن إنساناً عاش في زمان إنسان وكلاهما قد عاشا في زمن واحد، فهذا عاصر هذا، سواء عاش فترة طويلة أو قصيرة في المعاصرة، قد تحققت، سواء تعاصرا خمس سنوات، عشر سنين، ستين سنة، كل ذلك يدل على حصول جنس المعاصرة، أصل(1/303)
المعاصرة، ولكن المحدثين لا يقصدون بالمعاصرة هذا المعنى على عمومه، وإنما يقصدون معاصرة معينة، هذه المعاصرة يعبر عنها الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- بالمعاصرة التي يمكن معها اللقاء والسماع، طبعاً هذا لا يخفى عليكم، ليس كل من عاصر شيخاً التقى به، فضلاً عن أن يسمع منه، هذا أمر مفهوم بداهة،
يعني نحن هنا عاصرنا مشايخ كثيرين في أطراف الأرض، فمن حيث الزمن، قد عشنا معاً في زمن واحد، في عصر واحد، فالمعاصرة قد وجدت وتحققت، لكن هل التقينا بهم؟ أو التقينا بكل من عاصرناه؟ لا... وهل كل من التقينا به أخذنا عنه علماً، وتحملنا عنه علماً، وحديثاً عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-؟
لا... فلا يلزم من وجود المعاصرة وجود اللقاء، ولا يلزم أيضاً من وجود اللقاء وجود السماع الذي هو الشأن في هذه المسائل، مسائل الاتصال وعدم الاتصال، فحينما نقول: عنعنة المعاصر، نقصد بالمعاصرة: المعاصرة التي يمكن معها اللقاء والسماع؛ ولهذا نجد علماء الحديث -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- كثيراً
ما يثبتون للراوي المعاصرة، بل واللقاء، وينفون السماع.
فأما الصورة الأولى: أن تكون المعاصرة متحققة واللقاء غير متحقق، فهذا لا يحتاجون لإثبات المعاصرة، بل إذا وجدت إماماً من الأئمة يقول: فلان سمع أو لم يسمع، التقى أو لم يلتق، فاعلم أنه يتكلم عن معاصرٍ، ولا يتكلم عن غير المعاصر.
وإذا وجدت إماماً ينفي أن فلاناً سمع من فلان، فتقول: لعله أيضاً ينفي المعاصرة، فهم لا يتكلمون إلا فيمن تحققت معاصرته بالفعل، هل سمع أم لم يسمع؟ هل التقى أم لم يلتق؟ ولهذا لا تجد لفظ المعاصرة مستعملاً عندهم بكثرة؛ لأنهم لا يحتاجون إليه؛ فإن المعاصرة إذا لم تتحقق لم يشغل العلماء أنفسهم
بإثبات السماع أو بعدمه أو إثبات اللقاء أو بعدمه.(1/304)
فنجد علماء الحديث أحياناً يثبتون للراوي لقاءه بشيخه في الوقت الذي ينفون سماعه من ذلك الشيخ، كما نجد مثلاً ترجمة إبراهيم بن يزيد النخعي، سئل عنه أبو حاتم الرازي، وعن سماعه من عائشة، أم المؤمنين -رضي الله عنها- وأرضاها، فقال: دخل على عائشة وهو صغير، ولكن لم يسمع منها شيئاً.
إذن أثبت اللقاء أم لا ؟ أثبت اللقاء بينه وبين عائشة أم المؤمنين، ومع ذلك صرح بأنه لم يأخذ عنها علماً، ولم يسمع منها حديثاً ترويه عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، فمجرد اللقاء وحده لا يدل على السماع.
مكحول الشامي قال: دخلت على واثلة بن الأسقع، هو دخل أم لم يدخل عليه؟ التقى به أم لم يلتق؟ التقى، لكن هل سمع؟ ماذا قال العلماء؟ قالوا: لم يسمع من واثلة بن الأسقع مع تسلميهم بأنه قال هذا الكلام، ولم يكن ذلك منهم تناقضاً، ولا تعارضاً، وإنما هم يفهمون أن مجرد الدخول واللقاء بالشيخ لا يستلزم
السماع منه؛ ولهذا نجد في كتب المراسيل، وكتب الرجال، العالم يثبت للراوي بأنه رأى فلان، كما قالوا في أيوب بن أبي تميم مثلاً: رأى أنساً رؤية فقط، أو رأى فلان ولم يسمع منه، أو صلى خلفه، ولم يسمع منه حديثاً يروه عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، فمن هذه الحيثية: العلماء يفرقون بين مجرد
المعاصرة ومجرد اللقاء وإثبات السماع.
فمن هذه الحيثية العلماء -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- تأملوا هذه المواضع التي تقع فيها العنعنة، نحن قلنا في قول سابق: بأن العنعنة أو قول الراوي: "عن" من الألفاظ المحتملة التي لا تدل على السماع صراحة، ولا تنفي السماع صراحة، بل هي تحتمل هذا المعنى وذاك. فلفظ "عن" في حد ذاته لا يدل على(1/305)
السماع. فإذا استعملها المدلس، فنحن نعلم من شأن المدلس وعادته، أنه يستعملها في غير السماع؛ فلهذا حملناها على التدليس، حتى يتبين خلاف ذلك إذا صدرت عن المعروف بالتدليس. لكن غير المدلس إذا قال "عن" فهل نحمل ذلك على الاتصال أم لا؟ أم لابد من تحقق شرائط أخرى تؤكد لنا أن هذا الراوي سمع هذا الذي
يحدث به عن شيخه الذي قد عنعن عنه؛ لأنه إذا كان هذا الراوي غير معروف بالتدليس، لكن الإرسال كان موجوداً، الراوي يروي عن شيخ له، وهو لم يسمع منه أصلاً، هذا موجود أم لا؟ ولا يسمى: الإرسال، ويسمى: الانقطاع.
فقضية التدليس وإن كنا نفسرها بأن يكون الراوي له سماع من الشيخ في الجملة، ثم يروي عنه ما لم يسمع منه، لكن حتى غير المدلس، قد يرسل أي: يروي عمن لم يسمع منه أصلاً، لا قليلاً ولا كثيراً، فمن أجل هذا اعتنى العلماء بهذه المسألة، ووضع الضوابط والقواعد التي على أساسها يتميز إن كان الراوي سمع
الحديث أو لم يسمعه.
أيضاً نحن قلنا: إن المعاصرة من حيث اللغة تطلق: على كل من عاش مع شيخه، ولو قليلاً من الزمن، فهذا قد عاصر، ولكن المعاصرة في اصطلاح المحدثين كما قلنا: تقصر على المعاصرة التي يمكن معها السماع؛ ولهذا نجد من خلال معرفتنا بمناهج المحدثين: أن من أهل العلم من كان لا يسمع الحديث إلا بعد بلوغه
عشرين سنة، وهذا مذهب أهل الكوفة، أنهم كانوا لا يمكِّنون الصبي من طلب الحديث إلا بعد بلوغ عشرين سنة، وقبل ذلك يشتغل بالعبادة، وبحفظ القرآن، وغير ذلك من العلوم التي تعينه على الحديث مستقبلاً، وأهل الشام، وكذلك أهل مصر، إنما كانوا يطلبون الحديث بعد بلوغ ثلاثين سنة، هذا عرف من منهج هؤلاء(1/306)
العلماء، فمعنى هذا: أن من عاصر شيخه عشرين سنة، أو عاصر شيخه ثلاثين سنة، هذا من حيث المبدأ لا يمكِّنه لأن يلتقي به، أو يسمع منه، لا سيما إذا كان هذا الراوي ليس من بلد ذلك الشيخ؛ لأن عادة الرواة: أنهم كانوا إنما يسمعون من أهل بلدهم أولاً، ثم إذا فرغوا من العلم الذي عند مشايخ أهل بلدهم
طافوا البلاد، وسمعوا من علماء الأمصار، فتكون الرحلة متأخرة عن بداية الطلب، فإذا كان من شأن هؤلاء أن يطلبوا الحديث في العشرين، فيرحل الواحد منهم بعد بلوغه ثلاثين سنة مثلاً، أو كان من شأنه أن يطلب الحديث في الثلاثين، فإنه سيرحل لطلب الحديث ممن هو خارج بلده في الأربعين مثلاً.
إذن من معرفتنا بتاريخ الرواه، ومعرفتنا بعادة هؤلاء الرواة، ومعرفتنا بالمناهج التي سلكوها واتبعوها، واشترطوها لأنفسهم في زمن تحمل الحديث، وزمن الرحلة، نستطيع أن نعرف معنى كون هذا الراوي عاصر شيخه معاصرة تمكنه من السماع من شيخه أم لا، فبعض الباحثين حينما يجد الراوي قد عاصر شيخه مثلاً
ثلاثين سنة، فيقول: هذه فترة طويلة، تمكنه من أن يلتقي به، ومن أن يسمع منه، بينما العالم بمناهج العلماء ومسالكهم وبطرائقهم في ذلك، يعلم أن هذه المدة لا تمكنه في الواقع بمفردها من أن يلتقي بهذا الشيخ، أو أن يسمع منه، لا سيما إذا كان هذا الشيخ -كما قلنا- من غير أهل بلده، واحد من الكوفة،
وواحد من الشام، هذا كوفي، ونحن قلنا: إن أهل الكوفة كانوا يبدؤن في طلب العلم في العشرين من عمرهم، ثم وجدناه يروي عن بعض أهل الشام، فمعنى ذلك أنه رحل لطلب العلم، فنحن نتصور ابتداءً بأنه لابد أن يكون قد عاصر شيخه، مدة تزيد عن ثلاثين سنة، أو تقرب من هذه المدة، حتى نستطيع أن نقول: إنه يمكن له(1/307)
أن يلتقي بهذا الشيخ أو لا؟ فمعرفتنا بهذه الأمور مهمة جداً، لمعرفة معنى المعاصرة، ومعنى إمكانية اللقاء الواردة في كلام الإمام مسلم -عليه رحمة الله- في مقدمة الصحيح، لما تكلم عن هذه المسألة، من أنه ليس كل معاصر يمكن له أن يلتقي بشيخه، ومن نازع في هذا فهو ينازع في المحسوسات المرئيات فنحن
نعلم أنه ليس كل من عاصر رجلاً التقى به فضلاً عن أن يسمع منه.
هذه المسألة كما قلت كثرت فيها أقوال أهل العلم لما ترون من كونها غامضة خفية تحتاج إلى تأمل وتحتاج إلى فناء الأعمار لإدراك ذلك؛ ولهذا صنف فيه العلماء المصنفات كالمراسيل لابن أبي حاتم وغير ذلك.
هناك حكى الامام ابن كثير -رحمه الله تعالى- عن الحافظ ابن الصلاح أنه قال: وقد حاول بعضهم أن يطلق على الإسناد المعنعن اسم الإرسال والانقطاع بناء على عدم الاكتفاء من الراوي بمجرد المعاصرة وإمكانية أن يكون قد التقي بشيخه، وإنما اشترط مع ذلك كما هو مذهب البخاري وعلي بن المديني، وجمهور أهل
العلم اشترط مع ذلك: العلم باللقاء، فرق بين أن يكون اللقاء ممكناً، وبين أن أعلم به، وأتحقق منه، فهناك من أهل العلم كالبخاري وابن المديني وغيرهما، يشترطون العلم باللقاء، وهناك كالإمام مسلم من يشترط فقط إمكانية اللقاء، وأما من نسب إلى الإمام مسلم من أنه يكتفي بمجرد المعاصرة فهذا خطأ، لا
يكتفي الإمام مسلم بمجرد المعاصرة، وإنما المعاصرة التي يمكن معها أن يلتقي ذلك الشيخ بمن يروي عنهم، وهذا ليس فقط من خصوصيات الرواة بل هذا أيضاً حتى في إثبات الصحبة.
هناك من الرجال: العلماء -رحمهم الله تعالى- لا يعدونهم من الصحابة، مع أنهم قد التقوا برسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- لماذا ؟ وهؤلاء هم الذين ولدوا في عهد النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ولم يثبت لهم سماع أو لقاء برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، إلا وهم أطفال، أي في سن عدم التكليف، أي(1/308)
عدم البلوغ، فهؤلاء التقوا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- أم لا؟ ومعلوم أن هؤلاء كان رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- كان الواحد من صحابة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- إذا ولد له مولود يذهب به إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ليبرك عليه، ويحنكه تيمناً وتبركاً برسول الله
-صلى الله عليه وسلم-، وهذا معروف في وقائع كثيرة.
فالظن الغالب بأن هذا الصحابي، أو هذا الراوي، أو هذا الرجل الذي ولد في عهد النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، وإن مات رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، وهو لم يبلغ سن التمييز، نحن يغلب على ظننا أن هذا ممن التقى برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أو ممن مسح عليه رسول الله -صلى الله عليه
وآله وسلم-، أو ممن حنكه رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، ومع ذلك هم لا يعدونهم في الصحابة، لماذا؟ لأنهم لم يدركوا النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- الإدراك الذي يمكنهم من أن يتحملوا عنه علماً، الإدراك الذي يمكنهم من أن يتلقوا ويتحملوا ويأخذوا عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- سنة، وعلماً
عنه -عليه الصلاة والسلام-، فمن هذه الحيثية لم يثبت لهم العلماء معنى الصحبة بل عاملوهم معاملة المخضرمين.
إذن إذا أردنا أن نتفهم هذه المسألة فينبغي أن نتفهمها على هذا النحو:
الأمر الأول: هناك فرق بين المعاصرة والإدراك، واللقاء والسماع، فليس كل من عاصر أدرك والتقى، وليس كل من التقى سمع ممن التقى به.
الأمر الثاني: أن نعرف عادة المحدثين بأن هناك من كان لا يطلب الحديث أصلاً، إلا في سن العشرين، فالرحلة بالضرورة تكون بعد ذلك، وهناك من كان لا يطلب الحديث إلا في سن الثلاثين، فبالضرورة تكون رحلته بعد ذلك؛ فلهذا نفهم معنى الإدراك، ومعنى كون هذا الراوي يمكن له أن يلتقي بفلان أو لا، يمكن له أن(1/309)
يلتقي بفلان إذا وضعنا أمامنا هذه الضوابط، وهذه المفاهيم، فإذا انتهينا من ذلك، وفهمناه حق الفهم، نستطيع -إن شاء الله تعالى- أن نتفهم هذه المسألة، وهذا ما سنفصله بإذن الله تعالى في اللقاء القادم، لكننا سنبني على تلك المقدمة التي انتهينا منها، والحمد لله.
وردتنا إجابات: كان السؤال الأول اذكر أجمع تعريف للحديث المرسل؟
وكانت الإجابة: الحديث المرسل: هو ما أضافه التابعي إلى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-
هذا أجمع الجواب، وماذا تقول في التابعي الذي سمع من الرسول -صلى الله عليه وسلم-؟ هل هذا مرسل؟ ليس هذا مرسل، إذن لابد أن نذكر في التعريف ما يخرج هذا النوع من الإرسال، فنقول: هو ما أضافه التابعي الذي لم يسمع من النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- .
السؤال الثاني: اذكر شروط الاحتجاج بالحديث المرسل؟
وكانت الإجابة: للحديث المرسل شروط حتى يحتج به في نفسه، وفيما يعضده، وهي:
أولاً: شروطه في نفسه أن يصح الإسناد إلى التابعي، ويكون هذا التابعي ثقةً لا يروي إلا عن ثقةً، وأن يكون من كبار التابعين.
ثانياً: شروط ما يعضده أم يسنده الحفاظ المأمونون باللفظ أو بالمعنى.
أن يأتي من وجه آخر مرسلاً.
أن يكون شيوخ المرسل الأول غير شيوخ المرسل الثاني.
أن يوافقه رأي أو فتوى أحد الصحابة.
أن يوافقه رأي أو عمل أهل العلم، والله أعلم
نعم هذه إجابة، وافيه ولله الحمد.
هل هذه الشرائط التي وضعها الشافعي للعمل بالحديث المرسل تلقاها العلماء بالقبول وارتضوها أم أن هناك من العلماء سواء كانوا فقهاء أو محدثين من لا يحتج بالمرسل، حتى لو توافرت فيه هذه الشروط؟
ما الفرق بين المعنعن والمأنأن؟
كان يسأل عن شرائط الشافعي للمرسل هل تلقاها العلماء بالقبول ؟(1/310)
هذه الشرائط -بطبيعة الحال- تلقاها الناس بالقبول وأخذها كثير من أهل العلم بشرحها، وبيان مراد الشافعي منها، كالإمام ابن رجب، والإمام العلائي، والإمام ابن رشيد السبتي، وكذلك الحافظ ابن حجر العسقلاني وغيرهم من أهل العلم، أيضاً الزركشي وأيضاً ابن عبد الهادي، وكل هؤلاء تلقوا هذه الكلمات من
الإمام الشافعي وشرحوها، وبينوا مغزى الشافعي -رحمه الله تبارك وتعالى - منها، هذا من ناحية.
من ناحية أخرى أنك إذا تتبعت صنيع أهل العلم كالإمام أحمد بن حنبل مثلاً، مع أنه لم ينص على قاعدة معينة في المرسل، لكن بتتبع صنيعه، وتعامله مع الرواية المرسلة، متى يحتج بها، ومتى لا يحتج بها؟ يتبين من خلال ذلك أنه لا يحتج بالمرسل على سبيل الإطلاق، ولا يرده على سبيل الإطلاق، وإنما يقبله حيث
ينضم بمثل ما ذكره الإمام الشافعي -عليه رحمة الله تعالى-، وقد ذكر الإمام ابن رجب في شرحه لكتاب علل الترمذي، أمثلة على ذلك من كلام الإمام أحمد بما يدل على كونه يسلك في ذلك مسلك الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى-.
قد يقول قائل: نحن نجد -أحياناً- العلماء -لا سيما العلماء المتأخرين- لا يتقيدون ببعض هذه الشرائط، ككون التابعي كبيراً، كون المسند إسناده صحيحاً، ونحن نقول: فرق بين أن يكون الحديث مثلاً له أدلة كثيرة، أي روايات عدة، فيتسامح العلماء في بعض الشرائط؛ لأن هذا الضعف الموجود في بعض الشرائط ينجبر
بكثرة الروايات، وينجبر بأدلة أخرى، وبقرائن تحتف بالرواية، فمن هذه الحيثية قد يتسامح العلماء في بعض الشرائط؛ لكون الحديث مجبوراً بأشياء أخرى، فالانضمام له اعتبار عند المحدثين، بل والفقهاء أيضًا، وكلما كثرت الأدلة، وكثرت الشواهد على صحة هذا المعنى، كلما كان التساهل في مفرداتها أكثر، أما(1/311)
كلما قلت فيكون التشدد، والاحتراز أشد مما لو كان الشواهد هناك أكثر، نجد مثلاً إذا كان الحديث متضمناً جانباً احتياطياً يعني يحمل معنى يحتاط في مثله، وهو لا يتعارض مع أصل من أصول الشريعة، بل قد يكون موافقاً لأصول الشريعة، فحينئذ قد يتسامح العلماء في ذلك، والشواهد عموماً يتسامح فيها، بما لا
يتسامح في الأصول، قد يكون الخبر في فضائل الأعمال، فالعلماء يتسامحون فيه؛ لأجل ذلك؛ لأنه لا ينشئ حكماً جديداً، وإنما يرغبك فيما هو ثابت من السنن، و المستحبات وهكذا، فلابد من فهم ذلك، وفهم السياق، العلماء حيث يستاهلون، أو حيث يحترزون، إذا وضعت لنفسك هذه الضوابط تستطيع أن تتفهم لماذا العالم
الواحد شدد هنا وتساهل هنا؟ والله أعلم.
كان سؤاله ما الفرق بين المعنعن والمأنأن
العنعنة أو المعنعن هي المسألة التي أثرناها في هذا الدرس، وسنكملها -إن شاء الله تعالى- في اللقاء القادم، المأنأن هو قول الراوي أن فلاناً قال، أن فلاناً فعل، أن فلاناً ذهب، أن فلانا جاء، أن..، ولا يستعمل عن، وهذه المسألة ستأتي بعد هذه المسألة أيضاً في كتاب ابن كثير، وسنبين الفرق بينها وبين
العنعنة.
إذا كان الانقطاع في رجلين، كما ذكرهم في مثال المنقطع، وكان الأول فيهما ضعيفاً، إذا كان الانقطاع كما ذكره في المثال الثاني في المنقطع، بما رواه أبو العلاء عن عبد الله بن الشخير عن رجاء عن شداد، فضيلتكم قلتم إذا كان حملناهم على أنهم متواليين، وأن الأول كان ضعيفاً، هذه النقطة لم تتضح
بالنسبة لي يا شيخ ؟
يعني الضعيف إذا روى عن رجل هل تستطيع أن تثبت هذه الرواية عن ذلك الرجل، بتلك الرواية التي رواها عنه ضعيف؟ لا.. لماذا ؟ لأن هذا الضعيف لا يعتمد عليه فيما زعمه وادعاه، عن هذا الرجل المبهم، هل هذا يحتج بحديثه؟ فهو بمنزلة الراوي الضعيف، لا يحتج بما يجيء به، فهذا المبهم قال حدثني مبهم آخر،(1/312)
فنحن لا نستطيع أن نعتمد على المبهم الأول، فيما ادعاه على المبهم الآخر، فلا نثبت الرواية عن المبهم الآخر؛ لأنها جاءت من طريق مبهم، والمسألة دائرة بين المبهمين، إنما نعتمد على رواية الثقات المعروفين، وليس على رواية المجاهيل الذين لا يعرفون، كما نجد مثلاً بعض الناس يقول فلان يقول كذا، تقول
له من قال لك؟ قال حدثني رجل ثم تقول من هذا الرجل؟ يقول حدثه رجل فتجد الرجل، قد يكون قال كلاماً صواباً، لكن حينما وصل إليه عن هذه الوسائط.
فما آفة الأخبار إلا ناقلوه
وصل إليك الخبر بصورة أخرى لكثرة الوسائط بينك وبين الخبر، وهذه الوسائط من بينهم، من لا يحج به، ولا يعتمد عليه.
هناك سؤال؟ إذا كان السؤال وسيلة في الانقطاع، والمعضل، فلماذا ذكر أنه نوع خاص من أنواع الحديث في كتاب اختصار علوم الحديث ؟
هذا سؤال عجيب، يعني التصحيف والتحريف أليس هو وسيلة يقع بها الخطأ في الرواية؟ الراوي الذي يخطيء قد يكون خطؤه عن التصحيف والتحريف، يعتمد على كتاب غير مصحح، وغير مقابل، فنشأ عن ذلك تغيير في الرواية، وخلل في الرواية، فتكون الرواية معلولة من قسم الحديث المعلول، والعلة التصحيف. فالتصحيف
والتحريف: هو وسيلة وقوع الخلل في الرواية، فصارت من هذه الحيثية معلولة، ومع ذلك أفردوا التصحيف والتحريف بنوع.
الاضطراب: اضطراب الراوي بالحديث، مرة يرويه على وجه، ومرة يرويه على وجه آخر، فنستدل باضطرابه على نفسه، واختلافه في الرواية، على أنه لم يحسن ضبط الرواية، فتكون من هذه الحيثية من قسم المعلول، فصار الاضطراب دليلاً للعلماء على أن هذا الراوي لم يضبط الرواية، وعلى أنها من قسم المعلول، ومع ذلك(1/313)
أفردوا المضطرب بنوع من أنواع الحديث، نحن قلنا في أول درس بأن العلماء تفننوا في تنويع أنواع علوم الحديث، رغبة منهم في تضييق الخناق على كل خطأ من شأنه أن يتسرب إلى الرواية، وكل نوع من هذه الأنواع علم على حدة، تستطيع أن تتوسع فيه، وأن تفني فيه عمرك، حتى تستطيع أن تعرف متى نعرف إن كان هذا
الحديث مدلساً، أو ليس مدلساً، مرسلاً أو ليس مرسلاً، مصحفاً أو ليس مصحفاً، معلولاً أو ليس معلولاً، فكون العلماء يجعلون ذلك نوعاً مستقلاً لا يعني أنه بمعزل عن غيره من الأنواع والله أعلم.
يقول: هل توافقوني على أن أكثر الانقطاع يقع في الطبقات الأولى من السند؛ ولذلك اشتدت عناية الأئمة بإفادة الاتصال فيها، وإن كانت الإجابة نعم فما هو السبب؟
نحن قلنا في لقاء سابق بأن المحدثين إنما يعتنون بمراعاة الضوابط الحديثية، سواء المتعلقة بالجرح والتعديل، والرجال، أو سواء متعلقة بالاتصال والانقطاع، أو سواء المتعلقة بعلل الأحاديث، حيث يقع ذلك في الطبقات العليا؛ لأن وقوعه في الطبقات الدنيا لا يؤثر كثيراً، ولا يشغلنا؛ لأن الحديث إذا كان له
أصل في الكتب المتقدمة، فمهما أخطأ من جاء بعد ذلك، فرواه فخطؤه لا يضر ما دام أن الحديث ثابت، ومرفوع في الكتب المتقدمة، حديث يرويه أبو داود في السنن مثلاً، السنن متواترة عن أبي داود أم لا ؟ فجاء بعض المتأخرين فروى حديثاً من سنن أبي داود في عهد البيهقي مثلاً، فروى الحديث البيهقي بإسناده عن
أبي داود ومن أبي داود إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، فأخطأ شيخ البيهقي في الحديث، خطأ شيخ البيهقي يؤثر؟ الحديث معروف في كتاب أبي داود، ونحن نعرف على أي وجه رواه أبو داود في كتابه السنن، فخطأ من روى الحديث عن أبي داود لا يضر ما دام أن الحديث محفوظ متواتر، عن أبي داود، ويبقى(1/314)
النظر بعد ذلك في إسناد أبي داود إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-؛ ولهذا تكلم العلماء في الإجازات مثلاً، فمنهم من قبل الإجازة، ومنهم من لم يقبل الإجازة، ومنهم من قبل بعض صورها، ومنهم من لم يقبل الصور الأخرى، ومنهم من توسع فأعطى الإجازة لكل من خلق، وكل من لم يخلق بعد، كما توسع
بعضهم، فقال الإجازة للمعدوم، أو الإجازة للمجهول، في صور سيأتي بيانها، وهناك من أجاز من يجيء إلى يوم القيامة، وقال أجزت هذا الكتاب لكل المسلمين من كان في عصري، ومن كان في غير عصري، ولهذا بعض الناس يتعلق بمثل هذه الأشياء، يقول عندي إجازة للكتاب الفلاني لماذا؟ لأني مسلم، والمسلمون مجازون
بهذا الكتاب، طبعاً هذه إجازات لا يعتد بها ولا يعتبر بها.
المتأخرون توسعوا، وتوسعهم -كما قلنا في لقاء سابق- إنما منشؤه رغبتهم الأكيدة في إبقاء سلسلة الإسناد، مسالة شرفية، ليس أكثر، أما أن روايتهم هذه ينبني عليها تصحيح الحديث أو ضعفه؟ لا إنما الحديث تبنى صحته أو ضعفه على الأسانيد التي رويت في الكتب المشهورة المتداولة المعروفة عند أهل العلم،
والله أعلم.
يقول: هل اعتبار أو تمشية بعض الأئمة لمرسلات بعض التابعين، مثل سعيد بن المسيب، كان من أجل تحقق الشروط التي ذكرتموها، أم بناءً على استقراءهم التام لهذه الروايات ومعرفة حالها؟
لا.. بل الشافعي نفسه نص، لما ذكر أن مراسيل ابن المسيب، عنده حسان، ذكر أنه وجدها مسندة من أوجه أخرى، فاستحسنها لهذه العلة، من أنه وجدها مروية من أوجه أخرى مسندة إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، بل ذكر أهل العلم بأن الشافعي لم يحتج بكل مراسيل سعيد بن المسيب، بل المراسيل التي أرسلها
سعيد بن المسيب، ولم يجدها مسندة أو مروية من أوجه أخرى لم يحتج بها الإمام الشافعي، وذكروا لذلك أمثلة في كتب العلم.
سؤال في المنكر: هل فيه حديث منكر في الرواة إنما المتن صحيح؟(1/315)
منكر في السند؛ لأن النكارة تقع في الإسناد، وتقع في المتن، وهذا ما يفهم بأنه حكم نسبي، يعني حكمه متعلق برواية معينة، بسند معين، ولكن الحديث نفسه، كمتن صحيح، وثابت عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، فهذا حكم نسبي متعلق برواية معينة، وليس بالمتن نفسه، كما تقول: هذا الحديث معلول، تقصد
علة في الإسناد، أو خطأ تقصد خطأ في الإسناد، بينما المتن نفسه، قد يكون صحيحاً، ثابتاً عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-.
حديث الأعمال بالنيات هل يشك أحد في صحته، لا يشك أحد في صحته عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، ولكن العلماء يقولون: إنما يصح عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- من حديث عمر بن الخطاب، هو الذي رواه عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- أما من رواه عن غير عمر عن رسول الله -صلى
الله عليه وآله وسلم- كما روي عن أنس بن مالك وكما روي عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، فقالوا: كل ذلك خطأ، منكر، وبعضهم قال: باطل لا أصل له، يقصدون المتن أم الإسناد؟ الإسناد لا يصح عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- إلا من حديث عمر، فما رواه عن غير عمر من
الصحابة فقد أخطأ في الإسناد، وليس هذا حكماً متعلق بالمتن، فالمتن صحيح ثابت.
يقول: إذا وجدنا للحديث المرسل شاهداً من حديث آخر مسند، وهو الصحيح فإنه يشهد بصحة الحديث المرسل، أليس من باب أولى العمل بالمسند المتصل؟
هذا هو الاعتراض الذي اعترض به بعض الأحناف على الإمام الشافعي -عليه رحمة الله- والواقع: أن كلام الشافعي له مغزى عميق جداً، يفهمه من له عناية عميقة بهذا العلم، أولاً: أن الإمام الشافعي استدل بهذا المسند على أن المرسل نفسه صحيح، كما قلنا في اللقاء الماضي، يعني أننا لما وجدنا هذا المرسل الذي(1/316)
تحققت فيه الشرائط المعتبرة في كونه صالحاً للاعتبار وجدناه مروياً من وجه آخر، بلفظه، أو بمعناه، متصلاً مسنداً، إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- بإسناد صحيح ثابت عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فنحن استدللنا بهذا الصحيح على أن التابعي إنما أخذه عن ثقةً عن صحابي عن رسول الله
-صلى الله عليه وآله وسلم-، أو أخذه عن صحابي عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، فاستدل بهذا الصحيح المسند، على صحة مخرج المرسل نفسه، كما قال النووي فيصير في المسألة حديثان صحيحان، أي المرسل بعد أن عرفنا صحة مخرجه، والصحيح الآخر للمرسل فيكونان حديثين صحيحين، يقول: حتى لو عارضهما صحيح،
أي صحيح لذاته ليس له إلا إسناد واحد، لو عارضه إسناد لذاته من وجه آخر، ولم يمكن الجمع قدمناهما عليه، فينفع أيضاً هذا في باب الترجيح، فيكون عندنا حديثان صحيحان، يقدمان على حديث صحيح، إذا لم يمكن الجمع والتأويل، الذي ينفي الخلاف عن الأحاديث والله أعلم.
السؤال الأول: قد يطلق المعضل بمعنى المنكر مثل لذلك؟
السؤال الثاني: يحكم أهل العلم أحياناً بعدم الاتصال مع وجود تصريح الراوي بالسماع من شيخه، في الرواية علل ذلك؟ هذا السؤال سنشرحه تفصيلاً في اللقاء القادم، ولكن أردت أن أنشط أذهان الإخوة، وأن يرجعوا إلى الكتب، ولا يكتفوا بالسماع فقط في المحاضرة.
الرئيسة ????? ?????????? ????? ???? ?????????? ?????? ???????
???? ?????? - ??????? ??????
المؤلف: ????? ?????/ ???? ?? ??? ????
الوصف: ?????? ??????? ????? ???? ?????? -??????? ?????? - ??? ?????? ???? ?????? ?????? ??? ????
ارسل الصفحة لصديق
معاينة طباعة الصفحة
رؤية مكبرة
--------------------------------------------------------------------------------
الدرس الثانى عشر
مناهج علماء الحديث فى الحديث المعنعن(1/317)
إن الحمد لله تعالى نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور
أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي
له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده
ورسوله وبعد:
ما زلنا بصدد النوع المتعلق بالحديث المعضل، وتلك المسائل التي أردفها
الإمام ابن كثير تبعاً لابن الصلاح، بعد هذا النوع من أنواع علوم
الحديث.
ذكرنا في اللقاء الماضي أن هذه المسائل لا تختص بنوع الحديث المعضل،
وإنما هي تشمل كل الأنواع المتعلقة باتصال الحديث أو عدم اتصاله،
ووقفنا عند مسألة الإسناد المعنعن، وذكرنا تمهيداً لهذه المسألة
وأصولاً عامة، وقواعد كلية، تعين على تفهم هذه المسألة، فذكرنا معنى
المعاصرة، ومعنى الإدراك، واللقاء، والسماع، ومعنى الإسناد المعنعن،
وأنه ليس مقصوداً به: كل ما يجيء في الأسانيد من العنعنة، وإنما يقصد
حيث يطلق هذا الاسم على هذه المسألة بخصوصها، أي إذا وردت العنعنة
وصدرت عن رجل قد عاصر شيخه، ولكن لا يعرف هل سمع منه أم لم يسمع، فهذه
هي المسألة، والعلماء لهم فيها أقوال وتفصيلات وتفريعات، -إن شاء الله
تعالى- نحاول جاهدين هذه المرة أن نبين مناهج علماء الحديث -رحمهم الله
تبارك وتعالى- في هذه المسألة:
قال المصنف -رحمه الله تعالى- ( قال: وقد حاول بعضهم أن يطلق على
الإسناد المعنعن إسم الإرسال أو الانقطاع.
قال: والصحيح الذي عليه العمل: أنه متصل محمول على السماع، إذا تعاصروا
مع البراءة من وصمة التدليس.
وقد ادعى الشيخ أبو عمرو الداني المقريء إجماع أهل النقل على ذلك، وكاد
ابن عبد البر أن يدعي ذلك أيضاً.
قلت: وهذا هو الذي اعتمده مسلم في صحيحه، وشنع في خطبته على من يشترط
مع المعاصرة اللقي، حتى قيل: إنه يريد البخاري، والظاهر أنه يريد علي
ابن المديني، فإنه يشترط ذلك في أصل صحة الحديث، وأما البخاري فإنه لا(1/318)
يشترطه في أصل الصحة، ولكن التزم ذلك في كتابه الصحيح. وقد اشترط أبو
المظفر السمعاني مع اللقاء طول الصحابة.
وقال أبو عمرو الداني: إن كان معروفاً بالرواية عنه قبلت العنعنة. وقال
القابسي: إن أدركه إدراكاً بينا.)
هذه المسألة كما أشرنا في اللقاء الماضي وقع فيها خلاف شديد بين أهل
العلم، فمن أهل العلم من يذهب إلى أن المتعاصرين إذا كان الراوي عمن
عاصره غير معروف بالتدليس فهذه المعاصرة كافية لمثل هذه الرواية
بالاتصال، فإذا جاء المعاصر وروى عمن قد عاصره بصيغة عن، فهذا وحده
يكفي باتصال هذه الرواية، اللهم إلا أن يتبين عدم الاتصال من وجه آخر
أو بدليل آخر، وهذا القول نسبه بعضهم إلى الإمام مسلم، ونحن في اللقاء
الماضي قلنا: إن الإمام مسلم لا يكتفي بمجرد المعاصرة، وإنما بالمعاصرة
التي يمكن معها السماع أو اللقاء؛ ولهذا شرحنا معنى المعاصرة في اللقاء
الماضي، وذكرنا أن من عاش في زمن شيخه، أو أدرك من زمن شيخه خمس سنين،
يقال: إنه عاصر أو أكثر من ذلك أيضًا، يقال له: عاصر، فهذا ما يفهم من
مقتضى المعنى اللغوي لهذه الكلمة.
ولكن لم يكن المحدثون يقصدون من المعاصرة هذا المعنى، وإنما يقصدون
المعاصرة التي يمكن معها السماع، وذكرنا أن أهل الكوفة كانوا إنما
يبدأون في سماع الحديث بعد بلوغ سن العشرين، وأن أهل مصر والشام كانوا
يسمعون الحديث بعد بلوغ سن الثلاثين، إذن من عاصر شيخه عشرين سنة، هذا
في حد ذاته لا يمكنه من أن يسمع منه أو أن يأخذ عنه علماً، فضلاً عن
المشايخ الذين يكونون من غير بلد الراوي، كأن يكون الراوي من بلد،
والشيخ من بلد أخرى، فحينئذ يبعد جداً أن تكون هذه المدة كافية بأن
يلتقي هذا التلميذ بهذا الشيخ، ويسمع منه علماً، ويأخذ عنه حديثاً
يرويه عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-.
فإذن إذا فهمنا معنى المعاصرة على هذا النحو، وهي تلك المعاصرة التي(1/319)
يتمكن الراوي معها أن يلتقي بهذا الشيخ، وأن يأخذ عنه علماً فهذه هي
المعاصرة الممكنة، أو التي تُمكن صاحبها من أن يأخذ حديثاً عن شيخه،
أما ما كانت المعاصرة فيه متجردة عن هذا المعنى لم تصحبها ما يدل على
الإمكانية، أو ما يفيد الإمكانية فهذا أمر مستبعد بطبيعة الحال، هذا
يختلف من راوٍ لراوٍ، ومن شيخٍ لشيخٍ، فمثلاً لو أن راوياً كان
بالمدينة المنورة، وقد أدرك قليلاً من زمن عمر بن الخطاب -رضي الله
عنه- مثلاً، فهذا قد يتمكن من أن يسمع من عمر مع أنه لم يدركه، فإن
إدراكه له كان دون العشرين، أو أقل من ذلك، وذلك لأن عمر كان في بلده
الذي يعيش فيها، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى كان عمر -رضي الله عنه-
أمير المؤمنين وقتئذ, فالهمم مجتمعة، والدواعي مجتمعة في أن يلتقي به
الناس، وأن يأخذوا عنه علماً، لا سيما إذا كان هذا الراوي عنه من
المعروفين بطلب العلم، ومن المشتغلين به، وممن عرفوا بين أقرانهم بأنهم
يحرصون على سماع العلم، ومجالسة أهل العلم.
هناك أمور متعددة نستطيع أن نفهم على ضوئها معنى الإمكانية، فما يمكن
في حق راوٍ قد لا يمكن في حق راوٍ آخر، وما يمكن في حق شيخٍ قد لا يمكن
في حق شيخ آخر، قد يكون الراوي عاصر شيخه زمناً طويلاً، وقد يكون الشيخ
من أهل بلده، أو هذا الشيخ دخل بلده، ولكنه وقت أن دخل هذا الشيخ بلد
الراوي، أو وقت أن دخل الراوي بلد الشيخ لم يكن أحدهما في البلد.
كما قيل في سماع الحسن البصري من أبي هريرة -رضي الله عنه-، قالوا: إن
الحسن البصري لم يسمع من أبي هريرة -رضي الله عنه-، كما هو قول جمهور
أهل العلم، وعلل ذلك بعضهم بأنه وقت أن كان أبو هريرة بالبصرة لم يكن
الحسن البصري -رحمه الله - بها، فالوقت الذي كان يمكن للحسن البصري أن
يلتقي فيه بأبي هريرة -رضي الله عنه- لم يوفق في أن يجتمع بأبي هريرة؛
لأنه صادف أن هذا الوقت كان كل منهما في بلد غير التي وجد فيه الآخر.(1/320)
إذن هذه مسألة متعلقة بالتاريخ -تواريخ الرواة- متعلقة بمعرفة العلماء
متى طلب العلم هذا الراوي؟ ومتى رحل فيه؟ ومتى دخل البلد الفلانية ولم
يدخل البلد الفلانية؟ وهذا كله يدركه علماء الحديث -عليهم رحمة الله
تبارك وتعالى - ويعرفون هذه الأمور، وهذا جانب من تاريخ الرواة مهم
جداً، والعلماء يعتنون به غاية العناية.
فليست المسألة مرتبطة فقط بمجرد قاعدة كلية، فنقول: كل من عاصر فعنعته
محمولة على السماع، أو كل من كان بإمكانه السماع فعنعنته محمولة على
السماع، أبداً، هذا يختلف كما قلنا من راوٍ لراوٍ، ومن شيخٍ لشيخٍ، فما
يكون ممكناً في حالة، لا يكون ممكناً في حالة أخرى، لكن ما هو الضابط
العام في هذه المسألة؟ لابد أن يكون لنا من ضابط عام.
بعض الباحثين لما وجد العلماء ليس لهم في كل حكم من الأحكام المتعلقة
بهذا الباب قاعدة مطردة، فتارة يثبتون السماع مع وجود معنى في الرواية،
وقد يكون هذا المعنى نفسه موجوداً في رواية أخرى ثم لا يحكمون بالسماع،
ولا باللقاء، وتارة يراعون في رواية معنى ما، وهذا المعنى نفسه يجعلونه
في رواية أخرى، فيذهب إلى أنه ليس للعلماء في ذلك ضابط، وليس لهم قاعدة
كلية وهذا ليس صواباً، ففرق بين القرائن التي يلجأ إليها العلماء
-عليهم رحمة الله تبارك تعالى- لضبط المسائل وتحرير المسائل الفرعية،
وبين أن يكون هناك ضابط عام في كل ما يشمل هذه المسألة أو تلك، من حيث
العموم، وما من مسألة من مسائل العلم إلا ولها قاعدة عامة، وضابط عام،
ثم قد نخرج عن هذا الضابط العام وهذه القاعدة العامة حيث تنضم قرينة
تخرجنا أو تجعلنا نتنازل عن هذا الضابط، أو نستثنيه في هذا الموضع
خصوصاً، وذلك لما انضم للرواية من قرائن، أقول: هذا ليس منحصراً في
مسألة دون أخرى، بل هو في كل مسائل العلم، بل في علم الحديث، وفي غير
الحديث من العلوم، فمثلاً نحن نجد من الضوابط العامة مثلاً عند علماء(1/321)
الحديث أنهم يقولون: زيادة الثقة مقبولة. هذه قاعدة موجودة، ونص عليها
كثير من أهل العلم، وجد ذلك في كلام الإمام البخاري، ووجد أيضاً في
كلام الإمام الدار قطني، والإمام أحمد بن حنبل، والإمام الترمذي،
وغيرهم من أهل العلم، فما من إمام في الغالب إلا وقد نطق بهذه العبارة
«زيادة الثقة مقبولة»، أو الزيادة من الثقة مقبولة، ومع ذلك نجد هؤلاء
العلماء وغيرهم من أهل العلم، نجدهم في كثير من المواضع لا يقبلون
زيادات الثقة، مع أنهم نصوا على القاعدة من حيث المبدأ العام، ثم
وجدناهم في الحكم على أفراد الروايات، وعلى الأحكام الجزئية المتعلقة
بهذه الأسانيد، أو بتلك الروايات، أحياناً يقبلون الزيادة، وأحياناً لا
يقبلون الزيادة، كما سيأتي في المسألة الأخيرة في هذا النوع، وأيضاً في
باب زيادات الثقات -إن شاء الله تعالى-، نجدهم يقبلون الزيادة أحياناً
ولا يقبلونها أحياناً، فهل هذا يعد تعارضاً وتناقضاً؟ لا.. ليس هذا من
باب التعارض، ولا هو من باب التناقض، وإنما القاعدة العامة أن الزيادة
من الثقة مقبولة.
وجدنا مثلاً الإمام الترمذي -رحمه الله تعالى- في العلل الذي في آخر
الجامع ينص على أن الزيادة من الحافظ مقبولة، وكذلك ابن عبد البر،
وكذلك الإمام مسلم في كتاب التمييز، ذكروا أن زيادة الحفاظ مقبولة،
فهذه هي القاعدة العامة في هذا الباب، ثم وجدناهم هم أنفسهم وغيرهم من
أهل العلم يخرجون عن هذه القاعدة، حيث تحتف بالرواية قرائن، ترجح لدى
هؤلاء الناقدين، وهؤلاء العلماء الكبار أن هذا الحديث أو هذه الزيادة
في هذا الحديث بخصوصه ليست مقبولة؛ لأن هذه القرائن صارت من القوة بحيث
تقاوم القاعدة، لكن القاعدة تنفعنا حيث لا يكون هناك قرائن، فحينئذ
نستفيد بتلك القرائن ونعمل بمقتضاها.
مثلاً نجد العلماء كابن الصلاح مثلاً -رحمه الله تعالى- في نوع الأفراد
من أنواع علوم الحديث: ذكر أن ما يتفرد به ثقةً فهو صحيح، وما يتفرد به(1/322)
الصدوق الذي هو دون الثقة فحديه حسن، وما يتفرد به الراوي الضعيف
فحيدثه ضعيف، هذه قاعدة عامة، ضابط عام يحكم هذه المسألة.
بعض الناس أخذوا هذه القاعدة العامة وطبقوها في كل المواضع، بل إذا وجد
بعضهم أهل العلم يخالفون هذه القاعدة العامة في بعض المواضع أخذ يرد
على العلماء بما تضمنته تلك القاعدة العامة، وهذا خطأ في فهم كلام أهل
العلم.
فابن الصلاح ها هنا وضع لنا هذه القاعدة العامة، ثم هو نفسه لما تكلم
عن العلة، وعن الشذوذ، ذكر أن العلة والشذوذ يقعان في أحاديث الثقات،
وأنه يستدل على قوع العلة في الحديث، إما بتفرد الراوي بالرواية، أو
بمخالفته لغيره مع القرائن المحتفة بالرواية التي ترجح جانب الخطأ على
جانب الإصابة.
إذن نفهم من كلام ابن الصلاح في باب العلة أن ما يتفرد به الثقة إذا
انضم إليه من القرائن ما يرجح جانب خطأه فيما تفرد به أنه يكون لهذا من
المعلول المحكوم بخطئه، والذي يكون من قسم المردود، قد ينظر البعض
فيقول هذا يتعارض مع ما قاله هو نفسه في باب الأفراد، لأنه هناك في باب
الأفراد قال: هو ما يتفرد به الثقة فهو صحيح، ثم جاء هنا فذكر أن ما
يتفرد به الثقة حيث تنضم إليه القرينة الدالة على الخطأ يكون معلولاً،
وليس بين الكلام تعارض بالمرة هنا، هنا وضع الضابط العام، وهنا أعمل
القرائن، واستفاد بها، وعلماء الحديث -عليهم رحمة الله تعالى- يستفيدون
من القرائن في كل أبواب العلم، فيرجحون بهذه القرائن جانباً على جانب،
أو قولاً على قول، أو إذا كان الأمر يحتمل معنيين أو يحتمل قولين،
فراوية يحتمل فيها الصواب والخطأ فيرجحون أحد الجانبين بمقتضى القرائن
التي تنضم إلى الرواية فترجح جانب الصواب وجانب الخطأ وهذا من هذا
الباب.
كلامنا في هذه المسألة هو أيضاً من هذا الباب، فمن حيث القاعدة العامة
لابد أن نكون مدركين عالمين بالسماع، أو بلقاء الراوي بشيخه، هذا لابد(1/323)
أن نتحقق منه؛ لأن الاتصال لا يتم إلا بذلك، أن نعلم أن فلاناً سمع، أو
أن فلاناً التقى بشيخه، وأخذ عنه علماً، فهذا لابد أن نكون متحققين به،
قد نختلف في طرق إثبات ذلك، هل يثبت ذلك بالتصريح بالسماع أم بما هو
دون ذلك؟ بعضهم يذكر في كلامه: العلم بالسماع، بعضهم يذكر في كلامه
الإدراك، بعضهم يذكر في كلامه اللقاء، وكل ذلك إنما هو ألفاظ يريد بها
شيء واحد، وهو أن نعلم أن الإسناد متصل؛ لأن الإسناد إذا لم يكن متصلاً
لن تقوم به حجة.
فقد يغلب على ظن الناقل، وعلى فهمه، أن هذه الرواية التي رواها ذلك
الراوي سمعها من الشيخ، وإن لم يكن اللفظ صريحاً في السماع، قد يفهم
ذلك بأن هذا الراوي كثيراً ما يروي عن هذا الشيخ، فهذا يغلب على ظنه
أنه أخذ عنه والتقى به، كما عبر عن ذلك بعض أهل العلم فيما قرأه علينا
الأخ بأن يكون معروفاً بالأخذ عن شيخه، بحيث يغلب على ظن الناقد أن هذا
الراوي قد أخذ عن شيخه فعلاً والتقى به لكثرة ما يروي عنه.
عالم آخر أو راوٍ آخر قد يفهم من نفس القرينة عكس ما دلت عليه في
الموضع الأول، فعالم آخر يقول: هذا الراوي كثيراً ما يروي عن هذا
الشيخ، ولم يصرح عنه بالسماع، ولو مرة في حياته، فهذا يجعلني أرتاب في
سماعه منه، لو أنه صرح بالسماع ولو مرة لكان ذلك كافياً، لكن ما باله
يروي عنه الكثير ثم لا يصرح، ونحن نتكلم عن رواة كانت لهم عادة يعرفها
علماء الحديث -عليهم رحمة الله تعالى-، كان الواحد منهم إذا كان عنده
حديث عن شيخ فهو يعد من مظاهر الشرف، ومن الشيء الذي يفتخر به، أن يصرح
بالسماع عن هذا العالم الكبير، فكان أمراً معروفاً في عادتهم، أن
الواحد منهم يحب أن يقول حدثنا فلان، ويتشوق إلى أن يقول: حدثنا فلان،
هذا طبعاً نوعاً من العلو، ونوعا من الشرف، أن ينسب لنفسه السماع من
هذا الشيخ، فكونه مع كثرة ما يرويه عنه لا يصرح عنه بالسماع، هذا قد(1/324)
يشكل عند بعض الرواة وعند بعض أهل العلم ريبة في تحقق سماع ذلك الراوي
من ذلك الشيخ.
إذن القرائن ليست لها ضابط يضبطها، بل الضوابط، أنا أحياناً أتعجب من
القرائن حيث يفهمها أهل العلم، أهل العلم -رحمهم الله تعالى- أحياناً
أفهم من صنيعهم ما يدل على السماع، ويستندون في الحكم بالسماع أو
بالاتصال على قرائن خفية جداً، يحار في فهمها الباحث المتخصص، من ذلك
ما وجدته في ترجمة القعقاع بن أبي حدرد. القعقاع بن أبي حدرد له صحبة،
وأثبت العلماء له الصحبة بل أجمعوا على كونه صحابياً، أجمعوا على كونه
له صحبة وهو من صحابة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، ثم وجدت
البخاري -رحمه الله تعالى- في كتابه التاريخ الكبير لما ترجم للقعقاع
بن أبي حدرد قال: له صحبة، أثبت له الصحبة، ثم ذكر له حديثاً يرويه بعض
الضعفاء عنه أي عن القعقاع هذا، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه
وآله وسلم- ثم قال البخاري: ولا يصح حديثه، إذن الدليل الذي يمكن أن
يستدل به على كونه التقى برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسمع منه
حديثاً، هذا الدليل وهو ضعيف عند البخاري؛ لأن الإسناد لم يصح فيه إلى
القعقاع بن أبي حدرد، ثم إن البخاري صرح بأن حديثه لا يصح، وهذا الرجل
ليس له في الدنيا حديث عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- إلا هذا
الحديث، وهكذا البخاري قد ضعف الحديث كما ترى، ومع ذلك صدر الترجمة
بقوله له صحبة، فنحن نفهم من الترجمة أن البخاري لم يثبت صحبته بمقتضى
الحديث:
أولاً: لأن الإسناد ضعيف.
ثانياً: لأن البخاري نفسه صرح بأن هذا الحديث غير صحيح، فما جاء فيه من
تصريح ذلك الصحابي من السماع من رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-
ليس هو الدليل الذي اعتمد عليه البخاري -رحمه الله تعالى- في إثبات
صحبة ذلك الصحابي، بل أشد من ذلك، وجدت البخاري -رحمه الله تعالى- ذكر
نفس الترجمة التي في التاريخ ذكرها أيضاً في كتاب الضعفاء له، فذكر(1/325)
القعقاع بن أبي حدرد في كتاب الضعفاء، وقال له صحبة، ثم ذكر الحديث،
وقال لا يصح حديثه. وبطبيعة الحال نحن نفهم من منهج البخاري أنه لم
يقصد أن القعقاع بن أبي حدرد يستحق أن يدخل في كتاب الضعفاء، فليس هو
عند البخاري ضعيفاً، كيف وقد صرح هو بكونه له صحبة؟ وإنما يقصد بإدخاله
له في كتاب الضعفاء كما هي عادته في غير ما راوٍ من الرواة: أن هذا
الحديث الذي روي عنه بما يدل على كونه صحابياً، لا يصح فهو أدخله في
كتاب الضعفاء لييبن ضعف هذه الرواية التي تضمنت صحبة هذا الراوي.
ما الدليل الذي اعتمد عليه البخاري فضلاً عن غيره من العلماء لإثبات
صحبة ذلك الصحابي؟ حقيقة حينما تنظر في كتب أهل العلم، وفي كتب
الصحابة، وتحاول أن تلتمس دليلاً اعتمد عليه العلماء لإثبات صحبة هذا
الصحابي، لا تجد دليلاً سوى هذا الحديث، وقد رأيته حديثاً ضعيفاً عند
الإمام البخاري، فما هو الدليل الذي اعتمد عليه البخاري مثلاً لإثبات
صحبة هذا الصحابي؟
أخذت أبحث وأتتبع ترجمة هذا الراوي، فلفت نظري أن البخاري -رحمه الله-
في الترجمة ذكر معلومة دقيقة غامضة، فقال: "زوج بقيرة" كلمة هكذا جاءت
في الترجمة "زوج بقيرة"، بحثت عن بقيرة هذه فوجدتها امرأة لها صحبة،
ولها رواية عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وحديثها في المسند
للإمام أحمد، ففهمت -وقد أكون مصيباً أو مخطئا- لكن هذا الذي ألتمسه من
إشارة الإمام البخاري، كأن هذه هي القرينة التي اعتمد عليها البخاري
-عليه رحمة الله تبارك وتعالى- لإثبات صحبة ذلك الصحابي؛ لأنه إذا كانت
امرأته وزوجته صحابية، ولها رواية عن رسول الله -صلى الله عليه وآله
وسلم-، وقد كان معروفاً من عادة الصحابة أنهم كانوا يتبركون- كما ذكرنا
في اللقاء الماضي- إذا ولد لهم مولود أن يبرك عليه رسول الله -صلى الله
عليه وآله وسلم-، وأن يدعو له، فكذلك كانوا يتبركون بحضور رسول الله(1/326)
-صلى الله عليه وآله وسلم- لأفراحهم وأعرافهم، كما ذكر الحافظ ابن حجر
في غير موضع من الإصابة مثل هذا المعنى، فكأن من أثبت الصحبة اعتمد على
هذه القرينة، يعني إذا كان هو زوجاً لصحابية فالغالب أنه أيضاً صحابي؛
لأنه يستبعد أن تلتقي زوجته، وأن تسمع من رسول الله -صلى الله عليه
وآله وسلم-، ثم لا يسمع هو من رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، أو
لا يلتقي هو برسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
هذه قرائن قد يوافق عليها عالم، وقد يخالف فيها، قد يتفق عليها
العلماء، وقد يختلفون فيها، هذه القرينة قد يفهم منها بعض العلماء
السماع، وبعضهم لا يفهم منها السماع- كما ذكرنا في اللقاء الماضي- لما
قال مكحول دخلت على واثلة بن الأسقع، وذكرنا أن بعض أهل العلم لم يفهم
من ذلك الاتصال، وقال إنما دخل على واثلة ولم يسمع منه.
بعض العلماء الآخرين استدل بهذه الرواية نفسها على أن مكحولاً التقى
بواثلة بن الأسقع، وأن حديثه منه متصل، فالقرينة قد تختلف فيها أنظار
العلماء؛ لأنها مسألة ظنية وفهم يؤتاه الرجل، فهذا قد يفهم من الرواية
شيء، وهذا قد يفهم من الرواية شيء آخر، تلك القرينة قد يفهم منها عالم
شيء، وقد يفهم منها عالم آخر شيء آخر، هذه ليست لها ضابط، لكن القاعدة
العامة أنه لابد أن يكون هناك ما يدل على الاتصال.
وما يدل على الاتصال في الأعم الأغلب يكون بالتصريح به، بل أنا أعتبر
أن التصريح بالسماع في الغالب يكون من أضعف الدلالات على الاتصال؛ لأن
التصريح أحياناً يكون محتملاً لأكثر من معنى، فهناك من الرواة من صرح
بالسماع من بعض المشايخ، ثم قال العلماء: إنه لم يسمع مع أنه قال:
سمعت، أو حدثنا، أو أخبرنا، أو هذه العبارات؛ لأن هناك من العبارات من
قد استعملها بعض أهل العلم في الإجازة مثلاً، كأخبرنا، كان بعضهم يقول:
أخبرنا فيما أخذه عن طريق الإجازة؛ ولهذا بعضهم جعل "سمعت" أعلى من(1/327)
"حدثنا" و "أخبرنا" من حيث المنزلة. لماذا؟ لأن حدثنا وأخبرنا استعملتا
في غير السماع بخلاف سمعت. فهذه الألفاظ أحياناً تكون ظنية في بعض
الرواة.
الحسن البصري -رحمه الله تعالى- كان يقول: خطبنا ابن عباس، خطبنا أبو
هريرة، وجمهور أهل العلم -كما قلنا- قالوا: إنه لم يسمع من ابن عباس،
ولا من أبي هريرة، فما صنيعهم، وما تعاملهم مع هذه الألفاظ الصريحة
التي تدل على سماعه من الرجلين، من الصحابيين -رضي الله عنهما-؟
فمن أهل العلم من قال: هذا محمول على المجاز. قوله: خطبنا، أو أخبرنا
أو حدثنا أبو هريرة. أي حدث قومنا، وهذا موجود في اللغة العربية،
وموجود في كلام الناس العادي، أنت تقول مثلاً زارنا الرئيس الفلاني، أو
الملك الفلاني، أو الوزير الفلاني، هل هو زارك بشخصك، أم زارك مثلاً في
بلدك، أو زار أهل بلدك، أو زار أهل هذه المؤسسة؟ فأنت تقول: زارنا أي
زارنا معشر المصريين، ولا تقصد أنه زارك بنفسه، وهذا موجود حتى في
القرآن الكريم كما انتزع بعض العلماء دليلاً لهم من ذلك أن الله -عز
وجل- في كتابه العزيز خاطب اليهود الذين كانوا في عهد النبي -صلى الله
عليه وآله وسلم- بما فعله أسلافهم، يقول الله -عز وجل- في مواضع كثيرة:
? وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى ? الله خاطب من اليهود الذين كانوا في
عهد النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، وهل هؤلاء هم الذين قالوا لموسى
أم أجدادهم؟ أجدادهم هم الذين قالوا لموسى، فكأن قول الله تعالى ?
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى ? أي وإذ قلتم معشر اليهود، ولم يقصد الذين
كانوا في عهد النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بخصوصهم.
وهذا من الألفاظ التي تسمح بها اللغة والاستعمالات التي وجدت في اللغة
العربية، وهذا يعده أهل العلم من المجاز، وموجود في استعمال الحسن
البصري كثيراً، وعند غير الحسن البصري أيضًا، والحافظ ابن حجر
العسقلاني -رحمه الله تعالى- في نكته على كتاب ابن الصلاح ذكر أمثلة(1/328)
كثيرة على ذلك.
كذلك أيضاً قد يكون التصريح بالسماع أصلاً خطأ من قبل بعض الرواة، يعني
هذا التصريح الوارد في الرواية "حدثنا فلان" قد يكون أصلاً خطأ من قبل
بعض الرواة، والراوي لم يقل سمعت، ولا حدثنا، ولأ أخبرنا، من تلك
الألفاظ التي تفيد معنى اللقاء والسماع، وإنما قال عن مثلاً، أو عبارة
أخرى، أو لفظة أخرى من الألفاظ المحتملة، ثم جاء بعض الرواة عنه فلم
يضبط اللفظ الذي ذكره شيخه، فإذا به يذكر عوضاً عنه، لفظا دالاً على
السماع، وهذا يقع كثيراً في الروايات، ونجد في المراسيل لابن أبي حاتم،
وفي كتب العلل التصريح أو التنصيص على أخطاء الرواة التي من هذا
القبيل، فيقول العلماء: هذا خطأ ليس ذلك من عبارة الراوي، وإنما هو من
خطأ من جاء بعده.
من ذلك مثلاً: هناك راوي اسمه أسامة بن زيد الليثي، وهو يروي عن الزهري
أحاديث كثيرة. ومعمر بن راشد الصنعاني أيضاً يروي عن الزهري كثيراً، من
شأن هذين الرجلين أنهما كثيراً ما يذكران في روايتهما عن الزهري ألفاظ
التصريح بالسماع، ويأتي العلماء ويقولون: ذلك خطأ، لم يقل الزهري سمعت،
إنما قال الزهري عن.
وقع ذلك في بعض الأحاديث التي يرويها الزهري عن عبد الرحمن بن الأزهر
-وهو صحابي- فقال الإمام أحمد وغيره الصواب: عن عبد الرحمن، وليس حدثنا
عبد الرحمن. وأيضاً مبارك ابن فضالة -وهو من أصحاب الحسن البصري- ولكن
كانت له أخطاء وأوهام، من أخطاءه وأوهامه أنه كان يعمد إلى أحاديث
للحسن البصري، قال فيها الحسن: عن عمران بن حصين، عن عبد الله بن
المغفل، فإذا به هو يقول: عن الحسن، حدثنا عمران بن حصين، عن الحسن،
حدثنا عبد الله بن المغفل، فتناول العلماء هذه الروايات بالنقد وذكروا
أنها من الأخطاء.
أحياناً الخطأ يكون من الراوي نفسه، اشتبه عليه، فيكون إنما سمع من بعض
الشيوخ، فيظن أن هذا شيخ آخر، فيشتبه عليه شيخ بشيخ، وهذا من العلل
الخفية التي يدركها العلماء.(1/329)
من ذلك: أن خلف بن خليفة، وهو من الثقات -من جملة الثقات- كان يقول:
رأيت عمرو بن حريث. إذا نظرنا إلى المسألة تاريخياً فيستبعد جداً أن
يلتقي خلف بن خليفة بعمرو بن حريث؛ لأن الأصح من أقوال أهل العلم أنه
ولد بعد وفاته، فكيف يقول رأيت؟ وعلى قول من قال: إنه أدرك عمرو بن
حريث يعني أدركه سنتين أو ثلاثة بما لا يمكنه من أن يلتقي به، الإدراك
الذي يدركه ويستوعبه ويتذكره؛ ولهذا أنكر ذلك الإمام أحمد بن حنبل
وسفيان بن عيينة -رحمهما الله تعالى- وقال: لم يدرك عمرو بن حريث، هذا
خطأ، هو يقول: أدركت أو رأيت عمرو بن حريث، وهما يقولان: لا... هذا
خطأ، دائماً وأبداً نقول: إن نقاد الحديث أعلم بالراوي من نفسه التي
بين جنبيه، فهم أدرى بحال الراوي من نفسه؛ ولهذا كان الرواة يرجعون إلى
العلماء ليسألوهم عن أحاديث أنفسهم، كما ذكرنا في لقاء سابق: أن
إسماعيل بن علية ذهب إلى يحيى بن معين، وقال له: يا أبا زكريا كيف حال
حديثي؟ انظر هو يسأله عن حديث نفسه، قال أنت مستقيم الحديث، قال: كيف
عرفتم ذلك؟ هو نفسه لا يدري كيف عرفوا؟ كيف عرفتم ذلك؟ قال: عارضنا بها
أحاديث الناس فوجدناها مستقيمة، أي أعملنا فيها مبدأ الاعتبار، وقد
شرحناه سابقاً، فعرفنا أنك توافق الثقات، فعرفنا أنك ثقةً، كما أنهم
ثقات، فكان الرواة يرجعون إلى نقاد الحديث ليميزوا لهم صحيح حديثهم من
سقيمه.
فخلف بن خليفة يقول: رأيت عمرو بن حريث، فجاء الإمام أحمد وكذلك ابن
عيينة وأنكروا ذلك غاية الإنكار، حتى قال الإمام أحمد: لعله رأى ابناً
من أبناء عمرو بن حريث فظنه عمرو بن حريث، فانظر هذا خطأ من الراوي
نفسه اشتبه عليه، هل هو رأى عمرو بن حريث نفسه، أم رأى واحداً من
أبناءه؟ من الذي يدرك ذلك؟ نقاد الحديث، رغم أن الراوي يصرح بالسماع.
مثلاً القصة المعروفة لما كان ابن معين -رحمه الله تعالى- في مجلس نعيم(1/330)
بن حماد، ونعيم ابن حماد كان من مشايخه، وابن معين وقتها كان صغيراً
-رحمه الله تعالى ورضي عنه- فصار نعيم بن حماد يقول: حدثنا عبد الله بن
المبارك عن ابن عون وذكر أحاديث بهذا الإسناد عن ابن المبارك عن ابن
عون، فقال له الإمام يحيى بن معين: لم تسمع هذه الأحاديث من ابن
المبارك، ولا سمعها ابن المبارك من ابن عون، الشيخ جالس يحدث بالحديث،
وابن معين جالس له بالمرصاد، ناقد إمام -عليه رحمة الله- يعرف أحاديث
الشيخ أكثر من الشيخ نفسه، ويميز الصواب والخطأ من أحاديث الشيخ أكثر
من الشيخ نفسه.
فالشيخ يقول: حدثنا وهو ثقةً لا يتعمد كذباً، لكن قد يخطيء نعيم بن
حماد، فنعيم بن حماد يقول: حدثنا عبد الله بن المبارك عن ابن عون، فجاء
ابن معين وقال: لم تسمع هذه الأحاديث من ابن المبارك ولا سمعها ابن
المبارك من ابن عون، فغضب الشيخ وغضب من كان في المجلس، فطلب ابن معين
من الشيخ أن يأتي بالكتاب ليكون حجة، الكتاب الذي هو الأصل الذي أخذ
عنه الشيخ تلك الأحاديث، فدخل نعيم بن حماد بيته وخرج والكتاب في يده
ويقول: من ذا الذي يقول إن ابن معين ليس بأمير المؤمنين في الحديث؟ نعم
يا أبا زكريا أخطأت. هذا من تواضع العلماء وإنصافهم -رحمهم الله تعالى
ورضي عنهم- إنما أخذت هذه الأحاديث عن غير ابن المبارك عن ابن عون
فاشتبهت عليه هذه الأحاديث هل أخذها من ابن المبارك؟ هل هي من أحاديث
ابن المبارك التي يرويها عن ابن عون؟ أم هي أحاديث غير ابن المبارك عن
ابن عون؟ اشتبه على الراوي فظن أنه أخذ هذه الأحاديث عن شيخ ما، بينما
هو أخذها عن شيخ آخر.
ابن لهيعة: عبد الله بن لهيعة كان يروي أحاديث كثيرة عن عمرو بن شعيب،
وأنكر عليه العلماء تلك الأحاديث التي يرويها عن عمرو بن شعيب، وقالوا:
إنما أخذها من إسحاق بن أبي فروة، عن عمرو بن شعيب، وإسحاق ابن أبي
فروة متروك الحديث. فلما بلغ ابن لهيعة أن ابن وهب وهو أحد من كان ينكر(1/331)
عليه ذلك، أنه ينكر سماعه لهذه الأحاديث من عمرو بن شعيب، ويقول ابن
وهب: متى أو من أين سمع ابن لهيعة هذه الأحاديث من عمرو بن شعيب؟ فهو
أنكرعلى ابن لهيعة ذلك. فماذا قال ابن لهيعة؟ قال لقد سمعتها من عمرو
بن شعيب قبل أن يلتقي أبواه، يعني قبل أن يولد.
إذن ابن لهيعة كان في قرارة نفسه يعتقد أنه سمع، ولكن النقاد بعلمهم
ومعرفتهم، قالوا: لم يسمع، فمن نأخذ؟ قول الراوي نفسه أم قول أهل العلم
والنقاد؟
نأخذ بقول النقاد؛ لأنهم أعلم بالرواي من نفسه التي بين جنبيه، والراوي
في الواقع قد يتوهم شيئاً، ويظن أنه أخذه، ولكن في الواقع هو لم يأخذ
ذلك، ولم يتحمله سماعاً، وإنما أخذه بواسطة، كما قال بعض أهل العلم:
عبد الله بن لهيعة آفته أنه كانت عنده أحاديث عن عطاء، سمع أحاديث عن
عطاء، وسمع من رجلين عن عطاء، ومن رجل عن عطاء، ومن ثلاثة عن عطاء، ثم
صار بعد يحدث بكل ذلك عن عطاء، اشتبهت عليه الأحاديث، وبعض أهل العلم
كابن حبان استدل بهذا على كونه مدلساً، وليس هذا من التدليس؛ لأنه لم
يقصد الإيهام، وإنما هذا من الخطأ الذي يقع بسبب سوء الحفظ وقلة الضبط.
كما وقع لعطاء الخراساني: عطاء بن السائب، كان قد اختلط في آخر عمره
-كما هو معروف- فوهيب بن خالد قال له كم حديثاً سمعت من عبيدة
السلماني؟ فقال ثلاثين حديثاً. فأنكر ذلك الإمام أحمد، وقال: لم يسمع
من عبيدة السلماني لا قليلاً ولا كثيراً، ويدل ذلك على أنه كان قد
اختلط.
فالإمام أحمد استدل بما سبق من معرفته من أن عطاء بن السائب لم يأخذ من
عبيدة السلماني شيئًا،ً ثم بعد ذلك يقول: أنا أخذت ثلاثين حديثاً،
استدل بذلك على أنه اختلط، وأن ذلك راجع إلى سوء حفظه، وقلة ضبطه، فصار
لا يميز عمن أخذ عنه، وبين من لم يأخذ عنه؛ ولهذا كان هذا الأمر
مرتبطاً بالثقات أكثر من ارتباطه بغير الثقات، فليس كل من قال: سمعت،
وليس كل من قال: رأيت، وليس كل من قال: التقيت، وليس كل من قال: دخلت(1/332)
على فلان أو نحو ذلك: يقبل ذلك منه، حتى يناط ويحاط بهذه الضوابط التي
نحن نذكرها.
بل أحياناً يذكر العلماء عبارات، هذه العبارات قد يستدل بها البعض على
السماع أو عدمه، والواقع أن هذا من دقائق علم علل الأحاديث، والتي كثير
من الباحثين ما يخلطون فيه، فيعمدون إلى أقوال قالها إمام ما، في موضع
ما، على معنى ما، فإذا بهم يعمدون إلى جعل هذا الكلام في موضع آخر، في
مسألة أخرى، لا علاقة لها بما أراده القائل لهذه العبارة، من ذلك ما
يأتي من أحكام لبعض أهل العلم فيما يتعلق بالنكارة الإسنادية، ونحن
حينما نتكلم عن العنعنة نحن نتكلم عن إسناد مسألة أو مبحث متعلق
بالإسناد.
أحياناً يأتي الراوي فيروي عن شيخ، أو يذكر في رواية أن فلاناً روى عن
فلان، سواء صرح بالسماع أو لم يصرح، فيأتي بعض أهل العلم فيقول: إن
رواية فلان عن فلان لا تجيء، أو ليس لها نظام، أو لا تعرف في الأسانيد،
أو لا يعرف بالأخذ عن فلان، أو لا يعرف بأنه سمع من فلان، فقد يتصور
بعض الباحثين أن هذه الأحكام متعلقة بمسألتنا هذه والواقع أنها متعلقة
بمبحث العلل أكثر من تعلقها بهذا الباب، كأن الإمام يستنكر رواية هذا
الراوي عن هذا الشيخ، سواء صرح بالسماع أو لم يصرح، وإنما يخطيء في هذا
راو ممن روى هذا الإسناد عن هذا الشيخ، وليس يثبت للراوي سماع أنه روى
عن هذا الشيخ، ثم يذهب إلى كونه لم يسمع منه، هذا ليس مراداً، وإنما
مراد أهل العلم من ذلك إعلال هذه التركيبة الإسنادية، رواية فلان عن
فلان هذا خطأ، كأن الحديث قد يكون من رواية غير هذا عن هذا، أو هذا عن
غير هذا، كما وقع في قصة نعيم بن حماد.
نعيم بن حماد روى أحاديث عن ابن المبارك عن ابن عون فقال له ابن معين:
لم تسمع هذه من ابن المبارك ولا سمعها ابن المبارك من ابن عون، هل هو
يعل الأحاديث بما يتعلق بالاتصال والانقطاع؟ كلامه لا تعلق له بهذه(1/333)
المسألة بالمرة، فهو لا يقول لنعيم: إنك تدلس عن ابن المبارك، بل قد
يكون صرح بالسماع، وإن ثبت أنه لم يسمع، ثم هو يصرح، لكان سارقاً،
والسارق يتهم لتعمده ادعاء ما لم يسمع، وإنما يقصد أن هذه الأحاديث
ليست من أحاديث هذا الشيخ، وأنت أخطأت، فالصواب أنها من رواية شيخ آخر
عن ابن عون، وأنت جعلتها من رواية ابن المبارك عن ابن عون، فليس هذا
متعلقاً بمسألة الاتصال والانقطاع بقدر ما هي متصلة بمسألة علل
الأحاديث.
وجد ذلك في كثير من أحكام أهل العلم فجاء بعض الباحثين فلما وجدوا مثل
البخاري ومثل أبي حاتم الرازي يعلون الأحاديث مثل ذلك عارضوهم، ونقضوهم
بما ذهبوا إليه من اختيار الاكتفاء بالمعاصرة، فيجد مثلاً البخاري
يقول: فلان لا يعرف بالأخذ عن فلان، فيأتي بعض المتأخرين ويقول: لا إن
فلاناً قد عاصر شيخه معاصرة كافية بحيث يمكن أن يحكم باتصال هذه
الرواية بناءً على اختيار الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- .
والواقع أن البخاري لم يقصد هذا المعنى، وهذه الأحاديث على مذهب من
يكتفي بالمعاصرة وغيره هي غير متصلة، بل غير محفوظة، بل هي من شوائب
الروايات وأخطائها.
من ذلك مثلاً: روى بعض الرواة عن ابن أبي ذئب عن أبي الزبير حديثاً في
حكم أكل الطائف يعني أكل السمك الذي يطفو على الماء بعد أن يموت في
الماء، ( ما اصطدتموه وهو حي فكلوه وما وجدتموه ميتاً طافياً فلا
تأكلوه ) وهذا الحديث الصواب فيه أنه موقوف على بعض الصحابة، وليس
مرفوعاً إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، فالإمام البخاري لما
سئل عن هذا الحديث -سأله الترمذي- فقال البخاري: «لا أعرف لابن أبي ذئب
عن أبي الزبير شيئاً » ففهم بعض الناس أن الإمام البخاري يعل الحديث
بالانقطاع بين ابن أبي ذئب وأبي الزبير فاعترضه بأن ابن أبي ذئب قد
عاصر أبا الزبير مدة كافية تمكنه من أن يلتقي به وأن يسمع منه
والمعاصرة كافية على اختيار الإمام مسلم، كما ذهب ذلك الذاهب.(1/334)
والواقع أن هذا الحديث عند مسلم وعند البخاري وعند جميع الأئمة خطأ؛
لأن البخاري هو لا يقصد في الواقع أن يعل الحديث بالانقطاع، وإنما
يقول: هذا الإسناد رواية ابن أبي ذئب عن أبي الزبير لا توجد إلا في هذا
الإسناد الغريب، لم يعرف أنه روى عنه أصلاً. فالخطأ ليس من ابن أبي
ذئب، ولا في أنه لم يسمع من ابن الزبير، وإنما الراوي عن ابن أبي ذئب
أخطا حيث جعل الحديث من رواية ابن أبي ذئب عن أبي الزبير، والصواب: أن
الحديث رواية غير ابن أبي ذئب عن أبي الزبير.
أحياناً يأتي في الروايات تصريح الراوي بالسماع، ومع ذلك العلماء
يقولون: هذا خطأ كما جاء عن الحسن البصري -رحمه الله -تبارك وتعالى-
أنه روى حديث ( إن المختلعات هن المنافقات ) رواه عن أبي هريرة عن رسول
الله -صلى الله عليه وآله وسلم- مصرحاً بالسماع، بل قال في الرواية:
«ولم أسمعه من غير أبي هريرة » خرَّج ذلك النسائي في كتابه السنن،
الحديث بهذا السياق، وبهذه العبارة التي قالها الحسن البصري -ولم أسمعه
من غير أبي هريرة- فعلق الإمام النسائي على الحديث -وهو يرى بين عينيه
يرى تصريح الحسن البصري بالسماع فقال: الحسن البصري لم يسمع من أبي
هريرة شيئاً، فجاء بعض الناس واعترض النسائي بأن الحسن البصري قد صرح
بالسماع، فما بال النسائي يخرج الحديث وفيه تصريح بالسماع ثم يذهب
فيحكم بأن النسائي لم يسمع من أبي هريرة، هو قد صرح بالسماع في
الرواية، وإنما النسائي يخطيء واحداً ممن كان قبل الحسن ممن روى الحديث
عن الحسن، فذكر في الحديث تلك العبارة التي هي منافية لما هو محفوظ
ومعروف، ومتقرر وثابت عنده من أن الحسن البصري -رحمه الله تعالى- لم
يسمع من أبي هريرة.
إذن هناك اعتبارات كثيرة جداً، لكن من حيث الضابط العام لابد أن يكون
الراوي قد صرح بالسماع في أقل تقدير، لا سيما إذا لم يكن هناك قرائن
تجعلنا نتنازل عن هذا التصريح مثلاً، من الأشياء التي وجدتها في كلام(1/335)
أهل العلم البخاري -رحمه الله تعالى- خرج في كتابه الصحيح حديث يرويه
أبو عبد الرحمن السلمي عن عثمان بن عفان ، وأبو عبد الرحمن السلمي عند
جمهور أهل العلم لم يسمع من عثمان بن عفان، حديث ( خيركم من تعلم
القرآن وعلمه) حديث معروف، هذا حديث خرجه الإمام البخاري -رحمه الله
تعالى- مع أن شعبة وابن معين وغيرهما نص بأن أبا عبد الرحمن السلمي لم
يسمع من عثمان بن عفان، فاحتار الناس كيف يخرج البخاري هذا الحديث في
صحيحه؟ وعنده نصوص أهل العلم الدالة على عدم سماع هذا الراوي عن شيخه؟
وهو أبو عبد الرحمن السلمي، وهو تابعي حيث يروى عن عثمان وهو لم يسمع
منه، ثم وجدت البخاري -رحمه الله تعالى- لما ترجم لأبي عبد الرحمن
السلمي في كتاب التاريخ الأوسط، ذكر هذا الحديث وذكر بعقبه عبارة
قالها: أبو عبد الرحمن السلمي، كأنها هي القرينة التي استأنس بها
البخاري -رحمه الله -تبارك وتعالى- للاستدلال على كون أبا عبد الرحمن
السلمي سمع أو التقى بعثمان بن عفان -رضي الله عنه-، وهو أنه قال: أعني
أبا عبد الرحمن كان مقرئاً معروفاً، وكان يقريء الناس في عهد عثمان إلى
زمن الحجاج، قال أبو عبد الرحمن السلمي -رحمه الله تعالى-: « فهذا الذي
أقعدني ذلك المقعد » وقال: شبعة بعقب الرواية التي هي لهذا الحديث:
قال: «وكان يقريء الناس في إمرة عثمان إلى زمن الحجاج » أي في زمن
عثمان إلى زمن الحجاج، فهذه هي القرينة التي فهمها البخاري، لم يرد
تصريح بالسماع عنه، ولكن أولاً أبا عبد الرحمن السلمي كان في نفس البلد
التي فيها عثمان بن عفان، ثم كان يقريء الناس في عهد عثمان، ثم ذكر هو
أنه إنما أقرأ الناس وجلس لهذا المقعد، وكان في إقراء الناس لما بلغه
هذا الحديث وهو: ( خيركم من تعلم القرآن وعلمه ) فهذا هو الحديث الذي
كان دافعاً له، ومشجعاً له في أن يجلس ليقريء الناس القرآن، وقد ثبت
تاريخياً أنه كان يقريء في زمن عثمان. فهذه قرينة قوية على أن أبا عبد(1/336)
الرحمن السلمي إنما أخذ الحديث هذا من عثمان نفسه، ولم يأخذه بواسطة عن
عثمان، لا سيما وأنه اشتهر عند القراء أن أبا عبد الرحمن السلمي قرأ
القرآن على عثمان بن عفان -رضي الله عنه- فهذه قرائن استشهد بها الإمام
البخاري، واستأنس بها، وتوصل بها إلى هذه النتيجة، تلك القرائن في
النهاية هي ظنية قد يختلف العلماء فيها، فعلماء آخرون لا يعتبرون هذه
القرائن، ولا يلتفتون إليها، فهي مسائل اجتهادية، ولكن من حيث القواعد
العامة لابد أن نفهم هذا الأمر: وهو أن الأصل أن يثبت التصريح بالسماع،
فإذا لم يثبت التصريح بالسماع ووجدت قرينة تغلب على الناقد الظن بأن
هذا الراوي التقى بشيخه أوسمع منه، فبها ونعمت. أما إذا لم توجد
القرينة، ولا وجد التصريح بالسماع فحينئذ لا ينتفع بذلك ولا يحكم
بالاتصال.
نكتفي بهذا القدر في هذه المسألة لأنها مسألة طويلة جداً ولو تكلمنا
فيها لأخذت حلقات، لكن أظن أنا وضعت ضابطاً عاماً يعين الطالب في تفهم
كلام أهل العلم المتعلق بهذه المسألة والله أعلم.
الإسناد المعنعن والمأنأن
قال المصنف -رحمه الله تعالى- (وقد اختلف الأئمة فيما إذا قال الراوي:
"أن فلاناً قال" هل هو مثل قوله: "عن فلان"، فيكون محمولاً على الاتصال
حتى يثبت خلافه؟ أو يكون قوله: أن فلاناً قال، دون قوله: عن فلان، كما
فرق بينهما أحمد بن حنبل، ويعقوب بن شيبة وأبو بكر البرديجي، فجعلوا
"عن" صيغة اتصال، وقوله: أن فلاناً قال كذا، في حكم الانقطاع حتى يثبت
خلافه.
وذهب الجمهور إلى أنهما سواء في كونهما متصلين، قاله ابن عبد البر،
وممن نص على ذلك مالك بن أنس، وقد حكى ابن عبد البر الإجماع على أن
الإسناد المتصل بالصحابي سواء فيه أن يقول عن رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- أو قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- أو سمعت رسول الله
-صلى الله عليه وآله وسلم- .)
هذه مسألة أخرى متفرعة عن المسألة السابقة، وهي ما يعبر عنها بالإسناد(1/337)
المأنن أو المأنأن.
الصورة الأولى: أن يقول الراوي عن فلان، لكن يأتي كثيراً في الأحاديث
عن فلان أن فلاناً قال، أو أن فلاناً فعل، أو أن فلاناً دخل على فلان،
أو أن فلاناً ذهب إلى فلان، فهل المسألتان سواء وأن ها هنا بمعنى عن أم
لا؟
ذكر بعض أهل العلم كابن كثير ها هنا أخذاً عن ابن الصلاح: أن من
العلماء من جعل عن وأن سواء، ومنهم من جعل أن بخلاف عن. والواقع أن
كلام أهل العلم ليس بينه اختلاف حقيقة، ولكن "أن" تختلف عن "عن" في
مواضع، وتشتبه بها في مواضع أخرى، فلو أن الراوي قال: عن الحسن البصري
عن أنس بن مالك أنه قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-
فهذه العنعنة.
فإذا جاء آخر: فقال: عن الحسن البصري أن أنس ابن مالك -رضي الله عنه-
قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فمثل هذا "عن" و"أن"
متشابهان سواء، ليس بينهما فرق لماذا؟ لأن الحسن البصري بإمكانه أن
يروي عن أنس، وقد أخذ عنه ففي حقه أن: "عن" و"أن" سواء.
لكن في الأعم الأغلب يختلفان في ما إذا استعملت أن في حكاية قصة، تلك
القصة لم يدركها ذلك الراوي، كأن يأتي مثلاً محمد بن سيرين، يقول: دخل
سلمان الفارسي على رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، أو دخل أبو
الدرداء على رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-. فمثل هذا العلماء
يفرقون بين "عن" و"أن"؛ لأن قول محمد بن سيرين عن أبي الدرداء: "أنه
دخل" هذا يفيد أمراً، وهو أنه يروي عن أبي الدرداء، فالخبر عندهم هو
أخذه عن طريق أبي الدرداء سواء سماعاً أو ليس سماعاً، نعم هو لم يسمع
من أبي الدرداء، لكنه ذكر في الرواية ما يقتضي أنه يروي الحكاية عن أبي
الدرداء، فأبو الدرداء هو المخبر بها سواء هو أخذ ذلك عنه مباشرة أم
أخذها بواسطة ثم أسقطها عن أبي الدرداء، فحينئذ لو أنه قال: عن أبي
الدرداء عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، لقلنا: هل روى عن أبي
الدرداء وسمع أو لم يسمع؟ قضية أخرى.(1/338)
لكن حينما يقول: إن أبا الدرداء دخل على رسول الله -صلى الله عليه وآله
وسلم-، دخول أبي الدرداء على رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- هل
أدركه محمد بن سيرين؟ لم يدركه، لماذا؛ لأنه كان في عهد النبي -صلى
الله عليه وسلم- ولم يكن محمد بن سيرين وقتها موجوداً.
هل ذكر في الرواية ما يدل على أن هذه القصة أخذها ابن سيرين عن أبي
الدرداء؟ لم يذكر، هو ذكر قصة مجردةً، حينما نقول: دخل ابن القيم على
شيخ الإسلام ابن تيمية، هل أنا قلت لك أنا أخذت ذلك عن ابن تيمية بطريق
متصل أو غير متصل، أنا لم أخبرك بذلك، ولم أذكر في كلامي ما يفيد معنى
الرواية أصلاً، وإنما حكيت حكاية مجردة، حينما يقول: محمد بن سيرين
مثلاً دخل أبو الدرداء على رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فهو
أولاً حكى حكاية لا يمكن له أن يدركها، ثم إنه لم يذكر في ألفاظه ما
يدل على أنه أخذ ذلك عن أبي الدرداء، قد يكون أخذها عن غير أبي
الدرداء.
هذا يشكل في بعض المواضع التي تحتمل، يعني الراوي قد يكون له سماع من
الشيخ أصلاً، كما يأتي في بعض الأحاديث عن عروة: أن عائشة -رضي الله
عنها- دخلت على رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، وهذا يوجد، وبعضه
وجد في صحيح البخاري أيضاً، يأتي عروة فيقول: إن عائشة دخلت على رسول
الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، عروة سمع من عائشة أحاديث كثيرة، لكن
هل هو هنا يروي عن عائشة، هو لم يقل أني أخذت هذا الخبر عن عائشة،
وإنما قال: دخلت عائشة على رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ولم
يذكر في روايته ما يدل على أنه أخذ ذلك عن عائشة مباشرة.
فعلماء الحديث يقولون: هذه صورة المرسل فيعاملونها معاملة المرسل من
حيث الأصل، لكن إذا كان هذا الراوي من شأنه الإكثار عن شيخه ذلك، أو عن
هذا الذي هو طرف في هذه القصة، وهو عائشة هنا في هذه الرواية، فإنهم
يقولون: وإن كان صورته صورة المرسل إلا أنه محمول على الاتصال؛ لأن(1/339)
عروة من شأنه أن يكثر من الرواية عن عائشة، فإذا قال: دخلت عائشة على
رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فالظن الغالب أنه أخذ ذلك عن
عائشة.
فإذن المسألة ليس بينها خلاف، وإنما لها تفصيل عند أهل العلم، أحياناً
تكون "عن" بمنزلة "أن"، و"أن" تختلف عن "أنَّ"؛ ولهذا نجد في كتب علل
الأحاديث كثيراً ما يعل الأئمة الحديث حيث وجد فيه بالعنعنة، فيأتي
العلماء ويقولون: الصواب بالأنأنة، وليس بعن، فيقولون الصواب: أنه قال:
أن فلاناً، ولم يقل عن فلان، والله أعلم.
أيضاً حديث في سنن النسائي: أن محمد بن المنكدر، روى عن أبي قتادة
الأنصاري: ( أنه كانت له جمة ضخمة كبيرة، فسأل النبي -صلى الله عليه
وآله وسلم- فأمره أن يحسن إليها، وأن يترجل كل يوم ).
فهذه الرواية تفيد أن محمد بن المنكدر يروي عن أبي قتادة، حيث قال:
"عن" لكن في رواية أخرى جاء فيها: ( عن محمد بن المنكدر، أنه كانت له
جمة، فدخل على رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-... ) الحديث، فهذه
ليست كتلك؛ لأن هذه القصة وقعت في حياة النبي -صلى الله عليه وآله
وسلم-، وليس لمحمد بن المنكدر أن يدركها، هذا خلاصة هذه المسألة والله
أعلم.
قال المصنف -رحمه الله تعالى- (وبحث الشيخ أبو عمرو ها هنا فيما إذا
أسند الراوي ما أرسله غيره، فمنهم من قدح في عدالته بسبب ذلك إذا كان
المخالف له أحفظ منه أو أكثر عدداً، ومنهم من رجح بالكثرة أو الحفظ،
ومنهم من قبل المسند مطلقاً، إذا كان عدلاً ضابطاً، وصححه الخطيب وابن
الصلاح وعزاه إلى الفقهاء والأصوليين، وحكى عن البخاري أنه قال:
«الزيادة من الثقة مقبولة ».)
هذه المسألة هي في الواقع صورة من صور زيادات الثقات وسيأتي تفصيلها
-إن شاء الله تعالى- عندما يفرد المؤلف لزيادات الثقات نوعاً مستقلاً،
ولكن نشير ها هنا إلى ضابط عام نستعين به؛ لتفهم كلام أهل العلم
المتعلق بهذه المسألة، هنا تناول الزيادة الإسنادية، الزيادة حيث تقع(1/340)
في الإسناد، يعني حديث اختلف فيه الرواة، فبعضهم يرويه موصولاً، والآخر
يرويه مرسلاً، فالوصل زيادة؛ لأن من وصل الحديث زاد على من أرسل،
فيختلف الناس أحياناً، الراوي الواحد يروي الحديث مرة موصولاً، ومرة
مرسلاً، يختلف على نفسه، ونحن نقول: القاعدة العامة: إن الزيادة من
الثقة مقبولة، هو أشار إلى ذلك بحكايته عن البخاري، أنه قال: الزيادة
من الثقة مقبولة، قال ذلك في حديث: ( لا نكاح إلا بولي ) حيث رواه شعبة
وسفيان عن أبي إسحاق السبيعي مرسلاً، ورواه آخرون موصولاً بذكر
الصحابي، أبو موسى الأشعري في الإسناد، فالبخاري قَبِلَ تلك الزيادة،
وقال: الزيادة من الثقة مقبولة، وحكم بقبول الزيادة، ووصل الحديث،
وترجيح الوصل ها هنا على الإرسال، وإن كان القول المنقول عن البخاري في
ذلك، إنما روي عنه بإسناد فيه نظر، لكن هذا القول قال به غير واحد من
أهل العلم، حتى الإمام الترمذي -رحمه الله تبارك وتعالى- في الجامع له
لما ذكر هذا الحديث قبل تلك الزيادة، وحكم بوصل ذلك الحديث.
فهل هذه الزيادة دائماً وأبدا تكون مقبولة؟ نحن نقول من حيث الأصل:
القبول، ولكن قد ينضم إلى الرواية قرائن وتحتف بها معان، تلك المعاني
وهذه القرائن، قد ترجح جانب الإرسال على جانب الوصل، من ذلك مثلاً أن
يكون الذين أرسلوا أحفظ من الذي وصلوا، أو قد يكونوا أكثر عدداً،
فبطبيعة الحال: الخطأ بعيد عن الجماعة، وهو إلى الفرد أقرب، والصواب
قريب من الجماعة وهو عن الفرد أبعد، وهكذا...، فهذه اعتبارات يراعيها
العلماء، أحياناً ينظر العلماء إلى كون الإرسال هو النادر الموجود،
بخلاف الوقف فهو العادة المسلوكة المعهودة، والخطأ غالباً وأبداً ما
يأتي موافقاً للعادة، وجرياً على الجادة، بخلاف الإرسال؛ لأن أغلب
الأحاديث في الأعم الأغلب تكون متصلة إلى رسول الله -صلى الله عليه
وآله وسلم- بخلاف المراسيل، فهي خلاف المعتاد، والذي يخطيء لا يعمد في(1/341)
الغالب، لا يعمد إلى الموصول فيرسله، وإنما يعمد إلى المرسل فيوصله،
يظنه أنه من جملة الموصولات التي تروى بذلك الإسناد، كما قيل لبعض
الناس. كذلك الرفع والوقف: الرفع والوقف أيضاً الوقف هو خلاف الجادة،
بخلاف الرفع؛ لأن أغلب الأحاديث تكون مرفوعةً كما قيل لبعض الناس حيث
كان يروي أحاديث عن أنس بن مالك، بعضها مرفوع إلى رسول الله -صلى الله
عليه وآله وسلم- يعني يرويها أنس عن رسول الله -صلى الله عليه وآله
وسلم- ، والبعض الآخر هي من أقوال أنس بن مالك -رضي الله عنه- فكان بعض
من لا يميز ذلك، يرويه كله عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- عن
أنس عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فقيل له: يا رجل ألا تميز
ما يرويه أنس عن رسول الله، وما يقوله أنس بنفسه، فقال: وهل الحديث إلا
عن رسول الله، هو لم يرد عن ذهنه أن يكون حديث وليس عن رسول الله -صلى
الله عليه وآله وسلم- فغالب من لا يكون مميزاً أو متقناً أو حافظاً،
فضلاً عن الضعفاء والمتروكين غالبهم يخطئون من هذا النوع، لا سيما إذا
كان هذا إسناد من الأسانيد الدارجة التي تأتي كثيراً، وهو ما يعبر عنه
المحدثون بأنه سلك الجادة.
هناك أسانيد كثيراً ما تأتي في الروايات، وهذه هي في الغالب ما يقع
فيها الخطأ، مثل محمد بن المنكدر عن جابر، وغالباً ما يأتي من رواية
الثوري عنه، الثوري عن محمد بن المنكدر عن جابر، هذا إسناد كثير
الورود، فقد يكون في بعض الأحاديث الثوري يروي الحديث عن محمد بن
المنكدر عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- مرسلاً ليس موصولاً،
فيأتي بعض من لا يحسن ضبط الحديث وحفظه، ماذا يفعل؟ فيقول: الثوري عن
محمد بن المنكدر عن جابر عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ظناً
منه أنه من جملة ما يرويه محمد بن المنكدر عن جابر، أنه من الموصولات،
بينما هذا الحديث بخصوصه: الصواب فيه: الإرسال وليس الوصل، فحينما سمع(1/342)
الحديث عن ابن المنكدر ظنه عن جابر عن رسول الله، بينما هذا بخصوصه،
ليس عن جابر عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- بل هو عن محمد بن
المنكدر، عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-.
حماد بن سالم عن ثابت عن أنس: هذا إسناد كثير الورود، فأحياناً يروي
حماد بن سالم عن ثابت عن رسول الله مرسلاً -صلى الله عليه وسلم- فيأتي
بعض الناس فيخطيء فيوصل الحديث، مالك عن نافع عن ابن عمر -رضي الله
تعالى عنهما- وهكذا.
فإذن هذه قرائن يستفيد بها العلماء، ويتكئون عليها، لترجيح الإرسال،
أما من ينسب للمحدثين بأنه إذا اختلف الوصل والإرسال، فهم يرجحون
المرسل أبداً، هذا خطأ. قد يكون هو أمراً تغليبياً في أحكامهم، نعم
ولكن هذا لماذا؟ لأنه في الغالب ما يكون الإرسال هو الصواب؛ لأنه جار
على غير الجادة، بخلاف الوصل فهو الموافق للجادة، وكما قلنا: الموافق
للجادة هو الذي يقع فيه الخطأ وأكثر. والله أعلم.
كنا نريد أن ننتهي أيضاً من التدليس في هذه المرة ولكن شاء الله أمراً
كان مفعولاً، -وإن شاء الله تعالى- نأتي عليه في اللقاء القادم.
وردتنا إجابات: كان السؤال الأول: قد يطلق المعضل بمعنى المنكر مثل
لذلك؟
وكانت الإجابة: استعمل المعضل وورد بمعنى المنكر شديد الخطأ، وورد ذلك
عن الجوزاني وابن علي.
هذه إجابة معضلة، يعني زاد الإعضال إعضالاً والاستغلاق استغلاقاً،
فعلماء الحديث نحن نعلم أن المعضل إنما هو من مباحث الأسانيد، ومباحث
الاتصال والانقطاع، فحيث أطلق المعضل فإنما يعنى أن هناك أكثر من راوٍ
في موضع واحد قد سقطوا من الإسناد، الراوي وشيخه، أو التابعي والصحابي،
لكن وجد في استعمال أهل العلم كابن عدي والجوزجاني وغيرهما من أهل
العلم أن يقول: هذا حديث معضل والصواب فيه الوقف، هذا حديث معضل لا يصح
من هذا الوجه، هذا حديث معضل أخطأ فيه فلان، ونحو هذه العبارات، فهذا(1/343)
نفهم منه بالضرورة أنه لم يقصد المعضل الذي هو من مباحث السقط في
الإسناد، وإنما يقصد به غرابة هذا الإسناد، أو خطأ في الإسناد، أو في
المتن، أو في الرواية عموماً، وهذا هو علامة المنكر في الأحاديث.
السؤال الثاني: يحكم أهل العلم أحياناً بعدم الاتصال مع وجود تصريح
الراوي بالسماع من شيخه علل لذلك؟
وكانت الإجابة: وذلك كقولهم روى فلان المعضلات، أو روى حديثاً معضلاً،
أي شديد النكارة، وذلك وأن حدثنا وأخبرنا أحياناً تكون ظنية السماع، أو
روى ذلك عن طريق الإجازة، وقد يكون التصريح بالسماع خطأ من بعض
الرواة.
طبعاً نحن شرحنا -بفضل الله تعالى- أثناء الدرس هذه المرة، شرحنا ذلك
وذكرنا بعض الأمثلة المتعلقة بذلك فلا حاجة إلى الإعادة.
لي سؤالان يا شيخ: قلتم أن نعيم بن حماد لو قصد التصريح بالسماع من
ابن المبارك عن ابن عون لكان سارقاً فما معنى السرقة ومن هو السارق؟
السؤال الثاني: ذكرتم أن قرينة البخاري في كون القعقاع صحابياً أنه
تزوج بقيرة، أليس من المحتمل أن يكون القعقاع تابعياً تزوج صحابية؟
السؤال الأول: أن نعيم بن حماد سرق وما معنى السرقة؟
السرقة تشتبه بالتدليس، شبيهة بالتدليس، لكن الفرق بينها وبين التدليس
دقيق جداً، طبعاً عندما نأتي لمبحث التدليس سنتناول ذلك بالتفصيل، لكن
نذكر الفرق ها هنا إجمالاً، المدلس يروي عن شيخ له منه سماع في الجملة،
أو ليس له منه سماع، وإنما عاصره فقط على رأي بعض أهل العلم، لكنه
يستعمل لفظاً محتملاً للسماع وعدمه، فيقول: عن فلان أنه قال كذا وكذا،
أو أن فلاناً قال، أو قال فلان، فهي عبارات ليست صريحة في التصريح
بالسماع، بخلاف السارق، السارق لم يسمع من الشيخ، قد يكون سمع بعض
الأحاديث لكن لم يسمع هذا الحديث بخصوصه، وقد لا يكون سمع أصلاً، ثم
يأتي يقول: حدثنا فلان، سمعت فلان، فهذا يصرح بالسماع، والسارق من أجل(1/344)
هذا يكون متهماً؛ لأنه يدعي سماع ما لم يسمع، أما المدلس فهو يوهم فقط
السماع ولا يدعيه، يذكر لفظاً يحتمل السماع وعدم السماع، هل هو قال لك:
أنا لم أسمع؟ لم يقل لم أسمع، هل قال: سمعت؟ لم يقل سمعت، وإنما ذكر
لفظاً يحتمل المعنيين، فصار الأمر محتملاً، وهذا هو التدليس، أما إذا
صرح بالسماع، وهو لم يسمع فهذا كذب، هذا إخبار بخلاف الواقع وهذا هو
الكذب، ولذلك سمى هذا سارقاً.
والسرقة لها صور أخرى، منها تركيب الأسانيد والمتون على بعض، يعني حديث
من الأحاديث، هذا الحديث يروى بإسناد ما من الأسانيد، وهو مشهور بذلك
الإسناد، فيأتي بعض الناس فيركب على هذا المتن إسناداً آخر، ليغرب به
على أقرانه، فيتوهم الناس أن عنده أسانيد ليست عند غيره، فيقبل الناس
عليه لسماع تلك الأحاديث بهذه الأسانيد منه، فهذه أيضاً سرقة، لأنه
ادعى أشياء لنفسه، وادعى أنه سمعها على هذا الوجه، وهو لم يسمعها ولم
يتحملها على هذا الوجه.
والسرقة كل ما كان فيه تغيير في الرواية، هو داخل في معنى السرقة؛
ولهذا قالوا: إن القلب في الأسانيد، أو في المتون، يسمى سرقة.
القلب في الأسانيد خاصة يعني كأن يكون الحديث مروياً مثلاً عن نافع عن
ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما-، فيأتي بعض الناس فيرويه عن سالم عن
ابن عمر، ويقصد ذلك قصداً عن خطأ، وإنما يقصد أن يغير التابعي الذي روى
الحديث ليوهم الناس أن عنده حديث من غير الطريق المشهورة المعروفة،
فهذا أيضاً داخل في السرقة.
السؤال الأول: يتعلق بالدرس الماضي الحديث المنقطع، إذا قلنا إن
الحديث المنقطع نوع من أنواع الحديث الضعيف، هل نقول: إن هناك أحاديث
منقطعة في حكم المتصل، كرواية مثلاً أبي عبيدة ابن عبد الله بن مسعود
عن أبيه، وروايه إبراهيم النخعي عن عبد الله بن مسعود، وطاووس عن معاذ،
ونحو ذلك، مثل المثال الذي ذكرتم أبي عبد الرحمن السلمي عن معاذ،
فقلنا: هذا منقطع لكن في حكم المتصل؟(1/345)
السؤال الثاني: ذكرتم في الدرس -حفظكم الله- أن أحياناً يصرح الراوي
بالسماع، ولا يقبل حديثه، لدي سؤال لكن هو يتعلق بالتدليس الدرس القادم
أقول: إذا صرح المدلس بالسماع، لكن جاء من بعد المدلس فرواه بالعنعنة
على جواز رواية الحديث بالعنعنة، أن يكون المدلس روى الحديث وصرح
بالتحديث، فجاء من بعده المدلس فرواه بالعنعنة، هذا مدعاة لرد الحديث
مع أن المدلس صرح به، فكيف يعني أن هذه الصورة موجودة، وكيف يتحمل
العلماء؟ وكيف يعرفون المدلس صرح أو لم يصرح؟ يعني العنعنة هل هي من
المدلس أو من دونه من الرواة؟
يسأل عن القعقاع وزواجه من بقيرة ألا يمكن أن يكون تابعياً تزوج من
صحابية؟
كون البخاري ذكر ذلك في ترجمته، ولا يظن بالبخاري أن يذكره إلا لفائدة،
هذا كأنه في علم البخاري أن زواجهما كان في عهد النبي -صلى الله عليه
وآله وسلم- والله أعلم.
كان سؤاله الأول: عن المنقطع أنه نوع من الضعيف هل هناك منقطع في حكم
المتصل؟
نحن ذكرنا في اللقاء الماضي ما يفيد هذا المعنى، لما قلنا مثلاً
إبراهيم النخعي حيث يروي عن ابن مسعود، هو لم يسمع ابن مسعود، إنما أخذ
من أصحاب ابن مسعود، فذكرنا أنه إذا عرف مخرج الحديث، وأنه عن الثقات،
فحينئذ يعامل معاملة المتصل، وإن كان في الصورة كالمنقطع، وكما قال
أخونا الفاضل جزاه الله خيراً في رواية أبي عبيدة عن ابن مسعود، أيضاً
أبو عبيدة لم يسمع من أبيه؛ لأنه مات أبوه وهو صغير، وقيل وهو حمل،
يعني لم يدركه ولم يلقي به، ولم يأخذ عنه علماً، ولكن قال العلماء:
كعلي بن المديني وغيره: أنه أخذ علم أبيه من أهل بيته، يعني إذن هو
أخذه عن أصحاب أم مسعود، وأهل بيت ابن مسعود، فإذن لأجل هذا اعتمد
العلماء على هذه الرواية، رغم أنه ليس له سماع من أبيه؛ ولهذا نجد
النسائي في السنن في مواضع يقول: « هذا حديث جيد وأبو عبيدة لم يسمع من
ابن مسعود » فهذا مما يتبين منه أن العلماء -عليهم رحمة الله تعالى-(1/346)
يفترق حكمهم على الرواية من حيث الاتصال والانقطاع، ومن حيث القبول
والرد، من حيث الاتصال والانقطاع يقولون: فلان سمع أو لم يسمع، هذه
قضية مجردة بحتة، لكن هل هناك أدلة أخرى يستعان بها لمعرفة إن كان
الحديث مأخوذاً به مقبولاً أي يعامل معاملة المتصل له حكم الاتصال،
فهذا أمر آخر كما ذكر الشافعي -عليه رحمة الله- المرسل يقويه بأمور
أخرى.
فالمرسل في حد ذاته ليس متصلاً، ولا يمكن أن يعامل معاملة المتصل، إذا
نظرنا إليه نظرة مجردة، ولكن لما انضم إليه ما انضم مما ذكره الشافعي
كان من هذه الحيثية محتجاً به مقبولاً.
يقول: ما هو الفرق بين قولهم هذا حديث منكر، وهذا الراوي منكر الحديث؟
هذا حديث منكر: هو حكم على حديث بعينه، قد يكون الراوي لم يرو في
الدنيا منكراً سوى هذا الحديث، فهذا الحديث في حد ذاته منكر، لكن لا
يستلزم أن يوصف الراوي بأنه منكر الحديث.
لكن قولهم في الراوي منكر الحديث: معنى ذلك: أن المناكير غلب على
أحاديثه وكثرت في أحاديثه كما ذكر الإمام مسلم ،حيث قال: وعلامة الحديث
المنكر في حديث المحدث إذا ما عرضت روايته للحديث على رواية غيره من
أهل الحفط والرضا خالفت روايته روايتهم، أو لم تكد توافقها، هنا هذا
منكر، هذا حديث منكر، لكن الراوي نفسه كيف يوصف بأنه منكر الحديث، أو
أن المناكير غلبت على أحاديثه بأن يكثر من تلك المناكير، فإذا كان
الأغلب من حديث كذلك كان مهجور الحديث غير مقبوله ولا مستعمله.
قلتم في حديث ابن أبي ذئب عن أبي الزبير في قصة السمك الطافي أن
الصحيح فيه: أنه موقوف على عهد الصحابة فهل هو صحيح؟
العلماء رجحوا فيه الوقف، وهو روي موقوفاً عن غير واحد من صحابة الرسول
-عليه الصلاة والسلام-، فالعلماء ذكروا ذلك لكن تحقيق الموقوف نفسه من
حيث الرواية أنا لم أشتغل به، ولم أعتني به.
ذكرتم فضيلتكم أن قول النقاد يؤخذ به، عن قول الراوي، وأنهم أعلم من(1/347)
الراوي بنفسه، فإذا اخترنا قول الراوي بقرينة، يؤخذ به، فهل هناك ضوابط
لهذه القرينة؟
أنت خلطت بين أمرين، نحن قلنا أولاً: إن العلماء أعلم بالراوي وبحديثه
من نفسه التي بين جنبيه، هذا قلناه في مناسبة. والقرائن التي يرجح بها
العلماء كون الراوي سمع أو لم يسمع التقى أو لم يلتق، هذه القرائن
كثيرة ولا حصر لها، بل ليس لها ضابط؛ لأنها مسائل ظنية اجتهادية،
يفهمها العلماء لكن قلنا: هذا في مناسبة أخرى بارك الله فيك.
يقول: إذا قيل في متن موقوف إنه من المرفوع حكماً ما هو الضابط لذلك
طبعاً كل متن موقوف ينظر فيه العلماء ويفهمون منه هل فيه ما يدل على
الرفع، أو على حكم الرفع أو لا؟ وليس له قاعدة عامة، ولكن العلماء
ذكروا أمثلة مما يعطى حكم الرفع مما انتهينا من شرحه في وقته، ولكن هذا
في الواقع داخل أيضاً في القرائن، نحن قلنا: إنهم يحكمون برفع ذلك
بناءً على قرائن، إما لفظية وإما حالية، فهذه القرائن هو العلم، وهو
الذي يفرق بيننا وبين العلماء، هؤلاء العلماء يعرفون القرائن، ويعرفون
مواضعها، ويعرفون متى يستعملونها، ومتى لا يستعملونها، أما نحن فيكفينا
أن نعلم القاعدة العامة، ونسأله تعالى أن يوفقنا لفهمها.
هناك سؤال يقول: في مسألة السماع والاختلاف فيها هل هي علة ظاهرة أم
علة خفية؟
أحياناً تكون ظاهرة وأحياناً تكون خفية، يعني إذا نظرنا إلى أن هذا
الراوي لم يسمع، وعرفنا ذلك من طريق التاريخ، ولم يسمع أصلاً فحينئذ
تكون العنعنة دليل على عدم الاتصال، وهذه مسألة ظاهرة؛ لأنها تعرف
بإدراك التاريخ، وأحياناً نعرف ذلك بجمع الروايات فيأتي في رواية ما،
هذا الراوي يروي عن شيخه بالعنعنة، ثم في رواية أخرى يذكر بينه وبين
شيخه ذلك واسطة، فنستدل بتلك الواسطة على أن الإسناد الأول لم يكن
متصلاً، وهذا من القرائن أيضاً التي يتكيء عليها العلماء لمعرفة إن كان(1/348)
الراوي سمع أو لم يسمع، فإذا مرة حدث بالحديث بالعنعنعة، ثم وجدناه مرة
أخرى يروي عن نفس الشيخ بواسطة بينه وبين الشيخ، استدللنا بذلك على أنه
لم يسمع، ولم يكن إسناده الأول، الذي ورد فيه بالعنعنة لم يكن متصلاً،
ولا ناشئاً عن سماع ولقاء، هذه قرينة أيضًا، فهذا هو الخفاء؛ لأننا
استدللنا على عدم الاتصال بروايات أخرى، بجمع الطرق، وجمع الأسانيد،
أما إذا كان ذلك يدرك عن طريق التاريخ، ومعرفتنا به، فهذه علة ظاهرة،
وفي النهاية ظاهرة أو خفية، كل ذلك قادح في الرواية، وهي اختلافات
لفظية، واصطلاحية، وتفريعات لأهل العلم ليس ينبني عليها كبير فائدة،
المهم أن الحديث معلول سواء بعلة ظاهرة أو بعلة خفية، النتيجة واحدة.
يقول: عندما يشتبه على الثقة سماعه من الراوي فيخطيء، هل هذا يقدح في
ضبطه وحفظه ؟
إذا أخطأ في القليل النادر فذلك لا يؤثر عليه، أما إذا كان ذلك غالباً
عليه يخطيء كثيراً في الروايات، فالحكم ما ذكرناه من أن من كثرت
المناكير في روايته فهو منكر الحديث، أي ضعيف الحديث.
السؤال الأول: متى يختلف الحكم بين عن فلان، وأن فلانا؟
السؤال الثاني: ما حكم تدليس الشيوخ؟ والله أعلم.
انتهى الشرح
قام بالقص واللصق
من موقع الاكاديمية الاسلامية
مصطفى سعد احمد(1/349)