التذكرة في علوم الحديث
الحديث الصحيح
بسم الله، وصلى الله، وسلم وبارك على رسول الله وعلى آله ومن اهتدى بهداه، أما بعد.
فإن كتاب التذكرة في علوم الحديث للشيخ عمر بن علي، المعروف بابن الملقن المتوفى، سنة أربع وثمانمائة، كتاب مختصر، اقتصر فيه مؤلفه في كثير من المباحث على ذكر التعريفات دون التقاسيم أو الأمثلة، وهو كتاب مختصر جدا؛ لأن مؤلفه كما في خاتمته ألَّفه في ساعتين، والمقصود منه التعريف بأهم أنواع علوم الحديث وذِكْر بعضها على وجه الإجمال؛ تذكيرا للمنتهي وهو العارف بهذا العلم، وتبصيرا للمبتدئ بطريق هذا العلم.
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العلمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال -رحمه الله تعالى-: بسم الله الرحمن الرحيم اللهَ أحمدُ على نعمائه وأشكره على آلائه، وأصلي على أشرف الخلق محمد وآله وأسلم، وبعد.
فهذه تذكرة في علوم الحديث يتنبه بها المبتدي ويتبصر بها المنتهي، اقتضبتها من المقنع تأليفي، وإلى الله أرغب في النفع بها؛ إنه بيده والقادر عليه.
أقسام الحديث ثلاثة: صحيح وحسن وضعيف، فالصحيح: ما سلم من الطعن في إسناده ومتنه، ومنه المتفق عليه: وهو ما أودعه الشيخان في صحيحيهما.
ذكر المؤلف -رحمه الله- في هذه الجملة أنواع علوم الحديث، وأنها أقسام ثلاثة: الصحيح والحسن والضعيف، وهذا التقسيم هو الذي استقر عليه المتأخرون، قسمان منها مقبولان وقسم منها مردود، هذه الأقسام الثلاثة التي ذكرها المؤلف -رحمه الله- هاهنا أولها الصحيح، وعرفه المؤلف بأنه ما سلم من طعن في متنه أو إسناده، وهذا التعريف من المؤلف -رحمه الله- ليس واضحا، ولا مستوفيا الشروط المذكورة عند العلماء، ومنها ما ذكره ابن الصلاح -رحمه الله- في علوم الحديث الذي استفاد منه المؤلف في هذا المختصر.(1/1)
كلام المؤلف -رحمه الله- يقتضي أن كل حديث سلِم من الطعن في متنه أو إسناده، سواء كان طعنا يقضي على الحديث بأنه ضعيف، أو كان طعنا مقيدا يقضي على الحديث بأنه حسن، العلماء رحمهم الله ذكروا أن الحديث الصحيح لا بد أن يكون مستوفيا خمسة شروط:
الأول منها: عدالة الراوي.
والثاني منها: حفظه وتمام ضبطه.
والثالث منها: اتصال إسناده.
والرابع منها: سلامته من الشذوذ.
والخامس منها: سلامته من العلة.
فهذه الشروط الخمسة اتفق العلماء -رحمهم الله- على أن الحديث لا يصحح إذا اختل واحد منها، فالعدالة معناها أن يكون أكثر أحوال العبد مطيعا لله -تعالى-، ولا يضره ما يقع من بعض الخطايا؛ لأن العصمة ليست لأحد من الخلق إلا للأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
والثاني: أن يكون الراوي -وهو راوي الحديث الصحيح- ضابطا، وإذا أطلقوا ضابطا فإنهم يريدون به أن يكون تام الضبط، الضابط هو الحافظ، وليس معنى ذلك أنه لا يقع منه خطأ في الرواية، فما من إمام من الأئمة إلا وقد أخطأ في الرواية، لكن يقصدون بذلك أن تكون غالب أحاديث الراوي صحيحة مستقيمة لا يخالف فيها غيره، فإذا وقع منه الخطأ في بعض الأحيان فإن ذلك لا يضر الراوي نفسه وإن كان يضر الرواية في الموضع الذي أخطأ فيه.
فها هو حماد بن زيد والإمام مالك وسفيان الثوري وشعبة ويحيى بن سعيد القطان وغيرهم من سادات الحفاظ الذين بلغوا في الحفظ غاية كبيرة، قد ثبت أنهم أخطئوا في بعض الأحاديث، وهذا لا يعني إذا أخطأ الراوي في حديثٍ ما أن نبطل جميع أحاديثه أو أن نقضي عليه بأنه ضعيف، ولكن يريدون أن الراوي إذا كانت غالب أحاديثه صحيحه مستقيمة فإنهم يحكمون عليه بأنه ضابط، وأن حديثه الأصل فيه إذا ورد أن يكون صحيحا، والموضع الذي أخطأ فيه يكون حديثه فيه ضعيفا.(1/2)
فلا بد في راوي الحديث الصحيح أن يكون تام الضبط، العدالة وتمام الضبط يعبر عنهما العلماء بالثقة، فإذا أطلقوا على راوٍ بأنه ثقة فإنهم يقصدون أنه جمع بين الحفظ والعدالة، فإذا لم يكن عدلا فإن حديثه يسقط بالكلية ولا يقبل لا في المتابعات ولا في الشواهد، إذا ثبت أنه غير عدل بأن ثبت عليه الفسق، وأما إذا لم يكن كذلك وإنما جهلنا حاله، لا ندري أهو ثقة أو ضعيف فإن هذا يكون مجهولا، فصار عندنا ضد العدل قسمان: قسم نجهل حاله ولا ندري أثقة هو أو ضعيف، وهذا هو الذي يسمى المجهول، يعني: لم يثبت فيه ما يطعن فيه، ولم يثبت فيه ما يوثقه، فصار مجهولا.
فالمجهول درجتان: مجهول الحال، ومجهول العين، مجهول الحال: هو الذي روى عنه اثنان ولكن لم يوثق، ولم يُجرَّح، ومجهول العين: من لم يروِ عنه إلا واحد، ولم يجرح أو يعدل ويدخل في النوع الثاني وهو مجهول العين المبهم، وهو الذي ورد في الإسناد بأن قيل: رجل، أو عن فلان أو أخو فلان أو ابن فلان أو نحو ذلك، فمثل هذا يسمى المبهم وهو قسم من مجهول العين.
إذا كان الراوي مجهولا فإن حديثه لا يكون صحيحا؛ لأننا فقدنا شرطا من شروط صحة الحديث وهي ثبوت العدالة، ولأن العدالة في الحديث لا بد أن تثبت، إما أن ينصص عليها العلماء أو يكون الرجل مستفيضا مشهورا بالعدالة، فإذا نص على أن فلانا عدل قبلناه وصار حديثه من أحاديث.. أو داخل في حيز الحديث الصحيح، إذا لم تثبت العدالة بأن كان مجهولا لكن لم يثبت فيه الطعن فإننا عندئذ نجعل حديثه حديثا صحيحا.(1/3)
بعد ذلك يأتينا شرط الضبط وهو القسم الثاني مما يناقض العدالة: وهو أن يثبت على هذا الراوي ما يناقض العدالة، إما بفسقه أو كذبه واتِّهامه في الحديث، إذا ثبت أنه فاسق بكبيرة من كبائر العلماء يضعف حديثه ولا يُقبَل؛ لأنه ساقط العدالة، كأن يكون شرَّابا للخمر أو مشهورا بالفواحش، وقد وجد من هؤلاء في الرواة من هو كذلك، وأسقط العلماء أحاديثهم، أو ثبت عليه أنه يكذب في حديث النبي -عليه الصلاة والسلام- فإذا ثبت ولو مرة واحدة قضينا على أحاديثه بأنها.. أو قضينا عليه بأنه ساقط العدالة، أو كان متهما بالكذب، إما أن تقوم القرائن على كذبه في حديث النبي -عليه الصلاة والسلام- لكن لم نقطع بها، أو أنه يكون معروفًا بالكذب في حديث الناس، فمثل هذا يسمى المتهم، إذا كان متهما كان ساقط العدالة.
كذلك إذا ثبت أنه يسرق الحديث فهذا ينافي العدالة، فإذا وصف بأنه يسرق الحديث أسقطنا عدالته، إذا سقطت العدالة سقط حديثه بالكلية، إذا أسقطنا العدالة وقضينا عليه بأنه ساقط العدالة أسقطنا الحديث كلية فلا يقبل، أما إذا جهلنا حاله أو عينه لا ندري عن هذا الرجل.. لا ندري هل هو عدل أو ضعيف، فإننا عندئذ لا نسقط حديثه بالكلية وإن كنا لا نقبله بل نرده ونجعله حديثا ضعيفا، ولكن ليس إسقاطه كإسقاط الذي قبله؛ لأن مجهول العدالة، يبقى عند العلماء فيبقى حديثه قابلا للاعتضاد إذا جاء ما يعضده، خاصة في مجهول الحال.(1/4)
الشرط الثالث: اشترطوا في الحديث الصحيح أن يكون إسناده متصلا، واتصال الإسناد معناه: أن يأخذ كل راو ممن فوقه بإحدى طرق التحمل الصحيحة، يعني: لا بد أن يكون كل راوٍ قد روى عن شيخه، وهو الذي فوقه، أو روى عمن حدّث عنه بطريقة صحيحة من طرق التحمل إما بالسماع أو بالقراءة أو بالإجازة المقرونة بالمناولة، أما إذا كان ثبت أنه لم يسمع منه فإننا حينئذ نحكم على الحديث بأنه منقطع ولا يكون حديثا صحيحا، فإذا كان في الإسناد انقطاع بأي وجه من الوجوه سواء كان بإعضال أو إرسال أو تدليس فإننا لا نحكم على الحديث بأنه صحيح؛ لفقده شرطا من شروط الحديث الصحيح وهو اتصال السند.
كذلك إذا كان الراوي قد تحمل الحديث ممن فوقه وأخذه بطريقة من طرق التحمل غير الصحيحة؛ لأن طرق التحمل ثمان: منها ما هو صحيح ومنها ما هو ضعيف كما سيأتي إن شاء الله، فإذا تحمل عن طريق الوجادة، أو عن طريق الوصية، أو عن طريق الإعلام الذي ليس مقرونا بإجازة، فإنه يقال: هذا تحمل ضعيف، ويكون في حكم الإسناد المنقطع، فصار عندنا الحديث الصحيح لا بد أن يكون إسناده متصلا، وهذا يخرج ما إذا كان الإسناد منقطعا أو كان الإسناد متحملا بطريقة من طرق التحمل الضعيفة أو التي لا تصح.
الشرط الرابع: وهو أن يكون الحديث سالما من الشذوذ، والشاذ عرفوه بأنه مخالفة الثقة لمن هو أوثق منه، ومرادهم بسلامته من الشذوذ: أن يكون الشذوذ منتفيا عنه في إسناده ومتنه، وسيأتي إن شاء الله بيان للشاذ في الأنواع القادمة، لكن الذي يجب أن يعرف هو أن يكون الحديث قد انتفى عنه الشذوذ، كذلك يجب أن يكون الحديث الصحيح قد انتفت عنه العلة، والعلة كما سيأتينا إن شاء الله سبب خفي يقدح في الحديث مع أن الظاهر السلامة منه، وسيأتي إن شاء الله بيان للحديث المعلل.(1/5)
لكن الذي يجب أن يعرف هنا: يجب أن يكون الحديث الصحيح سالما أيضا من العلة، فإن كان في الحديث شذوذ أو علة فإنه لا يحكم عليه بأنه حديث صحيح، إنما يحكم عليه بأنه حديث صحيح إذا سلم من الشذوذ والعلة مع استيفائه الشروط الثلاثة المتقدمة، فصار الحديث الصحيح لا بد أن يكون مستوفيا هذه الأشياء الخمسة، الأول منها والثاني والثالث، هذه قد تكون أسهل الجميع في الإدراك، الأول والثاني يعرف بممارسة كلام العلماء في الجرح والتعديل، ومن معرفة الألفاظ التي يطلقونها.
فإذا أطلقوا على رجل بأنه ثقة عرفنا أنه يجمع بين العدالة والحفظ، وإذا أطلقوا على رجل بقولهم: إمام من أئمة المسلمين، أو فلان لا يسأل عنه.. أو نحو ذلك فهذه من العبارات الدالة على العدالة والضبط، أما إذا وصف بأنه حافظ ولم يوصف بأنه عدل فهذا لا يقتضي أن يكون الراوي ثقة؛ لأنه قد يكون حافظا ولا يكون عدلا، وإذا وصف بأنه عدل ولم يوصف بأنه حافظ فلا يلزم منه أن يكون ثقة، وإنما يحتمل أن يكون عدلا في دينه ولكنه غير حافظ، الثالث وهو اتصال الإسناد هذا أيضا إدراكه قريب في اليُسْر من النوعين الأولين وإن كان هو أعسر قليلا منهما، وهذا إن شاء الله سيأتينا في اتصال الحديث بأي شيء يعرف اتصال الحديث.(1/6)
وأما الشرط الرابع والخامس: فهذان من أصعب العلوم، وهما يعتبران أدق علوم الحديث، وهذا النوع وهو معرفة الشذوذ والعلة لا يدرك إلا بكلام أهل العلم الأئمة كالإمام أحمد والبخاري ومسلم وأبو زرعة ونحوهم..، الحديث إذا استوفى هذه الشروط حكمنا عليه بأنه حديث صحيح، فعندنا مثلا ما رواه الترمذي عن قتيبة عن أبي عوانة، عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " تسحَّروا فإن في السَّحُور بركة " هذا الحديث إذا نظرنا إليه وجدنا رواته كلهم ثقات، فقتيبة بن سعيد ثقة، وأبو عوانة اليشكري ثقة، وعبد العزيز بن صهيب ثقة، وأنس بن مالك صحابي لا يسأل عنه، والإسناد بينهم متصل لأنه ثبت عن كل واحد منهم قد سمع من الآخر وروى عنه.
بقي بعد ذلك السلامة من الشذوذ والعلة، هذه أُدركت لأن الحديث مُخرج في الصحيحين، إذا خُرِّج في الصحيحين أدركنا أنه سالم من الشذوذ والعلة، كذلك أدركنا سلامته من الشذوذ والعلة بطريق آخر، وهو أن الترمذي لما خرج الحديث حكم عليه بأنه صحيح، وقلنا في انتفاء الشذوذ والعلة: تُدرَج بكلام العلماء، إما بنفي الشذوذ والعلة عنه صريحا أو بتصحيح الحديث، إذا صححوه أو أوردوه في المصنفات الصحيحة فإنه حينئذ يقتضي أن الحديث صحيح.(1/7)
هذه الشروط الخمسة إذا اجتمعت صح الحديث متنا وإسنادا، لكن قد يصح الحديث سندا ولا يصح متنا، وقد تتوافر فيه بعض الشروط في إسناده ولا يتوافر بعضها الآخر، فالحديث إذا حكم عليه بأن رجاله ثقات أو بأن رواته ثقات فالحكم هنا ليس معناه أن الحديث صحيح، ولكن معناه أن الحديث توافر فيه الشرطان الأول والثاني وهما العدالة والضبط، وإذا قالوا: هذا إسناد صحيح، فمعناه أن الإسناد قد استوفى الشروط الخمسة، لكن المتن قد يكون فيه شذوذ أو يكون فيه علة، ولهذا إذا قالوا: إسناده صحيح لا يعني ذلك أن الحديث صحيح، قد يكون صحيحا وقد تكون هناك علة أو شذوذ في متنه، كذلك إذا قالوا هذا الإسناد رجاله رجال الصحيح فلا يعنيه أنه صحيح، احتمال أن يكون رجاله رجال الصحيح لكن فيه انقطاع أو فيه شذوذ أو فيه علة، لكن إذا قيل: إن الحديث صحيح، فمعناه إنه استوفى هذه الشروط الخمسة المتعلقة بإسناده ومتنه.
هذا النوع إذا استوفى الشروط الخمسة يسمونه الحديث الصحيح، وإذا أطلقوا الحديث الصحيح فإنهم يريدون الحديث الصحيح لذاته، معنى "لذاته" يعنى: أنه صحيح بمفرده لا يحتاج إلى غيره ليرفعه من درجة إلى درجة، بل هو بمجرد مجيئه بهذا الإسناد فإنه صحيح، فالصحيح لذاته معناه الصحيح بمفرده لا يحتاج إلى غيره لأن يرقيه إلى رتبة الصحة، يقابله الصحيح لغيره، الصحيح لغيره فهو الحديث الذي لا يصح إلا بوجود عاضد له يرقيه من الدرجة التي دون الصحة وهي الحسن لذاته إلى الصحيح لغيره.
الصحيح لغيره لا يعرف إلا إذا عرفنا الحسن لذاته على ما يأتي إن شاء الله، فصار عندنا أو صارت هذه الشروط الخمسة متعلقة بالحديث الصحيح، إذا توافرت حكمنا عليه بأنه صحيح لذاته، إذا اختل أحد هذه الشروط فإنه يكون ضعيفا، إلا في تمام الضبط، إذا اختل تمام الضبط فقد يكون الحديث حسنا وقد يكون ضعيفا على ما يأتي إن شاء الله.
الحديث الحسن(1/8)
والحسن ما كان إسناده دون الأول في الحفظ والإتقان، ويعمه والذي قبله اسم الخبر القوي.
قبل ذلك فيما سبق قال: ومنه المتفق عليه وهو ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما، قال: قبل ذلك "ومنه المتفق عليه" يعني: من الصحيح ما هو متفق عليه، ومراده كما شرحه ما خرجه الشيخان، يقصدون بذلك أن الحديث إذا كان صحابيه واحدا ولفظه أو معناه واحدا وخُرِّج في الصحيحين فإنه يسمى متفقا عليه، أما إذا كان لفظه واحدا لكنه في البخاري مثلا من حديث أبي هريرة وفي مسلم من حديث أبي سعيد فلا يقال فيه: إنه متفق عليه، بل في المتفق عليه لا بد أن يكون الصحابي واحدا، وأن يكون الحديث واحدا، يعني: متفقا في اللفظ أو في المعنى وأن يكون مخرجا في الصحيحين.
فإذا اختل واحد من هذه الأشياء فإنه لا يكون متفقا عليه إلا في بعض الاصطلاحات عند العلماء، لكن مراد المؤلف هنا لا بد أن يجتمع فيه هذه الشروط الثلاثة: أن يكون الحديث صحابيه واحدا، ولفظه أو معناه واحدا، وأن يكون مخرجا في الصحيحين.
هذا النوع وهو يتعلق بالحديث الحسن لذاته، وهو أن يكون رجاله أو رواته قاصرين في الحفظ عن الذي قبله وهو الصحيح، لكنهم مرتفعون عمن يُحَدُّ حديثه ضعيفا؛ لأن الرواة -رواة الحديث- على ثلاث درجات: درجة الثقات ودرجة الضعفاء، يعني هناك رواة اجتمع العلماء على تصحيح أحاديثهم، كنافع وسالم والزهري ومالك والحمادَيْن والسفيانَيْن، هؤلاء اتفقوا على أن حديثهم صحيح.
وقسم آخر حديثهم ضعيف، كليث بن أبي سليم ورِشْدِين بن سعد وأبي نجيح، وأبي معشر نجيح بن عبد الرحمن ونحوهم، فهؤلاء حديثهم ضعيف.(1/9)
فيه طائفة في مرتبة متوسطة، هؤلاء هم المُشكِلون، حالهم ارتفعت بهم عن حيز الضعفاء، ونزلت بهم عن درجة الثقات، فهم إن نُظِر إليهم من جانب الرواة الثقات وجدنا أنهم ضعاف، وإن نظرنا إليهم باعتبار الرواة الضعفاء وجدنا أنهم أرفع وأحسن حالا منهم، هذا النوع يعبر عنه بأنهم خَفَّ ضبطهم فلم يكونوا كالثقات في الضبط ولم يكونوا في الحفظ كالضعفاء، هذا النوع المُشكِل وعليه أشكل تعريف الحديث الحسن عند العلماء.
المؤلف -رحمه الله- ذكر الفارق بين الحديث الصحيح والحديث الحسن بأنه يتعلق بالرواة، فالحديث الحسن لا بد أن يكون مستوفيا شروط الحديث الصحيح: لا بد أن يكون رواته عدولا، وأن يكون إسناده متصلا، وأن يكون سالما من الشذوذ، وأن يكون سالما من العلة، إلا في ضبط الرواة فبينه وبين الصحيح اختلاف، وذلك أن الراوي إذا خف ضبطه حكمنا على حديثه بأنه حسن؛ لأن راويه قاصر في الحفظ عن درجة رجال الصحيح.
إذا كان تام الحفظ حكمنا عليه بأنه صحيح، إذا نزل عن خفة الحفظ وهو سوء الحفظ أو ضعف الحفظ أو الوَهم الكثير فإنه حينئذ نحكم عليه بأنه ضعيف، هذا النوع وهو تحديد راوي الحديث الحسن وهو من أشكل ما يشكل ولا يعرف إلا بعد طول ممارسة في الرواة ودرجاتهم وأقوال العلماء فيهم؛ ولإشكاله كان عادة مثل هؤلاء الرواة نجد للإمام الواحد فيهم قولين، وتجد أن الأئمة مختلفين فيهم، ليس هناك ضابط محدد لك يدرك بطول الممارسة لهذا الفن، هذا النوع يسمى الحسن لذاته، يعني: أنه حسن بمفرده، دل ذلك على أن هناك نوعا آخر يقابله وهو الحسن لغيره، الحسن لغيره معناه الحديث الذي لا يحكم عليه بالحُسن لإسناد واحد، وإنما لا بد من تعدد طرقه حتى يرتقي إلى الحسن.(1/10)
مشكلة للحديث الحسن، الحديث الذي رواه الإمام أحمد، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن عمرو بن علقمة، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيعتين في بيعة " هذا الحديث حسنه العلماء؛ لأن محمد بن عمرو بن علقمة في حفظه خفة، وذلك أن محمد بن عمر بن علقمة لم يطعن أحد في عدالته، بل هو صادق عدل في دينه، لكن لما كان عنده نوع اضطراب في بعض الأحاديث ومخالفة لغيره جاءه الضعف من هذه الحيثية؛ ولذا لما قارن العلماء -رحمهم الله- أحاديثه بأحاديث غيره من الثقات وجدوا أنه أنزل منهم، ولما قارنوه بأحاديث الضعفاء وجدوا أنه أرفع؛ لأنه يوافق الثقات في كثير ويوافق الضعفاء، مثل هذه حكموا عليه بأن حديثه حسن؛ ولهذا جعله الحافظ الذهبي، ذكر أنه في عداد من يُحسَّن حديثهم.
الإسناد هذا إذا نظرنا إليه وجدنا أن يحيى بن سعيد القطان ثقة حجة إمام لا نزاع بين أهل العلم، وأبو سلمة بن عبد الرحمن من كبار التابعين، وأبو هريرة صحابي لا يُسأل عنه، إذا نظرنا إلى هذا الإسناد وجدنا أن موضع تحسينه إنما هو وجود محمد بن عمر بن علقمة في الإسناد، فيدل هذا على أن الإسناد ينظر إليه بأدنى رواته، الحكم على الإسناد معلق بأقل الرواة حفظا.
فإذا كان رواة الإسناد كلهم ثقات وفيهم واحد خَفَّ ضبطه فنسميه حسنا؛ لأن الاعتبار بأدناهم حفظا، إذا كان في الإسناد راوٍ ضعيف ولو كان بقية الإسناد كلهم ثقات، فإننا نحكم على الحديث بأنه حديث ضعيف؛ لأننا ننظر في الأسانيد إلى أدنى الرواة حفظا، في الحديث الحسن لما لفت نظرنا في هذا الإسناد وجدنا أن أدناهم حفظا محمد بن عمرو بن علقمة؛ فحكمنا على الحديث بأنه حسن لوجود محمد بن عمرو بن علقمة فيه.(1/11)
محمد بن عمرو بن علقمة لم يكن الطعن في عدالته، وإنما كان الطعن في.. وإنما كان كلام العلماء موجها إلى حفظه؛ ولهذا اختلف فيه العلماء منهم من يوثقه كابن معين والنسائي في رواية، ومنهم من يضعفه كالإمام أحمد، ومنهم من يتوسط في حاله، وهذه عادة من أمارات الراوي الذي يُحسِّن العلماء حديثَه، فصار الحديثان -الصحيح والحسن- يشتركان في عدالة الرواة وفي اتصال الإسناد، وفي سلامة الحديث متنا وسندا من الشذوذ والعلة، يتفقان في أن راوي الحديث الصحيح يجب أن يكون تام الضبط، وأما راوي الحديث الحسن فإنه يكون خفيف الضبط.
القسم الثاني من الحديث الحسن وهو الحسن لغيره، يعني: الذي لا يكون حسنا إلا بوجود عاضد له، وهذا يعني أن الحديث في أصله ضعيف، لكنه لما وجدنا له عاضدا مثله أو أرفع منه، رقيناه من درجة الضعف إلى الحسن لغيره، ولأن الراوي الضعيف أو الإسناد المنقطع أو نحوه.. لأن هذه الأشياء إنما ضعفناها لاحتمال أن يكون هناك ساقط أو لوجود ساقط بين الراوي ومن روى عنه، أو لاحتمال أن هذا الراوي لم يحفظ الحديث كما ينبغي، فلما جاءه آخر بمثله أو أرفع منه دل ذلك على أن الحديث محفوظ وأن الراوي هذا قد انجبر حفظه بمجيء الحديث من وجه آخر، وأن الانقطاع الذي في الإسناد قد انجبر بمجيء الحديث من وجه آخر.
عندنا مثَّلوا له بحديث يوسف بن عبيد، عن نافع، عن ابن عمر، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " ولا تَبِع بيعتين في بيعة " هذا الحديث قالوا: إن يونس لم يسمع من نافع، إذا لم يسمع منه فالإسناد منقطع؛ لأنه بينه وبينه ابن نافع، إذا كان الإسناد منقطعا وقد تقدم أن الحديث لا يكون صحيحا ولا حسنا إلا إذا كان متصل الإسناد، فإذا لم يكن متصل الإسناد كان ضعيفا فإن هذا الحديث يعتبر ضعيفا؛ لوجود الانقطاع بين يونس وبين نافع.(1/12)
نحكم على هذا الحديث بأنه ضعيف، لكن جاءه الحديث السابق والذي مَرَّ معنا قبل قليل مثَّلنا له في الحديث الحسن لذاته، جاء في ذلك الحديث السابق فارتقى به الحديث إلى الحسن لغيره؛ لأن هذا الحديث لو كان معنى فقط -حديث ابن عمر- لقلنا: إنه ضعيف بهذا الإسناد، جاءه الحديث الآخر حديث أبي هريرة الذي مر معنا، لما جاءه رقاه إلى الحسن لغيره، فصار الحسن لغيره في أصله ضعيف، وحديث ابن عمر هذا في أصله ضعيف لأن فيه انقطاعا، جاءته الطريق الأخرى أو الحديث الآخر فرفعه وقواه، ورفعه إلى مرتبة الحسن، لكن الحسن ليس لذاته، يعني: ليس بمفرد الإسناد، وإنما رقيناه لوجود غيره معه عَضَدَهُ فارتقى به إلى درجة الحسن، هذا النوع هو الذي يسمى الحديث الحسن لغيره.
فالحديث الحسن لغيره هو الضعيف الذي انجبر لتعدد طرقه، يشترط فيه ألا يكون الضعف شديدا، فإن كان الضعف شديدا فإنه لا يرتقي، كأن كان هناك انقطاع كبير سقط فيه ثلاثة أو نحوه هذا لا يرتقي، أو كان في الإسناد أو المتن شذوذ أو علة هذا لا يرتقي، أو كان الراوي شديد الغفلة فاحش الغلط، أو كان الراوي متروكا فهذا لا يقبل حديثه الانجبار ولا يصلح أن نرقيه إلى الحسن لغيره مهما جاءه من الطرق والشواهد والعواضد؛ لأنه يتقاعد عن الانجبار.(1/13)
ثم ذكر المؤلف -رحمه الله- أن هذا النوع -وهو الحسن- والنوع الذي قبله وهو الصحيح لذاته مع الصحيح لغيره ذكر المؤلف -رحمه الله- أن هذين النوعين يطلق عليهما خبر القوي، بمعنى: أنه إذا قيل: هذا حديث قوي أو خبر قوي، فيريدون بذلك إما أنه صحيح أو حسن؛ لأن القوة أمر عام أو أمر مطلق يشمل أنواعا متعددة، فإذا قالوا: قوي، فهذا مطلق يشمل الصحيح ويشمل الحسن، وهذا موجود في تعبيرات الإمام أحمد وغيره، يقولون عن بعض الأحاديث بأنها قوية.. ونحو ذلك، ويقصدون بها الصحيحة، وتارة تجد في الإسناد من يطلق على حديثه عند أهل الاصطلاح الذين قرروا الاصطلاح يطلق على حديثهم بأنه حسن لذاته.
الحديث الضعيف
والضعيف ما ليس واحدا منهما.
"والضعيف ما ليس واحدا منهما" يعني: ليس هو الصحيح ولا الحسن، فإذا فقد شروط الصحيح والحسن فإنه يكون ضعيفا، إذا فقد العدالة كان ضعيفا جدا، أو موضوعا، وإذا فقد الضبط، لم يكن الراوي فيه تام الضبط ولا خفيف الضبط فهو ضعيف، إن اشتد ضعفه في الحفظ كان ضعيفا جدا، إذا ذكروا أنه منكر الحديث أو أنه فاحش الغضب أو أنه شديد الوهم فهذا يكون حديثه ضعيفا جدا، إذا فقد العدالة إما أن يكون ضعيفا جدا، يعني: إذا فقد العدالة إما أن يكون ضعيفا جدا أو موضوعا، إلا إذا كان الراوي لم يتكلم فيه بجرح و تعديل فإن الراوي يبقى مجهولا، فتارة يقوى حديثه وتارة لا يقوى كما هو معروف عند أهل العلم.
الثاني إذا فقد الضبط فهذا إما أن يكون ضعيفا وإما أن يكون ضعيفا جدا، إذا قالوا: فلان ضعيف ولَّا يَهِم ولَّا فيه غفلة أو نحو ذلك، يعني: فيه غفلة ظاهرة فإنه يكون حديثه ضعيفا، أما إذا وصف بلفظ يدل على شدة الضعف فإن ضعفه يكون شديدا ولا يصلح حينئذ حديثه للانجبار، أما إذا كان ضعيف الحفظ فقط فإن حديثه بورود ما يعضده يرتقي.(1/14)
بعد ذلك إذا فقد شرط الاتصال فإما أن يكون ضعيفا أو يكون ضعيفا جدا، إذا كان ضعيفا كأن يرسل التابعي حديثا عن النبي -عليه الصلاة والسلام- فهذا ضعيف، أو يرسل.. أو يكون هناك انقطاع لوجود مدلس حكمنا على روايته بالانقطاع فهذا انقطاع خفيف وضعفه ينجبر، أما إذا كان الانقطاع كبيرا فإنه يكون الحديث حينئذ ضعيف جدا.
أما إذا وجد في الحديث شذوذ أو علة فإنه يكون معه الحديث ضعيف جدا؛ لأن الشذوذ والعلة قد يقضيان بخطأ الراوي، والخطأ لا يرتقي؛ لأنا إذا جزمنا بأن فلانا مخطئ وحكمنا على روايته بالشذوذ أو العلة فمعنى ذلك أن ما قاله عن النبي -عليه الصلاة والسلام- أنه خطأ، والخطأ لا يرتقي، إنما يرتقي ما يكون فيه طرفان أحدهما محتمِل، فالضعيف يحتمل أنه ضبط الحديث فإذا جاءه ما يقويه رقيناه لانقطاع اليسير، إذا كان هناك انقطاع يسير وجاء ما يعضده رقيناه؛ لأن هذا محتمل لأن يكون الحديث موصولا معروفًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أما إذا كان الإسناد أو كان الحديث فيه شذوذ أو علة فإننا نقضي بأن الشاذ أو المُعَل نقضي بأنه حديث أخطأ فيه الراوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فإذا أخطأ الراوي لم يكن لنا أن نرقي حديثا خطأ؛ لأنه ليس بمحتمل.
الحديث المسند
وأنواعه زائدة على الثمانين، المسند وهو ما اتصل إسناده إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ويسمى موصولا أيضا.
هذا النوع ذكر المؤلف قبل ذلك أن أنواعه تزيد عن الثمانين -يعني أنواع علوم الحديث-، وهذا باعتبار التقسيمات؛ لأن التقسيم فيه تقسيم مجمل وفيه تقسيم مفصل، التقسيم المجمل تندرج تحته أنواع كثيرة، التقسيم المفصل قد يكون الثلاثة أنواع أو الأربعة أو الخمسة أو الستة أو أكثر تدخل تحت نوع واحد من هذه الأنواع المجملة.
والمؤلف -رحمه الله- ذكر في هذا الكتاب أنواعا كثيرة من علوم الحديث، ستأتي -إن شاء الله- ذكر منها المسند.(1/15)
المسند وهو ما اتصل إسناده إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا أحد أنواع علوم الحديث التي لا تعلق لها بالتصحيح أو التضعيف؛ لأن المسند قد يكون صحيحا وقد يكون حسنا وقد يكون ضعيفا، لكن من شرط المسند أن يجمع بين شيئين أحدهما: اتصال الإسناد فلا يكون إسناده منقطعا، فإذا كان الإسناد منقطعا فإنه لا يسمى مسندا، والشرط الثاني: أن يكون مضافا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن أضيف إلى غير النبي - صلى الله عليه وسلم - من الصحابة أو التابعين فلا يسمى مسندا، إنما المسند الذي يجمع بين شيئين: أحدهما الاتصال، والثاني إسناده إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - .
في الحديث الذي مر معنا قبل قليل حديث: " نَهَى عن بيعتين في بيعة " هذا يسمى مسندا؛ لأن الإسناد متصل، كل راوٍ قد أخذ عمن فوقه، وقد أضيف إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فعندئذ نسميه مسندا، ولكن لو كان الحديث مضافا إلى ابن عمر من قوله أو من فعله فهذا لا نسميه مسندا، إنما نسميه موصولا موقوفا أو متصلا موقوفا، كذلك إذا أضيف إلى التابعي، فإننا لو جاءنا إسناد مثل حديث إسماعيل بن علية، عن أيوب، عن نافع من قول نافع، فإننا نقول: هذا إسناد متصل، ولكن لا نسميه مسندا لفقده شرطا من شروط الحديث المسند، وهو رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - .
فصار عندنا المسند لا بد أن ينتظم شيئين: أحدهما الاتصال والآخر الرفع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فإذا اختل واحد منهما فلا يحكم على الحديث بأنه مسند، يعني هذا وصف للحديث، لكن -كما مر- لا تعلق له بالتصحيح ولا بالتضعيف، يعني: ليس كل مسند يكون صحيحا، بل منه ما هو صحيح متواتر ومنه ما هو صحيح ومنه ما هو حسن ومنه ما هو ضعيف.
أحسن الله إليكم، هذه أسئلة كثيرة جدا بعضها يقول: ما ذا يقصد بعض العلماء بقولهم: حديث جيد أو حديث لا بأس به؟(1/16)
ج: حديث جيد أو لا بأس به: هذا بعض العلماء يجعله مرادفا للحديث الحسن لذاته، ويكون هو والحديث الحسن لذاته بمعنى واحد، وبعضهم يقول: هو يطلق على ما ارتفع عن درجة الحسن ولم يبلغ درجة الصحيح، لكن صح عن غير واحد من الأئمة أنهم يطلقون الجيد على الصحيح، نعم.
س: أحسن الله إليكم، وهذا يقول: إذا أثبت بعض علماء الرجال السماع لراوٍ عن شيخه والآخرون نَفَوْا عنه السماع فما هي الطريقة للتحقق من هذه المسألة، وجزاكم الله خيرا، وما هي الكتب الخاصة بذلك؟
ج: إذا أثبت قوم السماع ونفاه آخرون فإن طريقة بعض من كتب في الاصطلاح أن يقول: إن المثبِت مقدم على النافي، ولا شك أن هذا ليس بصواب، ولكن هذا في الأصل يرجع إلى دراسة حال الراوي من حيث النظر في رحلاته والنظر في إمكانية اللقاء، وأيضا ما يوجد من القرائن المحتملة مما قد تدل على السماع كما هي طريقة الإمام البخاري -رحمه الله-، كذلك بالنظر إلى جهة النفي -جهة نفي السماع-، لا بد أولا من تحديد جهة نفي السماع، لماذا نفى السماع؟ هل نفيه للسماع بناء على الأصل وهو عدم علمه بالسماع، أو لا؟ والثانية هل نفاه لأنه لم يثبت سماعه فعلا؟ وأيضا ينظر إليه من جهة من نفى السماع عنه، هل قال: لا أعلم سماعا أو قال: لم يسمع؟ لا بد من النظر في هذه الأشياء فهناك أشياء كثيرة تبين هذا.
الكتب يعني ليست هناك كتب متعلقة بهذا الموضوع بعينه فيما أعلم، لكن من تكلم على مثل المراسيل والمدلسات ونحوها يذكرون مثل هذه الأشياء ولو عَرَضًا، وهذا يعرف ليس بالتنصيص ولكن بما يقع بين العلماء من أخذ ورد في قبول وفي إثبات السماع ونفيه، كل منهم يدلي بالحجة، من إدلائهم بالحجج يستفاد هذا.
س: أحسن الله إليكم، وهذا سؤال جاء من طريق الشبكة يقول: ما معنى قولكم آنفا: يسرق الحديث؟(1/17)
ج: يسرق الحديث: قال العلماء: معناه أنه يركب الأسانيد أو يركب المتون على الأسانيد، بمعنى أنه يأتينا حديث مشهور عن نافع، عن ابن عمرو، أن النبي -عليه الصلاة والسلام- فيأتي سارق الحديث ولم يسمع هذا الحديث أبدا فيركب إسنادا ويجعله إلى نافع أو إلى سالم عن ابن عمر، سواء ركّب هذا لنفسه أو لشيخه أو ممن فوق شيخه.
الحديث المتصل
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، قال -رحمه الله تعالى-: والمتصل: وهو ما اتصل إسناده مرفوعا كان أو موقوفا، ويسمى موصولا أيضا.
بسم الله، وصلى وسلم وبارك على رسول الله وعلى آله ومن اهتدى بهداه، هذا نوع من أنواع علوم الحديث، وهو المسمى بالمتصل، والاتصال ضد الانقطاع، فإذا كان هناك انقطاع في الإسناد على أي وجه كان فهو ينافي الاتصال، سواء كان الانقطاع في أول الإسناد أو في أثنائه أو في آخره.
الحديث المتصل لا يلزمه أن يكون مرفوعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بل قد يكون مرفوعا، وقد يكون موقوفا على الصحابي أو التابعي، لكن شرطه ألا يكون في إسناده انقطاع، فإذا كان في الإسناد انقطاع فإن هذا الانقطاع ينافي الاتصال، ويُحْكَم عليه بأنه منقطع.
الاتصال تارة يكون ظاهرا، وذلك بأن يكون الراوي مشتهرا بالرواية عمن روى عنه، معروفا بالسماع منه، وليس هذا الراوي موصوفا بالتدليس، فهذا اتصال ظاهر، وهذا يقع لكثير من الرواة، فالإمام البخاري معروف بالرواية عن علي بن المديني، وعلي بن المديني معروف بالرواية عن يحيى بن سعيد، فإذا جاءنا مثل هذا الإسناد، أو مثل هذه الرواية جاءتنا، فإنه لا يحتاج أن نبحث هل سمع البخاري من علي أو سمع علي من يحيى؛ لأن البخاري وعليا ليسا بمدلسين، وهما معروفان بالرواية عن شيخيهما، وهذا يقع لكثير من الرواة.(1/18)
هناك أقسام تحتاج إلى الكشف عن أحوالها، وذلك إذا كان الراوي مقلا من الرواية عن ذلك الشيخ فروى عنه، فإن مثل ذلك يحتاج إلى التثبت في سماعه هل سمع منه أم لا، ويقصد بالسماع هنا أن يكون قد روى عنه في الجملة ولو حديثا واحدا، إذا ثبت عندنا أنه قد روى عنه حديثا واحدا ولو في الجملة، ولم يكن موصوفا هذا الراوي بالتدليس، فإننا نحكم على الحديث أو على الإسناد بأنه متصل.
الاتصال ندركه بتنصيص الأئمة، نجد كثيرا يقولون فلان سمع من فلان، فلان حدث عن فلان، فمثل هذه تنصيص على السماع، تارة لا نجد التنصيص، ولكن نجد أن العلماء يحكمون على الحديث بأنه صحيح، أو يودعونه في كتبهم التي اشترطوا فيها الصحة، فمثل هذا نحكم عليه بأن هذا الراوي قد سمع من هذا، وأن الإسناد متصل؛ لأن الحكم بصحة الحديث يتضمن الحكم على الحديث بأنه متصل.
كذلك إذا علمنا أن هذا الراوي قد عاصر ذلك الراوي وأمكن اللقاء بينهما، ولم تكن هناك قرينة مانعة من اللقاء أو دالة على عدم الاتصال، فإنه حينئذ يحكم بأن الحديث متصل بناء على شرط الإمام مسلم -رحمه الله- كما سيأتي.
الاتصال -كما تقدم- ليس معلقا بالمرفوع، بل هو يشمل المرفوع والموقوف والمقطوع، فقد يكون المرفوع متصلا، أو قد يكون المتصل مرفوعا، وقد يكون موقوفا على الصحابي، وقد يكون مقطوعا على التابعي.
في الحديث الذي مر معنا يوم أمس، الحديث الذي مثلنا له، الحديث الصحيح، حديث الترمذي، عن قتيبة، عن أبي عوانة، عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس - رضي الله عنه - أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: " تسحروا فإن في السحور بركة " هذا متصل، وهو مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - .
عندنا مالك رواه في (الموطأ) عن عبد الله بن دينار، قال: " رأيت ابن عمر يبول قائما " هذا الحديث موقوف على ابن عمر؛ لأن من فعل ابن عمر، وهو صحابي، ولكنه متصل الإسناد، هذا إسناده متصل.(1/19)
كذلك قد يكون مقطوعا وهو متصل الإسناد، بأن يكون موقوفا على تابعي، ويكون متصلا كما جاء في مصنف عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن نافع، قال: " صليت على عائشة -رضي الله عنها- وإمامنا يومئذ أبو هريرة ".
فهذا الذي قال هذا هو نافع، وهو تابعي، والإسناد إليه متصل، هذا نسميه متصلا مع أنه ليس مرفوعا إلى النبي عليه الصلاة والسلام.
فتلخص من ذلك أن الاتصال إنما هو حكم على الإسناد بأن الراوي قد سمع الحديث، أو قد سمع من الراوي الذي أخذ عنه.
الحديث المرفوع
المرفوع: وهو ما أضيف إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة، متصلا كان أو غيره.
والمرفوع: ما أضيف إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة، متصلا كان أو غيره، هذا تعريف نوع آخر من أنواع علوم الحديث وهو المرفوع، المرفوع اشترطوا فيه أن يكون مضافا إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-، فكل ما أضفناه إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- من قوله أو فعله أو تقريره فإننا نسميه مرفوعا إلى النبي عليه الصلاة والسلام.
المرفوع هذا صفة للحديث، لا يقتضي تصحيحا ولا تضعيفا، فقد يكون مرفوعا وهو ضعيف، وقد يكون مرفوعا وهو حسن، وقد يكون مرفوعا وهو صحيح، تأتي عليه أنواع الحديث التي مرت في الثلاثة، كذلك قد يكون مرفوعا ولكنه غير متصل، يعني قد يكون مرفوعا وهو منقطع، وقد يكون مرفوعا وهو متصل، لكن الشرط في المرفوع هو إضافته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فإذا أضيف إلى غير النبي -عليه الصلاة والسلام- من الصحابي أو التابعي فلا يسمى مرفوعا، فذاك له اسم خاص يأتي إن شاء الله، فالشرط فيه أن يكون مرفوعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - .(1/20)
وقد مر يوم أمس التمثيل على المرفوع المتصل والمرفوع المنقطع، مَرَّ معنا يوم أمس في التمثيل على الحديث الحسن، كنا عند حديث " ولا تبع بيعتين في بيعة " هذا مروي من حديث يونس بن يزيد، عن نافع، عن ابن عمر، وقلنا: هذا إسناده منقطع؛ لأن يونسَ لم يسمع من نافع، ولكنه مرفوع إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-، فالمتصل كما مر معنا قبل قليل وهو مرفوع إلى النبي عليه الصلاة والسلام.
فصار بهذا أو صارت الأنواع التي مرت ثلاثة: المسند والمتصل والمرفوع، فالمسند متصل مرفوع، والمتصل قد يكون مرفوعا وقد لا يكون، والمرفوع قد يكون متصلا وقد لا يكون متصلا، إذا اتصل ولم يرفع فإنه يسمى متصلا فقط، إذا رُفِع ولم يتصل فإنه يسمى مرفوعا فقط، إذا اتصل ورُفِع فإنه يسمى مسندا، وهذه كلها عبارات وصفية، بمعنى أنها لا تؤثر في الحكم على الحديث من حيث الصحة والضعف.
الحديث الموقوف
والموقوف: وهو المروي عن الصحابة قولا أو فعلا أو نحوه، متصلا كان أو منقطعا، ويستعمل في غيره مقيدا، فيقال: وَقَفَه فلان على عطاء مثلا ونحوه.
هذا النوع، وهو الموقوف وهو المروي عن الصحابة قولا أو فعلا أو نحوهم متصلا كان أو منقطعا، هذا يتعلق بالموقوف، والموقوف عند الإطلاق ينصرف إلى الموقوف على الصحابي، سواء كان من قول الصحابي أو من فعله، إذا قال الصحابي قولا فإننا نسمي ما نضيفه إلى الصحابي نسميه موقوفا، وإذا فعل الصحابي فعلا فإننا نسمي ما نضيفه إليه موقوفا.
مر معنا قبل قليل حديث مالك عن عبد الله بن دينار، قال: " رأيت عبد الله بن عمر يبول قائما " هذا أُضيف إلى عبد الله بن عمر، وهو صحابي، وأُضيف إليه من فعله، فمثل هذا يسمى موقوفا، وإذا قلنا "موقوفا" فإنه عند الإطلاق ينصرف إلى وقفه على الصحابي.(1/21)
جاء أيضا في الموطأ عن أبي حازم، عن سهل بن سعد -رضي الله عنهما- قال: " ساعتان تفتح فيهما أبواب السماء قل أن ترد فيهما دعوة " هذا من كلام سهل بن -سعد رضي الله عنه-، وهو موقوف عن الصحابي لم يرفعه إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-، فمثل هذا يسمى موقوفا، مثل هذا يسمى موقوفا.
في هذين المثالين هو موقوف متصل؛ لأن مالكا سمع أبا حازم، وأبو حازم سمع من سهل بن سعد -رضى الله تعالى عنه-، فليس في الإسناد انقطاع، فهو موقوف متصل، وكذلك الحديث الذي قبله، فقد سمع مالك من عبد الله بن دينار، ورأى عبد الله بن دينار عبد الله بن عمر -رضي الله تعالى عنه-، فدل ذلك على أن الموقوف قد يكون متصلا.
كذلك الموقوف قد يكون منقطعا كما روى عبد الرزاق عن معمر أنه بلغه عن عبد الله بن مسعود أنه " كان يرفع يديه في التكبيرة الأولى من الصلاة على الجنازة ثم لا يعود " فهذا حديث موقوف على عبد الله بن مسعود -رضي الله تعالى عنه-؛ لأنه فِعْل الصحابي، لكن الإسناد منقطع بين مَعْمَر وبين عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - فَصَحّ أن يكون موقوفا منقطعا، وأن يكون -أيضا- من الموقوف ما هو متصل، فالاعتذار إنما هو بالإضافة، وليس إلى جهة الإسناد هل هو متصل أو غير متصل.
هذا يدل -أيضا- على أن الموقوف قد يكون صحيحا وقد يكون غير صحيح، يعني تأتي عليه الأنواع الثلاثة؛ الصحة والحسن والضعف، باعتبار توافر الشروط في هذا الإسناد، إن توافرت فيه شروط الصحة فصحيح، وإن توافر فيه شروط الحديث الحسن فهو حسن، وإن توافرت فيه شروط الضعيف فهو ضعيف.(1/22)
قال المؤلف: ويستعمل في غيره مقيدا، فيقال وَقَفَه فلان على عطاء مثلا ونحوه، يعني أن الموقوف له حالتان: حالة الإطلاق وحالة التقييد، إذا أطلقناه فإننا قلنا هذا حديث موقوف فإنه ينصرف إلى الصحابي - رضي الله عنه - أما إذا أردنا أن يكون موقوفا على غير الصحابي -كالتابعي- فلا بد أن نقيده، نقول: هذا حديث موقوف على عطاء، يعني: من قول عطاء، أو هذا حديث موقوف على الشعبي، أو هذا حديث موقوف على الزهري، أو هذا حديث موقوف على سعيد بن جبير، أو موقوف على أبي صالح أو نحوهم، فلا بد أن نقيد الوقف هاهنا بمن وقفناه عنه، وهذا في حال التقييد، وهذا كثير مستعمل في عبارات العلماء -رحمهم الله-، وأكثر ما يطلقون هذه اللفظة، هذا وَقَفَه فلان على عطاء، وقفه فلان على ابن سيرين، وهكذا.
نعم..
الحديث المقطوع
والمقطوع: وهو الموقوف على التابعي قولا أو فعلا.
قال المؤلف: "والمقطوع هو الموقوف على التابعي قولا أو فعلا"، عندنا التابعي إذا قال قولا من نفسه أو فعل فعلا بنفسه فإنه يقال: هذا مقطوع، فلا يضيفه لا إلى الصحابي ولا إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-، وإنما ينقل أن هذا قول عطاء أو قول الشعبي أو قول ابن المسيب أو نحوهم، ينقل أن هذا قولهم أو أن هذا فعلهم، إذا كان كذلك فإننا نسميه مقطوعا، والمقطوع متعلق بإضافة المتن، أما المنقطع -كما سيأتي إن شاء الله- فهو مختص بالإسناد، القطع يتعلق بجهة إضافة المتن إلى قائله وهو التابعي، أما الانقطاع فإنه يكون في الإسناد، فإنه يكون في الإسناد، يعني الانقطاع منافٍ للاتصال، أما القطع فهو متعلق بإضافة المتن إلى التابعي، ولهذا قد يكون المتن المضاف إلى التابعي قد يكون منقطعا وقد يكون غير منقطع.(1/23)
الإمام مالك -رحمه الله- ذكر في الموطأ قال: " بلغني أن سالم بن عبد الله، وسليمان بن يسار، وابن المسيب سئلوا عن نكاح المحرم، فقالوا: لا ينكح " هنا مضاف إلى التابعين من قولهم، فنسميه مقطوعا، ولكن في إسناده انقطاع؛ لأن مالكا لم يدرك سعيد بن المسيب ولا سليمان بن يسار، لم يدرك هؤلاء، فلذلك كان منقطعا بينه وبين سليمان، منقطعا بينه وبين سعيد بن المسيب ولهذا قال: "بلغني"، ولهذا قال مالك في الموطأ: "بلغني"، يعني أنه لم يسمعه، وإنما بينه وبينهم واسطة، هذا منقطع، ولكنه في نفس الوقت مقطوع، مقطوع لأنه موقوف على التابعي، ومنقطع لأن الإسناد فيه انقطاع، حيث إن مالكا لم يسمع من سليمان بن يسار.
عندنا مَرّ معنا مثال قبل قليل في المقطوع وذكرنا أنه متصل، ذكرنا هناك أن الإسناد متصل، كذلك مثل ما رواه مالك عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن القاسم بن محمد أنه -رحمه الله- كان يقرأ خلف الإمام في ما لا يجهر فيه، فهذا فعل من القاسم بن محمد، وهو تابعي، والإسناد متصل بين مالك ويحيى بن سعيد الأنصاري؛ لأن يحيى بن سعيد شيخ لمالك، وقد صح سماع يحيى بن سعيد من القاسم بن محمد، فهذا إسناد متصل ولكنه مقطوع، متصل لأن الإسناد ليس فيه انقطاع، كل راوٍ أخذ عمن فوقه وسمع منه، ولكنه مقطوع من جهة أن متنه مضاف إلى التابعي، فهذا مقطوع متصل، وما قبله مقطوع منقطع.
الحديث المقطوع أو الآثار المقطوعة والموقوفة، الموقوفة لا شك أنها أقوى من المقطوعة، يعني من ناحية الحكم، ومن الموقوفات ما هو في حكم المرفوع، وما لم يكن منها في حكم المرفوع فلا شك أن أقوال أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أقوى من أقوال غيرهم؛ لأن الصحابة إذا نُقل عنهم في مسألة قولا واحدا وَجَبَ الرجوع إلى قولهم؛ لأنه يكون إجماعا منهم، وإذا اختلفوا قُدِّم الشيخان على غيرهما في تفصيل معروف عند العلماء.(1/24)
أما التابعون فلا شك أن العلماء -رحمهم الله- يجمعون آثارهم، وينقلون أقوالهم وما أُثِر عنهم وكتب المصنفات، كمصنف ابن عبد الرزاق، ومصنف ابن أبي شيبة، وسنن سعيد بن منصور، مثل هذه الكتب طافحة بما أُثِر عنهم، هذا نقل عنهم ذكر العلماء -رحمهم الله- أن من أهم فوائده أنه لا يخرج عن الطالع في المسائل التي تعرض لها، فكل مسألة كان للتابعين فيها قول إن كان لهم قول أو كان لهم قولان أو ثلاثة فلا يجوز إحداث قول بعدهم، بل يجب الاقتصار في المسائل التي تعرضوا لها على ما ذكره التابعون فقط، ولا يجوز الخروج عن أقوالهم، وهذا فائدة ذكر المقطوعات فيما ذكره الخطيب البغدادي وغيره، ذكر أن المقطوعات التي ما نقلت أنه لا يجوز الخروج عن أقوالهم، ولا يجوز إحداث قول لم يكن معروفا عند التابعين -رضي الله تعالى عنهم-؛ لأنهم أفقه وأعلم بمقاصد الشرع، وأقرب إلى نور الإسلام وملازمتهم لأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - واطلاعهم على أحواله، كل ذلك يجعل الخروج عن قولهم خطأ.
الحديث المنقطع
والمنقطع: وهو ما لم يتصل إسناده من أي وجه كان.
عندنا المنقطع، المنقطع هذا ضد المتصل، كان الأولى أن يكون بعد المتصل مباشرة لأن له صلة بالمتصل، المنقطع -يقول المؤلف-: "وهو ما لم يتصل إسناده من أي وجه كان"، المنقطع نقيض المتصل، الاتصال قلنا لا بد أن يكون الحديث أن يكون كل راوٍ سمع ممن فوقه، فإذا اختل هذا في أي جزء من أجزاء الإسناد حكمنا على الإسناد بأنه منقطع، سواء كان الانقطاع ظاهرا أو خفيا؛ لأن الانقطاع نوعان: نوع ظاهر ونوع خفي، وسيأتي -إن شاء الله- بيان ذلك في أقسام المنقطع التي سيوردها المؤلف بأسمائها الخاصة.(1/25)
إذا كان الانقطاع في مبتدأ الإسناد، كأن قال الإمام مسلم عن مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن النبي -عليه الصلاة والسلام- هذا يكون فيه انقطاع في مبتدأ الإسناد؛ لأن بين مالك ومسلم رجلا، فهو انقطاع من مبتدأ الإسناد، ولو فرضنا أن الإسناد كان الإمام مسلم عن قتيبة، عن مالك، عن الأعرج، لقلنا الإسناد -أيضا- منقطع؛ لأن مالكا لم يسمع من الأعرج، بينه وبينه أبو الزناد، فهذا سقط في أثناء الإسناد.
كذلك لو قال: مالك عن أبي هريرة مباشرة، قال: مسلم عن قتيبة، عن مالك، عن أبي هريرة، يكون هذا إسناد منقطع، والساقط فيه أكثر من اثنين، سواء كان السقط واحدا أو اثنين من مبتدأ الإسناد أو في أثنائه، أو في آخر الإسناد إذا قال ابن المسيب: قال النبي -عليه الصلاة والسلام-، أو قال ذلك الزهري، أو قاله أبو صالح أو سعيد بن جبير أو يحيى بن أبي كثير، فهذا فيه انقطاع، فهذا يصلح أن نسميه منقطعا.
كذلك ما كان فيه انقطاع خفي -كما سيأتي إن شاء الله في المرسل الخفي أو في المدلس- هذا يسمى منقطعا، فالمنقطع لفظ عام يندرج تحته أي انقطاع في الإسناد، وهذا المعنى العام للمنقطع، لكن عند التقسيم وبيان كل نوع من الأنواع فإن المنقطع له معنى خاص، عند التمييز بين الأنواع يكون للمنقطع معنى خاص، هذا المعنى الخاص نعرفه إذا عرفنا الأسماء الخاصة أو المصطلحات الخاصة لبعض أنواع المنقطع، وهي المرسل والمرسل الخفي والمعضل والمعلق والمدلس، وستأتي -إن شاء الله-، فإذا عرفناها عرفنا معنى المنقطع الخاص.
الحديث المرسل
والمرسل: وهو قول التابعي وإن لم يكن كبيرا، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .(1/26)
هذا المرسل، وهو قول التابعي وإن لم يكن كبيرا، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندنا المرسل، وهو ما أضافه التابعي للنبي -عليه الصلاة والسلام-، والتابعون ذكروا أنهم ثلاث طبقات بحسب أخذهم عن الصحابة، فهناك الطبقة الأولى، وهي الطبقة المكثرة التي لازمت أصحاب النبي -عليه الصلاة والسلام-، وعامة أحاديثها عن الصحابة، فهؤلاء هم كبار التابعين، والقسم الثاني، وهم الطبقة المتوسطة، وهم الذين رووا كثيرا عن الصحابة، ورووا كثيرا عن التابعين، والطبقة الثالثة، وهم صغار التابعين، وهم من كان غالب أو جملة روايته عن التابعين، يعني عامة روايته عن التابعين.
لكن يكون قد روى عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل هؤلاء إذا أضافوا حديثا إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- فإنه يسمى حديثه مرسلا، في المرسل لا بد أن يضيف التابعي المتن إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-، وهذا الذي يفرقه عن المنقطع، المقطوع، المقطوع يكون من قول التابعي، أو يكون مضافا إلى التابعي نفسه.
أما في المرسل فإن التابعي هو الذي يضيفه إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- فالمرسل هو مرفوع التابعي إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- إذا قال سعيد بن المسيب: قال النبي عليه الصلاة والسلام، هذا نسميه مرسلا؛ لأنه تابعي أضافه إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- إذا قال نافع: قال النبي عليه الصلاة والسلام، أو فعل النبي عليه الصلاة والسلام، فإن هذا نسميه مرسلا؛ لأن التابعي أضافه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لكن إذا كان هذا هو قول التابعي نفسه، أو فعل التابع نفسه كما مر مع التمثيل في المقطوع، فإننا نقول: هذا مقطوع وليس بمرسل، فالمرسل يشترط فيه شرطان:
الشرط الأول: أن يكون مرفوعا إلى النبي عليه الصلاة والسلام.(1/27)
والثاني: أن يكون الذي رفعه هو التابعي، فإذا كان الذي رفعه الصحابي فلا يسمى مرسلا، وإذا كان الذي رفعه من أتباع التابعين، فيسمى معضلا ولا يسمى مرسلا.
فلا بد من هذين الأمرين:
أحدهما: أن يكون المضيف هو التابعي.
والثاني: أن يكون مضافا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس مضافا إلى الصحابي، ولا مضافا إلى تابعي آخر، ولا إلى التابعي نفسه الذي روى هذا.
عندنا روى عبد الرزاق، عن معمر، عن يحيى بن أبي كثير، قال: " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يحتبي الرجل يوم الجمعة قبل الصلاة، أو والإمام يخطب " هذا يسمى مرسلا، يحيى بن أبي كثير من صغار التابعين، أضاف الحديث إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-، فنقول: هذا يسمى مرسلا؛ لأن التابعي أضافه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - .
كذلك ما رواه مالك، عن يحيى بن سعيد، عن سليمان بن يسار، " أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع يديه في الصلاة " هذا سليمان يعتبر من التابعين، أو هو من التابعين؛ لأنه روى عن أم سلمة، هو مولى أم سلمة -رضي الله عنها-، أضاف الحديث إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- فهو تابعي، ورفع الحديث إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-، فمثل هذا نسميه مرسلا؛ لأن المضيف تابعي، والمضاف إليه هو النبي -صلى الله عليه وسلم.
المرسل قد يكون صحيحا إلى مَن أُرْسل عنه، قد يكون صحيحا إلى من أرسل الحديث، قد يكون صحيحا إلى من أرسل الحديث، قد يكون صحيحا إلى سليمان بن يسار، وقد يكون ضعيفا، وقد يكون حَسَنًا؛ ولهذا إذا قالوا: هذا مرسل حسن، أو هذا مرسل صحيح، يقصدون به أنه صحيح إلى من أَرسل الحديث، صحيح إلى سعيد، صحيح إلى سليمان، صحيح إلى يحيى بن أبي كثير، لكن ما بين الصحابي والتابعي والنبي -عليه الصلاة والسلام- هذا فيه سقط، ومعلوم أن صحة الحديث يشترط لها أن يكون الإسناد متصلا.(1/28)
الأصل في أن المراسيل، إذا ورد حديث مرسل الأصل فيه أن يكون ضعيفا، للانقطاع بين المرسل وبين النبي -عليه الصلاة والسلام- فنحكم عليه بأنه ضعيف، نقول: هذا حديث ضعيف؛ لأنه مرسل، فيه سقط بين التابعي وبين النبي -عليه الصلاة والسلام- لماذا ضعفناه؟ لأن الساقط لا ندري من هو، قد يكون صحابيا، وقد يكون تابعيا وصحابيا، وقد يكون الساقط تابعيين وصحابيا، كل هذا محتمل، قد صح أن التابعيين يروي بعضهم عن بعض، وصح -أيضا- أن الصحابي يروي عن التابعي عن الصحابي.
فرواية الأكابر عن الأصاغر أو رواية الأقران أو التابعين بعضهم عن بعض، هذه واردة، فلذلك يحتمل في المرسل أن يكون الساقط ليس الصحابي، لو كنا نجزم أن الساقط هو الصحابي لحكمنا على الحديث بأنه صحيح؛ لأن جهالة الصحابي لا تضر، لكن لما كان الأمر محتملا أن يكون الساقط صحابيا أو تابعيا أو أكثر، وهذا التابعي قد يكون ضعيفا، لما جاء هذا الاحتمال قال العلماء المرسل نوع من أنواع الضعيف، بعض العلماء يصحح بعض المراسيل كما كان الإمام أحمد يصحح مراسيل سعيد بن المسيب، لكن هذا التصحيح ليس لأجل أن الأئمة لا يعتبرون الاتصال في تصحيح الحديث، ولكن لأنه لما سبروا أحاديث سعيد بن المسيب وجدوا أنها ثابتة من طرق أخرى سوى حديثين، وإلا عامتها ثابتة عن النبي -عليه الصلاة والسلام- من أوجه كثيرة.(1/29)
لكن لا بد أن نتنبه إلى أن الأحاديث التي تأتي -مثلا- عن سعيد بن المسيب قد تكون بعض الأحاديث رفعها سعيد بن المسيب إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-، فيظن الظانّ أن هذا داخل في تصحيح الإمام أحمد من مراسيل سعيد بن المسيب، وهذا ليس بصحيح على كل حال؛ لأن سعيد بن المسيب قد يكون في الإسناد إليه علة خفية، هذه العلة تمنع من ثبوت الحديث إلى سعيد بن المسيب، أما لو ثبّتناه إلى سعيد بن المسيب جزما فإن هذا من أقوى المراسيل؛ لأن عادة سعيد بن المسيب أنه ما يروي عن أصحاب النبي -عليه الصلاة والسلام- ولهذا كانت جملة أحاديثه أحاديث صحاح.
المرسل الخفي
ومنه ما خفي إرساله.
هذا نوع من أنواع الحديث، وهو المرسل الخفي، فإن المرسل نوعان: مرسل ظاهر ومرسل خفي، المرسل الظاهر هو الذي مَرّ معنا، وهو ما أضافه التابعي إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-، لأن التابعي جزمنا جزما أنه لم يدرك النبي -عليه الصلاة والسلام- فكونه عرف أنه هذا تابعي، وأضاف الحديث إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- فإنه يحكم عليه بأنه منقطع، وهذا الانقطاع ظاهر.
أما القسم الثاني الذي تحدث عنه المؤلف، وهو المرسل الخفي، فالمرسل الخفي: يقولون هو رواية الراوي عمن عاصره ولم يسمع منه، أو لقيه ولم يسمع منه. رواية الراوي عمن عاصره أو لقيه ولم يسمع منه.(1/30)
عندنا أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - هذا عاصر أباه عبد الله بن مسعود ولقيه، ولكن لم يسمع من أبيه شيئا، وقد قال. قد أثبت عن نفسه ذلك؛ لأنه لم يسمع من أبيه شيئا، مثل هذا يسميه العلماء مرسلا خفيا؛ إذا قال أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه، هذا يقولون: صحيح أنه لقي أباه ولكنه لم يسمع منه، فنسمي هذا مرسلا خفيا، إنما كان مرسلا لأنه منقطع، والإرسال يُبْنَى عليه الانقطاع، وصار خفيا لأن المطلع على الإسناد قد يظن أنه سمع، يعني يتطرق إليه احتمال السماع خاصة في الذي لقيه؛ لأن العادة إذا لقيه يكون قد سمع منه، إذا لقيه وحدث عنه بحديث، الغالب أن يكون قد سمع الحديث عنه، بخلاف المرسل الظاهر، فإننا عرفنا من ظاهره أنه لم يلقَ النبي -عليه الصلاة والسلام- فجزمنا بانقطاعه، أما هنا فهنا شيء موهم، وهو احتمال أنه يكون قد سمع من أبيه، فهذا لا يظهر لكل أحد، وإنما يظهر بعد النظر والتتبع، والنظر هل لهذا الراوي سماع عن ذلك الذي روى عنه، يعني هل قد ثبت سماعه منه أو لا؟
واحتمال السماع فيه وارد، فمثل هذا يسمونه مرسلا خفيا، إذا روى عنه ولم يسمع منه كما في هذا المثال، وكما مثلوا بسعيد بن أبي عروبة في روايته عن الأعمش، يقولون: هي من المرسل الخفي، مثل هذا إذا روى عنه ولم يسمع منه، إذا لقيه ولم يسمع منه، ووجدنا له حديثا عنه، فإننا نقول: هذا الحديث من المرسل الخفي، ونحكم عليه بالانقطاع، وهذا انقطاع ليس بظاهر، وإنما هو انقطاع خفي، هذا الانقطاع من الانقطاع الخفي، ليس من الانقطاع الظاهر، هذا الإرسال الخفي ليس كالإرسال الظاهر، الإرسال الظاهر مر معنا أن الأصل في إطلاقه هو رواية التابعي عن النبي -عليه الصلاة والسلام- أما الإرسال الخفي فقد يكون في أول الإسناد، وقد يكون في أثنائه، وقد يكون في آخره.(1/31)
فالإرسال الخفي لا بد أن يكون.. يعني الإرسال الخفي لا يشترط فيه.. أو الإرسال الخفي لا يكون فيه إضافة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من جهة المرسل.
والثانية: أن الإرسال الخفي يقع في أي جزء من الإسناد.
والثالثة: أن إدراكه ليس كإدراك المرسل الظاهر؛ لأن احتمال السماع فيه وارد كما احتمال الانقطاع، ولكن لا يدرك إلا بعد النظر والتتبع.
والإرسال الظاهر ليس فيه إيهام، بخلاف الإرسال الخفي؛ لأن الإرسال الخفي إذا قال الراوي عمن لقيه وعاصره ولم يسمع منه عن فلان، لا يقول حدثني ولا سمعت، ولكن يقول: عن فلان، هذا فيه إيهام أنه سمع منه، أما المرسل الظاهر فليس فيه إيهام؛ لأنه أضافه التابعي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم.
الحديث المعضل
والمعضل: وهو ما سقط من إسناده اثنان فأكثر، ويسمى منقطعا أيضا، فكل معضل منقطع، ولا عكس.
هذا يتعلق بنوع من أنواع علوم الحديث المتعلقة بالإسناد، وهو المعضل، والمعضل نوع من أنواع الحديث المنقطع، لكن جعلوه قسما خاصا، جعلوه عَلَمًا على شيء خاص، المعضل: يقول المؤلف: "وهو ما سقط من إسناده اثنان فأكثر"، إذا سقط من الحديث أو من إسناد الحديث راويان فأكثر، ظاهر كلام المؤلف، سواء كان على التوالي أو لا، في أول الإسناد، في وسطه، في آخره، لكن الذي قرره العراقي ومن بعده الحافظ بن حجر أنه لا بد أن يكون السقط على التوالي، لا بد أن يكون السقط على التوالي، سواء في أول الإسناد أو في أثنائه أو في آخره.(1/32)
فإذا قال: عبد الرزاق عن ابن مسعود - رضي الله عنه - يكون هذا إسنادا معضلا، سقط منه راويان أو أكثر على التوالي، يعني تحديد الساقط هذا -يعني- ليس دقيقا؛ لأنه قد يكون الساقط اثنين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة، لكن إذا تأكدنا أن الساقط يكون اثنين فإننا نسميه معضلا، قد يكون الساقط أكثر، لكن لا بد أن نتأكد أن الساقط عادة يكون اثنين، فإذا قال عمرو بن شعيب عن النبي -عليه الصلاة والسلام- هذا نقول قطعا أنه معضل؛ لأن العادة جارية أن عمرو بن شعيب يربط بينه وبين النبي -عليه الصلاة والسلام- راويان.
إذا قال الإمام الزهري عن النبي -عليه الصلاة والسلام- فهذا مرسل، ولكن قد يكون معضلا وقد لا يكون معضلا؛ لأن الزهري أحيانا يكون بينه وبين النبي -عليه الصلاة والسلام- اثنان، وهو الغالب، وأحيانا يكون بينه وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - صحابي واحد وهو القليل، أحيانا يروي عن أنس عن النبي -عليه الصلاة والسلام- وأحيانا يكون بينه وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثر من راوٍ، مثل هذا في بعض المواضع قد يكون معضلا وفي بعضها قد يكون مرسلا، أما بعض الرواة فنجزم أنه يكون معضلا، كما لو قال الإمام مالك عن النبي -عليه الصلاة والسلام- هذا معضل سقط منه جزما اثنان فأكثر، وهو التابعي والصحابي.
المعضل -طبعا- نوع من أنواع الحديث الضعيف، لكن جهة الإعضال وعدد الساقطين هو الذي يعتبر مُقَيِّدا لدرجة الحديث؛ لأنه إذا كان الإعضال بمجموعة -ثلاثة أو أكثر- فلا شك أن الحديث يضعف جدا إذا كان من جهة النبي -عليه الصلاة والسلام- فإن هذا الإعضال ليس كالإعضال الذي يكون من جهة المصنف أو الذي يكون في أثناء الإسناد.(1/33)
قال: ويسمى منقطعا أيضا، يعني أن المعضل يسمى منقطعا؛ لأن الإعضال ما هو إلا انقطاع في الإسناد، لكن العلماء لما أرادوا التمييز بين الأنواع جعلوا له اسما أو جعلوا هذه اللفظة اسما لشيء خاص، لكن لو سميته منقطعا أو قلت هذا منقطع، فلا بأس بذلك، وإطلاق الإعضال أو إطلاق الانقطاع على هذا النوع كله وارد وكله صحيح.
قال: "فكل معضل منقطع ولا عكس"، يعني أن المعضل يسمى منقطعا، لكن المنقطع لا يسمى معضلا، فإذا سقط عندنا رجل واحد من الإسناد هذا نسميه منقطعا ولا نسميه معضلا، إذا سقط من الإسناد اثنان لا على التوالي، فعلى كلام ابن حجر والعراقي نسميه منقطعا ولا نسميه معضلا، فشرط الإعضال عندهم -العراقي ومن جاء بعده- أن يكون الساقط اثنين وأن يكون على التوالي، فإن لم يكن على التوالي، كأن سقط في أول الإسناد ثم سقط في آخره، أو سقط في أوله ثم في وسطه، فإن هذا يسمى عندهم منقطعا ولا يسمى معضلا.
أما كلام المؤلف فالتمييز عنده بين المعضل والمنقطع إنما هو من جهة العدد، إذا كان الساقط اثنين فأكثر فيسميه معضلا، إذا كان الساقط واحدا فإنه يسميه منقطعا.
الحديث المعلق
والمعلق: هو ما حذف من مبتدإ إسناده واحد فأكثر.
والمعلق: وهو ما حذف من مبتدإ إسناده واحد فأكثر، يعني إذا كان الساقط من مبتدأ الإسناد -يريدون بذلك من جهة المصنف- إذا كان الساقط واحدا فأكثر فهذا يسمى معلقا، إذا قال: الترمذي عن مالك، قلنا هذا معلق؛ لأنه سقط -مثلا- قتيبة بن سعيد، إذا قال: عن أبي الزناد، قلنا: هذا معلق، سقط قتيبة ومالك، إذا قال: عن الأعرج، قلنا: سقط ثلاثة، فهو معلق، فإذا كان كذلك يسمى معلقا.(1/34)
لكن لو قال: الترمذي، عن قتيبة، عن أبي الزناد، قلنا: هذا لا يسمى معلقا؛ لأنه ما سقط من مبتدأ الإسناد، لأن شيخ الترمذي مذكور، فلم يسقط من مبتدأ الإسناد، وإنما سقط من أثناء الإسناد، فهو منقطع، ولو قال الترمذي: قال أبو هريرة: قال النبي -عليه الصلاة والسلام- نسميه معلقا.
إذا عرفنا هذا عرفنا أن المعلق والمعضل يجتمعان، كما أن المنقطع يجتمع مع المعضل، إذا كان الساقط من الإسناد واحدا من مبتدأ الإسناد، إذا كان الساقط واحدا، فهذا نسميه معلقا منقطعا، وإذا كان الساقط من مبتدأ الإسناد اثنين فأكثر، فهذا نسميه معلقا معضلا.
هذه الأنواع الأربعة التي ذكرها المؤلف هي: المعلق، والمعضل، والمرسل، والمنقطع، هذه الأنواع الأربعة كلها داخلة في اسم المنقطع، يشملها المنقطع، والعلماء عادة أيضا يقولون: أرسله فلان بمعنى أن الحديث لم يصله بخلاف المتصل، كل هذا لا مشاحة فيه؛ لأنه لا يترتب عليه ما يترتب على الكلمة نفسها حكم، وإنما يترتب على معناه الدال عليه وهو الانقطاع.
هذه الأنواع الأربعة وهي: المرسل والمعضل والمعلق والمنقطع، هذه الأنواع تتداخل، فالنوع الواحد قد يوصف بأنه مرسل ومعضل، فجاء عن يحيى بن كثير عن النبي -عليه الصلاة والسلام- إذا تبين من وجه آخر أن بينه وبين النبي -عليه الصلاة والسلام- اثنين، فنسمي روايته معضلة مرسلة، وإذا كان الساقط في الإسناد في أوله رجل ثم كان فيه إرسال، وكان فيه انقطاع في الإسناد، هذا يكون معلقا، يسمى معلقا منقطعا مرسلا، يعني قد تجتمع في إسناد واحد ويطلق على الإسناد عدة عبارات، وقد يجتمع الانقطاع في جهة معينة، كأن يكون في الأول فنسميه معضلا معلقا، أو نسميه منقطعا معلقا، أو في الأخير فنسميه مرسلا معضلا، أو نسميه مرسلا.
الحديث المعنعن
والمعنعن: وهو ما أُتي فيه بلفظ (عن) كفلان عن فلان، وهو متصل إن لم يكن تدليس وأمكن اللقاء.(1/35)
يقول: "والمعنعن: وهو ما أتي فيه بلفظة (عن) كعن فلانٌ عن فلان"، فلان جاء على الحكاية، وهو متصل إذا لم يكن تدليس، يعني إذا لم يوجد تدليس، فكان هنا تامة، (إذا لم يكن تدليس) إذا لم يوجد تدليس، "وأمكن اللقاء"، أولا المعنعن هو قول الراوي في الإسناد عن فلان، هذا يسمى المعنعن، الإسناد الذي يكون فيه لفظة (عن) يسمى الإسناد المعنعن، إذا قال: فلان عن فلان فإننا نسميه معنعنا، رواية فلان عن فلان بالعنعنة، لفظ (عن) هذا لا يقتضي الاتصال ولا يقتضي الانقطاع بذاته؛ لأن عندنا ألفاظ تدل على الاتصال: حدثنا، سمعت، أخبرنا، قال لنا، قال لي، ذكر لي، هذه كلها دالة على الاتصال، يعني أنه سمع منه، وهناك ألفاظ دالة على الانقطاع: ذُكر لنا، بلغنا عن فلان، حُدِّثت عن فلان، هذه دالة على الانقطاع، لكن فيه ألفاظ ليست دالة على الانقطاع ولا على الاتصال بذاتها، وإنما نحكم عليها بالاتصال أو بالانقطاع، يعني تارة تكون محمولة على الاتصال وتارة تكون محمولة على الانقطاع بشرطها، وهو الذي ذكره المؤلف.
فالمؤلف يقول إذا جاءنا عندنا راويان، أحدهما يروى عن الآخر بـ(عن)، وكان اللقاء بينهما ممكنا ليس بممتنع، ثم كان الراوي الذي يقول عنه ليس موصوفا بالتدليس، فإننا نحكم على العنعنة بها الاتصال، يعني نجعلها في مقام قولنا: سمعتُ، أو في مقام قوله: حدثنا، أو أخبرنا أو نحو ذلك.
والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
الحديث المدلس
قال -رحمه الله تعالى-: والتدليس: وهو مكروه؛ لأنه يوهم اللقاء والمعاصرة بقوله: قال فلان. وهو في الشيوخ أخف.
بسم الله، وصلى الله وسلم وبارك على رسول الله، وعلى آله ومن اهتدى بهداه.
هذا نوع من أنواع علوم الحديث، يسمى الحديث المدلَّس، أو يسمى التدليس، والحديث المدلس من الأحاديث المنقطعة، يعني أن علاقته من جهة الإسناد.(1/36)
المؤلف -رحمه الله- ذكر ها هنا التدليس بنوعيه: تدليس الإسناد، وتدليس الشيوخ. تدليس الإسناد يتعلق به حكم من جهة الإسناد؛ لأن الراوي إذا كان مدلسا وعنعن، فإنه يحكم على حديثه بأنه منقطع، التدليس أو تدليس الإسناد معناه: هو أن يروي الراوي عمن سمع منه ما لم يسمعه منه.
فقولنا: "عمن سمع منه". يشترط في راوي الحديث، أو يشترط في الراوي الذي يحكم على حديثه بأنه حديث مدلس، يشترط فيه أن يكون قد روى، أو ثبت سماعه عمن دلس عنه، لا بد أن يكون قد ثبت له سماع في روايته عمن دلس عنه. والثاني: أنه يحدث عنه بحديث لم يسمعه منه. والثالثة: أن يكون ما بينه وبين شيخه ليس بصيغة السماع أو التحديث، وإنما يكون بلفظة لا تقتضي الاتصال؛ لأنه مر معنا يوم أمس أن الألفاظ (ألفاظ الأداء) ثلاثة: فأحدها دال على الانقطاع بذاته، والثاني دال على الاتصال بذاته، والثالثة محتملة للاتصال والانقطاع.
راوي الحديث المدلَّس يأتي بلفظة ليست دالة على السماع بذاتها، ولا دالة على الانقطاع بذاتها، وإنما يأتي باللفظة التي تحتمل السماع. عندنا بقية بن الوليد، هذا موصوف بأنه مدلس، وقد سمع أحاديث من الأوزاعي، لكن بعض الأحاديث ما سمعها، بينه وبين الأوزاعي واسطة، لكونه سمع عن الأوزاعي، فإنه لا يدخل هذه الواسطة التي بينه وبين الأوزاعي، وإنما يقول: عن الأوزاعي. وهذه الأحاديث التي يقول فيها: عن الأوزاعي، ليست من الأحاديث التي سمعها عنه، فيقول: عن الأوزاعي.(1/37)
بقية هنا إذا طبقنا تعريف التدليس على هذا المثال، وجدنا أن بقية قد سمع من الأوزاعي أحاديث، والثانية: أنه فاتته بعض الأحاديث لم يسمعها من الأوزاعي، والثالثة: أنه جاء لبعض الأحاديث التي لم يسمعها عن الأوزاعي، فرواها عن الأوزاعي دون أن يذكر واسطة، لكنه في الأحاديث التي لم يسمعها من الأوزاعي لا يقول فيها: حدثنا الأوزاعي. ولا يقول: أخبرنا الأوزاعي. ولا سمعت من الأوزاعي. وإنما يقول: عن الأوزاعي. أو يقول: قال الأوزاعي، أو ذكر الأوزاعي. ولكن لا يقول: حدثت عن الأوزاعي. لأنه يكون منقطعا، ولا يقول: ذكر عن الأوزاعي أو نحو ذلك، وإنما يأتي بلفظة محتملة، يعني: تحتمل السماع، لكنها ليست نصا على سماعه منه، يأتي بلفظة محتملة للسماع، ولكنها ليست نصا في السماع، إذا جاء بلفظة نصا في السماع وهو لم يسمع فهو كذاب، وإذا جاء بلفظة ليست موهمة للسماع، وإنما هي من الألفاظ التي تدل على الانقطاع، فإنه لا يكون مدلسا، وإنما يكون مدلسا حين يأتي بلفظة موهمة للسماع بينه وبين الراوي الذي لم يسمع منه.(1/38)
هذا هو معنى تدليس الإسناد، مثاله حتى يتضح أكثر؛ لأن الأمثلة بالأسانيد أحيانا قد لا يفهم منها المراد، عندنا من سمع... إذا سمعت مثلًا من الشيخ ابن جبرين، سمعت منه طول الأسبوعين الماضيين، ثم تغيبت يوما، أنت ثبت سماعك من الشيخ، لكن في يوم السبت الذي لم تحضر فيه، لم يثبت أنك سمعت ذلك الدرس، فإذا جئت تحدث به لم تذكر الواسطة، لكن لا تقول: سمعت الشيخ، لكن تقول: قال الشيخ، أو ذكر الشيخ. فعلك هذا هو التدليس، فعلك هذا يسمى تدليسا، لكن لو قلت: حُدِّثت عنه، أو ذُكر لي عنه، فإن هذا لا يسمى تدليسا، وإذا قلت: سمعت. وأنت لم تسمع منه، فإنك تكون كاذبا، ولكنك تقول: عن، أو ذكر، أو نحو ذلك من العبارات التي تدل على السماع، أي: ليست نصا في السماع، إنما هي محتملة للسماع، أنت قد سمعت من الشيخ بالجملة، ولكن حدثت عنه ما لم تسمعه منه، وهي الأحاديث التي لم تسمعها منه مباشرة، فمثل هذا هو الذي يسمى تدليس الإسناد؛ لأنك حينئذ تكون قد أسقطت راويا من الإسناد.
النوع الثاني وهو تدليس الشيوخ، تدليس الشيوخ هذا ليس فيه إسقاط ولا ينافي الاتصال، ولكنه لما كان قرينا، أو كان كل واحد منهما يطلق عليه تدليس، جمعهما العلماء ها هنا، تدليس الشيوخ معناه: أن يصف الراوي شيخه، أو يسميه، أو يلقبه، أو يكنيه بما لا يعرف به، أو بما ليس مشهورا به. فإذا كان كذلك، فإنه يكون تدليس شيوخ، وليس فيه إسقاط. ليس فيه إسقاط.(1/39)
وهذا مثل ما مثلوا، وهو من أشهر الأمثلة، وهو رواية الحارث بن أبي أسامة، عن ابن أبي الدنيا، تارة ينسبه إلى الأموي، وتارة إلى القرشي، وتارة ينسبه إلى جده، وهكذا، ولا يصرح بما هو مشهور به إلا قليلا؛ لأنه إذا قال: حدثنا ابن أبي الدنيا عرف، لكن إذا قال: حدثنا عبيد الله الأموي أو القرشي. فإن هذا يكون بعيدا؛ لأنه مشهور بابن أبي الدنيا، مثل هذا يسمى تدليس الشيوخ، هذا ليس فيه انقطاع، ولكن قد يوصف الراوي أحيانا بالجهالة؛ لأنه لا يعرف بهذا، فيجهل الثقة، أو قد يلتبس الثقة بالضعيف، فيضعف الثقة، أو يوثق الضعيف، وسيأتي -إن شاء الله- في آخر الكتاب في معرفة الأسماء والكنى والألقاب ما يبين هذا.
الحديث الشاذ
والشاذ: وهو ما رواه ثقة مخالفا لرواية الثقات.
هذا نوع من أنواع علوم الحديث، وهو من أهمها؛ لأن الشذوذ نوع من أنواع إعلال الحديث؛ لأن له تعلقا بعلة الحديث، لكن العلماء يهتمون به؛ لأن فيه مخالفة بين الثقات.
الشاذ: هو أن يروي الثقة ما يخالف فيه الثقات. قوله هنا: الثقة. يعني به: من يقبل حديثه سواء كان ثقة أو صدوقا. يعني: راوي الحديث الحسن، أو راوي الحديث الضعيف. وقوله: ما يخالف الثقات. يعني: إذا روى الثقة حديثا خالف فيه جمعا من الثقات، فإننا نحكم على حديثه بأنه شاذ.
المؤلف -رحمه الله- لما قال: "وخالف فيه الثقات". لا يقصد أنه لا بد أن يكون المخالف قد خالف عددا، ولكن إذا خالف من هو أحفظ منه، أو أكثر عددا مع الضبط، فإنه يسمى حديثه حديثا شاذا؛ ولهذا يعبر عنه بأنه: ما رواه الثقة مخالفا من هو أوثق منه، يعني: أوثق منه عددا، أو أوثق منه حفظا؛ لأن الراوي قد يخالف غيره، لكن هذا الغير يكون واحدا، وهذا واحد مقابل واحد، فيختلفان في الحديث، أحدهما قد يكون أضبط وأحفظ، فنقدم رواية الأحفظ على رواية الذي هو أدنى منه.(1/40)
ذكروا مثلا سفيان بن عيينة: إذا روى حديثا عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس، من المعلوم أن سفيان بن عيينة أضبط الناس في عمرو بن دينار، فإذا روى الحديث ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن ابن عمر، هنا وقع شذوذ من ابن جريج، ابن جريج ثقة، وسفيان بن عيينة ثقة، لكن ابن جريج خالف سفيان ابن عيينة، ابن جريج ثقة، وخالف من هو أوثق منه في عمرو بن دينار، وهو سفيان بن عيينة، فسفيان بن عيينة يقول: عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس. وذلك يقول: عن عمرو بن دينار، عن ابن عمر. فهذا خلاف؛ لأن هذا جعل راوي الحديث ابن عباس، وهذا جعله ابن عمر، فمثل رواية ابن جريج هذه تسمى "رواية شاذة"؛ لأن ابن جريج ثقة وخالف من هو أوثق منه، وهو سفيان بن عيينة، فنقضي على حديثه بأنه حديث شاذ.
والشاذ نوع من أنواع الضعف، نوع من أنواع الضعف المتعلقة بالضبط؛ لأن راوي الحديث الشاذ وإن كان ثقة، لكنه في خصوص ذلك الحديث لم يضبطه؛ فلهذا وقعت منه المخالفة، أحيانا يخالف من هو أكثر منه عددا، إذا جاء في المثال السابق سفيان بن عيينة، وروى الحديث عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس، وخالفه جماعة كثير: خالفه الثوري، وابن جريج، والأوزاعي، ومعمر، فرووه عن عمرو بن دينار، عن ابن عمر، نقول هنا: رواية بن عيينة شاذة؛ لأنه وإن كان ثقة، إلا إنه خالف من هو أكثر منه عددًا، لكن لا بد أن يكون هذا العدد الأكثر -لا بد أن يكون- عندهم حفظ، أما إذا كانوا ضعفاء، فإن روايتهم لا ترجح على رواية الثقات، فمثل هؤلاء إذا جاءوا، مثل: الثوري والأوزاعي وابن جريج، فرووا حديثا، نسمي حديث سفيان حينئذ شاذا؛ لأنه خالف من هو أكثر من عددا مع اتصافهم بالحفظ، فهنا ليس واحد مقابلا للواحد، وإنما هو واحد مقابل للجماعة، هذا هو معنى الحديث الشاذ.(1/41)
بعد ذلك نقول: إن الشاذ يقابله المحفوظ، الرواية المرجوحة تسمى رواية شاذة، والرواية الأخرى تسمى رواية محفوظة، فعندنا لما اختلف ابن عيينة مع ابن جريج، ورجحنا رواية ابن عيينة، نسمي رواية ابن عيينة الرواية المحفوظة، أو الحديث المحفوظ، ونسمي الطرف الآخر وهو المرجوح الرواية الشاذة، لما رجحنا رواية الأكثر على رواية ابن عيينة، نسمي رواية الأكثر هي المحفوظة، ورواية ابن عيينة هي الشاذة، فالشاذ يكون مقابلا للمحفوظ. نعم.
الحديث المنكر
والمنكر: وهو ما تفرد به واحد غير متقن ولا مشهور بالحفظ.
هذا أيضا نوع من أنواع الحديث الضعيف، التي يرجع الضعف فيها إلى جهة الحفظ، العلماء يقسمون الرواة إلى خمسة أقسام -يعني في الجملة-:
القسم الأول: وهم الثقات الحفاظ. والطبقة الثانية: وهي الثقات الشيوخ. الثقات الشيوخ مثل: حماد بن سلمة، والثقات الحفاظ مثل: مالك وحماد بن زيد. يعني أنهم ثقات، ويضاف إلى ذلك تقدمهم في الحفظ على الثقات الآخرين، الطبقة الثانية وهي التي تسمى طبقة الشيوخ من الثقات، هؤلاء ثقات ولكن دون الطبقة الأولى، هاتان الطبقتان حديثهم صحيح، يأتي بعدها الطبقة الثالثة: وهم من تقدم أنهم الذين خف ضبطهم. يعني: المتأرجحون بين الثقات الشيوخ وبين الضعفاء. ثم تأتي الطبقة الرابعة: وهي طبقة الضعفاء. ثم تأتي الطبقة الخامسة: وهي طبقة الرواة الذين ضُعِّفوا جدا، أو وصفوا بما هو أسوأ من ذلك.
الحديث الشاذ يتعلق بالطبقتين الأوليين، والحديث المنكر له تعلق بالطبقة الوسطى (الثالثة)، ويتعلق أيضا بالطبقة الرابعة والخامسة.
المنكر -يقول المؤلف-: هو ما تفرد به واحد غير متقن ولا مشهور بالحفظ.(1/42)
التفرد، عندنا تفرد بمخالفة، وتفرد بغير مخالفة، المؤلف يريد ها هنا أن الراوي الذي يروي الحديث وليس من الحفاظ، ولا من الشيوخ، فإن حديثه يكون منكرا إذا تفرد به ولم يتابع عليه، ولهذا يعني إذا تفرد مثل ابن إسحاق بحديث، فقد يكون منكرا، وإذا تفرد ابن عجلان بحديث، فقد يكون منكرا، وإذا تفرد محمد بن كثير بحديث، فقد يكون منكرا، هؤلاء إن كان عندهم نوع حفظ، لكن في بعض المواضع يكون حديثهم منكرا، ولا يحسن أو يصحح دائما، بل قد يكون منكرا، هذه الطبقة قد يكون منكرا، وقد يمشيه العلماء.
أما الطبقة التي تليها وهم الضعفاء، فإن مثل هؤلاء إذا تفردوا بحديث، نسمي حديثهم منكرا، وكذلك الضعفاء جدا، نسمي حديثهم حديثا منكرا، إذا تفرد موسى بن عبيدة الربذي بحديث، نسمي حديثه منكرا، إذا تفرد رشتين بن سادن بحديث، سمينا حديثه منكرا، إذا تفرد ليث بن أبي سليم بحديث، نسمي حديثه منكرا، ليس شرطه أن يكون الراوي ضعيفا جدا، بل إذا كان فيه ضعف من جهة حفظه وتفرد بحديث، سميناه منكرا.
وقد مثل ابن الصلاح بحديث أبي زكير، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " كلوا البلح بالتمر " أبو زكير أخرج له مسلم في المتابعات، ولكن العلماء تكلموا فيه من جهة حفظة، ففي حفظه ضعف، مثل هذا إذا تفرد بالحديث ليس له عليه متابع، حكم العلماء عليه بأنه حديث منكر؛ لتفرده بهذا الحديث.
إذا كان الراوي ضعيفا، وقضينا بأن الحديث الضعيف الذي يتفرد به يكون منكرا، فإن الضعيف إذا روى حديثا وخالف فيه غيره ممن هو أوثق منه، فإن حديثه يكون أشد نكارة؛ لأنه إذا كان مع عدم المخالفة يكون منكرا، فإنه من باب أولى إذا رواه مع المخالفة أن نسمي حديثه منكرا، ولهذا المؤلف لما تركه تركه لوضوحه؛ لأنه إذا تفرد بالحديث... تفرد الضعيف بالحديث وسمينا حديثه منكرا، فإنه من باب أولى أن يكون حديثه منكرا، يسمى حديثه منكرا إذا وقعت فيه مخالفة.(1/43)
فعندنا مثلا موسى بن عبيدة الربذي، إذا روى عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر حديثا، هذا نسميه منكرا؛ لأنه تفرد به، فإذا خالف غيره من أصحاب عبد الله بن دينار، إذا خالف ابن جريج، نقول: رواية موسى بن عبيدة مع المخالفة أشد نكارة مما لو لم يخالف. والنكارة على درجات بحسب ما تفرد به، وبحسب مخالفته لغيره، فصارت عندنا الحديث المنكر -يعني- إما تفرد من ضعيف، أو تفرد من ضعيف مع المخالفة، هذا نسميه حديثا منكرا، يعني: مخالفة الضعيف للثقات نسميها رواية منكرة، وتفرد الضعيف ولو لم يخالف نسمي حديثه منكرا. نعم.
الحديث الفرد
والفرد: وهو ما تفرد به واحد عن جميع الرواة، أو جهة خاصة، كقولهم: تفرد به أهل مكة ونحوه.
هذا نوع من أنواع علوم الحديث وهو الحديث الفرد، هذا النوع قد يكون صحيحا، وقد يكون حسنا، وقد يكون ضعيفا، الفرد هنا يراد به الفرد المطلق، يريد به المؤلف الفرد المطلق، بمعنى أنا نجد أن الراوي يروي حديثا، لا يعرف هذا الحديث إلا من جهته، كما ذكروا في حديث حماد بن سلمة، عن أبي العشراء الدارمي، عن أبيه مرفوعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو حديث الزكاة في اللبة، يقول العلماء: هذا الحديث كل طرقه ترجع إلى حماد بن سلمة، عن أبي العشراء، عن أبيه، وليس أحد يرويه من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - . يعني: هذا الحديث منقطع عن الشواهد، ومنقطع عن المتابعات من حماد بن سلمة إلى نهاية الإسناد، مثل هذا يسمى فردا.(1/44)
كذلك إذا كان المتفرد به أهل مصر، يعني: أهل بلد. قد يرويه مثلا سبعة من الكوفيين، أو تسعة أو عشرة، لكن لا يرويه أحد غير الكوفيين، كل رواته الذين يروونه كوفيون، مثل هذا يسمى أيضا فردا، كما ذكر المؤلف: كقولهم: تفرد به أهل مكة، أو تفرد به أهل الكوفة، أو تفرد به أهل المدينة، أو تفرد به أهل البصرة، أو نحو ذلك. عندنا قالوا: عندنا حديث اللقطة، حديث زيد بن خالد الجهني - رضي الله عنه - في اللقطة، قالوا: هذا حديث تفرد به أهل المدينة، عن يزيد مولى المنبعث، عن زيد بن خالد. يعني أنه لا يرويه عن يزيد مولى المنبعث إلا أهل المدينة، ولا يرويه أحد غيرهم، مثل هذا يسمى فردا مطلقا، هذا يسمى حديثا فردا، وكذلك ما مر قبله يسمى فردا، فصار الفرد عند المؤلف يطلق على شيئين: يطلق على ما تفرد به راو واحد عن جميع الرواة -يعني: لا يشاركه غيره-، وكذلك... أو يكون تتفرد به جهة خاصة، تتفرد به جهة خاصة كما ذكر المؤلف رحمه الله. نعم.
الحديث الغريب
والغريب: وهو ما تفرد به واحد عن الزهري وشبهه ممن يجمع حديثه.
هذا أيضا نوع من أنواع علوم الحديث وهو الغريب، وهو ما تفرد به واحد عن الزهري وشبهه ممن يجمع حديثه.(1/45)
يعني المؤلف -رحمه الله- بهذا ما يسمى الفرد النسبي، يعني أن الغرابة ليست... أو أن التفرد ليس مطلقا، وإنما تقع الغرابة، أو يقع التفرد في جهة مخصوصة من جهات الإسناد، مثال ذلك: إذا جاءنا حديث رواه شعبة، عن عطاء، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - ورواه عن شعبة راو واحد فقط، مثلا رواه ابن مهدي عن شعبة، نقول: هذا الحديث تفرد به ابن مهدي عن شعبة. ولا نجد أحدا يشارك ابن مهدي في رواية الحديث عن شعبة، لكن الحديث معروف عن الزهري، يرويه جماعة عن الزهري، لكنه من رواية شعبة عن الزهري لا يعرف إلا من حديث عبد الرحمن بن مهدي، فرواية عبد الرحمن ابن مهدي، نقول: تفرد به ابن مهدي. وهذا يسمى تفردا نسبيا، يعني: بالنسبة إلى رواية شعبة. ويسمى غريبا.
الحديث العزيز
فإن انفرد اثنان أو ثلاثة سمي عزيزا.
يقول: "فإن انفرد اثنان أو ثلاثة سمي عزيزا". هذا نوع آخر من أنواع علوم الحديث وهو العزيز، والعزيز -يقول المؤلف-: "إن انفرد به اثنان أو ثلاثة سمي عزيزا". قوله: اثنان أو ثلاثة. لأن أهل الاصطلاح مختلفون في ذلك: فمنهم من يرى أن المتفرد فيه يكون عدده اثنين، ومنهم من يقول: لا بد أن يكونوا ثلاثة. التفرد هنا يعني رواية الاثنين أو الثلاثة هذه ينظر في الإسناد؛ وذلك أن الإسناد الذي يحكم عليه بأنه عزيز، لا بد أن يكون أقل رواته اثنين، فإذا كان في أحد طبقات الإسناد راو واحد، فإنه لا يسمى عزيزا، لا بد أن يكون في أحد الطبقات راويان، وبقية الطبقات قد يكون فيها راويان وقد يكون أكثر، لكن شرطه: أن تكون إحدى الطبقات فيها إسناد، لا بد؛ لأنه إن كان واحدا كان غريبا، لا بد أن تكون أقل طبقة فيها اثنان، بقية الطبقات سواء كانت اثنين أو ثلاثة أو أربعة أو أكثر من ذلك، ما دام أنه وجد الحد الأدنى في الإسناد، وهو الذي يجعل الإسناد عزيزا، وهو أن يكون في إسناده راويان، مثل هذا نسميه عزيزا.(1/46)
ذكروا يعني أن أمثلته نادرة، ومثلوا له بمثال مشهور وهو حديث أنس وأبي هريرة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين " قالوا: هذا الحديث رواه في الطبقة الأولى اثنان: أنس، وأبو هريرة. ثم رواه عن أنس اثنان: رواه عن أنس قتادة، وعبد العزيز بن صهيب. ثم رواه عن قتادة اثنان: شعبة، وسعيد بن أبي عروبة. ورواه عن عبد العزيز بن صهيب اثنان: إسماعيل بن علية، وعبد الوارث بن سعيد. فروى عن اثنان، واثنان في كل طبقة، قالوا: هذا يسمى عزيزا. نعم.
الحديث المشهور
فإن رواه جماعة سمي مشهورا.
"فإن رواه جماعة"، يعني: يزيد عدد الرواة فيها على ثلاثة؛ لأنه قال في العزيز: بأنه ما انفرد فيه اثنان أو ثلاثة، فيكون ما رواه أكثر من ثلاثة يسمى مشهورا، إذا رواه أربعة أو خمسة أو ستة أو نحو ذلك، أو أكثر من ذلك، فإنه يسمى مشهورا. نعم.
الحديث المتواتر
ومنه المتواتر، وهو خبر جماعة يفيد بنفسه العلم بصدقه.
هذا أيضا نوع من أنواع علوم الحديث، يقول: ومنه. أي: ومن المشهور. فهو يجعل المشهور أو يجعل المتواتر قسما من المشهور، وليس قسيما له، وإنما يجعله قسما له.
المتواتر قال: وهو خبر جماعة يفيد بنفسه العلم بصدقه. هذا الاصطلاح الذي ذكره المؤلف هذا، ليس على طريقة أهل الحديث؛ لأن أهل الحديث يشترطون في تصحيح الحديث أن تكون أسانيده صحيحة، ولو كان للحديث مائة طريق، أو كان له مائتا طريق، فإن العلماء -رحمهم الله- لا يصححونه ما لم تكن الأسانيد صحيحة، فضلا عن أنهم يقطعون بأنه متواتر.(1/47)
المؤلف جرى على حدود الأصوليين ونحوهم، الذين يذكرون أن المتواتر إذا رواه جماعة، وكانت روايتهم له تفيد العلم بصدق الخبر، بحيث إنهم يكونون جماعة يستحيل في العادة أن يتواطئوا على الكذب، وأسندوه إلى شيء محسوس، مثل: سمعت وأخبرنا. كان هذا يفيد العلم، وإن كان الرواة ضعفاء، وإن كانوا مجاهيل، ما دام أن طرقه كثرت. وقد جعله بعضهم كالسيوطي في كتاب "المتواتر"، ساق من جنس ما يذكره الأصوليون، وذكر منه مثل: " طلب العلم فريضة " الإمام أحمد يقول: هذا حديث منكر، ولا يصح عن النبي عليه الصلاة والسلام. وبعضهم يجعله متواترا، والمتواتر نعلم أنهم يقولون: إنه أصح الصحيح، وأنه أعلى مراتب الصحاح، وهذا على طريقة أهل الحديث لا يصح ولا ينبغي، وإنما على طريقة الأصوليين.
فالمؤلف يرى أنه إذا رواه جماعة، وكانت روايتهم له تقطع بصدق الخبر بنفسه، فإنه حينئذ يحكم عليه بأنه متواتر، ومعنى ذلك: ترتب عليه ما يترتب من أحكام المتواتر المذكورة؛ لأنه لا ينظر في أسانيده، وأنه يكون أصح الصحيح، وهذا على طريقة أهل الحديث لا يصح، إنما على طريقة غيرهم ممن كتب في هذا الاصطلاح. نعم.
الحديث المستفيض
والمستفيض: وهو ما زاد رواته في كل مرتبة على ثلاثة.
المستفيض -هنا- وهو ما زاد رواته في كل مرتبة على ثلاثة. كلام المؤلف -رحمه الله- هنا إذا نظرنا إليه مع عرف به العزيز، وجدنا أنه يقطع في المستفيض بأن يرويه أكثر من ثلاثة، إذن هو يفارق العزيز قطعا، وإذا نظرنا إلى روايته مع المشهور، وجدنا أن المؤلف -رحمه الله- قد يكون تعريف المستفيض عنده تعريف المشهور، وقد يكون المؤلف يريد أن المشهور قسمان:
قسم هو المتواتر؛ لأنه قال: ومنه المتواتر.(1/48)
والقسم الثاني: وهو المستفيض، فيكون المشهور له اسمان، المشهور: ما رواه أكثر من ثلاثة، يسمى مشهورا ومستفيضا، وما رواه جماعة يفيد بنفسه العلم بصدقه، هذا يسمى متواترا ويسمى مشهورا، معنى ذلك: أن المستفيض نسميه مشهورا، والمتواتر نسميه مشهورا، ولكن لا نسمي المستفيض متواترا.
فلعل المؤلف يريد أن المشهور يعم المستفيض والمتواتر، فالاسم الذي يجمعهما هو المشهور، وعند التخصيص نسمي الذي يرويه جماعة ولم يبلغ حد التواتر، يعني: ما رواه أكثر من ثلاثة ولم يبلغ حد التواتر، هذا نسميه مستفيضا، ويصح أن نسميه مشهورا، أما إذا بلغ حد التواتر، فإننا نسميه مشهورا، ونسميه متواترا، ولا نسميه مستفيضا، هذا ظاهر كلام المؤلف.
المستفيض والمتواتر والمشهور والعزيز، هذه أوصاف للأسانيد، لكن قد يكون عزيزا ضعيفا، وقد يكون مشهورا ضعيفا، وقد يكون مستفيضا ضعيفا، وعلى الحد الذي ذكره المؤلف عند المحدِّثين، قد يكون متواترا على ما ذكروه هنا وهو ضعيف، كما مر معنا ومثلنا.
الحديث المعلل
والمعلل: وهو ما اطلع فيه على علة قادحة في صحته، مع السلامة عنها ظاهرا.
قال: والمعلل: وهو ما اطلع فيه على علة قادحة في صحته، مع السلامة عنها ظاهرا. هذا الحديث المعل، هذا من أهم أنواع علوم الحديث إن لم يكن هو أهمها؛ لأن كثيرا من أنواع الحديث التي مرت والتي ستأتي -إن شاء الله-، وإن كان لها أسماء مخصوصة، لكنها تعود إلى هذا النوع من أنواع علوم الحديث وهو المعل.
فالمقلوب والشاذ والمدلس، والمرسل إرسالا خفيا، وكذلك المدرج والمضطرب، كلها ترجع إلى هذا النوع من أنواع علوم الحديث، وغيرها من الأنواع ترجع إلى هذه اللفظة؛ لأن لفظة الإعلال لفظة تجمع أطرافا كثيرة، أو أنواعا كثيرة من علوم الحديث.(1/49)
عندنا العلماء يقولون: الضعف الذي يرد إلى الحديث تارة يكون ظاهرا. فهذا لا مدخل للإعلال فيه، وبعضهم يقول: هذا يسمى ما فيه علة ظاهرة. إذا كان الإسناد فيه راو ضعيف، أو كان الإسناد فيه انقطاع، هذا يسمونه ضعيفا ظاهر الضعف، أما الحديث المعل، فإنه لا يتطرق إلا إلى الحديث الذي يظن أنه صحيح، أو أن الذي يظهر للمطلع عليه في أول الأمر أنه صحيح، ولهذا يكون الإعلال يكون عادة يكون في الأسانيد التي ظاهرها الصحة؛ لأن قال المؤلف: وهو ما اطلع فيه على علة قادحة. فقوله: على علة قادحة. يخرج عندهم العلة غير القادحة، العلة القادحة قد يقولون: إذا ورد عندنا حديثان مختلفان، وصححنا الوجهين معا، فإنها لا تكون هذه علة قادحة، وإن كانت في الظاهر أنها علة لحصول الاختلاف.
كذلك قوله: "في صحته". دليل على أن العلة تتطرق إلى الأسانيد أو الأحاديث الصحاح، ولهذا قال: "في صحته". الثالث: من قوله: "مع السلامة عنها ظاهرا". هذا دليل على أن العلة خفية لا تدرك لأول وهلة، أما العلل الظاهرة فإنها لا مدخل لها في باب الإعلال، عندنا يمثلون بحديث معمر، عن زيد بن أسلم، عن عطاء، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: " لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة ".(1/50)
يقولون: هذا الحديث إذا أردنا أن نطبق عليه معنى الحديث المعل، فإننا ننظر في الإسناد، الإسناد: معمر وهو ثقة، وزيد بن أسلم ثقة، وعطاء ثقة، وأبو سعيد صحابي. قالوا: هذا إسناد ظاهره الصحة؛ لأن كل راو سمع ممن فوقه، وكلهم ثقات. هذا لو لم يرد إلا هذا الطريق، لقلنا: إنه حديث صحيح. لكن قال العلماء: هذا حديث معلول. لأن الحديث يرويه مالك والثوري، عن زيد بن أسلم، عن عطاء، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ففيه علة وهي الإرسال، يعني أن معمر أخطأ في ذكر أبي سعيد الخدري في الإسناد، زاد أبا سعيد الخدري في الإسناد، لما زاده صار متصلا، فلما رواه مالك والثوري، وجدنا أن إسنادهما خال من ذكر أبي سعيد الخدري، وإنما هو مرسل عطاء عن النبي عليه الصلاة والسلام، يقولون: يدل هذا على أن معمرا قد أخطأ في الحديث ووهم. خطأ معمر هنا -حديث معمر- نسميه حديثا معلولا؛ لأن الإسناد ظاهره الصحة.
والعلة هنا ليست ظاهرة، ليس فيه انقطاع ظاهر، وليس فيه ضعف ظاهر، وإنما تطرق إليه الضعف؛ لأننا وقفنا على الحديث من طريق أخرى، فوجدنا أن هذه الطريق التي ظاهرها الصحة، وجدنا أن الراوي قد أخطأ فيها، والراوي هنا ثقة، لكنه أخطأ فخالف غيره، فنسمي حديثه معلولا، فنسمي حديث معمر هنا -نسميه- حديثا معلولا، الحديث المعلول أو المعل هذا حديث يعتبر من أنواع الأحاديث الضعاف، من الأحاديث الضعاف؛ لأن فيه علة، ومن شرط صحة الحديث وحسنه: أن يكون سالما من العلة.
أحسن الله إليكم، هذه أسئلة حول الفرق بين الفرد والغريب؟(1/51)
ج: الفرد والغريب في الأصل أنه لا يفرقون بينهما؛ لأنهما يتناوبان، فإن قال: تفرد به فلان، وأغرب به فلان. لكن بعض العلماء ذكر التفريق السابق، وهو أنه إذا تفرد به راو تفردا مطلقا لا يشاركه فيه غيره، أو تفرد به أهل بلد لا يروي الحديث غيرهم، فإن هذا يسمى فردا، يسمى فردا مطلقا، وأما إذا كان التفرد بالنسبة إلى شيء معين إلى شيخ من الشيوخ، فإنه يسمى غريبا، وهو الفرد النسبي.
أحسن الله إليكم، يقول: هل الأصل في الراوي عدم التدليس؟ أم أن هناك رواة معروفون بالتدليس؟ أم لا بد من الاستقراء؟
ج: الرواة الأصل في الراوي أنه إذا لم يوصف بالتدليس، فإنه يكون على الأصل: وهو السلامة من التدليس. والعلماء -رحمهم الله- قديما ذكروا المدلسين ودونوا أسماءهم، ومن أجمعها كتاب الحافظ ابن حجر "طبقات المدلسين"، جمع فيه من قيل فيه إنه مدلس، وصنفهم إلى خمس طبقات، الطبقة الأولى والثانية وإن قالوا عن، فإنه حديثهم مقبول، والطبقة الثالثة فهم ثقات، ولكنهم دلسوا، فلا يقبل من حديثهم إلا ما صرحوا به (السماع والتحديث)، والرابعة والخامسة هؤلاء فيهم ضعف مع كونهم مدلسين.
أحسن الله إليكم، يقول: ما هو تعريف المتواتر عند المحدثين؟
ج: تعريف المتواتر عند المحدثين لا أعرفه؛ لأنه ليس موجودا في كلامهم، الموجود مستفيض ومشهور، أما المتواتر لا، أنا لا أعرف أن الأئمة ذكروه.
أحسن الله إليكم، يقول: هل التدليس يكون مقصودا ومتعمدا من الراوي؟ ولماذا يدلس الراوي؟
ج: التدليس غالبا يكون متعمدا من الراوي، يحمله على ذلك إما صغر سن شيخه، أو وثوقه بمن روى عنه، أو طلبه لعلو الإسناد، إلى غيرها من الأشياء. نعم.
أحسن الله إليكم، يقول: هل وقع البخاري -رحمه الله- في التدليس عندما قال في حديث المعازف: قال: هشام بن عمار؟(1/52)
ج: في بعض العلماء ذكروا أن البخاري دلس، لكن هذا قول ليس بصواب، ولا يصح، والإمام البخاري -رحمه الله- له اصطلاحات في التعبير عن شيوخه، إذا روى عنهم مذاكرة أو روى عنهم سماعا.
أحسن الله إليكم، يقول: إذا قال الإمام أحمد، أو ابن عدي عن راو: فيه نكارة. فما مقصودهما؟
ج: يعني: إذا قالوا: إن الراوي فيه نكارة. يعني أن عنده أحاديث منكرة، العادة لا يكون فيه نكارة، فيه نكارة راجعة إلى الحديث، لكن يقولون: له مناكير، يروي المناكير، عنده مناكير، منكر الحديث. إذا قالوا: منكر الحديث. فهو ضعيف، إذا قالوا: له مناكير. يعني: له أحاديث استنكرها العلماء؛ لأنها ليست معروفة محفوظة عند العلماء، إما بمخالفته لغيره، أو لتفرده بها دون مشارك.
أحسن الله إليكم، يقول: ألا يمكن أن يكون مقصود المؤلف في قوله: ومنه متواتر. أي: من أنواع الأحاديث؟
ج: لا، هو يقصد منه المتواتر فيما يظهر، أولا -كما يظهر لي- أن شارحه -وهو السخاوي في توضيح الأثر- ذكر هذا، وإن كنت لست جاهز لهذا، لا أذكر الآن، الثانية: أن قوله: ومنه. معروف عند بعض العلماء أنهم يجعلون المتواتر من المشهور معروف، يعني: قوى.
أحسن الله إليكم وأثابكم، ونفعنا بعلمكم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
الحديث المضطرب
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال -رحمه الله تعالى-: والمضطرب: وهو ما يروى على أوجه مختلفة متساوية.
بسم الله، وصلى الله وسلم وبارك على رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهداه.
هذا نوع من أنواع علوم الحديث، وهذا النوع من الأحاديث الضعاف، وجهة الضعف: اختلال ضبط الراوي؛ لأن الاضطراب ناشئ عن عدم ضبط الراوي، فإذا اختل ضبط الراوي في ضبط حديث ما، فإن ذلك يورث الاضطراب، ويكون الحديث مرويا على أوجه مختلفة متساوية، فهذان شرطا الاضطراب، وهما:
أن يروى على أوجه مختلفة.(1/53)
والثاني: أن تكون هذه الأوجه متساوية في القوة، يريدون بأن تكون مختلفة، يعني: أن يكون الوجه معارضًا للوجه الآخر، سواء كان عدد الأوجه مختلفة وجهين أو ثلاثة أو أربعة أو أكثر من ذلك، لكن شرطها أن تتعدد الأوجه مع اختلافها.
والثاني: أن تكون متساوية في القوة، ليس المراد بالتساوي في القوة أن تكون متماثلة تماما؛ لأن هذا قد لا يوجد أصلا، ولكن يريدون بذلك أن يكون في كل واحد من القوة ما يمنع من حمل الوهم عليها أو الخطأ، يعني: كل وجه من هذه الأوجه يكون فيه من القوة ما يمنع من أن نحمل عليه الخطأ أو الوهم؛ لأننا إذا استطعنا أن نحمل الخطأ والوهم على أحد الوجهين زال الاضطراب، لكن إذا تعذر حمل الخطأ على أحد الوجهين بتساويهما في القوة فإنه حينئذ يحكم على الحديث بالاضطراب.
الاضطراب يقولون: يكون في المتن ويكون في الإسناد، لكن ليس هناك حديث اختلف في متنه، ولم يختلف في إسناده، قد يوجد لكنه نادر وقليل، وأكثر ما يقع الاختلاف في إسناد الحديث، أو الاضطراب أكثر ما يقع في إسناد الحديث، ثم يكون المتن تبعا لذلك.(1/54)
إذا كان كذلك عرفنا أن العلة في أن حديث المضطرب قسمان: قسم منه داخل في الحديث المعلّ، وقسم منه لا يدخل، إذا كان المضطرب رجلا ضعيفا، يعني: روى الحديث وأخطأ فيه، رواه على عدة أوجه، فإذا كان الراوي ضعيفا، واضطرب في الحديث فإنه حينئذ يكون الضعف ظاهرا؛ لأن هذا الراوي أصلا في حفظه ضعيف، وكونه يضطرب في الحديث هذا مما يقوي أن حفظه ضعيف، لكنه في الأصل حفظه ضعيف، هذا النوع من الاضطراب يقع فيه كثير من الرواة؛ لأن الرواة الضعفاء يقعون في كثير من هذا النوع، فيضطربون في الحديث الواحد، يرويه عنهم الثقاة، لكنهم يخطئون، فهذا الثقة يرويه عنه على وجه، وهذا الثقة يرويه عنه على وجه، وهذا الثقة يرويه عنه على وجه، هذا ناشئ من كون هذا الراوي الذي روى عنه الأئمة الحديث على هذه الأوجه أنه هو في أصله ضعيف في حفظه، فلذلك وقع منه هذا الاضطراب.
القسم الثاني للاضطراب وهو الاضطراب الذي يختلف فيه الثقاة، ويكون الراوي المروي عنه أيضا ثقة، ولا يترجح أحد الوجهين، فهذا يكون الحديث مضطربا، والاضطراب في هذه الحالة نوع من أنواع العلة، ولهذا الأئمة الذين كتبوا في علل الحديث يريدون أحاديث كثيرة مضطربة، ويدخلونها في كتب العلل.(1/55)
المضطرب غالب الأمثلة التي ذكرها العلماء -رحمهم الله- لا تسلم من المعل، بل قد لا يكون هناك حديث عل بالاضطراب إلا وفيه اختلاف بين العلماء، منهم من يرجح هكذا، ومنهم من يرجح هكذا، مثلوا للمضطرب بالحديث المشهور: " شيبتني هود وأخواتها " قالوا: هذا يرويه أبو إسحاق السبيعي، واختلف الرواة عليه فمنهم من يرويه عنه عن عكرمة عن أبي بكر، ومنهم من يرويه عنه عن أبي جحيفة عن أبي بكر، ومنهم من يرويه عنه عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود، وهكذا فيه اضطراب كثير روي على نحو من عشرة أوجه، هذا الاضطراب الذي في الحديث حكم العلماء بموجبه أن الحديث ضعيف؛ لأن الحديث لم يضبط، فلا ندري أي الروايات أرجح، هل هو عنه عن عكرمة عن أبي بكر، أو عنه عن عائشة عن أبي بكر، أو عنه عن أبي جحيفة عن أبي بكر، أو عنه عن البراء عن أبي بكر، أو عنه عن أبي الأحوص عن ابن مسعود -رضي الله عنه-؟ فيه اختلاف كثير، هذا الاختلاف الكثير يقول العلماء: جعل الحديث ضعيفا؛ لأنا لا ندري أيها أصح.
الحديث المدرج
والمدرج: وهو زيادة تقع في المتن ونحوه.
والمدرج: وهو زيادة تقع في المتن ونحوه، هذا أيضا نوع من أنواع علوم الحديث، وهو غالبا يتعلق بالمتن،؛ لأن الإدراج غالبا يتعلق بالمتن، هذا النوع من أنواع علوم الحديث معناه: أن يضيف الراوي لفظة أو أكثر على الحديث وليست منه، فهنا قول المؤلف: وهو زيادة تقع في المتن، هذا فيه قصور، المفروض أن يكون: زيادة تقع في المتن من بعض الرواة،؛ لأن الزيادة التي تقع في المتون أحيانا تكون زيادة ثابتة وصحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي المعروفة بزيادة الثقة، لكن هنا زيادة من بعض الرواة يعني: أن الراوي يضيف لفظا أو أكثر على الحديث الذي يرويه وليست من الحديث، سواء كانت في أول المتن أو في أثنائه أو في آخره.(1/56)
عندنا مثلوا قالوا: قول جاء في الحديث الذي في الصحيح، في حديث أبي هريرة مرفوعا إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-: " أسبغوا الوضوء، ويل للأعقاب من النار " قالوا: أسبغوا الوضوء، هذه ليست في حديث أبي هريرة، لا شك أنها ثبتت عن النبي -عليه الصلاة والسلام-، لكن من غير حديث أبي هريرة، أما من حديث أبي هريرة قالوا: هذه غير ثابتة، وإنما هي من كلام الراوي، أدرجها على أبي هريرة - رضي الله عنه - وأصل الحديث: " ويل للأعقاب من النار " لكن أبا هريرة قال في أوله: " أسبغوا الوضوء " قال: سمعت أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم - يقول: " ويل للأعقاب من النار " فهذا فيه إدراج.
كذلك مثلوا له بقول النبي -عليه الصلاة والسلام- في حديث ابن مسعود: " الطيرة شرك، الطيرة شرك، الطيرة شرك، وما منا إلا ولكن الله يعجبه التوكل " قالوا: (وما منا إلا) هذه مدرجة، ليست من كلام النبي -عليه الصلاة والسلام-، وإنما هي من كلام عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - .(1/57)
الإدراج في حديث النبي -عليه الصلاة والسلام- كثير منه إنما يتبين براويات الحديث، وذلك أن العلماء إذا وقع لهم الحديث جمعوا طرقه وألفاظه، فإذا جمعت الطرق والألفاظ تبين من خلالها أن الحديث مدرج، كما مثلوا في حديث نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الشغار، والشغار: هو أن يزوج الرجل موليته أو أن يزوج رجل ابنته على أن يزوجه ابنته، قالوا: تفسير الشغار هنا ليس من كلام النبي -عليه الصلاة والسلام-، إنما هو من كلام نافع راوي الحديث عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قالوا: دل على هذا أن العلماء لما تتبعوا طرق الحديث وجدوا فيها أن الراوي عن نافع، وهو عبيد الله يقول: فقلت لنافع: ما الشغار ؟ قالوا: بطرق الحديث تبين أن هذه اللفظة مدرجة، وهذا عامة ما يقع في الأحاديث، أنها تستبين الإدراج من تتبع الحديث من طرقه الأخرى، إذا تتبع الحديث وجدنا أن الراوي إما أن يصرح أحد الرواة بالإدراج ممن، وإما أن يستبين بكثرة الروايات أن بعض الرواة وهم فأدخل هذه اللفظة على حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - .(1/58)
ذكر بعض العلماء أن الإدراج تارة يظهر من الحديث، ولو لم يكن بتتبع الطرق أو تصريح الراوي، الراوي تارة يصرح وتارة نعرف من خلال تتبع طرق الحديث، كما قال ابن مسعود: " من مات لا يشرك بالله شيئا، من مات لا يدعو من دون الله ندا، من مات يدعو لله ندا دخل النار " هذا قول النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ قال ابن مسعود: وكلمة أقولها ولم أسمعها: ومن مات لا يدعو لله ندا دخل الجنة، قالوا: هذا تصريح من ابن مسعود، لكن هناك نوع يقولون: إنه يعرف مباشرة؛ لامتناع أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قاله، أو أن الحال تمنع من كون النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ قاله، قالوا: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " للمملوك أجران ـ للمملوك المسلم أجران ـ والذي نفسي بيده، لولا الحج والجهاد وبرّ أمي لأحببت أن أكون مملوكا " قالوا: هذا ولو لم نتتبع طرق الحديث؛ لأن الحديث جاء مبينا في روايات أخرى، يعني: جاء بيان القائل وأنه أبو هريرة، لكن قالوا: أن هذا من النظرة الأولى عليه تبين أنه يستحيل أن يكون النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ قال ذلك؛ لأن أمه ماتت وهو صغير، ثم إن بعض العلماء قال أيضا: هذا مستحيل؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يتمن الرق، مع كون الله تعالى شرفه بالنبوة والرسالة.
هذا هو معنى الإدراج، بعد ذلك المؤلف قال: وهو زيادة تقع في المتن ونحوه، يعني: ونحوه إنما قال: ونحوه؛ لأن هناك أنواعا قليلة تدخل هاهنا كأن يكون الراوي قد سمع الحديث من جماعة من الرواة، فيسوق حديثهم على أنه لفظ واحد، أو يروي أحاديث مختلفة بطرق ثم يجمعها في إسناد واحد، قالوا: هذا نوع إدراج، لكن هذا لقلته، ولكونه يدخل في علوم أخرى يعني: قليلا ما يذكره العلماء في مثل هذا؛ ولهذا المؤلف أشار إليه إشارة بقوله: ونحوه.
الحديث الموضوع
والموضوع: وهو المختلَق المصنوع، وقد يلقب بالمردود والمتروك والباطل والمفسد.(1/59)
هذا نوع من أنواع علوم الحديث وهو الموضوع، ويسمى المختلق والمصنوع، والمراد به هنا الحديث المكذوب على النبي - صلى الله عليه وسلم - الحديث المكذوب على النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ، هذا هو الحديث المكذوب على النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ.
الكذب معروف، ولكن تارة يكون عمدا وتارة يكون خطأ، فبعض الرواة قد يضيف إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئا خطأ غير متعمد، فهو في اللغة وعند العلماء يسمى كذبا، وليس معناه إذا وصف الحديث بأنه كذب فلا بد أن يكون الراوي كذابا؛ ولهذا الإمام أحمد - رضي الله عنه - سئل عن أحد الرواة فقال: ثقة والحديث موضوع، الإسناد ظاهره على كلام الإمام أحمد صحيح، لكن المتن موضوع. قال: والحديث موضوع، فأحيانا قد يكون الإسناد صحيحا، لكن الحديث موضوع؛ لأنه ليس من شرط الكذب أن يكون متعمدا.
هنا الحديث الموضوع أو المكذوب أو المختلق أو المصنوع هو المضاف إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وليس من قوله، لكن عامة الحديث الموضوعة رواها كذابون، أو رواها مجاهيل لا يعرفون، وتفردوا بأشياء أضافوها إلى الشرع وهي منكرة، فمثل هذه تسمى أحاديث موضوعة، العلماء -رحمهم الله- يقولون: إن الموضوع ليس بحديث أصلا؛ لأنا قد قطعنا أن النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ لم يقله، لكنهم يذكرونه في أنواع علوم الحديث؛ لأن الذي قاله وافتراه أو أخطأ فيه يزعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاله، قالوا: فتنزلا عند ظنه وزعمه أدرج من ضمن.. أو سمي حديثا كما تسمى بقية الأنواع الثابتة عن النبي -عليه الصلاة والسلام- حديثا.(1/60)
الحديث الموضوع: هو شر أنواع الأحاديث الضعاف؛ لأنه لا شيء أضعف من الحديث الموضوع؛ ولهذا الحديث الموضوع عند العلماء لا يجوز الاستشهاد به، ولا يجوز روايته إلا على سبيل التحذير منه، يعني: حتى في المجالس عامة لا يجوز أن يسند إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- حديثا إلا إذا كان ثابتا عنه - صلى الله عليه وسلم - تيقنا أنه ليس بمكذوب.
ذكر المؤلف -رحمه الله- أن هذا النوع يلقب بالمردود والمتروك والباطل والمفسد، أما المردود فهذا واضح؛ لأن الموضوع مردود غير مقبول والتعبير به موجود، الباطل هذا كثير في كلام العلماء، يقول: هذا حديث باطل لا أصل له، هذا موجود مشتهر عند العلماء، أما المتروك فإن كثيرا من العلماء لا يسمي الحديث الموضوع متروكا، إنما يسمون المتروك إذا كان الراوي متهما، إذا كان راويه متهما، أما إذا قطعنا على الحديث بأنه كذب فينتقل إلى الموضوع، أما المفسَد بفتح السين على صيغة اسم المفعول فهذا وجد في كلام بعض العلماء كما قال الطحاوي في بعض الأحاديث قال: فتبين بذلك فساد إسناده، يطلق عليه، لكن أطلق على الضعيف، إطلاق المفسَد على الموضوع ليس مشهورا في كلام العلماء.
ولهذا حتى الشارح السخاوي ذكر أن هذا قليل، المفسَد هنا يظهر أنه سمي مفسدا؛ لأن العلماء أفسدوه وقضوا ببطلانه، فالذي افتراه يزعم أنه صالح، فلما تولاه العلماء أفسدوه بينوا أنه غير صالح.
الحديث المقلوب
والمقلوب: وهو إسناد الحديث إلى غير راويه.
هذا الحديث وهو نوع من أنواع علوم الحديث وهو المقلوب، وهو إسناد الحديث إلى غير راويه، إسناد الحديث إلى غير راويه هذا يدل على أن المؤلف هنا أراد نوعا من أنواع علوم الحديث وهو مقلوب الإسناد، وإسناد الحديث إلى غير راويه تارة يكون خطأ، وتارة يكون عمدا، فيدخل في هذا النوع من أنواع علوم الحديث إسناد الحديث إلى غير راويه، إما تبديل الإسناد بالكلية، وإما تبديل بعض الإسناد، وإما القلب في اسم الراوي.(1/61)
إذا كان عندنا حديث يرويه الثوري عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر، فجاء بعض الرواة فرواه عن الثوري عن عمرو بن دينار عن ابن عمر، هذا في بعض الإسناد؛ لأنه غيّر عبد الله بأخيه عمرو، إذا قال: عن سفيان عن عمرو بن دينار عن ابن عباس فقد غيّر الإسناد كله، إذا لم يغير الإسناد ولكنه قلب اسم الراوي، كأن كان اسمه كعب بن مرة فقال: مرة بن كعب، أو كان اسمه الوليد بن مسلم، فقال: مسلم بن الوليد، أو كان اسمه إبراهيم بن محمد، فقال: محمد بن إبراهيم هذا يسمى قلبا؛ لأنه بدل اسم الراوي فصار عندنا القلب في الإسناد، إما تغيير الإسناد بالكلية، وهذا عادة إذا وقع من المتعمدين، فإنما يقع من سراق الأحاديث.
كذلك إذا قد يقع قلب في بعض الإسناد، وهذا أيضا إذا لم يكن الراوي مخطئا قد يكون من السراق، كذلك يقع أيضا في قلب اسم الراوي نفسه، وهذا أيضا إذا ما وقع خطئا فإنه يقع من بعض السراق، حتى لا يعرف هذا الراوي فيتركب المتن على الإسناد.
هذه الأنواع الثلاثة إن وقعت على سبيل الخطأ فيكون راويها إن كان.. لا يوصف راويها بأنه كذاب، إن وقعت على سبيل التعمد فإن راويها حينئذ يدخله العلماء في حيز الوضاعين، أو في جملة الوضّاعين.(1/62)
النوع الثاني: وهو مقلوب المتن، وهذا يقع من الرواة كثيرا فينقلب عليه المتن، انقلاب المتن على الراوي لا يلزم منه ضعف الراوي، قد يكون الراوي ضعيفا وقد يكون غير ضعيف، مثلوا لذلك بحديث: " سبعة يظلهم الله في ظله " وذكر منهم رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، جاءت في صحيح مسلم: " حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله " جاء أيضا في حديث قول النبي - عليه الصلاة والسلام-: " لا تزال جهنم يلقى فيها حتى يضع عليها الجبار قدمه " جاء في آخره: " وأما النار فينشئ الله لها نشئا آخر " قال العلماء: هذا مقلوب، وإنما هو: " وأما الجنة فينشئ الله لها خلقا آخر، أما النار فيضع عليها الجبار قدمه " هنا انقلب على الراوي فبدلا من الجنة جعل النار، هذا نوع من أنواع الانقلاب في المتن.
الإسناد العالي
والعالي: وهو فضيلة مرغوب فيها، ويحصل بالقرب من النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن أحد الأئمة في الحديث، وبتقدم وفاة الراوي والسماع.(1/63)
العالي: نوعان: علو عدد، وعلو وصف، علو العدد: أن تقل الوسائط بين الراوي وبين من علا عنه، والوصف: هو أن يكون في الرواة من الحفظ والضبط ما ليس في غيرهم ممن يروي الحديث، المؤلف ذكر هنا العالي، وقال: وهو فضيلة مرغوب فيها، مرغوب فيها، ولم يقل: مرغَّب فيها؛ لأن مرغب فيها تحتاج إلى دليل شرعي واضح، هنا ليس فيه دليل شرعي نص على ذلك، وإنما العلماء استنبطوه استنباطا، ولهذا قال: مرغوب فيها، يعني: مرغوب فيها من العلماء، يقولون: إن علو الإسناد دل على فضيلته ما ثبت في الصحيح في قصة ضمام بن ثعلبة لما جاء إلى النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ وقال: وزعم رسولك أنك تأمرنا بالإيمان بالله، فالرسول قد جاءهم، ولكن ضماما أرد أن يأخذ ذلك من النبي -عليه الصلاة والسلام- مباشرة،؛ لأن أخذه من النبي -عليه الصلاة والسلام- مباشرة يكون أبعد، أو يكون إذا قلّت الوسائط بين الراوي وبين من روى عنه يكون ذلك أبعد عن الوهم والخطأ؛ لأن الوهم قد يكون، فإذا بعدت الوسائط.. كلما بعدت كلما زاد احتمال.. أو كلما كثرت الوسائط كلما زاد احتمال الخطأ، فإذا قلت قل احتمال الخطأ، فلهذا ضمام جاء يسأل النبي -عليه الصلاة والسلام- عن ذلك طلبا لعلو الإسناد، حتى لا يكون هذا الراوي الذي روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ونقل إليهم يكون قد أخطأ ووهم فيما نقل، قالوا أيضا مثله حديث عبد الله بن زيد لما رأى الأذان في المنام وأقره النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ فقال: قم فألقه على بلال، قالوا هذا فيه علو ؛ لأن النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ لو علمه بلالا لكان فيه واسطة بينه وبين عبد الله بن زيد، هكذا استنبطه بعض العلماء فيحتمل أنه الصحيح وقد لا يحتمل؛ ولهذا قال المؤلف: وهو فضيلة مرغوب فيها.(1/64)
قال: ويحصل بالقرب من النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا النوع الذي يسمى بالعلو المطلق، يعني: تقل الوسائط بينه وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - قلة الوسائط بين الراوي وبين النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ تعتبر ميزة عند العلماء، ولهذا قال العلماء -رحمهم الله-: إن الراوي تارة يكون بينه وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - وسائط يكثرون، وتارة تقل هذه الوسائط، كلما كثرة الوسائط كلما نزل الإسناد، وكلما قلت الوسائط كلما علا الإسناد، فإن جمع بين علو العدد والصفة فهو أكمل، وإن كان هناك علو عدد، قلت الوسائط مع ضعف الرواة، فلا شك أن نزول العدد مع قوة الصفات أحسن وأولى، لكن إذا تساوت يعني: كان عندنا علو عدد وفيهم علو صفة، أو توافر فيهم الحفظ والصحة، وقابله إسناد نازل مع علو الصفة، فإن الأول مرجح عند العلماء لقلة الوسائط بينهم وبين النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ.(1/65)
عندنا الإمام أحمد -رحمه الله- يروي الحديث عن سفيان بن عيينة عن حميد عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - فهذا سند ثلاثي بين الإمام أحمد وبين النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ بينهم سفيان وحميد الطويل وأنس - رضي الله عنه - ليس بينه وبين النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ سوى هؤلاء الثلاثة، عندنا بعض الأحاديث قد تكون بين الإمام أحمد وبين النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ وسائط كثيرون، إذا روى الإمام أحمد حديثا عن سفيان عن ابن عجلان عن بكير بن عبد الله بن الأشج عن أبيه عن معمر بن أبي حبيب عن عبيد الله بن عدي بن الخياط عن عمر بن الخطاب، فهذه وسائط كثيرة بينه وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - يعني: عندنا ابن عجلان عن بكير بن عبد الله بن الأشج عن معمر بن أبي حبيب عن عبيد الله بن عدي بن الخياط عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لا شك أن هذا مع سفيان بن عيينة قبل بينه وبين النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ ستة وفي الأول ثلاثة، لا شك أن الإسناد الأول يسمى عاليا، والثاني فيه نزول، نازل، والثاني يسمى إسنادا نازلا؛ لهذا اهتم العلماء بهذا الجانب، فصار عندهم في الأئمة الستة تسمى الثلاثيات، يعني: بينهم وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة.(1/66)
يقع عند الإمام أحمد كثير جدا والبخاري ذكروا أن له نحو من عشرين حديثا بينه وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة، والترمذي أيضا وأبو داود، وأما النسائي فلم يقع له شيئا من ذلك، مثل هذا يسمى علوا؛ لأن العادة أن يكون بينه وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - بين أحمد والنبي - صلى الله عليه وسلم - أربعة أو خمسة، والبخاري نحو من خمسة، هذه هي العادة، لكن إذا ارتفع عن العادة أو قل العدد عن العادة سواء في عادة الراوي نفسه إذا كان العادة أن يكون بينه وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - خمسة فروى بثلاثة هذا علو، إذا كانت عادة قرناء أنهم يروون الحديث وبينهم وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - خمسة فرواه، وبينه وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - أربعة فإنه يسمى علوا، عندنا قال المؤلف رحمه: وبتقدم وفاة الراوي.. لا.. وقوله: ومن أحد الأئمة في الحديث، هذا من العلو النسبي، يعني: ويحصل بالقرب من أحد الأئمة في الحديث، بمعنى أن الحديث الذي مر معنا والمثال الذي مر معنا عن ابن عيينة عن حميد عن أنس، هذا ننظر فيه، إذا كان بينك وبين ابن عيينة أربعة أنفس، وقرينك بينه وبين ابن عيينة نفسان، لا شك أنه أهدى، بقطع النظر عن الواسطة بين ابن عيينة وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - فأنت الآن.. ابن عيينة هذا إمام من أئمة الحديث، كان بينك وبينه أربعة أنفس ثم هو.. يعني: بينك وبينه أربعة أنفس، ثم سفيان عن حميد عن أنس، هو من جهة سفيان إلى النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ يعتبر عاليا.(1/67)
لكن جاء راو آخر قرين لك فروى حديثا آخر فروى أحاديث بينه وبين ابن عيينة فيها رجلان يعني: شيخان ثم يأتي ابن عيينة، لكن كان ما بينه وبين ابن عيينة أنزل مما بينك ... بين ابن عيينة في هذا النوع وبين ما ترويه عن ابن عيينة كان أنزل منك في الإسناد يعني: بينه وسائط كثُر، فكان بين ابن عيينة كما مر معنا في النوع السابق ـ وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - خمسة أنفس أو ستة أنفس، أنت إذا أردت أن تصل إلى النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ عن طريق ابن عيينة يكون بينك وبين النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ ثمانية أنفس، لكن بينك وبين ابن عيينة نفسان، وهو إذا أراد أن يصل إلى النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ يكون بينه وبين النبي -عليه الصلاة والسلام- سبعة أنفس، لكن بينه وبين ابن عيينة أربعة أنفس، فأنت أعلى منه بالنسبة إلى ابن عيينة، وهو أعلى منك بالنسبة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فالعلو المطلق له، والعلو النسبي إلى إمام من أئمة الحديث لك.
والنوع الثاني أيضا من أنواع العلو النسبي: وبتقدم وفاة الراوي، يعني: ويحصل بالقرب أو يحصل بتقدم وفاة الراوي، عندنا الحسن البصري يروي عن أنس، والحسن متوفى سنة مائة وعشرة وحميد متوفى سنة مائة وثلاثة وأربعين ويروى عن أنس، فالراوي الذي يروي الحديث عن الحسن البصري عن أنس أعلى من الذي يروي الحديث عن حميد عن أنس؛ لأن الحسن قد تقدمت وفاته على حميد، وهذا يسمونه يعني: من أنواع علو الصفة،؛ لأن العدد واحد، ولكن الاختلاف في الصفة، هذا صفته أنه تقدمت وفاته.(1/68)
كذلك قال: ويحصل بتقدم السماع، يعني إذا كان مثلا الحسن البصري سمع من أنس في سنة سبعين، وحميد سمع من أنس - رضي الله عنه - في سنة خمس وسبعين فإنما يروى من طريق الحسن أعلى؛ لأنه سمع من أنس قبل سماع حميد الطويل، هذا الأخير يعتبر أيضا من علو الصفة، هذا فائدته في غير أصحاب النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ في طبقات الرواة هذا فائدته تتمثل في باب الاختلاط؛ لأن الراوي إذا اختلط ينظرون الذين تقدم سماعهم عنه، عادة الراوي إذا كبر يكون عنده نوع نسيان أو اختلاط، فإذا تقدم سماع الراوي منه هذا يكون عادة يكون الراوي في تقدم سماعه أقوى حفظا وضبطا منه، إذا تأخر في إسماع الناس.
الإسناد النازل
والنازل: وهو ضد العالي.
والنازل وهو ضد العالي، يعني: جميع ما تقدم من أنواع العلو، علو في العدد والصفة أو العلو المطلق أو العلو النسبي إذا عكسته كان خلاف العالي.
مختلف الحديث
والمختلف: وهو أن يأتي حديثان متعارضان في المعنى ظاهرا، فيوفق بينهما أو يرجح أحدهما على الآخر.
الأحاديث الواردة عن النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ إذا حدث فيها تعارض في الظاهر، فإن وفقنا بين هذين الحديثين المتعارضين أو رجحنا أحدهما على الآخر، فهذا يسمى مختلف الحديث، فصار عندنا مختلف الحديث هو حديثان تعارضا في الظاهر، فأمكن التوفيق بينهما، أو ترجيح أحدهما على الآخر.(1/69)
الأصل أن إذا تعارض حديثان يقول العلماء: يعني الذي ينبغي أن يفهم أنه ليس هناك حديثان متعارضان حقيقة، وإنما يقع التعارض عند المجتهد، هو الذي تتعارض عنده الأحاديث، إما لكون الذي نقل الحديث أخطأ فيه، أو لكون المجتهد قل فهمه للحديثين، ولهذا يذكرون عن ابن خزيمة -رحمه الله- لدقة علمه أنه يقول: ليس هناك حديثان متعارضان، وهذا حق، ليس هناك حديثان متعارضان عن النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ ولكن قد يظهر للإنسان أنهما متعارضان، أول ما يصنع يحاول التوفيق بينهما بوجه من الوجوه غير المتكلفة، فإن لم يمكن فالنسخ، فإن لم يمكن فالترجيح، النسخ سيأتي -إن شاء الله تعالى- فيما يستقبل من أنواع ويذكره المؤلف، هنا يتكلم المؤلف عن مختلف الحديث.
مختلف الحديث هو حديثان تعارضا في الظاهر فأمكن التوفيق بينهما أو ترجيح أحدهما على الآخر، مثلوا للتوفيق بحديث: " لا عدوى ولا طيرة " قالوا هذا فيه نفي العدوى، قد قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ في حديث آخر: " فر من المجذوم فرارك من الأسد " هذا فيه إثبات، وهذا فيه نفي، حصل فيه كلام طويل للعلماء، والذي رجحه الحفاظ كابن تيمية وابن القيم ونحوهم قالوا: لا تعارض بينهما،؛ لأن قوله: لا عدوى يعني: على ما كانت تعتقده الجاهلية من أن العدوى تنتقل بذاتها.(1/70)
وقوله: " فر من المجذوم فراركم من الأسد " على الاعتقاد الصحيح وهو فعل الأسباب الذي لا ينافي التوكل على الله، مع الاعتقاد أن الله -جل وعلا- هو الذي يخلق السبب ولا تنتقل العدوى إلا بمشيئته وإرادته، مثلوا له أيضا بحديث: " فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ وَالْعُيُونُ أَوْ كَانَ عَثَرِيًّا الْعُشْرُ " مع حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - " ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة " قالوا: هذان الحديثان في مذهب جمهور العلماء موفق بينهما، والمعنى فيما سقت السماء إذا كان خمسة أوسق العشر، فهنا توفيق بينهما ظاهر، وهذا كثيرا ما يكون بين الأحاديث المطلقة والمقيدة، والعامة والخاصة.
أو قال: أو يرجح أحدهما على الآخر، يعني: إذا ما أمكن التوفيق ولا عرفنا الناسخ فيأتي الترجيح، الترجيح مثلوا له بحديث عائشة -رضي الله عنها- في الصحيحين في صلاة النبي عليه الصلاة والسلام بغلس، صلاة الفجر بغلس، مع معارضه حديث رافع بن خديج في السنن والمسند: " أصبحوا للصبح، أو أسفروا للصبح، فإنه أعظم لأجوركم " قالوا: حديث عائشة -رضي الله عنها- الذي تخرج فيه النساء من الصلاة متلفعات في بمروطهن لا يعرفهن أحد من الغلَس، هذا يقضي بأن النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان يصلي صلاة الفجر بالغلس، وحديث رافع بن خديج يقتضي أو فيه أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإسفار بصلاة الفجر.(1/71)
بعض العلماء يرجح حديث عائشة -رضي الله عنها-، يقول: هو أرجح - أرجح؛ لأنه في الصحيحين، وذاك خارج عن الصحيحين، ثم إنه أرجح؛ لقوة إسناده، ثم إنه أرجح؛ لكون عمل أبي بكر وعمر وعثمان وجمهور الصحابة على ذلك، قالوا: هذه هي المرجحات؛ لأن المرجحات قد تكون سنة أخرى، وقد يكون القرآن، وقد يكون عمل الصحابة، وقد يكون عمل أهل المدينة ونحوه، في مرجحات كثيرة، إذا وجد مرجح ولم يمكن التوفيق فيصار إلى الترجيح، وهذا نادر حتى في.. يعني: نادر أن يسلم له مثال؛ لأن كل ما قيل: إن فيه ترجيحا فاحتمال الجمع وارد مثل هذا الحديث.
هذا الحديث بعض العلماء كشيخ الإسلام بن تيمية وغيره يقولون معناه: أنه يبتدئ الصلاة.. قاله ابن القيم: يبتدئ الصلاة بغلس، وينتهي منها بإسفار، بعض العلماء جمعوا وإن كان الجمع هنا محل غرر؛ لأن عائشة رضي الله عنها قالت: لا يعرفهن أحد من الغلس يعني: بعد خروجهن من الصلاة.
الحديث المصحَّف
والمصحّف: وهو تغيير لفظ أو معنى، وتارة يقع في المتن، وتارة في الإسناد، وفيه تصانيف.
قال: والمصحّف: وهو تغيير لفظ أو معنى وتارة يقع في المتن، وتارة في الإسناد. المصحف هو ما يطرأ على ألفاظ الحديث من تغيير من قِبل الرواة، أو تغيير في المعنى، تغيير في اللفظ؛ لكونه لم يسمع لفظ الحديث جيدا، أو لكونه نقله من صحيفة ونسخه فأخطأ في نقله، أو لكونه حدث عليه وهو في كتابه شيء فغيره.
المعنى قد يكون أحيانا ناشئا عن قلة فهم الراوي لمراد النبي - صلى الله عليه وسلم - قالوا: يقع في المتن ويقع في الإسناد، عندنا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - " يا أبا عمير، ما فعل النغير " النغير: طائر، فبعض الرواة لما روى هذا الحديث حرفه وقال: يا أبا عمير، ما فعل البعير ؟(1/72)
فهذا تحريف؛ لأن النغير غير البعير، كذلك في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجر حجرة مخصصة، بعضهم حرفها فقال: احتجم النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا تصحيف ويسمى تحريفا، هذا تحريف للفظ في المتن، أما تحريف المعنى فقد حرف بعضهم نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن التحلق يوم الجمعة قبل الصلاة، جاء في بعض الأحاديث المرسلة النهي عن التحلق، فظنه بعض الرواة أنه حلق الرأس، وهذا تحريف للمعنى ؛ لأنه لم يفهم مراد النبي - صلى الله عليه وسلم - .
يقع أيضا في الإسناد كما صحّف ابن معين ابن مراجم إلى ابن مزاحم، رجل يقال له: ابن مراجم صحفه إلى ابن مزاحم، وكذلك صحف شعبة عاصم الأحول إلى واصل الأحدب، فهذا يعتبر تصحيفا وتحريفا، شعبة كان مشهورا بتصحيف الأسماء، يصحف الأسماء كثيرا وهو مشهور بذلك، التصحيف والتحريف هو يقع ـ في الغالب ـ يعني: يقع نتيجة لاختلال لفظ الراوي، إما اختلالا مطلقا أو مقيدا.
الحديث المسلسل
المسلسل: وهو ما تتابع رجال إسناده على صفة أو حالة، وقل فيه الصحيح.(1/73)
هذا المسلسل قال المؤلف: وهو ما تتابع رجال إسناده على صفة أو حالة، وقل فيه الصحيح، إذا تتابع رجال الإسناد أو رواة الإسناد في صفة كانوا متصفين بصفة، كأن كانوا كلهم من دمشق أو كلهم من مصر، أو كلهم من البصرة، أو كلهم من الكوفة، أو كلهم من المدينة، هذه صفة اشتركوا فيها، أو كان كل واحد منهم اسمه محمد أو اسمه عبد الله، هذا يسمى مسلسلا مسلسل بالمحمدين، مسلسل بالمصريين، وهذا لمن أراد النظر في أمثلة كثيرة فالعيني خاصة في أوائل شرح البخاري؛ لأنه مرتب يذكر، وكان ابن حجر.. لكن هذا مرتب، يقول هذا مسلسل البصريين، هذا مسلسل بالشاميين، أو يكون مسلسلا بالأقرباء كل واحد قريب للآخر، فهذه صفة اشتركوا فيها، أو يكون اشتركوا في حالة، كقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " يا معاذ إني أحبك، أوصيك، لا تدعن دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك " كل راو من الرواة ذكروا أنه يقول لمن يسمعه هذا الحديث: إني أحبك أوصيك، وهكذا التسلسل.
كذلك تسلسلوا بحديث: " آمنت بالقدر خيره وشره، وقبض النبي - صلى الله عليه وسلم - على لحيته " كل راو من الرواة يقبض على لحيته، تسلسلهم على هذه الحالة هذا يسمى مسلسلا، قال المؤلف: وقل فيه الصحيح، هذا حكاية لواقع المسلسلات، يعني: أن واقع المسلسلات -الأحاديث المسلسلة الواقع فيها أنها ضعاف ؛ لأن التسلسل هذا ليس حكما على الحديث، وإنما هو صفة للحديث فقد يتسلسل الحديث بالضعفاء؛ لأنه اشتركوا في صفة الضعف، وقد يكون مسلسلا بالثقاة، وقد يكون مثلا مسلسلا بالمصريين، ويكون بعضهم ثقاة وبعضهم ضعفاء وهكذا. نعم.
الاعتبار والمتابعة والشاهد
والاعتبار: وهو أن يروي حماد بن سلمة مثلا حديثا لا يتابع عليه، عن أيوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة، والمتابعة أن يرويه عن أيوب غير حماد، وهي المتابعة التامة، والشاهد: أن يُروَى حديثٌ آخر بمعناه.
في هذه الجمل الثلاثة أو الأربعة هذه كلها متعلقة بعضها من بعض.(1/74)
الأول: الاعتبار: وهو أن يروي حماد بن سلمة مثلا حديثا لا يتابع عليه، عن أيوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة، ظاهر كلام المؤلف أن الاعتبار هنا معناه التفرد ؛ لأنه قال: لا يتابع عليه، ولكن يريد المؤلف -رحمه الله- تبعا لأصوله أن الاعتبار هنا هو وجود ما يوافق الراوي على حديثه يعني: يكون بمعنى المتابعة، لكن هذا يرد عليه إشكال، وهو ما بعده من حديث المتابعة.
بعض العلماء يقول: إن الاعتبار هو والمتابعة شيء واحد، يسمي المتابعة اعتبارا، وبعض العلماء يقول: الاعتبار هو الطريق التي من خلالها نتوصل إلى المتابع؛ ولهذا فسروا الاعتبار فسروه بأنه التفتيش؛ فتفتيش عن وجود المتابع عملية التفتيش هذه تسمى اعتبارا، فإن وجدت له متابعا صار متابعة، وإن لم تجد له متابعا صار فردا، وأن في هذه العملية عملية البحث تسمى عملية كعملية اعتبار؛ لأنك تبحث عن أو تفتش عمن يعضد هذا الراوي أو يتابع هذا الراوي.
بعد ذلك قال المؤلف: والمتابعة: أن يرويه عن أيوب غير حماد، يعني: إذا روى الحديث عن أيوب غير حماد رواه عنه أحد السفيانين، أو رواه عن حماد بن زيد أو مالك أو شعبة أو سعيد بن أبي عروبة نقول: هذا يكون الحديث نأخذ مثلا سعيد بن أبي عروبة والحديث عن أيوب، نقول: أنت يا سعيد، متابع لحماد بن سلمة، وهذا هو الذي يسمى عند العلماء المتابعة التامة ؛ ولهذا قال: وهي التامة.
قوله: وهي التامة، يدل على أن هناك متابعة قاصرة.
عندنا الشيء الثالث ( الشاهد ): وهو أن يُروى حديث آخر بمعناه، يعني الشاهد:
أولًا: يشترط أن يكون حديثًا آخر، والحديث الآخر هو الذي يكون راويه مختلفًا، يعني صحابيَّهُ، فإذا كان عندنا الحديث هذا من حديث أنس ووجدنا حديثًا آخر بلفظه أو بمعناه من حديث أبي هريرة نسميه شاهدًا.(1/75)
الثانية: أن يكن بلفظه أو معناه؛ لأن المؤلف -رحمه الله- نبه بالأدنى على الأعلى، نبه بقوله "بمعناه"، إذا كان يصح بالمعنى يكون شاهدًا، فمن طريق الأولى إذا كان باللفظ يصح أن يكون شاهدًا، إذن هو أول شيء يقول حديث آخر، يعني: صحابيًّا آخر، وأن يكون بلفظه أو بمعناه، فهذا يسمى الشاهد.
هذه الأنواع الأربعة نضرب لها مثالًا واحدًا يجمع الجميع، عندنا حديث ابن عمر - رضي الله عنه - الذي في الشغار الذي مر معنا، هذا رواه الإمام البخاري، عن عبد الله بن يوسف التنيسي، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الشغار ".
الإمام مسلم -رحمه الله- رواه عن يحيى بن يحيى، عن مالك، نسمي رواية يحيى بن يحيى متابعة تامة لرواية عبد الله بن يوسف؛ لأن يحيى بن يحيى وعبد الله بن يوسف تشاركا في الرواية عن مالك، فيحيى بن يحيى تابع عبد الله بن يوسف في شيخه اللي هو مالك، فصارت متابعة تامة.
نأتي بعد ذلك للمتابعة القاصرة، المتابعة القاصرة.. هذا الحديث ( نهى عن الشغار ) رواه عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر، عبيد الله هذا روايته بالنسبة لرواية عبد الله بن يوسف هذه تسمى متابعة قاصرة؛ لأنه ما شارك عبد الله بن يوسف في شيخه، لكن نسمي رواية عبيد الله بن عمر لمالك رواية تامة، فهي تامة برواية مالك قاصرة بالنسبة لرواية عبد الله بن يوسف، فهذا يجتمع فيه الرواية التامة والقاصرة.(1/76)
بعد ذلك نقول: هذا الحديث له شاهد، شاهد بلفظه، وهو حديث أنس - رضي الله عنه - ( نهى عن الشغار )، وله شاهد بمعناه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - وهو أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا شغار في الإسلام " وهو في صحيح مسلم، " لا شغار في الإسلام " فقوله: " لا شغار في الإسلام " هذا نفي يتضمن النهي، وعندنا قال: ( نهى عن الشغار ) فهذا ليس حديث أبي هريرة بلفظ حديث ابن عمر ولكن بمعناه، فاجتمع عندنا شاهد باللفظ والمعنى، اجتمع عندنا فيه المتابعة التامة والقاصرة.. والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
زيادة الثقة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال رحمه الله تعالى: وزيادة الثقاة، والجمهور على قبولها.
بسم الله، وصلى الله وسلم وبارك على رسول الله وعلى آله ومن اهتدى بهداه. هذا نوع من أنواع علوم الحديث يتعلق بزيادة الثقاة، وزيادة الثقة: معناها أن يزيد أحد الرواة الثقاة لفظة أو أكثر في متن الحديث، أو أن يزيد رجلًا في الحديث؛ بأن يصل المرسل، أو يرفع الموقوف.
هذا النوع من أنواع علل الحديث هو متعلق بالثقاة لا بالضعفاء؛ ولهذا لا يذكر العلماء زيادة الضعيف لأن حديث الضعيف أصلا ضعيف غير مقبول، فزيادته تبعًا لأصله، لكن الكلام هنا عن زيادة الثقة، يعني: إذا زاد الثقة على غيره في إسناد الحديث أو في متنه، إذا زاد على غيره من الثقاة، فهل نقبل هذه الزيادة أو لا نقبلها؟ إذا وصَّل مرسلًا أو رفع موقوفًا، أو جاء بلفظة في الحديث لها أثر في المعنى، فهل نقول: إن روايته هذه مقبولة، ونقبلها دائما أو لا ؟(1/77)
المؤلف رحمه الله يقول: والجمهور على قبولها، ولا شك أن هذا القول وهو نسبة للقول بقبول زيادة الثقة هكذا مطلقا إلى جمهور العلماء، لا شك أن هذا القول ليس بصواب، وإنما المعروف عند أئمة الحديث أن زيادة الثقة لا يقبلونها مطلقًا ولا يردونها مطلقا، لا يقولون: كل زيادة ثقة مقبولة، ولا يقولون: كل زيادة ثقة فإنها ليست بمقبولة، وإنما يقولون: إن الزيادة قبولها أو ردها تابع لما احتفّ بها من القرائن، فتارة نقبلها إذا قويت قرائن للقبول، وتارة نردها إذا قويت قرائن الرد.
هذا هو المعروف عند جماهير المحدثين، وإلا لو أخذنا بهذا القول وهو قبول زيادة الثقة مطلقًا لأدّى بنا ذلك إلى إلغاء كثير من الأحاديث التي أعلّها العلماء؛ لأن غالبها من هذا الباب، يزيد الثقة في الإسناد: يرفع موقوفًا أو يصل منقطعًا أو مرسلًا، أو أنه يأتي بلفظة في الحديث، والأول هو الغالب.
لكن جمهور المحدِّثين على أن زياد الثقة لا تُقبل بإطلاق ولا ترد بإطلاق، وهذا الاصطلاح وحكايته عن جمهور المحدثين بل عن جماهيرهم، هذا هو الذي ذكره غير واحد من العلماء: كالعلائي، والزيلعي، والحافظ ابن رجب، والحافظ ابن حجر، وابن القيم رحمه الله، وجماعات ذكروا أن هذا هو مذهب أهل الحديث وجماهير المحدثين، أن الزيادة ليست مقبولة بإطلاق ولا مردودة بإطلاق، وإنما هناك قرائن، إذا قويت القرائن في القبول قبلناها، وإذا قويت في الرد رددناها، والقرائن عند العلماء كثيرة.
عندنا مثال على ذلك وهو أن حديثًا رواه يزيد بن الهادي وبكر بن مضر، روياه عن محمد بن إبراهيم التيمي عن أبي سلمة عن عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث الرقية " باسم الله أرقيك " هكذا الحديث رواه بكر بن مضر، رواه مع غيره ممن تقدم عن محمد بن إبراهيم التيمي عن أبي سلمة عن عائشة رضي الله تعالى عنها.(1/78)
هذا الإسناد هو إسناد متصل وإسناد صحيح؛ ولذا خُرِّج في الصحيح، لكن بعض الرواة خالفوا هذا، فزهير بن محمد ونافع بن يزيد رويا هذا الحديث عن محمد بن إبراهيم التيمي عن عائشة مباشرة، إذا صار التيمي عن عائشة يكون منقطعًا، وإذا صار فيه ذكر أبي سلمة ـ كما في الرواية الأولى ـ يكون الإسناد متصلًا.
كلا الطرفين ثقاة: أصحاب الرواية الأولى وأصحاب الرواية الثانية، لكن العلماء -رحمهم الله- رجحوا الرواية الأولى وهي المتصلة، قالوا: هذه الرواية متصلة مع أن فيها زيادة، وهي زيادة أبي سلمة في الإسناد، فإذا أثبتنا أبا سلمة في الإسناد صار الإسناد متصلا وصح الحديث، وإذا رفعناه من الإسناد صار الإسناد منقطعًا، العلماء رحمهم الله قالوا هذه الزيادة مقبولة؛ لأن يزيد بن الهادي وبكر بن مضر أَثبت من نافع بن يزيد وزهير بن محمد، وإن كان الجميع ثقاة، فلكونهم أحفظ قبلوا هذه الزيادة، فهذا من زيادة الثقة المقبولة.
ذكروا -أيضًا- من الأمثلة على الزيادة في المتن ذكروا حديث علي بن المسفر، عن الأعمش، عن أبي صالح وأبي رزين، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات " علي بن مسفر زاد في الإسناد، في المتن: " إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليُرِقْهُ وليغسله سبع مرات " فقوله: ( فليُرِقْهُ ) هذه زيادة من علي بن مسفر، زادها على مَن روى الحديث عن الأعمش كأبي معاوية وغيره.
الرواة عن الأعمش يروون هذا الحديث بدون ذكر الزيادة، جاء علي بن مسفر، فروى الحديث بهذه الزيادة، هذه الزيادة قَبِلها الإمام مسلم وخرّج الحديث من صحيحه، هذا من زيادة الثقاة المقبولة، وكذلك صححها ابن حبان وابن خزيمة والدارقطني، صححوا هذه الزيادة، فهذه الزيادة مما قبلها هؤلاء العلماء، وإن كان فيها خلاف بين أهل العلم، فهذا هو معنى "زيادة الثقاة".
المزيد في متصل الأسانيد(1/79)
والمزيد في متصل الأسانيد وهو أن يزاد في الإسناد رجل فأكثر غلطًا.
هذا الآن عندنا هو "المزيد في متصل الأسانيد وهو أن يُزاد في الإسناد رجل فأكثر غلطًا"، طبعًا من قوله: "وهو أن يزاد في الإسناد رجل فأكثر غلطًا" هذه ليست موجودة في نسخة الشارح السخاوي، وليست موجودة أيضًا في الطبعة الثانية طبعة شمس لهذا الكتاب، وإنما هي موجودة ههنا، أشار المحقق في الشرح إلى أن نسختي الشرح ليس فيها هذه اللفظة الزائدة من قوله: "وهو أن يزاد.."، وأشار إلى بعض ما يدل على أن هذه الزيادة قد وجدت في بعض نسخ الذين سمعوا الكتاب.
وهذه الجملة -يعني- موضحة لمعنى المزيد في متصل الأسانيد، وليس في إثباتها في هذا المتن خلل، بل هي موضحة للمراد، عندنا المزيد في متصل الأسانيد، وهو أن يزاد في الإسناد رجل فأكثر غلطًا، يعني أولا عندنا المزيد في متصل الأسانيد، هذا يدل على أن الزيادة الواقعة في الإسناد.
ثانيًا: أن هذه الزيادة تكون برجل فأكثر، قد يكون الزائد رجلًا واحدًا وقد يكون أكثر من رجل، قد يكون الزائد في موضع واحد وقد يكون في موضعين، أيضًا يكون الإسناد المزيد عليه متصلا، والخامسة أن تكون الإضافة غلطًا، لأنه لو لم تكن الإضافة غلطًا لم يكن مزيدًا في متصل الأسانيد، يتحول إلى نوع آخر من أنواع علل الحديث على ما يأتي إن شاء الله.
فالشاهد أن هذا المزيد في متصل الأسانيد هو زيادة أولا، ثانيها: تقع في الأسانيد، ثالثها: أن الإسناد الذي تقع فيه يكون متصلا، رابعها: أن الزيادة ليست محددة بموضع من مواضع الإسناد، ولا بعدد من الرواة، والخامسة: أنها تقع غلطًا من بعض الرواة.(1/80)
هذا هو المزيد في متصل الأسانيد، مثَّل له العلماء بحديث إبراهيم بن يعقوب بن سعد، عن ليث بن سعد، عن ابن عجلان، عن سعيد المقبري، عن شريك بن أبي نمر، عن أنس -رضي الله تعالى عنه، هذا الآن.. الإسناد عندنا ذكر العلماء أنه من المزيد في متصل الأسانيد، لا يتبين أنه من باب المزيد في متصل الأسانيد إلا إذا وقفنا على الطريق الأخرى، هذا الإسناد قلنا: إبراهيم بن يعقوب هذا ثقة، عن ليث بن سعد، عن ابن عجلان، عن سعيد المقبري عن شريك بن أبي نمر عن أنس - رضي الله عنه - في قصة ضِمَام بن ثعلبة، هذا الحديث هكذا خرّجه الإمام النسائي.
ظاهر الإسناد أنه لم يرد الطريق الأخرى، ظاهره أنه صحيح، وأن الإسناد هكذا هو متسلسل، لكن قال العلماء -رحمهم الله-: إن هذا من باب المزيد في متصل الأسانيد، قالوا: دلنا عليه الروايات الأخرى؛ لأن البخاري خرّجه عن عبد الله بن يوسف، وخرجه غير البخاري من حديث ابن وهب من حديث يونس، ثلاثة: عبد الله بن يوسف وابن وهب ويونس بن يزيد، هؤلاء الثلاثة رووا الحديث عن ليث، عن سعيد المقبري، عن شريك، عن أنس، فالذي يسقط عن هذا الإسناد هو ابن عجلان.
العلماء يقولون: إن الحديث الأول مزيد في متصل الأسانيد، وهذا السند الثاني هو الصواب وهو الصحيح، الإسناد هذا الثاني هو متصل؛ لأننا إذا نظرنا إلى رواية ليث وجدنا أن ليثًا يروي عن سعيد المقبري، وروايته عنه في الصحيحين، يعني: يروي ليث عادة بدون واسطة بينه وبين سعيد المقبري، وأحيانًا أوله رواية عن ابن عجلان، يعني: يروي عن ابن عجلان وهي ثابت أيضًا في صحيح مسلم.(1/81)
فعندنا إذا نظرنا إلى هذا الإسناد الثاني وجدنا أن الليث بن سعد يروي هذا الحديث عن سعيد المقبري، ولم يذكر في الإسناد ابن عجلان، هؤلاء الذين رووه عن ليث حُفاظ، عبد الله بن وهب ويونس بن يزيد وعبد الله بن يوسف التنيسي، هؤلاء الثلاثة خالفهم إبراهيم بن يعقوب، إبراهيم بن يعقوب وَهِمَ في هذا الحديث في زيادة ابن عجلان، وهِم إبراهيم بن يعقوب في زيادة ابن عجلان، نسمي الإسناد الذي فيه ابن عجلان نسميه المزيد في متصل الأسانيد؛ لأن عندنا الإسناد الذي ليس فيه ابن عجلان هذا متصل، لأن ليثًا يروي عن سعيد المقبري، ثابت عنه.
ثانيًا: أن الزيادة وقعت في الإسناد، وثالثها: أن رواية من رواه بدون ذكر ابن عجلان أقوى وأثبت؛ ولهذا قال العلماء في المزيد في متصل الأسانيد يعني يكون من رواه بدون الزيادة أقوى، وبعضهم اشترط أن يصرح في موضع الثبت بالسماع، كأن يصرح ليث بسماعه من سعيد المقبري، هذا هو المزيد في متصل الأسانيد، إذا حكمنا على رواية إبراهيم بن يعقوب بأنه من المزيد في متصل الأسانيد هذه تصير رواية موهومة ورواية معلولة، لو فرضنا أنه العكس، حصل العكس، فإنه يدخل في باب التدليس أو الإرسال الخفي، يدخل المرجوح في التدليس أو الإرسال الخفي.
صفة الراوي
وصِفة الراوي، وهو العدل الضابط، ويدخل فيه معرفة الجرح والتعديل، وبيان سِنِّ السماع وهو التمييز، ويحصل له في خمس غالبًا، وكيفية السماع والتحمل.
هذا الآن المؤلف -رحمه الله- شرع في صفة الراوي، يعني صفة الراوي الذي يقبل حديثه وهو العدل الضابط، يعني العدل مر معنا تعريفه، ومراد بالضابط هنا: وهو ما يشمل راوي الحديث الصحيح والحديث الحسن، بقي بعد ذلك أن المؤلف ما ذكر البلوغ.(1/82)
العلماء يقولون: إنه يشترط في الراوي الذي يروي الحديث أن يكون مسلمًا بالغًا عدلًا ضابطًا، وينصصون على العدالة بعد الإسلام؛ لأنه ليس كل مسلم تقبل روايته، كما أنه ليس كل مسلم تقبل شهادته، بل لا بد أن تكون عدالته قد ثبتت، لهذا يذكرون أن يكون مسلمًا عدلًا، أن يكون مسلمًا بالغًا عدلًا ضابطًا، هذا في حالة الأداء، يعني: عندما نتحمل منه الحديث لا بد أن يكون متصفًا بهذه الصفات، لكن عند تحمله هو للحديث قد يتحمله وهو كافر، كما تحمل جبير بن مطعم - رضي الله عنه - سورة "الطور" وهو كافر، قرأ عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - سورة "الطور" وهو كافر.
قد يتحمل وهو صغير، قد يتحمل وهو كافر قبل أن يسلم، قد يتحمل وهو فاسق لكن الشرط فيه أنه حين يؤدي ويحدث الناس بهذا الحديث لا بد أن يكون مسلمًا عاقلًا بالغًا، مسلمًا عاقلًا بالغًا ضابطًا، لا بد أن يتوافر فيه هذا.
بعد ذلك قال المؤلف: ويدخل فيه معرفة الجرح والتعديل، الجرح: هو وصف الراوي بما يقتضي رد حديثه، هو وصف الراوي بما يقتضي رد الحديث، كأن يقال: ضعيف أو متروك أو كذاب أو صويلح أو نحو ذلك، كذلك التعديل: هو وصف الراوي بما يقتضي قبول روايته، يطلق من الألفاظ المعروفة، كأن يقال: ثقة، ثبت، حافظ، ونحو ذلك.
وألفاظ الجرح والتعديل معروفة عند العلماء ومدونة في الكتب، فيدخل فيه معرفة الجرح والتعديل يعني معرفة.. يدخل في معرفة الجرح والتعديل أولا: معرفة ألفاظ الجرح والتعديل، وثانيًا: معرفة الدالّ على التجريح والتعديل في الرواة وهي الكتب المصنفة في هذا، وكذلك معرفة الضوابط ( الفوائد) والتي يرجح بها عند الاختلاف بين العلماء في تضعيف رجل أو توثيقه، في تجريح رجل أو تعديله، يعني هذه الضوابط هذه كلها داخلة في الجرح والتعديل.(1/83)
فهو يعرف أولا ألفاظ الجرح والتعديل، ومراتبها هذه ضرورة، والثانية: يعرف ألفاظ الاصطلاحات العامة والاصطلاحات الخاصة، ففيه اصطلاحات عامة مشتركة بين الأئمة، وفيه اصطلاحات خاصة لكل إمام، وكذلك يعرف الكتب الدالة على أحوال هؤلاء الرواة من التجريح ومن التعديل، وكذلك يعرف الضوابط التي يرجح من خلالها في أحول الرواة المختلف فيهم.
كذلك قالوا: ويدخل فيه بيان سن السماع وهو التمييز ويحصل له في خمسٍ غالبًا، يعني: أن الراوي عند التحمل يشترط فيه أن يكون مميزًا، هذا التمييز في الغالب أنه يحصل عند خمس سنوات، لكن لو كان له خمس سنوات أو ستة سنوات ولا يميز فلا يقبل حديثه.
قالوا: وكيفية السماع والتحمل، يعني كيفية سماع الحديث وتحمله ممن يؤديه من الحفاظ، هذه صفة الراوي إلى آخره، هذا له مباحث معروفة في كتب الاصطلاح فيها نوع من الإطالة والمؤلف قد أشار إليها، هذه يعني تُراجع لها الكتب كما نقل.
كتابة الحديث
وكتابة الحديث، وهو جائز إجماعًا وتُصرف الهمة إلى ضبطه.
وكتابة الحديث جائزة إجماعًا، يقول يعني: وهو نوع من أنواع الحديث الجائزة إجماعًا، يعني به الإجماع الذي وقع بعد الخلاف الأول؛ لأن المسألة جاء فيها الإيضاح، ثبت في صحيح مسلم حديث ابن سعيد أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: " لا تكتبوا عني شيئًا غير القرآن، ومن كتبه فليمحه " فهذا نهي عن الكتابة في الحديث، لكن أباحه - صلى الله عليه وسلم - كما أباح لعبد الله بن عمرو -رضي الله تعالى عنه- عندما قالت له قريش: إنك تكتب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كل شيء، وإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يتكلم في الرضا والغضب، فقال -عليه الصلاة والسلام-: " اكتب، فوالذي نفسي بيده، لا أتكلم إلا حقًّا أو نحو ذلك ".(1/84)
وثبت -أيضًا- في الصحيح من حديث أبي هريرة قال: " ما كان أحدٌ أكثر مني حديثًا إلا ما كان من عبد الله ابن عمرو؛ فإنه كان يكتب ولا أكتب " وصح عنه -صلى عليه وسلم- في حجة الوداع أنه قال: " اكتبوا لأبي شاة " لما طلب النبي - صلى الله عليه وسلم - الكتابة.
قال العلماء: هذا يدل على إباحة كتابة الحديث، وحديث أبي سعيد الأول يدل على النهي عنها، كان فيه الخلاف في الأول ثم انعقد الإجماع على جواز الكتابة استنادًا إلى أنها آخر الأمرين منه - صلى الله عليه وسلم - لأنه ثبت في الصحيح أنه قال في مرض موته: " ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابًا لا تضلوا بعده أبدًا، فكثر اللغط عنده - صلى الله عليه وسلم - فقال: قوموا عني " والنبي -عليه الصلاة والسلام- كما يقول العلماء: لا يهم إلا بشيء يكون حقًّا، فدل ذلك على أن آخر شئ منه -عليه الصلاة والسلام- هو جواز الكتابة.
والإجماع منعقد على جواز كتابة الحديث، خاصة في عهد عمر بن عبد العزيز؛ لأنه هو الذي دوّن السنن.. كتب لأبي بكر بن عمرو بن حزم وكتب للزهري وغيرهم ليدونوا حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - ويجمعوه من الأمصار، فكان العلماء والصحابة أو بعض الصحابة وكذلك كان التابعون كانوا متوافرين ومنهم من جمع معه، ومنهم من لم ينكر، فدل ذلك على أنه إجماع منهم.
قال: "وتُصرف الهمة إلى ضبطه"، يعني: أن من كتب الحديث فينبغي له يصرف الهمة إلى ضبطه في مقابلة في أصله بأصل شيخه أو بأصل مقابَل عنه، ثم إن بعضهم استحسن أن يضع بين كل حديث دائرة.. بين كل حديثين دائرة، فإذا قابلها بالأصل نقط في هذه الدائرة نقطة، وكذلك يحقق الخط، ولا يكتبه كتابة تعليق، يعني: كتابة دقيقة، بل يكتبه كتابة واضحة.(1/85)
وكذلك يضبط ما يشكل منه، سواء في الأسماء أو الكلمات، وكذلك يخرِّج السَّقَط وما يقع فيه من سقط ونحوه، يخرجه في الحواشي إلى غير ذلك مما هو معروف، فكتابة الحديث يعني ضبطها موجود مكتوب في كتب أهل الاصطلاح، فينبغي الاعتناء به. نعم.
طرق الرواية وأقسامها
وأقسام طرق الرواية وهي ثمانية: السماع من لفظ الشيخ، والقراءة عليه، والإجازة بأنواعها، والمناولة، والمكاتبة، والإعلام، والوصية، والوَجادة.
هذه أنواع طرق الرواية، يعني: الطرق التي يروي بها الراوي عن شيخه، وهي ثمان، يعني: ثمانية أقسام، أو ثمانية طرق؛ طُرُق: جمع طريق، والطريق يصح فيها التذكير والتأنيث، طيب أولها: السماع من لفظ الشيخ، يعني: أن يسمع الراوي من لفظ شيخه؛ يحدث الشيخ يقول: حدثنا فلان.. حدثنا فلان وهو يسمع، سواء كان الشيخ يحدث من الكتاب أو يحدث من صدره، وسواء كان هذا الراوي يسمع عن شيخه ولا يدوّن ما سمع، أو أنه يسمع ويدون.
هذا هو ما يسمى السماع عن الشيخ، وهذا النوع هو أعلى أنواع الرواية، فإذا سمع بهذا النوع يقول: سمعت، حدثنا، أخبرنا، أنبأنا، قال لنا، ذكر لنا، وأيضًا يقول: قال وعن، إلا أن العلماء لا يستحسنون هاتين اللفظتين الأخيرتين، هذا هو السماع من لفظ الشيخ.
الثاني يقول: القراءة عليه، يعني القراءة على الشيخ، وهي تسمى العرض؛ لأن الراوي يعرض الحديث على الشيخ كما يُعرض القرآن على المقرئ، معنى هذا: أن الشيخ يُقرأ عليه، ويسمع ما يُقرأ عليه من حديثه، ويُقر القارئ على ذلك، يعني: إذا جلس الشيخ قرأ الطالب، يقول لشيخه: حدثكم فلان؛ لأن هذه أحاديث شيخه، ليست أحاديث أخرى، ولكنها حديث الشيخ نفسه، يقول: حدثكم فلان أو أخبركم فلان، ثم يسوق الأسانيد والشيخ يستمع.(1/86)
إذا انتهى من القراءة وأقره الشيخ على ما قرأ يسمى هذا قراءة على الشيخ وهي صحيحة، سواء كان الطالب هو الذي يقرأ بنفسه أو أن غيره يقرأ وهو يسمع، لكن الاعتراض هنا بالشيخ، وهو أن الشيخ لا يتلفظ بالأحاديث ولا يرفضها وإنما ينصت ويستمع، في حال إنصاته واستماعه لمروياته التي تقرأ عليه من كتابه، من أصل كتابه، أو من أصل مقابل عليه أو أصل مأخوذ منه بعد ما يقرءون عليه وينتهي مجلس التحديث يكون إقرارًا من الشيخ على أن هذه مروياته، فيرويها الرواة عنه.
هذا النوع من أنواع علوم الحديث، هذا نوع يعني صحيح بعض العلماء فضله على السماع؛ لأن الشيخ إذا كان يحدث قد يهِم، فلا يرد عليه، أما إذا كان غيره يقرأ عليه ويقول هذا حديثكم فمع إنصاته واستماعه إذا أخطأ الطالب رد عليه، هذا هو معنى القراءة، إذا سمع وجاء يحدث يقول سمعت من فلان قراءة عليه، أو حدثنا فلان قراءة عليه، أو أخبرنا..؛ لأن أخبرنا غالبًا ما تستعمل في القراءة، أو يقول أخبرنا قراءة، أو حدثنا قراءة، أو قرئ عليه وأنا أسمع، لها عبارات كثيرة.
بعد ذلك تأتينا الإجازة بأنواعها، أنواع الإجازة كثيرة، وهي في الأصل نوعان: نوع منها مقرون بالمناولة، وهذه ستأتي في المناولة إن شاء الله، والنوع الثاني الذي ليس مقرونًا بالمناولة، فهذا النوع فيه.. يعني إذا قال الشيخ لتلميذه أجزت لك أن تروي عني حديثي مثلا عن الأعمش، أو حديثي عن أبي صالح، أو أجزت لك أن تروي عني مسموعاتي التي سمعتها من الشيخ الفلاني أو نحو ذلك، فهذه إجازة، لكنها ليست مقرونة بالمناولة؛ لأنه لا يعطيه كتابًا، وإنما يجيزه إجازة.(1/87)
هذا النوع من الإجازة يشتمل على عدة أنواع، ذكروا أنها تصل إلى تسعة أنواع، الصحيح منها عند الجمهور: إذا أجازه معينًا في معين، يعني أن يجيزه معينًا بمعين، يعني: إذا قال: يا فلان -لتلميذ من تلاميذه عيَّنَه- أجزتُ لك أن تروي عني الكتاب الفلاني، أو أجزت لك أن تروي عني مروياتي عن فلان، يقولون: هذا صحيح، إذا كان المجاز معينًا والمجاز به معينا، هذا النوع الصحيح، والباقي فيه خلاف بين العلماء.
لكن غالب الإجازة هذه التي ليست مقرونة بالمناولة غالبها ليست على طريقة المحدثين الأولين؛ لأن المحدثين الأولين لا يرتضون أكثرها، وإنما يرتضون الإجازة المقرونة بالمناولة أو المناولة المقرونة بالإجازة، أما هذه الأشياء استعملها المتأخرون؛ لأن الأحاديث ثبتت ودُونت واشتُهرت وعُرفت، فلذلك كانوا يأخذون الإجازة من أجل الاستنان بالأولين ويبقى سلسلة الإسناد إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-، ولهذا كثر كلامهم فيها: من الإجازة للمعدوم، والإجازة للمجهول، والإجازة لأهل البلد، والإجازة لغير المعين، والإجازة لمن لم يولد.. إلى آخره. أنواع كثيرة ليس لها تعلق بكثير من مرويات الحديث المتقدمة.
إذا سمع فإنه يقول.. إذا روى إجازة يقول: حدثني فلان إجازة، أخبرني إجازة، وقد يعبر عنها عند المتأخرين خاصة من زمن البيهقي ثم العصور التي تلته صاروا يعبرون عنها غالبًا بـ"أنبأنا" ولا يقولون: إجازة، يقولون: أنبأنا، فإذا وُجد هذا في كلام المتأخرين لفظة "أنبأنا" وُجدت في زمن المتأخرين من بعد زمن البيهقي فإنها غالبًا تنصرف إلى أن سماعه عن الشيخ إنما هو إجازة، أما في المتقدمين فقد أطلقوها على السماع وأطلقوها على القراءة.(1/88)
بعد ذلك تأتي المناولة، والمناولة هذه -أيضًا- قسمان: مناولة مقرونة بالإجازة، ومناولة غير مقرونة بالإجازة، المناولة المقرونة بالإجازة صحيحة وعليها عمل المتقدمين، ومعنى ذلك: أن يناوله كتابه أو أصلًا مقابلًا عنه ويقول: أجزتُ لك أن تروي عني، هذا النوع نوع صحيح، اللفظ "بالإجازة" هنا ليس بمشترط، ولكن لو ناوله ولم يقل: أذنت لك أو أجزت لك، ولكن ظهر من الحال أنه يريد إجازته فيصح، لكن إذا قال: هذا كتابي، وأعطاه إياه وقال له: أذنت لك أن ترويه، أو هذا أصل من كتابي انسخه ثم أعده.. هذا أصل كتابي انسخه ثم أعده إلي، وقد أذنت لك بروايته، هذه مناولة مقرونة بالإجازة وهذه -أيضًا- صحيحة. أما المناولة غير المقرونة بالإجازة: أن يعطيه الكتاب ولا يجيزه فيه، فهذه -يعني- فيها ضعف.
ثم بعد ذلك تأتينا المكاتبة، المكاتبة: معناها أن يكتب الشيخ مسموعاته أو بعضها لحاضر عنده أو غائب عنه، فإن قرنها بالإجازة، قال: أجزت لك روايتها، هذه صحيحه، أما إذا ما قرنها بالإجازة كأن كان -مثلا- في بغداد وكتب إليه كتابًا وهو بمكة فيه أحاديث أو نحو ذلك، فإن بعضهم يقول: إنها غير صحيحة، لكن الظاهر أنها صحيحة؛ لأنه ما كتب إليه إلا من أجل أن يرويها عنه أو من أجل أنها قد صحت عنده، فإذا ثبت أن هذا كتاب من شيخه بمعنى أنه أعطاه إياه، وإنه قال: هذا كتابي له وهو حاضر ولو لم يأذن له في الرواية، أو أنه كتب إليه وفي مكان آخر وتأكد أنه كتاب شيخه، هذه صفة روايتها صحيحة، وقد وجد ذلك منها في الصحيح، وجد عند الإمام أحمد وعند أبي حاتم ونحوهم من العلماء، وُجدت هذه المكاتبة وبنوا عليها أشياء سواء كانت في الأحاديث أو في باب الجرح والتعديل.(1/89)
بعد ذلك يأتي الإعلام، الإعلام: وهو أن يُعلم الطالب شيخه أن هذا مرويه، يقول: هذا الكتاب مروياتي، لكن لا يعطيه الكتاب ولا يكتب إليه، لكن يقول: هذا الكتاب مروياتي، كما لو دخل عندك إنسان وقلت: هذا الكتاب أو هذه الرسالة أنا الذي كتبتها، أنت أعلمته الآن، قالوا: إن لم يقل له: أجزتُك أن ترويه، فلا يجوز له أن يرويه، والرواية بها ضعيفة، أما لو قال: هذا كتابي وأجزت لك أن ترويه، فإنهم يقولون: يجوز له -والحالة هذه- أن يرويه.
كذلك قالوا في الوصية، الوصية: أن يوصي إنسان عند سفره أو موته بكتابٍ له أو بأحاديث له، يوصي بها لبعضٍ من الناس، يقول: أوصيتُك، أو عهدتُ إليك بهذه الكتب بأن تبقى عندك حتى أعود من السفر، أو أوصيتك أن تبقى عندك هذه الكتب بعد وفاتي، لكن لا يقول له: هذه أحاديثي، فمثل هذا يقولون: إذا أعطاه وصية، أوصى إليه بشيء ولكنه لم يأذن له في روايته، قالوا: هذا لا يجوز له أن يرويه؛ لاحتمال ألا تكون هذه الأحاديث من مسموعاته، لأنه قد يكون من مرويات صاحبٍ له مقارن له في الطبقة، يروي هو، وهذا الموصي عن شيوخ متفقين، لأجل هذا قالوا: إذا ما أجازه بروايتها قال: أوصتك بهذه الكتب وارْوِها عني بعد وفاتي، قالوا: فلا يجوز له حينئذ أن يروي.
قالوا والوِِجادة بكسر الواو، الوجادة: هو أن يجد الطالب مرويات الشيخ التي رواها، يعني: رواها شيخه، فمثل هذا ليس له سماع عن الشيخ لكن وجد هذا الكتاب، وغلب على ظنه أنه لشيخه، إما عرفه بخطه بغلبة الظن أو عرفه بشيوخه أو نحو ذلك، فمثل هذا العلماء يسمون الرواية بها صحيفة ولا يجيزونها.
بعض العلماء يقول: لو كانت مقرونة بالإجازة لصحت، معنى ذلك: أنه لو كان قال لتلميذه هذا: قد أذنتُ لك أن تروي عني جميع مسموعاتي، ثم وجد هذه الأحاديث وعرف خط شيخه، أو وجدها عند ثقاة من أهله فأخذه وحدّث منه، يقولون: هذا لا بأس به.
صفة الرواية وصفة أدائها(1/90)
وصفة الرواية وأدائها، ويدخل فيه الرواية بالمعنى واختصار الحديث.
قال: وصفة الرواية وأدائها، أي وصفة أدائها، ويدخل فيه الرواية بالمعنى واختصار الحديث، الرواية بالمعنى معناها: أن يروي الحديث بمعنى يوافق ما دل عليه الحديث، لكن الألفاظ مختلفة، أو أن بعض الألفاظ مختلفة، ليس الشرط أن يكون كل الحديث بغير نقل، لكن قد يكون بعضه بالنقل وبعضه بالمعنى، فإذا روى شيئًا من الأحاديث.. فإذا روى الحديث بمعناه يعني بدون ألفاظه، أو روى بعضه بالألفاظ وبعضه بالمعنى فإن هذا جائز.
لكن العلماء يقولون في باب الرواية: لا يجوز هذا إلا لمن كان عالمًا بالألفاظ ومدلولاتها، وعارفًا بمقاصدها، إذا كان كذلك جاز له أن يروي بالمعنى، وهو داخل في ضبط الراوي؛ لأن الراوي تارة يضبط الحديث ويحفظ لفظه، وتارة يضبط معناه؛ ولهذا منهم من اشترط فقه الراوي كابن حبان، ويقصد بفقه الراوي أن يكون عالمًا بالمعاني أو عالمًا بالألفاظ وما يحيل منه المعاني حتى يروي الحديث على المعنى الذي أراده النبي عليه الصلاة والسلام وهذا معنى الفقه الذي أراده ابن حبان واشترطه في الراوي.
إذا كان يروي الراوي الحديث بالمعنى فلا بد أن كون عنده من الفقه ما يمنع من أن يحيل المعاني الواردة في الألفاظ، حتى إذا عبر عنها بألفاظ أخرى أصابت هذه الألفاظ في معناها ما أراده النبي - صلى الله عليه وسلم - بتلك الألفاظ التي قالها -عليه الصلاة والسلام- فإذا توفر في الراوي هذا الشرط جاز له أن يروي الحديث بالمعنى، وهذا كان في زمن الرواية.(1/91)
أما بعد أن دونت المصنفات قال العلماء: لا تجوز الرواية بالمعنى، بمعنى مثلا أن الحفظيات المختارة إذا روى حديثًا في صحيح البخاري أو من مسلم أو سنن أبي داود فلا يجوز له أن يروي بالمعنى؛ لأن الكتب هذه مؤلفة وقد عُرفت واشتهرت، ففي باب التصنيف لا بد من تدوينها وكتابتها بألفاظها التي ثبتت واستقرت، أما قبلُ خاصة لما كان الناس يعتمدون على حفظهم كانوا يحتاجون إلى رواية الحديث من معناه.
ورواية الحديث بالمعنى طريقة مسلوكة سلكها أصحاب النبي -عليه الصلاة والسلام- كحذيفة وغيره، لكن كان العلماء إذا روى الحديث بالمعنى فيستحب له أن يقول بعد نهايته: بنحوه أو بمعناه أو ما يشبهه؛ حتى لا يسند إلى النبي - عليه الصلاة والسلام- شيئًا لم يقله بلفظه، وهذا من باب الورع، وقد كان يفعله بعض الصحابة، كعبد الله بن مسعود وأنس بن مالك ونحوهما.
بعد ذلك قال: "واختصار الحديث": اختصار الحديث معناه: الاقتصار على رواية بعض الحديث دون بعض، وهذه إذا كانت جائزة بشرط ألا يكون الاختصار يخل بالمعنى، فإذا كان الحديث بعضه مرتبطا ببعض فلا يجوز الاختصار، كقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " لا تَقَدَّمُوا رمضانَ بصوم يوم ولا يومين إلا رجلا كان يصوم صومًا فليصُمْه " هذا لا يجوز اختصاره.
لا يجوز أن يقال: " لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين " ويسكت؛ لأن الجملة الباقية متصلة.. لأن الجملة الأخرى متصلة بالجملة الأولى، إذا كان في الشرط أو في التقييد أو نحو ذلك فلا يجوز الحذف، لكن إذا كان كالحديثين المنفصلين ولا يؤثر حذف أحدهما على الآخر جاز ذلك، هذا هو الشرط الأول في اختصار الحديث، شرطوا هذا الشرط.
الشرط الأول: ألا يكون في الاختصار إخلال بمعنى الحديث ومقصده.(1/92)
والثاني: ألا يُطَرِّق الاختصار التهمة إلى المختصر، يعني إذا اختصر الراوي الحديث؛ فإن كان اختصاره يسبب اتهامه بالخطأ أو الغفلة أو النسيان فإنه يمتنع الاختصار، أما إذا كان موثوقًا بحفظه ومعروفًا به، ولا يتطرق إليه الاتهام بالغفلة والنسيان ونحو ذلك فإنه حينئذ يجوز الاختصار، هذا غالب في زمن الرواية، لكن بعد زمن الرواية رواية الحديث أو قول الحديث والاقتصار على ما يخل بالمعنى لا يجوز لا في زمن الرواية ولا في غيرها، أما بعد زمن الرواية فيجوز الاقتصار على بعض الحديث؛ لأن الاتهام وهو الشيء الثاني ليس واقعًا.نعم.
آداب المحدِّث وطالب الحديث
وآداب المحدث وطالب الحديث.
"وآداب المحدث وطالب الحديث" هذا أيضًا من علوم الحديث وهو من.. يعني كتب العلماء فيه كتابات طويلة، وذكروا فيه الصفات هذه تراجع في مظانها، لكن يعني أنفع الكتب في هذا الباب على الاختصار له ( تذكرة السامع والمتكلم لابن جماعة ) يعني: فيه جمْع لكثير من الآداب مع الاختصار في ذكرها، كذلك في كتب متقدمة كـ ( الإلماع للقاضي عياض ) و (الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب البغدادي ) هذه تراجع في مظانها. نعم.
معرفة غريب الحديث
ومعرفة غريبه ولغته وتفسير معانيه واستنباط أحكامه وعزوِه إلى الصحابة والتابعين وأتباعهم.
هذا الآن قال: ومعرفة غريبه ولغته وتفسير معانيه واستنباط أحكامه و"عَزْوِه" مشكولة عندكم في التحقيق بالضم والظاهر أنه هو الصحيح، وليس هذا نوعًا واحدًا بل متصل بالذي قبله ومتصل بالذي بعده أيضًا، لأني أنا رأيت المحقق يقول: "وعزوُه إلى الصحابة"...، قال: وهو علم التخريج، ولأحد علماء عصرنا السلفيين كتاب كبير في هذا العلم اسمه ( التأصيل لقواعد... ) الذي يظهر لي أنه خطأ هذا أنه فهم غلطا، هذا غلط في الفهم فيما يظهر، وكلامه هذا يخالف كلام السخاوي، ويخالف -أيضًا- سياق الكلام هذا الموجود؛ لأنه ما يحتاج ... هذه تابعة للجملة الأولى.(1/93)
طيب: ومعرفة غريبه ولغته وتفسير معانيه واستنباط أحكامه، يعني: من العلوم المهمة معرفة غريب الحديث، وغريب الحديث: هو ما يقع في الحديث من لفظة غامضة بعيدة عن الفهم، وهذا البعد عن الفهم بعد نسبي يختلف الناس فيه من العرب والعجم، ومن قربهم من زمن النبي -عليه الصلاة والسلام- وتأخرهم عنه؛ ولذلك كان الناس، يعني كان العلماء الذين كتبوا في علوم الحديث كانت العبارات التي يشرحونها من غريب الحديث يعني فيها نوع أو فيها غرابة ظاهرة.
لكن لما كثرت العجمة وبعُد الناس عن عهد النبي -عليه الصلاة والسلام- وقلّ العلم، صار المتأخرون من العلماء يشرحون كثيرًا من الألفاظ وإن لم تكن غريبة، حتى يكون ما كتبوا واضحًا لعامة من يطلع على حديث النبي -عليه الصلاة والسلام، فعلوا ذلك لضعف لغة الناس لدخول العجمة عليهم، وكذلك لضعف الناس في العلم الشرعي لذلك صارت الكتب المتأخرة ممتلئة بكثير من الكلمات الواضحة لكنهم يحتملون أن بعض الناس لا يفهمها.
فالغرابة..، إذا قالوا: "غرابة الحديث" يقصدون الغرابة النسبية، قد تكون عند فلان غريبة وليست عند فلان آخر غريبة، بحسب لغته وعلمه، قال: ومعرفة غريبه ولغته، اللغة أعم من الغريب، معرفة لغته يعني: اللغة تشمل غريب الحديث وتشمل النحو وتشمل الصرف وتشمل اللهجات، وتشمل اللغات حتى غير العربية، فهي داخلة في الغريب.
عندنا قول النبي -عليه الصلاة والسلام- لما قال في المرأة التي رأى عليها ثوبًا أصفر قال: ( سَنَة سَنَة ) هذا في صحيح البخاري قال: ( سنة سنة )، فهذا قال العلماء: سنة، سنة هذه كلمة حبشية معناها: حسنة، كذلك في قول النبي -عليه الصلاة والسلام- لما ذكر قال: ( الهرج، الهرج ) لما سئل عن الهرج، يقول أبو موسى الأشعري - رضي الله عنه - الهرج: القتل في لسان الحبشة، فهذه لغة ليست لغة عربية لكن تحتاج إلى بيان، فهي داخلة في معرفة لغة الحديث.(1/94)
كذلك لما قال النبي -عليه الصلاة والسلام- كما جاء في بعض روايات صحيح البخاري: ( ولكن خوة الإسلام ) هي أصلها ( ولكن أخوة الإسلام )، هذه ذكر العلماء أن أصلها (أخوة) الإسلام، وأخرجوها من جهة الصرف، هذه داخلة أيضًا في لغة الحديث، فلا بد أن يكون الإنسان عارفًا بلغة الحديث، أو ينبغي له أن يهتم بلغة الحديث؛ لأن لغة الحديث كثيرًا ما ينبني عليها حكم الحديث، وينبني عليها ما يستنبط من الحديث من أحكام.
قال: وتفسير معانيه، "تفسير معانيه" بمعنى" أن معنى الحديث ليس هو مجرد معرفة الغريب، ولكن المعنى أحيانًا قد يستفاد بمعرفة الغريب وقد يستفاد من السياق، وقد يستفاد من ضمه إلى أحاديث أخرى، وقد يستفاد من ضمه إلى القرآن، وقد يُستفاد من ضمه إلى قواعد الشرع ومقاصد الشريعة، فمعاني الحديث ليست مقصورة على معرفة الغريب فقط، ولا على معرفة اللغة، بل تتعدى ذلك إلى معرفة ما يقتضي أن يعرف به معنى الحديث كاملا.
كذلك "واستنباط أحكامه"، استنباط الأحكام بمعرفة المعاني لكنها عادة يكون استنباط الأحكام مرتبًا على معرفة الغريب والمعاني، إذا عرفنا الغريب واللغة وعرفنا المعنى الذي قصده النبي - صلى الله عليه وسلم - وصار واضحًا جليًّا، عند ذلك استطعنا أن نرتب استنباطنا للأحكام على ذلك، أما قبل ذلك فقد يقع في الاستنباط خلل وخطأ.(1/95)
فمعرفة الغريب..، ذكر العلماء -رحمهم الله- أن الغريب يعني تارة يقع تفسيره من النبي - صلى الله عليه وسلم - كما جاء في صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قال -عليه الصلاة والسلام- في سترة المصلي قال: " فإن معه القرين " جاء في رواية أخرى: " فإن معه الشيطان " فكلام النبي -عليه الصلاة والسلام- فسّر بعضه بعضًا، فعندنا الرواية تفسر الرواية، ومثل أيضًا قوله: ( كسر ظهره ) في حديث ابن حميد في صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ( كَسَرَ ظَهْرَه ) جاء في رواية أخرى: ( ثم حنى ظهره ) فدل على أن "حنى" تفسر كلمة "كسر ظهره".
كذلك -أحيانًا- قد يكون التفسير من راوي الحديث نفسه، كما قد يكون التفسير من أحد أصحاب النبي -عليه الصلاة والسلام- كما ذكروا في تفسير ابن عمر بالشفق، لما قال: قال: الشفق الحمرة.
بسم الله الرحمن الرحيم وقوله: وعزوه إلى الصحابة والتابعين واتباعهم، أي: عزو الغريب واللغة وتفسير المعاني واستنباط الأحكام إلى الصحابة والتابعين وأتباعهم.
معرفة الأحكام الخمسة ومتعلقاتها
ويحتاج في ذلك إلى معرفة الأحكام الخمسة: وهي الوجوب، والندب، والتحريم، والكراهة، والإباحة.
ومتعلقاتها من الخاص، وهو ما دل على معنى واحد.
والعام: وهو ما دل على شيئين على جهة واحدة.
والمطلق: وهو ما دل على معنى واحد مع عدم تعيين ولا شرط.
والمقيد: وهو ما دل على معنى مع اشتراط آخر.
والمفصَّل: وهو ما عُرف المراد من لفظه، ولم يفتقر في البيان إلى غيره.
والمفسَّر: وهو ما لا يُفهم المراد منه ويفتقر إلى غيره.
والمجمَل: وهو ما لا يفهم المراد منه ويفتقر إلى غيره.(1/96)
ويحتاج في ذلك يعني فيما تقدّم من معرفة استنباط الأحكام وتفسير المعاني ونحوها قال: يحتاج إلى معرفة الأحكام الخمسة، يعني: يقصد الأحكام التكليفية الخمسة، وهي الوجوب، والندب، والتحريم، والكراهة، والإباحة، هذه الأحكام ليس لها تعلق بعلوم الحديث المتعلقة بأصول الفقه، لكن نأخذها سريعًا:
الوجوب: وهو ما أمر به الشارع على وجه الإلزام، والندب: ما أمر به الشارع لا على وجه الإلزام، ويضاف إليه أيضا أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - التي فعلها قصدًا، لأن ليس فيها أمر ولكنها داخلة فيما يندب إليه، وكذلك التحريم: هو ما نهى عنه الشرع على وجه الإلزام، والكراهة ما نهى عنه الشرع لا على جهة الإلزام، والإباحة هي ما كان المكلف مخيرًا فيه بين الترك والفعل، وهذه معروفة قد مرت عليكم في أصول الفقه، ثم بعد ذلك تأتي أيضًا حوالي عشرة أو أربع أو ستة جمل متعلقة بالأصول.
ومتعلقاتها من الخاص، وهو ما دل على معنى واحد.
الخاص: وهو ما دل على معنى واحد، يعني: معينًا، أن يكون معينًا في نوعه أو في عينه، وقد يكون في نوعه، إذا قال: "رجل"، فإذا دخلت عليه الألف واللام صار عامًّا.
والعام: وهو ما دل على شيئين على جهة واحدة.
والعام: وهو ما دل على شيئين، يعني فصاعدًا، أي: ما دل على شيئين فأكثر من جهة واحدة، يعني: أن يكون من جهة واحدة لا من جهتين، لكن لو قال مثلا: لم يأت زيد ولا عمر ولا علي ولا محمد، هذا لا يسمى عامًّا، ويسمى خاصًّا، فإذا قال: لم يجئ الرجال، هذا عام؛ لأنه لفظ يستغرق الجنس كله. نعم.
والمطلق: وهو ما دل على معنى واحد مع عدم تعيين ولا شرط.(1/97)
والمطلق: وهو ما دل على واحد مع عدم تعيين فيه ولا شرط، يعني: المطلق إذا كان الشيء دالا على شائع في جنسه مثل كلمة "رجل" التي مرت قبل قليل، فإن هذه إذا لم تكن مقيدة يعني لم تكن معينة فيقال: زيد أو عمرو، أو تكون مقيدة بصفة كأن يقول: رجل مسلم أو رجل عادل أو نحو ذلك، فإنه حينئذ يسمى مطلقًا، فإذا كان هناك تعيين أو شرط، ويقصد بالشرط هو الصفة، ليس ضروريًّا أن يكون شرطًا، ولكن قد يكون صفة. نعم.
والمقيد: وهو ما دل على معنى مع اشتراط آخر.
يعني: هو الذي يدل على معنى مع وصف زائد على حقيقة الجنس، يعني مثلا عندنا إذا قلنا: "رجل"، هذا مطلق، فإذا أدخلنا عليه كلمة "مسلم" صار مقيدًا؛ لأننا وصفناه بوصف زائد عن الشيء الذي في جنسه، نعم.
والمفصَّل: وهو ما عُرف المراد من لفظه، ولم يفتقر في البيان إلى غيره.
والمفصل: وهو ما عُرف المراد من لفظه ولم يفتقر في البيان إلى غيره، يعني به المؤلف ههنا بالمفصل هو الشيء الذي يرد مبينًا ولا يحتاج إلى دليل آخر لبيانه، يعني: منذ أن ورد علينا وهو مبيَّن، ولم نحتج إلى دليل آخر لبيان هذا الشيء؛ مثل قوله -عليه الصلاة والسلام-: " بُنِيَ الإسلامُ على خمس: شَهادة.. " هذا مفصل، ما احتجنا إلى دليل آخر لبيان هذه الخمس، فهذا يسمى مفصلًا؛ لأن المؤلف هنا له تفصيلات.. يعني ليست مخالفة لكن خصنا بتفصيلات فيها نوع توسع.
والمفسَّر: وهو ما لا يُفهم المراد منه ويفتقر إلى غيره.
هذا غلط في النسخة هذه يا شيخ، قبل هذا المفسر هكذا كما في الشرح، (والمفسَّر: وهو ما ورد البيان بالمراد منه في مدلوله ) واللي ذكره هنا يقول: والمفسر وهو ما لا يفهم المراد منه، هذا هو المجمل أصلا، يعني: واضح حتى من العبارة أنها خطأ، عندنا المفسَّر الذي ذكره المؤلف فيه سقط، فيكون المفسر: هو ما ورد البيان بالمراد منه في مدلوله، والمفسَّر الذي ذكره في الكتاب هنا هو "المجمَل" ليس المفسر، وهذا ظاهر حتى من اللفظ.(1/98)
طيب: عندنا الآن المفسَّر وهو ما ورد البيان بالمراد منه في مدلوله، هذا الآن المفسر هو.. يظهر أن المؤلف يجعل المبيَّن نوعين:
النوع الأول: وهو الذي يأتي مبينًا بدون حاجة إلى دليل آخر، يعني منذ أن ورد علينا وهو بين، فهذا يسميه المفصل، فإن احتجنا إلى دليل آخر يبين لنا مدلوله، فيسميه المفسر، عندنا قول النبي -عليه الصلاة والسلام-: " أُمِرْتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إله إلا الله، وأني رسول الله، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها " (حقها) ههنا هذا مجمل، بيانه جاء في نص آخر، فمثل هذا نسميه عند المؤلف المفسّر، جاء بيانه في حديث ابن مسعود: " لا يحل دم مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة " فهذا مفسر فهذا على قول المؤلف نسميه مفسرًا.نعم.
والمجمَل: وهو ما لا يفهم المراد منه ويفتقر إلى غيره.
إذا افتقر إلى غيره كما مر معنا في قوله: ( إلا بحقها ) فهذا الحديث نسميه مُجملا، الذي يبينه يسمى مفسرًا.
الترجيح بين الرواة
والتراجيح بين الرواة من جهة كثرة العدد مع الاستواء في الحفظ، ومن جهة العدد -أيضًا- مع التباين فيه وغير ذلك.
يعني المؤلف -رحمه الله- يقول: إن الترجيح بين الرواة تارة يكون من جهة كثرة العدد إذا استوى الحفظ، يعني إذا كان كلهم حفاظًا لكن بعضهم كانوا ثلاثة والطرف الآخر اثنان نقول: رواية الثلاثة تكون هي الراجحة، كذلك قال: ومن جهة العدد أيضًا مع التباين فيه، إذن يقول: مع الاستواء في العدد والتباين في الحفظ، إذا استوى العدد، هذا واحد وهذا واحد ولكن هذا أحفظ من هذا، فنقدِّم الأحفظ، قال: "وغير ذلك" يعني: التراجيح ليست محددة بشيء مما ذكر هاهنا لأنها كثيرة جدًّا، بعضها يرجع إلى المتن وبعضها يرجع إلى الإسناد.(1/99)
وهذه مذكورة ومحصلة في كتب كثيرة،نعم، لكن ذكر هذين لأن علماء الحديث.. يرجحون كثرة العدد وقوة الحفظ، غالب ترجيحات أئمة الحديث في هذا، لكن إذا نظر إليها من جهة أصولية ونحوه قد يكون الترجيح من جهة الأسانيد، وقد تكون من جهة المتون، وقد يكون الترجيج بجهات خارجة عن الإسناد والمتن، يعني: إذا وافق عمل الصحابة ووافق القياس ووافق القواعد الشرعية، كان عليه الإجماع، ومثل ذلك هذه أمور خارجة عن المتن والإسناد لكنها تعتبر من قرائن الترجيح.نعم.
معرفة ناسخ الحديث ومنسوخه
ومعرفة ناسخه ومنسوخه.
معرفة ناسخ الحديث ومنسوخه، النسخ: هو رفع حكم شرعي ثبت بدليل شرعي آخر، طبعًا يتعلق عندنا ههنا هو نسخ الحديث بالحديث، ناسخه ومنسوخه، يعني: معرفة ناسخ الحديث ومنسوخه، الكتاب كما يأتي فيه ناسخ ومنسوخ، كذلك السُّنة فيها ناسخ ومنسوخ.
الناسخ والمنسوخ يقولون تارة يكون بقول النبي -عليه الصلاة والسلام- كما ثبت عنه، يقال: " كنت نهتكم عن زيارة القبور فزورها؛ فإنها تذكر الآخرة " فقوله: ( فزوروها ) هذا ناسخ للنهي عن زيارة القبور، وتارة يكون النسخ بإعلام الصحابي - رضي الله عنه - كما جاء في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إنما الماء من الماء " في حديث أبي سعيد، يعني: أنه لا يغتسل إلا إذا أنزل، وجاء في حديث أبي هريرة: " إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل " هذا يقتضي أنه إذا وطئ امرأته ولو لم ينزل وجب الغسل.
قال العلماء: حديث أبي سعيد " إنما الماء من الماء " منسوخ، والناسخ له حديث أبي هريرة -رضي الله عنه، ما دلالة النسخ ؟ قالوا: دلالته قول: أُبي بن كعب - رضي الله عنه - إنما كان " الماء من الماء " في أول الإسلام، قالوا: هذا بإعلام الصحابي بالنسخ، وكذلك حديث: " كان آخر الأمرين منه - صلى الله عليه وسلم - تَرْك الوضوء مما مست النار ".(1/100)
وأحيانًا يكون بمعرفة التاريخ كما ذكر بعض العلماء -وإن كان فيه نظر- إن حديث شداد بن أوس: " أفطر الحاجم والمحجوم " قالوا: إن هذا منسوخ؛ لأنه كان في فتح مكة، والناسخ له حديث ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجم وهو محرم صائم، ولفظة -أيضًا- ( صائم ) محل نظر عند العلماء، فقالوا: إن هذا ناسخ للحديث الأول؛ لأن الثاني حديث ابن عباس كان في فتح مكة، أحيانًا يقولون: يكون النسخ بدلالة الإجماع، ليس بالإجماع نفسه؛ لأن الإجماع لا ينسخ لكن بدلالته، إذا أجمع العلماء على شيء فإن الحديث يكون منسوخًا به.
العلماء -رحمهم الله- علماء الحديث فيما يظهر أنهم لا يجعلونه نسخًا ولكن يجعلونه علة في الحديث كما يصنع الإمام مسلم، لكن هنا يجعلونه نسخًا كما ذكروا في قتل شارب الخمر في المرة الرابعة، قالوا: بأنه منسوخ؛ لأن العلماء من الصحابة ومن بعدهم مجمعون على أنه لا يقتل ولو شرب الخمر أكثر من أربع مرات.
معرفة الصحابة وأتباعهم
ومعرفة الصحابة وأتباعهم.
"ومعرفة الصحابة وأتباعهم" هذان نوعان من أنواع علوم الحديث؛ لأننا إذا عرفنا الصحابي والتابعي تميز لنا المتصل من المنقطع وإذا عرفنا الصحابة -أيضًا- فلا نحتاج إلى إثبات عدالته في الرواية؛ لأن الصحابة -رضي الله تعالى- عنهم كلهم عدول، ولا يسأل عنهم في ذلك.
التابعي -أيضا- إذا عرفنا أن فلانًا تابعيًّا فإن غالب التابعين يتجوز العلماء فيهم إذا وجدت بعض القرائن الدالة على أنهم سلموا من وصمة الكذب أو من الخطأ الفاحش، فإذا جاء عندنا راو مثلا من التابعين ولم يذكر بجرح ولا تعديل لكن كانت روايته عن الصحابة وروى عنه الثقاة، يعني: مثل هذا يتجوزون فيه ويجعلون حديثه مقبولا، بخلاف غيره من الطبقات الأخرى، فإنهم كلما ابتعدت الطبقة كلما تشددوا.(1/101)
الصحابي: هو مَن لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - مؤمنًا به ومات على ذلك، يعني: لقي النبي -صلى الله عليه وسلم، هذا شرط، أن يكون لقي النبي -عليه الصلاة والسلام- في حال حياة النبي -عليه الصلاة والسلام- مؤمنًا بالنبي -صلى الله عليه وسلم، فإن لقيه وهو كافر، ثم أسلم بعد ذلك، فلا يكون صحابيًّا، ومثلوا له برسول قيصر لقي النبي - عليه الصلاة والسلام - كافرًا، ثم أسلم في عهد عمر -رضي الله عنه، فلا يسمى صحابيًّا، لا بد أن يكون حال لقاء النبي -عليه الصلاة والسلام- مؤمنًا، كذلك يموت على الإسلام.
أما إذا لقي النبي -عليه الصلاة والسلام- مؤمنًا ثم ارتد ومات على الكفر كعبد الله بن جحش فإنه لا يسمى صحابيًّا؛ لأن الردة تحبط العمل وتُذهب الصحبة.
الصحابة -رضي الله عنهم- يتوفر هذا في الشخص فإنه يسمى صحابيًّا، كذلك التابعي: وهو من لقي الصحابي مؤمنًا بالنبي -عليه الصلاة والسلام- ومات على ذلك، ومن التابعين طبقة يسمون المخضرمين، والمخضرم: هو من آمن بالنبي -عليه الصلاة والسلام- في حياته ولم يلقه، أو أنه لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - كافرًا ثم آمن ولم يلقه بعد إيمانه.
إذا آمن بالنبي - صلى الله عليه وسلم - والنبي - صلى الله عليه وسلم - موجود لكنه لم يلق النبي - صلى الله عليه وسلم - فيسمى مخضرمًا، هذه طبقة من كبار طبقات التابعين كقيس بن أبي حازم، كأبي عثمان المهدي، كمسروق، هؤلاء آمنوا في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - لكنهم لم يلقوا النبي -عليه الصلاة والسلام- هؤلاء من كبار التابعين.
رواية الأكابر عن الأصاغر
ومن روى من الأكابر عن الأصاغر كرواية النبي - صلى الله عليه وسلم - عن تميم الداري والصِّديق وغيرهما، ويلقب -أيضًا- برواية الفاضل عن المفضول، ورواية الشيخ عن التلميذ، كرواية الزهري ويحيى بن سعيد وربيعة وغيرهم عن مالك.(1/102)
هذا رواية الأكابر عن الأصاغر، الأكابر: يراد به أحيانًا الأكابر سنًّا وإسنادًا، يعني: أن يكون أعلى طبقة، أو يكون المراد به القسم الثاني وهو الأكبر قدرًا، فالأكابر.. فتأتي الأكابر سنًّا وإسنادًا، وتأتي الأكابر قدرًا، ويتركب من هذا ثلاثة أنواع، ثلاثة أشياء:
قد يكون الراوي أكبر سنًّا ممن روى عنه وقدرًا، كرواية النبي -عليه الصلاة والسلام- عن أبي بكر الصديق، وروايته عن عمر وروايته عن سعد بن عبادة، هذا أكبر سنًّا وقدرًا -عليه الصلاة والسلام.
وأحيانًا تكون من رواية الأكابر سنًّا لا قدرًا، كما روى عبد الله بن دينار عن مالك بن أنس؛ عبد الله بن دينار أكبر سنًّا لكنه ليس أكبر قدرًا من الإمام مالك، كذلك ربيعة روى عن تلميذه مالك، فهو أكبر سنًّا لا قدرًا من الإمام مالك.
وأحيانًا يكون الراوي أ كبر قدرًا لا سنًّا كروية الإمام أحمد -رحمه الله- عن شيخه عبيد الله بن موسى العيشي، الإمام أحمد أكبر قدرًا منه وليس سنًّا، فهذه كلها يطلق عليها رواية الأكابر عن الأصاغر، لكن غالب ما تطلق على رواية الأكابر سنًّا وإسنادًا؛ فلهذا كان من أهم..يعني أو كانت معرفة هذا النوع مهمة؛ لأجل ألا يتوهم أن في الإسناد انقلابًا على الراوي، لأن عادة الصغير هو الذي يروي عن الكبير، لكن روى الكبير عن الصغير، فقد يُظن أن في الإسناد انقلابًا على الراوي.
قال المؤلف: ويلقب -أيضًا- برواية الفاضل بالمفضول، هذا يتعلق بما إذا روى الأكبر قدرًا عن الأصغر قدرًا، ورواية الشيخ عن التلميذ.. عادة الرواة الأكبر سنًّا وإسنادًا عن الأصغر سنا وإسنادًا، يقال: كرواية الزهري ويحيى بن سعيد وربيعة وغيرهم عن مالك، يعني: الزهري روى عن الإمام مالك، والزهري شيخ للإمام مالك، فهو من رواية الشيخ عن تلميذه، وكذلك يحيى بن سعيد روايته عن مالك من رواية الشيخ عن تلميذه، وكذلك رواية ربيعة بن عبد الرحمن.
رواية النظير عن النظير(1/103)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال رحمه الله تعالى: ورواية النظير عن النظير، كالثوري وأبي حنيفة عن مالك حديث " الأيِّمُ أحقُّ بنفسِها من وَليِّها ".
بسم الله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله ومن اهتدى بهداه، قال المؤلف: "ورواية النظير عن النظير"، هنا النظير عن النظير تحتمل أن يكون المراد القرين عن القرين، وهو مشهور عن العلماء، رواية الأقران بعضهم عن بعض، ويحتمل أنه يريد بالنظير ههنا يريد به معنى أخص من القرين، وهو أن يكون كل واحد منهما مشهورًا بالعلم، وقد مثل ههنا برواية الثوري وأبي حنيفة عن مالك.
الثوري يعتبر قرينًا لمالك، ويعتبر قرينًا لأبي حنيفة، مالك أيضًا وإن كان أصغر من أبي حنيفة ولكنه أيضًا قد يكون مقاربًا له في الإسناد؛ لأن الثوري توفي سنة مائة واثنين وستين ومالك مائة وتسعة وسبعين، وأبو حنيفة توفي سنة مائة وخمسين، فهم متقاربون؛ فرواية الثوري وأبي حنيفة عن مالك هذه تسمى برواية القرين عن قرينه.
نبّه العلماء -رحمهم الله- على هذا النوع لئلا يظن المطلع على الإسناد أن في الإسناد خطأ أو أن فيه تصحيفًا وتحريفًا، فيظن أنه بدلا من أن يقول عن الثوري وأبي حنيفة ومالك أنه تحرف عنده عن مالك، هذا قد يظنه الظان لذا نبه العلماء على أن الأقران يروي بعضهم عن بعض. نعم.
معرفة رواية الآباء عن الأبناء
ومعرفة رواية الآباء عن الأبناء كرواية العباس عن ابنه الفضل وعكسه، وكذا رواية الأم عن ولدها.
هذا: "معرفة رواية الآباء عن الأبناء كرواية العباس عن ابنه الفضل وعكسه"، يعني: عكسه معرفة رواية الأبناء عن الآباء، لكن قدم رواية الآباء عن الأبناء لأنها خلاف الأصل، الأصل أن الابن يروي عن أبيه، وهذه روايات كثيرة: ابن عمر عن أبيه، عبد الله بن أحمد عن أبيه، المعتمر بن سليمان عن أبيه، كثيرًا جدًّا.(1/104)
يبقى بعد ذلك رواية الأب عن ابنه، هذه خلاف الأصل؛ لأجل أنها خلاف الأصل قدمها المؤلف -رحمه الله- وذكر رواية الأبناء عن الآباء بقوله: (وعكسه) يعني: لأنهما نوعان متقابلان وإن كانت رواية الابن عن أبيه هذه رواية معروفة مشهورة، ولا يوقع في ذلك اللبس، أما هنا إذا روى الأب عن ابنه فإن هذا خلاف الأصل، فقد يظن ظانٌّ أن في الإسناد خطأ وانقلابًا وأن الأصل أن يكون الابن عن أبيه، لكن هذه واقعة كثيرًا كما مثل المؤلف رواية العباس عن ابنه الفضل، ورواية الفضل عن أبيه العباس كلاهما موجودان كذلك.
قال: "ورواية الأم عن ولدها"، قال: كرواية أم رومان عن عائشة -رضي الله عنها، أم رومان زوجة أبي بكر روت عن ابنتها عائشة -رضي الله عنها، فهذه من رواية الأم عن ولدها، كذلك رواية أنس عن ابنته أمينة في الصحيح هذا كله من رواية الأب عن ولده. نعم.
معرفة المُدَبَّج
ومعرفة المُدَبَّج، وهو رواية الأقران بعضهم عن بعض، فإن روى أحدهما عن الآخر ولم يرو الآخر عنه فغير مدبج.
قال: "ومعرفة المدبج" ثم عرّفه بقوله: وهو رواية الأقران بعضهم عن بعض، الحديث المدبج هذا النوع من أنواع علوم الحديث، لا بد أن يكون الراوي عن الآخر، لا بد أن يكونا قرينين، والقرين: هو الذي يكون مشاركًا له في الطبقة يعني في السن والإسناد، يكون السن مقاربًا أو يكون الإسناد مقاربًا، بحيث يكون شيوخهما وتلاميذهما متقاربين في السن، أو تكون الأسانيد أيضًا.. يعني: عادة يكون ما بينه وبين النبي -عليه الصلاة والسلام- إلا يكون عددهم غالبًا معينًا أو محددًا أو متقاربًا، هذا الذي يسمى رواية الأقران؛ إذن لا بد في المدبج أن يكونا قرينين، والثانية: لا بد أن يروي أحدهما عن الآخر.(1/105)
ليس المراد أن هذا يروي نفس الحديث بعينه عنه، وهذا يروي عنه، لا! ولكن يريدون: إذا كان هذا يروي عنه أي حديث، والآخر يروي عن الآخر أي حديث، فإنا نجعل رواية هذا ورواية هذا ونسميه - الرواية- رواية المدبج.
هذا مثل ما قالوا في عائشة وأبي هريرة؛ أبو هريرة روى عن عائشة بعض الأحاديث،، وعائشة روت عن أبي هريرة بعض الأحاديث، هذا نسميه -رواية عائشة عن أبي هريرة- من المدبج، ورواية أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- عن عائشة من المدبج، كذلك قالوا مالك والأوزاعي؛ مالك روى عن الأوزاعي، والأوزاعي روى عن مالك، فنسمي رواية مالك عن الأوزاعي من رواية المدبج، ونسمي رواية الأوزاعي عن مالك من رواية المدبج.
إذن فلها شرطان
الشرط الأول: أن يكونا قرينين.
والشرط الثاني: أن يروي أحدهما عن الآخر.
معرفة المدبج هذا مهم؛ لأن المطلع على الإسناد إذا لم يكن له علم بمثل هذه الروايات قد يظن أن في الإسناد خطأ؛ لأنه من رواية الأقران بعضهم عن بعض.
عندنا قال المؤلف: "فإن روى أحدهما عن الآخر ولم يروِ الآخر عنه فغير مدبج"، يعني فهو من رواية الأقران، إذا روى أحدهما عن الآخر ولم يروِ الآخر عنه، يعني إذا روى القرين عن قرينه، لكن الآخر لم يروِ عنه؛ فهذا يسمى رواية الأقران، وقد تكون هي المرادة قبلُ في كلام المؤلف بقوله: "رواية النظير عن النظير".
قالوا: عندنا زائدة بن قدامة هذا روى عن زهير بن معاوية، ولكن زهير بن معاوية ما روى عن زائدة بن قدامة، مع أنهما قرينان، لكن افتقد شرطا من شروط المدبج، وهو أن يكون أحدهما روى عن الآخر، زائدة روى عن زهير لكن زهيرا ما روى عن زائدة، فصارت الرواية رواية الأقران وليست من رواية المدبج.
معرفة رواية الإخوة والأخوات
ومعرفة رواية الإخوة والأخوات، كعمر وزيد ابني الخطاب.(1/106)
"ومعرفة رواية الإخوة والأخوات، كعمر وزيد ابني الخطاب"، يعني: من أنواع علوم الحديث معرفة رواية الأخوة والأخوات، يعني أن بعض الأخوة يكونون رواة، وبعض الأخوة قد يكون يروي الأخ وأخوه، وقد يروي الأخ وأخته، وقد تروي الأخت وأختها، فإذا عرفنا أن هذا الراوي له أخوة يروون، وعرفنا أن هذا الراوي له أخت تروي، وعرفنا أن هذه الأخت لها أخت تروي؛ هذا يمنع من الوقوع في التصحيف والتحريف، خاصة عندما يكون الاثنان متقاربين، خاصة في العهد الأول؛ لأنه ما كان هناك يوجد النقط والحروف متقاربة أحيانا.
مثل ما ذكروا في رواية محمد بن سيرين ومعبد بن سيرين، معبد مقاربة لمحمد في الكتابة، فالمشهور محمد، ومعبد يروي لكن ليس بمشهور، فإذا ورد في الإسناد معبد، ولا يعرف الإنسان أن لمحمد بن سيرين أخا بهذا الاسم؛ فإنه قد يظن أن الإسناد فيه خطأ، وأن الصحيح أنه محمد.
كذلك يعني معرفته مهمة؛ لأن غالب الرواة الذين تنقلب عليهم الأسماء أو يخطئون فيها إنما تحدث في مثل هذا النوع أحيانا، كما جاء في عمرو بن دينار وعبد الله بن دينار؛ لأنهم كانوا يعتمدون على الحفظ، فيحفظ على المشهور أنه عمرو بن دينار، وعبد الله أقل رواية من أخيه عبد الله بن دينار، فأحيانا يوهم بينهما ويخلط؛ فلذلك نبه العلماء عليهما حتى يتأكد الإنسان من الأخوة والأخوات، وأن هذا الراوي له أخ يروي، حتى يكون مميزا لمرويات هذا عن مرويات هذا، حتى لا يقع الخطأ، خاصة حينما يكون أحد الأخوين ضعيفا، كما في محمد بن عيينة وسفيان بن عيينة، سفيان ثقة من أئمة المسلمين وأخوه محمد ضعيف، فالإنسان الذي لا يعرف أن هناك راويا اسمه محمد بن عيينة فقد يظن أن في الإسناد تحريفا أو خطأ؛ فيقول: إنه سفيان، فيصحح الحديث بناء على هذا، نعم.
السابق واللاحق
ومن اشترك عنه الرواية اثنان تباعد ما بين وفاتهما كالسرّاج فإن البخاري روى عنه، وكذا الخفّاف وبين وفاتهما مائة وسبع وثلاثون أو أكثر.(1/107)
هذا النوع من أنواع علوم الحديث يعرف بالسابق واللاحق، وفيه تصنيف للخطيب البغدادي مطبوع، هذا النوع يقول: "ومن اشترك عنه في الرواية اثنان تباعد ما بين وفاتيهما كالسرّاج فإن البخاري روى عنه، وكذا الخفاف وبين وفاتيهما مائة وسبع وثلاثون أو أكثر"، هذا يمكن ما يفهم واضحا إلا بالمثال، عندنا الإمام البخاري توفي سنة مائتين وستة وخمسين، وعندنا محمد بن إسحاق السراج توفي ثلاثمائة وثلاثة عشر، وعندنا أبو الحسين الخفاف توفي سنة ثلاثمائة -وليس مائتين- توفي سنة ثلاثمائة وثلاثة وتسعين أو أربعة وتسعين أو خمسة وتسعين، على خلاف، فعندنا أحد هؤلاء الرواة سابق والآخر لاحق، والآخر يشتركان في الرواية عنه؛ يعني فيه ثلاثة أطراف: فيها سابق، ولاحق، ومتعلق بالسابق واللاحق، فيه ثلاثة أشياء.
عندنا السراج المتوفى سنة ثلاثمائة وثلاثة عشر، هو الذي يتعلق به السابق واللاحق، والسابق في الرواية عن السراج هو الإمام البخاري، توفي سنة مائتين وستة وخمسين، هذا من رواية الأكابر عن الأصاغر؛ لأن الإمام البخاري أكبر سنا وأكبر قدرا من السرّاج، السرّاج هذا يروي عن البخاري لكن البخاري روى عنه، الإمام البخاري روى عن السراج مع أنه أصغر منه بكثير، ولكنه روى عنه، البخاري روى عن السراج، والسراج متوفى سنة ثلاثمائة وثلاثة عشر، والبخاري توفي سنة مائتين وستة وخمسين.
رواية البخاري نسميها السابق، ونسمي رواية الخفاف عن السراج؛ لأن الخفاف روى عن السراج، والخفاف متأخر توفي سنة ثلاثمائة وثلاثة وتسعين أو أربعة وتسعين أو خمسة وتسعين، فنسمي رواية الخفاف اللاحق، فصار السابق البخاري، واللاحق الخفاف، ومتعلق السابق واللاحق هو السراج، هذا النوع من أنواع علوم الحديث يعرف بأنه السابق واللاحق.
رواية الوحدان
ومن لم يروِ عنه إلا واحد من الصحابة فمَن بعدهم، كمحمد بن صفوان لم يروِ عنه غير الشعبي.(1/108)
هذا نوع أيضا: من لم يروِ عنه إلا واحد من الصحابة فمَن بعدهم، هذا النوع يسمى الوحدان، قوله: ومن لم يروِ عنه إلا واحد، سواء كان هذا المروي عنه مِن الصحابة أو مَن بعد الصحابة، يعني إذا وجدنا رجلا لا يروي عنه إلا راوٍ واحد فقط فنسميه هذا رواية الوحدان؛ لأنه واحد تفرد بالرواية عنه، قال المؤلف: كمحمد بن صفوان الأنصاري لم يروِ عنه غير الشعبي، كذلك عروة بن المبرد لم يروِ عنه غير الشعبي، كذلك قُرة بن إياس لم يروِ عنه إلا ولده، كذلك سعيد بن المسيب لم يروِ عنه إلا ولده، كذلك المِسْوَر بن رفاعة لم يروِ عنه إلا الإمام مالك.
هذا النوع من أنواع علوم الحديث المتفرد عنه قسمان: إما أن يكون صحابيا فهذا لا يسأل عنه، وإما أن يكون غير صحابي، فإذا لم يكن صحابيا بل كان من التابعين فمَن بعدهم، فهذا هو الذي يعرف عند العلماء بمجهول العين؛ لأنه لم يروِ عنه إلا راو واحد، العادة أن الذي لم يروِ عنه إلا راو واحد يعتبر مجهولا، لكن في طبقة التابعين أو أتباع التابعين أحيانا يُتَجَوّز إذا كان الراوي عنه من كبار الثقات ولم يعرف عنه أنه أتى بشيء منكر.
من عُرف بأسماءٍ أو نعوت متعددة
ومن عُرف بأسماءٍ أو نعوت متعددة، كمحمد بن السائب الكلبي المفسِّر.
هذا هو من عُرف بأسماءٍ أو نعوت متعددة، كمحمد بن السائب الكلبي المفسر"، يعني من أنواع علوم الحديث نوع يعرّف الإنسان بالأسماء أو الصفات التي تكون لموصوف أو مسمى واحد؛ لأن بعض الرواة قد تكون له... يسمى بأسماء متعددة أو يوصف بصفات متعددة كثيرة، وهذا النوع من أنواع الحديث هذا مما يكشف به تدليس الشيوخ، مثّل المؤلف بمحمد بن السائب الكلبي المفسر، هذا عند العلماء كذّاب، وقد كان يدلسه عطية العوفي، يقول: حدثنا أبو سعيد؛ فيظنون أنه أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - لأن عطية العوفي له رواية عن أبي سعيد الخدري، فيدلس هذا يقول: حدثنا أبو سعيد، فيظن الظان أنه أبو سعيد الخدري.(1/109)
لكن إذا عرف أنه محمد بن السائب الكلبي هذا يسمى محمد بن السائب، ويكنى بأبي سعيد، ويكنى بأبي هشام، ويكنى بأبي النضر، ويسمى محمد بن السائب بن بشر، ويسمى حماد بن السائب، استطاع أن يتوصل إلى معرفة هذا الراوي الذي دُلس، أما إذا كان لا يعرف مثل هذا النوع فقد يخفى عليه التدليس، وقد يُجَهِّل الثقة أو يُضَعِّف الثقة وقد يكون العكس، هذا النوع من الأنواع المهمة، نعم.
معرفة الكنى والأسماء والألقاب
ومعرفة الأسماء والكنى والألقاب.
معرفة الكنى والأسماء والألقاب، هذا يعني يكون عنده معرفة بأسماء الرواة وكناهم وألقابهم، حتى لا يظن أن الواحد جماعة؛ لأنه قد يكون عندنا مجموعة من الناس يشتركون في اسم، أو يشتركون في لقب، أو يشتركون في كنية، فقد يظن الظان أنهم كلما وردوا في الأسانيد أن هؤلاء يكون هو شخص واحد، مثل إذا جاءنا مثلا سفيان الثوري وسفيان بن عيينة، جاءنا في الإسناد سفيان، أحيانا يشتركان في الشيوخ والتلاميذ، عند العلماء قواعد وضوابط لمثل هذا، قالوا مثلا في السفيانين إذا صار فيه اختلاف في الغالب أنه يراد به الثوري، إذا كان الراوي عنه + تعين أنه الثوري وليس ابن عيينة، كذلك يحصل في الحمادين: حماد بن سلمة، وحماد بن زيد، إذا عرفنا هذا ميزنا بين الرواة الذين.. يعني عرفنا الأسماء والكنى والألقاب تمكنا من معرفة مثل هذه الأشياء.
عندنا يعني ذكروا عن الإمام علي بن المديني -رحمه الله- أنه أخطأ في مثل هذا، وذلك أن سهيل بن أبي صالح له أخ يقال له عبد الله، وجاء في بعض الأحاديث تسميته بعَبَّاد، في بعض الأسانيد تسميته بعباد، فظن علي بن المديني -رحمه الله- أنهما اثنان أن عبد الله وعَبَّاد، لكن إذا عرفنا أن هذا الراوي يسمى بأسماء متعددة عرفنا أن هذه الأسماء تطلق على واحد، وإذا عرفنا العكس عرفنا أن الرواة قد يشتركون في اسم واحد تميز ذلك.
معرفة من اشتهر بالاسم دون الكنية وعكسه(1/110)
ومعرفة مفردات ذلك، ومن اشتهر بالاسم دون الكنية وعكسه.
يعني معرفة مفردات ذلك، هذا المفروض أن يكون تابعا للنوع الذي قبله؛ المفروض: "معرفة الأسماء والكنى والألقاب ومعرفة مفردات ذلك"، أو يكون نوعا منفصلا، ثم يأتي: "ومن اشتهر بالاسم دون الكنية وعكسه"، هذا الأوْلى لكن الترقيم.. يعني بالمفردات هنا يقول: ومعرفة مفردات ذلك، يعني أن الأسماء والكنى والألقاب قد تقع فيها أسماء أو كنى أو ألقاب مفردة، يعني لا يشارك الراوي فيها أحدا، يعني لا يشارك الراوي فيها أحد من الناس، يعني ما نجد هذا اللقب إلا يطلق عليه، ما نجد هذا الاسم إلا يطلق عليه، ما نجد هذه الكنية إلا تطلق عليه.
قالوا مثل: سفينة مولى النبي -عليه الصلاة والسلام- ما في سفينة إلا مولى النبي -عليه الصلاة والسلام- هذا لقب، مثل مندل هذا أيضا لقب، مثلا عندنا أحمد بن عجيان هذا اسم لواحد فقط، عندنا شكل بن حميد هذا اسم لواحد، عندنا أبو العُبيدين هذا واحد، لكن ليس هناك اثنان بهذا الاسم، أبو العُشراء الدارمي أيضا واحد، نعم فإذا عرفنا هذه الأسماء أو الكنى والألقاب المفردة حفظنا أنه ليس في الباب إلا فلان، فمتى ما ورد علينا في أي إسناد عرفنا أنه فلان؛ لأنه لا يسمى ولا يكنى ولا يلقب من الرواة بهذا اللقب إلا هو.(1/111)
"ومن اشتهر بالاسم دون الكنية وعكسه"، يعني أننا نعرف المشتهرين بالأسماء دون الكنى؛ لأن بعض الرواة يشتهرون بالأسماء لكن لا يعرفون بالكنى، مثل الزبير بن العوام يكنى بأبي عبد الله، لكن المشهور أنه الزبير، مثل عندنا عبد الله بن عمرو بن العاص يكنى بأبي محمد، لكنه مشهور بأنه عبد الله بن عمرو بن العاص، عندنا بعض الرواة على العكس من ذلك يشتهرون بالكنى دون الأسماء، يعني مشهور بكنيته دون اسمه، كأبي هريرة وأبي ثعلبة الخشني وأبي بكر الصديق - رضي الله عنه - هؤلاء معروفون بكناهم، مشهورون بالكنى لكن أسماءهم غير مشهورين بها، وبعضهم قد يكون مشتهرا بهذا، وهذا كما ذكروا في أبي موسى الأشعري، مشهور بالكنية ومشهور بأنه عبد الله بن قيس؛ ولهذا جاء في الأحاديث بهما، نعم.
معرفة من وافق اسمه اسم أبيه
ومن وافق اسمه اسم أبيه.
" ومن وافق اسمه اسم أبيه": بعض الرواة قد يكون اسمه اسم أبيه، كما في عبد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إذا عرفنا أن هناك بعض الرواة يسمى باسم أبيه؛ هذا يدفع توهم أن يكون في الإسناد تحريفا أو تكرارا؛ لأن الواقف على الإسناد قد يظن أن عبد الله مكرر، أو يظن أن في الإسناد تحريفا، وأنه عبد الله بن عبد الله بن عبد الله، ولا يعتقد أنه عبد الله عن عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لأنه يعتقد عادة أن الأب لا يسمي ابنه باسمه.(1/112)
كذلك ذكروا في الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - هذا الحسن بن الحسن قد يظن الظان أنه الحسن عن الحسن، قد يظن الظان أنه... إذا رأى الحسن عن أبيه وليس في الإسناد كلمة أبيه، يقول: الحسن عن الحسن بن علي بن أبي طالب، قد يظن أن الحسن هذا ليس هو ولد الحسن بن على بن أبي طالب - رضي الله عنه - كذلك ذكروا أيضا من ضمنهم الحجاج بن الحجاج الأسلمي يأتي فيه مثل هذا الإشكال، يظن الظان إذا قال: الحجاج عن الحجاج يعتقد أنه الحجاج بن الحجاج فيحرف عن إلى كلمة ابن؛ فدفعا لهذا التوهم ذكر العلماء هذا.
المؤتلف والمختلف والمتفق والمفترق وما تركب منهما والمتشابه
والمؤتلف والمختلف، والمتفق والمفترق، وما تركب منهما، والمتشابه والمنسوب إلى غير أبيه.
هذه أربعة أنواع، المؤتلف والمختلف، والمتفق والمفترق، وما تركب منهما، والمتشابه؛ هذه الأنواع مهمة لأنها تمنع الخلط واللبس بين الرواة، الخلط واللبس في الرواة، فالمؤتلف والمختلف، المؤتلف: هو الاتفاق في صورة الخط مع الاختلاف في النطق، عندنا الآن كلمة أحمد، هذه أحمد وفي بعض الرواة اسمه أجمد بن عُجيان، فيه أحمد وفيه أجمد، العلماء يقولون في صورة الخط بقطع النظر عن النقط أو الشكل؛ لأنها في هذا الباب لا اعتبار لها؛ لأن أصل النقط والشكل حادث، لكن صورة الخط إذا كتبنا كلمة أحمد أو أجمد مجردة عن النقط والشكل تقرأ واحدا، صورة الخط واحدة، هذا يسمى مؤتلف في الصورة مختلف في النطق؛ لأننا إذا نطقنا نقول أجمد، وإذا نطقنا الآخر نقول أحمد، هذا يسمى مؤتلف، يعني ائتلف في الصورة واختلف في النطق.(1/113)
النوع الثاني: وهو المتفق والمفترق والمتفق في صورة الخط، المفترق: يعني يتفق في الاسم ويعني يتفق في صورة الخط، لكن الأشخاص تختلف، عندنا أحمد بن جعفر بن حمدان؛ هذا الاسم لو قرأته لمجموعة من الرواة أو الأشخاص لكن ذواتهم مختلفة، أحدهم نيسابوري، وأحدهم يقال له القطيعي، وأحدهم ينسب إلى مكان آخر، لكن اتفقوا في الخط والنطق، إنا الآن نطقهم أحمد، لكن أحمد هذا ليس هو أحمد الآخر، الشخص هذا مختلف عن الشخص الآخر، فهذا يسمى متفق؛ لأنه متفق في الصورة والنطق، مفترق في الحقيقة، هذا فلان وهذا فلان.
قال: " وما تركب منهما "، هذا ما تركب منهما هو نوع من أنواع المتشابه -كما سيأتي إن شاء الله- كان الأوْلى أنه يقول المتشابه، كما يذكره العلماء ويقسمون المتشابه إلى أنواع.
المتشابه عندنا أحيانا.. أو المتشابه هو نوع مركب من المؤتلف والمختلف، ومن المتفق والمفترق، عندنا الآن إذا قلنا: عبد الله بن خباب وعبد الله بن جناب، الكلمة الأولى "عبد الله" هذه متفقة في الصورة والنطق، و"خباب" هذه مع "جناب" مؤتلفة في الصورة مختلفة في النطق، فصار عندنا يكون الاتفاق في الاسم والاختلاف في اسم الأب؛ لأن الأب جناب وخباب فيه اختلاف، واسم الشخص أو الراوي اسمه واحد، الاسم واحد والحقيقة مختلفة؛ لأن هذا ذات وذاك ذات أخرى، هذا مركب من النوعين هذا في الأول يسمى متفق، وفي الثاني يكون من باب المؤتلف والمختلف.(1/114)
قالوا: عندنا نابت بن يزيد وثابت بن يزيد، نابت وثابت، نابت مع ثابت هذا يسمى من المؤتلف؛ لأن صورة الخط واحدة، فهو مؤتلف في الصورة، لكنه في النطق مختلف؛ لأننا إذا نطقنا نقول: هذا نابت وهذا ثابت لكن في الكتابة صورة الخط واحدة، فهذا مؤتلف مختلف في الاسم، وفي اسم الأب "يزيد" متفق، فجمع عندنا بين.. يكون هناك اختلاف في الاسم واتفاق في اسم الأب. عندنا محمد بن عبد الله المخْرَمي، والآخر المخرَّمي، محمد بن عبد الله اتفقا في الاسم مع اسم الأب والاختلاف في النسبة؛ لأن المخْرَمي والمخرَّمي كتابتهما واحدة لكن النطق مختلف، ففيه اتفاق في الأول محمد مع محمد متفق وعبد الله مع عبد الله متفق، المخرمي مع المخرَّمي هذا من باب المختلف، فهذا فيه اختلاف في النسبة.
هذا النوع من أنواع علوم الحديث يسمى المتشابه، وقول المؤلف قبل ذلك: "وما ركب منهما"، هذا يدخل فيه ما تقدم، يدخل فيه أحد الأنواع الثلاثة؛ لأن كلام المؤلف ليس بيِّنا في المراد بهذا، ليس بينا في المراد بهؤلاء؛ لأن ما ذكره العلماء في التقسيم أن المتشابه في أصله مركب من النوعين، نعم.
معرفة المنسوب إلى غير أبيه
والمنسوب إلى غير أبيه كبلال بن حمامة.
والمنسوب إلى غير أبيه، هذا النوع مهم؛ لأن الراوي إذا نسب إلى أبيه أحيانا قد يتوعر طريق الوصول إليه، لا تستطيع أن تهتدي إليه؛ لأن العادة أن الرواة ينسبون إلى آبائهم، لكن في بعض الرواة ينسب إلى غير أبيه، إما ينسب إلى أمه كبلال بن حمامة، وهو بلال بن رباح - رضي الله عنه - وكشرحبيل بن حسنة هذا منسوب إلى أمه، وأحيانا ينسب الراوي إلى جده وقد ينسب إلى جدته وقد ينسب إلى رجل آخر في معنى من المعاني، كما قالوا في المقداد بن معد، قالوا: إنه يقال له المقداد بن الأسود والأسود هذا زوج أمه؛ إنما لقب بذلك لأنه كان ربيبا له، لأن المقداد كان ربيبا للأسود -رضي الله تعالى عنه وأرضاه-.(1/115)
النسبة التي يسبق إلى الفهم منها شيء وهي بخلافه
والنسبة التي يسبق إلى الفهم منها شيء، وهي بخلافه، كأبي مسعود البدري فإنه نزلها ولم يشهدها.
الراوي أحيانا يُنسب إلى شيء، فبمقتضى الشهرة تنصرف النسبة إلى ذلك الشيء، مع أنه ليس منسوبا إليه في حقيقة الأمر، كما ذكروا في أبي مسعود البدري - رضي الله عنه - يقال: في العادة إذا قالوا بدري ينصرف إلى من شهد غزوة بدر، هذا هو الغالب، لكن هنا ذكر بعض العلماء -وإن كان فيه خلاف- أن أبا مسعود البدري - رضي الله عنه - لم يشهد بدرا وإنما نزل المكان الذي يسمى بدرا فسمي بدريا، وقالوا أيضا: مثل خالد الحذَّاء -رحمه الله- هذا يقال له خالد الحذَّاء وليس على ظاهر اللقب؛ لأن الحذَّاء عادة ينسب إلى صناعة الأحذية؛ ولكن المراد هنا سُمي بهذا الاسم لأنه كان يجلس بجوار الحذَّائين، نعم.
المبهمات التي تقع في الإسناد
والمبهمات.
والمبهمات يعني المبهمات التي تقع في الإسناد؛ إذا كان في الإسناد مبهم غير مسمى، أو في المتن مبهم غير مسمى، فيسمى مبهما، كأن يقال: عن رجل أو عن أخي فلان، أو عن عم فلان أو عن أخت فلان، أو عمة فلان أو خالة فلان، أو ابن عم فلان أو عن رجل، أو عن من حدثنا أو نحو ذلك، هذه تسمى المبهمات؛ لأنها لم تسمَّ.(1/116)
هذه المبهمات فائدة معرفتها أنها إذا وقعت في الإسناد فإنها تضعف الإسناد؛ لأن الإبهام نوع من أنواع الجهالة إذا كان غير الصحابي، أما الصحابي فلا تضره الجهالة، لو قال: عن رجل من الصحابة، أو عمّن سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا لا يضر، لكن إذا وقع في الإسناد غير الصحابة -رضي تعالى الله عنهم- فإنه حينئذ يقال الإسناد هنا ضعيف؛ لأن فيه فلان وهو مبهم، والإبهام نوع من أنواع الجهالة، إذا جاءنا طريق آخر يبين هذا المبهم ويسميه، فننظر إذا كانت الطريق الأخرى طريق صحيحة وقوية ومحفوظة فإنها تبيّن هذا الرجل، سواء كان ثقة أو غير ثقة، وينبني عليه الحكم، أما إذا كانت الرواية ليست قوية فلا يمكن أن تبين هذه الرواية.
النوع الثاني يقع في المتن، يأتي في متن الحديث: دخل رجل على النبي - صلى الله عليه وسلم - أو وافت النبي - صلى الله عليه وسلم - امرأة فقالت له، هذا ما يضر وإن كان أحيانا تسميته فيه فوائد خاصة في باب الناسخ والمنسوخ ومعرفة الفضائل، لكن في العادة أنه لا يضر في الحديث شيئا، بمعنى أنه لا يترتب عليه تصحيح ولا تضعيف للحديث؛ لأن الجهالة فيه حينئذ لا تضر؛ لأن الاعتبار إنما هو في ما قاله النبي -عليه الصلاة والسلام- أو فعله أو حكم به.
معرفة التاريخ والوفيات
والتواريخ والوفيات.(1/117)
والتاريخ والوفيات: التاريخ معرفته مهمة؛ لأن به نعرف تاريخ سماع الراوي، ونعرف هل أدرك الراوي ذلك الراوي الآخر أو لا، ونعرف أيضا به الرحلات، تواريخ الرحلات ونحوها؛ فالتاريخ هنا عام يشمل جميع ما يؤرخ عن الراوي، في ولادته وفي تاريخ سماعه وفي تاريخ رحلته، وتاريخ وفاته، وتاريخ لقياه الشيوخ وتاريخ اختلاطه؛ إذا اختلط فهو مهم لأن أحيانا تترتب صحة الحديث وضعفه على معرفة التاريخ، إذا عرفنا أن فلانا اختلط سنة مائة وثلاثين، وعرفنا أن فلانا لم يلتق به إلا في سنة اثنتين وثلاثين، فإننا نحكم على الحديث حينئذ بأنه ضعيف؛ لأنه من رواية فلان عن فلان بعد الاختلاط، كما سيأتي -إن شاء الله- في المختلطين.
وقوله والوفيات هذا نوع من أنواع التواريخ؛ لأن معرفة تاريخ الوفيات داخلة في التاريخ، التاريخ والوفيات تارة تعرف... مؤرخة بالسنة، وقد تكون بالشهر، وقد تكون باليوم، وأحيانا تكون مؤرخة بالأحداث؛ مثلا فلان توفي عام الرمادة، فلان توفي بعد الجمل، فلان مثلا توفي في خلافة عبد الملك بن مروان، وهكذا أحيانا يحدد بالتاريخ، وأحيانا يحدد بالحدث، وأحيانا قد يكون تاريخا مقاربا، وأحيانا لا يكون مقاربا.
معرفة التاريخ والوفيات هذا مهم؛ ولهذا كان بعض السلف يقول: لما كذب الرواة واستعمل الرواة الكذب استعملنا لهم التاريخ؛ لأنه إذا ورد عليهم الراوي قالوا: متى سمعت فلان، إذا قال مثلا: سمعته سنة مائة وخمسين تبين لهم أحيانا أن الراوي هذا قد توفي قبل سنة مائة وخمسين، أو يكون مثلا يقول: سمعت منه مثلا في مكة، متى؟ يقول مثلا عام مائة وأربعين فيتبين أنه في عام مائة وأربعين ليس في رحلة إلى مكة، فيحكمون أنه إما أخطأ أو كذب، نعم.
معرفة الثقات والضعفاء ومن اختلف فيه
ومعرفة الثقات والضعفاء، ومن اختلف فيه؛ فيرجح بالميزان.(1/118)
ومعرفة الثقات والضعفاء ومن اختلف فيه، هذا يرجع إلى ما تقدم وهو معرفة صفة الراوي، هذا له علاقة بصفة الراوي، معرفة الثقات والضعفاء، يعني مهمة لأننا نعرف أولا الكتب التي تذكر مثل هؤلاء؛ لأن هناك كتب مختصة بالثقات وكتب مختصة بالضعفاء، وكتب تجمع بين الثقات والضعفاء، فهذه معرفتها مهمة والكلام فيها طويل جدا.
ثانيا معرفة هؤلاء الذين يوثقون أو يضعفون، ومنازلهم في الجرح والتعديل؛ لأنه ليس كل من وثق نقبل قوله وليس كل من ضعف نقبل قوله، الثالثة -كما مر- نعرف ألفاظ التوثيق ونعرف ألفاظ التضعيف، لا بد من هذا.
قال ومن اختلف فيه فيرجح بالميزان، يعني أنه من اختلف فيه فيرجح بالميزان وهو الميزان الذي عرف من كلام الأئمة والعلماء في باب الجرح والتعديل؛ لأن لهم ضوابط يميزون بها في مثل هؤلاء الرواة، فأحيانا مثلا قد يختلف الرواة في راو بعضهم يوثقه وبعضهم يضعفه، فنجد مثلا أن الذهبي يقول ثقة، لماذا قال ثقة؟ لأن من ضعفه كان من المتشددين ولم يبرهن على تضعيفه.
قد أحيانا يضعف مثلا... يختلفون في راو فنجد أن ابن حجر يقبل التضعيف، يختار التضعيف دون التوثيق؛ لأنه رأى أن الموثق متساهل، وأن المضعف معتدل، رأى أن المضعف أيضا من أهل بلد هذا الرجل وهم أدرى بحاله، فهناك قواعد ليست محصورة بشيء معين لكنها قواعد غالبا إذا تبعها الإنسان فإن ميزانه في الرواة يكون منضبطا وإلا قد يقع في التناقض بين المتماثلات، كما يحصل في كثير من الرواة يقع فيه التناقض بين راويين تشابها أو تماثلا فيما قيل فيهما، والقرائن فيهما واحدة، فلعدم ضبط هذه القواعد وإدراكها على وجهها يخطئ فيوثق الضعيف ويضعف الثقة.
من اختلط في آخر عمره من الثقات وخرف منهم
ومن اختلط في آخر عمره من الثقات، وخَرِف منهم، فمن روى قَبْلَ ذلك عنهم قُبِلَ وإلا فلا، ومن احترقت كتبه أو ذهبت فرجع إلى حفظه فساء، ومن حدث ونسي ثم روى عمن روى عنه.(1/119)
هذا.. النوع الأول: ومن اختلط في آخر عمره من الثقات وخرف منهم فمن روى قبل ذلك عنهم قبل وإلا فلا، هذا يعرف برواية المختلط، وهذا من أهم أنواع علوم الحديث؛ لأن الاختلاط شيء يرجع إلى ضبط الراوي في زمن معين، فهناك رواة ثقات، هم ثقاة ولكنهم في بعض الأزمان من أعمارهم حديثهم ضعيف فضبطهم ليس ضعيفا مطلقا ولكنه ضعيف في زمن معين وهو زمن الاختلاط.
الاختلاط: يقولون إنه فساد العقل وعدم انتظام الأقوال والأفعال بسبب من الأسباب إما بأن يكون الإنسان قد خَرِف يعني كبر سنه فبلغ حد الهذيان وعدم الإدراك والتمييز، أو يكون مثلا يحدث من كتبه ولا يحفظها فحصل له عمى في عيونه فصار يحدث من حفظه فيخطئ ويخلط، أو كان ناتجا عن عرض من الأعراض أو عن مرض أو عن مثلا احتراق كتب كما ذكر المؤلف، أو ضياع كتب أو نحو ذلك، مثل هذا إذا رجع إلى كتبه بعد احتراقها وهو يعني إذا رجع إلى حفظه بعد أن احترقت كتبه فإنه لا يضبط لأن اعتماده على التحديث من كتابه، عدم ضبطه ها هنا ووقوعه في الأخطاء يسمى تخليطا، إذا كثر منه يقول العلماء هذا مخلط، كما قالوا في ليث بن أبي سليم وقالوا في ابن لهيعة وغيره، هؤلاء خلطوا لأنهم ما كانوا يعتمدون على حفظهم كانوا يعتمدون على الكتب.(1/120)
رواية المختلط عند العلماء لا نحكم عليها بالضعف ولا نحكم عليه بالقبول المطلق، لكن نفصل في حاله، نقول ننظر فيه، من روى عنه قبل أن يختلط وكان هذا الراوي من الثقاة هذا المختلط من الثقاة نحكم على حديثه بأنه صحيح، إذا روى عنه بعد الاختلاط نقول حديث ضعيف؛ لأن هذا الراوي وإن كان ثقة إلا أنه في هذا الزمن الذي حدث عنه ذلك الراوي يعتبر ضعيفا، أما إذا كان الراوي الذي خلط أصله ضعيف يعني عرفنا أنه ضعيف قبل الاختلاط، ولكن زاد الاختلاط ضعفا فهذا الحديث عنه قبل الاختلاط وبعد الاختلاط ضعيف، لكن الكلام في الثقات، إذا كان ثقة واختلط ننظر نقول: من روى عنه قبل الاختلاط نصحح حديثه، ومن روى عنه بعد الاختلاط فإننا لا نصحح حديثه، قالوا سعيد بن إياس الجُرَيْرِي هذا ممن خرجنا في الصحيحين ومن الثقاة المعروفين لكنه اختلط فقال العلماء.. سمع منه قبل الاختلاط شعبة والحمادان والثوري، فإذا جاء حديث رواه الثوري عن سعيد بن إياس الجريري نقول هذا صحيح لأن سفيان الثوري روى عن الجريرى في حال ضبطه لا في حال اختلاطه، إذا روى عنه شعبة نقول روى عنه في حال ضبطه لا في حال اختلاطه، لكن إذا جاءنا حديث آخر من رواية إسحاق الأزرق عن الجريري فالعلماء يقولون الحديث ضعيف علته أنه من رواية إسحاق عن الجريري وقد اختلط، روايته عنه بعد الاختلاط، بعد ذلك.
قال: " ومن حدث ونسي ثم روى عمن روى عنه "، يعني أن هناك نوع من أنواع الحديث يتعلق بمن حدث ونسي يعني الروي قد يحدث بحديث فينسى أنه حدث به فهذا له يعني عند العلماء له حالتان:(1/121)
الحالة الأولى: أن ينكر أن هذا الحديث من حديثه يقول ليس بحديثي، إذا كان ثقة قال هذا ليس بحديثي ولم أحدث به، فيقول العلماء يكون الحديث هنا ضعيفا، إذا كان الراوي عنه ثقة يقول الذي يروي عنه وهو ثقة أنت حدثتني بهذا الحديث يقول: ما حدثتك بهذا الحديث، قال العلماء هذا يجئ فيه نوع من أنواع العلة، وقد سبق أن المعل من أدق العلوم، قال العلماء هذا الحديث ضعيف ورجاله ثقاة، لكن إعلال الحديث.. يعني لا نجزم هل فعلا هذا حدث ونسي أو أن ذلك الذي حدث عنه هو الذي نسي ؟ إنا نعلم أن هذا الحديث فيه علة لكن لا ندري جهة العلة هل هو هذا أو هذا؛ لأنهما ثقتان لكن الحديث في نفسه لا يقبل يعتبر ضعيفا لأن الأصل الذي رواه أنكره، هذا يقولونه إذا أنكره جازما بالإنكار، أما إذا قال.. يعني حدث ونسي أنه من حديثه لكن ما رده جازما برده قال: لا أدري هل هو من حديثي أو ليس من حديثي، لا أتذكر هل حدثت به أو لم أحدث به قالوا القول ما قاله الراوي عنه؛ لأنه ثقة وقد حدث، إذا كان ثقة يعني روى عنه وقد حفظ ما نسيه هذا، فعندئذ يكون الحديث في هذه الحالة يصح نسبته إلى من نسيه.(1/122)
ذكر بعض العلماء في ذلك مثالا مشهورا وهو رواية الداروردي روى حديثا عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن وسهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - " قضى بالشاهد واليمين " فأراد الدروردي أن يأخذ هذا الحديث مشافهة من سهيل بن أبي صالح فقال له: حدثني ربيعة عنك أنك قلت كذا وكذا فقال سهيل.. أنكره سهيل بن أبي صالح، أنكر أن يكون هذا حديثه لكنه أنكره ليس جازما به، نسي أنه قد حدث به، قال الدروردي فسمعته بعد ذلك يعني سمع الدارودي سهيل بن أبي صالح يقول: حدثني ربيعة بن عبد الرحمن أني حدثته عن أبي عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فصار سهيل الذي نسي الحديث لا يحدث به عن أبيه لأنه غير جازم لكن يحدث عن ربيعة لأنه حفظ الحديث أنه حدثه عن أبيه، فأرجع الحديث إلى نفسه وهو معنى قوله: ثم رواه عمن روى عنه.
معرفة طبقات الرواة والعلماء والموالي والقبائل والبلاد والصناعة والحُلَى
ومعرفة طبقات الرواة والعلماء والموالي والقبائل والبلاد والصناعة والحُلَى.
وهي عُجالة للمبتدئ فيه ومدخل للتأليف السالف المشار إليه أولا فإنه جامع لفوائد هذا العلم وشوارده ومهماته وفرائضه، ولله الحمد على تيسيره وأمثاله.
فرغت من تحرير هذه التذكرة في نحو ساعتين في صبيحة يوم الجمعة سابع عشرين جمادى الأولى عام ثلاث وستين وسبعمائة، أحسن الله بعضها وما بعدها في خير، آمين.
والحُلَى: لأن الحُلَى جمع حِلية على خلاف القياس، القياس حِلى، لكنهم قالوا أنها سمعت أنه حُلَى، فالحُلَى جمع حِلية والحِلية المراد بها الصفات التي تكون في الشخص.(1/123)
طيب: عندنا قوله ومعرفة طبقات الرواة والعلماء، طبقات الرواة هي جزء من التاريخ لكن لها خصوصية، التاريخ يذكر عن الشخص ما قيل فيه ويذكر الأحداث، عموم ما يجري في التاريخ يذكر في التاريخ، لكن علم الطبقات يختلف، طبقات الرواة معناه هو حصر الرواة في وصف معين، نقول هذه طبقة الصحابة، عندنا أبو بكر - رضي الله عنه - متقدم، وعندنا واصلة بن الأسقع وسهل بن سعد وأنس من المتأخرين، لكن نقول هؤلاء طبقة جمعهم وصف واحد وهو الصحبة، التابعون كذلك جمعهم وصف واحد وهو التبعة فإذا كانوا يشتركون في في وصف واحد نسميهم طبقة، إذا كانوا يشتركون في الرواية عن شيوخ معينين نسميهم طبقة، فنقول: طبقات الرواة عن الزهري، وإن كان بينهم سن، طبقات الرواة عن الشعبي، طبقات الرواة عن الأوزاعي، وهكذا، نسميهم طبقات لأنهم اشتركوا في وصف واحد وهو الاجتماع على الأوزاعي، هذه تسمى طبقة.
العلماء رحمهم الله متباينون في الكتابة في الطبقات يعني كل واحد يؤلف، ناس تألف في طبقات الشافعية والذي في طبقات الحنابلة والذي في طبقات الفقهاء والذي في طبقات أهل اليمن والذي في طبقات محدثي أصفهان، يعني مخصوص بمحدثي أصفهان فقط، والذي يؤلف مثلا في طبقات التابعين، والذي يؤلف في طبقات الرواة وهكذا، أنواع متعددة في الطبقات لكن الطبقة دائما يشتركون في شيء واحد وشيء مخصوص يجمعهم بقطع النظر أحيانا عن السن والإسناد.(1/124)
ومعرفة طبقات الرواة والعلماء هذه مهمة في باب الاتصال والانقطاع؛ لأننا إذا عرفنا أن هذا فلان من طبقة أتباع التابعين عرفنا أن بينه وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - لو روى حديثا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن بينه وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - أقل شيء راويان، إذا عرفنا أنه من طبقات التابعين يعني قد يكون بينه وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - واحد، إذا عرفنا مثلا أنه شافعي أو حنبلي أو مالكي أو كذا تيسر علينا الوصول إليه بالرجوع إلى الكتب التي دون فيها وذكر تاريخه فيها وهكذا، فالطبقات لها مهمة من معرفة الاتصال والانقطاع، ومن أيضا التمييز بين الرواة؛ لأنه أحيانا قد يأتيك راويان مشتركان في الاسم واللقب والكنية ولا تعرف وليس لهم تاريخ لا وفاة ولا ولادة ما يتميز إلا بالطبقة؛ ولهذا تلاحظون الحافظ بن حجر في كتابه التقريب لما وضع الطبقات بعض الرواة ما يذكر متى توفي، يقول: من الطبقة الثالثة من الطبقة الخامسة، من الطبقة العاشرة، ما له تاريخ وفاة، لكن عرف هذا بأنه رأى شيوخه الذين روى عنهم، والتلاميذ الذين رووا عنه فحدد الطبقة من خلال هذا الشيء فهي مهمة في معرفة الزمن التقريبي الذي عاش فيه الراوي.(1/125)
قال: ومعرفة الموالي، الموالي عند العلماء، يقولون المولى فالموالي جمع مولى، والمولى يكون من أسفل وأعلا، يكون من أسفل وأعلا؛ لأن هذه اللفظة لفظة المولى من ألفاظ الأضداد تطلق على المعتِق والمعتَق، فالمعتِق هو المولى من أعلى، والمعتَق هو المولى من أسفل، هذا.. مثلوا بأبي العالية الرياحي، هذا سمي الرياحي يقال أبو العالية الرياحي مولاهم، ونافع القرشي مولاهم؛ لأن نافع أعتقه ابن عمر فهو مولى لابن عمر، فأعتقه ابن عمر؛ ولذلك تجد في الترجمة يقول: القرشي مولاهم، يعني أنه ليس منهم صليبة، ليس من أصلاب قريش وإنما هو مولى بالعتق؛ لأن ابن عمر أعتقه، فابن عمر يسمى مولى، ونافع يسمى مولى، فابن عمر يسمى المعتِق وهو المولى من أعلى ونافع المعتَق وهو المولى من أسفل.(1/126)
كذلك قد يكون الولاء بالحلف، أو بالإسلام كما ذكروا عن الإمام مالك -رحمه الله-، الإمام مالك أَصْبَحِي لكنه يقال له: التيمي لأن بين الأصبحيين والتيميين حلف؛ لأن بينهم حلف، فالتيميون نصروا الأصبحيين، فالتيميون مولى من أعلى والأصبحيون مولى من أسفل، عندنا أيضا ذكروا أن البخاري يقال له الجعفي مولاهم لأن جده أسلم على يد رجل من الجعفيين فصار له ولاء بالإسلام، فالبخاري يكون من أسفل والجعفيون يكونون مولى، يعني جد البخاري يكون مولى من أسفل والآخر الذي أسلم على يديه يكون مولى من أعلى، هذا معرفة الموالي، قالوا والقبائل، والبلاد والصناعة والحُلَى؛ يعني معرفة القبائل والبلاد والصناعة والحُلَى لأن هذه الأشياء مما يميز الرواة بعضهم عن بعض؛ لأنه قد يجتمع عندك مثلا اثنان: محمد أحمد بن جعفر بن حمدان النيسابوري، والآخر الدِّينَوَرِي إذا عرفنا النسبة إلى نيسابور ديناور من البلاد انفك الإشكال، وميزنا هذا الراوي عن هذا الراوي، كذلك أيضا بالنسبة للصناعات والقبائل، القبائل سواء كانت النسبة إلى القبيلة الصغرى أو الكبرى، الهاشمي، أو الأكبر منه قرشي أو مثلا يقال الأشهلي، أو المخزومي أو نحو ذلك، الشاهد أنه ينسب إلى القبيلة الصغرى أو إلى القبيلة الكبرى هذه تميز الرواة، بعد ذلك عندنا أيضا البلاد يعني عندما تكون البلاد قد تكون بلاد كبيرة وقد تكون صغيرة، قد تكون البلد كبيرة وقد تكون البلد صغيرة، تنسبه إلى المدينة وقد تنسبه إلى حي من أحياء المدينة، وقد تنسبه إلى مصر وقد تنسبه إلى مدينة في مصر وقد تنسبه إلى حي في هذه المدينة، وقد تنسبه إلى السكة، سكة من السكك أو زقاق من الأزقة قد ينسب إليها كل هذه واردة في كلام العلماء رحمهم الله.(1/127)
لكن العلماء يقولون: إن الإنسان إذا كان في بلد فاستوطنها بعض العلماء يقول أربع سنوات استوطنها فإنه يصح النسبة إليها، فإذا كثر استيطانه للبلدان يصح أن نطلق عليه عدة أنساب، مثلا عاش مثلا في نجد ولد في نجد ومكث فيها فترة ثم انتقل إلى المدينة ثم انتقل إلى اليمن ثم انتقل إلى الشام ثم انتقل إلى مصر هذا تقول فلان النجدي المدني اليمني الشامي المصري ويصح يقولون الأولى أن تقول: النجدي ثم المدني ثم اليمني ثم الدمشقي ثم المصري تأتي بثم، وإن أبقيته على الأخير صح تقول فلان المصري، أو إن أبقيته على الأول على النسبة الأولى النجدي لأنه أصله كل هذه نسب صحيحة، هذه يستفاد منها في الراوي يميز بين الرواة حسب النسبة إلى بلد، ويميز أيضا بينهم فيما إذا كان الراوي مكثرا من التنقل والاستيطان فقد يأتي في بعض الأسانيد مثلا يوصف بالدمشقي وفي بعضها بأنه مدني فإذا عرفنا بأن الراوي قد ينسب إلى المدن التي سكنها ثم ورد عندنا دمشقي وورد في رواية أخرى أنه اليمني وعلمنا أنه قد رحل إلى دمشق وإلى اليمن ومكث فيها المدة المعتبرة للاستيطان فإننا نقول فلان المدني هو فلان اليمني المذكور ها هنا؛ ولهذا قالوا مثلا في امرأة من جهينة التي رجمت قالوا هي الغامدية؛ لأن جهينة بطن من غامد، جاء في بعضها نسبتها إلى جهينة وفي بعضها نسبتها إلى غامد فلمعرفتهم بهذه القبائل وتداخلها عرفوا أن هذه المرأة الغامدية هي الجهنية على خلاف في ذلك.(1/128)
والصناعة: يعني الصناعات والحرف ينسب إليها يقال فلان البزاز الذي يبيع البز وهي الثياب، أو فلان الحذاء، كذلك الحُلَى وهي الصفات التي تكون في الإنسان، يقال فلان الضال، سمي بالضال لأنه ضل الطريق، أو الفقير لأنه أصيب بمرض في فقار ظهره، أو يقال الأعرج أو الأعمش للعرج أو للعمش في العين، فهذه صفات ذكرت في بعض الرواة والعلماء، فمعرفتها أيضا مهمة للتمييز بين الرواة، ثم أنه أحيانا قد يرد الراوي هنا باسمه وفي الموضع الآخر يكون موصوفا بالحِلية التي يكون فيها.
وهي عُجالة للمبتدئ فيه ومدخل للتأليف السالف المشار إليه أولا فإنه جامع لفوائد هذا العلم وشوارده ومهماته وفرائضه، ولله الحمد على تيسيره وأمثاله.
والحمد لله على تيسيره وأمثاله، يعني على تيسيره هذا الكتاب وأمثال هذا الكتاب من مصنفات المؤلف.
على تيسيره وأمثاله فرغت من تحرير هذه التذكرة في نحو ساعتين من صبيحة يوم الجمعة سابع عشرين جمادى الأولى عام ثلاث وستين وسبعمائة، أحسن الله بعضها وما بعدها في خير، آمين.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
هناك بعض الأسئلة:
سائل يقول: فضيلة الشيخ، هل المزيد في متصل الأسانيد يعتبر علة يُضَعَّف من أجلها الحديث؟
ج: المزيد في متصل الأسانيد تعتبر الرواية الأخرى التي زاد فيها الراوي راويا آخر، تعتبر رواية موهومة، والرواية الموهومة تعتبر رواية خطأ، هذه مهمة في الراوي إذا كثر منه مثل هذه الأغلاط والأخطاء، إدخال الزيادات على الأسانيد، فإنها قد تضر الراوي أحيانا.
أحسن الله إليكم س: كيف نوجّه قول من قال: إن زيادة الثقة تقبل مطلقا لأن لها حكم الحديث المستقل ؟(1/129)
ج: لا، هذا غلط؛ لأن الحديث المستقل لا تقضي على غيرك بأنه أخطأ، أما في زيادة الثقة فتقضي على غيرك أنه قصّر وأخطأ، أنا أعطيكم مثالا، الآن إذا كان عندنا راوٍ ثقة روى عنه راوٍ ثقة بزيادة وروى عنه راويان ثقتان بدون زيادة، فهذه إما أن تقول: إن الراوي هذا الثقة اضطرب، وإما أن تقول: إن الراويين قد قَصَّرا، فلم يأتيا بهذه الزيادة، إذا حكمت عليهما بأنهما قصرا لأن الثاني جاء بهذه الزيادة، فقد حكمت عليهما في حفظهما، أنت الآن تحكم عليه في الحفظ...(1/130)