زيادة الثقة ومايتصل بها من أنواع الحديث
دراسة نقدية
بقلم: شيخنا الدكتور حمزة بن عبدالله المليباري حفظه الله
بسم الله الرحمن الرحيم
يعرض هذا البحث دراسة نقدية لأنواع مختلفة من علوم الحديث -تعارض الوصل والإرسال، وتعارض الوقف والرفع، والمدرج، والمزيد في متصل الأسانيد- لبلورة وجه الترابط الوثيق بينها من جهة، وبين زيادة الثقة من جهة أخرى؛ حيث يشكل إبراز هذا الترابط نقطة جوهرية في منهجية شرح هذه الأنواع، لا سيما مسألة "زيادة الثقة".
على أن ثَمّة فوائد علمية دقيقة جاءت محصلة هذا البحث ، بخاصة ما كان تصحيحا للأخطاء الشائعة حول "زيادة الثقة " والأنواع المتصلة بها.
وإذ أجتهد في بلوغ غايتي فيما قدمت لأرجو أن أكون قد وُفّقتُ للصواب بعد عرضي هذا بأمانة وموضوعية ولله الحمد والمنة.
المقدمة:
من الواضح جداً أن علوم الحديث بحاجة ملحة إلى تخصيص أنواعها بالدراسة المعمّقة،كل بمفرده، وطرحها بطريقة يألفها أهل عصرنا، بعيدة عن أساليب علم المنطق التي خوطب بها السابقون؛ إذ إن أكبر معضلة يواجهها طلبة اليوم في دراسة هذا العلم هو تقيد كتب المصطلح المعاصرة بتلك الأساليب المنطقية نفسها، دون مواكبتها لمستجدات عصرنا في مجال التعليم ومناهجه، وطبيعة التكوين النفسي لطلابنا اليوم، إضافة إلى تشتت موضوعات هذا العلم في تلك الكتب المعتمدة في الدراسة، وانعدام تنسيقها وفق الوحدات الموضوعية ، وهذا يشكل عائقاً كبيرا في سبيل وقوفهم على الأبعاد العلمية لمصطلحات علوم الحديث.
ومن هنا جاء هذا البحث لبلورة الترابط الموضوعي الوثيق بين زيادة الثقة وبين الأنواع الآتي ذكرها، كخطوة تجريبية أولى في سبيل إعادة تنسيق أنواع علوم الحديث وفق الوحدات الموضوعية، وطرحها بطريقة ملائمة لطبيعة التكوين النفسي العام لطلبتنا، حتى نستطيع أن نميط اللثام عن منهج المحدثين في معرفة صحة الأخبار وخطئها، ونوظف هذا المنهج في جميع دراساتنا الشرعية،(1/1)
ومن ثم يتصل آخرنا بأولنا بتشييد ما بنوا، وبالتالي نكون قد قمنا بتدوين تاريخنا بالبناء المعرفي والعطاء العلمي المتجدد.
وهذا البحث متصل ببحثنا السابق الموسوم بـ "موضوع زيادة الثقة في كتب المصطلح"، والذي يتمحور حول أربعة أنواع، وهي: الشاذ، والمنكر، والمعلول، وزيادة الثقة.
ونحن نذكر هنا ما تبقى من أنواع علوم الحديث المتصلة بموضوع زيادة الثقة وهي:
الاستخراج، وتعارض الوصل والإرسال وتعارض الوقف والرفع، والمدرج، والمزيد في متصل الأسانيد.
ونظراً إلى ما أفضنا في موضوع زيادة الثقة في البحث السابق فإننا لا نرى ضرورة لذكره هنا مرة أخرى.
غير أننا نذكر القارئ أن مقصودنا بموضوع "زيادة الثقة" هو: أن يروي جماعة حديثاً واحداً عن مصدر واحد، فيزيد بعض الثقاة فيه زيادة لم يذكرها بقية الرواة، سواء كان ذلك في السند أو في المتن أو في كليهما.
ولذا فإن مسألة زيادة الثقة تشمل جميع صور الزيادة التي تقع من الثقة، سواء كان الثقة واحداً أو أكثر، وسواء كانت الزيادة صحيحة أو ضعيفة، وسواء كانت في السند والمتن أو في أحدهما. وعليه فالذي يخرج من حدود هذه المسألة هو زيادات الصحابة لكونها مقبولة، وزيادات الضعفاء لكونهم ضعفاء.
ومن أهم الأهداف العلمية التي نصبو إلى تحقيقها خلال هذا البحث إبراز الوجه الحقيقي لمسألة "زيادة الثقة"، وإلقاء الضوء الكاشف على أبعادها النقدية؛ حيث تعد هذه المسألة من أهم موضوعات علوم الحديث حساسة لكونها من أهم أسباب الاختلاف الفقهي بين العلماء، موضحا في الوقت نفسه دقة المحدثين النقاد في تصحيح الأحاديث وتضعيفها.
وجعلت هذا القسم من البحث أربعة مباحث:
المبحث الأول : تعارض الوصل والإرسال وتعارض الوقف والرفع.
والمبحث الثاني: المدرج.
والمبحث الثالث: المزيد في متصل الأسانيد.(1/2)
والمبحث الرابع: المستخرج.
ومما تجدر الإشارة إليه أنني قد سلكت في هذه المباحث طريقة تقوم على سرد نصوص ابن الصلاح في كتابه علوم الحديث المشهور بـ"مقدمة ابن الصلاح"، ثم تحليلها والتعقيب عليها في ضوء "منهج المتقدمين في نقد الأحاديث"؛ لكون هذا المنهج مصدراً أصيلاً لمبادئ علوم الحديث.
ثم ختمت كل مبحث منها بخلاصة ما توصلت إليه من الفكرة المنهجية المؤسسة على الأدلة ودراسة النماذج؛ فإن هذه الطريقة هي وحدها التي تكشف لنا الخلل الواقع في معالجة كتب المصطلح لتلك الأنواع المذكورة سابقا، وتساعدنا على تحديد مصدر هذا الخلل ومعالجة أسبابه.
ونحن على يقين أن هذا الأسلوب النقدي ليس فيه تحامل على أحد من الأئمة المتأخرين، بل يشكل نقطة احترامنا وتقديرنا لهم ما دمنا ملتزمين في النقد بما تعارف عليه "المتقدمون من نقاد الحديث". ولله تعالى الحمد والشكر.
المبحث الأول : تعارض الوصل والإرسال وتعارض الوقف والرفع(1/3)
أولاً: نص ابن الصلاح في مسألة التعارض:
قال ابن الصلاح (رحمه الله تعالى) في مبحث الانقطاع: الخامس من فروع الانقطاع:
الحديث الذي رواه بعض الثقات مرسلا وبعضهم متصلا ، اختلف أهل الحديث في أنه ملحق بقبيل الموصول، أوبقبيل المرسل، مثاله : "لا نكاح إلا بولي".
رواه إسرائيل بن يونس في آخرين عن جده أبي إسحاق السبيعي عن أبي بردة عن أبيه عن أبي موسى الأشعري عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مسنداً هكذا متصلاً، ورواه سفيان الثوري وشعبة عن أبي إسحاق عن أبي بردة عن النبي (صلى الله عليه وسلم) مرسلاً هكذا، فحكى الخطيب الحافظ: أن أكثر أصحاب الحديث يرون الحكم في هذا وأشباهه للمرسل، وعن بعضهم أن الحكم للأكثر، وعن بعضهم أن الحكم للأحفظ.
فإذا كان من أرسله أحفظ ممن وصله فالحكم لمن أرسله، ثم لا يقدح ذلك في عدالة من وصله وأهليته، ومنهم من قال: من أسند حديثا قد أرسله الحفاظ، فإرسالهم له يقدح في مسنده وفي عدالته وأهليته، ومنهم من قال الحكم لمن أسنده، إذا كان عدلاً ضابطاً، فيقبل خبره، وإن خالفه غيره، سواء كان المخالف له واحدا أو جماعة، قال الخطيب: هذا القول هو الصحيح.
قلت -يعني ابن الصلاح-: "وما صححه هو الصحيح في الفقه وأصوله، وسئل البخاري عن حديث: "لا نكاح إلا بولي" المذكور فحَكمَ لمن وصله وقال: الزيادة من الثقة مقبولة، فقال البخاري هذا مع أن من أرسله شعبة وسفيان، وهما جبلان، لهما من الحفظ والإتقان الدرجة العالية.
ويلتحق بهذا ما إذا كان الذي وصله هو الذي أرسله؛ وصله في وقت وأرسله في وقت، وهكذا إذا رفع بعضهم الحديث إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) ووقفه بعضهم على الصحابي أو رفعه واحد في وقت ووقفه هو أيضا في وقت آخر فالحكم على الأصح في كل ذلك لما زاده الثقة من الوصل والرفع، لأنه مثبت وغيره ساكت، ولو كان نافيا فالمثبت مقدم عليه، لأنه علم ما خفي عليه، ولهذا الفصل تعلق بفصل زيادة الثقة في الحديث.
وتبعه في(1/4)
ذلك اللاحقون. لكن نجد فيهم من يستدرك على ابن الصلاح كما سيأتي تفصيله إن شاء الله (تعالى).
ثانياً: تحليل النص والتعقيب عليه:
إن مسألة تعارض الوصل والإرسال، وتعارض الوقف والرفع، كثيرا ما ترد في كتب العلل كنماذج واقعية لأخطاء الرواة الثقات أو الضعفاء غير المتروكين، وقد أشار إلى ذلك ابن الصلاح رحمه الله تعالى بقوله في مبحث العلة، "وكثيراً ما يعللون الموصول بالمرسل".
كما أن هذه المسألة قائمة على زيادة الثقة بقدر كبير؛ ذلك أنه إذا كان الثقة هو الذي وصل الإسناد المرسل فإن وصله يعدّ زيادة في السند حيث رواه غيره مرسلاً، وكذلك إذا روى الحديث الموقوف مرفوعاً فيكون رفعه زيادة في السند إذ رواه غيره موقوفاً على الصحابي.
وعلى ذلك فذكر هذه المسألة في مباحث الانقطاع بين موضوعي العنعنة والتدليس ليس مبرراً لا موضوعياً ولا منهجياً؛ إذ إن التعارض والاختلاف بين الوصل والإرسال وكذا بين الوقف والرفع، مسألة لا صلة لها بالانقطاع؛ ولهذا أورد فضيلة الأستاذ نور الدين عتر (حفظه الله تعالى) تلك المسألة في نوع زيادة الثقة في كتابه "منهج النقد في علوم الحديث"، هذا وقد صرح الإمام ابن الصلاح بذلك حين قال: "ولهذا الفصل تعلق بـ: فصل زيادة الثقة في الحديث". وقد أقره السخاوي بقوله: "وكان الأنسب ضمه لزيادات الثقات لتعلقه كما قال ابن الصلاح به "؛ ولذلك لم يضع ابن الصلاح عنواناً بارزاً لهذا الموضوع، بل جعله خامس فروع الانقطاع.
كما أنه لم يتعرض لمسألة تعارض الوقف والرفع إلا في آخر كلامه وعلى سبيل الاستطراد، بخلاف صنيع اللاحقين؛ فإنهم قد وضعوا له عنوان: "تعارض الوصل والإرسال والوقف والرفع" ، وهنا يزداد الخلل أكثر في ترتيب الأنواع إذ لا مناسبة هنا في مباحث الانقطاع لذكر مسائل التعارض.
إن موضوع هذا النوع -كما ترى- شامل لرواية الضعفاء ورواية الثقات، وصلته بنوع العلة تكون ظاهرة من حيث إن الوصل في المرسل، والرفع في(1/5)
الموقوف، بحاجة إلى تحري ثبوت ذلك، وتتبع القرائن والملابسات، ولهذا فإن الأنواع: العلة وتعارض الوصل والإرسال، وتعارض الوقف والرفع، وزيادة الثقة: كلها تشكل وحدة موضوعية، وبالتالي يجب أن يكون طرح أي نوع منها في ضوء صلته الوثيقة بالآخر حتى لا يحدث لَبس ولا غموض في بيان صوره وتحرير أحكامه.
والذي يجب ذكره في هذا الصدد هو أن هذه الوحدة الموضوعية لم تتبلور في النصوص السابقة، مع كون ذلك أمرا مهما في معالجة مثل هذا النوع من أنواع علوم الحديث، ونتج عن ذلك اضطراب كبير في تجلية المسائل المتعلقة به؛ مما لفت أنظار غير واحد من المحققين إلى الاستدراك على ابن الصلاح.
يقول الحافظ ابن حجر في هذا الصدد: "وهنا شيء يتعين التنبيه عليه وهو : أنهم شرطوا في الصحيح أن لا يكون شاذاً، وفسروا الشاذ بأنه ما رواه الثقة فخالفه من هو أضبط منه أو أكثر عدداً، ثم قالوا: تقبل الزيادة من الثقة مطلقاً فلو اتفق أن يكون من أرسل أكثر عددا أو أضبط حفظاً أو كتاباً على من وصل أيقبلونه أم لا؟ أم هل يسمونه شاذا أم لا؟ لا بد من الإتيان بالفرق أو الاعتراف بالتناقض".
ويقول تلميذه البقاعي: "إن ابن الصلاح خلط هنا طريقة المحدثين بطريقة الأصوليين، فإن للحذاق من المحدثين في هذه المسألة نظراً لم يحكه، وهو الذي لا ينبغي أن يعدل عنه، وذلك أنهم لا يحكمون منها بحكم مطرد، وإنما يديرون ذلك على القرائن".
وسبقهما في ذلك الإمامان ابن دقيق العيد والعلائي، أما ابن دقيق العيد فيقول: "من حكى عن أهل الحديث أو أكثرهم أنهم إذا تعارض رواية مسنِد ومرسِل أو رافع وواقف أو ناقص وزائد إن الحكم للزائد لم يصب في هذا الإطلاق فإن ذلك ليس قانوناً مطرداً، والمراجعة لأحكامهم الجزئية تعرف صواب ما نقول".
وهذا نص العلائي: "كلام الأئمة (المتقدمين) في هذا الفن كعبدالرحمن بن مهدي ويحيى بن سعيد القطان وأحمد بن حنبل والبخاري وأمثالهم يقتضي أنهم لا يحكمون في هذه(1/6)
المسألة بحكم كلي بل عملهم في ذلك دائر مع الترجيح بالنسبة إلى ما يقوى عند أحدهم في كل حديث حديث".
ويقول ابن الوزير مستفيداً من هذه النصوص جميعا:"وعندي أن الحكم في هذا لا يستمر، بل يختلف باختلاف قرائن الأحوال، وهو موضع اجتهاد".
وقد أجاد الحافظ ابن حجر حين عقب على الحافظ العلائي كتتمة لقوله السابق نقله، وأنا أذكره هنا كخلاصة في هذه المسألة، يقول (رحمه الله تعالى): "وهذا العمل الذي حكاه عنهم إنما هو فيما يظهر لهم فيه الترجيح، وأما ما لا يظهر فيه الترجيح فالظاهر أنه المفروض في أصل المسألة، وعلى هذا فيكون في كلام ابن الصلاح إطلاق في موضع التقييد".
ثالثاً: خلاصة المبحث الأول:
تجلى مما سبق ذكره أن هذا النوع من أنواع علوم الحديث تدخل فيه زيادة الثقة، وقد رأينا ابن الصلاح يطلق القبول فيما وصله الثقة مخالفا لغيره، أو فيما رفعه مخالفا لمن وقفه، وهو حكم مختلف عما بينه هو في نوع العلة، اللهم إلا إذا قيدنا ذلك بحالة ما إذا لم يتبين أن هذه الزيادة قد وقعت منه خطأ ووهما بعد تتبع القرائن والملابسات.
وفي هذه الحالة وحدها التي يكون فيها الحديث خاليا مما يدل على وهم راويه أو صوابه من القرائن والملابسات يصح أن يقال: هذا الوصل أو الرفع من الثقة، وزيادته مقبولة.
وبهذا تصبح مسألة تعارض الوصل والإرسال وتعارض الوقف والرفع منسجمة مع الأنواع التي تشكل وحدة موضوعية لا سيما موضوع زيادة الثقة في أحكامها وأبعادها النقدية.
المبحث الثاني : المدرج(1/7)
أولاً: نص ابن الصلاح في المدرج:
قال ابن الصلاح: "النوع العشرون: معرفة المدرج في الحديث. وهو أقسام: منها ما أدرج في حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من كلام بعض رواته، بأن يذكر الصحابي أو من بعده عقيب ما يرويه من الحديث كلاماً من عند نفسه، فيرويه من بعده موصولاً بالحديث غير فاصل بينهما بذكر قائله، فيلتبس الأمر فيه على من لا يعلم حقيقة الحال، ويتوهم أن الجميع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم".
ومن أمثلته المشهورة: ما رويناه في التشهد عن أبي خيثمة زهير بن معاوية عن الحسن بن الحر عن القاسم بن مخيمرة عن علقمة عن عبدالله بن مسعود أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) علّمه التشهد في الصلاة، فقال: قل: "التحيات لله فذكر التشهد وفي آخره: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله ، فإذا قلت هذا فقد قضيت صلاتك، إن شئت أن تقوم فقم، وإن شئت أن تقعد فاقعد".
هكذا رواه أبو خيثمة عن الحسن بن الحر، فأدرج في الحديث قوله:"فإذا قلت هذا ... إلى آخره وإنما هذا من كلام ابن مسعود لا من كلام رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
ومن الدليل عليه أن الثقة الزاهد عبدالرحمن بن ثابت بن ثوبان رواه عن راويه الحسن بن الحر كذلك، واتفق حسين الجعفي وابن عجلان وغيرهما في روايتهم عن الحسن بن الحر على ترك ذكر هذا الكلام في آخر الحديث، مع اتفاق كل من روى التشهد عن علقمة وعن غيره، عن ابن مسعود على ذلك، ورواه شبابة عن أبي خيثمة، ففصله أيضاً".
ومن أقسام المدرج: أن يكون متن الحديث عند الراوي له بإسناد إلا طرفاً منه فإنه عنده بإسناد ثان، فيدرجه من رواه عنه على الإسناد الأول، ويحذف الإسناد الثاني، ويروي جميعه بالإسناد الأول.
مثاله: حديث ابن عيينة وزائدة بن قدامة عن عاصم بن كليب عن أبيه عن وائل بن حجر في صفة صلاة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وفي آخره: "أنه جاء في الشتاء فرآهم يرفعون أيديهم من تحت الثياب" والصواب(1/8)
رواية من روى عن عاصم بن كليب بهذا الإسناد صفة الصلاة خاصة، وفصل ذكر رفع الأيدي عنه، فرواه عن عاصم عن عبد الجبار بن وائل عن بعض أهله عن وائل بن حجر".
ومنها: أن يدرج في متن حديث بعض متن حديث آخر مخالف للأول في الإسناد.
ومثاله :رواية سعيد بن أبي مريم عن مالك عن الزهري عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تنافسوا ..." الحديث.
فقوله :"لا تنافسوا" أدرجه ابن أبي مريم من متن حديث آخر رواه مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة فيه: "لا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا" والله أعلم.
ومنها: أن يروي الراوي حديثا عن جماعة بينهم اختلاف في إسناده ، فلا يذكر الاختلاف فيه، بل يدرج روايتهم على الاتفاق.
مثاله: رواية عبدالرحمن بن مهدي ومحمد بن كثير العبدي عن الثوري عن منصور والأعمش وواصل الأحدب عن أبي وائل عن عمرو بن شرحبيل عن ابن مسعود, قلت: يا رسول الله أي الذنب أعظم …الحديث.
وواصل إنما رواه عن أبي وائل عن عبدالله من غير ذكر عمرو بن شرحبيل بينهما والله أعلم."انتهى.
ثانياً: تحليل النص والتعقيب عليه:
إن الذي بيّنه ابن الصلاح في هذا النوع المسمى مدرجاً ينطوي على معظم أقسامه وأمثلته مفهوم زيادة الثقة إذا وقع الإدراج من الثقة؛ إذ كل ما يزيده هو في الحديث مما ليس منه دون أن يفصله عن أصل الحديث يعد مدرجاً، سواء كان هذا المدرَج قولا لصحابي أو قولاً لراو ممن بعده، كما في المثال الأول، أو كان جزءا من حديث آخر يُروى بإسناد مستقل كما في المثال الثاني والثالث.
ولوقوع الإدراج في الحديث أسباب كثيرة، ويرجع معظمها إلى سوء الحفظ أو الوهم أو الرواية بالمعنى أو إلى أمن الالتباس عند الراوي؛ كشرح الراوي معاني الكلمات الغريبة الواردة في الحديث أثناء التحديث.
وتفصيل ذلك كالتالي: ترى في المثال الأول أن أبا خيثمة -الثقة- زاد في آخر الحديث جملة لم(1/9)
يذكرها غيره من الثقات، وبذلك أصبح مخالفاً لهم في ذلك، وحين تبين من التتبع والقرائن أن تلك الجملة كان يقولها عبدالله بن مسعود من عنده بعد رواية الحديث عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قالوا إنها مدرجة في متن الحديث، وبالتالي يقال عنها "شاذة" بناء على أنها مخالفة لما رواه الثقات أو مخالفة للواقع الحديثي. أو يقال"منكرة" باعتبارها غير معروفة عن عبدالله بن مسعود، وإنما يعرف عنه أنه قال ذلك من عنده وليس مروياً عن النبي (صلى الله عليه وسلم). أو يقال "معلولة" بشكل عام إذ إن إدراج تلك الجملة في الحديث، وجعلها طرفاً من قول النبي (صلى الله عليه وسلم) يعد خطأ ووهما. أو قل: إنها زيادة ثقة غير مقبولة لأنه زيادة عن أصل الحديث المرفوع.(1/10)
وكذا الأمر في المثال الثاني، حيث زاد كل من ابن عيينة وزائدة بن قدامة في آخر الحديث"أنه جاء في الشتاء فرآهم يرفعون أيديهم من تحت الثياب" وبهذه الزيادة تحققت المخالفة بينهما وبين الثقات الآخرين، وبالتالي أصبحت مردودة بعد أن تأكد إدراجها. وإن شئت سمها شاذة أو منكرة أو معلولة أو زيادة الثقة غير المقبولة.
وأما في المثال الثالث فقد زاد ابن أبي مريم الثقة جملة ‘لا تنافسوا’ في الحديث الذي رواه جماعة من الثقات بدونها. ومن تتبع القرائن علم أنها جملة من حديث آخر كان يرويه مالك بإسناد آخر، وبالتالي فزيادة ابن أبي مريم مردودة ولا تعد طرفا من الحديث.
ثالثاً: خلاصة المبحث الثاني:
هكذا تتضح وحدة الموضوع التي تربط المدرج بموضوع زيادة الثقة، لا سيما الأنواع : العلة والشاذ والمنكر، وتتمثل هذه الوحدة الموضوعية في التفرد والمخالفة. فما يتفرد به الثقة مخالفاً لغيره تكون أحكامه حسب القرائن والملابسات التي تحيط بذلك. ولذلك يبقى نوع المدرج الذي أدرجه الثقة في أصل الحديث في دائرة زيادة الثقة التي تبين خطؤها، وبالتالي يكون هذا المدرج من الأنواع المردودة من الزيادات. وبما أن زيادة الثقة تقع في الحديث لأسباب كثيرة منها ما يدل على أنها مدرجة ومقحمة في أصل الحديث فإن إطلاق الحكم بقبول الزيادة من الثقة دون التفات إلى الأسباب المحتملة لذكرها في الحديث يكون مناقضا لقواعد النقد عند المحدثين تنظيراً وتطبيقاً.
والجدير بالذكر أن الحافظ ابن حجر وبعض المتأخرين جعلوا أول مثال مما سبق لإدراج في المتن، وأما الثاني والثالث والرابع فعدوها أمثلة إدراج في السند.
وهذا غير دقيق فيما أرى؛ إذ ترجع كلها ما عدا المثال الرابع إلى زيادة في المتن وإدراجها فيه، غير أن الأول كانت الزيادة المدرجة فيه قولاً لصحابي، بينما كانت الزيادة المدرجة في الثاني والثالث هي طرف من حديث آخر فجاء التلفيق بين سنديهما. وأما الرابع فيكون مثالا(1/11)
لوقوع الإدراج في السند، وليس في المتن وذلك بالتلفيق بين روايتين مختلفتين أحدهما متصلة والثانية منقطعة وكان المتن فيهما واحداً.
ولذلك نجعل ما سبق من الأمثلة كلها ما عدا الرابع إدراجا في المتن، وأما الإدراج في الإسناد فسنرى أمثلته في المبحث الآتي.
ولذلك فنوع المدرج يشكل -مع المزيد في متصل الأسانيد- وحدة موضوعية في قضية الزيادة والإدراج، يقول فضيلة الأستاذ الدكتور / نور الدين عتر (حفظه الله):"وفي رأينا أن هذا النوع يمكن أن يدخل في المدرج (مدرج السند) الآتي وفي المعلل بعلة غير قادحة، فليتأمل".
المبحث الثالث: المزيد في متصل الأسانيد
أولاً: نص ابن الصلاح في المزيد:(1/12)
قال ابن الصلاح: "السابع والثلاثون: معرفة المزيد في متصل الأسانيد. مثاله: ما روي عن عبدالله بن المبارك قال: حدثنا سفيان عن عبدالرحمن بن يزيد بن جابر قال: حدثني بسر بن عبيدالله، قال: سمعت أبا إدريس يقول: سمعت واثلة بن الأسقع، يقول: سمعت أبا مرثد الغنوي يقول: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: "لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها". فذِكرُ سفيان في هذا الإسناد زيادة ووهم، وهكذا ذِكرُ أبي إدريس.
أما الوهم في ذكر سفيان، فممن دون ابن المبارك؛ لأن جماعة ثقات رووه عن ابن المبارك عن ابن جابر نفسه، ومنهم من صرح فيه بلفظ الإخبار بينهما، وأما ذكر أبي إدريس فيه فابن المبارك منسوب فيه إلى الوهم؛ وذلك لأن جماعة من الثقات رووه عن ابن جابر فلم يذكروا أبا إدريس بين بسر وواثلة وفيهم من صرح فيه بسماع بسر من واثلة".
قال أبو حاتم الرازي: يرون أن ابن المبارك وهم في هذا. قال: وكثيراً ما يحدث بسر من أبي إدريس، فغلط ابن المبارك وظن أن هذا مما روى عن أبي إدريس عن واثلة، وقد سمع هذا بسر من واثلة نفسه".
قلت: -يعني ابن الصلاح- قد ألف الخطيب الحافظ في هذا النوع كتابا سماه كتاب: "تمييز المزيد في متصل الأسانيد،"وفي كثير مما ذكره نظر؛ لأن الإسناد الخالي عن الراوي الزائد إن كان بلفظة "عن" في ذلك، فينبغي أن يحكم بإرساله ويجعل معللاً بالإسناد الذي ذكر فيه الزائد لما عرف في نوع المعلل، وكما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى في النوع الذي يليه. وإن كان فيه تصريح بالسماع، أو بالإخبار كما في المثال الذي أوردناه فجائز أن يكون قد سمع ذلك من رجل عنه، ثم سمعه منه نفسه، فيكون بسر في هذا الحديث قد سمعه من أبي إدريس عن واثلة ثم لقي واثلةَ فسمعه منه كما جاء مثله مصرحا به في غير هذا".
اللهم إلا أن توجد قرينة تدل على كونه وهما كنحو ما ذكره أبو حاتم في المثال المذكور، وأيضا فالظاهر ممن وقع له مثل ذلك أن يذكر السماعين. فإذا(1/13)
لم يجيء عنه ذكر ذلك حملناه على الزيادة المذكورة، والله أعلم".
ثانياً: تحليل النص:
تطرق ابن الصلاح لنوع "المزيد في متصل الأسانيد" من خلال نموذج ينطبق عليه تماما مفهوم زيادة الثقة، لأن ذكر "أبي إدريس" في السند بين بسر وواثلة زيادة من ابن المبارك، وهو أحد أئمة الحفاظ المشهورين، وكذا ذكر "سفيان" بين ابن المبارك وابن جابر مزيد من قبل أحد الرواة المتأخرين بعد ابن المبارك، ولم يذكر ابن الصلاح اسم ذلك الراوي ولعله شيخ الخطيب أو من فوقه. وبعد أن بين حكم هذين المزيدين بأنهما مردودان، عقب على منهج الخطيب في قبول المزيد ورده عموما قائلاً: "وفي كثير مما ذكره نظر؛ لأن الإسناد الخالي عن الراوي الزائد إن كان بلفظة "عن" في ذلك، فينبغي أن يحكم بإرساله ويجعل معللاً بالإسناد الذي ذكر فيه الزائد لما عرف في نوع المعلل، وكما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى في النوع الذي يليه. وإن كان فيه تصريح بالسماع، أو بالإخبار كما في المثال الذي أوردناه فجائز أن يكون قد سمع ذلك من رجل عنه، ثم سمعه منه نفسه، فيكون بسر في هذا الحديث قد سمعه من أبي إدريس عن واثلة ثم لقي واثلةَ فسمعه منه كما جاء مثله مصرحا به في غير هذا. اللهم إلا أن توجد قرينة تدل على كونه وهما كنحو ما ذكره أبوحاتم في المثال المذكور، وأيضاً فالظاهر ممن وقع له مثل ذلك أن يذكر السماعين. فإذا لم يجيء عنه ذكر ذلك حملناه على الزيادة المذكورة".
ومن خلال هذا التعقيب أفادنا ابن الصلاح أن قبول المزيد في الإسناد يدور على إحدى حالتين:
الأولى: وجود العنعنة في السند الخالي عن الراوي المزيد.
والثانية: ذكر السماع والإخبار فيه.(1/14)
فإذا كانت الحالة الأولى تشكل ميزانا لقبول المزيد في السند، وانقطاع السند الناقص المعنعن وفق ما لخصه ابن الصلاح آنفاً فإن ذلك لا يمكن أن يكون إلا على أساس قبول زيادة الثقة. وبالتالي فما يترتب عن ذلك من الأحكام لا يكون منسجماً مع منهج المحدثين في ذلك؛ حيث إن القرائن والملابسات المحيطة بالمزيد تكون هي موازينهم لقبول الزيادات وردها عموما، بغض النظر عما ورد في السند من العنعنة أو التحديث. وما رأينا في تعقيب ابن الصلاح لم يكن إلا مظهراً لتصادم الأسلوبين؛ الأسلوب القائم على ظاهر السند والأسلوب القائم على دلالة القرائن والملابسات.
وهذا طبعاً إذا لم يقصد ابن الصلاح بقوله: "اللهم إلا أن توجد قرينة تدل على كونه وهما" الاستثناء من إطلاق القبول في الحالة الأولى والثانية جميعا، ولا مانع من ذلك، لكن الظاهر من السياق أنه يريد به أن يستثني من الحالة الثانية فقط. وذلك لسببين:
أولهما: أنه ذكر هذا الاستثناء بعد بيان الحالة الثانية مباشرة بحيث لا يتوجه مغزاه إلى الحالة الأولى؛ لأنه قال في آخر الفقرة:"وأيضا فالظاهر ممن وقع له مثل ذلك أن يذكر السماعين. فإذا لم يجيء عنه ذكر ذلك حملناه على الزيادة المذكورة"، مما يؤكد أن الحالة الأولى على إطلاقها دون استثناء. ولو كان قبول المزيد في جميع الحالات متوقفا على القرائن كمنهج عام لأضاف ابن الصلاح إلى الجملة ما يدل على ذلك، كأن يقول بعدها مباشرة: "وذلك إذا لم توجد قرينة تدل على كونها وهما" مثلاً؛ ولذلك نقول إن هذه الجملة الأخيرة تؤكد لنا أن هذا الاستثناء إنما يكون بخصوص الحالة الثانية وحدها، وبالتالي فما ورد في الحالة الأولى يكون على إطلاقه كما أوضحنا آنفا، دون ربطه بالقرائن.
والسبب الثاني: أن ابن الصلاح بصدد الاعتراض على الخطيب البغدادي بقوله "لأن الإسناد الخالي عن الراوي الزائد إن كان بلفظة "عن" في ذلك، فينبغي أن يحكم بإرساله ويجعل معللا بالإسناد الذي(1/15)
ذكر فيه الزائد لما عرف في نوع المعلل، وهذا واضح جدا أنه يبني الأحكام في المزيد على ظاهر السند المتمثل في ذكر العنعنة. ولو كان الاستثناء يشمل الحالة الأولى أيضا لما اعترض على الخطيب لكونه قد اعتمد على القرائن في قبوله المزيد ورده.
وأما الحالة الثانية التي يعدها ابن الصلاح ميزانا لقبول السند المزيد واتصال السند الناقص، فإنه لم يستند في ذلك إلا إلى مجرد أن يكون محتملا أن يسمع الراوي ذلك الحديث مرتين؛ مرة بالواسطة وأخرى بدونها، غير أنه استدرك على ذلك بقوله: "اللهم إلا أن توجد قرينة تدل على كونه وهما"، وبذلك يصبح الأمر في قبول المزيد ورده في الحالة الثانية منوطا بالقرينة، وبالتالي يكون ابن الصلاح موافقا للخطيب في ذلك.
بيد أن أسلوب الاستثناء يوهم أن الأصل الغالب في القبول هو الاعتماد على ظاهر السند دون البحث عن دلالات القرائن وإيحاءات الملابسات؛ حيث قال:"اللهم إلا أن توجد قرينة على كونه وهما"؛ إذ يعبر بذلك عادة عن القلة النادرة. ومن المعلوم أن اعتماد القرائن في قبول الزيادات مهما كان موضعها في السند أو المتن هو الأصل الغالب في منهج المحدثين النقاد، وأنهم لا يحيدون عن هذا الأصل إلا في حالات نادرة يصبح فيها الحديث خاليا عن القرائن.
والخلاصة:(1/16)
أن ابن الصلاح لم يحكم على المزيد في السند بأنه مردود مطلقاً، بل جعله على التفاصيل التي ذكرها، لكن معظمها تعود إلى ظاهر السند، وبالتالي يصبح ما ذكره هنا من الأحكام متفاوتا عما شرحه في الأنواع السابقة التي تشكل معه وحدة موضوعية، لا سيما في نوع العلة التي أقر فيها ابن الصلاح بأن الحكم قبولاً أو رداً في الحديث المخالف أو المتفرد يتوقف على دلالة القرائن والملابسات التي لا ينهض بها سوى نقاد الحديث.
وإن كان نوع "المزيد في متصل الأسانيد" من أنواع الزيادات التي تنبثق عنها حالة المخالفة بين الرواة عموما فإن قبوله ورده يتوقفان على مقتضى القرائن المحتفة بالمزيد، كما هو منهج النقاد في تعاملهم مع هذه الأنواع من الأحاديث، وقد بين ذلك ابن الصلاح في مبحث العلة.
ثالثاً: منهج الخطيب في قبول المزيد:
مما لا شك فيه أن الخطيب البغدادي قد انتهج في كتابه: "تميز المزيد في متصل الأسانيد"، منهجا مغايرا لما شرحه ابن الصلاح، وهذا واضح جدا من سياق اعتراضه عليه.(1/17)
وبما أن هذا الكتاب من المخطوطات المفقودة فإنه يصعب علينا التحدث عن المنهج الذي انتهجه الخطيب فيه، لكن من خلال ما ذكره ابن الصلاح يمكن القول: إن منهجه قائم على تتبع القرائن التي تحف بالحديث، وربما لم تكن القرائن في رد المزيد في بعض الأسانيد غير مذكورة في الكتاب.
ولذلك فإنه من الطبيعي أن يوجد في تلك المجموعات الحديثية التي ذكرها الخطيب في كتابه "تمييز المزيد" ما أثار الانتباه لدى ابن الصلاح لكون ذلك مخالفا لمقتضى القاعدة التي ذكرها هو في التعقيب.
وبذلك أصبح الفرق بين الأسلوبين واضحا وجليا؛ إذ أسلوب الخطيب مبني على دلالات القرائن، بينما أسلوب ابن الصلاح قائم على ظواهر السند، وبذلك يبقى ما ذكره في التعقيب منسجما مع منهجه العام في معالجة القضايا النقدية كما لمسنا من قبل في الأنواع السابقة.
رابعاً: تأصيل مسألة "المزيد في متصل الأسانيد" وتفصيل أحكامها:
بعد أن اتضح الفرق بين ابن الصلاح وبين الخطيب فيما يخص مسألة المزيد في متصل الأسانيد، وبعد أن تبين مغزى كلام ابن الصلاح حول ذلك فعلينا أن نتساءل حول حقيقة هذه المسألة: هل يقاس على ذلك المثال الذي ذكره ابن الصلاح كل ما يزاد في الإسناد، ويقال: إنه"المزيد في متصل السند"؟ ومتى يحكم عليه بأنه مزيد في السند؟ ومتى يحكم على السند الخالي من المزيد أنه منقطع؟ وما هو الضابط في ذلك؟ وهذه التساؤلات ضرورية وملحة لتجلية هذا النوع من جميع أبعاده.(1/18)
وبإمعان النظر فيما شرحه ابن الصلاح علمنا أن أصل هذا النوع يرجع إلى نقطة اختلاف الرواة في الإسناد بالزيادة والنقص؛ يزيد البعض فيه راويا، ويسقطه الآخر، مما يشكل وحدة موضوعية مع مسألة تعارض الوقف والرفع وتعارض الوصل والإرسال. وبذلك يصبح "المزيد في متصل الإسناد" جزءا مهما من مسألة زيادة الثقة، وذلك طبعاً إذا كان الذي زاد في السند ثقة كما رأينا في المثال السابق.
ولذلك قال الحافظ ابن رجب الحنبلي: "وقد صنف في ذلك الحافظ أبو بكر الخطيب مصنفا حسنا سماه "تمييز المزيد في متصل الأسانيد" وقسمه قسمين: أحدهما ما حكم فيه بصحة ذكر الزيادة في الإسناد وتركها، والثاني ما حكم فيه برد الزيادة وعدم قبولها، ثم إن الخطيب تناقض فذكر في كتاب "الكفاية": للناس مذاهب في اختلاف الرواة في إرسال الحديث ووصله كلها لا تعرف عن أحد من متقدمي الحفاظ إنما هي مأخوذة من كتب المتكلمين، ثم إنه اختار أن الزيادة من الثقة تقبل مطلقا كما نصره المتكلمون وكثير من الفقهاء وهذا يخالف تصرفه في كتاب" تمييز المزيد"، وقد عاب تصرفه في كتاب "تمييز المزيد" بعض محدثي الفقهاء، وطمع فيه لموافقته لهم كتاب "الكفاية".(1/19)
يمكن أن نلخص الأمر في هذا النوع بما يلي:
أ - أنه إذا تبين بالقرائن خطأ المزيد في السند، واتصال السند الآخر الخالي عن ذلك يقال: "مزيد في متصل الإسناد"، وفي عبارة أخرى: "مزيد في أصل السند المتصل". كما في المثال الذي أورده ابن الصلاح؛ فإن النقاد لم يحكموا على المزيد بأنه وهم وخطأ إلا على أساس القرائن المحيطة به، وهي واضحة بجلاء في قول أبي حاتم، حين قال: "وهِمَ ابن المبارك في زيادته" أبا إدريس لأن بسر بن عبدالله روى عن واثلة ولقيه، ولا أعلم أبا إدريس روى عن واثلة شيئا، وأهل الشام أضبط لحديثهم من الغرباء"، وجاء في موضع آخر من كتابه العلل:"وكثيراً ما يحدث بسر عن أبي إدريس، فغلط ابن المبارك، وظن أن هذا مما روى عن أبي إدريس عن واثلة، وقد سمع هذا بسر من واثلة نفسه" يعني بذلك سلوك الجادة. وبذلك يندرج هذا المزيد تحت المعلول عموما أو الشاذ أو المنكر أو المدرج خصوصاً.
ب - وإذا تبين بالقرائن أن اسم الراوي مقحم في السند، وذكره فيه خطأ، وأن السند الآخر الذي خلا من ذكره منقطع، صح أن يقال: مزيد في أصل السند المنقطع، لكونه مدرجاً فيه ومقحماً، كما في حديث المكي بن إبراهيم عن ابن جريح عن نافع عن إبراهيم بن عبدالله بن معبد أن ابن عباس حدثه عن ميمونة في فضل المسجد النبوي وقد صرح أئمة النقد مثل البخاري والدارقطني بأن ذكر ابن عباس فيه وهم، والصواب: "ما رواه عبدالرزاق وغيره من الثقات عن ابن جريح عن نافع عن إبراهيم بن عبدالله بن معبد عن ميمونة" وكذا رواه الليث بن سعد عن نافع بإسقاط "ابن عباس" راويا عن ميمونة ولذلك يظل الإسناد منقطعاً، حيث إن إبراهيم لم يسمع من ميمونة حسب قول ابن حبان.
جـ- وأما إذا دلت القرائن على أن الراوي حدث مرتين مرة بذكر الواسطة وأخرى بدونها يعني عاليا ونازلاً فيقال: مزيد في متصل الإسناد، يعني أن وجود الواسطة في السند لا يدل على انقطاع السند الآخر الذي خلا من الواسطة، بل كلاهما(1/20)
متصل.
ومثاله: حديث بسرة في الوضوء من مس الفرج؛ فقد رواه يحيى بن سعيد القطان وعلى ابن المبارك عن هشام بن عروة عن أبيه عن بسرة. ورواه سفيان بن عيينة وجماعة عن هشام بن عروة عن أبيه عن مروان بن الحكم عن بسرة.
وكذلك رواه جماعة عن الزهري عن عروة، ورواه مالك عن عبدالله بن أبي بكر أنه سمع عروة يقول دخلت على مروان بن الحكم فذكرنا ما يكون منه الوضوء، فقال مروان: مِن مَسِّ الذكر الوضوءُ، فقال عروة: ما علمت ذلك، فقال مروان: أخبرتني بسرة بنت صفوان أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إذا مس أحدكم ذكره فليتوضأ.
هذا وقد رواه شعيب بن إسحاق وعنبسة بن عبد الواحد وحميد بن الأسود وغيرهم عن هشام بن عروة عن أبيه عن مروان عن بسرة بالقصة، بزيادة في آخر الحديث: "قال عروة: ثم لقيت بسرة، فسألتها عن هذا الحديث، فحدثتني به عن النبي (صلى الله عليه وسلم)".
قال ابن حبان: "وأما خبر بسرة الذي ذكرناه فإن عروة بن الزبير سمعه من مروان بن الحكم عن بسرة، فلم يقنعهم ذلك، حتى بعث مروان شرطياً له إلى بسرة فسألها، ثم أتاهم فأخبرهم بمثل ما قالت بسرة فسمعه عروة ثانياً عن الشرطي عن بسرة، ثم لم يقنعه ذلك حتى ذهب إلى بسرة فسمع منها. فأخبر عن عروة عن بسرة متصل ليس بمنقطع ...".
وقال ابن خزيمة: "وبقول الشافعي أقول؛ لأن عروة قد سمع خبر بسرة منها، لا كما توهم بعض علمائنا أن الخبر واه لطعنه في مروان".(1/21)
د- وأما في حالة وجود القرائن التي تدل على ثبوت المزيد في السند، وأن الإسناد بدون ذكره يكون منقطعاً فلا يقال: مزيد في متصل الإسناد. كما في حديث سعيد بن عامر عن جويرية بنت أسماء عن نافع عن ابن عمر عن عمر (رضي الله عنه) حديث "وافقت ربي في ثلاث"، وقد رواه محمد بن عمر المقدمي عن سعيد بن عامر عن جويرية عن رجل عن نافع. ولعل من القرائن الدالة على ثبوت المزيد بين جويرية ونافع أن جويرية مكثر عن نافع جداً، فلو كان هذا الحديث عنده عنه لما رواه عن رجل مبهم عنه.(1/22)
قال الحافظ العلائي -وهو يشرح هذه القرينة-:"وحاصل الأمر أن الراوي متى قال: "عن فلان" ثم أدخل بينه وبينه في ذلك الخبر واسطة، فالظاهر أنه لو كان عنده عن الأعلى لم يدخل الواسطة؛ إذ لا فائدة في ذلك، وتكون الرواية الأولى مرسلة إذا لم يعرف الراوي بالتدليس وإلا فمدلسة، وحكم المدلس حكم المرسل كما تقدم، وخصوصاً إذا كان الراوي مكثراً عن الشيخ الذي روى عنه بالواسطة، كهشام بن عروة عن أبيه، ومجاهد عن ابن عباس، وغير ذلك مما تقدم من الأمثلة فلو أن هذا الحديث عنده عنه لكان يساير ما روى عنه، فلما رواه بواسطة بينه وبين شيخه المكثر عنه عُلم أن هذا الحديث لم يسمعه منه، ولا سيما إذا كان ذلك الواسطة رجلا مبهما أو متكلما فيه".
هـ- إذا وجد القرائن الدالة على صواب المزيد أو خطئه فهذا يكون قسماً آخر من المزيد، وينطبق عليه ما ذكره الإمام ابن الصلاح من مراعاة ظواهر السند، ومع ذلك لا يصفو المقام من كدر الإشكال الذي أشار إليه الإمام ابن الصلاح في نوع المرسل الخفي بقوله هذا: "وهذا وما سبق في النوع الذي قبله -يعني الإرسال الخفي والمزيد في متصل الإسناد- يتعرض لأن يعترض بكل واحد منهما على الآخر".
يعني ابن الصلاح: أنه يمكن الاحتجاج بوجود الواسطة في السند على وجود الانقطاع في السند المقابل الذي يخلو عنها، كما يمكن الاستدلال بالعكس أيضا. أي إن إسقاط الواسطة من السند دليل على اتصال السند من غير ذكرها وأن وجودها في السند الآخر خطأ ووهم وزيادة. وهذا طبعا إذا اعتمدنا في هذه المسائل على ظاهر الإسناد. وأما إن كانت القرائن هي المعول عليها في كل ما يتصل بتلك المسائل فلا نرى وجها لما ذكره ابن الصلاح.
هذا وقد لخص الحافظ العلائي أطراف هذا النوع على شكل يقارب ما ذكرناه آنفا، وهذا نصه: "وحاصل الأمر أن ذلك على أقسام: أحدها ما يترجح فيه الحكم بكونه مزيدا فيه وإن الحديث متصل بدون ذلك الزائد. وثانيها ما ترجح فيه الحكم عليه(1/23)
بالإرسال إذا روى بدون الراوي المزيد. وثالثها ما يظهر فيه كونه بالوجهين أي أنه سمعه من شيخه الأدنى وشيخ شيخه أيضا وكيف ما رواه كان متصلا. ورابعها ما يتوقف فيه لكونه محتملا لكل واحد من الأمرين".
فهذه هي أطراف مسألة المزيد في أصل الإسناد، وبذلك يكون هذا النوع من مسائل زيادة الثقة، وبالتالي لا يكون هذا المزيد مقبولاً أو مردوداً، ولا ينبغي استخدام مصطلح "المزيد في متصل الإسناد" في ذلك إلا بالقرائن الدالة على ذلك.
ولذلك قال العلائي بعد ذكر الأمثلة لكل قسم مما ذكره آنفاً: "بهذه الأمثلة كلها ظهر أن الحكم بالزيادة تارة يكون للاعتبار برواية الأكثر، وتارة للتصريح بالسماع من الأعلى، وتارة لقرينة تنضم إلى ذلك إلى غيرها من الوجوه". وفي ضوء ذلك فما زاده الثقة في السند لا يطلق عليه القبول ولا الرد، وإنما يجب إخضاعه لحكم القرائن والملابسات المحيطة بذلك، كما سبق في تعارض الوصل والإرسال وتعارض الوقف والرفع، ويقول السيوطي: ربما كان الحكم للزائد وربما كان للناقص والزائد وهم، وهو يشتبه على كثير من أهل الحديث، ولا يدركه إلا النقاد.
وفي حالة كون ذلك المزيد ثابتا في السند فإفادة الانقطاع في السند الذي لم يقع فيه ذلك الراوي المزيد تكون متوقفة على دراسة القرائن. وأما إن كانت الزيادة مردودة فلا يلزم منه أن يكون السند الناقص متصلاً. بل يتوقف الحكم فيه أيضا على المعرفة التاريخية لمدى علاقة الراوي بمن فوقه. وهذا الذي الحافظ العلائي يشكل نقطة تعقيب واضح على ما فصله ابن الصلاح (رحمه الله تعالى).
خامساً : خلاصة المبحث الرابع:
من هنا يتبلور مدى صلة هذا النوع بمسألة "زيادة الثقة" وغيرها من الأنواع التي سبق ذكرها، وهي: تعارض الوصل والإرسال، وتعارض الوقف والرفع، والمدرج ؛ فإنها جميعا تنبثق من نقطة الاختلاف بين الرواة زيادة ونقصا، وأن الحكم فيها يكون متوقفا على تتبع القرائن وإمعان النظر في دلالاتها الظاهرة(1/24)
والخفية.
وأما ما بينه ابن الصلاح من اعتماد ظواهر السند فلا يُعوّل عليه إلا في حالة التأكد من خلو المزيد في السند من القرائن الدالة على صوابه أو خطئه. وبالتالي يتجلى هذا الموضوع منسجما لصنيع المحدثين في التصحيح والتضعيف. وإذا علمت هذا فإنك تكون على يقين بأن هذا الباب لا ينهض به إلا الناقد المتمرس العارف بهذا الشأن. وعليه فما يلحظ في ظواهر الإسناد من العنعنة أو ذكر السماع فلا يتخذ ذريعة لرفض نصوص النقاد على وجود خطأ ووهم فيما زاده الثقة في سند الحديث.
وبقي هنا أمران:
أولهما: أن الذي يظهر من خلال تتبع هذا الموضوع في مصادر متعددة أنه لم يستخدم هذا المصطلح إلا الخطيب البغدادي، بل ربما يكون هو أول من استخدم هذا المصطلح، وذلك حين أفرد له تأليفا خاصا أسماه "تمييز المزيد في متصل الأسانيد"، وتسبب ذلك لتحول هذا المصطلح نوعا من أنواع علوم الحديث لدى المتأخرين، مثل "السابق واللاحق"، و"المؤتلف والمختلف"، وغيرها من الأنواع التي يرجع ظهورها في كتب المصطلح كأنواع علوم الحديث إلى تأليف الخطيب وغيره كتبا مفردة لكل منها، ولعل هذا الإفراد من أجل طرافة تلك المسائل الجزئية، وليست لكونها أنواعا تحوي قواعد علمية.
والجدير بالذكر أن الحافظ ابن حجر في الفتح استخدم هذا المصطلح بشكل مكثف في رد المزيد وتخطئته، والحكم على أصل السند باتصاله، بخلاف ما كان عليه ابن الصلاح حيث يجعل قبول المزيد في السند أصلاً.
والثاني: لهذا النوع صلة وثيقة بالتدليس والإرسال الخفي وبجميع أنواع الانقطاع عموما باعتبار كونه وسيلة من وسائل كشف ذلك الانقطاع الظاهر والخفي، وإن كان ذكر الواسطة بين راويين في السند يعد مؤشرا على وجود احتمال الانقطاع في السند الحالي من الواسطة؛ فإنه لا يعول على ذلك مباشرة إلا بواسطة القرائن، كما أوضحنا ذلك مفصلا في كتابنا "كيف ندرس علوم الحديث".
وبعد دراسة الأنواع السابقة : تعارض الوصل والإرسال وتعارض(1/25)
الوقف والرفع، والمدرج، والمزيد في متصل الأسانيد، دراسة تحليلية ونقدية يتبين لنا مدى ظهور زيادة الثقة في هذه الأنواع بحيث تشكل كلها وحدة موضوعية تتمثل في التفرد والمخالفة، وأن هذا الترابط الموضوعي فيما بينها لم يكن أساسا في معظم كتب المصطلح حين معالجتها لهذه الأنواع.
الخاتمة
تتمثل أهم نقاط هذا البحث فيما يلي:
1) إن الأنواع السابقة: تعارض الوصل والإرسال وتعارض الوقف والرفع، والمدرج، والمزيد في متصل الأسانيد،كلها تتصل بمسألة زيادة الثقة، وتشكل جميعها وحدة موضوعية تتمثل في حالتي التفرد والمخالفة، وأن هذا الترابط الموضوعي فيما بينها لم يكن أساسا في كتب المصطلح حين معالجتها لهذه الأنواع.
2) ولتصبح أحكام هذه الأنواع موحدة ومنسجمة مع منهج المحدثين النقاد في قبول الأحاديث وردها يجب أن يؤخذ هذا الترابط الموضوعي الوثيق بعين الاعتبار حين يطرح كل منها، وأن يعد ما سبق في مبحث العلة من تفاصيل الحكم والحيثيات العلمية ميزانا دقيقا في ذلك كله.
3) وتتفق معظم كتب المصطلح على اعتبار أحوال الرواة وظواهر السند معيارا عاما لتفصيل أحكام تلك الأنواع التي دار عليه البحث، وهذا أمر يتعارض تماما مع منهج المحدثين النقاد في قبول الحديث ورده.
4) وكل هذه النتائج تؤكد أن زيادة الثقة ليس حكمها القبول مطلقا ولا الرد مطلقا وإنما يكون ذلك كله وفق القرائن المتوافرة فيها، وأما في حالة عدم توافرها لا يبقى مجال في قبول الزيادة سوى الرجوع إلى الأصل في الثقة، وهو أن يكون مصيبا فيما زاده، ويقال عندئذ إن قبول زيادة الثقة مقبولة.
ولله الحمد والشكر.(1/26)