بسم الله الرحمن الرحيم
دفاع عن الإمام أبي حاتم محمد بن حبان البستي
في دعوى نفيه وجود حديث ( عزيز )
الحمد لله ،والصلاة والسلام على رسول الله ،وعلى آله وصحبه ومن والاه .أمّا بعد
فإن علم الحديث علم جليل عظيم ، صعب المرتقى ، شديد المآخذ ، ولذلك لم يبرع فيه إلا أحاد من الأئمة ، من أذكياء الناس ، وعباقرة العالم ،وتقاة الأمة ، ووقف على سفح جبله ،وعلى ساحل بحره علماء أخرون ، مع عظيم حفاوتهم به ، وكثرة كتابته وحفظه " ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم " [الجمعة :4] ، ولهذا فلا تعجب من اختلاف الأئمة فيه ،ومن خطأ بعضهم في مسألة أو مسائل منه ؛ لأن من ولج ساحة الوغى لابد له على فرسه من كبوة ولسيفه من نبوة ! .
... ولأن وقوع الاختلاف بين الأئمة ، يلزم من جاء بعدهم أن يأخذ بأحد القولين دون الأخر ، وفي ذلك تخطته للقول المهجور وتخطئه لصاحبه من أهل العلم لزوماً ، لذلك كان الاتباع بالدليل خير من التقليد من غير التفات إلى الدليل ؛ لأن التقليد فوق أنه ليس علماً ولا صاحبه معدود من أهل العلم ، وفوق أنه كفران لنعمة التعقل والتدبر التي يحب الله تعالى أن يرى أثرها على عبده الذي وهبها إياه ؛ فوق ذلك فإن في التقليد تشنيعاً وانتقاصاً لصاحب القول المهجور من أهل العلم ، إذ كأن مذهبه ودليله ليسا بأهل للنظر فيهما نظرة الرد وبيان الفساد ، فضلاً عن نظرة احتمال القبول والاتباع !!! أما صاحب الاتباع للدليل فيقول : ما دمنا قد ألجئنا إلى هذا المكان الضيق ، باتباع قول وترك قول ، فاختيار الراجع بدليله أتقى وأنقى وأبقى !! .(1/1)
أقول هذا توطئة لمسألة مهمة في علوم الحديث ، قال فيها أحد الأئمة قولاً ، أخذ عليه ، ولامه بسببه كثير من الأئمة وظهر لي بعد الفحص والتدقيق ، أن عبارته سليمة ، لا مأخذ ولا لوم يتوجه عليه فيها ، فحثني إنصاف هذا العالم على المبادرة إلى الدفاع عنه ، وبيان مراده من ذلك القول ، والاستدلال لصحته .
هذه الإمام هو أبو حاتم بن حبان البستي (ت 354هـ ) ، أما مقالته التي هي محط انتقاد بعض الأئمة ، ومجال الدراسة هنا ، فهي قوله في مقدمة صحيحه ( المسند الصحيح على التقاسيم والأنواع من غير وجود قطع في سندها ولا ثبوت جرح في ناقلها ) : " فأما الأخبار : فإنها كلها أخبار أحاد ، لأنه ليس يوجد عن النبي صلى الله عليه وسلم خبر ، من رواية عدلين ، روى أحدهما عن عدلين ، وكل واحد منهما عن عدلين ، حتى ينتهي ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما استحال هذا وبطل ، ثبت أن الأخبار كلها أخبار آحاد ، وأن من تنكب عن قبول أخبار الآحاد ، فقد عمد إلى ترك السنن كلها ، لعدم وجود السنن إلا م رواية الآحاد "(1).
هذه هي عبارة ابن حبان المقصودة ، التي أخذت عليه ، وبعد دراسة هذه العبارة دراسة فاحصة دقيقة ، ظهر لي أنها تحتمل معنيين ، كلاهما صحيح مقبول ، ولا يتناقصان ، بل مآلهما إلى معنى واحد ،وسأعرض لك فيما يلي هذين المعنين :
فالمعنى الأول ، هو ما نستجليه بما يلي :
-تضمن كلام ابن حبان إثباتاً لنوع من الأحاديث ونفياً لما سواه ، فأثبت أن الأحاديث كلها خبر آحاد ، ونفي ما يقابل خبر الآحاد من أن يكون له وجود في الأحاديث النبوية .
-ومعلوم أن خبر الآحاد يشمل : ما تفرد بروايته شخص واحد ( وهو الغريب ) ، وما لم يروه أقل من أثنين عن اثنين ، وما رواه أكثر من أثنين ما لم يبلغ حدّ التواتر ، وهما ( العزيز ) و ( المشهور ) .
__________
(1) الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان ، لابن بلبان (1/156) .(1/2)
-وعلى هذا فرواية الاثنين ( العزيز ) خبر آحاد قطعاً ، ودائماً وأبداً .
-وإذا كان ابن حبان لا ينفي وجود خبر الآحاد ، فمن ذلك رواية الاثنين ، يجب أن يكون ابن حبان لا ينفي وجودها كذلك .
- فابن حبان إذن يثبت وجود رواية الاثنين ( العزيز ) ، بلا شك في ... ذلك ، وهذه نتيجة عض عليها بنواجذك ولا تسمح نفسك بالتنازل عنها .
- ثم إن خبر الآحاد ليس يقابله إلا ( المتواتر ) ، ولا شيء سواه .
-فمن أثبت وجود خبر الآحاد ، قائلاً : " الأخبار كلها أخبار آحاد ... لعدم وجود السنن إلى من رواية الآحاد " ، نافياً بذلك ما يقابل خبر الآحاد ، فماذا نفى إذن ، إن لم يكن ينفي وجود ( المتواتر ) ؟ !!
- فابن حبان بناءً على ما سبق لا يرى في الأحاديث النبوية خبراً متواتراً ، فهو ينفي وجود مقابل للآحاد ، لأن " الأخبار كلها أخبار آحاد " فالذي نفي ابن حبان وجوده هو المتواتر ، وليس شيء سواه ، وهذه النتيجة أيضاً مستفادة بيقين ، والشك لا يرد اليقين ، واليقين لا يعارضه يقين أبداً ، فهذه النتيجة إذن شد عليها بيديك ، ولا تتهاوى في يقينك بها أيضاً .
وخلاصة ما سبق : أن ابن حبان يقول إن الأحاديث النبوية كلها أخبار آحاد ،ولا يوجد حديث اجتمعت فيه شروط المتواتر أبداً .
ولذلك رأى ابن حبان أن من ترك الاحتجاج بخبر الآحاد ، يعني مع الزعم بالاحتجاج بالمتواتر دون غيره ، أنه في الحقيقة لا يحتج بشيء من السنن ، لأنّ السنة لم تأتنا إلى من رواية الآحاد .. كذا يقول ابن حبان .
هذا هو معنى كلام ابن حبان ،ولا أحسب الأمر بعد هذا التفصيل في حاجة إلى مزيد تأكيد ، أنه هو معنى كلامه .(1/3)
لكن جاء في كلام ابن حبان تمثيل صوري لما نفى ابن حبان وجوده ، فذكر صورة اشتبهت عند بعض أهل العلم بصورة ( العزيز) ، أي : فُهم من ذلك التمثيل أن ابن حبان ينفي وجود حديث لم يروه أقل من اثنين عن اثنين! تلك العبارة هي قوله : " لأنه ليس يوجد عن النبي صلى الله عليه وسلم خبر من رواية عدلين ، روى أحدهما عن عدلين ، وكل واحد منهما عن عدلين ، حتى ينتهي ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم " .
... فهل يمكن أن يكون مراد ابن حبان بهذه الصورة صورة ( العزيز) ؟! .
تقدم في تفصيلنا السابق رد هذا الفهم ، وخرجنا بنقيضه يقيناً ، وهو انّ ابن حبان يثبت وجود ( العزيز ) .
وتقدم أيضاً إثبات أن المنفي في كلام ابن حبان هو (المتواتر) وذلك ما خرجنا به بيقين كذلك .
وبناءً على هاتين المقدمتين ، يجب أن تكون تلك العبارة تقصد نفي وجود ( المتواتر ) دونما سواه !!
وبناءً على هاتين المقدمتين ، لابد أن نجد في تلك العبارة ما يحتمل نفي وجود ( المتواتر ) وحده !!
والذي يظهر لي أن ابن حبان أراد بهذه الصورة أن يقول : إنه إذا لم يوجد حديث من رواية أثنين اجتمعت فيه بقية شروط المتواتر ( من إستحالة التواطؤ على الكذب أو وقوع الغلط ، وغيرها ) ، فوجود حديث اجتمعت فيه تلك الشروط في حديث الجماعة ( ثلاثة فما فوق ) ، أولى بالعدم ، وأحق بالاستبعاد ،
فإن قيل :لكن شرط العدد الكثير المشترط في المتواتر منخرم في كلام ابن حبان ،ثم إن العدد الكثير هو سبيل استحالة التواطؤ على الكذب والوقوع في الغلط ، فكيف يصح بعد هذا أن يكون ابن حبان أراد بكلامه السابق المتواتر ؟! ثم كيف يصح التوجيه السابق لكلامه ؟! .
فأقول : أما ( كيف يصح أن يكون ابن حبان أراد بكلامه السابق المتواتر؟ ، فهذا ما قررناه آنفاً ، وما في إعادة الكلام وتكرير التقرير إلا دليل على بلاده في الفهم من المطالب بذلك ، فأعيذك من هذا ، ويكفيك أن تعيد قراءة ما سبق .(1/4)
أما كيف يصح توجيهي لكلام ابن حبان ، مع ما ذكر ؟ فهذا باب واسع وكلام ذو شجون ، لكني اختصر فأقول : إن العدد " الكثير المشترط في المتواتر إنما اشترك لأنه – عند من ذكره –دليل على استحالة التواطؤ على الكذب ووقوع الغلط ، وليس العدد الكثير بحد ذاته شرطاً ، بدليل أن العدد الكثير إذا لم يفد تلك الاستحالة فلا يكون مقبولاً للقول بالتواتر ، وعلى هذا فليس العدد الكثير في الحقيقة شرطاً منفصلاً ، وإنما اشترطه القائلون به لظنهم أنه لا تتم الاستحالة المطلوبة إلا به ، وقد بينت في ( المنهج المقترح ) أن تلك الاستحالة لا تستفاد مما ذكروه(1)، بل الإمام الشافعي هو الذي بين ذلك قبلي(2).
إذن فاستحالة التواطؤ على الكذب ووقوع الغلط هي الشرط الحقيقي في المتواتر ، عند من يقول به ، ولذلك قال ابن حزم في ( الأحكام في أصول الأحكام ) في مجال بيان الخبر الموجب للعلم الضروري : "ولكنا نقول : إذا جاء اثنان فاكثر من ذلك ، وقد تيقنا أنهما لم يلتقيا ، ولا دسسا ، ولا كانت لهما رغبة فيما أخبرا به ، ولا رهبة منه ، ولم يعلم أحدهما بالأخر ، فحدث كل واحد منهما مفترقاً عن صاحبه ، بحديث طويل ، لا يمكن أن يتفق خاطر اثنين على توليد مثله ، وذكر كل واحد منهما مشاهدة أو لقاء لجماعة شاهدت أو أخبرت عن مثلها بأنها شاهدت ؛ فهو خبر صدق يضطر – بلا شك – من سمعه إلى تصديقه ، ويقطع على غيبه "(3).
فها أنت ترى أن ابن حزم بنى القول بإفادة العلم الضروري على تحقق استحالة التواطؤ على الكذب ووقوع الغلط في رواية اثنين فصاعداً .
وهنا نقول :هل يمكن أن نجد خبراً من السنة نعلم يقيناً أن راوييه لم يلتقيا ، ولم يتراسلا ، ولم يدسسا ( على تعبير ابن حزم ) ؟! وكيف يثبت ذلك يقيناً(4)؟!
__________
(1) المنهج المقترح (109-112) .
(2) جماع العلم للشافعي ( رقم 309 –324 ) .
(3) الإحكام لابن حزم (1/107) .
(4) انظر المنهج المقترح (111) .(1/5)
وهنا نعود فنقول: إنه لا يوجد خبر من رواية عدلين يروي كل واحد منهما عن عدلين إلى أن ينتهي ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، استحال تواطؤ راوييه على الكذب ووقوع الغلط منهما ، وهذا ما سبق أن قلناه في توجيه كلام ابن حبان ،وفي بيان مراده بالنفي للوجود الذي ذكره ، وأنه إذا لم يوجد ذلك في خبر الاثنين فهو في خبر الثلاثة أولى بالعدم وأحق بالاستبعاد ، كما سبق هذا توجيه كلام ابن حبان ، مع نفي الاعتراض عن هذا التوجيه .
ثم نقول لمن زعم أن كلام ابن حبان يعني به نفي وجود رواية الاثنين (العزيز) : إن أغضينا الطرف تماماً عن كل ما سبق ذكره ، مما يدل على بطلان هذا الزعم ؛ فما هو معنى قول ابن حبان " الأخبار كلها أخبار أحاد " عندك ؟ وما هو مراده بالآحاد ؟
هل يقصد بالآحاد ( الغريب ) ؟ وهو ما تفرد بروايته شخص واحد !!! أم يقصد بالآحاد (الغريب ) ، وما رواه ثلاثة فأكثر ما لم يبلغ حدّ التواتر؟!!! أما رواه اثنان فليس آحاداً عنده !!! .
ثم كيف ينفي ابن حبان (العزيز) وصحيحه مليء منه ،والمتابعات التي يذكرها مما يبلغ رواية الاثنين والثلاثة فأكثر موجودة فيه ؟!!.
بل كيف يتصور صدور مثل هذا المعنى مما له أدني إطلاع على كتب السنة ؟!! فضلاً عن حافظ من كبار نقاد السنة !!! وهل يستطيع أحد أن ينتقص الأئمة بأكثر من نسبة مثل هذا القول إليهم ؟!! مما لا يقول به جاهل !!! .
وعلى كل حال ، فإن الذي خرجنا به من كلام ابن حبان : أنه يرى السنة كلها مما يروى بالأسانيد داخلة في خبر الآحاد ، لأنه لا يوجد خبر منها اجتمعت فيه شروط الخبر المتواتر .
ولست أنا أول من فهم ذلك من عبارة ابن حبان : بل أنا مسبوق بذلك من جمع من الأئمة .(1/6)
قال الحافظ أبن حجر في ( نزهة النظر) بعد ذكره شروط الحديث المتواتر :" ذكر ابن الصلاح أن مثال التواتر المتواتر على التفسير المتقدم يعز وجوده ، إلا أن يدعى ذلك في حديث ( من كذب علىَّ ) وما ادعاه من العزة ممنوع ،وكذا ما ادعاه غيره من العدم "(1).
فمنهم السخاوي – تلميذ ابن حجر وأعرف الناس به – أن الحافظ أراد بمدعي العدم ( أي عدم وجود المتواتر ) ابن حبان(2)، وكذلك مضى شراح النزهة كملاعلي القاري(3)والمناوي(4)، وغيرهما .
إذن فلست بدعاً في ذلك الفهم لكلام ابن حبان !
وإن كان الأمر العجيب حقاً هو أن الأئمة السابق ذكرهم تناقضوا في فهم كلام ابن حبان ، حيث ذكروا أن ابن حبان بكلامه الذي نفى به وجود المتواتر ينفي وجود ( العزيز أيضاً )(5)!!! .
وما نقلناه عنهم أولاً هو الصواب ، وأما هذا الأخير فبعيد عن الصواب كل البعد ،وإنما أردت من ذكر ذلك بيان أن الفهم الذي صوبته فهم قد سبقت إليه ، ثم بعد أن تأيد بأوجه الدلالة السابق بسطها ، لا يؤثر في ذلك أن الأئمة الذين سبقوني إلى هذا الفهم قد سبقوني أيضاً إلى الفهم المخالف !!! هذا هو المعنى الأول الصحيح لكلام ابن حبان ؛ وبقي المعنى الثاني الذي وعدنا ببيانه .
__________
(1) نزهة النظر (42) .
(2) فتح المغيث للسخاوي (4/19) .
(3) شرح شرح نخبة الفكر ، للقاري (187) .
(4) اليواقيت والدرر للمناوي (1/144) ، وتحرف فيه (ابن حبان ) إلى (ابن الحاجب ) !
(5) نزهة النظر لابن حجر (46) ، وفتح المغيث للسخاوي (4/7) ،وتدريب الراوي للسيوطي (2/167-168)، وشرح شرح نخبة الفكر للقاري (206) ، واليواقيت والدرر للمناوي (1/164-166) .(1/7)
فالمعنى الثاني لكلام ابن حبان ، هو : أن الأخبار كلها أخبار آحاد ( ونعود بذلك إلى أن ابن حبان ينفي وجود المتواتر ) وأن من اشترط لقبول أخبار الآحاد شروطاً غير شروط القبول عند أهل الحديث ، مما يتعلق بعدد الرواة ، كاشتراط أن يكون مخرج الرواية مخرج الشهادة على الشهادة إلى أن تبلغنا تلك الرواية ؛ فهذا الشرط باطل ، لأنه لا وجود لإسناد حديث تحققت فيه تلك الكيفية ، وعليه فإن من اشترط ذلك الشرط لقبول أخبار آحاد ، فإنما مراده تعطيل السنن كلها ، لأنه لا وجود لخبر تحقق فيه ذلك الشرط .
هذا هو المعنى الثاني لكلام ابن حبان .
وعلى هذا المعنى يكون مقصود ابن حبان الرد على بعض متاخري المعتزلة كأبي علي الجبائي (ت303هـ) الذي ذهب إلى أن خبر الواحد لا يقبل ، بل لابد من العدد وأقله اثنان(1)، وجعل الرواية من باب الشهادة على الشهادة(2)
وصورة الشهادة على الشهادة التي شبهت بها الرواية مما أختلف فيه الفقهاء : فذهب أبو حنيفة ومالك والشافعي في قول له : أنه أقل ما يقبل في الشهادة على الشهادة ، أن يشهد شاهداً فرع على شهادة شاهدي الأصل ، فيكون كل فرد من شاهدي الفرع شاهداً على شاهدي الأصل كليهما(3).
وذهب الشافعي في قول آخر له ( وهو اختيار المزني ) : أن أقل ذلك ، أن يشهد شاهدا فرع على شهادة شاهد أصل ،وشاهدا فرع آخرين على شاهد الأصل الثاني : فيكون عدد شهود الفرع أربعة على شاهدي أصل(4).
__________
(1) البرهان للجويني (1/607رقم 546) .
(2) روضة الناظر لابن قدامة (1/382) ، وانظر آراء المعتزلة الأصولية دراسة وتقويماً للدكتور علي بن سعد الضويحي (333-337) .
(3) المبسوط للسرخسي (16/137-138) ، والشرح الصغير على أقرب المسالك للدردير (4/292-294) ،والحاوي للماوردي (21/248-249 )
(4) الحاوي للمارودي (21/248-249) .(1/8)
وذهب الإمام احمد إلى أنه كيفي أن يشهد على كل شاهد أصل شاهد فرع واحد(1).
فما هي الشهادة على الشهادة المقبولة عند الجبائي ، التي قاس عليها الرواية ؟ .
الذي ذكره ابن قدامة عن الجبائي ، أنه على مثل قول الشافعي الثاني (الذي اختاره المزني ) ؛ فقد قال ابن قدامة في ( روضة الناظر ) : " وذهب الجبائي إلى أن خبر الواحد إنما يقبل إذا رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم اثنان ، ثم يرويه عن كل واحد منهما اثنان ، إلى أن يصير إلى زماننا إلى حدّ يتعذر معه إثبات حديث أصلاً ، وقاسه على الشهادة "(2).
وعلى هذا ، فلا يقبل الحديث عند الجبائي حتى يكون كالتالي : يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم صحابيان ، وعن كل صحابي تابعيان ،وعن كل تابعي رجلان من أتباع التابعين ( فيكون عددهم ثمانية ) ، وعن كل رجل من أتباع التابعين رجلان من تبع الأتباع ( فيكون العدد ستة عشر راوياً ) ، ثم عن كل رجل من هؤلاء رجلان من طبقة شيوخ ابن حبان ( فيكون العدد اثنين وثلاثين شيخاً ) .
وهذا رسم توضيحي لذلك
النبي صلى الله عليه وسلم
الصحابي (الطبقة الأولى ) ... ... ... ... الصحابي( الطبقة الأولى )
الطبقة الثانية الطبقة الثانية الطبقة الثانية الطبقة الثانية
الثالثة الثالثة الثالثة الثالثة الثالثة الثالثة الثالثة الثالثة
4 4 4 4 4 4 4 4 4 4 4 4 4 4 4 4
55 55 55 55 55 55 55 55 55 55 55 55 55 55 55 55
ابن حبان
فهل يوجد حديث في السنة روي على هذه الكيفية ؟ !!
__________
(1) المغني لابن قدامة (12/94-95) .
(2) روضة الناظر لابن قدامة (1/382)(1/9)
... وتذكر أننا لا نتكلم عن حديث يرويه ابن حبان عن ستين شيخاً بمائة وجه ، فهذا وأكثر منه قد يوجد ؛ لكننا نتكلم عن حديث يرويه ابن حبان عن اثنين وثلاثين شيخاً ، فقط ، غير أن كل شيخين منهم يشهدان على شيخهما ،ويشاركهما شيخان آخران لابن حبان في الشهادة عليه ،وهكذا كل شيخين مع شيخين أخرين لابن حبان ، ثم شيخ شيخ ابن حبان يوافقه شيخ شيخ آخر ( وصل إليه ابن حبان بالطريقة المذكورة نفسها ) على رواية الحديث عن شيخ لهما ، يشاركهما عنه شيخاً شيخ لابن حبان ( وصل إليهما ابن حبان بالطريقة نفسهما ) ... وهكذا حتى تنتهي هذه المشجرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، ويشترط في هذه المشجرة أيضاً أن يكون جميع رواتها – مع ذلك كله – عدولاً ، لا ينخرم ذلك في واحد منهم !!! .
... يا قوم ، هل يستطيع أحد أن يسخر بدعوى قبول شيء من السنة بأعظم من هذه السخرية ؟!!!.
... هذا هو مذهب الجبائي ومتأخري المعتزلة في قبول الآحاد ،وهذا هو المذهب الذي رد عليه ابن حبان ونفى وجود حديث تتحقق فيه شروط القبول بناءً عليه ؛ وذلك كله في فهم الحافظ أبي بكر الحازمي (ت585هـ ) ، في كتابه ( شروط الأئمة الخمسة ) ، حيث قال : " ولا أعلم أحداً من فرق الإسلام القائلين بقبول خبر الواحد اعتبر العدد ، سوى متأخري المعتزلة ، فإنهم قاسوا الرواية على الشهادة ،واعتبروا في الرواية ما اعتبروا في الشهادة ، وما مغزى هؤلاء إلى تعطيل الأحكام ، كما قال أبو حاتم ابن حبان "(1)
... فهذا هو فهم الحازمي إذن لكلام ابن حبان ، فإذا به ليس فهماً قائماً على إرادة نفي وجود حديث (عزيز) ، كما زعموا !!!
... فإذا رجعت إلى كلام ابن حبان ، وجدته يحتمل في الصورة التي نفى وجود حديث عليها صورة هي عكس الصورة التي شرحناها آنفاً ، بناءً على قياس الرواية على الشهادة كما سبق .
__________
(1) شروط الأئمة الخمسة للحازمي (61) .(1/10)
... فقد قال ابن حبان – كما سبق - : " لأنه ليس يوجد عن النبي صلى الله عليه وسلم خبر ، من رواية عدلين ، روى أحدهما عن عدلين ، وكل واحد منهما عن عدلين ، حتى ينتهي ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم "(1)
... فهذه كيفية للرواية عكس الكيفية السابقة ، المقامة فيها الرواية على الشهادة
... وهذا رسم توضيحي لها :
النبي صلى الله عليه وسلم
اثنان وثلاثون صحابياً
2 2 2 2 ... 2 2 2 2 ... 2 2 ... 2 2 2 2 2 2
3 ... 3 ... 3 3 ... 3 ... 3 3 ... 3
4 ... ... ... 4 4 4
ابن حبان
فإن كان هذا هو مانفي ابن حبان وجوده ، فهل يجهل جاهل بالسنة عدم وجوده في السنة فعلاً ، فضلاً عن عارف بالسنة ؟!! .
... إذن فابن حبان بناءً على المعنى الثاني لكلامه ، المذكورة آنفاً ، إنما يرد على من قاس الرواية على الشهادة ، أو عكس صورة هذا القياس ، ويكون ابن حبان بذلك لم يتعرض لنفي وجود ( العزيز) ، كما فهم من كلامه !!
... ولكن هل يكون ابن حبان ( بناءً على هذا المعني الثاني ) ممن ينفي وجود المتواتر ؟
... فأقول : وكيف لا ؟! وهو القائل :" الأخبار كلها أخبار آحاد ... لعدم وجود السنن إلا من رواية الآحاد " ثم إن من نفي وجود حديث على الكيفية السابقة ، بأن يروي عن كل رجل في الطبقة العليا رجلان من الطبقة التي تليه ، فهو لرواية جمع أخر يستحيل فيه ما استحال في الجمع السابق .. وهكذا؛ من نفى وجود الأول فهو لهذا أنفى وأكثر إنكاراً !!.
... وبهذا نكون قد انتهينا من دراسة كلام ابن حبان ، ومن استجلاء معناه ، بما تبين معه أنه معنى صحيح لا غبار عليه ، عند من يوافقه في نفي وجود المتواتر!! .
__________
(1) تقدّم بيان عزوه .(1/11)
... ونحن بهذا الفهم الأخير (المعنى الثاني ) لكلام ابن حبان الذي سبقنا إليه من أبي بكر الحازمي (رحمه الله) ، كما سبق ، نكون قد عرفنا تماماً مراد الحازمي في موقفه من كلام ابن حبان في موطن آخر من كتاب ( شروط الأئمة الخمسة ) . حيث إن الحازمي لما ردّ على أبي عبد الله الحاكم (ت405هـ) ما فهم من عبارة له أنه ينسب إلى صاحبي الصحيح ( البخاري ومسلم ) أنهما يشترطان لصحة الحديث أن يكون (عزيزاً) ؛ فقال الحازمي في رده هذا على الحاكم :" بل لو عكس القضية وحكم كان أسلم له ، وقد صرح بنحو ما قلت من هو أمكن منه في الحديث ، وهو أبوحاتم محمد بن حبان البستي ... ( ثم أسند إلى ابن حبان عبارته المقصودة بالدرس هنا ،وقال بعدها ) ومن سبر مطالع الأخبار عرف أن ما ذكره ابن حبان أقرب إلى الصواب "(1)
... فبعد أن عرفنا معنى كلام ابن حبان على الصواب ،وبعد أن تبينا بطلان فهمه على أنه يريد نفي وجود حديث ( عزيز )، بل وبعد أن أوقفنا الحازمي نفسه على فهمه لكلام ابن حبان على ما ذكرناه أنفاً ؛ فهل يمكن أن تذهب حلومنا لنظن بعد ذلك أن الحازمي وافق ابن حبان في نفي وجود ( العزيز ) ؟!!! .
... فإن بلغ الأمر إلى هذا الحد – وإنا لله وإنا إليه راجعون – فأرجو أن يقربنا إلى الصواب كلام جديد للحازمي ، يقطع بأنه لا ينفي وجود ( العزيز ) !
... قال الحازمي مشيراً إلى الحاكم : " وأما قوله : إن الموجود المروي من الأحاديث – على الوتيرة التي لم تسلم – يبلغ قريباً من عشرة آلاف ، فهذا ظن منه بأنهما لم يخرجا إلى على ما رسم ، وليس كذلك . فإن أقصى ما يمكن أعتباره في الصحة هو شرط البخاري ، ولا يوجد في كتابه من النحو الذي أشار إليه إلا القدر اليسير"(2).
... فكيف يظن بالحازمي أنه ينفي وجود العزيز تبعاً لابن حبان ؟!!!
__________
(1) الأئمة الخمسة للحازمي (44) .
(2) شروط الأئمة الخمسة (44-45) .(1/12)
... ولذلك لم يذكر العلماء أن الحازمي موافق لابن حبان في نفي وجود (العزيز)، حتى أولئك العلماء الذين فهموا من عبارة ابن حبان ذلك الفهم الباطل ؛ وإنما نص هؤلاء العلماء على الحازمي موافق لابن حبان في نفي وجود (المتواتر)، كما تراه في نص كل من السخاوي وملاعلي القاري والمناوي(1)وغيرهم .
... والسؤال الذي يطرح نفسه هنا : فإن كان كلام ابن حبان عند الحازمي لا يدل على نفي وجود ( العزيز ) ، فكيف يستدل به الحازمي في رده على الحاكم؟
فأقول :
... أولاً : إن صورة الرواية التي نفاها ابن حبان ( على فهم الحازمي ، وهو فهم صحيح ) صورة من صور ( العزيز ) ولا شك ، لأنه رواه في أقل طبقاته راويان ؛ لكنها ليست هي (العزيز) كله ،وإنما هي صورة من صوره .
... ثانياً : في نفي وجود تلك الصورة التي نفاها ابن حبان دلالة على قلة وجود هذا القسم (العزيز) ، بدلالة نفي وجود بعض صوره ، وهذا هو كل مقصود الحازمي .
... لأن الذي قاله الحازمي ويريده هو بيان أن اشتراط العزة في صحة الحديث ليس صواباً ، ولم يكن مراد الحازمي نفي وجود ( العزيز) ،وعلى هذا المراد ، يكفي في الدلالة على خطأ ذلك الشرط بيان أن الأحاديث التي تحقق فيها الشرط المزعوم أحاديث قليلة ، في مقابل ألوف الأحاديث التي صححها الشيخان (البخاري ومسلم ) .
... أو بعبارة أخرى : كأن الحازمي بذلك يقولك للحاكم : أما بعض صور (العزيز) فغير موجود أصلاً ، بدليل كلام ابن حبان ، فكيف يشترط في صحة الحديث ؟! وأمّا البعض الآخر من صوره فنناقشك في اشتراطه بما يلي ( ثم ذكر الحازمي أدلة نقض هذه الشرط ) ؛ هذا ما لسان حال الحازمي يقوله للحاكم .
__________
(1) انظر فتح المغيث للسخاوي (4/19) ، وشرح شرح نخبة الفكر للقاري (187) ،واليواقيت والدرر للمناوي (1/164-166) .(1/13)
... والذي يشهد على أن الحازمي إنما كان يستدل بكلام ابن حبان على بعض ما يريد ، لا في كل ما يريد ، أنه قدّمه بقوله : " وقد صرح بنحو ما قلت " ، ولم يقل : " بمثل ما قلت " !! .
... وبذلك نكون قد بينا وجه استدلال الحازمي بكلام ابن حبان في معرض رده على الحاكم .
... وهذا آخر ما أحببت بيانه في هذه المسألة ، التي تناقض تجاهها أقوام ، وتنقص آخرون ابن حبان ومن وافقه بسببها !! فظهر بهذه الدراسة أن كلام ابن حبان كابن حبان نفسه : علم جليل لعالم جليل ، لكنه علم عميق ، لا يستغرب إن تلكأت فيه بعض الفهوم!! .
... والحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم إلى يوم الدين .
والله أعلم
وكتب
الشريف حاتم بن عارف العوني(1/14)