حكم رواة الحديث الذين سكت عنهم أئمة الجرح والتعديل
للشيخ عداب الحمش
نظرة في كتب أئمة الجرح والتعديل المعنيين:
لن أذهب في هذا المبحث بعيدا، ولن أستعرض كل كتب الجرح والتعديل، وإنما أقتصر على الكتب التي أعتبر الشيخ سكوت أصحابها توثيقا للراوي. فأبين منهج صاحبها_ إن كان قد حدد لنفسه منهجا، وإلا تلمست ذلك بنفسي مستمدا العون من الله تبارك وتعالى.
1_ كتاب التاريخ الكبير للإمام البخاري(1)[1]:
إن الناظر في كتاب التاريخ الكبير للبخاري - اليوم - يجده قليل الجدوى بالنسبة للحكم على الرجال، إذا ما قورن بميزان الاعتدال أو تهذيب التهذيب، أو التقريب وغيرها. وما ذلك إلا لأن طلبة العلم اليوم يستقون معلوماتهم عن الرجال والرواة من خلال ما دون وكتب، بينما كان طلبة العلم في عصر البخاري يعتمدون في معرفة أحوال الرجال على المشافهة والسماع. وما حفظوه في الحل والترحال، ولم يكن الكتاب إلا لإثارة الذاكرة واستيقاظها إذا غفلت.
يؤيد ما ذكرت قول الخطيب البغدادي في تاريخه: "فكتاب التاريخ الكبير لأمير المؤمنين في الحديث الإمام محمد بن إسماعيل البخاري من هذه الكتب التي عنيت بتراجم الرجال، وقد اتبع فيه البخاري طريقة الإيجاز, وروي عن البخاري بإسناده أنه قال: "قل اسم في التاريخ إلا وله عندي قصة إلا أني كرهت تطويل الكتاب"(2)[2].
ولا يخفى أن هذا الإيجاز غرضه تسهيل الحفظ على طلاب العلم، وحين العرض على الشيخ المؤلف يحدثهم بحال كل راو من جرح أو تعديل فيحفظون ذلك أو يكتبونه على حواشي دفاترهم.(1/1)
فالجواب إذن أن ننظر إلى كتاب (التاريخ) على أنه من أوائل المصنفات التي وصلتنا في الرجال وكل من جاء بعد البخاري فقد اعتمد على كتابه, وتتبع أحوال رجاله، ونسق بعض تراجمه ونحو ذلك، ولقد كان للتاريخ الكبير قيمة علمية كبرى في عصره، فقد أسند الخطيب إليه أنه قال: "لو نشر بعض إسنادي! هؤلاء لم يفهموا كيف صنفت كتاب التاريخ ولا عرفوه".
وأسند إليه أيضا قوله: "أخذ إسحاق بن راهويه كتاب التاريخ الذي صنفت، فأدخله على عبد الله بن طاهر فقال: أيها الأمير، ألا أريك سحرا؟ قال: فنظر فيه عبد الله بن طاهر فتعجب منه وقال: لست أفهم تصنيفه"(1)[3] وهذا ليس كبيرا على كتاب البخاري إذا استحضرنا ما فيه من علوم وأسانيد وتذكرنا العصر الذي كتب فيه. وليس بكثير على مثل الإمام البخاري الذي يقول فيه تلميذه الإمام الترمذي:
"لم أر أحدا بالعراق ولا بخراسان في معنى العلل والتاريخ ومعرفة الأسانيد أعلم من محمد بن إسماعيل البخاري"(2)[4].
ومن تتبعي لكثير من رجال (التاريخ) يمكنني أن أعطي صورة موجزة عن منهج البخاري في تاريخه تتلخص في النقاط التالية:
1_ لقد رتب الإمام البخاري تاريخه على حروف المعجم (أ، ب، ت، ث) كما رتب هؤلاء على أسماء آبائهم مرتبين على الترتيب الأبجدي -كما قال في مقدمة كتابه - إلا أنه قدم من اسمه (محمد) على سائر الأسماء لشرف هذا الاسم الكريم.
2_ ابتدأ بذكر ترجمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ونسبه إلى آدم عليه السلام بعد أن قدم لذلك بمقدمة بين فيها فضل قريش على الناس. وذكر شيئا من صفاته صلى الله عليه وسلم، ومدة بعثته وذكر كيف بدأ التاريخ الهجري في عهد عمر بن الخطاب ثم ذكر تاريخ وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
3_ وخطته: أنه يذكر أسماء الصحابة ثم التابعين ثم من بعدهم في كل حرف من الحروف.(1/2)
4_ وتراجم البخاري لرجاله تتراوح بين الطول والقصر فبينا نجده يترجم لأحد الرجال بسطر واحد كما في ترجمته لمحمد بن عبد الله بن أسيد(1)[5] ومحمد بن عبد الرحمن بن فورة، ومحمد بن عمرو اليافعي وغيرهم، إذا به يترجم لعبد الرحمن بن عبد الله بن مالك الأنصاري(2)[6] بأكثر من عشر صفحات.
5_ غالب تراجم البخاري يذكر فيها (اسم الراوي واسم أبيه وجده وكنيته ونسبته إلى القبيلة أو البلدة أو كليهما، وقلما يطيل في الأنساب، ويذكر بعض شيوخ وتلاميذ صاحب الترجمة، وقد يذكر جميع الشيوخ والتلاميذ إذا كان الراوي من المقلين وغير المعروفين بطلب العلم ليتميز حاله. كما يذكر نموذجا من رواياته أو أكثر(3)[7] (..ولا يقدم البخاري معلومات وافية عن أحوال الراوي، وإن ذكر أحيانا الصفات الجسمية والخلقية والعقلية للرواة...)(4)[8].
6_ ويستعمل البخاري ألفاظ الجرح والتعديل، ويلاحظ تورعه عن استعمال ألفاظ حادة في الجرح، فغالبا ما يقول: فيه نظر، يخالف في بعض حديثه، وأشد ما يقول: منكر الحديث. وكذلك لا يبالغ في ألفاظ التوثيق، بل يكتفي بقول: ثقة، أو حسن الحديث، أو يسكت عن الرجل(5)[9].
7_ وقد يسكت البخاري عن الراوي وما أكثر ما يسكت:
1_ فقد يسكت عن أئمة الثقات حيث ترجم للإمام الشافعي(6)[10] بسطرين وسكت عليه كما سكت عن الإمام(7)[11] أحمد بن حنبل، وأحمد بن أشكاب وأحمد بن منيع وغيرهم.
2_ وقد يسكت عن أناس مشهورين بالضعف أو النكارة كسكوته عن محمد بن أشعث بن قيس الكندي(8)[12]، ومحمد بن إبراهيم اليشكري وغيرهما.
3_ وقد يسكت عن أناس مجاهيل كسكوته عن: محمد بن إسماعيل الباهلي(9)[13] ومحمد بن إبراهيم بن عبد الله الهاشمي(10)[14]. وإبراهيم بن إسحاق(11)[15] عن الوليد بن أبي الوليد، وإبراهيم بن إسحاق عن طلحة بن كيسان وغيرهم.(1/3)
4_ وقد يسكت البخاري عن أناس لم يعرفهم، حتى إنه لم يفرق بين أسمائهم، وإليك بعض الأمثلة على ذلك:
1_ ترجم البخاري(1)[16] لمحمد بن قيس الأسدي الكوفي، وذكر عنه عدة طرق ثم قال: وقال يحي بن آدم: حدثنا أبو بكر النهشلي عن محمد بن قيس عن حبيب عن أبي ثابت عن طاووس في العتق. ثم قال: فلا أدري هو الأسدي أم لا؟.
2_ وترجم لمحمد(2)[17] بن قيس عن أبي الحكم البجلي ثم ترجم لمحمد بن قيس المكي وختم ترجمته بقوله: "فلا أدري أهو الأول أم لا".
3_ وترجم لمحمد(3)[18] بن كليب بن جابر المديني يروي عن محمود ومحمد ابني جابر. ثم قال: "وعن موسى بن شيبة عن محمود بن كليب عن محمد بن جابر عن جابر....ثم قال: فلا أدري: هذا أخوه أم لا؟".
4_ وترجم لإبراهيم(4)[19] بن حنظلة عن أبيه روى عنه ابن المبارك. ثم قال في نهاية ترجمته "إن لم يكن يعني إبراهيم بن حنظلة غبن أبي سفيان فلا أدري من هو؟".
5_ وترجم لإسماعيل(5)[20] بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن أبي ربيعة المخزومي ثم ترجم لإسماعيل بن إبراهيم بن أبي ربيعة. وختم ترجمته بقوله: "إن لم يكن هذا الأول فلا أدري؟".
فيتضح من الأمثلة وأمثالها أن في التاريخ الكبير رجالا لم يتيقن البخاري حالهم، بل هو أحيانا غير متأكد من أعيانهم. وهذا يفسر قوله الذي أوردناه في صدر هذا البحث "قلّ اسم في التاريخ إلا وله عندي قصة".
فهناك أسماء ليس لها قصص عند البخاري. فلا يمنع أن تكون القصة عنده دلالة على المعرفة.
2_ كتاب الجرح والتعديل لابن أبي حاتم(6)[21]:
إن كتاب (الجرح والتعديل) من أجود المصنفات في علم الرجال في العصر القديم ولا أريد أن أفصل منهج ابن أبي حاتم فيه، وإن كان لزاما أن أعرف به بكلمة وجيزة.(1/4)
لقد استفاد ابن أبي حاتم من كتاب (التاريخ الكبير) للإمام البخاري، فاستوعب في كتابه رجاله ثم ذهب يسأل أباه وأبا زرعة الرازيين عن رأيهما في كل راو من هؤلاء الرواة، وكان الرجل ذا خبرة واسعة في هذا الشأن إلا أنه كان يتلمس آراء مشاهير النقاد ليتخلص من التبعة. ويؤيد ما قلته هذا شيئان:
1_ الأول ما ذكره هو في المقدمة(1)[22]فقال: "وقصدنا بحكايتنا الجرح والتعديل في كتابنا هذا إلى العارفين به العالمين له متأخرا بعد متقدم إلى أن انتهت بنا الحكاية إلى أبي وأبي زرعة. رحمهما الله، ولم نحك عن قوم قد تكلموا في ذلك لقلة معرفتهم به".
2_ ما ذكره الذهبي(2)[23] عن محمد بن مهرويه قال: "سمعت ابن الجنيد قال: سمعت يحي بن معين يقول: إنا لنطعن على أقوام قد حطوا رحالهم في الجنة من مائتي سنة!!قال محمد بن مهرويه: فدخلت على ابن أبي حاتم، وهو يحدث بكتاب الجرح والتعديل فحدثته بهذا فبكى وارتعدت يداه وسقط الكتاب وجعل يبكي ويستعيدني الحكاية".
إلا أن ابن أبي حاتم الذي عرف أقوال النقاد المتمرسين وغيرهم، قد كون لنفسه منهجا في الرجال، وعرف موضع كل رجل في سلم الجرح والتعديل، وكان يختار للراوي من هذه الأقوال الكثيرة فيه ما هو الأليق بحاله، حتى وإن نسب هذا القول لأبيه أو أبي زرعة أو غيرهما. فانظر إليه وهو يقول:
"ونظرنا في اختلاف أقوال الأئمة في المسؤولين عنهم، فحذفنا تناقض قول كل واحد منهم، وألحقنا بكل مسؤول ما لاق به وأشبهه من جوابهم".(1/5)
ولقد اتبع ابن أبي حاتم الاختصار في التراجم، فهو يذكر اسم الراوي واسم أبيه وينسبه ويكنيه غالبا، ويُعرِّف ببلده، يذكر بعض من روى عنهم، وبعض من رووا عنه ثم يعقب ذلك بالجرح أو التعديل إلا إذا كان الراوي غير مشهور فيذكر جميع من روى عنهم أو رووا عنه ليتحدد موقع الراوي فإذا لم يعرف حال الرجل سكت عليه ولم يبين حاله. وقد قال ذلك عن نفسه بصريح العبارة فاستمع إليه في قوله(1)[24]: "على أنا قد ذكرنا أسامي كثيرة مهملة من الجرح والتعديل كتبناها ليشتمل الكتاب على كل من روى عنه العلم، رجاء وجود الجرح والتعديل فيهم، فنحن ملحقوها بهم من بعد إن شاء الله تعالى".
فهذه الفقرة من قول ابن أبي حاتم تشتمل على النقاط التالية:
1_ أن في الكتاب أسماء رواة لم يتكلم عليهم بجرح أو تعديل.
2_ أنه كتب هذه الأسماء ليستوعب كل رواة الحديث.
3_ أنه يأمل أن يتعرف إلى الجرح أو التعديل في كل راو ممن سكت عنه.
4_ أنه إن عرف ذلك فسوف يلحقه بصاحبه. وهذا بين من قوله: "فنحن ملحقوها _أي ألفاظ الجرح والتعديل_ بهم أي الرواة المسكوت عنهم_ من بعد..."
وهذا يدلنا أيضا على أن ابن أبي حاتم قد ذكر أناسا في كتابه لا يعرف حالهم فسكت عنهم آملا أن يتعرف عليهم فيما بعد. ولكن لبى نداء ربه قبل أن يصل فيهم إلى شيء.
وللشيخ محمد ناصر الدين الألباني حفظه الله_ كلمة طيبة في هذا المقام يحسن الرجوع إليها(2)[25] وسأذكرها في مكانها من هذا البحث إن شاء الله تعالى.
3_كتاب الثقات لابن حبان(3)[26]
لقد حدد ابن حبان في مقدمة(4)[27] كتابه منهجه في الرجال فقال:(1/6)
"فكل من أذكره في هذا الكتاب الأول فهو صدوق، يجوز الاحتجاج بخبره إذا تعرى خبره عن خصال خمس..." إلى أن قال: "وإنما أذكر الشيخ بعد الشيخ وقد ضعفه بعض أئمتنا ووثقه بعضهم، فمن صح عندي أنه ثقة بالدلائل النيرة التي بينتها في كتاب (الفصل بين النقلة) أدخلته في هذا الكتاب لأنه يجوز الاحتجاج بخبره. فكل من ذكرته في كتابي هذا إذا تعرى خبره عن الخصال الخمس التي ذكرتها فهو عدل، لأن العدل من لم يعرف منه الجرح ضد التعديل، فمن لم يعرف بجرح فهو عدل إذا لم يبين ضده، إذ لم يكلف الناس من الناس معرفة ما غاب عنهم، وإنما كلفوا الحكم بالظاهر من الأشياء غير المغيب عنهم".
ولا يخفى أن قول ابن حبان "العدل من يعرف منه الجرح ضد التعديل، فمن لم يعرف بجرح فهو عدل" يبين أن كل رجل غير معلوم بجرح فهو عدل!! مقبول الرواية.
قال ابن حجر(1)[28]: "وهذا الذي ذهب إليه ابن حبان من أن الرجل إذا انتفت جهالة عينه كان على العدالة إلى أن يتبين جرحه، مذهب عجيب والجمهور على خلافه. وهذا هو مسلك ابن حبان في كتاب الثقات".
وإليك أقوال بعض الأئمة في رواية مجهول الحال أو (المستور) بتعبير البعض قال الإمام جلال الدين المحلي في شرح جمع الجوامع(2)[29]: "وتفرع على شرط العدالة ما ذكره بقوله: فلا يقبل المجهول باطنا، وهو المستور لانتفاء تحقق الشرط خلافا لأبي حنيفة وابن فورك وسليم الرازي في قولهم بقبوله اكتفاء بظن حصول الشرط، فإنه يظن من عدالته في الظاهر عدالته في الباطن. وقال إمام الحرمين: يوقف عن القبول والرد إلى أن يظهر حاله بالبحث عنه".
وقال أبو إسحاق الشيرازي: "لا يقبل الخبر إلا ممن تعرف عدالته". وقال أبو حنيفة: "إذا عرف إسلامه جاز قبول روايته".(1/7)
قلنا: هو أن كل خبر لا يقبل من الفاسق، لم يقبل من مجهول الحال كالشهادة، ولأنا لو جوزنا قبول الأخبار ممن جهلت عدالته ويوجد ضمن هؤلاء المجهولين كثير من أهل البدع والأهواء لم يبق أحد من أهل البدع إلا روى ما يوافق بدعته، فتتسع البدع ويكثر الفساد وهذا لا يجوز.
واحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأعرابي الذي شهد عنده الهلال: "أتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ "قال: نعم، وأمر بالصوم، ولم يسأل عن عدالته.
والجواب هو أنه يحتمل أن يكون قد عرف عدالته فلم يسأل عنها(1)[30].
قالوا: ولأن الأصل في المسلم العدالة، فوجب أن يحمل الأمر عليه.
قلنا: لا نسلم بل الأصل في الصبيان عدم العدالة لعلة التحصيل والعقل، وبعد البلوغ يحتمل أن يكون عدلا ويحتمل أن يكون فاسقا، فوجب التوقف فيه حتى نعلم باطن الحال.
ولأن هذا يبطل بالشهادة، فإنها لا تقبل من المجهول وإن كان الأصل في الناس العدالة فسقط ما قالوا(2)[31]
وقال القرافي المالكي: "وقال أبو حنيفة يقبل قول المجهول، وخالفه الجمهور في ذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: "يحمل هذا العلم من خلف عدوله". فلولا أن العدالة شرط، لبطلت حكمة هذا الأمر فإن العدل وغيره سواء حينئذ. إلى أن قال: ولو نقل عن بعض قضاة الزمان أنه حكم بقول رجل ولم يذكر صفته حمل على أنه ثبتت عدالته، فرسول الله صلى الله عليه وسلم أولى لا سيما وهو يقول: "إذا شهد ذوا عدل فصوموا وأفطروا انسكوا" فتصريحه عليه الصلاة والسلام بالعدالة يأبى قبول المجهول"(3)[32].
وقال ابن النجار الحنبلي: "لا تقبل رواية مجهول العدالة عند الأكثر منهم الإمام أحمد رضي الله عنه وأصحابه والمالكية والشافعية".
وعن أحمد رواية ثانية، تقبل وفاقا لأبي حنيفة رضي الله عنه وأكثر أصحابه وابن فورك وسليم الرازي والمحب الطبري. ومن أصحابنا الطفي... وإطلاق القبول عن أبي حنيفة وأصحابه نقله كثير من العلماء(4)[33].(1/8)
وقال ابن مفلح في أصوله: "وقالت الحنفية إن رده جميعهم لم يقبل، وإن اختلفوا فيه قبل، وإن لم يرد ولم يقبل جاز قبوله لظاهر عدالة المسلم ولم يجب. وجوز القضاء بظاهر العدالة أمّا اليوم فتعتبر التزكية لغلبة الفسق".
نقل البرماوي عن صاحب (البديع)(1)[34] وغيره من الحنفية أن أبا حنيفة إنما قبل ذلك في صدر الإسلام حيث الغالب على الناس العدالة، فأما اليوم فلا بد من التزكية لغلبة الفسق"(2)[35].
هذه أقوال علماء المذاهب من الحنفية فلننظر ماذا يقول الحنفية أنفسهم في هذا اصدد؟.
وقال ابن همام: "ومثله أي الفاسق المستور وهو من لم تعرف عدالته ولا فسقه في الصحيح فخبره ليس بحجة حتى تظهر عدالته وروى الحسن عن أبي حنيفة كالعدل في الأخبار بنجاسة الماء وطهارته ورواية الأخبار".
ثم قال: "مجهول الحال وهو المستور غير مقبول، وعن أبي حنيفة في غير الظاهر من الرواية عنه قبوله ما لم يره السلف - وجهها أي هذه الرواية - ظهور العدالة بالتزامه الإسلام... ودفع وجهها بأن الغالب أظهر وهو الفسق في هذه الأزمنة فيرد خبره به أي بهذا الغالب ما لم تثبت العدالة نغير التزامه بالإسلام.
وقد ينفصل القائل بهذه الرواية بأن الغلبة للفسق في غير رواة الحديث ولا سيما في الماضين ويدفع هذا بأن كون الغلبة في غير رواة الحديث إنما هو في المعروفين منهم لا في المجهولين منهم؟.
والاستدلال لظاهر الرواية بأن الفسق سبب التثبت قال تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} فإذا انتفى الفسق انتفى وجوب التثبت وانتفاؤه أي الفسق لا يتحقق إلا بالتزكية، ما لم ينتف الفسق تبقى شبهته وهي ملحقة بأصلها. وجعل الشارع الاستدلال لغير ظاهر الرواية ولا معنى له كما لا يخفى(3)[36] انتهى.(1/9)
فالإمام أبو حنيفة في ظاهر الرواية يذهب مذهب الجمهور، والرواية الأخرى مرجوحة ومعلوم أنه إذا جاءت عن أبي حنيفة روايتان إحداهما في ظاهر الرواية والأخرى من طريق أخرى كانت طريق ظاهر الرواية هي المعتبرة عند الحنفية. ولذلك عاب أمير بادشاه الاستدلال لغير ظاهر الرواية؟! فقال: "لا معنى له؟!" على أن كثيرا من الحنفية يقتصر على ذكر الرواية المرجوحة؟(1)[37].
هذه آراء بعض الأصوليين من أتباع الأئمة الأربعة. وقد ذكر نحوا من ذلك كله أئمة علوم الحديث ورجح ابن حجر التوقف في أمر مستور الحال فقال: "والتحقيق أن رواية المستور ونحوه مما فيه الاحتمال ويطلق القول بردها ولا بقبولها، بل هي موقوفة في استبانة حاله، كما جزم به إمام الحرمين، ونحوه قال ابن الصلاح فيمن جرح بجرح غير مفسر(2)[38] وقد ذكر المذاهب كلها الملا علي القارئ في شرح النخبة ثم قال: "ولو فرض فارض التباس حال الراوي واليأس عن البحث عنها بأن يروى مجهولا، ثم يدخل في غمار الناس ويعز العثور عليه فهي مسألة اجتهادية عندي.
والظاهر أن الأمر إذا انتهى إلى اليأس لم يجب الانكفاف، وانقلبت الإباحة كراهية. كذا ذكره السخاوي(3)[39]".
ولقد لخص لنا الأمير الصنعاني حكم رواية المجهول فقال: "قال المحدثون: في قبول رواية المجهول خلاف وهو أي المجهول على ثلاثة أقسام:
1_ مجهول العين.
2_ ومجهول الحال ظاهرا وباطنا.
2_ ومجهول الحال باطنا.
(1) الأول مجهول العين: وهو من لم يرو عنه إلا راو واحد.
(2) والثاني مجهول الحال ظاهرا وباطنا مع كونه معروف العين. وفي قبول روايته ثلاثة أقوال:
أ_ أنه لا يقبل، حكاه ابن الصلاح وزين الدين العراقي عن الجماهير وذلك لأن تحقيق العدالة في الراوي شرط، ومن جهلت عدالته لا تقبل روايته.
ب_ يقبل مجهول العدالة ظاهرا وباطنا لأن معرفة عينه برواية اثنين عنه أغنت عن معرفة عدالته.(1/10)
ج_ التفصيل وهو أنه إن كان الراويان عنه لا يرويان إلا عن عدل قبل وإلا فلا.
(3) الثالث: مجهول العدالة باطنا، والعدالة الباطنة هي ما يرجع إلى تزكية المزكين فهذا يحتج به من رد القسمين الأولين، وبه قطع الإمام سليم بن أيوب الرازي لأن الأخبار مبينة على حسن الظن بالراوي. قال ابن الصلاح: "يشبه أن يكون العمل على هذا الرأي الأخير في كثير من كتب الحديث المشهورة عن غير واحد من الرواة الذين تقادم عهدهم، وتعذرت الخبرة الباطنة بهم" انتهى.
ومما سبق يتضح لنا أن المستور هو من علمت عدالته ظاهرا دون علم عدالة الباطن بالتزكية من المعدلين، أما مجهول العدالة ظاهرا وباطنا فهو مجهول الحال وهو غير المستور على الصحيح أو قل إن مجهول الحال أعم من المستور. إذ كل مستور مجهول الحال، وليس كل مجهول الحال مستورا. فبينهما خصوص وعموم.
هذه الكتب الثلاثة هي أهم ما يخصنا في هذا البحث لأن كل من جاء بعد أصحابها اعتمد عليها. وسوف أشير باختصار إلى منهج كل من ابن حجر والذهبي في الجزئية التي تخص بحثنا فقط عند مناقشة دعوى الشيخ عليهم!!.
http://www.iu.edu.sa/Magazine/adad53.htm
---
(1)[1] هو شيخ الإسلام وإمام الحفاظ محمد بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبة الجعفي_مولاهم_ البخاري صاحب الصحيح والتواريخ الثلاثة ، والأدب المفرد، وخلق أفعال العباد وغير ذلك، وشهرته بكتابه (الجامع الصحيح) وهو أصح كتب السنة على الإطلاق، ولد البخاري عام أربعة وتسعين ومائة وتوفى سنة ست وخمسين ومائتين رحمه الله تعالى. انظر تذكرة الحفاظ للذهبي 2/556 وطبقات الحفاظ للسيوطي 248.
(2)[2] تاريخ بغداد 2/7.
(3)[3] تاريخ بغداد 2/7.
(4)[4] ما سبق 2/27.
(5)[5] انظر التاريخ الكبير 1/136, 160، 194.
(6)[6] انظر ترجمته في التاريخ الكبير 5/303-314 وقد دلنا على هذه الترجمة الدكتور العمري فجزاه الله خيرا.(1/11)
(1)[7] هذا إذا ذكر للراوي روايات ولكنه كثيرا ما يهمل هذه الناحية.
(2)[8] بحوث في تاريخ السنة المشرفة للدكتور العمري ص10.
(3)[9] ما سبق: 110.
(4)[10] التاريخ الكبير 1/42.
(5)[11] التاريخ 2/4-7.
(6)[12] التاريخ 1/22-26.
(7)[13] التاريخ 1/23.
(8)[14] التاريخ 1/26-27.
(9)[15] ما سبق 2/273.
(10)[16] التاريخ الكبير 1/210.
(11)[17] ما سبق 1/213-214.
(12)[18] ما سبق 1/219.
(13)[19] التاريخ الكبير 1/283.
(14)[20] ما سبق 1/339.
(15)[21] هو الإمام الحافظ الناقد شيخ الإسلام أبو محمد عبد الرحمن بن الحافظ الكبير أبي حاتم محمد بن إدريس بن المنذر التميمي الحنظلي الرازي ولد سنة 240 وارتحل به أبوه فأدرك الأسانيد العالية وله الجرح والتعديل وعلل الحديث. وصنف في الفقه واختلاف الصحابة وكان بحرا في العلوم. توفى سنة 327 انظر تذكرة الحفاظ للذهبي 2/229-232.
(16)[22] مقدمة الجرح والتعديل 2/38.
(17)[23] تذكرة الحفاظ 2/231.
(18)[24] المقدمة 2/38.
(19)[25] سلسلة الأحاديث الضعيفة 1/311-313 وانظر ص32 من هذا البحث.
(20)[26] هو الحافظ العلامة أبو حاتم محمد بن حبان بن أحمد الحنظلي التميمي البستي صاحب التصانيف صنف ((الأنواع والتقاسيم)) الشهير (بصحيح ابن حبان) و (الثقات) ومشاهير علماء الأمصار و(المجروحين) وغير ذلك. توفى سنة أربع وخمسين وثلاثمائة. رحمه الله تعالى. تذكرة الحفاظ 2/922.
(21)[27] الثقات لابن حبان 11-13 مقتطفات.
(22)[28] لسان الميزان 1/14.
(23)[29] شرح المحلى على جمع الجوامع 2/150 ط مصطفى الحلبي الثانية.(1/12)
(1)[30] والذي يبدو لي أن الجواب قاصر. وربما كان الجواب الصحيح أن يقال: لقد حدث أنس بن مالك والبراء وعلي بن أبي طالب وغيرهم أنهم كانوا لا يكذبون ولا يعرفون الكذب. فالصحابة كلهم غير متهمين في حديثهم. ومن ثم فإن الصحابة كلهم عدول باتفاق أهل السنة بخلاف التابعين فمن بعدهم فليس لهم هذا الوصف على العموم. ومن ثم فإن العرب الجاهليين كانوا يحاربون رسول الله ولم يطلب منهم إلا شهادة أن لا إله إلا الله محمد رسول الله بادئ الأمر. ولكنهم كانوا يعلمون ماذا تعنيه كلمة التوحيد فمن آمن منهم إنما آمن على ما يعلم بمقتضاها ومضمونها. وإنه التجرد الكامل والتلقي الصحيح عن رسول الله. وهذا أمر غير متحقق في العصور التي عاصرت الفتن والأهواء وإن كان موجودا لدى البعض.
(2)[31] التبصرة في أصول الفقه 337 تحقيق الدكتور محمد حسن هيتو ط دار الفكر سنة 1400.
(3)[32] شرح تنقيح الفصول 364 تحقيق طه عبد الرؤوف سعد طبعة الكليات الأزهرية.
(4)[33] انظر على سبيل المثال شرح المحلى على جمع الجوامع 2/150 والتبصرة ص337 المدخل لابن بدران ص93 وتيسير التحرير 3/48 وغيرها.
(5)[34] البديع كتاب في أصول الفقه الحنفي واسمه (بديع النظام الجامع بين أصول البزدوي والأحكام لأحمد الساعاتي الحنفي) المتوفى سنة 694. انظر حاشية شرح الكوكب المنير2/413.
(6)[35] شرح الكوكب المنير لابن النجار الحنبلي. تحقيق الأستاذين. د. محمد الزحيلي ود. نزيه حماد ط. مركز البحث العلمي بجامعة أم القرى- مكة المكرمة.
(7)[36] انظر تيسير التحرير لأمير بادشاه 3/48 ط الحلبي.
(8)[37] انظر على سبيل المثال كشف الأسرار على البزدوي 2/386 فما بعدها.
(9)[38] نزهة النظر لابن حجر ص50.
(10)[39] شرح نزهة النظر لملا علي القارى ص155. وانظر التقييد والإيضاح ص145 فما بعده. وانظر الكفاية للخطيب. البغدادي ص149 ط مطبعة السعادة مصر.(1/13)