جني الثمر
بشرح
نخبة الفكر
بقلم :د.عصام بن عبد الله السناني
أستاذ الحديث بكلية الشريعة وأصول الدين بجامعة القصيم
وعضو مجلس الإدارة بالجمعية العلمية السعودية للسنة النبوية
وعضو لجنة المناصحات الفكرية
(عام 1424).
قال الحافظ ابن حجر :
( الحمد لله الذي لم يزل عليماً قديراً ، وصلى الله على سيدنا محمدٍ الذي أرسله إلى النَّاس بشيراً ونذيراً ، وعلى آل محمد وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد : فإن التصانيف في اصطلاح أهل الحديث قد كثُرَتْ ، وبُسطتْ واخْتُصِرَتْ. فسألني
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله :( فإن التصانيف في اصطلاح أهل الحديث قد كثُرَتْ ، وبُسطتْ واخْتُصِرَتْ) أشار الحافظ في شرحه أن أول من صنف في علوم الحديث أبو محمد الرَّامَهُرْمُزي(ت360) في كتابه "المحدث الفاصل" لكنه لم يستوعب الفن ، ثم تلاه أبو عبد الله الحاكم(ت405) في كتابه "معرفة علوم الحديث" ولكنه لم يهذبه أو يرتبه ، ثم تلاه أبو نعيم الأصبهاني(ت430) في كتابه الذي عمله على كتاب الحاكم فسماه "المستخرج على معرفة علوم الحديث" لكنه أبقى أشياء للمتعقب. ثم جاء بعدهم الخطيب البغدادي(ت463) فصنف كتابه "الكفاية" "والجامع لآداب الشيخ والسامع" وقل فنٌّ من فنون الحديث إلا وصنف فيه كتاباً مفرداً ، ثم جاء بعض المتأخرين كالقاضي عياض في كتابه "الإلماع إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع ، وأبو حفص الميانجي(ت581) في كتابه "ما لايسع المحدث جهله" ، ثم جاء أبو عمرو بن الصلاح(ت643) فألف "معرفة علوم الحديث" فجمع فنون الحديث من الكتب التي سبقته فهذبها وجمع شتاتها وضم إليها من غيرها. وبذا نتبين أن مراحل تدوين الحديث ثلاث مراحل :(1/1)
(الأولى) : وهي مرحلة جاء الكلام فيها على علوم الحديث ضمن كتب لم تؤلف لعلم الحديث خاصة ، بل لأمر آخر ، ككتاب "الرسالة" للشافعي ، ومقدمة صحيح مسلم ، وكتاب "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم ، ومقدمات بعض الكتب "كالكامل" لابن عدي و"المجروحين" لابن حبان ، وضمن كتب العلل "كالعلل" لأحمد بن حنبل وعلي بن المديني.
(الثانية) : وهي المرحلة التي ذكرها ابن حجر في الكتب ممثلاً لها بكتاب الرامهرمزي ، وتتميز هذه المرحلة بأمرين: أنها صنفت للكلام في فن علم الحديث خاصة ، وأنها كتب مسندة بحيث تذكر كلام الأئمة بالأسانيد.
(الثالثة) : وهي المرحلة التي مثَّلها الحافظ بكتاب ابن الصلاح حيث تميزت هذه المرحلة : بدقة وشمولية التصنيف بحسب المؤلف ، ثم اختفاء الأسانيد من متونها.
بعضُ الإخوانِ أن ألخصَ له المهمَّ من ذلكَ فأجبتُهُ إلى سؤالِهِ رجاءَ الاندراجِ في تلكَ المسالكِ ، فأقول : الخبر : إما أن يكونَ له طرقٌ بلا عددٍ معينٍ ، أو معَ حَصْرٍ بِمَا فَوقَ الاثْنَيْنِ ، أو بهما أو بواحدٍ : فالأول : المتواتر المفيد للعلم اليقيني بشروطه. …………………………….
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(1/2)
قوله :( الخبر ) : أشار الحافظ في الشرح أن الخبر له ثلاث تعريفات : 1- قيل : إنه مرادف للحديث. 2- وقيل : إن الحديث ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والخبر ما جاء عن غيره ، ولذا يقال لمن يشتغل بالتأريخ : الأَخباري. 3- وقيل : بينهما عموم وخصوص ، فكل حديث خبر ولا عكس. ونحن نقول : إذا اصطلحنا أن الحديث المرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والخبر ما جاء عن غيره ؛ فلا مشاحه في الاصطلاح ، لكن يجب أن يلاحظ هنا أن المتقدمين من المحدثين ـ ونحن نتكلم عن اصطلاحهم ـ أنهم قد يطلقون الحديث ويريدون ما جاء من قول الصحابي ، ويطلقون الخبر ويريدون ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولذا قال الحافظ في الشرح:"وعبرت هنا بالخبر ليكون أشمل ، فهو باعتبار وصوله إلينا". أي : أن استعماله للفظ الخبر ليدخل فيه ما نسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وما نسب إلى غيره ، وهو الواقع لأن العلماء نقدوا ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وما جاء عن الصحابة والتابعين ، وبل والأخبار العامة.
قوله :(إما أن يكونَ له طرقٌ بلا عددٍ معينٍ … فالأول : المتواتر المفيد للعلم اليقيني بشروطه): فيه مسائل :
المسألة الأولى : أن الحافظ قسم الحديث إلى ثلاثة أقسام :
القسم الأول : المتواتر الذي عرفه بأنه له طرق بلا عدد معين المتواتر المفيد للعلم اليقيني بشروطه ، وهي كما ذكرها في الشرح : 1- أن يرويه جمع عن جمع في جميع طبقات السند ، واختلف في العدد. 2- أن تحيل العادة تواطؤهم على الكذب لتباعد البلدان أو صدق المخبرين. 3- أن يكون مستند خبرهم الحس لا النظر والاستنباط والاجتهاد. 4- وأن يفيد العلم لسامعه.(1/3)
المسألة الثانية : أن هذا التقسيم الذي بدأ به الحافظ نخبته ليس من مباحث علم الحديث وإنما من مباحث علم أصول الفقه ، وأول من أدخله في كتب علوم الحديث هو الخطيب البغدادي في كتابه "الكفاية" ، قال ابن الصلاح:"وأهل الحديث لا يذكرونه باسمه الخاص المشعر بمعناه الخاص ، وإن كان الخطيب قد ذكره ، ففي كلامه ما يشعر بأنه اتبع فيه غير أهل الحديث ، ولعل ذلك لكونه لا تشمله
والثاني : المشهور ، وهو المستفيض على رأي. ………………………………………
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــصناعتهم ، ولا يكاد يوجد في رواياتهم"أ.هـ. وأما التقسيم المعروف عند أهل الحديث فهو ما ذكره الشافعي في "الرسالة" بأن السنة تنقسم إلى قسمين : الأول : (خبر العامة) وهي السنة المجتمع عليها بنقل العامة عن العامة جيلاً بعد جيل مثل نقل عدد ركعات الصلاة ، وليس هذا داخل في فن علم الحديث. الثاني : (خبر الخاصة) ، وهو كل ما سوى خبر العامة عن العامة من الأخبار المسندة. ولذا نص ابن حبان في مقدمة "صحيحه" أن الأخبار كلها آحاد لاستحالة أن يوجد حديث يرويه عدلين ، روى كل واحد منهما عن عدلين حتى ينتهي ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت : وفيه إشارة منه إلى أن ما يذكره المتكلمون من شروط للحديث المتواتر لا يمكن تحققها في السنن. وأما ما يقال : من ذكر التواتر في كلام بعض المتقدمين كالبخاري فإنهم يقصدون به التتابع وكثرة ورود الأحاديث بهذا المعنى ، لا المتواتر الذي ذكره أهل الأصول واشترطوا فيه الشروط المعروفة.(1/4)
المسألة الثالثة : أن المتواتر عند الحافظ بهذه الشروط مفيد للعلم اليقيني ، فنستفيد من هذا أن العلم قسمان: الأول (العلم اليقيني) ، ويتفرع إلى فرعين أيضاً : ضروري لا يمكن دفعه ولا يحتاج فيه لشروط الناقل. ونظري مكتسب يفيد العلم اليقيني بعد الاستدلال والنظر. والثاني : (العلم الظني) : هو الذي يفيد العلم لكن لا يحصل الاعتقاد الجازم به. وهذا أيضاً ليس من مباحث علم أهل الحديث وإنما دخيل على فَنِهم ، بل توصل أهل الكلام من خلال هذه التقسيم إلى القول بأن أحاديث الآحاد تفيد الظن ومن ثم تفيد العمل لا العلم ، فردوا كثيراً من أحاديث العقائد لأنها تفيد الظن ، ولذا لما سأل أبو بكر المروذي الإمام أحمد عمن يقول : إن الخبر يوجب عملاً ولا يوجب علماً ، فعابه ، وقال : ما أدري ما هذا. فلذلك نقول إن الحديث إذا صح بشروطه التي ذكرها أهل الحديث فإنه يفيد العلم النظري عندهم هذا لازم تصحيح الحديث. قال شيخ الإسلام ابن تيمية:"ولهذا كان علماء الحديث الجهابذة المتبحرون في معرفته قد يحصل لهم من اليقين التَّام بأخبار ، وإن كان غيرهم من العلماء قد لا يظن صدقها فضلاً عن العلم بصدقها"أ.هـ.
قوله (أو معَ حَصْرٍ بِمَا فَوقَ الاثْنَيْنِ … الثاني : المشهور ، وهو المستفيض على رأي): فيه مسائل:
المسألة الأولى : أن المشهور سمي مشهوراً لوضوحه وهو على تعريف الحافظ : ما رواه ثلاثة فأكثر في كل طبقة ما لم يبلغ حد التواتر. وقد ذكر الحافظ أن من المشهور كذلك ما ورد بلا حصر الطرق إذا فقد أحد شروط المتواتر غير عدد الطرق.(1/5)
والثالث : العزيز ، وليس شرطاً للصحيح ؛ خلافاً لمن زعم. والرابع الغريب. وكلها ـ سوى الأول ـ آحاد. وفيها المقبول والمردود لتوقف الاستدلال بها على البحث عن أحوال رواتها دون الأول ، وقد يقع فيها ما يفيد العلم النظري بالقرائن على المختار. ثم الغرابة : إما أن تكون في أصل السند،أولا.فالأول:الفردالمطلق.والثاني: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المسألة الثانية :ذكر الحافظ المستفيض ، فقيل : هو المشهور. وقيل : هو ما يكون في ابتدائه وانتهائه سواء والمشهور أعم فلا يشترط فيه التساوي. وقيل : بل هو ما تلقته الأمة بالقبول دون اعتبار عدد الطرق ، وهو الذي أشار إليه الحافظ. وهذه المسألة تدل على تأثر بعض المصطلحات الحديثية بعلم الأصول ، ولذلك لما ذكر الفرق بين المشهور والمستفيض صرح بأنه ليس من مباحث فن الحديث.
المسألة الثالثة : أن من المشهور ما لا علاقة له بتعدد الطرق ولا باعتبار وصوله إلينا بل ربما لايكون له إسناد أصلاً ، وإنما يكون مشهوراً شهرة لغوية بمعنى أنه معروف عند الناس ، وهذا المشهور على هذا المعنى أكثر وقوعاً في كلام الأئمة.
قوله (والثالث : العزيز ، وليس شرطاً للصحيح ؛ خلافاً لمن زعم).
فيه مسائل:
المسألة الأولى : أن العزيز سمي عزيزاً إما : لقلة وجوده ، وإما لكونه عزَّ أي : قوي بمجيئه من طريق أخرى. وهو بناء على تعريف الحافظ : ما رواه اثنان في طبقة من طبقات السند ولو زاد في باقيها بشرط أن لا يقل في واحدة منها عن الاثنين.
المسألة الثالثة : أن هذا التعريف ليس مسلماً ، لأن أول من نقل عنه تعريف العزيز هو الحافظ ابن منده ، حيث قال : إن العزيز ما رواه الاثنان أو الثلاثة ، والمشهور ما رواه الجماعة. أما المتقدمون فإطلاق "العزيز" على الحديث عندهم يكاد يكون نادراً.(1/6)
المسألة الثالثة : أن الحافظ ذكر أن العزيز ليس شرطاً للصحيح خلافاً لمن زعمه ، وهو أبو علي الجُبَّائي المعتزلي. وهو خلاف إجماع علماء الحديث ، فلا داعي لذكر هذا الاحتراز من قبل الحافظ وليس الجبائي وأمثاله ممن يعترف بخلافهم.
فيه مسائل:
قوله (والرابع الغريب…) إلى قوله(ويقل إطلاق الفردية عليه).
الفرد النسبي ، ويقل إطلاق الفردية عليه. ………………………………………
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المسألة الأولى : أن الغريب هو الذي يتفرد بروايته راوٍ واحدٍ في أي موضع وقع التفرد ، سواء أكان التفرد في أصل السند أو في أثناء السند.
المسألة الثانية : أن هذه الأقسام الأربعة تندرج ضمن قسمين : الأول : المتواتر. الثاني : الآحاد ، ويدخل فيه المشهور والعزيز والآحاد. ولذا عرف الحافظ الآحاد : أنه ما لم يجمع شروط المتواتر.
المسألة الثالثة : قسم الحافظ الغريب إلى قسمين :
الأول :(الفرد المطلق) : وهو ما كانت الغرابة فيه بأصل السند وهو من قبل الصحابي فلا يروى الحديث إلا من طريق واحد ، كحديث :"إنما الأعمال بالنيات" في الصحيحين ، لم يروه إلا عمر و لا عن عمر إلا علقمة بن وقاص ولا عن علقمة إلا محمد بن إبراهيم التيمي. وأكثر ما يطلقون على هذا النوع من الغريب ـ كما قال الحافظ ـ الفرد ، ولذا سمى الدارقطني كتابه "بالأفراد" على هذا المعنى.
الثاني : (الفرد النسبي) : وهو ما كانت الغرابة فيه بالنسبة لراوٍ معين أو جهة معينة ، بحيث يكون للحديث أكثر من طريق بأن يكون عزيزاً أو مشهوراً ، ثم نجد في طريق من هذه الطرق تفرد راوٍ عن آخرٍ ، كتفرد التابعي عن الصحابي والحديث مروي عن جماعة عن الصحابة. ويقل إطلاق الفرد على هذا النوع ، وموطن هذا النوع من الغريب في "معجم الطبراني الأوسط" ، و"مسند البزار" ونحوهما.(1/7)
المسألة الرابعة : قول الحافظ :(وكلها ـ سوى الأول ـ آحاد. وفيها المقبول والمردود لتوقف الاستدلال بها على البحث عن أحوال رواتها دون الأول) ، إن أراد الحافظ هنا أن المتواتر الذي لا يبحث عن رواته هو إجماع العامة بتعبير الإمام الشافعي كتواتر رباعية صلاة الظهر فهو صحيح ، لكن ليس هذا داخل في علم الحديث ولا في تقسيماته ، وإن أراد التواتر الاصطلاحي أو التواتر المعنوي ففي كلامه نظر لأننا لا نحكم على الحديث بالتواتر إلا بعد النظر في عدالة رواته ، ولذا فإن كثيراً من المتأخرين ادعوا التواتر في أحاديث كثيرة واهية لا تصح فضلاً على أن تكون من المتواتر.
المسألة الرابعة : وأما قول الحافظ :(وقد يقع فيها ما يفيد العلم النظري بالقرائن على المختار) ، قد تقدم بحثه ، وأن الحديث الصحيح إذا ثبت بشروطه عند أهل الحديث خاصة أفاد العلم والعمل ، ولا إشكال في كلام الحافظ مادام أنه يرى إفادة الآحاد للعلم بالقرائن ، إلا أنه لايوافق على إتيانه "بقد" المفيدة للتقليل لما تقدم من أن شروط الحديث الصحيح مفيدة للعلم عند أهله.
وخبر الآحاد : بنقل عدل ، تام الضبط ، متصل السند ، غيرِ مُعَلَّلٍ ولا شاذٍ ، هو الصحيح لذاته. ………………………………………………………………..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله :(وخبر الآحاد ... هو الصحيح لذاته) : فيه مسائل :
المسألة الأولى : يتبين من تعريف الحافظ لحديث الآحاد أن له شروطاً خمسة : 1- العدالة. 2- تمام الضبط. 3- اتصال السند. 4- انتفاء الشذوذ. 5- انتفاء العلة. وهذه الشروط أجمع المحدثون أنها إذا اجتمعت في حديث أنه حديث صحيح ، لكنهم يختلفون في تصحيح الأحاديث بناء على اختلافهم في تفاصيل بعض هذه الشروط مثل : هل هذا الراوي ثقة أم دون ذلك.
المسألة الثانية : في تبيان بعض مفردات التعريف:(1/8)
* فاشترطوا للحديث الصحيح (عدالة الرواة) وهذا شرط زائد بالطبع على الإسلام والبلوغ والعقل ، والعدالة : هي ملكة تحمل الإنسان على ملازمة التقوى والبعد عن خوارم المروءة. والمراد بالتقوى : اجتناب الأعمال السيئة من شرك أو فسق أو بدعة. وخوارم المروءة : هي التهاون بأعراف الناس التي تعارفوا عليها مما لايخالف الشرع. فقيد العدالة يخرج ما رواه غير العدل أو من نقصت عدالته كالفاسق والمجهول والمبتدع.
* واشترطوا أيضاً (تمام الضبط) لما يروي سواء كان يروي من حفظه أو من كتابه ؛ فضبط الحفظ بأن يثبت ما سمعه بحيث يستحضره متى ما شاء دون توهم وكثرة خطأ . وضبط الكتاب هو تصحيحه بعد سماعه له ثم صيانته من أن يدخل عليه ما ليس منه حتى يؤدي منه. وقيد بالتام إشارة إلى الرتبة العليا من الضبط. ولذا ردت أحاديث رواة حدثوا على التوهم كابن لهيعة ، أو أدخل في كتبهم ما ليس منها كعبد الله بن صالح كاتب الليث.
* واشترطوا له (اتصال السند) الذي هو سلسلة الرجال الموصلة للمتن ، بحيث يكون سالماً من السقط بأن يكون كل رجل في الإسناد ـ من أوله إلى آخره ـ قد سمع ممن فوقه. فخرج بهذا القيد المنقطع والمرسل والمدلس والمعلق ونحوها.
* واشترطوا كذلك (انتفاء الشذوذ) ، والشاذ : على المشهور هو ما رواه الثقة مخالفاً لمن هو أوثق منه. ويطلق كذلك على تفرد من لا يحتمل تفرده ، وعليه يحمل إطلاق بعض المتقدمين الشاذ على تفردات.
* واشترطوا أيضاً (انتفاء العلة) ، وهي سبب خفي يقدح في صحة الحديث. فإن كانت ظاهرة أو لا تطعن في الحديث فليست هي بالعلة الاصطلاحية ، وإنما على المعنى العام التي يطلقها المحدثون على كل طعن ورد في الحديث.
وتتفاوت رتبه بتفاوت هذه الأوصاف. ومن ثم قدم صحيح البخاري ، ثم مسلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(1/9)
المسألة الثالثة: أن هذه الشروط تنقسم إلى قسمين : الأول : (العدالة والضبط واتصال السند)، هذه الوصول
إليها سهل بالنسبة لما بعدها ، الثاني : (الشذوذ والعلة) : وهي من أصعب الأمور في شروط الصحيح حتى إنه لا يتقنها إلا حذاق المحدثين ، ولا تعرف إلا بجمع الطرق ومعرفة الاختلافات. ولذا تعلم أن غالب أحكام الحافظ ابن حجر في "الفتح" ، وأحكام الهيثمي في "مجمع الزوائد" ، والبوصيري في "مصباح الزجاجة" تنصب على تحقق الشروط الثلاثة دون الشذوذ والعلة. ولذا قال العلماء : إذا حكمت على الحديث بالنظر للشروط الثلاثة الأول فلا تقل : حديث صحيح. بل قل : رجاله ثقات ، أو إسناد صحيح.
المسألة الرابعة: أن الحافظ ذكر أن هذه شروط الصحيح لذاته مما يفهم منه أن هناك قسماً آخر للصحيح ، وهو الصحيح لغيره ، وسيأتي الكلام عليه قريباً عند قوله:(وبكثرة طرقه يصحح).
*قوله :( وتتفاوت رتبه بتفاوت هذه الأوصاف) : يبين الحافظ هنا أن الأحاديث الصحيحة ليست على مرتبة واحدة وإن شمل الجميع اسم الصحيح ، لأن الرواة وإن اتفقوا في العدالة والضبط إلا أنهم قد يختلفون في تحقق هذين الشرطين فيهم ، وقد ذكر الذهبي في "الموقظة" ثلاث مراتب لصحيح حديث أبي هريرة : أعلاها : أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة. ثم بعده : معمر عن همام عن أبي هريرة. ثم العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة. فالأول مجمع على صحته مخرج في الصحيحين ، والثاني فيه كلام الراجح خلافه وهي كذلك في الصحيحين ، والثالث : فيه كلام لوجود أغلاط لراويها ، لذلك تجنبه البخاري إخراجه ، ولكن هذا الكلام وهذه الأغلاط لا تنزل هذه الإسناد عن الحديث الصحيح ولا سيما أن الأئمة يجتنبون أغلاط هذا الصنف فيبقى ما لم يغلطوا فيه يشمله اسم الصحيح.(1/10)
وكذلك يقال في اتصال السند : فهناك أسانيد متفق على اتصالها ، وأخرى صححت بل ربما خرجت في الصحيحين أو أحدهما وفي سماع بعض رواتها كلام للأئمة ، فالبخاري على سبيل المثال خرج حديث العقيقة وقد تكلم المحدثون في صحة سماع راويه الحسن البصري من سمرة بن جندب.
*ولذا قال الحافظ:( ومن ثم قدم صحيح البخاري ، ثم مسلم) : وهذا من الحافظ على سبيل التمثيل بتفاوت رتب الحديث الصحيح ، ولنعرض ذلك على الشروط الخمسة :
الأول : رجحانه من حيث العدالة والضبط : أن الرواة الذين انفرد بهم البخاري ممن تكلم فيه أقل من الرواة في مسلم ، ولم يكثر البخاري من أحاديثهم ، بل غالبهم من شيوخه الذين عرف أحاديثهم فأخذ
ثم شرطهما.
…………………………………………………………………
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ جيدها ، بخلاف مسلم الذي أخرج نسخاً عمن تكلم فيه ، وهم ممن قبل عصره ، ولذا اجتنب البخاري حديث حماد بن سلمة عن ثابت البناني لأنه اختلط في آخر عمره بينما اجتهد مسلم فانتقى من حديثه.
الثاني : رجحانه من حيث اتصال السند فإن شرط البخاري أقوى من شرط مسلم حيث يشترط البخاري أن يثبت لقاء الراوي لمن روى عنه ولو مرة واحدة ، بينما يكتفي مسلم بمطلق المعاصرة.
الثالث : رجحانه من حيث انتفاء الشذوذ والعلة حيث إن الأحاديث التي انتقدت على مسلم أكثر وأشهر مما انتقد على البخاري ، ولذا فالأحاديث التي انتقدها الدارقطني على أحاديث مسلم ضعف الأحاديث التي انتقدها على البخاري.
*قول الحافظ:( ثم شرطهما) : فيه أيضاً مسائل :
المسألة الأولى : في بيان المراد بشرط الشيخين ، فيقال : يطلق هذا على معنى خاص ومعنى عام :
الأول المعنى الخاص : فيطلق أحياناً ويراد به ما يتعلق بمجرد اتصال الإسناد ، فيقال متصل على شرط البخاري بمعنى ثبوت سماع فلان من فلان ، أو متصل على شرط على شرط مسلم بمعنى أن الراويين متعاصران ، وأمكن لقي بعضهم بعضاً ولو لم يثبت.(1/11)
الثاني المعنى العام : يطلق على المشهور ويراد به أن رجال هذا الإسناد كلهم ممن خرج لهم البخاري ومسلم على سبيل الاحتجاج مع مراعاة صور الرواية بأن لا يكون في رواية بعضهم عن بعض علة تقدح في حديثهم خاصة كرواية هشيم عن الزهري ، فكلاهما من رجال الصحيحين لكن لم يخرجا لهشيم عن الزهري خاصة لأنه ضعف فيه ، وكذلك رواية عبد العزيز الدراوردي عن عبيد الله بن عمر العُمري كلاهما من خرج له مسلم لكن لم يخرج لهما على صورة الاجتماع ـ الدراوردي عن العُمري ـ لأنه ضعف فيه. والملاحظ هنا أن أكثر من يطلق هذا المصطلح ينظر لتخريج الشيخين للرواة دون مراعاة شروط صاحبي الصحيح من حيث الاتصال وانتفاء الشذوذ والعلة ، إما لأن صاحبي الصحيح خرجا لبعض الرواة في المتابعات لا في الأصول ، أو خرجا لبعض الرواة في الأصول لكن تجنبا بعض حديثهم الذي أخطأوا فيه فانتقيا ما علم صحته ، ولذلك تجد أن بعض الأسانيد التي قيل إنها من أصح الأسانيد ، قد خرج الشيخان لأصحابها على صورة الاجتماع ، لكن ضعفت أحاديث جاءت من طريقها ؛ مثل حديث رواه عبد الرزاق عن معمر عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري:"لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة..". وهو حديث مشهور ، وهذا الإسناد روى به الشيخان أحاديث كثيرة ، لكن هذا الحديث لا نقول على شرطهما لأن له علة : حيث إن جماعة
فإن خف الضبط ، فالحسن لذاته ……………………………………………
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رووه عن زيد بن أسلم فلم يذكروا أبا سعيد رضي الله عنه بمعنى أنه عن عطاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً.(1/12)
المسألة الثانية : أن الحافظ ذكر ثلاث مراتب من مراتب الحديث الصحيح ،وهي سبعة : (الأول) : ما رواه الشيخان. (الثاني) : ما رواه البخاري. (الثالث) : ما رواه مسلم. (الرابع) : ما كان على شرطهما ولم يخرجاه. (الخامس) : ما كان على شرط البخاري. (السادس) : ما كان على شرط مسلم. (السابع) : ما كان صحيحاً ولم يخرجاه وليس على شرطهما. وهذه المراتب على وجه الإجمال إذ قد يعرض للمفوق ما يجعله فائقاً على ما هو أعلى منه في المرتبة ، فربما كان ما رواه مسلم أصح مما رواه البخاري لكونه متواتراً ونحو ذلك.
*قول الحافظ:( فإن خف الضبط ، فالحسن لذاته) : فيه أيضاً مسائل :
المسألة الأولى : أن الحديث عرف هنا القسم الثاني للحديث بحسب ثبوته من عدمه ، ومن المعلوم أن تقعيد الحديث الحسن مر بمرحلتين :(1/13)
المرحلة الأولى : قبل أن يستقر الاصطلاح على تعريف للحديث الحسن يميزه عن الصحيح أو الضعيف ، وذلك أن لفظ الحديث الحسن يرد عرضاً في كلام بعض الأئمة كالشافعي وابن المديني وأحمد والبخاري وغيرهم ، إلا أن هؤلاء الأئمة قد لا يقصدون الحديث الحسن الذي اصطلح عليه بعد ذلك ويعتبر قسيماً للصحيح ، لأن الحسن يطلق على الحديث عندهم ويراد به معان : منها : 1- أن يراد به الحديث الصحيح نفسه ، مثل إطلاق الشافعي على حديث ابن عمر في استقبال بيت المقدس أنه حسنٌ مع أنه حديث متفق على صحته عندهم ، فقد أشار الحافظ في ’’النكت‘‘ إلى استبعاد إرداة الشافعي بهذا الإطلاق المعنى الاصطلاحي المتأخر. وينبه هنا على أن ابن خزيمة وابن حبان والحاكم يدخلون الحسن في حد الصحيح في كتبهم. 2- وقد يطلق ويراد به الحسن اللغوي كما يقول بعضهم:"حديث حسن ليس له إسناد". 3- وقد يطلق ويراد به الغرابة كما قيل لشعبة : كيف تركت أحاديث العرزمي وهي حسان ؟ قال : من حسنها فررت. واستظهر الحافظ في ’’النكت‘‘ أن ابن المديني أكثر في علله من ذكر الحديث الحسن ، وكأنه الإمام السابق لهذا المعنى الاصطلاحي وعنه أخذ البخاري ويعقوب بن شيبة وغيرهم.
المرحلة الثانية: هي استقرار مصطلح الحسن على أنه قسيم للحديث الصحيح وللحديث الضعيف ، وأول من نقل عنه تقسيم الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف هو الخطابي في كتابه ’’معالم السنن‘‘ ، قال العراقي
………………………………………………………………………………
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في’’نكته‘‘: لم أر من سبق الخطابي إلى تقسيمه المذكور لكنه نقل هذا التقسيم عن أهل الحديث وهو إمام ثقة.
المسألة الثانية : أن الحافظ عرف الحديث الحسن بأحد شقيه وهو الحديث الحسن لذاته وأشار للآخر في الشرح ، إذ الحديث الحسن قسمان :(1/14)
الأول : ما عرفه الحافظ هنا بأنه الذي خف ضبطه ، وهو الذي يكون راويه مشهوراً بالصدق والأمانة ولم يبلغ درجة الصحيح لقصوره في الحفظ والإتقان وهو مرتفع عن حال من يعد تفرده منكراً كما قال ابن الصلاح في "مقدمته" ، ولابد مع ذلك من توفر بقية الشروط من العدالة واتصال السند وانتفاء الشذوذ والعلة. وهو الحديث الحسن لذاته. وقد مثلوا له بمحمد بن عمرو بن علقمة فهو مشهور بالصلاح والعبادة أي عدل في نفسه ، لكنه قصر عن تمام الضبط لأوهام حصلت عنده فتكلم فيه بعض الأئمة. ومثله كذلك جماعة كبهز بن حكيم ومحمد بن إسحاق وعمرو بن شعيب ونحوهم.
الثاني : ما عرفه الترمذي ـ وهو أول من خص هذا النوع باسم الحسن ـ "بأنه ما لا يكون في إسناده من يتهم بالكذب ، ولا يكون شاذاً ، ويروى من غير وجه نحو ذلك". وهذا هو الحديث الحسن لغيره الذي لا يشترط فيه اتصال السند ولا أن يكون راويه ممن خف ضبطه قليلاً فقصر عن شرط الصحيح ، بل يدخل فيه المجهول والمستور ونحو ذلك ، وإنما يشترط فيه أن لا يكون راويه متهماً بالكذب ولا يكون المتن شاذاً بل يروى من غير وجه.(1/15)
المسألة الثالثة : وهي مهمة جداً تتعلق بحكم الحديث الحسن ، لكن لا بد أن نعرف قبل ذلك أن الذهبي قسم الحسن إلى مرتبتين : (الأولى) : قسم متجاذب بين الصحة والحسن فالبعض يجعله في أدنى درجات الصحيح والبعض يجعله في أعلى درجات الحسن ، مثل : حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده ، وحديث محمد بن عمرو بن علقمة عن أبي سلمة عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. فهذا القسم صرح الحافظ في’’الشرح‘‘ أن الحسن لذاته مشارك للصحيح في الاحتجاج به. والصواب أنه يحتج بحديثه المعين إذا توفرت فيه ثلاثة شروط: 1- أن لا يخالفه في هذا الحديث غيره. 2- أن لا يكون هذا الحديث من الأحاديث التي ضعف فيها هذا الراوي. 3- أن لا يكون حديثه هذا منكراً ، وقد نص الذهبي في مقدمة كتابه ’’من تكلم فيه وهو موثق‘‘ أن مثل هؤلاء الصنف لا ينزل عن رتبة الحسن اللهم إلا أن يكون للراوي أحاديث تستنكر عليه.
(الثاني) : قسم متجاذب بين الحسن والضعف فالبعض يجعله في درجة الحسن والبعض يجعله في درجة
الضعيف ،مثل : حديث حجاج بن أَرْطاة ودرَّاج أبي السمح وغيرهما. فهذا القسم رجح الحافظ في "النكت"
وبكثرة طرقه يصحح. فإن جمعا فللتردد في الناقل حيث التفرد ، وإلا فباعتبار إسنادين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رأي ابن القطان القائل فيه بأن هذا القسم لا يحتج به كله بل يعمل به في فضائل الأعمال ويتوقف عن العمل به في الأحكام إلا إذا كثرت طرقه أو عضده اتصال عمل أو موافقة شاهد صحيح أو ظاهر القرآن.(1/16)
المسألة الرابعة : وهي تابعة للاحتجاج بالحديث الحسن ؛ وهي أن بعض المتأخرين قد يخطىء حين يحكم على كل حديث من خف ضبطه بحكم واحد دون مراعاة لأحوال رواياته ، حتى وصل الأمر لدى البعض بتضعيف أحاديث في ’’الصحيحين‘‘ أو تحسينها ، وهذا خطأ فادح لأن الراوي ما نزل لهذه الرتبة إلا لأحاديث أخطأ فيها وإن حفظ الأكثر ، ثم إن الراوي له أحوال فحكم حديثه بذاته قد يختلف عن حكم حديثه عن شيخ معين أو حديثه في بلد معين أوحديثه في وقت معين ، ولذا تجد الأئمة يحكمون على حديث من هذه حاله بالصحة إذا قامت القرينة على أنه قد حفظه ، وقد يحكمون عليه بالضعف إذا قامت القرينة على أنه لم يحفظ حديثه هذا إما لمخالفة أو نكارة ، وقد ذكر الحافظ في ’’النكت ‘‘ أن سويد بن سعيد الحَدَثاني احتج به مسلم بينما ضعفه الأئمة ، وذلك أن مسلماً لم يخرج له إلا ما له أصل من رواية غيره ، وقد كان مسلمٌ لقيه وسمع منه قبل أن يعمى ويتلقن ما ليس من حديثه وإنما كثرت المناكير في روايته بعد عماه.
قول الحافظ:( وبكثرة طرقه يصحح) : قد عرف الحافظ في "النكت" الحديث الصحيح بشقيه لذاته ولغيره فقال : هو الحديث الذي يتصل إسناده إلى منتهاه بنقل العدل التام الضبط ـ أو القاصر عنه إذا اعتضد بمثله ـ ولا يكون شاذاً ولا معللاً. فقوله:(أو القاصر عنه إذا اعتضد) يشير لهذا القسم وهو الصحيح لغيره. لكن ينبه هنا على قيد ذكره الحافظ في ’’الشرح‘‘ بأن الحديث الذي يصل لدرجة الصحيح لغيره هو الحسن لذاته إذا تعدد ، أي توبع بمثله أو أقوى منه لا دونه. ويعلم هنا أن المتقدمين لا يطلقون هذه العبارة "صحيح لغيره" بل يصححون أحاديث بناء على تعدد الطرق ويدرجونها ضمن الصحيح دون تفصيل ، لكن قد يأتي في كلامهم ما يفهم معه إرادتهم ذلك.(1/17)
*قول الحافظ (فإن جمعا فللتردد في الناقل حيث التفرد ، وإلا فباعتبار إسنادين) : الضمير في قوله (جمعا) يعود للحديث الصحيح والحسن ، كما يقع في كلام الترمذي كثيراً ، فأشكل على العلماء وصفه الحديث بوصفين أحدهما تام والآخر قاصر عنه مع كونه عرف الحديث الحسن وميزه عن الصحيح ، ولذا اختلف المحدثون في ذلك على أقوال منها :
وزيادة راويهما مقبولة ، مالم تقع منافية لمن هو أوثق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأول : أن الحديث المحكوم عليه بالوصفين يشرب الصحة كما يشرب الحسن لأن أحد الرواة فيه يتردد فيه الناظر بين أن يرفعه إلى مرتبة الصحيح أو يوقفه عند مرتبة الحسن ، ففيه تردد فكأنه يقول : هو حسن أو صحيح ، وهو بهذا الاعتبار أقل من مرتبة الصحيح. لكن يرد عليه أن الترمذي وصف أحاديث كثيرة هي من أصح الأسانيد.
الثاني : أن ذلك راجع إلى أن للحديث إسنادين ؛ أحدهما حسن والآخر صحيح ، فهو حسن باعتبار إسناد صحيح باعتبار إسناد آخر. فكأنه قال حسن وصحيح ، وهو بهذا الاعتبار أعلى من قولنا : حديث صحيح. ويرد على هذا أن الترمذي يقول كثيراً: حسن صحيح غريب ، والغرابة تنافي تعدد الطرق. ولذا اختار الحافظ الجمع بين هذين الرأيين فعلق سبب الحكم على تعدد الإسانيد من عدمها. فإن كان له إسناد واحد فعلى التردد ، وإن كان له إسنادان فهو للتعدد. وهو رأي يحتاج إلى إثبات لا لتنظير خاصة أن الواقع يرده.
الثالث: أن حسن صحيح مرادف لصحيح ، وإنما أطلق الحسن لاعتبارات فنية حديثية لا علاقة لها بضعف الإسناد أو قوته أو هو من التفنن بالعبارة. وهذا عندي هو أقرب الأقوال ، والله أعلم.(1/18)
وهناك أقوال أخرى منها : أنه صحيح باعتبار إسناده حسن بحسب تعدد طرقه واشتهاره. . وقيل عكسه : هو حسن باعتبار الإسناد صحيح باعتبار المتن. وقيل : إنه حسن صحيح بسبب تصحيح البعض وتحسين آخرين ، وهذا يرد عليه الاشكال السابق. وقيل : ما عمل به فهو حسن صحيح عنده ، وما لم يعمل به فهو صحيح ، ويرد عليه أنه يقول أحياناً : صحيح وعليه العمل. وقيل : الحُسن يراد به الحسن اللغوي لا الحسن الاصطلاحي.
قول الحافظ:( وزيادة راويهما مقبولة ، ما لم تقع منافية لمن هو أوثق) : فيه مسائل :
المسألة الأولى : تعرض الحافظ هنا لمبحث زيادة الثقات ، وهي أن يروي جماعة حديثاً واحداً بإسناد واحد ومتن واحد ، فيزيد بعض الرواة فيه زيادة لم يذكرها بقية الرواة. مثل حديث حذيفة - رضي الله عنه - قَالَ أَتَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُبَاطَةَ قَوْمٍ فَبَالَ قَائِمًا" ، رواه جماعة عن الأعمش عن أبي وائل عن حذيفة هكذا ، وزاد بعض الرواة عن الأعمش عن أبي وائل عن حذيفة فيه:"فمسح على خفيه". وقد أعرض البخاري عن هذه الزيادة ، وخرجها مسلم في صحيحه لأنها زيادة ثقة عنده. وقد قسم الحافظ زيادات الثقات إلى قسمين:
القسم الأول : زيادة منافية للمتن الذي زيدت عليه ، بحيث يلزم من قبولها رد الرواية الأخرى ، فهذه يقع الترجيح بينها وبين معارضها ، فيقبل الراجح ويرد المرجوح.
فإن خولف بأرجح ، فالراجح المحفوظ ، ومقابله : الشاذ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
القسم الثاني : زيادة لا تنافي رواية من لم يذكرها وعليه أكثر الأحاديث ، حكى الخطيب الاتفاق على قبولها.
القسم الثالث : لم يذكره الحافظ وإنما ذكره ابن الصلاح ، وهي أن يكون في الزيادة نوع منافاة كتقييد مطلق أو تخصيص عام ، كحديث جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً" زاد بعضهم :"تربتها طهوراً" ، فهذه ليس منافية من كل وجه بل من جهة إخراج بعض أفراد العام.(1/19)
المسألة الثانية : قرر الحافظ رحمه الله في الأصل أن الزيادة مقبولة ما لم تكن منافية ، ثم عاد عارض ذلك بقوله: إن ما اشتهر من قبول الزيادة مطلقاً من غير تفصيل لا يتأتى على طريقة المحدثين الذين يشترطون في الصحيح أن لا يكون شاذاً ، ثم يفسرون الشذوذ بمخالفة الثقة لمن هو أوثق منه ، وأن المشهور عن أئمة الفن المتقدمين اعتبار الترجيح فيما يتعلق بالزيادة وغيرها ، ولا يعرف عن أحد إطلاق قبول الزيادة بل يدور الأمر عندهم على القرائن. وهذا الذي ذكره الحافظ أخيراً هو المعتمد ويلغي تماماً التقسيم الذي ذكروه في كتب المصطلح وهو مستمد من كتب الأصول ، ولذا توقف أئمة الحديث في أحاديث زادها أئمة ثقات ليس في رواياتهم ما يخالف أصل ما رووه. ولذا في حديث جماعة عن نافع عن ابن عمر: (فرض رسول الله زكاة الفطر من رمضان على كل حر أو عبد ، ذكر أو أنثى) زاد مالك (من المسلمين) ، فقال الإمام أحمد : كنت أتهيب حديث مالك "من المسلمين" يعني حتى وجده من حديث العُمريين.
المسألة الثالثة : أن الحافظ قال هنا :(وزيادة راويهما مقبولة) حتى يدخل في هذا الحكم زيادة الثقة ومن خف ضبطه ، وهذا خلاف نصوص أئمة الحديث الذين نصوا على أنه لا يشترط الثقة فقط لقبول الزيادة بل لا بد أن يكون الزائد مبرزاً في الحفظ ، قال الترمذي:"إنما تقبل ممن يعتمد علىحفظه" ، وقال ابن عبدالبر:"إنما تقبل إذا كان راويها أحفظ وأتقن ممن قصر أو مثله في الحفظ ، فإن كان غير حافظ ولا متقن فلا التفات إليها" ، ونقل السخاوي عن ابن خزيمة أنه قيد قبولها باستواء الطرفين في الحفظ والإتقان ، فلو كان الساكت عدداً أو واحداً أحفظ منه ، أو لم يكن حافظاً ، ولو كان صدوقاً فلا.
المسألة الرابعة : أن هذه في غير زيادات الصحابة أما زيادة الصحابة على بعضهم البعض فلا خلاف في قبول زياداتهم.(1/20)
قول الحافظ:( فإن خولف بأرجح فالراجح المحفوظ ، ومقابله : الشاذ) : بين الحافظ هنا ما يسميه المحدثون بالشاذ وهو الذي اشترطوه في حد الصحيح بأن لا يكون شاذاً ، ولهم فيه تعريفان الأول هو المشهور :
.………………………………………………………………………………
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأول : هو ما رواه الثقة مخالفاً لمن هو أوثق منه لمزيد ضبط أو كثرة عدد ، ومثل الحافظ بما جاء في ’’السنن‘‘ من طريق ابن عيينة وابن جريج عن عمرو بن دينار عن عَوْسَجَة عن ابن عباس أن رجلاً توفي في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يدع وارثاً إلا مولى هو أعتقه". وخالف ابن عيينة وابن جريج حماد بن زيد ـ وهو ثقة ـ فرواه عن عمرو بن دينار عن عوسجة مرسلاً ولم يذكر ابن عباس. قال أبو حاتم: المحفوظ حديث ابن عيينة". فحماد بن زيد من أهل العدالة والضبط ومع ذلك رجح أبو حاتم رواية من هم أكثر عدداً منه.(1/21)
الثاني: هو تعريف الخليلي حيث قال :ما ليس له إلا إسناد واحد يشذ به ثقة فيتوقف فيه ولا يحتج به. وقال الحاكم : ما انفرد به ثقة وليس له أصلٌ متابع. وقد أشار ابن رجب في شرح ’’العلل‘‘ إلى أن الإمام أحمد ويحيى القطان والبرديجي لا يزول الشذوذ عندهم إلا أن يأتي من وجه آخر. قلت : ورد أكثر المتأخرين من المصنفين هذا الرأي ، ولا يتأتى هذا على ما ذكر عن الأئمة في أن شر الأحاديث الغرائب ، كما قال أبو داود في رسالته إلى أهل مكة:"فإنه لا يحتج بحديث غريب ، ولو كان من رواية مالك ويحيى بن سعيد والثقات من أهل العلم ، ولو احتج رجل بحديث غريب وجدت من يطعن فيه ، ولا يحتج بالحديث الذي قد احتج به إذا كان الحديث غريباً شاذاً ، أما الحديث المشهور المتصل فليس يقدر أن يرده عليك أحد"أ.هـ. قلت : ومثاله حديث رواه شبابة بن سوار عن شعبة عن بكير بن عطاء عن عبد الرحمن بن يعمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الدباء والمزفت ، رواه الترمذي وقال : هذا حديث غريب من قبل إسناده لا نعلم أحداً حدث به عن شعبة غير شبابة ، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من أوجه كثيرة أنه نهى أن ينتبذ في الدباء والمزفت ، وحديث شبابة إنما يستغرب لأنه تفرد به عن شعبة ، وقد روى شعبة وسفيان الثوري بهذا الإسناد عن بكير بن عطاء عن عبد الرحمن بن يعمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "الحج عرفة" فهذا الحديث المعروف عند أهل الحديث بهذا الإسناد".أ.هـ. وقد تتابع الحفاظ على استنكاره على شبابة كالإمام أحمد والبخاري ، وانظر إلى عبارة أبي حاتم حين قال:"هذا حديث منكر ، لم يروه غير شبابة ، ولا يعرف له أصل". وعلى هذا فالشاذ هنا هو أن الثقة قد يستنكر عليه بعض ما تفرد به ، وهو المراد باشتراطهم في تعريف الحديث الصحيح انتفاء الشذوذ الذي هو تفرد الثقة مع ترجيح الخطأ ، وربما انقدح في نفس المحدث أنها خطأ ولا يقدر أن يقيم دليلاً على ظنه. وعلى هذا(1/22)
التعريف للشاذ يتأتى التفريق بين المعلل والشاذ ؛ فالمعلل يعرف بالمخالفة ، والشذوذ يعرف بمجرد التفرد مع ترجيح
ومع الضعف فالراجح المعروف ومقابله المنكر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الخطأ / أما على التعريف الأول وهو قيد المخالفة ، فيكون اشتراط انتفاء الشذوذ والعلة في الحديث الصحيح فيه نوع تكرار ودور يصعب عليهم أن يوجدوا فرقاً بينهما. وينبغي التنبه إلى أن لفظ الشاذ يقل دورانه عند المتقدمين ولكنهم يعبرون عنه بالنكارة كما في كلام أبي حاتم.
قول الحافظ:(ومع الضعف فالراجح المعروف ومقابله المنكر) : فيه مسألتان :
المسألة الأولى : بين الحافظ تعريف المنكر وهو أحد تعريفي المنكر ، وهو ما رواه الضعيف مخالفاً لمن هو أوثق منه ، وقد ذكر مسلم نحواً من تعريف الحافظ حين قال في ’’مقدمة صحيحه‘‘ :"وعلامة المنكر في حديث المحدث إذا ما عرضت روايته للحديث على رواية غيره من أهل الحفظ والرضا ، خالفت روايته روايتهم أو لم تكد توافقها ، فإذا كان الأغلب من حديثه كذلك كان مهجور الحديث غير مقبوله ولا مستعمله"أ.هـ. وقد مثل له الحافظ بما رواه ابن أبي حاتم من طريق حُبَيِّب بن حبيب الزيات عن أبي إسحاق عن العيزار بن حريث عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:"من أقام الصلاة وآتى الزكاة وحج البيت وصام وقرى الضيف دخل الجنة". قال أبو حاتم :"هو منكر ؛ لأن غيره من الثقات رواه عن أبي إسحاق موقوفاً ، وهو المعروف. قال الحافظ في ’’الشرح‘‘ : وعرف بهذا أن بين الشاذ والمنكر عموماً وخصوصاً من وجه ؛ لأن بينهما اجتماعاً في اشتراط المخالفة ، وافترقا في أن الشاذ راويه ثقة أو صدوق ، والمنكر راويه ضعيف.(1/23)
المسألة الثانية : أن تعريف الحافظ للمنكر تعريف بأحد استعمالاته لأنه لا يعرف عند المتقدمين قصر تعريف المنكر على مخالفة الضعيف للثقات ، بل قد يطلقون المنكر على حديث الضعيف ولو لم يخالف ، أو على الشاذ بتعريفيه السابقين من مخالفة الثقة أو تفرده بما يترجح خطئه فيه ، ومثال ذلك مارواه أبو داود من طريق همام بن يحيى عن ابن جريج عن الزهري عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل الخلاء وضع خاتمه. قال أبو داود : هذا الحديث منكر ، وهم فيه همام ، لأن أصحاب ابن جريج يروونه عن ابن جريج عن زياد بن سعيد عن الزهري عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - اتخذ خاتماً من ورِق ثم ألقاه". فقد حكم أبو داود بالنكارة على مخالفة الثقة لمن هو أوثق منه ، وهو تعريف أحد قسمي الشاذ. والسبب أن المصطلحات لم يتفق عليها بعد.
المسألة الثالثة : أن جعل الحافظ ما يقابل المنكر المعروف هو اصطلاح خاص للحافظ ، لأن المعروف عند المحدثين أعم مما حده به الحافظ ، فهو : كل ما اشتهر بالصحة وعرف مخرجه.
والفرد النسبي إن وافقه ؛ فهو المتابع. وإن وجد متن يشبهه فهو الشاهد ، وتتبع الطرق لذلك هو الاعتبار. ثم المقبول إن سلم من المعارضة فهو المحكم ، وإن عورض بمثله : فإن أمكن الجمع فمختلف الحديث. أولا ، وثبت المتأخر فهو الناسخ والآخر المنسوخ. وإلا فالترجيح ، ثم التوقف.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* قول الحافظ :(والفرد النسبي إن وافقه ؛ فهو المتابع ...) ألخ. ابتدأ الحافظ ببيان ثلاثة أنواع من علوم الحديث : وهي الاعتبار والمتابع والشاهد.(1/24)
(الأول) : المتابع : وهو على ما بينه الحافظ هو الحديث الذي كان يظن أنه فرد وجد ما يوافقه في رواية الحديث ولو بالمعنى تحت نفس الصحابي ، وقيده بالفرد النسبي لأن الفرد المطلق باعتبار حقيقته لا يوجد له متابع ، ثم المتابعة على مراتب : إن حصلت للراوي نفسه فهي التامة ، وإن حصلت لمن فوقه فهي القاصرة. *ومثل الحافظ للمتابعة بما رواه الشافعي عن مالك عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:"الشهر تسع وعشرون ، فلا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه ، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين".
ـ وأورد متابعة تامة للشافعي بما رواه البخاري عن عبد الله بن مسلمة القَعْنَبي عن مالك.
ـ وأورد متابعة قاصرة بما ورواه مسلم من رواية عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر بلفظ:"فاقدروا ثلاثين". وهي قاصرة لأنها متابعة للراوي الأعلى عبد الله بن دينار.
(الثاني) : الشاهد : وهو على تعريف الحافظ إذا وجد متن يشبهه من طريق صحابي آخر ، فمثلاً في الحديث السابق نجد أن النسائي رواه من طريق ابن عباس بلفظ حديث ابن عمر سواء ، ورواه البخاري من حديث أبي هريرة بمعناه.
*وذكر الحافظ أن قوماً خصوا المتابعة بما حصل باللفظ سواء كان من رواية الصحابي أو غيره ، والشاهد بما حصل بالمعنى. وأن المتابعة قد تطلق على الشاهد والعكس.
(الثالث) : الاعتبار : وهو ليس قسيماً للمتابعات والشواهد وإنما هو تتبع الطرق للوصول إلى المتابعات والشواهد ، وبعدها نحكم هل الحديث فرد أم غريب غرابة نسبية.
*قول الحافظ :( ثم المقبول إن سلم من المعارضة فهو المحكم …ألخ) : قسم الحافظ هنا الحديث المقبول ـ سواء كان صحيحاً أو حسناً ـ إلى قسمين ليبين أن منه معمول به ومنه غير معمول به:
.………………………………………………………………………………
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(1/25)
(القسم الأول) : هو المحكم السالم من المعارض ، وله أمثلة كثيرة مثل النهي عن أكل البصل لمن يريد إتيان المساجد للصلاة فيها.
(القسم الثاني) : وهو الذي وجد متن يعارضه ، وله حالان :
(الحال الأولى): أن يمكن الجمع بين الحديثين المتعارضين ، ومثل له الحافظ بحديث:"لاعدوى ولا طيرة" ، عارضه حديث:"فر من المجذوم فرارك من الأسد" ، ووجه الجمع أن النفي لما كان يعتقده أهل الجاهلية من أن الأمراض تنتقل بدون قدر ، ولا يمنع من ذلك أن الله جعل مخالطة المريض سبب لانتقال المرض حسب قدر الله ومشيئته. فمثل هذا الحديث الذي وجد ما يعارضه وأمكن الجمع سماه الحافظ ’’مختلف الحديث‘‘، هكذا اصطلح الحافظ هنا ، وإلا فمختلف الحديث يطلق على المتعارضين سواء أمكن الجمع ، أم لا. وقد ألف فيه جماعة : مثل : ’’مختلف الحديث‘‘ للشافعي ، و ’’تهذيب الآثار‘‘ للطبري ، و ’’مشكل الآثار‘‘ للطحاوي.
(الحال الثانية): أن لا يمكن الجمع بين المتعارضين ، وهذا أيضاً له ثلاثة أوجه :
1- أن يعرف التأريخ ، فيكون هناك نسخ ، وهو رفع حكم شرعي بدليل شرعي متأخر عنه ، والناسخ المعمول به هو المتأخر ، والمنسوخ المرفوع هو المتقدم. ومثل له بحديث "أفطر الحاجم والمحجوم" منسوخ بحديث :"أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجم وهو صائم" لأن الأول قيل في فتح مكة ، والأخير حصل في حجة الوداع. وقد يثبت النسخ إضافة لمعرفة التأريخ بتصريح الصحابي كقول جابر:"كان آخر الأمرين من رسول الله- صلى الله عليه وسلم - ترك الوضوء مما مست النار".وقد ألف في الناسخ والمنسوخ جماعة : مثل ’’الاعتبار في ناسخ الحديث ومنسوخه‘‘ للحازمي ، ومثله لابن شاهين وابن الجوزي.(1/26)
2- أن لا يعرف التأريخ فنلجأ عندئذ للترجيح بين النصوص ، وهنا تأتي فائدة ما ذكره المحدثون في شرط الحديث المقبول من انتفاء الشذوذ والعلة لأننا سنحتاج للمقارنة بين النصوص المتعارضة لنعلم أيها الشاذ أو المعلول في متنه من الصحيح المحفوظ. ولذا وضع العلماء قواعد للترجيح أوصلها الحازمي إلى خمسين وجهاً ، منها : أن يكون أحد الحديثين أقوى من الآخر ، ومن ثم احتجنا إلى تقسيم الحديث الصحيح من حيث ثبوته إلى سبع درجات كما تقدم ، وإلى تقسيم الحديث من حيث وروده إلى غريب وعزيز ومشهور ومتواتر. واحتجنا إلى تقسيم الثقات إلى مراتب من حيث الحفظ وطول الملازمة لحاجتنا له عند تعارض أحاديث الرواة. ومثل لهذا بأحاديث النهي عن الصلاة بعد العصر فهي معارضة لصلاته - صلى الله عليه وسلم - الركعتين بعد العصر ، ومن ثم قيل : يرجح دليل النهي لأنه نص قولي بخلاف دليل الإباحة فهو نص فعلي ، والقول مقدم على الفعل لاحتمال دخول الخصوصية فيه.
ثم المردود إما أن يكون لسقط أو طعن ، والسَّقط إما أن يكون من مبادئ السند من مصنفٍ أو من آخره بعدَ التَّابعي ، أو غير ذلك. فالأول المعلق. والثاني المرسل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
3- أن لا يعرف التأريخ ولا يمكن الترجيح فيجب عندئذ التوقف ، والتوقف هنا يكون بالنسبة للعالم الذي عجز عن إدراك وجه الترجيح بين الحديثين ، أما في حقيقة الأمر فيستحيل أن يوجد تعارض بين نصين شرعيين غير منسوخين ولا يمكن الجمع أو الترجيح لأن كلاً منهما من عند أحكم الحاكمين.
* ثم قال الحافظ :( ثم المردود إما أن يكون لسقط أو طعن) : هنا انتقل الحافظ بعد أن بين الحديث الخبر المقبول : الصحيح لذاته ، والحسن لذاته ، والصحيح لغيره ، لبيان الخبر المردود ، وهو القسم الثالث من أقسام الحديث المعروفة : الصحيح والحسن والضعيف.(1/27)
وفي قوله :( ثم المردود إما أن يكون لسقط أو طعن) : حصر من الحافظ لأسباب رد الخبر ، فشرطي الخبر المقبول الأول والثاني عدالة الرواة وضبطهم تخلفهما من الطعن ، والشرط الثالث للخبر المقبول هو اتصال السند فكل ما ينافي هذا الشرط من السقط ، ولم يوضح الحافظ ما إذا كان يعتبر شرطي صحة الخبر الرابع والخامس وهما الشذوذ والعلة داخلان في الطعن ، فإن لاحظ هذا باعتبار أن الشذوذ والعلة فيهما نوع مخالفة تطعن في الرواية وفيها إشارة لضعف حفظ الراوي لهذا الخبر بعينه فلا بأس ، لكن إذا علمنا أنه ما من حافظ إلا وقد أخطأ في بعض حديثه فصار معلولاً أو خالف في بعضها فصار شاذاً ولم يطعن ذلك في حفظه عندهم ، إذا عرفنا هذا تبين لنا أن الشذوذ والعلة ليست من قسم الطعن في العدالة والضبط ، ولذلك ميزت عنهما في شروط الحديث المقبول ، فعلى هذا الرأي يستدرك على الحافظ هذا الحصر ، إلا أن أراد أن الشذوذ طعن في الرواية لا في الراوي فنعم ، والله أعلم. والحافظ رحمه الله قد خالف المصنفين في علوم الحديث قبله فقدم ضمن القسم المقبول بيان الشاذ والمنكر مع أن حقهما أن يذكرا هنا ، وسبب ذلك احتياجه لبيان بعض تسمية حديث الراوي المقبول عند المخالفة.
* ثم قال الحافظ :( والسَّقط إما أن يكون من مبادئ السند من مصنفٍ …المعلق) : بين الحافظ هنا نوعاً من المردود بسبب سقط في الإسناد وهو المعلق :
* وقد ذكر الحافظ في ’’تغليق التعليق’’ أن أول من وجد في كلامه تسمية المعلق بهذا الاسم هو الدارقطني.
* والغرض من التعليق : إما أن لا يكون الحديث على شرط من علقه في مصنفه ، أو أن يورد المعلق متابعاً لا أصلاً ، أو يورده لبيان حكم شرعي وترجيح رواية على رواية.
.………………………………………………………………………………
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(1/28)
* عرفوا المعلق بأنه : ما سقط من مبتدأ السند من جهة المصنف راوٍ فأكثر ولو لم يبرز إلا آخر الإسناد. وأول الإسناد في اصطلاح المحدثين هو الذي يلي مصنف الكتاب وآخره الصحابي.
* ومن صوره :أن يحذف من حدثه ويضيف إلى من فوقه ، أو يحذف معظم السند ، فلا يبقى منه إلا الصحابي أو التابعي والصحابي ، ولربما حذف السند كله فقال : قال - صلى الله عليه وسلم -.
* أكثر من اشتهر بالمعلقات هو البخاري في ’’صحيحه‘‘ ، فقد يذكر حديثاً بدون إسناد ، أو ببعض الإسناد ، وقد أكثر منها حتى وصلت إلى ألف وثلاثمائة مرفوعاً معلقاً ، وصل أكثرها في أماكن أخرى ، والتي لم يصل سندها تبلغ مائة وستين معلقاً. وأما مسلم فعلق ثلاثة عشر حديثاً وصلها كلها إلا حديثاً واحد هو حديث أبي جهيم في التيمم في الجدار. وقد ألف الحافظ ابن حجر كتابه ’’تغليق التعليق’’ لوصل ما علقه البخاري ، وكذلك الموقوفات والمقطوعات. وألف الرشيد العطار كتابه ’’الغرر المجموعة في بيان ما وقع في صحيح مسلم من الأحاديث المقطوعة‘‘.
* حكم المعلق : أنه من قسم الضعيف للجهالة بحال الواسطة ، إلا أن الحافظ ابن حجر وهو من أعلم الناس بمعلقات البخاري قسم معلقات البخاري إلى قسمين :
1- ما كان منها بصيغة الجزم مثل : قال ، وروى. فهو صحيح إلى من علقه عنه ، ويبقى النظر بمن أبرز من رجال الإسناد. وقد وجد في ما جزم به : الحديث الذي على شرطه ووصله في موطن آخر ، والحديث الذي رواه مسلم كقول عائشة : "كان النبي- صلى الله عليه وسلم - يذكر الله على كل أحيانه" ، والحديث الحسن الصالح للحجة كحديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده:"الله أحق أن يستحيى منه" ، والضعيف الذي ضعفه لا من جهة قدح في رجاله بل من جهة انقطاع يسير في إسناده ونحوه.(1/29)
2- ما كان منها بصيغة التمريض ، مثل : يروى ، ويذكر ، ويقال. فهذا لا يستفاد منه ضعف ولا صحة ، لأنه علق بصيغة التمريض ما أورده موصولاً في موطن آخر كقوله : ويذكر عن ابن عباس عن النبي في الرُّقى بفاتحة الكتاب ، لكن قال الحافظ ابن حجر : ليس فيه ما هو على شرطه إلا مواضع يسيرة. وربما علق أحاديث صحيحة ليست على شرطه كقوله : ويذكر عن عبد الله بن السائب قال : قرأ النبي "المؤمنون" في صلاة الصبح. وقد أخرجه مسلم. وربما أورد أحاديث ضعيفة بصيغة التمريض وصرح بضعفها ، كقوله : "ويذكر عن أبي هريرة رفعه : لا يتطوع الإمام في مكانه ، ولا يصح". وقد ذكر الحافظ هنا قاعدة نافعة فيما علق بصورة التمريض بأنه إن أورده في معرض الاحتجاج والاستشهاد فهو صحيح أو حسن أو ضعيف منجبر ، وإن أورده في معرض الرد فهو ضعيف عنده.
.………………………………………………………………………………
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* البخاري قد استعمل صيغة التعليق فيما لم يسمعه من شيوخه ، فيوردها عنهم بصيغة (قال فلان) ، ثم يوردها في موضع آخر بواسطة بينهم وبينه ، يفعل هذا في ’’التأريخ‘‘ كثيراً ، فهل يعتبر هذا تدليساً. الجواب : أن أي مصنف إذا فعل ذلك فيما لم يسمعه من شيخه ، فينظر إن علم بالاستقراء أنه مدلس حكم بالتدليس ، وأما إذا علم أنه ليس بمدلس كالبخاري فإنه يحمل على التعليق. مع العلم أن البخاري يعلق أحاديث قد سمعها من شيوخه لأنه سمعها مذاكرة أو شك في سماعه لها.
* ثم قال الحافظ :(أو من آخره بعدَ التَّابعي … المرسل) : انتقل الحافظ هنا لبيان نوع آخر من السقط وهو من آخر الإسناد عكس السابق :(1/30)
* تعريف المرسل : أنه ما رواه التابعي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قولاً أو فعلاً فأسقط من فوقه. وأما من يعرف بأنه: ما سقط منه الصحابي ، فإنه يستدرك عليه أن الساقط قد يكون أكثر صحابي وقد يسقط تابعياً واحداً أو أكثر ، وقد ذكروا أنه وجد رواية ستة من التابعين بعضهم عن بعضهم في سند واحد. وفائدة هذا البحث معرفة الراجح عند الاختلاف بين الوصل والإرسال ، مثاله ما رواه البخاري في صحيحه من طريق ورقاء عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال :"كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ، ويقولون نحن المتوكلون ، فإذا قدموا مكة سألوا الناس فأنزل الله تعالى { وتزودوا فإن خير الزاد التقوى } . قال البخاري بعده: رواه ابن عيينة عن عمرو عن عكرمة مرسلاً.
* وسبب الإرسال : أن التابعي قد ينشط فيصل الحديث ، وربما كسل فحدث مرسِلاً على سبيل الاستشهاد وبيان حكم ما ، لا على سبيل التحديث والرواية.
* وأما حكم المرسل : فقد ذكره الحافظ في قسم المردود للجهل بحال المحذوف ، وفي ألفية العراقي في باب المرسل:
ورده جَماهرُ النقاد للجهل بالساقط في الإسناد
وقال مسلم على وجه الإيراد على لسان خصمه وأقره:"والمرسل من الروايات في أصل قولنا وقول أهل العلم بالأخبار ليس بحجة". هذا هو رأي جماهير المحدثين ، وهو الذي استقر عليه العمل ، بل هو مقتضى إجماعهم على اشتراط الاتصال في حد الحديث الصحيح. مع العلم أنهم كانوا يفرقون بين مرسل وآخر من حيث القوة ، حيث ذكروا قوة مرسل بعض التابعين كسعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي ، وضعف مرسل آخرين كعطاء بن أبي رباح والحسن البصري والزهري لأنهم يأخذون عن كل أحد.
ـ وهناك من الأئمة من قبل المرسل بشرط أن يكون المرسل ممن لا يروي إلا عن ثقة. وهذا المذهب المتساهل.
.………………………………………………………………………………
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـ وتوسط الشافعي فقبل المرسل بشروط :(1/31)
(الأول) : أن يكون المرسل من كبار التابعين كسعيد بن المسيب.
(الثاني) : أن يكون المرسل ثقة بحيث إذا شارك المأمونين في حديثهم لم يخالفهم.
(الثالث) : أن يكون المرسل لا يروي إلا عن ثقة ، فلو تبين أن بعض شيوخه ضعفاء لم نقبل مراسيله.
(الرابع) : أن يعضده مسند آخر متصل ولو كان ضعيفاً أو مرسل آخر يعرف أن مرسِله لا يأخذ عن شيوخ المرسِل الأول ، أو يعضده قول صحابي أو يفتي أكثر العلماء بمقتضاه.
*والصواب أنه إذا لم يوجد في الباب إلا الحديث المرسل فهو ضعيف كما هو رأي الجمهور ، إلا أننا نستأنس بالمرسل إذا لم نجد ما يعارضه.
* وهناك مراسيل مقبولة: هي مراسيل الصحابة فهي غير داخلة في هذا القسم المردود بالاتفاق ، ومثله حديث من سمع من النبي- صلى الله عليه وسلم - كافراً ثم أسلم بعد موته ، فهو تابعي بالاتفاق وحديثه ليس بمرسل.
* وهناك إطلاق آخر للمرسل : حيث إنهم يطلقون المرسل على كل انقطاع بين اثنين في الإسناد سواء في أوله أو آخره ، قال العراقي في ألفيته وهو يعرف المرسل:
مرفوعُ تابعٍ على المشهورٍ مرسلٌ أو قيدْهُ بالكبيرِ
أوسقطِ راوٍٍ منه ذو أقوالٍ والأولُ الأكثرُ في استعمالٍ
ومراده أنهم يطلقون المرسل على مرفوع التابعي وعلى ما سقط منه راوٍ إلا أن الأول أكثر استعمالاً ، ومراده أكثر استعمالاً عند المتأخرين ، أما القدماء من المحدثين فهم يستعملون المرسل مكان المنقطع كثيراً في أي مكان وقع فيه السقط ، نعم يشتهر عندهم إطلاق المرسل على وجهين:
أ- إذا كان الساقط منه الصحابي فهم يسمونه المرسل ، وعلى هذا بنى أبو داود كتابه ’’المراسيل‘‘ ، وقد استقر الاصطلاح عند المتأخرين على هذا.(1/32)
ب- إذا كان الساقط منه التابعي مع بقاء الصحابي بحيث يروي أحد التابعين عن صحابي لم يثبت سماعه منه ، فهذا يسمونه مرسلاً كذلك ، وعلى هذا بنى ابن أبي حاتم غالب كتابه ’’المراسيل. وهذا الاستعمال أشهر عند المتقدمين. وإنما قلت : "غالب كتابه" ؛ لأنه أحياناً يورد أمثلة على المرسل الذي فيه حذف الصحابي ؛ كقوله:"شريك بن حنبل العبسي روى عن النبي- صلى الله عليه وسلم - ، وهو مرسل ليست له صحبة ، ومن الناس من يدخله في المسند".
والثالث : إن كان باثنين فصاعداً مع التوالي فهو المعضل. وإلا فالمنقطع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ * ثم قال الحافظ :( والثالث : إن كان باثنين فصاعداً مع التوالي فهو المعضل) : هنا لبيان نوع من السقط وهو المُعْضَل ، وقد وقع ذكر المعضل في كلام المتقدمين كعلي بن المديني كما نقله الحاكم وغيره.
* تعريف المعضل : وسمي معُضَلاً لأن العضال الأمر الشديد ، حيث إن راويه أعضله وشدد على من يسمعه فضيق عليه المجال فحال بينه وبين معرفة رواته ، وتعريفه اصطلاحاً : هو ما سقط من سنده راويان فأكثر على التوالي. ومثاله حديث مالك الذي في ’’الموطأ‘‘ أنه بلغه أن أبا هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"للمملوك طعامه وكسوته" فهذا معضل عن مالك لكونه قد روي عنه خارج ’’الموطأ’’ عن محمد بن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة.
* وأما حكم المعضل : فهو من قسم المردود ما لم يأت متصلاً من وجه يصح ، وهو أسوأ من المنقطع الذي انقطاعه في موطن واحد ، قال الجورقاني:"المعضل أسوأ حالاً من المنقطع ، وهو أسوأ حالاً من المرسل ، وهو لا تقوم به الحجة".
* ومن صور المعضل : أنه يجتمع مع المعلق إذا كان الإعضال في أول إسناد أحد المصنفين ، ويجتمع مع المرسل إذا كان الإعضال في آخر الإسناد ، وينفرد عنهما فيما إذا كان الإعضال في وسط الإسناد ، فبينهما(1/33)
وبينه عموم وخصوص من وجه. لكن لحاجة استقرار المصطلحات فإنهم لا يطلقون على ما كان معضلاً من مبتدأ الإسناد أو آخره معضلاً بل يطلقون عليه المعلق أو المرسل ، ويخصون المعضل بثلاثة شروط : 1- أن يكون السقط في وسط السند. 2- أن يكون الساقط اثنين فاكثر. 3- أن يكون سقطهم على التوالي.
* وهناك إطلاق آخر للمعضل : حيث أشار الحافظ في ’’النكت‘‘ أنه يقع في كلام جماعة من أئمة الحديث فيما لم يسقط منه شيء ألبتة ، بل لإشكال في معناه أو وهم فيه ؛ ومثلها بقول الذهلي عن حديث مرفوع : هذا حديث معضل لا وجه له ، إنما هو فعل عائشة ، ليس للنبي فيه ذكر ، الوهم فيما نرى من ابن لهيعة.
* ثم قال الحافظ :(وإلا فالمنقطع) : ذكر الحافظ بهذا الاستثناء القسم الرابع من السقط ، وهو المنقطع أي إذا لم تتوفر شروط المعضل من توالي السقط فهو المنقطع ، ويعرفونه: أنه ما سقط من وسط إسناده راوٍ فأكثر لكن لا على التوالي.
* إلا أنه ينبغي التنبيه هنا على أمر مهم وهو أن المحدثين القدماء كأبي زرعة وأبي حاتم والبخاري وغيرهم يستعملون المرسل مكان المنقطع كثيراً كما تقدمت الإشارة لشيء من ذلك في مبحث ’’المرسل‘‘ ، وأن استخدامهم لهذين اللفظين ـ المنقطع والمرسل ـ عندهم أوسع من الاستعمال الاصطلاحي فهم يطلقون هذين
ثم قد يكون واضحاً أو خفياً : فالأول يدرك بعدم التلاقي ، ومن ثم احتيج إلى التأريخ. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اللفظين على كل إسناد غير متصل في أي مكان كان السقط ، وهذا يتنبه له عند القراءة في كتبهم.
* وهناك اصطلاح آخر أنبه عليه قبل الانتقال من هذا المبحث ، وهو أنك ستجد عند بعض المحدثين ـ كالبرديجي ـ إطلاق المنقطع على كل ما أضيف إلى التابعي فمن دونه قولاً أو فعلاً. وهذا اصطلاح يحتاج إليه
فقط عند قراءة كتاب القائل به.(1/34)
* ثم قال الحافظ :(ثم قد يكون واضحاً أو خفياً : فالأول يدرك بعدم التلاقي ، ومن ثم احتيج إلى التأريخ. والثاني : المُدَلَّس ، ويرد بصيغة تحتمل اللُّقي ؛ كـ ’’عن‘‘ و ’’قال‘‘). بعد ان بين الحافظ أنواع السقط من حيث موضعه ، انتقل لبيان أنواعه من حيث خفائه أو وضوحه ، وكيف يعرف ذلك ، فبين أن الانقطاع على نوعين :
(النوع الأول) : السقط الجلي الواضح الذي يدرك بعدم لقي الراوي لمن حدث عنه في الإسناد ، لكونه لم يعاصره بأن يكون الراوي ولد بعد وفاة من روى عنه ، أو قريباً من وفاته بحيث يستحيل سماعه منه. وعد هذا النوع من الانقطاع من الواضح ، لكونه يعرفه كل من قرأ كتب الرجال ولو لم يكن من أهل النقد والفهم ، فهو يدرك بمجرد الاطلاع على كتب التراجم ، ولذا ذكر أنه إنما احتيج إلى ’’التأريخ‘‘ لذلك. قال سفيان الثوري : لما أستعمل الرواة الكذب ، استعملنا لهم التأريخ. ومن هنا اهتم المحدثون بذكر تاريخ الوفيات والمواليد للفحص عن أحوال الرواة وما يدعونه من السماع واللقي بالمشايخ ، فألفوا الكتب الخاصة في تواريخ البلدان لتحرير مواليد ووفيات من قدم تلك البلدان من المحدثين وتحرير طلبهم العلم وارتحالهم لها. وقد روى الخطيب في ’’الكفاية‘‘ عن عفير بن معدان الكلاعي قال : قدم علينا عمر بن موسى حمص ، فاجتمعنا إليه فجعل يقول: حدثنا شيخكم الصالح. فلما أكثر ، قلت له : من شيخنا الصالح سمه لنا نعرفه ، قال : خالد بن معدان ، قال : قلت له : في أي سنة لقيته ؟ قال : لقيته سنة ثمان ومائة ، قال : قلت له : فأين لقيته ؟ قال : في غزوة أرمينية ، قال : فقلت له : اتق الله يا شيخ ولا تكذب ، مات خالد بن معدان سنة أربع ومائة ، وأنت تزعم أنه حدثك بعد موته بأربع سنين ، وأزيدك أنه لم يغز أرمينية قط كان يغزو الروم.(1/35)
* وذكر الحافظ أنه يعرف كذلك بكونه أدركه ولكنهما لم يجتمعا وليست له منه إجازة ولا وجادة. لكن الظاهر أن هذا ليس من السقط الواضح لكونه لا يدركه إلا الأئمة الحذاق بوسائلهم الخاصة ، ولذا سمى
والثاني : المُدَلَّس ، ويرد بصيغة تحتمل اللُّقي ؛ كـ(عن) و (قال). وكذا من المرسل الخفي من معاصر لم يَلْق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الحافظ هذا النوع لاحقاً بالإرسال الخفي.
(النوع الثاني) : السقط الخفي الذي لا يدركه إلا الحفاظ لكونه لايعرف بمجرد معرفة الولادة والوفاة وقسمه الحافظ في ’’الشرح‘‘ إلى قسمين :
(الأول) : المُدلَّس : بفتح اللام ، من الدَلَس ـ بالتحريك ـ أصله اختلاط الظلام بالنور ، ثم صار لغة يعني الستر والإخفاء والتكتم ، وعرفوه اصطلاحاً : بأن يروي الراوي عن شيخه الذي سمع منه ما لم يسمعه منه بصيغة تحتمل السماع كـ’’عن‘‘ و ’’قال‘‘. وهذا الفعل مجمع على دخوله في التدليس عندهم. قال ابن عبد البر في ’’التمهيد‘‘ :"وأما التدليس فهو أن يحدث الرجل عن الرجل قد لقيه وأدرك زمانه وأخذ عنه وسمع منه ، وحدث عنه بما لم يسمعه منه ، وإنما سمعه من غيره عنه ممن ترضى حاله أو لا ترضى ، على أن الأغلب في ذلك أن لو كانت حاله مرضية لذكره ، وقد يكون استصغره ، هذا هو التدليس عند جماعتهم لا اختلاف بينهم في ذلك.(1/36)
(الثاني) : المُرسل الخَفيُّ : وعرفه الحافظ بأنه رواية الراوي عمن عاصره ولم يلقه ، فقال الحافظ في ’’الشرح‘‘ :"والفرق بين المُدَلس والمرسل الخفي دقيق ، حصل تحريره بما ذُكر هنا : وهو أن التدليس يختص بمن روى عمن عُرف لقاؤه إياه ، فأما إن عاصره ولم يعرف أنه لقيه فهو المرسل الخفي. قلت : وهذا التفريق استنبطه الحافظ ابن حجر من بعض كلام البزار والخطيب البغدادي وابن القطان الفاسي. إلا أن الذي عليه جماهير المحدثين من القدماء ومن بعدهم ـ كما نص على ذلك غير واحد كالحافظ العراقي شيخ ابن حجر ـ أن رواية الراوي عمن عاصره ولم يلقه بصيغة إيهام السماع هي من التدليس ، قال العراقي تعليقاً على قول ابن الصلاح :"تدليس الإسناد : وهو أن يروي عمن لقيه ما لم يسمعه منه موهماً أنه سمعه منه ، أو عمن عاصره ولم يلقه موهماً أنه قد لقيه وسمعه منه" ـ قال العراقي :"وما ذكره المصنف في حدِّ التدليس هو المشهور بين أهل الحديث ، وإنما ذكرتُ قول البزار وابن القطان كيلا يغتر بهما من وقف عليهما فيظن موافقة أهل الشأن لذلك". قلت : ولا شك أن ما ذكره العراقي وابن الصلاح يؤيده النقل عن الأئمة حيث يجعلون تحديث الراوي عمن لم يلقه موهماً السماع تدليساً ، وسأذكر مثالين ذكرهما بعض كبار علماء الحديث على سبيل التقعيد أما ما يأتي في كلامهم فكثير :
* قال يعقوب بن شيبة كما في ’’الكفاية‘‘ بعد ذكر من رخص في التدليس عن الثقات : فأما من دلَّسه عن غير ثقة ، وعمّن لم يسمع هو منه ، فقد جاوز حدَّ التدليس الذي رخص فيه من رخَّص من العلماء.
.………………………………………………………………………………
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* قال الحاكم في كتابه ’’علوم الحديث’’ حاكياً اصطلاح أهل الحديث بعد أن ذكر أنواع التدليس قال : والجنس السادس من التدليس : قوم رووا عن شيوخ لم يروهم قط ولم يسمعوا منهم إنما قالوا : قال فلان ، فحمل ذلك عنهم على السماع أ.هـ.(1/37)
إلا أن الذي ينبغي أن يعلم أن بعض المحدثين قد يطلق على بعض أفراد هذه الصورة إرسالاً لاشتهار عدم سماع الراوي ممن حدث عنه ، ولذلك فإنه ينبغي التنبيه على أن من شرط اعتبار رواية المعاصر الذي لم يلق تدليساً أن يروي على صيغة توهم أنه سمع ما لم يسمع كما تقدم في تعريف ابن الصلاح الذي عده العراقي المشهور بين أهل الحديث "وهو أن يروي عمن عاصره ولم يلقه موهماً أنه قد لقيه وسمعه منه". أما من أظهر عدم سماعه ، أو روى على غير سبيل الإيهام لمعرفة الناس لعدم سماعه ، فهو من قبيل الإرسال. وقد قرر هذا هذا العلامة المعلمي اليماني في مباحث في الاتصال والانقطاع من كتابه القيم ’’التنكيل‘‘.
* وأما حكم رواية المدلس: ففيها أقوال أقوها مذهبان :
(المذهب الأول) : وهو المشهور عند المحدثين أن الراوي إذا كان مكثراً من التدليس واشتهر به فإنه يقبل منه ما صرح بسماعه فيه ، ويتوقف في كل صيغة توهم السماع ، ولكن يحترز لهذا القول عندهم بأمور :
* معرفة نوع التدليس الذي يفعله الراوي ، لأن من التدليس ما لا تضر فيه العنعنة ؛ مثل أن يدلس الراوي تدليس الشيوخ بتسمية شيخه أو وصفه بما لا يعرف ، فهو لم يسقط شيخاً وإنما عماه.
* مراعاة مراتب المدلسين ؛ فالذي يدلس نادراً تقبل روايته إلا ما علم تدليسه فيه.
* أن من المحدثين من لا يدلس إلا عن ثقة فلا يتوقف في حديثه.
* أن بعض المدلسين لا يدلسون عن شيوخ بأعيانهم فحديثهم عنهم متصل ، كقول البخاري (كما في التمهيد1/35) وذكر مشايخ كثير يروي عنهم الثوري : لا أعرف لسفيان عن هؤلاء تدليساً ، ما أقل تدليسه.
* أن بعض المدلسين لا يدلسون إلا عن شيوخ بأعيانهم وسائر أحاديثهم عن غيرهم مقبولة ، كما ذكروا عن زكريا بن أبي زائدة أنه لا يدلس إلا عن الشَّعبي.
* أن رواية بعض المدلسين عن شيوخهم الذين أكثروا مصاحبتهم والسماع منهم مقبولة إلا ما علم أنهم دلسوا فيه.(1/38)
* أن رواية بعض الرواة عن بعض المدلسين الذين ضبطوا سماعهم مقبولة ، كقول شعبة : كفيتكم تدليس
ثلاثة: الأعمش وأبي إسحاق وقتادة.
.………………………………………………………………………………
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* أن رواية البخاري ومسلم للمدلسين في ’’الصحيحين‘‘ محمولة على أنهما انتقيا من أحاديث هؤلاء ما علما اتصاله من وجه آخر ، أو غلب على ظنهما أنه سماع ، أو أنهما يوردان بعدها متابعة ، أو لا يوردانها أصلاً على سبيل الاحتجاج بل يوردانها متابعة.
(المذهب الثاني) : قبول حديث المدلس الثقة مطلقاً إلا إذا تبين في خبر بعينه أنه لم يسمعه ، أو كان مع وصمة التدليس فيه مبتدعاً روى حديثاً لم يصرح فيه بسماع والحديث يؤيد بدعته. ومعرفتنا لتدليسه بخبر بعينه تكون بثلاثة طرق : (أ) بتصريح أحد الأئمة. (ب) أو كونه يروي الحديث فيدخل أحياناً بينه وبين شيخه واسطة. (ج) أو كون الحديث منكراً ولم يوقف له على علة فيعلل بالتدليس. قال أبو الحسن بن القطان مبيناً الخلاف: إذا صرح المدلس قبل بلا خلاف ، وإذا لم يصرح فقد قبله قوم ما لم يتبين في حديث بعينه أنه لم يسمعه ، ورده آخرون ما لم يتبين أنه سمعه أ.هـ. قلت : وهو قول قوي لا يقل عن القول الآخر في القوة ولذا توقف بعض الأئمة الكبار في هذه المسألة ، كما قال ابن رجب في ’’شرح العلل583‘‘:"وأما الإمام أحمد فتوقف في هذه المسألة ، قال أبو داود: سمعت أحمد سئل عن الرجل يعرف بالتدليس في الحديث ، يحتج به فيما لم يقل فيه : حدثني ؟ قال: لا أدري" أ.هـ. ولنعرض بعض النقول التي تدل على هذا القول:
* سئل يحيى بن معين كما في ’’الكفاية400‘‘ : أفيكون المدلِّس حجة فيما روى ؟ أو حتى يقول : حدثنا و أخبرنا ؟ فقال : لا يكون حجة فيما دلس أ.هـ. يفهم من هذا أن الأصل قبول خبره ولا يقبل من حديثه ما ثبت دليسه فيه.(1/39)
* قال يعقوب الفسوي في ’’المعرفة2/637‘‘ : وحديث سفيان وأبي إسحاق والأعمش ما لم يعلم أنه مدلس ، يقوم مقام الحجة.
* قال ابن عبد البر في ’’التمهيد3/307‘‘ : قتادة إذا لم يقل سمعت وخولف في نقله فلا تقوم به الحجة. وقال أيضاً ’’19/287‘‘ : قال بعضهم : قتادة إذا لم يقل سمعت أو حدثنا ، فلا حجة في نقله ، وهذا تعسف.
* وقرأت قديماً كلاماً للمعلمي لم أجده الآن أن المحدثين إنما يلجأون إلى الإعلال بالتدليس إذا كان في الحديث عندهم نكارة فعجزوا عن معرفة علة ذلك فإنهم يعلون الحديث بالتدليس ، مع أنه لو لم توجد هذه النكارة لما أعلوه بها.
قلت: ولو جمع أحد بين هذين الرأيين لكان حسناً بأن قال: من عرف بكثرة التدليس عن الضعفاء فهذا
ثَّم الطعن إما أن يكون : لكذب الراوي أو تهمته بذلك ، أو فحش غلطه ، أو غفلته ، أو فسقه ، أو وهمه ، أو مخالفته ، أو جهالته ، أو بدعته ، أو سوء حفظه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يطبق عليه القول الأول ، ومن كان من الأئمة الجامعين للأحاديث كالثوري والأعمش ممن لم يشتهر عنهم
كثرة الرواية عن الضعفاء فإنه يطبق عليهم المذهب الثاني.(1/40)
* وحكم رواية المدلس عمن عاصره ولم يلقه منه (وهو المرسل الخفي عند الحافظ) : إذا اشتهر بذلك وعرف به كحكم المدلس عمن سمع في المسألة السابقة لا بد من تصريح بالسماع ، لكن ينبغي التنبيه على فرق مهم جداً ، أن المدلس عمن سمع منه على المشهور لا يقبل من حديثه إلا ما صرح بالسماع ممن حدث عنه ، أما المدلس الذي يدلس عمن لم يلقهم فلا يأخذ حكماً عاماً ، بل ننظر لأحاديث من روى عنهم ممن عاصرهم كل على حدة فمن صرح بسماعه منه ولو في حديث واحد عنه أو ثبت لقاؤه له قبلنا جميع حديثه عن هذا المعاصر بذاته عنعن أم لم يعنعن. وهذا فرق دقيق يحسن التنبه له بين الذي يدلس عمن ثبت سماعه منه فهذا الذي لا نقبل إلا ما صرح فيه بالسماع ، أما المدلس عمن عاصره ولم يلقه ، فيكفي ثبوت لقائه لمن عاصره وسماعه منه ولو مرة واحدة حتى نقبل جميع حديثه عنه.
* ثم قال الحافظ :(ثَّم الطعن إما أن يكون : لكذب الراوي) إلى قوله:(أو سوء حفظه). لما انتهى الحافظ من بيان الرد بسبب السقط شرع ببيان الرد بسبب الطعن ، وقسمها إلى عشرة أشياء ثم رتبها على حسب الأشد فالأشد على سبيل التدلي ، خمسة تتعلق بالعدالة ، وهي : كذب الراوي في الحديث النبوي ، ثم التهمة بالكذب بأن لا يروى الحديث الباطل إلا من جهته. ثم فسقه بالقول أو الفعل ما لم يبلغ حد الكفر ، ثم الجهالة بخلوه من التعديل والتجريح ، ثم البدعة باعتقاد ما أحدث على خلاف المعروف عن النبي لا بمعاندة بل بنوع شبهة. وخمسة تتعلق بالضبط ، وهي : فحش غلط الراوي وكثرته ، ثم غفلته عن الإتقان ، ثم وهمه بأن يروي على سبيل التوهم ، ثم مخالفته للثقات ، ثم سوء حفظه ؛ بأن يكون له أغلاط لكنها أقل من جانب صوابه. هكذا رتب الحافظ الرد بسبب الطعن من حيث الضعف ، وفي هذا نظر :(1/41)
1- أن هذا التقسيم هو من اجتهادات الحافظ الشخصية فلا أعلم من رتب هذا الترتيب قبله حيث إن هذه المراتب ليست أرقاماً مسلمة لا نزاع في حدودها وأفرادها ، ثم إن غيره رتبها على حسب تسمية الحديث الضعيف نفسه لا على حسب الراوي كما سيأتي قريباً.
2- أن الحافظ رتبها على الأشد فالأشد فجعل أعلاها الكذب وأدناها سوء الحفـ! ، وفي بعض ما ذكره نظر ، فعلى سبيل المثال : جعله الفسق أخف طعناً من فحش الغلط يحتاج لتحقيق لأن الطعن بالفاسق يتعلق بأصل الديانة
.………………………………………………………………………………
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولخطورة الاعتماد على خبر الفاسق جاء في القرآن والسنة وجوب التحري في خبره أو شهادته ، بخلاف
فاحش الغلط مثلاً فالغالب أنه أتي من حفظه ، وقد قال ملا علي القاري في شرحه على ’’النزهة‘‘ "وفي تأخيرهما عن الفسق نظر ظاهر" ، وكذلك نص السيوطي في ’’التدريب‘‘ ضمن مبحث المنكر على أن حديث الفاسق يسمى المتروك لا كما قال الحافظ من عده منكراً.
3- ثم إن المحدثين لم يضعوا الفاسق ولا المبتدع ضمن مراتب الجرح على سبيل الموازنة ، أما الفاسق فلعلهم اكتفوا بمرتبة الكذاب والمتروك ، وأما البدعة فقد أشكل أمرها عليهم فاختلفوا في أثر الجرح بها حيث إن بعض أهل البدع قد يجمع بين الضبط والصدق.(1/42)
4- تداخل هذه المراتب عند الحافظ فمثلاً ما الفرق مثلاً بين قوله "أو وهمه" وبين قوله "أو مخالفته" ؟ إن المخالفة هي وهم في الحديث. قال ملا علي القاري في شرحه على ’’النزهة‘‘ :"ويرد على المصنف أنه لا يظهر الفرق بين الغفلة والوهم". وكذلك نجد أن الحافظ فرق بين رتبة المتهم بالكذب والذي عد حديثه متروكاً ، وبين فاحش الغلط والمغفل والذي عد حديثهما منكراً ، والمعروف أن حديث المغفل وهو عندهم الذي لا يدري حديثه من غيره ويدخل عليه ما ليس منه فيحدث به ، وكذا فاحش الغلط أن حديث هذا الصنف متروك لا منكر كما ذكر الحافظ في ’’الشرح‘‘ ، قال ابن أبي حاتم في ’’الجرح‘‘ ـ ونقله ابن رجب في ’’شرح العلل‘‘ ضمن مبحث الغلط الذي يرد به الراوي بتوسع ـ:"قيل لشعبة متى يترك حديث الرجل ؟ قال : إذا حدث عن المعروفين ما لا يعرف المعروفون ، وإذا أكثر الغلط ، وإذا اتهم بالكذب ، وإذا روى حديثاً غلطاً مجتمعاً عليه فلم يتهم نفسه فيتركه أ.هـ. وقال الرامهرمزي: ...والآخر يوهم والغالب على حديثه الوهم فهذا متروك الحديث أ.هـ. وقد نص السيوطي في ’’التدريب‘‘ ضمن مبحث المنكر على أن حديث كثير الغلط والفاسق وصاحب الغفلة يسمى المتروك لا فرق.
5- أن لازم ظاهر ترتيب الحافظ لأحاديث هؤلاء الرواة من حيث الضعف : الموضوع وهو حديث الكذاب ، ثم المتروك وهو حديث المتهم ، ثم المنكر وهو حديث فاحش الغلط والمغفل والفاسق ، ثم المعلل وهو حديث الواهم ، ثم المدرج والمقلوب والمزيد في متصل الأسانيد والمضطرب وهو حديث المخالف للثقات ، ثم حديث المجهول ، ثم حديث المبتدع ، ثم الشاذ والمختلط وهو حديث من ساء حفظه ، وقد خولف في هذا حيث قال المناوي في شرح النخبة ’’اليواقيت والدرر‘‘ :"واعلم أن ما جرى عليه المصنف من هذا الترتيب هو ما اختاره ، والموجود في كلام بعض المحدثين خلافه ، فقد قال الخطابي:"شرها الموضوع ـ وهذا
فالأول : الموضوع.(1/43)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
متفق عليه ـ ثم المقلوب ، ثم المجهول. وقال الزركشي في مختصره : فما ضعفه لا لعدم اتصاله سبعة أصناف: شرها الموضوع ، ثم المدرج ، ثم المقلوب ، ثم المنكر ، ثم الشاذ ، ثم المعلل ، ثم المضطرب. انتهى. قال الجلال السيوطي : وهذا ترتيب حسنٌ ، وينبغي جعل المتروك قبل المدرج ، وأن يقال فيما ضعفه لعدم اتصال : شره المعضل ، ثم المنقطع ، ثم المدلس ، ثم المرسل"أ.هـ.
* ثم قال الحافظ :(فالأول : الموضوع): ابتدأ الحافظ بالتفصيل بعد الإجمال حيث ذكر أعلى درجات الرد وهو ما يكون مردوداً بسبب كذب الراوي ، وهو ما يعبر عنه أهل الجرح بصيغ المبالغة إليه المنتهى في الكذب أو هو ركن الكذب ، ويليها : دجال أو وضاع ، ثم ما قيل فيه : يكذب أو يضع الحديث. ويسمى حديثه الموضوع والمصنوع والمختلق ، وسمي ما وضعه حديثاً باعتبار صورته لا حقيقته وإلا فليس هو من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه قد يختلق كلاماً من عنده أو يأخذ من كلام الحكماء فيرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، اللهم إلا إن كان المتن صحيحاً بإسناد موضوع فنعم.
* وأما حكم وضع الحديث: فحرام بإجماع العلماء بل هو من كبائر الذنوب لقوله - صلى الله عليه وسلم - فيما تواتر عنه في ’’الصحيحين‘‘ :"من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار". وفي هذا طرفان : حيث ذهب أبو المعالي الجويني إلى أن تعمد الكذب على رسول الله كفر مخرج عن الملة ، ويقابل ذلك الكرامية وبعض المتصوفة أنهم أجازوا الكذب على رسول الله في الترغيب والترهيب ، وزادوا زيادة باطلة في حديث :"من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار". كلمة :"ليضل الناس". والصحيح الوسط قول عامة أهل السنة من كونه من الكبائر العظيمة ، وقد يكفر بعضهم في بعض الصور كمن فعله طعناً في الدين وزندقة وتلبيساً على المسلمين في تحليل الحرام أو تحريم الحلال.(1/44)
* وأما حكم رواية الحديث الموضوع : فحرام بإجماع المسلمين إلا لمن يريد أن يبين وضعه وذلك للحديث السابق وغيره ، لكن مع هذا الإجماع فقد وقع بعض المحدثين فضلاً عن غيرهم في رواية الأحاديث الموضوعة في كتبهم دون بيان لحكمها ، وقد اعتذر لهم الذهبي مع إقراره بأن ذلك من ذنوبهم بأنهم أثبتوها بأسانيدها ، والناس يعرفون الوضع بمجرد النظر للإسناد ، وهذا اعتذار فيه ما فيه.
* وللحديث الموضوع قرائن يعرف بها تنقسم إلى قسمين ذكرها الحافظ :
(الأول) : قرائن في الراوي كإقراره بأنه وضع أحاديث ، أو يدعي سماعاً من شيخ فيتبين أن الشيخ مات قبل ولادته.
والثاني : المتروك. والثالث : المنكر على رأي ، وكذا الرابع والخامس.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(الثاني) : قرائن في المروي كأن يكون مناقضاً لنص القرآن والسنة أو الإجماع أو صريح العقل بحيث
لا يقبل شيء من ذلك التأويل مثل الأحاديث التي تبين متى قيام الساعة.
* والأسباب الحاملة لهؤلاء أن يضعوا الأحاديث : قد تكون زندقة وطعناً في الدين ، وقد تكون لغلبة الجهل كبعض المتعبدين ، أو فرط العصبية لمذهب أو فرقة ضالة ، أو تقرباً لبعض الرؤساء ، أو تكسباً للمال ، أو بقصد الإغراب والشهرة. وهناك طائفة وقعت بالكذب من غير تعمد : إما لضياع كتبهم واحتراقها فيحدث على التوهم ، وإما لاختلاط حصل له في آخر عمره فقلب المرويات(1/45)
* ثم قال الحافظ :(والثاني : المتروك). وهو الحديث الذي في إسناده راوٍ متهم بالكذب ، وتهمته لأنه يروي حديثاً أو أحاديث موضوعة مخالفة للقواعد المعلومة حين سبرت وجدت تدور على هذا الراوي ولا يتجه الحمل على سواه ، وأدخل الحافظ في حده من كذب في كلامه العادي. وهذا القسم من الحديث أفرده الحافظ ولم يذكره قبله ابن الصلاح ولا النووي ، ووضعهم مرتبة المتروك دون الموضوع لأن اتهام الراوي بالكذب مع تفرده لا يسوغ الحكم بالوضع عندهم ، ولكن هنا تنبيهات :
* أن الحافظ سمى حديث المتهم متروكاً ، والمعروف من استعمال المحدثين إطلاق لفظ ’’متروك‘‘ على الرواة لا على الأحاديث ، وقد يطلقون على حديثه بأنه موضوع أو باطل أو واه أو ساقط ، ونحو ذلك من العبارات.
* أنه تقدم لنا قريباً أن الراوي المتروك عند بعض المحدثين أعم من اقتصاره على من اتهم بالكذب ، حيث يدخلون في حده حديث فاحش الغلط والمغفل.
* ثم قال الحافظ :(والثالث : المنكر على رأي ، وكذا الرابع والخامس) : ذكر الحافظ المرتبة الثالثة من مراتب الحديث بعد الموضوع والمتروك : المنكر ، و يندرج تحته حديث ثلاثة أقسام: (1) فاحش الغلط ، (2) كثير الغفلة. (3) من ظهر فسقه. واحترز الحافظ في ’’الشرح‘‘ بقوله :"والثالث : المنكر على رأي من لا يشترط في المنكر قيد المخالفة" ؛ لأنه سبق أن ذكر تعريفاً آخر للمنكر بقيد المخالفة عند قوله في الأصل:(فإن خولف بأرجح فالراجح المحفوظ ، ومقابله : الشاذ ، ومع الضعف فالراجح المعروف ومقابله المنكر). فظهر أن المنكر له تعريفان ذكرهما الحافظ :
1- بقيد المخالفة ، وهو ما رواه الضعيف مخالفاً لمن هو أوثق منه.
ثم الوَهم إن اطلع عليه بالقرائنِ وجمع الطرق فالمُعَلَّلُ.(1/46)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ2- بدون قيد المخالفة ، وهو ما رواه فاحش الغلط وكثير الغفلة وظاهر الفسق.
ولا مشاحة في الاصطلاح إذا صار متداولاً معمولاً به ، إلا أنه ينبغي التنبيه على إشارات قد مرت معنا سابقاً حتى لا يقع الباحث في اضطراب المصطلحات:
* أن المتقدمين قد يطلقون المنكر على حديث الضعيف خالف أم لم يخالف ، و على الشاذ بتعريفيه السابقين من مخالفة الثقة أو تفرده بما يترجح خطئه فيه.
* أن جعل الحافظ حديث فاحش الغلط وكثير الغفلة في درجة حديث الفاسق فيه نظر ، لأن حديث الفاسق غير مقبول أصلاً سواء تبينت نكارته أم لا ، ولذا لا أعلم عند أهل الاصطلاح من يذكر حديث الفاسق أنه من قبيل المنكر ، بل هو أقرب إلى المتروك كما نص على ذلك السيوطي فيما تقدم قريباً ، وقد حدد مسلم حديث المنكر حين قال في ’’مقدمة صحيحه‘‘ :"وعلامة المنكر في حديث المحدث إذا ما عرضت روايته للحديث على رواية غيره من أهل الحفظ والرضا ، خالفت روايته روايتهم أو لم تكد توافقها ، فإذا كان الأغلب من حديثه كذلك كان مهجور الحديث غير مقبوله ولا مستعمله"أ.هـ.
* أن حديث المغفل وفاحش الغلط عند المحدثين من قبيل المتروك لا المنكر ، ولذا عد شعبة حديث المحدث إذا أكثر الغلط ، وإذا اتهم بالكذب ، وإذا روى حديثاً غلطاً مجتمعاً عليه فلم يتهم نفسه فيتركه ؛ أنه يترك.
* بالرغم من ذلك كله فإن حديث من ذكر الحافظ في القسم الثالث شديد الضعف لا يصلح عندهم للاعتبار في المتابعات والشواهد.(1/47)
* ثم قال الحافظ :(ثم الوَهم إن اطلع عليه بالقرائنِ وجمع الطرق فالمُعَلَّلُ) : ذكر الحافظ القسم السادس من أسباب الرد وهو الوهم الذي لا يعرف بالطعن بعدالة وضبط رجاله وإنما بأمر أدق : 1- القرائن، وهي المرجحات الخارجة ؛ ككون الراوي ممن لم يمارس حديث من روى عنه إما لكونه من غير بلده أو لكونه لازمه يسيراً أو بآخره. 2- جمع الطرق ، بحيث إذا جمعتها تبين لك أن هناك مخالفة في بعضها بوصل مرسل أو رفع موقوف أو زيادة في سنده أو متنه ؛ تعرف بمخالفة الأحفظ أو الأكثر. قال علي بن المديني : الباب إذا لم تجمع طرقه لم يتبين خطؤه. وقال الخطيب البغدادي:"السبيل إلى معرفة علة الحديث أن يجمع طرقه ، وينظر في اختلاف رواته ، ويعتبر بمكانهم من الحفظ ، ومنزلتهم في الإتقان
.………………………………………………………………………………
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والضبط".
* ولذا عرفوا المُعَلَّلُ : بأنه الحديث الذي فيه علة خفيه تقدح فيه مع أن الظاهر السلامة منها. والعلة لها شرطان :
1- أن يكون فيها غموض وخفاء ، فأما إن كانت بسبب طعن في العدلة أو الضبط أواتصال السند فليست بعلة اصطلاحية.
2- أن تكون قادحة في صحة الحديث ، فبعض العلل لا تقدح في صحة الحديث كإبدال راوٍ ثقة بآخر ثقة فهذه ليست بعلة اصطلاحية.(1/48)
* ولذا قال الحافظ في ’’الشرح’’ :"المعلل ، وهو من أغمض أنواع علوم الحديث وأدقها ، لا يقوم به إلا من رزقه الله تعالى فهماً ثاقباً وحفظاً واسعاً ومعرفة تامة بمراتب الرواة وملكة قوية بالأسانيد والمتون ، ولهذا لم يتكلم فيه إلا القليل من أهل هذا الشأن … وقد تقصر عبارة المعلل عن إقامة الحجة على دعواه كالصيرفي في نقد الدراهم". أقول : مثال ما ذكره الحافظ ما رواه ابن أبي حاتم في ’’العلل‘‘ قال : كنا نذكر حديث موسى بن أَعْيَن عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر ـ مرفوعاً ـ :"إن الرجل ليكون من أهل الصوم والصلاة والزكاة والحج " حتى ذكر سهام الخير ، "فما يجزى يوم القيامة إلا بقدر عقله" ، ليحيى بن معين سنتين أو ثلاثاً ، فيقول : هو باطل ؛ ولا يدفعه بشيء. حتى قدم زكريا بن عدي ، فحدثنا بهذا الحديث، عن عبيد الله بن عمرو عن إسحاق بن أبي فروة ؛ فأتيناه فأخبرناه ، فقال : هذا بابن أبي فروة أشبه منه بعبيد الله بن عمرو. ولذا نقل الخطيب في ’’الجامع‘‘ عن إمام العلل علي بن المديني أنه قال:"ربما أدركت علة حديث بعد أربعين سنة".
* من الملاحظ أننا لو نظرنا في بعض الكتب المؤلفة في العلل ككتاب ابن أبي حاتم والدارقطني وغيرهما ، فلن نجد أنها قد اقتصرت على إخراج الأحاديث المعلولة على المعنى الخاص الذي تقدم في تعريف العلة من اشتراط الغموض وأنها لا تعرف إلا بعد جمع الطرق ، بل ربما أوردوا فيها الحديث المعلول بمعناه الواسع إما بسبب كذب راويه أو فسقه أو غفلته أو تدليسه أو نكارة متنه ونحو ذلك.
* تقدم لنا في مبحث تعريف الحديث الصحيح أن تعريف الشاذ بمخالفة الثقة يدخل في معنى العلة ، لأنه سبب خفي يقدح في صحة الحديث يتوصل إليه عن طريق جمع الطرق ، وحينئذ لا فرق بينهما ، ولذا اضطر
ثم المُخَالفةُ إن كانتْ بتغييرِ السِّياقِ فمدرجُ الإسنادِ ، أو بدمج موقوف بمرفوع فمدرج المتن.(1/49)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحافظ في ’’النكت‘‘ إلى أن يعترف بتشابه المعلل والشاذ وتداخلهما جداً ، لكنني بينت أن تعريف الشاذ على معنى تفرد الثقة مع ترجيح الخطأ يتأتى التفريق بين المعلل والشاذ.
* ثم قال الحافظ :(ثم المُخَالفةُ إن كانتْ بتغييرِ السِّياقِ فمدرجُ الإسنادِ) : ذكر الحافظ القسم السابع من أسباب الرد وهي المخالفة في المتن أو الإسناد ، فذكر أولها المدرج الذي هو : تغيير سياق الإسناد أو إدخال لفظ في متن الحديث ليس منه. فهو إذاً قسمان :
(الأول) : مدرج الإسناد ، وذكر الحافظ له أربعة أمثله :
1- أن يروي جماعة الحديث بأسانيد مختلفة ، فيرويه عنهم راوٍ بجمع الكل على إسناد واحد من تلك الأسانيد ولا يبين الاختلاف. مثاله : حديث الترمذي عن بُنْدار عن عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان الثوري عن واصل ومنصور والأعمش عن أبي وائل عن عمرو بن شُرَحبيل عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال : قلت: يا رسول الله! أي الذنب أعظم… " الحديث. هكذا رواه محمد بن كثير العَبدي عن سفيان ، فرواية واصِل هذه مدرجة على رواية منصور والأعمش ، لأن واصلاً لم يذكر فيه عمراً ، بل رواه عن أبي وائل عن عبد الله ، وقد بين الإسنادين معاً يحيى القطان في روايته عن الثوري ، وفصل أحدهما عن الآخر.
2- أن يكون المتن عند راوٍ إلا طرفاً منه فإنه عنده بإسناد آخر ، فيرويه راوٍ عنه تاماً بالإسناد الأول. مثاله : ما رواه جماعة عن عاصم بن كليب عن أبيه عن وائل بن حجر في صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وفيه :"ثم جئتهم بعد ذلك في برد شديد فرأيت الناس عليهم جل الثياب تحرك أيديهم تحت الثياب" ، فقوله "ثم جئتهم"… ألخ ، ليس هو بهذا الإسناد ، وإنما أدرج لأنه من رواية عاصم عن عبد الجبار بن وائل عن بعض أهله عن وائل ، هكذا رواه جماعة فميزوا تحريك الأيادي من تحت الثياب وفصلوها من الحديث.(1/50)
3- أن يكون عند الراوي متنان مختلفان بإسنادين مختلفين ، فيرويهما راوٍ عنه مقتصراً على أحد الإسنادين، أو يروي أحد الحديثين بإسناده الخاص به ، لكن يزيد فيه من المتن الآخر ما ليس في المتن الأول. مثال الثاني سعيد بن أبي مريم عن مالك عن الزهري عن أنس رفعه:"لا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا". فقوله:"لا تنافسوا" ، أدرجه ابن أبي مريم من حديث آخر لمالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة مرفوعاً:"إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ، ولا تجسسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا".
4- أن يسوق الراوي الإسناد فيعرض له عارض ، فيقول كلاماً من عند نفسه ، فيظن أن ذلك هو متن ذلك
………………………………………………………………………………
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــالإسناد ، فيرويه عنه هكذا. مثاله : ما رواه ابن ماجه عن إسماعيل الطلحي عن ثابت بن موسى الزاهد عن
شريك عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر مرفوعاً:"من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه في النهار". قال الحاكم : دخل ثابت على شريك النخعي وهو يقول : حدثنا الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال - صلى الله عليه وسلم - ، وسكت ليكتب المستملي ، فلما نظر إلى ثابت قال : من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه في النهار. وقصده بذلك ثابتاً لزهده وتهجده ، فظن ثابت أنه متن ذلك الإسناد فكان يحدث به.
(الثاني) : مدرج المتن ، وعرفه الحافظ بأنه ما كان بدمج موقوف بمرفوع ، وهو أقسام من حيث مكانه في الحديث:
1- قد يقع الإدراج في أول المتن ، مثاله : حديث أبي هريرة قال قال - صلى الله عليه وسلم - :"أسبغوا الوضوء ويل للأعقاب من النار". فقوله :"أسبغوا الوضوء" مدرج من قول أبي هريرة كما بين في رواية البخاري عن أبي هريرة قال : أسبغوا الوضوء فإن أبا القاسم قال:"ويلٌ للأعقاب من النار".(1/51)
2- وقد يقع في وسط المتن ، مثاله : ما رواه الدارقطني من رواية عبد الحميد بن جعفر عن هشام بن عروة عن أبيه عن بسرة بنت صفوان مرفوعاً:"من مس ذكره أو أنثييه أو رفغيه ـ وهما أصول الفخذين من الباطن ـ فليتوضاً". قال الدارقطني : كذا قال عبد الحميد عن هشام ووهم في ذكر الانثين والرفغ وإدراجه لذلك من حديث بسرة ، والمحفوظ أنه قول عروة لا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكذا رواه الثقات عن هشام.
3- وقد يقع في آخر المتن ، مثاله : حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:"للعبد للمملوك أجران ، والذي نفسي بيده لولا الحج والجهاد وبر أمِّي لتمنيت أن أكون عبداً مملوكاً". فقول:"والذي نفسي بيده…"ألخ ، ليس من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وإنما من قول أبي هريرة.
* وذكر الحافظ أن الإدراج يدرك : بأمور منها :
1- ورود رواية مفصلة للقدر المدرج مما أدرج فيه ، كما مر في الأمثلة.
2- التنصيص على الإدراج من قبل الراوي ، (ففي البخاري : قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : "أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ مَا تَرَكَ غِنًى وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ. تَقُولُ الْمَرْأَةُ إِمَّا أَنْ تُطْعِمَنِي وَإِمَّا أَنْ تُطَلِّقَنِي وَيَقُولُ الْعَبْدُ أَطْعِمْنِي وَاسْتَعْمِلْنِي وَيَقُولُ الِابْنُ أَطْعِمْنِي إِلَى مَنْ تَدَعُنِي. فَقَالُوا يَا أَبَا هُرَيْرَةَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : لاَ هَذَا مِنْ كِيسِ أَبِي هُرَيْرَةَ). أو من قبل بعض الأئمة وقد ينازع كما في الانثيين والرفغ أو حديث "فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل".
3- استحالة كون النبي قال كقول أبي هريرة: والذي نفسي بيده لولا الحج والجهاد وبر أمِّي لتمنيت أن أكون عبداً مملوكاً.
أو بتقديم أو تأخير : فالمقلوب. أو بزيادة راوٍ فالمزيد في متصل الأسانيد.(1/52)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* حكم الإدراج: حرام بالإجماع بجميع أقسامه ، وفاعله عمداً ساقط العدالة إلا ما كان لتفسير غريب.
لكن لاحظنا أن غالب الإدراجات السابقة كانت عن غير قصد من الرواة بل هي من قبيل الوهم.
* يلاحظ في هذا الباب :
* أن الحافظ ذكر الإدراج في قسم المخالفة ، وليس كل إدراج يكون بمخالفة ، بل لربما عرفنا الإدراج في حديث ليس له إلا طريق واحد.
* يلاحظ التداخل عند الحافظ بين هذا القسم وهو المخالفة وبين السبب السادس للطعن وهو الوهم الذي نتيجته المعلل ، لأن المخالفة هنا هي من الوهم أيضاً في الغالب. وقد نص الحافظ في ’’النكت‘‘ على أن المدرج وغيره من صور التغيير في الإسناد داخلة في المعلل والشاذ.
* ثم قال الحافظ :(أو بتقديم أو تأخير : فالمقلوب): ذكر الحافظ القسم الثاني من المخالفة ، وهي تقديم أو تأخير ، وهو كذلك قسمان :
(الأول) : مقلوب الإسناد أي في الأسماء ، ومثاله على ما قال الحافظ : أن يأتي في الإسناد مُرَّة بن كعب ، فيغلط أحد الرواة فيبدله براوٍ آخر أسمه اسم أبي الأول كعب بن مرة في طبقة الأول وهماً ، وأشد منه إذا اشتركا في بعض الشيوخ والتلاميذ وأحدهما ضعيف. وأغفل الحافظ نوعاً من المقلوب وهو إبدال إسناد مشهور بإسناد آخر مثله ، مثل رواية مالك عن الزهري عن سالم عن ابن عمر ، يبدله بعضهم برواية مالك عن نافع عن ابن عمر. والحافظ ذكر هذه الصورة في المضطرب ولا إشكال.(1/53)
(الثاني) : مقلوب المتن : ومثاله الحديث الذي رواه مسلم :"سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله" ، فذكر "رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله" ، ووهم في الرواة وإنما هو :" لا تعلم شماله ما تنفق يمينه". ومن قلب المتن أن يكون الحديث فعلياً فيقلبه قولياً أو العكس كما فعل أحد الرواة وهو عبد الواحد بن زياد عن الأعمش فجعل ما رواه الثقات عن الأعمش أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى ركعتي الفجر اضطجع من فعله أمراً "فليضطجع".
* ثم قال الحافظ :(أو بزيادة راوٍ فالمزيد في متصل الأسانيد): ذكر الحافظ نوعاً آخر من قسم المخالفة ، وهو المزيد في متصل الأسانيد وذلك بأن نجد إسناداً متصلاً يرويه جماعة فيأتي بعض الرواة فيهم برواية الإسناد نفسه بزيادة بين راويين في هذا الإسناد نازلاً والصواب دون ذكره. ومثاله ما رواه مسلم عن عبد الله بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ بُسْرِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلانِيِّ عَنْ
أو بإبدالِهِ ولا مرجِّحَ فالمُضْطَرِب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وَاثِلَةَ بْنِ الأَسْقَعِ عَنْ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيِّ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:"لا تُصَلُّوا إِلَى الْقُبُورِ وَلا تَجْلِسُوا عَلَيْهَا". هذا الحديث فيه المزيد في متصل الأسانيد ؛ لأن ذكر أبي إدريس وهم ، قال أبو حاتم الرازي: كثيراً ما يحدث بُسْرٌ عن أبي إدريس ، فوهم ابن المبارك ، وليس كذلك ، بل هو مما سمعه بُسْرٌ من واثلة.
* ويشترط للحكم بالمزيد في متصل الأسانيد شرطان :(1/54)
1- أن يقع التصريح بالسماع بين الراويين بموطن الزيادة في الإسناد الناقص أي في رواية من لم يزدها ، قال الحافظ : وإلا فمتى كان معنعناً مثلاً ترجحت الزيادة. وتنزيل هذا الشرط في المثال السابق أن يصرح بُسْرِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بسماعه مِنْ وَاثِلَةَ في أحد طرق الحديث.
2- أن يترجح جانب الحذف بقرينة دالة على الوهم ، ككون الذي لم يزدها أتقن ممن زادها أو أكثر عدداً.
* واقتصر الحافظ ابن حجر في ’’النزهة‘‘ على الشرط الأول ، ولا يكفي ؛ لأن الراوي قد يصرح بالسماع في الرواية الناقصة ، ولا يترجح جانب الزيادة لكون الراوي سمع من راوٍ بواسطة ثم سمع منه بدونها ، أو لكون التصريح بالسماع نفسه وهم في الرواية الناقصة.
* ويجب التنبيه هنا على أن هذه الصورة وهي مجيء زيادة راو في بعض الأسانيد دون بعضها تحتمل ثلاثة أمور وتحدد القرائن وأقوال العلماء أيها الراجح:
(الأول) : أن يترجح أن زيادة هذا الراوي غلط ، فهذا هو المزيد في متصل الأسانيد.
(الثاني) : أن يترجح أن زيادة هذا الراوي في الإسناد هي الصواب ، فيكون الإسناد الناقص منقطعاً ، وبهذا يستدل المحدثون على أن الذي رواه ناقصاً بالعنعنة قد دلس.
(الثالث): أن يترجح أن كلا الطريقين صحيح بمعنى أن الراوي سمعه من شيخ بواسطة ثم سمعه من شيخ مباشرة. وقد ألف الخطيب كتاباً سماه "تمييز المزيد في متصل الأسانيد".
* ثم قال الحافظ :(أو بإبدالِهِ ولا مرجِّحَ فالمُضْطَرِب): ذكر الحافظ القسم الرابع من المخالفة ، وهي الاضطراب بإبدال الراوي بغيره :(1/55)
* وتعريف المضطرب : هو الحديث الذي وقع فيه اختلاف من أي نوع من الاختلافات : إما بوصل وإرسال ، أو وقف ورفع ، أو زيادة راوٍ ونقصه ، أو إبداله بآخر ، أو زيادة مشكلة في متن وغير ذلك ، مع تساوي الوجوه في القوة وتعذر الترجيح . والحافظ اقتصر في حدِّ المضطرب على الاختلاف في إبدال راوٍ بآخر وهو أحد أقسام المقلوب السابق لكن الحافظ أفرده ، ويعرف أن المضطرب له شرطان للحكم به :
………………………………………………………………………………
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- أن يوجد اختلاف قادح ، فإن من الاختلاف ما ليس بقادح بل هو في ’’الصحيحين‘‘.
2- أن يكون متساوياً بالقوة ، فإن أمكن الترجيح بأحد وجوه الترجيح كثقة راوٍ أو كثرة عدد فلا اضطراب.
* قال الحافظ أن الاضطراب قد يقع في المتن ،لكن قل أن يحكم المحدث على الحديث بالاضطراب بالنسبة إلى الاختلاف في المتن دون الإسناد ، ولنذكر مثالين على المضطرب :
(الأول ) : الاضطراب في السند : مثاله حديث يرويه شهر عن عبد الرحمن بن غُنْم عن معاذ بن جبل ، قَالَ : قَالَ رَسُوْلُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم -:"مَنْ قَالَ حِيْنَ يَنْصَرِفُ مِنْ صَلاَةِ الغَدَاةِ : لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ عَشْرَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَكَلَّمَ ، كُتِبَ لَهُ بِهِنَّ عَشْرُ …الحديث مضطرب لأن شهر بن حوشب يرويه عن عبد الرحمن بن غُنْم عن معاذ ، ومرة عن ابن غُنْم عن أبي ذر. ومرة عن عبد الرحمن بن غُنْم عن أبي هريرة، وأخرى عن أبي أمامة. ، وعن أم سلمة. ورواه مرة عن ابن غُنْم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً. وقد حكم الدارقطني على هذا الحديث في ’’علله‘‘ وابن حجر في ’’نتائج الأفكار‘‘بأنه مضطرب وأن الاضطراب من شهر بن حوشب.(1/56)
(الثاني) : اضطراب المتن : ومثاله حديث يروى عن فاطمة بنت قيس في الزكاة : جاء بلفظ:"إن في المال لحقاً سوى الزكاة" ، وروي بلفظ:"ليس في المال حق سوى الزكاة" ، فهذا اضطراب لا يقبل الجمع أو التأويل.
* وقد يقع اختلاف في حديث ولا يعتبر مضطرباً لاتضاح الصواب فيه كما تقدم في شروط المضطرب : مثاله: حديث أبي إسحاق عن أبي بردة أبي موسى مرفوعاً :"لا نكاح إلا بولي" ، رواه سفيان وشعبة عن أبي إسحاق عن أبي بردة مرسلاً. ورواه إسرائيل بن يونس وزهير بن معاوية وآخرون عن أبي إسحاق عن أبي بردة عن أبي موسى متصلاً. والأصل أن يحكم للحديث بالإرسال لاتفاق الجبلين شعبة وسفيان أو بالإضطراب على الأقل لكثرة المخالفين ، لكن صحح الحديث أئمة الحديث كعبد الرحمن بن مهدي وابن المديني والبخاري وغيرهم ولم يجعلوه مضطرباً. وذكر الترمذي أن شعبة وسفيان سمعا الحديث في مجلس واحد مرسلاً ، والباقون سمعوه في مجالس متصلاً فهو أصح. قال ابن حبان : سمع هذا الخبر أبو بردة ، عن أبي موسى مرفوعاً ، فمرة كان يحدث به عن أبيه مسنداً ، ومرة يرسله. وسمعه أبو إسحاق من أبي بردة مرسلاً ومسنداً معاً. فمرة كان يحدث به مرفوعاً ، وتارة يرسله ، فالخبر صحيح مرسلاً ومسنداً لا شك ولا ارتياب في صحته".
وقد يقعُ الإِبْدَالُ عَمداً امْتِحَاناً. أو بتغيير مع بقاء السِّيَاقِ فالمُصَحَّفُ والمُحَرَّفُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ثم قال الحافظ :( وقد يقعُ الإِبْدَالُ عَمداً امْتِحَاناً) : لما قرر الحافظ أن الاضطراب هو إبدال راوٍ براوٍ ولا مرجح ، ذكر أنه قد يقع الإبدال عمداً ، وهو ثلاثة أقسام :(1/57)
(الأول) : أن يقع الإبدال عمداً امتحاناً كما فعل أهل بغداد مع البخاري أن جاؤا بمائة حديث وعشرة رواة، فجعلوا كل عشرة أحاديث عند راوٍ من هؤلاء العشرة لكن المتون العشرة التي عند أحدهم ركبوا عليها أسانيد التي عند غيره ، فلما سردوها كان البخاري يقول عند كل واحد لا أعرفه ، حتى قال عوامهم لا يعرف شيئاً لكنه بعد فراغهم قال لكل واحد منهم : أنت قلت كذا ، والصواب كذا. قال العراقي : ليس العجب أن يرد غير الصحيح إلى الصحيح ولكن العجب كيف حفظ الخطأ من أول وهلة. أفاد الحافظ في الشرح جوازه بشرط أن لا يستمر عليه بل ينتهي بانتهاء الحاجة.
(الثاني) : أن يقع الإبدال عمداً بقصد الإغراب وهو نوع من الوضع والكذب كما فعل حماد بن عمرو النُّصيَبي حينما جاء للحديث المعروف من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رفعه:"لا تبدؤا اليهود والنصارى بالسلام…" الحديث. جاء حماد فأغرب به حيث كذب فيه فجعله عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة. فأبدل سهيلاً بالأعمش.
(الثالث) : أن يقع الإبدال غلطاً ، قال الحافظ في ’’الشرح‘‘ : فيعتبر من المقلوب أو المعلل. وهذا من الحافظ إقرار بأن هذا التفصيل الذي اصطلحه في بيان الرد بالمخالفة فيه تداخل. وأنه لا يمكن تصور وجود حد يميز في الواقع العملي بين المعلل والمضطرب فيما إذا كان الاضطراب بسبب إبدال راوٍ بآخر غلطاً ونحوه ؛ لأنه اضطراب وعلة في نفس الأمر. وإنما يتميز كل منهما بتنزيل تعريفه على المسألة.
* ثم قال الحافظ :( أو بتغيير مع بقاء السِّيَاقِ فالمُصَحَّفُ والمُحَرَّفُ) : ذكر هنا القسم الثاني من الإبدال وهو بتغيير النقط أو الشكل مع بقاء صورة الكلمة ، وهو على اصطلاح الحافظ قسمان :(1/58)
(الأول) : المُصَحَّف : وهو الذي يكون التغيير فيه بسبب النقط نتيجة لسوء الخط أو لضعف البصر أو لعدم النقط أصلاً ، ومثاله : أن يبدل يَسَار بَبَشَّار. وقد ذكروا ليحيى بن معين في ذلك تصحيفاً لندرة ذلك عنه ، حين صحف العوام بن مُرَاجِم فجعلها العوام بن مُزَاحِم ؛ فانتقلت نقطة الجيم إلى الراء.
(الثاني) : المُحَرَّفُ : وهو الذي يكون التغيير فيه بسبب تشكيل الحروف ، ومثاله : عَبِيدة السلماني من لا يعرفه يقول : عُبَيْدة. ومثله بُشَير بن كعب يصحف ببَشِير ، وعُقَيل بن خالد يصحف بَعَقِيل.
ولا يجوز تغيير المتن بالنقص و المرادف إلا لعالم بما يحيل المعاني.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* اصطلح الحافظ على التفريق بين المصحف والمحرف ، وكلا الصنفين في كلام المصنفين من التصحيف ، ولذا ألف طائفة من المحدثين في التصحيف كالدارقطني والعسكري فأدخلوا فيه القسمين.
* وأما التقسيم المشهور عندهم لا من حيث شكل الكلمة بل من حيث نوع الخطأ ، فهو قسمان:
(الأول) : تصحيف معنوي كأن يفهم الحديث على غير معناه فعبر عنه بالخطأ كالحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى إلى عنَزَة: بالتحريك أي عصا صغيرة ، ففهم أنها عَنْزة بإسكان النون وهي البهيمة فقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى إلى شاة.
(الثاني) : تصحيف لفظي ، وهو قسمان :
1- تصحيف إسناد كمثال تصحيف يحيى بن معين العوام بن مُرَاجِم للعوام بن مُزَاحِم كما مر.
2- تصحيف متن ، ومثاله: حديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجر في المسجد" ، صحفها أحد الرواة أنه - صلى الله عليه وسلم - احتجم بالمسجد. وذكر الحافظ أن التصحيف أكثره يقع في المتن.(1/59)
* وقسموا كذلك التصحيف من حيث الحاسة التي وقع منها التصحيف إلى: تحصيف بصر ، مثل حديث:"من صام رمضان واتبعه ستاً من شوال" صحفه بعضهم فقال:"وشيئاً من شوال". وتصحيف سمع لتقارب مخارج الكلمات ، كأن يساق السند الذي فيه عاصم الأحول فيظنه واصلاً الحدب.
* ثم قال الحافظ :( ولا يجوز تغيير المتن بالنقص و المرادف إلا لعالم بما يحيل المعاني) : هذا استطراد من الحافظ بعد ذكر التصحيف ليبين مسألة مهمة : وهي تغيير المتن بالنقص والاختصار ، أو تغييره بروايته بالمعنى. مثاله : ما جاء في ’’الصحيحين‘‘ من قوله - صلى الله عليه وسلم -:"اعْتَدِلُوا فِي السُّجُودِ ، وَلا يَبْسُطْ أَحَدُكُمْ ذِرَاعَيْهِ انْبِسَاطَ الْكَلْبِ ". جاء في رواية في بعض السنن:"وَلا يَفْتَرِشْ أَحَدُكُمْ ذِرَاعَيْهِ افْتِرَاشَ الْكَلْبِ". وفي أخرى للنسائي:"اعْتَدِلُوا فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ". وما جاء في ’’الصحيحين‘‘من قوله - صلى الله عليه وسلم -:"أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ ". جاء في رواية للبخاري:"قَالَ أُمِرْنَا أَنْ نَسْجُدَ". وفي رواية لأصحاب السنن:"أُمِرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -". ومثله كثير تجد أن الروايات فيها نوع من التعبير الخاص لبعض الرواة مما لا يحيل المعنى.
* ذكر الحافظ في ’’الشرح‘‘ أن المحدثين مختلفون في جواز هذا الفعل وأن الخلاف فيه شهير ، وأن الصحيح في المسألتين قول الجمهور بجوازه بشرط أن يكون من عالم بمدلولات الألفاظ وبما يحيل المعاني ، بخلاف
فإن خفي المعنى احتيج إلى شرح الغريب وبيان المشكل.(1/60)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الجاهل فإنه : قد يحيل المراد من الحديث تماماً كما تقدم معنا أن هناك من تحمل حديث النبي- صلى الله عليه وسلم - أنه صلى إلى عَنَزة ـ وهي العصا ـ ، فأداه بالمعنى أن النبي- صلى الله عليه وسلم - صلى إلى شاة ظاناً أنها عَنْزَة ، وكذلك قد ينقص ما له تعلق بالحديث كترك الاستثناء في مثل قوله- صلى الله عليه وسلم - :"لا يباع الذهب بالذهب إلا سواء بسواء" ، ولكن ينبه هنا على أمور :
1- أن الأمر قد استقر على ما قرره الحافظ من جواز الرواية بالمعنى للعالم ، حتى قال السخاوي : كاد الأمر أن يكون إجماعاً على جواز الرواية بالمعنى بشرطه.
2- أنه مع ذلك فالأولى بلا شك الإتيان بالحديث بلفظه.
3- أنه إذا روى بالمعنى بشرطه فعليه أن يقول بعده : أو نحو ذلك ، بمعناه. حتى يعلم أنك لم تسقه بلفظه.
4- أن الرواية بنقص الرواية دون تغيير للمعنى لا إشكال في جوازها ولم يختلف فيه لأن غايتها الاقتصار على بعض الحديث لحاجة الاستدلال به دون تغيير.
5- أنه عند النظر في الأحاديث علينا أن ننظر فيما اتفق عليه الثقات من رواة الحديث لنصل إلى حقيقة لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة في مسائل الأحكام.
* ثم قال الحافظ :( فإن خفي المعنى احتيج إلى شرح الغريب وبيان المشكل) : انتقل الحافظ هنا إلى مسألة خارجة عن حدود فن المصطلح وهي تأتي بعد تحقق شروط قبول الحديث ، وهي قسمان :(1/61)
(الأولى) : علم غريب الحديث : وهي الألفاظ التي ترد في متون الأحاديث ويكون في معناها شيء من الخفاء ، لأن كثيراً من الألفاظ قد قل استعمالها و لكونها لغة لبعض العرب ، فأبو هريرة لما روى حديث المرأتين اللتين اختصمتا في الغلام وفيه ذكر السكين ، قال : إنه لم يسمع بالسكين إلا يومئذ. وهذا ابن عباس يذكر أنه لم يعلم معنى كلمة فاطر في القرآن إلا لما سمع رجلين من العرب يختصمان في بئر ويقول أحدهما: أنا فطرتها. وارجع إلى حديث أم زرع عند الشيخين لتجد من عجائب الألفاظ التي احتاج العلماء لوضع مصنفات حتى يبينوا ألفاظه ولنأخذ مثالاً من قول إحدى النساء حين قَالَتْ:"زَوْجِي الْعَشَنَّقُ إِنْ أَنْطِقْ أُطَلَّقْ وَإِنْ أَسْكُتْ"، وقالت أخرى:"زَوْجِي غَيَايَاءُ أَوْ عَيَايَاءُ طَبَاقَاءُ كُلُّ دَاءٍ لَهُ دَاءٌ شَجَّكِ أَوْ فَلَّكِ أَوْ جَمَعَ كُلاًّ لَكِ". قال العلماء: فَالْعَشَنَّق بِعَيْنٍ مُهْمَلَة مَفْتُوحَة ثُمَّ شِين مُعْجَمَة مَفْتُوحَة ثُمَّ نُون مُشَدَّدَة ثُمَّ قَاف , وَهُوَ الطَّوِيل ,
وَمَعْنَاهُ لَيْسَ فِيهِ أَكْثَر مِنْ طُول بِلا نَفْع , فَإِنْ ذَكَرْت عُيُوبه طَلَّقَنِي , وَإِنْ سَكَتّ عَنْهَا عَلَّقَنِي , فَتَرَكَنِي
ثم الجهالة ، وسببها أن الراوي قد تكثُر نعوتُهُ فيذكر بغير ما اشتهر بع لغرض ، وصنفوا فيه "الموَضِّح".(1/62)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لا عَزْبَاء وَلا مُزَوَّجَة. وقالوا : ( غَيَايَاء ) وَهُوَ مَأْخُوذ مِنْ الْغَيَايَة , وَهِيَ الظُّلْمَة , وَمَعْنَاهُ لا يَهْتَدِي إِلَى سِلْك, أَوْ أَنَّهَا وَصَفَتْهُ بِثِقَلِ الرُّوح , أَوْ يَكُون غَيَايَاء مِنْ الْغَيّ وَهُوَ الانْهِمَاك فِي الشَّرّ , أَوْ مِنْ الْغَيّ الَّذِي هُوَ الْخَيْبَة. وأما ( عَيَايَاء ) : بِالْمُهْمَلَةِ فهُوَ الْعِنِّين الَّذِي تَعِيبُهُ مُبَاضَعَة النِّسَاء , وَيَعْجِز عَنْهَا. وَأَمَّا ( طَبَاقَاء ) فَمَعْنَاهُ الْمُطْبَقَة عَلَيْهِ أُمُوره حُمْقًا , وَقَوْلهَا : ( شَجَّك ) أَيْ جَرَحَك فِي الرَّأْس , و( فَلَّك ) الْفَلُّ الْكَسْر وَالضَّرْب. وَمَعْنَاهُ أَنَّهَا مَعَهُ بَيْن شَجّ رَأْس وَضَرْب وَكَسْر عُضْو أَوْ جَمْع بَيْنهمَا . وَقَوْلهَا : ( كُلّ دَاء لَهُ دَاء ) أَيْ جَمِيع أَدْوَاء النَّاس مُجْتَمِعَة فِيهِ.
* ذكر العلماء أن هذا فن يقبح الجهل به ، وأقبح منه أن يتكلم في معنى كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من لا يعلمه ، ولما سئل الإمام أحمد عن حرف من غريب الحديث ، قال : سلوا أصحاب الغريب فإني أكره أن أتكلم في قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالظن. ولذا فقد صنف أهل العلم في ذلك مصنفات نافعة كغريب الحديث لأبي عبيد القاسم بن سلام ثم كتاب ابن قتيبة الدينَوري ثم كتاب الخطابي وغيرهم ، وقد جمع ما فيها وزاد عليها ابن الأثير في كتابه "النهاية في غريب الحديث" ، رتبه على الحروف بإرجاع كلمات الأحاديث إلى أصولها.(1/63)
(الثاني) : علم مشكل الحديث ، وهو أن يكون اللفظ مستعملاً لكن في تحديد مدلوله دقة ، أي أن الخفاء يكون في المعنى ، فهو الذي يحتاج للرجوع للكتب التي تهتم بالجمع بين ما ظاهره التعارض بين الأحاديث مثل : كتب مختلف الحديث" و :مشكل الآثار" ، وقد تقدم ذكرها عند قول الحافظ في الحديث :"ثم المقبول إن سلم من المعارضة فهو المحكم ، وإن عورض بمثله : فإن أمكن الجمع فمختلف الحديث" ، ومثل له الحافظ هناك بحديث:"لاعدوى ولا طيرة" ، عارضه حديث:"فر من المجذوم فرارك من الأسد" ، وأن الجمع أن النفي لما كان يعتقده أهل الجاهلية من أن الأمراض تنتقل بدون قدر وذكرت هناك نوعاً يعتني بمثل هذه الأحاديث وهي الكتب المسماة ’’تهذيب الآثار‘‘.
* ثم قال الحافظ :( ثم الجهالة ، وسببها …"ألخ) : انتقل الحافظ للقسم التالي من أقسام المردود بعد المخالفة وهي الجهالة ، وقد ذكر الحافظ ثلاثة أسباب للجهالة :
(الأول) : أن الراوي قد تكثر نعوته من اسم أو كنية أو لقب أو صفة أو حرفة أو نسب ، فيشتهر بشيء منها ، فيذكر بغير ما اشتهر به لغرض من الأغراض فلا يعرف عندئذ ، ومثل الحافظ بشخص اسمه :
وقد يكون مقلاً فلا يكثُر الأخذُ عنه ، وصنفوا فيه "الوُحْدَانَ". أو لا يُسَمى اختصاراً ، وفيه "المبهمات". ولا يقبلُ المُبهَمُ ولوأُبْهِمَ بَلْفظِ التَّعْدِيلِ على الأَصَحِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
محمد بن السائب الكلبي ، وهو متروك الحديث. كان بعض المدلسين يروون عنه فيذكرونه بما لم يشتهر به؛(1/64)
فتارة يسميه البعض فينسبه إلى جده فيقول : محمد بن بشر ، وتارة يسميه بعضهم حماد بن السائب ، وتارة يكنيه بعضهم أبا النضر ، وبعضهم أبا سعيد ، وبعضهم أبا هشام ، فصار يظن أنه جماعة وهو واحد. ومثله محمد بن سعيد المصلوب وضاع مشهور ، دلسوا اسمه كثيراً ، حتى ذكر بعض الحفاظ أنه جمع الأسماء التي سمي به مع الكنى والألقاب والأنساب فزادت على مائة وهي لرجل واحد. (فائدة ): وذكر الحافظ أن الأئمة صنفوا في هذا لكي لا يقع الباحث في وصف الراوي بوصف لا يستحقه بسبب ذكره بما لم يشتهر ، ومنها "الموضح في أوهام الجمع والتفريق" للخطيب ، وطريقته في الكتاب : أن يأتي لراوٍ ذكر بأسماء أو بكنى أو بألقاب مختلفة فيعده بعض المحدثين اثنين أو ثلاثة ، فيقول الخطيب : إنه شخص واحد ويسوق الأسانيد والطرق المبينة لذلك.
(الثاني) : أن الراوي لا يُسَمى اختصاراً ، كأن يقول أحدهم : حدثني رجل ، أو شيخ. وهذا يسمى المبهم. وقال : إنه عرف هذا عند المحدثين باسم "المبهمات" ، وألفت كتب فيه اشتملت على مبهمات المتن والإسناد ككتاب الخطيب "الأسماء المحكمة في الأنباء المحكمة" ، وكتاب أبي زرعة العراقي "المستفاد من مبهمات المتن والإسناد". ومن المعلوم أن معرفة مبهمات الإسناد أهم من معرفة مبهمات المتن ، لأن مبهمات المتن لا يترتب عليها كبير فائدة فلا يضيرنا إذا لم نعرف المرأة التي وجدت ابنها في الحرب فضمته إلى صدرها وأرضعته ، لكن مبهمات الإسناد يترتب عليها قبول الحديث أو رده. وهنا تنبيهان :(1/65)
* استطرد الحافظ في ’’الشرح‘‘ إلى أن حديث المبهم غير مقبول لأن شرط قبول الخبر عدالة راويه ، ومن أبهم اسمه لا تعرف عينه ، فكيف تُعرف عدالته ؟ ولو أبهم بلفظ التعديل ؛ كأن يقول أحدهم : حدثني الثقة. فلا يقبل لأنه يمكن أن يكون ثقة عنده مجروح عند غيره ، وقد اشتهر أنه ما من محدث إلا روى عمن يحسبه ثقة وهو ضعيف عند المحدثين أو وثقه ، كما وثق الإمام مالك عبد الكريم بن أبي المخارق ، قال ابن عبد البر : رآه يصلي فأعجبته صلاته ، ولم يخبر أمره لأنه ليس من أهل المدينة.
** صرح الحافظ أنه يُستدل على معرفة المبهم بوروده من طريق أخرى. ويزاد على ما ذكره أنه يعرف من ذكر بغير ما اشتهر به بما ذكر الحافظ وبتنصيص أحد أئمة الحديث أنه هو فلان : كما فعل أبو حاتم مع بقية بن الوليد حينما روى عن عبيد الله بن عمرو الرَّقي عن إسحاق بن أبي فروة عن نافع عن ابن عمر
فإن سمي وانفرد واحد عنه فمجهول العين ، أو اثنان فصاعداً ولم يوثق فمجهول
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مرفوعاً :"لا تحمدوا إسلام المرء حتى تعرفوا عقدة رأيه" ، فرواه بقية هكذا : عن أبي وهب الأسدي عن نافع عن ابن عمر ، فكنى عبيد الله بكنية أحد أبنائه ولم يشتهر بها ، ونسبه لبني أسد وهو منهم ولم يعرف بها كذلك ، وأسقط إسحاق بن أبي فروة لأنه متروك فدلس تدليس التسوية. فعرف أبو حاتم ذلك لما نظر في تلاميذ نافع فعرف أنه من رواية ابن أبي فروة ، وأن شيخ بقية هو عبيد الله الرقي كنيته أبو وهب ونسبته لبني أسد فنقل لنا ابنه ذلك في كتاب ’’العلل’’.(1/66)
(الثالث) : أن الراوي قد يكون مقلاً ليس مشهوراً برواية الحديث ، إما لأنه لم يرو إلا أحاديث يسيرة ربما تكون حديثاً أو حديثين فلم يرو عنه إلا القليل ، وبما أن وسيلة المحدثين لتوثيق الرواة هي أمران : (الأول) : تنصيص من عاصره ولقيه من المحدثين على ثقته. (الثاني) : كثرة حديثه لمقارنتها بأحاديث الرواة الذين شاركوه في الرواية ليعرف مقدار ضبطه. وهذا الراوي لم يوثقه أحد ممن عاصره من أهل العلم ، وليس عنده من الحديث ما يمكن معه معرفة مقدار ذلك ، ومثال ذلك أنه لما سأل ابن أبي حاتم أباه عن راوٍ يدعى غالب أبو الهذيل: "يحتج به ؟ قال :"وأي شيء عنده ؟ عنده قليل" ؛ وهذا الحافظ ابن عدي في ’’الكامل‘‘الذي صنفه لسبر أحوال الرواة يقوم بالاعتذار أحياناً عن بيان حال راوٍ لقلة حديثه كما في ترجمة سلم العلوي:" قليل الحديث جداً ، ولا أعلم له جميع ما يروي إلا دون خمسة أو فوقها قليل ، وبهذا المقدار لا يعتبر فيه حديثه أنه صدوق أو ضعيف. *وذكر الحافظ أنهم صنفوا فيمن لم يرو عنه إلا واحد أو اثنان "الوحدان" ككتاب مسلم والنسائي وأبو الفتح الزدي. وهنا تنبيهان :
* قدمت السبب الثالث على السبب الثاني في ترتيب الحافظ لأنه أقرب وحتى لا ينقطع الكلام في بحث المجهول ، وكذلك لا بد من أن يعلم أن السببين الأولين مما ذكره الحافظ للجهالة ،و هي بسبب كثرة الكنى والإبهام هي جهالة مفتعلة من قبل بعض الرواة ، أي جهالة في نظر الباحث لا في حقيقة الأمر ، ولذا صرح الحافظ أنه يستدل على معرفة المبهم بوروده من طريق أخرى ، أما الجهالة الأصليه فهي ما ذكرته في السبب الثالث من قلة حديث الراوي وقلة الآخذين عنه.
* ثم قال الحافظ :(فإن سمي وانفرد واحد عنه فمجهول …ألخ) : استطر الحافظ هنا بعد أن بين أسباب الجهالة لبيان تعريف الجهالة بقسميها :
(القسم الأول) : مجهول العين : وهو من لم يرو عنه إلا واحد ولم يوثق.(1/67)
(القسم الثاني) : مجهول الحال : وهو من روى عنه اثنان فأكثر ولمم يوثق ، وهو المستور . لكن قيد
الحال ، وهو المستور.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ابن الصلاح أن يكون الراويان عنه عدلين ، وقال الخطيب : أقل ما يرفع الجهالة رواية اثنين مشهورين بالعلم. وهو حق فليس كل راوٍ ينتفع بروايته.
* وخروج الراوي من الجهالة برواية راويين فصاعداً قاله الحافظ محمد بن يحيى الذهلي ثم تتابع عليه المتأخرون ، وليس هذا بمتفق عليه عندهم وليس له ضابط يحدده ، فيحيى بن معين على سبيل المثال قال : من روى عنه ابن سيرين والشعبي فليس بمجهول ، وأشار ابن رجب في ’’شرح العلل‘‘ إلى أن ابن المديني لا ينظر في رفع الجهالة عن الراوي لمن روى عنه بل ينظر إلى اشتهار حديثه ، وأما الإمام أحمد فيراعي الأمرين رواية الثقات عنه وشهرة حديثه.
* ذكر الحافظ ابن حجر في ’’الشرح‘‘ أن حديث مجهول العين كالمبهم ، فلا يقبل حديثه إلا أن يوثقه غير من ينفرد عنه على الأصح إلا أن يكون المنفرد عنه متأهلاً لذلك ، وأما رواية مجهول الحال وهو المستور فقد قبل روايته جماعة بغير قيد ، وردها الجمهور ، والتحقيق أن رواية المستور ونحوه مما فيه الاحتمال لا يطلق القول بردها ولا بقبولها ، بل هي موقوفة إلى استبانة حاله كما جزم به إمام الحرمين ، ونحوه قول ابن الصلاح فيمن جُرح بجرح غير مُفَسر. أ.هـ. قلت : الأصل في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - الاحتياط كما قال أحد كبار أئمة هذا الفن عبد الرحمن بن مهدي: أمران لا يحسن بهما حسن الظن : الحكم والحديث. ولكن ينبغي أن أضع معالم أساسية لطالب العلم عند نظره في هذه المسالة الشائكة :(1/68)
1- التوثيق الوارد من قبل بعض الأئمة مبني على الخلاف في رفع الجهالة عن الرواة ، قال المعلمي اليماني في ’’التنكيل‘‘ بعد ذكر طريقة ابن حبان : والعجلي قريب منه في توثيق المجاهيل من القدماء ، وكذلك ابن سعد ، وابن معين والنسائي وآخرون غيرهم ، يوثقون من كان من التابعين أو أتباعهم إذا وجدوا رواية أحدهم مستقيمة ، بأن يكون له فيما يروي متابع أو شاهد ، وإن لم يرو عنه إلا واحد ولم يبلغهم عنه إلا حديث واحد … ومن الأئمة من لا يوثق من تقدمه حتى يطلع على عدة أحاديث له تكون مستقيمة وتكثر حتى يغلب على ظنه أن الاستقامة كانت ملكة لذاك الراوي .أ.هـ. قلت : وانظر على سبيل المثال الطبقة التاسعة والعاشرة من "تاريخ الإسلام" وفيات(81-100) ، تجد مصداق ما ذكره العلامة المعلمي ، فأكثر من يوثق هؤلاء الصنف هم من ذكر ، لكن هناك من نقاد الحديث غيرهم من يفعل شيئاً من ذلك في المقلين منهم.
2- تعامل الأئمة مع مساتير التابعين وأتباعهم يختلف عن تعاملهم مع غيرهم ممن جاء بعدهم لكونهم من
………………………………………………………………………………ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
القرون التي زكاها النبي - صلى الله عليه وسلم - ولعدم ظهور علم الجرح والعديل بعد ، كما يشير إليه كلام المعلمي آنفاً من صنيع بعض الأئمة من توثيق من كان من التابعين أو أتباعهم ، ولذا قال الذهبي ـ وهو من أهل الاستقراء التام ـ: وأما المجهولون من الرواة فإن كان الرجل من كبار التابعين ، أو أوساطهم احتمل حديثه ، وتلقي بحسن الظن إذا سلم من مخالفة الأصول ، وركاكة الألفاظ . وإن كان الرجل منهم من صغار التابعين فيتأنى في رواية خبره ، ويختلف ذلك باختلاف جلالة الراوي عنه وتحريه ، وعدم ذلك.(1/69)
3- كثير من المحدثين يوثقون الراوي المجهول إذا روى عنه الحفاظ ما لم يأت بمنكر ، فقد سأل ابن أبي حاتم أباه كما في ’’الجرح‘‘ عن رواية الثقات عن رجل مما يقويه ؟ قال : إذا كان مجهولاً نفعه رواية الثقة عنه. وسأل أبازرعة عن ذلك ، فقال : أي لعمري ، قال : قلت : الكلبي روى عنه الثوري ، قال : إنما ذلك إذا لم يتكلم فيه العلماء. ونقل ابن رجب في شرح البخاري قول الإمام أحمد : لا تسأل عمن رَوَى عنه أيوب. وذكر الذهبي في ’’الموقظة‘‘: أنه إن كان المُنفرِد عن المجهول من كبار الأثبات فيحتج بمثله جماعة كالنسائي وابن حبان. وذكر السخاوي في ’’فتح المغيث‘‘ أن من المحدثين من ذهب إلى أنه إن علم أن الراوي عنه لا يروي إلا عن عدل كانت روايته عن الراوي تعديلاً له وإلا فلا. قال : وإليه ميل الشيخين وابن خزيمة في "صحاحهم" ، والحاكم في "مستدركه.(1/70)
4- من أحاديث المساتير ما أخرجه أصحاب الكتب الستة في السنن والصحاح كصحيح ابن خزيمة ، وتداولوه في الأبواب ولا يعلم مخالف لهم ولا راد لهذه الأحاديث ، فمثل هذه الأحاديث لا يسوغ تسرع الباحث في ردها ، وانظر على سبيل المثال إلى حديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :"إِنَّ الْمَاءَ طَهُورٌ لاَ يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ". هذا الحديث رواه عبيد الله بن عبد الله بن رافع عن أَبِي سَعِيدٍ ، ولم يوثقه أحد ألبتة ، وقال عنه ابن حجر في ‘‘التقريب‘‘ : مستور. ومع ذلك صحح حديثه الترمذي والحاكم والبغوي ، بل صححه قبلهم إماما الجرح والتعديل أحمد بن حنبل ويحيى بن معين. ومثله كثير يعرفه كل من عنده أدني ممارسة في كتب الأئمة ، وهذا الذي دفع ابن الصلاح إلى أن يقول عند ذكر قول بعض من قبل حديث المستورين مطلقاً : ويشبه أن يكون العمل على هذا الرأي في كثير من كتب الحديث المشهورة في غير واحد من الرواة الذين تقادم العهد بهم ، وتعذرت الخبرة الباطنة بهم ، والله أعلم.
5- الشيخان خرجا لهذا الصنف ممن لم يتقدمهم أحد بتوثيقه وليسوا بالمكثرين خاصة من التابعين ، يقول ابن حجر عن بعضهم في التقريب ’’مقبول‘‘ أو ’’مستور‘‘ ، مثل معبد بن سيرين الأنصاري ، وإبراهيم بن
ثم البدعةُ إما بمُكَفِّرٍ أو بمفسق ، فالأول لا يقبل صاحبها الجمهور ، والثاني يقبل منْ لَم يكنْ داعيةً في الأَصحِّ ، إلاَّ إنْ روى مَا يقوِّي بدعتَهُ ، فيرد على المختارِ ، وبه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عبد الرحمن بن أبي ربيعة وبَجَالة بن عبدة التميمي ، وخالد بن عمير العَدَويُّ ، وعبد الله بن فَرُّوخ التيمي ، وعبد الرحمن بن المِسْوَر بن مَخْرَمة.
* ثم قال الحافظ :(ثم البدعةُ إما بمُكَفِّرٍ أو بمفسق …ألخ) : انتقل الحافظ إلى السبب التالي من أسباب الرد وهو البدعة ، وحديث المبتدع قسمان :(1/71)
(القسم الأول) : البدع المكفرة ، مثل بدع من يقول بخلق القرآن من أهل التجهم ، ومثل من يقول بتحريف القرآن من أهل الرفض الغالي ، فهؤلاء روايتهم مردودة ، لكن عاد الحافظ في ’’الشرح‘‘ فقرر أنه لا يرد كل مُكفَرٍ ببدعته ، لأن كل طائفة تدَّعي أن مخالفيها مبتدعة ،وقد تبالغ فتكفر مخالفيها. وهذا من الحافظ غير مقبول ، لأن النووي وغيره نقلوا أن رواية الذي يكفر ببدعته لا تقبل بالاتفاق ، ثم إن المرجع في معرفة ما يكفرُ به المرء مما لا يكفر ليس هو معتقد طوائف أهل البدع ، وإنما مرجع ذلك معتقد أهل السنة والجماعة وما عليه سلف هذه الأمة مما سطره علماء الإسلام في كتب العقائد وأبواب الردة في كتب الفقه مستمدين ذلك من الكتاب العزيز والسنة المطهرة. بل إن كبار علماء الحديث لا يقبلون رواية أهل البدع المغلظة كمن يقدح في الشيخين ولو لم يكفروه كما نص عليه غير واحد. قال الذهبي عن هذا الصنف في ’’ميزان الاعتدال‘‘ :"ثم البدعة كبرى ، كالرفض الكامل والغلو فيه ، والحط على أبي بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ والدعاء إلى ذلك ، فهذا النوع لا يحتج بهم ولا كرامة. وأيضاً فما أستحضر الآن في هذا الضرب رجلاً صادقاً ، ولا مأموناً ، بل الكذب شعارهم ، والتقية والنفاق دثارهم ، فكيف يُقبل نقلُ من هذا حاله! حاشا وكلا!أ.هـ.
(القسم الثاني) : البدع غير المكفرة ، مثل بدع : أهل الإرجاء الذين أخروا العمل عن الإيمان ، وأهل القدر الذين ينفون أن الله قدر الشر ، وأهل التشيع الذين يقدمون علياً - رضي الله عنه - على الشيخين دون سب أو قدح ، فهؤلاء اختلف المحدثون في قبول حديثهم على أقوال :
(القول الأول) : تقبل رواية من لم يكن داعية إلا إن روى ما يقوي بدعته فترد ، وهو الذي اختاره ابن حجر هنا تبعاً للجُوزجاني.
(القول الثاني) : رد روايته مطلقاً قياساً على رد رواية الفاسق غير المتأول ، لكن حكي الإجماع على خلاف هذا القول.(1/72)
صرح الجُوزَجاني ، شيخ النسائي. ثم سُوءُ الحفظِ إنْ كانَ لازماً فهو الشَّاذُ عَلَى رَأْيٍ أَوْ طَارِئاً فالمُخْتَلِطُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(القول الثالث) : قبول روايته مطلقاً إذا كان الراوي متحرزاً عن الكذب موصوفاً بالديانة ، قال الذهبي بعد ذكره للمبتدع الذي علم صدقه في الحديث وتقواه: فجميع تصرفات أئمة الحديث تؤذن بأن المبتدع إذا لم تُبِح بدعته خروجه عن دائرة الإسلام ، ولم تبح دمَه ، فإن قبول ما رواه سائغٌ.أ.هـ. وهذا هو القول الصحيح الذي تطمئن إليه النفس لأن مدار قبول الخبر على ترجح صدق الراوي المعروف بالتحرز من الكذب ، ولذا لما سئل الإمام مالك : لم رويت عن داود بن الحصين وثور بن يزيد وهما يريان القدر ؟ قال : كانوا لئن يخروا من السماء إلى أرض أحب أسهل عليهم من أن يكذبوا. وقد تتابع علماء السنة على الرواية عن أهل البدع الدعاة منهم وغير الدعاة ، فقد روى الشيخان لأبي معاوية الضرير محمد بن خازم وكان رأساً وداعية إلى الإرجاء ، وخرجا لعدي بن ثابت وكان شيعياً غالياً ، وخرج البخاري لعمران بن حطان الخارجي المادح لقاتل علي - رضي الله عنه - ، وغيرهم كثير جداً.(1/73)
* وينبغي التفريق عند علماء أهل السنة بين ترك الرواية عن المبتدع من أجل عقوبته على بدعته وزجر الناس عن الاغترار به ، وبين ترك الرواية عنه مطلقاً ، فقد يترك أئمة الحديث رواية المبتدع الصدوق الضابط الداعية إلى بدعته المشتهر بها ـ لا انتحالاً لترك الرواية عنه ـ وإنما من باب هجر البدعة وأهلها ، حتى إذا مات وزال ما خشي من تزيين بدعته رووا عنه ، وقد بين ابن حبان في مقدمة صحيحه سبب ترك الرواية عن المبتدع الداعية فقال :فإن الداعي إلى مذهبه والذَّاب عنه حتى يصير إماماً فيه ، وإن كان ثقة ، ثم روينا عنه جعلنا للاتباع لمذهبه طريقاً ، وسوّغنا للمتعلم الاعتماد عليه وعلى قوله ، فالاحتياط ترك رواية الأئمة الدعاة منهم ، والاحتجاج بالرواة الثقات منهم.أ.هـ فتنبه لكون ابن حبان بين أن ترك الرواية عن دعاة المبتدعة ليس هو من باب شروط صحة الرواية وقبول الخبر بل سداً لذيوع بدعته ، وجعل ذلك من باب الاحتياط.
* ثم قال الحافظ :(ثم سُوءُ الحفظِ إنْ كانَ لازماً فهو الشَّاذُ عَلَى رَأْيٍ أَوْ طَارِئاً فالمُخْتَلِطُ) : انتقل الحافظ إلى السبب العاشر من أسباب الرد وهو سوء الحفظ ، وقسمه الحافظ إلى قسمين :
(الأول) : سوء الحفظ الملازم للرجل في جميع حالاته ، فيكون تعريف الشاذ على هذا الرأي هو : ما تفرد به سيءُ الحفظ الذي نزل بخطئه عن مرتبة الصدوق ولم يكثر خطؤه حتى يصل إلى رتبة فاحش الغلط. وهذا على
رأي وإلا فالأسلم أن نسمي حديث هذا الصنف ـ سيء الحفظ ـ بالمنكر كما تقدم في تعريف المنكر بأنه ما
ومتَى تُوبعَ السَّيِّئُ الحِفظِ بمُعْتَبَرٍ ، وكذا المَسْتُورُ والمُرسَلُ والمُدَلِّسُ : صَارَ حديثُهمُ حَسَناً لا لذاتِهِ بلْ بالمَجْمُوعِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(1/74)
تفرد به الضعيف وشبهه ، وهو الذي قرره الحافظ في كتابه ’’النكت‘‘. وأما تقييد الحافظ تعريف الشاذ هنا بقوله (على رأي) ؛ لأنه قدم تعريف الشاذ على الاصطلاح الآخر المشهور بقيد المخالفة حين قال :(فإن خولف بأرجح ، فالراجح المحفوظ ، ومقابله : الشاذ).
(الثاني) : سوء الحفظ غير الملازم الذي طرأ عليه لكبره ، أو لذهاب بصره ، أو لاحتراق كتبه ، أو عدمها بأن كان يعتمد عليها فرجع إلى حفظه فساء. وحكم رواية هذا الصنف أنه إذا امتنع عن التحديث بمجرد الاختلاط أو تميز ما حدث به قبل الاختلاط فحديثه مقبول ، وأما إذا لم يتميز أو اشتبه الأمر فيه فيتوقف فيه ، وللعلماء في أحاديث المختلطين قرائن يتوصلون بها لكون حديث الثقة الذي اختلط محفوظاً كأن يروي الحديث عنه جماعة كثر فلم يغير في الإسناد أو في المتن ، فمثل هذا قرينة على ضبطه لرواية هذا الخبر. قال الحافظ:"وإنما يعرف ذلك باعتبار الآخذين عنه". قلت : مثل معرفتنا لتأريخ اختلاطه فنعرف أن من حدث عنه بعد هذا التأريخ فحديثه يتوقف فيه ، ومن لم يحدث عنه بعده لكونه امتنع عن السماع عنه بعد حصول التغير أو لموته قبل ذلك فحديثه مقبول ، ومثله كون الراوي اختلط بعد قدومه لبلد معين فيعرف أن حديث أهل البلد القديم ممن لم ينزلوا بلد الراوي الجديد حديث مقبول. مثال ذلك شريك النخعي ذكروا أنه تغير حفظه لما نزل الكوفة وتولى القضاء ، لكن تميز حديث جماعة عنه : فبعضهم حدثوا عنه قبل توليه القضاء كمحمد بن إسحاق. وبعضهم روى عنه قبل قدومه الكوفه في واسط من كتابه حين قدم عليهم كيزيد بن هارون ، حتى قال الإمام أحمد عن حديث أهل واسط وذكر جماعة : سماع هؤلاء أصح عنه. وقال : كأن حديث أهل واسط عن شريك لا يشبه حديث شريك. وقد ألف في ذلك بعض العلماء ككتاب ابن الكيال الموسوم بـ ’’الكواكب النيرات فيمن اختلط من الرواة‘‘ ، وعليه تحقيق جيد استفاده محققه من كتاب للشيخ حماد الأنصاري لم يطبع، وذكر الشيخ(1/75)
أنه لم يسبق إلى مثله.
* ثم قال الحافظ :(ومتَى تُوبعَ السَّيِّئُ الحِفظِ بمُعْتَبَرٍ ، وكذا المَسْتُورُ والمُرسَلُ والمُدَلِّسُ : صَارَ حديثُهمُ حَسَناً لا لذاتِهِ بلْ بالمَجْمُوعِ) : انتقل الحافظ بعد ذكر أسباب الطعن إلى ذكر أن بعض هذه الطعون المتقدمة تصلح للتقوية وذكر بعضاً منها ، وقد نقل عن أئمة قدماء ما يدل على أصل ما ذكره الحافظ من اعتبار أحاديث قوم فيهم ضعف ؛ قال الثوري كما نقله الخطيب في ’’الجامع‘‘ :"إني لأكتب الحديث على ثلاثة وجوه : فمنه ما أتدين به ، ومنه ما اعتبر به ، ومنه ما أكتبه لأعرفه" أ.هـ. ونقل عن الإمام
………………………………………………………………………………
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أحمد أنه قال: ما حديث ابن لهيعة بحجة ، وإني لأكتب كثيراً مما أكتب أعتبر به ، ويقوي بعضه بعضاً". لكن هنا ضوابط لا بد أن تذكر هنا ، وهي :
1- أن الضابط عندهم فيما يصلح للاعتضاد بالمتابعات هو أن يكون ضعفه غير شديد ، فالحديث الشاذ وحديث الكذاب أو المتهم أو الفاسق أو فاحش الغلط أو كثير الغفلة لا يصلح حديثهم للاعتضاد لشدة ضعف حديثهم. قال النووي : إذا روي الحديث من وجوه ضعيفة لا يلزم أن يحصل من مجموعها حسن ، بل ما كان ضعفه لضعف حفظ راويه الصدوق الأمين زال بمجيئه من وجه آخر ، وصار حسناً أ.هـ.
2- أن الحافظ شرط في المتابع بأن يكون معتبراً كأن يكون مثل من تابعه أو فوقه لا دونه في المرتبة على الراجح لا كما قال البعض أن مراده أن لا يكون دونه في الدرجة من السند ، فلو تابع المستور مجهول الحال مثلاً راوٍ مجهول العين فلا يتقوى حديثه به.(1/76)
3- ذكر الحافظ في ’’الشرح’’ عن هذا الحديث الذي تقوى بغيره فصار حديثاً حسناً لغيره : ومع ارتقائه إلى درجة القبول ؛ فهو منحط عن رتبة الحسن لذاته ، وربما توقف بعضهم عن إطلاق اسم الحسن عليه أ.هـ. قلت : وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن هذا النوع يسميه المتقدمون الضعيف ، وهو الذي قال عنه الإمام أحمد : هو خير من الرأي. وتقدم أن الحافظ ارتضى قول من قال : يؤخذ به في فضائل الإعمال.
4- لا بد من مراعاة أمر مهم : وهو أنه إذا كان في الإسناد الذي ينظر في تقويته سيء الحفظ ومعه راوٍ مجهول وآخر وصف بالتدليس ، فهل يدخل في حد ما ذكره الحافظ في تقويته ليكون حسناً لغيره ؟ الجواب: بالنفي لأن الراوي السيء الحفظ أو الراويٍ المستور أو الموصوف بالتدليس وإن كان كل منهم يدخل في حد التقوية إلا أنه بمجموع هذه الطعون المجتمعة في الإسناد الواحد تدخله في قسم الإسناد الشديد الضعف الذي لا ينجبر.
مثال عملي : حديث يروى عن رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قوله:"لاَ وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ". روي من طرق :
(الأول) : حديث سعيد بن زيد - رضي الله عنه - رواه الترمذي وأحمد ، وفيه أبو ثفال ورباح بن عبد الرحمن فيهما جهالة ، قال الإمام أحمد:"لا يثبت" ، وقال أبو حاتم وأبو زرعة:"ليس عندنا بذاك الصحيح أبو ثفال مجهول ، ورباح مجهول" ، وقال البخاري عن أبي ثفال في هذا الحديث:"في حديثه نظر" ، وقال ابن حبان:"في القلب من هذا الحديث". ومع ذلك صححه الحاكم والضياء.
………………………………………………………………………………(1/77)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (الثاني) : حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - رواه ابن ماجه ، وفيه ربيح بن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري. قال البخاري عنه :"منكر الحديث" ، وقال الإمام أحمد عنه:"لا أعلم فيه حديثاً ثابتاً ، أقوى شيء فيه حديث كثير بن زيد ، عن ربيح. وربيح ليس بالمعروف". ومع ذلك صححه الحاكم ، وحسنه الحافظ ابن حجر لتقريره أن كثير بن زيد صدوق ، وقد خالف ما قرره في "التقريب" حيث قال عن كثير : صدوق يخطىء.
(الثالث) : حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - رواه أبو داود وابن ماجه من طريق يعقوب بن سلمة عن أبيه عن أبي هريرة- رضي الله عنه -. قال البخاري:"يعقوب بن سلمة مدني لا يعرف له سماع من أبيه ، ولا يعرف لأبيه سماع من أبي هريرة". قال ابن حجر : وأبوه ذكره ابن حبان في "الثقات" ، وقال : ربما أخطأ. وهذه عبارة عن ضعفه ، فإنه قليل الحديث جداً ولم يرو عنه سوى ولده.
(الرابع) : حديث سهل بن سعد- رضي الله عنه - ، رواه ابن ماجه وصححه الحاكم من طريق محمد بن أبي فديك ، عن عبد المهيمن بن العباس بن سهل بن سعد وأخيه أُبَي بن العباس. قال الذهبي تعليقاً على إخراج الحاكم له:"عبد المهيمن واهٍ". قلت: أخوه قال عنه أحمد : منكر الحديث.(1/78)
والخلاصة : أن ابن حجر نقل عن ابن الصلاح أنه قال:"ثبت بمجموعها ما يثبت به الحديث الحسن". وقال هو :"والظاهر أن مجموع الأحاديث يحدث منها قوة تدل على أن له أصلاً". قلت : شرط الترقية للحديث الحسن أن يتابع من خف ضبطه كلين الحفظ بمثله أما في هذا الحديث: فالإسناد الأول فيه اختلاف في الإسناد وراوٍ مجهول العين وقد تقرر أن حديثه لا يقبل التقوية. وفي الإسناد الثاني من قال عنه البخاري : منكر الحديث ، وآخر سيء الحفظ. وفي الإسناد الثالث رجل يخطئ مع قلة حديثه ولم يثبت سماع بعض رواته من بعض. وفي الإسناد الرابع راوٍ وصف بأنه واه وآخر منكر الحديث. والأحكام الشرعية الواجبة لا تلزم الأمة بمثل هذا خاصة أن ظاهر القرآن وأحاديث السنة الصحيحة المتكاثرة في صفة وضوء النبي- صلى الله عليه وسلم - تخالف هذا ، ولذا قال الإمام أحمد فيما نقل ابن عبد الهادي عن الأثرم:"ليس في هذا حديث يثبت ، أنا لا آمر بالإعادة ، أرجو أن يجزيه الوضوء لأنه ليس في هذا حديث أحكم به". وقال :"ليس فيه شيء يثبت". وقال العقيلي :"الأسانيد في هذا الباب فيها لين".
5- أمر أختم به وهو مهم جداً ، وهو أنه يشترط لتقوية حديث هذا الصنف أن لا تكون طرق الأحاديث المحشودة للتقوية من الغرائب المنكرة التي ذم العلماء التكثر بها ، والتي قال الإمام أحمد فيها كما في مسائل
………………………………………………………………………………
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(1/79)
أبي داود: "يطلبون حديثاً من ثلاثين وجهاً ، أحاديث ضعيفة! وجعل ينكر طلب الطرق نحو هذا. قال : هذا شيء لا تنتفعون به". قال الخطيب: أكثر طالبي الحديث في هذا الزمان ، يغلب على إرادتهم كَتْبُ الغريب دون المشهور ، وسماع المنكر دون المعروف ، والاشتغال بما وقع فيه السَّهو والخطأ من روايات المجروحين والضعفاء أ.هـ. علق ابن رجب عليه قائلاً : وهذا الذي ذكره الخطيب حقٌ ، ونجد كثيراً ممن ينتسب إلى الحديث لا يعتني بالأصول الصَّحاح كالكتب الستة ونحوها ، ويعتني بالأجزاء الغريبة ، وبمثل مسند البزار ومعاجم الطبراني وأفراد الدارقطني ، وهي مجمع الغرائب. وانظر إلى هذا المثال الرائع لمناقشة علمية بين أمامين من أئمة هذا الفن ذكرها الخطيب البغدادي في ’’تاريخه‘‘ ؛ قال أبو حاتم : (قال لي أبو زرعة : ترفع يديك في القنوت ؟ قلت: لا. فقلت : له : فترفع أنت ؟ قال : نعم. فقلت : ما حجتك ؟ قال: حديث ابن مسعود. قلت : رواه ليث بن أبي سُليم. قال : حديث أبي هريرة ؟ قلت : رواه ابن لهيعة. قال : حديث ابن عباس ؟ قلت : رواه عوف. قال : فما حجتك في تركه ؟ قلت : حديث أنس أن رسول الله كان لا يرفع يديه في شيء من الدعاء إلا في الاستسقاء. فسكت). فلم يقل أبو زرعة وهو في مجال المناظره وإلزام الخصم : إن هذه الطرق يقوي بعضها بعضاً.(1/80)
مثال عملي : حديث رواه الطبراني في ’’الكبير‘‘ من طريق إِسْحَاقُ بْنُ الرَّبِيْع العُصْفُريُّ ، عَنْ دَاوْدَ بْنِ أَبْي هِنْدٍ ، عَنْ عَامِرَ الشَّعْبي ، عَنْ جَرِيْرِ بْنِ عَبْدَ الله ، عَن النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم - قَالَ :"مَا مِنْ ذِي رَحِمٍ يَأْتي رَحِمَه فَيَسْأَلَه فَضْلاً أَعْطَاه الله إِيّاه فَيَبْخَلُ عَلَيه إِلا أُخْرِجَ لَهُ يَوْمَ القِيامَةِ مِنْ جَهَنَّمَ حَيَّةٌ يُقَالُ لَها : شُجَاعٌ ، يَتَلَمَّظُ فَيُطَوَّقُ بِها]. قال بعض المحدثين : هذا إسناد جيد. والصواب أنه إسناد خطأ ، أخطأ فيه إسحاق بن الربيع على داود بن أبي هند فرواه عنه عن عامر الشعبي ، وخالفه كل من رواه عن داود فقالوا : عن داود عن أبي قزعة سويد بن حجير في غير مسند جرير، قال : الطبراني : "لم يرو هذا الحديث عن داود بن أبي هند إلا إسحاق بن الربيع العصفري". قلت : وجاء للحديث شواهد عن أبي هريرة ، وعن حجير بن بيان ، وعن مالك القشيري ، وعن أبي مالك العبدي ، وعن رجل مرسلاً ، وكلها خطأ ؛ مدارها على داود بن أبي هند ، والوهم بعضه من داود نفسه لأنه يهم في حفظه ، وبعضه من خطأ الرواة عنه. والمحفوظ طريق آخر يروى من غير طريق داود ؛ قال الدارقطني:"وهذا الحديث رواه جماعة ممن حفظه عن أبي قزعة سويد بن حجير ، عن حكيم بن معاوية القشيري والد بهز ، عن أبيه معاوية بن حيدة ، عن النبي- صلى الله عليه وسلم - ". قلت : وخرجه من هذا الوجه أصحاب الكتب المشهورة ؛ وأما الطرق الآنفة فغالبها في غير كتب السنة المشهور ولا يتقوى الحديث بها مع كثرتها لنكارتها.
ثُمَّ الإِسنَادُ إِمَّا أن ينتهي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - تَصْريحاً ، أو حكماً : من قَوْلِهِ أوْ فِعْلِهِ أَوْ تَقرِيْرِه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(1/81)
* ثم قال الحافظ :(ثُمَّ الإِسنَادُ إِمَّا أن ينتهي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - تَصْريحاً ، أو حكماً : من قَوْلِهِ أوْ فِعْلِهِ أَوْ تَقرِيْرِه) : انتقل الحافظ من مباحث المتن إلى الكلام في مباحث من الإسناد فقال في ’’الشرح‘‘: وقد انقضى ما يتعلق بالمتن من حيث القَبولُ والردُ. وعرف الإسناد أنه الطريق الموصلة إلى المتن. والمتن هو غاية ما ينتهي إليه الإسناد من الكلام. ثم ذكر أقسام ما ينتهي إليه الإسناد وأنه قسمان :
(الأول) : المرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - تصريحاً ، وهو ثلاثة أقسام :
1- المرفوع من القول تصريحاً : كأن يقول الصحابي سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول كذا ، أو حدثنا بكذا. كقول عمر - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :"إنما الإعمال بالنيات".
2- المرفوع من الفعل تصريحاً: كأن يقول الصحابي : رأيت رسول الله فعل كذا أو كان يفعل ، كقول البراء - رضي الله عنه - : كنا نعرف قراءة رسول الله في الظهر باضطراب لحيته.
3- المرفوع من التقرير تصريحاً : كأن يقول الصحابي فعلت بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - كذا أو فعل فلان بحضرته كذا ، ولا ينقل إنكار النبي - صلى الله عليه وسلم - لذلك. ومنه قول الصحابي : أكل الضب على مائدة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
(الثاني) : المرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - حكماً لا تصريحاً ويلحق به على الصحيح ما قاله التابعي عن الصحابي "يرفع الحديث" أو "ينميه" أو "يرويه" ويلحق به قول الصحابي :"من السنة كذا" و "أمرنا بكذا" "نهينا عن كذا" ، والمرفوع حكماً ثلاثة أقسام كذلك :(1/82)
1- المرفوع من القول حكماً : كأن يقول الصحابي الذي لا يأخذ من الاسرائيليات ما لامجال للاجتهاد فيه كالإخبار عن أحكام شرعية أو غيبية ماضية أو مستقبلية ، أو الإخبار عن ثواب مخصوص أو عقاب مخصوص ؛ كقول عمار بن ياسر : من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم. وقول ابن مسعود : من أتى ساحراً أو عرافاً فقد كفر بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -.
2- المرفوع من الفعل حكماً : كأن يفعل الصحابي ما لامجال للاجتهاد فيه فينزل على أن ذلك عنده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما نقل عن الشافعي في صلاة عليٍّ - رضي الله عنه - في الكسوف كل ركعة أكثر من ركوعين.
3- المرفوع من التقرير حكماً : كأن يخبر الصحابي أنهم كانوا يفعلون في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - كذا. كقول جابر : كنا نعزل والقرآن ينزل. فاستدل به على جواز العزل.
أو إلى الصَّحابي كذلك ، وهو من لقي النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - مُؤْمِناً به ومات على الإسلام ، ولو تَخَلَّلَت ردَّةٌ في الأصح. أو إلى التَّابعي : وهو من لقي الصحابي كذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ثم قال الحافظ :(أو إلى الصَّحابي كذلك) : بين الحافظ أن الإسناد إذا انتهى إلى الصحابي فهو الموقوف ، ويكون كذلك الموقوف على الصحابي تصريحاً من قوله أو فعله أو تقريره ، وقد يدخل الأول والثاني في حكم المرفوع على ما تقدم في ذكر أمثلة المرفوع حكماً.
* ثم قال الحافظ :(وهو من لقي النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - مُؤْمِناً به ومات على الإسلام ، ولو تَخَلَّلَت ردَّةٌ في الأصح) : استطرد الحافظ هنا ليبين تعريف الصحابي لأن مختصره ـ كما قال ـ شامل لجميع أنواع علوم الحديث ،وضوابط الصحبة كما قال :(1/83)
1- أن يلقى النبي - صلى الله عليه وسلم - : وعبر باللقي بدل الرؤية ليدخل بها من لقيه وهو أعمى. ولو زيد بعد ذكر اللقي:"حال حياته مكلفاً باتباعه" لكان حسناً ، حتى يخرج بذكر حال الحياة من دخل المدينة ورأى جسده بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - ، وحتى يدخل بذكر التكليف من لقيه من الجن ويخرج من لقيه ولم يؤمر باتباعه كالملائكة والأنبياء. لكن يشكل علينا هنا صغار الصحابة الذين لقوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم لا يعقلون تكليفاً ؛ فمنهم من عقل مجة مجها النبي - صلى الله عليه وسلم - كمحمود بن الربيع ، ومنهم من لا يعقله بل مات النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في المهد ، لكن جيء به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وحنكه. فهولاء لهم شرف الصحبة وحديثهم ملحق بحديث كبار التابعين.
2- أن يلقاه مؤمناً به : لأن من لقيه حال كفره ثم آمن بعد فهو في حكم التابعين / كرسول هرقل الذي لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - حال كفره ثم أسلم بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - فحدث بقصته مع النبي - صلى الله عليه وسلم -.
3- أن يموت على الإسلام : وقيده هنا لأمرين (الأول) : أن من أسلم ولقي النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم مات على الكفر فليس بصحابي كما فعل عبيد الله بن جحش حين ارتد وتنصر في الحبشة ومثله ابن خَطْل. (الثاني): أن من ارتد بعد صحبته ثم عاد ومات على الإسلام فهو باق على صحبته ، لأن الأعمال ومنها الصحبة لا تحبط إلا بالموت على الكفر لقوله تعالى(فيمت وهو كافر فآولئك حبطت أعمالهم) الآية ،ولذا قال الحافظ:(ولو تخللت ردة في الأصح) لأن الأشعث بن قيس كان ممن ارتد فعاد إلى الإسلام وزوجه أبو بكر أخته ، ولم يتخلف أحد عن ذكره في الصحابة أو ذكر حديثه في المسانيد. وعلم من هذا أن الصحابة مع ثبوت عدالتهم كلهم إلا أنهم مراتب متفاوتون بحسب طول الصحبة وعلو المنزلة وحسن البلاء في الإسلام.(1/84)
* ذكر الحافظ في "الشرح" طرق ثبوت الصحبة ، وهي :
أو إلى التابعي وهو من لقي الصَّحابي كذلك. فالأول : المرفوع. والثاني : الموقوف. والثالث: المقطوع. ومن دون التابعي فيه مثله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- التواتر والاستفاضة والشهرة كتواتر ثبوت صحبة أبي بكر - رضي الله عنه - ، واستفاضة صحبة عكاشة بن محصن الذي قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - عند ذكر من يدخلون الجنة بغير حساب:"أنت منهم".
2- تنصيص بعض الصحابة أو التابعين على ذكر رجل في الصحابة ، كما ذكر جابر في حديث قصة النعمان بن قوقل مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يُذكر في حديث غيره. وكأن يقول التابعي العدل : حدثني رجل صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - فيذكر اسمه.
3- أن يخبر هو عن نفسه بأنه صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - بشرط أن يكون عدلاً في نفسه مع إمكان ذلك من حيث التأريخ ثم قبول العلماء ذلك في حقه. ويعتبر المحدثون بصحة الصحبة من حيث المعاصرة دون سنة (110هـ) فمن ادعى الصحبة بعد هذه السنة فهو كاذب ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال قبل موته بشهر:"أرأَيتُكم ليلَتكم هذه ؟ فإنه على رأس مئة سنة منها ، لا يبقى على وجه الأرض ممن هو اليوم عليها أحد". متفق عليه.(1/85)
* ثم قال الحافظ (أو إلى التابعي وهو من لقي الصَّحابي كذلك) : وهو أن ينتهي الإسناد إلى التابعي ، والتابعي هو الذي لقي الصحابي فليس بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبينه إلا طبقة الصحبة ، فخرج بذلك من عاصر التابعين ولم يلق أحداً منهم كابن جريج وعبد الله بن طاوس. والتابعون طبقات : فمنهم المخضرمون الذين أدركوا زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يروه. ومنهم الذين ولدوا بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهم طبقات ، فمنهم الكبار الذين أدركوا كبار الصحابة كسعيد بن المسيب ، ومنهم الأواسط الذين تقدموا ولكن لم يدركوا ما أدرك الأولون كالحسن البصري وابن سيرين ، ومنهم الصغار الذين أدركوا آخر الصحابة وصغارهم كالزهري وقتادة.
* ثم قال الحافظ (فالأول : المرفوع. والثاني : الموقوف. والثالث: المقطوع) : انتهى الحافظ من بيان ما ينتهي إليه الإسناد ثم بين أن ما ينتهي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من قوله أو فعله أو تقريره يقال له المرفوع سواء كان بإسناد متصل أم لا. وما انتهى إلى الصحابي فيقال له الموقوف ، وإلى التابعي المقطوع. وهذا على سبيل العموم وإلا قد يحصل في كلام بعض الأئمة استعمال هذه الأشياء في غير محلها هنا كإطلاق المقطوع على المنقطع أو إطلاق المرفوع على معنى الوصل بمقابل الإرسال. كما أنهم قد يطلقون الوقف أيضاً على من دون الصحابي مقيداً فيقولون: وقفه معمر على همام.
* ثم قال الحافظ (ومن دون التابعي فيه مثله) : أي أتباع التابعين ومن بعدهم في التسمية كالتابعي
ويُقالُ للأَخِيْرينِ : الأّثَرُ ، والمُسنَدُ مرفُوعُ صحابيٍ بِسَنِدٍ ظاهرُه الاتِّصَالِ. فإنْ قلَّ عَدَدُه: فإما أَنْ ينتهي إِلى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، أَوْ إِلى إِمَامٍ ذِيْ صِفَةٍ عَلِيَّةٍ كَشُعْبَة. فالأولُ العلوُّ المُطْلقُ. والثَّاني النِّسبيُّ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(1/86)
يقال لحديثهم المقطوع. لكن تقدم أنه قد يطلق الوقف على كل قول لمن هو دون الصحابي من التابعين ومن دونهم مقيداً.
* ثم قال الحافظ (ويُقالُ للأَخِيْرينِ : الأّثَرُ) : مراده أنه اشتهر عند المحدثين إطلاق الحديث على المرفوع ، والأثر على الموقوف والمقطوع. ولذا سمى بعض المصنفين كتابه ’’السنن والآثار‘‘ ، ومراده بالآثار ما عدا المرفوع من السنن. وهذا هو المشهور إلا أنك ستجد من يقع في كلامه الأثر بمعنى الأول ، ولذا سمى الطبري كتابه ’’تهذيب الآثار‘‘ ، والطحاوي ’’مشكل الآثار‘‘ ، فذكروا فيها المرفوعات.
* ثم قال الحافظ (والمُسنَدُ مرفُوعُ صحابيٍ بِسَنِدٍ ظاهرُه الاتِّصَالِ) : عرف الحافظ هنا المسند بضابطين هما :
1- أن يكون مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فلا يدخل فيه الموقوف والمقطوع. ولذا لم يدخل أصحاب ’’المسانيد‘‘ فيها غير أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم -.
2- أن يكون ظاهره الاتصال ، فيفهم منه أمران : (الأول) : أن المنقطع إنقطاعاً ظاهراً كالمرسل والمعلق لا يدخل في المسند. (الثاني) : أن الانقطاع غير الظاهر كالتدليس والإرسال الخفي ونحوهما لا يخرجه عن كونه مسنداً لإطباق الأئمة الذين خرجوا المسانيد على ذكر ذلك.
* وقد عرف الخطيب المسند بأنه ما اتصل سنده من رواته إلى منتهاه. فأدخل فيه الموقوف. وعرفه ابن عبد البر بأنه ما رفع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - متصلاً كان أو منقطعاً. فأدخل كل منقطع قال ابن حجر :"ولا قائل به". فهذه ثلاثة أقوال.(1/87)
* ثم قال الحافظ (فإنْ قلَّ عَدَدُه : فإما أَنْ ينتهي إِلى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، أَوْ إِلى إِمَامٍ ذِيْ صِفَةٍ عَلِيَّةٍ كَشُعْبَة. فالأولُ العلوُّ المُطْلقُ. والثَّاني النِّسبيُّ) : انتقل الحافظ هنا لبيان مسألة في السند ، وهي: قلة عدد رجال الإسناد أو كثرتهم وهو العلو ، وكان المحدثون يحرصون عليه حرصاً شديداً ، قال الإمام أحمد : طلب الإسناد العالي سنةٌ عمن سلف. وقال ابن معين لما قيل له في مرض موته : ما تشتهي ؟ قال : بيت خالٍ وإسناد عالٍ. وفائدته أنه كلما قل رجال الإسناد كان أقرب إلى الصحة وقلة الخطأ في الحديث ،
وفيه المُوَافقةُ : وهي الوُصُولُ إِلى شيخِ أحدِ المُصَنِّفِينَ من غير طريقه. وفيه البَدَلُ ، وهو الوُصُولُ إِلى شيخِ شيخه كذلك. وفيه المساواةُ : وهي استواء عدد الإسنادِ من الراوي إلى آخره مع إسنادِ أَحَدِ المُصَنِّفينَ. وفيه المُصَافحةُ ، وهي الاستواء مع تلميذ ذلك المُصَنِف. ويقابِلُ العُلُوَّ بِأَقسَامِهِ النُّزُولُ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لكن قد يكون في الإسناد النازل مزية ليست في العلو لثقة رجاله فحينئذٍ يترجح النزول. ومثال طلب العلو عند المحدثين أن ابن عيينة يروي حديث (الدين النصيحة) بواسطة رجلين عن أبي صالح السمان عن عطاء بن يزيد الليثي عن تميم الداري ، فلقي سهيل بن أبي صالح فقال له : إنني سمعت الحديث وبيني وبين أبيك رجلان وأحب أن تسقط عني واحداً فتحدثني به عن أبيك مباشرة ، فقال سهيل: أحدثك عمّن حدث أبي فإني سمعت عطاء بن يزيد الليثي وهو يحدث بهذا الحديث أبي. فأسقط عنه رجلين في الإسناد ، فالأول إسناد نازل والثاني إسناد عال. وقد قسم الحافظ العلو إلى قسمين:(1/88)
(الأول) : العلو المطلق : وهو أن ينتهي هذا الإسناد الذي قل عدد رجاله إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فيسمى العلو المطلق ، وهذا حاصل في كتب السنة بأن يكون بين المصنف والنبي- صلى الله عليه وسلم - عدد قليل بالنسبة لغالب ما يرويه في كتابه أو يرويه من كان في طبقته ، مثل أن يكون بينه وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة كما وقع في "صحيح البخاري" مما سمي ثلاثيات البخاري. ويذكرون في هذا الباب أن ضمام بن ثعلبة - رضي الله عنه - لما جاء قومَه رسولُ رسولِ الله لم يكتف بذلك ، بل رحل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - طلباً للأخذ عنه - صلى الله عليه وسلم - مباشرة ، وهذا علو في الإسناد.
(الثاني) : العلو النسبي : وهو أن ينتهي هذا الإسناد الذي قل عدد رجاله إلى إمام يحرص على حديثه كالبخاري ، وإن كان العدد بعد ذلك الإمام إلى منتهاه كثيراً ، إذ المقصود القرب لهذا الإمام نفسه.
* ثم قال الحافظ (وفيه المُوَافقةُ … ألخ). استطرد الحافظ هنا في بيان أنواع من العلو النسب ، وهي :
1- الموافقة : وهي الوصول إلى شيخ أحد المصنفين من غير طريقه ، مثل الحافظ له بما إذا روى البخاري عن قتيبة عن مالك حديثاً ، فلو روى الحافظ ابن حجر من طريق البخاري كان بينه وبين قتيبة ثمانية ، ولو روى ذلك الحديث بعينه من طريق أبي العباس السَّراج عن قتيبة مثلاً ، لكان بينه وبين قُتيبة فيه سبعة ، فقد حصلت له الموافقة مع البخاري في شيخه بعينه مع علو الإسناد على الإسناد إليه.
2- البدل: وهي الوصول إلى شيخ شيخه المصنف من غير طريقه ، مثل الحافظ بما إذا وقع له الإسناد السابق عند البخاري عن قتيبة عن مالك ، فرواه من طريق القَعْنبيِّ عن مالك ، فيكون القعنبي بدلاً فيه من قتيبة
ويقابِلُ العُلُوَّ بِأَقسَامِهِ النُّزُولُ. فإن تشارك الراوي ومن روى عنه في السَّن والْلَّقي فهو الأقران. وإنْ روى كلٌّ منهما عن الآخر : فالمُدَبَّج.(1/89)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
3- المساواة : وهي استواء عدد الإسناد من الراوي إلى آخره مع إسناد أحد المصنفين ، ومثل له بأن يروي النسائي على سبيل المثال حديثاً يقع بينه وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه أحد عشر نفساً ، فيقع للحافظ ذلك الحديث بعينه بإسناد آخر يقع بينه وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - أحد عشر نفساً ، فيساوي النسائي من حيث العدد.
4- المصافحة : وهي الاستواء مع تلميذ ذلك المصنف كما تقدم في المثال السابق ، بأن يكون عدد رجال الإسناد بين الحافظ وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - هو نفس عدد رجال الإسناد بين تلميذ النسائي وبين النبي- صلى الله عليه وسلم -. قال الحافظ في ’’الشرح‘‘ وسميت مصافحة ؛ لأن العادة جرت في الغالب بالمصافحة بين من تلاقَيَا ، ونحن في هذه الصورة كأنا لقينا النسائي ، فكأنا صافحناه.
* ثم قال الحافظ (ويقابِلُ العُلُوَّ بِأَقسَامِهِ النُّزُولُ). أي نزول مطلق ونزول نسبي ، قال الحافظ في ’’الشرح‘‘: كل قسم من أقسام العلو يقابله قسم من أقسام النزول ، فلولا نزول إسناد النسائي مثلاً لم يحصل العلو.
* ثم قال الحافظ (فإن تشارك الراوي ومن روى عنه في السَّن والْلَّقي فهو الأقران) : انتقل الحافظ لتقسيم الروايات باعتبار طريقها ، فذكر رواية الأقران. والأقران هي أن يروي رجل عن شيخ له ، ويكون مولده قريب من مولد شيخه هذا ، ويشارك شيخه في الأخذ عن غالب شيوخه ، فهذه تسمى رواية الأقران لأنه روى حينئذ عن قرينه. ويلاحظ هنا أنه قد يعد من رواية الأقران من اشتركا في الأخذ عن الشيوخ وإن تفاوتا في السن لأن أحدهما بكر بالطلب دون الآخر. وقد مثل الحاكم لرواية الأقران برواية سليمان التَّيمي عن مِسعَر. وقال : لا أحفظ لمسعر عن التيمي رواية. وفائدة معرفة هذا الفن حتى لا يظن أن في السند زيادة أو إبدال (عن) بحرف الواو.(1/90)
* ثم قال الحافظ (وإنْ روى كلٌّ منهما عن الآخر : فالمُدَبَّج). فإن روى القرينان اللذان تشارك بالسن واللقي كل منهما عن الآخر فيسمونه المُدَبَّج ، وهو مأخوذ من ديباجتي الوجه لأنهما مستويتان. وهو أخص من الأقران لأنه لا يشترط في الأقران أن يروي كل منهما عن الآخر ، ولذا فكل مدبج أقران ولا عكس. وله أمثله كثيرة كرواية عائشة وأبي هريرة كل منهما عن الآخر . وفي التابعين رواية الزهري عن أبي الزبير وعكسه. وفي أتباعهم رواية مالك عن الزهري وعكسه. ودونهم رواية أحمد بن حنبل عن يحيى بن معين وعكسه. وصنف فيه الدارقطني.
وإنْ رَوى عمّن دُونَه : فالأكابر عن الأصاغر ؛ ومنه الآباء عن الأبناء ، وفي عكسه كثرةٌ. ومنه من روى عن أبيه عن جدِّه. وإنْ اشتَرَك اثنان عنْ شيخٍ وتقدم موتُ أحدهما فهو : السابق واللاحق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ثم قال الحافظ ( وإنْ رَوى عمّن دُونَه : فالأكابر عن الأصاغر ؛ ومنه الآباء عن الأبناء ، وفي عكسه كثرةٌ. ومنه من روى عن أبيه عن جدِّه). أما إن روى الراوي عمن يقل عنه في السن واللقي فهو الذي يسمى رواية الأكابر عن الأصاغر كرواية الصحابة عن التابعين والآباء عن الأبناء ورواية الشيخ عن التلميذ ، فالأول مثل رواية العبادلة الأربعة وأبي هريرة عن كعب الأحبار. والثاني مثل رواية العباس عن ابنه الفضل ، ودونه رواية وائل بن داود عن ابنه بكر بن وائل. والثالث مثل رواية الزهري عن مالك. وفائدة معرفة ذلك حتى لا يظن أن في السند قلباً.(1/91)
* قال الحافظ وفي عكس ذلك كثرة ، أي في رواية الأبناء عن الآباء كثرة ، ومنه من روى عن أبيه عن جده ، كبهز بن حكيم عن أبيه حكيم بن معاوية عن جدِّه معاوية بن حَيْدَة- رضي الله عنه -. لكن قد يعود الضمير في قولنا (عن جده) على الراوي كبهز الآنف أو على أبيه ، فعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ؛ هو عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص ؛ فإن كان الضمير في (عن جده) يعود لعمرو فيكون من حديث عمرو عن أبيه عن جد عمرو (محمد) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فيكون مرسلاً لأن محمداً تابعي. وإن كان الضمير يعود لشعيب فيكون من حديث عمرو عن أبيه شعيب عن جد شعيب(عبد الله) ، فيكون متصلاً لأن شعيباً تربى عند جده عبد الله - رضي الله عنه - ، وهو الذي رجحه جمع من المحدثين.
* ثم قال الحافظ (وإنْ اشتَرَك اثنان عنْ شيخٍ وتقدم موتُ أحدهما فهو : السابق واللاحق). مثل أن يروي الشيخ عن تلميذه ، ثم يعمر هذا التلميذ حتى يدركه بعض الصغار فيحدثون عنه بعد زمن طويل ، فاشتراك الشيخ الذي مات قديماً والحدث الذي سمع أخيراً في الرواية عن شخص يسمى السابق واللاحق. وأكثر ما وجد بالاستقراء في السابق واللاحق (150) سنة ، وذلك أن الحافظ السِّلفي سمع منه شيخه أبو علي البرَداني حديثاً ومات على رأس الخمسمائة ، ثم كان آخر أصحاب السِّلفي موتاً سبطه أبو القاسم بن مكي ، ووفاته سنة خمسين وستمائة ، فبينهما مائة وخمسون عاماً. ومثله رواية البخاري الذي مات سنة(256) عن شيخه أبي العباس السَّراج ، ثم آخر من روى عن السراج أبو الحسين ومات سنة(393) ، فبين وفاتيهما مائة وسبع وثلاثون سنة. وقد ألف فيه الخطيب ، وفائدة هذا الفن حلاوة علو الإسناد ، وأن لا يظن سقوط شيء من السند بسبب طول عمر المتأخر ومساواته للشيخ الذي مات قديماً.(1/92)
وإنْ روىَ عن اثْنِينِ مُتَّفِقي الاسم ولم يتَمَيزا فباِختصَاصِه بأَحدِهِما يتَبَيَّنُ المُهْمَلُ. وإِنْ جَحَدَ مَرْويَّهُ جَزْماً رُدَّ ، أو احتمالاً : قبل في الأَصَحِ. وفيه من حدث ونَسِيَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ثم قال الحافظ (وإنْ روىَ عن اثْنِينِ مُتَّفِقي الاسم ولم يتَمَيزا فباِختصَاصِه بأَحدِهِما يتَبَيَّنُ المُهْمَلُ). بين الحافظ هنا ما يسمى في علم الحديث بالمهمل وهو الذي لا ينسب ، مثل أن يروي الراوي عن اثنين متفقي الاسم أو الكنية أو مع اسم الأب أو مع اسم الجد ولم يتميزا بما يخص كلاً منهما. مثل أن يروي البخاري عن أبي نعيم عن سفيان عن عاصم الأحول . فأبو نعيم الفضل بن دكين يروي عن السفيانين الثوري وابن عيينة ، وكلاهما يروي عن عاصم ، فأي السفيانيين هو المقصود في هذا الحديث. قال الكلاباذي: هو محتمل. فعارضه الحافظ في "الفتح" بقوله: ليس الاحتمال سواء ، فأبو نعيم مشهور بالرواية عن الثوري معروف بملازمته وروايته عن ابن عيينة قليلة ، وإذا أطلق اسم شيخه حمل على من هو أشهر بصحبته لأن روايته عنه أكثر.
*لكن هنا إشكال : وهو أنه ربما لا يستطيع الناظر تمييز المهمل حيث لا يتبين له لكون الراوي مختصاً بهما فهذا ـ كما قال الحافظ في "الشرح" : إن كان الإهمال دائر بين ثقتين فلا يضر ، كما وقع في البخاري روايته عن محمد غير منسوب : فيحتمل أنه محمد بن سَلاَم أو محمد بن يحيى الذهلي وكلاهما ثقة. وأما إذا لم يعلم ذلك ، فإشكاله شديد ، فيرجع فيه إلى القرائن ، والظن الغالب. وصنف فيه الجياني "تقييد المهمل".
* ثم قال الحافظ (وإِنْ جَحَدَ مَرْويَّهُ جَزْماً رُدَّ ، أو احتمالاً : قبل في الأَصَحِ. وفيه من حدث ونَسِيَ). انتقل الحافظ هنا إلى مسألة ما إذا روى راوٍ عن شيخ له ، ثم جحد الشيخ أنه حدثه بهذا الحديث ، فله حالان :(1/93)
(الأولى) أن يجحد أنه حدثه جزماً ، كأن يقول : كذب علي أو ما رويت هذا ، ونحو ذلك ، فيتوقف ذلك الخبر بعينه ، لأنه كلاً منهما مدعي الصدق وليس لنا أن نقدم قول أحدهما على الآخر إلا بحجة ، لاحتمال الوهم عليهما.
(الثاني) : أن يجحد دون جزم وتكذيب ، كأن يقول : ما أذكر ، أو : لا أعرفه ، فهذا يقبل على رأي جمهور العلماء ، لأن ذلك يحمل على نسيان الشيخ.
وإِن اتَّفَق الرُّواةُ في صيغِ الأَداءِ أو غَيْرِها منْ الحَالاَت فهو : المُسَلْسلُ. وصِيَغُ الأَدَاءِ: سمعتُ وحدثني ، ثم أخَبَرني وقرَأَتُ عَلَيه ، ثُمَّ قُرِئَ عَلَيه وأَنَا أَسمَع ، ثُمَّ أَنْبَأَنِي ، ثُمَّ نَاوَلَني ، ثُمَّ شَافَهَني ، ثُمَّ كَتَبَ إلَيَّ ، ثُمَّ عَنْ ونَحوَها ؛ فالأَولاَن لِمَنْ سمَعَ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ * لكن فصَل الحافظ في ’’الفتح‘‘ في القسم الأول فجعله قسمين : الأول أن يصرح بالتكذيب فيرد ، الثاني أن يرده جازماً لكن لا يصرح بالتكذيب فيقبل ، ومثل له بحديث رواه عمرو بن دينار عن أبي معبد مولى ابن عباس عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال:"ما كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا بالتكبير" ، هذا الحديث خرجه الشيخان مع أنه عند مسلم: قال عمرو بن دينار : فذكرته لأبي معبد فأنكره ، وقال : لا أعرف هذا.(1/94)
* قال الحافظ :"وفيه من حدث ونسي" ، أي قد ألف جماعة منهم الدارقطني في من حدث ونسي ، وذكروا قصة عجيبة أن سهيل بن أبي صالح روى عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى بالشاهد واليمين. قال عبد العزيز الدراوردي حدثني به ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن سهيل بن أبي صالح ، فلقيت سهيلاً فسألته عنه ، فلم يعرفه ، فقلت : إن ربيعة حدثني عنك بكذا ، فكان سهيل بعد ذلك يقول : حدثني ربيعة عني أني حدثته عن أبي به. وذكروا أن معتمر بن سليمان قال : حدثني أبي ، قال : حدثتني أنت عني عن أيوب عن الحسن ، قال : ويح كلمة عذاب. قالوا : وفيه رواية الأب عن ابنه ، ورواية الأكابر عن الأصاغر ، ورواية تابعي عن تابعه ، ورواية ثلاثة من التابعين عن بعضهم ، وأنه حدث عن واحد عن نفسه ، وهذا في غاية الحسن والغرابة.
* ثم قال (وإِن اتَّفَق الرُّواةُ في صيغِ الأَداءِ أو غَيْرِها منْ الحَالاَت فهو : المُسَلْسلُ). انتقل الحافظ لبيان صفة من صفات الإسناد ، وهي أن يأتي إسناد من الأسانيد على صفة واحدة فيتوارد رجال الإسناد عليه : إما في صيغ الأداء فكلهم يقول : حدثنا أو سمعت. أو يكون كل رواة الإسناد من أهل بلد معين كالمسلسل بالكوفيين ، أو مسلسل بالفقهاء ، أو كلهم يتشابهون بالاسم الأول كالمسلسل بالمحمدين. وقد يقع التسلسل في معظم الإسناد لا كله ، كالحديث المسلسل بالأولية وهو الحديث المسلسل بأول حديث سمعه كل واحد منهم من شيخه. وفائدة المسلسل هو أنه يشعر بمزيد ضبط الرواة ، وإن كان التكلف في حصول المسلسلات عاد على كثير من الأحاديث بالضعف لتصنع بعض الرواة ذلك.
* ثم قال (وصِيَغُ الأَدَاءِ: سمعتُ وحدثني) إلى قوله(فَإِنْ جَمَعَ فَكَالخَامِسِ). لما أشار الحافظ لصفة التسلسل في الأداء شرع في بيان صيغ الأداء ، وهي عند المحدثين ثمان مراتب :(1/95)
وَحدَه مِنْ لَفظِ الشِّيخ ، فَإِنْ جَمَعَ فَمَعَ غَيْرِهِ. وأَوَّلُها أصْرَحُها وأَرْفَعُهَا فِي الإِمْلاءِ ، والثَّالثُ والرَّابِعُ لِمَنْ قَرَأَ بِنَفْسِهِ ، فَإِنْ جَمَعَ فَكَالخَامِسِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- السماع من لفظ الشيخ : وهي أرفعها بأن يحدث الشيخ بنفسه من حفظه أو من كتابه فيسمع التلميذ لفظ الشيخ ، وهي التي عبر عنها الحافظ بقوله:(سمعت وحدثني) ، ثم قال عنهما:(فالأَولاَن لِمَنْ سمَعَ وَحدَه مِنْ لَفظِ الشِّيخ ، فَإِنْ جَمَعَ فَمَعَ غَيْرِهِ) ، أي أنه إن سمع وحده فليقل : حدثني أو سمعت ، وإن سمع مع جماعة فليقل : حدثنا وسمعنا ، ثم قال الحافظ عن هذين اللفظين:(وأولها أصرحها وأرفعها في الإملاء) ، أي أن لفظ (سمعت) أرفع وأصرح من لفظ (حدثني) ، علل ذلك الحافظ بأن اللفظ الأول لا يحتمل الواسطة ، ولأن لفظ (حدثني) قد يطلق في الإجازة تدليساً ، خاصة في حال الإملاء حين يقول : سمعته إملاءً لما في الإملاء من التثبت والتحفظ.
2- العرض أو القراءة على الشيخ : وهي أن يقرأ التلميذ على الشيخ وهو يسمع ، وقسم الحافظ هذه المرتبة إلى مرتبتين : أن يقرأ الراوي هو بنفسه ، ثم أن يقرأ غيره وهو يسمع فقال :(ثم أخَبَرني وقرَأَتُ عَلَيه ، ثُمَّ قُرِئَ عَلَيه وأَنَا أَسمَع) ، ثم قال عنهما :(والثَّالثُ والرَّابِعُ لِمَنْ قَرَأَ بِنَفْسِهِ ، فَإِنْ جَمَعَ فَكَالخَامِسِ). أي أن اللفظ الثالث (أخبرني) ، والرابع (قرأت عليه) : لمن قرأ بنفسه على شيخه عرضاً ، فإن جمع الراوي بأن قال : أخبرنا وقرأنا عليه ، فكالخامس ، وهو الذي قال عنه:( ثُمَّ قُرِئَ عَلَيه وأَنَا أَسمَع). وهنا تنبيهان :(1/96)
أ- اختار الحافظ ترجيح السماع على العرض ، وقد ذهب بعض المحدثين كالليث وأبي حنيفة وابن أبي ذئب إلى تفضيل العرض على السماع لأنه في السماع قد يسهو الشيخ فلا ينبه ، وفي العرض إذا سهى التلميذ نبهه الشيخ ، وذهب مالك والبخاري وغالب علماء الحجاز إلى التسوية بينهما. وهناك قول شاذ مهجور بعدم صحة العرض يحكى عن أبي عاصم النبيل ووكيع.
ب- ذهب المصنف إلى جواز إطلاق لفظ (أخبرنا) على العرض ، ومنع الإمام أحمد وجماعة ذلك بأن يقول من أخذ عرضاً : حدثنا وأخبرنا بلا تقييد بقراءته أو قراءة غيره وهو يسمع ؛ لدلالتها على السماع من لفظ الشيخ ، والذي ذهب إليه المصنف هو رأي الإمام الشافعي ومسلم وجماعة من التمييز بين (حدثنا) و(أخبرنا) حيث تطلق الأولى على السماع والثانية على العرض.
والإِنْبَاءُ : بمعنى الإخْبارِ إلا في عرف المُتَأَخِرِين فهو للإِجَازَةِ كَعَنْ. وَعَنَعنةُ المُعَاصِرِ محمُولَةٌ عَلَى السَّماع إلاَّ من المُدَلِّسِ ، وقيل : يُشْتَرَطُ ثُبُوتُ لِقَائِهِما ولَوْ مَرَّةً ، وهُوَ المُخْتَارُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(1/97)
3- الإجازة : وهي أن يعطي المحدث كتابه أو حديثه لآخر ليرويه عنه دون سماع أو عرض ، فيقول : إروه عني. قالوا : فهي تتكون من مجيز ويشترط فيه ما يشترط في المحدث ، ومجاز له ويشترط أن يكون معيناً ، ومجاز به ، ولفظ الإجازة. وهي التي أشار إليها الحافظ في المرتبة الرابعة عنده بقوله:(ثُمَّ أَنْبَأَنِي)، وإنما أخَرَ لفظ "الإنباء" عن ما سبق مع أنها بمعنى الإخبار في لغة وعند المتقدمين لأن من جاء بعد المتقدمين من الطبقة المتوسطة لا يستعملون "الإنباء" إلا مقيداً بالإجازة ، فلما كثر واشتهر استغنى المتأخرون عن ذكر الإجازة ، فصار كالمشتهر إطلاق : (حدثنا) على السماع ، و (أخبرنا) على العرض ، و (أنبأنا) على الإجازة. ولذلك قال الحافظ:(والإِنْبَاءُ : بمعنى الإخْبارِ إلا في عرف المُتَأَخِرِين فهو للإِجَازَةِ كَعَنْ). فإذا جاءك في أسانيد الحاكم والبيهقي والبغوي ومن بعدهم لفظ (أنبأنا) فاعلم أنه إجازة. ويلاحظ :
* أن الحافظ ذكر مراتب ثلاث فقال:(ثُمَّ أَنْبَأَنِي ، ثُمَّ نَاوَلَني ، ثُمَّ شَافَهَني) ، وكل هذه المراتب من مراتب الإجازة إن اقترنت بالإذن بالرواية ، فالأولى لمن دفع الكتاب للطالب وأذن له بالرواية ، والثانية مثلها إلا إذا تجردت عن الأذن فليست بإجازة وتكون بعد المشافهة ، والثالثة لمن أجازة مشافهة دون إعطاء كتاب. ولذا ففي تقسيم الحافظ لها نوع إشكال عندي.
* وأفاد كلام الحافظ:(للإِجَازَةِ كَعَنْ) أن العنعنة تعني الإجازة في عرف المتأخرين كذلك.
* ثم استطرد الحافظ فقال:(وَعَنَعنةُ المُعَاصِرِ محمُولَةٌ عَلَى السَّماع إلاَّ من المُدَلِّسِ ، وقيل : يُشْتَرَطُ ثُبُوتُ لِقَائِهِما ولَوْ مَرَّةً ، وهُوَ المُخْتَارُ) ، أشار الحافظ إلى حكم العنعنة عند المتقدمين وأنهم اختلفوا على رأيين مشهورين فيها إذا كانت بين المتعاصرين أما عن غيرهم فهي إما مرسلة أو منقطعة :(1/98)
(الأول) : أن العنعنة محمولة على السماع بين المتعاصرين الذين يمكن لقاؤهما ما لم يكن الراوي المعنعن مدلساً ، وانتصر لهذا الرأي مسلم وادعى عليه الإجماع ، وعليه كثير من المتأخرين.
(الثاني) : أن العنعنة تحمل على السماع بين المتعاصرين إذا ثبت لقاؤهما ولو مرة واحدة ليحصل الأمن في باقي معنعنه لأنهم كانوا يرسلون كثيراً عمن عاصروه ولم يلقوه ، وهذا اختيار علي بن المديني والبخاري وأكثر المتقدمين ، وقال الحافظ عنه :( وهو المختار). لأن من اشترط انتفاء التدليس في الراوي الذي ثبت لقاؤه
وأطلقوا المشافهةَ فِي الإِجَازةِ المُتَلَفَّظ بهَا ، والمُكَاتبةَ في الإِجَازِة المَكْتُوبِ بِهَا ، واشتَرطُوا فِي صِحةِ المنَاوَلَةِ اقْتِرانَهَا بالإِذْنِ بالرِّوايةِ وهي أرفع أَنوَاعِ الإِجَازة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لزمه أن يشترط اللقي لحصول الأمن من إرسال المعاصر الذي لم يلق ، والأمن من تدليسه إذا حدث على سبيل إيهام السماع.
4- المناولة : وهي أن يدفع الشيخ أصل سماعه فيناوله الطالب فيأخذه ، وإنما أُخرت عن الإجازة لأنها قد لا يقترن بها الأذن بالرواية فعندئذ لا يصح الرواية بها عند الجمهور ، ولذا قال الحافظ :(واشتَرطُوا فِي صِحةِ المنَاوَلَةِ اقْتِرانَهَا بالإِذْنِ بالرِّوايةِ وهي أرفع أَنوَاعِ الإِجَازة) ، بأن يدفع الشيخ أصل سماعه فيناوله الطالب فيقول : هذه روايتي عن فلان فأروه عني. وشرطه أن يمكنه منه : إما بتمليك أو عارية وإلا فلا مزية لها على الإجازة المعينة التي عبر عنها الحافظ بعدها بالمشافهة ، كرواية كتاب دون مناولة.(1/99)
* يلاحظ هنا أن المحدثين ذكروا في ترتيبهم الإجازة ثم المناولة ، فلا يفهم هنا أن الحافظ خالفهم حين أخر الإجازة التي عبر عنها بالمشافهة عن المناولة حين قال:( ثُمَّ نَاوَلَني ، ثُمَّ شَافَهَني) ، لأن الحافظ أراد بالمناولة هنا المناولة المقترنة بالإجازة التي هي أعلى درجات الإجازة ودونها الإجازة مشافهة دون مناولة.
5- المكاتبة : وهي أن يكتب الشيخ شيئاً من حديثه بخطه أو يكتبه غيره بإذنه ثم يرسله إلى شخص غائب ولو عن مجلسه. والجمهور على جواز الرواية بهذا النوع من التحمل ولو لم يأذن له بالرواية بشرط أن يتحقق من خط الشيخ ، ويقول في الرواية: كتب إليّ فلان أو أخبرنا فلان مكاتبة. ودليل ذلك أن هذا النوع من التحمل أنه موجود في عهد السلف وكانوا يعتدون به في الرواية بل كاتب النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعوهم فقامت عليهم الحجة بالمكاتبة. وحق هذه المرتبة أن تذكر قبل مرتبة المناولة الغير مقترنة بالإجازة لكونها أقوى منها. وهنا تنبيهان أشار لهما الحافظ :
أ- قال الحافظ في ’’الشرح‘‘ : وقد ذهب إلى صحة الرواية بالكتابة المُجَردة جماعة من الأئمة ، ولو لم يقترن ذلك بالإذن بالرواية ، كأنهم اكتفوا في ذلك بالقرينة ،ولم يظهر لي فرق قوي بين مناولة الشيخ الكتاب من يده للطالب ، وبين إرساله إليه الكتاب من موضع إلى موضع آخر ، إذا خلا كلٌ عن الإذن أ.هـ. قلت : الفرق كما قال ملا علي قاري : قد يقال : في كتابة الشيخ وإرساله إلى الطالب قرينة قوية على الأذن بخلاف مناولته الكتاب في بلده أ.هـ. قلت : خاصة إذا كانت كتابة الشيخ للطالب جواباً لسؤاله ذلك فهو أقوى بالقرينة على الإذن كما أشار لذلك الزركشي ، ويضاف أيضاً في التفريق : أن المكاتبة كانت موجودة في عهد السلف مشهورة بينهم.
ب- قال الحافظ ابن حجر :(وأطلقوا المشافهةَ فِي الإِجَازةِ المُتَلَفَّظ بهَا ، والمُكَاتبةَ في الإِجَازِة(1/100)
وكذّا اشْتَرَطوا : الإِذْنَ في الوِجادَةِ والوصِيةِ بالكتاب ، وفي الإِعْلاَم. وإِلاَّ فَلا عِبْرَة بِذَلكَ كالإِجَازَةِ العَامَّةِ وللمَجهُولِ وللمَعْدُومِ على الأصحِّ في جَميْعِ ذَلِكَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المَكْتُوبِ بِهَا). ذكر الحافظ هنا أن بعض المحدثين ـ وهذا بعد الخمسمائة ـ يقول تجوزاً وتساهلاً : شافهني فلان ، ومراده أنه تلفظ لي بالإجازة بأن قال : أجزتك لك كذا لا أنه سمع الحديث من لفظه. وبعضهم يقول : كتب إلي ، ومراده كتب إلي بالإجازة لا أنه كتب إليه بحديثه. قال الحافظ : وهو موجود في عبارة كثير من المتأخرين ، بخلاف المتقدمين فإنهم إنما يطلقونها فيما كتبه الشيخ من الحديث إلى الطالب، سواء أّذِنَ له في روايته أو لا ، لا فيما إذا كتب إليه بالإجازة فقط.
6- الإعلام : وهي أن يعلم الشيخ تلميذه بأن هذا الكتاب سماعه من فلان من غير أن يأذن له في روايته. والفرق بينها وبين المناولة أنها مجرد إخبار تجرد عن الإعطاء.
7- الوصية : وهي أن يوصي عند موته أو سفره لشخص معين بأصله أو بأصوله دون أن يأذن له بروايته.
8- الوجادة : وهي أن يجد حديثاً أو كتاباً بخط يعرف كاتبه ، فيقول : وجدت بخط فلان ، فلا يسوغ أن يقول : أخبرني إلا إذا كان منه له إذن بالرواية. والوجادة ليست من باب الرواية وإنما من باب الإخبار عما وجد في الكتاب ، وأما العمل بها فنعم ، إذا تيقن بالخط ؛ قال ابن الصلاح : وهذا الذي لا يتجه غيره في الأعصار المتأخرة لتعذر شروط الرواية في هذا الزمان.(1/101)
* وذهب إلى عدم صحة الرواية بها الجمهور لذا قال الحافظ بعد ترجيحه لشرط الإذن بالرواة لصحة المناولة:(وكذّا اشْتَرَطوا : الإِذْنَ في الوِجادَةِ ، والوصِيةِ بالكتاب ، وفي الإِعْلاَم. وإِلاَّ فَلا عِبْرَة بِذَلكَ كالإِجَازَةِ العَامَّةِ وللمَجهُولِ وللمَعْدُومِ على الأصحِّ في جَميْعِ ذَلِكَ) ، المقبول في الإجازة أن تكون الإجازة من معلوم لمعلوم كأن يقول : أجزتك صحيح البخاري وأشار الحافظ إلى أنواع من التساهل في الإجازة :
1- أن يجيز إجازة عامة وهي من قسم الإجازة للمجهول كأن يقول : أجزت لجميع المسلمين.
2- أن يجيز لمجهول مبهماً كان أو مهملاً كأن يقول : أجزت كتابي لمن أدرك حياتي وهذه جهالة إبهام ، أو لمحمد بن خالد ، وفيه عدة أشخاص بهذا الاسم لم يتميزوا ، فهذه جهالة إهمال.
3- أن يجيز لمعدوم كأن يقول : أجزت لك ولمن يولد لك من عقبك.
4- أن يجيز إجازة لمعلوم متعلق بمشيئة الغير ، إن شاء فلان.
كل هذه الأنواع وغيرها يتفرع منها لا تصح الرواية بها كما رجحه الحافظ بقوله:(على الأصحِّ في جَميْعِ
ثُمَّ الرواةُ إنْ اتَّفَقَت أَسمَاؤهُم وأَسْماءُ آبائِهِم فَصَاعِداً واخْتَلَفتْ أَشخَاصُهُم : فهو المُتَّفِقُ والمُفْتَرِقُ. وإِنْ اتَّفَقَتِ الأَسْمَاْءُ خَطَاً واخْتَلَفتِ نُطْقَاً فهو : المؤْتِلفُ والمُخْتَلِفُ. وإِنْ اتَّفَقَتِ الأَسْمَاْءُ واخْتَلَفتِ الآبَاءُ ، أو بالعَكسِ : فهُو المُتَشابِهُ. وكذا إنْ وَقعَ الاِتْفاقُ فِي الاِسْمِ واسْمِ الأَبِ والاخْتِلافٌ فِي النِّسْبَةِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ذَلِكَ) ، ومثله أن تكون الجهالة بالمجاز به كقوله: أجزتك ببعض مروياتي أو ما سأسمعه في البلد الفلاني.(1/102)
* ثم قال الحافظ (ثُمَّ الرواةُ إنْ اتَّفَقَت أَسمَاؤهُم وأَسْماءُ آبائِهِم فَصَاعِداً واخْتَلَفتْ أَشخَاصُهُم : فهو المُتَّفِقُ والمُفْتَرِقُ). انتقل الحافظ لنوع من الفن يعالج الاشتباه الذي قد يحصل في ضبط أسماء الرواة ، فذكر أولاً ما يسمى المتفق والمفترق ، وهو أن يكون شخصان أو أكثر يتفقون بأسمائهم وأسماء آبائهم وربما بكناهم وأنسابهم ، مثاله حديث الترمذي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج من الخلاء قال :"غفرانك". رواه من طريق شيخه محمد بن إسماعيل. وله أربعة شيوخ كلهم يسمى محمد بن إسماعيل : الأول البخاري ، والثاني البَختري ، والثالث السراج ، والثالث الترمذي السلمي. قال بعض شراح الترمذي هو السلمي ، والصواب أنه البخاري لقاعدة المهمل ولأنه جاء هكذا في "الأدب المفرد" للبخاري. وقد ذكر الخطيب في مصنفه "المتفق والمفترق" ستة من الرواة كلهم يسمى أسامة بن زيد ، فساقهم مبيناً طبقاتهم وشيوخهم وشيئاً من حديثهم. وإنما فائدته بأن لا يظن الشخصان أو الأكثر شخصاً واحداً لكونهما متعاصرين ، وتعظم المشكلة إذا كان أحدهما ضعيف.
* ثم قال الحافظ (وإِنْ اتَّفَقَتِ الأَسْمَاْءُ خَطَاً واخْتَلَفتِ نُطْقَاً فهو : المؤْتِلفُ والمُخْتَلِفُ). وهذا الذي ذكره الحافظ ما يسمونه ’’المؤتلف والمختلف‘‘ وهو أن تتفق الأسماء خطاً وتختلف نطقاً سواء كان مرجع الاختلاف النقط كالجَمَّال والحَمَّال ، أو مرجعه الشكل وهو الأكثر كبَشِير وبُشَيْر ، وعُبَيدة وعَبِيْدة ، وحِبَّان وحَبَّان. وقد ذكروا أن أشد التصحيف ما يقع في الأسماء ، وقد وقع فيه بعض الأكابر كيحيى بن معين حين صحف مراجم بمزاحم ، ولذا اعتنوا به عناية بالغه فألف فيه العسكري وأفرده عبد الغني بن سعيد ثم الدارقطني ثم الخطيب ثم خاتمتها وجامع ما فيها كتاب "الإكمال" لابن ماكولا.(1/103)
* ثم قال الحافظ (وإِنْ اتَّفَقَتِ الأَسْمَاْءُ واخْتَلَفتِ الآبَاءُ ، أو بالعَكسِ : فهُو المُتَشابِهُ. وكذا إنْ وَقعَ الاِتْفاقُ فِي الاِسْمِ واسْمِ الأَبِ والاخْتِلافٌ فِي النِّسْبَةِ). بين الحافظ هنا نوعاً آخر من أنواع ،
الاختلاف وهو المسمى بـ"المتشابه" ، وذكر له أمثلة :
ويتَرَكَّبُ مِنْهُ وممَا قَبلَه أَنْوَاعٌ : منها أَنْ يَحصُلَ الاتِّفَاقُ أو الاشْتِبَاهُ إلاَّ فِي حَرفٍ أَو حَرْفيْنِ أو بالتَّقدِيمِ والتَّأخِيرِ ، أو نَحوِ ذَلِكَ.
(خاتمة)
وَمِنَ المُهِمِّ : معرفةُ طبقاتِ الرُّواةِ……………………………………………
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- إن اتفقت الأسماء واختلفت الآباء ، كمحمد بن عَقِيل ـ بفتح العين ـ ، ومحمد بن عُقَيل ـ بضمها ـ ، وهما مشهوران وطبقتهما متقاربة. وموسى بن عَلي ـ بفتح العين ـ ، وموسى بن عُلَي ـ بضمها ـ.
2- إن اختلفت الأسماء واتفقت الآباء ، كشُرَيح بن النعمان ، وسُريج بن النعمان بالمهملة ، فالأول بالشين المعجمة والحاء تابعي يروي عن عليٍّ - رضي الله عنه - ، والثاني بالسين المهملة والجيم من شيوخ البخاري.
3- أن تتفق في الاسم واسم الأب وتختلف النسبة ، ولم يذكر له الحافظ مثالاً ، لكن يمكن تصوره لو أن اثنين متفقين في الاسم واسم الأب وأحدهما يقال له : الزُّبيري بضم الزاي ، والثاني يقال له : الزَّبيري بفتحها ، وعلى هذا فقس.
* ثم قال الحافظ (ويتَرَكَّبُ مِنْهُ وممَا قَبلَه أَنْوَاعٌ : منها أَنْ يَحصُلَ الاتِّفَاقُ أو الاشْتِبَاهُ إلاَّ فِي حَرفٍ أَو حَرْفيْنِ أو بالتَّقدِيمِ والتَّأخِيرِ ، أو نَحوِ ذَلِكَ). قسم الحافظ هذا المركب إلى قسمين :(1/104)
(الأول) : أن يكون الاختلاف بالتغيير مع أنَّ عدد الحروف ثابت في الجهتين ، كمحمد بن سنان ـ بكسر السين ونونين بينهما ألف ـ ومحمد بن سَيَّار ـ بفتح السين وتشديد الياء التحتانية ـ ، ومنها محمد بن حُنَين ـ بضم الحاء المهملة ونونين ـ ومحمد بن جبير ـ بالجيم بعدها باء موحدة ـ.
(الثاني) : أن يكون الاختلاف بالتغيير مع نقصان بعض الأسماء عن بعض ، عبد الله بن زيد وعبد الله بن يزيد ، وعبد الله بن يحيى وعبد الله بن نُجَي.
(الثالث) : أن يكون الاختلاف والاشتباه بالتقديم والتأخير مع الاتفاق في الخط والنطق ، وهو نوعان :
أن يقع التقديم والتأخير في الاسمين جميعاً ويسمى المشتبه المقلوب ، كالأسود بن يزيد ويزيد بن الأسود ، والوليد بن مسلم ومسلم بن الوليد.
2- أن يقع التقديم والتأخير في الاسم الواحد في بعض حروفه بالنسبة إلى ما يشتبه به ، كأيوب بن سيَّار وأيوب بن يسار.
* ثم قال الحافظ: (خاتمة : وَمِنَ المُهِمِّ : معرفةُ طبقاتِ الرُّواةِ…). ختم الحافظ مختصره ببيان أمور مهمة ينبني عليها ضبط الأسانيد ابتدأها بمعرفة طبقات الرواة : قال الحافظ في ’’الشرح‘‘ :"والطبقة هي
…………………………………………………………………………….
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عبارة عن :"جماعة تعاصروا زمناً ، واشتركوا في صفة ما كلقاء المشايخ ، أو في النزول في مكان ما ، أو في أي صفة تربط بينهم على حسب مراد مصنف الطبقة كأن يصنف المحدث في طبقات الحفاظ أو الفقهاء أو النحويين ونحو ذلك". أما في اصطلاح المحدثين فقد قال الحافظ هي :"عبارة عن جماعة اشتركوا في السِّن ولقاء المشايخ". لكن لا يلزم أن يتساويا في السن تماماً أو في لقاء كل المشايخ.
*مناهج المحدثين في تقسم الطبقات:(1/105)
الأول : منهم من قسم الطبقة على القرون أو الأجيال كما فعل ابن حبان حين جعل الصحابة طبقة ثم التابعين طبقة ثم أتباعهم ، وهكذا. ويؤيد هذا الصنيع قوله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الشيخان عن عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :"خَيْرُكُمْ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ".
الثاني : ومنهم من قسم على البلدان ؛ فتجده قد ألف في بلد معين على الطبقات الزمنية لهذا البلد مبتدأً بالصحابة ثم من بعدهم كما فعل أسلم بن سهل المعروف ببحشل.
الثالث : من جمع بين القسمين البلدان وطبقات أهلها ؛ فتجده يرتب الطبقات الزمنية لبلد معين فيبدأ بأهل المدينة مثلاً ويقسمهم إلى طبقات مبتدأً بالصحابة ثم من بعدهم ، ثم ينتقل إلى مكة مثلاً فيقسم أهلها إلى طبقات كذلك ، وهكذا سائر البلدان ، كصنيع ابن سعد وخليفة بن خياط وغيرهم على اختلاف بينهم في ترتيب البلدان ، واختلاف في الترتيب داخل هذه البلدان حسب السابقة أو السن أو النسب.
الرابع : من قسم الطبقة على ما ذكره الحافظ بحسب تقارب السن ولقاء المشايخ ، وهو الذي طبقه الحافظ في كتابه ’’التقريب‘‘ حين قسم طبقة التابعين مثلاً إلى أقسام : الطبقة الكبرى كابن المسيب ، ثم الطبقة الوسطى كابن سيرين ، ثم طبقة تلي الوسطى جلُّ روايتهم عن كبار التابعين كقتادة ، ثم الطبقة الصغرى منهم كالأعمش ، ثم طبقة عاصروا الصغرى ولم يثبت لهم لقاء أحد من الصحابة كابن جريج. وهذا الترتيب مشابه للقسم الأول الذي يرتب على حسب القرن والجيل ، لكن يخالفه من حيث أنه أدق وأضيق زمناً. ومن هذا القسم من يحدد الطبقة بعشر سنوات أو عشرين ونحوها.
* أشار الحافظ في ’’الشرح‘‘ إلى مسألتين في تقسيم طبقات الصحابة :(1/106)
الأولى : أن من نظر إلى الصحابة باعتبار الصحبة جعل الجميع طبقة كما صنع ابن حبان وغيره ، ومن نظر إليهم باعتبار قدر زائد كالسَّبق إلى الإسلام أو شهود المشاهد المفضلة جعلهم طبقات ، وإلى ذلك جنح صاحب
…………………………………………………………………………….
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الطبقات أبو عبد الله محمد بن سعد الواقدي. قلت : ومثلهم من دونهم فقد يجعل أحدهم التابعين طبقة واحدة كصنيع ابن حبان في التقسيم الأول كذلك ، ومنهم من يقسمهم إلى طبقات باعتبار السن واللقي كصنيع الحافظ في التقسيم الرابع.
الثانية : أنه قد يكون الشخص الواحد من طبقتين باعتبارين ؛ كأنس بن مالك ، فإنه من حيث ثبوت صحبته للنبي - صلى الله عليه وسلم - يُعَدُّ في طبقة العشرة مثلاً ، ومن حيث صِغَرُ السِّنِ يُعَدُّ في طبقة من بعدهم. قلت : بل ربما ذكر ابن حبان الراوي مثلاً في طبقة الصحابة ثم أعاده في طبقة التابعين. وهذا يقع : إما وهماً ، وإما لاختلاف وقع في رواية الحديث فتجده يروي مرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً ومرة يذكر الواسطة. وربما كان لاختلاف في وفاته عند من يرتب على وفيات الرواة كالذهبي في ’’تاريخ الإسلام‘‘.
* أما فائدة معرفة الطبقات فمهةٌ جداً كما قال الحافظ لأمور منها:(1/107)
1- الأمن من تداخل المشتبهين في الاسم أو الكنية كما في المتفق والمفترق خاصة إذا كان أحدهما ضعيفاً ، كما في ترجمة رجل تابعي يدعى جبير بن أبي صالح يروي عن الزهري وعنه ابن أبي ذئب. لكن جاء في بعض الأسانيد ما يظهر منه أنه روى عن أبي هريرة- رضي الله عنه - حديثين يرويهما عنه يزيد بن أبي زياد ويحيى بن يزيد في فضل صلاة الجنازة وفي ثمن الحَرِيْسَةِ ، ففرق بينهما البخاري وأبو حاتم وابن حبان ، وذكر ابن حجر أحد حديثي الأخير ونقل تفريق البخاري بينهما ثم رجح أنه غير الذي يروي عن الزهري ، فقال:"فهذا أقرب أن يكون المراد ؛ لأن الذي يروي عن الزهري يصغر عن الرواية عن أبي هريرة". مثله حين ترجم البخاري لراويين كلاهما يدعى الربيع بن بدر ، فذكر في ترجمة الأول أنه سعدي بصري يروي عن أبي الزبير وأيوب السختياني وهو مشهور بالضعف. وذكر في ترجمة الآخر روايته عن مولاه طلحة بن عبد الله بن عوف القرشي. وفصل البخاري بينهما في الطبقة لأن الأول يروي عن أصاغر التابعين والثاني عن أواسطهم. مع كون الأول بصري وينسب أنه سعدي تميمي والثاني شيخه والراوي عنه مدنيان وهو مولى لزهري قرشي.
2- معرفة السقط في الأسانيد والأحاديث المرسلة كما إذا روى رجل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فنظرنا فإذا هو من طبقة التابعين. أو المدلسة كما فعل أبو حاتم حين روى بقية بن الوليد عن أبي وهب الأسدي عن نافع عن ابن عمر حديث:"لا تحمدوا إسلام المرء حتى تعرفوا عقدة رأيه". فعرف أن بقية دلس تدليس الشيوخ حين نظر في طبقة تلاميذ نافع فوجد فيهم إسحاق بن أبي فروة ، ثم نظر في طبقة تلاميذ ابن أبي فروة فوجد فيهم عبيد الله بن عمرو الرقي وأنه يكنى أبا وهب وينسب لبني أسد على غير شهرة بذلك ، فعرف أن الحديث
ومَوالِيدِهم ، ووَفَيَاتِهِم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(1/108)
يرويه بقية عن عبيد الله بن عمرو الرَّقي عن إسحاق بن أبي فروة عن نافع عن ابن عمر ، فأسقط بقية ابن أبي فروة فدلس تدليس التسوية.
3- معرفة الخطأ في الأسانيد كما روى أحد المحدثين حديثاً من طريق سفيان الثوري عن أبي الزبير عن
إبراهيم النخعي ، فقال له البخاري ـ وكان غلاماً ـ : أبو الزبير لم يرو عن إبراهيم. فانتهره ، فقال له :
ارجع إلى أصلك ، فدخل ثم خرج وهو يقول : هو الزبير بن عدي عن إبراهيم ، وأخذ القلم فأصلحه. عرف البخاري ذلك بكون أبي الزبير لا يروي عن العراقيين ، وبمعرفته بمن لقيهم الثوري من أصحاب إبراهيم.
4- تقدير مواليد العلماء ووفياتهم وتصحيح الأخطاء الواقعة في ذلك ، كما ذكر البخاري في ’’تاريخه الكبير‘‘ أن محمد بن يحيى بن سعيد القطان البصري توفي سنة(223هـ). لكن في ترجمته في ’’التهذيب‘‘ نقل ابن حجر تضعيف الذهبي لذلك لأن أبا يعلى الموصلي والحسن بن سفيان وهما ممن روى عنه لم يدخلا البصرة إلا بعد موت أبي الوليد الطيالسي المتوفى سنة(227هـ). ولذا فقد طبق الذهبي تخطئة ذكر وفاة القطان في سنة(223هـ) اعتماداً على علم الطبقات من وجهين : أ- أنه نظر في تلاميذه الرواة عنه فوجد أبا يعلى الموصلي والحسن بن سفيان ، وحيث إنهما لا يرويان عن الطيالسي إلا بواسطة تلاميذه ، فاستنبط من ذلك أنهما لم يدخلا البصرة إلا بعد وفاته سنة(227هـ) ، إذ لو دخلاها في حياته قبل ذلك لبادرا بالسماع منه إذ هو أعلى أهل البصرة إسناداً وثقة. ب- إذا ثبت أن دخولهما للبصرة سنة بعد سنة (227هـ) وفيها سمعا من القطان فدل هذا على أنه كان حياً ذلك الوقت ، ولذا ذكر ابن حجر أن ابن مردويه أرخ وفاته سنة(233هـ).(1/109)
* ثم قال الحافظ (ومَوالِيدِهم ، ووَفَيَاتِهِم ). وهذا أهم من معرفة الطبقات لأن به يحصل معرفة اتصال السند من عدمه والتأكد من دعوى لقاء بعض الرواة بغيرهم على سبيل الجزم ، قال الحميدي : "ثلاثة أشياء من علم الحديث يجب الاهتمام بها ، العلل ، والمؤتلف والمختلف ، ووفيات الشيوخ". وقد تقدم عند قول الحافظ عن السقط ( ثم قد يكون واضحاً أو خفياً : فالأول يدرك بعدم التلاقي ، ومن ثم احتيج إلى التأريخ). قول سفيان الثوري : لما استعمل الرواة الكذب ، استعملنا لهم التأريخ. وأن المحدثين اهتموا بذكر تاريخ الوفيات والمواليد للفحص عن أحوال الرواة وما يدعونه من السماع واللقي بالمشايخ ، فألفوا الكتب الخاصة بذلك ، وذكرت ما روى الخطيب في ’’الكفاية‘‘ عن عفير بن معدان الكلاعي قال : قدم علينا عمر بن موسى حمص ، فاجتمعنا إليه فجعل يقول: حدثنا شيخكم الصالح. فلما أكثر ، قلت له : من شيخنا الصالح سمه لنا نعرفه ، قال : خالد بن معدان ، قال : قلت له : في أي سنة لقيته ؟ قال : لقيته سنة
وبُلْدَانهِمْ. وأَحَوالِهِمِ : تَعْدِيْلاً وتَجْرِيْحاً وجَهَالَةً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ثمان ومائة ، قال : قلت له : فأين لقيته ؟ قال : في غزوة أرمينية ، قال : فقلت له : اتق الله يا شيخ ولا تكذب ، مات خالد بن معدان سنة أربع ومائة ، وأنت تزعم أنه حدثك بعد موته بأربع سنين ، وأزيدك أنه لم يغز أرمينية قط كان يغزو الروم.(1/110)
* ثم قال الحافظ (وبُلْدَانهِمْ). أشار الحافظ إلى أن فائدة ذلك هو الأمن من تداخل الاسمين إذا اتفقا لفظاً وخطاً وافترقا في النسب ، فنعرف أيهما الراوي برواية أهل بلده عنه. قلت : ويستفاد منه أمر مهم آخر هو عدم سماع الرواة من بعضهم على مذهب البخاري وجمهور المتقدمين الذين يشترطون ثبوت اللقاء ولو مرة واحدة. مثال ذلك : حديث يرويه ابن خزيمة والحاكم من طريق أبي معيد حفص بن غيلان الشامي عن طاوس بن كيسان اليماني عن أبي موسى الأشعري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :"إن الله عز وجل يبعث الأيام يوم القيامة على هيأتها ،ويبعث يوم الجمعة وهي زهراء منيرة أهلها محفون بها…" الحديث. قال ابن خزيمة في صحيحه:"إن صح الخبر ، فإن في النفس من هذا الإسناد" ، وصححه الحاكم والألباني و حسنه المنذري والدمياطي واستغربا متنه ، إلا أن أبا حاتم أبان لنا علته في ’’العلل‘‘ حين قال :"مرسل لأن أبا معيد لم يدرك طاوساً". مع أننا لو نظرنا إلى أبي معيد لوجدناه يروي عن طبقة طاوس كعطاء بن أبي رباح ، ولذا فالذهبي وضعه في طبقة الأعمش وعبد الله بن عون وهما قد أدركا من هو أقدم من طاوس ، فمعاصرة أبي معيد ظاهرة جلية عند التأمل ، وهنا تبرز أهمية معرفة بلدان الرواة ، كما بينه الحافظ ابن رجب في ’’شرح العلل‘‘ حين قال: ومما يستدل به أحمد وغيره من الأئمة على عدم السماع والاتصال : أن يروي عن شيخ من غير أهل بلده لم يعلم أنه رحل إلى بلده ، ولا أن الشيخ قدم إلى بلد كان الراوي عنه فيه أ.هـ". قلت : فالراوي شامي يروي عن يمني ، فلعل هذا هو سر قول أبي حاتم. وهنا قد يرد سؤال سائل فيقول : لماذا عبّر أبو حاتم بقوله "إن أبا معيد لم يدرك طاوساً" مع ظهور معاصرته له ، والجادة أن يقول : لم يسمع منه ؟ فالجواب ما أشار إليه ابن رجب حين قال: (إذا قال بعضهم: لم يدركه ، فمرادهم الاستدلال على عدم السماع منه بعدم الإدراك).(1/111)
* ثم قال الحافظ (وأَحَوالِهِمِ : تَعْدِيْلاً وتَجْرِيْحاً وجَهَالَةً). وهذه المعرفة هي تحقيق للشرطين الأولين من شروط الحديث الخمسة ، وهي : ثبوت عدالة الرواة وضبطهم كما قدمنا معناها عند تعريف الحديث الصحيح.
* والراوي لا يخرج عن أحوال ثلاثة : إما أن تعرف ثقته أو يعرف ضعفه أو لا يعرف شيء من ذلك عنه
ومراتب الجرح.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيكون مجهولاً ، وقد تقدم بيان معنى الجهالة عند قول الحافظ :(فإن سمي وانفرد واحد عنه فمجهول العين ، أو اثنان فصاعداً ولم يوثق فمجهول الحال ، وهو المستور).
* ولا بد من الرجوع لمعرفة ما في الرواة من الجرح والتعديل إلى الكتب العامة المؤلفة فيه : كـ ’’التاريخ الكبير‘‘ للبخاري ، و’’الجرح‘‘ لابن أبي حاتم. أو للمؤلفة خاصة في أحد نوعيه كـ’’الثقات‘‘ لابن حبان وللعجلي ، و ’’المجروحين‘‘ لابن حبان و ’’الكامل في الضعفاء‘‘ لابن عدي ، وغيرها. مع التثبت في دقة نقل أقوال الأئمة ومعرفة دلالالتها خشية وقوع الخطأ ، ونذكر مثالين على ذلك :
(أ) فقد يقع الوهم في النقل عن أحد الأئمة كما جاء في ’’الجرح‘‘ في ترجمة إسرائيل بن يونس أن ابن مهدي قال عنه :"كان إسرائيل في الحديث لصاً . يعني : يتلقف العلم تلقفاً" ، فنقلت لنا في المطبوع من كتاب ’’التهذيب‘‘ لابن حجر :"إسرائيل لص يسرق الحديث" ، فانقلب التعديل الذي في العبارة الأولى إلى أسوأ الجرح كما في العبارة الثانية.
(ب) وقد يكون الوهم في فهم دلالات أقوال الأئمة كقول ابن معين عن راوي :"ليس بشيء" ، فيحتمل أنه أراد تضعيفه وهو الأكثر ويحتمل أنه أراد أن حديثه قليل ، فلابد من مراعاة ذلك.(1/112)
* ثم قال الحافظ (ومراتب الجرح). أي : ومن المهم بعد معرفة ما في الراوي من جرح وتعديل دقة تنزيل هذا الألفاظ على المراتب المعروفة عند أهل العلم في الجرح والتعديل ، وبناء على ضبط ذلك يتبين مكانة الرجل من حيث العدالة والضبط ومن ثم معرفة مرتبة حديثه ، وأول من قسم ألفاظ الجرح والتعديل في مراتب هو ابن أبي حاتم في كتابه الجليل ’’الجرح والتعديل‘‘ ، وكان قد ذكر تحت فصل طبقات الرواة كلاماً عن أهمية معرفة مراتب الجرح أنقله بمعناه حيث قال: ومن ثم احتيج إلى تبيين طبقاتهم ، ومقادير حالاتهم ، وتباين درجاتهم ليعرف من كان منهم في منزلة الانتقاد والجَهْبذة و هم أهل التزكية والتعديل. ومن كان من أهل التثبت والإتقان وهم أهل العدالة. ومنهم الصدوق الذي يهم أحياناً فيحتج بحديثه أيضاً. ومنهم الصدوق المغفل الغالب عليه الوهم فيكتب من حديثه الترغيب والترهيب ولا يحتج بحديثه في الحلال والحرام. ومنهم من ألصق نفسه بهم ممن ظهر للنقاد منهم الكذب فهذا يترك حديثه .أ.هـ بتصرف. ولذلك على الباحث أن ينظر في تحرير ألفاظ المحدثين ودلالاتها ومن ثم تنزيلها على إحدى هذه المراتب ليعرف على وجه الدقة مكانة هذا الراوي من الجرح والتعديل مع مراعاة أمور :
وأسْوَءُهَا : الوصف بأَفْعَل ؛ كأَكْذَبِ النَّاسِ. ثُمَّ دَجَّالٌ ، أَوْ : وضَّاعٌ ، أَوْ : كَذَّابٌ. وأَسْهَلُهَا : لَيّنٌ ، أَوْ : سَيِّئُ الحِفْظِ ، أَوْ : فِيهِ مَقَالٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(1/113)
أ- اختلاف المحدثين في طريقتهم تجاه الرواة ، ولذا قسم الذهبي في رسالة له النقاد إلى متساهل ومتشدد ومعتدل ، وقال على سبيل المثال في ترجمة أبي حاتم الرازي : "إذا وثق أبو حاتم رجلاً فتمسك بقوله فإنه لايوثق إلا رجلاً صحيح الحديث ، وإذا لين رجلاً ، أو قال فيه : لا يحتج به ، فتوقف حتى ترى ما قال غيره فيه". وقال في ترجمة قرينه أبي زرعة:"يعجبني كثيراً كلام أبي زرعة في الجرح والتعديل ، يَبِينُ عليه الورع والمَخْبَرة".
ب- معرفة اختلاف المحدثين في مرادهم في لفظ الجرح والتعديل ، فعلى سبيل المثال لفظ "منكر الحديث" على المشهور بمعنى تفرد الراوي الضعيف بالحديث أو مع مخالفته للثقات كما تقدم عند تعريف الحافظ للمنكر ، لكن الإمام أحمد قد يطلق هذا اللفظ على تفرد الثقة ولو لم يخالف ، قال ابن حجر :"هذه اللفظة يطلقها أحمد على من يغرب على أقرانه بالحديث ، عرف ذلك بالاستقراء من حاله". وتقدمت الإشارة لذلك في تعريف الحديث الشاذ. وأما البخاري فقد نقل الذهبي في أول ’’الميزان‘‘ أنه قال :"كل من قلت فيه : منكر الحديث ، فلا تحل الرواية عنه".(1/114)
ج- معرفة بعض اصطلاحات الأئمة الخاصة قبل تنزيلها في هذه المراتب كقول البخاري "سكتوا عنه" ، قال الذهبي :"علمنا مقصده بالاستقراء أنها بمعنى تركوه". أو النادرة التي لا تعرف على قياس كقول مالك عن عطّاف بن خالد المدني "ليس هو من جمال المحامل" ، وهي عبارة جرح فشبهه بالجمل الضعيف الذي لا يقوى على حمل الهوادج ونحوها ، فكذلك هو لا يقوى على تحمل الحديث وروايته ، ولذا قال البخاري: لم يحمده مالك. وقال ابن حجر عن شيخه العراقي أنه كان يقول عن لفظ "على يدي عدل" أنه لفظ توثيق ويضبطها بكسر الدال الأولى ويرفع اللام وينونها ، قال إلى أن ظهر لي أنها عند أبي حاتم من ألفاظ التجريح ، وذلك أن ابنه قال في ترجمة جُبارة بن المُغَلِّس : سمعت أبي يقول : هو ضعيف الحديث. ثم سألت أبي عنه فقال : على يدي عدل. ثم حكى أقوال الحفاظ فيه بالتضعيف ، ولم ينقل عن أحد فيه توثيقاً.
* ثم قال الحافظ (وأسْوَؤُهَا : الوصف بأَفْعَل ؛ كأَكْذَبِ النَّاسِ. ثُمَّ دَجَّالٌ ، أَوْ : وضَّاعٌ ، أَوْ : كَذَّابٌ. وأَسْهَلُهَا : لَيّنٌ ، أَوْ : سَيِّئُ الحِفْظِ ، أَوْ : فِيهِ مَقَالٌ). أجمل الحافظ هنا مراتب الجرح مبيناً أشدها وأسهلها ، وأول من ذكر مراتب الجرح والتعديل هو ابن أبي حاتم الرازي في مقدمة
…………………………………………………………………………….
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
’’الجرح والتعديل‘‘ ، قسم مراتب الجرح إلى أربع مراتب حيث ذكر أعلاها الكذاب والمتروك ثم ضعيف الحديث ، ثم من قيل فيه : ليس بقوي ، ثم لين الحديث. ثم جاء المحدثون بعده فتابع جماعة ـ منهم ابن أبي حاتم ـ على ذلك ، وأدخل بعضهم تعديلاً بفصل بعض هذه المراتب مع تحرير ألفاظ الأئمة وتنزيلها على هذه المراتب. وسأذكرها على ما استقر عليه الأمر من تقسيمها إلى ست مراتب:(1/115)
الأولى : الوصف بما يدل على المبالغة فيه ؛ كأكذب الناس ، ومثله : ركن الكذب ، وإليه المنتهى في الوضع ونحوها. وهي التي عبر هنا الحافظ بقوله:"أسْوَؤُهَا : الوصف بأَفْعَل ؛ كأَكْذَبِ النَّاسِ".
الثانية : وهي التي عبر هنا الحافظ بقوله:"ثُمَّ دَجَّالٌ ، أَوْ : وضَّاعٌ ، أو كذاب". ومثله : يختلق الحديث أو يفتعل الحديث أو يزيد في الرقم ونحو ذلك من العبارات. وقد جعل جماعة من المحدثين كالذهبي هذه المرتبة هي الأولى ولم يفرقوا بين الوصف بالكذب أوالمبالغة فيه تبعاً لابن أبي حاتم في ’’الجرح‘‘.
الثالثة : كقولهم : متهم بالكذب أو بالوضع ، أو ساقط ، أو هالك ، أو ذاهب الحديث ، أو متروك الحديث ، أو مجمع على تركه. أو لا يعتبر بحديثه أو ليس بثقة ونحو ذلك من العبارات. وفي هذه المرتبة قول البخاري :"سكتوا عنه" أي تركوه.
الرابعة : ضعيف الحديث ، أو لا يكتب حديثه ، أو واهٍ بمرةٍ ، أو ليس بشيء ، أو مُطَّرح الحديث ، أو مردود الحديث ، ونحو ذلك من العبارات. وفي هذه المرتبة قول البخاري خاصة:"منكر الحديث". وقد دمج جماعة من المحدثين هذه المرتبة واللتين قبلها في مرتبة واحدة كابن الصلاح تبعاً لابن أبي حاتم لكن استقر الأمر على ما ذكر من الفصل.
الخامسة : كقولهم : فلان ضعيف ، أو ضعفوه ، أو منكر الحديث ـ عند غير البخاري ـ ، أو حديثه منكر ، أو مضطرب الحديث ، أو مجهول. وهذه اللفظة الأخيرة وضعها بعض العلماء بعد هذه المرتبة في أسهل التجريح.
السادسة : وهي التي قال عنها الحافظ : (وأَسْهَلُهَا : لَيّنٌ ، أَوْ : سَيِّئُ الحِفْظِ ، أَوْ : فِيهِ مَقَالٌ) ، ومثله: فيه ضعف ، أو ليس بالقوي ، أو ليس بذاك ونحو ذلك من العبارات. مع ملاحظة أن جماعة من المحدثين تبعاً لابن أبي حاتم جعلوا من قيل فيه :"ليس بالقوي" بمرتبة قبل مرتبة من قيل فيه:"لين الحديث" الذي جعلوه أسهل مراتب الجرح.(1/116)
* وذكر السخاوي أن الحكم في المراتب الأربع الأول أنه لا يحتج بواحد من أهلها ولا يستشهد به ولا
ومراتب التعديل : وأَرْفعُها : الوصف بأَفعَلَ ؛ كـ : أوثَقِ النَّاسِ ، ثّمَّ ما تَأكَدَ بصفةٍ أو
صِفَتَيْنِ ؛ كـ : ثِقَةٌ ثِقَةٌ ، أو : ثِقَةٌ حَافِظٌ. وأَدْنَاهَا : ما أَشْعَر بالقُربِ مِنْ أَسْهَلِ التَّجْرِحِ ؛ كـ شَيْخٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يعتبر، وكل من ذكر بعد الأربع يخرج حديثه للاعتبار لإشعار هذه الصيغة بصلاحية المتصف بها لذلك وعدم منافاتها لها.
* ثم قال الحافظ : (ومراتب التعديل : وأَرْفعُها : الوصف بأَفعَلَ ؛ كـ : أوثَقِ النَّاسِ…) إلى قوله (وأَدْنَاهَا : ما أَشْعَر بالقُربِ مِنْ أَسْهَلِ التَّجْرِحِ ؛ كـ شَيْخٌ). كذلك أجمل الحافظ هنا مراتب
التعديل مبيناً أشدها وأسهلها ، وقد قسم ابن أبي حاتم مراتب التعديل إلى أربع مراتب : الأولى : "ثقة" أو "ثقة متقن" ، فهو ممن يحتج بحديثه. والثانية : "صدوق" أو "محله الصدق" ، وهو ممن يكتب حديثه وينظر فيه. والثالثة : "شيخ" ، فهو يكتب حديثه وينظر فيه إلا أنه دون الثانية. الرابعة : "صالح الحديث" ، يكتب حديثه للاعتبار. وسأذكرها مفصلة على ما استقر عليه الأمر من تقسيمها إلى ست مراتب:
الأولى : الوصف بما يدل على المبالغة فيه ، وهو ما عبر عنه الحافظ ابن حجر بقوله :( وأَرْفعُها : الوصف بأَفعَلَ ؛ كـ : أوثَقِ النَّاسِ) ، ومثله : أثبت الناس ، أو إليه المنتهى في التثبت ونحوها من العبارات.
الثانية : ما عبر عنه الحافظ بقوله : ( ثّمَّ ما تَأكَدَ بصفةٍ أو صِفَتَيْنِ ؛ كـ : ثِقَةٌ ثِقَةٌ ، أو : ثِقَةٌ حَافِظٌ) ، ومثله : ثقة متقن ، أو ثبت حجة. وهذه المرتبة لم يذكرها ابن أبي حاتم.(1/117)
الثالثة : ما ذكر فيه لفظ التوثيق منفرداً ، مثل : ثقة ، أو ثبت ، أو حجة ، أو حافظ ، ونحو ذلك من العبارات. وهذه المرتبة والتي قبلها دمجهما جماعة تبعاً لابن أبي حاتم كما تقدم.
الرابعة : من قيل فيه : صدوق ، أو لا بأس به ، أو ليس به بأس ـ عند غير ابن معين لأنها بمعنى الثقة عنده ـ. وهي المرتبة الثانية عند ابن أي حاتم ومن تبعه.
الخامسة : من قيل فيه : محله الصدق ، أو إلى الصدق ما هو ، أو صدوق له أوهام ، أو صدوق يهم ، أو صدوق سيئ الحفظ ، أو شيخ ، أو جيد الحديث ، أو حسن الحديث ، أو جائز الحديث ، أو مُقارَب الحديث ، ونحوها من العبارات. ويلاحظ أن ابن أبي حاتم ومن تبعه وضعوا من قيل فيه "صدوق" في مرتبة "محله الصدق" ، ولم يوافق أكثر المحدثين على ذلك حيث جعلوا من قيل فيه "محله الصدق" بعد من قيل فيه "صدوق" في التوثيق.
وتُقْبَلُ التَّزْكِيَةُ مِنْ عَارفٍ بأَسْبَابِها ، ولَوْ مِنْ واحِدٍ عَلى الأَصحِّ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ السادسة : من قيل فيه : صالح الحديث ، أو صدوق إن شاء الله ، أو صويلح. على أن جماعة من العلماء لم يفرقوا بين هذه المرتبة والتي تليها. وهذه المرتبة ضابطها ما عبر عنه الحافظ ابن حجر بقوله: (وأَدْنَاهَا : ما أَشْعَر بالقُربِ مِنْ أَسْهَلِ التَّجْرِحِ ؛ كـ شَيْخٌ) ، لكن الحافظ ابن حجر هنا بجعله لفظ "شيخ" من أدنى التجريح ، خالف صنيع أبي حاتم ومن تبعه لأنهم جعلوا أدنى التجريح "صالح الحديث" وفوقه "شيخ" ، وجعلهما الذهبي في الميزان في مرتبة واحدة ، والأمر سهل. قال السيوطي في هذه المرتبة: وزاد شيخ الإسلام ـ يقصد ابن حجر ـ مقبول. ولذا قال العلماء : لابد من تأمل أقوال المزكين ومخارجها حتى يتبين مرادهم بألفاظهم ، فقد يقولون : فلان ثقة أو ضعيف ، ولا يريدون به أنه ممن يحتج به ولا ممن يرد ، وإنما ذلك بالنسبة لمن قرن معه.(1/118)
* وقد ذكر السخاوي أن الحكم في هذه المراتب : الاحتجاج بالمراتب الأربع الأولى منها ، وأما التي بعدها فإنه لا يحتج بأحد من أهلها لكون ألفاظها لا تشعر بشريطة الضبط بل يكتب حديثهم ويختبر ، وأما السادسة فيكتب حديثهم للاعتبار دون اختبار لوضوح أمرهم.
* ثم قال الحافظ : (وتُقْبَلُ التَّزْكِيَةُ مِنْ عَارفٍ بأَسْبَابِها ، ولَوْ مِنْ واحِدٍ عَلى الأَصحِّ). انتقل الحافظ إلى أحكام تتعلق بالجرح والتعديل لتكمل الفائدة كما قال ، وفي عبارته هذه جملتان فيمن يقبل قوله في التزكية ، وهي :(1/119)
القيد الأول : أن التزكية تقبل من واحد ولا يشترط أن تصدر من اثنين قياساً على الشهادة ، لأن التزكية تُنَزَّل منزلة الحُكُم ، فكما لا يشترط في الحكم في قضية تعدد الحكام فلا يشترط كذلك في التزكية. ولذا قال البخاري في "صحيحه" في كتاب الشهادات : بَاب إِذَا زَكَّى رَجُلٌ رَجُلاً كَفَاهُ ، ثم أورد أن رجلاً وَجَدْ مَنْبُوذًا أي : لقيطاً ، فكأن عمر عرّض باتهامه ، فقال عريف قومه : إِنَّهُ رَجُلٌ صَالِحٌ. فقال عمر : كذاك اذْهَبْ وَعَلَيْنَا نَفَقَتُهُ. ثم ذكر حديث أَبِي بَكْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ : أَثْنَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : "وَيْلَكَ قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ ، قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ ـ مِرَارًا ـ". ثُمَّ قَالَ :"مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَادِحًا أَخَاهُ لا مَحَالَةَ فَلْيَقُلْ: أَحْسِبُ فُلانًا ، وَاللَّهُ حَسِيبُهُ وَلا أُزَكِّي عَلَى اللَّهِ أَحَدًا ، أَحْسِبُهُ كَذَا وَكَذَا ، إِنْ كَانَ يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنْهُ". ذكر الحافظ في شرحه أن البخاري جَزَمَ هُنَا بِالاكْتِفَاءِ بتزكية الْوَاحِدِ ، وأن من اَلسَّلَفُ من اِشْتِرَط اِثْنَيْنِ كَمَا فِي اَلشَّهَادَةِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْد : لا يُقْبَلُ فِي اَلتَّزْكِيَةِ أَقَلّ مِنْ ثَلاثَة , لحَدِيث مسلم عن قَبِيصَة في اَلْمَسْأَلَةُ:"حَتَّى يَقُومَ ثَلاثَةٌ مِنْ ذَوِي اَلْحِجَا فَيَشْهَدُونَ لَهُ". قَالَ الحافظ : وَهَذَا كُلّه فِي اَلشَّهَادَةِ أَمَّا اَلرِّوَايَةُ فَيُقْبَلُ فِيهَا قَوْل
والجَرْحُ مُقَدَّمٌ عَلَى التَّعْدِيلِ إِنْ صَدَرَ مُبَيَّناً مِنْ عَارفٍ بأَسبَابِهِ ، فِإِن خَلاَ عنْ التَّعْدِيْلِ قُبِلَ مُجْمَلاً عَلى المُخْتَارِ.(1/120)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ اَلْوَاحِدِ عَلَى اَلصَّحِيحِ ; لأَنَّهُ إِنْ كَانَ نَاقِلاً عَنْ غَيْرِهِ فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ اَلأَخْبَارِ وَلا يُشْتَرَطُ اَلْعَدَد فِيهَا , وهذا مذهب اَلأَكْثَر. وَوَجْه اِحْتِجَاجِ البخاري بِحَدِيثٍ أَبَى بَكْرَةَ أَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - اِعْتَبَرَ تَزْكِيَة اَلرَّجُلَ إِذَا اِقْتَصَدَ ; لأَنَّهُ لَمْ يَعِبْ عَلَيْهِ إِلاِّ اَلإِسْرَافَ وَالتَّغَالِيَ فِي اَلْمَدْحِ , لَوْ كَانَ اَلنِّصَابَ شَرْطًا لَذُكِرَ إِذْ لا يُؤَخَّرُ اَلْبَيَانُ عَنْ وَقْتِ اَلْحَاجَةِ.
القيد الثاني : أن يكون المزكي عدلاً متيقظاً عارفاً بأسباب الجرح والتعديل المعتبرة عند العلماء ، فلا يقبل قول من يزكي بمجرد ما يظهر له ابتداء دون ممارسة واختبار ، ولا من أفرط في الجرح بما لا يقتضي الرد. فانظر إلى يحيى بن معين لما سأله شيخه إسماعيل بن عُليَّة: كيف وجدتم أحاديثنا ؟ قال يحيى : وجدناها صالحة. فقال كيف عرفتم ذلك ؟ فقال : قارناها بأحاديث الناس. وانظر إلى مثال بضده حين سئل أحمد بن يونس عن عبد الله العُمَري أهو ضعيف ؟ فقال : إنما يضعفه رافضي مُبْغِضٌ لآبائه ، ولو رأيت لحيته وخضابه وهيئته لعرفت أنه ثقة. قال الخطيب في ’’الكفاية‘‘ : فاحتج بما ليس بحجة ، لأن حُسن الهيئة مما يشترك فيه العدل والمجروح. وقد صنف الذهبي فيمن يقبل قوله في الجرح والتعديل على اختلاف العصور حتى وقته.
* ثم قال الحافظ : (والجَرْحُ مُقَدَّمٌ عَلَى التَّعْدِيلِ إِنْ صَدَرَ مُبَيَّناً مِنْ عَارفٍ بأَسبَابِهِ ، فِإِن خَلاَ عنْ التَّعْدِيْلِ قُبِلَ مُجْمَلاً عَلى المُخْتَارِ). وفي هذا مسألتان مهمتان :(1/121)
(المسألة الأولى) : وهي في قوله عن النقد :( إِنْ صَدَرَ مُبَيَّناً) : فهل يشترط لكل نقد صدر من أحد أن يكون مفسراً لسببه ، فنقول : قد اختلف المحدثون في حكم قبول الجرح والتعديل المبهم على أربعة أقوال :
(الأول) : أنه يقبل التعديل من غير بيان سببه لأن أسبابه كثيرة يصعب حصرها وذكرها بخلاف الجرح فقد يكون بسبب واحد فلا يقبل إلا مُفَسراً خاصة أنه ناقل عن الأصل.
(الثاني) : عكس القول الأول ، وهو أنه يجب بيان سبب العدالة دون سبب الجرح لأن من الناس من يبني العدالة على ما لا يصلح في التعديل كما مر في قصة أحمد بن يونس.
(الثالث) : أنه لا بد من ذكر سبب الجرح والعدالة كليهما.
(الرابع) : عكسه ، وهو أنه لا يجب بيان سبب كل منهما إذا كان المعدل والجارح عارفاً بصيراً بأسبابهما.
…………………………………………………………………………….
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والصحيح المصرح به عند أكثر المحدثين المتأخرين هو القول الأول ، بل ذكر الخطيب أنه مذهب الأئمة من حفاظ الحديث ونُقاده ، وسبب اشتراطهم تفسير الجرح مطلقاً أمران :
أ- أن من الجارحين من يجرح بما لا يوجب الطعن ، فقد جرح أحدهم راوياً لأنه رآه يبول قائماً. وجرح غيره من سمع من بيته صوت طنبور ، وانتقد عليه ذلك لأنه ربما أن الراوي لم يكن يعلم بذلك أو اشتبه عليه ببيت جاره.
ب- أن من الجارحين من يجرح لأي مخالفة لما يعتقده ، فابن خراش ذكره الذهبي فيمن يعتمد قوله في الجرح إلا أنه يغلو في التشيع فإذا ترجم لأحد من أهل الشام قال : تكلموا فيه. وعكسه الجوزجاني فيه نصب إذا ترجم لأحد من أهل الكوفة أوسع فيهم الجرح.(1/122)
* ولنمثل بتطبيق عملي لهذه القاعدة من صنيع الذهبي حينما ترجم ليحيى بن عبد الحميد الحِمَّاني ، ونقل أن الإمام أحمد كذبه واتهمه الدارمي وضعفه علي بن المديني ، بينما قال عنه ابن معين : صدوق. فقال الذهبي في ترجمته:"الجرح مقدم". قلت : ويلاحظ في تطبيق هذه القاعدة كثرة المختلفين وإمامتهم في الجانبين لأنها قرينة على تأكيد الحكم أو نفيه.
* لكن ينبغي التنبيه على قوة القول الرابع في حالة عدم وجود ما يعارض التعديل أو الجرح الصادر إذا كان صادراً من أحد الأئمة ، قال ابن كثير:"أما كلام هؤلاء الأئمة المنتصبين لهذا الشأن ، فينبغي أن يؤخذ مُسلماً من غير ذكر سببه ، وذلك للعلم بمعرفتهم واطلاعهم واضطلاعهم في هذا الشأن ، واتصافهم بالإنصاف والديانة والخبرة والنصح … أما إذا تعارض الجرح والتعديل ، فينبغي أن يكون الجرح حينئذ مفسراً.أ.هـ.
(المسألة الثانية) : وهي في قوله : (والجَرْحُ مُقَدَّمٌ عَلَى التَّعْدِيلِ إِنْ صَدَرَ مُبَيَّناً مِنْ عَارفٍ بأَسبَابِهِ ، فِإِن خَلاَ عنْ التَّعْدِيْلِ قُبِلَ مُجْمَلاً عَلى المُخْتَارِ). فإن من المعلوم أن الرواة لهم ثلاثة أحوال: إما موثق بمعتبر بلا معارض ، أو مضعف بمعتبر بلا معارض ، وإما مختلف فيه جرحاً وتعديلاً ، فالمسألتان الأوليان أمرهما سهل واضح ما علينا إلا تنزيل الألفاظ في الرواة على المراتب المتقدمة للجرح والتعديل لنعرف درجة أحاديث الرواة ، وأما الحالة الثالثة فهي مسألة عويصة جداً لأن النقاد الحفاظ المعول على أقوالهم قد اختلفوا في راوٍ ما توثيقاً أو ضعفاً ، ولذا ذكر الحافظ بهذه العبارة ضوابط في ثلاث حالات:
الحالة الأولى : أنه إذا وجد في الراوي جرح وتعديل فلا نكتفى في الجرح بكونه قد صدر من عارف بأسباب الجرح بأقسامها العشرة التي قدمها الحافظ في هذا المختصر كما أطلق في التزكية آنفاً ، بل يشترط بيان(1/123)
……………..............................……………...........................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وتفسير الجرح من هذا العارف وعندئذٍ نقدم الجرح المفسر على التعديل على المختار ، ولذا قال:( إِنْ
صَدَرَ مُبَيَّناً).
الحالة الثانية : إذا عارض التعديل جرح مجمل غير مفسر فيقدم التعديل عليه ، هذا الذي يفهم من كلام الحافظ ـ وإن لم ينص عليه ـ أنه يقدم التعديل على الجرح المجمل.
الحالة الثالثة : أنه إن خلا الراوي عن التعديل وجاء فيه جرح مجمل غير مفسر فيعمل الجرح هنا لأنه إن خلا عن التعديل كان في حيز الجهالة فإعمال الجرح هنا أولى من إهماله ، قال الحافظ : ومال ابن الصلاح هنا للتوقف فيه. قلت : إن كان الجارح أحد الأئمة الكبار المعروفين بالورع والبراءة من الأهواء فقول الحافظ أقوى بلا شك ولا ريب ، أما إن كان الجارح من عرف عنه التشدد في الجرح كالأزدي ، أو دخل في شيء من الأهواء كما تقدم عن ابن خراش والجوزجاني فقول ابن الصلاح أقوى وأولى.
* وقبل الانتقال من هذا المبحث لابد من ذكر تنبيهين :
الأول : أن قول الحافظ (على المختار) احترازاً من مخالفة ابن الصلاح السابقة ، وتنبيهاً لاختلافٍ وقع في مسألة تعارض الجرح والتعديل : لأن من العلماء من قال : بتقديم الجرح مطلقاً ولو لم يفسر لأن الجارح يخبر عن باطن خفي عن المُعَدِل. ومنهم من قال بالعكس لأن الأصل العدالة ، ومنهم من قال : لا يقبل أحد القولين إلا بالقرائن والمرجحات. ورجح الحافظ قولاً وسطاً وهو تقديم الجرح المفسر.
الثانية : أنه ليس كل جرح مقدم على التعديل ولو كان مفسراً فمثلاً :
أ- من ثبتت عدالته وإمامته في حفظ الحديث لا يقبل فيه تجريح أحد ، فكثير من الأئمة لم يسلموا من شيء من الطعن ، ولذا قال أحمد لما سئل عن إسحاق : مثلي يسأل عن إسحاق ؟ إسحاق يسأل عني.(1/124)
ب- بعض المتعاصرين قد طعن بعضهم ببعض على سبيل القدح في الدين ، لكن قامت القرائن المتكاثرة أن سبب ذلك اجتهاد خاطئ أو تعصب مذهبي أو تنافس دنيوي ، وهذا أشهر من أن يذكر ولا نحب أن نمثل له عمداً. وقد نص العلماء على طي هذا البساط وعدم الاعتبار بمثل هذا إلا بحجة بينة لا تقبل الاحتمال.
ج- أن بعض الجرح المفسر غير قادح في العدالة ، كما لو جُرح كوفي من القدماء بشرب الخمر ، فلا يقدح ذلك فيه لأن أهل الكوفة ومنهم أئمة كبار كانوا يشربون النبيذ ولو كان مسكراً لأنهم يرون أن التحريم خاص ببعض أنواع الطعام كالعنب. ومثله ترخص أهل المدينة بالسماع.
(فَصْلٌ)
ومِنْ المُهِمِّ مَعْرِفَةُ كُنَى المُسَمَّيْنَ ، وأَسْمَاءِ المُكَنَّيْنَ ………………………………
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ثم قال الحافظ : (فَصْلٌ : ومِنْ المُهِمِّ مَعْرِفَةُ كُنَى المُسَمَّيْنَ) : قالوا : الاسم هو ما وضع علامة على المسمى ، والكنية ما صدر بأبٍ أو أم ، واللقب ما دل على رفعة المسمى أوضعته. وقد عقد أصحاب كتب ’’علوم الحديث‘‘ باباً سموه بباب "الأسماء والكنى" للتنبيه على أهميته ، قال ابن الصلاح : ولم يزل أهل العلم بالحديث يعتنون به ويتحفظونه ويتطارحونه فيما بينهم ، وينتقصون من جهله ، يعني كما عيب الجمال ابن هشام إمام العربية بأنه رام الكشف عن ترجمة أبي الزناد فلم يهتد لمحله من كتب الأسماء لعدم معرفة اسمه مع كونه معروفاً عند مبتدئي الطلبة.
* وأهمية معرفة هذا الباب تتجلى في أمرين :
الأول : أنه لا يؤمن أن يأتي في بعض الروايات مُكَنَّىً فيظن من لا يعرف أنه آخر.(1/125)
الثاني : معرفة الزيادة أو النقص في الأسانيد ، كما روى الحاكم حديثاً من طريق أبي حنيفة عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شداد عن أبي الوليد عن جابر مرفوعاً :"من صلى خلف الإمام فإن قراءته له قراءة" ، فبين أن عبد الله بن شداد هو أبو الوليد ، و "عن" زائدة بين اسمه وكنيته ، وقال : من تهاون بمعرفة الأسامي أورثه مثل هذا الوهم. ومثله ما وقع للنسائي مع جلالته أنه قال : عن أبي أسامة حماد بن السائب. ولا يوجد في الرواة من اسمه حماد بن السائب ، وإنما الإسناد : عن أبي أسامة حماد [ عن ] ابن السائب. فسقطت العنعنة.
* ولذا ألحق الأئمة في كتب التراجم كـ’’التاريخ الكبير‘‘ للبخاري ، وكتاب’’الجرح والتعديل‘‘ لابن أبي حاتم بعد سرد أسماء الرواة ملحقاً في آخر كتبهم في بيان كنى الرواة المذكورين في الكتاب ، نصحاً للسنة وتسهيلاً لمعرفة كنى المسمين.
* قال الحافظ :(وأَسْمَاءِ المُكَنَّيْنَ) : وهذا عكس الذي قبله ؛ لأن الراوي قد يكون مشتهراً بكنيته فعدم معرفة اسمه يوقع في محذور الظن بأنه راوٍ آخر كالسابق. وقد صنف أئمة كثر كتباً خاصة بـ "الكنى" وبيان أسماء هؤلاء المكنين ، كيحيى بن معين وعلي بن المديني والدولابي وابن منده وأبو أحمد الحاكم الكبير وابن عبد البر وغيرهم.
ومَنْ اسْمُهُ كُنْيَتُهُ ، [وَمَنْ اخْتُلِفَ في كُنْيَتِهِ]. وَمَنْ كَثُرَتْ كُنَاه أَوْ نُعُوتُهُ…………..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* قال الحافظ :( ومَنْ اسْمُهُ كُنْيَتُهُ) : قال الحافظ : وهو قليل. وهذا القسم ذكروا أنه ضربان :
أ- إما أن لا يكون له اسم ولا كنية غير كنيته المذكورة كأبي بلال الأشعري ، حيث سأله أبو حاتم الرازي
عن اسمه ، فقال : ليس لي اسم ، اسمي وكنيتي واحد.(1/126)
ب- من له كنية أخرى غير الكنية التي نُزِّلت منزلة الاسم ، قال ابن الصلاح : كأن للكنية كنية أخرى. ومثاله : أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث أحد الفقهاء السبعة ، اسمه أبو بكر وكنيته أبو عبد الرحمن.
* قال الحافظ :(وَمَنْ اخْتُلِفَ في كُنْيَتِهِ) : هذه العبارة لم تأت في أصل أكثر نسخ النخبة ، وأثبتها القاري في شرحه ’’للنخبة‘‘ ، وأشار الحافظ إلى أن هذا الصنف كثير ، ومثاله : أسامة بن زيد - رضي الله عنه - لم يختلف في اسمه واختلف في كنيته ، قيل : كنيته أبو خارجة ، و : أبو زيد ، و : أبو عبد الله ، و : أبو محمد. وقد صنف فيه بعض المتأخرين كما قال ابن الصلاح. قلت : ومثله من اختلف في اسمه دون كنيته كأبي هريرة - رضي الله عنه -.
* قال الحافظ :(وَمَنْ كَثُرَتْ كُنَاه) : أي معرفة من كان له أكثر من كنية ، قال الحافظ في ’’الشرح‘‘: كابن جريج المكي له كنيتان : أبو الوليد ، و أبو خالد. والمحذور في هذا أكثر مما سبق حيث إن الراوي قد يذكر بكناه المتعددة فيظن أنه أكثر من واحد.(1/127)
* قال الحافظ :(أَوْ نُعُوتُهُ) : أي معرفة من كان له أكثر نعت ، والنعت قيل هو اللقب ، وقيل : أنه أعم من اللقب فيشمل النسبة إلى القبيلة والصنعة والبلد ، مثاله : إِبْراهيم بن مَهْدي المِصِّيصِيُّ ، يقال له : الأَبناوي : نسبةٌ إلى الأبناء ، وهم كل من ولد باليمن من أبناء الفرس. ويقال له البَزَّازَ : ؛ نسبة لمن يبيع البز وهي الثياب. ويقال له : الطَّرَسُوسِيّ ؛ نسبة إلى طَرَسوس. ويقال له : المِصِّيْصِي ؛نسبة لبلدة. ويقال له: البغدادي لأنها أصله. ومثله : جَعْفَرُ بْنُ بْرْد ، يقال له :الرَّاسِبِيُّ ؛ نسبة إلى بني راسب ، ويقال له : الدَّبَاغ ؛ نسبة إلى دباغة الجلود. ويقال له :الخَرَّاز ؛ نسبة إلى خرز الأشياء من الجلود كالقرب". وهذا القسم أخطر في اشتباه التعدد ، وقد فرق بعضهم بين عبد الله بن أبي صالح وبين عبَّاد بن أبي صالح ، فقال الخطيب في ’’الموضح‘‘ : وعبد الله بن أبي صالح كان يلقب عبَّاداً ، وليس عبَّادٌ بأخ له.
ومَنْ وَافَقَتْ كُنْيَتُهُ اسْمَ أَبِيْهِ أَوْ بالعَكْسِ ، أَوْ كُنْيَتُهُ كُنْيَةَ زَوْجَتِهِ. ومَنْ نُسَبَ إِلَى غَيْرِ أَبِيْهِ أَوْ إِلَى أُمِّهِ أَوْ إِلَى غَيْرِ مَا يَسْبِقُ إِلَى الفَهْمِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* قال الحافظ :( ومَنْ وَافَقَتْ كُنْيَتُهُ اسْمَ أَبِيْهِ) : قال الحافظ : كأبي إسحاق إبراهيم بن إسحاق المدني أحد أتباع التابعين ، وفائدته معرفة نفي الغلط عمن نَسَبه إلى أبيه ، فقال : أخبرنا ابن إسحاق ، وأن الصواب : أخبرنا أبو إسحاق. وكلاهما صواب.
* قال الحافظ :(أَوْ بالعَكْسِ) : قال الحافظ : كإسحاق بن أبي إسحاق السَّبيعي. وفائدة معرفة هذا كالنوع السابق نفي الغلط عمن قال : إسحاق بن أبي إسحاق عن أبي إسحاق ، وكذا الأمن من القلب والتبديل كأن يأتي في إسناد : إسحاق بن أبي إسحاق عن فلان. فيظنها : إسحاق عن أبي إسحاق.(1/128)
* قال الحافظ :(أَوْ كُنْيَتُهُ كُنْيَةَ زَوْجَتِهِ) : قال الحافظ : كأبي أيوب الأنصاري وأم أيوب صحابيان مشهوران. أو وافق اسم شيخه اسمَ أبيه ، كالربيع بن أنس عن أنس. هكذا يأتي فيُظن أنه يروي عن أبيه ، كما وقع في "الصحيح" عن عامر بن سعد عن سعد ، وهو أبوه. وليس أنسٌ شيخ الربيع والدَه ، بل أبوه بكري ، وشيخه أنصاري ، وهو أنس بن مالك الأنصاري المشهور ، وليس الربيع المذكور من أولاده.
* قال الحافظ :( ومَنْ نُسَبَ إِلَى غَيْرِ أَبِيْهِ) : قال الحافظ : كالمقداد بن الأسود ، نُسب إلى الأسود الزهري ، لكونه تبناه ، وإنما هو المقداد بن عمرو. قلت : ومثله الحسن بن دينار أحد الضعفاء نسب لزوج أمه ، و أبوه واصل. وفائدة معرفة ذلك نفي توهم التعدد عند نسبتهم إلى آبائهم.
* قال الحافظ :( أَوْ إِلَى أُمِّهِ) : أي معرفة من نسب إلى أمه كإسماعيل بن عُلَيَّة ، هو ابن إبراهيم بن مِقْسَم الأسدي أحد الثقات ، وعُلَيَّة أمه ، وقيل : جدته أم أمه ، وكان لا يحب أن ينسب إليها. ومثله محمد بن الحنفية ، هو ابن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ، ونسب إلى أمه الحنفية تمييزاً عن ابني فاطمة - رضي الله عنهم -.
* قال الحافظ :(أَوْ إِلَى غَيْرِ مَا يَسْبِقُ إِلَى الفَهْمِ) : أي أن ينسب أحد الرواة إلى صنعة أو مكان أو وقعة أو قبيلة ، وليس الظاهر الذي يسبق إلى الفهم من هذه النسبة مراداً بل لعارض والأمر على خلافه ، كخالد الحذَّاء ، ظاهره أنه منسوب إلى صناعتها أو بيعها ، وليس كذلك ، وإنما كان يجالسهم فنسب إليهم. وأما النسب كسليمان التيمي : لم يكن من بني التيم ، ولكن نزل فيهم. وأما الوقعة فأبي مسعود البدري - رضي الله عنه - ، لم يشهدها على قول الأكثر ، وإنما نزلها. قال الحافظ : وكذا من نسب لجده ، فلا يؤمن التباسه بمن وافق اسمُه ، واسمُ أبيه اسمَ الجد المذكور. مثل محمد بن بشر ، ومحمد بن السائب بن بشر ، الأول ثقة(1/129)
ومَنْ اتَّفَقَ اسْمُهُ واسْمُ أَبِيْهِ وَجَدِّهِ ، أَوْ اسْمُ شَيْخِهِ وشَيْخُ شَيْخِهِ فَصَاعِدَاً. ومَنْ اتَّفَقَ اسْمُ شَيْخِهِ والرَّاوِي عَنْهُ. ومَعْرِفِةُ الأَسْماءِ المُجَرَّدَةِ ……………………………
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والثاني ضعيف.
* قال الحافظ :(ومَنْ اتَّفَقَ اسْمُهُ واسْمُ أَبِيْهِ وَجَدِّهِ) : أي فلا يؤمن فيه الوهم بأن يظن أن في الإسناد خطأً ، كالحسن بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب. قال الحافظ : وقد يقع أكثر من ذلك ، وهو من فروع المسلسل. قلت : كما روى المستغفري في "المسلسلات" حديثاً يرويه الحسن عن الحسن عن أبي الحسن عن جدِّ الحسن :"إن أحسن الحسَن الخُلق الحسن" ، فالحديث يرويه الحسن البصري عن الحسن بن علي ، عن أبي الحسن علي بن أبي طالب ، عن جد الحسن - صلى الله عليه وسلم -. . وقال الحافظ : وقد يتفق الاسم واسم الأب مع الاسم واسم الأب فصاعداً ، كزيد بن الحسن بن زيد بن الحسن بن زيد بن الحسن الكندي.
* قال الحافظ :(أَوْ اسْمُ شَيْخِهِ وشَيْخُ شَيْخِهِ فَصَاعِدَاً) : قال الحافظ : كعمران عن عمران عن عمران ، فالأول يعرف بالقصير والثاني أبو رجاء العُطاردي والثالث عمران بن حصين - رضي الله عنه - ، فيعرف لئلا يظن الوهم كذلك.(1/130)
* قال الحافظ :( ومَعْرِفِةُ الأَسْماءِ المُجَرَّدَةِ والمُفْرَدَةِ) : انتقل الحافظ بعد ذكر جملة ممن عرف بغير اسمه المجرد إلى بيان أهمية الأسماء المجردة التي ليست من الأشياء التي سبقت كمن كان "اسْمُهُ كُنْيَتُهُ" كأبي بلال الأشعري الذي لا يعرف له اسم ، ولا ممن كان "اسمه لقبه" كعبَّاد بن أبي صالح وليس هذا اسمه بل لقبه ، فهذه ليست بأسماء مجردة ، وإنما الاسم المجرد من عرف باسمه واسم أبيه ونسبه كسليمان بن مهران الأسدي ينبغي أن نعرفه باسمه المجرد عن لقبه الذي اشتهر به وهو الأعمش ، وعن كنيته وهي أبو محمد. وقد صنف المحدثون في الأسماء المجردة كتباً مختلفة :
* فمنهم من ألف في هذه الأسماء بغير قيد كالبخاري في ’’التاريخ الكبير‘‘ ، وابن أبي حاتم في ’’الجرح والتعديل‘‘.
* ومنهم من أفرد الأسماء المجردة في الثقات : كالعجلي وابن حبان وابن شاهين.
* ومنهم من أفرد الضعفاء : كابن حبان وابن عدي وابن شاهين كذلك.
* ومنهم من أفرد رجال كتب مخصوصة كـ"رجال البخاري" للكلاباذي ، و "رجال مسلم" لابن منْجَويه ،
والمُفْرَدَةِ. والكُنَى والأَلْقابِ.……….……………………………………………
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ورجالهما معاً لأبي الفضل بن طاهر ، و "رجال الكتب الستة" لعبد الغني المقدسي ، ونحوها.(1/131)
* قال الحافظ :(والمُفْرَدَةِ) : أي ومعرفة الأسماء المفردة ، وهي التي لم يشارك من يسمى بشيء منها غيره فيه ، مثل : سُرَاقة بن مالك الجُعْشُمي - رضي الله عنه - في الصحابة ، وجَوْنُ بن قتادة التميمي في التابعين ووهم من جعله في الصحابة ، وزِِرُّ بن حُبيش. وقد ألف فيها الحافظ أبو بكر أحمد بن هارون البَرْدِيْجي كتابه "طبقات الأسماء المفردة" ، وأبو الفتح الأزدي كتابه "ذكر اسم كل صحابي روى عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - أمراً ونهياً ومن بعده من التابعين وغيرهم ممن لا أخ له يوافق اسمه من نقلة الحديث من جميع الأمصار". لكن ذكر الحافظ أن من صنف في هذا الفن قد ينتقد عليه بعض ما زعمه أنه من الأسماء المفردة ، وأحياناً يختلف العلماء في ذلك كجهمان مولى الأسلميين ذكر في الأسماء المفردة ، لكن رجح ابن المديني البخاري أنهما اثنان.
* قال الحافظ :(والكُنَى) : أي ومعرفة الكنى المفردة التي لم يُشارك أصحابها أحد فيها كأبي العُبَيدَين بالتصغير والتثنية ، واسمه معاوية بن سُبرَة بضم المهملة وفتح الموحدة ، ولا أعلم من صنف فيها ، حتى من صنف في الأسماء المفردة لم يذكروها. وأما الكنى المجردة غير المفردة فقد تقدم الكلام عليها في أول هذا الفصل عند قول الحافظ : (فَصْلٌ : ومِنْ المُهِمِّ مَعْرِفَةُ كُنَى المُسَمَّيْنَ ، وأَسْمَاءِ المُكَنَّيْنَ) ، وأن الأئمة ألحقوا في كتب التراجم بعد سرد أسماء الرواة ملحقاً في آخر كتبهم في بيان كنى الرواة المذكورين في الكتاب ، وصنف جماعة من الأئمة كتباً خاصة بـ "الكنى" وبيان أسماء هؤلاء المكنين.(1/132)
* قال الحافظ : (والأَلْقابِ) : واللقب ما دل على رفعة المسمى أوضعته. والمعنى : ومعرفة الألقاب المفردة التي لا يُشارك أصحابها فيها ، كـ "الضَّال" لقب به معاوية بن عبد الكريم البصري لقب به لأنه ضل في طريق مكة ، و مثل "الضعيف" لقب به عبد الله بن محمد لكونه نحيف الجسم. وقد تكون الألقاب على أقسام :
أ- تكون تارة بلفظ الاسم : كسَفِيْنة الصحابي لقب بذلك واختلف في اسمه على أقوال كثيرة.
ب- وتكون بلفظ الكنية لمشابهتها اللقب في إفادة الرفعة أو الضعة : كأبي بطن أو أبي تراب.
ج- وتكون بسبب العاهة : كالأعمش والأعرج والأعشى.
د- وتكون بسبب حرفة : كالبزَّاز والعطَّار.
و -وتكون بسبب صناعة : كالخيَّاط والصَبَّاغ. وقد ألف فيه جماعة منهم الشيرازي والحافظ ابن حجر في كتابه "نزهة الألباب في الألقاب".
والأَنْسَابِ وتَقَعُ إِلى الَقَبَائِلِ والأَوْطَانِ : بِلادَاً ، أَوْ ضِياعاً ، أَوْ سِكَكَاً ، أَوْ مُجَاوَرَةً. وإِلَى الصَّنَائِعِ والحِرَفِ ، ويَقَعُ فيْهَا الاتِّفَاقُ والاشْتِبَاه كالأَسْمَاءِ …………………
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* قال الحافظ :(والأَنْسَابِ ): أي ومن المهم معرفة أنساب الرواة المجردة والمفردة لأن النسبة قد تكون واحدة تتفق في اللفظ وتختلف في مصادرها وأسباب الانتساب إليها.
* قال الحافظ : (وتَقَعُ إِلى الَقَبَائِلِ) : وهذا في المتقدمين أكثر لأن العرب كانت تنتسب إلى قبائلها وتعتني بحفظ أنسابها ، فنعرف أنساب الرواة الأصلية والفرعية : كالقرشي قد ينتسب إلى أصله ، وربما انتسب إلى ما دونها إلى بني مخزوم أو بني زهرة أو بني هاشم.
* قال الحافظ : (والأَوْطَانِ : بِلادَاً ، أَوْ ضِياعاً ، أَوْ سِكَكَاً ، أَوْ مُجَاوَرَةً) : وهذا في المتأخرين أكثر بالنسبة للمتقدمين لدخول كثير من العجم في الإسلام وكثرة البلدان ، وتكون على أقسام :(1/133)
أ – فقد تقع النسبة للبلد التي يسكنها كالدارقطني نسب إلى دارقطن محلة في بغداد ، ولذا فيقال له : العراقي البغدادي الدارقطني.
ب – وقد تقع النسبة إلى الضَيْعة وهي الأرض المزروعة التي يملكها إنسان في جهة ما ، كمحمد بن عامر السُّوَيْدائي بضم السين وفتح الواو ، نسبة إلى السُّوَيداء من ضياع حوران بناحية دمشق.
ج – وقد تقع النسبة إلى السكة التي يطرقها الناس لكنها أوسع من الزُّقَاق ، كعبد العزيز بن صهيب البُناني ، قال أبو حاتم البستي : قيل له البناني لأنه كان ينزل سكة بُنَانة بالبصرة. ومثله من نسب إلى درب ما كهشام بن حسان القُرْدُوسي ، قال عمرو بن علي : نزل درب القراديس فنسب إليهم.
د- وقد تقع النسبة مجاورة لبلد معين نزله فترة من حياته ، كالحافظ سعيد بن منصور الخرساني المكي ، قال الحاكم : سكن مكة مجاوراً فنسب إليها. وقد ذكر عبد الله بن المبارك أن من نزل أربع سنين في بلد نسب إليها ، فيبداً ببلده الأصلي ثم الذي جاور به.
* قال الحافظ : (وإِلَى الصَّنَائِعِ والحِرَفِ) : الصنائع أخص من الحِرَف لأن الصناعة لا بد من المباشرة فيها بخلاف الحرفة ، فالأنساب تقع إلى الصنائع كالخيَّاط والحناط والدبَّاغ ، وتقع إلى الحِرَف كالمُلائي نسبة إلى بيع الملاءة التي تستتر بها النساء ، والبزَّاز نسبة إلى بيع البَزِّ وهي الثياب.
* قال الحافظ : (ويَقَعُ فيْهَا الاتِّفَاقُ والاشْتِبَاه كالأَسْمَاءِ) : أي أن الأنساب قد يقع فيها ما يقع في الأسماء من الاتفاق والاشتباه ، ومن ذلك :
وقَدْ تَقَعُ أَلقَاباً ، ومَعْرِفةُ أَسْبَابِ ذَلِكَ. ومعرفة المَوَالي من أَعلَى وَمِنْ أَسْفَلَ ؛ بالرِّقِّ ، أَوْ بالحِلْفِ……………………………………………………………………..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(1/134)
أ- أنه يحصل فيها ما يسمونه بـ "المتفق والمفترق" ، وهو أن يكون شخصان أو أكثر يتفقان بالنسبة مع الاختلاف في أشخاصهم ، وهذا كثير جداً ، فمثلاً النسائي نسبة إلى بلد "نَسَاء" مدينة بخُراسان منها جماعة: منهم صاحب السنن أحمد بن شعيب ، ومنهم أحمد بن زهير بن أبي خيثمة الحافظ. فقد يطلق في أحد الأسانيد النسائي فيظن أنه صاحب السنن وهو غيره.
ب- ويحصل فيه ما يسمونه بـ’المؤتلف والمختلف‘‘ ، وهو أن تتفق الأنساب خطاً وتختلف نطقاً سواء كان مرجع الاختلاف النقط أو الشكل أو كلاهما ، مثل : الَّنَصْري والنَّضَرِي ، والبخاري والنَّجَّاري والتُخَاري ، ذكرها الدارقطني وغيرها في كتاب "المؤتلف والمختلف" وبين من ينسب لكل منها.
ج- ويحصل فيه الاشتباه كأن يَحصُلَ الاشْتِبَاهُ إلاَّ فِي حَرفٍ أَو حَرْفيْنِ أو بالتَّقدِيمِ والتَّأخِيرِ في الأنساب ، فمثاله ما ذكره عبد الغني الأزدي في "مشتبه النسبة" : فأما الاشتباه في حرف فمثل : العابدي والعائذي أو العَصَّار والقصَّار ، وأما الاشتباه بحرفين : كالسَّبْخي والسِّنْجي ومثل الكسائي والكُشاني. وأما الاشتباه بالتقديم والتأخير ، فمثل : الدَّبِيْلي والدَّيْبَلي.
* قال الحافظ : (وقَدْ تَقَعُ أَلقَاباً) : أي قد يأتي اللقب الذي يدل على الرفعة أو الضعة بصيغة النسبة كالزِنجي مسلم بن خالد ، والقَطَواني خالد بن مخلد ، قيل مأخوذ من القَطَوان وهو مقاربة الخطى مع النشاط وكان يغضب منها.(1/135)
* قال الحافظ : (ومَعْرِفةُ أَسْبَابِ ذَلِكَ) : أي من المهم معرفة سبب هذه الأنساب ، إما إلى القبائل أو إلى البلدان أو إلى الصنائع والحرف أو إلى الألقاب ، و ينبغي معرفة النسب التي باطنها خلاف ظاهرها ـ كما قال الحافظ ـ كأبي مسعود البدري - رضي الله عنه - نسب لها لأنه نزل بدراً ولم يشهد الغزوة على قول الأكثر ، ومثل سليمان التيمي نسب لهم لأنه نزل فيهم وليس منهم ، ومثل خالد الحذاء نسب لها لمجالسته الحذائين. وقد ألف جماعة من المحدثين كتباً في بيان الأنساب من أحسنها كتاب "الأنساب للسمعاني" ، واختصره ابن الأثير في "اللباب في معرفة الأنساب" ، واختصره السيوطي.
* قال الحافظ : (ومعرفة المَوَالي) : قد يكون الراوي ينسب إلى قبيلته صليبة ، وقد ينسب لها ولاءً ، فينبغي على طالب العلم أن يعرف الموالي من الرواة خشية أن يأتي مرة بنسبه الأصلي ومرة بنسب مواليه فيظن أنه آخر.
ومعرِفَة الإخْوَةِ والأَخَوَات………………………………………………
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* قال الحافظ : (من أَعلَى وَمِنْ أَسْفَلَ) : أي لا بد من معرفة طرف الولاء الأعلى ، وهو السيد المُعْتِق بالكسر ، أو المُحَالَف بالفتح ، أو الذي أسلم على يديه المولى. وطرف الولاء الأسفل ، وهو المُعْتَق بالفتح ، والمُحالِف بالكسر ، أو الذي أسلم على يدي مولاه.
* قال الحافظ : (بالرِّقِّ ، أَوْ بالحِلْفِ) : أي أن نعرف سبب الولاء ، وهي :
أ- الرِّق : حيث يكون الأسفل رقيقاً ثم يعتقه سيده أو غيره ، فيكون ولاؤه له لقوله - صلى الله عليه وسلم - في قصة بريرة التي رواها الشيخان:"الولاء لمن أعتق". ومثاله : قد يذكر لك في الإسناد: الحسن بن أسامة بن زيد بن حارثة الكلبي ، وقد يذكر لك : الحسن بن أسامة القرشي ، لأن جدَّه زيد بن حارثة - رضي الله عنه - كان مولى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -.(1/136)
ب- الحِلف : بكسر الحاء ، وأصله المعاقدة والمعاهدة على التعاضد والتساعد ، ومثاله :الطفيل بن عبد الله القرشي ، ويقال : الأزدي ، ويقال : الأسدي. أخو عائشة - رضي الله عنه - لأمها. قال ابن أبي خيثمة : لا أدري من أي قريش هو ؟ وقال الواقدي : كانت أم رومان تحت عبد الله بن الحارث بن سخبرة الأسدي ، قدم مكة فحالف أبا بكر قبل الإسلام ، وتوفي عنها وقد ولدت له الطفيل ، ثم خلف عليها أبو بكر فولدت له عبد الرحمن وعائشة فهما أخوا الطفيل لأمه. قال المزي : وقول الواقدي أشبه ، وعلى قوله تكون نسبة الطفيل إلى قريش بالحلف لا بالنسب.
ج- بالإسلام : بأن يسلم على يديه فينسب له ولاءً كذلك ، ومثاله : الحسن بن عيسى بن ماسرجس الماسرجسي أبو علي النيسابوري مولى بن المبارك ، قال الخطيب : كان من أهل بيت الثروة والقدم في النصرانية ثم أسلم على يدي بن المبارك. ومثله الإمام محمد بن إسماعيل البخاري الجُعْفي ، نقل أبو أحمد بن عدي الحافظ أنه قيل له "الجعفي" لأن أبا جده المغيرة أسلم على يدي اليمان بن الأخنس الجعفي البخاري والي بخاري. وقد ألف في الموالي من المصريين أبو عمر الكندي.
قال الحافظ : ولا يعرف تمييز ذلك إلا بالتنصيص عليه ، أي أنواع الولاء.
* قال الحافظ : (ومعرِفَة الإخْوَةِ والأَخَوَات) : أي من المهم معرفة الإخوة والأخوات من العلماء والرواة ، فمثلاً :
* في التابعين ثلاثة إخوة : عمرو وعمر وشعيب بنو شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص ، وأربعة : سهيل ومحمد وصالح وعبد الله بنو أبي صالح ذكوان السَمَّان. وفي من بعدهم خمسة : سفيان وآدم
ومعرفة آداب الشَّيْخِ والطَّالِبِ ، ………………………………………
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعمران ومحمد وإبراهيم بنو عيينة. والستة : محمد وأنس ويحيى ومعبد وحفصة وكريمة بنو سيرين.(1/137)
* ومن اللطائف أن ثلاثة أو أربعة وقعوا في إسناد واحد ، فقد جاء في ’’مشيخة أبي الغنائم النَرسي" من طريق محمد بن سيرين عن أخيه يحيى بن سيرين عن أخيه معبد بن سيرين عن أخيه أنس بن سيرين عن مولاه أنس بن مالك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:"لبيك حجاً حقاً تعبداً ورقاً". وهناك من رواه بثلاثة واثنين من الإخوة ، والراجح وقف الحديث.
* وفائدة هذا الفن :
أ- الأمن من ظن الأخوة بين اثنين أو أكثر للاشتراك في اسم الأب ، كأحمد بن إِشْكَاب وعلي بن إِشْكَاب ومحمد بن إِشْكَاب.
ب- إزالة إشكالات الأسانيد ، مثل : فلان عن أخي فلان ، أو حدثتنا أخت فلان ، فهذا الفن يستطيع أن يعرف الناظر بواسطته هذه المبهمات.
ج- دفع توهم الغلط حين يكون بعض الإخوة مشهوراً دون الآخرين ، فإذا جاء غير المشهور اعتقد الناظر أن في السند تحريفاً ، كإبراهيم بن عيينة بدل أخيه سفيان بن عيينة.
* وقد ألف فيه جماعة من العلماء كعلي بن المديني ومسلم بن الحجاج
* قال الحافظ : (ومعرفة آداب الشَّيْخِ والطَّالِبِ) : من المعلوم أن للعلم آداباً يجب على طالبه أن يراعيها خاصة طالب علم حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه أولى الناس باتباع ما يرويه ويحفظه وقد قال الله عزوجل لنبيه : (وإنك لعلى خلق عظيم) ، وقد ألف الخطيب البغدادي كتابه ’’آداب الشيخ والسامع‘‘ وبين تضجره من بعض المشتغلين في العلم في زمانه بأنهم مع قلة تحصيلهم يرون أنفسهم من الكبار مع شوب ذلك بكِبْرٍ وعُجبٍ ، فلا يراعون لشيخ حقاً و حرمة ولا لطالب شفقة و رحمة ، وقد أشار الحافظ ابن حجر في ’’الشرح‘‘ إلى أن الآداب ثلاثة أقسام ، بعضها للشيخ وبعضها للطالب وثالثة يشتركان فيها :
الأول : ما يشتركان فيه :(1/138)
1- تصحيح النية : أي تجريدها من الرياء والسمعة ، وابتدأ المحدثون بها لأن النية أصل قبول كل عمل عند الله لقوله تعالى (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين) الآية. وذلك بأن يكون طلب العلم لابتغاء وجه الله ، وفي ’’صحيح مسلم‘‘ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :"إِنَّ أَوَّلَ
………………………………………………………………………
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ ، فذكر ثلاثة أحدهم :"وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نعَمَهُ فَعَرَفَهَا ، قَالَ : فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا قَالَ : تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ ، وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ. قَالَ : كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ ، لِيُقَالَ : عَالِمٌ ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ : هُوَ قَارِئٌ. فَقَدْ قِيلَ ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ " ، وفي ’’سنن الترمذي‘‘:"أُولَئِكَ الثَّلاثَةُ أَوَّلُ خَلْقِ اللَّهِ تُسَعَّرُ بِهِمْ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ". قال سفيان الثوري : ما شيء أخوف عندي منه ـ يعني الحديث ـ وما من شيء يَعْدَِله لمن أراد الله به".
* نقل الذهبي عن عون بن عمارة قال : سمعت هشاما الدستوائي ، يقول : والله ما أستطيع أن أقول أني ذهبت يوماً قط أطلب الحديث أريد به وجه الله عز وجل. قال الذهبي : والله ولا أنا فقد كان السلف يطلبون العلم لله فنبلوا ، وصاروا أئمة يقتدى بهم.(1/139)
ـ وطلبه قوم منهم أولاً لا لله ، وحصلوه ثم استفاقوا وحاسبوا أنفسهم ، فجرهم العلم إلى الإخلاص في أثناء الطريق ، كما قال مجاهد وغيره : طلبنا هذا العلم وما لنا فيه كبير نية ، ثم رزق الله النية بعد ، وبعضهم يقول : طلبنا هذا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله. فهذا أيضاً حسن ، ثم نشروه بنية صالحة.
ـ وقوم طلبوه بنية فاسدة لأجل الدنيا وليثنى عليهم ، فلهم ما نووا ، قال عليه السلام :"من غزا ينوي عقالاً فله ما نوى". وترى هذا الضرب لم يستضيؤوا بنور العلم ، لا لهم وقع في النفوس ولا لعلمهم كبير نتيجة من العمل ، وإنما العالم من يخشى الله تعالى.
ـ وقوم نالوا العلم وولوا به المناصب فظلموا وتركوا التقيد بالعلم وركبوا الكبائر والفواحش فتباً لهم فما هؤلاء بعلماء.
ـ وبعضهم لم يتق الله في علمه بل ركب الحيل وأفتى بالرخص وروى الشاذ من الأخبار ، وبعضهم اجترأ على الله ووضع الأحاديث فهتكه الله ، وذهب علمه وصار زاده إلى النار. وهؤلاء الأقسام كلهم رووا من العلم شيئاً كبيرا وتضلعوا منه في الجملة :
ـ فخلف من بعدهم خلف بان نقصهم في العلم والعمل.
ـ وتلاهم قوم انتموا إلى العلم في الظاهر ولم يتقنوا منه سوى نزر يسير أوهموا به أنهم علماء فضلاء ولم يدر في أذهانهم قط أنهم يتقربون به إلى الله ؛ لأنهم ما رأوا شيخاً يقتدى به في العلم ، فصاروا همجاً رعاعاً غاية المدرس منهم أن يحصل كتباً مثمنة يخزنها وينظر فيها يوماً ما ، فيصحف ما يورده ، ولا يقرره فنسأل الله
………………………………………………………………………
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
النجاة والعفو كما قال بعضهم : ما أنا عالم ولا رأيت عالماً.أ.هـ.(1/140)
* قال الخطيب في الجامع ’’لأخلاق الراوي وآداب السامع‘‘ :"وليحذر أن يجعله سبيلاً إلى نيل الأعراض ، وطريقاً إلى أخذ الأعواض ؛ فقد جاء الوعيد لمن ابتغى ذلك بعلمه … وليتق المفاخرة والمباهاة به ، وأن يكون قصده في طلب الحديث نيل الرئاسة واتخاذ الأتباع وعقد المجالس ؛ فإن الآفة الداخلة على العلماء أكثرها من هذا الوجه.
2- حسن الخلق : وهو القيام بمعاشرة الخَلْق ومتابعة الحَق ، قال الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - (وإنك لعلى خلق عظيم) ، ووصفت عائشة خلقه - صلى الله عليه وسلم - ، فقالت : كان خلقة القرآن. ولذا يقبح بالمعلم والطالب للعلم خاصة علم السنة أن يدرس سنة أعظم الناس خلقاً ثم يخالفه ، قال الشعبي : يا طلاب العلم! لا تطلبوا العلم بسفاهة وطيش ، اطلبوه بسكينة ووقار وتؤدة. قال الفضيل بن عياض : من ساء خلقه شان دينه وحسبه ومروءته. وقال سفيان الثوري : زينوا الحديث بأنفسكم ، ولا تزَّيَنوا بالحديث. فأما الطالب فكم حرم خيراً كثيراً لعدم تأدبه مع شيخه كما قال الزهري: كان أبو سلمة يماري ابن عباس فحرم بذلك علماً كثيراً. وأما الشيخ فكم ترك علمه لأنه لم يحتمل غيره ، قال الشافعي بعد أن ذكر أنه استعمل باليمن : فقدمت من اليمن فلقيت ابن أبي يحيى فسلمت عليه فوبخني ، وقال تجالسوننا وتصنعون وتصنعون ، فإذا شرع لأحدكم شيء دخل فيه ، ونحو هذا الكلام. فتركته ثم لقيت سفيان بن عيينة ، فسلمت عليه ، فرحب بي ، وقال : قد بلغني ولايتك ، فما أحسن ما انتشر عنك!! وما أديت كل الذي لله تعالى عليك ولا تَعُد. قال : فكانت موعظة سفيان إياي أبلغ مما صنع ابن أبي يحيى. وانظر إلى حلم وحسن خلق وكيع بن الجراح لما اجتمع عليه أصحاب الحديث وعليه ثوب أبيض ، فانقلبت المحبرة على ثوبه ، فسكت مَلِيّاً ثم قال : ما أحسن السواد في البياض. ورحم الله سليمان ابن حرب حين قال : زَيْنُ هذا العلم حِلْمُ أهله.(1/141)
3- العمل بالعلم وظهور أثر العلم على طالبه وباذله : لأن هذه هي ثمرة العلم وفائدته ، قال الثوري: إنما يطلب الحديث ليتقى به الله عزوجل ، فلذلك فُضل على غيره من العلوم ، ولولا ذلك كان كسائر الأشياء. وقال الحسن : كان طالب العلم يرى ذلك في سمعه وبصره وتخشعه. وقال أبو العباس بن عطاء قال : من ألزم نفسه آداب السنة نور الله قلبه بنور المعرفة ولا مقام أشرف من مقام متابعة. قال ابن حبان : العاقل لا يشتغل في طلب العلم إلا وقصده العمل به ؛ لأن من سعى فيه لغير ما وصفنا ازداد فخراً وتجبراً ، وللعمل تركاً وضييعاً ، فيكون فساده في المتأسين به أكثر من فساده في نفسه ، ويكون مثله كما
………………………………………………………………………
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال الله تعالى (ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون).
الثاني : ما يختص به الشيخ :
1- أن يبذل العلم فيُسمع إذا احتيج إليه : أي من أدب الشيخ خاصة أنه متى احتيج إلى ما عنده جلس للإسماع وجوباً إن تعين عليه أو استحباباً إن كان ثَمَّ مثله ، لقوله تعالى (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه) ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - :"نضَّر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها ، ثم بلَّغها عني". رواه الترمذي وأحمد. قال بعض العلماء : أول العلم الاستماع والإنصات ثم حفظه ثم العمل به ثم بثه. قال الزهري : كان عروة يستألف الناس على حديثه. وقال الثوري : والله! لو لم يأتوني ، لأتيتهم في بيوتهم ـ يعني أصحاب الحديث ـ. وقال الشافعي لتلميذه الربيع : لو قدرت أن أطعمك العلم لأطعمتك إياه.(1/142)
2- أن لا يحدث ببلد فيه من هو أولى منه : إما لأنه أعلى إسناداً أو أفهم بمعاني الحديث أو إن تساويا في العلم فلا يحدث بوجود من هو أسن منه ، بل يرشد الطلاب إلى الأولى قال يحيى بن معين : الذي يحدث ببلد به من هو أولى بالتحديث منه أحمق ، وإذا رأيتني أحدث ببلد فيها مثل أبي مسهر فينبغي للحيتي أن تحلق. وقال الحسن الخلال : كنا عند مُعْتَمر بن سليمان يحدثنا ، إذ أقبل عبدالله المبارك ، فقطع معتمر حديثه ، فقيل له : حدثنا ، فقال : إنّا لا نتكلم عند كبرائنا.
3- أن لا يترك الإسماع لنية فاسدة : فلا يمتنع من تحديث أحد لكونه غير صحيح النية ، فإنه يرجى له صحتها ، قال الخطيب في ’’الجامع‘‘ :" والذي نستحبه أن يروي المحدث لكلِ أحدٍ سأله التحديث ، ولا يمنع أحداً من الطلبة ، فقد قال سفيان الثوري : طلبهم الحديث نيّة. وقال حبيب بن أبي ثابت ومعمر بن راشد : طلبنا الحديث ، وما لنا فيه نية ، ثم رزقنا الله النية بعد. قال الذهبي : نعم يطلبه أولاً والحامل له حب العلم ، وحب إزالة الجهل عنه وحب الوظائف ونحو ذلك ، ولم يكن علم وجوب الإخلاص فيه ، ولا صدق النية ، فإذا علم حاسب نفسه وخاف من وبال قصده ، فتجيئه النية الصالحة كلها أو بعضها ، وقد يتوب من نيته الفاسدة ويندم ، وعلامة ذلك أنه يقصر من الدعاوى وحب المناظرة ومن قصد التكثر بعلمه ويزري على نفسه فإن تكثر بعلمه أو قال أنا أعلم من فلان فبعداً له.
………………………………………………………………………
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
4- وذكر الحافظ التزامه بمجموعة آداب عند تحديثه بحديث رسول الله ، منها :(1/143)
أ- أن يتطهر : ذكر الخطيب في كتابه ’’الجامع‘‘ في باب من كره التحديث على غير طهارة ، عن قتادة وضرار بن مرة أنهما قالا: كانوا يكرهون أن يحدثوا على غير طهر. وكان الإمام مالك لا يحدث إلا على طهارة إجلالاً لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. بل كان الأعمش إذا أراد أن يحدث على غير طهور تيمم.
ب- ويجلس بوقار ولا يحدث قائماً ولا عَجِلاً ولا في الطريق إلا إن اضطر : ذكر الخطيب في ’’الجامع‘‘ في باب الأحوال التي يكره التحديث فيها ، كراهة ذلك عن جماعة من السلف ، ونقل عن الإمام مالك تعليل ذلك بقوله : أحب أن أتفهم ما أحدث به عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وروي عنه أنه قال لما سئل عن سبب تركه للكتابة عن بعض المحدثين : أتيته والناس يكتبون عنه قياماً فأجللت حديث رسول الله أن أكتبه وأنا قائم.
* قال الخطيب البغدادي: وذلك إنما كان على سبيل التوقير للحديث والتعظيم والتنزيه له ، ولو حدث محدث في هذه الأحوال لم يكن مأثوماً ، ولا فعل أمراً محظوراً ، وأجلُّ الكتب كتاب الله ، وقراءته في هذه الأحوال جائزة ، فقراءة الحديث فيها أولى بالجواز.
ج_ وأن يمسك عن التحديث إذا خَشِي التغيير أو النسيان لمرض أو هرم : ذكر الخطيب في ’’الجامع‘‘ في باب قطع التحديث عند كبَرِ السن مخافة اختلال الحفظ ونقصان الذهن ، بسنده عن عمرو بن مرة أنه قال : كان عبد الله بن سلمة قد كبر ، وكان يحدثنا ، فنعرف وننكر. وأن جماعة من السلف أنهم قطعوا التحديث عند الكبر. قلت : قد ذكروا في ترجمة حجاج بن محمد المصيصي أنه دخل عليه يحيى بن معين فرآه خلط ، فقال لابنه : لا تدخل عليه أحداً ، قال فلما : كان بالعشي دخل الناس ، فأعطوه كتاباً فقرأ ما ليس من حديثه على التوهم فقال يحيى لابنه : قد قلت لك.(1/144)
ج_ وإذا اتخذ الإملاء أنْ يكون له مُسْتَملٍ يَقِظ: والمستملي هو الذي يبلغ كلام المحدث للناس في الجمع الكثير ، ولا بد أن يكون يقظاً لأنه سيبلغ عن المحدث حديثه ، وسيحمل عنه جماعة الحديث مع كونهم لم يسمعوا صوت المحدث ، قال الخطيب في ’’الجامع‘‘ باب اتخاذ المستملي : ويجب أن يكون المستملي متيقظاً محصِّلاً ، ولا يكون بليداً مغفلاً كما حكي عن مستملي يزيد بن هارون ويقال له بَرْبَخ ، فقال يزيد : حدثنا به عِدَّةٌ ـ أي جماعة ـ فصاح المستملي : يا أبا خالد! عدَّةُ بن من ؟ قال يزيد : عِدَّةُ ابن فقدتك.
………………………………………………………………………
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الثالث : ما يختص به الطالب:
1- طلب العلم على أهله : قال محمد بن سيرين : هذا العلم دين فانظروا عمَّن تأخذون دينكم. ولذا كان السلف ينهون عن الأخذ عن أهل البدع ويسمونهم الأصاغر ، قال الإمام مالك : لا يؤخذ العلم عن أربعة : سفيه يعلن السفه وإن كان أروى الناس ، وصاحب بدعة يدعو إلى هواه ، ومن يكذب في حديث الناس وإن كنت لا أتهمه في الحديث ، وصالح عابد فاضل إذا كان لا يحفظ ما يحدث به". قال الخطيب في الجامع ’’لأخلاق الراوي وآداب السامع‘‘ :"اتفق أهل العلم على أن السماع ممن ثبت فسقه لا يجوز … وإذا كان الراوي من أهل الأهواء والمذاهب التي تخالف الحق لم يُسمَع منه ، وإن عُرِف بالطلب وحفظ العلم .أ.هـ.
3- الحرص على استدامة طلب العلم والصبر على اللأواء والنصب فيه : لأن العلم لا يناله أهل الكسل بل إن أعطيته كلك أعطاك كله ، قال ابن حبان : الواجب على العاقل إذا فرغ من إصلاح سريرته أن يثنيِّ بطلب العلم والمداومة عليه ، إذ لا وصول للمرء إلى صفاء شيء من أسباب الدنيا إلا بصفاء العلم فيه ، وحكمُ العاقِل أنْ لا يُقصِّر في سلوك حالة توجب له بَسْط الملائكة أجنحتها رضاً بصنيعه ذلك". وانظر إلى هذه النماذج المضيئة:(1/145)
* قال إسحاق بن راهويه : خرج أحمد إلى عبد الرزاق انقطعت به النفقة فأكرى نفسه من بعض الجمالين إلى أن وافى صنعاء وعرض عليه أصحابه المواساة فلم يأخذ.
* وقال الحافظ ابن خراش: شربت بولي في هذا الشأن ـ يعني الحديث ـ خمس مرات.
* وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم : كنا بمصر سبعة أشهر لم نأكل فيها مرقة كل نهارنا مقسم لمجالس الشيوخ ، وبالليل النسخ والمقابلة ، قال : فأتينا يوماً أنا ورفيق لي شيخاً ، فقالوا : هو عليل ، فرأينا في طريقنا سمكاً أعجبنا ، فاشتريناه فلما صرنا إلى البيت حضر وقت مجلس فلم يمكنا إصلاحه ، ومضينا إلى المجلس ، فلم نزل حتى أتى عليه ثلاثة أيام وكاد أن يتغير ، فأكلناه نيئاً لم يكن لنا فراغ أن نعطيه من يشويه. ثم قال : لا يستطاع العلم براحة الجسد.
3- وذكر الحافظ التزامه بمجموعة آداب عند طلبه الحديث ، منها:
أ- أن يوقر الشيخ ولا يُضجره : فقد روى الترمذي عنه - صلى الله عليه وسلم - قال:"ليس منا من لم يجل كبيرنا ويرحم
………………………………………………………………………
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صغيرنا" ، زاد أحمد بسند فيه انقطاع:"ويعرف لعالمنا". وقد ذكر الخطيب في ’’الجامع‘‘ في باب تعظيم
المحدث ، عن محمد بن المنكدر قال : ما كنا ندعو الرواية إلا رواية الشِّعر ، وكنا نقول للذي يروي الحديث والحكمة : عالم. وقال محمد بن إسماعيل البخاري : ما رأيت أحداً أوقر للمحدثين من يحيى بن معين.(1/146)
ب- ويرشد غيره لما سمعه : أي من العلم لأن كتمانه مذموم فاعله كما تقدم ، قال الخطيب في: والذي نستحبه إفادة الحديث لمن لم يسمعه ، والدلالة على الشيوخ ، والتنبيه على رواياتهم ، فإن أقل ما في ذلك النصح للطالب ، والحفظ للمطلوب ، مع ما يكتسب به من جزيل الأجر وجميل الذكر ، ونحن نذكر ما ورد عن السلف في ذلك إن شاء الله . ثم ذكر تحت باب وجوب المناصحة فيما يروى عن سفيان الثوري قال لشباب على بابه : يا معشر الشباب ، تعجلوا بركة هذا العلم ، فإنكم لا تدرون لعلكم لا تبلغون ما تؤملون منه ، ليُفِد بعضكم بعضاً". وذكر عن مالك وابن المبارك وابن معين قولهم : بركة العلم إفادة بعضهم بعضاً.
ج- ولا يدع الاستفادة لحياء أو تكبر : أي لا يدع العلم وأخذه ممن هو دونه في نسب أو سن أو علم وغيره لحياء أو تكبر ، قالت عائشة - رضي الله عنه - : "نعم النساء نساء الأنصار لم يمنعهن الحياء لأن يتفقهن في الدين". وقد روى البخاري عن مجاهد أنه قال : لا يتناول العلم مستحي ولا مستكبر. وقال وكيع : لا يكمل الرجل حتى يكتب عمن هو فوقه ، وعمن هو مثله ، وعمن هو دونه.(1/147)
د- ويكتب ما سمعه تاماً ، ويعتني بالتقييد والضبط ، ويذاكر بمحفوظه ليرسخ : أي أن يكتب جميع ما وقع من سماع كتاب أو جزء على وجه التمام بلا انتخاب ، لأنه قد يحتاج إلى ما لم ينتخبه فيندم ، قال ابن المبارك : ما انتخبت عِلْم عالم قط إلا ندمت. وقال ابن معين : صاحب الانتخاب يندم ، وصاحب النسخ لا يندم. ثم ينبغي أن يعتني بكتابة مسموعه وضبطه لئلا يقع في التصحيف كما قدمنا بيانه في باب التصحيف والتحريف ، وقد اشتهر عند العلماء : لا يؤخذ العلم عن صَحَفي. وهو الذي يروي على الخطأ لعدم أخذه عن شيوخ وعدم ضبطه ما يكتب ويروي ، كما ذكر أبو العيناء عن بعض المغفلين أنه قال : عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن جبريل عن الله عن رجل. قال : فقلت : من هذا الذي يصلح أن يكون شيخاً لله ؟ فنظرت فإذا هو قد صحفه ، وهو : عن الله عزوجل. ثم يذاكر بمحفوظه لأنه قد اشتهر عند المحدثين أنه لا يبقى العلم إلا بالمذاكرة وأن الحديث يهيج بعضه بعضاً.
وسِنِّ التَّحَمُّلِ والأَداءِ ، وصِفَةِ كِتَابَةِ الحَدَيْثِ وعَرْضِهِ. …………………
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* قال الحافظ : (وسِنِّ التَّحَمُّلِ والأَداءِ) : أي: ومن المهم معرفة سن التحمل أشار الحافظ هنا إلى أمرين :
الأول : التحمل ، وذكر الحافظ فيه حالتين :
أ- متى يصح طلب الصغير للحديث واعتبار سماعه : وقد ذهب جمهور العلماء إلى أن أقله خمس سنين ، وقد بوب البخاري في ’’صحيحه‘‘ فقال : باب متى يصح سماع الصغير. فذكر حديث محمود بن الربيع - رضي الله عنه - قال : "عقلت من النبي - صلى الله عليه وسلم - مجة مجها في وجهي وأنا ابن خمس سنين". لكن الحافظ ابن حجر قال في ’’الشرح‘‘ : والأصح اعتبار سنَّ التحمل التمييز ، وهو الصحيح الذي وافقه عليه جماعة كالنووي والعراقي أنه إن فهم الخطاب ورد الجواب فهو صحيح السماع وإن كان له دون خمس سنين.(1/148)
ب- متى يتأهل لطلب الحديث بنفسه : نقل القاضي عياض في ’’الإلماع‘‘عن ابن خلاّد عن أبي عبد الله الزُّبَيري أنه قال: يستحب كتب الحديث من العشرين لأنها مجتمع العقل ، وأحب إليّ أن يشتغل قبل بحفظ القرآن والفرائض. ونقل عن موسى بن هارون وغيره أنه قال : أهل البصرة يكتبون لعشر سنين ، وأهل الكوفة لعشرين ، وأهل الشام لثلاثين. قلت : اختلافهم في هذا على حسب ما يرونه أدب تدرج الطالب في العلم ، وإلا فصحة تحمله بنفسه تختلف من شخص إلى شخص آخر ، ولذا فقول الحافظ في ’’الشرح‘‘ : والأصح في سن الطلب بنفسه أن يتأهل لذلك"، هو الصحيح.
الثاني : سن الأداء : وهو سن صحة تحديثه بما سمع ، فقد ذكروا عن ابن خلاّد أنه قال : إذا بلغ الخمسين ، ولا ينكر عند الأربعين. لكن ذلك منتقض بمن حدَّث قبلها كمالك والشافعي وغيرهما. ولذا قال الحافظ عند الإشارة لهذا القول : لا اختصاص له بزمن معين ، بل يُقيَّد بالاحتياج والتأهل لذلك.
* قال الحافظ : (وصِفَةِ كِتَابَةِ الحَدَيْثِ وعَرْضِهِ) : أي ومن المهم معرفة هذه الأمور التي ذكرها الحافظ ، وهي :
أ- صفة كتابة الحديث : قال الحافظ : وهو أن يكتبه مُبيناً مُفسَّراً ، ويشكل المشكل منه أو ينقطه ، ويكتب الساقط في الحاشية اليمنى ما دام في السطر بقية ، وإلا ففي اليسرى. قلت : ذهب بعض العلماء إلى أنه إنما يُشكِل ما يُشكِل لأن الانشغال بغيره تضييع للعمر ، وذهب آخرون إلى أنه ينبغي أن يُشكِل وينقط ما أشكل وما لا يشكل ، قال القاضي عياض : وهذا هو الصواب ، لا سيما للمبتدئ وغير المتبحر في العلم ؛ فإنه لا يميز ما أشكل مما لا يشكل ، وقد وقع الخلاف بين العلماء بسبب اختلافهم في الإعراب كاختلافهم
وسَمَاعِهِ وَإِسْمَاعِهِ ، والرِّحْلَةِ فِيْهِ.…………………
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(1/149)
في قوله - صلى الله عليه وسلم -:"ذكاة الجنين ذكاة أمه" ، فالحنفية ترجح فتح ذكاة الثانية ، على مذهبهم أنه يُذكَّى مثل ذكاة أمه. وغيرهم من المالكية والشافعية ترجح الرفع لإسقاطهم ذكاته ، في كثير مما لا يحصى من هذا ، فإذا أهمله السامع إذ لم ينتبه لوضع الخلاف فيه ، فإذا نوزع في إعرابه وضبطه ورجع إلى كتابه فوجده مهملاً بقي متحيراً ، أو جسر على الضبط بغير بصيرة ويقين.
ب- عرض الحديث : قال الحافظ : وهو مقابلته مع الشيخ المُسمِع ، أو مع ثقة غيره ، أو مع نفسه شيئاً فشيئاً. لكن قال القاضي عياض : مقابلة النسخة بأصل الشيخ متعينة لا بد منها ، وأفضل العرض أن يقابل كتابه بنفسه مع شيخه بكتابه لما فيه من وجود الاحتياط والإتقان من الجانبين ، بمعنى أن كلاً منهما أهل لذلك ، فإن لم تجتمع هذه الأوصاف نقص من مرتبته بقدر ما فاته منهما. قلت : وأنواع المقابلة لكتابه الذي كتبه عن شيخ له عند أهل الفن تكون : إما على كتاب شيخه الذي يروي عنه سماعاً ، أو على أصل أصل شيخه المُقَابل به أصل شيخه ، أو بفرع مقابل على أصل السماع ، أو بفرع قوبل على فرع ولو كثر العدد إذ الغرض المطلوب أن يكون كتابه مطابقاً لأصل مرويِّه وكتاب شيخه.
* قال الحافظ :(وسَمَاعِهِ وإِسْمَاعِهِ) : أي ومن المهم معرفة صفة سماع الطالب أو إسماع الشيخ للحديث ، وقد أجمل الحافظ معنى ذلك بأمرين :
أ – أن لا يتشاغل الشيخ عند إِسْماعه ، والطالب عند سَمَاعه بما يُخِلُّ بالسماع من كتابة أو كلام أو نعاس. قلت : وهذا على سبيل العموم وإلا فقد وجد من المحدثين من ينسخ أثناء السماع مع حضور ذهنه كما نقل عن الدارقطني أنه كان يفعل ذلك ، فلما انتقد قال : إن فهمي للإملاء خلاف فهمك ، فأعاد جميع ما سمعوا ، وكذلك في النعاس الخفيف كان المزي يقرأ عليه في علم الرجال وهو ناعسٌ فإذا أخطأ القارئ رد عليه ، فهذه حالات خاصة خارجة عن الأصل العام.(1/150)
ب- أن يكون سماع الطالب من أصله الذي سمع فيه ، أو فرع قوبل على أصله ، فإن تعذر لغياب الكتاب الذي هو الأصل أو الفرع المقابل بإعارة أو ضياع أو سرقة ونحو ذلك ، فلا بد من إجازة تجبر ما يمكن أن يوجد من مخالفة ؛ كنقل ما ليس من سماعه أو نقل لفظ سماعه بلفظ آخر ونحو ذلك.
* قال الحافظ :(والرَّحْلَةِ فِيْهِ) : أي ومن المهم معرفة ذلك ، ولقد حرص المحدثون على الرحلة حرصاً شديداً حتى قال ابن معين : أربعة لا تؤنس منهم رشداً : حارس الدرب ، ومنادي القاضي ، وابن المُحدث ، ورجل يكتب في بلده ولا يرحل في طلب الحديث. وسأل عبد الله ابن الإمام أحمد أباه عمن طلب
………………………………………………………………………
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
العلم ترى أن يلزم رجلاً عنده علم فيكتب عنده ، أو ترى أن يرحل إلى المواضع التي فيها العلم فيسمع منهم ؟ قال : يرحل ؛ يكتب عن الكوفيين والبصريين وأهل المدينة ومكة ؛ يُشَامُّ الناس أ.هـ. وللرحلة عند المحدثين أهداف مهمة:
1- الدخول في قوله - صلى الله عليه وسلم -:"من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة" رواه مسلم. ولذا لما رحل أحمد بن حنبل ويحيى بن معين إلى اليمن للقاء عبد الرزاق ، فوافقوه في الطواف ، فقال يحيى لأحمد : قد كفاك الله ؛ هذا عبد الرزاق ، قال أحمد : لا والله لا أغير نيتي.(1/151)
2- تحصيل حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والسعي لحفظه وتدوينه ، ذكر أبو حاتم أنه لما كان في الرحلة ؛ كان على باب أبي الوليد الطيالسي بالبصرة وفيه خلق كثير من المحدثين أبو زرعة فمن دونه فقال : من أغرب عليّ حديثاً غريباً مسنداً صحيحاً لم أسمعه فله عليَّ درهمٌ يتَصَدق به ، وإنما كان مرادي أن يُلقي عليّ ما لم أسمع به ، فيقولون : هو عند فلان ، فأذهب أسمع ، وكان مرادي أن أسمع ما ليس عندي ، فما تهيأ منهم أن يغرب عليّ. ولقد رحل أحمد بن حنبل ويحيى بن معين إلى أحد البلدان فلقيا أحد المحدثين عند دخولهم البلد فقال يحيى بن معين له : حدثني بحديث كذا ، فقال أحمد : حتى نجلس رحمك الله! فقال يحيى: أخاف أن يموت قبل أن أسمعه منه.
3- طلب علو الإسناد ، سئل الإمام أحمد : أيرحل الرجل في طلب العلو ؟ فقال : بلى والله شديداً ، لقد كان علقمة والأسود يبلغهما الحديث عن عمر - رضي الله عنه - ، فلايقنعهما حتى يخرجا إلى عمر فيسمعانه منه. وقد اشتهر عند المحدثين الرحلة لطلب ذلك ، ومنه أن علي بن عاصم قال : خرجت أنا وهشيم لنلقى منصور بن المعتمر ، فدخل هشيم الكوفة بالغداة ودخلتها بالعشي ، فذهب هشيم فسمع من منصور أربعين حديثاً ، ودخلت أنا الحمام ، فلما أصبحنا مضيت فأتيت باب منصور فإذا جنازة منصور! ، فقعدت أبكي ، فقال لي شيخ هناك : يافتى! ما يبكيك ؟ قلت : قدمت على أن أسمع من هذا الشيخ وقد مات. فقال : أفأدلك على من شهد عُرس أمِّ ذا ؟ قلت : نعم. قال : اكتب : حدثني عكرمة عن ابن عباس ، فجعلت أكتب شهراً ، فقلت : من أنت رحمك الله ؟ قال : أنت تكتب عني منذ شهر لم تعرفني ؟ أنا حصين بن عبد الرحمن ، وما كان بيني وبين أن ألقى ابن عباس إلا سبعة دراهم أو تسعة دراهم ، فكان عكرمة يسمع منه ثم يجيء فيحدثني.(1/152)
وتَصْنِيْفِهِ : إِمَّا على المَسَانِيْدِ أَو الأَبْوَابِ أَوْ العِلَلِ أَوْ الأَطْرَافِ. ………………………........................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
4- الحرص على كثرة الشيوخ الثقات ، قال يعقوب بن سفيان الحافظ : قمت بالرحلة ثلاثين سنة ، وكتبت عن ألف شيخ وكسر ، كلهم ثقات .
* وقد قال الحافظ في شرح عبارته هذه : يبتدئ بحديث بلده فيستوعبه ، ثم يرحل فيحصل في الرحلة ما ليس عنده ، ويكون اعتناؤه بتكثير المسموع أكثر من اعتنائة بتكثير الشيوخ.
* قال الحافظ :(وتَصْنِيْفِهِ إمَا عَلَى المَسَانِيْد أَوْ الأَبْوَاب أَو العِلَلِ أَوْ الأَطْرَافِ) : أي ومن المهم للطالب معرفة كيفية تصنيف الكتب ، وهي أنواع :
1- على المسانيد : بأن يجمع أحاديث كل صحابي على حدة ، فإن شاء رتبه على سوابقهم مبتدأً بالعشرة ثم أهل بدر ثم بأهل الشجرة ، ثم بعموم المهاجرين ثم الأنصار ، وهكذا. وإن شاء رتبه على حروف المعجم وهو أسهل تناولاً كما قال الحافظ.
2- على الأبواب الفقهية أو غيرها : بأن يجمع في كل باب ما ورد فيه مما يدل على حكمه إثباتاً أو نفياً كما صنع أئمة الحديث في الكتب الخمسة ، وأحسن ذلك أن يقتصر على الصحيح والحسن كما فعل أصحاب الصحاح ، إلا إن أراد أن يبين ما لم يصح في الأبواب كما فعل الترمذي فحسن.
3- على العلل : بأن يذكر طرف المتن ثم يفصل ببيان طرقه والاختلاف فيه ، والأحسن أن يرتبه على الأبواب كما صنع ابن أبي حاتم في ’’العلل‘‘ ، وإن كان لم يرتب الأحاديث داخل الأبواب ، أو يرتبه على المسانيد كما فعل الدارقطني.(1/153)
4- على الأطراف : وهي الكتب التي تعنى بجمع أسانيد كتب معينة غالباً مرتبة على أسماء الصحابة ثم من دونهم على حروف المعجم ويسوق تحت هذا الترتيب طرف الحديث الدال على بقيته ، ثم يسوق أسانيده عند أصحاب الكتب التي على شرطه ، ككتاب ’’تحفة الأشراف‘‘ للمزي جمع فيه أطراف الكتب الستة وغيرها من مصنفات أصحاب الكتب الستة. وصنف المتأخرون كالسيوطي أطراف الأحاديث على حروف المعجم دون سياق الأسانيد مع عزوها ، لمواضعها من الكتب.
ومَعْرِفةُ سَبَبِ الحَدِيْثِ ، وقَدْ صَنَّفَ فِيهِ بَعْضُ شُيُوخِ القَاضِي أَبِي يَعْلَى ابْنِ الفَرَّاء. وصَنَّفُوا فِي غَالِبِ هِذِه الأَنْوَاعِ ، وهَيَ نَقْلٌ مَحْضٌ ظَاهِرَةٌ التَّعْرِيْفِ مُسْتَغْنَيةٌ عَنْ التَّمْثِيْلِ ، وحَصْرُهَا مُتَعَسِّرٌ فَلْتُرَاجَعْ لَهَا مَبْسُوطَاتُها ، واللهُ المُوَفِّقُ والهَادِي ، لا إِلهَ إِلاَّ هَو.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* قال الحافظ :(ومَعْرِفةُ سَبَبِ الحَدِيْثِ ، وقد صَنَّف فِيْهِ بَعْضُ شُيُوخِ القَاضِي أَبِي يَعْلَى ابْنِ الفَرَّاءِ) : أي ومن المهم معرفة سبب ورود الحديث لأن فيه فوائد كثيرة ينبني عليها كثير من القواعد والأحكام وإن كانت العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، فعلى سبيل المثال : ذكر الحافظ ابن حجر أول حديث فقال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في البحر :"هو الطهور ماؤه الحل ميتته". ثم قال في الحديث الثاني : قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم - :"إن الماء طهور لا ينجسه شيء" ، ولم يذكر في الحديث الثاني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك عن ماء البئر أو سبب وروده من أنه - صلى الله عليه وسلم - توضأ منه مع كونه تلقى فيه النجاسات ، واختصاره لذلك يترتب عليه فوات أحكام عند من لا يعرف الحديث ، مثل كون حديث البحر في الماء المخالط بشيء طاهر ، وحديث البئر في الماء المخالط بنجاسة لم تغيره.(1/154)
* قال الحافظ :(وَصَنَّفوا في غَالِبِ هذه الأَنْوَاعِ ، وهَي نَقْلٌ مَحْضٌ ظَاهِرَةُ التَّعْريْفِ مُسْتَغْنَيةٌ عَنْ التَّمْثِيلِ وَحَصْرُهَا مُتَعَسِّرٌ فَلْتُرَاجَعْ لَها مَبْسُوطَاتِهَا ، واللهُ المُوَفِّقُ والهَادِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ).
ختم الحافظ هذا المختصر ببيان أن غالب هذه الأشياء التي أشار لها في الخاتمة مفهومة من تعريفها مما يغني عن التمثيل لها. إضافة إلى أنه نوع من التكرار في النقل ، فحصر جزئيات هذه الأمثلة أو الأنواع ـ كآداب الشيخ والطالب على سبيل المثال ـ متعسر في مثل هذا الكتاب الذي أريد به الاختصار ، ومن أراد الوقوف على ذلك فعليه بالمبسوطات ككتب الطبقات والرجال والجرح والتعديل وآداب الرواية ونحو ذلك مما أشير لفنونه على سبيل الاختصار ، واللهُ المُوَفِّقُ والهَادِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ.
انتهى هذا الشرح الذي أعد لدورتين علميتين في صيف عام ثلاثة وعشرين بعد الألف والأربعمائة. وصلى الله على نبينا محمد وعلى وآله وصحبه وسلم ، والحمد لله أولاً وآخراً ظاهراً وباطناً
الفهرس العام
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
التصنيف في علم الحديث .................................................. 2
الخبر والحديث ........................................................... 3
المتواتر وشروطه .......................................................... 3
المشهور والمستفيض ....................................................... 4
العزيز ..................................................................... 5
الغريب .................................................................... 5(1/155)
تعريف الآحاد .............................................................. 5
أقسام الغريب .............................................................. 6
تعريف الحديث الصحيح.................................................... 7
مراتب الحديث الصحيح .................................................... 8
المفاضلة بين الصحيحين ................................................... 8
الحديث الحسن وأقسامه...................................................... 10
الاحتجاج بالحديث الحسن ......................................... 11
الجمع بين وصف الحسن والصحة ................................. 12
زيادة الثقة والصدوق .............................................. 13
المحفوظ والشاذ ............................................................. 14
المعروف والمنكر.................................................. 16
الشاهد ...................................................................... 17
الاعتبار .................................................................... 17
المحكم ...................................................................... 17
مختلف الحديث ............................................................. 18
الناسخ والمنسوخ ........................................................... 18
المردود وأقسامه ........................................................... 19
أسباب الرد............. .................................................. 19
المعلق ....................................................................... 19
المرسل ...................................................................... 21(1/156)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المعضل ...................................................................... 23
المنقطع....................................................................... 23
أنواع السقط من حيث الخفاء ................................................... 24
المدلس ......................................................................... 25
المرسل الخفي .................................................................. 25
حكم رواية المدلس .............................................................. 26
أسباب الطعن في الراوي ..................................................... 28
الموضوع حديث الكذاب....................................................... 30
المتروك حديث المتهم.......................................................... 31
المنكر حديث فاحش الغلط وكثير الغفلة وظاهر الفسق ...................... 31
المعلل بالوهم .................................................................. 32
المدرج بالمخالفة .............................................................. 34
المقلوب بالمخالفة ..................................................... 36
المزيد في متصل الأسانيد بالمخافة ..................................... 36
المضطرب بالمخالفة .................................................. 37
المصحف والمحرف بالمخالفة ......................................... 39
حكم تغيير المتن ...................................................... 40
غريب الحديث ................................................................. 41(1/157)
الجهالة وأسبابها ................................................................ 42
الموضح .............................................................. 43
الوحدان ............................................................... 43
أنواع الجهالة .......................................................... 44
حكم رواية المجهول ................................................... 45
البدعة ............................................................................ 47
الشاذ لسوء الحفظ الملازم........................................................ 48
المختلط لسوء الحفظ الطارئ ....................................................... 49
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ما يتقوى من هذه الأنواع ليكون حسناً بالمجموع...................................... 49
ضوابط التقوية ..................................................................... 50
المرفوع ........................................................................... 53
الصحابي .......................................................................... 54
التابعي ............................................................................. 55
الموقوف .......................................................................... 55
المقطوع .......................................................................... 55
المسند ............................................................................. 56
أقسام العلو وأنواعه................................................................ 56(1/158)
النزول ............................................................................. 58
الأكابر عن الأصاغر ............................................................. 59
السابق واللاحق ................................................................... 59
المهمل .......................................................................... 60
من حدث ونسي..................................................................... 60
المسلسل ............................................................................ 61
طرق تحمل الحديث ............................................................... 61
المتفق والمفترق ................................................................... 66
المؤتلف والمختلف ................................................................. 66
المتشابه ............................................................................. 66
طبقات الرواة......... ............................................................. 67
مواليدهم ووفياتهم ......................................................... 70
بلدانهم .................................................................... 71
مراتب الجرح....................................................................... 73
مراتب التعديل ....................................................................... 75
ممن يقبل الجرح ...................................................................... 76
تعارض الجرح والتعديل ................................................... 77(1/159)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأسماء والكنى ....................................................................... 80
الأسماء المجردة ...................................................................... 83
الأسماء المفردة ....................................................................... 84
الألقاب ............................................................................... 84
الأنساب .................................................................... 85
الموالي ................................................................................ 86
الإخوة ................................................................................. 87
أدب الشيخ والطالب ................................................................... 88
سن التحمل والأداء..................................................................... 95
صفة كتابة الحديث وعرضه.................................................. 95
سماع الحديث وإسماعه ...................................................... 96
الرحلة في الحديث ..................................................................... 96
تصنيف الحديث .............................................................. 98
أسباب الحديث .......................................................................... 99
فهرس الموضوعات .................................................................... 100(1/160)