بسم الله الرحمن الرحيم
فهذا بحث كتبه الشيخ د/ إبراهيم بن عبد الله اللاحم
الاستاذ المشارك بجامعة الإمام محمد بن سعود الاسلامية قسم السنة
وقد كتبه في مجلة الحكمة العدد 24
تفرد الثقة بالحديث
ـ 1ـ
يقصد بالتفرد أن يروي الراوي حديثا عن شيخه لا يشاركه فيه غيره ، فيقال لم يتابع عليه ، أو لم يروه غيره ، أو تفرد به فلان عن فلان ، ثم قد يكون التفرد مطلقا بحيث لم يتابع راوٍ ممن فوقه ، إلى أن يصل الإسناد إلى النبي صلى اله عليه وسلم ، وقد يكون نسبيا ، بحيث يكون للحديث طرق أ خرى مشهورة ، ووقع التفرد في هدا الطريق .
ويتنوع التفرد النسبي إلى عدة أنواع ، كما أن القسمين ـ المطلق والنسبي ـ قد يجتمعان في حديث واحد ، وقد تكفلت كتب علوم الحديث بشرح هذا وتفصيله .
والمتأمل في كلام النقاد بصفة عامة ، سواء على الرواة أو على الأحاديث يرى بوضوح اهتمامهم الشديد بتفرد الراوي فيما يرويه شيوخه ، ويرى ان قضية التفرد إحدى القضايا الضخمة التي تدور عليها قواعد السنة .
وقضية التفرد لها ذيول وتفريعات كثيرة ، مثل أثر التفرد على الراوي نفسه ، وأثر التفرد على الحديث المعين ، ومتى يزول التفرد ، والشد بالطرق لتقوية الحديث ، وغير ذلك .
وسأقتصر في هذا البحث على مسألة واحدة ، وهي أثر التفرد على الحديث المعين ، وفي حالة خاصة أيضا ، وهي مسألة تفرد الثقة ومن في حكمه ، كمن قيل فيه صدوق ، أو لا بأس به ، ونحو ذلك ، وإن كنت أرى أن هذه الموضوعات المتعلقة بالتفرد هي كغيرها من مسائل العلوم ، ينبغي دراستها بصفة متكاملة ، للارتباط الشديد بينها ، وتداخلها ، غير ان في تجزئتها ـ مع الإشارة إلى ما بينها من ترابط في مناسبته ـ مصلحة من جهة أخرى ، وهي الاختصار وتقريب العلوم والمعلومات ، وتسهيل فهمها واستيعابها.
وقد جعلت هذا البحث المختصر في ثلاثة مباحث :
المبحث الأول : موقف أئمة النقد من تفرد الثقة.(1/1)
المبحث الثاني : ضوابط النظر في تفرد الثقة.
المبحث الثالث : موقف المتأخرين من تفرد الثقة .
المبحث الأول
موقف أئمة النقد من تفرد الثقة
الناظر في كلام النقاد وتصرفاتهم حين وقوع التفرد يلاحظ بسهولة أن ذلك يسير في اتجاهين :
الاتجاه الأول : الرد بالتفرد ، وتضعيف الإسناد به ، سواء في كلامهم النظري ، أو في تطبيقاته العملية .
فمن الأول ماورد عنهم من التحذير من الغرائب وتتبعها وكتابتها ، ومما ورد عنهم من النص على غرائب الثقات قول أحمد ( إذا سمعت أصحاب الحديث يقولون هذا حديث غريب ، أو فائدة ، فاعلم أنه خطأ ، أو دخل عليه
حديث في حديث ، أو خطأ من المحدث ، أو حديث ليس له إسناد ، وإن كان قد روى شعبة وسفيان ، فإذا سمعتهم يقولون هذا لاشيء فاعلم أنه حديث صحيح (1)
وقال أبو داود في وصف أحاديث السنن ( والأحاديث التي وضعتها في كتاب السنن أكثرها مشاهير وهي عند كل من كتب شيئا من الحديث إلا أن تمييزها لا يقدر عليه كل الناس والفخر بها أنها مشاهير فإنه لا يحتج بحديث غريب ولو كان من رواية مالك ويحيى بن سعيد والثقات من أهل العلم .
ولو احتج رجل بحديث غريب وجدت من يطعن فيه ولا يحتج بالحديث الذي قد احتج به إذا كان الحديث غريباً شاذاً . فأما الحديث المشهور المتصل الصحيح فليس يقدر أن يرده عليك أحد )(2)(1/2)
ونقل ابن رجب عن أبي بكر البرديجي قوله في سياق ما إذا انفرد شعبة ، أو سعيد بن أبي عروبة ، أو هشام الدستوائي بحديث عن قتادة ، عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم ( المنكرهو الذي يحدث به الرجل عن الصحابة ، أو عن التابعين ، عن الصحابة ، لايعرف ذلك الحديث ـ متن الحديث ـ إلا من طريق الذي رواه ، فيكون منكرا ) ، ثم قال البرديجي ( فأما أحاديث قتادة التي يرويها الشيوخ ، مثل حماد بن سلمة ، وهمام ، وأبان والأوزاعي ننظر في الحديث فإن كان يحفظ من غير طريقهم عن النبي صلى الله عليه سلم ، ولا من طريق أخرى عن أنس الا من رواية هذا الذي ذكرت لك ، كان منكرا )
وقال أيضا ( إذا روى الثقة من طريق صحيح عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حديثا لا يصاب إلا عند الرجل الواحد ـ لم يضره أن لا يرويه غيره ، إذا كان متن الحديث معروفا ، ولا يكون منكرا ، ولا معلولا )(3)
وتكلم الحاكم على الحديث الشاذ فقال ( هو غير المعلول ، فإن المعلول ما يوقف على علته أنه دخل حديث في حديث ، أو وهم فيه راو ٍ ، أو أرسله واحد فوصله واهم ، فأما الشاذ فإنه الحديث يتفرد به ثقة من الثقات وليس للحديث أصل متابع لذلك الثقة )(4)
وذكر الخليلي تعريف الشافعي وجماعة من أهل الحجاز للشاذ بأنه ما يرويه الثقات على لفظ واحد ، ويرويه ثقة خلافه زائدا ، أو ناقصا ، ثم قال (( والذي عليه حفاظ الحديث : الشاذ : ما ليس له إلا إسناد يشذ بذلك شيخ ، ثقة كان أو غير ثقة ، فما كان من غير ثقة فمتروك لا يقبل ، وما كان عن ثقة يتوقف فيه ، ولا يحتج به ))(5)(1/3)
فهذه النصوص أقل ما يستفاد منها أن كبار النقاد يتوقفون في بعض ما يتفرد به الثقة ، وربما صرحوا برده ونكارته ، وعملهم بذلك يدل على ذلك أيضا ، فلا يحصى ما استنكره النقاد مما يتفرد به الثقات ، وربما احتاج الناقد منهم لإذهاب ما في نفسه من تفرد الراوي أن يحلفه على السماع ، مع أنه ثقة متثبت ، قال عبد الرحمن بن أبي حاتم (( سمعت أبي وذكر حديث عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الولاء وعن هبته ) قال شعبة استحلفت عبد الله بن دينار : هل سمعتها كذا من ابن عمر ؟ فحلف لي ، قال أبي : كان شعبة بصيرا بالحديث جدا ، فهما فيه ، كان إنما حلفه لأنه كان ينكر هذا الحديث ، حكم من الأحكام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشاركه أحد ، لم يرو عن ابن عمر أحد سواه ) (6)
ولذلك كان شعبة يعد هذا الحديث مع ثلاثة أخر رأس ماله (7)
وهذا المعنى المتقدم ـ وهو أن الثقة ومن في حكمه قد يستنكر عليه بعض ما يتفرد به ـ وهو المراد بقولهم في تعريف الحديث الصحيح ، والحسن : ( ألا يكون شاذا ) فالشذوذ هنا هو التفرد مع مع ترجيح خطأ الراوي )
ومن الأمثلة على استنكارهم ما يتفرد به الثقة ومن في حكمه :
ما رواه عبد الله بن أحمد قال قال أبي : ( قال أبو خيثمة : أنكر يحيى بن سعيد ومعاذ بن معاذ حديث حبيب بن الشهيد عن ميمون بن مهران ابن عباس ( أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم محرما صائما ) قال أبي أنكراه الأنصاري على محمد بن عبد الله )(8)
ونقل نحو هذا عن أحمد أيضا مهنا بن حرب ، قال سألت أحمد عن حديث حبيب بن الشهيد ، عن ميمون بن مهران ، عن ابن عباس ( أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم محرم ) فقال : ليس بصحيح ، وقد أنكره يحيى بن سعيد [على ] الأنصاري .(9)(1/4)
ونقل الأثرم عن أحمد سبب خطأ الأنصاري ، قال ( سمعت أبا عبد الله رد هذا الحديث فضعفه ، وقال : كانت كتب الأنصاري ذهبت في أيام المنتصر ، فكان بعد يحدث من كتب غلامه وكان هذا من تلك )(10)
وكذا استنكره النسائي ، فقال بعد أن أخرجه ( هذا منكر ، لا أعلم أحدا رواه عن حبيب غير الأنصاري ولعله أراد ( أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة ... ) (11)
الحواشي =======================================
(1) الكفاية ص 142
(2) رسالة ابي داود إلى أهل مكة في وصف سننه ، ص 29
(3) شرح علل الترمذي (2/ 653ـ654) ، وانظر التعديل والتجريح للباجي (1/302)
(4) معرفة علوم الحديث ص 119
(5) الإرشاد (1/176)
(6) الجرح والتعديل (1/170) وانظر (1/164،163) والمعرفة والتاريخ (2/703)
(7) الجامع لأخلاق الراوي ( 1/225)
(8) العلل ومعرفة الرجال (2/82)
(9) فتاوى ابن تيمية (25/252) ، وما بين لعكوفين زيادة لابد منها
(10) فتاوي ابن تيمية (25/252)
(11) السنن الكبرى حديث رقم 3231 ، وأخرجه الترمذي 776 ، وأحمد (1/315)غير أنه عند الترمذي ( احتجم وهو صائم ) ، وعند أحمد ( احتجم وهو محره )
ـ2ـ
وروى حفص بن غياث عن عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر قال (( كنا ناكل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نمشي ونشرب ونحن قيام )) (1) فاستنكره جماعة من النقاد ، قال الأثرم ( قلت له ـ يعني لأبي عبد الله أحمد بن حنبل ـ الحديث الذي يرويه حفص ... ، فقال ما أدري ما ذاك ـ كالمنكر له ـ ، ما سمعت هذا إلا من ابن أبي شيبة ، عن حفص ، قال لي أبو عبد الله : ما سمعته من غير ابن أبي شيبة ؟ قلت له : ما أعلم أني سمعته من غيره ، وما أدري رواه غبره أم لا ، ثم سمعته أنا بعد من غير واحد عن حفص ، قال أبو عبد الله : أما أنا فلم أسمعه إلا منه ، ثم قال : إنما هو حديث يزيد عطارد ) (2)(1/5)
وقال ابن معين (( لم يحدث به إلا حفص ، وما أراه إلا وهم فيه ، وما أراه إلا وهم فيه ، وأراه حديث عمران بن حدير ، فغلط بهذا ) (3)
وقال ابن المديني ( نعس حفص نعسة ـ يعني حين روى حديث عبيد الله بن عمر ـ وإنما هو حديث أبي البزري ) قال أبو داود بعد أن روى هذا : كان بأخره دخله نسيان ، وكان يحفظ ) (4)
ونقل الترمذي عن البخاري قوله فيه ( هذا حديث فيه نظر ) ثم قال : لا يعرف عن عبيد الله إلا من وجه رواية حفص ، وإنما يعرف من حديث عمران بن حدير عن أبي البزري عن ابن عمر ، وأبو البرزي اسمه يزيد بن عطارد ) (5)
وقال أبو زرعة حين سئل عنه معللا له ( رواه حفص وحده ) (6)
وقال أبو حاتم ( إنما هو حفص عن عبيد الله العرزمي ، وهذا حديث لا أصل له بهذا الإسناد ) (7)
فتلخص من كلام الأئمة أن حفصا غلط حين روى هذا المتن عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر ، وإنما يروى هذا المتن من طريق عمران بن حدير عن يزيد بن عطارد البزري السدوسي ، عن ابن عمر (8) ، وأشار أبو حاتم إلى أنه عنده عن حفص بإسناد آخر ، فهو عنده محمد بن عبيد الله العرزمي ، وهو يروي عن نافع ، وهو متروك الحديث (9) ، فلعل حفصا لما حدث به من حفظه أبدله بعبيدالله بن عمر .
وروى شبابة بن سوار عن شعبة عن بكير بن عطاء عن عبد الرحمن بن يعمر ( أن النبي نهى عن الدباء والمزفت ) (10)
واستنكره على شبابة جماعة من النقاد ، وأن شعبة إنما روى بهذا الإسناد حديث ( الحج عرفة ) (11)
قال الأثرم : قلت لأبي عبدالله : روى ـ أي شبابة ـ عن شعبة عن بكير بن عطاء عن عبدالرحمن بن يعمر ، في الدباء ، فقال : إنما روي عن شعبة بهذا الإسناد حديث الحج .(12)
وقال أيضا : قلت لأبي عبد الله : حديث شبابة الذي يرويه عن شعبة عن بكير عن عطاء عن عبدالرحمن بن يعمر ؟ قال : ما أدري أخبرك ما سمعته من أحد ـ يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الدباء والمزفت . (13)(1/6)
وقال البخاري ( روى شبابة عن شعبة عن بكير عن ابن يعمر : نهى النبي صلى الله عليه وسلم ـ في الجر ـ ولم يصح ) (14)
وقال أبو حاتم ( هذا حديث منكر ، لم يروه غير شبابة ، ولا يعرف له أصل ) (15)
وقال ابن عدي بعد أن ذكره مع حديثين آخرين أنكرا على شبابة أيضا ، وكلاهما من روايته عن شعبة ( والذي أنكر عليه الخطأ لعله حدث به حفظا ) (16)
هذا مع أن شبابة أحد المكثرين عن شعبة ، وقد روى عنه مع الجماعة حديث الحج ، ولهذا دافع عنه ابن المديني بأن من سمع من رجل ألفا وألفين لا ينكر منه ، يجيء بحديث غريب . (17)
وروى سليمان بن بلال عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم ( نعم الإدام الخل ) (18) و ( بيت لا تمر فيه جياع أهله ) (19)
سئل عنهما أبو حاتم فقال ( هذا حديث منكر بهذا الإسناد ) (20)
وقال ابن رجب ( ذكرنا أن كثيرا من الحفاظ استنكروه ـ يعني الحديث الأول ـ على سليمان بن بلال ، منهم أحمد وأبو حاتم وأحمد بن صالح وغيرهم ، وكذلك قال جماعة منهم في حديث ( بيت لا تمر فيه جياع أهله ) بهذا الإسناد ) (21)
وقال المرّوذي : وذكرت له ـ يعني أحمد ـ حديث حسين الجعفي عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن جابر ( أسلم سالمها الله ) فأنكره إنكارا شديدا ، وقال هذا عن عبيد الله بن دينار عن ابن عمر ، أنظر الوهم من قبل من هو . (22)
وقال الميموني : سمعته ـ يعني أحمد ـ وذكر عبدالوارث ، فقال : أسن من إسماعيل ابن علية بسنتين ، وقد سمع غير واحد لم يسمع منه اسماعيل ، ثم ذكر ضبط عبد الوارث ، وأنه كان صاحب نحو ، ثم قال : وقد غلط في غير شيء ، ثم قال : روى عن أيوب أحاديث لم يروها أحد من أصحابه ـ وهو عندنه مع هذا ضابط . (23)(1/7)
وقال الآجري ( سألت أبا داود عن حديث ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقف قبل القراءة هنية فيسأل الله من فضله ) قال منكر جدا ، من رواه ؟ قلت يحدثونا بهذا من حديث الوليد بن مسلم ، قال : كل منكر يجيء عن الوليد بن مسلم إذا حدث عن الغرباء ، يخطي ، قال وحدثنا عن حماد بن بن سلمة عن عبدالرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة قالت ( نُزع رسول الله صلى الله عليه وسلم
بهذه الآية ( فيتبعون ما تشابه منه ) ، قال ( هذا باطل ما جاء به إلا الوليد بن مسلم ... . (24)
وقال أبو زرعة ( كنت سمعت رجاء الحافظ حين قدم علينا فحدثنا عن علي بن المديني ، عن هشام بن معاذ عن أبيه عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس قال : ( نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يطرق الرجل أهله ليلا ) فأنكرته ، ولم أكن دخلت البصرة بعد ، فلما التقيت علي سألته ، فقال : من حدث بهذا عني مجنون ، ما حدثت بهذا قط ، وما سمعت من معاذ بن هشام هذا ) (25)
وروى طلق بن غنام عن شريك وقيس بن الربيع عن أبي حصين عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ( أد الأمانة إلى من أئتمنك ، ولا تخن من خانك ) (26)
قال ابن أبي حاتم : سمعت أبي يقول طلق بن غنام هو ابن عم حفص بن غياث ، وهو كاتب حفص بن غياث ، روى حديثا منكرا عن شريك وقيس ... ، قال أبي ولم يرو هذا الحديث غيره . (27)
# وروى محمد بن حرب الأبرش عن عبيدالله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم 0ليس من البر الصيام في السفر ) (28)
سئل عنه أبو حاتم فقال : هذا حديث منكر (29) ، وقال مرة : لم يروه عير محمد بن حرب (30)
وأخرج النسائي عن يزيد بن سنان عن مكي بن إبراهيم عن مالك عن نافع عن ابن عمر قال :0 متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى عليه وآله وسلم ، أنهى عنهما وأعاقب عليهما ، متعة النساء ومتعة الحج )(1/8)
ثم قال النسائي : هذا حديث معضل لا أعلم رواه غير مكي ، وهو لا بأس به
، لا أدري من أين أتي ؟) (31)
في أشياء كثيرة من هذا القبيل ، سيأتي منها في المبحثين التاليين
وقد يعترض على ما تقدم بأن توقفهم في تفرد الراوي إذا كان ثقة أو في حكمه يحتمل أن يكون ذلك مع المخالفة ، فيخالف الراوي غيره ممن هو أوثق منه أو يخالف جماعة فيصل مرسلا ، أو يرفع موقوفا ، ونحو ذلك .
والجواب :
أن استنكار حديث الراوي ورده بسبب المخالفة كثير جدا أيضا ، ولكن ليس هو المقصود هنا ، فهذا له شأن آخر ،
وأما المقصود هنا فهو تفرد الراوي دون مخالفته لغيره ، فلم يصل مرسلا ، أو يرفع موقوفا ، أو يبدل راو بآخر ، بل تفرد بالاسناد أصلا ، والأمثلة التي سقتها كلها بهذه المثابة حسب ما يظهر من كلام النقاد .
الحواشي ========================================
(1) الترمذي (1880) ، ابن ماجة (3301) ، احمد (2/108) ، ابن أبي شيبة (8/205) ، شرح معاني الآثلر (4/273) ، ابن حبان (5325،5322) تاريخ بغداد (8/195)
(2) تاريخ بغداد (8/195)
(3) تاريخ بغداد (8/195)
(4) سؤالات الآجري لأبي داود (1/337)
(5) العلل الكبير (2/791)
(6) العلل لابن أبي حاتم (2/10) ، تاريخ بغداد ((8/196)
(7) العلل لابن أبي حاتم (2/9)
(8) أحمد (2/29،24،12) ، الطيالسي (1904) ، ابن أبي شيبة (8/205) ،الدارمي ( 2131) ، ابن الجارود ( 867) ، ابن حبان ( 5243)
(9) تهذيب التهذيب ( 9/ 322)
(10) الترمذي (5/761) ، النسائي ( 5644) ، ابن ماجة ( 3404) تاريخ بغداد (9/296)(1/9)
(11) النسائي في الكبرى ( 4180) ، أحمد ( 4/310،309) ، الطيالسي ( 1310،309) ، الدارمي ( 1887) ، التاريخ الكبير للبخاري (5/243)، الطحاوي (2/209) ، وفي شرح مشكل الآثار (3369) ، والدارقطني ( 2/ 240) ، والحاكم (2/278) ، والبيهقي ( 5/ 173 ) من طرق كثيرة عن شعبة ، وأخرجه أبو داود (1949) ، والترمذي (2975،890،889) ، والنسائي (3044، 3016) ، وفي الكبرى (4050،4012) ، وابن ماجة عقب حديث (3015) ، وأحمد (4/ 335،309) من طريق سفيان الثوري عن بكير عن عطاء
(12) تاريخ بغداد (9/ 297)
(13)تاريخ بغداد (9/296)
(14) التاريخ الكبير (2/111)
(15) علل الحديث (2/27)
(16) الكامل (4/1365)
(17) الكامل (4/1365) ، تاريخ بغداد (9/297)
(18) مسلم (1621) ، الترمذي (1845) ، ابن ماجة (3316)
(19) مسلم (2046) ، أبوداود (3831) ، الترمذي (1820) ، ابن ماجة ( 3327)
(20) علل الحديث (2/293)
(21) شرح علل الترمذي (2/ 651)
(22)علل المرّوذي ص 148
(23) علل المرّوذي ص 222
(24) سؤالات الآجري (2/187) وذكر أبو داود للوليد حديثين مما استنكره عليه
(25) أسئلة البرذعي ص 388
(26)أبوداود (3535) ، التاريخ الكبير(4/360) ، مشكل الآثار (1832،1831) ، المعجم الأوسط (3595) ، المستدرك (2/46) ، سنن البيهقي (10/271) ، فوائد تمام ( 707) ، ذكر أخبار أصبهان (1/269)
(27) علل الحديث (1/ 375)
(28) ابن ماجة ( 1665) ، شرح معاني الآثار (2/ 63) ، ابن حبان (3548) ، المعجم الكبير (13403،13387) ، الأوسط ( 7961،6293)
(29) علل الحديث (1/247)
(30) علل الحديث (1/262)
(31) تذكرة الحفاظ (1/361) ، النكت لابن حجر (2/576) وقد وقع آخر النص في المصدر الثاني محرفا ، وعزياه جميعا إلى عمل اليوم والليلة للنسائي ولم أجده فيه .
ـ 3ـ
أما الاتجاه الثاني الذي يسير فيه كلام النقاد وتصرفاتهم(1/10)
فهو أنه قد اشتهر عنهم الاهتمام بكتابة الغرائب التي يسمونها الحسان والفوائد والطرائف ، قال عبد الله بن أحمد ( سألت أبي عن محمد بن الحسن الواسطي ، الذي يقال له المزني ، قال : ليس به بأس ... ، وقد حدثتكم عنه ، كتبت عن إسماعيل ـ يعني ابن أبي خالد ـ أحاديث غرائب ، كتبت عنه أول سنة انحدرت إلى البصرة ، ولم ألقه في السنة الثانية ، وكان قد مات ) (1)
وقال عبد الله أيضا ( قدمت الكوفة سنة ثلاثين ومئتين ، فعرضت عليه أحاديث أبي بكر بن أبي شيبة عن شريك ، فقال : عند أبي بكر بن أبي شيبة أحاديث حسان ، غرائب عن شريك ، لو كان هاهنا سمهنا منه ) (2)
وقال حميد بن زنجوية لعلي بن المديني ( إنك تطلب الغرائب فأت عبدالله بن صالح ، واكتب عن معاوية بن صالح تستفد منه مئتي حديث ) (3)
وسأل ابن أبي حتم أبا زرعة الرازي عن معاوية بن عبدالله الزبيري ، فقال : لا بأس به ، كتبنا عنه بالبصرة ، أخرج إلينا جزءاً من حديثه ، فانتخبت منه أحاديث غرائب وتركت المشاهير ) (4)
ولشدة اهتمام النقاد بهذا النوع من الأحاديث فقد اشتهر عندهم تخصيص كتاب أو جزء ، يجمع فيه النقاد ما يمر من هذا النوع . (5)
وفوق ذلك أن النقاد قد صححوا من الأحاديث الغريبة غرابة مطلقة أونسبية شيئا كثيرا ، وفي الصحيحين من ذلك قدر كبير ، وأول حديث في صحيح البخاري ، وآخر حديث فيه هو الغريب المطلق .
وهذان الاتجاهان في موقف النقاد من التفرد لايتعارضان ، فالنهي عن كتابة الغريب إنما ذلك ما يأتي عن الضعفاء ومن دونهم ، فالأمر كما قال الخطيب ( والغرائب التي كره العلماء الاشتغال بها ، وقطع الاوقات في طلبها ، إنما هي ما حكم أهل المعرفة ببطوله ، لكون رواته ممن ييضع الحديث ، أو يدعي السماع ، فأما ما استغرب لتفرد راويه به ، وهو من أهل الصدق والأمانة ، فذلك يلزم كتبه ، ويجب سماعه وحفظه ) . (6)(1/11)
فالناقد يكتب عمن هو أهل للكتابة عنده ، ولا يلزم أن يكون ما كتبه عنه كله صحيح عنده ، فقد يكون يراه صحيحا ، وقد يكون يراه خطأ ، بل قد يضع الناقد ما يستنكره ويضعفه في مصنف له ، ومن نظر في (الجزء المطبوع من علل الخلال) وما فيه من الأحاديث التي ضعفها أحمد وهي في (مسنده ) أدرك ذلك بسهولة .
فمن المهم جدا معرفة أن الناقد قد يكتب حديثا غريبا ، وقد يظهر فرحه به ، لكونه ليس عنده قبل أن يقف عليه ، وهو مع ذلك يستنكره ويراه خطأ ، وما يفعله بعض الباحثين من التعويل على ذلك في تقوية الحديث ليس بجيد ، وأكتفي بسوق مثال واحد يتضح به المراد .
التقى أحمد بن حنبل بأحمد بن صالح المصري الحافظ ، فجرت بينهما قصة شهدها أبو بكر بن زنجوية ، قال ( ... فقام إلية ، ورحب به ، وقرَّ به ، وقال له ( القائل أحمد بن حنبل ) بلغني أنك جمعت حديث الزهري ، فتعال نذكر ما روى الزهري عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجعلا يتذاكران ولا يغرب أحدهما عن الآخر ، حتى فرغا ، فما رأيت أحسن من مذاكرتهما ، ثم قال أحمد بن حنبل : تعال نذكر ما روى الزهري عن أولاد الصحابة فجعلا يتذاكران ولا يغرب أحدهما على الآخر إلى أن قال أحمد بن حنبل لأحمد بن صالح عند الزهري عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن عبد الرحمن بن عوف قال النبي صلى الله عليه وسلم( ما يسرني أن لي حمر النعم ، وأن لي حلف المطيبين) فقال أحمد بن صالح لأحمد بن حنبل أنت الأستاذ وتذكر مثل هذا ؟ فجعل أحمد يتبسم ويقول رواه عن الزهري رجل مقبول أو صالح عبد الرحمن بن إسحاق فقال من رواه عن عبد الرحمن ؟ فقال حدثناه ثقتان إسماعيل بن علية وبشر بن المفضل فقال أحمد بن صالح سألتك بالله إلا أمليته علي فقال أحمد من الكتاب فقام ودخل فأخرج الكتاب وأملى عليه ، فقال أحمد بن صالح لو لم أستفد بالعراق إلا هذا الحديث كان كثيرا ثم ودعه وخرج ) . (7)(1/12)
فهذا الحديث قد كتبه أحمد بن حنبل ، ويذاكر به ، ويرويه مع أنه يراه منكرا ، إذ استنكره على عبدالرحمن بن إسحاق وقال ما رواه غيره . (8)
# والحكم في التفرد كغيره من مسائل هذا الفن ، يخضع لنظر الناقد فيما لديه من قرائن وأدلة ، وربما وصل فيه إلى ما وصل فيه غيره ، لاجتماع قرائن وتعاضدها ، وقد يخالف غيره ، وهذا ما يفسر لنا استنكار ناقد لحديث ، وغيره يراه صحيحا محفوظا ، وفي الصحيحين أشياء من هذا القبيل لا أطيل بذكرها .
ومن هذا الباب قول يعقوب بن شيبة في قيس بن أبي حازم ( ... ، وهو متقن الرواية وقد تكلم أصحابنا فيه ، فمنهم من رفع قدره وعظّمه ، وجعل الحديث عنه من أصح الأسناد ، ومنهم من حمل عليه وقال : له أحاديث مناكير ، والذين أطروه حملوا هذه الأحاديث على أنها عندهم غير مناكير ، وقالوا : هي غرائب . (9)
وربما وقع التردد من الإمام الواحد ، فقد روى حرمي بن عمارة عن شعبة عن قتادة عن أنس مرفوعا ( من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ) (10) ، وتفرد به حرمي عن شعبة بهذا الإسناد ، وسئل عنه أحمد مرة فأنكره على حرمي (11) ، وسئل عنه مرة أخرى فقال أرجو أن يكون محفوظا (12) .
## وفي رأيي أن موضوع التفرد من أدق قضايا نقد السنة ، فهو مزلة قدم بالنسبة للناظر في الإسناد ، يجب عليه فيه أن يكون متوازنا ، فإنّ إهماله ضعف ، والإسراف فيه ضعف أيضا ، ولا شك أن الباحث في حاجة إلى ما ينيرالطريق له حين النظر في التفرد ، وسأحاول ذلك بتخصيص المبحث التالي لضوابط التفرد عند النقاد .
الحواشي ========================================
(1) العلل ومعرفة الرجال (3/299)
(2) العلل ومعرفة الرجال (3/350)
(3) الكامل (6/2400)
(4) علل الحديث (1/268)
(5) ينظر مظاهر إهتمام الأئمة بالغرائب ، مقدمة التحقيق لـ (نسخة يحيى بن معين ) لعصام السناني ص 189 ـ 236
(6) الجامع لأخلاق الراوي (2/160)(1/13)
(7) تاريخ بغداد (4/196) ، سير أعلام النبلاء (12/169)
(8) علل المرّوذي ص 64
(9) تصذيب الكمال (24/14)
(10) أخرجه عبدالله بن أحمد في زياداته على المسند (3/279،278) وأبو يعلى (2909) ، وابن عدي (3/1298)
(11) الضعفاء الكبير (1/270)
(12) مسائل أبي داود ص 340
ـ 4ـ
ا لمبحث الثاني
ضوابط النظر في تفرد الثقة ومن في حكمه
يوجد في كلام النقاد على أحاديث وقع فيها تفرد ما يمكن أن يستخلص منه ضوابط في قبول أو رد ما يتفرد به الثقة ومن في حكمه ، ومن أول من وقفت على كلام له في تحرير ذلك وبيانه مسلم بن الحجاج في مقدمة صحيحه فإنه قال : ( حكم أهل العلم، والذي نعرف من مذهبهم في قبول ما يتفرد به المحدث من الحديث، أن يكون قد شارك الثقات من أهل العلم والحفظ في بعض ما رووا. وأمعن في ذلك على الموافقة لهم. فإذا وجد كذلك، ثم زاد بعد ذلك شيئا ليس عند أصحابه، قبلت زيادته، فأما من تراه يعمد لمثل الزهري في جلالته وكثرة أصحابه الحفاظ المتقنين لحديثه وحديث غيره، أو لمثل هشام بن عروة، وحديثهما عند أهل العلم مبسوط مشترك. قد نقل أصحابهما عنهما حديثهما على الاتفاق منهم في أكثره. فيروى عنهما أو عن أحدهما العدد من الحديث، مما لا يعرفه أحد من أصحابهما، وليس ممن قد شاركهم في الصحيح مما عندهم، فغير جائز قبول حديث هذا الضرب من الناس. والله أعلم. ) (1)
وما ذكره مسلم من قبول ما يتفرد به من أمعن في موافقة الثقات عن شيخه ، مبني على أن الراوي قد لايستوعب ما عند شيخه ، وإذا استوعبه فقد لا يحدث به كله ، كما في قول أحمد ( عند سعد بن إبراهيم شيء لم يسمعه يعقوب ، كتاب عاصم بن محمد العمري ) . (2)
وسئل أحمد عن نوح بن يزيد ، ويعقوب بن إبراهيم بن سعد ، في حديث إبراهيم ،فقال ( نوح بن يزيد أحب إلى من يعقوب ، روى نوح عن إبراهيم شيئا ليس عند يعقوب ) .(3)(1/14)
وقال أحمد أيضا : ( حدث عبد الرزاق عن معمر أحاديث لم يسمعها ابن المبارك وحدث ابن المبارك أيضا بشيء لم يسمعه عبد الرزاق ) .(4)
وسأل عبدالله بن أحمد أباه عن حديث للأعمش فأجابه ، ثم قال أبو معاوية ببغداد ن وكان يحيى ربما فاته الشيء ) .(5)
ومن نظر في كلام النقاد على أصحاب الرواة المكثرين ، كنافع ، والزهري ، وقتادة ، وشعبة وغيرهم .. أدرك بسهولة تفاوتهم في مقدار ما يروونه عنهم ، ويظهر ذك أيضا في رواية بعضهم عن بعض ما فاته عن الشيخ .
وإنما يستنكر بداهة أن يروي ثقة ليس من أصحاب الراوي المعروفين بالكثرة والتثبت فيه ، فينفرد عن الجميع بشيء يرويه عنه .
ومن هذا الباب قول صالح بن محمد البغدادي الحافظ وقد سئل عن عبدالرحمن بن أبي الزناد ( قد روى عن أبيه أشياء لم يروها غيره ، وتكلم فيه مالك بن أنس بسبب روايته كتاب (السبعة) عن أبيه ، وقال أين كنا نحن من هذا ) .(6)
وروى قران بن تمام ، عن أيمن بن نابل ، عن قدامة بن العمري ( رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت يستلم الحجر بمحجنه )(7) ، قال أبو حاتم ( لم يرو يرو هذا الحديث عن أيمن إلا قران ، ولا أراه محفوظا ، أين كان أصحاب أيمن بن نابل عن هذا الحديث ؟) . (8)
وروى برد بن سنان عن الزهري عن عروة عن عائشة ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلى ، والباب مغلق عليه ، فجئت فاستفتحت ...) الحديث (9) ، سئل عنه أبوحاتم فقال( لم يرو هذا الحديث أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم غير برد ، وهو حديث منكر ، ليس يحتمل الزهري مثل هذا الحديث وكان برد يرى القدر ) .(10 )
وبرد هذا وثقه الأئمة ولكنه ليس من أصحاب الزهري ، ولذا قال الجوزجاني بعد كلامه عن أصحاب الزهري المعروفين : ( قوم رووا عن الزهري قليلا ، أشياء يقع في قلب المتوسع في حديث الزهري أنها غير محفوظة ، منهم برد بن سنان ، وروح بن جناح وغيرهما ) . (11)(1/15)
وتعرض الذهبي أيضا لبعض الضوابط في التفرد ، وأنقل كلامه بطوله أيضا ، قال (فمثلُ يحيى القطان ، يقال فيه : إمامُ ، وحُجَّة ، وثَبْت ، وجِهْبِذ ، وثِقَةُ ثِقَة ،ثم ثقةُ حافظ ، ثم ثقةُ مُتقن ثم ثقةُ عارف ، وحافظُ صدوق ، ونحوُ ذلك
فهؤلاء الحُفَّاظُ الثقات ، إذا انفرد الرجلُ منهم من التابعين ، فحديثهُصحيح . وإن كان من الأتباعِ قيل : صحيح غريب . وإن كان من أصحاب الأتباع قيل : غريبُ فَرْد . ويَنْدُرُ تفرُّدهم ، فتجدُ الإمامَ منهم عندهَ مِئتا ألف حديث ، لا يكادُ ينفرد بحديثينِ ثلاثة . ومن كان بعدَهم فأين ما يَنفرِدُ به ، ما علمتهُ ، وقد يوُجَد .
ثم نَنْتَقِلُ إلى اليَقِظ الثقةِ المتوسِطِ المعرفةِ والطلب ، فهو الذي يُطلَقُ عليه أنه ثقة ، وهم جُمهورُ رجالِ (( الصحيحين )) فتابِعِيُّهم ، إذا انفَرَد بالمَتْن خُرَّج حديثهُ ذلك في ( الصحاح ) .
وقد يَتوقَّفُ كثيرُ من النُّقاَّد في إطلاق ( الغرابة ) مع ( الصحة ) ، في حديثِ أتباعِ الثقات . وقد يُوجَدُ بعضُ ذلك في ( الصحاح ) دون بعض . وقد يُسمِّي جماعةٌ من الحفاظ الحديثَ الذي ينفرد به مثلُ هُشَيْم ،
وحفصِ بنِ غِياثٍ : منكراً
فإن كان المنفرد من طبقة مشيخة الأئمة ، أطلقوا النكارةَ على ما انفرد مثلُ عثمان بن أبي شيبة ، وأبي سَلَمة التَّبُوْذَكِي ، وقالوا : هذا منكر. ) . (12)
فقسم الذهبي الثقات إلى قسمين :
الثقات الحفاظ وهم الذين عرفوا بالحفظ والاتقان وندرة الخطأ ، فهؤلاء يقبل تفرد التابعين منهم عن الصحابة وتفرد تابعي التابعين عن التابعين .
والقسم الثاني هم من الثقات ، وهم جماعة يوصف الواحد منهم بلأنه ثقة ، لكن ليس من الحفاظ المتقنين ، وهم مع ذلك متوسطو المعرفة ، أي المعرفة بنقد الحديث ، فلا يؤمن أن يخطيء الواحد منهم ، ولا ينتبه لذلك فهؤلاء يقبل تفرد التابعين منهم عن الصحابة ويتوقف في ما عدا ذلك .(1/16)
فيلاحظ أن الذهبي سبر كلام الأئمة في استنكار ما يتفرد به الثقة فوجدهم يراعون أمرين :
1- قوة الراوي واشتهاره بالحفظ والضبط ، فلا شك أن هذا يجبر ما يقع منه من تفرد ، ومن هذا الباب قول مسلم ( للزهري نحو تسعين حديثا يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يشاركه فيه أحد ، بأسانيد جياد ) . (13)
2- طبقة الراوي ، فلا شك ان التفرد يحتمل في رواية التابعي عن الصحابي ، وكذلك مع الحفظ والضبط ـ يحتمل في رواية تابع التابعي عن التابعي ، وأما بعد ذلك ، أي في عصر انتشار الرواية ، وحرص الرواة على التقصي والتتبع والرحلة إلى البلدان الأخرى بغرض الرواية وانتشار الكتابة ، فإن وقوع التفرد وهو تفرد صحيح فيه بعد ، فالغالب أن يكون خطأ من المتفرد ، ولذا يستنكره الأئمة من الثقة الضابط أيضا .
وهذا الإمام مالك ـ وهو من هو في الحفظ والإتقان ، ومن طبقة تابعي التابعين ـ ارتاب في سؤال اهل العراق له عن حديث سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعا ( السفر قطعة من العذاب ) ، فسأل عن ذلك فقيل له لم يروه عن سمي أحد غيرك ، فقال ( لو عرفت ما حدثت به ) ، وكان مالك ربما أرسله لذلك . (14)
وقد قيل إنه قال ذلك في حديثه عن الزهري ن عن أنس في دخول النبي صلى الله عليه وسلم مكة وعلى رأسه المغفر ، وقد تفرد به عن الزهري ، فكان يسأل عنه ، وسمعه منه من هو أسن منه كابن جريج وغيره ) . (15)(1/17)
ومن طريف ما يذكر بهذه المناسبة ـ أي استبعاد وقوع التفرد في الطبقات المتأخرة ، وهو صحيح ـ قصة أبي حاتم وهو عند أبي الوليد الطيالسي ، قال أبو حاتم ( قُلت على باب أبي الوليد الطيالسي من أغرب على حديثا مسندا صحيحا لم أسمع به فله علي درهم يتصدق به ، وقد حضر على باب أبي الوليد خلق من الخلق أبو زرعة فمن دونه ، وإنما كان مرادي أن يلقى علي ما لم أسمع به ، فيقولون : هو عند فلان ، فأذهب فأسمع ، وكان مرادي أن استخرج منهم ما ليس عندي ، فما تهيأ لأحد منهم أن يغرب عليّ حديثا ) . (16)
ولا بد هنا من ملاحظة ما قد يكون في الراوي من تفصيل في بعض حالاته ، أو في بعض شيوخه ، فيكون التعامل معه في كل حال بما يناسبه ، فلو كان في الأصل ثقة ثبتا ، لكنه صدوق أو نحوه في بعض شيوخه ، فلا بد من مراعاة هذا ، وهو أمر واضح ، وإنما نبهت عليه هنا لكثرة إغفال ذلك من الباحثين .
ومن أهم ما يستدل به على خطا المتفرد ما يكون في متن حديثه الذي تفرد به من نكارة ، فإن نكارة المتن قد تدفع الناقد إلى تضعيف الحديث بما لا يوجب ضعفه لولا هذه النكارة ، ومن ذلك تفرد الثقة ) . (17)
ونكارة المتن لها دلائل ، جمع ابن القيم قدرا منها في كتابه (المنار المنيف ) .
ثم عن ما ذكره مسلم والذهبي من عمل الأئمة هي ضوابط عامة ، لا يفهم منها أنهم لا يستنكرون الحديث بالتفرد إلا مع وجودها ، إذ هناك أمور دقيقة قد تصاحب التفرد توجب التوقف فيه واستنكار الحديث ، وإن لم تتوفر الضوابط المذكورة ن ولذا قال ابن رجب ( أكثر الحفاظ المتقدمين يقولون في الحديث إذا انفرد به واحد وإن لم يرو الثقات خلافه : إنه لا يتابع عليه ، ويحعلون ذلك علة فيه ، اللهم إلا أن يكون ممن كثر حفظه واشتهرت عدالته وحديثه كالزهري ونحوه ، وربما يستنكرون بعض تفردات به الثقات الكبار أيضا ، ولهم في كل حديث نقد خاص ، وليس عندهم لذلك ضابط يضبطه ) . ( 18)(1/18)
الحواشي ==========================================
(1) صحيح مسلم (1/7)
(2) سؤالات أبي داود ص 371
(3) مسائل إسحاق بن هاني (2/242)
(4) مسائل إسحاق بن هاني (2/194)
(5) العلل ومعرفة الرجال (3/302)
(6) تاريخ بغداد (10/230)
(7) عبد الله بن أحمد في زياداته على المسند (3/413) ، أبو يعلى (928) ، المعجم الكبير (19/38) رقم (80) ، والمعجم الأوسط (8024)
(8) علل الحديث (1/296)
(9) أبو داود (922) ، الترمذي (601) ، المسند (6/234،183،31)
(10) علل الحديث (1/165)
(11) شرح علل الترمذي (2/674)
(12) الموقظة ص 77
(13) صحيح مسلم (3/1268) ، بعد حديث (1647)
(14) فتح الباري (4/623)
(15) التعديل والتجريح (1/300)
(16) الجرح والتعديل (1/355)
(17) أنظر كلام المعلمي حول منهج الأئمة النقاد في إعلال ما يستنكرون متنه ، مع أن ظاهر إسناده الصحة ، في مقدمته لتحقيق كتاب ( الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة ) للشوكاني .
(18) شرح علل الترمذي (2/582)
ـ 5ـ
وما ذكره ابن رجب يمكن التمثيل بحديث شبابة عن شعبة عن بكير بن عطاء عن عبدالرحمن بن يعمر في الدباء والمزفت ، الماضي ذكره قريبا ، فإن شبابة أحد المكثرين عن شعبة ، ولذا دافع عنه ابن المديني من هذه الجهة ، غير أن الأئمة تواردوا على استنكار حديثه هذا ، وذلك لما انظم إلى التفرد من كون عبدالرحمن بن يعمر ليس له إلا حديث واحد ، يرويه أيضا شعبة ، وكذا سفيان الثوري عن بكير عن عطاء عنه ، وهو حديث ( الحج عرفة ) (1) ، فيبعد أن يكون بهذا الإسناد حديث آخر عند شعبة ويفوت سائر أصحابه على كثرتهم ويحفظه واحد منهم مع أن فيهم من هو مقدم على شبابة ، إما في الكثرة أو في الحفظ أو كليهما كمجمد بن جعفر ويحيى القطان وعبدالرحمن بن مهدي ومعاذ بن معاذ وخالد بن الحارث وأبي الوليد الطيالسي وغيرهم (2)(1/19)
ومن ذلك أيضا ما رواه الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة ( أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل متى كنت نبيا ؟ ... ) الحديث (3) ، واستنكره أحمد وقال إنه خطأ من الأوزاعي (4)
والأوزاعي من كبار أصحاب يحيى بن أبي كثير ومن المقدمين فيه ، وقد نص عليه أحمد وغيره (5) ، ولم يمنع هذا أحمد من استنكار حديثه هذا الذي تفرد به عنه ، فالأوزاعي قد حفظ عنه غير خطأ في حديث يحيى ، فإن كتابه عن يحيى قد احترق أو ضاع فكان يحدث من حفظه (6) ، يضاف إلى ذلك ما في المتن من نكارة .
ولا ينبغي أن يفهم من تحرير ضوابط قبول التفرد أو رده أن ما استنكره النقاد ينظر فيه الباحث وفق هذه الضوابط وقد يوافقهم أو يخالفهم فهذا غير مراد ، فالنقاد إذا تواردوا على استنكار حديث فالتسليم لهم واجب ، سواء أدركنا سبب استنكارهم أو خفي علينا ذلك ، ومثله إذا استنكر الواحد منهم حديثا ولم يخالفه غيره ينبغي التسليم له كذلك .
فمعرفة هذه الضوابط إذن تفيد الباحث من جهة كونه يعرف الحكم بدليله ، وهذا ما يفرقه عن العامي ، وكذلك قد يحتاج هو إلى تطبيق هذه الضوابط في حالات أخرى مثل ان يكون النقاد قد اختلفوا في الحكم على تفرد بالقبول او الرد ، فيضطر الباحث إلى الموازنة بينهم ، وكذلك في حال وقوف الباحث على تفرد لم يجد للأئمة فيه حكما ، فيجتهد هو في تطبيقها . (7)(1/20)
والجميع يدرك ان التفرد والغرابة كثر جدا في مؤلفات من تأخر بعد عصر النقد أعني نهاية القرن الثالث ، وما بعده مثل مسند البزار والمعجم الكبير للطبراني وسنن الدارقطني ومستدرك الحاكم وسنن البيهقي ، فضلا عن الكتب المخصصة أصلا للأفراد والغرائب مثل المعجم الأوسط والمعجم الصغير للطبراني والأفراد والغلاائب للدارقطني وغرائب مالك له ، وكتب التراجم له مثل كتب أبي نعيم الأصبهاني والخطيب البغدادي ، وكتب الرجال مثل الضعفاء الكبير للعقيلي والمجروحين لابن حبان والكامل لابن عدي وغير ذلك كثير جدا (8) ، فضابط تأخر الزمن وأثره في الرد بالتفرد والحكم على الحديث بالنكارة يستخدمه الباحث كثيرا فيما لم يقف عليه إلا في هذه الكتب .
المبحث الثالث
موقف المتأخرين من التفرد
تعد مسألة التفرد وتأثيرها على حكم الناظر في الإسناد إحدى المسائل الهامة التي خالف فيها المتأخرون ما عليه أئمة النقد ، فما زال الاهتمام بالتفرد يخف شيئا فشيئا حتى استحكم جدا في الوقت الحاضر .
وقد كانت هناك جهود من بعض الأئمة المتأخرين لإنقاذ ما يمكن إنقاذه وسد الهوة الواسعة بين المنهجين ، كما تقدم في المطلب الذي قبل هذا في كلام الذهبي ، وابن رجب ، غير أن تأثير هذه الجهود كان محدودا ، فالتيار كان جارفا .
وفي الوقت الراهن ظهرت دراسات وبحوث تتعلق بهذه المسألة ، تشرح منهج النقاد الأوائل ، وتطالب بالعودة إليه لسلامته وإحكامه ، وقام أصحابها ـ مشكورين ـ بإجراء مقارنة بين منهجهم ومنهج المتأخرين ، وضربوا لذلك أمثلة .
وهذه المسألة كغيرها من المسائل الأمهات في هذا الفن ، التي ابتعد فيها المتأخر عن منهج المتقدم تحتاج إلى طرقها باستمرار ، وعرض ٌ بأساليب مختلفة للوصول إلى الغرض المنشود ، وهو العودة بالنقد إلى أصوله المحكمة عند أهله .
ومخالفة المتأخرين لأئمة النقد في هذه المسألة ذات شقين .
الأول : التقرير النظري
الثاني : التطبيق العملي(1/21)
الحواشي =========================================
(1) أنظر ما تقدم ( بداية الحلقة الثانية )
(2) أنظر أصحاب شعبة : شرح علل الترمذي (2/702ـ705)
(3) الترمذي( 3609) ، المستدرك (2/609 ) ، ذكر أخبار أصبهان (2/226) ، دلائل النبوة (2/130) ، أخرجوه من طرق عن الوليد بن مسلم به
(4) علل المرّوذي ص 150
(5) تاريخ الدوري عن ابن معين (2/653،618) ، سؤالات الآجري لأبي داود (2/38) ، الجرح والتعديل (9/61،60)
(6) مسائل أبي داود ص 420،420 ، سؤالات الآجري لأبي داود (2/202) ، والمعرفة والتاريخ (2/409) ، مسند أبي عوانة (1/321)
(7) أنظر مثالا لما استنكره إمام متأخر : (سير أعلام النبلاء 8/394)
(8) انظر في هذه الكتب ، والحديث في كثرة الغريب وا لمنكر : الموضوعات (1/99) ، مجموع فتاوى ابن تيمية (17/126) ، شرح علل الترمذي (2/624) ، والحطة في ذكر الكتب الستة ص 120ـ123 ، ومقدمة التحقيق لـ(نسخة ا بن معين) لعصام السناني ص 194ـ212 ، وشرحي لكتاب ابن حجر (نزهة النظر ) في موضوع الغريب ، وانظر مثالا على حديث تفرد به أصحاب هذه الكتب ، وأمكن نقده من وجوه ، منها أنه لا يوجد في دواوين السنة الأولى : سنن الدارقطني (1/182) ، وتهذيب سنن أبي داود لابن القيم (3/251) ، وتنقيح التحقيق لابن عبد الهادي (2/326ـ327)
ـ 6 ـ
ومخالفة المتأخرين لأئمة النقد في هذه المسألة ذات شقين .
الأول : التقرير النظري
الثاني : التطبيق العملي
فأما الأول : (التقرير النظري (
فمنه قول ابن حزم ( لإذا روى العدل عن مثله كذلك خبرا حتى يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم فقد وجب الأخذ به ، ولزمت طاعته والقطع به ، سواء أرسله غيره أو وقفه سواه ، أو رواه كذاب من الناس ، وسواء روي من طريق أخرى أو لم يرو إلا من تلك الطريق ... ) (1)(1/22)
وقال أيضا ( لإذا روى العدل زيادة على ما روى غيره ، فسواء إنفرد بها أو شاركه فيه مثله أو دونه أو فوقه ، فالأخذ بتلك الزيادة فرض ، ومن خالفنا في ذلك فإنه يتناقض أقبح التناقض ... ، ولا فرق بين أن يروي الراوي العدل حديثا فلا يرويه أحد غيره أو يرويه غيره مرسلا أو يرويه ضعفاء ، وبين أن يروي الراوي العدل لفظة زائدة لم يروها غيره من رواة الحديث ... ، وهذه الزيادة وهذا الإسناد هما خبر واحد عدل حافظ ، ففرضٌ قبولهما ولا نبالي روي مثل ذلك غيرهما ، أو لم يروه سواهما ... ) (2)
ويذكر عبد الحق الإشبيلي في كتاب ( الأحكام ) عن النقاد تعليل بعض الأحاديث بأن راويها انفرد بها ، أو لم يتابع ، فيتعقبه ابن القطان ، ومن ذلك قوله ملخصا هذا الأمر ( وهناك اعتلالات أخر يعتل بها أيضا أبو محمد على طريقة المحدثين ... ، فمن ذلك اننفراد الثقة بالحديث ، أو بزيادة فيه ، وعمله فيه هو الرد ـ ثم ذكر أمثلة على ذلك ، ثم قال ـ : والذي له من هذا النوع هو كثير جدا ممات لم نذكر ، مما هو عندنا صحيح لم يضره هذا الاعتلال ... ، وإنما أقصد في هذا الباب إلى ذكر مثل مما ضعف به أحاديث ينبغي أن يقال فيها إنها صحيحة لضعف الاعتلال عليها كهذا الاعتلال ، الذي هو الانفراد ، فإنه غير ضار إذا كان الراوي ثقة ، وأصعب مافيه الانفراد بزيادة لم يذكرها رواة الخبر الثقات ، وأخفها أن يجيء بحديث لا نجده عند غيره ) (3)
وذكر ابن الصلاح في حديثه عن مصطلح (المنكر ) ما نصه ( بلغنا عن أبي بكر أحمد بن هارون البرديجي الحافظ : أنه الحديث الذي ينفرد به الرجل ، ولا يعرف متنه من غير روايته ، لا من الوجه الذي رواه منه ، ولا من وجه آخر ، فأطلق البرديجي ذلك ولم يفصل ، وإطلاق الحكم على التفرد بالرد أو النكارة أو الشذوذ موجود في كلام كثير من أهل الحديث ، والصواب فيه التفصيل الذي بينّاه آنفا في شرح الشاذ ... ) (4)(1/23)
وكان ابن الصلاح قد ذكر في حديثه عن مصطلح (الشاذ) تعريف الحاكم والخليلي للشاذ الماضي ذكره في المبحث الأول ، لكنه لم يرتض كلامهما ، وقال : ( بل الأمر على تفصيل نبينه فنقول : إذا انفرد الراوي بشيء نظر فيه ، فإن كان ما انفرد به مخالفا لما رواه من هو أولى منه بالحفظ لذلك واضبط ـ كان ما انفرد به شاذا مردودا وغن لم يكن فيه مخالفة لما رواه غيره إنما هو أمر رواه ولم يروه غيره ، فينظر في هذا الراوي المتفرد : فإن كان عدلا حافظا موثوقا بإتقانه وضبطه قبل ما انفرد به ولم يقدح الانفراد فيه ـ ثم قال : وإن لم يكن ممن يوثق بحفظه وإتقانه لذلك الذي انفرد به كان خارما له مزحزحا له عن حيز الصحيح ، ثم هو دائر بين مراتب متفاوته بحسب الحال ، فإن كان المنفرد به غير بعيد من درجة الضابط المقبول تفرده ـ استحسنا ذلك حديثه ذلك ، ولم نحطه إلى قبيل الحديث الضعيف ، وإن كان بعيدا عن ذلك رددنا ما انفرد به ، وكان من قبيل الشاذ المنكر ... ) (5)
وكلام ابن الصلاح في تعريف الحديث ( الصحيح ) ( والحسن ) يدور حول ما ذكره هنا ، من أن حديث الراوي الثقة يصحح ، فإن خف ضبطه فهو الحديث الحسن ، وإن كان ضعيفا فهو الذي يضعف حديثه ) (6)
ومن المعلوم أن المصنفات في (مصطلح) الحديث بعد ابن الصلاح دارت في الغالب حول كتابه ، إما بالشرح أو الاختصار ، أو النظم ، فوافق ابن الصلاح على ما ذكرناه جمع غفير ممن ألف في مصطلح الحديث منذ عصره إلى وقتنا الحاضر . (7)
ويلاحظ أن الثلاثة ـ ابن حزم ، وابن القطان ، وابن الصلاح ـ لم يخف عليهم أن أئمة النقد ربما ردوا ما ينفرد به الثقة استنكارا له ، فأشار الثلاثة في معرض كلامهم إلى ذلك ، وأنهم لم يرتضوه .(1/24)
ولا شك أن مخالفته أئمة النقد في قضية من صميم قضايا النقد يترتب عليها قبول و رد ما لا يحصى من الأحاديث أمر ليس بالهين ، لا سيما لمن تصدى لجمع مصطلحاتهم وشرحها ، ولهذا سلك أئمة آخرون مسلكا آخر في موقفهم من كلام أئمة النقد وهو مسلك التأويل ، فلجأ هؤلاء إلى تفسير النكارة الواردة في كلام الأئمة الثقات بما لا يعارض تصحيحها وقبولها ، فالنكارة معناها حينئذ على ما هي عليه في أصل اللغة : التفرد ، فهو إذن وصفٌ كاشفٌ لحال الإسناد ، لا حكمٌ عليه فوصف الإسناد أو الحديث بأنه منكر إذا كان راويه ثقة معناه أن راويه تفرد به ، وهو مع ذلك صحيح .
قال النووي تعليقا على كلام الإمام مسلم الذي شرح به معنى الحديث المنكر ( هذا الذي ذكر ـ رحمه الله ـ هو معنى المنكر عند المحدثين ـ يعني به المنكر المردود ، فإنهم يطلقون المنكر على انفراد الثقة بحديث وهذا ليس بمنكر مردود ، إذا كان الثقة ضابطا متقنا ) (8)
وقال ابن كثير ( فإن كان الذي تفرد به عدل ضابط حافظ قبل شرعا ، ولا يقال له منكر ، وإن قيل له ذلك لغة ) (9)
واعتمد ابن حجر هذا كثيرا وخاصة في كلامه على الرواة (10)
وأما بعد ابن حجر فصار هذا كالأمر المسلم به ، لا يُناقش فيه .(11)
وقد يبدو لأول وهلة أن المسلك الثاني هو الأسلم ، لآن فيه تأويلا لكلام النقاد لا ردا له وعند التأمل فإن المسلك الأول أسلم بلا شك فهو نظر في كلام المتقدمين وتقرير له على حقيقته ثم مخالفته باجتهاد أخطأ أو أصاب ، واما المسلك الثاني فهو تقييد لكلام النقاد وقصر له على على بعض أفراده ، مع أن نصوصهم وأقوالهم تأباه ، وذلك لأمور :
الأول :(1/25)
أن جعل النكارة في كلام النقاد على معنيين اصطلاحي بمعنى التضعيف والرد ، ولغوي بمعنى التفرد ـ بعيد جدا ، فكلامهم محمول على الاصطلاح ، والتفريق يحتاج إلى دليل قوي ، كيف والدليل يدل على نقيضه ؟! فإن كلامهم على تفرد الثقة واستنكاره يصحبه في الغالب ما يشير إلى المراد ، وهو رده وتضعيفه ، كما في الأمثلة السابقة من المبحث الأول ، إذ قد يسميه وهما أو خطأ أو يقول لا أصل له ، ونحو ذلك .
والمتأمل في إطلاقهم لفظ (النكارة) وما تصرف منه مثل : حديث منكر و أحاديث مناكير واستنكر عليه و وأنكرت من حديثه وكان فلان ينكر عليه حديث كذا وذكرت له الحديث الفلاني فأنكره ونحو ذلك .. يدرك المقصود بها التضعيف والرد .
ثم إن تمييز نوع النكارة في نصوص النقاد على قولهم هذا كيف يمكن ضبطه ؟! إن رجع المر إلى درجة الراوي لم يكن للتفرد حينئذ كبير معنى ، ونصوصهم تدل على أن في هذا النوع من النقد يدور عليه ، على ان ربطه بدرجة الراوي يجعل الأمر مضطربا ، فإن الراوي متى كان فيه توثيق معتبر أمكن أن يذهب ذاهب إلى تفسير النكارة في حديث استنكر عليه بأن المقصود بها التفرد لا التضعيف ، وجوابهم عن هذا سيكون ضعفه ظاهرا .
الثاني :
ان النقد بالتفرد لم يقتصر على لفظ ( النكارة ) فقد استعملوا فيه مصطلحات أخرى كثيرة ، كالتعبير عنه بأنه حطأ ، أو لا أصل له ، أو باطل ، أو لم يتابع عليه ، ونحو ذلك ، فهذه ألفاظ لا يمكن صرفها إلى معنى لغوي ، فيحصل التناقض في معنى واحد،
لمجرد أن النقاد عبروا عنه بألفاظ مختلفة من باب التنويع والتفنن .
الثالث :(1/26)
أطلق النقاد كثيرا على حديث الثقة إذا تفرد وخالف غيره من الثقات بأنه منكر ، كما تقدمت الإشارة إليه ، فما المانع أن يذهب من يرى قبول زيادة الثقة مطلقا إلى تفسير النكارة ههنا بالمعنى اللغوي فإنه موجود فيها ، فيسقط بهذا التضعيف بالمخالفة ؟! ، وما كان جوابا عنه فهو أيضا جواب عن حمل الاستنكار في التفرد دون مخالفة على المعنى اللغوي .
الحواشي =============================================
(1) الإحكام في أصول الأحكام ( 1/157)
(2) الإحكام في أصول الأحكام (1/264 ـ 266 )
(3) بيان الوهم والإيهام ( 5/ 456 ـ 461) ، وانظر أيضا (3/ 396،282)
(4) مقدمة ابن الصلاح ص 244
(5) مقدمة ابن الصلاح ( 237 ـ 243)
(6) مقدمة ابن الصلاح ص 176 ، 151
(7) أنظر مثلا : الإرشاد للنووي ص 94ـ 96 ، والخلاصة للطيبي ص 68 ، وإختصار علوم الحديث لابن كثير ص 56 ، والتقييد والإيضاح للعراقي ص 105 ـ 107 ، والنكت لابن حجر (2/674،652) ، وتدريب الراوي للسيوطي (1/238،235) ، وتوجيه النظر للجزائري ص 515 ـ 518 ، ومنهج النقد لنور عتر ص 432 ، وأصول الحديث لمحمد عجاج الخطيب ص 347
(8) شرح صحيح مسلم (1/57)
(9) اختصار علوم الحديث ص 56
(10) تهذيب التهذيب (8/389 ) ، وهدي الساري ص 437 ، 455
(11) انظر مثلا : الحاوي للسيوطي (2/283) ، وقواعد في علوم الحديث للتهانوي
ص 258 ـ 260 ، 433 ، والرفع والتكميل للكنوي ص 98 ، ومنهج النقد لنور الدين عتر ص 432 .
ـ 7 ـ
وأما الشق الثاني في مخالفة المتأخرين لأئمة النقد في النظر إلى التفرد فهو ( الجانب التطبيقي العملي )
أي في حال الحكم على إسناد وقع فيه تفرد
فما زال المتأخرون يبتعدون شيئا فشيئا عن منهج النقاد في هذه المسألة حتى أشرفوا في ذلك على الغاية في الوقت الحاضر
فلا أثر لرد تفرد الثقة ومن في حكمه(1/27)
بل أكثرهم لا يبحث في ذلك أصلا ولا يعرج عليه ، مع وجود نقد الحديث الذي بين يديه من النقاد الأوائل أو من بعضهم بالتفرد
ومن يكلف نفسه بالنظر في اقوال النقاد فإنما يفعل ذلك لرده ومناقشته ، كأن يقول بعد كلام الناقد : كذا قال ، وفلان ثقة فلا يضر تفرده ، أو يقول : قال فلان : لم يتابع عليه ، نعم لم يتابع عليه فكان ماذا ؟! ، ونحو هذه العبارات
ولا ذكر عندهم لنكارة المتون
بل قال أحد فضلائهم إن البحث إنما هو في الإسناد ، ولا ينظر في المتن إلا بعد النظر في الإسناد ، لا من جهة الثبوت وعدمه ، وإنما من جهة شرح معناه ، والنظر بينه وبين غيره ، هكذا يقول .
وساعرض الآن نماذج تطبيقية توضح الفرق بين منهج المتأخرين ومنهج أئمة النقد .
# فمن ذلك حديث حفص بن غياث عن عبيدالله بن عمر عن نافع عن ابن عمر ( كنا نأكل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نمشي ... ) (1)، فقد استنكره على حفص بن غياث حمع من النقاد ، وذكروا انه أخطأ فيه ، فهذا الحديث اخرجه ابن حبان في صحيحه كما تقدم ، وكذا توارد عدد من المشايخ المعاصرين على وصف الإسناد بأنه صحيح .
وحديث محمد بن حرب الأبرش عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر ( ليس من البر الصيام في السفر ) (2) ، واستنكره ابو حاتم على محمد بن حرب ، وقد اخرجه ابن حبان في صحيحه كما تقدم ، وقال عنه البوصيري 0 اسناد صحيح ، رجاله ثقات ) ، وكذا صححه جمع من المشايخ المعاصرين .
وحديث برد بن سنان عن الزهري عن عروة عن عائشة ( كان النبي صلى الله عليه وسلم والباب مغلق عليه فجئت فاستفتحت ... ) الحديث (3) ، استنكره الجوزجاني وأبو حاتم على برد بن سنان ، كما تقدم وقد اخرجه ابن حبان في صحيحه(4) وصححه بعض المشايخ المعاصرين .
وهذه الأحاديث الثلاثة لم يذكر من صححها كلام أئمة النقد ، ولا عرج عليه .(1/28)
وروى ضمرة بن ربيعة عن سفيان الثوري عن عبدالله بن دينار عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من ملك ذا رحم محرم فقد عتق ) (5)
قال أبو زرعة الدمشقي ( قلت لأحمد : فإن ضمرة يحدث عن الثوري عن عبدالله عن ابن عمر ( من ملك ذا رحم محرم ) فأنكره ، ورده ردا شديدا ، وقال : لو قال رجل هذا كذب لم يكن مخطئا ) (6)
وقال ابن القيم قال الإمام احمد عن ضمرة : إنه ثقة ، لإلا أنه روى حديثين ليس لهما أصل ، أحدهما هذا الحديث ) (7)
وقال الترمذي بعد أن ذكره معلقا عن ضمرة ( لم يتُابع ضمرة على هذا الحديث ، وهو حديث خطأ عند أهل الحديث ) (8)
وقال النسائي بعد أن أخرجه ( لا نعلم أحدا روى هذا الحديث عن سفيان غير ضمرة ، وهو حديث منكر ) .
وقال الساجي في الحاديث التي رواها ضمرة وهي مناكير . (9)
وقال ابن المنذر ( قد تكلم الناس في الحديثين اللذين روينا في هذا الباب ، حديث ابن عمر لم يروه عن الثوري غير ضمرة ، وحديث الحسن عن سمرة ، وقد تكُُلم فيه ، وليس منهما ثابت ) (10)
وقال البيهقي ( وهم فيه راويه ... ، والمحفوظ بهذا الإسناد حديث (النهي عن بيع الولاء وعن هبته ) فقد رواه أبوعمير عن ضمرة عن الثوري مع الحديث الأول )(1/29)
فقد توارد هؤلاء الأئمة على استنكار الحديث وتضعيفه ، لتفرد ضمرة بن ربيعة به عن سفيان الثوري ، وضمرة وإن كان ثقة إلا إنه ليس من أصحاب الثوري المعروفين بكثرة الرواية عنه ، ولهذا لا يذكره الأئمة عند كلامهم على اصحاب سفيان (11) وقد أشار البيهقي إلى سبب وهم ضمرة في حديثنا هذا ، وهو انه دخل عليه حديث في حديث لأنه كان يرويهما جميعا ، ثم عن الحديث لايعرف عن عبد الله بن دينار وله أصحاب كثيرون ولا عن ابن عمر ـ و هو المعروف أيضا بكثرة أصحابه ـ إ لا من هذا الطريق ، فهذا يدل على وهم ضمرة بن ربيعة كما ذهب إليه هؤلاء النقاد ، وأصبح من اليسير فهم كلمة أحمد ، وقوله إن من وصف هذا الحديث بأنه كذب لم يكن مخطأ ، ومراده أن الوهم فيه من الظهور بحيث يتساوى في التضعيف والرد مع حديث الكذب .
هذا كلام أئمة النقد وموقفهم من حديث ضمرة
ولننظر الآن في كلام بعض المتاخرين على هذا الحديث ، والمهم فيه طريقتهم في رد كلام النقاد والتهوين من شانه بما يظهر منه بعدهم عن إدراك قواعد التفرد ، والتضعيف به لتي كان النقاد يعملونها .
قال ابن حزم ( فهذا خبر صحيح كل رواته ثقات ، تقوم به الحجة ، وقد تعلل فيه .. بان ضمرة انفرد به وأخطا فيه فقلنا : فكان ماذا إذا انفرد به ؟ ... فأما دعوى أنه أخطأ فيه فباطل ، لأنه دعوى بلا برهان ) (12)
وقال عبد الحق الإشبيلي ( عللوا هذا الحديث بان ضمرة تفرد به ولم يتابع عليه ، وقال بعض المتأخرين : ليس انفراد ضمرة علة فيه ، لأن ضمرة ثقة ، والحديث صحيح إذا اسنده ثقة ، ولا يضره انفراده به ... ) (13)
وقال ابن التركماني متعقبا البيهقي في كلامه السابق آنفا ( ليس انفراد ضمرة به دليلا على أنه غير محفوظ ن ولا يوجب ذلك علة فيه ، لأنه من الثقات المأمونين ... ، والحديث إذا انفرد به مثل هذا كان صحيحا ، ولا يضره تفرده ، فلا أدري من أين وهم في هذا الحديث راويه كما زعم البيهقي ... ) (14)(1/30)
وذكر هذا الحديث أحد المشايخ الفضلاء في كتاب له ، ثم ذكر تعليل بعض النقاد له بتفرد ضمرة ، وما أشار إليه البيهقي في بيانه لسبب وهم ضمرة ن وأنه يروي بهذا الإسناد حديث ( النهي عن بيع الولاء وعن هبته ) ، وهو المحفوظ بهذا الإسناد ن ثم قال الشيخ : ( هذا يدل على أن ضمرة قد حفظ الحديثين جميعا ، وهو ثقة فلا غرابة أن يروي متنين ـ بل وأكثر ـ بإسناد واحد فالصواب أن الحديث بهذا الإسناد صحيح وقد صححه جماعة ... )
وقال أحد الباحثين متعقبا النقاد أيضا ( أما قول النسائي : إنه حديث منكر ، وقول البيهقي : وهو غير محفوظ ، وقول الترمذي : لم يتابع عليه ضمرة على هذا الحديث ، وهو حديث خطأ عند أهل الحديث، ليس بسليم لأن ضمرة ثقة وفوق الثقة فلا يضره التفرد بشيء لم يروه غيره ، وما ذنبه إذا لم يحفظ غيره ما حفظ ؟ فهل يعاقب برد ما تفرد به ؟ )
وقال باحث ثالث ( هذا إسناد صحيح رجاله ثقات لكن تكلم بعض أهل العلم في حديث ابن عمر هذا لانفراد ضمرة بن ربيعة أحد رواته به ، ولم يلتفت إلى ذلك آخرون ، وصححوه )
الحواشي ===========================================
(1) تقدم تخريجه في حلقة سابقة
(2) تقدم تخريجه في حلقة سابقة
(3) مصبح الزجاجة (2/8)
(4) تقدم تخريجه في الحلقة
(5) صحيح ابن حبان (2355)
(6) الترمذي معلقا بعد حديث (1365) ، والكبرى للنسائي (4897) ، ابن ماجة (2525) ، سنن البيهقي ( 10/289)
(7) تاريخ أبي زرعة الدمشقي (1/459) ، تهذيب التهذيب (4/461)
(7) تهذيب سنن أبي داود (5/409)
(8) إكمال تهذيب الكمال (7/37)
(9) الإشراف على مذهب العلماء (2/280)
(10) أنظر تاريخ أبي زرعة (1/459 ـ 460 ) ، وإكمال تهذيب الكمال (7/37)
(11) المحلى (10/223)
(12) الأحكام الوسطى (4/15)
(13) بيان الوهم والإيهام (5/437)
(14) الجوهر النقي (10/290)
ـ 8 ـ
ومع أن بعد المتأخرين عن منهج المتقدمين في النقد له أسباب كثيرة ـ ليس هذا موضع شرحها(1/31)
إلا إنه يحسن هنا التنبيه على عقدة القضية في مسالة التفرد
وخلاصته أن الناقد في عصر النقد يحكم على الراوي بوسائل متعددة ،منها النظر في حديثه ، وهي أهم وسيلة لدى الناقد وأكثرها استعمالا
فالحكم على الراوي فرع على النظر في حديثه ، وأما المتأخر فالحكم على الحديث فرع عن درجة الراوي المتقررة سابقا ، فالصورة مقلوبة إذن ، والجنين نزل من قبل رجليه .
فالناقد نظر في أحاديث الراوي مقارنا لها بما لديه من مخزون عظيم من أحاديث الرواة الأخرين
فما وافق فيه غيره كان لصالح الراوي دالا على ثقته وضبطه
وما خالف فيه غيره أو تفرد به ينظر فيه الناقد فما عدّه خطأ أو منكرا حكم عليه بذلك ثم تكون الموازنة بين ما أصاب فيه وما أخطأ فيه
فإن كان الغالب عليه الصواب وأخطأ أو تفرد بأشياء منكرة قليلة فهذا يوثقه الناقد ، مع بقاء حكمه على ما أخطأ فيه أو استنكره عليه ، لم يغيره كونه عنده ثقة
وإن كان الغالب عليه الخطأ والتفرد بما يستنكر ضعّفه الناقد ، مع بقاء حكمه عليه فيما وافق عليه غيره فيصلح للاعتبار والاعتضاد ، إن لم تكن أخطاؤه فاحشة جدا يصل بها إلى حد الترك .
وربما جاء عن الناقد حكمه على بعض حديث الراوي بالنكارة أو الخطأ قبل استكمال النظر في حال الراوي ، ورب حديث استنكره النقاد ، ثم اختلفوا بعد ذلك في عهدة النكارة ومن يتحملها ؟ ورب حديث يستنكره الناقد ولا يدري ممن الوهم والخطأ .
هذه صورة مبسطة للنظر في الراوي وحديثه ، يمكن من خلالها تصور عمل النقاد في استنكار أحاديث على الثقات ومن في حكمهم ويمكن توضيح ذلك بالأمثلة .(1/32)
فمن ذلك ما رواه نوفل بن المطهر قال : ( كان بالكوفة رجل يقال له حبيب المالكي ، وكان رجلا له فضل و صحبة فذكرناه لابن المبارك فأثنينا عليه ، قلت : عنده حديث غريب ، قال ما هو ؟ قلت : الأعمش عن زيد بن وهب قال ( سالت حذيفة عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فقال إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لحسن ، ولكن ليس من السنة أن تخرج على المسلمين بالسيف ) فقال هذا حديث ليس بشيء ، قلت له : إنه ، وإنه ، فابى ، فلما أكثرت عليه في ثنائي عليه ، فقال : عافاه الله في كل شيء إلا في هذا الحديث ن هذا حديث كنا نستحسنه من حديث سفيان عن حبيب ، عن أبي البختري عن حذيفة ) (1)
وفي رواية أخرى عن ابن المبارك أنه قيل له : إنه شيخ صالح ، فقال ابن المبارك ( هو صالح في كل شيء إلا في هذا الحديث ) (2)
فنكارة الحديث لم تزل عند المبارك بثنائهم على هذا الرجل وأنه صالح وذلك أنه يعرف انه قد تفرد به سفيان بالإسناد الآخر ، فقوله ( كنا نستحسنه من حديث سفيان ) أي نستغربه .
وسئل احمد عن حديث ابن المبارك عن مالك بن أنس عن ابن المنكدر عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم ( من جلس إلى قينة صبَّ في أذنة الآنك يوم القيامة )، وقيل له : رواه رجل بحلب ، وحسنوا الثناء عليه ، فقال: ( هذا باطل ) (3)
فالحديث باطل عند أحمد ولم يلتفت على الثناء على من رواه ، ولم يسأل عنه من هو ؟
وروى الهذيل بن الحكم عن عبد العزيز بن أبي رواد عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم ( موت الغريب شهادة ) (4)(1/33)
والهذيل بن الحكم هذا قال فيه البخاري ، وابن حبان : ( منكر الحديث ) زاد ابن حبان ( جدا ) (5) ، وقال العقيلي ( لايقيم حديثه ) (6) ، واما ابن معين فإنه قواه ، قال الجنيد : ( سألت يحيى بن معين عن الهذيل بن الحكم ن فقال : قد رايته بالبصرة وكتبت عنه ولم يكن به بأس ، قلت : ما روى عن عبد العزيز بن أبي رواد ... ، قال يحيى : هذا حديثه الذي كا يسال عنه ليس هذا الحديث بشيء ، هذا حديث منكر ) (7)
فهذا الحديث منكر عند الجميع من ضعف الهذيل ومن قواه والذي قواه هو ابن معين ولم يمنعه من استنكار الحديث كون المتفرد ليس به بأس عنده .
وروى عمرو بن أبي عمرو المدني عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به ) (8) ، وهذا الحديث استنكره جماعة من النقاد ، فنقل ابن رجب عن أحمد قوله (كل أحاديثه عن عكرمة مضطربة ) ، ثم قال ابن رجب : ( لكنه نسب الاضطراب إلى عكرمة ، لا إلى عمرو ) (9)
وقال ابن معين : ( ثقة ينكر عليه حديث عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( اقتلوا الفاعل والمفعول ببه ) (10)
وقال البخاري : ( صدوق لكن روى عن عكرمة مناكير ، ولم يذكر في شيء من ذلك انه سمع عكرمة ) (11)
وتعلق الترمذي برواية عمرو بن ابي عمرو ، وقد أخرجه هو من طريق عبد العزيز الدراوردي عن عمرو وذكر الترمذي ان محمد بن إسحاق رواه عن عمرو ، فقال فيه ( ملعون من عمل عمل قوم لوط ) ولم يذكر القتل (12)
ونقل ابن حجر أن النسائي استنكر هذا الحديث (13) ، ولم يذكر السبب .
فاتفق هؤلاء النقاد على ضعف الحديث ونكارته ، ثم عزى أحمد ذلك إلى عكرمة ، وابن معين إلى عمرو ، وأراد البخاري تبرئتهما باحتمال أن يكون عمرو لم يسمع من عكرمة ، فالعهدة على الواسطة الذي لم يذكر ، وأما الترمذي فتعلق بمن دون عكرمة .(1/34)
ومثله ما رواه الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : ( قالوا يا رسول الله متى وجبت النبوة ؟ ... ) قال الترمذي : ( سألت محمدا عن هذا الحديث فلم يعرفه ) ، ثم قال الترمذي : ( وهو حديث غريب من حديث الوليد بن مسلم ، رواه رجل واحد من أصحاب الوليد ) (14)
فظاهر كلام الترمذي أنه يجعل العهدة على راويه عن الوليد بن مسلم ، وهو عند الترمذي أبو بدر شجاع بن الوليد ، وقد تقدم قريبا عن أحمد أن الخطأ من الأوزاعي .
وروى الليث بن سعد عن بكير بن الأشج عن عبد الملك بن سعيد الأنصاري عن جابر بن عبدالله ( أن عمر بن الخطاب قال هششت فقبلت وأنا صائم ... ) الحديث (15)
قال أحمد عن هذا الحديث ( هذا ريح ، ليس من هذا بشيء ) (16)
وقال النسائي بعد ان اخرجه : ( هذا منكر ، رواه بكير بن الأشج ـ وهو مأمون ـ عن عبد الملك ـ وقد روى عنه غير واحد ـ فلا أدري ممن هذا ) (17)
وعبد الملك هذا قال فيه النسائي ( ليس به بأس )( 18)
فيلاحظ هنا أن النقاد يستنكرون الحديث ، ويبقى بعد ذلك أمر غير مؤثر عندهم ، وهو البحث في في عهدة الخطا والنكارة ، وهذا يعطي دلالة على ان الحكم على الحديث سابق على الحكم على الحكم على درجات الرواة ، فا لثاني فرع على الأول وليس ا لعكس .
وكان من المفترض أن يكون عمل المتاخرين ينصب على تأييد اقوال النقاد وتكميله ، كأن يستنكر الناقد حديثا دون ان يذكر السبب ، فيجتهد المتاخر في توجيه وبيان سبب النكارة وتحميل الخطأ ، فيجتهد في الموازنة بين أقوالهم ، واستبعاد ما يظر كونه مرجوحا .
فالاختلاف في عهدة النكارة في حديث ( اللواط ) الآنف الذكر يمكن للباحث أن يستبعد من الاحتمالات ما ذهب إليه الترمذي ، فإن الحديث قد رواه جماعة عن عمرو بن ابي عمرو غير الدراوردي .(1/35)
وكذلك في حديث ابي هريرة ( متى كنت نبيا ؟ ... ) الماضي قريبا ، لم يتفرد به شجاع بن الوليد فقد رواه جماعة غيره عن الوليد بن مسلم .
وكذلك مما يمكن للمتأخر عمله ان ينظر في أحاديث وقع فيها تفرد ولم يجد للمتقدمين فيها كلاما ـ كما تقدم شرحه في المبحث الذي قبل هذا .
غير أن المتاخر حمَّل نفسه فوق طاقتها ـ والله لايكلف نفسا إلا وسعها ـ فانتصب للنقد مستقلا وسلك منهجا مغايرا ن بإدراك لذلك من بعضهم ، ودون إدراك من البعض الآخر .
ومما يتعجب منه في عمل المتأخرين تناقضهم في موقفهم من اقوال النقاد إذ يعتمدون عليهم في درجات الرواة ويقلدونهم في ذلك ثم يدعونهم فيما يستنكرونه على هؤلاء الرواة ، والقارىء يلاحظ ذلك في النص الواحد حين ينقلونه عن المتقدمين فحديث ( اللواط ) الآنف الذكر ، وكذلك حديث عمرو بن أبي عمرو الآخر في (الواقع على بهيمة ) ..
وبعض الرواة رواه عنهما حديثا واحدا ـ سلك فيه المتأخرون ضروبا من مخالفة أئمة النقد في المنهج ، في الاتصال والانقطاع ن وفي قضيتنا هذه قضية التفرد ، وفي الشد والاعتضاد بالطرق الأخرى ، وغير ذلك (19)
وقد أشار السخاوي إلى هذا التناقض فإنه بعد أن ذكر منزلة أئمة النقد في الحكم على الأحاديث (قال ) : ( وهو أمر يهجم على قلوبهم لا يمكنهم رده وهيئة نفسانية لا معدل لهم عنها ، ولهذا ترى الجامع بين الفقه والحديث ـ كابن خزيمة والاسماعيلي والبيهقي وابن عبد البر ـ لا ينكر عليهم بل يشاركهم ويحذو حذوهم وربما يطالبهم الفقيه أو الأصولي العاري عن الحديث بالأدلة هذا مع اتفاق الفقهاء على الرجوع إليهم في التعديل والتجريح ، كما اتفقوا على الرجوع في كل فن إلى أهله ، ومن تعاطى تحرير فن غيره فهو متعنّي ) (20)(1/36)
ورأيت بعض الباحثين المعاصرين جمع جرامزه فوثب وثبة ظن أنه بلغ فيها عنان السماء ، وقدماه لم ترتفعا عن الأرض ، إذ ذهب إلى نكارة حديث ( اللواط ) وأطال في النقول عن أئمة النقد ، لكنه في نفس الكتاب الذي يحققه ذهب يقوي ما رواه عمرو بن أبي عمرو عن عكرمة عن ابن عباس ومنها حديث ( البهيمة ) ، وهو أشد نكارة من حديث ( اللواط ) ، ثم كلام الإمام أحمد والبخاري يدل على أن أحاديث هذه النسخة كلها مناكير .
ومما يظهر تناقض كثير من المتأخرين في هذه المسألة أنهم يدفعون استنكار النقاد لبعض ما يرويه الثقات ومن في حكمهم ، وفي المقابل عضّوا بالنواجذ على ما تقرر عند النقاد أن من أحاديث الضعفاء ما يترجح حفظهم له ، معتمدين في ذلك على كلام النقاد ، في كون ضعفهم غير شديد ، فهم في درجة الاعتبار .
ولا بد من التسليم بان المتكلمين على الحاديث من المتأخرين لا يشعرون بالتناقض في هذه المسألة وغيرها , فهم مخطئون معذورون ، والله الموفق والهادي للصواب . ا.هـ
الحواشي ============================================
(1) الجرح والتعديل (1/270)
(2) المصدر السابق (1/271)
(3) علل المرّوذي ص 143
(4) ابن ماجة ( 1613)
(5) التاريخ الصغير (2/152) ، والمجروحين (3/95) ، إلا أن ابن حبان تردد في عهدة النكارة في أحاديثه هل هي منه او من شيخه عبد العزيز بن أبي رواد
(6) الضعفاء الكبير (4/365)
(7) سؤالات الجنيد ص 327
(8) ابوداود ( 4462) ، الترمذي (1456) ، ابن ماجة (2561) ، أحمد (1/300) ، مسند عبد بن حميد ( 575) ، تهذيب الأثار ( مسند ابن عباس ) (870) ، مسند أبي يعلى (2743) ، المنتقى (820) ، المستدرك (4/355) ، سنن البيهقي (8/231)
(9) شرح علل الترمذي (2/798)
(10) الكامل (5/1768)
(11) العلل الكبير ( 2/ ) لم يذكر شيئا في المصدر وهو في (2/620)(1/37)
(12) سنن الترمذي (4/58) ، وحديث ابن إسحاق أخرجه أحمد (1/317،217) ، وقد رواه الدراوردي أيضا وغيره ، انظر مسند أحمد (1/317) ، ومساوىء الأخلاق (437) ، المعجم الكبير ( رقم 11546) ، المستدرك (4/356) ، سنن البيهقي (8/231)
(13) التلخيص الحبير (4/61)
(14) العلل الكبير (2/925)
(15) ابو داود (2385) ، الكبرى للنسائي (3048)
(16) المغني (4/361)
(17) ميزان الاعتدال (2/655) ، تحفة الأشراف (8/17)
(18) تهذيب الكمال (18/316)
(19) انظر : الثقات الذين ضعفوا في بعض شيوخهم ص 173 ـ 177
(20) فتح المغيث (1/ 274)
نقله اخوكم :
خالد بن عمر الفقيه الغامدي(1/38)