بسم الله الرحمن الرحيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العلمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ... ... ... ... ... ... ... ... وبعد:
فهذه نبذة تعريفية بشروح الكتب الستة ومناهج مؤلفيها، جمعتها من موقع الجمعية العلمية السعودية للسنة وعلومها (سنن) على الشبكة العنكبوتية:
http://www.sunnah.org.sa/index.php?view=pages&page_id=8
وموقع الشيخ الدكتور عبد الكريم الخضير ـ حفظه الله ـ على الشبكة أيضاً:
http://www.khudheir.com/emlaat&page=8
جمعتها لنفسي ثم رأيت أن أنفع بها إخواني من طلبة العلم، وذلك لأهمية مثل تلك الكتب وأهمية معرفة مناهج شراحها.
فما جاء في الجزء الأول من هذه الدراسة يعزى إلى الموقع الآنف الذكر.
وما جاء في الجزء الآخر من الدراسة يعزى إلى الشيخ الدكتور عبد الكريم الخضير ـ حفظه الله ـ وليس لي من ذلك سوى الجمع والترتيب.
على أني أضفت إلى الجزء الأول من الدراسة ترجمة كل من ابن حجر وأبي بكر بن العربي ـ رحمهما الله جميعاً ـ وذلك لأنها غير موجودة ضمن الدراسة المشار إليها.
وأسأل الله أن ينفع بها كاتبها وجامعها وقارئها إنه جواد كريم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وكتبه أبو عبد العزيز الحربي
alharbi1389@Gmail.com
9/4/1429هـ
أولاً: تعريف ببعض أصحاب كتب الشروح ومناهجهم فيها.(1)
1 - منهج الإمام ابن عبد البر في كتابه "التمهيد"
أولاً: ترجمة الإمام أبي عمر يوسف ابن عبد البر:
هو: الإمام شيخ الإسلام حافظ المغرب أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النَّمَري القرطبي، ولد سنة ثمان وستين وثلاث مائة في ربيع الآخر, وطلب الحديث قبل مولد الخطيب بأعوام.
__________
(1) مادة هذه الدراسة مأخوذة من موقع الجمعية العلمية السعودية للسنة وعلومها (سنن) على الشبكة العنكبوتية:
http://www.sunnah.org.sa/index.php?view=pages&page_id=8(1/1)
وساد أهل الزمان في الحفظ والإتقان.
وكان مع تقدُّمه في علم الأثر وبصره بالفقه والمعاني, له بسطة كبيرة في علم النسب والأخبار. جلا عن وطنه فكان في الغرب مدة, ثم تحول إلى شرق الأندلس فسكن دانية وبلنسية وشاطبة وبها توفى، وذكر غير واحد أنّ أبا عمر وليَ قضاء أشبونة مدَّة.
شيوخه:
خلف بن القاسم, وعبد الوارث بن سفيان, وعبد الله بن محمد بن عبد المؤمن, ومحمد بن عبد الملك بن صيفون, وعبد الله بن محمد بن أسد الجهني, ويحيى بن وجه الجنة, وأحمد بن فتح الرسان, وسعيد بن نصر, والحسين ابن يعقوب البجاني, وأبي عمر أحمد بن الحسور, وعِدَّة.
وأجاز له من مصر المسند أبو الفتح بن سيبخت, والحافظ عبد الغني، ومن مكّة أبو القاسم عبيد الله ابن السقطي.
تلاميذه:
أبو العباس الدلائي, وأبو محمد بن أبي قحافة, وأبو الحسن ابن مفوز, وأبو عليّ الغسّاني, وأبو عبد الله الحميدي, وأبو بحر سفيان بن العاص, ومحمد بن فتوح الأنصاري, وأبو داود سليمان بن أبي القاسم المقرئ, وآخرون.
مناقبه:
قال أبو الوليد الباجي: لم يكن بالأندلس مثل أبي عمر في الحديث.
قال ابن سكرة سمعت أبا الوليد الباجي يقول: أبو عمر أحفظ أهل المغرب.
وقال ابن حزم: التمهيد لصاحبنا أبي عمر لا أعلم في الكلام على فقه الحديث مثله أصلاً, فكيف أحسن منه.
قال الذهبي: وكان ديِّناً صيِّناً ثقةً حجةً صاحب سنة واتِّباع, وكان أولاً ظاهريا أثرياً, ثم صار مالكياً, مع ميلٍ كثيرٍ إلى فقه الشافعي.
وقال الحميدي: أبو عمر فقيه حافظ مكثر عالم بالقراءات وبالخلاف وبعلوم الحديث والرجال. قديم السماع يميل في الفقه إلى أقوال الشافعي رحمة الله عليه.
مصنّفاته:
قال الحافظ الذهبي: وله تواليف لا مِثل لها في جمع معانيها، منها:
"الكافي" على مذهب مالك خمسة عشر مجلداً.
ومنها كتاب "الاستيعاب في معرفة الأصحاب" ليس لأحدٍ مثله.
ومنها كتاب "جامع بيان العلم وفضله".(1/2)
وله كتاب "الاكتفاء" في قراءة نافع وأبي عمرو.
وكتاب "بهجة المجالس" نوادر وشعر.
وله كتاب "التقصّي" لحديث الموطأ.
وكتاب "الإنباه عن قبائل الرواة".
وكتاب "الانتقاء لمذاهب الثلاثة العلماء" مالك وأبي حنيفة والشافعي.
و"البيان في تلاوة القرآن".
و"الأجوبة المستوعبة".
وكتاب "الكنى".
وكتاب "المغازي".
وكتاب "القصد والأمم في أنساب العرب والعجم".
وكتاب "الشواهد في إثبات خبر الواحد".
وكتاب "الإنصاف في أسماء الله تعالى".
وكتاب "الفرائض"، وغير ذلك.
وفاته:
قال أبو داود المقرئ: مات أبو عمر ليلة الجمعة سلخ ربيع الآخر سنة ثلاث وستين وأربع مائة, واستكمل خمساً وتسعين سنة وخمسة أعوام. رحمه الله تعالى.
مرجع الترجمة: تذكرة الحفاظ للذهبي (3/1128).
ثانياً: منهج الإمام ابن عبد البر في كتاب "التمهيد":
اسم الكتاب: "التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد".
وهو كتابٌ فريد في بابه ، وموسوعة في فقه أحاديث الأحكام ، اقتصر فيه مؤلفه على ما أورده مالك في الموطأ من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم دون ما فيه من آراء مالك ، وآثار الصحابة والتابعين مكث في تصنيفه ثلاثين عاماً , وفي ذلك أنشد أبو عمر رحمه الله يصفُ هذا الديوان:
سمير فؤادي مذ ثلاثين حجة وصَيْقَل ذهني والمفرِّج عن همِّي
بسطتُ لكم فيه كلام نبيِّكُم بما في معانيه من الفقه والعلم
وفيه من الآداب ما يُهتدى به إلى البرّ والتقوى ويَنهى عن الظُّلم
وكان الفراغ منه في عقب شهر شعبان المكرم من سنة سبعين وخمسمائة.
وفيه من الآداب ما يُهتدى به إلى البرّ والتقوى وينهى عن الظلم وأودعه من نفائس العلوم والفنون ما يعجَز اللسان عن وصفه.(1/3)
رتَّبه على الأسانيد مرتباً إياها على أسماء شيوخ مالك الذين روى عنهم في الموطأ وذكر ما رواه عن كل شيخ مرتباً إياه على حروف المعجم, ولذا يصعب الوقوف على الأحاديث المرادة منه إلا بعد معرفة الشيخ , ثم الشيوخ رتبهم على حروف الهجاء على طريقة المغاربة , وهي أيضا تختلف عن ترتيب طريقة المشارقة , فالصعوبة من جهتين: من كونه مرتب على الشيوخ , ولو كان مرتباً على الأبواب على ترتيب مالك رحمه الله لكان أولى , لكن هذه وجهة نظر الإمام ابن عبد البر.
ولما كان التمهيد مرتبا على أسماء شيوخ الإمام مالك كان من الصعب الوصول إلى أحاديث الموطأ المشروحة فيه فضلا عن الوصول إلى آراء فقهاء الأمصار ، بحيث يصعب الأمر على المتخصص فضلا عن غيره.
فقد يذكر ابن عبد البر المسألة في مواضع عدة من الكتاب ، وفي بعض الأحيان يذكرها مرات في المجلد الواحد ، فقد ذكر مثلا تطيب المحرم في : ( 2/ 254 ) . (10/ 16 ) . (15/ 123 ) . ( 19/ 302 ـ 309 ) وحكم إجابة الوليمة في : ( 1/ 272 ، 273 ) . (2/ 189 ) . (10/ 187 ـ 179 ). (14/ 111 ، 113 ) .
فإذا أراد الباحث الإطلاع على مسألة فقهية فعليه أن يكون ملمَّاً بأحاديث الموطأ التي تتكلم عن المسألة التي يبحث عنها ، ثم بعد ذلك يبحث عن مواضع الأحاديث في التمهيد ، ولا يتمُّ له ذلك إلا إذا عرف شيخ الإمام مالك في الحديث الذي يبحث عنه .(1/4)
وإذا كان الحديث في الموطأ مذكورا من رواية شيخين فعليه أن يرجع إلى التمهيد في موضعين على الأقل ، وإذا كان للمسألة أكثر من حديث فعليه أن يرجع إلى كل الأحاديث ، وفي ذلك مشقة لا تخفى ، وقد لا يجد مراده ؛ لأن المؤلف لا يتقيَّد بذكر الأحكام الفقهية على ما ذكره الإمام مالك في تراجمه للأحاديث ، بل يتكلم عن فقه الحديث ، وعن دلالته سواء كانت واضحة أو خفية في أي موضع ينشط فيه لسرد مذاهب الفقهاء وحججهم ، وقد يترك ذلك في بعض الأحاديث التي تبدو أنها أقرب للمسألة الفقهية ، ويختار لها موضعاً آخر أقلَّ وضوحاً.
فقد يظن البعض أن مسألة أفضل الأضاحي مثلا ذكرها المؤلف عندما شرح أحاديث كتاب الضحايا وهو ظن متبادر إلى الذهن ، فإذا تتبع أحاديث كتاب الضحايا في التمهيد فلا يجد لهذه المسألة ذكرا ؛ لأن المؤلف ذكر أفضل الضحايا عندما شرح حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : » من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة ، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا أقرن ، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة ، فإذا خرج الإمام طويت الصحف وحضرت الملائكة يسمعون الذكر. « وقد ذكر مالك هذا الحديث في كتاب الجمعة : باب العمل في غسل الجمعة. ولم يحل ابن عبد البر على هذا الحديث عندما تكلم على أحاديث الضحايا كما هي عادته ، والمؤلف معذور ؛ لأن طريقة عصره لا تخرج عن ذلك ، بالإضافة إلى أنه يتعامل مع الأسانيد التي لا ينتظم فيها الموضوع الفقهي ، ولا يتعامل مع الموضوعات المذكورة في الموطأ بسبب ترتيب أحاديث مالك على أسماء شيوخه.(1/5)
هذا إذا كان البحث عن مسألة واحدة ، أما من يبحث عن موضوع كامل فعليه أن يقرأ التمهيد كله أو على الأقل مطالعة كلّ الأحاديث التي تتكلّم عن موضع البحث ممّا هو على شرط المؤلف في التمهيد. فالإحرام الذي مثلنا لمسألة منه سابقاً ذكره المؤلف في : ( 2/ 245 ـ 264 ) . ( 4/ 286 ، 271 ) . ( 9/ 58 ـ 59 ، 124 ) . (10/ 16 ) . (15/ 107 ، 109 ـ 117 ، 123 ، 147 ـ 151 ) . (17/ 221 ) . (19/ 302 ـ 309 ، 317 ) . ( 21/ 152 ـ 153 ).
ثمّ ختم الكتاب بالكنى والبلاغات واقتصر في شرحه على الأحاديث المرفوعة ، ولم يتعرَّض للموقوفات ولا المقطوعات ولا أقوال مالك.
وهو يرجِّح تبعاً للدليل ، ومن أظهر المسائل التي رجحها المالكية تفضيل المدينة على مكة ، بينما نجد ابن عبد البر خرج بتفضيل مكة على المدينة خلافا لما يقوله إمامه.
ولما رأى ابن عبد البر تقاصُر الهمم اختصر كتابه في مختصر أسماه "تجريد التمهيد" - في مجلد واحد.
فائدة:
الإمام ابن عبدالبر عُني بشرح الأحاديث المرفوعة في هذا الكتاب (التمهيد), وأبدع فيه , وكمّله بكتاب آخر أسماه " كتاب الاستذكار في بيان مذاهب فقهاء الأمصار " أي من خلال الموطأ شرح فيه الأحاديث المرفوعة والموقوفات , وأشار إلى أقوال مالك , وأقوال غيره من أهل العلم , فالاستذكار جاء تكميلاً للتمهيد الذي هو لما في الموطأ من المعاني والأسانيد , معاني وأسانيد هذا " التمهيد " , هذه الصفة الغالبة , وفيه كلام على فقه الحديث كثير, لكن الكلام على الأحكام في " الاستذكار" أظهر , وهما كتابان متكاملان فلو جمع بينهم.
ويبدو أن ابن عبد البر - رحمه الله - قد ألف كتابيه التمهيد والاستذكار في وقت متقارب ، حيث في الاستذكار إحالات على التمهيد ، وفي التمهيد إحالات على الاستذكار لكنها قليلة، فالتمهيد ميزته المعاني والأسانيد وصبغته حديثية والكلام في الفقه تبعاً.(1/6)
والتمهيد أولى عناية خاصة بالأحاديث من حيث اتصال الأسانيد والإرسال والانقطاع وأحوال الرواة، وقد بذل أبو عمر بن عبد البر جهداً كبيراً في وصل المنقطع ، وتقوية المتصل ، ولم يفته أن يتكلم على فقه الأحاديث ، ومذاهب الصحابة والتابعين ، وخاصة مذاهب فقهاء الأمصار وأصحاب مالك, فهو كتاب فقه حديث مقارن.
استهلّ ابن عبد البر -رحمه الله- شرحه بمقدّمة نفيسة قال فيها:
" .. أما بعد : فإني رأيت كل مَن قصد إلى تخريج ما في ( موطأ مالك بن أنس ) رحمه الله من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -, قصد بزعمه إلى المسند, وأضرب عن المنقطع والمرسل, وتأمّلت ذلك في كل ما انتهى إلى مما جمع في سائر البلدان, وألف على اختلاف الأزمان, فلم أر جامعيه وقفوا عند ما شرطوه, ولا سلم لهم في ذلك ما أمّلوه, بل أدخلوا من المنقطع شيئاً في باب المتصل, وأتوا بالمرسل مع المسند, وكل من يتفقّه منهم لمالك وينتحله إذا سألت من شئت منهم عن مراسيل (الموطأ) قالوا : صحاح, لا يسوغ لأحدٍ الطعن فيها, لثقة ناقليها, وأمانة مرسليها, وصدقوا فيما قالوه من ذلك, لكنها جملة ينقضها تفسيرهم بإضرابهم عن المرسل والمقطوع.
وأصل مذهب مالك رحمه الله والذي عليه جماعة أصحابنا المالكيين أنّ مرسل الثقة تجبُ به الحجة, ويلزم به العمل, كما يجب بالمسند سواء, وأجمع أهل العلم من أهل الفقه والأثر في جميع الأمصار فيما علمت على قبول خبر الواحد العدل, وإيجاب العمل به إذا ثبت, ولم ينسخه غيره من أثر أو إجماع, على هذا جميع الفقهاء في كل عصر من لدن الصحابة إلى يومنا هذا, إلا الخوارج وطوائف من أهل البدع, شرذمة لا تعد خلافاً...".
قلت: فتكلّم عن حجيّة خبر الواحد, وحجيّة المرسل, وخلاف أهل العلم فيه, مع ذكر أقوالهم, ثم قال:(1/7)
" .. قال أبو عمر : هذا أصل المذهب, ثم إني تأملت كتب المناظرين والمختلفين من المتفقهين وأصحاب الأثر من أصحابنا وغيرهم, فلم أر أحداً منهم يقنع من خصمه إذا احتج عليه بمرسل, ولا يقبل منه في ذلك خبرا مقطوعاً, وكلهم عند تحصيل المناظرة يطالب خصمه بالاتصال في الأخبار, والله المستعان ".
ثم ذكر الخلاف في مسألة خبر الواحد, وهل يوجب العلم والعمل جميعاً؟, فقال:
" ... واختلف أصحابنا وغيرهم في خبر الواحد العدل, هل يوجب العلم والعمل جميعا, أم يوجب العمل دون العلم, و الذي عليه أكثر أهل العلم منهم أنه يوجب العمل دون العلم, وهو قول الشافعي وجمهور أهل الفقه و النظر, ولا يوجب العلم عندهم إلا ما شهد به على الله, وقطع العذر بمجيئه قطعا, ولا خلاف فيه.
وقال قوم كثير من أهل الأثر وبعض أهل النظر إنه يوجب العلم الظاهر والعمل جميعا, منهم الحسين الكرابيسي وغيره, وذكر ابن خوازمنداذ أن هذا القول يخرج على مذهب مالك.
قال أبو عمر : الذي نقول به أنه يوجب العمل دون العلم, كشهادة الشاهدين والأربعة سواء, وعلى ذلك أكثر أهل الفقه والأثر, وكلهم يدين بخبر الواحد العدل في الاعتقادات, ويعادي ويوالي عليها, ويجعلها شرعا وديناً في معتقده على ذلك جماعة أهل السنة, ولهم في الأحكام ما ذكرنا, وبالله توفيقنا ".
ثم ذكر منهجه في الكتاب فقال:
" ولما أجمع أصحابنا على ما ذكرنا في المسند والمرسل, واتفق سائر العلماء على ما وصفنا.
- رأيتُ أن أجمع في كتابي هذا كل ما تضمَّنه ( موطأ مالك بن أنس ) رحمه الله في رواية يحيى بن يحيى الليثي الأندلس عنه من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -, مسنده ومقطوعة ومرسلة, وكلّ ما يمكن إضافته إليه صلوات الله وسلامه عليه.
- و رتّبت ذلك مراتب:
- قدمتُ فيها المتصل.
- ثم ما جرى مجراه مما اختلف في اتصاله.
- ثم المنقطع والمرسَل.
- وجعلتُه على حروف المعجم في أسماء شيوخ مالك رحمهم الله, ليكون أقرب للمتناول.(1/8)
- ووصلتُ كل مقطوع جاء متصلاً من غير رواية مالك.
- وكلّ مرسل جاء مسنداً من غير طريقه رحمة الله عليه, فيما بلغني علمه, وصحَّ بروايتي جمعه ليرى الناظر في كتابنا هذا موقع آثار ( الموطأ ) من الاشتهار و الصِّحة.
- واعتمدتُ في ذلك على نقل الأئمة, وما رواه ثقات هذه الأمة.
- وذكرتُ من معاني الأثار وأحكامها المقصودة بظاهر الخطاب, ما عوَّل على مثله الفقهاء أولو الألباب.
- وجلبتُ من أقاويل العلماء في تأويلها.
- وناسخها ومنسوخها.
- و أحكامها ومعانيها ما يَشتفي به القارىء الطالب ويبصّره, وينبه العالم ويذكِّره.
- وأتيتُ من الشواهد على المعاني والإسناد بما حضرني من الأثر ذكره, وصحبني حفظه, مما تعظم به فائدة الكتاب.
- وأشرتُ إلى شرح ما استعجم من الألفاظ مقتصراً على أقاويل أهل اللغة.
- وذكرتُ في صدر الكتاب من الأخبار الدالة على البحث عن صحَّة النقل.
- وموضع المتصل والمرسل.
- ومِن أخبار مالك -رحمه الله-.
- وموضعه من الإمامة في علم الدِّيانة.
- ومكانُه من الانتقاد والتوقِّي في الرواية.
- ومنزلة ( موطئه ) عند جميع العلماء المؤالفين منهم والمخالفين, نُبَذاً يستدلّ بها اللبيب على المراد, وتُغني المقتصر عليها عن الازدياد.
- وأومأتُ إلى ذكر بعض أحوال الرواة, وأنسابهم وأسنانهم ومنازلهم.
- وذكرتُ مَن حفظتُ تاريخ وفاته منهم, معتمداً في ذلك كلِّه على الاختصار, ضارباً عن التطويل والإكثار.
والله أسأله العون على ما يرضاه, ويزلف فيما قصدناه, فلم نصل إلى شيء مما ذكرناه إلا بعونه وفضله, لا شريك له, فله الحمد كثيرا دائماً ,على ما ألهمنا من العناية بخير الكتب بعد كتابه, وعلى ما وهب لنا من التمسّك بسنة رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -, و ما توفيقي إلا بالله, وهو حسبي ونعم الوكيل.
- وإنما اعتمدتُ على رواية يحيى بن يحيى المذكورة خاصّة:
- لموضعه عند أهل بلدنا من الثقة والدين, والفضل و العلم والفهم.(1/9)
- ولكثرة استعمالهم لروايته وراثة عن شيوخهم وعلمائهم, إلا أن يسقط من روايته حديثٌ من أمّهات أحاديث الأحكام, أو نحوها, فأذكره من غير روايته إن شاء الله, فكل قوم ينبغي لهم امتثال طريق سلفهم فيما سبق إليهم من الخير, وسلوك منهاجهم فيما احتملوا عليه من البر, وإن كان غيره مباحا مرغوباً فيه.
- والرواياتُ في مرفوعات ( الموطأ ) متقاربة في النقص والزيادة.
- وأما اختلافُ روايته في الإسناد والإرسال, والقطع والاتصال, فأرجوا أن ترى ما يكفي ويشفي في كتابنا هذا, مما لا يخرجنا عن شرطنا إن شاء الله لارتباطه به, والله المستعان ".
ثم ذكر أسانيده إلى الموطأ, وبذلك انتهت مقدّمته للكتاب, وبيان منهجه فيه -رحمه الله-.
ثم ذكر: باباً في معرفة المرسل, والمسند, والمنقطع, والمتصل, والموقوف, ومعنى التدليس.
ذكر فيه مسائل مهمة مثل:
- مذاهب العلماء في الإسناد المعنعن.
- شروط أئمة الحديث والفقه فيمن يُقبل نقله, ويُحتج بحديثه.
- التحذير من الكذب في الحديث.
- تحريات علماء الحديث في الرواية.
- ومعنى حديث " يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ".
ثم ذكر باباً في : أخبار الإمام مالك -رحمه الله-.
ثم باب ألف في أسماء شيوخ مالك.
ثم شرع في شرح أحاديثهم.
وهكذا مشى في باقي الكتاب.
مراجع ما سبق مقدمة كتاب "التمهيد" مع الكتاب.
كتاب "التمهيد" وما لحقه من الأعمال :
لا تخفى مكانة كتاب كالتمهيد على أحد ممّن درس العلم وعرفه, ولذلك كثرة الأعمال حول هذا الكتاب العظيم, الأمر الذي يدلّ على مكانته, وكبير نفعه. ومن أهمها:
- أن ابن عبد البر نفسه اختصره وسمّاه: "تجريد التمهيد".
- وهناك رسالة بعنوان " إجماعات ابن عبد البر في العبادات " ، لعبدالله بن مبارك البوصي ، في مجلدين من طبع ونشر دار طيبة بالرياض ، وقد تعقّب المؤلف إجماعات ابن عبد البر بنقل من وافقه من الأئمة على حكاية الإجماع ، وبذكر الخلاف في المسألة إن وجد.(1/10)
- ورسالة دكتوراه حول التمهيد ومنهج ابن عبد البر فيه. أعدّها: طه بوسريح. بالجامعة الزيتونية و فيها الكثير من الفوائد.
- ورسالة بعنوان " عقيدة ابن عبد البر في التوحيد والإيمان عرض ودراسة " للشيخ سليمان بن صالح الغصن, وهي عبارة عن رسالة ماجستير في قسم العقيدة بجامعة الإمام عام 1409.
- ورسالة ماجستير. بعنوان " منهج الحافظ ابن عبد البر في توحيد الأسماء والصفات ". الباحث : صالح بن محمد بن علي العقيل.
- ورسالة بعنوان " الآثار العقدية الواردة في التمهيد لابن عبدالبر "-جمعا ودراسة.
- ورسالة بعنوان " أحاديث العبادات لقاسم بن أصبغ في كتاب التمهيد لابن عبد البر جمعاً ودراسة ".
- ورسالة بعنوان " جهود ابن عبد البر في التفسير من خلال كتابه التمهيد -عرضاً ودراسة ".
- وللشيخ سليمان بن حمدان رحمه الله " تجريد مسائل التمهيد ", موجودة في السجلات القديمة لفهرس مخطوطات جامعة الإمام.
- وللإمام أبي القاسم الشاطبي رحمه الله قصيدة دالية نظم فيها مقاصد التمهيد, ولا يُعلم عن وجودها شيء
- وهناك رسالة في المقارنة بين التمهيد والاستذكار لطالب مغربي يدرس في كلية الدعوة الإسلامية بليبيا وقد نوقشت.
طبعات الكتاب:
طبع "التمهيد" عدّة طبعات, أشهرها:
- طبعة وزارة الأوقاف الإسلامية بالمغرب في ( 26 ) مجلدا بتحقيق عدة من العلماء.
- ثم في دار الكتب العلمية 1999 في (10) مجلدات مع آخَر للفهارس بتحقيق (محمد عبد القادر عطا).
- ثم في دار إحياء التراث العربي في (9) مجلدات بتحقيق ( عبد الرزاق المهدي ).
- وأخيراً طبع التمهيد ضمن مجموعة "شروح الموطأ" في (25) مجلداً الأخيران منه للفهارس, بتحقيق الدكتور: عبد الله التركي. عن مركز هجر للبحوث والدراسات.
وهذه الطبعات جاءت على ترتيب الحافظ ابن عبد البر لكتابه. وطبع الكتاب طبعات أخرى راعت فيه الترتيب الفقهي, أو على أبواب الموطأ, منها:(1/11)
- ترتيب الأستاذ الدكتور مصطفى صميدة الأستاذ بكلية أصول الدين بجامعة الأزهر بالقاهرة, وهو بعنوان " فتح المالك بتبويب التمهيد لابن عبد البر على موطأ الإمام مالك " في عشرة مجلدات طبعته دار الكتب العلمية - بيروت- لبنان. رتَّب التمهيد على أبواب الموطأ.وطبع الطبعة الأولى في 1418هـ.
- وطبع بعنوان " فتح البرّ في الترتيب الفقهي لتمهيد ابن عبد البرّ " للشيخ عبد الرحمن المغراوي. في (12) مجلداً مع مقدّمة للكتاب, وصدرت عن مجموعة التحف النفائس الدولية, سنة 1416هـ.
- وقام العلامة الرّاحل الشيخ عطية سالم -رحمه الله- بترتيب "التمهيد" لابن عبد البر على أبواب الموطأ برواية يحيى الليثي المشهورة. وصدر في (12) مجلّداً. عن مكتبة الأوس سنة 1416هـ.
- وطبع أيضاً مرتباً على الأبواب الفقهية في دار الفاروق الحديثة بتحقيق: أسامة بن إبراهيم في (18) مجلّداً, منها مجلّدان للفهارس.
2- منهج الإمام الخطابي في كتابه "أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري"
أولاً: ترجمة الإمام الخطّابي:
هو الإمام العلامة المفيد المحدث الرحّال أبو سليمان حمَد بن محمد بن إبراهيم بن خطاب البستي الخطابي صاحب التصانيف، محدث، فقيه، أديب، لغوي، شاعر.
ولد بمدينة بست من بلاد كابل عاصمة المملكة الأفغانية، سنة بضع عشرة وثلاث مئة.
وسمع الحديث بمكة وبالبصرة وببغداد،.
وأخذ الفقه على مذهب الشافعي عن أبي بكر القفَّال الشاشي، وأبي علي بن أبي هريرة، ونظرائهما.
قال الحافظ الذهبي: "فإذا وقفَ منصفٌ على مصنفاته، واطلع على بديع تصرفاته في مؤلفاته، تحقّق إمامته وديانته فيما يورده وأمانته، وكان قد رحل في الحديث وقراءة العلوم، وطوَّف، ثم ألف في فنون من العلم، وصنف، وفي شيوخه كثرة، وكذلك في تصانيفه".اهـ
وقال: " وكان ثقةً متثبّتاً من أوعية العلم ..، وله شعرٌ جيد ".اهـ
شيوخه:(1/12)
أبوسعيد ابن الأعرابي, إسماعيل بن محمد الصفار وطبقته ببغداد، وأبو بكر بن داسه بالبصرة, وأبو العباس الأصمّ وطبقته بنيسابور.
تلاميذه:
أبو عبد الله الحاكم, وأبو حامد الإسفرايينى, وأبو نصر محمد بن أحمد البلخى الغزنوي, وأبو مسعود الحسين بن محمد الكرابيسي, وأبو عمرو محمد بن عبد الله الرزجاهى, وأبو ذرّ عبد بن أحمد الهروي, وأبو عبيد الهروي اللغويّ, وأبو الحسين عبد الغافر الفارسي. وخلق سواهم.
ثناء العلماء عليه:
نقل ياقوت الحموي في "معجم الأدباء": قال الحافظ أبو المظفر السمعاني: كان حجةً صدوقاً رحل إلى العراق والحجاز، وجال في خراسان وخرج إلى ما وراء النهر. وقال الثعالبي: كان يُشبَّه في عصرنا بأبي عبيدٍ القاسم في عصره علماً وأدباً وزهداً وورعاً وتدريساً وتأليفاً.
قال عنه الحافظ الذهبي في "العِبَر": كان علامةً محققاً.
وقال عنه السيوطي في "طبقات الحفاظ": الإمام العلامة المفيد المحدِّث الرحَّال.. وكان ثقةً متثبتاً من أوعية العِلم.
وقال ابن خلّكان في "وفيّات الأعيان": كان فقيهاً أديباً محدثاً له التصانيف البديعة.
وقال السبكي في "طبقات الشافعية": كان إماماً في الفقه والحديث واللغة.
وقال الفيروز آبادي في "البلغة في تراجم أئمة النحو واللغة": المحدِّث اللغويّ المحقِّق المتقن من الأئمّة الأعيان.
من تصانيفه:
إصلاح غلط المحدثين. إعلام السّنن. شرح أسماء الله الحسنى. غريب الحديث. معالم السنن في شرح سنن أبي داود. معرفة السنن والآثار. كتاب الجهاد. كتاب العزلة. كتاب النجاح , رسالة له في إعجاز القرآن, وكتاب شأن الدعاء, وغير ذلك.
وفاته:
قال أبو يعقوب القراب: توفي الخطابي ببُست في شهر ربيع الآخر سنة ثمان وثمانين وثلاث مائة.
مراجع الفقرة: تذكرة الحفاظ للذهبي (3/1018), سير أعلام النبلاء للذهبي (17/23).
ثانياً: كتابه : "أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري".(1/13)
اسم الكتاب كما أثبته محققه: "أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري".
ولقد أقدم الإمام الخطابي على تأليف هذا الكتاب القيم لما لاحظه من نضوب العلم وظهور الجهل, وغلبة أهل البدع, وانحراف كثير من أهل زمانه عن الكتاب والسنة, وليكون هذا الكتاب حجة على أهل الباطل والزيغ, فيبقى ذخيرة لغابر الزمان.
وكتاب " أعلام الحديث " للإمام الخطابي يعدّ أول شرح للجامع الصحيح، واختلاف الروايات.
تحقيق اسم الكتاب:
قال محقق الكتاب:
" وقع في تسمية هذا الكتاب غموض شديد بسبب إغفال المؤلف لذلك, وعدم وضع عنوان محدّد له, كما فعل في أكثر كتبه التي ألفها. كـ: "معالم السنن", وغيره.
مما جعل مجال الاجتهاد في ذلك واسعاً ونشطاً بين النسّاخ الذين قاموا بنسخه.
وعند تتبّعي لنسخ مخطوطات هذا الكتاب - مباشرة أو عن طريق كتب التراث - وقفتُ على عدد من التسميات, وهي:
1- الإعلام شرح ما أشكل في البخاري على الأفهام.
2- الإعلام في شرح معاني جامع الصحيح.
3- أعلام الحديث في شرح معاني كتاب الجامع الصحيح.
4- الإعلام على البخاري.
5- إعلام البخاري وهو شرح معاني الجامع الصحيح.
6- أعلام الجامع الصحيح.
7- أعلام السنن في شرح المشكل من أحاديث البخاري.
8- أعلام السنن في شرح صحيح البخاري.
9- أعلام المحدث.
10- أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري.
11- تفسير أحاديث الجامع الصحيح.
وهكذا, فالقطع بصحّة نسبة أي من هذه التسميات أمر فيه شيء من الصعوبة...
ومن مجموع ما وجدته من أسماء أطلقت على هذا المؤلف الجليل لاحظتأن كلمة "أعلام" أو " الإعلام" تكررت عشر مرات, مما قد يشير إلى وجود هذه الكلمة في أصل التسمية...
إلى أن قال:
" إذا لم يبق إلا الاحتمال الأول وهو "أعلام الحديث" ويرجّح هذه التسمية ورودها في بعض المراجع القديمة, ووجودها أيضاً على صفحات عدد من نسخ المخطوط...
ثم أيّد ما وصلَ إليه بأن عدداً من المتقدّمين ذكر الكتاب بهذا الاسم منهم:
- السمعاني.(1/14)
- النووي.
- ابن حجر.
ذكر الإمام الخطابي مقدّمة لكتابه بيّن فيها سبب تأليف الكتاب, ومنهجه فيه, فقال:
"... وإن جماعة من إخواني ببلخ كانوا سألوني عند فراغي لهم من إملاء كتاب "معالم السنن" لأبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني -رحمه الله- أن أشرح لهم كتاب الجامع الصحيح لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري -رحمه الله- .
- وأن أفسّر المشكل من أحاديثه.
- وأبيّن الغامض من معانيها.
وذكروا أن الحاجة إليه كانت أمسّ, والمؤنة على الناس فيه أشدّ, فتوقفتُ إذ ذاك عن الإجابة إلى ما التمسوه من ذلك, إذ كنتُ أستصعبُ الخطّة وأستبعدُ فيه الشقّة لجلالة شأن هذا الكتاب فإنه كما قيل: "كل الصيد في جوف الفرى".
ولما يشتمل عليه من صِعاب الأحاديث وعضل الأخبار في أنواع العلوم المختلفة التي قد خلا عن أكثرها كتاب المعالم؛ إذ كان معظم القصد من أبي داود في تصنيف كتابه ذكر السنن والأحاديث الفقهية, صاحب هذا الكتاب إنما هو ذكر ما صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث في جليل من العلم أو دقيق, ولذلك أدخل فيه كل حديث صحّ عنده في تفسير القرآن, وذكر التوحيد والصفات, ودلائل النبوّة, ومبدأ الوحي,وشأن المبعث, وأيام رسول الله صلى الله عليه وسلم وحروبه ومغازيه, وأخبار القيامة...
فأصبح هذا الكتاب كنزاً للدين, وركازاً للعلوم, وصار بجودة نقدِه وشدّة سبكه, حكمَاً بين الأمة فيما يراد أن يُعلم من صحيح الحديث وسقيمه, وفيما يجب أن يُعتمد ويعوّل عليه منه.
ثم إني فكّرتُ بعد فيما عاد إليه أمر الزمان في وقتنا هذا من نضوج العلم, وظهور الجهل, وغلبة أهل البدع, وانحراف كثير من أنشاء الزمان إلى مذاهبهم وإعراضهم عن الكتاب والسنة, وتركهم البحث عن معانيهما, ولطائف علومهما, ورأيتهم حين هجروا هذا العلم وبُخِسوا حظاً منه, ناصبوه وأمعنوا في الطعن على أهله فكانوا كما قال الله عز وجلّ: {وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم}.(1/15)
ووجدتهم قد تعلّقوا بأحاديث من متشابه العلم قد رواها جامع الكتاب وصحّحها من طريق السند والنقل, لا يكاد يعرف عوامّ رواة الحديث وجوهها ومعانيها, إنما يعرف تأويلها الخواصّ منهم, الراسخون في العلم, المتحققون به, فهُم لا يزالون يعترضون بها عوامّ أهل الحديث, والرجل والضعفَة منهم, فإذا لم يجدوا عندهم علماً بها ومعرفة بوجوهها اتخذوا سلّماً إل ما يريدون من ثلب جماعة أهل الحديث والوقيعة فيهم, ورموهم عند ذلك بالجهل وسوء الفهم, وزعموا أنهم مقلّدون يروون ما لا يدرون, وإذا سئلوا عنه وعن معانيه ينقطعون ويُسمّونهم من أجل ذلك حمّالة الحطب وزامل الأسفار, ونحوها من ذميم الأسماء والألقاب, فكم غُمرٍ يغترّ بهم من الأغمار, والأحداث الذين لم يخدموا هذا الشأن ولم يطلبوه حقّ طلبه, ولم يعضّوا في علمه بناجذ فيصير ذلك سبباً لرغبتهم عن السنن وزهدهم فيها, فيخرج كثير من أمر الدين عن أيديهم, وذلك بتسويل الشيطان لهم ولطيف مكيدته فيهم, وتخوّفت أن يكون الأمر فيما يتأخّر من الزمان أشدّ والعلم فيه أعزّ لقلّة عدد من أراه يُعنى بهذا الشأن ويهتم به اهتماماً صادقاً, ويبلغ فيه من العلم مبلغاً صالحاً.
فحضرتني النيّة في إطلابهم ما سألوه من ذلك, وثابت إليّ الرغبة في إسعافهم بما التمسوه منه, ورأيت في حق الدّين وواجب النصيحة لجماعة المسلمين أن لا أمنع ميسور ما أسبغ له من تفسير المشكل من أحاديث هذا الكتاب وفتق معانيها, حسب ما تبلغه معرفتي, ويصل إليه فهمي, ليكون ذلك تبصرة لأهل الحق, وحجّة على أهل الباطل والزيغ, فيبقى ذخيرة لغابر الزمان, ويخلد ذكره ما اختلف الملَوَان.
والله الموفق لذلك, والمعين عليه, والعاصم من الزلل فيه بمنّه ورأفته.(1/16)
وقد تأمّلت المشكل من أحاديث هذا الكتاب والمستفسر منها, فوجدت بعضها قد وقع ذكره في كتاب "معالم السنن" مع الشرح له, والإشباع في تفسيره, ورأيتني لو طويتها فيما أفسّره من هذا الكتاب وضربت عن ذكرها صفحاً اعتماداً مني على ما أودعته ذلك الكتاب من ذكرها كنت قد أخللتُ بحقّ هذا الكتاب, فقد يقع ها عند من لا يقع عنده ذاك, وقد يرغب في أحدهما من لا يرغب في الآخر, ولو أعدت فيه ذكر جميع ما وقع في ذلك التصنيف كنتُ قد هجّنتُ هذا الكتاب بالتكرار, وعرّضتُ الناظر فيه للملال, فرأيتُ الأصوب أن لا أخليها من ذكر بعض ما تقدم شرحه وبيانه هناك متوخياً الإيجاز فيه, مع إضافتي إليه ما عسى أن يتيسّر في بعض تلك الأحاديث من تجديد فائدة وتوكيد معنى زيادةً عل ما في ذلك الكتاب, ليكون عوضاً عن الفائت, جبراً للناقص منه.
ثم إنّي أشرح بمشيئة الله الكلام في سائر الأحاديث التي لم يقع ذكرها في "معالم السنن" وأوفيها حقّها من الشرح والبيان.
فأما ما كان فيه ن غريب الألفاظ اللغوية, فإني أقتصر من تفسيره على القدر الذي تقع به الكفاية في معارف أهل الحديث الذين هم أهل هذا العلم, وحملته دون الإمعان فيه والاستقصاء له على مذاهب أهل اللغة, من ذكر الاشتقاق والاستشهاد بالنظائر ونحوها من اليان, لئلا يطول الكتاب, ومن طلبَ ذلك وجد العلّة فيه مراضَةً بكتاب أبي عبيد, ومن نحا نحوه في تفسير غريب الحديث..."أهـ
ثم ذكر إسناده إلى صحيح الإمام البخاري, وأنه يرويه من طريق: الفريري, والنسفي.
منهج الإمام الخطابي في هذا الكتاب:
بيّن الإمام الخطابي -رحمه الله- معالم المنهج الذي سار عليه في هذا الكتاب في المقدمة المذكورة آنفاً, ونزيد ذلك وضوحاً فنقول:
1- يقوم بشرح المشكل, ويبيّن الغامض من معانيه:(1/17)
ثم صرّح بأن المشكل من أحاديث الجامع الصحيح والمستفسر منها قد وقع ذكره في كتاب "معالم السنن" مع الشرح له, والإشباع في تفسيره, فلو ضرب عن ذكرها ضفحاً لكان قد أخلّ بحق هذا الكتاب, ولو أعاد ذكر جميع ما وقع في كتاب "معالم السنن" لكان قد هجّن كتابه هذا بالتكرار, فرأى الأصوب أن يخليها من ذكر بعض ما تقدم شرحه وبيانه في "معالم السنن" متوخياً الإيجاز فيه مع إضافة ما عسى أن يتيسّر في بعض تلك الأحاديث من تجديد فائدة, وتوكيد معنى زيادة على ما في كتاب "معالم السنن"؛ ليكون عوضاً عن الفائت, وجبراً للناقص منه.
ولذلك نجده يحيل إلى كتاب "معالم السنن". كقوله على سبيل المثال: وقد ذكرتُ في تأويل هذا الحديث خمسة أوجه أخر في مسألة أفردتها أشبعتُ الكلام فيها وذكرتُ أطرافاً منها في كتاب "معالم السنن ".
وقوله: وقد ذكرتُ الجواب عن تلك الفصول في كتاب "معالم السنن" فلم يجب تكريره هنا ".
2- التزم بشرح الكلام في سائر الأحاديث التي لم يقع ذكرها في "معالم السنن" وأن يوفيها حقّها من الشرح والبيان.
3- اقتصر في تفسير غريب الألفاظ اللغوية على القدر الذي تقع به الكفاية في معارف أهل الحديث الذين هم أهل هذا العلم وحملته دون الإمعان فيه والاستقصاء له على مذاهب أهل اللغة من ذكر الاشتقاق والاستشهاد بالنظائر لئلا يطول الكتاب.(1/18)
4- وكتاب الجامع الصحيح للإمام البخاري - كما هو معروف - ينقسم إلى كتب, والكتاب ينقسم إلى أبواب, والباب يضمّ أكثر من حديث, فالإمام الخطابي أتى على جلّ الكتب في الجامع الصحيح, ثم اختار من كل كتاب بعض أبوابه, ثم اختار من كل باب حديثاً أو أكثر, وقد يأتي على أحاديث الباب كلّها, وحيث أنه التزم - كما جاء في المقدمة - بشرح المشكل, وتبيين الغمض من المذاهب والآراء اللغوية والفقهية والعقدية, فهو لا يذكر من متن الحديث إلا موضع الحاجة, وقد يحتاج إلى ذكر الحديث بتمامه إذا كان في آخره ما يفسّر أوله, أو يبيّن غامضه, أو يدعم رأيه للوصول إلى بغيته.
5- والإمام الخطابي يلتزم بنصّ متن الحديث كما هو في الجامع الصحيح برواية الفربري أو النسفي. ولا يفعل ذلك إذا كان متن الحديث يحكي ما فعله الراوي أو رآه وصفاً منه لحالة بعينها ما لم يقل: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم .
6- وأما ما يتعلّق بالآيات القرآنية التي يستشهد بها فإنه لا يورد إلا موضع الشاهد فقط, ولا يذكر اسم السورة ولا رقم الآية, ولعله من صنيعهم حينذاك.
7- وأما ما يتعلق بالأحاديث من غير الجامع الصحيح فإنه يأتي بها شاهداً على ما يقول في معنى أو دليل, ويورد منها موضع الحاجة فقط بصرف النظر عن موقعه في الحديث إن كان بالبداية أو في الوسط أو في النهاية, ما لم يقتضه السياق.
8- ولا يبيّن درجة الحديث إلا نادراً جداً, ولا من رواه, ولا من أخرجه, باستثناء بعض أحاديث يوردها توثيقاً لمذهبه, فهو يبيّن درجتها, وموضع الضعف في السند إن كان قد تكلم حوله.
قال عند شرحه حديث بول الأعرابي في المسجد: فأما ما روي من حفر المكان ونقل ترابه, فإسناده غير متصل, إنما رويَ ذلك عن عبد الله بن معقل بن مقرّن, وهو مرسل, وعبد الله بن معقل لم يدرك النبيّ صلى الله عليه وسلم .(1/19)
9- أما الآثار والأقوال المشهورة والأمثال فإنه يأتي بها في أكثر المواضع تامّة غير منقوصة, بدون ذكر قائلها, أو شرح مضمونها أو مدلولها.
10- وأما الشواهد الشعرية فإنه يكتفي في الغالب بموضع الشاهد إن كان في صدر البيت أو عجزه, دون ذكر قائله, إلا في النادر.
11- وأما المذاهب الفقهية وأقوال أصحابها فإنه يصرح باسم صاحبها وأحياناً يغفله, ولكنه يبيّن وجوه الاختلاف إن وجدت وبالخصوص عند المخالفين. ويعتبر الإمام الخطابي من أتباع المذهب الشافعي والمنافحين عنه في أعمّ أحواله.
12- يتكلم على الرواة - نادراً- كقوله: والحارث - أي الأعور - مرغوبٌ عن روايته ".
13- يسوق الحديث بالسند.
14- كما يُشير إلى الفوائد والاستنباطات الفقهية المستخرجة من الحديث. كقوله:
" وفي الحديث دليل على أن النقصَ من الطاعات نقصٌ من الدّين, وفيه دلالة على أن ملاك الشهادة العقل مع اعتبار الأمانة والصدق, وأن شهادة المغفّل من الناس ضعيفة وإن كان رضيّاً في الدين والأمانة ".
وقوله: فيه دليل على أن الحائض لا يحرم عليها الذكر والدعاء, وقد يستدل بذلك من يرى أن لها أن تقرأ القرآن, وفيه دليل على أنه لايُجيزُ لها دخول المساجد, وفيه دليل على أن الطواف مع الحدث لا يُجزئ..".
وقوله: والفرق بين النبيّ والرسول.. فكلّ رسول نبيّ, وليس كلّ نبيّ رسولاً ".
15- قد يخرج - أحياناً - عمّا سلكه من الاختصار في الشرح ويُسهب, لدفع إشكال كما فعل عند حديث مانعي الزكاة, وقتال الصحابة لهم. (1/730-7745).
16- ويعتني بذكر الناسخ والمنسوخ, وينقل الأقوال في ذلك.
17- ولا يُخلي شرحه من ذكر القواعد والفوئد:
كقوله: " وهذا اصلٌ قد ثبت واستقرّ يقيناً, فإنه لا يرفع حكمه بالشكّ ".
وقوله: " والأمر المضمّن بالشكّ والارتياب لا يكون واجباً ".
وقوله: " كل من أطاق عبادة بالصّفة التي وجبت عليها في الأصل؛ لم يجز له تركها إلا أن يعجز عنها ".(1/20)
مرجع الفقرة: كتاب "أعلام الحديث" مع المقدمة بتحقيق: محمد آل سعود.
طبعات الكتاب:
- هناك طبعة في المغرب في مجلدين. لكن هذه طبعة نادرة جداً.
- ثم صدرت طبعة محققة في (4) مجلدات وهي عبارة عن رسالة في جامعة أم القرى. بتحقيق: محمد بن سعيد بن عبد الرحمن آل سعود. سنة 1409هـ عن معهد البحوث العلمية وإحياء التراث في جامعة أم القرى.
3- منهج ابن رجب الحنبلي في كتابه "فتح الباري في شرح صحيح البخاري".
أولاً: ترجمة الحافظ ابن رجب.
هو: الحافظ العلامة زين الدين عبد الرحمن بن أحمد بن رجب البغداديّ, ثم الدمشقيّ الحنبلي, ولد ببغداد سنة ست وثلاثين وسبعمائة.
مَهَرَ في فنون الحديث: أسماءً ورجالاً وعللاً وطُرُقاً واطِّلاعاً على معانيه.
ونُقمَ عليه إفتاؤه بمقالات شيخ الإسلام ابن تيميّة, وكان قد ترك الإفتاء بأخرة.
وكان صاحب عبادة وتهجّد, وكان لا يخالط أحداً, ولا يتردّد إلى أحد.
مشايخه:
شيخ الإسلام ابن تيمية, وسمع بالقاهرة من ابن الملوك, وبدمشق من محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن الخباز, وإبراهيم بن داود العطار, وغيرهما وبمصر من أبي الفتح الميدومي, وأبي الحرم القلانسي, وجمعٍ جمّ.
تلاميذه:
قال الحافظ ابن حجر: تخرَّج به غالب أصحابنا الحنابلة بدمشق.
ومنهم: محمد بن علي بن عبد الرحمن المقدسي الدمشقي الصالحي الحنبلي.
مصنّفاته:
له العديد من المصنّفات, منها:
"شرح حديث لبيك اللهم لبيك" .(1/21)
"شرح حديث بعثت بالسيف بين يدي الساعة" ، "شرح حديث عمار بن ياسر اللهم بعلمك الغيب" ، "شرح حديث إن أغبط أوليائي عندي" , " التخويف من النار" , "الاستخراج لأحكام الخراج" , "الاستغناء بالقرآن" , "استنشاق نسيم الأنس من نفحات رياض القدس" , "أهوال القبور" , "التخويف من النار والتعريف بحال دار البوار" , "تقرير القواعد وتحرير الفوائد" , "جامع العلوم والحكم في شرح أربعين حديثا من جوامع الكلم والحكم" , "الذيل على طبقات الحنابلة" "شرح الجامع الصحيح للترمذي" . "فتح الباري في شرح الجامع الصحيح للبخاري" "الإلمام في فضائل بيت الله الحرام" , وغير ذلك.
ثناء العلماء عليه:
قال الحافظ ابن حجر في الدرر الكامنة: المحدّث الحافظ ".
وقال في ذيل تذكرة الحفاظ: الإمام الحافظ الحجة والفقيه العمدة أحد العلماء الزهاد والأئمة العباد مفيد المحدِّثين واعظ المسلمين".
وقال الشهاب ابن حجّي: أتقن في الحديث وصار أعرف أهل عصره بالعلل وتتبع الطرق، تخرّج به غالب اصحابنا الحنابلة ".
وقال السيوطي: هو الإمام الحافظ المحدث الفقيه ".
وفاته:
قال الحافظ في الدرر الكامنة:
" ومات في شهر رجب سنة 795 , ويقال أنه جاء إلى شخص حفار فقال له احفر لي هنا لحداً وأشار إلى بقعة قال الحفار فحفرتُ له فنزل فيه فأعجبه واضطجع وقال: هذا جيد فمات بعد أيام فدفن فيه ".اهـ
ودفن بالباب الصغير جوار قبر الشيخ أبي الفرج عبد الواحد بن محمد الشيرازي المقدسي.
مراجع الترجمة:
الدرر الكامنة لابن حجر, ذيل طبقات الحفاظ, إنباء الغمر بأبناء العمر لابن حجر.
ثانياً: منهج الحافظ ابن رجب في كتاب "فتح الباري في شرح صحيح البخاري".
اسم الكتاب: طبع الكتاب باسم: "فتح الباري في شرح صحيح البخاري".
توطئة:(1/22)
لأهمية "الجامع الصّحيح" للإمام البخاري -رحمه الله-, ولكثرة ما اشتمل عليه من المزايا, جذب عناية أعيان الأمّة وأفذاذها إلى الاعتناء به؛ لاستخرج درره المكنونة, وجواهره المدفونة, فانتهض أعيان الأمّة وأعلام العلم في كلّ عصر لخدمته في شتّى أنحاء العلوم.
فبين شارح له, ومعلّق عليه, وملخّص ومختصر, ومهذّب ومرتِّب, ومؤلّف لطرقه وأطرافه, وشارح لمناسبات تراجمه, ومؤرّخ لرجاله, وواصل لمراسيله ومعلّقاته, ومستدرك عليه, ومتتبّع لعلله...الخ.
وشرح الحافظ ابن رجب -رحمه الله- ممّا اجتمعت فيه ميزات كثيرة متعدّدة, فهو يكاد يأتي على ما في شروح غيره ويزيد.
كيف لا؛ وهو الحافظ النّاقد, والأصوليّ الفقيه, والمفسّر واللغويّ.
وقد شرح ابن رجب هذا الكتاب في آخر عمره, بعد أن استوى عوده, واستحكمت خبرته, وثقل علمه.
وقد بلغ في شرحه إلى آخر "كتاب السّهو", لكن سبقته المنيّة المحتومة وأجله المكتوب قبل أن يُكمل الكتاب.
ومع هذا؛ فالجزء الذي شرحه منه لم يصل إلينا كاملاً, بل ضاع منه قريبٌ من ثلثه, فنسأل الله تعالى أن يوفِّق عبداً من عباده للوقوف على بقيّة هذا الشّرح, وإخراجه للنّور لينتفع به المسلمون.
وحيث أن الكتاب ناقص, فلم يوجد من أوّله, فقد ضاعت علينا المقدّمة التي كتبها الحافظ ابن رجب لهذا الشّرح والتي كان يُمكن أن تبيّن لنا طريقته ومنهجه في هذا الكتاب, والمنوال الذي ألّف عليه هذا الشّرح الكبير الماتع.
ولكن يمكننا أن نستخلص بالتّتبع منهج الحافظ ابن رجب في هذا الشرح, فنقول:
قال الدكتور همام عبد الرحيم سعيد في مقدمته على "شرح علل الترمذي" ـ نقلته مع شيء من التصرّف والزّيادة ـ (1):
__________
(1) 1/285-287)(1/23)
يمتاز جامع البخاري الصحيح على غيره من كتب الحديث بطريقته الفقهية, ومن هنا كان على من يتصدى لشرحه أن يكون على دراية واسعة بالحديث والفقه, وهذا ما عُرف به ابن رجب من خلال شرح الترمذي من جهة, وكتاب القواعد الفقهية من جهة أخرى, وكل منهما في بابه يدلّ على اكتمال شخصية الرجل العلمية وأهليته لأن يتصدى لمثل البخاري بالشرح, فشرع في هذا الشرح قُبيل وفاته بقليل؛ إلا أن المنية اخترمته قبل إتمامه..
ولقد حاولتُ استقراء منهج ابن رجب, فظهر لي أن منهجه يتلخص بما يلي:
1- يذكر ترجمة الباب.
2- ثم يعقّب عليها بتعليق ضافٍ يتناول ما في الترجمة من القضايا الفقهية, ويذكر آراء العلماء فيها. وكأنه بهذا التعليق يمهِّد للحديث بمدخل مناسب.
3- ويُلاحظ طول هذا المدخل.
4- يأتي بعد هذا المدخل ذكر الحديث بإسناده ومتنه, كما هو في البخاري.
5- يخرِّج حديث الباب تخريجاً واسعاً في الغالب يستقصي الحديث من جميع رواياته وطرقه.
6- وإلى جانب التخريج يتكلَّم عن القضايا الحديثية في الحديث وطرقه:
آ- كرفع توهُّم الانقطاع.
ب- وإثبات التصريح بالسَّماع إذا كان الراوي مدلّساً.
ج- كما يتكلّم في الرجال جرحاً وتعديلاً.
7- يتناول فقه الحديث ويفصِّل قضاياه, ويذكر أقوال العلماء وأدلَّتهم, ويناقش ويرجِّح كلّ ذلك باستيعابٍ وإطالة غير مخلّين. فيجد الباحث نفسه وهو يستعرض هذه المسائل مستغرقا مع كتاب موسوعيّ في الفقه المقارن, وفي النموذج الأول الذي ألحقناه بهذا المبحث مثالٌ على هذا المنهج, فقد تناول قضاء الصلاة الفائتة عمداً بما يزيد على ست لوحات مخطوطة.
8- ويمتاز منهجه هذا بالأدب الجمّ, والحرص على نسبة كلّ قول إلى قائلة, والإفاضة في ذكر أدلة كل قول, وهو وإن كان يركز على المذهب الحنبلي إلا أنه قد يعدل عن هذا المذهب إلى غيره تبعاً للدليل القويّ...(1/24)
9- وإذا كان الدَّليل حديثاً, فإنه يتناول طرقه بنفس الاستقصاء الذي أشرنا إليه سابقاً, ويُضاف إلى ذلك بحث مستفيض في التعديل والتجريح, والتصحيح والتضعيف, وذكر العلل, ويعتمد في ذلك على كتاب: علل الدارقطني إلى جانب مجموعة كبيرة من مصادر علوم الحديث الأصلية.
مقارنة بين كتاب ابن رجب وكتاب ابن حجر:
صنّف ابن رجب "فتح الباري بشرح البخاري" وصنّف ابن حجر كتاباً في نفس الموضوع والعنوان, ومما لا ريب فيه أن ابن رجب هو من طبقة شيوخ ابن حجر, ومن المؤكد أن كتابه متقدّم على كتاب ابن حجر.
وكنتُ أتوقع (1) أن يكون ابن حجر قد اعتمد على شرح ابن رجب وبحثتُ في كتابي ابن حجر "المعجم المفهرس", و "المجمع المؤسس", وهما كتابان ذكر في أحدهما شيوخه وفي الآخر الكتب التي وصلَت إليه, فلم أجد ذكراً لابن رجب, ولا لكتابه "فتح الباري".
ولجأتُ إلى كتاب ابن حجر "فتح الباري" أبحث فيه عن استمداد مصنفه من ابن رجب, فلم أجد ابن حجر يشير إلى شيء من ذلك, ولم أجد ذكراً لكتاب ابن رجب بالرغم من أن كثيراً من المسائل تعرّض لها ابن حجر بكلام قريب جداً من كلام ابن رجب(2) إلا أن حجر يوجز ويختصر بالنسبة لكتاب ابن رجب.
ومن الفروق الرئيسة فيهما بالإضافة إلى ما ذكرتُ من الاختصار والتطويل:
__________
(1) لازال الكلام للدكتور همام عبد الرحيم.
(2) يقول بعض الباحثين: " والظاهر أن ابن حجر لم يطلع على كل شرح ابن رجب ، وإلا فقد اطلع على بعضه ونقل منه في ثلاث مواضع , ومما يدل على أنه لم يقف عليه كاملا أنه قد فاته عدد من الأحاديث المعلقة لم يقف ابن حجر على مَن وصلها ، بينما وقف عليها ابن رجب ؛ فلو أن ابن حجر اطلع عليها لذكرها مع حرصه الشديد على ذلك ". وقال آخر: استفاد ابن حجر من هذا الشرح وصرح بذلك في موضعين فقط!: (1/176)، (11/340).(1/25)
1- أن ابن حجر يذكر الترجمة مع أحاديث الباب, ثم يبدأ بالشرح. بينما رأينا ابن رجب يذكر الترجمة, ثم يعقب عليها بكلام يطول أحياناً, ثم يأتي بحديث الباب.
2- التخريج عند ابن حجر مادّة فرعية يأتي بها عرضاً. وعند ابن رجب مادة أساسية يطيل فيها غالباً.
3- بينما يوجز ابن حجر في عرض الآراء الفقهية ويُبرز رأي الشافعية غالباً, فإننا نجد ابن رجب المقابل يفصِّل الآراء الفقهية, ويُبرز رأي الحنابلة غالباً.
4- يحمّل ابن حجر الأحكام المستمدة من الحديث في مكان واحد, وغالباً ما يكون آخر الحديث, بينما نجد ابن رجب ينثر هذه الأحكام في الباب كله ".
انتهى كلام الدكتور همام عبد الرحيم سعيد.
ميِّزات شرح ابن رجب على شرح ابن حجر:
1- ابن رجب معروف أنه على عقيدة السّلف وعلى طريقة أصحاب الحديث، بخلاف ابن حجر -عفا الله عنا وعنه- الذي أخطأ في بعض القضايا المتعلقة بالاعتقاد.
2- ابن رجب أكثر تحريراً للمسائل الفقهية من ابن حجر. حيث مذهب ابن حجر هو الإيجاز بينما منهج ابن رجب التفصيل في الأقوال. ويتميز ابن رجب بتحرير مذهب الحنابلة في المسائل الفقهية ويبين خطأ نسبة عدد من المسائل إلى الإمام أحمد.
3- تميز ابن رجب في بيان علل الأحاديث، حيث يهتمّ بها كثيراً، بخلاف ابن حجر الذي يعتبرها مادة فرعية. لذلك يكثر ابن رجب الكلام عن طرق الحديث وإثبات التصريح بالسَّماع إذا كان الراوي مدلساً, وأقوال العلماء في العلل.
4- مصادر ابن حجر في شرحه معروفة، وأكثر ما ينقل هو عن شرح ابن دقيق العيد, وقد أدّى هذا لتأثر بالغ بأقوال المتأخرين، وبخاصّة الذين تكلّموا في شرح الصحيحين من قبله مثل: ابن بطال, وابن المهلب, وابن التين، وكذلك: المارزي, والقاضي عياض, والنووي.
وأحياناً يذكر خلاف المتكلمين في قضية، يكون المتقدمون قد اتفقوا فيها. بينما ابن رجب تجد اهتمامه مركَّزاً على المتقدمين، حتى أنك تشعر غالباً أنك تقرأ لمحدّث فقيه من القرن الرّابع!(1/26)
5- يتميز ابن رجب بتحرير مذهب الحنابلة في المسائل الفقهية، ويبين خطأ نسبة عدد من المسائل إلى الإمام أحمد. كما يبين أحكامه على كثير من الأحاديث.
6- أغلب ما وصله ابن رجب ولم يقف عليه ابن حجر، هو في الآثار والموقوفات. والسبب يرجع إلى أن ابن رجب كان حنبلياً. فهو مهتمٌّ بكتب الحنابلة. وكتب الحنابلة ككتاب: "الشافي" وكتاب "النجاد" وكتب الأثرم, وغيرهم، تهتمّ بإيراد أسانيد الموقوفات أكثر من كتب فقهاء الشافعية, أو المالكية أو الأحناف.
7- لكلّ واحد منهما أسلوبه في الشرح الفقهي بحيث أنه كثيراً لا يغني الواحد عن الآخر.
8- احتوى شرح الحافظ ابن رجب على بعض الرّوايات للبخاري, والتي لم توجد عند غيره, كما نبّه على ذلك الشيخ عبد الكريم الخضير. والله أعلم.
احتوى شرح الحافظ ابن رجب -رحمه الله- على كثير من الفوائد في مختلف العلوم والفنون, والتي تُشدّ إليها الرّحال, منها على سبيل المثال:
- قوله مفسّراً معنى قول الإمام أحمد في بعض الأحاديث: (ليس له إسناد)
قال ابن رجب رحمه الله (3/60): وقد قال أحمد : ليس له إسناد - يعني أن في أسانيده ضعفا ". انتهى
- فائدة نحوية نفيسة:
قال ابن رجب - رحمه الله - : " و قوله في الرواية الأخرى التي خرجها البخاري في هذا الباب : " إن أتقاكم و أعلمكم بالله أنا " : فيه الإتيان بالضمير المنفصل مع تأتي الإتيان بالضمير المتصل ، و هو ممنوع عند أكثر النحاة ، ألا للضرورة ، كقول الشاعر :
ضمنت إياهم الأرض في دهر الدهارير
و أنما يجوز إختيارا إذا لم يتأتى الإتيان بالمتصل ، مثل أن تبد بالضمير قبل عامله ، نحو ففف إياك نعبد ققق ، فإنه لا يبتدأ بضمير متصل ، أو يقع بعد نحو : " إلا إياه " .
فأما قول الشاعر :
أن لا يجاورنا إلاك ديار
فشاذٌّ
و أما قوله :
و أنما يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي
فهو - عندهم - متأوَّل على أنّ فيه معنى الاستثناء ، كأنه قال : ما يدافع عن أحسابهم إلا أنا .(1/27)
و لكن هذا الذي وقع في هذا الحديث يشهد لجوازه من غير ضرورة ، و يكون حينئذ قوله : " إنما يدافع عن أحسابهم أنا " شاهد له ، غير محتاج إلى تأويل ، و الله أعلم ". فتح الباري : (1/84-85).
مراجع منهجه :"فتح الباري" لابن رجب, مع مقدّمة المحقّق طارق عوض الله, ومقدّمة "شرح علل الترمذي" للدكتور همام عبد الرحيم.
طبعات الكتاب:
- طبع بتحقيق جماعة من المحققين، نشر مكتبة الغرباء الأثرية، المدينة المنورة، الطبعة ... الأولى 1417هـ. في عشر مجلدات.
- ثمّ صُحِّحت وطبعت طبعة ثانية في دار الحرمين بنفس أرقام الصفحات في الطبعة الأولى مع ما أضافوه من زيادات وتصحيحات.
- وطبع في ثمان مجلّدات - الأخير فهارس - بتحقيق الشيخ طارق عوض الله, بدار ابن الجوزي.
--------------------------------------------------------------------------------
4- منهج الحافظ ابن حجر العسقلاني في كتابه "فتح الباري"
أولاً: ترجمة الحافظ ابن حجر العقسلاني. (1)
أحمد بن على بن محمد بن محمد بن على بن أحمد الشهاب ابو الفضل الكنانى العسقلانى القاهرى الشافعى المعروف بابن حجر وهو لقب لبعض آبائه الحافظ الكبير الشهير الامام المنفرد بمعرفة الحديث وعلله فى الأزمنة المتأخرة.
ولد فى ثانى عشر شعبان سنة 773 ثلاث وسبعين وسبعمائة بمصر.
ونشأ بها يتيما فى كنف أحد أوصيائه فحفظ القرآن وهو ابن تسع ثم حفظ العمدة والفية الحديث للعراقى والحاوى الصغير ومختصر ابن الحاجب في الأصول والملحة وبحث فى ذلك على الشيوخ.
__________
(1) نص الترجمة من البدر الطالع للشوكاني (1/118)(1/28)
وتفقه بالبلقينى والبرماوى وابن الملقن والعز بن جماعة وعليه أخذ غالب العلوم الآلية والأصولية كالمنهاج وجمع الجوامع وشرح المختصر والمطول ثم حبب الله اليه فن الحديث فأقبل عليه بكليته وطلبه من سنة 793 وما بعدها فعكف على الزين العراقى وحمل عنه جملة نافعة من علم الحديث سندا ومتنا وعللا واصطلاحا وارتحل إلى بلاد الشام والحجاز واليمن ومكة وما بين هذه النواحى وأكثر جدا من المسموع والشيوخ وسمع العالى والنازل واجتمع له من ذلك مالم يجتمع لغيره وأدرك من الشيوخ جماعة كل واحد رأس في فنه الذي اشتهر به فالتنوخى فى معرفة القرا آت والعراقى فى الحديث والبلقينى في سعة الحفظ وكثرة الاطلاع وابن الملقن في كثرة التصانيف والمجد صاحب القاموس فى حفظ اللغة والعز بن جماعة فى تفننه في علوم كثيرة بحيث كان يقول انا أقرا فى خمسة عشر علما لا يعرف علماء عصرى أسمائها ثم تصدى لنشر الحديث وقصر نفسه عليه مطالعة واقراء وتصنيفا وافتاء وتفرد بذلك وشهد له بالحفظ والاتقان القريب والبعيد والعدو والصديق حتى صار اطلاق لفظ الحافظ عليه كلمة اجماع ورحل الطلبة اليه من الأقطار.(1/29)
وطارت مؤلفاته في حياته وانتشرت فى البلاد وتكاتبت الملوك من قطر إلى قطر فى شأنها وهى كثيرة جدا منها ما كمل ومنها ما لم يكمل وقد عددها السخاوى فى الضوء اللامع وكذلك عدد مصنفاته فى الأربعينيات والمعاجم وتخريج الشيوخ والأطراف والطرق والشروح وعلوم الحديث وفنونه ورجاله فى أوراق من ترجمته ونقل عنه أنه قال لست راضيا عن شىء من تصانيفى لأنى عملتها فى إبتداء الأمر ثم لم يتهيأ لى من يحررها معى سوى شرح البخارى وقدمته والمشتبه والتهذيب ولسان الميزان وروى عنه فى موضع آخر أنه أثنى على شرح البخارى والتعليق والنخبة ولاريب أن أجل مصنفاته فتح البارى وكان شروعه فى تصنيفه سنة 817 على طريق الاملاء ثم صار يكتب من خطه يداوله بين الطلبة شيئا فشيئا والأجتماع فى يوم من الأسبوع للمقابلة والمباحثة إلى أن انتهى فى أول يوم من رجب سنة 842 سوى ما الحق فيه بعد ذلك وجاء بخطه فى ثلاثة عشرة سفرا وبيض فى عشرة وعشرين وثلاثين وأقل وأكثر وقد سبقه إلى هذه التسمية شيخه صاحب القاموس فأنه وجد له في أسماء مصنفاته أن من جملتها فتح البارى فى شرح صحيح البخارى وأنه كمل ربعه فى عشرين مجلدا وله مؤلفات فى الفقه وأصوله والعروض والآداب سردها السخاوى وقال بعد ذلك انها تهادت تصانيفه الملوك بسؤال علمائهم لهم فى ذلك حتى ورد كتاب فى سنة 833 من شاه رخ بن تيمور ملك الشرق يستدعى من السلطان الأشرف برسباى هدايا من جملتها فتح البارى فجهز له صاحب الترجمة ثلاث مجلدات من أوائله ثم أعاد الطلب فى سنة 839 ولم يتفق أن الكتاب قد كمل فأرسل اليه أيضا قطعة أخرى ثم فى زمن الطاهر جقمق جهزت له نسخة كاملة وكذا وقع لسلطان الغرب أبى فارس عبد العزيز الحفصى فأنه أرسل يستدعيه فجهز له ما كمل من الكتاب وكان يجهز لكتبة الشرح ولجماعة مجلس الاملاء ذهبا يفرق عليهم هذا ومصنفه حى رحمه الله ولما كمل شرح البخارى تصنيفا وقراءة عمل مصنفه رحمه الله وليمة عظيمة بالمكان(1/30)
الذي بناه المؤيد خارج القاهرة فى يوم السبت ثامن شعبان سنة 842 وقرأ المجلس الأخير هنالك وجلس المنصف على الكرسى قال تلميذه السخاوى وكان يوما مشهودا لم يعهد أهل العصر مثله بمحضر من العلماء والقضاة والرؤساء والفضلاء وقال الشعراء فى ذلك فأكثروا وفرق عليهم الذهب وكان المستغرق في الوليمة المذكورة نحو خمسمائة دينار ووقعت فى ذلك اليوم مطارحة أدبية فمنها أن المقام الناصرى قال للمصنف يامولانا شيخ الأسلام هذا يوم طيب فلعل أن تنعشونا فيه ببيت من مفرداتكم لعل أن نمشى خلفكم فيه فقال المترجم له أخشى ان إبتدأت أن لا يكون موافقا لما وقع في خاطرك والأحسن أن تبتدأ أنت فقال الناصرى:
( هويتها بيضاء رعبوبة *** قد شغفت قلبى خود رداح )
فقال صاحب الترجمة:
( سألتها الوصل فضنت به *** ان قليلا في الملاح السماح )
فقال علي الدوسانى:
( قد جرحت قلبى لما رنت *** عيونها السودا لمراض الصحاح )
فهمهم الشرف الطنونى ولم يمكنه أن يقول شيئا فقال صاحب الترجمة:
( ما للطنونى غدا حائرا *** )
فقال الناصرى لعلى المتقدم أجزه فقال وحياة أبيك السلارى والفرس فقال هما لك من غير مهملة وتراخ فقال:
( وخرب البيت وخلى وراح )
وكان للمترجم له يد طولى فى الشعر قد أورد منه جماعة من الأدباء المصنفين أشياء حسنة جدا كابن حجة فى شرح البديعية وغيره وهم معترفون بعلو درجته فى ذلك ومما أحفظه الان حال تحرير هذه الكلمات قوله
( بنده الأزرق لما *** شده من قد سبانى )
( جدول فوق كثيب *** دار يسقى غصن بان )
وهذا غاية فى الحسن لا يلحق وأورد له السخاوى فى الضوء اللامع قوله
( خليلى ولى العمر منا ولم نتب *** وننوى فعال الصالحات ولكنا )
( فحتى متى نبنى البيوت مشيدة *** وأعمارنا منا تهد وما تبنى)(1/31)
وقد كان رحمه الله مصمما على عدم الدخول في القضاء ثم قدر أن المؤيد ولاه الحكم فى بعض القضايا ثم عرض عليه الأستقلال به وألزم من أحبائه بقبوله فقبل واستقر فى المحرم سنة 827 بعد أن كان عرض عليه قبل ذلك وهو يأبى وتزايد ندمه على القبول لعدم فرق أرباب الدولة بين العلماء وغيرهم ومبالغتهم في اللوم لرد إشاداتهم وان لم تكن على وفق الحق واحتياجه لمداراة كبيرهم وصغيرهم بحيث لا يمكنه مع ذلك القيام بما يرومونه وصرح بأنه جنى على نفسه بذلك ولم يلبث أن صرف ثم أعيد ولا زال كذلك إلى أن أخلص في الاقلاع عنه عقب صرفه في جمادى الآخرة سنة 852 وجميع مدد قضائه إحدى وعشرون سنة وزهد فى القضاء زهدا كبيرا لكثرة ما توالى عليه من المحن والأنكاد بسببه وصرح بأنه لم يبق فى بدنه شعرة تقبل إسمه وقد درس بمواطن متعددة واشتهر ذكره وبعد صيته وارتحل اليه العلماء وتبجح الأعيان بلقائه وأخذ عنه وأخذ الناس عنه طبقة بعد طبقة وألحق الأصاغر بالأكابر وامتدحه الكبار وتبجح فحول الشعراء بمطارحته واستمر على طريقته حتى مات فى أواخر ذى الحجة سنة 852 اثنتين وخمسين وثمان مائة وكان له مشهد لم ير مثله من حضره من الشيوخ فضلا عمن دونهم وشهده أمير المؤمنين والسلطان فمن دونهما وقدم الخليفة للصلاة عليه ودفن تجاه تربة الديلمى بالقرافة وتزاحم الأمراء والكبراء على حمل نعشه.
ثانياً: منهج الحافظ ابن حجر في شرحه فتح الباري
اسم الكتاب: " فتح الباري شرح صحيح البخاري".
ممّا لا ريب فيه أنه ما في الكتب المصنفة المبوّبة كتاب أنفع من صحيح الإمام البخاري, ولم يحظ كتاب - بعد كتاب الله تعالى - بالعناية والاهتمام كما حظي به صحيح البخاري - رحمه الله - .
وقد تتابع العشرات من علماء الملّة يتفيؤون ظلال هذا الكتاب العظيم: شرحاً وتعليقاً واختصاراً, وعناية بالسند أو المتن, أو هما معاً.(1/32)
ورغم هذه الجهود المباركة والشروحات المتتابعة منذ أن ظهر "أعلام الحديث" للإمام الخطابي, وتتابع الشرّاح بعده, لم يُر أفضل ولا أحسن من شرح الإمام الحافظ أمير المؤمنين في الحديث أحمد بن علي بن حجر العسقلاني - رحمه الله - بما حباه الله من سعة لعلم وقوة الحفظ والفهم, وبراعة الاستنباط والاستدلال, فصار شرحه صيداً ثميناً, ومنهلاً عذباً نميراً, يرده أهل العلم وطلابه يغترفون منه ويعبّون.
أمضى - رحمه الله - في شرحه له ما يقرب من ثلاثين عاماً يطرّزه بالفوائد والنكت البديعة. فللَّه درّه, وكم وفّق -رحمه الله- في تسميته, كما وفّق في شرحه؛ حيث سمّاه: " فتح الباري بشرح صحيح البخاري ".
والذي يدلّك على مكانة هذا الشرح وعظيم أمره أنّ الإمام الشوكاني لما طلب منه أن يشرح البخاري قال: " لا هجرة بعد الفتح ".
وقد ذكر العلامة الشيخ عبدالمحسن العباد إن مكانة فتح الباري إلى غيره من الشروح كمكانة البخاري إلى غيره من المصنفات .
ولقد بدأ الحافظ ابن حجر - رحمه الله- بكتابة المقدّمة " هدي الساري " عام 813هـ, ثم شرع في شرح الصحيح أوائل سنة 817هـ, وفرغ منه أول يوم من رجب عام 842هـ.
وأقام الحافظ وليمة بهذه المناسبة حضرها الأعيان والوجهاء من العلماء, وتسابق شعراء العصر في مدح الشرح ومؤلفه بما تراه مذكوراً في آخر المجلّد الثالث عشر.
وقد استفاد الحافظ ممّن شرح الصحيح قبله, ونقل عنهم وتعقّبهم في مواضع, ومدح بعضهم, ونقد البعض..
فمن ذلك قوله عن ابن بطال: ".. وهو ينادي عليه بقلّة الاطلاع والاستحضار لأحاديث الكتاب الذي شرحه".
وقوله عن الداودي: " له عجائب في شرحه ".
وعن الكرماني: " وإذا تكلم المرء في غير فنّه أتى بهذه العجائب ".
أما ابن أبي جمرة, فكان كثيراً ما يقول عقب ذكره: " نفع الله ببركته ". و " نفع الله به ".(1/33)
أما عن منهجه - رحمه الله - في شرحه, فقد ذكر ذلك في مقدّمته التي سمّاها: " هدي السَّاري ", ولتوضيح منهج الحافظ - رحمه الله - رأيت أن أذكر مقدمته هذه, وأجعلها باللون الأزرق العريض تمييزاً لها, وأعقّب كلّ فقرة من فقراتها بمثال أو أكثر موضّحاً ومبيِّناً طريقته - رحمه الله -, ثم أذكر فوائد زوائد تتعلّق بموضوعنا, والله أسأل التوفيق والسّداد, ومنه أستمدّ العون والمدد.
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني - رحمه الله -:
" الحمد لله الذي شرح صدور أهل الإسلام للسنة فانقادت لاتباعها وارتاحت لسماعها, وأماتَ نفوس أهل الطغيان بالبدعة بعد أن تمادت في نزاعها وتغالت في ابتداعها. وأشهد أن لا آله إلا الله وحده لا شريك له العالم بانقياد الأفئدة وامتناعها. المطَّلع على ضمائر القلوب في حالتي افتراقها واجتماعها.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي انخفضت بحقِّه كلمة الباطل بعد ارتفاعها, واتصلت بإرساله أنوار الهدى وظهرت حجتها بعد انقطاعها صلى الله عليه وسلم ما دامت السماء والأرض؛ هذه في سموِّها وهذه في اتساعها, وعلى آله وصحبه الذين كسروا جيوش المردة, وفتحوا حصون قلاعها, وهجروا في محبة داعيهم إلى الله الأوطار والأوطان ولم يعاودوها بعد وداعها, وحفظوا على أتباعهم أقواله وأفعاله وأحواله حتى أمنت بهم السنن الشريفة من ضياعها.
أما بعد:
فإن أولى ما صرفت فيه نفائس الأيام وأعلى ما خُصَّ بمزيد الاهتمام؛ الاشتغال بالعلوم الشرعية المتلقّاة عن خير البرية, ولا يرتاب عاقل في أنّ مدارها على كتاب الله المقتفى, وسنة نبيه المصطفى, وأن باقي العلوم إمَّا آلاتٌ لفهمهما - وهي الضالّة المطلوبة - أو أجنبيَّة عنهما - وهي الضارَّة المغلوبة -.(1/34)
وقد رأيتُ الإمام أبا عبد الله البخاري في جامعه الصّحيح قد تصدّى للاقتباس من أنوارهما البهيّة تقريراً واستنباطاً, وكرَعَ من مناهلهما الرّويَّة انتزاعاً وانتشاطاً, ورُزق بحسن نيّته السعادة فيما جمع حتى أذعن له المخالف والموافق, وتلقى كلامه في التصحيح بالتسليم المطاوع والمفارق.
1- وقد استخرتُ الله تعالى في أن أضمَّ إليه نبذاً شارحةً لفوائده موضّحةً لمقاصده كاشفةً عن مغزاهُ في تقييدِ أوابدهِ واقتناص شواردهِ.
2- وأقدِّم بين يدي ذلك كلّه مقدمة في تبيين قواعده وتزيين فرائده, جامعةً وجيزةً دون الإسهاب وفوقَ القصورِ سهلةَ المأخذِ تفتح المستغلقَ وتذلِّل الصِّعاب, وتشرح الصدور.
3- وينحصر القول فيها إن شاء الله تعالى في عشرة فصول:
الأول: في بيان السبب الباعث له على تصنيف هذا الكتاب.
الثاني: في بيان موضوعه والكشف عن مغزاه فيه, والكلام على تحقيق شروطه وتقرير كونه من أصحّ الكتب المصنفة في الحديث النبوي.
- ويلتحق به الكلام على تراجمه البديعة المنال المنيعة المثال التي انفردَ بتدقيقه فيها عن نظرائه واشتهر بتحقيقه لها عن قرنائه.
قال الحافظ ابن حجر عن تراجم الإمام البخاري: " وهذا الموضع هو معظم ما يُشكل من تراجم هذا الكتاب, ولهذا اشتهر من قول جمعٍ من الفضلاء: فقه البخاري في تراجمه ". وأكثر ما يفعل البخاري ذلك إذا لم يجد حديثاً على شرطه في الباب ظاهر المعنى في المقصد الذي ترجم به ويستنبط الفقه منه وقد يفعل ذلك لغرض شحذ الأذهان في إظهار مضمره واستخراج خبيئه... وكثيراً ما يُترجم بأمر ظاهره قليل الجدوى, لكنه إذا حقَّقه المتأمّل أجدى, كقوله: باب قول الرجل ما صلَّينا. فإنه أشار به إلى الردّ على مَن كره ذلك. ومنه قوله: باب قول الرجل فاتتنا الصّلاة. وأشار بذلك إلى الردّ على مَن كره إطلاق هذا اللفظ.. ".
الثالث: في بيان الحكمة في تقطيعه للحديث واختصاره وفائدة إعادته للحديث وتكراره.(1/35)
قال الحافظ ابن حجر مبيّناً ذلك: ".. وإذا تقرَّر ذلك اتضح أنه لا يُعيد إلا لفائدةٍ, حتى لو لم تظهر لإعادته فائدةٌ من جهة الإسناد ولا من جهة المتن, لكان ذلك لإعادته لأجل مغايرة الحكم التي تشتمل عليه الترجمة الثانية موجباً لئلَّا يُعدَّ مكرّراً بلا فائدة, كيف وهو لا يخليه مع ذلك من فائدة إسناديّة, وهي إخراجه للإسناد عن شيخ غير الشيخ الماضي, أو غير ذلك على ما سبق تفصيله وهذا بيِّن لمن استقرأ كتابه وأنصف من نفسه, والله الموفق ".
الرابع: في بيان السبب في إيراده الأحاديث المعلَّقة والآثار الموقوفة, مع أنها تباين أصل موضوع الكتاب وألحقت فيه سياق الأحاديث المرفوعة المعلقة.
قال الحافظ ابن حجر مبيّناً ذلك: ".. وإنما يورد ما يورد من الموقوفات من فتاوى الصحابة والتابعين, ومن تفاسيرهم لكثير من الآيات على طريق الاستئناس والتقوية لما يختارُه من المذاهب في المسائل التي فيها الخلاف بين الأئمَّة, فحينئذٍ ينبغي أن يُقال: جميع ما يورد فيه إمّا أن يكون ممّا ترجم به أو مما ترجم له.. ".
- والإشارة لمن وصلها على سبيل الاختصار.
كقوله: " قوله : ( وقال ابن عباس : كصيّب المطر )
وصله الطبري: من طريق علي بن أبي طلحة, عنه بذلك ".
الخامس: في ضبط الغريبِ الواقع في متونه مرتباً له على حروف المعجم, بألخص عبارة وأخلص إشارة, لتسهل مراجعته ويخفّ تكراره.
كقوله: " قوله: (آ آ آ) كذا وقع مهموزاً ممدوداً في حديث عبد الله بن مغفّل, وهو حكاية ترجيعه صلى الله عليه وسلم لما قرأ سورة الفتح ".
وقوله: " قوله: (مثعب) أي مسيل, ومنه يثعب دماً ".
السادس: في ضبط الأسماء المشكلة التي فيه, وكذا الكنى, والأنساب, وهي على قسمين:
الأول: المؤتلفة والمختلفة الواقعة فيه؛ حيث تدخلُ تحت ضابط كلِّي لتسهل مراجعتها ويخفّ تكرارها, وما عدا ذلك فيُذكَر في الأصل.(1/36)
كقوله: " (أسلَم) : بفتح اللام كثير, وبضمّها. في نسب قضاعة, وهو أسلم بن الحارث بن الحاف بن قضاعة لكن لم يقع له ذكر في نسب أحد من الرواة ممّن ينسب إليه ".
والثاني: المفردات من ذلك.
كقوله: " (أثاثة): بضمّ الهمزة وبين الثاءين المثلثين ألف. هو: مسطح بن أثاثة بن عباد بن عبد المطلب المذكور في حديث الإفك ".
السابع: في تعريف شيوخه الذين أهمَل نسبهم إذا كانت يكثر اشتراكها كـ: "محمّد" لا مَن يقلّ اشتراكه كـ: "مسدَّد", وفيه الكلام على جميع ما فيه من مُهمَل ومبهَم على سياق الكتاب مختصراً.
الثامن: في سياق الأحاديث التي انتقدها عليه حافظ عصره أبو الحسن الدارقطني وغيره من النقاد, والجواب عنها حديثاً حديثاً, وإيضاح أنه ليس فيها ما يخلّ بشرطه الذي حققناه.
كقوله: " قال الدارقطني: وأخرجا جميعاً - يعني البخاري ومسلماً - حديث الأعمش, عن مجاهد, عن طاوس, عن ابن عباس - يعني في قصة القبرين - وأنّ أحدهما كان لا يستبرئ من بوله.
قال: وقد خالفه منصور فقال: عن مجاهد, عن ابن عباس. وأخرج البخاري حديث منصور على إسقاطه طاوساً انتهى.
وهذا الحديث أخرجه البخاري في الطهارة عن عثمان بن أبي شيبة, عن جرير. وفي الأدب عن محمد بن سلام, عن عبيدة بن حميد, كلاهما عن منصور به. ورواه من طريق أخرى من حديث الأعمش. وأخرجه باقي الأئمة الستَّة من حديث الأعمش أيضاً. وأخرجه أبو داود أيضاً والنسائي وابن خزيمة في صحيحه من حديث منصور أيضاً. وقال الترمذي بعد أن أخرجه: رواه منصور عن مجاهد عن ابن عباس. وحديث الأعمش أصحّ يعني المتضمِّن للزيادة.(1/37)
قلت: وهذا في التحقيق ليس بعلَّة لأنّ مجاهداً لم يوصَف بالتدليس, وسماعه من ابن عباس صحيح في جملة من الأحاديث, ومنصور عندَهم أتقن من الأعمش, مع أن الأعمش أيضاً من الحفاظ, فالحديث كيفما دار دار على ثقةٍ, والإسناد كيفما دار كان متصلاً, فمثل هذا لا يقدَح في صحَّة الحديث إذا لم يكن راويه مدلساً, وقد أكثر الشيخان من تخريج مثل هذا, ولم يستوعب الدارقطني انتقادَه والله الموفق.
التاسع: في سياق أسماء جميع مَن طُعن فيه من رجاله على ترتيب الحروف, والجواب عن ذلك الطعن بطريق الإنصاف والعدل, والاعتذار عن المصنف في التخريج لبعضهم ممّن يقوى جانب القدح فيه, إمّا لكونه تجنَّب ما طعن فيه بسببه. وإمَّا لكونه أخرج ما وافقه عليه مَن هو أقوى منه. وإمّا لغير ذلك من الأسباب.
أقول: وذكر فيه فصلاً في سياق من علّق البخاري شيئاً من أحاديثهم, ممن تكلم فيه, وإيراد أسمائهم مع الإشارة إلى أحوالهم.
ثم ذكر فصلاً في تمييز أسباب الطعن في المذكورين, وهو على قسمين:
القسم الأول: من ضعِّفَ بسبب الاعتقاد... وسياق أسمائهم على حروف المعجم.
القسم الثاني: فيمن ضعِّف بأمر مردود: كالتحامل, أو التعنّت, أو عدم الاعتماد على المضعِّف..
العاشر: في سياق فهرسة كتابه المذكور باباً باباً, وعدَّة ما في كلّ باب مِنَ الحديث, ومنه تظهر عدة أحاديثه بالمكرَّر؛ أوردته تبعاً لشيخ الإسلام أبي زكريّا النوويّ - رضي الله عنه - تبرّكاً به.
- ثمّ أضفتُ إليه مناسبة ذلك مما استفدتهُ من شيخ الإسلام أبي حفص البُلقيني - رضي الله عنه - .
- ثمّ أردفته بسياق أسماء الصّحابة الذين اشتمَلَ عليهِم كتابه مرتباً لهم على الحروف, وعدّ ما لكلّ واحدٍ منهم عندَه من الحديث؛ ومنه يظهر تحرير ما اشتمل عليه كتابه مِن غير تكرير.
- ثمّ ختمتُ هذه المقدمة بترجمة كاشفةٍ عن خصائصه ومناقبه, جامعةً لمآثره ومناقبه, ليكون ذكره واسطة عِقد نظامِها وسرّة مسكِ ختامِها.(1/38)
فإذا تحرّرت هذه الفصول وتقرّرت هذه الأصول:
- افتتحتُ شرح الكتاب مستعيناً بالفتّاح الوهّاب, فأسوق - إن شاء الله - الباب وحديثه أولاً.
وهنا فائدة وسؤال: هل اشترط ابن حجر إيراد الحديث في شرحه ؟
أقول: ذكر في المقدمة أنه عزم على ذلك ، لكنه رأى أن ذلك مما يطول به الكتاب؛ لكن المحقق محمد فؤاد عبد الباقي أدخل متناً ملفَّقاً من روايات متعددة لا توافق الرواية التي اختارها ابن حجر، وهذا تصرّف لا ينبغي.
ولذا تجد الحافظ ابن حجر يقول قوله (كذا), ولا تجد القول في المتن !
وقد غفل عامّة مَن جمع متن "البخاري", مع "فتح الباري" عن شرط الحافظ ابن حجر - رحمه الله - فقد جاءت جميع المتون التي خُطّت أو طبعت مع "فتح الباري" ملفَّقة للرُّواة الآخرين.
ولذلك تجد كثيراً ما يشرح الحافظ ابن حجر كلماتٍ لا وجودَ لها في المتن ، أو نجد كلماتٍ في المتن لا وجود لها في "فتح الباري".
- ثمّ أذكرُ وجهَ المناسبة بينهما إن كانت خفيةً.
كقوله: " قوله : ( باب ما يقال إذا مطَّرت: وقال ابن عباس: كصيِّب المطر. قال الحافظ: " قال ابن المنير : مناسبة أثر ابن عباس لحديث عائشة لما وقع في حديث الباب المرفوع قوله " صيباً " قدَّم المصنِّف تفسيره في الترجمة، وهذا يقع له كثيراً ، وقال أخوه الزَّين: وجه المناسبة أنّ الصيّب لما جرى ذكرُه في القرآن قُرن بأحوال مكروهة ، ولما ذكر في الحديث وصفَ بالنَّفع, فأراد أن يبيِّن بقول ابن عباس أنه المطر, وأنه ينقسم إلى نافع وضار ".
- ثمّ أستخرج ثانياً ما يتعلّق به غرضٌ صحيحٌ في ذلك الحديث من الفوائد المتنيّة والإسناديّة:(1/39)
من هذه الفوائد: ما قاله بعض الحفاظ: إنّ ما يقول فيه البخاري: " قال لي ", فهي إجازة. فالجواب على هذا قد ذكره الحافظ ابن حجر - رحمه الله - حيث قال: " وقد ادعى ابن مندة أن كل ما يقول البخاري فيه " قال لي " فهي إجازة، وهي دعوى مردودة بدليل أني استقريت كثيراً من المواقع التي يقول فيها في " الجامع " " قال لي " فوجدته في غير الجامع يقول فيها : " حدثنا " والبخاري لا يستجيز في الإجازة إطلاق التحديث، فدل على أنها عنده من المسموع، لكن سبب استعماله لهذه الصيغة ليفرق بين ما بلغ شرطه وما لا يبلغ، والله أعلم ".
- من تتمّاتٍ وزياداتٍ وكشفِ غامضٍ.
كقوله: " زاد الأصيلي: يعني ابن زيد بن عبد الله بن عمر, فهو من رواية الأبناء عن الآباء ".
وقوله: " وهذا الحديث غريب الإسناد, تفرّد بروايته شعبة عن واقد قاله ابن حبان ، وهو عن شعبة عزيز, تفرّد بروايته عنه حرمي هذا وعبد الملك بن الصباح ، وهو عزيز عن حرمي, تفرّد به عنه المسندي وإبراهيم بن محمد بن عرعرة ، ومن جهة إبراهيم أخرجه أبو عوانة وابن حبان والإسماعيلي وغيرهم. وهو غريب عن عبد الملك, تفرَّد به عنه أبو غسان مالك بن عبد الواحد شيخ مسلم ، فاتفق الشيخان على الحكم بصحته مع غرابته ".
- وتصريحِ مدلسٍ بسماعٍ.
كقوله: " قوله : ( حدثنا عمر بن عليّ )
هو المقدَّمي، وهو بصري ثقة ؛ لكنه مدلس شديد التدليس ، وصفه بذلك ابن سعد وغيره. وهذا الحديث من أفراد البخاري عن مسلم ، وصحَّحه - وإن كان من رواية مدلس بالعنعنة - لتصريحه فيه بالسماع من طريق أخرى ، فقد رواه ابن حبان في صحيحه من طريق أحمد بن المقدام - أحد شيوخ البخاري - عن عمر بن علي المذكور قال: " سمعتُ معن بن محمد " فذكره..".
- ومتابعةِ سامعٍ من شيخٍ اختلطَ قبل ذلكَ.(1/40)
كقوله: " والجريري سعيد بن إياس وهو بضم الجيم, كما تقدّم في المقدمة ، ووقع مسمى في رواية وهب بن بقية عن خالد عند الإسماعيلي وهي إحدى فوائد المستخرجات ، وهو معدود فيمن اختلط ، واتفقوا على أن سماع المتأخرين منه كان بعد اختلاطه وخالد منهم ، لكن أخرجه الإسماعيلي من رواية يزيد بن زريع وعبد الأعلى وابن علية, وهم ممّن سمع منه قبل اختلاطه ، وهي إحدى فوائد المستخرجات أيضاً ، وهو عند مسلم من طريق عبد الأعلى أيضاً ، وقد قال العجلي: إنه من أصحِّهم سماعاً من الجريري ، فإنه سمع منه قبل اختلاطه بثمان سنين ، ولم ينفرِد به مع ذلك الجريري بل تابعه عليه كهمس بن الحسن عن ابن بريدة ".
- منتزعاً كلَّ ذلك من أمّهات المسانيد والجوامع والمستخرجات والأجزاء والفوائد - بشرط الصِّحة أو الحُسن فيما أُوردُه من ذلك.
وقد قال غير واحد من أهل العلم: لم يوفِّ الحافظ ابن حجر بهذا الشّرط, فكثير من الأحاديث التي سكت عنها, ليست من الصحيح ولا الحسن. واعتذروا له بأنّ الشرح طويل يتعذّر معه الوفاء بهذا الشرط, والله أعلم.
- وثالثاً: أَصِلُ ما انقطعَ من معلقاته وموقوفاته, وهناك تلتئم زوائد الفوائد وتنتظم شوارد الفرائد.
كقوله: " والتعليق المذكور وصله أحمد بن حنبل, وأبو بكر بن أبي شيبة في كتاب "الإيمان" لهما من طريق عيسى بن عاصم قال: حدثني عدي بن عدي قال: كتب إليَّ عمر بن عبد العزيز: " أما بعد فإن للإيمان فرائض وشرائع " . . . إلخ .
وقوله: " والتعليق عن أبي معاوية وصله إسحاق بن راهويه في "مسنده" عنه ، وأخرجه ابن حبان في "صحيحه" من طريقه, ولفظه: " سمعت عبد الله بن عمرو يقول.. ".
- ورابعاً: أضبطُ ما يُشكل من جميعِ ما تقدّم أسماءً وأوصافاً.(1/41)
كقوله: " قَوْله : ( كَانَ أَزْلَفَهَا ) كَذَا لِأَبِي ذَرّ ، وَلِغَيْرِهِ (زَلَفهَا) ، وَهِيَ بِتَخْفِيفِ اللَّام, كَمَا ضَبَطَهُ صَاحِب الْمَشَارِق، وَقَالَ النَّوَوِيّ: بِالتَّشْدِيدِ ".
وقوله: " وَ (الصُّلْصُل) بِمُهْمَلَتَيْنِ مَضْمُومَتَيْنِ وَلَامَيْنِ الْأُولَى سَاكِنَة بَيْن الصَّادَيْنِ ، قَالَ الْبَكْرِيُّ : هُوَ جَبَل عِنْد ذِي الْحُلَيْفَة ، كَذَا ذَكَره فِي حَرْف الصَّاد الْمُهْمَلَة ، وَوَهِمَ مُغَلْطَايْ فِي فَهْمِ كَلَامه فَزَعَمَ أَنَّهُ ضَبَطَهُ بِالضَّادِ الْمُعْجَمَة ، وَقَلَّدَهُ فِي ذَلِكَ بَعْض الشُّرَّاح وَتَصَرَّفَ فِيهِ فَزَادَهُ وَهْمًا عَلَى وَهْمٍ ، وَعُرِفَ مِنْ تَضَافُر هَذِهِ الرِّوَايَات تَصْوِيب مَا قَالَهُ اِبْن التِّين ".
- مع إيضاح معاني الألفاظ اللغويّة والتنبيهِ على النّكت البيانيّة, ونحو ذلك.
كقوله: " قَوْله : ( يُفَقِّههُ ) أَيْ : يُفَهِّمهُ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَهِيَ سَاكِنَة الْهَاء
لِأَنَّهَا جَوَاب الشَّرْط ، يُقَال: فَقُهَ بِالضَّمِّ إِذَا صَارَ الْفِقْه لَهُ سَجِيَّة ،
وَفَقَهَ بِالْفَتْحِ: إِذَا سَبَقَ غَيْره إِلَى الْفَهْم ، وَفَقِهَ بِالْكَسْرِ: إِذَا فَهِمَ ".
- وخامساً: أُوردُ ما استفدتهُ من كلام الأئمّة مما استنبطوه من ذلك الخبر منَ الأحكام الفقهيّة, والمواعظ الزهديّة, والآداب المرعيّة. مقتصراً على الرّاجح من ذلك متحريّاً لِلواضح دون المستغلِق في تلك المسالِك.(1/42)
كقوله: " وأما قول النووي : أقوى المذاهب فيها قول مالك, ثم أحمد ، فقد قال غيره: بل طريق أحمد أقوى, لأنه قال: يستعمل كل حديث فيما ورد فيه ، وما لم يرد فيه شيء يسجد قبل السلام ، قال: ولولا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك لرأيته كله قبل السلام ، لأنه من شأن الصلاة فيفعله قبل السلام. وقال إسحاق مثله ، إلا أنه قال: ما لم يرد فيه شيء يفرق فيه بين الزيادة والنقصان، فحرّر مذهبه من قولي أحمد ومالك ، وهو أعدل المذاهب فيما يظهر . وأما داود فجرى على ظاهريته فقال: لا يشرع سجود السهو إلا في المواضع التي سجد النبي صلى الله عليه وسلم فيها فقط. وعند الشافعي سجود السهو كله قبل السلام. وعند الحنفية: كلّه بعد السلام ".
- مع الاعتناءِ بالجمع بين ما ظاهرهُ التعارضُ مع غيره.
كقوله في الجمع بين قراءتي النصب, والجرّ في قوله تعالى (وأرجلَِكم), قال: ".. وقيل المسح في الآية محمول لمشروعية المسح على الخفين فحملوا قراءة الجر على مسح الخفين وقراءة النصب على غسل الرجلين ، وقرر ذلك أبو بكر بن العربي تقريرا حسنا فقال ما ملخصه: بين القراءتين تعارض ظاهر ، والحكم فيما ظاهره التعارض أنه إن أمكن العمل بهما وجب ، وإلا عمل بالقدر الممكن ، ولا يتأتى الجمع بين الغسل والمسح في عضو واحد في حالة واحدة لأنه يؤدي إلى تكرار المسح لأن الغسل يتضمن المسح ، والأمر المطلق لا يقتضي التكرار فبقي أن يعمل بهما في حالين توفيقا بين القراءتين وعملا بالقدر الممكن . وقيل: إنما عطفت على الرءوس الممسوحة لأنها مظنة لكثرة صب الماء عليها فلمنع الإسراف عطفت ، وليس المراد أنها تمسح حقيقة . ويدل على هذا المراد قوله: ( إلى الكعبين ) لأن المسح رخصة فلا يقيد بالغاية ؛ ولأن المسح يطلق على الغسل الخفيف ، يقال: مسح أطرافه . لمن توضأ ، ذكره أبو زيد اللغوي وابن قتيبة وغيرهما ".
- والتنصيص على المنسوخ بناسخهِ.(1/43)
كقوله: ".. إلا أنّ الخبر منسوخ ، لأن الله تعالى عند ابتداء فرض الصيام كان منَعَ في ليل الصوم من الأكل والشرب والجماع بعد النوم. قال: فيحتمل أن يكون خبر الفضل كان حينئذ ثم أباح الله ذلك كله إلى طلوع الفجر, فكان للمجامع أن يستمر إلى طلوعه فيلزم أن يقع اغتساله بعد طلوع الفجر، فدل على أن حديث عائشة ناسخ لحديث الفضل, ولم يبلغ الفضل ولا أبا هريرة الناسخ, فاستمرّ أبو هريرة على الفتيا به ، ثم رجع عنه بعد ذلك لما بلغه ".
- والعامِّ بمخصِّصهِ.
كقوله: " .. ولهذا نصر قول التفريق بالقلّتين,.. إلا أن مقدار القلتين لم يُتفق عليه, وخُصص به حديث ابن عباس مرفوعا " الماء لا ينجِّسه شيء " وهو حديث صحيح ".
- والمطلق بمقيِّدِه.
كقوله عند حديث: " من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة ", قال: ".. والظاهر أن هذا أعمّ من حديث الباب الماضي قبل عشرة أبواب، ويحتمل أن تكون اللام عهدية فيتَّحدا، ويؤيِّده أن كلاً منهما من رواية أبي سلمة عن أبي هريرة، وهذا مطلق وذاك مقيد فيُحمل المطلق على المقيد ".
- والمجمَل بمبيِّنِهِ.
- والظاهر بمؤوّله.
- والإشارة إلى نُكتٍ من القواعد الأصوليّة.
كقوله: " وفي المتن من الفوائد: الحمل على العموم حتى يرد دليل الخصوص، وأن النكرة في سياق النفي تعمّ، وأن الخاصّ يقضي على العامّ والمبيَّن عن المجمل، وأن اللفظ يحمل على خلاف ظاهره لمصلحة دفع التعارض ".
وقوله: " ويؤخذ منه أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد ناسخ ".
وقوله: " وهذا ينبني على أن المتكلِّم داخلٌ في عموم خطابه, وهو الصحيح ".
وقوله: " قال المحقِّقون: إن دخل على النكرة في سياق النفي ما يؤكد العموم ويقويه نحو: " مِن " في قوله : ما جاءني من رجل ، أفاد تنصيص العموم ".
- ونُبَذٍ من فوائد العربيَّة.
كقوله: " الزَّعْمُ, يُطلق على القول المحقَّق, وعلى القول المشكوك فيه, وعلى الكذب؛ وينزَّل في كلّ موضع على ما يليق به ".(1/44)
- ونُخَبٍ من الخلافيّات المذهبيّة, بحسبِ ما اتصل بيْ من كلام الأئمّة, واتَّسع له فهمي من المقاصد المهمَّة.
كقوله: " وقد اختلفوا في عظم الفيل بناءً على أنّ العظم هل تحلُّه الحياة أم لا؟ فذهب إلى الأول الشافعي واستدلّ له بقوله تعالى ( قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة ) فهذا ظاهر في أنّ العظم تحلُّه الحياة. وذهب إلى الثاني أبو حنيفة وقال بطهارة العظام مطلقاً وقال مالك: هو طاهرٌ إن ذكِّي بناء على قوله: إنَّ غير المأكول يطهر بالتذكية, وهو قول أبي حنيفة ".
كقوله في مسألة صلاة فاقد الطهورين إذا صلّى: " لكن اختلفوا في وجوب الإعادة ، فالمنصوص عن الشافعي وجوبها ، وصححه أكثر أصحابه ، واحتجوا بأنه عذرٌ نادر فلم يسقط الإعادة ، والمشهور عن أحمد, وبه قال المزني وسحنون وابن المنذر لا تجبُ ، واحتجوا بحديث الباب ؛ لأنها لو كانت واجبة لبيَّنها لهم النبي صلى الله عليه وسلم إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة. وتُعقِّب بأن الإعادة لا تجب على الفور فلم يتأخر البيان عن وقت الحاجة. وعلى هذا فلا بد من دليل على وجوب الإعادة. وقال مالك وأبو حنيفة في المشهور عنهما: لا يصلِّي ، لكن قال أبو حنيفة وأصحابه: يجب عليه القضاء ، وبه قال الثوري والأوزاعي. وقال مالك فيما حكاه عنه المدنيُّون: لا يجب عليه القضاء. وهذه الأقوال الأربعة هي المشهورة في المسألة. وحكى النوويّ في شرح المهذب عن القديم: تستحبُّ الصلاة, وتجب الإعادة. وبهذا تصير الأقوال خمسة . والله أعلم ".
- وأُراعيْ هذا الأسلوب - إن شاء الله تعالى - في كلِّ بابٍ.
- فإن تكرَّر المتن في بابٍ بعينِهِ غير بابٍ تقدَّمَ نبهتُ على حِكمَة التكرّار من غيرِ إعادةٍ له - إلا أنْ يتغايَرَ لفظهُ أو معناهُ فأنبِّهُ على الموضع المغايرِ خاصّةً.
- فإن تكرّر في باب آخرَ اقتصرتُ فيما بعدَ الأوّلِ على المناسبةِ, شارحاً لما لم(1/45)
يتقدّم له ذكرٌ, منبِّهاً على الموضع الذي تقدَّم بسطُ القولِ فيهِ.
كقوله: " قوله: باب من هاجر أو عمل خيرا لتزويج امرأة فله ما نوى"
ذكرَ فيه حديث عمر بلفظ: " العمل بالنية ، وإنما لامرئ ما نوى" وقد تقدَّم شرحه مستوفى في أول الكتاب ".
- فإن كانت الدّلالة لا تظهرُ في الباب المقدّم إلا على بُعدٍ؛ غيَّرتُ هذا الاصطلاح بالاقتصار في الأوّل على المناسبةِ, وفي الثاني على سياق الأساليبِ المتعاقبةِ, مُراعياً في جميعِهَا مصلحةَ الاختصارِ دونَ الهذْرِ والإكثارِ.
واللهَ أسألُ أن يمنَّ عليَّ بالعون على إكمالهِ بكرمِهِ ومنِّهِ, وأن يهديَني لما اختُلفَ فيه من الحقّ بإذنهِ, وأن يُجزلَ ليَ على الاشتغال بآثارِ نبيِّه الثوابَ في الدار الأُخرى, وأن يُسبغَ عليَّ وعلى مَن طالَعَه أو قرأَهُ أو كتبَهُ النِّعم الوافرةَ تترى, إنّه سميعٌ مجيبٌ ".انتهى كلام الحافظ في مقدّمته.
كما يمكننا أن نلحظ من منهجه التالي:
1- أنه مشى في شرحه على ترتيب المؤلّف.
2- غالباً ما يبدأ شرح الحديث بذكر اختلاف روايات البخاري, وكذلك يفعل في الأبواب.
3- يجمع الحافظ طرق الحديث في أول موضع يرد فيه, أو في الموضع اللائق به, ثم يشرحه باختلاف ألفاظه.
4- يشرح الكلمات ويضبطها بالشكل. ويأتي بفوائد لغوية.
5 - وقد يبدأ بذكر المناسبة بين الأبواب والكتب, تقديماً وتأخيراً.
6- فإن بدأ بشرح كتاب من الكتب, فغالباً ما يبدأ بضبط عنوان الكتاب: كـ: الجمعة, الصيام, السّلَم.., ومعناه. فإذا كانت فائدة تتعلّق به ذكرها. كقوله عند كتاب الجمعة: " واختلف في تسمية اليوم بذلك..".
7 - وأما ما يتعلّق بالأسانيد, والتراجم: فإنه يبيّن أسماء الرّواة, وكناهُم, وقد يأتي بفوائد زوائد تتعلّق بهم.(1/46)
8 - كما تجدر الإشارة إلى أنه وقع من الحافظ ابن حجر -رحمه الله- هفوات في بعض مسائل من العقيدة, أهمّها ما يتعلّق بجانب تأويل الصفات. وفي ذلك يقول الشيخ أبو عبد الله ربيع بن محمد السعودي في مقدمة تحقيقه لكتاب "اليواقيت والدرر شرح نخبة الفكر" للمُناوي, عندما ترجم للحافظ ابن حجر: " لايختلف اثنان في مكانة ابن حجر وعلمه غير أن الكمال المطلق لله عز وجل وحده ولم تخل حياة ابن حجر من بعض الهنات, والذي يهمنا أن ننبه عليه أن ابن حجر كان يميل إلى تأويل الصفات, ولاشكّ أن ذلك يخلف منهج السلف الذين كانوا يأخذون الصفات على ظاهرها من غير تأويل ولا تعطيل, وقد تكون هذه سمة العصر الذي نشأ فيه ابن حجر, ولعلَّ عتب العلماء عليه كحافظ ثاقب الفهم واسع المعرفة متمكِّن في أخصّ العلوم, ونسأل الله أن يتجاوز عنه وأن يغفر لنا وله ".
نماذج مما أُخذ عليه رحمه الله تعالى:
1_ صفة العلو
قال: " قوله ( ينزل ربنا إلى السماء الدنيا ) استدل به من أثبت الجهة وقال هي جهة العلو وأنكر ذلك الجمهور لأن القول بذلك يُفضي إلى التحيُّز تعالى الله عن ذلك ". فتح الباري 3/30
عقب على كلامه الشيخ عبدالعزيز بن باز فقال: " مراده بالجمهور أهل الكلام! وأما أهل السنة وهم الصحابة رضي الله عنهم ومن تبعهم بإحسان, فإنهم يثبتون لله جهة وهي جهة العلو ويؤمنون بأنه فوق العرش بلا تمثيل ولا تكييف. والأدلة على ذلك من الكتاب والسنة أكثر من أن تحصر فتنبه واحذر والله أعلم ". الموضع السابق حاشية رقم 1
2_ صفة الاستواء
قال: " قوله {استوى على العرش} هو من المتشابه الذي يفوَّض علمه إلى الله تعالى ". هدي الساري 136
3_ صفة النزول
قال عند شرحه لحديث النزول: " فمنهم من حمله على ظاهره وحقيقته وهم المشبِّهة تعالى الله عن قولهم " فتح الباري 3/30
4_ صفة المحبة
قال: " المراد بمحبة الله إرادة الخير للعبد وحصول الثواب له..". الفتح 10/462
5_ صفة الغضب(1/47)
قال: " المراد من الغضب لازمه وهو إيصال العذاب والعقوبة إلى مَن وقع عليه الغضب ". الفتح 6/292 و 11/441
هذه نماذج رحم الله الحافظ وغفر لنا وله وكلٌّ يؤخذ من قوله ويردّ إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم
مراجع الفقرة: مقدمة فتح الباري مع الشرح. وكتاب " منهج الحافظ ابن حجر العسقلاني في العقيدة من خلال كتابه فتح الباري ".
طبعات فتح الباري:
للحافظ بن حجر العسقلاني الكثير من الكتب والمصنفات التي لقيها الناس بالقبول والتقدير، لكن تبقى الموسوعة العلمية الكبيرة "فتح الباري" الأكثر حضوراً وتميزاً، ومن أجل هذا نسلط الضوء على طبعات وبعض الدراسات التي كتبت عنه.
طبع الكتاب عدة طبعات؛ وكثير منها مصور عن بعض؛ وما أذكره الآن هو في أغلبه أصول الطبعات المتداولة.
* طبعة بتصحيح محمد الحسيني؛ الهند؛ دار بهوبال؛ على ذمة نواب شاه جهان بيكم؛ دون تحديد التاريخ.
* طبعة القاهرة المطبعة الكبرى؛ الأميرية ببولاق؛ 1300هـ 1882م وتقع في 13 مجلدا.
* طبعة على نفقة العلامة صديق حسن خان, في الهند.
* طبعة بتصحيح محمد عبدالمجيد؛ ومحمد عنايت؛ والمولوي محمد وغيرهم؛ دهلي؛ على نفقة محمد بن عبدالمجيد؛ المطبع الأنصاري 1304هـ.
* طبعة بتصحيح لجنة التصحيح بالمطبعة الخيرية القاهرة على نفقة عمر بن حسين الخشاب؛ 1319هـ 1901م.
* طبعة ؛ المطبعة البهية؛ القاهرة 1348هـ (13) مجلد.
* طبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده تحقيق السيد أحمد صقر 1959م (17 مج).
* طبعة بتحقيق السيد أحمد صقر؛ القاهرة؛ دار الكتاب الجديد؛ 1969م
* ومن طبعاته الشهيرة والمتداولة بكثرة تلك التي أخرجها الناشر محب الدين الخطيب (1377هـ) وقامت بطبعها المكتبة السلفية بالقاهرة؛ سنة 1380هـ؛ وعلّق على أولها الشيخ عبد العزيز بن باز (ت1420هـ)؛ ورقم أحاديثها الأستاذ محمد فؤاد عبدالباقي.
المصنّفات حول كتاب " فتح الباري" للحافظ ابن حجر:(1/48)
لشهرة هذا الكتاب وأهميته, وكثرة فوائده وغزير مادّته, لا غرابة أن تمتلئ المكتبة بالكتب والدراسات حوله, ومن هذه الدراسات:
- "منهج ابن حجر في العقيدة من خلال كتابه فتح الباري".
تأليف: محمد إسحاق كندو - رسالة ماجستير. الناشر: الرّشد
- "منهج الحافظ ابن حجر في تقرير العقيدة من خلال كتابه فتح الباري".
لولوة المطرودي- ماجستير- جامعة الإمام 1415هـ.
- "التنبيه على المخالفات العقدية في فتح الباري". تأليف: علي الشبل الناشر: دار الوطن
- "الأحاديث التي حكم عليها ابن حجر في فتح الباري/من كتاب الوضوء إلى آخر كتاب الصلاة من الجزء الأول". تأليف: عبد الرحمن الصّاعدي. الناشر:دار البخاري
- "تجريد أسماء الرواة الذين تكلم فيهم الحافظ ابن حجر في فتح الباري ومقارنة كلامه بما قاله في تقريب التهذيب". تأليف: نبيل منصور البصارة. الناشر: دار الدعوة/ الكويت 1407هـ
- "منهج الحافظ ابن حجر في فتح الباري".
تأليف: جميل الشوادفي - رسالة دكتوراه.
- "منهج الحافظ ابن حجر في كتابه فتح الباري/ مع تحقيق الكتاب من أول كتاب الصلاة إلى نهاية باب المرأة تطرح على المصلي شيئاً من الأذى".
دراسة و تحقيق : عبد الله الجعيثن - رسالة دكتوراه.
- "القواعد الأصولية المتعلقة بباب الحكم والمباحث اللغوية والتطبيق عليها من كتاب فتح الباري".
تأليف: أحمد فرحان الإدريسي - رسالة دكتوراه.
- "توجيه القاري إلى القواعد والفوائد الأصولية والحديثية والإسنادية في فتح الباري".
تأليف: حافظ ثناء الله الزاهدي. الناشر: جامعة العلوم الأثرية - باكستان
- "الفوائد المنتقاة من فتح الباري وكتب أخرى".
الشيخ عبد المحسن العباد البدر.
- الفوائد المنتقاة من فتح الباري".
انتقاء: محمد بن عبد الله العوشن. دار العاصمة.
- "الروايات التاريخية في فتح الباري في عصر الخلافة الراشدة والدولة الأموية"
تحقيق و دراسة : يحيى إبراهيم اليحيى - رسالة دكتوراه.(1/49)
- "السيرة النبوية في فتح الباري".
جمع وتوثيق : محمد الأمين محمود الجكني الشنقيطي - رسالة دكتوراه. الناشر: دار ابن حزم
- "معجم المصنفات الواردة في فتح الباري".
تأليف: مشهور حسن سلمان. الناشر دار الهجرة 1411هـ
- "تراجعات ابن حجر في فتح الباري".
تأليف: مشهور حسن سلمان. الناشر: مكتبة الخراز /جدة 1418هـ
- "عقيدة التوحيد في فتح الباري" .
أحمد بن عصام الكاتب. طباعة دار الآفاق الطبعة الاولى 1403.
- "غبطة القاري في بيان إحالات فتح الباري".
لأبي صهيب العدوي. الناشر مكتبة ابن تيمية, والعلم بجدة .
- "الروايات التفسيرية في "فتح الباري"- جمعاً ودراسة" .
للباحث: عبدالمجيد الشيخ عبدالباري. رسالة: دكتوراه
- "موارد ابن حجر العسقلاني في علوم القرآن من كتاب فتح الباري" .
للباحث: محمد أنور صاحب بن محمد عمر. رسالة: ماجستير
- قرائن الترجيح في المحفوظ و الشاذ و زيادة الثقة عند الحافظ ابن حجر في كتابه فتح الباري .
اسم الباحث: نادر السنوسي العمراني. رسالة: ماجستير
- "منهج الحافظ ابن حجر في العقيدة من خلال كتابه (فتح الباري)".
للباحث: محمد إسحاق كندو. رسالة: ماجستير
- مختصر فتح الباري للشيخ فيصل المبارك_رحمه الله_.
- وهناك تعليق على "فتح الباري" للشيخ المحدث عبد الله الدويش (ت:1408هـ)
موجود في المجلد الثاني من مجموع مؤلفاته (قرابة20 صفحة)
وهذه التعليقات من بداية الجزء الرابع ووقف عند الصفحة320من المجلد التاسع, واشتمل أغلب التعليق على جانب العقيدة, ومواضيع يسيرة في أصول الفقه وتصحيح أسماء مصحَّفة, وغريب الحديث, والسيرة النبوية.
- "لمحات أصولية عند المحدثين :فتح الباري نموذجا".
من الباحث: الطيِّب كريبان. نال بها درجة الدكتوراه.
- "مصادر الحافظ ابن حجر وآراؤه في مسائل القراءات من خلال كتابه: فتح الباري بشرح صحيح البخاري".
د. يحيى بن محمد حسن زمزمي. / نشرت في مجلة جامعة أم القرى.(1/50)
- " إتحاف القاري باختصار فتح الباري ". اختصره: صفاء أحمد العدوي. صدر عن دار ابن الجوزي سنة 1414هـ في (5) مجلداً.
5- منهج العيني في كتاب: "عمدة القاري شرح صحيح البخاري"
أولاً:ترجمة الإمام العيني.
هو العلامة المؤرّخ المحدّث محمود بن أحمد بن موسى بن أحمد، أبو محمد، بدر الدين العينى الحنفي.
أصله من حلب ومولده سنة (762)هـ في درب كيكين في 17 رمضان، ونشأ بعينتاب، (وإليها نسبته), وحفظ القرآن، وتفقه على والده وغيره. أقام مدة في حلب, ومصر, ودمشق والقدس.
وولي في القاهرة الحسبة, وقضاء الحنفية, ونظر السجون، وتقرَّب من الملك المؤيد حتى عدَّ من أخصائه.
ولما ولي الأشرف سامره ولزمه، وكان يُكرمه ويقدِّمه.
ثم صُرف عن وظائفه، وعكف على التدريس والتصنيف إلى أن توفي بالقاهرة.
شيوخه:
والده أحمد, يوسف بن موسى الملطي, العلاء السيرافي, الشمس محمد الراعي, محمود بن محمد العنتابي, جبريل بن صالح البغدادي, خير الدين القصير, الحسام الرهاوي, عيسى بن الخاص بن محمود السرماوي, حيدر الرومي, أحمد بن خاص التركي, البلقيني, زين الدين العراقي,
تلاميذه:
محمد بن عبد الرحمن السخاوي, كمال الدين بن الهمام, قاسم بن قطلوبغا, ناصر الدين أبو البقاء المعروف بابن زريق, كمال الدين المالكي الشمنّي, قطب الدين الخيضري, نور الدين علي بن داود, يوسف بن تغري بردي, البرهان بن خضر, وغيرهم كثير.
مصنّفاته:
"عمدة القاري في شرح البخاري" .
"مغاني الأخيار في رجال معاني الآثار" .
"العلم الهيب في شرح الكلم الطيب" .
"عقد الجمان في تاريخ أهل الزمان" .
"تاريخ البدر في أوصاف أهل العصر"
"مباني الأخبار في شرح معاني الآثار" .
"نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار".
"البناية في شرح الهداية".
"الدرر الزاهرة في شرح البحار الزاخرة".
"المسائل البدرية".
"السيف المهند في سيرة الملك المؤيد أبى النصر شيخ".
"منحة السلوك في شرح تحفة الملوك".
"المقاصد النحوية" .(1/51)
"فرائد القلائد" .
"طبقات الشعراء" .
"معجم شيوخه" .
"رجال الطحاوي" .
"سيرة الملك الأشرف".
"المقدمة السوادنية في الأحكام الدينية".
"شرح سنن أبى داود".
وغيرها.
ثناء العلماء عليه:
قال السخاوي: كان إماماً عالماً علامة عارفاً بالصرف والعربية وغيرها حافظاً للتاريخ وللغة كثير الاستعمال لها مشاركاً في الفنون ".
وقال ابن خطيب الناصرية في تاريخه: وهو إمام عالم فاضل مشارك في علوم وعنده حشمة ومروءة وعصبية وديانة ".
وقال أبو المحاسن في المنهل الصافي: كان بارعاً في عدّة علوم مفتياً كثير الاطلاع, واسع الباع في المعقول والمنقول ".
وفاته:
توفي رحمه الله في ليلة الثلاثاء رابع ذي الحجة سنة خمس وخمسين, ودُفن من الغد بمدرسته التي أنشأها, بعد أن صلّى عليه المناوي بالأزهر.
مراجع الترجمة: الضوء اللامع للسخاوي. مقدّمة طبعة عمدة القاري.
ثانياً :منهج الإمام العيني في كتاب: "عمدة القاري شرح صحيح البخاري"
اسم الكتاب: طبع الكتاب باسم: "عمدة القاري شرح صحيح البخاري"
وقد سمّاه مؤلّفه, كما في مقدّمة الكتاب: "عمدة القاري في شرح البخاري"
مقدّمة المؤلف لكتابه:
قدّم الإمام العيني لشرحه بمقدّمة بيّن فيها مكانة السنّة, ومنزلة كتاب البخاري من بين الكتب, وشروحه, والسبب الذي دفعه لشرحه, وشيئاً من منهجه في هذا الشرح, فقال:
"... وبعد : فإن عانى رحمة ربه الغني, أبا محمد محمود بن أحمد العيني, عامله ربه ووالديه بلطفه الخفي, يقول أن السنة إحدى الحجج القاطعة, وأوضح المحجة الساطعة, وبها ثبوت أكثر الأحكام, وعليها مدار العلماء الأعلام, وكيف لا وهي القول والفعل من سيد الأنام, في بيان الحلال والحرام, الذين عليهما مبني الإسلام, فصرف الأعمار في استخراج كنوزها من أهم الأمور...(1/52)
إلى أن قال: ".. فمنهم الحافظ الحفيظ الشهير, المميز الناقد البصير, الذي شهدت بحفظه العلماء الثقات, واعترفت بضبطه المشايخ الأثبات, ولم ينكر فضله علماء هذا الشأن ولا تنازع في صحة تنقيده اثنان, الإمام الهمام حجة الإسلام, أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري أسكنه الله تعالى بحابيح جنانه بعفوه الجاري, وقد دون في السنة كتابا فاق على أمثاله, وتميز على أشكاله, ووشحه بجواهر الألفاظ من درر المعاني, ورشحه بالتبويبات الغريبة المباني, بحيث قد أطبق على قبوله بلا خلاف, علماء الأسلاف والأخلاف, فلذلك أصبح العلماء الراسخون الذين تلألأ في ظلم الليالي أنوار قرائحهم الوقادة, واستنار على صفحات الأيام آثار خواطرهم النقادة, قد حكموا بوجوب معرفته,وأفرطوا في قريضته ومدحته.
ثم تصدَّى لشرحه جماعة من الفضلاء, وطائفة من الأذكياء, من السلف النحارير المحققين, وممن عاصرناهم من المهرة المدققين, فمنهم من أخذ جانب التطويل, وشحنه من الأبحاث بما عليه الاعتماد والتعويل, ومنهم من لازم الاختصار في البحث عما في المتون, ووشحه بجواهر النكات والعيون, ومنهم من أخذ جانب التوسط مع سوق الفوائد, ورصعه بقلائد الفرائد...(1/53)
إلى قوله: ".. ثم لما عدت إلى الديار المصرية, ديار خير وفضل وأمنية, أقمت بها برهة من الخريف, مشتغلا بالعلم الشريف, ثم اخترعت ( شرحا ) لكتاب ( معاني الآثار ) المنقولة من كلام سيد الأبرار, تصنيف حجة الإسلام الجهبذ العلامة الإمام, أبي جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي, أسكنه الله تعالى من الجنان في أحسن المآوي, ثم أنشأت ( شرحا ) على ( سنن أبي داود السجستاني ) بوأه الله دار الجنان, فعاقني من عوائق الدهر ما شغلني عن التتميم, واستولى على من الهموم ما يخرج عن الحصر والتقسيم, ثم لما انجلى عني ظلامها, وتجلى علي قتامها, في هذه الدولة المؤيدية, والأيام الزاهرة السنية, ندبتني إلى شرح هذا الكتاب, أمور حصلت في هذا الباب... ولما لم يرتدعوا عن سؤالهم, ولم أجد بدا عن آمالهم, شمرت ذيل الحزم, عن ساق الجزم, وأنخت مطيتي, وحللت حقيبتي, ونزلت في فناء ربع هذا الكتاب:
- لأظهر ما فيه من الأمور الصعاب.
- وأبين ما فيه من المعضلات.
- وأوضح ما فيه من المشكلات.
- وأورد فيه من سائر الفنون بالبيان, ما صعب منه على الأقران, بحيث أن الناظر فيه بالأنصاف, المتجنِّب عن جانب الاعتساف.
- إن أراد ما يتعلَّق بالمنقول, ظفر بآماله.
- وإن أراد ما يتعلق بالمعقول, فاز بكماله, وما طلب من الكمالات يلقاه.
- وما ظفر من النوادر والنكات يرضاه.
... فجاء بحمد الله وتوفيقه فوق ما في الخواطر, فائقا على سائر الشروح بكثرة الفوائد والنوادر, مترجما بكتاب: ( عمدة القاري في شرح البخاري ), ومأمولي من الناظر فيه أن ينظر بالإنصاف, ويترك جانب الطعن والاعتساف, فإن رأى حسنا يشكر سعى زائره, ويعترف بفضل عاثره, أو خللا يصلحه...الخ".اهـ
بدأ الإمام بدر الدين العيني بهذا الشرح في أواخر سنة 821هـ وفرغ منه سنة 847هـ
افتتح الكتاب بمقدمة مختصرة قريبة جداً من مقدمة النووي.
وكان منهجه على النحو الآتي:
- يبدأ أولا بمناسبة الحديث للترجمة.(1/54)
- يشرح الترجمة بإيجاز في الغالب.
- ثم يتحدّث عن الرجال وضبط أسمائهم والأنساب. يترجم للرواة ويذكر ما قيل في الراوي لكنه لا يرجِّح ، وتأخذ دراسة الأسانيد القسط الكبير من الشرح.
- وهو يعنون ذلك أي أنه يقول: مناسبة الحديث للترجمة, ثم يذكرها. وهكذا، وهذه الميزة ليست في "الفتح" للحافظ ا بن حجر.
- يذكر مواضع الحديث في البخاري, كما يذكر من أخرج الحديث مقتصرا في الغالب على الكتب الستة والموطأ ومسند أحمد ومصنف ابن أبي شيبة.
- ويبيّن اللغات في الألفاظ.
- ويأتي بفوائد, فيقول: فائدة:...
- يتكلّم على لطائف الإسناد.
- يورد إشكالات في الحديث ثم يجيب عنها.
لكن هذه الفوائد كانت في أوائله لأنه اعتمد على أشياء انقطعت, وخصوصاً في البيان والبديع, لأن اعتماده كان على شرح ركن الدّين القريمي الذي لم يكتمل, حيث وصل فيه المؤلف إلى باب الشحّ, وهو آخر أبواب الزكاة. فتوقَّف العيني حيث توقف شرح ركن الدين، فلم يتوازن الشرح.
- يستنبط الأحكام فيقول: بيان استنباط الأحكام.
- ينقل العيني ممن سبقه من الشرّاح: كالخطابي, والكرماني, وابن بطّال, والنووي, وغيرهم.
- يحكم أحياناً على الأسانيد, كقوله مثلاً: إسناده جيد.
- كما يتكلّم على الإعراب.
- ينقل كثيراً عن ابن حجر في الفتح ويُبهم المؤلف ! وربما نقل منه المقطع الكبير، ويتعقّبه كثيراً، وقد كان العيني يستعير نسخة فتح الباري لابن حجر من كاتب ابن حجر (الفتح بن برهان), وذلك بِعِلم ابن حجر ورِضاه.
- العيني -رحمه الله- حنفيّ متعصّب لمذهبه كثيراً.
هناك كتاب " اللآلئ والدرر في المحاكمة بين العيني وابن حجر" ذكر فيه 343 محاكمة ، وهي أكثر من ذلك.
طبعات الكتاب:
- طبع الكتاب في إدارة الطباعة المنيرية, وكمل طبعه في عام 1384هـ بإشراف جماعة من العلماء، وتعتبر من أحسن الطبعات. وقد صورتها دار إحياء التراث وغيرها.(1/55)
- وطبع في مكتبة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، مصر، الطبعة الأولى 1392هـ.
6- منهج القسطلاني في كتابه: : "إرشاد السّاري إلى شرح صحيح البخاري "
أولاً: ترجمة القسطلاني -رحمه الله-:
هو: العلامة الحافظ أحمد بن محمد ابن أبي بكر ابن عبد الملك بن أحمد بن حسين بن علي القسطلاني المصري الشافعي.
ولد يوم الثاني عشر من ذي القعدة سنة إحدى وخمسين بمصر, ونشأ بها وحفظ القرآن وتلا للسَّبع وحفظ الشاطبية والجزرية والورديّة, وغير ذلك.
وكان يعظ بالجامع العمري وغيره, ويجتمع عنده الجم الغفير، ولم يكن له نظير في الوعظ.
حجَّ غير مرَّة, وجاور سنة أربع وثمانين، وسنة أربع وتسعين.
مشايخه:
خالد الأزهري النَّحوي, والفخر المقسمي, والجلال البكري, , النجم بن فهد, عمر بن قاسم الأنصاري النشار, عبد الغني الهيثمي, الزين عبد الدائم , الشهاب العبادي, البرهان العجلوني, زينب ابنة الشوبكي, وغيرهم.
ومن تلاميذه الحافظ السّخاوي .
ثناء العلماء عليه:
قال عنه السخاوي: قانع متعفف جيد القراءة للقرآن والحديث والخطابة, شجيّ الصوت بها, مشارك في الفضائل, متواضع متودّد, لطيف العشرة ".
وقال النجم الغزّي: الشيخ الإمام العلامة، الحجة الرحلة الفهامة، الفقيه النبيه المقرئ المجيد المسند المحدث.
مصنّفاته:
"إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري".
"الأسعد في تلخيص الإرشاد من فروع الشافعية".
"تحفة السامع والقاري بختم صحيح البخاري".
"الروض الزاهر في مناقب الشيخ عبد القادر".
"العقود السنية في شرح حرز الأماني للشاطبي".
"فتح المواهبي في مناقب الشاطبي".
"قبس اللوامع في الأدعية والأذكار الجوامع"؟
"مدارك المرام في مسالك الصيام"؟
"مراصد الصلات في مقاصد الصلاة".
"مسالك الحنفا إلى مشارع الصلاة على النبي مصطفى صلى الله عليه وسلم".
"مشارق الأنوار المضية في شرح الكواكب الدرية" .
"منهاج الابتهاج لشرح الجامع الصحيح لمسلم بن الحجاج".(1/56)
"المواهب اللدنية بالمنح المحمدية في السيرة النبوية".
"يقظة ذوي الاعتبار في موعظة أهل الاعتبار ".
وغير ذلك.
وفاته:
كانت وفاته ليلة الجمعة ثامن المحرم سنة ثلاث وعشرين وتسعمائة لعروض فالج له نشأ من تأثره ببلوغه قطع رأس إبراهيم بن عطاه الله المكي صديق السلطان الغوري, بحيث سقط عن دابتة، وأغمي عليه، فحمل إلى منزله، ثم مات بعد أيام، وصلِّيَ عليه بالأزهر عقب صلاة الجمعة، ودفن بقبة قاضي القضاة بدر الدين العيني من مدرسته بقرب جامع الأزهر.
مرجع الترجمة : "الضوء اللامع", للسخاوي.
ثانياً: منهج القسطلاني في كتابه: "إرشاد السّاري لشرح صحيح البخاري ".
اسم الكتاب: طبع الكتاب باسم:"إرشاد السّاري لشرح صحيح البخاري", وهو الاسم الذي سمّاه به مؤلّفه في مقدّمته للكتاب.
مقدمّة العلامة القسطلاني لشرحه:
قدّم القسطلاني بمقدّمة لهذا الشرح بمقدّمة أبان فيها عن الباعث له في تأليف هذا الشّرح, وموضّحاً المنهج الذي سيمشي عليه فيه, فقال:
وبعد : فإن علم السنة النبوية بعد الكتاب العزيز أعظم العلوم قدرا, وأرقاها شرفا وفخرا, إذ عليه مبنى قواعد أحكام الشريعة الإسلامية, وبه تظهر تفاصيل مجملات الآيات القرآنية, وكيف لا ومصدره عمن لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى:
فهو المفسر للكتاب وإنما *** نطق النبي لنا به عن ربه
وإن كتاب البخاري ( الجامع ) قد أظهر من كنوز مطالبها العالية إبريز البلاغة, وأبرز وحاز قصب السبق في ميدان البراعة وأحرز, وأتى من صحيح الحديث وفقهه, بما لم يسبق غليه, ولا عرّج أحد عليه, فانفرد بكثرة فرائد فوائده, و زوائد عوائده, حتى جزم الراوون بعذوبة موارده, فلذا رجح على غيره من الكتب بعد كتاب الله, وتحرّكت بالثناء عليه الألسن والشفاه.
ولطالما خطر في الخاطر المخاطر أن أعلق عليه شرحا أمزجه فيه مزجا, وأدرجه ضمنه درجا:
أميّز فيه الأصل من الشرح بالحمرة والمداد.(1/57)
واختلاف الروايات بغيرهما, ليدرك الناظر سريعا المراد, فيكون باديا بالصفحة, مدركا باللمحة.
كاشفاً بعض أسراره لطالبيه.
رافع النقاب عن وجوه معانيه لمعانيه.
موضّحاً مشكله, فاتحا مقفله.
مقيّداً مهمله, وافيا بتغليق تعليقه, كافيا في إرشاد الساري لتحقيقه.
محرراً لرواياته.
معرباً عن غرائبه وخفيّاته, فأجدني أُحجم عن سلوك هذا المسرى, وأبصرني أقدِّم رجلا وأؤخر أخرى, إذ أنا بمعزل عن هذا المنزل, لا سيما وقد قيل إن أحدا لم يستصبح سراجه, ولا استوضح منهاجه, ولا اقتعد صهوته, ولا افترع ذروته, ولا تفيأ ظلاله, فهو درة لن تثقب, ومهرة لم تركب, ...
ولم أزل على ذلك مدة من الزمان حتى مضى عصر الشباب وبان, فانبعث الباعث على ذلك راغبا, وقام خطيبا لبنات أبكار الافكار خاطبا, فشمرت ذيل العزم عن ساق الحزم, وأتيت بيوت التصنيف من أبوابها, وقمت في جامع التأليف بين أئمته بمحرابها, وأطلقت لسان القلم في ساحات الحكم بعبارة صريحة واضحة, وإشارة قريبة لائحة, لخصتها من كلام الكبراء الذين رقت في معارج علوم هذا الشأن أفكارهم, وإشارات الألباء الذين أنفقوا على اقتناص شوارد أعمالهم, وبذلت الجهد في تفهم أقاويل الفهماء المشار إليهم بالبنان, وممارسة الدواوين المؤلفة في هذا الشأن،,ومراجعة الشيوخ الذين حازوا قصب السبق في مضماره, ومباحثة الحذاق الين غاصوا على جواهر الفرائد في بحاره, ولم أتحاش عن الإعادة في الإفادة عند الحاجة إلى البيان, ولا في ضبط الواضح عند علماء هذا الشأن, قصدا لنفع الخاص والعام, راجيا ثواب ذي الطول والإنعام, فدونك شرحا قد أرقت عليه من شرفات هذا الجامع أضواء نوره اللامع, وصدع خطيبه على منبره السامي بالحجج القواطع, القلوب والمسامع أضاءت بهجته فاختفت منه كواكب الدراري, وكيف لا وقد فاض عليه النور من فتح الباري...(1/58)
وبالجملة فإنما أنا من لوامع أنوارهم مقتبس, ومن فواضل فضائلهم ملتمس, وخدمت به الأبواب النبوية, والحضرة المصطفوية, راجيا أن يتوجني بتاج القبول والإقبال, ويجيزني بجائزة الرضا في الحال والمآل.
وسميته: ( إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري ), والله أسأل التوفيق والإرشاد, على سلوك طرق السداد, و أن يعينني على التكميل, فإنه حسبي الله ونعم الوكيل.
وهذه مقدمة مشتملة على وسائل المقاصد, يهتدي بها على الإرشاد السالك والمقاصد, جامعة لفصول هي لفروع قواعد هذا الشرح أصول.
- الفصل الأول: في فضيلة أهل الحديث, وشرفهم في القديم والحديث.
- الفصل الثاني : في ذكر أول من دوّن الحديث والسنن, ومن تلاه في ذلك سالكا أحسن السنن.
- الفصل الثالث : في نبذة لطيفة جامعة لفرائد فوائد مصطلح الحديث, عند أهله:
- وتقسيم أنواعه.
- وكيفية تحمله,وأدائه و نقله, مما لا بد للخائض في هذا الشرح منه, لما علم أن لكل أهل فن اصطلاحاً يجب استحضاره عند الخوض فيه.
- الفصل الرابع : فيما يتعلّق بالبخاري في ( صحيحه ) من تقرير شرطه, وتحريره وضبطه, وترجيحه على غيره, (كصحيح مسلم ) ومن سار كسيره.
- والجواب عما انتقذه عليه النقاذ من الأحاديث, ورجال الإسناد.
- وبيان موضوعه, وتفرُّده بمجموعه.
- وتراجمه البديعة المثال, المنيعة المنال.
- وسبب تقطيعه للحديث واختصاره, وإعادته له في الأبواب وتكراره.
- و عدّة أحاديثه الأصول والمكررة, حسبما ضبطه الحافظ ابن حجر وحرّره.
- الفصل الخامس : في ذكر نسب البخاري ونسبته, ومولده وبدء أمره ونشأته, وطلبه للعلم وذكر بعض شيوخه ومن أخذ عنه ورحلته, وسعة حفظه وسيلان ذهنه, وثناء الناس عليه بفقهه, وزهده وورعه وعبادته, وما ذكر من محنته و منحته, بعد وفاته وكرامته ".اهـ
ونُفسِّر ما أجمله سابقاً ونزيد عليه, فنقول:(1/59)
- يتكلّم على اختلاف رواة البخاري, فمثلاً يقول: " بسم الله الرحمن الرحيم, كذا في رواية أبي ذر والمستملي, لكن بتقديم البسملة, ولرفيقه الكشيهني والحموي في رواية: بسم الله الرحمن الرحيم باب مواقيت الصلاة وفضلها, وكذا الكريمة, لكن بدون البسملة, وللأصيلي: مواقيت الصلاة وفضلها من غير باب, كذا قاله العيني وابن حجر. وفي فرع اليونينية كأصلها عزو الأولى لأبي ذرّ عن المستملي, كما مرّ ".
- وهو يعتمد النّسخة اليونينيّة في ذلك, وأحياناً ينقل من غيرها, كقوله: وللكشميهني من غير اليونينية...".
- يُترجم لرواة الإسناد, ويضبط أسماءهم بالحروف, ويذكر سنيّ وفاتهم, كقوله مثلاً عند ترجمة عبيد الله بن موسى: " بن باذام بالموحدة والذّال المعجمة آخره ميم, العبسي, بفتح المهملة وتسكين الموحدة الشيعي الغير داعية المتوفى يالإسكندرية سنة ثلاث عشرة أو أربع عشرة ومائتين".
- كما يذكر أحياناً كم للراوي من حديث عند البخاري, فقال عند ذكر أبي جحيفة وهب بن عبد الله السّوائي: له في البخاري سبعة أحاديث".
- ومن ميزاته أنه يضبط ألفاظ الحديث ضبطاً لا يشكل معه قراءته.
- كما بتكلّم على إعراب بعض الكلمات المشكلة, والمحتملة.
- ويتكلّم على مناسبة الأبواب لبعضها.
- ويذكر لطائف الإسناد, كقوله: وفي هذا الحديث: التحديث والإخبار والعنعنة والتحويل, وفيه عدد من المراوزة". وقوله: ورجاله كلّهم مدنيّون, وتسلسل بالأقارب ".
- كما يذكر أحياناً عدد المرّات التي أخرج البخاري الحديث فيها في كتابه, كقوله: وهذا الحديث أخرجه البخاري في أكثر من عشرة مواضع ".
- ويذكر ما يُستفاد من الحديث باختصار.
- ويتكلّم في بعض المواضع على اختلاف العلماء في بعض المسائل ويستعرض مذاهبهم وأقوالهم باختصار.
- ويذكر مَن أخرج الحديث غير البخاري.
- كما يُجيب على بعض الانتقادات التي أُخذت على البخاري في تخريج بعض الأحاديث.
وبالجملة: فهو شرح كبير تحليلي.(1/60)
اعتنى بدقة بالفروق بين الروايات سواء في الأسانيد أو المتون أو صيغ الأداء وإن لم يترتب عليها فائدة.
كثيراً ما يعتمد فيه على كلام مَن سبقه ولا سيّما صاحب الفتح, فكتابه يُعد ملخصاً لكتب: الكرماني والعيني وابن حجر.
مذهبه في مسائل العقيدة على طريقة الأشاعرة.
طبعات الكتاب:
- طبع الكتاب للمرّة الأولى في المطبعة الأميرية ببولاق، مصر، سنة1305, وبهامشه شرح النووي لمسلم, في (10) مجلدات. وعن هذه الطبعة صوّرته عدّة من دور النّشر.
- ثم طبع مفردا في دار الكتب العلمية في ( 15 ) مجلدا. بتصحيح ( محمد عبدالعزيز الخالدي ).
7- منهج القاضي عياض في كتابه "إكمال المعلم بفوائد مسلم"
أولاً: ترجمة القاضي عياض:
هو: الشيخ العلامة عياض بن موسى بن عياض بن عمرو بن موسى بن عياض اليحصبي الأندلسي، ثم السبتي المالكي.
ولد في سنة ست وسبعين وأربع مائة.
تحوَّل جدُّهم من الأندلس إلى فاس، ثم سكن سبتة. رحل القاضي إلى الأندلس سنة بضع وخمس مائة, وأخذ عن بعض مشايخها, واستبحر من العلوم، وجمع وألف، وسارت بتصانيفه الركبان، واشتهر اسمه في الآفاق.
شيوخه:
لم يحمل القاضي العلم في الحداثة، وأول شيءٍ أخذ عن الحافظ أبي علي الغساني إجازة مجردة، وكان يمكنه السماع منه، فإنه لحق من حياته اثنين وعشرين عاماً.
أخذ الحديث عن القاضي أبي علي بن سكرة الصدفي، ولازمه، وعن أبي بحر بن العاص، ومحمد بن حمدين، وأبي الحسين سراج الصغير، وأبي محمد بن عتاب، وهشام بن أحمد، وعِدَّة. وتفقَّه بأبي عبد الله محمد بن عيسى التميمي، والقاضي محمد بن عبد الله المسيلي.
قال القاضي ابن خلكان: شيوخ القاضي يقاربون المئة.
تلاميذه:
الإمام عبد الله بن محمد الأشيري، وأبو جعفر بن القصير الغرناطي، والحافظ خلف بن بشكوال، وأبو محمد بن عبيد الله الحجري، ومحمد بن الحسن الجابري، وولدُهُ القاضي محمد بن عياض قاضي دانية.
ثناء العلماء عليه:(1/61)
قال خلف بن بشكوال: هو من أهل العلم والتفنن والذكاء والفهم، استقضي بسبتة مدة طويلة حُمِدت سيرته فيها، ثم نقل عنها إلى قضاء غرناطة، فلم يطول بها، وقدم علينا قرطبة، فأخذنا عنه.
وقال الفقيه محمد بن حماده السبتي: جلس القاضي للمناظرة وله نحو من ثمان وعشرين سنة، وولي القضاء وله خمس وثلاثون سنة، كان هيِّناً من غير ضعف، صليباً في الحق، ولم يكن أحد بسبتة في عصرٍ أكثر تواليف من تواليفه.
وقال ابن خلّكان: إمام الحديث في وقته, وأعرف الناس بعلومه, وبالنحو , واللغة, وكلام العرب وأيامهم وأنسابهم.
مصنفاته:
الشفا في شرف المصطفى.
ترتيب المدارك وتقريب المسالك في ذكر فقهاء مذهب مالك .
كتاب " شرح حديث أم زرع " .
كتاب " جامع التاريخ " الذي أربى على جميع المؤلفات ، جمع فيه أخبار ملوك الأندلس والمغرب، استوعب فيه أخبار سبتة وعلماءها.
كتاب " مشارق الأنوار في اقتفاء صحيح الآثار ": " الموطأ " و " الصحيحين ".
قال: ومن تصانيفه كتاب " إكمال المعلم بفوائد مسلم ".
كتاب " التنبيهات " فيه فوائد وغرائب.
وله شعر حسن.
وفاته:
توفي القاضي مغرّباً عن وطنه -رحمه الله- في سنة أربع وأربعين وخمس مائة في رمضانها، وقيل: في جمادى الآخرة منها بمراكش.
وقال ولده القاضي محمد: توفي في ليلة الجمعة نصف الليلة التاسعة من جمادى الآخرة، ودفن بمراكش سنة أربع.
قال الذهبي: بلغني أنه قتل بالرماح لكونه أنكر عصمة ابن تومرت.
مرجع الترجمة : سير أعلام النبلاء (20 / 213).
ثانياً:
ثانياً: منهجه في كتابه "إكمال المعلم بفوائد مسلم".
اسم الكتاب كما جاء في ديباجة مؤلفه: "إكمال المعلم بفوائد مسلم".(1/62)
يعدّ هذا الكتاب واحداً من كتب الدراية الفريدة التي سارت بها الركبان - كما شهد بذلك أئمة هذا الشأن, وهو واحدٌ من مصنفات القاضي عياض الكثيرة المفيدة, ولا تكاد تطالع كتاباً من كتب أئمة الرواية والدراية إلا وتجد للقاضي عياض بكتابه "الإكمال" فيه ذكراً منشوراً, يعتمدون على ضبطه فيما أشكل وأُبهم؛ بل كان أحياناً أصلاً من أصول كتب ذاعت بسببه واشتهرت - كالمنهاج للنووي, وإكمال الإكمال, وتكملته للأبّي, والسنوسي.
ثم الحافظ ابن حجر في "الفتح", والعيني في "العمدة", يلزم كل منهما ضبطه, وينسج في الكثير من مباحثه على منواله.
مقدّمة الشرح:
بدأ القاضي كتابه بذكر مقدمة له تضمنت بعض معالم المنهج والطريقة التي سار عليها في كتابه, وسبب تأليفه له, فقال:
"... وبعد:
فإني عند اجتماع طلبة العلم لدي في التفقه في صحيح الإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج -رحمه الله- والوقوف على معاني أخباره, والبحث عن أغواره, والكشف عن أسراره, وإثارة الفقه وقائق العلم من آثاره, والاقتباس للهدى وحقائق الدين من جذاذه وأنواره, وتقصّي ألفاظه عن حِكَمه واعتباره, وبيان غامضه ومشكله, وتقييد مبهمه ومهمله, والتنبيه على ما وقع من اختلال لبعض رواته, في أسانيده ومتونه, والبسط لما أشار إليه -رحمه الله- في مقدمته من أصول علم الأثر وفنونه, ولم يكن في ذلك كتاب مختصّ بهذه الأمور, ولا تأليف اعتنى به كالاعتناء بغيره ممن تقدم إلا كتاب شيخنا الحافظ أبي علي الحسين بن محمد الغسّاني الجيّاني, في الكلام على مشكل أسانيده في كتابه الذي ألفه على هذا الكتاب, وكتاب الصحيح للإمام أبي عبد الله البخاري, المسمّى بـ"التقييد المهمل".(1/63)
وكتاب الإمام أبي عبد الله محمد بن علي بن إبراهيم المازري التميمي في شرح كعانيه المسمى بـ"المعلم", وإن كان قد أودعه جملة صالحة مما في كتاب الحافظ أبي علي من الكلام على إسناده, وكلا الكتابين نهاية في فنّه, بالغٌ في بابه, مودع من فنون المعارف فوائدها وغرائ علوم الأثر وشواردها, ما تلقّي كل واحد منها بالقبول, وبلغ الطالب بها من رغبته المأمول...
لكن الإحاطة على البشر ممتنعة, ومطارح الألباب والأذهان للبحث متّسعة, وكثيراً ما وقفنا في الكتاب المذكور على أحاديث مشكلة لم يقع لها هناك تفسير, وفصول محتملة تحتاج معانيها إلى تحقيق وتقرير, ونُكت مجملة لا بد لها من تفصيل وتحرير, وألفاظ مهملة تضطر إلى الإتقان والتقييد, وكلما غيّرها النقلة من حقّها أن نُخرج صوابها إلى الوجود.
وعند الوقوف على ما أودعناه هذا التعليق وضمّناه الكتاب الآخر الذي بين أيدينا المسمى بـ:"مشارق الأنوار على صحاح الآثار", المشتمل عليها الأمهات الثلاث: موطأ الإمام أبي عبد الله مالك بن أنس المدني, وصحيح الإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري, وصحيح الإمام أبو الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري - رضي الله عنهم أجمعين ووفّاهم جزاء صنيعهم - تقف على مقدار ما أشرنا إليه, وكثرة ما أغفل في الكتابين من الفنّين عليه... إلى أن قال:
" ورأيت أن إفراد كتب لذلك يقطع عن الكتاب "المعلم"، وما ضمّنه غير موفٍ الغرض, وإن تأليف كتاب جامع لشرحه لا معنى له, مع ما قد تقرّر في "المعلم" من فوائد جمّة لا تضاهى, ونكت متقنة, وقف عندها حسن التأليف وتناهى .. فاستتبّ الرأي بعد استخارة الله تعالى وسلوك سبيل العدل والإنصاف, أن يكون ما يذكر من ذلك كالتذييل لتمامه والصلة لإكمال كلامه:
- فنبدأ بما قاله -رضي الله عنه- .
- ونضيف إليه ما استتبّ وتوالى.
- فإذا جاءت الزيادة فصّلناها بالإضافة إلى أن ننتهي منها.(1/64)
- ثم عطفنا على سوق ما يليه من قوله, ويتطارد الكلام الكلام بيننا نُوباً بقوة الله وحوله.
- وكان في "المعلم" تقديم وتأخير عن ترتيب كتاب مسلم, فسقناه مساق الأصل, ونظمنا فصوله على الولاء فصلاً بعد فصل...
ووسمته بكتاب "إكمال المعلم بفوائد مسلم"
- وتحرّيتُ فيه بجهدي الصواب بفضل الله المنعم.
- وأودعته من الغرائب والعجائب ما يعرف قدره كل معتن بها متهمِّم.
- ومن الحقائق والدقائق ما يُنير كل مبهم, وتسير مع كل منجد ومتهم..
- وقد تركنا كثيراً مما تعلّق بعلم الإسناد مما لم يذكره الشيخ الحافظ أبو عليّ , أو ذكره ولم يذكره الإمام أبو عبد الله؛ إذ غالب ما ذكره في هذا الباب مما في كتاب الحافظ أبي عليّ, ولم نتتبّعه لاستقصائه في الكتاب الآخر, لكنّا ذكرنا من العلل طرفاً مما لم يقع في كتاب الحافظ أبي عليّ, ما هو على شرطه, أو تركه عن غير قصد مما ذكره الإمام أبو عليّ الحسن الدارقطني في كتابه المسمى بـ"التتبع والاستدراكات على البخاري ومسلم" ... ولولا ذكرُ الإمام أبي عبدالله لأطراف مما ذكره الحافظ أبو عليّ من ذلك لتركنا الكلام على هذا الفنّ في هذا التعليق جملةً؛ إذ هو بابٌ واسعٌ والتصانيف منه كثيرة موجودة, ولاقتصرنا على الشرح والمعاني دون العلل والأسامي..". اهـ
ثم ذكر أسانيده إلى صحيح الإمام مسلم -رحمه الله-.
ثم ذكر مقصد الإمام مسلم من جمعه الصحيح.
ثم بدأ بشرح المقدمة التي قدّ بها مسلم لكتابه الصحيح.
تنبيه: قال محقّق الكتاب: يحيى إسماعيل ص (55) في فقرة عمله في الكتاب:
" أضفتُ إلى الكتاب نصّ مقدمة الصحيح لمسلم وقمتُ بتوزيعها على مظانّها من كلام القاضي المتعلّق بها...".
ثم شرع بشرح الصحيح.
تفصيل منهج القاضي عياض في كتاب "إكمال المعلم":
لمّا كان موضوع "الإكمال" هو إكمال عمل الإمام المازري في شرحه لصحيح مسلم وتهذيب ما تمّ منه, فقد وجدَ بتتبّع عمله أنه لزم منهجاً في ذلك تمثّل فيما يلي:(1/65)
1- يفصّل كثيراً مما أجمله الإمام المازري من مذاهب العلماء.
2- الأصل في عمله أن يأتي كلامه بعد كلام الإمام المازري في الحديث, إلا أنه كان أحياناً يفسّر ما جاء في الحديث أولاً, ثم ينقل كلام الإمام, وهذا إذا كان التفسير قليلاً.
3- ما تركه الإمام من أجزاء في الحديث بغير تعليق أو شرح فإن القاضي يبدأ به, وذلك كما في حديث: "أيما عبد أبق من مواليه", فالإمام لم يتحدث فيه إلا عن جزء قبول الصلاة, ومن هنا فإن القاضي بدأ كلامه ببيان معنى الإباق.
4- يترك الكلام على الحديث إذا لم يكن عنده ما يضيفه إلى كلام الإمام, وذلك ما وقع منه في حديث: "لا تتقنطوا من رحمة الله".
5- حيث يسوق شاهداً لمعنى, فإنه يتولّى غالباً بيان المراد من بقيّته.
6- يرجّح بين الروايتين الصحيحتين بمقتضى السياق اللغوي. ففي حديث: " تُعينُ صانعاً أو تصنع لأخرق". قال القاضي: روايتا في هذا الحديث: "ضايعاً" من طريق هشام أولاً بالضاد المعجمة وبالياء بعد الألف, وكذلك في الحديث الآخر من جميع طرقنا عن مسلم من حديث هشام والزهري, إلا من رواية أبي الفتح الشاشي عن عبد الغافر الفارسي, فإن شيخنا أبا بحر حدثنا عنه فيهما بالصاد المهملة, وهو صواب الكلام لمقابلته بأخرق, وإن كان المعنى من جهة معونة الصانع أيضاً صحيحاً".اهـ
7- يستفيد من النسخ المغايرة لنسخة مسلم المعتمدة لديه؛ لبيان سبب الحديث وكشف عباراته.
8- في تحقيقه لدقائق المسائل؛ فإنه لا يكتفي فيها ببيان نظره فيها, بل يعرضها على أهل التحقيق من شيوخه, ولهذا كثيراً ما نراه يردد أن هذا مستفاد من متقني شيوخنا.(1/66)
9- إذا كثر الاختلاف في أصل الاشتقاق للمصطلح الشرعي, استعان على تصويب ما يختار بسير القدامى, ومطالعة الآثار القريبة المعنى بها, مع استقراء كلام العرب وأشعارها فيه, وذلك مثل ما جاء في كلمة الصلاة, حيث يقول: "كلام العرب وأشعارها أن الصلاة كانت عندهم معلومة على هيئتها عندنا, من أفعال وأقوال, ودعاء, وخضوع وسجود, وركوع. وقد تنصّر كثير منهم وتهوّد وتمجَّس, وتقربوا بالصلوات والعبادات, وجاوروا أهل الديانات, وداخلوا أهل الملل, ووفد أشرافهم على ملوكهم, وألفت قريش رحلة الشتاء والصيف إلى بلادهم, وثابر كثير منهم على بقايا عندهم من دين إبراهيم, وعرفوا السجود والركوع والصوم والحج والعمرة والاعتكاف, وحجوا كل عام واعتمروا, وحضوا على الصدقة, وصاموا عاشوراء, ومن طالع أخبارهم ودرس أشعارهم علم ذلك منهم ضرورة, فجاء الشرع بهذه العبادات, وهي عندهم معلومة مفهوم المراد منها..". وذلك ليصل إلى أنه متى أعطيت هذه الألفاظ من البحث حقّها, وجدت عند المخاطبين بها لأول ورودها من أهل الشريعة معروفة المعنى على ما جاءت به من أفعال مخصوصة وعبارات مقرّرة, إلا ما غير الشرع فيها من بدع الجاهلية, أو نسخ من شرائع من تقدم من الكتابية.
10- يميل كثيراً إلى الاختصار في عرض المسائل الفقهية المتصلة بالحديث.
11- مراعاة الدقة في وصف حالة التحمل, وذلك مثل قوله: " كذا وجدته بخط شيخنا الشهيد متقناً في تاريخ البخاري".
12- إذا نقل عن أحد من الأئمة قولاً في مسألة - المعنى فيه محتمل لغيره - أورد المعاني المحتملة بصيغة غير ملزمة, كقوله في قول مالك: لا يؤخذ الحديث عن صاحب هوى يدعو إلى هواه. قال: " فانظر اشتراطه الدعاء, هل هو ترخيص في الأخذ عنه إذا لم يدعُ؟ أو أن البدعة سبب لتهمته أن يدعو الناس إلى هواه؟, أي: لا تأخذوا عن ذي بدعة, فإنه ممن يدعو إلى هوه, أ, أن هواه يحمله أن يدعو إلى هواه, فتهمته لذلك؟ وهذا المعروف من مذهبه ".(1/67)
13- أنه شديد العناية ببنية الكلمة وسلامة معناها؛ لذلك نراه:
أ يرجع إلى أهل اللغة أولاً في بيان معاني الألفاظ, كقوله في تفسير "السُّبُحات": " هي تلك الحجب التي ذكر من النور والنار وجلال الملكوت وعظيم القدرة, لو كشفها لأحرقت كل من رآها..", ويتأول في ذلك ما يتأول في قوله: {نورُ السَّمواتِ وَالأرْضِ}: " وفي تسميته (نوراً) يستقيم المعنى الحقيقي, وينطبق على اللفظ العربي, وعلى تفسير أهل اللغة التي لا بدّ لنا من الرجوع إليهم في معاني هذه الألفاظ ".
ب في شرحه لمفردات الحديث يسترسل له بإيراد الشواهد لها من كتاب الله تعالى وأمثالها منم الحديث النبوي.
ت يعرض ما للفظة من روايات لغوية متعددة, ثم يقيم تلك الروايات بردّها أولاً إلى الأصول اللغوية والقواعد النحوية, ومثال ذلك فيما جاء في عرضه للفظة "مربيد" الذي قال فيه بعض العلماء أنه شدّة البياض في السواد, علّق على هذا بقوله: " إن هذا يقال له: أبلق, والرّبدة: هي شيء في بياض يسير يخالط السواد كلون النّعام". ثم ساق ما عنده من روايات تؤكد هذا".
14- يعزو القول إلى قائله, سواء في السند أو المتن.
15- شديد العناية بضبط المختلف فيه من رجال السّند.
16- يلزم دائماً الاعتدال عند تناول القضايا العلمية إذا كانت بعيدة عن المباحث المذهبية, وما عدا ذلك فهو شديد الميل للانتصاف لمذهب مالك, وإن انتقد عليه أحياناً وانتصر لغيره, حيث يقول: "واضطرب مذهبنا على هذه الأقوال".
17- إذا عرض له ما يستوجب التصحيح في السند, عجّل بالتنبيه عليه قبل الفراغ من الحديث في المتن.(1/68)
18- لا يمنعه إجلاله للإمام من أن يعقّب ويستدرك عليه ويصحح له ما وقع في كلامه من أوهام وأخطاء, فحين قال الإمام - مثلاً- في قوله تعالى: {الذينَ آمنوا ولمْ يلبِسوا إيمانهمْ بظلمٍ}, وقول الصحابة فيها لما أنزلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم :" وأيّنا لم يظلم نفسه ". يدلّ بظاهره عند بعض أهل الأصول على أنهم كانوا يقولون بالعموم, لأن الظلم عندهم يعمّ الكفر وغيره, فلهذا أشفقوا. قال القاضي: " الظلم في كلام العرب: وضع الشيء في غير موضعه. وقد يقع الظلم بمعنى النقص, وقد قيل ذلك في قوله تعالى: {وما ظلمونا}, ثم قال: " وليس يظهر لي في هذا الحديث حجة للعموم ".الخ. ولما مال إلى تفسير مسلم لبعض ألفاظ حديث الفتن " كالكوز مجخياً " , وقال: " وقع تفسير ذلك في كتاب مسلم, قال القاضي: " ما وقع من التفسير في (الأم) مما ذكره مسلم, في بعضه تلفيق, وفي بعضه تصحيف.
19- حيث يقدّم "المعلم" الحديث عن السند في الشرح والبيان, فإن "الإكمال" يؤخره.
20- حرص على ترتيب مسائل "المعلم" وفق ترتيب الصحيح لمسلم, فتراه يقول حين يجد الإمام قدّم حديثاً في التعرّض له عن غيره: " وليس هذا بموضعه ".
21- يعمد إلى إسناد المعاني المستنبطة إلى أول قائل لها, مثل قوله: " وحكى لنا بعض شيوخنا عن القاضي أبي الوليد الوقشي, وكان أكثر اعتناءً بأمثال هذه الألفاظ المشكلة..".الخ.
أهميّة كتاب "إكمال المعلم" وقيمته العلمية:
ترجع أهمية هذا الكتاب إلى أنه استكمال لما بدأ به الإمام المازري في "المعلم", وأنه أول كتاب شرح صحيح مسلم بالتحرير والتقييم والتهذيب, وقد أوفى القاضي -رحمه الله- على هذه الغاية, وأربى بكثير كثير, وأيضاً لما تضمنه من الفوائد العلمية البالغة والتحريرات الكثيرة الدقيقة.
وهذه الفوائد تتمثل فيما يلي:
أولاً: أمور كشف عنها وأزال الإبهام فيها:(1/69)
أ كشف "الإكمال" عمّا جاء في بعض النسخ لصحيح مسلم من تبويب وتراجم, غابت عن كثير من الشرّاح الذين تناولوا النسخ غير المبوّبة. مثاله: ما جاء في كتاب الطهارة: باب التطييب بعد الغسل من الجنابة. قال القاضي عقبه: " وبذلك بطل من ادّعى أن مسلماً لم يبوّب كتابه ".
ب أنه جاء في المقدمة بمسائل لعلوم الحديث تعتبر إضافة وتكمبلاً لكتابه "الإلماع".
ت أنه نقل عن مصادر هامّة لم يبق منها شيء اليوم. مثل كتاب "الموعب" ليونس بن مغيث.
ث زيادة التصحيح, فإن النسخة التي اعتمد عليها لمسلم غير النسخة التي اعتمد عليها النووي مثلاً.
ثانياً: ضبطه للنصوص وتصحيحه للتصحيف الواقع في فنون بعض كتب الحديث:
أ إحاطة صاحب "الإكمال" بجميع روايات "الموطأ" لمالك أعانته على تصحيح ما وقع في الصحيح من أوهام. ويظهر ذلك في مثل ما جاء في كتاب الطهارة: " أن ابنة جحش كانت تستحاض ". فقد فسّره المازري أن في بعض نسخ مسلم عن أبي العباس الرازي: " أن زينب بنت جحش ".
ب اجتهاده في تصحيح ما وقع في "الموطأ" من أوهام الرواة والناقلين, حيث يقول مثلاً: " وسألت شيخنا أبا الحسن يونس بن مغيث عمّا ذكر عن كتاب جدّه فصححه لي عنه, وإذا كان هذا برّأ الله مالكاً ممن نسب الوهم إليه في تسمية أم حبيبة زينب ".
ت دفع الخطأ المنسوب إلى مسلم بما جاء في بعض النسخ عنه, والتي اقتصر عليها الإمام بما جاء على الصواب في النسخ التي اعتمد عليها القاضي, حيث وافقت رواية البخاري, مما يجعل التصويب فيها تصويب نسخ لا تصويب رواية ". وبذلك يندفع عن الإمام مسلم دعوى التوهيم له والخطأ في أمثالها.(1/70)
ث يضبط المصطلحات التي تردُ ضبطاً يزيل الشك عنها, وذلك بذكر إسناده فيها, ففي قول مسلم في شهر بن حوشب: " إنّ شهراً نزكوه ". يقول القاضي: " هذه الرواية الصحيحة بانون والزاي, وهكذا سماعنا فيه من الأسدي عن السمرقندي عن الفارسي, وكذا أقرأناها علي بن أبي جعفر عن الطبري عن الفارسي عن الجلودي, وسمعناها من القاضي الصدفي وغيره عن العذري ". ثم قال: " وسائر الرواة: (تركوه) بالتاء والراء... ".
ج التنبيه على ما جاء من اختلاف في بعض الروايات, وقد تركها غيره اختصاراً أو اكتفاءً ممن نقل عنه, كالنووي.. وبدون هذا التنبيه قد يقع للمتأخر الجزم بعدم ورود بعض الألفاظ في نسخ الصحيح, وهي موجودة. مثاله: ما جاء في حديث: " أنّ موسى سأل عن أخسّ أهل الجنّة حظاً ". فقال القاضي عقبهه: " كذا للرواة, ولأبي العباس الدلائي: أحسّ. وهو تصحيف, والصواب الأول ".
ح وبظهور "الإكمال" أمكننا تصويب الكثير من العبارات التي نقلها الأئمة عنه.
خ دقّة النسخ التي اعتمد عليها القاضي لصحيح مسلم, فحديث: " اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك, وتحوّل عافيتك..". ورد في النسخ المتداولة ضمن كتاب الرقاق مع متعلّقاته, لكنه في "الإكمال", و "إكمال الكمال" جاء في آخر كتاب الدعاء, وهو الأليق بالسياق.
د ضبطهُ لكثير من العبارات الواردة بصحيح مسلم بالتصويب والترجيح بما صحّ له من غيره. مثاله: ما جاء في شرحه لحديث: " فما منكم من أحد بأشدّ مناشدة لله في استقصاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار ". فقد قال فيها: " كذا في الرواية, وكذا في جميع النسخ, وفيه تغييرٌ ووهم, وصوابه ما وقع في كتاب البخاري عن ابن بكير: " بأشدّ مناشدة لي في استقصاء الحق ". يعني في الدنيا من المؤمنين ".(1/71)
ذ أحياناً ينبّه على أصل الخطأ إذا كان في الحديث خطأ من - سند أو متن - ومصدره. ففي حديث: " أصبح من الناس شاكر وكافر "ز جاء بإسناده: ثنا عباس بن عبدالعظيم العنبري. قال القاضي فيه: " كذا الرواية, وعند العذري: " الغبري", وهو تصحيف ".
ثالثاً: تقويمه للمصادر مع تصويبه للآراء الواردة في الكتب السابقة عليه, والمشتملة على شرح مسلم وغيره:
أ تعزيز تصويب الإمام المازري لبعض روايات مسلم وتصحيح ما نقله من الحديث في الاستعانة به في شرحه, وذلك مثل الذي جاء في حديث: "جاءت فاطمة بنت أبي حبيش بن عبد المطلب.. حيث نقل قول الإمام المازري: " هكذا في أكثر النسخ, قال بعضهم: عبد المطلب هاهنا وهم, وصوابه: ابن المطلب بن أسد بن عبد العزى ". قال القاضي بعدها: " هذا هو الصواب كما قال, واسم جدّها: المطلب مشهور, ولم يختلف فيه أهل الخبر ".
ب أعانه تمكّنه من ناصية اللغة من تصويب ما ذهب إليه بعض أئمة اللغة في بيان عبارة, أو تفسير لفظ لرواية, وذلك في مثل ما جاء من استدراكه على كلام الهروي في قوله صلى الله عليه وسلم: " تربت يداك ": إن هذا ليس بدعاء عليه, وأن هذا ترغيب في استعمال الوصاة به, مستدلاً على ذلك بأن العرب تقول: لا أم لك ولا أب لك, يريدون: لله درّك..". قال القاضي: " وليس المراد في شيء منها أصل استعمالها.. لكن قوله: ظاهره: أهلكه الله, وباطنه: لله درّه, ففيه تساهل, والصواب: ظاهره هلكت أمه, وإنما أهلكه الله, تفسير ثكلته أمه ".
ت كذلك تهذيب الكثير من النقول, ومثال ذلك: فيما نقله من قول الأئمة في لفظ (جنابذ): إنها القباب, وعقب عليه بأنها شبه القباب.(1/72)
ث ردّ الروايات المخالفة إلى أصولها, وبيان أسانيدها, ففي حديث: " وينبتون نبات الشيء ". التي قال فيها النووي: إنها وردت في عبد الحق: " نبات الدمن ". يقول عياض: " وعند ابن سعيد السجزي - وهو أحد رواة صحيح مسلم - : نبات الدمن". وبهذا نقطع بأن هذه النسخة لم تصل للنووي؛ إذ لو وصلته لاستغنى بها عن غير الصحيح.
ج التدقيق في المراجع وسعة استيعابه لها.
ح تصحيح أخطاء بعض العلماء في تصويباتهم لبعض ألفاظ الحديث, كتصويبه للخطابي في توهيمه أصحاب الحديث في تسكينهم باء " الخبث والخبائث ".
خ تقييم كلام الأئمة في بعض القضايا الحديثية.
د التنبيه على قيمة ما يسوقه المازري من رواية في شرحه لبعض قضايا الحديث.
ذ كما يبيّن قيمة ما جاء زائداً على الصحيح عند المازري, كما في حديث: " نورٌ أنّى أراه ". قال المازري: " وفي نسخة: نورانيٌّ ". قال القاضي عقبها: " هذه الرواية لم تقع إلينا, ولا رأيتها في شيء من الأصول, إلا ما حكاه الإمام أبو عبد الله ".
ر اعتماد صاحبه في البيان كثيراً على أصول النسخ من مراجع اختلف النقل عنها, مما يعين على تصويب ما جاء في تلك المراجع المتداولة.
ز تنوّع مصادره في شرحه للحديث, كأئمة اللغة والرواية والدراية.
رابعاً: عنايته بالجوانب الفقهية في الحديث:
أ بيان قيمة ما ذهب إليه أصحاب الحديث في المسائل الفقهية.
ب توثيق بعض الفتاوى الفقهية.
ت التنبيه على أصول الفقه والفتوى لأهل الحديث.
ث تقويمه الروايات عن مالك في بعض المسائل الفقهية, والتنبيه على شواذّ المسائل في مذهبه, مع بيان موردها.
ج استكماله لبعض المباحث الفقهية في بعض روايات مسلم, وذلك بسوق أدلتها من غيره, حتى تكتمل المسألة الفقهية.
ح حرصه على بيان معاني بعض الأحكام الفقهية, مما لا يتيسّر الوقوف عليه مجتمعاً في غير هذا الكتاب. كما في تفسيره لرفع الأيدي في التكبير.(1/73)
خ يعرض كثيراً لغرائب في مسائل فقهية اندثرت, مما يُساعد في بيان تاريخ التشريع, يُساعد الفقيه على الفتوى بالرخصة - وإن كانت شاذّة - عند الحاجة.
د إحاطته بالمذاهب الفقهية, واستجماعه لعلم أصول الفقه, ساعداه في ردّ الخلافات الفقهية الواردة في الكتاب إلى أسبابها العلمية ودواعيها.
ذ الكشف عن أصول بعض الاستخراجات الفقهية, وإظهار مذاهب لبعض أتباع الأئمة انفردوا بها.
خامساً: فوائد أخرى في الأصول والرجال واللغة:
أ تحديده لمصادر بعض المراجع الأصلية في علوم الرجال.
ب قطع النزاع في الاحتمالات والتفسير, بما يسوق العبارة من نصّ يُسنده.
ت تحديد ميلاد بعض المصطلحات الحديثية والقضايا العلمية والفقهية.
ث بيان السبب الحامل على التلقيب لبعض الأئمة الوارد ذكرهم في الكتاب, كقوله في أحمد بن صالح المصري: المعروف بابن الطبري لغلبة الحديث عليه.
ج جمع في كثير من مسائله بين نظره وإجازة أهل التحقيق له.
ح تحديد جهة وأسلوب الاستفادة التي أفادها من شيوخه.
خ أن هذا الكتاب كان الأصل الذي أخذ منه ابن الصلاح ثم النووي بعده, ومن بعدهما ترادف أئمة الشروح على النقل منه والأخذ عنه, كالعراقي, وابن حجر, والعيني.
د بيان مصدر غيره ممن أتى بعده ونقل عنه ولم يُشر إليه.
ذ تصحيح الإسناد في بعض المنقول عنه, فقد ينقل القاضي عنه, ثم يتبيّن أن التصويب له عن غيره.
تنبيهات:
- إذا قال عياض قال (الإمام) فمقصده المازري.
- وإذا قال ذكر في (الأم) فمقصده صحيح مسلم.
- لا يسوق متن الصحيح كاملاً, إنما يورد ما يريد شرحه فقط، وفي الطبعات الحديثة أوردوا الصحيح كاملاً !
- لا يضَع تراجم للأبواب إلا إذا كان الحديث طويلاً.
- وجرى في مسائل الاعتقاد على طريقة الأشاعرة.
مرجع ما سبق : "إكمال المعلم" بتحقيق: يحيى إسماعيل, مع مقدّمته له.
طبعات الكتاب:
- طبع الكتاب بتحقيق: يحيى إسماعيل/ الناشر دار الوفاء / في (9) مجلدات. الطبعة الثانية سنة 1425هـ.(1/74)
- وطبع أيضاً في مطبعة السعادة. ومعه: " مكمل إكمال الإكمال ".
8- منهج الإمام القرطبي في كتابه "المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم"
أولاً:ترجمة الإمام القرطبي
هو: الإمام الفقيه المحدّث أبو العباس ضياء الدين أحمد بن عمر بن إبراهيم بن عمر الأنصاري الأندلسيّ القرطبي المالكي,.
ولد سنة 578هـ في قرطبة, وعُرف بابن المزيِّن, رحل مع أبيه من الأندلس وهو صغير, إلى فاس وتلمسان, ثم الإسكندرية, والمدينة ومكّة, والقدس.
شيوخه:
أبو الحسن علي بن محمد اليحصبي, أبو محمد عبد الله بن سليمان بن حوط الله, أبو إبراهيم عوض بن محمود تقي الدين, أبو الحسين مرتضى بن العفيف المقدسي, أبو الفضل بن الحباب, أبو ذر بن محمد بن مسعود الخشني, أبو الصبر أيوب بن محمد الفهري البتي, أبو القاسم عبد الرحمن بن عيسى بن الملجوم الأزدي, أبو عبدالله محمد بن عبد الرحمن التجيبي.
تلاميذه:
أبو عبدالله محمد بن أحمد بن فرح القرطبي, أبو محمد عبد المؤمن بن خلف الدمياطي, أبو الحسن بن يحيى القرشي.
مصنفاته:
المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم.
تلخيص صحيح مسلم.
مختصر البخاري.
كشف القناع عن حكم مسائل الوجد والسماع.
كتاب شرح التلقين.
كتاب في أصول الفقه.
جزء حديثي في إظهار إدبار من أباح الوطأ في الأدبار. وغيرها.
وفاته:
توفي أبو العباس القرطبي رحمه الله في الرابع من ذي القعدة من عام 656هـ, ودفن بالإسكندرية.
مراجع الترجمة: الوافي بالوفيات (7/295), تذكرة الحفاظ (4/1438).
ثانياً:منهج الإمام أبي العباس القرطبي في كتابه "المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم".
اسم الكتاب: "المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم". كما سمّاه مؤلفه في خطبة الكتاب.
حاز "صحيح الإمام مسلم" مكانة عالية بين مصنفات الحديث, وتربّع سدة رفيعة من التقدير والعناية, فكثرة حوله الشروح حتى بلغت أكثر من خمسين شرحاً, واختلفت طولاً وقصراً.(1/75)
ونظراً لأهميّة صحيح مسلم, وما يتصف به من سهولة تناول الأحاديث, والتحرّز في الألفاظ, والتحرّي في السياق, فإن بعض العلماء يفضّلونه على صحيح البخاري من هذه الناحية, وهذه الوجهة التي سادت لدى علماء المغرب العربي.
والذي يعنينا في هذا المقام شرح الإمام القرطبي أبو العباس, الذي وضعه على اختصاره لصحيح الإمام مسلم -رحمه الله- .
أهمية الكتاب:
لقد أضاف الإمام القرطبي إلى تلخيص صحيح الإمام مسلم عملاً علمياً؛ إذ وضع عليه شرحاً لما أشكل في تلك الأحاديث من معنى غامض, أو لفظة غريبة, ونبّه على نكتٍ من إعرابه, وعلى وجوه الاستدلال بحديثه.
ويكفيه أهميةً ومكانةً اعتماد الإمامان الجليلان: النووي, وابن حجر عليه كمصدر مهم في شرحيهما على الصحيحين.
ولا شكّ أن العلماء اهتموا فيما بعد بكتاب "لمفهم" اهتماماً واضحاً, فنجد بصماته عميقة فيما ألِّف بعده, عند:
- الزواوي, في كتابه: "إكمال الإكمال" الذي جمع بيم "لمُعلم" و "الإكمال" و "والمفهم" و "والمنهاج".
- الأبِّي, في كتابه "إكمال إكمال المُعلم" الذي ذكر فيه أنه ضمّنه كتب شرَّاحه الأربعة: المازري وعياض والقرطبي والنووي.
- ثم يُطالعنا التاريخ بكتاب "مكمِّل إكمال الإكمال" للسنوسي, وغير ذلك من المصنفات التي اعتمدت كتاب "المفهم" واستفادت منه في حلّ المشكلات وفي الشرح.
شخصية القرطبي الشّارح:
هو في العقيدة أشعريّ, وفي الفقه على مذهب الإمام مالك, ومتضلّعٌ فيه, وعالمٌ عامل ملتزم بأحكام الشريعة, ويُشرع قلمه كالسيف الصّارم في وجوه أصحاب البدع والشطحات من أدعياء الصوفية والمخرفة.
فهو ينعي على جهّال العوام والمبتدعة زعيقهم وزفيرهم وشهيقهم, وأنهم لم يُدركوا حقيقة التوحيد والخشوع عند ذكر الله.
ويعيب على الذين إذا سمعوا القرآن صاحوا صيحات غير متزنة, مدّعين الخشوع والتأثر..
ويبّ جام غضبه على من يدّعي أن الأحكام والتكاليف الموجودة في القرآن والسنة إنما هي للعوام.(1/76)
ويستهجن؛ بل ويستخفّ بكل رأي مخالف ومتهافت, كقول الحريري في تسويغ التسوّل والإلحاح فيه قياساً على سؤال موسى عليه السلام والخضر طعام الضيافة من أهل القرية..
ويردّ بالحجج المتلاحقة على مَن فضّل الخضر على موسى عليه السلام.
مقدّمة الإمام القرطبي لكتاب "المفهم":
شرع الإمام القرطبي في شرحه بذكر مقدّمة مختصرة, بيّن فيها منهجه في الشرح ومقصده منه, فقال:
".. وبعد:
فلمّا حصل من تلخيص كتاب مسلم وترتيبه وتبويبه المأمول, وسهل إلى حفظه وتحصيله الوصول, رأينا أن نكمل فائدته للطالبين, ونسهّل السبيل إليه على الباحثين:
- بشرح غريبه.
- والتنبيه على نكتٍ من إعرابه.
- وعلى وجوه الاستدلال بأحاديثه.
- وإيضاح مشكلاته.
- حسب تبويبه, وعلى مساق ترتيبه.
- فنجمع فيه ما سمعناه من مشايخنا.
- أو وقفنا عليه في كتب أئمتنا.
- أو تفضّل الكريم الوهّاب بفهمه علينا على طريق الاختصار.
- ما لم يَدْعُ الكشفُ إلى التطويل والإكثار, حرصاً على التقريب والتسهيل, وعوناً على التفهُّم والتحصيل, وسمّيته بـ: "المُفهِم لما أشكل من تلخيص مسلم".
وقد اجتهدتُ في تصحيح ما نقلت ورأيتُ حسب وسعي فيما علمتُ, غير مدّعٍ عصمةً, ولا متبرِّئ من زلّة, والعصمةُ من الله, ولا حول ولا قوّة إلا بالله.
ووجهَ الله الكريم لا غيره قصدتُ, ثوابَه أردتُ, وهو المسؤول في المعونة عليه, والانتفاع به, إنه طيّب الأسماء, سميع الدّعاء..".اهـ
أقول: تبدأ عناية الإمام القرطبي -رحمه الله- بصحيح مسلم من قرطبة, فيرويه قراءةً وسماعاً وإجازةً, عن شيخين كبيرين من شيوخ قرطبة, ثم رواه في مصر عن الشيخ المأمني راوي صحيح مسلم في مصر, وكأنه حرص أن يرتبط اسمه منذ شبابه بهذا الكتاب العظيم من كتب السنّة المشرّفة, فصنع له تلخيصاً متميّزاً, وضبط ألفاظه بالرواية السماعية, ثم شرح مشكلاته بما رواه عن مشايخه, وبما فتح الله عليه من الفهم والإدراك الذاتي.(1/77)
وقد وضع الإمام القرطبي لنفسه في تلخيصه لصحيح مسلم منهجاً نوضّحه بما يلي:
- اختصار الأسانيد, والاكتفاء بذكر الصحابي, وأحياناً التابعي.
- لم يحذف مقدمة الإمام مسلم لصحيحه, بل اختصرها كذلك.
- حذف المكرّر من الأحاديث, وذكرها في موضع واحد حسب موضوعها.
- ترجمة الأبواب بعناوين وافية دقيقة. وعن تبويبه يقول بعض المشايخ بأنّ تبويب القرطبي في شرحه لتلخيص صحيح مسلم ، وفي تلخيصه لصحيح مسلم؛ أجود من تبويب النووي ، فإنه لخص صحيح مسلم في كتاب جرّد الأحاديث من الأسانيد وبوب عليها تبويباُ جيداً بديعاً وشرح هذا التلخيص، وفي بعض الأحيان نجد أن القرطبي -رحمه الله- يتأثر أحياناً بتبويب الإمام أبي نعيم في "مستنخرجه" ، فقد وجد أثناء المطالعة أن القرطبي يأخذ أحياناً التبويب لأبي نعيم في "المستخرج" فيضعه عنواناً لذلك الباب الذي يبوِّب عليه أو الذي يبوِّب به. انظر "مناهج المحدثين" للشيخ د.سعد الحميّد.
- اختياره للحديث وفق أتمّ الروايات وأكملها, ثم إيراد بعض الروايات إن كان فيها زيادة في المعنى.
- اتّباعه لترتيب الإمام مسلم, ولم يُخالف إلا في نقل بعض الأحاديث من أماكنها, وإيرادها في المكان الأكثر ملاءمة مع موضوعها, وقد نقل كتاب الجهاد من مكانه في الصحيح, ووضعه بعد كتاب الحجّ, إظهاراً لأهميّته.
هذا في اختصاره لصحيح الإمام مسلم.
أمّا في الشّرح, فقد سبق من كلامه في المقدمة شيءٌ من منهجه في الشرح, ونزيد فنقول:
- منهجه في شرح الغريب:
يبدأ المؤلف -رحمه الله- بضبطها.
- ثم يستعرض أقوال علماء اللغة في شرحها, ويشير إلى الأرجح منها.
- ولكنه يورد بعض الألفاظ من صحيح مسلم, ويقول: جاء في "الأمّ".
- وفي بعض الأحيان تدخُل عليه بعض الألفاظ من صحيح البخاري, أو من غيره من الكتب دون أن يُشير إلى ذلك, ولعلّ سبب ذلك الاستقصاء أو توارد حفظه أثناء التأليف.(1/78)
مثال ما سبق:قوله: " الجزَع: بالجيم والزاي, صحيح الرواية, لا يُعرف في كتاب مسلم غيرها, وهو بمعنى الخوف من الموت. وفي كتاب أبي عبيد: الخرع - بالخاء المعجمة والراء المهملة - . وقال: يعني: الضعف والخور. وكذلك قال ثعلب, وفسّره به. قال شمر: يقال: جزع الرجل إذا ضعُف, وكل رخوٍ ضعيف. خريع وخرع, والخَرَعُ: الفصيل الضعيف. قال: والخَرِع: الدّهش. وفي الصحاح: الخَرَع - بالتحريك - : الرّخاوة في الشيء, وقد خَرِع الرجل - بالكسر - أي: ضعُفَ, فهو خَرِع. ويقال لمشفر البعير إذا تدلّى: خريع ".اهـ
وهو كما سبق يعتني عناية فائقة بشرح الكلمات اللغوية, وإيراد تفاصيل حول الكلمة الواردة, من خلال عرضه لروايات الحديث المتعدّدة في كتاب مسلم وغيره من كتب السنّة, مستدلاً عليها بالآيات القرآنية, ومستشهداً لها بالشعر العربي, والأمثال, والحكم, ومن خلال ذكره لأسماء كتب لم تصلنا, فيعدّ كتاب "المفهم" حافظاً لما عدا عليه الّمن, وأتلفه الأعداء من تراثنا العربي والإسلامي.
- أما في الإعراب فهو يشير كما سبق في مقدمته إلى نكت من إعرابه.
مثاله: " وقوله: (حمَّالَةَ الحَطَبِ), الجمهور على رفع حمّالة على الصفة أو البدل, أو على أنه خبر ابتداءٍ محذوف, وقرأهُ عاصم بالنّصب على الذمِّ, ويجوز أن يكون حالاً..".
- وهو كذلك يتطرّق إلى الأحكام الفقهية المستفادة من الأحاديث, ويُشير إلى طرائق الفقهاء في انتزاع الأحكام منها وطرق الاستنباط, مع البدء والتركيز على مذهب الإمام مالك -رحمه الله-. ولكنه ليس دائماً - ويناقش الأدلّة لغةً وفقهاً, ويردّ ما قد يُفهم خطأً من الحديث, ويصحّح ذلك الفهم.
مثاله قوله: " وقوله: "فجعلنا نمسح على أرجلنا" قد يتمسّك به مَن قال بجواز مسح الرجلين, ولاحجّة له فيه لأربعة أوجه:.. ". وذكرها.(1/79)
ومثال مناقشته لأقوال الفقهاء ما ذكره في حديث " فمسح برأسه ", فقال: " الباء في "برأسه" باء التعدية, أي: التي يجوز حذفها وإثباتها.. ولا يصحّ أن تكون للتبعيض خلافاً للشافعي؛ لأن المحقّقين من أئمة النحويين البصريين, وأكثر الكوفيين أنكروا ذلك, ولأنها لو كانت للتبعيض لكان قولك: مسحتُ برأسه. كقولك: مسحتُ ببعض رأسه.. الخ".
- ومن منهجه التركيز على تأويل المختلف وحلّ المشكل, في بعض الأحاديث, يُظهر قدرة المؤلف -رحمه الله- على عرض الاحتمالات والافتراضات, يساعده في ذلك اشتغاله أول حياته بالمعقولات, وفي الغالب تكون توجيهاته لإزالة التناقض أو التصادم بين الأدلة مفيدة.
مثال ذلك: قوله عند حديث " ويكون الناس في العرَقِ على قدر أعمالهم "
".. فإن قيل: فعلى هذا يكون الناس في مثل البحر من العرق, فيلزم أن يسبح الكل فيه سبحاً واحداً, فكيف يكونون متفاضلين بعضهم إلى عقبيه, وبعضهم إلى فمه, وما بينهما؟.
قلنا: يزول هذا الاستبعاد بأوجه؛ أقربها وجهان:...". وذكرهما.
وانظر كذلك كلامه في مسألة دخول الفقراء الجنة قبل الأغنياء. (7/134-135). محديث انشقاق القمر (7/404).
- كما أنه يختم كثيراً من الأحاديث, وأحياناً فقرات الحديث الواحد, باستنباط توجيهات وإرشادات مفيدة جداً.
كقوله: " ويُستفاد منه أنّ الذنوب وإن عظُمت, فعفو الله أعظم منها, وأنّ من ألهم صدق التوبة, فقد سُلِكَ به طريق اللطف والقربة".
وقوله: " ويُستفاد من الحديث الأول: أن الأصل في الحقوق النفسية والمالية المنع, فلا يحلّ شيء منها إلا بوجه شرعيّ ".
- تردُ أبوابٌ في "التلخيص" لم يتعرّض المؤلّف -رحمه الله- إلى شرح شيءٍ منها في "المفهم" لأنه لم يجد فيها إشكالاً يحتاج إلى الشّرح.
- يحكُم القرطبي -أحياناً- على الأحاديث التي يوردها, أو ينقل عن غيره الحكم فيها: كالترمذيّ, وغيره. انظر: (7/362-363).(7/254).(1/80)
- والقرطبي أشعريٌّ متأثرٌ بهم وبالمتكلّمين, ولم يفهم مذهب أهل السنة في الصفات وإثباتها لله تعالى كما يليق بالله سبحانه من غير تعطيل, ولا تمثيل, وتأثر كما يبدو بالشّائعات المنتشرة في زمنه حول اعتقاد أهل السنة وأنهم مشبّهة. وانظر: (7/389-391). (7/194). وغيرها من المواضع.
- يتكلم على بعض الألفاظ المشكلة في الصحيح كلفظة (تصديقاً له) في خبر الحبر اليهودي الذي ذكر في حديثه أن الله يمسك السموات على إصبع..الخ الحديث. حيث جاء في إحدى الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحك من كلامه تصديقاً له وتعجباً لما قال ذلك.. فقال القرطبي: " وضحك النبي صلى الله عليه وسلم منه إنما هو تعجّبٌ من جهله, ألا ترى أنه قرأ عند ذلك: {وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قدْرِهِ} أي: ما عرفوه حقّ معرفته, ولا عظّموه حقّ تعظيمه. وهذه الرواية الصحيحة المحقّقة, فأمّا رواية من زاد في هذا اللفظ: "تصديقاً له" فليست بشيء؛ لأنها من قول الراوي, وهي باطلة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يُصدّق الكاذب, ولا المُحال, وهذه الأوصاف في حقّ الله تعالى مُحال..". وهذا يؤكّد لنا ما سبق في الفقرة الآنفة.
- والقرطبي لا يكتفي بنقل الأقوال دون تحقيق وتمحيص؛ بل يتعقّب ما يراه غير صحيح من الأقوال. فقد تعقّب -على سبيل المثال- القاضي كما في (7/92),و (7/115). وتعقّب شرّاح الحديث كما في (7/121).و (7/263). وبعض أئمة اللغة كما في(7/283).
- كما يُرجّح ما يراه راجحاً. كقوله في (7/135): " وهذه الأحاديث حجةٌ واضحةٌ على تفضيل الفقر على الغنى, ويتقرّر ذلك من وجهين:..".
- وهو متأثرٌ بالفلاسفة ومعقولاتهم!, كما سبقت الإشارة إليه. وانظر: على سبيل المثال (7/190). عندما تكلّم عن ذبح الموت يوم القيامة وهو على صورة الكبش.(1/81)
- كما اعتنى بتحقيق الكلام على بعض المسائل المشكلة التي وردت في مقدمة الإمام مسلم لصحيحه, والتي منها قوله في (7/236): " قلتُ: هذا الإسناد ذكره مسلمٌ مرْدَفاً على الإسناد السليم الذي لا تعقّبَ فيه, وكأنّ مسلماً تحقّق ما قاله الدارقطني, ولذلك أردفه على الإسناد الأول الذي هو عمدته, وعلى شرطه. وهذا وغيره يدلّ على أن القسم الثالث الذي ذكره مسلمٌ في أوّل كتابه أدخله في مسنده, والله أعلم ".اهـ. وانظر: (1/102).
- كما تطرّق إلى بعض القضايا في علم المصطلح.منها على سبيل المثال: الخلاف في المراسيل كما في (1/122), وحديث المجهول (1/93), المطاعن في بعض أحاديث الصحيحين (1/99), وغيرها كثير.
- كما يمتاز أسلوب القرطبي -رحمه الله- بالرّشاقة وحسن السبك, مع البعد عن التقعّر أو التكلّف, وترِدُ الجمل المتقابلة أو المسجوعة في كلامه, ولكن من غير تكلّف ظاهر, وبالجملة فإن عنايته باللغة والبلاغة من مطلع حياته, جعلت أسلوبه رائقاً وسلساً.
وشرح الإمام القرطبي يتميّز بميّزات كثيرة, من أهمّها:
1- تفرّده في تدوين فوائد الحديث.
2- أسبقيّته في حلّ مشكلات الأحاديث في الصحيح.
3- إنصافه في عرض المذاهب الفقهية.
4- احتواؤه على كثير من الفوائد المختلفة في أنواع العلوم.
مراجع الفقرة: كتاب "المفهم" طبعة دار ابن كثير مع مقدمة التحقيق.
الأعمال حول الكتاب:
سبقت الإشارة في فقرة أهمية هذا الكتاب اعتناء العلماء به, حيث وضعه اثنان ممن جمعوا شروح صحيح الإمام مسلم ضمن شروحهم له.
طبعات الكتاب:
- طبع "المفهم" بتحقيق: محيي الدين مستو وجماعة, وصدر عن دار ابن كثير/ في (7) مجلدات، سنة 1420هـ.
- وطبع في دار الكتاب المصري بتحقيق الحسني أبو الفرجة في 3 مجلدات.
- وحُقِّقَ في قسم السنَّة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
9- منهج الإمام النووي في كتابه المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج
أولاً: ترجمة الإمام النوويّ:(1/82)
هو يحيى بن شرف بن مري بن حسن بن حسين.
لقب بمفتي الأمة ، شيخ الإسلام ، محيي الدين .
أبو زكريا النواوي ، الحافظ ، الفقيه ، الشافعي ، الزاهد ، أحد الأعلام .
ولد في العشر الأوسط من المحرم سنة إحدى وثلاثين وستمائة بنوى, وهي قرية بالجولان, من حوران.
قال ابن العطار : قال لي الشيخ : فلما كان لي تسع عشرة قدم بي والدي إلى دمشق في سنة تسع وأربعين فسكنت المدرسة الرواحية ، وبقيت نحو سنتين لم أضع جنبي إلى الأرض . وكان قوتي بها جراية المدرسة لا غير. وحفظت "التنبيه" في نحو أربعة أشهر ونصف.
قال : وذكر لي الشيخ أنه كان يقرأ كل يوم اثني عشر درساً على المشايخ شرحا وتصحيحاً ، درسين في "الوسيط" ،ودرسين في "المهذب" ،ودرساً في "الجمع بين الصحيحين" ودرساً في "صحيح مسلم" ، ودرساً في "اللمع" لابن جني ، ودرساً في "إصلاح المنطق" لابن السكيت ، ودرساً في "التصريف" ، ودرساً في أصول الفقه ، تارة في "اللمع" لأبي إسحاق ، وتارة في "المنتخب" لفخر الدين ، ودرساً في أسماء الرجال ، ودرساً في أصول الدين.
وكنت أعلق جميع ما يتعلق بها من شرح مشكل ، ووضوح عبارة ، وضبط لغة ، وبارك الله لي في وقتي.
ثم سمع الحديث ، فسمع "صحيح مسلم" من الرضى ابن البرهان . وسمع "صحيح البخاري" و "مسند أحمد" ، و "سنن أبي داود" ، والنسائي ، وابن ماجه ، و "جامع الترمذي" و "مسند الشافعي" و "سنن الدار قطني" و "شرح السنة" وأشياء عديدة.
شيوخه:
ابن عبد الدائم ، و الزين خالد ، وشيخ الشيوخ شرف الدين عبد العزيز ، والقاضي عماد الدين عبد الكريم بن الحرستاني ، وأبو محمد عبد الرحمن بن سالم الأنباري ، وأبو محمد إسماعيل بن أبي اليسر ، وأبو زكريا يحيى بن الصيرفي ، وأبو الفضل محمد بن محمد بن البكري ، والشيخ شمس الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن أبي عمر ، وطائفة سواهم.(1/83)
وأخذ علم الحديث عن جماعة من الحفاظ ، فقرأ كتاب "الكمال" لعبد الغني الحافظ ، علي أبي النقا خالد النابلسي ، وأخذ أصول الفقه عن القاضي أبي الفتح التفليسي ، وتفقَّه على الإمام كمال الدين إسحاق المغربي ثم المقدسي ، والإمام شمس الدين عبد الرحمن بن نوح المقدسي ، ثم الدمشقي ، وعز الدين عمر بن أسعد الإربلي.
والإمام كمال الدين سلار بن الحسين الإربلي ، وقرأ النحو على فخر الدين المالكي ، والشيخ أحمد بن سالم المصري .
وقرأ على ابن مالك كتاباً من تصانيفه ، وعلَّق عنه أشياء.
تلاميذه:
القاضي صدر الدين سليمان الجعبري خطيب داريا ، والشيخ شهاب الدين أحمد بن جعوان ، والشيخ علاء الدين علي بن العطار ، وأمين الدين سالم بن أبي الدر ، والقاضي شهاب الدين الإربدي.
وروى عنه : ابن العطار ، والمزي ، وابن أبي الفتح ، وجماعة كثيرة.
مناقبه:
قال عنه تلميذه ابن العطار: وكان لا يأكل في اليوم والليلة إلا أكلة بعد العشاء الآخرة. ولا يشرب إلا شربة واحدة عند السحر. ولا يشرب الماء المبرَّد ، ولا يأكل فاكهة ، فسألته عن ذلك فقال : دمشق كثيرة الأوقاف وأملاك المحجوزة عليهم ، والتصرف لهم لا يجوز إلا على وجه الغبطة ، والمعاملة فيها على وجه المساقاة ، وفيها خلاف والناس لا يفعلونها إلا على جزء من ألف لمالك, فكيف تطيب نفسي بأكل ذلك ؟
وكان أمَّاراً بالمعروف نهاءً عن المنكر ، لا تأخذه في الله لومة لائم. يواجه الملوك والجبابرة بالإنكار ، وإذا عجز عن المواجهة كتب الرسائل.
تنبيه حول عقيدة الإمام النووي :
إنّ النووي - مع إمامته - على طريقة الأشاعرة في الصفات ، إذ وقع - عفا الله عنه - في التأويل, وهو بذلك متأثر بالقاضي عياض والمازري. فهو بذلك سلك مسلك المتأولين ، فتأويلاته في شرح صحيح مسلم كثيرة ، فلا يعول عليها ، وهو مع ذلك إمام وعالم من علماء المسلمين ولكن ينبغي التحرز عند شرحه للصفات.(1/84)
- قال الذهبي في ترجمة النووي ((.إن مذهبه في الصفات السمعية السكوت وإمرارها كما جاءت ... وربما أول قليلا )).
- ومنه قوله نقلاً عن القاضي عياض: " هذا الحديث من أحاديث الصفات وفيها مذهبان: التأويل والإمساك عنه مع الإيمان بها مع اعتقاد أن الظاهر منها غير مراد، فعلى قول المتأولين يتأولون الأصابع هنا على الاقتدار أي خلقها مع عظمها بلا تعب ولا ملل، والناس يذكرون الأصبع في مثل هذا للمبالغة والاحتقار فيقول أحدهم بأصبعي أقتل زيداً أي لأكلفه على في قتله، وقيل يحتمل أن المراد أصابع بعض مخلوقاته وهذا غير ممتنع والمقصود أن يد الجارحة مستحيلة انتهى ".
- وكلا الطريقين مخالف لمنهج السلف لأنهم يثبتون ما أثبته الله لنفسه وما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أسماء وصفات إثباتاً يليق بجلاله وعظمته بلا تشبيه ولا تمثيل ولا تعطيل مستدلين بقول الله عز وجل (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير).
وانظر " الردود والتعقبات على ما في شرح مسلم للنووى فى باب الأسماء والصفات وغيرها من المسائل المهمَّات "...للشيخ مشهور بن حسن آل سلمان...طبعته دار هجر.
تصانيفه:
وقد نفع الله تعالى الأمة بتصانيفه ، وانتشرت في الأقطار ، وجلبت إلى الأمصار ، فمنها : "المنهاج في شرح مسلم" ، و "كتاب الأذكار" ، و "كتاب رياض الصالحين" ، و "كتاب الأربعين حديثاً" ، و "كتاب الإرشاد" في علوم الحديث ، و "كتاب التيسير" في مختصر الإرشاد المذكور ، و "كتاب المبهمات"، و "كتاب التحرير في ألفاظ التنبيه" ، و "العمدة في صحيح التنبيه" ، و "والإيضاح" في المناسك ، و "الإيجاز" في المناسك ، وله أربع مناسك أخر .(1/85)
وكتاب "التبيان في آداب حمله القرآن" ، وفتاوى له ، و "روضة الطالبين" في أربع مجلدات ، و "المنهاج" في المذهب ، و "المجموع" في شرح المذهب ، بلغ فيه باب المصرّاة إلى أربع مجلدات كبار . وشرح قطعة من البخاري وقطعة جيدة من أول "الوسيط" ، وقطعة في "الأحكام" وقطعة كبيرة في "تهذيب الأسماء واللغات" ، وقطعة مسودة في طبقات الفقهاء ، وقطعة في التحقيق في الفقه ، إلى باب صلاة المسافر.
وفاته:
توفي ليلة الأربعاء رابع وعشرين رجب سنة سبع وسبعين وستمائة , بنوى ودفن بها. وكان أوحد زمانه في الورع والعبادة والتقلُّل وخشونة العيش والأمر بالمعروف.
المرجع : تاريخ الإسلام للإمام الذهبي.
منهجه -رحمه الله- في شرحه لصحيح الإمام مسلم بن الحجاج:
اسم الكتاب: " المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج ".
ذكر الإمام النووي -رحمه الله- مقدمة على شرحه لصحيح الإمام مسلم -رحمه الله- ذكر فيها منهجه في هذا الشرح وطريقة ترتيبه له, وقد ميزتها باللَّون الأزرق العريض, وجعلتها ضمن فقرات ليتّضح منهج الإمام النووي بجلاء, وذلك تمييزاً لها عمّا سأذكره وراء فقرات هذا المنهج من أمثلة توضّح هذا المنهج, وقد أكتفي بمثال واحد, أو أكثر لكلّ فقرة, والله الموفّق. قال الإمام النووي -رحمه الله-:
" ... وأصحُّ مصنفٍ في الحديث بل في العلم مطلقاً؛ الصحيحان للإمامين القدوتين أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري, وأبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيرى رضي الله عنهما, فلم يوجد لهما نظير في المؤلفات, فينبغي أن يُعتنى بشرحهما وتُشاع فوائدهما ويتلطَّف في استخراج دقائق المعلوم من متونهما وأسانيدهما, لما ذكرنا من الحجج الظاهرات وأنواع الأدلّة المتظاهرات.
فأمَّا صحيح البخاري -رحمه الله- فقد جمعتُ في شرحه جمَلاً مستكثرات مشتملة على نفائس من أنواع العلوم بعبارات وجيزات, وأنا مشمِّر في شرحه راجٍ من الله الكريم في إتمامه المعونات.(1/86)
وأما صحيح مسلم -رحمه الله- فقد استخرتُ الله تعالى الكريم الرؤوف الرحيم في جمع كتابٍ شرحُهُ متوسطٌ بين المختصرات والمبسوطات لا من المختصرات المخلَّات ولا من المطوَّلات المملَّات, ولولا ضعف الهِمَم وقلّة الراغبين, وخوف عدم انتشار الكتاب لقلَّة الطالبين للمطوّلات لبسطتهُ فبلغتُ به ما يزيد على مائة من المجلدات من غير تكرارٍ ولا زياداتٍ عاطلات؛ بل ذلك لكثرة فوائده وعظم عوائده الخفيَّات والبارزات, وهو جديرٌ بذلك؛ فإنه كلام أفصحِ المخلوقات صلى الله عليه و سلم صلواتٍ دائماتٍ.
- لكني أقتصرُ على التوسُّط, وأحرِص على ترك الإطالات.
- وأوثر الاختصار في كثير من الحالاتِ.
- فأذكر فيه إن شاء الله جملاً من علومه الزاهرات: من أحكام الأصول.
كقوله: " وهذا يُظهر على مذهب من يقول: إن لفظة ( من ) لا تقتضي العموم مطلقاً ، وعلى مذهب من يقول: لا تقتضيه في الإخبار وإن اقتضته في الأمر والنهي ، ويمكن تصحيحه على المذهب المختار وهو: كونها للعموم مطلقاً, لأنه قد قام دليل على إرادة الخصوص, وهو ما ذكرناه من النصوص والإجماع. والله أعلم ".
- والفروع.
كقوله: " قال بعض أصحابنا : يكره ابتداؤهم بالسلام ولا يحرم , وهذا ضعيف لأن النهي للتحريم , فالصواب تحريم ابتدائهم .
وحكى القاضي عياض عن جماعة أنه يجوز ابتداؤهم للضرورة والحاجة .
وهو قول علقمة والنخعي .
وقال الأوزاعي : إن سلمت فقد سلم الصالحون وإن تركت فقد ترك الصالحون . وأما المبتدع فالمختار أنه لا يبدأ بالسلام إلا لعذر وخوف من مفسدة , ولو سلم على من لم يعرفه فبان ذميا استحب أن يسترد سلامه بأن يقول استرجعت سلامي تحقيرا له .
وقال أصحابنا لا يترك للذمي صدر الطريق بل يضطر إلى أضيقه , ولكن التضييق بحيث لا يقع في وهدة ونحوها وإن خلت الطريق عن الزحمة فلا حرج انتهى .ا.هـ
وقوله: " وقد ذكر العلماء في اللحية عشر خصال مكروهة بعضها أشد قبحا من بعض:(1/87)
أحدها: خضابها بالسواد إلا لغرض الجهاد.
الثانية: خضابها بالصفرة تشبيها بالصالحين لا لاتباع السنة.
الثالثة: تبييضها بالكبريت أو غيره استعجالا للشيخوخة لأجل الرياسة والتعظيم، وإيهام أنه من المشايخ.
الرابعة: نتفها أو حلقها أول طلوعها إيثاراً للمرودة وحسن الصورة.
الخامسة:نتف الشيب.
السادسة: تصفيفها طاقة فوق طاقة تصنعا ليستحسنه النساء وغيرهن.
السابعة: الزيادة فيها والنقص منها بالزيادة في شعر العذار من الصدغين، أو أخذ بعض العذار في حلق الرأس ونتف جانبي العنفقة وغير ذلك.
الثامنة: تسريحها تصنعا لأجل الناس.
التاسعة:تركها شعثة ملبدة إظهارا للزهادة، وقلة المبالاة بنفسه.
العاشرة: النظر إلى سوادها وبياضها إعجابا وخيلاء، وغرة بالشباب وفخرا بالمشيب، وتطاولا على الشباب.
الحادية عشر: عقدها وظفرها.
الثانية عشر: حلقها؛ إلا إذا نبت للمرأة لحية فيستحبُّ لها حلقها " ا.هـ
- والآداب.
- والإشارات الزهديّات.
كقوله: " قال أهل اللغة والعربية: القوت ما يسدّ الرمق ، وفيه فضيلة التقلُّل من الدنيا, والاقتصار على القوت منها والدّعاء بذلك ".
- وبيان نفائس من أصول القواعد الشرعيَّات.
كقوله: " ثم معنى الحديث: أنَّ هذا جزاؤه وقد يُجازى به ، وقد يعفو الله الكريم عنه ولا يُقطع عليه بدخول النار ، وهكذا سبيل كل ما جاء من الوعيد بالنار لأصحاب الكبائر غير الكفر ، فكلّها يقال فيها: هذا جزاؤه. وقد يجازى وقد يعفى عنه ، ثمّ إن جوزي وأدخل النار فلا يخلد فيها ؛ بل لا بد من خروجه منها بفضل الله تعالى ورحمته ولا يخلد في النار أحد مات على التوحيد . وهذه قاعدة متفق عليها عند أهل السنة وسيأتي دلائلها في كتاب الإيمان قريبا - إن شاء الله - والله أعلم ".(1/88)
وقوله: " وأما معنى الحديث فتقدم أول الكتاب ، وتقدَّم عليه قاعدة مذهب أهل السنة والفقهاء وهي: أنَّ مَن حمل السلاح على المسلمين بغير حق ولا تأويل ، ولم يستحلّه فهو عاصٍ ولا يكفر بذلك. فإن استحلَّه كفر ".
- وإيضاح معاني الألفاظ اللغويّة.
كقوله: " النردشير هو : النرد فالنرد عجمي معرب وشير معناه حلو ".
مثل قوله: " وهَجَر, بفتح الهاء والجيم وهي مدينة عظيمة هي قاعدة بلاد البحرين قال الجوهري في صحاحه هجر اسم بلد مذكر مصروف قال والنسبة إليه هاجري وقال أبو القاسم الزجاجي في الجمل هجر يذكر ويؤنث قلت وهجر هذه غير هجر المذكورة في حديث اذا بلغ الماء قلتين بقلال هجر تلك قرية من قرى المدينة كانت القلال تصنع بها وهي غير مصروفة ".
- وأسماء الرجال.
كقوله: " أما ( قهزاذ) فبقاف مضمومة, ثم هاء ساكنة, ثم زاي ثم ألف, ثم ذال معجمة ، هذا هو الصحيح المشهور المعروف في ضبطه ".
- وضبط المشكلات.
كقوله: " وأما قول ابن أبي مليكة : ( كتبت إلى ابن عباس - رضي الله عنهما - أسأله أن يكتب لي كتابا ويخفي عني فقال : ولد ناصح أنا أختار له الأمور اختياراً وأخفي عنه قال : فدعا بقضاء علي - رضي الله عنه - فجعل يكتب منه أشياء ويمر بالشيء فيقول : والله ما قضى بهذا عليّ إلا أن يكون ضلَّ )(1/89)
فهذا مما اختلف العلماء في ضبطه فقال القاضي عياض - رحمه الله - : ضبطنا هذين الحرفين وهما : ويخفي عني وأخفي عنه بالحاء المهملة فيهما عن جميع شيوخنا إلا عن أبي محمد الخشني, فإني قرأتهما عليه بالخاء المعجمة ، قال: وكان أبو بحر يحكي لنا عن شيخه القاضي أبي الوليد الكناني أن صوابه بالمعجمة ، قال القاضي عياض - رحمه الله - : ويظهر لي أن رواية الجماعة هي الصواب ، وأن معنى أحفي أنقص من إحفاء الشوارب وهو جزها أي أمسك عني من حديثك ولا تكثر علي ، أو يكون الإحفاء الإلحاح أو الاستقصاء ، ويكون عني بمعنى عليَّ أي أستقصي ما تحدثني. هذا كلام القاضي عياض رحمه الله . وذكر صاحب مطالع الأنوار قول القاضي ثم قال: وفي هذا نظر ، قال: وعندي أنه بمعنى المبالغة في البر به والنصيحة له من قوله تعالى: { إنه كان بي حفيا } أي أبالغ له وأستقصي في النصيحة له والاختيار فيما ألقي إليه من صحيح الآثار . وقال الشيخ الإمام أبو عمرو بن الصلاح - رحمه الله - : هما بالخاء المعجمة أي يكتم عني أشياء ولا يكتبها إذا كان عليه فيها مقال من الشيع المختلفة وأهل الفتن ، فإنه إذا كتبها ظهرت وإذا ظهرت خولف فيها وحصل فيها قال وقيل, مع أنها ليست مما يلزم بيانها لابن أبي مليكة ، وإن لزم فهو ممكن بالمشافهة دون المكاتبة . قال: وقوله: ولد ناصح مشعر بما ذكرته . وقوله: ( أنا أختار له وأخفي عنه) إخبار منه بإجابته إلى ذلك. ثم حكى الشيخ الرواية التي ذكرها القاضي عياض ورجحها وقال: هذا تكلف ليست به رواية متصلة نضطر إلى قبوله . هذا كلام الشيخ أبي عمرو ، وهذا الذي اختارَهُ من الخاء المعجمة هو الصحيح, وهو الموجود في معظم الأصول الموجودة بهذه البلاد, والله أعلم ".
- وبيان أسماء ذوي الكنى.(1/90)
كقوله: " وأما ( أبو عبد الرحيم ) فقيل : هو شقيق الضبي الكوفي القاصّ ، وقيل هو: سلمة بن عبد الرحمن النخعي. وكلاهما يُكنى أبا عبد الرحيم ، وهما ضعيفان ، وسيأتي ذكرهما قريبا أيضا إن شاء الله تعالى ".
- وأسماء آباء الأبناء.
كقوله: " قوله : ( عن عبد الله بن مالك ابن بحينة )
والصواب في هذا أن ينون مالك ويكتب ابن بحينة ، بالألف ؛ لأن عبد الله هو ابن مالك وابن بحينة ، فمالك أبوه وبحينة أمه ، وهي زوجة مالك ، فمالك أبو عبد الله ، وبحينة أم عبد الله ، فإذا قرئ كما ذكرناه انتظم على الصواب ، ولو قرئ بإضافة مالك إلى ( بن ) فسد المعنى واقتضى أن يكون مالك ابنا لبحينة ، وهذا غلط ، وإنما هو زوجها ".
- والمبهمات.
- والتنبيه على لطيفةٍ من حال بعض الرواة, وغيرهم من المذكورين في بعض الأوقات.
كقوله: " وقوله رحمه الله : ( حدثنا حجاج بن الشاعر حدثنا شبابة )
هو حجاج بن يوسف بن حجاج الثقفي أبو محمد البغدادي ، كان أبوه يوسف شاعرا صحب أبا نواس ، وحجاج هذا يوافق الحجاج بن يوسف بن الحكم الثقفي أبا محمد الوالي الجائر المشهور بالظلم وسفك الدماء فيوافقه في اسمه واسم أبيه وكنيته ونسبته ، ويخالفه في جده وعصره وعدالته وحسن طريقته ".
- واستخراج لطائف من خفيَّات علم الحديث من المتون والأسانيد المستفادات.
كقوله نقلاً عن القاضي عياض: " كانت الكهانة في العرب ثلاثة أضرب
أحدها: يكون للإنسان ولى من الجن يخبره بما يسترقه من السمع من السماء وهذا القسم بطل من حين بعث الله نبينا صلى الله عليه وسلم .
الثاني: أن يخبره بما يطرأ أو يكون في أقطار الأرض وما خفي عنه مما قرب أو بعد ، وهذا لا يبعد وجوده ، ونفت المعتزلة ، وبعض المتكلمين هذين الضربين وأحالوهما ، ولا استحالة في ذلك ولا بعد في وجوده لكنهم يصدقون ، ويكذبون ، والنهى عن تصديقهم ، والسماع منهم عام.(1/91)
الثالث: المنجمون وهذا الضرب يخلق الله تعالى فيه لبعض الناس قوة ما لكن الكذب فيه أغلب ، ومن هذا الفن العرافة ، وصاحبها عراف ، وهو الذي يستدل على الأمور بأسباب ، ومقدمات يدعى معرفتها بها ، وقد يعتضد بعض هذا الفن ببعض في ذلك بالزجر ، والطرق ، والنجوم ، وأسباب معتادة ، وهذه الأضرب كلها تسمى كهانة ، وقد أكذبهم كلهم الشرع ، ونهى عن تصديقهم ، وإتيانهم ، والله أعلم ".
وقوله في حديث "لا أشبع الله بطنه": " قد فهم مسلم رحمه الله من هذا الحديث أن معاوية لم يكن مستحقاً للدعاء عليه ، فلهذا أدخله في هذا الباب ، وجعله غيره من مناقب معاوية ، لأنه في الحقيقة يصير دعاءً له ".
وقوله: " وفي هذا الذي فعلته عائشة دلالة على استحباب التعليم بالوصف بالفعل. فإنه أوقع في النفس من القول، ويثبت في الحفظ ما لا يثبت بالقول ".
- وضبط جمل من الأسماء المؤتلفات والمختلفات.
كقوله: " قوله : ( عن زريق بن حيان )
اختلفوا في تقديم الراء على الزاي وتأخيرها على وجهين ، ذكره البخاري وابن أبي حاتم والدارقطني وعبيد الغني بن سعيد المصري وابن ماكولا, وغيرهم من أصحاب المؤتلف بتقديم الراء المهملة ، وهو الموجود في معظم نسخ صحيح مسلم ، وقال أبو زرعة الرازي والدمشقي: بتقديم الزاي المعجمة . والله أعلم ".
- والجمع بين الأحاديث التي تختلف ظاهراً ويظنُّ البعض ممّن لا يحقِّق صناعتي الحديث والفقه وأصوله, كونها متعارضات.
كقوله: " واتفق العلماء على أن هذا الحديث ليس فيه حصر لأسمائه سبحانه وتعالى , فليس معناه : أنه ليس له أسماء غير هذه التسعة والتسعين , وإنما مقصود الحديث أن هذه التسعة والتسعين من أحصاها دخل الجنة , فالمراد الإخبار عن دخول الجنة بإحصائها لا الإخبار بحصر الأسماء , ولهذا جاء في الحديث الآخر : " أسألك بكل اسم سميت به نفسك أو استأثرت به في علم الغيب عندك ".(1/92)
- وأُنبِّه على ما يحضرني في الحال في الحديث من المسائل العمليّات, وأشير إلى الأدلة في كلّ ذلك إشارات إلا في مواطن الحاجة إلى البسط للضرورات.
كقوله: " إذا أسلم الكافر ومات على الإسلام يثاب على ما فعله من الخير في حال الكفر ، واستدلوا بحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه . قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا أسلم الكافر فحسن إسلامه كتب الله تعالى له كل حسنة زلفها ، ومحا عنه بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، والسيئة بمثلها إلا أن يتجاوز الله سبحانه وتعالى ).
وقوله: " وقد اختلف العلماء في الدفن في الليل فكرهه الحسن البصري إلا لضرورة ، وهذا الحديث مما يستدل له به وقال جماهير العلماء من السلف والخلف : لا يكره ، واستدلوا بأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه وجماعة من السلف دفنوا ليلا من غير إنكار ، وبحديث المرأة السوداء ، والرجل الذي كان يقم المسجد ، فتوفي بالليل فدفنوه ليلا ، وسألهم النبي صلى الله عليه وسلم عنه فقالوا : توفي ليلا فدفناه في الليل ، فقال : " ألا آذنتموني ؟ " قالوا : كانت ظلمة ، ولم ينكر عليهم . وأجابوا عن هذا الحديث أن النهي كان لترك الصلاة ، ولم ينه عن مجرد الدفن بالليل ، وإنما نهى لترك الصلاة أو لقلة المصلين أو عن إساءة الكفن أو عن المجموع كما سبق ".
- وأحرص في جميع ذلك على الإيجاز وإيضاح العبارات.
- وحيث أنقلُ شيئاً من أسماء الرجال واللغة, وضبط المشكِل والأحكام والمعاني, وغيرها من المنقولات: فإن كان مشهوراً لا أُضيفه إلى قائليه لكثرتهم إلا نادراً, لبعض المقاصد الصالحات. وإن كان غريباً أَضفتهُ إلى قائليه - إلا أن أذهلَ عنه في بعض المواطن لطول الكلام, أو كونه ممّا تقدّم بيانه من الأبواب الماضيات.(1/93)
- وإذا تكرّر الحديث أو الاسم أو اللفظة من اللغة ونحوها, بسطتُ المقصود منه في أول مواضعه, وإذا مررتُ على الموضع الآخر ذكرتُ أنه تقدَّم شرحه وبيانه في الباب الفلاني من الأبواب السابقات. وقد أقتصرُ على بيان تقدُّمه من غير إضافة أو أعيدُ الكلام فيه لبعدِ الموضعِ الأولِ, أو ارتباط كلامٍ أو نحوه أو غير ذلك من المصالح المطلوبات.
- وأُقدِّم في أول الكتاب جملاً من المقدِّمات ممّا يعظمُ النفعُ به إن شاء الله تعالى, ويحتاج إليه طالبوا التحقيقاتِ, وأرتِّبُ ذلك في فصولٍ متتابعاتٍ, ليكون أسهل في مطالعته وأبعدَ من السآماتِ.
وأنا مستمدّ المعونة والصّيانة واللطف والرعاية من الله الكريم ربّ الأرضين والسموات, مبتهلاً إليه سبحانه وتعالى أن يوفّقني ووالديّ ومشايخى وسائر أقاربي وأحبابي ومن أحسن إلينا بحُسنِ النيَّات...الخ".
ثم بدأ بالمقدمة التي ذكر أنه سيقدّمها بين يدي الكتاب, كما مرّ معنا آنفاً, وقد اشملت هذه المقدمة على مباحث مهمّة رتّبها في فصول وأبواب, أُجملها في الآتي:
- فصل: في بيان إسناد الكتاب, وحال رواته منَّا إلى الإمام مسلم رضي الله عنه مختصراً.
- ثم تكلَّم عن روايات البخاريّ.
- ثم ذكر عن أبي عمرو بن الصلاح قوله: اعلم أن الرواية بالأسانيد المتصلة ليس المقصود منها في عصرنا وكثير من الأعصار قبله إثبات ما يُروى؛ إذ لا يخلو إسناد منها عن شيخ لا يدري ما يرويه, ولا يضبط ما في كتابه ضبطاً يصلُح لأن يُعتمد عليه في ثبوته, وإنما المقصود بها إبقاء سلسلة الإسناد التي خُصت بها هذه الامة ".
- ثم ذكر الخلاف في التفضيل بين البخاري ومسلم.
- ثم ذكر شرط مسلم في صحيحه.
- ثم المعلّقات في الصّحيح.
- ثم ذكر مسألة إفادة الخبر الصحيح الآحاد للعلم, والخلاف في ذلك.
- ثم ذكر عدد أحاديثه, وأنه بوّب كتابه, ولم يذكر له تراجم لئلا يزداد بذلك حجم الكتاب.(1/94)
وهنا فائدة: وهي هل التبويبات المذكورة في طبعة صحيح مسلم له أو لغيره؟
لعل الصحيح أن هذه التبويبات الموجودة في المطبوع من الصحيح ليست من تبويب مسلم ، والظاهر أنها من تبويبات النووي الشافعي! لأن عدداً من التبويبات على طريقة فقهاء الشافعية
وقد وجد عدة مواضع في شرح النووي على مسلم تدل على أن النووي هو الذي وضع التبويبات.
قال الإمام النووي رحمه الله في شرح مسلم (4/135) (وقد قدمنا في آخر الباب السابق دليل ما ذكرته في الترجمة) انتهى.
وقال (7/90) ( وفيه بيان ما ذكرناه في الترجمة) انتهى.
ويؤكد ذلك أن المطبوع بشرح الأبّي والسنوسي يخالف تبويبه ما في شرح النووي ، وإنما يورد الأحاديث مسرودة ، ويشرحها تباعاً ، فيقول " أحاديث إكرام الجار " مثلاً ، ثم يورد الشرح.
وقد تكلم عن هذه المسأله الشيخ مشهور حسن سلمان في كتابه الإمام مسلم بن الحجاج: (1/ 383- 392) فيُراجع.
- ثم ذكر مسألة أن مسلماً رحمه الله قال في أول مقدمة صحيحه أنه يقسم الأحاديث ثلاثة أقسام. الأول: ما رواه الحفاظ المتقنون. والثاني: ما رواه المستورون المتوسطون في الحفظ والإتقان. والثالث: ما رواه الضعفاء والمتروكون. وأنه إذا فرع من القسم الأول أتبعه الثاني, وأما الثالث فلا يعرِّج عليه. فاختلف العلماء في مراده بهذا التقسيم..".
- ثم ذكر مسألة إلزام الإمام الحافظ أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني رحمه الله وغيره, البخاريَّ ومسلماً رضي الله عنهما - إخراج أحاديث تركا إخراجها, مع أن أسانيدها أسانيد قد أخرجا لرواتها في صحيحهما".
- ثم ذكر فصلاً في بيان جملة من الكتب المخرَّجة على صحيح مسلم.
- ثم ذكر فصلاً في استدراك جماعة على البخاري ومسلم أحاديث أخلَّا بشرطهما فيها, ونزلت عن درجة ما التزماهُ, وقد سبقت الإشارة إلى هذا..".
ثم ذكر فصلاً في: ألفاظ يتداولها أهل الحديث. مثل: المرفوع, والموقوف, والمقطوع, والمنقط, وغير ذلك ".(1/95)
- ثم ذكر فصلاً فيما إذا قال الصحابي: كنَّا نقول أونفعل أو يقولون أو يفعلون كذا أو كنَّا لا نرى أو لا يرون بأسا بكذا.. هل له حكم الرفع؟.
- ثم إذا كان موقوفاً هل يحتج به؟.
- ثم ذكر فصلاً في الإسناد المعنعن.
- ثم ذكر فصلاً في التدليس وأنه قسمان.
- ثم ذكر فصلاً في حكم المختلط.
- ثم ذكر فصلاً في أحرف مختصرة في بيان الناسخ والمنسوخ وحكم الحديثين المختلفين ظاهراً ".
- جرت عادة أهل الحديث بحذف "قال" ونحوه فيما بين رجال الإسناد في الخطّ, وينبغي للقارىء أن يلفظ بها..".
- ثم ذكر فصلاً فيما إذا قدَّم بعض المتن على بعض اختلفوا في جوازه ..".
- ثم ذكر فصلاً فقال: ليس للراوي أن يزيد في نسب غير شيخه ولا صفته على ما سمعه من شيخه لئلَّا يكون كاذباً على شيخه, فإن أراد تعريفَه وإيضاحه وزوال اللَّبس المتطرّق إليه لمشابهة غيره فطريقُهُ أن يقول: قال حدثني فلان - يعني ابن فلان, أو الفلان, أو هو ابن فلان, أو الفلاني, أو نحو ذلك. فهذا جائزٌ حسن قد استعملَه الأئمة, وقد أكثر البخاري ومسلم منه في الصحيحين غاية الإكثار..".
- ثم ذكر فصلاً فقال: يستحبُّ لكاتب الحديث إذا مرَّ بذكر الله عز و جل أن يكتب ( عزّ و جل ) أو ( تعالى ) أو ( سبحانه وتعالى ) أو ( تبارك وتعالى ) أو ( جلَّ ذكره ) أو ( تبارك اسمه ) أو ( جلَّت عظمته ) أو ما أشبه ذلك, وكذلك يكتب عند ذكر النبيّ صلى الله عليه و سلم بكمالهما لا رامزاً إليهما ولا مقتصراً على أحدهما, وكذلك يقول في الصحابي ( رضي الله عنه ) فإن كان صحابياً ابن صحابي قال ( رضي الله عنهما )..".
- ثم ذكر فصلاً فقال: تكرَّر في صحيح مسلم قوله: حدثنا فلان وفلان كليهما عن فلان. هكذا يقع في مواضع كثيرة في أكثر الأصول كليهما بالياء, وهو مما يُستشكل من جهة العربية وحقُّه أن يُقال: كلاهما بالألف, ولكن استعماله بالياء صحيح وله وجهان..".(1/96)
- ثم ذكر: باب تغليظ الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
- ثم: باب النهي عن الحديث بكل ما سمع.
- ثم: باب النهي عن الرواية عن الضعفاء والاحتياط في تحمُّلها.
- ثم: باب بيان أن الإسناد من الدين وأنّ الرواية لا تكون إلا عن الثقات.
- ثم: فرعٌ في جملة المسائل والقواعد التي تتعلّق بهذا الباب. منها قوله:
- إحداها: اعلم أن جرح الرواة جائز بل واجب بالاتفاق للضرورة الداعية إليه لصيانة الشريعة المكرَّمة, وليس هو من الغيبة المحرمة بل من النصيحة لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم والمسلمين.
- الثانية: الجرح لا يُقبل إلا من عدل عارف بأسبابه..
- الثالثة: قد ذكر مسلم رحمه الله في هذا الباب أن الشعبي روى عن الحارث الأعور وشهد أنه كاذب وعن غيره: حدثني فلان وكان متَّهماً. وعن غيره: الرواية عن المغفلين والضعفاء والمتروكين. فقد يُقال: لم حدَّث هؤلاء الأئمة عن هؤلاء مع علمهم بأنهم لا يُحتج بهم. ويُجاب عنه بأجوبة..
- ثم: باب صحَّة الاحتجاج بالحديث المعنعن إذا أمكن لقاء المعنعنين, ولم يكن فيهم مدلس...
وهو آخر أبواب المقدمة التي ابتدأ بها الإمام النووي شرحه لصحيح الإمام مسلم, وشملت هذه المقدمة أيضاً شرح مقدمة الإمام مسلم لصحيحه.
- ثم شرع -رحمه الله- في شرح أحاديث الصحيح حسب الخطّة التي ذكرها في ديباجة كتابه.
أقول: ومن معالم منهجه -رحمه الله- التي تمرّ بالقارئ, ويمكن تسجيلها في هذه العجالة أنَّ:
- النووي شافعي المذهب ينتصر لمذهبه ويرجح غيره إن قويَ الدليل.(1/97)
كقوله في مسألة الرّضاع المحرّم: " واعترض أصحاب مالك على الشافعية بأن حديث عائشة هذا لا يحتج به عندكم وعند محققي الأصوليين لأن القرآن لا يثبت بخبر الواحد ، وإذا لم يثبت قرآنا لم يثبت بخبر الواحد عن النبي صلى الله عليه وسلم لأن خبر الواحد إذا توجه إليه قادح وقف عن العمل به وهذا إذا لم يجئ إلا بآحاد مع أن العادة مجيئه متواترا توجب ريبة والله أعلم .
واعترضت الشافعية على المالكية بحديث " المصّة والمصّتان " وأجابوا عنه بأجوبة باطلة لا ينبغي ذكرها لكن ننبه عليها خوفا من الاغترار بها ، منها أن بعضهم ادعى أنها منسوخة وهذا باطل لا يثبت بمجرد الدعوى ، ومنها أن بعضهم زعم أنه موقوف على عائشة وهذا خطأ فاحش بل قد ذكره مسلم وغيره من طرق صحاح مرفوعا من رواية عائشة ومن رواية أم الفضل ومنها أن بعضهم زعم أنه مضطرب وهذا غلط ظاهر وجسارة على رد السنن بمجرد الهوى وتوهين صحيحها لنصرة المذاهب ".
- وهو ينقل عمّن تقدّمه في شرح صحيح مسلم كثيراً: كالقاضي عياض, والمازري.
- ويتكلم على الأحاديث أحياناً صحة وضعفاً.
كقوله عن حديث " أفعياوان أنتما ": " وهذا الحديث حديث حسن . رواه أبو داود والترمذي وغيرهما ، وقال الترمذي : هو حديث حسن . ولا يلتفت إلى قدح من قدح فيه بغير حجة معتمدة " اهـ .
وقوله على حديث أبي هريرة يرفعه " تعاد الصلاة من قدر الدرهم " يعني من الدم ، وهذا الحديث ذكره البخاري في تاريخه . وهو حديث باطل لا أصل له عند أهل الحديث . والله أعلم ".
- كما أنه يُشير إلى بعض مسائل المصطلح. كقوله: " زيادات الثقة مقبولة مطلقاً عندَ الجماهير من أهل الحديث والفقه والأصول ".
- كما يذكر الإجماعات التي انتهى علمها إليه. كحكايته الإجماع على وصول الدعاء للميت ، و أن أداء الدين عنه يجزئه ، و كذا سائر الصدقات ، تقع عن الميت و يصله ثوابها من ولده أو غيره ".(1/98)
- ويتكلّم على رجال الإسناد جرحاً وتعديلاً وما قيل فيهم, ويأتي بالفوائد المكملة لذلك.
فائدة: " شَرْحُ النووي " يمرّ فيه كلمات تدور كثيراً , يسأل عنها طلاب العلم , منها : قوله : ( قال صاحب المطالع ) , ( قال صاحب التحرير) , فهو ينقل بكثرة عن هذين الكتابين , فيعني " مطالع الأنوار" لابن قرقول , وصاحب التحرير" التحرير لشرح صحيح مسلم " لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل الأصفهاني . والنووي ينقل عنهما بكثرة فيقول : حكى صاحب المطالع , وقال صاحب التحرير, وقال القاضي أي عياض , فالنووي اعتمد على ما تقدمه , لكن النووي له نفس في الكتاب وتحريرات وتحقيقات , لا يستغني عنها طالب علم.
مرجع الفقرة: مقدمة الإمام النووي لشرحه مع الشرح.
طبعات الكتاب:
طبعات شرح مسلم كثيرة ومن كثرتها فهي تربو على الخمس عشرة طبعة ..
الطبعات القديمة: طبع صحيح مسلم طبعات كثيرة جدا قديمة ، وحديثة منها :
- طبعة دار المعرفة مع شرح النووي بتحقيق خليل مأمون شيحا.
- طبعة بيت الأفكار الدولية بعناية أبي صهيب الكرمي في مجلد.
- طبعة دار السلام في مجلد.
- ودار المغني في مجلد ، وغيرها مما يصعب الإحاطة به.
- وطبعة دار الحديث المصرية.
- صحيح مسلم ( التي بهامش شرح القسطلاني على البخاري المسمى بـ: إرشاد الساري.
- طبعة مؤسسة قرطبة المصرية لشرح النووي على صحيح مسلم.
- طبعة دار ابن حزم في مجلد واحد.
- وأفضل طبعة مفردة له التركية في أربعة مجلدات كبار وكان طبعها في تركيا عام 1334هـ وهي طبعة مضبوطة بالشكل وفي نهاية كل جزء تصحيح للأخطاء إن وجدت، ولو بالحركات ..
- والتي مع شرح الأبي المطبوع في مطبعة السعادة بمصر عام 1328هـ.
أما شروح صحيح الإمام مسلم فهي كثيرة تربو على (17) شرحاً.
ما لحق الكتاب من أعمال:(1/99)
- يُذكر في مؤلفات الحافظ ابن حجر أن له نكت على شرح النووي. قال الحافظ السخاوي - رحمه الله - في " الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر " (2/677) وهو يعدِّد مصنفات الحافظ في شروح الحديث : (نكت شرح مسلم للنووي في المقدمة وغيرها، لم يكمل، رأيت منه كراسة من الكلام على المقدمة، وأخرى من الكلام على غيرها.
- " الردود والتعقبات على ما في شرح مسلم للنووى فى باب الأسماء والصفات وغيرها من المسائل المهمَّات "...للشيخ مشهور بن حسن آل سلمان...طبعته دار هجر.
- التقاط اعتراض ابن عبد الهادي من منتقاه من شرح مسلم للنووي عليه في جزء.
10- منهج الخطّابي في كتابه: "معالم السّنن"
أولاً: ترجمة الإمام الخطّابي:
هو الإمام العلامة المفيد المحدث الرحّال أبو سليمان حمَد بن محمد بن إبراهيم بن خطاب البستي الخطابي صاحب التصانيف، محدث، فقيه، أديب، لغوي، شاعر.
ولد بمدينة بست من بلاد كابل عاصمة المملكة الأفغانية، سنة بضع عشرة وثلاث مئة.
وسمع الحديث بمكة وبالبصرة وببغداد،.
وأخذ الفقه على مذهب الشافعي عن أبي بكر القفَّال الشاشي، وأبي علي بن أبي هريرة، ونظرائهما.
قال الحافظ الذهبي: "فإذا وقفَ منصفٌ على مصنفاته، واطلع على بديع تصرفاته في مؤلفاته، تحقّق إمامته وديانته فيما يورده وأمانته، وكان قد رحل في الحديث وقراءة العلوم، وطوَّف، ثم ألف في فنون من العلم، وصنف، وفي شيوخه كثرة، وكذلك في تصانيفه".اهـ
وقال: " وكان ثقةً متثبّتاً من أوعية العلم ..، وله شعرٌ جيد ".اهـ
شيوخه:
أبوسعيد ابن الأعرابي, إسماعيل بن محمد الصفار وطبقته ببغداد، وأبو بكر بن داسه بالبصرة, وأبو العباس الأصمّ وطبقته بنيسابور.
تلاميذه:(1/100)
أبو عبد الله الحاكم, وأبو حامد الإسفرايينى, وأبو نصر محمد بن أحمد البلخى الغزنوي, وأبو مسعود الحسين بن محمد الكرابيسي, وأبو عمرو محمد بن عبد الله الرزجاهى, وأبو ذرّ عبد بن أحمد الهروي, وأبو عبيد الهروي اللغويّ, وأبو الحسين عبد الغافر الفارسي. وخلق سواهم.
ثناء العلماء عليه:
نقل ياقوت الحموي في "معجم الأدباء": قال الحافظ أبو المظفر السمعاني: كان حجةً صدوقاً رحل إلى العراق والحجاز، وجال في خراسان وخرج إلى ما وراء النهر. وقال الثعالبي: كان يُشبَّه في عصرنا بأبي عبيدٍ القاسم في عصره علماً وأدباً وزهداً وورعاً وتدريساً وتأليفاً.
قال عنه الحافظ الذهبي في "العِبَر": كان علامةً محققاً.
وقال عنه السيوطي في "طبقات الحفاظ": الإمام العلامة المفيد المحدِّث الرحَّال.. وكان ثقةً متثبتاً من أوعية العِلم.
وقال ابن خلّكان في "وفيّات الأعيان": كان فقيهاً أديباً محدثاً له التصانيف البديعة.
وقال السبكي في "طبقات الشافعية": كان إماماً في الفقه والحديث واللغة.
وقال الفيروز آبادي في "البلغة في تراجم أئمة النحو واللغة": المحدِّث اللغويّ المحقِّق المتقن من الأئمّة الأعيان.
من تصانيفه:
إصلاح غلط المحدثين. إعلام السّنن. شرح أسماء الله الحسنى. غريب الحديث. معالم السنن في شرح سنن أبي داود. معرفة السنن والآثار. كتاب الجهاد. كتاب العزلة. كتاب النجاح , رسالة له في إعجاز القرآن, وكتاب شأن الدعاء, وغير ذلك.
وفاته:
قال أبو يعقوب القراب: توفي الخطابي ببُست في شهر ربيع الآخر سنة ثمان وثمانين وثلاث مائة.
مراجع الترجمة :
تذكرة الحفاظ للذهبي (3/1018), سير أعلام النبلاء للذهبي (17/23).
ثانياً: منهج الخطّابي في كتابه: "معالم السّنن":
اسم الكتاب: "معالم السّنن".
شرحَ السنن للإمام أبو داود كثيرون من أهمِّها:
شرح الإمام أبي سليمان الخطَّابي : وهو من أنفع الشروح وأقدمها, لما حواه من فرائد, وفوائد زوائد, وقواعد...(1/101)
وقد بدأ الإمام شرحه بخطبة لكتابه بيّن فيها أنّ تأليفه لهذا الكتاب كان بطلب من بعض إخوانه, وفي ذلك يقول:
"... أما بعد:
فقد فهمتُ مسائلتكم إخواني أكرمكم الله, وما طلبتموه من:
- تفسير كتاب السنن لأبي داود سليمان بن الأشعث.
- وإيضاح ما يُشكل من متون ألفاظه.
- وشرح ما يَستغلق من معانيه.
- وبيان وجوه أحكامه.
- والدلالة على مواضع الانتزاع والاستنباط من أحاديثه.
- والكشف عن معاني الفقه المنطوية في ضمنها؛ لتستفيدوا إلى ظاهر الرواية لها باطن العلم والدراية بها.
وقد رأيت الذي ندبتموني له وسألتمونيه من ذلك أمراً لا يسعني تركه, كما لا يسعكم جهله, ولا يجوز لي كتمانه, كما لا يجوز لكم إغفاله وإهماله...
ثم قال:
" .. وقد رأيت أهل العلم في زماننا قد حصلو حزبين وانقسموا إلى فرقتين:
- أصحاب حديث وأثر.
- وأهل فقه ونظر...
ثم ذكر حاجة كل فريق منهما إلى الآخر, ومطاعن كل طرف من الطرفين بصاحبه, وانشغال أحدهما بالآخر, والحاجة للتثبّت في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عند العمل به والاحتجاج. ثم ذكر كتاب السنن لأبي داود ومكانته فقال:
" .. واعلموا رحمكم الله أن كتاب السنن لأبي داود كتاب شريف لم يُصنف في علم الدين كتاب مثله, وقد رزق القبول من الناس كافّة فصار حكماً بين فرق العلماء وطبقات الفقهاء على اختلاف مذاهبهم...
ثم ذكر انقسام الحديث إلى مراتبه الثلاث:
الصحيح, والحسن, والضعيف. وعرّف بكلّ واحد, وذكر أنّ كتاب السنن لأبي داود خليٌّ من الحديث الموضوع.
ثم ختم مقدّمته فقال:
".. وقد جمع أبو داود في كتابه هذا من الحديث في أصول العلم وأمّهات السنن, وأحكام الفقه ما لا نعلم متقدّماً سبقه إليه, ولا متأخراً لحقه فيه.
وقد كتبتُ لكم فيما أمليتُ من تفسيرها, وأوضحته من وجوهها ومعانيها, وذكر أقاويل العلماء واختلافهم فيها؛ علماً جمّاً, فكونوا به سعداء نفعنا الله تعالى وإيّاكم برحمته ".اهـ(1/102)
فمن هذه المقدّمة واستقراء الكتاب يمكننا توضيح منهج الإمام الخطابي في هذا الكتاب بأنه:
- مشى في شرحه على ترتيب المؤلّف.
- يذكر الحديث بسند أبي داود. فيقول مثلاً: قال أبو داود: حدّثنا أحمد بن حنبل, حدثنا هُشيم...الخ.
- لم يتكلّم على رجال الإسناد - إلا نادراً - بل كان جهده منصبّاً على بيان معنى الحديث وشرح مفرداته..
كقوله: " قلتُ: هذا حديث لا يصحّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم لضعف سنده. وعبد الله بن يعقوب لم يُسمّ من حدّثه عن محمد بن كعب, وإنما رواه عن محمد بن كعب رجلان, كلاهما ضعيفان: تمّام بن بزيغ, وعيسى بن ميمون. وقد تكلّم فيهما يحيى بن معين والبخاري... ".
- وقد ينقل - على قلّة - أقوال أئمة الحديث في تصحيح الحديث وتضعيفه. وقد يحكم على الحديث ينفسه.
مثال الأول: قوله في حديث ابن عباس عن عليّ رضي الله عنهما في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم : " وأما هذا الحديث فقد تكلم الناس فيه, قال أبو عيسى: سألتُ محمد بن إسماعيل عنه فضعّفه وقال: ما أدري ما هذا..".
ومثال الثاني: قوله " قلتُ: هذا حديث لا يصحّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم لضعف سنده.. ".
- يشرح المفردات الغريبة والكلمات التي تحتاج إلى شرح شرحا لغويا واسعاً يدلّ على معرفة متبحّرة باللغة.
- وقد يستشهد لشرحه بأبيات أو جمل مأثورة على العرب.
كقوله في توجيه قراءة الخفض في قوله تعالى: {وَأَرْجُلِكُمْ}: " .. فأمّا احتجاجهم بالقراءة في الآية فلا درَك لهم فيها, لأن العطف قد يقع مرّة على اللفظ المجاور, ومرة على المعنى المجاور, فالأول كقولهم: جحرُ ضبٍّ خربٍ. والخربُ من نعت الجحر, وهو مرفوع, وكقول الشاعر:
كأنّ نسجَ العنكبوتِ المرْمِلِ
وقول الآخر:
مُعاوِيَ إِنَّنَا بَشَرٌ فأسْجِحْ فَلَسْنا بِالجبالِ ولا الْحَدِيدَا
- ويشرح المراد من الجملة.
- ثم يشرح الحديث.(1/103)
- ومن منهجه أنه لا يشرح جميع أحاديث الباب الذي تعدّدت فيه الروايات, فإذا كان المآل فيها واحداً شرح منها حديثاً, وكأنه بذلك شرح جميع الباب, وإلا شرح أكثر من ذلك على حسب ما يتراآى له, وإلى ذلك الإشارة بقوله: ومن باب كذا...
- ويوفِّق بينه وبين ما رويَ على وجهٍ قد يظنّ أنّ فيه خلافاً.
كقوله في حديث عليّ رضي الله عنهما مرفوعاً في النهي عن الصلاة بأرض بابل..: " لا أعلم أحداً من العلماء حرّم الصلاة في أرض بابل, وقد عارضه ما هو أصحّ منه, وهو قوله صلى الله عليه وسلم: " وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ". ويُشبه أن يكون معناه - لو ثبت - أنه نهاه أن يتخذ أرض بابل وطناً وداراً للإقامة, فتكون صلاته فيها إذا كانت إقامته بها, ومخرج النهي فيه على الخصوص, ألا تراه يقول: نهاني. ولعلّ ذلك منه إنذار منه له بما أصابه من المنة بالكوفة, وهي أرض بابل, ولم ينتقل أحد من الخلفاء الراشدين قبله من المدينة ".اهـ
- ثم يتحدّث عن فقه الحديث, ويذكر آراء العلماء في موضوع الحديث.
- ويُرجِّح الرأي الذي يرتضيه من هذه الآراء.
كقوله عند حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى الظهر خمساً فسجد سجدتين بعدما سلّم, قال: " قلتُ: اختلف أهل العلم في هذا الباب, فقال بظاهر الحديث جماعة منهم... وقال أبو حنيفة: إن كان لم يقعد في الرابعة قدر التشهّد, وسجد في الخامسة, فصلاته فاسدة وعليه أن يستقبل الصلاة, وإن كان قعد في الرابعة قدر التشهد فقد تمّت له الظهر, الخامسة تطوع, وعليه أ، يُضيف إليها ركعة, ثم يتشهد ويسلم, ويسجد سجدتي السهو وتمّت صلاته. قلتُ: ومتابعة السنّة أولى, وإسناد هذا الحديث إسنادٌ لا مزيد عليه في الجودة من إسناد أهل الكوفة..".
- ثم يذكر ما في الحديث من الفوائد والاستنباطات الأخرى مما قد لا يتَّصل بعنوان الباب.
كقوله: " قلتُ: فيه من الفقه: جواز صلاة الجماعة في التطوع.(1/104)
وفيه جواز صلاة المنفرد خلف الصفّ, لأن المرأة قامت وحدها من ورائهما.
وفيه دليل على أن إمامة المرأة للرجال غير جائزة, لأنها لما زحمت عن
مساواتهم في مقام الصفّ كانت من أن تتقدّمهم أبعد.
وفيه دليل على وجوب ترتيب مواقف المأمومين, وأن الأفضل يتقدّم على من
دونه في الفضل..
- كما يعتني بذكر القواعد والضوابط المفيدة.
أذكر منها على سبيل المثال, مع ذكر رقم الجزء والصفحة:
1-(قد يجوزُ أنْ يفرَّق بين القرائن التي يجمعها نَظْمٌ واحدٌ بدليل يقوم على بعضها، فيُحكم له ، بخلاف حكم صواحباتها) 1/28
2-( الشيء إذا ذُكر بأخصِّ صفاته؛ كان حكمُ ما عداه بخلافه) 1/34
3-(المعنى إذا كان أوسع من الاسم؛ كان الحكم له دون الاسم) 1/56
4-(إذا صحَّ جزءٌ من الصلاة حتى يجوز البناء عليه : جاز سائر أجزائها) 1/67
5-(كلُّ إتلافٍ من باب المصلحة؛ فليس بتضييع للمال). 2/152
6- (اليسيرُ من الضَّرر محتملٌ للكثير من النَّفع والصلاح). 2/264
7- (كلُّ أمرٍ يُتذرَّع به إلى محظور فهو محظور). 3/8
8- (الاسم متى ما وُجد له مساغٌ في الحقيقة؛ لم يجز حمله على المجاز). 3/69
9- (الأسماء للتعريف، والأوصاف للتعليل). 3/175
- أما مسائل الاعتقاد فقد خلط فيها وسلك مسلك الخلف في التأويل.
من ذلك قوله: " وضعُهُ أصبعه على أذنه وعينه عند قراءته { سَميْعَاً بَصيْرَاً}, معناه: إثبات صفة السمع والبصر لله سبحانه, لا إثبات الأذن والعين, لأنهما جارحتان, والله سبحانه موصوف بصفاته منفيٌ عنه ما لا يليق به من صفات الآدميين ونعوتهم, ليس بذي جوارح, ولا بذي أجزاء وأبعاض..".
وقوله: " .. والله سبحانه لا يوصف بالحركة, لأن الحركة والسكون يتعاقبان في محلّ واحد, وإنما يجوز أن يوصف بالحركة من يجوز أن يوصف بالسكون, وكلاهما من أعراض الحدث وأوصاف المخلوقين, والله جلّ وعزّ متعالٍ عنهما..".
مراجع الفقرة: " معالم السنن " للخطابي. تحقيق الشيخ: محمد راغب الطباخ الحلبي.(1/105)
الأعمال على الكتاب:
لخّص الكتاب العالم الحافظ شهاب الدين أحمد بن محمد بن إبراهيم المقدسي المتوفى سنة 765 وسماه: " عجالة العالم من كتاب المعالم ".
طبعات الكتاب:
- طبع هذا الكتاب في حلب في أربع مجلدات, بتحقيق العلامة الشيخ محمد راغب الطباخ رحمه الله سنة: 1352هـ. وصدر عن المكتبة العلمية.
- ثم طبع مع مختصر سنن أبي دود للمنذري وتهذيب السنن لابن القيم في ثمانية أجزاء بتحقيق الشيخين أحمد محمد شاكر, ومحمد حامد الفقي في مطبعة السنة, وصوّر بدار المعرفة 1400هـ.
كتب على الأجزاء الثلاثة الأولى أنها بتحقيقهما . وأما الجزء الرابع فما بعده حتى الثامن فقد كتب عليها أنها بتحقيق محمد حامد الفقي فقط ، وقد أثبت في الأعلى من هذه الطبعة تهذيب المنذري ثم تحته معالم السنن وفي الأسفل تهذيب ابن القيم.
- ثم طبع في دار الكتب العلمية في مجلدين بتحقيق: عبد السلام عبد الشافي سنة:
1411هـ.
11ـ منهج الإمام ابن القيم في كتابه: "تهذيب سنن أبي داود وإيضاح علله ومشكلاته ".
أولاً:ترجمة الإمام ابن القيم.
ابن قيم الجوزية: محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد ابن جرير الزرعي الإمام شمس الدين أبو عبد الله الدمشقي المعروف بابن قيم لجوزية الحنبلي ولد سنة 691 وتوفي سنة 751 إحدى وخمسين وسبعمائة.
كان والده شيخاً صالحاً عابداً ناسكاً, وكان له الأثر الكبير في توجيهه لطلب العلم, فبدأ بطلب العلم من الصغر.
أخذ عنه العلم خلق كثير من حياة شيخه وإلى أن مات، وانتفعوا به، وكان الفضلاء يعظمونه، ويتتلمذون له، كابن عبد الهادي وغيره.
ودرس بالصدرية. وأمَّ بالجوزية مدة طويلة. وكتب بخطه ما لا يوصف كثرة.
وصنف تصانيف كثيرة جداً في أنواع العلم. وكان شديد المحبة للعلم، وكتابته ومطالعته وتصنيفه، واقتناء الكتب، واقتنى من الكتب ما لم يحصل لغيره.
اشتهر بابن قيم الجوزية, وذلك أن والده كان قيّماً على المدرسة الجوزية بدمشق, فلذلك عرف بابن القيِّم.(1/106)
مشايخه:
التقي سليمان, وأبو بكر بن عبد الدائم, والمطعم, وابن الشيرازي, وإسماعيل ابن مكتوم وقرأ العربية على ابن أبي الفتح, والمجد التونسي, وقرأ الفقه على المجد الحراني, وابن تيمية, وكان لأبيه في الفرائض يد فأخذها عنه, وقرأ في الأصول على الصفي الهندي, وابن تيمية.
تلاميذه:
ابنه برهان الدين إبراهيم, ابنه شرف الدين عبد الله, أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير, أبو الفرج زين الدين عبد الرحمن المعروف بابن رجب الحنبلي, أبو الحسن تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي, محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز الذهبي, محمد بن أحمد بن عبد الهادي بن قدامة المقدسي, محمد بن يعقوب الفيروز آبادي.
مصنّفاته:
له الكثير من التصانيف, منها:
فمن تصانيفه: " تهذيب سنن أبي داود " وإيضاح مشكلاته والكلام على ما فيه من الأحاديث المعلولة ، " طريق الهجرتين وباب السعادتين " ، " منازل السائرين بين منازل إياكَ نَعْبُدُ وإياكَ نَسْتَعِين " ، " شرح أسماء الكتاب العزيز " ، " زاد المعاد في هدي خير العباد " ، " جلاء الأفهام في ذكر الصلاة والسلام على خير الأنام " ، " بيان الدليل على استغناء المسابقة عن التحليل " ، " نقد المنقول والمحك المميز بين المردود والمقبول " ، " إعلام الموقعين عن رب العالمين " ، " بدائع الفوائد " , " الشافية الكافية في الانتصار للفرقة الناجية " ، " الصواعق المنزلة على الجهمية والمعطلة " ، " حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح " , " صفة الجنة " ، " روضة المحبين " ، " الداء والدواء " ، " تحفة الودود في أحكام المولود " ، " مفتاح دار السعادة " ، " اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية " , " الطرق الحكمية " , " رفع اليدين في الصلاة " , " عدة الصابرين " , " حكم تارك الصلاة " ، " التحفة المكية " كتاب " أمثال القرآن " " شرح الأسماء الحسنى " ، " أقسام القرآن ".
مناقبه وثناء العلماء عليه:(1/107)
قال الحافظ ابن كثير كان ملازما للاشتغال ليلا نهارا كثير الصلاة والتلاوة حسن الخلق كثير التودد لا يحسد ولا يحقد ثم قال لا أعرف في زماننا من أهل العلم أكثر عبادة منه وكان يطيل الصلاة جداً ويمدّ ركوعها وسجودها ".
قال الحافظ ابن حجر: كان جريء الجنان واسع العلم عارفا بالخلاف ومذاهب السلف".
وقال الذهبي في المختصر: عني بالحديث ومتونه، وبعض رجاله. وكان يشتغل في الفقه، ويجيد تقريره وتدريسه، وفي الأصلين. وقد حبس مدة، لإِنكاره شد الرحال إلى قبر الخيل، وتصدى للأشغال، وإقراء العلم ونشره".
وقال ابن رجب: وكان رحمه الله ذا عبادة وتهجد، وطول صلاة إلى الغاية القصوى، وتأله ولهج بالذكر، وشفف بالمحبة، والإِنابة والاستغفار، والافتقار إلى الله، والإنكسار له، والإطراح بين يديه على عتبة عبوديته، لم أشاهد مثله في ذلك، ولا رأيت أوسع منه علماً، ولا أعرف بمعاني القرآن والسنة وحقائق الإيمان منه، وليس هو المعصوم، ولكن لم أرَ في معناه مثله".
وقال القاضي برهان الدين الزرعي عنه: ما تحت أديم السماء أوسع علماً منه.
وقال عنه الشوكاني: العلامة الكبير المجتهد المطلق المصنف المشهور.
محنته:
قال الحافظ ابن حجر:
" واعتقل مع ابن تيمية بالقلعة بعد أن أهين وطيف به على جمل مضروبا بالدرة, فلما مات أفرج عنه, وامتحن مرة أخرى بسبب فتاوى ابن تيمية.
وقال ابن كثير: كان يُقصد للإفتاء بمسألة الطلاق حتى جرت له بسببها أمور يطول بسطها مع ابن السبكي وغيره.
وهو القائل:
بنيُّ أبي بكر كثير ذنوبه ... فليس على من نال من عرضه إثم
بني أبي بكر غدا متصدرا ... يعلم علما وهو ليس له علم
بني أبي بكر جهول بنفسه ... جهول بأمر الله أنى له العلم
بني أبي بكر يروم ترقيا ... إلى جنة المأوى وليس له عزم
وفاته:(1/108)
توفي رحمه الله وقت عشاء الآخرة ليلة الخميس ثالث عشرين رجب سنة إحدى وخمسين وسبعمائة. وصلِّي عليه من الغد بالجامع عقيب الظهر، ثم بجامع جراح. ودفن بمقبرة الباب الصغير، وشيعه خلق كثير، ورئيت له منامات كثيرة حسنة رضي اللّه عنه.
وكان قد رأى قبل موته بمدة الشيخ تقي الدين رحمه الله في النوم، وسأله عن منزلته؟ فأشار إلى علوها فوق بعض الأكابر. ثم قال له: وأنت كدت تلحق بنا، ولكن أنت الآن في طبقة ابن خزيمة رحمه اللّه.
مراجع الترجمة :
ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب, الدرر الكامنة لابن حجر, البدر الطالع للشوكاني, كتاب: ابن قيم الجوزية حياته وآثاره. للشيخ بكر أبو زيد.
ثانياً: منهجه في شرحه للسنن.
اسم الكتاب الذي طبع به: "تهذيب السنن".
لم ينصّ ابن القيم رحمه الله في مقدمة الكتاب على تسميته كما هو الحال في بعض كتبه, ولكنه سمّاه في كتابه "زاد المعاد" فقال عند كلامه على نوم الجنب دون أن يمسّ ماءً: وقد أشبعنا الكلام عليه في كتاب "تهذيب سنن أبي داود ".
وقد وافق ابن القيم على هذه التسمية من مترجميه: الصفدي رحمه الله, فذكر هذا الاسم بحروفه.
أم ابن رجب رحمه الله فقد سمّاه: "تهذيب سنن أبي داود وإيضاح مشكلاته والكلام على ما فيه من الأحاديث المعلولة". وتبعه على ذلك الداودي وابن العماد.
وهذه التسمية وإن اختلفت عن تسمية المؤلف إلا أنها لا تبعد عنها كثيراً, وقد راعى ابن رجب في إطلاقها موضوع الكتاب, كما نصّ عليه ابن القيم في خطبته.
وقد سمّاه ابن القيم في مناسبة أخرى تسمية مختصرة فقال: "تهذيب السنن", وبهذه التسمية عرف الكتاب واشتهر.
توطئة:
عمد الإمام ابن القيم إلى مختصر الإمام المنذري لسنن أبي داود, فهذّبه واختصره وزاد فيه لقيمته العلمية ولأهميته.(1/109)
فرغب بعض طلبة العلم في استخلاص حواشي ابن القيم وزياداته للاستفادة منها, وجعلها في مكان واحد, فقام على "تهذيب ابن القيم" وجرّد ما استطاع تجريده من حواشي الشيخ وزياداته, وهو بهذا العمل -جزاه الله خيراً- قد حفظ لنا تراثاً عظيماً من تراث ذلك الإمام.
أما المجرِّد فهو: محمد بن أحمد السعودي, كما جاء في بداية المخطوط ونهايته, وقد قدّم لتجريده هذه الزيادات بمقدّمة بيّن فيها سبب تجريده لها.
مقدّمة الإمام ابن القيم لهذا التهذيب:
قدّم رحمه الله بمقدّمة بيّن فيها الحامل له على تأليف هذا الكتاب, وشيئاً من منهجه الذي سار عليه فيه, فكان مما قال:
" ولما كان كتاب السنن لأبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني رحمه الله من الإسلام بالموضع الذي خصّه الله به, بحيث صار حكماً بين أهل الإسلام وفصلاً في موارد النّزاع والخصام, فإليه يتحاكم المنصفون, وبحكمه يرضى المحقّون, فإنه جمع شمل أحاديث الأحكام ورتّبها أحسن ترتيب, ونظمها أحسن نظام, مع انتقائها أحسن الانتقاء, واطراحه منها أحاديث المجروحين والضعفاء.
وكان الإمام العلامة الحافظ زكي الدين أبو محمد عبد العظيم المنذري رحمه الله تعالى قد أحسن في اختصاره وتهذيبه وغزو أحاديثه وإيضاح علله وتقريبه, فأحسن حتى لم يكد يدع للإحسان موضعاً, وسبق حتى جاء من خلفه له تبعاً, جعلتُ كتابه من أفضل الزاد واتخذته ذخيرة ليوم المعاد:
- فهذّبته نحو ما هذّب هو به الأصل.
- وزدت عليه من الكلام على علل سكت عنها, أو لم يكملها.
- والتعرّض إلى تصحيح أحاديث لم يصحّحها.
- والكلام على متون مشكلة لم يفتح مقفلها.
- وزيادة صالحة في الباب لم يُشر إليها.
- وبسط الكلام على مواضع جليلة لعلّ الناظر المجتهد لا يجدها في كتاب سواه.
فهي جديرة بأن تُثنى عليها الخناصر, ويعضّ عليها بالنواجذ.(1/110)
وإلى الله الرغبة أن يجعله خالصاً لوجهه, موجباً لمغفرته, وأن ينفع به من كتبه, أو قرأه, أو نظر فيه, أو استفاد منه.
فأنا أبرأ إلى الله من التعصّب والحميّة, وجعل سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم رافعة لآراء الؤجال, منزلة عليها, مسوقة إليها.
كما أبرأ إليه من الخطأ والزّور والسّهو, والله سبحانه عند لسان كل قائل وقلبه, وما توفيقي إلا بالله, عليه توكلت وإليه أنيب ".
منهج ابن القيم في الكتاب:
أولاً: بيان علل الأحاديث التي سكت المنذري عن بيان علتها, مثاله: سكت المنذري حديث ابن عباس رضي الله عنه : أن السّجل كاتب للنبي صلى الله عليه وسلم ". فقال ابن القيم: سمعت شيخنا أبا العباس ابن تيمية يقول: هذا الحديث موضوع..".
وتارة يورد علّة الحديث الذي سكت عنه المنذري للردّ على إعلاله وبيان صحّته, وهذا كثير في كتابه. فقد سكت المنذري عن حديث أنس رضي الله عنه في تخليل اللحية, فنقل ابن القيم إعلال ابن حزم, وابن القطّان له, ثم ردّ عليهما بقوله: وفي هذا التعليل نظر ". ثم أخذ في الجواب عن ذلك.
وذكر إعلال ابن حزم لحديث عائشة رضي الله عنها في اعتزال النبي صلى الله عليه وسلم لهنّ وهنّ حيَّض - وقد سكت عنه المنذري - ثم قال: وما ذكره ضعيف.. فالحديث غير ساقط".
وذكر إعلال ابن القطّان حديث زينب بنت أبي سلمة في المرأة ترى ما يريبها بعد الطهر, وقول النبي صلى الله عليه وسلم : إنما هو عرق". ثم قال: وهذا تعليل فاسد...".
والأمثلة على هذا كثيرة.
وأما ما ذكر المنذري بعض علله ولم يكمل باقيه, فمثاله: ذكر المنذري بعض ما أعلّ به حديث ميراث ابن الملاعنة, وترك بعضها, فقال ابن القيم: وأعلّ أيضاً: بعبد الواحد بن عبد الله بن بسر النّصري, راويه عن واثلة, قال ابن أبي حاتم:... لا يحتج به".
ثانياً: الكلام على المتون المشكلة:(1/111)
كثيراً ما كان ابن القيم رحمه الله يعمد إلى بعض الأحاديث المشكلة, فيحاول دفع إشكالاتها, وإزالة غموضها وإبهامها.
فمن ذلك: ما جاء في حديث علي رضي الله عنه في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم , وأنه رشّ رجليه بالماء وهما في النّعلين. قال ابن القيم: هذا من الأحاديث المشكلة جداً, وقد اختلفت مسالك الناس في دفع إشكاله..". ثم ذكر سبعة من هذه المسالك, وبيّن رأيه هو.
ثالثاً: زيادة أحاديث في الباب لم يُشر المنذري إليها.
وقد فعل ابن القيم هذا كثيراً, فتراه يقول: وفي الباب حديث فلان, وقد يتوسّع في ذلك فيذكر كل من روى أحاديث الباب, مع قيامه في بعض الأحيان بتخريجها, والمكلام على طرقها.
رابعاً: زيادة بعض الأبواب مما لم يرد في "سنن أبي داود":
لم يكتف ابن القيم رحمه الله بزيادة أحاديث في بعض الأبواب' بل قام بزيادة بعض الأبواب التي لم ترد في "سنن أبي داود" , مما رأى أن الأمر يستدعي إثباتها, مع إدخالها في المكان الملائم لها, وإيراد جملة من الأحاديث تحتها, فمن ذلك:
أنه زاد في كتاب "الديات" بعد قول أبي داود: باب فيمن تطبب بغير علم, بابين:
أحدهما: باب لا يقتص من الجرح قبل الاندمال.
والثاني: باب من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم.
ثم قال رحمه الله: ولم يذكر أبو داود هذا الباب ولا الذي قبله, ولا أحاديثهما فذكرنا هما للحاجة, والله أعلم".
خامساً: بسط الكلام على بعض المسائل, والتوسّع في بحثها:
ففي كثير من المواطن نجد ابن القيم يتوسّع في الكلام: إما بشرح حديث وبيان معانيه, كما في حديث تلبية النبي صلى الله عليه وسلم . أو مناقشة علله, كما في حديث القلّتين, أو ذكر مذاهب العلماء في مسألة, وأدلة كل فريق, وبيان الراجح من ذلك, وهذا كثير جداً في كتابه, أو ذكر ما تضمنته أحاديث الباب من أحكام, وما اشتملت عليه من فوائد.
سادساً:
وأكثرُ هذه التعقّبات إنما وقعت في القضايا الحديثيّة, وما يتعلّق بها:(1/112)
- فتارة يردُّ على إعلال المنذري حديثاً, ويُجيب عن ذلك مبيّناً ثبوت الحديث, وعدم ثبوت ما أعلّ به.
- وتارة يُعلّ المنذري حديثاً, فيرى ابن القيم أن له علّة أقوى من التي ذكرها المنذري.
- وتارة يردّ عليه وهمه في تخريج بعض الأحاديث.
- وتارة يتعقّب المنذري في تعقّبه لأبي داود.
- ويشتدّ تعقّبه للمنذري إذا رآه يسكت على ما لا ينبغي السّكوت على مثله, ففي حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر عمرتين, عمرة في ذي القعدة, وعمرة في شوّال". قال ابن القيم رحمه الله: لم يتكلّم المنذري على هذا الحديث, وهو وهم...".
قيمة الكتاب العلمية:
من خلال ما تقدم من عرض لموضوع الكتاب, وبيان لمنهج ابن القيم فيه, يمكن لنا أن نقول: إن هذا الكتاب يعدّ موسوعة حديثيّة جامعة, يجد المطالع فيها:
1- شرح الأحاديث وتوضيح معانيها.
2- استنباد أحكامها واستخراج فقهها.
3- وحلّ مشكلاتها وفتح مقفلاتها.
4- والتوفيق بين ما ظاهره التعارض منها.
5- والكلام عل عللها, وبيان صحيحها وضعيفها.
6- مع جمع أحاديث بعض الأبواب واستيفاء ما ورد فيها.
7- إلى غير ذلك من الفوائد التي يجدها الناظر منثورة في أثناء هذا الكتاب وبين صفحاته. مثل:
- تعقّبه على بعض أئمّة الحديث كالحاكم, فانظر إليه يقول:
" وفي رواية (حتى بلغ سبعاً قال رسول الله :نعم،ما بدا لك)
فقال في كلامه على رواية(حتى بلغ سبعاً)أ خرجه الحاكم في المستدرك وقال: هذا إسناد مصري لم ينسب واحد منهم إلى جرح, وهذا مذهب مالك، ولم يخرجاه.
والعجب من الحاكم! كيف يكون هذا مستدركا على الصحيحين ورواته لا يعرفون بجرح ولا بتعديل! ".
وتعقّبه على ابن الجوزي في تضعيفه حديثاً وهم في راويه, فقال:
: «(1/113)
هذا إسنادٌ صحيحٌ !!! ، وقد ظن أبو الفرج ابن الجوزي أن هذا هو : ابن وهب النسوي ، الذي قال فيه ابن حبان : يضع الحديث ، فضعف الحديث به ، وهذا من غلطاته بل هو : ابن وهب الإمام العَلَمُ ، والدليل عليه : أن الحديث من رواية أصبغ بن الفرج ومحمد بن عبد الله بن الحكم وغيرهما من أصحاب ابن وهب عنه ، والنسوي متأخر ، من طبقة يحيى بن صاعد ، والعجب من أبي الفرج كيف خفي عليه هذا ، وقد ساقها من طريق أصبغ وابن أبي الحكم عن ابن وهب ؟ !!! » .
والحديث هو : " من كان عنده علمٌ فكتمه ، ألجمه الله يوم القيامة بلجامٍ من نارٍ ".
- وفوائد حديثيّة مهمّة في التصحيح والتضعيف, كقوله:
" فهذه طريقة أئمة الحديث العالمين بعلله : يصحِّحون حديث الرجل ثم يضعفونه بعينه في حديث آخر إذا انفرد أو خالف الثقات ، ومن تأمّل هذا وتتبعه رأى منه الكثير ، فإنهم يصححون حديثه لمتابعة غيره له ، أو لأنه معروف الرواية صحيح الحديث عن شيخ بعينه ضعيفها في غيره . وفي مثل هذا يعرض الغلط لطائفتين من الناس:
طائفة تجد الرجل قد خرج حديثه في الصحيح وقد احتج به فيه فحيث وجدوه في حديث قالوا : هذا على شرط الصحيح ! وأصحاب الصحيح يكونون قد انتقوا حديثه ، ورووا له ما تابعه فيه الثقات ولم يكن معلولاً ، ويتركون من حديثه المعلول وما شذّ فيه وانفرد به عن الناس وخالف فيه الثقات ، أو رواه عن غير معروف بالرواية عنه ، ولا سيما إذا لم يجدوا حديثه عند أصحابه المختصين به ، فإن لهم في هذه نظرًا واعتبارًا اختصّوا به عمن لم يشاركهم فيه ، فلا يلزم حيث وجد حديث مثل هذا أن يكون صحيحًا ، ولهذا كثيرًا ما يعلل البخاري ونظراؤه حديث الثقة بأنه لا يتابع عليه.(1/114)
والطائفة الثانية : يرون الرجل قد تكلِّم فيه بسبب حديث رواه وضعف من أجله ، فيجعلون هذا سببًا لتضعيف حديثه أين وجدوه ! فيضعِّفون من حديثه ما يجزم أهل المعرفة بالحديث بصحته. وهذا باب قد اشتبه كثيرًا على غير النقاد " اهـ .
وقوله: ثقة الراوي شرط للصحيح وليس موجبه".
- وكذلك نراه يصحّح ويضعّف, كقوله في حديث:
« لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود، فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل »
قال:« إسناده حسن وإسناده مما يُصححه الترمذي ».
تنبيهات:
الأول: لم يكن كتاب ابن القيم منفصلاً بالشكل الذي هو عليه الآن, وإنما كان على شكل تعليقات على كلام المنذري مختلطة معه, ولا يمكن تمييزها عنها وفصلها منها إلا بالمقابلة الدقيقة بين كتاب ابن القيم ومختصر المنذري لتمييز الزيادات.
وقد قام بتجريد كلام ابن القيم: محمد بن أحمد السّعودي, وترك بعضاً من كلام ابن القيم, حيث يقول: ولستُ أدّعي الإحاطة بجميع ما كتبه, بل الغالب والأكثر, وقد سقط منه القليل جداً لتعذّر كتابته, فعساه زاد لفظة أو لفظات في أثناء الكلام, فلم يمكنني إفرادها لا تصالها بكلام المنذري".
الثاني: قال محقق الكتاب: الدكتور إسماعيل مرحبا:
" قد تمّ حذف شرح ابن القيم لحديث: لا تباشر المرأة المرأة لتنعتها لزوجها كأنما ينظر إليها". في كتاب النكاح, باب ما يؤمر به من غضّ البصر.
وقد تمّ حذفه عمداً ادّعاءً بأنّ كلام ابن القيم هو كلام الخطابي بالنصّ, وبما أن الكتاب المطبوع سابقاً يحتوي على مختصر المنذري, ثم معالم السنن للخطابي, ثم تهذيب ابن القيم, فلا داعي لإبقاء كلام ابن القيم الذي هو نصّ كلام الخطابي, تفادياً للتكرار.. والناظر في كلام ابن القيم يجد أنه يفارق كلام الخطابي, وليس هو نصّ كلامه...".
الثالث: قال محقق الكتاب: الدكتور إسماعيل مرحبا:
" نسبة بعض أقوال المنذري لابن القيم:(1/115)
ولعلِّي قبل أن أختم كلامي عن أخطاء الطبعة السابقة أذكر خطأً تكرر عدّة مرّات, وهو ليس بالخطأ السّهل, ألا وهو نسبة بعض أقوال المنذري لابن القيم. وسيجد القارئ للكتاب تلك الموضع منوّهاً عليها في أماكنها بإذن الله تعالى ".
مراجع الفقرة: كتاب "تهذيب السنن" طبعة المعارف, مع مقدّمة التحقيق.
طبعات الكتاب:
- طبع في مطبعة أنصار السنة المحمدية في (8) مجلدات, بتحقيق الشيخ: محمد حامد الفقي, ومشاركة العلامة أحمد محمد شاكر له في تحقيق الأجزاء الثلاثة الأولى, سنة: 1369هـ
- ثم صدرت طبعة ثانية بهامش عون المعبود, عن دار , لكنها جمعت إلى أخطاء الطبعة السابقة أخطاء أخرى كثيرة.
- ثم صدرت طبعة أخيرة عن دار المعارف بالرياض بتحقيق الدكتور: إسماعيل مرحبا. في (5) مجلدات, اعتمد فيها على نسخة خطية, واستدرك الأخطاء في الطبعتين السابقتين, وخرّج أحاديث الكتاب, وعلّق على بعض المواطن.
- وبلغنا أن الشيخ: مشهور حسن سلمان يعمل على تحقيق الكتاب على أكثر من نسخة خطية.
12- منهج شمس الحق العظيم آبادي في كتابه: "عون المعبود شرح سنن أبي داود"
أولاً: ترجمة الشيخ محمد شمس الحق:
هو العلامة المحقق المحدث الكبير أبو الطيب محمد شمس الحق بن أمير علي بن مقصود علي الصديقي العظيم آبادي.(1/116)
ولد سنة: 1273- 1319 هـ) من كبار محدثي الهند الذين قادوا حركة السنة والسلفية، وأحد نوابغ العصر ممن يشار إليه بالبنان. تلقى العلوم على أساتذة عصره في بلدته وفي لكناؤ ومراد آباد ودهلي. رحل إلى دهلي ولازم السيد نذير حسين المحدث الدهلوي، ثم رجع إلى موطنه سنة 1302 هـ. ثم قصد إليه مرة ثانية ولازمه ثلاث سنوات. قرأ عليه الكتب الستة والموطأ والدارمي والدارقطني وتفسير الجلالين بكل روية وتدبر، كما استفاد من الشيخ حسين بن محسن الأنصاري وأسند عنه. ورجع إلى موطنه ديانوان، وعكف عن الدرس والإفادة والتأليف، وقد وهبه الله ملكة راسخة في علوم الكتاب والسنة ، وكان مشغوفا بجمع الكتب النادرة القيمة في علوم السنة ونحوها بعد التعليق عليها. وأنفق فيها مالا كثيرا، وله منة عظيمة على أهل العلم وخاصة على طلبة الحديث.
شيوخه:
السيد نذير حسين المحدث الدهلوي, حسين بن محسن الأنصاري, لطف العلي البهاري, نور أحمد الديانوي, فضل الله اللكنوي, بشير الدين القنوجي, عبداللطيف الصديقي.
تلاميذه:
له العديد من التلاميذ المنتشرين في القارة الهندية, من أبرزهم الشيخ محمد عبدالرحمن المباركفوري صاحب تحفة الأحوذي.
آثاره:
كانت جهوده مرتكزة في خدمة السنة النبوية فمعظم مؤلفاته في السنة منها:
1- غاية المقصود في حل سنن أبي داود.
2- عون المعبود على سنن أبي داود.
3- والتعليق المغني على سنن الدارقطني في جزءين، طبعه المؤلف على نفقته لأول مرة في الهند.
4- غنية الألمعي بحث عن عدة مسائل في الحديث.
5- النجم الوهاج في شرح مقدمة صحيح مسلم بن الحجاج.
6- المكتوب اللطيف إلى المحدث الشريف..كتبه إلى شيخه المحدث السيد نذير حسين الدهلوي في كون الإجازة العامة معتبرة. وسبب ذلك أنه اعترض بعض الحنفية على اعتبار هذه الإجازة.
7- هدية اللوذعي بنكات الترمذي.
8- تعليق على إسعاف المبطا برجال الموطأ للسيوطي.
9- نهاية الرسوخ في معجم الشيوخ.(1/117)
10- فضل الباري في شرح ثلاثيات البخاري.
11- النور اللامع في أخبار الصلاة يوم الجمعة على النبي الشافع.
12- تحفة المتهجدين الأبرار في أخبار صلاة الوتر وقيام رمضان عن النبي المختار.
13- إعلام أهل العصر بأحكام ركعتي الفجر.
14- القول المحقق في تحقيق إخصاء البهائم.
15- التحقيقات العلى بإثبات فرضية الجمعة في القرى.
16- تنقيح المسائل (مجموع الفتاوى له).
وله غير ذلك من الرسائل والمؤلفات في اللغة الفارسية والأردية.
وفاته:
ابتُلي -رحمه الله- في آخر حياته بالطاعون, وتوفي في 19ربيع الأول سنة 1329هـ.
مراجع الترجمة :
مقال في مجلة الجامعة الإسلامية بعنوان " الحركة السلفية ودورها في إحياء السنة ". بقلم: الدكتور عبد الرحمن عبد الجبار الفريوائي ، ومقدمة "غاية المقصود" للشيخ محمد عزير شمس.
ثانياً: منهج شمس الحق العظيم آبادي في كتابه: "عون المعبود شرح سنن أبي داود":
اسم الكتاب: "عون المعبود شرح سنن أبي داود".
توطئة:
يعتبر كتاب "السنن" للإمام أبي داود السجستاني رحمه الله (ت 275هـ) من الأمهات الستة . وكثير من العلماء جعل منزلته بعد الصحيحين ، وقد جمع فيه مصنفه جملة كبيرة من أحاديث الأحكام التي عليها مدار الاستدلال ، فهو بذلك أصل في بابه لا يستغني عنه فقيه لمعرفة أدلة المسائل .
وقد لقي كتاب "السنن" اهتماماً بالغاً من علماء الأمة ؛ فاعتنوا بروايته وشرحه وتهذيبه ونقد رجاله إلى غير ذلك من الخدمات المتنوعة ، وقد كثر اعتناء المتأخرين بشرح الكتاب والتعليق عليه ، خاصة ما كان من جهود علماء الهند في ذلك .
وأشهر هذه الشروح كتابنا هذا "عون المعبود" الذي اختصره المؤلف من شرحه الكبير "غاية المقصود في شرح سنن أبي داود", فقد خشي المؤلف أن لا يتم هذا الشرح الأخير ؛ لطوله وسعته فعجّل بإخراج هذه الحاشية - كما يسمِّيها - .(1/118)
وقد لقي هذا الشرح رواجاً كبيراً بين أهل العلم ؛ لما تميَّز به من حسن التأليف وجودته فلا تكاد تجد طالب علم إلا وعنده هذا الكتاب.
مسألة:
وقع اضطراب عند الباحثين في تعيين مؤلف كتابنا هذا (عون المعبود) ، هل المؤلف هو : أبو الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي (صاحب غاية المقصود) ، أم الكتاب من مؤلفات أخيه الأصغر محمد أشرف المعروف بشرف الحق العظيم آبادي (ت :1326هـ) وقد اختار محقق هذه الطبعة التسمية الأخيرة كما ظهر على غلاف الكتاب .
وسبب ذلك الإشكال أنه جاء في أول الكتاب هذه العبارة :((أما بعد ، فيقول العبد الفقير إلى الله تعالى أبو عبد الرحمن شرف الحق الشهير بمحمد أشرف بن أمير بن علي بن حيدر الصديقي العظيم آبادي - غفر الله لهم وستر عيوبهم - إن هذه الفوائد المتفرقة والحواشي النافعة على أحاديث سنن الإمام الهمام المجتهد المطلق أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني - رضي الله عنه - ، جمعتها من كتب أئمة هذا الشأن رحمهم الله تعالى ، مقتصراً على حل بعض المطالب العالية ، وكشف بعض اللغات المغلقة ، وتراكيب بعض العبارات ، مجتنباً عن الإطالة والتطويل إلا ما شاء الله تعالى ، وسميتها (بعون المعبود على سنن أبي داود) ، تقبل الله مني )).(1/119)
ثم قال : "والباعث على تأليف هذه الحاشية المباركة أن أخانا الأعظم الأمجد أبا الطيب شارح السنن ذكر غير مرة في مجلس العلم والذكر: أن شرحي "غاية المقصود" يطول إلى غير النهاية ، لا أدري كم تطول المدة في إتمامه ، والله يعينني .والآن لا نرضى بالاختصار ، لكن الحبيب المكرم ، الشفيق المعظم ، جامع الفضائل والكمالات ، خادم سنن سيد الكونين ، الحاج تلطف حسين العظيم آبادي (ت1334هـ) مصرُّ على تأليف الشرح الصغير سوى "غاية المقصود" ، فكيف أرد كلامه ؟ فأمرني أخونا العلامة الأعظم الأكرم أبو الطيب أدام الله مجده لإبرام هذا المرام ، فاعتذرت كثيراً ، لكن ما قبل عذري ، وقال : لا بد عليك هذا الأمر ، وإني أعينك بقدر الإمكان والاستطاعة . فشرعت متوكلاً على الله في إتمام هذه الحاشية .
يظهر من هذين الاقتباسين من كلام الشيخ محمد أشرف أن هذا الشرح ألفه هو، أما أخوه المحدث شمس الحق العظيم آبادي فإنما أعانه فقط في كثير من المواضع . كما قال : "وقد أعانني شارحه [أي المحدث العظيم آبادي أخوه الأكبر] في هذه الحاشية في جل من المواضع ، وأمدني بكثير من المواقع فكيف يكفر شكره" .
وترى على صفحة عنوان المجلد الأول من الطبعة الهندية اسم الشيخ محمد أشرف ، وجاء في خاتمته ، " قال العبد الضعيف : نحمد الله ونشكره على أن وفقني لإتمام الجزء الأول من عون المعبود على سنن أبي داود المنتقى والملخص من غاية المقصود ... اللهم تقبله مني ، واغفر لي ولوالدي ولأخي أبي الطيب الذي أعانني على إتمام هذا الكتاب ... ".(1/120)
وفي خاتمة المجلد الثاني : " قال العبد الفقير محمد أشرف : وجد في بعض نسخ المتن بعد حديث ... [ثم قال بعده] وإنا نحمد الله تعالى ونشكره على إتمام الجزء الثاني من "عون المعبود على سنن أبي داود" ، ونعوذ بالله من طغيان القلم وزلته وما أبرئ نفسي ، إن النفس لأمارة بالسوء . اللهم اغفر لي ولوالدي ولأخي أبي الطيب محمد الذي أعانني على إتمام هذا الجزء .. ".
ففهم بعضهم من هذه النقول - ولهم في ذلك عذر - أن مؤلف "عون المعبود" هو الشيخ محمد أشرف. ولكن ترى في آخر المجلد الثالث منه (الهندية) : "قال العبد الضعيف محمد بن أمير الشهير بشمس الحق العظيم آبادي تجاوز الله عنه وعن أبويه ومشائخه : تم بحمد الله تعالى وعونه - وبنعمته تتم الصالحات - الجزء الثالث من" عون المعبود شرح سنن أبي داود ..." وفي أول المجلد الرابع : "وبعد فيقول العبد الضعيف أبو الطيب محمد الشهير بشمس الحق العظيم آبادي عفا الله عنه وعن آبائه ومشائخه : هذا الجزء الرابع من عون المعبود شرح سنن أبي داود ... " وفي آخر المجلد الرابع : "قال العبد الضعيف محمد بن أمير الشهير بشمس الحق العظيم آبادي ... : هذا آخر الجزء الرابع من عون المعبود شرح سنن أبي داود ، تقبل الله مني وجعله ذخيرة ليوم المعاد ، ووفقني لإتمام الشرح الكبير المسمى بغاية المقصود شرح سنن أبي داود ...".
فظهر من هذه النقول أن المجلدين الأخيرين هما من مؤلفات المحدث العظيم آبادي ، وبذلك بطل قول من قال إن "عون المعبود" من تأليف الشيخ محمد أشرف ، نعم بقيت هناك شبهة في نسبة المجلدين الأولين ، لأن فيهما التصريح باسم الشيخ محمد أشرف.
قال الباحث محمد عزيز شمس ما ملخَّصه: لا تصح نسبتهما أيضاً إلى الشيخ محمد أشرف لوجوه:(1/121)
الأول : أن المحدث شمس الحق العظيم آبادي صرح - نفسه - بأن الكتاب - الأجزاء الأربعة منه - من تأليفه حقيقة ، وإنما نسب المجلدين الأولين إلى أخيه تأليفا لقلبه ، فإنه كان عضواً قوياً من اللجنة التي تعمل لجمع المواد المتفرقة للشرح الكبير بأمره . قال الشيخ عبد الحي الحسني (ت1341هـ) في ترجمة الشيخ محمد أشرف في كتابه نزهة الخواطر (8 / 408) : "وقد عزا إليه صنوه شمس الحق المجلد الأول [والثاني] من عون المعبود ، أخبرني بذلك الشيخ شمس الحق" . ولا مجال لإنكار هذا البيان .
والثاني : أن المحدث شمس الحق العظيم آبادي كتب بقلمه على النسخة الخطية الموجودة في مكتبة "خدابخش خان" برقم 3118: "الجزء الثاني من "عون المعبود شرح سنن أبي داود" من أول كتاب الزكاة إلى آخر باب التولي يوم الزحف ، للعبد الضعيف أبي الطيب عفى عنه ". مع أن في خاتمة هذا الجزء المطبوع - وقد نقلنا العبارة من قبل - ما يدل على أن الكتاب من تأليف الشيخ محمد أشرف أخيه ، فظهر أنه ليس له [أي للشيخ محمد أشرف] حقيقة ، وإنما هو منسوب إليه فقط .
والثالث : أن ناشر كتاب "عون المعبود" - الشيخ تلطف حسين العظيم آبادي (1334هـ) الذي كان يعلم حقيقة الأمر لكونه من أصدقائه - قال في خاتمة المجلد الرابع (هندية): "ثم شرع [المحدث العظيم آبادي] في هذا الشرح الصغير المسمى "بعون المعبود شرح سنن أبي داود "، فجاء هذا الشرح الصغير في مجلدات ضخمة ".(1/122)
والرابع : أن جميع تلاميذ المحدث شمس الحق العظيم آبادي وشيوخه وأصحاب متفقون على أن الكتاب من مؤلفاته . ولم يذكر أحد منهم أن الكتاب ألفه أخوه الشيخ محمد أشرف ، ولو كان الأمر كذلك لصرّح به كل واحد (انظر :"الحياة بعد الممات" للشيخ فضيل حسين المظفرفوري344)، وجريدة أهل الحديث (أمر تسر) : 31 اكتوبر 1919م (مقال الشيخ أبي القاسم سيف البنارسي المتوفى سنة 1269هـ) ، ونفس المصدر : 28 ابريل 1911م (مقال الشيخ عبد السلام المباركفوري المتوفى سنة 1324هـ) ونزهة الخواطر 8/108 ، والثقافة الإسلامية في الهند - كلاهما للشيخ عبد الحي الحسني المتوفى سنة 1341هـ ، و"تراجم علماء حديث هند" 1/26 ، 37 إلى غير ذلك - للنوشهروي المتوفي 1966م ، وغيرها من الكتب ، واقرأ تقاريظ العلماء الأفاضل على كتاب "عون المعبود" ، التي طبعت في آخر عون المعبود من الطبعة الهندية (4/554 - 558، 570) فقد نسبوا الكتاب للعلامة شمس الحق .
المرجع : (بتصرف) من كتاب" حياة المحدث شمس الحق وأعماله" للشيخ محمد عزير شمس 143- 150 , ط:الأولى , عام 1399هـ , بالجامعة السلفية - الهند.
ويقول بعض الباحثين:
إن المؤلف لعون المعبود اثنان لا واحد, هُما:
1- شمس الحق أبو الطيب العظيم آبادي وهو الذي يكتب اسمه على الغلاف وحده, وله الحواشي والشروح الحديثية والفقيهية.
2- شرف الحقّ الشهير بمحمد بن أمير بن علي بن حيدر الصديق العظيم آبادي, وله حلّ وشرح الألفاظ اللغوية والتراكيب النحوية.
ولذا فإنّ من التحقيق والتدقيق والاحتياط عند عزو قول للكتاب أن يُقال: قال صاحب عون المعبود، فهذا يشملهما,والله اعلم ".
وانظر مقالاً للشيخ مشهور بن حسن سلمان في مجلة "الأصالة" العدد (51) بعنوان: من هو مؤلف "عون المعبود"؟.
مقدّمة الكتاب:(1/123)
" بسم الله الرحمن الرحيم, الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات, صلى الله تعالى على رسوله محمد الذي جعل أتباعه سببا لكفارة السيئات, وعلى آله وأزواجه وسائر أصحابه الذين نالوا به المنازل الرفيعة والدرجات.
أما بعد : فيقول الفقير على الله تعالى أبوعبد الرحمن شرف الحق الشهير بمحمد أشرف بن أمير بن علي بن حيدرو الصديقي العظيم آبادي, غفر الله لهم, وستر عيوبهم, إنّ هذه الفوائد والحواشي النافعة على أحاديث سنن الإمام الهمام المجتهد المطلق, أبي داود سليمان بن الأشعت السجستاني رضي الله تعالى عنه, جمعتُها من كتب أئمة هذا الشأن رحمهم الله تعالى, مقتصراً على حلّ بعض المطالب العالية, وكشف بعض اللغات المغلقة, وتراكيب بعض العبارات, مجتنباً عن الإطالة والتطويل إلا ما شاء الله تعالى.(1/124)
وسميتها :ب (عون المعبود على سنن أبي داود ), تقبّل مني, والمقصود من هذه الحاشية المباركة الوقوف على معنى أحاديث الكتاب فقط, من غير بحث لترجيح الأحاديث بعضها على بعض, إلا على سبيل الإيجاز والاختصار, ومن غير ذكر أدلة المذاهب المتبوعة على وجه الاستيعاب, إلا في المواضع التي دعت إليها الحاجة, أعان الله تعالى وتبارك على إتمام هذه الحواشي, ونفع بها إخواننا أهل العلم وإياي خاصة, وأما الجامع لهذه المهمات المذكورة من الترجيح والتحقيق, وبيان أدلة المذاهب والتحقيقات والشريفة, وغير ذلك من الفوائد الحديثية في المتون والأسانيد وعللها, الشرح الكبير لأخينا العلامة ( أبي الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي ) المسمَّى (بغاية المقصود في حل سنن أبي داود), وفقه الله تعالى لإتمامه, كما وفقه لابتدائه, وهو شرح كبير جليل عظيم الشأن وشارحه العلامة صرف همته إلى إتمامه, والمشغول فيه بحسب الإمكان, جزاه الله تبارك وتعالى وتقبل منه, و جعله خير العقبى, وإني استفدت كثيرا من هذا الشرح المبارك, وقد أعانني شارحه في هذه الحاشية في جل من المواضع, وأمدَّني بكثير من المواقع, فكيف يكفر شكره.(1/125)
والباعث على تأليف هذه الحاشية المباركة أن أخانا الأعظم الأمجد أبا الطيب شارح السنن ذكر غير مرة في مجلس العلم والذكر أن شرحي ( غاية المقصود ) يطول شرحه إلى غير نهاية, لا أدري كم تطول المدة في إتمامه, والله يعينني, والآن لا نرضى بالإختصار, لكن الحبيب المكرم الشفيق المعظم, جامع الفضائل و الكمالات, خادم سنن سيد الكونين الحاج تلطف حسين العظيم آبادي مصر على تأليف الشرح الصغير سوى ( غاية المقصود ), فكيف أرد كلامه, فأمرني أخونا العلامة الأعظم أبو الطيب أدام الله مجده لإبرام هذا المرام, فاعتذرت كثيراً, لكن ما قبل عذري, وقال: لا بد عليك هذا الأمر, وإني أعينك بقدر الإمكان والاستطاعة, فشرعت متوكلا على الله في إتمام هذه الحاشية, ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم, أستغفر الله رب من كل ذنب, وأتوب إليه ".اهـ
منهج الشّرح:
ويمكن أن نبيّن منهج الشارح في كتابه بأنه:
- هو شرح كامل على الكتاب فهناك شروح للكتاب ولكنها لم تكتمل كشرح العيني, والسبكي.
- وشرحه وسط يفيد منه طالب العلم , ولا يضجره بطوله.
- يبدأ بنقل عبارة من الحديث ثم يتكلّم عليها.
- مع تمييز المهمل.
- وتسمية المنسوب من الأسماء.
- وإن احتاج اللفظ إلى ضبطٍ ضبطه.
- فضلاً عن أنه اعتنى ببيان اختلاف روايات متن السُّنن وإثبات الفروق بينها.
- وهو كذلك يشرح الكلمات الغريبة ، ويتكلّم على فقه الحديث.(1/126)
مع اعتناءٍ منه بتخريج أحاديث الكتاب اعتماداً على كلام المنذري في مختصره للسنن. وذلك أنه قال في التنبيه الأول : " أكثرت النقل من كلام الحافظ المنذري حتى قلت تحت كل حديث : ( قال المنذري كذا وكذا ) ؛ لأن الإمام المنذري قد اختصر كتاب " السنن " من رواية اللؤلؤي فأحسن في اختصاره ". قال العظيم آبادي في نهاية الجزء الرابع من الطبعة الهندية مبيّناً منهجه في تخريج الأحاديث ومنهج المنذري: " وذكرَ عقيب كل حديث من وافق أبا داود من الأئمة الخمسة على تخريجه ثم بيَّن ضعف الحديث وعلته إن كان الحديث ضعيفا ومعلولاً. وإن كان الحديث مما اتفق عليه الشيخان أو أحدهما أو أهل السنن الثلاثة أو واحد منهم وليس فيه ضعف فيقتصر على قوله أخرجه فلان وفلان ، وهذا تصحيح من المنذري رحمه الله لذلك الحديث ، وإن كان الحديث مما تفرد به أبو داود وليس فيه ضعف فيسكت عنه المنذري ، وسكوته أيضا تصحيح منه لذلك الحديث وأقل أحواله أن يكون حسناً عنده ، وإني نقلتُ سكوته أيضا ملتزماً به ، فقلت : والحديث سكت عنه المنذري ، إلا في بعض المواضع في أول الكتاب ، فقد فاتني هذا الأمر ، ومع ذلك فإني نقلت قدرا كثيرا من كلام أئمة الحديث في تنفيذ أحاديث الكتاب من الصحة والضعف وبيان عللها وجرح الرواة وعدالتهم ما يشفي الصدور وتلذ الأعين فصار هذا الشرح بحمد الله تعالى مع اختصاره وإيجازه مغنيا عما سواه ، فكل حديث الكتاب فردا فردا من أول ( باب التخلي عند قضاء الحاجة ) إلى آخر باب ( الرجل يسب الدهر ) بيّنت حاله من القوة والضعف إلا ما شاء الله تعالى في أحاديث يسيرة مع أنه ليس في سنن أبي داود حديث اجتمع الناس على تركه ".
- ويُعنى بتصويبات ابن القيم وتعليله للأحاديث.
- وينقل عن فتح الباري وغيره من الشروح.(1/127)
- كلّ ذلك لا يُخرجه عن كونه شرحا مختصراً ؛ فهو لا يتكلم في كل حديث عن جميع النقاط السابقة ، وإن تكلم فلا يستقصي ، إلا أننا نجد المؤلف قد حقَّق القول في بعض المسائل واستقصى الأدلة فمن ذلك المباحث التالية:
1- الكلام على معنى حديث "من أدرك ركعة فقد أدرك الصلاة" وبيان الاختلاف الوارد بين
العلماء في من أدرك الإمام راكعاً هل تحسب له تلك الركعة أم لا ؟
2- ما معنى "التحري" في حديث ابن مسعود "إنه يتحرى في صلاة ويسجد سجدتين بعد السلام"
3- بحث الجمعة في القرى ، وهل يشترط أربعون رجلاً لأدائها ؟
4- ما هو مفهوم الأذان بين يدي الإمام لصلاة الجمعة ؟
5- تحقيق جيد في عدد تكبيرات العيدين .
6- هل تقع التطليقات ثلاثًا أم واحدة ؟ .
7- كلام جيد في كيفية أداء صلاة الجنازة ، وكيفية قراءة الفاتحة ، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم, والأدعية على الوجه الذي هو مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم , ثم عن الصحابة رضي الله عنهم .
8- هل تشرع الصلاة على الميت الغائب أم لا ؟.
9- تفسير قوله تعالى (شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت) الآية .
10- معنى حديث "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر" وهل يوجد في الزعفران والعنبر والمسك سكر أم لا ؟
11- هل يجوز تعليم الكتابة للنساء أم لا ؟
12- إذا أعتق أحد الشريكين نصيبه من عبد مملوك ، هل يكون للآخر أن يستسعي العبد أم لا ؟
13- معنى حديث "تدور رحى الإسلام بخمس وثلاثين أو ست وثلاثين أو سبع وثلاثين ، فإن يهلكوا فسبيل من هلك ، وإن يقم لهم سبعين عاماً" .
14- معنى حديث "لا يزال هذا الدين قائماً حتى يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلهم تجتمع عليهم الأمة" .
15- تحقيق الكلام في معنى حديث "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة من يجدد لها دينها" .(1/128)
16- حديث "يقاتلكم قوم صغار الأعين يعني الترك ... تسوقونهم ثلاث مرار حتى تلحقوهم بجزيرة العرب . فأما في السياقة الأولى فينجو من هرب منهم ، وأما في الثانية فينجو بعض ويهلك بعض ، وأما في الثالثة فيصطلمون " .
17- شرح أحاديث أمارات الساعة .
18- الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في نزول عيسى عليه السلام قرب الساعة ، وبيان مذهب أهل السنة وغيرهم في ذلك " .
19- تفسير قوله تعالى (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وآخر متشابهات .. ) الآية .
20- محمد بن إسحاق ، آراء الأئمة فيه ، وتحقيق ما هو الحق .
ويظهر أن سبب هذا التوسع في مثل هذه المباحث ، هو عنايته بها في كتبه الأخرى ، بل ربما أفرد بعضها بالتصنيف كمسألة تعليم النساء الكتابة .
- كما أن هناك أربع إلحاقات سماها المؤلف "فوائد متفرقة متعلقة ببعض مقامات أبي داود لم تذكر في عون المعبود في مقامها وهي نافعة جداً ".
وهذه الإلحاقات ألحقها المصنف في خاتمه الجزء الرابع من الطبعة الهندية ، وقد نصَّ المؤلف على أنها من عون المعبود بقوله: " فلا بد على القاري أن يُلحقها في عون المعبود فإنها جزء منه ".
- كما أضاف أيضاً في نهاية الكتاب ما سمّاه مؤلفه: " تنبيهات جليلة عظيمة ، وفوائد نافعة مهمة لا يستغني عنها الطالب " ، وهي خمسة تنبيهات كالتالي :
- التنبيه الأول : في ذكر تنقيد أحاديث السنن وتخريجها.
- التنبيه الثاني : في ترجمة المؤلف ، وذكر رواه السنن عن أبي داود على سبيل الاختصار.
- والتنبيه الثالث : في ذكر اختلاف نسخ المتن.
- والتنبيه الرابع : في ذكر كتب الأطراف.
- والتنبيه الخامس : في النسخ التي ظفر الشارح بها وبيان نوع الاختلاف بينها.
فقد ذكر الشارح الأستاذ العظيم الآبادي أنه ظفر بإحدى عشرة نسخة من سنن أبي داود وكلها من رواية اللؤلؤي إلا نسخة واحدة فهي من رواية ابن داسة.(1/129)
فقابل هذه النسخ بعضها على بعض ورجع إلى عشرات الكتب الأمهات من كتب الأئمة المتقدمين ، واستطاع أن يميز رواية اللؤلؤي وأن يورد كل الروايات التي وصلت إليه وقال : ( فصار هذا المتن والشرح جامعا لرواية ابن داسة وابن العبد وابن الأعرابي أيضا ، بل فيه بعض رواية الرملي أيضا لكنه قليل جدا ) '' عون المعبود ''. وعليه نستطيع أن نقرِّر أن هذه الطبعة هي أصحّ الطبعات وأفضلها, وأكثرها تحقيقاً.
وكتاب "عون المعبود" يتميّز بميّزات من أهمها:
- يظهر في الكتاب اتباع المؤلف للنصوص وهذه ميزة مهمة جعلت بعض الأحناف من الهنود يشنعون عليه ، ولا عيب فيه إلا اتباعه للسنة وهذا ليس بعيب.
- كون الشارح صحيح المعتقد لا يؤوِّل الصفات بل هو مثبت لها ، مقرر للسنة.
- يردّ على أهل البدع كأهل القبور الذين يعظمونها ، بل نجد المؤلف يرد على البدع المعاصرة لوقته رداً طويلاً كرده على القاديانية عند شرح حديث نزول عيسى عليه السلام.
طبعات الكتاب:
للكتاب عدّة طبعات من أشهرها:
- الطبعة الهندية حيث طبع الكتاب للمرة الأولى في الهند, وهي المعروفة بالنسخة الهندية, في أربعة مجلدات ضخام كان طبع الأول منها عام 1318هـ وانتهي من طبع المجلد الرابع والأخير عام (1323هـ) أي في حياة المؤلف. والجدير بالذكر أن هذه النسخة مطبوعة طباعة حجرية ، غير أنها نسخة صحيحة متقنة ، بل إن نسخة السنن المدرجة ضمنها هي من أحسن النسخ المطبوعة.
- وقد صوِّرت هذه الطبعة دار الكتاب العربي - ببيروت ، وعن هذه المصورة اشتهر الكتاب في الوقت الراهن.
- ثم صدر الكتاب بتحقيق: عبد الرحمن محمد عثمان. عن المكتبة السلفية سنة 1388هـ في (14) مجلداً.
- ثم في دار الكتب العلمية - دون محقق - سنة 1410هـ في (7) مجلدات مع مجلدين للفهارس.
- ثم صدر في مجلد واحد خرّج أحاديثه : رائد بن صبري بن أبي علفة عن بيت الأفكار الدولية للنشر والتوزيع.(1/130)
- وقد علمنا أن الشيخ مشهور بن حسن سلمان قد انتهى من تحقيق الكتاب وهو الآن تحت الطبع.
13- منهج السهارنفوري في كتابه "بذل المجهود في حل أبي داود".
أولاً: ترجمة الشيخ السهارنفوري:
هو الشيخ العلامة الفقيه خليل أحمد بن مجيد علي الحنفي الأنبيتهوي, ولد سنة 1269هـ في قرية نانوته من أعمال سهارنفور, ونشأ ببلدة أنبيتهه .
اشتغل بالعلوم من صباه, ودرسه في دار العلوم الإسلامية بديوبند, ثم في سهارنفور, فدرس علوم الآلة, وفنون العربية, والعلوم العقلية والنقليه.
رحل إلى الحرمين, وحجّ عدة مرّات, وكان على طريقة الصوفية عفا الله عته.
شيوخه :
يعقوب النانوتوي , محمد مظهر النانوتوي, الحسن السهارنفوري, رشيد الكنكوهي, أحمد دحلان, عبد القيوم البرهانوي, أحمد البرزنجي, عبد الغني المجددي, وغيرهم.
تلاميذه:
محمد يحيى الكاندهلوي, عبد الله الكنكوهي, عاشق إلهي الميرتهي, فخر الدين غازي, محمد إلياس الكاندهلوي, فيض الحسن الكنكوهي, محمد حسين الحبشي, وغيرهم.
مصنفاته:
- "بذل المجهود في حل أبي داود"
- "المهند على المفند"
- "تنشيط الأذان"
- "مطرقة الكرامة على مرآة الإمامة"
- "هدايات الرشيد في إفحام العنيد"
- إتمام النّعم على تبويب الحكم"
وفاته:
كانت وفاته بعد العصر من يوم الأربعاء في السادس عشَر من ربيع الآخر سنة 1346هـ, في المدينة النبويّة, ودفن في البقيع.
تنظر لترجمته :مقدمة كتاب "بذل المجهود".
ثانياً: منهج السهارنفوري في كتابه "بذل المجهود في حلّ أبي داود".
اسم الكتاب: طبع الكتاب باسم: "بذل المجهود في حلّ أبي داود".
ولم يذكر في مقدمة شرحه اسماً للكتاب.
مقدّمة الشّرح:
بدأ -رحمه الله- شرحه كما هي عادة المصنّفين, بذكر مقدمة بيّن فيها سبب تأليفه, وخطّته في الشّرح, ومصادره فيه, أنقل بعضاً منها:(1/131)
".. قرأتُ سنن أبي داود على شيخي... وكثراً ما كان يختلج في صدري أن يكون على سنن أبي داود سرح يحلّ مغلقاته, ويكشف معضلاته, ويُذلل صعابه, ويسهّل مشكلاته, ولكنّي كنتُ أحقّر نفسي أن أتحمّل هذا الحمل الثّقيل.. حتى رأيتُ واحداً من الشرح الذي ألفه الشيخ أبو الطيب شمس الحقّ المسمّى بـ"غاية المقصود", فوجدته لكشف مكنوزاته كافلاً, وبجمع مخزوناته حافلاً...
ثم رأيتُ "عون المعبود" للشيخ محمد أشرف كان مختصر "غاية المقصود", فلَم يقع في القلب موقعه...
إلى أن قال:...فأُلقي في روعي أن أكتب على أبي داود تعليقاً مختصراً جامعاً, يفتح أقفال كنوزه, ويُسهل صِعاب رموزه... وأعانني عليه بعض أحبابي خصوصاً منهم.. محمد زكريا -رحمه الله تعالى- فإنّي كنتُ لا أقدر على الكتابة, ولا على التتبّع؛ لرعشة حدثت في يدي, وضعف في دماغي وبصري, فكنتُ أُملي عليه, وهو يكتب ويتتبّع المباحث المشكلة من مظانّها فيُسهِّل عليّ إملاءها...
وكان عندي حين إملاء هذا التعليق كتبٌ من العلوم مختلفة:
فمن علم الحديث وشروحه:الصّحاح الستة, و...
ومن التفاسير: التفسير لابن جرير, و...
ومن أسماء الرّجال: مصنّفا إمام الفنّ الحافظ ابن حجر...
ومن كتب أصول الحديث: شرح النّخبة للحافظ...
ومن كتب الفقه للأحناف: بدائع الصنائع, و...
ومن كتب الفقه لغيرهم: كتاب الأمّ للشافعي, و...
ومن كتب أصول الفقه: نور الأنوار, و...
ومن غريب الحديث واللغة: مجمع البحار...
ومن كتب السيَر والتواريخ: سيرة ابن هشام, و...
ثمّ ذكر أن بيده عدّة نُسخ لأبي داود اعتمد عليها في شرحه, وقد بلغت ستّ نسخ.
ثم قال:(1/132)
وكان الاعتماد غالباً في شرح الحديث على كلام: علي القاري في "المرقاة", والحافظ ابن حجر في "فتح الباري", والعلامة بدر الدين العيني في شرح البخاري, وفي المسائل الفقهية على "بدائع الصنائع", وفي أحوال الرجال على "التقريب", و "التهذيب", و "الإصابة", و "الأنساب" للسمعاني, وفي حلّ اللغات على "المجمع", و "القاموس", و "لسان العرب".
ولم آخُذ من كلام الشارحين المذكورين صاحب "غاية المقصود", و "عون المعبود", ولا ما نقلاه عن أحد مقلّداً لمجرّد قولهما بدون أن أجده في كلام المتقدّمين.
وقد أهتمُّ في هذا الشرح بأمور قلّما يوجد في غيرها, منها:
- أنّ جلّ مباحثها منقول من كلام أكابر القدماء ممّا يتعلّق بتوضيح الحديث وغيره...
- وأمّا ما يتعلق بحلّ أقوال أبي داود, فخاطري مقتضبُه غالباً؛ لأنه لا يوجد من كتب المتقدّمين ما يحلّ صعب أقواله.
- ومنها أنّي ذكرتُ ترجمة كلّ راو من السّند في أول موضع ذكره في السند, ثم إذا وقع في محلّ بعده لأم أذكره.
- منها أني كثيراً ما أذكر مذهب السّادة الحنفيّة تحت حديث يتعلّق بمسالة فقهيّة, فإن كان الحديث موافقاً لهم فيها؛ وإلا ذكرتُ مستدلَّهُم والجواب عن الحديث وتوجيهه.
- ومنها أن أذكر مناسبة الحديث بترجمة الباب في موضع خفي ذلك.
- ومنها أني في بعض المواضع أنبّه على ما وقع فيه التسامح من شارحي أبي داود, لئلا يقع الطالب في الغلط اعتماداً عليه, مع أني أبرئ نفسي عن الخطأ والسّهو...
- ومنها إعادة بعض المطالب المهمّة لمصلحة اقتضت ذلك.
- ومنها ما أورده المصنّف من الروايات مختصراً, وأخرجها غيره مطوّلاً, فذكرتها مطوّلة من مظانّها.
- ومنها تفصيل مذاهب المجتهدين - سيّما الأربعة شكر الله سعيهم - وأكثرها نقلتها عن العلامة الشوكاني.
- ومنها ما ذكره المصنّف مرسلاً, أو معلّقاً, ذكرتهُ موصولاً, وهو حسبي ونعم الوكيل, ولا حول ولا قوّة إلا بالله العليّ العظيم ".اهـ(1/133)
ثم ذكر المؤلف بعض روايات أبي داود وأصحّها, وأشهرها, وشيئاً من ترجمته.
ويراجع للمزيد كتاب "بذل المجهود" مع مقدمة الشيخ أبي الحسن الندوي له.
كما يمكننا إضافة:
- ابتدأ بتأليف الكتاب سنة 1335هـ وقد بلغ من العمر (64) سنة وبقي فيه عشر سنوات وخمسة أشهر سنة 1345هـ.
- اعتمد على تلميذه حسن أحمد في جمع المادة العلمية وكان يقرأ عليه ما جمعه والشيخ يختار.
- من خصائص الشرح ومنهجه:
1- أنه اهتم بأقوال الإمام أبي داود وكلامه في الرواة أو في إيضاح بعض ما ورد في الحديث اهتمام كبيرا .
2- اهتم بتصحيح نسخ السنن المختلفة ونظر مثالا لذلك في باب افتتاح الصلاة في حديث أبي حميد الساعدي.
3- الاهتمام البالغ بتخريج التعليقات والفحص عنها في كتب أخرى وإذا لم ينجح في ذلك بعد التتبع صرح بذلك في غير تردد .
4- تطبيق الروايات بالترجمة وظهر فيه علمه ودقة فهمه وطول تأمله وحيث تكررت الأبواب دفع ذلك وذكر حكمة هذا التكرار ومثاله باب صفايا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأموال وباب سهم الصفي ويراجع في كتاب : الخراج والفيء والإمارة .
5- رجح وحكم بين الشراح فيما اختلفوا فيه .
6- ينتصر للمذهب الحنفي .
7- اشتمل على بحوث في أسماء الرجال ومصطلح الحديث إلا انه لم يكثر منها .
8- كما اشتمل على لطائف من الاستنباطات .
9- قد يتردد في صحة لفظ ورد في حديث فيجتهد في تحقيقه اجتهادا بالغا ومثاله في باب عبيد المشركين يلحقون بالمسلمين فيسلمون في كتاب الجهاد .
10- في العقيدة سلك مسلك التأويل).
وللشيخ الدكتور محمد عبد الرحمن الخميّس رسالة صغيرة مطبوعة باسم: "فتح المعبود في بيان الهفوَات في كتاب بذل المجهود", ذكر فيها هفوات المؤلّف في العقيدة عند شرحه كتاب السنة من سنن أبي داود.
طبعات الكتاب:
- طبع الكتاب عدة طبعات هندية وباكستانية, وصورتها عدّة دور نشر, كدار الفكر والريان والكتب العلميّة, وهو يقع في (18) جزء في تسع مجلدات.(1/134)
- ثمّ طبع في الإمارات العربية في مركز الشيخ أبي الحسن الندوي, بعناية تقي الدين الندوي, في (14) مجلداً الأخير للفهارس, سنة 1427هـ.
14- منهج أبي بكر بن العربي في كتابه:" عارضة الأحوَذي بشرح صحيح التّرمذي "
أولاً: ترجمة أبي بكر بن العربي.(1)
ابن العربي العلامة الحافظ القاضى أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد الاشبيلى.
ولد سنة ثمان وستين وأربع مائة.
ورحل مع أبيه إلى المشرق، وسمع ابا عبد الله بن طلحة النعالى وطراد بن محمد الزنبى ونصر بن البطر وطبقتهم ببغداد، وابا الفتح نصر بن ابراهيم المقدسي وابا الفضل بن الفرات وطبقتهما بدمشق، وخاله الحسن بن عمر الهوزنى وطائفة بالاندلس، والقاضى ابا الحسن الخلعي ومحمد بن عبد الله بن أبى داود الفارسى وعدة بمصر، والحافظ مكى بن عبد السلام الرميلى ببيت المقدس، وتخرج بالامام ابى حامد الغزالي والعلامة أبى زكريا التبريزي والفقيه أبى بكر الشاشى، وجمع وصنف وبرع في الأدب والبلاغة وبعد صيته.
__________
(1) نص ترجمته في تذكرة الحفاظ للذهبي (4/1294)(1/135)
روى عنه عبد الخالق بن احمد اليوسفي وابن صابر الدمشقي وأخوه واحمد ابن خلف الاشبيلي القاضى والحسن بن على القرطبى وأبو بكر محمد بن عبد الله ابن الجد الفهرى ومحمد بن إبراهيم ابن الفخار ومحمد بن يوسف بن سعادة ومحمد ابن على الكتامى ومحمد بن جابر الثعلبي ونجبة بن يحيى الرعينى والحافظ أبو القاسم السهيلي وعبد المنعم بن يحيى بن الحلوف الغرناطي وعلى بن احمد بن لبال الشريشى وخلق كثير، وآخر من روى عنه بالاجازة في سنة ست عشرة وست مائة أبو الحسن على بن احمد الشقورى واحمد بن عمر الخزرجي التاجر، وقد سمع بمكة من أبى عبد الله الحسين الطبري وأدخل الاندلس علما شريفا واسنادا منيفا، وكان متبحرا في العلم ثاقب الذهن عذب العبارة موطأ الأكناف كريم الشمائل كثير الأموال، ولى قضاء إشبيلة فحمد وأجاد السياسة وكان ذا شدة وسطوة ثم عزل فأقبل على التصنيف ونشر العلم، أثنى عليه ابن بشكوال باكثر من هذا وقال: أخبرني أنه رحل إلى المشرق سنة خمس وثمانين وأربع مائة، وسمعت باشبيلة منه وقرطبة كثيرا.
وقال غيره: كان أبوه من علماء الوزراء فصيحا مفوها شاعرا ماهرا اتفق موته بمصر في اول سنة ثلاث وتسعين فرجع ولده أبو بكر إلى الاندلس وكان أبو بكر احد من بلغ رتبة الاجتهاد فيما قيل.
قال ابن النجار: حدث ببغداد بيسير، وصنف في الحديث والفقه والاصول وعلوم القرآن والادب والنحو والتواريخ، واتسع حاله وكثر أفضاله ومدحته الشعراء وعلى إشبيلية سور أنشأه من ماله.(1/136)
وذكره أبو يحيى اليسع بن حزم وبالغ في تعظيمه وتقريظه قال: فولى القضاء فمحن، وجرى في إعراض الامارة فلحق وأصبح تتحرك بآثاره الالسنة، ويأتى بما أجراه القدر عليه النوم والسنة، وما اراد الا خيرا نصب الشيطان عليه شباكه وسكن الادبار حراكه، فأبداه للناس صورة تذم وسوءة تبلى لكونه تعلق بأذيال الملك ولم يجر مجرى العلماء في مجاهرة السلاطين وحربهم بل داهن، ثم انتقل إلى قرطبة معظما مكرما حتى حول إلى العدوة فقضى نحبه.
قرأت بخط ابن مسدى في معجمه: انا احمد بن محمد بن مفرج البنانى سمعت الحافظ ابن الجد وغيره يقولون: حضر فقهاء إشبيلة أبو بكر بن المرجى وفلان وفلان حضر معهم ابن العربي فتذاكروا حديث المغفر فقال ابن المرجى: لا يعرف الا من حديث مالك عن الزهري، فقال ابن العربي: قد رويته من ثلاثة عشر طريقا غير طريق مالك، فقالوا: افدنا هذا، فوعدهم ولم يخرج لهم شيئا وفى ذلك يقول خلف بن حبر الاديب:
يا أهل حمص ومن بها اوصيكم * بالبر والتقوى وصية مشفق
فخذوا عن العربي اسمار الدجى * وخذوا الرواية عن امام متقى
إن الفتى حلو الكلام مهذب * إن لم يجد خبرا صحيحا يخلق
قلت: هذه حكاية ساذجة لا تدل على جرح صحيح، ولعل القاضي وهم وسرى فكره إلى حديث فظنه هذا والشعراء يخلقون الإفك.
قال ابن بشكوال: توفى ابن العربي بالعدوة بفاس في ربيع الآخر سنة ثلاث وأربعين وخمس مائة.
وفيها أرخه الحافظ ابن المفضل والقاضى ابن خلكان، وفي تاريخ ابن النجار في نسخة نقلت منها: سنة ست وأربعين، والأول الصحيح.
ثانياً: منهج ابن العربي في كتابه عارضة الأحوذي.
اسم الكتاب: كما طبع: " عارضة الأحوَذي بشرح صحيح التّرمذي " .
توطئة:
لم يذكر ابن العربي - رحمه الله - اسم الكتاب صراحة, إلا قوله في مقدمته على الكتاب: (( فخذوها عارضة أحوذي على كتاب الترمذي )).(1/137)
قال ابن خلّكان: (( أمّا معنى " عارضة الأحوذي ", فالعارضة: القُدرة على الكلام. يُقال: فلان شديد العارضة إذا كان ذا قدرة على الكلام. والأحوَذي: الخفيفُ في الشيء لِحِذْقِهِ )).
وقال الأصمَعي: (( الأحوذي: المشمِّر في الأمور القاهرُ لها الذي لا يشذّ عليه منها شيءٌ, وهو بفتح الهمزة, وسكون الحاء المهملة, وفتح الواو, وكسر الذّال المعجمة, وفي آخرِه ياء مشدَّدة )).
مقدّمة الكتاب:
قدّم الإمام ابن العربي لهذا الكتاب بمقدّمة بيّن فيها سبب تأليف الكتاب, ومنهجه فيه, فقال:
((... وبعد: فإن طائفة من الطلبة عرضوا على رغبة صادقة في صرف الهمة على شرح كتاب أبي عيسى الترمذي فصادفوا مني تباعدا عن أمثال ذي, وفي علم علام الغيوب أني أحرص الناس على أن تكون أوقاتي مستغرقة في باب العلم إلا أني منيت بحسدة لا يفتنون, ومبتدعة لا يفهمون, قد قعدوا مني مزجر الكلب يبصبصون, والله أعلم بما يتربصون:
( قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ, وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ) (التوبة:52)
بيد أن الامتناع عن التصريح بفوائد الملة, والتبرع بفوائد الرحلة, لعدم المنصف أو مخافة المتعسف, ليس من شأن العالمين, أو لم يسمعن قول رب العالمين لنبيه الكريم:
( فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ) (الأنعام:89).
وقال في المعترضين والمنكرين:
( أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ) (الزخرف:5).
ولا تزال طائفة من الأمة ظاهرين على الحق إلى يوم الدين, ولعل الله أن يحقق النية في أن يجعلنا ممن قال في المصطفى - صلى الله عليه وسلم -:
(((1/138)
يحمل هذا العلم من كل من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين ودعوى الجاهلين )) , وما فتنوا يفزعون بسؤالهم لي في هذا الأمر, و بالإلحاح باب النجاح, وأربعة مخبوءة في أربع :
الإجابة في الدعاء, والرضا في الطاعة, والسخط في المعصية, والولي في الخلق, فلا يهجرن أحدكم شيئا من الدعاء فربما كانت الإجابة له, ولا فناء من الطاعة, فلعله يصادف رضا الله عنه, ولا وجهاً من المعصية مخافة سخط الله فيه, و لا أحداً من الخلق أجلّ أن يكون وليا لله سبحانه وتعالى في الباطن.
حتى قيَّض الله لي المنة, ويسر النية, وقلت: يا نفس جِدِّي مع مَن هزل, ولا تقطعن حظاً من الآخرة لدنيا , ولا تقبلن على مخلوق, وتذر جانب الخالق الأعلى, وأنت وإن كنت مهتمة بوظائف الدنيا, وتكاليف دين فاغتنمها حالة المحيا, قدوة بالمتقين, فإذا مات المرء انقطع عمله إلا من ثلات, صدقة جارية, أو علم علمه, أو ولد صالح يدعو له.
وما كنت لأتعرَّض للتصنيف, ولا أرتقي على هذا المحل المنيف, إلا أنني رأيته قد خلفت بسماحته, ومحبة ديباجته, تتعاور الإغفال عليه, وتتعاور الجهال فيه, ولا ينبغي لحصيف أن يتصدى على تصنيف أن يعدل عن غرضين, ما أن يخترع معنى, أو يبتدع وصفا ومتنا, حسب ما قرَّرناه في (( قانون التأويل )), وربطناه في التحصيل من الجمل والتفصيل, وما سوى هذين الوجهين فهو تسويد الورق, والتحلي بحلية السرق.
فأمَّا إبداع المعاني فهو أمر معون في هذا الزمان, فإن العلماء قد استوفوا الكلم, ونصبوا على كل مشكل العلم, ولم يبق إلا خفايا في زوايا, لا يتوَلَّجُها إلا من تبصر معاطفها, واستظهر لواطفها حضيضة.
ولم يكن قط في الأمم من انتهى إلى حد هذه الأمة من التصرف في التصنيف والتحقيق, ولا جاب لها في مراها من التفريع, فإن الله صانها عن الإتلاف في كتابها, وجاء بها على الحائق من أبوابها, وسائر الأمم غمرتهم الآفات, وتوالت عليهم الحادثات...(1/139)
ولما صان الله هذه الأمة عن هذه المحنة, وبط لها الدوحة, فتبسطت في بحبوحة دوحتها, وتصرفت في فروع ملتها, فاستفتح السيف العلق, واستلوا على الظلف, فلم يدرك منهم إلا وعي كلامهم, وتقريب مرامهم, فخذوها عارضة أحوذي [ على ](1) كتاب الترمذي, وقد كانت همتي طمحت إلى استيفاء كلامه بالبيان, والإحصاء لجميع علومه بالشرح والبرهان, إلا أنني رأيت القواطع أعظم منها, والهم أقصر عنها, والخطوب أقرب منها, فتوقفت مدة إلى أن تيسرت مندة الطلبة, فاغتنمتها واتبعت عزمي, وأتقعر على شطني ما اشتملت عليه معلقاتي في تغيير المياومة من المشايخ في المجالس, وعوارض المذاكرة على الاختصار, وربما اتفق تطويل, فذلك بحسب ما عرض على شرط ما تقدم من العرض.
اعلموا أنار الله أفئدتكم أن كتاب الجُعفي (2) هو الأصل الثاني في هذا الباب, و( الموطأ ) هو الأول واللباب, وعليهما بناء الجميع كالقشيري, والترمذي, وليس فيهم مثل كتاب أبي عيسى, حلاوة مقطع, ونفاسة منزع, وعذوبة مشرع, وفيه أربعة عشر علما, وذلك أقرب على العمل, وأسلم, أسند وصحح, وضعف وعدد الطرق, وجرح وعدل, وأسمى و أكنى, ووصل وقطع, وأوضح المعمول به والمتروك, وبين اختلاف العلماء في الرد والقبول لآثاره, وذكر اختلافهم في تأويله, وكل علم هذه العلوم أصل في بابه, وفرد في نصابه, فالقارئ له لا يزال في رياض مونقة, وعلوم متفقة, منسقة, وهذا شيء لا يعلمه إلا العلم الغزيز, و التوفيق الكثير, والفراغ والتدبير.
ونحن سنورد فيه إن شاء الله بحسب العارضة:
- قولاَ في الإسناد والرجال.
- والغريب.
- وفنا من النحو.
- و التوحيد.
- والأحكام.
- والآداب.
- ونكتاَ من الحكم.
- وإشارات على المصالح,
فالمنصِفُ يرى رياضه أنيقة و مقاطع ذات حقيقة, فمن أي فن كان من العلوم وجد مقصده في منصبه المفهوم, ولفظ ما شاء وأوعى و ترحم على من جمع ووعى.
__________
(1) في المطبوع [ علم ]
(2) يقصد: صحيح البخاري.(1/140)
كنت قرأت هذا الكتاب على أبي طاهر البغدادي بدار الخلافة, وعلى أبي الحسن القطيعي, كلاهما عن ابن زوج الحرة, إلا أني رأيت أبا الحسن أحلى في القلب والعين, فعكفت عليه قال : أخبرنا أبو يعلى أحمد بن عبد الواحد, أخبرنا أبو علي شيخي, أخبرنا ابن محبوب عنه وقيدته من غير هذه الطرق )) اهـ.
ويمكننا أن نُضيف لِما تقدّم, أنهُ:
أولاَ:
- يرجح غالباً مذهبه المالكي وقد يخرج عنه لقوة الدليل.
كما في (2/101) رجح الافتراش في التشهد الأول خلافا لمالك الذي يرى التورك في التشهدين.
- في العقيدة سلك مسلك التأويل ، انظر : (2/233)، (3/163).
ثانياً"
حول طبعة الكتاب:
طبعة الكتاب مليئة جداً بالأخطاء والسقط الكثير، وأحيانا يسقط حديث بكامله.
وإذا عُرف السبب بطل العجب!
فالمطبعة التي طبعت الكتاب طلبت من الشيخ أحمد شاكر نسخته ليطبعوا الكتاب, وكان الشيخ قد علَّق على نسخته ، فطبعوا تعليقات الشيخ في صُلب متن عارضة الأحوذي! وفيه إسقاط أحاديث بشروحها , وفيه إدخال كلام ليس لابن العربي , فيه إقحام لكلام ليس للترمذي . - وهذا من جهل الطابع -
المرجع كتاب " عارضة الأحوذي " مع مقدمة الشّارح.
طبعات الكتاب:
- طبع في مطبعة الصّاوي, والتَّازي طبعات سيئة للغاية .
- وصوّرته: دار الكتاب العربي، بيروت.
- وصورته دار إحياء التراث بيروت, ورقّموه على ترقيم المعجم المفهرس, بعناية: هشا البخاري.
- وطبع بدار الوحي المحمدي، القاهرة .
- وفي دار الكتب العلمية، ، بيروت 1418 هـ .
- وطبع في دار الفكر 1413هـ في ( 7 ) مجلدات بتحقيق ( صدقي جميل العطار )
--------------------------------------------------------------------------------
15- منهج المباركفوري في كتابه " تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي "
أولاً: ترجمة الشيخ محمد عبد الرحمن المباركفوري:(1/141)
هو الشيخ الإمام الحافظ الحجة محمد عبد الرحمن بن عبد الرحيم بن بهادر المباركفوري, ولد سنة ألف ومائتين وثلاث وثمانين, بقرية مباركفور بالهند.
نشأ في موطنه في حجر والده, وتربّى في كنفه واشتغل بالقراءة في صباه, فختم القرآن, وعدّة رسائل باللغة الأوردية والفارسية. ثم ارتحل وطاف البلاد, ودرس العلوم...
فنبغ وبرع حتى فاق الأقران, واشتغل بالتدريس والإفتاء, ونصح الأمة بالقلم واللسان, وأسّس عدّة مدارس باللغة العربية.
شيوخه:
والده, الشيخ عبد الله المئوي, السيد نذير حسين البهاري الدهلوي, حسين بن محمد الأنصاري الخزرجي, حسام الدين المئوي, فيض الله المئوي, سلامة الله الجيراج فوري.
تلاميذه:
عبد السلام المباركفوري, محمد بن عبد القادر الهلالي, عبيد الله الرحماني, عبد الله النجدي القويعي, رقية بنت خليل الأنصاري, عبد الجبار الجيفوري, محمد اسحق الآروي, عبد الرحمن النكرنهسوي, محمد بشير المباركفوري. وغيرهم.
مؤلفاته:
تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي, مقدمة تحفة الأحوذي, أبكار المنن في تنقيد آثار السنن, تحقيق الكلام في وجوب القراءة خلف الإمام, خير الماعون في منع الفرار من الطاعون, المقالة الحسنى في سنية المصافحة باليد اليمنى, القول السديد فيما يتعلق بتكبيرات العيد. وغيرها.
وفاته:
أضرّ الشيخ في آخر عمره, ثم إنه شفي ورجع إليه بصره, ثم أخذه مرض ضعف القلب واضطرابه واختلاجه, فكان يُغشى عليه غشياناً ييأس أهله من حياته, وأخته الحمّى, وكان كذلك إلى أن وافاه الأجل المحتوم, فانتقل إلى الرفيق الأعلى في وطنه مباركفور, في ثلث الليل الأخير للسادس عشر من شوّال سنة 1353هـ.
وتنافس العلماء في الصلاة عليه, وكانت جنازته مشهودة, رحمه الله رحمة واسعة.
مرجع الفقرة: نهاية المجلد الأول من مقدمة "تحفة الأحوذي". تحقيق: محمد عبد الرحمن عثمان.
ثانياً: منهج المباركفوري في كتاب " تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي ".(1/142)
اسم الكتاب: " تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي ".
هذا الشرح من انفع الشروح المتداولة الآن ، وهو في أوَّله أجود من آخره جعل له مقدمة في جزأين ، ومما ذكره في المقدمة أن هناك نسخاً للبخاري عليها خطوط الأئمة والعلماء في الخزانة الجرمنية في ألمانيا وليس لهذا الكلام رصيد من الصحة.
ابتدأ المباركفوري كتابه دون خطبة للكتاب, فبدأ شرحه بذكر مقدمة نفيسة طويلة كالتمهيد للولوج إلى الشّرح؛ ذكر فيها الكثير من الفوائد والمباحث المتعلقة بكتاب الترمذي. فبدأ بـ:
- الباب الأول: فيما يتعلق بعلم الحديث وكتبه وأهله عموماً, وفيه أحد وأربعون فصلاً:
- تكلَّم فيها عن حدّ المحدث والحافظ, وتدوين الحديث, وطبقات كتب الحديث, وأنواع الكتب المصنفة فيه, ثم تكلّم عن الكتب الستة وما يتعلق بها, ثم الكتب الصحاح غيرها, ثم علم أصول الحديث وأجلّ كتبه, ثم كتب غريب الحديث, ثم كتب شروح الحديث, ثم كتب الأحكام, وكتب التخريج, والكتب التي صنفت في الأحاديث الموضوعة, والناسخ والمنسوخ, والتوفيق بين الأحاديث, وأنساب أهل الحديث, ووفيّات المحدثين,وأسماء الصحابة, والمختلف والمؤتلف...
- ثم عقد فصلاً في الردّ على الأصول التي ذكرها الحنفية أو غيرهم لردّ الأحاديث الصحيحة, والكلام عليها.
- ثم فصلاً في كتب الحديث القلمية (أي المخطوطة ) النادرة.
- ثم الباب الثاني من مقدمة الشرح, حيث ذكر فيه ترجمة الإمام الترمذي, وما يتعلّق بجامعه. ذكر نسخ الكتاب, تصحيح الترمذي, وشروحه, ومنهج الترمذي في كتابه.
- ثم عقد فصلاً في ذكر تراجم أئمة التفسير المذكورين في جامع الترمذي.
- ثم فصلاً في ذكر تراجم أئمة اللغة المشهورين.
- ثم فصلاً في ذكر ما وقع في جامع الترمذي من المكررات من الأحاديث والأبواب.
- ثم فصلاً في ذكر رواة جامع الترمذي على ترتيب حروف الهجاء.
- ثم فصلاً في شرح بعض الألفاظ التي استعملها الشارح في الشرح أو في مقدمته.(1/143)
- ثم خاتمة المقدمة نبّه فيها على أغلاط وقعت في النسخة الأحمديّة.
أمّا منهجه في الشّرح: فقد التزم الشيخ -رحمه الله- في شرحه أموراً نشير إليها على وجه الإجمال.
- الأول: كتب ترجمة كل راو من رواة جامع الترمذي بقدر الضّرورة والحاجة, وبسط ترجمة بعضهم في بعض المواضع. وغالباً ما يعتم على الحافظ ابن حجر.
كقوله عن قول الترمذي: " ( وسعدٌ يضعَّف ):
قال ابن معين : لا يحل لأحد أن يروي عنه ، وقال أحمد وأبو حاتم : ضعيف الحديث وقال النسائي والدارقطني : متروك ، وقال ابن حبان : كان يضع الحديث على الفور ، وقال البخاري : ليس بالقوي عندهم ، كذا في الميزان . وذكر الذهبي فيه حديث الباب من منكراته ".اهـ
- الثاني: خرّج الأحاديث التي رواها الترمذي وأوردها في أبواب جامعه - أعني ذكر أسماء من وافق الترمذي من المحدثين في تخريج أحاديثه وإيرادها في مؤلفاتهم وكتبهم.
- الثالث: بذل غاية جهده في إيضاح الإشكالات الإسنادية والمتنيّة وحلّها.
كقوله في حديث: " "مسح برأسه مرتين بدأ بمؤخر رأسه ثم بمقدمه".
الظاهر أن قوله بدأ بمؤخر رأسه بيان لقوله مرتين فليستا بمسحتين ، والحديث يدل على البداءة بمؤخر الرأس وهو مذهب بعض أهل الكوفة كما حكى الترمذي . وأجاب ابن العربي عنه : بأنه تحريف من الراوي بسبب فهمه فإنه فهم من قوله فأقبل بهما وأدبر أنه يقتضي الابتداء بمؤخر الرأس فصرح بما فهم منه وهو مخطئ في فهمه . وأجاب غيره بأنه عارض ما هو أصح منه وهو حديث عبد الله بن زيد . وبأنه فعل لبيان الجواز .(1/144)
وقال الشوكاني : قال ابن سيد الناس في شرح الترمذي : هذه الرواية محمولة على الرواية بالمعنى عند من يسمي الفعل بما ينتهي إليه ، كأنه حمل قوله ما أقبل وما أدبر على الابتداء بمؤخر الرأس فأداها بمعناها عنده وإن لم يكن كذلك ، قال ذكر معناه ابن العربي ، ويمكن أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم فعل هذا لبيان الجواز مرة وكانت مواظبته على البداءة بمقدم الرأس وما كان أكثر مواظبة عليه كان أفضل ، والبداءة بمؤخر الرأس محكية عن الحسن بن حي ووكيع بن الجراح ، قال أبو عمر بن عبد البر : قد توهم بعض الناس في حديث ابن عبد الله بن زيد في قوله ثم مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر أنه بدأ بمؤخر رأسه وتوهم غيره أنه بدأ من وسط رأسه فأقبل بيده وأدبر هذه ظنون لا تصح ، وقد روي عن ابن عمر أنه كان يبدأ من وسط رأسه ولا يصح . وأصح حديث في الباب حديث عبد الله بن زيد ، والمشهور المتداول الذي عليه الجمهور البداءة من مقدم الرأس إلى مؤخره انتهى ".
- الرابع: ذكر في توضيح الأحاديث وحلّها وشرحها الأقوال المعتبرة والمباحث المعتمدة عند فقهاء المحدثين والسلف الصالح, واحترز عن ذكر الأقوال المحتملة الغير مرضيّة.
- الخامس: خرّج الأحاديث التي أشار إليها الترمذي في كلّ باب بقوله: وفي الباب عن فلان وفلان, وذكر ألفاظها مهما أمكن, وتكلّم في بعضها وأظهر ما فيه من الكلام للأئمة النقّاد من المحدّثين.
- السادس: لم يُشر الترمذي في كثير من الأبواب إلى أحاديث أخرى توافق أصل حديث الباب خلاف عادته, فأشار الشيخ إليها بقوله: وفي الباب عن فلان وفلان وخرّجها.
- السابع: زاد على ما أشار إليه الترمذي بقوله: وفي الباب, أعني أضاف إلى الأحاديث التي أشار إليها الترمذي بقوله: وفي الباب أحاديث أخرى اطلع عليها الشيخ بقوله: وفي الباب عن فلان وفلان أيضاً, خرّجها وأظهر مواقعها من كتب الحديث.(1/145)
- الثامن: لا يذكر الترمذي في بيان مذاهب العلماء إلا عدّة من الفقهاء وبعضهم, فيتوسّع الشيخ في بيان الاختلاف, ويذكر أقوال غير واحد من العلماء ممّن لم يذكرهم الترمذي.
كقوله: " قوله : ( والعمل على هذا عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم ، وبه يقول أحمد وإسحاق ).
وقد ذهب إلى ذلك جمهور العلماء كما قال العراقي وقال وأما من قتلها في الصلاة أو هم بقتلها فعليُّ بن أبي طالب وابن عمر . روى ابن أبي شيبة عنه بإسناد صحيح أنه رأى ريشة وهو يصلي فحسب أنها عقرب فضربها بنعله. ورواه البيهقي أيضاً, وقال: فضربها برجله وقال: حسبت أنها عقرب ، ومن التابعين الحسن البصري, وأبو العالية, وعطاء, ومورّق العجلي, وغيرهم انتهى ".
- التاسع: الترمذي مشهور بالتساهل في تصحيح الحديث وتحسينه, فيذكر الشيخ عقب تحسينه أو تصحيحه تصحيح غير واحد من أهل الحديث غير الترمذي أو تحسينهم, ليطمئنّ القلب وينشرح الصدر.
كقوله: " قوله: ( هذا حديث ليس بإسناده بأس ).
حديث ابن عباس هذا صححه الحاكم . وقال الخطابي: هو أصح من حديث عمرو بن شعيب ، وكذا قال البخاري . قال ابن كثير في الإرشاد : هو حديث جيد قوي وهو من رواية ابن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس انتهى ".
- العاشر: نبّه على المواضع التي وقع فيها التساهل والتسامح من الترمذي في تحسين الحديث وتصحيحه.
كقوله: " قوله : ( هذا حديث حسن )
وأخرجه ابن أبي شيبة وذكره الحافظ في الفتح في كتاب النكاح وعزاه للترمذي وابن أبي شيبة وسكت عنه وذكره في فضائل القرآن وعزاه للترمذي وابن أبي شيبة وأبي الشيخ ، قال وزاد ابن شيبة وأبي الشيخ : " وآية الكرسي تعدل ربع القرآن " ثم قال وهو حديث ضعيف لضعف سلمة بن وردان وإن حسنه الترمذي فلعله تساهل فيه لكونه من فضائل الأعمال انتهى ".(1/146)
- الحادي عشر: يذكر الترمذي في كثير من المواضع اختلاف أهل العلم ولا يذكر الراجح من المرجوح؛ بل يكتفي بذكر الاختلاف, ففي أمثال هذه المواضع يُظهر الرّاجح من المرجوح.
كقوله: " قوله : ( ورخص فيه بعض أهل العلم منهم ابن سيرين ).
... وكره ذلك آخرون واستدلوا عليه بحديث الباب ، وقولهم هو الراجح الموافق لحديث الباب ، قال الشوكاني في النيل : وربط النهي بعلة إفضاء المنهي عنه إلى الوسوسة يصلح قرينة تصرف النهي عن التحريم إلى الكراهة ".
- الثاني عشر: يذكر الترمذي مذاهب الفقهاء وأقوالهم, ويسكت عن دلائل أكثر هذه الأقوال والمذاهب, فيذكر الشيخ دلائل هذه المذاهب التي سكت الترمذي عن بيانها, ثم يزيّف دلائل الأقوال المرجوحة, ويحقّق القول الرّاجح المنصور عنده, ويؤيّده بالأحاديث والآثار, ويحتاط غاية الاحتياط في ترجيح الأقوال.
- الثالث عشر: قد يذكر الترمذي في بيان مذاهب العلماء لفظ القول مجملاً فيقول: وقد ذهب قوم من أهل العلم إلى كذا, فيعيّنهم الشيخ ويبيّن مَن أرادهم الترمذي بلفظ القوم.
- الرابع عشر: وقع مع الترمذي التساهل في نقل مذاهب العلماء في بعض المواضع, فبيّن الشيخ هذه المواضع ونبّه على تساهله, إلا في مواضع قليلة.
- الخامس عشر: قد اختبر الشيخ تحسين الترمذي وتصحيحه في كل مقام أولاً, وحقّق بنفسه من غير أن يعتمد على أقوال أئمة المحدثين فقط, ثم بعد التحقيق, يوافق الترمذي أو يخالفه... إلى غير ذلك من أمور راعاها في الشرح لا تخفى على من طالعه بالإمعان.
- السادس عشر: وهو في العقيدة على مذهب أهل السنة والجماعة، وهو المتصدّر الآن من شروح الترمذي.
كقوله: " قلتُ : هذه تأويلات لا حاجة إليها قد مر مرارا أن مذهب السلف الصالحين رضي الله عنهم ، في أمثال هذه الأحاديث إمرارها على ظواهرها من غير تأويل وتكييف ".(1/147)
وقوله: " وفيه دليل على أن الله تعالى فوق العرش وهذا هو الحق وعليه تدل الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وهو مذهب السلف الصالحين من الصحابة والتابعين وغيرهم من أهل العلم رضوان الله عليهم أجمعين . قالوا إن الله تعالى استوى على عرشه بلا كيف ولا تشبيه ولا تأويل والاستواء معلوم والكيف مجهول ، والجهمية قد أنكروا العرش وأن يكون الله فوقه وقالوا إنه في كل مكان ولهم مقالات قبيحة باطلة ، وإن شئت الوقوف على دلائل مذهب السلف والاطلاع على رد مقالات الجهمية الباطلة فعليك أن تطالع كتاب الأسماء والصفات للبيهقي ، وكتاب أفعال العباد للبخاري وكتاب العلو للذهبي ".
- ملاحظة: اتهم بعض الناس المباركفوري بتقليد الشوكاني, وهذا القول غير صحيح, فالمباركفوري لا يأخذ بقول الشوكاني بلا دليل حتى يقال بأنه مقلد بل الصواب أنه متبع, بل لربما يرجح المباركفوري قول الشوكاني في المسألة ولكنه يبسط المسألة ويحررها تحريراً لا يوجد في كتب الشوكاني. وانظر على سبيل المثال بحثه في مسألة النزول على الركبتين أو اليدين عند النزول إلى السجود وقارنه بما عند الشوكاني وربما نقل قول الشوكاني وردَّ عليه, كما في مسألة التوسُّل, والله أعلم.
مرجع الفقرة: مقدمة "تحفة الأحوذي" للمباركفوري.
طبعات الكتاب:
- طبع أولا في الهند بدهلي1353 هـ. في أربع مجلّدات.
- ثم أعيد تصويره ببيروت في دار الكتاب العربي 1984م في (5) مجلدات.
- ثم طبع عدة طبعات, منها:
- طبعة دار الحديث المصريّة, بتحقيق: عصا الصبابطي في (9) مجلدات, صدرت سنة 1421هـ.
- وفي دار الكتب العلمية - دون محقّق سنة 1422هـ في (10) مجلدات مع مجلّد للفهارس.
- ومن أحسنها طبعة دار إحياء التراث العربي بتحقيق: علي محمد معوض, وعادل أحمد عبدالموجود-كذا واسم موجود لا نص عليه من أسماء الله عز وجل- في (10) مجلدات. مع مجلد للفهارس.(1/148)
ثانياً: مقارنة بين شروح الكتب الستة.(1)
... بسم الله الرحمن الرحيم ...
مقارنة بين شروح كتب السنة الستة
الشيخ/ عبد الكريم الخضير
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وخيرته من خلقه، وأمينه على وحيه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
الكتب الستة:
فقد طلب مني الإخوة القائمون المرتبون لهذا اللقاء، وهذه الدورة، الحديث عن شروح الكتب الستة، والمراد بالكتب الستة كما هو معلوم، صحيح البخاري، وصحيح مسلم، وسنن أبي داود، وسنن الترمذي، وسنن النسائي، والخلاف في السادس معروف، فمنهم من جعل السادس موطأ الإمام مالك -رحمه الله تعالى-، كابن الأثير في جامع الأصول، ورزين العبدري في تجريد الأصول، ومنهم من جعل السادس سنن الدارمي، وهو خليق بذلك، والأكثر على أن السادس سنن ابن ماجه، وأول من جعل السادس سنن ابن ماجه هو أبو الفضل بن طاهر في أطرافه وفي شروطه، شروط الأئمة الستة، جعل السادس سنن ابن ماجه، ثم تبعه على ذلك من كتب في الشروط، وفي الأطراف وفي رجال الكتب، فتبعه على ذلك الحافظ عبد الغني المقدسي -رحمه الله تعالى- في الكمال، ثم تبعه على إثره الحافظ المزي -رحمه الله تعالى- في الأطراف تحفة الأشراف، وفي تهذيب الكمال أيضاً، ثم الذهبي، ثم الحافظ ابن حجر ومن جاء بعدهم.
__________
(1) مادة هذه المقارنة مأخوذة من موقع الشيخ عبد الكريم الخضير على الشبكة:
http://www.khudheir.com/emlaat&page=8(1/149)
المقصود أن الكتاب السادس مختلف فيه بين أهل العلم، وهذه الكتب الستة التي هي كتب أصول الإسلام التي قال عنها الحافظ السلفي - رحمه الله تعالى-: "أن الأمة تلقتهما بالقبول، واتفقوا على صحة أصولها"، أما بالنسبة للصحيحين فلا خلاف في صحة ما جاء فيهما، قد تلقتهما الأمة بالقبول، واتفقوا على العمل بما جاء فيهما، وما عداهما إطلاق الصحة عليه فيه نظر، كقول الحافظ أبي طاهر آنف الذكر، ومنهم من أطلق على سنن النسائي الصحيح، وأطلق أيضاً على سنن أبي داود الصحيح بمفرده، وقيل في جامع الترمذي الجامع الصحيح، وعلى كل حال فهذا تساهل ممن أطلقه، ولهذا يقول الحافظ العراقي -رحمه الله تعالى-:
ومن عليها أطلق الصحيحا ... فقد أتى تساهلاً صريحا
لا شك أن إطلاق الصحيح على ما عدا الصحيحين فيه تساهل؛ لأن فيها الصحيح والحسن والضعيف، ومثله أيضاً إطلاق الحسن عليها، كاصطلاح البغوي في (مصابيح السنة)، حيث قسم الكتاب إلى قسمين: إلى الصحاح والحسان، يرى أن الصحاح ما رواه الشيخان، والحسان ما رواه أهل السنن، وهذا الكلام لا شك أنه مردود؛ لأن في السنن غير الحسن من الصحيح والضعيف، ولهذا يقول الحافظ العراقي -رحمه الله تعالى-:
والبغوي إذ قسم المصابحا ... إلى الصحاح والحسان جانحا
أن الحسان ما رووه في السنن ... رُد عليه إذ بها غير الحسن
الكتب الأربعة فيها غير الحسن، فيها الصحيح وهو كثير، وفيها الحسن وهو كثير جداً أيضاً، وهي من مظانه، وفيها أيضاً الضعيف، فيها أيضاً شديد الضعف، وفي بعضها لا سيما آخرها وهو ابن ماجه ما قيل بوضعه.
قد يقول قائل: لماذا لم يجعل الأئمة مسند الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- في الكتب الستة؟ لا سيما وأن شرط الإمام أحمد في مسنده قوي جداً، ولا يقل عن شرط أبي داود، إن لم يكن أعلى منه وأرفع، كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية، وكما هو واقع الكتاب؟(1/150)
أولاً: رتبة المسانيد كمسند الإمام أحمد، ومسند الطيالسي، ومسند أبي يعلى، وغيرها من المسانيد اصطلح الأئمة على جعلها في المرتبة دون السنن، والسبب في ذلكم أن المؤلف في السنن يترجم بأحكامٍ شرعية، فيقول في الترجمة: باب وجوب كذا، باب تحريم كذا، باب ما جاء في الرخصة بكذا.. الخ، فالذي يترجم بحكمٍ شرعي، والأحكام إنما يتطلب فيها أقوى ما يجده الإنسان، لا شك أنه سوف ينتقي أقوى ما عنده من المرويات، بخلاف من يترجم باسم راوٍ من الرواة، صحابي من الصحابة كما يفعله أصحاب المسانيد، فيترجم باسم أبي بكر، وباسم عمر -رضي الله عنهما-، وبغيرهما من الصحابة، ثم يسوق ما وقف عليه من مرويات هذا الصحابي، وحينئذٍ لا يلزمه الانتقاء؛ لأنه لا يستدل بما رواه على حكمٍ شرعي، كما يصنعه صاحب السنن، بل يثبت ما وصل إليه من الأحاديث من طريق ذلك الصحابي، ولذا يقول الحافظ العراقي -رحمه الله تعالى-:
ودونها في رتبة –يعني دون السنن-.
ودونها في رتبةٍ ما جُعلا ... على المسانيد فيدعى الجفلا
المؤلف في المسانيد يدعو الأحاديث الجفلا من غير نظر إلى أي شرط، يقول:
كمسند الطيالسي وأحمدا ... وعده للدارمي اُنتقدا
ذكر أمثلة على المسانيد بادئاً بمسند الإمام أحمد (كمسند الطيالسي وأحمدا) مسند أبي داود الطيالسي؛ لأنه قبل الإمام أحمد -أعني أبا داود-، هذا إن كان المسند من صنيعه، وإن كان من صنيع من روى عنه، وهو يونس بن حبيب فلا ينبغي أن يقدم على مسند الإمام أحمد، (وعده للدارمي انتقدا) (وعده) الضمير يعود على من؟ أين الذين يحفظون الألفية؟ (وعده للدارمي انتقدا) أين؟
طالب: ابن الصلاح.
نعم، ابن الصلاح؛ لأن الضمير إذا جاء لمفرد فهو يعود إلى ابن الصلاح.
وحيث جاء الفعل والضميرُ ... لواحدٍ ومن له مستورُ
كقال أو أطلقت لفظ الشيخ ما ... أريد إلا ابن الصلاح مبهما
((1/151)
وعده للدارمي انتقدا) ابن الصلاح عدّ الدارمي في المسانيد، ولا شك أنهم انتقدوا عليه إن كان يريد بذلك الموجود المتداول؛ لأنه ليس على ترتيب المسانيد، وإنما هو على الأبواب كالسنن، كالجوامع، هو على الأبواب، فهو محل انتقاد، وإن كان ابن الصلاح يقصد المسند للدارمي غير السنن الذي أشار إليه الخطيب وغيره في ترجمته فلا انتقاد عليه، نعم يطلق المسند على غير المألوف، أعني الكتاب المرتب على أسماء الصحابة، وهو الكتاب الذي رويت فيه الأحاديث بالأسانيد كصحيح البخاري مثلاً، سماه مؤلفه (الجامع الصحيح المسند)؛ لأنه ذكرت فيه الأحاديث بالأسانيد، من هذا الباب تصح تسمية سنن الدارمي مسنداًً، إلا أنه لا يقصد هذا؛ لأنه عده في المسانيد المرتبة على أسماء الصحابة، فلا يرد هذا الجواب.
أول الكتب الستة (صحيح البخاري):
أول هذه الكتب وأعلاها وأغلاها، وهو أصح ما جمعه البشر على الإطلاق، أصح كتابٍ بعد كتاب الله -سبحانه وتعالى- صحيح الإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، وهو المرجح عند جماهير العلماء، وإن زعم أبو علي النيسابوري أنه لا يوجد تحت أديم السماء كتاب أصح من كتاب مسلم، وفضل بعض المغاربة صحيح مسلم على صحيح البخاري لكنه قول مرجوح.
أول من صنف في الصحيحِ ... محمد وخصّ بالترجيحِ
ومسلم بعد وبعض الغرب معْ ... أبي عليٍ فضلوا ذا لو نفعْ(1/152)
إذا تقرر هذا فأول هذه الكتب الستة صحيح الإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، وهو مقدم على غيره من الكتب لصحة أحاديثه وقوة أسانيده وعلوها ودقة استنباطه، فلا يضاهيه كتاب، ولا يقاربه مصنف، ولذا كثرت العناية به، من قبل أهل العلم، فأحصيتُ من شروحه أكثر من ثمانين شرحاً، والذي فاتني من ذلك أضعاف، والعلم عند الله -سبحانه وتعالى-، وهو حري بذلك وجدير وخليق به، ولا غرو أن تهتم الأمة بسنة نبيها -عليه الصلاة والسلام-؛ لأنها هي المصدر الثاني من مصادر التشريع بعد القرآن الكريم، أكثر من ثمانين شرح لصحيح البخاري، قد يقول قائل: لماذا كل هذه العناية؟ يذهب العجب حينما نعرف أن على تفسير البيضاوي أكثر من مائة وعشرين حاشية، تفسير البيضاوي، وهو من تفاسير الخلف، ليس من التفاسير التي يعتمد عليها أهل العلم، ومع ذلكم عليه أكثر من مائة وعشرين حاشية، منها التام ومنها الناقص، المقصود أنه عني بها أهل العلم عنايةً فائقة، وفي بعض الجهات يكاد لا يعرف غيره.
أشهر شروح صحيح البخاري:
نذكر هنا أشهر الشروح على صحيح الإمام البخاري فأولها: (أعلام الحديث أو أعلام السنن) لأبي سليمان حمد بن محمد الخطابي وسوف نفصل الكلام في هذا الكتاب.(1/153)
من الشروح أيضاً شرح أبي جعفر أحمد بن سعيد الداودي، وهذا شرح معروف متداول ينقل عنه أهل العلم كثيراً، وأيضاً شرح المهلب بن أبي صفرة ينقل عنه الشراح كالحافظ والعيني والقسطلاني وغيرهم، وشرح أبي الحسن علي بن خلف المالكي المعروف بابن بطال، شرح أبي حفص عمر بن الحسن بن عمر الأشبيلي، شرح أبي القاسم أحمد بن عمر التيمي، قال القسطلاني: "وهذا واسع جداً"، وشرح عبد الواحد بن التين السفاقسي، ولزين الدين ابن المنير شرح ينقل عنه الشراح ووصف بأنه في نحو عشر مجلدات، وشرح قطب الدين عبد الكريم الحلبي، وشرح مغلطاي التركي، وإن قال عنه الكرماني في شرحه: "إنه بتتميم الأطراف أشبه، وبصحف تصحيح التعليقات أمثل، وكأنه من إخلائه من مقاصد الكتاب على ضمان، ومن شرح ألفاظه وتوضيح معانيه على أمان" هذا وصف الكرماني لشرح مغلطاي، ولا شك أن الكتاب عليه انتقادات وملاحظات، وفيه قصور، لكنه أيضاً شرح من الشروح، ومن ذلكم بل من الشروح المشهورة شرح الكرماني، وسيأتي الحديث عنه مفصلاً -إن شاء الله تعالى-، وشرح سراج الدين ابن الملقن، وشرح شمس الدين البرماوي، وهذا الشرح غالبه مأخوذ من الكرماني ومقدمة فتح الباري، شرح برهان الدين الحلبي اسمه (التلقيح لفهم قارئ الجامع الصحيح) وشرح الحافظ شهاب الدين أحمد بن علي بن حجر المشهور بـ(فتح الباري) وهو معروف، يأتي تفصيل القول فيه -إن شاء الله تعالى-، وشرح بدر الدين محمود بن أحمد العيني المسمى (عمدة القاري) ونذكره -إن شاء الله تعالى- بعد ذلك، شرح مواضع منه بدر الدين الزركشي، شرحه أيضاً بدر الدين الدماميني، ولجلال الدين السيوطي تعليق لطيف اسمه (التوشيح على الجامع الصحيح) السيوطي له حواشي على الكتب الستة، وهي مختصرة جداً، البخاري في مجلد، مسلم في مجلد، إلى آخر الكتب الستة، شروح مختصرة جداً يغني عنها غيرها، وهذه الشروح المختصرة مختصرة، اختصرها أحد المغاربة، وهذه المختصرات للكتب الستة كلها(1/154)
مطبوعة، النووي -رحمه الله تعالى- شرح قطعةً من الصحيح، من أوله إلى آخر كتاب الإيمان، وكذلك الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى- شرح قطعةً من أوله أيضاً، وللحافظ زين الدين بن رجب الحنبلي شرح من أول الكتاب إلى الجنائز في كتابٍ أسماه (فتح الباري) ابن حجر موافق له؛ لأن ابن رجب متقدم عليه.
شرح الفيروز أبادي (منح الباري في شرح البخاري):(1/155)
وممن شرحه مجد الدين الفيروز أبادي صاحب القاموس، سمى شرحه (منح الباري في شرح البخاري) كمل ربع العبادات منه في عشرين مجلداً، وعلى هذا لو كمل يمكن يصير خمسين أو ستين مجلداً، قال التقي الفاسي: "لكنه يعني الفيروز أبادي ملأه بغرائب المنقولات لا سيما لما اشتهر باليمن مقالة ابن عربي -يعني في وحدة الوجود، القول بوحدة الوجود- وغلب ذلك على علماء تلك البلاد، وصار يدخل في شرحه من فتوحاته -يعني الفتوحات المكية لابن عربي- الكثير، ما كان سبباً لشين شرحه عند الطاعنين فيه"، والمجد الفيروز أبادي لا يقول بهذه المقالة كما هو معروف؛ لكنه من أجل أن يروج الكتاب نقل عن ابن عربي هذه المقالة، وأشان كتابه بما نقله من الفصوص والفتوحات من أجل رواج الكتاب؛ لأن هذه المقالة اشتهرت وانتشرت في اليمن، واعتنقها كثير من الناس، كما يفعله من يصنّف في أي بلاد من البلدان الذي اشتهر فيها مذهب من المذاهب، من أجل أن يروج الكتاب يذكر ما لا يراه، المذاهب التي لا يعتد بها في الإجماع والخلاف مثل مذاهب الشيعة والزيدية، منهم الهادوية، كتب الصنعاني والشوكاني وغيرهم من أهل تلك النواحي مملوءة بهذه المذاهب، وإن كان لا يعتمد بأربابها وأصحابها، لكن لما كان غالب سكان اليمن في زمن الصنعاني من الهادوية شهر أقوالهم وذكرها من أجل أن يروج الكتاب، وقد يكون الأمر بالعكس فقد يطوى بعض الشيء وإن كانت الحاجة إليه قائمة وماسة من أجل رواج الكتاب، كما فعل ابن أبي العز لشرح الطحاوية في نقوله الكثيرة عن شيخ الإسلام وابن القيم -رحمهما الله تعالى- من أجل أن يروج الكتاب، نقل كثيراً من كتب شيخ الإسلام بل اعتمد عليه اعتماداً كلياً في غالب مباحثه، وعلى تلميذه ابن القيم، ولم يذكر ولم يصرح باسمهما من أجل أن يروج الكتاب، فهذا لا شك أنه فيه نوع من التماس المصلحة فلا مانع من أن يكنى عن الشخص أو ينسب أو يعمى أو لا يذكر اسمه إذا خشي على الكتاب من عدم الرواج،(1/156)
وإن كان فيه شبه مما يسمى في مصطلح الحديث بتدليس الشيوخ؛ لكن مثل هذا لا يترتب عليه عمل، ولا حكم من الأحكام فلا مانع من أن ينسب الكتاب إلى شخصٍ لا يكون في نسبته إليه كذب، كثير من كتب شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب التي وزعت في الأقطار يقال: تأليف محمد بن سليمان التميمي، سليمان جده، مفتي نجد قبله، سليمان بن علي، فعلى كل حال ما فعله وما صنعه المجد الفيروز أبادي لا مبرر له، وإن اشتهرت هذه المقالة لأن هذه المقالة أمرها خطير وعظيم، تفوق مصلحة رواج الكتاب، يعني لو لم يؤلف الكتاب أصلاً، الناس ليسوا بحاجةٍ إليه، نعم قد يكون فيه فوائد لكن ضرره أكثر من نفعه، وحينئذٍ إذا كان الكتاب بهذه المثابة يحذر عنه، بخلاف ما إذا كان نفعه أكثر من الضرر المترتب عليه، كما هو مع الأسف الشديد غالب التفاسير التي يعتمد عليها المتأخرون، وغالب شروح الحديث على ما سيأتي عند الكلام على شرح الخطابي.
يقول ابن حجر أنه رأى القطعة التي كملت في حياة مؤلفه -يعني الفيروز أبادي- قد أكلتها الأرضة بكمالها، هذه العشرين المجلدة أكلتها الأرضة من الأول إلى الأخير، بحيث لا يقدر على قراءة شيءٍ منها، فلله الحمد والمنة، أكلتها الأرضة وانتهى الإشكال.
ممن شرح الصحيح زكريا الأنصاري وشرحه مطبوع، والمعاصرون لهم شروح مطولة ومختصرة من ذلكم (لامع الدراري) للشيخ رشيد أحمد الكنكوهي هذا هندي، وأيضاً (فيض الباري) لمحمد أنور الكشميري، فيهما فوائد وفيهما لطائف ولفتات، ولا تخلو أيضاً من مؤاخذات وملاحظات، (فيض الباري) هذا لأنور الكشميري وصف الشيخ محمد بن عبد الوهاب بما لا يليق به.(1/157)
وعلى كل حال الشروح كثيرة واستقصاؤها قد يكون فيه شيء من الطول، والوقت قصير وكانت النية أن نخصص كل يوم لكتاب، لشرح من الشروح، لكن الظاهر أن هذا غير متيسر؛ لأن شروح البخاري كثيرة ومهمة، وفيها نفائس وفوائد لا يستغنى عنها، وسوف نتكلم على ستةٍ منها فقط: الخطابي، الكرماني، ابن رجب، ابن حجر، العيني، القسطلاني، وكل واحد من هذه الكتب يحتاج إلى مدةٍ طويلة لإظهار فضله واستخراج كنوزه ونفائسه، وإن كانت الطريقة المثلى في هذا قراءة الكتاب كاملاً؛ لأنه ليس الخبر كالعيان، لكن ما لا يدرك كله لا يترك جله، أو ما يقدر عليه.
هذه الشروح الستة هي أهم شروح البخاري في الجملة، وإن كانت متفاوتة، وفيها كلام طويل يحتاج إلى...، وأنا أتصور أن لو فتح الباري فقط خصص له أسبوع لما كفى، لكن مثلما ذكرت نقتصر على أهم المهمات ولعل البخاري وشروحه يكفيه اليوم مع الغد، وإن احتجنا إلى شيءٍ من يوم الاثنين، وإلا هو مخصص لصحيح مسلم -إن شاء الله تعالى-.
شرح الخطابي (أعلام السنن):
فأولاً: أعلام الحديث، أو أعلام السنن، نعم شهرة الكتاب بأعلام السنن، وإن كان المحقق رجح من خلال النسخ الخطية أعلام الحديث أعلام السنن لأبي سليمان حمد كذا ضبطه (حمد) سماه أهله حمد كما يقول عن نفسه، وإن قال كثير من الناس أنه أحمد، وليس محرك الميم كما هو الاستعمال الشائع الآن (حَمَد) لا، هو (حَمْد) ولذا يقول الحافظ العراقي في تعريف الحسن:
والحسن المعروف مخرجاً وقد ... اشتهرت رجاله بذاك حد
حَمْد وقال الترمذي: ما سلم ... من الشُّذوذِ معَ رَاوٍ ما اتُّهِمْ
حَمْد –يعني الخطابي- بذاك حد، ... وقال الترمذي ما سلم.. الخ.(1/158)
المقصود أن ضبطه (حَمْد) أبو سليمان حَمْد ابن محمد بن إبراهيم الخطابي نسبةً إلى زيد بن خطاب البستي الشافعي المتوفى سنة ثمانٍ وثمانين وثلاثمائة، هذا الكتاب مختصر جداً، يقول عنه القسطلاني: "هو شرح لطيف فيه نكت لطيفة، ولطائف شريفة"، واعتنى الإمام محمد التيمي بشرح ما لم يذكره الخطابي مع التنبيه على أوهامه، الكتاب يعتبره مؤلفه مكملاً لكتابه معالم السنن؛ لأنه صنف معالم السنن لشرح سنن أبي داود قبل أعلام السنن أو أعلام الحديث، فجعل أعلام الحديث أو أعلام السنن مكملاً لما ذكره في معالم السنن، يقول في المقدمة: "وقد تأملت المشكل من أحاديث هذا الكتاب فوجدت بعضها قد وقع ذكره في معالم السنن مع الشرح له والإشباع في تفسيره، فرأيت الأصوب أن أخليها من ذكر بعض ما تقدم شرحه، وبيانه هناك متوخياً الإيجاز فيه مع إضافة إليه ما عسى أن يتيسر في بعض تلك الأحاديث من تجديد فائدة، وتوكيد معنىً زيادةً على ما في ذلك الكتاب ليكون عوضاً عن الفائت وجبراً للناقص منه"، يقول: "ثم إني أشرح بمشيئة الله الكلام في سائر الأحاديث التي لم يقع ذكرها في معالم السنن"، نعم في البخاري أحاديث زائدة على ما في سنن أبي داود والعكس عند أبي داود من الأحاديث ما ليس في الصحيح، "ثم إني أشرح بمشيئة الله الكلام في سائر الأحاديث التي يقع ذكرها في معالم السنن، وأوفيها حقها من الشرح والبيان، فأما ما كان فيها من غريب الألفاظ اللغوية فإني أقتصر من تفسيره على القدر الذي تقع به الكفاية في معارف أهل الحديث الذين هم أهل هذا العلم، وحملته دون الإمعان فيه والاستقصاء له على مذاهب أهل اللغة من ذكر الاشتقاق والاستشهاد بالنظائر ونحوها من البيان لئلا يطول الكتاب.(1/159)
لا شك أن شرح الخطابي بهذه الصفة كما وصفه مؤلفه يذكر الغريب على وجهٍ موجز خشية أن يطول الكتاب، يقول: "ومن طلب ذلك وجد العلة فيه مراضةً بكتاب أبي عبيد ومن نحا نحوه في تفسير غريب الحديث"، يعني من أراد الاستقصاء في شرح الغريب –غريب ما يقع في الصحيح- فعليه بغريب أبي عبيد، غريب الحديث لأبي عبيد القاسم بن سلام، وهو من الأئمة الثقاة المعروفين المشهورين في الغريب في اللغة وفي الحديث أيضاً، إمام أبو عبيد القاسم بن سلام إمام من أئمة المسلمين، وهو موثوق في نقله، وهو أيضاً سليم من حيث اعتقاده، فكتابه من أنفس الكتب، كتب الغريب أُلف فيه من معاصريه ألف أبو عبيدة معمر بن مثنى لكنه دونه في الثقة والمرتبة، وأيضاً غريب الحديث للنضر بن شميل، والفائق في غريب الحديث للزمخشري، والدلائل لقاسم بن ثابت، وكتب الغريب كثيرة جداً كما ذكرت، ومن أراد أن يقتصر على كتابٍ واحد في الغريب فعليه بكتاب ابن الأثير، النهاية في غريب الحديث، لكن من أراد أن يجمع فهذه أشهر كتب الغريب، في غريب الحديث للخطابي أيضاً صاحب هذا الكتاب، وغريب الحديث لابن الجوزي، مجموعة من أهل العلم صنفوا في غريب الحديث.
شرحه للأحاديث متفاوت، شرح الخطابي للأحاديث متفاوت طولاً وإيجازاً حسب أهمية الحديث وما يستنبط منه، وحسب غموض ألفاظه ووضوحها، فمثلاً: حديث (الدين النصيحة) شرحه في سبع صفحات، وحديث ابن مسعود في تخول النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه بالموعظة شرحه بأربعة أسطر، تفاوت، لكن يرى أن ذلك الحديث مهم، والحاجة إلى إيضاحه وبيانه قائمة بخلاف حديث التخول بالموعظة؛ لأنه واضح ولا يحتاج إلى إطالة، المؤلف الخطابي شافعي المذهب، يرجح في الغالب مذهب الإمام الشافعي، قد يرجح غيره إذا كان الدليل لا يحتمل التأويل لا سيما إذا كان القول الثاني له وجه عند الشافعية.(1/160)
الكتاب أعني البخاري –صحيح البخاري- بالنسبة للخطابي مروي من طريق إبراهيم بن معقل النسفي إلا أحاديث من آخره فرواها من طريق الفربري، رواية النسفي في الكتاب تنتهي في صفحة (1795) من الجزء الثالث.
مسائل الاعتقاد في الكتاب فيها خلط، وفيها أيضاً خبط عجيب، سلك فيه مسلك الخلف في التأويل، وفي نفي الصفات، في صفحة (529) من الجزء الأول قال: "فالذي يجب علينا وعلى كل مسلم أن نعلم أن ربنا -عز وجل- ليس بذي صورة ولا هيأة، فإن الصورة تقتضي الكيفية، وهي عن الله وعن صفاته منفية، قد يتأول معناها على وجهين فذكرهما" سلك مسلك التأويل في كثير من الصفات، أوّل صفة (الضحك) بما لا يتلائم مع مذهب السلف كما في صفحة (1365و1367و1368) من الجزء الثاني، وفي الجزء الثالث قرر أن الأسماء والصفات لا تثبت، وضع قاعدة، قرر أن الأسماء والصفات لا تثبت إلا بكتاب ناطق، لا بد أن يكون دليلها من القرآن، أو خبر مقطوع بصحته، فإن لم يكونا فيما يثبت من أخبار الآحاد المستندة إلى أصلٍ، فإن لم يكونا يعني إن لم يكن نص من القرآن أو من الخبر المقطوع بصحته ويقصد بذلك المتواتر، يقول: إن لم يوجد من القرآن أو من المتواتر فبما يثبت من أخبار الآحاد المستندة إلى أصلٍ في الكتاب أو في السنة المقطوع بصحتها، أو بموافقة معانيها، يعني أن الأسماء والصفات لا تثبت إلا بالنصوص القطعية، ويقصد بذلك الآيات والأحاديث المتواترة، أما أحاديث الآحاد وأخبار الآحاد وهي عنده لا تفيد إلا الظن فلا تثبت بها العقائد، ومنها الأسماء والصفات، يقول: وما كان بخلاف ذلك فالتوقف عن إطلاق الاسم به هو الواجب، ويتأول حينئذٍ على ما يليق بمعاني الأصول المتفق عليها من أقاويل أهل الدين والعلم مع نفي التشبيه فيه، يقول: هذا هو الأصل الذي نبني عليه الكلام، ونعتمده في هذا الباب، يقول -لأن الكلام بمناسبة حديث الأصابع- يقول: "وذكر الأصابع لم يوجد في شيءٍ من الكتاب ولا من السنة التي من(1/161)
شرطها في الثبوت ما وصفناه" يعني ثبوتها ليس بقطعي وإن كانت في صحيح البخاري، هذا القول يقول به كثير من المتأخرين الذين يسمون الخلف، وهم بإسكان اللام أحرى، في صفحة (2238) تأول صفة (الفرح) بالرضا بالتوبة وقبولها، يقول: "والفرح الذي تعارفه الناس في نعوت بني آدم غير جائز على الله -عز وجل-" نعم، الفرح الذي يشبه فرح المخلوق لا يقال به بالنسبة لله -سبحانه وتعالى-، وإنما يثبت الفرح على ما يليق بجلاله وعظمته كما هو معروف من منهج أهل السنة والجماعة.
التردد، قوله سبحانه: ((ما ترددت في شيء...)) هذا في الحديث الصحيح –حديث قدسي- صفحة (2259) قال: "التردد في صفة الله -عز وجل- غير جائز"، ثم تأوله على وجهين فذكرهما، هذا منهجه في تقرير مسائل الاعتقاد في هذا الكتاب، وفي معالم السنن أيضاً، لكن الذي نقل عنه شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- في الجزء الخامس صفحة (58 و59) بواسطة رسالته في الغنية عن الكلام وأهله، نقل عنه شيخ الإسلام ما يخالف هذا الكلام، ولعله رجع عن مسلكه السابق.(1/162)
يقول شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- نقلاً عن الخطابي: يقول: "فأما ما سألت عنه من الصفات، وما جاء منها في الكتاب والسنة فإن مذهب السلف إثباتها وإجرائها على ظواهرها، ونفي الكيفية والتشبيه عنها، وقد نفاها قوم فأبطلوا ما أثبته الله، وحققها قوم من المثبتين فخرجوا بذلك إلى ضرب من التشبيه والتكييف، وإنما القصد في سلوك الطريق المستقيم بين الأمرين، ودين الله تعالى بين الغالي والجافي والمقصر عنه، والأصل في هذا –كلام نفيس- والأصل في هذا أن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات -هذا كلام الخطابي- ويحتذى في ذلك حذوه ومثاله، فإذا كان معلوماً أن إثبات الباري –سبحانه- إنما هو إثبات وجود لا إثبات كيفية، فكذلك إثبات صفاته إنما هو إثبات وجودٍ لا إثبات تحديدٍ وتكييف، فإذا قلنا: يد وسمع وبصر، وما أشبهها، فإنما هي صفات أثبتها الله لنفسه، ولسنا نقول: أن معنى اليد القوة أو النعمة، ولا معنى السمع والبصر العلم، ولا نقول: أنها جوارح ولا نشبهها بالأيدي والأسماع والأبصار التي هي جوارح وأدوات للفعل، ونقول: إن القول إنما وجب بإثبات الصفات؛ لأن التوقيف ورد بها، ووجب نفي التشبيه عنها؛ لأن الله ليس كمثله شيء، وعلى هذا جرى قول السلف في أحاديث الصفات" هذا كله كلام الخطابي مما نقله عنه شيخ الإسلام.
فنقول: لعل الإمام الخطابي -رحمة الله عليه- رجع عن قوله في مسائل الأسماء والصفات إلى هذا، ولذا نقله شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- مقرراً له، ولا يخفى عليه -رحمه الله- ما سطره في كتبه الأخرى، يقول في الغنية عن الكلام وأهله، كتاب اسمه (الغنية عن الكلام وأهله) للخطابي ما أعرفه وجوده.(1/163)
أقول: مثل هذا الكلام الذي نقلناه عن الخطابي في الأسماء والصفات والتأويل هو موجود مع الأسف الشديد في غالب الشروح، إذ لا يسلم منها إلا القليل النادر، وحبذا لو انبرى لهذه الكتب من التفاسير والشروح من يوثق بعلمه وعقيدته وفهمه وعلق عليها تعليقات تكون مختصرةًً نافعة، كما فعل شيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- في تعليقه على أوائل فتح الباري، تعليقات نفيسة بأسطر قليلة جعل الله -سبحانه وتعالى- فيها من البركة ما جعلها تدور في الأقطار، وتصحح كثيراً من المفاهيم، الكتاب حتى فتح الباري على ما سيأتي الحديث عنه لم يسلم من نقل أقوال المأولة في الصفات، ومع ذلك ينقل أقوال السلف وينقل أقوال غيرهم ويسكت ولا يرجح، المقصود أن مثل هذه الأقوال تحتاج إلى تعليق لطيف يبين الحق في هذه المسائل.
هناك من الكتب ما يسلم -وإن كان قليلاً- من هذه الملاحظات كشرح الحافظ بن رجب -رحمه الله تعالى-؛ لكنه لم يكمل كما سيأتي الحديث عنه -إن شاء الله تعالى-.
شرح النووي لصحيح البخاري:(1/164)
نظراً لضيق الوقت نعرض بسرعة للقطعة التي شرحها النووي من الصحيح، شرع أبو زكريا يحيى بن شرف النووي في شرح الصحيح؛ لكن المنية اخترمته قبل أن يقطع فيه شوطاً كبيراً، فلم يشرح من الصحيح سوى بدء الوحي وكتاب الإيمان فقط، وهو شرح كما وصفه مؤلفه بأنه متوسط بين المختصرات والمبسوطات، لا من المختصرات المخلات، ولا من المبسوطات المملات، يقول: "ولولا ضعف الهمم، وقلة الراغبين في المبسوط لبلغت به ما يزيد على مائة من المجلدات" الكلام صحيح، العمر ينتهي قبل أن يقرأ الإنسان الشروح التي كتبت على الصحيح فضلاً عن أن ينتقي منها ما يراه مناسباً، ويستطرد في الشرح ويذكر كل ما يحتاج إليه من فوائد البخاري، يقول: "ولولا ضعف الهمم وقلة الراغبين في المبسوط لبلغت به ما يزيد على مائة من المجلدات مع اجتناب التكرير والزيادات العاطلات، بل ذلك لكثرة فوائده، وعظم عوائده الخفيات والبارزات".(1/165)
ابتدأ النووي -رحمه الله تعالى- شرحه بمقدمة ذكر فيها أهمية علم الحديث، ومنزلة الإمام البخاري وصحيحه ورواته، وذكر فيها أيضاً سبب تصنيفه، ثم ذكر فهرساً لكتب الصحيح وعدد أحاديث كل كتاب، ثم ذكر فصلاً عن أبي الفضل بن طاهر في طبقات من روى عنهم البخاري، ثم ذكر أسانيده إلى الإمام البخاري ثم أشار إلى بعض المسائل الاصطلاحية، يعني ذكر طبقات من روى عنهم الإمام البخاري مهم جداً، حينما تعرف أن الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- روى عن المكي بن إبراهيم بدون واسطة، وهذا غالب الثلاثيات من طريقه، ثلاثيات الصحيح من طريق المكي ابن إبراهيم عن يزيد بن أبي عبيد عن سلمة بن الأكوع، أعلى ما في الصحيح، حينما تنظر في الصحيح تجد البخاري روى عن المكي بن إبراهيم بدون واسطة، تجده في موضعٍ آخر روى عن المكي ابن إبراهيم بواسطة ثلاثة أشخاص، فإذا عرفت طبقات الرواة سلمت من توهّم سقوط راوٍ أو أكثر حينما يروي عن مثل المكي ابن إبراهيم بدون واسطة، ويروي عنه في مواضع بواسطة، فعلمك بهذه الطبقات يجنبك مثل هذا الوهم، ختم المقدمة بضبط جملةٍ من الأسماء المتكررة في الصحيحين من المشتبه.(1/166)
يمتاز شرح النووي -رحمه الله تعالى- بالإطالة في تراجم الرواة، يترجم لرواة الأحاديث، ويطيل فيها إطالةً نسبية بالنسبة إلى الشروح الأخرى فيذكر سيرهم وما يستحسن ويستطرف من أخبارهم، ولا شك أن في هذا فائدة للقارئ وتنشيط لهمته والأخبار في الجملة محببة إلى النفوس، فيكون فيها متعة واستجمام من جهة، لكن هذه الإطالة في تراجم الرواة صارت على حساب معاني الأحاديث، وما يستنبط منه من أحكام وآداب وفوائد، فمثلاً الحديث الرابع، استغرق عند النووي صفحات جلها في تراجم الرواة من (66) إلى صفحة (70) من الشرح من (66) إلى (70) بدأ بشرح الحديث الرابع، ترجم لابن عباس في صفحة ونصف، بعده سعيد بن جبير في صفحة.. الخ، ثم في منتصف صفحة (70) منتصف الصفحة الأخيرة فصل في معنى الحديث: قول ابن عباس -رضي الله عنهما-.. الخ، منتصف الصفحة الأخيرة هو بيت القصيد، نعم تراجم الرواة مهمة لكنها في مثل هذا الكتاب الذي التزم مؤلفه الصحة، وانتقى من الرواة أعلاهم، ومن رواياتهم أثبتها، تكون فائدة التراجم أقل؛ لأن للتراجم كتب مستقلة، لكن بيت القصيد معاني الحديث، ألفاظه وما يستنبط منه من أحكام وآداب، النووي -رحمه الله تعالى- قصر في هذا الجانب، شرحه لذيذ وممتع لكنه في هذا الجانب فيه قصور، ووصفه بأنه شرح مختصر، والنووي كما يلاحظ من كتبه يعتني بالتراجم لا سيما بتراجم من عرف بالزهد والعبادة فيذكر تراجم هؤلاء بإسهاب، ويذكر من أخبارهم ما يستلذ ويستطاب، تنشيطاً لهمم القراء، وإشادةً وإفاءً لبعض حقوق هؤلاء؛ لأنه هو -رحمه الله- من هذا النوع، صاحب علم وأيضاً عبادة وزهد وورع، وهو مشهور بذلك، وبهذا يكون الوقت تمت الساعة المتفق عليها، والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:(1/167)
الأسئلة المطلوبة الإجابة عليها كثيرة، لكن نقتصر منها بما له صلة بموضوع هذه الدروس.
يقول: يتميز صحيح البخاري بكثرة الروايات، وبعض الروايات تزيد وبعضها تنقص، فهل تبينون لنا روايات البخاري لا سيما الروايات التي عليها الشروح المشهورة؟
أما بالنسبة لروايات الصحيح، كما أشار الأخ كثيرة، قد روى الصحيح عن مؤلفه ما يقارب التسعين ألفاً من الرواة، لكن الروايات التي اتصلت بالأسانيد إلى وقتنا معروفة ومحصورة، ولعل من أشهرها وأوفاها رواية أبي ذر التي اعتمد عليها الحافظ ابن حجر في شرحه، ومن الروايات ما اعتمده الخطابي وأشرنا إليه بالأمس رواية إبراهيم بن معقل النسفي، من الروايات المشهورة أيضاً رواية حماد بن شاكر، وهي تنقص قليلاً عن رواية أبي ذر، والروايات كثيرة، والله المستعان، لكن أوفى الروايات رواية أبي ذر، وهي أشهر الروايات وأتقنها، والحافظ اليونيني -رحمه الله تعالى- اعتنى بهذه الروايات، وقابل بينها، ورمز لكل رواية بحرف، وأثبت فروق هذه الروايات، على هامش نسخته بدقة وإتقان، ومن أراد صورة ما كتبه اليونيني وأتقنه وحرره وهذا الكلام سابق لأوانه فعليه بإرشاد الساري للقسطلاني، الذي يعتني بذكر جميع الفروق، سواء ترتب على هذه الفروق فائدة أو لم يترتب عليه فائدة، بخلاف الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى- فقد اعتمد على رواية أبي ذر فقط، وأشار إلى ما عداها عند الحاجة، فلم يستقصي جميع الروايات، ولم يذكر جميع الفروق، إنما أشار إلى ما يحتاج إليه.
يقول: أسماء الطبعات الجيدة والمحققة لكتب الشروح حيث لا يخفى عليكم انتشار الكتب التجارية؟.(1/168)
هذه الشروح الكبيرة في نشرها وطباعتها والعناية بها ما يحتاج إلى نيّةٍ خالصة؛ لأن مجرد قصد التجارة لا يوفي هذه الكتب حقها؛ لأنه إذا كان النشر بنية التجارة فقط فالناشر يحاول أن يسدد ويقارب فلا يمضي فيها وقتاً يخسر فيه من جهةٍ أخرى، وإن كسب سمعةً وشهرة؛ لكن تأخير الطبع الذي يقتضيه أو تقتضيه العناية يكلفه أشياء من أشياء مادية أخرى، على كل حال الشروح أما بالنسبة لشرح الخطابي فهو لم يطبع إلا مرة واحدة، وهو بتحقيقٍٍ جيد لا بأس به في رسالة دكتوراة، وشرح النووي القطعة التي شرحها النووي طبعت مرة واحدة في المطبعة المنيرية، وهي طبعة جيدة ولم يعد طبعه بعد، بعد ذلكم الشروح التي يتحدث عنها فيما بعد تذكر طبعاتها أثناء الحديث عنها، شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- نقل عن الخطابي ما ذكرناه عنه في كتاب الغنية عن الكلام وأهله في مجموع الفتاوى في الجزء السادس صفحة (59 و60 أو 58 و59) بهذا الحدود.
طالب........
يمكن الخامس، نعم الخامس، هو موجود عندي، مدون حتى على الفتاوى نفسها.
يقول: هل هناك شرح (مختصر البخاري) للزبيدي، وشرح (مختصر مسلم) للمنذري مطبوع موجود في السوق الآن؟(1/169)
نعم، هناك شروح للمختصرات، منها شرح الشرقاوي المسمى (فتح المبدي) على الزبيدي، أقول: هذا الكلام وكانت النية أن نتحدث عن هذه المختصرات وشروحها، لكن أتصور أن الوقت لا يكفي، مناسبة هذا السؤال نقول باختصار: الزبيدي له مختصر جيد لصحيح البخاري وعليه شروح منها (فتح المبدي) للشرقاوي، وهو شرح تحليلي جيد في الجملة إلا أنه لا يسلم من المخالفات، فمما قاله في كتاب الطلاق: "وقال ابن تيمية التابع للروافض والخوارج"، هذه تنبئ عن شيء، لا يسلم الكتاب من مخالفات، لكنه يحلل الكتاب تحليلاً لفظياً، أنفس منه بالنسبة لمختصر الزبيدي شرح الشيخ صديق حسن خان واسمه (عون الباري) هذا شرح نفيس وجيد، ويستفيد منه طالب العلم الذي لا يحتاج إلى ما في البخاري من تكرار وأسانيد، شرح صديق مأخوذ في الجملة -في جملته- من إرشاد الساري، ويتميز شرح صديق بنقده للقسطلاني فيما يخالف فيه من مسائل الاعتقاد، وهذه ميزة يمكن أن يستفاد منه فيها.
مختصر صحيح مسلم للمنذري له أيضاً شرح للشيخ صديق حسن خان اسمه (السراج الوهاج) طبع قديماً بالهند ثم صور وطبع أخيراً في قطر، هو شرح جيد نفيس فيه مباحث لا توجد في شروح مسلم.
يقول: عندما يريد الطالب المبتدي في دراسة شروح الكتب الستة فما هي الكتب التي تراها مناسبة لدراستها؟ سواء شروح البخاري أو غيره من الكتب الستة؟(1/170)
حقيقةً شرح الكرماني الذي نتحدث عنه الآن مناسبة للبداية إلا أنه لكثرة المخالفات فيه سواء كانت مما يتعلق بالكتاب نفسه المشروح أو في المسائل الحديثية عموماً أو في مسائل الاعتقاد لا ينبغي للمبتدئ أن يقرأ فيه، لكن طالب العلم المتوسط ينصح به، لكن أولى ما يبدئ به بالنسبة لصحيح البخاري شرح الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى-، أما البدء بفتح الباري، كما قال السائل: بحر لا ساحل له، صحيح، والحديث عنه طويل ولعلنا نبدأ في الحديث عنه في نهاية الدرس إن أمكن، الفتح بحر كما قيل، وله مختصرات سيأتي ذكرها -إن شاء الله تعالى-، لكن ما يمنع أن يستفاد منه ويراجع عند الحاجة، أما بداءة طالب العلم المبتدئ فيه فلا أراها، لأنه كتاب طويل، وفيه مباحث قد يصعب عليه فهمها، فلا يؤمن أن يترك الطالب؛ لأن أول ما يقدم للطفل بعد الفطام الأشياء الخفيفة، السهلة الهضم، أما أن يؤتى له بلحم جملٍ كبير وهو بعد الفطام مباشرة هذا ما يناسبه، فتح الباري كتاب نفيس ومملوء بالفوائد ومشحون بالفرائد في جميع الفنون إلا أنه بالنسبة للصغار قد يحملهم على ترك القراءة، فالطالب في بداية الأمر ينبغي أن يبدأ بالأسهل ثم الأسهل ثم يترقى بعد ذلك، يبدأ بالأسهل ثم يترقى، فلو قرأ قبل فتح الباري شرح النووي على مسلم، على ما سيأتي الحديث عنه -إن شاء الله- مع ما فيه من المخالفات إلا أنه شرح نفيس لا يستغني عنه طالب العلم.
يقول: هل يحسن بمن قرأ اختصار علوم الحديث وكرره ينتقل إلى ألفية العراقي مع شرحها؟(1/171)
نعم إذا بدأ الطالب بالنخبة ثم قرأ في اختصار علوم الحديث للحافظ ابن كثير، ما يلزم أن يقرأ لابن الصلاح حواشيه، له أن يحفظ ألفية العراقي ويراجع شروحها، وإن قرأها على شيخٍ معتبر معتمد في هذا الباب فهو أفضل وأجود، منزلة (الموقظة) بين كتب المصطلح منزلة لا بأس بها إلا أنها غير شاملة لجميع أبوابه، ومؤلفها وإن كان إماماً في الصنعة إلا أنه لم يرتب الترتيب الذي اعتمده المتأخرون ترتيباً منطقياً بحيث يبني الأبواب على بعضها، طريقة الزبيدي في اختصاره حذف المكرر واختصار الأسانيد.
يقول: هل من الأفضل بالنسبة للمبتدئ أن يقرأ في كتاب الجمع بين الصحيحين للشامي قبل البدء بالقراءة في الصحيحين نفسيهما؟
لا، إذا قرأ المتون وتدرج فيها قرأ الأربعين ثم العمدة ثم البلوغ، وقرأها قراءة بحث وتنقيب، وحفظها إن أمكن، ترقى إلى الأصول مباشرة، يبدأ في البخاري ثم مسلم، وأما كون هذه الكتب فيها المكرر، وفيها الأسانيد، هذه هي زينتها، لا شك أن التكرار مما يعين على الحفظ، يعين على الاستنباط؛ لأن في كل طريق، وفي بعض الطرق ما ليس في بعض، ما يعين على الفهم؛ لأن أحياناً الإمام البخاري يختصر الحديث في موضع بحيث يستغلق على القارئ، فإذا اطلع عليه في الموضع الآخر والثاني والثالث إلى آخر المواضع ينجلي له، فالأفضل أن يقرأ في الأصول.
والأسئلة ما تنتهي.
يقول: أنا اقتراحي لو يبدأ الدرس في الساعة الرابعة والنصف مثلاً يعني يقدم نصف ساعة؟
على كل حال اقتراح جيد، لكن لو قدمنا نصف ساعة الكتب هذه ما ينتهي الحديث عنها بحيث لو خصص هذا الأسبوع لكتابٍ واحد ما أتصور أن نوفيه حقه، وأكثر الإخوان الذين يحضرون إما طلبة أو موظفين فيشق عليهم البداءة المبكرة، الساعة الخامسة مناسبة بحيث يصلي كل شخص في حيه ثم يحضر بعد ذلك على راحته.
شرح الزركشي لصحيح البخاري (التنقيح لألفاظ الجامع الصحيح):(1/172)
بعد هذا نبدأ بالشرح الثالث وهو شرح الزركشي، شرح الزركشي اسمه (التنقيح لألفاظ الجامع الصحيح) مؤلفه الشيخ محمد بن عبد الله بدر الدين الزركشي الشافعي المتوفى سنة أربعة وتسعين وسبعمائة، الشرح ناقص لم يكمل، وصل فيه مؤلفه إلى آخر باب الشروط في الوقف، ومع ذلكم مختصر جداً، هذا نصف الشرح، يعني ثلاثة أجزاء في مجلد واحد نصف الشرح، ولولا أن المتن مطبوع بحرف كبير لجاء الشرح كله بهذا الحجم، قصد مؤلفه فيه كما ذكر في مقدمته: إلى إيضاح ما وقف في الصحيح من لفظٍ غريب أو إعرابٍ غامض أو نسب عويص، أو راوٍ يخشى في اسمه التصحيف، أو خبرٍ ناقص تعلم تتمته، أو مبهم تعلم حقيقته، أو أمرٍ وهم فيه، أو كلام مستغلق يمكن تلافيه، أو تبيين مطابقة الحديث للتبويب، والمشاكلة على وجه التقريب، يقول: "منتخباً من الأقوال أصحها وأحسنها، ومن المعاني أوضحها وأبينها، مع إيجاز العبارة والرمز بالإشارة، فإن الإكثار داعية الملال، وذلك لما رأيت من ناشئة العصر حين قرأته من التقليد للنسخ المصححة، ربما لا يوقفون لحقيقة اللفظ فضلاً عن معناه، وربما يتخرص خواصهم فيه، ويتبجح بما يظنه ويبديه، وربما لو أن المنصف لو كشف عما أشكل لا يجد ما يحصل الغرض إلا ملفقاً من تآليف، أو مفرقاً من تصانيف، وأرجو أن هذا الإملاء يريح من تعب المراجعة والكشف والمطالعة مع زيادة فوائد تحقيق المقاصد، ثم يقول: ويكاد يستغني به اللبيب عن الشروح؛ لأن أكثر الحديث ظاهر لا يحتاج إلى بيان، وإنما يشرح ما يشكل"، يقول: "وسميته بـ(التنقيح لألفاظ الجامع الصحيح) ومن أراد استيفاء طرق الشرح على الحقيقة فعليه بالكتاب المسمى بـ(الفصيح في شرح الجامع الصحيح) أعان الله على إكماله".(1/173)
هذا (التنقيح) مختصر جداً، وهو بالألغاز أشبه، يكتب على الحديث سطر أو سطرين، أحياناً يكتب ثلاثة لا تروي غليلاً ولا تشفي عليلاً، عليه نكت من الحافظ ابن حجر، وعليه أيضاً نكت أخرى للقاضي محب الدين أحمد بن نصر الله البغدادي الحنبلي، وأما (الفصيح) الذي ذكره فذكر القسطلاني أنه رأى منه قطعة بخط مؤلفه، هذا التنقيح المختصر للزركشي، وإن زعم صاحبه أنه يكاد يستغني به اللبيب عن الشروح؛ لأن أكثر الحديث ظاهر لا يحتاج إلى بيان، وإنما يشرح ما يشكل فهو كلام صحيح بحد ذاته، الذي يقرأ في صحيح البخاري من أوله إلى آخره بغض النظر عن مناسبة الحديث للترجمة، وهو متوسط الفهم، متوسط التحصيل يخرج بفائدة طيبة، كثير منه لا يشكل، يعني إذا استثنينا المناسبة بين الحديث والترجمة التي هي قد عجز الفحول عن استنباطها، إذا استثنينا الرابط بين الحديث والترجمة وبعض الألفاظ المشكلة، طالب العلم متوسط التحصيل متوسط الذكاء يخرج بفائدة كبيرة بمجرد قراءة المتن، هذا الكلام صحيح لكن الشروح المطولة التي يرى الشارح هذا أنه يمكن أن يستغني بكتابه عنها الوافية لا يمكن أن يستغني عنها طالب العلم أبداً؛ لأنها تولد فيه ملكة يتمكن بواسطتها من محاكاة العلماء في الاستنباط من النصوص وكيفية معالجتها من جميع النواحي، وبهذا يتفتّق ذهن الطالب، تجتمع له العلوم في كتابٍ واحد، فالمطولات كالروضات ينتقل فيها الطالب من فنٍ إلى آخر، ففيها ما يتعلق بالقرآن وعلومه، والحديث وفنونه، ومذاهب العلماء والآداب والفوائد المستنبطة من الحديث من قربٍ أو بعد.(1/174)
على كل الشروح المطولة لا يمكن أن يستغنى عنها، وكم من حديث بحث عنه في عشرة شروح، ولم يصل الباحث فيه إلى حلٍ يشفي، وكم من آية روجع عليها والقرآن بأفصح عبارة، وأوضح بيان، روجع على بعض الآيات التفاسير الكثيرة، ومع ذلكم يبقى الإشكال، وإن كان الإشكال نسبياً بين شخصٍ إلى آخر، فالمطولات سواء كانت من كتب التفسير أو الشروح لا يمكن أن يستغنى عنها بحال.
(فتح الباري شرح صحيح البخاري) لابن رجب:(1/175)
من الشروح المهمة فتح الباري شرح صحيح البخاري للإمام الحافظ زين الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن رجب البغدادي الحنبلي نزيل دمشق المتوفى سنة خمسٍ وتسعين وسبعمائة، بعد الزركشي بسنة، وهو شرح لم يكمل وصل فيه مؤلفه إلى كتاب الجنائز، وهذا القدر الذي أتمه الحافظ ابن رجب -رحمه الله- من عجائب الدهر، ولو قدّر تمامه لاستغنى به طالب العلم عن غيره لا سيما ما يتعلق بنقل أقوال السلف وفهمهم للنصوص، عناية الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى- بأقوال السلف، بينما عناية أكثر الشرح بنقل أقوال المتأخرين، وهذه ميزة للحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى-؛ لأن فهم السلف للنصوص أولى ما يعتمد، وأجدر ما يعتنى به من غيره، الكتاب مملوء –مشحون- بالفوائد الحديثية والفقهية واللغوية، ففي الجانب الحديثي يعتني الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى- بعلل الأحاديث، عنايةً فائقة ويستطرد في ذكر الاختلاف على الرواة سالكاً في الترجيح طريقة المتقدمين في العمل بالقرائن من غير نظرٍ إلى الأحكام المطردة، وبالمناسبة تكثر الدعوة إلى محاكاة المتقدمين في طريقتهم، ونبذ قواعد المتأخرين، كثرت الدعوة هذه وسبقتها سنين الدعوة إلى نبذ كتب الفقه وتقليد الأئمة إلى الأخذ من النصوص مباشرة، هذا الكلام صحيح لا إشكال فيه إلا أنه لا ينبغي أن يلقى على جميع طبقات المتعلمين؛ لأن المبتدئ في العلم سواء كان في علم الحديث أو في الفقه، المبتدئ حكمه حكم العامي، عليه أن يقلد أهل العلم {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}[(7) سورة الأنبياء] فالذي ليست لديه أهلية النظر في النصوص والموازنة بينها لا يمكن أن يستنبط من الكتاب والسنة، إنما عليه أن يقلد أهل العلم، يتفقه على مذهب ثم بعد ذلك ينظر في هذه المسائل التي حصلها من هذا المذهب، ينظر فيها واحدةً بعد الأخرى، موازنة بين أقوال الأئمة وأدلتهم، والخلوص إلى الراجح من أقوالهم، مثله أيضاً ما(1/176)
يتعلق بالأحاديث من حيث التصحيح والتضعيف، الأصل في هذا كلام المتقدمين بلا شك، والمتأخرون إنما قبسوا من أنواع المتقدمين، فلولا المتقدمون ما صار للمتأخرين شيء، إنما المتأخرون حاولوا أن يضبطوا القواعد وينظروا المسائل ليسهل فهمها وحفظها على الطلبة ليتعلموا ويتمرنوا عليها، فإذا تأهلوا وصارت لديهم أهلية النظر في أقوال المتقدمين عليهم أن يقتدوا بهم ويسلكوا مسلكهم، وإلا إذا قلنا للطالب المبتدئ: عليك بتقليد المتقدمين وانبذ قواعد المتأخرين، ثم وقف على حديث: ((لا نكاح إلا بولي)) الإمام أحمد له رأي، الإمام البخاري له رأي، أبو حاتم له رأي، الدارقطني له رأي، يقلد مَن مِن المتقدمين؟ يتبع مَن مِن المتقدمين؟ أحكام المتقدمين مبنية على القرائن، لا يحكمون بأحكامٍ عامة مطردة، الإمام البخاري حكم بوصل حديث: ((لا نكاح إلا بولي)) بناءً على القرائن التي قامت وأدت إلى ترجيح الوصل على الإرسال، غيره حكم بالإرسال؛ لأن من أرسله كما يقول الحافظ العراقي كالجبل شعبة وسفيان، متى يصل الطالب المبتدئ إلى الحكم بالقرائن؟ هذا دونه خرط القتاد، حتى يتأهل، إذا تأهل هو المطلوب، يعني تقليد الرجال في الدين أمر غير مرغوب فيه، نعم هو فرض العوام وأشباه العوام، لكن طالب العلم المتأهل عليه أن يربى بنفسه عن هذا.(1/177)
على كل هذه لفتة يسيرة فالحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى- عنايته بتعليل الأحاديث، والترجيح بين اختلاف الرواة بالقرائن على طريقة المتقدمين، وهو أهل لذلك، بل هو من أئمة هذا الشأن، ومن مقعديه ومنظريه، ويعتني أيضاً بفروق الروايات بين رواة الجامع الصحيح، وينبه عليها، لا سيما ما يترتب على ذكره فائدة، وقد وقفت على ألفاظٍ نبه عليها الحافظ ابن رجب اختلفت فيها الرواة مما فات اليونيني رغم عنايته بالصحيح ورغم إتقانه لرواياته، وبهذا يمتاز شرح الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى-، يُعنى الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى- بتخريج الأحاديث من المصادر الحديثية المختلفة، الصحاح والمسانيد والأجزاء والفوائد والمستخرجات والمشيخات والفوائد وغيرها.
يُعنى أيضاً بذكر مذاهب أهل العلم من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من فقهاء الأمصار مع الاستدلال والترجيح من غير تعصبٍ لمذهب، مع أنه حنبلي المذهب، والكتاب -أعني فتح الباري للحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى- من مصادر ابن حجر، فقد اطلع عليه الحافظ ابن حجر، ونقل منه مصرحاً باسم مؤلفه في موضعين، في الجزء الأول صفحة (176) وفي الجزء الحادي عشر صفحة (340).(1/178)
الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى- يعتني بالمسائل الأصولية كثيراً، ويحرر المسائل الشائكة في هذا الباب فمثلاً في الجزء الثاني صفحة (69) يقول: "والأمر بعد الحظر يعيد الأمر إلى ما كان عليه عند كثيرٍ من الفقهاء" نعم المشهور عند جمع من أهل العلم أن الأمر بعد الحظر للإباحة، لكن المحقق عند أهل العلم أنه يعيد الأمر إلى ما كان، أو يعيد الحكم إلى ما كان عليه قبل الحظر، في صفحة (210) وهذه من الدقائق، يقول في حديث: ((وجعلت تربتها لنا طهوراً)) والكلام في هذه اللفظة كثير لأهل العلم، وتخصيص التيمم بالتراب أو تعميمه بجميع ما على وجه الأرض مسألة طويلة الذيول، شائكة المباحث عند أهل العلم، فهذه اللفظة: ((وجعلت تربتها)) لا شك أن الحديث من الخصائص، ((جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً)) هذا من الخصائص، وأحاديث الخصائص يرى ابن عبد البر -رحمه الله تعالى- وبقوله يقول ابن حجر: أن أحاديث الخصائص لا تحتمل التخصيص، يعني إن جاءت عامة فلا تحتمل التخصيص، وإن جاءت مطلقة لا تحتمل التقييد؛ لأن هذه الخصائص إنما جاءت تشريفاً للنبي -عليه الصلاة والسلام-، وتخصيص الخصائص تقليل لهذا التشريف، ولذا لا مانع عند ابن عبد البر أن يصلي الشخص في المقبرة، وإن ورد المنع منها؛ لأن حديث: ((جعلت لي الأرض مسجدا ًوطهوراً)) والأرض يشمل الأرض بجميع أجزائها بما في ذلك المقبرة، ولو قلنا: بالتخصيص فأخرجنا المقبرة قللنا هذا التخصيص وهو من الخصائص التي لا تقبل التخصيص عنده، فالتخصيص تقليل لهذه الخصائص، لا شك أن شرف النبي -عليه الصلاة والسلام- وشرف أمته بسببه، وبركة اتباعه -عليه الصلاة والسلام- أمر معلوم من الدين بالضرورة، هو أشرف الخلق على الإطلاق، نعم إذا تعارض حقه -عليه الصلاة والسلام- مع حق غيره قدم حقه -عليه الصلاة والسلام-، لكن إذا تعارض حقه -عليه الصلاة والسلام- مع حق الله -سبحانه وتعالى-، لا شك أن المقدم هو حق الله -سبحانه وتعالى-،(1/179)
والمنع من الصلاة في المقبرة حماية لجناب التوحيد فهو من حق الله -سبحانه وتعالى-، وعلى هذا يكون التخصيص هو الوجيه في مثل هذه المسألة.
يقول -رحمه الله تعالى- في هذه اللفظة: ((جعلت تربتها)) وقد ظن بعضهم أن هذا من باب المطلق والمقيد وهو غلط، وإنما هو من باب تخصيص بعض أفراد العموم بالذكر، وهو لا يقتضي التخصيص عند الجمهور، إيش معنى هذا الكلام؟ عندنا: ((وجعلت تربتها لنا طهوراً)) مع حديث: ((جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً)) هل الأرض ذات أفراد والتراب فرد من أفرادها؟ فيكون من باب الخاص والعام، أو الأرض ذات أوصاف والتراب وصف من أوصافها فيكون من باب الإطلاق والتقييد؟ وما الذي يترتب على القولين؟ إذا قلنا: أنه من باب الإطلاق والتقييد، والمطلق يحمل على المقيد لا سيما في مثل هذه الصورة حينما يتفق المطلق مع المقيد في الحكم والسبب لا شك أنه يحمل المطلق على المقيد، نقل بعضهم الإتفاق على ذلك، إذا اتفقا في الحكم والسبب بخلاف ما إذا اختلفا في الحكم والسبب أو في السبب دون الحكم أو العكس، فالصور أربع، لكن هنا الحكم والسبب متفق، فإذا قلنا: أنه من باب الإطلاق والتقييد وقلنا: أن الأرض ذات أوصاف والتربة وصف من أوصافها قلنا: يحمل المطلق على المقيد للاتفاق في الحكم والسبب، فإذا قلنا: بحمل المطلق على المقيد قلنا: أنه لا يجوز التيمم إلا بالتراب، وهو مقتضى قول الحنابلة فلا يجوز التيمم إلا بالتراب، وإذا قلنا: أن الأرض ذات أفراد والتراب فرد من أفرادها قلنا: أنه من باب الخاص والعام، قد يقول قائل: الخاص مقدم على العام، فيكون مثل التقييد والإطلاق، نقول: لا، الخاص إذا ذكر بحكمٍ مخالف لحكم العام يخصص به العام، لكن إذا كان الخاص مذكوراً بحكمٍ موافق لحكم العام فإنه حينئذٍ لا يخصص به. {(1/180)
نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ}[(163) سورة النساء] يعني نوح داخل في النبيين، هذا من ذكر العام بعد الخاص للاهتمام بشأن نوح والعناية به، وعكسه أيضاً وهو وارد النصوص كثيراً، المقصود أن الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى- يعتني بمثل هذه المسائل الأصولية، مما يجعله كتاباً نفيساً ينبغي أن يعض عليه بالنواجذ، إذا اقترن بذلك خلوه من المخالفات العقدية، استطرد في ذلك قال: "وهو لا يقتضي التخصيص عند الجمهور، خلافاً لما حكي عن أبي ثور، إلا أن يكون له مفهوم، فيبنى على تخصيص العموم بالمفهوم، والتراب والتربة لقب واللقب مختلف في ثبوت المفهوم له" لا شك أن مفهوم اللقب لا يعتد به عند جماهير العلماء؛ لأن القول به له لوازم باطلة، كما هو معروف، الأمثلة على ذلك كثيرة والفوائد لا يمكن حصرها بالنسبة لهذا الكتاب، لكن مما يستطرف أنه قال في صفحة (11) في حديث ذكره قال: "أول من اتخذ الكعب العالي نساء بني إسرائيل يتطاولن بها في المساجد، ليس باللفظ، لكن هو ذكر عن أسماء بنت أبي بكر أنها قالت: "إنما سلطت الحيضة على نساء بني إسرائيل؛ لأنهن كن اتخذن أرجلاً من خشب يتطاولن بها في المساجد"، فعلى هذا استعمال هذا الكعب العالي سنة بني إسرائيل.(1/181)
أيضاً المفاضلة بين الشافعي وأحمد وابن قتيبة والخطابي في غريب الحديث لفتة من الحافظ ابن رجب -رحمه الله- يقول: إذا اختلف مثلاً الشافعي وأحمد في جهة، إذا كان الشافعي وأحمد في جهة وابن قتيبة والخطابي في جهةٍ أخرى مثلاً، يقول: "وقد نص على ذلك الشافعي وأحمد وهما أعلم بالسنة واللغة وبألفاظ الحديث ورواياته من مثل ابن قتيبة والخطابي ومن حذا حذوهما ممن يفسر اللفظ بمحتملات اللغة البعيدة"، نعم اللفظة الواحدة يكون لها معاني في اللغة كثيرة، فقد ينتقي مثل ابن قتيبة والخطابي معنىً من المعاني ينزع به ويرجحه فيظن أنه هو المراد في الحديث أو في الآية، لكن إذا وجد من يجمع بين اللغة وبين الفن المخصوص كالسنة مثلاً لا شك أن اختيار الإمام أحمد لبعض الألفاظ دون بعض، أو الإمام الشافعي لما تحتمله اللغة من معاني لا شك أنه يكون أرجح مما يختاره الذي علمه خاص باللغة.
محمد بن سلام شيخ الإمام البخاري يقول: الصواب بالتشديد معروف عند أهل المصطلح قاطبةً أن كل ما جاء في الصحيحين من سلام فهو بالتشديد إلا خمسة، فذكروا منهم هذا أنه بالتخفيف، ذكروا منهم محمد بن سلام وعبد الله والد عبد الله بن سلام قالوا: أنهما بالتخفيف ومعهم ثلاثة، لكن ابن رجب -رحمه الله تعالى-يصوب التشديد، وله فيه مصنف في رسالةٍ خاصة.
يقول: "لا يجوز تفسير الحديث إلا بما قاله أئمة العلماء الذين تلقوا العلم عمن قبلهم"..إلى غير ذلك من الفوائد التي لا يمكن استيفاؤها واستقصاؤها، والكتاب مطبوع في عشرة أجزاء في إحدى طبعتيه، والأخرى في سبعة، والطبعة الثانية، طبعة المجموعة ثمانية أشخاص قاموا بتحقيقه طبعة جيدة لا بأس بها، الطبعة الأخرى طبعة طارق عوض الله أنا ما اطلعت عليها، إنما رأيتها لكن لم أعتنِ بها لسبق هذه فقرأتها كلها هذه، وعرفت قيمتها، وأنها جيدة في الجملة، وإن كان طارق عوض الله له يد في هذا الشأن، وهو من أهل التحري في التحقيق.(1/182)
شرح الكرماني (الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري):
بعد هذا شرح الكرماني، مؤلفه شمس الدين محمد بن يوسف بن علي الكرماني المتوفى سنة ستٍ وثمانين وسبعمائة، سماه كما نص على ذلك في نهاية المقدمة (الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري) الكرماني بكسر الكاف، وإن كان الدارج على ألسنة الكثير، وقاله النووي وغيره أنه بفتح الكاف الكَرماني، لكن الكِرماني نفسه ضبطها بكسر الكاف، ولما ورد ذكر كِرمان في الجزء التاسع صفحة (159) قال: "كرمان بكسر الكاف، وقال النووي: بفتحها، أقول: هو بلدنا وأهل البلد أعلم ببلدهم من غيرهم، وهم متفقون على كسرها"، وفي الجزء الرابع والعشرين صفحة (205) قال: "المشهور عند المحدثين بفتح الكاف، لكن أهلها يقولون: بالكسر، وأهل مكة أدرى بشعابها".
على كلٍ شرح الكرماني شرح متوسط ليس بالطويل مثل فتح الباري وعمدة القاري ولا بمختصر مثل شرح الخطابي، شرح متوسط مشهور بالقول يعني يأتي باللفظة المراد شرحها فيقول: قوله، وهو جامع لفرائد الفوائد، وزوائد الفرائد، افتتحه بمقدمةٍ أشاد فيها بعلم الحديث وأهله، وأن صحيح البخاري أجلّ الكتب الصحيحة نقلاً وروايةً وفهماً ودراية، وأكثرها تعديلاً وتصحيحاً وضبطاً وتنقيحاً واستنباطاً واحتياطاً، قال: وفي الجملة هو أصح الكتب المؤلفة فيه على الإطلاق.(1/183)
ثم تحدث باختصار عن الشروح السابقة كابن بطال والخطابي ومغلطاي، ثم ذكر منهجه في كتابه، وأنه يشرح المفردات، الألفاظ غير الواضحة، ويوجه الإعرابات النحوية غير اللائحة، يتعرض لبيان خواص التراكيب بحسب علوم البلاغة، ثم يذكر ما يستفاد وما يتعلق بالحديث من المسائل الكلامية على حد زعمه، ثم يذكر ما يتعلق بأصول الفقه من الخاص والعام والمجمل والمبين وأنواع الأقيسة، ثم يذكر ما يتعلق بالمسائل الفقهية والمباحث الفروعية، ثم يذكر ما يتعلق بالآداب والدقائق، ثم ما يتعلق بعلوم الحديث واصطلاحات المحدثين، ثم يذكر اختلاف النسخ، فيرجح بعضها على بعض ثم يتعرض لأسماء الرجال، ثم يوضح الملتبس ويكشف المشتبه، ويبين المختلف والمؤتلف من الأسماء والأنساب وغيرها، ثم بعد ذلك يؤلف بين الأحاديث المتعارضة حسب الظاهر، ثم يبين مناسبة الأحاديث التي في كل باب، ثم بعد ذلكم ذكر في المقدمة رواة الصحيح كالسرخسي والكشميهني وأبي ذر الهروي وترجم لهم، ثم ترجم للإمام البخاري ترجمةً متوسطة، ثم ختم المقدمة بموضوع علم الحديث وحده، وعدد كتب الجامع وأحاديثه.(1/184)
الكتاب لا شك أنه جيد ومفيد في الجملة، واشتمل على غالب ما يحتاج قارئ الصحيح بأسلوبٍ واضح شيق، يهتم بالرواة فيذكر اسم الراوي كاملاً وما يستطرف من أخباره بإيجاز، يعني الشرح لا شك أنه ممتع، يذكر من أخبار الرواة ما يستطرف بإيجاز ليس مثل انتقاء وانتخاب النووي لا، لكنه فيه طرافة، ينبه على لطائف الأسانيد كالعلو والنزول وأوطان الرواة وصيغ الأداء وغير ذلك، يقول الحافظ ابن حجر في الدرر الكامنة: "هو شرح مفيد على أوهامٍ فيه في النقل؛ لأنه لم يأخذه إلا من الصحف"، يقول العيني بعد أن تعقب الكرماني في الجزء الأول صفحة (101) قال: "وهذا إنما نشأ منه لعدم تحريره في النقل، واعتماده من هذا الفن على العقل"، ولا شك أن الكتاب عمدة لمن جاء بعده من الشراح، لا تكاد تخلو صفحة واحدة من فتح الباري أو عمدة القاري أو إرشاد الساري من نقل عن هذا الكتاب، الكتاب عمدة بالنسبة لمن جاء بعد الكرماني، الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى- نقل عنه كثيراً في مئات المواضع، وتعقبه أيضاً في كثير من المواطن، وأوهام الكرماني نبه عليها الحافظ لا سيما ما يتعلق بعلم الحديث وما يتعلق بالصحيح نفسه، لكنه لم يتعقبه فيما يتعلق بالعقيدة؛ لأن الحافظ أيضاً منتقد في هذا الباب على ما سيأتي، من انتقادات الحافظ، يقول الحافظ -رحمه الله تعالى- في الجزء الأول صفحة (57): "الكرماني كعادته بحسب التجويز العقلي جوز أن يكون تعليقاً أو معطوفاً على قتادة فيكون شعبة رواه عن حسين عن قتادة إلى غير ذلك مما ينفر عنه من مارس شيئاً من علم الإسناد" نعم هذا كلام الحافظ بعد أن نقل عن الكرماني وتعقبه بهذا.(1/185)
في الفتح أيضاً في الجزء الأول صفحة (79 و80) قال: "هذا تعقب مردود" ثم بيّن وجه رده، وفي صفحة (82) قال: "هذا ليس بطائل" ثم ذكر علة قوله، وفي الفتح صفحة (193) من الجزء الأول قال: "هذا مردود لأن سليمان بن حرب لا رواية له عن إسماعيل أصلاً لا لهذا الحديث ولا لغيره"، لكن أكثر الهفوات أو كثير منها وقع من الكرماني في الربط بين الحديث والترجمة، وقد تهجّم الكرماني على البخاري في مواضع، الكرماني في الجزء الثاني صفحة (183) يقول: "البخاري لا يراعي حسن الترتيب، وجملة قصده إنما هو في نقل الحديث وما يتعلق بتصحيحه لا غير ونعم المقصد"، البخاري لا يراعي حسن الترتيب، وجملة قصده إنما هو في نقل الحديث وما يتعلق بتصحيحه لا غير ونعم المقصد.(1/186)
يقول الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى-: "العجب من دعوى الكرماني أن البخاري لا يقصد تحسين الترتيب بين الأبواب مع أنه لا يعرف لأحدٍ من المصنفين على الأبواب من اعتنى بذلك غيره، حتى قال جمع من الأئمة: فقه البخاري في تراجمه"، هناك هفوة من الكرماني، قال في الجزء العاشر صفحة (183) يقصد كلام الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- يقول: "لا يخفى ما في هذا التركيب من التعجرف"، يقول الحافظ في الجزء الرابع صفحة (485): "التعجرف من عدم فهم المراد"، إذا قصر الفهم ولم يعترف صاحبه بالقصور نشأ عنه مشاكل، حينما يقصر فهم الكرماني عن إدراك الرابط بين الحديث والترجمة يقول: لا يحسن ترتيب الأبواب، أو يقول: هذا تعجرف؟ لا شك أن سببه القصور، وقد أبدى العلماء من المناسبات ما يبهر العقول وألفت في تراجم البخاري الكتب المستقلة في بيان الرابط بين الحديث والترجمة في كل باب، وأحياناً في ذكر الرابط قد يخفى حتى على ابن حجر والعيني ومن جاء بعدهم، وأحياناً يقولون: المناسبة ظاهرة، وهي في الحقيقة ليست بظاهرة، وأخشى أن يكون هذا من التخلص، الشارح مع كل ما ذكر من هذه الملاحظات، وما قيل قبل ذلك من أن هذا الشرح نفيس، ولا يستغنى عنه، واعتمد عليه من جاء بعده من الشراح أيضاً الشارح في باب الاعتقاد جرى على طريقة الأشاعرة، ونكب عن طريقة السلف، قال في الحادي عشر صفحة (72): "إطلاق الغضب على الله تعالى من باب المجاز، إذ المراد لازمه، وهو إرادة إيصال العذاب"، وقال في الثاني عشر صفحة (123): "فإن قلت: ما معنى الضحك ها هنا؟ قلت: أمثال هذه الألفاظ إذا أطلقت على الله يراد بها لوازمها مجازاً، ولازم الضحك الرضا"، وقال في الجزء (22) صفحة (124): "والاعتراف بالصفات السبع التي هي الصفات الوجودية" ثم ذكرها، والصفات السبع المراد بها ما يثبته الأشاعرة من صفات الله -سبحانه وتعالى- وهي العلم والقدرة والإرادة والحياة والكلام والسمع والبصر.(1/187)
أيضاً هو في توحيد العبادة عنده شيء من الخلل، يقول في الثاني والعشرين صفحة (149): "وقد كنت متشرفاً عند شرح هذا الباب بابتداء مجاورة قبره المبارك -يعني قبر ابن عباس- بالحرم المحرم بوج الطائف"، نقل عن الأشعرية في مواضع مقراً لأقوالهم ففي صفحة (197) من الجزء الأول وصفحة (88) من الجزء الثاني والعشرين، صفحة (106) من الجزء الرابع والعشرين يقول: "يجوز أن يرى أعمى الصين بقة الأندلس ولا يرى ما حولها".
على كلٍ الكلام في الكتاب كثير جداً، أيضاً من الناحية الاصطلاحية قرر أن شرط البخاري في صحيحه أن لا يروي إلا ما رواه اثنان عن اثنين.. إلى آخره، تابعاً في ذلك الحاكم فيما يفهم من كلامه والبيهقي وغيرهم، من العرب أيضاً زعموا أن شرط البخاري أنه لا يقبل رواية الواحد، بل لا بد من التعدد في الرواية؛ لكن لا شك أن هذا جهل بالكتاب الذي يشرحه، أول حديث في الصحيح من رواية فرد عن فرد عن فرد.. الخ، فيه أربع من طبقات، حديث (الأعمال بالنيات) تفرد به عمر -رضي الله عنه- في بروايته عن النبي -عليه الصلاة والسلام-، ثم تفرد به عنه علقمة بن وقاص، ثم تفرد به عنه محمد بن إبراهيم التيمي، ثم تفرد به عنه يحيى بن سعيد الأنصاري، ومثله آخر حديث في الصحيح، حديث: ((كلمتان خفيفتان على اللسان))..الخ، تفرد به أبو هريرة، وعنه أبو زرعة ابن عمرو بن جرير البجلي، وعنه عمارة بن القعقاع وعنه محمد بن فضيل، وعن محمد بن فضيل انتشر الحديث، كما أن الحديث الأول انتشر عن يحيى بن سعيد، المقصود أنهما من الغرائب التي لم يروها إلا الواحد عن الواحد، وهما كفيلان بالرد على من يزعم أن العدد شرط للصحة مطلقاً، أو شرط للبخاري في صحيحه، وغير ذلك من المسائل التي يمكن مناقشته فيها، ولو ذهبنا نستطرد ونذكر كلما لوحظ على الكتاب لطال بنا المقام جداً.(1/188)
ونقف على فتح الباري للحافظ ابن حجر ومعه أيضاً عمدة القاري مع ذكر ما بينهما من المناقشات الطويلة والردود، ثم نختم الكلام بالنسبة لما يتعلق بصحيح البخاري بإرشاد الساري غداً -إن شاء الله تعالى-، والله أعلم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
هذا السائل يقول: ما المقصود بقولكم: بالربط بين الحديث والترجمة؟
الرابط بين الحديث والترجمة المراد به المناسبة والعلاقة بين الحديث والترجمة، قد يكون الرابط بينهما والعلاقة واضحة، كقوله: "بعض قول الرجل: ما صلينا" فجاء في الحديث ما وقع في غزوة الخندق من قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((وأنا والله ما صليتها)) هذه ظاهرة، علاقة ظاهرة، لكن مثل باب القسامة في الجاهلية، ثم ذكر تحت هذه الترجمة القصة التي ذكرها عمرو بن ميمون من أن قردةً في الجاهلية زنت فاجتمع عليها قردة فرجموها، القسامة في الجاهلية، الرابط لا يكاد يدرك في مثل هذا.
يقول: ذكر أحد المختصين في علوم الحديث أن فتح الباري لابن رجب -رحمه الله تعالى- والمطبوع بتحقيق ثمانية من المحققين يوجد فيها سقط في عدة مواضع.
نعم المطبوع من فتح الباري فيه سقط بلا شك، فيه خروم في أثنائه، اعتمدوا على نسخ وتتفق هذه النسخ على كثيرٍ من المواضع التي فيها الخروم، أما أنه يقول: يوجد فيها سقط في عدة مواضع مع العلم بأن المخطوط لا سقط فيه. هذا الكلام ليس بصحيح، جميع النسخ الموجودة الآن فيها خروم.
موسوعة الأطراف لزغلول تحيل على الفتح، يقول: فما الرأي بطريقة زغلول بالإحالة عليه؟
أولاً: الفتح لنعرف كما سيأتي قريباً أنه ليس فيه متن، الحافظ لم يذكر المتن، والمتن المطبوع معه ملفق كما ستأتي الإشارة إليه -إن شاء الله تعالى-.(1/189)
يقول: يحتج بعض الأخوة عندما ينصحون بدراسة علم مصطلح الحديث بأنه من علوم الآلة لا من العلوم الأساسية التي يحتاجها الفرد؟
نعم، هو من الوسائل التي تخدم هذا العلم العظيم، فالهدف من مصطلح الحديث معرفة المقبول والمردود من السنة، ووسيلة إلى معرفة ما يقبل وما يرد من السن، لكن كيف نعرف المقبول لنعمل به والمردود لنجتنبه إلا بواسطة هذا العلم؟! فهو من أهم المهمات، يقاربه مصطلح أو قواعد التفسير أو أصول الفقه كذلك، كلها تخدم وإن كانت من علوم الآلة ومثلها علوم العربية بفروعها، إلا أنها مما يضطر إليه طالب العلم.
يقول: الرجاء ذكر ما تميّز به كل شرح من شروح البخاري عن غيره، فمن المعلوم أن هناك من تميّز بضبط أسماء الرواة وآخر في الأحكام وآخر في جمع الطرق.. الخ؟
هذا هو المقصود من هذه المحاضرات ومن هذه الدروس، وما تقدم بُيّن ووضّح، الكتب التي عرضت سابقاً بيّن فيها ما يمتاز بها كل كتاب، وكذلك الكتب اللاحقة، واليوم عن ثلاثة كتب هي في الحقيقة أهم شروح البخاري، ولعل الوقت يسعف بإكمال الحديث عنها.
شرح ابن حجر (فتح الباري شرح صحيح البخاري):
فأولها: (فتح الباري شرح صحيح البخاري) للإمام الحافظ أبي الفضل أحمد بن علي ابن حجر العسقلاني المتوفى سنة اثنتين وخمسين وثمانمائة، هذا الكتاب هو أعظم شروح البخاري، اللهم إلا أنه لو كمل شرح ابن رجب لكان منافساً له، يقع الكتاب في ثلاثة عشر مجلداً كباراً إضافةً إلى مقدمةً وافية في مجلد كبير أسماها مؤلفها (هدي الساري) المقدمة مرتبة على عشرة فصول.
الأول: في بيان السبب الباعث على تنصيف البخاري لكتابه.
والثاني: في بيان موضوعه والكشف عن مغزاه فيه، والكلام على تحقيق شرطه، وتقرير كونه من أصح الكتب المصنفة في الحديث، ويلتحق بذلك الكلام على تراجمه البديعة المنال، المنيعة المثال التي انفرد بتدقيقه فيها عن نظرائه، واشتهر بتحقيقه لها عن قرنائه.(1/190)
الثالث: في بيان الحكمة في تقطيعه للحديث واقتصاره وفائدة إعادته للحديث وتكراره.
المعذرةً للإخوان يمكن يصير في السرد شيء من السرعة؛ لأن الكلام طويل، وهذه الكتب إن لم تكن هي بيت القصيد فهي من أهم المهمات.
الرابع: في بيان السبب في إيراده الحديث أو الأحاديث المعلقة والآثار الموقوفة مع أنها تباين أصل موضوع الكتاب، نعم أصل موضوع الكتاب للأحاديث المرفوعة لا للآثار الموصولة، لا للمعلقة ولا المقطوعة، المقصود أن هذا أصل موضوع الكتاب؛ لكن أردف ما جاء في أصله بما أثبته تبعاً لذلك من الموقوفات والمعلقات.
الخامس: في ضبط الغريب الواقع في متونه، مرتباً له على حروف المعجم بألخص عبارة وأخلص إشارة، لتسهل مراجعته ويخف تكراره.
السادس: في ضبط الأسماء المشكلة التي فيه، وكذا الكنى والأنساب.
السابع: في تعريف شيوخه الذين أهمل نسبهم إذا كانت يكثر اشتراكها كمحمد، لا من يقل الاشتراك فيه كمسدد، وفيه الكلام على جميع ما فيه من مهملٍ ومبهمٍ على سياق الكتاب مختصراً.
الثامن: في سياق الأحاديث التي انتقدها عليها حافظ عصره أبو الحسن الدارقطني، والجواب عنها حديثاً حديثاً وإيضاح أنه ليس فيها ما يخل بشرطه الذي حققناه.
التاسع: في سياق جميع من طعن فيه من رجاله على ترتيب الحروف والجواب عن ذلك الطعن بطريق الإنصاف والعدل والاعتذار عن المصنف في التخريج لبعض من يقوى جانب القدح فيه، إما لكونه تجنب ما طعن فيه بسببه، وإما لكونه أخرج ما وافقه عليه من هو أقوى منه.(1/191)
العاشر: في سياق فهرسة الكتاب باباً باباً، وعدة ما في كل باب من الحديث، ومنه تظهر عدة أحاديثه بالمكرر أوردته تبعاً للنووي، أورده الحافظ تبعاً للنووي، والعيني أورده تبعاً للنووي، وكلهم يقولون: تبركاً به، ومعلوم ما في هذي الكلمة من المخالفة، يقول: ثم أضفت إليه مناسبة ذلك مما استفدته من شيخ الإسلام أبي حفصٍ البلقيني، ثم أردفته بسياق أسماء الصحابة الذين اشتمل عليهم كتابه من غير تكرير، ثم ختمت المقدمة بترجمةٍ كاشفة عن خصائص الإمام البخاري ومناقبه جامعةً لمآثره ليكون ذكره واسطة عقد نظامها، وسر مسك ختامها.(1/192)
هذه الفصول العشرة التي اشتملت عليها مقدمة فتح الباري، ويمكن للطالب في الأسفار أن يقتصر على هذه المقدمة لطول الكتاب، فإذا قرأ في المتن ومرّ عليه اسم مهمل يحتاج إلى تمييز يرجع إلى هذه المقدمة، مر عليه حديث مقدوح فيه يرجع إلى هذه المقدمة، مرّ عليه راوٍ متكلم فيه يرجع إلى هذه المقدمة، فهي كالشرح المختصر أفردها الحافظ -رحمه الله تعالى- لأهمية مباحثها، ثم في آخر المقدمة ذكر الحافظ منهجه في شرح أحاديث الكتاب فقال: "أسوق الباب وحديثه أولاً"، يذكر الترجمة ثم يذكر الحديث، وهذا عدل عنه على ما سيأتي -إن شاء الله تعالى-، يقول: "ثم أذكر وجه المناسبة بينهما إن كانت خفية، ثم أستخرج ما يتعلق به غرض صحيح في ذلك الحديث من الفوائد المتنية والإسنادية من تتماتٍ وزيادات وكشف غامضٍ وفصيح مدلسٍ بسماعٍ ومتابعة سامعٍ من شيخٍ اختلط قبل ذلك، منتزعاً ذلك كله من أمهات المسانيد والجوامع والمستخرجات والأجزاء والفوائد بشرط الصحة أو الحسن فيما أورده من ذلك" يعني الحافظ إذا أورد حديثاً في الشرح وسكت عليه، ولم يتعقبه بضعف شرطه في ذلك الصحة أو الحسن، وسيأتي ما يخل بهذا الشرط، "ثالثاً: أصل ما انقطع من معلقاته وموقوفاته، وهناك تلتئم زوائد الفوائد وتنتظم شوارد الفرائد"، يقول: "أضبط ما يشكل من جميع ما تقدم أسماءً وأوصافاً مع إيضاح معاني الألفاظ اللغوية، تنبيه على النكت البيانية ونحو ذلك، أورد ما استفدته من كلام الأئمة مما استنبطوه من ذلك الخبر من الأحكام الفقهية والمواعظ الزهدية والآداب المرعية"، يقول: "مقتصر على الراجح من ذلك متحرياً للواضح دون المستغلق في تلك المسالك، مع الاعتناء بالجمع بينما ظاهره التعارض مع غيره، والتنصيص على المنسوخ بناسخه، والعام بمخصصه والمطلق بمقيده، والمجمل بمبينه، والظاهر بمؤوله، والإشارة إلى نكتٍ من القواعد الأصولية، ونبذ من فوائد العربية، ونخبٍ من الخلافات المذهبية، بحسب ما اتصل بي من(1/193)
كلام الأئمة، واتسع له فهمي من المقاصد المهمة، وأراعي في هذا الأسلوب -إن شاء الله تعالى- في كل باب، فإن تكرر المتن في بابٍ بعينه غير باب تقدم نبهت على حكمة التكرار، من غير إعادة له؛ إلا أن يتغاير لفظه أو معناه فأنبه على المواضع المغايرة أو على الموضع المغاير خاصةً، فإن تكرر في بابٍ آخر اقتصرت فيه بعد الأول على المناسبة شارحاً لما لم يتقدم له ذكر، منبهاً على الموضع الذي تقدم بسط القول فيه"، يقول: "فإن كانت الدلالة لا تظهر في الباب المقدم إلا على بُعد غيرت هذا الاصطلاح بالاقتصار في الأول على المناسبة، وفي الثاني على سياق الأساليب المتعاقبة، مراعياً في جميعها مصلحة الاختصار، دون الهذر والإكثار، والله أسأل أن يمنّ عليّ بالعون على إكماله بكرمه ومنّه".
هذا الكلام الذي سمعتموه مسروداً موجود حقيقةً في مقدمة فتح الباري؛ لكن هنا مسائل:
الأولى: ما ذكره أولاً من سوق الحديث، معروف أنه عدل عنه، قد قال في مقدمة المجلد الأول في صفحة (5) يقول: "وقد كنت عزمت على أن أسوق حديث الباب بلفظه قبل شرحه، ثم رأيت ذلك مما يطول به الكتاب جداً" يعني لو تصورنا أن البخاري في أربعة مجلدات إضافةً إلى هذه الثلاثة عشر مجلداً يطول الكتاب بلا شك، على هذا البخاري -رحمه الله تعالى- أخلى الكتاب من المتن، بينما يشرح الحديث مباشرةً، قوله: باب كذا، يشرح الترجمة ثم قوله يشرح الحديث لفظةً لفظة.(1/194)
الذي رقّم الكتاب وخدمه وطبعه -جزاهم الله خير- اجتهدوا، ففي التعليق على صفحة (5) قال المعلق محمد فؤاد عبد الباقي: "ونحن قد حققنا ذلك في هذه الطبعة، فسقنا حديث الباب بلفظه قبل شرحه، ليكون ذلك أعون على فهم الشرح والإلمام بمراميه"، أولاً: الحافظ -رحمه الله- عن قصد حذف الأحاديث، فإدخال الأحاديث في الكتاب في صلب الكتاب لا شك أنه تصرف في الكتاب وزيادة في الكتاب، قصد المؤلف حذفها، فهذا التصرف لا ينبغي، نعم لو جعلوه في حاشية، في أعلى الصفحة وفصلوا بينه وبين الشرح بخط لا بأس، يقول: ونحن قد حققنا ذلك -لو كانت أمنية للحافظ تقول: حققنا هذه الأمنية-، لكن الحافظ عدل عنها قصداً وليت الحافظ حققها بنفسه، لسلمنا من كثير من الاعتراضات الواردة على المتن الموجود في الشرح الذي تصرف الطابع وأدخله فيه، يقول: ونحن قد حققنا ذلك في هذه الطبعة فسقنا حديث الباب بلفظه قبل شرحه، ليكون ذلك أعون على فهم الشرح والإلمام بمراميه وأشرنا بالأرقام إلى أطراف كل حديث، وهي أجزاء متفرقة في مواضع أخرى من صحيح البخاري.
أقول: وليته إذ تصرف على خلاف مراد المؤلف انتقى من روايات الصحيح ما اعتمده الحافظ في شرحه، وهي رواية أبي ذر الهروي، المتن المطبوع مع فتح الباري متن ملفق من روايات متعددة، لا يوافق رواية واحدة من الروايات، ليت هؤلاء الذين تصرفوا وأدخلوا الكتاب في هذا الشرح العظيم انتقوا من الروايات ما يناسب الشرح، ولذا يوجد في المتن المقحم من الألفاظ ما لا يوجد في الشرح والعكس، وهذا كثير جداً، كثيراً ما نجد الحافظ يقول: قوله: كذا، ثم يشرح، هذا اللفظ الذي شرحه الحافظ لا تجده في المتن المقحم، هذا كثير جداً.(1/195)
ونقل عن القسطلاني بالنسبة لفتح الباري: يقول: شهرته وانفراده بما اشتمل عليه الفوائد الحديثية والنكات الأدبية، والفوائد الفقهية، تغني عن وصفه، لا سيما وقد امتاز بجمع طرق الحديث التي ربما يتبين من بعضها ترجيح أحد الاحتمالات شرحاً وإعراباً، وطريقته في الأحاديث المكررة أنه يشرح في كل موضعٍ ما يتعلق بمقصد البخاري من ذكره، ويحيل بباقي شرحه على مكان المشروح فيه، وهذه ميزة امتاز بها فتح الباري، يعني تجد الكتاب متناسب من أوله إلى آخره، يشرح آخر حديث في الكتاب بنفس الطريقة والمنهج الذي شرح فيه أول حديث في الكتاب، بخلاف غالب المؤلفين من الشراح والمفسرين وغيرهم، تجده في أول الكتاب يجلب بجميع ما عنده، ثم تفتر همته أو ينتهي ما عنده فيختصر ويوجز، هذا غالب الشروح هكذا، تأتي الإشارة إلى شيءٍ من هذا في عمدة القاري -إن شاء الله تعالى-.
كان الحافظ -رحمه الله تعالى- يتمنى ويود أن لو تتبع الإحالات التي تقع له فيه؛ لأن الكتاب طويل، والكتاب كان تأليفه فيما يقارب ربع قرن لطوله وتحريره وتنقيحه، مكث فيه أكثر من ربع قرن، أنهاه في خمسة وعشرين سنة، لكنه ما زال يحرر وينقح، ويضيف إلى وفاته -رحمه الله-.
بعض الإحالات يحصل فيها ما لا يوجد في موضعه، تجد الحافظ يقول: وسنتكلم على هذا الحديث، أو تأتي الإشارة إلى كذا في موضع كذا ثم تأتي، يحيل مرةً ثانية، تأتي الإحالة، الكتاب بحر محيط، كتاب كبير جداً، لا يبعد أن يقع فيه مثل هذه الأشياء، لكن الحافظ تمنى وودّ أن لو تتبعت هذه الحوالات، يقول: فإن لم يكن المحال به مذكوراً أو ذكر في مكانٍ آخر غير المحال عليه ليقع إصلاحه فما فعل ذلك، والكمال لله -سبحانه وتعالى-.(1/196)
يقول: وكذا ربما يقع له ترجيح أحد الأوجه في الإعراب أو غيره من الاحتمالات أو الأقوال في موضع ثم يرجح في موضعٍ آخر غيره إلى غير ذلك مما لا طعن عليه بسببه، بل هذا أمر لا ينفك عنه كثير من الأئمة المعتمدين، هذا يدل على أن الحافظ مستمر في البحث، لم يقف اجتهاده عند حدّ، وتغير الاجتهاد عند أهل العلم معروف، يتحرر له في مسألةٍ ما، في وقتٍ ما، ثم يتبين له في وقتٍ آخر غيره، المقصود أن تغير الاجتهاد أمر معروف عند أهل العلم، ولذا تجدون الحافظ في أوائل الكتاب أو في مواضع من الكتاب يرجح شيء ثم يعدل عنه في مواضع أخرى.(1/197)
الحافظ -رحمه الله تعالى- ابتدأ تأليف الكتاب في أوائل سنة سبعة عشرة وثمانمائة على طريق الإملاء، يملي إملاءً، يمليه إملاءً، يعني في الجزء الثامن صفحة (463) يقول: "وقد كنت أمليت في أوائل كتاب الوضوء أن قصة الإفك وقعت قبل نزول الحجاب" وقد كنت أمليت، هذا يدل على أن الكتاب ألف بطريق الإملاء، ثم قال: "وهو سهو والصواب أنه بعد نزول الحجاب فليصلح هناك"، ابتدأ الحافظ -رحمه الله تعالى- تأليف الكتاب في أوائل سنة سبع عشرة وثمانمائة على طريق الإملاء، بعد أن كملت مقدمته في مجلدٍ ضخم في سنة ثلاث عشرة وثمانمائة، وسبق منه الوعد للشرح ثم صار يكتب بخطه شيئاً فشيئاً، فيكتب الكراسة، ثم يكتبها جماعة من الأئمة، يمليها على جماعة من الأئمة لتراجع وتنقّح، ثم يكتبها جماعة من الأئمة المعتبرين، ويعارض بالأصل مع المباحثة في يومٍ من الأسبوع، وذلك بقراءة البرهان بن خضر، فصار السفر -يعني المجلد- لا يكمل منه إلا وقد قوبل وحرر إلى أن انتهى، بهذه الطريقة يملي الكراسة على جمع من الأئمة المعتبرين، يمليها عليهم ليراجعوها وينظروا فيها، ثم تقابل وتعارض بالأصل، ثم في يومٍ من الأسبوع تحصل المباحثة والمناقشة حول ما كتب، وهذا هو السر في تحرير هذا الكتاب وتنقيحه وضبطه وإتقانه، يقول: إلى أن انتهى في أول يوم من رجب سنة اثنتين وأربعين وثمانمائة، سوى ما ألحقه فيه بعد ذلك فلم ينتهي إلا قبيل وفاته، ولما تمّ عمل مصنفه وليمةً عظيمة لم يتخلف فيها من وجوه المسلمين إلا نادراً، في يوم السبت ثاني شعبان سنة اثنتين وأربعين وثمانمائة، وقرئ في المجلس الأخير، وهناك حضره الأئمة كالقاياتي والونائي والسعد الديري وغيرهم، يقول: وكان المصروف في الوليمة المذكورة نحو (500) دينار، فطلبه ملوك الأطراف بالاستكتاب واشتري بنحو ثلاثمائة دينار، وانتشر بالآفاق، الكتاب طويل لكن مملوء بالفوائد، واختصاره يخل به، وإن حصل من بعض العلماء أنهم اختصروه، فمختصر(1/198)
للشيخ أبي الفتح محمد بن حسين المراغي المتوفى سنة تسع وخمسين وثمانمائة، والشيخ فيصل بن عبد العزيز بن المبارك العالم النجدي المعروف قاضي الجوف له مختصر أسماه (لذة القاري مختصر صحيح البخاري) وله أيضاً مختصر جديد موجود في الأسواق، المقصود أن الكتاب لا يقبل الاختصار، كله فوائد.
من فوائد الفتح: أنا انتقيت كم فائدة، ففي الجزء الأول صفحة (59) أشار إلى عدم اعتناء البخاري بالتنبيه على ما بين الرواة من فروق، وإنما همّ البخاري مراعاة الأصول دون الألفاظ بخلاف مسلم، في الجزء الأول صفحة (16) والحادي عشر صفحة (340) يقول: "جملة ما كرره البخاري بسنده ومتنه نحو عشرين"، عشرين حديثاً، المكررات في البخاري تزيد على خمسة آلاف حديث، التكرار فيه، لكن ما يمكن أن يكرر بالسند والمتن ويخلي المكرر من الفائدة سواء كانت في متنه أو في إسناده أو على أقل الأحوال في صيغ الأداء يقول: إلا في نحو عشرين موضعاً، هذا ذكره الحافظ في الجزء الأول صفحة (16) وفي الحادي عشر صفحة (340).(1/199)
من فوائده وقواعده وضوابطه التي ذكرها يقول: "وقد ظهر بالاستقراء من صنيع الإمام البخاري أنه إذا أورد حديثاً عن غير واحد فإن اللفظ يكون للأخير" يعني إذا كان الحديث مخرج في الصحيح عن أكثر من واحد فاللفظ للأخير، إذا قال البخاري: حدثنا فلان وفلان، فصاحب اللفظ هو الأخير، يقول: "وقد ظهر بالاستقراء من صنيع البخاري أنه إذا أورد الحديث عن غير واحدٍ فإن اللفظ يكون للأخير" هذا في الجزء الأول صفحة (436) ظهر بالاستقرار لكنها قاعدة أغلبية وليست كلية؛ لأنه يوجد ما يخالف هذه القاعدة، مثلاً في صفحة (30) يقول: "أخبرنا يونس ومعمر" من صاحب اللفظ على القاعدة؟ على القاعدة معمر، يقول الحافظ: "أما باللفظ فعن يونس، وأما بالمعنى فعن معمر" هذا خرج عن القاعدة، في أمثلة ليست يسيرة من هذا النوع، لكن مثلما قال الحافظ -رحمه الله تعالى- بالاستقراء والتتبع القاعدة شبه مطردة إلا في مواضع يسيرة، فالقاعدة حينئذٍ تكون أغلبية وليست كلية.
في التاسع صفحة (374) يقول: "في مواضع الاختلاف -يعني في المسائل المختلف فيها، المسائل الفقهية المختلف فيها- مهما صدر به البخاري من النقل عن صحابي أو تابعي فهو اختياره"، يعني إذا أردت أن تستخرج فقه البخاري واختياراته تنظر في الترجمة في الباب، إذا صدر البخاري الترجمة بقول واحد، إما بحديث أو بقول واحد من الصحابة أو من التابعين فهو اختياره، يقول: "في مواضع الاختلاف مهما صدر به البخاري من النقل عن صحابي أو تابعي فهو اختياره".
في التاسع صفحة (420) يقول: "جرت عادة البخاري أن دليل الحكم إذا كان محتملاً لا يجزم بالحكم، بل يورده مورد الاستفهام" ما يقول البخاري باب وجوب كذا، أو باب استحباب كذا إذا كان الدليل محتمل، لا، إنما يورده بلفظ الاستفهام، هل كذا أو هل كذا؟ ما يجزم بهذا إلا إذا كان الدليل نص في الموضوع.(1/200)
في العاشر صفحة (11، 52، 54) يقول: "من قال: إن البخاري لا يستعمل (قال) إلا في المذاكرة لا مستند له" هذه شاعت بين الشراح، وبين العلماء، يتناقلونه، يقولون: البخاري إذا قال: حدثنا فلان قال فلان فإنما يكون البخاري قد أخذ الحديث عن هذا الشيخ مذاكرة، وليس على طريق التحديث، ومعلوم ما بين المذاكرة والتحديث من فرق، يقول: "من قال إن البخاري لا يستعمل (قال) إلا في المذاكرة لا مستند له".
الحافظ له اختيار في تكفير المصائب للذنوب في الجزء العاشرة صفحة (105 و110) يقول: "حصول التكفير للمصاب وإن لم يرضَ ولم يصبر" هذه من الغرائب؛ لكن يرى أن التكفير بمجرد المصيبة، والرضا والصبر أجره قدر زائد على ذلك، وهذا رأي استقل به، وهو محتمل.
في العاشر صفحة (332) يقول: "هيئة اللباس تختلف باختلاف عادة كل بلد".
في الحادي عشر صفحة (209) يقول: "لا يشترط في الذاكر استحضار معناه" يعني لو كان الذكر يعني على غفلة اعتاد الإنسان في أذكاره في الصباح والمساء، وفي غيرها، الذكر يجري على اللسان يقول: "لا يشترط استحضار معناه، ولكن يشترط أن لا يقصد به غير معناه".
في الحادي عشر صفحة (268) وفي مواضع أخرى يقول: "أبو الفتح الأزدي غير مرضي في كلامه على الرجال".
في الحادي عشر صفحة (441) يقول: "يحيى القطان متعنّت في الرجال".
في الثاني عشر صفحة (214) يقول: "طريقة بعض السلف عند الاختلاف الأخذ برأي الأكثر".
فوائد كثيرة جداً جداً، الكتاب مملوء ومشحون بالفوائد؛ لكن الوقت ما يحتمل أكثر من هذا.
الحافظ -رحمه الله تعالى- كما سمعنا اشترط في مقدمة الكتاب أنه لا يورد من الأحاديث إلا ما كان صحيحاً أو حسناً، لكن الكمال لله -سبحانه وتعالى- أورد أحاديث فيها كلام، وفيها ضعف، ولم ينبه عليها.(1/201)
في الجزء الأول صفحة (307) يقول: "وعند أحمد من طريقٍ أخرى عن المغيرة أن الماء الذي توضأ به -يعني النبي -عليه الصلاة والسلام- أخذه المغيرة من أعرابية صبت له من قربة كانت جلدة ميتة، وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له: ((سلها فإن كانت دبغتها فهو طهور)) حديث في المسند في الرابع (254) وهو ضعيف، وإن لم يتعقبه الحافظ، ففيه أكثر من راوٍ ضعيف.
في صفحة (67) من الجزء الأول قال عن حديث في إسناده عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: "رجاله ثقات" وحال عمرو بن شعيب معروفة عند أهل العلم لا سيما عند الحافظ يرى أنه صدوق، ومع ذلك يقول: "رجاله ثقات".
في الجزء الثالث صفحة (489) يقول: "روى الإمام أحمد بإسنادٍ حسن عن أبي الزبير عن جابر قال: كنا نطوف ونمسح الركن في الفاتحة والخاتمة" والحديث في المسند، وفي إسناده ابن لهيعة، وقد نص الحافظ في الفتح في الجزء الأول صفحة (23) على ضعفه، الحافظ نفسه نص على ضعف ابن لهيعة ويقول: "بإسنادٍ حسن".
في مسائل الاعتقاد منهجه مضطرب، الحافظ منهجه في العقيدة ليس على طريقةٍ واحدة، إنما هو نقال في هذا الباب، ينقل أقوال السلف والأئمة المقتدين بهم، ممن يثبت لله -سبحانه وتعالى- ما أثبته لنفسه، وينقل أقوال الخلف من المخالفين لعقيدة السلف، ولا يتعقب شيئاً من ذلك.
وفي صفحة (145) من الجزء السادس و(632) من الجزء الثامن، و(444) من الجزء الحادي عشر أوّل صفحة (العجب) في عجب الله -سبحانه وتعالى- من قوم، أو عجب الله -سبحانه وتعالى- من قوم أوّل ذلك بالرضا يعني على طريقة الخطابي وغيره ممن تقدم ذكرهم، على كلٍ هذا خلل في الكتاب، يعني لو مرّ على الكتاب كله، وعلق على هذه المسائل التي خالف فيها لكان جيداً.
والكتاب يحتاج إلى زمن طويل لنشر محاسنه ومزاياه؛ لكن هذا ما يحتمله الوقت.
بعد هذا (عمدة القاري في شرح صحيح البخاري) لبدر الدين محمود بن أحمد العيني الحنفي المتوفى سنة خمس وخمسين وثمانمائة.(1/202)
طالب: الطبعة المعتمدة لفتح الباري؟
يسأل عن الطبعة، أفضل الطبعات بالنسبة لفتح الباري، هذه إن تيسرت طبعة بولاق فهي أجود الطبعات على الإطلاق؛ لأن الذين طبعوها، المطبعة السلفية، نعم الشيخ -رحمه الله- راجع مجلدين وشيء من الثالث؛ لكن بقية الكتاب طبع بحروفه بطبعة بولاق، طبعة بولاق هي الأصل التي أخذت منها الطبعة السلفية، إن لم تتيسر فالطبعة السلفية الأولى، وليست الثانية ولا الثالثة، الطبعة الثانية فيها أسقاط كثيرة وأوهام، والثالثة فرع عنها، مصورة عنها، وإن سموها طبعة ثالثة، لكن الطبعة السلفية الأولى متقنة إلى حدٍ ما.
طالب: المتقنة الأولى أو الثالثة؟
الأولى الأولى، الثانية لا شيء، فيها أسقاط وأسطر أحياناً، لا لا الطبعة السلفية الأولى، وهي تكاد أن تكون صورة لطبعة بولاق؛ لكن فيها بعض الأخطاء اليسيرة، هنا حتى في بعض التعليقات أشياء في تصويب بعض الكلمات مثل هنا يقول: "فينبغي الاضطراب" في هذه الطبعة، السلفية الأولى، "فينبغي الاضطراب" علق الشيخ -رحمه الله-، قال: "فينبغي أن لا اضطراب" لأن الحافظ نفى الاضطراب عن الحديث؛ لكن لا هذا ولا ذاك: "فينتفي الاضطراب" الحافظ في الفتح يقول: "فينبغي الاضطراب" فعلق الشيخ -رحمه الله- فقال: "ينبغي أن لا اضطراب" صواب العبارة: "فينتفي الاضطراب" يعني بعد كلام وتقرير الحافظ ابن حجر نفى فيه الاضطراب، على كلٍ البشر هذا ما ودع فيهم، من يعرى من الخطأ والنسيان.
شرح العيني (عمدة القاري):
((1/203)
عمدة القاري) لبدر الدين العيني شرع في تأليفه مؤلفه كما قال القسطلاني في أواخر سنة إحدى وعشرين وثمانمائة، وفرغ منه في آخر الثلث الأول من ليلة السبت خامس شهر جمادى الأولى سنة سبعٍ وأربعين وثمانمائة، يعني بدأ بعد الحافظ بأربع سنوات، وفرغ بعده بخمس سنوات، ذكر في مقدمته أنه لما رحل إلى البلاد الشمالية قبل الثمانمائة مستصحباً صحيح البخاري لنشر فضله عن ذوي الألباب ظفر هناك من بعض مشايخه بغرائب النوادر مما يتعلق باستخراج ما في الصحيح من الكنوز، ثم لما عاد إلى الديار المصرية ندبه إلى شرح الكتاب أمور:
الأول: يقول: "أن يعلم أن في الزوايا خبايا، وأن العلم من منايح الله -عز وجل- ومن أفضل العطايا.
الثاني: إظهار ما منحه الله من فضله الغزير، وإقداره إياه على أخذ شيءٍ من علمه الكثير، يقول: "والشكر مما يزيد النعمة، ومن الشكر إظهار العلم للأمة".
الثالث: كثرة دعاء بعض الأصحاب للتصدي لشرح الكتاب، يقول: أنه طلب منه بإلحاح أن يتصدى لشرح الكتاب، ثم أجاب هذه الدعوة فشرح الكتاب.(1/204)
افتتح الكتاب بمقدمة مختصرة، مقدمة لا تعدو عشرة صفحات، قريبة جداً من مقدمة النووي، افتتح المقدمة بذكر أسانيده إلى الإمام البخاري، ثم فوائد في اسم الصحيح وسبب تأليفه، وترجيح الصحيح على غيره، في شرطه، وعدد الأحاديث المسندة في صحيح البخاري، في فهرس أبواب البخاري مع عدد أحاديث كل كتاب، طبقات شيوخ البخاري، من تكلم فيه من رجال الصحيح، الفرق بين الاعتبار والمتابعة والشاهد، ضبط الأسماء المتكررة، معلقات الصحيح، ثم عرف بموضوع علم الحديث ومبادئه ومسائله، موضوع علم الحديث ومبادئه أخذها من شرح الكرماني، ولذا وقع فيما وقع فيه الكرماني، قال: "موضوع علم الحديث ذات رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"، هذا الكرماني قاله قبل، ثم العيني من بعده، ولذا يقول السيوطي في مقدمة التدريب: "ما زال شيخنا محي الدين الكافيجي يتعجب من قول الكرماني أن موضوع علم الحديث ذات الرسول -عليه الصلاة والسلام- يقول: لأن ذاته موضوع علم الطب وليس موضوع علم الحديث"، ذاته، بدنه، شخصه، المقصود أن التقليد يوقع في مثل هذا، كل هذا المسائل التي ذكرها لا تزيد على عشر صفحات، نعم المباحث التي أودعها الحافظ في مقدمته موجودة في ثنايا هذا الكتاب، كل مبحث في موضعه، وإن كان ليس بصورة جلية وواضحة كما فعل الحافظ -رحمه الله تعالى-.(1/205)
شرع بعد ذلكم في شرح الكتاب على ترتيبٍ جميل منظم، يشوّق القارئ، يبدأ أولاً: بمناسبة الحديث للترجمة، ثم يتحدث عن رجال رواة الحديث، ثم في ضبط أسماء الرجال ثم الأنساب، يعنون عناوين، مناسبة الحديث للترجمة: ثم إذا انتهى قال: رواة الحديث، ثم ضبط أسماء الرجال، ثم ضبط الأنساب، ثم يذكر فوائد تتعلق بالرجال، ثم لطائف الإسناد، قد يوجد مثل هذه في فتح الباري لكنها غير معنونة، ثم يبين نوع الحديث إن كان الحديث متميزاً بنوعٍ خاص من العزة والغرابة والتواتر، يقول: نوع الحديث، ثم يذكر مواضع الحديث من صحيح البخاري، ثم يذكر من أخرجه غير البخاري، ثم يبين اختلاف لفظه في المواضع، ثم يقول: بيان اللغة، عنوان، ثم بعد ذلكم بيان الإعراب، ثم بيان المعاني، عناوين هذه، بيان البيان، بيان البديع، ثم بعد ذلكم يقول: الأسئلة والأجوبة، يورد إشكالات في الحديث ثم يجيب عنها، ثم سبب الحديث إن كان له سبب، ثم استنباط الأحكام، وهو في كل ذلكم يطيل ويغرب في النقول والردود والمناقشات، ينقل من الشراح، وينقض أقوالهم، المقصود أن الشرح منظم ومرتب لو كان على وتيرةٍ واحدة، لكنه في هذا الترتيب وهذا التنظيم في أوائله لأنه اعتمد على أشياء انقطعت فانقطع معها على ما سيأتي ذكره.
ينقل ممن سبقه من الشراح كالخطابي والكرماني وابن بطال والنووي وغيرهم، وينقل كثيراً من فتح الباري، أحياناً ينقل المقطع الكبير من فتح الباري ويبهم المؤلف يقول: قال بعضهم، ولا يسمي، لا يسمي ابن حجر وإن كان ينقل منه واستفاد منه كثيراً، ثم بعد ذلكم يتعقبه كثيراً.(1/206)
يقول القسطلاني: "واستمد فيه من فتح الباري"، يقول: "كان فيما قيل يستعيره من البرهان بن خضر بإذن مصنفه"، القدر الذي يفرغ منه الحافظ يستعيره العيني من البرهان من خضر بإذن ابن حجر، ما في بأس أن يطلع على الكلام ويناقش ويرد عليه ما في إشكال؛ لأن قصد الجمع الوصول إلى الحقيقة، بإذن مصنفه وتعقبه في مواضع، وطوله بما تعمد الحافظ ابن حجر في الفتح حذفه، من سياق الحديث بتمامه وإفراد كل من تراجم الرواة بالكلام، وبيان الأنساب واللغات والإعراب والمعاني والبيان، واستنباط الفرائد من الحديث والأسئلة والأجوبة إلى غير ذلك، يقول: "وقد حكي أن بعض الفضلاء ذكر للحافظ ابن حجر ترجيح شرح العيني بما اشتمل عليه من البديع وغيره، فقال بديهةً: "هذا شيء نقله من شرح لركن الدين -يعني أحمد بن محمد القريني هذا له شرح على البخاري، قطعة، شرح أوائل البخاري وجد فيها مثل هذا الترتيب وهذا التنظيم، والكلام على الحديث من حيث اللغة والإعرابات والبيان والمعاني والبديع إلى غير ذلك، يقول: "هذا شيء نقله من شرحٍ لركن الدين، وكنت -يقول الحافظ- قد وقفت عليه قبله، ولكن تركت النقل عنه؛ لكونه لم يتم، إنما كتبت منه قطعة وخشيت من تعبي بعد فراغها في الاسترسال"، يقول: إن أردت الاستمرار في هذا الترتيب لا شك أنه متعب، متعب جداً، الاسترسال في بيان ما في كل حديث من هذه المباحث متعب، يقول: "وخشيت من تعبي بعد فراغها في الاسترسال في هذا المهيع، ولذا لم يتكلم البدر العيني بعد تلك القطعة بشيءٍ من ذلك"، هذا الترتيب البديع الذي مشى عليه شيء يسير بالنسبة لعمدة القاري، يعني مشى فيه قرابة جزأين من الخمسة والعشرين، ممكن أن نقول: عشر الكتاب أو أقل، ثم بعد ذلك ترك كثير من هذه المباحث، نعم مشى على الترتيب، يمشي على تراجم الرواة، والرابط والاستنباط والأسئلة والأجوبة؛ لكن ما يتعلق بغرائب اللغة من النقول وما يتعلق به البيان والبديع وغير ذلك لما انتهى شرح(1/207)
ركن الدين انتهى العيني من ذلك.
ولا شك أن شرح العيني شرح موسع ومطول، وشرح حافل لا سيما في ثلثه الأول، والسبب في ذلكم أنه لم يفرق شرح الأحاديث على المواضع المتعددة، ويتحدث عن كل حديث في الموضع المناسب له، لا، أجلب بكل ما عنده في أول الكتاب، ثم في النهاية اختصر جداً، ميزة فتح الباري كما ذكرنا سابقاً التوازن في الشرح، حيث شرح آخر حديث في الكتاب بنفس المنهج والطريقة التي سار عليها في أوله، ثم بعد ذلكم العيني كما هو معروف حنفي المذهب، يتعصب لمذهبه، وهذا مما يحط من قيمة الكتاب، وابن حجر وإن كان شافعياً إلا أنه قد يخرج عن مذهبه لموافقة الحديث على أن المخالفة بين الكتاب المشروح، أحاديث الكتاب المشروح وبين مذهب الشافعي ليست كبيرة، بينهما تقارب كثير، ولذا لا يظهر التعصب بالنسبة لمن شرح الكتاب حينما يكون شافعياً أو يكون حنبلياً مثلاً، لكن حينما يكون الشارح حنفي، وكثير من الكتاب من أحاديث الكتاب تخالف مذهبه، الفجوة كبيرة، بخلاف الهوة التي بين الأحاديث التي في الصحيح وبين مذهب الحنابلة مثلاً أو مذهب الشافعية، الكرماني وابن حجر في مواضع ذكروا أن البخاري إذا قال: قال بعض الناس فمراده الحنفية، هذا يدل على أن فيه اختلاف كبير بين الإمام البخاري وبين مذهب أبي حنيفة -رحمه الله تعالى-.
طالب:........(1/208)
كلاهما، الكرماني (24،66) وفتح الباري (12،320) وغيرهم، يقولون: إذا قال البخاري: قال بعض الناس فمراده الحنفية، هذا يبين لنا سبب ظهور التعصب في شرح العيني وخفاؤه في شرح ابن حجر، هذا الأمر ينبغي أن يتنبه له، يقال: يحمل النصوص على غير مراد مؤلفها؟ نعم فرق كبير بين ما يراه البخاري واختياراته ومذهب أبي حنيفة -رحمه الله-، لا شك أن مذهب أبي حنيفة مذهب متبوع، وله أصوله من الكتاب والسنة، نعم يختلفون في بعض الأصول؛ لكن القدر المشترك من الأصول والأقطاب التي يعتمد عليها في الاستنباط والاستدلال متقارب؛ لكن بعض الأصول التي يعتمدها الحنفية قد توجد بعض الفجوة بينهم وبين غيرهم.
العيني يقصد في نقوله عن الحافظ هو لا يسميه، يبهمه، قال بعضهم، قال بعض الشراح، زعم بعضهم، ثم يتعقبه في مواطن كثيرة جداً، الكتاب مملوء من النقول عن ابن حجر والتعقبات والاستدراكات عليه، أجاب الحافظ ابن حجر عن هذه الاعتراضات وهذه الانتقادات بكتابٍ أسماه (انتقاض الاعتراض) وهو مطبوع في مجلدين، قال القسطلاني: "لكنه لم يجب عن أكثرها، ولعله كان يكتب الاعتراضات ويبيض لها ليجيب عنها فاخترمته المنية"، وله أيضاً -أي لابن حجر- (الاستنصار على الطاعن المعثار) وهو صورة فتيا عما وقع في خطبة شرح البخاري للعيني.
أيضاً هناك كتاب وهو نفيس ومؤلفه متأخر اسمه عبد الرحمن البوصيري المتوفى سنة أربعٍ وخمسين وثلاثمائة وألف، اسمه (مبتكرات اللآلئ والدرر في المحاكمة بين العيني وابن حجر) مجلد واحد، يذكر قول ابن حجر ثم يذكر رد العيني واعتراضه، ثم يحكم بما يراه صواباً، والكتاب جيداً، إلا أن الموضوع نفسه يحتمل أكثر من ذلك، يعني ثلاثمائة وثلاث وأربعين محاكمة بينهما في هذا الكتاب، والمحاكمات أكثر من ذلك، فيحتاج إلى تكميل وتتميم.
شرح القسطلاني (إرشاد الساري إلى شرح صحيح البخاري):(1/209)
بقي عندنا شرح من أهم الشروح وهو (إرشاد الساري إلى شرح صحيح البخاري) مؤلفه أحمد بن محمد بن أبي بكر شهاب الدين القسطلاني الشافعي المتوفى سنة ثلاث وعشرين وتسعمائة، شرح كبير ممزوج، يعني شرح تحليلي في عشرة مجلدات كبار، افتتحه -رحمه الله- بمقدمة تتضمن فصولاً:
الفصل الأول: في فضيلة أهل الحديث وشرفه في القديم والحديث.
الفصل الثاني: في ذكر أول من دوّن الحديث والسنن، ومن تلاه في ذلك سالكاً أحسن السنن.
الفصل الثالث: في ذكر نبذة لطيفة جامعة لفرائد فوائد مصطلح الحديث عن أهله وتقسيم أنواعه.
الفصل الرابع: فيما يتعلق بالبخاري وصحيحه من تقرير شرطه وتحريره وضبطه وترجيحه على غيره. الفصل الخامس: في ذكر نسب البخاري ونسبته ومولده، وبدء أمره ونشأته وطلبه للعلم، ثم بعد ذلكم ذكر رواة الجامع الصحيح، وهو مرجع حقيقةً في ذكر الرواة وضبطهم وتشعب رواياتهم، ثم ذكر شروح الجامع الصحيح.
من منهج القسطلاني -رحمه الله- في كتابه هذا العناية بتراجم الرواة، وضبط أسماءهم وكناهم وأنسابهم باختصار، يعني ما يفعل مثل ما يفعله غيره من إطالة كالعيني أو غيره أو النووي، لا، كل هذا باختصار، ويكرر ذلك في كل موضع، نعم الاختصار يزيد كلما زاد التكرار؛ لكنه يهتم بهذا، يعتني بذلك عناية فائقة، ولذا الذي يقرأ هذا الشرح لن ينتهي منه حتى يتقن الرواة إتقاناً لا مزيد عليه، فينصح بقراءة هذا الكتاب، ثانياً: العناية بذكر فروق الروايات بدقة، معتمداً في ذلك على اليونيني فلا يترك فرقاً إلا ويشير إليه سواء كان ذلك في الأسانيد وصيغ الأداء أو المتون، وسواء كان الفرق مما يترتب عليه فائدة أم لا.(1/210)
ثالثاً: يشرح الغريب من الألفاظ فالكتاب حقيقته شرح تحليلي، يعني يمكن أن يستغنى به عن غيره، ولا يستغنى بغيره عنه، يعني قد يعوزك شرح كلمة أردتها من شرح العيني أو شرح ابن حجر؛ لكن لا يمكن أن يعوزك شيء قد تتطلب مزيد إيضاح؛ لكن لا بد أن يتكلم عليها؛ لأنه اعتمد تحليل كل كلمة، يذكر في ثنايا الشرح ما في الكلمة من اختلاف من حيث المعنى والإعراب وغير ذلك، يعنى بالتوفيق بين الأحاديث المتعارضة باختصار، يعنى بالاستنباط من الأحاديث وذكر المذاهب من غير إطالة، يخرج الحديث من المصادر المعتمدة في نهاية الشرح، ويذكر مواضع الحديث من الصحيح، يعنى بذكر لطائف الإسناد، يعتمد في كثيرٍ من بحوثه على الشروح السابقة كالكرماني والعيني وابن حجر فهو ملخص لهذه الكتب، هو فيه جمع لهذه الكتب لا سيما الشرحين الكبيرين، العيني وابن حجر، خلاصة لهذين الشرحين.
مذهبه في مسائل العقيدة التأويل غالباً على طريقة المتأخرين من الأشاعرة، في صفحة (96) قال: "والذي نفسي بيده أي بقدرته أو هو من المتشابه المفوض علمه إلى الله، والأول أعلم والثاني أسلم" هذه مقالة كثير ممن ينتسب إلى علم الكلام أن طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم وأحكم، لكن هذا الكلام ليس بصحيح لأن الأحكم هو الأسلم، كل هذا على سبيل الاختصار والمقام يقتضي بسط أكثر من هذا لا سيما في هذه الكتب، لا سيما في الأخير منها، الأخير منها يحتاج إلى كشف وإشهار بين طلبة العلم؛ لأنه كتاب يكاد يكون مجهول عند كثير من الطلبة؛ ولأهميته طبع الكتاب أضعاف مضاعفة عما طبع غيره، يعني الكتاب طبع في بولاق سبع مرات، بينما العيني ما طبع ولا مرة في بولاق، فتح الباري طبع مرة واحدة، لكن إرشاد الساري طبع سبع مرات، وفي الميمنية طبع مرتين، وغير ذلك من الطبعات، طبعات كثيرة لهذا الكتاب لأهميته، ومثل ما ذكرت المقام يحتمل أطول من ذلك؛ لكن ضيق الوقت يجعلنا نختصر هذا الاختصار الشديد.(1/211)
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين:
السائل يقول: هل صحيح أن الحافظ لا يعتني بالأبواب التي اعتمدها البخاري؟
الحافظ يشرح كلام البخاري، الحافظ -رحمه الله- يشرح كلام البخاري، البخاري وضع التراجم بنفسه فليس للحافظ أن يغير أو يعدل خلافاً لشراح مسلم نظراً لكون صحيح مسلم خلا عن التراجم، كل شارح من الشراح له اجتهاد في هذه التراجم، أما الحافظ فقد اقتفى أثر البخاري بتراجمه.
يقول: لا يعتني بالأبواب التي اعتنى بها البخاري؟
هذا الكلام ليس بصحيح، نعم قد يوجد في المتن المطبوع مع الفتح كما نبهنا بالأمس ترجمة هي غير موجودة بالراوية التي اعتمدها الحافظ أو العكس يوجد في الرواية التي اعتمدها الحافظ ترجمة لا توجد في الطبعة التي أقحمها طابع الكتاب، فيمكن من هذه الحيثية يوجد اختلاف بين المتن المطبوع مع الفتح، وبين الفتح نفسه.
يقول: كلام ركيك لكن مفاده يقول: هل علم ابن حجر أن بدر العيني ينقل عنه؟
نعم، العيني ينقل عن ابن حجر على علمٍ منه، فكان يستعير الكتاب كل ما صدر منه مجلد استعاره من البرهان بن خضر برضا الحافظ -رحمه الله تعالى-، واطلع الحافظ -رحمه الله- على انتقادات العيني وأجاب عنها في كتابٍ سماه (انتقاض الاعتراض) وأحضرناه بالأمس، وتكلمنا عنه.
يقول: ما هي الطريقة المناسبة في قراءة فتح الباري شرح صحيح البخاري؟(1/212)
الطريقة المناسبة أن يختار له وقت مناسب، وأن يعتنى بالمتن أولاً ويكرر، ويحاول الطالب فهم المتن ويشرحه من تلقاء نفسه، ثم يراجع عليه الشرح لينظر هل فهمه للحديث ولعلاقة الحديث بالترجمة صحيح؟ مطابق لفهم الحافظ أو أنه أبعد النجعة في الربط بينهما وفي فهم الحديث؟ وهكذا في سائر المتون، ينبغي أن يعتني الطالب أولاً بالمتون فيحفظها إن كانت مما يستحق الحفظ، ثم يحاول أن يفهم هذا المتن، ويشرح المتن ويعلق عليه من تلقاء نفسه، ثم يراجع عليه الشروح لينظر مدى مطابقة فهمه لفهم أهل العلم.
يقول: هل تنصحون بحفظ صحيح البخاري وهو لم يحفظ عمدة الأحكام وبلوغ المرام؟
معروف أن التدرج في العلوم أمر مطلوب، فيبدأ بحفظ الأربعين ثم العمدة ثم البلوغ ثم ما شاء من الكتب، ثم إذا بدأ بصحيح البخاري كان أفضل؛ لأنه العمدة في هذا الباب، وما عداه كالمستخرجات عليه.
يقول: هناك كتاب لأحد مشايخ الهند عن إحالات ابن حجر في الفتح؟
ذكر لكنه لم يستوعب، طبع في –أظن- تحفة القاري أو ما أشبه ذلك مجلد لطيف؛ لكنه لم يستوعب، هو كتاب جيد في الجملة إلا أنه مثل ما ذكرت.
يقول: ما هي المتون التي ينصح بها طالب العلم المبتدي، وكذلك ما هي أهم الشروح المختصرة التي يستفيد منها طالب العلم المبتدئ؟
أولاً: المتون التي ينصح بها الطالب المبتدي، صغار العلم كما يقول أهل العلم المتون المختصرة جداً في كل فن من الفنون، ثم يترقى ويتدرج إلى ما هو أكبر منه، كما هو معروف عند أهل العلم.
يقول: ذكرت بالأمس أن كتاب الكرماني بالراء وكسر الكاف كتاب جيد وممتع لكن ذكرت عن منهجه أنه منهج الأشاعرة، هل من توجيهٍ حول ذلك؟(1/213)
نعم يستفاد من الكتاب فيما يفيده وفيما يعتني به، ولو اقتصرنا على الكتب السالمة الخالية من جميع الملاحظات ما صفى لنا إلا الشيء اليسير، سواء في كتب التفاسير أو شروح الحديث، نعم يصفو لنا تفسير الطبري، تفسير البغوي، تفسير ابن كثير؛ لكن بقية الكتب لا تسلم إلا في القليل النادر، الشروح أيضاً إن صفى لنا شرح ابن رجب ما صفا لنا غيره، كلها فيها ملاحظات، ويأتي في شروح مسلم بيان ذلك وتقريره.
يقول: لو ذكرتم أي طبعةٍ لصحيح البخاري توافق شرح الحافظ بن حجر في الفتح؟
الرواية الموافقة لشرح ابن حجر هي رواية أبي ذر الهروي؛ لأن الحافظ اعتمدها وأشار إلى ما سواها عند الحاجة، والرواية هذه لم تطبع بكاملها الآن، لكن طبعة بولاق التي اعتنى بها وبإثبات فروقها الحافظ اليونيني مناسبة إلى حدٍ كبير، يعني مع ما في حواشيها.
ودرس اليوم عن صحيح مسلم وشروحه، وإن كان الوقت لا يفي ولا يكفي، إلا أنه لا بد أن ننهي ما يتعلق بصحيح مسلم اليوم.
طالب:.........
هو يعزو كثيراً، وابن الملقن له شرح على البخاري أيضاً.
طالب:.........
طريقتهم العلم إذا كان مشتهر ومستفيض لا ينسب، المسائل كما ذكر النووي وغيره أن المسائل المشتهرة المستفيضة وإن نقلت عن شخص لا تنسب؛ لأن العلم ليس بملكٍ لأحد، نعم ما يستغرب من الكلام وما ينتقى من أبكار الأفكار ينسب لقائله، الحافظ مشحون بالعزو.(1/214)
صحيح مسلم للإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري المتوفى سنة إحدى وستين ومائتين، ثاني كتب السنة بعد صحيح البخاري عند جمهور العلماء، وأشرنا سابقاً إلى أن من أهل العلم من فضله على البخاري، لكنه قول ضعيف، ووجوه الترجيح بينهما تؤخذ من مظانها، وهي كثيرة، إن كان وجه التفضيل كما قال بعض المغاربة أنه ليس فيه بعد الخطبة إلا الحديث السرد فهذا صحيح، يعني ما فيه معلقات إلا نادراً، معلقاته أربعة عشر حديثاً، حذف الواسطة بينه وبين راويها، وهذه المعلقات كلها موصولة في الصحيح نفسه إلا واحد موصول في صحيح البخاري، أيضاً الآثار والأخبار الموقوفة والمقطوعة عن الصحابة والتابعين نادرة جداً، وإلا موجودة؛ لكنها نادرة ليست بنفس النسبة التي توجد في صحيح البخاري، إذا كان هذا المقصود هذا وجه الترجيح، فلا بأس هذا كلام صحيح هذا الكلام موجود وحقيقة؛ لكن لا يقتضي الأرجحية بلا شك؛ لأن الكتابين إنما وضعا للأحاديث الأصلية المرفوعة الموصولة، وما عدا ذلك فهو تبع، فإذا نظرنا إلى القدر الموجود في صحيح البخاري من الأحاديث المرفوعة الموصولة وقارنا بينها وبين ما في صحيح مسلم من ذلك لا شك أن ما في صحيح البخاري أرجح مما في صحيح مسلم، منهم من يقول: أن البخاري مرجوح من حيث عنايته بالصناعة الحديثية وتحري دقة السياق في المتون وصيغ الأداء وغيرها، نعم هذا الكلام صحيح، الإمام مسلم يعتني بذلك عناية فائقة، والإمام البخاري لا يعتني بالصيغ، حدثنا وأخبرنا عنده واحد، وأحياناً ينقل عن الراوي بحدثنا وفي موضعٍ آخر أخبرنا؛ لأن معناهما واحد عنده، لكن مسلم يعتني بذلك عناية فائقة، لذا يقول بعضهم:
تشاجر قوم في البخاري ومسلم ... لدي وقالوا: أي ذين تقدمُ؟
فقلت: لقد فاق البخاري صحةً ... كما فاق في حسن الصناعة مسلمُ
مسلم ما في شك تصرفه في سياق المتون والأسانيد أمر يظهر.
شروح صحيح مسلم:(1/215)
ولأهمية صحيح مسلم عني به العلماء قديماً وحديثاً، وكتبوا عليه الشروح الكثيرة من ذلكم (المعلم) للمازري، بفتح الزاي وكسرها، و(إكمال المعلم) للقاضي عياض، و(إكمال إكمال المعلم) للأبي، و(مكمل إكمال الإكمال) للسنوسي، ومن شروحه التي لم تصل إلينا لكنها من خلال النقل عنها فيها شيء من النفاسة والجودة (التحرير في شرح صحيح مسلم) لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل الأصبهاني ينقل عنه النووي كثيراً، وهو كتاب من خلال نقل النووي عنه كتاب نفيس وجيد، من شروحه أيضاً المهمة (المنهاج في شرح صحيح مسلم ابن الحجاج) للنووي، ومن شروحه المختصرة (الديباج على صحيح مسلم بن الحجاج) للسيوطي.
من المعاصرين من شرح الصحيح شرحاً وافياً شبير أحمد العثماني؛ لكنه لم يكمل، سمى شرحه (فتح الملهم في شرح صحيح مسلم) وقام بتكملته -وإن كان لم يتم بعد- محمد تقي العثماني، هذا الشرح جيد في الجملة وإن كان صاحبه معاصراً.
مختصرات صحيح مسلم:
مسلم له مختصرات من أهمها: (تلخيص صحيح مسلم) للقرطبي، وشرحه المسمى (المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم) ممن اختصره أيضاً زكي الدين المنذري ومختصره مشهور متداول، وممن شرحه صديق حسن خان في كتابٍ اسمه: (السراج الوهاج على مختصر صحيح مسلم ابن الحجاج) نبدأ بكتاب المازري، باعتبار أنه أول الكتب، أول ما صل من الشروح القديمة.
(المعلم بفوائد صحيح مسلم) للمازري:
((1/216)
المعلم بفوائد صحيح مسلم) مؤلفه أبو عبد الله محمد بن علي التميمي المازري، بفتح الزاي، وقيل: بكسرها أيضاً، توفي سنة ست وثلاثين وخمسمائة، المازري في (المعلم) لم يقصد تأليف كتاب يقصد به شرح صحيح مسلم ابتداءً، لكنه في درسه لصحيح مسلم يثير بعض الفوائد والتعليقات، ويمليها على الطلبة أثناء قراءتهم عليه، فلما فرغوا من القراءة عرضوا عليه ما كتبوه فنظر فيه وهذبه فكان ذلك سبب تأليفه هذا الكتاب، يعني على ضوء ما هو موجود الآن، الطلبة يسجلون ويكتبون عن الشيخ، ثم بعد ذلكم يفرغون ما ذكره الشيخ في الأشرطة، ثم يعرض على الشيخ فيقره فيصير كتاباً، هذه طريقة المازري، المازري ما جلس لتأليف شرح على صحيح مسلم، وإنما هي فوائد نقلت عنه في الدرس، ثم عرضت عليه.
قال القاضي عياض: "إن كتاب المعلم لم يكن تأليفاً استجمع له مؤلفه، وإنما هو تعليق ما تضبطه الطلبة من مجالسه وتتلقفه عنه" ولا شك أن المعلم بداية انطلاقة لشرح صحيح مسلم، وقد بدأت الشروح في الظهور من عصر المازري، ولم يعرف شيء منها قبل ذلك، فالمعلم هو أقدم الشروح التي وصلتنا الآن من شروح صحيح مسلم.
من منهج المازري في المعلم:
1ـ أنه لم يتعرض لشرح المقدمة، مقدمة صحيح مسلم رغم أهميتها، لم يتعرض لشرحها، وإنما علق في مواطن ستة أو سبعة، وهي مواطن يسيرة بالنسبة لمباحث المقدمة، مما يمتاز به صحيح مسلم هذه المقدمة النفيسة في علوم الحديث، المازري ما شرحها.(1/217)
المازري في شرحه لأحاديث الباب، الباب عند الإمام مسلم يحتوي على أحاديث كثيرة، يقوم المازري -رحمه الله تعالى- بالتعليق على حديث أو حديثين في الباب يكون عليهما محور أحاديث الباب، ولا يتعرض لأكثر الأحاديث، لم يذكر -وهو باعتباره أنه تعليق وليس بتأليف- لم يذكر جميع الفوائد المتعلقة بالأحاديث التي تعرض لها، وإنما اقتصر على نكت يراها تحتاج إلى بيان في محال الحديث روايةً ودراية، وأكثر اهتمام المازري منصب على الأحكام الفقهية وتفسير الغريب واللغة، المازري لم يلتزم في تعليقاته ترتيب الأحاديث في صحيح مسلم، ولذا يقول القاضي عياض في إكماله: "وكان في المعلم تقديم وتأخير عن ترتيب كتاب مسلم" يورد أحياناً الألفاظ المختلفة بين رواة الصحيح، يُعنى بالمسائل الفقهية يستنبط من الحديث مباشرة، ولا يكثر من ذكر أقوال الفقهاء، يهتم بمسائل العقيدة التي اشتملت عليها بعض الأحاديث؛ لكن مع الأسف الشديد اعتماده على العقيدة من وجهة نظر الأشاعرة، ويرد على مخالفيهم أيضاً، ويأتي في المثال ما يقرر ذلك.
يُعنى بالمباحث اللغوي عناية كبيرة، والكتاب مطبوع في ثلاثة أجزاء صغيرة بتحقيق محمد الشاذلي النيفر. نأتي بما يتعلق بالمعلم من إكماله وإكمال إكماله، ومكمل الإكمال، ثم نرجع إلى النووي ومن بعده.
(إكمال المعلم) للقاضي عياض:
((1/218)
إكمال المعلم): مؤلفه أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض اليحصَبي أو اليحصِبي، وقد يقال: بضمها أيضاً، السَّبتي أو السبِّتي، كما يقال: البَصري والبِصري؛ لكن الفتح أشهر، المالكي القاضي المتوفى سنة أربع وأربعين وخمسمائة، ألفه القاضي عياض إكمالاً لكتاب المعلم، هذا الكتاب ألفه القاضي -رحمه الله تعالى- تكميلاً لكتاب المعلم للمازري تلبيةً أيضاً لرغبة كثيرٍ من تلاميذه الذين لمسوا من درسه في الصحيح الفوائد الجمة والزيادات المهمة، التمس منه الطلبة أثناء تدريسه لصحيح مسلم أن يشرح الكتاب شرحاً مستقلاً نظراً لكثرة ما يبديه لهم ويذكره من الفوائد والشوارد والنفائس، التمسوا منه ذلك فاعتذر أولاً لانشغاله بالقضاء، ثم لما ترك القضاء اتجه إلى التأليف، في البداية قد عزم على تأليف كتاب مستقل في شرح مسلم؛ لكنه رأى أن من العدل والإنصاف لسابقيه أن يجعل الكتاب مكملاً للنقص الكثير الوارد في المعلم مع اعتماده أيضاً على تقييد المهمل للجياني، لا شك أن الاعتراف بالسابق أمر مهم ينبغي أن يربى عليه الطلبة، فإذا كان هذا من مثل القاضي عياض الذي يستطيع أن يؤلف ابتداءً مثل ما كتبه تبعاً أو أفضل إلا أنه من باب الاعتراف للسابقين، يعني الإنسان يأنف أن يتعلق بأذيال غيره، بل يكتب ابتداءً، لكن الحافظ ابن حجر أكثر مصنفاته تبعاً لغيره، مع إمامته، إما أن يختصر كتاب أو يعلق عليه أو ينكت عليه، هذا من باب الاعتراف، والسبق له وزنه عند أهل العلم، في مطلع الألفية لما تكلم عن ألفية ابن معطي الإمام ابن مالك وأن ألفيته فائقة ألفية ابن معطي قال:
وهو بسبقٍ حائز تفضيلا ... مستوجب ثنائي الجميلا(1/219)
السبق لا شك أن السابق له فضل على اللاحق، له فضل كبير على اللاحق، الذي فتح له الأبواب، والكلام في هذا طويل، يعني شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- لما سئل الشيخ محمد رشيد رضا عن شيخ الإسلام وهل هو أعلم من الأئمة الأربعة أو دونهم قال: "شيخ الإسلام تخرج على كتب الأئمة الأربعة وكتب أتباعهم، فلهم الفضل عليه من هذه الحيثية، ولكونهم -رحمه الله- أحاط بما كتبوه، ولما كتبه أتباعهم فهو أوسع منهم من هذه الجهة".
المقصود أن السابق له الفضل على اللاحق، والإنسان لا يولد متعلم، إنما يستفيد ممن سبقه، القاضي عياض في كتابه شرح المقدمة شرحاً وافياً، وشرح أيضاً ما لم يتعرض إليه المازري، المازري من متون الأحاديث ببيان المعاني وضبط الألفاظ، واستنباط الأحكام والفوائد وبيان الغامض، وأكمل ما قصر فيه المازري من كلام على بعض الرجال والأسانيد والعلل، ووضح أيضاً كلام المازري والجياني, واستدرك, وصحح عند الحاجة، الكتاب ككثيرٍ من الشروح، شرْح مصدر بالقول، يورد ما يريد أن يشرحه من الصحيح بعد كلمة قوله، كما هو الشأن في كثير من الشروح، ومن ذلكم فتح الباري وغيره.(1/220)
في مقدمة الكتاب ذكر القاضي عياض -رحمه الله- السبب الباعث على التأليف، وأنه اعتمد على كتاب المازري وكتاب (تقييد المهمل) لأبي علي الجياني، ثم ذكر أسانيده التي يروي بها صحيح مسلم، ثم بدأ ينقل ما في المعلم مع تعقيبه وتتميمه وتكميله لكلامه، ويلقب المازري بالإمام فإذا قال القاضي عياض: قال الإمام فمراده المازري، يشير إلى صحيح مسلم بلفظ الأم، فيقول: "ذكر في الأم أو جاء في الأم كلام" وإن كان يوهم أنه الأم للشافعي؛ لكن الأم واحدة الأمهات نعم، ومستفيض عند أهل العلم أن الكتب الستة يقال لها: الأمهات الست، فلا نستغرب أن يقال لصحيح مسلم: الأم، نعم بلفظ المفرد استعمال نادر لكن المجموع استعمال شائع يقال: الأمهات الست، هذا معروف عند أهل العلم، لكن لكتابٍ واحد يقال له: الأم، هذا غريب، وهو ملبس أيضاً حيث أن للإمام الشافعي كتاباً اسمه الأم.
وقول الناس: (الأمهات) الذي يراه بعض أهل التحقيق أن جمع أم في غير بني آدم بدون هاء، في بني آدم يقال: (أمهات)، وبذلك جاء القرآن والنصوص، في غير بني آدم يقول: (أمات) دون هاء، ثم ساق ترجمةً مختصرةً في عيون من أخبار الإمام مسلم، وبيان فضل كتابه وقيمته، وثناء الأئمة عليه، ثم شرح المقدمة، ثم بدأ بشرح كتاب الإيمان، ثم الطهارة وهكذا إلى آخر الصحيح.
والقاضي عياض -رحمه الله تعالى- لا يسوق متن الصحيح كامل، كما هي عادة غالب الشراح، وإنما يورد منه ما يريد شرحه فقط، الطبعات الجديدة تورد الصحيح كامل، وهو أيضاً لا يضع تراجم للأبواب، ما التزم أن يترجم لجميع الأبواب، وإنما أحياناً إذا كان الحديث طويلاً قال: باب حديث كذا، أو ذكْر حديث كذا، ذكْر حديث الإسراء، ذكْر حديث التيمم، وما أشبه ذلك، إذا كان الحديث طويلاً، إنما التزام جميع التراجم كما فعل النووي أو غيره لا.(1/221)
طريقته في الشرح أن يجمع في شرح الحديث بين طريقة الشرح بالمأثور، فيبين المراد من الحديث، ويذكر ما له علاقة به من آيةٍ أو حديث آخر أو ما أشبه ذلك، ويذكر ما يروى في ذلك عن السلف الصالح، فقد اعتمد أساساً في بيان المعاني على الكتاب والسنة والآثار ولغة العرب، كما أنه استفاد من الشراح السابقين كابن عبد البر في التمهيد، والمهلب في شرح البخاري، والخطابي في معالم السنن، والباجي في المنتقى، والداودي في شرح البخاري، وغير ذلك، هذه من أهم مصادر القاضي عياض في شرحه، على أن القاضي عياض -رحمه الله- لم يكن مجرد ناقل، بل كان ناقداً بصيراً ممحصاً خبيراً، فكثيراً ما يتعقب غيره بإصلاح الغلط، وبيان الوهم، القاضي -رحمه الله تعالى- مالكي المذهب كما هو معروف، غالباً ما يرجح مذهب الإمام مالك، لكنه يخرج عنه ويرجح غيره إذا كان الدليل بخلاف ما رآه الإمام مالك، وهذا من إنصافه -رحمه الله-.(1/222)
بالنسبة لمسائل الاعتقاد قاسم يشترك فيه المازري والقاضي عياض والأُبي والسنوسي وأيضاً النووي كلهم يشتركون على تقييد مسائل الأسماء والصفات، أو الأسماء والصفات على مذهب الأشاعرة كلهم، قبل ما نذكر شيء من هذه الصفات هنا مسألة في صدر الصحيح، الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- يقول: "وظننت حين سألتني تجشّم ذلك أن لو زعم لي عليه، وقضي لي تمامه، كان أول من يصيب نفعُ ذلك إياي خاصةً" يعني أول من يستفيد المؤلف في التأليف، أول من يستفيد المعلم في التعليم، هذا معنى كلامه، لكن ما معنى عزم لي؟ والفعل مبني للمجهول من فاعله؟ يقول القاضي عياض: "قال الإمام -يقصد المازري- لا يُظن بمسلم -يعني بالإمام مسلم- أنه أراد لو عزم الله لي عليه؛ لأن إرادة الله لا تسمى عزماً، ولعله أراد: لو سهّل لي سبيل العزم، أو خلق فيّ قدرة عليه" هذا كلام المازري، القاضي عياض قال: "قد جاء هذا اللفظ في الكتاب من كلام أم سلمة -في الكتاب الذي هو الأم صحيح مسلم- من كلام أم سلمة في كتاب الجنائز قالت: ثم عزم الله لي فقلتها" يعني إذا كان المبني للمجهول محتمل، فمثل هذا لا يحتمل شيء، العازم هو الله -سبحانه وتعالى-.
يقول: "أصل العزم القوة، ويكون بمعنى الصبر، وتوطين النفس وحملها على الشيء، والمعنى متقارب، ومنه قوله -عز وجل-: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ}[(35) سورة الأحقاف].. الخ، المقصود أن صفة العزم لله -سبحانه وتعالى- كلهم ينفونها عن الله -سبحانه وتعالى- بما في ذلكم النووي، وهذه الخلاف فيها أمر يسير، أمره يسير؛ لأنه ما ثبت شيء مرفوع، لا من الكتاب ولا من السنة في إثبات صفة العزم؛ لكن أقوى ما فيه قول أم سلمة "ثم عزم الله لي فقلتها".
ولذا شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- ذكر أن لأهل السنة في هذه المسألة في إثبات صفة العزم ونفيها قولان، لكنه رجّح إثبات صفة العزم لله -سبحانه وتعالى-.(1/223)
طالب: طريقة القاضي عياض لما يذكر كلام المازري ثم يكمل عليه، يعني هل إكمال المعلم يتضمن كتاب المعلم..؟
غالباً غالباً، قد يقول إلى آخره، وحينئذ فلا يستغنى عن كتاب المازري، قد يقول إلى آخره، قال الإمام كذا.. إلى آخره، فالخلاف في مثل هذه يسير؛ لكن في مثل تأويل صفة الضحك، في قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((لا يزال يدعو)) يعني آخر الناس دخولاً للجنة يقول في الحديث في صحيح مسلم: ((لا يزال يدعو حتى يضحك الله منه، فإذا ضحك منه قال: ادخل الجنة)) قال الإمام: "الضحك من الله -سبحانه وتعالى- محمول على إظهار الرضا والقبول، إذ هو في البشر علامة على ذلك، ويقال: ضحكت الأرض إذا ظهر نباتها، وفي بعض الحديث: ((فيبعث الله سحاباً فيضحك أحسن الضحك)) فجعل انجلاءه عن البرق ضحكاً على الاستعارة، كأنه تعالى لما أظهر له رحمته استعير له اسم الضحك مجازاً" هذا في الجزء الأول من إكمال المعلم صفحة (558) قال القاضي: "الضحك في البشر أمر اختصوا به، وحالة تغير أوجبها سرور القلب فتنبسط له عروقه، فيجري الدم فيها، فيقبض إلى سائر عروق الجسد، فيثور لذلك حرارة يبسط لها الوجه ويضيق عنها الفم، فينفتح وهو التبسم، فإذا زاد السرور وتمادى ولم يضبط الإنسان نفسه واستخفه سروره قهقه، والمتغيرات وأوصاف الحدث منتفية عن الله تعالى، وجاءت الآثار الصحيحة بإضافة الضحك إليه، فحمل العلماء ذلك على الرضا بفعل عبده ومحبته للقائه وإظهار نعمه وفضله عليه وإيجادها له؛ وقد حملوه أيضاً على التجلي للعبد، وكشف الحجاب عن بصره حتى يراه، والضحك يعبر به عن الظهور ومنه:
.......................................... ... ضحك المشيب برأسه فبكى(1/224)
هذا كلام المازري وتعقيب القاضي عياض، ومثله وقريب منه ما ذكره الأبي في شرحه، في الجزء الأول صفحة (341) ومثله السنوسي أيضاً في نفس الموضع، والنووي أيضاً في الجزء الثالث صفحة (43) ومثله أيضاً تأويل الغضب عند الأبي في الأول صفحة (363) وكذلك عند السنوسي، وغير ذلك، آيات الصفات لا سيما الفعلية أولها هؤلاء الشراح كلهم؛ لكن مثلما ذكرنا سابقاً أن هذه الشروح يستفاد منها على حذر، يعني تؤخذ الفائدة الكبرى التي توجد في هذه الكتب، ويحذر مما يخالف فيه المؤلف من عقائد.
(إكمال إكمال المعلم) للأُبي:
بعد ذلكم (إكمال إكمال المعلم) مؤلفه أبو عبد الله محمد بن خلفة الوشتاني الأبي المالكي المتوفى سنة سبع وعشرين وثمانمائة، قد يقول قائل: الأبي هذه ليش تضم الهمزة والمشهور عند الناس في اليمن إيش؟ إب بالكسر، لا هذا ليس منسوباً إلى إب وإنما منسوباً إلى أُبه –المغرب-.(1/225)
يقول في مقدمته: "أما بعد: فإن هذا تعليق أمليته على كتاب مسلم، ضمنته كتب شراحه الأربعة، المازري وعياض والقرطبي والنووي، مع زيادات مكملة، وتنبيه على مواضع من كلامهم مشكلة، ناقلاً لكلامهم بالمعنى لا باللفظ حرصاً على الاختصار، مع ما في ذلك من بيان ما قد يعسر فهمه من كلامه بعضهم لتعقيده، لا سيما من كلام القاضي عياض، يقول: "سمعت شيخنا أبا عبد الله محمد بن عرفة -رحمه الله تعالى- يقول: "ما يشق علي فهم شيءٍ ما يشق من كلام عياض في بعض المواضع من الإكمال" الآن الإكمال يقرؤه طالب العلم يستفيد منه كثيراً، نعم قد يشكل عليه بعض الأشياء؛ لكن هذا كلام ابن عرفة، ماذا يقول: "ما يشق علي فهم شيءٍ ما يشق من كلام عياض في بعض المواضع" هذا كلام ابن عرفة، لكن اسمعوا كلام ابن عرفة في تعريف الإجارة -الإجارة قد يقول قائل: أنها لا تحتاج إلى تعريف- لننظر هذا الشخص الذي يقول: أن كلام عياض يشق عليه، ابن عرفة يقول في تعريف الإجارة -انتبهوا يا إخوة، هذا استطراد لا علاقة له بما عندنا لكن يقول في تعريف الإجارة: "بيع منفعة ما أمكن نقله، غير سفينةٍ ولا حيوانٍ لا يعقل، بعوضٍ غير ناشئٍ عنها، بعضه يتبعّض بتبعيضها" هذا تعريف الإجارة عند ابن عرفة، ابن عرفة هذا الذي يشق عليه كلام القاضي عياض، كلامه الذي يحتاج إلى... يعني إذا كان موجود يمكن يوضح، لكن ما استطاع أيضاً التوضيح لمن استدرك عليه في نفس المسألة يقول: "بيع منفعة ما أمكن نقله، غير سفينةٍ ولا حيوانٍ لا يعقل، بعوضٍ غير ناشئٍ عنها، بعضه يتبعّض بتبعيضها" فاعترض عليه أحد تلاميذه بأن كلمة (بعض) تنافي الاختصار، وأنه لا ضرورة لذكرها، فتوقف الشيخ يومين ثم أجاب بما لا طائل تحته، هذا الذي يقول مثل هذا الكلام المعقد، يقول: أنه يشكل عليه فهم كلام القاضي عياض، يعني بالنسبة لهذا الكلام كلام القاضي عياض يصلح للمبتدئين من سهولته ووضوحه.(1/226)
يقول الأبي: "ولم أتعرض للكلام على الخطبة -الأبي لم يشرح الخطبة- لأنها في علم الحديث، وذلك شيء آخر، ورأيت الأهم البداية بشرح الأحاديث، وإن أنسأ الله في الأجل وسهّل، فسأتكلم عليها -إن شاء الله تعالى-، ولما كانت أسماء هذه الشراح يكثر دورانها في الكتاب اكتفيت عن اسم كل واحدٍ بحرف من اسمه فجعلته (م) للمازري و(ع) لعياض و(ط) للقرطبي و (د) لمحي الدين النووي، ولفظ (الشيخ) لشيخنا أبي عبد الله المذكور –يعني ابن عرفة- وما يقع من الزيادات المشار إليها أترجم عليها بلفظ: قلت، وسميته بإكمال الإكمال".
الكتاب ضمنه مؤلفه الشروح الأربعة التي ذكرها، شرح المازري وعياض والقرطبي والنووي، أيضاً الشارح ينقل من المصادر بالمعنى لا باللفظ طلباً للاختصار كما تقدم، وهو أيضاً يوضح ما يشكل من هذه النقول، ولم يشرح المقدمة؛ لأنها في علوم الحديث، واهتمامه بالأحاديث نفسها، استعمل الرموز في الشروح التي اعتمد عليها، وعرفنا أن طريقة الأبي كسابقيه في تقرير مسائل الاعتقاد فلا نحتاج إلى إعادة، هنا إحالات كثيرة على تأويل الصفات موجودة.
(مكمل إكمال الإكمال) للسنوسي:(1/227)
رابعاً: (مكمل إكمال الإكمال) مؤلفه أبو عبد الله محمد بن محمد بن يوسف السنوسي الحسيني المتوفى سنة خمس وتسعين وثمانمائة، جاء في مقدمته يقول: "كان من أحسن شروح صحيح مسلم وأجمعها شرح الشيخ العلامة أبي عبد الله الأُبي -رحمه الله تعالى- أردت أن أتعلق بأذيال القوم، وإن كنت في غاية البعد منهم إلا أن يمنّ الوهاب تعالى باللحاق بعد اليوم" يقول: "فاختصرت في هذا التقييد المبارك -إن شاء الله تعالى- معظم ما في هذا الشرح الجامع من الفوائد، وضممت إليه كثيراً مما أغفله مما هو كالضروري لا كالزوائد، وأكملته أيضاً بشرح الخطبة، فتمّ النفع -والحمد لله تعالى- بشرح جميع ما في الكتاب، وجاء بفضل الله تعالى مختصراً يقنع أو يغني عن جميع الشروح، وما فيها من تطويل أو مزيد إطناب، فهو جدير -إن شاء الله تعالى- أن يسمى لذلك بمكمل إكمال الإكمال".
استعمل الرموز أيضاً فـ(ب) للأبي و(ع) لعياض و(ط) للقرطبي و(ح) للنووي –يعني محي الدين- و(ص) للأصل، يعني صحيح مسلم و(ش) للشرح، شرحٌ هو شرح أيضاً بالقول كسوابقه، المقصود أن هذا الشرح لا شك أن فيه شيء من التكميل لمن تقدمه، كما أن إكمال الإكمال مكمل لما قبله، وإن كانت الزوائد في هذين الكتابين يسيرة جداً، الزوائد عند الأبي والسنوسي يسيرة جداً بالنسبة لما ذكره القاضي عياض، ثم ما في شرح النووي على ما سيأتي.
يعني لو قيل: على ما نقتصر بالنسبة للبخاري؟ نقول: الذي لا يريد أن يقتني إلا شرح واحد فعليه بفتح الباري، وإن كان قد يحتاج في غالب الأحوال أو يحتاج في كثير من الحالات إلى القسطلاني لضبط الألفاظ. فإذا جمع بين إرشاد الساري وفتح الباري اكتفى بهما عن غيرهما، بالنسبة لصحيح مسلم يعني لو اقتصر على شرح القاضي عياض مع شرح النووي كفاه ذلك؛ لأن زيادات الأبي والسنوسي قليلة نادرة، لا تستحق أن يفرد لها شرح، نعم لو علقت على شرح النووي أو شرح القاضي عياض كان جيد.
طالب:.......(1/228)
المفهم فيه زيادات، وفيه بسط لكثير من المسائل الفقهية والأصولية، وما يتعلق باللغة العربية؛ لكنه ليس بشرح للصحيح، إنما هو شرح للمختصر، لكن يستفاد منه في فهم الصحيح بلا شك.
(المنهاج في شرح صحيح مسلم ابن الحجاج) للنووي:
بعد ذلكم (المنهاج في شرح صحيح مسلم ابن الحجاج) لمؤلفه محي الدين أبي زكريا يحيى بن شرف النووي المتوفى سنة ستٍ وسبعين وستمائة، عن كم؟ ستٍ وسبعين وستمائة، مولده متى؟ واحد وثلاثين، عمره كم؟
طالب: خمس وأربعين سنة.(1/229)
نعم خمس وأربعين سنة، يكون مولده سنة إحدى وثلاثين وستمائة، خمس وأربعين سنة قد خلف هذا العلم العظيم الذي يستفاد منه منذ تأليف هذه الكتب إلى يومنا هذا في مشارق الأرض ومغاربها، لا سيما الأذكار، ورياض الصالحين، شرح مسلم، شرح المذهب كتاب عظيم، لو قدر تمامه لأغنى عن كثير من كتب الفقه، هذه بركة من الله -سبحانه وتعالى- هذا القدر اليسير من العمر ينتج فيه هذا الإنتاج العظيم مع أنه لم يكن يشغل عمره أو جلّ وقته في التصنيف، لا، عنده في اليوم اثنا عشر درس، في اليوم الواحد اثنا عشر درس، والعبادة تأخذ من وقته الشيء الكثير، فهو معدود من العباد -رحمه الله-، ما يعتذر الشخص بأنه مشغول أو إذا قيل له: ما تحضر الدرس الفلاني؟ قال: أنا مرتبط، أنا مشغول، أشغالي كثيرة، أو طلب منه تأليف تعلل بأعذار واهية، لا، الوقت فيه بركة لمن استغله وصدق النية، يعينه الله -سبحانه وتعالى-، يعني إذا كان يعرف أناس يداومون الدوام الكامل في هذه الأيام يدرسون لهم حلقات، وعندهم أعمال أخرى، ويوجد وإن كان نادر ممن يختم القرآن ممن هذه صفاته كل يوم، ويزور المقابر في كل أسبوع، يزور المستشفيات، يصل الأرحام، ودوامه كامل، يعني من ثمان إلى ثنتين، إعانة من الله -سبحانه وتعالى-، وإلا أكثر الناس يضيع عمره سدى، فالنووي من هذه الشاكلة، مؤلفات، قصر عمر، عبادة تذكر، كثرة دروس، شفاعات كثيرة جداً لذوي الحاجات عند الولاة، حتى أنه أمر بالكف عن هذه الشفاعات فما امتثل -رحمه الله.(1/230)
الإمام النووي -رحمه الله تعالى- افتتح كتابه بمقدمةٍ أوضح فيها منهجه في شرحه، وأنه شرح متوسط بين المختصرات والمبسوطات، لا من المختصرات المخلات، ولا من المطولات المملات، يقول: "ولولا ضعف الهمم -يعني كما قال في شرح البخاري- وقلة الراغبين، وخوف من عدم انتشار الكتاب لقلة الطالبين للمطولات لبسطته فبلغت به ما يزيد على مائة من المجلدات، من غير تكرار ولا زيادات عاطلات، بل لكثرة فوائده، وعظم عوائده الخفيات والبارزات...(1/231)
إلى أن قال: "فأذكر فيه -إن شاء الله تعالى- جملاً من علومه الزاهرات من أحكام الأصول والفروع والآداب والإشارات الزهديات، وبيان نفائس من أصول القواعد الشرعيات"، يقول: "وإيضاح معاني الألفاظ اللغوية وأسماء الرجال، وضبط المشكلات، وبيان أسماء ذوي الكنى وأسماء آباء الأبناء والمبهمات، والتنبيه على لطيفة من حال بعض الرواة وغيرهم، واستخراج لطائف من خفيات علم الحديث من المتون والمسانيد المستفادات، وضبط جملٍ من الأسماء المؤتلفات والمختلفات، والجمع بين الأحاديث التي تختلف ظاهراً ويظن بعض من لا يحقق صناعتي الحديث والفقه وأصوله كونها متعارضات، وأنبه على ما يحضرني في الحال في الحديث من المسائل العمليات، وأشير إلى الأدلة في كل ذلك إشارات إلا في مواطن الحاجة إلى البسطة للضرورات" يقول: "وحيث أنقل -نبهنا عليه قريباً- يقول: وحيث أنقل شيئاً من أسماء الرجال واللغة وضبط المشكل والأحكام والمعاني وغيرها من المنقولات فإن كان مشهوراً لا أضيفه إلى قائله؛ لكثرتهم إلا نادراً لبعض المقاصد الصالحات" يعني إذا أردت أن تشير إلى من قال بالكلام المشهور يحتاج أن تعدد جميع أهل العلم أو جلّ أهل العلم إلا من خالف في هذه المسائل، أما المسائل غير المشهورة النادرة يقول: "وإن كان غريباً أضفته إلى قائليه إلا أن أذهل عنه في بعض المواطن لطول الكلام أو كونه مما تقدم بيانه في الأبواب الماضيات" وإذا تكرر الحديث أو الاسم أو اللفظة من اللغة ونحوها بسطت المقصود منه في أول مواضعه، وإذا مررت على الموضع الآخر ذكرت أنه تقدم شرحه وبيانه في الباب الفلاني من الأبواب السابقات".(1/232)
ثم قدم بين يدي الشرح أصولاً مهمة جداً، ينبغي لطالب العلم أن يعتني بها، وأن يقرأها ويفهمها، بدأ بإسناده في الكتاب إلى الإمام مسلم، ترجم لرواته من شيوخه إلى مسلم تراجم مختصرة، تحدث عن صحيح مسلم وشهرته وتواتر نسبته إلى مصنفه، وبيّن منزلته بين كتب السنة، ثم ذكر الخلاف فيما يفيد الخبر الواحد إذا صح، المسألة فيما يفيده الخبر الواحد إذا صح مسألة طويلة الذيول، لكن الجمهور على أن خبر الواحد إذا صح إنما يفيد الظن؛ لاحتمال الخطأ والوهم والنسيان على الراوي، وإن كان حافظاً ضابطاً ثقة، ومعنى إفادة الظن أنه لا يقطع به، يعني لا يعني أن الحديث صح وتوافرت فيه شروط القبول أنه يحلف عليه، وأن نسبته ثابتة إلى قائله مائة في المائة، هذا ما قرره النووي في صدر كتابه، وإن قال بعضهم أنه يفيد القطع، يعني إذا جاءنا حديث من طريق مالك عن نافع عن ابن عمر نحلف أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال هذا الحديث؟ يفيد القطع؟ نسبته إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- مائة بالمائة، ألا يحتمل أن نافعاً وهم؟! مالك ضبطت عليه أوهام وإن كان نجم السنن؛ لكن بعض أهل العلم يرى أن خبر الواحد إذا صح يفيد القطع بثبوته ويحلف عليه، وإن كان هناك قول ثالث وهو الراجح -إن شاء الله تعالى- أنه يفيد القطع إذا احتفت به قرينة، أما إذا خلى عن القرائن فهو على أصله لا يفيد إلا الظن، إذا احتفت به قرينة أفاد القطع؛ لأن احتمال الخطأ والوهم ضعيف، المسألة مفترضة في الراوي الثقة، احتمال الخطأ والوهم عليه، يعني نسبته مرجوحة، وإلا لو كانت نسبة راجحة ما احتمل ولا الظن، هذه النسبة الضعيفة يقدر أن نسبة الخطأ 10% تقابل هذه الـ10% القرينة، وحينئذٍ يرتفع احتمال الخطأ، احتمال النقيض، فيرتقي إلى القطع، والمسألة مهمة ومبحوثة في كثيرٍ من الكتب، ولا محظور في كون الخبر الواحد إذا صح يفيد الظن؛ لأنه وإن كان يفيد الظن فيجب العمل به وإن كان لا يفيد إلا الظن، وكونه(1/233)
يفيد القطع إذا احتفت به قرينة هو قول شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وابن حجر وغيرهم خلافاً لمن يقول: أنه يفيد القطع مطلقاً؛ لكن هذا القول مرجوح بلا شك، أو كونه يفيد الظن مطلقاً كذلك.
ثم ذكر مراد الإمام مسلم في تقسيمه للأحاديث إلى ثلاثة أقسام أحاديث صحيحة، وبيان مراتب الرواة عنده، ثم ذكر بعض المسائل الاصطلاحية كالصحيح والحسن والضعيف والمرفوع والموقوف وزيادات الثقاة والتدليس والاعتبار والمتابعات والشواهد والاختلاط والناسخ والمنسوخ ومعرفة الصحابة والتابعين ورواية الحديث بالمعنى وغير ذلك.(1/234)
وهذا الشرح على اختصاره لا شك أنه عظيم النفع، جمّ الفوائد، لا يستغني عنه طالب علم؛ لإمامة مؤلفه وحسن انتقائه وجمعه وتنبيهاته العجيبة ولطائفه النفيسة، الحافظ ابن حجر له نكت على هذا الشرح، والشرح لا شك أنه قابل للتنكيت، قابل للحاشية، يعني تبسط مسائله وتوضح، والمؤلف -رحمه الله تعالى- شافعي المذهب، يرجح مذهب الشافعي غالباً، وينتصر له، وقد يرجح غيره لا سيما إذا قوي دليل المخالف، وهذا من إنصافه، أما في مسائل الاعتقاد فهو على ما تقدم في سوابقه أنه يقرر مذهب الأشاعرة في الصفات، ولا يسلك مسلك السلف في إمرارها كما جاءت، وهذا لا شك أنه قدح في الكتاب لكنه يستفاد من الكتاب بقدر ما فيه من فوائد، ويعرض عما فيه أو يعلق لو تيسر من يعلق على جميع الكتاب فيما يخالف فيه المنهج الصالح، وأما الإعراض بالكلية عن الكتاب هذا ليس بمنهجٍ سليم، شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- اعتذر عمن هذا مسلكه في مجموع الفتاوى بأعذار كثيرة، حتى أنه اعتذر عمن يظن كثير من طلبة العلم أنه يحرف النصوص، يعني مثلاً فرق بين النووي في تأويله مسائل الصفات مع ما نعرفه عنه من حسن القصد، وبين ما يسلكه الرازي في تفسيره من تأصيله وتقريره وتقعيده، فهو مجتهد مذهب، مجتهد عند الأشاعرة، يقرر هذا المذهب بقوة، ويدافع عنه ويناضل، ويرمي من يخالفه بالعظائم، يعني في تفسير الرازي، في تفسير قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}[(11) سورة الشورى] يقول: "وصنف محمد بن إسحاق -بعد أن رماه بأبشع الألفاظ يعني ابن خزيمة- كتاباً سماه كتاب التوحيد، والأولى أن يسمى كتاب الشرك".(1/235)
يقول شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-: "أن الناس يشكون في صدق نيته، والذي يغلب على الظن أنه يعمل بما بلغه، وفهمه من النصوص" كلام شيخ الإسلام يعني إذا كان يقال مثل هذا الكلام في الرازي وصنيعه مثلما سمعتم؟ فكيف بمثل ابن حجر والنووي وغيرهم ممن عرف حسن مقصده، وسلامة منهجه في اتباعه للسنة، وعنايته بها؟.
ولا شك أن الكلام على صحيح مسلم وشروحه يحتاج إلى شيءٍ من البسط، وشيء من الزيادة؛ لكن الوقت لا يحتمل أكثر من ذلك، وغداً -إن شاء الله تعالى- نعرض باختصار لشروح سنن أبي داود والنسائي، وبعده لشروح الترمذي وابن ماجه، والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
هذا يقول: هل الأفضل لطالب العلم أن يقرأ مختصر الصحيح أو أصله مع الأسانيد، إذ بقراءة المختصر يختصر الوقت، تكرر القراءة مع الإسناد، والمكرر يطول الوقت، وقد لا يستفيد الطالب من قراءة الإسناد خاصة بالصحيح؛ لأن رجاله قد جازوا القنطرة؟(1/236)
الأصول، الكتب الصحاح، والسنن والمسانيد وغيرها لا تغني عنها المختصرات بحال، نعم الطالب غير المتخصص، أو الطالب المشغول بأمورٍ أخرى غير العلوم الشرعية لو اقتصر على المختصرات كان جيداً بالنسبة له؛ لأن الوقت لا يستوعب قراءة الأصول، أما المكررات في الكتب الأصلية وذكر الأسانيد، ذكر الطرق والمتابعات والشواهد، هذه أمور لا يستغني عنها طالب العلم، بل لا بد له منها، وكون رجال الصحيحين على وجه الخصوص جاوزوا القنطرة، كما قال أهل العلم لا يعني أنه ينبغي أن لا يعتنى بهم، يعتنى بهم، هؤلاء الرجال رووا أحاديث خارج الصحيحين، فهل حكم روايتهم للأحاديث غير الصحيحين مثل الأحاديث التي رووها في الصحيحين؟ بمعنى أن من رجال البخاري مثلاً أبو عوانة الوضاح بن عبد الله اليشكري، لو جاءت روايته في سنن أبي داود هل معنى هذا أن روايته في القوة في سنن أبي داود في حكم رواية البخاري قوةً؟ أو أن الشيخين انتقيا من أحاديث الراوي ما ووفق عليه، لا سيما من وجه إليه شيء من النقد؟ وعلى هذا فكون الراوي من رجال الصحيحين لا يؤخذ قضية مسلمة إذا روى خارج الصحيحين؛ لأن الشيخين مع شدة تحريهما وانتقائهما للرجال خرجوا لرواة تكلم فيهم من قبل غيرهم، تخريجهم لهم في الشواهد مثلاً أو فيما توبعوا عليه ووفقوا عليه وعرف أنهم ضبطوه، والإمام مسلم بيّن منهجه في مقدمة صحيحه، وأنه يخرج أحاديث الرواة الضابطين المتقنين من الدرجة الأولى، وقد ينزل إلى رواة الطبقة الثانية ممن يلونهم في الحفظ والإتقان، لكنهم دونهم إذا عرفت ملازمتهم للشيوخ، وقد ينزل قليلاً إلى من مسّ بضربٍ من التجريح لا سيما فيما ووفق عليه، ولذا يقول الحافظ العراقي في معرض كلامه على سنن أبي داود نقلاً عن ابن سيد الناس يقول:
وللإمام اليعمري إنما ... قول أبي داود يحكي مسلما
حيث يقول جملةُ الصحيح لا ... توجد عند مالكٍ والنبلا
فاحتاج أن ينزل يعني الإمام مسلم:(1/237)
فاحتاج إن ينزل في الإسنادِ ... إلى يزيد بن أبي زيادِ
يعني قول أبي داود: "ذكرت الصحيح وما يشبهه ويقاربه، وما سكت عنه فهو صالح، وما فيه وهن شديد بيّنته"، يقول: هذا كونه ذكر الصحيح وما يشبهه ويقاربه من الحسن يشابه إلى حدٍ ما على حد زعم ابن سيد الناس أبي الفتح اليعمري يشابه إلى حدٍ ما مقالة مسلم في صدر صحيحه، ولذا قال:
وللإمام اليعمري إنما ... قول أبي داود يحكي مسلما
فإذا وقفت على رواية يزيد بن أبي زياد مثلاً عند الإمام مسلم وجدتها عند غيره هل روايته في مسلم مثل رواية غيره عنه؟ لا، الإمام مسلم ينتقي، وأيضاً الإمام مسلم يذكر حديث الراوي المتكلم فيه في الشواهد، وكذلك البخاري.
المقصود أن قولهم رجال الصحيحين جازوا القنطرة ليس على إطلاقه، هذا هو الأصل وهو الغالب في رواة الأحاديث الأصول عندهم، أما من أخرجوا لهم في المتابعات والشواهد فالأمر فيهم أقل، ولذا يختلفون في شرط البخاري ومسلم، والأكثر على أن شرطهما رجالهما، فإذا وقفنا على حديث في غير الصحيحين روي برجال أخرج لهما الشيخان بالصورة المجتمعة، بنفس الصورة ونفس الصيغ، صيغ الأداء، صح أن نقول: أن الحديث على شرط الشيخين، مع أنه لا يوازي ما في الصحيحين من رواية، ولو كان بالصورة المجتمعة على ما سمعنا.
يقول: أفضل طبعات الشروح؟
هذه طلبت كثيراً، لعلها في آخر الوقت ينبه عليها.
يقول: هل ينصح الطالب بحفظ صحيح مسلم أولاً أم صحيح البخاري؟
لا شك أن حفظ صحيح مسلم أسهل وأيسر للطالب، فالبداءة به أنسب من هذه الحيثية، وإلا فالأصل هو أنه ينبغي أن يعتنى بصحيح البخاري لا سيما من أراد أن يتفقه من السنة، أما من أراد الحفظ فأيسر له أن يبدأ بصحيح مسلم.
يقول: درست أن مسلماً وضع الصحيح بدون تراجم للأبواب، وكذلك النووي في شرحه؟(1/238)
لا، النووي في شرحه وضع تراجم، تراجم للشرح، لا لأبواب الأصل، لا، ولذا فإن إدخال هذه التراجم في الأصل خطأ، فعله محمد فؤاد عبد الباقي وغيره، لكنه الكتاب في الأصل لم يترجم، أخلاه مؤلفه من التراجم، لكن الشراح اجتهدوا في وضع تراجم، كلٌ وضع تراجم خاصة.
يقول: ما أفضل طبعات شروح مسلم؟
هذا تابع لما قبله.
يقول: ذكر السنوسي أنه اختصر شرح الأبي لكن المتأمل له يجد أنه يعيد نفس كلام الأبي بحيث لا يلحظ القاري أي فرق بين الشرحين؟
لا توجد فروق تذكر بين هذين الشرحين أو بينهما غيرهما من الشروح التي تقدمتهما مما يُزعم أنه تكميل لها، نعم هناك تعليقات يسيرة من الأبي على القاضي عياض، ومن السنوسي أيضاً على الأبي، لو جردت هذه التعليقات، و كل طالب يعلق على نسخته ما يستحق أن ينقل من هذه الشروح، وإلا كله تكرار في تكرار، يعني ما يوجد في الأبي والسنوسي مكرر مع ما عند القاضي عياض.
يقول: هل هناك شرح متوسط أو مختصر لكتاب اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان؟
لا يوجد، هناك كتاب اسمه (زاد المسلم فيما اتفق عليه البخاري ومسلم) لكنه مرتب على الحروف ويصعب الاستفادة منه، وترتيبه أيضاً على الحروف فيه شيء من الخلط، وعليه حاشية وشرح لا بأس به لمؤلفه شنقيطي من الشناقطة، وعلى كلٍ (اللؤلؤ والمرجان) في بابه كتاب نفيس، أنفس من زاد المسلم، فيمكن مطالعة شروح الأحاديث من الشروح المعتبرة، من فتح الباري وشرح النووي مثلاً.
يقول: لو تكرمتم بذكر أهم الشروح التي لا يستغنى عنها للكتب الستة مع ذكر الطبعة التي تنصحون باقتنائها؟ وكذلك أفضل الطبعات للمسانيد؟
هذا آخر المقام -إن شاء الله- ينبه على شيءٍ من ذلك، وحقيقةً لا أدري هل أتمكن غداً من تكملة الكلام على بقية الكتب أو نضطر إلى إضافة عصر الجمعة، فإن استطعنا بها ونعمت، فإن لم نستطع فلعلنا نتدارك البقية في عصر الجمعة.(1/239)
يقول: الأخوة بحاجة إلى التعريف بكتب السنن وصحيح مسلم أكثر من الفترة المتبقية للدورة؟
يقول: هذا يطلب زيادة مدة الدورة ولو إلى الأسبوع القادم حتى لا يكون الاختصار مخلاً؟
على كل حال نحن إذا بدأت الدروس عندنا في المسجد الدروس المنتظمة من سنين طويلة لا أستطيع أن أرتبط مع أحد، فحدنا يوم الجمعة؛ لأنه يوم السبت تبدأ دروسنا في المسجد، دروس منتظمة من سنين ارتبط عليها جمع من الأخوة لا أستطيع أن أتركهم.
سنن أبي داود مختصراته وشروحه:
فنبدأ بسنن أبي داود وشروحه، فسنن أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني المتوفى سنة خمسٍ وسبعين ومائتين أحد الكتب الأصول الستة اتفاقاً، اعتنى به العلماء وأشادوا به، يقول ابن القيم -رحمه الله- في مقدمة تهذيبه: "ولما كان كتاب السنن لأبي داود -رحمه الله- من الإسلام بالموضع الذي خصه الله به، بحيث صار حكماً بين أهل الإسلام، وفصلاً في موارد النزاع والخصام، فإليه يتحاكم المنصفون، وبحكمه يرضى المحققون، فإنه جمع شمل أحاديث الأحكام، ورتبها أحسن ترتيب، ونظمها أحسن نظام، مع انتقائها أحسن انتقاء، واطراحه منها أحاديث المجروحين والضعفاء".
ويقول المنذري: "فإنه يعني -سنن أبي داود- أحد الكتب المشهورة في الأقطار، وحفظ مصنفه وإتقانه وتقدمه محفوظ عند حفاظ الأمصار، وثناء الأئمة عليه وعلى مصنفه مأثور عن رواة الآثار" والكتاب بالمحل المعروف عند أهل الحديث، وهو ثالث الكتب عند جماهير العلماء، وإن قدم بعضهم سنن النسائي عليه؛ لكن المعتمد عند أهل العلم أن سنن أبي داود يقدم على سنن النسائي، فإنه أنظف أسانيد.
وذكرنا أن ابن سيد الناس زعم أن سنن أبي داود بمنزلة أو ينبغي أن يكون بمنزلة أو قريب من صحيح مسلم، وهذا ذكرناه سابقاً، لا شك أن ابن سيد الناس لم يوافق على ذلك؛ لأن أبا داود لم يكلف نفسه انتقاء الرواة والروايات مثل الإمام مسلم.(1/240)
يقول أبو سليمان الخطابي في معالم السنن: "كتاب السنن لأبي داود كتاب شريف، لم يصنف في علم الدين كتاب مثله، وقد رزق القبول من الناس كافةً، فقد صار حكماً بين فرق العلماء، وطبقات الفقهاء على اختلاف مذاهبهم، وعليه معول أهل العراق، وأهل مصر وبلاد المغرب، وكثير من أقطار الأرض" يقول: "وأما أهل خراسان فقد أولع أكثرهم بصحيحي البخاري ومسلم، ومن نحى نحوهم في جمع الصحيح على شرطهما إلا أن كتاب أبي داود أحسن رصفاً، وأكثر فقهاً".
وهو أقرب –حقيقةً- فائدة لمن أراد أن يتناولها بدون عناء من صحيح البخاري، صحيح البخاري فيه شيء من المشقة للطالب المبتدئ، أما سنن أبي داود فالفائدة منه متيسرة؛ لكن دون هذه الفائدة النظر في ثبوت الحديث بخلاف ما في الصحيحين من أحاديث فإنه لا يحتاج إلى أن ينظر فيهما.
ويقول ابن رسلان في مقدمة شرحه: "ينبغي للمشتغل بالفقه وبغيره الاعتناء بسنن أبي داود، فإن معظم أحاديث الأحكام التي يحتج بها فيه مع سهولة تناوله وتلخيص أحاديثه، وبراعة مصنفه واعتنائه بتهذيبه" ولا شك أن سنن أبي داود مظنة للأحاديث الصحيحة والحسنة وفيها الضعيف، خفيف الضعف، وفيه شديد الضعف، إلا أن ما كان ضعفه شديداً فقد التزم الإمام أبو داود بيانه، كما في رسالته إلى أهل مكة، قال:
ومن مظنة للحسنِ ... جمع أبي داود أي في السننِ
فإنه قال جمعت فيهْ ... ما صح أو قارب أو يحكيهْ
وما به ضعف شديد قلتهُ ... وحيث لا فصالح خرجتهُ(1/241)
المقصود أن الكلام على سنن أبي داود يطول، كذلكم بقية السنن، ولأهمية هذا الكتب حظي من العلماء قديماً وحديثاً بالشروح والتعليقات والمختصرات، فشرحه جماعة من الأئمة واختصره آخرون، فممن شرحه أبو سليمان الخطابي في كتابه الشهير: (معالم السنن)، شرحه أيضاً النووي لكن شرحه لم يتم، وشرحه مسعود بن أحمد الحارثي، وهو أيضاً لم يكمل، وممن شرحه مغلطاي وهو أيضاً لم يكمل، وممن شرحه أحمد بن محمد بن هلال المقدسي، وشرحه أيضاً الإمام أبو زرعة أحمد بن الحافظ العراقي -رحمهم الله-، ولكنه أيضاً لم يكمل، وممن شرحه أحمد بن رسلان الرملي الشافعي، وهذا شرحه كامل وموجود، وممن شرحه أيضاً بدر الدين العيني، كتابه أيضاً طبع أخيراً وهو ناقص، وشرحه أيضاً باختصارٍ شديد السيوطي في (مرقاة الصعود) وهناك حاشية لأبي الحسن السندي اسمها: (فتح الودود)، وهناك أيضاً شرح لم يكمل أيضاً لأبي الطيب محمد شمس الحق العظيم أبادي اسمه: (غاية المقصود)، وأيضاً هناك (عون المعبود) على خلافٍ في مؤلفه؛ لكن الأكثر على أنه لصاحب (غاية المقصود)، وهناك كتاب اسمه: (بذل المجهود) لخليل بن أحمد السهارنفوري.
ومن المتأخرين ممن شرحه الشيخ محمود خطابي السبكي في كتابه (المنهل العذب المورود) ونقتصر على الكلام على بعضها، خمسة أو ستة منها فقط.
(معالم السنن) للخطابي:
فمن ذلكم (معالم السنن) مؤلفه تقدم ذكره في أعلام الحديث أو أعلام السنن أبو سليمان حَمْد بن محمد الخطابي البستي المتوفى سنة ثمانٍ وثمانين وثلاثمائة، ألفه الخطابي إجابةً لمن سأله ذلك، جاء في مقدمته:(1/242)
"أما بعد: فقد فهمت مسائلتكم -إخواني أكرمكم الله- وما طلبتموه من تفسير كتاب السنن لأبي داود سليمان بن الأشعث، وإيضاح ما يشكل من متون ألفاظه، وشرح ما يستغلق من مبانيه، وبيان وجوه أحكامه، والدلالة على مواضع الانتزاع والاستنباط من أحاديثه، والكشف عن معاني الفقه المنطوية في ضمنها؛ لتستفيدوا إلى ظاهر الرواية لها، باطن العلم والدراية بها"، يقول: "وقد رأيت الذي ندبتموني له، وسألتموني من ذلك أمراً لا يسعني تركه، كما أنه لا يسعكم جهله، ولا يجوز لي كتمانه، كما أنه لا يجوز لكم إغفاله وإهماله، فقد عاد الدين غريباً كما بدأ، وعاد هذا الشأن دَارِسَةً أعلامه، خاوية أطلاله، وأصبحت رباه مهجورةً، ومسالك طرقه مجهولة".(1/243)
ثم قسم من ينتسب إلى العلم في زمانه إلى قسمين: أهل الحديث وأثر، وأصحاب فقهٍ ونظر، نظر في من ينتسب إلى العلم في زمنه في القرن الرابع فوجدهم ينقسموا إلى قسمين: أهل حديث وأثر، وأهل فقه ونظر، مع أن كلاً من الفقه والأثر والحديث والنظر لا يتميز كل منهما عن الآخر؛ لأن الحديث بمنزلة الأساس الذي هو الأصل، والفقه بمنزلة البناء الذي هو كالفرع، وكل بناءٍ لم يوضع له أساس فهو منهار، وكل أساس خلا عن بناء فهو قفر وخراب، يقول: "ووجدت هذين الفريقين إخواناً متهاجرين، وعلى سبيل الحق بلزوم التناصر والتعاون غير متظاهرين" ثم بيّن وجه التقصير من كل فريق، وجه تقصير من ينتسب إلى الحديث، ووجه التقصير عند من ينتسب إلى الفقه، يقول: "أهل الحديث مبلغ حاجتهم، وجل قصدهم جمع الروايات والطرق، وطلب الغريب والشاذ، لا يراعون المتون، ولا يتفهمون المعاني، وربما عابوا الفقهاء بمخالفة السنن، وأما أهل الفقه والنظر فإن أكثرهم لا يعرجون من الحديث إلا على أقله، ولا يكادون يميزون صحيحه من سقيمه، وقد اصطلحوا فيما بينهم على قبول الخبر الضعيف والحديث المنقطع، إذا كان ذلك قد اشتهر عندهم، وتعاورته الألسن فيما بينهم، من غير ثبتٍ فيه فكان ذلك ظلةً من الرأي، وغبناً فيه"، يقول: "وهؤلاء -يعني من ينتسب إلى الفقه من أتباع الأئمة- يقول: وهؤلاء -وفقنا الله وإياهم- لو حكي لهم عن واحدٍ من رؤسائهم أو من رؤساء مذاهبهم وزعماء نحلهم قول يقوله باجتهادٍ من قبل نفسه طلبوا فيه الثقة، واستبرؤوا له العهدة"، ثم ذكر الثقاة من أصحاب الأئمة الذين يعول عليهم في نقل المذاهب.. إلى آخر كلامه -رحمه الله-، وهو كلام نفيس جداً.(1/244)
لا شك أن من ينتسب إلى الحديث بحاجة إلى الدرب على الاستنباط، ومعرفة معاني الأحاديث، وما يستفاد منها، وما يخدمها من علوم اللغة، وأصول الحديث وأصول الفقه وقواعد التفسير، المقصود أن النصوص بحاجة إلى من يخدمها، فعلى طالب الحديث أن يعتني بما يسمى علوم الآلة، فيعرف من علوم الحديث ما يستطيع بواسطته أن يصحح ويضعف، ويعرف من علوم القرآن وقواعد التفسير ما يستطيع أن يتعامل به مع الآيات على طريقٍ سديد، على سنة من سلف؛ لأنه إن اقتصر على مجرد النصوص لا يعرف حينئذٍ العام من الخاص، المنطوق، المفهوم، المطلق، المقيد، الناسخ، المنسوخ، والنصوص كلها مشتملة على هذا كله.
ثم أشاد بسنن أبي داود بكلامٍ نقلنا جله، ثم ذكر أقسام الحديث عند أهله، وأنه ثلاثة أقسام، صحيح وحسن وسقيم، وعرف الأقسام الثلاثة، تقسيمه للحديث وحصره الأقسام في الثلاثة حقيقةً لم يسبق إليه، يعني أول من قسم الحديث إلى ثلاثة أقسام هو الخطابي في مقدمة المعالم، نعم الأقسام الثلاثة موجودة في كلام الأئمة، وجد عندهم ذكر الصحيح، ووجد ذكر الحسن ووجد ذكر الضعيف؛ لكن من غير حصرٍ في الأقسام الثلاثة، ولذا انتقد الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى- حصر الأقسام في الثلاثة، وقال: "إن كان هذا التقسيم يرجع إلى ما في نفس الأمر فليس إلا صحيح أو كذب ولا ثالث لهما، وإن كان راجع إلى استعمالهم فالأقسام عندهم أكثر من ذلك؛ لكن الجواب أن هذا التقسيم بالنسبة إلى استعمال أهل العلم، وما عدا الأقسام الثلاثة داخل فيها، كما هو معلوم، وكتاب أبي سليمان الخطابي على اختصاره من أنفس الشروح لإمامة مؤلفه، ورسوخ قدمه، ومن الإمامة في الدين، وإن كان منهجه في الاعتقاد على ما سمعنا سابقاً في كتابه (أعلام السنن) وما نقلناه عن شيخ الإسلام عن كتاب الغنية له.(1/245)
ولعله رجع عما في كتبه هذه إلى عقيدة أهل السنة والجماعة، وكتابه المعالم هذا أجود من الأعلام، أعلام السنن أو أعلام الحديث الذي سبق ذكره في شروح البخاري؛ لأن هذا الكتاب ألفه أصالةً للسنن، لشرح السنن وخدمتها، أما أعلام السنن أو أعلام الحديث ألفه يريده كالتكملة لهذا الكتاب، ومذهب الخطابي الفقهي والعقدي في هذا الكتاب موافق لما في ذلك الكتاب فلا حاجة لإعادته، والكتاب مطبوع، طبعه الشيخ محمد راغب الطباخ في أربعة أجزاء على انفراد، وهي طبعة جيدة، معتنىً بها، مقابلة على نسخ خطية، في أربعة أجزاء صغيرة، طبع أيضاً مع مختصر المنذري وتهذيب ابن القيم في ثمانية أجزاء بعناية الشيخ أحمد شاكر ومحمد حامد الفقيه، وهي أيضاً طبعة نفيسة وجيدة.
شرح ابن رسلان على سنن أبي داود:(1/246)
بعد هذا شرح ابن رسلان، مؤلفه أحمد بن حسين بن علي بن يوسف بن علي بن أرسلان، قال السخاوي: "بالهمزة كما بخطه، وقد تحذف في الأكثر، بل هو الذي على الألسن"، أبو العباس الرملي الشافعي المشهور بابن رسلان المتوفى سنة أربعٍ وأربعين وثمانمائة، ابن رسلان حقيقةً في شرحه فيه شيء من التوسع، فيُعنى ببيان اختلاف النسخ والروايات، سنن أبي داود له روايات، كما أن للصحيحين روايات، رواية اللؤلؤي، رواية ابن داسة، رواية ابن العبد، وغيرها من الروايات، خمس أو ست روايات، فيعنى ببيان اختلاف النسخ المتداولة، والروايات المعروفة المشهورة، وينقل عمن تقدمه ومن عاصره، سواء كانت أقوالهم مدونة، أو ينقلها مشافهةً عنهم، وهو أيضاً ينقد ويمحص ما ينقله ويتتبع، يخرج الأحاديث المشروحة من الكتب المشهورة، يبين درجات الأحاديث من صحة أو حسن أو ضعف باجتهاده أيضاً وبتقليد غيره كثيراً، يعنى بالصناعة الحديثية إلا أن قدمه في الحديث ليست في الرسوخ مثل قدمه في الفقه، فهو من فقهاء الشافعية، لكن هو في الحديث أقل من ذلك، يعرف الرجال ويبين أحوالهم، يُعنى بفقه الحديث والاستنباط، ولعل هذا هو جلّ قصد المؤلف، لتمكّن المؤلف من علم الفقه، وطبيعة الكتاب المشروح، الكتاب المشروح أقرب ما يكون إلى الأدلة، أدلة الفقهاء، يهتم أيضاً بالمباحث اللغوية، فيشرح الألفاظ والعبارات التي تحتاج إلى بيانٍ وإيضاح معتمداً في ذلك على كتب اللغة وغريب الحديث.
أيضاً ابن رسلان يضبط الكلمات التي تحتاج إلى ضبط، وقد يشير إلى الخلاف في الضبط، وهو أيضاً يهتم بالجوانب الصرفية للكلمات، ويعرب ما يحتاج إلى إعراب، وقد يذكر الخلاف في إعراب الكلمة واشتقاقها، يُعنى بالجوانب البلاغية، عرفنا أن ابن رسلان هذا شافعي المذهب، يرجح في الغالب مذهب الشافعية.(1/247)
وأما بالنسبة لمعتقده ومنهجه الذي سار عليه في هذا الكتاب في العقيدة فهو كغيره من غالب الشراح؛ جرى على طريقة الأشاعرة في تأويل الصفات، من ذلكم أنه أول صفة الحياء بعدم الامتناع من بيان الحق، يقول: "فيطلق الحياء على الامتناع إطلاق الاسم الملزوم على اللازم مجازاً" وقال عن حديث النزول: "بأنه يوهم التشبيه، إذ ذكر الرب بما لا يليق به من الانتقال والحركة فيجب تأويله على الوجه الذي يليق بصفاته، وهو أن يراد به إقباله على أهل الأرض بالرحمة والاستعطاف" الكلام في حديث النزول طويل جداً لأهل العلم، حتى الكلام عند من يثبت حديث النزول ويقول بموجبه بالنزول الإلهي، سواء كان في آخر الليل أو يوم عرفة، أو غيرهما من المواضع التي ثبت فيها النزول، من جهة هل النزول يستلزم الحركة والانتقال؟ وهل يخلو العرش من الرب -سبحانه وتعالى- عند نزوله أو لا يخلو؟ كلام طويل حرره وحققه شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-.
أيضاً ابن رسلان في مقابل يعني ما ذكر من عقيدته يتصدى للمعتزلة بالرد؛ لأنه معروف أن بدعة الأشاعرة في كثيرٍ من أبواب الدين أخف من بدعة المعتزلة، فهو يتصدى للمعتزلة بالرد فنقل عن الزمخشري نفيه رؤية الله -سبحانه وتعالى- في الآخرة، ثم رد عليه، وبيّن أن هذا مذهب المعتزلة، وأن مذهب أهل السنة في هذا أن الله -سبحانه وتعالى- يرى يوم القيامة.
والكتاب نفيس ومفيد لقلة الشروح الكاملة بالنسبة للسنن، وإن كان صاحبه غير متميّز في الصناعة الحديثية، لكن جمعه للأقوال الفقهية واستدلاله للمذاهب جمع طيب جداً، يخدم الكتاب ويفيد الطالب، والكتاب محقق؛ لكنه لم ينشر بعد في بضع رسائل دكتوراة.
شرح العيني على سنن أبي داود:(1/248)
بعد هذا شرح العيني على سنن أبي داود، العيني تقدم التعريف به، وهو أيضاً شرح ناقص، وصل فيه مؤلفه إلى باب الشح، وهو آخر أبواب الزكاة، منهج العيني في شرحه يشرح الترجمة شرحاً موجزاً في الغالب، يترجم لرواة الحديث، ويذكر ما قيل في الراوي؛ لكنه لا يرجح ويوازن بين أقوال الأئمة في الراوي، وهذا أمر مهم جداً؛ لأن مجرد النقل لأقوال الأئمة لا يعجز عنه أحد، المهم الخروج بالنتيجة الدقيقة الصائبة من أقوال أهل العلم في الراوي، تأخذ دراسة الأسانيد القسط الأكبر من الشرح، يبين معاني ألفاظ الحديث، ويستدل لما يميل إليه من معنى بالمرويات الأخرى، أو بالروايات الأخرى، يذكر ما يستفاد من الحديث، ويتعرض لكلام العلماء، وانحيازه لمذهبه الحنفي ظاهر، يعني مثل صنيعه في عمدة القاري، يذكر من أخرج الحديث مقتصراً في الغالب على الكتب الستة والموطأ والمسند ومصنف بن أبي شيبة، لا يهتم بالجوانب البلاغية من المعاني والبيان والبديع، كما فعل في أوائل شرح البخاري، وهذا يصدِق مقالة ابن حجر أنه اعتمد في أوائل شرحه على البخاري شرح الركن القريمي الذي اعتنى بهذه الجوانب، أنه لما انتهى شرح القريمي انتهت عناية العيني بهذه الأشياء، وعلى كلٍ شرح العيني طبع أخيراً يعني القطعة الموجودة منه طبعت، وفيه أيضاً خرم يسير في أوله.
(عون المعبود):(1/249)
بعد هذا عون المعبود، عون المعبود اشتهر بين الناس بأن مؤلفه محمد شمس الحق العظيم أبادي؛ لكن جاء في مقدمته بعد البسملة والحمدلة، "أما بعد: فيقول العبد الفقير إلى الله تعالى أبو عبد الرحمن شرف الحق الشهير بمحمد أشرف بن أمير بن علي بن حيدر الصديقي العظيم أبادي، يقول غفر الله له: أن هذه الفوائد المتفرقة والحواشي النافعة على أحاديث سنن أبي داود جمعتها من كتب أئمة هذا الشأن" هذا كلام من؟ أبو عبد الرحمن شرف الحق الشهير بمحمد أشرف الصديقي، يقول: "جمعتها من كتب أئمة هذا الشأن -رحمهم الله تعالى- العجيب أنه في طرة الكتاب مكتوب: عون المعبود شرح سنن أبي داود للعلامة أبي الطيب محمد شمس الحق العظيم أبادي، وهو غير هذا الذي في المقدمة، يأتي ذكر محمد شمس الحق- جمعتها من كتب أئمة هذا الشأن -رحمهم الله تعالى- مقتصراً على حلّ بعض المطالب العالية، وكشف بعض اللغات المغلقة، وتراكيب بعض العبارات مجتنباً عن الإطالة والتطويل إلا ما شاء الله تعالى، وسميتها بعون المعبود على سنن أبي داود، تقبل الله مني" يقول بعد ذلك : "وأما الجامع لهذه المهمات المذكورة من الترجيح والتحقيق وبيان أدلة المذاهب والتحقيقات الشريفة، وغير ذلك من الفوائد الحديثية في المتون والأسانيد وعللها"، هو .... أخونا العلامة الأعظم الأكرم أبو الطيب محمد شمس الحق العظيم أبادي، يقول: "والباعث على تأليف هذه الحاشية -أولاً محمد شمس الحق له شرح مطول على سنن أبي داود اسمه: (غاية المقصود)، وذكر هنا يقول: "الباعث على تأليف هذه الحاشية المباركة أن أخانا الأعظم الأمجد أبا الطيب شارح السنن ذكر غير مرةٍ في مجلس العلم والذكر أن شرحي غاية المقصود يطول شرحه إلى غير نهاية، لا أدري كم تطول المدة في إتمامه والله يعينني، والآن لا نرضى بالاختصار، لكن الحبيب المكرم ..(1/250)
" الخ، المقصود أنه كلامٍ يطول، إنما قد يميّز ما في الكتاب مما ألفه شرف الحق مما ألفه شمس الحق بأن شرف الحق له يقول: له حلّ الألفاظ الغامضة والمباحث اللغوية وبيان التراكيب، هذا لشرف الحق، أما أبو الطيب له من الكتاب الفوائد الحديثية والكلام على المتون والأسانيد والعلل وبيان أدلة المذاهب والتحقيقات الشريفة.
فعلى هذا يكون قد اشترك في تأليف الكتاب اثنان، جاء في آخر الجزء الثامن من مقتصر شرح تهذيب سنن أبي داود لمحققه محمد حامد الفقهي خاتمة لا بد منها يقول: "وقد كان من أهم ما اعتمدت عليه في عملي في طبع مختصر السنن والتهذيب والمعالم عون المعبود؛ لأنه أجمع شرحٍ لسنن أبي داود، بل لعله أنفع شرحٍ للأحاديث مطبوع، وأوسعها إذا استثنينا فتح الباري"، لكن واقع الكتاب بخلاف هذا، الكتاب مختصر، سماه مؤلفه حاشية، وليس بشرحٍ مستوعب ومستقصي، هذا شرح مختصر، يشرح الحديث الواحد في صفحة أو صفحتين، فكيف يقال: أن هذا أوسع شرح للأحاديث مطبوع؟ لا، يعني باستثناء فتح الباري، يعني تجاهل الشروح الكبيرة لصحيح البخاري، يعني لا نسبة بينها وبين شرح العيني، شرح العيني أطول؛ لكن هذا الكتاب على كل حال الذي هو عون المعبود شرح لسنن أبي داود نافع، له مزايا يشرح الأحاديث بطريق المزج، يمزج كلمات المتن في الشرح، فيميز المهمل من الرواة، ويسمي المنسوب والمكنى، ويضبط ما يحتاج إلى ضبط، ثم يشرح الكلمات الغريبة التي تحتاج إلى شرح، ثم يتكلم على فقه الحديث كل هذا باختصار، ثم يخرج الحديث معتمداً في تخريجه على كلام المنذري في المختصر.(1/251)
ومع هذا فهو شرح مختصر لا يستوعب جميع الكلمات، ولا يعلق على رجال الحديث كلهم، إنما يكتفي بضبط بعض الأسماء أو تسمية بعض المكنين أو المنسوبين، يعنى ببيان صحة الحديث وضعفه؛ لكن لا عن اجتهاد إنما يعتمد في ذلك على غيره، وقد وصفه مؤلفه بأنه حاشية اجتنب فيها الإطالة، وقصد بيان معنى أحاديث السنن دون بحثٍ في ترجيح الأحاديث بعضها على بعض إلا على سبيل الاختصار، من غير ذكر أدلة المذاهب على وجه الاستيعاب إلا في المواضع التي دعت إليها الحاجة، يتميز الكتاب بأنه شرح كامل للسنن كلها من أولها إلى آخرها، يظهر فيه أيضاً إتباع المؤلف للنصوص، وليس فيه تعصب لأي مذهب من المذاهب، إنما يرجح على ما يقتضيه الحديث، وهو في هذا متأثر تأثر كبير بالشوكاني، أيضاً هو في المعتمد على طريقة أهل السنة والجماعة، يمر نصوص الصفات ويثبتها على ما يليق بجلال الله وعظمته، وهو أيضاً يرد على معظمي القبور ممن فتن بها، ويقرر السنة في كيفية وضع القبر، وكيفية الزيارة، كما في الجزء التاسع صفحة (36 و37) ينكر بعض البدع المنتشرة في الرابع عشر صفحة (141) قال: "المصافحة والمعانقة بعد صلاة العيدين من البدع المذمومة المخالفة للشرع"، ورد على النووي والعز بن عبد السلام بعض ذلك، وفي الحادي عشر صفحة (464 إلى 468) في حوالي خمس صفحات، قال: "ومن المصائب العظمى والبلايا الكبرى على الإسلام أن رجلاً من الملحدين الدجالين الكذابين خرج من الفنجاب من إقليم الهند" في كلامٍ طويل جداً يرد به على القادياني، ويحذر من بعض أتباعه، فعلى كل حال الكتاب مشهور ومتداول، وهو جيد ونفيس لمن يقنع بالشرح المختصر.
(بذل المجهود في حلّ سنن أبي داود):(1/252)
بعد هذا (بذل المجهود في حلّ سنن أبي داود) ألفه الشيخ خليل بن أحمد السهارنفوري المتوفى سنة ست وأربعين وثلاثمائة وألف، منهج المؤلف اهتم المؤلف اعتنى عنايةً كبيرة بأقوال أبي داود صاحب الكتاب وكلامه على الرواة، وعني بتصحيح نسخ السنن المختلفة المنتشرة، خرّج التعليقات، ووصلها من المصادر الأخرى، يذكر مناسبة الحديث للترجمة، ويذكر الفائدة من تكرار الحديث إن تكرر، يستطرد في الاستنباط وذكر المذاهب؛ لكنه كثيراً ما يتعصب للمذهب الحنفي، ويحاول ترجيحه، معتمداً في ذلك على ما تقرر عند الحنفية من أصول، يُعنى ببيان ألفاظ الأحاديث على طريق المزج، ويبين أصولها واشتقاقها، يعتمد في شرح الأحاديث غالباً كما قال في المقدمة على مرقاة المفاتيح للملا علي القاري، وفتح الباري لابن حجر، عمدة القاري للعيني، بدائع الصنائع للكاساني، تقريب التهذيب لابن حجر، تهذيب التهذيب له، الإصابة له أيضاً، الأنساب للسمعاني، مجمع بحار الأنوار، كتاب للفتني في غريب الحديث، وأيضاً القاموس المحيط، ولسان العرب.
يقول: "ولم آخذ من كلام الشارحين صاحب (غاية المقصود) و(عون المعبود) إلا ما نقلاه عن أحدٍ من المتقدمين، لم آخذه مقلداً لمجرد قولهما دون أن أجده في كلام المتقدمين" أما ما يتعلق بتعصبه وتقريره للمذهب الحنفي فهو ظاهر في الكتاب، وقد أشار إليه في المقدمة صفحة (44) من الجزء الأول، يقول: "ومنها أني أذكر مذهب السادة الحنفية تحت حديثٍ يتعلق بمسألة فقهية، فإن كان الحديث موافقاً لهم فبها، وإلا ذكرت مستدلهم، والجواب عن الحديث وتوجيهه" يعني يجعل كلام الحنفية هو الأصل ثم يجيب عن الحديث، وعلى كل حال هو شرح مبسوط يستفاد منه في الكلام على الرواة، وبيان أحكام الأحاديث لا بأس به، وذكر المذاهب الفقهية؛ لكن الترجيح يمكن أن يستفاد من غيره.
(المنهل العذب المورود):(1/253)
بعد هذا كتاب المنهل العذب المورود، ألفه الشيخ محمود محمد خطاب السبكي، معاصر توفي سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة وألف، وشرح من أطول الشروح المتداولة، وأمتعها وأجمعها لمسائل الحديث وفوائده، لكنه لم يكمل، بل وصل إلى باب في الهدي في عشرة أجزاء، ثم قام ابنه أمين محمود خطاب بمواصلة شرحه إلى آخر كتاب النكاح، المنهج في شرح هذا الكتاب مشابه إلى حدٍ ما لطريقة العيني في عمدة القاري، يشرح الترجمة، يترجم لرجال الحديث، يشرح الكلمات، يشرح الترجمة بكلامٍ طيب وجيد، ويترجم لرجال الحديث ويطيل في التراجم، يشرح الكلمات، ويتوسع في شرحها، يذكر فقه الحديث ومذاهب الأئمة والفقهاء وأدلتهم، يهتم كثيراً بوصل ما علقه أبو داود، يُعنى بذكر لطائف الإسناد، يخرج الأحاديث تخريجاً لا بأس به في الجملة من الكتب المشهورة، منهج الابن مقارب لمنهج الأب، إلا أن الأب أطول نفساً في الشرح، والكتاب مطبوع ومشهور ومتداول.(1/254)
من أنفس ما كتب على السنن –سنن أبي داود- المختصر للمنذري، والتهذيب لابن القيم، وهذان الكتابان لا يكاد يستغني عنهما طالب علم، تهذيب السنن لابن القيم أشبه ما يكون بكتب العلل، مؤلفه كما هو معروف شمس الدين أبو عبد الله محمد ابن أبي بكر بن القيم الجوزية الإمام المحقق المحدث الفقيه المشهور المتوفى سنة إحدى وخمسين وسبعمائة، جاء في مقدمته من كلام ابن القيم -رحمه الله-: "وكان الإمام العلامة زكي الدين أبو محمد عبد العظيم المنذري -رحمه الله تعالى- قد أحسن في اختصاره وتهذيبه، وعزو أحاديثه، وإيضاح علله وتقريبه، فأحسن حتى لما يدع للإحسان موضعاً، وسبق حتى جاء من خلفه له تبعاً"، يقول: "لذلك جعلت كتابه من أفضل الزاد، واتخذته ذخيرةً ليوم المعاد، فهذبته نحو ما هذب هو به الأصل، وزدت عليه من الكلام على عللٍ سكت عنها، أو لم يكملها، والتعرض على تصحيح أحاديث لم يصححها، والكلام على متون مشكلة لم يفتح مقفلها، وزيادة في أحاديث صالحة في الباب لم يشر إليها"، يقول: "وبسطت الكلام على مواضع جليلة لعل الناظر المجتهد لا يجدها في كتابٍ سواه"، إلى أن قال: "فأنا أبرأ إلى الله من التعصب والحمية، وجعل سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تابعةً لآراء الرجال، منزلةً عليها مسوقةً إليها"، الكتاب أشبه مثلما ذكرت أن يكون كتاب علل، يعلل الأحاديث ويستطرد ويطيل في ذلك، فهو إمام في هذا الباب، وأيضاً له تعليقات نفيسة في بعض المسائل الفقهية، وله أيضاً نفس طويل في بعض المسائل مثل طلاق الحائض، وطلاق الثلاث، وغير ذلك من المسائل بحثها في عشرات الصفحات، فهو مرجع في مثل هذه المسائل، لا يستغني عنه طالب علم، إضافةً إلى إمامة مؤلفه ورسوخ قدمه، وشدة اتباعه للنصوص، والله أعلم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
بسم الله الرحمن الرحيم(1/255)
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
هذا يقول: هل هناك مؤلف في الفرق بين كتب السنة وشروحها؟
قصده مناهج المحدثين في المتون والشروح هنا في كلام متفرق لبعض المعاصرين؛ لكن جمع مناهج الأئمة كلهم والشراح كلهم أو جلهم لا يوجد مجموعاً، ولعل ما ألقي في هذه الدروس يكون نواةً لكتابٍ يجمع بين ما تفرق من كلام طلبة العلم.
يقول: حبذا لو جمعتم مثل هذا الكتاب وأخرجتموه لأجل العلم وأهله وطلبته، وقد لمستم الحاجة إليه.
لي نية -إن شاء الله تعالى- إن أسعف الوقت.
يقول: هل صحيح أن الحافظ أبا داود -رحمه الله- اتهم ابنه بالضعف؟
نعم، صحيح، أهل العلم لا يحابون في علمهم ونقدهم أحداً، علي بن المديني ضعّف أباه، أبو داود ضعّف ابنه.
يقول: لعلكم تشهرون دروسكم الأسبوعية، وما يدرس فيها من كتب ومواعيدها، وحث الطلاب على الحضور طلباً للفائدة وتكثيراً للسواد.
أما بالنسبة للدروس فهي في السبت والاثنين والأربعاء والجمعة، لكن كوننا نشهرها هي لا تستحق من يتكلف العناء إليها، ونحث الطلاب على غيرها مما فيه الفائدة المرجوة، والله المستعان.
طالب: ما هي الكتب التي تدرس؟(1/256)
الكتب يوم السبت في المغرب في الصحيحين، البخاري ومسلم بعد صلاة المغرب، ويوم الاثنين بعد صلاة المغرب أيضاً في الروض المربع، وقفنا على كتاب البيوع، ويوم الأربعاء بعد المغرب سبل السلام وقفنا على كتاب الجمعة، وأيضاً يوم الأربعاء بعد صلاة العشاء قراءات متنوعة، مجموعة من الإخوان يحضرون كتب ارتبطوا بها من سنين يقرؤون فيها، عصر الجمعة النية أن نبدأ -إن شاء الله- في تفسير الجلالين؛ لأننا جربنا التفاسير المطولة ما أنجزنا منها شيء، تفسير ابن كثير ثلاث سنوات في البقرة، تفسير القرطبي ثمان سنوات في ثمانية أجزاء، في ثمانية مجلدات، فالمطولات تنقطع دونها الأعناق، فرأينا أن يشرح تفسير الجلالين، ويكون مثل المنهج الذي يسار عليه، يعني لا يقتدى به في كل شيء، إنما يكون منهج بأيدي الطلبة توضح معانيه، وتذكر تفاسير الآيات من خلاله ولطائف التفاسير تنقل من غيره -إن شاء الله تعالى-، نبدأ به يوم الجمعة ليس الغد، إنما الجمعة الثانية التي... لأن العادة جرت أننا نبدأ بالدروس في الأسبوع الثاني من كل فصلٍ دراسي.
يقول: ما هي رسالة أبي داود لأهل مكة، وهل تعتبر كمقدمة لكتاب السنن؟
أرسلها إلى أهل مكة لبيان وصف سننه ومنهجه في السنن، وما ذكر فيه من أحاديث، وعدة أحاديثه، وأنه نوعها أنواع منها الصالح، ومنها ما دون ذلك، ذكر فيها الصحيح وما يشبهه ويقاربه، وذكر أن ما فيه ضعف شديد التزم بيانه، والخلاف في هذا البيان هل هو في السنن أو فيها وفي غيرها من مؤلفاته؟.
يقول: سلسلة الأحاديث الصحيحة والضعيفة للألباني -حفظه الله-؟
هذه من أنفع الكتب لطالب العلم، يمكن أن يتخرج عليها الطالب المبتدئ في كيفية التخريج ودراسة الأسانيد والحكم على الأحاديث.
يقول: هل يتيسر نسخ هذه الدروس في كتاب حتى يسهل تناوله؟(1/257)
ذكرت سابقاً أنه يمكن أن يزاد عليه ويضاف ما لم يذكر من الشروح، وأيضاً مناهج الأئمة في المتون، ويخرج -إن شاء الله- في كتاب وإن كان قد يطول أمده؛ لكن حسب التيسير -إن شاء الله تعالى-.
يقول: يوجد في المكتبات صحيح البخاري ومسلم في مجلدٍ واحد؟
ويوجد البخاري في مجلد ومسلم في مجلد والسنن كل واحد منها في مجلد، والمسند أيضاً على كبره في مجلد، ثم أخيراً طبعت الكتب الستة كلها في مجلد، وهي لعدة دور نشر فأيها أجود؟ حقيقةً التخفيف في مثل هذه الطريقة، وجمع الكتب كلها في مجلد واحد ما أدري ما قيمته؟ وما فائدته؟ يعني إن كان القصد خفة الحمل فليس بخفيف الحمل حقيقةً، يعني الكتب الستة في مجلد واحد كتاب ثقيل، إن كان القصد منه في الحضر فهذا الكتب ميسورة والمراجع إليها سهلة، وإن تعددت مجلداتها، وإن كان القصد منه السفر فالعناء فيه أشد؛ لأن ورقه لا يتحمل الأسفار، وعلى كلٍ الطبعات القديمة للكتب الأصلية لا يعدل بها شيء.
يقول: كثيراً ما تذكر أن أفضل الطبعات للكتاب الفلاني طبعة بولاق أو المنيرية إلا أنها غير متوفرة.
نعم، طبعة بولاق غالباً غير متوفرة إلا أن فتح الباري طبعة بولاق مصور، وهو أيضاً نادر، حتى الصورة نادرة، المنيرية لكثير من الكتب مصورة، صحيح البخاري المنير مصور، عمدة القاري المنير مصور، وغيره.
يسأل عن مسند الإمام أحمد والطبعة الجديدة؟
الطبعة الجديدة هي من أجود الطبعات وأكثرها خدمة، طبعة جيدة في الجملة.
هذا سؤالان يتعلقان بتحية المسجد، وهي مسألة علمية حقيقة، ما كنت أودّ أن أتحدث عنها؛ لكنها ما في شك أن بعض الأخوة يؤدي التحية وبعضهم يجلس، ولعل السائل نظر إليّ أنا على وجه الخصوص.
يقول: ما حكم تحية المسجد وما تقولون .. الخ؟ ينكر بعض الأخوة على من لم يؤد تحية المسجد بعد صلاة العصر؟(1/258)
الكلام في هذه المسألة، مسألة ذوات الأسباب وفعلها في أوقات النهي كلام يطول جداً، وتحريره يحتاج إلى وقتٍ طويل، والمسألة مسجلة عني في شريطٍ يكاد يكون كامل، لكن ما يمنع أني ألمح إلى هذه المسألة باختصار، المسألة ورد فيها أحاديث، منها ما يبيّن الأوقات، وأنها خمسة، ومنها ثلاثة مضيقة، كما في حديث عقبة بن عامر: "ثلاث ساعاتٍ كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينهانا أن نصلي فيهن، وأن نقبر فيهن موتانا"، فذكر الثلاثة المضيقة، ومنها: النهي عن الصلاة بعد الصبح حتى طلوع الشمس، وبعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس، المقصود أن المسألة خلافية بين أهل العلم؛ لأنه في مقابل هذه الأحاديث وردت أحاديث أخرى مثل حديث: ((إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين)) وأحاديث ركعتي الطواف وغيرها في أوقات النهي، فهنا مسألتان: أو هنا بحث المسألة في قطبين:
الأول: في النظر إلى النهي وقوته وشدته.
الأمر الثاني: فيما دخل هذا النهي وعمومه ومخصصاته، حديث النهي عمل بها جمهور العلماء، فقالوا بالنهي مطلقاً يعني الصلاة في هذه الأوقات، خلافاً للشافعية الذين قالوا: بفعل ذوات الأسباب في أوقات النهي، وبين هذه الأحاديث أعني أحاديث ذوات الأسباب وأحاديث النهي عموم وخصوص وجهي، ولا يصيب من يقول: أن العموم والخصوص مطلق، كما يذكر كثير من الناس حينما يتكلمون عن هذه المسألة فيقولون: أحاديث النهي عامة، وأحاديث ذوات الأسباب خاصة، هذا الكلام ليس على إطلاقه، أحاديث النهي عامة في الصلوات، خاصة في الأوقات، وأحاديث ذوات الأسباب عامة في الأوقات خاصة في الصلوات، فبين هذه النصوص عموم وخصوص وجهي، فليس قول من قال: إن أحاديث النهي مخصوصة بأحاديث ذوات الأسباب كما يقول الشافعية، ومن يقول بقولهم بأولى من قول من يقول: أن أحاديث ذوات الأسباب عامة مخصصة بالأوقات.(1/259)
وعلى كل المسألة من مضايق المسائل ومن عضلها، والترجيح بين النصوص فيها يحتاج إلى شيءٍ من الإمعان والفهم والإفهام أيضاً؛ لأن المسألة مشتبكة تحتاج إلى مزيد بسط، على كلٍ المسألة تحتاج إلى مرجحٍ خارجي، يعني من نظر إلى أدلة ذوات الأسباب وجدها لا تنهض لمعارضة الأوقات، ومن نظر إلى فعل أو الأمر بذوات الأسباب في أوقات النهي وجدها يمكن تخصيص أحاديث النهي بها، وعرفنا أن مذهب الجمهور الحنفية والمالكية والحنابلة كلهم يمنعون من الصلوات عموماً، اللهم إلا الفرائض في هذه الأوقات المذكورة، وعلى كلٍ الأوقات متفاوتة، فأوقات النهي المضيقة ينبغي أن لا يفعل فيها شيء من التطوعات، أوقات النهي الموسعة بعد صلاة الصبح، أو بعد طلوع الصبح إلى طلوع الشمس هذا موسع، جاء فيه قضاء ركعتي الفجر وهي نافلة، وبعد صلاة العصر صلى النبي -عليه الصلاة والسلام- راتبة الظهر حينما فاتته؛ لكنه ورد ما يدل على اختصاصه بهذا، وعلى كلٍ من صلى في الأوقات الموسعة لا ينكر عليه ومعه أصل، ومن جلس فمعه كذلك، أحاديث النهي ما زالت قائمة، أما في الأوقات المضيقة فالمرجح أنه لا يفعل فيها شيء من ذوات الأسباب ولا غيرها، اللهم إلا قضاء الفوائت من الفرائض.
الآن عندنا في هذا اليوم سنن النسائي والترمذي إن أمكن، وغداً -إن شاء الله تعالى- نكمل الكلام على سنن ابن ماجه والموطأ؛ لأن الخلاف قائم في السادس هل هو ابن ماجه أو الموطأ أو الدارمي؟ فلذلك نرجيء الكلام على السادس غداً -إن شاء الله تعالى-، وسوف يكون الحضور -إن شاء الله تعالى- غداً من بعد صلاة العصر مباشرة، تكون صلاة العصر هنا ويمتد الدرس إلى أن ينتهي -إن شاء الله تعالى- على أني قبيل الغروب بنصف ساعة أو أكثر لا يمكن أن أرتبط به مع أحد، فينهى الدرس قبل الخامسة والنصف -إن شاء الله تعالى-.
سنن النسائي وشروحه:(1/260)
نبدأ بسنن النسائي وتحديد المراد به، سنن الإمام أبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي الحافظ المتوفى سنة ثلاث وثلاثمائة أحد السنن المشهورة، وأحد الكتب الستة بلا نزاع بين أهل العلم؛ لكن الخلاف في المراد بالسنن عند الإطلاق، إذا أطلق السنن فهل المراد به الكبرى أو الصغرى؟ إذا قيل: رواه النسائي وأطلق هل ينصرف الذهن إلى الكبرى أو الصغرى؟ منهم من قال: أن المراد الكبرى، إذا قيل: رواه النسائي فالحديث في الكبرى، وإذا قيل: هذا الكتاب في رجال النسائي فالمراد به الكبرى أيضاً، وبهذا قال ابن الملقن، وقال صاحب عون المعبود في آخر الجزء الرابع عشر قال: "ثم أعلم أن قول المنذري في مختصره وقول المزي في الأطراف الحديث أخرجه النسائي فالمراد به السنن الكبرى، وليس المراد به الصغرى التي هي مروج الآن في الأقطار"، يقول: "وهذه الصغرى المروجة مختصرة من السنن الكبرى، وهي لا توجد إلا قليلاً"، يعني الكبرى، لا شك أن الذي راج ودرج واشتهر بين الناس هي الكبرى مسماة بالمجتبى، يقول: "فالحديث الذي قال فيه المنذري والمزي أخرجه النسائي، وما وجدته في السنن الصغرى، فاعلم أنه في الكبرى، ولا تتحير لعدم وجدانه فإن كل حديثٍ هو موجود في الصغرى يوجد في السنن الكبرى لا محالة من غير عكس" على أنه قد يوجد -وهذا نادر- في السنن الصغرى ما لا يوجد في الكبرى، ويقول المزي في كثيرٍ من المواضع: "وأخرجه النسائي في التفسير وليس في الصغرى تفسير"، والله أعلم، وفي تدريب الراوي للسيوطي تنبيهات: "الثالث سنن النسائي الذي هو أحد الكتب الستة أو الخمسة هي الصغرى دون الكبرى" صرح بذلك التاج السبكي قال: "وهي التي يخرجون عليها الأطراف والرجال" وإن كان شيخه المزي ضمّ إليها الكبرى، وصرح ابن الملقن بأنها الكبرى وفيه نظر، يقول: "ورأيت بخط الحافظ أبي الفضل العراقي أن النسائي لما صنّف الكبرى أهداها لأمير الرملة فقال له: أكل ما فيها صحيح؟ فقال: لا، فقال:(1/261)
ميّز لي الصحيح من غيره فصنّف له الصغرى" هذه القصة مشتهرة عند أهل العلم مما يدل على أن النسائي هو الذي تولى اختصار السنن بنفسه، ومنهم من يقول: أن الذي اختصر السنن هو تلميذه ابن السني، ويدعمون ذلك بأنه يوجد في الصغرى أحياناً قال ابن السني: قال أبو عبد الرحمن، وهذا ليس بحجة، فإن كتب المتقدمين تذكر فيها أسماء الرواة عن أصحابها، المسند كله من أوله إلى آخره عدا الزوائد حدثنا عبد الله قال: حدثني أبي، الأم قال الربيع: قال الشافعي، الموطأ: حدثنا يحيى بن يحيى قال: أخبرنا مالك.. الخ.
المقصود أن هذه ليست بحجة قاطعة في أن الكتاب من اختصار ابن السني، ولو ذكر اسمه فإن طريقة المتقدمين في التأليف تختلف عن طريقة المتأخرين، يذكر الراوي في أصل الكتاب، كما ذكرنا عن الموطأ والمسند والأم وغيرهم، ومن جهل طرائق ومناهجهم في التصنيف أقدم على ما لم تحمد عقباه، حتى صنف بعضهم (إصلاح أشنع خطأ في تاريخ التشريع الإسلامي الأم ليست للإمام الشافعي) وما يدري أن نسبة الأم للإمام الشافعي استفاضت واشتهرت استفاضةً أكثر من استفاضة نسبته إلى أبيه.(1/262)
على كلٍ لجهل هذا القائل بطرائق المتقدمين في تصنيفهم قال هذا الكلام، وألف في ذلك رسالة، وعلى كل حال الشيخ أحمد شاكر -رحمه الله تعالى- تصرف في المسند تصرفاً غير مرضي، فحذف أوائل الإسناد، حذف عبد الله وحذف الإمام أحمد فمباشرة حدثنا فلان يعني شيخ الإمام أحمد، وهذا تصرف، لا شك أنه تصرف غير مرضي وإن كان من الشيخ أحمد شاكر على جلالته وإمامته -رحمه الله-، التصرف في كتب الآخرين غير مرضي عند أهل العلم حتى قالوا: أنه إذا وجد الخطأ في الكتاب، الخطأ الذي لا يحتمل الصواب لا يجوز تغييره، ولا تصويبه، بل يروى على الخطأ؛ لكن ينبه على الصواب في الحاشية أو أثناء قراءة الكتاب، يقول: "وفي كشف الظنون.. ذكر القصة السابقة، القصة السابقة قصة أمير الرملة معروف أنها تكلم فيها كثير من أهل العلم وعلى رأسهم الذهبي -رحمه الله تعالى- في ترجمة النسائي من السير، في كشف الظنون ذكر القصة السابقة فلخص النسائي السنن الصغرى منها، وترك كل حديث أورده في الكبرى مما تكلم في إسناده بالتعليل وسماه المجتبى، وهو أحد الكتب الستة".(1/263)
"وإذا أطلق أهل الحديث على الحديث على أن النسائي رواه فإنما يريدون المجتبى"، يعني موافق لكلام السيوطي، سنن النسائي -رحمه الله تعالى- من الأهمية بمكانٍ عظيم، لكن الباحث عن شرح لهذا الكتاب حقيقةً ما يجد ما يكفي ويشفي عند المتقدمين، ابن الملقن وهو متأخر في المتوفى سنة أربع وثمانمائة شرح زوائده على الأربعة، والسيوطي أيضاً له حاشية وهو شرح مختصر جداً يأتي ذكره، وأيضاً السندي له حاشية، هؤلاء كلهم لهم خدمة لسنن النسائي، وهي خدمة لا توازي قيمة الكتاب، كتاب عظيم، هناك شروح؛ لكنها مفقودة، شرح ابن رشد قالوا عنه: أنه كتاب حافل، لكن لا يعلم عن وجوده شيء، وشرح لأبي الحسن علي بن عبد الله بن نعمة اسمه (الإمعان في شرح مصنف النسائي لأبي عبد الرحمن) وهو أيضاً مفقود، على كلٍ الكتاب بحاجة إلى عناية، وفيه شرح معاصر نأتي على ذكره -إن شاء الله تعالى-، وهذه الخدمات من السابقين لا تليق بمقام الكتاب، حواشي وتعليقات يسيرة على الكتاب، ولعل الذي صرفهم عن خدمة هذا الكتاب صعوبته؛ لأن الكتاب أشبه ما يكون بكتب العلل، فتراجمه علل، يعلل الأحاديث بالتراجم.
(زهر الربا على المجتبى):
أولاً: نأتي إلى (زهر الربا على المجتبى) مؤلفه جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد السيوطي المتوفى سنة إحدى عشر وتسعمائة، وهو تعليق مختصر جاء في مقدمته يقول: "هذا الكتاب الخامس مما وعدت بوضعه على الكتب الستة، وهو تعليق على سنن النسائي أبي عبد الرحمن على نمط ما علقته على الصحيحين، وسنن أبي داود وجامع الترمذي" يعني علق على البخاري في مجلد، وعلق على مسلم في مجلد، كل واحد من الستة علق عليه في مجلد، وليس بالكبير أيضاً، يقول: "وهو حقيق بذلك"، حقيق بالخدمة لا شك، لكن حقيق بهذه الخدمة المختصرة جداً؟ لا.(1/264)
"إذ له منذ صنّف أكثر من ستمائة سنة ولم يشتهر عليه من شرحٍ ولا تعليق، وسميته زهر الربى على المجتبى" ستمائة سنة بين النسائي والسيوطي لا يوجد شرح مناسب لهذا الكتاب، مع أن شرح السيوطي حقيقةً لا يناسب هذا الكتاب، افتتح السيوطي شرحه بمقدمة ذكر فيها شروط الأئمة نقلاً عن ابن طاهر، وأن ما يرويه أبو داود والنسائي على ثلاثة أقسام:
الأول: الصحيح المخرج في الصحيحين.
والثاني: صحيح على شرطهما.
الثالث: أحاديث خرجاها من غير قطعٍ منهما بصحتها.
يقول: "وقد أبنا علتها بما يفهمه أهل المعرفة" أشبه ما يكون بالألغاز كتاب السيوطي، منهج السيوطي في الشرح أولاً: السيوطي لا يتعرض للتراجم بشرحٍ ولا تعليق مع أنها من أولى ما يتكلم عليه في سنن الترمذي، ثانياً: يترجم للرواة على طريقة المزج باختصارٍ شديد.
ثالثاً: يشرح ما يحتاج إلى شرحه من المفردات، وهو أيضاً بإيجاز.
رابعاً: يذكر بعض الفوائد والأحكام باختصار نقلاً عن من تقدمه كالنووي وابن حجر.
خامساً: يذكر اختلاف الروايات في بعض الألفاظ، والكتاب مطبوع مراراً مع النسائي، كما طبع مختصره، يعني على اختصاره له مختصر، السيوطي كتبه وشروحه على الكتب الستة المختصرة جداً لها مختصرات، قام باختصار الكتب الستة كلها شخص مغربي يقال له: علي بن سليمان الدمنثي البجمعوي، له اختصار (التوشيح على الجامع الصحيح) سماه (روح التوشيح)، (الديباج على صحيح مسلم بن الحجاج) سماه (وشي الديباج)، (زهر الربا على المجتبى) سماه (عرف زهر الربى)..الخ، (مرقاة الصعود على سنن أبي داود) قال: (درجات مرقاة الصعود)..الخ.
حاشية السندي على النسائي:(1/265)
هنا أيضاً حاشية السندي على النسائي، ومؤلفها أبو الحسن نور الدين ابن عبد الهادي السندي ثم المدني المتوفى سنة ثمان وثلاثين ومائة ألف، جاء في مقدمتها: "وبعد فهذا تعليق لطيف على سنن الإمام الحافظ أبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي بن بحر النسائي -رحمه الله تعالى-"، يقول: "يقتصر على حل ما يحتاج إليه القارئ والمدرس من ضبط اللفظ، وإيضاح الغريب والإعراب، رزق الله تعالى ختمه بخير، ثم ختم الأجل بعد ذلك على أحسن حال" آمين يا رب العالمين، ثم ذكر شرط النسائي، وأنه يخرج أحاديث أقوامٍ لم يجمعوا على تركهم، "إذا صح الحديث بالاتصال لإسناد من غير قطعٍ ولا إرسال"، ثم نقل عن النسائي قوله: "لما عزمت على جمع السنن استخرت الله تعالى في الرواية عن شيوخٍ كان في القلب منهم بعض الشيء، فوقعت الخيرة على تركهم"، ولذلك ما أخرج حديث ابن لهيعة، وإلا فقد كان عنده حديثه ترجمةً ترجمة، يعني جميع أحاديث ابن لهيعة عند النسائي ومع ذلك تحاشى التخريج عنه، وإن خرج له أبو داود والترمذي وغيرهما.
السندي من منهجه في التعليق يشرح الترجمة ويبيّن مراد النسائي وهذه ميزة، لكنه باختصار لا يترجم للرواة، ولعله اكتفاءاً بما في شرح السيوطي، يتكلم على فقه الحديث بشيءٍ من البسط، البسط المناسب لواقع الكتاب، وإلا فالكتاب في جملته مختصر أكثر من كلام السيوطي؛ لكنه لا يستوعب الأقوال ولا يستدل لها، ويرجح رأي الحنفية غالباً؛ لأنه حنفي المذهب، يشيد بالمؤلف –النسائي- ودقته في الاستنباط، ودقة تراجمه كثيراً، وعلى كل حال فالحاشية تعتبر مكملةً لشرح السيوطي، وهي أبسط منه، وقد طبعتا معاً مراراً.
(ذخيرة العقبى في شرح المجتبى):(1/266)
في شرح حقيقةً لشخصٍ معاصر متأخر من باب الوفاء لمن خدم السنة يُذكر حقيقةً هذا الشرح اسمه (ذخيرة العقبى في شرح المجتبى) مؤلفه محمد بن الشيخ علي بن آدم بن موسى الأثيوبي الولوي، وهو معاصر وموجود الآن مدرس في دار الحديث الخيرية في مكة، شرح مبسوط جداً، يتوقع أن يصل إلى أربعين مجلداً، لأنه على حد كلامه هو انتهى من المجلد الثامن والعشرين في شرح ستة أجزاء من ثمانية، ولم يطبع منه إلى الآن إلا تسعة مجلدات هذه التسعة في خمس السنن تقريباً أو أقل.(1/267)
جاء في مقدمة الكتاب: "أما بعد: فيقول أفقر الورى إلى عفو الله تعالى محمد بن الشيخ علي آدم الأثيوبي لما رأيت سنن الإمام الحافظ الحجة أبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي -رحمه الله- المسماة بـ(المجتبى) بالباء، أو (المجتنى) بالنون، لم يقع لها شرح يحل ألفاظها حق حلٍ، ويبين معانيها أتمّ تبيين، ويتكلم على رجال أسانيدها وغوامض متونها، ويستنبط منها الأحكام إذ تحت كل حديث خبايا أسرار، وضمن كل خبرٍ خفايا أنوار"، ثم قال: "وكيف لا وهو كلام من أوتي جوامع الكلم، واختصر له الكلام اختصاراً -صلى الله عليه وسلم-" يقول: "شمرت عن ساعد الجدّ تشميراً، ونبذت الكسل والملل وراء ظهري نبذاً مريراً، وناديت المعاني بأعلى صوتي جهاراً، فلبتني من كل جانبٍ محبرةً بعبارة محققنا بداراً" يقول: "فاستعنت بالله تعالى وقلت: وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب" إلى أن قال: "وسميته (ذخيرة العقبى في شرح المجتبى) وإن شئت فقل: (غاية المنى في شرح المجتنى)" بعد ذلكم قال: "تنبيه"، جاء بتنبيهات أولها قال: "إني لست في الحقيقة مؤلفاً ذا تحرير، ومصنفاً ذا تحبير، وإنما لي مجرد الجمع لأقوال المحققين، والتعويل على ما أراه منها موافقاً لظاهر النص المبين، فأنا جامع لتلك الأقوال ومرتب لها في كل ما يناسبها من الحديث ثم النظر فيها وفي تناسبها حسب قربها وبعدها منه، والاعتماد على ما يترجح لدى فهمي القاصر وذهني الفاتر، فلذا لا أترك من الأقوال المروية بحكم كل حديث إلا ما غاب عني بدليله، إذا كان بجانبه دليل مذكور، وإن كنت أراه ضعيفاً في نظري -يعني يذكر كل شيء الضعيف والقوي- فعسى أن يطلع عليه غيري ويراه صحيحاً لدليلٍ يقويه، إما من نفس ذلك الحديث لم يظهر لي وجهه، أو نصٍ آخر أقوى منه، فرب مبلغٍ أوعى من سامع" ثم ذكر فوائد التكرار والتطويل -يعني في الشرح- نقلاً عن النووي في شرح مقدمة مسلم، ثم ذكر مصادره في كتابه، أنه اعتمد على كتب(1/268)
الرجال ثم سردها، وكتب المصطلح أيضاً ثم ذكرها، والشروح للأحاديث سواء كانت للصحيحين أو لغيرهما، والمتون والأطراف واللغة والغريب والفقه والنحو والصرف وغيرها، ثم ترجم للإمام النسائي وذكر مؤلفاته ومذهبه في الجرح والتعديل ومنهجه في التصنيف، وبيان العالي والنازل في سننه، ثم تحدث عن سننه الكبرى، ورواة السنن عن النسائي، وعناية الحافظ بها، ثم تحدث عن السنن الصغرى والموازنة بينها وبين الكبرى، وسبب انتخاب النسائي للصغرى من الكبرى، وزيادة الكبرى على الصغرى وعكسه، ثم تحدث عن تسمية الكتاب المجتبى أو المجتنى وعناية العلماء به، ثم بعد ذلكم ذكر رسالة بكاملها للسخاوي في ختم سنن النسائي سماها (بغية الراغب المتمني في ختم النسائي برواية ابن السني) استغرقت هذه الرسالة قرابة سبعين صفحة من المقدمة، وهي تشكل ما يقرب من نصف المقدمة، نصف المقدمة هذه الرسالة، إذ المقدمة (150) تقريباً، وهذه سبعين، ثم تحدث عن تقريب التهذيب لاعتماده الكبير عليه، يعني في تراجم الرواة في الغالب يعتمد على التقريب، ويقلد الحافظ في أحكامه، وإن كان الأجود والأولى أن يجتهد في أحكامه على الرجال؛ لكن لا يمكن أن يجتهد في كل راوٍ راوٍ، مع جمعه هذا الكم الهائل من أقوال أهل العلم في الأحاديث، وطبقات الرواة.
ثم ختم مقدمة في بيان منهج هذا الشرح ومصطلحاته، فقال: "اعلم أن منهج هذا الشرح كما يلي:(1/269)
كتابة الترجمة التي ذكرها النسائي، ثم شرح هذه الترجمة، كتابة الحديث سنداً ومتناً، الكلام على تراجم رجال الأحاديث، ذكر لطائف الإسناد، شرح المتن، ثم بعد ذلكم مسائل تتعلق بالحديث، درجة الحديث، بيان مواضع ذكره عند المصنف في الصغرى والكبرى، بيان من أخرجه من أصحاب الأصول، بيان فوائد ذلك الحديث، ذكر مذاهب العلماء، إن كان هناك اختلاف في حكم ذلك الحديث ثم ترجيح الراجح، ثم إذا بقي هناك أمور لها تعلق بذاك الحديث يقول: فأذكرها بمسألة سادسة فسابعة فثامنة وهلم جراً".
وربما يغير هذا الأسلوب بزيادةٍ أو نقص لسبب ما، ثم ذكر مصطلحات الشرح ورموزه، ثم أعقب ذلكم بذكر أسانيد المؤلف إلى النسائي -رحمه الله تعالى-، والكتاب طبع منه تسعة مجلدات كما قلت، تعادل خمس الكتاب، يتوقع أن يتم الكتاب في أربعين مجلداً، يعني إذا كان الستة من ثمانية ثلاثة أرباع الكتاب في تسع وعشرين أو ثمانية وعشرين مجلداً يتوقع أن يصل إلى ما يقرب من أربعين أو سبع وثلاثين أو ثمان وثلاثين بهذه الحدود.
والكتاب لا شك أنه كتاب قيم لا سيما وأن سنن النسائي لم يخدم من قبل المتقدمين خدمة تليق بالكتاب، يطيل في شرح الحديث إطالة يعني الطالب الذي يقرأ الكتاب قراءة وهو لم يتعود على القراءة يكاد يملّ منها، نعم المراجعة عند الحاجة أمرها سهل يسير؛ لأن المراجع يحتاج إلى تطويل؛ لكن الشخص الذي يريد أن يقرأ الكتاب من أوله إلى آخره بهذا الطول يكاد أن ينثني عن قراءته؛ لكن الكتاب جمّ الفوائد، وإن كان جلّ هذه الفوائد منقول من الشروح، سواء كانت شروح الصحيحين أو غيرهما.
وتأتي أهمية هذا الكتاب من خلو الكتاب الأصل من الخدمة، فعلينا جميعاً أن نعتني بهذا الكتاب، وكما قلت طبع منه تسعة مجلدات وطبع الباقي جاري، في هذه الإجازة طبع منه أربعة، كان المطبوع خمسة ثم طبع السادس والسابع والثامن والتاسع أخيراً.
شروح سنن الترمذي:(1/270)
هو جامع الإمام أبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي المتوفى سنة تسع وسبعين ومائتين، هو أحد الكتب الستة بلا نزاع، على خلافٍ في ترتيبه بين هذه السنن، منهم من يقدمه بعد الصحيحين فيكون الثالث، ومنهم من يؤخره ليكون الخامس على خلافٍ بين أهل العلم في ذلك، من نظر إلى كثرة فوائده، سواء كان منها ما يتعلق بالحديث وصناعته والكلام على الرواة، وتخريج الأحاديث والإشارة إلى الشواهد، من نظر إلى هذه الفوائد مجتمعة جعله الثالث، ومن نظر إلى نزوله في شرطه، وأن شرطه أضعف من شرط أبي داود والنسائي؛ حتى أنه خرج لبعض المتروكين، أنزله إلى المنزلة الخامسة، يقول ابن الأثير في مقدمة جامع الأصول: "كتاب أبي عيسى أحسن الكتب وأكثرها فائدة، وأحسنها ترتيباً وأقلها تكراراً، وفيه ما ليس في غيره من ذكر المذاهب ووجوه الاستدلال، وتبيين أنواع الحديث من الصحيح والحسن والغريب وغير ذلك" ويقول الدهلوي في (بستان المحدثين): "تصانيف الترمذي كثيرة وأحسنها هذا الجامع الصحيح، بل هو من بعض الوجوه والحيثيات أحسن من جميع كتب الحديث"، أولاً: من جهة حسن الترتيب وعدم التكرار، والثاني: من جهة ذكر مذاهب الفقهاء، ووجوه الاستدلال لكل أحدٍ من أهل المذاهب، والثالث: من جهة بيان أنواع الحديث من الصحيح والحسن والضعيف والغريب والمعلل بالعلل وغير ذلك، والرابع: من جهة بيان أسماء الرواة وألقابهم وكناهم، ونحوها من الفوائد المتعلقة بعلم الرجال.(1/271)
في آخر الجامع ذكر الترمذي كتاب العلل، المعروف بالعلل الجامعة وهو مختصر جداً، فيه فوائد جمة، وفيه نفائس، وله أيضاً كتاب العلل الكبير، كتاب مستقل طبع ترتيبه في مجلدين، وعلى كلٍ كتاب العلل الصغير علل الجامع محل عناية، جميع من شرح جامع الترمذي، ومن أنفس شروحه وإن كان سابق على أوانه شرح الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى-، وأفرد لأنه لم يوجد غيره، وإلا فالأصل هو تابع لشرح الترمذي للحافظ ابن رجب وهو أعجوبة من أعاجيب الدهر، يعني نقل عنه بعض النقول التي تدل على إمامة هذا الرجل، ويقال: أنه أعظم من شرحه للبخاري وأنفس، وشرحه للعلل، علل الجامع تدل على رسوخ خدمه -رحمه الله تعالى-، قال بعضهم -يعني في سنن الترمذي-: "هو كافٍ للمجتهد، ومغنٍ للمقلد"، وقال أبو إسماعيل الهروي: "هو عندي أنفع من الصحيحين؛ لأن كل أحدٍ يصل إلى الفائدة منه، وهما لا يصل إليها منهما إلا العالم المتبحر".
ولأهمية هذا الجامع اعتني به من قبل العلماء فشرحوه، فممن شرحه ابن العربي في (عارضة الأحوذي)، وابن سيد الناس في (النفح الشذي) وتكملته للحافظ العراقي ولابنه وللسخاوي على ما سيأتي الحديث عنه -إن شاء الله تعالى-، ابن الملقن شرح زوائده على الصحيحين وأبي داود، ابن رجب شرحه أيضاً شرحاً لكنه مع الأسف الشديد مفقود كله، سوى شرح العلل، من شروحه المختصرة شرح للسيوطي سماه (قوت المغتذي) وحاشية لأبي الحسن السندي، ومن شروحه أيضاً وهو شرح نفيس لمعاصر المسمى بـ(تحفة الأحوذي) للمباركفوري، يأتي الحديث عنها -إن شاء الله تعالى- كلها.
(عارضة الأحوذي):
فـ(عارضة الأحوذي) مؤلفه أبو بكر محمد بن عبد الله الأشبيلي المعروف بابن العربي المالكي، المتوفى سنة ستٍ وأربعين وخمسمائة.(1/272)
عارضة الأحوذي ما معنى العارضة؟ وما معنى الأحوذي؟ يقول ابن خلكان في ترجمة ابن العربي: "العارضة: القدرة على الكلام، يقال: فلان شديد العارضة إذا كان ذا قدرةٍ على الكلام، والأحوذي: الخفيف الشيء لحذقه، وقال الأصمعي: الأحوذي المشمر في الأمور، القاهر لها، الذي لا يشذ عليه منها شيء" ابن العربي ألف هذا الكتاب إجابةً لطلب طائفةٍ من الطلبة، عرضوا عليه الرغبة الصادقة في صرف الهمة إلى شرح هذا الكتاب، يقول: "فصادفوا مني تباعداً عن أمثال هذا، وفي علم علام الغيوب أني أحرص الناس على أن تكون أوقاتي مستغرقةً في باب العلم"، يقول: أنا حريص على العلم وطلبه ونشره إقراءً وتأليفاً؛ لكن صادفوا مني تباعداً لكثرة المشاغل، يشتغل بالقضاء وغيره..(1/273)
إلى أن قال -بعد أن ألحّوا عليه فأجاب طلبهم-: "فخذوها عارضةً من أحوذي، علم كتاب الترمذي، وقد كانت همتي، طمحت إلى استيفاء كلامه بالبيان، والإحصاء لجميع علومه بالشرح والبرهان؛ إلا أنني رأيت القواطع أعظم، والهمم أقصر عنها، والخطوبة أقرب منها، فتوقفتُ مدةً إلى أن تيسرت مندة الطلبة واغتنمتها" على كلٍ الطبعة هذه محرفة، مشحونة، مملوءة بالأخطاء، لا تكاد تستقيم لك صفحة كاملة بدون تحريف وخطأ وتصحيف، ولذلكم تسمعون من مقدمته أشياء أنا أصلحت كثيراً منها، ويكفي في بيان ما فيها من أخطاء أن الطابع طلب من الشيخ -أولاً الطبعة من ستين أو خمسة وستين سنة، ما هي جديدة، هذه مصورة- طلب من الشيخ أحمد شاكر نسخته من الترمذي، -هذا برهان على كثرة أخطاء هذه الطبعة وعدم الاعتماد على طابعها أو ناشرها- طلب نسخة الشيخ أحمد من جامع الترمذي والشيخ معلق على نسخته ومخرج بعض الأحاديث، نقلوا بعض تعاليق الشيخ أحمد شاكر في صلب المتن، متن الترمذي، فمثلاً يقول: "وأبو هريرة اختلف في اسمه فقالوا: عبد شمس" الشيخ أحمد شاكر قال: "اختلف على نحو ثلاثين قولاً" أدخلوها في كلام الترمذي، "اختلف على نحو ثلاثين قولاً في اسمه.. الخ" فهؤلاء استعاروا نسخة الشيخ، وأيضاً فيه بعض التخاريج، في بعض الأحاديث: "رواه أبو داود" أدخلوها، فهذا دليل على جهلهم، وضعف عنايتهم في الطباعة، والتحريف والأسقاط شيء يفوق الخيال، ولذا لو تيسر طبع الكتاب من جديد، نعم أحياناً يسقط حديث كامل، وأحياناً يسقط تعليق على حديث في سطرين أو ثلاثة، والنسخة هذه موجودة فيها إصلاحات كثيرة، أما سقط الكلمة والكلمتين، وتحريف اللفظة واللفظتين الشيء الذي يفوق الوصف، ما في إلا طبعة واحدة.
يقول أيضاً في المقدمة: "اعلموا -أنار الله أفئدتكم- أن كتاب الجعفي -يعني صحيح البخاري- هو الأصل الثاني" الأصل الأول إيش؟
طالب: القرآن.(1/274)
قولاً واحداً؟ يقول: "اعلموا -أنار الله أفئدتكم- أن كتاب الجعفي هو الأصل الثاني في هذا الباب، والموطأ هو الأول واللباب -لأنه مالكي ابن عربي مالكي المذهب-، يقول: "كتاب الجعفي -يعني صحيح البخاري- هو الأصل الثاني في هذا الباب، والموطأ هو الأول واللباب وعليهما بناء الجميع كالقشيري -يعني مسلم- والترمذي فما دونهما" إلى أن قال: "وليس فيهم مثل كتاب أبي عيسى حلاوة مقطع، ونفاسة منزع، وعذوبة مشرع، وفيه أربعة عشر علماً" ثم ذكرها بكلامٍ مسخه الطابع مسخاً، ثم قال: "ونحن سنورد فيه -إن شاء الله تعالى- بحسب العارضة قولاً في الإسناد والرجال والغريب، وفناً من النحو والتوحيد والأحكام والآداب، ونكتاً من الحكم وإشارات إلى المصالح، فالمنصف يرى رياضه أنيقة، ومقاطع ذات حقيقة، فمن أي فنٍ كان من العلوم وجد مقصده".
طريقة ابن العربي في الشرح يذكر طرف الإسناد، مثلاً الحديث الأول -أيضاً الطابع من أوهامه وأخطائه جعل سند ابن العربي في روايته للترمذي بين الترجمة التي وضعها الإمام الترمذي نفسه (أبواب الطهارة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- باب ما جاء لا تقبل صلاة بغير طهور) هذا كلام الترمذي ثم بعد ذلك: (اخبرنا الشيخ أبو الفتح) كلام ابن العربي، مع أن كلام ابن العربي مفصول تحت؛ لكنه طبعها ضمن المتن،(1/275)
في الحديث الأول: (باب لا تقبل صلاة بغير طهور مصعب بن سعد عن ابن عمر ترك أول الإسناد واقتصر على طرفه من الآخر عن ابن عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((لا تقبل صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول)) أصح شيء في هذا الباب، ثم يقول: "إسناده" يتكلم على الإسناد بكلامٍ ما يستوعب جميع الرواة، إنما يتحدث عن بعضهم، وضمن الإسناد يخرج الحديث تخريجاً مختصراً، ثم يذكر غريب الحديث، ثم يذكر الأحكام، وتحت هذا العنوان أحكامه، يقول: "فيه مسائل" على عددها، خمس مسائل ست مسائل على حسب ما استنبط من الحديث، في مسائل: الأولى، الثانية، الثالثة، الرابعة، الخامسة..الخ، ثم يقول: "التوحيد فيه ثمان مسائل" مع أن هذه المسائل التي في وضعت تحت هذا الحديث إنما هي تابعة للحديث الثاني، وليست تابعة للحديث الأول، فما أدري كيف تصرف في طبع هذا الكتاب؟ ومع ذلكم هو لا يلتزم بجميع هذه العناصر التي ذكرها من الإسناد والأحكام والفقه والتوحيد واللغة، أحياناً يذكر اللغة، أحياناً يذكر الإعراب عنوان؛ لكنه لا يلتزم بذلك، فقد يقتصر على عنصر واحد، الأحكام فقد مثلاً، أو اثنين، ومعروف أن ابن العربي مالكي المذهب، في الغالب يرجح مذهب مالك، وقد يخرج عنه لقوة الدليل، فمثلاً في الجزء الثاني صفحة (101) رجح الافتراش في التشهد الأول خلافاً لمذهب مالك الذي يرى التورك في التشهدين.(1/276)
مع الأسف في باب الصفات منهجه كغيره من كثيرٍ من الشراح يسلك مسلك التأويل، فيؤول نصوص الصفات عن ظاهرها على ضوء ما هو معمول به عند الأشاعرة، فمثلاً شرح حديث النزول في الجزء الثاني صفحة (233 -237) أول النزول على غير ظاهره، وأيضاً في الثالث صفحة (163) ((إلا أخذها الرحمن بيمينه)) يعني في الصدقة، "الأصول منها أربع مسائل: الأولى: اختلف الناس -كما قدمنا- في هذه الأحاديث المشكلة، فمنهم من أمرها كما جاءت سواء، وقال بها ولم يفسر، ولم يمثل ولم يشبه، ومنهم من تأولها، وأنكر أبو عيسى التأويل ومال إلى ترك التكلم، وهو مذهب أكثر السلف، وتحرج علماؤنا في التأويل، والمقصود يتبين في أربع مسائل: الأولى: لا يخفى عليهم ما خوطبوا به في لسانهم وخفي على الصحابة الأمر" المقصود كلام على طريقة التأويل إلى أن قال: "فالأمر قريب بفضل الله" يعني سواءً كانت تأويل أو إمرارها كما جاءت، ثم جاء إلى حديث: ((إلا أخذها الرحمن بيمينه)) ثم قال في الحديث الآخر: ((بيمينه)) شرف الصدقة، بأنه يخبر عنها بالأخذ بيمينه ((وكلتا يديه يمين)) عبر باليدين عن تصريفه للأمور وتقديره لها وتدبيره فيها، ليس بذلك لمن لا يتصرف إلا بيديه.. الخ" كلام مشكل، الكتاب مملوء بالفوائد الفقهية والنوادر والنكات واللطائف؛ لكنه بحاجة إلى إعادة طبع من جديد وتحقيق، وفيه أيضاً أحاديث كثيرة ساقطة تدرك من مقابلة الكتاب نسخه بعضها من بعض، والتصحيحات والتصويبات يمكن تجعل الكتاب ضعف هذا الحجم.
طالب: عدد الأجزاء؟
ثلاثة عشر جزاءً، يعني صغار، كل جزئين في مجلد، وليس لها من الطبعات إلا هذه الطبعة، يعني طبعة أصلية أما مصورات كثيرة.
(النفح الشذي):(1/277)
بعد هذا كتاب لابن سيد الناس اسمه (النفح الشذي) مؤلفه أبو الفتح محمد بن محمد بن محمد بن سيد الناس اليعمري المتوفى سنة أربع وثلاثين وسبعمائة، وهو شرح نفيس مملوء بالفوائد والشوارد من الأحكام الفقهية والصناعة الحديثية، أبان عن إمامة مؤلفه إلا أنه لم يكمل، حيث وقف ابن سيد الناس في شرحه عند: باب ما جاء أن الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام.
ثم شرع الحافظ العراقي في إكماله على طريقة مؤلفه بل أوسع؛ لكنه كسابقه مات الحافظ العراقي قبل إتمامه فشرع ابنه الحافظ أبو زرعة في تكميله وكسابقيه لم يكمله، ثم ذكر السخاوي في ترجمته لنفسه من الضوء اللامع أن من مؤلفاته تكملة شرح الترمذي للعراقي، وذكر أنه كتب منه أكثر من مجلدين في عدة أوراق من المتن، فأصل هذا الكتاب وتتماته سمتها الطول والاستقصاء والتتبع، على كل يتلخص منهج ابن سيد الناس في شرحه بما يلي:
يذكر نص الترجمة ويشرحها، يذكر المتن ويخرج الأحاديث، ويبين درجة الأحاديث، ويدرس الأسانيد، ويبين معاني الألفاظ ويضبطها ويعربها إعراباً وافياً، ويبين الأحكام المستفادة من الحديث، وحكمة التشريع منها، ويبين ويستطرد في ذكر المباحث الأصولية المتعلقة بالحديث، والمؤلف له آراء وإضافات من تلقائه، يعني استنباطات من عنده، فهو مجدد في باب الشرح، وليس بنقال كما هي سمة كثير من الشراح، يمتاز هذا الشرح بتوسعه في الشرح عموماً، ويعنى بتخريج الأحاديث ويستطرد في ذلك، والكتاب حافظ لآراء مؤلفه وهو إمام في الصناعة الحديثية، وتنقل أقواله كثيراً في كتب المصطلح.(1/278)
أما تكملة الحافظ العراقي فهي على نمطه إن لم تكن أجود، وأما تكملة الابن أبي زرعة والسخاوي فلم أطلع عليهما، والكتاب مع الأسف أنه على أهميته ونفاسته لم يطبع منه سوى مجلدين والثالث منذ سنين تحت الطبع فلا يدرى ما مصيره، والذي يعوق عن إتمام مثل هذه المشاريع طول النفس في التعاليق، فالذي طبع الكتاب وحققه وعلق عليه مجلدين فقط الشيخ أحمد معبد -حفظه الله تعالى- أطال النفس في تعاليقه على هذا الكتاب، واستطرد في التعليق على بعض المسائل الاصطلاحية وبعض الرواة، بعض الرواة استغرقت تراجمهم عند الشيخ في التعليق سبعين صفحة، فمثل هذا العمل -والله أعلم- ما يتم على هذه الطريقة، ولا يمكن أن يتم، فلا إفراط ولا تفريط، لا غلو ولا جفاء، يعني يُعتنى بكتب أهل العلم وتُخرج كما يريده مؤلفوها من الصحة والضبط والإتقان، ويعلق عليها بتعليقٍ خفيف في مواطن الحاجة، ويحال على ما يحتاج إليه من مواضع الكتب، أما إثقال الكتب، نعم تعليق الشيخ ما تقاس بتعاليق غيره ممن همه تسويد الورق وتكثير الصفحات، لا الشيخ كلامه مفيد؛ لكنه يعوق عن إخراج الكتاب وإتمامه.
النسبة للغد بعد عصر الجمعة عرفنا أن البدء -إن شاء الله- بعد الصلاة مباشرة، نصلي هنا العصر ونبدأ به مباشرة، وننتهي قبل الخامسة والنصف الآن أن نتحدث عن بقية شروح الترمذي، شروح ابن ماجه والموطأ على اختصار ليكون العمل تاماً ولو على وجه، لكن ما لا يدرك كله لا يترك جله، إلا إذا كان الإخوان يشقّ عليهم المجيء بعد صلاة العصر مباشرة، في محاضرة بعد المغرب؟(1/279)
إذا ما في محاضرة بعد المغرب مناسب بعد الصلاة مباشرة، أما إذا في محاضرة بعد المغرب فيصعب، إلا إذا كان القصد يجلسون لهم نصف ساعة آخر ساعة من الجمعة في المسجد حتى تأتي المحاضرة بعد المغرب هذا جيد، لكن إذا كان ما في محاضرة فيكون الحضور -إن شاء الله- بعد الصلاة مباشرة، البدء بالدرس بعد الصلاة مباشرة، ولا نخرج إلا وقد أكملنا ما وعدنا به -إن شاء الله تعالى-، والله أعلم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
هذه ورقة فيها عدة فقرات: يقول: لم تشيروا في الكلام على بذل المجهود من انتقده عليه الدكتور الخميس من مسائل المعتقد؟
مسائل العقيدة في غالب الشروح -هذه أشرنا إليها كثيراً- أنها تعتمد على التأويل في الغالب، يوجد القليل النادر من الشروح الخالي من التأويل، وهذا مع الأسف الشديد نادر جداً، فأشرنا إلى ما فيه من شيءٍ بارز جداً فيه وهو تعصبه لمذهب الحنفية، والغالب على الحنفية المتأخرين بالنسبة للمعتقد أنهم على مذهب الماتريدي، وهو موجود أيضاً في هذا الكتاب.
يقول: لم تذكروا خدمة أبي إسحاق الحويني لسنن النسائي؟
خدمة أبي إسحاق الحويني هي مجرد تخريج للكتاب، وموضوع الدروس في الشروح.
يقول: ذكر المباركفوري في تحفة الأحوذي أن هناك نسخةً كاملة من صحيح ابن خزيمة مخطوطة، وأن ابن حجر اطلع عليها مع أن الحافظ في إتحاف المهرة لم يعتمد سوى ربع الكتاب فما رأيكم فيما قاله؟(1/280)
حقيقةً كلام صاحب التحفة تأتي الإشارة إليه، حيث أفرد فصلاً للكتب النفيسة النادرة القلمية المخطوطة الموجودة في مكتبات العالم بخطوط الأئمة، وعليها تقاريظهم، وعليها بلاغاتهم وقراءاتهم؛ لكن هذا الكلام لا رصيد له من الواقع، ذكر كتب كثيرة جداً، يذكر مثلاً صحيح البخاري بخط الحافظ العراقي، أو بخط ابن سيد الناس، وعليه تعليق لابن حجر وكذا، ابن خزيمة كامل يقول، ليس بصحيح، هذا الكلام ليس بصحيح، الموجود من ابن خزيمة هو المطبوع فقط بقدر ربعه، يقول: وان ابن حجر اطلع عليها، لا، الحافظ ابن حجر لم يطلع على هذه.
يقول: ما رأيكم بطبعة سنن الترمذي بشرح الشيخ أحمد شاكر؟
يأتي الحديث عليها -إن شاء الله-.
تحقيق كمال يوسف الحوت لسنن الترمذي وغيره من الكتب تحقيق ليس بجيد، وفي الغالب أعماله أقرب ما تكون أنها تجارية.
يقول: بلغني أن الشيخ أحمد معبد يقوم بتحقيق أحد شروح الترمذي وأظن أنه طبع منها شيء.
هو يقوم بتحقيق شرح الترمذي لابن سيد الناس، وهذا أشرنا إليه بالأمس.
(الحطة في الكتب الستة) وشروحها لصديق حسن خان، كتاب جيد نافع في بابه ماتع، لكنه مع ذلك عليه عواز كبير، وفيه بعض الأخطاء والملاحظات إلا أنه يعتمد على كشف الظنون، وكشف الظنون فيه من الأوهام ما فيه، فيه من الخلط بين الكتب والشروح فيه شيء كثير، ومع ذلكم هو كتاب نفيس لا يستغني عنه طالب علم.
(تحفة الأحوذي):(1/281)
الكلام الآن في بقية شروح الترمذي، شروح الموطأ وابن ماجه، من شروح الترمذي وهو من أنفسها وأجودها وإن كان صاحبه متأخراً (تحفة الأحوذي) مؤلفه محمد عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفوري المتوفى سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة وألف، وهذا الكتاب حقيقةً من أنفع الشروح المتداولة الآن على جامع الترمذي، وأنفع لطالب العلم من شرح ابن العربي، مع إمامة ابن العربي ورسوخ قدمه في الفقه الملكي؛ ولكن مع ذلكم هو أنفس منه؛ لأن جهد ابن العربي في الغالب منصب على الأحكام والاستنباط؛ لكن هذا شرح ليس بالطويل الممل، ولا بالقصير المخل، نعم وإن كان في أوله أجود منه في آخره، ليس بمثابة شرح ابن سيد الناس وتتماته في الطول، وليس مثل شرح السيوطي في شدة الاختصار.
مقدمة الكتاب تقع في جزئين، مقدمة التحفة في جزئين، وهذان الجزءان مشتملان على بابين، في كل باب فصول كثيرة، الباب الأول: أشتمل على واحد وأربعين فصلاً.
ذكر في الفصل الأول: حد علم الحديث وموضوعه وغايته.
والثاني: في فضل علم الحديث وأهله.
والثالث: في تدوين الحديث.
والرابع: في كتابة الحديث.
والخامس: في حجية الحديث، ووجوب العمل به.
والسادس: في أن حملة العلم في الإسلام أكثرهم من العجم.
السابع: في شيوع علم الحديث في أرض الهند هذا الكلام كله حق.
الثامن: في اختلاف أغراض الناس في تصانيفهم.
التاسع: في بيان طبقات كتب الحديث.
العاشر: في ذكر أنواع الكتب المصنفة في علم الحديث.(1/282)
والحادي عشر في ذكر الجوامع، وذكر إلى الحادي والأربعين في ذكر أنواع المصنفات، ذكر كتب السنن والمسانيد والمستخرجات، والمستدركات والمسلسلات والمعاجم والصحاح، وكتب السنن، وكتب الأئمة الأربعة، وكتب الحديث للحنفية أفردهم بالذكر، وكتب أسماء الرجال، وذكر أئمة الجرح والتعديل، وعلم أصول الحديث، وكتب غريب الحديث، وكتب شروح الحديث، وكتب أحاديث الأحكام، ومختصراته في الحديث, وكتب التخريج، وكتب الموضوعات، وكتب الناسخ والمنسوخ، وكتب مختلف الحديث والأنساب، وكتب وفيات المحدثين، وكتب الصحابة، وكتب المؤتلف والمختلف، وخصص الفصل الأربعين لذكر الأصول التي ذكرها الحنفية أو غيرهم لرد الأحاديث الصحيحة، هذا فصل جيد في مقدمة التحفة، ذكر فيه الأصول التي يعتمد عليها بعض المقلدة من الحنفية وغيرهم يعتمدون على هذه الأصول لرد السنن، وهو تكلم عن هذه الأصول ونقضها واحداً واحداً.
أما الفصل الحادي والأربعون وهو آخر فصول الباب الأول ذكر فيه كتب الحديث القلمية النادرة، المخطوطات النادرة من كتب السنة، وذكر أماكن وجودها، وهذا هو الذي وقع عنه السؤال بالنسبة لصحيح ابن خزيمة، ذكر ابن خزيمة وغير ابن خزيمة، ذكر من صحيح البخاري نسخة من أواخر القرن الثالث وعليها خطوط الأئمة، عليها خط ابن سيد الناس، وابن دقيق العيد، والذهبي، والعراقي، وابن حجر، وهي موجودة كاملة، وذكر نسخ لصحيح مسلم موثقة ومقروءة، وذكر كتب كثيرة من المتون والشروح، ويحيل في الغالب على الخزانة الجرمنية، الخزانة الجرمنية هذه في ألمانيا؛ لكن لما فتحت الحدود مع ألمانيا ما وجد شيء من ذلك، وكتب بعضهم مقال باسم (مسيل اللعاب) ذكر في بعض هذه الكتب التي ذكرها المباركفوري وشكك في وجودها.
أما الباب الثاني من المقدمة ذكر فيه سبعة عشر فصلاً.
الأول: في ترجمة الإمام الترمذي.
الثاني: في فضائل جامعه.
الثالث في ذكر رواة الجامع.
والرابع في بيان شرطه.(1/283)
والخامس في بيان رتبة جامع الترمذي.
والسادس في بيان أنه ليس في الترمذي حديث موضوع، الترمذي خرج لمحمد بن سعيد المصلوب، وهو أحد الوضاعين، لا شك أنه خرج له؛ لكن الحديث الذي خرجه من طريقه نعم لو لم يثبت إلا من طريقه لحكم عليه بالوضع، ولذا قرر الشارح أنه ليس في الترمذي حديث موضوع، وإن كان ابن الجوزي أدخل بعض الأحاديث من جامع الترمذي وسنن أبي داود فضلاً عن ابن ماجه في موضوعاته، بل زاد على ذلكم، فأدخل حديثاً في صحيح مسلم، وأدخل حديثاً من صحيح البخاري رواية حماد بن شاكر.
المقصود أن ابن الجوزي بالغ في هذا الباب، وأدخل أحاديث ضعيفة لا تصل إلى حد الوضع في موضوعاته وأيضاً فيه بعض الأحاديث الحسنة، بل فيه ما هو صحيح، مما هو في الصحيحين أو أحدهما، ولذا يقول الحافظ العراقي:
وأكثر الجامع فيه إذ خرجْ ... لمطلق الضعف عنى أبا الفرجْ
يقول في الفصل السابع: في أن جميع أحاديث الترمذي معمول بها أم بعضها غير معمول به؟ يعني يتساءل هل جميع أحاديث الترمذي معمول بها؟ الترمذي في آخر الجامع في علل جامعه ذكر أن جميع ما في كتابه معمول به سوى حديثين، لم يستثنِ من جامعه إلا حديثين:
أحدهما: حديث ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- جمع بين الصلاتين في المدينة من غير خوفٍ ولا مطر.(1/284)
والثاني: حديث معاوية في قتل الشارب المرة الرابعة، يعني قتل المدمن جاء فيه أحاديث تصل بمجموعها إلى رتبة الحسن، وإن كان بعضهم الشيخ أحمد شاكر يصححها، ذكر الترمذي أن العلماء اتفقوا على عدم العمل بهذا الحديث، بعضهم يرى أنه منسوخ؛ لكن رأي ابن القيم في مثل هذا الحديث التوسط، وهو أن قتل الشارب إذا لم يرتدع الناس بالحد يكون من باب التعزير، يعني للإمام أن يقتل الشارب إذا أدمن على الشرب، ولم يرتدع الناس بالحد الذي حده الشارع، وللشيخ أحمد شاكر رسالة صغيرة اسمها (كلمة الفصل في قتل مدمن الخمر) تعليقه أيضاً على المسند مطول حول هذه المسألة، وبحثها بحثاً جيداً.
الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى- زاد على الحديثين، أحاديث مما صح من الأحاديث ولم يعمل به أهل العلم.
والفصل الثامن: في اسم الكتاب.
والتاسع: في شروح جامع الترمذي.
والعاشر: في بيان عادات الترمذي في جامعه.
والحادي عشر: في شرح بعض الألفاظ المستعملة في جامع الترمذي.
والثاني عشر: في تراجم فقهاء الحديث الذين ذكرهم الترمذي.
الثالث عشر: في تراجم أئمة التفسير الذين ذكرهم الترمذي.
والرابع عشر في تراجم أئمة اللغة المشهورين.
والخامس عشر: فيما وقع في الجامع من المكررات، معلوم أن جامع الترمذي أقل الكتب الستة تكراراً؛ لأنه يذكر الحديث الذي يريده ثم الشواهد يشير إليها إشارة، بقوله: وفي الباب عن فلان وفلان وفلان..الخ، فلا يكرر إلا نادراً.
والسادس عشر: في ذكر رواة جامع الترمذي على الحروف، الرواة الذين خرج لهم الإمام الترمذي في جامعه ذكرهم في هذه المقدمة مرتباً لهم على الحروف.
والسابع عشر: في شرح بعض الألفاظ التي استعملها الشارح، بعض الاصطلاحات المستعملة في الشرح خصص لها الفصل السابع عشر.(1/285)
وأما الكتاب فصدره -يعني الشرح- صدره مؤلفه بذكر أسانيده إلى الإمام الترمذي، يعني كعادة الشراح، ثم شرع في الشرح، والشرح شرح متوسط، يشتمل على شرح الترجمة باختصار، ترجم للرواة ويذكر ما فيهم أيضاً باختصار، ويذكر من روى عنه ومن رووا عنه، يذكر بعض كلام النقاد في الراوي؛ لكنه في الغالب لا يرجح، وإنما يعتمد غالباً على ترجيحات ابن حجر، يشرح الألفاظ من متن الحديث ويذكر ما فيها من احتمالات، يستنبط من الأحاديث، يذكر الخلاف مع الاستدلال والترجيح من غير تعصب لمذهب معين؛ لكنه في الغالب يقتدي بالشوكاني، يخرج الحديث من المصادر المشهورة بعد حكم الترمذي على الحديث، يعني إذا قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، قال الشارح: وأخرجه فلان وفلان وفلان، هذا موضع التخريج غالباً يخرج الشواهد ويعنى بها عنايةً فائقة، وهذه من مميزات هذا الكتاب، الشواهد يقول فيها الترمذي: وفي الباب يحرص الشارح على تخريجها، فيردها إلى مصادرها، هذا جهد طيب، الحافظ العراقي له كتاب اسمه (اللباب فيما قال عنه الترمذي وفي الباب) تخريج لهذه الشواهد، وأيضاً الحافظ ابن حجر له كتاب آخر، وأيضاً كتاب لمعاصر اسمه (كشف النقاب) طبع منه خمسة مجلدات، وهو كتاب جيد في الجملة، قد يعجز عن تخريج بعض الشواهد، هذا ليس بنقصٍ ولا عيب، وحينئذٍ يقول: "وأما حديث فلان فلينظر من أخرجه".
في أحاديث الصفات مسلك الشارح جيد، يثبت الصفات على طريقة أهل السنة والجماعة، وعلى كل حال فالكتاب ما زال هو المتصدر بالنسبة لشروح الترمذي الموجودة المتداولة؛ لأنه جامع بين الرواية والدراية، من غير تعصب لا لمذهب ولا لغيره، إنما يدور مع النصوص.
(الكوكب الدري على جامع الترمذي):(1/286)
في كتاب لمعاصر آخر اسمه (الكوكب الدري على جامع الترمذي) هذا الكتاب ألفه محمد يحيى بن محمد إسماعيل الكندهلوي المتوفى سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة وألف، شرح مختصر افتتح بمقدمة مختصرة ورقة أو ورقتين، ذكر فيها موضوع علم الحديث، ثم ذكر إسناده في الكتاب، ذكر موضوع علم الحديث والغريب أنه قلد الكرماني في ذلك وقال: "موضوعه ذات رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" وقال: "وهو أجود من قول من يقول: أن موضوع علم الحديث أقواله -عليه الصلاة والسلام- وأفعاله من حيث القبول والرد"، سمعنا مقالة الكافيجي فيما نقله السيوطي سابقاً، وأن محيي الدين الكافيجي ما زال يتعجب من قول الكرماني أن موضوع علم الحديث هو ذات الرسول -عليه الصلاة والسلام-.
بعد هذه المقدمة المختصرة ذكر إسناده في الكتاب، ثم شرع في شرح الكتاب، فيذكر الترجمة، ترجمة الباب، العنوان، ويشرحها بشرحٍ مختصر، لا يفرد المتن، وإنما يسوق ما يحتاجه منه، يذكر ما يحتاج من المفردات ويتكلم عليها بشيءٍ من التفصيل، التفصيل بالنسبة لحجم الكتاب، لا يخرج الحديث ولا الشواهد، يذكر أحياناً بعض الفروق بين النسخ والروايات؛ لكنه بالنسبة للدراية فيه ضعف، والكتاب مطبوع في أربعة أجزاء، عليه حاشية للشيخ محمد زكريا الكندهلوي.
شرح الشيخ أحمد شاكر:(1/287)
خامساً: شرح سماه مؤلفه شرح، شرح الشيخ أحمد شاكر، الشروح كما هو معلوم إما أن تكون موضوعية أو موضعية أو مزجية، الموضوعية يأتي إلى الموضوع عامةً ويتحدث عنه يعني في ضلال ما ذكر فيه من النصوص، هذا شرح موضوعي، يعني مثلما يشرح مثلاً كلام شيخ الإسلام في الواسطية بالنقول الواسعة من كلامه في كتبه المطولة، يعني يأتي إلى المسألة من الواسطية وهي باختصار ينقل لها كلام من كلام الشيخ -رحمه الله تعالى- بتطويل، هذا موضوعي، يتحدث عن الموضوع جملة ولا يحلل الألفاظ، هذا أقرب مثال له: (الروضة الندية شرح الواسطية) وأيضاً شرح الشيخ ابن عيسى على النونية من هذا النوع، يأتي إلى كلام ابن القيم في النونية وينقل له ما يوافقه من كلام ابن القيم أو من كلام شيخه شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-. الشرح الموضعي هذا غالب الشروح تعتمده، وهي ما يصدر بقوله: (قوله) يقول الشارح: قوله كذا: يأتي بجملة ثم يشرحها، شرح موضعي، هذا غالب الشراح يصنعونه ويتداولونه، وإن كان اصطلاح بعض المتأخرين أن في تسميتهم الحواشي هي المبدوءة بالقولات لكن غالب الشروح تعتمد هذا المنهج وهذا المسلك، من أطول الشروح فتح الباري، يقول الحافظ: قوله كذا ثم يشرح.
أما الشرح المزجي يدمج الكتاب كاملاً ويدرجه في الشرح لفظة لفظة، ويسبكها معه، مع الكتاب المشروح، يسبك كلام الأصل مع شرحه، ومن أمثلة ذلك إرشاد الساري، يعني لم يغادر من صحيح البخاري ولا كلمة بخلاف الشروح الأخرى الموضعية.
طالب:........
شرح حديث النزول؟ موضوعي، لا شك أنه موضوعي؛ لأنه ليس بتحليل لفظي للكتاب، وإنما في ضلال هذا الحديث تكلم عن النزول بإفاضة -رحمه الله تعالى-، وقرر فيه مذهب السلف من إثبات النزول على ما يليق بجلال الله وعظمته، ورجح أنه مع ذلك العرش لا يخلو منه تعالى.(1/288)
الشيخ أحمد شاكر -رحمه الله تعالى- اعتمد طريقة المتأخرين الذين اقتدوا بالمستشرقين حينما يضعون الأرقام على المتن، ويعلقون على ما يشاءون التعليق عليه بأرقامٍ مماثلة، افتتح الشيخ -رحمه الله تعالى- كتابه وهو ناقص، الكتاب ناقص، المشروح لا يعادل خمس الكتاب، افتتح المحقق والشارح -رحمه الله تعالى-، وسماه شرح وإلا هو أشبه ما يكون بتحقيق ومقارنة موازنة بين النسخ، وتعليقات على الكتاب؛ لكن فيه تعليقات مستفيضة وجيدة، هذه المقدمة التي افتتح الشيخ كتابه فيها ضافية تحدث فيها عن نسخ الترمذي المطبوعة والمخطوطة، ثم أشاد فيها في هذه المقدمة بعمل المستشرقين، ودقته في إثبات فروق النسخ، ونعى وعتب على من تولى وتصدر للنشر الكتب من المسلمين، وأنهم غفلوا عن جوانب مهمة في التحقيق، وهي مقابلة النسخ، واعتماد النسخ المضبوطة المتقنة، وإثبات الفروق بين النسخ في الحواشي، نعم إثبات الفروق بين النسخ في الحواشي مهم، وله قيمته، وتبين أهميته فيما إذا رجح المحقق لفظاً مرجوحاً، كثيراً ما يختار المحقق لفظاً يجعله في صلب الكتاب ويعلق عليه، يقول: في كذا كذا، يعني في نسخة كذا لفظ كذا، وقد يكون هو الراجح عند التأمل، وهذا كثير في صنيع المحققين المتأخرين، هذه مهمة، وهذه إنما احتيج إليها متى؟ حينما زالت الثقة، وإلا فالمتقدمون من أهل العلم ينقلون من الكتب من غير إثباتٍ لهذه الفروق وينسخون، نعم إذا كان هناك في المقابلات سقط أو ما أشبه ذلك يلحقونه، يسمونه اللحق، أما إثبات فروق النسخ فهذا إنما جاء به المستشرقون وهو أيضاً لا شك أنه حسن لا سيما وأنه تصدى لنشر الكتب وتحقيقها من ليس بأهل، فقد يرجح ما ليس براجح، فإذا ذكر هذه الفروق حينئذٍ يمكن أن يتوصل إلى اللفظ الصحيح، وإن كان في الحاشية، أشاد بعمل المستشرقين ودقتهم، يقول: "وأما دور الطباعة القديمة عندنا وفي مقدمتها مطبعة بولاق فلم يُعنَ مصححوها بهذا النوع من الفهارس أصلاً، وما(1/289)
أظنهم فكروا في شيءٍ منه، مع أن مطبوعات المستشرقين كانت موجودةً معروفة، ومن أمثلة ذلك سيرة ابن هشام نشرها المستشرق... الخ، ومعها فهارس مفصلة، ثم طبعت في بولاق سنة (1295) بدون فهارس"، يقول: "وأنا أستبعد جداً أن لا تكون طبعة المستشرق في يد مصححي مطبعة بولاق عند طبع الكتاب" هذا ما يتعلق بالفهارس، وأما ما يتعلق بإثبات الفروق ذكره الشيخ.(1/290)
لا شك أن الطباعة في مبدأ أمرها لا سيما في بلاد المسلمين ما تعتمد على الفهارس التفصيلية للآيات والأحاديث والأماكن والفرق والرجال والمصادر وغيرها، في البداية كان المؤلفون الأوائل لا يعتنون بذلك بل يقصد بعضهم أن لا يضع لكتابه فهرساً من أجل أن يقرأ الكتاب كله، ويذكر عن ابن حبان -رحمه الله- أنه لما ألف كتابه (الأنواع والتقاسيم) جعله على ترتيبٍ غريب لا يدركه أكثر الناس، فقيل له في ترتيبه هذا فقال: من أجل أن يقرأ الكتاب كله، فإذا وجدت الفهارس الميسرة لا شك أن الطالب سوف يكتفي بها، ولن يراجع الكتاب كاملاً، ولن يتعب نفسه في تصفح الكتاب، ولا شك أن مثل هذا يختصر الوقت إلى حدٍ ما؛ لكنه مع ذلكم يعود الطالب على الكسل والتواكل، الاتكال على غيره، ولذا كانت الثورة على الكتابة، كتابة الحديث في أول الأمر، والخلاف الموجود ثم استقر الأمر على الكتابة ونسي الحفظ، ثم بعد ذلكم خرجت أو ظهرت الطباعة وكان الناس يعتمدون على الخط، من احتاج إلى كتابٍ نسخه، أخذ في نسخه الوقت الطويل؛ لكنه استفاد كثيراً حينما نسخ الكتاب، كتابة الكتاب مرة واحدة عن قراءته عشر مرات، لما خرجت وظهرت الطباعة ثار العلماء حولها، حصلت ضجة؛ لأن لا شك أن مثل هذا يعوق عن التحصيل إلى حدٍ ما، ثم بعد هذا ظهر بعد ذلكم بعد الطباعة الفهارس ثم الحواسب وكلها عوائق عن التحصيل، كلها مما يعوق عن التحصيل، الآن إذا أردت أن تبحث عن حديث في صحيح البخاري، كونك تتصفح الصحيح وتصل إلى الحديث بنفسك، أولاً: أنت في أثنائك بحثك وقفت على عشرات الأحاديث، الأمر الثاني: أن الحديث في مثل هذه الحالة يرسخ في الذهن؛ لأنك تعبت عليه، أما حديث تضغط زر ويطلع لك الحديث تشوفه وبعدين تطفيه، مثل هذا ما يرسخ في الغالب، نعم هو يسعف في المضائق، في وقت الضيق يسعف، خطيب ما بقي عنده وقت، وبحاجة إلى هذا الحديث ما عنده وقت يبحث عن الحديث ويخرجه من مصادره يعتمد، لا بأس، مدرس يعني(1/291)
بقي على درسه شيء يسير وما أشبه، المقصود أن مثل هذه لا يعتمد عليها في التعلم، وإن كان يستفاد منها عند ضيق الوقت، لكن الإشكال أن الناس مخلدون إلى الراحة، يعتمدون عليها في كل شيء، وهذا لا شك أن فيه ضرر على التعلم، بعد هذه المقدمة الضافية شرع الشيخ -رحمه الله تعالى- بالتعليق والتحقيق وذكر فروق النسخ والتصويبات وتخريج الأحاديث والتراجم لبعض الأعلام، يشرح بعض الألفاظ، يصوب ويرجح، ويستطرد في بحث بعض المسائل، يذكر عن المسألة الواحدة أحياناً صفحتين ثلاث، وهذا جيد بالنسبة للشيخ بتجرد أيضاً، الشيخ يرجح تبعاً للدليل فلا يميل إلى مذهب من المذاهب، وهذا من مزايا هذا الكتاب، ومن مزايا الشيخ -رحمه الله تعالى-؛ لكن القارئ لأعمال الشيخ كلها يلمس منه التساهل في التصحيح وتوثيق الرواة، فقد وثق من الرواة في جامع الترمذي ما يزيد على ثلاثين راوياً الجمهور على تضعيفهم.(1/292)
وناقش الشيخ -رحمه الله- مسألة تصحيح الترمذي وهل هو معتبر أو ليس بمعتبر؟ الترمذي متساهل في التصحيح، نص على ذلك جمع من الأئمة كالذهبي وغيره، لكن الشيخ أحمد شاكر -رحمه الله- يرى أن تصحيح الترمذي معتبر، نعم هو بالنسبة للشيخ أحمد شاكر معتبر؛ لأن الشيخ أحمد شاكر أكثر تساهلاً منه، يعني إذا قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، يحتمل أن يكون المراد حسن صحيح بطريقه هذا أو بمجموع الطرق، بطرقه ومجموعاته وشواهده، وهذا محتمل، لكن الشيخ يذهب إلى أبعد من ذلك، فيرى أن تصحيح الترمذي معتبر ومعتمد، وتصحيحه توثيق لرجاله، فمثلاً: الشيخ أحمد شاكر -رحمه الله تعالى- حينما وثق ابن لهيعة في صفحة (16 و 61) ووثق أيضاً الأفريقي عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، ووثق ابن إسحاق، ووثق بقية بن الوليد بإطلاق، ووثق الحجاج بن أرطأة، ووثق علي بن جدعان، ووثق عبد الله بن عمر العمري المكبر، ووثق أيضاً يزيد بن أبي زياد، وجواب التيمي، وإسماعيل بن عياش، وحماد بن الجعد، ورجح رواية الحسن عن سمرة.. الخ في كلامٍ يصعب حصره بالنسبة لتعليقات الشيخ، وتوسعه أيضاً في تعليقه على المسند قريب من هذا، الآن الشيخ الإمام الترمذي -رحمه الله تعالى- ويقول: "عبد الله بن عمر -يعني العمري- ضعفه يحيى بن سعيد من قبل حفظه في الحديث" والمحقق الشيخ أحمد شاكر -رحمه الله- رجح أنه ثقة، ومعروف الجمهور على تضعيفه المكبر دون المصغر، دون عبيد الله.(1/293)
والكتاب لو قدر تمامه، خرج كاملاً لكان من أنفع الكتب، ومن أنفع الخدمات لجامع الترمذي لا سيما فيما يتعلق بتصحيح اللفظ، تصويب الكتاب وتصحيحه؛ لأن نسخ الترمذي سواء كانت المطبوعة أو المخطوطة منذ زمن بعيد فيها تفاوت كبير لا سيما في أحكام الترمذي على الأحاديث، والشيخ أحمد شاكر جمع نسخ جيدة للكتاب، وقارن بينها ووازن وذكر فروق النسخ، واعتنى بالكتاب عناية فائقة، لكن لم يقدر تمامه، شرع في إتمامه محمد فؤاد عبد الباقي، فحقق الجزء الثالث وإبراهيم عطوة عوض طبع الجزء الرابع والخامس لكن من غير أي عناية ولا خدمة.
موطأ الإمام مالك -رحمه الله-:
السادس من الكتب الستة سبق أن أشرنا إلى أنه مختلف فيه، وهل هو الموطأ؟ كما قال -أو كما زعم- ابن الأثير في جامع الأصول، ورزين العبدري في تجريد الأصول أو الدارمي كما قاله بعضهم، أو سنن ابن ماجه كما اعتمده المتأخرون تبعاً لأبي الفضل ابن طاهر والحافظ عبد الغني في الكمال، والمزي في تهذيبه وأطرافه وغيرهم، اعتمدوا ابن ماجه لكثرة زوائده على الخمسة.
الموطأ مؤلفه الإمام أبو عبد الله مالك بن أنس بن أبي عامر الأصبحي إمام دار الهجرة، نجم السنن، المتوفى سنة تسع وسبعين ومائة.
الموطأ التسمية مأخوذة من التوطئة وهي التهيئة والتسهيل، يقولون: رجل موطأ الأكناف أي سهل كريم الخلق وسبب تأليف الكتاب كما ذُكر مما ذكره ابن خلدون، أن الإمام مالك -رحمه الله تعالى- ألفه بطلبٍ من أبي جعفر المنصور الخليفة المعروف المشهور، طلب من الإمام مالك أن يؤلف كتاباً ليجمع عليه الناس، وأوصاه ووجهه كيف يؤلف؟ فقال: "تجنب في ذلك رخص ابن عباس، وشواذ ابن مسعود، وتشديدات ابن عمر"، يقول الإمام مالك -رحمه الله تعالى-: "فعلمني كيفية التصنيف".(1/294)
الموطأ له روايات كثيرة، يعني ليس على صورة واحدة، الموطأت بضعة عشر، تختلف هذه الموطأت في كثرة الأحاديث، في الترتيب، في التقديم والتأخير، في كلام الإمام مالك ونقوله عن التابعين والصحابة، فأوسع هذه الموطآت وأكثرها زيادات رواية أبي مصعب، وهي مطبوعة في مجلدين، وأشهر الروايات وأكثرها تداولاً وعليها أكثر الشروح، رواية يحيى بن يحيى الليثي، على كلٍ من الروايات رواية يحيى بن يحيى الليثي ورواية عبد الله بن وهب، ورواية القعنبي عبد الله بن مسلمة، ورواية ابن القاسم، ورواية معن بن عيسى القزاز، ورواية عبد الله بن يوسف التنيسي، ورواية يحيى بن بكير، ورواية سعيد بن عفير المصري، ورواية أبي مصعب، ورواية مصعب بن عبد الله الزبيري، ورواية محمد بن المبارك الصوري، ورواية سليمان بن برد النجبي، ورواية يحيى بن يحيى التميمي، ورواية أبي حذافة أحمد السهمي، ورواية سويد بن سعيد الحدثاني، ورواية محمد بن الحسن الشيباني، رواية يحيى بن يحيى الليثي ورواية يحيى بن يحيى التميمي، المشهورة من الروايات هي رواية الليثي، والليثي هذا ليست له رواية في الكتب الستة، بخلاف التميمي، من شيوخ مسلم الذين اعتمد عليهم كثيراً في صحيحه، فلا نخلط بينهما، يعني إذا وجدنا الإمام مسلم يقول: حدثنا يحيى بن يحيى لا يظن أنه يحيى بن يحيى الليثي راوي الموطأ، الرواية المشهورة وإن كان الآخر له رواية، لكن ذكر في التقريب من أجل التمييز، لئلا يشتبه للآخر؛ لأنهما من طبقةٍ واحدة، على كلٍ الروايات المشهورة أشهرها رواية ابن يحيى وعليها غالب الشروح، رواية أبي مصعب وهي أوفى الروايات، رواية سويد بن سعيد وهي مشهورة أيضاً، ورواية محمد بن الحسن الشيباني، ويعتمدها من ينتسب إلى مذهب أبي حنيفة هذه الرواية؛ لأن فيها كلام لمحمد بن الحسن وتعليقات على الأحاديث توافق مذهب الحنفية.(1/295)
لأهمية الموطأ وإمامة مؤلفه، وعلو أسانيده اعتنى به العلماء عنايةً فائقة، فممن اعتنى به الإمام ابن عبد البر، فشرحه في كتابين عظيمين يأتي الحديث عنهما هما (التمهيد والاستذكار) وممن شرحه أيضاً الباجي في كتابين أيضاً (الاستيفاء والمنتقى) شرحه أيضاً السيوطي (تنوير الحوالك) كتاب مختصر، الزرقاني كتاب متوسط، الدهلوي له شرح اسمه (المسوى) شرح جميل ومختصر وموجز باللغة العربية، له (المصفى) باللغة الأعجمية، المسوى من أراد التفقه من كتاب مالك عليه بهذا الكتاب باختصار؛ لأنه اعتمد على الموطأ في تقرير الفقه المالكي، وضمّ إليه آراء الحنفية والشافعية، وأضرب عن ذكر مذهب الحنابلة؛ لأنه يرى أن هذا المذهب غير منتشر، فهو يخدم المذاهب المنتشرة.
(التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد):
أولاً: (التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد) للإمام أبي عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النَّمَري، المتوفى سنة ثلاث وستين وأربعمائة، النَّمِر هذا الاسم، فالنسبة إليه نَمَري، مثل بني سلِمة بالكسر النسبة إليها سَلَمي، هذا هو الصحيح، كتاب التمهيد كتاب فريد في بابه، موسوعة شاملة في الفقه والحديث والرجال، وأنموذج فذ في أسلوبه ومنهجه، رتبه مؤلفه على الأسانيد مرتباً إياها على أسماء شيوخ الإمام مالك -رحمه الله تعالى- الذي روى عنهم ما في الموطأ من الأحاديث، وذكر ما رواه عن كل شيخٍ مرتبهم إياهم على حروف المعجم، فبدأ أولاً بمن اسمه إبراهيم ثم إسماعيل فإسحاق فأيوب وختم الحروف بيحيى ويونس ويعقوب ثم ختم الكتاب بالكنى والبلاغات.(1/296)
الإمام ابن عبد البر -رحمه الله تعالى- اقتصر في شرحه على الأحاديث المرفوعة، لم يتعرض للموقوفات ولا المقطوعات ولا أقوال الإمام مالك، إنما اقتصر على شرح ما يضاف إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- سواء كان بأسانيد متصلة أو منقطعة، تكلم على المراسيل، تكلم على البلاغات، وتكلم على الأحاديث الموصولة على حسب ترتيب شيوخ الإمام مالك -رحمه الله تعالى-، لم يتكلم على ما جاء موقوفاً على الصحابة أو مقطوعاً عن التابعين، ابن عبد البر -رحمه الله تعالى- أمضى في تصنيف الكتاب أكثر من ثلاثين سنة، أكثر من ثلاثين سنة أمضاها في تصنيف هذا الكتاب، ولذا جاء كتاباً بديعاً متقناً فيه من البحوث الحديثية ما يستفيد منه طالب العلم فائدة لا تقدر، فيه أيضاً من بحث المسائل الفقهية بتجرد، وإن كان الإمام ابن عبد البر مالكي المذهب؛ لكنه يرجح غير ما يراه الإمام مالك تبعاً للدليل، من أظهر المسائل التي رجحها وهي مشهورة عند المالكية عندهم تفضيل المدينة على مكة، الإمام ابن عبد البر بحث المسألة بحثاً مستفيضاً وخرج بترجيح مكة على المدينة خلافاً على ما يقوله إمامه.(1/297)
يقول ابن حزم: "لا أعلم في الكلام على فقه الحديث مثله أصلاً، فكيف أحسن منه؟" والكتاب مطبوع في أربعة وعشرين جزءً، إلا أنها طبعة متوسع فيها شيء ما، يعني يمكن البياضات فيها كثيرة، لو طبع في أقل من هذا العدد ممكن، يمكن أن يطبع في عشرة مجلدات، بحروفٍ ليست صغيرة إنما متوسطة، وورق متوسط الحجم، ابن عبد البر -رحمه الله تعالى- لما رأى تقاصر الهمم عن تحصيل التمهيد اختصره في كتاب سماه (تجريد التمهيد) مطبوع في مجلدٍ واحد، التمهيد نظراً لطول الوقت الذي مكثه الإمام ابن عبد البر في تأليفه لا نقول إنه قبل الاستذكار؛ لأنه في الاستذكار يحيل على التمهيد في غالب الأحاديث، لا نقول: إن التمهيد قبل الاستذكار، ولذا فيه إحالات من التمهيد على الاستذكار في مواضع هي ليست كثيرة؛ لكنها موجودة، إحالات من التمهيد على الاستذكار، وأما الأكثر والغالب الإحالة من الاستذكار على التمهيد.
(الاستذكار لمعرفة مذاهب فقهاء الأمصار):
أما الاستذكار هو كتاب مبسوط شرح فيه الإمام ابن عبد البر الموطأ، وتفنن فيه وبرع، وجد واجتهد في استنباط المسائل الفقهية، وبسط فيه الدلائل من الكتاب والسنة وأقاويل السلف من الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار، يعني الأول ميزته المعاني والأسانيد فهو كتاب حديثي، صبغته حديثية، وإن كان يأتي الكلام على الأحكام تبعاً، أما الاستذكار فصبغته فقهية، (الاستذكار لمعرفة مذاهب فقهاء الأمصار) ولو جمع بينهما على ترتيب الموطأ فمزج الكتابان بكتابٍ واحد لكان عملاً جيداً.
من أهل العلم من مزج بين الاستذكار والمنتقى للباجي، يوجد له نسخ جمع بين الاستذكار والمنتقى نسيت مؤلفه الآن، له نسخ خطية، لكن لو جمع بين كتابي ابن عبد البر لتكاملا شرحاً مبسوطاً واسعاً واحداً بحيث لا يتشتت الطالب إن أراد الفقه ذهب إلى الاستذكار، وإن أراد الأسانيد ذهب إلى التمهيد.
يتخلص مذهب ابن عبد البر في الاستذكار بما يلي:(1/298)
يذكر الحديث من الموطأ برواية يحيى بن يحيى، ثم يذكر شواهده وما جاء في معناه من مرفوعٍ وموقوف. يتكلم على إسناد الأحاديث أحياناً، ويحيل على التمهيد لمن أراد البسط.
ثالثاً: يذكر اختلاف ألفاظ الناقلين من رواة الحديث.
رابعاً: يشرح ألفاظ الأحاديث بالروايات الأخرى وشواهد العربية.
يتكلم على فقه الحديث باستيفاء وما يستنبط منه من أحكامٍ وآداب.
يذكر اختلاف الروايات عن الإمام مالك في المسائل الفقهية.
يستعرض أقوال فقهاء الأمصار في المسائل الفقهية، ويقارن بين أدلتهم، ويناقشها ويرجح القول الراجح بدليله ولا يتعصب لمذهب.
والكتاب مطبوع في ثلاثين جزءً، وهو أيضاً قابل لأن يكون في عشرة أو ثمانية مجلدات؛ لأنه نفخ بالتعاليق والنقول من التمهيد وغيره، الصفحات خمس صفحات تنقل جميع من التمهيد، هذه لا داعي لها، التمهيد موجود فلا داعي لمثل هذا التطويل.
(المنتقى) للباجي:
من شروح الموطأ النفيسة (المنتقى) مؤلفه أبو الوليد سليمان بن خلف بن سعد التجيبي الباجي المالكي المتوفى سنة أربع وسبعين وأربعمائة، والكتاب شرح متوسط يعني ليس مثل التمهيد أو الاستذكار، ليس بالطويل الممل، ولا بالقصير المخل، ذكر في مقدمته أنه اختصره من كتابه المبسوط الموسع المسمى (الاستيفاء) لتعذر درسه على أكثر الناس، يقول: أكثر الناس لا يستطيعون أو لا يصبرون على معاناة مثل هذه المطولات جداً مثل الاستيفاء.(1/299)
اقتصر في المنتقى على الكلام على معاني ما يتضمنه الحديث من الكلام على الفقه مربوطةً بما يتعلق بها في أصل كتاب الموطأ ليكون شرحاً وتنبيهاً على ما يستخرج منه من المسائل، هذا كلامه، يشير إلى الاستدلال على تلك المسائل والمعاني التي يجمعها وينصها مما يخف ويقرب؛ ليكون ذلك حظ من ابتدأ بالنظر في هذه الطريقة من كتاب الاستيفاء إن أراد الاقتصار عليه، وعوناً له إن طمحت همته إليه، يعني إن أراد الاقتصار على المنتقى يكفيه، لكن إن طمح إلى كتاب الاستيفاء يكون المنتقى توطئة وتمهيد ودرجة يمكن أن يصعد بواسطتها إلى الاستيفاء.
يقول: "أعرضت فيه عن ذكر الأسانيد واستيعاب المسائل والأدلة، وما احتج به المخالف، وسلكت فيه السبيل الذي سلكت في الاستيفاء من إيراد الحديث والمسألة من الأصل، ثم أتبعت ذلك ما يليق به من الفرع، وأثبته شيوخنا المتقدمون من المسائل، وبالله التوفيق، على كل ٍ المنتقى مطبوع ومتداول، فيه فوائد لا سيما ما يتعلق بمذهب المالكية، الذي يريد أن يطلع على مذهب الإمام مالك عليه بمثل هذا الكتاب، هذه الشروح التي اختلفت مذاهب مؤلفيها يستفاد منها معرفة تلك المذاهب؛ لأن الإنسان قد لا يصبر على قراءة الكتب الفقهية المجردة، وإن كان الأولى به أن يعتمد من كل مذهب متن يديم النظر فيه ليضبط مسائل المذهب على وفق ما يراه إمام المذهب؛ لكن إذا كان ممن لا رغبة له، أو ليس عنده وقتاً يراجع الكتب الفقهية يقتني من هذه الشروح التي تختلف فيها مذاهب مؤلفيها، فمثلاً يطلع على مذهب الشافعي من خلال فتح الباري، وشرح النووي، المذهب الحنفي بواسطة عمدة القاري مثلاً، المذهب المالكي بواسطة مثل هذه الكتب، كتب ابن عبد البر وكتب الباجي وغيرها، يبقى المذهب الحنبلي وهو مع الأسف أن الحنابلة إذا قلنا: أن الكتب الشروح تخدم المذاهب، فالمذهب الحنبلي لم يخدم إلا بالقليل النادر، مثل شرح ابن رجب -رحمه الله تعالى-.(1/300)
أيضاً كتب التفاسير المطولة تخدم المذاهب، مثلاً تفسير القرطبي خدمة جليلة لمذهب الإمام مالك، مع إشارته للمذاهب الأخرى، تفسير أحكام القرآن للجصاص خدمة لمذهب الشافعي، أحكام القرآن لابن عربي يخدم مذهب الإمام مالك، تفاسير الشافعية كثيرة جداً تخدم مذهبهم، تفسير ابن الجوزي على اختصاره يخدم المذهب الحنبلي ويذكر الروايات ويشيد بفقهاء الحنابلة، لا بأس من هذه الحيثية، لكنه مع ذلكم المسألة تحتاج إلى مزيد بسط في خدمة المذهب، سواء كان من خلال الكتاب أو من خلال السنة، ولا نقول هذا من باب التعصب، لكن أيضاً من باب المعادلة والإنصاف، ولذا الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى- لما ألف (القول المسدد في الذب عن المسند) هو شافعي، شافعي المذهب، دافع عن المسند بقوة، وقال: إن هذه عصبية نبوية، حينما نتعصب لكتاب هذا الإمام الجليل المحدث الفقيه ليس التعصب للإمام أحمد نفسه، إنما كلما قرب الإمام من النصوص ينبغي أن يعتنى به أكثر، ويحتفى بأقواله وأفعاله.
سنن ابن ماجه وشروحه:
بعد هذا سنن ابن ماجه مؤلفه أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه القزويني، وماجه معروف أنها بالهاء في الوقف اندرج، مثل: داسه ومنده، يعني ما تقول: ماجة، وإن كان بعضهم يختار ذلك؛ لأنه لما تداوله العرب صار في حكم الاسم العربي؛ لكن الأصل هو بالهاء، ماجه ومثله منده، وداسه، المتوفى سنة ثلاث وسبعين ومائتين.(1/301)
يقول ابن الأثير: "كتابه كتاب مفيد قوي النفع في الفقه؛ لكن فيه أحاديث ضعيفة جداً بل منكرة"، فيه حديث موضوع في فضل قزوين، يقول: "حتى نقل عن الحافظ المزي أن الغالب فيما تفرد به الضعف، ولذا لم يضفه غير واحدٍ إلى الخمسة، بل جعلوا السادس الموطأ" و في الكتاب من حسن الترتيب وسرد الأحاديث بالاختصار من غير تكرار، ليس في أحدٍ من الكتب، وقد عرضه على أبي زرعة فنظر فيه وقال: "أظن إن وقع هذا في أيدي الناس تعطلت هذه الجوامع أو أكثرها" هذا إن صح عن أبي زرعة فقد قاله من باب التشجيع لمؤلفه، شخص تعب على خدمة السنة يعني ينبغي أن يشجّع، ما نفعل مثلما فعل بعضهم، شرح المحرر للمجد فعرضه على واحد من الشيوخ فقال: أريد رأيك في الكتاب وفي تسمية الكتاب وتسمي لنا الكتاب، قال: اتركه عندي، فلما رجع إليه قال: سمه (القول المكرر في شرح المحرر) هذا تحطيم؛ لكن لو أرشده ووجهه إلى كيفية التصنيف، وحذف ما ينبغي حذفه، وإثبات ما ينبغي إثباته كان أولى، لكن مثل هذا ينصدم ما عاد يؤلف شيء.(1/302)
من هذا الباب قول أبي زرعة لابن ماجه يقول: "أظن إن وقع هذا في أيدي الناس تعطلت هذه الجوامع" يعني كتاب البخاري، كتاب مسلم، الكتب كلها تتعطل، من أجل سنن ابن ماجه، فلا شك أنه إن صح عن أبي زرعة أنه من باب التشجيع لمؤلفه، ثم قال: "لعله لا يكون فيه تمام ثلاثين حديثاً مما في إسناده ضعف"، لكن الذهبي في السير قال: "قول أبي زرعة إن صح فإنما عنى بالثلاثين الأحاديث المطروحة الساقطة، وأما الأحاديث التي لا تقوم بها حجة فكثيرة، لعلها نحو الألف"، بلغت الأحاديث الضعيفة عند الشيخ الألباني نحو الثمانمائة، يعني ما يقارب خُمس الكتاب، الكتاب عني به من قبل أهل العلم وشروحه، شرحه علاء الدين مغلطاي، وشرحه أيضاً السيوطي، برهان الدين الحلبي المعروف بسبط ابن العجمي، كمال الدين الدميري صاحب حياة الحيوان، شرح زوائده على الخمسة ابن الملقن، ممن شرحه أبو الحسن السندي، وممن شرحه الشيخ عبد الغني المجددي في شرح مختصر اسمه (إنجاح الحاجة).
شرح مغلطاي:
من أهم الشروح وأوسعها شرح مغلطاي، وهو كتاب كبير؛ لكنه لم يكمل، شرح من الكتاب قطعة، وجميع النسخ الموجودة التي توقف عليها خمس أو ست نسخ، ليس فيها شرح لأحاديث المقدمة، مقدمة سنن ابن ماجه التي يتميز بها، طبع هذا الشرح أخيراً، ومعروف أن مغلطاي يعتني باللغة، ويشرح الألفاظ ويوضحها؛ لكنه مع ذلكم يتعصب لمذهبه الحنفي.
شرح السيوطي:
أما المتداول من هذه الشروح والتعليقات شرح السيوطي، مقارب لشرحه على سنن النسائي، تحليل لفظي لبعض الألفاظ، لا يعتني بالأسانيد كثيراً.
حاشية السندي:(1/303)
وأما حاشية السندي فهي مؤلفها كما تقدم ذكره مراراً أبو الحسن محمد بن عبد الهادي السندي المتوفى سنة ثمان وثلاثين ومائة وألف، افتتح الكتاب بمقدمة مختصرة جداً، صفحة واحدة، تحدث فيها عن ابن ماجه وعن كتابه باختصارٍ شديد، ومنهج السندي في التعليق والشرح يذكر الترجمة ويشرحها، ثم يذكر ما يحتاجه من المتن ويشرحه، ولا يعرج على الأسانيد، فلا يترجم للرواة، ولا يخرج الأحاديث، هو شرح ناقص، هو كامل لجميع الكتاب، لكن مفردات الشرح ومتطلبات الشرح تحتاج إلى أكثر من ذلك، بحاجة ماسة إلى من يتمه بالكلام على الرواة، وعلى تخريج الأحاديث، ونقد الأسانيد، وهو مطبوع في مجلدين.
ما تمس إليه الحاجة لمن يطالع سنن ابن ماجه لمحمد عبد الرشيد النعماني:
تعليقات مختصرة يترجم لبعض الرواة ويشرح بعض الألفاظ التي تحتاج إلى شرح وهو مطبوع بهامش حاشية سنن ابن ماجه المطبوعة في الهند في مجلدٍ كبير؛ لكن الاستفادة من مثل هذا تصعب على آحاد المتعلمين الذين لا يجيدون قراءة الحرف بالخط الفارسي؛ لكن لو طبع طباعة جديدة معتنىً بها وعلق عليه لصار فيه نفع.
مصباح الزجاجة:
من الشروح أيضاً (مصباح الزجاجة) مختصر الذي هو شرح السيوطي مختصر جداً كغيره من شروحه على الكتب الستة، ومنهجه فيما تقدم مقارب لمنهجه في شرح سنن النسائي، له مختصر اسمه (نور مصباح الزجاجة) لعلي بن سليمان الدمنتي البجمعوي المغربي مطبوع قديماً بمصر سنة تسع وتسعين ومائتين وألف كغيره من كتبه ومختصراته لكتب السيوطي.(1/304)
وعلى كل حال فالكتاب ما زال بحاجة إلى خدمة، كتاب ابن ماجه لا زال بحاجةٍ إلى خدمة، تتجه أولاً إلى الأسانيد ودراستها دراسةً وافية لتمييز الثابت من غيره، ثم تشرح الأحاديث شرحاً وافياً مبسوطاً؛ لأن الكتاب كما تقدم ذكره جيد في السبك، حسن الترتيب، عالي الأسانيد، زوائده على الكتب الخمسة مفردة أفردها البوصيري في كتاب سماه (مصباح الزجاجة) وهو كتاب جيد في بابه، ويحتاج إلى مزيد عناية، وفيه رسالة لدراسة هذا الكتاب الذي هو الزوائد فقط. والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الموضوع ... رقم الصفحة
أولاً: تعريف ببعض أصحاب كتب الشروح ومناهجهم فيها. ... 3
1 - منهج الإمام ابن عبد البر في كتابه "التمهيد" ... 3
أولاً: ترجمة الإمام أبي عمر يوسف ابن عبد البر: ... 3
ثانياً: منهج الإمام ابن عبد البر في كتاب "التمهيد": ... 4
2- منهج الإمام الخطابي في كتابه "أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري" ... 9
أولاً: ترجمة الإمام الخطّابي: ... 9
ثانياً: كتابه : "أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري". ... 10
3- منهج ابن رجب الحنبلي في كتابه "فتح الباري في شرح صحيح البخاري". ... 14
أولاً: ترجمة الحافظ ابن رجب. ... 14
ثانياً: منهج الحافظ ابن رجب في كتاب "فتح الباري في شرح صحيح البخاري". ... 15
4- منهج الحافظ ابن حجر العسقلاني في كتابه "فتح الباري" ... 18
أولاً: ترجمة الحافظ ابن حجر العقسلاني. ... 18
ثانياً: منهج الحافظ ابن حجر في شرحه فتح الباري ... 20
5- منهج العيني في كتاب: "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" ... 29
أولاً:ترجمة الإمام العيني. ... 29
ثانياً :منهج الإمام العيني في كتاب: "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" ... 31
6- منهج القسطلاني في كتابه: : "إرشاد السّاري إلى شرح صحيح البخاري " ... 33
أولاً: ترجمة القسطلاني -رحمه الله-: ... 33
ثانياً: منهج القسطلاني في كتابه: "إرشاد السّاري لشرح صحيح البخاري ". ... 34(1/305)
7- منهج القاضي عياض في كتابه "إكمال المعلم بفوائد مسلم" ... 37
أولاً: ترجمة القاضي عياض: ... 37
ثانياً: منهجه في كتابه "إكمال المعلم بفوائد مسلم". ... 38
8- منهج الإمام القرطبي في كتابه "المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم" ... 44
أولاً:ترجمة الإمام القرطبي ... 44
ثانياً:منهج الإمام أبي العباس القرطبي في كتابه "المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم". ... 45
9- منهج الإمام النووي في كتابه المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج ... 49
أولاً: ترجمة الإمام النوويّ: ... 49
منهجه -رحمه الله- في شرحه لصحيح الإمام مسلم بن الحجاج: ... 51
10- منهج الخطّابي في كتابه: "معالم السّنن" ... 58
أولاً: ترجمة الإمام الخطّابي: ... 58
ثانياً: منهج الخطّابي في كتابه: "معالم السّنن": ... 59
11ـ منهج الإمام ابن القيم في كتابه: "تهذيب سنن أبي داود وإيضاح علله ومشكلاته ". ... 62
أولاً:ترجمة الإمام ابن القيم. ... 62
ثانياً: منهجه في شرحه للسنن. ... 64
12- منهج شمس الحق العظيم آبادي في كتابه: "عون المعبود شرح سنن أبي داود" ... 68
أولاً: ترجمة الشيخ محمد شمس الحق: ... 68
ثانياً: منهج شمس الحق العظيم آبادي في كتابه: "عون المعبود شرح سنن أبي داود": ... 70
13- منهج السهارنفوري في كتابه "بذل المجهود في حل أبي داود". ... 75
أولاً: ترجمة الشيخ السهارنفوري: ... 75
ثانياً: منهج السهارنفوري في كتابه "بذل المجهود في حلّ أبي داود". ... 76
14- منهج أبي بكر بن العربي في كتابه:" عارضة الأحوَذي بشرح صحيح التّرمذي " ... 78
أولاً: ترجمة أبي بكر بن العربي. ... 78
ثانياً: منهج ابن العربي في كتابه عارضة الأحوذي. ... 79
15- منهج المباركفوري في كتابه " تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي " ... 82
أولاً: ترجمة الشيخ محمد عبد الرحمن المباركفوري: ... 82
ثانياً: منهج المباركفوري في كتاب " تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي ". ... 83
ثانياً: مقارنة بين شروح الكتب الستة. ... 86
أول الكتب الستة (صحيح البخاري): ... 87
شرح الفيروز أبادي (منح الباري في شرح البخاري): ... 88(1/306)
شرح الخطابي (أعلام السنن): ... 89
شرح النووي لصحيح البخاري: ... 91
شرح الزركشي لصحيح البخاري (التنقيح لألفاظ الجامع الصحيح): ... 93
(فتح الباري شرح صحيح البخاري) لابن رجب: ... 94
شرح الكرماني (الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري): ... 96
شرح ابن حجر (فتح الباري شرح صحيح البخاري): ... 99
شرح العيني (عمدة القاري): ... 103
شرح القسطلاني (إرشاد الساري إلى شرح صحيح البخاري): ... 105
شروح صحيح مسلم: ... 107
مختصرات صحيح مسلم: ... 107
(المعلم بفوائد صحيح مسلم) للمازري: ... 107
(إكمال المعلم) للقاضي عياض: ... 108
(إكمال إكمال المعلم) للأُبي: ... 110
(مكمل إكمال الإكمال) للسنوسي: ... 111
(المنهاج في شرح صحيح مسلم ابن الحجاج) للنووي: ... 111
سنن أبي داود مختصراته وشروحه: ... 115
(معالم السنن) للخطابي: ... 116
شرح ابن رسلان على سنن أبي داود: ... 117
شرح العيني على سنن أبي داود: ... 117
(عون المعبود): ... 118
(بذل المجهود في حلّ سنن أبي داود): ... 119
(المنهل العذب المورود): ... 119
سنن النسائي وشروحه: ... 121
(زهر الربا على المجتبى): ... 122
حاشية السندي على النسائي: ... 123
(ذخيرة العقبى في شرح المجتبى): ... 123
شروح سنن الترمذي: ... 125
(عارضة الأحوذي): ... 125
(النفح الشذي): ... 127
(تحفة الأحوذي): ... 128
(الكوكب الدري على جامع الترمذي): ... 130
شرح الشيخ أحمد شاكر: ... 130
موطأ الإمام مالك -رحمه الله-: ... 132
(التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد): ... 133
(الاستذكار لمعرفة مذاهب فقهاء الأمصار): ... 134
(المنتقى) للباجي: ... 134
سنن ابن ماجه وشروحه: ... 135
شرح مغلطاي: ... 135
شرح السيوطي: ... 135
حاشية السندي: ... 135
ما تمس إليه الحاجة لمن يطالع سنن ابن ماجه لمحمد عبد الرشيد النعماني: ... 136
مصباح الزجاجة: ... 136(1/307)